You are on page 1of 296

‫حرية التعبري دون قيد أو رشط‬

‫مجلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة واإلبداع‬


‫تصدرها رابطة الكتاب السوريني‬

‫رئيس التحرير‪ :‬د‪.‬صادق جالل العظم‬


‫مديرا التحرير‪ :‬حسام الدين محمد وخطيب بدلة‪.‬‬
‫هيئــة التحريــر‪ :‬عــادل بشــتاوي‪ ،‬فــرج بريقــدار‪ ،‬عبــد الرحمــن حــاق‪ ،‬فادي‬
‫عــزام‪ ،‬أحمــد عمــر‪ ،‬بــدر الديــن عرودكــي‪ ،‬ابراهيم اليوســف‪.‬‬
‫اإلخراج الفني‪ :‬خالد سليمان النارصي‬

‫املراسالت‪ :‬باسم مجلة أوراق عىل العنوان التايل‪:‬‬


‫‪AWRAQ‬‬
‫‪Lionel Road North 11‬‬
‫‪BrentfordMiddlesex TW8 9QZ/UK‬‬
‫هاتف‪00442087589223 :‬‬
‫‪Email: awraq@syrianwa.com‬‬
‫‪Website: www.syrianwa.com‬‬

‫‪www.almutawassit.org /‬‬ ‫التوزيع‪ :‬منشورات‬

‫االشــراك الســنوي‪ :‬األفــراد يف البلــدان العربيــة(‪ )100‬دوالر أمريكــي‪،‬‬


‫ويف البلــدان األوروبيــة (‪ )130‬دوالرا أمريكيــا‪ ،‬ويف أمريــكا وباقــي بلــدان العالــم‬
‫األخــرى (‪ )180‬دوالرا أمريكيا‪ .‬املؤسســات‪ :‬يف البلدان العربيــة (‪ )130‬دوالرا أمريكيا‪،‬‬
‫وخــارج البلــدان العربيــة (‪ )200‬دوالر أمريكــي‪.‬‬

‫صدر هذا العدد برعاية من‬


‫مؤسسة “بناة املستقبل”‬

‫بالتعاون مع‬
‫منشورات‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬

‫هيئة التحرير ‪ /‬كتابة الجرح والتعديل ‪6....................................‬‬

‫أوراق البحث ‪9..........................................................‬‬


‫صادق جالل العظم ‪ /‬سورية يف ثورة ‪10...................................‬‬

‫أوراق امللف ‪21..........................................................‬‬


‫فادي عزام ‪ /‬الكاتب والكتابة السورية يف زمن الثورة ‪22....................‬‬
‫يارس األطرش ‪ /‬يقتلني نصف املوقف أكرث ‪26...............................‬‬
‫أنور بدر ‪ /‬الكتابة الجديدة وخطاب الثورة‪29.................................‬‬
‫عادل بشتاوي ‪ /‬نظرة من ثقب الكتابة إىل ميدان الثورة ‪36..................‬‬
‫أحمد أنيس الحسون ‪ /‬مأزق الكتّاب السوريني ما قبل وأثناء الثورة ‪42.......‬‬
‫غسان الجباعي ‪ /‬املضمون الخبيث والشكل األجوف ‪49...................‬‬
‫خلف عيل الخلف ‪ /‬الوسط الثقايف السوري ‪59............................‬‬
‫عادل رشيد ‪ِ /‬حبـ ُر الوريـد ‪65.................................................‬‬
‫عيل سفر ‪ /‬القاموس السوري الجديد‪69.................................. :‬‬
‫رامي سويد ‪ /‬الكتابة اإلبداعية عىل «فيسبوك»‪76..........................‬‬
‫جرب الشويف ‪ /‬الحرية كمعطى أديب ‪79......................................‬‬
‫نرسين طرابليس ‪ /‬حال الكاتب يف الدراما السورية‪85......................‬‬
‫عبد القادر عبد اليل ‪ /‬صدمة الكاتب بالثورة ‪93............................‬‬
‫نجاة عبد الصمد ‪ /‬ستكون سورياً أو ستصمت‪97...........................‬‬
‫حافظ قرقوط ‪ /‬كاتب الدراما وسياسة التهميش ‪101........................‬‬
‫فرحان املطر ‪ /‬كيف يستخدم النظام السوري «اتحاد الكتاب العرب»؟‪107......‬‬
‫ابراهيم محمود ‪ /‬مثقف الساعة «الخامسة والعرشون» ‪116.................‬‬
‫حواس محمود ‪ /‬الكاتب والكتابة السورية ‪124...............................‬‬
‫مرام املرصي ‪ /‬إعداد أنطولوجيا هو فعل حب‪128..........................‬‬
‫عبد القادر املنال ‪ /‬قصة عامل املطبعة‪131.................................‬‬
‫سامي صقر نوفل ‪ /‬كبري أمل الكاتب‪/‬مهول أمل القارئ ‪137..................‬‬
‫إبراهيم اليوسف ‪ /‬آلة االستبداد ولذة املواجهة (شهادة ذاتية)‪140..........‬‬

‫أوراق القصة‪157......................................................‬‬
‫نور دكريل ‪ /‬قصص ‪158....................................................‬‬
‫ِ‬
‫عنك ‪163.....................‬‬ ‫ين أبحثُ‬ ‫حسن شاحوت ‪ /‬كأن ِ‬
‫ّك الثورة‪ ...‬كأ َّ‬
‫محمد شبيب ‪ /‬عن منذر السوري‪166.......................................‬‬
‫‪3‬‬ ‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬

‫هوازن الكاتب ‪ /‬قصص تعيسة جدا ‪172...................................‬‬


‫ريم محمد ‪ /‬ترمي الشبكة يف املاء‪177.....................................‬‬
‫مصطفى تاج الدين موىس ‪ /‬الجم ّيلة النامئة يف عربة قطار ‪180...........‬‬

‫أوراق الشعر ‪183......................................................‬‬


‫حكمة شايف األسعد ‪ /‬نصوص ‪184..........................................‬‬
‫طالل بو خرض ‪ /‬عن الغ َر ِ‬
‫ف والشَ م ‪191....................................‬‬
‫محراب الغيم ‪197..........................................‬‬
‫ُ‬ ‫ميار الديراني ‪/‬‬
‫معاذ زمريق ‪ /‬هوامش يومية لعمل ها ّم ‪203...............................‬‬
‫بسمة شيخو ‪ /‬شذرات‪209.................................................‬‬
‫حمد عبود ‪ /‬أريد أن أقود دبابة ‪213.........................................‬‬
‫رسى أحمد علوش ‪ /‬أرسم بأظافري وجوه الذين مل ميوتوا‪217..............‬‬
‫ركات رسيّ ٍة يف شُ ط َرن ِج الشَّ هو ْة ‪221..................‬‬
‫حسام امللحم ‪ /‬أرب ُع َح ٍ‬
‫محمد سعيد ‪ /‬سأبدل حذايئ القديم‪ ...‬وأفكاري أيضاً ‪228................‬‬
‫عبد الكريم بدرخان ‪ /‬اتجاهات يف الشعر السوري بعد الثورة ‪242........‬‬

‫أوراق الكتب‪251.......................................................‬‬
‫بدرالدين عرودكي ‪ /‬ربيع سورية الذبيح ‪252................................‬‬
‫هشام الواوي ‪« /‬السوريون األعداء» لفواز حداد ‪260.......................‬‬
‫هاشم شفيق ‪« /‬بالد الرجال» للروايئ الليبي هشام مطر ‪263...............‬‬
‫فاطمة ياسني ‪« /‬خوف بال أسنان» لحليم يوسف ‪267......................‬‬

‫أوراق الفكر ‪270.......................................................‬‬


‫محمد شاويش‪ /‬مفهوم «الكرامة» يف الثورة السورية‪270...................‬‬

‫أوراق اإلعالم ‪277......................................................‬‬


‫اينس كابرت ‪ /‬سورية بصفتها موضوعا ثانوياً‪278...........................‬‬

‫أوراق الحوار ‪281......................................................‬‬


‫مهند صالحات ‪ /‬رشيد مشهراوي ورسائل من الريموك ‪282.................‬‬
‫عادل بشتاوي ‪ /‬نرسين طرابليس‪ :‬اإلنسان يكتب مج ّردا ً من جنسه‪290....‬‬

‫لوحات العدد للفنان السوري يارس صايف‬


‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪4‬‬

‫قواعد النرش يف املجلة‬

‫ترحــب مجلــة أوراق بإســهامات املفكريــن والكتــاب واألدبــاء والباحثــن‬


‫مــن االتجاهــات الفكريــة والسياســية كافــة وتقتــر رشوط النــر يف املجلــة‬
‫عــى النقــاط التاليــة‪:‬‬
‫‪ -1‬أن تكون املساهامت املرسلة غري منشورة سابقا إال إذا وافقت هيئة‬
‫التحرير عىل نرش متزامن مع مطبوعات أو وسائل إعالم أخرى‬
‫‪ -2‬يف الدراسات املوثقة مبصادر ومراجع يلتزم املساهمون بذكر اسم‬
‫املؤلــف وعنــوان الكتــاب ومــكان النــر وتاريخــه واســم النــارش‪ ،‬ويف حالــة‬
‫اإلحالــة إىل مجــات يذكــر اســم كاتــب املقالــة وعنوانهــا ورقــم العــدد وتاريخــه‬
‫ورقــم الصفحــة‪.‬‬
‫تلتــزم املجلــة بنــر كل املواضيــع التــي توافــق عليهــا هيئــة التحريــر والتــي‬
‫تســتويف معايــر النــر املوضوعيــة (بالنســبة للدراســات) أو االبداعيــة‬
‫(بالنســبة للنصــوص األدبيــة)‪.‬‬
‫تســتلم املجلــة النصــوص مطبوعــة عــى بريدهــا اإللكرتوين‪Awraq@ :‬‬
‫‪ syrianwa.com‬وإذا فضــل املســاهم إرســالها بالربيــد فريجــى إرفاقهــا‬
‫بقــرص مدمــج أو رشيحــة ذاكــرة‪.‬‬
‫‪5‬‬ ‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬

‫تؤمن «أوراق» برضورة دفع مكافآت لكتاب النصوص‪ ،‬ولكن هذا مرتبط‬
‫بظــروف الرابطــة املاليــة‪ ،‬وهــي لذلــك تؤكــد أنهــا غــر ملزمــة بدفــع أي مبلــغ‬
‫مقابــل املــواد املنشــورة مــا مل تتأكــد مــن اســتالمها املكافــآت مــن الرعــاة‬
‫املاليــن للمجلــة‪.‬‬
‫‪ -3‬أال يزيــد حجــم الدراســة أو البحــث عــن خمســة آالف كلمــة إال باتفــاق‬
‫ســابق مــع إدارة تحريــر املجلــة‪ ،‬ويفضــل إرفــاق الدراســة مبلخــص صغــر عنهــا‬
‫ال يتجــاوز ‪ 50‬كلمــة‪.‬‬
‫‪ -4‬أن ال يزيد حجم مراجعات الكتب عن ‪ 1500‬كلمة ويد ّون يف أسفل‬
‫املراجعة عنوان الكتاب واسم مؤلفه ومكان نرشه وتاريخه وعدد الصفحات‪.‬‬
‫‪ -5‬يرفق مع كل دراسة أو مقالة أو نص تعريف بالكاتب وعمله الحايل‬
‫‪ -6‬ال تعاد املواد املعتذر عن نرشها إىل أصحابها‪.‬‬
‫‪ -7‬يجــري إعــام الكاتــب بقــرار هيئــة التحريــر خــال شــهر مــن تاريــخ تســلم‬
‫النــص‪.‬‬
‫‪ -8‬تحتفظ املجلة بحقها يف نرش النصوص املجازة للنرش وفق خطتها‬
‫التحريرية‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪6‬‬

‫«هيئة التحرير»‬

‫كتابة الجرح والتعديل ‪ -‬افتتاحية العدد‬

‫تدخــل ســوريا اآلن قلــب مفاعــل هائــل كأنهــا أمثولــة حديديــة لــأمل اإلنســاين‬
‫الذي ال تحدّه حدود؛ أمثولة أدخلت كور حداد املصائر الكربى للشــعوب حيث‬
‫ال تنفك النار واملطارق ترضبها من مواقع التاريخ والجغرافيا والسياسة واالجتامع‬
‫واأليديولوجيــات واألديــان لتعيــد تشــكيلها مــن جديــد‪.‬‬

‫للخضات الهائلة التي تتع ّرض لها سوريا لها‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬فائدة كربى ألنها بقدر‬
‫مــا تشــقي العقــل وتش ـظّيه (مــع انفتــاح شــدق التط ـ ّرف املذهبــي والتــكاره األهــي‬
‫وتداخل الرصاعات السياسية والعسكرية مع الحسابات العاملية واإلقليمية) بقدر‬
‫مــا تســقط الكثــر مــن األقنعــة التــي كانــت قــادرة عــى احتــال أرواح كثرييــن ســذاجة‬
‫أو اعتيادا ً أو طيشاً أو رضا بالذل واستمراء للعبودية‪.‬‬

‫تدفع سوريا منذ ‪ 2011‬مثن خنوع السوريني أنفسهم وسكوت العرب والعامل‬
‫عىل اغتصاب فســيح وجرمية كربى مورســت ضد االجتامع الســوري منذ اســتيالء‬
‫حافظ األسد عام ‪ 1970‬عىل السلطة‪ ،‬ولكن‪ ،‬خصوصا‪ ،‬منذ عام ‪ ،1982‬سنة األمل‬
‫الكبــر وانفتــاح شــدق الطغيــان‪ ،‬وحــن آن أوان تســديد املســتحقات القدميــة لجــأ‬
‫النظام السوري للهروب من حسابات الثورة بأن رفع معدّل اإلجرام إىل مستويات‬
‫كــرى‪ ،‬باملقاييــس البرشيــة للعــامل‪ ،‬واشــتغل عــى تحويــل آليــات الرصاع الســيايس‬
‫مــن معادلــة شــعب ضــد طاغيــة إىل حــرب أهليــة تتكثّــف فيهــا الطوائــف مثــل كتــل‬
‫‪7‬‬ ‫ددعلا ةيحاتتفا ‪ -‬ليدعتلاو حرجلا ةباتك‬

‫برشيّــة مهملــة كــرى عــى مرمــى النــران‪ .‬أخــرج النظــام مــن أحشــاء ســوريا أشــباح‬
‫»ريرحتلا ةئيه«‬

‫املــايض كلّهــا وفــرض عــى شــعبها ونخبتهــا‪ ،‬وعــى العــامل‪ ،‬أجوبــة أكــر تعقيــدا ً مــن‬
‫ســؤال االســتبداد السيايس‪.‬‬

‫غــر أن ســوريا ليســت ضحيّــة نظــام الدكتاتــور االســتبدادي فحســب‪ ،‬بــل هــي‬
‫أيضـاً‪ ،‬إضافــة إىل كثرييــن‪ ،‬ضحيــة «أصدقــاء» الشــعب الســوري‪ ،‬الرائــن إليــه رؤيــة‬
‫واإلسالمي‪ ،‬بحظوة الطغاة‬
‫ّ‬ ‫يب‬
‫ترتاكب فيها االسترشاقية املزمنة ضد االجتامع العر ّ‬
‫الدامئــة وزبونيتهــم املفضلــة عنــد زمالئهــم يف العــامل «الدميقراطــي»‪.‬‬

‫***‬

‫ومبــا أن مــآالت الحــدث الســوري املفتــوح تســتدعي بالــرورة مســاءلة دور‬


‫النخبــة الفكريــة يف هــذه املــآالت‪ ،‬تفتــح «أوراق» يف عددهــا الســادس هــذا ملــف‬
‫الكتابة والكتاب‪ ،‬يف محاولة السترشاف الدور الذي قام به الكتاب‪ ،‬والكتابة التي‬
‫أنتجوهــا‪ ،‬واســتقرار فاعلياتهــم املختلفــة عــى صعــد الواقــع واألدب والسياســة‪،‬‬
‫وحجــم اإلنجــاز‪ ،‬أو الفشــل‪ ،‬الــذي قامــوا بــه‪.‬‬

‫اتســع امللــف كثــرا ً وخاضــت هيئــة التحريــر جــداالت عديــدة حولــه‪ ،‬وكان أحــد‬
‫املقــاالت املهمــة منــاط جــدل ومحــاوالت توفيــق بــن ســقفه العــايل الــذي يتهــم‬
‫أشــخاصا محددين بأســائهم باتهامات شــائكة قانونياً‪ ،‬مام أدّى‪ ،‬يف النهاية‪ ،‬إىل‬
‫ســحب كاتبــه لــه‪ ،‬ومــع نهايــة هــذه التجربــة املمضــة تصاعــد جــدل آخــر شــبيه ه ـ ّز‬
‫«رابطة الكتاب الســوريني» ودفع عددا ً من أعضائها إىل االســتقالة‪ ،‬وكال الحالتني‬
‫كان فيهــا جــدل ومحاولــة واضحــة للتفريــق بــن حــق التعبــر‪ ،‬ودخــول هــذا التعبــر‬
‫يف أبــواب التشــهري والقــذف وصــوالً إىل «القتــل املعنــوي»‪.‬‬

‫أثبت الحدثان حيويّة الرابطة وعالقتها العضوية بالنسيج السوري العا ّم‪ ،‬وهو‬
‫ما يستأدي‪ ،‬بداهة‪ ،‬إصابتها ببعض أعراضه التي تختلط فيها الثورة عىل االستبداد‬
‫بتهشــيم األســس العامة للمنطق والقانون وحقوق اإلنســان والتعبري‪ ،‬ويصبح رفض‬
‫يئ عــى‬ ‫الدكتاتوريــة مــر ّرا ً ممكنـاً النتهــاك املجــال العــام والخـ ّ‬
‫ـاص والتعـدّي االنتقــا ّ‬
‫اآلخــر‪ ،‬والخلــط املجــاين بــن الســيايس والفــردي‪ ،‬وترتاجــع الدميقراطيــة الجمعيــة‬
‫أمــام االســتقطابات والعصبويــة والشــللية والتــذرر‪ ،‬وهــي إشــكاالت بــات يحفــل بهــا‬
‫الواقع الســوري‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪8‬‬

‫ولكــن‪ ،‬وكــا أثبتــت ســوريا‪ ،‬رغــم آالمهــا القياميــة‪ ،‬قــوة جهــاز مناعتهــا‪ ،‬وقدرتهــا‬
‫املســتمرة عــى تقطــر األمل وتحويلــه إىل جــذوة فــرح‪ ،‬حتــى يف أحلــك الظــروف‪،‬‬
‫كذلــك‪ ،‬يثبــت كتّــاب ســوريا‪ ،‬قــدرة كبــرة عــى التك ّيــف والتطويــر واالبــداع‪.‬‬

‫يحتفــي هــذا العــدد بالفنــان يــارس صــايف وهــو تشــكييل ســوري مــن مواليــد‬
‫القامشيل‪ ،‬تخرج من كلية الفنون الجميلة بدمشق عام ‪ ،١٩٩٧‬وشارك يف العديد‬
‫مــن امللتقيــات الفنيــة يف الوطــن العــريب واوروبــا وأقــام ورش عمــل يف مجال الحفر‬
‫والطباعة‪ ،‬له سبع معارض فردية (دمشق‪ ،‬بريوت‪ ،‬عامن‪ ،‬القاهرة‪ ،‬بروكسل‪ ،‬روما)‪،‬‬
‫وشارك يف العديد من املعارض الجامعية محليا ودوليا‪ ،‬أعامله مقتناة من متاحف‬
‫(متحف الفن الحديث‪ ،‬دمشق‪ ،‬واملتحف املليك‪ ،‬عامن‪ ،‬واملتحف الربيطاين‪،‬‬
‫لندن)‪ .‬حائز عىل الجائزة األوىل يف الحفر من صالون الشباب السوري عام ‪.2001‬‬
‫‪9‬‬ ‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬

‫أوراق البحث‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪10‬‬

‫صادق جالل العظم‬

‫سورية يف ثورة‬

‫فاجأتني انتفاضة الشعب ضد النظام العسكري والدولة األمنية لعائلة األسد‬


‫يف ســوريا‪ .‬كنــت خائف ـاً يف البدايــة مــن أن النظــام سيســحقها يف لحظــة بدايتهــا‬
‫تقريباً‪ ،‬آخذا ً يف اعتباري الرضاوة والقمع األسطوريني املعروف بهام‪ .‬مثل مثقفني‬
‫ســوريني آخريــن‪ ،‬أحسســت بعجــز شــامل أمــام هــذا الوحــش الفاغــر فــاه‪ ،‬الذي مينع‬
‫أي فكــرة قادمــة‪ ،‬أو حتــى ممكنــة‪ ،‬لقــول «ال» جامعيــة‪ .‬كنــت متفاجئـاً بالثــورة‪ ،‬لكــن‬
‫ما كان يجب أن أتفاجأ‪ .‬التجارب اليومية واملالحظات املتكررة كانت تنبئ بكارثة‬
‫حــاول الكثــر مــن الســوريني أن ينكروهــا‪ .‬بعــد القمــع العنيــف لربيــع دمشــق عامــي‬
‫‪ 2002-2001‬وكذلــك بعــد اغتيــال رئيــس الــوزراء اللبنــاين األســبق رفيــق حريــري يف‬
‫بــروت عــام ‪ ،2005‬والتــي قــادت إىل االنســحاب املهــن لقــوات األســد مــن لبنــان‪،‬‬
‫انتــر القلــق يف ســوريا‪.‬‬

‫كنــت أعمــل يف دمشــق حيــث كان الذعــر ناطق ـاً بشــكل خــاص‪ .‬بــدت البــاد‬
‫كأنهــا ترتنّــح عــى حافــة الهاويــة‪ .‬لكــن الحيــاة كانــت متــي بشــكل روتينــي عــى‬
‫الســطح‪ .‬الحديــث عــن الوضــع علنـاً مل يكــن ممكنـاً‪ .‬حتــى التلميــح إليــه كان خطــرا ً‪.‬‬
‫عندمــا كان أحــد مــا يتكلــم‪ ،‬كان اآلخــرون يغـ ّـرون الحديــث مبــارشة‪ .‬كانــت مؤامــرة‬
‫الصمــت هــي النظــام اليومـ ّـي لألمــور‪.‬‬

‫هذه املرحلة طبعت انحطاطاً واضحاً يف العالقات بني الســوريني‪ .‬الخنادق‬


‫‪11‬‬ ‫روث يف ةيروس‬

‫الطائفية توطدت‪ ،‬مق ّوضة صداقات طويلة األمد‪ ،‬مؤثرة يف االنســجام بني زمالء العمل والتفاعل‬
‫ظعلا لالج قداص‬

‫اليومــي بني املواطنني‪.‬‬

‫تغيت‪ .‬مثل الكثريين يف دمشق‪ ،‬وجدت نفيس أبدأ‪ ،‬بطريقة الشعورية‪،‬‬


‫حتى طرقنا يف املزاح ّ‬
‫بــوزن كل كلمــة أقولهــا لتتناســب مــع االنتــاءات الدينيــة للمعــارف الهامشــيني كــا لألصدقــاء‬
‫املقربــن‪ .‬فقــدت اللقــاءات االجتامعيــة عفويتهــا‪ .‬الثقــة بالنفــس وباآلخريــن تالشــت‪ ،‬وكان رفــض‬
‫النقد يجري برسعة أش ّد من قبل‪ .‬تسارعت جرعة االشتباه إىل داخل تقاليد التضامن ضد القمع‬
‫بــن أفــراد اإلنتلجنســيا الســورية‪ .‬خــال عامــي ‪ ،2010-2009‬كان مســتحيالً أن ميــر يــوم مــن دون أن‬
‫تســمع مــن النــاس العاملــن معنــا أقــواالً تتكــرر مثــل «كل مــا تحتاجــه هــو كربيــت لتشــتعل»‪« ،‬رشارة‬
‫واحــدة ويشــتعل كل يشء»‪ ،‬و«األمــر بحاجــة إىل مفرقعــة ناريــة لينفجــر»‪.‬‬

‫النــاس األعــى تعليـاً‪ ،‬وخصوصـاً املثقفــون منهــم‪ ،‬كانــت لديهــم اســتعاراتهم ومجازاتهــم التــي‬
‫يفضلونها‪ .‬االستعارة التي كنت أفضلها كانت طنجرة الضغط عندما تزداد الحرارة فيام صاممات‬
‫رسيــن أهميــة فيــا‬
‫األمــان مد ّمــرة‪ .‬ياســن الحــاج صالــح‪ ،‬وهــو ســجني ســيايس ســابق وأكــر النقــاد ال ّ‬
‫ـص التعليــق عــى مجريــات الثــورة‪ ،‬إضافــة إىل كونــه كاتبـاً مبدعـاً يف أدب الســجون‪ ،‬أطلــق إنــذارا ً‬
‫يخـ ّ‬
‫للنــاس أنهــم إذا مل يعـ ّـروا عــن «ســوريّتهم» فــإن البــاد ســتميض نحــو األســوأ‪ .‬رســام الكاريكاتــر عــي‬
‫فــرزات قــال عــام ‪ 2007‬يف مقابلــة مــع مجلــة «نيوزويــك»‪« ،‬إمــا اإلصــاح أو الطوفــان»‪ .‬هوجــم عــي‬
‫فــرزات عــام ‪ 2011‬مــن قبــل بلطجيــة النظــام وتُــرك ليمــوت مرم ّيـاً يف الشــارع‪ ،‬لكنــه نجــا مــن املــوت‪.‬‬
‫زميــل بــارز وصديــق يل يف قســم الفلســفة شــدد عــى أن ال مفـ ّر مــن الحــرب األهليــة ألن األســوأ قــد‬
‫حصــل فعـاً‪ ،‬قائـاً إن النــزاع الســني العلــوي صــار أمــرا ً واقعـاً‪ .‬الحــرب كانــت محتومــة‪ .‬البعــض اآلخــر‬
‫حافــظ عــى رأيــه يف النظــام معتــرا ً أنــه هــو األمــر الوحيــد الــذي مينــع الســوريني عــن قتــل بعضهــم‬
‫البعــض‪ .‬لــو أن أحــدا ً ســألني مــاذا كان ســيحصل لــو أن التســونامي الــذي رضب تونــس وصــل إىل‬
‫ســوريا لكنــت أجبــت‪ :‬السـ ّنة يف حــاه سيسـ ّنون ســكاكينهم وســيهاجمون القــرى العلويــة املجــاورة‬
‫لالنتقــام مــن اغتصــاب وتدمــر مدينتهــم عــى يــد قــوات األســد عــام ‪ .1982‬لكــن املذبحــة الطائفيــة‬
‫مل تحصــل‪ .‬بــدالً مــن ذلــك حصــل مــا مل نفكــر بــه‪ :‬ثــورة شــعبية ضــد النظــام‪.‬‬

‫كيف فشلنا بشكل ذريع يف التنبؤ بهذه النتيجة؟ مل يكن اإلنكار هو العامل الوحيد؛ عدد من‬
‫األفكار واألسئلة كانت تدور يف البالد خالل هذه املرحلة الحاسمة‪ ،‬يف كل األوساط االجتامعية‪.‬‬
‫الكثــر مــن هــذه األفــكار‪ ،‬خصوصـاً بــن املثقفــن والنخــب‪ ،‬كانــت خاطئة‪ .‬البعض أحس أن تحالف‬
‫الطبقــات العليــا بــن الســنة والعلويــن ســينتهي‪ ،‬مــا ســيؤدي إىل إضعــاف النظــام يف غيــاب أي‬
‫ثــورة‪ .‬سـ ّميت هــذا التحالــف مــرة تحالــف املركّــب العســكري التجــاري؛ جيــل جديــد مــن الناشــطني‬
‫واملحللني يصفون املركب العسكري التجاري باملركب األمني املايل‪ .‬هذه هي الطبقة الحاكمة‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪12‬‬

‫كل دمشــق تعــرف ان الجيــش‪ ،‬حــزب البعــث‪ ،‬وجهــاز إدارة الدولــة – كلّــه تحــت ســيطرة العلويــن –‬
‫ميثــل جانبـاً واحــدا ً مــن هــذه الرتكيبــة‪ .‬الطــرف األخــر– رجــال أعــال مدنيــون– يســيطر عليــه السـ ّنة‪.‬‬
‫الناس الذين يديرون هذا املركّب شكّلوا عرب السنني نخبة فاسدة ومتغطرسة‪ .‬كان هؤالء يديرون‬
‫أوضــاع ســوريا اليوميــة‪ ،‬ويف أوقاتهــم الخاصــة يوقّعــون الصفقــات‪ ،‬ويتفاعلــون اجتامعي ـاً‪ ،‬ويرتبــون‬
‫الزيجــات بــن أوالدهــم‪ .‬كانــوا يحــرون حفــات بعضهــم البعــض‪ ،‬ويرتــادون املطاعــم والنــوادي‬
‫نفســها‪ .‬زوجاتهــم‪ ،‬أمهاتهــم‪ ،‬أخواتهــم‪ ،‬وبنــات أعاممهــم وأخوالهــم يتواجــدن يف الحفــات الخرييــة‬
‫والثقافيــة نفســها‪ .‬كل طــرف مــن الطرفــن يحتقــر اآلخــر‪ ،‬لكنهــم يخففــون مــن كراهيتهــم لبعضهــم ألن‬
‫عالقاتهــم مفيــدة لهــم‪ ،‬مع ـاً‪ .‬كانــت التجــارب اليوميــة تنبــئ عــن أزمــة يحــاول أغلــب الســوريني أن‬
‫ينكروهــا‪ .‬واإلنــكار هــو مــا فعلنــاه‪.‬‬

‫بحســب املحللــن الحاليــن األصغــر ســناً‪ ،‬فــإن التئــام الطرفــن ح ّولهــا إىل طبقــة متغطرســة‬
‫تشــبه طبقة الرباهام الهندية‪ .‬طبقة تعترب نفســها خارج أي محاســبة‪ ،‬ومتلك حقاً ال ينازع يف حكم‬
‫النــاس العاديــن‪ ،‬الذيــن تعتربهــم مــن طبقــة دنيــا– جاهلــة‪ ،‬متخلفــة‪ ،‬وغــر مؤهلــة للدميقراطيــة‪ ،‬وال‬
‫تســتحق أي شــكل مــن أشــكال الحريــة‪ .‬كل طــرف مــن الطرفــن قــوي يف قدرتــه عــى هـ ّز املؤسســة‬
‫لكنــه ضعيــف يف قدرتــه عــى البنــاء‪ ،‬ولذلــك فهــا يجتمعــان معـاً يف وجــه أي معارضــة محتملــة‪.‬‬

‫قبل االنتفاضة‪ ،‬اعتقد املثقفون‪ ،‬مخطئني‪ ،‬أن الطبقة الربجوازية السنية سوف تش ّد السلطة‬
‫من الطرف اآلخر‪ ،‬إلنهاء هذه العالقة املكلفة‪ .‬وهي مكلفة ألن التجار ملّوا من االبتزاز؛ عىل شكل‬
‫أعطيــات‪ ،‬ســمرسات‪ ،‬رشــاوى‪ ،‬دفعــات تحــت الطاولــة ومبالــغ للحاميــة؛ وقبــول رشكاء مزيفــن‪ .‬غــر‬
‫أن هذه الرتكيبة أثبتت أنها أقوى من كل التوقعات‪« .‬التجارة والسياســة هي جوهر دمشــق»‪ ،‬كام‬
‫لخصهــا شــاعر ســوريا األشــهر‪ ،‬أدونيــس‪ .‬الطبقــة الصلــدة لربجوازيــة دمشــق بقيــت وفيــة لجوهرهــا‪.‬‬
‫االعتقــاد الزائــف اآلخــر ضمــن النخبــة املفكــرة كان أن الفســاد يف ســوريا ميكــن أن يرتاجــع لصالــح‬
‫ـي يف األعــى هــو شــكل مــن‬
‫حكــم القانــون‪ .‬تدعمــت هــذه الفكــرة بنظريــة تقــول ان الفســاد الوحـ ّ‬
‫أشــكال «الرتاكــم الرأســايل البــدايئ»‪ ،‬كــا رشح كارل ماركــس الظاهــرة‪ .‬يف نهايــة املطــاف فــإن‬
‫األفــراد الذيــن ميارســون هــذا الرتاكــم الوحــي يصلــون إىل مرحلــة تتزايــد فيهــا املصلحــة لتأســيس‬
‫نظــام قانــوين لحاميــة غنامئهــم التــي نهبوهــا‪ .‬كانــت هــذه النظريــة تســتخدم األمريكيــن الذيــن لجــأوا‬
‫إىل الغــرب األمريــي كمثــال‪ ،‬حيــث ذهــب رجــال العصابــات مبنهوباتهــم إىل مــكان بعيــد وأعــادوا‬
‫اســتثامرها بصفتهــم رجــال أعــال رشعيــن‪ ،‬وأعمــدة للمجتمــع‪ ،‬والحقـاً حامة للقانون بأنفســهم‪ .‬غري‬
‫أن هــذا االفــراض كان خاطئـاً‪.‬‬

‫فكــرة أخــرى أثبتــت خطأهــا‪ ،‬وهــي أن الســلطات التــي امتلكهــا النظــام عــر التص ّدعــات التــي‬
‫أسســها يف النســيج األهــي الســوري – وهــو نظــام ســابق عــى النظــام االجتامعــي املــدين ويشــبه‬
‫‪13‬‬ ‫روث يف ةيروس‬

‫نظــام «غيمنشــافت» ‪ Gemeinschaft‬األملــاين – جعلــت مــن أي معارضــة شــعبية منظمــة مــن‬


‫ظعلا لالج قداص‬

‫قبــل هــذا النظــام األهــي غــر املفكــر فيــه تتجســد يف اللــوذ بالعالقــات العائليــة وأشــكال التنظيــم‬
‫االجتامعــي األقــدم – القرابــة‪ ،‬العشــرة‪ ،‬القريــة‪ ،‬اإلثنيــة‪ ،‬الطائفــة الدينيــة – بعصبياتهــا املختلفــة‪.‬‬
‫مفهــوم العصبيــة الخلــدوين يرتجــم يف اللغــات األجنبيــة عــادة إىل «تضامــن الجامعــة»‪ .‬لكــن هــذه‬
‫الرتجمة ضعيفة؛ وال تستطيع تفسري التعصب األعمى ومقاومة تغيري األفكار الذي يحتويه مفهوم‬
‫العصبيــة‪ .‬رشذم النظــام مــا بقــي مــن املجتمــع األهــي الســوري بإعطــاء القــوة للعصبيــات املجــددة‪.‬‬
‫قام بذلك من خالل التحكّم – عرب تأليه العائلة الحاكمة‪ ،‬وباستجرار الزعامات املحلية للجامعات‬
‫األهليــة املختلفــة وبتأجيجهــم ضــد بعضهــم البعــض‪ ،‬وبالســاح لبعضهــم بالرتســمل الرسيــع عــى‬
‫حســاب األكرثيــة‪ ،‬وخصوصـاً السـ ّنة‪.‬‬

‫هكذا تم أيضاً سحق ربيع دمشق برسعة وبوحشية‪ .‬سوريون يف أعىل مقامات السلطة ّ‬
‫أحسوا‬
‫رمبــا بالتغيــر قادمـاً‪ ،‬لكنهــم مل يرغبــوا يف تغيــر مــا اعتــادوا عليــه‪ .‬قبــل الثــورة‪ ،‬تســاءل بعــض العقــاء‬
‫الذيــن مل يصدقــوا أن الوضعيــة املتأججــة مل تصــل إىل الحلقــة الضيقــة يف املؤسســة الحاكمــة‪،‬‬
‫رغــم كل مخربيهــا وجواسيســها‪ ،‬مبــا فيهــا أجهــزة األمــن التــي تبــدو موجــودة يف كل مــكان بفروعهــا‬
‫ومتدداتهــا التــي ال حــر لهــا‪ .‬بعــض املتفائلــن حســني النيــة اعتــروا أن الســلطات ستســتفيق يف‬
‫النهايــة وســتقوم‪ ،‬يف ســبيل الحفــاظ عــى نفســها وليــس لســبب آخــر‪ ،‬بعمــل يشء مــا ملنــع األســوأ‪.‬‬
‫بعــض املثقفــن اعتــروا أن الحلقــة الضيقــة ‪ -‬واملتعاونــن معهــا ‪ -‬ترفــض أي شــكل مــن اإلصــاح‬
‫لظنهــا أن أي تغيــر ســيؤدي إىل انهيــار النظــام كلــه‪ .‬النخــب العلويــة كانــت تتهامــس حــول األهميــة‬
‫القصــوى للبقــاء‪ .‬ومــع عــام ‪ 2005‬تراجعــت وعــود األســد باإلصــاح لتصبــح كالم ـاً غامض ـاً حــول‬
‫التنميــة والتحديــث‪ .‬هــذا الرتاجــع تــم تلخيصــه يف ذاك العــام بحديــث نائــب رئيــس الوزراء للشــؤون‬
‫االقتصاديــة عبــد اللــه الــدردري عــن «خطــة خمســية للخصخصــة»‪ ،‬والتــي رشحهــا للســيناتور جــون‬
‫كــري يف حفــل عشــاء يف دمشــق أقامتــه الســفرية األمريكيــة مارغريــت ســكويب‪ .‬وحــن أشــار كــري‬
‫إىل أن الخصخصة والخطط الخمسية ال يعمالن معاً‪ ،‬رد الدردري «يجب أن نسميها هذا»‪ .‬كنت‬
‫يف تلــك الفعاليــة وتدخلــت متســائالً‪« ،‬ملــاذا ال تخربونــا‪ ،‬نحــن الشــعب‪ ،‬مــاذا تفعلــون بالضبــط؟»‬
‫وســاد بعدهــا الصمــت‪ .‬كان مــن املفــرض أن أفهــم أن الخصخصــة كانــت كذبــة ال يفــرض بأحــد أن‬
‫يالحظهــا‪ .‬واآلن نحــن نعلــم أن هــذه الخديعــة فشــلت متامـاً‪ .‬خــال العامــن األخرييــن‪ ،‬كانــت لــدي‬
‫فرصة مناقشة األزمة السورية مع أفراد من نخبة رجال األعامل– بعضهم أقارب بعيدون يل– تورطوا‬
‫بقبولهــم أن يكونــوا جــزءا مــن الفســاد العــايل املتزايــد ســوءا ً‪ .‬وقــد اعــرف الجميــع أنهــم‪ ،‬حتــى قبــل‬
‫أشــهر مــن االنتفاضــة– كانــوا متفائلــن حــول مســتقبل البــاد واالقتصــاد‪ .‬كانــوا يســتثمرون بكثافــة‪،‬‬
‫ويتفاوضــون حــول كل أنــواع الصفقــات مــع املســتثمرين األملــان‪ ،‬وينهــون عقــودا ً عظيمــة الربحيــة مــع‬
‫وفود هولندية‪ .‬باستفادتهم من أعاملهم كالعادة‪ ،‬كانوا يعتقدون أن النظام غري قابل لالخرتاق وأن‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪14‬‬

‫إخضاع الناس العاديني الكبري جعلهم غري قادرين عىل االحتجاج‪ .‬رجال األعامل الكبار هؤالء قالوا‬
‫إنهم ما كانوا يعلمون بأي تغيري قادم‪ .‬كلهم مل يصدقوا ما حصل لهم متأسفني عىل قرص نظرهم‪.‬‬
‫لقــد خــروا الكثــر ‪ -‬وأهمــه أفضليــة التعامــل معهــم مــن قبــل ســوريا األســد ‪ -‬ورسعــان مــا هاجروا إىل‬
‫مراع أكرث اخرضارا ً‪ .‬يف النهاية‪ ،‬كانت األكرثية السنية تأمل وتعتقد أن الواليات املتحدة ستساعد‬
‫يف تســليمها ســوريا‪ ،‬كــا حصــل يف العــراق مــع األغلبيــة الشــيعية‪ .‬وتهامســت دمشــق متســائلة‪:‬‬
‫إذا اســتطاع الشــيعة اســتالم الحكم يف العراق‪ ،‬ملاذا ال يســتطيع الســنة اســتالم الحكم يف ســوريا؟‬

‫يف الواقــع‪ ،‬فــإن القلــق الــذي حصــل بســبب التغيــر الســيايس يف العــراق عـ ّزز قبضــة األســد‪.‬‬
‫أمــا بالنســبة للتوقعــات مــن الواليــات املتحــدة‪ ،‬فــإن ســوريا ســتكون مخطئــة بشــكل شــديد‪ .‬حــن‬
‫بــدأت االنتفاضــة يف كانــون الثــاين‪ /‬ينايــر ‪ ،2011‬قامــت تظاهــرات صغــرة بكــر الهــدوء يف ســوق‬
‫مدينة دمشق الرئييس وباحة جامعها األموي‪ .‬غري أن املفاجأة الكبرية أن االنفجار الحقيقي حصل‬
‫يف الريــف الجنــويب لســوريا‪ ،‬يف ســهل حــوران وعاصمتــه درعــا‪ .‬هــذا اإلقليــم مشــهور تقليديـاً بكونــه‬
‫«خـ ّزان البعــث»‪ ،‬الــذي زود الحــزب والدولــة بعــدد كبــر مــن مســؤوليه األوائــل وقــادة الدرجــة الثانيــة‬
‫فيــه‪ .‬كان الحــزب قــد ق ـدّم نفســه باعتبــاره حــزب العــال والفالحــن‪ ،‬لكــن هــذه األفــكار املســبقة‬
‫أثبتــت زيفهــا حــن ثــار العــال والفالحــون ضــد الســلطة عالنيــة‪ .‬لــن أعيــد هنــا قصــة درعــا‪ ،‬كونهــا‬
‫صــارت مشــهورة ومتــت تغطيتهــا إعالمي ـاً بشــكل جيــد‪ :‬تالميــذ املدرســة الذيــن خططــوا شــعارات‬
‫ضــد النظــام عــى حائــط‪ ،‬اعتقالهــم وتعذيــب املخابــرات لهــم‪ ،‬اإلهانــات التــي تعــرض لهــا آباؤهــم‬
‫وأهاليهــم‪ .‬بعــد حــوادث درعــا والقمــع والقتــل الــذي تعرضــت لــه‪ ،‬أغلــب ســوريا وجــدت نفســها يف‬
‫احتجــاج شــامل وعلنــي ضــد النظــام‪ .‬يف البدايــة‪ ،‬حاولــت األجهــزة األمنيــة والعســكرية أن ترهــب‬
‫املتظاهريــن الســلميني باســتخدام تكتيــكات الصدمــة والرعــب‪ .‬هــذه املرحلــة وصلــت ذروتهــا يف‬
‫حمــص‪ ،‬حيــث حــاول املتظاهــرون نســخ تجربــة ســاحة التحريــر املرصيــة باعتصــام حاشــد كبــر يف‬
‫الســاحة الرئيســية للمدينــة‪ .‬واجــه النظــام ذلــك بــأول مجــزرة كــرى ضــد املدنيــن الســلميني‪ .‬مــع‬
‫امتــداد االحتجاجــات رغــم تزايــد الضحايــا‪ ،‬انتقــل النظــام إىل مــا ميكــن تســميته مبرحلــة بينوشــيه‪:‬‬
‫تحولت املدارس‪ ،‬املالعب الرياضية‪ ،‬املستشفيات‪ ،‬واملرافق العامة إىل مراكز اعتقال جامعية؛‬
‫الســجون امتــأت مبعتقلــن عشــوائيني؛ ووصــل التعذيــب إىل مرحلــة قصــوى‪ .‬حــن فشــل تكتيــك‬
‫بينوشيه أيضاً حركات التظاهر‪ ،‬انتقل النظام إىل خيار شمشون‪ :‬محطّامً هيكل سوريا فوق رؤوس‬
‫الجميــع‪ .‬قــرى‪ ،‬مــدن‪ ،‬وســاحات مــدن تــم تدمريهــا وجعلهــا أنقاضـاً؛ محاصيــل وغابــات تــم حرقهــا؛‬
‫مــدارس‪ ،‬مستشــفيات‪ ،‬جامعــات‪ ،‬ومراكــز صحيــة تــم قصفهــا وتدمريهــا بشــكل منهجــي‪ .‬أطبــاء‪،‬‬
‫صيادلــة‪ ،‬ممرضــات وعنــارص طبيــة أخــرى تــم اعتقالهــم وقتلهــم‪ .‬وصلــت مرحلــة شمشــون قمتهــا مــع‬
‫الهجــوم بالســاح الكيميــايئ عــى الغوطــة‪ ،‬يف حركــة إجراميــة يائســة‪ .‬هــذا القمــع الهمجــي مل يكــن‬
‫عفوي ـاً بــل كان مخطط ـاً لــه ومتوقع ـاً‪ .‬تذكــر الكثــرون كلــات بطانــة رفعــت األســد يف أيــام ع ـ ّزه يف‬
‫‪15‬‬ ‫روث يف ةيروس‬

‫ســبعينيات القــرن املــايض– أن عشــرة األســد والعلويــن اقتحمــوا دمشــق بالقــوة‪ ،‬وإذا أراد الســنة‬
‫ظعلا لالج قداص‬

‫استعادتها‪ ،‬فسيستلمونها أنقاضاً مدمرة‪ .‬وهو ما تجسد يف شعارات النظام الحالية عن «األسد‬
‫أو ال أحــد» و»األســد أو ند ّمــر البلــد»‪ .‬حــن أصبــح الحفــاظ عــى حركــة موحــدة مســتحيالً بســبب‬
‫القمــع الفظيــع‪ ،‬اتهــم مراقبــون الثــورة بفقــدان القيــادة واالســراتيجية‪ .‬غــر أن هــذا كان خطــأ‪ .‬قيــادة‬
‫الثــورة كانــت مختلفــة ببســاطة عــا يتوقعــه املــرء‪ .‬األحــزاب املنظمــة والشــخصيات ذات الجاذبيــة‬
‫تــم اســتبدالها بلجــان تنســيق محليــة‪ .‬هــذه اللجــان قــادت ونظمــت حركــة الشــارع واســتمرت بــإدارة‬
‫مــا بقــي مــن الطابــع الســلمي للثــورة‪ .‬رغــم عفويــة التنســيقيات‪ ،‬فقــد اســتطاعت خلــق شــبكة وطنيــة‬
‫وبالتواصــل مــع فعاليــات مامثلــة لهــا يف ســوريا‪ ،‬ويف العــامل العــريب‪ ،‬والعــامل‪ .‬وبخربتهــا املتزايــدة‪،‬‬
‫استطاعت استخدام األكرث حداثة يف وسائل التواصل االلكرتوين لدفع أجندتها الثورية‪ .‬استطاعوا‪،‬‬
‫كذلــك‪ ،‬أن يحبطــوا محــاوالت النظــام العســكرية منــع تدفــق املعلومــات بإنتــاج ســيل متدفــق مــن‬
‫الصور اآلنية واملعلومات حول ما يحصل حقيقة عىل األرض‪ .‬أضف إىل ذلك العمليات اإلبداعية‪،‬‬
‫املوســيقى‪ ،‬الرســوم املتحركــة‪ ،‬والتعليقــات الســاخرة‪ ،‬والغرافيتــي الناقــد‪ ،‬وكل مــا لجــأ إليــه هــذا‬
‫الجيــل الثــوري‪ ،‬وســرى مــا أســميه أفضــل ســاعة للمجتمــع املــدين الســوري‪ .‬الــروح الكرنفاليــة يف‬
‫تلــك الفعاليــات– باملعنــى الباختينــي للســخرية لتنفيــس قمــع قــوى الســلطة العليــا املدعــاة– مل‬
‫تكن شيئاً معروفاً يف الرصاع ضد االستعامر ولكنها صارت سمة قا ّرة يف االحتجاجات املعارصة‪،‬‬
‫خــال الربيــع العــريب‪ .‬النظائــر العســكرية للجــان التنســيق انتــرت عــر ســوريا كلهــا‪ ،‬وأجــرت النظــام‬
‫عىل نرش القوات أيضاً بشــكل رشذم هذه القوات وأنهكها من انتقاالتها من درعا يف الجنوب إىل‬
‫الحــدود الرتكيــة يف الشــال ثــم لتعــود إىل إلجنــوب مــن جديــد‪ .‬ولهــذا الســبب ســمعنا أن الجيــش‬
‫اجتــاح‪ ،‬احتــل‪ ،‬ثــم تراجــع مــن درعــا أكــر مــن عرشيــن مــرة خــال أقــل مــن خمســة عــر شــهرا ً‪ .‬حالي ـاً‬
‫يبــدو األمــر وكأن ال أحــد مــن الطرفــن قــادر عــى هــزم الطــرف اآلخــر‪ .‬غــر أن هنــاك أمــرا ً خادعـاً حــول‬
‫هــذا املظهــر‪ .‬فــإذا نظــرت إىل أيــن بــدأت األحــداث قبــل االنتفاضــة‪ ،‬ســتجد أن أجهــزة األمــن كانــت‬
‫محصنــة مــن الهزميــة‪ ،‬مثــل جــدار صلــد؛ أي يشء كان يواجههــا كان يتحـ ّول إىل رمــاد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تعتــر نفســها‬
‫الكثــر مــن املعارضــن الذيــن ُســجنوا ذكــروا بعــد اإلفــراج عنهــم أنهــم خــال التحقيــق والتعذيــب كان‬
‫ضبــاط املخابــرات يوبخونهــم قائلــن‪« :‬ملــاذا تع ّذبــون أنفســكم باالنتقــاد واملعارضــة واالحتجــاج رغم‬
‫معرفتكــم أنهــم ال ميكــن هزميتنــا‪ ،‬وأن إرادتنــا فوالذيــة وقــادرة عــى ســحق أي يشء أو أي شــخص‬
‫يقــف يف وجهنــا؟ يجــب أن تجــدوا شــيئاً أفضــل بــدالً مــن محاولــة املعارضــة ومامرســة السياســة»‪.‬‬
‫الثــورة دمــرت هــذه الصــورة التــي ال ميكــن كرسهــا داخــل وخــارج النظــام‪ .‬هــذا مــا جعــل األســد يطلــب‬
‫نجــدة حــزب اللــه مــن لبنــان وامليليشــيات الشــيعية مــن العــراق وإيــران لتعزيــز قبضتــه عــى البلــد‪.‬‬
‫هــذا أيضـاً مــا جعــل قواتــه الخاصــة‪ ،‬وحــزب اللــه‪ ،‬وميليشــيات أخــرى تقاتــل فــرة طويلــة الحتالل بلدة‬
‫ريفيــة صغــرة مثــل القصــر‪ ،‬رغــم التفــوق الكبــر يف األعــداد والطاقــة الناريــة‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪16‬‬

‫أهــل دمشــق‪ ،‬خصوص ـاً‪ ،‬كانــوا يف دواخلهــم يعتــذرون ملراقبتهــم مــن مســافة بعيــدة التدمــر‬
‫الوحــي ونهــب حــاه وســكانها عــام ‪1982‬؛ وألنهــم تســامحوا كل هــذا الوقــت مــع االعتقــاالت‬
‫العشــوائية‪ ،‬الســجن‪ ،‬التعذيــب‪ ،‬اإلجــرام‪ ،‬واالختفــاء القــري ألعــداد غــر معروفــة مــن املواطنــن؛‬
‫وألنهــم قبلــوا تصفيــة أكــر مــن ألــف روح برشيــة يف ســجن تدمــر يف حزيــران‪ /‬يونيــو ‪1980‬؛ ولكونهــم‬
‫ابتلعــوا عــار تحويــل الجمهوريــة‪ ،‬يف لحظــات‪ ،‬إىل حكــم ورايث؛ وألنهــم شــاهدوا ربيــع دمشــق– آخــر‬
‫ملحــة أمــل للســوريني– يحطــم بوحشــية دون أن تطــرف أعينهــم‪.‬‬

‫كــا أن إســاءة الفهــم مــن قبــل الســوريني جعلتهــم غــر قادريــن عــى توقــع االنتفاضــة‪ ،‬فــإن‬
‫الخطابــات العامليــة حــول الثــورة فشــلت أيضـاً‪ ،‬رمبــا بشــكل مقصــود‪ ،‬يك نســتطيع أن نفهمهــا ونــرد‬
‫عليهــا بشــكل مناســب‪ .‬مســألة واحــدة يف قلــب هــذا الغمــوض‪ :‬كيــف تح ّولــت حركــة احتجــاج‬
‫ســلم ّية شــابة ومدنيــة إىل ثــورة مســلحة يف أقــل مــن ســنة واحــدة‪ .‬هــذه مســألة مل ّحــة إذا أخذنــا يف‬
‫االعتبــار لغــة الرئيــس بــاراك أوبامــا االحتقاريــة التــي اســتخدمها لوصــف حركــة االحتجــاج الشــعبية‬
‫العامــة‪ .‬يف آذار‪ /‬مــارس ‪ 2014‬وخــال مقابلــة طويلــة ورصيحــة مــع جيفــري غولدبــرغ مــن «بلومــرغ‬
‫ـمي ومس ـلّح جيــدا ً ومدعــوم مــن قبــل‬
‫فيــو»‪ ،‬وصــف اوبامــا النــزاع الســوري باعتبــاره بــن «جيــش رسـ ّ‬
‫دولتني كبريتني (روسيا وإيران)‪ ...‬يقاتل فالحاً‪ ،‬ونجارا ً‪ ،‬ومهندساً‪ ،‬بدأوا حركتهم كمحتجني وفجأة‬
‫وجــدوا أنفســهم يف وســط نــزاع أهــي»‪ .‬هــذا التوصيــف خاطــئ‪ .‬مل يكــن هنــاك يشء مفاجــئ يف‬
‫التحــول مــن االحتجاجــات الســلمية إىل «نــزاع أهــي» مســلح‪ .‬كان ذلــك نتيجــة لــرك املحتجــن مــن‬
‫قبــل املجتمــع الــدويل رغــم التصاعــد املتزايــد يف العنــف املــارس ضدهــم مــن قبــل نظــام األســد‪،‬‬
‫وللتضامــن بــن الجنــود الســوريني املنشــقني والنــاس العاديــن‪ ،‬ولتدفــق املتطرفــن املســلحني‬
‫ملــلء الفــراغ يف مناطــق يائســة‪.‬‬

‫عقلية «السياسة الواقعية» ‪( Realpolitik‬التي تهتم بالوقائع الطارئة ال باملبادئ أو األخالق)‬


‫يف املنظومــة الدوليــة خفضــت شــأن األزمــة يف ســوريا لتصبــح مجــرد ســحب األســلحة الكيميائيــة‬
‫مــن يــد األســد و‪ -‬عمليـاً ‪ -‬إعــادة تثبيتــه‪ ،‬رغــم األوصــاف التــي يقــوم اوبامــا وكــري بوصفــه بهــا‪ :‬مجــرم‪،‬‬
‫قاتــل‪ ،‬طاغيــة‪ ،‬وحتــى هتلــر جديــد‪.‬‬

‫فهــم الســوريون هــذا‪ .‬وال يوجــد ســوري يؤمــن بــأن الواليــات املتحــدة هــي بطــل صفقــة األســلحة‬
‫الكيميائية‪ .‬يعلم السوريون أن ترسانة األسلحة الكيميائية جعلت القوى الكربى تتأهب منذ بداية‬
‫االنتفاضــة‪ .‬روســيا أعطــت تأكيــدات علنيــة وضامنــات خاصــة إىل «رشكائهــا» ان األســلحة الكيميائيــة‬
‫الســورية كانــت تحــت الســيطرة الكاملــة ولــن تقــع يف االيــدي الخطــأ‪ .‬حــن قــام األســد باســتخدام‬
‫محدود للعنارص الكيميائية املخففة ضد مراكز املدنيني المتحان الغرب‪ ،‬قامت روسيا مبضاعفة‬
‫تأكيداتها‪ .‬هذا ما ساعد أوباما عىل وضع خطه األحمر املشهور بإعالنه أن استخدام هذه األسلحة‬
‫‪17‬‬ ‫روث يف ةيروس‬

‫ـيغي مــن قواعــد اللعبــة»‪ ،‬لكــن تهديــده مل تكــن لــه عالقــة باالتفــاق الالحــق حــول هــذه األســلحة‪.‬‬
‫«سـ ّ‬
‫ظعلا لالج قداص‬

‫يف الواقــع‪ ،‬كــا أقــر أوبامــا يف مقابلتــه مــع «بلومــرغ فيــو»‪ ،‬فــإن ســوريا كانــت تســتجيب للضغــط‬
‫مــن قبــل إيــران وروســيا‪« :‬خــال ‪ 10‬أيــام أو أســبوعني‪ ،‬قــام رعاتــه‪ ،‬اإليرانيــون والــروس‪ ،‬بإجبــار األســد‬
‫عىل التخلص من أســلحته الكيميائية‪ ،‬وتقديم قامئة بها للمجتمع الدويل‪ ،‬واملوافقة عىل جدول‬
‫زمنــي للتخلــص منهــا»‪ .‬أكــر مــن ذلــك‪ ،‬يتذكــر الســوريون أن كــري‪ ،‬محــاوالً تقويــة مربراتــه يف لــوم‬
‫النظــام‪ ،‬ذكــر أن الواليــات املتحــدة عرفــت قبــل ثالثــة أيــام مــن هجــوم الغوطــة أن العنــارص الكيميائيــة‬
‫تــم مزجهــا‪ ،‬وإعدادهــا‪ ،‬وتــم تذخريهــا عــى أســلحة االســتخدام للهجــوم‪ .‬بكلــات أخــرى‪ ،‬فــإن كــري‬
‫علــم مســبقاً مــا هــي الجرميــة املقبلــة لكنــه فشــل يف عمــل أي يشء لوقفهــا‪.‬‬

‫كل هــذا يكشــف منط ـاً اعتيادي ـاً‪ :‬حــن يواجهــون بتهديــد جــدي‪ ،‬يوافــق الطغــاة عــى الرتاجــع‪.‬‬
‫حافــظ األســد‪ ،‬والــد بشــار األســد‪ ،‬فعــل ذلــك حــن س ـلّم رئيــس حــزب العــال الكردســتاين (يب‬
‫يك يك) عبــد اللــه أوجــان إىل تركيــا عــام ‪ .1998‬بعــد ســنني مــن املقاومــة واإلنــكار‪ ،‬أدرك حافــظ‬
‫اقــراب اللحظــة الحرجــة حــن تحـ ّول الهجــوم الــريك إىل خطــر أكيــد‪ .‬النمــط نفســه تكــرر عــام ‪2005‬‬
‫حــن تراجــع بشــار األســد أمــام ضغــط الرئيــس جــورج دبليــو بــوش واالتحــاد األورويب‪ ،‬خصوصاً فرنســا‪،‬‬
‫وســحب قواتــه مــن لبنــان‪.‬‬

‫تنطبق عىل األسدين القاعدة التي رشحتها قبل زمن طويل مدرسة فرانكفورت حول الشخصية‬
‫الفاشــية الصغــرة التــي تســتلم الســلطة‪ :‬قســوة واحتقــار لألضعــف وخضــوع جبــان أمــام القــوي‪ .‬بعــد‬
‫أن قــام األقويــاء باالســتيالء عــى األســلحة الكيميائيــة‪ ،‬بــدأ النظــام باســتخدام ســاح ليــس أقــل إبــادة‪:‬‬
‫تكتيكات الحصار إلجبار السكان عىل الخضوع‪ .‬يدعو النظام هذا «إركع أو مت جوعاً»‪ .‬رد الفعل‬
‫العاملي عىل هذا كان الصمت‪.‬‬

‫يفهم السوريون أيضاً ملاذا تحتاج «السياسة الواقعية» ‪ Realpolitik‬أن تستخدم املجموعة‬
‫الدوليــة وضعهــا املؤثــر يف ســوريا الحاليــة‪« :‬دعهــم ينزفــون»‪ ،‬كــا قــال الصحــايف كريســتوفر ديــي‪.‬‬
‫املتنافســون يف هذه الدراما الدموية هم– ســوريا‪ ،‬إيران‪ ،‬حزب الله‪ ،‬القاعدة إضافة إىل تشــكيلة‬
‫من اإلسالميني والجهاديني– وكلها أطراف لديها تاريخ طويل ومؤكد من كره الغرب‪ .‬ملاذا الوقوف‬
‫يف وجــه هــؤالء األعــداء فيــا يقتلــون بعضهــم البعــض؟ أوبامــا نفســه يقــول إن ســوريا «تســتنزفهم»–‬
‫إيــران‪ ،‬حــزب اللــه‪ ،‬واملتطرفــون الســنة املتقاتلــون يف ســوريا‪ .‬الفائــدة السياســية للواليــات املتحــدة‬
‫ال ميكــن تجاهلهــا‪ .‬باقــي الغــرب ابتعــد أيض ـاً ألســباب مشــابهة‪ .‬وهكــذا رفــع الرئيــس أوبامــا يديــه‪،‬‬
‫جزئيـاً عــى قاعــدة تربيــر مريــح ولكنــه خاطــئ حــول أطبــاء األســنان واملزارعــن مظهــرا ً جهلــه يف كيفيــة‬
‫تحــول االحتجاجــات الســلمية إىل ثــورة مســلحة‪ ،‬مثبت ـاً موقفــه الخاطــئ حــول أن القتــال كان تح ـ ّوالً‬
‫«مفاجئـاً» يف األحــداث‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪18‬‬

‫هناك ثالثة عنارص عىل األقل إضافة إىل قمع النظام ساعدت يف تحويل التظاهرات السلمية‬
‫إىل حــرب‪ ،‬كلهــا كان ميكــن ألجهــزة األمــن الغربيــة رؤيتهــا‪ .‬الغــرب فشــل‪ ،‬متقصــدا ً رمبــا‪ ،‬يف فهــم‬
‫الثــورة‪ .‬بدايــة فــإن أغلــب القــادة املتعلمــن واملهنيــن الذيــن أججــوا البدايــات الســلمية لالنتفاضــة‬
‫انتهــى بهــم األمــر يف الســجون‪ ،‬أو متّــت إعاقتهــم بشــكل دائــم‪ ،‬أو غــادروا إىل املنــايف‪ ،‬أو قتلــوا‪.‬‬
‫وحل يف أمكنتهم قادة أقل تعليامً وتقدمية وقناعاتهم بالطابع السلمي للثورة أضعف‪ .‬ثانياً‪ ،‬أدى‬
‫تشــكيل وتضخــم الجيــش الســوري الحــر إىل تشــجيع الثــورة املســلحة‪ .‬كان ذلــك أيض ـاً أمــرا ً ميكــن‬
‫رؤيتــه قادم ـاً– سلســلة مــن االنشــقاقات‪ ،‬مــن كل الرتــب العســكرية‪ ،‬مــن الجيــش الرســمي بعــد أن‬
‫تــم اســتدعاؤهم لقمــع االنتفاضــة بعنــف غــر محــدود‪ .‬رغــم املخاطــر الكبــرة عــى أرواحهــم وحيــوات‬
‫عائالتهــم‪ ،‬رفــض هــؤالء األوامــر لقصــف القــرى والبــر الذيــن هــم مثلهــم‪ .‬وعــى الســوريني أن يكونــوا‬
‫شــاكرين ألن جيشــهم مــا زال جيش ـاً للمجنديــن غــر املتطوعــن وليــس جيش ـاً محرتف ـاً‪ .‬أخــرا ً‪ ،‬فــإن‬
‫الخســارة بالنســبة لطريف الرصاع عالية بشــكل كاف لدرجة أن اللجوء إىل الســاح ال يجب أن يكون‬
‫مفاجــأة‪ .‬مــن جهــة‪ ،‬فــإن العلويــن لديهــم الكثــر مــا ســيخرسونه بحيــث أنهــم لــن يتوقفــوا عــن فعــل‬
‫أي يشء لالحتفاظ بالسلطة‪ .‬من جهة أخرى‪ ،‬فإن الثوار السنة بعد أن دفعوا إىل هذه الوضعية‪،‬‬
‫مصممــون عــى اســتعادة ســوريا بــأي مثــن‪ .‬كل ذلــك يبــدو وكأننــا نصــل إىل املفارقــة القدميــة‪ :‬مــا‬
‫الــذي يحصــل عندمــا تلتقــي قــوة ال ميكــن مقاومتهــا مــع يشء ال يتحــرك؟ أي يشء وكل يشء‪.‬‬

‫إضافــة إىل هــذه املجموعــة مــن ســوء التقديــرات حــول مــن يقاتــل يف ســوريا وكيــف انحــدرت‬
‫الحركــة الســلمية إىل العنــف‪ ،‬فــإن الخطابــات العامليــة مخطئــة أيض ـاً فيــا يخــص طبيعــة النــزاع‪.‬‬
‫ســوريا يتــم ض ّمهــا بشــكل خاطــئ إىل نزاعــات طائفيــة أخــرى‪ ،‬مثــل النــزاع يف لبنــان‪ .‬يف لبنــان تقاتــل‬
‫الجامعــات‪ ،‬الطوائــف‪ ،‬والتنظيــات بعضهــا البعــض بقــوة فيــا تبقــى الدولــة دون تدخــل‪ .‬املثــال‬
‫اآلخــر هــو العــراق‪ ،‬حيــث قامــت الواليــات املتحــدة بإزالــة الدولــة‪ ،‬الجيــش‪ ،‬والحــزب الحاكــم‪ ،‬تاركــة‬
‫الشــيعة‪ ،‬الســنة‪ ،‬واألكــراد يتحركــون ضــد بعضهــم البعــض‪ .‬يف ســوريا هنــاك جهتــان متحاربتــان‪:‬‬
‫النظــام‪ ،‬والدولــة‪ ،‬والجيــش والحــزب الحاكــم يف طــرف‪ ،‬واالنتفاضــة الشــعبية يف طــرف آخــر‪ .‬ليســت‬
‫هنــاك إشــارات إىل تنافــس طائفــي‪ .‬دروز ســوريا لــن يقومــوا مبهاجمــة جريانهــم الســنة يف حــوران‪،‬‬
‫كــا أن الســنة ليســوا يف وارد اجتيــاح املناطــق االســاعيلية واملســيحية‪ ،‬كــا أن االســاعيليني ال‬
‫يســتعدون إلنهــاء نــزاع عنيــف قديــم مــع العلويــن وهكــذا دواليــك‪ .‬ال جامعــة ســورية‪ ،‬أو طائفــة‪ ،‬أو‬
‫إثنية قامت بتحشيد قواتها جامعياً للقتال يف طرف النظام أو الدفاع عنه‪ .‬سوريا ليست يف حالة‬
‫حرب أهلية عمومية‪ .‬إذا كانت هناك ســابقة تاريخية أو تحليل نحتاجه‪ ،‬فلنســتدع الثورة الهنغارية‬
‫املســلحة ضــد النظــام الســتاليني هنــاك يف عــام ‪ –1956‬وهــي ثــورة تــم ســحقها مــن قبــل الدبابــات‬
‫الروســية كــا حاولــت الدبابــات الســورية أن تســحق الثــورة‪ .‬بعــد أن انتهــت الثــورة الهنغاريــة‪ ،‬مل يقــل‬
‫أحــد إن البــاد كانــت متجهــة إىل حــرب أهليــة ألن الهنغــار كانــوا يقتلــون هنغــارا ً‪.‬‬
‫‪19‬‬ ‫روث يف ةيروس‬

‫رمبــا يعــود األمــر إىل أن املجتمــع الــدويل ينظــر خاطئـاً إىل العنــف الطائفــي خــارج ســوريا فهنــاك‬
‫ظعلا لالج قداص‬

‫قلــق حــول األقليــات فيهــا– أكــراد‪ ،‬مســيحيون‪ ،‬علويــون‪ ،‬دروز‪ ،‬اســاعيليون‪ ،‬تركــان‪ ،‬رشكــس‪،‬‬
‫وهكــذا– وحــول حقوقهــم‪ .‬يجــيء هــذا يف الوقــت الــذي تتعــرض فيــه األكرثيــة الس ـ ّنية إىل رضب‬
‫وحــي مــن القــوات الخاصــة‪ ،‬امليليشــيات‪ ،‬صواريــخ ســكود مــن أقليــة مســلحة تحتكــر ســلطة وثــروة‬
‫البــاد‪ .‬املــدن التــي تــم تدمريهــا كلهــا مــدن ســنية‪ ،‬بينــا بقيــت جامعــات األقليــات يف أمان نســبي‪.‬‬
‫األغلبية الكربى ألكرث من ‪ 200‬ألف قتلوا حتى اآلن‪ ،‬ومن الجرحى‪ ،‬ومن املعاقني بشكل دائم‪ ،‬ومن‬
‫الذيــن اختفــوا وتبخــروا‪ ،‬ومــن املســجونني واملعذبــن هــم مــن الســنة‪ .‬أغلــب املاليــن الذيــن هجــروا‬
‫خارجيـاً وداخليـاً هــم مــن الســنة‪ .‬لذلــك فــإن مــا يدهــس تحــت األقــدام يف ســوريا اآلن هــي األكرثيــة‪.‬‬

‫ما يختفي تحت هذا الصمت هو افرتاض ان األكرثية الســنية تنتظر اللحظة املناســبة للهجوم‬
‫عــى األقليــات يك تضطهدهــم وتقمعهــم‪ .‬لكــن‪ ،‬يف هــذه اللحظــة‪ ،‬كل ســوريا‪ ،‬بحاجــة إىل حقــوق‪،‬‬
‫حاميــة‪ ،‬واهتــام‪ .‬هــذا الخطــاب العاملــي حــول حاميــة أقليــات ســوريا يعــود يب إىل أوروبــا القــرن‬
‫التاسع عرش‪ ،‬ودبلوماسية السفن الحربية الشهرية‪ .‬كل قوة أوروبية معتربة كانت تبحث عن أقلية‬
‫يف هــذا املــكان مــن العــامل لرتعاهــا وتحميهــا‪ :‬فرنســا‪ ،‬كلّفــت نفســها حاميــة الكاثوليــك والعلويــن‪.‬‬
‫روســيا‪ ،‬ألحقــت بهــا الــروم األرثوذكــس‪ .‬بريطانيــا‪ ،‬القالئــل مــن الربوتســتانت واألنغليــكان إضافــة إىل‬
‫األقليــة الدرزيــة‪ ،‬وهكــذا دواليــك‪.‬‬

‫روســيا اليــوم تريــد أن تحمــي كل هــذه األقليــات وتحـ ّـل مــكان فرنســا باعتبارهــا حــارس األقليــات‬
‫املســيحية والعلويــة‪ ،‬عــى وجــه الخصــوص‪.‬‬

‫كــا يف املــايض‪ ،‬تريــد أوروبــا حاليـاً دفــع ســوريا إىل املراحــل األثرييــة للجغرافيــات السياســية‬
‫الكــرى‪ ،‬بتحويلهــا إىل بيــدق يف لعبــة األمــم‪ .‬القليــل مــن االهتــام يزجــى إىل الربيــع الداخــي‬
‫ولديناميــات الثــورة نفســها‪ ،‬وهــو أمــر أحــاول أن أؤكــد عليــه‪ .‬اســراتيجيات «الواقعيــة السياســية»‬
‫للقوى العظمى ليست وحدها التي تفكر بهذه الطريقة‪ .‬هناك جزء من اليسار‪ ،‬العريب والعاملي‪،‬‬
‫ابتــاع هــذا النمــوذج مــن التفكــر مــرددا ً أن الثــورة هــي مؤامــرة امربياليــة ضــد النظــام الوحيــد الــذي مــا‬
‫زال واقفــا ضــد إرسائيــل والصامــد كعقبــة ضــد الســيطرة الغربيــة عــى الــرق األوســط‪ ،‬وعــى بلدانــه‬
‫ومصــادره الطبيعيــة‪.‬‬

‫أغلــب اليســار العــريب يدعــم طروحــات املجتمــع املــدين وحقــوق اإلنســان‪ ،‬لكــن أقليــة‪ ،‬تريــد أن‬
‫تستمر يف القتال ضد اإلمربيالية‪ .‬يدخل هذا اليسار سوريا وانتفاضتها ضمن النزاعات االسرتاتيجية‬
‫الكــرى‪ ،‬ويتجاهــل بذلــك‪ ،‬إذا أحس ـ ّنا الن ّيــة‪ ،‬حقيقــة قمــع الشــعب؛ وإذا أســأنا النيــة يصبــح قمــع‬
‫الشــعب أمــرا ً غــر مهـ ّم‪ .‬هــذا خطــأ جســيم ألنــه بقــدر مــا يطــول بقــاء بشــار األســد ودولتــه األمنيــة يف‬
‫الســلطة مــع طائــرات الســوخوي وصواريــخ ســكود‪ ،‬بقــدر مــا يــزداد خطــر املتطرفــن‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪20‬‬

‫يف كل املجتمعــات‪ ،‬ويف حــاالت األزمــة الشــديدة‪ ،‬يلتفــت النــاس إىل اللــه‪.‬‬
‫هــذا يبعــث الطأمنينــة والقــدرة عــى التحمــل‪ ،‬ويف بعــض األحيــان يســتحرض‬
‫اليــأس واالنتقــام اإللهــي‪ .‬إن التوتــر العــايل لإلســام الــذي يندفــع عــر ســوريا يحشّ ــد‬
‫اإلسالميني الشباب‪ ،‬واإلخوان املسلمني‪ ،‬والجهاديني‪ ،‬والطالبانيني‪ ،‬واالنتحاريني‪،‬‬
‫واملتطرفــن مــن كل األنــواع‪ .‬حــن يقــوم طغــاة بإبــادة شــعوبهم ويخاطبهــم موالوهــم‬
‫بعبــارات العبــادة والتخليــد‪ ،‬هــل يفاجئنــا أن يقــوم املقموعــون مبواجهــة ذلــك برفــع‬
‫رايــات األلوهــة هــم أيضـاً؟ وحــن يتعـ ّرض نظــام وقانــون التعســف يف دولــة البعــث‬
‫األمنية لالزدراء والتحقري فهل من املفاجئ أن الناس يعودون إىل نظمهم وقوانينهم‬
‫املعتــادة‪ ،‬والتــي هــي‪ ،‬بشــكل طبيعــي‪ ،‬تحتــوي جرعــة مكثفــة مــن الرشيعة؟ املخرج‬
‫مــن هــذا الطريــق املســدود ال يتعلــق فقــط ببــر رأس النظــام مــن خــال إزاحــة األســد‬
‫وتــرك الدولــة األمنيــة املجرمــة مصانــة‪ ،‬وكل ذلــك باســم االســتقرار‪ ،‬واالســتمرارية‪،‬‬
‫واالنتقــال املنظــم للســلطة‪ .‬كــا أنــه ليــس «انتظــار غــودو» مؤمتــرات جنيــف‪ .‬الحــل‬
‫ميكن أن يأيت فقط مع إنهاء العلوية السياسية‪ .‬هذا يشبه إىل حد كبري ما حصل‬
‫يف مؤمتر الطائف‪ ،‬عام ‪ ،1989‬والذي أنهى الحرب األهلية يف لبنان– من خالل‬
‫التخلــص مــن املارونيــة السياســية وســيطرتها عــى لبنــان‪.‬‬

‫يف حالة سوريا‪ ،‬هذا يعني نهاية الحكم الورايث ونهاية السيطرة العلوية‪ ،‬ونهاية‬
‫حكم األقلية‪ ،‬وإعادة والدة الجمهورية‪ .‬الغرب لديه دور يقوم به‪ .‬بدالً من ترك سوريا‬
‫تنــزف‪ ،‬الغــرب بحاجــة إىل املســاعدة يف رفــع قبضــة األســد عــن البــاد ومســتقبلها‬
‫والتفــاوض عــى إعــادة موضعــة سياســية للعلويــن داخــل نظــام دميقراطــي يكــون‬
‫بالرضورة يف صالح األكرثية الســنية‪ .‬الغرب ســيضطر للتدخل ألن القوى العظمى‬
‫لن تســمح بوقوع ســوريا يف أيدي اإلســام الجهادي‪ .‬الســؤال هو هل ســيقود هذا‬
‫التدخــل إىل فهــم صحيــح للحــرب؟ فيــا أكتــب اآلن‪ ،‬ال أحــد يدعــي معرفــة كيــف‬
‫تسري األمور يف سوريا أو كيف سينتهي هذا الرصاع الدموي‪ .‬مع ذلك‪ ،‬أنا متأكد‬
‫أن األســد وســالته لــن تحكــم ســوريا مــرة أخــرى‪.‬‬

‫ترجمة‪ :‬حسام الدين محمد‬


‫عن «بوسطن ريفيو»‪ .‬تنرش بالتزامن مع مجلة «الجديد»‬
‫‪21‬‬ ‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬

‫أوراق الملف‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪22‬‬

‫فادي عزام‬

‫الكاتب والكتابة السورية يف زمن الثورة‪:‬‬


‫أكتب عن النور وال أمانع أن أبقى يف العتمة‬

‫يحــاول ملــف هــذا العــدد اإلضــاءة عــى شــخصية الكاتــب الســوري ومنتجــه‬
‫ومواقفه ودوره‪ ،‬بوصفه كائناً متصالً بشكل مبارش بالحدث السيايس واالجتامعي‪.‬‬

‫واجــه بعــض الكتــاب عنــف النظــام بشــجاعة عــر ‪ 50‬عامــا مــن حكــم الطاغيــة‪،‬‬
‫ودفــع بعــض الكتــاب السياســيني منهــم أمثانــا باهظــة يف االعتقــال والتعذيــب‪،‬‬
‫وســلط النظــام كل وســائل التمويــت والعــزل واإلرهــاب واملنــع مــن النــر داخــل‬
‫البلــد‪ ،‬عــى بعــض مــن كان يظــن أنهــم يشــكلون نــواة للرفــض مــن الكتــاب الذيــن مل‬
‫ينخرطــوا بنشــاط ســيايس‪.‬‬

‫ومارســت املؤسســات الثقافية‪ ،‬كاتحاد الكتاب العرب ووزارة الثقافة‪ ،‬ســلطة‬


‫أمنيــة رقابيــة وعملــت عــى إفســاد وتفريــغ وتهديــد كل مــن ميكــن أن يشــكل خطــرا‬
‫ولــو بالكلمــة عــى النظــام‪.‬‬

‫وبالوقت نفسه نال الكتابة السورية نوع من اآلفات الذاتية‪ ،‬كالشللية واالنعزال‬
‫والفوقية‪ ،‬التي شكلت نخبة منعزلة إبداعياً وواقعيا عام حولها‪.‬‬

‫يحــاول هــذا امللــف أن يــرى صــورة الكاتــب ودوره بشــكل موضوعــي بعيــدا ً عــن‬
‫االحتفــاء أو االتهــام‪.‬‬
‫‪23‬‬ ‫تعلا يف ىقبأ نأ عنامأ الو رونلا نع بتكأ‬

‫يطــرح امللــف مراجعــات ذاتيــة وموضوعيــة للكتــاب عــن الــدور والوظيفــة والشــكل‪ ،‬شــهادات‬
‫مازع يداف‬

‫شــجاعة وحارة وأيضا محاولة فهم كيف تعمل الســلطة الثقافية مع االســتبداد وكيف تتدمر مهمتها‬
‫ووظيفتهــا ومــا هــي آفاتهــا ومــن هــم مرتزقتهــا‪.‬‬

‫يلــج امللــف بعمــق يف املؤسســات التــي تضمــه اليــوم ويفــكك منتجهــا وآليــة عملهــا يك ال تتكــرر‬
‫األخطــاء القاتلــة التــي أدت إىل خنــق الكاتــب والكتابــة‪ ،‬وتكريــس مداجــن ثقافيــة تعمــل عــى تحويــل‬
‫القيمــة العليــا للكلمــة الحــرة واإلبــداع الخـ ّـاق إىل مفــردات منخــورة بالشــعارات املواربــة والنفــاق‪،‬‬
‫وإبــداع بائــس منعــزل عــن دوره ووظيفتــه األخالقيــة والجامليــة والتنويريــة‪ ،‬أو إبــداع رديء ال يقــل يف‬
‫خطورتــه عــن بــؤس الشــعارات نفســها‪.‬‬

‫وللتنويه حاولت االتصال والتواصل مع مؤسسة اتحاد الكتاب العرب وأرسلت لهم عرب بريدهم‬
‫االلكــروين الرســمي دعــوة للمشــاركة مــع عــرض للمحــاور املطروحــة‪ ،‬ذاكــرا أن يف هــذا العــدد نقــدا ً‬
‫وشــهادات بحــق هــذه املؤسســة‪ .‬وأخربتهــم أن أي مــادة منهــم مرحــب بهــا ألن هــذا املنــر بُنــي بــروح‬
‫دميقراطيــة‪ ،‬ويتســع ألي رأي مضــاد ويحــرم حــق االختــاف والــرأي اآلخــر مــا دام ال ميجــد االســتبداد‪.‬‬
‫وحتــى اللحظــة مل يصلنــي أي ر ٍّد منهــم‪.‬‬

‫حاولنــا يف هــذه العــدد تقديــم صــورة الكاتــب عــن نفســه وعــن اآلخــر‪ ،‬وشــهادات لكتــاب ســوريني‬
‫عانوا الحيف والظلم وأقالم االرتزاق‪ ،‬ومورس عليهم باإلضافة إىل املنع والرفض‪ ،‬ما يسمى بالتجني‬
‫والتشكيك والتحريض عليهم من قبل متعاطني للكتابة املأجورة‪.‬‬

‫ومــر هــذا امللــف عــى صــورة الكاتــب يف الدرامــا وكيــف صــورت الدرامــا الســورية شــخصية‬
‫الكاتــب وســاهمت عــن وعـ ٍـي أوغــر وعــي بتكريــس الصــور النمطيــة عنــه كعديــم الجــدوى أو املرتــزق‬
‫أو املنعــزل والبعيــد عــن الواقــع‪.‬‬

‫امللــف تطــرق أيضــا لنقــد الشــللية ومــا أفرزتــه الثــورة الســورية مــن كتابــة‪ .‬وضعهــا عــى طاولــة‬
‫الترشيــح‪ ،‬وتناولهــا بالنقــد مــن دون مواربــة‪ .‬كالكاتــب املنحــاز بعــاء للثــورة ودوره يف تربيــر أخطــاء‬
‫الثــوار وتجاوزتهــم مــع ارتــكاب خلــط شــديد بــن أخالقيــات الثــورة املطلقــة وبــن تنوعــات الثــوار‪.‬‬
‫فليس كل الثوار أخيار‪.‬‬

‫وما أفرزته الثورة من حالة جديدة تسمى متويل املشاريع الثقافية والكتابية‪ ،‬عن طريق الشللية‬
‫واالحتــكار والدكتاتوريــة املضــادة التــي تعتــر بعــض االتهامــات التــي تطــال النخبــة عامــة والكتــاب‬
‫خاصــة‪ .‬وقــد يكــون هــذا امللــف حــاول إلقــاء الضــوء عــى بعــض ســات األنشــطة الجامعيــة‪.‬‬

‫واحتــل موضــوع الكتّــاب والثــورة مجموعــة مــن املقــاالت الرصينــة حول الكتّــاب والكتابة الجديدة‬
‫لنجد أنه مل يتوان الكتاب الجدد‪ ،‬بعد شيوع وسائل جديدة كرست حالة األبوة واالحتكار الثقايف‪،‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪24‬‬

‫أن يشــهروا غضبهــم باتجــاه كل مــا هــو راســخ وثابــت وبليــد وممــل مــا أنتجــه الكتــاب الســوريون عــر‬
‫عقــود الظالم‪.‬‬

‫وطرحت أسئلة حاول امللف اإلجابة عنها مثل‪:‬‬

‫ماهي ظواهر الكتابة يف زمن الثورة؟ وماذا عن اللغة الجديدة والخروج عن املألوف والقواعد؟‬
‫وإىل مــاذا ســتؤدي هــذه الكتابــة؟ هــل ننعــى الكاتــب التقليــدي؟ أم هــل هنــاك قامــوس جديــد‬
‫للســوريني نشــأ خــال الثــورة؟‬

‫وعــى ســبيل نقــد الــذات‪ ،‬مل نســتطيع يف هــذا العــدد أن نطــرح موضــوع االرتــزاق واألدب‪،‬‬
‫وتســليط الضــوء عــى بعــض الشــخصيات الثقافيــة واألدبيــة الســورية‪ ،‬ومامرســاتها يف عالقاتهــا‬
‫األمنيــة والتملقيــة ومحاباتهــا للدكتاتوريــة وســلطة املــال وذلــك ألســباب قانونيــة وأخــرى لعــدم قبــول‬
‫الكاتــب للتعديــات التــي قامــت بهــا إدارة التحريــر‪.‬‬

‫وســيظل يؤملنــي طويــا إن هــذا العــدد مل يتضمــن شــهادة كاتــب يف كشــفه لبــاب االرتــزاق‪،‬‬
‫وكنت أمتنى بدال من رفض نرش مقاله‪ ،‬أن يقوم الرافضون بكتابة آراءهم يف اإلرتزاق األديب لتكتمل‬
‫الصــورة وليعالجــوا القصــور الــذي انتقــدوه‪ ،‬عــى كل قواعــد الدميقراطيــة تقتــي أن أوافــق مــع رأي‬
‫املجمــوع حتــى لــو كان مناقضــا لرأيــي‪ .‬وهــذا الــذي حصــل‪.‬‬

‫مالحظــة جديــرة بالقــول‪ :‬إن رابطــة الكتــاب الســوريني وأنــا أنتمــي إليهــا‪ ،‬مل تراكــم ال الخــرة‬
‫وال القــدرة عــى صياغــة خطــاب جديــد جــاذب‪ ،‬وال أن تح ـ ّول الخطــاب اإلبداعــي الثــوري الــذي‬
‫خــرج مــن رحــم النــاس إىل وعــي ثقــايف جديــد‪ ،‬وإن عملهــا مــا زال يف جلــه يســتند إىل أدبيــات‬
‫قدميــة يفــرض إنهــا تثــور عليهــا‪ .‬وهــي تبــدو ال مرئيــة يف املشــهد الثقــايف العــام رغــم نزاهــة‬
‫النوايــا‪ ،‬إال إنهــا تحتــاج إىل حلــول إســعافية رسيعــة وتخليصهــا مــن حالــة انعــدام الــوزن مــن خــال‬
‫تحويلهــا فعــا إىل مؤسسســة نزيهــة‪ ،‬ممولــة بشــكل محــرم‪ ،‬وتحــل مشــاكلها بشــكل مؤسســايت‪.‬‬
‫لقــد دفــع قســم كبــر مــن املثقفــن والكتــاب أمثانــا باهظــة يف الســجون والتهميــش بينــا كانــت‬
‫مجموعة من زمالئهم تنال الحظوة والرىض ويصيغون املشهد التلفيقي للثقافة والكتابة لتتامىش‬
‫مــع الدكتاتوريــة وتســايرها وتتزلــف إليهــا وتســتجديها‪.‬‬

‫رمبــا يعــاد فتــح هــذا امللــف‪ ،‬الحقـاً‪ ،‬لفضــح كل تلــك القامــات الكبــرة منهــا والصغــرة‪ ،‬ليس من‬
‫أجــل التشــهري فبعضهــا مــات وشــبع موتــا‪ ،‬وبعضهــا مــا زال ميــارس النفــاق الثقــايف واالنتهازيــة باســم‬
‫األدب‪ .‬وهــؤالء أيضــا أنشــأوا فيــا بينهــم شــبكات مــن العالقــات لحاميــة بعضهــم والرتويــج ملنتجهــم‪،‬‬
‫وتجميــل عــورات وســوءات تاريخهم‪.‬‬

‫ومــا يدعــو لألمــل أن وســائل االتصــال الحديثــة والصفحــات الشــخصية واملدونــات الحـ ّرة‪ ،‬كفيلــة‬
‫‪25‬‬ ‫تعلا يف ىقبأ نأ عنامأ الو رونلا نع بتكأ‬

‫بــأن تقــوم بهــذا الــدور فلــم يعــد أحــد يســتطيع مامرســة الرقابــة تحــت أي ذريعــة ال‬
‫مازع يداف‬

‫قانونيــة وال أخالقيــة‪ .‬فالكتابــة بالعربيــة مــا زالــت رغــم مــرور مئــة عام عىل بدء مرشوع‬
‫التنويــر تعــاين مــن بعــض آفاتهــا القدميــة‪ ،‬مثــل‪ :‬أكتــب عــن النــور وال أمانــع أن أبقــى‬
‫يف العتمــة‪.‬‬

‫فالكتابــة عــن النــور والتنويــر ســهلة‪ ،‬خاصــة أن عــددا ً كبــرا ً مــن الكتــاب خــرج مــن‬
‫بلــدان الزنازيــن املظلمــة‪ ،‬ومــا زال يحمــل عتمتــه معــه‪.‬‬

‫أما ما نفخر به يف هذا العدد فهو امللف اإلبداعي‪ .‬حيث عملنا عىل متابعة‬
‫أكــر مــن مثانــن صوت ـاً جديــدا ً ومل نكتــف باملكــوث بانتظــار أن تراســلنا األصــوات‬
‫الجديــدة بــل قمنــا مبتابعتهــا‪ ،‬ومراســلتها ووضعنــا إعالنــات برتحيبنــا بــكل جديــد‬
‫مــن الكتــاب الســوريني‪ .‬فكانــت الحصيلــة شــهية للغايــة‪ ،‬ووصلتنــا نصــوص أتــت‬
‫يف معظمهــا واعــدة بشــكل يثــر االهتــام‪ .‬نصــوص تنحــاز لإلبــداع والجــال والخلــق‬
‫بشــكلٍ يعيــد هضــم املأســاة الســورية‪ .‬تقــاوم مــن أجــل الحيــاة وقيمهــا بــكل إخــاص‬
‫ملعنــى الكتابــة‪ ،‬جيــل يســتطيع أن ينتــج نصوصــا ال تســقط بالتقــادم‪.‬‬

‫بعــض أصحــاب هــذه النصــوص مل ينــر ســابقاً وتتــرف مجلــة «أوراق» أن‬
‫تكــون منــره األول وبعضهــم قطــع شــوطا بالنــر‪ ،‬ومل تكــن معايــر الجــدة والتجديــد‬
‫خاضعــة للعمــر مبقــدار مــا كانــت مهتمــة بالنــص نفســه‪.‬‬

‫أســاء رمبــا ســتكون جديــدة متامــا عــى الكثرييــن ولكــن بــكل ثقــة ندعوكــم‬
‫لإلنصــات لهــذا الهمــس العــايل واملــيء بغوايــة الكلــات‪ .‬وأيضــا مل تبخــل إدارة‬
‫التحريــر يف متريــر بعــض النصــوص التــي وصلتنــا وهــي تشــكل بعضــا مــن التصــور‬
‫العــام للمشــهد األبداعــي الســوري‪.‬‬

‫شخصيا أنا من املؤمنني‪ ،‬بالكتابة الجادة القامئة عىل الفهم العميق واالطالع‬
‫عىل الثقافة العالية واملتابعة الدوؤبة بكتابة ممتعة حا ّرة‪ ،‬كتابة خالية من الندب‬
‫واالســتعراض واألحكام القاطعة والرســولية والتبرشية‪ .‬كتابة غري معقمة وال خائفة‪.‬‬
‫كتابــة متحــررة مــن الرقيــب الداخــي والرغبــة بإرضــاء الغــر‪ .‬نقــول هــذا ألنفســنا يف‬
‫«أوراق» أوال ألننــا نحتــاج إىل الكثــر مــن العمــل علّنــا نصــل ونشــارك بصناعــة الكتابة‬
‫النقيــة القويــة القادمة‪.‬‬

‫وأخــرا رمبــا يصلــح أن نختــم بجملــة شــهرية للــروايئ الربيطــاين دوغــاس آدمــز‪:‬‬
‫«الكتابة عمل سهل‪ ،‬فليس عليك إلّ أن تحدق يف ورقة بيضاء حتى تنزف جبهتك»‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪26‬‬

‫يارس األطرش‬

‫يقتلني نصف املوقف أكثر‬

‫يف شهر آذار‪ /‬مارس من العام ‪ ،2012‬أعلنت بخجلٍ وعىل استحيا ٍء استقالتي‬
‫من اتحاد الكتاب العرب‪ ،‬شعرت وقتها أنني تأخرت كثريا ً‪ ،‬وحقيق ًة فقد بدأت منذ‬
‫منتصف العام ‪ 2011‬أدعو زماليئ لالنسحاب أو االنشقاق أو االستقالة الجامعية‬
‫مــن اتحــاد القتلــة‪ ،‬قلــت‪ :‬ذلــك رمبــا لــن يحــدثَ فرقـاً سياســياً‪ ،‬ولكن ســيحدث فرقاً‬
‫معنوي ـاً هام ـاً‪ ،‬وطيلــة أشــهر‪ ،‬مل يســتجب أحــد‪ ،‬وال حتــى الزمــاء الناشــطون وقتهــا‬
‫يف صفوف املعارضة السياسية ومؤسساتها‪.‬‬

‫حقيقةً‪ ،‬لحد اآلن مل أستطع استساغة مربرهم أو االقتناع به‪ ،‬حيث كان جواب‬
‫معظمهــم‪ :‬إنهــا مؤسســاتنا ونحــن أوىل بهــا‪ ،‬مل أقتنــع‪ ،‬ومــا زلــت غــر مقتن ـعٍ بأنهــم‬
‫مقتنعون‪ ،‬حيث يعلم جميعنا إنه ال مؤسسات يف دولة البعث‪ ،‬سوى املؤسسة‬
‫األمنيــة‪ ،‬ومــا تبقــى ال تعــدو كونهــا إكسســوارات ال بــد منهــا لتجميــل القبــح وتســويقه‪.‬‬

‫ر منهــم أعلــن موقفــه‬


‫ـني الثــورة‪ ،‬ومل يســتقل الزمــاء‪ ،‬ال بــأس‪ ...‬فكثـ ٌ‬
‫مضــت سـ ُّ‬
‫وانتــر للــدم املســفوح عــى بوابــات الحريــة والحــق‪ ،‬ودون ذلــك يبــدو مــا تبقــى مــن‬
‫شــكالنيات غــر جديــر بالنقــاش‪ ،‬أو أنــه كيــل اتهامــات ملجــرد التشــويه والتشــويش‪،‬‬
‫تلــك إذن مرحلــة انقضــت‪.‬‬

‫يلح وكأنه ال يريد أن يستق َّر عند سامء مطمئنة‪ ،‬يلوب بحثاً عام‬
‫وما زال السؤال ُّ‬
‫يريــد‪ ،‬ال عــا هــو كائــن‪ ،‬وبالفعــل‪ ،‬غالبـاً مــا تتفــاوت األجوبــة وتختلف ح ّد التناقض‪،‬‬
‫هل من دور للمثقف يف الثورة؟‬
‫‪27‬‬ ‫ثكأ فقوملا فصن ينلتقي‬

‫ـت‬
‫ـت غــر مــرة عــن ذات الســؤال‪ ،‬إنــه دو ٌر تراكمــي غــر مبــارش‪ ،‬فعندمــا خرجـ ُ‬
‫بالنســبة يل أجبـ ُ‬
‫طألا رساي‬

‫يف أول مظاهــرة يف ‪ ،2011-3-25‬مل أخــرج كيــارس الشــاعر‪ ،‬بــل يــارس اإلنســان الســوري الــذي يريــد‬
‫حقوقــه السياســية واإلنســانية‪ ،‬كانــت ثــورة شــعبية‪ ،‬وكنــت وأبقــى واحــدا ً مــن النــاس‪ .‬الثــورة مل تخــرج‬
‫مــن اتحــاد الكتــاب وال مــن أمــام وزارة الثقافــة‪ ،‬ومل يــد ُع لهــا مثقفــون وال مبدعــون‪ ،‬كانت دعوة أطفال‬
‫درعــا‪ ،‬وقــد اســتجاب لهــا مــن كان مهيــأ للحقيقــة‪.‬‬

‫أمــا عــن املبدعــن واملثقفــن‪ ،‬فأكرثهــم مل يكــن مهيــأ كــا وشــت لنــا الحقائــق والوقائــع فيــا‬
‫بعــد‪ ،‬إنهــم األمــة التــي تضحــي بــكل يشء عــدا مكاســبها‪ ،‬فوقيتهــم تجعلهــم يــرون كل األشــياء دون‬
‫تطلعاتهــم‪ ،‬مــا زال كثــر منهــم يغلــق عــى نفســه بــاب قصائــده أو ســتائر رواياتــه‪ ،‬ال يريــد أن يــرى مــوت‬
‫مــن هــم خــارج حدودهــا‪ ،‬فأبطالــه املتخيلــون أنقــى وأبقــى‪ ،‬بــل ذهــب بعضهــم إىل اتهــام املقتولــن‪،‬‬
‫إنهم أقل من أن يصنعوا زمن الثورة! جهلة وسوقيون وبائعو تبغ مهرب! قال بعضهم‪ ،‬وقال آخرون‪:‬‬
‫ٍ‬
‫ببعد طائفي مبني‪ ،‬إنهم إرهابيون يجب قتلهم هم وأبناؤهم‪،‬‬ ‫إرهابيون‪ ...‬نعم‪ ،‬قالها شاعر حميص‬
‫مبــاركاً «براميــل» الجيــش الباســل التــي تقتــل عوائلهــم‪ ،‬حاضنــة اإلرهــاب كــا قــال‪ ،‬حــى يل شــاعر‬
‫عــريب صديــق‪ ،‬ونقــل يل تفاصيــل الحــوار بينهــا‪.‬‬

‫وعــى الضفــة األخــرى مــن العــايص‪ ،‬يف حــاة‪ ،‬ليــس مثــة نكهــة طائفيــة‪ ،‬الشــاعر العقيــد الطيــار‬
‫املتقاعــد صديــق األســد األب كــا يزعــم‪ ،‬مــا زال يتغنــى بتاميــل قــدود الفاتنــات عــى إيقــاع ترقــرق‬
‫مــاء العــايص! مــرا ً عــى أال يــرى لونــه األحمــر وال أن يســمع أنــن املخنوقــن وامل ُغرقــن وكذلــك‬
‫يفعــل صاحــب الشــعر امللــون‪ ،‬العجــوز الــذي ال يغــادر فجــور الصبــا‪ ،‬وكذلــك يفعــل من يُعترب اســمه‬
‫تهمــة عنــد املتنفذيــن الطائفيــن هنــاك‪ ،‬مــا زال يدفــع رضيبــة اســمه بــأن يســهب يف املديــح إىل‬
‫قيعــان مــا بعــد املجــزرة‪.‬‬

‫الفرقة الناجية!‬
‫أمــا اإلخــوان فقــد كانــوا أكــر حــذرا ً وأشــد حيطــة‪ ،‬نظــروا يف تقلــب األمــور‪ ،‬ومالــوا مع الرياح حيث‬
‫متيــل‪ ،‬دامئ ـاً هــم مــع الطــور الصاعــد‪ ،‬يزنــون بضامئرهــم كل لحظــة‪ ،‬عــى حاجــز الجيــش النظامــي‬
‫يضيفــون املوالــن‪ ،‬وعــى حاجــز «الحــر» يضيفــون املعارضــن‪ ،‬هذا بعدما صار «فيســبوك» كتاب‬
‫التعريــف الحقيقــي املعتمــد‪ ،‬حتــى يف التحقيقــات األمنيــة‪ .‬وعــى ذكــر «فيســبوك»‪ ،‬فإنــه يتيــح‬
‫فعـاً قــراءة مــا ال تبــوح بــه األنفــس واأللســن أحيانـاً‪ ،‬تصعقنــي الئحــة أصدقــاء صديــق مثقــف معــارض‬
‫حتــى النخــاع‪ ،‬والــده محكــوم باإلعــدام‪ ،‬عندمــا تســتعرضها‪ ،‬ســتجد ذلــك الشــخص ذاتــه‪ ،‬الــذي دعــا‬
‫إىل قتلنــا وقصــف أهلنــا بالرباميــل‪ ،‬إنهــا صديقــان! هنــا‪ ،‬أســقط يف حالــة عميقــة ونهائيــة مــن عــدم‬
‫الفهــم‪ ،‬أشــعر بالخجــل مــن كــوين شــاعرا ً‪ ،‬أشــعر بالخجــل حقـاً‪ ،‬وأمتنــى لــو أعتــذر مــن كل النــاس عــن‬
‫هــذه الحرفــة التــي جمعتنــي بهــؤالء‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪28‬‬

‫ومــا زال الجميــع ميــي إىل شــأنه‪ :‬فائــزون بجوائــز عربيــة ومشــاركون مبهرجانــات‬
‫يغادرون من مطار دمشق‪ ،‬وآخرون من مطار اسطنبول‪ ،‬وعندما يلتقون يف ساحة‬
‫التكريــم‪ ،‬يلتقطــون الصــور التذكاريــة‪ ،‬وعــن طريــق املطــارات أنفســها يعــودون‪ ،‬إىل‬
‫ســاحة الــدم‪ ،‬هنــاك يجــرون حديثـاً بائــدا ً عــن اللحمــة الوطنيــة والعيــش املشــرك‪،‬‬
‫وهنــا يأكلــون لحــوم بعضهــم البعــض أحيــاء‪.‬‬

‫وبالتــايل‪ ،‬لــن تكــون هنــاك معضلـ ٌة يف املســتقبل امل ُتخيــل‪ ،‬ففــي ظــل «حــل‬
‫ســيايس»‪ ،‬لــن يكــون صعبـاً عــى هــؤالء التغنــي بالتضحيــة والشــهادة‪ ،‬عــى اعتبــار‬
‫الكل شهداء‪ ،‬من أطفال الغوطة املقتولني بالكياموي‪ ،‬إىل الجندي الذي قصفهم‬
‫بــه‪ ،‬وهنــا ســيبتكرون عــدوا ً ثالث ـاً‪ ،‬ضمــرا ً غائب ـاً‪ ،‬لتصـ َّـح املعادلــة‪ ،‬فهــو الــذي قتــل‪،‬‬
‫والــذي غــرر‪ ،‬والــذي فــن‪ ،‬وســيعلقونه «هــو» عــى أعــواد املشــانق‪ ،‬ويحرقونــه يف‬
‫املســرات التــي تح ّيــي الوحــدة الوطنيــة والشــهيد‪ .‬إنهــم اآلن يبتكــرون املخــارج‬
‫وير ّوجــون لــذاك الـ«هــو»‪ ،‬فهــو منقذهــم األوحــد‪ ،‬غائــم وضبــايب مثلهــم‪ ،‬ومنفتــح‬
‫عــى كل االحتــاالت‪ ،‬ومســتعد لحمــل كل أوزارهــم وثقــل عارهــم‪ ،‬ولكنــه أيض ـاً‪،‬‬
‫س ُيســقط «األنــا»‪ ،‬أناهــم التــي صــارت بــا مالمــح لكــرة مــا ب َّدلــوا مــن وجــوه حتــى‬
‫صــاروا بــا أســاء وال ظــال تقيهــم وضــوح لحظــة الحقيقــة‪.‬‬
‫‪29‬‬ ‫ةروثلا باطخو ةديدجلا ةباتكلا‬
‫ردب رونأ‬

‫أنور بدر‬

‫الكتابة الجديدة وخطاب الثورة‬

‫كادت الهــوة تتســع كثــرا ً بــن الثقافــة واإلعــام بشــكل متزايــد يف النصــف األول‬
‫من القرن املايض‪ ،‬حيث ارتبطت الثقافة أكرث بحقل املعرفة والعلم‪ ،‬فيام انتمى‬
‫اإلعالم إىل حقل االقتصاد والتسويق السيايس واأليديولوجي‪ ،‬إن صح التعبري‪ ،‬غري‬
‫أن النصف الثاين للقرن العرشين نجح يف قلب املعادلة‪ ،‬مع تطور وسائط اإلعالم‬
‫والتواصــل‪ ،‬وغــزو الفضائيــات التــي تعتمــد عــى الصــورة والرسعــة يف نقل الحدث‪،‬‬
‫حيــث اقتحمــت تلــك الفضائيــات وصورهــا وخطابهــا اإلعالمــي مخــادع الكثــر مــن‬
‫العائالت البسيطة وعقولهم أيضا‪ ،‬يف املدن واألرياف عىل حد سواء‪ ،‬عرب الخرب‬
‫والصــورة والتقاريــر والفيديوهــات واإلعالنــات أيضـاً‪ ،‬والتــي غــرت إىل حـ ٍـد كبــر يف‬
‫موضــوع املعرفــة‪ ،‬فأصبــح ســائق التكــي مث ـاً‪ ،‬أو ربــة املنــزل يف بيتهــا متابعــن‬
‫لألحــداث وأخبــار العــامل واالكتشــافات أكــر بكثــر مــن بعــض املثقفــن الذيــن كانــوا‬
‫ينهمكــون يف قــراءة الكتــب وتصفــح الجرائــد بحثـاً عــن معلومــة جديــدة‪ ،‬واملدهــش‬
‫أننــا نكتشــف يف هــذه الرشائــح مــن متابعــي األحــداث وإذاعــات الــ«إف إم» كثرييــن‬
‫ممــن ال يعرفــون القــراءة والكتابــة‪ ،‬مــا يصــح أن نطلــق عليهــم مصطلــح «املثقــف‬
‫األمــي»‪ ،‬فهــم مثقفــون مــن حيــث امتــاك املعــارف والخــرات يف مياديــن وحقــول‬
‫شــتى‪ ،‬لكنهــم أميــون مــن حيــث معرفــة الكتابــة والقــراءة‪ ،‬أو محــدودو اإلملــام بهــا‪.‬‬

‫هــذا املشــهد شــكل ذروة عــر الحداثــة الــذي ترافــق مــع الثــورة الصناعيــة‬
‫باملعنــى الفلســفي والســيايس واإلنتــاج األديب‪ ،‬حيــث جــاءت الثــورة الرقميــة لتضــع‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪30‬‬

‫حــدا ً لــه‪ ،‬وتدشــن عــرا ً جديــدا ً عــرف بعــر مــا بعــد الحداثة‪ ،‬حــن اختزلت التكنولوجيا الرقمية كل‬
‫معامرهــا الثقــايف واملعــريف مــن ثنائيــة العدديــن «الصفــر والواحــد» فقــط‪ ،‬وحققت تطورا ً متســارعاً‬
‫ومذه ـاً يف وســائل االتصــال‪ ،‬فــاق كل إنجــازات مــا ســبقها مــن حضــارات وثــورات أو اكتشــافات‬
‫علميــة‪ ،‬ألنهــا متيــزت بالبســاطة واالنتشــار الرسيــع‪ ،‬وخلــق مســتفيدين جــدد مــن أدواتهــا التــي غــزت‬
‫أقايص األرض بســنوات قليلة‪ ،‬حتى قيل إن العامل بات قرية صغرية‪ ،‬تســتطيع فيه أي جدة عجوز‬
‫يف ريــف أســيا أو القــارة االفريقيــة أن تتواصــل مــع أحفادهــا املهاجريــن يف أمريــكا أو أوربــا‪ ،‬وبتكاليــف‬
‫أخذت تتقلص رسيعاً حتى بات أغلبها مجاين كالفيس بوك والواتس آب واملاسينجر والسكايب‬
‫وغــر ذلــك كثــر‪.‬‬

‫لقــد ولّــدت الثــورة الرقميــة ثقافتهــا ولغاتهــا الربمجيــة ومفاهيمهــا الجديــدة‪ ،‬كــا غـ ّـرت كثــرا ً يف‬
‫البنــى االقتصاديــة واالجتامعيــة للمجتمعــات املعــارصة‪ ،‬بــل تحولــت صناعــة هــذه الربمجيــات إىل‬
‫أكــر اســتثامر رأســايل يف العــامل‪ ،‬وأصبحــت املعلومــات الســائلة تشــكل أهــم املــوارد االقتصاديــة‬
‫للقــرن الجديــد‪ ،‬يفــوق بكثــر أهميــة املــوارد املادية الســابقة كالنفــط واملعادن والصناعات الثقيلة‪،‬‬
‫وحتــى الصناعــة املرصفيــة تحولــت إىل صناعــة رقميــة‪ ،‬بحيــث باتــت كل التعامــات املرصفيــة تتــم‬
‫حالي ـاً بشــكل الكــروين‪ ،‬بعيــدا ً عــن الكتلــة النقديــة املوازيــة لتلــك التعامــات‪ ،‬وتكتســب ســوق‬
‫املعلوماتية أهميتها نظرا ً إىل تنوع تطبيقاتها املنترشة يف كافة املجاالت ذات ال ُبعد االقتصادي‪،‬‬
‫وشــتى مناحــي الحيــاة‪.‬‬

‫كام قوضت الشبكة العنكبوتية لإلنرتنت مفهوم املركزية الغربية التي رافقت الثورة الصناعية‪،‬‬
‫لصالــح عــامل مــا بعــد الحداثــة الــذي ألغــى داللــة املركــز ومــا أنتــج مــن قضايــا كــرى يف الفلســفة‬
‫والسياســة‪ ،‬لينتــج صناعــة الربمجيــات وثقافــة الجزئيــات كــا عــرت عنهــا االتجاهــات الفرنســية يف‬
‫كتابات ميشيل فوكو ودريدا وآخرين‪ ،‬بالتزامن مع تطور دور اإلعالم يف حياتنا‪ ،‬مام قاد أهم منظري‬
‫االعالم املعارص مارشــال مكلوهان إىل االســتنتاج بأن «الوســيط هو الرســالة» أو أن اإلعالم كحامل‬
‫للرســالة االعالميــة متاهــى بالرســالة ذاتهــا‪.‬‬

‫ترافــق هــذا العــر الرقمــي وانتشــار اإلنرتنــت مــع تحــوالت كبــرة ورسيعــة‪ ،‬شــملت العــامل‬
‫ككل‪ ،‬وأدت إىل انهيــار الكثــر مــن البنــى والهيــاكل واملفاهيــم القدميــة وأنظمــة القوانــن واألعــراف‬
‫الســائدة‪ ،‬وغـ ّـرت مــن طبيعــة العالقــات العامــة‪ ،‬وأنظمــة األعــال وآليــات االقتصــاد‪ ،‬التــي بدورهــا‬
‫أثّــرت يف املجتمــع املــدين‪ ،‬وحــدود العالقــة بــن املواطنــن والســلطة السياســية‪ ،‬ليتحولــوا مــن‬
‫مجــرد مســتهلكني إىل رشكاء يف نظــم اإلدارة‪ ،‬وهــذا كلــه ســيغري بالــرورة يف طبيعــة الحكومــات‬
‫املســتقبلية للقــرن الجديــد‪ ،‬الــذي وســم بالثــورة الرقميــة‪ ،‬وأهــم تغيــر يطــال ســيادة الحكومــات يف‬
‫‪31‬‬ ‫ةروثلا باطخو ةديدجلا ةباتكلا‬

‫جوهــر ســلطتها التــي تعنــي التحكــم االقتصــادي والســيايس‪ ،‬فاالنرتنــت والتجــارة الرقميــة وانتشــار‬
‫ردب رونأ‬

‫املعلومــات أشــياء مل تعــد تعــرف بالحــدود الجغرافيــة ألي دولــة‪.‬‬

‫***‬

‫رمبــا مل يتصالــح كثــرون بعــد مــع هــذه الحقيقــة الصادمــة‪ ،‬لكننــا نــدرك جميعـاً نتائجهــا بطريقــة‬
‫مبــارشة أو غــر مبــارشة‪ ،‬ونســعى كأفــراد للتعاطــي مــع هــذه النتائــج واألدوات بأقــل عدوانيــة ممكنــة‪،‬‬
‫مــع االحتفــاظ مبســاحات داخليــة مــن النوســتالجيا لعواملنــا املفقــودة‪ ،‬وليقينياتنــا التــي تبخــرت‪،‬‬
‫بعكــس األنظمــة السياســية‪ ،‬وتحديــدا ً األنظمــة الكليانيــة يف العــامل الثالــث‪ ،‬التــي أبــدت ميــوالً مبكــرة‬
‫ملقاومــة نتائــج هــذه الثــورة‪ ،‬مــن خــال الســيطرة عــى عــوامل اإلنرتنــت وفضاءاتهــا‪ ،‬بعيدا ً عن تأثرياتها‬
‫عــى املواطنــن وإمكانيــات تفتــح وعيهــم لقضايــا الحقــوق والحريــات تحديــدا ً‪.‬‬

‫ولعــب اإلعــام الــذي ميثــل الســلطة الرابعــة باملعنــى النظــري‪ ،‬دورا ً بــارزا ً مــع الثــورة الرقميــة‬
‫وتطــور وســائل االتصــال اإللكــروين يف العقــود األخــرة‪ ،‬ليســهم بقــوة يف صناعــة توجهــات الــرأي‬
‫العام‪ ،‬وصوالً إىل التأثري يف الصريورات االجتامعية والسياســية للكثري من املجتمعات والبلدان‪،‬‬
‫حيــث بدأنــا نطــل معــه عــى مظاهــرات ســاحة تيــان آن مــن أو «ميــدان الســاء» يف بكــن ‪،1989‬‬
‫ومــا تبعهــا يف بورمــا مــرورا بالثــورة الخــراء يف إيــران‪ ،‬وانتهــاء مبفاعيــل الربيــع العــريب التــي شــكلت‬
‫إحــدى ذُرى هــذا التأثــر‪ ،‬حــن ســاهمت مواقــع التواصــل االجتامعــي يف الكثــر مــن االحتجاجــات‬
‫السياســية‪ ،‬وجعلــت التفكــر بالثــورة والتمــرد عــى أنظمــة الديكتاتوريــات الفاســدة أمــرا ً ممكنـاً‪ ،‬كــا‬
‫ساهمت بفضح املامرسات غري القانونية وغري اإلنسانية لهذه األنظمة‪ ،‬وساهمت من جهة أخرى‬
‫بتأجيــج املشــاعر النبيلــة عنــد رشائــح أوســع مــن النــاس العاديــن عــر نــر مفاهيــم حقــوق اإلنســان‬
‫والدميقراطيــة السياســية وحقــوق املواطنــة‪.‬‬

‫باملقابــل مل يكــن مســتغرباَ أن كل األنظمــة الديكتاتوريــة والشــمولية مــن الصــن إىل مــر لجــأت‬
‫إىل مواجهــة االحتجاجــات الشــعبية بقطــع النــت وحجــب محــركات البحــث ومواقــع التواصــل‬
‫االجتامعي‪ ،‬فيــا ازداد تدفــق املعلومــات مــع سلســلة جديــدة مــن االبتــكارات يف أجهــزة البــث‬
‫الس ـبْق الصحفــي‪ ،‬وتط ـ ّور التليفزيــون ليصبــح قــوة يف‬
‫التليفزيــوين‪ ،‬نجحــت يف إدخالنــا إىل لعبــة َ‬
‫الشــؤون الدوليــة وســاحاً يف الدبلوماســية السياســية‪ ،‬بعــد أن غــدا متاح ـاً عــى أجهــزة املحمــول‬
‫واملوبايــل يف يــد كل فــرد أينــا كان‪.‬‬

‫عمومـاً‪ ،‬ويف ســوريا كنمــوذج‪ ،‬وعالقتهــا بالثــورة الرقميــة وتطــور وســائل االتصــال‪ ،‬سنكتشــف أن‬
‫تلك الوسائط فرضت شكل وأدوات الخطاب‪ ،‬ومحتواه أيضاً‪ ،‬يف الكثري من األحيان‪ ،‬لكنها بذلك‬
‫خلقــت مســافة بينهــا وبــن املثقــف التقليــدي‪ ،‬الــذي يــأىب أن يغــادر قلمــه الحــر‪ ،‬باملعنــى الرمــزي‬
‫طبعـاً‪ ،‬رغــم اقتنائــه الالبتــوب أو اآلي بــاد واآلي فــون‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪32‬‬

‫صحيــح أن عقــودا ً مــن اإلفقــار واإلذالل ومصــادرة املجتمــع والدولــة والسياســة والفكــر لصالــح‬
‫ســلطة القمــع والفســاد‪ ،‬هــي التــي انتجــت املشــهد املــردي لتفــكك القــوى السياســية وهــزال‬
‫قياداتهــا التــي وقفــت مــرددة حيــال االنخــراط بالثــورة الســورية ومفاعيلهــا‪ ،‬و َمـ ْن انخــرط منهــا مــا زال‬
‫يقاتــل عــى حصــص ونســب متثيليــة قــد اليكــون لهــا أي داللــة يف الواقــع العيــاين‪.‬‬
‫إال أن الصحيــح أيض ـاً أن هــذه القــوى مل تكتشــف ذاتهــا يف الثــورة الســورية‪ ،‬إن مل نقــل أنهــا‬
‫اكتشــفت الكثــر مــن البــون والتناقــض مــع هــذه الثــورة‪ ،‬يف مســتوى الخطــاب واملامرســة وصــوالً‬
‫إىل حقل األيديولوجيا‪ ،‬حتى إن أغلب القوى واملؤسسات الثقافية والسياسة القومية واليسارية‬
‫والدينيــة يف ســوريا واملنطقــة العربيــة عموم ـاً‪ ،‬كانــت وفيّــة الرتباطاتهــا العضويــة بنظــام الفســاد‬
‫والديكتاتوريــة‪ ،‬وارتباطهــا كذلــك بثقافــة املقاومــة واملامنعــة وكل مكونــات عــر الحداثــة ومــا قبلــه‪،‬‬
‫رافضة أن تتطور مع تطور املجتمعات والشــعوب‪ ،‬رغم ما تشــكله تلك الوشــائج الســابقة من خيانة‬
‫للكثــر مــن مبادئهــا وشــعاراتها التــي اعتاشــت عليهــا عقــودا مــن الزمــن‪.‬‬
‫***‬
‫ســيلتبس األمــر بالتأكيــد حــول الكثــر مــن هــذه املصلحــات‪ ،‬فكيــف ميكننــا فهــم خيانــة أغلــب‬
‫املنظــات والقــوى القوميــة لثــورة جامهريهــا ض ـ ّد أنظمــة الفســاد والقمــع؟ كيــف ميكننــا أن نفهــم‬
‫خيانــة املاركســيني ملصالــح الطبقــات التــي يدعــون متثيلهــا والدفــاع عنهــا؟ وكيــف لنــا أن نفــر أو‬
‫نفهم أن عظمة اإلسالم الذي غري التاريخ والثقافة منذ ‪ 14‬قرناً‪ ،‬ينتهي بنا يف شعوذات البغدادي‬
‫ورشعييــه الذيــن يُشــك يف معرفتهــم باإلســام أصـاً؟‬
‫كيــف لنــا أن نفهــم قامــة كبــرة كأدونيــس الــذي أطلــق وأســس يف كتابــه «الثابــت واملتحــول»‬
‫ستينات القرن املايض‪ ،‬قفزة نوعية باتجاه الحداثة والتصادم مع كل البنى التقليدية يف املجتمع‪،‬‬
‫وهــو يقــف اآلن متلجلج ـاً وخائف ـاً مــن نتائــج الثــورة الســلمية التــي خرجــت يف درعــا وباقــي املــدن‬
‫الســورية‪ ،‬بحجــة أن تلــك الجمــوع خرجــت مــن الجوامــع؟!‬
‫وكيــف لنــا أن نفهــم شــخصاً ومبدعـاً كزيــاد الرحبــاين عشــقناه كثــرا ً وغنينــا معــه «أنــا مــش كافــر‪...‬‬
‫بــس الجــوع كافــر» وهــو يدافــع عــن مجــازر بشــار األســد‪ ،‬ويعلــن أنــه «لــو كان محــل بشــار األســد لفعــل‬
‫مــا يفعلــه اآلن»‪ ،‬بــل يدافــع أكــر عــن دخــول حــزب اللــه إىل ســوريا ومــا يرتكبــه حســن نــر اللــه مــن‬
‫جرائــم باســم املامنعــة واملقاومــة!‬
‫كيــف لنــا أن نتقبــل نتائــج االجتــاع العاملــي ال ـ ‪ 15‬لألحــزاب الشــيوعية والعامليــة املنعقــد يف‬
‫لشبونة‪ ،‬الربتغال‪ ،‬يف ترشين الثاين‪/‬اكتوبر ‪ 2013‬مبشاركة وفود متثل ‪ 75‬حزباً من ‪ 63‬بلدا ً يف ارجاء‬
‫العامل‪ ،‬أعلنت مجتمعة تضامنها مع النظام السوري‪ ،‬وبشكل خاص الحزب الشيوعي الفلسطيني‬
‫والحزب الشيوعي السوري املوحد ليوسف فيصل‪ ،‬رغم تأييدهم ملا جرى يف تونس ومرص؟!‬
‫‪33‬‬ ‫ةروثلا باطخو ةديدجلا ةباتكلا‬

‫ال أعتقد أن املؤسسة الدينية يف سوريا وتعبرياتها السياسية كانت أنضج من نظريتها القومية‬
‫ردب رونأ‬

‫أو اليســارية‪ ،‬باســتثناء اإلخوان املســلمني الذين أقصتهم الرصاعات الســابقة وأزمة الثامنينات عن‬
‫مدار جاذبية نظام املامنعة‪ ،‬دون أن تقصيهم عن لعبة املحاصصة والطمع بكعكة الثورة املوعودة‪،‬‬
‫كل هــذا يســتدعي منــا قــراءة متأنيــة ملفاعيــل العمــل الســيايس وطبيعــة تلــك القــوى التــي عاشــت‬
‫تناقضاتها الكثرية عىل حســاب الشــعب الســوري وثورته‪.‬‬

‫ميكــن أن نالحــظ الجــذر املشــرك ملواقــف كل تلــك القــوى السياســية عــى تناقــض انتامءاتهــا‬
‫األيديولوجيــة‪ ،‬مــن خــال املوقــف العــدايئ تجــاه االمربياليــة األمريكيــة‪ ،‬باعتبارهــا مركــز التناقــض‬
‫الرئيــي لجميــع الرصاعــات يف املنطقــة والعــامل‪ ،‬وإال كيــف ميكــن فهــم التباينــات بــن مواقف هذه‬
‫القــوى مــا حــدث يف تونــس ومــر وبــن مــا حــدث يف ســوريا؟‬

‫إنــه ببســاطة نتائــج تبســيط ســيايس وأيديولوجــي يــرى يف اإلمربياليــة األمريكيــة الشــيطان األكــر‪،‬‬
‫وهي كانت صديقة ألنظمة بن عيل ومبارك بينام تبدو ظاهرياً عىل عداء مع نظام األسد وتحالفاته‬
‫يف املنطقة مع حزب الله اللبناين وحركة حامس الفلسطينية وصوالً إىل التحالف مع إيران‪.‬‬

‫أعتقــد أن هــذا التبســيط الــذي يقــوم عليــه التحليــل الســابق إمنــا يعكــس نوعـاً مــن الفقــر الثقايف‬
‫واإلفقــار الســيايس الــذي تعيشــه القــوى السياســة العربيــة عمومـاً‪ ،‬وهــو يحتــاج إىل ثــورة تُغـ ّـر ليــس‬
‫النظــام الســيايس لســلطة الدولــة فقــط‪ ،‬بــل لســلطة وأيديولوجيــا تلــك القــوى واملنظــات التــي‬
‫استســلمت ألردأ الطبعــات األيديولوجيــة يف ثقافتهــا‪ ،‬التــي أضحــت أمينــة للنصــوص أكــر مــن‬
‫تعشــقها لشــجرة الحيــاة الخــراء دامئ ـاً‪.‬‬

‫انتهازية يسارية وقومية أيديولوجية ال نزال نعيش عىل وقعها منذ عقود‪ ،‬بل نحن اليوم نحصد‬
‫النتائج السلبية لعجز وانتهازية هذه األحزاب باملعنى التاريخي‪ ،‬حتى إن أغلب هذه القوى وأغلب‬
‫الشــخصيات السياســية التــي دخلــت حلبــة الثــورة‪ ،‬متــارس نشــاطها باعتبــاره امتــدادا ً للرصاعــات‬
‫السياســية التــي عاشــتها خــال عقــود خمــس تحــت وطــأة الديكتاتوريــة‪ ،‬مــا زالــت متــارس وتعيــش‬
‫بذات العقلية التي حكمت هذه القوى وتلك القيادات ذاتها‪ ،‬وبالتأكيد شكل هذا عامل إحباط‬
‫شــديد للثــورة الســورية والقــوى الشــعبية التــي انتفضــت بدايــة ضــد اإلذالل والتهميــش والقهــر والتــي‬
‫عــرت عنهــا الصيحــات األوىل التــي انطلقــت يف ســاحة الحريقــة‪« :‬الشــعب الســوري مــا بينــذل»‪.‬‬

‫الوجه اآلخر الستعصاء االنتصار يف سوريا‪ ،‬أننا مل نرتق ملستوى الثورة وجوهرها كعملية تغيري‬
‫شــاملة وجذريــة لــكل بنــى املجتمــع والســلطة وآليــات عملهــا وخطابهــا‪ ،‬بعمليــة تغيــر شــامل لكامــل‬
‫نظام الحكم القائم وما ميثله يف السياســة واملجتمع‪ ،‬لتحقيق ما تصبو إليه االنســانية بفطرتها من‬
‫حريــة وعدالــة اجتامعيــة وحقــوق متســاوية‪ ،‬إال أن أغلــب القــوى السياســية التقليديــة يف مجتمعنــا‪،‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪34‬‬

‫وقــوى الثــورة التــي انطلقــت مــن حاضنــة الثــورة أيضـاً‪ ،‬مل تســتطع أن تبــدع وســائلها‬
‫أو تكتشــف خطابهــا الجديــد بعــد‪ ،‬ومل ترتــق ملســتوى تضحيــات الشــعب الســوري‬
‫وال ملســتوى املهــام التــي تنطحــت للنهــوض بأعبائهــا‪ ،‬ومل تعــرف حتــى اآلن تلــك‬
‫اللحظة الثورية التي تفرتض بها أن تنزع عباءتها التقليدية باملعنى الرمزي للعبارة‪،‬‬
‫وترتــدي أشــعة الحريــة‪ ،‬فالثــورة ليســت مجــرد شــعار نرفعــه متــى شــئنا‪ ،‬إنهــا عقليــة‬
‫جديــدة تقــود عمليــة التغيــر والتجديــد وتنســف حالــة الركــود التــي وســمت حيواتنــا‬
‫وثقافتنا وحتى مخيالنا أيضاً‪ ،‬لذلك نحن نحتاج بقوة الستعادة تلك الجذوة التي‬
‫أشــعلت فتيــل األمــل يف ســوريا واملنطقــة‪ ،‬األمــل بالثــورة وإمكانيــة اســقاط األنظمــة‬
‫الديكتاتوريــة‪ ،‬رغــم اســتعصاء االنتصــار راهن ـاً‪ ،‬علينــا العمــل بــدأب شــديد عــى‬
‫اســتعادة الوجــه املــدين والحضــاري للثــورة‪ ،‬وتحفيــز روح التمــرد والنقــد واإلبــداع‪.‬‬

‫نحن نعرف أن شباب الثورة ترعرع أغلبهم يف زمن البعث ونشأ عىل مؤسسات‬
‫الطالئــع والشــبيبة والحــزب الواحــد‪ ،‬لكنــه مــؤمل جــدا ً أن تســمع لهــذا الشــباب وهــم‬
‫يتلجلجــون يف أبجديــة النظــام التــي مل يقــرؤوا ســواها‪ ،‬وهــم يلهثــون يف املناســبات‬
‫خلف قصائد عصامء ونربة خطابية قوية‪ ،‬أجزم أنها تعطل لدى الكثريين منا إمكانية‬
‫التلقي ونحن نتابع تلك الجمل السجعية املشوهة‪ ،‬واألفكار التقليدية البالية‪.‬‬

‫دون أن نلغــي بالطبــع االجتهــادات الكثــرة لبعــض الشــباب التــي كــرت حالــة‬
‫األبــوة واالحتــكار الثقــايف لزمــن البعــث ومثقفيــه‪ ،‬فأشــهروا غضبهــم تجــاه كل مــا هــو‬
‫ثابت وإنشايئ وبليد يف ثقافتنا ووعينا الذي خطه ديوان املديح لظل السلطان‪.‬‬
‫اجتهادات كانت أمينة ألدواتها ولعرصها املعلومايت الجديد‪ ،‬أمينة لثقافة شبت‬
‫عليهــا رغــم جمــود الســلطة السياســية‪ ،‬لذلــك نقــرأ حينـاً أو نشــاهد فيديــو جديــدا أو‬
‫نســمع لغــة جديــدة هنــا وهنــاك‪ ،‬تشــكل شــمعة أمــل لثقافتنــا الجديــدة‪ ،‬ولخطــاب‬
‫الثــورة القــادم‪ ،‬دون أن نســتطيع االدعــاء بعــد بــأن الثــورة الســورية أبدعــت خطابهــا‬
‫الجديــد والتغيــري‪ ،‬خاصــة يف ظــل هيمنــة األســلمة الطاغيــة بنســختها الداعشــية‬
‫عــى الكثــر مــن املنابــر‪ ،‬وهــذه األســلمة تســعى لرتســيخ خطــاب ومفاهيــم تقليديــة‬
‫لــن تصنــع ثــورة حتــى يف حــال انتصارهــا‪.‬‬

‫لذلك نؤكد أن عىل خطاب الثورة أن يكون بديالً لخطاب النظام الذي يكذب‬
‫يف كل يشء‪ ،‬وال يحــرم أي حقــوق للتعبــر ناهيــك عــن حقــوق اإلنســان‪ ،‬وحــق‬
‫اآلخــر يف االختــاف‪ ،‬وأعتقــد أن ذلــك يشــكل أحــد أهــم رشوط التفــوق األخالقــي‬
‫للثــورة التــي ننتمــي إليهــا وإىل ســوريا كوطــن يتســع لجميــع أبنائــه‪ ،‬ضمــن دولــة مدنية‬
‫‪35‬‬ ‫ةروثلا باطخو ةديدجلا ةباتكلا‬

‫دميقراطيــة تحــرم كل االنتــاءات الصغــرى‪ ،‬وتؤكــد عــى أهميــة االنتــاء للوطــن‬


‫ردب رونأ‬

‫واإلنسانية كجوهر ثابت‪ ،‬االنتامء الذي ينبع من قيم املواطنة باملعنى السيايس‬
‫والثقــايف الفكــري وشــعاراتها‪« :‬مواطــن – فــرد – حــر – كريــم ‪ -‬متســاو»‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪36‬‬

