You are on page 1of 395

‫مختارات من القصة القصيرة‬

‫الهندية الحديثة‬

‫العنوان األصلي‬

‫‪THE PENGUIN BOOK OF MODERN‬‬


‫‪INDIAN SHORT STORIES‬‬
‫‪© Penguin Random House India, 1989‬‬

‫الطبعة األوىل ‪ -‬الكويت‬


‫املجـلـس الوطـنـي للثقـافـة والفـنـون واآلداب‪2017 ،‬م‬
‫إبداعات عاملية ‪ -‬العدد ‪420‬‬

‫صدر العدد األول يف أكتوبر ‪1969‬م‬


‫تحت اسم سلسلة من املرسح العاملي‬

‫أسسها أحمد مشاري العدواين‬


‫(‪)1990 - 1923‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬
ADFGLIHSDF
‫مختارات‬
‫من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫تــــألــــيــــف‪ :‬مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬


‫تــــــحــــــريــــــر‪ :‬ستيفن ألرت ـ فيامل ديسانايايك‬
‫تــــــرجــــــمــــــة‪ :‬د‪ .‬معني رومية‬
‫مــــــراجــــــعــــــة‪ :‬د‪ .‬أمري العزب‬
‫تصدر كل شهرين عن‬
‫اجمللس الوطني للثقافة والفنون واآلداب‬
‫املرشف العام‪:‬‬
‫م‪ .‬عيل حسني اليوحة‬
‫مستشار التحرير‪:‬‬
‫أ‪ .‬وليد جاسم الرجيب‬

‫هيئة التحرير‪:‬‬
‫أ‪ .‬د‪ .‬سليامن عيل الشطي‬
‫د‪ .‬ليىل عثامن فضل‬
‫د‪ .‬زبيدة عيل أشكناين‬
‫د‪ .‬عيل عجيل العنزي‬
‫د‪ .‬حنان عبداملحسن مظفر‬

‫مديرة التحرير‪ :‬ملياء خرض القبندي‬


‫سكرتري التحرير‪ :‬جعفر حسني حيدر‬
‫التنضيد واإلخراج والتنفيذ‪ :‬وحدة اإلنتاج‬
‫يف املجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب‬
‫التدقيق اللغوي‪ :‬وائل أحمد حمزة‬

‫‪www.nccal.gov.kw‬‬
‫‪ebdaat_alamia@nccal.gov.kw‬‬
‫‪ebdaat_alamia@yahoo.com‬‬

‫‪ISBN: 978-99906-0-565-5‬‬
ADFGLIHSDF
‫الفهرس‬

‫‪1‬‬ ‫شكر وعرفان ‪...................................................................................‬‬


‫‪5‬‬ ‫مقدمة النارش األجنبي ‪..................................................................‬‬
‫‪9‬‬ ‫اكتشاف تيلينابوتا ‪ -‬برمييندرا ميرتا ‪............................................‬‬
‫‪21‬‬ ‫العشبة ‪ -‬أمريتا بريتام ‪.................................................................‬‬
‫‪31‬‬ ‫موكرجي ‪..................................................................‬‬
‫ِ‬ ‫حنني ‪ -‬بارايت‬
‫‪51‬‬ ‫الكلب الذي دار يف دوائر ‪ -‬غا ْنغادَر غادجيل ‪............................‬‬
‫‪61‬‬ ‫السامء والقطة ‪ -‬و‪ .‬ر‪ .‬أنانتا موريت ‪...................................................‬‬
‫‪97‬‬ ‫الشقلبة ‪ -‬غوبينات موهانتي‪...........................................................‬‬
‫‪111‬‬ ‫صُ حبة ‪ -‬راجا راو ‪.............................................................................‬‬
‫‪121‬‬ ‫فقدان هوية ‪ -‬س‪ .‬ماين «موين» ‪....................................................‬‬
‫‪129‬‬ ‫ٌ‬
‫ابن مخلص ‪ -‬أنيتا ديساي ‪..............................................................‬‬
‫‪143‬‬ ‫ساحر األفاعي ‪ -‬تشونيالل ماديا ‪....................................................‬‬
‫‪153‬‬ ‫َسڤيرتي ‪ -‬ب‪ .‬س‪ .‬ريجي ‪.................................................................‬‬
‫‪201‬‬ ‫قناعة رجل أعمى ‪ -‬تاكازهي سيفاسانكارا ّ‬
‫بيلي ‪...........................‬‬
‫‪213‬‬ ‫غيسا‪ -‬ماهاديفي فريما ‪....................................................................‬‬
‫‪231‬‬ ‫الثؤلول ‪ -‬و‪ .‬ف‪ .‬فيجايان ‪.................................................................‬‬
‫‪257‬‬ ‫وصلنا إىل أمريتسار ‪ -‬بيشام ساهني ‪............................................‬‬
‫‪275‬‬ ‫شاه جيهان وجيشه الخاص ‪ -‬سونيل غانغو َبدْيايا ‪......................‬‬
‫‪299‬‬ ‫انعتاق ‪ -‬نريمال فريما ‪.......................................................................‬‬
‫‪353‬‬ ‫‪ -‬ديفانورو ماهاديفا ‪.............................................................‬‬ ‫أماس ا‬
‫‪365‬‬ ‫الكتّاب املساهمون ‪.......................................................................‬‬
‫‪371‬‬ ‫تعريف باملحررين ‪........................................................................‬‬
ADFGLIHSDF
‫شكر وعرفان‬
‫بُذلــت جهــود حثيثــة للحصــول عــى اإلذن بالنــر لكافــة املــواد‬
‫الــواردة يف هــذا الكتــاب‪ .‬ويف حــال ورود أي حــذف غــر متعمــد يجــب‬
‫إبــاغ النارشيــن وتضمــن إقــرار رســمي بذلــك يف كافــة الطبعــات‬
‫املســتقبلية للكتــاب‪ .‬الشــكر والعرفــان ٍٍّ‬
‫لــكل مــن‪:‬‬
‫بريتيــش نانــدي مــن أجــل قصــة (اكتشــاف تيلينابوتــا) بقلــم برمييندرا‬
‫ميــرا‪ ،‬التــي نــرت يف عــام ‪ 1984‬يف ‪The Illustrated Weekly of‬‬
‫‪ ،India‬برتجمــة ‪.Pritish Nandy‬‬
‫أمريتــا بريتــام مــن أجــل قصتهــا (العشــبة) التــي نــرت عــام ‪1987‬‬
‫يف ‪،The Aerial and other Stories، United Writers، Calcutta‬‬
‫برتجمــة ‪.Raj Gill‬‬
‫دار نــر ‪ Penguin Books Canada Ltd‬مــن أجــل قصــة (حنــن)‬
‫بقلــم بــارايت موكريجــي‪ ،‬ونــرت يف ‪.Darkness‬‬
‫غانغــادر غادجيــل مــن أجــل قصتــه (الكلــب الــذي دار يف دوائــر)‬
‫التــي نــرت عــام ‪ 1961‬يف ‪Modern Marathi Short Stories، Kutub‬‬
‫‪.Popular، Bombay‬‬
‫و‪ .‬ر‪ .‬أنانتــا مــوريت مــن أجــل قصتــه (الســاء والقطــة) التــي نــرت‬
‫عــام ‪ 1980‬يف ‪Indian Literature، Sahitya Akademi، Vol. XXIII‬‬
‫‪ .No. 3 & 4، New Delhi‬وترجمهــا ‪.D.A. Shankar‬‬
‫غوبينــات موهانتــي مــن أجــل قصتــه (الشــقلبة) التــي نــرت عــام‬
‫‪ 1979‬يف ‪.The Ant and Other Stories، United Writers، Calcutta‬‬
‫وترجمهــا ‪.Sitakant Mahapatra‬‬

‫‪1‬‬
‫دار ‪ Oxford University Press‬مــن أجــل قصــة (صحبــة) بقلــم‬
‫راجــا راو التــي نــرت عــام ‪ 1978‬يف ‪The Policeman and The Rose،‬‬
‫‪.Oxford University Press، New Delhi‬‬
‫جايــو مــاين مــن أجــل قصــة (فقــدان هويــة) بقلــم س‪ .‬مــاين «مــوين»‬
‫التــي نــرت عــام ‪ 1978‬يف ‪Tamil Short Stories، Authors Guild of‬‬
‫‪ .India، New Delhi‬وترجمهــا ‪.Albert Franklin‬‬
‫دار ‪ William Heinemann Publishers‬مــن أجــل قصــة (ابــن‬
‫مخلــص) بقلــم أنيتــا ديســاي التــي نــرت عــام ‪ 1978‬يف ‪Games At‬‬
‫‪.Twilight‬‬
‫دار ‪ Jaico Publishing Hous‬مــن أجــل قصــة (ســاحر األفاعــي)‬
‫بقلــم تشــونيالل ماديــا التــي نــرت عــام ‪ 1982‬يف ‪Selected Stories‬‬
‫‪ .From Gujarat‬وترجمهــا ‪.sarla Jag Mohan‬‬
‫مانــوج ب‪ .‬ريجــي مــن أجــل قصــة (ســفيرتي) بقلــم ب‪ .‬س‪ .‬ريجــي‬
‫التــي نــرت يف عام ‪ 1968‬يف ‪Indian Literature، Sahitya Akademi،‬‬
‫‪ .New Delhi‬وترجمهــا ‪.Kumud Mehta‬‬
‫بيــاي مــن أجــل قصتــه (قناعــة رجــل أعمــى) التــي‬ ‫ت‪ .‬س‪ّ .‬‬
‫نــرت عــام ‪ 1976‬يف ‪Malayalam Short Stories، Kerala Sahitya‬‬
‫‪ .Akademi، Trichur‬وترجمهــا ‪.V. Abdulla‬‬
‫مؤسســة ‪ Sahitya Sakhar Trust‬مــن أجــل قصــة (غيســا) بقلــم‬
‫ماهاديفــي فريمــا التــي نــرت يف ‪Mahfil، The Journal of South‬‬
‫‪ .Asian Literature، Vol. XX No 1، Chicago‬وترجمهــا ‪Sudha‬‬
‫‪ Chandola‬و‪.Susan Tripp‬‬
‫و‪ .‬ف‪ .‬فيجايان عىل قصته (الثؤلول)‪.‬‬
‫بيشام ساهني من أجل قصته (وصلنا إىل أمريتسار)‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫ســونيل غا ْنغو َبدْ يايــا مــن أجــل قصتــه (شــاه جيهــان وجيشــه الخــاص)‬
‫التــي نــرت عــام ‪ 1986‬يف ‪Mahfil، The Journal of South Asian‬‬
‫‪ .Literature، Vol. XXI No 1، Chicago‬وترجمهــا ‪.Phyllis Granoff‬‬
‫نريمال فريما من أجل قصته (انعتاق)‪ .‬ترجمها ‪.Kuldip Singh‬‬
‫ديفانــورو ماهاديفــا مــن أجــل قصتــه (أماســا)‪ .‬ترجمهــا ‪A. K.‬‬
‫‪ Ramanujan‬و‪.Manu Shetty‬‬

‫‪3‬‬
ADFGLIHSDF

4
‫مقدمة الطبعة األجنبية‬
‫ـل القصــة القصــرة ســهلة املنــال أكرث مــن األجنــاس األدبيــة األخرى‪.‬‬ ‫لعـ ّ‬
‫فيمكــن أن ُتقــرأ يف جلســة واحــدة‪ ،‬خالفــاً للروايــة‪ ،‬لكنهــا يف الوقــت‬
‫نفســه ال تعــرض كثافــة يف الخيــال والصــور التــي قــد تجعــل قصيــدة مــا‬
‫عصيــة عــى الفهــم‪ .‬تقــدم القصــة القصــرة عــادة حفنــة مــن الشــخصيات‬
‫فحســب‪ ،‬وال تعطينــا أكــر مــن ملحــة عــن خلفيــة الزمــان واملــكان‪ .‬لكــنّ‬
‫هــذا ال يعنــي أنهــا شــكل أديب بســيط‪ ،‬فبعــض القصــص القصــرة ميكــن‬
‫أن تكــون معقــدة يف تصميمهــا أو خطتهــا العامــة عــى غ ـرار مرسحيــة‬
‫أو روايــة‪ .‬وكثــرة هــي القصــص التــي تكــون أشــبه مبنمنــات مغوليــة‬
‫معقــدة‪ .‬وغالبـاً مــا يتيــح اختصــار الشــكل للكاتــب أن يجـ ِّرب األســلوب‬
‫والفكــرة الرئيســة بطريقــة ال ميكــن أن يفكــر فيهــا بعمــل أديب أطــول‪.‬‬
‫ميكننــا تق ّفــي أصــول القصة القصــرة بــاألدب الهندي يف الكتابــات األوىل‬
‫يف شــبه القــارة الهنديــة‪ .‬فيمكــن اعتبــار ملحمتــي (مهابهاراتيــا) و(رامايانــا)‬
‫مــن سالســل الحكايــات األســطورية العريقــة يف القــدم‪ ،‬فــكل قطعــة منهــا‬
‫هــي فــن يف الــرد بحــد ذاتــه‪ .‬وتعــرض حكايــات (جاتــاكا) و(بانتشــاتنرتا)‬
‫أيضــاً بعضــاً مــن األمثلــة املبكــرة عــن القصــص القصــرة‪ .‬لكــن القصــة‬
‫القصــرة الهنديــة الحديثــة ميكــن أن تديــن للطقــوس والحكايــات الشــفهية‬
‫والشــعبية أكــر مــن النصــوص العريقــة يف القــدم‪ .‬يســتخدم قســم كبــر من‬
‫املختــارات األدبيــة هنــا تقنيــات الــرد والصــور الخياليــة التــي تــأيت مــن‬
‫تقاليــد فولكلوريــة حتـ ًا‪ .‬ورمبــا يكــون هــذا صحيحـاً وأصيـ ًا يف كثــر مــن‬
‫البلــدان؛ ألن القصــة القصــرة تتشــابه وتشــرك عموم ـاً بالــرد الشــفهي‪،‬‬
‫وليــس بطولهــا فقــط‪ ،‬وكذلــك عــر قدرتهــا عــى التعبــر عــن خــرة كليــة‬
‫مــن خــال شــخصيات وحــوادث محــددة إىل حــد كبــر‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫تأثــر كثــر مــن كتــاب القصــة يف الهنــد باألدبــن األورويب واألمــريك‪،‬‬
‫وكتــب بعضهــم باللغــة اإلنكليزيــة‪ ،‬بينــا األجيــال األقــدم منهــم رمبــا‬
‫أعجبــوا بأعــال موباســان وتشــيخوف وتولســتوي وغريهــم‪ ،‬أمــا كتــاب‬
‫جيــل الخمســينيات فقــد تأثــروا للغايــة بــأدب كافــكا وكامــو وهيمنغــواي‪،‬‬
‫ومــن املرجــح أن الجيــل األحــدث عهــداً يتطلــع إىل أبعــد مــن أوروبــا‬
‫وأمــركا‪ ،‬فينظــر يف القصــص مــن اليابــان والربازيــل ونيجرييــا‪ .‬لكــن األهــم‬
‫مــن كل مــا ســبق هــو أن األدبــاء الهنــود معجبــون بأنفســهم‪ .‬فمــن خــال‬
‫املزيــد واملزيــد مــن الرتجــات والحضــور املتبــادل للســينام‪ ،‬يتفاعــل كتــاب‬
‫البنغــال اآلن مــع أدبــاء مااليــاالم‪ ،‬وهكــذا دواليــك‪ .‬ومــا يـزال مثــة مقــدار‬
‫هائــل مــن الرتجــات ينبغــي إنجــازه ليــس مــن اللغــات املحليــة إىل‬
‫اإلنكليزيــة فحســب‪ ،‬بــل مــن لغــة محليــة إىل لغــة محليــة أخــرى أيض ـاً‪.‬‬
‫متيــز األدب دوم ـاً بكونــه عربــة مهمــة للفهــم الثقــايف املتبــادل‪ .‬إن‬
‫حواجــز اللغــة ليســت هائلــة كــا تبــدو وكــا أظهــرت ذلــك ترجــات‬
‫كثــرة‪ .‬يســتطيع أي قــارئ أن يستكشــف غابــات أمــركا الجنوبيــة عــر‬
‫أعــال غربييــل غارســيا مركيــز‪ ،‬بالســهولة نفســها التــي يدخــل بهــا إىل‬
‫شــوارع دبلــن مــن خــال صفحــات قصــص وروايــات جيمــس جويــس‪.‬‬
‫تجــب مالحظــة أن معظــم األعــال التــي اعتــرت مــن «الكالســيكيات»‬
‫يف جامعــات بريطانيــا وأمــركا هــي ترجــات عــن اإلغريقيــة والالتينيــة‪.‬‬
‫يف الواقــع‪ ،‬ميكــن أحيان ـاً أن تضيــع الفــروق الدقيقــة املم ِّيــزة للغــة مــا‪،‬‬
‫لكــن ليــس مثــة ســبب يجعــل الرتجمــة إىل اإلنكليزيــة مــن الهنديــة‬
‫والكنّاديــة واألورديــة مبــارشة أو مثــرة مثــل الرتجمــة عــن أي لغــة أخرى‪.‬‬
‫نأمــل يف هــذه املختــارات أن نقــدم بعض ـاً مــن أفضــل األمثلــة عــن‬
‫القصــص القصــرة الهنديــة التــي كتبــت يف األعــوام الخمســن األخــرة‪.‬‬
‫ويجــب االعــراف بــأن هــذه القصــص ليســت جميعــاً هــي األكــر‬

‫‪6‬‬
‫معــارصة يف األدب القصــي الهنــدي‪ .‬كتــب بعــض منهــا منــذ عــدة‬
‫عقــود خلــت‪ ،‬ومنهــا واحــدة أو اثنتــان اعتــرت «كالســيكية»‪ .‬وإذا كان‬
‫مــن امللــح ترجمــة أعــال الكتّــاب األكــر حداثــة ّإل أن الهــدف مــن‬
‫هــذه املختــارات هنــا هــو أن نقــدم مجموعــة مهمــة تشــمل القديــم‬
‫والحديــث‪ .‬ســيدرك أي شــخص حســن االطــاع عــى األدب الهنــدي أننــا‬
‫أغفلنــا أعظــم ثالثــة ك ّتــاب ســطوعاً وهــم‪ :‬رابندرانــات طاغــور وبريــم‬
‫تشــاند وســعادات حســن مانتــو‪ ،‬ذلــك ألن أعاملهــم نــرت عــى نطــاق‬
‫واســع‪ ،‬وســيبدو لــو اخرتنــا هنــا مــن أعاملهــم أننــا نقــدم جيـ ًا منفصـ ًا‬
‫بوضــوح عــن املؤلفــن الثامنيــة عــر يف هــذه املجموعــة الذيــن ولــدوا يف‬
‫القــرن العرشيــن ومعظــم كتاباتهــم تبــدأ يف الفــرة التــي تلت االســتقالل‪.‬‬
‫إن قامئــة املحتويــات يف أي مجموعــة تعكــس كليـاً مــا يفضلــه املحـ ِّرر‬
‫شــخصياً‪ .‬قــد يبــدو لبعــض النــاس أن هــذه القصــص مختــارة اعتباطيـاً أو‬
‫كيفيـاً أو مــن دون مــرر‪ ،‬وهنــا يجــدر بنــا القــول إنــه ال توجــد مجموعــة‬
‫واحــدة يف العــامل قاطبــة ميكــن أن تقنــع كل قــارئ‪ .‬ولــي نتجنــب بعــض‬
‫املــآزق التــي وقعنــا بهــا يف مختارات ســابقة مل نســتخدم توجيهــات لغوية‬
‫أو محليــة يف تشــكيل مجموعتنــا‪ .‬لقــد اخرتنــا القصــص بنــاء عــى جدارتها‬
‫األدبيــة فحســب‪ ،‬ورضينــا أن تكــون القامئــة األخــرة مــن الك ّتــاب تعكــس‬
‫تنوع ـاً يف اللغــات واألقاليــم‪ .‬وإذا كنــا مل ُنــدرج عــدة كتــاب مشــهورين‪،‬‬
‫فهــذا ال يعنــي أننــا نحكــم عــى أعاملهــم بأنهــا دون املســتوى املطلــوب‪،‬‬
‫وإمنــا ميكــن أن تقــع أعاملهــم يف أجنــاس أدبيــة أخــرى كالروايــة أو ألن‬
‫الرتجــات املوجــودة ألعاملهــم غــر مقنعــة‪.‬‬
‫يناير‪ /‬كانون الثاين ‪1990‬‬
‫املح ِّرران‬

‫‪7‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫‪ADFGLIHSDF‬‬

‫‪8‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫(٭)‬
‫اكتشاف تيلينابوتا‬
‫بر ِميندرا ميرتا‬
‫عندمــا يقــرن كوكبــا زحــل واملريــخ‪ ،‬رمبــا تكتشــف أنــت أيضــاً‬
‫تيلينابوتــا‪.‬‬

‫يف يــوم عطلــة‪ ،‬وبعــد ســاعات مــن الصيــد بالصنــارة مــن دون أن‬
‫ـخص مــا ويغريــك قائـ ًا إنــه يف مــكان‬‫تلتقــط أي ســمكة‪ ،‬عندمــا يــأيت شـ ٌ‬
‫ـاك ال ُتص ـ َّدق تنتظـ ُـر متلهفــة يك‬
‫مــا مثــة بحــرة ســحرية مليئــة بأسـ ٍ‬
‫تبتلــع أي طُ عــم يقــدم لهــا‪ ،‬حينهــا تكــون متامـاً يف طريقــك إىل تيلينابوتا‪.‬‬
‫ـن الوصــول إىل تيلينابوتــا ليــس أمـراً ســه ًال قــطّ ‪ .‬تركــب الحافلــة‬
‫لكـ ّ‬
‫يف آخــر وقــت الظهــرة وقــد اكتظــت بعــدد ال يحــى مــن النــاس‪ ،‬ثــم‬
‫مــع مــرور الوقــت‪ ،‬ترتجــل مبلـ ًا بالعــرق والغبــار اللــزج‪ .‬حقيقـةً‪ ،‬لــن‬
‫تكــون حتــى مســتعداً للنــزول عنــد الوصــول‪.‬‬
‫قبــل أن تعــرف يف أي مــكان أنــت‪ ،‬تختفــي الحافلــة بعيــداً عــى‬
‫جــر يعــر املســتنقع الخفيــض‪ .‬الغابــة كثيفــة وداكنــة‪ ،‬واملســاء هبــط‬
‫حتــى قبــل غــروب الشــمس‪ .‬مثــة ريــح غريبــة تنــر ســكوناً غريبـاً‪ .‬لــن‬
‫تــرى أحــداً يف أي مــكان‪ ،‬حتــى العصافــر فـ ّـرت كــا لــو أنهــا مذعــورة‪.‬‬
‫(٭) يف عام ‪ُ 1984‬أنتج فيلم سيناميئ هندي بعنوان (‪ )Khandahar‬أي األنقاض‪ ،‬استناداً إىل هذه القصة‪ ،‬ونال جوائز‬
‫محلية وعاملية عديدة‪(.‬م)‬

‫‪9‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫مثــة شــعور غــر مألــوف‪ ،‬رهبــةٌ موحشــة تنتصــب وتطــلّ برأســها خارجة‬
‫مــن املســتنقع القفــر‪.‬‬
‫تغــادر الطريــق الرئيــي وتأخــذ الــدرب املوحلــة الضيقــة التــي‬
‫تنعطــف باتجــاه الغابــة‪ .‬بعــد قليــل‪ ،‬تضيــع الــدرب يف أجــات الخيزران‬
‫الكثيفــة‪.‬‬
‫يك تجــد تيلينابوتــا تحتــاج اثنــن مــن األصدقــاء معــك‪ .‬ســتذهبون‬
‫إىل هنــاك لصيــد الســمك‪ .‬أمــا مــا اهتامماتهــم؟ فليــس لديــك أي فكــرة‬
‫عنهــا‪.‬‬
‫ســتكون مشــكلتكم األوىل مــع البعــوض الــذي يتقــدم يف أرساب‬
‫تحاولــون إبعادهــا‪ .‬وســيقف كل واحــد منكــم ناظـراً إىل اآلخــر متســائ ًال‬
‫بوهــن عــا عليــه أن يفعــل‪ .‬شــيئاً فشــيئاً تكتمــل الظلمــة متامــاً‪،‬‬
‫ويصبــح البعــوض أكــر إلحاحـاً‪ ،‬وتتســاءل إن كان مــن األفضــل أن تعــود‬
‫إىل الطريــق الرئيــي وتأخــذ حافلــة الرجــوع‪.‬‬
‫عندهــا متام ـاً‪ ،‬ستدهشــك ضجــة غريبــة‪ ،‬ضجــة قادمــة مــن ذلــك‬
‫املوضــع الــذي ضاعــت الــدرب املوحلــة عنــده يف الغابــة‪ .‬تــكاد تفقـ ُـد‬
‫أعصابــك‪ ،‬وســتتخيل أن رصخــة شــبحية تــأيت مــن الغابــة العجــاء‪،‬‬
‫وســتصبح للتـ ّـو متوتـراً ورمبــا خائفـاً قليـ ًا أيضـاً‪ .‬عندهــا‪ ،‬ســرى مصباحاً‬
‫مهــل‪ ،‬ســتتهادى خارجــ ًة مــن‬ ‫خافتــاً يتأرجــح يف الظــام‪ .‬ثــم‪ ،‬عــى ٍ‬
‫الغابــة املظلمــة عربــةٌ تجرهــا عجــول‪.‬‬
‫هــي عربــة صغــرة‪ ،‬والعجــول أيضــاً صغــرة وســيبدو الجميــع‬
‫كاألقــزام‪ .‬لكنكــم ســتقفزون أنتــم الثالثــة إىل العربــة وتجثمــون يف‬
‫الداخــل املعتــم يف حيــز يتســع لشــخص واحــد فقــط‪.‬‬
‫تعــود العربــة بكــم مــن الطريــق الــذي قدمــت منــه‪ .‬ســتصبح‬
‫الغابــة الكتيمــة املظلمــة نفقــاً ضيقــاً كلــا تقدمــت العربــة قليــاً‪،‬‬

‫‪10‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫وســتتحرك العجــول إىل األمــام ببــطء كــا لــو أنهــا تشــق مــع كل خطــوة‬
‫طري َقهــا الــذي تدوســه‪.‬‬
‫ستشــعر‪ ،‬لبعــض الوقــت‪ ،‬بضيــق شــاق يف الظــام‪ .‬لكــن رسعــان مــا تنغمر‬
‫رويــداً يف أعــاق الظلمــة حولــك‪ .‬وســتعرب مــن عاملــك املألــوف إىل عــامل آخــر‪،‬‬
‫ـون ســدميي مجهــول ومســلوب املشــاعر يســقط الزمــان ميتـاً يف دروبه‪.‬‬ ‫كـ ٍ‬
‫ـول وتنظــر حولــك لتجــد ســائق العربــة‬ ‫فجــأة‪ ،‬ســيوقظك قــرع طبـ ٍ‬
‫يــرب باهتيــاج عــى طبــل فــارغ‪ .‬ســتكون الســاء مليئــة بعــدد ال‬
‫يحــى مــن النجــوم‪.‬‬
‫عرضــاً أن تلــك األصــوات‬ ‫ستســأل‪ :‬مــا األمــر؟ وســيخربك الســائق َ‬
‫إلبعــاد النمــور‪ .‬وعندمــا تســأل كيــف ميكــن إخافــة النمــور بالصخــب‬
‫فقــط‪ ،‬يطمئنــك بــأن هــذه ليســت منــوراً حقيقيــة‪ ،‬بــل نــوع مــن النمور‬
‫املخططــة‪ ،‬تكفــي العصــا والطبــل لجعلهــا تهــرب‪.‬‬
‫منــور! عــى بعــد ثالثــن ميـ ًا مــن املدينــة! وقبــل أن ترفــع حاجبيــك‬
‫ـاض‬
‫مســتغرباً ســتعرب العربــة مســتنقعاً واســعاً أضــاءه قمــر متأخــر‪ .‬أنقـ ُ‬
‫مبــان مهجــورة ســتومض يف ضــوء القمــر الشــاحب‪ .‬صفــوف أعمــدة‬
‫منعزلــة وقناطــر مكــرة وأطــال جــدران لســاحة‪ .‬مثــة معبــد متهــدم‬
‫ـوم ينتظــرون بيــأس تســجيل‬ ‫بعيــد يف األســفل‪ .‬ســتبدو جميعهــا كخصـ ٍ‬
‫شــهادة يف محكمــة الزمــن‪.‬‬
‫ســتحاول النهــوض‪ ،‬ويداهمــك إحســاس غريــب يجعلــك تشــعر كــا‬
‫لــو أنــك خلّفــت وراءك عــامل الحيــاة ودخلــت كونــاً شــبحياً تســكنه‬
‫الذكريــات وحســب‪.‬‬
‫ـن الليــل‪ .‬وتبــدو الظلمــة ال نهائيــة تســتقر فيهــا األشــياء هامــدة‬ ‫يجـ ّ‬
‫دومنــا بدايــة أو نهايــة مثــل حيوانــات منقرضــة تحجــرت يف مســتحاثات‬
‫عــى مـ ّـر الزمــن‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ســتتوقف العربــة بعــد عــدة انعطافــات‪ .‬تجمعــون أوصالكــم‬


‫املتعبــة وتقفــزون الواحــد تلــو اآلخــر مثــل دمــى خشــبية‪ .‬تلقاكــم‬
‫رائحــة قويــة يف الهــواء؛ نــ ُن األوراق املتعفنــة يف البحــرة أمامكــم‪.‬‬
‫وإىل جانــب البحــرة‪ ،‬تنتصــب األطــال الواهنــة لقــر كبــر ســقطت‬
‫ســطوحه وتداعــت جدرانــه وتهشــمت نوافــذه‪ ،‬مثــل أســوار حصــن يف‬
‫مواجهــة ضــوء القمــر الشــبحي‪.‬‬
‫هنا ستقضون الليل‪.‬‬
‫يف البدايــة‪ ،‬ســتجد لنفســك غرفــة صالحــة للســكن نوعــاً مــا‪.‬‬
‫ويجلــب لــك ســائق العربــة مــن مــكان مــا مصباح ـاً مهش ـ ًا وإبريــق‬
‫مــاء‪ .‬ســيبدو لــك أن عصــوراً انقضــت منــذ أن دخــل شــخص مــا إىل تلــك‬
‫الغرفــة‪ ،‬وأن جهــوداً بذلــت لتنظيفهــا بــا جــدوى‪ .‬وتكشــف لــك رائحــة‬
‫العفونــة الرطبــة أن هــذا قــد حــدث منــذ زمــن طويــل‪ .‬وعنــد أقــل‬
‫حركــة‪ ،‬يتقــر الجــص وتســقط قطــع مــن الدبــش عليــك مــن الســطح‬
‫والجــدران كأنهــا لعنــات غاضبــة مــن روح مقيــم‪ .‬تختــر الشــظايا‬
‫املتســاقطة قدر َتــك عــى البقــاء هنــاك لي ـاً‪.‬‬
‫ســينقيض الليــل ببــطء‪ .‬ويتجمــع الســخام عــى زجــاج املصبــاح‬
‫ويبهــت الضــوء بالتدريــج‪ .‬ويصبــح هجــوم البعــوض ال يطــاق‪ .‬هــذا‬
‫اطي الــذي يحمــل املالريــا يف‬
‫هــو البعــوض ذو الــدم األزرق‪ ،‬األرســتقر ُّ‬
‫لســعته‪ .‬لكــن‪ ،‬يف هــذه األثنــاء‪ ،‬ســيغرق كل مــن صديقيــك يف عاملــه‬
‫الخــاص البعيــد جــداً عــن عاملــك‪.‬‬
‫ســيصبح الجــو حــاراً ثقيــل الوطــأة‪ .‬وســتأخذ مشــع ًال وتحــاول‬
‫ـروعك خطــورة‬ ‫الهــروب إىل الرشفــة طلبـاً للــرودة‪ .‬ومــع كل خطــو ٍة سـ ِّ‬
‫السـلّم املتداعــي‪ .‬لكــن شــيئاً مــا ســيدفعك للتقــدم‪ ،‬فتســتمر يف الصعود‬
‫حتــى تصــل‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫عنــد وصولــك‪ ،‬ســتجد الرشفــ َة أطــاالً خربــة‪ .‬مــ ّدت األشــجار‬


‫جذورهــا الراســخة يف كل صــدع وزاويــة‪ ،‬كأنهــا طابــور خامــس ميهــد‬
‫الطريــق للتقــدم العنيــد للغابــة‪.‬‬
‫بعــد ذلــك‪ ،‬ويف الضــوء الباهــت للقمــر‪ ،‬ســيبدو كل يشء جميــاً‪.‬‬
‫وســيبدو لــو أنــك تعمقــت يف البحــث مطـ ّـوالً الكتشــفت الحـ َـرم الداخيل‬
‫لهــذا القــر املنقــوع بالنســيان‪ ،‬هنــاك حيــث بقيــت األمــرة األســرة‬
‫نامئــة فيــه عــر قــرون ال تحــى‪.‬‬
‫ويف اللحظــة التــي تحلــم فيهــا مبثــل هــذه األمــرة‪ ،‬ســتالحظ ضــوءاً‬
‫خافت ـاً يف إحــدى نوافــذ املنــزل املتداعــي يف الجانــب اآلخــر للشــارع‪.‬‬
‫وعندهــا‪ ،‬تــرى ظـ ًا غامضـاً يتمــى نحــو النافــذة‪ِ .‬ظــلُّ مــن هــذا؟ ملــاذا‬
‫تســتيقظ هــي والجميــع ينــام؟ يحــرك األمــر؛ وحتــى يف اللحظــة التــي‬
‫تتســاءل عنهــا‪ ،‬ينطفــئ الضــوء ببــطء‪ .‬هــل كان ذلــك حقيقيـاً؟ أم أنــك‬
‫رأيــت حل ـاً؟ مــن القــاع الســحيق املظلــم لعــامل النــوم هــذا‪ ،‬ظهــرت‬
‫فقاعــة الحلــم لحظــة‪ ،‬طفــت بصمــت عــى ســطح عــامل الحيــاة‪ ،‬وذابــت‬
‫فجــأة‪.‬‬
‫ستنزل السلّم بهدوء وتنام عميقاً إىل جانب صديقيك‪.‬‬
‫عندمــا تســتيقظ بعــد عــدة ســاعات‪ ،‬ســيالقيك الصبــاح والزقزقــة‬
‫الجــذىل للعصافــر‪ .‬ســتتذكر األمــر الــذي أتيــت مــن أجلــه إىل هنــا‪،‬‬
‫وحــاالً‪ ،‬ســتجد نفســك جالس ـاً عــى َد ْرج ـ ٍة متكــرة كســتها الطحالــب‬
‫بجانــب البحــرة‪ .‬ســتلقي بصنارتــك يف امليــاه الخ ـراء وتنتظــر صاب ـراً‪.‬‬
‫ســتتباطئ خطــوات النهــار‪ .‬ســيحط طائــر القاونــد(‪ )1‬عــى غصــن‬
‫شــجرة عنــد طــرف البحــرة‪ ،‬وســيلتقط بــن الفينــة واألخــرى ســمكة‬
‫مــن املــاء‪ ،‬بلمــح البــر‪ .‬وســتخرج أفعــى مــن شــقوق يف الــدرج وتنزلق‬
‫(‪ )1‬صائد السمك ‪( .kingfisher‬م)‬

‫‪13‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ببــطء يف املــاء‪ .‬واثنــان مــن الجنــادب ســيصفقان بجناحيهــا‪ ،‬ويحــاوالن‬


‫التقــاط فلينــة الصنــارة‪ .‬وســتصدح حاممــة مــن بعيــد‪ ،‬ويجلــب هديلهــا‬
‫ـأم بينــا عقلــك يف ذهــول‪.‬‬ ‫ـس السـ َ‬ ‫الناعـ ُ‬
‫ســينقطع حلــم اليقظــة مــع التموجــات املفاجئــة عــى صفحــة‬
‫امليــاه‪ .‬ســيهتز خيــط الصنــارة بنعومــة‪ ،‬وترفــع بــرك لرتاهــا تزيــح‬
‫األعشــاب الطافيــة ومتــأ إبريقـاً المعـاً‪ .‬عيناهــا واثقتــان وحركاتهــا حـ ّـرة‬
‫طليقــة‪ .‬ســتنظر مبــارشة إليــك وإىل خيــط الصنــارة‪ .‬بعدهــا‪ ،‬ســتلتقط‬
‫إبريقهــا وترحــل‪.‬‬
‫لــن تســتطيع تخمــن سـ ّنها‪ .‬ســيوحي وجههــا الهــادئ الحزيــن بأنهــا‬
‫للتــو إىل طريــق الحيــاة الشــائك عديــم الرحمــة‪ .‬لكنــك لــو‬ ‫دلفــت ّ‬
‫متعنــت يف الخطــوط النحيلــة لجســدها العتقــدت بأنهــا مل تجتــز مرحلــة‬
‫املراهقــة‪.‬‬
‫يف اللحظــة التــي تســتدير بهــا لرتحــل‪ ،‬ســتتوقف فجــأة وتســألك عام‬
‫تنتظــر مــن أجلــه‪ .‬ســتقول لــك‪ :‬اســحب الخيــط بشــدة‪ .‬صوتهــا غــض‬
‫رخيــم‪ ،‬حتــى إنــك لــن تســتغرب أنهــا تكلمــت معــك‪ ،‬أنــت الغريــب‬
‫متام ـاً عنهــا‪ ،‬مبثــل هــذه األلفــة‪ .‬فقــط مفاجــأة ظهورهــا ستدهشــك‪،‬‬
‫ومــع الوقــت تســحب خيــط الصنــارة بــا جــدوى‪.‬‬
‫ســتنظر إليهــا مرتبــكاً قليـاً‪ .‬أمــا هــي‪ ،‬فتســتدير وترحــل بخطــوات‬
‫وئيــدة رزينــة‪ .‬ويف اللحظــة التــي تبتعــد فيهــا‪ ،‬ســتندهش إذا رأيــت‬
‫ـع ابتســامة مــن عينيهــا الحزينتــن الهادئتــن‪.‬‬ ‫ل َْمـ َ‬
‫لــن يعكــر يشء عزلــة مــا بعــد الظهــرة‪ .‬ســرحل طائــر القاونــد‪.‬‬
‫وســيتجاهلك الســمك‪ .‬فقــط‪ ،‬ســيالزمك شــعور غريــب بعــدم الواقعيــة‪.‬‬
‫ـتطاعت أن تــأيت إىل أرض النــوم الغريبــة هــذه؟‬‫ْ‬ ‫كيــف اسـ‬
‫ثــم‪ ،‬وبعــد فــرة طويلــة‪ ،‬ســتتوقف عــن الصيــد– خائبــاً قليــاً‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫عندمــا ترجــع‪ ،‬ســتجد أن أخبــار مهارتــك يف صيــد الســمك قــد ســبقتك‪.‬‬


‫ســتتجاهل تعليقــات صديقيــك الفكاهيــة وتســألهام كيــف عرفــوا‬
‫بإخفاقــك؟!‬
‫أَ َّوا ُه‪ ..‬أخربتنــا جامينــي‪ ،‬ســيجيبك صديقــك املخمــور‪ .‬لقــد رأتــك‬
‫عمــن تكــون جامينــي‪ .‬وســتعلم أنهــا هــي التي‬ ‫هنــاك‪ .‬ستســأل بفضــول ّ‬
‫رأيتهــا بجانــب البحــرة‪ ،‬وأنهــا إحــدى أقــارب صديقــك‪ .‬وســتعلم أيضـاً‬
‫أنــك ســتقوم بزيــارة إىل منزلهــا مــن أجــل تنــاول الغــداء‪.‬‬
‫تنظــر إىل األنقــاض عــر الشــارع ‪-‬هنــاك حيــث رأيــت الليلــة البارحة‬
‫ظــ ًا عــى النافــذة املكســورة يف ضــوء القمــر الباهــت‪ -‬وتدهــش‬
‫ملنظرهــا البائــس‪ .‬مل تتخيــل أن خــار الليــل الــذي أزاحــه ضــوء النهــار‪،‬‬
‫ـروع‪ .‬وتدهــش أكــر لعلمــك أن‬ ‫ميكــن أن يخفــي مثــل هــذا العــري املـ ّ‬
‫جامينــي تعيــش هنــاك‪.‬‬
‫إنهــا وجبــة خفيفــة أعدتهــا جامينــي بنفســها‪ .‬ناظـراً إليهــا اآلن عــن‬
‫قــرب‪ ،‬تصــدم بالحــزن املتعــب املكتــوب عىل وجههــا‪ .‬تبــدو وكأن الكرب‬
‫محياهــا‪.‬‬
‫األخــرس ملنزلهــا الوحيــد املنــي ألقــى ظاللــه القامتــة عــى ّ‬
‫تتهشــم‬
‫ــدوم يف عينيهــا‪ .‬وتعــرف أنهــا ّ‬ ‫بحــر مــن التعــب ال ينضــب ُي ِّ‬
‫ببــطء‪ ،‬ببــط ٍء شــديد مــع األنقــاض مــن حولهــا‪.‬‬
‫ســتالحظ أن مثــة مــا يشــغل ذهنهــا‪ .‬ورمبــا تســمع أيضــاً صوتــاً‬
‫خافت ـاً ينــادي مــن غرفــة يف الطابــق العلــوي‪ .‬وبــن الفينــة واألخــرى‬
‫ســتالحظ أن جامينــي تغــادر الغرفــة‪ .‬وكلــا رجعــت‪ ،‬تكــون ظــال‬
‫حزينــة مخيمــة عــى وجههــا وعيناهــا ت ُنــاّ ن عــن قلــق غريــب‪.‬‬
‫بعــد انتهــاء الوجبــة ســتجلس لربهــة قصــرة‪ .‬ســترتدد جامينــي‬
‫قليــاً‪ ،‬لكنهــا ال تلبــث أن تنــادي بيــأس مــن الجانــب اآلخــر للبــاب‪:‬‬
‫مانينــدا‪ ،‬هــا أتيــت إىل هنــا حــاالً؟ ســيذهب مــاين‪ ،‬صديقــك الس ـكّري‪،‬‬

‫‪15‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ـام رغــم أنــك مل‬ ‫ـوح تـ ٍ‬


‫إىل البــاب وستســمع حديثــه مــع جامينــي بوضـ ٍ‬
‫تقصــد أن تســرق الســمع‪.‬‬
‫أصبحــت أمــي عســرة مـ ّـرة أخــرى‪ ،‬هكــذا تقــول جامينــي بصــوت‬
‫مرتجــف‪ .‬منــذ تلــك اللحظــة التــي ســمعت بقدومــك مــع صديقيــك‬
‫أصبــح التعامــل معهــا عس ـراً متام ـاً‪.‬‬
‫يغمم ماين بانفعال‪ :‬أعتقد أن ذلك بسبب تخيلها أن نريانجان هنا‪.‬‬
‫نعــم‪ .‬إنهــا ال تكــف عــن القــول‪« :‬أعلــم أنــه هنــا‪ ،‬مل يصعــد لرؤيتــي‬
‫ألنــه واقــع يف متاعــب ماليــة‪ .‬اذهبــي وأحرضيــه»‪ .‬ال أعــرف مــا أقــول‬
‫يــا مانينــدا‪ .‬منــذ أن أصيبــت بالعمــى أصبحــت عســرة أكــر‪ .‬ال تصغــي‬
‫إىل أح ـ ٍد‪ ،‬ودوم ـاً غاضبــة‪ .‬أخــى أحيان ـاً أنهــا ســوف متــوت يف إحــدى‬
‫نوبــات مرضهــا‪.‬‬
‫ـت لهــا أن نريانجــان ليــس يف أي‬ ‫فقــط لــو أنهــا تســتطيع الرؤيــة‪ ،‬ألثبـ ّ‬
‫مــكان حولنــا‪ :‬يــر ّد مــاين مغضبـاً قليالً‪.‬‬
‫ســتأيت رصخــة غاضبــة مــن الطابــق العلــوي‪ ،‬هــذه املـ ّـرة مســموعة‬
‫بوضــوح‪ .‬وستتوســل جامينــي لــه‪ :‬أرجــوك‪ ،‬تعــال معــي حــاالً يــا مانينــدا‬
‫وانظــر رمبــا تســتطيع أن تجعلهــا تفهــم األمــر‪ .‬حســناً‪ ،‬ســيجيب مــاين‬
‫بفظاظــة‪ .‬اذهبــي وســأتبعك‪ .‬ســيغمم مــاين لنفســه‪ :‬ملــاذا‪ ،‬بحــق‬
‫الســاء‪ ،‬ترفــض هــذه املــرأة املجنونــة أن متــوت؟ إنهــا عميــاء وال تــكاد‬
‫تســتطيع تحريــك أوصالهــا‪ ،‬مــع ذلــك‪ ،‬فقــد قــررت أال متــوت‪ .‬ستســأله‬
‫عــن الخــر وســيجيبك مغضب ـاً‪ :‬خــر؟ ليســت مثــة الكثــر‪ .‬منــذ أعــوام‪،‬‬
‫أع ـ ّدت لــزواج جامينــي ونريانجــان‪ ،‬أحــد أقاربهــا‪ .‬آخــر مــرة كان فيهــا‬
‫هنــا منــذ أربــع ســنوات‪ .‬أخربهــا يومهــا أنــه ســيتزوج جامينــي حــاالً‬
‫عندمــا يرجــع مــن الخــارج‪ .‬ومنــذ ذلــك الحــن‪ ،‬مــا زالــت تنتظــره‪.‬‬
‫ولكــن‪ ،‬أمل يعــد نريانجــان؟ ستســأل‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫بالطبــع ال! كيــف يرجــع وهــو مل يذهــب أبــداً؟ لقــد كان يكــذب‬
‫ــم‬
‫عليهــا‪ ،‬وإال ملــا تركتــه هــذه العجــوز الشــمطاء يذهــب أبــداً‪ .‬لِ َ‬
‫ســيتزوج ابنــة جامــع القاممــة هــذه؟ نعــم‪ ،‬لقــد تــزوج وصــارت لديــه‬
‫ـت‪،‬‬‫أرسة‪ ،‬ولكــن مــن ســيخربها عــن ذلــك؟ لــن تصدقــك أبــداً‪ ،‬وإذا فعلـ ْ‬
‫فســتموت مــن الصدمــة حــاالً بعــد ذلــك‪ .‬مــن ســيقوم بهــذه املهمــة؟‬
‫هل تعرف جاميني بأمر نريانجان؟ تسأله‪.‬‬
‫أَ َّوا ُه‪ ..‬نعــم‪ ،‬لكنهــا ال تســتطيع التكلــم عــن األمــر معهــا‪ .‬حســناً‪،‬‬
‫دعنــي أذهــب وأحــاول إقناعهــا‪ .‬وسيســتدير مــاين مــن أجــل الذهــاب‪.‬‬
‫عــى األغلــب‪ ،‬دومنــا وعــي منــك‪ ،‬ســتنهض وتقــول‪ :‬لحظــة واحــدة‪،‬‬
‫ســوف آيت معــك‪.‬‬
‫ذهوالً ج ّداً‪.‬‬
‫أنت؟ معي؟ سيكون ماين َم ُ‬
‫نعم‪ .‬هل متانع؟‬
‫ال‪ ،‬بالطبــع ال‪ .‬ســيجيبك مــاين مأخــوذاً عــى حــن غـ ّـرة‪ ،‬ثــم يدلــك‬
‫عــى الطريــق‪ .‬بعــد أن تصعــد السـلّم املعتــم املتداعــي‪ ،‬ســتدخل غرفــة‬
‫تبــدو مثــل قبـ ٍو‪ .‬مثــة نافــذة واحــدة فقــط مغلقــة بإحــكام‪ .‬يف البدايــة‪،‬‬
‫ســيبدو كل يشء غــر واضــح‪ .‬وبعــد أن تعتــاد عينــاك عــى العتمــة‪،‬‬
‫ـبياً رثـاً وضخـاً‪ .‬ســتالحظ فوقــه امــرأة واهنــة تلتــف‬ ‫ســرى رسيـراً خشـ ّ‬
‫بأســال وتســتلقي هامــدة‪ ،‬وجامينــي واقفــة إىل جانبهــا كالتمثــال‪.‬‬
‫مــع وقــع خطواتــك‪ ،‬ســيتحرك كيــس العظــام قلي ـاً‪ .‬نريانجــان؟ يــا‬
‫ولــدي! رجعــت أخــراً! عــدت إىل بقايــا عمتــك املحطمــة! أال تعلــم‬
‫أين مــا زلــت أنتظــرك وأدفــع املــوت‪ ،‬عارفــة أنــك ســرجع يوم ـاً‪ .‬هــل‬
‫كاملــرة األخــرة؟‬
‫ّ‬ ‫ســتغيب ثانيــة‬
‫ســيكون مــاين عــى وشــك قــول يشء مــا‪ ،‬لكنــك تقاطعــه قائـ ًا دومنــا‬
‫تفكــر‪ :‬ال‪ ،‬أعــدكُ بــأين لــن أغيــب‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫لــن ترفــع بــرك‪ ،‬بــل ستشــعر بالصمــت الرهيــب يف الغرفــة‪ .‬لــن‬


‫تســتطيع أن ترفــع بــرك حتــى مــع رغبتــك يف ذلــك‪ ،‬ألن عينيــك‬
‫تثبتتــا عــى املحاجــر الرضيــرة لعينيهــا الهرمتــن‪ .‬كلمتــان تقولهــا‬
‫العتمــة تنبثقــان مــن عمــق املحاجــر الفارغــة‪ ،‬وتجلــدان كل إنــش يف‬
‫جســدك‪ .‬ســتحس أن هــذه اللحظــات تنهمــر كالنــدى يف بحــار الزمــن‬
‫الفســيحة‪.‬‬
‫ستســمع املــرأة العجــوز تقــول‪ :‬يــا بنــي‪ ،‬عرفــت أنــك ســتعود‪.‬‬
‫لذلــك مــا زلــت يف بيــت األمــوات هــذا أع ـ ّد األيــام‪ .‬جهدهــا يف الــكالم‬
‫يجعلهــا تلهــث‪ .‬ســرفع بــرك إىل جامينــي‪ ،‬وستشــعر أنــه يف مــكان مــا‪،‬‬
‫وراء قنــاع وجههــا‪ ،‬مثــة يشء يــذوب‪ ،‬ولــن يطــول بــك األمــر حتــى تأخــذ‬
‫عهــداً عــى نفســك؛ عهــداً صنعــه اليــأس الالنهــايئ‪ ،‬عهــداً يقــف يف وجــه‬
‫الحيــاة‪.‬‬
‫ســتتكلم العجــوز ثانيــة‪ :‬إننــي عــى ثقــة بــأن جامينــي ســتجعلك‬
‫ســعيداً يــا بنــي‪ .‬ليــس مثــة مــن تضاهيهــا‪ ،‬حتــى لــو كنــت أنــا أمهــا‬
‫التــي تقــول ذلــك‪ .‬إننــي عجــوز ومحطمــة وعــى األغلــب خرفــة‪ .‬لقــد‬
‫بلوتهــا يف املحــن فهــل ســمعتها تشــكو؟ أبــداً‪ .‬هــذا املنــزل – املقــرة‬
‫حيــث ال تجــد إنســاناً حتــى لــو بحثــت عــى بعــد عــرة بيــوت‪ ،‬هــو‬
‫ـي‪ .‬مــع ذلــك‪ ،‬بقيــت جامينــي معــي‬ ‫مثــي‪ ،‬ميــت أكــر مــا هــو حـ ٌّ‬
‫وهــي تتدبــر كل يشء‪.‬‬
‫حتــى لــو رغبــت‪ ،‬فإنــك لــن تجــرؤ عــى رفــع عينيــك‪ ،‬يك ال يكتشــف‬
‫أحــد الدمــوع التــي انهمــرت منهــا‪ .‬تهمــس املــرأة العجــوز يف أذنــك‪:‬‬
‫ِعــدين بأنــك ســتتزوج جامينــي‪ .‬إذا مل أحصــل عــى وعــدك‪ ،‬فلــن أعــرف‬
‫الطأمنينــة حتــى يف املــوت‪.‬‬
‫سيكون صوتك ثقيالً‪ .‬ستغمغم بنعومة‪ :‬لن أخيب أملك‪ .‬أعدك‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫ومــا تلبــث أن تحــلّ فــرة مــا بعــد الظهــرة‪ .‬ســتظهر عربــة العجــول‬
‫مــرة ثانيــة يك تعــود بكــم‪ .‬وتدخلــون إليهــا ثالثتكــم‪ ،‬الواحــد تلــو اآلخر‪.‬‬
‫وبينــا أنتــم عــى وشــك املغــادرة‪ ،‬ســتنظر جامينــي إليــك بعينيهــا‬
‫ـيت عــدة الصيــد‪.‬‬‫الحزينتــن وتقــول بنعومــة‪ :‬نسـ َ‬
‫ستبتســم وتجيــب‪ :‬دعيهــا‪ .‬مل أصطــد ســمكاً هــذه املــرة‪ ،‬لكنــه لــن‬
‫يفلــت منــي يف املــرة القادمــة‪.‬‬
‫لــن تشــيح جامينــي بعينيهــا‪ .‬ســييضء وجههــا املتعــب بابتســامة‬
‫عذبــة رقيقــة‪ ،‬وستنســاب يف قلبــك مثــل غيــوم الخريــف البيضــاء‬
‫وســتمأل شــعورك بــدفء جميــل غريــب‪ ،‬ســعادة ال توصــف‪.‬‬
‫ســوف ترهــو العربــة عــى الــدرب‪ .‬لــن تشــعر هــذه املــرة بالضيــق‬
‫ولــن يزعجــك الرصيــر الرتيــب للعجــات‪ .‬ســيناقش أصدقــاؤك كيــف‬
‫أن وبــاء املالريــا‪ ،‬منــذ مئــة عــام‪ ،‬وكطوفــان جــارف‪ ،‬اجتــاح تيلينابوتــا‬
‫وتركهــا هنــا يف هــذه األرض املنســية املوحشــة‪ ،‬عــى حافــة عــامل الحيــاة‪.‬‬
‫لــن تكــون مصغيـاً‪ ،‬فذهنــك مشــدود إىل مــكان آخــر‪ .‬ســوف تصغــي إىل‬
‫دقــات قلبــك فحســب وهــي تــردد الكلــات‪ :‬ســأرجع‪ ..‬ســأرجع‪.‬‬
‫حتــى بعــد عودتــك إىل منزلــك يف املدينــة‪ ،‬بأضوائهــا الفظــة وإيقاعها‬
‫الرسيــع‪ ،‬ســتظل تلتمــع ذكــرى تيلينابوتــا يف عقلــك مثــل نجــم بعيــد‬
‫قريــب‪ .‬ســتمر بضعــة أيــام مبشــكالت تافهــة‪ ،‬تلــك املتاعــب املعتــادة‬
‫ـدأت غشــاوة رقيقــة تتشــكل يف عقلــك‬ ‫لألشــياء املألوفــة‪ .‬وحتــى لــو بـ ْ‬
‫فلــن تنتبــه إليهــا‪ .‬بعدهــا‪ ،‬ويف الوقــت الــذي تعــر فيــه الســياج‪ ،‬جاهـزاً‬
‫للعــودة إىل تيلينابوتــا‪ ،‬ســوف تشــعر فجــأة باللمســة الراجفــة للحمــى‬
‫الزاحفــة إليــك‪.‬‬
‫رسعــان مــا ســوف تصــاب بالصــداع املخيــف وارتفــاع الحــرارة‪،‬‬
‫وتســتلقي تحــت الكثــر مــن األغطيــة محــاوالً‪ ،‬بــا جــدوى‪ ،‬طــرد‬

‫‪19‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫الحمــى أو عــى األقــل تأجيلهــا‪ .‬سيســجل ميـزان الحـرارة ‪ 105‬درجــات‬


‫فهرنهايــت وآخــر يشء تســمعه قبــل أن يغمــى عليــك‪ ،‬تشــخيص‬
‫الطبيــب‪ :‬املالريــا‪.‬‬
‫ســتميض أيــام عديــدة قبــل أن تصبــح قــادراً عــى التجــول خــارج‬
‫والتنعــم بالشــمس‪ ،‬ضعيف ـاً منهــكاً مــن طــول الحمــى‪ .‬خــال‬ ‫ّ‬ ‫املنــزل‬
‫ذلــك‪ ،‬ودون معرفــة مــن ذاتــك‪ ،‬ســيخضع عقلــك إىل تغ ـرات كثــرة‪،‬‬
‫تحــوالت غامضــة‪ .‬وســتغدو تيلينابوتــا حلـ ًا مبهـ ًا غامضـاً مثــل ذكــرى‬
‫نجــم هــوى‪ .‬هــل كان مثــة مثــل هــذا املــكان؟ لــن تكــون متأكــداً‪ .‬ذلــك‬
‫الوجــه املتعــب الهــادئ‪ .‬وتلــك العينــان اليائســتان الوحيدتــان اللتــان‬
‫كانتــا تخفيــان حزن ـاً مجهــوالً‪ .‬هــل كانتــا حقيقيتــن؟ أم أنهــا كانتــا‬
‫مثــل ظــال أنقــاض تيلينابوتــا؛ جــزءاً آخــر مــن حلــم شــبحي؟‬
‫تيلينابوتــا‪ ،‬التــي اك ُتشــفت للحظــة واحــدة وجيــزة‪ ،‬ســتغرق ثانيــة‬
‫يف ظلمــة الليــل األبديــة‪.‬‬

‫ترجمها من اللغة األم (البنغالية) إىل اإلنكليزية ‪Pritish Nandy‬‬


‫٭٭٭‬

‫‪20‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫العـشـبة‬
‫أمريتا بريتام‬
‫(‪)2‬‬

‫جــار‬
‫لجــار ِ‬
‫ِ‬ ‫العــروس الجديــدة للخــادم العجــوز‬
‫َ‬ ‫كانــت أنغــوري‬
‫ـن هــذه العــروس كانت‬ ‫جــاري‪ .‬وكل عــروس تكــون بالطبــع جديــدة؛ لكـ ْ‬
‫جديــدة بطريقــة مختلفــة‪ :‬فهــي الزوجــة الثانيــة لزوجهــا الــذي مل يكــن‬
‫ليدعــى َع ُروســاً جديــداً‪ ،‬فقــد تجــرع طعــم الــزواج ســابقاً‪ .‬وهكــذا‬
‫الجـ ّدة إىل أنغــوري فقــط‪ .‬ويــرز هــذا االمتيــاز أكــر إذا‬ ‫ذهــب امتيــاز ِ‬
‫أخــذ املــرء بالحســبان الســنوات الخمــس التــي مــرت قبــل أن يســتطيعا‬
‫عقــد قرانهــا‪.‬‬
‫منــذ ســت ســنوات‪ ،‬ذهــب برابهــايت ليحــرق جثــان زوجتــه األوىل‪.‬‬
‫وعندمــا تــم ذلــك‪ ،‬اقــرب والــد أنغــوري وأخــذ منــه منديلــه املبلــل وعرصه‬
‫ـف‪ ،‬كإشــارة رمزيــة إىل كفكفــة دمــوع األىس التــي رطبــت املنديل‪.‬‬ ‫حتــى جـ ّ‬
‫طبع ـاً‪ ،‬مل يكــن مثــة رجــل قــد بــى أبــداً مبــا يكفــي ليبلــل يــاردة ونصف ـاً‬
‫اســتحم برابهــايت‪ .‬إن القيــام‬
‫ّ‬ ‫مــن القــاش‪ .‬حصــل ذلــك فقــط بعــد أن‬
‫بتجفيــف املنديــل املبلــل بالدمــوع مــن قبــل شــخص لديــه ابنــة يف ســن‬
‫الــزواج كان مثــل مــن يقــول‪« :‬إننــي أقــدم لــك ابنتــي لتأخــذ مــكان تلــك‬
‫ـك بعــد اآلن‪ .‬لقــد جففــت منديلــك املبلــل»‪.‬‬ ‫التــي ماتــت للتــو‪ .‬ال تبـ ِ‬
‫(‪ )2‬صدر للكاتبة يف سلسلة إبداعات عاملية رواية (وجهان لحواء)‪ ،‬العدد ‪ ،326‬العام ‪( .2000‬م)‬

‫‪21‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫تأجــل‬
‫لكــن عقــد قرانهــا ّ‬
‫هكــذا تزوجــت أنغــوري مــن برابهــايت‪ّ ،‬‬
‫خمــس ســنوات لســببني‪ :‬سـ ّنها ال َغ َّضــة‪ ،‬واملعارضــة الشــديدة مــن والدتهــا‪.‬‬
‫وآخــر األمــر‪ ،‬عندمــا دعــي برابهــايت ليــزف عروســه‪ ،‬بــدا كأنــه ســيعجز عــن‬
‫ذلــك‪ ،‬فمخدومــه كان يكــره أن ُيطعــم فـ ًا آخــر مــن مطبخــه‪ .‬لكنــه وافــق‬
‫عندمــا أخــره برابهــايت أن زوجتــه الجديــدة ســركن يف البيــت وحســب‪.‬‬
‫يف البدايــة‪ ،‬احتجبــت أنغــوري يف خدرهــا بعيــداً عــن أعــن الرجــال‬
‫والنســاء‪ .‬لكــن الخــار رسعــان مــا أخــذ ينحــر ليغطــي شــعرها فقــط‪،‬‬
‫كــا يحــدث عــادة مــع املــرأة الهندوســية الراشــدة‪ .‬كانــت بهجــة للعــن‬
‫واألذن عــى الســواء‪ .‬الضحــك ينبعــث مــن مئــات األجـراس يف قدميهــا‪،‬‬
‫وآالف األجـراس تــرن يف ضحكهــا‪.‬‬
‫«ما الذي تلبسينه يا أنغوري؟»‬
‫«خلخال‪ ،‬أليس جميالً؟»‬
‫«وما الذي يف إصبع قدمك؟»‬
‫«حلقة»‪.‬‬
‫«وعىل ذراعك؟»‬
‫«سوار؟»‬
‫«وعىل جبهتك‪ ،‬ما اسمها؟»‬
‫«أليباند»(‪.)3‬‬
‫«ال يشء حول خرصك اليوم يا أنغوري؟»‬
‫«إنــه ثقيــل جــداً‪ .‬ســأرتديه غــداً‪ .‬اليــوم ال قــادة أيضــاً‪ .‬انظــري!‬
‫لقــد انكــر املِشــبك‪ .‬غــداً ســأذهب إىل املدينــة وأحصــل عــى مشــبك‬
‫جديــد‪ ..‬وسأشــري حلقــة لألنــف‪ .‬كان عنــدي حلقــة كبــرة لكــن حــايت‬
‫احتفظــت بهــا»‪.‬‬
‫(‪ )3‬جوهرة توضع عىل الجبهة بني الحاجبني‪(.‬م)‬

‫‪22‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫كانــت أنغــوري فخــورة مبجوهراتهــا الفضيــة‪ ،‬مزهــوة باللمســة‬


‫لحليهــا‪ .‬وكل يشء تفعلــه كان يجعلهــم يف غايــة التأثــر‪.‬‬ ‫املميــزة ّ‬
‫أصبــح الطقــس حــاراً مــع انقــاب الفصــل‪ .‬وال بــد أن أنغــوري‬
‫شــعرت بذلــك أيضــاً داخــل كوخهــا حيــث كانــت متــي فيــه فــرة‬
‫طويلــة مــن اليــوم‪ ،‬لكنهــا اآلن تقــي مزيــداً مــن الوقــت خارجــه‪ .‬توجد‬
‫النيــم وتحتهــا نبــع قديــم‬
‫أمــام منــزيل بضــع شــجرات ضخمــة مــن ِ‬
‫ال يســتعمله أحــد ســوى بعــض العــال املوســميني‪ .‬شـكّل املــاء املتدفــق‬
‫ُبــركاً صغــرة أبقــت عــى الجــو حــول النبــع نديـاً رطبـاً‪ .‬كانــت تجلــس‬
‫غالبـاً قــرب النبــع لالســرخاء‪.‬‬
‫«مــا الــذي تقرئينــه يــا عزيــزيت؟» ســألتني أنغــوري ذات يــوم‪ ،‬عندمــا‬
‫كنــت جالســة أقــرأ تحــت شــجرة النيم‪.‬‬
‫«هل تريدين قراءته؟»‬
‫«ال أعرف القراءة»‪.‬‬
‫«أتريدين أن تتعلمي ذلك؟»‬
‫«آه‪ ،‬ال!»‬
‫«مل ال؟ ما العيب يف ذلك؟»‬
‫«إنها لخطيئة أن تقرأ املرأة!»‬
‫«وماذا عن الرجال؟»‬
‫«بالنسبة لهم‪ ،‬ذاك ليس خطيئة»‪.‬‬
‫«من أخربك بهذا الهراء؟»‬
‫«أعرف ذلك وحسب»‪.‬‬
‫«إنني أقرأ دامئاً‪ .‬البد ّأن آمثة إذاً»‪.‬‬
‫«بالنســبة للمــرأة يف املدينــة‪ ،‬ليــس مثــة خطيئــة‪ .‬تلحــق هــذه‬
‫باملــرأة الريفيــة فقــط»‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ضحكنــا مع ـاً حــول هــذا التعليــق‪ .‬فهــي مل تتعلــم أن تســأل عــن‬


‫كل مــا ُأ ِمـ َـرت أن تؤمــن بــه‪ .‬وفكــرت يف قـرارة نفــي‪ ،‬مبــا أنهــا وجــدت‬
‫الطأمنينــة يف اعتقاداتهــا الراســخة‪ ،‬فمــن أنــا يك أثــر التســاؤالت حــول‬
‫ذلــك؟‬
‫لقــد عـ ّـوض جســدها عــن مزاجهــا الســوداوي‪ ،‬وعــى الــدوام كان‬
‫يشــع منــه إحســاس شــديد بالنشــوة‪ ،‬عذوبــةٌ طريــة‪ .‬يقولــون‪ :‬إن‬
‫جســد املــرأة مطــواع مثــل كتلــة مــن العجــن‪ ،‬بعــض النســاء تكــون‬
‫عجينتهــن مهلهلــة رخــوة‪ ،‬بينــا األخريــات ميلكــن اللدانــة املتامســكة‬
‫املتخمــرة‪ .‬قلــا متلــك امــرأة جســداً يشــابه العجينــة التــي‬
‫ّ‬ ‫للعجينــة‬
‫ـويت بشــكل متناســق بحيــث تكــون مفخــرة الخبــاز‪ .‬ينتمــي جســد‬ ‫سـ ّ‬
‫خصبتهــا املرونــة‬
‫املتموجــة ّ‬
‫ّ‬ ‫أنغــوري إىل هــذا الصنــف‪ ،‬إذ إن عضالتهــا‬
‫املعدنيــة لنابــض ملتــف‪ .‬رأيــت بــأم عينــي وجههــا وصدرهــا وذراعيهــا‬
‫ـرت بزوجهــا برابهــايت‪ :‬عجــوز‬
‫ـرت إحساسـاً عميقـاً‪ .‬ثــم فكـ ُ‬ ‫وســاقيها وخـ ُ‬
‫قصــر واســع الفكــن‪ ،‬مظهــره وهيئتــه يوحيــان مبــوت التناســق‪ .‬فجــأة‬
‫داهمتنــي فكــرة ســاخرة‪ :‬أنغــوري كانــت العجينــة التــي أخفاهــا‬
‫برابهــايت‪ .‬لقــد كان منديلهــا وليــس ذائقهــا‪ .‬شــعرت بضحكــة تــرن يف‬
‫أحســت مبــا‬
‫داخــي‪ ،‬لكنــي كتمتهــا مخافــة أن تكــون أنغــوري قــد ّ‬
‫أضحكنــي‪ .‬اســتفرست منهــا عــن كيفيــة ترتيــب الزيجــات يف املنطقــة‬
‫التــي أتــت منهــا فقالــت‪:‬‬
‫«عندمــا تبلــغ الفتــاة الخامســة أو السادســة مــن عمرهــا تركــع عنــد‬
‫قدمــي شــخص مــا‪ ،‬فيكــون هــو الــزوج»‪.‬‬
‫«كيف يتسنى لها أن تعرف من هو؟»‬
‫«يأخذ والدها نقوداً أو أزهاراً ويضعها عند قدميه»‪.‬‬
‫«ولكن هذا هوى األب‪ ،‬وليس الفتاة»‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫«إنــه يفعــل ذلــك مــن أجــل الفتــاة‪ ،‬لذلــك فكأنهــا تقــوم بــه»‪.‬‬
‫«بينام الفتاة مل تكن قد رأته من قبل أبداً!»‬
‫«نعم‪ ،‬الفتيات ال يرين»‪.‬‬
‫«أمل يحدث أن رأت فتاة زوجها القادم من قبل؟»‬
‫«كال…» قالتها مرتددة‪ ،‬ثم أضافت بعد وقفة طويلة حزينة‪:‬‬
‫«الفتيات اللوايت يقعن يف الحب… يرين أزواجهن مسبقاً»‪.‬‬
‫«هل للفتيات يف قريتك قصص غرامية؟»‬
‫«بعضهن»‪.‬‬
‫ـرت مالحظتهــا‬ ‫«أولئــك اللــوايت ُيغرمــن‪ ،‬أال تلحقهــن الخطيئــة؟» تذكـ ُ‬
‫فيــا يتعلــق برتبيــة النســاء‪.‬‬
‫«كال‪ .‬انظــري‪ ،‬إن مــا يحــدث هــو أن رجـ ًا مــا يحــب فتــاة فيجعلهــا‬
‫تتنــاول العشــبة‪ ،‬عندئــذ تبــدأ يف عشــقه»‪.‬‬
‫«أي عشبة؟»‬‫ُّ‬
‫«العشبة الربية»‪.‬‬
‫«أال تعرف الفتاة أن العشبة قد ُد ّست لها؟»‬
‫«كال‪ ،‬فهــو يضعهــا يف بــان(‪ ،)4‬وبعــد أن تتناولهــا‪ ،‬اليشء يقنعهــا إال‬
‫ـت بــأم عينــي»‪.‬‬‫أن تكــون معــه‪ ،‬مــع رجلهــا‪ .‬أنــا أعــرف ذلــك‪ .‬لقــد رأيـ ُ‬
‫«ما الذي رأيته؟»‬
‫«صديقة يل‪ ،‬كانت أكرب مني»‪.‬‬
‫«وماذا حدث لها؟»‬
‫«لقد ُج َّنت‪ .‬هربت مع حبيبها إىل املدينة»‪.‬‬
‫علمت أن ذلك كان بسبب العشبة؟»‬ ‫ِ‬ ‫«وكيف‬
‫(‪ )4‬خليــط قوامــه من بذور وأوراق ُيضغ لتحســن رائحة الفم‪ ،‬وله بعض الخصائــص العالجية يف األورفيدا‪ ،‬الطب‬
‫التقليدي الهندي‪(.‬م)‬

‫‪25‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫«ومــن أي يشء آخــر ســيكون؟ وملــاذا تــرك والديهــا؟ كان يجلــب لهــا‬
‫وحليـاً وحلوى»‪.‬‬
‫أشــياء كثــرة مــن املدينــة‪ :‬ثيابـاً ّ‬
‫«من أين دخلت العشبة إىل دمها؟»‬
‫«من الحلوى‪ ،‬وإال كيف هامت به؟»‬
‫«الحب يأيت بطرق مختلفة‪ .‬أال توجد طريقة أخرى هنا؟»‬
‫«كال‪ .‬إن سلوكها هذه السبيل أثار كراهية والديها»‪.‬‬
‫«هل رأيت العشبة؟»‬
‫«ال‪ .‬إنهــم يجلبونهــا مــن بلــد بعيــد‪ .‬حذرتنــي أمــي مــن تنــاول‬
‫الحلــوى أو البــان مــن أي شــخص‪ .‬الرجــال يضعــون العشــبة فيهــا»‪.‬‬
‫كنت حكيمة للغاية‪ .‬كيف حدث أن تناولتها صديقتك؟»‬ ‫«لقد ِ‬
‫«لــي تكابــد» قالــت برصامــة‪ ،‬ويف اللحظــة التاليــة تجهــم وجههــا‬
‫عندمــا تذكــرت صديقتهــا‪:‬‬
‫«إنهــا مجنونــة‪ ،‬لقــد ُج ّنــت‪ .‬أســوأ مــا يف األمــر أنهــا مل تعــد تــرح‬
‫شــعرها‪ ،‬بــل تكتفــي بالغنــاء طــوال الليــل…»‬
‫«ما الذي غ ّنته؟»‬
‫«ال أعرف‪ .‬جميعهن يغنني عندما يأكلن العشبة‪ ،‬ويبكني أيضاً»‪.‬‬
‫قفلت راجعة‪.‬‬
‫مل يكن من املمكن متابعة الحديث‪ ،‬لذلك ُ‬
‫يف أحــد األيــام‪ ،‬وجدتهــا جالســة عنــد شــجرة النيــم شــاردة الذهــن‪.‬‬
‫عــادة‪ ،‬يســمع املــرء أنغــوري وهــي قادمــة إىل النبــع‪ ،‬فأجـراس قدميهــا‬
‫تعلــن اقرتابهــا‪ .‬لكــن يف ذلــك اليــوم‪ ،‬كانــت األجـراس صامتــة‪.‬‬
‫«ما الخرب يا أنغوري؟»‬
‫ألقت عيل نظرة مشدوهة ثم توازنت قلي ًال وقالت‪:‬‬
‫«علميني الكتابة‪ ،‬يا عزيزيت»‪.‬‬
‫«ما الذي حدث؟»‬

‫‪26‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫«علميني كيف أكتب اسمي»‪.‬‬


‫«ملــاذا تريديــن أن تتعلمــي الكتابــة؟ هــل مــن أجــل كتابة الرســائل؟‬
‫وملن؟»‬
‫مل تجب‪ ،‬لكنها غرقت يف أفكارها مرة أخرى‪.‬‬
‫«ألــن تصــري آمثــة؟» ســألتها يف محاولــة النتشــالها مــن مزاجهــا‬
‫ـت إىل قيلولــة مــا بعــد الظهــر‪.‬‬
‫العكــر‪ ،‬لكنهــا مل تــرد‪ .‬بعــد ذلــك‪ ،‬دخلـ ُ‬
‫يف املســاء‪ ،‬كانــت مــا تــزال هنــاك‪ ،‬تغنــي بحــزن‪ .‬لكنهــا اســتدارت‬
‫جلســت محنيــة الكتفــن‬‫ْ‬ ‫وتوقفــت فجــأة عندمــا أحســت باقــرايب‪.‬‬
‫ترتجــف بســبب بــرودة املســاء‪.‬‬
‫«إنــك تغنــن بشــكل رائــع‪ ،‬يــا أنغــوري»‪ .‬راقبــت الجهــد الكبــر‬
‫ـت دموعهــا ورســم ابتســامة شــاحبة عــى شــفتيها‪.‬‬ ‫الــذي بذلتــه لكبـ ِ‬
‫«ال أعرف الغناء»‪.‬‬
‫«لكنك تفعلني‪ ،‬يا أنغوري!»‬
‫«هذه كانت الـ‪»..‬‬
‫أكملت لها الجملة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫«األغنية التي اعتادت صديقتك أن تغنيها»‬
‫«لقد سمعتها منها»‪.‬‬
‫«غ ِّنيها يل»‪.‬‬
‫بــدأت تــرد الكلــات‪« :‬أَ َّوا ُه‪ ..‬إنهــا فقــط حــول فصــول الســنة‬
‫وتغرياتهــا‪ .‬أربعــة شــهور للشــتاء‪ ،‬أربعــة شــهور للصيــف‪ ،‬أربعــة شــهور‬
‫للمطــر! …»‬
‫«ليــس هكــذا‪ ،‬غ ِّنيهــا يل» طلبــت منهــا ذلــك‪ ،‬لكنهــا مل تفعــل‪ ،‬ثــم‬
‫ـت‪:‬‬ ‫أكم َلـ ْ‬
‫َ‬
‫أربعة شهور الشتاء َت ُسو ُد قلبي‪،‬‬
‫قلبي ينفطر‪ ،‬آه يا حبي‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ومض يف الشمس‪.‬‬
‫أربعة شهور الصيف‪ ،‬الريح ُت ُ‬
‫أربعة شهور يهطل املطر‪ ،‬الغيوم ترتعش يف السامء‪.‬‬
‫«أنغــوري!» قلــت بصــوت مرتفــع‪ .‬بــدت كأنهــا يف نشــوة أو كأنهــا‬
‫ـعرت كأننــي أريــد أن أهزهــا مــن كتفيهــا‪ .‬لكــن‬ ‫تناولــت العشــبة‪ .‬شـ ُ‬
‫بــدالً مــن ذلــك‪ ،‬أخذتهــا برفــق وســألتها إن كانــت تــأكل بانتظــام‪ .‬هــي‬
‫ال تفعــل ذلــك‪ ،‬بــل تطبــخ لنفســها فقــط‪ ،‬منــذ أن بــدأ برابهــايت يتنــاول‬
‫ـت اليــوم؟» ســألتها‪.‬‬
‫طعامــه يف بيــت مخدومــه‪« .‬هــل طبخـ ِ‬
‫«ليس بعد»‪.‬‬
‫«هل رشبت الشاي يف الصباح؟»‬
‫«الشاي؟ ال يوجد حليب اليوم؟»‬
‫«ملَ ال يوجد حليب اليوم؟»‬
‫«مل أحصل عليه‪ .‬إن رام تارا‪»..‬‬
‫ـت‪ ،‬وأومأت‬ ‫ـب الحليــب لــك‪ ،‬أليــس كذلــك؟» أضفـ ُ‬ ‫«ليــس هنــا ليجلـ ُ‬
‫برأســها موافقة‪.‬‬
‫ـارس الليــي‪ .‬وقبــل أن تتــزوج أنغــوري مــن برابهــايت‪،‬‬‫كان رام تــارا الحـ َ‬
‫اعتــاد رام تــارا أن يتنــاول كوبـاً مــن الشــاي عندنــا يف نهايــة فــرة الحراســة‬
‫قبــل أن يعــود إىل كوخــه قــرب النبــع‪ .‬بعــد قــدوم أنغــوري‪ ،‬أصبــح يتنــاول‬
‫الشــاي يف كــوخ برابهــايت‪ .‬وقــد اعتــاد الثالثــة أن يرشبــوا الشــاي معــاً‬
‫متحلقــن حــول النــار‪ .‬لكــن رام تــارا ذهــب إىل قريتــه منــذ ثالثــة أيــام‪.‬‬
‫«مل تــريب الشــاي منــذ ثالثــة أيــام؟» ســألتها‪ ،‬فأومــأت موافقــة مــرة‬
‫ثانية‪.‬‬
‫«ومل تأكيل‪ ،‬عىل ما أظن؟» مل ترد‪.‬‬
‫بــدا واضحـاً حتــى لــو أنهــا قــد أكلــت فكأنهــا مل تفعــل ذلــك عــى‬
‫اإلطــاق‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫ـرت رام تــارا‪ :‬نظــرة جذابــة‪ ،‬أط ـراف رشــيقة‪ ،‬مفعــم بالدعابــة‪.‬‬ ‫تذكـ ُ‬
‫يتحــدث والبســات ترتعــش بهــدوء عــى زاويتــي شــفتيه‪.‬‬
‫«أنغوري؟»‬
‫«نعم يا عزيزيت»‪.‬‬
‫«هل هي العشبة؟»‬
‫وانهمــرت الدمــوع عــى وجههــا يف جدولــن تجمعــا يف ُبريكتــن‬
‫صغريتــن عنــد زاويتــي فمهــا‪.‬‬
‫«اللعنــة ع ـيَّ!» وبــدأ صوتهــا يرتجــف مــع الدمــوع املنهمــرة‪« ،‬مل‬
‫ـن الشــاي»‪ ..‬مل تســتطع‬
‫آخــذ الحلــوى منــه أبــداً‪..‬وال حتــى ّأي نبتــة‪ ..‬لكـ ْ‬
‫املتابعــة‪ ،‬واغرورقــت كلامتهــا يف جــدول رسيــع مــن الدمــوع‪.‬‬

‫ترجمها من اللغة األم (البنجابية) إىل اإلنكليزية‪Rai Gill‬‬


‫٭٭٭‬

‫‪29‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫‪30‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫حنني‬
‫بارايت مو ِك ِرجي‬
‫يف أحــد املســاءات البــاردة غــر املثلجــة مــن شــهر كانــون األول‬
‫باتــل الطبيــب النفســاين املقيــم يف مشــفى الواليــة‬
‫(ديســمرب)‪ ،‬د‪ .‬مــاين ِ‬
‫يف كوينــز‪ ،‬نيويــورك‪ ،‬نظــر عــر النافــذة األماميــة ملتجــر «تــاج محــل‬
‫أحــس بوجــع الرغبــة‬
‫ّ‬ ‫الجديــد» وللمــرة األوىل طــوال ثالثــن عامــاً‪،‬‬
‫الجــارح‪ .‬كانــت املــرأة خلــف ال ُّنضــد يف العرشيــن أو الواحــد والعرشيــن‬
‫مــن عمرهــا؛ بــر ٌة ذهبيــة المعــة وصــدر شــهوي مــدور كأنهــا إحــدى‬
‫نجــات أفــام بومبــاي‪.‬‬
‫حي مانهاتن‪ .‬هناك يف املستشــفى‪،‬‬ ‫قــاد د‪ .‬باتــل ســيارته مندفعاً نحو ّ‬
‫وجــد نفســه يف موقــف‪ ،‬يف إحــدى فـرات مــا بعــد الظهــر‪ ،‬جعلــه يــدرك‬
‫اهتياجــات‬
‫ٍ‬ ‫أن أرسار االســتقالب البيولوجــي هــي التــي حفظتــه مــن‬
‫منافيــة ألخالقيــات مهنــة الطــب‪ .‬كان هورويتــز البالــغ وزنــه ثالمثئــة‬
‫وتســعة عــر باونــداً قــد ُأدخــل مــن جديــد إىل املستشــفى‪ .‬كان يعــاين‬
‫مــن مــرض الفصــام‪ .‬أقنــع هورويتــز نفســه بأنــه نويــل كــوارد‪ ،‬الكاتــب‬
‫املرسحــي الشــهري‪ ،‬وطلــب مــن جميــع العاملــن أن يقدمــوا االح ـرام‬
‫لــه‪ .‬خــال أقــل مــن نصــف ســاعة‪ ،‬غ ّنــى هورويتــز عرشيــن أغنيــة‪،‬‬
‫ورضب رأس املســاعد الطبــي بالجــدار‪ ،‬وفــك أزرار قميــص مريضــة‬

‫‪31‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫أخــرى يك يقضــم حلمتــي ثدييهــا‪ ،‬وصفــع وجــه ممرضــة جامايكيــة‪،‬‬


‫وطعــن يف شــخص الدكتــور باتــل داعي ـاً إيــاه بـــ «الهنــدي الحثالــة»‪.‬‬
‫طلبــت املمرضــة وضــع هورويتــز يف غرفــة العــزل‪ ،‬ووافــق الدكتــور باتل‬
‫عــى ذلــك‪ .‬كان ينبغــي أن ُير ِاجــع أمــر العــزل أحــد األطبــاء كل ســاعتني‪،‬‬
‫وقــد ُجــدد أمــر عــزل هورويتــز مــن قبــل الدكتــور تشــونغ الــذي قــدم‬
‫متأخ ـراً ســاعتني عــن عملــه‪.‬‬
‫مل يكــن الدكتــور باتــل يحبــذ حبــس البالغــن مــن رجــال ونســاء يف‬
‫حجــرة ضيقــة‪ ،‬خصوص ـاً أنهــا تكــون عاريــة الجــدران‪ .‬ظــل هورويتــز‬
‫يــرخ ويغنــي طــوال نحــو ســت ســاعات‪ .‬زاد الدكتــور باتــل جرعــة‬
‫الهالــدول لــه‪ .‬كان هورويتــز يف حــرب مــع نفســه ومل يكــن مثــة مجــال‬
‫للهدنــة ّإل عــر العقاقــر النفســية‪ ،‬وكان الدكتــور باتــل متشــككاً بشــأن‬
‫التأثـرات الجانبيــة لهــذه األدويــة‪ .‬هـ ّدأ عقــار الهالــدول حالــة الحبيس‪،‬‬
‫ولعلــه مل يكــن واقعيـاً أن يرغــب يف أكــر مــن ذلــك‪.‬‬
‫كان الدكتــور باتــل ممتنــاً لوجــود الكثــر مــن النــاس الضعفــاء‬
‫العاجزيــن عقليـاً (املجانــن‪ ،‬كــا تســميهم زوجتــه) يف واليــة نيويــورك‪،‬‬
‫فقــد أتاحــوا لــه وللدكتــور تشــونغ وحتــى للممرضــة الجامايكيــة عيشــة‬
‫رغيــدة‪ .‬لكنــه امتعــض إذ ُدعــي بـــ «الهنــدي الحثالــة»‪ .‬فحتــى رجــل‬
‫مريــض مثــل هورويتــز ال يحــق لــه أن يدعــوه بذلــك‪.‬‬
‫لقــد اختــار االســتقرار يف الواليــات املتحــدة‪ .‬مل يكــن ممــن يتملكهــم‬
‫الحنــن إىل الوطــن؛ ف َلــم يكــن مغرتب ـاً بــل محب ـاً لوطنــه هــذا‪ ،‬أمــركا‬
‫التــي اســتقر فيهــا‪ .‬لكــن زوجتــه كاميــي التــي نشــأت وترعرعــت يف‬
‫كامديــن‪ ،‬واليــة نيوجــريس‪ ،‬مل تشــاركه هــذا الحــاس ألمــركا‪ ،‬وســخرت‬
‫صــوت يف االنتخابــات للرئيــس رونالــد ريغــان‪ .‬مل تكــن‬ ‫منــه عندمــا ّ‬
‫كاميــي ُمرائيــة‪ ،‬بــل شــخصية متناقضــة ال ميكــن التنبــؤ بشــأنها‪ .‬فمثـاً‪،‬‬

‫‪32‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫اســتطاعت أن تطيــح بــه عندمــا أرادت االنتقــال إىل منــزل مثنــه ثالمثئــة‬
‫ألــف دوالر ذي ردهــة وأقــواس يف غرفــة الطعــام‪ ،‬وكذلــك عندمــا أرادت‬
‫رصف اثنــن وســتني ألــف دوالر لـراء ســيارة البــورش الحمـراء؛ كل ذلك‬
‫ـس القــادم مــن جنــوب‬ ‫يف حــن إنهــا امتنعــت عــن رشاء النبيــذ والخـ ّ‬
‫أفريقيــا العنرصيــة تضامنـاً مــع حملــة مقاطعــة نظــام الفصــل العنرصي‬
‫هنــاك‪ .‬أنفقــت األمــوال بســذاجة يف مطاعــم بالــدويش الفاخــرة وعــى‬
‫تجهيـزات اللياقــة البدنيــة‪ .‬عــى هــذا النحــو كان يعيــش‪ ،‬هانئـاً مبنزلــه‪،‬‬
‫وســيارته‪ ،‬فــاذا يف ذلــك؟ طاملــا أراد الحصــول عــى األشــياء‪ ،‬أراد ذلــك‬
‫ـب أرستــه‪ ،‬وكان حرصــه الشــديد عليهــا‬ ‫مــن أجــل كاميــي وابنهــا‪ .‬أحـ ّ‬
‫مضفــوراً بالحــب‪.‬‬
‫يكلفــه ابنــه يف جامعــة أندوفــر أحــد عــر ألــف دوالر تقريبــاً‬
‫روبيــة‪،‬‬
‫يف العــام‪ .‬عندمــا كان مــاين يحـ ِّـول هــذا املبلــغ مــن دوالر إىل ّ‬
‫كــا اعتــاد غالبـاً يف أثنــاء جلوســه يف مكتبــه الصغــر املوحــش مســتمعاً‬
‫إىل الرصخــات التــي متــأ البهــو‪ ،‬كان الرقــم املذهــل الناتــج بالروبيــات‬
‫يطمئنــه إىل أنــه أفلــح يف العــامل الجديــد‪ .‬مؤخــراً‪ ،‬بــات ابنــه يضــع‬
‫حلقــة يف أذنــه‪ ،‬ومــع ذلــك‪ ،‬مهــا يفعــل الولــد فلــن ينقــص ذلــك مــن‬
‫حــب أبيــه لــه‪.‬‬
‫لقــد أىت إىل أمــركا مــن أجــل مســتقبل الولــد‪ .‬حســناً‪ ،‬يف الحقيقــة‬
‫ـأت باملعنــى الشــائع‪ ،‬بــل بقــي هنــاك بعــد انتهــاء مــدة الفيـزا‬‫هــو مل يـ ِ‬
‫الطالبيــة‪ .‬التقــى كاميــي املمرضــة يف املستشــفى التعليمــي‪ ،‬ورسعــان‬
‫مــا تزوجــا وقــدم الولــد‪ ،‬مثــاين باونــدات وســتة أونصــات جميعهــا مــن‬
‫لحمــه ودمــه‪ ،‬يف منتصــف ليلــة صيفيــة منعشــة‪ .‬كان بإمكانــه عــى‬
‫الــدوام الذهــاب إىل دلهــي متــى أراد‪ .‬جنــى مــا يكفــي مــن املــال يك‬
‫يتقاعــد يف الهنــد (تحويــل مالــه إىل روبيــات يجعــل منــه مليونــراً)‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫وكان قــد اشــرى تحســباً عقــاراً يف واحــدة مــن «املســتوطنات» األكــر‬


‫تطــوراً يف نيودلهــي‪.‬‬
‫كانــت أمــركا جيــدة جــداً بالنســبة لــه‪ ،‬ال ريــب يف ذلــك؛ لكــن مثــة‬
‫أشــياء انقطــع عنهــا‪ ،‬منهــا مثـ ًا عواطــف الصبــا التــي مل يعد باســتطاعته‬
‫خــوف مــن أن ميــوت والــده قبــل أن‬‫ٍ‬ ‫اســرجاعها‪ .‬كــا أنــه عــاش يف‬
‫يتمكــن مــن التحــرر مــن مجانــن نيويــورك والعــودة إىل الوطــن‪ .‬وطاملــا‬
‫افتقــد والديــه‪ ،‬وباألخــص والــده‪ ،‬لكنــه مل يســتطع رشح هــذا الشــعور‬
‫بالفقــد لكاميــي التــي تكــره ّأمهــا التــي كانــت تعمــل ســاعات طويلــة‬
‫وربتهــا وحيــدة‪ .‬حالي ـاً‪ ،‬تعمــل والــدة كاميــي يف‬ ‫يف متاجــر كورفيــت ّ‬
‫متجــر ك‪.‬مــارت مــع أن حاجتهــا إىل املــال ليســت شــديدة‪ .‬كانــت والــدة‬
‫كاميــي تعــاين مــن وســاوس قهريــة لكــن ذلــك مل يكــن ســبباً لكرههــا‪.‬‬
‫ويف الحقيقــة‪ ،‬لقــد انســجم معهــا مــاين إىل حــد كبــر وغالبـاً مــا ســعى‬
‫بينهــا وبــن ابنتهــا‪.‬‬
‫أشــم نحــايس البــرة‪ ،‬بأســنان‬‫والــده اآلن يف ســبعينياته‪ ،‬رجــل ّ‬
‫مســودة‪ ،‬وال يــزال يعمــل يف دار الســينام خاصتــه‪ .‬مل يثــق الرجــل‬
‫بالقيــم عــى حســاباته‪ ،‬بــل مل يثــق بــأي شــخص عــدا أقاربــه‪.‬‬ ‫العجــوز ّ‬
‫كان جميــع العاملــن لديــه مــن أبنــاء عمــه الفق ـراء‪ .‬كان مــاين طف ـ ًا‬
‫ـت لهــا‬
‫ـن أنهــا مــن العاق ـرات‪ ،‬اجرتحـ ْ‬‫وحيــداً‪ .‬والدتــه التــي طاملــا ظُ ـ َّ‬
‫َب ْرفــايت إلهــة الخصوبــة معجــزة وهــي يف الثالثــة واألربعــن مــن عمرهــا‪،‬‬
‫وهكــذا ُولــد مــاين‪ .‬يجــب أن يعــود إىل الهنــد‪ .‬يجــب أن يعتنــي بوالديه‪.‬‬
‫يجــب عليــه ذلــك‪ ،‬إن مل يكــن إلحساســه بالواجــب إزاء اإللهــة‪ ،‬فمــن‬
‫أجــل حبــه ألبيــه‪ .‬فاملــال والرفاهيــة ميكنــه الحصــول عليهــا يف الهنــد‬
‫أيضـاً‪ .‬عندمــا أراد دراســة الطــب يف جامعــة جــون هوبكنــز‪ ،‬مل يعــارض‬
‫أحبــاه بالطريقــة‬
‫والــداه ذلــك عــى الرغــم مــن تعلقهــا بــه‪ .‬لقــد ّ‬

‫‪34‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫العاطفيــة العفويــة ذاتهــا التــي يحــب بهــا ابنــه‪ .‬لكنــه خذلهــا‪ ،‬أو‬
‫لع ّلــه مل يخذلهــا ح ّق ـاً‪ ،‬فقــد أحســن صنع ـاً يف كليــة الطــب‪ ،‬وحصــل‬
‫عــى عمــل مرمــوق يف كوينــز‪ ،‬وغامــر يف الســوق املاليــة مبســاعدة‬
‫معلومــات داخليــة حصــل عليهــا مــن ســوريش َك ّنــا الــذي كان يســبقه‬
‫بســنة يف مدرســة دلهــي الحديثــة ويعمــل حاليـاً يف رشكــة مرييــل لينــش‬
‫املاليــة العامليــة؛ لكنــه مل يبــادل والديــه تفانيهــا يف ســبيله‪.‬‬
‫كان مــاين يف هــذا امل ـزاج مــن النــدم املشــوب بالتــوق عندمــا قــاد‬
‫ســيارته البــورش يف مانهاتــن‪ ،‬وركنهــا عــى جانــب الطريــق خــارج ســاري‬
‫بــاالس أحــد أبنيــة متجــر « تــاج محــل الجديــد»‪ ،‬حيــث ملــح هنــاك وراء‬
‫ال ُّنضــد فتــاة أحالمــه‪.‬‬
‫الفتــاة ‪-‬أو املــرأة‪ ،‬كــا صحــح مــاين لنفســه عــى الفــور‪ ،‬إذ مل تكــن‬
‫كاميــي تتســامح مــع مــن تدعوهــم «الذكوريــن»‪ -‬تحركــت مــن خلــف‬
‫ال ُّنضــد يك ُتــري أحــد الزبائــن أيــن كُدســت أكيــاس أرز باسـ َـمتي(‪ )5‬ذات‬
‫العــرة أرطــال يف املتجــر املكتــظ‪ .‬كانت ترتدي يت شــرت ماركــة بوليس‬
‫وبنطــاالً أزرق‪ .‬انســاب البنطــال حــول فخذيهــا املدوريــن الصغرييــن‬
‫ـات رقيقــة مثــل مروحــة يـ ٍد يابانيــة‪ .‬لــو كان‬
‫بطيـ ٍ‬
‫وتجعــد عنــد وســطها ّ‬ ‫ّ‬
‫لــه‪ ،‬أللبســها الســاري الهنــدي الحريــري األزرق املخــر‪ .‬أراد أن يطــوق‬
‫معصميهــا الضيقــن بأســاور مــن الذهــب عيــار ‪ ،24‬وأن يزيــن صدرهــا‬
‫وحلقهــا بعقــود مــن اللؤلــؤ والياقــوت والزمــرد‪ .‬كانــت فاتنــة وبعيــدة‪.‬‬
‫هنــاك‪ ،‬عنــد نافــذة املتجــر الكامــدة‪ ،‬زفــر آهــات التبجيــل الحــارة‪.‬‬
‫شــاهدها تنحنــي يك تلتقــط كيــس أرز مــن قبضته الخشــنة املصنوعة‬
‫ـن‬
‫مــن الجــوت‪ ،‬يف حــن اتجهــت الزبونــة نحــو صنــدوق الباذنجــان‪ .‬تبـ ّ َ‬
‫ملســة مــن الرتاخــي يف الطريقــة التــي توقفــت بهــا قبــل أن تزلــق‬
‫(‪ )5‬أرز طويل الحبة يع ّد من األطعمة التقليدية يف الهند‪( .‬م)‬

‫‪35‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫أصابعهــا النحيلــة األفعويــة داخــل حلقــات الكيــس القنبيــة‪ .‬توقفــت‬


‫ثانيــة‪ .‬عاينــت متانــة الحلقــات ثــم حنــت ركبتيهــا متهيــأة لســحب كيــس‬
‫األرز الخشــن‪ .‬وجــد نفســه يركــض يف املتجــر‪ .‬ال ميكــن أن يرتكهــا تفعــل‬
‫ذلــك‪ .‬ال يســتطيع أن يــرك مثلهــا تقــوم بأعــال اعتياديــة مبتذلــة‪ ،‬ومــن‬
‫ثــم تعــود إىل املنــزل بقطــار األنفــاق ووجـ ٍـع يف الظهــر‪.‬‬
‫«أواه‪ ،‬شــكراً لــك» قالــت‪ ،‬ورمقتــه بنظــرة كســى مــن تحــت أجفــان‬
‫ـت منهــا‬
‫كثيفــة ظليلــة‪ ،‬مــن دون أن تنــرف عــن الزبونــة الــذي توقعـ ْ‬
‫أن تــرك الكيــس ذا العــرة أرطــال‪.‬‬
‫«أين حبات الباذنجان الطازجة؟ هذه ذابلة متاماً»‪.‬‬
‫راقــب مــاين باتــل الزبونــة تنفــض الغبــار بنــزق عــن طيــات الســاري‬
‫الحريــري اليابــاين أعــى جزمتها الشــتوية‪.‬‬
‫«تبــدو هــذه األشــياء وكأنهــا هنــا منــذ أســبوع كامــل!» أكملــت‬
‫املــرأة شــكواها‪.‬‬
‫مل يســتطع مــاين الصمــود أمــام جاملهــا‪ .‬أظافرهــا القرمزيــة ملســت‬
‫القــرة العليــا لحبــات الباذنجــان‪« .‬لقــد قُطفــت منــذ يومــن فقــط»‪.‬‬
‫لــو أن هنــاك مجــاالً للمســاعدة لــكان أحــر بنفســه حبــات‬
‫باذنجــان ريانــة ناضجــة بــا بــذور‪.‬‬
‫«سجيل مثن األرز والدال(‪ )6‬والبهارات» أوعزت إليها الزبونة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫«سأتسلم خضاري عند الباب الثاين»‪.‬‬
‫«سآخذ أربع حبات من الباذنجان» قال ماين باتل بجرأة‪.‬‬
‫«ورطلــن مــن الـــ بينــدي»(‪ .)7‬وانتقــى مقاديــر مــن الباميــاء الذابلــة‬
‫التــي لــن تعــرف كاميــي كيــف تطبخهــا‪.‬‬
‫(‪ :Dal )6‬وجبة تقليدية يف املطبخ الهندي قوامها الرئييس هو العدس‪( .‬م)‬
‫(‪ )7‬البامياء يف املطبخ الهندي‪( .‬م)‬

‫‪36‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫«سأكون معكَ خالل لحظ ٍة يا سيدي»‪ .‬ر ّدت‪.‬‬


‫عندمــا رفعــت برصهــا ثانيــة‪ ،‬طلــب منهــا الخــروج معــه للغــداء‪.‬‬
‫ـت مضط ـراً ل ـراء أي يشء‪ ،‬تعلــم ذلــك»‪.‬‬ ‫فقــط قالــت لــه‪« :‬لسـ َ‬
‫ـت عليــه أن يكــون اللقــاء خــارج ســاري بــاالس عنــد السادســة‬ ‫اقرتحـ ْ‬
‫والنصــف‪ .‬أربكتــه رسعــة قبولهــا‪ .‬كان د‪ .‬باتــل قــد أقلــع عــن مواعــدة‬
‫النســاء طــوال ثالثــن عامـاً تقريبـاً‪ّ .‬أمــا يف املؤمتـرات والرحــات والليــايل‬
‫ذات أقــدم‪ ،‬فــكان يســتأجر‬‫الســانحة يف املدينــة‪ ،‬عندمــا تســتحوذ عليــه ٌ‬
‫امــرأة ويقــي معهــا املســاء‪ ،‬كــا اعتــاد أن يفعــل يف الهنــد‪ .‬لكــن ذلــك‬
‫مل يكــن يفــي بــيء‪ ،‬بــل حتــى ال يشــبع رغبتــه‪.‬‬
‫كانــت كاميــي هــي التــي بــادرت مبطاردتــه حاملــا شــاهدته يف‬
‫اسـراحة املستشــفى‪ .‬ومــع أنــه كان يعبــث أحيانـاً مــع ممرضــة فلبينيــة‬
‫يف املستشــفى الــذي يعمــل فيهــا اآلن‪ّ ،‬إل أنــه افــرض دومــاً أنــه‬
‫ال ميتلــك براعــة أداء رقصــة القبــول واالتضــاع الالزمــن ملامرســة الــزىن‬
‫ـن كان قلقـاً‪ .‬لقــد رأت فيــه‬ ‫العســر‪ .‬غــادر املتجــر مشــبعاً بالغــرور لكـ ْ‬
‫فاتنــةٌ شــخصاً جذابـاً‪ ،‬لكنــه مل يعلــم اســمها‪ .‬ومل يعلــم أي غضــب عائــي‬
‫تصبــه عليــه‪ .‬كذلــك‪ ،‬وللمــرة األوىل منــذ ســنوات شــعر بنــوع مــن‬ ‫قــد ّ‬
‫االكتشــاف املثــر للقلــق‪ ،‬شــعر بأنــه إذا تخــى للحظــة عــن حياتــه‬
‫تطبــع بهــا فلــن يكــون مــن اليســر العــودة‬ ‫األمريكيــة الراهنــة التــي َّ‬
‫عــن ذلــك‪.‬‬
‫ذات د‪ .‬باتــل الباحــث املتلهــف الرصــن‪ ،‬أن‬ ‫ـت ذا ُتــه األخــرى‪ُ ،‬‬ ‫علمـ ْ‬
‫التغيــر ال يحــدث بتلــك الســهولة‪ .‬لقــد رأى مــا يكفــي مــن األشــخاص‬
‫عــى شــاكلة هورويتــز بحيــث يعلــم أن ال أهميــة ملــدى مكــر طرائقــه‬
‫الخاصــة‪ ،‬وال أهميــة للطابــع الخــارق الــذي تبــدو عليــه اكتشــافات‬
‫علــاء األدويــة النفســية‪ ،‬فالقــدر ال ميكــن حرفــه عــن مســاره‪ .‬كيــف‬

‫‪37‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ـب‬‫حــدث أن هورويتــز‪ ،‬ابــن أحــد صناعيــي الرساويــل الناجحــن‪ ،‬وطالـ ٌ‬


‫جيــد يف املدرســة العليــا للعلــوم يف برونكــس‪ ،‬انتهــى بــه األمــر بدين ـاً‬
‫وعدواني ـاً هائج ـاً‪ ،‬يف حــن إنــه هــو‪ ،‬ابــن م ـزارع يف واليــة غوجــارات‬
‫ـال يف املدرســة الحديثــة‬‫الهنديــة‪ ،‬تحــول إىل مقــاول‪ ،‬وطالــب غــر مبـ ٍ‬
‫ومــن ثــم يف ســانت اســتيفان يف دلهــي‪ ،‬أكان شــخصاً طموح ـاً مولع ـاً‬
‫باالكتســاب؟ مل ميكّنــه كل مــا ميلــك مــن تعليــم وخــرة مــن اإلجابــة‬
‫عــن أبســط األســئلة‪ .‬كان عليــه أن يبــدد حــوايل ســاعة وعرشيــن دقيقــة‬
‫خمــن) بــكل املجــد‪.‬‬
‫قبــل أن يحــل عليــه الكــال‪ ،‬هــذه املــرة (كــا ّ‬
‫تجـ ّـول د‪ .‬باتــل عــر «الهنــد الصغــرة» كتــل الدكاكــن واملطاعــم‬
‫الهنديــة يف الشــارع العرشيــن املتفــرع مــن ليكســينغتون‪ .‬كان الرجــال‬
‫وهــم يســحبون صناديــق ثقيلــة خــارج شــاحنات صغــرة مركونــة عــى‬
‫الجانبــن‪ ،‬يتبادلــون الشــتائم بالبنجابيــة والهنديــة‪ .‬والنســاء بعيــون‬
‫متعبــة خائفــة يدلفــن إىل املطاعــم بحــذر خشــية أن تســقط ســال‬
‫التســوق التــي قدمــن بهــا مــن مخــازن بلومينغــدال ومــاكاي‪ .‬هــواء‬
‫مانهاتــن يعبــق هنــا برائحــة التوابــل‪ .‬لحــق امــرأة فاتنــة بصحبتهــا‬
‫ولــدان إىل ســوق تشــاندين تشــوك‪ ،‬أحــد أكشــاك الوجبــات الخفيفــة‬
‫والشــاي الهنديــن‪ ،‬يك يهاتــف كاميــي بشــأن الحالــة الطارئــة التــي‬
‫حدثــت‪ .‬شــكراً ألن هورويتــز انتكــس صحيــاً‪ .‬كانــت كاميــي عــى‬
‫اطــاع عــى األفعــال األكــر فظاعــة لهورويتــز‪.‬‬
‫ـدي بعــض الخطــط؟»‬ ‫ـن هورويتــز دومـاً عندمــا تكــون لـ ّ‬‫«ملــاذا ُيجـ ُّ‬
‫ســألت كاميــي‪« .‬ســيعاد عــرض فيلــم أماركــورد يف هــذه الليلــة فقــط»‪.‬‬
‫بــدت كاميــي يف م ـزاج طيــب كــا كانــت فاتنتــه‪ .‬كانــت تخطــط‬
‫لدعــوة ســوزان كــوان‪ ،‬زوجــة طبيــب األســنان التــي تســكن عــى بعــد‬
‫أربعــة منــازل ولديهــا ابــن مــن زواج ســابق يــدرس أيض ـاً يف أندوفــر‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫اغتـ ّـم مــاين لرسعــة تصديقهــا‪ .‬امــرأة عاشــت مــع رجــل طــوال ثالثــن‬
‫ســنة تقريب ـاً ال بــد أن تكــون قــادرة عــى اصطيــاد أكاذيبــه الصغــرة‪.‬‬
‫«هورويتــز شــخص خطــر» أكمــل حديثــه‪ .‬كان بإمكانــه االكتفــاء‬
‫بهــذه العبــارة‪ ،‬لكنــه مل يفعــل‪ .‬مل يكــن يريــد إذن ـاً منهــا‪ ،‬بــل تعاطف ـاً‪.‬‬
‫«لقــد اندفــع إىل مكتبــي وحــاول قتــي»‪.‬‬
‫«رمبــا يتعــن عــى األطبــاء النفســيني يف مؤسســات الواليــة أن‬
‫يحملــوا أســلحة‪ .‬هــل فكــرت يف ذلــك يــا مــاين؟» وضحكــت‪.‬‬
‫اســتبد الغضــب مبــاين باتــل‪ .‬مل تفهــم كاميــي كــم يســتهلكه عملــه‪.‬‬
‫ويف الحقيقــة‪ ،‬ارمتــى هورويتــز عــى مكتــب د‪ .‬باتــل مثــل الفقمــة‪،‬‬
‫مطالب ـاً بعقــد مؤمتــر صحــايف ليخــر العــامل كيــف أن حقوقــه املدنيــة‬
‫ن الفق ـراء يف واليــة‬‫امي ـ َ‬
‫الف َص ِّ‬
‫تنتهــك‪ .‬رصخ هورويتــز قائ ـ ًا إن املــرىض ِ‬
‫نيويــورك يؤخــذون رهائــن مــن قبــل حفنــة مــن األطبــاء األجانــب‬
‫الذيــن ال يجيــدون التحــدث باإلنكليزيــة‪ .‬ولــوال اثنــان مــن املمرضــن‬
‫ـس د‪ .‬باتل باســتيقاظ‬ ‫املســاعدين طــول الواحــد منهــا ســتة أقــدام (أحـ ّ‬
‫احرتامــه للرجــال الســود الضخــام) لــكان مــن املحتمــل أن ميســكه‬
‫هورويتــز مــن عنقــه‪.‬‬
‫«كان مــن املمكــن أن أمــوت اليــوم» كـ َّـرر‪ ،‬وقــد أذهلتــه حقيقــة‬
‫األمــر‪« .‬حــاول الرجــل خنقــي»‪.‬‬
‫توقــف عــن الحديــث يف الهاتــف وطلــب كأسـاً مــن شــاي ماســاال‪.‬‬
‫أراحــه املــروب اللــزج الحلــو‪ ،‬وص ّفــى أن َفــه البخــار املعطــر الصــادر‬
‫منــه‪ .‬شــخص غــره يف مثــل هــذه الحالــة كان مــن املحتمــل أن يطلــب‬
‫كأس ويســي ُم َضا َع َفــة‪ .‬يف األزمــات‪ ،‬يبــدو عليــه النكــوص‪ ،‬وامليــل‬
‫تلقائي ـاً إىل العالجــات العجائبيــة التــي يتذكرهــا مــن شــبابه يف دلهــي‪،‬‬
‫عــى الرغــم مــن أنــه يف األحــوال العاديــة ال يطيــق الحنــن‪ .‬فعندمــا‬

‫‪39‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫تــزوج أحــرق بطاقــة عضويتــه يف الجمعيــة الهنديــة‪ .‬وكان يتعامــل بــو ٍٍّد‬
‫مهنــي ال أكــر مــع األطبــاء الهنــود يف املستشــفى‪ .‬لكنــه طاملــا عــرف أنــه‬
‫ســيظل متأرجحـاً لألبــد بــن العــامل القديــم والعــامل الجديــد‪ .‬مل يســتطع‬
‫ادعــاء أنــه ولــد مــن جديــد عندمــا أصبــح مواطنـاً أمريكيـاً أمــام املحكمة‬
‫يف مانهاتــن‪ .‬الــوالدة الجديــدة امتيــا ٌز للمــوىت‪ ،‬ولآللهــة واإللهــات الذيــن‬
‫ميكنهــم أن يقتحمــوا حياتــك بأســاليب غامضــة ال تحــى‪ ،‬مــن قبيــل‬
‫فتــاة عاملــة يف متجــر أو باذنجانــة ذابلــة‪ ،‬فقــط مــن أجــل اختبــارك‪.‬‬
‫يف الســاعة السادســة وثــاث دقائــق‪ ،‬جلــس د‪ .‬باتــل يف داخــل‬
‫ســيارته البــورش وبــدأ مبراقبــة األبــواب األماميــة لفنــدق ســاري بــاالس‬
‫منتظ ـراً الفتــاة القادمــة إىل موعــده‪ .‬مل يكــن راغب ـاً بالظهــور يف مظهــر‬
‫مــن انتظــر متوتــر األعصــاب‪ .‬كان مثــة رعشــة خفيفــة يف كلتــا يديــه‬
‫بســبب نوبــة قلــق بســيطة‪ .‬عنــد الدقيقــة الثالثــة والثالثــن بعــد‬
‫السادســة‪ ،‬ظهــرت يف مدخــل متجــر ســاري‪ .‬قدمــت خارجــة مــن فنــدق‬
‫ســاري بــاالس وليــس مــن الشــارع الواصــل إىل مطعــم تــاج محــل‬
‫الجديــد كــا توقــع‪ .‬صفــق بــاب الســيارة وأغلقــه بإحــكام‪ .‬هــل يعنــي‬
‫هــذا أنهــا أتــت إىل املوعــد يف وقــت مبكــر أيضــاً وتجسســت عليــه‬
‫ورأتــه مكـ َّـوراً‪ ،‬قلقـاً‪ ،‬مقيــداً يف مقعــد ســيارته البــورش؟ عندمــا تجــاذب‬
‫أطـراف الحديــث معهــا عــر نافــذة املتجــر‪ ،‬كانــت أجمــل امــرأة تحدث‬
‫إليهــا عــى اإلطــاق‪.‬‬
‫اســمها بادمــا‪ .‬أخربتــه بذلــك عندمــا كان يصــارع للحصــول عــى‬
‫ســيارة أجــرة تقلّهــم نحــو أط ـراف املدينــة‪ .‬مل يســأل عــن كنيتهــا ومل‬
‫تكشــف هــي عــن ذلــك‪ .‬كانــا مع ـاً عــى درايــة بالطابــع غــر الجائــز‬
‫للقائهــا‪ .‬رجــل هنــدي يوحــي ســنه بأنــه متــزوج حك ـاً‪ ،‬عــى الرغــم‬
‫مــن أنــه ال يلبــس خاتــم زواج‪ ،‬وفتــاة مهاجــرة مــن أرسة هندوســية‬

‫‪40‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫كرميــة‪ ،‬ال يهـ ّـم كــم مــى عليهــا يف أمــركا أو كــم عــدد جامعــات الــروك‬
‫املفتونــة بهــا‪ .‬ينبغــي أال توافــق عــى العشــاء مــع رجــل ال تعرفــه‪.‬‬
‫كان هــذا الــوازع الداخــي املكتــوم بشــأن موعــد العشــاء هــو الــذي‬
‫ـب متعــة مســتهرت‪ ،‬رجــل قــد يدفــع بقــوة‬ ‫جعلــه يشــعر بأنــه رجــلٌ طالـ ُ‬
‫الســيدات املتعبــات الحامــات حقائــب التســوق ملجــرد أن يحظــى‬
‫بســيارة أجــرة تنقلــه إىل أطـراف املدينــة‪ .‬أراد أن يأخــذ بادمــا إىل مطعم‬
‫يتنمــر قليـ ًا‬
‫هنــدي بحيــث يطلــب مــا يعرفــه مــن الطعــام‪ ،‬وميكنــه أن ّ‬
‫ـي الــذي تقيــم‬ ‫عــى رئيــس ال ُّنــدل‪ ،‬لكــن ليــس إىل مطعــم هنــدي يف الحـ ّ‬
‫فيــه‪ .‬أراد الذهــاب إىل مطعــم هنــدي مــن النــوع الراقــي‪ ،‬حيــث خزائــن‬
‫لتعليــق الثيــاب‪ ،‬وموســيقى ســيتار الهنديــة‪ ،‬وأنابيــب التهويــة تعبــق‬
‫بخالصــة عطــر تويجــات الزهــر‪ .‬لهــذه الغايــة‪ ،‬اختــار مطع ـ ًا جديــداً‬
‫هــو شــاجاهان يف بــارك أفينــو‪.‬‬
‫«مطعم أنيق كنت أنوي اقرتاحه عليك»‪ .‬قالت‪.‬‬
‫بادمــا‪ .‬اللوتــس‪ .‬الفاتنــة التــي أتــت إليــه مثــل زهــرة‪ .‬أراد أن‬
‫يضغــط عــى يديهــا مــا إن جلســا يف إحــدى مقصــورات املطعــم‪ ،‬لكنــه‬
‫يروعهــا‪ .‬كان فانيــاً‪ ،‬كان صاغــراً‪.‬‬
‫فضــل أال ّ‬ ‫ّ‬
‫تســلم رئيــس ال ُّنــدل بنفســه طلــب د‪ .‬باتــل‪ .‬ومــع املقبــات‬
‫الهنديــة مــن السمبوســة ورقائــق الخبــز أرســل أيضــاً زجاجــة نبيــذ‬
‫إنــري دوكــس مــرس معتقــة‪ .‬تعــى د‪ .‬باتــل أربــع أو خمــس مـ ّـرات يف‬
‫مطعــم شــاجاهان هــذا‪ ،‬ويف كلّ مـ ّـرة كان يحــر معــه مجموعــة مــن‬
‫ســت أو مثــاين فتيــات‪ .‬كان خائفـاً قليـ ًا مــن أن يســتهجن رئيــس النــدل‬
‫إحضــاره امــرأة صغــرة بعــض الــيء‪ ،‬هنديــة ومــن الواضــح متامـاً أنهــا‬
‫ليســت زوجتــه‪ ،‬لكــن زجاجــة النبيــذ طأمنتــه إىل أن إدارة املطعــم غــر‬
‫مباليــة باألمــر‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫وقربهــا مــن شــفتيها‪.‬‬ ‫تنــاول قطعــة مــن رقائــق الخبــز الهنديــة ّ‬


‫انتزعتهــا باضط ـراب يف الشــفتني واألســنان مبالــغ فيــه‪« :‬أنــت تطعــم‬
‫فقمــة الســرك‪ ،‬أليــس كذلــك!»‪ .‬كانــت خجولــة‪ ،‬ومبتهجــة‪.‬‬
‫«ليــس األمــر عــى هــذا النحــو»‪ .‬غمغــم‪ .‬الحــظ أن شــفتيها تركــت‬
‫قوسـاً متأللئـاً مــن أحمــر الشــفاه عــى طــرف إصبعــه‪ ،‬فمســح اإلصبــع‬
‫مبنديلــه خلســة تحــت الطاولــة‪.‬‬
‫مل تبــادر بنفســها إىل تنــاول السمبوســة‪ ،‬ومل يتجــرأ عــى رفــع شــوكة‬
‫الطعــام إىل فمهــا‪ .‬رمبــا ال تحــب السمبوســة‪ .‬ورمبا ليســت ممــن يأكلون‬
‫كثـراً‪ .‬كان هــو نفســه جبانـاً أخــرق‪ ،‬شــبه خائــف مــن أن يــأيت بحركــة‬
‫مازحــة ويدلــق الســلطة عــى الســاري الشــفاف املخطــط الــذي تلبســه‪.‬‬
‫«هل متانع يف أن أدخن؟»‬
‫انشــغل بالطعــام بينــا كانــت ُتخــرج علبــة ســجائر ســوبراين وعلبــة‬
‫أعــواد ثقــاب‪ .‬أقلعــت كاميــي عــن التدخــن منــذ أربــع ســنوات‪،‬‬
‫وحالي ـاً‪ ،‬التعليــات املكتوبــة بخــط يدهــا «شــكراً لعــدم التدخــن يف‬
‫هــذا البيــت» تزيــن أعــى الخزائــن ومناضــد القهــوة‪ ،‬وهــو مل يبــارش‬
‫التدخــن أبــداً بســبب الحساســية‪.‬‬
‫«أال توافــق؟» قالــت‪ .‬مل يكــن ســؤاالً مناســباً‪ ،‬أو حاجــة ملحــة‪« .‬ألــن‬
‫تشــعل ســيجاريت؟» ثــم بانــت يف ملمــح جانبــي فاتــن أمــام مــاين باتــل‪،‬‬
‫وجنتــان وضاءتــان‪ ،‬وشــفتان ترشــفان طــرف الســيجارة‪.‬‬
‫إن أبســط إميــاءة مــن مثلهــا ميكنهــا أن تدمــر إنســاناً فانيـاً يعيــش‬
‫حيــاة الئقــة‪ .‬أشــعل لهــا الســيجارة‪ ،‬وأطفــأ عــود الثقــاب بنفخــة مفعمة‬
‫ـل ال معقــول‪.‬‬
‫بأمـ ٍ‬
‫تســكّع رئيــس ال ُّنــدل حــول طاولتهــم أغلــب الوقــت حتــى إِ َّنــ ُه‬
‫أهمــل الزبائــن الذيــن أتــوا مبك ـراً‪ .‬عينــاه حزينتــان وشــارباه كب ـران‬

‫‪42‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫كثيفــان‪ .‬يلبــس بذلــة ســوداء بحـزام عريــض فــي مثبــت بدبابيــس لهــا‬
‫شــكل رأس الفيــل‪ ،‬وينتعــل حــذاء مدبب ـاً بالي ـاً يف قدميــه اللتــن بــدا‬
‫أنهــا ضخمتــان جــداً عــى رجــل قصــر ضعيــف‪.‬‬
‫«ال أنصحكــم بتنــاول ُبـ ْـرك فيندالــو هــذه الليلة»‪ .‬كان صــوت الرجل‬
‫ـن طبــق كاري الســمك البنغــايل‬ ‫واثقـاً خفيضـاً»‪ .‬لدينــا طبــخ بديــل‪ .‬لكـ ّ‬
‫لذيــذ جــداً‪ .‬أعتقــد أن الســيدة بنغاليــة أليــس كذلــك؟»‬
‫مل تبـ ُـد عليهــا الدهشــة‪« .‬كــم هــي مالحظتــك قويــة يــا ســيدي»‪.‬‬
‫قالــت مبتســمة‪.‬‬
‫كان مــن قبيــل اإلط ـراء الســاح لرئيــس النــدل بالرتيــث وتقديــم‬
‫النصيحــة‪ .‬يف النهايــة‪ ،‬طلــب مــاين باتــل واحــداً مــن كل طبــق مــن‬
‫أطبــاق الــكاري يف القامئــة‪ ،‬لحــم بقــر ولحــم خــروف ودجــاج‪ .‬وأكمــل‬
‫بقيــة الطلــب بطبقــن مــن الخـراوات‪ ،‬طبــق مــن العــدس املجــروش‬
‫انيـاً وكذلك‬ ‫املتبــل‪ ،‬وطبــق مــن خـراوات بيــاو‪ .‬كان طبــق الريتــا َم َج ّ‬
‫(‪)8‬‬
‫ّ‬
‫املرطبانــان مــن مخلــل املانغــو والليمــون‪.‬‬
‫عنــد قــدوم الطعــام أطفــأت بادمــا ســيجارة الســوبراين بــا رغبــة‪.‬‬
‫ـول رئيــس ال ُّنــدل خدمتهــا بنفســه‪ ،‬محدث ـاً ضجيج ـاً أشــبه بقــرق‬ ‫تـ ّ‬
‫الدجــاج‪ ،‬بلســانه الــذي يصطــك بأســنانه الكبــرة غــر املتناســقة‪،‬‬
‫أحــس بأنــه مكــره عــى كيــل غمغــات اإلعجــاب‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫والدكتــور باتــل‬
‫«هــل كل يشء عــى مــا يــرام‪ ،‬دكتــور صاحــب(‪)9‬؟ الســمك مــن‬
‫الصنــف األول‪ ،‬أليــس كذلــك؟ إنــه ليــس يف قوائــم طعامنــا املعتــادة»‪.‬‬
‫مكــث وبــدأ حديثــاً قصــراً عــن األمريكيــن‪ .‬أرســل ال ّنــدل إىل‬
‫ـن‬
‫الطــاوالت األخــرى‪ ،‬موجهـاً لهــم بالتصفيــق براحتــي يديــه ال ُقرنفلي َتـ ْ ِ‬
‫(‪ )8‬سلطة الخيار الهندية‪( .‬م)‬
‫(‪ :sahib )9‬لقب مبعنى «س ّيد» يخاطب به الهنود عادة األوروبيني واألجانب (أو أبناء البلد) ذوي املكانة االجتامعية‬
‫أو الرسمية‪ .‬والكلمة ذات أصول عربية‪( .‬م)‬

‫‪43‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫مــن طــرف مقصــورة مــاين‪ .‬يف البدايــة‪ ،‬كانــت بادمــا تــأكل بــا شــهية‬
‫مــن طبــق البيــاو‪ ،‬ثــم توقفــت وأخرجــت ســيجارة ســوبراين ســوداء‬
‫خفيفــة مــن علبــة صغــرة ومالــت رافعــة وجههــا املتوهــج نحــو وجــه‬
‫مــاين بحيــث يســتطيع إشــعال ســيجارتها مــن جديــد‪.‬‬
‫قــال رئيــس ال ُّنــدل‪« :‬لــدي مشــكلة صغــرة‪ ،‬يــا دكتــور صاحــب‪ .‬يف‬
‫الحقيقــة هــي مشــكلة زوجتــي‪ .‬إنهــا تقيــم هنــا منــذ ثــاث ســنوات لكنهــا‬
‫ال تـزال تحــس بالوحشــة‪ .‬أقــول لهــا دومـاً إن لديهــا شــقة جميلــة يف ريغــو‬
‫وثالجــ ًة ومدفَــأَةً‪ ،‬وأتجــول بــك هنــا وهنــاك بســيارة‬
‫بــارك‪ ،‬وأثاثــاً أنيقــاً َ‬
‫البويــك الزرقــاء‪ ،‬ولديــك طعــام هنــدي منــزيل‪ ،‬فــا املشــكلة إذن؟ لكنــي‬
‫أعلــم‪ ،‬وتعلــم أنــت يــا دكتــور صاحــب‪ ،‬أن الســيدة الهنديــة لــن تشــعر‬
‫بالســعادة مــن دون أطفــال تربيهــم‪ .‬لهــذا الســبب‪ ،‬دفعني اليــأس ألن أحرض‬
‫طفــل شــقيقتي إىل هنــا يف يونيــو املــايض‪ .‬نريــد أن نتبنــاه‪ ،‬إنــه متألــق ذيك‬
‫ـب البلــد‪ .‬لكــن حكومــة الواليــات املتحــدة ترفــض‪ .‬الولــد جــاء بفي ـزا‬ ‫وأحـ ّ‬
‫ي‬‫زيــارة‪ ،‬والحكومــة حالي ـاً تســبب يل مصاعــب جمــة‪ .‬إنهــم يطلقــون ع ـ ّ‬
‫نعوتـاً ســيئة‪ .‬فاألشــخاص الحســودون ينقلــون عنــي قصصـاً ســيئة‪ .‬يقولــون‪:‬‬
‫إننــي أتاجــر بنقــل الغربــاء بشــكل غــر قانــوين‪ ،‬هــل تصــدق هــذا؟ يف هــذه‬
‫األثنــاء‪ ،‬تظــل زوجتــي تبــي طــوال اليــوم‪ ،‬وتنتــزع شــعر رأســها‪ .‬دكتــور‬
‫صاحــب‪ ،‬ميكنــك أن تكتــب أنهــا تحتــاج إىل تبنــي الولــد للحفــاظ عــى‬
‫ســامة عقلهــا واســتقرارها النفــي‪ ،‬أليــس كذلــك؟ أقصــد‪ ،‬تعطينــي خطابـاً‬
‫رســمياً مــن املستشــفى الــذي تعمــل بــه‪ ،‬هــل ميكــن يــا دكتــور صاحــب؟»‬
‫«ليــس بيــدي حيلــة»‪ ،‬قــال مــاين باتــل‪« .‬لــن تقبــل حكومــة‬
‫الواليــات املتحــدة خطــايب»‪.‬‬
‫مل تقــل بادمــا شــيئاً‪ ،‬ومــاين تجاهــل رئيــس ال ُّنــدل‪ .‬كان مثــة حقيقــة‬
‫تبــزغ أمــام مــاين باتــل‪ ،‬ومــن الجميــل جــداً واملثــر جــداً تأملهــا‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫مل يكــن يرغــب يف أن يعكــر صفــو هــذه الليلــة الضيــق الناجــم عــن‬
‫محــن مهاجريــن آخريــن‪.‬‬
‫«لكنــك ســتكتب رســالة عــن املشــكالت النفســية لزوجتــي‪ ،‬أليــس‬
‫كذلــك دكتــور صاحــب؟» اســتجمع رئيــس ال ُّنــدل دموعــه وهــو يقــول‬
‫اق إلحــدى اإلثنيــات‬ ‫ذلــك‪ .‬رجــل ببذلــة ســوداء ينــدب يف مطعــم ر ٍ‬
‫القوميــة‪ .‬شــعر مــاين بالخــزي قليــاً‪ ،‬ومتنــى لــو يغــرب الرجــل عــن‬
‫وجهــه‪« .‬الخطــاب الرســمي رضوري جــداً للتأثــر يف وضــع األشــخاص‬
‫املهاجريــن»‪.‬‬
‫«مــن فضلــك‪ ،‬دعنــا وحدنــا» انتهــره مــاين باتــل‪« .‬إذا واصلــت‬
‫الــكالم‪ ،‬فلــن أعــود يف املســتقبل إىل هــذا املــكان»‪.‬‬
‫الثقــة القدميــة‪ ،‬وســلطة املليونــر يف بلــده األصــي كانــت تعــود‬
‫إليــه‪ .‬كان واثق ـاً مــن نفســه‪.‬‬
‫«مــا الــذي تنــوي فعلــه بعــد العشــاء؟» ســألته بادمــا بعــد أن هــرع‬
‫رئيــس الخــدم مبتعــداً‪ .‬كان مــاين يشــعر بــه إذ وقــف مكلوم ـاً عابس ـاً‬
‫وراء بــاب املطبــخ‪.‬‬
‫ي‬
‫«مــا الــذي أرغــب يف فعلــه؟» فكــر يف زوجتــه والســيدة كــوان ال َّل َت ْ ِ‬
‫تح ـران فيلــم فلينــي‪ .‬مــن املحتمــل أن يتوقفــا لتنــاول كأس يف أحــد‬
‫البــارات قبــل العــودة إىل املنــزل‪ .‬متلــك ســوزان كــوان ســاقني جميلتــن‪.‬‬
‫كان يصعــب عليــه فهــم زوجهــا‪ ،‬لكــن مــاين باتــل قــى ســاعات ممتعــة‬
‫يف منــزل آل كــوان يراقــب ســاقي الســيدة كــوان‪ .‬ال ت ـزال ســاقا بادمــا‬
‫خفيتــن‪ ،‬فهــو مل يرهــا ســوى وهــي تلبــس بنطــاالً أو ســارياً‪.‬‬
‫«إن كنــت تفكــر يف إســعادي» قالــت بغتــةً‪« ،‬فيجــب أن أنبهــك‬
‫إىل أننــي لــن أصــل إىل الســعادة أبــداً‪ .‬وال ينبغــي لــك القلــق بشــأن‬
‫إمتاعــي»‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ـت متامـاً‪ ،‬قــال محدثـاً نفســه‪ .‬ليلة‬‫نعــم‪ ،‬هكــذا هــو األمــر كــا ظننـ ُ‬
‫يقضيهــا مــن دون أن يرتكــب أي خطــأ‪ .‬أشــار بالفي ـزا كارد إىل رئيــس‬
‫الخــدم ودفــع الفاتــورة‪ .‬بعــد ذلــك أتاحــت لــه أدمــا اإلمســاك مبرفقهــا‬
‫والتوجــه معهــا إىل الفنــدق الباهــظ الكائــن فــوق املطعــم‪.‬‬
‫ســأله رجــل رشقــي وراء املنضــدة‪« :‬هــل ســتدفع نقــداً أو ببطاقــة‬
‫اعتــاد يــا ســيدي؟» دفــع نقــداً أجــرة غرفــة لشــخصني وو ّقــع باســم‬
‫ريدجــوود‪ ،‬كولومبــس‪ ،‬أوهايــو‪.‬‬ ‫د‪ .‬موهــان فاكيــل وزوجتــه‪ 18 ،‬شــارع ْ‬
‫أكّد أنه من أبناء أمريكا‪.‬‬
‫يف غرفــة معتمــة يف الـ ّدور الســابع قبالــة ممــر خلفــي‪ ،‬عـ ّـرت الفاتنة‬
‫مروعـاً‪ .‬كانــت صغــرة القـ ّد‪.‬‬
‫ـان يحــدق فيــه َّ‬ ‫جســدها وعرضتــه أمــام فـ ٍ‬
‫كانــت كاملــة‪ ،‬وأصابــع األقــدام كبــرة مشــدودة دقيقة‪.‬‬
‫ـي‪ ،‬ال تعــض‪ ،‬موافــق؟» رمبــا كانــت بادمــا هادئــة‪ ،‬لكنــه مل يكــن‬ ‫«هـ ْ‬
‫ِ‬
‫كذلك‪.‬‬
‫ثــم وهــي تدخــن ســيجارة‬ ‫«هــل أزعجــكَ األمــر؟» ســألته مــن َّ‬
‫ســوبراين ثانيــة‪ .‬كانــت مســتلقية عــى جنبهــا‪ ،‬والح بطنهــا مســتديراً‬
‫باذخــاً‪« .‬أقصــد أننــي هادئــة»‪.‬‬
‫مل يســتطع اإلجابــة‪ .‬كان ذلــك مثنـاً ضئيـاً‪ ،‬وعــى أي حــال مل يكــن‬
‫هــو مــن دفعــه‪ .‬ال يشء ميكنــه أن يقلــل مــن اإلثــارة التــي شــعر بهــا يف‬
‫مبادرتــه إىل املجازفــة‪ ،‬وال يخــص األمــر الفنــدق أو هــذا الرسيــر‪ ،‬بــل يف‬
‫كونــه دخــل إىل مبنــى تــاج محــل الجديــد وطلــب منهــا الخــروج معــه‪.‬‬
‫رمبــا كان عليــه أن يتصــل باملنــزل‪ ،‬يف حــال مل تكــن كاميــي قــد‬
‫توقفــت لتنــاول كأس يف البــار‪ .‬ورمبــا كان عليــه أن يرتــدي ثيابــه ويعرض‬
‫عليهــا شــيئاً ســخياً ‪-‬عــى نحــو رصــن مــا أمكــن‪ ،‬ألن هــذه راقيــة حقـاً‪-‬‬
‫ومــن ثــم يعــود إىل البيــت‪ .‬الطعــا ُم الهنــدي‪ ،‬وامــرأة هنديــة يف الرسيــر‪،‬‬

‫‪46‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫كل ذلــك جعلــه يشــعر بالحنــن‪ .‬متنــى لــو أنــه يف مطبــخ بيتهــم هنــاك‪،‬‬
‫وأن والديــه يزورانــه باســتمرار‪ ،‬وأن ّأمــه تعــ ّد لــه كأســاً مــن رشاب‬
‫الهورليــك الســاخن‪ ،‬وأن ابنــه غــر بعيــد عنــه يف مدرســة داخليــة‪ .‬متنــى‬
‫لــو أنــه تــزوج امــرأة هنديــة‪ ،‬امــرأة مــن انتقــاء أبيــه‪ .‬متنــى لــو أنــه‬
‫عــاش أي حيــاة غــر الحيــاة التــي اختارهــا هنــا يف أمــركا‪.‬‬
‫عندمــا كان الدكتــور باتــل يجلــس عــى حافــة الرسيــر املــزدوج‬
‫و ُيدخــل قدميــه يف رسوالــه‪ ،‬قــرع أحدهــم البــاب بهــدوء‪ ،‬ثـ ّـم ومــن‬
‫دون انتظــار الــر ّد فتــح البــاب باملفتــاح الخــاص بالفنــدق‪.‬‬
‫ســحبت بادمــا املــاءة وألقتهــا عــى جســمها‪ ،‬لكــن مل تبـ ُـد عليهــا‬
‫أي دهشــة‪.‬‬
‫«إنهــا تحــت الســن القانونيــة‪ ،‬بالطبــع» قــال رئيــس ال ُّنــدل‪« .‬إنهــا‬
‫االبنــة الصغــرى ألختــي‪ .‬إين أتهمــك باالغتصــاب‪ ،‬يــا دكتــور صاحــب‪.‬‬
‫نعــم نعــم‪ ،‬إنــك محطَّ ــم يف هــذه البــاد‪ .‬لديــك كل يشء وتظــن أنــك‬
‫يجــب أن تحصــل عــى املزيــد‪ .‬يــا لــك مــن شــخص غــر أخالقــي‬
‫للغايــة»‪.‬‬
‫جلــس عــى الكــريس الوحيــد الــذي كان خالي ـاً مــن املالبــس امللقــاة‬
‫عــى عجــل‪ ،‬وأشــعل ســيجارة‪ .‬رسعــان مــا أصبــح الجــو خانق ـاً يف الغرفــة‪،‬‬
‫وعينــا مــاين تطرفــان بشــدة‪ .‬بــدا الخبــث يف عينــي الرجــل‪ّ ،‬أمــا مالمــح‬
‫وجهــه األخــرى فكانــت مصطنعــة ومســرخية‪ .‬يجــب أن يكــون الخــال أكــر‬
‫غضبـاً‪ ،‬هــذا مــا خطــر ببــال د‪ .‬باتــل تلقائيـاً‪ .‬كان عليــه بنفســه أن يتوقــع‬
‫حــدوث ذلــك‪ .‬لقــد أخطــأ يف تقديــر اســتقالليتها واعتــره عالمــة عــى‬
‫الفهــم الــريء‪ .‬لكـ ْـن كان ابنــه مــن يخــوض يف الرمــال املتحركــة‪ ،‬ال هــي‪.‬‬
‫مل يكــن مثــة حكمــة يف التــرع‪ .‬لذلــك وبــكل هــدوء وإتقــان‪ ،‬لبــس‬
‫زرر قميصــه ثــم ربــط حزامــه ولبــس‬ ‫رسوالــه‪ ،‬وســحب ال ِّزمــام بإحــكام‪ّ ،‬‬

‫‪47‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫حــذاءه الفاخــر ماركــة غوتــي‪« .‬الســيدة بنغاليــة‪ ،‬أليــس كذلــك؟»‬


‫تذ ّكــر‪ ،‬إنهــا يعرفــان بعضهــا‪ ،‬ورمبــا حتــى كخــال وابنــة أخــت‪ ،‬أو‪،‬‬
‫رمبــا قــواد ومومــس‪ .‬كان الجــو ملوثـاً برائحــة الجرميــة‪ .‬تســاءل إن كان‬
‫رسوالــه قــد صنعتــه امــرأة مهاجــرة تعمــل يف مشــغل والــد هورويتــز‪.‬‬
‫«ال بــد أنهــا يف الثالثــة والعرشيــن أو الرابعــة والعرشيــن‪ ،‬عــى‬
‫األقــل» قــال د‪ .‬باتــل‪ .‬ونظــر إليهــا متعمــداً إظهــار العجرفــة‪ .‬اســتطاع‬
‫أن مييــز متامـاً عــر مــاءات الرسيــر النتــوءات العلويــة ألصابــع قدميهــا‬
‫الكبــرة املشــدودة‪ .‬منــذ نصــف ســاعة فقــط كان يقبــل هــذه األصابــع‪.‬‬
‫ـن‪.‬‬‫ال بــد أ ّنــه قــد ُجـ ّ‬
‫«أقــول لــك‪ :‬إنهــا قــارص‪ .‬أنــوي تنفيــذ اعتقــال مــدين لــك‪ .‬لــدي هنــا‬
‫جــواز ســفرها يف محفظتي»‪.‬‬
‫اســتغرق األمــر ســاعة مــن املشــاحنات والتهديــدات حتــى متــت‬
‫التســوية‪ .‬و ّقــع شــيكاً بســبعامئة دوالر‪ ،‬وســيكتب خطابـاً رســمياً صــادراً‬
‫عــن املستشــفى‪ .‬قـ َّدم الخــال ضامنــات بأنــه ال توجــد أرشطــة تســجيل‬
‫رسيــة‪ .‬ذهبــت بادمــا إىل الحــام يك تغتســل وتلبــس‪.‬‬
‫«ملــاذا؟» رصخ مــاين‪ ،‬لكنــه كان يعــرف أن بادمــا لــن تســمعه‬
‫بســبب ضجيــج تدفــق املــاء‪.‬‬
‫بعــد أن غــادره االثنــان‪ ،‬خلــع مــاين باتــل مالبســه وذهــب إىل‬
‫الحــام الــذي اســتخدمته للتــو أجمــل امــرأة تحــدث إليهــا من قبــل (أو‬
‫نــام معهــا‪ ،‬ميكنــه اآلن أن يضيــف)‪ .‬جعلــه عطرهــا املتبقــي الــذي ظ ّنــه‬
‫ُخالصــة اللوتــس يغــص‪.‬‬
‫رفــع جســمه واســتند برجلــه إىل حافــة حــوض االســتحامم وصعــد‬
‫حتــى أصبحــت قدمــه عــى الحــواف العريضــة ملغســلة قدميــة الطـراز‪.‬‬
‫ثـ ّـم‪ ،‬وهــو مقرفــص مثــل قــروي‪ ،‬بالطريقــة التــي كان يقرفــص بهــا يف‬

‫‪48‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫بيــت أبيــه‪ ،‬تغـ ّـوط يف املغســلة‪ ،‬ومــأ يديــه بغائطــه‪ -‬شــعر بــه حــاراً‪،‬‬
‫خفيفـاً‪ ،‬راشــحاً‪ ،‬مثــل أدوات الرســام‪ ،‬وكتــب بخــط عريــض عــى املــرآة‬
‫واألرضيــة كلمــة‪ :‬مومــس‪.‬‬
‫قــى الليلــة يف غرفــة الفنــدق‪ .‬وقبــل بــزوغ الفجــر متامـاً‪ ،‬اســتقل‬
‫ســيارة أجــرة نحــو موقــف الســيارات يف فنــدق ســاري بــاالس‪ .‬مل يلمــس‪،‬‬
‫ويــا للعجــب‪ ،‬أي مــن األشــقياء املخربــن ســيارته البــورش‪ .‬ثـ َّـم‪ ،‬شــاعراً‬
‫بأنــه محظــوظ‪ ،‬مبنــأى عــن اشــتباكه مــع الفاتنــة‪ ،‬قــاد ســيارته إىل منزله‪.‬‬
‫تركــت كاميــي مصبــاح الرشفــة ُم َض ًاء‪ ،‬وبــدا توهجه خافتـاً يف الضوء‬
‫املتأللــئ للصبــاح‪ .‬خــال بضــع ســاعات‪ ،‬ســيبدأ هورويتــز باالســتجابة‬
‫للجرعــة الزائــدة مــن الهالــدول ويخرجونــه مــن غرفــة العــزل‪ .‬يف نهايــة‬
‫الفصــل الــدرايس‪ ،‬ســيعود شــون باتــل إىل البيــت مــن أندوفــر ويقــي‬
‫اليــوم كلــه يف املنــزل وســاعات األذن موصولــة إىل عــامل أكــر ســعادة‪.‬‬
‫ويف أغســطس ســيأخذ زوجتــه يف جولــة عــر جــزر الكاريبــي ويعـ ّـوض‬
‫ـان‪.‬‬
‫ـل ثـ ٍ‬
‫عــن هــذه الليلــة بشــهر عسـ ٍ‬
‫٭٭٭‬

‫‪49‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫‪50‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫الكلب الذي دار يف دوائر‬


‫غا ْنغادَر غادجيل‬
‫ـل قاصــداً موقــف البــاص‪ .‬كان عــي أن أذهب إىل‬ ‫كنــت أتجــول بكسـ ٍ‬
‫ـت‬ ‫مــكان مــا‪ ،‬أَ َّوا ُه‪ ..‬أي مــكان‪ .‬انتابنــي كثــر مــن القلــق والكآبــة‪ ،‬عرفـ ُ‬
‫ي أن أكتــب قصــة‪ .‬لذلــك كنــت أتجــول يك أســتمتع بالتوقــف‬ ‫أن عــ ّ‬
‫القصــر املريــح يف نهايــة كل خطــوة‪« .‬أريــد أن أكتــب قصــة‪ ..‬قصــة‪..‬‬
‫آليـاً‪ ،‬مــرة تلــو األخــرى‪« .‬قصــة‪..‬‬
‫ق‪ -‬ص‪ -‬ة»‪ ..‬كنــت أقــول ذلــك لنفــي ّ‬
‫ق‪ -‬ص‪ -‬ة»‪.‬‬
‫قــت ّيف وقــادت شــعوري‬ ‫أصبحــت الكلمــة مثلــة وبــا شــكل‪ .‬ح ّد ْ‬
‫نحــو انبهــار غبــي‪ .‬عميقـاً‪ ،‬بــن الصحــو والنــوم كان يشء مــا يضطــرب‪.‬‬
‫دوائــر ملتويــة رشعــت ترتســم بإلحــاح ضعيــف مضيئــة عــى نحــو‬
‫باهــت‪ .‬القبــض عــى الشــبكة املعقــدة للدوائــر ســوف يظهــر شــك ًال‬
‫يشــبه العالمــة التــي ترتكهــا وردة ذابلــة يف كتــاب‪ .‬األشــكال الخرســاء‬
‫التــي توقفــت عــى حافــة الحيــاة واملعنــى! ستكتســب فجــأة معــامل‬
‫ـن قبــل أن تعنــي شــيئاً يل‪ ،‬ســتتحول إىل بقــع منتــرة مــن‬ ‫واضحــة‪ ،‬لكـ ْ‬
‫ـت يف األشــكال‪ ،‬آمـ ًا أن أرى مــن خاللهــا‪.‬‬‫الحــر‪ ،‬ميتــة وبــا شــكل‪ .‬حدقـ ُ‬
‫لكنهــا مل تفصــح عــن يشء‪..‬‬
‫كنــت غارقــاً متامــاً يف هــذا البحــث املعــذِّب‪ -‬مســتغرقاً يف غيمــة‬
‫بنيــة داكنــة مــن الرتكيــز شــابتها أمزجــة رسيعــة زائلــة وهلوســات‪.‬‬
‫‪51‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫أردت أن أرى ال يشء‪ ،‬أن أســمع ال يشء‪ .‬وصلــت إىل موقــف البــاص‬
‫وتســمرت هنــاك مح ّدقــاً بذهــول يف الشــارع‪.‬‬
‫كنــت أرى شــك ًال مــا‪ ،‬عــى الرغــم مــن أننــي مل أرد إطالقـاً رؤيتــه‪ .‬كان‬
‫هنــاك يف الشــارع‪ .‬شــكلٌ ُب ّنــي؛ كلــب هزيــل منهــك ممــدد يف الشــارع‪ .‬مل‬
‫أســتطع أن أمنــع عينــي مــن رؤيــة بطنــه الجائــع الالهــث‪ .‬كان ينقبــض‬
‫يف نوبــات تشــنج متالحقــة وكأنــه يريــد أن ينتهــي كل يشء ويخلــص مــن‬
‫هــذه الحالــة‪ .‬اســتلقى الكلــب بــا ح ـراك وســط الخربشــات املتواصلــة‬
‫ـارة وحركــة الســر‪ .‬رمبــا اصطــدم بســيارة عابــرة وأغمــي عليــه‪.‬‬
‫للـ ّ‬
‫تجمــع حشــد مــن النــاس عــى الرصيــف‪ .‬رشع الحشــد يكــر‬
‫رويــداً رويــداً ويتقــدم ببــطء عابــراً حافــة الرصيــف إىل الشــارع‪.‬‬
‫أوالد مــردون‪ ،‬صبيــة يقامــرون عنــد زاويــة الشــارع‪ ،‬نســوة عجائــز‬
‫متغضنــات ومحنيــات الظهــور‪ ،‬باعــة متجولــون وعــال! انتصــب ذوو‬
‫الياقــات البيضــاء‪ ،‬متيبســن وبــا اك ـراث‪ ،‬عنــد موقــف البــاص‪ ،‬وبــن‬
‫حــن وآخــر كانــوا يحدجــون الكلــب بنظــرة كســى‪ .‬لـــن يتنازلـــوا إلـــى‬
‫عامــي مـــن قبيــل كلـــمة شــفقة أو لـــفتة فضــول طــارئ‪.‬‬ ‫شـــيء ّ‬
‫انتصــب الحشــد هنــاك‪ ،‬مــردداً وخجـ ًا قليـ ًا مــن اهتاممــه بـــ كلب‬
‫شــارع‪ .‬مــع ذلــك‪ ،‬كان كل مــن فيــه يتنهــد بارتيــاح كلــا انحرفــت‬
‫ســيارة متفاديــة دهــس الكلــب‪ .‬وعــى نحــو عفــوي‪ ،‬بــدؤوا التلويــح‬
‫محذريــن الســيارات القادمــة‪.‬‬
‫بــدأت إحــدى النســوة العجائــز تغمغــم‪ .‬نظــرت حولهــا متفحصــة‬
‫لتخمــن حالــة الحشــد‪ ،‬ثــم رفعــت صوتهــا عالي ـاً‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪« -‬أنــت‪ ،‬هنــاك! أيهــا الصبــي! اذهــب وأحــر ِقــ ْدراً مــن املــاء‬
‫ونهــزت أحــد‬
‫ْ‬ ‫وص ّبــه عــى رأس الكلــب‪ ،‬هــاّ فعلــت؟» قالــت ذلــك‬ ‫ُ‬
‫الصبيــة باتجــاه املطعــم‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫ـم لَـ ْـم تقومــي‬


‫‪« -‬حســناً أيتهــا العمــة! تلــك فكــرة طيبــة‪ .‬لكــن لِـ َ‬
‫بذلــك أنــت؟» قــال أحــد الرجــال الواقفــن خلفهــا‪.‬‬
‫ضحــك الجميــع‪ ،‬وأصبــح االهتــام بالكلــب أكــر حيويــة‪ .‬اجتــاز‬
‫اثنــان مــن األوالد حافــة الرصيــف إىل األمــام وتبعهــم بــردد جمــع‬
‫منتــر مــن النــاس‪ .‬ثــم مــا لبــث الحشــد أن تحلــق حــول الكلــب يف‬
‫وســط الشــارع‪.‬‬
‫مل أســتطع رؤيــة مــا يحــدث بالضبــط‪ .‬عــاد الولـــد الــذي دفعتــه‬
‫العجــوز باتجــاه املطعــم ومعــه قــدر املاء‪ .‬مــال الحشــد بكاملــه وانحنى‬
‫إىل األمــام‪ .‬أولئــك الذيــن يف الخلــف وقفــوا عىل أصابــع أقدامهــم‪ .‬الناس‬
‫الذيــن يراقبــون الشــارع مــن نوافذهــم انحنــوا أيض ـاً ودلـّــوا أعناقهــم‬
‫«هيــا!» هتــف الجميــع بفــرح‪ .‬وأفســح الحشــد طريقـاً ظهــر‬ ‫خارجهــا‪ّ .‬‬
‫منــه الكلــب‪ ،‬كان مــا يـزال دائخـاً‪ ،‬لكنــه اآلن عــى قدميــه‪ .‬ترنــح ســائراً‬
‫باتجــاه حافــة الرصيــف وتبعــه الحشــد‪.‬‬
‫كان كلب ـاً ذاوي ـاً يتضــور جوع ـاً‪ ،‬منظــره يــي بالخنــوع والشــفقة‪.‬‬
‫ذلــك النــوع مــن الــكالب الــذي يعــرض طريــق أي شــخص ويتعــرض‬
‫للــركل دامئ ـاً‪ .‬لكــن‪ ،‬بســبب عينيــه‪ ،‬مل أَ ْقـ ِـد ْر عــى النظــر إليــه مرتــن‬
‫متتاليتــن‪.‬‬
‫كانــت العينــان تدمعــان بطريقــة غريبــة‪ .‬ليــس ذلــك النــوع مــن‬
‫الدمــع الــذي يثــر املزيــد مــن الشــفقة‪ ،‬بــل يختلــف‪ .‬مل تكــن العينان‬
‫تلتمســان شــيئاً‪ .‬يف الحقيقــة‪ ،‬مل يكــن ألي يشء معنــى بالنســبة لهــا‪.‬‬
‫تعــرا ال عــن الجــوع وال عــن الخــوف‪ .‬بــل مل يكــن لهــا أي شــأن‬ ‫مل ِّ‬
‫الحنـ ّـو‪ ،‬ذلــك‬
‫بعــامل الــكالب‪ .‬وإذا عربتــا عــن يشء مــا إطالق ـاً‪ ،‬فهــو ُ‬
‫الحنـ ّـو الــذي ن ـراه يف عينــي قديــس‪ .‬لكــن بالطبــع ذلــك كان خيــايل‬
‫املجنــون‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫جعلتنــي النظــرة الدامعــة الغريبــة مضطرب ـاً‪ .‬شــعرت‪ ،‬بعيــداً عــن‬


‫النــاس والعربــات واملتاجــر ذات الزينــة املبهرجــة‪ ،‬أن شــيئاً مــا كان‬
‫حــارضاً هنــاك‪ ،‬شــيئاً أكــر قــوة ودمغـاً‪ .‬كان ذلــك أمامــي هنــاك‪ ،‬وتلــك‬
‫العينــان كانتــا تريانــه‪.‬‬
‫بشــكل آيل‪ ،‬شـ ّـم الكلــب األرض وأقــدام النــاس‪ .‬هــز ذيلــه ولعــق‬
‫أنفــه‪ .‬ثــم اســتقر عــى الرصيــف باســطاً رأســه عــى قدميــه‪ .‬توقــف‬
‫أنــاس يســرون عــى الرصيــف وســألوا مــا الخــر؟ مل يحصلــوا عــى‬
‫جــواب يف أغلــب األحيــان‪ ،‬وإذا مــا حصلــوا عليــه قيــل لهــم ال يشء‪.‬‬
‫الكثــرون يف الحشــد أتــوا متأخريــن فلــم يعرفــوا مــا الــذي حــدث‪،‬‬
‫وحتــى أولئــك الذيــن رأوا كل يشء مل يكــن مثــة مــا يخــرون عنــه‪.‬‬
‫ال يشء يف الواقع قد حدث‪.‬‬
‫لكــن‪ ،‬كان هنــاك شــخص يف الحشــد رأى كل يشء‪ ،‬وكلــا ســئل كان‬
‫ينظــر مبــارشة بوجــه مهيــب ويــروي كل يشء بالتفصيــل املمــل‪ .‬الذيــن‬
‫أصغــوا إليــه بــدوا حائريــن‪ ،‬إذ مل يكــن يف كالمــه مــا يقــود إىل أي يشء‬
‫إطالقـاً‪ .‬واســتنتجوا أن األمــر ال يعــدو كونــه هـر ًاء ســخيفاً حــول ال يشء‪.‬‬
‫بعــض هــؤالء تابــع ســره‪ ،‬لكــن آخريــن مكثــوا هنــاك بســبب الحشــد‪،‬‬
‫ونظــروا إىل الكلــب بشــفقة ملؤهــا التصنــع والتقــزز‪.‬‬
‫كنــت مســتغرقاً يف اهتاممــي باألمــر كلــه‪ .‬بــدا كــا لــو أنــه مــن تلــك‬
‫األحــداث التــي تحمــل داللــة ثــم ترتكهــا معلقــة يف الهــواء مثــل الطــرف‬
‫الســائب لخيــط‪ .‬حاولــت أن أفكــر يف القصــة التــي أردت أن أكتبهــا‪.‬‬
‫لكــن‪ ،‬اآلن‪ ،‬كان كل يشء مشوشـاً عــى غــر هــدى‪ .‬فقــدت أثــر مــا‬
‫كان يعذبنــي بعــد وصــويل‪ .‬كل مــا اســتطعت التفكــر فيــه كان ذلــك‬
‫الحــادث الســخيف‪ .‬لقــد خ ّلــف جرحـاً طفيفـاً يف شــعوري؛ جرحـاً مــن‬
‫النــوع الــذي يوجــع لكنــه ال يدمــي‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫‪« -‬أريــد أن أكتــب قصــة‪ ..‬ق – ص – ة‪ »..‬قلــت لنفــي‪ ،‬ثــم فاضــت‬