‫عادل بشتاوي‬

‫نظرة من ثقب الكتابة إىل ميدان الثورة‪:‬‬


‫اشرت الكاتب وخذ الكتاب عىل البيعة‬

‫خــويف األكــر كمراقــب محــرف ليــس مــن عــدم مجــيء الربيــع العــريب‪ ،‬فهــو آت‬
‫ـن الصلــة‬
‫ألســباب طبيعيــة ال عالقــة لهــا بهمــة شــباب مل يتم ّكــن بعضهــم بعــد مــن تبـ ّ‬
‫العضويــة بــن الشــبابيّة والحكمــة‪ ،‬أو شــيوخ ال همــة عندهــم وال حكمــة وال شــباب‬
‫وال حتــى عضويــة‪ ،‬بــل أن يــأيت إلينــا أكــر هرمـاً مــن الخريــف عــى عكازيــن ال واحــدة‪.‬‬
‫الســبب رياضيــات‪ :‬لــو جمــع الجامــع امــرأة يف الســبعني وشــيخاً يف الثامنــن وأفــرد‬
‫لهــا جناحـاً يف الشــراتون ملــدة خمســة أشــهر مــع طــن مــن الفياغــرا فلــن يجــيء مــن‬
‫الرحــم العتيــق إصبــع ناهيــك عــن مجــيء ربيــع الطفولــة‪.‬‬

‫حتــى لــو اســتولدا ربيعـاً حياتيـاً مبعجــزة قريبــة مــن معجــزة والدة الكــون فاألرجــح‬
‫أن عمــر هــذا الربيــع ســيكون متوســط عمــر امل ُنتجــن الهرمــن‪ ،‬أي ‪150 = 80+70‬‬
‫سنة ÷ ‪ 75 =2‬سنة‪ .‬ميكن هنا أن يُقال لو أنهك أدونيس األمة فوق إنهاكه السابق‬
‫بخمســة دواويــن شــعر جديــدة‪ ،‬ال ســمح اللــه‪ ،‬فرمبــا اســتطاع اقنــاع نفســه أن رضيعـاً‬
‫بعمــر ‪ 75‬عامـاً يُعتــر شــاباً‪ ،‬لكنــه لــن يجــد لــه الحليــب املناســب‪.‬‬

‫هــي‪ ،‬إن شــئت‪ ،‬كمثــل وجبــة الكفتــة التــي خرجــت عــى غــر مــا اشــتهى الــزوج‬
‫واألوالد فيام هم جلوس إىل العشاء‪ .‬الزوج يلوم الزوجة ألنها كانت ط ّباخة سيئة‪،‬‬
‫والزوجــة تلــوم ف ّرامــة اللحــم ألنهــا مل تُخــرج اللحــم كــا ينبغــي‪ ،‬واألوالد يلومــون الفــرن‬
‫‪37‬‬ ‫يبلا ىلع باتكلا ذخو بتاكلا رتشا‬

‫ألنهــم ال يريــدون خناقــة جديــدة بــن األم واألب‪ .‬إذا مت ّعــن الجميــع يف الســبب الحقيقــي فرمبــا‬
‫يواتشب لداع‬

‫وجــدوا بعــد مشــاورات أن املشــكلة ليســت يف طريقــة الطبــخ وال يف ف ّرامــة اللحــم وال يف الفــرن بــل‬
‫يف اللحــم نفســه‪ .‬اللحــم ليــس صالحـاً وال يوجــد ســبيل أمــام لحــم خريفــي لتحويــل نفســه إىل لحــم‬
‫ربيعــي ‪ -‬هــو لحــم خريفــي عجــوز أصــا‪.‬‬

‫عندمــا تذهــب الزوجــة والــزوج األوالد والفــرن إىل الل ّحــام ملســاءلته عــن ســبب بيــع لحــم ال يصلح‬
‫لالســتهالك البــري ســيقول لهــم جميع ـاً إن هــذا هــو اللحــم الــذي تســتورده الحكومــة‪ ،‬ال يوجــد‬
‫بديــل آخــر إال الخــراف الحيّــة التــي هــي فــوق القــدرة الرشائيــة ملعظــم النــاس‪ .‬إذا ذهبــت الزوجــة‬
‫واألوالد والفرن والل ّحام إىل وزارة التموين لالستفسار عن سبب استرياد لحم ال يصلح لالستهالك‬
‫البرشي فرمبا قال لهم الوزير إن الســبب ليس اللحم املســتورد‪ ،‬فهو يُباع حتى يف إيطاليا وفرنســا‬
‫للــكالب‪ ،‬بــل مــذاق األرسة هــو الفاســد‪ .‬رمبــا كان مخابراتيـاً بالرضــاع فاعتــر املداخلــة تدخـاً ســافرا ً‬
‫يف السياســة العليــا للدولــة وعاملــة صهيونيــة وغربيــة س ـتُرضب أيــدي مروجيهــا بســياط مــن فــوالذ‪.‬‬
‫بعــد ليلــة بــا نهايــة ســيخرج الجميــع مــن قبــو التحقيــق بكوراليــة أخطــر مــن «كارمينــا بورانــا» يُنشــدون‬
‫فيهــا للحــم تتمنــى املالئكــة أكلــه‪ ،‬لكــن فــروا‪.‬‬

‫لكــن لنــرك املرسحيــة يف حــال ســبيلها ونــدرس املــرح‪ :‬األب ديكتاتــور حت ـاً ألنــه قــرر حتــى‬
‫قبــل االستفســار أن زوجتــه ط ّباخــة فاشــلة وكأنــه طبــاخ ماهــر‪ .‬الل ّحــام ديكتاتــور ألنــه قــرر أن يبيــع النــاس‬
‫لحامً فاســدا ً شــاؤوا أم أبوا‪ .‬الوزير ديكتاتور ألنه يســتورد اللحم الذي يناســب الوزارة ال اللحم الذي‬
‫يناســب النــاس‪ .‬الرئيــس ديكتاتــور ألن مســاءلة الشــعب كلــه حــق رشعــي لــه ال ميكــن املســاس بــه‬
‫لكــن مســاءلته جرميــة بشــعة‪.‬‬
‫وزيــر التعليــم ديكتاتــور يف وزارتــه‪ ،‬مديــر املدرســة ديكتاتــور يف مدرســته‪ ،‬املعلــم ديكتاتــور يف‬
‫صفه والكاتب ديكتاتور ألنه يريد أن يكتب لنفسه ال للناس‪ .‬الرأي عند كتاب كثريين ال ينطبق عليه‬
‫وصــف «الــرأي» مــا مل يكــن مدحـاً‪ .‬يعنــي إذا قــال لــه ناقــد‪« :‬مــع احرتامــي الشــديد للــورق املُهــدر‪،‬‬
‫هــذه يــا أخــي روايــة تافهــة»‪ ،‬زعــل الكاتــب ونرفــز ونفــش عرفــه مثــل الديــك‪.‬‬
‫يا ساديت‪ :‬إذا درس الباحث رس كامل الصناعة األملانية سيكتشف أن الرس هو أن املستهلك‬
‫األملــاين لــن يشــري بضاعــة دون الكــال‪ ،‬لــذا ال يوجــد خيــار أمــام الصانعــن ســوى إنتــاج الكــال‪.‬‬
‫مبــا أن األملــان مــن الشــعوب التــي ال يعجبهــا العجــب‪ ،‬فمــن الســهل عــى الصانعــن األملــان أن‬
‫يسـ ّوقوا صناعاتهــم يف أي دولــة أخــرى ألنهــا تحمــل دمغــة الجــودة‪ .‬إذا ً‪ ،‬ليــس مــن االنصــاف تحميــل‬
‫الكاتــب العــريب املســؤولية كلهــا‪ .‬مســتوى الجــودة يف بــاد حكمهــا أتفــه العــرب أكــر مــن نصــف قــرن‬
‫تافــه مثلهــم‪.‬‬

‫حديــث بعــض الكتّــاب عــن أزمــة يف ال ِكتــاب بوشــار يريــد أن يخــدع النــاس أن أصلــه ليــس ذرة بــل‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪38‬‬

‫ياســمني عراتــي‪ .‬هــو ذرة‪ ،‬يــا بعــض الســادة الكتّــاب‪ ،‬فاخدعــوا أنفســكم إن اســتطبتم البوشــار لكــن‬
‫لــن تخدعــوا النــاس‪ .‬كــا أن شــعوب العــرب تتقــدم حكوماتهــا مبليــون ميــل عــى األقــل‪ ،‬كــذا القارىء‬
‫العــريب يتقــدم كتابـاً كثرييــن‪ .‬إذا نظــر الشــيخ وجهــه يف املــرآة فليــس لــه أن يتوقــع أن يــرى شــاباً‪ ،‬هــو‬
‫شــيخ‪ ،‬مــا بيــده‪ .‬وعــاء الكتابــة مثــل الثالجــة تســتطيع إبقــاء اللحــم طازج ـاً فــرة لكنهــا ال تســتطيع إن‬
‫تجعــل الشــخت هــرة‪.‬‬

‫القــارىء الخليجــي ال يشــري كتاب ـاً وكتابــن وعــرة يف معــرض الكتــاب‪ .‬أمامــه عربــة الب ّنائــن‬
‫يدفعهــا بيــد ويف اليــد األخــرى كيــس غايــة يف الثقــل بالكتــب التــي اشــراها‪ .‬بعــض أكــر مكتبــات‬
‫العــامل ليــس يف لنــدن وباريــس بــل يف الخليــج‪ .‬إذا اســتوقف املســتوقف هــذا الخليجــي املثقــف‬
‫واســتعرض الكتــب ســيجد الكثــر مــن اإلنتــاج الحديــث‪ ،‬وهــو إنتــاج بالفعــل بعضــه متميز‪ ،‬لكن كتب‬
‫الــراث كثــرة هــي األخــرى‪ .‬بعضهــا‪ ،‬لــو يعلــم النــاس‪ ،‬أشــد خطــرا ً مــن خطابــات جوزيــف غوبلــز أيــام‬
‫النازيــة ألن بعــض أصحابهــا أعضــاء متمرســون مــن مجمــع الصناعــات الدينيــة الــذي اختطــف االســام‬
‫واختطــف العرب ّيــة‪.‬‬

‫عجيــب أن يســأل الســائل شــاباً يف بيتــه خمســة كومبيوتــرات عــن شــاعره املفضــل فيقــول لــه‬
‫«املتنبــي»‪ ،‬عــن مؤرخــه املفضــل فيقــول‪ ،‬مث ـاً‪« ،‬اليعقــويب»‪ ،‬عــن حكيــم الحكمــة فيقــول‪ ،‬مث ـاً‪،‬‬
‫«طَ َرفــة بــن العبــد»‪ .‬هــؤالء‪ ،‬يــا قــوم‪ ،‬متاحــف‪ ،‬أينعهــم شــباباً مــات قبــل ‪ 1050‬ســنة‪ ،‬معقــول؟ عنــد‬
‫بعــض النارشيــن كتــب صــارت قريبــة مــن العامليــة‪ ،‬لكــن ســاحة هــذه الكتــب يف حيــز فالــت عــى‬
‫هامــش القــراءة‪ .‬لــو ســأل الســائل نفســه‪ :‬مــا هــو الســبب؟ فرمبــا اكتشــف أن النــارش ديكتاتــور هــو‬
‫اآلخــر‪ ،‬وكأ َّن الل ّحــام ال يكفــي‪.‬‬

‫القــول الشــائع عنــد معظــم النارشيــن بعــد طبــع الكتــاب «مــات الكاتــب»‪ ،‬أي ورثــه النــارش حيـاً‪.‬‬
‫نــارشون كثــرون يريــدون أن يبيعــوا أكــر عــدد مــن الكتــب لكنهــم ال يريــدون للكاتــب أن يشــتهر «أكــر‬
‫مــن الــازم» لئــا يكــر رأســه ويطالــب مبكافــآت وجعــاالت وحقــوق يف وطــن عــريب حكومــي ال يعــرف‬
‫إال بالواجبــات‪ .‬النتيجــة تطــور تاريخــي يف القــول الشــائع مــن «مــات الكاتــب» إىل «مــات الكاتــب‬
‫والكتــاب»‪ .‬حــزن أهــل الكاتــب عــى موتــه يقابلــه فــرح النــارش ألنــه ســيبيع أعاملــه الكاملــة ويضيــف‬
‫طبقــة أخــرى إىل بنايــة أخــرى ع ّمرهــا عــى أقــام كتّــاب فقــراء‪.‬‬

‫أســألكم يــا ســاديت‪ :‬كــم هــو عــدد الكتّــاب العــرب الذيــن يرتزقــون مــن الكتابــة األدبيــة؟ أنــا ال أعرف‪،‬‬
‫قســموا عــى ‪ ،100‬لكــن أعتقــد أن النتيجــة‬
‫إن ُخ ّمنــت فرمبــا قلــت ع ـدّوا كلــات هــذا املقــال ثــم ّ‬
‫ســتكون مبالغــة‪ ،‬عــى األرجــح‪ .‬الكاتــب يريــد أن يعيــش‪ ،‬فــاذا يفعــل؟ يشــتغل‪ ،‬مثــل املاليــن‪ ،‬عنــد‬
‫الحكومات‪ ،‬أي يف دواوين الديكتاتورية‪ .‬عنده أوالد ومصاريف فام هو الشعار‪« :‬الجوع وال الركوع»‬
‫أم «االنبطــاح والركــوع والخنــوع والخضــوع وال الجــوع»؟‬
‫‪39‬‬ ‫يبلا ىلع باتكلا ذخو بتاكلا رتشا‬

‫جنــود فرنســا‪ ،‬ومل يكــن كلهــم فرنســيون‪ ،‬قَتلــوا يف مظاهــرات ومجــازر ‪ 8‬مايــو (أيــار) ‪ 1945‬التــي‬
‫يواتشب لداع‬

‫شــملت معظم أرجــاء الجزائــر بــن مثانيــة آالف و‪ 15‬ألــف شــهيد‪ .‬لرنفــع أك ّفنــا بالرحمــة لهــم‪ .‬لكــن‬
‫السؤال‪ :‬هل يف الوطن العريب أكف دعاة يُقبل دعاؤهم بعدد الجزائريني الذين قتلهم الجزائريون‬
‫يف عــر ســنوات؟ ‪ 100‬ألــف؟ والق ـذّايف‪ ،‬قذفــه اللــه يف عمــق أعــاق الجحيــم‪ ،‬وأســد أفنــدي؟‬
‫هــل مقتــل ‪ 100‬ألــف جزائــري مثــن مقبــول لبقــاء الدكتاتوريــة؟ هــل تدمــر ســورية وقتل أهلها وترشيد‬
‫شــعبها مثــن مقبــول لبقــاء أرسة واحــدة يف الحكــم؟ معقــول أن يكــون شــعار مواطنــن ســوريني ولــدوا‬
‫عــى أرض ســورية وطنهــم ســورية ال يعرفــون وبناتهــم وأوالدهــم غــره «األســد أو نحــرق البلــد»؟ إذا‬
‫احرتقــت ســورية‪ ،‬ال ســمح اللــه والثــوار‪ ،‬فأيــن ســيكون وطنهــم؟ حتــى موزامبيــق ال تريدهــم‪ .‬لـ ُـردّد أن‬
‫لــكل مثقــف يف العــامل وطنــان‪ :‬وطنــه يعيــش فيــه وســورية‪ .‬ملــاذا؟ ألن يف ســورية ‪ 12‬ألــف موقــع‬
‫أثــري إذا التقــط عــامل اآلثــار حجــرا ً واحــدا ً مــن كل موقــع أعــاد بســهولة بنــاء قــر الحضــارة اإلنســانية‪.‬‬

‫العــرب‪ ،‬برصاحــة‪ ،‬كــا كانــت الوالــدة رحمهــا اللــه تقــول‪ ،‬مل يدفعــوا مثــن الحريــة الــذي دفعــه‬
‫األوروبيــون‪ .‬عنــدي اعــراض شــخيص جــدا ً عــى وصــف «مفكــر» ألنــه يفــرض أنــه الوحيــد الــذي‬
‫يف ّكــر وباقــي األمــة أغبيــاء ال يفكــرون‪ ،‬لكــن مجــازا ً‪«« ،‬املفكــر»» (االعــراض هنــا ثنــايئ وهــو ليــس خطــأ‬
‫طباعيـاً) العــريب مل يدفــع الثمــن الــذي دفعــه املفكــرون األوروبيــون‪ .‬ال أعــرف ««مف ّكــرا»» توفــاه اللــه‪،‬‬
‫مثــل أم كلثــوم‪ ،‬وال يــزال العــرب يرت ّحمــون عــى روحــه‪ ،‬مثــل أم كلثــوم‪.‬‬

‫مواقــف كتّــاب كثرييــن غــر مفهومــة‪ .‬إذا تــوكّل الالفهــان عــى اللــه وقرأهــا خمــس مــرات وجــد‬
‫نفســه بعــد ذلــك أقــل فهـاً مــا كان قبــل أن يقــرأ‪ .‬الخيــار باملقابلــة الباتــة‪ .‬إذا مل يكــن الكاتــب يريــد‬
‫للعــرب ربيعـاً فــا شــك أنــه يريــد لهــم شــتا ًء دامئـاً‪ .‬إذا مل يكــن يريــد لهــم الدميقراطيــة فهــو يريــد لهــم‬
‫الديكتاتوريــة‪ ،‬إذا مل يكــن يريــد لهــم التحــرر فهــو يريــد لهــم ســجون األزل‪ ،‬إذا مل يكــن يريــد لهــم كتابـاً‬
‫متميــزا ً فهــو يريــد لهــم كتاب ـاً تافه ـاً مثلــه‪ .‬مــا هــي الخيــارات األخــرى التــي ال بــت فيهــا وال قطــع وال‬
‫وضــوح؟ أن تقــول الفتــاة الصادقــة مــع نفســها واآلخريــن‪« :‬ميكــن عــذراء!»‬

‫إذا درس الــدارس تاريــخ صعــود أملانيــا بعــد الحــرب العامليــة الثانيــة ســيجده تأخــر كثريا ً ومل يأت‬
‫بعــد انتهــاء الحــرب مبــارشة‪ .‬إذا حــاول تحديــد األســباب فرمبــا وجــد أن خــراب أملانيــا يف الحــرب‬
‫العامليــة الثانيــة كان رهيبـاً‪ ،‬لكنــه مل يكــن دامئـاً‪ .‬الخــراب الــذي تطلّــب تجــاوزه فنــاء جيــل كامــل كان‬
‫الخراب الذي زرعته النازية يف عقول األملان‪ .‬يســتطيع الجراح أن يُخرج الرصاص وســموم الشــظايا‬
‫مــن الجســم لكــن كيــف لــه أن يُخــرج الســموم التــي زرعتهــا النازيــة يف عقــول ماليــن األملــان؟ لذلــك‬
‫خــويف األكــر كمراقــب محــرف ليــس مــن عــدم مجــيء الربيــع العــريب‪ ،‬فهــو آت ألســباب طبيعيــة‬
‫ال عالقــة لهــا بالبــر‪ ،‬بــل أن يــأيت إلينــا بقميــص عثــان الدميقراطــي ومالبــس داخليــة غايــة يف‬
‫الديكتاتوريــة والتخلــف واالنتــان‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪40‬‬

‫««املفكر»» اإليراين حميد دبايش نرشت له دار املتوسط كتاباً بعنوان «الربيع العريب ‪ -‬نهاية‬
‫يب متامـاً‪ ،‬مــا مل يشــمل‬
‫طيب مــا فيــه القــول‪« :‬لــن يزهــر الربيــع العــر ّ‬
‫حقبــة مــا بعــد االســتعامر» اسـتُ َ‬
‫مراعــي إيــران الخرضاء»‪.‬‬

‫أهذا كالم يا صديقنا حميد؟ فتيات العرب يطالنب بقبول حقوقهن يف القرن الحادي والعرشين‬
‫أو ر ّدهــم إىل القــرن الثامــن ألن حقوقهــن آنــذاك كانــت أفضــل مــن حقوقهــن اليــوم‪ .‬مــن قــال إن حقبــة‬
‫ما بعد االستعامر انتهت؟ مل تنته يا عزيزي «املفكر» ألن األنظمة الديكتاتورية أسوأ من االستعامر‬
‫واألمثلــة أعــاه ويف ســورية وليبيــا ومــر واليمــن‪ .‬مبــا أن مســؤولية منــع األنظمــة الخليجيــة مــن دفــن‬
‫الربيــع العــريب تقــع عــى عاتــق أهــل الخليــج أنفســهم فاملســؤولية نفســها تقريبـاً تقــع عــى عاتــق أهــل‬
‫إيران‪ .‬إىل أن يتحرك االيرانيون إلزالة الحواجز املتوالية التي يقيمها نظامهم هم عىل الدرب العريب‬
‫إىل ربيعهــم املــروع والطبيعــي فمراعــي إيــران الخرضاء للخــراف‪ .‬املشــكلة التــي ال يريــد كثــرون أن‬
‫يروهــا عــى حقيقتهــا طبيعيــة‪ :‬الشــتاء ال يســتطيع منــع قــدوم الربيــع‪ ،‬وأعتقــد أن الشــتاء أكــر دميومــة‬
‫مــن هــذه األنظمــة الخريفيــة‪ .‬خســائر العــرب يف معركــة فتــح الوطــن العــريب لنســيم ربيعهــم القــادم ال‬
‫ريــب لــن تكــون‪ ،‬مهــا َعظُمــت‪ ،‬بحجــم خســائر االيرانيــن‪ .‬ظهــر األنظمــة العربيــة كلهــا إىل حائــط مــن‬
‫ورق‪ .‬ظهــر نظــام إيــران إىل أكــر قنبلــة انفجاريــة عرفهــا الــرق األوســط‪ .‬ذنــويب كثــرة وأنــا متأكــد أن‬
‫اللــه لــن يســمع دعــايئ‪ ،‬لــذا أمتنــى أن يبــدأ الداعــون الدعــاء مــن اآلن أن ميـ ّن عــى االيرانيــن بالقــوة‬
‫والصــر ألن معركتهــم القادمــة ســتكون صعبــة للغايــة‪ ،‬وهــي قادمــة ال ريــب‪.‬‬

‫زميلنا العزيز فادي وجه مللف العدد اآليت من مجلة أوراق بلمحات «صورة الكاتب عن نفسه؛‬
‫نحتــاج ملراجعــات جريئــة مــن كتــاب ليكونــوا قــدوة‪ .‬حــول دورهــم الســابق‪ ،‬ومــدى مســؤوليتهم فيــا‬
‫وصلنــا إليــه اليــوم‪ .‬وكيــف حررتهم الثورة؟»‬

‫ســتحرر الثــورة ســورية ال شــك وال ريــب وال جــدال ألنهــا حتميــة طبيعيــة‪ ،‬لكــن كيــف ســتحرر عقــل‬
‫الكاتــب مــن فصــام خمســن ســنة مــن الديكتاتوريــة؟ الدكتــور جيــكل واملســر هايــد يف عناويــن كــوم‬
‫من املحتوى قرأته بدافع الواجب‪ ،‬وهذه أمثلة‪ :‬الشتاء الساخن‪ ،‬الصيف البارد‪ ،‬املاء العطشان‪،‬‬
‫الرغيــف الجائــع‪ ،‬معقــول؟ حتــى أفــام الكرتــون عنــد والــت ديــزين ال تُعنــون هكــذا‪.‬‬

‫وكنــت عــى مشــارف اليــأس مــن استنشــاق نســيم الثــورة يف مدونــات الثــوار عندمــا قــرأت مدونــة‬
‫أقنعتني أن السوريني بخري لذا ستظل سورية بخري مهام حدث‪ :‬هو حفل زواج مقاتلة يف حلب مع‬
‫مقاتــل زميــل بعــد قصــة حــب بــن ركام األبنيــة التــي هدّمهــا النظــام‪ .‬إذا كُنــت املــؤرخ الــذي وجــد بعــد‬
‫ـت إن النظــام‬
‫بحــث عنيــد زاويــة يف هامــش التاريــخ إلضافــة ســطرين عــن تاريــخ نظــام األســد فرمبــا قلـ ُ‬
‫ســقط عندمــا رفعــت تلــك الفتــاة يدهــا لــرى املحتفلــون بزواجهــا خاتــم العقــد بينهــا وبــن زوجهــا‪ .‬لــو‬
‫‪41‬‬ ‫يبلا ىلع باتكلا ذخو بتاكلا رتشا‬

‫أدارت اصبعهــا يف اتجــاه القــر الجمهــوري كانــت الرســالة انتقلــت لوحدهــا إىل‬
‫يواتشب لداع‬

‫التاريــخ مــن دون الحاجــة إىل مــؤرخ‪.‬‬

‫الحــب أوالً يف كل يشء‪ .‬إذا بقــي الحــب يف ســورية بخــر ســتبقى الثــورة‬
‫بخــر وســيبقى الوطــن بخــر والعــامل كلــه بخــر‪ .‬الباقــي قضيــة وقــت ال أكــر‪ ،‬أعــان‬
‫اللــه شــعب ســورية وباقــي شــعوب هــذا الوطــن العــريب املحتــل عــى األنظمــة‬
‫و««املفكريــن»»‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪42‬‬

‫أحمد أنيس الحسون‬

‫مــأزق الكتّــاب الســوريني مــا قبــل وأثنــاء‬


‫الثــورة‬

‫مــأزق حقيقــي اعــرض املثقفــن الســوريني خــال مــا يقــارب النصــف قــرن مــن‬
‫االنقــاب عــى العقــل والفكــر واإلنســان‪ ،‬مــأزق يطــال أول مــا يطــال عمليــة الوعــي‬
‫ين‪ ،‬أو‬
‫ـري دورا ٍّ‬
‫وإنتاجــه‪ ،‬فقــد تحـ ّول املثقــف إىل صناجــة ســلطة أو إىل مثقــف تربيـ ّ‬
‫إىل مه ّمــش‪ ،‬أو إىل عــرش النخبــة والتعــايل عــى الشــارع وهموهــم‪ ،‬وبينــا ا ّدعــى‬
‫املثقــف أنــه ميثّــل ضمــر الشــعب وإذ بــه يف بــرج آخــر ال ميــت للشــارع بصلــة‪ ،‬وال‬
‫ينتمــي للــدور املُنــاط بــه ككاتــب وكمثقــف ينتــج وعيـاً‪ ،‬وأصبــح الكاتــب ُمنقــادا ً مــن‬
‫حيــث يــدري أو ال يــدري‪ ،‬وكان ال بــد مــن قفــزة لتخــرج الكتابــة اإلبداعيــة مــن املــأزق‬
‫الــذي يطحنهــا تحــت هيمنــة النظــام الدكتاتــوري االحتــايل اإلنقــايب يف ســوريا‪.‬‬
‫يف هــذه املرحلــة الحرجــة أصبحــت التبعيــة العميــاء ديدناً للبعض؛ ليغدو صناجة‬
‫ســلطة أو تحـ ّول بشــكل أتوماتيــي إىل رأس مطحــون بــن ســندان الســلطة ومطرقــة‬
‫الهامــش‪ ،‬فغــدا بــن هــذا وذاك يف مــأزق حقيقــي يحتــاج قفــزة واعية ُمســتلهمة من‬
‫العقل اإلبداعي‪ ،‬والضمري اإلنساين‪ ،‬وهذا األخري بحد ذاته مشكلة كانت وال تزال‬
‫ســبباً يف معانــاة الشــعب الســوري‪.‬‬

‫بدأت لعبة القط والفأر بني النظام السوري الدكتاتوري وبني املثقفني‪ ،‬فانزوى‬
‫بعضهــم إىل ركنــه الهــادئ يعـ ّـر عــن رومانســيته‪ ،‬رومانســية الخائبــن واملهزومــن‬
‫‪43‬‬ ‫روثلا ءانثأو لبق ام نييروسلا باّتكلا قزأم‬

‫وفاقــدي الثقــة بــكل شــعارات التح ـ ّرر والثــورة والبنــاء‪ ،‬بينــا انخــرط القســم الكبــر– تحــت تأثــرات‬
‫نوسحلا سينأ دمحأ‬

‫الجــذب الســلطوي املهيمــن‪ -‬يف رشاك الســلطة بقصــد ووعــي تا ّمــن‪ ،‬وبــدأت تس ـ ّول لــه نفســه‬
‫أنــه اختــار الطريــق الصحيــح‪ ،‬ســيام وأن الثقافــة العاميــة واملوروثــات الشــعبية مــن أمثــال وتخاريــف‬
‫رر غــر املنطقــي للكتّــاب املندمجــن بالســلطة‪ ،‬ك ـ «يــا أخــي أنــت لــن تســتطيع تغيــر‬
‫كانــت امل ـ ّ‬
‫الكون‪ ،‬ضع رأســك بني الرؤوس كباقي الناس‪ »...‬وغري ذلك من تربيرات فعلت فعلها التدمريي‬
‫بالوطــن وباملؤسســات الرتبويــة والثقافيــة‪ ،‬وهنــاك مــن اختــار أن يكــون ســجيناً يف أقبيــة آل األســد‪،‬‬
‫وهــذه الفئــة هــي الصــوت املــد ّوي للنضــال الــذي مل يكــرث لــه أحــد‪ ،‬حيــث كانــت جــدران األقبيــة‬
‫ـب الصــوت‪ ،‬وأص ـ َّم املفســدون آذانهــم عــن ســاع أصــوات زمالئهــم‪ ،‬ولعـ ّـل‬
‫متتــص الصــدى وتحجـ ُ‬
‫مكائــد أولئــك املفســدين كانــت مــن أهــم العوامــل املؤديــة بأصحــاب الضمــر الواعي ليقضوا ســني‬
‫شــبابهم يف األقبيــة‪ .‬وهنــاك مــن لجــأ إىل ســمفونية جلــد الــذات‪ ،‬أو إىل إغــراق شــديد يف الفرديّــة‪،‬‬
‫بينام الكاتب من املفرتض أنه منتج للوعي‪ ،‬فاعل ومنفعل يف املجتمع‪ ،‬ونظرا ً المتالك الســلطة‬
‫املهيمنــة وســائل الثقافــة واإلنتــاج وتجيريهــا مبــا يخــدم مقوالتهــا تح ـ ّول الكاتــب املث ّقــف إىل رؤيــة‬
‫مشوشــة ليجــد لنفســه تأشــرة دخــول مــن الخطــاب الســلطوي املهيمــن باعتبــار األخــر قـدّم نفســه‬
‫بقوة السالح وباإلرهاب عىل أنه املنتج الرسمي والرشعي لتأشريات الدخول الثقافية واإلبداعية‪،‬‬
‫وبالتايل مل تقدم رؤية الكتّاب امل ُش ّوشني شيئاً‪ ،‬وبقي العوام يبحثون عن إنتاج حقيقي أكرث رصاحة‬
‫ووضوحـاً‪ ،‬وبقــي معظــم الكتّــاب يلعبــون دور املثقــف الــدوراين التربيــري الــذي مل يتحـ ّرر مــن الرؤيــة‬
‫رســخها النظــام الدكتاتــوري ذهنيـاً وإعالميـاً مبســاعدة كتائــب وميليشــيات ثقافيــة‬
‫الرباغامتيــة التــي ّ‬
‫وكتابيــة مدججــة بأعتــى أنــواع األســلحة‪ ،‬وبــدأت هــذه امليليشــيات ته ّمــش وتطــرد وتق ـ ّرب مــن وإىل‬
‫جمهوريتهــا الفاضلــة بإميــاءات مــن رغبــات الســلطة الدكتاتوريــة عــدوة الفكــر والثقافــة‪ .‬لقــد اســتطاع‬
‫النظــام الدكتاتــوري فــرض ســيطرته عــى املثقفــن بــراء الضامئــر والعقــول‪ ،‬وبتســيريها كيفام شــاء‪،‬‬
‫وتحــت يافطــات النظــام اإلنشــائية املكــرورة‪ ،‬واقتنــع البعــض بــكل تخاريــف النظــام‪ ،‬أو لنقــل‪ :‬أراد‬
‫البعــض أن يقتنــع ويُقنــع مــن حولــه‪ ،‬وتـ ّم تجيــر األقــام لخدمــة مــررات وشــعارات النظــام الســوري‪،‬‬
‫فكانــت وزارة الثقافــة بــكل مــا تحويــه مــن خــواء فكــري‪ ،‬وكان اتحــاد الكتــاب العــرب بــكل مــا يحويــه مــن‬
‫انحطاط أديب وأخالقي‪ ،‬وباتت تلك املؤسســات الراعي الرســمي ملقوالت الســلطة‪ ،‬وأُســند إليها‬
‫عـدّة أدوار‪ ،‬فعملــت بــكل وفــاء للنظــام الــذي أنشــأها‪ ،‬وتح ّولــت إىل مؤسســات مخابراتيــة ملراقبــة‬
‫ضمــر املثقــف‪ ،‬ولصناعــة منطــق الشــللية والعصابــات والتكتّــات والتح ّزبــات تحــت مــرأى ومراقبــة‬
‫األجهــزة األمنيــة‪ ،‬وأصبحــت الحركــة اإلبداعيــة يف ركــود تــام ال تجديــد فيهــا إال مــا جــاء بشــكل فــردي‬
‫ض ّيق سمحت به السلطة لتمرير مكرها السيايس عىل الشعب وعىل املثقفني لغايات يف نفس‬
‫يعقــوب ال تخــرج عــن املنطــق املخابــرايت وادّعائــه بفســح املجــال لإلبــداع المتصــاص رغبــات وأحــام‬
‫االنقالب عىل تلك املؤسسات الفاسدة عىل سبيل السياسة والفكر واإلنتاج بكل أشكاله‪ .‬أصبح‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪44‬‬

‫التمثــال املوجــود عــى بــاب وزارة الثقافــة الســورية خــر مــا ميثّــل الحــراك الثقــايف واإلنتــاج اإلبداعــي‬
‫لهــذا النظــام‪ ،‬صنــم جامــد ال حــراك فيــه‪ ،‬وهــو متثــال المــرأة تجلــس عــى كرس ـ ّيها وتقــرأ يف كتــاب‬
‫بــن يديهــا‪ ،‬وهــو أول مــا يعــرض الزائريــن لــوزارة الثقافــة الســوريّة‪ ،‬متثــال عمــره عــرات الســنني‪ ،‬قــد‬
‫يكون منذ بدأ حافظ األسد وباقي األبواق التطبيل والربوباغندا الداعية لرضورة تح ّرر الفكر واملرأة‬
‫قــوالً‪ ،‬وتصنيمهــا فعـاً وعمـاً‪.‬‬

‫جهــا بالشــارع الســوري ويف‬


‫ركــود وجمــود‪ ،‬أصنــام تعبــد أصنامـاً‪ ،‬انتــرت ثقافــة التصنيــم‪ ،‬وتــم ز ّ‬
‫مفــردات الدراســة اليوميّــة‪ ،‬فرئيــس االتحــاد– ضمــن ثقافــة التصنيــم– هــو صــوت الكتّــاب الحقيقــي‪،‬‬
‫ووزيــر الثقافــة– ضمــن ثقافــة التصنيــم والتقديــس– هــو أيض ـاً ّ‬
‫رب الثقافــة ومنتجهــا وراعيهــا‪ ،‬كُتــب‬
‫ت ُطبــع بتكاليــف باهظــة مســتقرها األقبيــة والرطوبــة وفُــرش وثــرة لتضــع الفــران حملهــا‪ ،‬تُطبــع مبنطــق‬
‫الشللية واملحسوبيات والتنفيعات‪ ،‬وال بأس حينها من رسقة مخطوطات إبداعية لبعض الكتاب‬
‫املتقدمــن بهــا التحــاد الكتــاب العــرب وطبعهــا باســم كاتــب آخــر ال عالقــة لــه باملخطوطــة مــن قريــب‬
‫أو بعيــد‪ ،‬كاتــب أراد لــه أعضــاء امليليشــيات الثقافيــة أن يكــون كاتبـاً بإنتــاج أديب غزيــر‪ ،‬وهنــا ســيتم‬
‫رفــض املخطــوط الــذي ق ّدمــه صاحبــه األصــي ألنــه خــارج الجمهوريــة وصوتــه نشــاذ يف عــامل أربــاب‬
‫العقــول والفكــر مــن أصنــام القيــادة القطريــة‪.‬‬

‫كل مــن انخــرط بتلــك املؤسســات أصبــح صناجــة مت ّجهــا اآلذان‪ ،‬أو‬
‫ولكــن‪ :‬هــل يعنــي هــذا أن ّ‬
‫أصبــح قل ـاً غــر ملتــزم بصــوت اإلنســان الطامــح إىل املعرفــة؟‬

‫بالطبــع هنــاك مــن قــاوم كل تلــك العواصــف‪ ،‬ومــا أكرثهــم مــن كانــوا صادقــن بقلمهــم وصوتهــم‬
‫كل املحافــل‪ ،‬وإن كانــت اإليــادي املل ّوثــة تحجبهــم وتطاردهــم وته ّمشــهم‪ .‬وبطبيعــة الحــل لــن‬
‫يف ّ‬
‫ينترش إنتاجهم نظرا ً الحتكار النظام لوسائل التوصيل واإليصال‪ ،‬وستبقى منتجات الصوت الواعي‬
‫تغـ ّرد يف عــامل آخــر تــم اختيــاره لهــا مــن ِقبــل املعنيــن بــاألدب والفكــر‪.‬‬

‫ال نســتطيع هنــا أن نختــزل فســاد اتحــاد الكتــاب العــرب ووزارة الثقافــة وفضائحهــا املخابراتيــة‬
‫التــي أودت ببعــض املثقفــن إىل الزنزانــات مــن خــال تحويــل مخطوطاتهــم اإلبداعيــة إىل أفــرع‬
‫املخابــرات‪ ،‬ال نســتطيع اختــزال فســاد أنصــاف املثقفــن الذيــن اعتلــوا مراكــز الخطابــة باســم الثقافــة‬
‫أقل ما يُقال عنه إنه يشــبه فســاد الضباط العســكريني يف جيش النظام الســوري‪،‬‬
‫والكتّاب‪ ،‬فســاد ُّ‬
‫ـص دمــاء العســكريني املجنديــن القادمــن مــن رحــم املعانــاة والفقــر‪ ،‬ومبــا أن الوطــن‬
‫فالضابــط ميـ ّ‬
‫تح ـ ّول إىل ميليشــيا عســكرية حســب منطــق النظــام فإنــه مــن الطبيعــي أن يجهــد النظــام عــى أن‬
‫تتق ّمــص الدولــة كلّهــا هــذا الربنامــج العســكري (التفكــر مــن كعــب الحــذاء كح ـ ّد أعــى)‪ ،‬وكذلــك‬
‫نهــج بعــض املتحدثــن باســم الكتّــاب الســوريني‪ ،‬فــرى– مث ـاً– مثــن االنتســاب لعضويــة االتحــاد‬
‫ـدس والتقاريــر لعــي‬
‫ـب مخــرم بالـ ّ‬
‫‪ 32‬كــغ مــن زيــت الزيتــون (اإلدلبــي أو العفرينــي) يعطيهــا كاتـ ٌ‬
‫‪45‬‬ ‫روثلا ءانثأو لبق ام نييروسلا باّتكلا قزأم‬

‫عقلــة عرســان‪ ،‬كاتــب بإنتــاج ثقــايف غزيــر ال يتعـدّى عــر وريقــات يقدّمهــا لــه صنـ ٌم مــن أصنــام وعتــاة‬
‫نوسحلا سينأ دمحأ‬

‫تتجل بتقديم املطبوعات‪ ،‬وأصبحت مقدمات‬


‫ّ‬ ‫الفكر والثقافة‪ ،‬حيث أصبحت صكوك الغفران‬
‫إبداعات أولئك املخرضمني مبثابة شــهادة حســن ســلوك مخابرايت‪ ،‬ســيام وأن مثل ذلك الكاتب‬
‫املخــرم يقــوم مبهـ ّـات ِجســام‪ ،‬يُــوكل إليــه– مثـاً‪ -‬تصنيــف أهــايل مدينتــه أو قريتــه أو زمالئــه إىل‬
‫أحد طرفني؛ من منهم مجتمع مدين ومن منهم مجتمع عسكري‪ ،‬فيخرج املثقفون من هذا السرب‬
‫األمنــي مجتمعـاً مدنيـاً‪ ،‬ويخــرج كشّ اشــو الحــام (الحميامتيــة) مجتمعـاً عســكرياً يؤمــن بــأن ال صــوت‬
‫يعلــو فــوق صــوت الحــذاء العســكري‪.‬‬

‫أمــا الفســاد الســيايس والرتويــج ألطروحــات النظــام فذلــك أقــل مــا يُقــال بــه‪ :‬إن اتحــاد الكتــاب‬
‫ووزارة الثقافة تح ّوال إىل الجالد الرسمي لعرش النظام‪ ،‬فهم يجمعون األصوات املدّاحة والفالسفة‬
‫السفسطائيني من حوله‪ ،‬كام يقومون بدور قطّاع الرؤوس يف نفس الوقت‪ ،‬وكثريا ً ما تم برت الرؤوس‬
‫بإشــارة من زعامء مؤسســاتنا الثقافية املفرتضة‪.‬‬

‫كل وسائل‬
‫ولكن كان عىل الطرف اآلخر وال يزال أصحاب الضمري اإلنساين الواعي‪ ،‬يبحثون عن ّ‬
‫دمــل ُحفـ ِر الضعــف يف الرتكيبــة الثقافيــة‪ ،‬امتــاز أولئــك بالقلــق والتذ ّمــر مــن الفكــر الضــال املهيمــن‬
‫عــى الشــعب الســوري‪ ،‬هــذا القلــق ســينتج يومـاً مــا ثــورة‪ ،‬كانــوا يؤمنــون بهــذه الحتميــة‪ ،‬أرهصــوا لهــا‬
‫يف إنتاجهم األديب والفكري‪ ،‬فكان سيزيف الطامح إىل خالصه من سطوة اآللهة‪ ،‬وكان بروميثيوس‬
‫يجوب بشعلة النار يف األحياء املظلمة‪ ،‬آمنوا بأن سترشق شمس الثورة‪ ،‬ثورة تنتفض تحت الرماد‪،‬‬
‫وهذا مامل يحسب له رعاع النظام من املثقفني وأنصافهم والكتّاب وأشباههم أي حساب‪ ،‬وبقوا‬
‫منشغلني برباغامتيتهم النفعية االنتهازيّة‪ ،‬وبقيت آذانهم ال تطرب إال إىل السمفونيات املتولّدة من‬
‫األوركســرا البعثيــة «منح ّبــك»‪ ،‬مل يصدقــوا أو يف ّكــروا يومـاً مبجــيء الثــورة‪ ،‬فالثــورة ســتأيت ال محالــة‪،‬‬
‫فــإن مل تدخــل مــن البــاب ســتدخل مــن الشـبّاك‪ ،‬وأي محاولــة للتملّــص مــن هــذه الحتميــة ســيكون‬
‫ســلوكاً نعاميّـاً‪ ،‬كالنعامــة تدمــل رأســها يف الــراب‪ ،‬فالثــورة إن مل تــأت كنتيجــة طبيعيــة لإلرهاصــات‬
‫كل مقومــات والدتهــا‪ ،‬يف الحـ ّـي‪ ،‬ويف البيــت‪ ،‬يف الســوق‪ ،‬يف‬
‫السياســية فإنهــا ســتأيت لوجــود ّ‬
‫املدرســة‪ ،‬يف املدينــة‪ ،‬يف القريــة‪ ...‬يف كل مناحــي واتجاهــات الحيــاة الســورية عــر مســرة نصــف‬
‫ُمل‪ ،‬مل يكرتث أصحاب األقالم الفاسدة للخراب الفكري والثقايف يف‬
‫قرن من اإلنشاء البعثي امل ّ‬
‫البــاد‪ ،‬إال أن الواعــن مــن الكتّــاب واملثقفــن الســوريني كانــوا عــى قــدر كبــر مــن الوعــي واإلميــان‬
‫برضورة االنتقال من اللغة اإلنشائية إىل لغة واقع ّية يومية تالمس طموحات الشارع من امله ّمشني‬
‫وغــر امله ّمشــن‪ ،‬كانــوا عــى وعــي تــام بــأ ّن الــدور املـُـوكل إليهــم ســيأيت‪ ،‬ســيام وأنهــم عاينــوا عــن‬
‫كثــب اســترشاء الفســاد الفكــري عنــد أبــواق النظــام‪ ،‬وعاينــوا منطــق العصابــات وال ُنخــب والتعــايل‪،‬‬
‫جلديهــا‪ ،‬هــذه‬
‫عاينــوا وآمنــوا بحقيقــة أن ال بــد مــن اكتســاح رشيحــة عريضــة مــن الشــعوب لعــروش ّ‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪46‬‬

‫الفئــة الواعيــة كانــت مــن الكتّــاب امله ّمشــن صوتـاً وإنســاناً ال يتمتّــع بأبســط حقوقــه كإنســان‪ ،‬أولئــك‬
‫مطــرودون مــن جمهوريــة الثقافــة الســورية‪ ،‬بعضهــم ال يــزال يف الداخــل الســوري يناضــل مبواقفــه‬
‫حيثام سنحت له الظروف تحت وطأة االختطاف والتنكيل‪ ،‬وبعضهم اليزالون رهن سجون الطاغية‪،‬‬
‫وبعضهــم طــرد نفســه بنفســه وقـدّم لذلــك تربيــرات ال تُســمن وال تغنــي‪ ،‬ففــي املراحــل الحرجــة يُعتــر‬
‫الصمت جرمية نكراء‪ ،‬ومام يزيد من بشاعة هذه الجرمية هو التربير لها وتأطريها بفلسفات بعثية‬
‫تتحــدث عــن الوطــن ومفرداتــه‪ ،‬الوطــن الــذي جعلــه النظــام الطاغــي مفــردة مــن مفرداتــه‪ ،‬فالوطــن يف‬
‫زعــم هــذا التفكــر الشــاذ هــو مــن ينتمــي للزعيــم وليــس العكــس‪ ،‬وأصبحــت الحكايــة مــن أولهــا آلخرهــا‬
‫كمــن يجهــد يف نــكاح رأســه ليــل نهــار ليقنــع نفســه ومــن حولــه رشعيــة ورضورة صمتــه أو التحاقــه‬
‫مبيليشــيات النظــام‪ ،‬وفئــة مــن أربــاب القلــم طــردوا أنفســهم ملتزمــن الصمــت‪ ،‬وتلــك أيضـاً مأســاة‬
‫تزيــد مــن مأســاتنا املتمثلــة بانعــدام إنتــاج الوعــي وخاصــة يف هــذه املرحلــة الحرجــة‪ ،‬إذ أن الهــروب‬
‫هنــا هــو هزميــة ويــأس وتــرك الــدور آلخــر انتهــازي رسعــان مــا ســيدور يف فلــك املثقفــن التربيريــن‬
‫الــذي ســيودي بــه بشــكل أو بآخــر إىل االنضــواء تحــت رايــة عصابــات الكـ ّـف األســود مــن ميليشــيات‬
‫وص ّناجــات الطغيــان وأدواتــه العســكرية القاتلــة‪.‬‬

‫أمـاّ اآلن ونحــن يف هــذه املرحلــة مــن الثــورة‪ ،‬هــذه املرحلــة العصيبــة يف ســنتنا الرابعــة‪ ،‬واملــآزق‬
‫ـادي‪،‬‬
‫السياســية والفكريــة تتــواىل‪ ،‬والنتائــج الحقيقيــة لخــراب عمــره نصــف قــرن قــد ظهــرت بشــكل مـ ّ‬
‫وكل الخــراب الفكــري الــذي شــارك فيــه الكتّــاب واملثقفــون مــن صناجــات الســلطة قــد بــدا يظهــر‬
‫ّ‬
‫للعيان عىل أرض الواقع‪ ،‬واألمثلة كثرية ال يســعنا الخوض فيها‪ ،‬عىل ســبيل املثال نالحظ انتشــار‬
‫ظاهــرة أمــراء الحــرب واالســتغالليني واللصــوص وغــر ذلــك مــن شــخصيات ال تختلــف يف نهجهــا‬
‫وعقلها وتركيبتها عن نهج شبيحة «الدفاع الوطني» واملجرمني امللتفني حول نظام األسد الفاسد‪،‬‬
‫ولنفــرض جــدالً أننــا يف نتيجــة طبيعيــة ومنطقيــة لخــراب يقــارب النصــف قــرن مــن الزمــن‪ ،‬خــراب طــال‬
‫املــدارس واملســاجد واملنابــر اليوميــة بــكل تفاصيلهــا‪ ،‬هــذا الخــراب نتيجــة طبيعيــة ســتظهر مــع‬
‫عامــل الوقــت والزمــن‪ ،‬ومــع انتشــار ثقافــة القتــل‪ ،‬وانتشــار الفقــر والخــوف‪ ،‬وســتدخل أطــراف غريبــة‬
‫كل األيــادي يف صناعتهــا‪ ،‬ســتأيت‬
‫يف منشــأها وتفكريهــا‪ ،‬مجهولــة التمويــل واملصــدر‪ ،‬شــاركت ّ‬
‫وتســتغل هــذا الــرخ الحاصــل عــى أرض الثــورة‪ ،‬باملــال حينـاً وبقــوة الســاح حينـاً‪ ،‬تلــك منظــات‬
‫تلعــب دورا ً بــارزا ً يف ســر األحــداث‪ ،‬وجودهــا خلــق فتنــة واقتتــاالً مــن شــأنه شـ ّـق الصفــوف وإطالــة‬
‫عمــر املأســاة‪ ،‬قيادتهــا مشــبوهة‪ ،‬بعضهــا تخـ ّرج مــن ســجون النظــام بعدمــا تـ ّم رعايتهــم رعايــة كاملــة‪،‬‬
‫كل بقــاع األرض‪ ،‬حيــث تــم اســتيعاب‬
‫وبعضهــا مــن ســجون نــور املالــي أو مــن ســجون أمريــكا‪ ،‬ومــن ّ‬
‫تلك املنظامت استيعاباً أمنياً باستغالل عواطفها الستخدامها ورقات سياسية يف لعبة املافيات‬
‫السياســية العامليــة‪ ،‬ومــا هــذه العاطفــة الج ّياشــة لتلــك املنظــات إال إحــدى نتائج الخراب الفكري‬
‫وانعــدام الــدور الواعــي امل ُنتــج للوعــي اإلنســاين طــوال مســرة نصــف قــرن من الجمــود‪ ،‬لنفرتض ونقّر‬
‫‪47‬‬ ‫روثلا ءانثأو لبق ام نييروسلا باّتكلا قزأم‬

‫بــكل هــذا وغــره‪ ،‬مــاذا ســيبقى للكتّــاب واملثقفــن يف ظـ ّـل هــذه املعمعــة والتشــويش امل ُتع ّمــد؟‬
‫نوسحلا سينأ دمحأ‬

‫هــل صعوبــة االنخــراط ومشــاقه ت ُحجــم البعــض عــن القيــام بدورهــم كمنتجــن للوعــي؟ اإلجابــة عــى‬
‫كل هــذا لــن تكــون كالســيكية خطاب ّيــة‪ ،‬يجــب أن نثبــت أننــا تحررنــا مــن إنشــائية مجوفــة فتكــت بســوريا‬
‫لعقــود مــن الزمــن‪ ،‬بــل ال بــد مــن االنغــاس الحقيقــي يف املرحلــة والقيــام باملــروع األكــر املُنــاط‬
‫به الكتّاب األحرار برابطتهم وتج ّمعاتهم ونشاطاتهم السياسية والفكرية‪ ،‬وهذا مأزق كبري ال يختلف‬
‫عــن املــأزق الســيايس الــذي وضعنــا فيــه حافــظ األســد قبــل عقــود‪ ،‬فهــل نختــار أن نكــون تقســيامت‬
‫وكل يغ ّنــي عــى ليــاه كــا الســابق؟ أم نختــار أن نقــوم بدورنــا كســوريني أوالً‬
‫سياســية هنــا وهنــاك ّ‬
‫وككتّــاب ثانيـاً؟ يجــب أن يختــار الكتّــاب موقعهــم كمثقفــن يف تلــك املرحلة الحرجة من التجاذبات‬
‫كل األطــراف الدوليــة‪.‬‬
‫السياســية واللعــب بالورقــة الســورية مــن ّ‬

‫إذا ً فالكتّاب أمام امتحان صعب ومأزق جديد كالذي عاشوه يف الحقب املاضية‪ ،‬قد تكون‬
‫املراحــل الســابقة صقلــت تجاربهــم‪ ،‬إال أن الدفــع بعمليــة التنويــر أصعــب مــن الســابق ســيام وأن‬
‫لغــة الســاح اآلن هــي الســائدة عــى أرض املعركــة‪ ،‬وأكــر الكتّــاب الســوريني يف تغريبتهــم يعانــون‬
‫مــآيس الهجــرة القرسيّــة إن مــن نظــام الجرميــة املتمثــل بنظــام األســد أو مــن ميليشــيات تعمــل عــى‬
‫خطف املثقفني والتنكيل بهم تحت ذرائع هشّ ة‪ ،‬فاختُطف من اختطف وقُتل من قُتل‪ ،‬وفُقد من‬
‫فُقــد‪ ،‬متامـاً كــا يفعــل النظــام الســوري مــع الكتّــاب واملثقفــن‪ .‬ولظــروف تغريبــة البعــض حكاياتهــا‬
‫وموهناتها‪ ،‬ولكنها جزء ومح ّرض هام لالضطالع بالدور السليم‪ ،‬وسبل التواصل معهم واالحتكاك‬
‫بهــم ليســت معجــزة‪ ،‬ناهيــك عــن ســبل التواصــل االجتامعــي عــر الشــبكة العنكبوتيــة‪ ،‬وهــذه األخــرة‬
‫يتــم اخرتاقهــا مــن العقــول الســطحية مــن مخلّفــات عقليــة حــزب البعــث الحاكــم‪ ،‬ولهــا مــا لهــا مــن‬
‫حيــث تنميــط وتســطيح العقــل الســوري الــذي أبــدع ثــورة مــا اســتطاع أحــد عــر التاريــخ أن يق ـدّم مــا‬
‫ـى العــامل بــأرسه‬
‫قدّمتــه تلــك الثــورة مــن صــر عــى االضطهــاد والفقــر وكل شــظف الحيــاة وقــد تخـ ّ‬
‫عــن نــرة هــذا الشــعب بشــكل حقيقــي ينهــي املأســاة‪.‬‬

‫ما نريد قوله هنا‪ ،‬إن الكتّاب يف شتاتهم يعانون من وطأة الحياة اليومية‪ ،‬ويف الداخل يعانون‬
‫رر لهــم‬
‫ر والهــاك‪ ،‬وهــذا ال ي ـ ّ‬
‫أكــر مــن أي معانــاة أخــرى‪ ،‬معانــاة اجتمعــت فيهــا كل أنيــاب ال ـ ّ‬
‫انصياعهــم لليــأس والهــروب مــن واجبهــم‪ ،‬وهــذا يحتــاج أيضـاً لنشــاط ثقــايف ســيايس ُمــوكل لل ُنخــب‬
‫ـب يف نفــس‬
‫القامئــة عــى تنظيــم وتأطــر «رابطــة الكتّــاب الســوريني» أو أي تج ّمــع ثقــايف آخــر يصـ ّ‬
‫الهــدف الــذي تأسســت عليــه رابطــة الكتّــاب‪ ،‬والعمــل مــن خــال الربامــج اإللكرتونيــة والورقيــة عــى‬
‫كل الفعاليــات الشــبابية الواعيــة عــى األرض‪ ،‬فهنــاك جهود‬
‫دعــم املقاومــة الثقافيــة‪ ،‬والتنســيق مــع ّ‬
‫شــبابية واعيــة عــى أرض الثــورة‪ ،‬تعمــل يف ظـ ّـل ظــروف نعرفهــا كلّنــا‪ ،‬ويجــب عــى ّ‬
‫كل الكتّــاب أن‬
‫تتضافر جهودهم وأقالمهم لدعم هذه الجبهة الثقافية‪ ،‬الجبهة األهم كام نعتقد‪ ،‬هناك مسؤولية‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪48‬‬

‫بناء الوعي‪ ،‬وإنتاجه‪ ،‬هناك مأزق وعوائق كثرية تعرتض أرباب الفكر والقلم‪ ،‬وهذا‬
‫قــدر مــازم للصــوت الحــر منــذ القديــم وليــس بجديــد‪ ،‬إال أن القهــر واالســتبداد مل‬
‫يثنــوا أصحــاب األهــداف عــن مبادئهــم‪ ،‬ومل يتخـ ّـر األك ّفــاء فيهــم أن يطــردوا أنفســهم‬
‫خــارج املنظومــة التاريخيــة‪ ،‬بــل شــاركوا يف صياغــة التاريــخ مبــا ق ّدمــوه‪ ،‬وهــذا دأب‬
‫الكتّــاب الســوريني األحــرار الذيــن ازدانــوا باملهمــة‪ ،‬وأعلنــوا والءهــم البديهــي لثــورة‬
‫الشــعب‪ ،‬وانخرطــوا يف الحــراك الســيايس ليصوغــوا األهــداف واملســميات‪ ،‬وإن‬
‫ن البعــض ولــن يثنــي اآلخريــن‬
‫طغــت لغــة الســاح برهــة مــن الزمــن فــإن ذلــك مل ي ـ ِ‬
‫عــن مواصلــة كفاحهــم‪.‬‬

‫إ ّن الكتّاب السوريني اآلن يف مرحلة صعبة‪ ،‬وصعوبتها هي املحفّز للنهوض‪،‬‬


‫ويجب أن نعرتف أن االت ّكاء عىل رموز مثل بروميثيوس وسيزيف والعنقاء ال يُسمن‬
‫يف مرحلة يشــوبها الخراب بكل املقاييس‪ ،‬ال ب ّد من حركة عمل ّية واعية‪ ،‬فالفاتورة‬
‫التــي دفعهــا الشــعب الســوري باهظــة وباهظــة جــدا ً جــدا ً‪ ،‬وأمــام هــذه التضحيــات‬
‫نحتــاج لحركــة توعويّــة وعمل ّيــة تتناســب مــع طموحــات مــن تب ّقــى مــن هــذا الشــعب‬
‫املت ّمســك بــإرادة الثورة‪.‬‬
‫‪49‬‬ ‫فوجألا لكشلاو ثيبخلا نومضملا‬
‫يعابجلا ناسغ‬

‫غسان الجباعي‬

‫املضمون الخبيث والشكل األجوف‪:‬‬


‫يف ظل االستبداد‬

‫املنــاخ املحمــوم غــر املســتقر‪ ،‬الــذي عاشــته ســورية منــذ قــرن‪ ،‬مل يســمح‬
‫للمبــدع الســوري أن يلتقــط أنفاســه ويعــر عــن وجدانــه ورأيــه الشــخيص‪ ،‬الحقيقــي‪.‬‬
‫عــن وجعــه كإنســان‪ ،‬وهمومــه ورؤاه الفكريــة والجامليــة واملعرفيــة‪ .‬واألهــم مــن كل‬
‫ذلــك الكشــف عــن دخيلــة نفســه‪ ،‬نفســنا‪ ،‬ومكنونــه العاطفــي والســيكولوجي‪ .‬فلــم‬
‫يكــن لديــه وقــت للعواطــف‪ ،‬وال للحــب واملشــاعر اإلنســانية‪ ،‬والقضايــا االجتامعيــة‬
‫والفلســفية الشــائكة‪ ،‬التــي تصــدى لهــا أســافنا يف القــرون الغابــرة‪ .‬ال وقــت لديــه‬
‫للتحليل والغوص يف أعامق النفس البرشية وسرب أغوارها وأرسارها وتأمل الجامل‬
‫الكامن فيها‪ ،‬وفهم الطبيعة ورصد عالقة اإلنسان بها ورصاعه معها‪ .‬وبالتوازي مع‬
‫ذلــك‪ ،‬مل يكــن لديــه وقــت للبحــث عــن أشــكال فنيــة جديــدة‪ .‬أي أنــه مل يكــن لديــه‬
‫وقــت للتفكــر والتأمــل والفلســفة‪.‬‬

‫فهــل نلومــه!؟ وهــل يســتطيع املبــدع أن ينتــج أدب ـاً عميق ـاً أو ينجــز مرشوعــه‬
‫اإلبداعــي دون أن يجــد الوقــت الــازم ليعــر عــن ذاتــه ويراكــم املعــارف األساســية‬
‫إلعــادة إنتــاج حيــاة مل يجــد فرصــة للتعــرف عليهــا كــا يجــب؟؟‬

‫مل يكــن املبــدع الســوري‪ ،‬كغــره مــن زمالئــه املبدعــن يف هــذا العــامل‪ ،‬منتبهـاً‬
‫لخطابه وشعاراته «املضمون» كام مل يكن منتبها ألدواته وأسلوبه الفني «الشكل»‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪50‬‬

‫نعــم‪ ،‬نحــن أمــة عريقــة لهــا أمجادهــا وتاريخهــا املوغــل يف القــدم‪ ،‬خانهــا القــدر‪ ،‬أو رمبــا خذلهــا أو‬
‫خذلته‪ .‬وهي تحاول اليوم‪ ،‬بعد سبات يشبه املوت أن تنبعث من رمادها‪ ،‬وأول االنبعاث رصخة‪.‬‬
‫وبعدهــا تبــدأ الحياة‪.‬‬

‫ولو ألقينا نظرة تاريخية رسيعة عىل تطور اإلبداع يف بلدنا لوجدنا أنه اعتمد عموماً عىل املوهبة‬
‫والهوايــة الفرديــة التــي مل تجــد مدرســة تنميهــا وتطورهــا بشــكل علمــي‪ .‬فاملــدارس واألكادمييــات مل‬
‫تظهر بشكل فعيل إال يف النصف الثاين من ذلك القرن(((‪ .‬ويف سوريا‪ ،‬إذا استثنينا رائد املرسح‬
‫الغنايئ العريب‪ ،‬أحمد أبو خليل القباين «‪ ،»1903-1833‬أسست أول رابطة تشكيلية عام ‪1940‬م‬
‫وأقامت معرضاً جامعياً فنياً يف كلية الحقوق‪ ،‬ثم تعددت الجمعيات التي تهتم بالفن التشكييل‬
‫بعــد االســتقالل‪ .‬ويعــود تاريــخ تشــكيل أقــدم كليّــة فنيــة للتعليــم العــايل إىل العــام ‪1960‬م وذلــك‬
‫استنادا ً إىل القانون رقم ‪ /99/‬الذي ينظم مالك املعاهد العليا التابعة لوزارة الرتبية‪ ،‬ومن بينها‬
‫املعهد العايل للفنون الجميلة‪ .‬تبعه املعهد العايل للفنون املرسحية عام ‪1977‬م((( ثم املعهد‬
‫العايل للموسيقى عام ‪ .(((»1990‬أما فنون األدب والكتابة‪ ،‬فقد تم االستغناء عنها بتدريس اللغة‬
‫وآدابهــا فقــط‪« ،‬العربيــة واإلنكليزيــة والفرنســية» لكــن امللفــت أن تكاثــر وتطــور هــذه األكادمييــات‬
‫واملعاهــد املتخصصــة‪ ،‬كان يــؤدي دامئ ـاً إىل تراجــع وانحطــاط الفنــون التــي يد ّرســها‪ ،‬ســنة بعــد‬
‫أخــرى! فمنــذ أن ارتفــع «الســيف الدمشــقي»(((‪ ،‬يف ســاحة األمويــن مــع مطلــع الســبعينات‪ ،‬والفــن‬
‫السوري يرتاجع ويفقد هويته وعفويته ومواهبه‪ .‬والسبب الرئيس يف ذلك هو استقرار واستيطان‬
‫نظــام االســتبداد‪ ،‬الــذي متكــن أخــرا ً مــن تحقيــق االنتصــار عــى الشــعب الســوري بالرضبــة القاضيــة‪،‬‬
‫بعــد الثامنينــات‪ ،‬ومتكــن أيضـاً مــن تدجــن اإلبــداع‪ ،‬ومنــع املبدعــن مــن مزاحمتــه‪ ،‬أو اإلفــات مــن‬
‫قبضتــه‪ ،‬وتحويلهــم إىل مخربيــن وأجــراء تابعــن لــه‪ ،‬أو أبــواق تصــدح بشــعارات متجــد قائــده ونظامــه‪.‬‬
‫باســتثناء عــدد قليــل مــن «أوالد الحــرام» الذيــن ترعرعــوا يف ظــل األب القائــد‪.‬‬

‫هــل كان الواقــع مظلـاً لهــذه الدرجــة!؟ بالتأكيــد نعــم‪ ،‬رغــم أن الحيــاة ال ميكــن أن تكــون ســوداء‬
‫فقط‪ ،‬وال بد أن يخرتمها الضوء بشكل أو بآخر‪ .‬فقد استفقنا عىل مدافع نابليون األوىل‪ ،‬ونحتاج‪،‬‬

‫‪“ )1‬أُنشــئت أول مدرســة للفنــون الجميلــة بالقاهــرة ســنة ‪1908‬م‪ .‬ويف اإلســكندرية ‪1957‬م‪ ،‬والتــي تهــدف إىل‬
‫إعــداد وتخريــج الكــوادر املتخصصــة يف مجــاالت الفــن التشــكييل‪ .‬ونشــأ بعدهــا معهــد دراســات املوســيقى العربيــة‬
‫عام ‪1959‬م‪ .‬وظهرت أكادميية الفنون الجميلة العليا يف بغداد ‪1958‬م‪ .‬وأسست الجمعية امللكية للفنون الجميلة‬
‫يف عــان ‪1979‬م‪ ،‬ويف البحريــن ‪1983‬م‪..‬‬
‫‪www.discover-syria.com/bank/2755 )2‬‬
‫‪www.syrianmusicacademy.org )3‬‬
‫‪ )4‬نصب تذكاري‪ ،‬له واجهتان من الزجاج امللون الذي يحمل أعالم الدول املشاركة يف معرض دمشق الدويل‬
‫أصبح من أشهر رموز دمشق‪.‬‬
‫‪51‬‬ ‫ادبتسالا لظ يف‬

‫بعد هذا الدوي الجبار‪ ،‬إىل لحظة صمت تستوعب املوقف‪ .‬ولكن الدوي ما زال مستمرا ً ومتواترا ً‬
‫يعابجلا ناسغ‬

‫منذ قرنني ونيف‪ :‬فرنســياً وبريطانياً‪ ،‬ليصبح اليوم أمريكياً صهيونياً أشــد فتكاً ورضاوة‪ ...‬وت ّوج األمر‬
‫بأحزاب وأنظمة استبدادية تابعة‪ ،‬جعلت معظمنا‪ ،‬يك ال نقول كلنا‪ ،‬يصاب إما بالدوار أو بهسترييا‬
‫الرصاخ املنفعل «الشعاراتية واملبارشة» أو بالصمم القاتل والعدمية‪.‬‬
‫وإذا كان صحيح ـاً «أن الشــكل محافــظ وأن املضمــون ثــوري»((( فليــس مــن العــدل‪ ،‬ومــن غــر‬
‫املمكــن تحويلــه دامئ ـاً‪ ،‬إىل «شــكل متهافــت ومضمــون تافــه!»‪.‬‬
‫تســتطيع ســلطة االســتبداد بجهازهــا القمعــي واأليديولوجــي‪ ،‬أن تتشــبث باألشــكال القدميــة‬
‫وتتجاهــل‪ ،‬بــل تطمــس أيــة محاولــة لتجديدهــا‪ .‬كــا تســتطيع أن تعمــل املســتحيل يك تضفــي عــى‬
‫اإلبداع طابع األشياء الخالدة‪ ،‬التي ال تتغري‪ .‬لكن الشكل املناسب ملضمونه يف الفن الحقيقي‪،‬‬
‫ال ميكــن أن ينشــأ بنــاء عــى رغبــة الســلطة أو رغباتنــا الشــخصية‪ ،‬فهــو نتيجــة لرتاكــم وتطــور هائــل يف‬
‫البنيــة املعرفيــة والجامليــة والفكريــة‪ ،‬يف ّجــر الســائد‪ ،‬وال تســتطيع قــوة أن تقــف يف طريقــه‪ ،‬إذا مــا‬
‫تشــكلت الظــروف التاريخيــة املواتيــة‪ ،‬يف أي مجتمــع بــري‪.‬‬
‫وقــد تحــدث الكثــرون عــن املضمــون‪ ،‬واملصــر الــذي آل إليــه يف ظــل االســتبداد‪ :‬نزعــة نزقــة‬
‫منفعلــة لتحقيــق الــذات‪ ،‬يرافقهــا عجــز كامــل عــن الوصــول إىل ذلــك‪ ،‬فســح املجــال واســعاً لكثــر‬
‫مــن الــراخ والجعجعــة والتــكاذب‪ ،‬والشــعارات الط ّنانــة التــي شــجعتها ســلطات االســتبداد وتبنتهــا‪.‬‬
‫وإذا ما ألقينا نظرة عامة عىل الشكل‪ :‬البنية الفنية واألساليب والتقنيات يف األبداع السوري‪،‬‬
‫الكتشــفنا ببســاطة أن األمر مل يكن أفضل حاالً ومآالً‪ ،‬مام وصل إليه املضمون من زيف وانحطاط‪.‬‬
‫ولــو تفحصنــا املنظــور الجــايل لهــذه الفنــون‪ ،‬آخذيــن بعــن االعتبــار طبع ـاً‪ ،‬الظــروف املحيطــة بهــا‬
‫واملؤثــرات املتعــددة‪« :‬الســلطة املســتبدة والجمهــور الجاهــل واملنــاخ الثقــايف والفكــري»‪ ،‬الــذي‬
‫لعــب دورا ً حاس ـاً يف بنيتهــا ومســرتها‪ ،‬لعلمنــا ســبب تســطيحها وتهميشــها وعــدم قدرتهــا عــى‬
‫التطــور وعجزهــا عــن بلــوغ وحدتهــا املتميــزة‪ ،‬يف املبنــى واملعنــى‪.‬‬
‫نعــم‪ ،‬كان املبــدع العــريب مضطــرا ً للتحــزب واالنضــواء تحــت رايــة أيديولوجيــة عقائديــة ذات‬
‫مضامــن فكريــة حامســية «حــركات التحــرر»‪ ،‬قادتــه بالــرورة إىل التحــزب الفنــي أيضـاً‪ :‬أي صناعــة‬
‫أشــكال فنيــة تناســب هــذه املضامــن وتنســجم معهــا‪ ،‬وكان مضطــرا ً‪ ،‬مــن جهــة أخــرى‪ ،‬لتربيــر هــذه‬
‫األشكال والتنظري لها‪ ،‬والدفاع املستميت عنها‪ .‬تارة تحت راية «الواقعية الشعبية» أو الجامهريية‪،‬‬
‫أو راية الواقعية االشرتاكية أو الطليعية أو الثورية أو راية الفن للفن أو الرسيالية والغرائبية والوجودية‬
‫والبنيوية‪ ...‬وتارة تحت راية ستانسالفسيك ومرسح املعايشة‪ ،‬أو راية بريخت واملرسح امللحمي‬
‫التعليمي أو مرسح جان فيلر الفقري أو مرسح مريخولد «البيوميكانيك» أو كانتور التشكييل‪ ،‬وجعلوا‬

‫‪ )5‬ارنست فيرش‪ .‬رضورة الفن ص ‪170‬‬


‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪52‬‬

‫من راية الرتاث‪ ،‬والجذور القومية التي أصبحت‪ ،‬موضة الستينات والسبعينات‪ ،‬والبحث العقيم‬
‫عــن «ظواهــر مرسحيــة عربيــة» كتبــت فيهــا املجلــدات لتثبــت أنهــا كانــت موجــودة عنــد العــرب‪:‬‬
‫كالســامر والــراوي والحكــوايت يف املــرح والقصــة وغريهــا‪ .‬أو «مــرح التســييس» الــذي ابتكــره‬
‫ســعد اللــه ونــوس يف بياناتــه املرسحيــة‪ .‬وبيانــات املــرح العــريب‪ ،‬لعبــد الكريــم برشــيد‪ ،‬وغريها من‬
‫البيانــات التــي تذكرنــا عناوينهــا ببيانــات االنقالبــات العســكرية‪ ،‬ويذكّرنــا مضمونهــا مبــرح التغريــب‬
‫امللحمــي أو املــرح االحتفــايل الغــريب‪.‬‬

‫ومــن املؤســف أن هــذه الكــرة والتنــوع مل تكــن تــدل عــى الــراء‪ ،‬بقــدر مــا دلــت عــى التقليــد‬
‫األعمــى والتخبــط والخــوف والضحالــة الفكريــة واإلبداعيــة‪ ،‬التــي حولتهــا إىل مجــرد فقاعــات عابــرة‪،‬‬
‫مل تــرك عــى ســطح املــاء ســوى رجفــة طفيفــة‪ .‬وذلــك بســبب محاولــة فــرض الخطــاب الخشــبي‬
‫واألشــكال الورق ّيــة التــي مل تكــن مناســبة للمــكان والزمــان‪.‬‬

‫والســبب يف ذلــك أن املبدعــن‪ ،‬واملفكريــن العــرب عمومـاً‪ ،‬مل يكونــوا أكــر مــن مــرآة أو صــدى‬
‫مش َّوشـاً ومش ِّوشـاً لهــذه املــدارس والفلســفات والعقائــد الفكريــة والجامليــة‪ ...‬فاضطــراب الزمــن‪،‬‬
‫وعــدم االســتقرار الســيايس والفكــري‪ ،‬ولوثــة االســتبداد العســكري والفكــري «اإلســامي والقومــي‬
‫واألممــي» مل تســمح للكاتــب العــريب بالتقــاط أنفاســه والتأمــل الحــر املتــأين‪ ،‬واملراكمــة الكميــة‬
‫والنوعيــة‪ ،‬والبحــث عــن هويــة إبداعيــة متميــزة‪ ،‬وإنجــاز شــكل فنــي مســتقل يتجــاوب مــع‪ ،‬ويســتند‬
‫إىل فلســفة وقاعــدة معرفيــة وعقــل وهويــة عربيــة منجــزة‪ ،‬لكــن الشــكل الفنــي‪ ،‬ال يصنــع يف الهــواء‪،‬‬
‫منقطعـاً عــن أرومتــه‪ .‬وهــذا مــا يؤكــد مــرة أخــرى ترابــط الشــكل الفنــي مــع املضمــون الفكــري يف أي‬
‫عمــل إبداعــي‪ ،‬كــا أن الثقــايف عندمــا يصبــح تابعـاً للســيايس‪ ،‬يــرز الخطــاب العقائــدي كغايــة يف‬
‫ذاتــه‪ ،‬عــى حســاب كل العنــارص الفنيــة املكونــة للعمــل اإلبــداع‪ .‬فاملوضــوع‪ ،‬والحــال هــذه‪ ،‬يتــم‬
‫اختيــاره بإيحــاء مــن الخطــاب العقائــدي‪ .‬والحبكــة «تفــرك»‪ .‬والــراع واللــون واإليقــاع يقــاد بواســطة‬
‫الخطاب العقائدي‪ .‬والشخصيات تتحول كلها إىل شخصيات سوداء أو بيضاء‪ ،‬ذات بعد واحد‪.‬‬
‫وهي إما شخصيات أبطال مناضلني أو خطباء محنكني يلهبون حامس الجامهري‪ ،‬أو خونة مرتزقة‪،‬‬
‫متبجحــن متآمريــن عــى أمــن الدولــة وســامة األمــة أو خــط الحــزب‪ ،‬ســواء كان حاك ـاً أو محكوم ـاً‪.‬‬
‫وحتــى وظيفــة األدب والفــن تتحــول مــن مجــال للحــوار الــذيك الــذي يقــدم للنــاس املتعــة الجامليــة‬
‫والفائــدة املعرفيــة‪ ،‬إىل مجــال للجلــد والتّجلّــد‪.‬‬

‫فمن أهم خصائص الشخصية الروائية أو الدرامية أو حتى التشكيلية‪ ،‬أنها تعيش وتتطور وتفكر‬
‫وتلقى مصريها مبعزل عن الكاتب‪ ،‬ومن خالل رشوطها املوضوعية الخاصة بها‪ .‬والواقعية‪« :‬طباع‬
‫منوذجية يف ظروف منوذجية» كام وصفها إنجلس‪ .‬والكتابة‪ ،‬هي بالفعل «فن إخفاء املضمون»‪.‬‬
‫وحتــى فنــون الــرد‪ :‬القصــة والروايــة‪ ،‬والتــي تســمح للكاتــب بالتدخــل يف الحــدث ووصــف ســلوك‬
‫‪53‬‬ ‫ادبتسالا لظ يف‬

‫الشخصيات‪ ،‬ال تسمح لنفسها باملبارشة وكشف الغايات‪ ،‬بل تقوم بتغليفها بأسلوب جميل ممتع‪،‬‬
‫يعابجلا ناسغ‬

‫إذا مل يكــن مدهشـاً‪ ،‬تــي مبــا يريــده الكاتــب وتحــرم ذائقــة وعقــل املتلقــي‪ ،‬القــارئ أو املشــاهد‪،‬‬
‫وتســمح لــه مبتعــة الكشــف واملشــاركة‪ ،‬ولكــن املبــدع الــردّاح الــذي يعتقــد أنــه يســتطيع قلــب العــامل‬
‫بواســطة قصيدة أو رواية أو مرسحية‪ ،‬ال يســتطيع إنجاز عمل متعدد األصوات واألفكار والعواطف‪،‬‬
‫بــل صــوت واحــد هــو صوت هــذا الكاتب‪.‬‬

‫قــد يقــول قائــل‪ :‬إن مــرح برتولــد بريخــت ومــن قبلــه بيســكاتور ومــن بعدهــا بيــر فايس‪ ،‬وكامو‪،‬‬
‫ومبشين‬
‫ّ‬ ‫وغوريك‪ ،‬وشفارتس وبرنارد شو وغريهم الكثري من الكتاب الغربيني‪ ،‬كانوا أيضاً دعائيني‬
‫بفكــرة أو فلســفة أو «آيديــا» محــددة‪ .‬وحتــى الرتاجيديــا اليونانيــة قامــت أساسـاً عــى فكــرة أخالقيــة‬
‫هي «الكاثرســز» أو التطهري‪ .‬وهذا صحيح‪ ،‬لكن أرســطو خلق يف كتابه «فن الشــعر» نظرية التطهري‬
‫اإلبداعيــة الخالــدة‪ ،‬التــي تســتند إىل الفلســفة اإلغريقيــة‪ .‬وكذلــك فعــل بريخــت‪ ،‬األملــاين‪ ،‬الــذي‬
‫اســتند يف مرشوعــه املرسحــي عــى الفلســفة األملانيــة هيجــل‪ ،‬نيتشــه‪ ،‬ماركــس والثقافــة األملانيــة‬
‫غوته‪ ،‬شيلر‪ ،‬وقد متكن خالل نصف قرن‪ ،‬أن يؤسس اتجاهاً ذا هوية إبداعية مستقلة‪ ،‬منطلقاً من‬
‫الفكــر والعقــل األملانيــن‪ ،‬مســتفيدا ً مــن الــراث الغــريب والرشقــي‪ ،‬معارضـاً ورابطـاً الفكــر األرســطي‪،‬‬
‫بالفكــر املاركــي‪ ،‬ليقــدم للعــامل يف كتابــه «األرغانــون الصغــر»‪ ،‬مذهبـاً مرسحياً جديدا ً «املرسح‬
‫امللحمــي» ونظريــة جامليــة أو طريقــة جديــدة «التغريــب»‪.‬‬

‫وال بــد مــن اإلشــارة أخــرا ً إىل أن املســؤولية ال تقــع فقــط عــى عاتــق املبــدع‪ ،‬إمنــا هــو واقــع‬
‫موضوعــي مريــر تتشــابك فيــه مســؤوليات املبــدع مــع املؤسســات الثقافيــة واألدبيــة مــع مســؤولية‬
‫الجمهور والسياسة الثقافية عموما ومستوى التطور الحضاري بشكل خاص‪ .‬فمن الخطأ االعتقاد‬
‫أن وجــود مبــدع جيــد‪ ،‬كفيــل بوجــود إبــداع جيــد‪ ،‬وعمومــا ال ميكــن لإلبــداع الجيــد أن يولــد أو ينمــو أو‬
‫يتطــور يف ظــل اســتبداد متخلــف عقليـاً وحضاريـاً‪ ،‬ســواء كان هــذا االســتبداد سياســياً أو اجتامعيـاً‬
‫أو دينيـاً أو حزبيـاً‪.‬‬

‫ولــو أخذنــا بلدنــا ســورية مثــاالً‪ ،‬لوجدنــا أن كل هــذه «االســتبدادات» تحالفــت وتراصفــت‬
‫وتكالبــت‪ ،‬إلجهــاض الحداثــة‪ ،‬واملســار الوطنــي الدميوقراطــي‪ ،‬الوليــد‪ ،‬ويف املقدمــة منــه الثقافــة‬
‫الوطنيــة بــكل أشــكالها‪.‬‬

‫فبعــد نصــف قــرن مــن الحكــم الشــمويل العــريف للحــزب الواحــد «حــزب البعــث العــريب‬
‫االشــرايك»‪ ،‬الــذي اســتوىل عــى الســلطة بانقــاب عســكري يف آذار (مــارس) عــام ‪1963‬م‪ ،‬وبعــد‬
‫هزميــة ‪1967‬م واحتــال هضبــة الجــوالن دون مقاومــة وتأثــره البالــغ يف وجــدان الســوريني‪ ،‬رسعــان‬
‫ما تحول نظام البعث يف الســبعينات‪ ،‬إىل حكم فردي أمني اســتبدادي‪ ،‬إثر انقالب عســكري آخر‬
‫«الحركة التصحيحية» ترشين ‪ ،1970‬قام به وزير الدفاع‪ ،‬واستوىل عىل جميع السلطات‪ :‬الترشيعية‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪54‬‬

‫والتنفيذية والقضائية‪ .‬حيث كرس‪ ،‬يف دستوره‪ ،1973 ،‬صالحيات كبرية لرئيس الجمهورية‪ ،‬خولته‬
‫تعيني الحكومة ورئيسها‪ ،‬وتسمية رئيس الوزراء ونوابه والوزراء ونوابهم وإقالتهم وإحالتهم للمحاكمة‪،‬‬
‫وتعيــن املوظفــن املدنيــن والعســكريني وإنهــاء خدماتهــم‪ .‬كــا خولتــه الترشيــع ورئاســة مجلــس‬
‫القضــاء األعــى‪ ،‬ووضــع السياســة العامــة للدولــة لتصبــح الســلطة التنفيذيــة ورئيســها مجرد موظفني‬
‫ليس لهم أي دور ســيايس ناهيك عن كونه القائد العام للجيش والقوات املســلحة واألمني العام‬
‫لحــزب البعــث العــريب االشــرايك ورئيــس مجلــس القضــاء األعــى ورئيــس الجبهــة الوطنيــة التقدميــة‬
‫التــي تشــكلت عــام ‪ ،1973‬مــن بعــض األحــزاب القوميــة والشــيوعية املواليــة للنظــام‪ .‬وهــو الــذي‬
‫يعتمــد رؤســاء البعثــات الدبلوماســية‪ ،‬ويقــوم بعمليــة الترشيــع خــارج إطــار مجلــس الشــعب‪ .‬وهــو‬
‫الــذي يــرأس الســلطة القضائيــة ويضمــن اســتقاللها‪ ،‬ويعــن رئيــس وأعضــاء املحكمــة الدســتورية‪،‬‬
‫ويحل مجلس الشعب‪ ،‬ويعلن الحرب والتعبئة العامة وحالة الطوارئ!؟ أي أن الرئيس هو «الدولة»‬
‫الحقيقيــة بــكل أركانهــا‪.‬‬
‫وحــزب البعــث هــو قائــد للدولــة واملجتمــع‪ ،‬كــا ورد يف املــادة الثامنــة مــن الدســتور الســوري‪،‬‬
‫«حــزب البعــث العــريب االشــرايك هــو الحــزب القائــد يف املجتمــع والدولــة ويقــود جبهــة وطنيــة‬
‫تقدمية تعمل عىل توحيد طاقات جامهري الشعب ووضعها يف خدمة أهداف األمة العربية»(((‪.‬‬
‫لكــن هــذا الحــزب رسعــان مــا ُه ّمــش بعــد ذلــك بالتدريــج‪ ،‬وهمشــت معــه الجبهــة الوطنيــة التقدميــة‪،‬‬
‫لتحــل محلــه خطــب ومقابــات وأقــوال «األب القائــد»‪ ،‬وتنتقــل البــاد مــن مرحلــة «الحــزب القائــد‬
‫يف الدولــة واملجتمــع» إىل مرحلــة «األب القائــد»‪.‬‬
‫وقــد اعتمــد «األب القائــد» طيلــة الثالثــن عامـاً‪ ،‬عــى أجهــزة األمــن والجيــش العقائــدي‪ .‬فكــرس‬
‫األحــكام العرفيــة‪ ،‬وعســكر املجتمــع بحجــة املقاومــة واســرجاع الجــوالن املحتــل‪ ،‬وأطلــق شــعار «ال‬
‫يشء يعلــو فــوق صــوت املعركــة»‪ ،‬وألغــى الحيــاة السياســية والعمــل املــدين‪ ،‬وس ـيّس القضــاء‬
‫وأســس للفســاد والبريوقراطية واملحســوبية‪ ،‬وابتلع الدولة ومؤسســاتها‪ ،‬وك ّم األفواه بشــتى الطرق‪،‬‬
‫ومنــع تشــكيل األحــزاب املعارضــة وإصــدار الصحــف املســتقلة‪ ،‬وأقفــل النــوادي الرياضيــة والفنيــة‪،‬‬
‫وقســم املجتمــع‬
‫وفتــح املعتقــات لألدبــاء واملفكريــن ورجــال الديــن والقضــاة واملحامــن الرشفــاء‪ّ .‬‬
‫إىل «موالــن» يســتطيعون أن يفعلــوا مــا يريــدون‪ ،‬متجاوزيــن كل القوانــن‪ ،‬ومعارضــن «معاديــن» ال‬
‫حقوق لهم‪ .‬وأعىل من شأن الفاسدين‪ ،‬فرفعهم إىل مكانة ال يستحقونها‪ ،‬وحطم الطبقة الوسطى‪.‬‬
‫وحبس شــاعرا ً بســبب قصيدة ورشد رســاماً بســبب لوحة وقتل ضابطاً بســبب موقف وحمى رجال‬
‫وأذل بذلك كل الناس وحرمهم من أبسط حقوقهم‬ ‫األمن بقوة القانون ومنع محاكمتهم إال بأمر منه‪ّ .‬‬
‫اإلنسانية يف التعبري والحرية والعدالة االجتامعية والكرامة اإلنسانية‪ .‬وأصبحت «املوافقة األمنية»‬
‫وثيقة شبه رسمية ال بد منها يف كل حاالت التوظيف والسفر والحاالت املعيشية األخرى للناس‪،‬‬

‫‪ )6‬دستور الجمهورية العربية السورية لعام ‪1973‬‬


‫‪55‬‬ ‫ادبتسالا لظ يف‬

‫وتحولــت ســورية بشــعبها العظيــم وتاريخهــا العريــق وأرضهــا الغنيــة التــي تتجــاوز مســاحتها ‪185000‬‬
‫يعابجلا ناسغ‬

‫كيلومــر مربــع‪ ،‬إىل مزرعــة تديرهــا مجموعــة مــن آل البيــت وضبــاط األمــن واملخربيــن واالنتهازيــن‬
‫واألميّني‪ .‬وخاصة بعد قضائه عىل حركة اإلخوان املسلمني يف الثامنينات‪ ،‬وإطالق شعار «قائدنا‬
‫إىل األبــد األمــن حافــظ األســد»‪.‬‬

‫فــاذا يســتطيع األدب أن يفعــل يف بلــد‪ ،‬ال قيمــة فيــه لــأدب‪ ،‬ومجــرد كلمــة «ال» قــد تكلــف‬
‫صاحبهــا ســنوات طويلــة مــن الســجن والــذل والتهميــش ورمبــا املــوت!؟ ومــاذا يســتطيع املبــدع أن‬
‫يفعــل مــع جمهــور استســاغ جلُّــه الـ ّ‬
‫ـذل‪ ،‬عــر ســنني الطويلــة‪ ،‬وقَ ِبــل بتمجيــد طاغيــة وعــده بالرفاهيــة‬
‫والوحــدة والحريــة واالشــراكية وتحريــر الجــوالن ودحــر إرسائيــل؟‬

‫أسئلة طرحها املبدع السوري عىل نفسه منذ عقود وكان الجواب دامئا كالشوكة يف الحلق‪.‬‬
‫فأنــت إن قلــت «نعــم» ربحــت العــامل وخــرت نفســك وفنــك‪ .‬وأنــت إن قلــت‪ ،‬أو فكــرت أن تقــول‬
‫«ال»‪ ،‬تحتــاج إىل طاقــة تفــوق طاقــة البــر يك تســتطيع الصمــود‪ ،‬ليــس أمــام اســتبداد كهــذا فقــط‪،‬‬
‫بــل أمــام مجتمــع بــات ميجــد هــذا االســتبداد ويفضّ لــه عــى األدب والفــن والحريــة!‬

‫مثــة مــن يظــن أن الكلمــة قــادرة عــى مواجهــة الســيف‪ .‬وهــذا قــد يكــون صحيحـاً أحيانـاً‪ .‬لكــن مــاذا‬
‫تفعــل الكلمــة إذا مل يــرك املســتبد لصاحبهــا أي هامــش يســتطيع أن يعيــش مــن خاللــه‪ ،‬ويعــر عــن‬
‫نفسه ويتفاعل مع جمهوره‪ .‬ماذا يستطيع املبدع أن يفعل إذا صادرت السلطة كل عنارص اإلبداع‬
‫«األداة واملــادة واملوضــوع» وســيطرت عــى الطقــوس الثقافيــة وأغلقــت الدائــرة عليهــا مــن جميــع‬
‫الجهــات‪ ،‬وتركــت بــذكاء وخبــث‪ ،‬هامشـاً مســموماً‪ ،‬يُفقــد الكاتــب قدرتــه عــى التأثــر‪ ،‬ويحولــه إىل‬
‫مجــرد أيقونــة أو وســام عــى صــدر االســتبداد‪ ،‬ليثبــت للعــامل الحــر‪ ،‬مــرة بعــد أخــرى‪ ،‬ســعة صــدره‬
‫ودميوقراطيتــه وانفتاحــه!؟ فأنــت قــد تســتطيع مثـاً الحصــول عــى رخصــة لتصويــر فيلــم‪ ،‬لكنــك ال‬
‫تســتطيع الحصــول عــى موافقــة لعرضــه جامهريي ـاً‪ .‬وأنــت تســتطيع أن تنــر مــا تشــاء مــن الشــعر‪،‬‬
‫لكنــك ال تســتطيع أن تقيــم أمســية شــعرية أو تلقــي قصيــدة‪ ،‬حتــى يف مقهــى‪ .‬وتســتطيع أن تنــر مــا‬
‫تشــاء من مرسحيات وروايات وقصص قصرية وطويلة‪ ،‬لكنك ال تســتطيع أن تجســدها عىل خشــبة‬
‫املرسح أو تحولها إىل فيلم ســيناميئ أو مسلســل تلفزيوين‪ .‬والســبب يف ذلك هو أن الســلطات‬
‫بــكل بســاطة‪ ،‬تــدرك أن عــدد القــراء مهــا كان كبــرا ً لــن يتجــاوز األلــف‪ ،‬بينــا عــدد املشــاهدين‬
‫ســيكون مئــات األلــوف أي أن الســلطة كانــت متنــع لقــاء املبــدع بجمهــوره‪ ،‬وهــو القطــب األهــم يف‬
‫العمليــة اإلبداعيــة والثقافيــة‪.‬‬

‫كــا أدرك النظــام منــذ البدايــة أهميــة الرتبيــة والتعليــم فوضــع يــده عليهــا‪ ،‬وقــام بعمليــة تطهــر‬
‫شاملة للجهاز الرتبوي‪ .‬فأبعد املعلمني واملدرسني وحتى اإلداريني غري البعثيني أو غري املوالني‪،‬‬
‫ونقلهــم إىل وزارات خدميــة‪ ،‬كالزراعــة واإلدارة املحليــة والصحــة والنقــل‪ ،‬وأقــام منظــات تربويــة‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪56‬‬

‫عقائديــة متجــد الحــزب والقائــد‪ ،‬مثــل منظمــة طالئــع البعــث وشــبيبة الثــورة واتحــاد الطلبــة يف‬
‫الجامعات واملعاهد‪ .‬وســيطر بشــكل كامل‪ ،‬بعد عام ‪ ،1980‬عىل جميع أشــكال النشــاط املدين‬
‫مثل النقابات املهنية والجمعيات واالتحادات‪ ،‬وخاصة نقابة الفنانني واتحاد الكتاب والتشكيليني‬
‫والصحفيــن‪ ،‬ووضعهــا مبــارشة تحــت إرشاف القيــادة القطريــة لحــزب البعــث‪ ،‬التــي تختــار رئيســها‬
‫ومجالســها املركزيــة‪ .‬وح ّولهــا بذلــك إىل مــا يشــبه الفــروع األمنيــة‪ .‬حيــث بــات مــن الســهل يف تلــك‬
‫النقابــات أن تكتــب التقاريــر األمنيــة وتُفــرك الدســائس واملكائــد بــن الزمــاء الكتــاب والفنانــن‬
‫والصحفيــن‪ ،‬للحصــول عــى الــوالء أو املركــز أو العطــاء‪ ،‬أو عــى األقــل الحصــول عــى الــرىض‪ .‬مــا‬
‫أدى بشــكل غريــزي إىل تفــي ظاهــرة التكتــات و«الشــلليّة» ورشاء الذمــم والتآمــر‪.‬‬

‫وقــد فطــن النظــام الســوري وخاصــة يف العقديــن األخرييــن‪ ،‬إىل أمــر مل يفطــن إليــه أحــد ســوى‬
‫ســدنة «هوليود» الذين كانت لهم الريادة يف اخرتاع فن الدعاية وصناعة النجم الســيناميئ‪ .‬وكان‬
‫الهــدف األســاس مــن ذلــك هــو االســتثامر يف «شــباك التذاكــر»‪ .‬فالتقــط النظــام الســوري هــذه‬
‫الظاهــرة وقــرر االســتثامر فيهــا سياســياً وإعالميـاً‪ .‬واملطلــوب مــن هــذا النجــم الــذي يصبــح مشــهورا ً‪،‬‬
‫بفضــل هــذا النظــام‪ ،‬عــى املســتوى املحــي والعــريب‪ ،‬أن يكــون أداة طيعــة للدعايــة التــي يروجهــا‬
‫النظــام‪ ،‬فيخــرج يف املناســبات الوطنيــة والقوميــة التــي يقيمهــا‪ ،‬ويظهــر عــى وســائل إعالمــه ليشــيد‬
‫بســورية األســد وعظمــة القائــد وأهميــة نظامــه الوطنــي والتقدمــي املعــادي لإلمربياليــة والصهيونيــة‪.‬‬

‫وقد أفرد النظام يف التســعينات «جناحاً» أمنياً خاصاً يقوده جرنال «مثقف»‪ ،‬ملتابعة الحياة‬
‫الشخصية وحتى الرسية للكتاب والفنانني واملثقفني‪ ،‬ورصد حركاتهم وسكناتهم وخصوصياتهم‪.‬‬
‫فقُدمــت لهــم اإلغــراءات املاديــة املتنوعــة مــن أمــوال وشــقق ســكنية وشــاليهات ومنــر ســيارات(((‪.‬‬
‫وع ّهرت الفنانات فأصبحت الواحدة منهن ال تستطيع خوض السباق إال بجسدها‪ ،‬كام ُرتبت لهن‬
‫ولهم ملفات فساد‪ ،‬مالية وأخالقية‪ ،‬تستطيع السلطة استخدامها ضدهم‪ ،‬عند الحاجة‪ ،‬وتستطيع‬
‫منعهم من النرش وتشغيلهم لدى رشكات اإلنتاج‪ ،‬وظهورهم عىل وسائل اإلعالم الرسمية والخاصة‪.‬‬
‫وبذلــك‪ ،‬حولــت الســلط ُة اإلبــدا َع إىل ماخــور وأجــرت املبــدع عــى التخــي عــن ضمــره وجعلتــه‬
‫شــاهد زور عىل عرصه ومجتمعه‪ ،‬أو مجرد آلة أو ســلعة رخيصة‪ ،‬ليســت قابلة للبيع والرشاء فقط‪،‬‬
‫بــل قابلــة لتزويــر الحقيقــة والكــذب عــى الجمهــور وتجميــل القباحــة وتقبيــح الجــال‪ .‬وهــذا التســليع‬
‫لــأدب واألدبــاء كان أســوأ بكثــر مــن تســليع األدب والفــن يف أكــر النظــم الرأســالية وحشــية وظلـاً‪.‬‬

‫وقد حاول الكثري من الكتّاب املبدعني‪ ،‬املقاومة بالكلمة والفكرة والجامل‪ ،‬يف ظروف معادية‬
‫للــكالم‪ ،‬حاميــة للبشــاعة والــرداءة‪ .‬محتكــرة لــأدب والفــن واملعرفــة‪ .‬وقــد عــر عــن ذلــك بيــان تجمــع‬
‫فناين ومبدعي سورية بعد قيام الثورة السورية العظيمة ‪ ،2011‬حيث جاء فيه‪« :‬وقُ ِّد َر لنا جميعاً‬

‫‪ )7‬كان الحصول عىل بيت أو سيارة يف ذلك الوقت يعد حلام بعيد املنال يف سوريا‪.‬‬
‫‪57‬‬ ‫ادبتسالا لظ يف‬

‫املثول أما َم َعب ْي ِد املخابرات وخَدمها الذين حارضوا بِنا يف الشعر واملوسيقى والسينام واملرسح‬ ‫ُ‬
‫يعابجلا ناسغ‬

‫بوصفهــم فقهــاء‪ .‬وصمــت بعضنــا أو كُلُّنــا أو هـ َّز ِ‬


‫برأسـ ِه وتآلــف مــع العبوديــة‪ .‬وخـ َ‬
‫ـاض بَ ْعضُ َنــا أو كُلُّنــا‬
‫ب‬‫َم َعار َِك وهميّة ض َّد زمالئه يف األىس‪ .‬وصمد البعض فنياً وأخالقياً ونال تعاطف األغلبية‪ .‬و َذ َه َ‬
‫يف ال ُع ْزلَــة‪ ((( ».‬وجــاء يف مــكان آخــر مــن البيــان‪« :‬لقــد حــوصِتْ ُمخيلـ ُة املبدعــن الســوريني لعقــود‬
‫ونقابات فاسد ٍة‪ .‬اخرت َع ْ‬
‫ت امل ُ َخ ّيل ُة األمني ُة ُمدَراءها‬ ‫ٍ‬ ‫ووزارات فاسد ٍة‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫مؤسسات فاسدة‬ ‫طويلة يف‬
‫وشَ بّيْ َحتَها‪ .‬فانتهكوا القوانني والدساتري وقَدَّسوا طقس الوالء الشفهي وقَ ْونَ ُنوه»‪.‬‬

‫صحيح أن النظام الرأســايل حول كل األشــياء الثمينة إىل ســلع‪ ،‬مبا يف ذلك الفن واألدب‪.‬‬
‫ومــع اعرتافنــا بفقــدان النظــام الرأســايل للعدالــة االجتامعيــة واملســاواة‪ ،‬شــأنه شــأن األنظمــة‬
‫الشــمولية‪ ،‬ورغــم اعرتافنــا بظلــم وجشــع ووحشــية هــذا النظــام‪ ،‬لكننــا يجــب أن نق ـ ّر‪ ،‬بــأن مفهــوم‬
‫«تســليع الفــن» هــذا‪ ،‬أوجــد أيضـاً ســوقاً مناســبة للتنافــس ومناخـاً حــرا ً لإلبــداع‪ ،‬مل يكــن متوفــرا ً مــن‬
‫قبل‪ .‬كام ُوجدت من خالله‪ ،‬ديناميات جديدة‪ ،‬وآليات مناســبة‪ ،‬وبنية تحتية كان اإلبداع بحاجة‬
‫ماســة إليهــا‪ :‬دور نــر ومســارح متنوعــة واســتديوهات تصويــر ســيناميئ وتلفزيــوين‪ ،‬ومحرتفــات‬
‫لــأدب والفنــون املختلفــة‪ ،‬وتكنلوجيــا متطــورة ورأس مــال رضوي ودعايــة وتســويق وتنــوع ومعاهــد‬
‫عليــا متخصصــة ونقابــات مهنيــة وســيادة قانــون‪ ،‬ويضــاف إىل ذلــك كلــه منــاخ دميوقراطــي كفــل‬
‫حريــة التعبــر والتشــكيل والتجريــب والنقــد والتنــوع والحضــور الثقــايف والتفاعــل الجامهــري‪...‬‬
‫حــرر الطاقــات اإلبداعيــة وأطلــق العنــان ملخيلــة الكتّــاب وأفكارهــم الفنيــة وأصبــح الجميــل والعميق‬
‫واملؤثــر هــو الدكتاتــور واملســتبد الوحيــد‪ .‬وقــد أدى كل ذلــك طبعـاً‪ ،‬إىل حــراك ثقــايف واجتامعي‬
‫غــر مســبوق‪ ،‬حقــق إنجــازات كبــرة وقفــزات رسيعــة يف كل املجــاالت وخــال وقــت قصــر‪ ،‬مل‬
‫تعرفهــا املجتمعــات البرشيــة مــن قبــل‪ ،‬وخاصــة يف مجــال األدب والفكــر والفــن‪ .‬وبــات األدب‬
‫«البورجــوازي» ســاحة ال يســتطيع الصمــود فيهــا إال أصحــاب املواهــب الحقيقيــة واملشــاعر‬
‫اإلنسانية العميقة‪ ،‬الذين متكنوا يف النهاية من اخرتاق الجدار اإلسمنتي لهذا النظام الرأساميل‬
‫املتوحــش‪ ،‬وتفوقــوا عليــه‪ ،‬بواســطة الكلمــة والصــورة‪ ،‬أخالقيـاً ومعنويـاً وإنســانياً‪ ...‬وهكــذا‪ ،‬لعــب‬
‫األدبــاء والفنانــون دورا ً كبــرا ً وهام ـاً‪ ،‬وقدمــوا أعــاالً إبداعيــة غنيــة خالــدة يف ظــل الدميوقراطيــة‬
‫البورجوازية التي شكلت مناخاً مالمئاً للثقافة والحراك املدين فلم يعد الكاتب مطاردا ً بسبب‬
‫معارضتــه للســلطة‪ ،‬أو مجــرد بــوق بســبب والئــه لهــا‪ ،‬بــل تفــرغ لفنــه وحــرر طاقاتــه اإلبداعيــة‪ ،‬وأنجــز‬
‫أعــاالً عظيمــة جعلتــه رمــزا ً لشــعبه وبلــده‪ .‬وأصبحــت تلــك األعــال الفنيــة جــزءا ً هامـاً مــن الــراث‬
‫(((‬
‫الفنــي والثقــايف الخالــد لإلنســانية جمعــاء‪ ،‬التــي تذكــر شكســبري أكــر مــن امللكــة إليزابيــث‪،‬‬

‫‪ )8‬بيان تجمع فناين ومبدعي سورة من أجل الحرية “أمارجي” ‪ 27‬كانون األول‪/‬ديسمرب‪2011 ،‬‬
‫‪ )9‬ملكــة إنكلــرا وإيرلنــدا ‪ 1603- 1558‬م‪ ،‬ابنــة امللــك هــري الثامــن التــي عــاش وليــم شكســبري وأبــدع مرسحــه‬
‫يف عرصهــا‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪58‬‬

‫وتذكر مايكل أنجلو أكرث من كل أرسة آل مديتيش‪ ((1(،‬وتذكر موليري أكرث من «ملك‬
‫الشــمس»(‪ ((1‬وتعــرف هاوبتــان وبريخــت أكــر مــن هتلــر وغوبلــز(‪ ((1‬ومريخولــد أكــر‬
‫مــن ســتالني وربيبــه جدانــوف(‪ ((1‬وبابلــو نــرودا وإيزابيــل اللينــدي أكــر مــن الجــرال‬
‫بنوشيه‪ ((1(،‬ولوركا وبيكاسو أكرث من الجرنال فرانكو(‪ ((1‬وشهاب الدين السهروردي‬
‫«الشــهيد»‪ ،‬أكــر مــن مشــايخ حلــب والنــارص صــاح الديــن األيــويب‪ .‬بينــا أســس‬
‫االســتبداد عملي ـاً لالبتــذال والتفاهــة املغلّفــة بالشــعارات الوطنيــة الطنانــة والقيــم‬
‫الفنية الجوفاء‪ ،‬وقرب أشــباه املبدعني والعبيد‪ ،‬وحارب املوهوبني واألحرار‪ ،‬ظناً‬
‫منــه أنــه يســتطيع بذلــك جعــل األدب يتــآكل مــن داخلــه‪ .‬ويؤســس بــدوره لجمهــور‬
‫«قطيعي» ساذج بال ذائقة‪ ،‬يتقن التصفيق ويستجمل القبيح املصطنع ويستقبح‬
‫الجميــل الحقيقــي‪ ،‬ل ُيشــكل عــر ســنوات االســتبداد الطويلــة ذائقــة حاضنــة وحاميــة‬
‫لثقافة السلطة ورموزها‪ ،‬ومناخاً معادياً لألدب والفن وللثقافة الحرة الدميوقراطية‬
‫األصيلة‪.‬‬

‫ـوي يف تاريــخ إيطاليــا وفرنســا‪ ،‬بــد ًءا‬


‫‪ )10‬أرسة إيطاليــة حكمــت فلورنســا‪ .‬قــام أفرادهــا بــدور حيـ ّ‬
‫مــن القــرن ‪ 15‬حتــى القــرن ‪ 18‬ميــادي‪.‬‬
‫‪ )11‬ملــك فرنســا لويــس الرابــع عــر مــن ‪ 1643‬حتــى ‪1715‬م‪ .‬وهــو أحــد أبــرز ملــوك البوربــون‪.‬‬
‫وكان يلقــب مبلــك الشــمس وذلــك الهتاممــه بــاألدب والفــن‪.‬‬
‫‪ )12‬جوزيف غوبلز‪:‬‏ ‪ 29‬أكتوبر ‪1945 - 1897‬م وزير الدعاية السياسية يف عهد أدولف هتلر‬
‫وأملانيــا النازيــة‪ .‬وغرهــارت هاوبتــان ‪1946 – 1862‬م أديــب أملــاين‪ ،‬يعــد مــن أهــم أدبــاء الحركــة‬
‫الطبيعيــة يف أملانيــا‪ .‬حصــل عــى جائــزة نوبــل يف األدب لســنة ‪1912‬م‪.‬‬
‫‪ )13‬فســيفولود مايرخولــد ‪1940 -1874‬م‪ .‬ممثــل ومخــرج ومديــر و ُمنظِّــر مرسحــي رويس –‬
‫سوفييتي‪ .‬صاحب نظرية “البيو ميكانيك” يف املرسح‪ ،‬وأحد رواد فن اإلخراج املرسحي الحديث‬
‫عاملياً‪ ..‬ولد يف مدينة بنزا ومات يف املعتقل مبوسكو بسبب خروجه عن الواقعية االشرتاكية التي‬
‫أسســها أندري الكســندروفيتش جدانوف “‪ .”1948-1896‬وهو ســيايس وإعالمي و ُمنظّر الواقعيّة‬
‫االشرتاكية يف عهد ستالني‪ ،‬ومؤسس مكتب الكومنفورم (مكتب االخبار الشيوعي) ‪.1947‬‬
‫‪ )14‬أوغســتو بنوشــيه‪ .‬ديكتاتور التشــييل الســابق‪ ،‬وأحد أشــهر جرناالت الواليات املتحدة يف‬
‫أمريــكا الالتينيــة‪ ،‬واملســئول عــن مقتــل الرئيــس التشــييل امل ُنتخــب ســلفادور أللينــدي واالنقــاب‬
‫عليــه‪ .‬حكــم تشــييل مــن ‪1990–1974‬م‬
‫‪ )15‬ديكتاتــور إســبانيا مــن ســنة ‪1975 – 1936‬م‪ .‬قتــل الشــاعر املعــروف لــوركا ورشد الرســام‬
‫العاملــي بيكاســو‪.‬‬
‫‪59‬‬ ‫يروسلا يفاقثلا طسولا‬

‫خلف عيل الخلف‬


‫لخلا يلع فلخ‬

‫الوسط الثقايف السوري‪:‬‬


‫مــن حــروب الفتــات إىل حــرب التمويــل‬
‫الكــرى‬

‫عــاىن معظــم الكتــاب الســوريون‪ ،‬إضافــة للمشــتغلني بالحقــل الثقــايف لزمــنٍ‬


‫طويــل‪ ،‬مــن تهميـ ٍ‬
‫ـش مزمــن‪ .‬تهميــش متعمــد مــن النظــام لــكل من مل يســتطع تدجينه‬
‫أو رشاء صمتــه‪ ،‬وأعنــي هنــا الكتــاب املشــتغلني الذيــن يأخــذ نتاجهــم عالمــة النجاح‬
‫عــى األقــل‪ ،‬أمــا الكتبــة واألبــواق فهــم خــارج الســياق‪.‬‬

‫الجزر املعزولة يف بحر املخابرات‬


‫تــرك النظــام يف بعــض األحيــان جــزرا ً صغــرة‪ ،‬عقمهــا سياســياً وتركهــا حق ـاً‬
‫مفتوح ـاً الشــتغال ثقــايف جــدي‪ ،‬كــوزارة الثقافــة يف عهــد نجــاح العطــار وأنطــون‬
‫مقــديس‪ ،‬تحديــدا ً يف قطــاع التأليــف والرتجمــة والنــر‪ ،‬إضافــة للمــرح يف بعــض‬
‫مكتوب بني العاملني يف الوزارة واملشتغلني‬
‫ٍ‬ ‫األحيان‪ .‬كان هناك اتفاق معلن‪ ،‬غري‬
‫معهــا‪ ،‬ينــص بشــكل صــارم عــى تجنــب التعبــر الســيايس املبــارش الناقــد للنظــام‬
‫[وليــس املعــارض فقــط] والتســاهل يف التعبــرات النقديــة الفكريــة واإلبداعيــة‪.‬‬

‫النظــام الــذي ألحــق كل مؤسســات اإلعــام بشــكل مبــارش باملؤسســة األمنيــة‪،‬‬


‫وأخضعها لسلطتها املبارشة‪ ،‬ترك أيضاً بعض العاملني يف هذه املؤسسات ممن‬
‫ليــس لهــم ســجل ناصــع يف مــواالة النظــام‪ ،‬أو لديهــم حــد مقبــول مــن االســتقاللية‪.‬‬
‫ويف حــاالت نــادرة مــن ضحايــا ســجونه مــن املعارضــن‪ ،‬تركهــم يف الحقــل الثقــايف‬
‫تحديــدا ً يف وســائل اإلعــام واملطبوعــات‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪60‬‬

‫كذلك احتكر النظام كل مؤسسات متثيل املشتغلني بالثقافة واإلعالم وجعلها أوكارا ً للبعث‬
‫الــذي يكــون فاعـاً عندمــا يصــب يف قــدر املخابــرات الكبــر الــذي كانــت تطبــخ فيــه البــاد‪ .‬اتحــاد‬
‫الصحفيــن‪ ،‬اتحــاد الكتــاب‪ ،‬نقابــة الفنانــن؛ ومنــع تشــكل أي تجمــع مســتقل مهــا كان هامشــياً‬
‫ومحــدودا ً‪.‬‬
‫ا يف مؤسســات «الدولــة»‪ ،‬فلــم يــرك أي هامــش بينــه وبــن هــذه‬
‫كان تغــول النظــام كام ـ ً‬
‫املؤسســات‪ ،‬كــا يف بلــدان عربيــة أخــرى [مــر عــى ســبيل املثــال]‪ ،‬وعليــه ال ميكــن الحديــث‬
‫إال تجــاوزا ً عــن «مؤسســات الدولــة»‪ ،‬ووفقـاً للمعنــى الواقعــي فمصطلــح مؤسســات الدولــة مل يكــن‬
‫يفــي إال إىل مؤسســات ملحقــة كليّـاً بالنظــام‪ .‬وبعيــدا ً عــن جلــد ممــن عمــل يف هــذه املؤسســات‬
‫مل يكــن أمــام املشــتغلني بالثقافــة واإلعــام خيــار آخــر‪.‬‬
‫كان وضــع الكاتــب الســوري واملشــتغلني بالثقافــة والفــن‪ ،‬األكــر بؤس ـاً عــى امتــداد الخارطــة‬
‫العربيــة‪ ،‬األكــر بؤس ـاً ليــس فقــط عــى مســتوى حريــة التعبــر فهــذه يتشــابه بهــا مــع أنظمــة عربيــة‬
‫كثــرة‪ ،‬بــل عــى املســتوى املعيــي‪ ،‬وعــى مســتوى تحقيــق الــذات واإلنجــاز املعتــر يف النشــاط‬
‫الثقــايف العــام‪.‬‬

‫حروب الفتات‬
‫تــرك النظــام بعــض الفتــات يف حقــل الثقافــة والفــن؛ وعــى هــذا الفتــات كانــت تــدور حــروب‬
‫طاحنة بني املشتغلني بالكتابة والثقافة والفن‪ ،‬استخدمت فيها كل األسلحة إلقصاء اآلخرين مبا‬
‫فيهــا االســتقواء باملخابــرات واللجــوء إليهــا لتصفيــة الخصــوم‪ ،‬الذيــن ال يصلــون إىل درجــة األعــداء‪.‬‬
‫كانت مقاهي دمشق الثقافية وحلب بدرجة أقل‪ ،‬مرسحاً خلفياً لهذه التصفيات املعنوية‪ ،‬وكان‬
‫الهــدف منهــا تحقيــق حصــة أكــر مــن هــذا الفتــات‪.‬‬
‫مل يكن هذا الفتات يتعلق مبنح تفرغ كام يف دول عربية أخرى أو معونات ملشاريع ثقافية أو‬
‫جوائــز ذات قيمــة ماديــة عاليــة‪ ،‬بــل كانــت تــدور حــول النــر يف املطبوعــات التــي يصدرهــا النظــام‪،‬‬
‫وطباعــة كتــاب يف وزارة الثقافــة أو اتحــاد الكتــاب‪ ،‬أو املشــاركة يف نشــاطات املراكــز الثقافيــة‬
‫للحصول عىل مكافأة هزيلة‪ ،‬إضافة لتبني املرسح القومي إلنتاج مرسحية‪ ،‬أو فيلم يف املؤسسة‬
‫العامــة للســينام ذات اإلنتــاج الهزيــل‪ ،‬أو إعــداد برنامــج يف التلفزيــون أو تقدميــه؛ وكذلــك حــول‬
‫التــدرج الوظيفــي يف املؤسســات االعالميــة والثقافيــة والفنيــة التــي تــرك فيهــا النظــام هامشـاً لغــر‬
‫امللتصقــن بجلــده األمنــي‪.‬‬
‫حــول هــذا الفتــات نشــأت «شــلل» و«جامعــات» غــر ثابتــة وغــر مســتقرة العــدد واألشــخاص‪،‬‬
‫وشهدت انتقاالت من هذه الجامعة إىل تلك‪ ،‬وكان هدف ومعيار التجمعات والشلل هذه‪ ،‬تحقيق‬
‫املصالــح الشــخصية والجامعيــة ألعضائهــا‪ ،‬وتبــادل املنافــع بتحقيــق حصــة معتــرة مــن هــذا الفتــات‪.‬‬
‫‪61‬‬ ‫بكلا ليومتلا برح ىلإ تاتفلا بورح نم‬

‫املعــارك املســتمرة عــى الفتــات هــذا‪ ،‬كان أحــد أدواتهــا اســتخدام النتــاج الثقــايف واإلبداعــي‬
‫لخلا يلع فلخ‬

‫لألشــخاص املشــركني يف هــذه الحــرب كوســيلة لتصفيــة الحســابات‪ ،‬فقــد اســتخدم «النقــد»‪،‬‬
‫واســتعراض الكتــب الصــادرة‪ ،‬والكتابــة عــن النشــاطات التــي تخــص هــؤالء األفــراد واســتعراضها يف‬
‫ٍ‬
‫كأدوات يف هــذه الحــرب‪ .‬اســتخدم الكتــاب والصحفيــون‬ ‫وســائل اإلعــام [ضمــن الحيــز املتــاح]‬
‫«الــكالم الكبــر» يف التغطيــة عــى األســباب الحقيقيــة لهــذه التصفيــات‪ ،‬وحاولــوا تحويــل حــروب‬
‫الفتــات هــذه إىل ســجاالت ثقافيــة وفكريــة عامــة‪.‬‬

‫كان هــذا يحــدث أيض ـاً عــى املســتوى «الســيايس»‪ ،‬عــى مســتوى التجمعــات واألحــزاب‬
‫«السياســية»؛ حيــث تغطــى األســباب الحقيقــة الشــخصية لالنشــقاقات واملعــارك بخطــاب عــام‬
‫يتوســل أســبابا عامــة و«وطنيــة» وقضايــا تخــص «الجامهــر» واملوقــف منهــا‪.‬‬

‫مسرية الحروب خارج الحدود‬


‫حدثت تطورات يف العقود األخرية عىل مسارح عمليات حروب الفتات‪ ،‬فقد فتحت الصحف‬
‫اللبنانية والخليجية املحلية منها والدولية أبوابها وصار النرش فيها يقدم فتاتاً أكرث قليالً من فتات‬
‫النظام املتغول يف «الدولة»‪ .‬نقل السوريون شللهم هذه وتجمعاتهم وتحزباتهم‪ ،‬وآليات تعاملهم‬
‫البينيــة‪ ،‬إىل هــذا الحيــز الجديــد‪ .‬فاحتكــرت جامعــات وشــلل وأفــراد قنــوات املــرور والنــر يف هــذه‬
‫الصحــف‪ ،‬عــر التقــرب مــن «رئيــس الفــرع» املســؤول عــن النــر يف هــذه الجريــدة أو تلــك‪ ،‬ليصبــح‬
‫صديق رئيس الفرع هو املقرر يف من ينرش له أو من يكون مروره مســتحيالً إىل هذه الصحف‪.‬‬

‫احتكــر طريــق النــر هــذا والرتشــيح لــه كتــاب مســتقلون عــن النظــام وبعضهــم معــارض أصيــل لــه‪،‬‬
‫إال أنهــم مالــوا إىل األدوات الســورية نفســها املســتخدمة يف معاركهــم الداخليــة فاســتخدموا هــذا‬
‫الحيــز الجديــد يف بنــاء «النفــوذ» يف الوســط الثقــايف الســوري‪ ،‬وبنــاء شــبكة تقــوم عــى االســتتباع‬
‫واالستزالم لديهم‪ ،‬خصوصاً للقادمني الجدد لالشتغال الثقايف‪ .‬هنا ال يدور الحديث يف العامء‬
‫وال يف مجا ٍل عام واسع‪ ،‬إذ ميكن تحديد الصحف واألشخاص والعالقة التي كانت تربطهم برؤساء‬
‫فروع النرش يف هذه الصحف‪ .‬أما املراســلون املعتمدون لهذه الصحف ووســائل اإلعالم الناطقة‬
‫بالعربيــة التــي تكاثــرت الحقـاً‪ ،‬فــكان تعيينهــم ميــر عــر بوابــة املخابــرات؛ مــع اســتثناءات قليلــة ونــادرة‬
‫ميكــن ذكرهــا باالســم حافظــت عــى مهنيتهــا وعــى حــد أدىن مــن االســتقاللية؛ مــع عدم القدرة عىل‬
‫تجــاوز الخطــوط الحمــراء التــي يقيدهــم بهــا النظــام بشــكل صــارخ‪.‬‬

‫اســتخدمت املهرجانــات الثقافيــة والفنيــة املحليــة والعربيــة أيضـاً‪ ،‬كأداة يف حــروب اإلقصــاء؛‬
‫ففــي املهرجانــات املحليــة التــي كانــت ذات امتــداد عــريب اســتخدم األشــخاص املســؤولون عــن‬
‫هــذه املهرجانــات أو مــن لهــم تأثــر عليهــا‪ ،‬بعــد أن خاضــوا تصفياتهــم الداخليــة‪ ،‬مســألة الدعــوات‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪62‬‬

‫لتعزيــز نفوذهــم وحضورهــم لــدى نظرائهــم العــرب يف شــبكة تبــادل الدعــوات واملنافــع مــن هــذه‬
‫املهرجانــات املتشــابهة عربيـاً عمومـاً‪ .‬فــكان ينــدر أن يخــرق هــذه الشــبكة كاتــب ألنه كاتب يســتحق‬
‫الدعوة لحضور مهرجان ما يف حقل يتخصص فيه‪ ،‬من دون أن تكون له أذرع يف الشبكة الداخلية‪.‬‬
‫وكان آخــر النشــاطات العامــة التــي قــام بهــا النظــام وشــهدت هــذه التصفيــات هــي احتفاليــة دمشــق‬
‫عاصمــة للثقافــة العربيــة يف العــام ‪.2008‬‬

‫وال يحتــاج املــرء لجهــو ٍد مضنيــة ليكتــب قامئــة باألشــخاص املشــتغلني بالثقافــة والفــن الذيــن‬
‫كانــوا دامئــا عــى قامئــة املدعويــن للنشــاطات العربيــة والدوليــة‪.‬‬

‫الحرب اإللكرتونية‬
‫التطــور الثــاين حــدث يف مجــال النــر اإللكــروين واملواقــع اإلخباريــة‪ ،‬وهــذه وإن انطبــق عليهــا‬
‫مــا ينطبــق عــى النــر يف الصحــف الورقيــة‪ ،‬يف خطوطهــا الحمــراء واســتتباعها أمنيـاً‪ ،‬إال أنهــا جــاءت‬
‫بتطــو ٍر مهــم‪ ،‬إذ أنهــا قلصــت كلفــة بنــاء «وســيلة إعــام» إىل حــدو ٍد مقــدور عليهــا من الغالبية تقريباً‪،‬‬
‫فقــام بعــض املشــتغلني يف الوســط الثقــايف ببنــاء مواقــع الكرتونيــة وحصلــوا مــن خاللهــا عــى‬
‫متويــات «شــبه» مرشوعــة يف بعــض األحيــان‪ ،‬إال أن األهــم هــو كعكــة اإلعالنــات التــي كانت متر عرب‬
‫املخابــرات وبدعــم منهــا‪ ،‬والتــي كان ميولهــا رشكاء النظــام التجاريــن يف الفســاد؛ تلــك اإلعالنــات‬
‫التــي مل تكــن تقــوم عــى أسـ ٍ‬
‫ـس تجاريــة حتــى‪ .‬وخيضــت حــروب رخيصــة يف هــذا الحيــز‪ ،‬ومــا يجعلنــا‬
‫ال نتوقــف كثــرا ً عنــد هــذه املواقــع يف عهــد النظــام‪ ،‬أن غالبيــة أبطالهــا كانــوا كتبــة وصحفيــن أمنيــن‬
‫مــا عــدا قلــة قليلــة‪.‬‬

‫الجوارح والكوارس والبواسل‬


‫الباب األهم «مالياً» هو الذي فتحته الدراما للوسط الفني السوري‪ ،‬وبعض كتاب السيناريو‪،‬‬
‫إذ بدأت رشكات إنتاج عربية االســتثامر يف الدراما الســورية‪ ،‬بعد شــيوع عرص الفضائيات؛ كذلك‬
‫فتحــت رشكات محليــة لإلنتــاج مــن أمــوال الفســاد ورشكاء الفســاد‪ ،‬يف هــذا الحيــز كانــت الحــرب‬
‫أعنــف‪ ،‬ألن مــا تقدمــه مل يكــن فتات ـاً بــل أمــواالً حقيقيــة‪ .‬ويف هــذا امللــف أجــد أن هنــاك مــن هــو‬
‫مؤهــل أكــر منــي للحديــث عنــه‪.‬‬

‫من عهد النظام إىل عهد الثورة‬


‫عندمــا قامــت الثــورة الســورية انتقلــت جمــوع مــن الكتــاب والصحفيــن الســوريني واملشــتغلني‬
‫بالثقافــة والفــن‪ ،‬مــن فتــات موائــد النظــام إىل جانــب الثــورة‪ ،‬بعضهــم معــارض أصيــل وبعضهــم كان‬
‫معارضاً صامتاً وبعضهم وجد أن موائد الثورة صارت أدسم! حتى إنه عندما أنشئت رابطة الكتاب‬
‫‪63‬‬ ‫بكلا ليومتلا برح ىلإ تاتفلا بورح نم‬

‫السوريني‪ ،‬دافع بعض الكتاب الذين انضموا لها‪ ،‬عن بقائهم يف اتحاد كتاب النظام تحت يافطة‬
‫لخلا يلع فلخ‬

‫الحفــاظ عــى حقوقهــم ومكتســباتهم يف ذلــك االتحاد!‬

‫بعــد قليــلٍ مــن التعفــف والطهرانيــة والعمــل التطوعــي املخلــص‪ ،‬الــذي وســم العمــل للثــورة يف‬
‫بداياتهــا مــن قبــل غالبيــة املشــتغلني بالثقافــة والفــن‪ ،‬جــاءت املكاســب واالمتيــازات‪ ،‬وهــذه املــرة‬
‫مل تكــن كفتــات النظــام بــل رواتــب بالــدوالر يف املؤسســات «الثوريــة» الناشــئة‪ ،‬ومتويــات صغــرة‬
‫وكبــرة‪ ،‬وتكريــس ظهــور وحضــور يــؤدي إىل بنــاء نفــوذ يف الفضــاء العــام الــذي خلقتــه الثــورة يرتجــم‬
‫آنيـاً أو الحقـاً إىل مكاســب‪.‬‬

‫هنــا كانــت الحــرب ليــس أعنــف فقــط‪ ،‬بــل اســتخدمت فيهــا وســائل جديــدة‪ ،‬أيض ـاً‪ ،‬منهــا‬
‫«الشــبيحة» الذيــن اســتخدموا بكثافــة عــى شــبكات التواصــل؛ إضافــة لنقــل املشــتغلني بالثقافــة‬
‫والفن ليس فقط أدواتهم السابقة يف بناء عالقاتهم ببعضهم وبالثقافة‪ ،‬بل خرباتهم التي اكتسبوها‬
‫مــن خــال حروبهــم الســابقة يف ظــل النظــام‪ ،‬إىل فضــاء الثــورة ومؤسســاتها الناشــئة‪ ،‬خصوص ـاً‬
‫مــع بــزوغ عهــد التمويــات العربيــة والدوليــة التــي مل يعرفهــا الوســط الثقــايف الســوري يف تاريخــه‪.‬‬
‫وصارت الشــلل والجامعات والتيارات تحظى أو تتدثر بغطاءات «سياســية»‪ ،‬لتربير هذه املعارك‬
‫والخصومــات بعيــدا ً عــن الســبب الحقيقــي وهــو اقتســام كعكعــة الثــورة‪.‬‬

‫كعكة الثورة املغمسة بالدم‬


‫ميكــن حــر الكعكــة التــي أتاحتهــا الثــورة للمشــتغلني بالوســط الثقــايف والفنــي «واإلعالمــي»‪،‬‬
‫بالتوظيــف يف املؤسســات الثوريــة الناشــئة ســواء كانــت عامــة أو خاصــة؛ التوظيــف يف مؤسســات‬
‫التمويــل الدوليــة أو املنظــات الدوليــة التــي فتحــت لهــا الثــورة الســورية باب ـاً واســعاً للعمــل يف‬
‫الفضــاء الســوري‪ ،‬متويــل إنشــاء املؤسســات واملنظــات والصحــف واملواقــع اإلخباريــة ومراكــز‬
‫األبحــاث‪ ،‬واملشــاريع الثقافيــة والفنيــة‪ ،‬هــذا التمويــل الــذي يتــدرج مــن دوالرات بســيطة إىل ماليــن‬
‫الدوالرات‪ .‬وكذلك بدرجة أقل احتالل املواقع «السياسية» يف مؤسسات التمثيل التي انبثقت‬
‫عــن الثــورة‪ .‬ويف كل مــا ذكــر مل يعمــل معيــار الكفــاءة واالختصــاص ســوا ًء يف التوظيــف أو التمثيــل أو‬
‫يف الحصول عىل التمويل‪ ،‬بل اعتمد معيار العالقات والقدرة عىل الوصول واالنتهازية واالستزالم‬
‫الحتــال هــذه املواقــع والحصــول عــى التمويــات‪.‬‬

‫املغربلون الجدد‬
‫تحــت تســمية «ناشــط» اجتــاح فضــاء الثــورة‪ ،‬مبــا فيــه الوســط الثقــايف واإلعالمــي والفنــي‬
‫«املغربلون» الجدد‪ ،‬وهم جامعة من الغوغاء‪ ،‬رأساملهم صفحة عىل وسيلة التواصل االجتامعي‬
‫«فيســبوك» أعطوهــا اسـاً كبــرا ً‪ ،‬ظهــروا مبوجبهــا‪ ،‬أو مبوجــب عالقاتهــم الشــللية مــع العاملــن يف‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪64‬‬

‫القنوات اإلعالمية بداية كشهود عيان‪ ،‬ثم تحولوا تدريجياً إىل ناشطني إعالميني‪،‬‬
‫ثــم محللــن اســراتيجيني‪ ،‬وبعضهــم صــاروا يعتــرون أنفســهم ليــس صحفيــن‬
‫وإعالميــن فحســب بــل كتابـاً وفنانــن‪ .‬ســاعدهم يف ذلــك التغطيــة الطويلــة للثــورة‬
‫الســورية‪ ،‬والرتكيــز عليهــا مــن كل وســائل اإلعــام العامليــة والناطقــة بالعربيــة عــى‬
‫وجــه الخصــوص‪ .‬كان جــواز مرورهــم يف بعــض األحيــان الرغبــة يف اســتثامرهم مــن‬
‫هــذه القنــوات‪ ،‬ونســبة مــا تريــد قولــه القنــاة عــى ألســنتهم‪ ،‬وكانــوا ال يتورعــون عــن‬
‫يشء مبــا فيهــا فربكــة األكاذيــب والفيديوهــات والصــور ألنهــم كانــوا مجــرد نكــرات‬
‫ليس لديهم رأسامل رمزي أو معنوي ميكن أن يخرسوه‪ .‬أيضاً سهل مرور املغربلني‬
‫أحيانـاً التيــارات السياســية الناشــئة‪ ،‬التــي مل يكــن لهــا حضــور عــى األرض‪ ،‬وأبرزتهــم‬
‫يف حروبها البينية‪ ،‬يف محاولة لسد عجز هذه التيارات عىل األرض‪ ،‬مام اقتىض‬
‫أن يكــون لــكل تيــا ٍر مغربلــه‪.‬‬