‫الكلــات بهــدوء وتحلّقــت حــول الجــرح مثــل أصابــع املدلــك الطريــة‪.‬‬
‫بهــدوء‪ ،‬عــدت إىل تلــك الحالــة مــن الحــرة‪ .‬دوائــر ملتويــة بــدأت‬
‫ترتســم مــن جديــد‪ ،‬دوائــر ترتافــق مــع حضــو ٍر وا ٍه لشــكل مــا‪ ،‬لصيغــة‬
‫مــا‪ .‬كانــت هنــاك طــوال الوقــت غــر عابئــة بــأن ُتــرى‪.‬‬
‫دوائر ملتوية – مضيئة عىل نحو خافت!‬
‫فجــأة‪ ،‬انتصــب الكلــب وبــدأ يــدور يف دوائــر‪ ،‬يتاميــل وينزلــق يف‬
‫أثنــاء دورانــه‪ .‬يف البدايــة تحــرك يف دوائــر صغــرة عنــد زاويــة الشــارع‪.‬‬
‫لكــن‪ ،‬بالتدريــج‪ ،‬بــدأت الدوائــر تتنامــى عــى نحــو مجنــون‪.‬‬
‫حدثــت حركــة ضئيلــة يف الحشــد‪ .‬انتعــش الجميــع بعــد ملــل‪،‬‬
‫ونظــروا بانتبــاه إىل الكلــب «هــش‪ ،‬هــش» «اجلــس يف الزاويــة أيهــا‬
‫الكلــب املجنــون‪»!..‬‬
‫العمــة العجــوز إىل األمــام وحاولــت اإلمســاك بالكلــب‪.‬‬ ‫انقضــت ّ‬ ‫ّ‬
‫الكلــب يفقــد توازنــه فعــوى‪.‬‬
‫َ‬ ‫جعلــت االندفاعــ ُة الخفيفــة‬
‫‪« -‬أنــت‪ ،‬أيتهــا العمــة! ال تتشــاجري مــع ذلــك الكلــب‪ .‬يبــدو أنــه‬
‫يعضــك»‪.‬‬
‫معتــوه وقــد ّ‬
‫‪« -‬آه يــا امــرأة! آه!» رصخــت العمــة ثــم قفــزت عائــدة إىل‬
‫الرصيــف برشــاقة غــر متوقعــة‪ ،‬وبالــكاد تجنبــت الســقوط‪ ،‬فضحــك‬
‫الجميــع‪ .‬قــرر الحشــد أن يبقــى بعيــداً عــن الكلــب وتراجــع خطوتــن‬
‫إىل الــوراء‪.‬‬
‫دار الكلــب يف دوائــر مجنونــة‪ ،‬ناظــراً ال يشء بعينيــه الدامعتــن‬
‫الغريبتــن‪ .‬أصبــح اآلن يف وســط الشــارع متام ـاً‪ .‬كانــت األبــواق تصفــر‬
‫والكوابــح تئــز والســيارات تنعطــف منحرفــة بجنــون يك ال تدهــس‬
‫الكلــب‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫أحيانـاً‪ ،‬كان الكلــب يــدور يف دوائــر عــى اتســاع الشــارع‪ ،‬ثــم فجــأة‬
‫يرســم دائــرة صغــرة مضحكــة عــى حافــة الدائــرة الكبــرة ويبقــى‬
‫متقلقــ ًا يف تــوازن مســتحيل بــن االثنتــن‪ .‬كان مســاره يبــدو أحيانــاً‬
‫متطــاوالً جميــ ًا عــى عكــس مظهــره املضحــك‪ .‬وبــن حــن وآخــر‬
‫يتذبــذب املســار مثــل صــورة منعكســة عــى صفحــة امليــاه العكــرة يف‬
‫بركــة‪.‬‬
‫‪« -‬أوقفــوه! أوقفــوه!» «تعــال إىل هنــا أيهــا الكلــب املعتــوه‪ .‬ســوف‬
‫تقتــل» «أريــد أن ُيدهــس وينتهــي كل يشء»‪ .‬هكــذا كان النــاس يف‬
‫الحشــد يتحدثــون ويومئــون نحــوه بشــكل مســعور‪.‬‬
‫لكــن الكلــب مل يــر شــيئاً ومل يســمع شــيئاً‪ .‬ومل يكــن عابئ ـاً مبقتلــه‪،‬‬
‫بــل ممسوس ـاً وخاضع ـاً لحافــز غامــض قــاده إىل هــذا املصــر الشــاذ‪.‬‬
‫توقــع النــاس يف الســيارات أن يتــرف الكلــب بشــكل عــادي ويخرج‬
‫مــن الطريــق عنــد إطــاق أبــواق ســياراتهم‪ ،‬لكــن الكلــب مل يتزحــزح‬
‫وكان عــى الســيارات أن تنعطــف بزوايــا حــادة مفاجئــة يك تتجنــب‬
‫صــدم الكلــب الــذي بــدا وكأن لــه حيــاة خرافيــة ســحرية‪.‬‬
‫اســتمر الحشــد يف مراقبــة الوضــع بتوتــر ورعــب‪ .‬عرفــوا أن الكلــب‬
‫ال بــد أن ُيدهــس عاجـ ًا أم آجـاً‪ ،‬لذلــك‪ ،‬بطريقــة مــا‪ ،‬كانوا مستســلمني‬
‫لألمــر‪ .‬لكنهــم مــع ذلــك كانــوا يشــرون بعصبيــة إىل الســيارات ويهللون‬
‫بضحــك هســتريي بهيــج عندمــا كان الكلــب ينجــو بصعوبــة بالغــة‪.‬‬
‫كانــوا جميعـاً‪ ،‬وعــى نحــو مــا‪ ،‬متورطــن جــداً يف درامــا الشــارع العبثيــة‬
‫تلــك‪.‬‬
‫‪« -‬هــا‪ ..‬هنــاك! ليذهــب أحـ ٌـد مــا ويبتــاع قطعــة بســكويت ويقدمها‬
‫العمــة العجــوز غــر قــادرة‬
‫إىل الكلــب‪ ،‬ثــم لريبطــه إىل حبــل»‪ .‬رصخــت ّ‬
‫عــى إخفــاء توترها‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫العمــة! أعطنــي نقــوداً وسأشــري البســكويت‬ ‫‪« -‬حســناً جــداً أيتهــا ّ‬


‫للكلــب»‪ .‬قــال رجــل مــن الحشــد مكـراً بخبــث‪.‬‬
‫ضحكــت العمــة العجــوز املحبوبــة وبــان جــوف فمهــا الخــايل مــن‬
‫األســنان‪ .‬كانــت ضحكــة بارعــة لكنهــا بريئــة‪ .‬وضحــك الجميــع لكــن‬
‫التوتــر مل يعــد يطــاق‪ .‬ثــم ذهــب أحــد األشــخاص وابتــاع بضــع قطــع‬
‫مــن البســكويت ورماهــا إىل الكلــب‪ .‬هــز الكلــب ذيلــه ولعــق أنفــه‬
‫كــا يفعــل عــادة‪ ،‬لكنــه مل يتوقــف عــن الــدوران‪ .‬كان متعبـاً يرتنــح مــع‬
‫ـتمر‪.‬‬
‫كل خطــوة‪ ،‬وعــى الرغــم مــن ذلــك اسـ ّ‬
‫ال يشء لنقــوم بــه مــن أجــل ذلــك الكلــب‪ .‬ال يريــد العنايــة‬
‫وال املســاعدة‪ .‬لذلــك‪ ،‬فــإن كل مــا اســتطعنا فعلــه هــو أن نقــوم بالــدور‬
‫الســلبي املغيــظ للمتفرجــن‪ .‬شــعر كل شــخص بارتبــاك حقيقــي مــن‬
‫أجــل الكلــب‪.‬‬
‫‪« -‬أطلقــوا النــار عــى الكلــب الدامــي! اقتلــوه!» رصخ رجــل بلغــة‬
‫إنكليزيــة‪ .‬كان يتلمــظ غليونــه ويقــرأ جريــدة محــاوالً إعطــاء االنطبــاع‬
‫حــول ال مبــاالة وبــرودة أعصــاب الرجــال اإلنكليــز‪.‬‬
‫ارشأبــت امــرأة خــارج النافــذة‬‫يف الطابــق العلــوي ألحــد املنــازل‪ّ ،‬‬
‫ورشعــت تراقــب الوضــع‪ .‬عندمــا بــدا أن الكلــب ســيقع بــن عجــات‬
‫وكــرت بــأمل‪ ،‬لكنهــا هللــت‬ ‫ســيارة قادمــة عــرت رأســها بك ّفيهــا ّ‬
‫فرحـاً عندمــا نجــا‪ ،‬كانــت تومــئ بعصبيــة وتنــادي كل شــخص يف البيــت‬
‫للحضــور إىل النافــذة ومشــاهدة هــذه املهزلــة‪ .‬أحمــر الشــفاه جعــل‬
‫منظرهــا أكــر شــذوذاً ورعب ـاً‪.‬‬
‫كان جميــع مــن يف الحشــد يتحدثــون يف الوقــت نفســه‪« .‬ال بــد أن‬
‫ســمموا الكلــب»‪ ،‬هكــذا كانــوا يقولــون‪،‬‬ ‫أعضــاء الهيئــة البلديــة قــد ّ‬
‫يصــب جــام‬
‫ّ‬ ‫وهــذا بالطبــع مل يكــن صحيحــاً‪ .‬لكــن الحشــد أراد أن‬
‫غضبــه عــى أحــد مــا‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫كان مثــة ‪-‬بالتأكيــد‪ -‬عنايــة خفيــة تحمــي الكلــب‪ .‬لقــد نجــا مــن‬
‫املــوت ألكــر مــن عــر دقائــق يف ذلــك الشــارع املزدحــم‪ .‬تتابعــت‬
‫الدرامــا الالعقليــة وســط شــحنة عاليــة التوتــر مــن القلــق واالهتيــاج‪.‬‬
‫ثــم‪ ،‬قــدم بــاص ذو طابقــن؛ صنــدوق أحمــر ضخــم فــوق عجــات‬
‫تــدور‪ .‬جثــم الســائق يف األعــى مغلَقـاً عليــه ضمــن صنــدوق زجاجــي‪.‬‬
‫جلــس متيبســاً كأن قضيبــاً مــن الفــوالذ وضــع يف عمــوده الفقــري‪،‬‬
‫وغطــت نظــارات شمســية غريبــة يف ضخامتهــا نصــف وجهــه وجعلتــه‬
‫يبــدو كقنــاع شــيطاين‪.‬‬
‫تابــع الكلــب ترنحــه دومنــا انتبــاه‪ ،‬ثــم يف لحظــة خاطفــة أصبــح‬
‫أمــام البــاص متامـاً‪ .‬رصخ الحشــد‪ .‬ضغــط الســائق عــى املكابــح بغضــب‬
‫أخــرق‪ .‬لكــن البــاص واصــل الســر‪ .‬رأيــت الكلــب يقــع تحــت إحــدى‬
‫العجــات‪ .‬أغمضــت عينــي وانتظــرت برهــة المتناهيــة مــن الزمــن‬
‫ـوح بــاألمل وال مبامنعــة‬
‫ألســمع العــواء األخــر‪ .‬كان عــواء خافتـاً جــداً‪ ،‬مل يـ ِ‬
‫املــوت‪ ،‬بــل كان مجــرد اســتجابة آليــة مــن الجســم‪.‬‬
‫كفيهــا ورصخــت‪ .‬ثــم‬ ‫املــرأة التــي عــى النافــذة دفنــت رأســها يف ّ‬
‫نفثــت ضحكــة بلهــاء‪ ،‬وبســبب أحمــر الشــفاه بــدا وكأن وجههــا ملطــخ‬
‫بالدمــاء‪.‬‬
‫كان مثــة رصاخ حــول املــكان‪ .‬متهــل البــاص األحمــر الضخــم هنيهــة‬
‫عــى عجالتــه الثقيلــة‪ ،‬ثــم انطلــق بنــزق مياثــل متامـاً مــن يهــز كتفيــه‬
‫مبــال‪ .‬انطلــق بــا رحمــة يف خــط مســتقيم مســتجمعاً كامــل‬ ‫ٍ‬ ‫غــر‬
‫زخمــه الحــريك وســط الزئــر املرتفــع ملحركــه‪.‬‬
‫متــدد الكلــب عــى جانبيــه باســطاً رجليــه وبــدأ الــدم يقطــر مــن‬
‫زاويــة فمــه‪.‬‬
‫تجمــع بعــض النــاس حــول الجثــة لكنهــم رسعــان مــا فقــدوا‬

‫‪58‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫االهتــام‪ّ .‬أمــا بقيــة مــن يف الحشــد فقــد ابتعــدوا مرسعــن طارديــن‬


‫برمتــه مــن عقولهــم مــع إميــاءات نزقــة‪.‬‬ ‫الحــادث ّ‬
‫‪« -‬أريد أن أكتب قصة‪ ..‬ق – ص – ة‪ »..‬قلت لنفيس بغباء‪.‬‬
‫ـي طــوال‬
‫بعــد قليــل قــدم بــاص بكامــل بهائــه امليكانيــي‪ .‬كنــت أصـ ّ‬
‫الوقــت يك يــأيت ويأخــذين بعيــداً قبــل أن يالقي الكلــب نهايتــه املحتومة‪.‬‬
‫ابتلــع البــاص جمهــرة الــركاب املنتظريــن الذيــن كنــت بينهــم‪ ،‬ثــم‬
‫تحـ ّـرك‪.‬‬

‫اتية) إىل اإلنكليزية‬


‫ترجمها املؤلف من اللغة األم (املار ّ‬
‫٭٭٭‬

‫‪59‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫‪60‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫السامء والقطة‬
‫و‪ .‬ر‪ .‬أنانتا موريت‬
‫أنصــت جاياتريتــا أَ ْتشــاريا إىل غوفينــدان نايــر حتــى التاســعة لي ـاً‪،‬‬
‫ثـ ّـم نــام‪ ،‬ويف الخامســة صباحـاً مــات بعــد أن أصــدر صوتـاً يوحــي بأنــه‬
‫انشــطر إىل نصفــن‪ .‬ظــلّ طريــح الف ـراش طــوال عرشيــن يوم ـاً‪ .‬عنــد‬
‫موتــه كان جميــع أعزائــه بقربــه؛ ولــده الــذي ســمع مبــرض أبيــه وقــدم‬
‫مــع عائلتــه مــن دلهــي‪ ،‬وغوفينــدان نايــر الشــيوعي مــن واليــة كـراال‪،‬‬
‫صديقــه أيــام الشــباب الــذي مل يــره منــذ أربعــن عامـاً‪ ،‬وزوجة أ ْتشــاريا‪،‬‬
‫وابنتــه األرملــة مــع ولدهــا ذي األحــد عــر عامـاً‪ ،‬واألكــر أهميــة أنــه‬
‫حتــى غانغوبــاي خليلتــه خــال العرشيــن عامـاً الســابقة‪ ،‬حــرت أيضاً‪.‬‬
‫كانــت تقيــم يف شــيموغا وحــرت بــا تــردد عندمــا وصلتهــا أخبــار‬
‫مــرض أ ْتشــاريا‪ .‬كان مــن قبيــل اإلشــاعة والتخمــن أن لديــه خليلــة‪،‬‬
‫واآلن فقــط رآهــا األقــارب‪ .‬بالطبــع‪ ،‬أحدثــت زوجتــه روكمينيامــا جلبــة‬
‫ـت عــن الطهــارة والــرف والخــوف مــن التدنــس‪..‬‬ ‫مــع ابنتهــا؛ تحدثـ ْ‬
‫الــخ‪ .‬لكــن حالــة زوجهــا الصحيــة ووعيهــا بــأن ك َْارمــا اإلنســان ينبغــي‬
‫(‪)10‬‬

‫أن ُتعــاش جعالهــا تكظــم غيظهــا‪ .‬تحدثــت غانغوبــاي مــع الجميــع‬


‫واالبتســامة عــى وجههــا وتو ّلــت متامـاً رعايــة أ ْتشــاريا‪ .‬رأت أن الرسيــر‬
‫(‪ :Karma )10‬مفهوم أو مبدأ يف الديانات الهندية يشري‪ ،‬باختصار‪ ،‬إىل أفعالنا األخالقية وعواقبها‪( .‬م)‬

‫‪61‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ـاس وثقيــل فأحــرت رسيـراً آخــر أفضــل منــه‪.‬‬ ‫الــذي وضعــوه عليــه قـ ٍ‬
‫ثــم كوتهــا مبكــواة يدويــة وكانــت ترتــب الرسيــر‬ ‫غســلت األغطيــة ّ‬
‫يوميـاً‪ .‬وعندمــا بــدأ أ ْتشــاريا يحدثهــا عــن البقـرات التــي تركتهــا‪ ،‬وعــن‬
‫الحليــب الــذي يجــب توزيعــه‪ ،‬وإىل مــا هنالــك‪ ،‬قالــت إنهــا تدبــرت‬
‫األمــور وإن عليــه ّأل يقلــق‪ ،‬فقــد وضعــت الرتتيبــات الرضوريــة لذلــك‪.‬‬
‫وعــن ســؤاله «إىل متــى ســتمكثني؟» أجابتــه ضاحكــة «إىل أن تتحســن‬
‫حالتــك»‪ .‬شــعرت ســافيرتي‪ ،‬ابنــة أ ْتشــاريا األرملــة‪ ،‬بنــوع مــن االرتيــاح‬
‫عندمــا علمــت أن غانغوبــاي تع ِّلــم يف مدرســة ابتدائيــة‪ .‬مل يســبق أبــداً‬
‫لـــ أ ْتشــاريا أن تحــدث إىل زوجتــه بأمــر خليلتــه‪ .‬ويبــدو اآلن أنــه قــد‬
‫قبلهــا كواحــدة مــن أعضــاء أرستــه الخاصــة‪.‬‬
‫تســاءل كريشــنا مــوريت فيــا إذا كان والــده قــد أدرك أن نهايتــه‬
‫وإل‪ ،‬فلــاذا طلــب مــن صديقــه املجــيء‪ ،‬ذلــك الصديــق‬ ‫قــد اقرتبــت‪ّ .‬‬
‫الــذي مل يــره منــذ أربعــن عام ـاً؟ صحيــح أنــه بــن حــن وآخــر كان‬
‫يتذكــر نايــر‪ .‬فعندمــا كانــت تظهــر تقاريــر يف الصحــف عــن النشــاط‬
‫ـر أمــام ابنــه عــن رفضــه‬ ‫الســيايس العنيــف لنايــر‪ ،‬كان أ ْتشــاريا يعـ ّ‬
‫لذلــك‪ .‬عــى ســبيل املثــال‪ ،‬منــذ خمــس ســنوات تصــدر عناويــن‬
‫ـن أن نايــر قــد ذهــب إىل‬ ‫الصحــف الوطنيــة خــر أحــد الحــوادث‪ .‬تبـ ّ‬
‫الوزيــر ملناقشــة األجــور اإلضافيــة للعــال يف م ـزارع الشــاي‪ .‬وتبع ـاً‬
‫ـم أخــرج نايــر مــن‬ ‫ألقــوال الوزيــر‪ ،‬حصلــت مشــادة كالميــة بينهــا‪ ،‬ثـ ّ‬
‫حقيبتــه قنبلــة حمضيــة ورماهــا عــى الوزيــر‪ّ .‬أمــا تبع ـاً ألقــوال نايــر‬
‫يف املحكمــة‪ ،‬فقــد كان ينــوي‪ ،‬بالطبــع‪ ،‬أن يقتــل الوزيــر لكنــه لســوء‬
‫الحــظ ضــلّ هدفــه‪ .‬لقــد نجــح وحســب يف رضب الوزيــر بحذائــه‪.‬‬
‫ـج رأســه‪ُ .‬حكــم‬ ‫وشـ َّ‬
‫لكــن الوزيــر‪ ،‬يف محاولتــه الهــرب‪ ،‬ارتطــم بطاولــة ُ‬
‫عــى نايــر بالســجن ملــدة خمــس ســنوات‪ .‬بعــد إطــاق رساحــه‪ ،‬أصــدر‬

‫‪62‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫بيانـاً يقــول فيــه‪ :‬إن رســالته تتمثــل يف التخلــص مــن الرجال الفاســدين‬
‫أعــداء الشــعب‪ .‬يومهــا‪ ،‬ف ّكــر أ ْتشــاريا عــى الفــور بالكتابــة إىل نايــر‬
‫ُمدينــاً نشــاطاته‪ ،‬لكنــه مل يفعــل‪ .‬رمبــا ألنــه مل يعــرف مــا عــى أو‬
‫أي يشء لصديــق شــبابه الــذي أصبــح طريقــه يف الحيــاة‬ ‫كيــف ســيقول ّ‬
‫مختلف ـاً متام ـاً عــن طريقــه هــو‪ .‬أو رمبــا مل يكــن ذلــك هــو الســبب‬
‫الوحيــد‪ ،‬فقــد كان منهمــكاً يف تســوية املنازعــات حــول امللكيــة بــن‬
‫أغنيــاء املنطقــة‪ ،‬ويف إعــداد الوثائــق والذهــاب إىل قاعــات املحاكــم‬
‫ملتابعــة قضايــاه األخــرى‪ ،‬فرمبــا مل يكــن ليصــر عــى فهــم صديقــه‬
‫القديــم الــذي كـ ّـرس نفســه للتضحيــة بحياتــه يف ســبيل قضيــة‪ .‬بعــد‬
‫هــذا الحــادث‪ ،‬ظهــرت مقالــة حــول نايــر يف إحــدى األســبوعيات‪.‬‬
‫ـم‬
‫ـاءل االبــن‪ ،‬هــل كان لوالــده أدىن فكــرة بــأن نايــر‪ ،‬الــذي انضـ ّ‬ ‫تسـ َ‬
‫معــه إىل رشكــة الســكك الحديديــة يف دلهــي‪ ،‬ســوف يوجــه حياتــه‬
‫بهــذا الشــكل؟ لقــد تقاســا غرفــة للســكن‪ .‬ومنــح نايــر ثقتــه أل ْتشــاريا‬
‫ـول‬‫وأطلعــه عــى أرساره كلّهــا‪ .‬ومبــا أن أ ْتشــاريا كان براهمي ـاً فقــد تـ ّ‬
‫أمــور الطبــخ‪ ،‬بينــا تــوىل نايــر التســوق وإعــداد الخضــار‪ ،‬إلــخ‪ .‬عندمــا‬
‫مدخنــاً غليونــه‪،‬‬
‫كان أ ْتشــاريا ينشــغل بإعــداد األطبــاق‪ ،‬كان نايــر‪ِّ ،‬‬
‫ـال‪ .‬كانــت قصــص غولــد ســميث وراينولــدز هــي‬ ‫يقــرأ قصــة بصــوت عـ ٍ‬
‫املحببــة لكليهــا‪ .‬وبقــدر مــا تســمح بــه ذاكــرة أ ْتشــاريا‪ ،‬فقــد كان‬
‫نايــر رج ـ ًا عاشــقاً مللذاتــه‪ .‬إذن‪ ،‬كيــف يــرع مثــل هــذا الرجــل يف‬
‫ـام صــان تلــك امللــذات عينهــا؟‬
‫تدمــر نظـ ٍ‬
‫فقــد أ ْتشــاريا عملــه ذاك عندمــا اك ُتشــف أنــه غــر الئــق طبيــاً‬
‫بســبب حمــى املالريــا والــورم الناجــم عنهــا يف بطنــه‪ .‬فيــا بعــد‪ ،‬عمــل‬
‫كاتبــاً للحســابات بــدوام جــزيئ يف عــ ّدة مخــازن‪ .‬اســتمر عــى هــذا‬
‫املنــوال ســنتني ثــم انقطــع‪ .‬أضــف إىل ذلــك أن تحيــات زوجتــه الشــابة‬

‫‪63‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫التــي مل تبلــغ ســن الرشــد بعــد‪ ،‬وكذلــك والــده وعملــه يف معبــد البلــدة‪،‬‬
‫كل ذلــك جعلــه يغــادر دلهــي‪.‬‬
‫وفقــد نايــر عملــه ذاك أيضـاً‪ ،‬لكن بســبب اشـراكه يف إرضاب‪ .‬حدث‬
‫ذلــك يف هنــد مــا بعــد االســتقالل‪ .‬رجــع نايــر إىل موطنــه يف واليــة كـراال‬
‫وبــدأ العمــل مــع الفالحــن وأصبــح شــيوعياً‪ .‬كان حــزب املؤمتــر بنظــره‬
‫حــزب رجــال خونــة‪ .‬وعندمــا بــدأ حزبــه يعمــل مــع املؤمتــر مبوجــب‬
‫أوامــر مــن روســيا اســتقال مــن عضويتــه وأصبــح متــرداً‪ ،‬لكنــه ظــلّ‬
‫شــيوعياً‪ .‬قدمــت املجلــة األســبوعية صــورة مثــرة عــن حياتــه‪ :‬يف الليــل‪،‬‬
‫ينــام عــى رشفــة أحــد البيــوت‪ِ .‬ع ْن َد َمــا يســتيقظ‪ ،‬يغســل ثيابــه مبــاء‬
‫نظيــف‪ ،‬ويغتســل هــو أيضـاً ثـ ّـم يغــادر‪ .‬يجمــع أغلفــة الدفاتــر املج ّلــدة‬
‫مــن تالمــذة املــدارس ويصنــع منهــا مـراوح‪ .‬ثــم يأخذهــا إىل املستشــفى‬
‫ويســتعلم عــن املــرىض ويــرك تلــك امل ـراوح معهــم‪ .‬يف فــرة مــا بعــد‬
‫الظهــر‪ ،‬يجلــس يف الفنــدق وســط املدينــة‪ .‬ينجــز للعــال والفالحــن‬
‫أعــاالً عرضيــة ويــأكل أي يشء يقدمونــه لــه‪ .‬يــرب الشــاي ويدخــن‬
‫غليونــه ثــم يجــوب شــوارع املدينــة‪ .‬يــزور مســتودعات املــؤن والدوائــر‬
‫العامــة ومخافــر الرشطــة‪ ،‬يحاجــج وينــازع املوظفــن دفاعــاً عــن‬
‫الفقـراء واملهمشــن وينجــز لهــم أعاملهــم‪ .‬ومــن ثـ ّـم يف املســاء‪ ،‬يجلــس‬
‫يف الفنــدق يســطّ ر العرائــض لهــم‪ ،‬ويــأكل أي يشء يبتاعونــه مــن أجلــه‪،‬‬
‫ويقــي الليــل عــى رشفــة بيــت شــخص آخــر‪ .‬ال يحتفــظ بــأي قــرش يف‬
‫جيبــه مــن أجــل اليــوم التــايل‪ .‬ويف الوقــت الــذي يعمــل فيــه مــن أجــل‬
‫الفق ـراء‪ ،‬يثقفهــم حــول االســتغالل والثــورة واملجتمــع الجديــد‪ ،‬إلــخ‪.‬‬
‫هــذا هــو ســلوكه اليومــي‪ .‬مل تكــن املـ ّـرة األوىل التــي يــرب فيهــا أعــداء‬
‫الشــعب بحذائــه‪ .‬ولكــن ملّــا كان الشــخص الــذي رضبــه هــذه املـ ّـرة‬
‫وزي ـراً‪ ،‬فقــد احتــلّ عناويــن الصحــف‪ .‬ذلــك كلّ مــا يف األمــر‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫قلــم الرصــاص وراء أذنيــه‬ ‫«البســاً الداهــويت األبيــض والقميــص‪ُ ،‬‬


‫املشــعرتني واملـراوح الورقيــة يف يديــه‪ ،‬يجــوب شــوارع املدينــة والنــاس‬
‫يعرفونــه باســم واحــد‪« ،‬الزعيــم»»‪.‬‬
‫قــرأ أ ْتشــاريا املقالــة‪ ،‬جلــس وعلبــة الســعوط بــن أصابعــه وف ّكــر‬
‫مليــاً‪ .‬لقــد عــاش نايــر مثلــه أيضــاً مــن أجــل اآلخريــن‪ ،‬ولكــن كــم‬ ‫ّ‬
‫يبــدو األمــر مختلفـاً‪ .‬طلــب مــن ولــده أن يقــرأ املقالــة أيضـاً‪ ،‬ثــم بــدأ‬
‫يقــول شــيئاً مــا وتوقــف فجــأة يف منتصــف الحديــث‪ .‬كان لهــذه األمــور‬
‫بأجمعهــا معنــى غامــض عنــد كريشــنا مــوريت بعــد مــوت والــده‪.‬‬
‫حاملــا ســقط مريضــاً‪ ،‬كتــب أ ْتشــاريا إىل نايــر الرجــل الــذي‬
‫بــا عنــوان بريــدي‪ ،‬كــا وصفتــه املقالــة يف املجلــة األســبوعية‪ ،‬وطلــب‬
‫منــه القــدوم‪ .‬وكتــب أيضــاً إىل غانغوبــاي مــن دون أن يطلــب منهــا‬
‫القــدوم كــا فعــل مــع ابنــه ونايــر‪ .‬ولكــن ملّــا كان نايــر منشــغ ًال‬
‫بــإرضاب عــال امل ـزارع‪ ،‬فقــد متكــن مــن الحضــور قبــل يــوم واحــد‬
‫فقــط مــن مــوت أ ْتشــاريا‪.‬‬
‫كان كريشــنا مــوريت عــى اعتقــاد راســخ بــأن االســم املهيــب لوالــده‬
‫يتحــدى كلّ االختصــارات‪ .‬لكنــه ذهــل عندمــا دخــل نايــر ووضــع عــى‬
‫األرض حقيبتــه املتدليــة‪ ،‬تلــك التــي تحتــوي كل يشء مــا يدعــى‬
‫ثــم جلــس عــى الرسيــر وقــال بتأثــر عفــوي‬ ‫ممتلكاتــه الشــخصية‪ّ ،‬‬
‫«جايــا»‪ .‬ألقــى نايــر نظــرة عــى العقاقــر التــي كان أ ْتشــاريا يتناولهــا‪،‬‬
‫مســح وضغــط عــى قدميــه املتورمتــن كــا لــو أنــه قــد تــرك أ ْتشــاريا‬
‫البارحــة‪ .‬أليــس مــن أهــايل كــراال؟ لقــد كان مثــل أ ْتشــاريا معجبــاً‬
‫جــس نبــض أ ْتشــاريا وجعلــه‬ ‫بعالجــات طــب األورفيــدا التقليــدي‪ّ .‬‬
‫يفتــح فمــه‪ ،‬نظــر إىل لســانه ثــم ســحب الجفنــن قليــ ًا وحــ ّدق يف‬
‫ثــم تنــاول مســحوقاً مــن حقيبتــه‪ ،‬مزجــه بالعســل‬ ‫عينيــه وتن ّهــد‪ّ ،‬‬

‫‪65‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫وأطعمــه إيــاه‪ .‬وأثنــاء عنايتــه بالرجــل املريــض‪ ،‬تحــدث برسعــة وقــال‪:‬‬


‫خربــت نظــام الطبابــة الوطنــي وإن هــذا األمــر‬ ‫إن العالجــات الحاليــة ّ‬
‫كان متعــذراً اجتنابــه يف مرحلــة االســتعامر الجديــد‪ ،‬وإن نهــرو‪ ،‬مــن‬
‫منظــور هــذه املســألة‪ ،‬خائــن‪ .‬واســتلّ يف أثنــاء الحديــث كراســاً كان‬
‫قــد كتبــه ونــره وق ّدمــه إىل أ ْتشــاريا‪ ،‬كــا لــو أن نهــرو بطريقــة مــا‬
‫هــو املســؤول عــن مرضــه‪ .‬وعندمــا علــم بــأن كريشــنا مــوريت يعمــل‬
‫يف مدرســة دلهــي لالقتصــاد‪ ،‬ضحــك ضحكــة حزينــة وقــال‪« :‬جميعكــم‬
‫عبيــد ّإمــا لروســيا وإمــا للواليــات املتحــدة‪ ،‬فلــم يبــق وطنــي غيــور‬
‫واحــد بــن شــبابنا املثقفــن»‪.‬‬
‫يف البدايــة‪ ،‬رأى كريشــنا مــوريت االنهــاك الــكيل لنايــر بعملــه أم ـراً‬
‫ســخيفاً قليـاً‪ ،‬لكنــه بالتدريــج بــدأ يهتــم بــه‪ .‬بــدا نايــر لطيفـاً ورقيقـاً‬
‫وهــو يــوايس ويالطــف الرجــل املريــض الــذي تــورم كلّ جســده‪ ،‬ويف‬
‫الوقــت ذاتــه كان ميــزق إربـاً إربـاً وبقســوة البنيــة االجتامعية السياســية‬
‫بأكملهــا‪ .‬مل يعــرف كريشــنا مــوريت كيــف لــه أن يفهــم مثــل هــذا‬
‫الرجــل‪ .‬أينبغــي‪ ،‬ألجــل املجاملــة‪ّ ،‬أل يســأل والــده عــاّ كان يفعلــه‬
‫طــوال هــذه األعــوام األربعــن؟ مل يقــل والــده شــيئاً ألنــه كان مريض ـاً‪.‬‬
‫وعــى أي حــال‪ ،‬مل يســتطع أن يكتشــف مــا أراد والــده قولــه لنايــر أو‬
‫ســاعه منــه‪ .‬إذاً‪ ،‬ملــاذا اســتدعاه إىل هنــا؟ ثـ ّـم‪ ،‬هــل علــم نايــر بــأن‬
‫األب لــن ينجــو ولهــذا الســبب فقــد طلــب منــه أن يــأكل أي يشء يرغب‬
‫فيــه؟ قــال األب إنــه فقــد شــهيته لــأكل‪ .‬لكنــه ابتســم عندمــا قــال ناير‪،‬‬
‫مســتحرضاً ذكــرى أيــام دلهــي منــذ أربعــن عام ـاً «حســناً‪ ،‬لقــد كنــت‬
‫تتحــرق شــوقاً عــى الــدوام لتــأكل صلصــة املانغــو»‪ .‬مل يعهــد كريشــنا‬
‫مــوريت أبــاه يبتســم هكــذا‪ ،‬وبالتأكيــد مل يــره يبتســم بعــد أن ســقط‬
‫مريضـاً‪ .‬كان يقــي معظــم وقتــه ّإمــا محدقـاً ببالهــة بعارضــة ســقف‬

‫‪66‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫البيــت أو يقــرأ يف التقويــم أو يف كتــاب طــب األورفيــدا‪ .‬وعــن ســؤال‬


‫األب «أال تســبب صلصــة املانغــو حموضــة؟» أجــاب نايــر‪« ،‬ال تقلــق‪،‬‬
‫لــدي تريــاق لذلــك»‪.‬‬
‫ثـ ّـم جلــس نايــر بجانــب األب وقــرأ الكـ ّـراس الــذي كتبــه‪ .‬بــدا وكأنــه‬
‫ال يتوقــع أي اســتجابة‪ .‬عندمــا حــلّ املســاء‪ ،‬جلــس أ ْتشــاريا يف فراشــه‬
‫مبســاعدة غانغوبــاي‪ .‬وأحــرت لــه ابنتــه األرز وصلصــة املانغــو‪ .‬أكل‬
‫لقمــة أو اثنتــن ثــم قــال‪ :‬إنــه ال يشــتهي ّأي طبــق‪ ،‬واســتلقى يف فراشــه‪.‬‬
‫اســتدار نحــو نايــر قائ ـاً‪« ،‬واآلن‪ ،‬مــاذا بعــد؟» كانــت الطريقــة التــي‬
‫تحــدث بهــا وتلــك التــي اســتجاب بهــا نايــر ذات مغــزى بالنســبة‬
‫لكريشــنا مــوريت‪ ،‬ككل مــا حــدث يف الليلــة التــي ســبقت مــوت والــده‪.‬‬
‫قــدح نايــر عــود ثقــاب وأشــعل الغليــون ثــم تحــدث بنغمــة هادئــة‪.‬‬
‫ـب البــذرة التــي آمــل‬‫«تقصــد مــا الــذي أنــوي فعلــه؟ حســناً‪ ،‬أحـ ّ‬
‫وأرغــب أن تســقط يف تربــة خصبــة‪ .‬فلتســمع مــا كتبتــه يف مفكــريت‬
‫اليوميــة قبــل أن آيت للتـ ّـو إىل هنــا»‪ .‬فتــح مفكرتــه وقــرأ «كان عــال‬
‫م ـزارع القهــوة معــي‪ .‬وقــد اعتــادوا اإلصغــاء يل لكنهــم اآلن أصبحــوا‬
‫جشــعني وخذلــوين‪ .‬خدعهــم م‪.‬ف‪ .‬واريــار أكــر أوغــاد السياســة يف‬
‫ك ـراال‪ .‬يف أَ َحـ ِـد هــذه األيــام ســأوقفه يف الشــارع العــام وأضــع ســكيناً‬
‫يف قلبــه»‪ .‬أغلــق مفكرتــه وأرجعهــا إىل حقيبتــه ثــم قــال كــا لــو أنهــا‬
‫دونــت كل ذلــك هنــا‪ ،‬وعــى أننــي‬ ‫كلامتــه األخــرة «اشــهد عــى أننــي ّ‬
‫ـاض إىل هــذا األمــر غــداً»‪.‬‬
‫مـ ٍ‬
‫ّأي شــخص هــذا الــذي ُيحاكــم األمــة بأرسهــا يف جوابــه عــن ســؤال‬
‫شــخيص؟ مل يقــل األب شــيئاً‪ .‬ملــاذا؟ رمبــا مل يســتطع التمييــز‪ .‬أو أنــه كان‬
‫متعبـاً جـ ّداً؟ كان يصعــب تخمــن مــا رشــح مــن صمــت عقلــه‪ .‬مل يبــق‬
‫األب عــى قيــد الحيــاة لــرى نايــر يرتجــم أقوالــه إىل أفعــال‪ .‬لقــد فعــل‬

‫‪67‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫مــا قــال إنــه ســيفعله‪ .‬ففــي الشــارع العــام‪ ،‬وبحضــور حشــد هائــل‬
‫رصح بنوايــاه‬ ‫مــن النــاس‪ ،‬اعــرض طريــق واريــار وســحب ســكينه ثــم ّ‬
‫علنـاً وبوضــوح‪ .‬وبإمــكان أي شــخص أن يخمــن النتيجــة‪ .‬تراجــع واريــار‬
‫ثــم ركــض‪ .‬طــارده نايــر‪ .‬ثـ ّـم تعقــب النــاس نايــر وأمســكوا بــه ونزعــوا‬
‫ســكينه؛ وفيــا بعــد‪ ،‬اعتقــل بتهمــة محاولــة القتــل‪.‬‬
‫رحــل نايــر لحظــة مــوت األب وقــال حــن مغادرتــه‪« ،‬والــدك عــاش‬
‫ــق‪ ،‬ويبــدو أنــك أيضــاً عــى خطــاه»‪ .‬مل يســتطع كريشــنا‬ ‫ومــات أَ ْح َم َ‬
‫مــوريت التحــدث‪ ،‬لكنــه غمغــم متلعثـاً‪« ،‬مــاذا عــن الشــعائر األخــرة؟»‬
‫صحيــح أن عنــف كلــات نايــر مل يكــن باديــاً يف عينيــه ّإل أن كلامتــه‬
‫القاســية ه ـ ّزت كريشــنا مــوريت‪« .‬مل يتبــق الكثــر اآلن‪ .‬ادفنــوه‪ ،‬فســوف‬
‫يكــون ســاداً جيــداً‪ .‬ولكــن مبــا أنكــم براهامنيــون‪َ ،‬فأَ ْح ِر ُقــوا جثتــه‪ .‬ألنــه‬
‫كان صديقـاً يل أتيــت إىل هنــا متغاضيـاً عــن عمــي بأكملــه‪ .‬لكنــي اآلن ال‬
‫أضيعــه‪ .‬ثــم يجــب أن تدفعــوا نفقتــي‪ .‬طعــام يــوم‬ ‫أملــك أي وقــت آخــر ّ‬
‫ـس برغبــة يف‬ ‫وأجــرة الســفر ومقدارهــا خمــس وعــرون روبيــة»‪ .‬أحـ ّ‬
‫إعطائــه أكــر مــن خمــس وعرشيــن بقليــل لكنــه أرجــف مــن ذلــك‪ّ .‬أمــا‬
‫مـرا زوجــة كريشــنا مــوريت‪ ،‬التــي كرهــت نايــر بشـ ّدة بســبب حاجبيــه‬
‫الكثيفــن وأذنيــه املشــعرتني وقلــم الرصــاص َو َر َاء ُهــاَ ‪ ..‬إلــخ‪ ،‬ففــي‬
‫ـال يكفــي لــي ُيســمع‬ ‫اللحظــة التــي غــادر فيهــا نايــر متتمــت بصــوت عـ ٍ‬
‫ـب بــذيء هــذا؟ هــل يليــق باملــرء أن يجلــس بجانــب‬ ‫«أي صاحـ ٍ‬ ‫كالمهــا‪ّ ،‬‬
‫رجــل ميــت ويدخــل يف أحاديــث جانبيــة؟ وهــل يليــق بــه‪ ،‬عندمــا‬
‫ـرم كريشــنا مــوريت أيضـاً مــن‬ ‫يرحــل‪ ،‬أن يطلــق أمثــال هــذه األلفــاظ؟» تـ ّ‬
‫ســلوك نايــر لكنــه زجــر زوجتــه قائـاً‪« ،‬ال تتفوهــي بأشــياء ال تفهمينهــا»‪.‬‬
‫ملــاذا رغــب األب يف رؤيــة رجــل مثــل نايــر بعــد هــذه األعــوام‬
‫األربعــن؟ غالبــاً مــا تفكّــر كريشــنا مــوريت بالصداقــة الغريبــة بــن‬

‫‪68‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫والــده ونايــر وباللقــاء املحـ ِّـر األخــر بينهــا‪ .‬حــدث ذلــك أكــر بعــد أن‬
‫أرهقتــه دلهــي وزوجتــه وبحثــه العقيــم يف «الخطــة الخمســية وقانــون‬
‫إصــاح األرايض»‪.‬‬
‫رمبــا تكــون املصادفــة التــي حدثــت قبيــل وفــاة والــده بقليــل هــي‬
‫التــي جعلتــه يشــعر بهــذا الشــكل‪ .‬لقــد ذُهــل بالطبــع مــن حقيقــة أن‬
‫والــده‪ ،‬الرجــل األكــر احرتامـاً يف املدينــة‪ ،‬مل ُيظهــر عالمــة ارتبــاك عنــد‬
‫حضــور غانغوبــاي‪ .‬لكــن مــا أذهلــه بالقــدر نفســه‪ ،‬أن والــده تعامــل‬
‫بــازدراء مــع فيشــنو مــوريت اإلقطاعــي الغنــي الــذي طاملــا أحســن إىل‬
‫ـس بــأن هاتــن املصادفتــن تحتاجــان للفهــم يك يعــرف‬ ‫والــده‪ .‬لقــد أحـ ّ‬
‫م ـزاج والــده يف لحظــات احتضــاره األخــرة‪.‬‬
‫٭٭٭‬
‫كان أ ْتشــاريا مــن واكــب عملي ـاً القضايــا املتصلــة بتبنــي ناراســيام‬
‫بهاتــا لفيشــنو مــوريت عندمــا كان صغ ـراً‪ .‬بعــد مــوت ناراســيام تو ّلــت‬
‫زوجتــه تربيــة فيشــنو مــوريت‪ .‬كان لهــا أخ عزيــز عــى قلبهــا‪ .‬عندمــا‬
‫رزق األخــر مبولــود مالــت عواطفهــا نحــو ابــن أخيهــا‪ .‬يف هــذه األثنــاء‬
‫مل يعــد فيشــنو مــوريت قــارصاً‪ .‬نصحــه والــداه بالتيقــظ تجــاه أمــاك‬
‫العائلــة والذهــب املحفــوظ يف خزانــة حديديــة‪ .‬وضــع فيشــنو مــوريت‬
‫قفـ ًا آخــر للخزانــة‪ .‬وبســببه بــدأت املنازعــات القانونيــة‪ .‬رضب فيشــنو‬
‫مــوريت ّأمــه بالتبنــي وطردهــا‪ ،‬فأع ـ ّدت إضبــارة دعــوى تنــص عــى أن‬
‫فيشــنو مــوريت ليــس ابنهــا بالتبنــي وأن الســجالت املتعلقــة بالتبنــي‬
‫كانــت جميعهــا ملفقــة‪ ،‬وبالتــايل فهــي املالكــة الرشعيــة لكافــة أمــاك‬
‫العائلــة‪ .‬وقــد حاولــت‪ ،‬مبســاعدة أخيهــا وأقاربهــا‪ ،‬الدخــول إىل البيــت‬
‫بالقــوة‪ .‬لكــن فيشــنو مــوريت كان يف هــذه األثنــاء قــد خلــع القفــل الذي‬
‫وضعتــه للخزانــة وجمــع الذهــب ثــم وضعــه يف صنــدوق وتركــه يف‬

‫‪69‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ـن لــه أ ْتشــاريا محاميـاً وقــدم النصيحــة لــه‬‫عهــدة جاياتريتــا أ ْتشــاريا‪ .‬عـ ّ‬
‫عنــد كل خطــوة‪ .‬بعــد ذلــك‪ ،‬اعتــاد فيشــنو مــوريت شــحن األرز كل عــام‬
‫إىل منــزل أ ْتشــاريا‪.‬‬
‫عــرف الجميــع فيشــنو مــوريت كرجــل ســلس‪ .‬وإذ يلبــس قميصــاً‬
‫الج َ ْب ِديــن املتــن وداهــويت أبيــض مــن‬‫حريريــاً وســرة مــن قــاش َ‬
‫قــاش المُــلّ ‪ ،‬كان يبــدو أنيق ـاً عــى الــدوام‪ .‬يف زياراتــه ملنــزل أ ْتشــاريا‬
‫كانــت راكمينيامــا تحرتمــه جــداً‪ .‬أليــس هــو الرجــل الــذي يطعمهــم‬
‫جميعـاً؟ لكــن أ ْتشــاريا مل يكــن بالطبــع غافـ ًا عــن أنانيــة فيشــنو مــوريت‬
‫وطبيعتــه العدوانيــة‪ .‬وقــد علــم كيــف أن فيشــنو مــوريت طــرد ّأمــه‬
‫بالتبنــي‪ .‬ولكــن‪ ،‬مبــا أن أ ْتشــاريا رأى نقطــة قانونيــة لصالح فيشــنو موريت‬
‫األم بالتبنــي فقــد كان كل يشء عــى مــا يـرام مــن‬ ‫وعــرف أيضـاً بكذبــة ّ‬
‫الناحيــة القانونيــة‪ .‬لقــد اعتــاد األب عــى فهــم القيــم األخالقيــة كافــة‬
‫يف إطــار قانــوين‪ .‬لكــن أحــد أفعــال فيشــنو مــوريت أوقعــه يف معضلــة‬
‫أليمــة‪ .‬كان يف منــزل فيشــنو خــادم يدعــى فينكابــا نايــاكا‪ ،‬قــوي البنيــة‬
‫أســود البــرة‪ .‬ومبــا أنــه كان مقربـاً مــن فيشــنو‪ ،‬فــإن قلــة فحســب مــن‬
‫األرسار العائليــة مل يطلــع عليهــا‪ .‬هــو الــذي كان يقــود العربــة املغطــاة‪.‬‬
‫كان فيشــنو فخــوراً جــداً بــزوج العجــول الطويــل الضخــم الــذي اقتنــاه‬
‫ليجـ ّـر العربــة‪ .‬أجـ ّـر فيشــنو لخادمــه املوثــوق فدانــن مــن حقــول األرز‪.‬‬
‫مل يبــق عــى قيــد الحيــاة من يســتطيع إخبارنــا مــا إذا كان فينكابا قد‬
‫ُأغــرم بزوجــة أخــي فيشــنو األرملــة أم أن الفتــاة الحســناء قــد وقعــت يف‬
‫حبــه‪ .‬مهــا يكــن‪ ،‬فقــد أصبحــت األرملــة الشــابة حامـاً‪ .‬قُتــل فينكابــا‬
‫و ُأجريــت لألرملــة عمليــة إجهــاض وكتمــت أمرهــا‪ .‬وإليكــم كيــف متــت‬
‫الجرميــة‪ .‬كان لفينكابــا نايــاكا ابــن عــم يعتــره عــدوه اللــدود‪ ،‬وقــد‬
‫قتلــه ودفــن الجثــة يف الغابــة‪ .‬رفــع أحــد األشــخاص دعــوى قضائيــة‬

‫‪70‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫وأصبــح فيشــنو مشــبوهاً أيضـاً‪ .‬هــرع إىل أ ْتشــاريا وركــع عنــد قدميــه‪.‬‬
‫يف هــذه األثنــاء‪ ،‬كانــت األخبــار قــد وصلــت إىل أ ْتشــاريا وســببت لــه‬
‫يلــح يف معرفــة الحقيقــة‪ .‬مــن‬‫بالتأكيــد قلقــاً أخالقيــاً؛ ومــع ذلــك مل ّ‬
‫جهــة أخــرى‪ ،‬فقــد مــال تلقائي ـاً إىل تصديــق فيشــنو الــذي أعلــن أنــه‬
‫ال يعلــم شــيئاً وأنــه بــريء‪ ،‬وأن فينكابــا نايــاكا بــادر إىل مهاجمــة ابــن‬
‫عمــه‪ ،‬وتثبــت آثــار الرضــوض عــى جســد األخــر هــذا األمــر‪ ،‬وبالتــايل‬
‫ـن العــم فينكابــا نايــاكا دفاعـاً عــن النفــس‪ .‬مل يثــق بأقــوال‬‫فقــد قتــل ابـ ُ‬
‫فيشــنو وحســب‪ ،‬بــل ل ّفــق مــن األدلــة مــا يكفــي إلقنــاع اآلخريــن بــأن‬
‫مثــة شــقاق عائــي منــذ البدايــة بــن أبنــاء العــم‪ .‬وقــد وكّل أفضــل‬
‫املحامــن الجنائيــن وأطلــق رساح فيشــنو مــوريت بكفالــة‪ ،‬ويف النهايــة‬
‫ربــح القضيــة وصــدر الحكــم بـراءة فيشــنو‪ .‬بعــد أن انتهــت كل هــذه‬
‫ـر‪« ،‬كيتــو‪ ،‬إذا كان مثــة مــا يدعونــه‬ ‫األمــور‪ ،‬أفــى أ ْتشــاريا البنــه بالـ ّ‬
‫نــار جهنــم‪ ،‬فــإن فيشــنو هــذا ســوف يشــوى بهــا حتـاً»‪.‬‬
‫«ولكنك أخرجته»‪.‬‬
‫يفضــل إطــاق رساح عــرة مذنبــن‬ ‫«ال‪ ،‬بــل القانــون‪ .‬فالقانــون ّ‬
‫عــى معاقبــة شــخص بــريء‪ .‬لقــد كانــت قضيــة الرشطــة ضعيفــة جــداً‪.‬‬
‫هكــذا أفلــت فيشــنو»‪.‬‬
‫الكلــات الصادقــة التــي تفـ ّـوه بهــا األب‪ ،‬واألهميــة التــي حازهــا‬
‫القانــون يف منظومتــه املرجعيــة أدهشــا كريشــنا مــوريت‪ .‬فهــل كان‬
‫النظــام القانــوين بالنســبة لــأب مثــل درع حصينــة ال تخرتقهــا األســئلة‬
‫األخالقيــة إىل أن جــاءت لحظــة املــوت؟ رمبــا كان األمــر كذلــك‪ .‬لقــد‬
‫تركــت كلــات نايــر حــول عملــه يف مدرســة دلهــي لالقتصــاد انطباع ـاً‬
‫مشــابهاً‪ .‬كان كريشــنا مــوريت عــى درايــة تامــة بالحجــج مــن قبيــل‪،‬‬
‫«ال ميكــن للبحــث العلمــي االجتامعــي أن يخلــو مــن التحيـزات‪ ،‬إلــخ»‪،‬‬

‫‪71‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫لكنهــا أرعبتــه‪ ،‬خصوصـاً عندمــا تذكــر كيــف مــات والــده وهــو يســعى‬
‫يف خدمــة األغنيــاء‪.‬‬
‫هــل نستســلم للســلوى عندمــا يدهمنــا املــوت فجــأة؟ مســتعيداً‬
‫األســلوب الــذي تعامــل بــه األب لحظــة موتــه مــع فيشــنو‪ ،‬بــدأ كريشــنا‬
‫مــوريت يشــكك يف صالبــة االعتقــادات والقناعــات‪ .‬مل تكــن قضيــة التبنــي‬
‫قــد ُحســمت بعــد‪ ،‬ومازالــت أمــام املحكمــة العليــا‪ .‬إضافــة إىل ذلــك‪،‬‬
‫نشــأت تعقيــدات قانونيــة جديــدة بســبب قانــون اإلصــاح الزراعــي‪.‬‬
‫كان عـ ّـم فيشــنو قــد اســتأجر قطعــة أرض خصبــة وكان يحــاول عبث ـاً‬
‫انتزاعهــا منــه‪ .‬كان العـ ّـم أكــر فظاظــة مــن فيشــنو‪ .‬وقــد قيــل أيض ـاً‬
‫إن فيشــنو احتفــظ مبــا يزيــد عــن مئــة ألــف روبيــة مــن الذهــب‬
‫والجواهــر عنــد أ ْتشــاريا‪ .‬وال ريــب يف أنــه قلــق جــداً حاملــا ســمع مبــرض‬
‫أ ْتشــاريا‪ .‬مل ينظــر األب إىل فيشــنو الــذي قــدم البسـاً قميصـاً مــن الحرير‬
‫وداهــويت أبيــض مــن القطــن‪ .‬ســأل عــن صحــة أ ْتشــاريا وهــو يتعمــد‬
‫األب اكتفــى يف ر ّده بكلــات‪ ،‬أَ َّوا ُه‪ ..‬نعم‪،‬‬
‫إظهــار أســنانه الذهبيــة‪ .‬لكــن ّ‬
‫ال‪ ،‬نعــم‪ ،‬إلــخ‪ .‬أع ـ ّدت راكمينيامــا قهــوة مخصوصــة لــه وأحرضتهــا يف‬
‫أقــداح فضيــة‪ .‬قــال فيشــنو وهــو يرتشــف القهــوة الســاخنة‪« ،‬أ ْتشــاريا‪،‬‬
‫هــل أحــر لــك طبيبـاً مــن شــيموغا؟ إذا كان مثــة أدويــة تحتــاج إليهــا‬
‫ـدع أي أمــور شــكلية بيننــا»‪ .‬رمبــا عــرف‬ ‫فســأحرضها لــك‪ .‬أرجــوك‪ ،‬ال تـ ْ‬
‫األب أن هــذا كان مجـ ّـرد مقدمــة أو كالم متهيــدي‪.‬‬
‫«إننــي مرهــق وال أســتطيع التكلــم كثـراً‪ .‬أخــرين مــاذا تريــد؟» قــال‬
‫أ ْتشــاريا بــرود‪« ،‬ال يشء مهــم يــا أ ْتشــاريا‪ .‬لقــد علمــت أنــك لســت‬
‫ـدي بعــض األعــال يف بنــك شــيموغا‪ .‬زوجتــي‬ ‫عــى ماي ـرام‪ .‬ثـ ّـم إن لـ ّ‬
‫تعــاين مــن مــرض يف رقبتهــا وســوف تجــري عمليــة جراحيــة مكلفــة‬
‫جــداً‪ .‬أنــت تعلــم بأمــر قضايــا املحكمــة وكيــف تبتلــع مــايل ك ّلــه‪ .‬لذلــك‬

‫‪72‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫فقــد ف ّكــرت بــأن أرهــن بعــض الجواهــر»‪ .‬نــادى أ ْتشــاريا زوجتــه التــي‬
‫أتــت ووقفــت هنــاك تلهــو بحلقــة أنفهــا‪ .‬بــدت متحمســة جــداً‪ .‬وقــد‬
‫غضــب أ ْتشــاريا مــن تحرقهــا إلرضــاء الرجــل الــذي طاملــا زودهــم باألرز‬
‫ســنوياً‪ .‬قــال بــرود‪« ،‬أعطــه ذلــك الصنــدوق»‪ُ .‬تعطيـ ِـه ذلــك الصنــدوق‬
‫الــذي اح ُتفــظ بــه مقفــ ًا يف خزانــة خشــبية كبــرة! إذا رأت فيشــنو‬
‫يفتحــه‪ ،‬فــأي جاذبيــة ال تقــاوم ســوف تدفعهــا للتحديــق يف الجواهــر‬
‫الذهبيــة! إنــه أشــبه باحتفــال‪ .‬ليــس لديهــا ســوى زوج مــن األســاور‬
‫الذهبيــة وعقــد خــاص بهــا‪ .‬لكــن حقيقــة أنهــا كانــت مســؤولة عــن‬
‫ـس بالفخــر‪ .‬نهــض فيشــنو قائـاً‪« :‬ال‪ ،‬ســوف آيت‪.‬‬ ‫الصنــدوق جعلتهــا تحـ ّ‬
‫ـت يف صحــة جيــدة‪،‬‬ ‫ال حاجــة إلحضــاره إىل هنــا»‪« .‬انظــر يــا فيشــنو‪ ،‬لسـ ُ‬
‫وال داعــي لقــول يشء‪ .‬خــذ الصنــدوق‪ .‬واعتبــاراً مــن العــام القــادم‪،‬‬
‫ال حاجــة إىل إرســال األرز لنــا‪ .‬حاملــا تتحســن صحتــي‪ ،‬ســنميض جميعـاً‬
‫مــع ولدنــا إىل دلهــي»‪ .‬لهجــة أ ْتشــاريا الصارمــة جعلــت فيشــنو يقــول‪،‬‬
‫«ال‪ ،‬ال يــا أ ْتشــاريا‪ ،‬ال ينبغــي أن تقــول مثــل هــذه األشــياء‪ .‬أنــت يف‬
‫مقــام أيب»‪« .‬انظــر يــا فيشــنو‪ ،‬عندمــا يتعلــق األمــر باملــال‪ ،‬فليــس مثــة‬
‫أب أو أم أو ابــن‪ .‬لقــد تعبــت مــن حيــايت؛ الحيــاة التــي أمضيتهــا يف‬
‫خدمــة األغنيــاء»‪ .‬تفـ ّـوه أ ْتشــاريا بهــذه الكلــات كــا لــو أنــه ال يريــد‬
‫ـع عــى جنبــه وأغمــض‬ ‫اضطَ َجـ َ‬
‫أن يســمع أو يقــول أي يشء إضــايف ثــم ْ‬
‫ـف فيشــنو الصنــدوق ببطانيــة ثــم وضعــه يف الســيارة وانســلّ‬ ‫عينيــه‪ .‬لـ ّ‬
‫ـص‪.‬‬
‫مثــل لـ ّ‬
‫٭٭٭‬
‫يف الوقــت الــذي كانــت قضيــة محاولــة القتــل تأخــذ مجراهــا ضــد‬
‫نايــر‪ ،‬كتــب كريشــنا مــوريت لــه رســالة وصــف فيهــا بالتفصيــل املوقــف‬
‫الــذي حصــل مــع فيشــنو مــوريت «لذلــك‪ ،‬ال تســتطيع أن تقــول إن أيب‬

‫‪73‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫أحمــق‪ .‬فهــو يشــمئز مــن األغنيــاء أيض ـاً‪ .‬مــع ذلــك‪ ،‬فقــد عــاش حيــاة‬
‫حافلــة‪ ،‬وباملقارنــة معــه‪ ،‬فإنــك تبــدو شــخصاً ســاذجاً مرسحياً يف ســلوكه»‪.‬‬
‫كتــب نايــر رداً باللغــة اإلنكليزيــة واســتهلّ الرســالة بعبــارة «تحيــايت‬
‫الثوريــة»‪« ،‬أكــره بقــوة املجتمــع الــذي يصممــه األغنيــاء ألجــل‬
‫ـب‪ ،‬وراغبـاً يف التخلــص‬ ‫ســعادتهم الخاصــة‪ .‬والــدك‪ ،‬مدفوعـاً بقصــة حـ ّ‬
‫«حكــم الحيــاة الريفيــة‘‪ ،‬غــادر نحــو دلهــي منــذ‬ ‫مــا دعــاه ماركــس ُ‬
‫دمــر روح الحيــاة املتقــدة لــدى الرجــل؟ إنهــا‬ ‫أربعــن عامـاً‪ .‬فــا الــذي ّ‬
‫خدمــة األغنيــاء! ذلــك مــا أهلــك الرجــل‪ .‬املــال‪ ،‬تلــك األيقونــة الرهيبــة‬
‫للنظــام الرأســايل‪ ،‬يدمــر دهارمــا(‪ ،)11‬وثقافتنــا وعالقاتنــا الحميمــة وكل‬
‫رجــال مــن أمثــايل ســوف يســتعيد‬ ‫ٍ‬ ‫يشء يخصنــا‪ .‬فقــط عــر نضــال‬
‫اإلنســان إنســانيته األصيلــة‪ .‬وهــذا األمــر ممكــن عــر الطريــق املاركــي‬
‫ور ِة‬
‫ـر َ‬
‫الصـ ْ ُ‬
‫وحســب‪ .‬وأريــد أن تكــون حيــايت الشــخصية مثــاالً عــى هــذه َّ‬
‫ـرح أســلوباً أفضــل‪ ،‬وســوف‬ ‫الفكريــة‪ .‬وإذا بــدت أفعــايل مرسحيــة فاقـ ْ‬
‫أتبعــه‪ .‬إن تصميمــي عــى قتــل الخنازيــر الســمينة للنظــام الرأســايل‬
‫ليســت بالتأكيــد عمــ ًا مرسحيــاً‪ .‬أمتنــى ّأل تبــ ّدد حياتــك كــا فعــل‬
‫والــدك‪ .‬كــا أننــي ال أقيــم وزنـاً للوعــي الــذي يســتيقظ لحظــة املــوت‪.‬‬
‫مــا هــو مهــم بالنســبة يل‪ ،‬األثــر الــذي ترتكــه يف املجتمــع كل لحظــة‬
‫عمــل يف الحيــاة‪ .‬النــر للثــورة»‪.‬‬
‫مل يعلــم كريشــنا مــوريت بقصــة الحــب التــي أشــار إليهــا نايــر عرضـاً‬
‫يف رســالته‪ .‬كلّ مــا عرفــه وفكّــر بــه عنــد مــوت أ ْتشــاريا‪ ،‬كان قصــة‬
‫غانغوبــاي‪.‬‬
‫٭٭٭‬

‫(‪ :Dharma )11‬يشــر يف األديان الهندية إىل ســنن الكــون األبدية‪ ،‬أو بتعبري آخر‪ ،‬إىل الرتتيــب الكامن يف الطبيعة‬
‫والحياة اإلنسانية وسلوك املخلوقات والحياة‪( .‬م)‬

‫‪74‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫نقــل جثــان أ ْتشــاريا مــن الرسيــر ووضــع يف هيئــة القرفصــاء عــى‬


‫األرض‪ .‬أضيئــت قناديــل يف أغلفــة جــوز الهنــد‪ ،‬أحدهــا عنــد الــرأس‬
‫واآلخــر عنــد القدمــن‪ .‬غــادر غوفينــدان نايــر حاملــا فعلــوا ذلــك‪.‬‬
‫وينبغــي القــول إن مغادرتــه للمــكان تركــت ارتياح ـاً لــدى راكمينيامــا‪.‬‬
‫كانــت جالســة تنــوح وقــد مســحت بالزيــت عــى رأس وقدمــي زوجهــا‬
‫كطقــس أخــر نحــو امليــت‪.‬‬
‫لقــد أثقــل هــذا املــوت كاهلهــا‪ .‬شــعرت وكأن الســاء أطبقــت عــى‬
‫رأســها‪ .‬مــن يعلــم مقــدار ديونــه للمتاجــر املحليــة وللبنــك؟ لقــد عــاش‬
‫ومــات فخــوراً محســوداً عــى عيشــته‪ .‬وهــذا االبــن رمبــا مل يعــد يلبــس‬
‫الربــاط املقــدس حــول عنقــه‪ .‬مــا الــذي ســيقوله كهنــة العائلــة عنــه؟‬
‫يلــق بــاالً إىل رأي والديــه وتــزوج امــرأة مــن شــال الهنــد‪ ،‬واللــه‬‫مل ِ‬
‫يعلــم أي لغــة تتحــدث وإىل أي طائفــة تنتمــي‪ .‬كاد والــده يقتــل نفســه‬
‫قلقــاً عليــه‪ .‬صحيــح أنــه يف نوبــة غضــب عابــرة أخــر فيشــنو أنهــم‬
‫ســوف يذهبــون إىل دلهــي وميكثــون مــع ابنهــم كيتــو‪ .‬ولكــن هــل كان‬
‫وخصوص ـاً مــع ابنتهــم األرملــة وحفيدهــم‪ .‬البــد‬ ‫ذلــك ممكن ـاً حق ـاً؟ ُ‬
‫أن ســافيرتي‪ ،‬عــر اإلميــاءات والتلميحــات‪ ،‬ســوف تخــر هــذه الكنــة‬
‫القادمــة مــن شــايل الهنــد عــن أبســط األوامــر والنواهــي يف العائلــة‬
‫الرباهميــة‪ .‬وإذا مــا طُ لــب مــن كيتــو أن يخربهــا بذلــك فإنــه ســيغضب‪.‬‬
‫ثــم‪ ،‬تلــك الخليلــة امللعونــة مــن أهــايل شــيموغا أيض ـاً‪ ،‬حتــى أولئــك‬
‫الذيــن قدمــوا إللقــاء النظــرة األخــرة عــى الرجــل امليــت‪ ،‬تريثــوا قليـ ًا‬
‫ورموهــا بنظ ـرات فاحصــة‪.‬‬
‫شــعرت بالســلوى عندمــا رأت فيشــنو يرتجــل مــن ســيارته ويدخــل‪.‬‬
‫لــن يخذلهــا يف هــذه املناســبة ثقيلــة الوطــأة مــع أن أ ْتشــاريا كان قــد‬
‫غضــب منــه‪ .‬وإ ْذ مل يكــن بــن الحضــور كثــرون مبنزلتــه‪ ،‬فقــد قــال‬

‫‪75‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫بصــوت نــادب «أنــت تعلــم يــا كيتــو أن أحــداً مل يكــن يعــادل أبــاك‬
‫يف منطقتنــا كلّهــا‪ .‬ومل يكــن مثــة مســألة قانونيــة أو رشعيــة مل يعرفهــا‪.‬‬
‫وبســببه اســتطاع رجــال مــن أمثــايل تدبــر أمر االحتفــاظ ببعــض األرايض‬
‫يف هــذا الزمــن الــرديء وعاشــوا بكرامتهــم‪ .‬مل أتخيــل قــطّ أن يحــدث‬
‫هــذا األمــر عندمــا كنــت يف زيارتــه منــذ يومــن‪ .‬لقــد جعلنــا أيتام ـاً‬
‫جميع ـاً وخ ّلــف وراءه منوذج ـاً عظي ـاً»‪.‬‬
‫أثــارت كلامتــه األخــرة نوبــة مــن األىس لــدى روكمينيامــا‪ .‬أتــت‬
‫ـدر النــاس‬
‫ابنتهــا ســافيرتي ورافقتهــا إىل الداخــل‪ ،‬وتبعهــم فيشــنو‪ .‬مل يـ ِ‬
‫الذيــن قدمــوا مــن القــرى املجــاورة كيــف يقدمــون العـزاء إىل كريشــنا‬
‫مــوريت الــذي وقــف رزينـاً رابــط الجــأش مــن دون أي عالمــة مرئيــة مــن‬
‫األىس عــى وجهــه‪.‬‬
‫بــدا األب وكأنــه يغفــو بســام‪ .‬واعتــر كريشــنا مــوريت أن إظهــار األىس‬
‫ميثــل إهانــة للميــت‪ .‬فلــم يســبق لــه أن رأى أبــاه يبــي‪ .‬لقــد عــاش ومات‬
‫رجـ ًا يحــرم ذاتــه‪ .‬ولعــلّ نايــر أيضـاً مل يرغــب يف رؤيــة هــذه املشــاهد‪،‬‬
‫ورمبــا علــم أيضـاً بأســلوب األب يف إبــداء الحــب والعاطفــة‪ .‬مـ ّـرة‪ ،‬عندمــا‬
‫كان كريشــنا مــوريت يــدرس يف مايســور‪ ،‬أصيــب بالتهــاب بلعــوم حــاد‬
‫الحمــى شــديدة‪ .‬ذات صبــاح‪ ،‬قــدم األب‬ ‫وفقــد صوتــه تقريبــاً وكانــت ّ‬
‫عــى نحــو مفاجــئ متامـاً‪ ،‬يحمــل يف جيــب ســرته الســوداء ميـزان حـرارة‬
‫اشـراه للتـ ّـو‪« .‬لقــد شــعرت‪ ،‬بطريقــة مــا‪ ،‬أنــك لســت عــى مايـرام‪ .‬لذلــك‪،‬‬
‫اشــريت فــوراً ميـزان حـرارة وقدمــت»‪ ،‬قــال ذلــك ومكــث بعدهــا يومــن‬
‫ـر عصــر الربتقــال‬ ‫يتــوىل رعايتــه‪ .‬خفــف األب وطــأة مرضــه إذ كان يحـ ّ‬
‫ويتحــدث حــول الفلــك‪ ،‬املوضــوع العزيــز عــى قلبــه‪.‬‬
‫عنــد مناقشــته ملوضوعــات الفلــك‪ ،‬كان األب يــورد أيض ـاً وبحــذق‬
‫مســائل قانونيــة تتعلــق بامللكيــة‪ .‬كان عامل القانــون ممتعاً له كالســاء‬

‫‪76‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫والنجــوم‪ .‬وبــدا هــذا األمــر عــى الــدوام موضــع اســتغراب كريشــنا‬


‫مــوريت‪ .‬وعــى الرغــم مــن اعتــاد األب عــى رحمــة الرجــال األغنيــاء‬
‫يف القريــة‪ّ ،‬إل أنــه شــخصياً مل يكــن مولعـاً باملــال‪ .‬ومــن الغريــب‪ ،‬مـ ّـرة‬
‫أخــرى‪ ،‬أن األب أخــذ عــى عاتقــه مهمــة الحفــاظ عــى أولئــك الذيــن‬
‫يحــوزون عــى ملكيــات كــا لــو أن الحيــاة ألقــت عــى كاهلــه هــذا‬
‫ــق كــا قــال‬‫التحــدي العظيــم‪ .‬رمبــا‪ ،‬بعــد كل ذلــك‪ ،‬كان األب أَ ْح َم َ‬
‫نايــر‪.‬‬
‫البــد أن زواجــه شــكل صدمــة عنيفــة لــأب الــذي تحدث عــاّ يدين‬
‫املــرء بــه لإللــه‪ .‬هــو الــذي مل يتكلــم أبــداً عــن مشــاعره الشــخصية‪،‬‬
‫تو ّعــده يف الرســالة قائــاً‪« ،‬إنــك تتــزوج مــن خــارج طبقتنــا ألنــك‬
‫ال ترغــب يف إجـراء شــعائر تأبينــي»‪ .‬ومبــا أن األب لــن يتقبــل أي نقــود‬
‫منــه‪ ،‬فقــد بــدأ بإرســالها إىل أمــه‪ .‬لكــن‪ ،‬بعــد والدة الحفيــد‪ ،‬نــي األمــر‬
‫برمتــه وريض عــن ابنــه وكنتــه ومكــث معهــا كــا لــو أنــه مل يفارقهــا‬
‫بتات ـاً‪ .‬وكذلــك‪ ،‬قبــل موتــه مبــارشة قــال‪ :‬إنــه ســوف يذهــب ليعيــش‬
‫معــه يف دلهــي؛ وريض أيضـاً عــن غانغوبــاي‪ ،‬وأرســل يف طلــب نايــر‪ .‬كلّ‬
‫هــذه األمــور تــي بأمــر واحــد‪ ،‬لقــد اســتوعب األب م ـرارة زواج ابنــه‬
‫مــن خــارج طبقتــه‪.‬‬
‫وقــف يراقــب اتقــاد املصابيــح والرجــال املنهمكــن بإعــداد التابــوت‬
‫مــن أعــواد الخيــزران‪ .‬الحــظ أن مــرا تحــاول لفــت انتباهــه‪ .‬كانــت‬
‫مســتغرقة يف رصاعهــا اليومــي الدائــب مــع ابنهــا رسيناتــا الــذي كان‬
‫القــدر البالســتيكية الصفــراء‪،‬‬‫يرفــض الجلــوس وقضــاء حاجتــه عــى ِ‬
‫وكانــت بحاجــة إىل املســاعدة مــن زوجهــا إلمتــام األمــر‪ .‬لكــن أختــه‬
‫وأمــه ســوف يعتربانــه ضعيفــاً أمامهــا لــو رأوه يســاعدها‪ .‬أربكتــه‬
‫الفكــرة‪ ،‬ومل يــدر إن كان مــن املناســب لــه االبتعــاد‪ .‬مـرا‪ ،‬الغريبــة التــي‬

‫‪77‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ال تعنــي هــذه التفاصيــل لهــا شــيئاً‪ ،‬حملقــت يف زوجهــا ثـ ّـم أجــرت‬
‫ابنهــا عــى اســتخدام القــدر‪.‬‬
‫متأمـ ًا يف كالم نايــر عــن أبيــه‪ ،‬التقــط كريشــنا مــوريت ابنــه ودلــف‬
‫إىل الفنــاء الخلفــي‪ .‬كانــت العجــول املربوطــة إىل األوتــاد تتنفــس‬
‫بجهــد ومتضــغ العشــب ببــطء‪ .‬ومتــدد كلــب تحــت أشــعة الشــمس‪،‬‬
‫يف حــن تجمعــت أكــوام مــن روث البقــر عــى الســطح ألن مــوت األب‬
‫أعــاق عمليــة ترحيلهــا االعتياديــة‪ .‬إىل اليمــن‪ ،‬وعــى مســافة قصــرة‪،‬‬
‫كان قطيــع البقــر وإىل جانبــه أســطوانة غــاز منزليــة حديثــة تشــر إىل‬
‫التفكــر الجديــد لــأب‪.‬‬
‫اليــوم‪ ،‬مل توقــد نــار املطبــخ‪ ،‬والبقـرات مل ُتحلــب بــل بقيــت مربوطــة‬
‫ـن ســافيرتي أطلقتهــا‪ .‬مل يحــدث أبــداً أن تركــت األم البقرات‬ ‫بالحبــال‪ .‬لكـ ّ‬
‫تــرح مــن دون أن تحلبهــا أوالً ثــم تطعمهــا العشــب والعلــف وتضــع‬
‫ســاالً معدنيــة حــول أفــواه العجــول‪ .‬ســوف يحتــج ابنهــا عــى هــذه‬
‫القســوة لكــن األم تضحــك وتقــول‪« :‬أنــت ابــن مدينــة مدلــل‪ ،‬كيــف‬
‫لــك أن تعــرف مبثــل هــذه الشــؤون؟ ســرضع العجــول الحليــب ك ّلــه‪،‬‬
‫والبق ـرات ذكيــة جــداً فهــي تخدعنــا وتحتفــظ بالحليــب يف أثدائهــا»‪.‬‬
‫ـول أمــر الحليــب‪.‬‬
‫معيــدة ألن ال أحــد تـ ّ‬
‫لكــن العجــول كانــت اليــوم ِّ‬
‫ركــن كريشــنا مــوريت القــدر البالســتيكية يف زاويــة نظيفــة نســبياً‬
‫مــن الفنــاء وحــاول أن ُيجلــس ابنــه املامنــع عليهــا‪ .‬لقــد ترعــرع الطفــل‬
‫يف عــامل الشــقق اإلســمنتية النظيفــة لذلــك وجــد الفنــاء الخلفــي‬
‫املتســخ مثـراً لالشــمئزاز‪ .‬لقــد خشــيت مـرا أيضـاً مــن القــدوم إىل هــذا‬
‫البيــت‪ .‬وأكــر مــا كرهتــه كانــت األعـراف االجتامعيــة املتصلــة بالحيــاة‬
‫يف املنــزل‪ ،‬وكذلــك املرحــاض الخارجــي الــذي تفصلــه ســتارة مــن أعــواد‬
‫الخيــزران وحســب‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫القــدر‪ ،‬وبــدا أن‬ ‫باإلغــراء والتهديــد انصــاع الولــد وجلــس عــى ِ‬


‫م ـرا كانــت تريــد قــول يشء مــا لزوجهــا وانتهــزت اآلن فرصــة لقائــه‬
‫منفــرداً‪ .‬اســتيقظ الكلــب الــذي كان نامئ ـاً تحــت الشــمس‪ ،‬وتحركــت‬
‫بقــرة عجــوز خــارج القطيــع وقدمــت باتجــاه العجــول التــي متضــغ‬
‫أعشــاب األرز الجافــة‪ .‬تحركــت العجــول املشــدودة بالحبــال وزفــرت‬
‫صوت ـاً مســموعاً كــا لــو أنهــا تتحســب ملواجهــة مــا‪ .‬يف باحــة الــدار‪،‬‬
‫إىل اليمــن‪ ،‬واصــل الرجــال تجميــع أعــواد الخيــزران لصنــع التابــوت‪.‬‬
‫قبضــت البقــرة العجــوز بفمهــا عــى رزمــة مــن العشــب ووقفــت عــى‬
‫القــدر اآلن‪ ،‬وقــد‬ ‫مبعــدة قليــ ًا تــأكل‪ .‬كان ابنــه يقــي حاجتــه يف ِ‬
‫جعلــت الرائحــة األمــر واضح ـاً‪ .‬لكــن األكــر وضوح ـاً كانــت الســعادة‬
‫التــي غمــرت م ـرا عندمــا شـ ّـمت الرائحــة‪ .‬وجههــا‪ ،‬وطريقــة وقوفهــا‬
‫وذراعهــا عــى خرصهــا‪ ،‬بــل وحتــى شــعرها املعقــود بوشــاح‪ ،‬كل ذلــك‬
‫بــدت عليــه مالمــح ســعادتها الداخليــة‪ .‬عندمــا أومــأت لــه ســافيرتي‬
‫يك يــأيت‪ ،‬كان كريشــنا مــوريت مصدوم ـاً‪ ،‬فهــو مل يشــعر أبــداً بــأن أبــاه‬
‫ســوف ميــوت يف مثــل هــذا الصبــاح االعتيــادي البائــس‪ .‬رأى الصبــي‬
‫دودة تتحــرك ببــطء وصمــت نحــوه‪ ،‬ذعــر وقفــز عــن القــدر‪ .‬داســتها‬
‫فتكومــت‪ ،‬ثــم التقطهــا كريشــنا مــوريت بالعصــا ورماهــا‬ ‫م ـرا برجلهــا ّ‬
‫بعيــداً مــا أثــار فرحــة الصبــي‪.‬‬
‫عندمــا كان يتجــه صــوب قطيــع البقــر‪ ،‬تذكــر كريشــنا مــوريت مــن‬
‫جديــد كيــف لخــص نايــر حيــاة األب‪ ،‬فقــال لنفســه‪« :‬ال‪ ،‬مل ميــت‬
‫ـق‪ .‬لقــد قــرر القــدوم واملكــوث معــي يف دلهــي يك يتخلــص مــن‬ ‫أَ ْح َمـ َ‬
‫األشــياء التــي كان يعملهــا هنــا»‪ .‬أخذتــه أختــه إىل زاويــة بعيــداً عــن‬
‫األنظــار‪ .‬أصبــح فضوليـاً وخطــرت ببالــه فكــرة أخــرى‪ .‬لقــد حلــم األب‬
‫دومـاً بالتقاعــد مــن خدمــة األغنيــاء والبقــاء مــع ابنــه‪ .‬وأراد العيــش يف‬

‫‪79‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫دلهــي يك يواظــب عــى دراســة الفلــك‪ ،‬موضــوع ولعــه مــدى الحيــاة‪.‬‬


‫أو‪ ،‬رمبــا ف ّكــر األب بإرســال األم واألخــت بعيــداً إىل دلهــي يك يتســنى لــه‬
‫اإلقامــة مــع غانغوبــاي‪ .‬يف اليــوم الــذي أرسع فيــه عائــداً مــن دلهــي‪،‬‬
‫كان األب بالــكاد يســتطيع أن يحــرك أوصالــه املتورمــة املجهــدة‪ .‬اتــكأ‬
‫عــى الوســادة التــي أحرضتهــا لــه غانغوبــاي‪ ،‬ثــم قــال‪« :‬آه‪ ،‬لقــد أتيــت‪،‬‬
‫ال بــد أنــك ركبــت الطائــرة وكانــت الرحلــة باهظــة الثمــن‪ .‬حســناً‪ ،‬إين‬
‫أرســلت أيضــاً يف طلــب نايــر‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ســعيد بقدومــك»‪ .‬ثــم أضــاف‪« :‬لقــد‬
‫أشــعر اآلن بتحســن»‪ .‬ثــم بــدأ يتحــدث عــن مقالــة قرأهــا بإعجــاب‬
‫خــال أيــام األســبوع‪.‬‬
‫كانــت املقالــة حــول الثقــوب الســوداء يف الســاء‪« .‬اســمع‪ ،‬إنهــا‬
‫تبــدو كالنجــوم حقـاً‪ .‬نجــوم ضخمــة ال تلبــث أن تنهــار‪ .‬وأثنــاء انهيارهــا‬
‫تتطــور داخلهــا قــوة ســحب جاذبــة هائلــة‪ ،‬ال تســمح ألي يشء‪ ،‬حتــى‬
‫ـعاع ضــويئ باإلفــات منهــا‪ .‬وتظــل هــذه النجــوم العمالقــة متتــص‬ ‫لشـ ٍ‬
‫كل يشء داخلهــا‪ ،‬وال حركــة للزمــن هنــاك‪ .‬أليــس ذلــك ُمذ ِْه ـاً؟ انظــر‬
‫يــا كيتــو‪ ،‬لهــذا قالــوا‪« ،‬إذا اعتقــد املــرء‪ ،‬عــى غ ـرار شانكاراتشــاريا‪ ،‬أن‬
‫العــامل وهــم‪ ،‬فلــن يكــون لديــه أعاجيــب وألغــاز‪ ،‬بــل ســيحلها جميعـاً‬
‫بســهولة‪ّ .‬أمــا بالنســبة لرحلتنــا نحــو تحقــق الــذات والغبطــة الالنهائيــة‪،‬‬
‫فهــذا العــامل حقيقــي‪ .‬إنــه يشء حقيقــي‪ .‬والتناقضــات أيض ـاً حقيقيــة‪.‬‬
‫ولهــذا مــن املمكــن النظــر إىل العــامل بدهشــة‪ .‬وألن هــذا العــامل حقيقــة‪،‬‬
‫مثــة معرفــة يف فهــم التناقضــات‪ّ .‬أمــا إذا أردت التحــدث عــن املطلــق‪،‬‬
‫عندهــا‪..»..‬‬
‫انتقــل األب مــن هــذا املوضــوع إىل إدانــة مفهــوم املســاواة‪،‬‬
‫وتحــدث عــن أهميــة حقــوق امللكيــة‪ ،‬وعــن النظــام القانــوين‪ ،‬إلــخ‪.‬‬
‫مــا الــذي يعنيــه ذلــك؟ عندمــا كان كريشــنا مــوريت يتفكّــر بهــذه‬

‫‪80‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫الخواطــر‪ ،‬انتزعــت ســافيرتي شــيئاً مــا مــن أنشــوطة يف زاويــة جلبابهــا‬


‫وقالــت لــه‪« :‬انــزع قميصــك»‪« .‬ملــاذا؟» ســألها كريشــنا مــوريت‪« .‬يك‬
‫تلبــس هــذا»‪ .‬كانــت تلــف الربــاط املقـ ّدس براحتــي يديهــا املتســختني‬
‫يك تعطيــه ملمحـاً رثـاً عــى صــدر أخيهــا‪« .‬أنــا ال أحــب هــذه األفعــال‬
‫املرسحيــة»‪« .‬بإمكانــك أن تقــول هــذا‪ ،‬ولكــن ألســت براهميــاً؟ أال‬
‫تريــد القيــام بالشــعائر األخــرة؟» «انظــري يــا ســافيرتي‪ .‬مل يكــن أبونــا‬
‫مؤمن ـاً بتلــك األشــياء‪ .‬ولهــذا الســبب كان هــو وغانغوبــاي‪« .»..‬ذلــك‬
‫ك ّلــه مــن قبيــل الوهــم الــذي يعيشــه اإلنســان‪ .‬وال أحــد يفلــت منــه»‪.‬‬
‫وقفــت ســافيرتي جانبـاً‪ ،‬وخلــع كريشــنا مــوريت قميصــه وارتــدى الربــاط‬
‫املقــدس‪« .‬انظــري يــا ســافيرتي‪ ،‬لقــد كان والدنــا يشــمئز مــن العمــل‬
‫الــذي يقــوم بــه ألجــل هــؤالء األغنيــاء األوغــاد‪ .‬ولهــذا الســبب أرســل‬
‫يف طلــب نايــر‪ .‬وأنــت تعلمــن أن هــدف نايــر هــو قتــل كل اإلقطاعيــن‬
‫وإل ملــا‬
‫األغنيــاء‪ .‬كــا أن الوالــد مل يكــن يؤمــن بالوصايــا الرباهميــة‪ّ ،‬‬
‫عــاش مــع غانغوبــاي»‪ .‬مل ترغــب ســافيرتي يف مناقشــة املوضــوع‪« .‬هــل‬
‫تريــد القــول إن هــذه األشــياء يف متنــاول يدنــا؟ أعتقــد أن هــذا ك ّلــه‬
‫أفعــال كارمــا‪ .‬انظــر إليــك كيــف كنــت تنــزع إىل الســيطرة علينــا جميعاً‬
‫قبــل أن تتــزوج‪ّ .‬أمــا اآلن فقــد تغـ ّـرت»‪ .‬مل تقصــد ســافيرتي توبيخــه‪،‬‬
‫بــل انزلقــت الكلــات مــن شــفتيها ببســاطة‪ ،‬هــذا كلّ مــا يف األمــر‪.‬‬
‫ســوف يســتعيد كريشــنا مــوريت هــذا املوقــف يف يــوم أحـ ٍد عنــد الغــداء‬
‫يف شــقته بدلهــي‪ .‬ومــع أنــه كان ســعيداً ألن أبــاه يف فــرة احتضــاره ف ّكــر‬
‫بالبقــاء عنــده‪ّ ،‬إل أنــه أدرك فيــا بعــد أن ذلــك مل يكــن ليحــدث قــطّ ‪.‬‬
‫ون ألــف روبيــة‪ ،‬ديــن والــده الــذي أورثــه إيــاه‪ ،‬قتــل‬
‫ـر َ‬‫والخمســة والعـ ْ‬
‫ـرات حياتــه‪ .‬كان عليــه اقتطــاع خمســة آالف روبيــة لتســديد‬ ‫كلّ مـ ّ‬
‫الديــن وفوائــده‪ ،‬وأن يســحب ابنــه مــن مدرســة ذات مســتوى جيــد‬

‫‪81‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ويضعــه يف أخــرى عاديــة‪ .‬وكان عليــه التوقــف عــن اصطحــاب زوجتــه‬


‫وابنــه إىل الســينام والفنــادق‪ ،‬باإلضافــة إىل إرســال مئتــي روبيــة عــى‬
‫ـم مــن زوجتــه‪« .‬كــا تعرفــن‪ ،‬أمــى والــدي‬ ‫األقــل إىل ّأمــه مــن دون علـ ٍ‬
‫حياتــه يكــدح يف ســبيل األغنيــاء‪ ،‬لكنــه كان رجــ ًا شــديد االحــرام‬
‫لنفســه وال يقبــل بتاتـاً أي أمــوال منهــم‪ .‬لهــذا مــات َمدينـاً‪ .‬لقــد ضحــى‬
‫كث ـراً يف ســبيل تعليمــي‪ ،‬ورمبــا كان بإمكانــه أن يصبــح فلكي ـاً شــهرياً‬
‫عــال‪ ،‬وتصغــي‬‫بصــوت ٍ‬
‫ٍ‬ ‫أو محاميــاً يف املحكمــة العليــا»‪ .‬يقــول ذلــك‬
‫ـروع وتعـ ّـر عــن غضبهــا واســتيائها املفهومــن متامـاً‬ ‫مـرا إليــه بصمــت مـ ّ‬
‫بالنســبة لكريشــنا مــوريت‪ .‬مــع ذلــك‪ ،‬كان عليــه أن يصــارع ذكــرى أبيــه‬
‫يف األيــام التاليــة‪ .‬يف يــوم أحــد‪ ،‬عنــد الغــداء‪ ،‬عندمــا وجهــت مـرا بــرود‬
‫فصــل ثيابــك‬ ‫املالحظــة التاليــة‪« :‬كانــوا حكــاء‪ ،‬أولئــك الذيــن قالــوا‪ّ :‬‬
‫عــى قـ ّد مقاســك»‪ ،‬ف ّكــر كريشــنا مــوريت بأمــر نايــر الــذي كان يتعفــن‬
‫يف الســجن‪ .‬وحاجــج زوجتــه بــأن نايــر كان الرجــل الــذي ســا عــى‬
‫الصغائــر ووصــل إىل مــا هــو أكــر‪ ،‬ولذلــك كان عزيـزاً عــى أبيــه‪ .‬لكــن‪،‬‬
‫مبــا أنــه فشــل يف توضيــح الصــورة لهــا يف تلــك الظهــرة‪ ،‬فقــد همســت‬
‫مــرا يف أذنــه وقالــت‪« ،‬ملــاذا َتــ ْزين بالكلــات؟ اذهــب‪ ،‬إذا واتتــك‬
‫الشــجاعة‪ ،‬واحمــل ســكيناً يف يــدك أيض ـاً»‪.‬‬
‫أصبــح كريشــنا مــوريت كئيب ـاً‪ .‬وتســاءل فيــا إذا كانــت غانغوبــاي‪،‬‬
‫وأصدقــاء مــن قبيــل نايــر‪ ،‬والثقــوب الســوداء يف الســاء‪ ،‬مجــرد وســائل‬
‫للهــروب قلي ـ ًا مــن التعــب الــذي يســببه الســعي الدائــم وراء املــال‪.‬‬
‫قبــل زواجهــا‪ ،‬كان وجــه مـرا مفعـ ًا بالجــال واللطــف‪ ،‬لكــن الغضــب‬
‫أصبــح العاطفــة املهيمنــة حاليــاً وكان يحفــر غضونــاً عميقــة عــى‬
‫وجههــا‪ .‬وقــد حــاول أن يتقفــى‪ ،‬يف تلــك الغضــون‪ ،‬مغــزى طريقــة أبيــه‬
‫يف الحيــاة‪ .‬وتذكــر نايــر ذلــك الــذي يبتســم حتــى يف حديثــه القــايس‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫لكــن‪ ،‬مبــا أنــه شــعر أيضـاً بــأن نايــر كان بطريقــة مــا متمــرداً مضحــكاً‬
‫لغرابتــه‪ ،‬فقــد أصبحــت أســئلته عويصــة أكــر‪ .‬هــل كانــت حيــاة أبيــه‪،‬‬
‫بالرغــم مــن ممكناتهــا الكثــرة‪ ،‬تبــى وتشــيخ؟ وملــاذا؟ وهــل ميــي هــو‬
‫يف الطريــق ذاتــه؟ هــا هنــا‪ ،‬مل تكــن لديــه إجابــة‪.‬‬
‫٭٭٭‬
‫ســيعود الجســد الزائــل إىل العنــارص الخمســة التــي ُجبــل منهــا‪.‬‬
‫غطــس كريشــنا مــوريت‪ ،‬البســاً داهــويت قصــراً‪ ،‬يف النهــر؛ واســتقر‬
‫الجثــان يف التابــوت عــى ضفــة النهــر إلجـراء الشــعائر األخــرة‪ .‬حمــل‬
‫كريشــنا املــاء يف قــدر مثقــوب ودار حــول الجــر‪ ،‬ثــم رمــاه إىل الخلــف‬
‫فانكــر‪ .‬أشــعل النــار يف الجســد املنقــوع بالكريوســن وجلــس يراقــب‬
‫ألســنة اللهــب امللونــة املرتاقصــة‪ .‬انتــرت النــار وبقبقــت‪ ،‬وألســنة‬
‫اللهــب التــي بــدت كالرباعــم واألزهــار‪ ،‬توهجــت وطوقــت الجســد‪ ،‬ثـ ّـم‬
‫تجمعــت بــكل قدرتهــا الناريــة حــول الجمجمــة‪ .‬تذكــر كريشــنا مــوريت‪،‬‬
‫يف محاولــة منــه لتهدئــة عقلــه‪ ،‬والــده عندمــا أحــر لــه ميـزان الحـرارة‬
‫يــوم كان مريض ـاً‪ ،‬فيــا كان بقيــة أصدقــاء أبيــه الكثرييــن يتحدثــون‬
‫معـاً عــى ســبيل الســلوى والعـزاء‪ُ .‬دهــش كريشــنا إذ رأى كيــف يتحــول‬
‫ـوت‬
‫طقــس إح ـراق الجثــة إىل نزهــة‪ .‬كان أحــد األشــخاص يتكلــم بصـ ٍ‬
‫ـال جعــل اآلخريــن يبــدون كمســتمعني‪« .‬كان أ ْتشــاريا رج ـ ًا حكي ـ ًا‬ ‫عـ ٍ‬
‫لقــد أدرك قبــل اآلخريــن أن مرســوم اإلصــاح الزراعــي وشــيك الصــدور‪،‬‬
‫مجربـاً إىل حــد بعيــد‪ .‬تعرفــون بالطبع أن اتحــاد الفالحني كان‬ ‫كان رجـ ًا ّ‬
‫قــد تشــكل‪ ،‬وبــدأ فينكابــا نايــكا يقــول‪ :‬إن األرض ملــن يحرثهــا‪ .‬فأرســل‬
‫أ ْتشــاريا فــوراً يف طلبنــا وقــال‪ :‬عليكــم بتســوية جميــع نزاعــات امللكيــة‬
‫فيــا بينكــم حــاالً‪ ،‬واســتبقوا األرايض املرشوعــة لكــم ثــم اعرضــوا للبيــع‬
‫مــا تبقــى بــأي مثــن كان‪ .‬ولــو رغــب املســتأجرون رشاءهــا بســعر أقــل‬

‫‪83‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫فــا تــرددوا ألنهــم ســوف يســلبونكم إياهــا‪ .‬وال تبالــوا إن شــكروكم أم‬
‫ال‪ ،‬فتلــك قضيــة أخــرى‪ .‬إذا مل تفعلــوا مــا أقولــه لكــم فســتحصل مجــزرة‬
‫رهيبــة‪ .‬ونجحنــا‪ ،‬نحــن الذيــن اســتمعنا إليــه‪ ،‬ومــن مل يفعــل فقـ َد كلَّ‬
‫رش األوغــاد‪ ،‬ومل‬
‫ـذت معرفتــه بالقانــون الكثرييــن مــن ّ‬
‫مــا ميلــك‪ .‬لقــد أنقـ ْ‬
‫نكــن وحدنــا لنســتطيع تدبــر اإلفــات مــن اتحــاد الفالحــن الحقــر»‪.‬‬
‫كريشــنا مــوريت‪ ،‬ناظـراً جمجمــة والــده املحرتقــة مثــل قــرة جــوزة‬
‫الهنــد يف اللهــب امللـ ّـون‪ ،‬شــعر كأنــه يــرخ‪« ،‬ال‪ ،‬ليســت هــذه هــي‬
‫الحقيقــة الكاملــة»‪ .‬وقــد اســتعاد هــذه الذكــرى يف شــقته بدلهــي‪،‬‬
‫وناقــش األمــر مــع أصدقائــه اليســاريني‪ ،‬لكنــه‪ ،‬مــع ذلــك‪ ،‬بقــي غــر‬
‫مقتنــع‪.‬‬
‫٭٭٭‬
‫بعــد أن ُر ِّمــد الجســد‪ ،‬مضــت غانغوبــاي وجلســت تحــت شــجرة‬
‫التــوت الكائنــة خلــف الحظــرة‪ .‬توقعــت أن نســاء األرسة يفكّــرن‬
‫بجســدها الطويــل البهــي الــذي ال تجاعيــد فيــه وامللــذات التــي منحهــا‬
‫ألتشــاران‪ .‬هــذا األمــر أربكهــا‪ .‬لكــن‪ ،‬إذا غــادرت رسيعـاً فقــد ينتحبــون‬
‫ـكل غــر الئــق‪ .‬لذلــك‪ ،‬كانــت تريــد أال يــرك‬
‫عــى أتشــاريا أو يرثونــه بشـ ٍ‬
‫حضورهــا أي نكهــة كريهــة يف أفواههــم‪.‬‬
‫كانــت عــى درايــة بفــرة شــباب أ ْتشــاريا‪ ،‬فقــد أخربهــا كل يشء‪.‬‬
‫حدثهــا عــن الســاء والنظــام القانــوين وعــن ابنــه الغــايل عــى قلبــه‪،‬‬
‫ـف شــيئاً عنهــا‪.‬‬
‫وعــن نايــر‪ ،‬مل يخـ ِ‬
‫هيــأ أ ْتشــاريا‬
‫بــدأت عالقتهــا التــي امتــدت عرشيــن عام ـاً عندمــا ّ‬
‫مكتبــاً لــه يف الطابــق األول مــن فنــدق تديــره والدتهــا يف شــيموغا‪.‬‬
‫كان اســمه آنــذاك «اتحــاد مــاك األرايض» وكان أ ْتشــاريا ســكرتريه‪ .‬ثــم‬
‫أصبــح فيــا بعــد يدعــى «منظمــة الفالحــن يف ماالنــد»‪ .‬حصلــت يومهــا‬

‫‪84‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫عــى وظيفــة تعليميــة يف مدرســة ابتدائيــة‪ .‬وقــد التقيــا ّأول مـ ّـرة عندمــا‬
‫احتاجــت مســتندات لرهــن املنــزل إىل أحــد األشــخاص‪ .‬كانــت متزوجــة‬
‫أيضـاً‪ ،‬لكــن والدتهــا مل تكــن تعلــم أن ابنتهــا قــد ز ّفــت إىل رجــل أرمــل‬
‫قــاس‪ .‬تركــت غانغوبــاي زوجهــا وأصبحــت معلمــة‪ ،‬وقــد أرشــدها‬ ‫ٍ‬
‫أ ْتشــاريا إىل وســائل الحصــول عــى الطــاق‪.‬‬
‫بــدأت عالقتهــا يف تلــك األثنــاء‪ .‬لكــن الفنــدق ُأغلــق بعــد انقضــاء‬
‫أجــل والدتهــا‪ .‬ومبســاعدة أ ْتشــاريا‪ ،‬ومبــا تبقــى مــن مــال‪ ،‬اشــرت عـ ّدة‬
‫مقرب ـاً إليهــا أكــر مــن‬
‫بق ـرات وفتحــت محــلّ ألبــان‪ .‬أصبــح أ ْتشــاريا ّ‬
‫الرجــل الــذي تزوجتــه‪ .‬مل ترغــب يف جعلــه يعــاين مــن الــذلّ والخــزي‬
‫إضافــة ملــا يقاســيه ولذلــك فقــد أجهضــت نفســها مرتــن‪ .‬لكنــه يف فــرة‬
‫احتضــاره‪ ،‬اعــرف بهــا مــا منحهــا شــعوراً باالمتنــان‪.‬‬
‫٭٭٭‬
‫كانــت حياتــه حيــاة مغامـ َـرة‪ .‬كان والــده كاهنـاً يف معبــد رسي رامــا‪.‬‬
‫وقــد ع ّلــم ابنــه املان ـرا والتان ـرا يف البيــت‪ .‬يقــع املعبــد يف قريــة عــى‬
‫ضفــاف نهــر تونغــا حيــث تقيــم بضــع وعــرون عائلــة براهميــة‪ .‬كان‬
‫االحتفــال الســنوي للمعبــد أكــر األحــداث إثــارة يف املناطــق املحيطــة‪.‬‬
‫الصبــا‪ُ ،‬يجــري الشــعائر والطقــوس للعائــات‬
‫هنــاك قــى أ ْتشــاريا حيــاة ّ‬
‫الرباهميــة أو يعــاون والــده‪ .‬ومنــذ بدايتــه‪ ،‬كان رج ـ ًا ســاخطاً؛ رجــل‬
‫طموحــات‪ .‬لقــد عــرف أســاء كثــر مــن النجــوم وأمــى أغلــب أوقاتــه‬
‫راقــداً يف ســاحة املعبــد تحــت شــجرات التشــامباك يــدرس منــازل‬
‫النجــوم‪ .‬ذات يــوم‪ ،‬بينــا كان عائــداً مــن إجـراء طقــس بوجــا يف بيــت‬
‫أحدهــم‪ ،‬التقــى قسيســاً يقــود دراجــة عاديــة‪ ،‬بعدهــا‪ ،‬امتــأ رغبــة‬
‫يف تعلــم اللغــة اإلنكليزيــة‪ .‬الولــع بالســاء والولــع بتعلــم اإلنكليزيــة‬
‫جعــا أ ْتشــاريا يحلــم أحالم ـاً غريبــة يف أثنــاء انشــغاله بصنــع متاثيــل‬

‫‪85‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫مــن خشــب الصنــدل لآللهــة‪ .‬تعلّــم األبجديــة مــن رجــال ورعــن‬


‫مثقفــن كانــوا يأتــون إىل املعبــد للصــاة‪ ،‬وكذلــك تع ّلــم الق ـراءة‪ ،‬ثــم‬
‫كراســة «ع ّلــم نفســك اإلنكليزيــة» ومنهــا تع ّلــم مــا يكفــي‬ ‫حصــل عــى ّ‬
‫للكتابــة ومنــت يف داخلــه الرغبــة باملــي إىل أماكــن نائيــة‪.‬‬
‫ـرةَ‪ ،‬كانــت زوجتــه روكمينيامــا‬ ‫ـن السادســة َعـ ْ َ‬
‫تــزوج أ ْتشــاريا يف سـ ِّ‬
‫آنــذاك يف ســن العــارشة‪ .‬عندمــا ذهــب والــد أ ْتشــاريا لرؤيــة العــروس‬
‫كانــت تجلــس عــى غصــن شــجرة مانغــو فســألها أيــن الطريــق إىل‬
‫بيــت غوباالتشــاريا فقالــت‪ ،‬وهــي جالســة عــى الشــجرة تــأكل املانغــو‪،‬‬
‫«انظــر‪ ،‬هنــاك»‪ ،‬وأشــارت إىل الطريــق‪ّ .‬أمــا اآلن‪ ،‬فــإن روكمينيامــا تبــدو‬
‫ـرات شــيئاً‪.‬‬
‫امــرأة ال تعنــي لهــا هــذه املـ ّ‬
‫لكنهــا كانــت الت ـزال فتــاة صغــرة‪ ،‬ولذلــك بقيــت يف بيــت أبيهــا‬
‫حــوايل خمس أو ســت ســنوات بعــد الــزواج‪ .‬وازدادت مصاريف أ ْتشــاريا‬
‫بعــد الــزواج فتدبــر أمــر العمــل يف طقــوس ومراســم دينيــة متنوعــة‪.‬‬
‫يف هــذه الفــرة بالــذات وقــع الحــدث األكــر أهميــة يف حيــاة‬
‫أ ْتشــاريا‪ .‬كان يف القريــة عائلــة براهميــة غنيــة جــداً‪ .‬وقــد منــح املعبــد‬
‫ـرب األرسة‪ .‬كانــت زوجتــه عميــاء وليــس لــه مــن األبناء‬ ‫أوىل ترشيفاتــه لـ ّ‬
‫ســوى فتــاة جميلــة جــداً‪ .‬وبالطبــع‪ ،‬مل يرغبــوا يف أن يزفــوا ابنتهــم إىل ّأي‬
‫عمهــا‪.‬‬
‫شــخص خــارج العائلــة فزوجوهــا إىل ابــن ّ‬
‫مكثــت معــه عــر ســنني‪ ،‬لكنهــا رجعــت إىل منــزل أبيهــا بعــد أن‬
‫ُأرهقــت‪ .‬ومبــا أنهــا مل تنجــب أطفــاالً فقــد تســاءل النــاس حــول زوجهــا‬
‫إن عقي ـ ًا أو عنين ـاً‪ .‬مــات والدهــا مــن الغـ ّـم واألىس‪ .‬وبقــي يف ذلــك‬
‫القــر الضخــم بعــد موتــه شــخصان‪ ،‬األم العميــاء وابنتهــا‪ .‬بالطبــع‪،‬‬
‫كان يف أقســام متعــددة مــن البيــت مثــة أرامــل ومعــوزون يتولــون‬
‫أمــور الطبــخ وينجــزون األعــال العرضيــة‪ ،‬باإلضافــة إىل عــدد كبــر مــن‬

‫‪86‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫الضيــوف الذيــن يأتــون للتعبــد يف املعبــد‪ .‬يف البهــو الرئيــي للمنــزل‬


‫توجــد صــور اآللهــة ذات األطــر الفضيــة ومراجيــح مؤطــرة بألــواح‬
‫الخشــب املفضضــة‪ .‬كان ســقف البيــت عالي ـاً مــا جعلــه بــارداً عــى‬
‫الــدوام‪.‬‬
‫كانــت هــذه الفتــاة تكــر أ ْتشــاريا بأربــع ســنوات أو نحوهــا‪ .‬اســمها‬
‫أالكا ديفــي‪ .‬بعــد إج ـراء طقــس البوجــا يف املعبــد‪ ،‬كان مــن واجبــات‬
‫أ ْتشــاريا زيارتهــا يف املنــزل وإجـراء طقــس البوجــا هنــاك‪ .‬اعتــادت أالكا‬
‫ديفــي عــى لبــس ســاري مــن الحريــر وتصفيــف شــعرها إىل اليســار‬
‫كــا كانــت املوضــة آنــذاك‪ ،‬وعــى لبــس قمصــان ذات أكــام منفوخــة‪،‬‬
‫وكانــت تعــرف القليــل مــن اإلنكليزيــة أيضـاً مــا علّمهــا والدهــا إيــاه‪.‬‬
‫وكانــت تعطــي أ ْتشــاريا مؤلفــات ســكوت ودميــاس وغولــد ســميث‬
‫وك ّتــاب آخريــن مــا يتوفــر يف مكتبــة أبيهــا‪ .‬كان أ ْتشــاريا يقرؤهــا بعيداً‬
‫عــن أنظــار والــده الــذي تعنــي اإلنكليزيــة التدنــس بالنســبة لــه‪ .‬ومــن‬
‫ثــم يعــود بهــا إىل أالكا ديفــي ويبــدأ يف رشح مــا قــرأه لهــا بصــوت‬ ‫ّ‬
‫خفيــض أوالً‪ ،‬ثــم ال يلبــث أن يعلــو عندمــا تجلــس يف األرجوحــة‬
‫وتتأرجــح فيهــا جيئــة وذهابـاً‪ .‬وتتفتــح عينــا أالكا ديفــي إعجابـاً بالــرد‬
‫املسرتســل للقصــص‪ .‬هكــذا‪ ،‬يف القريــة التــي تلفهــا الغابــة‪ ،‬ويف ظــل‬
‫الحضــور الصامــت إللــه املعبــد‪ ،‬أصبحــت أالكا ديفــي ملكــة عــامل‬
‫أحالمــه الوســيع‪.‬‬
‫كانــت أالكا ديفــي تتــرف وكأنهــا شــخصيتان مــن شــخصيات تلــك‬
‫الحكايــا العجيبــة‪ .‬تصـ ّـورت أ ْتشــاريا ‪-‬بلبــاس الكهنــة وخصلــة الشــعر‬
‫الكبــرة وراء رأســه‪ -‬كــا لــو أنــه أمــر متنكــر أو جنــدي‪ .‬ثـ ّـم‪ ،‬أمل تكــن‬
‫والــدة هــذه الســيدة الجميلــة عميــاء؟ ومــن هنــاك غريهــا يك يراقــب‬
‫هــذه املــرأة الشــابة؟ كانــت تلبــس َســارياً حريري ـاً مختلف ـاً كلّ يــوم‪،‬‬

‫‪87‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫تجلــس عــى األرجوحــة وتكلــم الببغــاء يف القفــص وتنتظــر قــدوم‬


‫أ ْتشــاريا مــن املعبــد ومعــه الطعــام املقـ ّدس مــن املعبــد‪ .‬ومــا إن َيـ ْأ ِت‬
‫حتــى تســتقبله وتجلســه بجانبهــا عــى األرجوحــة ويرشعــا يف تبــادل‬
‫أط ـراف الــكالم‪.‬‬
‫كان أ ْتشــاريا يقــي يومــه منتظـراً هــذه اللحظــة‪ .‬ويشــعر بالســخط‬
‫عندمــا يضطــر للخــروج مــن القريــة إلجـراء طقــوس الــزواج أو األعيــاد‪.‬‬
‫وحتــى أالكا ديفــي كانــت متتلــئ غضب ـاً لذلــك‪ .‬ويبــدو أنهــا قالــت لــه‬
‫مـ ّـرة إنهــا ستشــري لــه حصانـاً يك يتمكــن مــن العــودة رسيعـاً مــن أي‬
‫مــكان يذهــب إليــه‪.‬‬
‫اتخــذت عالقتهــا الناميــة أطــواراً ع ـ ّدة‪ :‬الســيدة وخادمهــا األمــن‪،‬‬
‫امللكــة والجنــدي‪ ،‬اإللهــة والعبــد التقــي‪ ،‬البطلــة والبطــل الرومانســيني‪.‬‬
‫ـغف ســاوي غريــب عندما يســمع يف األمايس‬ ‫كان أ ْتشــاريا يضطــرب بشـ ٍ‬
‫قطعــان األبقــار الراجعــة وأصــوات أجراســها الرنانــة‪ ،‬وعندمــا‪ ،‬يف الليــايل‬
‫املقمــرة‪ ،‬يســمع العندليــب يغنــي بنشــوة‪ ،‬ونهــر تونغــا الطافــح يجــري‬
‫بنعومــة مغمغـ ًا يف بــرودة ديســمرب‪ .‬وراء توقــه املضطــرب‪ ،‬كان يكمــن‬
‫تــوق ملعرفــة الســاء وأالكا ديفــي‪.‬‬
‫كان أ ْتشــاريا يخــى‪ ،‬عــى مــا يبــدو‪ ،‬إن المســتها حتــى إصبعــه‬
‫الصغــرة فســوف يحــرق حتــى الرمــاد‪ .‬وبأســلوب ملّــاح وملتـ ٍو‪ ،‬أخربتــه‬
‫أالكا ديفــي كل يشء‪ .‬أخربتــه أنهــا ظلّــت عــذراء ألن زوجهــا ناقــص‬
‫الرجولــة‪ .‬بــدا أ ْتشــاريا جزعـاً جــداً مــا تعنيــه عبــارة «ناقــص الرجولة»‪.‬‬
‫يف أصيــل أحــد األيــام‪ ،‬عندمــا قــام أ ْتشــاريا بزيارتــه املعتــادة‪،‬‬
‫نظــرت أالكا ديفــي إليــه بعينيهــا الواســعتني وســألته‪« :‬هــل تســدي‬
‫ـر وجــه أ ْتشــاريا عــن موافقتــه‪« .‬إذا ملســتني‪ ،‬هــل‬ ‫إ ّيل خدمــة؟» عـ ّ‬
‫يجــب عليــك االســتحامم مــن جديــد؟» «حســناً‪ ،‬ليــس يف ذلــك‬

‫‪88‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫مشــكلة»‪« .‬إذن‪ ،‬ضــع إنــاء البوجــا جانبـاً وأحــر يل عجينــة الصنــدل‪.‬‬


‫مثــة بــرة يف ظهــري‪ .‬أرجــوك‪ ،‬ضــع بعــض العجينــة عليهــا»‪ .‬احمـ ّـر‬
‫وجــه أ ْتشــاريا‪ .‬فنظــرت إليــه وقالــت ضاحكــة‪« :‬أنــت رجــل صالــح‪،‬‬
‫ـم ضــع العجينــة دون النظــر‬ ‫أليــس كذلــك؟ إذن أغمــض عينيــك ثـ ّ‬
‫إيلّ»‪ .‬ثــم اســتدارت وخلعــت الســاري وفكّ ــت أزرار قميصهــا‪ .‬عــى‬
‫الجلــد األبيــض الحليبــي لظهرهــا‪ ،‬ويف زاويــة منــه‪ ،‬كان مثــة بــرة‬
‫حمــراء‪ .‬وبينــا كان أ ْتشــاريا يدهــن العجينــة بنعومــة بإصبعــه‬
‫املرتجفــة‪ ،‬اســتدارت فجــأة وأخــذت وجهــه بــن راحتيهــا كــا لــو أنــه‬
‫وجــه طفــل وقالــت‪« :‬إننــي ال ُأ َبــارى‪ ،‬أليــس كذلــك؟» عــى وجههــا‬
‫كانــت تبــدو ابتســامة املنتــرة‪ .‬شــعر أ ْتشــاريا بنفســه يتصبــب‬
‫ضمهــا إليــه‪ .‬شــعر بجســده يتــاىش‬ ‫عرقـاً‪ ،‬وقبــل أن يعــي مــا يفعلــه‪ّ ،‬‬
‫ببــطء يف جســدها املضمــوم‪ .‬آم ـ ًا مــن اللــه ّأل تالحــظ أالكا ديفــي‬
‫مــا حصــل لــه‪ ،‬غــاص يف األرجوحــة وجلســت هــي عنــد قدميــه‪ .‬منــذ‬
‫ذلــك اليــوم‪ ،‬نشــأت رغبتــه الجامحــة نحوهــا ممزوجــة بالخشــية‪.‬‬
‫ويف اليــوم التــايل‪ ،‬عندمــا قــدم مــن املعبــد‪ ،‬وقفــت أمامــه‪ ،‬متظاهــرة‬
‫بالحشــمة كفتــاة صغــرة‪ ،‬تســتثري الحــب فيــه‪ .‬بيديــن مرتجفتــن‪،‬‬
‫أعطاهــا الرباســادا ورجــع مــن دون أن يعــرف مــاذا يقــول‪ .‬الرغبــة‬
‫بامتالكهــا ترعرعــت يف داخلــه طــوال اليــوم‪ .‬ويف املســاء‪ ،‬عندمــا‬
‫كان مســتلقياً تحــت شــجرات التشــامباك ناظـراً يف الســاء املرصعــة‬
‫يهب كشــخص ممســوس‪.‬‬ ‫بالنجــوم لكــن غــر املقمــرة‪ ،‬جعلتــه الرغبة ّ‬
‫ويف ظلمــة الليــل‪ ،‬الهثـاً باإلثــارة‪ ،‬انطلــق نحــو بيتهــا‪ .‬كانــت الســاعة‬
‫ــر َة وال أحــد يف الجــوار‪ .‬ذهــب ووقــف‬ ‫قــد تجــاوزت الحاديــة َع ْ َ‬
‫أمــام منــزل أالكا ديفــي‪ .‬ومل يكــن يف الحســبان قــرع البــاب الرئيــي‪.‬‬
‫ام‬
‫يبيضــون املنــزل بالكلــس تركــوا ســ ّل ً‬‫لكــن الرجــال الذيــن كانــوا ّ‬

‫‪89‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫الفنــاء الخلفــي‪ .‬صعــد أ ْتشــاريا السـلّم ونــزل إىل الرشفــة‪،‬‬ ‫خشــبياً يف ِ‬


‫ثــم‪ ،‬حام ـ ًا قلبــه الخافــق‪ ،‬رقــي الــدرج ودلــف إىل غرفــة نــوم أالكا‬
‫ديفــي‪.‬‬
‫كانــت مســتلقية يف رسيرهــا وإىل جوارهــا مــازال املصبــاح مشــتع ًال‬
‫ـاب نصــف مفتــوح فــوق صدرهــا‪ .‬ارتعــب الببغــاء يف القفــص‬ ‫بينــا كتـ ٌ‬
‫ورصخ مذعــوراً‪ .‬فكّــر أ ْتشــاريا أنــه ليــس مــن املناســب أن يلمســها‬
‫ويوقظهــا مــن نومهــا‪ .‬فوقــف هنــاك طويـ ًا محدقـاً يف وجههــا املطمــن‪.‬‬
‫نطــق اســمها بنعومــة‪ ،‬مـ ّـرة‪ ،‬مرتــن‪ ،‬مئــات املـ ّـرات كــا لــو أنــه يــردد‬
‫اســم إلهــة‪ .‬فتحــت َع ْي َن ْي َهــا ببــطء‪ ،‬ودون أن تقلــق أو تضطــرب عرفتــه‪.‬‬
‫مـ ّدت إليــه يدهــا وأجلســته بجانبهــا كــا لــو أنهــا تتقبــل التبجيــل الذي‬
‫يقدمــه لهــا‪ .‬مل يكــن ذلــك أ ْتشــاريا‪ ،‬بــل بــدا كرجــل ممســوس‪ .‬رأتــه‬
‫متســد‬‫يرتجــف مــن الهيــام بــا معــن‪ ،‬فأضجعتــه قربهــا وقالــت وهــي ّ‬
‫جســده برفــق «لقــد تزوجتــك بعقــي‪ّ ،‬أمــا بالجســد فــا أســتطيع»‪ .‬دنـ ّـو‬
‫جســدها جعــل أ ْتشــاريا يعــر الطــرف األقــى لهيامــه بحيــث مل يعــد‬
‫مثــة رغبــة ليشــعر بهــا‪ .‬ويف الليلــة التاليــة‪ ،‬قصدهــا مــن جديــد راجي ـاً‬
‫توســل‬ ‫مناشــداً لكنهــا ص ّدتــه بلطــف‪ .‬ويف اليــوم التــايل‪ ،‬عندمــا رآهــا‪ّ ،‬‬
‫إليهــا أن تــرىض بــه‪ ،‬فســألته‪« :‬ولكــن‪ ،‬مــاذا بعــد ذلــك؟»‪ .‬قــال أ ْتشــاريا‬
‫«دعينــا نتــزوج»‪ .‬فــر ّدت عليــه‪« ،‬ذلــك غــر ممكــن»‪ .‬وتن ّهــدت‪ .‬كانــت‬
‫محقــة‪ ،‬فذلــك ليــس مســموحاً ألن أ ْتشــاريا كاهــن يف املعبــد وهــو‬
‫متــزوج‪ ،‬كــا أن أالكا ديفــي امــرأة متزوجــة أيض ـاً وأكــر مــن أ ْتشــاريا‬
‫ســناً‪ .‬بعــد هــذا املوقــف‪ ،‬أصبــح أ ْتشــاريا كاملعتــوه‪ .‬مــا إن يجــد وقت ـاً‬
‫حتــى يذهــب إليهــا ويتوســل لهــا أن تــرىض بــه‪ .‬كانــت تالطفــه حتــى‬
‫اســتمر‬
‫ّ‬ ‫إذا اســتجاب لهــا واتقــدت عاطفتــه انســحبت مــن طريقــه‪.‬‬
‫الوضــع عــى هــذا املنــوال م ـ ّدة شــهرين ذوى فيهــا جســد أ ْتشــاريا‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫وذات يــوم‪ ،‬قالــت لــه عــى مــا يبــدو‪« ،‬ارحــل عــن هــذا املــكان وابحــث‬
‫عــن عمــل لنفســك‪ .‬ثـ ّـم‪ ،‬بإمكانــك أن تأخــذين إىل هنــاك»‪.‬‬
‫مــرة يقــرب‬ ‫لقــي األمــر استحســاناً مــن أ ْتشــاريا‪ .‬لكــن‪ ،‬يف كل ّ‬
‫فيهــا اليــوم الــذي يغــادر فيــه‪ ،‬كانــت تبــدأ بالتذمــر‪« :‬تريــد الذهــاب‬
‫ألنــك تريــد االبتعــاد عنــي‪ .‬تريــد أن تنســاين»‪ .‬وعندمــا يجيبهــا أ ْتشــاريا‬
‫بالنفــي ويقــول إنــه يرغــب يف أن يعيشــا معـاً اآلن‪ ،‬كانــت توبخــه‪« :‬كل‬
‫مــا تفكــر فيــه هــو جســدي‪ ،‬أليــس كذلــك؟»‪.‬‬
‫لكــن أ ْتشــاريا غــادر القريــة يف أحــد األيــام‪ .‬أعطتــه أالكا ديفــي مــا‬
‫وتوســلت إليــه أن‬ ‫يكفــي مــن املــال يك يدفــع قيمــة التذاكــر الباهظــة ّ‬
‫يأخذهــا بعيــداً‪ .‬بــل حتــى إ َّنهــا عـ َّـرت يف تلــك الليلــة الســابقة عــن‬
‫حبــه لهــا‬
‫رغبتهــا يف النــوم معــه‪ ،‬لكــن أ ْتشــاريا أراد أن تــدرك عمــق ّ‬
‫فقــال «ال»‪.‬‬
‫وبصحبــة نايــر‪ ،‬عــاد ورأى أالكا‬ ‫بعــد عامــن مــن البقــاء يف دلهــي ُ‬
‫ديفــي‪ .‬كانــت أحوالهــا قــد تغــرت‪ .‬اســتعادت زوجهــا النحيــل الهزيــل‪.‬‬
‫كان يضــع نظــارات ثخينــة ورأســه يبــدو كثمــرة جــوز الهنــد املشـ ّـوهة‪.‬‬
‫إجــاالً‪ ،‬كان رجـ ًا ذا ســيامء مضحكــة‪ .‬أصبحــت زوجــة أ ْتشــاريا امــرأة‬
‫اآلن واغتبــط والــده أيضـاً برجــوع ابنــه رج ًال متعلـاً‪ .‬مل تعــد أالكا ديفي‬
‫تلبــس الســاري الحريــري‪ ،‬فقــد ماتــت والدتهــا العميــاء وأصبحــت تــأيت‬
‫بنفســها إىل املعبــد البســة ســارياً بســيطاً‪ .‬كان زوجهــا يقــدم القرابــن‬
‫بنفســه إىل إلــه العائلــة‪ ،‬وهــو العمــل الرجــويل الوحيــد الذي يســتطيعه‪.‬‬
‫شــعر أ ْتشــاريا باإلحبــاط وقــرر مغــادرة املنطقــة‪ .‬أالكا ديفــي‪ ،‬ويك‬
‫تظهــر مــدى إخالصهــا لزوجهــا‪ ،‬مل تكــن حتــى تنظــر إىل أ ْتشــاريا‪ .‬وذات‬
‫يــوم‪ ،‬عندمــا علــم أنهــا يف البيــت وحدهــا‪ ،‬ذهــب وأخربهــا «ســأترك‬
‫ـص شــعره عــى‬ ‫القريــة للتـ ّـو»‪ .‬كان أ ْتشــاريا يلبــس قميصـاً اآلن وقــد قـ ّ‬

‫‪91‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫الطـراز اإلنكليــزي‪ .‬مل ترفــع أالكا ديفــي رأســها وبكــت بصمــت‪ .‬أمســك‬
‫أ ْتشــاريا يديهــا بلطــف وقــال «هــل مــن مزيــد ألســتطيع فعلــه اآلن؟»‬
‫«أنــت ال ترغــب يب اآلن‪ ،‬أليــس كذلــك؟» قالــت أالكا ديفــي وســحبت‬
‫يديهــا‪ .‬جعلتــه هــذه الكلــات يهيــم بهــا مــن جديــد‪ .‬عانقهــا وألقــت‬
‫أالكا ديفــي برأســها عــى صــدره وانتحبــت‪.‬‬
‫أصبــح أ ْتشــاريا مديــراً ملكتــب بريــدي يف قريــة مجــاورة‪ ،‬وبــدأ‬
‫تدريجي ـاً يــدرك كــم كانــت أالكا ديفــي ذكيــة‪ .‬قالــت إن زوجهــا قليــل‬
‫املعرفــة بعــامل األعــال ولذلــك عينــت أ ْتشــاريا كاتب ـاً لديهــا وطلبــت‬
‫منــه إدارة ممتلكاتهــا‪ .‬كانــت متلــك مكتب ـاً للعمــل شــيدته عــى رابيــة‬
‫كثيفــة الشــجر‪ .‬إىل هنــاك‪ ،‬كان أ ْتشــاريا ميــي بعــد انتهــاء ســاعات‬
‫وظيفتــه وتلحــق بــه أيضــاً يف املســاء‪ .‬ومبــا أنهــا غنيــة‪ ،‬فلــم يتجــرأ‬
‫أحــد عــى التحــدث باألمــر‪ .‬ومــع ذلــك‪ ،‬فقــد اســتهلك االثنــان كث ـراً‬
‫مــن الطاقــة والــذكاء لرتتيــب لقاءاتهــا الرسيــة‪ .‬وذلــك الشــغف الــذي‬
‫اســتحوذ عليــه ســابقاً‪ ،‬أصبــح اآلن رضورة جســدية نفســية ينبغــي‬
‫تلبيتهــا‪ .‬يف هــذه األثنــاء‪ ،‬ونتيجــة النغامســه يف تســوية املنازعــات‬
‫املرتبطــة بامللكيــة‪ ،‬أصبــح مأخــوذاً بفكــرة القانــون‪.‬‬
‫وبــدأ الســخط واألىس يــركان غضونــاً حــادة عــى وجــه زوجتــه‬
‫الشــابة‪ .‬شــعر أ ْتشــاريا أن األمــر برمتــه يخــرج مــن يديــه‪ .‬وأصبحــت‬
‫أدوار وأفعــال الكــذب التــي يلجــأ إليهــا ال تطــاق‪ .‬لكــن أالكا ديفــي‬
‫جعلــت جســدها يثمــر ملــذات جديــدة‪ ،‬ومبــا أن هــذه امللــذات‬
‫كانــت ُتقتنــص يف الــر‪ ،‬فقــد كانــت حدتهــا عارمــة وازدادت ســلطتها‬
‫اســتحواذاً عليــه‪.‬‬
‫شــيئاً فشــيئاً‪ ،‬بــدأ ينمــو يف داخلــه شــعور بأنــه يفقــد ببــطء احرتامــه‬
‫لذاتــه‪ .‬أالكا ديفــي‪ ،‬التــي الحظــت هــذا الشــعور‪ ،‬أصبحــت أكــر مهــارة‬

‫‪92‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫يف فــن الحــب وجعلــت لجســدها أكــر فأكــر نكهــة جديــدة أبلــغ أثـراً‪.‬‬
‫كانــت تهــب نفســها لــه كل يــوم‪ ،‬ولكــن كأنهــا امــرأة مختلفــة يف كل‬
‫ـوص أكــر يف قيــود عشــقها‪.‬‬‫مـ ّـرة‪ .‬وعلمتــه أرسار الجســد‪ ،‬لِ َي ُغـ َ‬
‫مـ ّـر عامــان‪ ،‬ثــم حملــت أالكا ديفــي‪ .‬حفــظ زوجهــا لســانه‪ ،‬ال بــل‪،‬‬
‫ـس أ ْتشــاريا‬‫أصبــح ميــي فخــوراً كــا لــو أن الحمــل مــن صنيعــه‪ .‬أحـ ّ‬
‫بــأن خزيــه أكــر إثــارة لالشــمئزاز‪ّ .‬أمــا أالكا ديفــي فظلّــت ســمعتها‬
‫ال ّمتــس وبــدا كــا لــو أنهــا مثــل إلهــة‪ .‬وعــادت مــن جديــد تلبــس‬
‫الســاري الحريــري وأقراطـاً ماســية متأللئــة‪ .‬كانــت أقــل اكرتاثـاً مبــا قــد‬
‫ـب أ ْتشــاريا كــا لــو أنــه َديــن عليهــا‪ .‬وقــد‬‫يقولــه اآلخــرون ورضيــت بحـ ّ‬
‫منحتــه املــال يك يتمكــن مــن رشاء الســاري والجواهــر لزوجتــه‪ .‬ومــع‬
‫منــو الطفــل يف رحمهــا‪ ،‬كان جســدها‪ ،‬مثــل برعــم‪ ،‬يحجــب داخلــه‬
‫أرساره التــي ال تنفــد‪ .‬أطلــق أ ْتشــاريا تنهيــدة ارتيــاح وعــاد مــن جديــد‬
‫إىل دراســة القانــون والســاء‪.‬‬
‫توفيــت أالكا ديفــي أثنــاء والدة طفلهــا امليــت‪ُ .‬صــدم أ ْتشــاريا‬
‫بشـ ّدة‪ .‬حــاول التــودد إىل زوجتــه مــن جديــد لكنــه فشــل‪ ،‬وذات يــوم‬
‫غــادر املنــزل ليســتقر هنــا‪.‬‬
‫يصعــب القــول إن أ ْتشــاريا أصبــح مدمنـاً عــى املنازعــات الرشعيــة‬
‫والقانونيــة ألنــه أراد نســيان أالكا ديفــي أو أن َكلَفــه بالقانــون أصبــح‬
‫حاجــة رضوريــة ال ميكــن تجنبهــا أو أن األغنيــاء كانــوا مجــرد ذريعــة‬
‫إلدمانــه‪ .‬مهــا يكــن األمــر‪ ،‬فقد غــدت غانغوبــاي جزيرة مــن الطأمنينة‬
‫لــه طــوال تلــك الســنوات العرشيــن‪ .‬ورمبــا كانــت هــي بالــذات مــن‬
‫جعلــه يتحمــل صدمــة زواج ابنــه الغــايل‪.‬‬
‫٭٭٭‬

‫‪93‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫رأت غانغوبــاي الرجــال عائديــن بعــد أن أســلموا بقايــا أ ْتشــاريا‬


‫الفانيــة إىل اللهــب‪ .‬نهضــت مــن تحــت الشــجرة وتوجهــت إىل البيــت‪.‬‬
‫تناولــت خمســة آالف روبيــة مــن صنــدوق مالبســها وقدمتهــا إىل‬
‫روكمينيامــا التــي دهشــت متام ـاً وقالــت «ال»‪« .‬لكننــي أحرضتهــا مــن‬
‫أجــل أن يســتفيد منهــا‪ .‬إنهــا تخصــه‪ .‬أرجــوك اقبليهــا‪ .‬دعينــي أكــن‬
‫مفيــدة قليـاً» قالــت ذلــك والدمــوع يف عينيهــا‪ .‬مل يكــن يف البيت ســوى‬
‫ـض‬ ‫القليــل مــن املــال ومل تكــن روكمينيامــا تعلــم إن كان ابنهــا لديــه َب ْعـ ٌ‬
‫منــه‪ .‬وقــد تســاءلت يف نفســها إن كان باســتطاعتها الطلــب مــن فيشــنو‪.‬‬
‫ثــم‪ ،‬بقليــل مــن الــردد ومــع قولهــا «ال»‪ ،‬أخــذت النقــود‪ .‬وعندمــا قالت‬
‫غانغوبــاي «إننــي ذاهبــة إىل شــيموغا اآلن‪ ،‬وســأرجع مــن أجــل َشــعرية‬
‫قربتنــا‬‫اليــوم الرابــع عــر»‪ ،‬مســحت روكمينيامــا عينيهــا وقالــت «لقــد ّ‬
‫ـم ال متكثــن معنــا؟» فقالــت غانغوبــاي إنــه‬ ‫أحــداث حياتنــا املاضيــة‪ ،‬لِـ َ‬
‫ـق مــن إجازتهــا ســوى القليــل‪ ،‬ثــم اســتقلّت حافلــة املســاء‪.‬‬ ‫مل يتبـ َ‬
‫٭٭٭‬
‫بعــد عامــن‪ ،‬وذات مســاء صيفــي يف دلهــي‪ ،‬كان كريشــنا مــوريت‬
‫ـروح عــن نفســه‪ .‬كان يوم ـاً حــاراً رطب ـاً ال يحتمــل‪.‬‬‫يجلــس يف كــريس يـ ّ‬
‫جلســت زوجتــه بجانبــه تخيــط األزرار عــى قميــص ولدهــا‪ .‬بعــد‬
‫وقــت طويــل‪ ،‬وجــد كريشــنا مــوريت قليــ ًا مــن الطأمنينــة إذ تعــاىف‬
‫ولــده مــن مــرض الدفترييــا‪ .‬فقــد ســهر الــزوج والزوجــة معــاً عــى‬
‫العنايــة بالصبــي‪ ،‬وأمضيــا النهــار والليــل مــن دون تفكــر بالطعــام أو‬
‫الحميميــة إىل عالقتهــا‪ .‬املــال‬
‫ّ‬ ‫الــراب‪ .‬كان لهــذا أثــره عــى عــودة‬
‫واملشــكالت التــي تتصــل بــه‪ ،‬كل ذلــك بــدا تافهـاً ضئيــل الشــأن‪ .‬ثــم‪ ،‬إن‬
‫كريشــنا مــوريت عمــل طــوال ثالثــة أشــهر وأ ّلــف كتابـاً بعنــوان «الدليــل‬
‫إىل املعايــر الدوليــة إلعــداد التقاريــر املاليــة» ونــره باســم مســتعار‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫وعــى الرغــم مــن أنــه كان خج ـ ًا مــا كتبــه‪ّ ،‬إل أن ذلــك عــاد عليــه‬
‫بخمســن ألــف روبيــة عــداً ونقــداً مــا أتــاح لــه تســديد الكثــر مــن‬
‫ديونــه‪ .‬هكــذا ح ّلــت النقــود مشــكالته الصغــرة قاطبــة‪.‬‬
‫فجــأة‪ ،‬خطــرت فكــرة ببــال كريشــنا مــوريت‪ :‬هــل عــاش والــده ومات‬
‫رجـ ًا أحمــق وأتــاه الوعــي يف لحظــات احتضاره وحســب؟ كيــف يجيب‬
‫اآلن عــى ذلــك؟ تلــك الكلــات التــي نطــق بهــا قبيــل موتــه مل َت ْبـ ُـد‬
‫آنــذاك‪ ،‬وإىل حــد بعيــد‪ ،‬ذات أهميــة تذكــر‪ .‬لكنهــا اآلن تبــدو كذلــك‪.‬‬
‫لقــد نــام والــده بينــا كان يتحــدث إىل نايــر‪ .‬كان كريشــنا مــوريت نصــف‬
‫مســتيقظ‪ ،‬وقطــة قــد ولــدت بطنـاً يف غرفــة املتــاع الواقعــة فــوق غرفــة‬
‫األب متام ًــا‪ .‬صعــد هــاري كومــار ابــن أختــه يك ينقلهــا مــن ذلــك املــكان‬
‫بســبب الضجيــج الــذي تحدثــه‪ .‬مــا إن رأت القطــة الصبــي قادمـاً حتــى‬
‫انفجــرت يف وجهــه وحاولــت خدشــه مبخالبهــا‪ .‬كان الوالــد يــن مــن األمل‬
‫واع «هــاري‪ ،‬ملــاذا ُتزعــج القطــة املســكينة؟ دع املخلوقــة‬ ‫وهــو نصــف ٍ‬
‫املســكينة متكــث هنــاك»‪ .‬كانــت هــذه هــي كلامتــه األخــرة؛ والشــفقة‬
‫ـص بالــكالم فارتعــش صوتــه‪.‬‬‫عــى القطــة املســكينة جعلتــه يغـ ّ‬
‫يتســاءل كريشــنا مــوريت بينــه وبــن نفســه‪ ،‬ملــاذا‪ ،‬إذن‪ ،‬يحــرق كمداً‬
‫ويزيــد وطــأة الهمــوم التــي يصادفها‪.‬‬

‫ترجمها من اللغة األم (الك ّنادية) إىل اإلنكليزية ‪D. A. Shankar‬‬


‫٭٭٭‬

‫‪95‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫‪96‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫الشقلبة‬
‫غوبينات موهانتي‬
‫شــقت عنــان الســاء صيحــات ابتهــاج آالف املتفرجــن يف ملعــب‬
‫بارابــايت‪ .‬كان ذلــك هــو اليــوم الــذي هــزم فيــه جاغــا بــايل مــن‬
‫خصمــه رامــاوان بانــدي مــن داربهانغــا يف نهائيــات‬ ‫ساغادياســاهي َ‬
‫منافســة املصارعــة لعمــوم الهنــد‪ .‬مل يكــن انتصــار جاغــا بــايل مــا أثارهم‬
‫أوريســا(‪ .)12‬لقــد فــازت أوريســا‪ .‬هــذا‬
‫ّ‬ ‫إىل هــذا الحــد‪ ،‬بــل انتصــار واليــة‬
‫هــو الشــعور الــذي ســاد يف كل مــكان‪.‬‬
‫يف تلــك اللحظــة‪ ،‬غــدا جاغــا بــايل رمـزاً‪ ،‬رمـزاً ملجــد شــعب أوريســا‬
‫وتحقــق آمالــه وطموحاتــه‪ .‬بحـ ٌـر مــن البــر اندفــع إىل األمــام‪ ،‬قدمــوا‬
‫يحيــوه‪ ،‬ويلتقــوا باملصــارع املجهــول الــذي مل يســمع بــه أحــد مــن‬ ‫يك ّ‬
‫قبــل‪ .‬تالطمــت أمــواج النــاس وحــدث ذعــر بــن الحشــود‪ .‬وكان أن‬
‫ُنقــل عــى األقــل واحــد وعــرون شــخصاً إىل املستشــفى‪ .‬عـ ّـم الشــغب‬
‫وخــرج الوضــع عــن الســيطرة األمــر الــذي اســتدعى طلــب الرشطــة‪.‬‬
‫كثــرون يف الحشــد الــذي عــاد إىل الوطــن يف ذلــك املســاء متزقــت‬
‫قمصانهــم‪ ،‬وفقــدوا ســاعاتهم وأقــام الحــر خاصتهــم‪ ،‬وتقرحــت‬
‫أجســامهم‪ .‬لكــن امتــأ قلــب كل واحــد بالشــعور الوطني ببلده أوريســا‪.‬‬
‫(‪ :Orissa )12‬والية هندية تقع يف الســاحل الشــايل الرشقي للهند‪ ،‬ومنذ نوفمرب ‪ 20‬أصبح اســمها رســمياً أوديشا‬
‫‪( .Odisha‬م)‬

‫‪97‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ومثــة يشء آخــر‪ ،‬رمبــا نســميه ُسـكْر البطولــة‪ ،‬كــا لــو أن كل واحــد كان‬
‫جاغــا بــايل! توهجــت صحــف األخبــار بصــور مبــاراة املصارعــة املهمــة‪.‬‬
‫وصدحــت كافــة صحــف أوريســا بتمجيــد جاغــا بــايل! «جاغــا بــايل‪-‬‬
‫مجــد أوريســا»؛ «جاغــا بــايل‪ -‬فخــر أوريســا»؛ «جاغــا بــايل‪ -‬مصــارع‬
‫أوريســا الــذي ال مثيــل لــه»‪« .‬مصارعــةٌ مل تحــدث مــن قبــل يف كوتــاك!»‬
‫«جاغــا بــايل‪ -‬إمرباطــور األلعــاب الرياضيــة»؛ «النجــاح األحــدث لفنــان‬
‫املصارعــة الــذي ال يقهــر»‪ ،‬وهكــذا‪.‬‬
‫امتــدت اإلثــارة رسيعـاً إىل األريــاف حاملــا نــرت الصحــف األخبــار‪.‬‬
‫لعــن كثــرون حظهــم الســيئ الــذي منعهــم مــن أن يكونــوا شــاهدين‬
‫عــى هــذا الحــدث التاريخــي‪.‬‬
‫ميكــن عــى نحــو مــرر تســمية األســبوع الــذي تــا‪« :‬أســبوع جاغــا‬
‫بــايل»‪ .‬يف الحافــات والقطــارات‪ ،‬يف الفنــادق‪ ،‬ويف قريــة َب ْغبات‪-‬تونغــي‪،‬‬
‫كان الحديــث الوحيــد يــدور حــول املأثــرة التــي اجرتحهــا جاغــا بــايل يف‬
‫املصارعــة‪ .‬حجبــت هــذه األخبــار متامـاً جميــع األخبــار اليوميــة األخــرى‬
‫مثــل «إطــاق صــاروخ إىل املريــخ»‪« ،‬تحليق اإلنســان يف الفضــاء»‪« ،‬وفاة‬
‫باتريــس لومومبــا والحــوادث اليوميــة املتعاقبــة يف سياســة الكونغــو»‪،‬‬
‫«الفائــزون والخــارسون يف انتخابــات الحكومــات املحليــة عــى مســتوى‬
‫األريــاف»‪ ،‬وكثــر مــن التغـرات املثــرة األخــرى يف البلــد‪ .‬وملّــا كان العام‬
‫التــايل يفتقــد تواريــخ زواج ميمونــة فقــد شــهد األســبوعان اللــذان أعقبا‬
‫هــذا الحــادث مئــات الزيجــات التــي كان الحديــث املتكــرر يف أثنــاء‬
‫احتفاالتهــا يــدور حــول مصارعــة جاغــا بــايل‪.‬‬
‫«هل ذهبت لحضور املصارعة؟»‬
‫«ما رأيك فيها؟»‬
‫وحتــى لــو أن املــرء مل يذهــب‪ ،‬كان عليــه أن يجيــب‪« :‬آه‪ ،‬نعــم‪،‬‬

‫‪98‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫بالطبــع ذهبــت‪ ،‬كانــت رائعــة حقـاً»‪ .‬كان األمــر كــا لــو أن قــول يشء‬
‫ـي‪.‬‬
‫ـب خفـ ٍ‬ ‫آخــر هــو أســوأ مــن االع ـراف بذنـ ٍ‬
‫خــال «أســبوع جاغــا بــايل» ذاك‪ ،‬كان باإلمــكان رؤيــة كتيــب مــن‬
‫خمــس صفحــات معــروض للبيــع يف األماكــن املزدحمة‪ .‬الشــاعر‪« :‬عبد»‪.‬‬
‫ـع نقديــة‪ .‬كان الباعــة الجوالــون يشــاهدون وهــم‬ ‫الســعر‪ :‬عــر قطـ ٍ‬
‫يرمنــون األغنيــة الــواردة يف الكتيــب بانســجام كامــل أمــام محالت ســوق‬
‫التوابــل ومحطــة القطــار وموقــف الحافــات ويف الســاحات الكبــرة‪.‬‬
‫الصــورة املؤطــرة بالزجــاج مــأت جــدران اســتديوهات املصوريــن‪،‬‬
‫وكذلــك أكشــاك بيــع الحلــوى والشــاي ودكاكــن البــان(‪ )13‬يف البلــدة‪.‬‬
‫عـ ّـرت جميــع املؤسســات والجمعيــات والروابــط العامــة والخاصــة عــن‬
‫فخرهــا واعتزازهــا وأرســلت برقيــات التهنئــة إىل الصحافــة‪.‬‬
‫وعــى الرغــم مــن أن اســمه صــار كلمــة عــى كل لســان‪ ،‬ظــلّ‬
‫جاغــا بــايل مــن ساغادياســاهي يتابــع عملــه التقليــدي حــاالً لحقائــب‬
‫الخيــش يف ســوق مالغــوداون‪ .‬وطاملــا واظــب عــى هــذا العمــل منــذ‬
‫ـرةَ؛ منــذ ذلــك اليــوم الــذي أعــاد فيــه والــده‬‫كان يف ســن الخامســة َعـ ْ َ‬
‫أو ّدهــاب بــايل عربــة الث ـران إىل مقرضــه ورجــع إىل البيــت ونــام عــى‬
‫طــرف الداهــويت الــذي يلبســه ومل يســتيقظ بعدهــا‪ .‬كان أودهــاب بــايل‬
‫قــد تعــرض إىل هجمــة مــن داء ذات الرئــة‪ .‬أىت إليــه تشــوتاميان مــن‬
‫ســوق موهامديــا وحــاول أن يرقيــه ويطــرد الــروح الرشيــرة‪ .‬وكان هنــاك‬
‫أيضــاً غوفينــدا غــادي مــن جانكاســاهي الــذي يحتفــظ يف دكانــه يف‬
‫ـات عالجيــة مختلفــة تصلــح ملختلــف األم ـراض‪،‬‬ ‫ســوق التوابــل بوصفـ ٍ‬
‫جـ ّـرب هــذا أربــع وصفــات مختلفــة‪ُ ،‬مـ ّـرة‪ ،‬كاســا‪ ،‬راغــا (حــارة)‪ ،‬مالحــة‪،‬‬
‫(‪ )13‬خليــط قوامه من بذور وأوراق ُيضغ لتحســن رائحة الفم‪ ،‬وله بعــض الخصائص العالجية يف األورفيدا‪ ،‬الطب‬
‫التقليدي الهندي‪( .‬م)‬

‫‪99‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫روبيــة واحــدة وخمســة وســبعني‬ ‫عــى التــوايل‪ .‬وتقــاىض عــى ذلــك ّ‬


‫ِبيسـاً‪ .‬كذلــك وصــف لــه كارونــا غوســاين ناســك تينيغهرييــا أن يطعــم‬
‫رصة مــن التــن للمــوايش الســامئة يف يــوم أربعــاء ومــن ثــم‬ ‫مثــاين عــرة ّ‬
‫يلقــي بجســده مطروح ـاً عــى غبــار الشــارع‪ .‬جـ ّـرب أودهــاب هــذه‬
‫الوصفــة أيض ـاً لكــن مــن دون فائــدة‪ .‬مــات مــن دون معرفــة إن كان‬
‫دواء لــذات الرئــة‪.‬‬
‫الجنــس البــري قــد اكتشــف ً‬
‫كان ذلــك مــا جعــل جاغــا بــايل يتيـ ًا يف املدينــة الكبــرة‪ ،‬بــا عمــل‪،‬‬
‫وال مدخــرات‪ ،‬وال عــون‪ ،‬والعيــون الرشهــة لألثريــاء ترتصــد منزلــه‬
‫ـقف مــن القــش وثالثــة غونســات مــن األرض‬ ‫املكــون مــن غرفتــن بسـ ٍ‬
‫اإل ْخـ َـو ِة القارصيــن‪ ،‬كاغــا‬
‫حولهــا‪ .‬هنــاك عاشــت ٌّأم أرملــة واثنــان مــن ِ‬
‫وأختــه ســارا ذات األحــد عــر عام ـاً‪ .‬ثــم قــدم فاعلــو الخــر وعرضــوا‬
‫نصيحتهــم عــى العائلــة‪« :‬بيـ ُـع قطعــة األرض‪ ،‬وبنــاء منــزل يف مــكان‬
‫ـل مبــا يتبقــى مــن املبلــغ‪ .‬بــدت الحجــة معقولــة‬ ‫آخــر‪ ،‬واالنطــاق بعمـ ٍ‬
‫ألول وهلــة‪ .‬رمبــا كانــت قطعــة األرض يف مح ّلــة مكتظــة مــن البلــدة‬
‫ولكــن عــى مســافة قريبــة كان مثــة طريــق رئيــي بيعــت بجانبــه‬
‫مســاحة غونــس واحــد مببلــغ ســبعمئة روبيــة‪ .‬ومــع غرفتــن مبنيتــن‬
‫عليهــا ميكــن أن يصــل ســعرها إىل ثالثــة آالف روبيــة‪ .‬ألــن يكــون‬
‫أرخــص بكثــر رشاء أرض وبنــاء منــزل عليهــا يف تولســيبور بيدانــايس‪ ،‬أو‬
‫أوتامبــور‪ ،‬وحولهــا مزرعــة أبقــار إلنتــاج اللــن ومشــتقاته؟‬
‫هــذا مــا كانــت قطعــة األرض تبــدو عليــه‪ :‬وراءهــا مــرف مــايئ‬
‫معتــم قــذر‪ ،‬وعــى ميينهــا حــوض تنفــث مياهــه النتنــة فقاعــات الغــاز‬
‫ـي فقــر امتـ ّد عــى‬
‫باســتمرار؛ وعــى يســارها منــزل أحــد الصباغــن وحـ ٌّ‬
‫مســافة بعيــدة؛ ويف األمــام منهــا ممــر ضيــق بالــكاد يبلــغ عرضــه ســتة‬
‫وظهــر الجــدار املحيــط مببنــى مؤلــف مــن طابقــن‬ ‫ُ‬ ‫أذرع أو ســبعة‪،‬‬

‫‪100‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫ملكيتــه ملقــرض األمــوال غاريــب داس‪ .‬وعــر الشــقوق يف الجــدار‬ ‫تعــود ّ‬


‫املحيــط‪ ،‬كانــت امليــاه الســوداء تتدفــق نــزوالً وتتجمع يف قطعــة األرض‪،‬‬
‫طافحــة ممتــدة ومتعفنــة‪.‬‬
‫لكــن أودهــاب بــايل مل يعــرض للبيــع أبــداً قطعــة األرض الصغــرة‬
‫تلــك التــي ورثهــا عــن أســافه‪ ،‬كذلــك كان شــأن زوجتــه وابنــه! وظ ّلــت‬
‫آذان صاغيــة‪.‬‬
‫نصيحــة فاعــي الخــر بــا ٍ‬
‫واقرتحــت نصيحــة أخــرى مــن فاعــي الخــر عينهــم أن ميتهــن أفـراد‬
‫وإل‪ ،‬فمــن ســيعينهم؟ كان جاغــا يف ســن‬ ‫األرسة الخدمــة يف املنــازل‪ّ ،‬‬
‫ـر َة يبــدو رج ـ ًا متام ـاً‪ .‬جاءتــه عــروض متنوعــة؛ التــدرب‬‫الخامســة َعـ ْ َ‬
‫عــى ســوق العربــات التــي تجرهــا الث ـران‪ ،‬تشــغيل اآلالت يف منــرة‬
‫صغــرة‪ ،‬الخدمــة يف الدكاكــن‪ .‬واقــرح عليــه أحــد األســياد أن يقــوم‬
‫بأعــال الخدمــة بــن املنــازل مــع فرصــة ألن يصبــح ســاعي بريــد الحقـاً‪.‬‬
‫وأىت شــخص آخــر ليخــر جاغــا أنــه محظــوظ جــداً ألن ســيده األورويب‬
‫يريــده خادمـاً شــخصياً لــه‪ .‬شــغلٌ قليــل‪ ،‬كلّ مــا عــى جاغــا القيــام بــه‬
‫هــو مرافقــة ســيده حيثــا ذهــب‪ ،‬ومــع قليــل مــن العمــل املتنــوع تلبية‬
‫لطلباتــه لــن يكــون هنــاك نهايــة ألطايــب الطعــام‪ ،‬وبخشــيش وراتــب‬
‫يفوقــان الحــد! ُعــرض عــى جاغــا حلــم التنقــل يف الســيارات والطائـرات‪،‬‬
‫والنــوم عــى ف ـراش مكتنــز‪ ،‬وارتــداء املالبــس الثمينــة وتنــاول الطعــام‬
‫الطيــب‪ .‬وســيأيت إليــه الكثــرون يلتمســون املعــروف عــره ويتزلفــون‬
‫إليــه بشــتى األســاليب‪ ،‬ويكــون عليــه هــو شــخصياً أن يقــرر‪ .‬وســيصبح‬
‫شــخصاً جريئــاً قويــاً‪ .‬فطاملــا قــ ّدم ذلــك الرجــل كل يشء لألشــخاص‬
‫الذيــن اتكلــوا عليــه‪ .‬املــال بالنســبة لــه كان مثــل الحــى وال ـراب!‬
‫أصغــى جاغــا بــايل إىل كل مــا قيــل لــه بصمــت‪ .‬بــدا وكأن شــخصاً‬
‫مــا يف داخلــه يهمــس لــه‪« :‬دعــك مــن ذلــك يــا جاغــا‪ ،‬أغمــض عينيــك‬

‫‪101‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫وقــل ال‪ .‬ال‪ ،‬لــن تكــرس نفســك ألعــال الخدمــة‪ .‬مهــا يكــن الكلــب‬
‫ضاريــاً‪ ،‬كثيــف الفــرو‪ ،‬ثخــن الذيــل‪ ،‬كبــر الجســم‪ ،‬ضخــم األســنان‪،‬‬
‫يبقــى الكلــب كلب ـاً عندمــا يناديــه ســيده‪ .‬ميكنــه فحســب أن يلعــق‬
‫وي ْضطَ ِجـ َـع مربوطـاً بسلســلة إىل عمــود‪ .‬الكلــب الــذي ُيــرى من‬ ‫جزمتــه َ‬
‫نافــذة ســيارة يحملــق يف الطريــق مــن وراء الزجــاج‪ ،‬عينــاه مفتوحتــان‬
‫متســعتان ويلعــق لســانه‪ ،‬ذلــك الكلــب رمبــا يثــر إعجــاب املتفرجــن‪،‬‬
‫لكــن ال أحــد ميكــن أن ينــى أنــه يبقــى كلب ـاً فحســب»‪.‬‬
‫كان طبيعيــاً أن تتــوارد هــذه األفــكار إىل ذهــن جاغــا بــايل ذي‬
‫ـاف خالديــن‪ ،‬أنــاس‬‫الخمســة عــر عامـاً؛ ففــي دمــه تــري تقاليــد أسـ ٍ‬
‫حرثــوا أرضهــم وحافظــوا عــى كرامــة رفيعــة مل يجرحهــا مــرور ثالثــة‬
‫أجيــال مــن العيــش يف املدينــة‪.‬‬
‫أدار جاغــا ظهــره لــكل العــروض واآلراء الناصحــة‪ ،‬واختــار لنفســه‬
‫العمــل اليومــي بأجــر وحمــل األثقــال‪ .‬مل تعــرض أمــه عــى رغبتــه‪،‬‬
‫وافتتحــت هــي أيضــاً دكانــاً للوجبــات الخفيفــة يف الغرفــة األماميــة‬
‫للمنــزل‪ .‬كانــت بارعــة يف إعــداد الطعــام الشــهي اللذيــذ‪ ،‬ورسعــان مــا‬
‫بــدأت تردهــم الطلبــات رسيعــة‪ .‬ومــى أخــوه كاغــا ينــادي عــى أطبــاق‬
‫الفــول الســوداين والبــارا باجــا‪ .‬بعــد ذلــك حصــل عــى عمــل يف لــف‬
‫الســيجار يف أحــد املصانــع‪ .‬عاشــت العائلــة بأفرادهــا األربعــة بطريقــة أو‬
‫بأخــرى؛ مل ميــت أحــد منهــم ومل يبيعــوا املنــزل‪ .‬أصبحــوا أربعتهــم عــى‬
‫ـب واحــد‪ ،‬عانــوا املشــاق والفقــر‪ ،‬لكــن أحــداً مل يعلــم شــيئاً عــن ذلــك‪.‬‬
‫قلـ ٍ‬
‫النشــاط البــدين هاجــس جاغــا األوحــد يف الحيــاة‪ّ .‬أول مــن‬ ‫ُ‬ ‫كان‬
‫أوحــى لــه بذلــك كان عـ ّـراب والــده‪ ،‬خليفــة‪ ،‬العجوز مــن َسغا ْد َيســاهي‪.‬‬
‫تذ ّكـ َـر جاغــا ســحنته التــي بلــون املانغــو‪ ،‬وجســمه الــذي كجســم شــاب‪،‬‬
‫واللحيــة املسرتســلة‪ ،‬ونظــرة الطفــل يف عينيــه‪ ،‬والعاممــة الخــراء‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫يف إحــدى املـ ّـرات‪ّ ،‬ربــت عــى كتــف جاغــا وســأله ملــاذا ال يــأيت عنــده يف‬
‫أكارا(‪ )14‬خاصتــه‪ .‬وطلــب مــن أو ّدهــاب أن يس ـلّمه جاغــا ليصنــع منــه‬
‫مصارعـاً‪ .‬ابتســم أودهــاب ووافــق‪ ،‬وتلــك كانــت البدايــة‪.‬‬
‫غرفتــان صغريتــان يف مبنــى قديــم قــرب شــجرة متــر هنــدي وســور‬
‫محيــط‪ ،‬ذلــك كان منــزل خليفــة‪ .‬ال زوجــة‪ ،‬وال أطفــال؛ وال أحــد يعلــم‬
‫إن كان مثــة أحــد هنــاك‪ .‬متعتــه الوحيــدة فحســب هــي أكارا‪ .‬ومنزلــه‬
‫بأكملــه هــو أكارا‪ .‬كان عــى جاغــا أن يذهــب يف الصبــاح مبك ـراً‪ ،‬قبــل‬
‫انجــاء العتمــة‪ ،‬يك يقــوم مبختلــف متاريــن الخفــة والجمبــاز‪ ،‬ومنهــا‬
‫انضــم كثــرون إىل أكارا‪،‬‬‫ّ‬ ‫التــدرب عــى ُمالعبــة العصــا واملصارعــة‪.‬‬
‫وانســحب كثــرون أيضــاً‪ .‬لكــن جاغــا كان مثابــراً ملتزمــاً ومل يحــدث‬
‫قــطّ أن تأخــر عــن التامريــن‪.‬‬
‫عــرف خليفــة أناســاً مــن أكارات أخــرى يف البلــدة‪ .‬وعندمــا كان‬
‫يــأيت مصارعــون مــن بلــدات أخــرى كان يقيــم منافســات معهــم‪ .‬ومل‬
‫يكــن جاغــا ليهــزم يف تلــك املنافســات‪ .‬وصــار اســمه معروفــاً جيــداً‬
‫بــن النــاس املهتمــن باملصارعــة يف البلــدة‪ .‬وطاملــا أعجبــوا بجســده‬
‫الحديــدي‪ ،‬والرسعــة الخاطفــة لحركاتــه وردوده والخــدع املدهشــة‬
‫ـن أولئــك النــاس نــادراً مــا كانــوا مــن بــن‬
‫التــي تعلمهــا مــن خليفــة‪ .‬لكـ ّ‬
‫املســتويات العليــا يف املجتمــع‪.‬‬
‫كان معظمهــم مــن أصحــاب الدكاكــن والخياطــن والجزاريــن‬
‫والنجاريــن‪ ،‬وأمثالهــم‪ .‬ويعــود جزئيـاً هــذا االفتقــار للشــهرة لــدى رشائــح‬
‫املجتمــع كافــة إىل الضوابــط التــي وضعهــا خليفــة‪ .‬ال تبــا ٍه‪ ،‬ال دعايــة‪.‬‬
‫دوســهرا ومحـ ّـرم اعتــاد الذهــاب مــع أعضــاء‬ ‫فقــط يف احتفــاالت شــهري ِ‬
‫الفريــق يف جولــة إلظهــار مهارتهــم‪ ،‬وإج ـراء بعــض املباريــات أيض ـاً‪.‬‬
‫(‪ :Akhara )14‬صالة تدريب عىل فنون املصارعة واملبارزة‪( .‬م)‬