‫ويف أحيانٍ أخرى مروا من ضعف مهنية وسائل اإلعالم واالستهتار يف التحقق‬
‫مــن املصــادر واألخبــار يف الشــأن الســوري‪ ،‬الــذي كانــت لديــه ذريعــة جاهــزة للتربير‬
‫وهــي منــع النظــام لوســائل اإلعــام مــن العمــل يف ســوريا‪ ،‬وكانــت وســائل اإلعــام‬
‫التــي تحتــاج مــلء ســاعات طويلــة مــن البــث املخصــص للثــورة الســورية حتــى لــو‬
‫كان ب ـ «العلــك»‪.‬‬

‫قدم «املغربلون» إىل الوسط اإلعالمي بشكل أكرب‪ ،‬لضعف الجهد املبذول‬
‫فيه‪ ،‬وسهولة اخرتاقه بالحيك اإلنشايئ الذي ال يحتاج تدقيقاً يف كثري من القنوات‬
‫الفضائية‪ .‬كتلة املغربلني صارت األكرب يف الثورة السورية واستولت عىل املشهد‬
‫اإلعالمي تقريباً‪ ،‬وتتشكل بشكلٍ أسايس من «تنسيقيني» جاؤوا من مهن مختلفة؛‬
‫سائقي سيارات أجرة‪ ،‬وعامل باطون وكشايش حامم‪ ...‬وقلة من املحرتفني الذين‬
‫نقلوا تهافتهم وحروبهم القدمية معهم إىل الثورة‪ ،‬ويعترب املغربلون الجدد إحدى‬
‫أكــر الكــوارث التــي واجهــت الســوريني بعــد الكيــاوي والرباميــل وتــرب أكــر مــن‬
‫مليوين طفل من التعليم‪.‬‬

‫مل يســتول «املثقفــون» عــى مشــهد الثــورة وأموالهــا وجوائزهــا مــن صناعهــا‬
‫الحقيقيــن؛ أي النــاس؛ فقــراء ســوريا منهــم عــى وجــه الخصــوص والتحديــد الذيــن‬
‫دفعــوا ومــا زالــوا يدفعــون الكلفــة األفــدح يف الثــورة الســورية‪ ،‬دم ـاً وجوع ـاً وتهديــم‬
‫بيــوت‪ ،‬وتــردا ً‪ ،‬بــل يف بعــض األحيــان رسقــوا منهــم املــواد الخــام‪ ،‬أفــام‪ ،‬تقاريــر‪،‬‬
‫صــور‪ ،‬حكايــات‪ ...‬ونســبوها ألنفســهم‪.‬‬
‫‪65‬‬ ‫‪:‬د ـي ورلا ُرـبِح‬
‫ ديشر لداع‬

‫عادل رشيد‬

‫حِ بـ ُر الوريـد‪:‬‬
‫ّ‬
‫املتغي وملهـاة الثابت‬ ‫مأسـاة‬

‫اقتــر مفهــوم التعدديــة اصطالحــا ًعــى املســتوى التنظــري الســيايس‬


‫االجتامعــي‪ ،‬يف داللــة تفيــد بإمكانيــة اشــراك ورضورة إرشاك أكــر مــن لــون أو‬
‫طيــف أو رؤيــة أو رأي أو حتــى معتقــد حيــال التعاطــي مــع موضــوع بعينــه‪ ،‬نظريـاً كان‬
‫أو تطبيقيــا ًســلوكياً‪.‬‬

‫فهــل يجــوز لنــا ومــن منطلــق املعنــى اللغــوي للكلمــة‪ ،‬أو املعنــى الــداليل‬
‫للمصطلــح‪ ،‬أن نقيســه عــى موضوعــات اإلبــداع الفكــري عــى اختــاف مناحيــه‬
‫داخــل املؤسســة «الجديــدة» يف ظــل وخــال الثــورة؟!‬

‫أليســت حالــة التغيــر الســيايس االجتامعــي وخصوصـاً الجذريّــة منهــا‪ ،‬تحمــل‬


‫يف كينونتها املق ّومات الحتميّة للتعددية الفكرية وللمنتج اإلبداعي عىل مختلف‬
‫ألوانــه وأشــكاله وأهدافــه وتوظيفاته؟!‬

‫هل الثورة مبعناها الشامل العريض يُفرتض أن تشكّل فعليا ًالحامل الرشعي‬
‫والجامــع بالــرورة للمكونــات واملفــرزات الفكريــة املتعــددة مختلفــة اآلراء أو حتــى‬
‫املتضادة وعىل كل املستويات؟!‬

‫لقــد ألقــت الحالــة السياســية الســورية الســلط ّوية االحتكاريــة بظاللهــا عــى‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪66‬‬

‫املشــهد الفكــري العــام قرابــة النصــف قــرن املــايض‪ ،‬ع ّومــت الحالــة الفرديّــة وقلصــت املؤسســة‬
‫عمليـاً لتُختــر بشــخص‪َ ،‬ح ّجمــت املعطيــات الفكريــة واملــروع الثقــايف العــام لصالــح ايديولوجيا‬
‫محــددة وموجهــة وتــم توظيفهــا لهــدف بعينــه‪ ،‬فهــل انتقلــت عــدوى الســلوك الســيايس الســلطوي‬
‫البطريريك واستُنسخت آل ّية تعاطيه مع مفردات الواقع السوري الراهن الجديد واملتغري‪ ،‬لتشمل‬
‫الحالــة الفكريــة الحــارضة‪ ،‬س ـ ّيام املؤسســاتية منهــا؟ أم أن الحالــة الفكريــة مســتقرة متجــذرة بعمــق‬
‫ومل يطلهــا التغيــر أص ـاً‪ ،‬وملـّـا تــزل ثابتــة بالعمــوم بــل وتعتــر رشيــكاً يف اســتكامل تلــك الظاهــرة‬
‫االحتكاريــة واســتمرارها؟‬
‫مــن الواضــح تقلــص اإلطــار التشــاريك الجامعــي للمنتــج الفكــري اإلبداعــي الســوري بعــد انطــاق‬
‫الثــورة إىل حــدوده الدنيــا‪ ،‬ومــا زال مفهــوم التعدديــة بجوهــره غريبـاً عليــه‪.‬‬

‫املؤسسة ا ُملنتج‪ ،‬للفرد املبدع‬


‫ّ‬
‫عندما تفتقد املؤسسة لحالتها التعددية كصفة بنيويّة أساسية يف كيانها‪ ،‬تأخذ شكل الفراغ‬
‫األجــوف الكتيــم معــدوم الصــدى‪ ،‬ويرتبــط إنتاجهــا ارتباطـاً مبــارشا ً بعقليــة فــرد بعينــه‪ ،‬وتصبــح مركزيــة‬
‫الرؤية والقرار فيها عبئاً عىل وظيفتها الجوهرية‪ ،‬فتشكل العملية اإلنتاجية من خاللها رضورة جافة‬
‫تحت وطأة الواجب االداري البحت‪ ،‬وتبتعد شيئا فشيئا عن كونها محركا منتجا ً للعمل اإلبداعي‬
‫الحي النرض الذي ال ميكن إخضاعه لرشوط روتينية أو لتفاصيل وقوالب مسبقة‪.‬‬
‫بطبيعــة الحــال ال ميكــن أن نغفــل حقيقــة أن مؤسســات الثــورة قيــد التج ـذّر‪ ،‬مرهونــة التمويــل‪،‬‬
‫تخضــع بدورهــا ملقاييــس أيديولوجيــة سياســية تابعــة‪ ،‬وثوابــت فكريــة مقدســة مل تهتــز‪ ،‬إضافــة‬
‫لـ«تابوات» اجتامعية محددة ومعاير أخالقية بالية‪ ،‬األمر الذي يطبّق عىل حركة إنتاجها عزم عطالة‬
‫كبــر‪ ،‬بهــذا تكــون املؤسســة قــد تقلــص حجمهــا املفــرض وتخلــف دورهــا الوظيفــي وبالتــايل فقدت‬
‫نفس عدم اختالف إنتاجاتها كمياً أو نوعيا ً أو قيميّاً‪ ،‬وعدم تركها أثرا ً‬
‫فاعليتها اإلبداعية‪ ،‬وإال كيف ّ‬
‫تطبيقيـاً يذكــر عــى الواقــع الســوري‪ ،‬وذلــك يف ظــل اختــاف األفــراد الذيــن تعاقبــوا عــى إدارة هــذه‬
‫املؤسســات‪ ،‬ورغــم االنزياحــات الواســعة التــي طــرأت عــى الثــورة إال بنســب تــكاد ال تذكــر‪ ،‬فيحكــم‬
‫اختالفهــا الطفيــف إن وجــد مبــدأ الظــرف الشــخيص والصدفــة الراهنــة‪ ،‬ال آليــات التعاطــي املختلفة‬
‫مــع جوهــر الفعــل اإلبداعــي غــر املــروط‪ ،‬مــا يــي وبعــد دخــول الثــورة عامهــا الخامــس أن التجربــة‬
‫املؤسســاتية الســورية «الجديــدة» بكافــة أبعادهــا العســكرية والسياســية واالجتامعيــة واالقتصاديــة‬
‫وحتى الفكرية اإلبداعية إمنا تكرر ذاتها‪ ،‬وتدور يف فلك ضيق وضمن مساحة ال فضاءات رحبة لها‪.‬‬

‫التعددية يف التجربة الخاصة‬


‫أمام هذا الواقع الراهن للعمل الفكري الثقايف املؤسسايت‪ ،‬عزف الكثريون من العاملني يف‬
‫هذا الحقل اإلبداعي عن النشــاط تحت مظلة املؤسســة بشــكل مبارش‪ ،‬مفضلني العمل الخاص‬
‫‪67‬‬ ‫اثلا ةاـهلمو رّيغتملا ةاـسأم‬

‫يف مســاحة ال وجــود فيهــا لســلطة املؤسســة املبــارشة أو لرشوطهــا املعوقــة الكثــرة الفكريــة منهــا‬
‫ ديشر لداع‬

‫واإلداريــة يف محاولــة للبحــث عــن فضــاءات أوســع وأكــر مرونــة يســتطيع املبــدع مــن خاللهــا تقديــم‬
‫مرشوعــه يف ظــروف موضوعيــة أكــر حريــة تتيــح لــه إمكانيــة تقديــم ذاتــه الخاصــة‪.‬‬

‫ولكن ويف الكثري من التجارب التي أُنتجت ضمن هذه الصفة‪ ،‬لعبت ردة فعل املبدع وسخطه‬
‫عىل الواقع املؤسسايت وفهمه السطحي ملعوقات عملها ومخاوفه الذاتية عىل مرشوعه الخاص‬
‫دورا ً ســلبياً آخــر يف التجربــة‪ ،‬إذ غــاىل املبــدع يف تقييــم حيــز الحريــة املتــاح هنــا وامكانيــة انفالتــه‬
‫مــن املعوقــات املوجــودة هنــاك‪ ،‬ليقــع يف مطــب احتــكار الرؤيــة والــرأي‪ .‬فــا كان إال ان أعيــد إنتــاج‬
‫الذهنيّة املؤسساتية الضيقة املغلقة عىل منوذج واحد من األفكار والرؤى يف الشكل واملضمون‬
‫وذلــك تحــت مس ـ ّمى الرؤيــة الخاصــة والنظــرة الذاتيــة واملــروع الشــخيص الــذي يُعــرف بــه ويُق ـ ّر‬
‫مبرشوعيتــه ورضورتــه ولكــن هــذا ال يلغــي عــى اإلطــاق مبــدأ يضيــف عليــه ويغنيــه وال يقلــل منــه أو‬
‫يلغيه وهو مبدأ التفاعلية والتشاركية الحقيقية يف الرؤى الفكرية والجاملية عىل مستوى التطبيق‬
‫وبالتــايل تحقيــق رشط تعدديــة التجربــة وحريتهــا مــع احتفاظهــا بكونهــا تجربــة خاصــة‪.‬‬

‫املسلسل الفكري يف حلقات‬


‫مــا كان مــن بعــض التجــارب الفكريــة املغلقــة عــى الذاتيــة واملبتعــدة عــن مفهــوم التعدديــة‬
‫والتشــاركية إال أن انتجــت مجموعــة مــن املحطــات املتسلســلة املتشــابهة إىل حــد التطابــق عــى‬
‫مســتويي الشــكل واملضمــون‪ ،‬لقــد ش ـلّت الصفــة االحتكاريــة لهــذه التجــارب عوامــل تجددهــا‪،‬‬
‫وبالتــايل انخفضــت الطاقــة التفاعليــة بــن عنــارص العمــل الواحــد إىل حدودهــا القصــوى‪ ،‬لتصبــح‬
‫املضامــن الفكريــة املعروفــة غالب ـاً فاقــدة لحــاالت الكشــف‪ ،‬وأشــكالها التنفيذيــة مطروقــة ســابقا‪،‬‬
‫وحلولهــا وأطرهــا مكــرورة ال حيويــة فيهــا‪ ،‬مــا يعنــي وقوفنــا أمــام تجربــة جديــدة بــذل يف ســبيلها جهــد‬
‫مشــكور‪ ،‬ومل تقــدم جديــدا ً إال عنوانـاً عريضـاً مختلفـاً عــا ســبقه مــن عناويــن‪ ،‬ولكنهــا يف الجوهــر مــا‬
‫هــي إال جــزء أو حلقــة مــن مسلســل فكــري منــزوع الدســم‪ ،‬ليبقــى فعـاً مســجوناً داخــل فنجــان يعتقد‬
‫صاحبــه أنــه قــدم الكثــر مــن الجــدة‪.‬‬

‫ليربالية الفكر الفردي يف إنتاج الفعل الجماعي‬


‫ملــا كانــت الثــورة نقلــة اجتامعيــة عامــة وفعــل جامعــي خــاص‪ ،‬مــا ال شــك فيــه أن إنتــاج العمــل‬
‫الجامعــي بحاجــة إىل قيــادة صارمــة ذات رؤيــة واضحــة وهــدف محــدد‪ ،‬ولكــن هــل تلغي هذه الصفة‬
‫الهامــة الهوامــش الشاســعة لــركاء الفعــل بصفتــه عمــل جامعــي؟‬

‫إن مفهــوم العمــل الجامعــي ال يقتــر عــى تقســيم وتوزيــع األدوار أو تحديــد املهــام الســطحية‬
‫وحسب‪ ،‬بل يعني بالرضورة العمل عىل شحن االرادات الح ّرة وتوظيفها ضمن نسق أو إطار توافقي‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪68‬‬

‫مو ّحــد يضبــط الهــدف العــام ويحــدده بدقــة ويحــرر األفعال التفصيلية لتنطلق نحوه‬
‫عىل اختالفها وتنوعها داخل لوحة واحدة لتشكل مشهدا ً متنوعاً منسجامً متكامالً‬
‫غني ـاً مختلــف التفاصيــل‪ .‬إن إنجــاز هكــذا طريقــة يف إدارة الفعــل الفكــري تتطلــب‬
‫بالرضورة إمياناً بعقل اآلخر واعرتافاً واضحاً برشاكته وقدرته عىل محاكاة األهداف‬
‫الفكرية والعملية للفعل ما يعني اإلميان باالختصاص والتخصص وقدرات اآلخرين‬
‫وترسيح العنان لرتجمتها فعلياً عىل أرض الواقع وامليض بها وإطالقها إىل نهاياتها‬
‫الحرة بعيدا ً عن األحكام املنجزة املنقوصة املتعجلة‪.‬‬

‫إن االجتهــاد يف الكشــف عــن مكمــن القــوة والبحــث عــن مواطــن القــدرة عنــد‬
‫الرشيك يف العمل وتفعيلها وتحفيزها وإتاحة الفرصة للتعبري عنها وطرحها ضمن‬
‫النســق العــام املنســجم مــع العمــل هــدف ال يقــل ســم ّوا ً عــن أي هــدف فكــري يصــار‬
‫إىل طرحــه أو تقدميــه وهــو مــا يرفــع مــن ســويته ويغنيــه ويرتقــي بــه بطبيعــة الحــال‪.‬‬

‫برسم االنتظار‬
‫مــن املعــروف أن لــكل حقبــة تاريخيــة أو مرحلــة زمنيــة معيّنــة أدواتهــا السياســية‬
‫واالجتامعيــة والثقافيــة الخاصــة بهــا يف اإلنتــاج أو االســتهالك‪ ،‬والتــي تعـ ّـر عنهــا‬
‫وتعطيهــا صفاتهــا املميــزة وطابعهــا الخــاص‪ .‬يبــدو جليـاً أن املجتمعــات اإلنســانية‬
‫تحــت أي انتــاءات فكريــة انضــوت‪ ،‬إمنــا ترتقــي أدواتهــا أو تتخلــف وعــى كافــة‬
‫األصعدة بشكل متوازي كيل منسجم‪ ،‬فال ميكننا أن نرى مجتمعا متطورا ً اقتصادياً‬
‫وهــو متخلــف سياســيا أو اجتامعيـاً بنفــس الوقــت‪ ،‬أو أن نجــد مثـاً مجتمعـاً متطورا ً‬
‫ثقافياً يف ظل تخلفه االقتصادي الواضح‪ ،‬إن خصوصية تط ّور املجتمعات اإلنسانية‬
‫خصوصية كلية متوازية‪ ،‬إما أن تكون متخلفة بكل وسائل إنتاجها واستهالكها معاً‬
‫أو متطــورة بكليتهــا معـاً والشــاذ يف هــذا املقــام يؤيــد القاعــدة وال ينفيهــا‪.‬‬

‫عليه وإذا احتكمنا لهذه النتيجة أو الفكرة وقمنا بتطبيقها عىل موضوع التغيري‬
‫االجتامعي الســوري بحالته الثورية الراهنة‪ ،‬يطل علينا ســؤال جديد ســيبقى جوابه‬
‫برسم االنتظار‪.‬‬

‫هل سيشكل الواقع االجتامعي السيايس السوري الجديد طور التبلور‪ ،‬واقعاً‬
‫فكرياً جديدا ً مختلفاً يف حدود امللموس؟ أم سيُهرق ِحبـ ُر الوريـد يف فصول مأسـاة‬
‫املتغي أو عىل أبواب ملهـاة الثابت؟‬
‫ّ‬
‫‪69‬‬ ‫‪:‬ديدجلا يروسلا سوماقلا‬
‫رفس يلع‬

‫عيل سفر‬

‫القاموس السوري الجديد‪:‬‬


‫قراءة يف الفضاء العام لسنوات الثورة األوىل‬

‫يف نهاية السنة األوىل من الثورة السورية‪ ،‬وبعد متابعة طويلة وحثيثة ألغلب‬
‫مــا قــام الســوريون بنــره عــى صفحــات مواقــع التواصــل االجتامعــي‪ ،‬خلصــت‬
‫وبشــكل شــخيص إىل بعــض النتائــج املتعلقــة بتغــرات الخطــاب اللغــوي والداليل‬
‫الســائد بــن الســوريني‪.‬‬

‫هــذه النتائــج مل تكــن نهائيــة وال ميكــن أن تكــون كذلــك‪ ،‬فهــي مرتبطــة بواقــع‬
‫متحرك‪ ،‬ترتبط مساراته بديناميات الفعل عىل األرض‪ ،‬وبتوجهات الحراك الثوري‪،‬‬
‫والحــراك املضــاد‪ .‬وقــد قامــت آليــة الرصــد التــي اتبعتهــا عــى قــراءة الصفحــات‬
‫الشــخصية‪ ،‬ومتابعــة الصفحــات العامــة التــي نــر فيهــا الشــباب الثائــر كتاباتهــم‪،‬‬
‫وردود أفعالهــم‪ ،‬عــى مــا كان يجــري يف الشــوارع الســورية‪ .‬وهنــا يجــب اإلشــارة إىل‬
‫أن هــذه الصفحــات كانــت هــي املنابــر شــبه الوحيــدة يف املشــهد الســوري‪ ،‬التــي‬
‫ميكــن مــن خاللهــا املتابعــة والرصــد‪ ،‬ففــي ذلــك الوقــت مل تكــن الوســائل اإلعالميــة‬
‫الجديدة والتي يطلق عليها اصطالحاً «اإلعالم البديل» قد وجدت بعد‪ ،‬وبالتايل‬
‫فــإن مــا تــم نــره يف مســاحات موقــع «فيســبوك» لرمبــا يشــكل الوثيقــة األهــم يف‬
‫ســياق قــراءة التحــوالت التــي طــرأت عــى الخطــاب اللغــوي‪ ،‬عنــد الســوريني بشــكل‬
‫عــام‪ ،‬وعنــد جيــل الشــباب بشــكلٍ خــاص‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪70‬‬

‫الخالصــات التــي خرجــت بهــا آنــذاك‪ ،‬قمــت بصياغتهــا يف مقالــة حملــت عنــوان «الســوريون‬
‫يصنعــون لغتهــم الجديــدة‪ :‬امتحــان الذاكــرة والثقافــة»‪ ،‬قمــت بنــر جــزء منهــا يف أحــد املواقــع‬
‫اإللكرتونيــة‪ ،‬تحــت اســم مســتعار بســبب وجــودي يف دمشــق يف ذلــك الوقــت‪ ،‬وقــد كان واضحـاً‬
‫بالنســبة يل أن عملية رصد التحوالت‪ ،‬التي قمت بها ليســت أكرث من مفاتيح أوىل لفهم ما ميكن‬
‫أن ينتجــه العقــل الســوري‪ ،‬وهــو يهتــز ويرتــج بالتــوازي مــع حـ ٍ‬
‫ـدث غــر مســبوق يف تاريــخ الســوريني‬
‫هــو الثــورة‪ ،‬وبالتأكيــد فــإن ربــط مالمــح التحــوالت بالحــدث اليومــي‪ ،‬ســيؤدي حكـاً إىل تبــدل هــذه‬
‫املالمــح بتبــدالت الواقــع اليوميــة‪..‬‬

‫وهكــذا ميكــن يل أن أفهــم كيــف اســتطاع الســوريون يف العــام األول للثــورة الســلمية‪ ،‬أن يغــروا‬
‫مالمــح خطابهــم اللغــوي‪ ،‬صــوب ضفــاف جديــدة‪ ،‬وكيــف كبحــت الثــورة وهــي تتحــول إىل عتبتهــا‬
‫املســلحة يف الســنة الثانيــة‪ ،‬ديناميــات إنتــاج اللغــة الجديــدة‪ ،‬وأعادتهــا إىل املــايض‪ ،‬بعــد أن خلــق‬
‫النظــام عــر تنامــي الحــل األمنــي وتحولــه إىل حــل عســكري‪ ،‬واقع ـاً دموي ـاً قوامــه ســقوط الشــهداء‬
‫بأعــداد كبــرة يوميـاً‪.‬‬

‫القــراءة التــي أقدمهــا هنــا‪ ،‬ال تقــوم عــى ربـ ٍـط ميكانيـ ٍ‬
‫ـي بــن الواقــع واللغــة‪ ،‬أو تحليــل عالقــة‬
‫الــدال باملدلــول‪ ،‬بــل هــي تســتخلص مــا ميكــن اعتبــاره مالمــح دالــة‪ ،‬وهــي ترصــد يف ظاهرهــا املــزاج‬
‫الــذي حكــم الذهنيــة العامــة للســوريني‪ ،‬الذيــن كان تفاؤلهــم باقرتابهــم مــن انجــاز التغيــر الســيايس‬
‫عــر األدوات الســلمية‪ ،‬واحــدا ً مــن أهــم محــركات إنتاجهــم للنصــوص الجديــدة‪ ،‬النصــوص التــي‬
‫امتــازت بطزاجــة الــرؤى‪ ،‬وبديناميكيــة البنــاء اللغــوي‪ ،‬حيــث كانــت النصــوص أشــبه بقصائــد مكتوبــة‬
‫عــى عجــلٍ ‪ ،‬وبرتكيــز عــالٍ‪ ،‬دون االلتفــات إىل املرجعيــات ســابقة‪ ،‬التــي كانــت حــارضة وبقــوة‪ ،‬لــدى‬
‫جمهــور كبــر مــن مســتخدمي مواقــع التواصــل االجتامعــي‪.‬‬

‫وهنــا قــد يحــر ســؤال حــول األســباب التــي تجعلنــي أســتعيد هــذه القــراءة‪ ،‬واإلجابــة البســيطة‬
‫عــى هــذا الســؤال تتــأىت مــن أن تحــوالت الواقــع الســوري املســتمرة‪ ،‬قــد ال تؤكــد مــا خلصنــا إليــه يف‬
‫نهايــة الســنة األوىل مــن الثــورة الســورية‪ ،‬ولكنهــا ال تنفيــه‪ ،‬فالواقــع اليومــي املأســاوي‪ ،‬الــذي عاشــته‬
‫الثــورة طيلــة األعــوام الالحقــة وصــوالً إىل بدايــة الســنة الخامســة‪ ،‬مل يدفــع الخطــاب اللغــوي إىل بث‬
‫بــذور االتجــاه إىل قطيعــة كاملــة مــع املــايض‪ ،‬كــا كانــت تأمــل الدراســة‪ ،‬بــل إنــه أعــاق تطــوره‪ ،‬ولكــن‬
‫هــذا األمــر مل مينــع الشــباب الســوري املبــدع مــن أن يقــدم تجــارب مهمــة جــدا ً‪ ،‬عــى صعيــد الشــعر‬
‫والقصة القصرية‪ ،‬وكذلك األمر يف الفنون البرصية‪ .‬وعليه فإن ما تطرحه الدراسة من استخالصات‬
‫وأســئلة رمبــا يشــكل مقدمــة أوىل لقــراءة نقديــة أكــر وأوســع مــا تــم انجــازه ســابقاً‪.‬‬

‫لقد حاول بعض املتابعني للقضية ذاتها أن يقدموا تصورات حول مالمح اللغة الجديدة التي‬
‫أفرزتهــا الثــورة الســورية‪ ،‬غــر أن أغلــب مــا كتــب مل يكــن ســوى قــراءات متعجلــة‪ ،‬بنيــت عــى قــراءة‬
‫‪71‬‬ ‫ألا ةروثلا تاونسل ماعلا ءاضفلا يف ةءارق‬

‫النصــوص األدبيــة املنجــزة‪ ،‬ضمــن منهجيــة أخرجــت النصــوص مــن ســياقها األديب ذاتــه‪ ،‬لتحميلها ما‬
‫رفس يلع‬

‫هــو خــارج عنهــا مــن خطابــات مرتبطــة بالثــورة‪ ،‬ولهــذا فقــد متــت قــراءة النــص مــن خــال اســتجابته ملا‬
‫هــو خارجــه‪ ،‬فــإن مل يقــم بهــذه االســتجابة جــرت عمليــة اقصــاء لغتــه‪ ،‬واعتبارهــا لغــة تنتمــي للــايض‪.‬‬

‫القضيــة يف بعدهــا «الشــعري» تتجــاوز الحيثيــات الكامنــة يف الحــراك الواقعــي‪ ،‬فانتــاء كاتــب‬
‫النــص أو النــص ذاتــه للســياق الثــوري‪ ،‬ال يعنــي أن يراهــن عليــه ليكــون حامـاً للغــة جديــدة‪ ،‬كــا أن‬
‫عــدم انتــاء الكاتــب أو نصــه لفضــاءات الثــورة‪ ،‬ال يعنــي عــدم وجــود مالمــح اللغــة الجديــدة لديــه‪.‬‬

‫عــى املســتوى الشــخيص‪ ،‬ســأعترب أن هــذه القــراءة املســتعادة مــن تخــوم الســنة الثانيــة مــن‬
‫الثورة مجرد ورقة عملٍ أوىل‪ ،‬تحتاج للمراجعة وإعادة التدقيق‪ ،‬طاملا أننا عىل أهبة واقع متداخل‪،‬‬
‫مســتفيض يف حيثياتــه املتبدلــة‪.‬‬

‫السوريون يصنعون لغتهم الجديدة‪:‬‬


‫امتحان الذاكرة والثقافة (‪)2011 -12‬‬
‫ســيمر وقــت طويــل قبــل أن تصبــح مــؤرشات التحــوالت التــي يشــهدها العقــل الجمعــي الســوري‬
‫ملموس ًة وظاهر ًة يف طور التحول نحو سوريا الجديدة‪ ،‬التي يطمح لها السوريون يف كال االتجاهني‬
‫الذيــن باتــا يحكــان الحــراك املجتمعــي‪ ،‬اتجــاه املعارضــن الــذي يــرى بــأن الدولــة الســورية لــن‬
‫تتجدد إال عرب إســقاط النظام الذي اســتوىل عليها‪ ،‬واتجاه املؤيدين الذي يرى بأن تجديد الدولة‬
‫السورية ممكن عرب إصالحات تنطلق من إرادة النظام نفسه‪ .‬أوىل هذه املؤرشات مام باتت نذره‬
‫واضحـ ًة وغــر قابلــة لإلخفــاء أو التجاهــل‪ ،‬هــي تلــك اللغــة الجديــدة التــي بــات الســوريون يتفاهمــون‬
‫مــن خــال بعــض مالمحهــا يف هــذه األيــام‪ ،‬إذ يبــدو أنهــم وبعــد اســتمرار الحــراك الشــعبي أشــهرا ً‬
‫ـوي أن يقومــوا بالقطيعــة الكاملــة مــع لغــة املــايض‪ ،‬ككنايـ ٍة عــن مرحلــة‬
‫طــواالً‪ ،‬قــد قــرروا وبشــكل عفـ ٍ‬
‫زمنيـ ٍة شاســعة كانــوا فيهــا أرسى للغـ ٍة متكلسـ ٍة‪ ،‬مل تعــد تناســب ال واقعهــم الحــايل‪ ،‬وال التحــوالت‬
‫السائدة يف العامل الذي يعيشون معه عالقات تبادلية تفرض عليهم أن يتامشوا معها‪ .‬ولكن عن‬
‫أي لغـ ٍة نتحــدث هنــا؟ بالتأكيــد نحــن ال نعنــي اللغــة بوصفهــا أداة تواصليــة مجــردة تخضــع لفعاليتهــا‬
‫بذاتهــا‪ ،‬بــل إننــا نعنــي اللغــة لذاتهــا وال ســيام مــن خــال حمولتهــا الوظائفيــة التعبرييــة‪ ،‬واملرجع ّيــة‪،‬‬
‫والتأثرييّــة أو اإلقناعيّــة‪ ،‬وكذلــك الوظيفيــة الشّ ــعريّة‪ ،‬إذا كان لنــا أن نســتعري مــن رومــان ياكبســون‬
‫توصيفــه املعــروف حــول طبيعــة اللغــة‪ .‬وطبقـاً ملســارات الواقــع فــإن نظــرة بســيطة عــى التفاصيــل‬
‫توضــح للمتابــع أن الــراع الــذي ميــي بــه الواقــع الســوري إمنــا يرتكــز يف شــكله الظاهــر إعالميـاً يف‬
‫اللغــة‪ ،‬ويأخــذ تجلياتــه يف املكتــوب واملــريئ واملســموع‪ ،‬أي أنــه يقــوم عــى اإلنشــاء يف اللغــة‪،‬‬
‫فهنــاك واقــع يومــي يعيشــه النــاس عــى األرض‪ ،‬وهنــاك واقــع إنشــايئ يُظهــر التفاصيــل مــن خــال‬
‫صناعــة املتصارعــن لخطاباتهــم عــر اللغــة‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪72‬‬

‫القصــة مل تبــدأ يف منتصــف شــهر آذار‪ ،‬بــل إنهــا تعــود إىل مــا قبــل ذلــك‪ ،‬فقــد شــكل انطــاق‬
‫الربيــع العــريب منعطف ـاً كبــرا ً يف تعاطــي الســوريني مــع بعضهــم‪ ،‬بعــد أن كانــوا ســابقاً ومــن خــال‬
‫اســتخدامهم لشــبكات التواصــل االجتامعيــة كالفيســبوك بشــكل رئيــس‪ ،‬وتويــر بشــكل أقــل‪ ،‬قــد‬
‫أعــادوا ترتيــب عالقاتهــم مــع بعضهــم بطريقــة أكــر تركيــزا ً مــن تواصلهم الطبيعــي يف الواقع الحقيقي‪،‬‬
‫ورغــم أن الحجــب الــذي كان النظــام الســوري قــد فرضــه عــى الدخــول إىل هذيــن املوقعــن قــد‬
‫أعــاق تحــول مفهــوم الشــبكة االجتامعيــة إىل حالــة جامهرييــة‪ ،‬إال أن قــدرة الســوريني عــى اســتخدام‬
‫هذين املوقعني عرب كرس الحجب بتقنية «الربوكيس» قد جعلتهم يستفيدون من منربية الشبكة‪،‬‬
‫رسعــن وبشــكلٍ شــبه عفــوي‪ ،‬مــن اســتخدام األداة التواصليــة والوصــول بهــا إىل منتهياتهــا‪ ،‬أي أن‬
‫م ّ‬
‫البيئــة التواصليــة التقنيــة ورغــم وجــود العوائــق ورغــم قلــة مســتخدميها نســبياً كانــت حــارض ًة وبقــوة‪،‬‬
‫وحــن بــدأت أحــداث الثــورة يف تونــس كان مــن الســهل عــى مســتخدمي الشــبكة مــن الســوريني أن‬
‫يالحظــوا أنهــم يســتطيعون اختصــار اللغــة والرشوحــات الخاصــة باملوقــف مــا يحــدث‪ ،‬عــر تحريــر‬
‫الصــورة الشــخصية عــى الفيســبوك‪ ،‬واســتبدالها بعلــم تونــس‪ ،‬مــا يجعــل موقــف املســتخدم‬
‫واضح ـاً دون الحاجــة الســتخدام التعابــر الشــعاراتية الفاقعــة‪ ،‬ورسعــان مــا جعلــت أحــداث الثــورة‬
‫املرصيــة الســوريني يف مواجهــة مــع عمليــة حــرق مراحــل تذهــب صــوب اإلمســاك بكافــة إمكانيــات‬
‫شــبكة التواصــل االجتامعيــة‪ ،‬ترافقــت مــع فــك الســلطات الســورية الحجــب عــن موقــع فيســبوك‪.‬‬
‫وهنــا يجــب علينــا نتوقــف عنــد نقطــة هامــة تتعلــق بطبيعــة الفعاليــة الشــخصية عــى الشــبكة يك‬
‫نســتطيع تلمس التحول الذي جرى وبشــكل رسيع يف عالقة الســوريني مع اللغة‪ ،‬ففي موقع تويرت‬
‫والــذي ينتمــي لنوعيــة التدويــن القصــر يســمح املوقــع للمســتخدم بكتابــة ‪ 120‬حرفـاً فقــط للتعبــر‬
‫عــن الحالــة الشــخصية أو لكتابــة الخــر الــذي يريــد املســتخدم بثــه‪ ،‬وكذلــك يســمح الفيســبوك‬
‫بكتابــة ‪ 420‬حرف ـاً فقــط (تــم توســيع هــذه القــدرة يف فــرة الحقــة مــن عــام ‪ 2011‬لتصبــح مفتوحــة‬
‫للمــدون)‪ ،‬مــا يقتــي مــن املســتخدم أن يقــوم بعمليــة اختــزال أو اختيــار دقيــق للكلــات‪ ،‬وقــد‬
‫وجــد املســتخدمون الســوريون والســيام منهــم الشــباب يف النمــوذج املــري ضالتهــم حــن وجــدوا‬
‫أن مجايليهــم هنــاك قــد أجــادوا اســتخدام الشــبكة االجتامعيــة وبديناميكيــة مذهلــة‪ ،‬والســيام مــن‬
‫جهــة القــدرة عــى تحديــد األهــداف والتعبــر عــن املوقــف عــر أقــل مــا ميكــن مــن الكلــات‪ ،‬حتــى أن‬
‫هذه القدرة املتنامية قد انعكســت عىل مامرســات الشــباب الثائر يف امليدان‪ ،‬فكلنا يذكر كيف‬
‫أن الرئيــس املخلــوع حســني مبــارك كان يتلقــى وبرسعــة رهيبــة ردود الفعــل عــى خطاباتــه بعــد مــرور‬
‫دقيقــة أو دقيقتــن‪ ،‬مــن قبــل الشــباب الذيــن كانــوا يســترشفون مــا كان يريــده مــن خــال التدقيــق يف‬
‫طبيعــة اللغــة فبمجــرد اســتخدامه للســن املســتقبلية كقولــه‪ :‬ســأفعل‪ ،‬كان الصفــر يف امليــدان‬
‫يتعــاىل وكانــت األحذيــة ترفــع لتواجــه صورتــه يف الشاشــات!‬

‫لقد فرضت الشبكة عىل العقل الشبايب الذي تعاطى معها منطق االختصار‪ ،‬والذهاب وبشكل‬
‫‪73‬‬ ‫ألا ةروثلا تاونسل ماعلا ءاضفلا يف ةءارق‬

‫مبارش نحو األهداف‪ ،‬وأظن أن هذا جوهر مشكلة اللغة السائدة‪ ،‬فمنظومتها القارة تقوم عىل نسقٍ‬
‫رفس يلع‬

‫بالغـ ٍـي تدرجــت والدتــه قبــل مــا يقــارب نصــف قــرنٍ مــن الزمــن‪ ،‬والســيام عــر الفعاليــات الدمياغوجيــة‬
‫التــي حملتهــا الثــورات التــي قادهــا العســكر يف الــرق العــريب مــن خمســينيات القــرن املــايض إىل‬
‫ستينياته‪ ،‬حيث كان البد من اإلطناب البالغي التطوييل يف رشح أهداف الثورات وتصوير الفاعلني‬
‫فيهــا وحالــة الجامهــر‪ ،‬مــا بــات أشــبه برتســيمة أو خارطــة بالغيــة كانــت تفقــد رضوراتهــا مــع الفشــل‬
‫السيايس للثورات‪ ،‬ولكنها بقيت مستمرة حتى تحولت إىل حال ٍة كوميدية ساخرة‪.‬‬

‫منطــق االختصــار الشــبايب يواجــه الســائد اللغــوي البالغــي التطويــي‪ ،‬وهــذا مــا مل تنتبــه إليــه‬
‫الســلطات التــي اعتــاد الحــكام فيهــا عــى اإلطنــاب والــرح‪ ،‬مــا عكــس تباينـاً بــن عقليتــن‪ ،‬عقليــة‬
‫ماضويــة ســلطوية تتمســك براهنيــة الحــال وتســتخدم أدوات لغويــة مرتهلــة‪ ،‬وعقليــة مســتقبلية ثائــرة‬
‫متيــل نحــو لغــة شــابة ديناميكيــة ورسيعــة! وإىل هــذا وجــد الشــباب الســوري نفســه يف عمليــة تحــول‬
‫مســتعجلة متيــل نحــو مراجعــة األدوات للخــروج صــوب تــوا ٍز بينهــم وبــن اآلخريــن يف البلــدان العربيــة‬
‫األخــرى‪ ،‬ولكــن هــل متــت العمليــة بشــكل ســلس وبشــكيل كيل يف الوقــت نفســه؟ بالتأكيــد ال‪...‬‬
‫إذ أن أهــم مــا ميكــن مالحظتــه يف هــذا الســياق أن مســتخدمي الشــبكات مــن الســوريني وبالتــوازي‬
‫مــع تفجــر الحــراك الشــعبي كانــوا يعيــدون اســتخدام ذخريتهــم اللغويــة والفكريــة عرب إعادة نرش دفاتر‬
‫محفوظاتهم‪ ،‬فكل سوري وجد نفسه وعىل صفحته الشخصية يعرب عن موقفه من خالل استدعاء‬
‫مــا قالــه اآلخــرون الذيــن يــرى أنهــم قالــوا مــا يريــده هــو‪ ،‬وهكــذا تــم إحيــاء أجيــال مــن الشــعراء والروائيــن‬
‫والكتــاب واملفكريــن الســوريني عــر نــر شــذرات مــن أشــعارهم وكذلــك تــم إحيــاء آالف املقطعــات‬
‫مــن األقــوال الفكريــة‪ ،‬وقــد يجــد نقــاد الشــعر العــريب الحديــث موضوع ـاً مه ـاً لدراســاتهم حــن‬
‫ميحصــون يف حضــور أشــعار شــاعر كبــر راحــل كمحمــد املاغــوط عــى صفحــات الثائريــن‪ ،‬وكذلــك‬
‫أشــعار شــاعر ســوري رحــل يف عــز شــبابه قبــل مــا يقــارب الثالثــن عامـاً هــو ريــاض الصالــح الحســن‬
‫وال ســيام قصيدتــه الشــهرية «ســورية» التــي يقــول فيهــا‪« :‬يــا ســورية الجميلــة الســعيدة‪ /‬كمدفــأة يف‬
‫كانــون‪ /‬يــا ســورية التعيســة‪ /‬كعظمــة بــن أســنان كلــب‪ /‬يــا ســورية القاســية‪ /‬كمــرط يف يــد جـ َّراح‪/‬‬
‫نحــن أبنــاؤك الطيِّبــون‪ /‬الذيــن أكلنــا خبــزك وزيتونــك وســياطك‪ /‬أبــدا ً ســنقودك إىل الينابيــع‪ /‬أبــدا ً‬
‫سنشق أمامك الدروب‪ /‬ولن‬
‫ّ‬ ‫سنجفِّف دمك بأصابعنا الخرضاء‪ /‬ودموعك بشفاهنا اليابسة‪ /‬أبدا ً‬
‫نرتكك تضيعني يا سورية‪ /‬كأغنية يف صحراء‪( ».‬من ديوان بسيط كاملاء‪ ،‬واضح كطلقة مسدَّس)‪.‬‬

‫غــر أن هــذا الحضــور الشــعري‪ ،‬مل يكــن كافي ـاً ليعــر عــن األمــداء التــي وصــل إليهــا الشــباب‬
‫الســوريون‪ ،‬وهــم ميارســون فعاليــات غــر مســبوق ٍة يف تاريــخ بلدهــم‪ ،‬ولهــذا فإننــا كنــا نشــهد شــيئاً‬
‫يشــبه عمليــة االجــرار مــن قبــل األغلبيــة العظمــى مــن املســتخدمني‪ ،‬الذيــن ال ميلكــون ككتلـ ٍة عريض ٍة‬
‫ذاتَ الثقافــة التــي تســمح لهــم بتطــور تعبــري متــوازي‪ ،‬وإزاء هــذا التكــرار الــذي مل يرتــق إىل مــا يوازيــه‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪74‬‬

‫يف الحــراك عــى األرض‪ ،‬ظهــرت قلــة مــن املســتخدمني كانــت تنحــو إىل مامرســة فعاليــة إبداعيــة‬
‫تتمثــل عــر الكتابــة «الومضيــة» أي الكتابــة القصــرة ذات الفعاليــة‪ ،‬وقــد رصدنــا طيلــة األشــهر األوىل‬
‫للثــورة كيــف أن ظاهــرة دفــر املحفوظــات كانــت تتناقــص مــع تنامــي التحــوالت يف الواقــع اليومــي‪،‬‬
‫إذ أن قــدرة مســتخدمي الشــبكة عــى إيجــاد التعبــر املناســب عــن الواقــع واملوقــف منــه كانــت‬
‫تقــل كلــا كان الواقــع يقــدم منجــزا ً جديــدا ً مــن تحوالتــه‪ ،‬ويف املقابــل كانــت األنظــار تتجــه صــوب‬
‫القلــة املنتجــة التــي بــات العديــد مــن أفرادهــا نجومـاً عــى شــبكتي فيســبوك وتويــر‪ ،‬ولعــل الســبب‬
‫الرئيــي يف هــذا إمنــا يرجــع إىل قــدرة هــؤالء عــى التعبــر عــن الواقــع ضمــن منطــق لغــوي إبداعــي‬
‫مختلــف عــن الســائد‪.‬‬

‫إن املنتوج اللغوي الجديد الذي نعرث عليه من خالل صفحات الفيســبوك وتويرت يف بداياته‬
‫كان يستند وبشكل رئيس إىل رغبة واضحة لدى الشباب السوري يف اخرتاق حاجز املمنوع الذي‬
‫ظلوا يتعايشون معه طيلة عرشات السنني‪ ،‬ولهذا فإن انبعاثات اللغة كانت تتوازى وبشكل طردي‬
‫مع تحوالت الشعارات يف الشارع الثائر ذاته‪ ،‬وقد شكلت الصفحات مرآ ًة لالجتهاد اللغوي الذي‬
‫كان الشــارع ينطــق بــه‪ ،‬وكلنــا يذكــر املنتــوج الشــعارايت الــذي كانــت تقدمــه تظاهــرات بلــدة كفــر نبل‪،‬‬
‫والتــي اعتــرت يف وقـ ٍ‬
‫ـت مــا ناطقـ ًة باســم الجميــع‪ ،‬والســيام منهــا تلــك الالفتــة التــي أمســت أيقونـ ًة‬
‫شــهرية والتــي كتــب فيهــا‪« :‬يســقط النظــام واملعارضــة‪ ...‬تســقط األمــة العربيــة واإلســامية‪ ،‬يســقط‬
‫مجلــس األمــن‪ ...‬يســقط العــامل‪ ،‬يســقط كل يشء»‪ ...‬كــا أن بعــض الصفحــات الفيســبوكية التــي‬
‫ارتفعــت شــهرتها لفــرة طويلــة ثــم خبــت (صفحــة مشــحم ومغســل حمــص للدبابــات‪ ،‬وصفحــة الثورة‬
‫الصينيــة ضــد طاغيــة الصــن) كانــت تنقــل الخطــاب الســيايس للثائريــن مــن عتبــة الجديــة املطلقــة‬
‫إىل عتبــة الكوميديــا والســخرية عــر طرافــة لغويـ ٍة كانــت متــارس فيهــا كل األلعــاب اللغويــة‪ ،‬مام حول‬
‫الخطــاب الرســمي الــذي كانــت تنــره القنــوات التلفزيونيــة الرســمية‪ ،‬وكذلــك املواقــع اإللكرتونيــة‬
‫املؤيــدة‪ ،‬إىل مــادة لالشــتغال اللغــوي لــدى صنــاع الكوميديــا‪ ،‬الذيــن كانــوا يرتقبــون ويتابعــون لغــة‬
‫املحللــن واملدافعــن الذيــن تبنــوا مواقــف الســلطة الســورية والتــي بقيــت رهينــة ملنطقهــا ذاتــه‪،‬‬
‫فهــؤالء كانــوا يعيــدون إنتــاج اللغــة املتداولــة يف اإلعــام الســوري‪ ،‬دون أن يحاولــوا إضافــة أي ملمــح‬
‫جديــد ينــم عــن عقليــة اجتهاديــة تطــور خطابهــا ومبــا يتناســب مــع حالــة األزمــة مــا جعــل الكثــرون‬
‫ينكصــون عنهــا‪ ،‬وقــد ســجل لــدى الكثرييــن مــن هــؤالء الذيــن كانــوا يدافعــون عــن النظــام كيــف أنهــم‬
‫وإزاء مواقــف املعارضــن كانــوا يلجــأون إىل لغ ـ ٍة شــتامئية ضعيف ـ ٍة وســهلة التنــاول مــا جعــل هــذه‬
‫اللغــة ذاتهــا مــاد ٍة لالجتهــاد اللغــوي املضــاد‪.‬‬

‫اللغــة ليســت متحيــزة‪ ،‬بينــا الفعاليــة اللغويــة تتحيــز بحســب الفاعلــن‪ ،‬والســوريون يصنعــون‬
‫الضفــاف التــي يجــري بينهــا هــذا التدفــق الكبــر للغــة‪ ،‬ويبــدو مــن يخوضــون وبشــكل عفــوي يف‬
‫هــذا النهــر ينجحــون إىل حـ ٍـد كبـرٍ يف إحيــاء مــا ظــن الكثــرون أنــه قــد خمــد وانتهــى بفعــل التكلــس‬
‫‪75‬‬ ‫ألا ةروثلا تاونسل ماعلا ءاضفلا يف ةءارق‬

‫واالســتكانة‪ ،‬فاللغــة يصنعهــا الشــارع‪ ،‬ويقرأهــا املثقفــون‪ ،‬ليعيــدوا إنتاجهــا عــر‬


‫رفس يلع‬

‫مســتويات أعــى‪ ،‬وعليــه فــإن مــا يحــدث يف الشــارع الســوري وبغــض النظــر عــن‬
‫التحــزب إمنــا هــو اختبــار للثقافــة الســورية كلهــا‪ ،‬إنــه امتحــان مؤجــل منــذ عــرات‬
‫الســنني‪ ،‬وقــد حــان اآلن موعــد نتائجــه‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪76‬‬

‫رامي سويد‬

‫الكتابة اإلبداعية عىل «فيسبوك»‪:‬‬


‫ثورة عىل رابطة الكاتب والقارئ التقليدية‬

‫مل تقترص وظيفة مواقع التواصل االجتامعي لدى السوريني منذ انطالق الثورة‬
‫يف ســوريا عــى دورهــا التقليــدي كوســيلة تواصــل بــن األصدقــاء‪ ،‬بــل تحولــت إىل‬
‫منابر للســوريني لنرش كتاباتهم اإلبداعية القصصية والســاخرة وحتى الشــعرية منها‪،‬‬
‫ـدى واســعاً يف أوســاط‬
‫والقــى هــذا االســتخدام لصفحــات «فيســبوك» تحديــدا ً صـ ً‬
‫السوريني الذين لجأ معظمهم إىل فيسبوك ملتابعة األخبار وقراءة كتابات األصدقاء‬
‫والتواصــل معهم‪.‬‬
‫ش ـكّل الســوريون عــى صفحــات «فيســبوك» مجتمع ـاً افرتاضي ـاً بدي ـاً عــن‬
‫مجتمعهــم الحقيقــي الــذي ُدمــرت روابطــه بعــد اضطــرار أكــر مــن نصــف الســوريني‬
‫إىل تغيــر أماكــن ســكنهم لينزحــوا إىل مناطــق أخــرى يف ســوريا أو ليهاجــروا خارجهــا‪.‬‬
‫بات السوريون تدريجياً عىل هذا األساس يندمجون أكرث فأكرث يف هذا املجتمع‬
‫االفرتايض الجديد ليبنوا صداقاتهم ويختاروا مصادر معلوماتهم وينجذبوا بحسب‬
‫أذواقهم إىل مبدعني سوريني باتوا ينرشون كتاباتهم عىل فيسبوك بدالً من نرشها‬
‫يف صفحات الثقافة يف الصحف واملجالت التي أصبح التابع منها للنظام السوري‬
‫منفــرا ً عنــد معظــم الســوريني بســبب انحيــازه للنظــام الســوري الــذي مــارس القمــع‬
‫والتدمــر وتســبب يف مأســاة غــر مســبوقة يف ســوريا‪ ،‬يف الوقــت الــذي بقيــت فيــه‬
‫املنابر الصحفية الجديدة التي ظهرت يف السنوات الثالث األخرية بعيدة عن نرش‬
‫الكتابــات اإلبداعيــة بحكــم اهتــام كــوادر التحريــر يف معظــم املطبوعــات الســورية‬
‫‪77‬‬ ‫يديلقتلا ئراقلاو بتاكلا ةطبار ىلع ةروث‬

‫البديلة التي طبعت ووزعت يف املناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري بقضايا األخبار امليدانية‬
‫ديوس يمار‬

‫والسياسة والقضايا االجتامعية‪.‬‬


‫دفع كل ذلك كثريا ً من املبدعني السوريني إىل اللجوء إىل صفحات «فيسبوك» لنرش كتاباتهم‪،‬‬
‫مــا جعــل هــذه الكتابــات أكــر لحظيــة ومواكبــة آلالم الســوريني وتطلعاتهــم‪ ،‬ذلــك أن القصــة القصــرة‬
‫أو القطعــة الفنيــة الســاخرة أو الشــعرية التــي تولــد نتيجــة انفعــال أو موقــف مــا يعيشــه الكاتــب باتــت‬
‫تصــل برسعــة وبشــكل شــبه فــوري إىل صفحتــه عــى «فيســبوك» مــا جعلهــا أكــر قربـاً مــن التطلعــات‬
‫اللحظيــة ملتابعــي الكاتــب‪ ،‬بحيــث باتــت هــذه الكتابــات متــس بشــكل مبــارش همــوم القــارئ اليوميــة‪.‬‬
‫لكن استسهال نرش النصوص اإلبداعية أث ّر بال شك عىل مستوى هذه النصوص األدبية وقيمتها‬
‫الفنية‪ ،‬فإمكانية النرش الفوري عىل «فيسبوك» وتوفر هذه اإلمكانية عىل مدار الساعة جعل املبدع‬
‫يســتعجل نــر قصصــه مــا يحرمــه مــن ميــزة التــأين يف كتابتهــا وبنــاء محاورهــا والعمــل عــى شــخوصها‬
‫وأحداثهــا‪ ،‬أدى ذلــك بالتــايل إىل اســتهالك عــدد مــن املبدعــن ألنفســهم مــن خــال نــر كتاباتهــم‬
‫عــى «فيســبوك» قبــل مراجعتهــا إلغنائهــا مبزيــد مــن املحــاور الفرعيــة واألفــكار وحتــى التصويــرات‬
‫الفنية‪ ،‬ما جعل كتابات هؤالء املبدعني فقرية يف بعض األحيان لذلك الغنى الذي يزيد من قيمة‬
‫النــص اإلبداعي‪.‬‬
‫مــن جانــب آخــر‪ ،‬ســمحت إمكانيــة نــر النصــوص اإلبداعيــة عــى «فيســبوك» لكتــاب شــبان غــر‬
‫معروفني بالظهور ومنافسة وحتى التفوق عىل كتاب تقليديني مل يتمكنوا من استخدام أدوات النرش‬
‫اإللكــروين ســواء عــى املدونــات أو عــى صفحــات مواقــع التواصــل االجتامعــي‪ ،‬فبــات نتــاج هــؤالء‬
‫األديب الفنــي منعــزالً بشــكل شــبه كامــل عــن املجتمــع االفــرايض الــذي أصبــح البديــل ملعظــم أفــراد‬
‫املجتمــع الســوري عــن مجتمعهــم التقليــدي الــذي تفــكك وتالشــت روابــط ومنابــره الثقافيــة‪.‬‬
‫ســاعد ذلــك يف إقصــاء رشيحــة ليســت بقليلــة مــن الكتــاب التقليديــن عــن األوســاط االجتامعيــة‬
‫الســورية‪ ،‬فقليــل جــدا ً مــن األســاء املعروفــة يف الصحافــة الثقافيــة الســورية قبــل الثــورة متكنــت مــن‬
‫الولــوج إىل مجتمــع النــر يف وســائل التواصــل االجتامعــي‪.‬‬
‫كام أن إمكانية النرش املتوفرة للجميع يف مجتمع «فيسبوك» نقلت الكتابة اإلبداعية من عاملها‬
‫النخبــوي إىل عــامل شــعبي تتالقــى فيــه مختلــف الطبقــات االجتامعيــة واملســتويات الثقافيــة بحيــث‬
‫يزيد التالقح والتعارف فيام بني هذه املجموعات وتزول الحواجز التقليدية التي فصلت لزمن طويل‬
‫بــن مجتمعــات املثقفــن والكتــاب والروائيــن والصحفيــن والفنانــن مــن جهــة وبــن مختلــف طبقات‬
‫ومجموعات املجتمع األخرى من جهة ثانية‪.‬‬
‫يف املحصلــة خلقــت إمكانيــة النــر عــى «فيســبوك» مــن قبــل أســاء غــر معروفة‪ ،‬كانت يف‬
‫معظمهــا لشــبان هــواة‪ ،‬مجتمعـاً جديــدا ً مــن املبدعــن تكــون برسعــة وحصــل بعــض أفــراده عــى شــهرة‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪78‬‬

‫ني طويلــة يف اإلنتــاج األديب‬


‫قصــة عملــوا ســن َ‬
‫واســعة تضاهــي شــهرة روائيــن وكتــاب ّ‬
‫دون أن يتمكنوا من الوصول والتفاعل مع القراء كام فعل املبدعون الشباب الذين‬
‫انطلقــوا يف نــر كتاباتهــم مــن «فيســبوك» بشــكل رئييس‪.‬‬
‫هذه الشهرة التي حصل عليها معظم املبدعني الشباب وقليل من املبدعني‬
‫التقليديــن الــذي متكنــوا مــن الولــوج إىل مجتمــع «فيســبوك» مكنتهــم مــن االتصــال‬
‫بالقــارئ وســاع وجهــات نظــره واالطــاع عــى تعليقاتــه والحصــول عــى ردات فعلــه‬
‫ومالمســة تأثــر القطعــة اإلبداعيــة عليــه ومعرفــة موقفــه منهــا‪ ،‬يف حالة تواصل مبارش‬
‫مل تكــن موجــودة ســابقاً بــن املبــدع الــذي ينــر كتاباتــه يف الصحــف واملجــات‬
‫التقليديــة وبــن قــراء هــذه الصحــف واملجــات‪.‬‬
‫من الزاوية نفسها أدت حالة التواصل املبارش بني الكاتب والقارئ التي وفرها‬
‫«فيسبوك» إىل إخراج املبدعني التقليديني‪ ،‬الذين ولجوا إىل مجتمع «فيسبوك»‪،‬‬
‫من أبراجهم العاجية التي بنوها ألنفسهم سابقاً والتي فصلتهم عن الشارع الذي كان‬
‫من املفرتض أن يتفاعل ويتأثر بكتاباتهم‪ ،‬ليصدموا مع دخولهم مجتمع فيسبوك بكم‬
‫كبــر مــن القــراء الــذي يتجــرؤون عــى انتقــاد النــص وانتقــاد كاتبــه ويف بعــض األحيــان‬
‫رمبــا شــتمه وازدرائــه‪ ،‬ليصبــح الكاتــب التقليــدي بــن نــار االنفصــال عــن منــر العــر‬
‫ونار تح ّمل آثار استخدامه غري املعهودة سابقا لديه‪.‬‬
‫نتجت عن ذلك حالة خوف لدى معظم الكتاب التقليديني والكتاب الشباب‬
‫يف مجتمــع «فيســبوك» مــن الجمهــور الــذي بــات ميــارس رقابــة لحظيــة عــى كتابــات‬
‫الجميــع وال يــردد أبــدا ً يف انتقــاد أصحــاب النصــوص التــي متــس التعاليــم الدينيــة أو‬
‫األعــراف والتقاليــد املســتقرة يف املجتمــع والتــي تحظــى بقدســية ال تقــل كثــرا ً عــن‬
‫قدسية التعاليم الدينية‪ ،‬ما منع كثريا ً من الكتّاب من نرش كتاباتهم التي رمبا متس‬
‫التعاليــم الدينيــة أو األعــراف والتقاليد املســتقرة‪.‬‬
‫يف كل األحوال مل يؤ ِّد نرش النصوص اإلبداعية السورية عىل فيسبوك إىل خلق‬
‫أســاليب كتابــة أدبيــة جديــدة ذات معــامل واضحــة مختلفــة عــن األســاليب التقليديــة‬
‫التــي تتمحــور حــوال القصــص القصــرة والقطــع الشــعرية‪ ،‬رمبــا يســتثنى مــن ذلــك‬
‫ظهــور املــواد الســاخرة التــي يقــدم غالبيتهــا شــبان جــدد ال يحملــون أســاء معروفــة‬
‫يف األوساط األدبية التقليدية‪ ،‬لكن نرش النصوص اإلبداعية عىل فيسبوك كان له‬
‫أثــر كبــر عــى طبيعــة العالقــة بــن الكاتــب والقــارئ مــا أدى إىل خلــق روابــط جديــدة‬
‫بينهام ستساعد بال شك مع الزمن يف تطوير النص اإلبداعي ليزداد قرباً من هموم‬
‫الشــارع وتطلعاته‪.‬‬
‫‪79‬‬ ‫يبدأ ىطعمك ةيرحلا‬
‫وشلا ربج‬

‫جرب الشويف‬

‫الحرية كمعطى أدبي‬

‫يجــدر بــدارس مســار اإلبــداع األديب‪ ،‬يف ســوريا بعــد الثــورة‪ ،‬أالّ يكتفــي بالنظــرة‬
‫العجــى عــى أدب مــا قبلهــا‪ ،‬بــل عليــه أن يتلمــس آثــار هــذا املنجــز الكمــي املتنــوع‬
‫ومنعكساته‪ ،‬ومدى مساهامته يف صياغة وبلورة الوجدان الجمعي العام‪ ،‬وصوالً‬
‫إىل مســاهمته يف بنــاء الهويــة الثقافيــة الســورية‪ ،‬بوصفهــا ثقافــة ألمــة أو لشــعب‬
‫تقاطعــت وتفاعلــت‪ ،‬بقــدر مــا متايــزت‪ ،‬عــن غريهــا مــن اآلداب العربيــة والعامليــة‪،‬‬
‫ـرت إىل هــذا الحــد أو ذاك‪ ،‬يف إنضــاج الوعــي االنفعــايل للفــرد‪،‬‬
‫وســاهمت أو قـ ّ‬
‫بوصفــه كيانـاً وهويــة‪ ،‬تتفاعــل لالنتقــال نحــو الحريــة‪.‬‬

‫وباعتبار أ ّن الحرية جوهر وغاية كل نشاط إنساين‪ ،‬بات من الرضوري أن يقف‬


‫الباحث‪ ،‬عند وسائل الثقافة ومؤسساتها الرسمية وشبه الرسمية التي يفرتض أنها‬
‫رعتهــا وأفســحت أمامهــا الســبل لالرتقــاء والنمــو والتبلــور‪ ،‬عــر توفــر منــاخ الحريــة‪،‬‬
‫وكل أنواع الدعم والرعاية الالزمني‪ ،‬ليساهم األدب بدوره يف‪ ،‬صياغة هذا الوجدان‬
‫الجمعــي‪ ،‬حيــث يتشــارك أو يتزاحــم وقــد يتنافــس أو يتصــارع بحريــة‪ ،‬مــع وجدانيــات‬
‫تقليديــة أخــرى‪ ،‬تتــأىت عــن طريــق الديــن واملعتقدات والعادات والتقاليد‪ ،‬املكونة‬
‫مبجموعها للهوية الثقافية لألمة‪.‬‬

‫ترتســخ‬
‫ولكــون اللغــة وســيلة األدب الوحيــدة‪ ،‬ووظيفتهــا تتعــدى ذلــك‪ ،‬لــي ّ‬
‫كبنيــة فكريــة‪ ،‬تعمــل بشــكل مبــارش أو غــر مبــارش عــى «إعــادة صياغتنــا» لــذا أزعــم‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪80‬‬

‫أ ّن مــا تتعــرض لــه الهويــة الثقافيــة الســورية‪ ،‬مــن عوامــل التهتــك والتمــزق يف ظــل الحــرب الدائرة عىل‬
‫أرضنا‪ ،‬يعود بأحد أهم أسبابه‪ ،‬إىل تغييب حرية الكلمة‪ ،‬وحرية التفكري والضمري وتقييد يد املبدع‬
‫وتعليبــه‪ ،‬ليذهــب إىل لغــة مواربــة يختفــي خلفهــا خوفـاً مــن العقــاب‪ ،‬املــادي أو املعنوي أو كليهام‬
‫معـاً‪ ،‬ويشــار هنــا إىل نظــام األســد الــذي ورث تقاليــد حــزب البعــث االســتبدادية‪ ،‬وأضــاف عليهــا كل‬
‫مــا ســاهم يف إحيــاء عالقــات مــا قبــل الدولــة‪ ،‬عــى حســاب املجتمــع املــدين ومؤسســاته‪ ،‬فتضافــر‬
‫ثــايث القمــع يف عهــده‪ ،‬الســلطة السياســية وأجهزتهــا األمنيــة‪ ،‬التــي تعتــر كل جــرأة سياســة خيانــة‬
‫وطنيــة‪ ،‬وكل مــا يخالــف يف قضايــا الديــن والــرع‪ ،‬واملؤسســة الدينيــة التابعــة كفــرا ً‪ ،‬وكل منــارصة‬
‫للمــرأة تحلـاً وتهتــكاً اجتامعيـاً‪.‬‬

‫وكان لهــذا التضافــر الثــايث دوره الكبــر‪ ،‬يف وأد الفكــر التحــرري أو حــره يف حيــز ضيــق ويف‬
‫نخبــة‪ ،‬دفعــت مثــن ذلــك إقصــاء ومنعـاً مــن الكتابــة‪ ،‬وبــرز عندنــا األديــب املنافــق املــوايل للســلطة‬
‫واملــر ّوج لهــا واألديــب العــادي‪ ،‬الــذي يتجنــب الخــوض يف موضوعــات إشــكالية‪ ،‬تغضبهــا أو تخــرج‬
‫عــن خطوطهــا الحمــر‪ ،‬بينــا يتعــرض الكاتــب الحـ ّر الضمــر والقلــم‪ ،‬ملالحقــة الســلطات‪ ،‬وعمليــات‬
‫التضييق والحرمان من الفرص‪ ،‬وقد يتعرض للسجن‪ ،‬واالضطهاد بأشكال عدة‪ ،‬ليبدو يف سكونية‬
‫الواقــع املحيــط دونكيشــوتياً مغــردا ً خــارج الــرب املدجــن‪ ،‬وحتــى تغــدو الحريــة الفرديــة والعامــة‪،‬‬
‫ســواء يف جانبهــا الســيايس أو االجتامعــي‪ ،‬بــا نصــر وال جبهــة ثقافيــة أدبيــة تصــد عنهــا عــدوان‬
‫التسلط السيايس والجهل وسطوة الثقافة التقليدية‪ ،‬وليقترص تبعاً لذلك وجود املثقف العضوي‬
‫باملفهــوم الغرامــي‪ ،‬عــى بعــض النخــب املنتميــة لتيــارات سياســية أيديولوجيــة‪ ،‬التــي تعرضــت‬
‫للســجن بســبب انتامءاتهــم الحزبيــة‪ ،‬وليــس عــى خلفيــة كتاباتهــم املناهضــة لالســتبداد واملنتميــة‬
‫إىل الحريــة‪.‬‬

‫لقد اتخذ نظام البعث‪ ،‬ووريثه نظام األسد‪ ،‬عدة إجراءات كانت كفيلة بالهيمنة‪ ،‬عىل الثقافة‬
‫وفعالياتهــا وامتداداتهــا يف الســاحة األدبيــة‪ ،‬كان أولهــا إلغــاء حريــة الصحافــة والهيمنــة عــى هيئــة‬
‫اإلذاعة والتلفزيون‪ ،‬وحرص إداراتها بالحزب الحاكم ومواليه‪ ،‬ومل يكتف بتسليم وزارة الثقافة ودوائرها‬
‫كهيئة ال ِكتاب واتحاد الكتاب العرب‪ ،‬والصحف واملجالت ألنصاره ومحازبيه‪ ،‬بل أخضعها جميعاً‬
‫إىل سيطرته األمنية واأليديولوجية‪ ،‬املخطوفة باتجاه الوقوف يف وجه املؤامرة الكونية وتخوين كل‬
‫مــن يخــرج عــن خــط النظــام واعتبــاره عميـاً‪ ،‬ومحاكمتــه بالقوانــن االســتثنائية املســتندة إىل الرشعية‬
‫الثورية‪ ،‬ومل يخرج كثري من األدباء التقليديني‪ ،‬عن هذا املنحى‪ ،‬فعىل حني عقب نزار قباين عمر‬
‫أبــا ريشــة وآخريــن‪ ،‬يف الهبــة العاصفــة عــى الحــكام العــرب والوضــع العــريب املــزري‪ ،‬فــراح يعــر عــن‬
‫أزمة الحرية بأشكال‪ ،‬تطول أنظمة الحكم االستبدادية العربية‪ ،‬املغيبة لدور املواطن‪ ،‬والضالعة يف‬
‫عوامــل الهزميــة واملك ّرســة لهــا‪ ،‬لكنــه مل يخــرج عــن املنحــى العــام ملســألة الحريــة‪ ،‬ومل يتنــاول ســوى‬
‫‪81‬‬ ‫يبدأ ىطعمك ةيرحلا‬

‫عموميــات الحالــة العربيــة‪ ،‬فنعوتــه للغــة التقليديــة والخطــاب الســيايس التقليــدي‪ ،‬يف قصيدتــه‬
‫وشلا ربج‬

‫بعــد هزميــة حزيــران املذلــة (هوامــش عــى دفــر النكســة) والتــي رددتهــا األلســنة‪ ،‬مبــرارة وتشــف زمنـاً‬
‫طوي ـاً‪ ،‬مل تح ّمــل الحاكــم البعثــي ســوى عموميــات أســباب الهزميــة‪ ،‬وبالتســاوي بينــه وبــن أنظمــة‬
‫عربيــة شــبيهة‪ ،‬بــل ح ّمــل الثقافــة واملثقفــن مســؤولية‪ ،‬أكــر مــا ح ّمــل الحــكام العــرب مــا جعلهــا‬
‫قصيــدة مازوشــية تتمتــع بجلــد الــذات العربيــة‪.‬‬

‫أنعي لكم‪ ،‬يا أصدقايئ‪ ،‬اللغ َة القدمية ‪ /‬والكتب القدمية‬

‫أنعي لكم ‪ /‬كالمنا املثقوب‪ ،‬كاألحذية القدمية‬

‫ومفردات العهر والهجاء والشتيمة‬

‫أنعي لكم‪ ...‬أنعي لكم‬

‫نهاية الفكر الذي قاد إىل الهزمية‪.‬‬

‫وحني دخل إىل الســاحة الشــعرية‪ ،‬مجدد ريادي نخبوي كبري كأدونيس‪ ،‬دخل وارثاً اســتعالئية‬
‫الغــرب‪ ،‬فاقتــر خطابــه وتأثــره الفكــري عــى النخبــة‪ ،‬وانطــوى تجديــده الشــعري‪ ،‬عــى نرجســية‬
‫متعالية تتلفع بلغة املتصوفة الثورية ومصطلحاتهم‪ ،‬بينام استنفد محمد املاغوط لغته وأسلوبه‬
‫الشــعبوي‪ ،‬وصعلكتــه أمــام قهــر املدينــة وشــهوة افرتاســها للضعفــاء والغربــاء‪ ،‬فظــل منكمشـاً عــى‬
‫هواجســه وكوابيســه ورعبــه الخــاص‪ ،‬حتــى خــرج مــن صــورة شــاعر متــوزي‪ ،‬إىل صــورة بــدوي يهجــو‬
‫مدينــة أنكرتــه‪ ،‬وينعتهــا بأخالقهــا وانعزالهــا وجشــعها‪ ،‬محيـاً مســألة الحريــة إىل مواجهــة بــن قطبــن‬
‫غــر متكافئــن‪.‬‬

‫كان يفــرض لقصيــدة (هوامــش عــى دفــر النكبــة) التــي أدركــت أهميــة تحديــث الخطــاب‬
‫السيايس والثقايف ورضورة التغيري يف اللغة بوصفها عامل صياغة وتغيري وكذلك (خبز وحشيش‬
‫وقمر) و(السرية الذاتية لسياف عريب) والشعر السيايس العريب والسوري بشكل عام‪ ،‬أن يؤسس‬
‫غنى يف تناول مسألة الحرية‪ ،‬لوال انخطاف أنظار األدباء – كام كان‬
‫يب أكرث عمقاً‪ ،‬وأكرث ً‬
‫ملنحى أد ّ‬
‫ً‬
‫دارجـاً حينــذاك – يف مقاربــة مســألة الحريــة‪ ،‬مــن خــال الــراع مــع العــدو الصهيــوين واإلمربياليــة‬
‫العامليــة والرجعيــة املحليــة‪ ،‬تلــك املقولــة التــي نجحــت يف تســويقها األنظمــة االســتبدادية‪ ،‬مبــا‬
‫يرشع لها استبدادها‪ ،‬وتعطيلها للدستور وإلغائها للحريات الفردية والعامة‪ ،‬وهيمنتها عىل وسائل‬
‫الثقافــة ودأبهــا يف مالحقــة الكتــاب واملفكريــن‪ ،‬ورشاء ذممهــم‪ ،‬حيــث عــرف عهــد البعــث تعطيــل‬
‫الصحافــة الحــرة‪ ،‬وكل أدوات التواصــل الســيايس واالجتامعــي‪ ،‬وتضييــق الخنــاق عــى املبدعــن‬
‫واألدبــاء‪ ،‬ليعقــدوا صفقــة مــع الحاكــم‪ ،‬معلنــة أو مبطنــة‪ ،‬تحــت عنــوان املوقــف الوطنــي‪ ،‬والرشعيــة‬
‫الثوريــة‪ ،‬حتــى باتــت الهويــة الوطنيــة تُع ـ ّرف بداللــة العــداء للخــارج‪ ،‬وبــات الداخــل مجــرد قاعــدة‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪82‬‬

‫الســتنفار مســتمر يقــوده قــادة األمــة العظــام‪ ،‬مبــا يخولهــم إدخــال كل مخالــف يف دائــرة العاملــة‪،‬‬
‫والخيانة الوطنية‪ ،‬وحيث أ ّن األدب ال يعدم وسيلة‪ ،‬بات الرتميز وعموميات الحديث عن االستبداد‪،‬‬
‫هــو املخلّــص ملــن تعاطــوا بــه‪ ،‬وبــات االنكفــاء واجــرار الــذات‪ ،‬هــو الصفــة األشــمل لقطــاع واســع مــن‬
‫األدبــاء‪.‬‬

‫تتميز يف هذه املراجعة الرسيعة والعامة‪ ،‬تجربة القاص زكريا تامر‪ ،‬يف تناوله للبعد االجتامعي‬
‫لالســتبداد الســيايس‪ ،‬كــا يف (النمــور يف اليــوم العــارش) و(يــا أيهــا الكــرز املنــي) ودخولــه إىل‬
‫االســتبداد االجتامعــي عــر العالقــة الذكوريــة باملــرأة‪ ،‬االبنــة واألخــت والزوجــة والكثــر مــن أعاملــه‪،‬‬
‫وتجربــة املرسحــي الســوري ســعد اللــه ونــوس الــذي ذهــب إىل كشــف القنــاع عــن مظاهــر االســتبداد‬
‫الســيايس‪ ،‬ســواء يف (حفلــة ســمر مــن أجــل ‪ 5‬حزيــران) أو (الفيــل يــا ملــك الزمــان) و (امللــك هــو‬
‫امللــك) (ورأس امللــوك جابــر) وغريهــا‪ ،‬مبــا تحملــه هــذه النــاذج مــن هجائيــة لواقــع االســتبداد‬
‫وســخرية مريــرة مــن مظاهــره وتجلياتــه‪ ،‬التــي تتطابــق مع أخالقيــات الدكتاتوريــة املتوارثــة‪ ،‬بحيــث ال‬
‫يبدو نظام األســد الصغري اســتثناء من القاعدة‪ ،‬ســواء بتثبته بالكريس أو بتدمري بنية البالد التحتية‬
‫والبرشيــة‪ ،‬أو باســتعانته بقــوى أجنبيــة يف ســبيل البقــاء‪.‬‬

‫ال شـ ّ‬
‫ـك أ ّن نخبويــة األدب والثقافــة‪ ،‬وغيــاب الحريــة السياســة كشــأن ثقــايف مــدين وكمســؤولية‪،‬‬
‫وأســاليب مامرســتها‪ ،‬وتوجهــات املؤسســات الرتبويــة والثقافيــة القامئــة عليهــا‪ ،‬قــادت إىل نخبويــة‬
‫موضوعاتــه واهتامماتــه‪ ،‬وجعلــت منــه هاجسـاً نخبويـاً‪ ،‬منقطعـاً عــا يعيــش ويتفاعــل يف املجتمــع‬
‫الواقعــي‪ ،‬ولكــن ليــس كافي ـاً‪ ،‬أن نلقــي باللــوم عــى االســتبداد الســيايس‪ ،‬الــذي وبــدءا ً مــن الثامــن‬
‫مــن آذار ‪ ،1963‬عمــل عــى تخريــب مســألة الحريــة‪ ،‬كجوهــر إنســاين فــردي واجتامعــي‪ ،‬بتوجيــه‬
‫األنظــار إىل الخــارج‪ ،‬ورصف النظــر عــن االســتبداد‪ ،‬الســالب الحقيقــي للحريــة الفرديــة واالجتامعيــة‪،‬‬
‫واملنقلــب عــى الدســتور بالرشعيــة االنقالبيــة الثوريــة‪ ،‬فانطلــت عــى الحركــة األدبيــة كــا عــى‬
‫املجتمــع الســيايس‪ ،‬لعبــة الداخــل املتحفــز ملواجهــة الخــارج‪ ،‬والفــرد القربــان يف ســبيل حاميــة‬
‫الوطن‪ ،‬ومل تنفع كل التوجهات االشــراكية اليرساوية البائســة‪ ،‬يف ما ســمي الواقعية االشــراكية أو‬
‫األدب امللتزم بالجمع بني النضال االشرتايك يف سبيل العدالة االجتامعية‪ ،‬والنضال التحرري يف‬
‫مناضلــة االســتعامر وأعوانــه‪ ،‬والرجعيــة املحليــة‪ ،‬بــل فاقمــت مســألة الحريــة‪ ،‬وجعلــت منهــا‪ ،‬جرحـاً‬
‫داخليـاً متعينـاً‪ ،‬بينــا أحيطــت مواجهــة الخــارج املفرتضــة بهالــة قدســية‪ ،‬انســحبت قدســيتها عــى‬
‫الحاكــم الفــرد‪ ،‬الــذي أحيطــت ســلطته بــكل مظاهــر األبهــة والعظمــة‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬إرهاصات وتوقعات ألدب ما بعد الثورة‪:‬‬

‫ال بـ ّد ألدب مــا بعــد الثــورة‪ ،‬الخــارج حديثـاً مــن أرضيــة الــراع‪ ،‬مــن أن يحمل معه جراحه النفســية‬
‫الضاغطــة‪ ،‬وأن يل ـ ّوث بآثــار عوامــل‪ ،‬ثقافيــة واجتامعيــة وسياســية جديــدة‪ ،‬اكتســبها خــال الحــرب‬
‫‪83‬‬ ‫يبدأ ىطعمك ةيرحلا‬

‫املدمــرة‪ ،‬لتــرك بصمتهــا ‪ -‬وإن بتفــاوت عــى األدبــاء ‪ -‬بحيــث ميكــن للباحــث أن يرصــد‪ ،‬مــدى‬
‫وشلا ربج‬

‫التنــاوب يف بــروز مظاهــر الشــكوى واملظلوميــة‪ ،‬وتأكيــد الحالــة القانونيــة الحقوقيــة‪ ،‬عند الجامعات‬
‫البرشية السورية‪ ،‬وال سيام السنية التي تعرضت لجرائم النظام مثالً‪ ،‬وكذلك مدى تعاظم العبث‬
‫والالمعقــول والســخرية‪ ،‬وكــم سيفســح األدب التمثيــي لــروز ظاهــرة الجرميــة‪ ،‬ولكــن رغــم كل هــذه‬
‫التوقعــات املرشوعــة‪ ،‬ال بـ ّد مــن االنتظــار‪ ،‬حتــى يبــدأ نضــج العوامــل املوضوعيــة والتاريخيــة ملســألة‬
‫الحريــة‪ ،‬بوصفهــا معطـ ًـى سياســياً وقانوني ـاً رسيع ـاً بالدرجــة األوىل‪ ،‬بينــا ال تتــأىت هــذه الحريــة إال‬
‫بعــد عوامــل النضــج األديب البطيئــة عــادة‪.‬‬

‫إذ مــن املؤكــد أن يســارع األدب‪ ،‬إىل إلقــاء عــبء أيديولوجيــا املقاومــة‪ ،‬التــي ربطــت مفهــوم‬
‫املقاومــة بالســاح وحــده مــن جهــة‪ ،‬وباملؤامــرة الخارجيــة مــن جهــة ثانيــة‪ ،‬ورهنــت الداخل ملتطلباته‬
‫القامعــة للحريــة‪ ،‬واملرشعــة ألنظمــة االســتبداد‪ ،‬الخارجــة عــى كل دســتور ورشعيــة مدنيــة قانونيــة‪،‬‬
‫حتــى متاهــى بعــض األدبــاء واملفكريــن معهــا‪ ،‬فأصابتــه بالعمــى‪ ،‬الــذي أوصلــه إىل معــاداة حريــة‬
‫شــعبه‪ ،‬عندمــا هــب مطالب ـاً بالحريــة والعدالــة والدميقراطيــة‪.‬‬

‫وإذا كنــا ال نســتطيع أن نشــطب ك ـاً هائ ـاً‪ ،‬مــن اإلنتــاج األديب‪ ،‬خــال أربــع ســنوات مــن عمــر‬
‫الثــورة إال أنّــه مــن الواضــح أيضـاً‪ ،‬أ ّن هــذا األدب ســيكون انعكاسـاً مبــارشا ً للحــدث الســوري الدامــي‪،‬‬
‫وستغيب عنه األعامل الرتكيبية الكبرية‪ ،‬وستبدو فيه االنفعالية بالحدث‪ ،‬ورسعة اإلنجاز وسيتسم‬
‫الكثــر منــه‪ ،‬بطابــع مــا ينــر عــى شــبكات التواصــل االجتامعــي‪ ،‬بينــا ســننتظر زمن ـاً‪ ،‬قبــل أن تبــدأ‬
‫أي توقّــع يتعلــق مبســتقبل‬
‫رحلــة األدب ‪ -‬غــر الحــريب – ببلــورة مرشوعهــا الفنــي‪ .‬ورغــم عــدم يقينيــة ّ‬
‫ظاهــرة إنســانية‪ ،‬مل تــزل تراكــم معطياتهــا‪ ،‬وفــق تقاطعــات للزمــكان البرشيــن‪ ،‬ويف أفــق مفتــوح عــى‬
‫احتــاالت‪ ،‬واقعيــة وغــر واقعيــة‪ ،‬منظــورة وغــر منظــورة‪ ،‬بعــد أن بــات املــكان متشــظياً‪ ،‬مهدم ـاً‬
‫موحشـاً خاليـاً مــن أهلــه‪ ،‬وصــار الالمعقــول والجنــون أكــر واقعيــة مــن الواقــع‪ ،‬وأبعــد معقوليــة حتــى‬
‫مــن األســاطري‪.‬‬

‫قــد يكــون الالمعقــول والعبــث والســخرية املريــرة‪ - ،‬وكلهــا وقائــع حياتنــا الســورية يف ســنوات‬
‫الحــرب املجنونــة – إحــدى وســائل األديــب للدفــاع عــن كيانــه وحريتــه‪ ،‬والنتصــاره عــى املــوت‪،‬‬
‫ولقيمــة الحيــاة البرشيــة نفســها‪ ،‬ويف مواجهــة متويتهــا جســدا ً وروح ـاً؟! وقــد يزحــف تبع ـاً لذلــك‪،‬‬
‫حضــور جســدي طــاغ‪ ،‬يؤكــد فنيـاً عــى قدســيته كجســد بــري‪ ،‬بكامــل تكوينــه وحاجاتــه اإلنســانية‪،‬‬
‫مقابــل التغــول عليــه وانتهــاك حرمتــه وتشــويهه وتشــظيه‪ ،‬ســواء يف أقبيــة التعذيــب‪ ،‬أو يف مجــازر‬
‫القتل الجامعي‪ ،‬أو عرب تقدميه قرباناً لحرية‪ ،‬ال تكتمل إال عرب انعتاقه‪ ،‬من صورة القربان املقدس‬
‫للجامعــة‪ ،‬وتحــرره مــن هــوس مخيلــة التصــور األســطوري الدينــي وجموحــه الجهــادي املريــض!‬

‫نعــم قــد تتشــظى الــذات الســورية‪ ،‬وقــد تعــر عــن تشــظيها وانكســارها وانغــاق أفقهــا‪ ،‬بارتفــاع‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪84‬‬

‫حــدة النزعــة العبثيــة‪ ،‬ممزوجــة بالســخرية املريــرة‪ ،‬وبتعميــق (واقعيــة الالمعقــول)‬


‫اعتــادا ً عــى املشــاهد الحيــة‪ ،‬املختزنــة يف الوعــي والالوعــي الجمعــي‪ ،‬وقد يتجه‬
‫نفــر مــن األدبــاء‪ ،‬إىل متجيــد الحيــاة البرشيــة‪ ،‬والدفــاع عــن حقــوق املواطنــة وحقــوق‬
‫اإلنســان‪ ،‬بوصفهــا‪ ،‬املعطــى األهــم لثــورة الحريــة‪ ،‬كــا قــد يغــدو الغــوص يف‬
‫الدقائــق والتفاصيــل وتحليلهــا وتركيبهــا دراميـاً وروائيـاً ظاهــرة الفتــة‪ ،‬بحيــث يرتافــق‬
‫ذلــك بارتفــاع وتب ـدّل بالقيــم األخالقيــة‪ ،‬بحيــث تتيــح للمــرأة أن تتقــدم إىل موقعهــا‬
‫الطبيعــي‪ ،‬يف صــدارة املشــهد األديب واالجتامعــي‪ ،‬يف ظــل اهتــزازات اجتامعيــة‬
‫وسياســية وقانونيــة كبــرة!‬

‫ومــع اســتمرار الضغــوط املاديــة واملعنويــة والنفســية‪ ،‬زمن ـاً طوي ـاً‪ ،‬ســنفرتض‬
‫أو نحــدس بــأن األدب الســوري‪ ،‬ســيأخذ منحـ ًـى متاميــزا ً عــن محيطــه العــريب‪ ،‬وتــرز‬
‫بصمتــه وخصوصيتــه املنفتحــة‪ ،‬عــى املغامــرة والالمعقــول والنزعــة العنفيــة‪ ،‬وقــد‬
‫ينمــو عنــد األدبــاء الســوريني‪ ،‬مزيــد مــن الرنجســية والعصبيــات الســورية املتباينــة‪،‬‬
‫لكن ويف كل األحوال‪ ،‬الب ّد من أن يلقي األديب السوري‪ ،‬عن منكبيه جبة املقاتل‬
‫وسالحه‪ ،‬ولغته وخطابه‪ ،‬ليتوجه إىل نفسه كإنسان وإىل مجتمعه كبنية حضارية‪،‬‬
‫ولينتقــل إىل مقاومــة اإلنســان‪ ،‬القانونيــة والسياســية والثقافيــة‪ ،‬وهنــا يكمــن جوهــر‬
‫الكفــاح الحــر بالقلــم‪ ،‬كفــاح الحريــة‪ ،‬بوصــف الكاتــب كائنـاً برشيـاً‪ ،‬ال آلــة حربيــة‪.‬‬
‫‪85‬‬ ‫يروسلا اماردلا يف بتاكلا لاح‬
‫لبارط نيرسن‬

‫نرسين طرابليس‬

‫حال الكاتب يف الدراما السورية‬

‫كلنــا نتذكــر هــذه العبــارة التــي كان يرددهــا الفنــان نهــاد قلعــي بــدور (حســني‬
‫البورظــان)‪ .‬شــخصية الكاتــب الصحفــي الســمينة الطيبــة النبيلــة الســاذجة التــي‬
‫تشــكل مــع غــوار النحيــف صاحــب املقالــب ثنائيــا كوميديـاً‪ .‬البورظــان طيلــة الوقت‬
‫يقــع يف الفــخ مــرة تلــو األخــرى‪ ،‬يصبــح مثــارا ً للضحــك والســخرية‪ ،‬وهــو يــردد العبــارة‬
‫ذاتهــا بنــرة كأنــه يكتشــفها للمــرة األوىل أو كأنهــا مفتتــح لــكل املواضيــع «إذا أردنــا‪،‬‬
‫أن نعــرف‪ ،‬مــاذا يف إيطاليــا‪ ...‬يجــب أن نعــرف مــاذا يف الربازيــل»‪.‬‬
‫وكل املشاهدين بال استثناء يف صف األزعر الطوشة الذي تربر دوما غايته وسيلته!‬
‫كان هذا أول ما تبادر لذهني وأنا أفكر بشخصية الكاتب يف الدراما السورية‪.‬‬
‫الذاكــرة تعتقــد ومــن ثــم تتذكــر‪ ،‬جملــة مثــل الحكمــة يعيدهــا صديقــي عــى‬
‫مســامعي مقتطفــا مــن روايــة «نــو ٌر يف آب» لوليــام فوكــر‪ .‬أتــراين أبنــي رأي ـاً ســلبيا‬
‫حــول صــورة الكاتــب الســوري كمنــارصة للثــورة الســورية‪ ،‬ككاتبــة عاشــت عــن كثــب‬
‫معاناة الكتاب السوريني وأمناطهم‪ ،‬رصاعهم من أجل كلمة الحرية‪ ،‬واجرتارهم لها‬
‫يف قصائدهــم كأنهــا «‪ »The master key‬أي املفتــاح الشــامل لــكل أحالمهــم‪،‬‬
‫ثــم انقســامهم عندمــا جــد الجــد وح ّقــت الحقيقــة! فتــأيت الصــور كلهــا عــى هــوى‬
‫رأيــي األســايس؟!‬
‫يف هذا املقال ســأختار مناذج مام أســعفتني به مشــاهدايت كمتابعة للدراما‬
‫الســورية‪ ،‬بــا قــرار مســبق باإلشــادة أو اإلدانــة‪ .‬ســأضع النــاذج املختلفــة ورأيــي‬
‫أمامكــم للنقــاش واألخــذ والعطــاء‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪86‬‬

‫الفصول األربعة‬
‫يف مسلســل اجتامعــي شــهري عنوانــه «الفصــول األربعــة»‪ ،‬الــذي كتبتــه ريــم حنــا ودلــع الرحبــي‬
‫وأخرجه حاتم عيل‪ .‬استعرضت الكاتبتان األرسة السورية بكافة أفرادها وتشابك عالقاتها وغاصت‬
‫يف النفســيات والدوافــع واألفعــال وردودهــا‪ .‬وأعجــب الجمهــور بالعمــل الــذي تابعــه كل الســوريني‬
‫عــى اختــاف مذاهبهــم ومســتوياتهم‪ .‬ليــس فقــط ألنــه ناقــش وإن بســطحية أوال بــأول مــا يعــرض‬
‫اللبنــة األساســية يف املجتمــع الســوري مــن مشــكالت ولكــن ألنــه أوىل الشــخصيات اهتاممـاً أكــر‪.‬‬

‫ومــن تلــك الشــخصيات أخــذ الشــاعر برهــوم حيــزا ً كبــرا ً كأحــد الشــخصيات الرئيســية قــام بــدوره‬
‫الفنــان أندريــه ســكاف‪.‬‬

‫بدا الشاعر يف هذا العمل مثل الصورة النمطية املتوقعة لكل الشعراء حسب نظرة املجتمع‬
‫العامــة‪ ،‬فقــرا ً ال ميلــك ســوى عاطفتــه والكلــات‪ .‬لكــن املــيء يف الصــورة أنــه بــدا رغــم طيبتــه‬
‫وصولي ـاً ومتملق ـاً دامئــا لعديلــه مالــك بيــك الجوربــار صاحــب معمــل الجــوارب‪ .‬فمــن أجــل تأليــف‬
‫دعايــة إعالنيــة للجــوارب نــزوالً عــن رغبــة الصناعــي الكبــر‪ ،‬يتقــاىض مبلغ ـاً كبــرا ً مــن املــال ويقبــل‬
‫النــزول يف فنــدق خمــس نجــوم ويكتــب كلــات غايــة يف الســخف‪.‬‬

‫بال مبادئ غري الحب لزوجته‪ ،‬ال تراه يكتب طيلة الحلقات شيئاً ذا قيمة‪ .‬حتى أنه يغدو مثارا ً‬
‫لســخرية أفــراد العائلــة حــن يقــرر أن يقــرأ لهــم شــيئاً مــن شــعره الــذي يبــدو دومــا مفتعــا وركيــكاً‪ .‬بــل‬
‫إنــه حتــى يف بدايــة حبــه لزوجتــه يقــدم لهــا قصيــدة عــى أنهــا مــن تأليفــه «إين خريتــك فاختــاري مــا‬
‫بــن املــوت عــى صــدري أو بــن دفاتــر أشــعاري» لتكتشــف وهــي ال تبــدو أكــر ذكاء باملناســبة‪ ،‬أنهــا‬
‫مرسوقــة مــن نــزار قبــاين‪ ،‬وعــى هــذا الســجال انقضــت حلقــة كاملــة حــول برهــوم‪.‬‬

‫عندمــا يكــون كتــاب املسلســل ومخرجــه عــى درجــة عاليــة مــن الثقافــة ويختــارون ويوافقــون عــى‬
‫بنيــة هــذه الشــخصية لتقدميهــا مــن ضمــن أمنــاط املجتمــع الســوري‪ ،‬ال أســتطيع كناقــدة أن أتجاهــل‬
‫هــذا األمــر‪ ،‬لقــد كانــت تحمــل فعــا شــيئاً مــن الحقيقــة‪ .‬فــا أحــد ينــى النكتــة التــي يتداولهــا الناس‬
‫حول الشاب لذي ذهب لخطبة واحدة من البنات‪ ،‬وقدم نفسه عىل أنه موظف ويف رواية أخرى‬
‫كاتــب فقــال لــه األب‪« :‬معلــش يــا ابنــي الشــغل مــو عيب»!‬

‫الفقــر ليــس صفــة ســيئة عمومــا لعــل مــن أجمــل الصفــات أن تكــون فقــرا ً وعزيــز النفــس‪ ،‬وغني ـاً‬
‫باملوهبــة‪ ،‬ملــاذا مل يخطــر هــذا يف بــال كاتبتــي املسلســل؟!‬

‫إنها رشوط الكوميديا يا أصدقاء‪.‬‬

‫طيب لنأخذ مسلسالً آخر غري كوميدي‪ ،‬لعل صورة الكاتب أتت أفضل وأكرث عمقاً‪.‬‬
‫‪87‬‬ ‫يروسلا اماردلا يف بتاكلا لاح‬

‫زهرة النرجس‬
‫لبارط نيرسن‬

‫يف مسلسل زهرة الرنجس من إخراج رامي حنا‪ ،‬يقدم الكاتب خلدون قتالن ثالث شخصيات‬
‫للكاتــب‪ .‬األوىل قــام بهــا الفنــان عبــد الهــادي الصبــاغ‪ .‬لنمــط مــن أمنــاط املجتمــع‪ ،‬أســتاذ املدرســة‬
‫الثانويــة الــذي يحلــم بــأن يصبــح كاتــب ســيناريو تلفزيــوين يجنــي مــن ورائه املال‪:‬‬

‫موفق‪ :‬مدرس ‪ 12‬ثانوية بالبلد وسنتني بليبيا‪.‬‬

‫هكــذا يتفاخــر موفــق‪ ،‬لكننــا ال نجــده يعمــل بجــد ليحقــق حلمــه! بــل نــراه طيلــة الوقــت مثــاالً‬
‫للوصوليــة واالنتهازيــة‪ ،‬وشــخصية مســتاءة ومدعيــة‪.‬‬

‫فلــم يعنــه مــن حالــة القلــق التــي تعيشــها زوجتــه بحث ـاً عــن أختهــا نرجــس املختفيــة مــن ســنوات‬
‫طويلــة ســوى أن بإمكانــه أن يكتــب الحكايــة الغريبــة لهــذه األخــت كمسلســل ليبيعــه ويقبــض مثنــه‪.‬‬
‫وبــدا منــذ املشــاهد األوىل أمــام آلتــه الكاتبــة يجعجــع بــا طحــن‪:‬‬

‫الزوجة‪ :‬شوبك موفق ليش عم تصعبها اليوم شكلو مو زابط معك اإللهام؟!‬

‫موفق‪ :‬القصة إنو كل ما بفكر أكتب شغلة بقول لحايل بكرة الرقابة بتشطبها!‬

‫الرقابــة إذا ً إمــا أن تكــون بعبعـاً حقيقيـاً‪ ،‬أو حجــة لكاتــب جبــان كســول‪ ،‬ال ميتلــك موضوعـاً أصيــا‬
‫للكتابــة وال حتــى ميتلــك أدواتــه ليمــرر أفكاره‪.‬‬

‫يحــاول موفــق االســتفادة مــن كل مــن حولــه حتــى أنــه عوض ـاً عــن نقــاش أســباب رفــض دخــول‬
‫ابنتــه إىل عــامل الفــن والغنــاء أو محاولــة رعايــة موهبتهــا واألخــذ بيدهــا للطريــق الصحيــح مــا الــذي‬
‫كان يريــده حق ـاً؟‬

‫موفق‪ :‬شــو بدك باملوســيقى شــو لح تفيدك؟ تعلمي طباعة بتصريي بتســاعديني بالتنضيد!‬
‫يف ختــام املسلســل وبعدمــا مل يــرك وســيلة لالحتيــال مــن أجــل املــال‪ ،‬وتفشــل كل محاوالتــه‬
‫للحصول عىل إرث نرجس أخت زوجته وترفع عليه الزوجة دعوى طالق؛ يصاب بالجنون‪ ،‬ومييش‬
‫بــن الســيارات يف الشــارع ينــر أوراق املسلســل وهــو يهــذي‪ :‬مــا يف نصيــب مــا يف نصيــب‪.‬‬

‫لعــل هنــاك مــن يقــول هــذه ال ميكــن اعتبارهــا شــخصية للكاتــب يف املجتمــع فهــي شــخصية‬
‫درامية ولها رشطها الخاص ودوافعها‪ .‬إذا ً لن نبتعد كثريا ً ولنعرث يف ذات املسلسل عىل شخصية‬
‫أخــرى علهــا تكــون أفــر حظـاً‪.‬‬

‫يف املسلســل ذاتــه تظهــر شــخصيتا شــاعرين‪ ،‬مظفــر وعمــر‪ .‬يتنافســان يف الشــعر وإدارة تحريــر‬
‫صحيفــة «نجمــة دمشــق» التــي متلكهــا نرجــس أو (نــدى) املطربــة التــي أصبحت رئيســة تحرير وكاتبة‬
‫مقــاالت افتتاحيــة أيضــا‪ ،‬ويقعــان كالهــا يف غرامهــا!‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪88‬‬

‫مظفــر‪ ،‬الــذي قــام بــدوره محمــد حداقــي‪ ،‬شــاعر يســاري‪ .‬يبــدو شــجاعاً ومغامــرا ً يف الحــب‬
‫والنشــاط الســيايس‪ ،‬مبســاحة صغــرة للــدور‪.‬‬

‫أمينة‪ :‬ليش كل اليل بتكتبوه أسود وبيقطع القلب؟‬

‫مظفر‪ :‬ألن يا أمينة الشغالت اليل بتفرح قليلة كتري‪ .‬وأحيانا مندور عليها وما منالقيها‪.‬‬

‫نرجس‪ :‬شو بتشتغل بالتحديد؟‬

‫مظفــر‪ :‬قــويل شــو مــا بشــتغل‪ ،‬أنــا يــا ســتي تنقلــت مــن أجــر حــداد لبــاط لباطنجــي لبيــاع فالفــل‬
‫ملدقــق لغــوي لصحفــي بعديــن عالسياســة بعديــن عالشــعر‪ ،‬وبأوقــات الفــراغ عنــدي محــاوالت‬
‫للصعــود إىل القمــر‪.‬‬

‫حمــل الكاتــب خلــدون قتــان أشــعار ريــاض الصالــح الحســن الشــاعر الســوري الراحــل‪ .‬مــا‬
‫أضــاف قيمــة التعريــف بأشــعار ريــاض لجيــل جديــد مل يســمع عنــه مــن قبــل‪ .‬ألن ريــاض تــويف صغــر‬
‫الســن يف عــام ‪ ،1982‬وأجــاد كل مــن محمــد حداقــي ورامــي حنــا إلقــاء القصائــد‪.‬‬

‫يلقــي مظفــر يف أمســية مشــركة مــع عمــر قصيــدة‪« :‬نبــي عــى نوافــذ تعاســتنا منتظريــن أن يأيت‬
‫نهــر الحريــة لنــرب منــه إىل األبد»‪.‬‬

‫لعب دور عمر مخرج العمل رامي حنا‪ ،‬بشخصية الشاعر العاطفية االنفعالية الصادقة‪ .‬وعىل‬
‫الرغــم مــن رومانســية هــذه الشــخصية لكنهــا بــدت ضعيفــة أمــام الحــب وتحديــات الحيــاة‪ ،‬حساســة‬
‫جــدا‪ ،‬ســوداوية وانهزاميــة‪ .‬فهــا هــو يتخــى عــن العمــل عندمــا تفضــل نرجــس مظفــر الجــريء الــذي‬
‫ميســك بزمــام املبــادرة الســتالم إدارة التحريــر‪ .‬بينــا يتعــذب عمــر بحبــه‪ ،‬فرنجــس فضلــت صداقتــه‬
‫ورفضــت حبــه‪ ،‬مــا دفعــه لالنتحــار يف يــوم حفــل توقيــع كتابــه األول «ســاء قريبــة»!‬

‫يلقي عمر يف األمسية املشرتكة مع مظفر من قصائد رياض‪:‬‬

‫«من سيفتح يل صنبور الحياة ألرشب‬

‫جف قلبي تحت هذه السامء الخائنة؟‬


‫إذا َّ‬

‫من سيغ ِّني يل أغنية يف املساء ألنام‬

‫إذا وضعوا بني جفني صخرة مدبَّبة؟»‬

‫عــدا عــن قصائــد ريــاض التــي أدرجــت مبــا يخــدم الحكايــة العاطفيــة‪ ،‬ووظفــت لدعــم شــخصيتي‬
‫الشــاعرين‪ ،‬فــا ميكــن أن نناقــش أبعــادا ً أخــرى متــس بشــكل عميــق واقــع الكاتــب الســوري اليــوم‪،‬‬
‫وال حتــى يف ذلــك الزمــان‪ ،‬عــدا عــن هــروب مظفــر بعــد انتحــار الشــاعر عمــر ليشــارك يف الحــرب‬
‫‪89‬‬ ‫يروسلا اماردلا يف بتاكلا لاح‬

‫الدائــرة يف لبنــان‪ ،‬ثــم عودتــه متخفيـاً‪ .‬الشــخصيات وردت يف ســياق زمنــي يف الســبعينيات وأوائــل‬
‫لبارط نيرسن‬

‫الثامنينيــات مــن القــرن املــايض‪ ،‬ومل تدخــل يف صلــب معانــاة الكتــاب آنــذاك الذيــن تعــرض كــر‬
‫منهــم للمالحقــة واالعتقــال يف ســوريا‪ ،‬وخاصــة اليســاريون منهــم‪ ،‬مثــل القــاص ابراهيــم صموئيــل‬
‫والكاتب املرسحي غسان جباعي والشاعر فرج بريقدار‪ .‬املسلسل قدم أقىص معاناة الشخصيتني‬
‫متجليــة يف انهزامهــم أمــام قصــة حــب فاشــلة‪ .‬ومــرت قصائــد ريــاض الصالــح الحســن مــرور الكــرام‬
‫مثــل موســيقى خلفيــة‪ .‬رمبــا كان هــذا أقــى تحركهــم يف املجتمــع‪ ،‬أو بتعبــر آخــر هــذا أقــى مــا‬
‫كان متاحـاً لكتــاب الدرامــا ومخرجيــه أن يتناولــوه بــا مســاءلة أو محاذيــر رقابيــة!‬

‫الوالدة من الخارصة‬
‫لنبحــث يف مسلســل درامــي آخــر‪ ،‬يكــون أكــر جــرأة‪ ،‬عــن ضالتنــا‪ .‬يتضمــن شــخصية كاتــب مــن‬
‫الواقع أو من أمناط الواقع التي توضح معاناة الكتاب يف مجتمع القمع‪ .‬ولعيل أجد يف مسلسل‬
‫«الــوالدة مــن الخــارصة» مــا أبحــث عنــه‪.‬‬

‫قــدم الكاتــب ســامر رضــوان يف مسلســله الــذي أنتــج يف فــرة مــا قبــل الثــورة الســورية منوذجــن‬
‫للكتاب‪.‬‬

‫األوىل هــي الشــاعرة ســاهر زوجــة ضابــط املخابــرات‪ ،‬التــي لعبــت دورهــا ســاف فواخرجــي‪.‬‬
‫يعتقــل ضابــط املخابــرات املجــرم املوتــور ســاهر ألنهــا أجهضــت طفلــه‪:‬‬

‫سامهر‪ :‬مستحيل جيب ولد بيشبهك عىل هالعامل‪.‬‬

‫ويعتقــل الطبيــب‪ ،‬أدى الــدور جهــاد عبــدو‪ ،‬الــذي قــام بعمليــة االجهــاض‪ .‬يف مســتودع بعيــد‬
‫عــن املدينــة‪ ،‬يســأل الطبيــب ســاهر وهــا مقيــدان‪:‬‬

‫الطبيــب‪ :‬شــو يف‪ ،‬شــو القصــة‪ ،‬شــو عــم يصــر هــون‪ ،‬شــو بــدو يســاوي فينــا ومــن هــاد؟‬
‫سامهر‪ :‬هادا الحاكم بأمر الله‪.‬‬

‫أجل ضابط املخابرات‪ ،‬الذي قام بدوره عابد فهد‪ ،‬ومنوذجه رؤوف يترصف يف سوريا القمع‬
‫عــى أنــه الحاكــم بأمــر اللــه‪ ،‬عبــارة جريئــة وصادقــة وتلخــص كل يشء لنتابــع إذا ً الشــخصية ومــا الــذي‬
‫يفعلــه ضابــط املخابــرات بأقــرب النــاس لــه يف هــذا املجتمــع بــا عقــاب أو محاســبة‪ .‬واألهــم مــا‬
‫يعنينــا يف هــذا العــرض كيــف يعامــل الكتّــاب‪.‬‬

‫يجلــب رؤوف والــد ووالــدة ســاهر العجوزيــن إىل املســتودع النــايئ ويقيدهــم ويطلــق عليهــم‬
‫األلعــاب الناريــة‪ ،‬بــل وأكــر‪ ،‬يحــر امــرأة تقــوم بوشــم كامــل وجــه ســاهر باإلبــرة والحــر‪.‬‬

‫يف هــذا املسلســل ال ميكــن املواربــة يف أن مــا كان يحــدث يف ســوريا قبــل الثــورة كان مــن‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪90‬‬

‫جســم النظــام الحاكــم‪ .‬فهــذه ليســت كوميديــا وليســت درامــا تتســر باملــايض والتاريــخ والفانتازيــا‬
‫أو الروايــة املتخيلــة‪ .‬فصــورة بشــار األســد يف كل املكاتــب وراء كــرايس املناصــب‪ .‬وكأنــه يــرف‬
‫بنفســه عــى مــا يــدور‪.‬‬

‫تظهــر شــخصية أخــرى هــي األســتاذ الجامعــي والكاتــب صــاح‪ ،‬قــام بــدوره رايف وهبــة‪ ،‬الــذي‬
‫ميكــن أن يــرك محارضتــه لــرد عــى هاتــف ضابــط املخابــرات رؤوف‪.‬‬

‫صالح‪ :‬أهلني سيدنا‪.‬‬

‫رؤوف‪ :‬دكتور اإلجهاض حىك لحدا مهم بالدولة وفهمك كفاية‪.‬‬

‫صــاح‪ :‬ال يكــن لــك فكــر‪ ،‬أنــا بخلــص محــارضة ومبــرق لعنــدك عاملكتــب ومنعمــل ســيناريو مهــم‬
‫ال تقلــق‪.‬‬

‫رؤوف‪ :‬بدي يش جديد ومقنع‪.‬‬

‫صالح‪ :‬ولو عم نعمل سيناريوهات ملؤسسات كبرية‪ ،‬شغلتنا صغرية‪.‬‬

‫فام هي طبيعة السيناريوهات التي يكتبها صالح؟‬

‫إن مهمــة صــاح هــي حبــك قصــص كاذبــة و ُمحكمــة لإليقــاع بأشــخاص يريــد رؤوف االنتقــام منهــم‬
‫شخصياً مثل طبيب اإلجهاض‪ .‬فيدعي أن معلومات واردة تفيد بأن هذا الطبيب متورط مع أكرث‬
‫مــن جهــة خارجيــة‪ ،‬يف كتابــة مقــاالت صحفيــة كاذبــة عــن البلــد‪ ،‬وأن هنــاك أمرا ً باعتقاله‪.‬‬

‫املسؤول الكبري‪ :‬بس الرجل عم يقول إنك اعتقلته منشان مرته؟!‬

‫رؤوف‪ :‬العمــى مــا أكذبــه‪ ،‬تعاملــت معــه مبنتهــى اإلنســانية‪ ،‬طلــع مثــل كل هاملعارضــة التافهــة‬
‫يــي مــا بتقــدر اإلحســان‪ .‬اطلــع عامللــف رفيــق وشــوف بعينــك‪.‬‬

‫من أبلغ املشاهد التي ميكن أن توضح الرصاع بني فكر الشاعرة سامهر وفكر ضابط املخابرات‬
‫املشهد التايل حني يقول لسامهر بأنها حرمته يف حقه من أن يكون له ولد‪:‬‬

‫سامهر‪ :‬حقك تهني الناس وتستعبد كراماتن؟ حقك تذلن؟ حقك تستمتع بتعذينب وتخوفن‬
‫من كالبك؟‬

‫رؤوف‪ :‬أنا عم بحمي البلد‪.‬‬

‫سامهر‪ :‬انت أكرب عدو لهالبلد‪.‬‬

‫تعود سامهر يف ختام املسلسل وقد كتبت سيناريو ملسلسل درامي عام حدث معها‪ ،‬لكن‬
‫املنتج يقول لها بأن الرقابة رفضته‪ .‬ويف هذا الحوار الذي يجري يف مبنى التلفزيون السوري كام‬
‫‪91‬‬ ‫يروسلا اماردلا يف بتاكلا لاح‬

‫يصور املشهد‪ ،‬يتضح أن أسباب الرفض تتلخص بأن الحكاية ليست واقعية وال عالقة لها باملنطق‪:‬‬
‫لبارط نيرسن‬

‫سامهر‪ :‬كيف طلع معكن إنها ماال واقعية؟!‬

‫مدير الرقابة‪ :‬مو معقولة ضابط يحبس مرة هيي وأهلها وما بعرف مني‪ ..‬ما بتصري‪.‬‬

‫سامهر‪ :‬يا أستاذ أنا عم قدم حكاية شو إلها عالقة إذا بتصري أو ما بتصري؟!‬

‫مديــر الرقابــة‪ :‬يــا مــدام اللــه يخليــي نحنــا بدنــا يش مــن الواقــع‪ ،‬مسلســلك كلــو محظــورات‬
‫فبــدك تســامحينا‪.‬‬

‫سامهر وإذا قلتلك إنو مسلسيل واقعي وكتري كامن‪.‬‬

‫مدير الرقابة‪ :‬ياستي قويل اليل بدك تقوليه‪ ،‬املهم نحنا شو نقول‪.‬‬

‫أســقط يف يــد ســاهر‪ .‬نظــام البلــد كلــه يســر عــى هــذا النهــج‪ .‬فهــي وإن أفلتــت مــن قبضــة‬
‫رؤوف فأذرعــه ممتــدة يف كل مــكان‪ ،‬أذرع النظــام األخطبوطــي الــذي يحــاوط كل يشء‪ .‬تستشــهد‬
‫مبرسحية ضيعة ترشين‪ ،‬حني كتبت املرأة من الخوف والرعب يف الهواء‪ ،‬عل نســمة تأيت وتأخذ‬
‫الكالم إىل أسامع الناس‪ .‬وسامهر تقرر أن تفعل ذات غاليش فرتمي من شباك إدارة الرقابة نصها‬
‫الــذي يحمــل عنــوان الــوالدة مــن الخــارصة مــن الشــباك ليأخــذه النســيم إىل النــاس‪.‬‬

‫«الــوالدة مــن الخــارصة» هــو العمــل الوحيــد الــذي قــارب الحقيقــة وصــور منوذجــن للكتــاب‪،‬‬
‫كالهام موجود يف ســوريا‪ .‬عىل الرغم من أن كاتب املسلســل ســامر رضوان مل يكذب لكنه جمل‬
‫الحقيقــة القبيحــة كثــرا ً‪ .‬حيــث اعتــذر ضبــاط آخــرون لســاهر عــا فعله بها رؤوف‪ ،‬وحاولوا معاقبته‬
‫وتربيــر فعلتــه عــى أنــه مريــض نفســياً؛ لكنهــم أبــدا ً لــن يســمحوا للحقيقــة الكاملــة أن تخــرج إىل العلــن‬
‫فأجهــض مسلســل ســاهر‪ .‬وهــا هــو الكاتــب الوصــويل األســتاذ الجامعــي صــاح يعــود مــرة أخــرى‬
‫ليقــوي صالتــه بضابــط آخــر‪ .‬فاالنتهازيــون يعــرون دومــا عــى حظــوة لــدى أصحــاب الســلطة الذيــن‬
‫يحتاجــون لســيناريوهات يف دولــة القمــع‪ .‬ينفعــون ويســتنفعون يف بلــد ال تصنــع فيهــا املبــادئ‬
‫واألخــاق ثــروات طائلــة‪.‬‬

‫يف مرحلــة املخــاض األويل للثــورة الســورية‪ ،‬عــرض الجــزء األول مــن مسلســل «الــوالدة مــن‬
‫الخارصة»‪ ،‬الذي وافقت عليه الرقابة‪ .‬لكن الكاتب يف األجزاء الالحقة واجه الكثري من الصعوبات‪،‬‬
‫خاصــة عندمــا حــاول الخــوض يف األحــداث التــي جــرت يف ســوريا بعــد الثــورة وأثنــاء الحــرب‪ ،‬عــى‬
‫الرغــم مــن أنــه حــاول بجهــد كبــر إمســاك العصــا مــن املنتصــف‪ .‬واملخرجــة رشــا رشبتجــي انســحبت‬
‫مــن الجــزء الثالــث‪ ،‬الــذي صــور بأكملــه يف لبنــان وحمــل توقيــع املخــرج ســيف الديــن ســبيعي‪.‬‬

‫ســيكون مفيدا ً بعد هذا املقال أن نســأل عن حال كاتب املسلســل ســامر رضوان اليوم‪ ،‬وعن‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪92‬‬

‫بعــض مــا عانــاه رمبــا نعــرف حق ـاً حــال الكاتــب الــذي يجــرؤ عــى مقاربــة الحقيقــة‬
‫يف ســوريا‪.‬‬

‫وال أجد خامتة أفضل ملقال عن الدراما السورية من أن أطلب الحرية الفورية‬
‫لــكل مــن السيناريســت عدنــان الزراعــي‪ ،‬واملمثلــة ســمر كوكــش‪ ،‬والفنان املرسحي‬
‫زيك كورديللو الذين ما زالوا يقبعون يف ســجون النظام الســوري حتى ســاعة كتابة‬
‫هــذا املقال‪.‬‬
‫‪93‬‬ ‫ةروثلاب بتاكلا ةمدص‬
‫للا دبع رداقلا دبع‬

‫عبد القادر عبد اليل‬

‫صدمة الكاتب بالثورة‬

‫أقانيم الجنس والدين والسياسة هي ثاليث القداسة الدكتاتورية‪.‬‬


‫هنــاك دائــرة يف وزارة اإلعــام لــدى النظــام الســوري تــؤدي عــى املدى الطويل‬
‫إىل ضمور األلســن والعقول‪ ،‬ألن من مهامها تعطيلها‪ ،‬وكل عضو ال يعمل يخمل‪،‬‬
‫وهذه الدائرة اســمها الرســمي‪« :‬دائرة املطبوعات»‪.‬‬
‫وكــا ينفـ ُذ البعــض مــن ضمــور اللســان والعقــل معتمديــن عــى الرمــز واإلشــارة‬
‫واإليحاء بالتعبري عام يريدون‪ ،‬فهذه الدائرة أيضاً اسمها رمزي يحمل إيحا ًء مختلفاً‪،‬‬
‫وتعنــي باللغــة الدالليــة الواضحــة‪« :‬دائرة الرقابة»‪.‬‬
‫هل ميكن لإلنسان أن يكتب خارج هذه األقانيم؟‬
‫نعــم‪ ،‬لقــد نجــح الكاتــب الســوري بالكتابــة خارجهــا‪ ،‬وأفــرز ثالثــة أنــواع رئيســة مــن‬
‫الكتّــاب‪ ،‬وميكــن إضافــة نــوع رابــع أُلصــق بالكتابــة عنــوة‪ ،‬وهــو نــوع عريــض جــدا ً‪.‬‬
‫النــوع األول‪ :‬مــا الــذي ميكــن أن يخــرج عــن تلــك األقانيــم؟ أليــس للجرميــة بُعــد‬
‫ســيايس ودينــي أحيانـاً؟‬
‫نعــم‪ ،‬مت ّكــن البعــض مــن إيجــاد مواضيــع «ال تهــش وال تكــش وال تنــش»‪ ،‬بعيــدة‬
‫كل البعــد عــن الواقــع املعــاش‪ ،‬وعــن كل يشء تقريب ـاً‪ .‬فهــذا النــوع مــن الكتــاب‬
‫يكتــب عــن الطيــور والحيوانــات الربيــة‪ ،‬ويطــرق بــاب التاريــخ أحيانـاً ويحــي كــم مــرة‬
‫مــرت كلمــة حــار أو حربــاء أو أي حيــوان آخــر ‪ -‬عــى أال يكــون األســد ‪ -‬يف ديــوان‬
‫شــاعر مــا‪ ،‬أو دواويــن حقبــة مــا‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪94‬‬

‫النــوع الثــاين‪ :‬كاتــب محظــي! تــدرك الجهــات املختصــة أنــه ال بــد مــن وجــود بعــض النقــد ومــن‬
‫ينتقد‪ ،‬فتضع مسؤولني كباش فداء‪ ،‬وتعطي توجيهات مبارشة أو غري مبارشة لبعض الكتاب ليك‬
‫ينتقــدوا هــؤالء الكبــاش‪ .‬ولهــذه الحالــة فوائــد كــرى‪ ،‬فهــي تقـدّم للخــارج الداعــم للدكتاتوريــة صــورة‬
‫ره‬
‫متكنــه مــن الدفــاع عنهــا‪ ،‬وتجعــل الكاتــب يتبخــر بــن زمالئــه بتميــزه‪ ،‬ألنــه يكتــب مــا ال يســتطيع غـ ُ‬
‫أن يكتبــه‪ .‬وبالطبــع يبقــى هــذا النــوع مطيعـاً يعــرف حــدوده‪ ،‬ويعــرف بــأن هــذا األذن محــدود بالزمــن‬
‫والشــخص‪ .‬لذلــك كان الكاتــب مــن هــذا النــوع يحــرص عــى الوقــوف خلــف الخــط الــذي ترســمه لــه‬
‫الجهــات املختصــة بكثــر لكيــا يطــأ عــى الخــط بالخطــأ‪.‬‬

‫النوع الثالث‪ :‬هو الكاتب الذي يضيق ذرعاً بالرقابة‪ ،‬وبالصمت عن الفساد ويرى كيف تش ّوه‬
‫الحقائــق‪ ،‬ويتــأمل للتخلــف الــذي ال بــد وأن يدمــر البلــد‪ ،‬ويريــد أن يعــر عــن هــذه األمــور‪ ،‬ولكنه يخاف‬
‫عــى نفســه وعــى أرستــه‪ ،‬ألنــه إذا أغضــب أحــدا ً مــن الســلطات ميكــن أن تذهــب تلــك األرسة كلهــا‬
‫يف غياهــب الظلــات‪ ،‬لذلــك يحــاول الســر يف حقــل ألغــام‪ ،‬وير ّمــز الرمــز‪ ،‬ويختــزل اإليحــاء‪ ،‬حتــى‬
‫يبــدو وكأنــه يكتــب بلغــة اإلشــارة‪ ،‬ويحتــاج إىل لبيــب مــن أجــل أن يفهــم مــا يكتبــه‪.‬‬

‫أما النوع الذي أضيف عنوة عىل هذه األنواع‪ ،‬فهو كاتب التقارير الغبي‪ ،‬وكثريا ً ما يكون عمله‬
‫الثانوي تدبيج املدائح الرخيصة للمسؤولني‪.‬‬

‫ها كم قصة تلخص هذا النوع من الكتاب‪:‬‬

‫ـت بــه‪ ،‬وبعــد الســام ومقدمــة الــكالم‪ ،‬ســألني عــن نشــاطي‪ ،‬فقلــت لــه إننــي أكتــب يف‬
‫التقيـ ُ‬
‫جريدة «البينة» التي تصدر يف أبو ظبي‪ ،‬وأتقاىض منها اســتكتاباً جيدا ً‪ .‬بعد فرتة ليســت بعيدة‪،‬‬
‫«دعيــت» إىل فنجــان قهــوة لــدى ضابــط يبــدو أنــه مكلــف بإظهــار حــب الثقافــة واحرتامــه للمثقفــن‪.‬‬
‫بعــد املجامــات ســألني عــن طبيعــة مقــااليت التــي أكتبهــا يف جريــدة «البينــة»‪ ...‬ضحكــت مــن كل‬
‫قلبــي‪ ،‬وقلــت لــه‪« :‬أمــا زلتــم تعتمــدون عــى فــان بتقاريركــم؟ أال يــيء إليكــم التعامــل مــع أشــخاص‬
‫مــن هــذا النــوع؟» حــاول أن يُنكــر‪ ،‬ولكننــي رسعــان مــا قلــت لــه بأنــه ال يوجــد جريــدة كهــذه‪ ،‬وأننــي‬
‫اخرتعــت هــذا االســم لإليقــاع بــه‪ ...‬حينئــذ اعتــذر بلباقــة‪ ،‬وقــال‪« :‬واللــه إنــه هــو الــذي يبــادر‪ ،‬ونحــن‬
‫ال نكلفــه‪ ،‬وإذا طردنــاه مــن البــاب يدخــل مــن الشــباك!» مل أصــدق مــا قالــه‪ ،‬ولكــن نعــم‪ ،‬هنــاك هــذا‬
‫النــوع مــن األشــخاص وهــم أيضـاً مصنفــون مــن الناحيــة القانونيــة يف ســورية قبــل الثــورة كتابـاً‪.‬‬

‫ُ‬
‫الحال بعد الثورة؟ لنتناول هذه الرشائح‪...‬‬ ‫هل تغري‬

‫النــوع األول مــن الكتــاب مل يكــن يســمع بــه أحــد‪ ،‬وبقــي كــا هــو‪ .‬يعيــش يف كوكــب آخــر‪ ،‬ومــا زال‬
‫اليوم يكتب عن البيئة‪ ،‬واملستحاثات وأنواع الطيور املنقرضة والتي عىل وشك االنقراض والطقس‬
‫وتحوالتــه‪ ،‬وإذا كان ينتبــه ســابقاً إىل عــدم تنــاول األســد عندمــا يكتــب عــن الحيوانــات‪ ،‬فأضيــف إىل‬
‫‪95‬‬ ‫ةروثلاب بتاكلا ةمدص‬

‫محظوراتــه الذاتيــة عــدم الكتابــة عــن البطــة بعــد الثــورة ألنهــا تدخــل يف بــاب السياســة والديــن معـاً‪،‬‬
‫للا دبع رداقلا دبع‬

‫وميكــن أن تكــون عقوبتهــا أضعافـاً مضاعفة‪.‬‬

‫حدثت طفرة للكتاب املحظيني الذين صنفوا يف النوع الثاين‪ ،‬وصدموا بالثورة عىل أربابهم‪،‬‬
‫ومصــدر رزقهــم‪ ،‬فانتقلــوا إىل النــوع الرابــع املضــاف عــى التصنيــف‪ ،‬وهــو نــوع كتــاب التقاريــر‪،‬‬
‫واســتبدلوا القلــم بالســوط واملســدس أحيانـاً‪ ،‬ونزلــوا إىل الســاحة مســفرين عــن كل مــا كان يختلــج‬
‫يف نفوســهم مــن مشــاعر ال متــت إىل اإلنســانية بصلــة‪.‬‬

‫النوع الثالث وهو الكاتب الذي يلف ويدور ويرم ّز‪ ،‬فقد اجتاحته الصدمة‪ .‬كانت كتابته تحوي‬
‫مــن التصويــر واأللغــاز والتلميحــات والرمــوز مــا يجعلهــا كتابــة فنيــة بــكل معنــى الكلمــة‪ .‬فــإذا أراد أن‬
‫يكتب قصة يف موضوع ما نجده كتب شعرا ً ينتمي إىل ما بعد بعد الحداثة‪ ،‬ويُدخل القارئ يف‬
‫متاهــة ال يســتطيع الخــروج منهــا عــى األغلــب‪ .‬ولكــن هــذا النــوع مــن الكتابــة ال يصــل إال إىل النخبــة‪،‬‬
‫واألمر الطريف أن تلك النخبة تدرك ما يقوله دون عناء ألنها تفعل األمر نفسه‪ .‬والجهات املختصة‬
‫تعــرف أن الكاتــب مــن هــذا النــوع ال يقــرأه أكــر مــن خمســائة قــارئ يف أفضــل األحــوال‪ ،‬وتــدرك مــا‬
‫يرمــي إليــه‪ ،‬ومــا يلغــز بــه‪ ،‬ولكنهــا تتغــاىض عنــه ألنــه محكــوم بعــدم الوصــول إىل النــاس‪.‬‬

‫حدثــت هـ ّوة كــرى بــن هــذا الكاتــب واإلنســان العــادي‪ ،‬وأساسـاً مل يكــن اإلنســان العــادي يقــرأ‪،‬‬
‫فهو مدرك أنه ال ميكن أن يُكتب يشء دون إذن‪ .‬ماذا سيفعل الكاتب؟ لقد وقع يف مأزق صعب‪،‬‬
‫فهو معتاد عىل التصوير الفني والرمز‪ ،‬والتلميح‪ ،‬وهذا النوع من الكتابة يحمل جامليات ليس من‬
‫الســهولة التخــي عنهــا‪ ،‬ولكنــه يف الوقــت نفســه يريــد أن يصــل إىل القــارئ‪ ،‬وأن يقــول مــا يختلــج يف‬
‫نفسه بصوت مرتفع‪ .‬ولكن الكبت يف األقانيم الرقابية الثالثة دفعه إىل الطرف اآلخر املعاكس‪.‬‬

‫تشــتت كثــر مــن الكتــاب‪ ،‬وتشــتت معهــم مــن ميكــن تســميتهم الكتــاب الجــدد بصدمــة الثــورة‪.‬‬
‫فألنــه كان ممنوعـاً مــن الكتابــة يف الديــن بــدأ يدافــع عــن التطــرف الدينــي حينـاً‪ ،‬والتطــرف اإللحــادي‬
‫أحيان ـاً‪ .‬الحظــر الجنــي‪ ،‬جعــل بعــض الكتّــاب يســتخدمون أقــذع الشــتائم‪ ،‬وخاصــة بعــد أن فتــح‬
‫بــاب التعليــق واإلتاحــة للجميــع بالتعبــر عــن آرائهــم وبأســاء مســتعارة مــن دول أخــرى يف املواقــع‬
‫اإللكرتونيــة‪ .‬فبــات الــرأي ال يقــل عــن شــتيمة تجعــل مــن األم واألخــت عاهــرات عــى قارعــات الطــرق‪.‬‬
‫أمــا السياســة‪ ،‬فحـدّث وال حــرج‪ ،‬أصبــح الجميــع فقهــاء سياســيني‪ ،‬يفهمــون بقوانــن الــدول والقانــون‬
‫الدويل‪ ،‬ويعرفون البيضة من باضها‪ ،‬والدجاجة من جابها إىل درجة أن كثريا ً من الكتابات أصبحت‬
‫تصلــح كنـ ٍ‬
‫ـكات يف بعــض أوســاط املثقفــن الحقيقيــن ملــا تحويــه مــن جهــل‪.‬‬

‫مبناســبة الجهــل‪ ،‬فقــد كان هــذا ســاح النظــام األمــى‪ ،‬وتواطــأ النظــام والكاتــب يف الجهــل‪،‬‬
‫فالنظام يريد جهالء يبقون يف حياتهم مرتبطني به‪ ،‬وليس لهم أي خيار للخروج‪ ،‬وكثريون من الكتاب‬
‫اختــاروا الجهــل طواعيــة مــن مبــدأ «إذا جلســت بــن العــوران أعــور عينــك»‪ ،‬فــاذا ســيفعلون بثقافــة‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪96‬‬

‫ال تفيدهــم يف يشء‪ ،‬بــل ســتكون وبــاالً عليهــم؟ بعــد الثــورة أصبــح مــن الصعــب‬
‫عــى كثرييــن تــدا ُرك مــا فاتهــم‪ ،‬وهــل ميكــن أن تُســتدرك الثقافــة يف غضون أســابيع‬
‫أو أشــهر؟‬

‫إذا كان الكاتــب قبــل الثــورة محكومـاً بأقانيــم ثالثــة تكبّــل حياتــه كلهــا‪ ،‬فهــو بعــد‬
‫الثــورة ملقــي يف ســهل مــرامِ األطــراف ميكنــه أن يــرخ فيــه كــا يشــاء‪ ،‬وال يســتطيع‬
‫أن يفعل شيئاً يف الوقت نفسه‪ .‬صحيح أنه تح ّرر عىل األغلب من سلطة الجهات‬
‫املختصة‪ ،‬ولكنه ُوضع يف فراغ ال يعرف كيف يتحرك فيه‪ ...‬فليس له بلد‪ ،‬وليس‬
‫لديــه ســلطة يوجــه لهــا االنتقــاد‪ ،‬وليــس هنــاك قوانــن تنظّــم عملــه‪ ...‬هــل هنــاك مــن‬
‫خــرج مــن الصدمة؟‬

‫نعــم‪ ،‬مثــة مــن خــرج مــن الصدمــة‪ ،‬ولكــن ال ميكــن التوقــع أن الخــروج من الصدمة‬
‫ميكــن أن يشــكل ظاهــرة‪ ،‬فهــؤالء ميكــن أن يبقــوا حــاالت متناثــرة‪ ،‬وأن يكونــوا واعــن‬
‫لصدمتهــم‪ ،‬ويعملــوا عــى الخــروج منهــا‪.‬‬
‫‪97‬‬ ‫‪:‬تمصتس وأ ًايروس نوكتس‬
‫دمصلا دبع ةاجن‬

‫نجاة عبد الصمد‬

‫ستكون سوريا ً أو ستصمت‪:‬‬


‫هذا هو الكتاب الذي ستكتبه‬

‫‪1‬ـ عن إيران‬
‫ال تعرفني د‪ .‬آذر نفييس‪( ،‬أستاذة األدب اإلنكليزي يف جامعات طهران والحقاً‬
‫ٍ‬
‫عبارات طيبة‪:‬‬ ‫كل يومٍ‬
‫يف جامعات أمريكا)‪ .‬وأنا؛ منذ عرفتها‪ ،‬أخط لها يف رأيس ّ‬
‫ـيفرحك أ ّن كتبـ ِ‬
‫ـك حطّـ ْ‬
‫ـت يف أرضنــا‪ ،‬وغـ ّـرتْ حــايل‬ ‫ِ‬ ‫ـب‪ .‬سـ‬ ‫(د‪ .‬آذر‪ :‬قرأتـ ِ‬
‫ـك بحـ ّ‬
‫ـك‪ .‬كتبـ ِ‬
‫ـك قافلــة مح ّب ـ ٍة وصــدق وجــال‪ .‬فيهــا واملعلومــة‪ ،‬وكشــف‬ ‫ـال ق ّرائـ ِ‬
‫وحـ َ‬
‫املســتور‪ ،‬والقــدرة عــى اإلقنــاع وعــى زعزعــة بعــض اليقينيّــات القدميــة‪)...‬‬
‫ِ‬
‫ـأخربك د‪ .‬آذر‪ :‬تعلّمنــا يف املدرســة أن نكــره االمرباطوريــة‬
‫ســيطول حديثنــا‪( :‬سـ‬
‫الفارســية‪ .‬واليــوم‪ ،‬ولــو التقينــا؛ ســأعتذر عــن إســاءة أجــدادي العــرب لحضارتــك‬
‫ـت ســاكت ًة عنهــا»‪ ،‬و‪« :‬أن تقــرأ لوليتــا‬ ‫الزردشــتية‪ .‬فبعــد قــراءيت كتابيـ ِ‬
‫ـك‪« :‬أشــياء كنـ ُ‬
‫يف طهران»؛ وجدتُني أقرأ املايض‪( ،‬املايض الذي ال ميوت)‪ ،‬أقرأ تاريخي بعيون‬
‫(أعدايئ)‪ ،‬وأستوعب كم العرب يف نظر الفرس برابرة‪ ،‬وأن عدل الخليفة عمر لن‬
‫يشــفع لــه عندهــم‪ ،‬ولــن يعنيهــم أصـاً‪ ،‬مــا دام أمــر بنفســه بإتــاف تراثهــم املكتــوب‬
‫ـاب ســوى القــرآن‪.‬‬
‫أي كتـ ٍ‬
‫ألنهــم لــن يحتاجــوا‪ ،‬بعــد إســامهم‪ّ ،‬‬
‫ـردويس‬
‫ّ‬ ‫يحــق لـ ِ‬
‫ـك الفخــر برســتم وســوهراب وأفريــدون الذيــن أنقــذ شــاع ُرك الفـ‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪98‬‬

‫ـاب‬
‫ـض مالمحهــم مــن حرائــق العــرب‪ ،‬مثلــا يحـ ّـق يل الحنــن إىل كل كتـ ٍ‬
‫صاحــب (الشــاهنامه) بعـ َ‬
‫مل يصــل إىل أبنــاء جيــي ألن هوالكــو رمــاه يف نهــر دجلــة‪.‬‬

‫وأيضـاً‪ :‬تعلّمنــا يف املدرســة أن نص ّفــق للثــورة اإلســامية اإليرانيــة ألنهــا هتفــت‪ :‬املــوتُ ألمريــكا!‬
‫ـك يف التاريــخ املعــارص لبــاد الفــرس التــي صــار اســمها إيــران يف أواســط القــرن‬ ‫ـت معـ ِ‬ ‫وأنــا تد ّرجـ ُ‬
‫العرشيــن‪ ،‬إيــران الحريّــات والربملــان واالنفتــاح واالنطــاق واســتقاللية املــرأة والصالونــات الثقافيــة‬
‫وتعدديــة الــرأي‪ ،‬إىل تنامــي دكتاتوريــة الشــاه‪ ،‬والثــورة ضــده‪ ،‬ورسقــة الثــورة‪ ،‬والجحيــم الــذي آلــت‬
‫إليــه بعــد اســتتباب حكــم الجمهوريــة اإلســامية اإليرانيــة‪ .‬حكومـ ٌة تهتــف املــوت ألمريــكا‪ ،‬وال تُ يـ ُ‬
‫ـت‬
‫ســوى شــعبها‪ :‬تك ّمــم األفــواه‪ ،‬وتغلّــف املــرأة بالجلبــاب‪ ،‬ويتع ّفــن األحــرار يف الســجون‪ ،‬ويُجـ َـر التاجــر‬
‫ـوي أن يكتــب عــى واجهــة متجــره‪ :‬أقليــة دينيــة‪ ،‬ويُغتــال أصحــاب الفكــر مــن عــى منابرهــم أو يف‬
‫األقلـ ّ‬
‫بيوتهــم أو وهــم عائــدون إىل أطفالهــم‪ ،‬ويفـ ّر الناجــون مــن االغتيــال إىل املنــايف‪.‬‬
‫ـك أن تعتــذري عــن حكومتــك التــي تُنـكّل اآلن بشــعبي‪ ،‬فقــد آذتـ ِ‬
‫ـك من‬ ‫عزيــزيت د‪ .‬آذر‪ :‬ليــس عليـ ِ‬
‫قبــل‪ ،‬والطغــاة طغــا ٌة عــى شــعبهم كــا عىل باقي الشــعوب‪.‬‬

‫‪2‬ـ عن أفغانستان‬
‫صــورة أفغانســتان يف ذاكــريت املدرســية‪ :‬بــاد قصيــة يف رشق آســيا فيهــا خــر ٌة وجبــال ومغــاور‬
‫كثرية‪ ،‬بل ٌد مسلم يحفظ أبناؤه القرآن غيباً ويلثغون بحروفه املنقوشة كرسومٍ أجنبي ٍة بهيّ ٍة ومقدّسة‪.‬‬
‫والشــعب األفغــاين قبائـ ُـل بدائيــة‪ ،‬رجالهــا أميــون‪ ،‬حفــاةٌ‪ ،‬أجــاف‪ ،‬قســاة‪ ،‬ذكوريــون‪ ،‬يرتــدون جميعـاً‬
‫العاممة والدشداشة القصرية‪ ،‬ويطلقون لحاهم‪ ،‬وال يغتسلون‪ .‬ونساؤهم أدىن من مرتبة اآلدميني‪.‬‬

‫يف أيلول‪ /‬سبتمرب ‪ ،2001‬ويف خطابه املن ّمق يعد الرئيس األمرييك بوش االبن برضب معاقل‬
‫اإلرهاب يف أفغانستان‪ ،‬يف البلد الخايل من العقول‪ ،‬والذي ال يعرف أهله ما هو التلفزيون‪ ،‬وال‬
‫ـخيص‬
‫ّ‬ ‫تعــرف نســاؤه املــدارس‪ ،‬وت ُجلــد املــرأة إذا ظهــر كاحلهــا‪ ...‬ولهــذا الرئيــس‪ ،‬بالطبــع‪ ،‬رأيــه الشـ‬
‫فيــا هبــط بأفغانســتان إىل هــذا الحال‪.‬‬

‫لكنــك حــن تقــرأ كتــب خالــد حســيني وعتيــق رحيمــي وحنيــف قريــي وســواهم مــن أدبــاء‬
‫أفغانســتان‪ ،‬تتفتــح براعــم مل ّون ـ ٌة يف رأســك‪ :‬يق ّدمــون إليــك أفغانســتان أخــرى فيهــا حضــار ٌة وعل ـ ُم‬
‫وأدب‪ ،‬وبــر راقــون وطموحــون ومحبــون لبالدهــم‪ .‬وال يســعك إال أن تراهــم عشــباً عنيــدا ً ينمــو بــن‬
‫ـري‪.‬‬
‫شــقوق هــذا العــامل الصخـ ّ‬
‫ذلــك املشــهد يف روايــة «عــداء الطائــرة الورقيــة» للكاتــب األفغــاين خالــد حســيني‪ :‬ميــرض بابــا‬
‫جــان‪ ،‬األفغــاين املهاجــر إىل أمريــكا بعــد الغــزو الســوفييتي‪ ،‬والحق ـاً الطالبــاين‪ ،‬لبــاده‪ ،‬يــروح إىل‬
‫رويس حتى يدفع‬
‫ّ‬ ‫املشفى بحا ٍل شديدة السوء‪ .‬وما إن يعرف أن الطبيب الذي يفحصه من أصلٍ‬
‫‪99‬‬ ‫هبتكتس يذلا باتكلا وه اذه‬

‫ـب بعنــف‪ ،‬ويغــادر املشــفى‪ .‬يحتـ ّـج ابنــه أمــر‪ :‬يــا بابــا‪ :‬لقــد ولــد هــذا الطبيــب يف‬
‫بيديــه هــذا الطبيـ َ‬
‫دمصلا دبع ةاجن‬

‫رويس‪ ،‬يلفــظ‬
‫ّ‬ ‫ي أكــر مــا ســنصبح عليــه أنــا وأنــت يومـاً! ويجيــب األب‪« :‬إنــه‬
‫ميتشــيغان‪ ،‬إنــه أمريـ ّ‬
‫ـرا ً كأنهــا كلمـ ٌة بذيئــة‪ ،‬أهلــه روس‪ ،‬أجــداده روس‪ ،‬أقســم بــرأس أمــك أننــي ســأكرس ذراعــه‬
‫الكلمــة مكـ ّ‬
‫إن حــاول ملــي‪.»...‬‬

‫ح لــن يندمــل‪ ،‬ذاكرتــه مل تلحــق أن تنــى وقاحــة الجنود الســوفييت‬


‫ـكت عــى جــر ٍ‬
‫بابــا جــان ال يسـ ُ‬
‫بطبيب تعود أصوله إىل ٍ‬
‫بلد عد ّو‪ ،‬رغم أ ّن هذا الطبيب‬ ‫ٍ‬ ‫وتنكيلهم ببلده‪ .‬وقناعاته متنعه من الثقة‬
‫قد يكون ماهرا ً ومساملاً ورافضاً أصال لسياسة حكومته أو حكومة أسالفه‪.‬‬

‫‪ -3‬عنّا هنا‪...‬‬
‫والواقــع أن السياســة مجرمــة صعــودا ً وامتــدادا ً وعمقـاً؛ صعــودا حــن تســتعبد الحكومــات القوية‬
‫شــعوباً ضعيفــة‪ .‬وامتــدادا ً حــن يُجـ َـر هــذا الشــعب املُهــان عــى كُــره شــعوب الحكومــات القويــة‪،‬‬
‫وعمقـاً حــن تتــوارث الشــعوب الكراهيــة مــن جيــلٍ إىل جيــل‪.‬‬

‫والواقــع أ ّن الشــعوب دومــا أجمــل مــن حكامهــا‪ ،‬وحــن يخ ـ ّرب الطغــاة العالقــة بــن الشــعوب‪،‬‬
‫فعىل األدب أن يعيد لإلنسان اعتباره‪ ،‬وأن يستثمر خطر الثقافة الذي ال يخشاه أح ٌد كام الطغاة‪،‬‬
‫وأن تك ّفــر الكتابــة عــن ضــال السياســات‪.‬‬

‫ـاب جيّ ـ ٌد نقــرأه أو نكتبــه يُكســبنا شــعباً نالقيــه أو يالقينــا‪ ،‬يفتــح مغاليــق القلــب‪ ،‬ويق ـ ّرب‬
‫كتـ ٌ‬
‫ـاب شــعباً‬
‫الثقافــات‪ ،‬ويفتــح بينهــا باب ـاً للفهــم‪ ،‬لتبديــد العــداوة‪ ،‬لتقريــب املســافة‪ ،‬وقــد ينقــل كتـ ٌ‬
‫مــن خانــة العــد ّو إىل خانــة الصديــق‪.‬‬

‫رمبــا ال ينظــر (اآلخــر)‪ ،‬أيّـاً كان‪ ،‬إلينــا كســوريني أفضــل مــا كنــت أظــن ألفغانســتان‪ .‬رمبــا نحــن‪:‬‬
‫مريب وعقلٍ معطّل‪،...‬‬
‫ٍ‬ ‫عرب جرب‪ ،‬أميّون‪ ،‬فقراء‪ ،‬جهلَ ًة يدبّون يف األرض عىل غري هدى بهندامٍ‬
‫وتضــاف إىل نظرتــه اآلن التهمــة املعــارصة‪ :‬إرهابيــون‪.‬‬

‫والواقــع أننــا نعــي حالنــا ونســمع مــا يقــال عنــا‪ ،‬ونقرؤنــا يف عيــون مــن يجهلوننــا‪ ،‬أو مــن يريــدون‬
‫لنــا أن نكــون كذلــك‪ ،‬وقــد نرفــض يف داخلنــا مــا قالــوا‪ ،‬وقــد نصـدّق فنغــور يف اليــأس واالستســام‪.‬‬

‫والواقع أننا غالباً ما ننتظر من اآلخرين أن ي ّ‬


‫ربئوا سجالتنا املدانة‪.‬‬

‫نكتب اآلن عن حالنا السوري‪ ،‬وقلوبنا يف القاع حيث الدم أرخص من املاء‪ ،‬وحيث يشحطنا‬
‫اإلحبــاط إىل تكريــس صــورة الضحيــة الخانعــة‪ ،‬وحيــث تطفــو أحقادنــا فــا يعلــو مــن أصواتنــا ســوى‬
‫الهمجـ ّـي واملتطـ ّرف والشــايك والنــادب واملعــاق وتاجــر الحــرب والشــبيح‪.‬‬

‫من حق اآلخرين أن يسمعوا صوت أهلنا عالياً ساطعاً جميالً وحقيقيّاً كام هم أهلنا‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪100‬‬

‫صوتٌ ساط ٌع واح ٌد بيننا يساوي ألف صوت‪.‬‬

‫حروب لن تتوقف‬
‫ٍ‬ ‫ومنطقي يساوي جول ًة رابحة يف‬
‫ٌّ‬ ‫موضوعي‬
‫ٌّ‬ ‫ٌ‬
‫مقال واح ٌد‬

‫وأنت تكتب؛ ال تنتظر من اآلخرين أن يربئوا سجالتك املدانة‪.‬‬

‫ستكتب كأنك الوحيد الذي يستطيع‪ ،‬وكأنها فرصتك الوحيدة أو األخرية‪.‬‬

‫ستكون أنت؛ حقيقيّاً كفدا ّ‬


‫يئ‪ .‬ستكتب ما شئت وما أوحت إليك به القريحة‪،‬‬
‫ســتكتب إلكرتونيـاً أو ورق ّيـاً أو عــى صفحتــك أو مد ّونتــك أو لنفســك‪ .‬ولــن تنــى‬
‫ـعب آخــر‬
‫ـوري وأنــك اإلنســان‪ ،‬وأن بــن يديــك أمانــة شــعب تكتــب عنــه وشـ ٍ‬
‫أنــك السـ ّ‬
‫يتوق ألن يفهمك‪.‬‬

‫ســتكتب حزنــك اإلنســاين مبــا يبعــث اآلخــر عــى مشــاركتك إيــاه ال عــى الرثــاء‬
‫لحالــك‪.‬‬

‫ليس بوسعك أن تخطو فوق مأساتك‪ ،‬لكن بوسعك أن تع ّممها عىل اإلنسان‬
‫يف كل مكان‪.‬‬

‫ســوف يحــر إىل ذهنــك قــارئ محتمــل‪ ،‬تعرفــه وال يعرفــك‪ ،‬أو يعرفــك وال‬
‫تعرفــه‪ ،‬عــد ٌّو أو صديــق‪ ،‬طاغيــة أو ضحيــة‪ ،‬ولــن يعنيــك ســواك‪ .‬ســتنصف ذاتــك‬
‫وتفقــأ عــن حاكمــك‪ ،‬وتجــر عــد ّوك عــى احرتامــك‪.‬‬

‫ستكون سوريّاً أو ستصمت‬

‫هذا هو الكتاب الذي تطمح أن تكتبه‪.‬‬


‫‪101‬‬ ‫شيمهتلا ةسايسو اماردلا بتاك‬
‫طوقرق ظفاح‬

‫حافظ قرقوط‬

‫كاتب الدراما وسياسة التهميش‬

‫حققــت الدرامــا الســورية خــال الســنوات املاضيــة‪ ،‬بــا شــك‪ ،‬حضــورا ً محليـاً‬
‫وعربيـاً‪ ،‬وأنجبــت العديــد مــن الكــوادر الفنيــة عــى كافــة املســتويات اإلبداعيــة‪ ،‬إن‬
‫كان من خالل النص أو الكادر املوجود أمام وخلف الكامريا كمجموعة من الفنانني‬
‫والفنيــن‪ ،‬لكــن هــذا املنظــور العــام قــد يكــون أيضـاً خادعـاً يف كثــر مــن جوانبــه إذا‬
‫تلمســنا بعــض تفاصيلــه‪ ،‬فالدعايــة املتكــررة واملركــزة باتجــاه هــذا الوســط‪ ،‬واعتــاد‬
‫النظــام عليــه كحالــة بديلــة لحركــة املجتمــع املــدين بــكل تفاصيلــه‪ ،‬مــن خــال وضــع‬
‫بيئــة افرتاضيــة تعيــش فيهــا اإلحباطــات العامــة والخاصــة باملجتمــع‪ ،‬وتجــد متنفسـاً‬
‫لهــا ميتــص آالمهــا ويأخذهــا باتجاهــات تالئــم تركيبــة هــذا النظــام كأمــر واقــع لكــن مــن‬
‫خلــف زجــاج شاشــة‪ ،‬بحيــث أنــه يبــدو كفاعــل ومســاهم يف أزمــة مــا أو فســاد مــن‬
‫خالل بعض أفراده‪ ،‬وهو من خالل أيضاً بنيته صاحب املكافأة والحل لكل خلل‪،‬‬
‫بحيــث تســبح املشــاكل التــي تعرضهــا الدرامــا ضمــن أركانــه بصفتــه ويل أمــر النعــم‬
‫عىل املجتمع واملخلص آلالمه‪ ،‬فتكون باملحصلة مكوناته خارج حسابات الفساد‬
‫العــام كونهــا املنقــذ الدائــم مــن كل اختنــاق يحصــل باملجتمــع‪.‬‬
‫وعى النظام برتكيبته املعقدة أهمية عمل الدراما عىل يوميات الناس واعتربها‬
‫مكمالً ملؤسساته الثقافية التي يتغلغل من خاللها باملجتمع‪ ،‬بل واعتربها ضمناً‬
‫أهــم حصــان يدخــل بــه البيــوت بهمومهــا وانكســاراتها ليعطيهــا جرعــة تخديــر تبعدهــا‬
‫عــن حقائــق واقعهــا األليــم أو لتجعلهــا تعتــاد عليــه‪ ،‬فالبيــت املخالــف الــذي تــراه‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪102‬‬

‫باملسلسل هو يشبه بيتها والحفرة يف الطريق متاثل ما تسري عليه األقدام وهموم الراتب والغذاء‬
‫واللباس والبطالة واإلدارة الفاســدة بداية من البلدية واملدرســة إىل إدارات الدولة املختلفة‪ ،‬هي‬
‫صــورة مكملــة أو منســوخة عــن هــذا الواقــع‪ ،‬وبذلــك يخــرج الفــرد مــن بيتــه متآلفـاً مــع كل مــا يحيــط بــه‪،‬‬
‫وهكــذا وعــن ســابق إرصار وتصميــم أدخــل ثقافــة هشــة ومفربكــة هــي ثقافــة املسلســات ومــا تنتجــه‬
‫مــن ثقافــة وهميــة‪ ،‬مســتعيضاً عــن ثقافــة أصيلــة يكــون لهــا عــى أرض الواقــع أثرهــا الرتاكمــي اإليجــايب‬
‫الــذي يتنــاىف مــع مصالــح ســلطة اســتبدادية قمعيــة مبنيــة عــى الجهــل والتجهيل‪.‬‬

‫يف فــرة مــن فــرات النمــو الدرامــي اعتمــد وشــجع أســلوب الفنتازيــا عــر مــا قدمــه نجــدت أنــزور‪،‬‬
‫الذي شكل عاملاً خيالياً وأدار أبطاله بال أية قيمة فكرية أو فنية أو حتى إضافة يف مدارس صناعة‬
‫الدرامــا‪ ،‬ثــم انتقلــت سياســة اإلنتــاج بقــوة نحــو األعــال التاريخيــة‪ ،‬وهــي أيض ـاً إلعطــاء املشــاهد‬
‫انتصــارات وهميــة ورمزيــة موغلــة بالقــدم وال تالمــس حــارضه‪ ،‬مــع هــذا الســياق بقيــت لوحــات يــارس‬
‫العظمة تسري بخطاها محاكية قضايا الناس املبارشة وبال ترميز‪ ،‬وكان واضحاً أن الرجل ومن خالل‬
‫مثابرته أصبح له امتياز خاص واستثناء بالرقابة داخل مؤسسات النظام مبا فيها القريبة من القرص‬
‫الجمهوري إن مل يكن القرص نفسه‪ ،‬كام ظهرت مسلسالت البيئة الشامية مع النجاح الذي حققه‬
‫مسلســل «أيــام شــامية»‪ ،‬لتبــدأ السلســلة التــي أخــذت الجمهــور باتجــاه آخــر نحــو أيضـاً بيئــة افرتاضية‬
‫ال تنســجم مــع دمشــق بعظمتهــا لتحبســها يف بضعــة حــارات بــا همــوم حقيقيــة‪ ،‬وتعطــي للبطــل‬
‫مســاحة خارجــة عــن املألــوف كبطــل اجتامعــي نحــو عــدو أصبــح وهميـاً هــو اآلخــر إن كان الفرنــي أو‬
‫العثــاين‪ ،‬دون النظــر إىل شــكل ومضمــون الحالــة‪ ،‬لكنــه كان ملفتـاً االســتهتار بقيمــة الشــام الفكريــة‬
‫والسياسية والتجارية يف تلك الفرتة التي حاولت الدراما نقل صورتها‪ ،‬ليبقى بذهن الناس ذلك‬
‫البطل صاحب الشــوارب املفتولة الذي تخشــاه حارته وزوجته أو زوجاته وشــاويش املخفر ومختار‬
‫الحــارة وبعــض الفاســدين‪ ،‬واســتمرت السلســلة عــى هــذه الحــال لغايــة هــذا التاريــخ بأجــزاء جديــدة‬
‫ملسلسل «باب الحارة» الذي تخطى حدود الفنتازيا إىل حالة االستعراض الذي ال طائل منه سوى‬
‫متابعة أخذ الناس بعيدا ً عن واقعها وعن أحالمها‪ ،‬والذي بدا واضحاً فيه تالقي املصالح املادية‬
‫للمنتــج واملخــرج والبطــل مــع مصالــح النظــام السياســية يف أهــم مرحلــة مــن تاريــخ ســوريا املعــارص‪.‬‬

‫ومع توسع األرباح املادية وانفتاح سوق اإلنتاج والعرض الخليجي توسعت األفكار االجتامعية‬
‫يف مسلســات تالمس الحياة الهشــة واملؤملة للســوريني كام ذكرنا يف املقدمة‪ ،‬وظهرت خاللها‬
‫مجموعــة مــن الكتــاب املتميزيــن الذيــن ال يحفــظ الجمهــور أســاءهم بســبب االســتعراض الدائــم‬
‫لإلعــام لــدور املخــرج واملمثــل النجــم‪ ،‬وهــذا أيض ـاً ينــدرج تحــت تغييــب الفكــر وإبــراز الصــورة‬
‫أي إبــراز الرمــز عــى حســاب الكلمــة‪ ،‬وبــن االجتامعــي والتاريخــي والكوميديــا وبــن لوحــات ناقــدة‬
‫بسلســلة «مرايــا» أو «بقعــة ضــوء» وبــن مسلســات البيئــة إن كانــت شــامية أو حلبيــة‪ ،‬أو أخــرا‬
‫ظهــرت مسلســات تحــايك شــيئاً مــن بيئــة الســاحل مثــل «ضيعــة ضايعــة» والســويداء يف مسلســل‬
‫‪103‬‬ ‫شيمهتلا ةسايسو اماردلا بتاك‬

‫«الخربــة»‪ ،‬تظهــر بــا شــك إمكانيــات جيــدة ومتميــزة لعــدد مــن املمثلــن الســوريني وكذلــك لإلخراج‬
‫طوقرق ظفاح‬

‫والــكادر املرافــق مــن تصويــر وصــوت وإضــاءة إىل مونتــاج وموســيقى وغريهــا‪.‬‬

‫يبقــى الســؤال عــن النــص ودور الكاتــب الــذي كــا أرشنــا آخــر مــن يتذكــره الجمهــور‪ ،‬وكذلــك‬
‫املؤسســات املختلفــة املعنيــة بهــذا الجانــب إن كان تعريــف مؤسســات ينطبــق عليهــا حقيقــة‪،‬‬
‫كالتلفزيــون الســوري ووزارة الثقافــة أو اإلعــام أو مؤسســة صناعــة الســينام أو حتــى النقابــات إن كان‬
‫اتحاد الكتاب أو نقابة الفنانني‪ ،‬مضافاً إليها رشكات اإلنتاج التي هي باألساس مرتبطة ببنية النظام‬
‫وأشــخاصه‪ ،‬أو بالبزنــس الــذي تحققــه وتتقاســم مغامنــه مــع بنيــة الفســاد يف مؤسســاته‪ ،‬ومــن خــال‬
‫عمــي لســنوات عديــدة يف مجــال كتابــة الســيناريو التلفزيــوين واإلذاعــي‪ ،‬ال أســتطيع إعطــاء نفــي‬
‫صفــة املهنــة املســتقلة يف ذلــك الوســط الــذي عشــنا فيــه‪ ،‬والــذي ال يحكمــه إطــار واضــح املعــامل‬
‫وال أيــة عالقــات ســليمة ميكــن البنــاء عليهــا إلدراجهــا والبحــث بهيكليتهــا‪ ،‬ليــس ألننــي ال أريــد ذلــك‬
‫بــل ألن الواقــع الــذي تــم تصميمــه كان فيــه مــن الخبــث مــا ال يخطــر عــى بــال شــيطان‪ ،‬ليــس لكتــاب‬
‫الدرامــا وحســب بــل لكتــاب املــرح والقصــة والشــعر والصحافــة والبحــوث وإىل غــر ذلــك مــن‬
‫أصنــاف الكتابــة‪ ،‬حيــث املطلــوب تهميــش األفــكار مــن خــال تحييــد أصحابهــا لتســر األمــور رويــدا ً‬
‫رويــدا ً مــع الزمــن إلظهــار الكاتــب كمتســول يعــاين مــن أزمــة نفســية بســبب أفــكاره املشوشــة وغــر‬
‫الواقعيــة‪ ،‬وبذلــك يصبــح مــن الطبيعــي أن متــرر مشــاهد أو لوحــات تغــذي هــذا الجانــب لتعمــم‬
‫الصــورة عــى النــاس أن صاحــب الفكــرة هــو رجــل غــر ســوي بشــكل كامــل ويعــاين مــن أزمــات أو‬
‫رصاعــات نفســية‪ ،‬فالحديــث عــن الشــكل الــذي كرســته الدرامــا الســورية ألي كاتــب أو شــاعر أو‬
‫مثقــف يف مخيلــة الجمهــور يــوازي متام ـاً تحطيــم العمــل الســيايس والنقــايب واملــدين والتضييــق‬
‫عــى الكفــاءات املختلفــة‪ ،‬وإن كان الكاتــب هــو روح األمــة فإنــه مــن الطبيعــي أن ينــال املســتبد مــن‬
‫هــذه الــروح‪ ،‬ويســتعني عــى قتلهــا بــكل وســائله‪ ،‬فنظــام جعــل مــن الشــهادة الجامعيــة مجــرد ورقــة‬
‫بيــد صاحبهــا‪ ،‬يجــب أن يبــدأ بجعــل مــن يكتــب لضمــر األمــة مجــرد «كاريكاتــر» عابــر مثــر للشــفقة‬
‫أو الســخرية‪ ،‬وبهــذا ومــن خــال الدرامــا كــرس كــا أرشت تلــك الصــورة عــن الكاتــب أيــا كان إبداعــه‪،‬‬
‫فــإذا كان مــن يكتــب النــص الدرامــي هــو مغمــور ومقهــور وال حــول لــه وال قــوة فكيــف بشــخصية كاتــب‬
‫أو مبــدع أن تصــو ّر وتنســج؟ إنهــا ببســاطة دس الســم بالدســم مــن قبــل نظــام اســتبدادي‪ ،‬وتشــويه‬
‫مــدروس ومتعمــد للكاتــب املبــدع يف كافــة النواحــي اإلبداعيــة‪ ،‬وهــذا كــا أســلفت يتقاطــع مــع‬
‫مصالــح بعــض املخرجــن واملمثلــن لعقــدة ثقافيــة ليســت واضحــة للــرأي العــام بســبب األضــواء‬
‫املســلطة عليهــم‪ ،‬ولكــن كل كاتــب معنــي بشــؤون النــاس واملجتمــع وبنيتــه الثقافيــة والسياســية‬
‫وهمومــه الحقيقيــة ســيدرك ذلــك مبجــرد اقرتابــه مــن الوســط الدرامــي‪.‬‬

‫أيض ـاً هنــاك مســألة مغايــرة متام ـاً‪ ،‬حيــث؛ وبرغــم اإلحبــاط الــذي يعيشــه الكاتــب الســوري‪ ،‬إال‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪104‬‬

‫أن بعــض كتــاب الدرامــا وبســبب شــهرة محــدودة وقليــل مــن املــال حصلــوا عليــه وتحســنت ظروفهــم‬
‫املعيشــية‪ ،‬وآخريــن بســبب النفــوذ والقــرب مــن مراكــز القــرار فقــد اختــل توازنهــم وعاشــوا يف غــرور‬
‫الحالــة‪ ،‬فاملــال والشــهرة والفكــر يحتــاج لــرأس يحملــه‪ ،‬حيــث أصبحــوا ينظــرون للمجتمــع بفوقيــة ال‬
‫تنســجم مــع تعريــف كاتــب‪ ،‬وبعضهــم حقيقــة يســتند عــى غــرور أنــه ميتلــك قامئــة أصدقــاء مــن نجــوم‬
‫الفــن املشــهورين‪.‬‬

‫هــذا الوســط الــذي يبــدو ظاهريـاً لطيفـاً ومحببـاً وممتعـاً‪ ،‬يخفــي‪ ،‬يف الحقيقــة‪ ،‬خلــف كواليســه‬
‫متام ـاً مــا أخفــاه نظــام األســد خلــف شــعاراته الرنانــة وادعاءاتــه ببنــاء دولــة قويــة وحديثــة ومقاومــة‬
‫ومــا إىل ذلــك‪ ،‬لتبــدو باملحصلــة أنهــا مافيــا متناغمــة متبادلــة املصالــح وتتــوزع األدوار‪ ،‬ففــي دولــة‬
‫الالقانــون يصبــح قانــون العالقــات الشــخصية هــو الســائد وتلتغــي بذلــك قيمــة األفــراد بإنتاجهــم أو‬
‫مهنيتهــم وإبداعهــم أو باحرتامهــم ألدواتهــم‪ ،‬وعــى ذلــك ميكــن قيــاس تلــك الحقبــة مــن تاريــخ العمــل‬
‫الدرامــي ومــا يتفــرع عنــه‪.‬‬

‫هــذا الــكالم ليــس إنــكارا ً للمواهــب الســورية الجميلــة التــي ظهــرت خــال العقــود املاضيــة‪ ،‬فهــي‬
‫أنتجــت الكثــر مــن التميــز إن عــى صعيــد اإلخــراج أو عــى صعيــد النــص والتمثيــل ومــا إىل ذلــك‪،‬‬
‫ولكــن املعادلــة القامئــة واملحيطــة بالعمــل هــي هكــذا‪ ،‬وتعامــل الجميــع معهــا بحكــم الــرورة بغــض‬
‫النظــر عــن خلفياتهــم التــي بــدت واضحــة مــع انطالقــة الثــورة الســورية وفــرزت نفســها بنفســها‪ ،‬ويف‬
‫بلــد محكــوم بقبضــة فوالذيــة ال ميكــن بالتأكيــد االدعــاء أن مســاحة الحريــة التــي قدمهــا النظــام هــي‬
‫التــي ســاهمت بتطــور الدرامــا‪ ،‬بــل الكفــاءات الســورية هــي التــي فرضــت بصمتهــا‪ ،‬إمنــا وضمــن تلك‬
‫الكــوادر لألســف وجــد العديــد مــن املوهوبــن الذيــن اســتغلوا موهبتهــم للحصــول عــى مكاســب‬
‫خاصــة بغــض النظــر عــن األســلوب املتبــع‪ ،‬قبــل الثــورة كان مــن املســتحيل الــكالم عــن ذلــك فــكادر‬
‫سوريا الدرامي محمي إعالمياً وشعبياً‪ ،‬والناس مل تكن لتصدق أن نجومهم املفرتضني هم بضعة‬
‫متزلفــن عــى بقايــا موائــد رجــاالت الســلطة مــن جهــة واملــال القــادم مــن الخليــج العــريب والــذي مــا‬
‫زال حتــى اللحظــة يصــب يف جيوبهــم رغــم كل مــآيس الشــعب الســوري‪ ،‬ورغــم شــتامئهم العلنيــة‬
‫كممثلــن ومخرجــن للخليــج‪.‬‬

‫يف مبنــى التلفزيــون الســوري حيــث البــؤرة الرئيســية للفســاد واالبتــزاز وتقاطــع املصالــح‪ ،‬يختــر‬
‫تقاســم غنائــم املــال الحكايــة‪ ،‬آالف املوظفــن الذيــن ال عالقــة لهــم باإلعــام مســجلون عــى قوامئــه‪،‬‬
‫بعضهــم يعشــش يف كواليســه والبعــض يتقاطــرون عنــد املغانــم كالجــراد‪ ،‬مــن يدخــل ذلــك املبنــى‬
‫وبدايــة مــن بابــه الخارجــي سيشــعر أنــه محــارص أمنيـاً بــكل التفاصيــل وأينــا التفــت‪ ،‬ومــن املتعــارف‬
‫عليــه أنــه ال ميكــن لكاتــب أو غــر كاتــب أن يدخلــه مــا مل يتــم وضــع اســمه بورقــة موقعــة ومختومــة مــن‬
‫اإلدارة‪ ،‬أما تسجيل النصوص القادمة للتلفزيون للرقابة فتتوزع بطريقة التحاصص لقبض مكافآت‬
‫‪105‬‬ ‫شيمهتلا ةسايسو اماردلا بتاك‬

‫القــراءة مــن خــال توزيعهــا حتــى عــى بعــض أفــراد ســكرتارية الوزيــر الذيــن ال عالقــة لهــم بــيء ســوى‬
‫طوقرق ظفاح‬

‫املنصــب‪ ،‬وهــذه الرقابــة تعطــي املوافقــات ليــس عــى جــودة النــص بــل كثــر مــن النصــوص ال تقــرأ‬
‫بشــكل جــدي‪ ،‬وإمنــا تــأيت املوافقــات بنــاء عــى العالقــات الشــخصية والدفــع الجانبي الذي تقدمه‬
‫الرشكات‪ ،‬فكثري من النصوص تؤخذ موافقتها وهي غري مكتملة أصالً بينام غالبية إنتاج التلفزيون‬
‫مــن املسلســات مل يســتطع بيعهــا بســبب رداءتهــا‪ ،‬فينتجهــا ويعرضهــا وتذهــب لألرشــيف‪ ،‬بكلفــة‬
‫يتقاسمها ذباب التلفزيون بطريقة مدهشة حيث عىل مدير اإلنتاج إرضاء جميع املتنفذين لتغطية‬
‫رسقاتــه الشــخصية مــن جهــة وتيســر اســتمراره مبهنتــه مــن جهــة أخــرى وتأمــن عدتــه إلنهــاء العمــل‪.‬‬

‫بجميــع األحــوال الســؤال عــن الكاتــب يف كل العمليــة الدراميــة هــو ســؤال ميكــن اختصــاره بجملة‬
‫واحــدة قالهــا يل يومــا الراحــل ممــدوح عــدوان «شــلة زعــران مــا بينوثــق فيهــن إلنــه أص ـاً مــا بيعرفــوا‬
‫يقــروا ال درامــا وال مــرح وال حتــى غريهــا» وهــو يقصــد الــركات الخاصــة مجتمعــة ودائــرة اإلنتــاج‬
‫بالتلفزيــون حيــث كان الحديــث عنهــم‪.‬‬

‫إن كاتب الدراما حقيقة غري معرتف به‪ ،‬ال من اتحاد الكتاب‪ ،‬وال من نقابة الفنانني‪ ،‬وهو أعزل‬
‫غــر محمــي مــن أيــة جهــة قانونيــة‪ ،‬وتســجيل األعــال بدائــرة النصــوص أو غريهــا ال تحمــي الكاتــب مــن‬
‫أية أرضار أو إشكاليات قد يتعرض لها‪ ،‬فجهات اإلنتاج باألساس هي توليفة غري قانونية ال بأوراقها‬
‫وال بنظامها الداخيل وال بنسج عقودها‪ ،‬وهي تتبع أسلوب التجارة بطريقة العرض والطلب كسلعة‬
‫ال كفكــرة أو إبــداع يف كافــة العقــود‪ ،‬واملحاكــم الســورية بالنهايــة هــي محاكــم املتنفذيــن‪ ،‬وأصحــاب‬
‫هــذه الــركات هــم مــن هــذه الرشيحــة املتنفــذة بحكــم العطايــا التــي تقدّمهــا وعالقاتهــا األمنيــة‪،‬‬
‫وعليــه فــإن الكاتــب يضطــر للمحافظــة عــى أدىن عالقــة إيجابيــة ممكنــة مــع تلــك التــي تســمى جزافـاً‬
‫رشكات‪ ،‬ويف هكــذا منــاخ يصبــح مــن الســهولة التعــدي عــى حقــوق الكاتــب املعنويــة واملاديــة‪،‬‬
‫ومــن ليــس لــه قــدرة عــى مقارعــة هــذه الشــبكة املافياويــة هــو خارجهــا مهــا كان إبداعــه‪ ،‬وكنــت قــد‬
‫اطلعــت عــى عــدد مــن النصــوص لكتّــاب مبتدئــن مل تنفــذ لكنهــا حقيقــة فيهــا متيــز تفتقــده الكثــر‬
‫مــن األعــال التــي صــورت لكتّــاب معروفــن‪ ،‬ومــن الغريــب يف هــذا األمــر أن املخرجــن والنجــوم‬
‫تعاملــوا مــع هــذه الحالــة بكثــر مــن الذاتيــة أو األنانيــة فنــادرا ً مــا يذكــر املمثــل مــن كتــب دوره بــل‬
‫يذكــر مــن أخــرج لــه الــدور‪ ،‬وهــذا ضمن ـاً يعتــر هروب ـاً إىل األمــام مــن مواجهــة الفكــر وصاحــب الفكــر‬
‫الــذي صنــع لــه شــخصيته التــي بالتأكيــد مل يشــريها مــن ســوق بيــع لبــاس التمثيــل‪ ،‬بــل هــي شــخصية‬
‫مدروســة عــى الــورق أوالً‪ ،‬ومنوهــا حــدده الكاتــب ســلفاً‪ ،‬وهــذا األمــر ينطبــق عــى املخرجــن الذيــن‬
‫تعاملوا بهذا الوســط كعرابني لتلك األســاليب اإلعالمية واملعنوية التي تبعد الكاتب عن الواجهة‬
‫ليبقــى املخــرج صاحــب الربيــق الــذي تتقاطــع مصالحــه بذلــك مــع املمثل املحســوب كنجم‪ ،‬فهذه‬
‫الحالــة املرضيــة هــي متامـاً صناعــة متناغمــة مــع رؤيــة النظــام للفكــر وأصحابــه‪ ،‬وقــد نبــدأ مــن أعــال‬
‫يــارس العظمــة األوىل حــن كان يتجنــب ذكــر اســم كتــاب لوحاتــه‪ ،‬يك يحصــد النجوميــة منفــردا ً‪،‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪106‬‬

‫وخاصــة بلوحــات متــس حيــاة النــاس اليوميــة‪ ،‬وكان يتواطــأ معــه بذلــك املخرجــون‬
‫دون أي إحســاس بالذنــب‪ ،‬وبســبب الضيــق املــادي الــذي يعيشــه صاحــب الفكــر‬
‫بســوريا‪ ،‬فــكان يرضــخ لتلــك الــروط بــل ويراهــا نجاح ـاً أنــه اســتطاع بيــع مــا كتبــه‬
‫وإن بثمــن بخــس‪ ،‬وامللفــت أيضـاً خــال تلــك العقــود املريــرة مــن حيــاة الســوريني‪،‬‬
‫وعــى خــاف كل التقاليــد اإلبداعيــة بالعــامل‪ ،‬فــإن املمثــل الســوري يســتطيع تقدير‬
‫جــودة فكــرة مسلســل وعرضهــا بســوق البيــع كونــه يســتطيع طــرق األبــواب املغلقــة‪،‬‬
‫ليمـ ّـن عــى الكاتــب الــذي الحــول لــه وال قــوة بتلــك الظــروف القاهــرة‪ ،‬فكــم مــن‬
‫هواتــف تتجنــب تلــك الــركات اإلجابــة عليهــا لســؤال عــن نــص لديهــا‪ ،‬وكــم مــن‬
‫االنتظــار يتحملــه الكاتــب عــى أبــواب ســكرتاريتها ألجــل ذلــك‪ ،‬بــل بعــض مقــرري‬
‫تلــك الــركات هــم أقــرب إىل األميــة بكافــة كياناتهــا وليــس لهــم مــا مييزهــم ســوى‬
‫طقــم األناقــة وســهرات املــرح والســكر واملطاعــم وقدرتهــم عــى التحايــل‪ ،‬لكــن بــكل‬
‫بســاطة يطلــق عليهــم لقــب «أســاتذة»‪ ،‬وكذلــك تتواطــأ منافــذ اإلعــام مــع تلــك‬
‫الجرميــة املنظمــة بحــق أصحــاب الفكــر‪ ،‬فيكــون اإلعــان والطنطنــة للعمــل الدرامــي‬
‫تحــت اســم املخــرج واملمثــل‪ ،‬لألســف شــاركنا كلنــا بشــكل مبــارش أو غــر مبــارش‬
‫بهــذه اللعبــة غــر األخالقيــة التــي فرضتهــا علينــا هــذا الرتكيبــة العجائبيــة‪ ،‬ومهــا كان‬
‫للكاتــب حضــور إال أن التعــدي عــى نصــه هــو حالــة روتينيــة يف ســوريا‪ ،‬وال يســتطيع‬
‫حاميــة أفــكاره أو شــخصياته‪ ،‬فممثلــة مبتدئــة مدللــة للمخــرج أو لرشكــة اإلنتــاج أو‬
‫حتــى ملديــر اإلنتــاج الــذي يصبــح إمرباطــورا ً يف املسلســل‪ ،‬ميكــن لهــا أن تعتــدي‬
‫عــى كامــل الــدور وتفصــل مــا تشــاء‪ ،‬فالعالقــات الرخيصــة هــي بحــد ذاتهــا أســلوب‬
‫تســويقي ببلــد كل مــا يتعلــق باإلنســان فيهــا رخيــص‪.‬‬

‫لقــد أتــت الثــورة لتوضــح أكــر وأكــر حجــم الكارثــة األخالقيــة التــي تخفيهــا هــذه‬
‫البهرجة اإلعالمية خلفها‪ ،‬بل ميكن القول إن النظام الذي س ّهل استبعاد أصحاب‬
‫الفكــر ليلمــع املخــرج والنجــم‪ ،‬كان يعلــم أنــه بتفريــغ الحالــة اإلبداعيــة مــن أساســها‬
‫وهــو الفكــرة والنــص‪ ،‬هــو يصنــع حالــة افرتاضيــة بقوالــب إعالمــه ونقــوده أو مــا ســمح‬
‫هو مبروره من صفقات املحطات الخليجية‪ ،‬هو عند الحاجة سيصب مبصلحته‪،‬‬
‫وهــذا مــا حصــل‪ ،‬فكانــت الغالبيــة العظمــى مــن كادر هــذا الوســط مســوقي قتــلٍ‬
‫لبشــار األســد‪ ،‬ومنــذ أول رصاصــة أطلقــت عــى الســوريني‪ ،‬ومل تؤنبهــم ضامئرهــم‬
‫حتى حيال السالح الكيمياوي الذي استعمله النظام ضد جمهورهم الذي لطاملا‬
‫تكلموا باسمه‪ ،‬فكان االمتحان األهم الذي سقطوا فيه مجتمعني‪ ،‬وكان هو النتاج‬
‫الطبيعــي ملرحلــة تغييــب الفكــر‪.‬‬
‫‪107‬‬ ‫؟»برعلا باتكلا داحتا« يروسلا ماظنلا مدختسي فيك‬
‫طملا ناحرف‬

‫فرحان املطر‬

‫كيــف يســتخدم النظــام الســوري «اتحــاد‬


‫الكتــاب العــرب»؟‬

‫كعضو سابق يف اتحاد كتاب النظام السوري‪ ،‬املس ّمى تجاوزا ً (اتحاد الكتاب‬
‫العرب)‪ ،‬واستنادا ً إىل تجربتي القصرية يف عضويته‪ ،‬سأشارك بشهاديت هذه التي‬
‫تعــر عــن تجربتــي الشــخصية‪ ،‬وال تلــزم أحــدا ً غــري بهــا‪ ،‬وال أدعــي بالتــايل متثيلهــا‬
‫لكتاب آخرين‪ ،‬إال من رأى فيها (من جانبه) تطابقاً مع أفكاره‪ ،‬وتجربته الشخصية‪.‬‬

‫أســئلة كانــت تــراودين فيــا مــى (قبــل الثــورة)‪ ،‬ومل أكــن أمتلــك جــرأة البــوح‬
‫بهــا عــى املــأ‪ ،‬وكانــت يف أحســن األحــوال تجــد فســحتها أمــام الدوائــر الضيقــة من‬
‫األصدقــاء املوثــوق بهــم‪ ،‬لجهــة عــدم ارتباطهــم بأجهــزة املخابــرات الســورية‪.‬‬

‫مــن تلــك األســئلة التــي كانــت تحــارصين باســتمرار ككاتــب‪ ،‬والتــي أعلنهــا اآلن‬
‫كنــوع مــن تربئــة النفــس‪ ،‬أمــام الشــعب أوالً‪ ،‬وأمــام نفــي معـاً‪:‬‬

‫ ‪-‬هل كنت أعيش حالة الرىض عن النفس من خالل ما أكتب؟‬

‫ ‪-‬هل كنت أحلم بالحرية‪ ،‬وأعرب عنها يف كتابتي‪ ،‬وكيف؟‬

‫حقيقة كنت أعيش ما يشبه حالة الفصام النفيس‪ ،‬فيام يتعلق بكتابتي‪ ،‬ففي‬
‫حيــايت االعتياديــة كنــت (كأي ســوري يعيــش يف تلــك الظــروف) أوازن ترصفــايت‪،‬‬
‫وكلــايت‪ ،‬وأحســبها بدقــة شــديدة‪ ،‬مبعنــى أننــي كنــت دامئـاً‪ ،‬أتــرك حيــزا ً ملــا يعــرف‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪108‬‬

‫بخــط الرجعــة‪ ،‬وهــو الــيء الوحيــد الــذي أســتطيع بــه (كســوري) الدفــاع عــن نفــي كمواطــن أمــام‬
‫الجهــات األمنيــة فيــا لــو اســتدعيت للتحقيــق مــن قبلهــا‪ ،‬أمــا يف لحظــة الكتابــة (الكتابــة القصصيــة‬
‫هنــا) فإننــي أستســلم لــيء ال أعرفــه‪ ،‬رمبــا هــو الــا شــعور الــذي يأخــذين حيــث يريــد إىل أن تنتهــي‬
‫حالــة الكتابــة‪ ،‬وأقــف فيهــا وجهـاً لوجــه أمــام النــص الــذي انتهيــت مــن تســطريه عــى الــورق‪.‬‬

‫هنا أصبح شيئاً آخر متاماً‪ ،‬كيف؟!‪ ...‬ال أعرف حقيقة‪.‬‬

‫يف هــذه النصــوص يظهــر الوجــه اآلخــر املناهــض للظلــم‪ ،‬والقمــع‪ ،‬واملنتــر لإلنســان العــادي‬
‫املقهور‪ ،‬املســتغل‪ ،‬امله ّمش‪ ،‬املمنوع من إبداء الرأي بأبســط شــؤون الحياة‪ ،‬املنشــغل ليل نهار‬
‫مــن أجــل لقمــة الخبــز القاهــرة‪ ،‬املربوطــة بسالســل مــن حديــد ثقيــل‪.‬‬

‫مــن خــال مجموعــايت القصصيــة الثــاث التــي صــدرت يل عــى نفقتــي الخاصــة‪( :‬تفاصيــل‬
‫اللقــاء – مــا يدعــو للهذيــان – عــن واحــدة تكفــي)‪ ،‬كنــت ألتــزم جانــب ذلــك اإلنســان الــذي هــو أنــا‬
‫أو أي إنســان ســوري آخــر أعرفــه‪ ،‬وأعــرف معاناتــه يف هــذه الحيــاة‪.‬‬

‫ال أدعي أنني كتبت يف تلك املجموعات القصصية معارضة سياسية للنظام بصورة مبارشة‪،‬‬
‫غري أنني قادر عىل التأكيد أن من يقرأها اآلن يســتطيع أن يكتشــف بســهولة كيف أنها كتبت وكأنها‬
‫تتحدث عام يحدث اآلن يف سوريا‪.‬‬

‫دأبت يف مجموعايت عىل تقليدين يتصدران تلك املجموعات‪ ،‬حيث أبدأ كغريي مبا يعرف‬
‫باإلهداء‪ ،‬ثم أتبعه بيشء آخر أطلقت عليه‪ :‬فاتحة الكالم‪.‬‬

‫سأســمح لنفــي أن أضــع أمامكــم تلــك اإلهــداءات‪ ،‬مــع فاتحــات الــكالم لــرى مــا هــي الخلفيــة‬
‫التــي تســتند إليهــا كتابــايت تلــك‪.‬‬

‫‪ -‬إهداء (تفاصيل اللقاء) يقول‪:‬‬

‫إىل كل الذين ال صوت لهم يسمع‪ .‬هذا صويت لكم‪ ،‬ومعكم‪ ...‬ولنبدأ النشيد‪.‬‬

‫‪ -‬فاتحة الكالم فيها تقول‪:‬‬

‫يا لحياة تنقيض بني رصختني!‪ ...‬هل يل أن أبرش بالفرح؟!‬

‫‪ -‬إهداء (ما يدعو للهذيان) يقول‪:‬‬

‫للقادم الذي يجب أن يكون جميالً كأحالمنا‪.‬‬

‫‪ -‬فاتحة الكالم فيها تقول‪:‬‬

‫ال تجزعوا إن طال الظالم‪ ،‬فالفجر ال ريب آت‪.‬‬


‫‪109‬‬ ‫؟»برعلا باتكلا داحتا« يروسلا ماظنلا مدختسي فيك‬

‫‪ -‬إهداء (عني واحدة تكفي) يقول‪:‬‬


‫طملا ناحرف‬

‫إىل الحاملني ٍ‬
‫بغد أفضل رغم عناء اللحظة‪.‬‬

‫‪ -‬فاتحة الكالم فيها تقول‪:‬‬

‫كفيل باخرتاقِ أك ِ‬
‫رب عتمة‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫أصغ ُر ضو ٍء‬

‫أليســت هــذه بحــد ذاتهــا قــدرة الكاتــب عــى اســتباق واقعــه يف رؤيــة مــا ال يــراه ســواه؟! أقصــد‬
‫هنــا مــرة أخــرى‪ :‬رؤيــة حجــم الســواد الــذي يســببه الظلــم للنــاس يف بلــدي‪.‬‬

‫قد يرد عىل البال سؤال‪ :‬كيف مرت هذه القصص عىل الرقيب؟‬

‫بدايــة يجــب معرفــة أن الرقيــب غبــي‪ ،‬وميكــن خداعــه بســهولة مهــا حــاول التــذايك‪ ،‬طبعـاً دون‬
‫أن نغفــل مــا قــد يســببه مــن متاعــب للكاتــب‪ ،‬وأن األمــور ليســت دامئـاً بهــذه الســهولة‪.‬‬

‫أذكــر هنــا أن مجموعتــي القصصيــة األوىل التــي قدمتهــا التحــاد الكتــاب العــرب قــد رفضــت‬
‫بشــدة‪ ،‬وكان عنوانهــا‪( :‬هجــرة الــروح)‪.‬‬

‫بعــد أن أعطــاين اتحــاد الكتــاب نســخة مــن التقريــر عنهــا‪ ،‬قــرأت فيــه‪ :‬املجموعــة تتناقــض مــع‬
‫مبــادئ املجتمــع الســوري وأهدافــه‪ ،‬وأن الكاتــب يســخر مــن التاريــخ العــريب واإلســامي‪ ،‬وهنــاك‬
‫نفحــة ســوداوية شــديدة تســيطر عــى املجموعــة‪.‬‬

‫فيــا بعــد قمــت ببعــض التعديــل (التحايــل عــى الرقيــب)‪ ،‬وأعــدت تقديــم املجموعــة بعنــوان‬
‫آخــر‪« :‬تفاصيــل اللقــاء» ومــرت العمليــة بســام‪.‬‬

‫أمل أقــل لكــم أن الرقيــب غبــي؟!‪ ...‬عل ـاً أن قصــة «هجــرة الــروح» التــي حملــت املجموعــة‬
‫(املرفوضــة) عنوانهــا‪ ،‬موجــودة كــا هــي يف املجموعــة الجديــدة‪.‬‬

‫كم غبطت يف رسي ويف علني الكتاب اللبنانيني عىل الحرية التي يتمتعون بها يف كتاباتهم‪،‬‬
‫وكذلك بعض الكتاب العرب الذين كتبوا من منافيهم خارج بالدهم العربية‪ ،‬مستفيدين من الحرية‬
‫التــي توفرهــا لهــم تلــك املنــايف األوروبيــة عــى األغلــب‪ ،‬والتــي تحميهــم مــن بطــش ســلطاتهم‪ ،‬أمــا‬
‫مجــرد التفكــر بامتــاك الحريــة التــي ميتلكهــا الكاتــب األورويب وأمثالــه‪ ،‬فقــد كانــت حلـاً شــخصياً‬
‫ليــس مــن املفيــد الترصيــح بــه يف ســوريا‪.‬‬

‫كنت أحلم بالحرية نعم‪ ،‬وأكتب عنها‪ ،‬ومل تغب عن أي نص يل مهام كان شكله‪ ،‬وموضوعه‪،‬‬
‫غــر أين مل أتوقــع أن تشــهد بلــدي ســوريا يف حيــايت ثــورة شــعبية حقيقيــة مــن أجــل الحريــة‪ ،‬بعــد كل‬
‫هذه السجون والتصفيات وحكم املخابرات‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪110‬‬

‫يشء كان أكرب من توقعايت املتواضعة‪.‬‬

‫ما حدث منذ آذار‪/‬مارس ‪ 2011‬يف سوريا‪ ،‬وما زال مستمرا ً‪ ،‬برأيي أكرب من الكتابة ذاتها‪.‬‬

‫الثــورة الســورية التــي قــام بهــا شــعب أعــزل ضــد ســلطة حاكمــة مدججــة بــكل صنــوف القســوة‬
‫والقمــع‪ ،‬مــن أجــل الحريــة بعــد عســف امتــد ألكــر مــن أربعــة عقــود‪ ،‬ليــس مبقــدور الكتابــة اإلحاطــة‬
‫بــه – عــى أقــل تقديــر اآلن ‪ -‬إن هــي حاولــت فعــل ذلــك‪.‬‬

‫يف الحديــث عــن اتحــاد الكتــاب يف ســوريا‪ ،‬ال بــد مــن التوقــف عنــد بعــض اإلشــارات العابــرة‪،‬‬
‫ولتكــن البدايــة عــا يعــرف بلجــان التزكيــة والرقابــة‪.‬‬

‫لجان التزكية تلك التي تعنى أوالً بالكاتب الذي يتقدم بطلب العضوية التحاد الكتاب العرب‪،‬‬
‫بعــد أن يكــون قــد حقــق الــروط املطلوبــة للعضويــة أوالً‪ ،‬وللموافقــة عــى طباعــة أحــد الكتــب التــي‬
‫تتقدم لنيل املوافقة عىل الطباعة والنرش‪.‬‬

‫لجنة التزكية بحالة العضوية تتألف من ســبعة أعضاء‪ ،‬يقومون باإلدالء بآرائهم يف هذا الكاتب‬
‫املرشــح‪ ،‬الــذي حقــق مســبقاَ رشط كتابتــه لكتابــن عــى األقــل مــن جنــس أديب واحــد‪ ،‬يف القصــة‪،‬‬
‫أو الروايــة‪ ،‬أو الشــعر‪ ،‬أو النقــد‪ ،‬أو املــرح‪ ،‬أو الرتجــات‪ ،‬وبهــذه الحالــة‪ ،‬إن متــت املوافقــة عليــه‬
‫بأكرثيــة أصــوات األعضــاء الســبعة‪ ،‬فســيتم قبولــه بصفــة عضــو مرشــح‪ ،‬إىل أن ينجــز كتابــه الثالــث يف‬
‫الجنــس األديب نفســه الــذي بــدأه‪.‬‬

‫هــذه اللجنــة يفــرض أنهــا رسيــة‪ ،‬وال يعــرف أي عضــو فيهــا‪ ،‬أي عضــو ســواه فيهــا (وهــذا كالم‬
‫نظــري بطبيعــة الحــال)‪.‬‬

‫األمــر اآلخــر أنــه يحظــر عــى أي مــن أعضــاء هــذه اللجنــة التواصــل مــع صاحــب العالقــة‪ ،‬وإبالغــه‬
‫شــيئاً عــن أمــر ترشــيحه‪ ،‬وهــو أيضـاً مــا مل يكــن يحــدث عــى أرض واقــع اتحــاد الكتــاب الســوري‪.‬‬

‫عــى ســبيل املثــال يف حالتــي الشــخصية‪ ،‬عرفــت ســتة مــن أصــل األعضــاء الســبعة مــن هــذه‬
‫اللجنة املكلفة بتزكيتي‪ ،‬وهؤالء الســتة هم الذين منحوين أصواتهم باملوافقة‪ ،‬وأخربوين عن اســم‬
‫العضــو الســابق الــذي رفــض املوافقــة عــى تزكيتــي ألســباب شــخصية‪ ،‬وهــو أديــب (كبــر معــروف)‬
‫قمــت يومـاً بنــر مــادة صحفيــة عنــه‪ ،‬فضحــت فيهــا رسقتــه لقصــة مــن أحــد الكتــاب الجــدد آنــذاك‪.‬‬

‫إذا ً القصة كام يظهر ليس فيها من الرسية إال اسمها‪.‬‬

‫ملــاذا يقومــون بإفشــاء هــذه الرسيــة والتواصــل مــع الكتــاب املرشــحني؟!‪ ...‬ببســاطة ألنهــا شــكل‬
‫مــن أشــكال االبتــزاز وعــدم احــرام حقيقــة أن هــذا الشــخص املرشــح للعضويــة اليــوم ســيصبح بعــد‬
‫قليــل زميلهــم الــذي ســيتمتع مبــا يتمتعــون هــم مــن بــه مــن (امتيــازات!)‪.‬‬
‫‪111‬‬ ‫؟»برعلا باتكلا داحتا« يروسلا ماظنلا مدختسي فيك‬

‫لجنة الرقابة عىل النرش‪:‬‬


‫طملا ناحرف‬

‫هناك ثالث لجان يف سوريا لهذا األمر‪.‬‬

‫تعي أعضاءها من داخل الوزارة‪ ،‬وتعنى بشأن الكتب‬


‫األوىل تخص وزارة الثقافة السورية‪ ،‬وهي ّ‬
‫التــي تتقــدم لهــا ألخــذ املوافقــة عــى طباعــة الكتــب لديهــا‪ ،‬هــذه اللجنــة – شــخصياً ‪ -‬ليســت لــدي‬
‫فكرة عن عدد أعضائها‪.‬‬

‫ـن أعضاءهــا مــن داخــل االتحــاد‪ ،‬وتعنــى باملوافقــة عــى‬


‫الثانيــة تخــص اتحــاد الكتــاب‪ ،‬وهــي تعـ ّ‬
‫الكتــب التــي يطلــب أصحابهــا طباعتهــا عــى نفقــة هــذا االتحــاد‪ ،‬عــدد أعضــاء هــذه اللجنــة ثالثــة‪،‬‬
‫وتكــون املوافقــة أو الرفــض بصوتــن مــن ثالثــة‪.‬‬

‫الثالثــة وهــي األكــر شــيوعاً يف ســوريا‪ ،‬وهــي التابعــة لــوزارة اإلعــام الســورية‪ ،‬ويف هــذه الحالــة‬
‫تقوم وزارة اإلعالم الســورية بإرســال هذه الكتب إىل اتحاد الكتاب يك يحيلها بدوره إىل كتاب من‬
‫عنــده ليتولــوا إعطــاء الــرأي بهــا‪ ،‬عــدد أعضــاء هــذه اللجنــة عضــوان فقــط‪ ،‬ويف حــال كانــت النتيجــة‬
‫صــوت لصــوت‪ ،‬تعــاد مــن الــوزارة لالتحــاد مــرة أخــرى لعرضهــا عــى كاتــب ثالــث للرتجيــح‪.‬‬

‫قبــل إقفــال نقطــة الرقابــة ال بــد مــن التوقــف عنــد عقليــة بعــض الكتاب الذين يتولون مهام الرقابة‬
‫عىل مخطوطات اآلخرين‪ ،‬وهذا أمر يحتاج وحده لعرشات الصفحات‪ ،‬ملا فيه من فضائح‪ ،‬حيث‬
‫يقــوم بعــض هــؤالء باإلســاءة للكاتــب الــذي ال يوافقــون لــه عــى مخطوطــه‪ ،‬وقــد يصــل األمــر بهــم إىل‬
‫التشهري به‪ ،‬وأحياناً كثرية إىل القيام بكتابة التقارير األمنية بحق أولئك الكتاب‪ ،‬وتقديم املخطوط‬
‫الــذي بــن أيديهــم دليالً ألجهزة املخابرات الســورية‪.‬‬

‫محسوبيات النرش‪:‬‬
‫كل النــر يف املطبوعــات الســورية دون أي اســتثناء يخضــع للمحســوبيات‪ ،‬يف كل الجرائــد‬
‫الحكوميــة وغريهــا‪ ،‬يف كل املجــات األســبوعية‪ ،‬والشــهرية‪ ،‬والدوريــة‪ ،‬الصــادرة عــن وزارة الثقافــة‪،‬‬
‫أو اتحــاد الكتــاب‪ ،‬وحتــى الخاصــة منهــا‪ ،‬فكلهــا تخضــع العتبــارات القــرب مــن رئيــس التحريــر‪ ،‬أو مدير‬
‫التحريــر‪ ،‬أو مســؤول القســم الثقــايف‪ ،‬أو الصفحــة الثقافيــة‪ ،‬أو مالــك املطبوعــة‪ ،‬وميكــن ببســاطة‬
‫لعــن املتابــع الناقــد حــن يقــرأ األســاء التــي تنــر هنــا وهنــاك أن تعــرف مــدى العالقــة الشــخصية‬
‫بــن هــؤالء الكتــاب‪ ،‬وبــن أولئــك املســؤولني عــن النــر يف تلــك املطبوعــات‪ ،‬وإن زيــارات قصــرة‬
‫لنــادي الصحفيــن‪ ،‬أو رابطــة املحاربــن القدمــاء‪ ،‬أو نــادي الضبــاط‪ ،‬أو بعــض مطاعــم املدينــة يف‬
‫بــاب تومــا وغريهــا‪ ،‬ومشــاهدة بعــض الكتــاب مــع أولئــك املســؤولني عــن النــر عــى طاولــة واحــدة‪،‬‬
‫يعطــي فكــرة عــن خلفيــات املوضــوع‪ ،‬ومــاذا تعنــي كلمــة محســوبيات‪ ،‬عــدا عــن الثمــن الــذي يدفــع‬
‫يف كثــر مــن األحيــان‪ ،‬إن عــى هيئــة هدايــا‪ ،‬أو لقــاءات تطيّــب الخاطــر!‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪112‬‬

‫يجــدر بالذكــر أن طــرح األســاء عــى العلــن ليــس عــى درجــة مــن األهميــة يف هــذا املقــام‪ ،‬غــر‬
‫أنــه وارد بالــرورة إن اقتضــت الحاجــة‪.‬‬

‫ما دام الحديث يركز أوالً عىل اتحاد الكتاب يف سوريا‪ ،‬فال بد من الحديث عن أطنان الكتب‬
‫التي يصدرها االتحاد وال يقرأها أحد‪ ،‬والتفكري بتلك امليزانيات التي ترصف عليها‪ ،‬ويكون مصريها‬
‫املــوت يف رطوبــة مســتودعات االتحــاد وفروعــه املنتــرة يف املحافظــات الســورية‪ ،‬وبالتــايل ال بــد‬
‫من السؤال‪ :‬ملاذا كل هذه املطبوعات؟‬

‫مــن خــال معرفتــي البســيطة يف هــذه النقطــة‪ ،‬فــإن األمــر برأيــي يتعلــق بعمليــات فســاد ماليــة‬
‫بالدرجــة األوىل‪ ،‬حيــث هنــاك ميزانيــات تــرف عــى أشــياء ال قيمــة لهــا‪ ،‬وال وجــود لرقابــة حقيقيــة‬
‫تفتــش عــن الجــدوى‪ ،‬ومصــر هــذه الكتــب‪ ،‬وأهميتهــا‪ ،‬وأســباب طباعتهــا‪ ...‬الــخ‪.‬‬

‫يصدر اتحاد الكتاب جريدة أسبوعية واحدة (األسبوع األديب)‪ ،‬ومجلة شهرية واحدة (املوقف‬
‫األديب)‪ ،‬وعددا ً من املجالت الفصلية‪ :‬الرتاث األديب– اآلداب األجنبية –الكاتب العريب –الفكر‬
‫العريب‪ ...‬الخ‪.‬‬

‫وهذه املطبوعات تشكل مصدرا ً مالياً للمسؤولني يف االتحاد‪ ،‬كيف؟‬

‫رئيــس اتحــاد الكتــاب‪ ،‬لــه افتتاحيــة العــدد األســبوعي دامئ ـاً‪ ،‬رئيــس التحريــر لباقــي املجــات‬
‫الشــهرية والدوريــة لــه االفتتاحيــة أيض ـاً يف مجلتــه‪ ،‬رئيــس التحريــر يف األســبوعية لــه زاويــة أســبوعية‬
‫ثابتــة‪ ،‬عــدا مــا تجــود بــه قريحتــه دامئـاً‪ ،‬وكذلــك أمــن التحريــر‪ ،‬أو مديــر التحريــر‪ ،‬وحــن نعــرف أنه هذه‬
‫الزوايا الثابتة ترصف لها مبالغ استكتابات عالية‪ ،‬نعرف بعض الرس عن هذه املزرعة التي يتقاسم‬
‫خرياتهــا هــؤالء املنتفعــن يف االتحــاد‪.‬‬

‫تحقــق عضويــة اتحــاد الكتــاب يف ســوريا للكاتــب الســوري بعــض االمتيــازات‪ ،‬وهــي التــي قــد‬
‫تكــون الدافــع لبعــض الكتــاب لطلــب العضويــة‪ ،‬منهــا عــى ســبيل املثــال‪:‬‬

‫وجــود مؤسســة تعنــى بالدفــاع عــن الكاتــب يف حــال تعــرض نتيجــة كتابتــه للمســاءلة أو االعتقال‪،‬‬
‫وهــو أمــر مل يكــن ناجــزا ً بشــكل حقيقــي‪ ،‬عــى الرغــم مــن بعــض الحــاالت التــي اســتدعي فيهــا بعــض‬
‫األعضــاء‪ ،‬وقــام رئيــس االتحــاد الســابق عــي عقلــة عرســان بالســؤال عنهــم‪ ،‬وتــايف األمــر مــع الجهــات‬
‫األمنية‪.‬‬

‫أما الرئيس الحايل حسني جمعة فال يعرف عنه هذا االهتامم بالدفاع عن الكاتب يف مواجهة‬
‫املخاطر بأي شكل من األشكال‪ ،‬اللهم إال إذا اعترب أن الوقوف إىل جانب املخابرات ضد الكاتب‬
‫هو ما تعنيه كلمة املساندة‪.‬‬
‫‪113‬‬ ‫؟»برعلا باتكلا داحتا« يروسلا ماظنلا مدختسي فيك‬

‫النقطــة األخــرى تلــك املتمثلــة بحصــول الكاتــب عــى راتــب تقاعــدي يف حــال وصولــه إىل ســن‬
‫طملا ناحرف‬

‫التقاعــد‪ ،‬وهــو أمــر رضوري يســعى إليــه الجميــع‪.‬‬

‫يقوم االتحاد باملشاركة يف مشاريع سكنية بقصد تأمني السكن واالصطياف لألعضاء‪ ،‬وهذه‬
‫النقطــة طويلــة األمــد يقــوم االتحــاد بأخــذ اشــراكات األعضــاء املكتتبــن عليهــا عــى مــدى ســنوات‬
‫طويلــة‪ ،‬وقــد اســتفاد كثــر مــن الكتــاب الســوريني مــن هــذه امليــزة‪ ،‬بينــا أصبحــت يف الســنوات‬
‫األخــرة (قبــل الثــورة) أشــبه بالعبثيــة‪.‬‬

‫هنــاك أيضـاً يف االتحــاد مــا يعــرف بصنــدوق الوفــاة‪ ،‬وهــو الــذي يقــوم بــرف معونــة ماديــة ألهــل‬
‫الكاتــب يف حــال وفاتــه للمســاعدة يف دفنــه‪ ،‬خاصــة أن األمــر أصبــح مكلفـاً يف ســوريا‪.‬‬

‫هــذه النقطــة بالــذات أيض ـاً تصبــح باب ـاً لالســتفادة لــدى بعــض املنتســبني لالتحــاد بحيــث أن‬
‫كثرييــن منهــم يحصــل يف حياتــه عــى نصــف املبلــغ ملجــرد أن يــأيت بتقريــر طبــي يفيــد بأنــه مريــض‬
‫ويحتــاج للمســاعدة‪.‬‬

‫هــذه اإلشــارات غيــض مــن فيــض فيــا يخــص الصــورة الداخليــة لالتحــاد‪ ،‬والســؤال الــذي يطــرح‬
‫اآلن‪ :‬مــا هــي حاجــة الكتــاب واملبدعــن الســوريني لالنتســاب إىل مثــل هــذا االتحــاد‪ ،‬وهــل هــي‬
‫الزمــة لالعــراف بإبداعهــم أم أن األمــر يقتــر عــى بعــض الفوائــد املاديــة التــي ذكــرت أمثلــة رسيعــة‬
‫عامــة عنهــا؟‬

‫تجــدر اإلشــارة بقــوة هنــا إىل أن أدبــاء ســوريني كبــارا مل يكونــوا يوم ـاً أعضــاء يف هــذا االتحــاد‪،‬‬
‫عبــد الســام العجيــي عــى ســبيل املثــال ال الحــر‪ ،‬أي أن هــذه العضويــة ليســت رشطـاً لالعــراف‬
‫بالقيمــة األدبيــة واإلبداعيــة للكاتــب الســوري‪.‬‬

‫إن الحديــث عــن هــذه الصــورة يف االتحــاد ال يعنــي بالــرورة أن كل أعضــاء االتحــاد انتهازيــون‬
‫يبحثون عن مجرد االســرزاق عىل حســاب رشف الكلمة واملوقف‪ ،‬فقد شــهد االتحاد عرب ســنوات‬
‫وجــوده يف ســوريا الكثــر مــن الســجاالت الحــادة‪ ،‬واملواقــف املرشفــة لعــدد كبــر مــن الكتــاب‬
‫الســوريني‪ ،‬يف وجــه هيمنــة الســلطة عــى هــذا االتحــاد وجعلــه تابع ـاً لهــا عــر أزالمــه‪.‬‬

‫كل مــا تقــدم عــن صــورة االتحــاد والعالقــة معــه واالنتســاب إليــه مفهــوم ضمــن حالــة املواطــن‬
‫الســوري قبــل الثــورة‪ ،‬ولكــن منــذ أن اندلعــت الثــورة صــار لزام ـاً عــى الكاتــب أوالً أن يعلــن موقفــه‬
‫مــن أجــل الحريــة‪ ،‬وبالتــايل ال ميكــن فهــم موقــف أي كاتــب حقيقــي يف هــذه املؤسســة‪ ،‬ألن األمــر ال‬
‫يحتمــل أن يكــون مجــرد وجهــات نظــر‪.‬‬

‫فالكتــاب هــم يف طليعــة املطالبــن بالحريــة أساس ـاً فكيــف لهــم الصمــت حــن يثــور الشــعب‬
‫مــن أجــل هــذه الحريــة‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪114‬‬

‫أتفهــم متامـاً الحــاالت القرسيــة الخاصــة التــي قــد تحيــط بعــض النــاس ومتنعهــم ألجــل معــن مــن‬
‫اإلدالء برأيهم وإعالن موقفهم‪ ،‬ولكن استمرار الصمت ال يفرس إال من باب املوافقة عىل مامرسات‬
‫القمع والقتل التي يرتكبها النظام ضد الشعب املطالب بالحرية‪.‬‬

‫منــذ مــا قبــل انــدالع الثــورة الســورية يف شــهر آذار ‪ 2011‬شــهدت املــدن الســورية حــراكاً كبــرا ً‬
‫للتنبــؤ مبــا قــد يحــدث إثــر انــدالع رشارة البوعزيــزي يف تونــس وانطالقــة ثــورات الربيــع العــريب‪ ،‬وكان‬
‫الكتــاب مــن أوائــل املهتمــن بهــذا الحــراك‪.‬‬

‫ويف األيــام واألســابيع األوىل شــارك عــدد مــن الكتــاب الســوريني يف املظاهــرات (خاصــة درعــا)‬
‫واعتقــل بعضهــم‪ ،‬األمــر الــذي تــرك أثــره عــى كل الحــوارات والنشــاطات التــي كانــت تحــدث يف‬
‫اتحــاد الكتــاب العــرب‪.‬‬

‫أذكــر عــى ســبيل املثــال االجتــاع الشــهري لجمعيتنــا (جمعيــة القصــة والروايــة) حيــث كان أحــد‬
‫زمالئنــا (خلــف الــزرزور) قــد اعتقــل يف درعــا‪.‬‬

‫هــذا االجتــاع حــره عــى غــر املعتــاد رئيــس االتحــاد وبعــض أعضــاء املكتــب التنفيــذي‪ ،‬وقام‬
‫رئيــس االتحــاد بإلقــاء كلمــة ينــدد فيهــا باملؤامــرة التــي تتعــرض لهــا ســوريا مــن قبــل املندســن‪.‬‬

‫بعــد انتهــاء كلمتــه جــرى نقــاش مفتــوح حــاد بــن الزمــاء أعضــاء جمعيــة القصــة والروايــة ورئيــس‬
‫االتحــاد حيــث طالبــه البعــض مبوقــف واضــح لالتحــاد‪ ،‬وقــال ان االتحــاد ســيصدر بيان ـاً يوضــح فيــه‬
‫موقفــه النهــايئ مــا يحــدث‪.‬‬

‫ظهــر االنقســام حــادا ً بــن األعضــاء‪ ،‬وارتفعــت األصــوات‪ ،‬وكان البعــض قــد ظهــر عــى حقيقتــه‪،‬‬
‫وأســفر عــن وجهــه املخابــرايت األصيــل حــن حاولــوا منــع بعضنــا مــن الــكالم‪.‬‬

‫أثناء مداخلتي فاجأت الجميع بشهاديت عن طبيعة ما يحدث داخل أروقة التلفزيون السوري‬
‫(بصفتــي أعمــل بــه كمعــد للربامــج) ووصفــت التلفزيــون الســوري أمــام الجميــع بأنــه ميــارس الكــذب‬
‫يف نقــل األحداث‪.‬‬

‫اســتنكر رئيــس االتحــاد وبعــض الكتــاب املخابــرات مــا قلتــه عــن التلفزيــون الســوري‪ ،‬وعنــد انتهــاء‬
‫هــذه الجلســة العاصفــة طلــب منــي رئيــس االتحــاد حســن جمعــة مرافقتــه إىل مكتبــه‪ ،‬وهنــاك‬
‫عاتبنــي قائ ـاً‪:‬‬

‫أعرف أنك إنسان عاقل ومل أكن أتوقع منك أن تتفوه مبثل هذا الكالم‪.‬‬

‫حينها ســألته عن الزميلني الشــاعرين‪ :‬عالء الدين عبد املوىل‪ ،‬وعمر إدلبي وموقفه من إعالن‬
‫انسحابهام من عضوية اتحاد الكتاب العرب‪.‬‬
‫‪115‬‬ ‫؟»برعلا باتكلا داحتا« يروسلا ماظنلا مدختسي فيك‬

‫فأجابني بالحرف الواحد‪:‬‬


‫طملا ناحرف‬

‫أنــا ال أتلقــى االســتقاالت عــر وســائل اإلعــام‪ ،‬ومل يصلنــي أي كتــاب منهــم أو‬
‫توقيــع‪.‬‬

‫أذكــر هــذه العبــارة لــه‪ ،‬ألننــي حــن أعلنــت اســتقالتي مــن التلفزيــون الســوري‬
‫وانســحايب مــن عضويــة اتحــاد الكتــاب (كثالــث عضــو ينســحب منــه) جــاء رد اتحــاد‬
‫الكتــاب باملوافقــة عــى قــرار انســحايب عــر وســائل اإلعــام!‬

‫انشــق بعــد ذلــك يف أشــهر الحقــة بعــض الزمــاء الكتــاب‪ ،‬ولكــن عمومـاً مل تكــن‬
‫الحالــة مرضيــة‪ ،‬وهــي أقــل بكثــر مــا يتوقــع ويطلــب مــن الكتــاب الذيــن يفــرض بهــم‬
‫احــرام رشف الكلمــة وحريــة اإلنســان‪.‬‬

‫مل أكتــب شــيئاً يذكــر عــا حــدث باســتثناء روايــة أعكــف عــى كتابتهــا منــذ عــام‬
‫تقريبـاً‪ ،‬أحــاول فيهــا (مثــل آخريــن) رصــد مــا عايشــته‪ ،‬وكنــت شــاهدا ً عليــه‪.‬‬

‫أشــعر أنني ما زلت يف حالة الصدمة من كل ما شــاهدت وســمعت وما زلت‬


‫غــر قــادر عــى تصديــق كل مــا حــدث‪ ،‬عــى الرغــم مــن توقعــي للكثــر مــا حــدث‬
‫منــه بوقــت مبكــر‪ ،‬فأنــا واحــد مــن الســوريني الذيــن قالــوا يومـاً‪:‬‬

‫إن حدثت الثورة فإن الدم سيسيل إىل الركب!‬

‫وهــا هــي الثــورة قــد حدثــت‪ ،‬وهــا هــي أنهــار الــدم قــد ســالت‪ ،‬ولكــن الحريــة‬
‫باتــت أقــرب‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪116‬‬

‫ابراهيم محمود‬

‫مثقف الساعة «الخامسة والعرشون»‬

‫ً‬
‫حكاية‬ ‫ما ليس‬
‫يف املشــهد االنفجــاري العــريب املتسلســل‪ ،‬ومنــذ أربــع ســنوات ونيــف‪ ،‬كــا‬
‫يف الحــال يف سوريـ‪ :‬ــتنا‪ ،‬إذ مــأ دخانــه الــركاين الرمــزي ســا َء السياســة العربيــة‬
‫تبعـاً للجهــة ونوعيــة الصلــة باملســتجد‪ ،‬كان هنــاك اإلنســان العــادي وقــد بــات يف‬
‫الطليعة واملنخرط يف تنظيم أو حزب أو رابطة معينة سوى أن املثقف بقي خارج‬
‫نطــاق التســمية كــا عودتنــا الشاشــة البيضــاء قبــل غريهــا‪ ،‬وكأن الــذي جــرى ويجــري‬
‫يعلِمنــا مبــا كان علينــا أخــذ العلــم بــه وهــو إطــاق نــداء مــن نــوع (مــات املثقــف)‪،‬‬
‫يدعنــا إزاء مأســوية اســمه وموقعــه الفعليــن‪ :‬مــا كان عليــه حقيق ـ ًة ومــا كان يتمثلــه‬
‫يف مجريــات الحيــاة اليوميــة ومــدى دقــة الصفــة التــي متيــزه‪ :‬مثقــف!‬

‫هــل أثبتــت األحــداث حق ـاً مــوتَ املثقــف يف املجمــل‪ ،‬ونعيــه دون أن نشــهد‬
‫دفنـاً لــه‪ ،‬يليــق بــه؟ عــى األقــل نظــرا ً للحاجــة إليــه بــن الحــن واآلخــر‪ ،‬أم أن التحــول‬
‫ـب املــريئ‪ ،‬كان يعـ ّرف باملثقــف ضمنـاً‪ ،‬وكأنــه‬
‫الرسيــع لرمــوز أنظمــة وجرفهــا‪ ،‬وصخـ َ‬
‫ينتمــي إىل جوقــة املنجرفــن حتــى لــو كان يف صنــف ٍمنــه خارجهــا‪ .‬أم أن مثــة لعبــة؟‬
‫أعني بذلك ترجمة غري دقيقة متاماً ومتفَّق عليها يف رداءتها تخص املثقف وهي‬
‫مركَّبة يف هدفيتها‪ :‬ما كان يُعنى به ويعىل شأنه ليس حباً فيه‪ ،‬وإمنا للوهم الذي‬
‫يج ّملــه ممــن راهنــوا عليــه تعبــرا ً عــن مواقــع ســلطوية أو مؤسســاتية مدمجــة مبــا هــو‬
‫‪117‬‬ ‫نورشعلاو ةسماخلا« ةعاسلا فقثم‬

‫ســلطوي‪ ،‬وهــو ليــس كذلــك تعميـاً وتحديـ َد مكانــة‪ ،‬ومــا ال يعنــى بــه املثقــف وق ّيــد اســمه يف نطاقه‬
‫دومحم ميهاربا‬

‫إزاء الدائــر لتأكيــد عــدم صالحيتــه‪...‬‬

‫ما يكون حكاية‬


‫أن نتحــدث عــن مــوت املثقــف فليــس ألن مثــة زواالً أو انقراض ـاً فعلي ـاً لــه قــد تــم أو تحقــق مــن‬
‫منظــور املرتبــص بــه‪ ،‬ومــا أكــر الذيــن يشــرون إليــه باعتبارهــم داخلــن يف نطــاق (وشــاهد شــاه ٌد‬
‫مــن أهلــه) ســلباً أو إيجابـاً‪ ،‬والذيــن ال يك ُّفــون عــن اإليحــاء إىل موتــه أو مواتــه امللحــوظ وفــق تقديــرات‬
‫معينــة‪ ،‬والذيــن يحاولــون متثيلــه وهــم عــى نقيــض املال َحــظ فيــه‪ ،‬ونحــن نشــهد فيــه اليــوم أو راهن ـاً‬
‫أكرث من أي يوم مىض‪ ،‬وكم (أشكل املثقف عىل املثقف) إن استأنسنا بعبارة التوحيدي التليدة‬
‫(لقد أشكل اإلنسان عىل اإلنسان)‪ ،‬وإمنا ألن اختالفاً يف املنظور إزاء تحول يف الواقع رمبا يلزمنا‬
‫وتجل املســتجدات التي‬
‫ّ‬ ‫بالتشــديد عىل مفردة من نوع صادم «موت – زوال ‪ -‬انقراض‪ ...‬الخ»‪،‬‬
‫تس ـ ّمي مثقفهــا الــذي ال بــد منــه إذ إن الحديــث عــن مــوت املثقــف يعنــي توقيــف العمــل بالحيــاة‪،‬‬
‫أعنــي التوقــف عــن الحيــاة وهــذه اســتحالة‪.‬‬
‫ال يعــود ســؤال‪ :‬مــن نحــن؟ مبقبــول هنــا‪ ،‬وإن كان يطـ َرح كثــرا ً‪ ،‬كــون النهــر الجــارف ملــا هــو مــريئ‬
‫أن تحركنــا واتجهنــا يشــدنا إىل تيــاره‪ ،‬بوتائــر أكــر حركيــة وداللــة مــا كان‬
‫يف املجتمــع ومــن حولنــا‪َّ :‬‬
‫يتصــوره هرياقليطــس قبــل خمســة وعرشيــن قرن ـاً‪ ،‬إنــه النهــر رسيــع الجريــان كثــر الدوامــات كذلــك‪،‬‬
‫وكأن مثة من يتحكم بحركتنا وأذواقنا ورغباتنا وحتى أحالمنا شديدة الخصوصية‪ ،‬ألن مثة تنوعاً يف‬
‫(الــ‪ :‬مــا بعديــات)‪ ،‬واختالفـاً يف مقاماتهــا ومفاجآتهــا كذلــك‪ .‬هــو ســؤال مــن نــوع‪ :‬أيــن نحــن كموقــع‬
‫يف الصــورة التــي تؤثــر فينــا مبؤثراتهــا الضوئيــة واملتعــددة األلــوان واملتحركــة دامئـاً؟ كيــف هو التفكري‬
‫عــر الصــورة؟ صــورة معينــة كالتــي تفتتنــا بتقنياتهــا النافــذة‪ ،‬مركَّبــة خــارج إراداتنــا كثــرا ً‪ ،‬فهــي تخلــص‬
‫لذاكــرة آليــة تعنيهــا! إنهــا الصــورة التــي تجعلنــا كائنــات إعالميــة غــر مســتقرة‪ ،‬ننتقــل مــن مــكان آلخــر‪،‬‬
‫ألننــا طــوع مــا يص ّورنــا دون علــم منــا ونحــن مشــاة‪ ،‬أو يف حافــات شــخصية وعامــة‪ ،‬ونحــن يف بيوتنــا‬
‫أحيان ـاً‪ ،‬ويف الطــرق الطويلــة الرسيعــة يجــري تصويرنــا وبثنــا عــر ســطوح مرئيــة‪ ،‬كــا هــو الحــال يف‬
‫أجهــزة التصويــر التــي توغــل يف معرفــة عاملنــا الداخــي! مــن نحــن إذا ً عمومـاً وخصوصـاً؟‬
‫وللمثقف أن يعايِن يف شــخصه ويف محيطه كيف هو موضوعه الذي كان يتباهى به أو يع ّرف‬
‫نفسه من خالله حتى األمس القريب‪ ،‬عندما تستحيل كتابته شاهدة عيان عىل حقيقة املف َّوه به‪.‬‬
‫ورغــم أن الســؤال الســالف يعيدنــا إىل الســؤال األول‪ ،‬لكنــه يســمح ببعــض مــن الحركــة الذاتيــة‬
‫ملعاينــة قوانــا يف مجتمــع اليــوم‪ ،‬وهــي القــوى عاشــت مخاضهــا التاريخــي واالجتامعــي‪ ،‬وبــات مــن‬
‫الصعب عىل املثقف االدعاء أنه يسترشف الجاري من عل ٍ كونه جزءا ً من املشهد أو داخالً فيها‪،‬‬
‫ويف الوقت عينه‪ ،‬يتطلب هذا التالزم املربك شجاعة مكاشفة تتناسب ورسعة املتحول ومسلكه‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪118‬‬

‫يف سياحة الجدل املح ّلق‬


‫لقــد زاوج اإلعــام بــن التفكــر والصــورة‪ ،‬إىل درجــة إلــزام التفكــر بتلبيــة رغبــات الصــورة املولَّفــة‬
‫وتعزيــز مكانتهــا‪ ،‬إىل درجــة أن املثقــف أر ِغــم عــى تغيــر عدتــه وأســاليب نظــره ليحســن البقــاء‪.‬‬

‫مثــة معايــر خاصــة جــدا ً يتغــر فيهــا منســوب الرؤيــة‪ ،‬رؤيــة تتقافزهــا الفضائيــات وصغائرهــا‬
‫الفيســبوكية‪ ،‬وطريقــة تدفــق املعلومــات وجهاتهــا ومــا يســتهدَف منهــا ومــن املعنــي مبــارشة بهــا‬
‫ومــاذا يرتتــب عليهــا‪ ،‬ومــا يخــص بتحــرك املعلومــة عــر شــبكات األخبــار املرئيــة دون نســيان املصــدر‬
‫وإن مل يُسم مبارشة‪ ،‬ألن ال أحد يجهل الرشكات العمالقة لتسقط األخبار وطرق تداولها أو التحكم‬
‫مبســارها‪ ،‬وكيــف تســتحيل الــركات هــذه‪ ،‬كائنــات شــديدة التشــخيص والقيمــة االجتامعيــة‪.‬‬

‫إذا ً نحــن يف مواجهــة كوكتيــل معلومــايت هائــل‪ ،‬تكــون عصارتــه هــذه الجهــة اإلعالميــة املتطــورة‬
‫تقانياً‪ ،‬وهي تجمع بني وضوح الخرب‪ ،‬وتتبيله‪ ،‬وتقدميه بالطريقة التي تش ِعر املتلقي أنه واجد فيها‬
‫بغيتــه‪ ،‬أو إن شــئت‪ ،‬توحــي إليــه بالتــايل‪ :‬أمامــك هــذه املعلومــة املركَّبــة‪ ،‬أو الكوكتيــل املعلومــايت‪،‬‬
‫وعليك أن تقبل به‪ ،‬وإال ستُح َرم من كل يشء‪ ،‬إذ إن مواطن اليوم (املواطن العاملي الذي يسمى‬
‫دون تحديــد هنــا وهنــاك)‪ ،‬هــو مواطــن معلومــايت‪ ،‬مواطــن مص َّنــع‪ ،‬بقــدر مــا يكــون قيــد الــدرس ويف‬
‫شــعبة صفيــة غــر مرئيــة‪ ،‬ال ميكنــه أن يؤكــد حضــوره إال بــأداء دوره‪ ،‬وهــو يقــول كــا يفعــل مــا يعتقــده‬
‫أنــه مبــلء إرادتــه‪ ،‬ولكنهــا إرادة املعلومــة املتلفــزة أو املحتــواة داخــل الصــورة‪ ،‬وهــذه لهــا ماركتهــا‪.‬‬

‫نقطة نظام ال رقمية‬


‫علينــا بدايــة أال نه ـ ّول مــن أمــر اإلعــام كــا لــو أن الــذي نســمع بــه أو نتفاعــل معــه‪ ،‬ينفصــل كلي ـاً‬
‫عــا كان‪ .‬ذلــك وهــم آخــر يرتتــب عــى وهــم الجــاري اســتعامله أو التفكــر بــه باعتبــاره إشــكاالً أو لغــزا ً‬
‫يستوجب تفكيكاً ومكاشفة له‪ ،‬إمنا هو أن نرتقي إىل مستوى مسئوليات يعنيها يف اتساع حدوده‪.‬‬

‫فالحقيقــة كانــت مــذ وجــدت‪ ،‬معـ ّـرة عــن الذيــن يتحدثــون باســمها‪ ،‬وهــم يف تنــوع مراتبهــم‪،‬‬
‫وكان الســعي إليهــا يف اعتبارهــا واحــدة‪ ،‬تلــك الخمــرة التــي أثــرت يف عجينــة تواريــخ املجتمعــات‬
‫كافــة‪ ،‬وتنافــس عليهــا أولــو األمــر ومــن يخالفونهــم الــرأي حتــى أنــه يف وســع الباحــث أن يتحــدث عــن‬
‫الطابع الرقمي ألي مجتمع‪ ،‬ولو بنســبة أقل عن الرصاع الدائر بني التجريد والتشــخيص‪ ،‬إذ التفكري‬
‫كان تفكــرا ً يف موضــوع معــن ويف زمــكان معــن‪ ،‬وكانــت القصديــة قامئــة‪ ،‬إن جارينــا هــورسل يف‬
‫ظاهرياتيتــه مــع فــارق النظــرة إىل الواقــع ومســتجداته إىل حــدود الصــورة وتنــوع وظائفهــا‪.‬‬

‫نعــم‪ ،‬صــارت الصــورة منافســة للغــة ذاتهــا‪ ،‬إن مل تكــن هــذه يف أس تكوينهــا صــورة أو يف هيئــة‬
‫صورة‪ ،‬وهذه بداهة تتجاوب مع منطق العرص التقاين‪ ،‬وأظن أن ذلك ال يدعو إىل اإلحباط‪ ،‬بقدر‬
‫مــا يضعنــا يف مواجهــة املســتجدات وكيفيــة تعميــق التفكــر والذيــن يعملــون يف الحقــل اإلبداعــي‬
‫‪119‬‬ ‫نورشعلاو ةسماخلا« ةعاسلا فقثم‬

‫إننــا إزاء توســع حــدود األرض كــا هــو البــث الفضــايئ لربامجنــا املختلفــة‪ ،‬يجــب أال نطــوي‬
‫دومحم ميهاربا‬

‫صفحته‪ ،‬ونحن نعيش حالة الخوف مام يرصدنا فضائياً‪ ،‬ومحاولة اإلساءة إىل األرض وأهلها‪ ،‬إنها‬
‫إفــرازات أوجــه التقانــة املختلفــة‪ ،‬وهــو الخــوف الــذي أحــال الواقــع إىل ســاحة رهــان مفتوحــة أمامــه‪.‬‬

‫املثقف العربي ورهان البقاء املختلف‬


‫يف زحمة الصور التي شهدناها يف نهرها متعدد األفرع أو الروافد‪ ،‬ال فكاك من الدخول يف قلب‬
‫التيار‪ ،‬وتح ُّمل مسؤولية تاريخ كاملة‪ ،‬ويف اآلن عينه التميز عن البقية‪ ،‬يف معادلة مكلفة العنارص‪.‬‬

‫أن يكــون املثقــف كــا كان‪ ،‬وهنــا يكــون موتــه الــذايت‪ ،‬وأن يكــون منبعثـاً مــن رمــاده الســابق‪ ،‬وهنــا‬
‫يســتوجب عليــه إماتــة كائنــه الســابق دون تــردد وانتظــار مــا ستســفر عنــه نــاره‪ :‬مثقــف املوعــود ِبــه!‬

‫إن الوقــوف عــى معادلــة شــديدة اإلشــكالية‪ :‬إشــكالية اعتــداد املثقــف بنفســه‪ ،‬وغوايــة انتهــاز‬
‫الفــرص‪ ،‬ليــس حديــث العهــد‪ ،‬إمنــا يش ـكّل عالمــة فارقــة ملثقفنــا مــذ كان‪ ،‬وقــد تنوعــت أســاؤه‬
‫وألقابــه‪ ،‬ليســتحيل التناهــي األقــى يف الصغــر مقابــل التناهــى األمثــل يف الفاعليــة دون تبــاه وهــو‬
‫متنقــل‪ ،‬إن ذلــك مــن شــأنه أن يس ـ ّهل علينــا مــا ِ‬
‫ينســبه إىل نفســه مــن بطولــة ذاتيــة وهــو يف موقــع‬
‫املســتقل‪ ،‬ومــا يجعلــه ضحيــة مزدوجــة لواقــع مــزر ٍ أو ال يعايَــن كــا هــو يف شــمولية أبعــاده‪ ،‬وحــن‬
‫يكــون ضحيــة مــن ضحايــاه‪ ،‬ال بــل الضحيــة األكــر جــدارة بالتهكــم ملــا يف ســرتها مــن مفارقــات يتنكــر‬
‫لهــا وهــو يعيشــها‪.‬‬

‫مثــة مــن يقــول‪ ،‬أو يجيــز لنفســه القــول بــأن ذلــك ســقفه وتلــك حــدوده‪ ،‬وبينهــا نبعــه الــذي‬
‫يغــرف منــه‪.‬‬

‫هذا ما ميكن التعرف إليه‪ ،‬عىل األقل من خالل الذين تع َّرضنا لهم سالفاً ولو باقتضاب‪.‬‬

‫لكن ذلك ال يعفي املثقف‪ ،‬أي مثقف من االعرتاف بحالة العجز الذي أبقاه يف واقع كان يبحث‬
‫فيه عن مخارج لتأكيد ذاته‪ ،‬تغلب فيه نزعة اليقينية كل ما يتعرض له من مستجد يربك أفكاره‪.‬‬

‫لنقــل‪ :‬مثــة الواقــع املمثَّــل مبجتمــع كامــل ونوعيــة املــواالة واملنــاوأة لهــذا الجانــب أو ذاك‪ ،‬وأي‬
‫خيــط يربطــه بالســلطة كســلطة ضاربــة بنفوذهــا‪ ،‬مندفعـاً بيقــن يرتجــم مأســويته غــر املســاة بدقــة‪:‬‬
‫أن تكــون لســان طــرف‪ ،‬أي طــرف‪ ،‬أو مق َّربـاً منــه‪ ،‬ين ّجيــك ذلــك مــن البقيــة! كان الــكل‪ :‬املجتمــع لغــزا ً‬
‫ال يجابه‪ ،‬إمنا يُته َّرب منه‪ ،‬ومفهوم (املثقف املجتمعي) عاش غرابة اسمه طويالً‪ ،‬ومل يتأصل كام‬
‫معبا ً عن خيار وحيد الجانب ملثقفنا‪ :‬طرفيته‪ :‬يســتحيل تحمل الكل وباســم الكل‪ ،‬حيث‬
‫ينبغي‪ّ ،‬‬
‫ال يكــون الــكل كالً‪ ،‬إمنــا هــو التنــوع غــر املتناغــم ليــأيت التمثيــل محرج ـاً لالســم ومصداقيــة الكتابــة‬
‫النســب الرقمــي (الديجيتــايل)‪ ،‬كان عليــه كــا تعلِمنــا بذلــك تربيتــه‬
‫حتــى يف قيامــة الصــورة ذات َ‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪120‬‬

‫االجتامعيــة‪ :‬العائليــة ومدرســية والجامعيــة واملؤسســاتية‪ ،‬أن يحســم أمــره يف مبــدأ الخيــار الجانبــي‬
‫ل ُيق َبــل بــه مواطــن ثقافــة‪ ،‬أو أن يظــل ذلــك الشــارد الطريــد‪ ،‬شــقياً‪ ،‬إمنــا الســعيد بخيــاره الــذايت‪ ،‬وهنــا‬
‫تــرز نــدرة املثقــف‪ :‬مثقفنــا‪.‬‬

‫إن ما يواجهنا به الراهن وهو يف انفجار مشاهده التي مل تستنث كياناً أو جهة‪ ،‬إال واستحالت‬
‫عنرصا ً من عنارصها‪ ،‬هو ما كان وبقي طويالً غفالً من االســم واملكاشــفة الدقيقة‪ ،‬ج َّراء هذا الكل‬
‫الــذي بقــي املرجــع الدقيــق لــكل مثقــف لحظــة تشــخيص أزمــة مــا‪ ،‬ولكنــه املســتبعد مــن الحســبان‬
‫لحظة النظر يف حقيقة الجاري‪ ،‬ألن مثة رؤية طرفية‪ ،‬فئوية تحيل هذا الكل إليها‪ ،‬وتختزلها بعنف‪.‬‬

‫إن املريئ يف الفضائيات العربية يقدّم لنا ما يشبه التقرير عن هذا االنتقام التاريخي للكل منه!‬

‫حيــث إن املثقــف الــذي كان ضيــف قنــوات فضائيــة حتــى األمــس القريب جدا ً‪ ،‬ومتكلامً طليقاً‬
‫يف ندوات ومؤمترات عربية متعددة املوضوعات‪ ،‬وعىل أعىل مستوى‪ ،‬ويجد القابلية يف نفسه‬
‫للخــوض يف غــار أكــر املوضوعــات تعقيـ َد بنـ ًـى‪ ،‬ووصــل مــا انقطــع يف التاريــخ‪ ...‬الــخ‪ ،‬هــا هــو يرتــد‬
‫إىل الــوراء‪ ،‬نظــرا ً ألن الــذي يُطلَــب منــه هــو أن يكــون خــاف مــا كان‪ ،‬إمنــا أن يكــون يف حجــم مــا هــو‬
‫املحض لها ومن يكون‬
‫ّ‬ ‫كائن‪ .‬إن مشهدية الوجبات الرسيعة قد متلكت فضائياتنا بعدواها‪ ،‬جهة‬
‫وراء أنشــطتها ووضــع برامجهــا واملتابــع لهــا بدقــة‪ ،‬كــا لــو أن التســارع يف حركيــة الشــارع قــد أصابــت‬
‫املعنيني مبصائر الناس باللهاث و»القهم» الكالمي (عدم اشتهاء التحدث)‪ ،‬ألن ضغوطاً تض ّيق‬
‫عليــه الخنــاق‪ ،‬وألن الــذي اعتــاده هــو توقيــف العمــل بالــكالم فــورا ً لحظــة الشــعور بأن ســاعة إشــهار ما‬
‫يقــوم عليــه ويل األمــر املجتمعــي واملتنفــذ الســلطوي قــد حانــت‪ ،‬لريتــد الــكالم إىل الــوراء‪ ،‬وال يعــود‬
‫مــن دور مرغــوب فيــه للمثقــف عينــه هــذا الــذي يكــون مق َّربـاً إليــه متامـاً‪ ،‬طاملــا أن مثــة تعريــة تطالــه‬
‫مــن الشــارع وتتهــدده يف عرشــه ورمــزه» الوطنــي» واملثقــف ال يبــدو عليــه أنــه مــن النــوع الــذي ميكنــه‬
‫إرجــاع أمــوره إىل نصابهــا‪ ،‬كــا لــو أن اعرتافـاً بــأن تهريجـاً اعت ِمــد يف عهــد اســتقراره‪..‬‬
‫إن غالبية الذين يعلّقون ِ‬
‫وينظرون ويقارنون‪ ،‬يتحركون عىل املوجة القصرية‪ ،‬ألن نفَس الفضائية‬
‫القصــر يف هــذا اللهــاث الشــارعي امللتهــب عربيـاً‪ ،‬غــر راغــب يف ســاع الكثــر‪ ،‬إمنــا مــا يعـ ّـر عــن‬
‫كأن بالطاقم اإلخباري‬
‫الوضعية التي يعيشها رمز الفضائية ومن يعنى بها يف السلب واإليجاب‪ّ ،‬‬
‫أو فريــق العمــل املتعــدد االهتاممــات ويف غايــة مشــركة‪ ،‬عــى ب ّينــة مــن حقيقــة الجــاري‪ ،‬وهــي أن‬
‫مثــة تخوف ـاً مــن مباغتــة الثانيــة الواحــدة‪ ،‬كــا تتدافــع األخبــار‪ ،‬أو يجــري تيارهــا مــن مشــهد إىل آخــر‬
‫يف تغطيــة شــاملة‪ ،‬ومتثّــل عبــارة «عاجــل» هــذا الوجــه القيامــايت الالفــت يف مســتطيل ســاخن أو‬
‫مختلف لوناً وتلك الجمل الرسيعة الدالة عىل مناطق ملتهبة عربية وإزاء هذا التسارع واملستجد‬
‫الغينتيس عربياً‪ ،‬ال يكون من طلب عىل التأين أو التفكري ملياً‪ ،‬إمنا مقابلة املباغت مبا يناسبه من‬
‫تعليق أو ما يشبه الحكم العاجل أو التفسري املبارش من جهات شتى‪ ،‬يف بانوراما تستولد أخرى‪.‬‬
‫‪121‬‬ ‫نورشعلاو ةسماخلا« ةعاسلا فقثم‬

‫املثقف خارج سوق الطلب عليه‪ ،‬ومثقف الساعة «الخامسة والعرشون» عربياً‪ ،‬طبعاً‪ ،‬مؤجل‬
‫دومحم ميهاربا‬

‫أو مص َمت‪ ،‬أو انزياحي غالباً‪ ،‬ألن املوجة الطويلة هي التي تع ّرف به‪ ،‬وها هو يشهد كيفية التمثيل‬
‫بــه وهــو حــي‪ ،‬حــن تشــا َهد وجــو ٌه ألول مــرة‪ ،‬وجــوه مل تكــن مألوفــة كوجهــه ســابقاً‪ ،‬وهــي يف ســعي‬
‫حثيــث إىل أن تكــون خــر شــاهد عــى الجــاري وخــر مــن ينطــق بالحقيقــة باســم الكاتــب أو الناشــط‬
‫الســيايس أو الحقوقــي أو املعلَــق الخــري‪ ...‬الــخ‪ ،‬وباســم الثقــايف غالب ـاً‪ ،‬وإن ق ّيــض للمثقــف أن‬
‫تخل عام كان مييّزه يف مغامرته‬
‫يكون ممن يسهمون يف إضاءة الجاري‪ ،‬يكون قد جازف بروحه أو ّ‬
‫الحقيقية والنتيجة غري املعلومة أمنياً‪ :‬أن يتحدث وفق املطلوب منه‪ :‬إجابات متتالية عىل أسئلة‬
‫متتاليــة‪ :‬رسيعـاً‪ ،‬مختـ ِزالً مــا حولــه‪ ،‬مع ِرضـاً نفســه للمقاطعــة واالنتقــال الفــوري إىل جــواب آخــر‪ ،‬قبــل‬
‫أن يتمكــن غالبـاً مــن إنهــاء جوابــه الســابق‪ ،‬ولقطــع الصــوت أحيانـاً أخــرى وتغييــب صورتــه‪ ،‬ومــا ينطــوي‬
‫عليــه وضــع مشــهدي‪ :‬متلفــز كهــذا مــن شــعور بالغــن أو الضيــم وســوء الفهــم‪ ،‬واضطــراره إىل توضيــح‬
‫فكرتــه يف مــكان‪ /‬منــر‪ ،‬خشــية تعريضــه ملــا ال يتمنــاه‪ ،‬أو يســتتاب ذاتيـاً بعــدم الظهــور ثانيــة‪.‬‬

‫يف وضــع مــن هــذا النــوع ال يبقــى املثقــف مكتــوف اليــد‪ ،‬رغــم أنــه قــد تــم تكتيفــه كثــرا ً‪ ،‬ويف أكــر‬
‫مــن موقــع ومقــام ســابقاً‪ ،‬تكتيــف كان لــه هــو ذاتــه دور يف ذلــك بارتضائــه ملــا آل إليــه مصــره‪ ،‬إمنــا‬
‫يحــاول التدخــل ومقاربــة ســيناريو املتحــوالت معـ ّـرا ً عــن أنــه ال يســتهان بــه‪ ،‬باحث ـاً عــن تأويــل هنــا أو‬
‫مجســدا ً النذيــر فيــا يتفــوه بــه‪ ،‬ليبقــي‬
‫ّ‬ ‫هنــاك‪ ،‬فيــا عـ ّـر عنــه أو توقــف عنــده يف مقــال لــه أو أكــر‪،‬‬
‫طريق اآليت سالكاً أو موطئ قدم يف زحام األقدام املتنافسة عىل مواقع متغرية بدالالتها القيمية‪..‬‬

‫قد يكون لدى املثقف ذي الطابع النجومي جهارا ً أو رسا ً مربر التخوف من اآليت‪ ،‬يف أن يصبح‬
‫أثــرا ً بعــد عــن يف املــدى املنظــور‪ ،‬وهــو يشــهد مــدى االهتــام بالكاتــب‪ :‬املثقــف املســتحدث‪،‬‬
‫نظــر‪ :‬الوجبــة الرسيعــة‪ ،‬وكيــف أن الحركــة املرئيــة مبالمحهــا ونــرة الصــوت هــي التــي تلفــت النظــر‪،‬‬
‫معيدة املشهد الفيديوكليبي ألغان تفتقد روحية األغنية‪ ،‬ليع ّوض مريئ الجسد االستعرايض فنية‬
‫املبتغــى يف الكلــات واملوســيقى‪ ،‬ومــا يعطــي املــرر أكــر لخوفــه مــن املتحــول الــكاريث‪ ،‬خصوصـاً‬
‫حــن يعـ َرف مــا هــو جديــر بالتذكــر‪ ،‬وهــو الحضــور املتتابــع للمثقــف واعتيــاده ذلــك بنــوع من التقليد‬
‫الــذي يســتهويه‪ ،‬لكــن ذلــك ال يعنــي البتــة أن مثــة خلـاً مريعـاً‪ ،‬مييــط اللثــام عــن النخــر الكينــوين فيــه‪،‬‬
‫عن مدى إفراطه يف تزكية أفكاره ودخوله يف حروب جانبية أو رصاعات ال تخفي أنانيتها السلطوية‪.‬‬

‫باملقابل‪ ،‬تكون مواجهته لنفسه فيام أتته يداه‪ ،‬وفيام استسلمت له ذاكرته واطأمن إليه ضمريه‬
‫عىل أنه مؤ َّمن عليه رغم بؤس املكانة‪ .‬إن املسألة برمتها هي مسألة تنوير ذات مستقلة باسمها‪.‬‬

‫يف غمــرة هــذه املشــهديات الفعليــة يكــون املع ـ َّرض لــه نتيجــة لســبب تح َّمــس لــه واســتأثر‬
‫باهتاممه‪ ،‬حيث يظهر الق ّيم عىل الوضع ومن خارج دائرة اهتامماته املبارشة أكرث إدراكاً ملا استقر‬
‫عليه واقعاً ليبقيه طوع التهميش أو التذرير يف فضاء التاريخ وكأنه مل يكن ذات يوم بشحمه ولحمه!‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪122‬‬

‫ويــراءى لنــا بجــاء لحظــة تســليط األنظــار أو فتــح النــار عليــه مــن الجهــات كافــة‪،‬‬
‫حتــى مــن أقــرب املقربــن إليــه‪ ،‬وهــو يف تنظــره وتأطــره وتشــفريه للواقــع‪ :‬سياسـ ُّيه‬
‫املعتـ َـر‪ ،‬أو كاتبــه األديب‪ ،‬أو ناقــده محــرف الكلمــة ومتح ـ ّري أوجــه الخلــل يف‬
‫مجتمعه‪ ،‬وما يأتيه من قبل املعلق أو املحلل لهذا الحدث أو ذاك ميثل رصاصة‬
‫الرحمــة‪ ،‬عــر نفيــه بعــدم االعــراف بــه ال بــل الســخرية منــه‪.‬‬

‫يف وسع األديب أو الفنان أن يحتمي بنصوص له‪ ،‬اعتامدا ً عىل عكازة تأويلية‬
‫مــا‪ ،‬لكــن مــا يصلــح لهــذا األديــب أو الفنــان أو حتــى الناقــد األديب والفنــي‪ ،‬ال يصلــح‬
‫للمثقــف الختــاف األثــر وطبيعته‪.‬‬

‫ليــس يف إمــكان أي مثقــف أن يتــوارى وراء نصــه‪ ،‬أي نــص‪ ،‬ألن مثــة مــا يقــود‬
‫القــارئ املهتــم مبــارشة إىل العطــب املق ـ ّوم لــه‪ ،‬مــا يقــذف بــه يف عــراء املعنــى‬
‫باالســم والتاريــخ واملناســبة أحيان ـاً‪.‬‬

‫لهــذا‪ ،‬نتلمــس يف الذيــن اســتجابوا للحــراك الشــعبي‪ :‬الثــوري ومــا يرادفــه‬


‫دالليـاً يف الشــارع العــريب‪ ،‬مــا يبقــي التفــاوت قامئـاً‪ ،‬عندمــا ينــري األدبــاء والفنانون‬
‫باعتبارهم مستهليك صور ومتبنيها كثريا ً‪ ،‬وهذا يضاعف من أوزار املثقف العريب‪،‬‬
‫ومــن تهــم التقصــر التــي تجلــو اســتغراقه يف أنــاه‪.‬‬

‫إن البحــث عــا تســميته باملثقــف العــريب الديجيتــايل‪ ،‬أي املنشــغل بزمــن‬
‫ريــايض متســارع‪ ،‬يتطلــب املزيــد مــن الر َّويــة وقبــل إطــاق أي حكــم‪ ،‬إمنــا طــرح‬
‫موضوعــه ليعايــن مــن جهــات شــتى‪ :‬مختلفــة‪.‬‬

‫إذ إن الديجيتــال كثقافــة مل تتــم تبيئتــه أو التكيــف الشــمويل ليكــون مندغـاً يف‬
‫بنيــة الحيــاة‪ ،‬وبالتــايل فــإن الــذي يغويــه العــامل الديجيتــايل وفتوحــه املعرفيــة مــن‬
‫جهــة‪ ،‬كثــرا ً مــا ينــى موقعــه ومــا يتمثلــه واقعـاً‪.‬‬

‫إنها اللحظة االنتحارية للمثقف العريب الذي يجد نفسه عىل تخوم الديجيتايل‬
‫وقــد ُســحب مــن تحتــه البســاط‪ ،‬فيبحــث عــن «الفاعــل» خارجـاً عــر تســميته‪ ،‬أكــر‬
‫مــن إدارة دفــة املعاينــة صوب الداخل‪.‬‬

‫إنــه الوعــي الفالقــي لواقــع جــرى ويجــري التثبــت مــن كارثيتــه‪ ،‬واقــع ميكــن توجيــه‬
‫إصبع االتهام كثريا ً إىل والة األمر فيه‪ ،‬وهو وعي مخادع لنفسه‪ ،‬لحظة النظر بعيدا ً‬
‫وتســمية الجــاين الــدويل‪ :‬األممــي باعتبــاره املسـ ّبب األول ملــا آلــت إليــه أمور األمة‪،‬‬
‫وليكون والة األمر أنفســهم يف موقع الضحايا‪.‬‬
‫‪123‬‬ ‫نورشعلاو ةسماخلا« ةعاسلا فقثم‬

‫رمبــا هــي الفرصــة الســعيدة الوحيــدة التــي تشــفع لــه ألن ينهــض بــذات أخــرى‬
‫دومحم ميهاربا‬

‫ويتمكــن مــن قــراءة ال تخفــي شــموليتها ونســبية القــراءة وشــجاعة املوقــف‪ ،‬وهــو‬
‫مريئ يف مشــهد متلفز أو ما يرادفه‪ ،‬حتى ال تعلَّق بطاقة نعيه حقيقةً‪ .‬إنه االنتظار‬
‫الذي ال بد منه ألن أمة دون مثقف‪ ،‬تفتقد اسمها الذي تتعدد مقومات وجودها‬
‫واســتمراريتها مــن خاللــه‪ ،‬وعــى املثقــف أن يثبــت جــدارة انتامئــه الفعليــة إليهــا إذا ً‪.‬‬

‫*) مالحظة‪ :‬أبقيت عىل عبارة «الخامسة والعرشون» ألهميتها الداللية‪،‬‬


‫ولهــذا جــاءت بــن مزدوجتــن صغريتــن‪ ،‬وهــي تشــر باملقابــل إىل روايــة‬
‫«الســاعة الخامســة والعــرون» الذائعــة الصيــت‪ ،‬وهــي لكونســتانتان دي‬
‫جورجيــو‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪124‬‬

‫حواس محمود‬

‫الكاتب والكتابة السورية‬

‫الهم السوري واملأساة السورية‪ ،‬بهولها وشناعة الفظاعات واملجازر املرتكبة‬


‫بحق السوريني بجميع مكوناتهم االثنية والدينية واملذهبية‪ ،‬تحرك الضامئر الحية‬
‫وتوقــظ الضامئــر النامئــة‪ ،‬وتبــث فيهــا دم الحيويــة‪ ،‬لتقــول ال لإلجــرام بحــق الشــعب‬
‫الســوري‪ ،‬ال للنظــام املجــرم‪ ،‬ال للقتــل‪ ،‬ال للتدمــر والتهجــر والكيــاوي والســكود‪،‬‬
‫ال إلطالــة األزمــة وإدارتهــا‪ ،‬ال للتدخــل الطائفــي‪ ،‬ال للتطــرف واملامرســات العنفيــة‬
‫التــي تتحــدى إنســانية اإلنســان يف كل مــكان‪.‬‬

‫معظــم الكتــاب الســوريني تضامنــوا مــع الثــورة الســورية مــن خــال الكتابــة ضــد‬
‫االســتبداد والدكتاتوريــة‪ ،‬وصفحــات الجرائــد والصحــف واملجــات ومواقــع النــت‬
‫تشهد عىل ذلك بصورة واضحة‪ ،‬وهذا بحد ذاته تفنيد كبري وقوي للنظام وأبواقه‬
‫ومــن لــف لفهــم مــن مثقفيهــم الذيــن روجــوا ملقولــة إن الثــورة غــر مرتافقــة بتأييــد‬
‫املثقفــن‪.‬‬

‫إن الثــورة انطلقــت مــن الجمــوع الشــبابية والشــعبية الغفــرة لكــن هــل هكــذا‬
‫انطلقــت‪ ،‬أمل يكــن قبــل انطالقتهــا ربيــع دمشــق ‪2001-2000‬؟ حيــث املنتديــات‬
‫والنشاطات السياسية والثقافية العديدة والتي قمعها النظام برشاسة حيث كان‬
‫املثقفــون هــم مؤسســو هــذا الربيــع بامتيــاز‪.‬‬

‫تــكاد تخلــو أي دوريــة أو صحيفــة مــن رأي كاتــب ســوري مرمــوق وهــو يصــب‬
‫‪125‬‬ ‫ةيروسلا ةباتكلاو بتاكلا‬

‫ســهام قلمــه الرشيــف األيب ضــد الطغمــة الدكتاتوريــة يف دمشــق‪ ،‬والتــي حكمــت النــاس بالحديــد‬
‫دومحم ساوح‬

‫والنــار أكــر مــن أربعــن عامـاً‪ ،‬وهــا هــي تحكــم بالقمــع الشــامل وبأحــدث تكنولوجيــات التدمــر ضــد‬
‫الشــعب الســوري‪ ،‬متخليــة بامتيــاز عــن خرافــة املقاومــة واملامنعــة التــي كانــت شــعارا ً وســتارا ً تجاريــا‬
‫لفســادها ودكتاتوريتهــا وهيمنتهــا عــى مقــدرات الدولــة واملجتمــع يف ســوريا‪.‬‬

‫تطول قامئة الكتاب السوريني الذين كتبوا ضد االستبداد ومع الثورة السورية‬

‫ميكننا أن نذكر بعض األســاء ونستشــهد مبا كتبوه من مؤلفات وعبارات تســجل لهم موقفهم‬
‫املبديئ تجاه النظام والثورة الســورية‪.‬‬

‫الكاتــب واملخــرج املرسحــي غســان الجباعــي يؤلــف كتاب ـاً بعنــوان «الثقافــة واالســتبداد» عــن‬
‫دار نــون للنــر ينتقــد فيــه ثقافــة التزييــف والتجميــل التــي كانــت تســود املشــهد الثقــايف الســوري‬
‫يقــول فيــه «إن الثقافــة ال قيمــة فعليــة لهــا‪ ،‬يف مجتمعاتنــا املتخلفــة وأنظمتنــا املســتبدة املعاديــة‬
‫للحرية‪ .‬وإن دورها تابع للسلطة وثانوي‪ ،‬وإن املثقفني مجرد صانعي أوهام ومستهليك حرب‪ ،‬وهم‬
‫شــخصيات ورق ّيــة انتهازيــة‪ ،‬أو مجــرد رصخــات ميتــة عــى موجــات األثــر‪ .‬متجاهلــن أن الثقافــة‪ ،‬يف‬
‫كل األحــوال‪ ،‬هــي نشــاط اجتامعــي وظاهــرة تاريخيــة‪ ،‬نصنعهــا وتصنعنــا‪ ...‬وهــي قيمــة بحــد ذاتهــا‪،‬‬
‫مثلها مثل العلم والجامل واملعرفة‪ ...‬وأن املثقف قد يكون متطفالً عىل الثقافة أو بوقاً للسلطة‪،‬‬
‫وقــد يكــون مثقفـاً حقيقيـاً‪ ،‬منتجـاً للثقافــة ومدافعـاً عنهــا»‬

‫القاص السوري الساخر املعروف خطيب بدلة يصدر كتاباً بعنوان «قصص وحكايات وطرائف‬
‫مــن عــر الدكتاتوريــة يف ســورية» هــذه الحكايــات ســجلها ودونهــا مــع بــدء انطالقــة الثــورة الســورية‬
‫يف ‪ 15‬آذار‪/‬مارس ‪ 2011‬وانتهى من تحريرها يف السابع من شباط‪/‬فرباير ‪ ،2013‬والكتاب صدر‬
‫كذلك عن دار «نون» يف اإلمارات العربية املتحدة‪ ،‬وهو عبارة عن قصص وحكايات التقطها من‬
‫أفــواه النــاس ومــن همســاتهم تتحــدث عــن غرائــب النظــام الســوري يف عهــدي األســدين األب واإلبــن‬
‫وما كان يثري الدهشة من التضليل اإلعالمي وجنونه‪ ،‬وعنف املامرسات القمعية وقلب للحقائق‪،‬‬
‫وكل ذلك يقدمه بدلة بأســلوب نرض حي اســتطاع ــن يصوغها بلغة أدبية جميلة يف هذا الكتاب‪.‬‬

‫أمــا الكاتــب نجــايت طيــارة الــذي كان متفاعـاً مــع الحــدث الثــوري يف حمــص والــذي كان صوتــه‬
‫عاليـاً جريئـاً يف وجــه أعتــى الدكتاتوريــات يف العــامل فيقــول مبــرارة كبــرة لجريــدة «النهــار» اللبنانيــة‬
‫«األسد عاملنا بهمجية وأصدقاؤنا باعونا أوهاماً»‪ .‬وطيارة هو حقوقي‪ ،‬يعد منوذجاً عن املعارضني‬
‫الذيــن كانــوا األبكــر يف التضامــن مــع الثــورة الســورية‪ ،‬تظاهــر واعتقــل ونفــي وعمــل يف «املجلــس‬
‫الوطني» و»االئتالف» ومن االنسحاب والتفرغ للتواصل مع الثوار بالداخل والعمل عىل املبادرات‬
‫الفرديــة املســاندة للثورة‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪126‬‬

‫الشــاعر الســوري والســجني الســابق فــرج بريقــدار يتحــدث عــن أدب الســجون‬
‫قائالً «ســنكون أصحاب أكرب تراث عاملي يف أدب الســجون» ويقول‪« :‬لقد متكن‬
‫نظــام األســد األب‪ ،‬منــذ أواســط الســبعينيات وبصــورة عامــة أن يعمــم صــورة عقابيــة‬
‫فادحــة التكاليــف ملــا تعنيــه ســجونه‪ ،‬حيــال أي صــوت معــارض‪ ،‬كان معظــم الكتــاب‬
‫الرشفــاء يف ســوريا‪ ،‬إن مل أقــل كلهــم يتحايلــون عــى مــا نبغــي لهــم قولــه لغــة وترميــزا ً‬
‫ورقابــة ذاتيــة‪ ،‬خشــية التعــرض لالعتقــال‪ ،‬خطــأ تنضيــدي بســيط كان ميكــن أن يودي‬
‫بصاحبه إىل مكان (الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود)‪ .‬كان التهديد بالسجن‬
‫شــيئاً شــبيهاً بســيف دميوقليــس‪ ،‬ولكــن حــن يتعــرض املــرء لالعتقــال فــإن التهديــد‬
‫بالســجن يفقــد مفعولــه‪ ،‬اقتحــام الخطــر أقــل وطــأة مــن انتظــاره‪.‬‬

‫ونذكر أيضا الشاعر والكاتب املرسحي املبدع ممدوح عدوان الذي ألف كتاب‬
‫«حيونــة اإلنســان» وتحــدث فيــه قبــل رحيلــه عــام ‪ 2005‬عــن الشــبيحة ومامرســاتهم‬
‫املثرية لالشــمئزاز حتى ملوظفي الحكومة الســورية واملحســوبني عىل النظام وهو‬
‫صاحب مقولة إن اإلعالم الســوري يكذب حتى بدرجات الحرارة‪.‬‬

‫والكاتــب املبــدع ســعد اللــه ونــوس صاحــب مرسحيــة «الفيــل يــا ملــك الزمــان»‬
‫الــذي جســد بصــورة رمزيــة الطغيــان واالســتبداد ومامرســاته القمعيــة تجــاه الشــعب‬
‫السوري‪.‬‬

‫ونذكــر مجموعــة كبــرة أخــرى مــن الكتــاب املرموقــن الذيــن وقفــوا بــكل رجولــة‬
‫بوجــه النظــام الســوري مثــل عبــد الــرزاق عيــد‪ ،‬محــي الديــن الذقــاين‪ ،‬ياســن الحــاج‬
‫صالــح‪ ،‬برهــان غليــون‪ ،‬صــادق جــال العظــم‪ ،‬مشــعل التمــو‪ ،‬إبراهــم اليوســف‪ ،‬أكــرم‬
‫البنــي‪ ،‬أنــور البنــي‪ ،‬نــوري الجــراح‪ ...‬الــخ‪.‬‬

‫وال تفوتنــا اإلشــارة إىل مثقفــن وكتــاب وقفــوا بشــكل مخــز مــع النظــام املســتبد‬
‫يف دمشق دون خجل من الدماء السورية ومن املعاناة السورية وهم قد استغبوا‬
‫الشــعب الســوري الــذي يتميــز بــذكاء حــاد عندمــا تغاضــوا عــن اإلشــارة إىل التدخــل‬
‫الطائفي البغيض واملامرسات الطائفية للنظام السوري صاحب مقولة املامنعة‬
‫واملقاومــة إذ رهــن مــر الشــعب الســوري ملحرقــة التقاتــل الطائفــي وجــر الثــورة‬
‫بصــورة شــبه إجباريــة إىل النــزاع املســلح ‪ /‬مــن أبــرز هــؤالء املثقفــن أدونيــس الــذي‬
‫مل يقــف مــع الثــورة الســورية مــن لحظتهــا األوىل – لألســف ‪.-‬‬

‫إذن نظرية أن الثورة تفتقر ملثقفيها املنظرين قد تكون صحيحة جزئياً من زاوية‬
‫عــدم التنظــر والتبشــر بالثــورة‪ ،‬لكــن مــن ناحيــة مقاومــة االســتبداد حتــى مبرحلــة مــا‬
‫‪127‬‬ ‫ةيروسلا ةباتكلاو بتاكلا‬

‫قبل الثورة ومن ثم مواكبة الثورة فقد كفى الكاتب السوري ووىف يف هذا الصدد‪،‬‬
‫دومحم ساوح‬

‫والثورة ستنجح ولو عىل املدى البعيد بقدرة الكاتب السوري عىل تحويل حدث‬
‫اللحظة املأساوية إىل مادة إبداعية متميزة بقدرة الكاتب الفنية عىل إجراء عملية‬
‫التحويل الذهني من معمعان الحدث إىل آفاق وأجواء النتاج اإلبداعي املتميز‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪128‬‬

‫مرام املرصي‬

‫إعداد أنطولوجيا هو فعل حب‬

‫إعداد أنطولوجيا هو فعل حب‪ .‬كإعداد طبق من الحلوى لضيوف أعزاء‪.‬‬


‫إعــداد أنطولوجيــا هــو رســم بانورامــا داخــل بانورامــا وإعطــاء اآلخــر ملخص ـاً ملــا‬
‫يكتــب ومــن خــال مــا يكتــب يســتطاع معرفــة وجــه املجتمــع‪.‬‬
‫إلعداد أنطولوجيا يلزم الكثري من الصرب‪ .‬الكثري من الوقت والكثري من القوة‪.‬‬
‫اول مــرة حرضتنــي فكــرة تحضــر أنطولوجيــا كانــت عندمــا وصــل الربيــع العــريب‬
‫وبــدأ يــرش بــذور الحريــة يف أحــام العــرب وودت أن أشــارك بهــذا الحــدث بتقديــم‬
‫شــاعرات مــن كل أنحــاء هــذا الوطــن‪.‬‬
‫أخذت هذه األنطولوجيا صدى كبريا وتنوقلت عىل املنصات‪ .‬شعرت بفخر‬
‫النتصار الجامل والنتصاري عىل نفيس علام بأنني مل أضع قصيدة يل‪.‬‬
‫ابتــدأت ســورية تصحــو كأمــرة بعينــن واســعتني خرضاويــن تتطلعــان ملســتقبل‬
‫كريــم تلبــس ثــوب العــرس يف أســواق الحميديــة‪ .‬تحمــل الــورود يف الســلمية راقصــة‬
‫مغنية‪ .‬الشباب العجائز النساء األطفال يف صوت واحد ولرمبا القطط والحيوانات‬
‫واألشجار واألنهار والجبال‪ .‬كل سورية تنتفض‪.‬‬
‫الضمري الح ّر الذي ظنناه مات عاد للحياة حرك إصبعه يف درعا ونهض‪.‬‬
‫أنــا الفوضويــة منــذ زمــن أعلنــت انضاممــي إىل كتــاب تصــل فيــه الحريــة عاريــة‪.‬‬
‫حاولــت فيــه أن أحـ ّول الحركــة والصــور والحــدث إىل شــعر‪.‬‬
‫‪129‬‬ ‫بح لعف وه ايجولوطنأ دادعإ‬

‫مــا ظننــاه ســينتهي بانتصــار الخــر ال يــزال يــؤرق مضاجعنــا باملــوت والدمــار مــن‬
‫صملا مارم‬

‫كل حــدب وصــوب‪.‬‬

‫من الصعب أن اكتب شيئاً ال أعيشه ومن أهم ما أعيش هو ما بحدث لسورية‪.‬‬

‫مــا كان منــي ســوى أن أفكــر بخدمــة الشــعر والحــب والثــورة بإطالــة تجربتــي ولكن‬
‫عــر مــا يكتبــه اآلخرون‪.‬‬

‫وضعت نفيس مرة ثانية يف خدمة الشــعراء اآلخرين الذين يرصخون ويحبون‪.‬‬
‫الشــعراء الذين يقفون مع الشــعب مع الضحايا مع الحق‪.‬‬

‫السؤال كان كيف نحب وحولنا هذه الدماء؟‬

‫هل هناك خطر إذا نرشتُ قصيدتك باسمك؟‬

‫هناك شعراء رفضوا وهناك من فرح كطفل‪.‬‬

‫أحببــت أن أكــون الصــدى لــكل هــذا الــراخ ولــكل هــذا األمل والفــرح‪ .‬وطــدت‬
‫نفــي عــى أن أكــون الجــر الــذي متــر عليــه قافلــة الشــعر للوصــول للحريــة‪.‬‬

‫كان هنــاك شــاعر بعــد ترجمتــه قالــوا يل بأنــه ليــس مــع الثــورة فســألته عــن ذلــك‬
‫ي قائــا‪ :‬أنــا مــع الشــعر والجــال‪.‬‬
‫فــرد عـ ّ‬
‫فكتبت له‪ :‬أيوجد أجمل من الحق والعدالة؟ وطبعا مل أدرجه يف األنطولوجيا!‬
‫وهناك من طلبت منهم وكانوا منشغلني‪.‬‬