‫‪103‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫تلقــى جاغــا إبــان فــرة ترعرعــه كمصــارع عروضـاً متنوعــة أخــرى‬


‫للعمــل‪ .‬مــن بينهــا أن يعمــل بأجـ ٍر جيــد حارسـاً ملنــزل أحــد األشــخاص‬
‫ويحمــل بندقيــة أو ه ـراوة‪ .‬واالق ـراح اآلخــر كان أكــر إدهاش ـاً حتــى‪،‬‬
‫كاف‪ ،‬وراتــب شــهري‪ ،‬وأجــور خاصــة مقابــل بعــض األعــال‬ ‫طعــام ٍ‬
‫ٌ‬
‫الخاصــة‪ .‬وســيكون العمــل مــن النــوع الــذي طاملــا مارســه بعــض النــاس‬
‫قدميـاً؛ أي‪ ،‬كيتشــاكا! وهــذا يعنــي يف العــرف الحديــث البلطجــة‪ .‬فامللك‬
‫فرياتــا طاملــا حــاه كيتشــاكا‪ .‬ويف هــذه األيــام هنــاك إمرباطوريــات‬
‫ازدهــرت يف مجــال املقــاوالت والتجــارة والصناعــة‪ .‬واإلمرباطوريــات‬
‫تحتــاج دومـاً إىل كيتشــاكا يحميهــا‪ .‬كل مــا عــى ســيده أن يفعلــه هــو‬
‫أن يشــر بإصبعــه إىل األعــداء‪ .‬وبعــد ذلــك‪ ،‬ســتكون هنــاك مهــاّ ت مــن‬
‫كلّ األنــواع‪ :‬التحديــق بقســوة يف أحــد األشــخاص‪ ،‬أو عطــب شــخص مــا‪،‬‬
‫أو كــر عنــق أحدهــم‪ ،‬أو حبــس آخــر بشــكل غــر قانــوين‪ ،‬أو ســجن‬
‫أحدهــم يف منــزل واإلقفــال عليــه‪ ،‬أو رمــي الحجــارة لي ـ ًا عــى بيــت‬
‫أحــد األشــخاص‪ ،‬أو اعــراض شــخص مــا يف الطريــق‪ ،‬وغــر ذلــك‪ .‬إذا‬
‫ســيق كيتشــاكا إىل املحكمــة فــإن ســيده يحميــه بواســطة محامــن مــن‬
‫دون أن يحــدد أحــد هويتــه‪.‬‬
‫وعــرض عليــه اقـراح آخــر أيضـاً؛ أن يصبــح صهــر شــخص مــا‪ ،‬وكل‬
‫مــا عليــه فعلــه أن يلتــزم بتلــك األرسة ويســتمتع باألمــاك‪ .‬لعــلّ شــخصاً‬
‫ـال عندمــا كان يجــول ببــره عــر‬ ‫مــا أعجــب مبــا لــه مــن عافيــة وجـ ٍ‬
‫نافــذة الطابــق األول ألحــد األبنيــة‪ .‬رفــض هــذا االق ـراح أيض ـاً‪ .‬وظــلّ‬
‫جاغــا عــى عملــه القديــم؛ حمــل أكيــاس اإلســمنت الرماديــة مــن منــزل‬
‫إىل آخــر وتقــايض أجــر عــى كل كيــس‪.‬‬
‫بعــد مبــاراة املصارعــة الكبــرة يف ذلــك اليــوم‪ ،‬وجــد جاغــا نفســه‬
‫محاطــاً بحشــد مــن الغربــاء الذيــن يتدافعــون فيــا بينهــم‪ .‬غمرتــه‬

‫‪104‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫أضــواء مــن جميــع االتجاهــات و ُأخــذت لــه صــور كثــرة‪ ،‬ثــم انهمــرت‬
‫عليــه األســئلة مثــل املطــر‪ .‬أســئلة وأســئلة حتــى قبــل أن يتــاح لــه‬
‫اإلجابــة عنهــا‪« :‬منــذ متــى متــارس املصارعــة؟ مــن معلّمــك؟ أواه‪ُ ،‬عمــر‬
‫خليفــة! مــن أولُ بطــل هزمتــه؟ أعطنــا قامئــة مــن فضلــك‪ .‬مــا الجوائــز‬
‫التــي فــزت بهــا؟ مــا غــذاؤك؟ ومــا املقاديــر التــي تتناولهــا؟ هــل أنــت‬
‫متــزوج؟ كــم طف ـ ًا لديــك؟ مــا الــذي ت ـراه رضوري ـاً للصحــة والحيــاة‬
‫املديــدة؟‬
‫ورصخ شــخص مــن الحشــد‪ :‬هــل توافــق عــى أن ِغهــي [الســمن]‬
‫النبــايت يســاعد متام ـاً عــى صحــة ممتــازة؟ أَ َّواه‪ ..‬أنــت مل تتنــاول ذلــك‬
‫أبــداً!»‬
‫واملزيــد مــن األســئلة أيضـاً «كــم كأسـاً مــن الشــاي تــرب يف اليوم؟‬
‫وأي نــوع مــن الشــاي؟ أال ميكنــك إخبارنــا الحقيقــة يــا ســيدي؟ أي‬ ‫ّ‬
‫(‪)15‬‬
‫ـوع مــن الغوراكــو‬
‫صنــف مــن أوراق التبــغ تفضــل يف الغليــون؟ ُّأي نـ ٍ‬
‫تســتخدم؟ مــا الحــزب الــذي تدعمــه؟ مــا رأيــك بالتغ ـرات األخــرة يف‬
‫البــاد؟ أَ َّوا ُه متــى تســتطيع إجــراء حديــث صحــايف؟ نرغــب يف نــر‬
‫نحولهــا إىل ســايدات‬ ‫صورتــك مــع توقيعــك وآرائــك عــى بضائعنــا‪ِّ :‬‬
‫ســينامئية وندفــع لــك َمــاالً مقابــل ذلــك‪ .‬مــن فضلــك‪ ،‬توقيعــك إذا‬
‫ســمحت»‪ .‬وطــوال الوقــت‪ ،‬كان مثــة املزيــد مــن التدافــع والتصــادم‪،‬‬
‫وأمــواج الحشــود تتشــتت‪ ،‬األمــر الــذي حــل مســائل كثــرة إذ بالــكاد‬
‫كان طارحــو األســئلة يتمكنــون مــن البقــاء يف أماكنهــم‪ .‬شــعر جاغــا بــايل‬
‫ـت مــروع وعقــد يديــه‪ .‬التقطــت صــورة لــه‬ ‫باالختنــاق‪ ،‬ووقــف بصمـ ٍ‬
‫يف هــذه الهيئــة‪ .‬لكنــه اســتدار واخــرق الحشــد راكضـاً وهــو مــا يـزال‬
‫يخــى أن يتبعــوه‪.‬‬
‫حض منها عجينة ُوتضغ‪ ،‬وتنرش هذه العادة عىل واسع النطاق يف والية أوريسا‪( .‬م)‬
‫(‪ :Gurakhu )15‬أنواع من التبغ ُت َّ‬

‫‪105‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ذهــب أوالً إىل معلِّمــه وانحنــى عنــد قدميــه‪ .‬احتضنــه خليفــة‪،‬‬


‫وملســت لحيتــه املنســدلة صــدره وظهــره‪ ،‬ثــم قــال‪« :‬فتــى طيــب‪ ،‬لقــد‬
‫حافظــت عــى ســمعتي»‪ .‬مل يلتفــت جاغــا إىل مديــح أبنــاء األحيــاء‬
‫األخــرى‪ .‬كل مــا يعلمــه أنــه دومـاً هنــاك شــخص يفــوز وشــخص آخــر‬
‫يخــر‪ .‬متام ـاً كــا يف هــذه املبــاراة‪ ،‬هــو فــاز والرجــل اآلخــر هــزم‪.‬‬
‫ومــن عنــد خليفــة ذهــب إىل املعبــد وأصغــى لبعــض الوقــت إىل‬
‫موســيقى هادئــة تصحبهــا الدفــوف‪ .‬ويف طريــق عودتــه‪ ،‬ســمع املذيــاع‬
‫يــدوي بأخبــار املصارعــة‪ .‬وبعــد وقــت قليــل‪ ،‬كان باعــة الصحــف‬
‫يرصخــون باألخبــار نفســها وهــم يحملــون رزمهــم‪ .‬أصيــب بالــدوار‪،‬‬
‫وبــدالً مــن العــودة مبــارشة إىل املنــزل‪ ،‬ذهــب إىل سـ ّد نهــر كاتجــوري‪.‬‬
‫وعنــد عودتــه يف وقــت متأخــر يف الليــل وجــد بانتظــاره وجبــة مطنبــة؛‬
‫أرزاً‪ ،‬وحســاء العــدس‪ ،‬وبطاطــا مهروســة‪ ،‬وباذنجانــاً مقليــاً‪ ،‬وســمكاً‬
‫وربتــوا عىل ظهــره وأثنــوا عليه بأســلوبهم‬
‫بالــكاري‪ .‬عانقــه أفـراد أرستــه ّ‬
‫الخــاص‪ .‬وباســتثناء بعــض الجــران‪ ،‬مل يــأت أحــد آخــر لرؤيتــه‪ .‬كان‬
‫مرتاحــاً اآلن‪.‬‬
‫قبــل فجــر الصبــاح التــايل‪ ،‬كان يف طريقــه املعتــاد إىل التدريــب‪،‬‬
‫ومــن بعــده العمــل اليومــي يف حمــل األكيــاس‪ .‬مل يتحــدث مــع أحــد‬
‫بكلمــة عــن مهنتــه وحياتــه الخاصــة‪ .‬أعلنــت الصحــف عــى املــأ‬
‫ـن أخبــار منجزاتــه راجــت أيض ـاً يف ســوق‬ ‫حقيقــة أنــه كان شــغيالً؛ لكـ ّ‬
‫الحاملــن يف مالغــوداون حيــث يكســب أجــره اليومــي‪ ،‬وكان النــاس‬
‫يســتوقفونه عــى الطريــق لتهنئتــه وســؤاله عــن املصارعــة‪ .‬ويخربونــه‬
‫أيضـاً عــن مكانتــه العاليــة يف عــامل املصارعــة الهنــدي وكيــف أنــه رفــع‬
‫مقــام أوريســا‪ .‬وقالــوا لــه إن مســتقبله ســيكون عظيــ ًا إذا فــاز يف‬
‫املبــاراة النهائيــة‪ ،‬وســيأيت ذلــك لــه مبقــام عظيــم ومنزلــة رفيعــة وينقلــه‬

‫‪106‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫إىل مباريــات املصارعــة خــارج أوريســا وحتــى خــارج الهنــد‪ .‬ســوف‬


‫يذهــب إىل ســيالن‪ ،‬وســنغافورة‪ ،‬ومنغوليــا‪ ،‬وبكــن‪ ،‬واليابــان‪ ،‬وروســيا‪،‬‬
‫وأملانيــا‪ ،‬وأمــركا‪ ،‬وأفريقيــا‪ ،‬وتكـ ّـر الســبحة‪ .‬وإضافــة إىل املقــام العظيــم‬
‫سيكســب الكثــر‪ ،‬وألجــل ذلــك كلــه‪ ،‬عليــه فقــط أن يفــوز يف املبــاراة‬
‫النهائيــة يف منافســات املصارعــة لعمــوم الهنــد‪.‬‬
‫وأســديت إليــه أيضـاً نصائــح كثــرة! يجــب أن يهتــم أكــر بغذائــه‪،‬‬
‫وصحتــه‪ ،‬ومتارينــه؛ يجــب أن يتنــاول الفواكــه ولحــم الضــأن والحليــب‬
‫والفيتامينــات؛ وينبغــي لــه أن يحــرس‪ ،‬إذ يتعــن عليــه بعــد كل يشء أن‬
‫يحافــظ عــى رفعــة مقــام أوريســا والهنــد الحقـاً‪.‬‬
‫جعلــه ســيل النصائــح يتنهــد متحـراً‪ .‬لحــم الضــأن كان يـراه فقــط‬
‫ـب حلـ ٌـم‪ .‬وفهــم أن املقصــود‬ ‫عنــد التجــول يف الشــوارع املتعبــة‪ ،‬والحليـ ُ‬
‫بالفواكــه املــوز أو يف أحســن األحــوال جــوز الهنــد‪ .‬وكل مــا كان يطمــح‬
‫ـل مــن الفواكــه املجففــة كل يــوم‪ ،‬لكــن ميزانيــة األرسة‬ ‫إليــه مقــدار ك َْيـ ٍ‬
‫كانــت محســوبة بدقــة ونــادراً مــا أتاحــت لــه رشاء أكــر مــن نصــف‬
‫كيــل‪.‬‬
‫الحقـاً‪ ،‬بعــد عــدة أيــام‪ ،‬قــدم إىل البلــدة مــن أقــى الجنــوب عــدد‬
‫كبــر مــن الشــغيلة العاطلــن مــن العمــل‪ .‬خيمــوا يف العــراء تحــت‬
‫ـل بأجــر يك يقتاتــوا ويبقــوا بطريقــة‬‫شــجرة؛ كانــوا يبحثــون عــن أي عمـ ٍ‬
‫أو بأخــرى عــى قيــد الحيــاة‪ .‬تســبب ذلــك يف تدهــور األجــور‪ ،‬ومــن‬
‫ســوء حــظ جاغــا أيض ـاً أن أخــاه األصغــر تعــرض إىل حــادث يف أثنــاء‬
‫عودتــه مــن مصنــع الســيجار‪ .‬أصيــب بعــدة كســور وجــروح ونقــل إىل‬
‫ـم هــذا األمــر محــن العائلــة ومتاعــب جاغــا اليوميــة‪.‬‬ ‫املستشــفى‪ .‬فاقـ َ‬
‫وافتتــح وافــد جديــد فندق ـاً صغ ـراً يف نهايــة شــارع القريــة‪ ،‬وبــدأ‬
‫يبيــع مختلــف أنــواع الطعــام الشــهي والحلــوى والكعــك والشــاي‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫اس وطعــام يقـ َّدم يف صحــون نظيفــة متأللئــة تحــت مظلــة‬ ‫مقاعــد وكـر ٍ‬
‫ومبرافقــة موســيقى تصــدح مــن املذيــاع‪ .‬بــدأت أعــداد الزبائــن تتقلــص‬
‫عنــد دكان والدتــه وأختــه‪ .‬وأحدقــت بــه الفاقــة والضعــف مــن كل‬
‫صــوب‪.‬‬
‫ومــع ذلــك واظــب جاغــا بــايل عــى املصارعــة‪ .‬انخفــض غــذاؤه‬
‫مــن نصــف إىل ربــع كيــل مــن الفواكــه املجففــة والقليــل فقــط مــن‬
‫األرز املب ّهــر وحبــة واحــدة مــن جــوز الهنــد كل ثالثــة أيــام‪ .‬كان ميــأ‬
‫لكــن‬
‫معدتــه ببعــض األرز ومــا يتــاح لــه مــن الخــراوات املورقــة‪ّ .‬‬
‫الجــوع كان يفــرس معدتــه‪ .‬عندمــا مل يكــن مثــة عمــل‪ ،‬كان جاغــا ُيــرى‬
‫ـت مــروع مســتغرقاً يف التفكــر‪ .‬كان يشــعر بالوحشــة وكــم‬ ‫جالسـاً بصمـ ٍ‬
‫هــو مهجــور بــا أصدقــاء! وكيــف نســيه الجميــع بعــد عــدة أيــام مــن‬
‫مبــاراة املصارعــة‪.‬‬
‫مـ ّـرت ثالثــة أشــهر‪ ،‬ثــم أىت اليــوم املصــري لالختبــار النهــايئ‪ :‬ديليــب‬
‫ِســنغ مــن البنجــاب ضـ ّد جاغــا بايل مــن أوريســا‪ .‬عندمــا انتهت املبــاراة‪،‬‬
‫عرضــت الصحــف اإلخباريــة التقاريــر والتحليــات عنهــا‪ :‬وافقــت كلهــا‬
‫عــى أن فنــون ومهــارات املصارعــة التــي طبقهــا جاغــا ض ـ ّد ديليــب‬
‫ِســنغ الضخــم قــوي البنيــة كانــت بديعــة مبتكــرة‪ ،‬لكــن الكفــة رجحــت‬
‫ضـ ّده بقــوة‪ .‬بــدا أن ديليــب ِســنغ ســوف يخــر‪ ،‬لكنــه فــاز يف النهايــة‪.‬‬
‫أوردت الصحــف موجــزاً لحيــاة ديليــب ِســنغ‪ .‬لقــد حظــي برعايــة‬
‫جميــع األبطــال يف عــامل املصارعــة‪ ،‬وأوردت أيضـاً معلومــات عــن التنــوع‬
‫يف غذائــه ومقاديــره وكيــف كان يقــاس وزنــه يوميــاً والعديــد مــن‬
‫التفاصيــل األخــرى عنــه‪ .‬ومــن جديــد‪ ،‬نــي النــاس جاغــا بــايل‪ .‬انطلقت‬
‫نقاشــات مســتجدة يف القطــارات والحافــات واألماكــن املكتظــة‪ .‬ووصــل‬
‫األمــر ببعــض النــاس إىل التعبــر عــن امتعاضهــم مــن الرجــل الــذي‬

‫‪108‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫مـ َّـرغ اســم أوريســا‪ ،‬وشــعر كثــرون بالحــزن وخيبــة األمــل‪ .‬وحتــى هــذا‬
‫ُنــي ك ّلــه رسيعـاً‪ .‬لكــن‪ ،‬يف اليــوم التــايل للمبــاراة‪ ،‬ومثــل أي يــوم آخــر‪،‬‬
‫عــاد جاغــا بــايل إىل متريناتــه الرياضيــة وإىل حمــل األكيــاس يف الســوق‪.‬‬

‫(األوريسية) إىل اإلنكليزية ‪Sitakant Mahapatra‬‬


‫ّ‬ ‫ترجمها من اللغة األم‬
‫٭٭٭‬

‫‪109‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫‪110‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫ُصحبة‬
‫راجا راو‬
‫َــم ُأدرك قبــل اآلن‬
‫واحــريت ْأن ل ْ‬
‫ّأن دليــي ودليــل قــدري واحــد‬
‫حافظ الشريازي‬
‫كانــت أفعــى مــن تلــك التــي يراهــا املــرء يف معــرض وحســب‪،‬‬
‫طويلــة مرقطــة تنزلــق بخفــة ورشــاقة عندمــا يوقــف الحاوي موســيقاه‪.‬‬
‫لكنهــا امتلكــت رساً مل يعــرف بــه أحــد ســوى مــويت خــان الــذي جلبهــا‬
‫إىل معــرض يــوم األحــد يف فاتــح بــور‪ .‬الــر هــو أن أنيابهــا ســوف‬
‫تبقــى غــر ســامة إىل اليــوم الــذي ينظــر فيــه مــويت خــان إىل الروبيــة‬
‫الفضيــة الكبــرة التــي نقــش قطــب منــار(‪ )16‬عــى أحــد وجهيهــا وصــورة‬
‫اإلمرباطــور عــى وجههــا اآلخــر‪ .‬يف ذلــك اليــوم ســوف ينغــرس النــاب‬
‫يف الجســد ويتحــول مــويت خــان إىل جثــة إنســان‪ .‬أو ّأن عليــه أن يجــد‬
‫اللــه‪.‬‬
‫والحقيقــة‪ ،‬أن مــويت خــان التقطهــا يف موقــف مــن أغــرب‬
‫املواقــف‪ .‬كان ذات يــوم يســر عــر غابــات ســيتافول يف رامبــور‬
‫(‪َ )16‬م ْعلم تاريخي إسالمي بارز يقع بالقرب من دلهي‪ ،‬تعترب منارته األطول من نوعها يف الهند ويوجد ٌ‬
‫نقش له عىل‬
‫أحد وجهي الروبية الهندية‪( .‬م)‬

‫‪111‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫قاصــداً زيــارة أختــه‪ ،‬وعندمــا أصبــح الحــر شــديداً والرمــال حارقــة‬


‫مشــعة‪ ،‬اســتلقى تحــت شــجرة تــن ضخمــة‪ ،‬العامم ـ ُة عــى وجهــه‬
‫وســاقاه ممدودتــان عــى الحجــارة‪ .‬حــلّ عليــه النــوم رسيعـاً كهبــوط‬
‫الغســق‪ ،‬وبعــد رؤيــة أطيــاف عجــى للنخيــل والوديــان وأشــعة‬
‫الشــمس املدوخــة‪ ،‬رأى شــيئاً غريبــاً‪ .‬أفعــى يف هيئــة إنســان فتــح‬
‫فمــه وأعلــن عــر االلتــواءات شــديدة الغرابــة للوجــه أنــه بانــدت‬
‫رسينــاس ساســري مــن توتبــور‪ ،‬وأنــه عــاش يف خدمــة اإللهــة الكشــاما‬
‫ملــدة جيــل أو أكــر‪ ،‬ويف أحــد األيــام عندمــا شــاهد اإلله ـ َة اللطيفــة‬
‫ـت لــه أمنيتــن‪ .‬فكَّ ـ َـر يف منزلــه املنهــار‬
‫وهــو يف نشــوة الوجــد‪ ،‬ق ّدمـ ْ‬
‫وأراضيــه املرهونــة‪ ،‬ثــم قــال مبــارشة‪« :‬أريــد حقيبــة مــن الذهــب‬
‫«الذهــب ســتحصل عليــه»‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وانعتاقــاً مــن دورة الــوالدة واملــوت»‪.‬‬
‫قالــت اإللهــة‪« ،‬ولكــن‪ ،‬بســبب طمعــك‪ ،‬ســتولد يف حياتــك القادمــة‬
‫أفعــى قبــل أن تصــل إىل االنعتــاق‪ ،‬ألن الذهــب والحكمــة يف الحيــاة‬
‫ـض وســوف تولــد أفعــى عنــد حــا ٍو‪ .‬وعندمــا‬ ‫كالصابــون والزيــت‪ .‬امـ ِ‬
‫تجعــل قلــوب كثــر مــن الرجــال تغتبــط مــع تلـ ّـوي جســدك ال ـراق‬
‫وتأرجحــه‪ ،‬وعندمــا متــي كالعصفــور بــن األطفــال الصغــار‪ ،‬فقــط‬
‫تتلــوى بــن أرجلهــم وتتأرجــح عابث ـاً الهي ـاً معهــم‪ ،‬عندمــا تتســلق‬
‫أكتــاف الرجــال العجائــز هــاذراً كالســنجاب الوديــع‪ ،‬وعندمــا تضغــط‬
‫جلــدك عــى العــذارى وتلتــف حــول األزواج‪ ،‬عندمــا متــي يف أحــام‬
‫النســاء الحبــاىل وتقــود املغامريــن إىل قمــة جبــل النــار املقدســة‪،‬‬
‫عندهــا ســوف تبــى خطايــاك كالــذُّ رة يف مطحنــة اإلنســان وتلتهــم‬
‫النــار جســدك كاألمــل الخــادع ليختفــي يف عــامل الظلمــة حيــث البــر‬
‫صانــع ســال ويدعــى‬ ‫َ‬ ‫ينتظــرون فجــر الــوالدة‪ .‬ســيكون الحــاوي‬
‫مــويت خــان‪ .‬يف حياتــه الســابقة شــاهد الحــق لكنــه اآلن يف هــذه‬

‫‪112‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫الحيــاة يعيــش يف حضــن إحــدى الخليــات‪ .‬يف طريقــه إىل منــزل أختــه‬
‫ـم معــه‬‫لتهنئتهــا بــوالدة ابنهــا‪ ،‬ســوف ينــام يف غابــات ســيتافول‪ .‬تكلـ ْ‬
‫وســيكون عربــة خالصــك»‪ .‬هكــذا تكلمــت اإللهــة‪.‬‬
‫اآلن‪ ،‬ما قولك يف ذلك يا مويت خان؟‬
‫نعم‪ ،‬كنت خاطئاً‪ .‬من أنت؟‬
‫أنا تلك األفعى ذاتها‪.‬‬
‫سبب سقوط آدم‪.‬‬ ‫ِعرق ُِك َّ‬
‫إننــي يف خدمــة اإللهــة رسي الكشــاما ووصلــت إىل الرنفانــا‪ .‬إننــي‬
‫براهــان‪.‬‬
‫أنت غريب‪.‬‬ ‫َ‬
‫خــذين معــك وإال فسأحبســك يف هــذه الحيــاة وكل الحيــوات‬
‫القادمــة‪.‬‬
‫«اذهــب يــا شــيطان!» رصخ مــويت خــان ونهــض رسيع ـاً كالســيف‬
‫مســتأنفاً رحلتــه إىل منــزل أختــه‪ .‬قــال لنفســه‪« :‬ســأفكر بأختــي وطفلها‪،‬‬
‫ـن أوراق الشــجر هسهســت‪ ،‬واألفاعــي انبثقــت‬ ‫ســأفكر بهــا فقــط»‪ .‬لكـ ّ‬
‫ـاع زرقــاء وأخــرى بيضــاء وحم ـراء ونحاســية‬ ‫مــن اليمــن واليســار‪ ،‬أفـ ٍ‬
‫ـاع طويلــة بأذيــال قصــرة‪ ،‬وأخــرى قصــرة بأذيــال ملتويــة‪،‬‬ ‫اللــون‪ ،‬أفـ ٍ‬
‫األفاعــي تســاقطت مــن قمــم األشــجار وحــواف الصخــور‪ ،‬األفاعــي‬
‫هسهســت عــى رمــال النهــر‪ .‬عندهــا توقــف مــويت خــان قبالــة نهــر‬
‫رامبــور وقــال‪« :‬أيهــا الخائــب! كفــى‪ ،‬تعــال‪ .‬ســآخذك معــي»‪ .‬عندهــا‬
‫اختفــت األفاعــي وكذلــك هســيس األوراق‪ ،‬وعــاد إىل البيــت حامــ ًا‬
‫ســلة وضعهــا يف زاويــة الغرفــة‪ ،‬ثــم نــام‪ .‬عندمــا اســتيقظ كانــت األفعــى‬
‫ملتفــة عــى نفســها يف الســلة‪ .‬كان لـــدى مــويت خــان مزمــار صنعــه أحد‬
‫النجاريــن املحليــن‪ ،‬وحاملــا وضــع فمــه عليــه بــدأت األفعــى بالرقــص‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫تجمــع أهــل القريــة كافــة وكلُّ الحيوانــات ألن موســيقى مــويت‬ ‫حولــه ّ‬
‫خــان كانــت حزينــة واألفعــى رقصــت عــى ذيلهــا‪.‬‬
‫عندمــا ودع أختــه مل يســلك الطريــق إىل خليلتــه‪ ،‬بــل ذهــب مبــارشة‬
‫باتجــاه الشــال‪ ،‬ألن عقلــه دعــاه إىل هنــاك‪ .‬يف كل قريــة مــر بهــا تقاطر‬
‫الرجــال لتقديــم الطعــام إىل مــويت خــان والنســوة لتقديــم الحليــب إىل‬
‫األفعــى‪ ،‬فقــد متايلــت وتأرجحــت بــن أرجــل األطفــال وكانــت دواء لهــم‬
‫مــن الذعــر والحمــى والجــدري‪ .‬نــام الرجــال العجائــز بشــكل أفضــل‬
‫بعــد أن المســوها وحبلــت النســاء يف الليلــة ذاتهــا التــي قدمــن فيهــا‬
‫ـن يجــب عــى مــويت‬ ‫الحليــب لهــا‪ .‬ذهــب البــاء وحلــت النعمــة‪ ،‬لكـ ْ‬
‫خــان أال يشـ ّـم رائحــة النقــود الفضيــة‪ ،‬ففــي ذلــك ســيكون موتــه‪.‬‬
‫يف بعض األوقات كانا يتخاصامن لي ًال يف النزل‪.‬‬
‫اعتاد مويت خان أن يقول‪:‬‬
‫لست حتى امرأة يك ينام املرء يف حضنها‪.‬‬ ‫ِ‬
‫لكــن كثـراً مــن النســاء قدمــن لرؤيتــك وكذلــك الكثــر مــن الرجــال‬
‫ـك فقــط ميكــن أن يحظــى مبثــل هــذا االســتقبال‪ ،‬عــى‬ ‫ليترشفــوا بــك‪ ،‬ملـ ٌ‬
‫الرغــم مــن أنــك مجــرد صانــع ســال‪.‬‬
‫ـن يل ملكــة بــن النســاء‪ ،‬وعندمــا تغنــي‬ ‫مجــرد صانــع ســال! لكـ ّ‬
‫يصبــح صوتهــا جســداً‪ ،‬وجســدها يصبــح أغنيــة‪ ،‬إنهــا متضــغ اللبــان‪،‬‬
‫وشــفاهها حمــراء‪ ،‬وحتــى امللــوك‪..‬‬
‫توقف عن قول ذلك‪ .‬بني هذه وبني رؤية الروبية‪..‬‬
‫جــذب مــويت خــان لحيتــه والــرر يقــدح يف عينيــه‪ ،‬ثــم رضب‬
‫أقدامــه عــى األرض‪.‬‬
‫لو أن بإمكاين أن أرى امرأة!‬
‫فانس النساء يا مويت خان‪.‬‬ ‫ْإن أردت الله‪َ ،‬‬

‫‪114‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫لكنــي مل أَ ْشــكُ مــن اللــه أبــداً‪ .‬إنــك أنــت مــن يضجــرين دومـاً‪ .‬أنــا‬
‫قلــت إننــي عشــقت امــرأة‪ .‬أنــت مجــرد حيــوان مفــرس ذو أنيــاب‪ .‬هــا‬
‫ي العيــش معهــا‪.‬‬ ‫ـب إحــدى الزواحــف وعـ ّ‬ ‫أنــا يف مقتبــل الحيــاة أصاحـ ُ‬
‫وســمع صــوت املــؤذن ينــادي‪ :‬اللــه‬ ‫فجــأة دقــت أج ـراس املعبــد‪ُ ،‬‬
‫أكــر‪ .‬ال ريــب أن ذلــك كلــه كان مــن تدبــر األفعــى‪ .‬خـ ّـر مــويت خــان‬
‫عــى ركبتيــه مرتجف ـاً راكع ـاً‪ ،‬وحنــى جســده للصــاة‪.‬‬
‫منــذ ذلــك اليــوم‪ ،‬أصبحــت األفعــى‪ ،‬عندمــا ترقــص‪ ،‬تلــوي عينــاً‬
‫باتجــاه اليمــن واألخــرى باتجــاه اليســار‪ .‬تنظــر مــرة إىل الرجــال ومــرة‬
‫إىل النســاء‪ ،‬وعــى نحــو مفاجــئ اعتــادت أن تفــح وتصفــع وجنتــي‬
‫مــويت خــان مبؤخــرة رأســها‪ ،‬ذلــك ّأن موســيقاه أصبحــت مضللــة وكان‬
‫يحـ ِّدق إىل النســاء‪ .‬كانــت أردافهــن مكـ ّـورة‪ ،‬واألهــداب ســوداء وزرقــاء‪،‬‬
‫والنهــود منتصبــة كثــار املانغــو الغضــة‪ ،‬واألوصــال تتهــادى وتتأرجــح‬
‫حتــى إنــه كان يــذوب فيهــا‪.‬‬
‫يــوم رأى يف أحــد املتاجــر امــرأة زرقــاء داكنــة اللــون‪،‬‬ ‫وذات ٍ‬
‫شــفاهها حم ـراء‪ ،‬كانــت شــابة ولعوب ـاً‪ ،‬أتــت ووقفــت قبالــة مــويت‬
‫خــان عندمــا جعــل األفعــى ترقــص‪ .‬عــزف عــى مزمــاره الخيــزراين‪،‬‬
‫وتناثــرت املوســيقى هنــا وهنــاك‪ ،‬وفجــأة نظــر إليهــا وإىل عينيهــا‬
‫ـرت نغــات مزمــاره وض ّلــت موســيقاه؛ شــعرت هــي‬ ‫ونهديهــا‪ ،‬تغـ ّ‬
‫بذلــك وهــو أحــس بشــعورها‪ ،‬ويف الليــل فكــر عميق ـاً بهــا وفكــرت‬
‫عميقـاً بــه‪ ،‬حتــى إنــه نــام عنــد بــاب الــدار وقدمــت هــي إىل بوابــة‬
‫الــدار‪ ،‬زهــرةٌ يف شــعرها وعطــر يفــوح مــن ذراعيهــا‪ ،‬ولكــن‪ ..‬يــا‬
‫للدهشــة! مثــلَ ســيف مرســل مــن اللــه‪ ،‬انبثــق شــعاع ضــوء طويــل‬
‫مرتقــرق‪ ،‬أحــاط بهــا ثــم لــذع حلمتيهــا وانســل راجعـاً إىل الظلمــة‬
‫ـت عالي ـاً‪ ،‬واســتيقظت البلــدة بأكملهــا‪ ،‬تأبــط مــويت‬ ‫املذهلــة‪ .‬رصخـ ْ‬

‫‪115‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫خــان الســلة تحــت ذراعــه وانطلــق باتجــاه الشــال‪ ،‬ألن عقلــه دعــاه‬
‫إىل هنــاك‪.‬‬
‫ي أن أجــد اللــه وإال فإن هــذا املخلوق‬ ‫«اآلن»‪ ،‬قــال مــويت خــان‪« ،‬عـ ّ‬
‫ســيقتلني‪ .‬والشــيطان يعــرف أي جحيــم ســأحرش فيــه»‪ .‬لذلــك قــرر أن‬
‫يقيــم ويفــرغ للتأمــل عنــد أول قــر ألحــد األوليــاء ميــر بــه‪ .‬لكنــه تجــول‬
‫كثـراً وعــر القــرى واألســواق متنقـ ًا مــن مــكان إىل آخــر ومل يجــد مـزاراً‬
‫يتأمــل عنــده‪ .‬وألن عقلــه دعــاه دومـاً باتجــاه الشــال‪ ،‬فقــد غـ ّذ الســر‬
‫يف األدغــال وتســلق الجبــال‪ ،‬طــاف يف الوديــان الضيقــة حيــث العصافــر‬
‫تزقــزق هنــا واأليائــل متــرح هنــاك‪ ،‬لكنــه مل يســمع صــوت إنســان‬
‫قــط‪ ،‬ثــم قــال‪« :‬اآلن ســأعود إىل البيــت»‪ ،‬لكنــه تراجــع عــن قــراره‬
‫وكان خائفــاً‪ .‬ثــم قــال‪« :‬اآلن عــي أن أذهــب إىل الشــال ألن عقــي‬
‫دعــاين إىل هنــاك»‪ .‬ثــم تســلق الجبــال مــرة ثانيــة واستكشــف األدغــال‪،‬‬
‫بعدهــا‪ ،‬وصــل إىل الســهول الرحبــة‪ ،‬وذهــب إىل االحتفــاالت وجعــل‬
‫ـاس دكاكــن األرز والقطــن واملاشــية واألســاك‬ ‫األفعــى ترقــص‪ .‬تــرك النـ ُ‬
‫واملطحنــة والتنــور‪ ،‬وقدمــوا ليســمعوه يعــزف املوســيقى ويــروا األفعــى‬
‫ترقــص‪ .‬أعطــوه الطعــام والفاكهــة والثيــاب‪ ،‬لكــن عندمــا قالــوا‪« :‬خــذ‬
‫قطعــة روبيــة»‪ ،‬قــال‪« :‬ال»‪ ،‬وكانــت األفعــى ســعيدة جــداً بذلــك فقــد‬
‫كرهــت أن تقتــل مــويت خــان قبــل أن يجــد اللــه‪ ،‬كــا أنهــا كرهــت‬
‫أن متــوت هــي أيض ـاً‪ .‬واآلن‪ ،‬بعــد أن عــر مــويت خــان أرايض ناربــودا‬
‫وبريخــان وباغـراث وصــل إىل جومــا واجتــاز ســهول آغـرا جاعـ ًا األفعــى‬
‫ترقــص‪ ،‬لكنــه مل يجــد اللــه بعــد‪ ،‬وأصبــح متــأمل الــروح برفقــة األفعــى‬
‫كــا أنهــا أصبحــت ُمزعجــة أيض ـاً‪.‬‬
‫لكــن‪ ،‬عندمــا وصــل إىل فاتــح بــور ســيكري قــال‪« :‬هنــا رضيــح‬
‫ومــت فلــن أخطــو إىل‬
‫ّ‬ ‫الشــيخ تشيســتي ولــو تضــورت مــن الجــوع‬

‫‪116‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫أبعــد مــن ذلــك»‪ .‬ثــم جلــس عنــد رضيــح الشــيخ وقــال‪« :‬يــا شــيخ‬
‫تشيســتي مــا الــذي أرســله القــدر إيل؟ هــذه األفعــى يشء خطــر‪ ،‬تفــح‬
‫وتغضــب عنــد كل رعشــة أو طرفــة عــن وتقــول‪ :‬عليــك أن تجــد اللــه‪.‬‬
‫قــل يل يــا شــيخ‪ ،‬كيــف أســتطيع أن أجــد اللــه؟ لــن أغــادر هــذا املــكان‬
‫قبــل أن أجــد اللــه»‪.‬‬
‫حتــى عندمــا كان يصــي‪ ،‬كان يــرى األفاعــي تطلــع مــن رأســه‪،‬‬
‫ينابيــع تنفجــر وتتســاقط األفاعــي منهــا عــى الجوانــب كــا قط ـرات‬
‫ـر هــذه الينابيــع قدمــت نســاء‪،‬‬ ‫املــاء املتســاقطة مــن تــاج محــل‪ ،‬وعـ ْ َ‬
‫نســاء ناعــات‪ ،‬نســاء راقصــات‪ ،‬ذوات أرداف مــدورة وشــفاه شــهية‬
‫ونهــود مــدورة‪ ،‬بعضهــن خفــرات واألخريــات كــن وقحــات‪ ،‬قدمــن‬
‫مــن اليمــن وذهــن إىل اليســار‪ ،‬ســحنب لحيتــه‪ ،‬ثــم‪ ،‬فجــأة‪ ،‬بــرزت أفــاع‬
‫ـأت مــويت خــان‬‫بيضــاء مــن األرض وطوقتهــن جميع ـاً؛ ومــع ذلــك‪ ،‬مل يـ ِ‬
‫ـأي حركــة‪ .‬بــل قــال‪« :‬أيهــا الشــيخ‪ ،‬إننــي يف عــامل غريــب‪ ،‬لكنــي أرى‬ ‫بـ ّ‬
‫عامل ـاً مظل ـ ًا وراءه‪ ،‬وخلــف هــذا الظــام‪ ،‬أرى عامل ـاً نوراني ـاً‪ ،‬وهنــاك‪،‬‬
‫ال بد أن الحق هناك»‪.‬‬
‫بقــي راكع ـاً تســعة وعرشيــن يوم ـاً‪ ،‬يــداه خلــف أذنيــه ووجهــه‬
‫باتجــاه رضيــح الشــيخ تشيســتي‪ ،‬قــدم النــاس وقالــوا‪« :‬اســتيقظ أيهــا‬
‫الرجــل العجــوز‪ ،‬اســتيقظ»‪ ،‬لكنــه مل يجــب‪ .‬وعندمــا شــاهدوا األفعــى‬
‫مســتلقية عــى رضيــح الشــيخ رصخــوا‪« :‬هــذا أمــر غريــب»‪ ،‬وارت ـ ّدوا‬
‫عــى أعقابهــم بينــا أحــر بعضهــم اآلخــر رجــال الديــن‪ ،‬لكــن مــويت‬
‫خــان مل ينبــس بكلمــة‪ .‬ويك نقــول الحقيقــة‪ ،‬فقــد كان يعــر امليــاه‬
‫املظلمــة‪ ،‬هنــاك حيــث يتنقــى اإلنســان ويتطهــر‪ ،‬وحيــث الســاء بــاردة‬
‫والنجــوم مطفــأة‪ ،‬وإىل أن يصــل اإلنســان إىل الشــاطئ اآلخــر‪ ،‬لــن يكــون‬
‫هنــاك ال طأمنينــة وال إلــه‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫يف الليلــة التاســعة والعرشيــن‪ ،‬اســتيقظ الشــيخ تشيســتي مــن‬


‫«أي بنــي‪ ،‬مــاذا تريــد؟»‬
‫رضيحــه‪ ،‬عاممتــه تجلــل رأســه‪ ،‬وقــال‪ْ :‬‬
‫سالماً من هذه األفعى‪ ،‬وأن أرى الله‪.‬‬
‫يا ُبني‪ ،‬الله ال ُيرى‪ ،‬إنه يف السامء‪.‬‬
‫عينان ألرى الله‪ ،‬إ ْذ مل يعد مبقدوري الذهاب أكرث نحو الشامل‪.‬‬
‫عينان لتدرك الله سيكون لك‪.‬‬
‫أيضاً‪ ،‬سالماً من هذه األفعى‪.‬‬
‫مخلصة لك‪ ،‬صاحبة ح ّقة للباحث عن الله‪.‬‬ ‫ستكون ِ‬
‫السالم لكل الرجال والنساء‪ .‬قال مويت خان‪.‬‬
‫الســام للبــر أجمعــن‪ .‬لــدي أيض ـاً مــا أخــرك بــه يــا مــويت خــان‪،‬‬
‫فعنــد مطلــع الفجــر ســيأيت موالنــا محمــد خــان ويقــدم لــك ابنتــه‬
‫للــزواج‪ ،‬إنهــا جميلــة كزهــرة الدفــى‪ .‬إنهــا تنتظــرك منــذ زمن‪ ،‬وســتكون‬
‫عروس ـاً لــك‪ .‬مباركتــي لــك يــا بنــي»‪.‬‬
‫«اللــه موجــود‪ ،‬املجــد للــه!» رصخ مــويت خــان‪ .‬دارت األفعــى حولــه‪،‬‬
‫وانزلقــت بــن رجليــه والت ّفــت حــول عنقــه ثــم رقصــت فــوق رأســه‪،‬‬
‫ألنــه‪ ،‬عندمــا يجــد مــويت خــان اللــه‪ ،‬فــإن خطايــاه ســتبىل كالــذرة يف‬
‫مطحنــة اإلنســان‪ ،‬وســيعم الســام عــى البــر أجمعــن‪.‬‬
‫تــزوج مــويت خــان االبنــة املخلصــة ملوالنــا محمــد خــان وأحبهــا‬
‫كث ـراً‪ ،‬واســتقر بــه املقــام يف فاتــح بــور ســيكري وأصبــح وصي ـاً عــى‬
‫رضيــح الشــيخ تشيســتي‪ .‬عاشــت األفعــى معــه‪ ،‬أحيانــاً يأخذهــا إىل‬
‫االحتفــاالت‪ ،‬هــو يعــزف وهــي ترقــص مــن أجــل األطفــال‪.‬‬
‫لكــن‪ ،‬يف أحــد األيــام ماتــت زوجــة مــويت خــان ودفنــت يف رضيح من‬
‫الرخــام األســود‪ .‬وبعــد أحــد عرش شــهراً تويف مــويت خان ودفــن يف رضيح‬
‫مــن الرخــام األبيــض‪ ،‬وبنيــت قبــة مــن الحجــر ذاتــه لكليهــا‪ .‬وبعــد‬

‫‪118‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫ثالثــة أيــام‪ ،‬ماتــت األفعــى أيض ـاً‪ ،‬ودفنوهــا يف األرض بجــوار الرضيــح‪،‬‬
‫الفخــار األملــس‪ .‬نبتــت شــجرة تــن فــوق القــر‪ ،‬وزرع أحــد‬ ‫يف قــر مــن ّ‬
‫الرباهــان العابريــن شــجرة ِنيــم إىل جانــب التينــة‪ ،‬وتربع بعــض أصحاب‬
‫منصــة حــول الشــجرتني‪ .‬اســتطالت‬ ‫الدكاكــن يف القريــة بالنقــود لبنــاء ّ‬
‫شــجرة التــن إىل الســاوات وأرخــت ظــاالً عــى القبــة ونصــب بعــض‬
‫الرباهــان تعاويــذ حجريــة تحتهــا‪ ،‬وقرعــت األج ـراس وأحــرق زيــت‬
‫املنصــة‪ .‬عندمــا‬
‫الكافــور وأضــاء‪ ،‬واعتــاد األزواج الجــدد الطــواف حــول ّ‬
‫كان يق ـ َّدم الكافــور إىل األفعــى كان مــويت خــان يشــم رائحــة البخــور‪.‬‬
‫عندمــا يحــل املــرض بالبلــدة‪ ،‬نذهــب بالسوســن واملوســيقى واملشــاعل‬
‫منصــة شــجرة التــن ســاجدين قبالــة الرضيــح‪ ،‬ومــا إن‬ ‫ونصطــف أمــام ّ‬
‫يحــل الليــل حتــى تهــب الريــح وتكنــس الرطوبـ َة العفنــة مــن القريــة‪.‬‬
‫وعندمــا يبــي األطفــال‪ ،‬نقــول‪ :‬ســوف يعالجكــم مــويت خــان يــا أعـزايئ‬
‫وهــم يشــفون‪ .‬تعاقــب امللــوك واألباطــرة ولكنهــم مل يدمــروا قريتنــا‬
‫أبــداً‪ .‬ألن اإلنســان واألفعــى أصدقــاء‪ ،‬وألن مــويت خــان وجــد اللــه‪.‬‬
‫مــا بــن آغ ـرا وفاتــح بــور ســيكري رمبــا ال ي ـزال بإمكانــك أن تجــد‬
‫القــر الصغــر وشــجرة التــن‪ .‬كتــب األوالد أســاءهم عــى الجــدران‪،‬‬
‫وغطــى الغبــار واألوراق القــاش األزرق املذهــب فــوق القــر‪ .‬حفــر‬
‫ـت يف الطريــق‪ ،‬ميكنــك أن تــرب‬ ‫شــخص مــا بـراً يف الجــوار‪ ،‬فــإذا ظمئـ َ‬
‫وتســريح تحــت شــجرة التــن‪ ،‬وتفكــر عميق ـاً يف اللــه‪.‬‬
‫٭٭٭‬

‫‪119‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫‪120‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫فقدان هوية‬
‫س‪ .‬ماين «موين»‬
‫اســتيقظ فجــأة‪ ،‬يقظ ـ ًة تامــة يف الليــل‪ ،‬يقظ ـ ًة واضحــة‪ ،‬كــا لــو أن‬
‫شــيئاً مــا أذهلــه‪ .‬كانــت مراحــل حياتــه كلهــا تتقابــل وتتفــرق متثاقلـ ًة‬
‫عــى حــواف شــعوره مثــل بقايــا حلــم‪ .‬يف الخــارج‪ ،‬يف الظلمــة الحالكــة‪،‬‬
‫هــدأ صفــر بعــض طيــور الليــل مجيبـاً عــن أو رمبــا تجيــب عليــه طيــور‬
‫البــوم بنعيقهــا الحــاد‪ .‬وتــاىش وقــع خطــوات رجــل أو رمبــا اثنــن يف‬
‫الشــارع يتجــوالن يف تلــك الســاعة الالمعقولــة قبــل الفجــر؛ ذوت مــن‬
‫دون أن تع ّكــر صفحــة الصمــت‪ .‬واحتشــد املتســولون للنــوم يف الشــارع‪.‬‬
‫إىل ســاعة متأخــرة يف الليــل‪ ،‬وإىل أن أىت وقــت النــوم‪ ،‬انهمكــوا بــن‬
‫الفينــة واألخــرى‪ ،‬يف رصاخ هائــج يســعلون‪ ،‬يدفعــون طريقهــم باتجــاه‬
‫املــوت الرهيــب‪ .‬ســينامون اآلن حتــى مطلــع الفجــر‪.‬‬
‫ملــاذا مل تنتــه حياتــه معهــا بالعذوبــة ذاتهــا التــي بــدأت بهــا؟ مــا‬
‫الــذي جعــل األحــداث تتبــع وجهــة أكــدت الشــك العابــر الــذي وقــع‬
‫بينهــا؟ لقــد المهــا النــاس بالفعــل‪ ،‬ولكــن هــل كان مــن الواجــب أن‬
‫مبهجــة كل مــن‬‫ُتــام بســبب ارتحالهــا يف العــامل مبديــة جاملهــا العــذب‪ِ ،‬‬
‫يراهــا يف أي مــكان تذهــب إليــه؟ مل يكــن متأكــداً مــن ذلــك‪.‬‬
‫كان ســواد الليــل يف غرفتــه طاغيــاً‪ .‬فتــح النافــذة ثــم نظــر إىل‬
‫الخــارج‪ .‬بــدت رحابــة الكــون الفســيحة ممتــدة أمامــه‪ .‬امتزجــت أضواء‬
‫‪121‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫املدينــة بالنجــوم‪ ،‬كــا لــو أن النجــوم نزلــت مــن الســاء واصطفــت يف‬
‫الشــوارع‪.‬‬
‫أراد أن يســتعيد يف عقلــه كل مــا حــدث يف الليلــة الســابقة‪ ،‬يك يأخــذ‬
‫فكــرة واضحــة عــا جــرى‪ .‬ألجــل ذلــك‪ ،‬عليــه أن يجمــع الظــال التــي‬
‫خلفتهــا األشــياء مــع الذكريــات املاضيــة املنســية‪.‬‬
‫بــدأ كل يشء الليل ـ َة مــا قبــل الســابقة عندمــا التقــى بــه مصادفــة‬
‫عنــد زاويــة الشــارع الجانبــي‪ .‬ذلــك مل يكــن متوقعـاً‪« .‬مرحبـاً‪ ..‬أنت! أي‬
‫مفاجــأة أن أراك هنــا! مل أحلــم قــط»‪ ..‬ال بــد أن ردود الفعــل املفرطــة‬
‫هــذه تحمــل معنــى مــا‪ .‬ميكــن أن تعلــم مــن وجهــه وأســلوبه أنــه كان‬
‫يعيــش يف قمــة العــامل‪ .‬هــل مــن املمكــن أن تكــون هــي تعيــش معــه‬
‫ودونــه‪ ،‬واعــداً أن يتصــل بــه بعــد ظهــر غ ـ ٍد‬
‫اآلن؟ ســأله عــن عنوانــه ّ‬
‫توهــج اللــون األصفر‬
‫عنــد الرابعــة والنصــف‪ .‬ورحــل بعيــداً عــى عجــل‪ّ .‬‬
‫للشــمس الغاربــة لحظــة يف الشــارع ثــم ذوى رسيعـاً‪.‬‬
‫العلويــة أوســع مــا يحتــاج إليــه وحــده‪ .‬مــن األعــى‬ ‫كانــت غرفتــه ُ‬
‫هنــاك‪ ،‬وناظـراً عــر النوافــذ يف كل االتجاهــات‪ ،‬كان باســتطاعته أن يــرى‬
‫بعيــداً يف الســاء وأن ينظــر أيضــاً إىل األســفل يك يــرى مــا يجــري يف‬
‫القريــة‪ .‬لكــن‪ ،‬كان عليــه أن يتعــر ويتلمــس خطواتــه عــر درجــات‬
‫بيــت الســلم شــديدة االنحــدار يك يصــل إىل غرفتــه‪ .‬املشــقة املتوقعــة‬
‫عنــد العــودة ُتخمــد عــادة رغبتــه يف النــزول إىل الشــارع للتجــول حــول‬
‫القريــة‪ .‬ممســكاً مبـراع النافــذة‪ ،‬حــدق خارجـاً يف البعيــد واســتطاع أن‬
‫يــرى اللــون الرمــادي األول للفجــر‪.‬‬
‫الليلــة البارحــة‪ ،‬ومنــذ الســاعة الرابعــة‪ ،‬متأث ـراً بالزيــارة املتوقعــة‪،‬‬
‫بــدأ القلــق يتــرب إليــه مــن أن الوقــت ســيأيت ولــن يصــل الزائــر‪.‬‬
‫نظــر إىل الســاعة مـراراً‪ .‬جعلــه ذلــك يتوقــف عــن الرتكيــز عــى الوقــت‬

‫‪122‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫الدقيــق الــذي وعــده الزائــر أن يــأيت فيــه‪ ،‬كــا لــو أنــه كان يعزي نفســه‬
‫بفكــرة أن الوقــت مل يتأخــر حقيقــة‪ .‬بعــد ذلــك‪ ،‬وكــا يحــدث غالب ـاً‬
‫عندمــا ينتظــر املــرء شــخصاً مــا‪ ،‬تنســلّ هويــة الشــخص املنتظــر مــن‬
‫عقــل املــرء‪.‬‬
‫تدفــق أزواج مــع أطفالهــم إىل الشــارع متجهــن نحــو شــاطئ البحــر‪.‬‬
‫ّأي جلبــة أحدثوهــا وكيــف أعـ ّدوا أنفســهم يك يغســلوا رتابــة حياتهــم يف‬
‫بضــع دقائــق يقضونهــا مــع نســيم البحــر! الســاء أيضـاً‪ ،‬كــا لــو أنهــا‬
‫ـر الحتفــال يف األعــايل‪َ ،‬ص َفــت بوضــوح ووازنــت الشــمس الغاربــة‬ ‫تحـ ّ‬
‫والولــوج الحــاد يف الظــام‪ .‬اصطفــت مصابيــح الشــارع‪ ،‬التــي مل تضــئ‬
‫بعـ ُـد‪ ،‬يف خطــوط منتظمــة ممتــدة إىل نقطــة بعيــدة متالشــية‪.‬‬
‫وصمــت الغرفــة بــدا معذِّبــاً‪ .‬كان مــن املســتحيل‬ ‫ُ‬ ‫حــان الوقــت‪،‬‬
‫املكــوث هنــاك بهــدوء واالنتظــار‪ .‬أخــذ طريقــه إىل الشــارع يف األســفل‪.‬‬
‫تحــرك متنقـ ًا محدقـاً بانتبــاه يف كل عابــر بحيــث ال ميــر زائــره مــن دون‬
‫أن ي ـراه‪ .‬انحــرف قلي ـ ًا نحــو رجــل يلبــس ســاعة يف معصمــه وســأله‪:‬‬
‫«مــن فضلــك ســيدي‪ ،‬مــا الوقــت بدقــة؟» حدجه الرجــل بنظــرة جانبية‪،‬‬
‫ونظــر إىل ســاعته وغمغــم شــيئاً مــا ُيفهــم منــه أنــه ينــى دامئ ـاً َقـ ْـرن‬
‫الســاعة وأنهــا توقفــت‪ .‬ثــم قــال الرجــل بعــد ذلــك‪« :‬يجــب أن تكــون‬
‫حــوايل الرابعــة والنصــف‪ ،‬عــى أي حــال‪ ،‬مل تتجــاوز الخامســة»‪ .‬ثــم‬
‫مــى مبتعــداً‪.‬‬
‫فكــر بالعــودة إىل غرفتــه‪ .‬رمبــا يكــون زائــره قــد حــر للتــو إىل‬
‫هنــاك وينتظــره اآلن‪ ،‬ورمبــا يجلــس يف كرســيه مســتعداً لتوبيخــه‬
‫لرتكــه إيــاه ينتظــر طويـ ًا بينــا وصــل هــو يف املوعد متامـاً‪ .‬ســائراً إىل‬
‫األمــام‪ ،‬ومفكـراً يف كيفيــة الــرد عــى ذلــك‪ ،‬انزلقــت مــن عقلــه فكــرة‬
‫الرجــوع إىل املنــزل‪ .‬وخطــرت عــى بالــه فكــرة أنــه عندمــا خــرج‪،‬‬

‫‪123‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫أغلــق البــاب فحســب لكنــه مل يقفلــه‪ .‬ثــم مــى يف تجوالــه عــى‬


‫الطريــق‪.‬‬
‫وصــل إىل بيــت تحيطــه حديقــة‪ .‬بعــد التجــوال‪ ،‬وجــد نفســه‬
‫يراقــب فتــاة جميلــة عــى الرشفــة تق ّلــب بكســل صفحــات كتــاب‪ .‬كان‬
‫إملامهــا ورشــاقة خيالهــا باديــن عــى قســاتها‪ .‬خطــر يف بالــه أن يتجــه‬
‫مبــارشة نحوهــا وأن يشــر لهــا أنــه قــد أىت يف الســاعة السادســة كــا‬
‫ـن شـ ّكاً ملــع يف عقلــه‪،‬‬ ‫ضجــرة فلــن يلومهــا‪ .‬لكـ ّ‬
‫اتفقــا متامـاً‪ ،‬وإذا كانــت ِ‬
‫حــول مــا إذا كان مبقــدوره أن يصبــح هــو بالنســبة إليهــا؛ ثــم واصــل‬
‫اك مثــل‬ ‫التجــول‪ .‬بــدا ســخيفاً أن الحيــاة يجــب أن توقــع املــرء يف رش ِ‬
‫هــذه املصادفــات عــر أحــداث غــر متوقعــة‪ .‬أ ّزت أبــواق الســيارات‬
‫عالي ـاً عــى طــول الشــارع وعــر املفــارق حتــى إِ َّن َهــا المســته أحيان ـاً‪.‬‬
‫مصابيــح الشــارع مل تضــئ بعــد‪.‬‬
‫يف تلــك اللحظــة التقــت بائعــة الحليــب بــه يف الشــارع فتوقــف‬
‫قلي ـاً‪ .‬ابتســمت لــه وقالــت‪« :‬ملــاذا يــا ســيدي‪ ،‬مــا الــذي تفعلــه‬
‫هنــا يف الخــارج يف هــذا الوقــت املبكــر مــن املســاء! حتــى إنــك‬
‫نســيت أننــي قادمــة إىل غرفتــك!»‪ .‬فكــر يف البدايــة‪ ،‬هــل يأخذهــا‬
‫معــه ويعــود إىل الغرفــة؟ مــاذا لــو أن زائــره كان هنــاك بانتظــاره؟‬
‫ثــم مــاذا لــو أنـــه رآهــا معـاً؟ أبعــد الفكــرة ونظــر يف إخبارهــا أن‬
‫تذهــب إىل هنــاك بنفســها وتــرك لــه بعــض الحليــب‪ .‬بعــد ذلــك‬
‫قــال‪« :‬ال أحتــاج شــيئاً اليــوم‪ .‬ليــس عليــك أن تذهبــي إىل الغرفــة»‪،‬‬
‫ثــم مــى متجــوالً متشمسـاً يف ســطوع ابتســامتها‪« ،‬يــا للمســكينة‪،‬‬
‫كــم تحبنــي!»‪.‬‬
‫متجــوالً بــا هــدف‪ ،‬ومواص ـ ًا ذلــك بــإرصار‪ ،‬يجــد غايتــه يف مــكان‬
‫مــا وراء حــدود القصــد‪ .‬كانــت محطــة القطــارات هنــاك أمامــه‪ ،‬متألقــة‬

‫‪124‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫بــآالف األضــواء‪ .‬وقــف برهــة ونظــر صوبهــا‪ .‬ثـ ّـم‪ ،‬وبطريقــة مــا‪ ،‬وجــد‬
‫نفســه أســر جاذبيتهــا وأصبــح ذرة يف حشــدها الصاخــب‪.‬‬
‫تعطــي محطــات القطــارات عــادة انطباعـاً بالعزلــة والعجــز‪ .‬يف كل‬
‫لحظــة مــن لحظاتهــا‪ ،‬املزدحمــة والفارغــة‪ ،‬تفـ ّـرق بالــرورة بــن النــاس‬
‫القادمــن والذاهبــن بواســطة القطــار‪ .‬لكــن املحطــة الرئيســية تكــون‬
‫نقطــة البدايــة ونقطــة العــودة بالنســبة للمســافرين‪ .‬مــن هنــا ترتحــل‬
‫القطــارات يف االتجاهــات كافــة ثــم تعــود ثانيــة‪ .‬يبــدأ النــاس رحلتهــم‬
‫مــن هــذا املــكان إىل أي مــكان‪ ،‬ويعــود النــاس إىل هــذا املــكان مــن أي‬
‫مــكان يك يبــدؤوا حيــاة جديــدة وعالقــات جديــدة‪ .‬يف مــكان كهــذا‪،‬‬
‫ـل مــن طبائعهــم األساســية وأرواحهــم‪،‬‬ ‫يصبــح الكثــر مــن النــاس يف حـ ٍٍّ‬
‫وهنــا أيض ـاً‪َ ،‬ت ْغـ ُـدو هــذه الطبائــع منغــرزة يف كائنــات برشيــة أخــرى‪.‬‬
‫ـت‬‫مــكان البدايــات والنهايــات‪ ،‬مــكان الحشــود والصخــب والتوتــر‪ ،‬ثابـ ٌ‬
‫بذاتــه‪ ،‬إنــه مقــام اإلبهــام والرفعــة‪ .‬يف تلــك اللحظــة كان مثــة جلبــة‬
‫كبــرة يف الحشــد‪ ،‬فــوىض عظيمــة‪ ،‬حيــث إِ َّن بعــض املســافرين الواصلــن‬
‫امتزجــوا بشــكل كيل مــع حشــد ينتظــر املغــادرة‪ .‬بــدت الضوضــاء آتيــة‬
‫مــن كل مــكان‪ .‬يبــدو املــرء وكأنــه جــزء مــن الضوضــاء‪ .‬أشــكال مرئيــة‬
‫وغــر مرئيــة‪ ،‬أصــوات مســموعة وغــر مســموعة‪ ،‬اندمجــت مــع بعضهــا‬
‫يف فــوىض هائلــة‪ ،‬يف كتلــة واحــدة متجانســة مــن الضوضــاء ازدادت‬
‫وتريتهــا وارتفعــت ثــم تبــددت كموجــة تتــاىش عــى الشــاطئ‪ .‬عندهــا‪،‬‬
‫كل شــكل وكل صــوت وكل كلمــة أو اســم بــدا وقــد فقــد انســجامه‬
‫وانزلــق مــن موضعــه‪ ،‬لــذا بــدا كأن الرســالة التــي حــاول الذهــن أن‬
‫ينقلهــا عصيــة عــى الحــواس‪.‬‬
‫أحــد القطــارات وهــو عــى وشــك املغــادرة‪ ،‬بــدا منتظ ـراً متفاخ ـراً‬
‫عــن عمــد ومتباهيـاً بإغــواء الســفر‪ .‬احتشــد ركابــه املرتقبــون وتحلقــوا‬

‫‪125‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ارتــص بعضهــم يف‬


‫ّ‬ ‫حولــه ملوحــن هنــا وهنــاك باحثــن عــن مــكان‪.‬‬
‫داخــل القطــار كعلبــة الرسديــن‪ ،‬والبعــض اآلخــر تشــبث بالســامل‬
‫والنوافــذ‪ ،‬وتســلق آخــرون عــى الســطح‪ .‬أولئــك الذيــن مل يجــدوا مكانـاً‬
‫أطلقــوا العنــان إلحباطهــم برفــس أعمــدة الرصيــف وســطح املحطــة‬
‫مثــل قــرود عميــاء عاتبــة‪ .‬نفــث املحــرك ذيــ ًا طويــ ًا مــن الدخــان‬
‫مزمجــراً الهثــاً يلفــظ ســخطه لعــدم الســاح لــه بالتحــرك مــع أنــه‬
‫أصبــح جاهــزاً لذلــك‪ .‬الســيارات التــي اصطفــت وراءه كانــت مثــل‬
‫ضفــرة مصمتــة مجدولــة مــن الكائنــات البرشيــة‪.‬‬
‫ُأعلــن االنطــاق‪ ،‬وتحــرك أفــراد الرشطــة لفــرض النظــام‪ .‬ســحبوا‬
‫أولئــك الذيــن متكنــوا مــن الوصــول إىل القطــار‪ ،‬رضبوهــم وأبعدوهــم‪.‬‬
‫بعــض هــؤالء‪ ،‬اســتدار راجعـاً يك يحصــل عــى موضــع جديــد يف مــكان‬
‫آخــر‪ .‬مرتجـاً إىل الــوراء أوالً‪ ،‬ومــن ثــم تقـ ّدم إىل األمــام‪ ،‬متايــل القطــار‬
‫عنــد انطالقــه مزعزعـاً العديــد مــن املســافرين‪ .‬أولئــك الذيــن فشــلوا يف‬
‫الفــوز مبوضــع جديــد‪ ،‬ركضــوا جنب ـاً إىل جنــب حتــى أعياهــم التعــب‪.‬‬
‫يف خضــم هــذه الفــوىض كلهــا‪ ،‬بطريقــة أو بأخــرى‪ ،‬صعــد إىل القطــار‪.‬‬
‫رف حقائــب الســفر‪ .‬طــوى ركبتيــه وأســند رأســه فوقهــا‬ ‫كان جامثـاً يف ّ‬
‫ورقــد نامئ ـاً‪ .‬كلــا توقــف القطــار أو أبطــأ يف مــكان‪ ،‬كان املســافرون‬
‫الذيــن ركبــوا دون ســبب خــاص عــى مــا يبــدو‪ ،‬يجــدون فجــأة ســبباً‬
‫معقــوالً للرتجــل‪ ،‬ثــم يختفــون يف الظــام‪ .‬اآلن‪ ،‬وقــد أصبــح لديــه متســع‬
‫رف الحقائــب‪ ،‬أرخــى ســاقيه واســتغرق يف نــوم عميــق‪.‬‬ ‫إضــايف عــى ّ‬
‫فتــح عينيــه ورفــع جســده لألعــى‪ .‬ارتعشــت مــزق أحــام يف شــعوره‪،‬‬
‫وانتابــه إحســاس بأنــه ذاتــه كان صــورة حلــم‪.‬‬
‫ابتســامة عابثــة عــى وج ـ ٍه نعســان كان يحــدق بــه مــن األســفل‬
‫كــا لــو أنــه ينتظــر التحــدث معــه‪ .‬قــال الوجــه املبتســم‪« :‬قــدم قاطــع‬

‫‪126‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫التذاكــر بينــا كنــا نامئــن‪ .‬أعتقــد أننــا نبــدو أناس ـاً ال يســافرون مــن‬
‫دون تذاكــر‪ ،‬لذلــك مل يزعجنــا‪ .‬لــن يعــود ثانيــة»‪..‬‬
‫سـ ّـوى جيــب قميصــه‪ .‬ال تذاكــر هنــاك! مل يســتطع حتــى أن يتذكــر‬
‫هــل ابتــاع واحــدة أم ال‪ ،‬أو حتــى بدايــة إقــاع هــذه الرحلــة‪ .‬توقــع‬
‫أنــه لــو كان ابتــاع تذكــرة‪ ،‬فــا بــد أن الوجــه املبتســم قــد رسقهــا مــن‬
‫جيبــه أثنــاء نومــه‪ .‬رمبــا يــأيت قاطــع التذاكــر‪ .‬لذلــك مــن األفضــل لــه‬
‫أن يفــر مــن هنــا‪ .‬غــرز أصابعــه يف فــروة رأســه كــا لــو أنــه يســحب‬
‫نفســه مــن شــعره‪.‬‬
‫يبــد متامــاً‬
‫كان القطــار يتباطــأ يف ســره مــاراً برصيــف محطــة مل ُ‬
‫أنهــا أعطتــه إشــارة مســبق ًة مــن أجــل التوقــف‪ .‬العربــة التــي يســتقلها‬
‫كانــت عــى وشــك التوقــف مبحــاذاة حقــل رحــب‪ .‬أعــد نفســه حاســباً‬
‫رسعــة العربــة‪ ،‬ثــم تــدىل إىل األســفل بإتقــان وخــرة قبــل أن تتوقــف‪.‬‬
‫مل تكن معه أمتعة تعيقه‪.‬‬
‫يف أثنــاء توقــف القطــار ثــم انطالقــه‪ ،‬نظــر حولــه بإمعــان وأحــس‪،‬‬
‫بــل ورأى يقينـاً أنــه مل يكــن مثــة أحــد ســواه هنــاك‪.‬‬
‫يف ذلــك الفـراغ األســود‪ ،‬بــدا الظــام نفســه يتوهــج ويــيء األشــياء‬
‫واألشــكال‪ .‬ومــن ثـ ّـم‪ ،‬ســيندمج هــذا الســطوع الغريــب مــرة ثانيــة مــع‬
‫الظلمــة‪ .‬ســمع صوت ـاً مثــل رصخــة عاليــة تــذوي لــروح انفصلــت عــن‬
‫جســمها لكنهــا مــا ت ـزال مجروحــة مــن ارتباطهــا وعبوديتهــا لل ـراب‬
‫والجســد‪.‬‬
‫هــذه الظلمــة‪ ،‬هــذا املــوت‪ ،‬هــذا الوضــوح‪ ،‬أعطــت جميعهــا انطباعاً‬
‫بأنهــا ليســت مــا هــي عليــه‪ ،‬كــا لــو أنهــا تنســلّ مــن طبيعتهــا الح ّقــة‪.‬‬
‫ـرأس‬
‫رأس ديــك مقطــوع غــر قــادر عــى العثــور عــى جســده‪ ،‬وبــدا الـ ُ‬ ‫ُ‬
‫باحث ـاً عــن أي يشء قريــب يك يتصــل بــه ويعلــن الفجــر بشــكل شــاذ‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫نخلــة أو شــجرة جــوز هنــد أو عنــزة أو بقــرة أو إنســان‪ :‬يف تلــك العتمــة‬
‫الغريبــة رمبــا ال يصلــح أي منهــا جســداً للديــك يك يصيــح صيحتــه؟‬
‫حتــى لــو كان املــرء واعي ـاً للســبب يف هــذا االنــزالق مــن دور إىل دور‪،‬‬
‫كيــف لــه أن يتفــاداه؟‬
‫*‬
‫قليــ ًا قبــل اكتــال ضــوء الفجــر‪ ،‬قرعــت بائعــة الحليــب البــاب‬
‫ورصخــت‪ ،‬لكنــه مل يســتيقظ‪ .‬اســتلقى كــا لــو أنــه مغمــور يف عــامل‬
‫أحالمــه‪ ،‬كــا لــو أنــه مذهــول مــن فكــرة أنــه رمبــا يكــون امتــداداً لحلم‬
‫ـال يكفــي بالتأكيــد يك‬
‫شــخص آخــر‪ .‬نادتــه بائعــة الحليــب بصــوت عـ ٍ‬
‫يســمع‪ ،‬لكنــه مل يجــب‪ .‬ســيكون مــن الخطــأ االنتظــار مــن أجلــه طويـاً‪،‬‬
‫هكــذا فكــرت بائعــة الحليــب‪ ،‬ثــم مضــت يف طريقهــا‪.‬‬

‫ترجمها من اللغة األم (التاميلية) إىل اإلنكليزية ‪Albert Franklin‬‬


‫٭٭٭‬

‫‪128‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫ٌ‬
‫ابن مخلص‬
‫أنيتا ديساي‬
‫تفحــص راكيــش النتائــج التــي ظهــرت يف صحــف الصبــاح بشــكل‬
‫دقيــق‪ .‬كان واقف ـاً عنــد بوابــة الحديقــة حــايف القدمــن يرتــدي ثيــاب‬
‫النــوم‪ .‬بعــد ذلــك صعــد الدرجــات مرسعـاً إىل الرشفــة حيــث كان والــده‬
‫يــرب شــاي الصبــاح‪ ،‬وانحنــى ليقبــل قدميــه‪.‬‬
‫‪« -‬يف قامئــة األوائــل‪ ،‬أليــس كذلــك يــا بنــي؟» ســأله والــده وهــو‬
‫يســتند يك يصــل إىل الصحيفــة‪.‬‬
‫‪« -‬يف أعــى القامئــة‪ ،‬يــا بابــا»‪ ،‬متتــم راكيــش برهبــة‪« ،‬األول عــى‬
‫مســتوى البلــد»‪.‬‬
‫عـ ّـم الهــرج واملــرج بعــد ذلــك‪ .‬هتفــت العائلــة ورقصــت وتدفــق‬
‫الــزوار بأعــداد كبــرة إىل البيــت الصغــر امللــون باألصفــر عنــد نهايــة‬
‫الطريــق‪ ،‬ليهنئــوا الوالديــن بهــذا الطفــل العبقــري ويربتــوا عــى ظهــره‬
‫وميلــؤوا البيــت والحديقــة بأصــوات وألــوان وكأنهــم يف مهرجــان‪ .‬كان‬
‫مثــة أكاليــل زهــر وحلــوى وثيــاب للحفــات وهدايــا (أقــام حــر تكفــي‬
‫ســنوات‪ ،‬وســاعة يــد أو ســاعتني)‪ ،‬فــرح وســعادة وأعصــاب مشــدودة‪،‬‬
‫جميعهــا عــى شــكل دوامــة متعــددة األلــوان تعــر عــن الفخــار واآلفاق‬
‫الرباقــة الهائلــة التــي انفتحــت حديثــاً؛ كان راكيــش الولــد األول يف‬

‫‪129‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫العائلــة الــذي يتلقــى الثقافــة والتعليــم‪ ،‬فقــد ضحــوا كثـراً يك يرســلوه‬


‫إىل املدرســة ثــم إىل كليــة الطــب‪ ،‬وأمثــرت تضحياتهــم يف النهايــة عــى‬
‫نحــو ذهبــي مجيــد‪.‬‬
‫لــكل شــخص جــاء إىل عنــده ليقــول «مبــارك‪ ،‬يــا فارمــا العزيــز‪ ،‬ابنــك‬
‫جلــب لــك املجــد»‪ ،‬كان األب يــرد‪« :‬نعــم‪ ،‬هــل تعرفــون مــا أول يشء‬
‫قـدمي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وقبل‬
‫فعلــــه عندما رأى النتـــائج هـــذا الصباح؟ لقد أســــرع إ ّيل ّ‬
‫ـي»‪ .‬دفــع هــذا عــدداً كب ـراً مــن النســاء بــن‬ ‫وقبــل قدمـ ّ‬
‫بـــل انحنــى ّ‬
‫الحشــود إىل رفــع أط ـراف الســاري الــذي يلبســنه لريطبنــه بدموعهــن‪،‬‬
‫بينــا الرجــال وهــم يحاولــون الوصــول إىل أوراق التانبــول والحلــوى‬
‫التــي قدمــت إليهــم عــى الصــواين‪ ،‬كانــوا يهــزون رؤوســهم باإلعجــاب‬
‫البنــوي املثــايل‪« .‬إن املــرء مل يعــد يــرى‬
‫ّ‬ ‫واالستحســان لذلــك الســلوك‬
‫أبــداً ســلوكاً مهذبـاً كهــذا بــن األبنــاء»‪ .‬وافقــوا جميعـاً عــى هــذا الــرأي‬
‫مــع قليــل مــن الحســد نوعــاً مــا‪ .‬قالــت بعــض النســوة‪ ،‬وبتنهيــدة‬
‫عميقــة‪ ،‬وهــن يغــادرن البيــت‪« :‬عــى األقــل يف مناســبة كهــذه‪ ،‬ميكــن‬
‫أن يقدمــوا حلــوى غاهــي النقيــة»‪ .‬وقــال بعــض الرجــال‪« :‬أال تظنــون‬
‫أن فارمــا العجــوز يظهــر شــيئاً مــن الكربيــاء‪ ،‬هــل يظــن أننــا ال نتذكــر‬
‫أصلــه الــذي انحــدر مــن ســوق الخضــار حيــث اعتــاد والــده أن يبيــع‬
‫الخــراوات ومل تطــأ قدمــه مدرســة قــط»‪ .‬كان يف نــرات أصواتهــم‬
‫الحســد ال الحقــد‪ ،‬ومل يكــن‪ ،‬بالطبــع ممكنـاً اجتنــاب ذلــك‪ ،‬فلــم يكــن‬
‫ألي ابــن يف تلــك الجاليــة الصغــرة الرثــة عــى طــرف املدينــة أن يلمــع‬
‫كــا ملــع راكيــش‪ ،‬ومــن كان يعــرف ذلــك أفضــل مــن اآلبــاء أنفســهم؟‬
‫تلــك كانــت البدايــة فحســب‪ ،‬الخطــوة األوىل يف التقــدم املندفــع‬
‫نحــو الــذرى املتألقــة للشــهرة والحــظ الســعيد‪ .‬األطروحــة التــي كتبهــا‬
‫لينــال درجــة اإلجــازة يف الطــب جلبــت لراكيــش مجــداً أعظــم يف الدوائر‬