‫خــرج الكتــاب يف كانــون الثــاين (ينايــر) املــايض بأســاء ‪ ٨٠‬شــاعرا وشــاعرة‬


‫بقســمني األول يحتــوي قصائــد لشــعراء ماتــوا ولكــن مــن قصائدهــم تقــرأ الوضــع‬
‫الــذي كان يعيشــه الســوريون والقســم الثــاين لقصائــد حــب وأمــل مكتوبــة بشــعرية‬
‫وحساســية عاليــة‪.‬‬

‫وبعد خمسة أشهر أعدت طباعته بأسامء جديدة فصار عدد الشعراء حوايل‬
‫‪ ٩٠‬شاعرا‪.‬‬

‫البعــض منهــم ليــس لديــه كتــاب مطبــوع مثــل زوجــة الشــهيد هيفــاء التــي مــن‬
‫خــال ترجمتــي قصيدتهــا أحييهــا وأحيــي بطولــة زوجهــا‪ .‬مل يكــن مهــا لــدي وال لــدى‬
‫النــارش أن يكــون للشــعراء املشــاركني كتــاب مطبــوع ولكــن كان ذلــك مهــا عــى مــا‬
‫يبــدو لبعــض الشــعراء املعروفــن‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪130‬‬

‫ما همني هو القصيدة ذاتها‪ .‬الحب فيها أسلوبها جدتها وعمقها‪.‬‬

‫بعثت نسخة إىل الرئيس الفرنيس أوالند وإىل رئيس وزرائه فابيوس الخ ألنني‬
‫أردت أن يعرفــوا جــال الشــعب الســوري وقدرتــه عــى الخلــق والشــعر وأنــه شــعب‬
‫يســتحق الحرية والحياة‪.‬‬

‫وقعت األنطولوجيا هكذا‪:‬‬

‫يك ال ينسانا الحب‬

‫سورية‪.‬‬
‫‪131‬‬ ‫ةعبطملا لماع ةصق‬
‫نملا رداقلا دبع‬

‫عبد القادر املنال‬

‫قصة عامل املطبعة‪:‬‬


‫من ملعب التنس إىل إدارة التلفزيون‬

‫يخطــئ مــن يعتقــد أن ظاهــرة الصحافــة الخاصــة انتــرت يف ســورية يف مرحلــة‬


‫متأخــرة وأن الفــرة التــي ســبقت ظهورهــا يف عهــد األســد االبــن كانــت تقتــر عــى‬
‫الصحــف الحكوميــة اململوكــة للدولــة‪ ،‬فتاريــخ الصحافــة الخاصــة يبــدأ مــن اســتالم‬
‫األســد األب مقاليد الســلطة‪ ،‬وإذا عدنا إىل فرتة الســبعينيات ســنجد أن الصحف‬
‫الثــاث الرئيســية (ترشيــن – البعــث ‪ -‬الثــورة) كانــت بدورهــا صحفـاً خاصــة مملوكــة‬
‫للقــر الجمهــوري وأجهــزة املخابــرات متام ـاً كــا كانــت وســائل اإلعــام األخــرى‬
‫املرئيــة واملســموعة‪.‬‬

‫تصويب املصطلحات‬
‫فيــا ســبق مــن مقدمــة الــكالم وقبــل املــي قدمـاً يف طــرح أفــكار هــذا املقــال‬
‫ال بــد مــن وقفــة مــع مــا ورد مــن مصطلحــات يعــرف معظــم الســوريني حقيقتهــا مثــل‪:‬‬
‫الدولــة– الحكومــة‪ -‬الصحــف «الثــاث»– الصحافــة‪ ،-‬تلــك مصطلحــات أخــذت‬
‫تتناقــض متامـاً مــع حقائقهــا يف بدايــة عهــد األســد‪ ،‬فقــد تــم إقصــاء مفهــوم الدولــة‬
‫والقضــاء عــى أركانهــا وتحويــل ســورية إىل ملكيــة خاصــة‪ ،‬كــا تــم تغيــر مفهــوم‬
‫الحكومة إىل مفهوم العصابة واملافيا وذلك يف املامرسة العملية العميقة وأبقى‬
‫األسد فقط عىل املسميات واأللفاظ‪ ،‬أي أنه فكك املضامني وأبقى عىل الشكل‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪132‬‬

‫وذلــك فقــط مــن أجــل االســتهالك الخارجــي ألن األســد األب مل يكــن يعــر اهتاممـاً للداخــل‪ ،‬ذلــك‬
‫أن تأصيــل مفهــوم امللكيــة يحــول الســكان إىل عبيــد يأمتــرون بأمــر صاحــب امللــك وكل مــن يشــذ‬
‫عــن هــذه القاعــدة تتــم تصفيتــه أو اعتقالــه أو إبعــاده يف أرحــم الحــاالت‪.‬‬

‫املصطلح اآلخر الذي علينا تصحيحه هو استخدام مسمى «الصحف الثالث» التي أتينا عىل‬
‫ذكرهــا فهــي يف الواقــع مل تكــن ســوى صحيفــة واحــدة بــذات األشــكال واملضامــن ال يختلــف فيهــا‬
‫سوى االسم‪ ،‬وإذا ما دققنا أكرث سنجد أننا وقعنا يف مغالطة جديدة أثناء تصويب املفاهيم تحتاج‬
‫بدورها إىل تصويب‪ ،‬وهي استخدام كلمة صحف‪ /‬صحيفة‪ /‬صحافة‪ ،‬فليس أي كالم يطبع عىل‬
‫ورق وينرش ويوزع يتامهى مع معنى الصحافة‪ ،‬فالصحافة يف زمن األسدين ال نستطيع أن نسميها‬
‫سوى نرشات أو منشورات حزبية تأخذ شكل الصحافة أما مضمونها فهو مضمون املنشور الصادر‬
‫مــن غــرف أجهــزة األمــن والويــل كل الويــل ملــن يقــع يف خطــأ‪ -‬حتــى وإن كان مطبعيـاً‪ -‬ميكــن أن تشـتَ َم‬
‫منه حالة من عدم الرىض أو التذمر أو االعرتاض أو الخروج عن الخط املرسوم للطاعة العمياء‪.‬‬

‫من قصص التجنيد‬


‫رمبــا كانــت قصــة طريفــة تلــك التــي جمعــت عميــد خــويل‪ -‬املديــر العــام ملؤسســة الوحــدة يف‬
‫تسعينيات القرن املايض‪ -‬إىل أحد عامل املطبعة يف جريدة «الثورة»‪ ،‬ولكن القصة عىل طرافتها‬
‫تكشــف الكثري من مخبوءات العامل الخفي ملطابخ النظام وبنيته الذهنية متكاملة التآكل‪ ،‬القصة‬
‫باملختــر أن عميــد خــويل كان مولعـاً بلعبــة التنــس ووجــد يف عامــل املطبعــة (خ‪ .‬م) العبـاً ماهــرا ً‬
‫يســتطيع أن يقــي معــه وقتـاً كافيـاً يف حــال مل يتوفــر الرشيــك املناســب‪.‬‬

‫عامــل املطبعــة اســتطاع أن يتقــرب مــن عميــد خــويل عــر لعبــة التنــس وطلــب منــه أن ينقلــه إىل‬
‫التحريــر‪ ،‬ومــا هــي إالّ شــهور حتــى أصبــح عامــل املطبعــة صحفيـاً يكتــب يف الفــن واألدب يف القســم‬
‫الثقــايف للجريــدة‪ ،‬ومــا هــي إالّ شــهور أخــرى حتــى اســتلم عامــل املطبعــة رئاســة أحــد األقســام‪ ،‬ثــم‬
‫امتــدت ســلطته عــى الجريــدة كلهــا باعتبــاره مقرب ـاً مــن املديــر العــام ومل تعــد لعبــة التنــس هــي‬
‫الجامــع بينهــا بــل اللعبــة األكــر‪ ،‬لعبــة التابــع واملتبــوع‪ ،‬لعبــة زراعــة جاســوس عــى الزمــاء والذيــن‬
‫هــم يف غالبيتهــم جواســيس آلخريــن عــى اآلخريــن‪.‬‬

‫ورغــم كل القيــود والخطــوط الحمــراء كان مثــة رشوط فنيــة محــددة‪ ،‬خاصــة يف املجــال الثقــايف‬
‫بحيــث تكــون املــادة الصحفيــة تحمــل املقومــات األوليــة عــى مســتوى الفكــرة والصياغــة تجعلهــا‬
‫قابلــة للنــر وذلــك حفاظ ـاً عــى الحــدود الدنيــا مــن مــاء الوجــه وحفاظ ـاً عــى «الشــكل»‪ ،‬فعــى‬
‫الرغــم مــن تأخــر الصحافــة إالّ أن القامئــن عليهــا وبتوجيهــات مــن مالــك ســورية كانــوا يحرصــون عــى‬
‫حالــة «املشــابهة»‪ ،‬أي مــا يشــبه الصحافــة ومــا يشــبه املقــال‪ ،‬متامـاً كحــرص األســد عــى التمســك‬
‫‪133‬‬ ‫ويزفلتلا ةرادإ ىلإ سنتلا بعلم نم‬

‫مبــا يشــبه الدولــة ومــا يشــبه الحكومــة ومــا يشــبه الجمهوريــة ومــا يشــبه الرئيــس‪ ،‬ولكــن أســلوب عامــل‬
‫نملا رداقلا دبع‬

‫املطبعــة يف الكتابــة والنقــد والتحليــل غــر وجــه الشــبه‪ ،‬فالكتابــة اإلنشــائية االنطباعيــة‪ ،‬وأســلوب‬
‫مواضيــع التعبــر املدرســية وصيغــة الجهــل التــام باملواضيــع وطــرق معالجتهــا والفجاجــة والركاكــة‬
‫وســخف الطــرح وســذاجة التنــاول كل ذلــك بــدأ يأخــذ املكانــة األرفــع لــدى رؤســاء التحريــر‪ ،‬وكأن‬
‫أســلوب عامــل املطبعــة القــادم مــن ملعــب التنــس عــى حصــان الواســطة هــو مــا يجــب اعتــاده‬
‫كمنهــج كتابــة‪ ،‬مل تقــف هــذه الحالــة عنــد حــدود عامــل املطبعــة حيــث انضــم عــرات مــن عــال‬
‫املطابــع إىل هيئــات التحريــر يف الصحــف بعــد أن انخفــض ســقف املرجعيــة املنخفــض أصـاً إىل‬
‫مــا دون درجــة الــروط الهزيلــة للنــر‪.‬‬

‫بني األب واالبن‪ ...‬ثنائية اإلفساد والقمع‬


‫يف فــرة األســد األب كانــت هنــاك ملــا تــزل بعــض األقــام النظيفــة التــي حكمــت عليهــا الظــروف‬
‫بالعمل تحت سلطة النظام وكان أصحابها يحاولون تقديم بعض الرؤى يف إطار الهوامش الضيقة‬
‫املتبقية يف املجال الثقايف واالجتامعي‪ ،‬وكانت متنح لهم بعض املساحات عىل اعتبار أنهم ال‬
‫يقرتبون من الشأن السيايس وإن كانوا محكومني بالخطوط الحمراء التي ارتضوا العمل من خاللها‬
‫معولــن عــى لغــة الرمــز تــارة والتــواري خلــف مســاحة الحريــة التــي متنحهــا الســلطة الختبــار نبــض‬
‫الكتــاب تــارة أخــرى‪ ،‬غــر أن أهــم الكتــاب يف الصحــف الرســمية ظلــوا تحــت ســلطة عامــل املطبعــة‬
‫وأمثالــه يف الصحــف األخــرى مــن أولئــك الذيــن احتلــوا مواقــع قياديــة يف العمــل الصحفــي اعتــادا ً‬
‫عــى والئهــم للمديــر العــام الــذي يتــم اختيــاره لهــذا املنصــب اعتــادا ً عــى والئــه ألجهــزة األمــن وهــذا‬
‫الــوالء يشــمل االســتعداد الكامــل لكتابــة التقاريــر األمنيــة قبــل أي نــوع مــن الكتابــة‪.‬‬

‫من التواري إىل اإلعالن الفج‬


‫لو حاولنا أن نذكر مجاالً واحدا ً مل يلوثه األســدان األب واالبن خالل حكمهام ســورية باغتصاب‬
‫الســلطة ومــن ثــم توريثهــا عــى مــدار األعــوام األربعــن التــي ســبقت قيــام الثــورة الســورية ملــا وجدنــا‬
‫شيئاً أفلت من دائرة الفساد‪ ،‬وبشكل أدق من اإلفساد املقصود واملتعمد واملدروس واملمنهج‪،‬‬
‫فــا يســتقيم أن يحكــم غاصــب أو وارث بلــدا ً ذا قيــم وإالّ لفظــه البلــد‪ ،‬ولذلــك كان إفســاد الدولــة‬
‫واملجتمــع ضامن ـاً أساســياً لذلــك الحكــم مشــفوعاً بذهنيــة القمــع الوحــي‪ ،‬ويســتطيع أي راصــد‬
‫لســورية األســدين أن يحــدد مالمــح حكمهــا وجوهــره يف ثنائيــة اإلفســاد والقمــع‪.‬‬

‫ورغم صك ملكية سورية الذي حرره حافظ األسد بنفسه ولنفسه‪ ،‬ورغم شدة القمع والبطش‬
‫يف عهــده‪ ،‬إالّ أن ذلــك مل مينــع مــن بــروز ظاهــرة الكاتــب الصحفــي‪ ،‬أســاء قليلــة بالطبــع‪ ،‬وحــاالت‬
‫تــكاد تعــد‪ ،‬إالّ أنهــا كانــت كفيلــة بتحقيــق بعــض التــوازن ولــو عــى مســتوى الشــكل يف الصحافــة‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪134‬‬

‫السورية‪ ،‬وال شك أن األسد األب كان من الخبث مبا فيه الكفاية ليصعد بعض الكتاب القديرين‬
‫ويقربهــم إليــه‪.‬‬
‫بعــد أحــداث الثامنينيــات وإعــان األســد األب انتصــاره عــى أنقــاض مدينــة حــاة املهشــمة‬
‫وأشــاء شــعبها تصــدر متثــال كبــر لحافــظ األســد مدخــل املدينــة املدمــرة معلنـاً بدايــة حقبــة أخــرى‬
‫مــن القمــع الهمجــي الرببــري املعلــن وكانــت أطــال حــاة شــواهد تركهــا األســد عــرة للعابريــن مــن‬
‫املدينــة واملقيمــن فيهــا قبــل أن يعيــد إعامرهــا فــوق مقابــر ضحايــاه‪.‬‬
‫وما بني صورة الدمار ومتثال األسد قبعت مخازن من الخوف يف أذهان السوريني وخياالتهم‪،‬‬
‫وكان الذعــر والرعــب هاجســهم الدائــم وصديقهــم اليومــي الــذي ال يفارقهــم لحظــة واحــدة‪ .‬مل يكــن‬
‫الصحفيــون الســوريون جبنــاء‪ .‬تلــك حقيقــة مؤكــدة ولكــن فنــون املــوت واإلرهــاب والقتل واالضطهاد‬
‫والسحل وأنواع التعذيب املبتكرة وصور التوحش غري املسبوقة يف تاريخ اإلجرام وصمت العامل‬
‫ورمبــا موافقتــه عــى الجرائــم التــي ارتكبــت حينهــا وتواطــؤ الكثــر مــن الســوريني بالعمــل كعمــاء‬
‫ومخربين وجواســيس لألســد يف ســبيل مصالحهم وامتيازاتهم عىل حســاب دماء أخوتهم كل تلك‬
‫املعطيــات كانــت عوامــل كفيلــة بــدب الرعــب والهلــع يف قلــوب أشــد النــاس بأسـاً وشــجاعة‪ ،‬وقــد‬
‫اســتغل االنتهازيــون ذلــك الواقــع للقفــز عــى العمــل الصحفــي وإزاحــة األقــام الرشيفــة وتربــع عــى‬
‫عــرش الكتابــة الصحفيــة كل الدخــاء وعدميــي املوهبــة ومــن هــم بــا أي مــروع حقيقــي باســتثناء‬
‫مشــاريعهم الشــخصية‪.‬‬
‫انعكســت صــورة التوحــش عــى كل مرافــق الحيــاة وتفاصيلهــا الكبــرة منهــا والصغــرة‪ ،‬أصبحــت‬
‫يوميــات املواطــن مرتبطــة بالسياســة مــع غيــاب كامــل للحيــاة السياســية التــي اختــرت يف الــوالء‬
‫وحــده وبــات املطلــوب مــن الســوري يك يحظــى بــرف املواطنــة أن ميجــد القائــد الرمــز وأن يرفعــه‬
‫ملــا فــوق مرتبــة اآللهــة لــي يحظــى بحــق الحيــاة‪ ،‬ومــن هنــا كان جوهــر أي مامرســة ثقافيــة أو فكريــة‬
‫أو إبداعيــة أو نقديــة‪.‬‬
‫يف تلــك الفــرة كانــت جملــة‪« :‬ســورية األســد» قــد أصبحــت بدهيــة‪ ،‬ومل يعــد األســد حريص ـاً‬
‫حتــى عــى «املايشــبهيات» وابتــدأ بتســمية األمــور مبســمياتها الحقيقيــة علن ـاً ودون حــذر‪ .‬كانــت‬
‫تلــك هــي الفــرة التــي بــدأ فيهــا األســد األب يهيــئ ابنــه للرئاســة‪ ،‬وعــى طريقــة عامــل املطبعــة الــذي‬
‫تحــول إىل صحفــي ثــم إىل رئيــس قســم نفســها تــم جلــب بشــار مــا يشــبه العيــادة الســتالم مــا يشــبه‬
‫رئاســة الجمهوريــة رغــم أنــه مل يكــن يلعــب التنــس مــع عميــد خــويل‪.‬‬

‫فعل الكتابة كلعبة مضادة للوطنية‬


‫يف الوقــت الــذي رست فيــه األخبــار عــن تجهيــز ابــن الرئيــس ليكــون رئيسـاً كان حافــظ األســد قــد‬
‫استكمل دائرة اإلفساد وهيأ الفاسدين لتقبل أي قرار مضاد ملفهوم الوطن واملواطنة‪ ،‬وكرس أمرين‬
‫‪135‬‬ ‫ويزفلتلا ةرادإ ىلإ سنتلا بعلم نم‬

‫يف دواخــل الســوريني عــى أعــى درجــة مــن الخطــورة‪ ،‬أولهــا أن التوريــث أصبــح واقع ـاً ال محيــص‬
‫نملا رداقلا دبع‬

‫عنــه وبالتــايل فعــى كل اآلبــاء ضــان مســتقبل أبنائهــم مــن خــال االحتفــاظ باملواقــع وتوريثهــا عــى‬
‫شــاكلة التوريــث الرئــايس‪ ،‬وثانيهــا حالــة اإلفصــاح املبــارش والعلنــي عــن غيــاب القانــون‪( ،‬ذلــك ال‬
‫يعنــي أن ســورية كانــت دولــة قانــون يف عهــد األب ولكــن درجــة الوقاحــة كانــت تختبــئ خلــف الشــكل‬
‫عــى قــدر املســتطاع) فحينــا يكــون رأس الدولــة غــر قانــوين وبشــكل علنــي فــا عــى الرعيــة إالّ أن‬
‫تعمــل مبــا هــو مناقــض للقانــون لــي تضمــن حياتهــا ووجودهــا ومصالحهــا ومســتقبل أبنائهــا‪ ،‬وهنــا‬
‫انترشت حالة من التكالب عىل املصالح الخاصة وتنحى الوطن جانباً أو أجرب عىل التنحي لصالح‬
‫فئــة املنتفعــن واالنتهازيــن التــي أخــذت تتزايــد ومل يجــد الرشفــاء مــن الســوريني بــدا ً مــن التعامــل‬
‫مــع املنظومــة الجديــدة مرغمــن باســتثناءات قليلــة‪ ،‬هنــا بــدأت األقــام الســطحية تنهــش مــا تبقــى‬
‫مــن جســد الصحافــة املتهالــك أص ـاً وشــاركت الصحافــة يف اللعبــة العلنيــة واملكشــوفة لتخلــع‬
‫كل األقنعــة التــي تســرت خلفهــا طوي ـاً وتعلــن نفســها مكان ـاً لالســتثامرات االســتهالكية وموضع ـاً‬
‫للمجامــات وتزييــف الحقائــق وتتحــول إىل مافيــا حقيقيــة تقــرر مــا تريــد ومــا تتفــق عليــه القــوى التــي‬
‫تلعــب داخلهــا فتحــول األخطــاء إىل قيــم‪ ،‬والكــذب والدجــل إىل حالــة مــن النبل‪ ،‬ويف الوقت الذي‬
‫كان الجمهور ينتظر من الصحافة أن تساهم يف كشف الفساد ومراقبة األخطاء وتتبع مواطن الخلل‪،‬‬
‫راح القامئــون عــى العمــل الصحفــي ميارســون أشــد أنــواع الفســاد واالرتــزاق والكــذب‪.‬‬

‫أكذوبة الصحف الخاصة‬


‫حينام استتب األمر لبشار األسد واطأمن إىل أنه امتلك سورية بالوراثة عن أبيه أطلق يد مافياته‬
‫لتثبيــت قواعــد اللعبــة وتحديــث آليــات القمــع واملصــادرة‪ ،‬نشــأت املــدارس الخاصــة والجامعــات‬
‫الخاصــة والــركات الخاصــة‪ ،‬ومــن بــن سلســلة «الخاصــة» كانــت الصحافــة‪ ،‬صــدرت صحــف كثــرة‬
‫كان أهمها «الدومري» التي مل تلتزم قواعد لعبة األسد فتم إيقافها ومطاردة صاحبها عيل فرزات‬
‫والعاملــن فيهــا وتشــتيت شــملهم عــى الرغــم مــن أنهــا الحالــة الوحيــدة التــي كان مــن املنتظــر أن‬
‫تؤســس لصحافــة حقيقيــة وطنيــة‪ ،‬ولكــن رسعــان مــا تنطــع رامــي مخلــوف ومجــد ســليامن الحتــكار‬
‫العمــل الصحفــي اســتكامالً ملجموعــة االحتــكارات الكبــرة التــي خصصــت ألعضــاء املافيــا الحاكمــة‬
‫فصــدرت جريــدة «الوطــن» ثــم جريــدة «بلدنــا»‪ ،‬اللتــان حاولتــا إعــادة االعتبــار للشــكل‪ ،‬وكاد القــارئ‬
‫الســوري أن يــرب الخديعــة‪ ،‬فقــد نجحــت الصحيفتــان يف اســتقطاب أهــم األســاء املتبقيــة يف‬
‫ساحة العمل الصحفي قبل اكتشاف أن هذا النوع من العمل الصحفي شديد التطابق مع مرسح‬
‫دريــد لحــام متقــن الصنــع‪ ،‬شــديد الحرفيــة ولكنــه فــخ متقــن أيضـاً لتحويــل مــن تبقــى مــن الصحفيــن‬
‫مــن أصحــاب الــرأي إىل أدوات بيــد النظــام وبشــكل غــر مبــارش‪ ،‬فضـاً عــن اتبــاع تقنيــة التنفيــس مــن‬
‫خــال الجــرأة والحريــة املتفــق عليهــا لقيــاس نبــض الشــارع ومــن أجــل الدعايــة املجانيــة للنظــام‪ .‬ثــم‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪136‬‬

‫كشــفت الثــورة الســورية فيــا بعــد أن أهــم أنــواع الكتابــة يف صحــف األســد وتابعــه‬
‫رامي مخلوف هي كتابة التقارير األمنية وما دون ذلك حالة طارئة ونوع من اللغط‬
‫والرثثــرة املجانيــة االســتهالكية الــذي تخرســه رصاصــة ويتحكــم بــه عنــر أمــن تافــه‪.‬‬

‫رد الجميل‬
‫يف نهايــة التســعينيات قــرر قــي خــويل (إبــن عميــد خــويل) دخــول املعهــد‬
‫العايل للفنون املرسحية وقبل يف قســم التمثيل‪ ،‬كان عامل املطبعة يف جريدة‬
‫«الثــورة» يــرف عــى الصفحــة األخــرة املخصصــة لألخبــار واملنوعــات‪ ،‬فحولهــا‬
‫لصفحــة تختــص بأخبــار قــي خــويل‪ ،‬منــذ الســنة األوىل لدراســة التمثيــل كان‬
‫الخويل االبن محاطاً بفريق كامل من الصحفيني كيفام تحرك قيص يف املعهد‪،‬‬
‫أي مشــهد تدريبــي يقدمــه ينــر يف صفحــة عامــل املطبعــة ســابقاً‪ ،‬املــرف عــى‬
‫الصفحــة األخــرة لجريــدة «الثــورة» الحق ـاً‪ ،‬أربــع ســنوات مــن األخبــار واللقــاءات‬
‫املتتابعة‪ ،‬مل يتخرج قيص من املعهد إالّ وهو نجم جريدة «الثورة» وبطل أخبارها‬
‫دون منــازع‪ ،‬أمــا عامــل املطبعــة فكوفــئ بإيفــاده إىل دول العــامل كلــا الحــت فرصــة‬
‫للســفر ويف كل املؤمتــرات وامللتقيــات الخاصــة بالعمــل الصحفــي‪ ،‬لكــن قــي‬
‫خــويل ظــل خــره األول ومقالــه األول وحــواره األول وتحليلــه الفنــي األول‪ ،‬ويف زمــن‬
‫الثــورة‪ ،‬وبعــد اشــتداد حــدة القصــف عــى املــدن الســورية مل تجــد األجهــزة األمنيــة‬
‫خريا ً من عامل املطبعة لتضعه يف منصب مدير التلفزيون والذي ال يزال يشــغله‬
‫حتــى اليــوم‪ .‬فهــل عرفتــم مــن هــو عامــل املطبعــة؟‬
‫‪137‬‬ ‫راقلا ملأ لوهم‪/‬بتاكلا ملأ ريبك‬
‫لفون رقص يماس‬

‫سامي صقر نوفل‬

‫كبري ألم الكاتب‪/‬مهول ألم القارئ‬

‫مل يُنــر يل ســابقاً أي نــص ّإل عــر منابــر النــر الحديثــة (مواقــع التواصــل‬
‫ر نفــي‬
‫االجتامعيــة)‪ ،‬وهــذا ال يعنــي عــدم محاولتــي الكتابــة‪ ،‬ولك ّنــي إىل ذلــك أعتـ ُ‬
‫قارئ ـاً وكفــى‪ ...‬حيــثُ الجهــة التــي تتل ّقــى األعاصــر التــي تس ـبّبها كلــات أديــب‪.‬‬

‫اآلن‪ ،‬ومــن موقعــي كقــارئ أو ّد لفــت نظــر األدب وأهلــه إىل همــوم َمـ ْن يُفــرض‬
‫ـب نهــر ســحرهم‪ ...‬مــن شــعر ونــر القـ ّراء والقــراءة‪.‬‬
‫أنّهــم َمصـ ّ‬
‫ـاب مــن ضيــق املجــال الحــر ومــن حصــار الرقابة عىل‬
‫القــراءة كحــق‪ :‬يشــتيك الكتّـ ُ‬
‫الكلمــة ومـ ّـا يســببّه ذلــك مــن ضعــف امل ُنتَــج األديب وهجــرة األدبــاء أو حتّــى مكوثهــم‬
‫يف معتقــات االســتبداد‪ ...‬وصــوالً إىل اإلقصــاء قتـاً‪ .‬يف الواقــع إذا مــا نظرنــا إىل‬
‫األمــر مــن الضفــة األخــرى للكلمــة الض ّفــة املتلقيــة‪ ،‬القــارئ‪ ،‬لوجدنــا أنّــه ويف ســوريا‬
‫تحديدا ً تع ّرض القارئ إىل ّ‬
‫كل أنواع الحصار ليصل إىل قناعة مفادها‪ :‬أن ال يشء‬
‫يستحق هدر الوقت يف القراءة‪ ،‬وت ّم ذلك بالتوازي مع التدجني العام للمواطن‪.‬‬
‫ّ‬
‫حتّــى أنّــه يف مثانينــات القــرن املــايض مل تســلم املجــات الرياضيــة مــن تقطيــع‬
‫أوراقهــا لتصــل مجلــة ك َـ «الصقــر» ليــد القــارئ وهــي عبــارة عــن صفحتــي الغــاف‬
‫وصفحــة اإلعالنــات فقــط! ناهيــك عــن مجــات ك ـ «العــريب» أو «املســتقبل» التــي‬
‫كانــت تصــل بشـ ّـق النفــس ليــد القــارئ بعــد أن تكــون يــد الرقابــة قــد ع ّرتهــا من أغلب‬
‫األوراق التــي تســر لحمهــا والعظــم وتفضــح عــورة الرقابــة‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪138‬‬

‫إذا ً‪ ،‬لقد كان ه ّم القارئ مساوياً بحجم األمل ه ّم الكاتب‪ ....‬حصار يف ّ‬


‫كل يشء‪ .‬أذكر ويذكر‬
‫الكثــرون كيــف كانــت زاويــة لوليــد معــاري يف جريــدة حكوميــة تشـكّل فــوزا ً لقــارئ حصــل عىل تلك‬
‫الجريــدة‪ .‬نحـ ُن حورصنــا و ُمنــع ع ّنــا زادنــا لعقــود‪ ...‬وما كان يصلنا ّإل الفتات‪.‬‬

‫قــد يقــول قائــل‪ ،‬تلــك املكتبــات الكبــرة كانــت تفتــح أبوابهــا عــى مرصاعيهــا‪ .‬وأقــول ســوريا بلــد‬
‫مل ولــن تقــف عــى رأســها‪ ...‬ال ميكــن لهــا أن تقــف عــى دمشــق أو حلــب‪ ،‬ســوريا بلــد يقــف ويســتقر‬
‫عــى كامــل جســمه‪ ...‬متام ـاً كاألفعــى‪ ،‬هــذا إذا س ـلّمنا بــأن مــا احتوتــه مكتبــات دمشــق وحلــب أو‬
‫املــدن الكــرى كان مجاريـاً ملــا يُنــر ويُقــرأ عامليـاً‪.‬‬

‫لقــد أبقــى النظــام الســوري ق ـ ّراء البلــد عــى مســافة واضحــة للخلــف مــن الحديــث مــن األدب‬
‫وأســاليب النــر‪ ،‬فعندمــا كانــت امل ّجــات والدوريــات الثقافيــة العربيــة والعامليــة متـ ّد يــد العــون‬
‫للقــارئ بســعر مقبــول‪ ...‬كان النظــام يق ـدّم لنــا جرائــده كوليمــة وحيــدة عــى معالــف ُمع ـدّة ســابقاً‬
‫ـب املواقــع اإللكرتونيــة متذ ّرع ـاً بحجــج‬
‫لتُح ّقــر عقولنــا‪ .‬وعندمــا ظهــرت وســائل حديثــة للنــر حجـ َ‬
‫ســخيفة‪ .‬وبقينــا ســجناء الحصــار‪.‬‬

‫فق ُد القراءة ملا تفقده الكتابة‪ :‬إذا ً؛ كلام فقدت الكتابة مجاالً ح ّرا ً أو قلباً ناطقاً باسمها فقدت‬
‫القــراءة مجــاالت وقلوبـاً‪ ،‬فعندمــا يعتقــل أديــب يختنــق قـ ّراء‪ ...‬وعندمــا تجــري محاولــة إذاللــه نصــاب‬
‫كق ّراء بداء املذلّة‪ .‬وعندما مي ّر مقص الرقابة عىل كتاب نشــهق من حالوة ال ّروح‪.‬‬

‫ألخــي زاهــي نوفــل روايتــان ومجموعتــان قصصيتــان‪ .‬فــاز عمــل لــه بجائــزة «املزرعــة» التــي كانــت‬
‫متنــح جوائزهــا عــى مســتوى الوطــن الســوري وفــازت روايــة باملرتبــة الثالثــة يف مهرجــان االحتفــاء‬
‫بدمشــق عاصمــة للثقافــة العربيــة‪ .‬مل يُســمح لــه بالنــر (فقــط مــا طبعــت وزارة الثقافــة مــن نســخ)!‬

‫حســناً سأســكب هنــا بعــض مــا يزعــج روحــي‪ :‬ففــي يــوم مــا وصلنــا كق ـ ّراء أنّــه يف أحــد لقــاءات‬
‫اتحــاد الكتــاب العــرب يف القاهــرة‪ ،‬عــرض الكتّــاب العــرب تقديــم مســاعدة ماليــة لســعد اللــه ونّــوس‬
‫ـرض! وبعدهــا كانــت مكرمــة مــن حافــظ‬
‫للعــاج وكان مرضــه قــد اشــتدّ‪ ،‬لكــن عــي عقلــة عرســان اعـ َ‬
‫األســد ملســاعدة ونّــوس‪ .‬أنــا كقــارئ أُهنــت‪ ...‬وآملنــي عقــي لشــهور‪.‬‬

‫القــراءة كواجــب ومســؤولية‪ :‬هــل كان الذنْــب كلّــه ذنْــب اإلدارة‪ /‬النظــام؟ كيــف نفـ ّ‬
‫ـر تحــدي‬
‫البعــض وقــراءة أ ّمهــات الكتــب رسقــة؟‬

‫كانــت القــراءة وال زالــت واجب ـاً ومســؤولية صاحبهــا‪ .‬القــراءة‪ ،‬برأيــي‪ ،‬غــر موقوفــة عــى املتعــة‪،‬‬
‫بــل متخطيّــة ذلــك إىل التعــب‪ ،‬تعــب يف البحــث‪ ،‬عطــاء باتجــاه املــادة املقــروءة بقبولهــا باحــرام‬
‫ونقدهــا باحــرام ومنحهــا الوقــت مبحبــة واألهــم مــن ذلــك التضحيــة لنيلهــا‪.‬‬

‫القــراءة تســتحق بــذل الجهــد الدعــوي لهــا‪ .‬نــر رســالتها بــن النــاس‪ .‬فقـ ْـل إقــرأْ لـ ّ‬
‫ـكل مــن تلتقيــه‬
‫‪139‬‬ ‫راقلا ملأ لوهم‪/‬بتاكلا ملأ ريبك‬

‫ـت كتابـاً لصديــق‬


‫ـت ذلــك؟ كــم مـ ّرة أهديـ َ‬
‫وتح ّمــل عنــاء ســخريته منــك‪ .‬كــم مـ ّر ًة فعلـ َ‬
‫لفون رقص يماس‬

‫أو صديقــة تعــرف ســلفاً أنّــه يفضــل قطعــة ثيــاب أو ُحــي عــى الكتــب؟ أوكنـ َ‬
‫ـت تظـ ّن‬
‫أنــك بإهدائــك كتاب ـاً مل يحــب القــراءة أكملــت مهمتــك؟ الحــق أراه أ ّن اخيــارك‬
‫الســهل قلّــل مســاحة الحــب يف العــامل مــن حولــك وزاد حصــار الكتــاب والكتابــة‬
‫والكتّــاب والق ـ ّراء‪ .‬وأودى باملعرفــة إىل ض ّيــق الطــرق‪ .‬ومــا بالوينــا كلّهــا ّإل لضيــق‬
‫مســاحة املعرفــة يف م ـ ّخ ومخيــخ مــن ارتّــأوا أنّهــم نخبــة أو طليعــة‪.‬‬

‫لقــد أُهديـ ُ‬
‫ـت روايــة «زُوبُــك» عزيــز نيســن لتفوقّــي‪ ،‬النســبي‪ ،‬يف الدراســة يف‬
‫سني مراهقتي من جهة سياسية يف قريتي؛ أظّ ّنني ال أذكر من سياسة وإيديولوجية‬
‫تلــك الجهــة إلّ مــا نــدر؛ إلّ أين أذكــر تلــك الهديّــة حتـاً أذكــر كيــف تسـلّمتها ثــم أذكــر‬
‫تقريبـاً تفاصيــل الروايــة‪ .‬وتذكّــرين الروايــة بالجهة املانحة كطيف‪.‬‬

‫ـب برجــاء مــن الكتابــة وأهلهــا أ ْن يرأفــوا بهــا‬


‫ـب‪ :‬نعــم القــراءة تطلـ ُ‬
‫القــراءة تطلـ ُ‬
‫وبالقـ ّراء‪ .‬أن يدركــوا أن هنــاك مــن يقــرأ دون أن يكتــب وأن تلــك هــي عالقــة صح ّيــة‬
‫وصحيحــة‪ .‬القــراءة تتم ّنــى عــى أهــل الكتابــة أن يعــوا أن هنــاك مــن يقــرأ ليتفاعــل‬
‫معهم‪ .‬فيو ّد لو يُحرتم عقله‪ .‬يو ّد القارئ أن يجد فيام يقرأ بعض ذاته‪ ،‬فقط بعضها‪.‬‬
‫ثــم أن يلتقــي ببقي ـ ٍة مــن ذاتــه عــر كتــاب آخــر ينتظ ـ ُر أن يرســم هــو أيض ـاً بصمتــه يف‬
‫تلك الذات القارئة‪ .‬الذات اإلنسانية ذات متنامية دامئاً وستجد بقي ًة لها يف ّ‬
‫كل‬
‫جديد‪ .‬فإن مل تجده يف ُمنتَج أديب ما حينها فقط كان هذا امل ُنتَج‪ ،‬برأيي‪ ،‬رديئاً‪.‬‬

‫ـض مــن همــوم الق ـ ّراء وال ب ـ ّد أ ّن مــا‬


‫ر مــا قرأتــم يف هــذا ال ّنــص ولك ّنــه بعـ ٌ‬
‫ُمخت ـ ٌ‬
‫يُصيــب الق ـ ّراء يج ـ ُد لــه مكان ـاً عنــد الكتّــاب‪ .‬كب ـ ٌ‬
‫ر حجــم أمل األديــب عندمــا ت ُحتجــز‬
‫كلمتــه التــي اجرتحهــا مــن لدنــه لتصــل إىل عــن قــارئ أو أُذن ســامع ومهــول حجــم‬
‫ن تــرى وأذ ٌن تســمع‪ ،‬ولكـ ّن ال يشء تتل ّقفــه حواســه الح ّيــة مــن‬
‫أمل القــارئ إذ لديــه عـ ٌ‬
‫حولــه ّإل الخــواء!‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪140‬‬

‫إبراهيم اليوسف‬

‫آلــة االســتبداد ولــذة املواجهــة (شــهادة‬


‫ذاتيــة)‬

‫«هل يستطيع أي كاتب أن يقدم‪ -‬بال حرج‪ -‬شهادة عن معاناته تجاه أية سلطة‬
‫استبدادية؟»‪ ،‬هكذا رحت أسأل نفيس‪ ،‬وأنا بصدد الكتابة ملجلتنا (أوراق) ضمن‬
‫محور عددها الجديد‪ ،‬وذلك بعد أن ترددت طويالً أمام هذه املهمة الحساســة‪،‬‬
‫ألن يف مقــدور الكاتــب ذي املوقــف املبــديئ‪ -‬أيـاً كان‪ -‬ترشيــح آلــة االســتبداد‪ ،‬بــل‬
‫وتوصيــف مكابــدات ســواه يف مواجهتهــا‪ ،‬بيــد أنــه قــد ال يفلــح يف كتابــة تفاصيــل‬
‫مــا جــرى ويجــري لــه‪ ،‬لــدواع عديــدة‪ ،‬وإن كانــت للشــهادات الذاتيــة يف مثــل هــذا‬
‫املقــام أهميتهــا الكــرى كوثائــق حيــة مــن قبــل شــهود العيان الذيــن دفعوا ويدفعون‬
‫رضيبتهــم عــى نحــو باهــظ‪ ،‬وفــق وتــرة وعيهــم للحظــة الزمنيــة‪ ،‬وترجمتهــم لهــا‪ ،‬مــن‬
‫دون االكــراث مبــا ســيرتتب عليهــم لقــاء ذلــك‪.‬‬

‫وما دام أمر الشهادة‪ ،‬يف هذا املقام‪ ،‬غري خاص‪ ،‬يف نهاية األمر‪ ،‬وله جوانب‬
‫كثرية‪ ،‬أبرزها ما هو توثيقي‪ ،‬ال بد منه‪ ،‬ال سيام عندما يتعلق األمر بنظام دكتاتوري‬
‫دمــوي‪ ،‬كــا النظــام الســوري‪ ،‬وأن مــا كان يســجله عليــه بعــض أصحــاب األصــوات‬
‫النظيفة‪ ،‬من مثقفني‪ ،‬وعامة‪ ،‬ومؤسسات‪ ،‬مل يكن تجديفاً أو تجنياً من لدنهم‪ ،‬وال‬
‫نتــاج مؤامــرة عــى هــذا النظــام‪ ،‬بــل مجــرد مقاربــات نقديــة‪ ،‬متفاوتــة‪ ،‬بهــذا القــدر أو‬
‫ذاك‪ ،‬فإنــه ملــن الــازم أن يبــادر كل مــن اكتــوى بألهبــة نــران الســلطة‪ ،‬إن يعــر األذى‬
‫‪141‬‬ ‫يتاذ ةداهش( ةهجاوملا ةذلو دادبتسالا ةلآ‬

‫املعنــوي‪ ،‬أو الفعــي‪ ،‬بتســجيل مــا تعــرض لــه‪ ،‬كخطــوط عريضــة‪ ،‬أو كتفاصيــل‪ ،‬بحســب الفضــاء‬
‫فسويلا ميهاربإ‬

‫املتــاح‪ ،‬ألن هــذه الكتابــة‪ ،‬تحيــل يف التــايل‪ ،‬إىل معانــاة مدفوعــة الثمــن‪ ،‬مــن قبــل صاحبهــا‪ ،‬عــى‬
‫حســاب حريتــه‪ ،‬وأمنــه‪ ،‬وراحتــه‪ ،‬ناهيــك عــن أنهــا ترتبــت عليــه نتيجــة رفضــه‪ ،‬ضمــن مــا هــو متــاح‪،‬‬
‫للواقــع العــام‪ ،‬عــى أيــدي زبانيــة النظــام‪.‬‬

‫ومؤكد‪ ،‬أن حياة كل فرد سوري‪ ،‬ال ينتمي إىل بطانة النظام‪ ،‬أو الساكتني‪ -‬تواطؤا ً‪-‬عىل اضطهاده‬
‫املربمج ملواطنه‪ ،‬وشذوذه‪ ،‬ليست إال مساحة من املعاناة تحت سطوة رحى آلة القمع السلطوي‪،‬‬
‫فــإن هــذه املعانــاة أشــبه برشيــط فيلــم ســيناميئ‪ ،‬مــيء بتفاصيــل القهــر الــذي يتعــرض له‪ ،‬ليس يف‬
‫الشــارع‪ ،‬أو املدرســة‪ ،‬أو مــكان الوظيفــة‪ ،‬أو املؤسســة‪ -‬فحســب‪ -‬بــل وحتــى يف بيتــه‪ ،‬ويف غرفــة‬
‫نومــه‪ ،‬ويف يقظتــه وغفوتــه‪ ،‬ألن كابــوس حالــة الرعــب يالحقــه أىن حــل‪ ،‬وكيفــا كان‪ ،‬فال مناص منه‪،‬‬
‫وهــو كابــوس ناجــم عــن أشــكال العســف التــي يشــهدها‪ ،‬بــأم عينيــه‪ ،‬مــع فنجــان قهوتــه‪ ،‬أو جريدتــه‬
‫الصباحيــة‪ ،‬أو جرعــة نــرة األخبــار التــي يتلقاهــا‪ ،‬عــر جهــاز الرتانزيســتور أو التلفزيــون‪ ،‬وحتــى لحظــة‬
‫انهــداده‪ ،‬الطبيعــي‪ ،‬وخلــوده إىل النــوم املخــرق بأشــكال القلــق والرعب‪.‬‬

‫كل هذا اإلرث من املكابدة تحت نري رحى النظام‪ ،‬يجعل أية محاولة لرصد كل فرد خارج لجة‬
‫مــا عانــاه‪ ،‬عــر الرشيــط الزمنــي لحياتــه‪ ،‬منــذ لحظــة وعيــه‪ ،‬وحتــى اللحظــة الحــارضة‪ ،‬أشــبه باملعجــزة‪،‬‬
‫ألن يف ذهــن كل منــا آالف املواقــف التــي ميكــن تناولهــا‪ ،‬يف هــذا الجانــب‪ ،‬بــل أن مــن بينهــا آالف‬
‫املواقــف املريــرة التــي يســتحق كل منهــا أن يكتــب يف مجلــدات كاملــة‪ ،‬مــن دون أن تعطــى حقهــا‪،‬‬
‫ألن ال يشء أعظــم مــن األمل البــري‪ ،‬ال ســيام عندمــا يتــم ذلــك عــى يــدي ممتلــك للســلطة‪ ،‬قــوي‪،‬‬
‫القيمي وسيلة ملامرسة املزيد‬
‫ّ‬ ‫همجي‪ ،‬قمعي‪ ،‬يعاين من فصام يف خطابه‪ ،‬إذ يتخذ من الشعار‬
‫مــن القمــع‪ ،‬مــن أجــل ترســيخ شــوكته‪ ،‬ودميومــة مصالحــه‪ ،‬وكرســيه‪.‬‬

‫مــن هنــا‪ ،‬فــإن أي ـاً منــا‪ ،‬ال بــد لــه‪ ،‬وهــو يــديل بشــهادته‪ ،‬بهــذا الخصــوص‪ ،‬مــن أن يعتمــد عــى‬
‫ســمة االصطفــاء‪ ،‬عندمــا ال يســمح لــه طابــع وعــاء نــر الشــهادة‪ ،‬باالسرتســال‪ ،‬عــى أن يتمكــن مــن‬
‫توثيق ما يتعلق به‪ ،‬بطريقة أشمل‪ ،‬يف مدونة خاصة‪ ،‬وإن كانت كل مدونة شخصية‪ -‬مهام كانت‬
‫واسعة‪ -‬ليست سوى مجرد حالة‪ ،‬من مدونة أكرب‪ ،‬هي مدونة بلد‪ ،‬وأربعة وعرشين مليون سوري‪،‬‬
‫مل ينج أحد منهم من رشور النظام‪ ،‬حتى بالنســبة إىل هؤالء الذين تطوعوا يف الذود عنه‪ ،‬إذ أنهم‬
‫يدفعــون اآلن‪ ،‬مثــن قربهــم االفــرايض أو الواقعــي مــن بؤرتــه‪ ،‬أو هــؤالء الذيــن مل يكونــوا راضــن يف‬
‫قراراتهــم عنــه‪ ،‬لهــذا الســبب أو ذاك‪ ،‬فوجــدوا أنفســهم‪ -‬عــى حــن انزالقـ ٍة‪ -‬يف أحضانــه‪ ،‬أو تحديــدا ً‬
‫مجــرد وقــود مجــاين للــذود عنــه‪.‬‬

‫يف حيــايت الشــخصية‪ -‬كــا ماليــن الســوريني‪ -‬الكثــر مــن صــور القهــر العظمــى التــي رأيتهــا بــأم‬
‫عيني‪ ،‬بل عانيتها‪ ،‬ال سيام أنني ولدت يف بيئة كردية‪ ،‬مه َّمشة من قبل النظام‪ ،‬ال يرى يف مناطقها‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪142‬‬

‫إال مجرد بقرة حلوب‪ ،‬مييض مردود نفطها إىل جيوبه‪ -‬اآلمنة‪ -‬ويحرضين هنا ما رد به حافظ األسد‬
‫ذات يــوم عــى الراحــل خالــد بكــداش‪ ،‬عندمــا ســأله‪ :‬أيــن يذهــب ريــع النفــط الســوري؟ فــرد عليــه‪:‬‬
‫إنــه يف أيــد أمينــة‪ ،‬وتبــن لنــا‪ ،‬عندمــا كربنــا أن ريــع النفــط الســوري مل يكــن يــدرج يف حســابات موازنــة‬
‫البالد‪ ...‬وما دمت أتحدث هنا‪ -‬ولو اسرتساالً‪ -‬عن النفط الذي اكتشف يف سوريا‪ ،‬ألول مرة يف‬
‫منطقة «الرميالن»‪ ،‬فإن خويض ألول مسابقة وظيفية عىل أمل العمل يف هذه الحقول‪ ،‬يف نهاية‬
‫ســبعينيات القــرن املــايض‪ ،‬كان صاعقــة بالنســبة إيل‪ ،‬حيــث مل أقبــل فيهــا‪ ،‬وكان أكــر املوظفــن‬
‫املقبولــن‪ ،‬مــن أبنــاء املحافظــات الســورية األخــرى‪ ،‬بينــا كانــت آبــار النفــط تلــوث منطقــة الجزيــرة‪،‬‬
‫برمتها‪ ،‬ما أدى إىل انتشار األوبئة واألمراض‪ ،‬يف هذا املكان‪ ،‬وعىل رأس قامئتها‪ :‬صنوف أمراض‬
‫الرسطــان والكبــد إلــخ‪ ،‬بــل أن أكــر مــن بــر نفطــي يتغــذى مــن أعــاق قطعــة أرض لنــا‪ ،‬صــارت يف‬
‫أيدي الغرباء‪ ،‬داخل سوريا‪ -‬اليوم‪ -‬وخارجها‪ ،‬أي يف ما يسمى بـ»تركيا»‪ ،‬من دون أن يكون ألرسيت‬
‫منهــا مجــرد دونــم ملكيــة واحــد‪ ،‬أو حتــى شــر واحــد مــن الهكتــارات الكثــرة التــي منتلــك «ســنداتها»‬
‫«كمبياالتهــا» العثامنية!‬

‫تجزيء املكابدات‬
‫يخطــر يل‪ ،‬وأنــا أحــاول تشــكيل مداخــل إىل معانــايت الشــخصية عــى أيــدي أجهــزة أمــن النظــام‬
‫السوري‪ ،‬وعيونهم من كتبة التقارير‪ ،‬من خالل تبويب بعض املحطات الشخصية البارزة‪ ،‬يف هذه‬
‫املعانــاة‪ ،‬أن أي تفكيــك لهــذه املعانــاة‪ ،‬أشــبه مبحاولــة تفريــغ ســاء كاملــة عــى طاولــة مجــردة‪ ،‬وأنــه‬
‫تواطــؤ ضــد أمل مكثــف‪ ،‬ومحاولــة للتآمــر عليــه‪ ،‬باعتبــار أن أمل املعانــاة عــى أيــدي الســلطة‪ ،‬كأقــوى‬
‫أداة تعذيب نفيس‪ ،‬ال ميكن تفكيكه إىل عنارصه األولية‪ ،‬ألنه حالة ال ميكن مقاربتها‪ -‬فعلياً‪ -‬بغية‬
‫التنطــع لتوصيفهــا‪ -‬كــا يخيــل إيل‪ -‬إال عــر عمــل إبداعــي‪ ،‬ورغــم ذلــك‪ ،‬فإننــي مل أجــد بــدا ً مــن هــذه‬
‫املداخــل التــي كلــا أوردت واحــدة منهــا‪ ،‬انفتحــت‪ ،‬يف وجهــي‪ ،‬غريهــا‪ ،‬يف دوامــة تــكاد ال تنتهــي‪.‬‬

‫مدخل أول‪ :‬حوارات ‪1987‬‬


‫‪ -‬أثنــاء إبعــادي عــن التعليــم الثانــوي قلــت ملوجــه اللغــة العربيــة املبــارش‪ ،‬وكان اســمه‪ :‬رشــيد‬
‫الذيــب‪ :‬مل فعلتــم يب ذلــك؟‬
‫قال‪« :‬لقد قرأت يف جريدة ترشين ما كتبته أنت وفالن عن النوروز!»‬
‫وكنت كتبت يف نص أديب كلمة نوروز عىل نحو عابر فحسب‪.‬‬
‫‪ -‬نائــب مديــر الرتبيــة وأتصــور أن اســمه «مطانيــوس خــوري ‪ -‬أبــو رامــي» قلــت لــه عندمــا راجعتــه‬
‫بعــد إبعــادي عــن التعليــم الثانــوي ‪ :1987‬يبــدو هنــاك تقريــر كيــدي ضــدي‪ ،‬رد عــي بعفويــة‪« :‬يــا‬
‫رجــل‪ ،‬ليــس تقريــرا ً واحــدا ً بــل هنــاك مثانــون تقريــرا ً كتبــت ضــدك»‬
‫‪143‬‬ ‫يتاذ ةداهش( ةهجاوملا ةذلو دادبتسالا ةلآ‬

‫‪ -‬مديــر الرتبيــة عبدالقــادر خلــف الربخــو اســتكرث عــي أن أقــول لــه أثنــاء نزولــه عــر «درج» دائرتــه‪:‬‬
‫فسويلا ميهاربإ‬

‫«يفــرض أن تقفــوا إىل جانبــي» فــرد‪« :‬كيــف تقــول‪ -‬أنــت‪ -‬لنــا «يفــرض» عليكــم‪ »...‬فــكان يل ردي‬
‫املناســب عليــه‪.‬‬

‫‪ -‬نقابــة املعلمــن طلبــت منــي أن أتقــدم لهــا بكتــاب‪ ،‬أرشح لهــا مــا حــدث معــي‪ ،‬يك تقــف إىل‬
‫جانبــي‪ ،‬وال أزال بانتظــار الــرد‪.‬‬

‫‪ -‬اتحاد الصحفيني الذي كنت عضوا ً فيه مل يبال باألمر‪.‬‬

‫‪ -‬عن طريق ممثل الحزب الشــيوعي الســوري يف اإلدارة املحلية نوري فرحان التقينا أمني فرع‬
‫الحســكة‪ ،‬فتبــن يل أنــه عــى إطــاع مبــا جــرى يل‪ ،‬وكان مــن جملــة ردوده‪« :‬أنــت تقــول وجــه حبيبتــي‬
‫خريطة‪ .‬مل ال تقول وجه حبيبتي وردة؟ أنت تقصد كردستان»‪ ،‬قلت له وكان عدد من رجال الدين‬
‫املسيحي جالسني يف مكتبه‪:‬‬

‫«إن رصتَ شــاعرا ً‪ ،‬فاكتــب ذلــك‪ ،‬أمــا أنــا فأكتــب مــا أريــد» وانرصفنــا مــن مكتبــه‪ ...‬أنــا ورفيقــي‬
‫الحــزيب‪.‬‬

‫نائب وزير الرتبية رد عيل حني رشحت ما تعرضت له‪ :‬اشك يل أبك لك‪.‬‬

‫مدخل ثان‪ :‬حوارات ‪2006‬‬


‫بعــد قــرار نقــي إىل تربســبي راجعــت اتحــاد الكتــاب العــرب الــذي كان يرأســه حســن جمعــة‪،‬‬
‫رشحــت لــه مــا حــدث يل‪ ،‬فقــال‪« :‬إن كان األمــر بســبب نقــدك للنظــام‪ ،‬فأنــا أيض ـاً ضــدك»!‬

‫ال لحافظ األسد!‬


‫ال تــزال صــورة أيب ماثلــة يف عينــي‪ ،‬وهــو يعــد حقيبــة مالبســه عــى جنــاح الرسعــة‪ ،‬ليحتــل مقعــدا ً‬
‫يف بــاص قريتنــا «تــل أفنــدي» متوجهـاً إىل عامــودا‪ ،‬ليذهــب مــن هنــاك إىل بلــدة «تــل معــروف»‪-‬‬
‫بلــدة املشــايخ الخزنويــن‪ -‬وليغيــب يف اليــوم التــايل‪ ،‬عــن القريــة يف فــرة انتخابــات حافــظ األســد‪،‬‬
‫ويتملــص مــن اإلدالء بصوتــه‪ .‬وحــدث أننــا صحونــا يف صبــاح اليــوم التــايل‪ ،‬لنجــد «باص ـاً» مزين ـاً‬
‫باألعــام‪ ،‬يرافقــه بعــض الذيــن ســمعت عــن طريقهــم‪ -‬الهتافــات‪ -‬ألول مــرة‪ ،‬يف قريــة ظلــت نظيفــة‬
‫مــن هــذه املظاهــر‪ ،‬قــد أرســل مــن مخفــر تــل بيــدر‪ -‬املركــز االنتخــايب‪ -‬لجلــب أهــل القريــة لــإدالء‬
‫بأصواتهــم النتخــاب الرئيــس‪.‬‬

‫بعد أســبوعني‪ ،‬أو أكرث‪ ،‬عندما عاد أيب‪ ،‬ســألته‪ -‬وكنت يف الصف الثالث أو الرابع االبتدايئ‪-‬‬
‫بروحــي الطفلــة‪ ،‬املشــاغبة‪ ،‬الرثثــارة‪« :‬بابــا كيــف أصبــح حافــظ األســد رئيسـاً؟ حيــث صــار اســمه يــردد‬
‫عىل كل الشفاه» وواصلت أسئلتي‪« :‬هل ألنه كبري يف السن‪ ،‬أم ألن عقله كبري؟» فرد عيل‪« :‬أنا‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪144‬‬

‫أكرب منه ســناً‪ ،‬وهو رجل عادي كأي شــخص»‪ .‬موقف أيب ذاك‪ ،‬أو حكايته تلك‪ ،‬وهاتان العبارتان‬
‫وســواهام مــن املواقــف املامثلــة ظلــت راســخة يف مخيلتــي‪ ،‬كلــا رحــت أفكــر بكيفيــة «تشــكل‬
‫الســلطة» بــل صــارت مفتاح ـاً أولي ـاً مــن قبــي لفهــم آليــة االســتبداد الــذي أكــرس نفــي ملناوأتــه‪،‬‬
‫وفــق فهمــي‪ ،‬ومقــدرايت‪ ،‬وتبعـاً ألدوات كل مرحلــة‪.‬‬

‫يف مشفى األسد الجامعي‪ :‬لحظة صدق عالية التوتر‬


‫بعــد أن تأكــد الطبيــب الــذي توســط يل يف صيــف العــام ‪ 1999‬بتأمــن موعــد إلجــراء عمليــة‬
‫اســتئصال املــرارة يل يف مشــفى األســد الجامعــي يف دمشــق أن ال أحــد يف الغرفــة معــي‪ ،‬ســوى‬
‫مرافقــي‪ ،‬وهــو ابــن عمــي املــدرس الجامعــي ‪ -‬حالي ـاً ‪ -‬محمــد إبراهيــم توجــه نحــوي وأنــا عــى الرسيــر‬
‫ليقــول يل بصــوت مهمــوس‪« :‬أريــد أن أعلمــك بــيء‪ ،‬مــن أيــن أتيــت بــكل الشــتائم ضــد‪ »...‬ومل يجرؤ‬
‫عــى ذكــر االســم‪ ،‬ألفهــم ‪ -‬فــورا ً ‪ -‬أننــي خــال عمليتــي املحرجــة التــي اســتغرقت خمــس ســاعات‪ ،‬قــد‬
‫شتمت رأس النظام‪ ،‬وأنا تحت التخدير‪ ،‬ما جعلني أتوقع بأن تتم مساءلتي‪ ،‬فور مغادريت املشفى‪،‬‬
‫أو بعــد ذلــك‪ .‬ومــا زلــت أنتظــر الفرصــة‪ ،‬يك أســأله‪ :‬مــاذا كانــت شــتامئي‪ ،‬وأنــا تحــت تأثــر املخــدر؟‬

‫فالش باك‪ :‬الطبيب األمي‬


‫يف الصف الثاين الثانوي ‪ 1978‬كتبت مرسحية فكاهية بعنوان «اسرتنا الله يسرتك» أخرجها‬
‫الفنــان فاضــل بــدرو‪ ،‬تناولــت فيــه شــخصية مــن يتنطــع ألداء مهمــة وهــو أمــي‪ ،‬ثــم كتبــت مرسحيــة‬
‫أخــرى‪ ،‬منطلقـاً مــن الفكــرة ذاتهــا بعنــوان «الطبيــب األمــي» حــر رئيس املركز الثقايف يف قامشــي‬
‫محمــد ســليامن أحــد تدريباتهــا‪ ،‬مــا جعلــه يجــن ملــا فيهــا مــن مقــوالت‪ ،‬واصطــدم مــع أعضــاء الفرقــة‪،‬‬
‫بل اعتدى عىل بعضهم‪ ،‬بيديه‪ ،‬بشــكل هســتريي‪ ،‬وحولهم إىل مخفر الحي الغريب‪ ،‬وكان من بني‬
‫املوقوفــن الفنــان كانيــوار‪ ،‬والراحــل جــال جمعــة‪ ،‬وعبدالهــادي إبراهيــم وآخــرون‪ ،‬وقــد فقدنــا نــص‬
‫املرسحيــة الــذي بقــي «يف املخفــر»‪.‬‬

‫املعهد العايل للفنون املرسحية‪ :‬خارج السياق‪ /‬داخل السياق‬


‫بعــد أن نلــت الشــهادة الثانويــة‪ ،‬أرســلت رســالة إىل «املعهــد العــايل للفنــون املرسحيــة» أبــن‬
‫فيــه‪ ،‬أين نتيجــة ظــرويف االقتصاديــة مل أمتكــن مــن تقديــم أوراقــي للدراســة يف املعهــد‪ ،‬فت ـ َّم الــرد‬
‫عــي ‪ -‬مــن مديــر املعهــد ريــاض عصمــت ‪ -‬يحــدد يل فيــه موعــدا ً لفحــص املقابلــة‪ ،‬بيــد أن عــدم‬
‫مقــدريت عــى تأمــن أجــرة الطريــق إىل دمشــق‪ ،‬لحضــور الفحــص املذكــور‪ ،‬فــوت عــي الدراســة يف‬
‫هــذا املعهــد‪ ،‬وهــو مــا شــكل غصــة‪ ،‬يف حلقــي‪ ،‬إىل وقــت طويــل‪.‬‬

‫القنبلة‬
‫بعــد حادثــة مدرســة املدفعيــة‪ ،‬كنــت وفرقتــي املرسحيــة التابعــة للمركــز الثقــايف يف قامشــي‬
‫‪145‬‬ ‫يتاذ ةداهش( ةهجاوملا ةذلو دادبتسالا ةلآ‬

‫قــد انتهينــا مــن عــرض مرسحيــة «القنبلــة» مــن تأليــف ريــاض عصمــت عــى خشــبة مــرح املركــز‬
‫فسويلا ميهاربإ‬

‫الثقايف‪ ،‬وبدأنا نعد العدة لعرضها عىل خشبة املركز الثقايف يف الحسكة‪ ،‬وراح عدد من زماليئ‬
‫مــن أعضــاء الفرقــة‪ ،‬مــع عــدد مــن املمثلــن يف مدينــة الحســكة يلصقــون إعالنــات عــرض املرسحيــة‬
‫عــى جــدران الشــوارع والســاحات الرئيســة يف الحســكة‪ ،‬وهــي تحمــل العبــارات التاليــة‪ :‬ترقبــوا قريبـاً‬
‫«القنبلــة» يف املركــز الثقــايف يف الحســكة‪ .‬إخــراج إبراهيــم اليوســف‪.‬‬

‫فجــرا ً‪ ،‬تفاجــأت ب ـ «دوريــة» مــن أحــد الفــروع األمنيــة تداهــم بيتــي الطينــي البســيط‪ ،‬وتقــودين إىل‬
‫مقــر الفــرع‪ ،‬ألظــل هنــاك حــوايل أربــع وعرشيــن ســاعة‪ ،‬راح يجــري خاللهــا املحققــون اتصاالتهــم‪،‬‬
‫بهســترييا‪ ،‬ليتأكــدوا أن هنــاك فع ـاً مرسحيــة بهــذا العنــوان‪ ،‬وأن ال عالقــة يل بإبراهيــم اليوســف‬
‫املطلــوب يف مجــزرة مدرســة املدفعيــة يف حلــب (وهــو االســم الــذي ســبب يل أكــر مــن إشــكال)‬
‫لتتــوزع فرقتــي املرسحيــة يف فــرق أخــرى‪ ،‬وألبتعــد عــن املــرح‪ ،‬مكرهـاً‪ ،‬بعــد تــذرع القامئــن عــى‬
‫املركزيــن الثقافيــن بــرورة مــرور بعــض الوقــت عــى مــا تــم‪ ،‬ويبــدو أنــه‪ ،‬وحتــى اآلن‪ ،‬مل يــأت الوقــت‬
‫املناســب‪ ،‬حيــث ابتعــدت تدريجيـاً عــن املــرح‪.‬‬

‫يف مكتب محافظ الحسكة‬


‫أول اســتدعاء رســمي يل‪ ،‬تــم‪ ،‬وأنــا طالــب يف الثانويــة يف العــام ‪ ،1978‬عندمــا دق بــاب بيتنــا‬
‫رشطــي مــن مخفــر الحــي الغــريب‪ ،‬وقــال‪ :‬أنــت مدعــو إىل الحســكة غــدا ً يف متــام الســاعة التاســعة‬
‫صباح ـاً ملقابلــة ســيادة املحافــظ (حســن حســون)‪.‬‬

‫أمنــت مــن أيب مبلغ ـاً بســيطاً يكفــي أجــرة الطريــق بــن «قامشــي» التــي أقيــم فيهــا والحســكة‪،‬‬
‫ميم ـاً وجهــي يف الصبــاح الباكــر إىل كراجــات املدينــة‪ ،‬ألصــل الحســكة بعــد أقــل مــن ســاعتني‪،‬‬
‫بوســاطة أحد باصات «امليكرو»‪ ،‬وأتوجه بعدها إىل مقر املحافظة يف الوقت املطلوب‪ ،‬وأفاجأ‬
‫بنــار الغضــب تتطايــر مــن عينــي الرجــل الــذي صعقنــي بعــدم ســاحه يل بالجلــوس‪ ،‬وعــدم فســح‬
‫املجال ملصافحته‪ ،‬إذ سألني باستخفاف‪ ،‬وهو يذرع مكتبه جيئة وذهاباً‪ :‬أأنت إبراهيم اليوسف؟‬

‫قلت‪ :‬نعم‪.‬‬

‫ثــم أخــرج إحــدى الصحــف املحليــة‪ ،‬كنــت قــد كتبــت فيهــا شــكوى خدميــة‪ ،‬عىل ما أذكر‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫هل أنت من كتبت هذا الخرب؟ فقلت له‪ :‬نعم‪ .‬استشاط جنوناً‪ ،‬وهسترييا‪ ،‬وغضباً‪ ،‬وراح يترصف‬
‫كزعيــم عصابــة‪ ،‬وليــس كمحافــظ (ســيصبح فيــا بعــد وزيــر «عــدل»)‪ :‬مل تكــن ثقافتــي لتســعفني بــأن‬
‫أجادلــه‪ ،‬بأكــر مــن قــويل‪ :‬اقــرأ أليــس يف أعــى الصفحــة قــول الســيد الرئيــس حافــظ األســد «ال أريــد‬
‫ألحــد أن يســكت عــن الخطــأ وال أن يتســر عــى العيــوب والنواقــص»‪ ،‬العبــارة التــي رددت بعــض‬
‫الوقــت‪ ،‬ملواجهــة الفاســدين‪ .‬وأردفــت‪ :‬كلــا أجــد خطــأ ســأكتب عنــه‪ ،‬ليجيبنــي بصــوت‪« :‬اخــرج‪،‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪146‬‬

‫إن شاء الله‪ ،‬أراك مرة أخرى‪ ،‬وقد أسأت إىل سمعة البلد‪ ،‬انظر‪ :‬سأرميك من الشباك إن كتبت‬
‫مــرة أخــرى يف هكــذا قضايــا يدفعــك إليهــا األعــداء»!‬

‫طبع ـاً‪ ،‬واصلــت كتابتــي‪ ،‬منذئــذ‪ ،‬وعــى نحــو متواصــل‪ ،‬يف خدمــة مــن حــويل‪ ،‬وإن كان عــى‬
‫حســاب إنتاجــي اإلبداعــي‪ ،‬وظــل تهديــد الرجــل يــردد يف أذين‪ ،‬حتــى بعــد أن وصلــت إىل مطعــم‬
‫«الشاورما»‪ ،‬حيث هناك أحد معارف األرسة «املالكم أحمد ماليونس» ألشرتي منه سندويتيش‪،‬‬
‫ري الحســكة‪ ،‬أســبح فيــه بعــض الوقــت‪ ،‬وأنطلــق بعدهــا إىل‬
‫آكلهــا‪ ،‬بشــهية‪ ،‬وأعــود أدراجــي إىل ِّ‬
‫الكــراج‪ ،‬متوجه ـاً إىل قامشــي‪ ،‬ألردِّد عــى مســامع كل مــن التقيتهــم‪ ،‬حــواري مــع املحافــظ‪ ،‬وأنــا‬
‫أشــعر بالزهــو ألين اســتطعت أن أغيظــه‪.‬‬

‫فنجان قهوة‬
‫كتبت يف مقال يل ما معناه أرفض االستجابة ألي استدعاء مبطن بعبارة «أنت مدعو لرشب‬
‫فنجــان قهــوة عندنــا» التــي صــارت تغطــي عــى مصطلــح «االســتدعاءات األمنيــة» عشــية الذكــرى‬
‫األوىل الستشــهاد الشــيخ الشــهيد معشــوق الخزنــوي‪ ،‬وحــدث أن متــت دعــويت ذات مــرة إىل فــرع‬
‫األمــن العســكري‪ ،‬فرفضــت االســتجابة‪ ،‬ألســابيع عــدة‪ ،‬ويبــدو أن صــر الجهــات الداعيــة قــد نفــد‪،‬‬
‫مــا جعلنــي أفاجــأ صبــاح ذات يــوم جمعــة بدوريــة مــن الجهــة املذكــورة تقتحــم بــاب بيتــي لتقــودين‬
‫إىل مقــر فــرع املدينــة‪ ،‬وليتــم تســليمي كتابـاً مبراجعــة «فــرع فلســطني» خــال مثانيــة وأربعــن ســاعة‬
‫(وهــو مــا كتبــت عنــه آنــذاك املنظمــة الكرديــة لحقــوق اإلنســان والحريــات العامــة– داد)‪ .‬ســألت‬
‫عــددا ً مــن املهتمــن بالشــأن العــام‪ ،‬فقيــل يل‪ :‬أمامــك خيــاران إمــا أن تلــوذ بالفــرار خــارج البلــد‪ ،‬أو‬
‫أن تســتجيب لالســتدعاء‪.‬‬

‫رهاب االستدعاءات‬
‫ليس أســوأ من التحقيق األمني‪ ،‬إال وقع االســتدعاء الذي يســبقه وهو ما يذكرين مبقولة كانت‬
‫ترددهــا أمــي رحمهــا اللــه‪ ،‬وهــي‪ :‬ليــس أســوأ مــن لدغــة العقــرب إال مشــيتها عــى جســد امللــدوغ‪.‬‬
‫ال ســيام حــن ال يعــرف املــرء عــم سيســتجوب‪ ،‬إذ تنتابــه آالف الوســاوس‪ ،‬وقــد يحــر املــرء لنفســه‬
‫إجابــات حــول أكــر مــا يتوقــع أنــه ســيكون ســبب االســتدعاء األمنــي بيــد أنــه قــد يفاجــأ بــأن التحقيــق‬
‫عــن أمــر آخــر‪ ،‬مل يتوقعــه‪ .‬يف مثــل هــذه الحــاالت كنــت أتــرف وكأننــي لــن أعــود إىل البيــت‪ ،‬أخبــىء‬
‫إرشيفي يف مكان غري متوقع‪ ،‬وأرتدي ما يكفي من املالبس الدافئة‪ ،‬واأللبسة الداخلية املناسبة‪،‬‬
‫باإلضافــة إىل تأمــن مــا ميكــن مــن مــال إلعانتــي يف حــال االعتقــال‪ .‬ولقــد حــدث ذات مــرة‪ ،‬وأنــا‬
‫أعــود مــن تحقيــق أحــد الفــروع يف دمشــق‪ ،‬ليتــم إعالمــي‪ ،‬عــر الهاتــف قبيــل وصــويل إىل مدينتــي‪،‬‬
‫باســتدعاء مــن جهــة أخــرى يف العاصمــة!‬
‫‪147‬‬ ‫يتاذ ةداهش( ةهجاوملا ةذلو دادبتسالا ةلآ‬

‫الشيخ والشيوعي‬
‫فسويلا ميهاربإ‬

‫بعــد اســتدعاء أمنــي للشــيخ الشــهيد د‪ .‬محمــد معشــوق الخزنــوي‪ ،‬مــن قبــل مســؤول األمــن‬
‫الســيايس يف قامشــي (لــرب فنجــان قهــوة) وكان اســمه محمــد الحريــري‪ ،‬جــاءين إىل البيــت‪،‬‬
‫وقــال‪ :‬تصــور‪ ،‬أثنــاء التحقيــق معــي‪ ،‬قــال يل ذلــك الضابــط‪ :‬نتفهم عالقتك مع القيادات السياســية‬
‫الكرديــة‪ ،‬وهــذا مــن حقــك‪ ،‬ولكــن‪ ،‬مــا الــذي يجمعــك بالشــيوعي امللحــد إبراهيــم اليوســف؟‬

‫رقابة قصوى‬
‫كنــت أضطــر إىل أن أرســل رســائيل إىل خــارج ســوريا‪ ،‬مــن الربيــد املركــزي يف دمشــق‪ ،‬عــن‬
‫طريق األصدقاء الذين يسافرون للعاصمة‪ ،‬أو أكدسها فوق بعضها بعضاً إىل أن أسافر‪ ،‬بني حني‬
‫وآخــر‪ ،‬وذلــك ألن تســعني باملئــة مــن رســائيل املرســلة مــن بريــد مدينتــي كان يحجــر عليــه‪ ،‬وهكــذا‬
‫بالنســبة إىل الرســائل الــواردة‪ ،‬ناهيــك عــن تأخــر الرســائل العاديــة جــدا ً أشــهر عــدة أحيانـاً‪ .‬ولعــل أحــد‬
‫مهنــديس الربيــد‪ -‬واســمه املهنــدس إســكندر «‪ ».....‬وهــو مــن رسيــان قامشــي‪ -‬قــدم اســتقالته‬
‫مــن العمــل‪ ،‬وحــن ســألته عــن الســبب‪ ،‬قــال يل‪« :‬إنهــم يريدوننــي أن أكــون مخــرا ً عــى خــط هاتفــك‬
‫وعــى خطــوط بعــض األشــخاص اآلخريــن‪ ،‬ومنهــم بعــض قيــادات املنظمــة اآلثوريــة»‪ -‬نســيت اآلن‬
‫مــن كانــوا جميعـاً‪ -‬مــا دفعــه إىل مغــادرة البــاد وتقديــم اللجــوء يف أحــد البــاد األوربيــة‪ .‬ومــن أغــرب‬
‫حــوادث مراقبــة املوبايــل هــو أن إحــدى الســفارات األجنبيــة دعتنــي عــر الهاتــف إىل عيــد بلدهــا‬
‫الوطنــي‪ ،‬ومــا إن أغلقــت الهاتــف‪ ،‬حتــى وردتنــي مكاملــة أخــرى مــن املحقــق الــذي كان مجــرد تذكــر‬
‫مالمــح وجهــه تســتفزين‪ ،‬فقــال يل‪« :‬مــا دمــت ســتحرض حفلــة الســفارة الفالنيــة‪ ،‬يف دمشــق‪ ،‬مـ ّر‪،‬‬
‫علينــا لنســتكمل التحقيــق!» مــا جعلنــي أعتــذر عــن حضــور الحفلــة‪ ،‬وأكلــف أحدهــم بحضورهــا نيابــة‬
‫عنــي‪ ،‬وأغلــق هاتفــي أكــر مــن شــهر‪ ،‬تجنبـاً مــن اســتدعاء أمنــي‪ ،‬وقــد مــررت مبرحلــة زمنيــة‪ ،‬كلــا رن‬
‫هاتــف املنــزل أو املوبايــل‪ ،‬خفــق قلبــي‪ ،‬واضطربــت‪ ،‬إىل أن أطمــن أن االتصــال عــادي ال عالقــة لــه‬
‫باالســتدعاء األمنــي‪.‬‬

‫أشهد أنني خفت كثريا ً‬


‫بعــد أن تــم إطــاق النــار‪ ،‬مــن قبــل أجهــزة األمــن الســوري عــى املحتفلــن بعيــد نــوروز ‪ 2010‬يف‬
‫الرقة‪ ،‬متت اعتقاالت واسعة يف صفوف الشباب الكردي‪ ،‬وتم حجب اإلنرتنت أليام عدة‪ ،‬فاتفق‬
‫بعــض طلبــة الجامعــة الكــرد يف الرقــة مــن زمــاء ابنــي‪ -‬آراس‪ -‬ودون علمــي الشــخيص‪ ،‬أن يرســلوا‬
‫«رشيحة الذاكرة» التي تتضمن مشاهد إطالق النار عىل املحتفلني ‪ -‬يف علبة دواء متوافرة أصالً‬
‫يف كل الصيدليــات‪ ،‬عــر إحــدى رشكات النقــل‪ ،‬باســمي‪ .‬ال أخفــي أنــه حــن أعلمنــي ابنــي باألمــر‪،‬‬
‫ـس مــن الكهربــاء يصعقنــي‪ ،‬فأنــا منعــت مــن العــودة إىل اإلمــارات‪ ،‬وضاعــت فرصــة‬
‫أحسســت مبـ ٍّ‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪148‬‬

‫عمــي‪ ،‬إضافــة إىل أن الكاتــب حفيــظ عبــد الرحمــن‪ -‬وهــو مــن أقربــايئ‪ -‬ألقــي القبــض عليــه قبــل‬
‫أيــام‪ ،‬وهــو مجهــول املصــر‪ ،‬وصــودرت مخطوطاتــه‪ ،‬وأنــا ملــا أزل مطلوبـاً للتحقيــق مــن قبــل أكــر مــن‬
‫فــرع أمنــي‪ ،‬ناهيــك عــن أن التدقيــق األمنــي عــى الطــرود والرســائل عــى أشــده‪ ،‬ومــا زاد مــن توتــري‪،‬‬
‫أن‪ -‬الطــرد الربيــدي‪ -‬تأخــر ثالثــة أيــام‪ ،‬مل أدر كيــف أمضيتهــا‪ ،‬حيــث مل أعــرف طع ـاً للنــوم‪ ،‬وكنــت‬
‫أتواصــل مــع هــؤالء الشــباب الذيــن يعمــل أحدهــم يف جهــة الشــحن‪ ،‬مســتفرسا ً عــن ســاعة وصــول‬
‫السيارة واقفا مقابل تلك الرشكة لساعات‪ ،‬طوال اليوم‪ ،‬عىس أن يصل الطرد املطلوب‪ ،‬وأتخلص‬
‫مــن أعــى حالــة قلــق وتوتــر مــر أمــر بهــا‪ .‬بعــد مــرور ثالثــة أيــام‪ ،‬اصطحبنــي الشــيخ عبــد القــادر الخزنــوي‬
‫بســيارته‪ ،‬لرياقبنــي عــن بعــد‪ ،‬حيــث مضيــت إىل مكتــب الشــحن وســلمني املوظــف األمانــة‪ ،‬ألطــر‬
‫بهــا إىل البيــت غــر مصــدق‪ ،‬ولرنســل مضمونهــا مــن كمبيوتــر شــقيقي مهنــدس االتصــاالت أحمــد‪،‬‬
‫ويصــل أحدهــا إىل بريــد‪ -‬املرصــد الســوري‪ -‬عــر إمييــل وهمــي «‪»saman‬أعــده بهــذا الخصــوص‪،‬‬
‫ولتبــث الفضائيــات‪ ،‬ومواقــع اإلنرتنــت اللقطــات املصــورة‪ ،‬إىل وقــت طويــل‪.‬‬

‫الربيد اإللكرتوني املفتوح‬


‫يف اليــوم التــايل‪ ،‬اضطــررت لحجــز مقعــد يف بــاص عــر إحــدى رشكات النقــل‪ ،‬ألصــل إىل‬
‫دمشــق‪ ،‬وأتفاجــأ بأمنــوذج جــد غريــب مــن التحقيقــات‪ ،‬حيــث متــت مســاءلتي عــن بعــض كتابــايت‪،‬‬
‫ومراساليت‪ ،‬ألرافع عن وجهات نظري املنشورة‪ ،‬وأرفض االعرتاف بتلك املراسالت‪ .‬امتدت فرتة‬
‫التحقيقــات أكــر مــن أســبوعني‪ ،‬وكنــت كلــا أغــادر الفــرع‪ ،‬أتوجــه إىل أحــد محــال اإلنرتنــت‪ ،‬أعلــم‬
‫بعــض أصدقــايئ‪ ،‬يف الخــارج‪ ،‬مبجريــات التحقيــق‪ ،‬ومــن بــن هــؤالء‪ :‬دانــا جــال ‪ -‬محمــد عفيــف‬
‫الحسيني ‪ -‬محمد سعيد آلوجي وآخرون‪ ،‬أقول ألحدهم «إن نجوت املرة من هؤالء الـ«‪ »...‬سوف‬
‫أفعــل كــذا وكــذا»‪ .‬بعــد بضعــة أيــام مــن املراجعــات اليوميــة‪ ،‬منذ بدايــة الدوام النهاري حتى نهايته‪،‬‬
‫رحــت صباحـاً إىل الفــرع فوجــدت املحقــق قــد خــرج عــن طــوره‪ ،‬وهــو يقــول‪« :‬بريــدك كلــه بــن أيدينــا‬
‫وأنــت منــذ أيــام تحــاول اســتغباءنا»‪ ،‬ورصت أقــرأ بعــض هــذه الرســائل‪ ،‬ومــا كان عــي إال أن أواصــل‬
‫موقفــي‪ ،‬رغــم يقينــي بأنهــم لــن يصدقــوين‪ ،‬إذ أننــي أيقنــت أين معتقــل ال محالــة‪ ،‬ســألني املحقــق‬
‫الرشكــي ذو العينــن الخرضاويــن‪ ،‬يعاونــه أحدهــم مــن آل الشــويف‪:‬‬

‫‪ -‬أليس هذا إمييلك؟‬

‫أجبت‪ :‬بىل‪.‬‬

‫‪ -‬أليست هذه رسائلك؟‬

‫أجبت‪ :‬ال‪.‬‬

‫ارتفعت نربة صوته‪ ،‬وبات يواصل وعيده‪ ،‬وتهديداته‪ ،‬وهو يسألني‪:‬‬


‫‪149‬‬ ‫يتاذ ةداهش( ةهجاوملا ةذلو دادبتسالا ةلآ‬

‫‪ -‬إذا ً من كتب كل ذلك؟!‬


‫فسويلا ميهاربإ‬

‫أجبت‪ :‬أنتم!‬

‫جن جنون الرجل‪ ،‬وهو يسمع إجابتي املخادعة‪ ،‬املراوغة‪ ،‬وسألني‪« :‬قل يل‪ ...‬كيف؟»‬

‫أجبت وأنا أحاول جاهدا ً أن أوارب توتري وشفتي املتيبستني ظأم‪:‬‬

‫‪ -‬بريــدي اإللكــروين كلمــة مــروره معــي‪ ،‬ومــا دمــت أنــت قــد قــرأت مــا فيــه مــن رســائل‪ ،‬إذا ً هــي‬
‫رســائلكم أنتــم كتبتموهــا باســمي‪ ،‬بعــد أن اخرتقتمــوه!‬

‫وكان من بني تلك الرسائل إحداها للصديق دانا جالل يقول يل فيها‪:‬‬

‫«ال تقلــق يــا إبراهيــم‪ ،‬واللــه إن اعتقلــوك‪ ،‬ســنقيم الدنيــا عــى رؤوســهم‪ ،‬مــن خــال اســتمرار‬
‫املظاهرات أمام سفاراتهم إلخ‪ ،...‬إىل جانب الكثري من العبارات ذات العيار القوي التي ال يقبلها‬
‫هــؤالء عــى أنفســهم‪ ،‬وكانــت بينــي ودانــا وآخريــن رســائل إلكرتونيــة يوميــة حــول مرشوعنــا «االتحــاد‬
‫اإلعالمــي الكردســتاين»‪ ،‬وغــر ذلــك‪.‬‬

‫سألني املحقق‪« :‬هل يف الشقة التي استأجرها أبناؤك يف دمشق كمبيوتر وإنرتنت؟»‬

‫أجبته‪ :‬ال‪.‬‬

‫وال أعرف‪ ،‬مل تراجع عن إعداد دورية لتفتيش الشقة التي استأجرها أوالدي‪ ،‬مع آخرين‪ ،‬وكانت‬
‫مليئــة آنــذاك‪ ،‬مبــا يعــده النظــام مــن املمنوعــات‪ ،‬وكانــت يــدي عــى قلبــي‪ ،‬إىل أن تــم تجــاوز هــذه‬
‫النقطــة‪ .‬مســاء‪ ،‬عــدت إىل شــقة أوالدي‪ ،‬طلبــت منهــم أن يبعــدوا كل الكتــب واملنشــورات والصــور‬
‫أحس‬
‫ُّ‬ ‫املمنوعة‪ ،‬وأن ينظفوا بريدي اإللكرتوين ‪ -‬الذي رسعان ما غريته ‪ -‬آليت يف اليوم التايل‪ ،‬وأنا‬
‫أن األمور ســارت تجاه اعتقايل‪ ،‬ال محالة‪.‬‬

‫فور وصويل‪ ،‬يف يوم ‪ 30‬نيسان‪ 2006‬إىل الفرع‪ ،‬قيل يل‪ :‬سيادة العميد يريدك؟‬

‫ثم قادوين إىل مكتبه «علمت فيام بعد أن اســمه جالل الحايك»‪ ،‬فاســتقبلني بأريحية كبرية‪،‬‬
‫بعــد طــوال حفلــة التعذيــب النفــي عــى امتــداد حــوايل مثانيــة عــر يومـاً وكأنــه يقــول يل إن هــذا‬
‫هــو األمــن الحقيقــي ومــا تــم عابــر‪ ،‬فقــدم يل علبــة الســكاكر ألتنــاول منهــا قطعــة ثــم طلــب يل كأسـاً‬
‫كبــرة مــن الشــاي‪ ،‬ثــم ســألني هــل تعــرف فالنـاً‪:‬‬

‫قلت‪ :‬سمعت به‪.‬‬

‫قال‪ :‬إنه وطني كردي ولديه مرشوع ممتاز‪.‬‬

‫مل أعلق عىل كالمه البتة‪.‬‬


‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪150‬‬

‫أيضاً قال يل‪:‬‬

‫هنــاك فــان وآخــرون يجمعــون يف مقهــى «الروضــة» التواقيــع ردا ً عــى بيــان إعــان بــروت –‬
‫دمشق‪ .‬ال أعرف إن كانت التسمية دقيقة؟ إىل جانب إشارته إىل أنهم وجدوا يف بريدي مقاالت‬
‫موجهــة إىل أحــد املواقــع املشــبوهة‪ ،‬وكان مــن الــروري التحقيــق معــي‪.‬‬

‫يف نهاية الجلسة‪ ،‬قال‪ :‬يف إمكانك أن تستعيد بطاقتك الشخصية‪ ،‬ومتيض ألهلك‪ ،‬ولكن‪:‬‬
‫بلدنا مســتهدف إلخ‪ ،...‬اســتعدت بعض الطأمنينة‪ ،‬ورصت أعد الثواين‪ ،‬والدقائق‪ ،‬ألتخلص من‬
‫هذا الكابوس اللعني‪ ،‬بيد أن ذلك مل يتحقق يل‪ ،‬وذلك ألن املحقق الرشكيس صار يستدعيني‬
‫مــرات عــدة‪ ،‬يعيــد يف كل منهــا عــى مســمعي مــا اســتجد مــن كتابــايت املنشــورة‪ ،‬وهــو يواصــل‬
‫تهديداتــه‪ ،‬إىل أن قلــت لــه‪:‬‬

‫أنــا كاتــب‪ ،‬ولــن أتوقــف عــن نقــد كل مــا أراه خاطئـاً‪ ،‬فإمــا أن تعتقلنــي‪ -‬اآلن‪ -‬وإمــا أين مضطــر أن‬
‫أعلمك أين لن آيت يف املرة املقبلة‪ ،‬إال «موجودا ً» بحسب مصطلحهم‪ ،‬ألين اضطررت يف هذه‬
‫املــرة ألن أبيــع «ثالجــة بيتــي» ألغطــي بثمنهــا نفقــات الســفر إىل دمشــق‪.‬‬

‫قصــص االســتدعاءات جــد كثــرة‪ ،‬وكلهــا تصلــح لتكــون نــواة أفــام رعــب‪ ،‬بــل ميكــن الكتابــة عنهــا‬
‫باســتفاضة‪ ،‬الســيام تلــك التــي متــت يف فــرع «أمــن الدولــة» يف دمشــق يف العــام ‪ ،2008‬حيــث‬
‫مــارس ضابــط برتبــة عقيــد أو عميــد اســمه األول «عبــد النــارص» عــى مــا أذكــر‪ ،‬كل صنــوف اإلســاءة‪،‬‬
‫والشــتم‪ ،‬والتهديــد بحقــي‪ ،‬مســتندا ً يف مواجهاتــه يل‪ ،‬عــى معلومــة نقلــت لهــم مــن قبــل أحدهــم‪،‬‬
‫وراح بــدوره يســتعرض بعــض مقــااليت‪ ،‬ويواجهنــي ببعــض أســفاري إىل خــارج ســوريا‪ ،‬و يتوقــف عنــد‬
‫النــدوات التــي شــاركت بهــا يف موســكو عــام ‪ ،2008‬وهــو يقــول ملديــر مكتبــه ‪ -‬وكان مــن منطقــة‬
‫«وادي العيــون» واســمه األول إبراهيــم ‪ -‬أنــه زار قامشــي باعتبــاره ممــن ألفــوا كتابــا مــن مجلــدات عــن‬
‫ســوريا بيئــة ومواطنــن وغــر ذلــك‪« :‬هيــا أوقفــه فــورا ً!»‪.‬‬

‫ويبــدو أن رئيــس مكتبــه الــذي مــى يب إىل مكتبــه‪ ،‬كان يعــرف أن ذلــك مــن أســاليب التخويــف‪،‬‬
‫حيــث راح يــرح يل عــن خطــورة املرحلــة‪ ،‬واســتهداف البلــد‪ ،‬واملؤامــرات الدوليــة‪ ،‬وغريهــا‪ ،‬ثــم‬
‫اســتدعاين بعدهــا مــرة أخــرى‪ ،‬ألســمع منــه تهديــدات بنــرة أعــى مــن ذي قبــل‪ ،‬وهــو يقــول‪ :‬يف املــرة‬
‫املقبلــة‪ ،‬إن رأيــت «وجهــك» هنــا‪ ،‬فــا تلــم إال نفســك!‬

‫منع السفر‬
‫بعــد حادثــة تربســبي‪ /‬قبورالبيــض التــي مل يكتــف النظــام برتجمتهــا «قبــور البيــض» فــراح يعربهــا‬
‫إىل «القحطانيــة» التــي ســأتحدث عنهــا بعــد قليــل تقدمــت بأوراقــي عــى التقاعد املبكر‪ ،‬وأمن يل‬
‫صديقــي الكاتــب مــروان كلــش فرصــة عمــل يف مدرســة «الوكــرة» براتــب عــال‪ ،‬بيــد أننــي اصطدمــت‬
‫‪151‬‬ ‫يتاذ ةداهش( ةهجاوملا ةذلو دادبتسالا ةلآ‬

‫بعقبــة منعــي مــن الســفر‪ ،‬إذ أدرج اســمي‪ ،‬ضمــن قامئــة ملئــات الكتــاب واإلعالميــن والناشــطني‬
‫فسويلا ميهاربإ‬

‫الســوريني‪ ،‬فأعلــم ســكرتري حــزب كــردي الشــخصية الوطنيــة (إبراهيــم باشــا امللــي) مــن رسي كانيــي‬
‫‪ /‬رأس العــن مبــا أتعــرض لــه‪ ،‬ليتعهــد بــأن يؤمــن يل موافقــة الســاح بالســفر‪.‬‬

‫ذات يــوم يف نهايــة صيــف ‪ ،2007‬اتصــل يب الباشــا امللــي‪ ،‬ومعــه أحــد أبنــاء عمومتــه وهــو‬
‫إسامعيل املليل‪ ،‬وحدد مكانا لاللتقاء به يف مدينة الحسكة ليصحبني إىل فرع األمن السيايس‬
‫يف الحسكة للحصول عىل املوافقة‪ .‬ما إن وصلنا إىل املكان‪ ،‬ودخلنا مكتب رئيس الفرع‪ ،‬حتى‬
‫وجــدت أكوامـاً مــن مقــااليت عــى طاولتــه‪ ،‬وراح يهمــس يف أذن الباشــا‪ ،‬قائـاً لــه‪ :‬اقــرأ مــا يقــول!‬

‫ثم رفع صوته قائالً‪ :‬العمى حتى عن سيادة الرئيس؟‬

‫وجــدت نفــي يف موقــف محــرج‪ ،‬عندمــا علمــت أنــه يســتعرض مقــاالً يل رددت فيــه عىل بشــار‬
‫األســد‪ ،‬مشــرا ً إليــه باســمه‪ ،‬وقلــت يف نفــي‪ :‬آن يل أن أدافــع عــن وجهــة نظــري‪ ،‬فــرددت عليــه‪ :‬مــن‬
‫قــال الرئيــس ال يخطــئ؟ إنــه بــر‪ ،‬القــرآن الكريــم نفســه يقــرأ نقديـاً‪ ،‬بعدهــا خــرج رئيــس الفــرع والشــيخ‬
‫املليل إىل غرفة صغرية ضمن مكتبه‪ ،‬وبدأا يتحدثان يف أمر ما‪ ،‬عرفت أنه كان يحدثه عن الذكرى‬
‫املئويــة لجــده الشــيخ إبراهيــم باشــا امللــي‪ ،‬كــا أنــه قــدم لــه مبلغـاً مــن املــال‪ ،‬عــى الــدرج‪ ،‬حدثنــي‬
‫الشــيخ إســاعيل قائالً‪ :‬أحيي شــجاعتك!‬

‫قلــت لــه‪ :‬مكرهـاً كنــت‪ ،‬مل أســكت خــال حيــايت عــى توبيــخ أحــد يل‪ .‬ســافرت أنــا لقطر‪ ،‬ألعمل‬
‫فيهــا مــدة خمســن يوم ـاً‪ ،‬دون أن أمتكــن مــن االســتمرار بســبب تفاهــة طالبهــا‪ ،‬وألعــود يف ‪-11-2‬‬
‫‪ ،2007‬وألعلــم أن الشــيخ الباشــا يف الســجن‪ ،‬عــى خلفيــة حــادث ثــأر عشــائري‪ ،‬وهكــذا فقــد مــات‬
‫مــروع إحيــاء ذكــرى مئويــة الباشــا امللــي‪.‬‬

‫أجل حتى عن «الرئيس» نفسه!‬


‫أكــر مــن مــرة‪ ،‬كتبــت نقــدا ً عــن بشــار األســد‪ ،‬وكانــت املــرة األوىل عندمــا زار تركيــا وقــال‪ :‬إقامــة‬
‫دولة كردية خط أحمر‪ ،‬فنرشت مقاالً يل يف موقع «الحوار املتمدن» وغريه من املواقع اإللكرتونية‪،‬‬
‫كــا أننــي كتبــت عــن «اســتفتاء الــوالء لواليــة ثانيــة»‪ ،‬أكــر مــن مــرة‪ ،‬مــن بينهــا بعــض آرايئ االســتفزازية‬
‫يف حــوار أجــراه معــي أحــد مراســي موقــع «رسوة» آنــذاك‪ .‬وأتصــور أن موقــع «كسكســور» الــذي كان‬
‫بعــض أفــراد أرسيت يديرونــه‪ ،‬فضــح هــذا االســتفتاء‪ ،‬ومــا رافقتــه مــن كرنفــاالت مــزورة‪ ،‬كان أن أودى‬
‫رصاصهــا بحيــاة بعــض األبريــاء‪ ،‬منهــم أحــد أبنــاء حــي الهالليــة يف مدينتــي‪.‬‬

‫منع سفر من األمن القومي!‬


‫مــا زلــت ال أســتطيع فــك لغــز مــا حــدث يل يف آخــر زيــارة يل إىل ســوريا عــام ‪ 2010‬بعــد أن‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪152‬‬

‫توســط يل فنــان كــردي كبــر يف الحصــول عــى موافقــة الســفر إىل دولــة اإلمــارات للعمــل بعــد‬
‫توقيعي لعقد العمل يف إحدى ثانويات الشارقة‪ ،‬حيث أنني وبعد انتهاء الفصل الدرايس األول‬
‫وجدتنــي منشــدا ً للعــودة إىل األهــل‪ ،‬وعــى أمــل جلــب بعــض أرشــيفي‪ ،‬ومخطوطــايت‪ ،‬وحســمت‬
‫األمر بعد طوال تردد‪ ،‬ال سيام عندما اتصلت بأحد العاملني يف مطار حلب واسمه قاسم حنيني‬
‫(اتصــل فيــا بعــد طــول انقطــاع ليخــرين أنــه انضــم للجيــش الحــر) وكان قــد ســاعدين كثــرا ً يف املــرة‬
‫املاضيــة‪ ،‬وأحسســت انــه معنــي يب‪ ،‬وطأمننــي أن ال جديــد يف (الكمبيوتــر)‪ ،‬حيــث هنــاك منــع مــن‬
‫قبــل األمــن الســيايس يف الحســكة‪ ،‬وهــو مــا وعــدين صديقــي الفنــان بإيجــاد حــل لــه‪ ،‬توجهــت إىل‬
‫مكتــب الطــران‪ ،‬وقطعــت تذكــريت للســفر يف اليــوم الثــاين‪ ،‬وكان معــي يف الطائــرة مــدرس لغــة‬
‫عربيــة مــن أرسة صديقــة‪ ،‬قلــت لــه‪ :‬ســأقف قبلــك يف الطابــور تحســباً ألي طــارئ‪ ،‬ومــا إن أعطيــت‬
‫موظــف الجــارك جــواز ســفري‪ ،‬حتــى راح يبــدي أســفه وهــو يحــاور زميـاً لــه‪ ،‬متســائالً‪ :‬أنــت إبراهيــم‬
‫اليوســف؟‪ ،‬قلــت نعــم فقــال‪ :‬لقــد وصلنــا كتــاب بخصوصــك قبــل ســاعات‪ ...‬فقــط‪ ،‬بتاريــخ اليــوم‬
‫صــادر عــن «األمــن القومــي»‪ ،‬دون أن يــرح يل فحــواه‪ ،‬وهــرول بجــواز ســفري‪ ،‬إىل إحــدى الغــرف‬
‫املجــاورة‪ .‬ال أعــرف مــا حــدث يل‪ ،‬فقــط رحــت أقســم مــا بــن يــدي مــن مبلــغ مــايل ألعطيــه لزميــي‪،‬‬
‫ليوصلــه لبيتنــا مــع حقيبتــي‪ ،‬بعــد أن أبلغــت أرسيت أنــه قــد يتــم توقيفــي‪ .‬بعــد حــوايل ربــع ســاعة‬
‫عــاد الرجــل‪ ،‬وهــو يســلمني جــواز ســفري قائ ـاً‪« :‬أنــت ممنــوع مــن الســفر مــن قبــل هــذه الجهــة»‪،‬‬
‫تنفســت الصعــداء‪ ،‬رغــم أين رصت أتصــور فرصــة عمــي اإلمــارايت قــد ضاعــت منــي‪ ،‬وهــو مــا حــدث‬
‫حقـاً‪ .‬لحقــت بزميــي‪ ،‬متوجهــن إىل كاراج االنطــاق‪ ،‬ألمــي أســوأ ثالثــة أشــهر يف حيــايت‪ ،‬طــارت‬
‫بعدهــا فرصــة عمــي‪ ،‬وتعرضــت ألســوأ أنــواع التحقيــق‪ ،‬وأســلمت أمــري للــه بــأين لــن أســافر‪ ،‬ال ســيام‬
‫أن الفصــل الــدرايس الثــاين بــات يوشــك عــى االنتهــاء‪ .‬إذ فشــلت وســاطات كل الخرييــن مــن أجــل‬
‫الســاح بســفري ملــرة واحــدة‪ ،‬ومنهــم الباشــا نفســه‪ ،‬بــل إن شــيخاً عجــوزا ً مــن آل خلــو عندمــا ســمع‬
‫بأمــري تطــوع‪ ،‬وســافر إىل دمشــق‪ ،‬لكنــه عــاد بخفــي حنــن‪ ،‬إىل أن اتصــل يب الصديــق الشــاعر صقــر‬
‫عليــي الــذي أعلمــه صديــق مشــرك مبعانــايت‪ ،‬فتوجــه إىل د‪ .‬نجــاح العطــار التــي تدخلــت لتؤمــن‬
‫يل الســفر‪ ،‬ملــرة واحــدة‪ ،‬أخــرة‪ ،‬مل أعــد بعدهــا إىل وطنــي‪.‬‬

‫يف ثانوية فايز منصور‪ :‬رسائل تهديد‬


‫كثــرة هــي رســائل التهديــد التــي أتتنــي‪ ،‬وكنــت حريص ـاً عــى أال أعلــن عنهــا‪ ،‬العتبــارات تتعلــق‬
‫برؤيتــي ملســألة اإلعــان عــن التهديــدات‪ .‬ولألســف‪ ،‬فــإن بعضـاً منهــا كانــت ترتافــق مــع حمــات مــن‬
‫قبــل أشــخاص أعرفهــم‪ ،‬بعــد كل نشــاط مواجهــة للنظــام‪ ،‬ومــن بــن هــذه التهديــدات أين عندمــا‬
‫نقلــت ‪ -‬للمــرة الثانيــة ‪ -‬بقــرار ســيايس‪ ،‬تــم تناولــه عــر وســائل اإلعــام‪ ،‬مــن معهــد إعــداد املدرســن‬
‫الذيــن درســت فيــه يف الفــرة مــا بــن (‪ )2004 – 2002‬قبــل أن أنقــل إىل «الثانويــة الصناعيــة» ومــن‬
‫‪153‬‬ ‫يتاذ ةداهش( ةهجاوملا ةذلو دادبتسالا ةلآ‬

‫ثــم مدرســة الكرامــة‪ ،‬حيــث صــدر قــرار ســيايس بنقــي يف صيــف العــام ‪ 2005‬إىل مدرســة «فايــز‬
‫فسويلا ميهاربإ‬

‫منصــور» يف مدينــة «تربســبيي ‪ -‬قبــور البيــض»‪.‬‬

‫والغريــب‪ ،‬أن أحــد موجهــي اللغــة العربيــة‪ ،‬وهــو زميــل دراســة واســمه إبراهيــم‪ .‬ح – وكنــت‬
‫اســتضفته ذات مــرة يف منــزيل ‪ -‬كان قــد علــق يف اجتــاع موجهــي اللغــة العربيــة مبديــر الرتبيــة‪،‬‬
‫أثنــاء إعالمهــم بقــرار إبعــادي الوظيفــي عــن مدينتــي «قامشــي» قائـاً‪ :‬أنــا ضــد أن يكــون يف مدينــة‬
‫«تربســبي»‪ ،‬وأقــرح تعيينــه يف مدرســة تابعــة يل‪ ،‬يف أقــى نقطــة عــى حــدود العــراق‪.‬‬

‫لقد متت معاملتي بشكل يسء جدا ً من قبل «مجمع تربسبي الرتبوي» بل إن إدارة املدرسة‬
‫‪ -‬كــا الحــظ املدرســون ‪ -‬صــارت مبثابــة مفــرزة مراقبــة عــى نشــاطي‪ ،‬وقــد اســتغل مديرهــا غيــايب‬
‫يف فــرة التحقيقــات يف دمشــق (وكانــت فــرة عطلــة امتحانــات مل يــداوم فيهــا أحــد) أن أرســل قــرار‬
‫فصــي بســبب غيــايب أكــر مــن ســتة عــر يوم ـاً إىل مديريــة الرتبيــة‪ ،‬بيــد أن أمــن الــر الشــيوعي‬
‫«إبراهيــم الحامــد» ‪ -‬وكان صديق ـاً يل ‪ -‬مــا إن وصلــت إىل املدرســة حتــى توجــه إىل (املجمــع‬
‫الرتبــوي) ليســرجع الكتــاب‪ .‬يف العــام التــايل‪ ،‬باتــت الضغوطــات تــزداد عــي‪ ،‬هنــاك‪ ،‬واضطــررت‬
‫أن أتقــدم بــأوراق اإلحالــة إىل التقاعــد بعــد قيــام أحدهــم بتحويــل مســار ســيارته‪ ،‬مــن ميــن الشــارع‬
‫العــام‪ ،‬يف بلــدة تربســبي‪ ،‬إىل الرصيــف األيــر الــذي أســر عليــه‪ ،‬وكاد يدخــل قلــب أحــد املحــال‬
‫هنــاك‪ ،‬ليرتجــل مــن ســيارته‪ ،‬بعــد أن نجــوت بأعجوبــة‪ ،‬مدعيـاً أنــه كان قــد غفــا! همس يف أذين أحد‬
‫الشهود من معاريف بعد ذلك‪ ،‬قائالً‪ :‬لقد نجاك الله‪ ،‬من حادث القتل‪ ،‬بأعجوبة‪ .‬برأيي‪ ،‬ما عاد‬
‫لــك «خبــز يف البــاد»‪ ،‬وهــو مــا جعلنــي أقــدم عــى أخطــر خطوتــن يف حيــايت‪ :‬أي التقاعــد املبكــر‪،‬‬
‫والســفر‪ ،‬حيــث مــا زلــت أدفــع رضيبتهــا إىل اآلن‪.‬‬

‫للعشق للقربات واملسافة‬


‫بعد طباعة مجموعتي الشــعرية األوىل «للعشــق والقربات واملســافة» يف العام ‪ ،1986‬وهي‬
‫تتضمــن مجموعــة مــن قصائــد النــر‪ ،‬إىل جانــب بعــض قصائــد التفعيلــة‪ ،‬والتــي متــت طباعتهــا‬
‫بـ»التعاون مع اتحاد الكتاب العرب» تعرضت لحملة تحقيقات أمنية‪ ،‬كان من نتائجها أن تم نقيل‬
‫يف نهايــة العــام الــدرايس مــن ثانويــة «عربســتان» إىل إحــدى املــدارس االبتدائيــة (مدرســة الوئــام)‬
‫التــي عملــت فيهــا ســنتني متواليتــن‪ ،‬قبــل أن أتركهــا ملتحقـاً مبــا يســمى «الخدمــة اإللزاميــة»‪ ،‬وقــد‬
‫ورد يف قــرار نقــي مــا يــي‪« :‬بنــاء عــى مقتضيــات املصلحــة العامــة‪ :‬ينقــل فــان الفــاين مــن مــاك‬
‫التعليــم الثانــوي إىل التعليــم االبتــدايئ» وكان ذلــك أول أشــكال الضغــط عــي إلســكات صــويت‪.‬‬

‫مكتب محو األمية‬


‫بعــد ترسيحــي مــن الجيــش يف العــام ‪ ،1990‬راجعــت مديريــة الرتبيــة بالحســكة‪ ،‬بيــد أننــي مل‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪154‬‬

‫أمتكــن مــن العــودة إىل العمــل الثانــوي‪ ،‬حيــث تــم تعيينــي يف إحــدى املــدارس االبتدائيــة (عــي‬
‫بــن أيب طالــب) التــي ســاعدين املوجــه الرتبــوي املــرف عليهــا املــريب الراحــل مــوىس ســعدون‬
‫أثنــاء تعيينــي املؤقــت فيهــا‪ ،‬قبــل أن يتــم نقــي إىل مكتــب محــو األميــة‪ ،‬الــذي كان مقــره يف املركــز‬
‫الثقــايف يف قامشــي‪ ،‬بيــد أن رئيســه الكــردي‪ ،‬ومــن خــال عالقاتــه مــع مديــر املراكــز الثقافيــة يف‬
‫يل دعــا محمــد مصطفــى مــرو محافــظ الحســكة ليصــدر قــرار نقــي‬
‫الحســكة الــذي طاملــا أســاء إ ّ‬
‫إىل (املجمــع الرتبــوي) ليتــم إعفــايئ مــن العمــل يف هــذا املجــال بعــد تحــرك كتبــة التقاريــر ضــدي‪،‬‬
‫مدعــن أن مكتبــي وكــر للقــاءات السياســية املعاديــة‪ ،‬وكان ملتقــى للكتــاب واملثقفــن‪ ،‬ألنقــل إىل‬
‫إحدى املدارس اإلعدادية‪ ،‬ملدة عام واحد‪ ،‬و يتم نقيل إىل وزارة الزراعة حيث عملت يف ثانويتها‬
‫مــا بــن العامــن ‪ ،2002 - 1994‬إىل أن نقلــت والكاتبــن‪ :‬محمــد حــاق وتوفيــق عبــد املجيــد إىل‬
‫معهــد اللغــة العربيــة‪ ،‬وكان مــا ســمي ب ـ «ربيــع دمشــق» قــد أجــرى بعــض التغيــرات التــي ظهــر أنهــا‬
‫ملفقــة وخلبيــة‪.‬‬

‫إعدام كتاب‬
‫رغــم أن مجموعتــي الشــعرية «للعشــق للقــرات واملســافة» كانــت مطبوعــة بالتعــاون مــع اتحــاد‬
‫الكتــاب العــرب‪ ،‬ومبوافقــة رســمية مــن وزارة اإلعــام‪ ،‬إال أن أحــد أصحــاب املكتبــات الذيــن أودعــت‬
‫النســخ لديــه‪ ،‬لبيعهــا‪ ،‬أعلمنــي أن دوريــة مــن األمــن كانــت تبحــث يف مكتبــات املدينــة عــن الكتــاب‪،‬‬
‫وصــادرت النســخ املوجــودة يف الواجهــة‪ ،‬وحــن ســألوه هــل لديــه غريهــا‪ ،‬أجــاب بالنفــي‪ ،‬ليعيــد إيل‬
‫مــا تبقــى منهــا‪ ،‬برسيــة تامــة‪.‬‬

‫يف الفرتة التي تلت نقيل التعسفي من قسم الثانوي إىل قسم االبتدايئ‪ ،‬تفاجأت بأن أمسية‬
‫يل يف املركــز الثقــايف يف قامشــي قــد منعــت‪ ،‬بــل ومل يعــد يســمح يل فيــا بعــد باملشــاركة يف‬
‫األمســيات األدبيــة‪ ،‬لســنوات طويلــة‪ .‬ومــن ســخريات القــدر أنــه كان لــكل عضــو يف اتحــاد الكتــاب‬
‫العــرب الحــق يف إقامــة نشــاطني ثقافيــن‪ ،‬فلــم يســمح يل بإقامتهــا‪ ،‬إال يف حــاالت نــادرة‪ ،‬يف‬
‫مدينتــي‪ :‬قامشــي ‪ -‬الحســكة ‪ -‬بــل يف مدينتــي ديــرك ‪ -‬عامــودا‪ ،‬وحــدث أن تــم إلغــاء مشــاركتي يف‬
‫أمســية شــعرية قامشــاوية‪ ،‬يف ذكرى يوم األرض‪ ،‬قبل بدء األمســية بدقائق‪ ،‬وكان أن أهداين أحد‬
‫األصدقــاء الشــعراء قصيــدة‪ ،‬قــال فيهــا‪« :‬إىل فــان ‪ -‬اخلــع قصائــدك وراء البــاب وادخــل األمســية»‪.‬‬

‫جريدة ترشين‬
‫القســم الثقــايف يف جريــدة ترشيــن دأب عــى أن ينــر يل بعــض متابعــايت الثقافيــة‪ ،‬وقــد تــم‬
‫االهتــام مبــا أكتبــه بعــد أن اســتلم أحــد املعروفــن مــن قبــي موقعـاً مســؤوالً يف الجريــدة‪ ،‬وحــدث‬
‫ذات مــرة أن هتــف إيل قائـاً‪ :‬أمتنــى أن نلتقــي يف أقــرب فرصــة ممكنــة‪ ،‬فقلــت لــه‪ :‬حســناً‪ ،‬وحــدث‬
‫‪155‬‬ ‫يتاذ ةداهش( ةهجاوملا ةذلو دادبتسالا ةلآ‬

‫أن ســافرت إىل دمشــق بعــد أيــام‪ ،‬ومــا إن دخلــت مكتبــه‪ ،‬وجلســت‪ ،‬قــال يل‪ :‬منــذ أيــام‪ ،‬تعرضــت‬
‫فسويلا ميهاربإ‬

‫للتحقيق من قبل ضابط يف القرص الجمهوري حول كتاباتك‪ ،‬واضطررت أن أقول لهم‪ :‬إن من يكتب‬
‫يف املواقــع املمنوعــة باســم إبراهيــم اليوســف‪ ،‬هــو ليــس مــن يكتــب باالســم نفســه يف جريدتنــا‪ .‬ثــم‬
‫قــال‪« :‬أبــواب الجريــدة مفتوحــة أمامــك‪ ،‬إن كففــت عــن كتابــة مقاالتــك القاســية‪ ،‬طبعـاً»‪ ،‬كان ذاك‬
‫آخــر لقــاء بذلــك الشــخص‪ ،‬بــل وانقطعــت منــذ ذلــك الوقــت عــن الكتابــة يف الجريــدة‪ ،‬وحــدث أن‬
‫اتصل الشخص نفسه معي ‪ -‬هاتفياً ‪ -‬بعيد أيام فقط من انتفاضة الثاين عرش من آذار ‪ 2004‬قائالً‪:‬‬
‫أدعــوك للكتابــة يف أحــد األعمــدة املهمــة يف الجريــدة ‪ -‬وأتصــور أن اســمه كان آفــاق ‪ -‬عــن الوحــدة‬
‫الوطنيــة‪ ،‬وقــال‪ :‬ســأفتح لــك املجــال أن تكتــب بانتظــام‪ ،‬غــر أننــي شــكرته‪ ،‬واعتــذرت‪ ،‬وقاطعــت‬
‫الصحافــة الســورية الرســمية‪ ،‬منــذ ذلــك التاريــخ‪ ،‬وحتــى اآلن‪.‬‬

‫مسابقات انتقاء املدرسني‪ :‬رقم قيايس‬


‫بعد أن نلت الشهادة الجامعية‪ ،‬كان من الطبيعي أن أتقدم إىل ما كانت تسمى بـ»مسابقات‬
‫انتقــاء املدرســن»‪ ،‬وكانــت تجــرى يف دمشــق‪ ،‬مرتــن يف الســنة‪ ،‬أثنــاء تلــك الفــرة‪ ،‬ومــن ثــم باتــت‬
‫تجرى يف ما بعد‪ ،‬مرة واحدة كل سنة‪ ،‬ورغم أنني كنت معلامً أصيالً يف سلك الرتبية‪ ،‬بيد أنني‬
‫خضــت اثنتــي عــرة مســابقة‪ ،‬كنــت أنجــح يف الفحصــن‪ :‬التحريــري والشــفهي‪ ،‬بعالمــات عاليــة‪،‬‬
‫لكننــي مل أقبــل يف تلــك املســابقات‪ ،‬ألســباب أمنيــة كــا كان يقــال‪ ،‬رغــم تدخــات كثرييــن‪ ،‬ومنهــم‬
‫بعــض املعنيــن يف الحــزب الشــيوعي الســوري الــذي كنــت أحــد قيادييــه يف منطقــة الجزيــرة حتــى‬
‫العــام ‪ 2000 2‬وقــد كتبــت ذات مــرة رســالة إىل األمــن العــام للحــزب خالــد بكــداش‪ ،‬عــا أتعــرض‬
‫لــه‪ ،‬فأوعــز إىل جريــدة «نضــال الشــعب» بنــر مقــال مفصــل عــن وضعــي‪ ،‬وهــو مــا تــم‪.‬‬

‫طبعاً‪ ،‬إن عدم قبويل يف تلك املسابقات‪ ،‬كان ينعكس عىل الوضع املعييش ألرسيت التي‬
‫كانــت تعيــش يف ظــروف اقتصاديــة جــد صعبــة‪ ،‬وكان هنــاك فــرق كبــر بــن راتبــي الشــهري ورواتــب‬
‫زماليئ ممن تخرجنا معاً‪ .‬وظل راتبي عىل هذا النحو إىل أن وصل بعد سنوات إىل مستوى راتب‬
‫املدرس‪ ،‬وتم ‪ -‬بشكل أوتوماتييك ‪ -‬تعديل وضعي‪ ،‬دون النجاح يف املسابقات‪.‬‬

‫حقيقــة‪ ،‬رغــم أمل املعانــاة الكبــر‪ ،‬ورغــم تكلفــة املســابقات‪ ،‬اقتصاديـاً‪ ،‬ووجــود حاجــة مســتمرة‬
‫إىل املــدرس وكان يتــم تداركهــا مــن خــال اســتقدام مدرســن ومدرســات مــن املحافظــات األخــرى‪،‬‬
‫إال أن األمــر بقــي كــا هــو‪ ،‬وكنــت أحــس يف داخــي بالزهــو قائـاً‪« :‬ســعيد ألننــي أزعــج هــؤالء» وقــد‬
‫كتبت قصة قصرية يف مجموعتي القصصية «شجرة الكينا بخري» ‪ 2004‬بعنوان «املسابقة» أصور‬
‫فيهــا حالتــي‪ ،‬وموقفــي مــن آلــة النظــام‪ .‬ولعــل أجمــل مــا كان يعزينــي‪ ،‬هــو وهــم غريــب‪ ،‬إذ كنــت أقــول‬
‫يف نفــي‪ :‬غــدا ً‪ ،‬بعــد ســقوط آلــة االســتبداد‪ ،‬ســيتم تعويــي املعنــوي‪ ،‬وهكــذا بالنســبة للوضــع‬
‫الوظيفي‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪156‬‬

‫سأكتب عنكم أيها األوغاد!‬


‫يف جميع املواقف الصعبة التي كنت أم ُّر بها‪ ،‬وأتجرع خاللها مرارة االستبداد‪،‬‬
‫مثة أمر واحد‪ ،‬كان يخفف عني وطأة األمل الرهيب‪ ،‬وهو أنني كنت أمني النفس‪،‬‬
‫بــأن أعــار هــؤالء الوحــوش‪ ،‬املســتبدين‪ ،‬قصــرة‪ ،‬وســيأيت يــوم أكتــب فيــه عــن كل‬
‫مــا تعرضــت لــه‪ ،‬وهــا أنــا أفعــل ذلــك‪ ،‬ولــو متأخــرا ً‪ .‬أي أن فكــرة الكتابــة‪ ،‬بحــد ذاتهــا‪،‬‬
‫كانت بلسامً آلالمي‪ ،‬ومعادالً روحياً‪ ،‬يجعلني أشعر بالطأمنينة‪ ،‬ويحفزين لدميومة‬
‫رســالتي‪ ،‬ومواصلتها‪ ،‬يف مواجهة آلة القمع‪ ،‬بكل ما أســتطيع‪.‬‬
‫‪157‬‬ ‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬

‫أوراق القصة‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪158‬‬

‫نور دكريل‬

‫قصص‬

‫رسالة إىل سلة مهمالت‬


‫عندمــا أســمي ســطل الزبالــة ســلة مهمــات أشــعر بــأن غرفتــي ســطح املكتــب‬
‫عــى شاشــة الكمبيوتــر‪ ،‬وأنــا حت ـاً فــروس‪ ،‬لنســمها إذا ً رســائل إىل الزبالــة‪:‬‬

‫كانــت آخــر رســالة كتبتهــا منــذ أســبوع‪ ،‬كتبــت فيهــا عــن الشــعور باألمومــة الــذي‬
‫متلكنــي فجــأة‪ ،‬لكــن ليــس أمومــة بــأن يكــون لــدي بــري صغــر‪ ،‬بــل بــأن يكــون لــدي‬
‫نبتــة‪.‬‬

‫لذا حني شعرت بأن الوالدة قد حانت اشرتيت نبتة صغرية‪.‬‬

‫يف األيــام األوىل كنــت أعتنــي بتلــك النبتــة طيلــة اليــوم‪ ،‬مــن ســقاية ومســح‬
‫الغبــار عنهــا ومالعبتهــا‪ ،‬لكــن يــوم بعــد يــوم بــدأت أشــعر بالخيبــة‪ ،‬ال أعلــم ملَ كنــت‬
‫أعتقــد بأنهــا ســتنطق مــع مــرور الوقــت‪ ،‬أو عــى األقــل أن تبادلنــي بعــض املشــاعر‬
‫وأنــا أحدثهــا طيلــة الوقــت‬

‫فتوقفــت عــن االعتنــاء بهــا وســقايتها‪ ،‬كانــت تذبــل أمــام عينـ ّـي متوســلة أن‬
‫أســقيها‪ ،‬لكنــي كنــت أســكب املــاء حولهــا عــى األرض وأتــأمل عــى موتهــا بســببي‪.‬‬

‫زبّال الحي النظيف جاءين صباحاً وقال يل‪:‬‬


‫‪159‬‬ ‫صصق‬

‫مل توقفــت عــن كتابــة الرســائل يل؟ أرجــوك إن أردت أن تتوقــف عــن مراســلتي‪ ،‬إمنحنــي النبتــة‬
‫لركد رون‬

‫عــى األقــل‪.‬‬

‫مل يقل غري ذلك فجلبت النبتة وأعطيته إياها‪ ...‬ورحل‪.‬‬

‫ـن ج ّيديــن‪ ،‬مل نبــد أي مشــاعر‪ ،‬ورغــم ذلــك لــو أن أحــدا رآنــا لقــال‪ :‬لقــد بكيــا‪ ...‬رغــم‬
‫ك ّنــا كممثلـ ّ‬
‫أننــا مل نفعــل‪.‬‬

‫نوستالجيا‬
‫عرصا ً‪...‬‬

‫هناك عىل املصطبة‪ ،‬املغطاة بحصري قدمية مفروشة بقشور بذور امل ّيال‪ ...‬م ّيال الشمس‪،‬‬
‫وأوراق الزنزلخت الذابلة‪ ،‬وكاسات الشاي الباردة التي يسرتيح عىل حوافها الذباب‪.‬‬

‫هناك فوق تلك الحصري املطرزة بثقوب خلفتها سجائر العابرين كشامات‪.‬‬

‫هنــاك أريــد أنــا أنــام وأنــا أتأمــل طيــور الســنونو التــي تتأرجــح يف األعــى وكأنهــا معلّقة إىل الســاء‬
‫بخيوط‪.‬‬

‫هناك أريد أن أنام‪.‬‬

‫لُقيا‬
‫فالح ما ارتطم فأسه بيشء قاس‪.‬‬

‫كان ذلك قلبي‪ ...‬ومن ذاك الثقب خرجت كربعم صغري‪.‬‬

‫ميت تحت األرض‪.‬‬


‫ٌ‬ ‫كربت‪ ...‬وكشجرة يابسة اآلن أشعر بالحزن كلّام دفن‬

‫وكأنه يأخذ مكاين أخاف أال تبقى يل حصة من الرتاب‪.‬‬

‫تمرين عائيل‬
‫وﺍﻟﺪﻱ ﻭﻣﻦ ﺧﻮﻓﻪ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﻣﻦ ﺍالﻋﺘﻘﺎﻝ‪ ،‬ﻭﻟﻲﻜ ﻳﺠﻌﻠﻨﺎ ﻧﺘﻌﻮﺩ ﻋﻰﻠ ﻇﺮﻭﻑ ﺍالﻋﺘﻘﺎﻝ ﻲﻓ ﺣﺎﻝ تعرض‬
‫ﺃﺣﺪﻧﺎ لذلك‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪160‬‬

‫ﺑﺪﺃ ﻣﻨﺬ ﻓﺮﺘﺓ بإخضاعنا لتامرين تعذيب‪ ،‬ﻲﻓ ﻛﻞ ﺻﺒﺎﺡ ﻳﻘﻮﻡ بإﻳﻘﺎﻇﻨﺎ ﺑﺴﻜﺐ ﺳﻄﻞ ﻣﺎﺀ عىل‬
‫ﻛﻞ ﺷﺨﺺ م ّنا‪.‬‬

‫ﻭﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﻧﺒﺘﻞ ﻣﻦ الرأس ﺣﺘﻰ القدمني‪ ،‬ﻧﺼﻄﻒ ﻭﺭﺍﺀ ﺑﻌﻀﻨﺎ ﺍﻟﺒﻌﺾ ﻭﻧﺤﻦ ﻧﺮﺗﺠﻒ ﻣﻦ ﺍﻟﺨﻮﻑ‬
‫والــرد‪ ،‬ﻭيجــر كل واحــد منــا ﺑﺎﻟﺪﻭﺭ عــى إﺩﺧﺎﻝ ســبابته ﻲﻓ ﺇﺑﺮﻳﺰ ﺍﻟﻜﻬﺮﺑﺎﺀ ﺍﻤﻟﻮﺿﻮﻉ ﻲﻓ ﺍﻟﺤﺎﺋﻂ‪،‬‬
‫ﻭﺍﻟﺬﻱ ﻗﺎﻡ ﺑﻔﻚ ﺍﻟﻐﻄﺎﺀ ﻋﻨﻪ ﻟﻬﺬﻩ ﺍﻟﻐﺎﻳﺔ‪.‬‬

‫ﺃﺛﻨﺎﺀ ﺍﻟﺘﻤﺮﻳﻦ ﺗﻜﻮﻥ ﺃﻣﻲ ﻭﺍﻗﻔﺔ ﻭﺭﺍﺀ ﺍﻟﺒﺎﺏ ﺗﺴﺘﻤﻊ ﻟﺮﺼﺍﺧﻨﺎ‪ ،‬وﻲﻓ ﻛﺜﺮﻴ ﻣﻦ ﺍﻷﺣﻴﺎﻥ أﺷﻌﺮ ﺃﻥ ﺃﻲﺑ ﻳﺘﺄﻢﻟ‬
‫للمشهد‪ ،‬ﻭﺃﺣﻴﺎﻧﺎ ﺃﺭﻯ ﻲﻓ ﻋﻴﻨﻴﻪ ﺩﻣﻌﺔ ﻋﻰﻠ ﻭﺷﻚ ﺍﻟﺘﺤﺮﺭ‪ ،‬ﻟﻜﻨﻪ ﺩﺍﻤﺋﺎ ﻳﺘﺪﺍﺭﻙ ﺃﻣﺮﻩ ﺑﺄﻥ ﻳﺮﺼﺥ ﻓﻴﻨﺎ‪:‬‬

‫«ﺷﻮ ﻣﻔﻜﺮﻳﻦ ﻫﻨﻴﻚ ﺑﺪﻥ ﻳﻄﻌﻤﻮﻛﻦ ﺷﻮﻛوال ﻣﺜﻼ؟»‪.‬‬

‫ﺃﻛﺮﺜ ﻣﻦ ﻳﻌﺎﻲﻧ ﺑﻴﻨﻨﺎ ﻲﻓ ﻤﺗﺎﺭﻳﻦ ﺍﻟﺘﻌﺬﻳﺐ ﻫﻲ ﺃﺧﺘﻲ ﺍﻟﺼﻐﺮﻴﺓ ﺫﺍﺕ ﺍﻟﺸﻌﺮ ﺍﻟﻜﺜﻴﻒ‪ ،‬ﻓﻔﻲ ﻛﻞ‬
‫ﻣﺮﺓ ﻳﻘﻒ ﺷﻌﺮﻫﺎ ﺣﺘﻰ ﻳﻜﺎﺩ ﻳﻼﻣﺲ ﺍﻟﺴﻘﻒ‪ .‬ﺍﻤﻟﺴﻜﻴﻨﺔ ﺗﺒﻘﻰ ﺑﻌﺪﻫﺎ ﻟﺴﺎﻋﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻭﻫﻲ ﺗﺤﺎﻭﻝ‬
‫ﺇﻋﺎﺩﺗﻪ ﻟﻮﺿﻌﻪ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﻲ‪.‬‬

‫ﻣﻨﺎ‪ ،‬ﻭﻢﻟ نســتفد شــيئاً ﻣﻦ ﻤﺗﺎﺭﻳﻦ ﺍﻟﺘﻌﺬﻳﺐ ﺗﻠﻚ‪ ،‬بــاﺳﺘﺜﻨﺎﺀ ﺃﻣﺮ ﻭﺣﻴﺪ‬
‫ﺇﻰﻟ ﺍﻵﻥ ﻢﻟ ﻳﻌﺘﻘﻞ ﺃﺣﺪ ّ‬
‫ﻣﻨﺎ ﺑإﻣﺴﺎﻙ ﻤﻟﺒﺔ ﺑﻴﺪﻩ‪ ...‬ﻟﻲﻜ ﻧﻲﻀﺀ ﺍﻤﻟﻨﺰﻝ‪.‬‬
‫ﻭﻫﻮ أﻧﻨﺎ ﺣﻦﻴ ﺗﻨﻘﻄﻊ ﺍﻟﻜﻬﺮﺑﺎﺀ‪ ،‬ﻳﻘﻮﻡ ﻛﻞ ﻭﺍﺣﺪ ّ‬

‫ثورة قديمة‬
‫يف عــام ‪ 1923‬قامــت انتفاضــة شــعبية يف حيِّنــا‪ ،‬عــى « ِذ َّمــة» جــديت التــي كانــت تــروي يل‬
‫حكايــة تلــك االنتفاضــة قبــل النــوم‪.‬‬

‫بدأت الحادثة عند صالة الجمعة حني خرج «أبو الطش» من املســجد ومل يجد حذاءه الذي‬
‫كان قد تركه أمام باب املســجد‪.‬‬

‫أبــو الطــش كان رجـاً عجــوزا‪ ،‬وكان معروفــا يف الحــي بأنــه مــن أصحــاب الكرامــات أو «مــروكا»‪،‬‬
‫يعيــش متــردا ويقــي يومــه ميــي يف الشــوارع ويف الليــل كان ينــام يف املســجد‪ ،‬كان يقطــع‬
‫مســافات طويلــة مش ـيًا بــا وجهــة معينــة أو هــدف ودون أن يشــعر بالتعــب‪.‬‬

‫أحدهــم قــال مــرة بأنــه قــد صــادف أبــو الطــش ميــي يف دمشــق‪ ،‬وآخــر أقســم بعــد عودتــه مــن‬
‫الحــج بــأن أبــو الطــش كان يطــوف حــول الكعبــة‪ .‬والكثــر مــن القصــص املامثلــة حيكــت حــول رحــات‬
‫أبــو الطــش ســرا عــى األقــدام‪ ،‬رمبــا لهــذا الســبب كان لحــذاء أبــو الطــش تلــك األهميــة‪.‬‬

‫املهم‪ ،‬خرج أبو الطش من املسجد قبل انتهاء خطبة الجمعة بعد أن أنهكه الجلوس الطويل‪،‬‬
‫‪161‬‬ ‫صصق‬

‫فلــم يجــد حــذاءه أمــام بــاب املســجد‪ ،‬فــأرسع إىل داخــل املســجد ووقــف يف منتصفــه وفتــح عينيــه‬
‫لركد رون‬

‫وفمــه وكأنــه يريــد ابتــاع الجمــوع‪ ،‬وبقــي ملــدة دقيقــة عــى هــذا الحــال وكأنــه نــي مــا يريــد قولــه‪ ،‬ثــم‬
‫رصخ بكلمــة واحدة‪:‬‬

‫‪ -‬حذااااااااايئ‪....‬‬

‫رصخــة كانــت كفيلــة بتحويــل املســجد إىل خليــة نحــل‪ ،‬حتــى خطيــب املســجد قطــع خطبتــه‬
‫مرس ًعــا بقولــه‪« :‬تؤجــل الخطبــة إىل الجمعــة القادمــة»‪ .‬ونــزل مرسعــا مــن عــى املنــر‪.‬‬

‫بــدأ البعــض بتهدئــة روع أبــو الطــش‪ ،‬وآخــرون تولــوا مهمــة البحــث عــن الحــذاء‪ ،‬وأحدهــم جلــس‬
‫يف زاويــة املســجد وغطــى وجهــه بكفيــه وبــدأ يبــي‪ :‬يــا حــرام أبــو الطــش يــا حــرام‪...‬‬

‫أخربتنــي جــديت بــأن أهــايل الحــي مل يعرفــوا النــوم يف ذلــك اليــوم‪ ،‬وانتــروا يف الحــي علَّهــم‬
‫يصادفــون حــذاء أبــو الطــش‪ ،‬حتــى جــدة جــديت التــي كان عمرهــا قــد قــارب املائــة عــام‪ ،‬كانــت ترسح‬
‫يف الشــوارع وتبــي كأنهــا فقــدت ولدهــا متمتمـةً‪:‬‬

‫‪ -‬والد الحرام‪ ،‬رصماية أبو الطش!؟ لك ليش‪ ...‬الله ع الظامل‪.‬‬

‫ويف اليــوم التــايل‪ ،‬ع ـ َّم الحــزن والحــداد كل بيــوت الحــي وأغلقــت الدكاكــن‪ ،‬حتــى أبــو رمــزي‬
‫صاحــب ملحمــة الحــي أغلــق دكانــه وعلــق الفتــة عــى بابهــا‪ ،‬كتــب عليهــا‪« :‬أنــأكل اللحــوم وحــذاء أبــو‬
‫الطــش مفقــود!؟»‪.‬‬

‫صاحب محل بيع األحذية قام بإحراق محله وما فيه من أحذية تضامنا مع أبو الطش‪.‬‬

‫أ َّمــا أبــو الطــش فقــد تابــع حياتــه ورحالتــه املعتــادة حاف ًيــا هــذه املــرة‪ ،‬وبعــد شــهر كانــت قدميــه‬
‫قــد امتــأت بالقــروح‪ ،‬حتــى أن أهــايل الحــي كانــوا يعرفــون موعــد عودتــه إىل الحــي مــن الخــط األحمــر‬
‫الــذي ترســمه جــروح قدميــه خلفــه‪.‬‬

‫مل يحتمــل أهــايل الحــي هــذا األمــر الــذي أدمــى قلوبهــم‪ ،‬فقامــوا بإنشــاء مشــفى صغــر مهمتــه‬
‫الوحيــدة االهتــام بقدمــي أبــو الطــش ومــداواة تقرحاتهــا وجروحهــا‪.‬‬

‫لكــن ذلــك مل يجــد نفعــا‪ ،‬ففــي الشــتاء التــايل أصيــب أبــو الطــش بالغرغرينــة‪ ،‬ثــم مــات بعــد‬
‫شــهرين مــن ذلــك‪.‬‬

‫حينهــا نفــد صــر أهــايل الحــي وقامــوا بحمــل أبــو الطــش عــى األكتــاف يف جنــازة مهيبة‪ ،‬وتوجهوا‬
‫إىل مبنــى البلديــة يف املنطقــة‪ ،‬وأعلنــوا بأنهــم لــن يقومــوا بدفــن أبــو الطــش قبــل أن تتحمــل الحكومــة‬
‫مســؤولياتها‪ ،‬معلنــن غضبهــم مــن اســتهتار الحكومــة‪ ...‬لكــن مل يعرهــم أحــد أي اهتامم‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪162‬‬

‫قامــوا بنصــب الخيــام‪ ،‬وقــرروا بأنهــم لــن يغــادروا إال بعــد حــل مشــكلتهم‪ ،‬ورفعــوا‬
‫الفتــات كتبــوا عليهــا بعــض الشــعارات مثــل‪:‬‬

‫تغب»‬
‫ِ‬ ‫«أب ـ ــو الـطش‪ ...‬يف البال ومل‬

‫«حذاء أبو الطش تاج عىل رؤوسنا‪ ...‬ال يراه إال الحفاة»‬

‫«أبو الطش‪ ...‬مل ولن ننساك يو ًما»‬

‫وبعــد ثالثــة أشــهر مــن املفاوضــات بــن الحكومــة وأهــايل الحــي تــم التوصل إىل‬
‫حــل بــأن عرضــت الحكومــة إنشــاء مصنــع لألحذيــة تعــود أرباحــه إىل أهــايل الحــي‪،‬‬
‫وتخصيــص زوج مــن األحذيــة شــهريا لــكل فــرد مــن أهــايل الحــي‪ ،‬وبذلــك انتهــت‬
‫االنتفاضــة وتــم دفــن أبــو الطــش‪.‬‬

‫كانت جديت تختم حكايتها دامئا بقولها‪:‬‬

‫‪ -‬لألمانــة أهــايل الحــي مل يوافقــوا عــى ذلــك إال بعــد أن اســتجابت الحكومــة‬
‫لرشطهــم الوحيــد‪ ...‬وهــو أن تقــوم بصنــع حــذاء مــن الذهــب يوضــع فــوق قــر أبــو‬
‫الطــش تكرمي ـاً لــه‪.‬‬
‫‪163‬‬ ‫‪...‬ةوثلا ِكّنأك‬
‫ر‬ ‫كنع ُثحبأ َّينأك‬
‫توحاش نسح‬

‫حسن شاحوت‬
‫ُ‬
‫أبحث عنكِ‬ ‫كأني‬
‫َّ‬ ‫كأنّكِ الثورة‪...‬‬

‫‪1‬‬
‫أخاطب هؤالء واحدا ً‪ ...‬واحدا‬
‫َ‬ ‫سأتعلّ ُم أ ْن‬

‫وأقضـ َم حكاياتهــم كــا لــو أنهــا حكايــايت البســيطات‪ :‬الوطــن‪ ،‬العشــق‪ ،‬املطــر‪،‬‬
‫األرض‪ ،‬الحلــم‪ ،‬الكلــات‪ ،‬الشــعر‪ ،‬القصيــدة التــي تركــض يف الشــوارع حافيــة‪،‬‬
‫املنفــى‪ ،‬قــرص الشــمس‪ ،‬الغيمــة التــي تســتعيص عــى الغــزاة‪ ،‬ســنابل القمــح يف‬
‫الحقول‪ ،‬الشامات يف وجه الليل لقهر مواجعنا‪ ،‬العصافري‪ ،‬الحامم‪ ،‬البجع الذي‬
‫يقيــم صالتــه يف البحــرة‪ ،‬األســاك امللونــة يف األواين البلوريــة وخط ـأُ الحــى‪،‬‬
‫الياســمني الــذي يلّــوح يل مــن الرشفــات‪ ،‬الشــجر الــذي يقــرأ تفاصيــل الطــن‪ ،‬املــاء‬
‫الــذي يف الورقــة‪ ،‬األطفــال املالئكــة‪ ،‬املوســيقى‪ ،‬العاصفــة‪ ،‬آخــر رشــفة مــن فنجــان‬
‫كل يشء‪ ،‬وال أشــب ُه شــيئا!‬
‫كل يشء‪ّ ...‬‬
‫القهــوة‪ ...‬الحيــاة‪ ...‬تشــبهني ّ‬

‫‪2‬‬
‫مثل الوطن‪ /‬مثل الهوية التي يحاولون قطع أشجارها‪ ،‬وحرق جذورها ويفشلون‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪164‬‬

‫مثل شمس الحريّة الحارقة‪ ،‬وأرواح الشهداء التي يتبخّر ماءها إىل األعىل‪ ،‬مثل البالد التي سارت‬
‫بأبنائها نحو الحدود‬

‫(أوف‪ ...‬يــا تــرى هــل تعــود) ؟! مثــل حواجــز التفتيــش وهــم ينبشــون قــر أوراقــي الثبوتيــة ببــطء‬
‫مميــت‬

‫مثل فلسطني التي‪ ،!!....‬التي خنقت بني شفتيها اآله‪ ،‬مثل أمي التي ألقمتني ثديها اليابس‬
‫ألمنــو ‪ -‬فيــا بعــد مقطــوع ‪ -‬مثــل أيب ووحشــة غيابــه‪ ،‬وطيــور تحـ ُ‬
‫ط فــوق شــاهدة قــره املهرتئــة‪ ،‬مثــل‬
‫ني الغيــاب‪ ،‬مثــل أشــياء كثــرة تســكن‬
‫أربــع أطفــال رصتُ لهــم وطــن‪ ،‬فقطعــت قلوبهــم الطريــة بســكاك ِ‬
‫زوايــا ذاكــريت كالعناكــب‪ ،‬مثــل شــوارع املــدن التــي اقرأهــا كل يــوم بعيــونِ القصيــدة‪ ،‬مثــل حكايــات‬
‫القــرى املســتلقية عــى ظهرهــا وقــت الظهــرة‪ ،‬مثــل ذكريــات الفــراق املبللــة بدم ـعِ الحنــن‪ ،‬مثــل‬
‫الحنــن الــذي يشـ ُّد أذن القلــب كل لحظــة‪ ،‬مثــل قصائــد األصدقــاء والصــور الشــعرية الباذخــة‪ ،‬مثــل‬
‫ـاول أن أكتــب عنـ ِ‬
‫ـك‪ ،‬وأفشــل!‬ ‫عطلــة نهايــة األســبوع وشــهوة النــوم‪ ،‬مثــل أشــياء كثــرة‪ ...‬كثــرة‪ ،‬أحـ ُ‬

‫‪3‬‬
‫يف الوطــن واملــدن املقطعــة أوصالهــا أقلــب صفحــات الشــوارع برم ـ ِح القصيــدة‪ ،‬يف أحيــاء‬
‫ر يف عيــونِ‬
‫الفقــراء التــي أرضعوهــا دماءهــم‪ ،‬يف الشــوارع املزدحمــة بالزهــو ِر والضيــم‪ ،‬ينتح ـ ُر الص ـ ُ‬
‫صبيـ ٍة ســمراء‪ ،‬ويبيــع اليائســون أحالمهــم برغيـ ِ‬
‫ـف‪ ،‬يف القــرى ـ مــا بــن حراقــات النفــط ـ تلــوث صــدري‬
‫ِ‬
‫رأيتك تخلعني أثواب الذكريات املزركشــة‬ ‫وقميص القصيدة ببقعِ الزيت‪ ،‬تحت ســنبلة انكرست‪،‬‬
‫والحكايــات الحائلــة‪ ،‬يف املقابــر التــي تســجن أجســاد الشــهداء و ت ُبقــي أرواحهــم حــرة بيننــا‪ ،‬يف‬
‫الــراب الــذي يــروي ظــأ روحــه بالنفــط وطفولــة أحالمنــا‪ ،‬يف أحشــاء املطابــخ‪ ،‬مــا بني املالعق التي‬
‫بالســخام والغبــار‪ ،‬يف الثالجــات املعبــأ ِة‬
‫ال تصلــح ملوائــد العشــاء الدينامــي والطناجــر املطلي ـ ِة ُّ‬
‫ـبق أقدامنــا إليـ ِ‬
‫ـك‪ ،‬هكــذا نحـ ُن بظاللنــا‬ ‫باللــن الحامــض والجــوع‪ ،‬يف الليــايل املكحلــة بالدمــع‪ ،‬نسـ ُ‬
‫الناقصــة وأحالمنــا‪.‬‬

‫كل يش ٍء يتب ّخــر‪...‬‬


‫يف الشــتاءات الجليديــة لــو قليـ ٌـل مــن الــدفء والطأمنينــة‪ ،‬يف الصيــف أن ّ‬
‫األصدقــاء‪ ،‬عناوينهــم‪ ،‬ذكرياتهــم‪ ،‬أقــدام العشــاق‪ ،‬أثــداء العشــب‪ ،‬ضفــاف الريــح ‪ -‬أنــا بالــذات ‪-‬‬
‫يســتأج ُر البعــوض بيتــي‬
‫يف املــا ِء الخائــن الــذي يــروي ظــأ اللصــوص وقطيــع الذئــاب‪ /‬اللصــوص الذيــن رسقــوا اسـ ِ‬
‫ـمك‬
‫ح األمهــات وجثــث األشــجار التــي قصفتهــا الريــح‪ ،‬يف األغــاين الشــعبية‬
‫وصــاروا أمئــة لنــا‪ ،‬يف نــو ِ‬
‫‪165‬‬ ‫‪...‬ةوثلا ِكّنأك‬
‫ر‬ ‫كنع ُثحبأ َّينأك‬

‫ح خلسـ ٍة‬
‫رب إىل الــرو ِ‬
‫وحناجــر املغنــن القدامــى‪ ،‬يف ضحــكات العيــون التــي تتـ ّ‬
‫توحاش نسح‬

‫وتس القلب‪ ،‬يف أشياء كثرية كضامئر الشعراء وقصائدهم وأحزانهم‪ ،‬يف املنفى‬ ‫ّ‬
‫عنك‪ ،‬يف املحطات وحقائب املسافرين‬‫ِ‬ ‫ش ذاكريت‬
‫وزحمة األسئلة املتعفنة‪ ،‬تُفتّ ُ‬
‫نحــو أوهــام األبديــة‪.‬‬

‫ـس‬ ‫ـك تلّوحــن يل مبناديــلِ الخيبــة‪ ،‬يف الطائــرات التــي ت ُكنـ ُ‬‫يف القطــارات رأيتـ ِ‬
‫ـك‪ ،‬يف عظــامِ أيــام العطــل واألعيــاد وذاكــر ِة‬‫أرصفــة الســاء‪ ،‬وذكريــات الطيــور كذلـ َ‬
‫القطط‪ ،‬يف قلوب العصافري املذعورة وأحاديث األصدقاء املنافقني‪ ،‬يف دموع‬
‫الكهرباء‪ ،‬والليل املضاء بعيون الكالب واملخربين‪ ،‬يف الحواجز العارية من األمان‬
‫كل هــذا‬
‫والبهجــة‪ ،‬يف زخــات الرصــاص‪ ،‬صيــاح الراجــات‪ ،‬دوي القذائــف‪ ،‬يف ّ‬
‫الخــراب املخيــف‪ ،‬أبحــثُ عنــك أيتهــا الثــورة‪.‬‬
‫نعم ِ‬
‫أنت أيتها الثورة العظيمة واليتيمة كثري‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪166‬‬

‫محمد شبيب‬

‫عن منذر السوري‬

‫أرصخ‪ :‬أستطيع رؤية الجرذان بوضوح ترقص من حويل عىل موسيقى «ريتشارد‬
‫فاغــر»‪ .‬أتحــدث مــع األنــا يف الخرابــة عــى األقــل أنــا لســت الجئـاً اقتصاديـاً لينظــر‬
‫يل كــا يشــاؤون‪ .‬فهنــاك يف كاليــه الفرنســية ال مــكان للحديــث بــن‬
‫الفرنســيون إ ّ‬
‫الســوريني عــن رضبــات التحالــف الــدويل لداعــش‪ .‬ال أحــد مهتــم بخطــة دميتســورا‪،‬‬
‫وال باالنتهــاكات االرسائيليــة املتكــررة للســيادة الســورية‪ .‬يف مدينــة كاليــه الصغــرة‬
‫املطلة عىل بحر املانش نقطة عبور املهاجرين إىل بريطانيا عرب مينائها املعروف‪.‬‬
‫يجــري الحديــث فقــط عــن الفــرق بــن أملانيــا والســويد‪ ،‬بــن بريطانيــا والنمســا‪ ،‬وعــن‬
‫الدمنارك والرنويج‪ ،‬فهنا وللمرة األوىل يحق للسوري القادم من إيطاليا أو اليونان‬
‫سواء يف الرب أو البحر وما تيرس له من طرق غري رشعية‪ ،‬اختيار الوطن البديل‪ ،‬من‬
‫دون االنتظــار عــى أبــواب الســفارات ومــن دون أن يطــرح ســؤال الهجــرة املمــل عــى‬
‫موظف األمم املتحدة‪ .‬يحق اآلن للسوري الواصل حديثاً أن يختار بني تعلم اللغة‬
‫األملانيــة أو الدمناركيــة أو الذهــاب بعيــدا ً إىل أقــى الشــال والعيــش مــع الدببــة‬
‫القطبيــة‪ ،‬كــا يحــق للســوري الراغــب بالبقــاء يف فرنســا فهــم معــاين كلامت األغنية‬
‫الفرنسية الشهرية «‪ »Non Jene Regrette Rien‬للراحلة إديث بياف‪ .‬وال يشء‬
‫يعــوق الراغــب بزيــارة «ســراتفورد» مدينــة شكســبري الجميلــة ســوى أخــذ بصامتــه‬
‫بإحــدى دول العبــور أو االنتظــار والنــوم متنقـاً بــن الحدائــق والخرابــات الفرنســية‪.‬‬
‫‪167‬‬ ‫يروسلا رذنم نع‬

‫مــن هنــا تبــدأ الرحــات الجديــدة‪ ،‬رحــات تتصــارع فيهــا األفكار بعكســية غريبة ترتاوح بني نســيان‬
‫بيبش دمحم‬

‫رحلــة الوصــول إىل اســتحضار رحلــة الخــروج مــن ســوريا إىل محاولــة تذكــر أو نســيان الحيــاة الفائتــة‬
‫بتفاصيلهــا وذكرياتهــا‪ ،‬والتأقلــم مــع البلــد الجديــد‪ .‬ففــي كل يــوم وقبــل النــوم عــى أنغــام صــوت‬
‫جــاره الكتالــوين املزعــج يف شــجاره مــع زوجتــه مــن الطابــق الثــاين أمــام الحائــط الوحيــد واملســقوف‬
‫مــن حديقــة بروكســل يبتســم منــذر ابتســامة فيهــا بعــض األمــل ثــم يقــول‪ :‬اشــتقت لشــجاري الدائــم‬
‫مــع زوجتــي‪.‬‬

‫يف إسطنبول – آق رساي كانت كلامت منذر األخرية يف وداع أصحابه قبل خوضه غامر البحر‪:‬‬
‫ال يوجد خيار آخر أمامي‪ ،‬كام يقول املهرب‪ :‬داعش من ورائكم والنظام من أمامكم فليس لكم نجاة‬
‫إال يف بحر إيجه‪ ،‬ثم يسرتسل ساخرا ً‪ :‬من يتهيب ركوب البلم يعش أبد الدهر بني تركيا ولبنان‪.‬‬

‫منذر املكتئب دامئاً يخرج عن صمته ويقول‪ :‬يف هذه البالد ال مستقبل ألطفالنا ال نقدر عىل‬
‫تربيتهم يف هذه البيئة االجتامعية املختلفة‪ .‬حاولت جاهدا ً الحصول عىل فيزا يل ولعائلتي إىل‬
‫احدى دول الخليج‪ ،‬لكن العبور إىل أوروبا كان أسهل‪.‬‬

‫أمــا عــن قــول منــذر الواصــل حديث ـاً إىل النمســا‪ :‬يف الســيارة تحــاول نســيان األشــياء الجميلــة‬
‫وتبحــث عــن أســوأ لحظاتــك الفائتــة‪ .‬تبحــث يف ذهنــك عــن أكــر األعــال صعوبــة وأكــر املواقــف‬
‫املاضيــة حرجـاً‪ ،‬لــي تهــون مــا يجــري لــك بصحبــة أربعــن شــخصا يف ســيارة صغــرة ومغلقــة‪ ،‬يف‬
‫أحســن األحــوال مقــرة جامعيــة متنقلــة‪.‬‬

‫تشــتم القيــادة الحكيمــة وطمــع املهــرب الــذي كاد أن يقتلــك لــوال أن الرشطــة األلبانيــة فتحــت‬
‫لنــا بــاب الكابــوس وقبضــت مثننــا لكنــا مجــرد عنــوان خــري يف بعــض املواقــع والصحــف العربيــة‪.‬‬

‫يبــدأ منــذر بــرد قصــة صديقــه ويقــول‪ :‬منــذر دخــل إىل هولنــدا وبعــد أربعــة شــهور عــاد إىل‬
‫ســوريا‪ .‬مل تعجبــه أوروبــا‪ ،‬خالجــه شــعور الحنــن للرباميــل فدفــن يف بــاده‪.‬‬

‫جميع الشباب تصمت فيصري الصمت املرير وحده رابطاً مشرتكاً بني خمسة سوريني يجلسون‬
‫يف غرفــة الطعــام لكامــب لجــوء يف الســويد بإنتظــار موعــد الغــداء‪ .‬ينظــر منــذر إليهــم مــن بعيــد‬
‫مخاطبـاً نفســه‪ :‬هــم ليســوا مبشــهورين وال مبعارضــن معروفــن ليــس لهــم أقــارب هنــا أو عائلــة أتــت‬
‫بطلبهــم للجــوء‪ ،‬كان لديهــم بعــض املــال فقامــروا بــه عــى حياتهــم‪ ،‬بــل هــم هنــا ألن مــاك املــوت‬
‫يف بــراري أوروبــا الرشقيــة واملتوســط تركهــم يعــرون بســام‪ .‬هــم األن ليســوا ســعداء‪ ،‬ولكنهــم أحيــاء‪.‬‬

‫يجلــس منــذر عــى حافــة الرصيــف أمــام املحطــة مراقب ـاً لســاعات طويلــة بعــض الفتيــة الذيــن‬
‫ميارســون هوايتهــم بتنطيــط كــرة القــدم باحــراف كل مســاء يف بهــو املحطــة‪ ،‬ويقــول‪ :‬نتعلــق دامئ ـاً‬
‫بتخيل األشياء الجميلة‪ ،‬كنت دامئاً أتخيل نفيس العب كرة قدم مشهورا تهتف الجامهري باسمه‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪168‬‬

‫كنــت دامئ ـاً أتخيــل البــاد األجنبيــة هــي املــكان األجمــل عــى وجــه األرض أمــا األن فلســت العــب‬
‫كــرة قــدم ومــاذا ســأقول عــن هــذه البــاد! بــل أنــا هنــا بعــون العفاريــت والجــن‪ ،‬حيــث كرهنــي املــوت‬
‫فرتكنــي أرحــل‪.‬‬
‫ســبطانة الكالشــن الحمويــة الرديئــة أخطأتنــي‪ .‬مالــت الرصاصــات عنــي‪ ،‬ابتعــدت عــن كآبتــي‪ ،‬مل‬
‫أصلُــح كطعــام لألســاك‪ .‬هربــت الغابــات منــي‪ ،‬بقــدرة قــادر أرى نفــي هنــا! عــن ســؤال موظفــة‬
‫اللجــوء يف الدمنــارك ملنــذر‪ :‬كيــف خرجــت مــن بلــدك ووصلــت إىل هنــا؟ يقــف منــذر الواصــل‬
‫حديث ـاً مــع آخــر أمــام ســيارة للرشطــة الفرنســية يف كاليــه مندهش ـاً‪ ،‬بعــد أن تخلــص مــن اضطــراب‬
‫مــا بعــد الصدمــة ونجــا خوفــه مــن رجــال الســلطة بأشــكالهم‪ ،‬فيســأل‪ :‬ملــاذا الرشطــة الفرنســية تغــض‬
‫الطــرف عــن الســوريني‪ ،‬وكأنهــا ال تراهــم؟ فــرد منــذر‪ :‬هــذه فرنســا ال تــرى النظــام وجرامئــه منــذ بدايــة‬
‫األحــداث‪( .‬بــس شــاطرة بالحــي) هنــا أيض ـاً الرشطــة يف كاليــه ال تــراك إال عندمــا تريــد أن تــراك‪،‬‬
‫باألمس قُطعت أصبع شاب سوري‪ ،‬علقت بالسور وهو يحاول القفز إىل امليناء‪ ،‬فرتكه الفرنس ّيون‬
‫يعــر إىل الضفــة األخــرى‪ .‬بينــا أصبعــه ظلــت معلقــة عــى الرشيــط الحديــدي‪ .‬أصبــع ســوريّة تقطــر‬
‫منهــا بضــع قطــرات مــن الــدم مرفوعــة يف وجــه الســاء‪.‬‬
‫بينام ميشيان بخطوات هادئة يف الشارع األحمر املشهور من الناحية الشاملية لربوكسل أمام‬
‫واجهــة زجاجيــة لــدكان مــن بــن دكاكــن كثــرة تبيــع الهــوى‪ ،‬خلفهــا فتــاة مثــرة تنبعــث مــن جســدها‬
‫املمشــوق روائح الحياة بنعيمها وجحيمها‪ ،‬ال ت ُحرك غرائزهام‪ ،‬يبدوان كمخصيّني من عرص إحدى‬
‫االمرباطوريــات الصينيــة‪ .‬مخلصــان لهجرتهــا أكــر مــن بلقان ّيــن يخدمــان البــاط العثــاين‪ .‬قبــل أن‬
‫يعــرا الشــارع يقــول منــذر لصديقــه‪ :‬هــل تعلــم أن بلجيــكا صاحبــة الســعادة هــي الدولــة األوروبيــة‬
‫التــي ترســل لنــا العــدد االكــر مــن مقاتــي داعــش نســبة لعــدد ســكانها! فعندمــا كنــت أدخــن بالباحــة‬
‫الخلفيــة لنــزل الالجئــن يف انكلــرا صادفــت موظفــا انكليزيــا يعمــل لــوزارة الداخليــة‪ ،‬فســألني عــن‬
‫داعــش مســتفرسا ً؛ فضحكــت فجــأة وضحــك املوظــف! واســتمريت ضاحــكاً حــد البــكاء‪ ،‬فوعــدين‬
‫أال يســألني مــرة أخــرى‪.‬‬
‫يف املدينــة األبديــة عاصمــة العــامل رومــا‪ .‬أخــال نفــي كتمثــال داود عاريـاً فيــا الجميــع يبــدون‬
‫اعجابهــم بعــوريت املنحوتــة بدقــة‪ ،‬فأنــا الــذي عــرت املتوســط مــن ليبيــا وهربــت مــن مركــز االحتجــاز‬
‫االيطــايل قبــل أن يأخــذوا بصــايت‪ .‬فكيــف ليــوم واحــد أن يكفــي ملــلء شــواغر نفــي بالنظــر إىل‬
‫رومــا وإن كنــت ســائحا غــر رشعــي‪ .‬بينــا أفكــر أي متثــال هــذا الــذي يصــر عــى الوقــوف هكــذا أكــر‬
‫مــن ‪ ٥٠٠‬ســنة؟ بالطبــع لكانــت اعتقلتــه املخابــرات الســورية مــن أجــل منــع التجمهــر حولــه‪ ،‬وإن مل‬
‫يحصل لكانت غرية متثال الخالد حتامً ستحبسه يف متحف دمشق الدويل‪ .‬ستستفز عورته بقايا‬
‫العصبيــات القدميــة يــوم تحطــم متثــاال آســاف ونائلــة‪ ،‬وســيقوم أبــو قتــادة عــى إيقــاع أناشــيد الصــارم‬
‫بتحطيمــه ليغــدو التمثــال خــرا أول يف نــرات األخبــار‪ ،‬يســتفز مشــاعر العــامل‪.‬‬
‫‪169‬‬ ‫يروسلا رذنم نع‬

‫لكن ال ينبغي أن أفوت موعد رحلتي مسا ًء صوب نيس الفرنسية‪ .‬عرب قطاري القدري األورويب‬
‫بيبش دمحم‬

‫الفاخر‪.‬‬

‫إننــي يف ماملــو دون أن يحــس يب األملــان‪ ،‬أســتطيع األن أن أحفــر شــاهدة ســفري عــى هــذه‬
‫الشــجرة العجــوز‪ ،‬وليعلــم الجميــع؛ أننــي أنــا منــذر الفاتــح‪ ،‬فاتــح أوروبــا الحديثــة كارس املعابــر وخــارق‬
‫الحــدود‪ ،‬أتيــت إىل هنــا ألعيــش مــع األوروبيــن أجــواء عيــد امليــاد‪.‬‬

‫لست «نفرا ً» وال أحاول القيام بأعامل عظيمة ليبقى اسمي خالدا ً كامللك جلجامش‪ ،‬أستطيع‬
‫فعل ذلك دون االستعانة باملهرب التي مل تعد سطوة شخصيته تؤثر يب كام لو كان فيتو كورليوين‪.‬‬
‫فهمت اللعبة جيدا ً بعد أن تعاملت مع أربعة مهربني خدعوين‪ .‬أتفقد هاتفي املحمول وبطاريته‬
‫ـس أن أخفــي مبالبــي الداخليــة شــهادة «البكالوريــا» وصــورة ملارلــن‬
‫االحتياطيــة‪ ،‬وأتأكــد أننــي مل أنـ َ‬
‫مونــرو شــبه عاريــة وجدتهــا يف درج خزانــة غرفتــي بالكامــب الــريب‪ .‬فهــديف معقــول يــراوح بــن‬
‫الوصــول أو املــوت ويف كال الحالتــن الخــاص‪ ،‬مهــا كانــت النتائــج‪ ،‬سأســلك هــذه الحــدود التــي‬
‫ســلكها مــن قبــي العــم جــو غازي ـاً بجيشــه األحمــر بــاد الســاف‪ .‬لســت مهت ـاً بتســاقط الثلــوج وال‬
‫بغضــب الهنغاريــن وإن أحبطــوا هجومــي وقبضــوا أتعابهــم مــن مفوضيــة الالجئــن‪ ،‬خــايص وحــده‬
‫األهــم‪ .‬ال شــهوة تعتمــر جســدي الضعيــف ســوى الركــض عــر الســهول العظيمــة نحــو حــدود هنغاريــا‬
‫املمتلئة بأشجار التائهني أشجار التفاح املبارك فالعامل لن يكون نفسه عندما أعرب تلك الحدود‪.‬‬

‫كلــا اشــتدت الحــرب زادت تكاليــف الســفر وطمــع تجــار البــر‪ ،‬فدخــول «داعــش» عــى الخــط‬
‫مثـاً دفــع الكثــر مــن أبنــاء الوســط والشــال الســوري للتفكــر بالهجــرة إىل أوروبــا فالقــرى واملناطــق‬
‫الحدوديــة البعيــدة‪ ،‬املســتقرة واالمنــة إىل حــد مــا‪ ،‬التــي مل يصــل إليهــا القصــف والدمــار ومل تشــهد‬
‫أتون حرب حقيقية وصلت إليها داعش وأجربت معظم شبابها عىل الهجرة خارج الحدود‪ ،‬غري أن‬
‫حمالت النظام األخرية لســوق املتخلفني عن الخدمة العســكرية‪ ،‬جعلت من الهجرة حالة فوىض‬
‫جامعيــة فلــم تعــد مقتــرة عــى أبنــاء املــدن املنكوبــة‪ .‬صــار للمهاجريــن أســبابهم العديــدة‪ ،‬ومنهــم‬
‫مــن ميلــك املــال ومنهــم ال ميلــك ســوى األمــل‪ .‬كمنــذر صاحــب الوجــه املألــوف للكنــرول اليونــاين‬
‫يــكاد أن ييــأس ففــي كل مــرة قبــل أن يشــهر هويتــه اإليطاليــة املــزورة‪ ،‬يقــول لــه املوظــف اليونــاين قــف‬
‫أنت من سوريا‬
‫قرب الحائط فالدهر مل يشف غليله بعد من أبناء القدس والريموك‪ ،‬ثم يقول له‪َ :‬‬
‫أعــرف‪ .‬فــرد منــذر‪ :‬اي خيــا فلســطيني ســوري‪ .‬ويرحــل‪ .‬ليصــل منــذر الســوري إىل الجزائــر محــاوالً‬
‫مجابهــة الصحــراء طمعـاً بالدخــول إىل ليبيــا‪ .‬وحــن تطــأ قدمــاه عــى أرض تلــك البــاد قبل أن يحاول‬
‫امتطــاء املتوســط‪ ،‬يقــول الحمــد للــه وصلــت إىل ليبيــا‪ .‬بــاد العــرب أوطــاين ومنفــذي إىل أوروبــا‪.‬‬
‫منــذر يف بــاد اللــه الواســعة‪ ،‬يجلــس يف املقهــى الرخيــص بانتظــار املهــرب ويقــول‪ :‬يف تركيــا مــا‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪170‬‬

‫مــن أحــد غــر اللــه سيســاعدك بالعيــش واالســتقرار فيهــا‪ .‬أســتحق العيــش يف أملانيــا‪ ،‬ليســت تلــك‬
‫العبــارة التــي تظهــر يف تطبيقــات الحــظ عــى مواقــع التواصــل بــل بصمــة إيطاليــا هــي التــي جعلتنــي‬
‫أبتعد عن أخي منذر الالجئ يف الرنويج‪ ،‬لكن كام يقول املثل املشهور‪« :‬وين بتاخذ مساعدات‬
‫وأوراق إلــزق» ولكنــي كرهــت اليونــان كثــرا ً وبــت أشــعر أن اليونانيــن ليســوا مــن الطائفــة األوروبيــة‬
‫فهــم يحبطــون جميــع محــاواليت بالعبــور‪ .‬يضحــك منــذر عنــد خروجــه مــن مقابلتــه األوىل يف هولندا‪،‬‬
‫ويقــول لصديقــه‪ :‬بعــد أن أعــادوا ســؤايل مرتــن عــن طريقــة الوصــول‪ ،‬تخيلــت نفــي أحــاول الســفر‬
‫عــر مطــار دولــة عربيــة‪ ،‬فيقاطعــه صديقــه‪ :‬بالتأكيــد لــكان اصطحبــك عنــر األمــن العــريب وأخرجــك‬
‫مــن البــاب الخلفــي للمطــار وقــال لــك حظـاً أوفــر يف املحاولــة القادمــة‪ ،‬فالطيــور إن هاجــرت‪ ،‬تهاجــر‬
‫وراء الشــمس إال هجــرة بنــي البــر تعاكــس الشــمس‪ ،‬ومــن عاكــس الشــمس كفــر‪ ،‬وإن كنــت خارجـاً‬
‫من الشامل السوري اترك لحيتك تعيش طويالً واحفظ بعض األحاديث الرشيفة واآليات الكرمية‬
‫وال تنس قوله تعاىل «وجعلنا من بني أيديهم سدا ً ومن خلفهم سدا ً فأغشيناهم فهم ال يبرصون»‪.‬‬
‫وســتصل ســاملاً بعــون اللــه إىل تركيــا‪ ،‬لكــن ذلــك لــن ينفــع إذا كنــت خارجـاً صــوب لبنــان‪ ،‬إن مل يكــن‬
‫لــك حــظ جيــد واعتقلــت‪ ،‬رمبــا ستكســب الشــهادة يف ســبيل اللــه يف هــذه الحالــة ولكــن تذكــر‬
‫الحديــث «إمنــا األعــال بالنيــات»‪ .‬وعنــد االمتحــان يكــرم املــرء أو يهــان ومــن كُــرم بشــهادة البكالوريــا‬
‫دخــل كليــة الطــب‪ ،‬ومــن تخــرج مــن كليــة الطــب يف ســوريا فهــو آمــن اجتامعي ـاً‪ ،‬وذلــك ال يعنــي أن‬
‫متــارس مهنتــك علينــا يف بــاد اللجــوء‪ ،‬فهنــا يوجــد تأمــن صحــي للجميــع‪ .‬جــزء مــن محــارضة عــن‬
‫التكيــف االجتامعــي ألقاهــا منــذر عــى مســامع طبيــب ســوري يتأفــف يف أحــد مراكــز اللجــوء‪ .‬أمــا‬
‫منذر الواصل حديثاً إىل أملانيا‪ .‬يقول‪ :‬واجهت مشاكل نفسية عديدة ورغبات غريبة قبل مجيئي‬
‫إىل هنا‪ ،‬كرغبتي بجعل الراين ينبع من أزمري‪ ،‬وأن أمسك الحدود االملانية بيدي وأجعلها محاذية‬
‫ملقدونيــا‪ .‬أه كــم وددت أن أكــون ناجيــا مــن قــوارب املــوت أنظــر إىل خفــر الســواحر اإليطــايل يقــرب‬
‫منــي‪ ،‬يحــاول انقــاذي‪ ،‬أريــد أن أشــعر بــأن أحــدا مــا يعبــأ لحيــايت لــو ملــرة واحــدة‪ .‬يقــول منــذر بعــد‬
‫ســنتني يف ســويرسا‪ :‬مل أكــن أفكــر ســوى بالوصــول واالســتقرار‪ .‬واليــوم ال أفكــر بــيء‪ .‬فقــط اشــتاق‬
‫ال أعــرف ملــاذا؟‬

‫يتصل منذر باملهرب ويقول له‪ :‬ســمعت أن أوروبا مميزة أوقات األعياد وابنتي الصغرية تحب‬
‫اللعــب بالثلــج واقتنعــت زوجتــي أخــرا ً بالســفر إىل أوروبــا بعــد انقطــاع ابنــي عــن الدراســة لعامــن‪.‬‬
‫كــم ســتكلفني الرحلــة أنــا وزوجتــي واألوالد؟ كــا تقــول الكاتبــة االنكليزيــة جــن أوســن‪ ،‬نحــن ال نعــاين‬
‫بالصدفة‪.‬‬

‫منــذر الســوري الصغــر كــر خــال أربــع أعــوام‪ ،‬يســتعد للخــروج مــن جحيــم الوطــن إىل جنــة‬
‫الالمكان‪ ،‬سبقه الكثري من املناذرة‪ ،‬فتحوا الدروب املغلقة يف البحر والجو والغابات شقوا الطرق‬
‫‪171‬‬ ‫يروسلا رذنم نع‬

‫العصية بأجسادهم‪ ،‬وهو يستعد ليلحق بهم‪ ،‬سيشاهد بعض قبور مصنوعة عىل‬
‫بيبش دمحم‬

‫عجــل عــى جانبــي الطريــق‪ ...‬لقــد مـ ّر الســوري مــن هنــا‪.‬‬

‫صــارت لنــا مقامــات يف كل بــاد العــامل ومــن حقنــا أن نطالــب بحاميــة عتباتنــا‬
‫املقدســة‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪172‬‬

‫هوازن الكاتب‬

‫قصص تعيسة جدا‬

‫موهبة مؤجلة‬
‫القصيــدة التــي حملتهــا‪ ،‬وأنــا يف الصــف الســابع‪ ،‬للكاتــب الكبــر يك يعطينــي‬
‫رأيــه بهــا يف مكتبــة بيتــه‪.‬‬

‫وضعها عىل الطاولة ووضعني عىل حضنه‪.‬‬

‫وبدأ يرشح يل وبصوته املتشقق معنى االشتقاق والبالغة وفحولة الشعراء‪.‬‬

‫كان نقــدا حاســا مؤنبــا‪ ،‬لكنــه مؤمــن مبوهبتــي وأعطــاين قلــا ثخينــا وهو يبصق‬
‫عىل يده لتيســر دخوله املؤمل يف مؤخريت‪.‬‬

‫ظــل يراقصنــي عــى حضنــه وهــو يهمــس يل‪ :‬أنــت موهــوب أنــت موهــوب‪...‬‬
‫موهــو‪ ...‬مــو‪...‬‬

‫ثم أسرتد نفسه فجأة‪ ،‬وطلب مني بغضب أن أرفع بنطايل وأعود إىل الكريس‪.‬‬

‫وبلغة االستاذ اللئيم قال يل‪:‬‬

‫ينبغي عليك أن تجتهد أكرث‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫أحتاج األمر لعرش سنوات‪ ،‬يك أعيد فتح تلك القصيدة‪ ،‬بعد أن دخلت بيته‬
‫وأنا أحمل كالشنكوفا‪ ،‬لحظة انتظرتها بصرب من لحظة ما حملت السالح يف الثورة‪.‬‬
‫‪173‬‬ ‫ادج ةسيعت صصق‬

‫أخرجت من جيبي القصيدة نفسها‪.‬‬


‫ُ‬ ‫كان وديعا مساملا كام مل أتخيله من قبل‪،‬‬
‫بتاكلا نزاوه‬

‫أعطيته أياها‪ ،‬وطلبت منه إن كان يريد إنقاذ حياته أن يعطيني رأيه بها‪.‬‬

‫خمس دقائق من صمت‪ ،‬ثم قال يل بصدق‪.‬‬

‫إنها قصيدة رديئة ومن كتبها عديم املوهبة!‬

‫هكذا‪ ،‬ولصدقه فقط‪ ،‬وفّر عىل نفسه ميتة أقل شناعة‪.‬‬

‫فتوى رشعية‬
‫بعد عام من الثورة‪ ،‬انتقلت فيها من متظاهر إىل ناشط إىل مسلح إىل يشء غامض ال أعرفه‪.‬‬
‫جــاء رجــل ملتــح إىل فصيلنــا الفقــر املكــون مــن ‪ 30‬مدخنــا يحتســون الكحــول‪ .‬ممــن ترفضهــم كل‬
‫الفصائــل املقاتلــة وال يســتطعون التوقــف عــن ســاع املوســيقى‪.‬‬

‫أخربناه‪ :‬يا سيدنا الشيخ ال تحاول نحن مجموعة ميؤوس منها لن تستطيع إصالحنا وال هدينا‪،‬‬
‫لقد حاول قبلك الكثريون دون جدوى‪.‬‬

‫لكنــه كان شــيخا طيبــا‪ ،‬وللحــق قــال إن اللــه يهــدي مــن يشــاء وإنــه ســاعة اللــه يقــرر أن يهديكــم لــن‬
‫يوقفــه يشء‪.‬‬

‫وبدأ يستفرد بنا واحدا واحدا‪ ،‬ويقول ماذا تخرسون أكتبوا كلمة الله عىل رايتكم‪.‬‬

‫استخدموا التكبري باملعارك‪ ،‬سوف تساعدكم عىل الثبات وتخ ّوف أعداء الله‪.‬‬

‫مل يطالبنــا مبــارشة بتغيــر عاداتنــا األثــرة‪ ،‬ومل نجــد بطلباتــه مــا يزعجنــا‪ ،‬وبالفعــل كانــت دعواتــه‬
‫لنــا بالنــر وبعــض نصائحــه تســاعدنا‪ .‬رويــدا جــاء رشعــي آخــر ثــم ثالــث‪ ،‬وصــاروا أكــر جــرأة‪ ،‬ورصنــا‬
‫نصــي خجــا منهــم‪ ،‬ونــرب بالــر ونحــاول أن نــداري ســجائرنا فــا ندخــن أمامهــم‪ .‬كان وجودهــم‬
‫مريحــا ويســاعدنا يف هــذا الوعــر املوحــش‪.‬‬

‫ورويدا رصنا إذا احتجنا إىل أسلحة يؤمن لنا ما نريد مع طلب بسيط ان نضم بعض املهاجرين‬
‫من بلدان أخرى لصفوفنا‪.‬‬

‫ومل متــض أشــهر حتــى صــار لهــم نفــوذ أكــر مــا ظننــا‪ ،‬واســتيقظنا ذات يــوم‪ ،‬لنجــد الرشعــي مــع‬
‫بعــض العنــارص يجلــدون زميــا لنــا ألنهــم ضبطــوه يــرب يف أول أيــام رمضــان‪ .‬رأينــا قائــد مجموعتنــا‬
‫واقفا ينظر بصمت ونحن مل نجرؤ عىل الكالم‪ ،‬وأصال كنا مشغولني بعمل كمني محكم نريد إنجازه‪.‬‬

‫تركنا زميلنا يف حبس صنعه الرشعي ووضع عليه حارسا من الشيشان وآخر من تونس وذهبنا‬
‫للعمل‪ ،‬أغرنا عىل رتل عسكري وأرسنا جنودا للنظام‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪174‬‬

‫قائدنا أبو عامد وقع بحرية‪ ...‬ماذا نفعل بهم؟‬

‫وهنا أحسسنا إننا بحاجة إىل رأي أخر يساعدنا عىل حسم أمرهم‪.‬‬

‫فطلب قائد مجموعتنا من الشيخ الرشعي النصيحة‪.‬‬

‫وبدون تفكري أجابه الرشعي بخبث الثعالب‪ :‬أنت القائد‪ ،‬وأنت من تقرر‪.‬‬

‫إن كنت تريد إبقاءهم أحياء هناك فتوى بذلك‪.‬‬

‫إن أردت قتلهم فهناك فتوى بذلك‪ .‬إن كنت تريد طلب فدية أو تبادلهم نفتي لك بذلك‪.‬‬

‫إن كنت تريد إطالقهم كذلك األمر‪ .‬أنت قرر والفتوى جاهزة‪.‬‬

‫أبو عامد قرر عىل الفور‪ .‬لقّم بندقيته وأفرغها برأس الرشعي‪ ،‬وترك كل يشء‪.‬‬

‫إنه اليوم يطعم البط يف ساحات أمسرتدام‪.‬‬

‫الفدية‬
‫بعد رحيل قائد املجموعة أبو عامد‪ ،‬استلم أبو مرزوق القيادة‪ ،‬وهو للحق شخص جيد‪.‬‬

‫مساعد يف جيش النظام من أوائل الذين انشقوا‪.‬‬

‫كان صاحب شخصية قيادية نقلنا إىل إىل كهوف القلمون‪ .‬وفر لنا التنظيم واإلدارة وعزز روح‬
‫الفريــق فيــا بيننــا‪ .‬كنــا واحــدا وعرشيــن عنــرا‪ .‬بيننــا عــرون عســكريا‪ .‬رجــل كهــل يف الســبعني مــن‬
‫العمــر ال تفــارق قنينــة العــرق فمــه‪ .‬قتــل ابنــه يف املعتقــل‪.‬‬

‫فجــأة وجدنــا أنفســنا بــا أي نــوع طعــام أو رشاب أو االتصــاالت‪ .‬قــرر أبــو مــرزوق ان نقــوم بعمليــة‬
‫خطــف لطلــب الفديــة‪ .‬ومنهــا نوفــر مــا يســتلزم مــن أجــل مصاريــف «كتيبــة الحــق» كــا ســاها‪.‬‬

‫وجدنا ضالتنا يف شيخ جامع يف موال للنظام إحدى قرى القلمون‪.‬‬

‫وبدون تردد خطفنا الشيخ وجلبناه إىل املغارة‪.‬‬

‫حصلنا منه عىل رقم زوجته‪ .‬وبعد أسبوع تكلمنا معها‪.‬‬

‫كانت ملهوفة وخائفة وتنتظر‪.‬‬

‫قال لها أبو مرزوق‪ :‬زوجك عنا‪.‬‬

‫‪ -‬مني أنتو؟‬

‫‪ -‬ما بهمك؟‬
‫‪175‬‬ ‫ادج ةسيعت صصق‬

‫‪ -‬شو املطلوب؟‬
‫بتاكلا نزاوه‬

‫‪ -‬معك ‪ 24‬ساعة تدفعي مليوين لرية لنطلقه‪.‬‬


‫‪ -‬طيب فيني إحيك معو؟‬
‫‪ -‬مايش‪ ،‬راح نسمعك صوته‪.‬‬
‫‪ -‬سمرية انا بخري ال تهكيل هم‪ ،‬اعميل شو بقولولك الشباب‪.‬‬
‫‪ -‬مثــل مــا ســمعتي يــا ســمرية‪ ...‬معــك مــن هــون لبكــرا وإال زوجــك بيصلــك مقطــع عــى البيــت‪.‬‬
‫راح أحــي معــك بعــد ســاعتني لخــرك بالطريقــة كيــف تدفعــي املصــاري‪.‬‬
‫أغلق أبو مرزوق الهاتف وهو ينظر إلينا مرسورا ً بذكائه ونحن ننظرإليه بإعجاب‪.‬‬
‫قال الشيخ‪ :‬وال يهمك أخي‪ .‬سمرية وأخوتها معهن املبلغ وأنشالله بكرا بأمنوه‪.‬‬
‫سال اللعاب أيب مرزوق‪ :‬يعني برأيك كان الزم نطلب أكرث؟‬
‫‪ -‬هيك ما بعرف‪ ،‬بس ما بدي ياك تهكل هم‪.‬‬
‫انخــرط الجميــع باقــراح أفضــل الطــرق الســتالم الفديــة ويف الوقــت نفســه بــدأت التســاؤالت عــن‬
‫حصــة كل عنــر مــن املبلــغ‪.‬‬
‫حسم أبو مرزوق األمر قائال‪ :‬نصف الفدية لتطوير الكتيبة‪ ،‬ونصفها اآلخر يوزع عىل العنارص‪.‬‬
‫وبرسعــة الــرق بارشنــا بعمليــات حســابية لتوزيــع النصــف أي مليــون لــرة عــى ‪ 21‬عنــرا‪ .‬برسعــة‬
‫الــرق أجــاب» قثــة» وهــو لقــب عنــر يف املجموعــة بــارع يف الحســاب‪ .‬إنهــا ‪ 47،619‬لــرة لــكل‬
‫عنــر‪.‬‬
‫وبدأت األحالم تدغدغنا طوال ما تبقى من الساعتني‪.‬‬
‫تحلقنــا حــول أيب مــرزوق الــذي ضــاق نفســه مــن الزحمــة‪ ،‬بينــا يتصــل بزوجــة الرهينــة‪ .‬ليعلمهــا‬
‫بخطتــه الســتالم النقــود‪.‬‬
‫فرقنا بيده ممتعضا‪ ...‬ثم طلب الرقم‪ .‬فتح مكرب الصوت‪.‬‬
‫وأنصتنا ونحن نحبس األنفاس‪.‬‬
‫‪ -‬إيه يا سمرية‪.‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ...‬شو بدك‪.‬‬
‫‪ -‬بتحطي املليونني لرية بشنطة سودا‪ ،‬بتميش فيهن عىل آخر مفرق البلدة‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪176‬‬

‫‪ -‬إسمع إسمع‪ ...‬قبل ما تتعب حالك‪...‬‬

‫‪ -‬خري‪...‬‬

‫‪ -‬ليك‪ ...‬معي ‪ 1000‬لرية أبعاث حدا ياخذهم‪.‬‬

‫‪ -‬أنت شو مفكرة عام ألعب معك؟‬

‫‪ -‬ال أنــت شــو مفكــر أنــو زعالنــة عــى الخــرا يــي عنــدك‪ ...‬أنــت أقتلــو وبعثــي‬
‫صورتــو ميــت وانــا بدفعلــك ‪ 1000‬لــرة عربــون شــكر عــى هــل الخدمــة‪ ،‬أصــا انــا‬
‫مــا بعــرف كيــف بــدي أشــكرك ريحتنــي منــو‪ ،‬معــك مــن هــون لبكــرا غــر هيــك حــل‬
‫عــن طيــزي أنــت ويــاه‪.‬‬

‫‪ -‬العمى ما أحقرك‪ ...‬ويل هذا جوزك‪.‬‬

‫‪ -‬حل عن سامي أنت وياه‪ ...‬وأغلقت الخط‪.‬‬

‫بعد أسبوع‪ ،‬أطلقنا الشيخ ألن سمرية مل تعد ترد والشيخ ال يتوقف عن التهام‬
‫مخزوننا من األكل الذي تناقص بشدة بعد اختطافه‪.‬‬
‫‪177‬‬ ‫ملا يف ةكبشلا يمرت‬
‫دمحم مير‬

‫ريم محمد‬

‫ترمي الشبكة يف املاء‬

‫ترمي الشبكة يف املاء‪.‬‬

‫تخــرج علــب كــوال صدئــة‪ ،‬وطحلب ـاً متجمهــرا ً حــول إطــار ســيارة (تقول املــرأة‬
‫معطوبــة القلــب‪ ،‬إنهــا القســمة والنصيب) يقــول الرجــل مرســوم الوجــه كدائــرة‬
‫الفرجــار‪ ،‬الطحالــب ال تصلــح للكأل‪ .‬إنهــا خيبــة الفقــر‪ ،‬والعــزاء بالرثــاء‪.‬‬

‫ترمــي الشــبكة يف الرتعة‪ .‬تنتظــر‪ ...‬ال يشء يخرج‪ .‬تقــول املــرأة إياهــا‪ :‬إىل‬
‫متى‪ .‬يقــول الرجــل الفرجــار‪ :‬علينــا التقيــد بحصافــة التقاليد‪[ .‬إنهــا تواطــؤ البرشيــة‬
‫ي]‬
‫ع ـ َّ‬
‫ترمــي الشــبكة يف نهر‪ .‬تنتظريــن وتنتظريــن تتحلــن بقلــب ص ّيــاد‪ ،‬وصــر العــب‬
‫شــطرنج‪ .‬ترعني الذكريــات‪ ،‬وتتســلني مبعرفــة أنســاب املوج تخــرج شــبكة متالصفــة‬
‫ك ـدّت كــا يليــق بشــبكة‪ :‬فتنــال فــردة حــذاء رجــل غريــق قيــاس ‪ .42‬تقــول املــرأة‬
‫بخبث الثعالب‪ ،‬كان الفراغ ماء‪ ،‬كنت أتسىل وهو يسبح باتجاهي‪ ،‬ال تنكش النهر‬
‫فتثري ذاكرة الغرقى‪ ،‬فلن تســتطيع الســباحة يف مائه مرتني‪ .‬يقول الرجل الحبيب‪:‬‬
‫انتظريني ريثام تنتهي الحرب‪ .‬سأعود بعد أن ينام الجنود لندفن هذا الورد ونضع‬
‫فوقه أكاليل من الرؤوس املقطوعة‪[ .‬إنها الفضيحة ذاتها‪ ،‬لو بقي اإلنســان ميلك‬
‫إحســاس األطفــال بأخيــه اإلنســان‪ ،‬يــاه كــم وفّرنــا شــباكا فارغــة]‬
‫ترمــي الشــبكة يف البحر‪ .‬تتخيلــن أنــك اصطـ ِ‬
‫ـدت حوريـاً حبيــب حوريــة رشدت‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪178‬‬

‫مــع أخطبوط‪ .‬ويــأيت األمــل بالقصــة إياهــا‪ ،‬ســتطلقني رساحــه وســيغدق عليــك لقــاء هــذا املعــروف‪،‬‬
‫كنز سفينة غارقة‪ ....‬تشدين الشبكة مبتسمة بعزم الواثق من الحكايات التي لن تحدث‪ ،‬تحملني‬
‫العصا املخصصة لتدمري زعانف القرش‪ ،‬وتتأهبني مثل أية صيادة محرتفة للعودة املخذولة للكوخ‬
‫وجــه زوجــك‪ ،‬يفلــت الشــبكة ويــرب بزعنفــة‪ ،‬تجرينــه إىل هنــاك وتغرقينــه أخريا‪ .‬تبــا للفــأل‪[ ...‬لــو‬
‫كانــت البقــرة مخلصــة ملــا كان للثــور قرنان] تحدثــن جارتــك الصيــادة عنــه تخيلتــه بحــارا مثــل الــذي‬
‫وصفــه ماركيــز‪ ،‬أجمــل رجــل غريــق يف العــامل‪ ،‬أو ذلــك الــذي جــاء إىل بريســبان مهاجــرا‪.‬‬

‫ترمــي الشــبكة يف املحيط‪ .‬يدخــن الرجــل ســيجارة‪ ،‬وهــو يتثــاءب مــن الضجــر‪ ،‬أعــرف أين لســت‬
‫جديــرا بهــا‪ ،‬ولكــن أال يكفــي أين كرجــل قبلتهــا بــدون عذريــة‪ ،‬قبلتهــا بلوثاتهــا وروائــح حبيبها امللتصقة‬
‫بــن نهديها‪ .‬أنــا الــذي ترفعــت عــن كل مقامــات الرجــال‪ ،‬آويتهــا إىل حاميتــي‪ ،‬أفــردت لهــا الشــباك‬
‫واملشــابك‪ ،‬وفتحــت لهــا الشــبابيك‪ ،‬لتحيلــه رشعــا عــى فقــه املعصيــة‪ ،‬بشــواهد الحــال‪ ،‬أنجبــت‬
‫منهــا‪ ،‬ومنحتهــا قبعــة ورششــفا‪ ،‬ووشــاحا لألمومــة‪ .‬توجتهــا ســيدة‪ ...‬لن تعرفــن مــا خـ ِ‬
‫ـرت يــا امــرأة؟‬
‫كيــف قادتــك غريزتــك اللعينــة إىل ســقطاتك؟ أتظنــن أين ال اعــرف؟ أنــك تتســلني يف الليــل بعــد‬
‫أن يعلــو شــخريي‪ ،‬لتفتحــي صفحــة اإلنرتنيــت وتشــتيك لــه‪ .‬فيبادلــك العــزاء‪ ،‬قائــا إن شــخري زوجتــه‬
‫وطيفــك يســببان لــه األرق؟ أتدريــن أنــه يف اللحظــة التــي تلتقيــان فيهــا عــى الفيــس بــوك أو تجريــان‬
‫املحادثــة الرسيعــة‪ ،‬خوفــا مــن اســتيقاظ الشــاخرين‪ .‬نكــون أنــا وزوجتــه منــارس فــرح الجســد عــى‬
‫الهاتــف‪ ...‬تحــت أجــود أنــواع الليــل‪ ،‬يتفتــح الصبــاح‪ ،‬الوعــد‪ .‬تعوديــن مرسعــة إىل الرسيــر مبللــة مــن‬
‫ندى املسافات‪ ،‬ويعود متثاقال مخمورا بحلمه بجسدك الوضّ اء‪ ،‬يحضن زوجته‪ ،‬وكأنه يحضنك‪،‬‬
‫وتحضنيننــي وكأنــه بــن يديــك‪ ...‬وننــام هكــذا منــذ زمــن الشــخري ونحــن أربعــة يف تختــن‪.‬‬

‫أرمــي الشــبكة‪ .‬أنــا الســيدة التــي لهــا عشــيق بعيد‪ .‬أضمــر للحيــاة حبــا‪ ،‬ولهــذا الراقــد بجانبــي‪،‬‬
‫العلقــة التــي أمتصتنــي‪ ،‬الكهــف الــذي ابتعلنــي‪ ،‬الرجــل الــذي أودعنــي دونيتــه‪ ،‬وأحالنــي قويــة أقــوى‬
‫مــا يجــب‪ ،‬وحطمنــي كأين لعبــة مــن ألعابه يعلــو شــخريه املصطنــع‪ ،‬أعــرف أنــه يعــرف‪ ،‬فأغــادر إىل‬
‫محــراب عشــقي‪ ،‬حيــث أودعــت إميــاين‪ ،‬وحفظــت لجســدي املســغوب غايتــه‪ ،‬وآمنــت بالخطيئــة‬
‫دربــا وحيــدا للخــاص‪ .‬أعــود إليــه وأنــا أنكــر متتامتــه تحــت اللحــاف‪ ،‬أنتظــر ريثــا ينتهــي مــن قصائــد‬
‫العشــق التــي يرسقهــا مــن دفــري ويبثهــا يف أذن زوجــة حبيبــي‪.‬‬

‫ترمــي الشــبكة يف الهواء‪ .‬تفكــر بالســمكة‪ ،‬وحجمهــا‪ ،‬ووزنهــا‪ ،‬وشــكلها‪ ...‬وتقــول الحمــد للــه ليس‬
‫لألســاك أصــوات‪ ،‬لــكان الذعــر املنبعــث مــن البحــر‪ ،‬أعــى مــن نــواح األفــواه املفتوحــة كبوابــات‬
‫رصاخ‪ .‬أنت ورشيكك بالصيد‪ .‬تراه ينتعل فرتة حذاء قياس ‪ ،42‬الزبال الذي يعمل صياد أسامك‬
‫يف نهاية األســبوع يجر الحاوية ميلء برفات األســاك‪ ،‬التي رميت بها كل خواطرك التي ألتقطتها‬
‫شــباكك‪ ،‬فيبيعهــا يف ســوق الســمك‪ .‬ويعــود حامــا‪ ،‬قــادة‪ ،‬وفــردة حــذاء‪ ،‬ودليــا ال يــرد عــى‬
‫‪179‬‬ ‫ملا يف ةكبشلا يمرت‬

‫الحــب مــن زوجتــه الرائعــة‪ ،‬وتعــود برفقــة قصائــد ليســت لك‪ ...‬ترمــي القصائــد‬
‫دمحم مير‬

‫والشبكة والسيجارة‪ ،‬وكتلة الطحلب‪ ،‬وتعود إىل املطبخ‪ ،‬تشحذ سكينك‪ ،‬وتسنه‬
‫كــا يجــب‪ ،‬وتدســه تحــت املخــدة ففــي هــذا الليلــة ســتنظف أحشــاء ســمكتك‬
‫األثرية‪ ...‬تخرجــن الشــبكة‪ :‬ترتبينهــا للمــرة القادمــة‪ .‬تفرمــن البقدونــس‪ ،‬والثــوم‬
‫والطحينة وقل ّبه املتورم وقطعة من كبده وتهرسني جمجمته مبدقة الثوم‪( .‬طرطور‬
‫لوليمــة هــذه الليلــة)‪.‬‬

‫نرمي الســنانري يف نقعة الدم فنصطاد جثثا لبرش‪ ،‬أشــاء ممزقة‪ ،‬بقايا أحالم‪،‬‬
‫علــب تلويــن‪ ،‬كتب ـاً مقدســة تنبعــث منهــا روائــح نافــذة‪ ،‬رصاخ ـاً لغارقــن تحــت‬
‫األنقــاض‪ ،‬مــوىت جميلــن مــوىت بشــعني‪ ،‬مــوىت مل ميوتــوا بعد‪ .‬نضــع كل ذلــك يف‬
‫صناديــق محكمــة ونأخذهــم معنــا إىل البحر‪ .‬نحــن األســاك املاهــرة يرزقنــا اللــه مــن‬
‫حيــث ال نعلــم‪.‬‬

‫حلب‪ /‬أواخر ‪2014‬‬


‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪180‬‬

‫مصطفى تاج الدين موىس‬

‫الجميّلة النائمة يف عربة قطار‬

‫أرواح فارغ ٌة تثري الكآبة‪...‬‬


‫ٌ‬ ‫لهــذه الدفاتــر املتناثــرة ـ كجثـ ٍ‬
‫ـث أنيقــة ـ عــى طاولتي‪،‬‬
‫ـت بينهــا خــال عــام‪ ،‬علّنــي أكتــب عــى‬
‫ـت قــد اشــريتها مــن عــدة مــدن تنقلـ ُ‬ ‫كنـ ُ‬
‫صفحاتها روايتي‪ ...‬لكن‪ ،‬وألسباب مزاج ّية داكنة وغامضة‪ ،‬ال أزال حتى اآلن أفشل‬
‫يف البــدء بكتابتهــا‪.‬‬
‫هذه املدينة بعد وصويل إليها بأسابيع قليلة صارتْ تصيبني بغثيان مقرف‪،‬‬
‫تبــدو يل كامــرأة منقبــة‪ ،‬ال أســتطيع أ ّن أعيــش أنــا والــرد يف املدينــة ذاتهــا‪ ...‬قــررتُ‬
‫أ ّن أتركهــا لــه ليســتمتع وحــده بنقابهــا‪ .‬حجــزتُ يف رحلــة منتصــف الليــل يف القطــار‬
‫الذاهــب إىل مدين ـ ٍة بعيــدة‪ ،‬دافئــة وجميلــة‪ ،‬تطـ ُـل عــى بح ـ ٍر ســاحر‪ ...‬يُقــال إنهــا‬
‫مدينــة بفســتانٍ قصــر‪ ،‬أكيــد أنهــا تصلــح لكتابــة روايــة‪ ...‬ســوف يصلهــا القطــار فجــرا ً‬
‫بعــد أن ميـ َّر بعــدة محطــات لعــدة مــدنٍ أخــرى‪.‬‬
‫ـت أشــيايئ املتواضعــة‪ ،‬كتــب ودفاتــر قليلــة‪ ،‬ثيــاب بســيطة وعــدة أقــام‬
‫جمعـ ُ‬
‫يف حقيبتي‪ ...‬لطاملا أثارتْ حقيبتي الكبرية هذه ضحكات موظفي التفتيش يف‬
‫محطــات ســفري الدائــم خــال ســنة‪ ،‬ملــاذا كل هــذه الحقيبــة الكبــرة لهــذه األشــياء‬
‫كنت أترك دامئاً لخيالهم املتواضع‬ ‫ُ‬ ‫لدي إجابة‪ ،‬لهذا‬ ‫القليلة؟ أنا شخصياً مل تكن ّ‬
‫حريــة العثــور عــى إجابـ ٍة مــا‪.‬‬
‫يف الليل البارد للمحطة انتظرتُ القطار وأنا أدخن‪ ،‬مث ّة مسافرون بعد ٍد قليل‬
‫تناثــروا حــويل هنــا وهنــاك‪ .‬وصــل القطــار بصفــره الكئيــب‪ ،‬نظــرتُ يف بطاقتــي ثــم‬
‫صعــدتُ العربــة املحــددة‪.‬‬
‫‪181‬‬ ‫اطق ةبرع يف ةمئانلا ةلّيمجلا‬

‫غطت‬
‫ْ‬ ‫شهقت وأنا أتأمل تلك املرأة الجميلة‪ ،‬وقد‬‫ُ‬ ‫كنت أميش بال مباالة بني املقاعد عندما‬ ‫ُ‬
‫ىسوم نيدلا جات ىفطصم‬

‫ـت‬
‫ـت ركبتاهــا الشــهيتان‪ ،‬أرسعـ ُ‬
‫يف نــومٍ عميــق عــى مقعديــن متجاوريــن‪ ،‬وفســتانها قــد انحــر فبانـ ْ‬
‫ٍ‬
‫مقعد أمامها‪.‬‬ ‫ناويـاً الجلــوس عىل‬
‫ـت جانــب مقعديهــا برجــلٍ جــاء مــن الجهــة األخــرى‪ ،‬إنّــه زوجهــا‪ .‬شــعرتُ بالخجــل‪،‬‬
‫فجــأ ًة اصطدمـ ُ‬
‫رغــم هــذا دعــاين للجلــوس بصوتــه املرتبــك‪ ...‬فجلســنا معـاً بجــوار بعضنــا أمامهــا‪ ،‬ومل يكــن هنالــك‬
‫أحــد غرينــا يف هــذه العربــة‪.‬‬
‫رصتُ أختلس النظر إىل ركبتيها دون أ ّن ينتبه يل‪ ،‬ما أجملها هذه النامئة‪.‬‬
‫عربنــا عــدة محطــات‪ ،‬كان املطــر ينهمــر بغــزارة يف ليــل هــذه املــدن والقــرى املتتاليــة‪ ،‬لــو أنهــا‬
‫ـت عــى جســدها كل ليلــة روايــة‪ ،‬مــن كتفيهــا حتــى هاتــن الركبتــن الشــهيتني‪ .‬كــم هــو‬
‫زوجتــي لكتبـ ُ‬
‫محظــوظ هــذا األحمــق‪ ،‬لــو أنّــه ينقلــع مــن هنــا لدقيقــة واحــدة حتــى أملــس ركبتهــا بــرؤوس أصابعــي‪،‬‬
‫ألول مــرة يف حيــايت‪ ،‬ورغــم عبــور يــدي عــى أجســاد نســا ٍء كثــرات‪ ،‬أشــعر اآلن برغب ـ ٍة عارمــة داخــل‬
‫صدري ألن أملس ركبتها الرخامية‪ ،‬رغبة شاهقة ال تأبه لألصوات الكئيبة للمطر‪ ،‬وصفارة وعجالت‬
‫القطــار‪ ،‬ووجــه هــذا األحمــق‪.‬‬
‫كان القطار كلام دخل نفقاً تغرق العربة يف العتمة لهنيهة‪ ،‬قررتُ يف رسي‪ :‬يف النفق القادم‬
‫ســأنحني إليهــا وأملــس ركبتهــا خلسـ ًة خــال العتمــة دون أن ينتبــه يل زوجهــا‪ .‬قبــل قــراري هــذا دخلنــا‬
‫اختفت‪.‬‬
‫ْ‬ ‫عدة أنفاق‪ ،‬بعد قراري هذا مل يعد هنالك أنفاق‪ ...‬اللعنة عىل األنفاق‪ ،‬عندما احتجتها‬
‫أشعلت سيجارة‬
‫ُ‬ ‫ومشيت إىل الوصلة بني العربتني‪،‬‬
‫ُ‬ ‫استأذنت من زوجها‬
‫ُ‬ ‫اشتقت للسجائر‪...‬‬
‫ُ‬
‫ـت وأنــا أشــاهد زوجهــا‬
‫ـتمت حظــي‪ ،‬خــرج القطــار لريجــع الضــوء فجفلـ ُ‬
‫فدخــل القطــار يف نفــق‪ .‬شـ ُ‬
‫انتهت سيجاريت‬
‫ْ‬ ‫أمامي بابتسامته البلهاء‪ .‬طلب م ّني سيجارة‪ ،‬ناولته واحدة ودخنا معاً بصمت‪.‬‬
‫قبــل ســيجارته‪ ،‬إذن ألمــي برسعــة إىل ركبتهــا وأملســها قبــل نهايــة ســيجارته‪ .‬الحقــر لحقنــي فــورا ً‬
‫فزفــرتُ بحنــق‪ ،‬ثــم جلســنا معـاً أمامهــا‪.‬‬
‫كنت أراقب‬
‫ُ‬ ‫مل أكن أراقب رشوق الشمس وال النوارس عن بعد والقطار يسري قريباً من البحر‪،‬‬
‫انعكاس صورة جسدها النائم وركبتيها عىل زجاج النافذة‪ .‬ما أحالها‪.‬‬
‫نهضت وأنا أودع بحرسة جاملها بنظرة أخرية‪ ،‬أخذتُ‬ ‫ُ‬ ‫وصل القطار إىل محطة املدينة البحرية‪،‬‬
‫ٍ‬
‫ـاعات‬ ‫حقيبتــي ومشــيت‪ ،‬ســوف تســتيقظ اآلن ولــن تعــرف أ ّن مثّــة رج ـاً غريب ـاً جلــس أمامهــا لسـ‬
‫ومحطـ ٍ‬
‫ـات مــن الليــل وقــد أحبهــا كثــرا ً و‪...‬‬
‫التفت‪ ...‬إنه هو‪ ،‬قال يل متعجباً‪:‬‬
‫ُ‬ ‫مث ّة أصابع نقرتْ عىل كتفي من الخلف‪،‬‬
‫ـ سيدي‪ ...‬لقد نسيت أن توقظ زوجتك‪ .‬هذه املحطة األخرية‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪182‬‬

‫كنت أظن أنها زوجتك‪.‬‬


‫ُ‬ ‫ـ زوجتي!!‪...‬‬
‫شــهقنا‪ ،‬قلبــي مــع قلبــه ســقطا لريتطــا بــأرض العربــة‪ ،‬وركضنــا كمجنونــن إليهــا‬
‫معـاً ونحــن نتعــر ببعضنــا‪.‬‬
‫مــن عــادة البــر أنهــم عندمــا يوقظــون بــرا ً آخريــن يهزونهــم مــن أكتافهــم‪ ،‬إال أنــا‬
‫ـت كفــي عــى ركبتهــا‬
‫وهــذا الرجــل‪ ...‬أردنــا أن نوقظهــا لكــن ومــن دون وعــي أنــا وضعـ ُ‬
‫األوىل‪ ،‬وهــو وضــع كفــه عــى ركبتهــا الثانيــة لنهزهــا بشــدة‪.‬‬
‫عندئـ ٍـذ مــال جســدها عــن املقعــد ليســقط جثــة هامــدة‪ ،‬انحنينــا بفــزع لرنمــق‬
‫املــوت عــى مالمــح وجههــا‪ ،‬ال يشء لــوث صمــت املــوت يف هــذه العربــة ســوى‬
‫أصـ ٍ‬
‫ـوات بعيــدة للنــوارس واألمــواج‪.‬‬
‫أي‬
‫أي محطة صعدتْ ‪ ،‬وال يف ّ‬
‫أي يشء‪ ،‬مل نعرف اسمها وال من َّ‬ ‫مل نعرف عنها َّ‬
‫محطة ماتت‪ .‬الذي نعرفه أ ّن مث ّة أحمقني غريبني ظال لعدة محطات خالل الليل‬
‫املاطــر يراقبــان بشــهوة ركبتــي امــرأة ميتــة‪ .‬موتهــا أنســانا تلــك الشــهوة وأيقــظ داخلنــا‬
‫حزناً هائالً‪ ،‬وكأن موتها عازف كامن تسلل إىل داخلنا ليعزف موسيقاه املوحشة‪.‬‬
‫أفرغت حقيبتي الكبرية من أشيايئ القليلة وحرشنا‬
‫ُ‬ ‫احرتنا قليالً بأمر جثتها‪ ،‬ثم‬
‫بها جثتها‪.‬‬
‫رفعنــا بصعوبــة الحقيبــة لنضعهــا عــى املقعــد‪ ،‬تقاســمنا أشــياءها‪ ،‬وأيضـاً هــو‬
‫أخذ فردة من حذائها وأنا أخذتُ الفردة الثانية للذكرى‪ .‬ومضينا بوجهني منكرسين‬
‫أمل ـاً تاركــن خلفنــا حقيبتــي‪ ،‬تابــوت جثتهــا‪ ،‬لعـ ّـل القطــار ذاتــه يرجعهــا ثانيــة إىل‬
‫مدينتهــا‪.‬‬
‫ـت غرفـ ًة تطـ ُـل عــى البحــر‪ ،‬جلسـ ُ‬
‫ـت هــذا املســاء إىل طاولتــي‬ ‫خــال يومــن رتبـ ُ‬
‫ـت لســيجارتني ونصــف زجاجــة نبيــذ األمــواج والنــوارس‪.‬‬
‫جانــب النافــذة‪ ،‬تأملـ ُ‬
‫ـت كل دفاتــري التــي اشــريتها ســابقاُ مــن عــدة مــدن‪ ،‬ألبــدأ بحــاس‬
‫تجاهلـ ُ‬
‫بكتابــة روايتــي عــى هــذا الدفــر املتواضــع‪ ،‬صفحــة أوىل ثــم ثانيــة فثالثة‪ ...‬وهكذا‪.‬‬
‫ـت من اشــراه‪ .‬عرثتُ عليه منذ ليلتني‬ ‫أحببت كثريا ً هذا الدفرت‪ ،‬مع أنني لسـ ُ‬
‫ُ‬
‫هنــاك‪ ،‬يف عربــة القطــار‪ ،‬حيــث كانــت تلــك الجميلــة قــد جعلتــه عــى مقعدهــا‬
‫وســاد ًة ملوتهــا الهــادئ‪.‬‬

‫تركيا‪2015/2/17 /‬‬
‫‪183‬‬ ‫اطق ةبرع يف ةمئانلا ةلّيمجلا‬
‫ىسوم نيدلا جات ىفطصم‬

‫أوراق الشعر‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪184‬‬

‫حكمة شايف األسعد‬

‫نصوص‬

‫سكرتري املوت‬

‫ال أُ ُ‬
‫مازح املوت‬
‫العالق ُة بي َننا ج ّديّ ٌة جدًّا‬
‫ري من العمل‪.‬‬
‫قليل من الودّ‪ ...‬كث ٌ‬
‫ٌ‬

‫ح طينيّ ٍة‬
‫وقلوب جافّ ٍة مثل ألوا ٍ‬
‫ٍ‬ ‫َشن ٍة‬
‫مبالمح خ ِ‬
‫َ‬ ‫نجلس وحيدَين‪،‬‬
‫ُ‬ ‫يف املكتب‬
‫نقيّ ُد أسام َء القبو ِر الفارغة‬
‫ِ‬
‫والوحوش الجائعة‬
‫ِ‬
‫وأسامك الق ْرش ال َي ِقظَة‬
‫والطيو ِر حديثة الوالدة‪.‬‬

‫أتناقش مع املوت‬
‫ُ‬ ‫ال‬
‫الشاي فال أرشب الشاي‬
‫َ‬ ‫يرشب‬
‫ُ‬ ‫ال‬
‫ُ‬
‫يسأل عن الشؤون العائليّة فال أتحدَّث يف الشؤون العائليّة‬ ‫ال‬
‫ال يهت ُّم بقلق املستقبل فأنىس املستقبل‪.‬‬
‫‪185‬‬ ‫صوصن‬
‫عسألا يفاش ةمكح‬

‫أُ ِع ُّد له قوامئَه من األفواه املطالِبة باملوىت‬


‫أُ ِع ُّد له أعدا َد املوىت املطلوبني‬
‫بعض الحوادث الجامعيّة‪:‬‬
‫َ‬ ‫وأقرتح عليه‬
‫ُ‬
‫قطارا ً خارجاً عن السكّة‬
‫مجزر ًة يف حقل‬
‫شعباً متم ِّردا ً‬
‫طرودا ً بريديّ ًة مفخَّخة‬
‫جباالً جليديّ ًة تُفاج ُ‬
‫ِئ البواخ َر يف قلب املحيط‬
‫خلالً ف ّن ًّيا يف طائرة‬
‫حقدا ً أوس َع من رغبة املوت‬
‫عبو ًة ناسف ًة يف بنا ٍء عالٍ‪...‬‬
‫***‬

‫يف املســاء‪ ،‬وأنتــم تجمعــون أعــدا َد املــوىت مــن نــرات األخبــار‪ ،‬تأكّــدوا أنّنــي ال‬
‫ـازح املــوتَ ‪ ...‬وال أناقشُ ــه‬
‫أمـ ُ‬
‫فاسمي عىل إحدى قوامئه‬
‫ني ذلك‪.‬‬
‫طويل وجا ٌّد حتّى يح َ‬
‫ٌ‬ ‫عمل‬
‫وأما َمنا ٌ‬

‫‪3‬‬

‫مثل زهر ٍة سا ّم ٍة عىل َجبَل‬


‫أقف َ‬
‫ُ‬
‫أستنشق الهوا َء امل ُش َب َع برائحة الجثث‬
‫ُ‬
‫بعصاي عىل القُرى‪،‬‬
‫َ‬ ‫وأل ّو ُح‬
‫القلوب بالح ّيات‬
‫َ‬ ‫أمألُ‬
‫والحدائق بالعظام الهشّ ة‬
‫َ‬
‫واألنها َر باألشجار اليابسة‪.‬‬

‫كاذب عىل أبواب املدن القدمية‬


‫ٍ‬ ‫مثل ش ّحا ٍذ‬
‫أقف َ‬
‫ُ‬
‫وأنوووووح‬
‫الذئاب من قصائد الصعاليك‬
‫ُ‬ ‫تخرج‬
‫َ‬ ‫حتى‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪186‬‬

‫والغربا ُن من أفواه القتىل‬


‫ُ‬
‫والسيوف من النار‬
‫والسمو ُم من القلوب‪.‬‬

‫باب ُمغلقٍ يف الطريق‬


‫مثل ٍ‬
‫أقف َ‬
‫ُ‬
‫وأروي لكم عن الرصاص ِة يف الرأس‬
‫والقصيد ِة يف الحلْق‬
‫خلف هذا الباب‬
‫ماتت يف األصابع َ‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫والعبارات التي‬
‫فرتجعون‪...‬‬
‫باب مغلَقٍ يف الطريق‪.‬‬
‫مثل ٍ‬
‫وأبقى َ‬

‫حجري‬
‫ٍّ‬ ‫رش‬
‫مثل ٍّ‬
‫أقف َ‬
‫ُ‬
‫أنفثُ يف الحناجر‬
‫مثل ج ٍّن تائ ٍه يف الليل‬ ‫ُ‬
‫فيحرتق الشعرا ُء َ‬
‫أنفثُ يف القلوب‬
‫مثل قطْنٍ ُمه َملٍ‬
‫فتجف َ‬
‫ُّ‬
‫أنفثُ يف اآلبار املهجورة‬
‫فتذبح الغيال ُن أطفالَكم‬
‫ُ‬
‫أنفثُ يف أشداق العنكبوت فال ُ‬
‫تأكل أبنا َءها‪.‬‬

‫رش‬
‫أنا مبد ُع هذا ال ّ‬
‫رش م ّرتني‬
‫وال أعو ُد إىل ٍّ‬
‫رش‪...‬‬
‫أنا مبد ُع هذا ال ّ‬
‫رش‪.‬‬
‫أنا هذا ال ّ‬

‫‪4‬‬
‫ماذا يحدثُ اآل َن يف الخارج؟‬
‫هنا يف قلبي متاماً‪...‬‬
‫مثل جدار امل َ ْعبَد‬
‫قلبي املثقوب َ‬
‫‪187‬‬ ‫صوصن‬

‫ُك إىل عاصفة‬ ‫الريح بهدو ِء َح َجلٍ َ‬


‫قبل أ ْن تح ّولَها يد ِ‬ ‫ُ‬ ‫قلبي الذي مت ُّر فيه‬
‫عسألا يفاش ةمكح‬

‫يد ِ‬
‫ُك والرصاص ُة زهرتان وحش ّيتان يف قلبي‬

‫جليدي يف قلبي‬
‫ٍّ‬ ‫مثل جبلٍ‬ ‫يد ِ‬
‫ُك والرصاص ُة حجران يغرقانِ َ‬

‫يد ِ‬
‫ُك والرصاص ُة قرصانانِ تائهان‬
‫يأكالنِ الجثثَ التي تطفو عىل ماء قلبي اآلسن‬

‫يد ِ‬
‫ُك والرصاص ُة ب ّوابانِ يرسقان زهو َر العاشقات‬
‫غريب‪( ...‬ليس قلبي)‬
‫ٍ‬ ‫فوق ق ٍ‬
‫رب‬ ‫لت َمى َ‬
‫ُ‬

‫يد ِ‬
‫ُك والرصاص ُة أرجوحتان عنيدتان‬
‫طيني يف املسافة بي َنهام‬
‫ٍّ‬ ‫مثل جدا ٍر‬ ‫سق َ‬
‫ط قلبي َ‬

‫يد ِ‬
‫ُك والرصاص ُة‬
‫يد ِ‬
‫ُك والرصاص ُة‬
‫يد ِ‬
‫ُك والرصاصة‪...‬‬
‫كل ما يحدثُ اآل َن يف الخارج‪ ...‬هنا يف قلبي متاماً‪.‬‬
‫هو ُّ‬

‫***‬

‫حظر تجوّل‬
‫أنــا شــاعر غريــب املــزاج مل أبـ ِ‬
‫ـك حــن شــاهدتُ جثّـ ًة مخيط ـ َة البطــن‪ ...‬ومل‬
‫أضحـ ْ‬
‫ـك أيض ـاً‬
‫جام ٌد مثل شجرة محروقة‬
‫ال أذهب إىل املقاهي واألماكن العامة‬
‫ال أدلِّل األطفال وال الحيوانات‬
‫مل أقطف ورد ًة ألحد‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪188‬‬

‫رف املهنــي‬ ‫أُشـبِه املرشحــة فــكل مــا أعايشــه هــو عبــارة عــن جثـ ٍ‬
‫ـث تحــت التـ ّ‬
‫والعلمــي‪.‬‬
‫شاعر غريب الطبع ال أشبه الشعراء املثقفني واملشاغبني‬
‫أحب الله وأكره اللغة االنكليزية‬
‫ال أفهم املوسيقى وال الفن التشكييل‬
‫وال ميكن أن أتابع فيلامً فرنسياً إىل آخره‬
‫ومل تساعدين الثورة يك أصبح شاعرا ً مشهورا ً أو غبياً مشهورا ً‬
‫مل يعتقلني أح ٌد يك أصبح مهامً‬
‫مل أسك ْن يف عشوائيات دمشق‬
‫ومل أُقَ ِّب ْل أيادي شعراء النرث املنترشين يف مقاهيها‪.‬‬
‫ـب قصائــد الجاهليــة مثلــا أكــره البحــر األبيــض املتوســط‬
‫غريــب ومتناقــض أحـ ُّ‬
‫متامـاً‬
‫ال أنرش يف «القدس العريب» وال «الغاوون» وال «الحياة» وال «السفري»‬
‫أكره أمراء الشِّ عر وأمراء الحرب‪.‬‬
‫شاعر عادي جدا ً وال ميكن أن أكون شاعرا ً أبدا ً وأنا بهذه الصفات‬
‫لكنني لن أتوقف عن أن أكون شاعرا ً عادياً أيتها البرشية الكئيبة‪.‬‬

‫‪2‬‬

‫أنا ابن غابة‪...‬‬


‫لكنني ال أستطيع التصويب إىل جبهة ذئب أو إىل قلب طائر‪ ...‬أو إىل زجاجة‬
‫فارغة فوق جذع يابس‬

‫أنا ابن غابة وال أملك نظرة صقر!‬


‫ضال يشعر برطوبة الحياة كلام سمع دبيب أُ ْ َ‬
‫سة النمل‬ ‫أنا عني ُخل ٍْد ٍّ‬

‫أنا ابن غابة‬


‫وال أعرف حتى اآلن أن أمتدد عىل شجرة فأصبح أخرض‬
‫ال أعرف أن أقع يف رشك صياد فأصبح غزاال جريحاً‬

‫أنا ابن غابة‬


‫‪189‬‬ ‫صوصن‬

‫وال أملك قلب قاتل أو قلب عاشق‬


‫عسألا يفاش ةمكح‬

‫بل قلب كوخ خشبي فارغ‬


‫أنا ابن غابة مزيفة‬
‫ورمبا كنت من السكان غري األصليني‬
‫ني فتاة زرقا ُء من جوار النهر إىل قلب مدينة بائسة‪.‬‬
‫أو أنا ابن غابة ح ّركتها ع ُ‬
‫‪3‬‬

‫أهت ُّم بالضائع وامل َ ْن ّ‬


‫يس‬
‫ـرف مث ـاً‪ :‬كــم كان التوقيــت يف الســاعة التــي كانــت يف اليــد‬ ‫أُحـ ّ‬
‫ـب أ ْن أعـ َ‬
‫املقطوعــة؟‬
‫أحب أ ْن أسم َع الكلم َة املنكرس َة العالق َة يف ال َحنجرة املذبوحة‬‫ّ‬
‫َ‬
‫أحب أ ْن أقرأ أسام َء الحبيبات املطبوع َة عىل القلوب التي ثقّبها الرصاص‬ ‫ّ‬
‫أحب أ ْن أرى آخ َر نقط ٍة نظرتْ إليها الع ُ‬
‫ني التي أدهشها املوت‬ ‫ّ‬

‫أهت ُّم بالضائع وامل َ ْن ّ‬


‫يس‬
‫األنياب الرطبة التي تتب ُع غريزتَها خلفي إىل املقربة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫أعرف عد َد‬ ‫وأحب أ ْن‬
‫ّ‬
‫‪4‬‬
‫ـرب اآل َن مــن يــدي ليــس ســمك ًة إنّــه كلم ـ ُة‬
‫ـت صيّــادا ً وهــذا الــذي ترون ـ ُه يهـ ُ‬‫لسـ ُ‬
‫َِ‬
‫أختبهــا‬ ‫ـت أَنْ َق ُعهــا يف املــاء املالــح يك‬ ‫(أحبُّـ ِ‬
‫ـك) كنـ ُ‬
‫ت ًّبا‪ ...‬صار لها عينانِ مفتوحتانِ دامئاً وزعانف وذاكر ٌة انسياب ّية‬
‫‪5‬‬
‫أقول لها‪« :‬هذا ليس يوم الضَّ ِحك‬
‫ُ‬
‫األرواح الجادّة‬
‫َ‬ ‫يحب‬
‫ُّ‬ ‫املوتُ‬
‫وبع َد قليلٍ ستكونني رمادا ً يف َمو ِقد البيت‬
‫إنَّه ليس يوم الضَّ ِحك كام ترين»‬

‫لك ّنها تضحك!‬

‫الشجر ُة الغبيّ ُة ال ت ُصدِّق أنني (منشار)‬


‫تضحك وكأنني تلك النكت ُة البذيئة!‬
‫ُ‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪190‬‬

‫‪6‬‬

‫ص ِّو ْرين برفقة هذه الحاممة البيضاء‬


‫َ‬
‫كنت يوماً حامم ًة‬
‫ُ‬ ‫فأنا أيضاً‬
‫لكنني عارشتُ الغربا َن أربعني عاماً‬

‫ص ِّو ْرين برفقة هذه الحاممة البيضاء‬


‫َ‬
‫السلْك الكهربايئ‬
‫عىل هذه الفسحة الصغرية من ِّ‬
‫نراقب الحيا َة البعيد َة للغربان‬
‫ُ‬ ‫حيث منيض حيات َنا ونحن‬

‫ص ِّو ْرين برفقة هذه الحاممة البيضاء‬


‫َ‬
‫أرجوك‬
‫قل يل أ َّن ذاكريت السودا َء لن ت َظه َر يف هذه الصورة‬
‫أرجوك ْ‬
‫لقد عارشتُ الغربا َن أربعني عاماً‪.‬‬

‫‪7‬‬

‫(يف الخارج)‬
‫يعني أن نهر مدينتي أصبح عشبة برية قاسية‬
‫َ‬
‫األسامك تقدم طلبات لجوء إىل أي حوض زينة يف الخارج‬ ‫تاركاً‬

‫(يف الخارج)‬
‫يعني أن البحر األبيض املتوسط حيوان ِ‬
‫الح ٌم‬
‫متر فوقه قوارب الخارجني بهدووووء‬
‫يك ال تن ِّبهه رائح ُة الدم يف الغرقى املحت َملني‬

‫(يف الخارج)‬
‫يعني أن ترفع ‪ -‬أيها العامل ‪ -‬يد َ‬
‫َك عن جرس البيت‬
‫وترتكني يف الخارج‪.‬‬
‫‪191‬‬ ‫ن‬
‫مَشلاو ِفَرغلا ع‬
‫خ وب لالط‬

‫طالل بو خرض‬
‫َ‬
‫والشم‬ ‫عن الغ َر ِ‬
‫ف‬

‫يجب أن أقول لكم شيئاً ما هنا‪ ،‬أو ّد ذلك فعالً‪.‬‬

‫أعيش فيها ال تكرتث للشِّ عر‪،‬‬


‫ُ‬ ‫لكن ال ّرمال امل ُتح ّركة التي‬

‫فعلت‪.‬‬
‫ُ‬ ‫هكذا ببساطة‪ ،‬مهام‬

‫أغرق‪.‬‬

‫‪........‬‬

‫أرضب وجهــي بــاألرض‪ ،‬أغــرق‪ ،‬أصنــع طائــر ًة ورق ّية‪،‬‬


‫ُ‬ ‫ـب وأغــرق‪ ،‬أرصخُ‪ ،‬أغــرق‪،‬‬ ‫أكتـ ُ‬
‫كأن أطــر‪ ،‬أغــرق‪ ،‬أهــدأُ‪ ،‬أغــرق‪ ،‬أفتــح علبــة رسديــن بِعينــي‪،‬‬
‫ك ذراعـ َّـي ّ‬‫أغــرق‪ ،‬أح ـ ّر ُ‬
‫أصبح دولفيناً ســعيدا ً و أوازن ســت بطّيخات عىل أنفي‪ ،‬أغرق‪ ،‬أضع نظريّة‬ ‫ُ‬ ‫أغرق‪،‬‬
‫جاليــة‪ ،‬أغــرق‪ ،‬ألحــس أُذين بلســاين‪،‬‬
‫جديــدة يف الدادائ ّيــة تتعلّــق بالســوتيانات الر ّ‬
‫رسيت‬
‫أرضب ّ‬
‫ُ‬ ‫ّس‪ ،‬أغرق‪ ،‬أش ّد قضيبي بأسناين‪ ،‬أغرق‪،‬‬
‫ّس‪ ،‬أغرق‪ ،‬ال أتنف ُ‬
‫أغرق‪ ،‬أتنف ُ‬
‫ر أشــقرا ً‪ ،‬أغــرق‪،‬‬
‫ـب الجميــع‪ ،‬أغــرق‪ ،‬أكــر ُه الجميــع‪ ،‬أغــرق‪ ،‬أصـ ُ‬
‫بِ فــك بــراغ‪ ،‬أغــرق‪ ،‬أحـ ّ‬
‫راقصــة ســربتيز‪ ،‬أغــرق‪ ،‬أســاف ُر‪ ،‬أغــرق‪ ،‬أعــودُ‪ ،‬أغــرق‪ ،‬أتذكّ ـ ُر‪ ،‬أغــرق‪ ،‬أنــى‪ ،‬أغــرق‪،‬‬
‫ـب‪ ،‬أغــرق‬
‫ـب‪ ،‬أغــرق‪ ،‬ال أكتئـ ُ‬
‫أكتئـ ُ‬
‫‪...‬‬

‫أصمت‪ ،‬أغرق‬
‫ُ‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪192‬‬

‫تظه ُر أ ّمي يف نهاية املشهد‪:‬‬

‫«اإلنسان ما بيعبّي عينو غري الرتاب‪ ،‬هيك كانوا يقولوا أيام زمان»‪.‬‬

‫‪...‬‬

‫ث ّم أموت‪ ،‬وأغرق ببطء‬

‫‪-----------------------------‬‬

‫عن ُ‬
‫الغ َرف‬
‫ال ُغ ـ َر ُف‪ ،‬ال ّزائــدة عــن الحاجــة‪ ،‬خ ـ ّزان وحــدة‪ ،‬حتّــى لــو كانــت واســعة‪ُ ،‬مل ّونــة‪،‬‬
‫كل مــا حولهــا فــراغ‪ ،‬ال يؤملــك‪،‬‬
‫ـقف عــال‪ ،‬غُرفتــك هــي فقــط مــا يُحيــط بــك‪ّ ،‬‬ ‫بسـ ٍ‬
‫لك ّنــه ال يحتويــك‪.‬‬

‫*‬

‫األشــخاص‪ ،‬ال ّزائــدون عــن الحاجــة‪ ،‬خـ ّزان وحــدة أيضـاً‪ ،‬حتّــى لــو كانــوا ُمل ّونــن‪،‬‬
‫بسـ ٍ‬
‫ـقف عــال‪ ،‬هــم أيضـاً فــرا ٌغ يُحيــط بــك وال يحتويــك‪ ،‬ليســوا أبــدا ً غرفتــك الصغــرة‪،‬‬
‫املـُـد ّورة‬

‫*‬
‫ٍ‬
‫ألحد آخر‪.‬‬ ‫أنت‪ ،‬غرف ٌة دافئة ألحدهم‪ ،‬فرا ٌغ زائد‬

‫*‬

‫كُلّنــا‪ُ ،‬مـ ُدنٌ‪ ،‬يَســكنها آخــرون‪ ،‬بعضهــم أشــخاص‪ ،‬بعضهــم بيــوت‪ ،‬أنهار‪ ،‬جســور‪،‬‬
‫ر ُمدنـاً‪،‬‬
‫أشــجار خــراء‪ ،‬أشــجار ذابلــة‪ ،‬طــرق مع ّبــدة‪ ،‬طــرق وعــرة‪ ،‬حدائــق‪ ،‬ثــم‪ ،‬نصـ ُ‬
‫تســكن مدنـاً أخــرى‪ ،‬نكــون فيهــا نهــرا ً‪ ،‬أو جــرا ً‪ ،‬أو قــرا ً‪ ،‬الــخ الــخ‪...‬‬

‫*‬

‫ـس‬ ‫بعضنــا‪ ،‬جســو ٌر حديديــة‪ ،‬آمنــة‪ ،‬لك ّنهــا‪ ،‬ليســت بيوتـاً‪ ،‬ال تكــون‪ ،‬حتــى لــو جلـ َ‬
‫رد قربهــا‪ ،‬ســرحل قريبـاً تــاركاً كيــس نومــه املهــرئ‪ ،‬ومــا كتبـ ُه بــأداة حــادة كنــو ٍع‬
‫ُمـ ّ‬
‫مــن الذكــرى‪ ،‬ذكــرا ُه قليـ ٌـل مــن ِ‬
‫الشــعر الــذي ال يــؤمل‪ ،‬لكــن‪ ،‬ال يــزول أيضـاً‪.‬‬

‫*‬
‫‪193‬‬ ‫ن‬
‫مَشلاو ِفَرغلا ع‬

‫ـارب خشــبي صغــر بــن جزيرتــن‪ ،‬طيــب ودافــئ غالبـاً‪،‬‬


‫هنــاك مــن هــو قــارب‪ ،‬قـ ٌ‬
‫خ وب لالط‬

‫ر مــن الذكريــات والقصــص الحلــوة‪ ،‬لك ّنــه حزي ـ ٌن يف معظــم األحــوال‪ ،‬يعل ـ ُم أنّــه‬
‫كث ـ ٌ‬
‫ربــا فقــط ســفينة ُملونــة تقيــم ســهرات‬
‫قــارب‪ ،‬وأنّــه مهــا حــاول‪ ،‬لــن يصــر بيت ـاً‪ّ ،‬‬
‫مســائية لِغُربــاء يَس ـكَرون وال يعرفــون اســم الســفينة التــي تحملهــم‪.‬‬
‫*‬
‫ر فندق ـاً‪ ،‬كبــرا ً‪ ،‬يعرفــه الجميــع‪ ،‬أو نــزالً صغــرا ً قُــرب طريــق بــن‬
‫وم ّنــا‪ ،‬مــن يص ـ ُ‬
‫مدينتــن‪ ،‬ال فــرق‪ ،‬قــد تجــد فيهــم دفئـاً مؤقتـاً‪ ،‬كاذبـاً‪ ،‬لكــن‪ ،‬يف الحالتــن ســيرتك‬
‫الــز ّوار ســوائلهم‪ ،‬بقايــا طعامهــم‪ ،‬ويرحلــون‪ ،‬تاركــن لــك بعــض البقشــيش‪.‬‬
‫*‬
‫تظـ ّن أنّــك تنتقــل ملدينــة حلمــك‪ ،‬تســاف ُر‪ ،‬ثــم تكتشــف أنّهــا كانــت مــن غادرتهــا‬
‫سابقاً‪ ،‬تعودُ‪ ،‬لكن‪ ،‬هناك غرباء يتنقلون بحرية وال يعرفون أنها شوارعك‪ ،‬ال يكرتثون‬
‫أيضاً‪ ،‬وال حتى املدينة تكرتث‪ ،‬ث ّم‪ ،‬تصري غريباً‪ ،‬يف كل املدن‪.‬‬
‫*‬
‫هنــاك مــن يـ ُ‬
‫ـرك بيتــه ألجــل عمــلٍ أفضــل يجلـ ُ‬
‫ـب لـ ُه طعامـاً أطيــب وحبـاً أحــى‪،‬‬
‫ري وحيدا ً‪ ،‬يعودُ‪ ،‬لكن‪ ،‬البيت َسكن ُه غرباء‪ُ ،‬سعداء‪ ،‬يحلمون بالطعام‬
‫يساف ُر‪ ،‬ث ّم يص ُ‬
‫األفضل والحب األحىل‪ ،‬ومثلك‪ ،‬سريحلون قريباً‪ ،‬لكن البيت لن يكون ذاته‪.‬‬
‫*‬
‫هنــاك مــن هــو بح ـ ُر‪ ،‬ينتحــر فيــه البعــض‪ ،‬يُســامره آخــرون‪ ،‬يرمــون فيــه أعقــاب‬
‫ســجائرهم‪ ،‬يتَع ـ ّرون‪ ،‬يتب ّولــون‪ ،‬يكتبــون عنــه شــعرا ً‪ ،‬ثــم يرتكونــه وحيــدا ً كــا كل ليلــة‪.‬‬
‫*‬
‫بيت واحدٌ‪ ،‬دفأك حقاً‪،‬‬
‫هناك دامئاً‪ٌ ،‬‬
‫وبيت سكنته‪ ،‬ولن تعود إليه‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫حلمت به‪ ،‬ومل تسكنهُ‪،‬‬
‫َ‬ ‫بيت‬
‫بيت آملك‪ٌ ،‬‬
‫ٌ‬
‫*‬
‫هنــاك مــن هــو قليـ ٌـل‪ ،‬شـ ٌ‬
‫ـباك يطـ ّـل عــى شــار ٍع مغلــق‪ ،‬الجــارة التــي تخلــع ثيابهــا‬
‫يومي ـاً هــي الوهــج الوحيــد‪ ،‬قــد ترحــل قريب ـاً‪ ،‬الشــباك أقــل مــن أن ينتحــر‪ ،‬ســيغلق‬
‫فقــط‪.‬‬
‫*‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪194‬‬

‫ري‪ ،‬خيمة‪ ،‬تحملها‪ ،‬تختبئ بها‪ ،‬ضوء وشباك ومخدة‪ ،‬صوتُ‬ ‫َ‬
‫هناك من هو كث ٌ‬
‫رصاصــر ومســاء‪ ،‬خيمتــك أوســع مــن أن تخــاف‪ ،‬أقــرب أيض ـاً مــن أن تكــون وحيــدا ً‪،‬‬
‫الخيم ذلك عادةً‪.‬‬ ‫تفعل ِ‬
‫ُ‬ ‫كتاب يسليك يف مكانٍ ما‪ ،‬موسيقى أيضاً‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫الشك هناك‬

‫*‬

‫الحزن بيت بارد‪ ،‬لك ّنه أكرث متان ًة من السعادة‪ ،‬هو ٌ‬


‫بيت واس ٌع مع أقبية صلبة‪،‬‬
‫بيوت السعادة هشة مثل كابينات الهاتف‪ ،‬تدخلها أحياناً التصال طارئ‪ ،‬للتبول‪،‬‬
‫أو لالحتامء من مط ٍر ال يعجبك‪.‬‬

‫*‬

‫البيت ال يرحل‪ ،‬يراقب فقط‬

‫عن َ‬
‫الش ّم‬
‫ـب روائـ َـح‬
‫ـاف أو تحـ ّ‬ ‫ـت حـ ٌّـي أل ّن لـ َ‬
‫ـك رائحــة وألنّــك تخـ ُ‬ ‫الشَ ـ ُّم غريزتـ َ‬
‫ـك األبقــى‪ ،‬أنـ َ‬
‫أُخــرى‪.‬‬

‫أنت جس ٌد من ال ِعطر‪،‬‬
‫الروائح كُلّها عارية ال سبيل لتغطيتها‪َ ،‬‬
‫ُ‬
‫ص بك‪،‬‬
‫روائح ترتبّ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫حولك قطي ُع‬ ‫كل يش ٍء‬
‫ّ‬
‫اللح ُم النيء يُ ِ‬
‫صدر نسيامً ساحرا ً فقط إن كان يَقط ُر دَماً‪،‬‬

‫عيناك تتبعانِ أنفك‪ ،‬يداك تلمسانِه‪ ،‬تُ سكان العطر‪ ،‬ف ُم َ‬


‫ك ين َهشُ ه‪،‬‬ ‫َ‬

‫ِ‬
‫ذكرك الساخ ُن‪،‬‬ ‫َ‬
‫أنثاك الرطبة‪،‬‬ ‫اللح ُم النيء‬

‫وحش يرتدي ياق ًة من ما ِء ال ُع ُنق‪.‬‬


‫ٌ‬ ‫ث ّم‪ ،‬ها أنت‪،‬‬

‫*‬

‫يخصك‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تشكيل‬
‫ٌ‬ ‫رائح ُة ال ُع ُنقِ َعال َمة‪ ،‬رقم‪ ،‬اسم‪،‬‬

‫رائحت ُه هي أنت بِال أي إضافة‪.‬‬

‫*‬

‫الشَ ُّم ذاكر ُة القُساة‪،‬‬


‫‪195‬‬ ‫ن‬
‫مَشلاو ِفَرغلا ع‬

‫أولئك اللذي َن يستطيعون َمحو ذكرياتِهم لن يستطيعوا محو روائح من أح ّبوا‪،‬‬


‫خ وب لالط‬

‫فوق تلّ ٍة من الخَشَ ْ‬


‫ب‪.‬‬ ‫كنت فأساً َ‬
‫َ‬ ‫الشّ ُم ذاكر ٌة قاسية‪ ،‬تقتُ َ‬
‫لك ولو‬

‫*‬

‫أنت متيش ببط ٍء يف طريقٍ من الراقصات‪،‬‬


‫الش ُّم عيو ُن ال ُعامة‪َ ،‬‬
‫ه ّن ال يفعلن إال أن يتح ّركن‪ ،‬أنت ال ترى‪ ،‬تش ّم وتنتصب فقط‪.‬‬

‫*‬

‫كل مــا فيهــا يُع ِجبــك‪ ،‬لك ّنــك ال تحتمـ ُـل الليلــة األوىل‪ ،‬رائحـ ٌة‬
‫الشـ ُّم دا ُء الحــب‪ّ :‬‬
‫مــا ال ت ُعجبــك‪.‬‬

‫هي ايضاً‪ ،‬ت ُقبّلك كأنّها تلتهمك‪ ،‬ث ّم فجأ ًة تقول‪ :‬طيّب‪َ ،‬‬
‫أراك قريباً‪.‬‬ ‫َ‬
‫*‬

‫ـب مي ـ ُّر‬
‫ـب مــع غريـ ٍ‬
‫قصــة حـ ٍّ‬ ‫قص ـ ُة ُحـ ٍّ‬
‫ـب صغــرة ِبــا كلــات أو ذكريــات‪ّ ،‬‬ ‫الشّ ـ ُم ّ‬
‫قربــك‪،‬‬

‫الغريب اختفى‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أنت مسحو ٌر متاماً‪ ،‬مأخو ٌذ ُم َ‬
‫سنَ ْم‪ ،‬حتّى لو‬ ‫َ‬
‫حش مع غريب‪ ،‬ال أحال َم وال أمل‪.‬‬ ‫حب خالص ٍة وج ٌ‬
‫ِنس ُمت ّو ٌ‬ ‫قص ُة ٍّ‬
‫الشَ ُّم ّ‬
‫*‬

‫دودي يَعـ ُـرك‪ِ :‬ممحــا ٌة صغــر ٌة تقاطـ ُع ُعزلتــك‪ ،‬ثـ ّم‪ ،‬هــا أنــت‪ ،‬نفـ ُ‬
‫ـس‬ ‫ٌّ‬ ‫ـب‬
‫الشَ ـ ُّم ثقـ ٌ‬
‫ـوق ِمق َع ـ ُد الدراســة الخشــبي‪ ،‬دفاتِ ـ ُرك فارغــة‪ ،‬األســتا ُذ يقــول اســمك‪،‬‬ ‫الغبــي فـ َ‬
‫ـك املمحا َة التي ما زالت تُصدر ذاتَ الرائحة‪،‬‬ ‫أصدقاؤك يضحكون‪ ،‬ترتعدُ‪ ،‬تُ ِ‬
‫سـ ُ‬ ‫َ‬
‫تأكلهــا‪ ،‬تقتلهــا‪ ،‬ترميهــا‪ ،‬رائحــة املمحــا ِة ال متــوت‪ ،‬تســكنك‪ ،‬متــوتُ مبوتــك‪.‬‬

‫*‬

‫الشَ ـ ُّم ذاكــر ٌة مــن املـُـدن التــي تَســكنها وتقتُلــك‪ ،‬تعـ ُ ُ‬


‫ـر كأنّـ َ‬
‫ـك نَجــوت‪ ،‬ث ـ ّم‪ ،‬يف‬
‫ـول‪ :‬أش ـتَ ُّم رائح ـ َة دمشــق‪.‬‬
‫بــروتَ ‪ ،‬ت ُص ِبـ ُـح أبله ـاً متام ـاً‪ ،‬وتقـ ُ‬

‫*‬

‫الشَ ـ ّم غريــز ُة ال َنجــاة‪ ،‬ال يش َء حولَــك‪ ،‬ال َق َمـ ُر مكتمــل‪ ،‬عاريــانِ أنتــا كأ ّن ال أحـ َد‬
‫ـت الخائـ ُـف الــذي يقــول‪ :‬فلرنحــل اآلن‪ ،‬أش ـتَ ُّم‬ ‫ســواكام يقط ـ ُن املج ـ ّرة كُلّهــا‪ ،‬ث ـ ّم‪ ،‬أنـ َ‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪196‬‬

‫ر قات ـاً باألظافــر وحدهــا‪.‬‬ ‫ـوت هنــا‪ ،‬رائح ـ ُة مـ ٍ‬


‫ـوت تدفعنــي ألن أص ـ َ‬ ‫رائح ـ َة مـ ٍ‬

‫*‬
‫ـت ُممثّـاً بارعـاً‪ ،‬تدخـ ُـل املنـ َ‬
‫ـزل‬ ‫ـكل تقنيّاتـ َ‬
‫ـك يف الكــذب مهــا كُنـ َ‬ ‫الشّ ـ ُم ال يأبـ ُه بـ ّ‬
‫ـض نُكاتـ َ‬
‫ـك الرديئــة‪،‬‬ ‫ـك انتــرتَ يف ك ُّل حروبــك‪ ،‬ت ُطلـ ُـق بَعـ َ‬ ‫مرتاقص ـاً‪ ،‬تبتس ـ ُم كأنّـ َ‬
‫ـت طويــل‬ ‫ـاط بالخليــات‪ ،‬ث ـ ّم‪ ،‬صمـ ٌ‬ ‫ـك وح ـدَك‪ ،‬تخل ـ ُع ثيابــك كســلطانٍ ُمحـ ٍ‬ ‫تضحـ ُ‬
‫ـك‪ ،‬رائحـ ُة الخيانــة أصـ ُ‬
‫ـدق‬ ‫ـألك هــي ‪ :‬أي يــا عزيــزي‪ ،‬قــل يل اآلن مــا ِبـ ْ‬
‫وســيجارة‪ ،‬تسـ َ‬
‫كل مرسح ّياتــك وهــدوءك‪.‬‬
‫مــن ّ‬

‫*‬

‫ـرب َعطّــا ٍر‬ ‫ـس كرشنقـ ٍة تســك ُن أنفــك‪ ،‬ثـ ّم‪ ،‬أنـ َ‬
‫ـت متـ ُّر قُـ َ‬ ‫الشَ ـ ُّم شـ ٌ‬
‫ـوق ال ميــوت‪ ،‬يتك ّيـ ُ‬
‫ـص‬ ‫ـب يرتبّـ ُ‬ ‫يف شــار ٍع ال تعرفــه‪ ،‬تتباهــى أنّـ َ‬
‫ـك ال أحــد‪ ،‬ال اسـ َم وال ذكريــات‪ُ ،‬مجـ ّر ُد ذئـ ٍ‬
‫ضب ـ ٌة ُمباغت ـ ٌة عــى‬ ‫بالروائــح الغضّ ــة‪ ،‬فجــأةً‪« ،‬كريســتيان ديــور» ُيســك ذراعــك‪َ ،‬‬
‫ـدي حبيبتُــك اختنــق ب ـ ِه‬ ‫الجبــن‪ ،‬قــف يــا تافــه‪ ،‬لــن تســتطيع اإلفــات أبــدا ً‪ ،‬هـ َ‬
‫ـاك ثـ ُ‬
‫ـك ويص َفعــك‪ ،‬أ ّمك‬ ‫ط فوقَـ َ‬ ‫ـض خلفـهُ‪ ،‬يقفـ ُز عاليـاً ليهبـ َ‬
‫يف فمــك‪« ،‬ماجــي نــوار» يركُـ ُ‬
‫تُسـلّم عليــك يــا نــذل‪ُ ،‬خــذ‪ ،‬هــذي يداهــا‪ ،‬احفظهــا داخــل كَبـ ِـد َ‬
‫ك ج ّيــدا ً‪« ،‬هرييــرا»‬
‫يبص ُق‬
‫صديقك امليّت‪ُ ،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أمامك كنز َة‬ ‫يضحك من بعيد‪ ،‬يُش ِع ُل سيجارت ُه ثم يرمي‬ ‫ُ‬
‫ـت‪ ،‬لكــن‪،‬‬ ‫رأســك ألجــل أن تفلـ ْ‬ ‫ـك ُحطــام‪ ،‬مت ـ ّد َ‬ ‫ـت عــى األرض‪ ،‬كُلّـ َ‬ ‫ث ـ ّم يبتَعــد‪ ،‬أنـ َ‬
‫ـكل أناقتـ ِه يقـ ُـف أما َمــك‪ ،‬يُخـر ُِج زبّـ ُه ثـ ّم يَشـ ُّخ‬
‫ال‪ ،‬ليــس قبــل هــذا ‪ :‬السـ ّيد «بــروت» بـ ّ‬
‫قُربَــك‪ ،‬حولــك‪ ،‬فوقــك‪ ،‬يف فمــك‪ ،‬يف أذنــك‪ ،‬يف عينــك‪ ،‬يف أنفــك‪ ،‬هــل تشــت ُّم‬
‫هــذا ؟ هــذا أبــوك‪ ،‬ال تنــى هــذا يــا َجبــان‪.‬‬

‫*‬
‫حاصتـ َ‬
‫ـك قلي ـاً‪ ،‬ث ـ ّم أفلتتــك‪ ،‬هــذا فقــط ك ُُّل‬ ‫َ‬ ‫ـت ُح ـ ٌّر اآلن‪ ،‬مجموع ـ ُة عطــو ٍر‬
‫أنـ َ‬
‫صـ ْـل‬
‫مــا َح َ‬

‫‪2015/3/27‬‬
‫‪197‬‬ ‫ميغلا ُبارحم‬
‫يناريدلا رايم‬

‫ميار الديراني‬

‫محرابُ الغيم‬

‫طعن ٌة يف الفراغ‬
‫مجتمعة يف فظاظة اللحظة املعجونة بالوحدة‬
‫االتكا ُء عىل حائ ٍر‬
‫تقرضُ ُه الرشاس ُة‬
‫انتقا ٌء متق ٌن‬
‫تسدي ٌد ال يخيب‪.‬‬
‫فخ ٌذ يُفت َق ُد يف الليل ِة «الضلكاء»‬
‫فخذ تطريه القذيفة‪ ،‬فخذ ينزف من األعىل ينادي الجسد الهارب وحيدا‬
‫فخذ مخ ّيط عىل عجل عليه خرثات دم ال تتقن قارئة الفنجان فك ألغازها‬
‫فخذ مقدد‪ ،‬فخذ ممد‪ ،‬فخذ سقط بالفخ‪...‬‬
‫أه لو أن فمك أقرب‪.‬‬
‫‪..........‬‬
‫تفصيل هذا الخوف‬
‫َ‬ ‫ف ُم ِ‬
‫ك امليمو ُن يرعى‬
‫يرشق خوا َء الحدث‬
‫ُ‬
‫عادل برفق ِة مك ِّد ِر اللّذات‬
‫ٌ‬ ‫صديق‬
‫ٌ‬
‫عشب السكين ِة‬
‫َ‬ ‫يرعى‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪198‬‬

‫رفيق بح ِّد ذاتِ ِه‬


‫ٌ‬
‫ِّ‬
‫حواف الزفري‪.‬‬ ‫خفيف يطفو عىل‬
‫ٌ‬
‫لطاملا أعطا ُه دخا ُن سجائِر ِ‬
‫ِك شكالً‬
‫ِ‬
‫منك بتلك التحديق ِة اللعنة‪ ،‬مر ًة أخرى‪.‬‬ ‫بدون جدوى‪ ،‬مل يح َ‬
‫ظ‬
‫ِ‬
‫منك‪ ،‬ليتعطَّر‬ ‫يكفي سه ٌو‬
‫لريتج اللِّسان‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ملح الرشو ِد‪،‬‬
‫يكفي ُ‬
‫قبل التّب ُّد ِد‬
‫تكفي التفات ٌة َ‬
‫ج ِد‬
‫لرتي وجهاً مياثِلُ ُه بالتوا ُ‬
‫ْ‬
‫أنفاس ِ‬
‫ك‬ ‫ِ‬ ‫خارجاً مع‬
‫بكل بها ِء الغيم واحرتاقِ ال َّرأفة‬
‫محاطاً ِّ‬
‫يكفــي عذابـاً‪ ...‬إنّهــا الحيــا ُة لنقولَهــا بصــور ٍة أفضــل‪ .‬إنهــا بلدنــا التــي أوات إليهــا‬
‫كل الذئــاب يشــلخونها عــى مهــل‬
‫حياتنا وهل بقي من معنى؟‬
‫ح طويلٍ‬
‫نعيشُ ها من دون رش ٍ‬
‫أو إيجا ٍز مغام ٍر‬
‫منتصها ال نخلّفها كدوائ َر عىل وج ِه الصبا ِ‬
‫ح املب ّقعِ ببحريات الدم‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫ٍ‬
‫مالك من بع ُد‬ ‫أي‬
‫قبل ولن يفعلَها ُّ‬ ‫ِب بها ال لنملِكَها‪ ،‬فام َ‬
‫فعل أح ٌد من ُ‬ ‫نُسه ُ‬
‫ـارك مــن يف يـ ِـد ِه املـ ُ ـل ُ‬
‫ْك وال ُفلــك) تباركــت البــاد القتيلــة التــي مــا زالــت‬ ‫(تبـ َ‬
‫قــادرة عــى فعــل الحــب‪.‬‬
‫يكفي مهزلة‪ ،‬ل ُنغ َر َم إذا استطعنا‪ ،‬وإن مل نقدر أيضا‪ .‬يف املجازر الحب وحده‬
‫القادر أن يخفف اللعنة‪.‬‬

‫لرنقص إذا وافتْنا املوج ُة بقليلٍ من الحركة َ‬


‫قبل االنهام ِر القادمِ ال محالة‪.‬‬ ‫َ‬
‫لعطش اللَّحظ ِة األخرية‬
‫ِ‬ ‫لنتنفس أخر عنقو ٍد من الضو ِء ونخ ِّم َرهُ نبيذا ً‬
‫َ‬
‫ني‬ ‫سنســهو بعـ َد حــن‪ ،‬ملـّـا ت َ ْخلَـ ُ‬
‫ـص امل ّجــاتُ ‪ ،‬حــن يقلـ ُع راعــي الوجــود عن تدخ ِ‬
‫أعامرنا‪.‬‬

‫نتعانق معا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أخي بذر ُة القطرانِ الكثيف ِة‪ ،‬دعنا‬
‫َ‬
‫العمالق عن ض ِّخ الضجي ِج‬ ‫القلب‬
‫َ‬ ‫ونو ِق ُف هذا‬
‫‪199‬‬ ‫ميغلا ُبارحم‬

‫ننرسب ونتِّح ُد ونجلطُ ُه بحب‬


‫ُ‬
‫نيهاش دايإ لحارلا رعاشلا‬

‫نذبح صد َرهُ ‪ .‬ونض ُع عن ُه وز َرهُ بفرا ٍغ مشغو ٍل عليه‪،‬‬


‫ُ‬
‫بأي يش ٍء‬ ‫محاول ٌة مضحك ٌة ملل ِئ ِه ِّ‬
‫رب جث َم زفريا ً زفريا ً‪ ،‬نظر ًة نظرة‪ ،‬كابوساً ورا َء آخر‬
‫وص ٌ‬
‫يحل ـ ُم أن يغــدو (س ـ ّحابا) أو (سوســتة) مبركبــة متحركــة مــن تحــت إىل فــوق‬
‫وبالعكــس‬
‫زيييييييييــط زيييييييييييييــط‪ .‬كــا يف روايــة أحمــد العبــادي «أن تكــون عبــاس‬
‫العبــد»‬
‫ينفجــر بــه يش ٌء مــا‪ ،‬ممــن يبعثــون الجوامـ َد إىل األعــايل فيغــدو جملـ ًة مــن تحت‬
‫لهــا ظـ ٌـل مييش‬
‫زمـ ٌن جديـ ٌد يعلـ ُن مجيئَـ ُه بــدأَ يرسـ ُـل أنبيــا َءهُ مــن هــذه البــاد الجســورة املغــرورة‬
‫املهــدورة عــى قارعــة الفــراغ‪.‬‬
‫طلق ألغازَهُ‬
‫يُ ُ‬
‫ٍ‬
‫بخبث‬ ‫ويبتس ُم‬
‫كل ما أفعلُ ُه هذه األيام‬
‫ُّ‬
‫انتظا ُر الوحي‪ ،‬يف ِح ِ‬
‫رائ‪ ،‬برفق ِة الصديق ِة العنكبوت والرفيق ِة الحاممة‬
‫أفص ِف ُ‬
‫ص ُه عىل مهلٍ ‪.‬‬ ‫ِك ْ‬‫ُب» غياب ِ‬
‫وكمش ٍة من «ل ِّ‬
‫ووجــوه أصدقــايئ الذيــن ماتــوا يف املظاهــرات ويف الغــارات ويف حــوادث‬
‫الســيارات وبعــض الغرقــى مازالــوا يتنفســون يف غرفتــي‪.‬‬
‫وميلؤون الفراغ ضجيجا ال ينتهي‪.‬‬

‫«غي‪...‬ما»‬
‫ّ‬
‫«هي غيمة ال تتقن الوصول متر بني الله والفصول»‬
‫الشاعر الراحل إياد شاهني‬

‫ِ‬
‫حلمتاك أقىص غايتي يف هذه اللّحظ ِة املباغتة‬
‫ِ‬
‫السقوط الح ّر‬ ‫كل‬
‫ُّ‬
‫ِ‬
‫الغاص ِ‬
‫ص بالدُّموع‪.‬‬ ‫ال يوازي انهيا َر صوت ِ‬
‫ِك‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪200‬‬

‫كل هذا األمل؟‬ ‫كيف أوصلتُ ِ‬


‫ك إىل ِّ‬
‫بتلك القسو ِة الباهر ِة‬
‫َ‬ ‫كيف استط ْع ِ‬
‫ت مدّي‬
‫لإلطاح ِة ِ‬
‫بك؟‬
‫ـك القــدر ُة عــى احتــا ِل الهجــا ِء امل ـ ِّر؟ وكأنَّـ ِ‬
‫ـك املســؤول ُة عــن‬ ‫كيــف كانــت لـ ِ‬
‫صناع ـ ِة خيبـ ِ‬
‫ـات الحيــاة‪.‬‬
‫أنت أيتها البلد املجنونة أيتها البنت الضالة أيتها العزيزة التي ال استحقك‪...‬‬
‫أيتهــا البنــت التــي مــن غضبهــا منــي مــا عــادت تكلمنــي‪ ..‬ال متــويت اآلن فأنــت‬
‫أخــر مــا تبقــى لنــا مــن حيــاة‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫لعثم ٌة ك ِم ْديَ ٍة يف فمِ مدين ٍة‬


‫ريق يُبتلَ ُع كس ٍّم‬
‫ٌ‬
‫ِ‬
‫املرتاميات‪.‬‬ ‫تبص ُق ضو َءها إال لتُشتّتَ ُه يف‬ ‫وشمس ال ِ‬
‫ٌ‬
‫وقذائف ال تكف عن الفتك بالكائنات‪.‬‬
‫ِ‬
‫البسط واملقام‪.‬‬ ‫كل الوقو ِع النبيلِ املغفو ِر ل ُه سهوات ُه يف حرض ِة‬
‫ُّ‬
‫ِ‬
‫للجسد املس ّجى عىل نصا ِل املوت املياوم‬ ‫ٍ‬
‫ترميامت‬ ‫وخدوش وبض ُع‬
‫ٌ‬ ‫كسو ٌر‬
‫يف عقارب ساعتنا‪.‬‬
‫جمعت من ِ‬
‫بعد ِ‬
‫ك‪ .‬فهل تُنصتني؟!‬ ‫ُ‬ ‫كل ما‬
‫تلك هي ُّ‬
‫‪3‬‬

‫املنيس يف جسدك املوجوع‬


‫ِّ‬ ‫الزغب‬
‫ِ‬ ‫دعيني أعاو ُد الجحو َد ذات َ ُه عىل مذب ِح‬
‫رس ُة التي تحد ُِّق يف سام ٍء وته ِّي ُج أقامرا ً وحيد ًة تتق ُن التناق َ‬
‫ُص واالكتامل‪.‬‬ ‫ال َّ‬
‫ك بتنغيمِ غرو ِر الغيم ِة وهي تتل ّوى يف مسل ِخ الضو ِء قاومي السواد‬
‫َد ْوزين بها َء ِ‬
‫ببياض روحك وعلم ثورة مطعونة بألف سارية‪.‬‬
‫ظ شكل ِ‬
‫َك‬ ‫ِ‬
‫أشتهيك سحابة ًكثيب ًة وناعس ًة متلبّد ًة ومتح ِّول ًة دامئاً ال أحف ُ‬ ‫ياه كم‬
‫وال أملّهُ‪.‬‬
‫فالتكــرا ُر يجـ ِّرد ِ‬
‫ُك مــن االنصهــار‪ .‬لــن تكــوين ألحــد فلســت أرض الربــاط وال أرض‬
‫الجهاد وال أرض الحداد‪ ..‬أنت بالد الغيم وحسب من يأرسك أن يحصد العاصفة‪.‬‬
‫‪4‬‬

‫يل‬
‫واترك الباقي ع َّ‬
‫ِ‬ ‫كوين غيم ًة وكفى‬
‫‪201‬‬ ‫ميغلا ُبارحم‬

‫ـب املجــازر‬ ‫ر مــن البحـ ِ‬


‫ـش يف رساديـ ِ‬ ‫وفِّــري هــد َر موتــاك ملــا هــو مجــدي اك ـ َ‬
‫نيهاش دايإ لحارلا رعاشلا‬

‫الشــقيقة‪.‬‬
‫بيضا َء أو رمادي ًة املهم أن ال تتشكّيل وال تهطُيل‬
‫وال تجعــي مــن الســا ِء زرقــاء حــن أه ـ ُّم بالنظــر إليهــا كــوين يف وسـ ِـطها غيم ـ ًة‬
‫ـت‪.‬‬
‫وحيــد ًة متكـ ّـرةً‪ ...‬مت ـ ُّر وال تلتفـ ْ‬
‫غيم ٌة مارقة‬
‫فام أن أشخّصك‪ ،‬حتى تتح ّولني‬
‫ـواس التك ُّهــنِ ونت ـ ِح‬ ‫أرس ـ َم ِ‬
‫ك‪ ،‬حتــى تعاوديــن اســتجامع مــا أذقتنــي مــن أقـ ِ‬ ‫مــا أن ُ‬
‫الــرذاذ‪.‬‬
‫ح ذاتِ ِه ويتبلكم‬
‫يصاب جسدي باإلفصا ِ‬
‫ُ‬ ‫ح‬
‫فكل صبا ٍ‬
‫ُّ‬
‫الســا ُء املكتظَّ ـ ُة‬ ‫نفس ـ ِه القــادمِ مــن َّ‬
‫الســاء‪َّ .‬‬ ‫كل مســا ٍء يتنشَّ ـ ُـق عب ـ َ‬
‫ر الفــرا ِغ ِ‬ ‫ُّ‬
‫ن خلـ َـف التلفزيونــات‪ ،‬وأهــات‬‫وص َعــدا ِء التالفـ َ‬
‫ـدروب املالئكـ ِة‪ ،‬ازدحــامِ الدعــاء‪ُ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫بـ‬
‫املقتولــن صدفــة‪ ،‬وغضــب املنســيني تحــت الــركام‪.‬‬
‫هل من سبيلٍ للفي ِء يف ِّ‬
‫ظل الهجري؟‬
‫هــل مــن ســبيل يــا بــاد الغيــم‪ ...‬نحــن رعاتــك الطيبيــن ال نعــرف كيــف نخاطــب‬
‫الغيمة؟‬
‫مل نتقن حزر نواياك يا لئيمة‪.‬‬
‫أيتها الشَّ تيم ُة املتحرك ُة عىل مهلٍ عىل شكلِ غيمة؟‬
‫‪5‬‬

‫رش راي ِة الفرا ِغ عىل املرتفعات‪.‬‬ ‫ٍ‬


‫فتوحات ون ِ‬ ‫حروب‬
‫ِ‬ ‫حصتي من‬
‫َّ‬
‫الرتبيت عىل الضِّ لعِ املشلو ِع‬
‫َ‬ ‫ما من يش ٍء وما من ٍ‬
‫أحد يتق ُن‬
‫فاألملُ حصيل ٌة الب َّد منها مثل ِ‬
‫ُك متاماً‬
‫هذا ما حزته اليو َم باللغ ِو واللغو‬
‫بالشِّ عر واإلشعا ِر‬
‫انتظرك يف عليائِ ِ‬
‫ك القريب‬ ‫ِ‬ ‫وأنا‬
‫أن تهطيل اآل َن يا لئيمة عىل من تك ّبني شه َد فرج ِ‬
‫ِك العظيم؟‬ ‫ّ‬
‫أين كنت تختزنني كل هذا الرهيب والعجيب والغريب من شكول الحياة‪.‬‬
‫أي من غربا ِء الغيمِ تعانقني؟‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪202‬‬

‫النص الخايل من احتام ِل مرور ِ‬


‫ِك اليو َم مثل‬ ‫َّ‬ ‫أكتب هذا‬
‫ُ‬ ‫أدخ ُن عىل الرشف ِة‪...‬‬
‫البارحة والذي قبلَ ُه والذي‪...‬‬
‫ـزج مــن ســاء فارهــة بــا غيــوم مــن دخــان القصــف البعيــد‪ ،‬تقطــع‬
‫فيهطـ ُـل مطـ ٌر لـ ٌ‬
‫قذيفــة شــاردة مــزاج املســاء بصفريهــا الحــاد‪.‬‬
‫وال تأتني‪...‬‬
‫يحب املر ُء غيمة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫أصعب أن‬
‫َ‬ ‫ما‬
‫«غي ما» مغرورة‪ .‬عىل شكل بالد تسمى سوريا‬
‫عىل شكل البنت التي أكلت الحرب قلبها‪ ...‬وهاجرت‬