‫‪130‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫الطبيــة املتخصصــة‪ .‬وقــد فــاز مبنحــة دراســية وذهــب إىل الـــ ‪USA‬‬
‫(كــا علمــه أبــوه أن يســميها وع ّلــم العائلــة كلهــا أن تقــول ذلــك؛ ليــس‬
‫أمريــكا‪ ،‬كــا يدعوهــا الج ـران الجهــاء‪ ،‬وإمنــا مــع حميميــة مهيبــة‪:‬‬
‫«‪ )»the USA‬حيــث واصــل ســرته العلميــة مبهابــة يف كل املشــايف ونــال‬
‫املدائــح مــن زمالئــه األمريــكان ونقلهــا إىل عائلتــه املتألقــة املعجبــة‪.‬‬
‫ومــا هــو أعظــم مــن ذلــك‪ ،‬أنــه عــاد فعـاً‪ ،‬عــاد إىل ذلــك البيــت الصغري‬
‫الصف ـراوي اللــون بــن بيــوت تلــك الجاليــة التــي كانــت جديــدة ذات‬
‫مـ ّـرة وازدادت بؤس ـاً‪ ،‬هنــاك عنــد نهايــة الطريــق متام ـاً حيــث ترمــي‬
‫عربــات القاممــة محتوياتهــا النتنــة ألجــل الخنازيــر يك تقلبهــا بأنوفهــا‪،‬‬
‫وجامعــي القاممــة يك يبنــوا أكواخهــم مــا فيهــا‪ ،‬كل ذلــك كان يجــري‬
‫خــارج األســوار املعدنيــة النظيفــة والحدائــق املرتبــة‪ .‬لهــذا كلــه‪ ،‬رجــع‬
‫راكيــش وأول يشء فعلــه أنــه تفلــت مــن عنــاق إخوتــه وأخواتــه يك‬
‫ينحنــي ويقبــل قدمــي والــده‪.‬‬
‫أمــا بالنســبة إىل أمــه‪ ،‬فقــد تأملــت بــرىض وإعجــاب الحقيقــة‬
‫الغريبــة حــول عــدم زواجــه يف أمريــكا وأنــه مل يــأت بزوجــة أجنبيــة‬
‫كــا حذرهــا كل جريانهــا‪ .‬أليــس ذلــك مــا يســافر ألجلــه كل األوالد‬
‫الهنــود؟ بــدالً مــن هــذا‪ ،‬وافــق‪ ،‬بــا جــدال تقريبـاً‪ ،‬عــى أن يتــزوج فتــاة‬
‫اختارتهــا لــه مــن قريتهــا‪ ،‬وهــي ابنــة إحــدى صديقــات الطفولــة‪ ،‬فتــاة‬
‫ريانــة غــر متعلمــة‪ ،‬تقليديــة‪ ،‬رزينــة وظريفــة إىل حــد أنهــا انزلقــت‬
‫داخــل البيــت مثــل عطــر ســاحر‪ ،‬تبــدو متكاســلة وذات طبــع طيــب‬
‫جــداً حتــى إِ َّن َهــا مل تطلــب مــن راكيــش مغــادرة منــزل األرسة والســكن‬
‫وحدهــا بشــكل مســتقل كــا ميكــن أن تفعــل أي فتــاة أخــرى‪.‬‬
‫الســمنة طريقـاً‬ ‫زد عــى ذلــك‪ ،‬كانــت جميلــة –جميلــة حقـاً– مل تعــرف ُّ‬
‫إىل جســمها بعــد والدة ابنهــا األول‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫عمــل راكيــش بضــع ســنوات يف مشــفى املدينــة‪ ،‬ورقــي برسعــة‬


‫وعــن مديــراً قبــل أن يســتقيل‬‫إىل أعــى منصــب يف التنظيــم اإلداري ّ‬
‫ليفتــح عيادتــه الخاصــة‪ .‬أقــلّ والديــه يف ســيارته؛ ســيارة جديــدة‬
‫ماركــة أمبادســور صناعــة وطنيــة‪ ،‬زرقــاء ســاوية ذات نافــذة خلفيــة‬
‫مــأى بــاألوراق الالصقــة والحــي والتعويــذات الصغــرة املتأرجحــة‪،‬‬
‫اصطحبهــم يك يــروا العيــادة أثنــاء بنائهــا واللوحــة اإلعالنيــة الكبــرة‬
‫فــوق البــاب التــي طبــع اســمه فوقهــا بأحــرف حمـراء مــع قامئــة مــن‬
‫الدرجــات واملؤهــات تتبعــه كعــدد كبــر مــن العبيــد الســود يتبعــون‬
‫وصيـاً عــى العــرش‪ .‬بعــد ذلــك‪ ،‬بــدا أن شــهرته أخــذت تنتــر ببــطء‪،‬‬
‫أو رمبــا ألنهــا كانــت الــيء الوحيــد الــذي ترعــرع كل شــخص يف املدينة‬
‫معتــاداً عليهــا يف النهايــة‪ ،‬لكنهــا كانــت أيض ـاً بدايــة حظــه‪ ،‬إذ أصبــح‬
‫اآلن ليــس األفضــل يف املدينــة فحســب‪ ،‬وإمنــا أغنــى دكتــور فيهــا أيضـاً‪.‬‬
‫عــى كل حــال‪ ،‬مل ينجــز كل هــذا يف طرفــة عــن‪ .‬بالطبــع ال‪ .‬لقــد‬
‫كانــت مأثــرة العمــر واســتغرقت حيــاة راكيــش بأكملهــا‪ .‬عندمــا فتــح‬
‫عتيـاً وأحيــل عــى املعــاش بعــد‬‫عيادتــه‪ ،‬كان أبــوه قــد بلــغ مــن العمــر ّ‬
‫انتهــاء وظيفتــه يف محطــة الوقــود حيــث عمــل هنــاك أربعــن عام ـاً‪.‬‬
‫ماتــت أمــه رسيع ـاً فيــا بعــد مخلفــة طيفهــا وهــي تتنهــد بســعادة؛‬
‫ألن ابنهــا هــو الــذي خدمهــا أثنــاء مرضهــا األخــر وهــو الــذي بقــي‬
‫قربهــا يشــد عــى قدميهــا يف آخــر لحظــة‪ .‬ولــد كهــذا مل تلــده إال قلــة‬
‫مــن النســاء‪.‬‬
‫وجــب االعــراف ‪-‬وهــذا مــا فعلــه يف النهايــة غالبيــة الجــران‬
‫الحقوديــن الفاشــلني‪ -‬أن راكيــش مل يكــن ابنـاً مخلصـاً ورجـ ًا ذا طبيعــة‬
‫وفيــة إىل حــد اإلعجــاز يخــرع الوســائل ليطيــع ويســي زوجتــه ويظهــر‬
‫اهتاممــاً متســاوياً بــن أوالده ومرضــاه فحســب‪ ،‬بــل كان مثــة عقــل‬

‫‪132‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫فعــا داخــل هــذا الجســد الــذي خلــق عــى نحــو فــذ وجميــل‬ ‫ذيك ً‬
‫ومفعــم باألخــاق الحميــدة والطبــع اللطيــف‪ .‬ومــا بــن خدمــة عائلتــه‬
‫واســتضافة كثــر مــن األصدقــاء ومالطفتهــم جميعــاً بشــعور مــن‬
‫الســعادة واالمتنــان والــرىض‪ ،‬مارســت يــداه مهنــة الطــب وأصبــح طبيبـاً‬
‫ممتــازاً‪ ،‬بــل جراح ـاً رائع ـاً إىل حــد بعيــد‪ .‬كيــف لرجــل واحــد‪ ،‬رجــل‬
‫ولــد لوالديــن أميــن‪ ،‬وأبــوه عمــل يف محطــة وقــود وأمــه قضــت حياتهــا‬
‫يف املطبــخ‪ ،‬كيــف لــه أن يحقــق ويشــكل ويقــود خليطـاً مــن الفضائــل‬
‫كهــذه‪ ،‬مل يســتطع أحــد أن يســر غــوره‪ ،‬لكــن الجميــع اعرتفــوا مبوهبتــه‬
‫ومهارتــه‪.‬‬
‫لكــن كانــت مثــة حقيقــة غريبــة وهــي أن ظهــور املوهبــة واملهــارة‬
‫عــى مــدى فــرة طويلــة‪ ،‬يجعلهــا يتوقفــان عــن التألــق‪ .‬ومــا حــدث‬
‫هــو أن صاحــب أكــر العيــون إعجابـاً قــد خبــا ومل يعــد يتــأأل عــى قمة‬
‫مجــده‪ .‬ومبــا أنــه تقاعــد مــن عملــه وفقــد زوجتــه‪ ،‬فــإن األب العجــوز‬
‫تقطــع إربـاً برسعــة كبــرة كــا يقولــون‪ .‬كان يشــكو كثـراً ويعتــلّ دامئـاً‬
‫بأم ـراض غامضــة يســتحيل كشــفها حتــى مــن قبــل ابنــه حــن تكــون‬
‫متكومــاً عــى رسيــره معظــم الوقــت‪،‬‬ ‫خطــرة ومع ّنــدة‪ .‬كان يجلــس ِّ‬
‫واعتــاد التمــدد واالســتلقاء ســاكناً متام ـاً عــى نحــو مفاجــئ يك يســمح‬
‫للعائلــة كلهــا بااللتفــاف حولــه تنــدب وتنتحــب‪ ،‬ثــم فجــأة أيضــاً‪،‬‬
‫ينهــض‪ ،‬متيبسـاً وهزيـاً‪ ،‬ويبصــق كتلــة كبــرة مــن عصــر التانبــول كأنــه‬
‫يســخر مــن ســلوكهم هــذا‪.‬‬
‫ـان كثــرة؛ يف إحــدى املـرات‪ ،‬أقيمــت‬ ‫وطاملــا فعــل ذلــك أيضـاً يف أحيـ ٍ‬
‫حفلــة كبــرة يف البيــت مبناســبة ميــاد أصغــر ابــن يف العائلــة‪ .‬وفجــأة‪،‬‬
‫تحتــم إيقــاف الحفــل عندمــا اكتشــفت الكنــة أو اعتقــدت بأنهــا‬
‫اكتشــفت أن الرجــل العجــوز املتمــدد يف الخــارج عــى رسيــره من طرف‬

‫‪133‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫إىل طــرف قــد توقــف نبضــه‪ .‬تفرقــت الحفلــة وانحلــت‪ ،‬بــل تحولــت‬
‫إىل جوقــة مــن النادبــن عندمــا نهــض الرجــل العجــوز وتلقــت الكنــة‬
‫املهتاجــة منــه كتلــة مــن البصــاق األحمــر متام ـاً عــى طــرف ســاريها‬
‫الجديــد املصنــوع مــن الحريــر‪ .‬بعــد ذلــك‪ ،‬مل يعــد أحــد يهتــم كث ـراً‬
‫يتنخــع ويبصــق‪ ،‬أو يســتلقي‬ ‫إن جلــس متصالــب الســاقني عــى رسيــره ّ‬
‫منبســطاً وقــد انقلــب لونــه رماديـاً كجثــة هامــدة‪ .‬طبعـاً‪ ،‬باســتثناء تلك‬
‫الجوهــرة بــن الجواهــر وهــي ابنــه راكيــش‪.‬‬
‫كان راكيــش مــن يحــر لــه شــاي الصبــاح‪ ،‬ليــس بواحــد مــن‬
‫الفناجــن الصينيــة التــي تــرب بهــا بقيــة العائلــة‪ ،‬بــل بالــكأس‬
‫النحاســية املفضلــة للرجــل العجــوز‪ ،‬ويجلــس عــى حافــة رسيــره مرتاحاً‬
‫ومســرخياً وخيــط البيجامــة يتــدىل مــن قميــص النــوم املصنــوع مــن‬
‫الشــاش الناعــم‪ ،‬وكان يــرد ويناقــش أخبــار الصبــاح لوالــده بصــوت‬
‫عــال‪ .‬مل يكــن ذا أهميــة لــه أن الوالــد مل يســتجب لذلــك بأكــر مــن‬
‫البصــاق‪ .‬كان راكيــش‪ ،‬أيضـاً‪ ،‬يرجــع مــن العيــادة مســاء ويقنــع الرجــل‬
‫العجــوز بالخــروج مــن الغرفــة‪ ،‬حافيـاً وكئيبـاً‪ ،‬ليتنفــس هــواء املســاء يف‬
‫الحديقــة‪ ،‬إذ يرتــب لــه الوســائد واملســاند عــى نحــو رائــع عــى األريكة‬
‫يف زاويــة الرشفــة املفتوحــة‪ .‬يف ليــايل الصيــف‪ ،‬ارتــأى أن يقــوم الخــدم‬
‫بحمــل الرجــل العجــوز إىل املرجــة وهــو بيديــه كان يســاعد والــده عــى‬
‫نــزول الدرجــات نحــو الرسيــر حيــث يهدئــه ويجعلــه يســتقر مثــة ليلــة‬
‫واحــدة تحــت ضــوء النجــوم‪.‬‬
‫ــه أَ َّن ولــده‬
‫كل هــذا كان مصــدر رىض للعجــوز‪ .‬لكــن مــا مل ُي ْر ِض ِ‬
‫تــول اإلرشاف عــى طعامــه وحميتــه‪ .‬حــدث مــرة أن اعتلــت صحــة‬ ‫َّ‬
‫األب كثـراً بعــد أن أكل طبقـاً مــن حلــوى الســوجي الــذي طلبــه عنــوة‬
‫مــن كنتــه‪ ،‬مــع صحــن مــن الكرميــا‪ .‬حينئــذ تقــدم راكيــش نحــو الغرفــة‪،‬‬

‫‪134‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫ليــس بخطوتــه املحرتمــة املعهــودة عنــه‪ ،‬بــل بالخطــوة املهرولــة الواثقــة‬


‫ـب مشــهور‪ ،‬وأعلــن‪« :‬ال حلــوى بعــد اليــوم‪ ،‬يــا بابــا‪.‬‬‫ـتهجنة لطبيـ ٍ‬
‫واملسـ ِ‬
‫يجــب أن ننتبــه إىل سـ ّنك املتقدمــة‪ .‬فــإن كان مــن الــروري أن تتنــاول‬
‫الكــر‪ ،‬إنهــا‬
‫ـتحض فيينــا لــك قليـ ًا مــن حلــوى ِ‬
‫شــيئاً مــن الحلــوى‪ ،‬فسـ ّ‬
‫خفيفــة‪ ،‬مجــرد قليــل مــن األرز والحليــب‪ .‬لكــن ال مقــايل وال دســم‪.‬‬
‫ال ميكن السامح بأن يحدث هذا مرة ثانية»‪.‬‬
‫الرجــل العجــوز‪ ،‬الــذي كان ممــدداً عــى رسيــره ضعيفـاً واهنـاً بعــد‬
‫ـال ليــوم كامــل‪ ،‬جفــل مــن الصــوت ونغمــة هــذه الكلــات‪ .‬فتــح‬ ‫اعتـ ٍ‬
‫عينيــه اللتــن صدمتــا إىل حــد مــا وحــدق يف ابنــه ال يصــدق مــا ســمعه‪،‬‬
‫ابــن مينــع فعــ ًا أبــاه مــن‬
‫اكفهــر وجهــه رسيعــاً وأخــذ يؤنبــه‪ٌ .‬‬
‫ّ‬ ‫ثــم‬
‫الطعــام الــذي يحبــه؟ كال‪ ،‬مل ُيســمع بهــذا مــن قبــل وال ميكــن تصديقــه‪.‬‬
‫لكــن راكيــش أدار ظهــره وأخــذ ينظــف حاملــة الزجاجــات وأكيــاس‬
‫األدويــة عــى الــرف ومل يلحــظ أن فيينــا تســللت بصمــت خارجــة مــن‬
‫الغرفــة وعــى محياهــا ابتســامة متكلفــة صغــرة رآهــا فحســب الرجــل‬
‫العجــوز وأثــارت حنقــه‪.‬‬
‫كانــت الحلــوى هــي البنــد األول الــذي حــذف يف حميــة الرجــل‬
‫العجــوز‪ .‬ومنــع عنــه طعــام شــهي يف إثــر آخــر‪ ،‬وكانــت البدايــة مــع كل‬
‫يشء مقــي ثــم كل يشء حلــو‪ ،‬وأخـراً كل يشء‪ ،‬أجــل‪ ،‬كل مــا كان ميتــع‬
‫الرجــل العجــوز‪ .‬كانــت الوجبــات التــي تصلــه عــى صينيــة مــن الفــوالذ‬
‫ال ـراق مرتــن يومي ـاً تقتــر عــى أقــل كميــة مــن الخبــز املجفــف أو‬
‫العــدس املســلوق أو الخضــار املســلوقة‪ ،‬وإن وجــدت قطعــة صغــرة من‬
‫ـات‬
‫الدجــاج أو الســمك فســتكون مســلوقة أيضـاً‪ ،‬وإن نــادى يريــد طلبـ ٍ‬
‫أخــرى بصــوت أجــش ينــم عــن ارتعــاش زائــف فــإن راكيــش بنفســه‬
‫كان يــأيت إىل البــاب ويحــ ّدق فيــه بحــزن ويهــز رأســه وهــو يقــول‪:‬‬

‫‪135‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫«اآلن‪ ،‬يــا بابــا‪ ،‬يجــب أن نكــون حذريــن‪ ،‬ال ميكننــا أن نجــازف مبــرض‬
‫آخــر‪ ،‬كــا تعــرف»‪ ،‬ومــع أن الك ّنــة كانــت تبقــى خــارج الحديــث بــكل‬
‫لباقــة‪ ،‬فــإن الرجــل العجــوز كان يــرى متامـاً ابتســامتها املتكلفــة تنزلــق‬
‫عــر الهــواء‪ .‬كان يرشــو حفيــده ليشــري الحلــوى لــه (ويــرح لــه كــم‬
‫يفتقــد زوجتــه التــي كانــت طباخــة كرميــة أميــة متســامحة) فيهمــس‬
‫لــه بينــا يحشــو العملــة املعدنيــة يف قبضــة ســاخنة محكمــة اإلغــاق‬
‫«هنــا خمســون بيــزو‪ ،‬اركــض إىل املحــل الجديــد عنــد مفــرق الطــرق‬
‫ـر يل بقيمــة ثالثــن بيــزو مــن الجاليبــز(‪ ،)17‬وارصف العرشيــن بيــزو‬ ‫َو ْاشـ ِ َ‬
‫الباقيــة عــى نفســك‪ ،‬إيــه؟ هــل تفهــم؟ هــل ســتذهب؟»‪ .‬فعــل ذلــك‬
‫مــرة أو مرتــن‪ ،‬ثــم اك ُتشــف الحفيــد املتآمــر وتــم توبيخــه مــن قبــل‬
‫أبيــه وصفعتــه أمــه‪ ،‬وقــدم راكيــش غاضبـاً إىل الغرفــة‪ ،‬وكاد ميزق شــعره‬
‫ـزم شــفتيه املشــدودتني صارخ ـاً «واآلن‪ ،‬يــا بابــا‪ ،‬هــل تريــد أن‬ ‫وهــو يـ ّ‬
‫تجعــل ابنــي الصغــر كذوبـاً؟ أال يكفــي أنــك تفســد معدتــك‪ ،‬تريــد أن‬
‫تفســده أيضـاً‪ .‬أنــت تشــجعه ليكــذب عــى والديــه‪ .‬ال بــد أنــك ســمعت‬
‫الكذبــات التــي قصهــا عــى أمــه عندمــا رأتــه راجع ـاً بقطــع الجاليبــز‬
‫تلــك امللفوفــة بــورق جرائــد قــذر‪ .‬ال أســمح ألحــد يف بيتــي أن يشــري‬
‫الحلــوى مــن الســوق‪ ،‬يــا بابــا‪ ،‬إنــك تعــرف ذلــك‪ .‬مثــة كولـرا يف املدينــة‬
‫وتيفوئيــد والتهابــات معديــة‪ .‬أرى هــذه الحــاالت يوميــاً يف املشــفى‪،‬‬
‫فكيــف أســمح لعائلتــي أن تجــازف بهــذا الخطــر؟»‪ .‬تنهــد العجــوز‬
‫واســتلقى يف وضعيــة الجثــة‪ ،‬لكــن ذلــك مل يعــد يقلــق أحــداً‪.‬‬
‫بقيــت متعــة واحــدة فقــط للرجــل العجــوز (زيــارات الصبــاح الباكرة‬
‫البنــه وقراءاتــه للجرائــد مل تعــد ممتعــة)‪ ،‬كانــت تلــك هــي زيــارات‬
‫جريانــه املعمريــن‪ .‬مل تكــن الزيــارات متواتــرة ألن معظــم الذيــن يف ســنه‬
‫(‪ - )17‬نوع من الحلوى الشعبية الهندية‪( .‬م)‬

‫‪136‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫أصبحــوا مقعديــن وعجــزة مثلــه‪ ،‬وبعضهــم اآلخــر ال يقــدر عــى قطــع‬


‫مســافة الطريــق لزيارتــه‪ .‬كان العجــوز بهاتيــا‪ ،‬الســاكن يف البيــت املجاور‪،‬‬
‫نشــيطاً مبــا يكفــي لريفــض بعنــاد االســتحامم يف داخــل البيــت ويــر عــى‬
‫حمــل إبريقــه النحــايس ومنديلــه نحــو الســاحة يف كافــة الفصــول ويف‬
‫ـج تحــت صنبــور الحديقــة‪ .‬كان بهاتيا‬ ‫أوقــات ال تصــدق يك يســتحم بضجيـ ٍ‬
‫ينظــر مــن فــوق الســور يك يــرى إن كان فارمــا قــد خــرج للرشفــة ليناديــه‬
‫ويتحــدث إليــه وهــو يلــف ثــوب «الداهــويت» حــول خــره ويجفــف‬
‫شــعره الخفيــف مرتعشـاً باســتمتاع بالــغ‪ .‬طبعـاً‪ ،‬هــذه األحاديــث‪ ،‬التــي‬
‫كانــت عــى شــكل زعيــق يقــوم بهــا عجــوزان أصــان وهــا يــدركان أن‬
‫جميــع أهــل البيــت يســرقون الســمع إليهــا‪ ،‬مل تكــن مرضيــة جــداً‪ ،‬لكن‬
‫بهاتيــا كان يخــرج مــن باحتــه أحيانـاً ويقطــع مســافة الطريــق القصــرة‬
‫ليدخــل إىل بوابــة منــزل فارمــا وينهــار عــى قاعــدة العمــود الحجــري‬
‫الــذي ُبنــي تحــت شــجرة املعبــد‪ .‬عندمــا يكــون راكيــش يف البيــت فإنــه‬
‫يســاعد والــده يف نــزول الدرجــات إىل الحديقــة ويســوي جلســته عــى‬
‫رسيــره الليــي تحــت الشــجرة ويــرك العجوزيــن ميضغــان أوراق التانبــول‬
‫ويناقشــان أمراضهــا واحــداً تلــو آخــر بــأمل مشــرك‪.‬‬
‫‪«-‬عــى األقــل‪ ،‬لديــك طبيــب يف البيــت يعتنــي بــك»‪ ،‬تــأوه بهاتيــا‬
‫وهــو يصــف شــدة معاناتــه مــن البواســر‪.‬‬
‫‪«-‬يعتنــي يب؟» رصخ فارمــا بصــوت أجــش مثــل قــارورة فخــار قدميــة‬
‫تتكــر‪« .‬هــو‪ ..‬هــو ال يعطينــي حتــى مــا يســد رمقــي»‪.‬‬
‫‪« -‬مــاذا؟» قــال بهاتيــا وشــعرات أذنيــه البيــض ترتعــش‪« ،‬ال يعطيــك‬
‫مــا يســد رمقــك؟ ابنــك الــذي مــن صلبــك؟»‪.‬‬
‫‪« -‬ابنــي مــن لحمــي ودمــي‪ .‬إن طلبــت قطعــة أخــرى مــن الخبــز‬
‫يقــول‪ :‬كال‪ ،‬يــا بابــا‪ ،‬لقــد وزنــت الكميــة تلــك بنفــي وال أســمح لــك أن‬

‫‪137‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫تتنــاول أكــر مــن مئتــي غـرام مــن الحبــوب يوميـاً‪ .‬إنــه يــزن مــا يقــدم‬
‫يل مــن طعــام‪ ،‬يــا بهاتيــا‪ ..‬عنــده ميـزان لذلــك‪ .‬هــذا مــا وصــل إليــه»‪.‬‬
‫البــن أن يرفــض‬
‫‪« -‬ال ميكــن»‪ ،‬متتــم بهاتيــا غــر مصــدق‪« .‬كيــف ٍ‬
‫ــن اللعينــة؟»‪.‬‬
‫الس ِّ‬
‫ــذ ِه َّ‬
‫إطعــام والــده يف َه ِ‬
‫‪« -‬دعنــي أخــرك»‪ ،‬همــس فارمــا بلهفــة‪« .‬هــذا اليــوم كانــت‬
‫العائلــة تتنــاول ســمكاً مقليــاً‪ .‬اســتطعت أن أشــم رائحتــه‪ ،‬فناديــت‬
‫كل‪.»..‬‬
‫كنتــي لتحــر يل قطعــة‪ .‬تقدمــت نحــو البــاب وقالــت ّ‬
‫‪« -‬قالــت كال؟» يف هــذه املــرة صــوت بهاتيــا هــو الــذي أصبــح‬
‫درنغــو مــن الشــجرة وطــار بعيــداً‪« .‬كال؟»‪.‬‬ ‫ــش‪ .‬وخــرج عصفــور ُ‬ ‫أَ َج َّ‬
‫‪« -‬كال‪ .‬قالــت كال‪ ،‬ألن راكيــش أمرهــا أال تقــدم يل أي طعــام مكــون‬
‫مــن مقــايل أو زبــدة أو زيــت»‪.‬‬
‫‪« -‬ال زبدة؟ ال زيت؟ كيف يتوقع أن يحيا والده؟»‬
‫هــز العجــوز فارمــا رأســه موافقـاً بانتصــار كئيــب‪« .‬هكــذا يعاملنــي‬
‫بعــد أن ربيتــه وعلّمتــه وجعلتــه طبيب ـاً عظي ـاً‪ .‬طبيب ـاً عظي ـاً! هــذا‬
‫هــو أســلوب األطبــاء العظــام مــع آبائهــم‪ ،‬يــا بهاتيــا»‪ ،‬فقــد كانــت‬
‫الشــخصية والطبــع األصيــل لالبــن يخضعــان اآلن لتحــول هائــل‪ .‬يبــدو‬
‫كل يشء متشــابهاً يف الظاهــر لكــن التفســر تبــدل‪ :‬مل تكــن كفاءتــه‬
‫البارعــة تنـ ُّـم عــن يشء ســوى قلــب متحجــر وتس ـلّط مق ّنــع وحســب‪.‬‬
‫كانــت مثــة ارتيــاح بــارد يف الشــكوى للجـران‪ ،‬وبفعــل حميــة بائســة‬
‫كهــذه‪ ،‬وجــد فارمــا نفســه يتدهــور ويضعــف ويصبــح رج ـ ًا مريض ـاً‬
‫عــى نحــو حقيقــي ورسيــع‪ .‬املســاحيق والكبســوالت والخلطــات ال تــأيت‬
‫فقــط يف أثنــاء معالجــة أزمــة طارئــة مثــل اضطــراب يف املعــدة‪ ،‬بــل‬
‫أصبحــت جــزءاً نظامي ـاً ثابت ـاً مــن حميتــه‪ ،‬بــل هــي حميتــه؛ حميــة‬
‫فارمــا الشــايك‪ ،‬وحلــت محــل طعامــه الطبيعــي الــذي يحبــه‪ .‬كانــت‬

‫‪138‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫مثــة كبســوالت لتنظيــم حــركات األمعــاء أو تخفيــض ضغــط الــدم أو‬


‫معالجــة التهــاب املفاصــل‪ ،‬وفــوق كل ذلــك‪ ،‬كبســوالت لتبقــي قلبــه‬
‫ينبــض‪ .‬وفيــا بينهــا‪ ،‬كانــت مثــة إســعافات مذعــورة إىل املشــفى‪،‬‬
‫وبعــض التجــارب املذلــة كمضخــة للمعــدة أو حقنــة رشجيــة تخلــف‬
‫لَ ـ ُه الفــزع واليــأس‪ .‬كان رسيــع البــكاء وهــو يــذوي عــى رسيــره‪ ،‬وإن‬
‫اشــتىك مــن األمل أو مــن خــوف غامــض كئيــب يف الليــل‪ ،‬رسعــان مــا‬
‫يفتــح راكيــش زجاجــة أخــرى مــن الكبســوالت ويجــره عــى تنــاول‬
‫حبــة‪« .‬هــذا واجبــي نحــوك يــا بابــا»‪ ،‬كان يقــول ذلــك عندمــا يتوســل‬
‫إليــه األب ليدعــه وشــأنه‪.‬‬
‫‪« -‬دعنــي وشــأين»‪ ،‬كان فارمــا يتوســل وهــو يشــيح بوجهــه بعيــداً‬
‫عــن الكبســوالت املوجــودة يف اليــد املمتــدة إليــه‪« .‬دعنــي أمــت‪.‬‬
‫ســيكون ذلــك أفضــل‪ .‬ال أريــد أن أعيــش ألتنــاول أدويتــك فحســب»‪.‬‬
‫‪« -‬بابا‪ ،‬كن عاقالً»‪.‬‬
‫دع ذلــك لــك» رصخ األب بحيويــة مفاجئــة «اتركنــي وحــدي‪.‬‬ ‫‪« -‬أَ ُ‬
‫دعنــي أمــت اآلن‪ ،‬ال أحــب أن أحيــا عــى هــذا النحــو»‪.‬‬
‫‪« -‬مســتلقياً عــى وســائده طــوال النهــار‪ ،‬يــأكل كل بضــع ســاعات‬
‫مــن يــدي كنتــه‪ ،‬ويــزوره كل فــرد مــن أف ـراد العائلــة يومي ـاً‪ ..‬وبعــد‬
‫ذلــك يقــول ال أريــد أن أعيــش «هكــذا عيشــة»‪ُ .‬ســمع راكيــش يقــول‬
‫هــذا الــكالم‪ ،‬ضاحــكاً‪ ،‬لشــخص خلــف البــاب‪.‬‬
‫‪« -‬محروم ـاً مــن الطعــام» رصخ الرجــل العجــوز وهــو يف رسيــره‪،‬‬
‫«رغباتــه ال ُتطــاع أو تســخر منهــا كنتــه أو يضحــك عليهــا أحفــاده‪،‬‬
‫ـن‬‫هكــذا أعيــش»‪ .‬لكنــه كان معم ـراً وضعيف ـاً إىل حــد بعيــد‪ ،‬فلــم يتبـ ّ‬
‫أحــد يف صوتــه ســوى نقيــق مشــوش أو نخــر مؤثــر أو رصخــات أمل‬
‫حقيقــي‪ .‬مــرة واحــدة ســمعوه يبــي عندمــا جــاء بهاتيــا لزيارته وجلســا‬

‫‪139‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫تحــت الشــجرة املباركــة‪« ،‬اللــه يطلبنــي إىل عنــده‪ ..‬ولكنهــم ال يرتكوننــي‬


‫أمــوت»‪.‬‬
‫كميــات الفيتامينــات واملنشــطات التــي وجــب عليــه أن يتناولهــا‬
‫مل تكــن عدميــة الجــدوى كليـاً‪ .‬لقــد أبقتــه عــى قيــد الحياة‪ ،‬بــل ومنحته‬
‫أيضـاً نوعـاً مــن القــوة جعلتــه َيعلــق طويـ ًا يف حبــل الحيــاة‪ .‬كأنــه كان‬
‫يشــد حبـ ًا ليقطعــه فــا ينقطــع‪ ،‬بــل يظــلّ قويـاً‪ .‬فــا ينوبــه ســوى األمل‬
‫مــن املحاولة‪.‬‬
‫يف املســاء‪ ،‬ذلــك الصيــف‪ ،‬دخــل الخــدم إىل حجرتــه وأمســكوا رسيره‬
‫مــن طرفيــه وحملــوه إىل الرشفــة ووضعــوه هنــاك مــع نقــرة خفيفــة‬
‫رجــت كل ســن يف رأســه‪ .‬ورداً عــى شــكواه الغاضبــة‪ ،‬قالــوا إن ســيدهم‬
‫الدكتــور أخربهــم أنــه ال بــد لــه أن يستنشــق هــواء املســاء‪ ،‬وليحصــل‬
‫ذلــك يجــب أن يتعــرض لـــ «نقــرة خفيفــة»‪ .‬بعــد ذلــك ظهــرت فيينــا‪،‬‬
‫تلــك الحلــوى الزائفــة‪ ،‬مبتســمة ترتــدي الســاري الــذي يحــدث حفيفـاً‪،‬‬
‫لرتتــب الوســائد تحــت رأســه حتــى يتثبــت يف وضعيــة الجلــوس التــي‬
‫تجعــل رأســه يــدوخ وظهــره يتــأمل‪.‬‬
‫أستلق»‪ ،‬توسل إليها‪« .‬مل أعد أستطيع الجلوس»‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫‪« -‬دعيني‬
‫‪« -‬حــاول يــا بابــا‪ ،‬يقــول راكيــش إنــك تســتطيع إن حاولــت»‪ .‬قالــت‬
‫ذلــك وانتقلــت إىل الطــرف اآلخــر للرشفــة حيــث املذيــاع الصغــر يــردد‬
‫ألحــان الحــب امللتاعــة مــن األفــام التــي كانــت تســتمع إليهــا طــوال‬
‫اليــوم‪.‬‬
‫مرعب ـاً‪ ،‬محدق ـاً نحــو‬
‫عــى هــذا النحــو جلــس‪ ،‬كجثــة هامــدة‪ِ ،‬‬
‫الخــارج إىل املرجــة التــي يلعــب فيهــا أحفــاده الكريكيــت خائفــاً‬
‫مــن أن تســقط واحــدة مــن كراتهــم القاســية املغزليــة يف عينــه‪ .‬كان‬
‫يحــدق أيض ـاً نحــو البوابــة التــي فتحــت عــى املمــر املغــر املــيء‬

‫‪140‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫بالقاممــة‪ ،‬لكنهــا مــا زالــت تحمــل بفخــر اللوحــة التــي كتبــت مؤخراً‬
‫وعليهــا اســم ابنــه ومؤهالتــه بينــا اختفــى منهــا اســمه منــذ زمــن‬
‫بعيــد‪.‬‬
‫أخ ـراً‪ ،‬وصلــت ســيارة األمباســادور الزرقــاء بلــون الســاء وانتهــت‬
‫لعبــة الكريكيــت برسعــة‪ ،‬ودخلــت الســيارة بشــكل أنيــق‪ ،‬وترجــل منهــا‬
‫الدكتــور‪ ،‬الدكتــور العظيــم‪ ،‬وهــو يرتــدي األبيــض بالكامــل‪ .‬صعــد أحــد‬
‫األشــخاص ليحمــل حقيبتــه وآخــرون ملرافقتــه يف صعــود الــدرج‪« .‬هــل‬
‫تــرب الشــاي؟» نادتــه زوجتــه وهــي تقفــل املذيــاع‪« ،‬أم الكــوكا كــوال؟‬
‫هــل أقــي لــك بعــض السمبوســة؟» لكنــه مل يجــب أو حتــى يســرق‬
‫نظــرة خاطفــة نحوهــا‪ ،‬ومبــا أنــه ابــن مخلــص لألبــد‪ ،‬فقــد اتجــه أوالً‬
‫ـى باألمـراض‪ ،‬محدقـاً نحــو‬ ‫إىل الزاويــة التــي يجلــس فيهــا والــده‪ ،‬امل ُْب َتـ َ‬
‫بقعــة غــر محــددة يف الهــواء األصفــر املغــر أمامــه‪ .‬مل يلتفــت لينظــر‬
‫وثبــت‬ ‫إىل ابنــه‪ ،‬لكنــه توقــف عــن التهــام الهــواء بشــفاهه املضطربــة ّ‬
‫فكــه كــا يســتطيع رجــل عجــوز مريــض أن يثبتــه‪.‬‬
‫‪« -‬بابــا»‪ ،‬قــال االبــن برقــة وهــو يجلــس عــى حافــة الرسيــر ليقبــل‬
‫قدميه‪.‬‬
‫دس العجــوز فارمــا قدميــه تحتــه‪ ،‬بعيــداً عــن متنــاول ابنــه‪ ،‬وظــل‬
‫يحــدق بعنــاد يف الهــواء األصفــر ملســاء الصيــف‪.‬‬
‫عدت إىل البيت»‪.‬‬
‫‪« -‬بابا‪ُ ،‬‬
‫اهتــزت يــد فارمــا فجــأة بحركــة ســاخرة رسيعــة‪ ،‬لكنــه مل ينبــس‬
‫ببنــت شــفة‪.‬‬
‫‪« -‬كيف تشعر اآلن‪ ،‬يا بابا؟»‪.‬‬
‫عندئــذ‪ ،‬اســتدار فارمــا والتفــت إىل ابنــه‪ .‬كانــت إميــاءات وجهــه‬
‫مشــتتة خارجــة عــن الســيطرة‪ ،‬حتــى إن تعبرياتهــا مل تســتطع أن تكـ ِّـون‬

‫‪141‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫إميــاءة واحــدة مكتملــة تنقــل للرجــل الشــهري كيــف ينظــر والــده اآلن‬
‫إىل مهارتــه وبراعتــه‪.‬‬
‫خفيــض أجــش‪« .‬دعنــي أمــت‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫‪« -‬إننــي أحتــر»‪ ،‬قــال بصــوت‬
‫هــذه رغبتــي»‪.‬‬
‫‪« -‬بابــا‪ ،‬أنــت متــزح»‪ ،‬ابتســم االبــن مبحبــة‪« .‬أحــرت لــك منشــطاً‬
‫جديــداً يك تتحســن‪ .‬يجــب أن تتناولــه ألنــه يقويــك مــن جديــد‪ .‬هــا‬
‫هــو‪ ،‬عــدين أن تأخــذه بانتظــام يــا بابــا»‪.‬‬
‫تحــرك فــم فارمــا بقســاوة كأنــه مــا زال ميضــغ كتلــة مــن التانبــول‬
‫علـ ًا أنــه منــع عنــه منــذ ســنوات بعيــدة‪ .‬بعــد ذلــك‪ ،‬تفــوه بكلــات‬
‫ومــرة كالســم يف وجــه ابنــه‪« .‬أبعــد دواءك املنشــط ال أريــد شــيئاً‬ ‫حــادة ُ‬
‫ال أريــد شــيئاً لــن أتنــاول املزيــد مــن أدويتــك‪ ،‬أبــداً‪ ،‬أبــداً» ثــم ســحب‬
‫زجاجــة املنشــط مــن يــد ابنــه بحركــة مفاجئــة قويــة وحاســمة‪.‬‬
‫قفــز االبــن ألن الزجاجــة تحطمــت وتناثــر منهــا ســائل بنــي كثيــف‬
‫لطــخ رسوالــه األبيــض ورصخــت زوجتــه وركضــت وحصــل هــرج ومــرج‬
‫وضجــة حــول الرجــل مــرة أخــرى‪.‬‬
‫دفــع الوســائد التــي كانــت خلــف ظهــره وأزاحهــا بحيــث يســتطيع‬
‫أن يغــوص مســتلقياً عــى ظهــره بشــكل مســطح متامـاً‪ .‬أغمــض عينيــه‬
‫ووجــه ذقنــه نحــو الســقف مثــل مــن ينــذر بكارثــة وهــو يــن مــن األمل‪،‬‬
‫«اللــه يطلبنــي إىل عنــده‪ ،‬دعنــي أذهــب اآلن»‪.‬‬
‫٭٭٭‬

‫‪142‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫ساحر األفاعي‬
‫تشونيالل ماديا‬
‫كان ســاحر األفاعــي جاغــرا يعــزف عــى آلــة الفلــوت املرصعــة‬
‫بالصــدف األبيــض الزهــري الشــكل‪ .‬يعــزف بصــوت عــال كأنــه ينفــخ‬
‫يف كــر الحــداد‪ ،‬وبجهـ ٍد بالــغ حتــى بــدا وكأن خديــه ســوف ينفجـران‪.‬‬
‫كان العــرض يف ذروتــه‪ .‬ووســط ذلــك الحشــد املــراص‪ ،‬متايــل ذكــر‬
‫وأنثــى الكوبــرا اللــذان اصطادهــا وهــا يهسهســان يف أحــد أوكار‬
‫الح ْيــد البحــري ملنطقــة يوجاديــا‪ .‬كانــت األفعيــان ترفعــان‬ ‫النمــل يف َ‬
‫جســميهام وســط الهــواء وتنـران غطــايئ الــرأس بشــكل واســع مثــل‬
‫املنخــل‪.‬‬
‫وكلــا ازدادت األفعيــان متايــ ًا ازداد جاغــرا‪ ،‬الــذي كان راكعــاً يف‬
‫بدايــة العــرض‪ ،‬ارتفاعـاً وارتفاعـاً وأصبحــت عضــات وجهــه أكــر وأكــر‬
‫اشــتداداً مــع كل دقيقــة متــي‪ ،‬وبــدا كأنــه يســحب الهــواء مــن أعمــق‬
‫تجاويــف أحشــائه ويقذفــه يف آلتــه‪.‬‬
‫وكان مثــة مــرر أيضـاً لــكل هــذا‪ ،‬إذ ســبق لــه أن َأس يف ســلته زوجـاً‬
‫مقدســاً مــن الكوبــرا الــذي لــن يســتجيب لســحر أيــة روح أخــرى‪،‬‬
‫وحتــى لــو فعــل‪ ،‬فإنــه لــن يبقــى ســجيناً أبــداً يف الســلة‪ .‬وقــد أنجــز‬
‫ذلــك العمــل البطــويل الصعــب مــن خــال القــوة الســاحرة التــي ورثهــا‬
‫عــن أبيــه ا ُمل َتـ َـو َّف والتــي ال تضاهــى‪ ،‬أق ّلــه يف املناطــق املجــاورة‪.‬‬
‫‪143‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫كان يقــدم‪ ،‬بنــاء عــى طلــب زعيــم القريــة‪ ،‬عرضــه الشــعبي األول‬
‫تلــك الظهــرة‪ .‬كان زوج الكوبــرا يتاميــل ويتحــرك بتأثــر املوســيقى‬
‫الجــاو ْرس املمتلئــة بالحبيبــات‬ ‫َ‬ ‫الفاتنــة للفلــوت كــا تتاميــل ســنابل‬
‫الكبــرة الطريــة مــع النســيم الــذي يهــب فــوق الحقــول‪.‬‬
‫كان الجمهــور مســتغرقاً بعمــق مبــا يــرى‪ .‬العيــون كلهــا مثبتــة عــى‬
‫الحيتــان بانحناءاتهــا الرشــيقة عنــد الرأســن مثــل‬ ‫زوج الكوبـرا‪ .‬بــدت ّ‬
‫جســدين نحيلــن منحنيــن عنــد الخــر‪.‬‬
‫هــذه هــي اللحظــة األســمى يف حيــاة جاغ ـرا‪ ،‬لحظــة تحقــق تلــك‬
‫القــوة املقدســة التــي أورثهــا لــه أبــوه‪ ،‬والتــي يتطلــب بلوغهــا اتخــاذ‬
‫قيــود شــاقة مــن قبــل املتــدرب‪.‬‬
‫بــدأ اهتــا ُم جاغـرا منــذ ســنني عديــدة خلــت عندمــا ل ّقــن العجــوز‬
‫الدهــو‪ ،‬الــذي مل يســتطع أن يحافــظ عــى النقــاء ال ّتــام لهــذا الفــن‪ ،‬اب َنــه‬
‫الوحيــد مبــادئ القــوة املقدســة بحيــث ال ميكــن نســيانها‪ ،‬وحــذر ابنــه‬
‫يف الوقــت ذاتــه مــن مخاطــر هــذا الســبيل‪ .‬قــال إن ســلوك هــذا الــدرب‬
‫يتطلــب طهــارة تزيــد عــى تزمــت ورصامــة اليوغانيــن مــن أتبــاع‬
‫جوللونــدور‪ .‬وأكــد لــه بــأن الطهــارة الثالثيــة للعقــل والجســد والــكالم‬
‫رضوريــة بشــكل مطلــق إذا أراد املرء االســتمرار يف هــذا الطريق‪ .‬وإن أي‬
‫انحـراف طفيــف يجعلــه يتدحــرج مــن ذروة املجــد إىل الــدرك األســفل‪.‬‬
‫كان جاغ ـرا يومهــا شــاباً صغ ـراً‪ ،‬ومــع ذلــك امتلــك بعــض خــرة يف‬
‫هــذا املجــال‪ .‬فعندمــا كان أبــوه يتنقــل مــن قريــة إىل قريــة حامـ ًا ســلة‬
‫«الحيوانــات» عــى كتفيــه‪ ،‬كان جاغ ـرا يرافقــه حام ـ ًا كيــس املشـ ّـمع‬
‫وبداخلــه آلــة الفلــوت والزبديــة وكيــس الحــاوي وعــدة أشــياء غريبــة‬
‫أخــرى‪ .‬كان والــده يف أثنــاء العــرض يركــز عينيــه عــى األفعيــن بينــا‬
‫جاغــرا‪ ،‬بنظــره الثاقــب‪ ،‬يلتقــط العملــة الصغــرة التــي ترمــى عــى‬

‫‪144‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫ال ـراب مــن قبــل النظّ ــارة‪ .‬كان ينجــز كل الرتتيبــات التحضرييــة قبــل‬
‫بــدء العــرض‪ ،‬كالعــزف عــى آلــة الرتوبيــت الصغــرة لجــذب الحشــود‬
‫بــدءاً مــن األوالد الصغــار إىل الكبــار‪ ،‬ثــم تنظيــف املــكان وإخــراج‬
‫النمــس مــن الكيــس وتثبيــت مخلبــه بــاألرض‪ّ .‬إبــان ذلــك‪ ،‬كان الدهــو‬
‫يدخــن الداتــورا(‪ )18‬ألجــل تحضــر نفســه للمبــارشة بعملــه املُضنــي‬ ‫ّ‬
‫الــذي يتطلــب الرتكيــز‪ .‬ويف نهايــة الحفــل‪ ،‬عندمــا يصــدر أوامــر تهديدية‬
‫لــأوالد يك يحــروا بعــض الطحــن مــن البيــت (ويلعــن أمهاتهــم إذا مل‬
‫يحــروا شــيئاً)‪ ،‬وعندمــا يجلــب األوالد الخائفــون بعــض فضلــة مــن‬
‫طعــام يف النهايــة‪ ،‬فــإن جاغـرا هــو الــذي يجمعهــا ويدفعهــا يف كيســه‪.‬‬
‫كانــت مهنــة عامليــة غــر مكتوبــة‪ ،‬تقتــي خــروج األب واالبــن مــن‬
‫البلــدة مــع حلــول املســاء‪ ،‬وإال فــإن عليهــم أن يواجهــوا الرشطــة إذا‬
‫أخفقــوا يف التخفــي‪.‬‬
‫طبعــاً كان عليهــم عندمــا يغــادرون حــدود البلــدة أن يســمحوا‬
‫للحــارس بتفتيــش كل أمتعتهــم الشــخصية مخافــة أن يحشــوا يف إحــدى‬
‫ســالهم طف ـ ًا مــن الطبقــة العليــا!‬
‫ـب نبــات‬ ‫ميــي األب واالبــن بعيــداً داخــل الغابــة ويســتخرجون لـ ّ‬
‫ـدع الدهــو اب َنــه جاغ ـرا‬
‫الخبيــز‪ ،‬وإذا مل يكــن مثــة مــا يكفــي لــأكل‪ ،‬يـ ْ‬
‫يــأكل حتــى لــو اضطــر ألن يتابــع هــو جائعــاً‪ .‬ثــم يضــع الحليــب يف‬
‫صحــن صغــر لألفعيــن‪ .‬أحيانـاً‪ ،‬عندمــا تتخلــل أشــعة القمــر شــجرة التمر‬
‫الهنــدي الثخينــة الضخمــة وتســقط عــى وجــه جاغـرا الــوردي الســاحر‪،‬‬
‫كان الدهــو يفكــر بوالــدة جاغــرا ذات الوجــه الــوردي الســاحر أيضــاً‪،‬‬
‫لكــن زهــد الدهــو يجعلــه يضبــط عواطفــه ويعيــده إىل وعيــه‪ .‬ومــن ثــم‬
‫ـت مفتون ـاً بهــا ألنــك فقــدت الســيطرة عــى تلــك‬ ‫يقــول لنفســه‪« :‬كنـ َ‬
‫(‪ :Dhattura )18‬صنف من النباتات ُتستخدم أوراقه يف األورفيدا‪ ،‬الطب الهندي التقليدي‪ ،‬بعد التطهّر‪( .‬م)‬

‫‪145‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫القــوة الســحرية التــي تســاوي مئــة ألــف روبيــة‪ .‬هــل ميكــن أبــداً ملــن‬
‫يســلك هــذا الطريــق أن يتحمــل االفتتــان بامــرأة؟ ذلــك يحتــاج إىل قــوة‬
‫اإلرادة‪ .‬إن أتفــه خطــأ ســيودي بحياتــك حــاالً‪ .‬مــن الصعــب أن متتلــك‬
‫ناصيــة هــذا الفــن‪ .‬لكــن األصعــب أن متارســه حتــى بعــد أن تكــون قــد‬
‫ـرد حليــب اللبــوة يف زبديــة مــن ذهــب فحســب‪،‬‬ ‫ملكتــه‪ .‬تســتطيع أن تـ ّ‬
‫ألنــه لــن يــرد يف وعــاء ت ـرايب‪ .‬عندمــا ُأنــزل نهــر الغانــج إىل األرض‪ ،‬أمل‬
‫يكــن اإللــه ماهاديــف العظيــم نفســه يحــر املشــهد شــخصياً!»‪.‬‬
‫يف لحظــات كهــذه‪ ،‬يبــدأ الطمــوح الجامــح لالدهو يســتحثه ويهمس‬
‫ـت الســحر‬ ‫يف أذنيــه‪« :‬دع ابنــك يحقــق الرغبــة الكســرة لقلبــك‪ .‬تعلمـ َ‬
‫بصعوبــة كبــرة فــا تنــس هــذا‪ .‬دع ابنــك يفعــل مــا مل تســتطع فعلــه‬
‫فيتفــوق عــى كل الســحرة يف املنطقــة كلهــا»‪.‬‬
‫مدفوع ـاً بالفخــار والطمــوح‪ ،‬أمــر جاغ ـرا بــأن يبقــى براهامني ـاً‪ .‬إن‬
‫حيــاة الزاهــد مــأى باملهــام الصعبــة والتضحيــات‪ .‬كان جاغــرا منــذ‬
‫طفولتــه يعيــش الحيــاة القاســية إلنــكار الــذات‪ .‬مل يكــن ينظــر حتــى‬
‫إىل طفلــة بعمــر ســتة شــهور‪ .‬وكان يــرى يف كل امــرأة أختــاً أو ّأمــاً‪.‬‬
‫مل يكــن يــأكل طعامـاً محرمـاً وال يــرب املــاء الــذي رشب منــه شــخص‬
‫آخــر‪ .‬ذلــك كلــه يك ُيبقــي جســده نظيف ـاً‪ .‬ومل يكــن يــدس قدميــه يف‬
‫حذائــه إال بعــد أن ينقــره ثــاث مــرات يك يخلصــه مــن الغبــار ثــم‬
‫يتلــو املَ ْنـرا(‪ )19‬املفروضــة املناســبة‪ .‬وإذا ملــس شــخصاً «غــر تقــي» عــن‬
‫طريــق الخطــأ‪ ،‬فإنــه يســتحم حــاالً‪.‬‬
‫كيســاً مثــل طــاووس‪ .‬كان مزيجــاً‬ ‫ترعــرع جاغــرا وأصبــح وســي ًام ّ‬
‫مقس ـ ًا جيــداً بــن قــوة والــده الرجوليــة والجــال املتناســق الفتــان‬

‫كصلوات من‬
‫ٍ‬ ‫(‪ :Mantra )19‬مقاطــع من َّغمة ُتتىل بغرض االمتالء بالطاقات الروحية يف مواقف معينة‪ ،‬أو تتىل وتردَّد‬
‫أجل تنقية النفس والذهن وبلوغ الطهارة‪( .‬م)‬

‫‪146‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫ألمــه‪ .‬إن التوجيــه الصــارم لعقلــه والســيطرة الحــذرة عــى حواســه‬


‫أعطيــا رونقـاً لطلعتــه الوســيمة املليحــة‪ .‬كلُّ َغ َضــن يف جســده يتحــدث‬
‫ببالغــة عــن قــوة زهــده‪ ،‬وكل تعبــر مبهــر عــى وجهــه يتحــدث عــن‬
‫اكتســابه هــذا الفــن يف ســن مبكــرة جــداً‪.‬‬
‫اختــر معرفتــه للســحر بتجريبــه عــى زوج مــن الكوبــرا‬ ‫َ‬ ‫لقــد‬
‫ُأشــيع بأنــه كان يســتوطن يف وكــ ٍر للنمــل يف أحــد حقــول يوجاديــا‪.‬‬
‫كان الســحرة يعزفــون عــى آالتهــم حتــى آخــر نفــس لكــن األفعيــن مل‬
‫تســتجيبا لهــم وتخرجــا مــن وكــر النمــل‪ .‬ذهــب جاغـرا إىل هنــاك وبــدأ‬
‫يعــزف عــى الفلــوت املرصــع بالصــدف األبيــض النقــي مثــل صفــن‬
‫مــن األســنان‪ .‬مــر يومــان ومل يحــدث يشء‪ .‬ويف اليــوم الثالــث‪ ،‬مل تعــد‬
‫األفعيــان تســتطيعان مقاومــة التناغــم العــذب للفلــوت‪ ،‬وال أن تتاملــكا‬
‫جســديهام مــن التاميــل عــى ألحانــه الحلــوة‪ .‬وبشــكل مهيــب‪ ،‬انزلــق‬
‫الــزوج خارج ـاً مــن وكــر النمــل‪ .‬حــاالً‪ ،‬أخضعهــا بقــوة ســحر املن ـرا‬
‫التــي تالهــا‪ .‬وبفعــل ســحر موســيقاه اســتلقت األفعيــان بثبــات مثــل‬
‫قطعتــن مــن الخشــب و ُأغلــق عليهــا آخــر األمــر يف ســلة جاغ ـرا‪.‬‬
‫يف لحظــات احتضــاره األخــرة‪ ،‬قــال الدهــو‪« :‬ســرىض اللــه عنــا فقــط‬
‫عندمــا نعتــر أن الحيوانــات هــم مثــل دمنــا ولحمنــا‪ .‬إن األفعــى يجــب‬
‫أن تــؤرس خمســة عــر يوم ـاً ثــم يطلــق رساحهــا‪ .‬وإذا تجاوزنــا يوم ـاً‬
‫واحــداً فإنهــا تصبــح مخلوقــات منهكــة عجــاء يعاقبنــا اللــه بســببها»‪.‬‬
‫عم ـ ًا بهــذه النصيحــة‪ ،‬كان جاغ ـرا مــدركاً أن إزالــة الغ ـ ّدة الســامة‬
‫مــن األفعــى ســيجعل أي طفــل يلعــب معهــا بأمــان‪ .‬لك ّنــه كشــخص‬
‫فخــور بالتناغــم املثــر آللــة الفلــوت خاصتــه‪ ،‬شــعر بقدرتــه عــى‬
‫الســيطرة عــى أكــر األفاعــي إماتــة مــن دون أن يقتلــع أنيابهــا‪ .‬لذلــك مل‬
‫يقلــق جاغـرا مــن القيــام بذلــك مــع هــذا الــزوج مــن الكوبـرا يف الســلة‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫حملــت الريــح أخبــار اصطيــاد جاغ ـرا لــزوج جديــد مــن األفاعــي‬
‫أبقــاه تحــت ســحره مــن خــال آلــة الفلــوت فحســب‪ .‬ووصلــت األخبــار‬
‫إىل كبــار الســن يف القريــة فأرســلوا بطلبــه‪.‬‬
‫ر ّتــب جاغــرا ميــدان االحتفــال‪ .‬كان الجمهــور الضخــم جــذالن‬
‫باملشــهد‪ .‬تركــزت العيــون جميعــاً عــى زوج الكوبــرا الــذي مييــس‬
‫منتشــياً‪ .‬لكــن كان مثــة زوج مــن العيــون مل يحــدق بالفلــوت وال‬
‫بالكوبــرا املياســة‪ ،‬بــل بعــازف الفلــوت الوســيم‪ .‬بالنســبة إىل تلــك‬
‫العينــن‪ ،‬كان ذلــك الــذي جعــل الكوبــرا تتاميــل أكــر ســحراً مــن‬
‫ـي تيجابــا املختبئــة وراء‬ ‫األفعيــن املتاميلتــن‪ .‬كانــت تلــك العينــان َع ْي َنـ ْ‬
‫بــاب الرشفــة يف إيوانهــا‪ .‬كانــت تيجابــا هــي َتــ َكراين الجديــدة‪ ،‬النبــع‬
‫(‪)20‬‬

‫الحقيقــي للســحر والجــال‪ .‬القريــة بأكملهــا تخضــع لقــوة ســحرها‪.‬‬


‫كانــت تيجابــا مــن الغــرور بحيــث مل تأبــه بالنظــر أبــداً حتــى إىل األمـراء‬
‫العظــام‪ .‬لكــن مصــدر قنوطهــا األعظــم كان أنهــا مل تلتــق بعــد ّأي‬
‫شــخص يضاهيهــا‪ .‬وعندمــا رأت جاغـرا‪ ،‬شــعرت حــاالً أنــه الرجــل الــذي‬
‫ترغــب فيــه بالتأكيــد‪.‬‬
‫كان جاغ ـرا يتاميــل مــع زوج الكوب ـرا وهــو ينفــخ خديــه الكبرييــن‬
‫مثــل جــوزة الهنــد‪ .‬كان مثــة ندبــة ســوداء باهتــة فاتنــة وســط قلنســوة‬
‫ذكــر الكوب ـرا‪ .‬تلــك القلنســوة الجميلــة الســوداء عــى الرقبــة البيضــاء‬
‫املزرقــة للكوبـرا كانــت ســاحرة فعـاً‪ ،‬تذ ِّكــر املــرء باملظلــة التــي فــوق‬
‫عــرت‬
‫شــيفالينغا ‪ .‬أنثــى الكوبــرا‪ ،‬وهــي تتاميــل بجانــب ذكرهــا‪ّ ،‬‬
‫(‪)21‬‬

‫عــن قوتهــا الجبــارة مــن خــال انحنائهــا املهيــب الــذي يشــبه القــوس‪.‬‬
‫(‪ :Thakarani )20‬إلهة يف األديان واألساطري الهندية‪( .‬م)‬
‫(‪ :Shivalinga )21‬أيقونة تتوضع وســط املعبد شــكلها يشبه العمود أو البيضة املتطاولة وترمز إىل قدرة اإلله شيفا‪،‬‬
‫وتكون عادة بجانب أيقونة يُوين ‪ Yoni‬رمز الرحم أو اإللهة َســا ْك ِتي ‪ ،Shakti‬ومتثل اإليقونتان معاً االتحاد غري املريئ‬
‫للذكر واألنثى‪( .‬م)‬

‫‪148‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫وكانــت عينــا جاغـرا وأذنــاه وأنفــه وكيانــه كلــه يف تركيــز وحســب عــى‬
‫خرطــوم ذكــر الكوبـرا وعــى العينــن الالمعتــن الرباقتــن ألنثــاه‪ .‬وغــدا‬
‫جاغ ـرا والفلــوت كيان ـاً واحــداً‪.‬‬
‫تلــك العينــان اللتــان كانتــا تطأطئــان وســط ذلــك الصمــت املثــر‪،‬‬
‫لِــم ْمل تنظ ـرا لألعــى مــرة واحــدة فقــط‪ ،‬وللحظــة واحــدة فقــط؟‬
‫أخ ـراً‪ ،‬ه ـ ّزت تيجابــا خالخيلهــا عنــد البــاب‪ ،‬ووجــب عــى العينــن‬
‫املطأطأتــن أن تتحــوال صوبهــا‪.‬‬
‫وعنــد الصــوت الرنــان‪ ،‬وللحظــة‪ ،‬أجــل‪ ،‬للحظــة فقــط‪ ،‬ارتفعــت‬
‫أهــداب جاغــرا‪.‬‬
‫يف طرفــة العــن تلــك‪ ،‬متامـاً يف تلــك اللحظــة الوجيــزة‪ ،‬كانــت تكمن‬
‫خــرة العمــر عنــد جاغرا‪.‬‬
‫كان زوج الكوبــرا قــد وصــل إىل قمــة النشــوة إذ بلغــت نغــات‬
‫الفلــوت ْأو َجهــا‪ .‬وإلرجاعهــا مــن ذروة االنتشــاء‪ ،‬كان عــى موســيقى‬
‫الفلــوت أن تبــدأ باالنخفــاض تدريجيـاً‪ .‬بــدالً مــن ذلــك‪ ،‬حصــل انقطــاع‬
‫مفاجــئ‪ ،‬وهــذا أربــك األفعيــن املســتغرقتني يف الرقــص‪ .‬وكان حصيلــة‬
‫ذلــك أن الغيــظ والســم الناتــج أصبــح أكــر فظاعــة‪.‬‬
‫مــع هسهســة مرعبــة‪ ،‬رضبــت قلنســوة الكوب ـرا راحــة يــد جاغ ـرا‬
‫فأحدثــت أنيابهــا الحــادة جرحـاً فيهــا‪ .‬انزلــق الفلــوت مــن يــد جاغـرا‪،‬‬
‫وحدثــت فــوىض يف الحشــد‪ .‬لكــن جاغـرا بقــي منتبهـاً‪ ،‬وتدبــر بطريقــة‬
‫مــا أمــر إرجــاع األفعيــن إىل الســلة‪.‬‬
‫وبرسعــة شــديدة‪ ،‬انتفخــت بقعــة دائريــة كالزجــاج األخــر حيــث‬
‫لســعته األفعــى‪ .‬بقيــت العمــات املعدنيــة التــي رماهــا الجمهــور‬
‫املعجــب يف مكانهــا مل تلمــس‪ ،‬وجاغ ـرا‪ ،‬الــذي أراح رأســه عــى الســلة‬
‫التــي أطبــق فيهــا عــى الكوب ـرا‪ ،‬ســقط مغمي ـاً عليــه‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫انتــرت األخبــار فــوراً يف كل أنحــاء البلــدة تفيــد أن جاغــرا قــد‬


‫عضتــه الكوبــرا‪.‬‬
‫علــق أحــد أفـراد الحشــد قائــا‪( :‬ميكنــك أن تجــذب أفعــى إىل كــوب‬
‫حليــب‪ ،‬لكــن األفعــى تبقــى أفعــى مهــا حصــل! إنهــا ال تتخــى عــن‬
‫طبيعتهــا بهــذه الســهولة رغــم كل ذلــك!)‪.‬‬
‫ثــم جــاء تعليــق آخــر‪( :‬مهــا كانــت أفعــى الكوبـرا صغــرة فإنهــا‬
‫يشء فظيــع‪ .‬الســم قاتــلٌ دومـاً‪ .‬ميكــن أن تكــون كميتــه قليلــة أو كبــرة‬
‫الســم ُّســم)‪.‬‬
‫– لكــن ُّ‬
‫وأيضـاً‪( :‬أمل ُيقــل إن الب ّنــاء ميــوت وهــو يبنــي‪ ،‬وغــواص اللؤلــؤ ميــوت‬
‫يف البحــر الهائــج؟ بالطريقــة نفســها‪ ،‬يلقــى ســاحر األفاعــي حتفــه أيضـاً‬
‫بســبب أفاعيه!)‪.‬‬
‫بأفــاع ضخمــة كهــذه يف‬
‫ٍ‬ ‫(هــل هــي مزحــة‪ ،‬يك يحتفــظ املــرء‬
‫ســال كبــرة كهــذه؟ إنهــا مهمــة عســرة كاملــي عــى حــد مــوىس‬
‫الحالقــة‪ .‬عــى املــرء أن يقــدم الكفــارة مثــل أتبــاع اليوغــا املتزمتــن‬
‫وأن يحــرم نفســه كثــراً وكثــراً مــن األشــياء‪ .‬بقــوة هــذا الصفــاء‬
‫وحســب‪ ،‬ميكــن إبقــاء هــذه «الحيوانــات» تحــت الســيطرة‪ .‬فــوق‬
‫كل ذلــك‪ ،‬ليــس مــن الســهل أن نغلــق الســلة عــى ســاكني وكــر‬
‫النمــل!)‪.‬‬
‫(أكــر مــن ذلــك‪ ،‬إن ســاحر األفاعــي الخبــر العجــوز هــو الــذي‬
‫ميكــن لــه أن يحــاول فعــل ذلــك‪ .‬أمــا هــذا الـــ جاغـرا فهــو مجــرد صبــي‪.‬‬
‫مــاذا بإمكانــه أن يفعــل؟)‪.‬‬
‫ـن بحـ ّد ذاتهــا‪ ،‬بل فــن صعب‬ ‫(صدقــوين‪ ،‬إن مهنــة ســاحر األفاعــي فـ ٌّ‬
‫للغايــة‪ .‬يجــب أن تعتنــي باألفاعــي كأنهــم أوالدك‪ .‬إذا اصطدتهــم‪،‬‬
‫ال ميكنك أن تبقيهم يف سلتك أكرث من أسبوعني)‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫(مــع ذلــك‪ ،‬أليــس مــن املضحــك أن تحــوز عــى زوج مــن أفاعــي‬
‫الكوبــرا لرتقــص عــى لحــن الفلــوت يف مقابــل حفنــة مــن النقــود‬
‫فحســب‪ .‬ينبغــي أن متتلــك قلبـاً مــن فــوالذ‪ ،‬وليــس ســه ًال أن متتلــك قلباً‬
‫مــن فــوالذ‪ .‬ينبغــي أن يكــون ذهنــك صافي ـاً‪ ،‬وعينــاك نقيتــن كالزيــت‬
‫املســكوب‪ .‬قليــل مــن عــدم الطهــارة يســبب الكثــر مــن األذى؛ ُق ـ ّدر‬
‫عــى ســاحري األفاعــي أن يتســولوا وميـ ّدوا أيديهــم عنــد كل بــاب‪ .‬لكــن‬
‫عيونهــم يجــب أن تبقــى كســرة‪ .‬حتــى لــو خشخشــت خالخيــل ســيدة‬
‫البيــت فــإن أعينهــم يجــب أال تنظــر نحــو األعــى أبــداً)‪.‬‬
‫(تلــك هــي الســبيل إىل درب املعرفــة‪ .‬واملعرفــة تشــبه الزئبــق‪.‬‬
‫ـن أن تــروض األفاعــي‬ ‫ال ُيدركهــا إال املؤهــل والخبــر‪ .‬فــوق ذلــك‪ ،‬إنــه لفـ ٌّ‬
‫والخنــوع ال ميكنــه أن يأمــل ذلك‪ .‬يســهل‬ ‫وتجعلهــا ترقــص‪ .‬إن الضعيــف َ‬
‫أن تتعلــم مهنــة ســاحري األفاعــي‪ ،‬لكــن مــن الصعــب جــداً أن تكتســب‬
‫الســيادة الحقيقيــة يف هــذا الفــن‪ ،‬العبقــري فحســب ميكنــه ذلك!)‪.‬‬
‫قـ ِـدم بهوفــا مــن فاكشــادا أعظــم خبــر يف املنطقــة بأرسهــا ليخفــف‬
‫عــن جاغ ـرا أمل اللســعة الســامة للكوب ـرا‪ .‬تــا من ـرا بعــد من ـرا وبــذل‬
‫أقــى مــا بوســعه لكنــه ظــل عاجـزاً عــن تقديــم أي خــاص‪.‬‬
‫خــاب أمــل النــاس‪ .‬كان جاغــرا مســتلقياً متيبســاً وكأنــه يغــط يف‬
‫نــوم عميــق‪ .‬بــدا كأنــه فقــد الوعــي متام ـاً!‬
‫عـ ّـر الجمهــور عــن خيبــة أملــه بأســاليب شــتى‪ .‬كان كمــن يتحــدى‬
‫بهوفــا الــذي رشع يتلــو مانـرا بعــد منـرا بيــأس‪ .‬لكــن جهــوده بقيــت‬
‫بــا جــدوى‪ .‬ثــم بــدأ محاولــة العــاج األخــرة ضــد عضــة األفعــى حيــث‬
‫أخــذ قطعــة قــاش طويلــة وأخــذ يتلــو مزيــداً مــن املنـرا‪ .‬بعــد ذلــك‪،‬‬
‫أعطــى تحذيــره األخــر لألفعــى‪ .‬توقــع كل شــخص اآلن أن يخــرج الســم‬
‫مــن جــرح جاغ ـرا‪ ،‬فــإذا مل يحصــل ذلــك‪ ،‬فــإن بهوفــا ســيمزق قطعــة‬

‫‪151‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫القــاش إربـاً إربـاً وسـ ُتمزق األفعــى أيضـاً كذلــك!‬


‫ســمع النــاس الذيــن يجلســون قــرب جســد جاغــرا مــا يغمغــم‬
‫بــه يف نصــف غيبوبــة‪ .‬وافـ ُـرض أنــه يقــول‪« :‬بهوفــا‪ ،‬ملــاذا ترهــق تلــك‬
‫املخلوقــات العجــاء يف الســلة؟ هــل مــا حــدث كان بســبب ســم األفعى‬
‫فقــط؟ ال بــد أنــه ذهــب منــذ وقــت طويــل‪ .‬ثــم‪ ،‬لقــد امتــزج ذلــك‬
‫الســم مــع ســم آخــر حلــو وحامــض؛ لذلــك فــإن ســحرك لــن يفيــد»‪.‬‬
‫وقبــل أن يجــرب بهوفــا حيلتــه األخــرة‪ ،‬كــا ينبغــي عــادةً‪ ،‬اســتلقى‬
‫جاغـرا ميتـاً‪.‬‬
‫ــن تلــك العينــن الرباقتــن الالمعتــن وراء بــاب الرشفــة ظلتــا‬ ‫ل َِك ّ‬
‫ثابتتــن ترنــوان إىل جســد جاغــرا امليــت‪.‬‬

‫ترجمها من اللغة األم (الغوجاراتية) إىل اإلنكليزية ‪Sarla Jag Mohan‬‬


‫٭٭٭‬

‫‪152‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫(‪)22‬‬
‫َسڤيرتي‬
‫ب‪ .‬س‪ .‬ريجي‬
‫شــئت مــن أوليــايئ‪ ،‬جعل ُتــه جريئــاً‪،‬‬
‫ُ‬ ‫«كلُّ َمــن‬
‫هــو العـ ُ‬
‫ـارف‪ ،‬هــو الـ َّـرايئ‪ ،‬هــو ذو العقــل النافــذ»‬
‫ِريغ ڤيدا (السفر العارش‪ ،‬النشيد ‪)125 :10‬‬
‫‪-1-‬‬
‫تريوبايت‬
‫أبريل ‪ - 1939‬يوليو ‪1939‬‬
‫مل يكــن حتــى يعــرف بعضنا بعضـاً‪ .‬كتبت إليــكَ ورددت عــي بالعفوية‬
‫ذاتهــا‪ .‬كيــف أقــدم لــك نفــي؟ أنــا بالــكاد أعــرف كيــف ترعرعــت يتيمــة‬
‫األم يف كنــف آبــا الــذي طاملــا كان مســتغرقاً يف العمــل‪ّ .‬أول يشء تعلمتــه‬
‫كان أن أنــى نفــي‪ .‬االســم تعرفــه مــن قبــل‪ .‬بعضهــم ينادينــي ســاو‪.‬‬
‫لكــن آبــا قــال يل مـ ّـرة‪ :‬أيتهــا الطفلــة‪ ،‬أنــت البهجــة بعينهــا (الكلمــة التــي‬
‫ـح البهجــة)‪ .‬الكلــات مــن هــذا‬ ‫اســتخدمها هــي أنانــد بافــاين وتعنــي تف ُّتـ َ‬
‫ـب هــذا االســم (كــا كنــت‬ ‫النــوع تأتيــه بــا عنــاء‪ ،‬ومنــذ ذلــك الحــن أحـ ُّ‬
‫ـت يل وقلــت‪ -‬بــا تح ّفــظ‪.‬‬ ‫تعتقــد يف البدايــة)‪ ،‬املبتهجــة ‪-‬كتبـ َ‬
‫(‪ :Savitri )22‬تعترب أســطورة األمرية َســڤيرتي (ابنة الشــمس) من األســاطري األكرث شــعبية يف الهند‪ ،‬وهي مستقاة‬
‫مــن ملحمــة ماهابهاراتا‪ .‬وقد تناول العديد مــن األدباء والفنانني‪ ،‬ومنهم كاتب القصة‪ ،‬هذه األســطورة يف أعاملهم‬
‫اإلبداعية‪( .‬م)‬

‫‪153‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫اجامــا قصــة‪ :‬عاشــت امــرأة عجــوز‬ ‫عندمــا كنــت طفلــة حكــت يل ر ّ‬


‫مــع حفيدتهــا الصغــرة التــي يف غابــة بعيــداً عــن القريــة‪ .‬ويف أحــد‬
‫األيــام جــاء طــاووس إىل جــوار كــوخ املــرأة العجــوز‪ .‬عندمــا رأت التــي‬
‫الطــاووس بــدأت بالرقــص‪ .‬ورقــص الطــاووس أيض ـاً‪ .‬ألحــت التــي يف‬
‫أن ُيربــط الطــاووس يف فنــاء الــدار‪ ،‬لكــن املــرأة العجــوز ســألت‪ :‬كيــف‬
‫ميكــن ذلــك؟ مــن أيــن لنــا الــذُّ رة يك نطعمــه؟ ومل تحســم االثنتــان‬
‫ـأقيم هنــا قريبـاً منكــم‪ ،‬لســت بحاجــة‬ ‫األمــر‪ .‬ولذلــك قــال الطــاووس‪ :‬سـ ُ‬
‫أتيت‪،‬‬
‫ـدي رشط‪ .‬كلــا ُ‬ ‫إىل الــذُّ رة‪ ،‬هنــاك الغابــة يف الجــوار حولنــا‪ .‬لكــن لـ َّ‬
‫يجــب أن ترقــص التــي‪ .‬وافقــت التــي عــى الفــور‪ .‬ورضيــت املــرأة‬
‫العجــوز أيضـاً‪ .‬لكــن الرقــص ليــس شــأناً ســهالً‪ .‬فــإذا وجــب الرقــص بنــاء‬
‫عــى طلــب‪ ،‬يجــب أن يتناغــم العقــل معــه‪ .‬بعــد ذلــك‪ ،‬كانــت التــي‬
‫مبتهجــة دومـاً‪ ،‬مــع أنــه مل يكــن معلومـاً بالضبــط متــى يــأيت الطــاووس‪،‬‬
‫والحقـاً‪ ،‬مل تكــن تــدري حقـاً إن كان الطــاووس قــد أىت وذهــب‪.‬‬
‫ال تخــرك راجامــا باملغــزى مــن قصصهــا‪ .‬وغالب ـاً مــا كنــت أعتقــد‬
‫أن القصــص مــن نســجها هــي وأثنــاء رسدهــا تعطيهــا بالتدريــج هيئــة‬
‫حكايــا الجــدات‪.‬‬
‫ـت‪ :‬إذا أراد املــرء طاووسـاً‪ ،‬يجــب عليــه أن يصــر هــو الطــاووس‪.‬‬ ‫قلـ ُ‬
‫وأي يشء يريــده املــرء‪ ،‬يجــب عليــه أن يصــر هــو ذلــك الــيء‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫ســيطول األمــر قبــل أن أغــادر هــذا املــكان‪ .‬ســآيت يومــاً مــا إىل‬
‫عنــدك‪ ،‬متامــاً مثــل ذلــك الطــاووس‪ ،‬ولــن أخــرك متــى ذلــك‪.‬‬

‫‪-2-‬‬
‫يف القطــار‪ ،‬عـ ّـر َت عــن «الدهشــة» ألننــي كلمــت الطفلــن اللذيــن‬
‫ودعــوت ذلــك بــكل محبــة أعجوبــة‪.‬‬
‫َ‬ ‫كانــا معــي بلغتــن مختلفتــن‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫لكــن الحقيقــة أن ذلــك تـ ّـم بــا جهــد يذكــر‪ .‬أحــد الطفلــن من هنــا‪ ،‬أي‬
‫أن لغتــه هــي التولــو‪ .‬والطفــل اآلخــر كان صغـراً جــداً؛ سـ ّن ُه ســنتان أو‬
‫ســنتان ونصــف‪ ،‬ولغتــه هــي الكونكانيــة‪ .‬كنــت مؤمتنــة عــى مرافقتهــا‬
‫إىل منزليهــا‪ .‬وباملناســبة‪ ،‬أنــا أعــرف عــدة لغــات‪ ،‬ولكــن مــن خــريت‬
‫أقــول‪ :‬إنــه ليــس مثــة عائــق لغــوي يف التعامــل مــع األطفــال‪.‬‬
‫اشــريت لــك القليــل مــن الشــاي؛ أي خطــأ يف ذلــك عــى أي حــال؟‬
‫مــن قـ ّـرر أنــك بنفســك مــن يجــب أن يشــريه؟ لقــد ســاعدتني يف إنـزال‬
‫األمتعــة مــن القطــار‪ .‬هــل كان ذلــك شــأناً ضئيـاً؟‬