‫دمشق مرشوع دمر شتاء ‪2015‬‬


‫‪203‬‬ ‫ّماه لمعل ةيموي شماوه‬
‫قيرمز ذاعم‬

‫معاذ زمريق‬

‫هوامش يومية لعمل ها ّم‬

‫عمل ها ّم‬
‫لدي ٌ‬
‫َّ‬
‫تقطي ُع الطامطم عىل شكلِ سياج‬
‫تفعل الحرب بأظافر األطفال‬
‫ُ‬ ‫فر ُم البقدونس كام‬
‫تنظيف لحمِ الدجاج وتقطيعه‪.‬‬
‫ُ‬
‫العمل ها ٌّم‬
‫وليس سهالً‬
‫اطالقاً‬
‫َ‬
‫فعليك أن تبتسم‬
‫أنت مرشو ُع الجئٍ‬
‫َ‬
‫مذهل!‬
‫*‬
‫رصتُ أسم ُع اديث بياف‬
‫يف الصباح‬
‫وأشعر أين «مارسيل سريدان»‬
‫ٍ‬
‫حادث مفاجئ‪.‬‬ ‫حبيبها الذي سيموت يف‬
‫*‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪204‬‬

‫أرسلت حديق ًة لألصدقاء‬


‫ُ‬
‫رقصت‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫أغسل األطباق‬
‫ُ‬ ‫وأنا‬
‫عىل رنني املاسنجر يف هاتفي املحمول‪.‬‬
‫*‬
‫لت يف ورش ِة الخشب‬
‫حني ع ِم ُ‬
‫قبل ثالث ِة أشهر‬
‫وقفت مشدوهاً‬
‫ُ‬
‫أمام تباهي الن ّجارين بخسائرهم الجسديّة‬
‫‪ ...‬رسموا يل مستقبالً‬
‫مملوءا ً باألصابع املقطوعة‪.‬‬
‫*‬
‫فت عىل فتا ٍة أمازيغية‬
‫تع ّر ُ‬
‫كان اسمها «آنيا»‬
‫وتعمل يف مرسح األطفال‬
‫ُ‬
‫بتكب‬
‫عاملَتني ّ‬
‫كوين عامال صغريا‬
‫يبيع السندويش عىل ناصية املطعم‬
‫فرتكتُها جالس ًة عىل الطاولة‬
‫وذهبت‬
‫دون أن أقول لها‪:‬‬
‫اكتبي اسمي عىل غوغل‪.‬‬
‫*‬
‫أقرأ مقاالً لخليل صويلح‬
‫عىل ست أو سبع دفعات‬
‫‪ ...‬الزبائن كثريون اليوم‬
‫*‬
‫حبوب الرتامادول جيّدة‬
‫تجعلك تبتلع التعب الذي سيأيت بعدها‬
‫‪205‬‬ ‫ّماه لمعل ةيموي شماوه‬

‫برشف ِة ما ٍء‬
‫قيرمز ذاعم‬

‫واحدة‬
‫‪ ...‬ما يقوله صديقي‬
‫كل يوم‬
‫*‬
‫دخلت أمل (صديقة آنيا األمازيغية)‬
‫إىل غرفتي‬
‫كنت خارج البيت‬
‫ُ‬ ‫حني‬
‫ونظَّفَتها‬
‫أن‬
‫رغم ّ‬
‫كنت أنوي فعل ذلك بنفيس‬
‫ُ‬
‫من ُذ ثالثة أشهر!‬
‫عندما ُعدتٰ يف املساء‬
‫وجدتُ كتبي مرتب ًة بشكلٍ الئقٍ‬
‫داخل الحقيبة‪...‬‬
‫صديقي الذي تُحبه جدا ً‬
‫ال ينوي الزواج بها‬
‫ُ‬
‫أعرف‬ ‫لست‬
‫ُ‬ ‫وإىل اآلن‬
‫مل أهدَتني ورد ًة يف الفاالنتاين!‬
‫*‬
‫يف آخر الليل‬
‫مي ُّر الجائعون‬
‫آملني أن أرمي لهم بقايا لحمٍ صار بائتاً‬
‫أُفكّر‪ ...‬ملَ هم جائعون‬
‫إن مل يكن لديهم ديكتاتور وسيم؟!‬
‫*‬
‫ننتظ ُر عبد املالك «املهرب الجزائري»‬
‫مل يَ ُعد من رحتل ِه األخرية بعد‬
‫ينصحني البعض‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪206‬‬

‫طريق البحر ميلء بقروش الله‬


‫فأُجيب‪:‬‬
‫يف أوروبا الوقت رخيص‬
‫ُيكنك أن تشرتيه‬
‫مجاناً‬
‫*‬
‫أصل إىل الدمنارك‬
‫حني ُ‬
‫ري شاعرا ً بائساً أكرث‬
‫سأص ُ‬
‫أعرف‪ ...‬أعرف‬
‫لكن سيكو ُن من حقّي‬
‫يوم عطلة‬
‫والعمل ‪ 8‬ساعات يف اليوم‬
‫فقط‬
‫*‬
‫قالت يل جامنة مصطفى‪:‬‬
‫تكتب (عيوين) بدالً من (عيناي)؟‬
‫ُ‬ ‫«ملَ‬
‫لست عنكبوتاً!»‬
‫َ‬ ‫ههههه‬
‫تحسست وجهي‬
‫ُ‬
‫يل‬
‫فوجدتُ شفاهي تضحك بسخرية‪ ...‬ع ّ‬
‫ومل أسألها‬
‫ُ‬
‫تضحك العناكب؟!‬ ‫كيف‬
‫*‬
‫نجلس يف الليل‬
‫ُ‬
‫نحن العامل املياومون‬
‫نُدخِّن حشيشاً رديئاً‬
‫وأعيننا معلّق ٌة‬
‫عىل جدار أوروبا‪.‬‬
‫*‬
‫سأُ ّٰ‬
‫حب فتا ًة من أصو ٍل فرنسيّة‬
‫‪207‬‬ ‫ّماه لمعل ةيموي شماوه‬

‫وأهديها أغاين سميح شقري‬


‫قيرمز ذاعم‬

‫عن الثورة والحب‪.‬‬


‫*‬
‫ب الكتاب َة‬ ‫أُج ّر ُ‬
‫بقلب بارد‬
‫ٍ‬
‫مللت شكواي‬
‫ُ‬ ‫فقد‬
‫أتساءل‪:‬‬
‫الناس هذه األيام‬
‫ُ‬ ‫ملَ‬
‫ال يُح ّبون القصائد الخالية‬
‫من ال ُحب؟!‬
‫*‬
‫يف عميل‪ ...‬الها ّم‬
‫ّمت َس َّن السكاكني‬
‫تعل ُ‬
‫أال ترون‬
‫يجب عىل أحدكم‬
‫ُ‬ ‫أنَّه‬
‫إخبا ُر الحزن ؟!!‬
‫«فأس الغرفة الوحيد»‬

‫ـت الجنــس ليل ـ ًة كامل ـ ًة مــع طاولــة؟!‪ ،‬بالتأكيــد ذلــك مخيــف‪ ،‬لكــن‬
‫هــل مارسـ َ‬
‫الوحدة حني تُ ّر ُغ صدرها العاري بني حلمتيك‪ ،‬تجعل أطرافك ترتعش ِّ‬
‫ألقل حلمٍ‬
‫مباغــت‪ ،‬تطــوف رائحتهــا بــن مالمحــك البــاردة ممهــد ًة الطريــق لشــفتني حارقتــن‪،‬‬
‫َ‬
‫مهارتك‬ ‫حينها تغدو علبة السجائر فندقاً لعرشين قبل ٍة قادمة‪ ،‬وعليك أن متارس‬
‫باســتقبالها‪ ،‬م ـ ّر ًة عــى طـ ِ‬
‫ـرف فمـ َ‬
‫ـك األيــر‪ ،‬وأخــرى عــى اليمــن‪ ،‬ثــم م ـ ّر ًة للســفىل‬
‫مــع ميــلٍ طفيـ ٍ‬
‫ـف للعليــا‪ ،‬فالعكــس‪ ...‬وهكــذا‪.‬‬
‫طاولــة‪ ...‬تلــك التــي بســاقني لهــا ملعــا ٌن طافـ ٌـح مثــل صوفيــا فريغــارا‪ ،‬وآخريــان‬
‫مثــل ضفــريت شــهوة‪ ،‬تلــك التــي حــن متازحهــا وتضــع الوالعــة فوقهــا بنــزقٍ ‪ ،‬لهــا‬
‫كل ذلــك‬
‫صــوت إميــا ســتون‪ُّ ...‬‬
‫فأس الغرفة الوحيد!‬
‫وأنت ُ‬
‫َ‬
‫ـك مــن ك ُِّل قلبـ َ‬
‫ـك‪ ،‬أن أحــدا ً مل يفعلهــا مــن قبــل‪ ،‬لــذا ســتج ُد‬ ‫ـرف حــن تضحـ ُ‬
‫تعـ ُ‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪208‬‬

‫األمر مريع وموحش‪ ،‬لكن االنتقام من علبة ســجائر الليلة املاضية‪ ،‬يُشــبع هشاشــة‬
‫رجــلٍ ليــس بحوزتــه طاولــة!‬
‫‪ ...‬اآلن‬
‫يجــب أن تطبــع قبلتــك الروتينيــة عــى خ ـ ِّد العزلــة‪ ،‬قبــل أن تتمــدد يف رسيرهــا‬
‫وتنــام‪ ،‬بعمــق طبعـاً‬
‫فأنت ثور الغرفة الوحيد!‬
‫‪...‬‬
‫مارست الجنس مع العزلة؟!!‬
‫َ‬ ‫هل‬
‫أنت مجنون الغرف ِة الوحيد!‬
‫َ‬
‫‪209‬‬ ‫تارذش‬
‫وخيش ةمسب‬

‫بسمة شيخو‬

‫شذرات‬

‫األشجار عكاكي ُز السامء‬


‫***‬
‫منجل صغري يحصد ما يستطيع من أمل‬
‫ٌ‬ ‫ما االبتسامة إال‬
‫***‬
‫أدوس عىل ظلّه فيتأمل‪.‬‬
‫َ‬ ‫ري بجانبه‪ ،‬أخاف أن‬
‫وكنت حني أس ُ‬
‫ُ‬
‫***‬
‫كل أغصاين ال تكفي لعناقك‬
‫ّ‬
‫***‬
‫أبدأُ الرتقيم دوماً من الرقم اثنني‪،‬‬
‫َ‬
‫مشاركتك برقم واحد‪.‬‬ ‫ال يشء يستطيع‬
‫***‬
‫رقيق أنت‪ ،‬ال تالئم الشتاء‬
‫قميص ٌ‬
‫ٌ‬
‫***‬
‫أمسكت يد التمثال‪ ،‬فأكمل الطريق معي‬
‫***‬
‫األرض مليئ ٌة بالدقائق‪،‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪210‬‬

‫البد أن أحدهم كرس ساعته‬


‫***‬
‫جيبي مثقوب‬
‫ضاعت قبالت َ‬
‫ُك التي خبأت ُها‬ ‫ْ‬
‫***‬
‫سأفقأ عيني هذي الشمس‬
‫و أجعلها زرا ً لقميصك‬
‫***‬
‫لست راقصة باليه‬
‫ُ‬
‫لست طائر لقلق‬
‫ُ‬
‫لكن ال أدري ملاذا أقف عىل ساقٍ واحدة؟‬
‫***‬
‫رسائيل ال تصل!‬
‫ساعي الربيد الحايل ال يعترب القُبل َة طابعا‬
‫***‬
‫لن تغفو هذه املدينة‬
‫بكعب عا ٍل‬
‫ٍ‬ ‫فاملوت يتجول يف شوارعها‬
‫***‬
‫سنبل ٌة ِ‬
‫أنت‪ ،‬همس يل ومن يومها والقمح يفيض من ابتسامتي‬
‫***‬
‫رجل ميضء‬
‫أنت ٌ‬
‫ال ظل لك َ‬
‫***‬
‫الشامة عىل خدك كعبة تطوف حولها قباليت‬
‫***‬
‫سأرس ُم األموات أريد أن أهبهم حيا ًة جديدة‬
‫***‬
‫التاء املربوطة يف آخر اسمي‬
‫ال تنبسط إال عندما تنطقها أنت‪.‬‬
‫***‬
‫‪211‬‬ ‫تارذش‬

‫سوء فهمٍ بيني وبني ظيل‪،‬‬


‫وخيش ةمسب‬

‫أحتاجه ليالً‬
‫وال يأتيني إال يف وضح ال ّنهار‪.‬‬
‫***‬
‫ملَ ّ‬
‫كل هذه الريح يا الله؟‬
‫نسم ٌة صغرية تستطيع أن تعرينا بالكامل‪.‬‬
‫***‬
‫األسامك عمياء‪ ،‬لكن الشِّ باك ترى‪.‬‬
‫***‬
‫سأستمر بالكتابة لسن األربعني‪ ،‬بعدها سأنتظر الوحي‬
‫***‬
‫بأقدامٍ من خشب‪ ،‬سأعرب هذه النار‬
‫***‬
‫يل اتسع الغطاء‪،‬‬
‫كلّام مددت رج ّ‬
‫سألف األرض كامل ًة بلحايف‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫يوماً ما‬
‫***‬
‫ٍ‬
‫بصوت عا ٍل‬ ‫يا أمي ال تنا ِدين‬
‫ال ت ُجفيل الغربان التي تقتات عىل أحالمي البسيطة‪.‬‬
‫***‬
‫السمراء ابتسامات الله يل‬
‫غامزاته َّ‬
‫***‬
‫ليس سناً ذهبياً ما يلمع يف فمي‪ ،‬إنها كلم ٌة غادرت قبل أن أقولها‪.‬‬
‫***‬
‫سيؤملك يف البداية‬
‫الدبوس الذي سيثبتك بالقرب من فراشايت‬
‫***‬
‫ســتخاف منهــم بــادئ األمــر‪ ،‬لكنــك ســتعرف الحق ـاً أنهــم مل يكونــوا إال أصدقــاء‬
‫مشاكســن‪...‬‬
‫الدود الذي يلهو بجثتك‬
‫***‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪212‬‬

‫ِ‬
‫األمنيات‬ ‫اشرتيت َ‬
‫آالف‬ ‫ُ‬ ‫ببضعِ قصائ َد‬
‫ِ‬
‫وضحك ًة عالية ُعلّقت عىل ث َغر الكون‬
‫ـك غيم ـ َة حــب وأع َ‬
‫رصهــا فـ َ‬
‫ـوق‬ ‫ـول ألمسـ َ‬
‫ـول وأطـ َ‬
‫ـاول أن أطـ َ‬
‫ـكل مــا أملــك أحـ ُ‬
‫بـ ّ‬
‫ِ‬
‫القاحلــة‬ ‫أراضينــا‬
‫يا الله‪...‬‬
‫لست متطل ّبة أحتاج فقط خوذ ًة ضخمة لهذه املدينة‬
‫ُ‬
‫‪213‬‬ ‫ةبابد دوقأ نأ ديرأ‬
‫دوبع دمح‬

‫حمد عبود‬

‫أريد أن أقود دبابة‬

‫ُ‬
‫أعرف كيف أقود دبابة‬ ‫لو‬
‫كنت استعرتُ واحدة من األعداء أو األصدقاء‬
‫ُ‬
‫‪ -‬الكل لديه دبابة سواي ‪-‬‬
‫ِ‬
‫وألخذتك عىل متنها‬
‫يف فسح ٍة مبستوى هذه الحرب‬
‫لتشاهدي الحياة كام يرونها الجنود من فتحة الباب املستطيلة‬
‫لرمبا عذرتِهم لتدمري كنيستك املفضلة‬
‫‪ -‬قبل أن تكفري بإلههم بقليل ‪-‬‬

‫من فتحة الباب املستطيلة مل يروا الله فوق الكنيسة‬


‫ـراف خلــف الحائــط املــوىش بزحـ ِ‬
‫ـف العريـ ِ‬
‫ـش‬ ‫وال رأوه أيضــا يف غرفــة االعـ ِ‬
‫والخطا يــا‪.‬‬
‫ولكنهم سمعوا عنه كلام صاح به أحدُهم‬
‫«‪»...‬‬
‫أقحموه عنوة يف قلوبهم فخرج عنوة منها‬

‫ِ‬
‫أخذتك‬ ‫كنت‬
‫ُ‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪214‬‬

‫نعرج فوق املئذنة املرمية يف الشارع ولن نكون قد اقرتفنا معجزة بذلك‪...‬‬
‫ُ‬
‫وضعت أذنها عىل االسفلت‬
‫ْ‬ ‫املئذنة التي‬
‫كهندي أحمر يستمع إىل خطو القادمني والنازحني من البعيد وإىل البعيد‬

‫لــو أننــي أعــرف كيــف أقــود دبابــة لتعــارك أخــويت مــن ســيأخذ الكــريس األمامــي‬
‫بجانبــي‬

‫ُ‬
‫أعرف بعد أن فقدنا سقف الوطن ستصبح الدبابات بسقف مكشوف أيضا‪...‬‬
‫كشفنا رؤوسنا وصدورنا وانتظرنا صدى الدعوات الثقيل‬

‫وكأي مهووس بالنظافة والربيستيج‬


‫ـت ســأملع حديــد دبابتــي ‪ -‬وإن كانــت مســتعارة ‪ -‬وأمســح زجــاج النافــذة‬
‫كنـ ُ‬
‫املســتطيلة‬
‫لرؤية أفضل وحرب أنظف وشهداء ميوتون بكامل شاماتهم وبلونهم الحقيقي‬
‫ج‬
‫ال أريــد ‪ -‬بعــد أن أعيدهــا ‪ -‬أن يُقتــل شــهيد أبيــض فقــط ألنــه إس ـ َّم َر يف زجــا ِ‬
‫النافــذة‬

‫كلنا نريد للقتل أن يكون واضحا صافيا ثاليث األبعاد والنوايا‬


‫وكأي مهووس كنت سأمرر الكفن يف املاسورة جيئة وذهابا‬
‫الحرب النشيطة تستحق مواسري سالكة‬
‫بدون طني أو أعشاش عصافري وحاممات بيضاء تقف عليها وتعكر تركيزها‬
‫وال أريد أن يقول الناس انظروا خ ّرب لنا حربنا مبنظر حديد الدبابة الصدئ‬

‫أعر ُِف صديقا من القرية رسق دبابة وأخذها إىل النهر‬


‫تعرتْ وتوضأت الدبابة من الفرات وأسقطت الجرس املعلق‪...‬‬
‫ِ‬
‫وجهات نظر‬ ‫ُ‬
‫خالف‬ ‫قيل يف املوضوع‬
‫الجرس كان يرى الدبابة حالة انتصاب فاضحة من فوق‬
‫كانت ترى الجرس رصيفا طائرا‬
‫ْ‬ ‫الدبابة‬
‫مــن فتحــة البــاب املســتطيلة الضيقــة كان املوضــوع مســتفزا أال تُــرى حبــال‬
‫الحديــد‬
‫‪215‬‬ ‫ةبابد دوقأ نأ ديرأ‬

‫الدبابة سحبت مسدسها أوال‬


‫دوبع دمح‬

‫مل أكن شجاعا كفاية‬


‫اكتفيت بوشم دبابتي‬
‫ُ‬
‫كتبت‬
‫ُ‬
‫«رضاك يا وطني‪»...‬‬

‫وكنت ألوح لألعداء لألصدقاء للامرة لألمهات لألوالد أال يقرتبوا‬


‫دبابتي مصابة بـ (الشقيقة)‬
‫مل أكن ألعرف متى نوبة جنونها القادمة‬

‫ـت غرقتـ ِ‬
‫ـك تنسـ ُّـل هاربــة مــن الطابــق الثــاين إىل‬ ‫لــو أننــي أعــرف قيــادة دبابــة لرتكـ ُ‬
‫الطابــق الثالــث‬
‫وأصبت املئذنة‬
‫ُ‬ ‫كنت أخطأت التصويب لحظتها‬
‫ُ‬
‫هــذا الســبب الوحيــد الــذي جعــل املئذنــة تســقط‪ ...‬املئذنــة أوىل بالقذيفــة‬
‫ِ‬
‫ـباكك‬ ‫مــن شـ‬
‫أمل نتعلــم بعــد كل هــذا الــرب بــأ ّن خــد الديــن األميــن يحتمــل اللطــم أكــر مــن‬
‫خــد القلــب‬

‫أمــا هــم فكانــوا يصوبــون نحــو شــالك ليغتالــوه‪ ،‬املنحرفــون كانــوا يحبــون رؤيــة‬
‫عنقــك يف الصبــاح‬

‫سأستعريها ال تقلقي ولن يزعجك زمور دبابتي حيث أنتظرك أسفل البيت‬
‫سأطلق مئة وسبعة وأربعني قذيفة حتى تنتهي من زينتك‬
‫صادقت األقوياء»‬
‫ْ‬ ‫وسيتهامس أهل الحارة‪« :‬انظروا لقد‬
‫ومع أن قلبي الضعيف ودبابتي روسية الصنع‬
‫كنت سأحبك من قلبي حيث أنا يف قلب دبابتي‬
‫ُ‬

‫رأيت يف طريقي إليك دبابة صفراء قصرية مزركشة باللطخ السوداء‬


‫شعرت بالغرية واشتقت إليك أكرث‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪216‬‬

‫ِ‬
‫خطرت ببايل‪« ...‬دامئا»‬ ‫ِ‬
‫أحييك بقذيفة كلام‬ ‫كنت‬
‫ُ‬
‫ُ‬
‫تعرف سبب هذا القصف العشوايئ‬ ‫تضحكني‪ِ ،‬‬
‫أنت الوحيدة التي‬
‫وكنت أمن ُع الناس من التفكري بك أيضا وأمنع األمهات من دق بابك‬
‫ُ‬
‫ـت صادقــا بأنــك لــن تكــوين‬ ‫هــل عرفـ ِ‬
‫ـت ملــاذا شــارفت عــى العنوســة‪ ...‬مــا زلـ ُ‬
‫لغــري‬
‫أنا الغيور صاحب الدبابة املستعارة‬

‫ُ‬
‫اطرق رايس إىل األرض وماسوريت‬ ‫أجلس يف دبابتي‬
‫رأسها منتصب فوق املئذنة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬ماذا فعلنا يا الله»‬
‫‪« -‬كيف اقرتفنا كل هذه املسافات الشاسعة من القتل»‬
‫ِ‬
‫أخذتك وإبريق الشاي‬ ‫كم كان جميال لو‬
‫جلسنا عىل الحدود ألحميها وأسقيها ما تبقي من الكوب البالستييك‬
‫كم كان أنيقا‬
‫وتستتْ عورة الدبابة الفاضحة‬
‫ّ‬ ‫لو أن الجرس بقي طائرا‬
‫ِ‬
‫لصوت أمنا ينادينا‬ ‫وسكت هديرها واستمعنا‬
‫َ‬ ‫تعطلت‬
‫ْ‬ ‫كم كان جميال لو أن الدبابة‬
‫«تعالوا العشاء اليوم بطيخ وجنب أبيض»‬

‫ـت الــراط وع َّبدتــه وعربنــا عــى‬


‫يف يــوم مشــمس طــارت الدبابــة إىل اللــه هرسـ ْ‬
‫طريــق واســع جــدا إىل الجنــة‬

‫يف يوم مشمس طارتْ حبيبتي وأنا أُل ِّو ُح لها مبفاتيح دبابتي‬
‫كانت هناك بصلة يابسة يف نهاية عالقة املفاتيح‬
‫علقتها ليبيك الحزن إذا أىت يوما‬
‫كان رشيط الهاتف طويل جدا يكفي ليتعرث املارة بقريب وأنا أتغزل بك وأعدك‬
‫بفســحة يف الدبابــة وكان كافيــا الن اربــط بــه الدبابــة وأجرهــا خلفــي لكيــا ترجــع إيل‬
‫أصحابها‪.‬‬
‫أعدايئ أصدقايئ‪ ...‬أصحاب الدبابات أوالد القذائف‪.‬‬
‫‪217‬‬ ‫اوتومي مل نيذلا هوجو يرفاظأب مسرأ‬
‫ولع دمحأ ىرس‬

‫رسى أحمد علوش‬

‫أرسم بأظافري وجوه الذين لم يموتوا‬

‫يف الصباح‬
‫يدق صوتك باب النوم‬
‫ويأخذ قلبي من يده إىل النافذة‬
‫ألبتسم للشمس التي نتقاسمها معاً عىل مائدة مدينة إفريقية‬
‫أترك لك قطعتي من الضوء‬
‫فأنا أحب العتمة أكرث‬
‫تلك العتمة التي تخفيني يف قلبك‬
‫دون أن تضطر لتربير الضحكات الساذجة التي تطلقها‬
‫كلام وضعت يدك عىل صدرك متحسساً النهر الذي سميته باسمي‪.‬‬

‫يف املساء‬
‫يرن يف أذين رصير املدينة تحت قدميك املتجهتني إىل آخر الريح‬
‫وريثام تصل‬
‫أواصل كتابة األحالم عىل الجدار الذي يفصلنا عن املقربة‬
‫وأردد اسمك ليحميني من أشباح الجنود‬
‫وأحذيتهم الكبرية كالتوابيت‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪218‬‬

‫أرسم بأظافري وجوه الذين مل ميوتوا‬


‫وأضع أغنياتهم عىل عتبات البيوت ليك تكرب وتحمي أطفالهم من القذائف‬
‫وحني أنتهي‬
‫أمسج دموعك بكم قصيديت‬
‫وأغسل يديك من وجع الحرب‬
‫وأنظف ذاكرتك من الجنازات التي مشيت خلفها‪.‬‬
‫يف الليل‬
‫أنىس ما حدث يف املساء‬
‫أسند غيمتي إىل كتفك‬
‫وأقص أظافر البالد التي تدخن عىل مهل‬
‫بينام ينتهي العامل من مشاهدة نرشة األخبار‬
‫ثم أغمض عيني‬
‫بانتظار أن يدق صوتك باب النوم‬
‫ويه ّرب لهام شمساً جديدة من ثقب الباب‬

‫يَد َ‬
‫ُك مجرد صديق قديم‬

‫يدك التي كنت تحاول أن تحيطني بها‬


‫دون أن تعرف معنى ذلك‬
‫مل تعد تستطيع الكتابة‬
‫فالكلامت التي كانت تسقط منها عىل ظهري‬
‫ومل أتطوع بإعادتها إليك‬
‫كانت كل ما متلك‬
‫وهكذا أصبحت رجالً أعزل‬
‫وأصبحت يدك مجرد صديق قديم‬
‫كان يعرف كيف يجعلني أضحك‬
‫دون أن يبذل جهدا ً كبريا ً يف إقناعي بجدوى السعادة‬
‫أو أن يتكبد مشقة اإلصغاء إىل السخافات التي تجعلني أبيك يف هذا العامل‬
‫‪219‬‬ ‫اوتومي مل نيذلا هوجو يرفاظأب مسرأ‬

‫يدك ذاكريت الواضحة‬


‫ولع دمحأ ىرس‬

‫وأنا ذاكرتك التي فقدت َها يف حادث مروري قديم‬


‫حني اصطدم قلبك مبدينة غريبة‬
‫وسقط منك أمام قدميها دون أن تفعل شيئاً إلنقاذه‬
‫ومنذ ذلك الحني‬
‫وأنت تعلق ندمك عىل الحائط كساعة جدارية‬
‫يراه الجميع وينظرون إليه بدهشة‬
‫مبتسمني للمقصلة التي قطعت رأسك ومل تقتلك‬
‫لتبقى شاهد عيان عىل حياتك التي لن تكون لك بعد اآلن‬
‫يدك معطفي‬
‫ودلييل الوحيد عىل أن العشاق يهرمون‬
‫وحني يستيقظ أطفال املجزرة‬
‫ويلفظ البحر آباءهم الذين كانوا يبحثون عن كرسة خبز يابس يف بطن الحوت‬
‫سيكون يل معها شأن آخر‬
‫فالحرب مل تنته بعد‪.‬‬
‫األصدقاء الذين يعرفون حكايتنا سأتوقف عن حبهم‬
‫ألنهم مل يقفوا يف وجهك حني أكلت قلبي‬
‫بعد أن فتشته بحثاً عن جثتك التي تقاذفتها النساء‬
‫وأضعنها يف بارات املنايف‬
‫واألغنية التي مألتَ فمها بامللح ليك تتوقف عن إزعاجك برصير الحب‬
‫سأكذب بشأنها‬
‫وسأقول إنها مل تعد تعنيني متاماً كصوتك املضحك املبيك‬
‫حني تصعد سلامً موسيقياً‬
‫وتبدأ بالعتب عىل الشجرة اليابسة فيك‬
‫دون أن تنتبه للفأس التي احتطبت نفسك بها‬
‫وما زلت تعلقها عىل خارصتك‬
‫والصور التي تظهرك سعيدا ً ألنك تحبني‬
‫سأقتلك فيها ثم أنرشها عىل غالف مجلة أدبية‬
‫مع نص ميجد القاتل وينىس اسم القتيل‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪220‬‬

‫لكنني اآلن‬
‫قدمي‬
‫ّ‬ ‫سأكتفي بقطع املدينة كل يوم جيئة وذهاباً عىل‬
‫ليك ألتقيك صدفة ذات مرة‬
‫وأنظر إليك وأنا بكامل أناقتي‬
‫وأضحك ألن صبية مثيل‬
‫انتظرت كل هذه األعوام لتضحك عىل رجل مثلك‬
‫خرس يده يف الحرب التي مل يطلق فيها رصاصة واحدة‬
‫‪221‬‬ ‫أ‬
‫كرَح ُعبر‬
‫هَّشلا ِجنَرطُش يفٍةّيرس ٍتا‬
‫حلملا ماسح‬

‫حسام امللحم‬
‫نج َّ‬
‫الشهو ْة‬ ‫ركات رسي ٍّة يف ُ‬
‫شط َر ِ‬ ‫ٍ‬ ‫أرب ُع حَ‬

‫الحرك ُة األوىل‪ :‬شَ هو ُة األش َيا ْء‬


‫الحرب‪َ ،‬مجا ْز الفُحول ْة‬
‫ْ‬ ‫أوركِسرتا األزي ْز‪َ ،‬سوات ُر‬
‫‪.....................‬‬
‫رغيف من لظى التّنور‪ِ ،‬مهرجان التَّ ْ‬
‫نك‬ ‫ٍ‬ ‫بوب‬
‫طب‪ُ ،‬ه ُ‬ ‫َمداخ ُن ال َح ْ‬
‫‪.....................‬‬
‫أوسم ُة األ ْحذي ِة الجائع ِة لِطريقٍ ما ْء‬
‫ِ‬
‫‪....................‬‬
‫الصف ْة‬
‫القلب قَايس ِّ‬
‫ْ‬ ‫َّري‬
‫َحىص القاعْ‪ ،‬ال َحىص الط ُّ‬
‫‪...................‬‬
‫ح ّنا ُء الجسدْ‪ ،‬غواي ُة ال َّرسمِ َ‬
‫فوق الفَرا ْغ‬
‫‪................‬‬
‫باح‬
‫الص ْ‬
‫بوس َّ‬
‫ُع ُ‬
‫ني األخريِ ‪ -‬لِصف َع ٍة ‪ -‬يف األذ ْن‬
‫غبا ُر الطّن ْ‬
‫ِ‬
‫مقعد املدرس ْة‬ ‫ُحفا ٌة إىل‬
‫‪.............‬‬
‫وسج الخال ِء الباك ِر ال َّنوم والوخ ْز‬
‫َع ُ‬
‫‪..............‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪222‬‬

‫يح‬ ‫ِ‬
‫جهات ال ِّر ْ‬ ‫راوح‬
‫َم ُ‬
‫املساملو ْن‬
‫َ‬ ‫َواحني ال َهوا ْء‬ ‫أحفا ُد ط ِ‬
‫«دون ِكيخوته» فكر ٌة بال أحفا ْد‬
‫‪...............‬‬
‫حبل با ٍل يَتدّىل من عل ٍو ِمشنقةْ‪َ ،‬جس ٌد سكونْ‪.‬‬
‫ُ‬
‫َجامليّ ٌة ف ّج ٌة النعدا ُم ال َجاذني ْة‬
‫‪...................‬‬
‫بالسنابل‬
‫ْ‬ ‫يعب عن َموته‬
‫سام ٌد ّ ُ‬
‫‪.................‬‬
‫فق‬
‫نتصف الشَّ ْ‬
‫ُ‬ ‫الذئب‪ُ ،‬م‬
‫ْ‬ ‫صف إغامض ِة َعني‬‫نِ ُ‬
‫‪.................‬‬
‫جوح ٌة ت ّ‬
‫َتدل بني َوجه البح ِر والسام ْء‬ ‫أر ُ‬
‫قيام ٌة تتأرجح بال ْ‬
‫ريح‬
‫‪................‬‬
‫َازج‪ ،‬خُطواتٌ ِمن لح ْم‬ ‫إزفلت ط ْ‬‫ٌ‬
‫‪..............‬‬
‫َّريق‪ ،‬ال «ال تَلتقيانِ َمهام امتَدّتا»‬
‫ضفَّتي الط ْ‬ ‫اِلْتقا ُء ِ‬
‫هندس ٌة فَراغ َّيةْ‪،‬‬
‫ك‬ ‫َهندس ُة فراغك بـ» ِفر َ‬
‫جارِ» َوه ِم ْ‬
‫ول‪ ،‬وال نقطةْ‪.‬‬ ‫تك بنقط ِة ُ‬
‫وص ْ‬ ‫رغبَ َ‬
‫‪............‬‬
‫األرض‪ ،‬لحظة ال ِّزل َز ْال‬
‫ُ‬ ‫ُغي جِلدَها‬
‫ت ُّ‬
‫لباسها‬
‫املوىت ُ‬
‫‪.................‬‬
‫أنفاس الطّريد ْة‬
‫ُ‬ ‫وحدها‬
‫أرس ُع م َن الضَّ و ْء‬
‫‪................‬‬
‫الصحرا ْء ُجدرا ٌن بال نواف ْذ‬
‫َّ‬
‫ْ‬
‫لالختناق‬ ‫فُسح ٌة شَ اسع ٌة‬
‫‪.................‬‬
‫‪223‬‬ ‫أ‬
‫كرَح ُعبر‬
‫هَّشلا ِجنَرطُش يفٍةّيرس ٍتا‬

‫ْ‬
‫الخوف‬ ‫عي الضَّ اري نَحو ِ‬
‫ضفّة‬ ‫الس ُ‬
‫َّ‬
‫حلملا ماسح‬

‫زَحفاً عىل ما ِء الفج ْر‬


‫األفق‬
‫ْ‬ ‫نجم ُة الكَر ِز يف لها ِة‬
‫‪...................‬‬
‫ْ‬
‫األوراق‬ ‫ِ‬
‫نهايات‬ ‫املسلُوخ ُة عن‬
‫ْ‬ ‫قَطر ُة ال َّندى‬
‫طش منَل ْة‬
‫ال ت ُريض َع َ‬
‫األرض‬
‫ْ‬ ‫ني ترط ُم‬
‫لك َّنها ت َصد ُع الوجود ح َ‬
‫‪......................‬‬
‫ني ِ‬
‫الحكاي ْة‬ ‫صفح ِة املا ِء املس َّجى بط ِ‬ ‫ت ُ‬
‫َطوف ال َّزهرة َ‬
‫فوق َ‬
‫شمس تجف ُّف َ‬
‫تلك الرطوبة ْ‬ ‫ٌ‬ ‫يحتل قلبها ‪-‬‬
‫ُّ‬ ‫وتنب ُع ‪ -‬من أصف ٍر‬
‫يفرش ك ّفاً بياضاً‬
‫ُ‬ ‫زغب‬
‫ٍ‬ ‫يف‬
‫كش عن خَصبها الفَائح ال َّرائح ْة‬
‫يُ ِّ ِ‬
‫باشتها ٍء يَسح ُر شَ عباً من ال َّنحل ْ‬
‫يلطّ ُخ أقدامه بِغبا ِر التو ّر ِط بالخ ْ‬
‫َلق‬
‫حل َساعي التّكاث ْر‬ ‫ال ّن ُ‬
‫زي ُر ال ُّزهو ْر‬
‫فعل أح ْد‬
‫ُطق‪ٌ ،‬‬
‫واللّس ُع ن ٌ‬
‫ِ‬
‫شع ٌر وحي ٌد يلي ِه العد ْم‬
‫‪....................................................‬‬
‫حركة ‪ :2‬شَ هو ُة البَا ُرو ْد‬
‫يف البد ْء‬
‫راقب ال َحياة من أعىل الشَّ ج ْر‬
‫كان القردُ‪ُ ،‬منعزالً‪ُ ،‬مساملاً‪ ،‬متأ َّمالً‪ ،‬يُ ُ‬
‫«إنسانْ»‬
‫َ‬ ‫َكب الجرمي َة املدع َّوة َ‬ ‫من َ‬
‫ذاك املكانِ ت َحديدا ً‪ ،‬ارت َ‬
‫‪................................‬‬
‫‪ -‬شهيدْ!!!! عىل َماذا؟‬
‫‪ -‬عىل مويت‪.‬‬
‫‪َ -‬‬
‫تلك شَ هو ُة اإلنسانِ األوىل‬
‫ولك ْن‪ ،‬أال تظ ُّن أنَّنا الشُّ هداء عىل َم ْ‬
‫وتك‬
‫‪ -‬أق َنعت ِني‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪224‬‬

‫‪ -‬اقتُل ِني إذا ً لتُ َ‬


‫صبح شَ هيدا ً‬
‫‪.....................................‬‬
‫األرض‪ ،‬أوسع ُمن َمعد ِة مفرتسي ْه‬
‫ْ‬ ‫البال ُد التّي يَحفرها القنف ٌذ يف ِ‬
‫كرش‬
‫يق من َجوف البال ْد‬
‫القبو ُر التّي تَحفر ُها البِال ُد يف مأتم الجنود‪ ،‬أضْ ُ‬
‫أشواك القنفذ أنعم من ِح ِ‬
‫راب ال ُجنو ْد‬ ‫ُ‬
‫أرواح الجنو ِد أنع ُم من غَريزة القنف ْذ‬
‫ُ‬
‫‪.......................‬‬
‫األسالك‪ ،‬فَنيّ ُة النتو ْء‬
‫ْ‬ ‫ُّك نحو‬ ‫ويشد َ‬
‫ْ‬
‫األسالك‬ ‫الجرح‪ ،‬يف ضفري ٍة من‬
‫ْ‬ ‫خُصوص َّي ُة‬
‫شَ ع ُر البال ِد املنسد ِل عىل كتف الحدو ْد‬
‫الهرب‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫َسفك بكارة‬ ‫ني تصري البال ُد ذَك َرا ً‪ ،‬وت‬
‫جميل ٌ ح َ‬
‫تراب خَائ ْن‪ ،‬د ٌم خائ ْن‬
‫جميل أن يكو َن آخ ُر ما يَسقط ُمنك يف ٍ‬ ‫ٌ‬
‫األقل لوظيفت ِه الحيويَّ ْة‬
‫ّ‬ ‫الد ُم دامئاً خائ ْن‪ ،‬عىل‬
‫دمك‬‫ْ‬ ‫الجندي‪ ،‬أعج ُز أمام‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ودمك أيُّها‬
‫‪................................‬‬
‫الحرب‬
‫ْ‬
‫ْ‬
‫باالختالف‬ ‫تلك ال َّزل ُة يف التَّعبريِ عن ٍ‬
‫رأي‬ ‫َ‬
‫ص‬ ‫ال َ‬
‫فرق بينها وبني ال ّن ِّ‬
‫ِ‬
‫تهلك يف الكتاب ْة‬‫املس‬
‫ْ‬ ‫سوى كمي ُة ونوع الح ِ‬
‫رب‬
‫لكليهام دُو ُر نرشٍ‪ ،‬قُ ّرا ْء ومتابعونْ‪ُ ،‬محبّو َن وكَارهو ْن جوائ ُز وجرائ ْم‪ ،‬هزمي ٌة ون ْ‬
‫رص‬
‫احتفاالتٌ وعزا ْء‬
‫قاتل‪ ،‬بعثٌ بعد موتْ‬
‫لكليهام وق ٌع ْ‬
‫الصان ْع‪،‬‬
‫كال ُهام يُخلِّدان َّ‬
‫صامت‬
‫ْ‬ ‫كال ُهام انتحا ٌر‬
‫جيج ال َجوقاتْ‬
‫ولو اختَلف ضَ ُ‬
‫تائج‬
‫مفتوح ال َّن ْ‬
‫ُ‬ ‫كالهام رِها ٌن‬
‫ري‬
‫اختناق زائد يف الحس والتعب ْ‬
‫َائش‪ ،‬و»ف ُ‬
‫َرق ُعملةْ»‬ ‫ٌ‬
‫إطالق ط ْ‬ ‫يتخل َُّل كِليهام‬
‫الكاتب‬
‫ْ‬ ‫الجندي‬
‫ُّ‬ ‫فَطوىب َ‬
‫لك م َّر ًة أخرى أيُّها‬
‫‪225‬‬ ‫أ‬
‫كرَح ُعبر‬
‫هَّشلا ِجنَرطُش يفٍةّيرس ٍتا‬

‫مادي‬
‫ّ‬ ‫بح ِ‬
‫رب ال ّر‬
‫حلملا ماسح‬

‫بادل األسلح َة والضّ حايا‬


‫تك‪ ،‬لنتَ َ‬
‫ُخ ْذ قَلمي و َهات بُندق ّي ْ‬
‫‪.........................................‬‬
‫طويل‪ ،‬تا ُّم امل َجاز ْر‬
‫ٌ‬ ‫تاريخي‬
‫ٌّ‬ ‫نص‬ ‫تخ ّي ْل أن َ‬
‫ّك ٌّ‬
‫ك ْم ت َستطي ُع أ ْن ت ُف ّجر هذا العامل!‬
‫وتَكُو ُن خ َّيا ً‪ ،‬لَطيفاً‬
‫والقنابل‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫بالديناميت‬ ‫َ‬
‫تاريخك‬ ‫ِ‬
‫شعريَّاً يف نُطق‬
‫لحواسك نحو العاملْ‪.‬‬
‫َ‬ ‫يفوح ِمنها البارو ُد فقطْ‪ ،‬الرائح ُة ْ‬
‫األص ُ‬
‫دق‬ ‫ُ‬ ‫أن تكو َن لغ ًة‬
‫ْ‬
‫لغتك!‬ ‫كم سأح ّب َ‬
‫ك !!! كم َسأداف ُع عن‬
‫ض ْ‬
‫يحك!‬ ‫ني‪ ،‬وأضَ عها عىل َ‬
‫وأكاليل وورو َد ورياح ْ‬
‫َ‬ ‫سأقطف زُهورا ً‬
‫ُ‬ ‫كم‬
‫الحرب العاملي ِة الثانية‪.‬‬
‫ِ‬ ‫أدفنك يف بدنِ دباب ٍة من ُمخل ِ‬
‫َّفات‬ ‫َ‬ ‫بعد أن‬
‫تصبح ُمتحفاً ج َميالً لآل ْه‬
‫ُ‬ ‫َس‬
‫خــوذ ٍة مثقوب ـ ٍة للق ـ ّد ِ‬
‫اس‬ ‫يأتيـ َ‬
‫ـك ج َميــع املقهوريـ ْـن‪ ،‬ليشــعلوا البــارو َد يف َ‬
‫واألم ِنيــاتْ ‪ ،‬تعلــو قـ ْ‬
‫ـرك‪.‬‬
‫الحرك ُة الثالثةْ‪ :‬شهو ُة الجو ْع‬
‫يف طريقِ ال ُّن ْ‬
‫زول‪،‬‬
‫ياح‬ ‫ِ‬
‫لجهات ال ّر ْ‬ ‫األسطح ِة امل َق ِّوس ِة فخذَيها‬
‫مل ْ‬ ‫عىل سال ِ‬
‫تحت ثِقلِ ما تَحمل من فرا ْغ‬
‫ِ‬ ‫الهش‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫الخشب‬
‫ُ‬ ‫ينهرس‬
‫ُ‬
‫ضيق ات ِّساع ُ املد ْن‬
‫يَ ُ‬
‫ـوت الواهي ـ ِة‪ ،‬بِطوفــانِ ال َّرمــادي اللُّغ ـ ِز‬
‫ـرق األفـ ُـق ُخطــوط َالبيـ ِ‬
‫وشَ ــيئاً فَشــيئاً يُغـ ُ‬
‫الســا ْء‬
‫ـاش َّ‬ ‫عــى ِقـ ِ‬
‫زول‪ ،‬حتَّى يف َذ َه ِ‬
‫ب الظَّهري ْة ‪-‬‬ ‫ِ‬
‫لحظات ال ُّن ْ‬ ‫السام ُء دامئاً تبدو رمادي ٌة يف‬
‫‪َّ -‬‬
‫ت ُصبح ال ُّرؤي ُة محكوم ًة بال ُّرؤيا‬
‫ساويل األخري ْة‬
‫َّسعت َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ضاق حزا ُم األوىل‪ ،‬ات‬ ‫وكلَّام‬
‫الحواس‬
‫ْ‬ ‫تصبح يف ما بعد األفقِ ‪ ،‬الحدو ِد‪،‬‬
‫َ‬ ‫لِ‬
‫ُه َ‬
‫ناك متاماً‬
‫األرض‪ ،‬األرض ال َح ْرفيّةْ‪ ،‬املج ّرد ِة من ثقلِ املجازاتْ‬
‫ْ‬ ‫بجنادب‬
‫ِ‬ ‫َلعب‬
‫ت ُ‬
‫ح ألعام ِل الحف ْر‬
‫الوحل من َمسامِ الشَّ ارع املفتو ِ‬‫َ‬ ‫متسح‬
‫ُ‬
‫عشوائيات املدنِ عىل لقم ِة الت ّم ُد ْن‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫عراك‬ ‫ترتقب بطفول ٍة دفينةْ‪،‬‬
‫ُ‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪226‬‬

‫ت َضا ٌّد آخ ٌر يف الهندسةْ‪.‬‬


‫ت َنتز ُع فيه دَو َر الفَلسف ِة يف التَّص ِن ْ‬
‫يف‬
‫ِ‬
‫حركات الهندس ْة‬ ‫ِ‬
‫ماركات (الباطونْ) يف‬ ‫نُص ّن ُف عىل نو ِع ما نسك ُن من‬
‫تبعاً ألرقامٍ وشوار َع وأسام َء ومه ْن‬
‫كانت فَ ُك ّنا‪.‬‬
‫ْ‬ ‫سوى أنَّها‬ ‫َت لنا بِيش ِء ِ‬
‫ال مت ُّ‬
‫َّريق‬
‫ِلد الط ْ‬ ‫فوق ج ِ‬
‫تزحف َ‬ ‫ُ‬
‫تحاوالنِ أن متَس َحا عن بَعض ِكام َما ال ت َعرفا ْن‬
‫باإلسفلت‪ ،‬ال َّن ِ‬
‫بض‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬
‫باحتكاك املا ّد ِة باملا ّدةْ‪ ،‬اللّحمِ‬ ‫أو رمبا متسحان بعضكام‪،‬‬
‫بالسكو ْن‬
‫ُّ‬
‫تتامهيانِ ‪ -‬الب َّد ‪ -‬يف َمرحل ٍة ما‪ ،‬إىل ت َشكيلٍ َ‬
‫ليس طَريقاً وال َجس ْد‬
‫رمبا مجزر ٌة مل َّونةْ‪ ،‬لَوح ٌة إعالنيّ ٌة أرضي ُة لنو ٍع آخ َر من شَ طائ ِر اللحمِ املقد ّْد‬
‫ت ُصبحانِ َوجب ًة أخرى لِنو ٍع آخ َر من الجو ْع‬
‫امهي‬
‫ْ‬ ‫ُجو ُع التَّ‬
‫‪...............................................................................‬‬
‫‪.................................‬‬
‫الوقت‬
‫ْ‬ ‫الحرك ُة ال ّرابع ْة ‪ :‬شهو ُة‬
‫ِ‬
‫الوغد يف هذ ِه املرحلة ؟»‬ ‫الذي يحدثُ يف َهذا ال َعا ِ‬
‫مل‬ ‫ْ‬ ‫«ما‬
‫‪ -‬وهل كا َن العاملُ سابقاً غ َ‬
‫ري ذلك ؟‬
‫‪ -‬وهــل ك ّنــا أح َببنــا ُه لــو ملْ يكـ ْن وغــدا ً كُفــؤا ً‪ ،‬نُح ّمـ ُـل عليــه جمو َحنــا الغريــزي لل ـ «ال‬
‫َعدالــة» والعنـ ْـف والقتــل؟ ‪ -‬وهــل تظ ـ ُّن أن الشّ ــعرا َء أقـ َّـل «تَوغ ُدن ـاً» مــن العــامل‪ ،‬أو‬
‫مــن امل ُعلِّقـ َ‬
‫ن عليــه؟‬
‫‪ -‬ما فَرقُه ْم إذا ً ؟‬
‫ـوح‪ ،‬أوغــا ٌد بالبني ـةْ‪ ،‬يولــدو َن أوغــادا ً‪ ،‬ويلعنــو َن‬
‫‪ -‬ه ـ ْم‪ ،‬الشّ ــعراء‪ ،‬أوغــا ٌد بُوضـ ْ‬
‫الصنع ـ َة مــن أوغــا ِد الفعـ ْـل؟‬
‫ســواه ْم‪ ،‬ممـ ْـن دخــل َّ‬
‫‪..........................‬‬
‫‪ -‬دورا ٌن أبل ـهْ‪ ،‬مياوم ـ ٌة للنشــو ِة‪ ،‬مــع عــر ٍة خفيف ـ ٍة مــن ذاك األىس الحامـ ْ‬
‫ـض‪،‬‬
‫ـؤوس‬
‫عــى الكـ ْ‬
‫قبل كل حفلِ ديســكو أو َســكرة صباحية مختلطة بشــدةْ‪ ،‬متسـ ُـح‬ ‫صمت َ‬‫ٍ‬ ‫دقيق ُة‬
‫بوابات الفخام ِة‪ ،‬حذا ًء‬
‫ِ‬ ‫سح ُمتس ّو ٌل عند‬
‫البعض‪ ،‬كام ميَ ُ‬
‫ْ‬ ‫اليومي لدى‬
‫َّ‬ ‫الهلُوكوست‬
‫يخرج به ملالقا ِة فتا ِة أحالمٍ‬
‫وس ُ‬ ‫جلديّاً لشدة ما اشتها ُه‪ ،‬باتَ يتخيّ ُل أنّ ُه يف قدمهْ‪َ ،‬‬
‫‪227‬‬ ‫أ‬
‫كرَح ُعبر‬
‫هَّشلا ِجنَرطُش يفٍةّيرس ٍتا‬

‫ذابل كوجههْ‪.‬‬ ‫ٍ‬


‫شوك يتخلّلها ور ٌد ٌ‬ ‫ط باق ًة‬
‫تتأب ُ‬
‫حلملا ماسح‬

‫‪...............................‬‬
‫خص «ال يستطي ُع‬ ‫عم َحدثَ قبالً‪ ،‬وإ ْن كا َن الشَّ ُ‬‫‪ -‬ما َسيحدثُ غدا ً ال يختلف َّ‬
‫ـص باالســتحاممِ مــرارا ً بـ ِ‬
‫ـذات‬ ‫االســتحام َم مبــا ِء ال َّنهــر ذاتــه مرتــن»‪ ،‬فهنـ َ‬
‫ـاك م ـ ْن يختـ ُّ‬ ‫ْ‬
‫الجــو ِر القــذرةْ‪ ،‬وال يشـتَ ُّم إال روائــح املسـ ْ‬
‫ـك‪.‬‬
‫‪.........................................‬‬
‫‪ -‬وليس بع َد املوتْ !!‬
‫السيطرة عىل َسا َعتنا‬
‫‪ -‬ال موتَ أساساً‪ ،‬م ُج َّر ٌد إملامٍ أكرثَ بساعتنا الروح َّية‪ ،‬مع َّ‬
‫البيولوجيّة «الروليكس» مثالً‪.‬‬
‫‪..........................‬‬
‫ر يف قبالتـ ْ‬
‫ـك‪ ،‬تَتـ ُ‬
‫ـوق‬ ‫كُ ـ ْن خَطيئــة ًوحجــرا ً‪ ،‬ابحــثْ ع ّم ـ ْن يَرجمـ َ‬
‫ـك‪َ ،‬ســتج ُد طواب ـ َ‬
‫لوق ـعِ الحجــار ِة عــى عظا ِمـ ْ‬
‫ـك‪.‬‬
‫كفول‪ ،‬ال يَبىل‪ ،‬وال يخونْ‪ ،‬مييض فق ْ‬
‫ط‬ ‫الوقت‪َ ،‬م ٌ‬
‫ْ‬ ‫َلبس إال‬
‫ال ت ْ‬
‫‪.............................‬‬

‫حرك ٌة ُمفاجئ ٌة لل ْ‬
‫ّيل‬
‫ت َخيّ ْل ‪َ -‬حرفياً ‪ -‬دُون مجا ْز‬
‫أنياب ِذ ْ‬
‫ئب»‬ ‫ِ‬ ‫ني‬ ‫«ق َ‬
‫َلبك ب َ‬
‫َّيل‬ ‫َ‬
‫تأتيك الذِّكرياتُ – وحيدا ً ‪ -‬يف الل ْ‬ ‫هكَذا‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪228‬‬

‫محمد سعيد‬
‫سأبدل حذائي القديم‪ ...‬وأفكاري أيضا ً‬

‫ٍ‬
‫أسف يذكر‬ ‫عندما ترمي «باولو كويلو» يف الحاوي ِة دو َن‬
‫َ‬
‫وصولك الصفحة الثالثة‬ ‫قبل‬ ‫عندما ُ‬
‫ترتك كتاب «الثابت واملتحول» َ‬
‫كلب م َن الجحيم»‬
‫ٌ‬ ‫لتقرأ «الحب‬
‫ِ‬
‫نرشات األخبار‬ ‫عندما تتاب ُع أفالم «البورنو» بدل‬
‫َ‬
‫ذكرياتك التافهة وتقذفها يف الحاوية‬ ‫عندما تجم ُع‬
‫َ‬
‫لصديقتك املحجبة نكتة بذيئة‬ ‫عندما تروي‬
‫َ‬
‫وأفكارك أيضاً‬ ‫َ‬
‫حذاءك القديم‪...‬‬ ‫عندما تبد ُّل‬
‫ُ‬
‫وتبول عىل االيديولوجيا‬ ‫تقف عىل سط ِح بناي ٍة عالي ٍة‬
‫عندما ُ‬
‫وأنت تقرأ الجملة السابقة‬
‫َ‬ ‫عندما تبتس ُم‬
‫تكتب هذ ِه القصيدة‬
‫ُ‬ ‫وأنت‬
‫َ‬ ‫عندما تعتق ُد َ‬
‫أنك «بوكوفسيك»‬
‫عندها‬
‫يصبح بإمكانك التوقف عنِ الكتاب ِة‬
‫ُ‬
‫والذهاب ‪ -‬مثالً ‪ -‬إىل املطبخ‬
‫لتفتح الثالجة‬
‫َ‬
‫وترشب علبة برية باردة‬
‫َ‬
‫علبتان‬
‫‪229‬‬ ‫لدبأس‬
‫ًاضيأ يراكفأو ‪...‬ميدقلا يئاذح ‬

‫ثالثة‬
‫ديعس دمحم‬

‫وبإمكانك أيضاً‬
‫رأسك م َن النافذ ِة‬
‫َ‬ ‫تخرج‬
‫َ‬ ‫أ ْن‬
‫َ‬
‫صوتك ‪:‬‬ ‫وترصخ بأعىل‬
‫«أحياناً‪ ،‬حتى الكتاب الرديئون يقولون الحقيقة»‪.‬‬

‫لدي ما أفعله‬
‫َّ‬ ‫ليس‬

‫متاماً‬
‫مثل «فوريست غامب»‬
‫أنا ساذج وأبله أيها العامل‬
‫لدي ما أفعله‬
‫َّ‬ ‫ليس‬
‫التهم الكثري من الشوكوال‬
‫ٍ‬
‫جديد‬ ‫ريايض‬
‫ٍّ‬ ‫وأحلم بحذا ٍء‬
‫وامرأة جميلة ترصخ خلفي‬
‫أركض محمد‬
‫أركض‪.‬‬

‫أف ِّك ُر يف االنتحار‬

‫أف ِّك ُر يف االنتحا ِر بطريق ٍة سينامئي ٍة‬


‫أكتب رسالة طويلة‬
‫َ‬ ‫بع َد أ ْن‬
‫أض ِّمنها وصيتي‬
‫وديوين املستحقة‬
‫كأ ْن أمتد ُد عارياً يف البانيو‬
‫أدخ ُن سيجاريت األخرية‬
‫وأنا أستم ُع إىل موسيقى الجاز‬
‫ٍ‬
‫ومبرشط حا ٍد‬
‫أبدأ بـ قطعِ وريدي‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪230‬‬

‫ط دمايئ بـاملا ِء والصابونِ‬


‫لتختل َ‬
‫قبل أ ْن ينتهي «لويس آرمسرتونغ»‬
‫َ‬
‫من أغنيت ِه «‪»What A Wonderful World‬‬

‫أف ِّك ُر يف االنتحا ِر بـ طريق ٍة كالسيكي ٍة‬


‫كأ ْن أض َع املسدس عىل رأيس‬
‫وأضغ ُ‬
‫ط عىل الزناد‬
‫غارق يف بح ٍر م َن الديونِ‬
‫ٌ‬ ‫وأنا‬
‫أو أ ْن أتجر َع الس َّم‬
‫تتزوج حبيبتي‪.‬‬
‫َ‬ ‫بع َد أ ْن‬

‫أف ِّك ُر يف االنتحا ِر عىل طريق ِة العشاقِ‬


‫أقتل حبيبتي‬
‫بع َد أ ْن َ‬
‫وأحرقها عىل الطريق ِة الهندوسية‬
‫َ‬
‫أمسك مرشطاً حادا ً‬ ‫كأ ْن‬
‫وأبدأُ بتقطيعي إىل مالي ِ‬
‫ني القطعِ‬
‫ُ‬
‫أسأل ‪:‬‬ ‫وأنا‬
‫تحبني‬
‫ال تحبني‬
‫تحبني‬
‫ال تحبني‬
‫وهكذا‬

‫أف ِّك ُر يف االنتحا ِر عىل طريق ِة أفالمِ الكرتون‬


‫كأ ْن أمتد َد عىل سك ِة القطا ِر‬
‫بع َد أ ْن أك ِّبلني جيدا ً‬
‫عيني‬
‫َّ‬ ‫وأعصب‬
‫ُ‬
‫يفعل القط «توم»‬
‫ُ‬ ‫كام‬
‫وبع َد أ ْن مي ُّر القطار‬
‫‪231‬‬ ‫لدبأس‬
‫ًاضيأ يراكفأو ‪...‬ميدقلا يئاذح ‬

‫ِ‬
‫األرض‬ ‫وميسحني م َع‬
‫ديعس دمحم‬

‫قدمي‬
‫َّ‬ ‫أقف مجددا ً عىل‬
‫ُ‬
‫سليامً معاىف‬
‫ألميض ضاحكاً‬
‫عىل أنغامِ موسيقى النمر الوردي‪.‬‬

‫الرعب‬
‫ِ‬ ‫أف ِّك ُر يف االنتحا ِر عىل طريق ِة أفالمِ‬
‫كأ ْن أض َع قلبي عىل الطاول ِة‬
‫وأبدأ بـ التهام ِه‬
‫رت جميع أطرايف‪.‬‬
‫بع َد أ ْن أب َ‬

‫أف ِّك ُر يف االنتحا ِر بـ طريق ٍة الكرتوني ٍة‬


‫أتصفح بريدي االلكرتوين‬
‫َ‬ ‫بع َد أ ْن‬
‫وألغي حسايب عىل الـ فيسبوك‬
‫كأ ْن أرتدي حزاماً ناسفاً‬
‫داخل هذا النص‪.‬‬
‫َ‬ ‫وأفج َر نفيس‬

‫أنا الجزء املفقود من النص‬

‫يف القصيدة‬
‫أنا املقط ُع الذي تحذف ُه الرقابة‬
‫ألسباب أخالقية‬
‫ٍ‬

‫يف املباراة‬
‫أنا رضبة الجزاء الضائعة‬
‫يف الدقيق ِة األخري ِة‬

‫يف الفلمِ‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪232‬‬

‫البطل الذي ميوتُ‬


‫ُ‬ ‫أنا‬
‫ِ‬
‫املشهد األول‬ ‫م َن‬

‫يف الرسال ِة‬


‫أنا الجز ُء املفقو ُد م َن النص‬

‫يف الجريد ِة‬


‫أنا الضحية التي تتكر ُر يومياً‬
‫ِ‬
‫الحوادث‬ ‫يف صفح ِة‬

‫يف لعب ِة الشطرن ِج‬


‫امللك الذي ميوتُ رسيعاً‬‫ُ‬ ‫أنا‬
‫بدونِ خط ٍة محكم ٍة‬

‫يف سباقِ الخيو ِل‬


‫رس‬
‫أنا الحصا ُن الخا ُ‬
‫الذي ال يراه ُن علي ِه أحد‬

‫ِ‬
‫معرض الرسمِ‬ ‫يف‬
‫تلفت االنتبا َه‬
‫ُ‬ ‫أنا اللوح ُة التي ال‬
‫أو النظ ِر‬

‫ِ‬
‫البيت‬ ‫يف‬
‫أنا الصورة املمزقة‬
‫يف ألبومِ العائلة‬

‫يف الشار ِع‬


‫أنا عمو ُد اإلنارة املعطل‬

‫يف الحديق ِة‬


‫‪233‬‬ ‫لدبأس‬
‫ًاضيأ يراكفأو ‪...‬ميدقلا يئاذح ‬

‫أنا الشجرة الهرمة‬


‫ديعس دمحم‬

‫التي غادرتها العصافري‬

‫يف املقهى‬
‫أنا الطاولة القدمية‬
‫ِ‬
‫الجلوس عليها‬ ‫يهرب الروا ُد م َن‬
‫ُ‬ ‫التي‬

‫يف املدرس ِة‬


‫ُ‬
‫الكسول‬ ‫أنا الول ُد‬
‫يقف عىل قدمٍ واحد ٍة‬
‫الذي ُ‬
‫رافعاً يدي ِه‬
‫قرب سل ِة املهمالت‬
‫َ‬

‫يف الرسفيس‬
‫أنا األغني ُة الشعبي ُة‬
‫الركاب األكابر‬
‫ُ‬ ‫التي يشتمها‬

‫يف آخ ِر القصيد ِة‬


‫أنا القفل ُة الركيكة واملخيبة لآلمال‬

‫غمكني مراد‬
‫ُ‬
‫عزف وجعٍ للبقاء‬

‫صدأ العم ُر‬


‫َ‬
‫إسوار َة مصريٍ عىل جيّد الظرف‬
‫ٍ‬
‫وبعث ألمل‬ ‫خلي ُ‬
‫ط ُحطامٍ ألفقٍ‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪234‬‬

‫املستأنس بخراب ِه‪،‬‬


‫ِ‬ ‫يف هذا املكان‬
‫حيثام تح ُّ‬
‫ط قدميك‪،‬‬
‫تُ ِّهد للفنا ِء قدوم ُه‬
‫حيثام الغدُ‪ ،‬تنمو الوحش ُة‬
‫وحيثام النسيانُ‪ ،‬تكون ملها ُة هروب‬
‫الشمس أُفقها‬
‫ُ‬ ‫وحيثام تول ُّد كلاميت‪ ،‬تلع ُن‬
‫وتو ِّرث ظلّها ابتهاالتُ رجاء‬
‫وحيثام أتطه ُر من أميس‪،‬‬
‫أنىس أن ّني أل ُد‬
‫وحيثام ألدُ‪ ،‬أنىس أ َّن حبيبتي قصيدة‬
‫ت ُكتب بِ داد دخاين تحت املطر‬
‫والعم ُر ليس ّإل مصيدة حريق‪.‬‬
‫لتكن مشجباً يا دخانُ‪،‬‬
‫َ‬
‫بخفائك‬ ‫نعلِّق أمكنة أثرنا‬
‫ولتكن يا مط ُر طهاريت‬
‫الحب‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وألكن يف الضياع أبحثُ عن‬
‫ِ‬
‫عنك حبيبتي‪،‬‬ ‫وأبحث‬
‫ٍ‬
‫زخات‬ ‫وحيثام تكون يا مط ُر‬
‫أُ ِّ ُ‬
‫بص حبيبتي‬
‫خدي املوت‬
‫َّ‬ ‫بها‪ِ ،‬‬
‫بك‪ ،‬خجل ًة يتو َّر ُد‬
‫تحت ِدثار املوت‬
‫أتلف ُ‬
‫ظ بكلامت الهروب لبقايئ‬
‫أقصوصة لحظة‬
‫وأنحت يف الوجعِ ُ‬
‫ُ‬
‫‪                        ‬تتحجر يف يوم‪.‬‬
‫هادئاً كدخان‪:‬‬
‫تُز ِّملُني بعد الوحي‪ :‬كلم ٌة وورقة‬
‫وأجوب ساكناً مع أنفاس الخيال‬
‫ُ‬
‫‪             ‬أصقاع األمل يف العامل‪.‬‬
‫وحيثام أنتظر‬
‫‪235‬‬ ‫لدبأس‬
‫ًاضيأ يراكفأو ‪...‬ميدقلا يئاذح ‬

‫قدمي جم ُر رصخات‬
‫َّ‬ ‫موطئ‬
‫ُ‬
‫ديعس دمحم‬

‫وحيثام تكو ُن حبيبتي‬


‫فأجفل‪.‬‬
‫ْ‬ ‫تظلّلها غيم ٌة سوداء‪،‬‬
‫غريباً أغدو غريباً‪:‬‬
‫عن ساميئ‬
‫عن أريض‬
‫ِ‬
‫الحرف‬ ‫عن‬
‫يب الجدرا ُن إىل ذاك الغد‬
‫تجوب ّ‬
‫هازئ ًة بهاوية الدمار‪.‬‬
‫وحيثام يكو ُن الغد نفسهُ‪:‬‬
‫الخيم ُة ترقص‬
‫الثلج يرقص‬
‫ُ‬
‫واملوتُ يرقص‬
‫َ‬
‫إذنك يا موتُ‬ ‫وأنا بعد‬
‫‪                ‬ال أعيش بدون موسيقى‪.‬‬
‫ِ‬
‫إذنك يا طبيعة‬ ‫وأنا بعدد‬
‫‪                  ‬ال أعيش بدون موسيقى‪.‬‬
‫يف لجوء املوت‪ ،‬مع غضب الطبيعة‬
‫أبيك‬
‫وأنصت ودمعي‬
‫ُ‬
‫إىل لحنٍ من موسيقى ُحلمٍ ُج ْن‪.‬‬
‫أدب الرتاب‪،‬‬
‫وحيثام ُّ‬
‫يل رائح ُة الغبارِ‪ ،‬جنني الخراب‬
‫يل سام ُء املحنطني بركام الثلج‬
‫يل رعش ُة عا ٍر تخرتقه ش ُهب العاصفة‬
‫يل نفو ٌر من الكون يف لجوء أوالدي‬
‫حيثام ترقص روحي راحل ًة مع أروا ٍ‬
‫ح راحلة‬
‫أترن ُم ألحان الحال الوحيدة‬
‫ال جديد يف إنصايت‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪236‬‬

‫سمعي حزين‬
‫نظري مويت‬
‫ولحن الحال أملي‬
‫هادئاً‪ ،‬هادئاً‪ ،‬أبقى كضوء‬
‫جناحي الوقت‬
‫َّ‬ ‫أنتف‬
‫ُ‬
‫أكتب عىل بازلت الحياة‪:‬‬
‫ُ‬
‫شاهد َة طفلٍ ح َّول الرعش َة إىل رقص‬
‫أد ِّون بأصابعِ الحياء‬
‫يف هبوب الغضب‬
‫مع جراد املوت‬
‫‪                ‬كلامت خجيل‬
‫ِ‬
‫العزف‪ ،‬ويرتجمني‪.‬‬ ‫ُمنصتاً إىل لحنٍ يُرتجم حركات‬
‫وحيثام يُكبلني الصمت‪،‬‬
‫أبتهل إىل العدم إلهي‪:‬‬
‫ُ‬
‫ك ْن‪ ،‬إن كنت يوماً ِمظلة هدوء‬
‫ك ْن‪ ،‬إن كنت يوماً قبلة وجعٍ كره نفسه‬
‫ك ْن‪ ،‬إن كنت يوماً ناف َخ دف ٍء يف قيامة الثلج‬
‫ال ترتك األطفال دُمى‬
‫يف‬
‫الحب َّ‬
‫ّ‬ ‫‪               ‬فتقتل‬
‫بقي من إميانٍ ‪ ،‬رما َد نُكران‪.‬‬
‫وتذر ما َ‬
‫حيثام أنظر‪،‬‬
‫يب الذي ييل‬
‫يغد ُر َّ‬
‫وحيثام أنتظ ُر ما أريد‪،‬‬
‫يخطفني سهو الصورة‬
‫‪              ‬ألنىس ما أريد‪.‬‬
‫عقيامً من حياة أزين بها‬
‫الرجل‪ ،‬آهات الرب!‬
‫ُ‬ ‫فأل ُد أنا‬
‫وأنت حيثام تكون قيامتك‪،‬‬
‫َ‬
‫تعو ُد بدءا ً من دم‪ ،‬لكن ورد ًة حمراء!‬
‫‪237‬‬ ‫لدبأس‬
‫ًاضيأ يراكفأو ‪...‬ميدقلا يئاذح ‬

‫لله د ُّرك يا حالج‪ ،‬قدتنا‪ ،‬ورصخنا‪:‬‬


‫ديعس دمحم‬

‫«أتركونا يا ثقاتنا ففي دمنا حياة «‬


‫حيثام ت ُدار طواحني الجفاء‪،‬‬
‫ُمبعرث ًة‬
‫مفتت ًة‬
‫دامع ًة‬
‫تذبُل أحال ُم أطفال‪.‬‬
‫آ ٍه منك يا ُّ‬
‫حب‪،‬‬
‫َ‬
‫أكونك‬ ‫‪           ‬كيف‬
‫ووسا ُم القتل نيشا ٌن عىل صدر الخليقة؟‬
‫آ ٍه منك يا ُّ‬
‫حب‬
‫‪            ‬كيف ال أكونك‬
‫ويف الروح نفح ُة هبوبك تكتب هذه الكلامت‪.‬‬
‫ُمتمهالً تحت ث ُقل التنايس‬
‫أتدحرج قدمني تحت املطر‬
‫ُ‬
‫بصلع ٍة غادرها اإلحساس‬
‫أتدحرج بدون شجون‬
‫ُ‬
‫‪          ‬بدون طريق‬
‫أحف ُر يف الكلمة‬
‫أحف ُر يف الغيب‬
‫‪             ‬لوحة هذا البقاء‪.‬‬
‫الكل انتعل حذا ًء من جلد الطغيان‬
‫حيثام ُّ‬
‫أحل املعضلة؟‬
‫الرب‪ ،‬كيف ُّ‬
‫احتا َر ُّ‬
‫لنا الوحد ُة أرقاً من دم‬
‫لنا األنهر‪ ،‬الرتاب‪ ،‬البحار‪ ،‬الجدران‪....‬‬
‫تنتحب معنا وعلينا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫مرتوك ًة‬
‫موتاً لصدى الخوف يف خواء النجاة‪،‬‬
‫كل األمكنة تسكننا لكن كموت!‬
‫ُّ‬
‫عطوفاً بهوية وجع‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪238‬‬

‫‪               ‬هل للوجع هوية؟‬


‫ولدي فأنىس صدى املوت‬
‫َّ‬ ‫أحض ُن‬
‫وأنىس الخيام‬
‫وأنىس الثلج‬
‫وحني يهدأ صخبهم‬
‫ِ‬
‫الخوف‪ ،‬حرشج ًة لقاتلِ ُحلم‪.‬‬ ‫أسم ُع هسهسة‬
‫األفق مازال حولنا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫حيثام‬
‫‪                ‬يسرتنا أمل‬
‫وحني ال نرى فيه ظلّ ُه‬
‫الوصل‬
‫ُ‬ ‫يُنح ُر‬
‫ومتحو بنا األيام أسط َر العم ِر يف دفرت البقاء‪.‬‬
‫مل مت ّر السن ُة بخالصها ضوءا ً هناك‬
‫‪                     ‬حيث العامل يضاء!‬
‫ما دمنا نب ّد ُد العتمة‬
‫‪               ‬من وراء أفق خائنٍ يغتصبنا‬
‫ألكو َن رجالً حامالً!‬
‫‪      ‬جنيني كتل ٌة من‪:‬‬
‫أجم ِة دموع‬
‫بالون آهات‬
‫جبال جروح‬
‫فأيّ ُة يديّنٍ تسحبان ِه؟‬
‫ستنا؟‬
‫حبل ُ‬
‫مقص يقطع َ‬ ‫ٍ‬ ‫وأي‬
‫ُّ‬
‫حيثام أكتب‪،‬‬
‫أموتُ مرة‪ ...‬مرتني‪ ...‬عدة مرات‪...‬‬
‫أو أنتظر ُه ألكتبهُ!‬
‫ما أبخس النهار يف خوف‬
‫ما أبخس الليل دون حلم‬
‫وحيثام أدف ُن آخر كلم ٍة‬
‫أرس ُم يف الصمت كربياء البقاء‪.‬‬
‫‪239‬‬ ‫لدبأس‬
‫ًاضيأ يراكفأو ‪...‬ميدقلا يئاذح ‬

‫ُ‬
‫الحال هكذا‪:‬‬ ‫يب‬
‫وتدور ّ‬
‫ديعس دمحم‬

‫ُ‬
‫أسأل النوم‪ :‬كيف تأيت؟‬
‫ُ‬
‫يقول‪ :‬كموت!‬
‫ُ‬
‫أسأل الصباح‪ :‬كيف تلج؟‬
‫ٍ‬
‫كموت أيضاً!‬ ‫ُ‬
‫يقول‪:‬‬
‫ِ‬
‫إليك؟‬ ‫أسأل النجمة‪ :‬كيف ت ُحسني حني يُنظَ ُر‬
‫ُ‬
‫حب ينزف!‬
‫ألبس السوا َد عىل ٍّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تقول‪:‬‬
‫متأمالً ككاتب‪،‬‬
‫أنتظ ُر ما يأيت‬
‫ما أريد ُه‬
‫وما ال أدركهُ‪،‬‬
‫فتغتالُني الصور‬
‫من اللجوء البعيد‬
‫من اللجوء القريب‬
‫من البقا ِء‬
‫من الرحيل‬
‫من الداخل‬
‫من الخارج‬
‫من البحر‬
‫من القهر‬
‫كلها تتفيأ القرب‬
‫ِ‬
‫الرقص مع الخواء يف ُعري الحياء‪.‬‬ ‫عرب‬
‫ناسياً ّ‬
‫كل هذا الوجع‬
‫الحب‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يعيشني‬
‫فأرصخ‪:‬‬
‫يل حبيبتي‬
‫الكو ُن حبيبتي‬
‫الكل حبيبتي‪...‬‬
‫ُّ‬
‫هامساً لدفء الغرفة‪:‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪240‬‬

‫بهدب َ‬
‫نارك وجالً لعدمك‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫أنخ‬
‫هامساً لسيجاريت‪:‬‬
‫احرتقي دون ضجيج‪،‬‬
‫ِ‬
‫أفهمك‬
‫ِ‬
‫أعيشك‬
‫ِ‬
‫أكتبك‬ ‫ثم‬
‫ِ‬
‫دخانك‪:‬‬ ‫وأكتب ترجمة ال َنفس يف‬
‫ُ‬

‫أولُها‪:‬‬
‫آهاتُ أطفا ٍل‬
‫تحت خيم ٍة راقصة‬
‫عىل ألحانِ أوبرا العاصفة‪.‬‬
‫ثانيها‪:‬‬
‫رش وتُ حى بدمعٍ جاف‪،‬‬
‫أوج ٌه تتق ُ‬
‫تتقاتل للرحيلِ بدون جواز سفر‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وأصاب َع‬
‫آخرها‪:‬‬
‫ِ‬
‫رمادك جسدي‪.‬‬
‫ُمنتشياً كعاشقٍ ‪،‬‬
‫أصمت‬
‫أقرأُ الوج َع قصيدة‬
‫أقرأ املوتَ قصيدة‬
‫ُ‬
‫األحرف ال تد َّو ُن ّإل يف أيام‪،‬‬ ‫حيثام‬
‫ح فيها‬
‫وما يبقى انسال ُخ الرو ِ‬
‫وفُتاتُ الجسد عىل سطورها‬
‫مسكوب ًة حربا ً لرؤيتها قصيدة‪.‬‬
‫أقف عىل منص ِة الصف‬
‫وحيثام ُ‬
‫تاركاً وراء الباب ّ‬
‫كل يشء‬
‫خ ُمد ِّر ٍ‬
‫س‬ ‫واقفاً بشمو ِ‬
‫أُسأل‪:‬‬
‫‪241‬‬ ‫لدبأس‬
‫ًاضيأ يراكفأو ‪...‬ميدقلا يئاذح ‬

‫ُ‬
‫تفارق املوت؟‬ ‫متى‬
‫ديعس دمحم‬

‫حني أح ِّول الكيمياء إىل ثرثرة!‬


‫متى تنىس املوت؟‬
‫رغيف خبز!‬
‫َ‬ ‫حني أعج ُن الفيزياء‬
‫تعيش الغد؟‬
‫ُ‬ ‫متى‬
‫ٍ‬
‫مقعد يتحمل قصور طالب!‬ ‫أزعق كاملجنون عىل‬
‫حني ُ‬
‫أين تكون بعد ذلك؟‬
‫يف القبو ِر أُكلِّم املوىت بلسانهم‪.‬‬
‫وإن أحسست بالحياة كيف متيض؟‬
‫أل ُد من نفيس ذايت‬
‫وأخلق يف الفرا ِغ مراسي َم تتويجي ملِكاً عىل جامد‬
‫ُ‬
‫ري‪ ،‬أنىس الخراب‬
‫وحيثام أس ُ‬
‫وحيثام الخراب‪ ،‬أنىس الجوع‬
‫الحب‬
‫ّ‬ ‫وحيثام الجوع‪ ،‬أنىس‬
‫الحب‪ ،‬أل ُد من جديد‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫وحيثام‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪242‬‬

‫عبد الكريم بدرخان‬

‫اتجاهات يف الشعر السوري بعد الثورة‬

‫سلطة النموذج الحداثي‬


‫مل يكــن الزمـ ُن الــذي نشــأ فيــه شــعر الحداثــة العــريب‪ ،‬وتطـ َّور فيــه بالتفاعــل مــع‬
‫األحــداث املحليــة واإلقليميــة والدوليــة؛ زمنـاً عاديـاً‪ ،‬فهــو زمـ ُن التح ّرر من االســتعامر‬
‫الغريب ودخول الدول العربية يف طور االســتقالل‪ ،‬وهو زمن التح ّرر من االســتغالل‬
‫االقتصــادي والتخلّــف االجتامعــي‪ ،‬وانطــاق العمــل الســيايس والثقــايف ووســائل‬
‫الحساس جدا ً بني نكبة فلسطني ‪ 1948‬ونكسة العرب ‪.1967‬‬
‫ّ‬ ‫اإلعالم‪ ،‬وهو الزمن‬
‫ـت هــذه الظــروف التاريخيــة دورا ً يف أ ْن يأخــذ شــعر الحداثــة خصوصيّ ـ ًة‬
‫وقــد لعبـ ْ‬
‫زمن ّيــة‪ ،‬هــي خصوص ّيــة األصــل‪ ،‬أو النمــوذج األ ّول‪ ،‬أو املثــال األكمــل‪ .‬وبالتــايل مل‬
‫تع ْد عالقة الشــعر العريب اليوم مع الشــعر العريب إبّ ــان النكســة؛ عالق ًة بني فرتتني‬
‫ٍ‬ ‫زمنيتــن عاديتــن‪ ،‬بــل هــي عالقـ ٌة بــن منــوذج الحداثــة األكمــل‪ ،‬ومحـ‬
‫ـاوالت شــعرية‬
‫تســعى اليــوم للوصــول إليــه‪ ،‬وهنــا دخلنــا – ُمســبقاً ‪ -‬يف تقييــم األح ـدَث مبعيــار‬
‫األقـدَم‪ ،‬بــدالً مــن تقييــم الشــعر األقـدَم مبعيــار الشــعر والنقــد األح َدثــن‪.‬‬

‫أســس وعي ـاً وطني ـاً وقومي ـاً جديــدا ً‪،‬‬ ‫كانــت نكســة حزيــران مبثابــة الزلــزال الــذي َّ‬
‫ـيس لشــع ٍر جديـ ٍـد ُس ـ ّم َي «شــعر القض ّيــة»‪ ،‬وللربيــع العــريب اليــوم آثــا ُره‬
‫رافقــه تأسـ ٌ‬
‫األكـرَ زلزلـ ًة للوعــي أيضـاً‪ ،‬ومــن املفــروض أ ْن ّ‬
‫يؤســس لشــع ٍر وشــعراء ُجــدد‪ ،‬دون أ ْن‬
‫نضــع «شــعر القضيــة» أو «شــعراء القضيــة» يف مرتبــة النمــوذج األكمــل‪ ،‬فعــى هــذا‬
‫‪243‬‬ ‫روثلا دعب يروسلا رعشلا يف تاهاجتا‬

‫«الشــعر املثــال» مآخ ـ ُذ وانتقــاداتٌ رافقتْــه منــذ نشــأته‪ ،‬لك ـ ّن الظــرف الســيايس – آنــذاك ‪ -‬رف َع ـهُ‪،‬‬
‫ناخردب ميركلا دبع‬

‫وأغفـ َـل منتقديــه‪ ،‬ومنهــم أدونيــس الــذي مل يُخـ ِ‬


‫ـف رأيــه يف شــعر األرض املحتلّــة وشــعرائها‪ ،‬قائ ـاً‪:‬‬
‫«إن هــذا الشــعر يجــري ضمــن األطُــر املوروثــة‪ ،‬وإنــه خــارج الثــورة ألنــه يعت ُ‬
‫ربهــا حدث ـاً خارجي ـاً قاب ـاً‬
‫للوصــف والهتــاف والغنــاء‪ ،‬وهــو مشـبَ ٌع بــروح املبالغــة‪ ،‬واملبالغــة تفـ ّرغ الوعــي وتجعلــه خاويـاً‪ ،‬وهــو‬
‫ـتوى للغنائيــة»‪]1[.‬‬
‫يئ بأبســط مسـ ً‬
‫نتــاج غنــا ّ‬

‫العوامل التي تحدّد االتجاهات الشعرية‬


‫كيف يحدّد الشاعر موقفه األسلويب؟ فيكون شاعرا ً كالسيكياً أو محافظاً أو مجدّدا ً أو متمردا ً‪،‬‬
‫كيــف يبنــي موقفــه الســيايس؟ وهــل لأليديولوجيــا يـ ٌد بذلــك؟ أم أ ّن تأييــده لألنظمــة أو للثــورات صــا َر‬
‫خارجـاً عــن األطُــر األيديولوجيــة؟ وهــل تتحـدّد عالقتــه باملــكان ‪ -‬الوطــن وفـ َـق بيئتــه التــي نشــأ فيهــا؟!‬
‫يث يــرى الفــردوس يف املســتقبل؟ أم عــى أسـ ٍ‬
‫ـاس‬ ‫وهــل يتب ّنــى موقفــه مــن الزمــان عــى أسـ ٍ‬
‫ـاس حــدا ّ‬
‫ـلفي يــرى الفــردوس يف املــايض؟!‬
‫سـ ّ‬
‫أعتقــد أن للنشــأة الثقافيــة دورا ً يف تحديــد االتجــاه األســلويب‪ ،‬حيــث يختلــف أســلوب الشــاعر‬
‫املتع ّمــق يف الــراث عــن أســلوب الشــاعر املتأثّــر بــاألدب العاملــي‪ .‬كــا تلعــب وســائل اإلعــام دورا ً‬
‫يف تشــكيل الوعــي الســيايس‪ ،‬وتحديــد موقــف الشــاعر مــن أحــداث العــامل‪ .‬وقــد يكــون للبيئــة –‬
‫البيــت ‪ -‬الطفولــة دو ٌر يف تحديــد موقفــه مــن املــكان‪ ،‬ويكــون لتكوينــه الســيكولوجي دو ٌر يف قدرتــه‬
‫عــى التمـ ّرد الشــعري أو البقــاء ضمــن ال ــتقليد‪.‬‬

‫ســأحاول يف هــذه الدراســة‪ ،‬إضــاءة بعــض االتجاهــات الشــعرية‪ ،‬يف الشــعر الســوري بعــد ‪15‬‬
‫ـباب (دون األربعــن عامـاً) موضوعـاً للدراســة‪،‬‬
‫آذار‪/‬مــارس ‪ ،2011‬وقــد اخــرتُ نصوصـاً لشــعراء شـ ٍ‬
‫ـب‪.‬‬
‫التــي ســتكون ضمــن ثالثــة محــاور‪ :‬املوقــف مــن الزمــان‪ ،‬املوقــف مــن املــكان‪ ،‬املوقــف مــن الحـ ّ‬

‫أوالً‪ :‬املوقف من الزمان‬


‫«الزمــان هــو األفــق الــذي نطـ ُّـل منــه عــى مســألة الوجــود»‪ ،‬تكفــي هــذه العبــارة لهيدغــر ملعرفــة‬
‫أهمية الزمان يف تيارات األدب الحديث‪ ،‬فالزمان – عنده ‪ -‬ليس مج ّرد امتداد أفقي‪ ،‬بل هو حرك ٌة‬
‫كل وجــود هــو إمكانيـ ٌة تنتظــر التحقيــق[‪ .]2‬ويــرى برغســون أ ّن‬
‫دؤوبـ ٌة نحــو املســتقبل‪ ،‬مــن حيــث أ ّن ّ‬
‫ِ‬
‫باللحظات‬ ‫الزمن تجرب ٌة نوعيّة ال كميّة‪ ،‬حني يكون ُمسقطاً عىل املكان أو املسافة‪ ،‬فهو ال يُستعا ُد‬
‫التــي عاشــها املــرء‪ ،‬بــل بالروابــط التــي تصــل بــن هــذه اللحظــات[‪.]3‬‬

‫يتضّ ــح مــن بعــض نصــوص الشــعر الســوري بعــد ‪ 15‬آذار ‪ ،2011‬أ ّن موقــف الشــاعر مــن الزمــان‬
‫يتش ـكّل ضم ـ َن موقفــه مــن ثالثــة أزمنــة؛ األول‪ :‬هــو الزمــن املــايض الــذي يأخ ـ ُذ صــور َة الحنــن إىل‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪244‬‬

‫الطفولة‪ ،‬والثاين هو الزم ُن املستقبل الذي يأخذ صور َة االنبعاث‪ ،‬والثالث هو الزمن امليتافيزيقي‪،‬‬
‫أي الزمــن الــذي يســر خــارج دورة الفصــول وتعاقــب الليــل والنهــار‪ ،‬فهــو زمـ ٌن يطفــو فــوق الزمــن‪ ،‬وهــو‬
‫يف الوقــت نفســه ليــس زمنـاً منعدمـاً‪ ،‬إذ هــو زمـ ٌن متخيَّـ ٌـل شــعرياً‪.‬‬

‫يأخــذ الزمــن املــايض صــورة الطفولــة البيضــاء النقيــة‪ ،‬حــن كان الشــاعر واحــدا ً مــن مفــردات‬
‫الطبيعــة‪ ،‬فيلــو ُذ بــه هارب ـاً مــن الحــارض الثقيــل‪ ،‬يقــول مح ــمد طــه العثــان‪:‬‬

‫الليل» [‪]4‬‬
‫ُ‬ ‫الطفل كفراش ٍة يعدو بها‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫لفيضك أيها‬ ‫« ُع ْد يب‬

‫ـر عــى األيــام الخــوايل‪ ،‬كقــول‬


‫ويأخــذ الزمــن املــايض صــورة الحنــن إىل فــرة الشــباب‪ ،‬والتحـ ّ‬
‫عمــر يوســف ســليامن‪:‬‬

‫ب‬
‫«وكا َن لنا زم ٌن ط ّي ُ‬
‫الرشاب رفيقاً‬
‫ِ‬ ‫كؤوس‬
‫ُ‬ ‫وكانت‬
‫ْ‬

‫أقرب» [‪]5‬‬
‫ُ‬ ‫ولك ّنها‬

‫بينــا يأخــذ الزمــن املســتقبل؛ صــورة العنقــاء املنبعثــة مــن الرمــاد‪ ،‬وتكــون ل ـ ُه دالالتُ االنتصــار‬
‫الحتمي للشــعب عىل الطغيان‪ ،‬لك ْن يُ ــؤخذ عىل هذا التفاؤل كونه عاطفياً‪ ،‬أو أســطورياً ‪ -‬مت ّوزياً‪،‬‬
‫كقــول عمــر يوســف ســليامن‪:‬‬

‫سيصل البد ُر يك ييض َء حجارة الشوار ْع‬


‫ُ‬ ‫«ليل ًة ما‬

‫شكل وجو ِه آبائنا‬


‫َ‬ ‫سندرك أ ّن للحجار ِة‬
‫ُ‬

‫وسوف نكو ُن جسورا ً‬

‫الشمس» [‪]6‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫أطفال آذار إىل عسلِ‬ ‫ربها‬
‫يع ُ‬
‫ويف النظــرة األســطورية ‪ -‬التموزيــة نحــو املســتقبل‪ ،‬يصبــح الزمـ ُن دائريـاً‪ ،‬فالربيــع قــاد ٌم حتـاً بعد‬
‫الشــتاء‪ ،‬والعنقــاء ســتنبعث ال محالــة مــن الرمــاد‪ ،‬فــا تعــود للمســتقبل حريـ ُة االنعتــاق من املايض‪،‬‬
‫ر ماضيـاً يف والد ٍة جديــدة‪ ،‬وضمــن هــذه النظــرة يقــول حســن ابراهيم الحســن‪:‬‬ ‫إذ يصـ ُ‬
‫«ال بُـ َّد من نريو َن يك نصحو‪،‬‬

‫إذنْ‪،‬‬

‫ال بُـ َّد من نا ٍر لينت َ‬


‫رص الرمادُ» [‪]7‬‬

‫فتضيق مساحته بني ثنائية الحنني إىل املايض والتطلُّع نحو املستقبل‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أما الزمن امليتافيزيقي‬
‫‪245‬‬ ‫روثلا دعب يروسلا رعشلا يف تاهاجتا‬

‫كــا أن للمــوروث الشــعري العــريب دورا ً يف ذلــك‪ ،‬فهــو يضيــق بالزمــن ال ـ ُمتخ َّيل‪ ،‬بعكــس املــوروث‬
‫ناخردب ميركلا دبع‬

‫نصه بالرسد‪،‬‬
‫النرثي العريب الحافل بالرسديّات الخارجة عن قانون الزمن‪ .‬ولذا نرى الشــاعر يط ّع ُم ّ‬
‫ليتحـ ّرر مــن قيــود الزمــن‪ ،‬ويدخــل يف زمنــه املتخ ّيــل‪ ،‬كقول متام التالوي‪:‬‬

‫«تقول الحكاي ُة‬


‫ُ‬

‫ِ‬
‫الرشفات‬ ‫إ َّن النسا َء انهمر َن من‬

‫وإ َّن املدين َة مل ُ‬


‫ينج منها أح ْد‬

‫رس الظهري ِة‬


‫بىك صاحبي فوق ج ِ‬

‫لـ ّمـا رأى جثّتي‬

‫وهي تطفو عىل بردى كالزبدْ» [‪]8‬‬

‫ومبــا أ ّن املــوت هــو النقطــة التــي ينتهــي عندهــا ميــدا ُن املعرفــة‪ ،‬ويبــدأ ِمـ ْـن بعدهــا فضــا ُء‬
‫ـارج زمننــا‪ ،‬ويصبــح التواصـ ُـل معهــم وانتظــا ُر بعثهــم‪ ،‬تشــكيالً‬
‫امليتافيزيقــا‪ ،‬يدخـ ُـل األمــواتُ يف زمــنٍ خـ َ‬
‫لزمــنٍ ميتافيزيقــي ُمتخ َّيــل‪ ،‬تقــول بســمة شــيخو‪:‬‬

‫«أول ُّف املذيا َع عىل تردُّد القيامة‬

‫فه ْم ينتظرو َن إعال َن بعثهم‪،‬‬

‫ح مشاكس ٍة‬
‫ألهو قليالً مع أروا ٍ‬

‫ُرات زجاجي ٍة‬


‫بك ٍ‬

‫كانت تنـبِّـئُهم يوماً‪ ،‬مباضيهم اآليت»‪]9[ .‬‬


‫ْ‬

‫ثانياً‪ :‬املوقف من املكان‬


‫يعتــر املــكان عنــرا ً أساســياً مــن عنــارص تشــكيل الفضــاء الشــعري‪ ،‬والفضــا ُء غالبـاً أوســع مــن‬
‫ـي وداليل ومنظــوري‪ .‬ومبــا أن اله ـ ّم الشــاغل للشــاعر اليــوم هــو‬
‫املــكان‪ ،‬فهــو فضــا ٌء جغــرايف ونـ ّ‬
‫ح للحــدث الشــعري‪ ،‬بــل هــو البحـ ُر الــذي تُفــي‬
‫بلــده ســوريا‪ ،‬ال يغــدو املــكان ‪ -‬الوطــن مجـ َّرد مــر ٍ‬
‫كل خيــوط القصيــدة‪ .‬وهكــذا يتحـدّد موقــف الشــاعر مــن املــكان تبعـاً ملوقفــه مــن ثالثــة أمكنــة؛‬
‫إليــه ُّ‬
‫األول‪ :‬املــكان الغائــب‪ ،‬وهــو ســوريا قبــل الثــورة‪ ،‬ويأخــذ صــورة الفــردوس املفقــود‪ .‬والثــاين‪ :‬املــكان‬
‫الحــارض‪ ،‬وهــو ســوريا اليــوم ومــا تتعـ ّرض لــه مــن تدمـرٍ وويــات‪ ،‬ويأخــذ صــورة الجحيــم‪ .‬والثالــث هــو‬
‫املــكان الرؤيــوي‪ ،‬الــذي يجنــح إليــه الشــاعر هربـاً مــن ســطو ِة املكانــن األ َّولــن‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪246‬‬

‫ال يكــون للمــكان الغائــب صــور ُة الفــردوس املفقــود لكونــه غائبـاً فحســب‪ ،‬بــل الرتباطــه بعالقـ ٍ‬
‫ـات‬
‫زمانيــة واجتامعيــة وثقافيــة تشـك ُّل هويتــه‪ ،‬وملكانتــه يف ذاكــرة الشــاعر وأبعادهــا الســيكولوجية‪ ،‬يقــول‬
‫متــام التــاوي عــن فردوســه املفقــود‪:‬‬

‫كوصف للمج ّر ِة‬


‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫«وأقول سوريّـا‪...‬‬

‫كاسـمٍ للبالد‪ ،‬وال كنصلٍ غا َر فينا‬


‫ليس ْ‬
‫َ‬
‫لست أعنيها متاماً‬
‫ُ‬ ‫ين‬ ‫ُ‬
‫وأقول سوريّـا‪ ...‬كأ ْ‬
‫ِ‬
‫الرموش‪]10[ »...‬‬ ‫بل أشبّ ُه باسمها قطْ َر الندى َ‬
‫فوق‬

‫بينــا يأخــذ املــكا ُن الحــارض صــور َة الجحيــم‪ ،‬كقــول عــاد الديــن مــوىس «املدينـ ُة تســتوي عــى‬
‫نــا ٍر هادئــة»[‪ ،]11‬وال يكــون للمــكان الحــارض (الجحيــم) فجاعتــه املؤملــة‪ ،‬إال بكــون املــكان الغائــب‬
‫(الفــردوس املفقــود) حــارضا ً يف البُنيــة العميقــة للنـ ّ‬
‫ـص‪ ،‬فهــو مبثابــة العــدم الــذي يأخــذ منــه الوجــود‬
‫وجــوده‪ ،‬وتبلــغ املأســاة ذروتهــا عنــد التقــاء املكانــن‪ ،‬يقــول متــام التــاوي‪:‬‬

‫أندلس تت ّو ُج خطويت ّإل وأحرقها التتا ْر‬


‫ٌ‬ ‫تبق‬
‫«مل َ‬

‫رب أحف ُر فيه قربي بني درعا والقصيد ِة‬


‫ال ق َ‬
‫ٍ‬
‫حمص والحصا ْر» [‪]12‬‬ ‫بني‬

‫وعندما يطغى الجحيم عىل مفردات الحياة‪ ،‬ويصبح األحيا ُء موىت‪ ،‬يُعطي الشاعر بُعدا ً متوزياً‬
‫خالصه الوحيد من العامل السفيل‪ ،‬يقول حكمة شايف األسعد‪:‬‬
‫َ‬ ‫لهذا الجحيم‪ ،‬وتصبح عشتار‬

‫ّست هوا ًء نقياً‬ ‫ِ‬


‫إليك‪ ...‬تنف ُ‬ ‫اشتقت‬
‫ُ‬ ‫«حني‬

‫ثل جة املوىت» [‪]13‬‬


‫لست يف ّ‬
‫ُ‬ ‫وكأنني‬

‫ومع الدخول أكرثَ يف األسطورة والرؤيا الشعرية‪ ،‬ينتقل الشاعر إىل املكان الرؤيوي املتح ّرر من‬
‫قيــود الواقــع وتقســيامته‪ ،‬فبــدالً مــن التغ ّنــي بجامل ّيــة املــكان الغائــب‪ ،‬أو البــكاء عــى أطــال املــكان‬
‫الحــارض‪ ،‬ينطلـ ُـق الخيــال الشــعري محلّقـاً يف املــكان الرؤيــوي‪ ،‬وكأ ّن نب ّيـاً يضيـ ُـف ِ‬
‫ســفرا ً جديــدا ً عــى‬
‫أســفار الرؤيا‪ ،‬يقول حســن ابراهيم الحســن‪:‬‬

‫«إين أرى شجرا ً يس ُ‬


‫ري‬

‫يزحف‬
‫ُ‬ ‫وراء ُه الطوفان‬

‫األبواب يك تنجو قليالً‬


‫َ‬ ‫والقال ُع تغـلِّ ُـق‬
‫‪247‬‬ ‫روثلا دعب يروسلا رعشلا يف تاهاجتا‬

‫ُ‬
‫تفتك – إذ تجو ُع ‪ -‬بساكنيها» [‪]14‬‬ ‫ث ّم‬
‫ناخردب ميركلا دبع‬

‫وأظـ ُّن أن النــاذج الشــعرية التــي قرأتهــا؛ فقــر ٌة بالرؤيــا الشــعرية نوعـاً مــا‪ ،‬وأر ّ‬
‫جـ ُـح أ ّن ذلــك عائـ ٌد‬
‫إىل الظــروف الحياتيــة الصعبــة التــي يعيشــها الشــاعر الســوري‪ ،‬حيــث أ ّن ضغــوط الحيــاة واملــآيس‬
‫ـص‪ ،‬لكننــا نــادرا ً مــا نج ـ ُد‬
‫اليوميــة أفقــرتْ خيالــه الشــعري‪ ،‬ولذلــك نج ـ ُد توظيف ـاً لألســطورة يف النـ ّ‬
‫ج لتوظيــف األســطورة‪ ،‬يقــول حســن ابراهيــم الحســن‪:‬‬
‫أس ـطَر ًة للواقــع‪ ،‬وكنمــوذ ٍ‬
‫ْ‬
‫نوح؟‬
‫«طوفا ُن ْ‬
‫السفوح؟!‬
‫ْ‬ ‫أم أن ُه الربكا ُن يلته ُم‬
‫نفسها من ِ‬
‫نفسها‬ ‫األرض تخل ُع َ‬
‫ُ‬

‫الجموح» [‪]15‬‬
‫ْ‬ ‫يك ترتدي املا َء‬

‫ثالثاً‪ :‬املوقف من الحب‬


‫ـوق هــذه العبــارة لجــورج باتــاي‪ ،‬قاصــدا ً إننــا مــا‬
‫«يكمــن جوهــر البرشيــة يف الجنســانية»[‪ ]16‬أسـ ُ‬
‫ـب والجنــس‪ .‬صحيـ ٌـح أ ّن النظرية‬
‫زلنــا نعيــش يف عــر فرويــد‪ ،‬أي يف عــر تحطيــم الحواجــز بــن الحـ ّ‬
‫ـت للنقــد علميـاً وطبيـاً‪ ،‬إال أ ّن « ُحـ ّم ــى األرشــيف الفرويــدي» – والتعبــر لدريــدا ‪ -‬مــا‬
‫الفروديــة تع ّرضـ ْ‬
‫ـت ت ُهيمــن عــى النتــاج األديب والفنــي‪ ،‬والدراســات الجنســانية والســيميولوجية إىل اليــوم‪.‬‬
‫زالـ ْ‬

‫ـب؟ هــل اعتــره أمــرا ً ثانويـاً باملقارنــة مــع الحــدث األهـ ّم ‪-‬‬
‫ـب الشــاعر الســوري عــن الحـ ّ‬
‫كيــف كتـ َ‬
‫ـب الوطــن؟ أم رغبـ ًة مســتقلّة بذاتهــا؟ هــل توجــد ثــورة جنســية؟!‬
‫ـب جــزءا ً مــن حـ ّ‬
‫الثــورة؟ هــل كان الحـ ّ‬
‫ر ثالثــة اتجاهــات؛‬
‫ـب – يف النــاذج التــي قرأتُهــا ‪ -‬عـ َ‬
‫يتحـدّد موقــف الشــاعر الســوري مــن الحـ ّ‬
‫ـب بدي ـاً عــن الوطــن‪ ،‬ويف االتجــاه‬
‫األول هــو ثنائيــة املــرأة ‪ -‬الوطــن‪ ،‬أمــا االتجــاه الثــاين فــرى الحـ َّ‬
‫ـهى‪.‬‬
‫ـب والجنــس ُمنطَلق ـاً‪ ،‬وبــن الجنــس واملــوت ُمـنـتَ ـ ً‬
‫الثالــث تظهــر الجنســانية مو ّحــد ًة بــن الحـ ّ‬
‫ـرض اتجاه ـاً شــعرياً‬
‫لقــد كان لســلطة منــوذج «شــعر القضيــة» التــي ذكرتُهــا يف البدايــة‪ ،‬أ ْن تفـ َ‬
‫ُمت ِّمـاً ملــا ســا َد يف الســتينات والســبعينات مــن الج ْمــع بــن املــرأة والوطــن شــعرياً‪ ،‬وكان مقيـ ُ‬
‫ـاس‬
‫يصعب فيه الفصل أو التمييز بينهام‬
‫ُ‬ ‫عمق التامهي بني املرأة والوطن‪ ،‬بشكلٍ‬ ‫الشعرية – آنذاك ‪َ -‬‬
‫عنــد املتل ّقــي‪ .‬وأعتقــد أ ّن لثنائيــة املــرأة ‪ -‬الوطــن جــذورا ً متت ـ ُّد إىل األســطورية الزراعيــة‪ ،‬ومــا زالـ ْ‬
‫ـت‬
‫ـص وآخــر‪ ،‬يقــول حســن ابراهيــم الحســن‪:‬‬
‫ـض دالالتهــا الزراعيــة تطفــو بــن نـ ٍّ‬
‫بعـ ُ‬
‫ِ‬
‫«ليديك رائح ُة البال ِد‬

‫وقهو ُة البد ِو‬


‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪248‬‬

‫احضنيني‪...‬‬
‫ْ‬
‫ِ‬
‫ليديك رائح ُة البياد ِر‬

‫صاخب جدا ً» [‪]17‬‬


‫ٌ‬ ‫منل ٌة جوعي‪ ،‬وقم ُح ِ‬
‫ك‬

‫شكل النساء‪ ،‬كفلسطني عند محمود درويش‪ ،‬ودمشق عند نزار قباين‪،‬‬
‫َ‬ ‫وهكذا تأخ ُذ البلدا ُن‬
‫ويف هذا السياق يقول عمر يوسف سليامن‪:‬‬

‫عرك يا اِبن َة الشعرا ِء‬


‫ط شَ ِ‬
‫«أمشّ ُ‬

‫ويا طفل ًة شاعر ْة‬

‫حمص‬
‫ُ‬ ‫ط شَ ِ‬
‫عرك يا‬ ‫أمشّ ُ‬

‫يا امرأ ًة يف الثالثني‬

‫لك ّن ضحكتها البن ِة العارشةْ» [‪]18‬‬

‫ـب يف االتجــاه الثــاين كبديــلٍ عــن الوطــن الضائــع‪ ،‬وكصناعـ ٍة للحيــاة يف مواجهــة‬
‫بينــا يظهــر الحـ ّ‬
‫ـب والجنــس يف ظــروف الحــرب‪ ،‬كاســتجاب ٍة ســيكولوجية لغريــزة‬ ‫املــوت‪ ،‬وعــاد ًة مــا تــزدا ُد الرغبــة بالحـ ّ‬
‫ـب فضــا ًء مكانيـاً وزمانيـاً ودالليـاً ملجمــل مفــردات الحيــاة‪ .‬تقــول وداد نبــي‪:‬‬
‫ـب البقــاء‪ ،‬فيغــدو الحـ ّ‬
‫حـ ّ‬
‫«الليل َة أنا نازح ٌة‬

‫من شام ِل مدين ٍة صارتْ خراباً‬

‫َ‬
‫قلبك مبارش ًة‬ ‫باتجا ِه‬

‫ال أري ُد خيم ًة للنازحني‬

‫وال ملجأً يحميني من القصف‬

‫حص ًة غذائي ًة بائس ًة تصلُني بعد طول انتظار‬


‫وال ّ‬
‫حصتي من هوا ِء رئتيك» [‪]19‬‬
‫فقط أري ُد ّ‬
‫يف االتجــاه الثالــث الــذي أســميتُه «الجنســاين»‪ ،‬وهــو يف األصـ ّـح االتجــا ُه املتأثــر بــآراء فرويــد‬
‫ـب الكــون وقــوى الوعــي واهتـ ِ‬
‫ـزازات الشــعور‪ ،‬وتغــدو‬ ‫ـب الجســدي عجائـ َ‬ ‫ر الحـ ُّ‬
‫وفوكــو وباتــاي‪ ،‬يختـ ُ‬
‫ـب حال ـ ًة مــن املــوت والبعــث‪ ،‬أو هــي معامل ـ ٌة مــع املــوت مــن ع ـ ّد ِة أو ُ‬
‫جــه‪ :‬التزيّـ ِـي‬ ‫مامرس ـ ُة الحـ ّ‬
‫باملــوت ‪ -‬االنتقــام مــن املــوت ‪ -‬االتحــاد مــع املــوت ‪ -‬االنفصــال عــن املــوت‪ ،‬وهــو مــا عـ ّـر عنــه باتــاي‬
‫ـكل منهــا يحمــل معنــى‬ ‫ـس واملــوتُ لحظتــانِ حادثتــانِ لعيـ ٍـد تحتفــل فيــه الطبيعــة‪ ،‬فـ ٌّ‬
‫بقولــه «الجنـ ُ‬
‫‪249‬‬ ‫روثلا دعب يروسلا رعشلا يف تاهاجتا‬

‫الهــدر الالمحــدود»[‪ .]20‬ومــن النصــوص النــادرة املحتفيــة بالجنــس فيــا قــرأت‪،‬‬


‫ناخردب ميركلا دبع‬

‫والتــي تربطُــه باملــوت‪ ،‬ثــم تو ّح ـ ُد بينهــا بعمــقٍ ســيكولوجي‪ ،‬أختــا ُر هــذا املقطــع ل ـ‬
‫متــام التــاوي‪:‬‬

‫ُ‬
‫أعرف‪...‬‬ ‫ني‪...‬‬
‫«تنام َ‬
‫ني‬ ‫ِ‬
‫وأنت تنام َ‬ ‫م َّر الطغا ُة أمامي‬
‫ِ‬
‫عرسك‬ ‫كنت أم ّز ُق فستا َن‬
‫ُ‬
‫كان الشتا ُء قوياً قوياً‬

‫يتدحرج‬
‫ُ‬ ‫وصوتُ الرعو ِد كصخ ٍر عظيمٍ عىل جبلٍ‬

‫أصيح‪ :‬اقتلوين اقتلوين‪...‬‬


‫ُ‬ ‫كنت‬
‫ُ‬
‫وال يسمعون‪]21[ »...‬‬

‫خاتمة‬
‫ـوري عــن الثــورة؟ والجــواب‪:‬‬
‫رين ســؤاالن‪ :‬هــل يوجــد شــع ٌر سـ ّ‬
‫يف الختــام‪ ،‬يحـ ُ‬
‫نعـ ْم يوجـ ُد الكثــر مــن الشــعر‪ ،‬وبعضُ ــه يف غايــة اإلبــداع والتألّــق‪ .‬أما الســؤال الثاين‪:‬‬
‫هــل توجـ ُد ثــور ٌة يف الشــعر الســوري؟!‬

‫ـت مــن خــال دراســتي للزمــان‪ ،‬أ ّن الحنــن إىل الزمــن املــايض هــو الغالــب‪،‬‬
‫رأيـ ُ‬
‫وبعـدَه يــأيت التطلّــع األســطوري نحــو املســتقبل‪ ،‬أمــا الزمــن امليتافيزيقــي فهــو نــاد ُر‬
‫فك املكان‬ ‫الوجود‪ .‬ومن خالل دراستي للمكان؛ أ ّن املكان الرؤيوي محصو ٌر بني ّ‬
‫حب للمرأة والوطن بآن‪،‬‬
‫تقليدي‪ ،‬أو ٌّ‬
‫ّ‬ ‫الحب فهو إما‬
‫ُّ‬ ‫الغائب واملكان الحارض‪ .‬أما‬
‫الحب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ـاب واضـ ٍح للتأثــرات الســيكولوجية عــى موضوعة‬
‫مــع غيـ ٍ‬

‫هــذا ليــس حكـ َم قيمـ ٍة عــى الشــعر الســوري اليــوم‪ ،‬بــل تشــجي ٌع لـ ُه عــى الثــورة‬
‫والتجــاوز والتم ـ ّرد‪.‬‬

‫املصادر‪:‬‬
‫‪ -1‬أدونيس‪ :‬زمن الشعر‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬بريوت ‪.2005‬‬
‫‪ -2‬جــال محمــد أحمــد ســليامن‪ :‬مفهــوم الزمــان عنــد هيدغــر‪ ،‬رســالة‬
‫ماجســتري يف الفلســفة‪ ،‬جامعــة القاهــرة ‪.2002‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪250‬‬

‫‪ -3‬إحسان عباس‪ :‬اتجاهات الشعر العريب املعارص‪ ،‬عامل املعرفة‪ ،‬فرباير ‪.1978‬‬
‫‪ -4‬محمد طه العثامن‪ :‬سدرة املوت شهوة الوطن‪ ،‬دار نينوى‪ ،‬دمشق ‪.2014‬‬
‫‪ -5‬عمر يوسف سليامن‪ :‬ال ينبغي أ ْن ميوتوا‪ ،‬دار الغاوون‪ ،‬بريوت ‪.2013‬‬
‫‪ -6‬عمــر يوســف ســليامن‪ :‬املــوت ال يغــوي الســكارى‪ ،‬دار «‪،»L’Oreille du Loup‬‬
‫باريــس ‪.2014‬‬
‫ـض مثــل الحيــاة وواضــح كاملــوت‪ ،‬جائــزة ديب الثقافيــة‬
‫‪ -7‬حســن ابراهيــم الحســن‪ :‬غامـ ٌ‬
‫لإلبــداع‪ ،‬الــدورة الثامنــة‪.‬‬
‫‪ -8‬متــام التــاوي‪ :‬الصفحــة الرســمية للشــاعر متــام التــاوي عــى الفيســبوك‪:‬‬
‫( ‪.)TammamTellawi، Poet‬‬
‫‪ -9‬بسمة شيخو‪ :‬شهقة ضوء‪ ،‬مركز التفكري الحر‪ ،‬جدّة ‪.2015‬‬
‫‪ -10‬املصدر رقم ‪.8‬‬
‫عمن ‪.2015‬‬
‫‪ -11‬عامد الدين موىس‪ :‬كسامء أخرية‪ ،‬دار فضاءات‪ّ ،‬‬
‫‪ -12‬املصدر رقم ‪.8‬‬
‫‪ -13‬حكمــة شــايف األســعد‪ :‬نتل ّمــس الكلــات عــى الجــدار‪ ،‬مكتبــة األدب الســوري‪ ،‬كتــاب‬
‫إلكرتوين ‪.2014‬‬
‫‪ -14‬املصدر رقم ‪.7‬‬
‫‪ -15‬املصدر رقم ‪.7‬‬
‫‪ -16‬صخر الحاج حسني‪ :‬اللغة املقدّس املدنّس‪ ،‬الحوار املتمدن ‪.2009/9/4‬‬
‫‪ -17‬املصدر رقم ‪.7‬‬
‫‪ -18‬املصدر رقم ‪.5‬‬
‫‪ -19‬وداد نبي‪ :‬ظهرية حب ظهرية حرب‪ ،‬دار كوبيا‪ ،‬حلب ‪.2013‬‬
‫‪ -20‬عمــر مهيبــل‪ :‬املــوت والرغبــة كتجـ ٍّـل وجــودي للمــوت والعــدم عنــد باطــاي‪ ،‬مجلــة‬
‫نــزوى‪ ،‬العــدد ‪.29‬‬
‫‪ -21‬املصدر رقم ‪.8‬‬
‫‪251‬‬ ‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬

‫أوراق الكتب‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪252‬‬

‫بدرالدين عرودكي‬

‫ربيع سورية الذبيح‬

‫قبــل أن يُعتقــل أطفــال درعــا الذيــن تج ـ ّرأوا وكتبــوا عــى جــدران مدرســتهم مــا‬
‫ســيعترب أول رضبــة معــول يف جــدار الخــوف الســوري كانــت ســورية ســؤاالً‪ :‬هــل‬
‫ســتثور؟ ومتى ســتثور؟ وعندما خرج عرشات ألوف الســوريني ثم مئات ألوفهم يف‬
‫شــوارع معظــم املــدن الســورية تطالــب بالحريــة وبالكرامــة محطمــة جــدران الخــوف‬
‫كلهــا مســتقبلة بصدورهــا رصــاص النظــام صــار الســؤال أشـ َّد دهــاء‪ :‬وهــل هــي ثــورة‬
‫أم مجــرد حــراك محــدود يعــر عــن وضــع اجتامعــي حــرج؟ وعندما رفع الســوريون من‬
‫جديــد مطالبهــم للتوضيــح‪ :‬الحريــة والكرامــة‪ ،‬ال الخبــز‪ .‬صــار الســؤال أكــر خبثـاً‪َ :‬مـ ْن‬
‫وراء هــذا الحــراك؟ املندســون؟ الســلفيون؟ القاعــدة؟ العراعــرة؟ أمــوال الســعودية‬
‫وقطــر؟ ثــم انتهــى الســؤال إىل جــواب يــردد إعــام النظــام الســوري وحلفــاؤه صيغــة‬
‫منه‪ :‬مؤامرة كونية‪ ،‬يف حني يردد عقالء التحليالت االسرتاتيجية من اليسار العريب‬
‫واألوريب خصوصـاً‪ :‬حــرب أهليــة!‬

‫مئــات املقــاالت والدراســات والتحليــات كتبــت خــال الســنوات الثــاث‬


‫املاضيــة وال تــزال تكتــب‪ .‬وعــرات الكتــب أيضـاً‪ .‬قليــل منهــا مــا عكــس فهـاً دقيقـاً‬
‫أو بصــرا ً للبلــد وخصوصـاً لنظامــه الــذي اســتملك ســورية منــذ نيــف وأربعــة عقــود‬
‫اســتمالكاً عائلي ـاً محض ـاً‪ ،‬جاع ـاً منهــا إقطاعيــة خاصــة بــه‪.‬‬

‫هذا الكتاب الجديد الذي يشارك فيه أكرث من ثالثني باحثاً وكاتباً يف مختلف‬
‫‪253‬‬ ‫حيبذلا ةيروس عيبر‬

‫فــروع العلــوم االجتامعيــة ممــن عملــوا مــع أو بالقــرب مــن املعهــد الفرنــي لدراســات الــرق األدىن‪،‬‬
‫يكدورع نيدلاردب‬

‫فرنســيني أو ســوريني‪ ،‬يحــاول مــن خــال قســمني‪ ،‬أوالهــا عــن صناعــة الحــرب األهليــة ويقــع يف ســتة‬
‫عــر فص ـاً والثــاين عــن األزمــة املُص ـدَّرة ويقــع يف عــرة فصــول‪ ،‬أن يقــدم مفاتيــح ملــا يبــدو يف‬
‫فرنســا ويف أوربــا عســرا ً عــى الفهــم إن حســنت النوايــا‪« .‬ال ربيــع لســورية» كتــاب خطــط لــه وأرشف‬
‫عليــه فرانســوا بورغــا‪ ،‬مديــر أبحــاث يف املركــز الوطنــي للبحــث العلمــي الــذي كان إىل نيســان‪/‬أبريل‬
‫‪ 2013‬يديــر معهــد الدراســات العربيــة يف الــرق األدىن مــن دمشــق ثــم مــن بــروت‪ ،‬وبرونــو بــاويل‪،‬‬
‫اللغــوي ومديــر الدائــرة العلميــة «الدراســات العربيــة القروســطية والحديثــة» يف املعهــد الفرنــي‬
‫املشــار إليــه أيضـاً‪.‬‬

‫رضوري تقدميها للقارئ الفرنيس خصوصاً ولألوريب عموماً قبل أية مقاربة لواقع‬
‫ٌّ‬ ‫وهي مفاتيح‬
‫الحــراك الثــوري يف ســورية ومآالتــه خــال مــا يقــارب اليــوم ثــاث ســنوات‪ ،‬ومــن أهمهــا‪ :‬خصوصيــة‬
‫الوضــع الداخــي الســوري أوالً ثــم اإلقليمــي والــدويل بعــد ذلــك‪ .‬ومــن دون التقليــل مــن أهميــة‬
‫«العــدوى» بــن رضوب الحــراك الثــوري يف تونــس ويف مــر ويف ليبيــا‪ ،‬البــد مــن التأكيــد عــى‬
‫األســباب الداخليــة للثــورة الســورية التــي ال صلــة لهــا بامليليشــيا الجهاديــة املمولــة مــن قبــل قطــر أو‬
‫السعودية أو من كليهام معاً كام صار طبيعياً اعتبار هذه األخرية الوجه واألساس يف ما يحدث يف‬
‫سورية بأقالم أو عىل ألسنة صحافة وإعالم يسعى نحو اإلثارة أكرث مام يعمل عىل بث املعلومات‪.‬‬

‫ســؤال الكتــاب األســاس‪ :‬كيــف حــدث أ َّن ســتة أشــهر مــن املظاهــرات الســلمية يف طــول البــاد‬
‫وعرضهــا ثــم مــا يقــرب مــن ثالثــن شــهرا ً مــن نضــال مســلح نــادر الــراوة مل تــؤ ِّد إىل النتيجــة نفســها‬
‫التــي أدت إليهــا االحتجاجــات الســلمية التــي قــام بهــا ثــوار تونــس أو مــر أو ليبيــا؟ وكيــف اســتطاع‬
‫النظــام الثبــات والبقــاء؟‬

‫ـاب يطالــه عــر وبواســطة‬


‫منــذ البدايــة عمــل النظــام يف الداخــل عــى الرتويــج ألطروحــة عقـ ٍ‬
‫ـرب اإلمربيــايل لتحالفــه مــع إيــران وحــزب اللــه مــن أجــل مقاومــة‬
‫الجهاديــن األصوليــن وينزلــه بــه الغـ ُ‬
‫النظــام اإلقليمــي اإلرسائيــي األمريــي‪ .‬كــا لــو أن املطلــب الدميقراطــي الــذي نــزل الشــعب إىل‬
‫الشارع من أجله يتعارض مع النضال ضد اإلمربيالية وأن برملاناً منتخباً بحرية سوف يسارع إىل بيع‬
‫املصالــح الوطنيــة والقوميــة إىل العــدو الصهيــوين وإىل رعاتــه مــن الغربيــن! وجــدت تلــك األطروحــة‬
‫قبــوالً لــدى رجــال النظــام عــى مختلــف مســتوياتهم والســيام مــن كانــوا بانتامءاتهــم الجغرافيــة أو‬
‫الطائفيــة يؤلفــون األكرثيــة الســاحقة يف الدوائــر األمنيــة أو يف مراكــز القيــادات املختلفــة يف الجيــش‬
‫املؤسســات األخــرى‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أو يف مختلــف‬

‫الحل األمني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ومن هنا كان الر ُّد املبارش يتجىل يف‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪254‬‬

‫مــن العنــف غــر املســبوق الــذي اســتخدمه النظــام يف الــرد عــى ثــورة الشــعب الســوري والــذي‬
‫كان رده مضاعفاً عىل ِّ‬
‫كل فعل يقوم به الثوار‪ :‬الرد بالرصاص عىل املظاهرة السلمية‪ ،‬وبالدبابات‬
‫عــى حامــي الكالشــينكوف وباملدفعيــة الثقيلــة والطــران الحــريب عــى حامــي قاذفات القنابل‪...‬‬
‫إىل األدوات التــي لجــأ إليهــا يف حربــه مــن أجــل البقــاء واإلبقــاء عــى مكتســباته والتــي كانــت أكــر مــن‬
‫أن ت ُ ْحــى‪ ،‬ومل تكــن تقتــر عــى العنــف أو عــى االنقســام الواضــح والعميــق يف محيطــه اإلقليمــي‬
‫والــدويل‪ ...‬مل يكــن هـ ُّم النظــام األول واألســاس إال الدفــاع عــن بقائــه‪.‬‬

‫أربعــون عامـاً مــن تفريــغ الداخــل كليـاً مــن السياســة ومــن السياســيني مــن ناحيــة‪ ،‬ومــن مامرســة‬
‫سياسة الرتهيب والتخويف والقمع والبلطجة عىل األصعدة جميعاً‪ :‬الداخيل واإلقليمي والدويل‬
‫مــن ناحيــة أخــرى‪.‬‬

‫تــأيت فصــول الكتــاب كلهــا لتتنــاول بالعــرض وبالتحليــل وكذلــك مــن خــال الشــهادات الح ّيــة‬
‫لبعــض مــن عاشــوا أو عاينــوا أو عانــوا هــذا الجانــب أو ذاك مــن جوانــب هــذه السياســة الفريــدة‬
‫والنــادرة يف عاملنــا اليــوم يك تحــاول اإلجابــة عــن هــذه األســئلة أو مــا تضمنــه عنــوان الكتــاب الفرعــي‪:‬‬
‫مفاتيح من أجل فهم صانعي األزمة وتحدياتها بني ‪ 2011‬و‪ .2013‬والركيزة يف القسم األول‪ :‬كيفية‬
‫صناعــة الحــرب األهليــة‪.‬‬

‫القاعدة األساس يف هذه السياسة قاعدة استعامرية قدمية أعيدت صياغتها‪ .‬فبدالً من ف ِّرق‬
‫ظ عىل الشــكل وافعل ما شــئت باملضمون! مظهر دولة‬ ‫تســد‪ ،‬ف ِّرق تبقى! وصيغ أخرى أيضاً‪ :‬حا ِف ْ‬
‫ُ‬
‫دميقراطيــة ال غبــار عليهــا مــن حيــث وجــود املؤسســات وفصــل الســلطات ووجــود األحــزاب‪ ...‬إلــخ؛‬
‫لكنهــا دولــة علامنيــة ظاهــرا ً مــن ناحيــة ومامرســات طائفيــة تتســر وراءهــا من ناحية أخرى‪.‬‬

‫يشــر فالدميــر غالســان يف الفصــل املخصــص ملصــادر النظــام األمنيــة إىل أن أحــداث حــاه‬
‫عــام ‪ 1982‬هــي التــي أدت إىل انقــاب واضــح يف وظيفــة البنــى األساســية يف النظــام‪ .‬فبعــد أن‬
‫كان حــزب البعــث قائــد الدولــة واملجتمــع‪ ،‬صــارت الدوائــر األمنيــة بفروعهــا األساســية تقــوم بهــذه‬
‫الوظيفــة عــى نحــو مل تعرفــه مــن قبــل إال الــدول ذات النظــام الشــمويل‪ ،‬بــل رمبــا تجاوزتــه؛ إذ بلــغ‬
‫عــدد موظفيهــا الدامئــن حــوايل ‪ 65000‬ومئــات األلــوف مــن العاملــن جزئي ـاً بحيــث ميكــن القــول‬
‫إن هنــاك موظفـاً لــكل ‪ 257‬مواطنـاً بصــورة عامــة أو موظفـاً لــكل ‪ 153‬مــن املواطنــن الذيــن تجــاوزت‬
‫أعامرهــم خمســة عــر عام ـاً! وقــد تجــى تهميــش دور الحــزب يف غيــاب انعقــاد أي مؤمتــر لــه بــن‬
‫عامي ‪ 1985‬و‪ .2000‬ويف هذه الســنة األخرية دعي لالجتامع فقط ليقرتح وليصادق عىل تســمية‬
‫وريــث مؤســس هــذا النظــام أمينـاً عامـاً قطريـاً للحــزب!‬

‫طالــت اختصاصــات الفــروع األمنيــة‪ ،‬العامــة‪ ،‬والعســكرية‪ ،‬والجويــة‪ ،‬والسياســية‪ ،‬مجــاالت حيــاة‬
‫‪255‬‬ ‫حيبذلا ةيروس عيبر‬

‫النــاس كافــة وبــا اســتثناء مبــا يف ذلــك تغيــر محــل اإلقامــة أو اعتنــاق الديــن اإلســامي لتصــر هــذه‬
‫يكدورع نيدلاردب‬

‫الرقابــة اليوميــة الشــاملة مصــدر ثــراء رجــال األمــن عــى اختــاف مســتوياتهم‪ .‬مل تكــن العالقــات بــن‬
‫فــروع األمــن هــذه عالقــة تعــاون أفقيــة بــل عالقــة تنافــس ال يحكــم بينهــا ســوى ارتباطهــا كلهــا بشــخص‬
‫الرئيس‪ ،‬لكن دائرة سلطة أو نفوذ رؤسائها تتسع أو تضيق طردا ً مع عالقة قرابة هذا أو ذاك بعائلة‬
‫الرئيــس‪ .‬وإذا شــمل ميــدان تدخلهــا أبســط أمــور املواطــن اليوميــة فمــن بــاب أوىل أن يضــم كذلــك‬
‫مستويات أهم وأخطر كالتعيينات يف مناصب الدولة املختلفة يف الداخل ويف الخارج أو تقرير‬
‫األســاء التــي تضمهــا قوائــم املرشــحني لعضويــة مجلــس الشــعب أو أيــة هيئــة أخــرى مــن هيئــات‬
‫املجتمــع املــدين الصوريــة‪.‬‬

‫ومــع تحديــد مهــات الدوائــر األمنيــة اعتبــارا ً مــن عــام ‪ ،1982‬متــت إعــادة تركيــز مهمــة الجيــش‬
‫عــى الــدور الــذي يفــرض بالحــرس الجمهــوري القيــام بــه‪ .‬صــارت املهمــة ال الدفــاع عــن األرايض بــل‬
‫عــن النظــام وحــده‪ .‬ذلــك مــا ســيتجىل اعتبــارا ً مــن خريــف ‪ ،2011‬عندمــا عهــد إىل الجيــش بالعمــل‬
‫جنبـاً إىل جنــب مــع الدوائــر األمنيــة عــى اختالفهــا‪ ،‬عــى قمــع الثــورة بالوســائل كلهــا وبــا اســتثناء‪.‬‬

‫مــا كان لذلــك كلــه أن يظهــر للعيــان لــوال الثــورة‪ .‬ومــا كان كذلــك لــكل مــا حــاول النظــام قمعــه‬
‫والقضــاء عليــه مــن محــاوالت حثيثــة لبنــاء أســس مجتمــع مــدين ونضــال ســلمي أن يرتعــرع يف ظلــه‬
‫وأن يظهــر عــى املــأ لــوال الثــورة‪ .‬أكــر مثــلٍ عــى ذلــك جامعــة شــباب داريــا الذيــن يفــرد لهــم الكتــاب‬
‫فصالً كامالً كتبته كارولني دونايت‪ .‬كان الشاب غياث مطر (وقد قىض شهيدا ً يف سجون النظام‬
‫إبــان بدايــات الحــراك الســلمي يف ســورية)‪ ،‬قــد تعلــم االســتنفار الســلمي يف بيئتهــم‪ ،‬وهــي بيئــة‬
‫اســتوحت يف مقاومتهــا للنظــام منهج ـاً ضمــن إطــار تفكــر دينــي منفتــح اعتبــارا ً مــن نهايــة ســنوات‬
‫‪ 1990‬قــام عــى إعــادة قــراءة املســلامت الدينيــة يف ضــوء التجديــد مــن ناحيــة والنقــد مــن ناحيــة‬
‫أخــرى‪ .‬كان ذلــك يتــم يف مســجد أنــس بــن مالــك بداريــا تحــت إرشاف إمامــه عبــد الكريــم الســقا‪،‬‬
‫وبوحــي مــن معلمــه القديــم جــودت ســعيد‪ ،‬رســول الالعنــف والنقــد الــذايت‪ ،‬الــذي كانــت تعاليمــه‬
‫تســود جلســات الشــباب يف املســجد طــوال ســنني‪.‬‬

‫الحل األمني أن يبدأ عىل وجه الدقة بهؤالء وأن يعمل للقضاء عىل‬
‫لن يفوت النظام وقد اختار َّ‬
‫أصواتهــم بشــتى الســبل؛ ومل يكــن مــن قبيــل الصدفــة أن أوائــل الشــهداء الذيــن قتلــوا يف الســجون‬
‫مل يكونــوا قــد حملــوا ســاحاً أو نــادوا إىل حملــه‪.‬‬

‫ـن يعتمــدان‬
‫ويف ظــل هــذا الحـ ِّـل األمنــي ســوف يوجــه النظــام سياســته بالطبــع ضمــن طريقـ ْ‬
‫ـن اإلعالمــي وامليــداين‪.‬‬
‫اســراتيجية متامســكة يف املجالـ ْ‬
‫سوف يستفيد يف املجال اإلعالمي وال سيام عرب أدواته اإللكرتونية من تجربة الحكومة اإليرانية‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪256‬‬