‫‪-3-‬‬
‫ـق هنــاك‬ ‫ـت عامــن يف بانغالــور‪ ،‬فكيــف حــدث أننــا مل نلتـ ِ‬ ‫مكثـ ُ‬
‫أبــداً؟ أقــول لــك الحقيقــة‪ ،‬لقــد تعرفــت عــى كثــر مــن األشــخاص‬
‫كنــت يف ســكن الســيدات بالطبــع‪ .‬كانــت‬ ‫ُ‬ ‫هنــاك خــال العامــن‪.‬‬
‫املــرأة التــي تعمــل هنــاك تــأيت إ َّيل متــى احتاجــوا أي يشء‪ .‬مل أنخــرط‬
‫كثــراً يف حيــاة الكليــة‪ .‬وليــس ذلــك ألننــي كنــت غارقــة حتــى أذين‬
‫يف الكتــب‪ ،‬بــل فقــط ألننــي مل أشــعر باالنجــذاب إىل تلــك النشــاطات‬
‫الروتينيــة‪.‬‬
‫مــرة إىل مقالتــك التــي‬ ‫أشــار الربوفســور غوروباداســوامي ذات ّ‬
‫حــازت جائــزة؛ بالنســبة يل‪ ،‬عنــى ذلــك أنــك فــزت بالجائــزة يف ذلــك‬
‫لربــا أثــار ذلــك انتباهـاً‬‫ـت يف ســنتنا الدراســية‪ّ ،‬‬
‫العــام تحديــداً‪ .‬لــو كنـ َ‬
‫أكــر! لكنــك كنــت يف مرحلــة الدراســات العليــا ونحــن قــد دخلنــا للتــو‬
‫ـت‬
‫إىل الكليــة‪ .‬أال تعتقــد أن غوروباداســوامي مــدرس جيــد؟ لقــد نجحـ ُ‬
‫يف الحصــول عــى عالمــات تامــة يف مقــرره يف امتحــان الســنة األوىل‪.‬‬
‫ومنــذ ذلــك الحــن بــدأت حكايتــي‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫الوضــع مريــح متام ـاً هنــا‪ .‬يعمــل آبــا طــوال اليــوم‪ .‬حالي ـاً‪ ،‬يؤلــف‬
‫تحمــل أحــد بقربــه‪،‬‬
‫كتابـاً جديــداً‪ ،‬ويف مثــل هــذه األوقــات ال يســتطيع ّ‬
‫حتــى أنــا‪ .‬لذلــك أشــغل نفــي بشــؤون البيــت‪ ،‬هــذا يعنــي أن أكــون‬
‫حريصــة جــداً بحيــث ال أزعــج آبــا‪.‬‬
‫منــذ بضعــة أيــام قــدم مــن بونــا لرؤيتــه أســتاذٌ يف علــوم اللغــة؛‬
‫ـاب حاصــل عــى الدكتــوراه مــن الســوربون‪ .‬مكــث معنــا يومــن‪ .‬أىت‬ ‫شـ ٌ‬
‫يك يناقــش نظريتــه الجديــدة يف الجامليــات مــع آبــا‪.‬‬
‫قليــل‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫أصغــى آبــا بانتبــاه إىل كل يشء قالــه‪ ،‬ومل يناقشــه ســوى‬
‫لكــن الســؤال الــذي طرحــه يف النهايــة كان بالــغ اإليحــاء برأيــي‪ .‬ذكــر‬
‫األعــال الفنيــة التــي ُتعــرض يف االحتفــاالت‪ ،‬مــن قبيــل متاثيــل وصــور‬
‫دورغــا وراما‪-‬الكشامنا‪-‬ســيتا وغانيــش(‪ ،)23‬وســأل‪ :‬إن الحــر َّيف الفنــان‬
‫الــذي يشــكل كلّ هــذه يعــرف أن وجودهــا وجيــز ويظــلّ مــع ذلــك‬
‫يبســط فنــه عليهــا‪ .‬ملــاذا؟‬
‫وجهــة نظــر الربوفســور أنــه يف مثــل هــذه الحــاالت ال يكــون الفنان‬
‫معنيـاً عــى اإلطــاق إن كان العمــل الفنــي لــه وجــود وجيــز أو طويــل‪.‬‬
‫يرتكــز انتباهــه بالكامــل عــى البلــوغ بإبداعــه حــد الكــال‪.‬‬
‫اض عــن هــذا الجــواب‪ .‬فهــو ينــأى بنفســه عــن‬ ‫بــدا أن آبــا غــر ر ٍ‬
‫كلــات مثــل ‪َ /‬ســا ْدهي‪ /‬التأمــل الرتكيــزي يف نقطــة واحــدة‪ ،‬ويكــون‬
‫تعليقــه عــادة عــى مثــل هــذا التفســر أنــه مجــرد إعــادة صــوغ‬
‫بكلــات أخــرى‪.‬‬
‫كنــت حولهــم أســتمع وجازفــت بالقــول‪ :‬هــذه هــي دورغــا(ي)‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ورامــا(ي)‪ ،‬وســيتا(ي)‪ ،‬وغانيشــا(ي)‪ ،‬بهــذا الشــعور يعمــل الفنــان الــذي‬
‫يصنعهــم‪.‬‬
‫(‪ )23‬آلهة يف الديانات الهندية‪( .‬م)‬

‫‪156‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫ـت أن آبــا موافــق عــى هــذا التفســر‪ ،‬وقــد أضــاف‪ :‬الصانــع‬


‫أحسسـ ُ‬
‫يكمــل ذاتــه‪ .‬إن اللــون والخيــزران والــورق والطــن والحجــر ليســت‬
‫مجــرد أدوات‪ .‬ألنهــا لــو كانــت أدوات فــإن الصانــع هــو أداة أيضــاً‪.‬‬
‫نفســه‪.‬‬
‫هــذه فعلي ـاً هــي وجــوه أخــرى للصانــع ِ‬
‫أكتب هذا خصيصاً لك ألن اطروحتك كانت يف املوضوع نفسه‪.‬‬ ‫ُ‬

‫‪-4-‬‬
‫أضعــت فيــه غيتــاري‪ .‬كنــت قــد‬ ‫ُ‬ ‫حــدث هــذا يف اليــوم الــذي‬
‫مرحــت كثــراً يف ذلــك اليــوم والزهــرات الربيــة يف شــعري‪.‬‬
‫مــرة يف نزهــة إىل تلّــة مجــاورة صغــرة لكنهــا‬‫حــدث أن ذهبنــا ّ‬
‫عنقــود مــن‬
‫ٌ‬ ‫كثيفــة الشــجر‪ .‬وهــي ليســت مجــرد تلــة واحــدة بــل‬
‫ســبع أكــات متداخلــة تســمى هنــاك منــزل العــذراوات الســبع‪ .‬ومثــة‬
‫أســطورة ملغــزة حقــاً محورهــا ســبع فتيــات مــن ســبع عائــات مل‬
‫يجــدن أزواجـاً لهــن و ُأنهكــن مــن أعــال البيــت‪ .‬لذلــك غــادرن القريــة‬
‫عرشــت‬ ‫وأنشــأت كل واحــدة منهــن منــزالً وحدهــا‪ .‬ومبــرور الوقــت ّ‬
‫شــجريات كثيفــة حــول املنــازل حتــى إنهــا غابــت عــن النظــر‪ ،‬ومل يبــق‬
‫أي أثــر لهــا فيــا بعــد‪ .‬ثـ ّـم بــرزت يف موضعهــا هــذه التــال الســبع‪.‬‬
‫ـن يف حــن ال ينبغــي للرجــال‬ ‫تــؤدي الفتيــات الصغ ـرات الصلــوات لهـ ّ‬
‫االقـراب مــن هنــاك‪ .‬وإذا حــدث ذلــك فإنهــم يضيعــون يف غــار تلــك‬
‫الشــجريات ومثــة حــاالت لبعــض الرجــال الذيــن اختفــوا هنــاك‪.‬‬
‫أحدنــا أحــر معــه واحــداً مــن إخوتنــا إىل هنــاك‪ .‬ضيعنــا طريقنــا‬
‫أنــا وهــو‪ .‬كان خائفــاً لكنــه مل ُيظهــر ذلــك‪ّ ،‬أمــا أنــا فبقيــت هادئــة‬
‫متامـاً‪ .‬كان الرجــوع مســتحيالً‪ ،‬فمشــينا عــى طــول املنحــدر‪ .‬لكــن مــن‬
‫جديــد‪ ،‬ويف الوســط متامـاً بــرزت قمــة تلــة كبــرة‪ .‬الســاء وحدهــا تعلم‬

‫‪157‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫مــا الــذي حــدث يف نهايــة املطــاف‪ .‬وصلنــا إىل األســفل إىل النقطــة التــي‬
‫بدأنــا فيهــا مســرة الصعــود‪ .‬كان البقيــة بانتظارنــا قلقــن‪.‬‬
‫مل نذكر هذا األمر ألحد يف البيت‪.‬‬

‫‪-5-‬‬
‫بعــد انتظــار دام ســتة أشــهر‪ ،‬هــا أنــا أكتــب هــذه الرســالة‪ .‬لع ّلــك مل ُتســئ‬
‫ـس مــا كتبتــه‪.‬‬‫ـرم بــا رضورة‪ .‬مــن فضلــك‪ ،‬انـ َ‬ ‫فهــم كلــايت الربيئــة؟ رمبــا أتـ ّ‬
‫يف غالــب األحيــان أخفــق يف فهــم مضامــن ترصفــايت‪ .‬أفعــل الــيء‬
‫طبيعيـاً وبــا تحفــظ‪ ،‬لكــن فيــا بعــد يجعلنــي شــخص مــا أدرك الحقـاً‬
‫ـت معتــادة اآلن عــى ذلــك‪.‬‬ ‫أن األمــر ال يتطابــق مــع مــا يف ذهنــي‪ .‬بـ ّ‬
‫من اآلن فصاعداً‪ ،‬سوف أتعلّم الترصف مثل البقية‪.‬‬

‫‪-6-‬‬
‫البارحــة طأمنتنــي كثــراً رســالة وصلتنــي منــك‪ .‬هواجــي كلهــا‬
‫كانــت بــا أســاس!‬
‫ضجــر ٌة هنــا‪ .‬أال ميكنــك القــدوم لبضعــة‬
‫واآلن‪ ،‬أحــس فجــأة أننــي ِ‬
‫أيــام؟ مثــة الكثــر لـراه يف هــذا املــكان‪ .‬كــا أن مهرجــان بــادراكايل ُيقــام‬
‫يف هــذا الوقــت‪ .‬إنــه حــدث مهــم يف هــذه املقاطعــة‪.‬‬
‫تعال بالتأكيد‪ .‬سأكون دليلك‪.‬‬

‫‪-7-‬‬
‫ال بــأس إن حصــل تأخــر قليــل يف إنجــاز أطروحتــك‪ .‬رمبــا تحظــى‬
‫مبزيــد مــن الفــرص وتكتســب زخـ ًا هنــا‪ .‬ميكنــك حتــى أن تطّ لــع عــى‬
‫بعــض املصــادر الغنيــة غــر املتوقعــة‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫كتــاب آبــا يف منحــى إضــايف‪ .‬ففــي األيــام العــرة‬ ‫ُ‬ ‫حاليــاً‪ ،‬ينحــو‬
‫الســالفة كان يكتــب طــوال الوقــت‪ .‬إنــه ينطلــق مــن «الخــرة»‪ .‬نحــن‬
‫«نختــر» شــيئاً جديــداً أو حالــة جديــدة‪ ،‬هــذا يعنــي أننــا نتقــدم إىل‬
‫األمــام انطالقـاً مــن املــايض‪ .‬مكابــدة الخــرة خــط بيــاين ُيرســم مبســاعدة‬
‫الذاكــرة عــر العــودة إىل الــوراء انطالق ـاً مــن الحالــة املوجــودة راهن ـاً‪.‬‬
‫ويف كلتــا الحالتــن ال يؤخــذ بالحســبان أبــداً الوجــود الحــارض‪ ،‬هــذا مــا‬
‫يقولــه‪ ،‬وأحــاول فهمــه‪.‬‬
‫أخربين ماذا أفعل يك أدفعك للقدوم إىل هنا‪.‬‬

‫‪-8-‬‬
‫تغمــرين الســعادة ألنــك قــررت القــدوم‪ ،‬وأكـ ُر بهجـ ًة منــي راجامــا‬
‫(تعتقــد أنــك قــادم يك «تتفقــدين»)‪ .‬عندمــا تحدثــت مــع آبــا قــال‪ :‬إن‬
‫ـت‬‫عرض ـاً إن كنـ َ‬
‫ـأت‪ .‬ومــن ثـ ّـم ســألني َ‬
‫ـك‪ ،‬دعيــه يـ ِ‬
‫كان أح ـ َد أصدقائـ ِ‬
‫تنضــد عــى اآللــة الكاتبــة‪ .‬حق ـاً‪ ،‬هــل تســتطيع؟ لكــن ال‬
‫تســتطيع أن ّ‬
‫تهلــع‪ ،‬فهــو ال ينــوي أن يجعلــك تجلــس وتعمــل‪ ،‬وبالطبــع أنــا ال أنــوي‬
‫ذلــك مطلق ـاً‪.‬‬
‫لكــن يف احتفــال املعبــد‪ ،‬وكــا هــي العــادة هنــا‪ ،‬ينبغــي لــك أن‬
‫تشــارك يف املوســيقى والرقــص‪.‬‬

‫‪-9-‬‬
‫يجب أن أزودك بتعليامت مفصلة حول كيفية الوصول إىل هنا‪.‬‬
‫هــذا بلــد جبــي‪ .‬تنــزل مــن القطــار يف راجنــاد ومــن هنــاك تســتقل‬
‫الحافلــة إىل تريوبــايت وتســافر ثالثــن مي ـ ًا نحــو الداخــل‪ .‬ومــن هنــاك‬
‫يكــون أمامــك ميــان آخ ـران تقطعهــا يف عربــة بوغــي يك تصــل إىل‬

‫‪159‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫منزلنــا‪ .‬ســوف أنتظــرك يف تريوبــايت يــوم األربعــاء‪ ،‬ونحــر إىل هنــا يف‬
‫عربــة البوغــي خاصتنــا‪ .‬ســوف تســتطيع التعــرف عـيّ‪ ،‬أليــس كذلــك؟‬
‫كانــت ســبعة وثالثــون يوم ـاً جعلــت الواحــد منــا يعــرف اآلخــر جيــداً‬
‫مــن خــال رســائلنا التــي تبادلناهــا‪ .‬فعليـاً‪ ،‬مل نلتــق ســوى مـ ّـرة واحــدة‪،‬‬
‫يف ذلــك اليــوم‪.‬‬
‫ســأكون البســة الســاري األرجــواين املفضــل لــدي‪ ،‬وأحمــل باقتــي‬
‫ـدي لتحيتــك‪ .‬عندمــا ت ـراين لـ ّـوح بالعصــا يف يــدك‪.‬‬ ‫زهــر يف يـ ّ‬
‫لــن نذهــب مــن تريوبــايت مبــارشة إىل املنزل‪ .‬ســأتغ ّدى معــك‪ .‬نحمل‬
‫أمتعتــك ونذهــب إىل بحــرة كانــر املجــاورة حيــث معبــد هويســاال‬
‫قديــم قــرب البحــرة‪ .‬نتنــاول الطعــام هنــاك ثــم نعــود أدراجنــا إىل‬
‫املنــزل‪ .‬كلــا ذهبــت إىل تريوبــايت أزور ذلــك املــكان‪.‬‬
‫قلــت إنــك ســوف متكــث أســبوعاً‬ ‫واآلن‪ ،‬إليــك برنامــج زيارتــك! َ‬
‫فقــط‪ ،‬وهــذا يســبب مشــكلة صغــرة‪ .‬لقــد وضعــت لــك برنامجــاً‬
‫ألســبوعني‪ .‬يف يــوم األربعــاء‪ ،‬لــن تفعــل أي يشء‪ ،‬فقــط مــا يكفــي مــن‬
‫االسـراحة للتخلــص مــن عنــاء الرحلــة‪ .‬ســوف تقابــل آبــا عــى العشــاء‪.‬‬
‫رمبــا ال ينطــق بــأي كلمــة‪ ،‬ورمبــا يطــرح عليــك سلســلة مــن األســئلة‪.‬‬
‫ألي مــن هــذه االحتــاالت‪ .‬إنــه يالحــظ كل يشء‬ ‫ســأكون مســتعدة ٍٍّ‬
‫بانتبــاه حتــى وإن مل يتكلــم‪ .‬إذا مل تكــن ضيافتنــا باملســتوى املطلــوب‬
‫حتــى يف أبســط التفاصيــل فإنــه يوبخنــي الحق ـاً‪.‬‬
‫صبــاح الخميــس نــزور مزرعتنــا‪ ،‬وتشــاهد هنــاك جميــع أنواع شــجر‬
‫الربتقــال التــي طاملــا وددت رؤيتهــا‪ .‬نتنــاول الغــداء هنــاك عنــد كــوخ‬
‫فينكابــا املرتفــع ونســتمتع بضيافتــه‪ ،‬ثــم نعــود إىل البيــت يف الرابعــة‬
‫بعــد الظهــر‪ .‬وبعــد العشــاء‪ ،‬أقــدم عزفـاً منفــرداً عــى آلــة فيينــا‪ ،‬ذلــك‬
‫بنــاء عــى طلــب خــاص!‬

‫‪160‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫صبــاح الجمعــة تكــون وحــدك‪ ،‬إذ يجــب أن أذهــب إىل مدرســة‬


‫البنــات يف البلــدة إلعطــاء درويس‪ .‬لــن أســتطيع فعــل ذلــك هنــا وأنــت‬
‫معــي‪ .‬آبــا ســوف يــدردش معــك مــن تلقــاء نفســه‪ ،‬ويتعــرف واحدكــا‬
‫عــى اآلخــر جيــداً‪ .‬ويف املســاء نذهــب يف جولــة‪ ،‬وســرى أن الســوق‬
‫واملنــازل جديــدة متام ـاً عليــك‪.‬‬
‫الســبت يصــادف اليــوم العــارش يف االحتفــال الكبــر‪ ،‬ويف مســائه‬
‫يشــارك الجميــع يف الرقــص‪ .‬لقــد هيــأت لــك بذلــة آبــا القدميــة‪.‬‬
‫األحــد خصصتــه للــزوار‪ .‬وميكننــا إذا أحببــت أن نذهــب ليلــة األحــد‬
‫ملشــاهدة إحــدى املرسحيــات الفولكلوريــة‪ .‬ســوف تذكِّــرك مبــرح‬
‫الياكشــاغانا(‪.)24‬‬
‫اخــرت لــك‬
‫ُ‬ ‫مســاء الســبت ســوف تحــارض يف الرابطــة املحليــة‪.‬‬
‫موضوعـاً لذلــك «فــن اإلنســان»‪ ،‬وميكنــك بالطبــع تغيــره إىل «بطــات‬
‫شكســبري» أو «نباتــات املحيــط»‪.‬‬
‫وباعتبــار أنــك قــررت أن تغــادر يــوم األربعــاء‪ ،‬فقــد خصصــت يــوم‬
‫الثالثــاء لــك بحيــث تفعــل مــا تشــاء‪.‬‬
‫عندما تأيت‪ ،‬ال تجلب معك أي يشء يل‪.‬‬

‫‪-10-‬‬
‫وضعت بعض القواعد لنفيس عشية وصولك‪:‬‬
‫أن أســتيقظ قبــل أي شــخص آخــر‪ ،‬وأن أكــون آخــر مــن يذهــب إىل‬
‫النوم‪.‬‬
‫أن أتكلم بلطف مع الخدم‪.‬‬
‫(‪ :Yashagana )24‬شــكل مرسحي تقليدي ميزج العرض الواحد فيه الرقص واملوســيقى والحوار والعادات الشــعبية‬
‫والزينة بأسلوب فريد‪ .‬تستمر عروضه من الغسق حتى الفجر‪( .‬م)‬

‫‪161‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫أن أخمن ما يفضله الضيف من دون سؤاله‪.‬‬


‫ّأل أترنفز بال رضورة‪.‬‬
‫أن أستعمل مهاريت يف الحديث بشكل معتدل‪.‬‬
‫ّأل أندفع بالغناء من دون رضورة‪.‬‬
‫أن أخصــص بعــض الوقــت للضيــف وحــده‪( .‬ال بــد أنــك الحظــت‬
‫أننــي التزمــت بذلــك عنــد إعــداد برنامــج زيارتــك)‪.‬‬
‫ّأل أعترب أن ما يقوله اآلخر عن نفسه هو أمر صحيح حرفياً‪.‬‬

‫‪-11-‬‬
‫قلقــت يف األيــام األربعــة األخــرة إذ مل أســمع خــراً منــك‪ .‬واآلن‪،‬‬ ‫ُ‬
‫جعلتنــي الرســالة التــي وصلــت منــك اليــوم يف غايــة اإلحبــاط‪ .‬ملــاذا‬
‫ـرت خططــك فجــأة؟ ذكــرت يل أنــك تنــوي الذهــاب إىل إنكلـرا‪ .‬لكــن‬ ‫غـ َ‬
‫ـت بحاجــة إىل وقــت طويــل‬ ‫مــا ي ـزال أمامــك ثالثــة أشــهر لذلــك‪ .‬لسـ َ‬
‫لإلعــداد للرحلــة‪ .‬لعــلّ الســبب الحقيقــي مختلــف متام ـاً‪ .‬كيــف يل أن‬
‫ي أن أعرفــه؟ «براحتــك!»‬ ‫أعرفــه؟ وعــى أي حــال‪ ،‬مــن أنــا يك يجــب عـ ّ‬
‫ال أملــك شــجاعة قــول ذلــك‪ ،‬والحــق‪ ،‬ال أملــك شــجاعة قــول أي يشء‪.‬‬
‫عندمــا كنــا أطفــاالً‪ ،‬تعــن أن يــأيت أخــو إحــدى صديقــايت مــن مــكان‬
‫بعيــد‪ .‬رأيتهــا تبــي ألنــه مل يــأت‪ .‬أزعجتهــا بســخريتي منهــا‪ .‬لكننــي مــا‬
‫ـك‪ .‬ملــاذا؟ ألننــي أتعلم‬
‫لبثــت أن جلســت وبكيــت معهــا‪ .‬اليــوم‪ ،‬أنــا مل أبـ ِ‬
‫شــيئاً فشــيئاً أن عــى املــرء ّأل ينظــر بعيــداً إىل األمــام وال أن يحــاول‬
‫إعــادة تشــكيل مــا حــدث ســابقاً‪ .‬فــا وقــع وانقــى يجــب أن يــرك‬
‫كــا هــو بعيــداً‪ ،‬فالتمســك بــه يجعــل ظاللــه تبهــت تدريجيـاً‪ ،‬هــذا كل‬
‫مــا يف األمــر‪.‬‬
‫اآلن بــدأت أتذكــر األشــياء واحــداً بعــد آخــر‪ .‬وبالــكاد اســتطعت أن‬

‫‪162‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫أكتــب إىل أح ـ ٍد بعــد عــوديت إىل هنــا مــن العطلــة‪ .‬ال بــل إين مل أقابــل‬
‫أي شــخص وليــس لــدي أي فكــرة كيــف مـ ّـر الوقــت‪.‬‬

‫‪-12-‬‬
‫مؤخــراً فحســب‪ ،‬عندمــا كنــت أعيــد قــراءة إحــدى رســائلك‪،‬‬
‫لســت مــن‬
‫ُ‬ ‫ضحكــت مــن نفــي‪ .‬ال أعلــم ُّأي أفــكار كون َتهــا عنــي!‬
‫األشــخاص املنظّ مــن الدقيقــن بالقــدر الــذي تظنــه‪ .‬لع ّلــك وصلــت إىل‬
‫هــذه القناعــة ألننــي بطبيعتــي بــاردة قلي ـ ًا وال تســهل إثــاريت‪ .‬حتــى‬
‫اآلن‪ ،‬ويف هــذا اليــوم‪ ،‬أكتــب إليــك بهــدوء‪ ،‬أال أبــدو كذلــك؟‬
‫كان لطيفــاً منــك أن تســأل عــن كتــاب آبــا‪ .‬يبــدو أن عملــه قــد‬
‫تباطــأ أيض ـاً يف هــذه األيــام الخمســة أو الســتة‪ .‬ذهــب لقضــاء بضعــة‬
‫أيــام مــع إيدغــورث‪ ،‬امل ـزارع اإلنكليــزي الــذي يعيــش يف الجــوار‪ .‬كان‬
‫زميلــه ذات مـ ّـرة يف أكســفورد وهــذا يفــر دفء صداقتهــا‪ .‬ففــي كل‬
‫وإل فــإن آبــا يذهــب إليــه‬ ‫شــهر أو نحــوه يــأيت إىل آبــا ليــوم أو يومــن ّ‬
‫وميكــث عنــده‪ .‬أعرفــه منــذ كنــت طفلــة وال يفتــأ يخــرين بــأين غالب ـاً‬
‫مــا كنــت أعبــث بلحيتــه الشــائبة‪ .‬تجــاوز ســنه الخامســة والخمســن‬
‫وال يــزال أعــزب‪ .‬يعمــل ويقــرأ مــن أعــاق قلبــه ويختلــط برحابــة‬
‫صــدر مــع جميــع النــاس حولــه‪ .‬وســبق أن منحــه آبــا عضويــة رشفيــة‬
‫يف رابطتنــا املحليــة‪.‬‬
‫يحمــل إيدغــورث أفــكاراً خاصــة متميــزة‪ ،‬منهــا اعتقــاده بالتقمــص‬
‫يقــض نحــو‬‫وأنــه كان أحــد أبنــاء قوميــة كــورغ يف آخــر والداتــه‪ .‬أ ْمل ِ‬
‫ثالثــن أو اثنتــن وثالثــن ســنة مــن حياتــه يف كــورغ‪ ،‬مســتغرقاً متامـاً يف‬
‫الحيــاة هنــا؟ فــإن مل يكــن األمــر عــى هــذا النحــو‪ ،‬كــا يقــول‪ ،‬ملــا أىت‬
‫إىل هــذه البقعــة مــن العــامل إطالق ـاً‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫مــرة مامزحــة‪ :‬أيــن زوجتــك الكورغيــة التــي تزوجتهــا يف‬ ‫ســألته ّ‬


‫والدتــك الســابقة؟ بــدا جديــاً لوهلــة‪ ،‬ثــم قــال‪ :‬ســاو‪ ،‬مل يجــدوا يل‬
‫زوجــة يف والديت الســابقة‪ .‬قلــت لنفــي‪ :‬ال يف الــوالدة الســابقة وال يف‬
‫هــذه الــوالدة‪ .‬هــل يعنــي ذلــك أنــه لــن يتــزوج يف ٍٍّأي مــن والداتــه‬
‫املســتقبلية؟ غمــرين حــزن مل أجــد تفسـراً لــه‪ .‬لكنــه رسعــان مــا ضحــك‬
‫وقــال‪ :‬يف والديت التاليــة‪ ،‬ســأولد هنــا مــن جديــد‪ ،‬لكــن كامــرأة كورغيــة‪.‬‬
‫ومــن ثــم ســأتزوج حــاالً‪ .‬أليــس ذلــك مناســباً؟ ضحــك آبــا أيضـاً‪ .‬ورشعــا‬
‫يف الدردشــة كاملعتــاد‪.‬‬
‫ـدرس‬‫إىل أيــن وصلــت التحض ـرات ملغادرتــك؟ قلــت إنــك ســوف تـ ّ‬
‫فص ـ ًا واحــداً‪ .‬هــذا يعنــي أنــه مــن املحتمــل أن تع ّلــم ص ّفنــا‪.‬‬

‫‪-13-‬‬
‫البارحــة وصــل إىل هنــا عــر نيمبــال الربوفســور جــويش مــن بونــا‬
‫(ســبق أن كتبــت لــك يف إحــدى املــرات عنــه)‪ .‬أعطيتــه عنوانــك يف‬
‫بانغالــور‪ .‬مــن فضلــك‪ ،‬ق ِّدمــه إىل الربوفيســور غوروباداســوامي‪ .‬إنــه‬
‫تــواق إىل مقابلتــك أيضـاً ألنــه علــم أنــك مــن تالمــذة غوروباداســوامي‪.‬‬
‫ـتكيت مــن أننــي ال أكتــب‬
‫يف الرســالة التــي وصلتنــي البارحــة‪ ،‬اشـ َ‬
‫عــن نفــي كث ـراً‪ .‬لكننــي أشــعر يف املقابــل غالب ـاً أننــي أتحــدث عــن‬
‫مربكــة إذ أفكــر مبــا‬
‫نفــي فقــط طــوال الوقــت‪ ،‬ومــن ثـ ّـم أصبحــت َ‬
‫تعتقــده بشــأين‪.‬‬
‫مــا الــذي ســأقوله عــن نفــي؟ هــا أنــذا أنتظــر نتائــج االمتحانــات‪.‬‬
‫وعــدت بــأن ترســل برقيــة عنــد الرابعــة)‪ .‬ســأدرس الفلســفة‬ ‫َ‬ ‫(لقــد‬
‫مثلــك مــن أجــل بكالوريــوس اآلداب‪ ،‬فمــن دون ذلــك ال ميكــن للمــرء‬
‫أن يكــون جديـاً‪ .‬يف هــذه األثنــاء توقفــت بطريقــة مــا عــن العــزف عــى‬

‫‪164‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫آلــة فيينــا‪ .‬اعتــدت يف فــرة ســابقة أن أعــزف عليهــا بانتظــام‪ .‬أنــوي‬


‫العــودة إىل العــزف مــن جديــد اعتبــاراً مــن يــوم الجمعــة‪ .‬يف كل يــوم‪،‬‬
‫أنتظــر رســالة منــك‪.‬‬
‫رسالتي التالية ستكون عن نفيس‪.‬‬

‫‪-14-‬‬
‫ُســعدت إذ علمــت بعــد كل ذلــك أنــك قــادم‪ .‬هــذه املــرة مل أضــع‬
‫خطــة محــددة لــك‪ ،‬هــذا درس يل‪.‬‬
‫هــل تلعــب التنــس؟ ســأرتب تدريب ـاً خاص ـاً لــك إذا مل تكــن مــن‬
‫مــاريس اللعبــة‪.‬‬
‫اليوم هو االثنني‪ ،‬وغداً الثالثاء‪ ،‬واألربعاء هو اليوم التايل‪.‬‬

‫‪-15-‬‬
‫ال أعلــم حتــى كيــف انقضــت األيــام الخمســة األخــرة‪ .‬مبعنــى مــا‪،‬‬
‫حسـ ٌـن أن تــأيت ألن رؤيتــك يل عــن قــرب ال بــد أن ُتظهــر لــك أن معظــم‬
‫األفــكار التــي كونتهــا عنــي كانــت بــا أســاس يف الواقــع‪ .‬دعنــي أعلــم‬
‫ـأت يف أي موضــع‪.‬‬ ‫ـت أخطـ ُ‬ ‫حــاالً إن كنـ ُ‬
‫أعجــب إيدغــورث بــك كث ـراً‪ .‬يريــد أن تكتــب إليــه عــى الفــور‪،‬‬
‫قبــل أن تســافر إىل إنكل ـرا‪ .‬ينــوي تزويــدك ببعــض االقرتاحــات‪.‬‬
‫ســعدت كثـراً أيضـاً إذ عرفــت أنــك عــى مــا يـرام مــع آبــا‪ .‬اكتــب‬
‫يل وأخــرين متــى اســتطعت عــاّ تحدثتــا فيــه طــوال يومــن كاملــن‪.‬‬
‫لكنــك «ســقطت» متام ـاً يف تقديــري! يقولــون إن عــى اإلنســان ّأل‬
‫يكــون هادئـاً جــداً‪ ..‬ومــع ذلــك فــإن هــذا املظهــر الهــادئ كان مناســباً‬
‫لــك إىل حــد كبــر‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫‪-16-‬‬
‫ـوم أو يومــن ســوف تهطــل األمطــار‪ .‬أنــا أنتظــر نتائــج‬ ‫يف غضــون يـ ٍ‬
‫االمتحــان‪ .‬ليــس لــدي أمــل باملرتبــة األوىل‪ ،‬لذلــك ميكننــي اعتبــار أن‬
‫النتائــج صــدرت‪ .‬وعــى أي حــال‪ ،‬أرســل مــن فضلــك الربقيــة كــا اتفقنا‪.‬‬
‫أحيانـاً‪ ،‬أشــعر بأننــي ال أفهــم أفــكارك إطالقـاً‪ .‬أعيــد قـراءة مــا كتبتــه‬
‫ـت‬
‫إيل باســتمرار‪ ،‬ويف كل مــرة أقــرأ فيــه معنــى مختلفـاً‪ .‬يف ذلــك اليــوم قلـ َ‬
‫إن كل لحظــة هــي لحظــة فريــدة‪ .‬هــل يعنــي هــذا أن الكلــات نفســها‬
‫تــدل عــى معــان مختلفــة يف اللحظــات املختلفــة؟ لع ّلــك أردت القــول‬
‫إنــه ليــس مثــة «معنــى» بحــد ذاتــه‪ .‬إن بنيــة اللغــة هــي املعنيــة‪ ،‬أقصــد‬
‫إن الرتابطــات يف لحظــة محــددة هــي التــي تخلــق صــورة املعنــى‪ .‬أريــد‬
‫أن يتضــح ذلــك بــا لبــس يف الحديــث اليومــي‪ .‬أريــد الوصــول إىل فهــم‬
‫أفــكاري الخاصــة‪ .‬عندمــا يحصــل ذلــك ســأفهم حينهــا أفــكارك أيضـاً‪.‬‬
‫مــا زلــت يف األســبوع األخــر‪ .‬كــم يكــون جيــداً لــو مل يكــن مثــة‬
‫تذكــر للــايض‪ ،‬وال تــوق إىل اآليت! هــذا مــن شــأنه أن يحــل مشــكلة‬
‫«الخــرة» التــي يبحــث فيهــا آبــا‪.‬‬

‫‪-17-‬‬
‫ـلت‬
‫مضــت عــرة أيــام منــذ آخــر رســالة منــك‪ .‬ومــع ذلــك أرسـ َ‬
‫الربقيــة كــا اتفقنــا‪ .‬مل أعتقــد أننــي ســأحصل عــى املرتبــة األوىل‪.‬‬
‫أحسســت بــأن رســالة التهنئــة قــد تــأيت بعــد الربقيــة‪ .‬هــل اختفــت‬
‫الرســالة يف مــكان مــا؟‬
‫كنت هنا‪.‬‬‫يستبد يب أحياناً شعور بأن أياماً كثرية مضت مذ َ‬
‫انضـ َّـم إلينــا إيدغــورث مــن جديــد‪ .‬قــدم البارحــة بالضبــط‪ .‬دعــاه‬
‫ـاب يحتــاج إىل شــخص‬ ‫آبــا لزيارتنــا خصيصـاً‪ .‬فعندمــا ينهــي تأليــف كتـ ٍ‬

‫‪166‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫مثــل إيدغــورث يك يســتمع إىل مــا كتبــه‪ ،‬شــخص ال يتأثــر بســهولة‬


‫بــاآلراء‪ .‬يصغــي إيدغــورث إىل كل يشء ومــن ثـ ّـم يطــرح ســؤاالً ماك ـراً‬
‫بأســلوبه اإلنكليــزي النموذجــي‪ .‬يرتبــك آبــا عنــد ذلــك لكنــه رسعــان‬
‫ـن أنــه توصــل إىل كامــل اســتنتاجاته آخــذاً بالحســبان النقطــة‬ ‫مــا يبـ ّ‬
‫املحــددة ذاتهــا التــي طُ رحــت‪ .‬ويف بعــض األحيــان يــدرك أن التحليــل‬
‫الــذي يــورده ضعيــف فيمــي عــى الفــور إىل تدويــن النقطــة املعينــة‪.‬‬
‫عنــون آبــا كتابــه (الخــرة والنمــو) ويقــول إيدغــورث إنــه ســيكون كتابـاً‬
‫ثوري ـاً‪.‬‬

‫‪-18-‬‬
‫وصلــت رســالتاك مع ـاً‪ .‬يبــدو مــن التاريــخ الــذي وضعــه مكتــب‬
‫الربيــد عــى الغالفــن أن األوىل ُأرســلت بعــد الثانيــة‪.‬‬
‫مــن فضلــك‪ ،‬ال تكتــب رســائل بهــذا الجــال‪ ،‬ألن ذلــك يجعلنــي‬
‫غــر راغبــة يف كتابــة رســائل بنفــي‪ .‬تبــدو رســائيل أمامهــا مجــرد‬
‫تقاريــر جافــة‪ .‬ال عبــارات مميــزة فيهــا وال شــعر‪ .‬يبــدو عقلــك مثــل‬
‫بركــة مــاء عميقــة‪ ،‬عــى الرغــم مــن أن املــرء يــرى عــى صفحتهــا األلوان‬
‫ـإن ألوانهــا هــي تظــل مختلفــة متامـاً‪ .‬يصبــح اللــون‬‫املتغــرة للســاء‪ ،‬فـ ّ‬
‫غــر مألــوف حتــى قبــل أن يعتــاد املــرء عــى ألفتــه‪ .‬إنــه يــرز بسالســة‬
‫بــدالً مــن لــون آخــر‪.‬‬
‫عــن أي يشء تريــدين أن أكتــب؟ عــن الحــب‪ ،‬العاطفــة‪ ،‬الرغبــة‪..‬‬
‫هــذه الكلــات وأمثالهــا ال تســحرين‪ .‬أشــعر أننــا نســتخدمها مثــل‬
‫الفتــات يك نعلــن عــن أنفســنا إىل حــد مــا‪ .‬ألوانهــا بهتــت منــذ زمــن‬
‫طويــل‪ .‬إننــي منجذبــة إليــك؛ ولكــن مــا الــذي يعنيــه ذلــك؟ جعلتــكَ‬
‫ـت‪ .‬هــل مثــة أي يشء يفــوق هــذا؟ وبهــذا‬ ‫ـت نفــي أنـ َ‬ ‫نفــي‪ ،‬وجعلـ ُ‬

‫‪167‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫األخــذ والعطــاء هــل نكــون شــيئاً آخــر أم نبنــي جدرانـاً جديــدة حولنــا؟‬
‫ـت إىل فهــم منــط أفــكاري‪ ،‬فعندهــا لــن تجــد صعوبــة يف‬ ‫إن توصلـ َ‬
‫ترجمتــي كليـاً‪.‬‬
‫بســاطتك‪ ،‬طبعــك املختلــف قليــاً‪ ،‬إحساســك الرائــع بالعدالــة يف‬
‫التعامــل مــع اآلخريــن‪ ،‬وحتــى عنــد التحــدث عنهــم‪ ،‬موهبتــك التــي‬
‫تدمــج بسالســة مــا حــدث مــع مــا ســيأيت وتــرك بصمتــك الخاصــة‬
‫عليــه‪ ،‬كل ذلــك أصبــح اآلن يل‪ .‬هــل مثــة ّأي يشء منحتــكَ إيــاه؟‬
‫تفتــح الكليــة أبوابهــا مــن جديــد يف هــذا الوقــت‪ ،‬لكنــي غــر‬
‫متأكــدة مــن قدومــي إىل بانغالــور وااللتحــاق بهــا‪ ،‬فقــد تلقــى آبــا‬
‫دعــوة مــن اليابــان‪ .‬إن ذهــب إىل هنــاك فســأذهب معــه‪ .‬بالطبــع‬
‫ال يشء مؤكد حتى اآلن‪.‬‬
‫ســأجيب عــى الفــور عــن أســئلتك واحــداً بعــد اآلخــر‪ ،‬تلــك التــي‬
‫طرحتهــا يف رســالتك الثانيــة‪.‬‬

‫‪-19-‬‬
‫تأخرت هذه الرسالة قليالً‪ .‬آمل ّأل يزعجكَ ذلك‪.‬‬
‫تبــارش الجامعــات اإلنكليزيــة التدريــس يف أكتوبــر‪ ،‬هــل لــك‬
‫أن تذهــب إىل هنــاك اآلن يف منتصــف يوليــو؟ لــن تكــون هنــاك أي‬
‫صعوبــة يف الحصــول عــى قبــول مــن أكســفورد‪ .‬كــا أن إيدغــورث‬
‫كتــب ألحــد املدرســن هنــاك مــن معارفــه‪ .‬ســوف نعلــم املوقــف يف‬
‫غضــون أســبوعني‪ .‬أفــرض أن الذهــاب إىل هنــاك شــخصياً يف وقــت‬
‫متعجـ ًا‬
‫ـرع يف إنجــاز عملــك‪ .‬كــا أنــك ســتكون بالتأكيــد ِّ‬ ‫مبكــر قــد يـ ِّ‬
‫نظــراً لخطتــك الحاليــة يف االنطــاق باكــراً جــداً‪.‬‬
‫هل ما زلت تريد إجابات عن استفساراتك كلها؟‬

‫‪168‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫‪-20-‬‬
‫إذن‪ ،‬نحــن ننــوي الذهــاب أخـراً‪ .‬قــرر آبــا يف النهايــة قبــول الدعــوة‬
‫إىل اليابــان‪ .‬هنــاك معهــد دينــي قديــم يف كيوتــو يســمى إرســالية أنانــد‪.‬‬
‫يف الواقــع‪ ،‬لــن يكــون منصفـاً متامـاً وصفــه باملعهــد الدينــي‪ .‬إنــه مركــز‬
‫يضـ ّـم القاصديــن الباحثــن عــن املعرفــة‪ .‬يــأيت النــاس إىل هنــاك مــن‬
‫جميــع أنحــاء العــامل للدراســة وتبــادل األفــكار‪ .‬أسســه منــذ عرشيــن‬
‫عامــاً راهــب مــن ســيالن‪ .‬يرتاســل آبــا مــع رئيــس اإلرســالية الحــايل‬
‫الربوفيســور نامــورا بــن حــن وآخــر‪ .‬مؤخ ـراً‪ ،‬أرســل إليــه آبــا بعــض‬
‫الفصــول مــن كتابــه الجديــد يك يعلــق عليــه‪ .‬رأى الربوفيســور نامــورا‬
‫أنــه ينبغــي آلبــا إلقــاء محــارضات يف الجلســة الســنوية التــي تعقدهــا‬
‫اإلرســالية والتحــدث يف موضوعهــا الرئيــي‪ .‬مل يســافر آبــا كثــراً يف‬
‫الســنوات العرشيــن املاضيــة‪ ،‬لذلــك مل يكــن تواقـاً إىل املبــارشة يف هــذه‬
‫املغامــرة الجديــدة‪ .‬لكــن إيدغــورث بــادر إىل إقناعــه وحصــل عــى‬
‫موافقتــه‪.‬‬
‫الربوفيســور جــويش هنــا‪ .‬قــدم إلينــا خصوصـاً عندمــا ســمع باألمــر‪.‬‬
‫يقــول إنــه ســيأخذ إجــازة مــن العمــل ويــأيت معنــا لبضعــة أيــام عــى‬
‫األقــل‪ .‬أنجــز دراســة عــن اللغتــن الصينيــة واليابانيــة‪ ،‬لذلــك ســيكون‬
‫عونـاً كبـراً لنــا يف األيــام األوىل‪ .‬أود أن أطلــب منــك القــدوم أيضـاً‪ .‬هــل‬
‫تــأيت؟ أحيانـاً يكــون مثــة يشء مــن التســلية يف عــدم فعــل بعــض األشــياء‬
‫يف الوقــت املحــدد‪.‬‬
‫ـس اإلجابــة عــن استفســاراتك‪ .‬أنتظــر يف هــذه األثنــاء معرفــة‬ ‫مل أنـ َ‬
‫إن كنــت بنفســك ســتجد اإلجابــة عنهــا‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫‪-21-‬‬
‫ تســتغرق حتــى يف كلمتــن مــن رســالة‪ .‬غالبــاً مــا تكــون‬
‫مســتغرقة متامــاً‪ .‬أيــن وكيــف حيكــت خيــوط؟ مــا العصافــر التــي‬
‫دوزنــت النغــات معــاً؟‬
‫لكــن‬
‫النهــار أعجوبــة بالنســبة لهــا‪ ،‬والليــل زخرفــة مــن زهــور‪ّ .‬‬
‫عقلهــا ال يطيــق القالــب الصــارم للكلــات‪.‬‬
‫ـن األيــام‬
‫ـت مــا‪ .‬عــى هــذا النحــو متامـاً‪ .‬لكـ ّ‬ ‫لقــد قالــت‪ :‬ســآيت يف وقـ ٍ‬
‫ـأت‪.‬‬
‫مـ ّـرت ومل تـ ِ‬
‫ثـ ّـم مــن تلــك التــي التقــى بهــا يف الحديقــة عــى الطريــق؟ مــن‬
‫الــذي بــادر اآلخــر؟‬
‫عندمــا كانــا يس ـران مع ـاً مل تتعــر الخطــوات‪ ،‬ومل تثبــت العيــون‬
‫عــى أي موضــع‪ .‬صــار الــدرب أليفــاً وألقــت األشــجار أقواســاً مــن‬
‫الظــال‪ .‬األوراق الجافــة تحتهــا مل تــرك أي أثــر مــن الذكريــات األوىل‪.‬‬
‫عرضاً‬ ‫ـت عنــد ضفــة النهــر‪ ،‬مل تج ِّفــل أحداً وهــي تلقــي َ‬ ‫عندمــا جلسـ ْ‬
‫حجــرة يف املــاء‪ .‬حــطّ طائــر الكــرايك برقّــة وانســياب عــى العشــب؛‬
‫وبالــكاد ظهــر انعكاســه عــى صفحــة امليــاه‪.‬‬
‫ـت هنــاك تحتــه مبت ّلــة‬ ‫ـل للمطــر فجــأة‪ ،‬وقفـ ْ‬ ‫عندمــا هطــل أول وابـ ٍ‬
‫تقطــر مــاءه‪.‬‬
‫ر أ ّدت جولــة‬ ‫عندمــا كانــت تتجــول معــه يف حــرم املعبــد‪ ،‬بــكل ُيـ ٍ‬
‫ـات املتناغمــة لــآالت‬ ‫وســمعت للحظ ـ ٍة اإليقاعـ ُ‬ ‫مــن رقصــة االحتفــال‪ُ ،‬‬
‫املوســيقية التــي مل تكــن موجــودة‪.‬‬
‫ـت عنــد عتبــة البيــت تر ّتــب باقــة مــن زهــور‪ ،‬وجــدت‬ ‫عندمــا جلسـ ْ‬
‫حيـزاً حتــى للزهــور التــي كانــت ذابلــة قليـاً‪.‬‬
‫أين حدث كل هذا؟‬

‫‪170‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫ـخص‬
‫محببـاً مــن شـ ٍ‬
‫هــذه خمســة أجوبــة متســقة عــن ســتني ســؤاالً َّ‬
‫ما ‪.‬‬

‫‪-22-‬‬
‫ساياما مارو‬
‫‪ 22‬يوليو ‪1939‬‬
‫هــذه مجــرد تحيــة قصــرة مــن الســفينة‪ .‬الطقــس هنــا موســمي‬
‫بالــغ الســوء‪ .‬الربوفيســور جــويش الــذي أكــد أنــه مل يســبق لــه أبــداً‬
‫أن عــاىن مــن دوار البحــر‪ ،‬مل يغــادر قمرتــه منــذ أربعــة أيــام‪ .‬آبــا يف‬
‫مــزاج رائــق جــداً ويريــد املحاولــة ورؤيــة إن كان ال يــزال يســتطيع‬
‫ـت الطعــام هنــا كث ـراً‪ .‬أنــوي الكتابــة‬‫االســتمتاع بلعبــة الربيــدج‪ .‬أحببـ ُ‬
‫ـت يابانيــة يف حيايت الســابقة‪.‬‬‫إىل إيدغــورث‪ :‬بــدأت أشــعر أننــي حقـاً كنـ ُ‬
‫أيــن ســتصلك بطاقتــي الربيديــة هــذه؟ يف بانغالــور أم سيامتشــاالم‬
‫أم لنــدن؟‬
‫الســفر‪ ..‬املزيــد مــن الســفر‪ :‬مــن أيــن وإىل أيــن! أنــا ســعيدة حــد‬
‫ـروع‪.‬‬
‫الـ ّ‬

‫‪-23-‬‬
‫كيوتو‪ :‬اليابان‬
‫أغسطس ‪ - 1939‬أكتوبر ‪1941‬‬
‫وجــدت عنــد وصــويل إىل هنــا رســائلك الثــاث بانتظــاري‪ .‬لقــد‬
‫ـت يف أكســفورد‪ ،‬هــذا يعنــي أنــك حصلــت عــى مــا تريــد‪ُ .‬ســعدت‬
‫قُبلـ َ‬
‫مــرة ثانيــة‪ ،‬يبــدو مظهــره الخارجــي خشــناً‬
‫ألنــك زرت إيدغــورث ّ‬
‫قليـاً‪ ،‬لكنــه يهتــم ألمــر أي شــخص‪ .‬لقــد أعطــاك معطفــه‪ ،‬هــذا يبــر‬

‫‪171‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫بالخــر‪ .‬لديــه ملســة ســحرية وحديثــه مشــجع‪ .‬يعتقــد أن العاطفــة نحــو‬


‫اآلخريــن ال تكــون مثاليــة متامــاً ّإل إذا أعطــى املــرء الشــخص اآلخــر‬
‫شــيئاً اعتــاد هــذا املــرء عــى اســتعامله بنفســه‪ .‬لقــد أعطــاين عصــا‬
‫املــي األقــدم لديــه‪ ،‬ومــا زلــت أســتعملها يف جــواليت برفقــة آبــا‪.‬‬
‫يف الواقــع‪ ،‬إن مقــر إرســالية أنانــد هــو قــر ســاموراي قديــم‪ .‬وقــد‬
‫ُر ِّتــب يك يالئــم الغــرض منهــا‪ .‬هنــاك قاعــة محــارضات رحبــة‪ ،‬ومبحاذاتها‬
‫مكتبــة وغــرف الدراســة‪ .‬يعيــش نامــورا واثنــان مــن زمالئــه هنــا يف‬
‫مجمــع القــر‪ .‬القــر‬ ‫غــرف القــر‪ .‬وقــد أعـ ّدوا لنــا منــزالً صغـراً يف ّ‬
‫ومــا يحيــط بــه جميــل للغايــة‪ .‬يقــع خــارج املدينــة وهــذا يعطــي املــرء‬
‫إحساسـاً بالرحابــة‪.‬‬
‫كنــت قلقــة بشــأن املنــاخ وهــل ســيوافق مـزاج آبــا‪ ،‬لكــن لحســن‬
‫الحــظ يبــدو مالمئـاً لــه إىل حــد كبــر‪.‬‬
‫جــويش هنــا كأنــه يف بيتــه‪ .‬يعــرف اللغــة‪ ،‬وهــذه ميــزة إضافيــة‪.‬‬
‫يعيــش يف الســكن الجامعــي ألن ذلــك يالئــم الدراســة أكــر‪ .‬يقــي أيــام‬
‫اآلحــاد معنــا أو ينضــم إلينــا عندمــا نذهــب يف رحلــة‪ .‬الســيدة نامــورا‬
‫بصفتهــا مدبــرة مقــر اإلرســالية مســؤولة عــن جميــع الرتتيبــات‪ .‬تبــدو‬
‫إحــدى زميــات زوجهــا‪ ،‬الســيدة إميوتــو‪ ،‬عــى أهبــة االســتعداد دوم ـاً‬
‫ملســاعدتها‪ .‬ومــن زمــاء نامــورا أيض ـاً راهــب تيبتــي‪ ،‬ونحــن نســميه‬
‫«ســودهاما»‪.‬‬
‫هنــاك حاليـاً مثانيــة طــاب يدرســون هنــا يف اإلرســالية؛ خمســة مــن‬
‫اليابــان وواحــد مــن الرنويــج وواحــد مــن إنكل ـرا وواحــد مــن ســيالن‪.‬‬
‫وحتــى اآلن مل أتعـ ّـرف متام ـاً عليهــم‪ .‬يــأيت أيض ـاً بعــض األشــخاص مــن‬
‫خــارج اإلرســالية ويحــرون االحتفــاالت العامــة واملحــارضات‪.‬‬
‫نامــورا شــخص جميــل‪ .‬عينــاه صافيتــان مثــل عينــي طفــل‪ ،‬ينعكــس‬

‫‪172‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫فيهــا عــى الفــور أقــلّ تغيــر يطــرأ عــى ذهنــه‪ .‬يبــدو مهيبـاً بلحيتــه‬
‫التــي يتخللهــا الشــيب ومالبســه اليابانيــة األصيلــة‪ .‬إنكليزيتــه ممتــازة‬
‫لكنــه عندمــا يتحــدث باليابانيــة يكــون أبلــغ تأثـراً‪ .‬رمبــا يتعلــق األمــر‬
‫بــأن املــرء عندمــا يصغــي إىل لغــة غــر مألوفــة ينتبــه بكافــة جوارحــه‬
‫إىل تأثرياتهــا الصوتيــة‪ .‬أعجــب باســمي كثـراً‪ ،‬لكنــه يلفظــه شــاو‪ .‬أطلــق‬
‫(الوهــاج)‪ .‬يبــدو االســم مناســباً جــداً لــه‬
‫عليــه آبــا اســم ســانديباين ّ‬
‫عندمــا يــرى املــرء كيــف أنــه يلهــب شــعلة املعرفــة بــكل ُيــر‪.‬‬
‫ســتقول إننــي مل أكتــب شــيئاً عــن نفــي‪ .‬لكننــي مــا زلــت أجيــل‬
‫النظــر يف األشــياء حــويل‪.‬‬
‫تخربنــا الصحــف أن طبــول الحــرب بــدأت تقــرع يف أوروبــا‪ .‬أشــعر‬
‫بالقلــق عليــك‪ ،‬ومــن ثـ ّـم يعتقــد املــرء أن جميعنــا يجــب أن نقلــق عــى‬
‫اآلخرين‪.‬‬
‫تلقيــت نســخة مــن أطروحتــك‪ .‬أيــن كلمــة االمتنــان والشــكر يل يف‬
‫املقدمــة؟‬

‫‪-24-‬‬
‫منــذ وقــت طويــل مل تصلنــي رســالة منــك‪ ،‬وهــذه التــي وصلــت‬
‫اليــوم كانــت وجيــزة جــداً‪ .‬ال بــد أنــك اآلن وســط ضجيــج الحــرب‬
‫ودخانهــا‪ .‬أنــا قلقــة بالطبــع‪ ،‬لكــن الرســالة خففــت مــن قلقــي‪ .‬مــن‬
‫األفضــل أنــك قــررت حتــى يف هــذه الظــروف ّأل ترجــع وأن تبقــى‬
‫هنــاك تكمــل عملــك‪ .‬فــا ســيحدث ميكــن أن يحــدث يف أي مــكان‪.‬‬
‫هنــا أيضــاً املنــاخ الســائد ال يعطــي املــرء أي ســبب للتفــاؤل‪.‬‬
‫ـن آبــا يبدو ســعيداً‬
‫ال يعلــم املــرء بتاتـاً مــا الــذي قــد يحــدث ومتــى‪ .‬لكـ ّ‬
‫هنــا‪ ،‬وتحســنت صحتــه كثرياً‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫يقــول الربوفيســور جــويش إنــه ينــوي العــودة إىل الهنــد يف نهايــة‬


‫ديســمرب‪ .‬ركــز خــال إقامتــه هنــا بشــكل رئيــس عــى دراســة اللغــة‬
‫أحــب‬
‫ّ‬ ‫اليابانيــة‪ .‬وحاليــاً هــو منشــغل بزيــارة املواقــع املهمــة هنــا‪.‬‬
‫هــذه امليــزة عنــده إىل حــد كبــر‪ .‬إنــه يقــوم بأبســط األشــياء بكثــر مــن‬
‫الحامســة‪ ،‬يوليــه القــدر نفســه مــن االهتــام الــذي مينحــه لدراســته أو‬
‫ـت اآلن ملــاّ ً‬ ‫تأمالتــه‪ ،‬ورمبــا أكــر‪ .‬ال يــرك أي فرصــة تضيــع هبــاء‪ .‬بـ َّ‬
‫متام ـاً بذلــك‪ .‬فدراســته واهتامماتــه تجعلــه عون ـاً كب ـراً لــك‪.‬‬
‫تلقــى آبــا رســالة حزينــة جــداً مــن إيدغــورث الــذي يخــى أن‬
‫تــدوم الحــرب طوي ـ ًا ويعـ ّـم الدمــار عــى نطــاق واســع‪ .‬لقــد شــارك‬
‫يف القتــال يف الحــرب الســابقة حتــى إنــه نــال وســام الخدمــة املتميــزة‪.‬‬
‫واليــوم ال يشء يســتطيع أن يقــوم بــه بنفســه‪ .‬مل يعــد يســتوعب ملــاذا‬
‫يتفــرق النــاس يف هــذا العــامل أشــتاتاً بــدالً مــن أن يتعاونــوا ويتقاربــوا‬
‫بفضــل التقــدم املــادي‪ .‬الوضــع يف الهند نفســها متفجــر أيضـاً‪ .‬لقد وضع‬
‫نائــب امللــك وحــكام الواليــات يف كل مــكان كامــل الســلطات اإلداريــة‬
‫يف أيديهــم‪ .‬اقتصــاد البــاد برمتــه ومنشــآتها الصناعيــة ســوف يســتغل‬
‫اآلن ملصلحــة املجهــود الحــريب الربيطــاين‪ .‬منــذ البدايــة مل يستحســن‬
‫إيدغــورث السياســات الحكوميــة والقواعــد االجتامعيــة ملواطنيــه‬
‫الربيطانيــن‪ .‬أىت إىل الهنــد وغــرس جــذوره يف إحــدى بقــاع كــورغ‪.‬‬
‫مل ينظــر إليــه النــاس هنــا أبــداً كدخيــل‪ .‬ولكــن مثــة اآلن صعــود مفاجــئ‬
‫يف الشــعور الوطنــي يف كل مــكان‪ .‬فــا الــذي يضمــن أن جميــع النــاس‬
‫ســوف يترصفــون بوعــي؟ إيدغــورث غــر قلــق عــى نفســه لكنــه يريــد‬
‫الحفــاظ عــى الصــات الكثــرة جــداً التــي أقامهــا‪ ،‬والروابــط الحميمــة‬
‫التــي نشــأت عنهــا‪ .‬الصداقــة هــي أكــر مــا يعتــز بــه‪ .‬لذلــك ليــس‬
‫مســتغرباً يف هــذه األوضــاع أن يفتقــد آبــا إىل حــد كبــر‪ ،‬وحسـ ٌـن أنــه‬

‫‪174‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫مل يعــر عــن ذلــك ســوى بكلــات قليلــة‪ .‬لقــد أملــح وحســب إىل آبــا أنــه‬
‫مــن املستحســن أن يرجــع حــاالً‪ .‬بقــي شــهران قبــل أن تبــدأ محــارضات‬
‫ـن مــن طبعــه أنــه قليــل‬ ‫آبــا‪ ،‬وهــو يجــد نفســه يف مــأزق إىل حــد مــا‪ .‬لكـ ّ‬
‫العنــاد يف أمــور مثــل هــذه‪ .‬صحيـ ٌـح أنــه ال يســتخف بــأي يشء‪ ،‬لكنــه‬
‫عندمــا يبــارش يف إنجــازه فإنــه ال يتخــى عنــه‪.‬‬
‫بــدأت أحــس بأنــه ال داعــي للخشــية مــن كل هــذه األشــياء التــي‬
‫حدثــت بشــكل مفاجــئ‪ .‬فاملشــكالت الكبــرة ال تحــل عــر قياســها‬
‫ـت أميــل إىل يشء مــن اإلميــان‬ ‫مبســطرة الربــح والخســارة‪ .‬كــا أننــي بـ ُّ‬
‫بالقضــاء والقــدر‪( .‬رمبــا انتقــل إ ّيل هــذا األمــر مــن التقاليــد أو رمبــا أيضاً‬
‫مــن تأثــر مــا كان يقولــه إيدغــورث طــوال ســنوات)‪ .‬وليــس األمــر كــا‬
‫لــو أن قدومنــا إىل اليابــان هنــا ســيحدث ثــورة مــا‪ ،‬لكــن مــا حــدث‬
‫ســوف يعنــي أن هويتــي توغــل يف طريــق الضيــاع‪.‬‬
‫هــا أنــا أصــل إىل خامتــة هــذه الرســالة الطويلــة عــى غــر العــادة‪.‬‬
‫يومـاً بعــد يــوم يصبــح الحصــول عــى الرســائل وتلقيهــا ســليمة صعبـاً‬
‫أكــر فأكــر‪ .‬لــو أن املــرء يكتــب فحســب لآلخــر؛ أريــدكَ ‪ ،‬أنــا لــك؛‬
‫لرمبــا هــذا يكفــي‪ .‬ولكــن لــو أنــه بــدالً مــن قصــة ســاو‪ ،‬رسد قصــة‬
‫كاو (الغ ـراب) وتشــيو (عصفــور الــدوري) لرمبــا اســتخلص مســؤولونا‬
‫الالمعــون االســتنتاجات األكــر اســتحالة‪ .‬لذلــك‪ ،‬يف الوقــت الحــارض‪،‬‬
‫أكتفــي بهــذا القــدر‪.‬‬
‫أقول لك الحقيقة‪ ،‬أنا مل أَ ْن َسكَ ‪.‬‬

‫‪-25-‬‬
‫كنــت مريضـ ًة طــوال األيــام الســبعة األخــرة‪ .‬والحـرارة مل تنخفــض‬
‫داع للقلــق‪ .‬أنــا يف مـزاج طيــب‪،‬‬
‫بعــد‪ .‬يقــول الطبيــب إنــه ال يوجــد ّأي ٍ‬

‫‪175‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫والســيدة إميوتــو التــي وصلــت إىل هنــا مؤخــراً تقــوم بــكل العنايــة‬
‫التمريضيــة‪ .‬ولذلــك‪ ،‬آبــا غــر قلــق أيض ـاً‪.‬‬
‫عــادة‪ ،‬ال أقــع فريســة املــرض‪ ،‬وإذا حــدث ذلــك ال أتحمــل‬
‫رؤيــة اآلخريــن يقومــون بــكل يشء مهــا صغــر مــن أجــي‪ .‬عندمــا‬
‫ترتفــع ح ـرارة الجســم‪ ،‬يتــاىش املــرء تقريب ـاً‪ ..‬يشــعر املــرء بنفســه‬
‫أصبحــت نقطــة أو حبــة يف مــكان مــا‪ ،‬تنمــو تدريجيــاً وتكــر‬
‫وتغلــف كل يشء‪ .‬هــذا يســليني بــا حــدود‪ .‬يحــدث هيــاج كثــر يف‬
‫داخــل الجســم‪ .‬مثــة مــا يشــبه حربـاً طبقيــة تقــع بــن كريــات الــدم‬
‫الحمـراء والبيضــاء‪ .‬يرفــع الــدم عمــداً درجــة حرارتــه‪ ،‬ويتخــذ هيئــة‬
‫ُمرضــة‪ .‬الغــدد املختلفــة يف مواقعهــا‬ ‫رهيبــة يك يقتــل الجراثيــم امل ِ‬
‫اإلســراتيجية‪ ،‬واللــه يعلــم مــا تفعلــه! لكننــي قــرأت عــن هــذا يف‬
‫إحــدى املـرات ورشحتــه يف االمتحــان‪ .‬بعــد املــرض‪ ،‬كل مــن الــرأس‬
‫أحــب ذلــك كثــراً‪ ..‬وحتــى وأنــا أكتــب‬ ‫ُّ‬ ‫أخــف‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والجســم يصبــح‬
‫هــذا‪ ،‬بــدأت أشــعر بتحســن‪.‬‬
‫ـت إن الحصــول عــى عمــل يف مكتبــة ُبــودي يف أكســفورد لــه‬ ‫قلـ َ‬
‫ـت للق ـراءة؟‬
‫فائــدة مزدوجــة‪ .‬لكــن هــل يجــد العامــل يف مكتب ـ ٍة الوقـ َ‬
‫يف الواقــع‪ ،‬أظــن أن بوجــوده بشــكل دائــم مــع هــذا الكـ ّـم الكبــر مــن‬
‫الكتــب ال بــد أن يشــعر بأنــه ال يريــد الق ـراءة إطالق ـاً‪.‬‬
‫يقــرب حاليـاً موعــد محــارضات آبــا‪ .‬اتخــذت عــى عاتقــي إخـراج‬
‫مرسحيــة صغــرة وتقدميهــا يف احتفــال اإلرســالية الســنوي الــذي يقــام‬
‫رس‪.‬‬
‫يف الوقــت نفســه تقريبــاً‪ .‬كتبــت نــص املرسحيــة بنفــي‪ ،‬وهــذا ّ‬
‫اســتندت يف النــص إىل إحــدى قصــص راجامــا (ليســت تلــك القصــة‬
‫ـب نامــورا القصــة‬ ‫عــن طــاووس التــي) وأجريــت بضعــة تغيـرات‪ .‬أحـ َّ‬
‫كث ـراً‪ .‬ســأكتبها أوالً باإلنكليزيــة ‪-‬إنكليزيتــي‪ -‬وســوف يقــوم برتجمتهــا‬

‫‪176‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫إىل اليابانيــة‪ .‬إنــه نــوع مــن العمــل غــر املبــارش! ولحســن الحــظ‬
‫املرسحيــة ســتكون قصــرة‪ ،‬وكلامتهــا قليلــة‪ .‬وســأكمل مــا تبقــى بــاألداء‬
‫والتأثــرات الصوتيــة وجميــع أنــواع الرصخــات والتشــويق‪ .‬ال بــد أن‬
‫مــرح ُنــوه هنــا ومــرح ياكشــاغانا ســيجدان ســبباً للخشــية مــن هــذا‬
‫اإلبــداع الجديــد‪.‬‬
‫ال بــد أن يكــون جــويش قــد وصــل إىل الهنــد اآلن‪ .‬مل تــرد أخبــار‬
‫منــه بعــد‪.‬‬
‫ملــاذا يــرك الربوفســور غوروباداســوامي الكليــة بهــذا الشــكل‬
‫ـت يل عنــه بأســلوب عمومــي‪ ،‬ومل يكــن األمــر منـ ِّـوراً‬
‫املفاجــئ جــداً؟ كتبـ َ‬
‫يل‪.‬‬
‫بعــد كتابــة كل هــذا‪ ،‬أشــعر بتحســن حقـاً‪ .‬وحـراريت انخفضــت كــا‬
‫تقــول الســيدة إميوتو‪.‬‬

‫‪-26-‬‬
‫فرجــت عنــي كث ـراً‬ ‫لــور‪ ،‬فتــاة ســويدية قدمــت إىل هنــا مؤخ ـراً‪ّ .‬‬
‫عندمــا كنــت مريضــة‪ .‬والدهــا ممثــلٌ يف أوســاكا لرشكة شــحن ســويدية‪.‬‬
‫تريــد البقــاء يف اليابــان لبعــض الوقــت ومــن ثــم الذهــاب إىل الهنــد‪.‬‬
‫إنهــا يف مثــل ســني‪ ،‬لكنهــا بالغــة الجــال‪ ،‬رقيقــة الشــفاه واســعة‬
‫العينــن‪ .‬طلبــت منهــا العــودة معنــا‪ .‬شــغوفة جــداً بالفــن الهنــدي‪ .‬يف‬
‫البدايــة‪ ،‬ويك أروعهــا قليـاً‪ ،‬أعطيتهــا أطروحتــك يك تقرأهــا‪ .‬أنــا متأكــد‬
‫مــن أنــك ســتعجب بلــور‪.‬‬
‫سمعت للتو أن جويش وصل ساملاً إىل البيت‪.‬‬
‫احــذر مــن أن تكــون لــور يف الصــورة التــي أرفقتهــا‪ .‬الثــاين عــى‬
‫اليمــن هــو إميوتــو‪ ،‬والجالــس عــى األرض وإصبعــه عــى ذقنــه هــو‬

‫‪177‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫أوالف‪ .‬إن مل تســتطع أن تتعــرف عــى لــور‪ ،‬اقلــب مــا كتــب أدنــاه رأسـاً‬
‫عــى عقــب واقــرأ‪:‬‬
‫بــدأت اآلن بروفــات مرسحيتــي‪ .‬يــؤدي أوالف دور امللــك‪ .‬لحيتــه‬ ‫ْ‬
‫تؤهلــه للــدور كثـراً‪ .‬تدبــرت أمــر بعــض األطفــال مــن األحيــاء املجــاورة‬
‫يك يــؤدوا دور العصافــر‪ .‬هنــاك أيض ـاً دور ميثــل شــجرة يف املرسحيــة‪،‬‬
‫يقــوم بــه نامــورا‪.‬‬
‫علمــت أن الربوفيســور غوروباداســومي ذهــب للعيــش يف‬ ‫ُ‬
‫سيمهاشــاالن بشــكل دائــم‪ .‬هــل هــذا صحيــح؟‬
‫أشــعر أين بحالــة جيــدة فعليـاً اآلن‪ .‬أفكــر أحيانـاً‪ :‬مــا الــذي أفعلــه‬
‫هنــا؟ لكنــي ال ألبــث ّإل أن أشــعر بــأن كل هــذا مل يكــن ليحــدث‪ ..‬ومل‬
‫يكــن يل أن ألتقــي مــع لــور‪.‬‬
‫اكتــب بالتفصيــل عــن نفســك‪ .‬وميكنــك أن تتغــاىض عــن ذكــر‬
‫األشــياء الضئيلــة الشــأن‪.‬‬

‫‪-27-‬‬
‫كــا أخربتــك مــن قبــل‪ ،‬قصــة املرسحيــة غــر طويلــة‪ .‬املرسحيــة‬
‫مكونــة مــن ثالثــة مشــاهد فقــط‪.‬‬
‫ّ‬
‫تبــدأ العصافــر زقزقتهــا حتــى قبــل أن ُتفتــح الســتارة‪ .‬ومــن‬
‫ثـ ّـم نــرى أمامنــا شــجرة قدميــة ضخمــة‪ .‬يلبــس األطفــال أقنعــة متثــل‬
‫مختلــف أنــواع العصافــر ويدخلــون مــن كافــة الجوانــب مرحــن‪.‬‬
‫ثــم يغــادرون‪ .‬تتواصــل الزقزقــة‪.‬‬
‫يرقصــون لوهلــة ّ‬
‫عــال‪ ،‬يشــبه ضجيــج هــزة أرضيــة‪ .‬يبــدو‬ ‫فجــأة‪ ،‬يحــدث ضجيــج ٍ‬
‫غضبــاً‪ ،‬ســاخطاً‪،‬‬‫للحظــة وكأن الشــجرة تهتــز أيضــاً‪ .‬يدخــل امللــك‪ُ ،‬م َ‬
‫محاطـاً بوزرائــه‪ .‬بســبب زقزقــة العصافــر أفلتــت طريدتــه‪ .‬يأمــر الــوزراء‬

‫‪178‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫بقتــل العصافــر‪ .‬يطــرح الــوزراء األربعــة أربعــة مقرتحــات مختلفــة‪.‬‬


‫مســم ًام‬
‫َّ‬ ‫يقــول األول نشــعل نــاراً هائلــة‪ .‬ويقــول آخــر نضــع ســاداً‬
‫عــى جــذور الشــجرة‪ .‬ويقــول ثالــث نتســلق الشــجرة ونخـ ّـرب جميــع‬
‫بيــوض العصافــر وفراخهــا أوالً‪ .‬ويقــول الرابــع نقطــع الشــجرة بالفــأس‪.‬‬
‫يرقــص كل واحــد منهــم ويفصــح عــن نوايــاه‪ .‬مل يتخــذ امللــك قـراره بعــد‪.‬‬
‫وبينــا يجــري كل ذلــك‪ ،‬تدخــل العصافــر أيضـاً بــن حــن وآخــر‪ .‬ترقــص‬
‫وتتوســل‪ .‬يهددهــم امللــك ووزراؤه‪ ،‬كل واحــد مبــا أع ـ ّد مــن خطــة‪.‬‬
‫أخــراً قــرروا قطــع الشــجرة وبنــاء منــزل مكانهــا‪ .‬يبــدأ الــوزراء‬
‫وامللــك بشــحذ فؤوســهم؛ يلوحــون بهــا عاليـاً مثــل هـراوات‪ ،‬يســندونها‬
‫عــى أكتافهــم ويرقصــون‪.‬‬
‫تتوقــف أصــوات العصافــر فجــأة‪ .‬وحيــث كانــت تنتصــب الشــجرة‪،‬‬
‫يقــف اآلن رجــل عجــوز رافعــاً يديــه متوســ ًا إليهــم‪ :‬ال تقتلــوين‪،‬‬
‫ال تلقــوا يب أرضــاً‪ .‬تقبــل عليــه بعــض العصافــر املذعــورة‪ .‬يأخذهــم‬
‫إليــه‪ ،‬لكنهــم يبتعــدون عنــه‪ .‬تنهــال الفــؤوس‪ ،‬وتســقط الشــجرة‪.‬‬
‫هنا ينتهي املشهد األول‪.‬‬
‫املشــهد الثــاين‪ :‬يف موقــع الشــجرة ينتصــب اآلن منــزل خشــبي‪.‬‬
‫بعــض العصافــر هــم اآلن أطفــال‪ ،‬والبعــض اآلخــر مازالــوا عصافــر‪.‬‬
‫جميعهــم يلعبــون ويطوفــون يف املــكان‪ .‬للبيــت أربعــة أبــواب يدخلــون‬
‫إليهــا ويخرجــون منهــا راكضــن‪ ،‬يغنــون ويرقصــون مع ـاً‪.‬‬
‫يحــدث عــى الفــور ضجيــج كبــر مياثــل متام ـاً الضجيــج الســابق‪.‬‬
‫يهتــز املنــزل أيضـاً ويدخــل امللــك مــع وزرائــه‪ .‬لبــاس امللــك وزينتــه مــن‬
‫القــرون الوســطى‪ .‬والــوزراء مختلفــون عــا ســبق‪ .‬هنــاك اآلن خــادم‬
‫ـاض‪ ،‬وجنــدي‪ .‬يواصــل األطفــال والعصافــر اللعــب‬ ‫امللــك‪ ،‬وصانــع‪ ،‬وقـ ٍ‬
‫كــا كانــوا مــن قبــل‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫يــرى امللــك العصافــر؛ يتميــز غيظــاً‪ .‬يســعى إىل عــزل األطفــال‬


‫عنهــم‪ ،‬لكــن األطفــال ال يصغــون إليــه‪ .‬يطلــق الجنــدي صيحــات‬
‫التهديــد‪ .‬يعلــن الخــادم طلباتــه‪ .‬يحــاول الصانــع إكســاء األبــواب بألــواح‬
‫خشــبية‪ .‬ويحــاول القــايض تحديــد وزن أحــد العصافــر وأحــد األطفــال‬
‫ـدرج‪.‬‬
‫عــى مي ـزان ضخــم مـ ّ‬
‫ال يســتطيع الصانــع إكســاء فتحــات املنــزل وتغطيتهــا‪ .‬وال يســتطيع‬
‫امللــك اتخــاذ قـرار‪ .‬ال أحــد يتمكــن مــن كبــح العصافــر واألطفــال‪ .‬يقول‬
‫الصانــع‪ :‬ال نحتــاج إىل الخشــب‪ .‬البيــت قديــم‪ .‬يجــب تســويته بــاألرض‪.‬‬
‫ميكــن بنــاء منــزل مرتفــع مكانــه‪ ،‬حيــث لــن تقيــم فيــه العصافــر‬
‫وال يستطيع األطفال اللعب فيه‪.‬‬
‫ُيحــر الجميــع املعــاول والرفــوش ويبــدؤون رقصتهــم‪ .‬عندهــا‬
‫متامـاً‪ ،‬تنبثــق امــرأة مســنة مــن املنــزل‪ .‬يلــوذ األطفــال والعصافــر بهــا‪.‬‬
‫(لــور ســتؤدي هــذا الــدور)‪ .‬تقــول‪ :‬ال بــد أن تعطــوين هــذا املنــزل‪.‬‬
‫لكــن طلبهــا ال يجــد أذنــاً‬
‫ســيعيش فيــه األطفــال‪ ،‬والعصافــر أيضــاً‪ّ .‬‬
‫صاغيــة‪ُ .‬يســحب الجميــع بعيــداً ويشــتتون‪ .‬ويف الوقــت الــذي يسـ ّـوى‬
‫فيــه البيــت بــاألرض‪ ،‬تنهــال الرضبــات عــى املــرأة املســنة أيض ـاً‪.‬‬
‫ـى عاليـاً جــداً‪.‬‬‫يف املشــهد الثالــث‪ ،‬عندمــا ترتفــع الســتارة نــرى مبنـ ً‬
‫ال أفاريــز لــه‪ ،‬وال أي موضــع لتحــط عليــه العصافــر‪ .‬ال ُيــرى األطفــال‬
‫ـام رتيــب مكتــوم‪.‬‬
‫والعصافــر يف أي مــكان‪ُ .‬يســمع صــوت ارتطـ ٍ‬
‫حــاالً‪ ،‬يدخــل امللــك ووزراؤه وعــدد قليــل مــن األطفــال الذيــن‬
‫كــروا اآلن‪ .‬أحــد هــؤالء الــوزراء بائــع‪ ،‬والثــاين مالــك فنــدق‪ ،‬والثالــث‬
‫محــام‪ ،‬والرابــع موظــف حكومــي‪.‬‬
‫الجميــع مبتهجــون‪ .‬يرقصــون‪ .‬الرقــص ميكانيــي متامــاً‪ .‬األطفــال‬
‫الذيــن كــروا اآلن نســوا كيــف يلعبــون‪.‬‬

‫‪180‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫ـال لطائـرات تحلــق‪ .‬تدريجيـاً‪ ،‬يعلــو‬‫بعــد هنيهــة‪ُ ،‬يســمع صــوت عـ ٍ‬


‫الصــوت أكــر فأكــر‪ .‬يرتعــب الجميــع‪ .‬ويبــدأ املبنــى باالهتـزاز‪ .‬يحــاول‬
‫الجميــع تثبيتــه‪.‬‬
‫تدخــل العصافــر البســة أقنعــة طائـرات‪ .‬ينفــذون منــاورات جويــة‪.‬‬
‫يســود الهلــع‪ .‬املبنــى ينهــار‪.‬‬
‫الرجــل العجــوز مــن املشــهد األول‪ ،‬واملــرأة املســنة مــن املشــهد‬
‫الثــاين‪ ،‬يظه ـران مــن املبنــى مــع عــدد قليــل مــن األطفــال والعصافــر‪.‬‬
‫يحمــل بعضهــم األغصــان يف يديــه‪ ،‬ويحمــل بعضهــم اآلخــر جميــع أنواع‬
‫اآلالت املوســيقية املميــزة املصنوعــة مــن الخشــب‪ .‬يرقصــون ويتقافزون‬
‫كــا كانــوا يفعلــون مــن قبــل‪ .‬يغنــون ويعزفــون موســيقاهم‪.‬‬
‫عــى نحــو بطــيء‪ ،‬يختفــي مــن املشــهد املبنــى الــذي انهــار‪ .‬ويف‬
‫مكانــه تظهــر منــازل صغــرة وأشــجار‪ .‬تنســدل الســتارة‪.‬‬
‫املغردة‪.‬‬
‫اسم املرسحية‪ :‬الشجرة ّ‬