‫التــي ســبق لهــا وأن قمعــت ثــورة مامثلــة‪ .‬بــل وســوف تــزوده هــذه األخــرة باملعــدات الرضورية للعمل‬
‫يف هــذا املجــال‪ .‬ســيكون للنظــام جيشــه اإللكــروين‪ ،‬وصفحاتــه عــر مختلــف شــبكات التواصــل‬
‫االجتامعي‪ ،‬وســتكون كلامت الرس هي أول ما يبحث عنه كلام اعتقل النشــطاء وصادر معداتهم؛‬
‫املريض‬
‫ِّ‬ ‫وسوف يتابع سياسته القدمية الراسخة بعدم استقبال الصحفيني العرب واألجانب إال من‬
‫عنهــم وعــن صحفهــم‪ .‬وحــن يقبــل مبجــيء هــذا الصحفــي أو ذاك فلــي ينقــل رســالة أو ليســتخدم‬
‫أي صحفــي‪ ،‬عــريب أو أجنبــي‪ ،‬أن يدخــل ســورية‬
‫وجودهــم مــن أجــل بــث رســالة مــا‪ ...‬مل يكــن بوســع ِّ‬
‫دون أن يرافقــه طــوال فــرة إقامتــه موظــف ذو صفــة أمنيــة يــرف عــى ذهابــه ورواحــه ويقــدم تقريــرا ً‬
‫بــكل ذلــك إىل مرؤوســيه كل يــوم‪.‬‬

‫سوف يستثمر الثوار بدورهم هذا املجال عىل أوسع نطاق ممكن‪ .‬فهواتفهم أو آالت تصويرهم‬
‫الرقميــة ترافقهــم يف كل مظاهــرة‪ .‬هكــذا ولــد صحفيــو الثــورة يرتجلــون مامرســة املهنــة ميدانيـاً‪ .‬مــن‬
‫الصور الثابتة توضع عىل صفحات التواصل االجتامعي إىل الفيديوهات التي رسعان ما تنقل إىل‬
‫اليوتيــوب وإىل الفضائيــات العربيــة عــى اختالفهــا‪ .‬هكــذا اســتحال الفيديــو «أداة العمــل الجامعــي‬
‫والنضــال املســلح» يف آن كــا تقــول سيســيل بويكــس يف الفصــل الــذي كتبتــه تحــت هــذا العنــوان‬
‫عــى وجــه الدقــة‪ .‬لكــن النظــام لــن يعــدم فرصــة يســتخدم فيهــا هــذه األداة ليبــث الشــك يف نفــوس‬
‫مســتمعي قنواتــه الرســمية‪ ،‬كالفيديــو الــذي بثتــه قنــاة «الدنيــا» إثــر مجــزرة قــام بهــا النظــام وألقــى‬
‫مبســؤوليتها عــى «الجامعــات املســلحة» بداريــا‪ ،‬كانــت إحــدى مذيعاتهــا وهــي يف كامــل أناقتهــا‬
‫تســتجوب امــرأة تلفــظ أنفاســها األخــرة يك تحدثهــا عــن املعتديــن قبــل محاولــة إســعافها‪.‬‬

‫أمــا ميداني ـاً فقــد كان ســلوك النظــام مــن خــال اســتخدامه العنــف غــر املحــدود يتطلــع إىل‬
‫قمــع الثــورة بــأرسع وقــت ممكــن‪ :‬قتــل الناشــطني مــن الشــباب الثــوار وال ســيام املرشفــن منهــم عــى‬
‫التنسيقيات أو من الناشطني اإلعالميني سواء بعد االعتقال أو بواسطة القنص أثناء املظاهرات؛‬
‫والحيلولــة دون أن يتمكــن الثــوار مــن تنظيــم أنفســهم وذلــك عــن طريــق تقســيم الســوريني وبعرثتهــم‬
‫عــى نحــو يســتحيل معــه عليهــم التواصــل يف مــا بينهــم‪.‬‬

‫لــن يفــوت املرشفــان عــى الكتــاب‪ ،‬فرنســوا بورغــا وبرونــو بــاويل‪ ،‬أن يك ِّرســا فصلــن يف الكتــاب‬
‫يبينــان مــن خاللهــا املعنــى األعمــق ملــا حــدث ويحــدث يف ســورية‪ ،‬فيــا وراء التوصيــف املفضــل‬
‫الــذي يعطــى لــه يف فصــول مختلفــة مــن الكتــاب‪ :‬أزمــة‪ ،‬مأســاة‪ ،‬حــرب عنيفــة‪ ...‬إلــخ‪ .‬أولهــا فصــل‬
‫كتبــاه مــع جــال شــحيد ومانويــل ســارتوري‪ ،‬يســتعيد الشــعارات والصيــغ التــي رفعهــا املتظاهــرون‬
‫أو هتفــوا بهــا يف أرجــاء ســورية كلهــا ويســجل منهــا نيف ـاً ومائــة تنــدرج جميعهــا فيــا ميكــن اعتبــاره‬
‫توصيف ـاً كام ـاً للثــورة يف ســورية مبــا انطــوت عليــه مــن قــوة سياســية تقــول مبــادئ الثــورة ومعانيهــا‬
‫وأهدافهــا‪ ،‬بــدءا ً مــن الشــعار الــذي تبنــاه الثــوار يف مختلــف البلــدان العربيــة «الشــعب يريــد إســقاط‬
‫‪257‬‬ ‫حيبذلا ةيروس عيبر‬

‫النظــام»‪ ،‬وليــس انتهــاء بشــعار «األمــوات يريــدون إســقاط النظــام!»‪ .‬وحســناً فعــل مؤلفــو الفصــل‬
‫يكدورع نيدلاردب‬

‫إذ صنفــوا مختــارات مــن هــذه الشــعارات تحــت عناويــن شــديدة الداللــة‪ :‬ســوريون قبــل كل يشء‬
‫(واحــد‪ ،‬واحــد‪ ،‬واحــد‪ ،‬الشــعب الســوري واحــد؛ ضــد التقســيم والتطييــف (نحنــا بدنــا حريــة‪ ،‬إســام‬
‫ومســيحية‪ /‬أو‪ :‬دروز وعلويــة)؛ تضمــن املــدن الثائــرة (مــن القامشــي لحــوران‪ ،‬الشــعب الســوري‬
‫مــا بينهــان)؛ الســلم ّية (ســلم ّية‪ ،‬ســلم ّية)؛ الجيــش معنــا (يــا جيــش يــا حبيــب‪ /‬خــي ســاحك لتــل‬
‫أبيــب)؛ أو للهجــوم عــى الجــوالن املحتــل (أســد يف لبنــان وأرنــب يف الجــوالن)؛ الحريــة (اللــه‪،‬‬
‫ســورية‪ ،‬حريــة وبــس)؛ العدالــة (شــب وشــبة‪ ،‬أنــا مــع القانــون)؛ ضــد الطغيان(مــا بيتآمــر عالبــاد إال‬
‫حكــم االســتبداد)؛ ضــد الكذبــة واللصــوص |(فاشــل‪ ،‬فاشــل‪ ،‬فاشــل‪ /‬اإلعــام الســوري فاشــل‪ ،‬أو‬
‫ثــار الشــعب الســوري ثــار‪ /‬عالحرامــي والجــزار)؛ إســقاط النظــام (مــا منحبــك‪ ،‬مــا منحبــك‪ /‬حـ ّـل عنــا‬
‫إنــت وحزبــك)؛ اللــه وحــده (لــن نركــع إال للــه)؛ املــوت شــهداء مــن أجــل ســورية (يــا ســورية ويــا أمــي‪/‬‬
‫واللــه بفديــي بد ّمــي)؛ الســخرية الفكاهــة والســخرية (نطالــب بزيــادة أعــداد الدبابــات بكفــر نبــل‬
‫للتخفيــف عــن حمــص املنكوبــة)‪...‬‬
‫ـض مــن فيـ ٍ‬
‫ـض مل يتــح للجمهــور الغــريب االطــاع عليهــا وال معرفــة املعــاين‬ ‫هــذه الشــعارات غيـ ٌ‬
‫العميقــة التــي تنطــوي عليهــا ثــورة الشــعب الســوري والتــي تقــف عــى النقيــض مــا أراد النظــام‬
‫الســوري تســويقه يف الغــرب عــى أنهــا مجــرد مؤامــرة يقــوم بهــا تكفرييــون أو إرهابيــون بأوامــر غربيــة‬
‫وبتمويــل خليجــي!‬

‫ـن فقــد كتبــه ســيمون دوبــوا مشــرا منــذ البدايــة إىل أن «املحتجــن الســوريني‬
‫أمــا ثــاين الفصلـ ْ‬
‫برهنوا منذ املظاهرات األوىل عىل قدرة إبداعية ممتازة يف مجال أدوات النضال» والسيام األغنية‪.‬‬
‫مشــرا ً إىل وجــود أكــر مــن مائتــي أغنيــة بــن نهايــة نيســان‪/‬أبريل‪ 2011‬ومنتصــف آذار ‪ ،2012‬تنــدرج‬
‫ضمن التقاليد الفنية السورية الكالسيكية بعد أن استعيدت بفعل الثورة ولبست معانيها بصورة‬
‫أو بأخــرى‪ ،‬ومنهــا بالطبــع أغــاين إبراهيــم القاشــوش الــذي دخــل َحـ َر َم شــهداء الثــورة وصــار اســمه رمــز‬
‫النضــال الســلمي‪ ،‬وكذلــك أغــاين عبــد الباســط ســاروت‪ ،‬حــارس مرمــى فريــق الكرامــة يف حمــص‪،‬‬
‫والتــي رافقــت املتظاهريــن مثلــا رافقــت أولئــك الذيــن حملــوا الســاح لحاميتهــم‪.‬‬

‫لــن يخلــو القســم األول مــن الكتــاب الــذي كــرس كــا قلنــا لعــرض الكيفيــة التــي تتــم بهــا صناعــة‬
‫الحــرب األهليــة يف ســتة عــر فصـاً مــن واحــد منهــا يكــرس للموضــوع االقتصــادي‪ .‬أراد النظــام يف‬
‫األسابيع األوىل من الحراك الثوري أن يعترب األمر مجرد مطالب اقتصادية ميكن حلها برسعة معرتفاً‬
‫برشعيتهــا‪ .‬لكـ َّن أيـاً مــن الشــعارات التــي رفعهــا املتظاهــرون مل تكــن تنطــوي عــى مطالــب أخــرى غــر‬
‫الحرية والكرامة ومل تحد عنها طوال ثالث سنوات من الثورة‪ .‬ال يعني ذلك أن األسباب االقتصادية‬
‫أو باألحــرى البيئــة االقتصاديــة ال ميكــن االعتــاد عليهــا يف تفســر انطــاق الثــورة مــن ضواحــي املــدن‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪258‬‬

‫أساسـاً‪ .‬يالحــظ ســمري عيطــة يف الفصــل املخصــص للمتغــرات وللرهانــات االقتصاديــة لالنتفاضــة‬
‫أنــه «كان عــى انطــاق «الثــورة» مــن مدينــة درعــا وضواحيهــا (‪ )...‬أن يســم العقــول‪ ،‬مثلــا كان عــى‬
‫الدخــول الرسيــع للعديــد مــن ضواحــي املــدن يف الحــراك الثــوري أن يـ َّ‬
‫ـدل املحللــن عــى رضوب‬
‫فشــل أو نســيان السياســة التــي ســار عليهــا بشــار األســد تجــاه هــذه الفضــاءات‪ ».‬وعــى أن هــذه‬
‫املالحظــة قــد جــاءت عــى لســان العديــد مــن املحللــن واملراقبــن مــن قبــل وال ســيام يف الداخــل‬
‫الســوري‪ ،‬إال أن مثــة شــبه إجــاع عــى أن األســباب االقتصاديــة عــى أهميتهــا ال تــزن كثــرا ً أمــام‬
‫األســباب األعمــق التــي حملــت شــعباً بأكملــه عــى أن يثــور بعــد أربعــن عامـاً مــن حكــم اســتبدادي‬
‫واســتعبادي غــر مســبوق‪.‬‬

‫ُص ـ َّد َرة» عنــوان القســم الثــاين مــن الكتــاب‪ .‬لقــد أدى تطــور األحــداث يف ســورية‬
‫«األزمــة امل َ‬
‫خــال ثــاث ســنوات إىل أن تحمــل أســاء تتبايــن بتبايــن املوقــع الــذي ينظــر منــه إليهــا‪ .‬فهــي ال تــزال‬
‫ثــورة شــعب ضــد نظــام مســتبد يف نظــر معظــم الســوريني‪ ،‬وهــي أزمــة يف لغــة الدبلوماســيني عــى‬
‫اختالفهــم مثلــا هــي حــرب أهليــة يف نظــر بعــض الصحفيــن أو رصاع يف عيــون البحاثــة والدارســن‪.‬‬
‫ســيعالج هــذا القســم آثــار الحــدث الســوري يف البلــدان املجــاورة التــي باتــت شــأنها شــأن القــوى‬
‫الكــرى فاعلــة بهــذا القــدر أو ذاك يف ســورية‪ .‬لبنــان ومــا يعانيــه مــن انقســام بــن مؤيــد للنظــام‬
‫الســوري بــا حــدود وخصوصـاً حــزب اللــه الــذي انخــرط ماديـاً يف مواجهــة الثــوار الســوريني‪ ،‬ونصـرٍ‬
‫للثــورة الســورية يتواجــد لــدى العديــد مــن األطيــاف اللبنانيــة ويزيــد مــن صعوبــة األزمــة الحكوميــة يف‬
‫لبنــان فضـاً عــن األزمــة االقتصاديــة واألمنيــة فيــه؛ وفلســطني التــي تتمــزق بــن الضفــة الغربيــة وغــزة‪،‬‬
‫وبــن الشــعب وقادتــه؛ والعــراق وانقســامه كذلــك بــن شــيعة مؤيــدة للنظــام وســنة تقــف ضــده‪،‬‬
‫واألردن الــذي يحــاول املوازنــة حســب موقعــه بــن متطلبــات البقــاء ومتطلبــات الضغــوط املحليــة‬
‫واإلقليميــة والدوليــة‪ .‬أمــا إيــران فقــد صــارت جــزءا ً ال يتجــزأ مــن األزمــة الســورية؛ إذ بعــد أن تضامنــت‬
‫مــع الثــورات العربيــة يف تونــس ويف مــر ويف اليمــن رسعــان مــا قلبــت ظهــر املجــن عنــد انطــاق‬
‫الثورة يف سورية معلنة بال لبس أو غموض تضامنها مع النظام السوري وعاملة عىل تعزيز قدراته‬
‫االقتصادية والعسكرية والتعبوية من أجل قمع الثورة بشتى الوسائل‪ .‬أما تركيا التي فوجئت بأوائل‬
‫تطــورات الثــورات العربيــة يف تونــس ومــر خصوصـاً ثــم تبنــت موضوعيـاً خيــارات حليفهــا األمريــي‬
‫تجــاه هذيــن البلديــن‪ ،‬والتــي تعــرت مواقفهــا يف البدايــة مــن الثــورة يف ليبيــا بســبب العالقــات‬
‫الحميمــة التــي كانــت قامئــة مــع نظــام القــذايف ثــم انضمــت بصعوبــة شــديدة إىل التدخــل الغــريب‪،‬‬
‫همً متعدد األبعاد‪ :‬الحدود‪ ،‬واألكراد‪ ،‬وعلويي أنطاكية خصوصاً‪،‬‬ ‫فقد كانت ســورية بالنســبة لها ّ‬
‫وال ســيام بعد أن اضطرت الحكومة الرتكية إىل االبتعاد بحســم عن النظام الســوري وإدانته بشــدة‪،‬‬
‫داعمــة أطيــاف املعارضــة بشــتى الوســائل‪ ،‬ومســتمرة يف اســتقبال أعــدا ٍد متزايــد ٍة مــن املهاجريــن‬
‫الســوريني الذيــن خصصــت لرعايتهــم ميزانيــة ســنوية قــدرت عــام ‪ 2013‬مبائتــي مليــون يــورو‪ .‬يبقــى‬
‫‪259‬‬ ‫حيبذلا ةيروس عيبر‬

‫أن اســتمرار الوضــع يف ســورية عــى مــا هــو عليــه اليــوم وخالف ـاً للتوقعــات األوىل‬
‫يكدورع نيدلاردب‬

‫يؤلــف كابوسـاً مخيفـاً بالنســبة لحكومــة حــزب العدالــة والتنميــة الــريك الســيام وأنــه‬
‫ســيواجه اســتحقاقات انتخابيــة عــام ‪.2014‬‬

‫* *‬ ‫*‬

‫ال تتجــى أهميــة هــذا الكتــاب الــذي اســتعرضنا هنــا بعــض فصولــه الهامــة يف‬
‫ك ّم املعلومات أو يف الشهادات وعمق التحليالت التي تناولت مختلف جوانب‬
‫الحــدث الســوري عــى امتــداد ســنتني ونصــف الســنة‪ ،‬وال يف كونــه أول وأشــمل‬
‫كتــاب مــن نوعــه ظهــر منــذ أن تتالــت الكتــب حــول الربيــع العــريب والحــراك الثــوري‬
‫يف دولــه فحســب‪ ،‬بــل كذلــك يف كونــه يجمــع حصيلــة مــا امتلكــه الباحثــون الذيــن‬
‫شــاركوا يف تحريــره مــن خــرة عميقــة باملجتمــع الســوري وبنظامــه الســيايس القائــم‬
‫منــذ نيــف وأربعــن عامـاً‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪260‬‬

‫هشام الواوي‬

‫«السوريون األعداء» لفواز حداد‪:‬‬


‫عمل أدبي يالمس التأريخ‬

‫يحــرر فــواز حــداد روايــة «الســوريون األعــداء» مبــزاج تاريخــي‪ ،‬ويحــاول أن يكــون‬
‫ملحمي ـاً عندمــا يغطــي حقبــة تقــارب ثالثــن عام ـاً‪ ،‬يالحــق فيهــا عينــات مختــارة‬
‫«وليســت عشــوائية» مــن أفــراد املجتمــع الســوري دون أن يخفــي رغبتــه بتنميــط‬
‫هــذه املختــارات‪.‬‬

‫يبــدأ مــن لحظــة تاريخيــة قامتــة بــارشت فيهــا الســلطة انتقامهــا مــن مدينــة حــاة‪،‬‬
‫يصــور الكاتــب مبســاعدة مــن أدبيــات اإلخــوان املســلمني مســتوى البطــش الــذي‬
‫اســتخدمته الســلطة عــر ذراعهــا الطويــل يف ذلــك الوقــت املليشــيا العســكرية‬
‫املدعوة رسايا الدفاع بصحبة قطعات عسكرية أخرى يعرفها الكاتب بأرقامها ومير‬
‫عــى ســنوات الركــود التــي أعقبتهــا‪ ،‬رابط ـاً أحداثهــا باملجــزرة بشــكل وثيــق الهيمنــة‬
‫عــى لبنــان وخطــوط اإلمــداد اإليرانيــة وحتــى العالقــة مــع الســوفيت‪ ...‬وبطريقــة‬
‫جهاز اإلسقاط ترتدد مفردات التهريب والفساد والطائفية وت ُستخدم صور رصيحة‬
‫وواقعيــة‪.‬‬

‫قــد يهتــز وجــدان القــارئ عندمــا يفلــش الكاتــب كل هــذه الوثائــق الواضحــة‪،‬‬
‫ولكنــه ال يشــفي غليلــه باســتخدامه لغــة الصحافــة والرتكيــز عــى اإلدهــاش‪ ،‬ويف‬
‫أحيــان كثــرة عــى امليلودرامــا‪.‬‬
‫‪261‬‬ ‫يرأتلا سمالي يبدأ لمع‬

‫يقرر النقيب الطموح سليامن أن يرتكب مجزرة يف املدينة التي استباحتها السلطة بعد مترد‬
‫يواولا ماشه‬

‫قصري‪ ،‬يركب سيارة روسية ويصطحب مرافقاً له‪ ،‬وعند أول زقاق يُخرج من قبو صغري عائلة صغرية‬
‫ممثلــة بأجيالهــا الثالثــة الجــد وابنــه والزوجــة مــع أوالدهــا الثالثــة‪ ،‬تحتضــن الزوجــة رضيعـاً تشــده بقــوة‬
‫إىل صدرهــا‪ ،‬بينــا ينتــزع النقيــب القاتــل األب الطبيــب مــن أرستــه ويرســله إىل املعتقــل‪ ،‬ثــم يطلــق‬
‫النار بدم بارد عىل من تبقى من األرسة‪ .‬تنشق األرض يف لحظة تلفزيونية عن عجوز تلتقط الرضيع‬
‫الــذي حــاه جســد األم مــن الرصــاص وتفــر هاربــة‪ .‬ال تفلــح مالحقــات النقيــب يف العثــور عليهــا‪،‬‬
‫هــذا هــو املشــهد الرئيــي الــذي تســتند إليــه الروايــة وتعتــره مبتــدأ التأريــخ‪ .‬ينــوء املشــهد بالرمــوز‬
‫والــدالالت ويثقلــه الكاتــب بشــحنة عاليــة الجهــد مــن التضمــن واإليحــاء ويســتخدم «التشــويق» يف‬
‫هندســته حتــى يــكاد يخــرج عــن وقــاره الــروايئ‪ .‬يفــرط الكاتــب يف اســتخدام هــذا النــوع من املشــاهد‬
‫مســتندا ً إىل قســوة املأســاة الســورية فينجــو الطبيــب مــن كتيبــة اإلعــدام مبــا يشــبه املعجــزة ويلتقــي‬
‫الرضيــع الــذي نجــا مــن املجــزرة بأعجوبــة أخــرى عمــه القــايض يف ظــروف معقــدة قــد ال تحصــل إال‬
‫يف الحــدث الســوري وحــده‪ .‬يقلــع النقيــب الــذي أصبــح لقبــه «املهنــدس» عاليـاً ليحــط يف موقــع‬
‫إىل جــوار الرئيــس ويف منصــب املستشــار األمنــي‪ ،‬وهــي الوظيفــة التــي يعــول عليهــا كل ديكتاتــور‬
‫ليبقى يف منصبه‪ ،‬أما الطبيب عدنان الراجي‪ ،‬الذي أصبح لقبه السجني ‪ ،77‬فيستقر يف معتقل‬
‫لــه شــهرة عامليــة هــو ســجن تدمــر‪ ،‬وتــوزع الروايــة نفســها بــن القــر الرئــايس واملعتقــل الرهيــب ومــا‬
‫بينهام يف عملية تســجيلية تعتمد فيها عىل مراجع شــهرية ككتاب باتريك ســيل عن األســد وكتاب‬
‫روبــرت فســك «ويــات وطــن» وحتــى مذكــرات مصطفــى طــاس‪ ،‬ويحــول الكاتــب املــادة التاريخيــة‬
‫إىل خالصة أدبية ميكن اسرتدادها بشوق الرجوع إىل تقليب األرشيف الستعادة التاريخ القريب‪.‬‬

‫يستعرض الكاتب الحدث التدمري بتفاصيل روايات إسالميني مروا بالسجن فيستحرض‪ ،‬مرة‬
‫جديــدة‪ ،‬ســاعات املــرارة والتنكيــل جاع ـاً مــن حيثيــات الوجــع الجســدي حدث ـاً رئيســياً يف الحيــاة‬
‫الســورية ومعــادالً للفســاد والتعتيــم والعــزل‪ ،‬وعــى ســبيل الزركشــة الروائيــة يســتعري الكاتــب حبكــة‬
‫«قصــة مدينتــن» لتشــارلز ديكنــز فيكــرر أســامة وحســان مــا فعلــه دارين وكارتــون إذ يقــوم أحدهــا‬
‫باملــوت عوضــا عــن اآلخــر‪ .‬تفــوح داللــة اســتهتار ســلطات الســجن باملــوت وولعهــا بالقتــل كســلوك‬
‫اعتيــادي‪ ،‬دفــع الكاتــب مثنـاً باهظـاً لتوصيــل إشــارة واضحــة‪ ،‬وذلــك بإقحــام حـ ٍ‬
‫ـدث مــن هــذا النــوع‬
‫يرتتــب عليــه الضغــط أو «املوانــة» عــى القــارئ لتمريــره‪.‬‬

‫يقــي الطبيــب معظــم زمــن الروايــة يف الســجن دون أن يعــرف أن عائلتــه قــد أبيــدت عــى يــد‬
‫الضابط‪ .‬ميهد الكاتب للقاء الضحية بالقاتل ويستفيد من جهل الطبيب باملأساة املروعة ولكن‬
‫اللقــاء املرتقــب يــأيت قصــرا ً وبــاردا ً هيمنــت عليــه رغبــة الكاتــب عــى إرادة الطبيــب فجعلــه يُ َغلّــب‬
‫روح العدالــة عــى شــهوة االنتقــام ليقيــم دليـاً دامغـاً عــى أخالقيــات الضحيــة‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪262‬‬

‫إن أبــرز لحظــات الروايــة واقعيـ ًة تتجــى عندمــا ينجــح الكاتــب بتقدميــه للضابــط‬
‫«الســني» مــروان‪ ،‬ورمبــا تكــون هــذه الشــخصية مــن أنجــح الشــخصيات‪ ،‬فيعــرض‬
‫منطـاً مــن األعــراض الجانبيــة لســلوك النظــام‪ ،‬فيــا تبــدو مليــس املظليــة الســابقة‬
‫وامله ّربــة الحاليــة مركبــة مــن أكــر شــخصية‪ ،‬متــر بأطــوار عديــدة العاشــقة واملدعيــة‬
‫وســيدة األعــال املشــبوهة‪ ،‬ويف كل أطوارهــا تحافــظ عــى بنيــان نفــي ثابــت‪،‬‬
‫يلفها الشعور باألمان والثقة وكأنها عرافة تقرأ يف املستقبل القريب وتجد فيه ما‬
‫يرسها عىل الدوام‪ ،‬وظهر القايض سليم الراجي بليدا ً ومستنفَد القوى وهو عىل‬
‫بعــد خطــوة مــن املجــزرة بعجــزه حتــى عــن االمتعــاض‪ .‬اســتمر قاضيـاً يعلــوه الصمــت‬
‫املتخاذل رغم امتالكه ألمىض ســاح رسدي وهو لســان الراوي‪ ،‬فكان حيادياً رغم‬
‫أنــه شــاهد عيــان عــى كل مــا حــدث ولكنــه فضــل أن يــروي مــا شــاهده بلهجــة كاتــب‬
‫الديــوان الــذي يحــرص عــى تدويــن كل يشء دون انفعــال‪ ،‬وقــد غلــب هــذا اللــون‬
‫مــن التعبــر عــى كل فصــول الروايــة‪.‬‬

‫«الســوريون األعــداء» عمــل أديب المــس التأريــخ بوضعــه بعــض األحــداث الهامــة‬
‫كنقــاط عــام وقــدم نفســه كروايــة ميكــن قراءتهــا بخاطــر طيــب لتصديهــا ألمــس طــازج‬
‫ما زال صداه يرتدد يف الصور والربامج التلفزيونية وما زال بعض أبطاله يعانون من‬
‫الهزال لطول املبيت يف السجون والبعض اآلخر يصارع للبقاء عىل الكريس ذاته‪.‬‬

‫ال تشــعر بامللــل مــن قــراءة هــذه الروايــة رغــم طولهــا املفــرط‪ ،‬فقــد اســتخدمت‬
‫لغــة قريبــة التنــاول‪ ،‬دون تكلــف بالغــي‪ ،‬شــبيهة بلهجــة اإلعالنــات الرسيعــة التــي‬
‫تجــرك عــى البقــاء لســاع املزيــد‪ ،‬بــدون أي تعــال يقــدم النــص نفســه كتكــرار ورد‬
‫سابقاً بصيغ مختلفة رصعه الكاتب بسري ذاتية معروفة ضمنت له املتابعة وبأقل‬
‫قــدر مــن الجهــد الفنــي‪.‬‬
‫‪263‬‬ ‫رطم ماشه يبيللا يئاورلل »لاجرلا دالب«‬
‫قيفش مشاه‬

‫هاشم شفيق‬

‫«بالد الرجال» للروائي الليبي هشام مطر‪:‬‬


‫األفق املسلح‬

‫يطــرح الــروايئ الليبــي يف باكورتــه الالفتــة «يف بــاد الرجــال» عــامل الطفولــة‬
‫بــكل متظهراتــه اإلنســانية واألنطولوجيــة‪ ،‬ذلــك العــامل الــذي يتعــرض يف أزمنــة‬
‫الديكتاتوريــات إىل االضطهــاد الســايكولوجي عــر وســائل شــتى‪ ،‬أبرزهــا خلخلــة‬
‫الحيــاة العامــة‪ ،‬والهيمنــة املطلقــة عــى كل التحــوالت الجاريــة يف ظلهــا‪ ،‬حيــث‬
‫تســود الرؤيــة الواحديــة واملنطــق الواحــد والفكــر الواحــد ليكــون هــو الــذراع الطــوىل‬
‫والقــوة الضاربــة للحيــاة املدنيــة‪ ،‬ليتبعهــا بعــد ذلــك غيــاب األفــق الطفــويل‪ ،‬ليظهــر‬
‫بدي ـاً عنــه األفــق املســلح‪ ،‬واملســتقبل عــر ذلــك يغــدو أداة غيبيــة‪ ،‬غــر معلــوم‬
‫نســقه يف نهــج الحيــاة وســياقها اليومــي مــن خــال الراهــن‪ ،‬فتتزعــزع حينهــا اإلرادة‬
‫اإلنسانية وتنكفئ‪ ،‬حني تأخذ آرصة البيت بالتفكك والتداعي‪ ،‬خصوصاً يف الحياة‬
‫االجتامعيــة‪ ،‬حيــاة املنــزل املراقــب‪ ،‬واألب الغائــب لــدواع سياســية‪ ،‬أو الهــارب‪ ،‬أو‬
‫الســجني لــدى الســلطات األمنيــة‪ .‬األمومــة بدورهــا تتعــرض إىل االنطــواء واالنــزواء‬
‫وترقّــب الحالــة اليوميــة للزمــن العائــي الــذي يســوده نــوع مــن اإلحبــاط يف ســرورته‬
‫الزمنيــة‪ ،‬بغيــاب مدمــاك رئيــس يف العائلــة الــذي هــو األب‪ ،‬ذلــك األب املطــارد‬
‫واملالحــق بســبب أفــكاره وآرائــه السياســية ورؤيتــه املختلفــة لنظــام الحكــم املســتبد‬
‫والشــمويل‪ ،‬حيــث جميــع الســلطات يف البلــد ترتكــز يف يــد شــخص واحــد‪ ،‬ال غــر‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪264‬‬

‫هــو الطاغيــة والجــرال والحاكــم الجلــف والقــايس‪ ،‬ذو الــرؤى البدويــة غــر الحرضيــة واملدنيــة البتــة‪.‬‬

‫كل هــذا يــراه الطفــل ســليامن الــذي ترســم مخيلتــه الطازجــة عــامل املخابــرات ورجالهــا وتحركاتهــا‬
‫يف البلد أوالً‪ ،‬ثم املحلة والحارة الصغرية‪ ،‬ثم الزقاق‪ ،‬انتها ًء بالعائلة املراقبة واملحسوبة خطواتها‪،‬‬
‫حتــى يف غيــاب األب املختفــي واملطــارد‪ ،‬تحســب كل نأمــة‪ ،‬فثمــة دامئــا عيــون تراقــب‪ ،‬تســجل‬
‫وتيش‪ ،‬وتحيص الصغرية والكبرية‪ ،‬فالجريان أيضاً يكونون أحياناً أدالء لرجال الدولة الرسية‪ ،‬يراقبون‬
‫جارهــم‪ ،‬ليكونــوا هــم يف مأمــن أوالً وليقبضــوا مثــن عملهــم ثانيــة‪.‬‬

‫هكــذا هــي األحــوال يف الــدول التــي يتحكــم فيهــا رجــل واحــد‪ ،‬وقــذايف ليبيــا وغــره مــن الطغــاة‬
‫القوميــن خــر مثــال عــى ذلــك‪.‬‬

‫ســليامن الطفــل الصغــر ابــن الســنوات التســع وهــو الــراوي األســاس يف الروايــة يــروي‪ ،‬ســرة‬
‫املــكان والزمــان مع ـاً‪ ،‬ينضــاف إليهــا ســرة النــاس أيض ـاً وأقــرب النــاس إليــه‪ ،‬هــو بالتأكيــد األب‪،‬‬
‫املتــواري عــن األنظــار‪ .‬زمــن الروايــة هــو نهايــة الســبعينات مــن القــرن املنــرم‪ ،‬واملــكان هــو طرابلــس‬
‫العاصمــة الليبيــة‪ ،‬حيــث البحــر والحــرارة القائظــة يف الصيــف واألســواق التــي يذهــب إليهــا معيــة‬
‫أمــه‪ ،‬لتتســوق مــا يحتاجــه املنــزل والعائلــة‪ ،‬بــن فــرة وأخــرى‪ ،‬يف إحــدى هــذه الزيــارات إىل الســوق‪،‬‬
‫يشــطح خيــال الصبــي‪ ،‬مح ّدثـاً نفســه‪ ،‬بأنــه قــد رأى أبــاه مــن بعيــد‪ ،‬يضــع نظــارات ســوداء وهــو يســر‬
‫يف الطــرف اآلخــر مــن الشــارع‪ ،‬ولكنــه ال يلـ ّوح أو يــأيت اليهــم ليســلم لــي يــرح الصبــي لــأب الحالــة‬
‫املأوســاوية التــي هــم فيهــا‪ ،‬حــن تقــوم أمــه بحــرق كتــب أبيــه‪ ،‬يف الــر‪ ،‬أو ليحدثــه عــن الســيارة التــي‬
‫تقــف كل يــوم أمــام منزلهــم ويطــرح هــذا الشــخص الــذي يف الســيارة وهــو رجــل املخابــرات دون تــو ّرع‬
‫أسئلته اليومية عن األب املختفي لزوجته التي تتهرب كعادة أية زوجة يف مثل حالتها من األسئلة‬
‫امللحــة واملتكــررة عــن مــكان األب وحياتــه األخــرى‪.‬‬

‫يقع األب يف قبضة الرشطة الرسية هو ومجموعة من أصدقائه‪ ،‬ومل يبق سوى موىس صديق‬
‫األب رجــل األعــال والســيايس غــر املتطامــن مــع النظــام الدمــوي يف ليبيــا‪ ،‬مثــة مــن يــي برشــيد‬
‫أســتاذ الفــن الــذي يُــد ّرس ســليامن أحــد املــواد الفنيــة‪ ،‬رشيــف عائلتــه متواطئــة مــع النظــام هــو‬
‫ووالــده وأمــه التــي تنقــل أخبــار العوائــل إىل زوجهــا الــذي يو ِقــع باملشــتبه بهم وغري امليّالني إىل نظام‬
‫حكــم الجامهرييــة‪ ،‬أســتاذ رشــيد يهــدي األب قبــل غيابــه ووقوعــه بــن براثــن الســلطة‪ ،‬يهديــه كتــاب‬
‫«الدميوقراطيــة اآلن» ســليامن الصغــر يُــري رشيــف الكتــاب‪ ،‬الصبــي ســليامن لــه صديــق ثقــة هــو‬
‫كريم‪ ،‬دامئاً يكونان معاً‪ ،‬عىل البحر‪ ،‬أو يف الزقاق يلعبان‪ ،‬أو عىل السطح يلهوان ويصنعان اشياء‬
‫لغــرض مواصلــة حيــاة الطفولــة والصبــا‪ ،‬ســليامن إضافــة إىل دروســه املدرســية‪ ،‬يأخــذ أيض ـاً حصــة‬
‫املوســيقى كــادة إضافيــة تقــع خــارج دروســه‪ ،‬وهــو تعلــم النوتــة والعــزف أو الــرب عــى مفاتيــح‬
‫البيانــو‪ ،‬يف هــذه األثنــاء يختفــي االســتاذ رشــيد مــن املدرســة‪ ،‬فيظــن ســليامن أنــه ذهــب ليدافــع عــن‬
‫‪265‬‬ ‫سملا قفألا‬

‫أبيــه الــذي ســيحاكم قريب ـاً ليثبــت براءتــه مــن أي انتــاء ســيايس لحــزب معــن‪ ،‬لكــن األمــور مل تج ـ ِر‬
‫قيفش مشاه‬

‫هكــذا‪ ،‬بــل أســتاذ رشــيد ســيحاكم ويعــدم بطريقــة همجيــة وبربريــة‪ ،‬أمــام حشــود مــن املوالــن تطالب‬
‫بإعــدام الخائــن‪ ،‬تهيــج ومتــوج وتلكــم قبضاتهــا الهــواء ويشــق زعيقهــا فضــاء ملعــب كــرة الســلة الكبــر‬
‫والواســع واملصمــم وفــق املعايــر الدوليــة للمالعــب العامليــة‪ ،‬مطالبــة بإعــدام الخونــة‪.‬‬

‫إضافــة إىل هــذه األســاء هنــاك أيضــا نــارص الــذي تبحــث عنــه الرشطــة الرسيــة والــذي رمبــا‬
‫يــرد اســمه يف اعرتافــات األســتاذ رشــيد‪ ،‬ونــارص هــذا صديــق للوالــد وصديــق أيض ـاً لــأم‪ ،‬أحيانــا‪،‬‬
‫يتعاطيان الرشاب يف منزل األب فرج الديواين‪ ،‬األم متحررة ولكنها ُمحبّة ومخلصة لوالده‪،‬فاليسار‬
‫يعتني بالحريات‪ ،‬ولكن هناك حدود أيضاً للعالقة‪ ،‬فالوالد يعرف كيف أن يختار أصدقاءه‪ ،‬نارص‬
‫ســيغيب بعــد أن يســتدل عــى عنــوان بيتــه عــن طريــق مكاملــة تلفونيــة يعطــي فيهــا ســليامن الصبــي‬
‫ِ‬
‫املخاطــب عــى الجهــة الثانيــة مــن الخــط‪ ،‬يعطــي لرجــل املخابــرات‬ ‫دون أن يعــرف مــا هــي هويــة‬
‫عــى الهاتــف اســم الســاحة القريبــة مــن بيتــه حيــث يســكن يف ميــدان الشــهداء وهــو املــكان الــري‬
‫للمجموعــة الثوريــة املناهضــة للحكــم الديكتاتــوري‪.‬‬

‫شخصيات أخرى تربز يف الرواية‪ ،‬ولكنها تبدو ظلية‪ ،‬تظهر لتمأل املشهد‪ ،‬مثل خالد الشاعر‪،‬‬
‫ونورة شقيقا األم‪ ،‬خالد يذهب إىل أمريكا ويتزوج أمرأة شقراء وهو املتحدّر من جذر بدوي‪ ،‬يعود‬
‫ويــأيت بزوجتــه التــي ال تعــرف كيــف تنســجم مــع عائلتــه‪ ،‬بــل تنطــوي عــى نفســها صحبــة كتــاب‪ ،‬أمــا‬
‫ســليامن فأنــه محــاط أيضـاً بشــلة الحــارة كريــم ومســعود وعــي ورشيــف ولــكل واحــد منهــم شــخصيته‬
‫وظلــه املائــج بــن الشــخصيات البــارزة يف الروايــة‪ ،‬وخصوص ـاً الــراوي الــذي هــو الصبــي ســليامن‪،‬‬
‫وأستاذ رشيد وموىس واألب وسريته وذكراه املهيمنة عىل إيقاع ومرسى حياة العائلة واألصدقاء ‪.‬‬

‫كان فــرج امليــداين األب سياســياً‪ ،‬يحــاول أن يُغـ ّـر مــن الوضــع الســائد يف ليبيــا هــو ومجموعــة‬
‫معــه يجتمعــون يف شــقة يف ميــدان الشــهداء‪ ،‬يكتبــون البيانــات السياســية وينتقــدون مــا يجــري يف‬
‫البــاد مــن أضطهــاد وقمــع واعتقــاالت مــن قبــل رجــاال ت القــذايف‪ ،‬يختفــي األب يف مهــات‪ ،‬ثــم مــا‬
‫ـن‬
‫يفتــأ بعــد طــول غيــاب أن يعــود اليهــم‪ ،‬إىل أن يقــع يف قبضــة املخابــرات التــي ظلــت تراقــب وتتحـ ّ‬
‫ـب‬
‫الفــرص مــن أجــل القبــض عليــه‪ ،‬يأخذونــه مــن البيــت‪ ،‬نجــوى زوجتــه وصديقــه مــوىس يقومــان غـ ّ‬
‫ذلــك‪ ،‬بحــرق الكتــب ودفــن الرمــاد تحــت تــراب الحديقــة‪.‬‬

‫إن روايــة «يف بــاد الرجــال‪ ،‬روايــة ممتعــة‪ ،‬مثــرة بأحداثهــا ووقائعهــا العينيــة‪ ،‬يف بــاد ال تضمــر‬
‫ســوى الــر لرجالهــا‪ ،‬روايــة تراجيديــة‪ ،‬تعكــس مشــاعر الحــب والخيانــة والخــوف والهلــع والهــاك‬
‫الــذي هــو عنــوان كبــر يف عهــد ليبيــا القــذايف‪ ،‬حيــث القائــد وحــده يف الســاحة والبقايــا مســوخ‪،‬‬
‫رتهاتــه وأقوالــه وبهلوانياتــه وتخريفــه الدائــم يف كتابــه األخــر‪،‬‬
‫ورشاذم وإمعــات‪ ،‬عليهــا أن تنصــت ل ّ‬
‫ودائــب الحديــث يف خطبــه الجوفــاء عــن االشــراكية الجديــدة يف جامهرييتــه العظمــى‪ ،‬بينــا هــو‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪266‬‬

‫بلــد املافيــا الحاكمــة مــع شــلة مــن أقربائــه وأوالده الذيــن عاثــوا فســادا ً يف تاريخ ليبيا‬
‫الناصع وحولوا الشعب إىل قطيع منصت ألفعال شاذة وهيستريية من لدنّه ولد ّن‬
‫أوالده الذين يتحكمون برتاث وتاريخ ومقدرات ليبيا اقتصادياً واجتامعياً وسياسياً‪،‬‬
‫مانعــن عــن النــاس كل يشء‪ ،‬الســفر والكتــب واملشــاهدة‪ ،‬حريــة الــرأي واملعتقــد‬
‫والتفكــر‪ ،‬ومسـ ّودين بأصابعهــم امللطخــة بالــدم دســتور البــاد بالهذيــان املتواصــل‬
‫لرثثرات القذايف وتب ّنيه ألقوال جاهلية يريد أن يصنع منها عاملاً ودستورا ً وقوانني‬
‫دامئــة ليــس لليبيــا فقــط‪ ،‬بــل للبرشيــة جمعــاء‪.‬‬

‫بعــد ذلــك‪ ،‬يخــرج األب مــن الســجن محطـاً‪ ،‬مــن التعذيــب‪ ،‬مســحوق الوجــه‬
‫والعظــام‪ ،‬الكدمــات والجــراح والفتــوق متـاً وجهــه وجســده األزرق الطعــن‪ ،‬مــوىس‬
‫يرحل إىل القاهرة ومعه سليامن حني يصبح شاباً‪ ،‬منهياً تعليمه ومواصالً إياه يف‬
‫القاهــرة لنيــل شــهادة أعــى‪ ،‬حــال وصولــه يبــدأ مــوىس العمــل يف جبــل املقطــم‪،‬‬
‫عامـاً بتقطيــع الحجــارة‪ ،‬بينــا ســليامن يبــدأ حيــاة أخــرى يف القاهــرة‪ ،‬بعــد أن أنهــى‬
‫دراســته يعمــل صيدالنيـاً‪ ،‬يعيــل نفســه ويراســل األب والوالــدة ويتحــدث إليهــم عــر‬
‫التلفــون املراقــب دامئـاً‪.‬‬

‫كان حلــم ســليامن أن يصبــح موســيقياً وليــس عامـاً بســوائل الــدواء‪ ،‬وظــل يحــن‬
‫طــوال فــرة بقائــه يف القاهــرة‪ ،‬إىل ليبيــا والبحــر وصديقــه كريــم واىل غرفتــه والســطح‬
‫الــذي يفيــض بالنجــوم وعــوامل طفولتــه األوىل‪ ،‬العبـاً قــرب شــجرات التــوت‪ ،‬أو نــازالً‬
‫إىل الســاحل ليزيــل مــع صحبــه عــرق الصيــف‪ ،‬لكنــه كان كلــا دهمــه الحنــن‪ ،‬مييــل‬
‫ليطمنئ نفســه بأنه نجا من الخدمة العســكرية التي ســاقت كل صحابه إىل القتال‬
‫والحرب يف تشاد‪ ،‬لقد نجا من املوت العبثي‪ ،‬بيد أن الحكومة القذافية وصفت‬
‫الهاربــن مــن الخدمــة العســكرية أو غــر املنخرطــن فيهــا بالــكالب الضالــة‪ ،‬والــده‬
‫ستســوء حالتــه فيجــد بعــد ألي عم ـاً‪ ،‬هــو مش ـغُل ماكنــة يف معمــل للمعكرونــة‪،‬‬
‫ولكنــه كعادتــه راح يزجــي أوقــات فراغــه بالقــراءة ليقــرأ للعــال أيض ـاَ صفحــات مــن‬
‫كتاب «الدميوقراطية اآلن» الذي ينجو من الحريق حني يخبئه سليامن عن موىس‬
‫وأمــه لحظــة قيامهــم بإحــراق الكتــب‪ ،‬كونــه فيــه إهــداء مــن األســتاذ رشــيد إىل والــده‪،‬‬
‫فيعتقــل مــرة اخــرى ويغيــب يف غياهــب الســجون القذافيــة‪.‬‬

‫إن روايــة «يف بــاد الرجــال» التــي صــدرت عــن «دار املنــى» وع َربتهــا ســكينة‬
‫ابراهيــم هــي مــن الروايــات القليلــة املؤثــرة واملفعمــة بالحقيقــة والخيــال الطفــويل‪.‬‬
‫‪267‬‬ ‫فسوي ميلحل »نانسأ الب فوخ«‬
‫يساي ةمطاف‬

‫فاطمة ياسني‬

‫«خوف بال أسنان» لحليم يوسف‪:‬‬


‫القارئ رشيك يف الرعب‬

‫يف «خــوف بــا أســنان» الصــادرة حديثــا عــن «دار نــون» باللغتــن الكرديــة‬
‫واإلنكليزيــة يلــون الكاتــب حليــم يوســف خلفيــة روايتــه بلــون أصفــر يتــدرج مــن الفاتــح‬
‫إىل القاتــم‪ ،‬ويركــز بــؤرة الروايــة إىل هــذه الخلفيــة حتــى تتحــد بقــوة إىل حــد االلتحــام‬
‫مــع املشــهد الــروايئ‪ ،‬فتصبــح وكأنهــا موجــة لونيــة واحــدة‪.‬‬

‫ينطــي اللــون األصفــر عــى كائنــات الصــورة ويطغــى عــى أيــة تباينــات خلقيــة أو‬
‫ثقافيــة ممكنــة فيــا بينهــا‪ ،‬فيظهــر النــاس متشــابهني إىل حــد التطابــق‪ ،‬يوحدهــم‬
‫الخــوف الــذي يتحــول مــن شــعور إنســاين عابــر وليــد لحظــات معينــة إىل كائــن أزيل‬
‫مهيمــن‪ ،‬أو رفيــق درب يســاكن أهــايل منطقــة يف شــايل ســورية ويعبــث بأحالمهــم‬
‫ومســتقبلهم‪.‬‬

‫تالحق الرواية منذ لحظتها األوىل كاتباً يدعى «موىس» وتسلط ضو ًءا ساطعاً‬
‫عــى شــاهدة قــره‪ ،‬مــا يوحــي بجــو تشــاؤمي تفرضــه الروايــة بعــرض شــاهدة القــر‬
‫مبقيــاس مضاعــف‪ ،‬تبــدو للوهلــة األوىل مــرآة يــرى فيهــا الكاتــب نفســه متحسس ـاً‬
‫أملـاً عميقــا يف أســفل ظهــره‪ ،‬دون أعــراض طبيــة تذكــر‪ ،‬هــو مجــرد أمل قطنــي يرحــل‬
‫عميقــا يف الجســد ويــرك أثــره البالــغ يف شــعور الكاتــب قبــل أن يتحــول األمل إىل‬
‫خــوف مــن ظهــور «ذيــل»‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪268‬‬

‫ميــد الكاتــب خطــوط الخــوف التــي يطــوق بهــا بطلــه مــوىس حتى تتحول إىل قضبان تزنره بعنف‪،‬‬
‫فيخيل إليه أنه يرى وجهاً مطموسـاً ال تظهر منه ســوى عيون صفراء تالحقه بال هوادة‪.‬‬

‫يثقل الكاتب بطله موىس برموز الخوف‪ ،‬أحدهام داخيل يخلق له ذيالً‪ ،‬والثاين خارجي يتمثل‬
‫بوجه غائب القسامت إال من عيون صفراء مرعبة‪ ،‬وثالث عاطفي يأيت من هاجس فقدان حبيبته‬
‫ليــى حتــى يكتمــل تغليــف مــوىس مبــادة الخــوف الــرف‪ ،‬ثــم تطلقــه الروايــة يف شــوارع قامشــلو‬
‫إحــدى مــدن الشــال الســوري‪.‬‬

‫بعــد أن تنتهــي الروايــة مــن تقديــم بطلهــا تقــدم الجغرافيــا التــي عــاش فيهــا وتســتعرض مضمونهــا‬
‫اإلثنــي والقومــي‪ ،‬وتــرح بطريقــة غــر مبــارشة أســباب عمــق الخــوف الذي يوثق موىس ويحيط بأهل‬
‫املدينة جميعاً‪ ،‬الذي تجىل هنا بسلطة مريعة قاسية تربض كحجر ثقيل عىل صدر السكان تؤكد‬
‫حضورها بتمثال من حجر قاس يتوســط الســاحة ميثل القائد الذي يطلقون عليه صفة «الخالد»‪.‬‬

‫التناقض العريب الكردي الذي خلقته السلطة لتقتات من ريعه الوفري‪ ،‬الذي وفر لها استقرارا ً‬
‫يقــاس بالعقــود‪ ،‬تجــى عــى أرض الجزيــرة بأحــداث يوميــة وردات أفعــال عليهــا‪ ،‬مــا تســبب يف‬
‫إشــعال انتفاضــة كرديــة أرادت االنتصــار لحقوقهــا‪ ،‬ليــس مــن جريانهــا بــل مــن رأس الفتنــة عــن طريــق‬
‫كــر رأس متثــال «الخالــد» والوثــوب‪ ،‬مبســاعدة خشــبة أقــى مــن الــزان بكثــر‪ ،‬فــوق شــعور الخــوف‬
‫لتصطــدم بعيــد ذلــك بــر ّد نــاري ال هــوادة فيــه يجــد بعــده الســكان أنفســهم مجــددا ً وجه ـاً لوجــه مــع‬
‫الخــوف ذاتــه‪ ،‬لكــن بأشــكال جديــدة أكــر رشاســة‪.‬‬

‫الخــوف مــن الجــراد كان أحــد هــذه األشــكال‪ ،‬فالجــراد أصبــح ميــأ أي منطقــة يشــكل الكرد غالبية‬
‫ســكانها كـ «زورافا» يف ريف دمشــق‪ ،‬باإلضافة لقامشــلو طبعاً‪.‬‬

‫الجراد الذي يأكل األخرض واليابس ويفتش البيوت ويكتب التقارير بالناس ويرسلهم إىل حيث‬
‫ال يعلم إال الله باإلضافة لقلة الحيلة وبعد الحبيبة هم ما أوصلوا موىس إىل أملانيا كمهاجر بتذكرة‬
‫«ون ويــه» أملــه القضــاء عــى خوفــه والتخلــص منــه قبــل أن ينقــض عليــه وهــو يف بيتــه وبــن أهلــه‪..‬‬
‫مــن خــال رسد أحــداث الروايــة‪ ،‬الحقيقــي منهــا واملتخيــل‪ ،‬ينجــح الكاتــب ليــس يف تفســر خوفــه‬
‫أمام قارئه فحسب؛ بل يستعني بالقارئ نفسه‪ ،‬بعد أن يحرضه عىل استخراج أسباب من الذاكرة‬
‫واملحيــط‪ ،‬تجعلــه رشيــكاً حقيقيـاً ومتواطئـاً مــع الكاتــب يف تربيــر استشــعار دائــم لخــوف كامــن يف‬
‫نقطــة مــا مــن الشــعوره‪ ،‬قبــل أن يعــري مــوىس يف نهايــة روايتــه خوفــه املتمثــل بالرجــل امللثــم بعــد أن‬
‫يباغتــه بحركــة رسيعــة‪ ،‬ليكتشــف أن الرجــل الــذي لطاملــا أخافــه وأرعبــه هــو مــوىس نفســه قــد غطــى‬
‫وجهه بلثام وعينيه بلون أصفر ليســتطيع بذلك التمويه أن يربر ملوىس الحقيقي خوفه من موىس‬
‫امللثــم‪ .‬بعــد ذلــك يتعاطــى مــوىس بــا مبــاالة مــع الذيــل الــذي نبــت حقيقــة مــن البــرة املوجــودة‬
‫يف أســفل ظهــره فيــرح باستســام كيــف يجلــس عليــه ويتعامــل معــه كــا باقــي أجــزاء جســده حتــى‬
‫‪269‬‬ ‫رلا يف كيرش ئراقلا‬

‫أنــه وظــف الجــراد‪ ،‬الــذي كان ســبباً لخــوف أهــل قامشــلو‪ ،‬يف قضــم نهايــات هــذا‬
‫يساي ةمطاف‬

‫الذيــل دون أي اكــراث منــه‪ ،‬وبرباعــة مفاجئــة قبــل أن ينهــي الكاتــب قصته مع خوفه‬
‫يضيف عىل لوحته الفريدة صورة أفعى سوداء اقتحمت غرفته والتفت فوق رأسه‬
‫لتشــكل مــع أفــكا ٍر منبعهــا الذاكــرة كلمــة «خــوف»‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪270‬‬
‫‪271‬‬ ‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬

‫أوراق الفكر‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪272‬‬

‫محمد شاويش‬

‫يف املعنــى النفــي ‪ -‬االجتماعــي ملفهــوم‬


‫«الكرامــة» يف الثــورة الســورية‬

‫اندلعــت االنتفاضــات العربيــة الكــرى عــام ‪ 2011‬ألســباب تقــود عــادة إىل‬


‫الثــورات‪ :‬أهمهــا شــدة القهــر االقتصــادي املقــرون بقهــر ســيايس‪ .‬ويف مــر رفــع‬
‫شــعار «حريــة‪ ،‬كرامــة‪ ،‬خبــز»‪ ،‬ولعــل الشــعار الــذي رفــع يف بدايــة الهبــة الكــرى يف‬
‫سوريا كان أكرث اختصارا ً‪« :‬حرية وكرامة»‪ .‬لكن مسار الثورة السورية كام هو معلوم‬
‫اختلــف عــن مســار الثورتــن التونســية واملرصيــة اللتــن ســبقتاها‪ ،‬ولنــا أن نقــول إن‬
‫شــعار «الحريــة والكرامــة» كان يعـ ّـر عــن أشــواق كــرة كثــرة مــن النــاس يف املجتمــع‬
‫الســوري («بــكل مك ّوناتــه» كــا تعـ ّودوا أن يقولــوا)‪.‬‬

‫اشــتقّت كلمــة «كرامــة» (وهــي مثــل كلــات كثــرة مــن هــذا الحقــل الــداليل‬
‫قــد تغـ ّـر مدلولهــا مــع الزمــن) مــن «الكــرم»‪ ،‬وهــو يعنــي املكانــة االجتامعيــة العاليــة‬
‫املحرتمــة التــي تــأيت غالب ـاً مــن عراقــة النســب‪( .‬فتشــابه بذلــك كلمــة «الــرف»‪،‬‬
‫ولعلــك تــرى كيــف تغـ ّـرت داللــة الكلمتــن مــع الزمــن)‪.‬‬

‫ويقــال عــن الشــخص «أهــدرت كرامتــه» عندمــا يعامــل باحتقــار إذ الكرامــة تعنــي‬
‫االحــرام االجتامعــي‪ ،‬وهــي عكــس «الهــوان»‪ ،‬ويف العربيــة كان فعــل «أكــرم» نقيضـاً‬
‫لفعــل «أهــان» كــا تــرى يف قولــه تعــاىل «فأمــا اإلنســان إذا مــا ابتــاه ربــه فأكرمــه‬
‫ون ّعمــه فيقــول ريب أكرمــن‪ ،‬وأمــا إذا مــا ابتــاه فقــدر عليــه رزقــه فيقــول ريب أهانــن»‬
‫(الفجــر ‪.)16 - 15‬‬
‫‪273‬‬ ‫ا ةروثلا يف »ةماركلا« موهفمل يعامتجالا ‪ -‬يسفنلا ىنعملا يف‬

‫و«الكرامة» يف لغتنا الحارضة ترادف «العزة»‪ ،‬و «العيش الكريم» نقيضه «العيش الذليل»‪.‬‬
‫شيواش دمحم‬

‫تشغل الكرامة يف سلّم القيم يف مجتمعنا قيمة عليا‪ ،‬واملشكلة الكربى يف املجتمع السوري‬
‫أيــام حافــظ األســد كانــت اإلهانــة املتع ّمــدة التــي يتلقاهــا اإلنســان يف شــتى جوانــب الحيــاة العامــة‪،‬‬
‫ويف أواخــر عهــد األب وأوائــل عهــد االبــن جــرت محــاوالت مــن الســلطة لتخفيــف األشــكال الفاقعــة‬
‫جههــا رجــال الســلطة لإلنســان العــادي‪ ،‬لكنهــا مــع بــدء ثــورة ‪ 2011‬عادت بحدّة‬
‫مــن اإلهانــات التــي يو ّ‬
‫مضاعفــة فاقــت حتــى الحقبــة التــي أســمتها املعارضــة الســورية «الحقبــة الهســتريية» (التــي بــدأت‬
‫يف نهايــة الســبعينات واســتغرقت الثامنينــات وبــدأت محــاوالت التخفيــف مــن حدتهــا يف نهايــة‬
‫التســعينات وبدايــة القــرن امليــادي الجديــد)‪.‬‬

‫ترتبــط مشــكلة الكرامــة مبشــكلة مصــادرة الحريــة‪ ،‬ويف الســياق العــريب يرتبــط الخضــوع القــري‬
‫بفكــرة االســتعباد وهــو قمــة «الهــوان»‪ ،‬و «العــزة» تعنــي عــدم الخضــوع‪ ،‬عــى حــن يعنــي الخضــوع‬
‫«الــذل» (وهــو مــرادف «للهــوان»)‪.‬‬

‫وعنــدي دوم ـاً تح ّفــظ مــن ميــول كــرة مــن معارصينــا إىل وصــل الحــارض بالتاريــخ البعيــد بصــورة‬
‫متعســفة‪ ،‬ويف الغالــب أعتقــد أن تفســر ظواهــر الحــارض بأحــداث مــر عليهــا ألــف ســنة هــو مــن‬
‫ّ‬
‫الوهــم املحــض‪ ،‬وعلينــا أن ال نحمــل عــى محمــل الجــد ميــل اإلنســان إىل أن يربــط أعاملــه بالتاريــخ‬
‫ـر‬
‫القديــم مــع أنهــا تجــد تفســرها الحقيقــي يف التاريــخ القريــب فقــط‪ ،‬والباحــث الــذي يريــد أن يفـ ّ‬
‫يفسهــا بظــروف إيطاليــا يف الســنوات التــي ســبقت ظهــور هــذه‬
‫ظاهــرة الفاشــية اإليطاليــة عليــه أن ّ‬
‫الفاشــية‪ ،‬فــإن أراد أن يتوســع يف البحــث جــاز لــه أن يعــود قرن ـاً أو قرنــن إىل الــوراء ال أكــر‪ ،‬أمــا أن‬
‫يصـدّق مزاعــم موســوليني الــذي كان يقــول (ومــن املحتمــل أنــه كان يصـدّق مزاعمــه ومــا يتو ّهمــه) أنــه‬
‫امتــداد لإلمرباطوريــة الرومانيــة‪ ،‬فهــو بهــذا سيشــبه طبيب ـاً نفســياً خائب ـاً يريــد أن يفهــم مــرض مريــض‬
‫نفــي يظــن أنــه نابليــون فريجــع إىل تاريــخ نابليــون!‬

‫لكننــي أظــن أن العــريب املرشقــي متكــن مقارنتــه مــن ناحيــة واحــدة فقــط مع العريب القديم الذي‬
‫كان يــرى يف مجــرد الخضــوع للملــوك إهانــة ال يقبلهــا وهــي أن كليهــا مل يجـ ّرب حــاالت مــن الدولــة‬
‫تكــون عالقتهــا مــع مواطنيهــا مســتندة إىل أســس أخــرى غــر القهــر واإلرغــام املبــارش عــى الطاعــة‬
‫باســتعامل القــوة الســافرة‪.‬‬

‫هــذا الشــعور بالهزميــة حيــال القــوة الســافرة يســتثري عــى الــدوام «أزمــة اســتالبية تغلّبيــة» كــا‬
‫ســميتها يف كتابــات قدميــة‪ ،‬وميكــن تحليلهــا بأنهــا شــعور باالنكشــاف أمــام قــوة ال تقــاوم‪ ،‬وللمحلــل‬
‫أن يــرى أن الســلطة التــي تظهــر نفســياً «كمرجــع اســتاليب» ســتقرن التمــرد بالذنــب‪ ،‬ويصبــح الفــرد‬
‫عرضــة دامئــة للشــعور بأنــه مالحــق أو مــروع مالحــق لذنــب ال يســتطيع حتــى أن مينــع نفســه مــن‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪274‬‬

‫ارتكابــه (ألنــه ال يعــرف ماهيتــه بالضبــط!)‪ .‬إن جمهوريــة الخــوف التــي أسســها حافــظ األســد وأوصلهــا‬
‫للكــال بعــد عــام ‪ 1979‬انبنــت عــى اســتثارة الشــعور بالذعــر عنــد املواطنــن ألنهــم دومـاً «مــروع‬
‫مذنبــن»‪ .‬وقــد كانــت ادعــاءات الســلطة «الوطنيــة» وأنهــا «قلعــة صمــود وتصــد» تقــوم بــدور تقديــم‬
‫مــرر تخويــن كل مــن يف ّكــر يف املعارضــة‪.‬‬

‫مفهــوم «الكرامــة» يعنــي عــى العكــس إحســاس الفــرد بأنــه أوالً «كائــن قــوي» يســتطيع الدفــاع‬
‫عــن نفســه وأنــه ثاني ـاً «كائــن أخالقــي» تتناغــم حقيقتــه األخالقيــة مــع متطلبــات املرجــع األخالقــي‬
‫الــذي يســتبطنه‪ ،‬وتعنــي أخــرا ً أنــه «إنســان ذو قيمــة ال ميكــن البخــس منهــا‪ ،‬ال طبقيـاً وال عنرصيـاً»‪.‬‬

‫وهــذا املفهــوم قــد يكــون مبنيـاً عــى عــى موقــف اســتاليب هــو بطبيعتــه مهتــز‪ ،‬وهــذا حــن يكــون‬
‫املرجــع الــذي يتــاءم الفــرد مــع متطلباتــه مرجعـاً غريبـاً معاديـاً يف األصــل‪ ،‬مثــل ابــن املســتعمرات‬
‫الــذي يعطيــه املســتعمر الشــعور بأنــه «متم ّيــز» عــن شــعبه‪ ،‬وهــو يســتخدم عــادة يف ذلــك أوهام ـاً‬
‫كأن يقــول املســتعمر للكــردي أنــه عــى كل حــال آري وليــس ســامياً أو أنــه يف الحقيقــة مجــرد مجــرد‬
‫مجــر عــى اإلســام!‪ ،‬ولكــن موقــف «الكرامــة» الســوي ينبنــي عــى أســاس مرجــع غــر اســتاليب‪ ،‬وقــد‬
‫ســميته ســابقاً «الضمــر»‪ ،‬ويف مثــال الكــردي يــرى الكــردي املســتند إىل الضمــر أنــه ذو قيمــة ألنــه‬
‫إنســان‪ ،‬وعــى هــذا ال يقبــل أن تبخــس قيمــة اإلنســان ال إن كان كرديـاً وال إن كان عربيـاً!‬

‫عــى أن «الكرامــة» ال تظهــر كإشــكالية فقــط يف الســياق الداخــي‪ ،‬أي يف العالقــة مــع ســلطة‬
‫محلية‪ ،‬بل تظهر كإشكالية يف العالقة مع العامل‪ ،‬ويف مرحلة «حركة التحرر الوطني» كان الغازي‬
‫األجنبــي القاهــر هــو املتسـ ّبب يف اســتثارة األزمــة االســتالبية بــكل أشــكالها‪ ،‬وكان فعــل الثــورة عــى‬
‫املستعمر معناه محاولة الستعادة كرامة مهدّدة أو مفقودة‪ ،‬ويف حاالت مقاومني كبار مثل األمري‬
‫عبــد القــادر وعمــر املختــار كان الثائــر يقيــم متاهيـاً بــن ذاتــه وهويتــه الثقافيــة‪ ،‬ويــرى أنــه حــن يدافــع‬
‫عــن هويتــه مــن خطــر الســحق فإمنــا يدافــع عــن كرامتــه‪.‬‬

‫ولكــن واقعــة «الهزميــة الحضاريــة» اتضــح أنهــا ذات أبعــاد تتجــاوز مجــرد الهزميــة يف املعركــة‬
‫العســكرية‪ ،‬فحتــى انســحاب القــوة االســتعامرية العســكرية مل يكــن كافي ـاً لــزوال مشــاعر «الهزميــة‬
‫البي يف درجة السيطرة عىل العلوم‬
‫الحضارية»‪ .‬لقد ظلت واقعة التبعية االقتصادية‪ ،‬والتفاوت ّ‬
‫الطبيعيــة والصناعــة تحكــم عــى ابــن املســتعمرات (ويف املثــال الــذي نهتــم بــه هنــا‪ :‬ابــن بالدنــا)‬
‫باســتمرار «الشــعور بالدونيــة» (وهــو االســم الشــائع ملــا أســميه «األزمــة االســتالبية»)‪.‬‬

‫والنقيــض الــذي هــو «الكرامــة» كان يعنــي عنــد مــن امتلــك «الوعــي املناســب» الســعي لتجــاوز‬
‫هذه اله ّوة بيننا وبني الدول الصناعية يف السيطرة عىل العلم الطبيعي وعىل التقنية التي نحتاجها‬
‫لنصبح غري تابعني بل قادرين عىل املنافسة‪.‬‬
‫‪275‬‬ ‫ا ةروثلا يف »ةماركلا« موهفمل يعامتجالا ‪ -‬يسفنلا ىنعملا يف‬

‫وكــا نــرى فــإن صاحــب «الوعــي املناســب» هــو وحــده مــن يطــرح بالجذريــة‬
‫شيواش دمحم‬

‫الالزمة مسألة «الكرامة» يف أبعادها الداخلية (بناء سلطة تنبثق من إرادة مواطنيها‬
‫وليــس مــن قهرهــم وإرغامهــم) ويف أبعادهــا الخارجيــة (إزالــة الهــوة العلميــة والتقنيــة‬
‫مــع البــاد املهيمنــة عامليـاً يف مجــال العلــوم الطبيعيــة والتقنيــة)‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪276‬‬
‫‪277‬‬ ‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬

‫أوراق اإلعالم‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪278‬‬

‫اينس كابرت (‪)Ines Kappert‬‬


‫سورية بصفتها موضوعا ثانويا ً‬

‫تأيت هذه املقالة ضمن ملف شهري‪ ،‬يحاول إلقاء الضوء عىل بعض القضايا‬
‫التــى تــرى الجريــدة أنهــا غايــة يف األهميــة‪ ،‬بينــا يتــم تداولهــا يف اإلعــام عــى أنهــا‬
‫يشء ثانوي‪.‬‬
‫تتحــدث إينــس يف هــذه املقالــة بقالــب ســاخر منتقــدة عــدم الجديــة يف تناول‬
‫املأســاة الســورية مفككــة بعــض األفــكار الجاهــزة لــدى القارئ األملاين‪.‬‬
‫وتكشــف مــدى اختــال املنظومــة املوضوعيــة يف التغطيــة اإلعالميــة‪ ،‬واعتــال‬
‫املنظومــة األخالقيــة لقيمــة الحــدث‪ ،‬خاصــة فيــا يتعلــق بتســليط الضــوء عــى‬
‫داعــش والتطــرف فقــط‪ ،‬مــع تــرك التطــرف األكــر واملجــزرة املســتمرة منــذ ســنوات‬
‫بحــق الشــعب الســوري مــن قبــل النظــام‪ ،‬وتجاهلهــا لــه وكأنهــا يشء ثانــوي‪ .‬مختتمة‬
‫املقالة بأيهــا الســوريني دعونــا يف ســام‪ ،‬أذهبــوا موتــوا بعيــدا‪ ،‬موتــوا بصمــت!‬
‫املرتجم‬

‫ليس عليك إال أن تدقق وبعناية‪ ،‬كم هو عدد املرات التي ذكر فيها خرب مذبحة‬
‫جامعية يف سوريا عىل الصفحة األوىل من الجرائد الصادرة يف أملانيا؟ لن يتجاوز‬
‫ذكرها عدد أصابع اليد الواحدة‪ .‬لذلك عملت صحيفة «التاتز» عىل تركيز اهتاممها‬
‫عىل هذا البلد الحزين بشكل كبري كام مل تفعل أي صحيفة أملانية أخرى‪.‬‬
‫‪279‬‬ ‫هتفصب ةيروس‬
‫‬ ‫ًايوناث اعوضوم ا‬

‫ولكن كيف حدث ذلك؟‬


‫( ترباك سنيا( ترباك سنياا‬

‫كيف ميكن ألحدهم ان يجد يف تدمري حياة ‪ 22‬مليون إنسان موضوعاً ثانويا؟‬

‫مع أننا رأينا صور الدمار الشامل يف كل من حمص وحلب‪ .‬ومع أن األمر مل يخل من تفسريات‬
‫مفزعة‪ .‬ومتت مشاهدته مرات عديدة «موثقا» حتى يف محطات إعالمية حكومية مثل ‪ ZDF‬و‪.ARD‬‬
‫غي ذلك من واقع األمر شيئاً؟‬
‫ولكن‪ ،‬هل ّ‬
‫ال‪ ...‬فقد بقيت سوريا خربا ً ثانوياً‪ ،‬والسبب بكل بساطة أن السوريني ليسوا أوروبيني!‬

‫متاما‪ ،‬كام مل ميكن سكان رواندا يف السابق ينتمون إىل أوروبا‪.‬‬

‫املجتمع الدويل الحضاري واملرهف فضل الجلوس عىل مســافة‪ ،‬مشــرا ً إىل هؤالء الربابرة‪،‬‬
‫قائلــن لهــم‪ :‬اذهبــوا بعيــدا وموتوا لوحدكم!‬

‫وألن وصمــة العــار لــن تــدوم طويــا‪ ،‬بقــدر مــا تطــول ســاعات العمــل املجهــد‪ ،‬فليــس لدينــا وقت‬
‫للتفكــر بهــذه الــكالم حــول اإلنســانية وواجــب الحامية الدولية‪.‬‬

‫كذلــك بعــد ان نعيــد التفكــر‪ ،‬لــن تكــون ســوريا أحــد مواضيــع منزلنــا الدافــئ‪ ،‬وإمنــا ســتبقى يف‬
‫الخــارج‪ ،‬انتهــى‪.‬‬

‫نحن الناس الطيبون نختار املواضيع التي تهمنا بعناية‪« ،‬داعش» مثال‪.‬‬

‫و»داعــش» عبــارة عــن اختصــار يســخر مــن «الدولــة اإلســامية»‪ ،‬تلــك الدولــة التــي نــردد اســمها‬
‫نحــن الغربيــون ببالــغ الجديــة‪.‬‬

‫ولكــن ملــاذا أصبحنــا مهتمــن بــه؟ بــدأ انتباهنــا بعــد أن رأينــا الســفاح امللتحــي يســفك دمــاء‬
‫الصحفــي األورويب‪ ،‬مل يكــن ضحيتــه األوىل‪ ،‬ثــم مــاذا فعلنــا؟‬

‫استنفرنا ووقفنا غاضبني أمام هذا العرض الهمجي‪ ،‬فالغضب هو ما نفعله عادة!‬

‫إنه من الغباء‪ ،‬أن نستغرق كل هذا لندرك‪ ،‬أن امللتحي حامل السيف مل يكن إسالميا متدينا‪،‬‬
‫كام مل يكن أبدا شيئاً غريبا عنا‪.‬‬

‫مثــال‪ :‬مــن اهتــم بدراســة نظريــات شــتايس (‪ ،)Stasi‬مخابــرات أملانيــا الرشقيــة‪ ،‬ســيعلم أنهــم‬
‫يف يــوم مــا كانــوا أصدقــاء للمخابــرات األمريكيــة‪ .‬كذلــك الكــوادر املؤسســة لتنظيــم «داعــش» أتــوا‬
‫من خلفية عسكرية مخابراتية عراقية‪ ،‬الذين يف يوم ما كانوا كذلك أصدقاء للمخابرات األمريكية‪،‬‬
‫ذلك كان قبل أن يغزو بوش العراق ليمطر القنابل مدمرا البلد‪ ،‬هذا البلد الذي جمع رامسفيلد‪،‬‬
‫عــر دمــاره‪ ،‬ثروتــه الكبــرة‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪280‬‬

‫الضبــاط العراقيــون الفاقــدون ملناصبهــم واملحبطــون قدمــوا أنفســهم كمجموعــات دينيــة‪.‬‬


‫اســتخدمت القرآن لتجند الشيشــانيني واألوزبكســتانيني الذين يجهلون أصال ماهية القرآن‪ ،‬وذلك‬
‫لــي يتمكــن الدكتاتــور مــن وقــف الدميوقراطيــة القادمــة‪.‬‬
‫هــذا حــدث مــع الســوريني‪ ،‬الذيــن حاولــوا أن يحدثونــا مــن قبــل عــن ذلــك ولكــن هــل سنســتمع‬
‫لهــم اآلن؟ رمبــا!‬
‫اآلن تأكدنــا مــن خــال أحــد الصحفيــن الغربيــن القالئــل‪ ،‬كريســتوف رويــر (‪Christoph‬‬
‫‪ )Reuter‬الصحفي لدى «ديرشبيغل» الذي سافر يف السنوات املاضية إىل سوريا‪ ،‬ليتكلم مع‬
‫الســوريني مبــارشة عــى أرض الواقــع‪ .‬ومــن املثــر أن كريســتوفر‪ ،‬لديــه وجهــة نظــر بســيطة للغايــة‪ ،‬أن‬
‫مــن ال ميكــن الوثــوق بــه ليــس اإلنســان الســوري العــادي‪ ،‬بــل مــن ال ميكــن الوثــوق بــه هــو بشــار األســد‪.‬‬
‫كريستوفر ليس فقط خبريا ً بشؤون الرشق األوسط وإمنا يتقن التحدث بإحدى اللغات شديدة‬
‫الصعوبة والتعلم لدرجة االستحالة وهي «العربية»‪.‬‬
‫لقــد حصــل كريســتوف قبــل ســنة عــى كنــزه املهــم متمثــا بالهيــكل التنظيمــي لداعــش‪ ،‬الــذي‬
‫كان موجــودا ً لــدى أحــد قادتهــم املقتولــن‪ .‬كريســتوفر ذاتــه قــام بخــرق قناعاتنــا بشــكل صــادم‪.‬‬
‫حيــث يشــر إىل أن «داعــش» املجموعــة العربيــة املتوحشــة التــي تقــوم بتلــك املجــازر‪ ،‬لهــا‬
‫بشــكل مــا صلــة بنــا نحــن الذيــن نســتفيد بطريقــة مــا مــا يقومــون بــه!‬
‫كيف حدث ذلك؟ ال أحد يعلم عىل وجه الدقة‪.‬‬
‫عــى أيــة حــال نحــن األوروبيــون املرهفــون لدينــا مســؤوليات أهــم يجــب تحملهــا‪ ،‬مثــل الحفــاظ‬
‫عــى البيئــة وأعبــاء أخــرى مختلفــة وكبــرة‪ ،‬تــرك الالجئــن يغرقــون يف البحــر‪ ،‬مــع أن األمــر اختلــف‬
‫قليــا عــا كان يحــدث ســابقا‪.‬‬
‫رجــاء ال نريــد أن نســمع عــن ســوريا فذلــك يزعجنــا‪ ،‬فنحــن نرغــب بالعيــش طويــا‪ ،‬حتــى منتصــف‬
‫الثامنــن‪ ،‬لكــن كيــف ميكــن أن يتحقــق ذلــك؟ فأماكــن الســياحية محــدودة االســتطاعة‪ ،‬ولــن تتســع‬
‫للجميــع‪ ،‬وأيضــا مــاذا بشــأن الســوريني؟ عدنــا إىل هــذا الحديــث املزعــج‪.‬‬
‫أيها السوريون دعونا يف سالم‪ ،‬إذهبوا موتوا بعيدا‪ ،‬موتوا بصمت!‬
‫ترجمة أحمد محاميد‬

‫‪ -‬صحافيــة أملانيــة تعمــل يف صحيفــة «تــاز»‪ ،‬مهتمــة بامللف الســوري والروانــدي وحقوق‬
‫الالجئني‪.‬‬
‫لقراءة املقال األصيل يرجى الرجوع إىل الرابط االلكرتوين‪http://www.taz.de/!158565/ :‬‬
‫‪281‬‬ ‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬

‫أوراق الحوار‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪282‬‬

‫حاوره يف ستوكهولم‪ :‬مهند صالحات‬


‫قــال إن «رســائل مــن الريمــوك» ليــس فيلمـا ً‬
‫بــل قضية‬
‫رشــيد مشــهراوي‪ :‬الســينما الفلســطينية خلقــت‬
‫وطن ـا ً ال يمكــن احتاللــه‬

‫يــرى املخــرج والكاتــب الســيناميئ الفلســطيني رشــيد مشــهراوي أن «الســينام‬


‫الفلســطينية تشــبه الحالــة الفلســطينية والشــعب الفلســطيني‪ ،‬موزعــة عــى غــزة‬
‫والضفة والقدس واملحتلة يف ‪ 1948‬ومخيامت الالجئني يف األردن ولبنان سوريا‬
‫والشــتات حــول العــامل‪ ،‬وأي فلســطيني يف الداخــل أو الشــتات يصنــع فلـاً ميكــن‬
‫اعتبــاره هويتــه فيلمــه فلســطينية ألن الوطــن الفلســطيني جغرافيـاً مل يتبلــور بعــد»‪،‬‬
‫واضعـاً بذلــك أفقـاً بوســع العــامل المتــداد الســينام الفلســطينية‪.‬‬

‫مشــهراوي الــذي اســتضافته مؤخــرا ً فعاليــات مهرجــان ســتوكهومل للســينام‬


‫العربيــة‪ ،‬التــي هــي جــزء مــن عــدة مهرجانــات قصــرة ينظمهــا مهرجــان ماملــو‬
‫للســينام العربيــة يف ‪ 13‬مدينــة ســويدية عــى مــدار ‪ 12‬شــهرا ً‪ ،‬لعــرض فلميــه‬
‫الــروايئ «فلســطني ســترييو» والوثائقــي «رســائل مــن الريمــوك»‪ .‬يــرى أن األفــام‬
‫التــي يصنعهــا الفلســطينيون مــن خلفيــات ثقافيــة متعــددة حــول العــامل‪ ،‬تجمعهــا‬
‫الهويــة الثقافيــة واألحــام املشــركة ومتنــح الســينام الفلســطينية امتيــازا ً بــأن تكــون‬
‫‪283‬‬ ‫التحا نكمي ال ًانطو تقلخ ةينيطسلفلا امنيسل ا ‪:‬يوارهشم ديشر‬

‫أكــر تنوع ـاً مبســتويات متعــددة‪ ،‬لعــدم وجــود منــط واضــح ومحــدد لهــذه الســينام‪ ،‬فهــي تــأيت مــن‬
‫حالص دنهم ‪:‬ملوهكوتس يف هرواح‬

‫مــدارس مختلفــة ناتجــة عــن أن صناعهــا تعلمــوا الســينام يف مــدارس مختلفــة حــول العــامل‪ ،‬وهــذا‬
‫التنــوع يف زوايــا الرؤيــا ووجهــات النظــر يغنيهــا ويشــبهها بالوقــت نفســه‪.‬‬

‫يُعتــر مشــهراوي مــن أوائــل املخرجــن الفلســطينيني الذيــن صنعــوا ســينام داخــل فلســطني‪ ،‬أو‬
‫أسســوا للمرحلة الثانية من تاريخ الســينام الفلســطينية بحســب ما يراها مشــهراوي‪ ،‬حيث يقســمها‬
‫بحســب رؤيتــه إىل ثالثــة مراحــل تاريخيــة‪ ،‬عايــش هــو شــخصياً مرحلتــن مــن تلــك املراحــل الثــاث‪،‬‬
‫حيــث يقــول‪:‬‬

‫املرحلة األوىل من تاريخ السينام الفلسطينية بدأت خارج فلسطني‪ ،‬وكانت تنتجها منظامت‬
‫سياســية وكانــت تحمــل الكثــر مــن الشــعارات‪ ،‬ألن معظــم مخرجيهــا كانــوا يتبعــون أحزابـاً سياســية‪،‬‬
‫وانتجــت يف لبنــان‪ ،‬األردن‪ ،‬ســوريا‪ ،‬العــراق‪ ،‬وأســس لهــا مخرجــون مهمــون مثــل مصطفــى أبــو عــي‬
‫وغــره‪ ،‬وكانــت أفالمهــم بطابــع ثــوري أو أفالمــا ثوريــة‪.‬‬

‫أما املرحلة الثانية فبدأت بداخل فلسطني‪ ،‬والتي ميكن وصفها بأنها «صناعة السينام تحت‬
‫االحتــال» وهــذه املرحلــة التــي بــدأت تقريبـاً منــذ بدايــة الثامنينــات‪ ،‬وهــي تلــك الفــرة التــي بــدأت‬
‫فيهــا أيضـاً تجربــة مشــهراوي نفســه‪ ،‬ويصــف تلــك البدايــات بقوله‪:‬‬

‫هكــذا كان شــكل الســينام قبلنــا‪ ،‬أنــا مل أكــن راضيـاً عنهــا‪ ،‬أحرتمهــا كســينام وأتفهــم الظــروف التي‬
‫أنتجــت فيهــا‪ ،‬لكنــي بقيــت أشــعر أنهــا تفتقــد للمعايشــة الحقيقيــة مــع الشــارع الفلســطيني‪ ،‬مل يكــن‬
‫فيها تفاصيل الحياة اليومية‪ ،‬كان الفلســطيني إما شــهيد أو بطل أو ضحية‪ ،‬الحقا ميشــيل خليفة‪،‬‬
‫وهــو مخــرج فلســطيني مــن النــارصة يعيــش يف بلجيــكا‪ ،‬أنتــج أول فيلــم فلســطيني ينتمــي للســينام‬
‫الفلسطينية الحديثة يف داخل فلسطني‪ ،‬اسمه «الذاكرة الخصبة» ‪ ،1980‬وقبل االنتفاضة األوىل‬
‫‪ 1987‬عمــل أيضـاً فيلــم اســمه «عــرس الجليــل» وعملــت معــه يف ذلــك الفيلــم كمصمــم فنــي ‪Art‬‬
‫‪ ،Designer‬بعــد ذلــك بــدأت أعمــل أفالمــي وأنــا أقيــم يف فلســطني يف حــن أن مخرجــن آخريــن‬
‫كميشــيل خليفــة وآخريــن كانــوا يقيمــون خــارج فلســطني‪ ،‬حيــث بــدأت بفيلــم اســمه جــواز الســفر ومــن‬
‫ثم امللجأ الذي عرض سنة ‪ 1987‬يف مهرجان برلني‪ ،‬والذي ُعرفت من خالله كمخرج‪ ،‬أما فيلمي‬
‫الــروايئ األول «تحــت إشــعار أخــر» والــذي حــاز جائــزة الهــرم الذهبــي يف مهرجــان القاهــرة الســيناميئ‬
‫الــدويل الســابع عــر‪ ،‬وبعدهــا عــرض يف مهرجــان كان الســيناميئ وحــاز أيض ـاً عــى جائــزة‪ ،‬ومــن‬
‫بعدهــا عملــت العديــد مــن األفــام الروائيــة والوثائقيــة القصــرة والطويلــة‪.‬‬

‫أي أن األفــام الســينامئية الروائيــة الفلســطينية‪ ،‬فقــد بدأهــا يف داخــل فلســطني أيضـاً ميشــيل‬
‫وخليفــة وبعــده أنــا وأيضـاً مخرجــن آخريــن مــن الخــارج‪ ،‬وهــذه هــي املرحلــة الثانيــة‪ ،‬والحقـاً هــاين أبــو‬
‫أســعد‪ ،‬إيليــا ســليامن وآخــرون‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪284‬‬

‫أمــا املرحلــة الثالثــة مــن تاريــخ الســينام الفلســطينية بحســب مشــهراوي هــي املرحلــة الحاليــة‪،‬‬
‫فريى أن أهم ما مييز هذه املرحلة كرثة املخرجني الشباب‪ ،‬الذين درس بعضهم السينام وتعرض‬
‫أفالمهــم يف العــامل مــن خــال تلفزيونــات ومهرجانــات ويحصلــون عــى جوائــز‪ ،‬ويعملــون بجـ ٍـد عــى‬
‫تطويــر أدواتهــم الســينامئية‪ ،‬وأكــر مــا يعجبــه بهــذه املرحلــة حســب قولــه‪ :‬أن الفلســطينيني بــدأوا‬
‫يفكــرون ســينامئياً‪ ،‬يعملــون عــى فــن ســيناميئ أكــر مــن كونــه رد فعــل عــى مامرســات االحتــال‪،‬‬
‫مبعنــى أن الســينام تحولــت إىل فعــل حقيقــي‪.‬‬

‫السينما ليست حيادية‬


‫مييــل مشــهراوي كــا يقــول إىل الســينام الوثائقيــة‪ ،‬مضيفـاً‪ :‬أن كثــرا ً مــن نقــاد الســينام كتبــوا عــن‬
‫أفالمــي الروائيــة بأنهــا تشــبه الوثائقــي‪ ،‬أو فيهــا عفويــة الطــرح والعنــر الوثائقــي‪ ،‬وخيــارايت للــروايئ‬
‫والوثائقي يحددها ماهيته املوضوع نفسه بأن يكون وثائقياً أو روائياً‪ ،‬مبعنى أن بعض املوضوعات‬
‫حتــى تســتطيع إيصــال عنــارصه واضحــة وكاملــة للمشــاهد حــول العــامل يفضــل أن يكــون وثائقــي الن‬
‫اللغــة الوثائقيــة ســتنجح أكــر يف هــذا املوضــوع‪ ،‬لكــن بعــض املواضيــع لــن تســتطيع نقــل املوضــوع‬
‫كامـاً وثائقيـاً لذلــك تــرى أن إعــادة كتابــة القصــة روائيـاً سيســهل يف إيصالهــا للمتلقــي‪.‬‬

‫ميكــن أن الســينام الوثائقيــة بحســب مشــهراوي‪ ،‬هــي نقــل للواقــع وتقدميــه مــن خــال فيلــم‪،‬‬
‫أمــا الــروايئ فيعطيــك مســاحة ومجــال لتقــول رأيــك الشــخيص وأحالمــك أو خيالــك أو تقــرح حلــوالً‬
‫أحياناً‪ ،‬مبعنى أنه يشبه عملية خلق ليشء جديد تخلق أثناء كتابة النص والسيناريو‪ ،‬فتصبح أكرث‬
‫قــدرة عــى التحكــم يف مســارات وحيــاة وأحــداث شــخصياتك‪ ،‬أو إن كان لــدى املخــرج وجهــة نظــر‬
‫أو رأي ســيايس‪ ،‬ثقايف أو اجتامعي يســتطيع وضعه يف ســيناريو فيلمه‪ ،‬ويف هذا املوضوع أيضاً‬
‫حتــى الوثائقــي ليــس نقـاً حرفيــا للواقــع‪ ،‬فحــن نبــدأ بعمليــة إنتــاج فيلــم وثائقــي مدتــه ســاعة‪ ،‬عــادة‬
‫نقــوم بتصويــر مــا يقــارب عرشيــن إىل ثالثــن ســاعة‪ ،‬قــرارات املخــرج أيــن يضــع الكامــرا ومــاذا ســيظهر‬
‫بالصــورة هــذا يعتــر تدخـاً‪ ،‬ألن هنالــك مــا تريــد إظهــاره ومــا تريــد إخفــاءه‪ ،‬أيضـاً مــا الــذي ســتختاره‬
‫مــن مقابلــة مدتهــا ســاعة ومــا الــذي ســترتكه‪ ،‬بالتــايل أنــت كمخــرج تضــع وجهــة نظــرك بشــكل واضــح‬
‫يف الفيلــم حتــى يف عمليــة املونتــاج‪.‬‬

‫ال يوجــد يشء حيــادي بالســينام ال ميكننــا أن نصنــع فل ـاً ونقــول هــذا هــو الواقــع بــدون تدخــل‬
‫املخــرج‪ ،‬ميكــن أن نقــول أن هــذا الواقــع كــا أراده املخــرج أن يظهــر‪ ،‬أو هــذا الواقــع مــن زاويــة ورؤيــة‬
‫املخــرج‪.‬‬

‫ويف ظل إخفاق اإلعالم الفلسطيني يف خلق حوار مع العامل بالرغم من القضية العادلة جدا ً‪،‬‬
‫فــإن الســينام الروائيــة والوثائقيــة بحســب مشــهراوي‪ :‬قــد خلقــت وطنـاً فلســطينياً موجــود بالســينام‬
‫‪285‬‬ ‫التحا نكمي ال ًانطو تقلخ ةينيطسلفلا امنيسل ا ‪:‬يوارهشم ديشر‬

‫وغري موجود عىل أرض الواقع‪ ،‬ألن يف السينام التاريخ‪ ،‬العادات والتقاليد‪ ،‬الرتاث‪ ،‬هنالك وطن‬
‫حالص دنهم ‪:‬ملوهكوتس يف هرواح‬

‫كامــل بالســينام يعرفــه العــامل‪ ،‬وتعرفــه النــاس التــي مل تــزر فلســطني مــن قبــل‪ ،‬يعرفــون شــكل املــدن‪،‬‬
‫ولهجة الناس‪ ،‬واألماكن‪ ،‬الجغرافيا‪ ،‬بالتايل فأن السينام صنعت وطناً ال ميكن احتالله‪ ،‬وصنعت‬
‫هوية للفلسطيني ال ميكن السطو عليها‪.‬‬

‫يف غرفة املونتاج‬


‫يعتــر فيلــم «فلســطني ســترييو» الــذي بــدأ عرضــه مؤخــرا ً يف صــاالت الســينام الســويدية هــو‬
‫الفيلم الروايئ الســادس لرشــيد مشــهراوي‪ ،‬حيث كانت تجربته موزعة ما بني كل فيلم روايئ وأخر‬
‫يقــوم بعمــل عــدة أفــام وثائقيــة‪.‬‬

‫وبالنســبة ملشــهراوي بحســب مــا قــال‪ :‬يف غرفــة املونتــاج يبــدو التعامــل مــع الفيلــم الوثائقــي‬
‫أصعــب بكثــر‪ ،‬ألن الــروايئ ميكــن التعامــل معــه مــن منطلــق أنــه مكتــوب مــن مشــاهد محــددة ولهــا‬
‫أرقــام‪ ،‬وقبــل التصويــر أعمــل عــى تطويــر الحكايــة وتطويــر الشــخصيات وإيفــاع الفيلــم‪ ،‬عــى بدايــة‬
‫الفيلــم ونهايتــه‪ ،‬وعــادة مــا أكــون مجــرا ً عــى أن التــزم باملخطــط واألجنــدة واملَشــاهد‪ ،‬ألن التصويــر‬
‫يكــون بنــاء عــى خطــة معــدة ســلفاً ومراجعــات وأمــور أخــرى‪ ،‬لكــن بالوثائقــي الكتابــة الســينامئية ال‬
‫تكتمــل حتــى يكتمــل تصويــر أخــر لقطــة يف الفيلــم‪ ،‬وحتــى أخــر عنــر كموســيقى أو تصحيــح باأللوان‪،‬‬
‫والســيناريو بالفيلــم الوثائقــي تكتــب نفســها بنفســها‪ ،‬جــزء يكتــب قبــل التصويــر‪ ،‬وعنــد بــدء التصويــر‬
‫تبــدأ كتابــة جديــدة للفيلــم‪ ،‬وعنــد املونتــاج تبــدأ الكتابــة النهائيــة‪.‬‬

‫يعتــر مشــهراوي أن هنالــك نوعــن مــن الوثائقــي‪ ،‬النــوع الــذي ملوضوعــه وقــت محــدد ميكــن‬
‫عمله خالل ست شهور أو سنة مثالً‪ ،‬ونوع أخر من األفالم الذي تتابع فيها حاالت ال ميكنك التنبؤ‬
‫بتطوراتهــا‪ ،‬فيأخــذك الفيلــم ومتــي أنــت وراءه‪ ،‬أنــا عملــت عــدة أفــام أثنــاء حــروب دون أن أعــرف‬
‫مــا الــذي ســيحدث بعــد ســاعة أو بعــد يــوم‪ ،‬وأحــد أفالمــي الوثائقيــة انتهــى بطريقــة غــر متوقعــة‪ ،‬كان‬
‫اســمه «هنــا صــوت فلســطني» عــن إذاعــة فلســطني يف رام اللــه‪ ،‬بــدأت التصويــر يف ســنة ‪2000‬‬
‫مــع بدايــة انتفاضــة األقــى وكنــت أجــري مقابــات مــع املراســلني وأصــور األخبــار واإلذاعــة والعالقــة‬
‫بــن الصحافيــن‪ ،‬وأثنــاء التصويــر قصفــت إرسائيــل اإلذاعــة وهنــا انتهــى الفيلــم بقصــف اإلذاعــة‪ .‬يف‬
‫ذلك الفيلم مل أكن اعرف بأنني سأذهب صباحاً ملوقع تصويري ألجد بدالً منه العاملني باإلذاعة‬
‫يبحثــون عــن أشــيائهم تحــت ركامــه‪.‬‬

‫يف هــذا النــوع مــن األفــام التــي أحبهــا أنــا شــخصياً أكــر‪ ،‬أصبــح فيهــا أنــا واملشــاهد نتابــع هــذه‬
‫التطــورات يف الفيلــم أيــن ســتأخذنا‪ ،‬بعكــس تلــك األفــام التــي أعــرف نهايتهــا مســبقاً قبــل أن أبــدأ‬
‫التصويــر‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪286‬‬

‫تتداخل السينام الوثائقية والروائية لتنتج نوعاً هجيناً يسمى الديكودراما‪ ،‬وبالنسبة ملشهراوي‪،‬‬
‫كانت تجاربه املختلفة معها أيضاً بطعم الحالة الفلسطينية وخصوصيتها‪ ،‬كان أبرزها فيلم «تذكرة‬
‫إىل القدس» الذي عرض عام ‪ 2002‬يف عرض افتتاح مهرجان سيناميئ يف معهد العامل العريب‬
‫يف باريــس‪ ،‬وعــرض أيض ـاً يف عــدة تلفزيونــات وســينامت حــول العــامل‪ ،‬حيــث يذكــر مشــهراوي أنــه‬
‫وبحســب الســيناريو كان هنالــك حواجــز ودبابــات إرسائيليــة وجــدار‪ ،‬وكان عــى شــخصيات الفيلــم‬
‫أن تنتقــل مــن رام اللــه إىل القــدس مــرورا ً بحاجــز قلنديــا‪ ،‬وكانــت الظــروف يف وقتهــا أقــوى مــن أي‬
‫ديكــور ســيناميئ ميكــن صنعــه لتلــك الغايــة‪ ،‬بحســب مشــهراوي‪.‬‬

‫ويضيــف‪ :‬أخــذت املمثلــن وانتقلنــا إىل الحواجــز اإلرسائيليــة الحقيقيــة مثــل حاجــز قلنديــا‬
‫والحواجــز األخــرى‪ ،‬وكانــت قصــة إحــدى الشــخصيات بأنــه ال يحمــل هويــة القــدس بالتــايل فهــو‬
‫ممنوع من الدخول للقدس لعرض فيلم لألطفال‪ ،‬وكان يفرتض أن يكون هنالك ممثل أخر يرتدي‬
‫الــزي العســكري اإلرسائيــي‪ ،‬لكــن رأيــت أن يذهــب املمثــل لجنــدي حقيقــي يقــف عــى الحاجــز‪،‬‬
‫وقمنــا بتصويــر الحــوار الــذي يــدور بــن الجنــدي واملمثــل‪ ،‬عــى الرغــم مــن أن الجنــدي والحواجــز كانــا‬
‫حقيقيــن وتعامــا بواقعيــة دون أن يعلــا أن مــا يجــري هــو تصويــر لفيلــم روايئ‪.‬‬

‫يف ذلك الوقت وذلك الفيلم لجأت إىل خدعة أن استخدمت مصور فرنيس وأصدرنا أوراق‬
‫بأننا نصور تقرير إخباري اىل‪ ARTE‬الشبكة التلفزيونية الفرنسية األملانية‪ ،‬وأنا كنت حينها املنتج‬
‫واملخــرج وكاتــب الســيناريو‪ ،‬حيــث كان بحســب تلــك الخطــة أن أكــون مســاعدا ً لذلــك املصــور‬
‫الفرنــي‪ ،‬بالتــايل ك ّنــا طــوال مــدة التصويــر بالنســبة لجنــود االحتــال فريــق أخبــار‪.‬‬

‫كنــت أحيانــا أجلــس ومعــي املونتــور يف داخــل ســيارة وكنــت أطلــب مــن املمثــل الذهــاب‬
‫للجنــود مــرة أو مرتــن حتــى أســتطيع تغيــر زاويــة الكامــرا أو أخــذ اللقطــات التــي احتاجهــا بأكــر مــن‬
‫حجــم ومــن أكــر مــن زاويــة‪.‬‬

‫عندمــا يكــون موضــوع املخــرج واقعي ـاً فتبــدو عنــارص الوثائقــي متداخلــة بالــروايئ بشــكل كبــر‪،‬‬
‫ويذكــر مشــهراوي مــن خــال تجربتــه الشــخصية أن هــذا التداخــل حــدث كثــرا ً معــه‪ ،‬حيــث يــروي مــن‬
‫صلــب تجربتــه يف تجربــة فيلــم «حتــى إشــعار آخــر» وهــو أول أفالمــه الروائيــة بقولــه‪:‬‬

‫كنــت أعيــش يف مخيــم الشــاطئ يف غــزة‪ ،‬يف منــع تجــوال ملــدة أكــر مــن أربعــن يــوم‪ ،‬وعمليــا‬
‫حــن كنــت أكتــب‪ ،‬مل يكــن لــدي أي طواقــم‪ ،‬كنــت فقــط أكتــب مــا يحــدث داخــل البيــت‪ ،‬بــن األب‬
‫ـب وثائقي ـاً ألن‬
‫واألم‪ ،‬بــن الجــران‪ ،‬كنــت عملي ـاً أكتــب فيلــم ال أســتطيع تنفيــذه‪ ،‬وكنــت فعلي ـاً أكتـ ُ‬
‫كل أحداثــه أشــاهدها تحــدث أمــام عينــي وأنــا أوثــق مــا يحــدث‪ ،‬لكــن حــن انتهــى الحصــار ورفــع منــع‬
‫التجوال وخرجت أنا باملادة املكتوبة عملت منه فيلم روايئ‪ ،‬كان روائياً يستند عىل حالة وثائقية‪،‬‬
‫‪287‬‬ ‫التحا نكمي ال ًانطو تقلخ ةينيطسلفلا امنيسل ا ‪:‬يوارهشم ديشر‬

‫لكــن أنــا مــن البدايــة كتبتــه كــروايئ واســتخدمت املــادة التوثيقيــة التــي كتبتهــا مــن أحــدايث اليوميــة‬
‫حالص دنهم ‪:‬ملوهكوتس يف هرواح‬

‫كــادة بحثيــة بنــي عليهــا الفيلــم‪.‬‬

‫اللغة السينمائية‬
‫ســعى مشــهراوي كــا يقــول منــذ بدايــة أفالمــه إىل أنســنة القضيــة الفلســطينية‪ ،‬موضحـاً‪ :‬هــذا‬
‫يعنــي شــكل الصــورة التــي عــي إيصالهــا للخــارج أو لغــة الصــورة التــي أود أن يراهــا املتلقــي يف‬
‫الخارج‪ ،‬مبعنى طرح املجتمع الفلسطيني بسلبياته وإيجابياته‪ ،‬فنحن يف النهاية برش ولدي الكثري‬
‫مــن املالحظــات واالختــاف مــع طريقــة إدارة الــراع ومــع املفاوضــات التــي تجــري تحــت االحتــال‬
‫باإلضافــة للفســاد وغــره‪ ،‬وحتــى أســتطيع حــن أقــدم نقــدا ً لالحتــال وأن أكــون مســموعاً وصادقـاً‪،‬‬
‫كان مه ـاً أن أطــرح واقعنــا مبصداقيــة يف وبــدون خــوف‪ ،‬ألننــا شــعب واقــع تحــت االحتــال وجــزء‬
‫كبــر مــن الشــعب إمــا يف حالــة لجــوء أو بالشــتات أو يف االعتقــال‪ ،‬بالتــايل أنــا ال أخــاف عــى الحالــة‬
‫الفلســطينية بــأن نكــون ظاملــن الحــد‪.‬‬

‫ويضيــف‪ :‬نحــن بالتأكيــد ضحيــة‪ ،‬لكنــي مؤمــن بــأن لديــه جــرح عليــه مالمســته يك أشــفيه‪ ،‬علينــا‬
‫نقــد أنفســنا بجــرأة وبــدون خجــل‪ ،‬وثانيـاً علينــا مخاطبــة العــامل وهــذا مــا أقولــه غالبــا لطــاب الســينام‬
‫وللعاملــن معــي وبورشــات العمــل‪ ،‬نحــن جميعـاً بــر وهنالــك عنــارص مشــركة بــن كل البرش‪ ،‬ومن‬
‫خالل تلك العنارص ميكنني أن أجعل األجنبي يرى نفسه كانسان يف ذلك الفيلم هذا يسهل ايضا‬
‫الرســالة‪ .‬مثـاً يف فيلــم «عيــد ميــاد ليــى» الــذي نــال أكــر مــن عرشيــن جائــزة وتــم توزيعــه بأكــر مــن‬
‫عرشيــن دولــة‪ ،‬قصتــه تــدور أحداثهــا يف يــوم واحــد‪ ،‬حيــث ســائق ســيارة أجــرة يريــد عمــل عيــد ميــاد‬
‫البنتــه ويقــع يف العديــد مــن املشــاكل‪ .‬كل أب يحــب أن يجعــل ابنتــه ســعيدة يف يــوم ميالدهــا وكل‬
‫النــاس تريــد لهــذا الســائق أن يعــود ملنزلــه لعمــل حفــل عيــد ميــاد ابنتــه‪ ،‬لكــن الظــرف االســتثنايئ‬
‫الفلســطيني يجعــل مــن تلــك املســألة البســيطة والتــي يجمــع عليهــا الكثــر مــن البــر حــول العــامل‬
‫مســألة معقــدة بســبب املعوقــات الداخليــة والخارجيــة التــي يضعهــا االحتــال بالتــايل ســتكون فهــم‬
‫تلــك املعوقــات أســهل عــى املتلقــي األجنبــي‪.‬‬

‫هذه اللغة السينامئية أو الخطاب السيناميئ اإلنساين أراد له مشهراوي أن يكون سمة ألفالمه‬
‫التــي يقدمهــا‪ ،‬وهــي الــذي يقــول‪« :‬أنــا أفكــر يف املتلقــي طــوال الوقــت‪ ،‬وأريــد أن أعمــل حــوارا مــع‬
‫املتلقــي أثنــاء الكتابــة وأثنــاء التصويــر وأثنــاء املونتــاج‪ ،‬ومــن خــال األفــام الخمســة التــي عملتهــا مــع‬
‫‪« ARTE‬الشــبكة التلفزيونيــة الفرنســية األملانيــة» التــي كانــت بعــد العــرض تزودنــا بإحصائيــات‬
‫لعــدد املشــاهدين حــول العــامل الذيــن شــاهدوا الفيلــم‪ ،‬ولــذك فأنــا كنــت أفكــر بالعرشيــن مليــون‬
‫مشــاهد‪ ،‬وهــؤالء واعــن ومثقفــن وبالتــايل ال ميكننــي أن أســتهني بهــم»‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪288‬‬

‫تلــك اللغــة الســينامئية التــي عمــل عليهــا أيض ـاً يف فلمــه األخــر «رســائل مــن‬
‫الريمــوك» الــذي يقــول عنــه مشــهراوي‪ :‬يف فيلــم رســائل مــن الريمــوك أردت الرتكيــز‬
‫عــى قصــة حــب نــراز ومليــس‪ ،‬وكنــت أريــد مــن تلــك القصــة أن يتمنــى كل اثنــن‬
‫يحبــان بعضهــا يف العــامل لتلــك القصــة أن تنجــح‪ ،‬بغــض النظــر عــن هويتهــم‪ ،‬ألن‬
‫الحب هو غدا ً‪ ،‬الحب‪ ،‬الجوع‪ ،‬املرض‪ ،‬املوت‪ ،‬يستطيع أن يفهمه كل الناس‪ ،‬أنا‬
‫أريــد أليهــم أن يظــل يصنــع موســيقى وأريــد لنــراز أن يلتقــي بلميــس ولهــؤالء الطفلــن‬
‫الجميلــن الذيــن كان ميكــن أن يكــون أحدهــا ابنــا ألي أب بالعــامل‪ ،‬لكــن هنــا فهــا‬
‫فلســطينيان يعيشــان يف مخيــم ومهــددان بــكل لحظــة أن يصابــا بقذيفــة ال نعلــم‬
‫مــن أطلقهــا وهــي ليســت مذنبــة‪ ،‬أنــا أحــب تلــك اللغــة يف الخطــاب الســيناميئ‪.‬‬

‫ما الذي أراده مخرج «رسائل من الريموك»؟‬


‫يقــول رشــيد‪ :‬أنــا ال أرى يف هــذا الفيلــم مجــرد فيلــم تقليــدي ممكــن التحــدث‬
‫عنــه كوثائقــي عــادي مــع بنيــة تقليديــة وأســلوب ســيناميئ متعــارف عليــه‪ ،‬أنــا أرى أنه‬
‫فيلــم تجريبــي‪ ،‬والتجريــب هنــا فــرض نفســه مــن الحالــة السياســية والجغرافيــة وعدم‬
‫وجود نص مسبق وأحداث معروفة أو متوقع حدوثها قبل البدء يف إنجاز الفيلم‪.‬‬

‫ويضيف كذلك‪ :‬أنا الجئ فلسطيني من مخيم الشاطئ يف غزة‪ ،‬ومررت أثناء‬
‫طفولتــي مــع عائلتــي بأحــداث مشــابهة يف حــرب ال ـ ‪ 67‬يف غــزة‪ ،‬ومــن الصعــب أن‬
‫أكون حياديا‪ ،‬ســواء كفلســطيني أو كســيناميئ أو كإنســان‪ ،‬فأردت للفيلم أن يكون‬
‫عــن فلســطني يف مخيــم الريمــوك وفلســطني يف الحــرب عــى غــزة وعــن الضفــة‬
‫الغربيــة حيــث تتواجــد الســلطة الوطنيــة الفلســطينية يف رام اللــه‪ ،‬وعــن فلســطني‬
‫املحتلــة ‪ 1948‬مــن خــال القريــة األصليــة مســقط رأس نــراز ومليــس‪ ،‬ويف الوقــت‬
‫نفسه فالفيلم هو عبارة عن حوار بيني كمخرج فلسطيني طلب منه أن يعمل فيلم‬
‫عــن الريمــوك رغــم العجــز يف التواصــل واملتابعــة عــن قــرب‪ ،‬وبــن مصــور فلســطيني‬
‫(نــراز) الــذي يعيــش حالــة الحصــار عــى جســده ويوثقهــا‪ ،‬كل منــا هنــا هــو الــراوي‬
‫والروايــة‪ ،‬ومــن هنــا يــأيت التجريــب‪.‬‬

‫ى‬
‫مل أكــن بحاجــة إلذن مــن أحــد لــي أترجــم تأثــر مــا يحــدث يف الريمــوك ع ـ ّ‬
‫شــخصياً وأنجــز فيلــم يف هــذا الســياق وأعرضــه للعــامل‪.‬‬

‫أعتقــد أن دور املخــرج هنــا هــو الخيــار عــر الحــوار بــأن يعطــي فرصــة للفيلــم‬
‫لــي يصنــع نفســه‪ ،‬ويوظــف خربتــه وتجربتــه وشــخصه ومالمحــه‪ ،‬لــي ينجــز الفيلــم‬
‫بالطريقة واألســلوب التي تضمن للفيلم االنتشــار عىل شاشــات العامل ومهرجاناته‬
‫‪289‬‬ ‫التحا نكمي ال ًانطو تقلخ ةينيطسلفلا امنيسل ا ‪:‬يوارهشم ديشر‬
‫حالص دنهم ‪:‬ملوهكوتس يف هرواح‬

‫لدعم ومساندة أنفسنا كفلسطينيني عرب كارثة الريموك‪ ،‬لذلك أنا صاحب مقولة‬
‫(الريمــوك ليــس فيلــا الريمــوك قضيــة) ولذلــك كان ضمــن أهــدايف التــي تحققــت‬
‫هــو عــرض الفيلــم يف الربملــان األورويب يف بروكســل يف شــهر حزيران‪/‬يونيــو‪ ،‬ويف‬
‫قاعــة هيئــة األمــم املتحــدة يف جنيــف يف ترشيــن الثاين‪/‬نوفمــر مــن هــذا العــام‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪290‬‬

‫حادثها عادل بشتاوي‬


‫كاتبة وإعالمية من دمشق التي أكلها االنهاك والفساد أكالً‬

‫نرسيــن طرابلــي‪ :‬اإلنســان يكتــب مجــ ّردا ً‬


‫مــن جنســه‬

‫نرسين‪ :‬هل تقرأ مقااليت يف «القدس العريب»؟‬


‫عادل‪( :‬بجرأة) ال‪.‬‬
‫نرسين‪ :‬مرت عليك؟‬
‫عــادل‪( :‬ســكتة خفيفــة)؛ القــدس العــريب أسســها صديقــي القديــم عبــد البــاري‬
‫مــن أيــام الشــباب يف لنــدن؛ أعرفــه جيــدا ً لــذا أعــرف مــا ســيكتبه فــا أقــرأ فيهــا ســوى‬
‫مواعيــد الصالة‪.‬‬
‫نرسين‪ :‬لكنك ال تصيل‪.‬‬
‫عادل‪ :‬صحيح‪.‬‬
‫نرسين‪ :‬؟‬
‫كنت أكتب ال أقرأ‪ ،‬إن قرأت ال أكتب‪ .‬أنا اآلن يف موسم‬
‫عادل (استدراك)‪ :‬إن ُ‬
‫الكتابة‪ ،‬والكاتب يتأثر مبا يقرأ‪ ،‬فرمبا نتش فكرة أعجبته‪ ،‬وأحياناً من دون أن يدري‪.‬‬
‫نرسيــن‪ :‬الحالــة الوحيــدة التــي ال اكتــب فيهــا إذا قــرأت شــيئاً كتــر حلــو‪ .‬أخــاف‬
‫‪291‬‬ ‫ج نم ًادّرجم بتكي ناسنإلا ‪:‬يسلبارط نيرسن‬

‫أن أتأثــر بــه‪ ،‬فأتــرك فــرة زمنيــة مناســبة إىل أن تتحــول إىل صــدى‪ ،‬ثــم أعــود إىل الكتابــة‪ .‬إن قــرأتُ ‪،‬‬
‫يواتشب لداع اهثداح‬

‫اســتغنيت عــن كل أدوات النقــد التــي تعلمتهــا يك اســتمر يف االســتمتاع مبــا أقــرأه‪.‬‬

‫عادل‪ :‬املتعة يف القراءة أساسية يف تقييم الكتاب‪ ،‬ال؟‬

‫نرسيــن‪ :‬أساســية جــدا ً‪ ،‬طبعـاً‪ .‬املتعــة أساســية‪ .‬مــررت مبرحلــة تأثــرت فيهــا بدراســتي النقديــة‪،‬‬
‫فــرت أحاســب نفــي‪ .‬عندمــا صــدر يل كتــايب األول عــام ‪ 1997‬بعنــوان «يف انتظــار أســطورة»‪،‬‬
‫كنت صغرية‪ .‬بعد أربع سنوات‪ ،‬كنت درست يف املعهد العايل للفنون املرسحية قسم األدب‬
‫والنقــد املرسحــي يف الكويــت‪ ،‬بعدمــا كنــت تزوجــت وانتقلــت إليهــا‪ ،‬ثــم تابعــت دراســتي‪ .‬يــي شــو‬
‫تعلمــت شــغالت رائعــة‪ ،‬هيــك‪ ،‬يعنــي‪ ،‬أعــدت النظــر يف كل مــا أكتــب‪.‬‬

‫عادل‪ :‬تالحظني فرقاً يف أسلويب املرأة والرجل يف الكتابة؟‬

‫نرسين‪ :‬أظ ّنها عادة يف التقييم أكرث منها حقيقة‪ ،‬وأخوض يف هذا النقاش دامئاً مع أصدقايئ‬
‫رص عــى أن االنســان يكتــب مجــردا ً مــن جنســه‪ .‬ال أســتطيع تصنيفــك‬
‫الكتّــاب‪ ،‬ومــع النقــاد‪ ،‬وأنــا أ ّ‬
‫كاتباً كرجل‪ ،‬فهذا رصف لكل االنســانية التي ميكن أن ت ُخرجها الكتابة‪ .‬األمر نفســه بالنســبة للمرأة‪.‬‬
‫اعتقــد أن يف هــذا التقييــم املقيــد لكتابــات املــرأة ظلــم لهــا‪ .‬هــي اســمها «كتابــة املســكوت عنــه»‪.‬‬
‫أنــا أقــول إن كان األمــر هــو املســكوت فيجــب أن يُكتــب‪ .‬ليــس الكتابــة وحســب‪ ،‬بــل احــرام هــذه‬
‫الكتابــة‪ .‬توجــد نظــرة دونيّــة يف الرتديــد «الكتابــة النســوية»‪ ،‬األمــر ليــس هكــذا‪ .‬ليــس أمرا ً دونيّا الكتابة‬
‫ـت تحلــل اللغــز‪ ،‬فهــو ليــس لغــز املــرأة فقــط وإمنــا‬
‫النســوية‪ .‬بعدهــا يقولــون «لغــز املــرأة»‪ ،‬إذا كتبـ ْ‬
‫أيضـاً لغــز الخلــق (ضحكــة)‪ ،‬اســتغرب دامئـاً منهــم هكــذا تفكــر‪.‬‬
‫عــادل‪ :‬هــل وصلـ ِ‬
‫ـت يف الكتابــة إىل مرحلــة تعتقديــن أن الرحلــة تبــدأ مــن الــرد القصري فالقصة‬
‫القصرية فالرواية؟‬

‫نرسيــن‪ :‬أنــا بــدأت بالقصــة القصــرة ألننــي أشــعر أنهــا ُمن ِجــزة‪ ،‬أي تشــفي القلــب‪ .‬كتابتهــا سلســة‬
‫وتحريرهــا خفيــف‪ .‬ميكــن إعــادة الفكــرة مرتــن وأكــر إن مل أشــعر أن الفكــرة عنــدي أُشــبعت‪ .‬لكــن كل‬
‫مــن قــرأ يل كان يوجــه أن نفــي طويــل‪ ،‬وأســلويب فيــه النفــس الــروايئ‪ ،‬لذلــك بلّشــت أعــد ملــروع‬
‫روايــة‪ .‬لكــن لســت مــن أنصــار الكــرة بــل مــن أنصــار النــوع‪ .‬أنــا رمبــا عملــت روايــة واحــدة يف عمــري‬
‫تكــون كمــن كتبــت روايــة «ذهــب مــع الريــح»‪ .‬روايــة واحــدة تكــون مؤثّــرة وتكــون حقيقيــة وتــرك بصمــة‬
‫تتطلــب الوقــت والتفـ ّرغ متامـاً‪ .‬أحيانـاً‪ ،‬أجــد نفــي أكتــب بحــرق وحرقــة‪ ...‬هــو ذبــح النفــس أقــرب‬
‫إىل الوصــف‪.‬‬

‫عادل‪ :‬رمبا قيل إن القصة الطويلة رواية‪ ،‬والرواية القصرية قصة‪.‬‬


‫نرسيــن‪ :‬كتابــة هــذه الروايــة لــن أتخــى عنهــا‪ .‬القصــة القصــرة دفقــة ميكــن كتابتهــا دفعــة واحــدة‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪292‬‬

‫هــذا ال مينــع التحريــر والتعديــل والتغيــر‪ ،‬لكــن الفكــرة تخــرج دفقــة واحــدة‪ .‬ولهــذا ملســة رهيبــة‪.‬‬
‫عادل‪ :‬الرواية قصة طويلة‪.‬‬
‫نرسيــن‪ :‬الروايــة «بدهــا نفــس طويــل»‪ ،‬وفــرة زمنيــة ألن وقــود االبــداع هــو الوقــت‪ .‬تحريريـاً‪ ،‬ميكــن‬
‫يف جلســة واحــدة أن أكتــب كل مــا لــدي‪ ،‬لكــن هــل هــذه الكتابــة هــي الروايــة التــي أريدهــا؟ إنهــا‬
‫تحتــاج إىل بنــاء‪ ،‬إىل شــبكة عالقــات منطقيّــة‪ ،‬إىل تسلســل زمنــي محبــوك جيــدا ً‪ .‬ال ميكــن القطــع‪.‬‬
‫عــامل كامــل عــامل الروايــة‪.‬‬
‫عادل‪ :‬أهو العلم الهنديس الذي يتطلب التخطيط؟‬
‫نرسيــن‪ :‬طبع ـاً‪ .‬الســؤال املحــر منــذ كُتــب‪ :‬هــل هــو إلهــام أم صنعــة‪ .‬هــذا انشــغال الن ّقــاد‬
‫واملنظريــن‪ .‬منــذ عهــود امليثولوجيــا اليونانيــة إىل اليــوم والنــاس يفكــرون مباهيــة الكتابــة‪.‬‬
‫عادل‪ :‬هي عندك ماذا؟‬
‫نرسيــن‪ :‬املوهبــة‪ ،‬وملكــة الكتابــة‪ .‬مــن دونهــا ال ميكــن إنجــاز العمــل األديب املتميّــز‪ .‬يف وقــت‬
‫الحق‪ ،‬التكييف املناسب هو الذي يُع ّد القالب الشهي الذي يُقدم الكاتب والكاتبة إىل القارىء‪.‬‬
‫عادل‪ :‬وبالرتاتب؟‬
‫نرسين‪ :‬األسبق هو االبداع‪ ،‬ثم الصنعة والحرف ّية‪.‬‬
‫عادل‪ :‬واملحيط؟‬
‫نرسيــن‪ :‬املحيــط بيئــة الــكالم‪ ،‬فالــكالم منــه‪ْ .‬مشَ ـ ّحرة دمشــق‪ْ ،‬مشَ ـ ّحرة و ُملّوثــة‪ :‬بالصخــب ملوثة‪،‬‬
‫بعوادم السيارات ملوثة‪ ،‬بهباب الصوبيات وش ّحار املازوت ْمشَ ّحرة! لكن هذا يف الشارع‪ ،‬بعده‪،‬‬
‫مــا بعــده‪ ...‬مــا أن تلــج الحــارات واألزقّــة حتــى تنســمك رائحــة املــكان والزمــان‪ .‬البــاص ينقلــك إىل‬
‫باص فتنزل عند موقف الفردوس؛ من هناك ميش‪ ،‬ميش‪ ،‬ميش؛ تدخل ساحة جورج خوري‪ ،‬ثم‬
‫ميش ثم جناين الورد‪ .‬هنا تشم ريحة الياسمني العراتيل‪ ،‬ريحة ورق النارنج املتشوق ألنوف راغبة‪،‬‬
‫ريحــة الــرو تبــع املستشــفى الفرنــي‪ ،‬الصنوبــر‪ ...‬تطلــع درج البنايــة فيبــدأ التعريــف والتعــارف‪:‬‬
‫(نشــقة مــن نرسيــن ثــم مــن هــذا الكاتــب يلحــق عــى غــر هــدى)‪ :‬آه‪ :‬بيــت الجبــور طابخــن عكــوب‬
‫بزيت؛ بيت الحناوي طابخني ملفوف؛ بيت معلوف طابخني هيك‪ ،‬فهي رحلة صاعدة يف خليط‬
‫صاعد مع الصاعدة فال تصل شقتها حتى تكون عرفت ما سيأكله الجريان جميعاً يف ذاك اليوم‪.‬‬
‫عادل‪ :‬هذا كله يف قصصك؟‬
‫نرسين‪ :‬كثرية‪ ،‬لكن املعالجة تختلف‪ ،‬وتختلف املعاملة‪ .‬اتعامل مع االلقاء ‪ -‬االلقاء الصويت‪.‬‬
‫ميــزان جــال العبــارة إلقاؤهــا جهــرا ً‪ ،‬وهــذا مــا أفعلــه أحيانـاً‪ .‬أعــرف أن القــارىء رمبــا كان يف رسيــره‪،‬‬
‫‪293‬‬ ‫ج نم ًادّرجم بتكي ناسنإلا ‪:‬يسلبارط نيرسن‬

‫ورمبــا قــرأ النــص بعينيــه قــراءة صامتــة‪ ،‬لكــن لــي أعتربهــا ُمنجــزة‪ ،‬وتخــرج إىل الــورق وأكــون مرتاحــة‬
‫يواتشب لداع اهثداح‬

‫القلــب‪ ،‬الزم اقرأهــا بصــوت عــال‪ .‬كل مــا كتبــت مقطعـاً أرجــع إىل البدايــة‪ ،‬وهكــذا‪ .‬شــوف‪ :‬أســأل‬
‫نفــي‪ :‬هــل تعبــت وأنــا أقــرأ؟ هــل أنهكــت؟ هــل هنــاك سالســة متسلســلة وأنــا أقــرأ‪ ،‬ثــم وأنا مســتمرة‬
‫يف القــراءة؟‬

‫عادل‪ :‬يبدو أن البناء املرسحي الذي تعلمتيه يف املعهد ُمر ّحل إىل البناء الرسدي‪ ،‬أم شو؟‬

‫نرسيــن‪ :‬كتــر‪ .‬أنــا أكتــب منــذ زمــن‪ ،‬لكــن بعدمــا درســت املــرح‪ ،‬ال ميكــن أن تتخيــل مــا الــذي‬
‫يل كاتبة ‪ -‬تحولت من الظاهر إىل الباطن‪ .‬املرسح يتطلّب بناء شخصية ما دامئاً وإلباس‬
‫أضافه إ َّ‬
‫كل شخصية لبوسها ال يف االستعارة بل يف الحقيقة‪ .‬االزياء تُع ّرف الناس‪ ،‬ولأللوان مدلوالت‪ .‬من‬
‫االزيــاء ميكــن أن يُحكـ َم عــى الشــخصية‪ :‬هــل هــي ُعصاب ّيــة؟ هــل هــي حــادة الــذكاء؟ هــل هي بخيلة؟‬
‫املحاولة هنا هي محاولة اســتنباط داخيل يف إطار منظومة اللغة الســيميائية‪.‬‬

‫عادل‪ :‬هذا بحكم االختصاص الدرايس؟‬

‫نرسيــن‪ :‬رســالتي كانــت عــن «انتــاج املعنــى مــن خــال الداللــة»‪ ،‬وهــذا يقتــي أال يكــون عــى‬
‫املــرح مــا ليــس لــه معنــى أو داللــة‪ .‬مث ـاً‪ ،‬ال حاجــة لوضــع تلفــون إذا مل يكــن س ُيســتخدم‪ ،‬أو ال‬
‫معنــى لوجــوده‪.‬‬

‫عادل‪ :‬داللة وجودية؟‬

‫نرسيــن‪ :‬ال‪ ،‬تســاؤل‪ :‬ملــاذا هــذا الــيء موجــود؟ إذا كانــت الحالــة حالــة انتظــار خــر يتوقّعــه‪،‬‬
‫فعينــاه دامئـاً عــى التلفــون تنتظــران معــه‪ .‬باختصــار‪ ،‬هنــاك جديلــة متشــابكة هــي الطريــق إىل إخراج‬
‫العمــل كــا هــو مطلــوب‪ .‬كتابتــي تأثــرت كثــرا ً باملــرح؛ رصت دامئـاً أفكــر بــرورة وجــود رابــط ملــا‬
‫تقدم رسده‪ .‬رابط بني وجود املهرة وتش ّوه قامئة املهرة‪ ،‬طبيعة املكان وبيئته‪ ،‬من يالحقها‪ ،‬وملاذا‪،‬‬
‫وربــط ذلــك كلــه بهــدف نهــايئ هــو أنســنة الحيــوان‪ ،‬وربطهــا باالنســان‪ ،‬حتــى إذا قــرأ أي قــارىء القصــة‬
‫)قصة»املهــرة يــا ســيادة القائــد» يف املجموعــة بروفــة رقــص أخــرة) شــعر أنهــا تعـ ّـر عــن جــزء منــه‪.‬‬

‫عادل‪ :‬ما هو املتف ّرد يف دمشق عن غريها؟‬

‫نرسيــن‪ :‬تف ّردهــا األول أنهــا مدينتــي‪ ،‬هــي يل‪ .‬كل إنســان يحــب املدينــة التــي نشــأ فيهــا‪ .‬تشــكيل‬
‫الشــخصية مــن الطفولــة إىل اجتيــاز املراهقــة‪ ،‬هــذه املرحلــة مهمــة‪ ،‬ومدينتــي جــزء أســايس مــن‬
‫شــخصيتي‪ .‬االنســان رمبــا عــاش يف أجمــل مدينــة يف العــامل‪ ،‬وأرقــى األحيــاء‪ ،‬لكنــه سيشــتاق يومـاً‬
‫إىل مدينتــه وسيشــتاق إىل العــودة إليهــا‪.‬‬

‫عادل‪ :‬الطفولة أم بعدها؟‬


‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪294‬‬

‫نرسين‪ :‬الطفولة‪ ،‬عندما تنظر إىل العامل من حولك وتسأل‪ :‬متى سأصبح كبريا ً‬
‫ر مــع‬
‫أســتطيع النظــر إىل مرحلــة أعــى‪ .‬هــذه مرحلــة الدهشــات الصغــرة التــي تَك ـ ُ‬
‫اإلنســان‪ .‬هــذا أول مظاهــر التفـ ّرد‪ ،‬الثــاين‪ ،‬أنــا كقارئــة ربيــت يف بيــت فيــه أشــخاص‬
‫يقــرأون‪ ،‬رصت أعــرف أن دمشــق ليســت مدينــة عاديــة‪ ،‬بــل مدينــة الشــعراء‪ ،‬ومدينــة‬
‫الجامل‪َ .‬ع ّمرت ألوف السنني لكنها ال تزال فت ّية ساحرة مطلوبة عليها كل العيون‪.‬‬
‫كأنثى‪ ،‬كنت أقول لنفيس أنني أشبه مدينتي‪ ،‬وكلام حاولت رسم صورة يل كنت‬
‫أنظــر إليهــا وأنــا أريــد أن تكــون فيهــا الحكمــة‪ ،‬والذاكــرة‪ ،‬وخالصــة عتــق األيــام‪ ،‬ومرورها‬
‫إىل أن أشــبه الشــام‪ ،‬مدينتــي‪ .‬حريصــة أنــا دامئـاً عــى إظهــار الوقــار املطلــوب كــا‬
‫وقار املدينة‪ ،‬لكنها يف الوقت نفسه تالعب اآلخرين وفيها الشقاوة املعروفة بها‪.‬‬

‫عادل‪ :‬هل هي املرآة الصغرية التي تعكس املرآة الكبرية‪ ،‬أم العكس؟‬

‫نرسين‪ :‬أن أعشق دمشق‪ .‬دهشة اآلخر عندما يكون اإلنسان يف املكان اآلخر‪،‬‬
‫فيســأل‪ :‬أنـ ِ‬
‫ـت مــن أيــن يف ســوريا؟ برفعــة الطــاووس الخف ّيــة والــرأس واألنــف‪ ،‬أقــول‪:‬‬
‫أنــا مــن دمشــق‪ .‬عــن جــد مــن الشــام؟‪ ،‬يســأل‪ ،‬أيــن يف الشــام؟ هــذا هــو الجــواب‬
‫الــذي يطــرح التســاؤالت‪ .‬ال أحــد يقــف أمــام دمشــق ويغمــض عينيــه‪.‬‬

‫عادل‪ :‬لكن الداللة األساسية هي العشق‪ ،‬عشق الحارة‪ ،‬وعشق الحي وعشق‬
‫الجو‪-‬‬

‫نرسيــن‪ :‬إيــه‪ ،‬إيــه! أنــا شــخص مراقــب‪ ،‬واملراقبــة بطــول عمــر الســن‪ ،‬وأراقــب‬
‫كصغــرة مــن هــم حــويل‪ ،‬وكل مــا كــرت كنــت أنظــر إىل املســتوى األعــى إىل أن‬
‫تقف عىل البلكون أو عىل (جبل) قاســيون‪ ،‬وتنظر إىل املشــهد فيكرب الزوم وتكرب‬
‫هــي وتكــر أنــت‪ .‬أوضــح مــرة رأيــت فيهــا دمشــق عندمــا عشــت بعيــدا ً عنهــا‪ .‬خــال‬
‫عرشيــن ســنة يف الكويــت كنــت أرى دمشــق أوضــح يوم ـاً بعــد يــوم‪ .‬لــذا‪ ،‬عندمــا‬
‫قامــت الثــورة كانــت دمشــق مفــرودة أمامــي بــكل آالمهــا وبــكل الفســاد املســترشي‬
‫فيهــا‪ ،‬واالنهــاك الــذي أكلهــا أكالً‪.‬‬
‫‪295‬‬ ‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد السادس ‪2015‬‬ ‫‪296‬‬

You might also like