‫‪-28-‬‬
‫انتهــت سلســلة محــارضات آبــا‪ .‬قبــل إلقــاء املحــارضات‪ ،‬ترجمهــا‬
‫إميوتــو إىل اليابانيــة ووزعــت عــى املدعويــن‪ .‬املحــارضات بحــد ذاتهــا‬
‫هــي مقــرر يف اللغــة اإلنكليزيــة وســيتم نرشهــا يف كتــاب يف شــهر‬
‫نوفمــر‪.‬‬
‫إحــدى نتائــج هــذه املحــارضات أن إقامتنــا هنــا ســتكون مديــدة‪.‬‬
‫عرضــت جامعــة كيوتــو عــى آبــا اإلقامــة هنــا ملــدة عــام وإلقــاء‬
‫محــارضات يف الفلســفة املقارنــة‪ .‬وافــق آبــا عــى البقــاء‪ .‬رمبــا نغــادر‬
‫هــذا املــكان ونعيــش يف كيوتــو أو بــدالً مــن ذلــك نعيــش يف الجــوار إذا‬
‫عرثنــا عــى منــزل آخــر‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫يف هــذه األثنــاء‪ ،‬كتــب إ ّيل إيدغــورث‪ .‬الرســالة مختلفــة متامـاً عــن‬
‫رســالته الســابقة‪ .‬ال يوجــد فيهــا أي ذكــر للحــرب أو للوضــع الحــايل‪.‬‬
‫نســخت لــك خصيص ـاً جــزءاً مه ـ ًا مــن الرســالة‪:‬‬
‫تكمــن مشــكلتنا يف أن عقولنــا ال تعمــل برسعــة كافيــة‪ .‬إنهــا غــر‬
‫مدربــة عــى النظــر يف كل وضــع بوصفــه فريــداً‪ .‬هــذه هــي املأســاة‬
‫الحقيقيــة للعــامل‪ .‬ميكننــا األمــل بتجــاوز ذلــك عــر تطويــر اإلحســاس‬
‫باآلنيــة‪ .‬وقــد بــدأت أشــعر أن هــذا ممكــن فقــط إذا تخلينــا عــن‬
‫املقــوالت التــي دمجناهــا يف بنيــة عقولنــا وطرائقهــا يف التفكــر؛ مقوالت‬
‫الزمــان واملــكان وكل رضوب العــادات االجتامعيــة والشــخصية التــي‬
‫نســميها القيــم‪.‬‬
‫كيــف يل أن أعلــق عــى هــذا؟ أعــرف شــيئاً واحــداً فقــط ميكنــه‬
‫أن يحتــوي كل ذلــك‪ :‬أن ينــى املــرء نفســه‪ .‬عندمــا يتحقــق ذلــك‪ ،‬لــن‬
‫تقــوم قامئــة لقيــود الزمــان واملــكان‪ .‬يف ســالف األيــام كانــوا يطلقــون‬
‫عــى ذلــك اســم «التفــاين»‪ .‬يعـ ّـر إيدغــورث عــن الــيء نفســه بكلــات‬
‫مختلفــة‪ُ .‬تــرى‪ ،‬متــى نكــون يف الطريــق الخطــأ؟ عندما نكتفي بالتشــبث‬
‫بهــذه األفــكار‪ .‬نحــن ال نحــوذ متام ـاً دافــع اآلنيــة الــذي يتحــدث عنــه‬
‫إيدغــورث؛ الدافــع الــذي يكتنــف را ْدهــا محبوبــة اإللــه كريشــنا‪،‬‬
‫الدافــع الــذي كان لــدى أورفــايش يف ريــغ فيــدا‪ .‬والنتيجــة أن األســئلة‬
‫التــي تنتظرنــا تكتــي أهميــة أكــر؛ وال أحــد يفلــت مــن عــن املــايض‬
‫اليقظــة‪.‬‬
‫ينبغــي يل أن أهنئــك إذ اســتطعت التعــرف عىل لــور يف الصورة‪ .‬إنها‬
‫تبعــث لــك بتحياتهــا‪ .‬بعــد قـراءة أطروحتــك‪ ،‬دفعتنــي لقراءة (وتفســر)‬
‫رســائلك ســطراً ســطراً‪ ،‬لــن يكــون لديــك مانــع بســبب حقــوق امللكيــة‪،‬‬
‫أليــس كذلك؟‬

‫‪182‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫تــزوج الربوفيســور جــويش للتــو‪ .‬عروســه إحــدى نجــات رياضــة‬


‫التنــس الشــهريات‪ .‬كانــت إحــدى طالباتــه‪ .‬لكنــه يقــول إنــه مل يكــن‬
‫بينهــا حــب أو أي يشء مــن ذلــك مــن قبــل‪ .‬رمبــا يســتخلص املــرء مــن‬
‫ذلــك وبــكل ثقــة أنهــا ســوف يعيشــان بســعادة‪ .‬وبحســب الصــورة‬
‫الفوتوغرافيــة‪ ،‬تبــدو ذكيــة جــداً وعمليــة‪.‬‬
‫ـت أكــر قلق ـاً حــول الربوفســور غوروباداســوامي‬ ‫بعــد رســالتك‪ ،‬بـ ُّ‬
‫وأتــوق ملعرفــة أحوالــه‪.‬‬
‫أنــوي يف األســبوع القــادم مالزمــة لــور يف املنــزل‪ .‬لقــد طالــت‬
‫إقامتهــا هنــا يف اليابــان أيضـاً‪ .‬مــن املحتمــل أن تذهــب العائلــة بكاملهــا‬
‫إىل الســويد مــن هنــا‪.‬‬
‫حالي ـاً‪ ،‬ليــس هنــاك املزيــد مــن األخبــار عنــي‪ .‬حظيــت مرسحيــة‬
‫املغــردة عــى إعجــاب الكثرييــن‪ُ .‬أخرجــت املرسحيــة عــى‬ ‫ّ‬ ‫الشــجرة‬
‫أكمــل وجــه‪ .‬رأى فيهــا بعــض النــاس معنــى مختلفــاً‪ .‬لقــد حاولــت‬
‫طــرح قصــة بســيطة عربهــا‪ .‬مل يكــن يف ذهنــي أي يشء آخــر عــدا ذلــك‪.‬‬

‫‪-29-‬‬
‫«الخييــن»‪ ،‬وهــل‬
‫ِّ‬ ‫ســألتني كيــف حــدث أننــي التقيــت دوم ـاً بـــ‬
‫حــدث يف أي مناســبة أن تعاملــت مــع الرشيريــن‪ .‬يف الحقيقــة‪ ،‬عندمــا‬
‫ـت إىل هــذا األمــر للمــرة األوىل‪ .‬فطاملــا‬
‫ي هــذا الســؤال انتبهـ ُ‬
‫ـت عـ ّ‬‫طرحـ َ‬
‫ـدت أن املــرء يــرى أن الجميــع مثلــه‪( .‬أال نعتــر أنفســنا «أخيــاراً»؟)‬
‫اعتقـ ُ‬
‫نشــأت فيهــا‪ ،‬والنــاس الذيــن تواصلــت معهــم‬ ‫ُ‬ ‫لعــلّ الظــروف التــي‬
‫كانــوا مبجملهــم مثــي متام ـاً‪ .‬مل يكــن النــاس الحســودون واملشاكســون‬
‫مــن نصيبــي أبــداً‪ .‬مل يكــن لَـ َد َّي إخــوة أو أخــوات يف البيــت‪ .‬ترعرعــت‬
‫وكــرت بســعادة وحــدي‪ .‬منحنــي النــاس الذيــن كانــوا حــويل عاطفتهــم‪،‬‬

‫‪183‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫وأنــا تلقيتهــا‪ .‬كل هــذا حــدث فحســب‪ .‬لكنــي مــا زلــت أعتقــد أين مــا‬
‫أنــا عليــه هكــذا‪ ،‬وليــس بســبب محــدد‪ .‬فــا ندعــوه ســعادة باملعنــى‬
‫املعتــاد للكلمــة ال يجعــل النــاس ســعداء‪( .‬لع ّلــك تقــول‪ :‬أي جديــد يف‬
‫هــذا؟ أمل يقــل القديســون ذلــك دومـاً؟) لكــن‪ ،‬كــا أن هنــاك متعــة مــا‬
‫بعــد املعانــاة‪ ،‬توجــد أيضـاً متعــة مــا بعــد املتعــة ذاتهــا‪ .‬وهــذه املتعــة‬
‫كل مــن املتعــة واملعانــاة‪ .‬طلــب‬
‫التــي تكمــن بعــد املتعــة تنطــوي عــى ٍٍّ‬
‫دع الشــدائد ترافقنــا دومـاً‪ .‬ففــي أوقــات الشــدة‬ ‫كونتــي مــن كريشــنا‪ِ :‬‬
‫ال بــد أن ُيتذ َّكــر كريشــنا‪ .‬لكنــي أقــول إن هــذا ليــس صحيحـاً‪ .‬إذا كان‬
‫ال بــد أن ُيتذ َّكــر كريشــنا‪ ،‬فيجــب أن يكــون ذلــك عــى نحــو طبيعــي‬
‫وكثــراً حتــى يف لحظــات االنتشــاء باملتعــة‪ .‬يســتطيع أي شــخص أن‬
‫يلتفــت إليــه يف الشــدائد‪ .‬فــأن أكــون قــادراً عــى العثــور عــى صحبــة‬
‫األخيــار‪ ،‬فهــذا يعــود جزئيـاً إىل حظــي الحســن‪ ،‬وجزئيـاً إىل بنيــة عقــي‪.‬‬
‫خــرة‪،‬‬
‫مل أرفــض أبــداً أي يشء ومــا أقبلــه يف النهايــة أقبلــه بــإراديت‪ّ .‬‬
‫رشيــرة‪ :‬هكــذا هــي أنفســنا‪.‬‬
‫ـوم محــدد أننــي كنــت عنيــدة عــى نحــو‬ ‫يف طفولتــي‪ ،‬حــدث يف يـ ٍ‬
‫شــديد‪ .‬وال أســتطيع اآلن حتــى تذكــر بشــأن مــاذا‪ .‬حتــى آبــا‪ ،‬الــذي‬
‫مل يفقــد أعصابــه أبــداً‪ ،‬كان غاضبـاً للغايــة‪ .‬وكانــت راجامــا وفينكابــا يف‬
‫ـت إذ كان كل ذلــك بســببي‪.‬‬ ‫ـروع‪ .‬ويف لحظــة مفاجئــة‪ ،‬صدمـ ُ‬ ‫غايــة الـ ّ‬
‫لربــا أدى‬
‫هــدأت فــوراً‪ -‬ليــس ألن آبــا قــد يرضبنــي؛ هــل رضبنــي‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬
‫ذلــك لــو حــدث إىل مزيــد مــن انفجــاري بالغضــب‪ .‬منــذ ذلــك اليــوم‪،‬‬
‫مل أغضب أبداً‪ ،‬ومل أعاند أبداً‪ .‬لعلّ هذا يوحي لك بيشء ما‪.‬‬
‫بالطبــع‪ ،‬أنــا مل أقابــل بعــد وغــداً‪ ،‬أو قاطــع طريــق‪ ،‬أو شــخصاً‬
‫رشي ـراً يف أصلــه‪ .‬وأنــا مثلــك تــواق ملعرفــة مــا يحــدث عندمــا ألتقــي‬
‫واحــداً مثــل هــؤالء‪ .‬لكــن هــل هــذا يعنــي أن حيــايت كانــت بــا معنــى؟‬

‫‪184‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫كل جهودنــا متــي يف ســبيل جعــل العــامل مكانـاً للخــر‪ .‬أليــس ذلــك مــا‬
‫نعتقــد بــه؟ يشــبه األمــر الحكــم عــى مرسحيــة أو روايــة بعــدم الجدوى‬
‫ألنهــا ال تحتــوي يف شــخصياتها عــى أنــذال‪ .‬إذا كانــت النزاعــات تنشــأ‬
‫فقــط عــن الـراع بــن الخــر والــر‪ ،‬وإذا كان هــذا األمر ســيتواصل إىل‬
‫األبــد‪ ،‬عندهــا لــن يكــون التاريــخ أكــر مــن تغيــر يف األســاء والعناوين‪.‬‬
‫وســتكون مهمــة الروايــات واملرسحيــات أســهل بكثــر‪ .‬فيكــون كافي ـاً‬
‫مجــرد أن نجعــل الدمــى الســوداء والبيضــاء ترقــص‪ .‬حقـاً‪ ،‬يجــب عــى‬
‫املــرء أن يحــاول معرفــة هــل ميكــن كتابــة روايــة أو مرسحيــة مــن دون‬
‫أن يكــون يف شــخصياتها أحــد األرشار الذيــن يف أذهاننــا‪.‬‬
‫سؤال‪ :‬هل كان امللك يف مرسحية الشجرة املغردة رشيراً؟‬
‫جواب‪ :‬أعتقد أنه حتى العصافري كانت رشيرة قليالً‪.‬‬
‫كان عليهــا أيض ـاً التفكــر يف حاجــات امللــك‪ .‬أي رضر ســيحدث لــو‬
‫أنهــا طلبــت عقــد ميثــاق مــع امللــك‪ :‬لــن نزقــزق ســوى يف أوقــات‬
‫محــددة؛ ولــن نعرقــل عمليــة الصيــد؟ أ ْمل تصبــح العصافــر رشيــرة‬
‫دمــر اآلخــر يف النهايــة؟‬
‫وعنيفــة أكــر فأكــر مــع كل مشــهد؟ مــن الــذي ّ‬
‫هــل ســتحل املشــكلة عندمــا نقــول إن امللــك تع ّلــم درسـاً جيــداً؟ بعــد‬
‫ـت «رشيــرةً» متام ـاً‪.‬‬
‫كتابــة هــذا‪ ،‬أصبحـ ُ‬
‫يف الشــهر القــادم ســتغادر لــور مــع والدهــا هــذا املــكان إىل‬
‫أمــركا عــى مــن ســفينة ســويدية‪ .‬كثــر مــن النــاس هنــا يغــادرون‬
‫إىل أمــركا عــى مــن هــذه الســفينة‪ .‬أفكّ ــر أحيانـاً؛ يجــب أن أذهــب‬
‫أنــا أيضـاً؛ وإذا كان ذلــك ممكنـاً فــإىل إنكلــرا حيــث أقابلــك‪ .‬ولكــن‬
‫كيــف لذلــك أن يكــون ممكن ـاً وســط كل هــذه الفــوىض؟ ســيقول‬
‫آبــا‪ :‬ال تدخــي عمــداً إىل منطقــة حــرب‪ .‬ولكــن مــاذا لــو أن الحــرب‬
‫اندلعــت هنــا غــداً؟ دعنــي ال أفكــر فيــا ســيحدث الحق ـاً‪ .‬ففــي‬

‫‪185‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫الوقــت الحــايل‪ ،‬ســتكون لــور مرســايل إليــك‪ .‬إذا أمكــن‪ ،‬ســوف‬


‫تلتقيــك يف أكســفورد‪.‬‬

‫‪-30-‬‬
‫سافرت لور البارحة‪ .‬ال أشعر برغبة يف البقاء هنا مدة أطول أيضاً‪.‬‬
‫كان علينــا التخــي عــن خططنــا بشــأن العيــش يف كيوتــو‪ ،‬ألن نامورا‬
‫لــن يوافــق‪ .‬كان عــى حافــة البــكاء فعـاً‪ .‬يبــدو حزينـاً عــى الــدوام يف‬
‫اآلونــة األخــرة‪ .‬عندمــا تنظــر إليــه تحــس أن مثــة شــيئاً معتـ ًا وأنــه يف‬
‫الســبيل ليكــون أكــر اعتــاالً‪.‬‬
‫يبــدو أنــك مل تتســلم ثالثـاً أو أربعـاً مــن رســائيل التــي أرســلتها يف‬
‫وقــت ســابق‪ .‬ذلــك أنني مل أر أي إشــارة إليهــا يف أي موضع من رســائلك‪.‬‬
‫مؤخ ـراً‪ ،‬حتــى رســائلك باتــت تصــل إىل هنــا يف ف ـرات متباعــدة‪ .‬ملــن‬
‫وبــأي أســلوب يجــب أن يشــكو املــرء عندمــا َيـ ِـرد العــامل بحــد ذاتــه‬
‫إلينــا ومعــه شــكوى كــرى؟ ومــع ذلــك‪ ،‬وبغــرض الراحــة‪ ،‬دعنــا مــن‬
‫اآلن نرقــم رســائلنا‪ :‬واحــد‪ ،‬اثنــان‪ ،‬ثالثــة‪ ..‬لقــد وضعــت الرقــم «واحــد»‬
‫عــى هــذه الرســالة‪ .‬ومــن اآلن فصاعــداً‪ ،‬ســوف أرقــم رســائيل بالتتابــع‪،‬‬
‫اثنــان‪ ،‬ثالثــة‪ ،‬إلــخ‪ .‬هــذا يجعــل مــن الســهل معرفــة إن كانــت إحــدى‬
‫الرســائل قــد ضاعــت‪ .‬ميكنــك أن تقــوم بذلــك أيضـاً‪.‬‬
‫أشــعر بتحســن عندمــا أســمع أنــك بخــر‪ .‬إن مغــادرة أكســفورد‬
‫والعمــل يف الســفارة الهنديــة يتطلــب مجازفــة أكــر‪ .‬ومشــكلة الحصــول‬
‫عــى وجبــة كافيــة ســوف تصبــح أيضـاً أكــر حـ ّدة‪ .‬أشــعر بالحــزن إ ْذ مل‬
‫ينتــه أي يشء كــا تريــد‪ .‬وبالدرجــة نفســها‪ ،‬أشــعر باإلعجاب والدهشــة‬
‫مــن أنــك أنــت نفســك مل تشــعر بذلــك‪.‬‬
‫اكتب من جديد فوراً‪.‬‬‫ْ‬

‫‪186‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫‪-31-‬‬
‫مــى شــهر تقريبــاً منــذ أن ســافرت لــور‪ّ .‬إبــان إقامتهــا هنــا‪،‬‬
‫انســجمنا معــاً عــى نحــو ممتــاز‪ .‬تعلمــت الكثــر منهــا‪ .‬يف رفقتــي‬
‫لهــا خــرت حقــاً مــا الــذي يعنيــه نســيان املــرء نفســه‪ .‬يف مرحلــة‬
‫الطفولــة‪ ،‬كان مثــة لحظــات رغبــت فيهــا إىل حــد كبــر جــداً أن أكــون‬
‫مثــل شــخص مــا آخــر‪ .‬ثــم صدمتنــي فكــرة‪ :‬كيــف أعلــم حقــاً أن‬
‫الشــخص اآلخــر هــو آخــر‪ ،‬وليــس أنــا؟ بعدهــا بــدأت االســتمتاع بهــذه‬
‫اللعبــة كثـراً‪ .‬تعـ ّـودت افــراض صيــغ متنوعــة‪ .‬بــدأت أنظــر إىل نفــي‬
‫عــر عيــون شــخص آخــر‪ .‬لكــن هــذه الخــرة الطفوليــة خبــت منــذ‬
‫وقــت طويــل‪ .‬وكانــت لــور هــي مــن اســتعادتها مــن الذاكــرة بعــد‬
‫كنــت أقتنــي لوحــة قدميــة مــن مدرســة‬ ‫انتهــاء مرحلــة الطفولــة‪ُ .‬‬
‫ميــوار الفنيــة‪ .‬يف هــذه اللوحــة‪َ ،‬ر ْدهــا يصبــح كريشــنا‪ ،‬وكريشــنا‬
‫يصبــح َر ْدهــا‪ .‬هــذه هــي الطريقــة الســاذجة التــي كنــت أتــرف بهــا‪.‬‬
‫عندمــا أخربتهــا عــن ذلــك شــعرت بالحاجــة إىل اقتنــاء تلــك اللوحــة‪.‬‬
‫لكــن إحضارهــا مــن الهنــد إىل هنــا كان مســألة عســرة‪ .‬ذهبنــا للبحث‬
‫عنهــا يف مكتبــة الجامعــة هنــا‪ .‬كذلــك فتشــنا عنهــا يف طوكيــو‪ .‬لكــن مل‬
‫ـم وعــى نحــو غــر متوقــع أبــداً‪ ،‬وجــدت صــورة‬ ‫نعــر عليهــا‪ .‬ومــن ثـ ّ‬
‫ـت أرتــب املالحظــات‬ ‫فوتوغرافيــة عنهــا يف أحــد دفاتــري عندمــا كنـ ُ‬
‫ـت لهــا الســيدة إميوتــو إطــاراً جميـ ًا وأعطيناهــا‬
‫التــي دونهــا آبــا‪ .‬صنعـ ْ‬
‫إىل لــور‪ .‬أخــرين‪ُّ ،‬أي منزلــة تنســبها إىل صــور مثــل هــذه عندمــا تقـ ِّـوم‬
‫ـات مــن قبيــل املنزلــة‬
‫اإللهــام الكامــن وراء الفــن‪ .‬ال تقــل يل مجــرد صفـ ٍ‬
‫الدينيــة أو الروحيــة أو الشــهوية‪ ،‬إلــخ‪.‬‬
‫أو ّد إخبــارك الكثــر عــن لــور‪ ،‬لكــن الحق ـاً‪ ،‬يف وقــت آخــر‪ .‬كانــت‬
‫قبــل قــراءة رســائلك أو حتــى قبــل أن تصــل تخــرين مبــا عــى أن‬

‫‪187‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫تحتويــه‪ .‬يف بعــض األحيــان كان لهــا دور يف كتابــة الرســائل التــي أبعثهــا‬
‫إليــك‪ .‬األســئلة واألجوبــة عــن مرسحيــة الشــجرة املغــردة كانــت هــي‬
‫ـادت تغيــر كلمــة أو‬‫مــن وضعهــا‪ .‬ومثــة أشــياء أخــرى أيض ـاً‪ .‬لقــد اعتـ ْ‬
‫أردت‪ ،‬ميكنــك أنــت أيضــاً‬ ‫جملــة بحيــث تعطيهــا داللــة أفضــل‪ .‬إذا َ‬
‫تحديــد مواضــع التغيــر يف الرســائل‪.‬‬
‫ـص لباليــه اســتناداً إىل الفكــرة‬ ‫ـدأت يف كتابــة نـ ٍ‬
‫ـر جديــد‪ :‬بـ ُ‬ ‫خـ ٌ‬
‫الــواردة يف قصيــدة مــن قصائــد تشورابانشاســيكا(‪ .)25‬القصــة يف هــذه‬
‫القصيــدة بالــذات معروفــة يف األدب الشــعبي اليابــاين‪ ،‬وإن بصيغــة‬
‫مغايــرة قلي ـاً‪ ،‬ولهــذا الســبب فقــد اخرتتهــا‪ .‬يف قصــة البانشاســيكا‪،‬‬
‫الســجني‪ ،‬وهــو يســاق إىل املشــنقة بســبب َت َج ُّر ِئـ ِـه عــى حــب ابنــة‬
‫امللــك‪ ،‬يبــدأ يف وصــف لحظــات حبــه العــارم‪ ،‬ويعيــد بوصفــه إحيــاء‬
‫هــذا الحــب مــن جديــد‪ ،‬وبذلــك يضمــن إرجــاء حكــم اإلعــدام‪.‬‬
‫هــذه هــي القصــة باختصــار‪ .‬يبــدو إذن وكأن قــوة الحيــاة فيــه‬
‫أنقذتــه‪ .‬أنــوي تقديــم القصــة بأســلوب مختلــف قليــاً‪ .‬مــع رسد‬
‫الســجني لتجربــة حبــه‪ ،‬وتقدمــه إىل األمــام نحــو املشــنقة‪ ،‬تطــرح‬
‫محبوبتــه التــي تتبعــه ســؤاالً عــى كل واحــد مــن الحضــور‪ .‬لكــن‪،‬‬
‫ال أحــد يســتطيع اإلجابــة‪ .‬امللــك يراقــب عــن كثــب ويتط ّلــع إليهــا‪.‬‬
‫ويف النهايــة‪ ،‬تطــرح ســؤاالً حتــى عــى امللــك‪ ،‬لكنــه أيضـاً ال يتمكــن‬
‫مــن اإلجابــة‪ .‬ويبقــى اآلن ســؤال واحــد فقــط كفيــل بتحريــر‬
‫الســجني قبــل الصعــود إىل املشــنقة‪ .‬يصــدر امللــك األمــر بذلــك‬
‫ويــرع الســعاة مــن أجــل التبليــغ‪ ،‬لكــن يكــون قــد فــات األوان‬
‫وشــنق الســجني قبــل وصــول األمــر‪.‬‬ ‫ُ‬
‫(‪ :Chaurapanchashika )25‬مجموعة من خمســن قصيدة كتبها يف القرن الحادي عرش ميالدي الشاعر الكشمريي‬
‫باندت بيالنا ‪Pandit Bilhana‬‬

‫‪188‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫‪-32-‬‬
‫مؤخ ـراً مل تكــن صحــة آبــا عــى مــا ي ـرام‪ .‬يف كل مســاء ترتفــع‬
‫درجــة حرارتــه‪ .‬جربنــا جميــع األدويــة املمكنــة‪ .‬يبــدو كــا لــو أنــه‬
‫يعــاين مــن إجهــاد العمــل الــذي بذلــه يف العامــن األخرييــن‪ .‬ونتيجــة‬
‫ذلــك‪ ،‬حتــى نامــورا يبــدو أكــر حزنــاً‪ .‬فمــن دون أي ســبب عــى‬
‫اإلطــاق‪ ،‬يتملكــه شــعور باملســؤولية الشــخصية بشــأن آبــا‪ .‬اآلن‪،‬‬
‫مــن غــر املمكــن الرجــوع مــن هنــا إىل الهنــد‪ .‬ال أخبــار مــن هنــاك‪.‬‬
‫مضــت مثانيــة شــهور منــذ أن كتــب جــويش آخــر رســالة‪ .‬وليــس لــدي‬
‫أي أخبــار مــن البيــت أيضـاً‪ ،‬ال أعلــم إن كانــت الرســائل التــي كتبتهــا‬
‫قــد وصلــت إليهــم‪.‬‬
‫مل تصلني رسالتان من رسائلك األخرية‪ ،‬الرقم أربعة وخمسة‪.‬‬
‫وصلــت للتــو رســالة لــور مــن فرانسيســكو‪ .‬رمبــا ميضــون بعــض‬
‫األيــام يف أمــركا‪ .‬تتحــدث الرســالة عــن كل يشء‪ :‬االضطــراب يف‬
‫الســفينة‪ ،‬والجــو املخيــف‪ ،‬وهــرج األطفــال‪ .‬لقــد رصــدوا غواصــة‬
‫يف إحــدى امل ـرات‪ .‬لكــن خــط لــور غــر واضــح أحيان ـاً وأســلوبها يف‬
‫الكتابــة غامــض أيضــاً‪.‬‬
‫سألت عنك‪.‬‬
‫هي مل تتخلَّ عن فكرة الذهاب إىل الهند‪ .‬وقد ْ‬
‫ـر أن لــور‬ ‫أف ّكــر أحيانـاً بأننــا لــن نلتقــي أبــداً‪ ..‬إذا حــدث ذلــك‪ ،‬اعتـ ْ‬
‫هــي أنــا‪.‬‬
‫ـرأت‬
‫حتــى هــذه اللحظــة ال تـزال الباليــه مجــرد فكــرة‪ .‬فبعــد أن قـ ُ‬
‫ـف حــايس إىل حــد كبــر‪ .‬تقــول إنهــا تشــعر‬ ‫مالحظــات لــور بشــأنها خـ ّ‬
‫ـاء‬
‫بوجــود أســاس منطقــي مبالــغ فيــه‪ .‬فــا يشء عــى اإلطــاق يقـ َّـرر بنـ ً‬
‫عــى أســئلة وأجوبــة‪ .‬تطــرح القصيــدة األصليــة حالــة واحــدة فقــط‪،‬‬
‫يل قصة أخرى‪ :‬قصة نرسيس وإيكو‪.‬‬ ‫اقرتحت ع ّ‬
‫ْ‬ ‫ال أكرث وال أقل‪.‬‬

‫‪189‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫‪-33-‬‬
‫تريوبايت‪ :‬كورغ‬
‫مارس ‪ - 1946‬يونيو ‪1947‬‬
‫بعــد انتهــاء الحــرب وقبــل العــودة إىل الوطــن مــن اليابــان‪ ،‬أرســلت‬
‫لــك رســالتني؛ واحــدة إىل عنــوان لنــدن والثانيــة إىل منزلــك‪ .‬يبــدو أنــك‬
‫مل تتســلم أي واحــدة منهــا‪ .‬كانــت بانتظــاري هنــا رســالة مــى عــى‬
‫وصولهــا ســتة أشــهر‪ .‬أكتــب لــك اآلن إىل العنــوان املوضــوع فيهــا‪،‬‬
‫محــاوالً أن أعــرف إن كانــت ســتصل إليــك‪.‬‬
‫يف البدايــة‪ ،‬يجــب أن أروي لــك كل مــا حــدث‪ ،‬ألن قســطاً كبــراً‬
‫حــدث يف الســنوات األربــع األخــرة‪.‬‬
‫كتبــت لــك بالطبــع عــن أحــوال آبــا‪ .‬مل يعــش طوي ـ ًا بعــد ذلــك‪.‬‬
‫ارتبــط اســمه مــن اآلن وإىل األبــد بإرســالية أنانــد‪ .‬يف تلــك األيــام‬
‫األخــرة وقــف الجميــع بــا اســتثناء بجانبــي ومنحــوين القــوة وقدمــوا‬
‫يل املواســاة‪ .‬وحتــى الحكومــة مل تعاملنــا كغربــاء‪.‬‬
‫ثــم وبعــد عــدة أيــام‪ ،‬اكتســحت موجــة جديــدة جميــع بلــدان‬
‫الــرق األقــى التــي تحتلهــا اليابــان‪ .‬وبــرز نيتاجــي‪ ،‬القائــد املُهــاب‬
‫للجيــش الوطنــي الهنــدي‪ ،‬يف إثــر هــذه املوجــة‪.‬‬
‫يف البدايــة كنــت أعيــش يف مقــر إرســالية أنانــد‪ ،‬لكــن رسعــان مــا‬
‫بــارشت العمــل كممرضــة يف مشــفى أوســاكا العســكري‪ .‬كان مســكني‬
‫ي‬‫قريب ـاً مــن املشــفى‪ .‬ومبعنــى مــا‪ ،‬كانــت هــذه التجربــة جديــدة ع ـ ّ‬
‫متامـاً‪ّ .‬إن كــورغ أرض النــاس الشــجعان وأنــا ابنــة كــورغ‪ .‬لذلــك التحقت‬
‫ي تحديــداً االعتنــاء بحاجــات الجنــود‬ ‫بالعمــل عــى الفــور‪ .‬كان عــ َّ‬
‫والضبــاط الهنــود‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫ـن الطبيــب الضابــط الــذي التحــق بإحدى‬ ‫كان امليجــور أغنيميـرا ِسـ ْ‬
‫وحــدات الجيــش الوطنــي يعمــل يف هــذه األثنــاء يف املشــفى العســكري‬
‫يف أوســاكا‪ .‬وكنــت غالبـاً مــا أتواصــل معــه يف ســياق عملنــا‪ .‬رجــلٌ قليــل‬
‫الــكالم‪ .‬أحيان ـاً‪ ،‬يطــرح ســؤاالً أو اثنــن‪ ،‬وعــدا ذلــك يكــون منهمــكاً يف‬
‫عملــه‪ .‬الحقـاً‪ ،‬عندمــا اطّ لــع عــى كامــل خلفيتــي وتاريخــي بــدأ يهتــم‬
‫يب أكــر‪ .‬لكنــه ظــلّ محافظ ـاً عــى تلــك املســافة التــي وضعهــا‪ .‬كنــت‬
‫عــى الــدوام فضوليــة بشــأنه‪ ،‬ذلــك يحــدث عندمــا ال يتمكــن املــرء مــن‬
‫االقـراب كثـراً مــن اآلخريــن‪.‬‬
‫ـت بعــد عــدة أيــام أنــه متــزوج مــن إحــدى املمرضــات اليابانيــات‬ ‫علمـ ُ‬
‫يف مشــفانا‪ .‬ويف إحــدى املـرات عندمــا ذهبــت إليــه لرؤيتــه يف غرفتــه ق ّدمها‬
‫ـادرت قــال يل‪ :‬يتعـ ّـن عليــك االعتنــاء بهــا اآلن‪.‬‬
‫إيل بنفســه‪ .‬وعندمــا غـ ْ‬
‫عرفت السبب‪ ،‬فقد كانت حام ًال وتنتظر مولوداً‪.‬‬
‫ـن أقــل تحفظ ـاً عنــد التحــدث معــي‪.‬‬ ‫بعــد هــذا بــدا امليجــور ِسـ ْ‬
‫ـدأت يف مهاتفــة الســيدة ســن عندمــا يتوفــر يل بعــض الوقــت‪.‬‬ ‫كذلــك بـ ُ‬
‫كانــت قــد أصبحــت واهنــة إىل حــد كبــر‪ ،‬وبقــي شــهر ونصــف حتــى‬
‫ـت مــع الســيدة ســن الســبب الكامــن وراء‬ ‫يحــن موعــد والدتهــا‪ .‬وفهمـ ُ‬
‫شــعور امليجــور بالقلــق‪.‬‬
‫قصــف‬
‫ٍ‬ ‫فجــأة يف أحــد األيــام ُأعلــن فقــدان امليجــور ســن خــال‬
‫جــرى عــى أحــواض الســفن‪.‬‬
‫ســببت هــذه الصدمــة والدة مبكــرة للســيدة ســن توفيــت يف أثرهــا‪.‬‬
‫ابنتهــا نجــت‪ ،‬إنهــا ِب ْينــا وســنها اآلن ســنتان ونصــف‪ّ .‬ربيتهــا وتقيــم‬
‫معــي هنــا مثــل ابنتــي‪.‬‬
‫ي أن أمــي وأفقــد ذايت األليفــة؛‬ ‫لقــد دخلــت حيــايت وكان عــ ّ‬
‫ـت لــور وألفيتهــا رفيقــة مخلصــة مفعمــة بالحيــاة؛ رفيقــة بعيــدة‬ ‫قابلـ ُ‬

‫‪191‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫غــرة اإلحســاس‬ ‫أحيــت ِب ْينــا َّيف عــى حــن ّ‬


‫ْ‬ ‫عــن الغــرض والغايــة‪.‬‬
‫باألمومــة الكاملــة‪ .‬ولذلــك‪ ،‬املتعــة التــي كنــت أكتــب بهــا إليــك منــذ‬
‫ـت املاضيــة‬
‫زمــن طويــل جاءتنــي محلقــة عــر كل متــع الســنوات السـ ّ‬
‫ومعاناتهــا‪.‬‬
‫تــوف إيدغــورث هنــا يف‬‫ووجــدت لغــــزاً آخــر يف كل هــذا‪ّ .‬‬
‫الثالــث مــن ينايــر ‪ .1943‬وبعــد مثانيــة أشــهر بالضبــط‪ ،‬يف الثالــث‬
‫ذهبــت إىل‬
‫ُ‬ ‫مــن ســبتمرب ‪ ،1943‬ولــدت ِب ْينــا‪ .‬يبــدو وكأنــه ألجلــه‬
‫وأم‬
‫أب بنغــايل ٍ‬ ‫اليابــان وأحــرت معــي فتــاة كورغيــة‪ ،‬ولــدت مــن ٍ‬
‫يابانيــة‪.‬‬
‫أصل لعلّك تتسلم هذه الرسالة عىل األقل‪.‬‬ ‫ّ‬

‫‪-34-‬‬
‫تســلمت رســالتك‪ .‬أنــا يف غايــة الســعادة‪ .‬إننــي أكــر غبطــة اآلن مــن‬
‫ذلــك اليــوم الــذي تســلمت أول رســالة منــك‪.‬‬
‫كنــت يف مــكان مــا آمنــاً‪ .‬لكــن يف بعــض األحيــان‬ ‫عرفــت أنــك َ‬
‫كانــت تخــور قــواي وتــرد إىل ذهنــي كل رضوب األفــكار املقلقــة‪ّ .‬أمــا‬
‫ـت إذ رأيــت خــط يــدك األليــف املحبــب‪.‬‬ ‫اليــوم فقــد طربـ ُ‬
‫هــل يجــب أن تبقــى هنــاك اآلن وقــد انتهــت الحــرب؟ تقــول يل‬
‫إنــك بحاجــة إىل قضــاء عــام وربــع هنــاك يك تكمــل دراســاتك التــي‬
‫انقطعــت عنهــا‪ .‬هــذا أمــر مهــم‪ .‬لكــن مــا عــى أَ ْن يفعــل اآلخــرون؟‬
‫قــدم الربوفيســور جــويش إىل هنــا مــع مــاالن وســوباش حاملــا تســلم‬
‫وب ْينــا أوقاتنــا بســعادة بصحبتهــا‪.‬‬
‫رســالتي‪ .‬نقــي أنــا ِ‬
‫حالي ـاً‪ ،‬نشــاطي الرئيــي هــو جمــع أبحــاث آبــا واإلعــداد لنــر‬
‫مخطوطاتــه ومســوداته‪ .‬تأخــر آنــذاك إصــدار كتــاب (الخــرة والنمــو)‬

‫‪192‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫بســبب الحــرب‪ .‬لكــن دار نــر ويلســون وتــود يف لنــدن تعمــل اآلن‬
‫عــى طباعتــه‪ .‬وعــدين جــويش بالقــدوم يف العطلــة التاليــة ومســاعديت‬
‫قلي ـ ًا يف ذلــك‪.‬‬
‫بعــث إ ّيل محامــو إيدغــورث مــن لنــدن رســالة‪ .‬لقــد أوىص يل‬
‫للحــب‪ ،‬يــا للثقــة!‬
‫ّ‬ ‫بكامــل ممتلكاتــه هنــا‪ ..‬يــا‬
‫وإذن‪ ،‬التقتــك لــور! مــا الــذي قالتــه؟ كــم طالــت إقامتهــا؟ اكتــب‬
‫وأخــرين جميــع التفاصيــل‪.‬‬
‫عندمــا يتوفــر يل الوقــت‪ ،‬ســأذهب إىل سيمهاتشــاالن وألتقــي‬
‫بالربوفيســور غوروباداســوامي‪ .‬ســنذهب جميعــاً‪.‬‬
‫ســأل َتني عــا أريــده بالضبــط‪ .‬كان بإمــكاين أن أســألك الســؤال‬
‫نفســه‪ .‬غالبـاً مــا أعتقــد أننــا نقــرأ كثـراً وباســتطراد وننــى مشــكالتنا‬
‫الخاصــة بنــا‪ .‬يبــدو يل ظاهريـاً أن مشــاعري نحوك يف البدء ومشــاعري‬
‫اآلن بعــد ســت ســنوات‪ ،‬تنتمــي إىل مســتويني مختلفــن‪ .‬يف املســتوى‬
‫األول‪ ،‬يتبــن املــرء انفصــاالً مقصــوداً‪ ،‬ويف املســتوى الثــاين‪ ،‬واحديــة‬
‫متجــردة‪ .‬لكــن يف حقيقــة األمــر‪ ،‬ليــس مثــة أي يشء مــن هــذا النــوع‪.‬‬
‫فعــى الرغــم مــن أن أبعــاد عاملــي اتســعت‪ّ ،‬إل أنهــا أصبحــت أيضـاً‬
‫أكــر ح ـ ّدة باملقــدار نفســه‪ .‬فــا حــدث ليــس مجــرد تكبــر لصــورة‬
‫فوتوغرافيــة‪ .‬كذلــك ليــس األمــر كــا لــو أن املزيــد مــن املجــاالت‬
‫ُض ِّمنــت‪ .‬إن خصوصيــات كل جــزء أصبحــت أكــر داللــة‪ .‬والتجــرد‬
‫الــذي يشــعر بــه املــرء فيهــا ينشــأ ألن تلــك األحاســيس اخ ُتــرت‬
‫بشــدة أكــر‪.‬‬
‫لــن تصعــب عليــك املوافقــة عــى هــذا‪ .‬التغــر بحــد ذاتــه‬
‫ال أهميــة لــه‪ ،‬كل يشء يتغــر‪ .‬أرى أن الوعــي الناشــئ عــن ذلــك ذو‬
‫أهميــة أعظــم‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫‪-35-‬‬
‫ـعدت للغايــة إذ علمــت أن رســالتي األخــرة مل ُت ْر ِضــكَ ‪ .‬ميكننــي‬ ‫سـ ُ‬
‫ـظ يف تفكــرك‪.‬‬ ‫فحســب أن أفــر ذلــك بأنــه يعنــي أنــك متيقـ ٌ‬
‫أأنــت تريــد الحــب وأنــا ال أريــده؟ فلــاذا إذن وهبتــك تلــك‬ ‫َ‬
‫الســنوات الســت؟ كل مــا يف األمــر أننــي مل أتــورط يف تســمية مــا أريــد‪،‬‬
‫والــذي مــا زلــت أريــده‪ .‬كان ينبغــي أن تنتشــلني‪ ،‬أن تســحبني بعيــداً‪.‬‬
‫نعــم‪ ،‬أنــا أقــول الحــق‪ ،‬الحــق متامــاً‪ .‬نحــن ال نفــوز بــأي يشء عــر‬
‫التحليــل‪ ،‬بــل فقــط نصبــح غربــاء عــن ذواتنــا‪.‬‬
‫أســتطيع أيضــاً التحــدث بلغــة علــم النفــس‪ .‬وأســتطيع اجــراح‬
‫ـأت يتيمــة األم‪ .‬ومــن هنــا‬ ‫تفســر علمــي مالئــم لســلويك الخــاص‪ .‬نشـ ُ‬
‫جــاء التعلــق القــوي بــاألب‪ .‬هــذا التعلــق‪ ،‬هــذا التثبيــت األبــوي‪ ،‬يوضح‬
‫بدرجــة مامثلــة انجذاب ـاً أقــل نحــو رجــل آخــر‪ .‬وعــى هــذا األســاس‬
‫تحديــداً ميكنــك أن تفــر إذاً مشــاعري نحــو لــور‪ ،‬وميكنــك املــي أبعــد‬
‫مــن ذلــك قلي ـ ًا لتحليــل إحســايس األمومــي فيــا يخــص ِب ْينــا‪ .‬ولكــن‬
‫هــل تحــل مشــكلتنا إذا افرتضنــا أن املــرء يعتقــد بــكل هــذا؟‬
‫ـت لــك يف‬ ‫يف كل لحظــة نتخــذ ق ـراراً ال رجعــة عنــه‪ .‬وعندمــا كتبـ ُ‬
‫ـت قــد اتخــذت ق ـراراً مــن ذلــك النــوع‪ .‬واتخــذت ق ـراراً‬ ‫ّأول مـ ّـرة كنـ ُ‬
‫ـت‪ ،‬عندمــا‬ ‫آخــر عندمــا دعوتــك إىل تريوبــايت‪ .‬وبعــد أن ســألتني ومضيـ ْ‬
‫منحتــك تلــك السلســلة مــن األجوبــة عــن أســئلتك‪ ،‬آنــذاك اتخــذت مــن‬
‫جديــد ق ـراراً‪ ،‬ومل أرجــع عنــه‪ .‬إن األســاس النفــي الســلويك ال يدخــل‬
‫يف هــذا البــاب‪ .‬كل مــا يف األمــر أننــي مل أحصــل عــى االســتجابة التــي‬
‫ـت أي‬ ‫أردتهــا‪ .‬لــو حصلــت عليهــا‪ ،‬ألتيــت معــك إىل أي مــكان‪ ،‬وفعلـ ُ‬
‫يشء ألجلــك‪ .‬فــكل فتــاة منــذ اللحظــة التــي تولــد فيهــا تكــون مســتعدة‬
‫لــرك ّأمهــا وأبيهــا‪.‬‬

‫‪194‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫لع ّلــك تقــول إنــك أنــت أيضـاً توقعــت اســتجابة ومل تحصــل عليهــا‪.‬‬
‫كيــف يل أن أر ّد عــى ذلــك؟ دعنــي أقــل لــك الحقيقــة‪ ،‬ينبغــي للمــرء‬
‫أن يكــون قــادراً عــى الوصــول إىل هــذه القـرارات مــن دون اللجــوء إىل‬
‫لغــة املناشــدة واالســتجابة‪.‬‬
‫اآلن‪ ،‬بعــد كتابــة كل هــذا‪ ،‬أشــعر بالحــرج‪ .‬إذا كانــت ق ـراءة هــذا‬
‫تســبب لــك أي أىس‪ ،‬عندهــا عليــك أن تنســاين وإىل األبــد‪.‬‬

‫‪-36-‬‬
‫ـت عــى الفــور وبــدأت يف الوقــت نفســه تســتعد للعــودة‪ .‬يف‬ ‫كتبـ َ‬
‫ـدت اإلجابــة عــن ســؤايل‪ .‬لكننــي ســأكون صبــورة‬ ‫هــذا بحــد ذاتــه وجـ ُ‬
‫قلي ـاً‪ ،‬وأو ّد أن أطلــب منــك أن تكــون صبــوراً أيض ـاً‪.‬‬
‫ـت لــور إىل هنــا فجــأة عــى نحــو غــر متوقــع‪ ،‬ال لــي تــرى‬ ‫قدمـ ْ‬
‫وب ْينــا صديقتــان رائعتان‪.‬‬
‫الهنــد‪ ،‬بــل يك تـراين‪ .‬مل ننـ ِـه حديثنــا بعــد‪ ،‬إنهــا ِ‬
‫وهــذا يحــل الكثــر مــن متاعبــي يف البيــت‪.‬‬
‫ـت عــى نســخة مــن كتــاب آبــا قبــل أن أحصــل أنــا‬ ‫وإذن‪ ،‬حصلـ َ‬
‫عــى واحــدة‪ .‬مــا زلــت أنتظــر وصــول نســخة إىل هنــا‪ .‬يقــول جــويش‬
‫إن الكثــر مــن مخطوطــات آبــا ال ت ـزال قابعــة هنــا‪ .‬ينبغــي تصنيفهــا‬
‫وفرزهــا يف أوقــات الف ـراغ‪ .‬ســيعود خــال العطلــة إلنجــاز ذلــك‪.‬‬
‫غالب ـاً مــا أشــعر بالحــزن ألن إيدغــورث ليــس بيننــا اآلن‪ .‬ال أشــعر‬
‫بذلــك كث ـراً بخصــوص آبــا‪ .‬كان إيدغــورث محبوب ـاً بشــكل غامــر هنــا‬
‫نظ ـراً لطبيعتــه املنفتحــة وألنــه كان يســتطيع االنســجام بــكل ســهولة‬
‫مــع اآلخريــن‪ .‬أنــوي تحويــل منزلــه إىل دار للمــرح‪ .‬ســتكون داراً‬
‫للدرامــا والباليــه والفنــون واملوســيقى والحكايــات‪ .‬ال تــزال الباليــه‬
‫األخــرة يل غــر منجــزة‪ ،‬لكــن لــور بــدأت اآلن العمــل عليهــا بحــاس‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫تقــول ِب ْينــا إنهــا تريــد أن تكتــب إليــك‪ .‬إنهــا متيــز بضعــة حــروف‬
‫فحســب‪ .‬املامــا تكتــب‪ ،‬هــي إذن يجــب أن تكتــب أيضـاً‪ .‬هــل أطلــب‬
‫مــن لــور أن تكتــب إليــك أيض ـاً؟ عندهــا ســتكون محــارصاً حق ـاً مــن‬
‫ـت إليــك ســابقاً؟)‬
‫جميــع الجوانــب‪( .‬أم‪ ،‬هــل كتبـ ْ‬
‫ألنني مل أطلب شيئاً‪ ،‬حصلت عىل كل يشء‪.‬‬
‫طيــاً رســالة ِب ْينــا‪ .‬ينبغــي إمتــام الكلــات‪،‬‬
‫وضعــت ّ‬
‫ُ‬ ‫تذييــل‪:‬‬
‫وحيــث تكــون الحــروف مفقــودة يجــب تــدارك الكلمــة بنفســك‪.‬‬
‫وألجــل التوضيــح‪ ،‬لقــد رســمت ِب ْينــا شمســاً ذات عضــات عــى‬
‫اليمــن‪ .‬الشــكالن اللــذان يشــبهان عصفوريــن إىل اليســار هــا بيتــان‬
‫واحــد منهــا بيتهــا‪ ،‬والثــاين بيتــي‪ .‬أنــت يف الرســم تقــف تحــت‬ ‫ٌ‬
‫الشــمس يف الخــارج‪.‬‬

‫‪-37-‬‬
‫مبــرور األيــام‪ ،‬تتخــذ الذكريــات القدميــة أشــكاالً جديــدة‪ ..‬هــا أنــا‬
‫ـي‪ ..‬أصغــي إىل حكايــة راجامــا‬ ‫أعــزف مــن جديــد عــى غيتــاري املنـ ّ‬
‫املنقحــة دومـاً ورأيس يف حضنهــا‪( .‬التـزال تعتــرين طفلــة‪ ،‬حتــى بوجــود‬
‫ِب ْينــا حولنــا)‪ ..‬حصــل إيدغــورث عــى حجــة بســيطة يك يغيظني‪ ..‬جســد‬
‫ـت مــن القطــار‬ ‫آبــا يؤملــه ولــن يدعنــي أشـ ّد عــى أوصالــه‪ ..‬أنــت ترجلـ َ‬
‫ومرتبــك إذ تــرى أمامــك فتاتــن مثــي متامـاً‪ ..‬أنــا مريضــة ولور تتشــقلب‬
‫أمامــي بجنــون يك تســليني‪ ..‬انتهــت محــارضة آبــا األوىل ونامــورا يعانقــه‬
‫بحـرارة‪ ..‬بعــد ثالثــة أيــام مــن الجهــد الشــاق‪ ،‬وبعينــن كليلتــن‪ ،‬ال يـزال‬
‫ـن يعمــل يف غرفــة العمليــات الجراحيــة‪ ،‬أصابعــه املاهــرة‬ ‫امليجــور ِسـ ْ‬
‫تنفتــح وتنغلــق حثيثــاً‪ُ ..‬عــدت للتــو مــن اليابــان وأحــدق مليــاً يف‬
‫نباتــات البلومرييــا املكتملــة اإلزهــار خــارج بــاب منزلنــا‪..‬‬

‫‪196‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫تذكــرت أن ترســلها إليهــا‪.‬‬


‫َ‬ ‫ِب ْينــا مبتهجــة‪« ،‬تقــرأ» الرســالة التــي‬
‫ُتجــر كل مــن حولهــا عــى اإلصغــاء إىل القصــة التــي كتب َتهــا مــن أجلهــا‪.‬‬
‫يضمــد اإلصبــع املجــروح لكريشــنا‪.‬‬ ‫دراوبــايت م ـ ّزق الســاري الفخــم يك ّ‬
‫ـرف ملــاذا اخــرت هــذه القصــة‪.‬‬ ‫أعـ ُ‬
‫مل تقــرر لــور شــيئاً بعــد بشــأن الباليــه‪ .‬لقــد اســتبعدت قصــة‬
‫تشورابانشاشــيكا‪ ،‬أقلــه حتــى وصولــك‪ .‬ومــن املحتمــل ّأل ُتفهــم قصــة‬
‫نرســيس وإيكــو بســهولة هنــا‪( .‬هــذا مــا تعتقــده؛ فعلي ـاً‪ ،‬لــن يكــون‬
‫األمــر كذلــك)‪ .‬اآلن أنــا بصــدد البحــث واختيــار قصــة مــا تــدور حــول‬
‫األمــر الوســيم املحتــال‪ .‬عــدا ذلــك‪ ،‬لدينــا دوم ـاً بحــر القصــص الكبــر‬
‫راجامــا‪.‬‬
‫ـلمت «الحلــوى» الحــارة التــي ُأرســلت؟ الفكــرة والتنفيــذ‬ ‫هــل تسـ َ‬
‫هــا مــن طــرف راجامــا‪.‬‬
‫حــاول أن تعــرف إذا كان بإمكانهــم منحــك الدرجــة العلميــة مــن‬
‫دون تقديــم امتحــان‪.‬‬

‫‪-38-‬‬
‫بــدأت لــور يف بنــاء منــزل صغــر ألجلــك عــى الهضبــة وراءنــا‪.‬‬
‫ســوف يحــوي رشفــات يف الخلــف واألمــام‪ ،‬وغرفتــن فســيحتني‪ .‬وإذا‬
‫ـت جــاداً بشــأن املطبــخ‪ ،‬هنــاك مطبــخ صغــر‪ .‬كميــة كافيــة مــن‬ ‫كنـ َ‬
‫اإلضــاءة‪ .‬النوافــذ بــا زخرفــة مفرطــة‪ .‬يف غرفــة الجلــوس‪ ،‬أريكــة مــع‬
‫رسيــر‪ ،‬وطاولــة طويلــة منخفضــة (مهــا امتــأت باألغ ـراض يظــل مثــة‬
‫رف‬
‫حيــز إضــايف عليهــا)‪ .‬وإذا كنــت تعتــر األمــر رضوريـاً متامـاً‪ ،‬هنــاك ّ‬
‫للكتــب‪ .‬مثــة الكثــر مــن الوســائد‪ ،‬وعــدد قليــل مــن الكـرايس الصغــرة‬
‫بحيــث تكــون مرتاح ـاً‪ ،‬ومــرآة وخزانــة صغــرة للمالبــس‪ .‬تؤكــد لــور‪:‬‬

‫‪197‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫عندمــا يتجمــع األثــاث‪ُ ،‬يلقــى بالنــاس إىل الخــارج‪ .‬قــال إيدغــورث ذات‬
‫أفضــل وجــود رجلــن عــى وجــود رجــل واحــد وكــريس واحــد‪.‬‬ ‫مـ ّـرة‪ّ :‬‬
‫ُأرســلُ لــك مراجعتــن ممتازتــن لكتــاب آبــا وصلتا إيل مــن النارشين‪.‬‬
‫إىل أي حــد تتفــق مــع املســألة التــي طرحهــا املراجــع يف مجلــة هيــرت‬
‫بشــأن الكلــات؟ يــرى انســجاماً مــع األطروحــة الرئيســية للكتــاب أن‬
‫عنوانــه يجــب أن يكــون (الخــرة‪ :‬النمــو) ألن تســميته (الخــرة والنمــو)‬
‫تــرك انطباع ـاً بــأن املؤلــف يعتــر أن النمــو والخــرة منفصــان‪ .‬لكنــه‬
‫يريــد قــول يشء مختلــف متام ـاً‪ .‬الخــرة والنمــو هــا صريورتــان عــى‬
‫مســتويني مختلفــن‪ .‬إن ارتباطهــا ليــس عــى شــاكلة الســبب والنتيجــة‪،‬‬
‫بــل يخــص العالقــة أكــر‪ .‬هــذه الرؤيــة لــدى املؤلــف يجــب أن تنعكــس‬
‫بوضــوح يف عنــوان الكتــاب‪ .‬أميــلُ إىل املوافقــة قليــ ًا عــى ذلــك‪.‬‬
‫املراجعــة التــي نرشتهــا مجلــة نيتــر ّقيمــة‪ ،‬لكنــي وجدتهــا موجــزة إىل‬
‫حــد مــا وواقعيــة‪.‬‬
‫ســيرتك الربوفســور جــويش عملــه بالتدريــس يف الشــهر القــادم يك‬
‫يذهــب إىل دلهــي ويتســلم منصبـاً يف وزارة الشــؤون الخارجيــة‪ .‬يبدو أن‬
‫حكومتنــا بحاجــة ماســة ملواهبــه يف اللغــات‪ .‬ال تنــس أن تكتــب رســالة‬
‫إىل ِب ْينــا يف املــرة القادمــة‪.‬‬

‫‪-39-‬‬
‫توقعــت كان‬
‫ُ‬ ‫بعــد طــول انتظــار‪ ،‬توصلــت لــور إىل قــرار‪ ،‬وكــا‬
‫راجامــا مــن أنقذتنــا‪ .‬لقــد قررنــا تدشــن دار مــرح إيدغــورث (دار‬
‫إيدغــورث‪ ،‬اختصــاراً) بتقديــم رقصــة يكــون موضوعهــا طــاووس التــي‪.‬‬
‫ســتأخذ ِب ْينــا دور التــي‪ ،‬ولــور دور املــرأة العجــوز‪ .‬وذهــب دور‬
‫الطــاووس إليــك‪ .‬ســأتوىل أمــر كتابــة الســيناريو واملوســيقى الخلفيــة‬

‫‪198‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫والكلــات‪ .‬ســتبدأ الربوفــات حاملــا تصــل إىل هنــا يف يوليــو‪ .‬ال ميكنــك‬
‫إلغــاء ذلــك اآلن‪ .‬ولــن ُيقبــل أي عــذر‪ .‬ســتتخذ الرتتيبــات الالزمــة لتع ّلــم‬
‫الرقــص بشــكل مكتمــل‪( .‬جميعنــا يف هــذا ال ِّن ـزال اآلن)‪ .‬عنــد التفكــر‬
‫يف األمــر‪ُ ،‬تــرى‪ ،‬هــل يعــرف الطــاووس نفســه كيــف يرقــص؟ يرفــع‬
‫قدمـاً‪ ..‬ثــم يفقــد توازنــه‪ ،‬وإلعــادة التــوازن ينزلهــا‪ ..‬ثــم يرفــع األخــرى‪.‬‬
‫يتواصــل هــذا باألســلوب نفســه مـراراً وتكـراراً‪ ،‬بــا نهايــة‪ .‬أولئــك الذين‬
‫ـرأت يف مــكان مــا)‪.‬‬
‫يشــاهدون يســمون ذلــك رقص ـاً‪( .‬هكــذا قـ ُ‬
‫دون حاالً موعد االفتتاح‪ 15 :‬أغسطس ‪.1947‬‬ ‫ِّ‬

‫اتية) إىل اإلنكليزية ‪Kumud Mehta‬‬


‫ترجمها من اللغة األم (املار ّ‬
‫٭٭٭‬

‫‪199‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫‪200‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫قناعة رجل أعمى‬


‫تاكازهي سيفاسانكارا ّ‬
‫بيلي‬
‫ولــد بابــو نايــار كفيفـاً‪ ،‬لكنــه قبــل الــزواج مــن َب ْرغــايف عــى الرغــم‬
‫مــن ســمعتها املشــينة يف القريــة‪.‬‬
‫يف تلــك األيــام‪ ،‬مل يتســاءل أحــد عــن مــدى الحشــمة يف زيارتــه لذلــك‬
‫البيــت ذي الســمعة الرشيــرة‪ .‬أَ ْمل يكــن رجــ ًا أعمــى؟ كانــت والــدة‬
‫َب ْرغــايف مولعــة بســاع القصــص مــن األســاطري الدينيــة‪ .‬وكان بابــو نايــار‬
‫يــروي لهــا الكثــر مــن القصــص التــي يعرفهــا‪ .‬منعتــه أمــه مرتــن مــن‬
‫الذهــاب إىل هنــاك‪ .‬يف النهايــة‪ ،‬حملــت َب ْرغــايف‪ ،‬واعــرف بابــو نايــار‬
‫مبســؤوليته عــن ذلــك‪.‬‬
‫قــررت أمــه منعــه مــن دخــول املنــزل فــرد عــى ذلــك‪« :‬إن أخــي‬
‫الصغــر لــن يقــدر عــى مرافقتــي طــوال العمــر‪ .‬أحتــاج شــخصاً مــا‬
‫يعتنــي يب»‪.‬‬
‫«كيف ستعيلها؟»‬
‫«لــن أعطيهــا أي يشء‪ .‬ستكســب العيــش مــن حصــاد قطعــة أرض‬
‫صغــرة أو مــن طحــن األرز للنــاس»‪.‬‬
‫«وماذا عنك؟»‬
‫«ستعتني يب»‪.‬‬

‫‪201‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫«لكنها أجهضت ثالث مرات»‪.‬‬


‫«غــر صحيــح عــى اإلطــاق! ال يوجــد أرشف منهــا عــى وجــه‬
‫األرض»‪.‬‬
‫ثم طُ رد بابو نايار من منزل أهله إىل األبد‪.‬‬ ‫ومن ّ‬
‫راحــت َب ْرغــايف تعمــل لــدى أرسة أحــد الرباهمــن فتحصــد وتنظــف‬
‫مــا يطلــب منهــا مقابــل وجبتــن مــن الطعــام وبــارة(‪ )26‬مــن األرز كل‬
‫شــهر‪ .‬عــاوة عــى ذلــك‪ ،‬تعهــدت أن تطحــن األرز يدويـاً لعائلتــن أيضاً‪.‬‬
‫كانــت تعتنــي بزوجهــا جيــداً‪ .‬تطبــخ لــه الكانجــي(‪ )27‬وتطعمــه األرز‬
‫بينــا تكتفــي هــي باملــاء‪ .‬كانــت مــن النمــط املطيــع‪ ،‬وق ّلــا تتكلــم‪.‬‬
‫بــدا البــؤس وقــد مســح آثــار الفــرح عــن وجههــا‪ .‬يف س ـ ّنها العرشيــن‪،‬‬
‫لكــن شــعرها املتســاقط وعينيهــا الغائرتــن وخديهــا الضامريــن‪ ،‬كل‬
‫ذلــك جعلهــا تبــدو أكــر بعــر ســنني‪ .‬كان يخيــم عــى الــدوام ظــل‬
‫مــن الحــزن عــى قســاتها‪ .‬ومل تكــن تضحــك أبــداً ضحكــة نابعــة‬
‫مــن ســعادة فطريــة‪ .‬أحيان ـاً‪ ،‬تظهــر ابتســامة ســاهمة فــوق شــفتيها‬
‫الجافتــن عندمــا تتأمــل قريناتهــا املحظوظــات‪.‬‬
‫كانــت تلبــس يف أغلــب األحيــان مئــزراً رقيقـاً تربطــه حــول خرصهــا‬
‫فتبــدو شــبه عاريــة‪ ،‬ونــادراً مــا امتلكــت ســواه لتب ّدلــه‪ .‬ومل يكــن ذلــك‬
‫ليجعلهــا تحــس بالعــار أبــداً‪.‬‬
‫جــاء بابــو نايــار بلســانه الظريــف وقلبــه الرقيــق ليعيــش يف هــذا‬
‫الجــو الكئيــب الــذي تعــوزه الحيــاة‪ .‬ومل تكــن تتحــدث معــه بإســهاب‪.‬‬
‫كان بابونايــار يقــول‪« :‬هاهــي َب ْرغــايف تحمــل صبيــاً يف أحشــائها‪.‬‬
‫ســيكرب ويرتعــرع ويــروي ملحمــة الرامايانــا»‪.‬‬
‫(‪ )26‬البارة‪ :‬نحو خمسة مكاييل‪(.‬م)‬
‫(‪ )27‬ثريد الرز‪(.‬م)‬

‫‪202‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫فتجيبه‪« :‬أريد بنتاً»‪.‬‬


‫أنجبــت َب ْرغــايف صبي ـاً‪ .‬كانــت فرحــة بابــو ال ُتحــد‪ .‬ظــلّ قابع ـاً يف‬
‫الغرفــة‪ ،‬ودعــا النســوة لرؤيــة الصبــي‪« :‬إنــه كــا متنيــت‪ .‬لقــد أرادت‬
‫َب ْرغــايف بنت ـاً»‪.‬‬
‫كان يحضــن الطفــل طــوال الوقــت ويدل ّلــه‪ ،‬ويســأله‪« :‬حسـ ٌـن‪ ،‬يــا‬
‫رفيقــي الصغــر‪ ،‬هــل ســتقرأ الرامايانــا ألبيــك عندمــا تكــر؟»‪.‬‬
‫«ب ْرغــايف‪ ،‬هــاّ ّقبلــت‬
‫ـرح وجـ َه الرجــل األعمــى فيقــول‪َ :‬‬ ‫ويــيء الفـ ُ‬
‫الطفــل؟»‪.‬‬
‫فرتد عليه‪« :‬لسانك ال يهدأ لحظة»‪.‬‬
‫«يــا امــرأة‪ ،‬أزفــت أيامنــا الســعيدة‪ .‬أي يشء أريــده أكــر مــن ذلــك؟‬
‫غــداً ســيأخذين إىل كايس وراميســوارام‪ .‬أليــس كذلــك يــا بنــي؟»‪ .‬ثــم‬
‫ميســد بابونايــار شــعر الطفــل ويقبلــه‪.‬‬ ‫ّ‬
‫«أســوايت‪ ،‬مــاكام‪ ،‬مــوالم‪ ..،‬كيتــو» ثـ ّـم يحســب خريطــة الــروج لــه‬
‫(‪)28‬‬

‫يك يكشــف طالعــه‪.‬‬


‫«إنــه يف بــرج كوكــب الزهــرة حتــى يف صغــره‪ .‬إنــه محظــوظ جــداً‪.‬‬
‫َب ْرغــايف‪ ،‬يجــب أن نســميه غوبيــكا رامانــان»‪.‬‬
‫قــال إنــه ينبغــي عــى َب ْرغــايف أن تتعلــم األغنيــة القدميــة التــي‬
‫تغــري الطفــل بالنــوم (أواه‪ ،‬يــا طفــل القمــر الفاتــن)‪.‬‬
‫تسمه غوبيكا رامانان؟»‬
‫أسمته رامان‪ .‬فاحتج عىل ذلك‪« :‬ملاذا مل ّ‬
‫ليتسول»‪..‬‬
‫ّ‬ ‫لطفل ولد‬
‫قالت‪« :‬أواه‪ ،‬هل تظن ذلك مناسباً ٍ‬
‫«ال تقــويل ذلــك‪ ،‬يــا امــرأة‪ .‬إن خريطــة الــروج تقــول إنــه ســيصبح‬
‫قائــداً»‪.‬‬
‫ومل تتعلم األغنية القدمية‪.‬‬
‫(‪ )28‬أسامء األبراج‪( .‬م)‬

‫‪203‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫عــال مــا يثــره‬


‫يتلــوى الطفــل يف حضــن بابــو ويبــي بصــوت ٍ‬ ‫ّ‬
‫فينــادي برغــايف التــي تــر بأســنانها وتــرخ‪« :‬ولــد هــذا الصبــي‬
‫ليزعــق فحســب»‪.‬‬
‫تــرب َب ْرغــايف الطفــل ُفيصعــق بابــو نايــار‪ .‬كانــت تذهــب للعمــل‬
‫منــذ الصبــاح وال ترجــع حتــى وقــت متأخــر يف املســاء‪ .‬وهــذا يفقــده‬
‫هــدوء العقــل فيهمــس يف نفســه أن حلــق الطفــل ســيجف‪.‬‬
‫عاطفته الشديدة مزقت قلبه‪.‬‬
‫يقول يف نفسه‪:‬‬
‫«ابنــي يحمــل كــاّ ً كبـراً مــن الحــظ الســعيد ال يظهــر للعيــان‪ .‬مثــة‬
‫شــامة تحــت ثديــه األيــر تشــبه زهــرة اللوتــس وهــي عالمــة عــى‬
‫نعمــة إلهيــة مقدســة»‪.‬‬
‫ويسأل النساء يف البيوت املجاورة‪« :‬هل يشبهني؟»‬
‫فتبتــلّ عيــون النســوة بدمــوع ال تجــف‪ .‬رأى شــامة يف الظلمــة التــي‬
‫تغمــره! ويظــن أن الطفــل يشــبهه‪ .‬ذات يــوم ســألته إحــدى النســاء‪:‬‬
‫«هل ميكنك أن ترى؟»‬
‫«ميكنني أن أرى ابني!» أجاب‪.‬‬
‫يقبل الطفل كان يقول أحياناً‪:‬‬ ‫واستمر يراه‪ .‬عندما ّ‬
‫«أيها الوغد الصغري‪ُّ ،‬أي ضحكة لك!»‬
‫كان يرى حتى الضحكة الصامتة‪.‬‬
‫تقــول نســاء القريــة‪« :‬حســناً‪ ،‬إنهــا امــرأة ســيئة حق ـاً‪ .‬هــل هــذا‬
‫الطفــل يشــبهه؟»‬
‫آن األوان لــي ُي َقـ َّدم إىل رامــان الطعــام الطقيس األول مــن األرز‪ .‬أراد‬
‫بابــو نايــار إمتــام ذلــك الحــدث امليمــون بكلتــا يديــه‪ .‬لكــن برغــايف لــن‬
‫تســمح بذلــك‪ .‬أخــرت أمهــا أن شــهية الطفــل كبــرة للغايــة فأجابتهــا‪:‬‬

‫‪204‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫«إذاً‪ ،‬يجــب أن نســتعني بشــخص آخــر ألداء األمــر‪ ،‬ألنــه يجــب ّأل يكــر‬
‫ـن ضخــم»‪ .‬قــال بابــو نايــار‪« :‬ال أتذكــر أبــداً أننــي‬ ‫بشــهية كبــرة وبطـ ٍ‬
‫أكلــت مثــل هــذه الكميــة الكبــرة مــن األرز»‪ ،‬وضحــك مــن كل قلبــه‬
‫لهــذه الطرفــة‪.‬‬
‫ـن شــؤون العائلــة ســاءت إذ فقــدت الزوجــة عملهــا‬ ‫كــر الطفــل‪ .‬لكـ ّ‬
‫لــدى عائلــة الرباهمــن بعــد اتهامهــا بالرسقــة‪.‬‬
‫أعطه حصتي»‪.‬‬ ‫يج ْع‪ِ .‬‬ ‫يأمر بابو نايار زوجته‪« :‬ال تدعي الطفل ُ‬
‫مــرت‬
‫حــل كاركاتــاكام الشــهر الــذي تشــح فيــه املؤونــة عــادة‪ّ .‬‬
‫ثالثــة أيــام ومل يطبخــوا حتــى ثريــد األرز‪ .‬ســدوا جوعهــم أول يــوم‬
‫بــأكل أوراق البــازالء املطبوخــة‪ .‬ويف اليــوم الثــاين أكلوا نخالــة األرز‪ ،‬ويف‬
‫اليــوم الثالــث أعطتهــم الجــارة كيســافان نايــار مبلغـاً صغـراً‪ ،‬فاشــروا‬
‫بــه بعــض األرز أعـ ّدوا منــه الرثيــد وأكلتــه َب ْرغــايف وابنهــا وأمهــا حتــى‬
‫آخــر حبــة‪ .‬كان بابــو نايــار جالس ـاً عــى الرشفــة يســتمع إىل ملحمــة‬
‫رامايانــا التــي يقرؤهــا لــه أحــد الجــران ومل يكــن منتبه ـاً ملــا يجــري‬
‫يف املطبــخ‪.‬‬
‫ـب مــيء أبياتـاً شــعرية مــن حكايــة‬ ‫يف تلــك الليلــة‪ ،‬كان يغنــي بقلـ ٍ‬
‫كوتشــيال(‪ .)29‬الجــوع الــذي ينخــره لــن يدعــه ينــام حتــى بعــد منتصــف‬
‫الليــل‪ .‬متكــن الجــران مــن ســاعه يــردد األشــعار ليبــدد الوقــت‪.‬‬
‫أصبحــت َب ْرغــايف غاضبــة‪« :‬أي جنــون هــذا؟»‬
‫وصل صامتاً‪.‬‬
‫«أمل أكن أغني مدائح لك؟»‪ ،‬ثم توقف ّ‬
‫حملــت َب ْرغــايف مــن جديــد‪ .‬وأخربهــا بابــو نايــار أنهــا ســتلد بنت ـاً‬
‫هــذه املــرة‪.‬‬
‫(‪ :Kuchela Vritha )29‬قصيدة شــعرية تحيك قصة كوتشــيال أحد أتباع كريشنا املخلصني‪ ،‬وتصف بؤس أحواله وب ّر‬
‫كريشنا به‪( .‬م)‬

‫‪205‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫«أمــا»‪ ،‬وج ّدته‬‫بــدأ الطفــل األول يتحــدث قليـ ًا وأخــذ يدعــو أمه بـــ ّ‬
‫«أمومــا» بينــا مل يصــدر عنــه أبــداً حتــى أي حــرف مــن كلمــة بابا‪.‬‬ ‫بـــ ّ‬
‫«يا رفيقي الصغري‪ ،‬ملَ ال تنادي «بابا؟»‬
‫عندئذ‪ ،‬يوايس بابو نايار نفسه بأن كلمة «بابا» صعبة النطق‪.‬‬
‫مرضت َب ْرغايف عدة مرات خالل هذا الحمل‪.‬‬
‫ظــلّ بابــو نايــار يقــول إن بؤســهم ســينتهي‪ .‬رامــان ال يفــارق أمــه‪،‬‬
‫ويطــوف حــول بابــو نايــار‪ .‬يخــره بابــو نايــار أن أمــه تنتظــر أختــاً‬
‫يقبلهــا حــن تــأيت‪.‬‬
‫صغــرة لــه ويطلــب منــه أن ّ‬
‫ولــدت برغــايف بنتـاً‪ .‬وكالعــادة‪ ،‬حســب لهــا بابــو نايــار دائــرة الــروج‬
‫وقــال إنــه ُقـ ِّدر لهــا زواج ســعيد يف عامهــا الرابــع عــر‪.‬‬
‫ســأل بابــو نايــار جارتــه كوتيامــا‪« :‬إن ابنتــي تشــبه أمهــا‪ ،‬أليــس‬
‫كذلــك‪ ،‬أيتهــا األخــت؟» فضحكــت ورســمت ابتســامة عريضــة عــى‬
‫محياهــا وأجابــت‪« :‬نعــم‪ ،‬أظــن ذلــك»‪.‬‬
‫دار جدال بني الجريان حددوا بعده األب املحتمل للطفلة‪.‬‬
‫اآلن‪ ،‬أصبــح مثــة طفــان‪ .‬ازداد بــؤس العائلــة وأرهقــا َب ْرغــايف التــي‬
‫كانــت مــن الوهــن بحيــث مل يعــد مبقدورهــا الذهــاب للعمــل‪.‬‬
‫واىس بابــو نايــار زوجتــه وطأمنهــا بــأن فقرهــم ســينتهي قريب ـاً‪ .‬لكنهــا‬
‫أرادت أن تهــرب مــن كل هــذا البــؤس باإلقــدام عــى االنتحــار‪ ،‬فأوضــح لهــا أن‬
‫األطفــال ســيتيتمون واالنتحــار حامقــة‪ .‬مل تــذرف دمعــة واحــدة‪ ،‬لكنهــا كانــت‬
‫ـي‬
‫تــر بأســنانها بطريقــة يائســة وعاجــزة‪ .‬أحيان ـاً‪ ،‬كان يــيء بريــق وحـ ّ‬
‫عينيهــا الغائرتــن للحظــات‪ ،‬لكنهــا اآلن أصيبــت بانتكاســة أودت بهــا إىل‬
‫الحضيــض‪ .‬قالــت لــه يف أحــد األيــام‪« :‬ملــاذا ال تخــرج إىل الشــارع وتتســول؟»‪.‬‬
‫«أنــت مح ّقــة يــا امــرأة‪ .‬هــذا يشء معقــول‪ ،‬لكــن ذلــك يقتــي‬
‫مغــادرة القريــة‪ .‬واملشــكلة هــي كيــف أســتطيع االبتعــاد عن صغــاري»‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫حملــت َب ْرغــايف مــن جديــد‪ ،‬لكنهــا كانــت هــذه املــرة مريضــة‬


‫جــداً ال تقــوى حتــى عــى النهــوض مــن الفـراش‪ .‬مضــت أيــام كثــرة‬
‫حتــى مــن دون نــار يف املطبــخ‪ ،‬فــكان بابــو يرســل ابنــه إىل عائلــة‬
‫الرباهمــن املجــاورة إلعطائــه الرثيــد يك تأكلــه األم والطفــان بينــا‬
‫يكتفــي هــو بالفضلــة إن كان مثــة يشء مــن هــذا القبيــل‪ ،‬ويعلــق‬
‫عــى ذلــك‪:‬‬
‫«عندمــا أســمع ملحمــة الرامايانــا‪ ،‬ال تطلــب نفــي طعامــاً أو‬
‫رشابــاً»‪.‬‬
‫وهكــذا‪ ،‬يقــي النهــار مســتمعاً إىل امللحمــة بينــا يف الليــل يعيــد‬
‫اســتذكار الســطور التــي علقــت يف ذهنــه‪.‬‬
‫يبــي األطفــال مــن الجــوع واألم ال تنبــس بكلمــة وبابــو يهمــس‪:‬‬
‫«ســينتهي كل هــذا البــؤس!»‬
‫ُتــرك األطفــال ملصريهــم بــا رعايــة‪ ،‬فــكان الصبــي رامــان طــوال‬
‫النهــار يخــرج للتســول مــن بيــت إىل بيــت‪ ،‬ومرضــت البنــت فــكان‬
‫ـر لهــا بعــض الرثيــد‪.‬‬‫يســتعري لهــا بعــض األرز مــن أحــد الجـران ويحـ ّ‬
‫ـاالت لكنــه‬
‫يرجــع رامــان عنــد الغســق فيطلــب منــه األب أن يتلــو ابتهـ ٍ‬
‫ال يكــرث‪ .‬يجلســه قربــه ويحــي لــه قصص ـاً مــن األســاطري الدينيــة‪.‬‬
‫يفـ ُّـر الولــد مبتعــداً يف حــن يواصــل نايــار الــرد مــن دون أن يــدرك‬
‫غيابــه إال بعــد أن يســمع صوتــه مــن جهــة املطبــخ‪.‬‬
‫ولدت برغايف طف ًال ثالثاً مات يف يومه الرابع‪.‬‬
‫تــر ذلــك بطريقــة أو بأخــرى نوعــاً مــن الربكــة‪« :‬كيــف‬ ‫ُاع ِ‬
‫ـربونه؟»‪ .‬واىس بابــو نفســه بهــذه الفكــرة وقــال لزوجتــه‪« :‬تربيــة‬ ‫سـ ّ‬
‫األطفــال مســؤوليتي أيضـاً‪ .‬لدينــا اثنــان اآلن‪ .‬كيــف سيعيشــون؟ ال نريــد‬
‫املزيــد»‪.‬‬

‫‪207‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫بلــغ رامــان عامــه الســادس فقــرر أبــوه أنــه ال بــد لــه مــن تعلــم‬
‫ـجل يف املدرســة يف الشــهر التايل‪ ،‬شــهر إيدافــام(‪.)30‬‬
‫وسـ ِّ‬
‫القـراءة والكتابــة‪ُ ،‬‬
‫اســتعادت برغــايف العمــل الــذي فقدتــه لدى عائلــة الرباهمــن واعترب‬
‫بابــو ذلــك حظـاً ســعيداً جــاء مــن الطفــل الــذي مــات‪ ،‬وأصبــح بإمــكان‬
‫العائلــة أن تحصــل عــى وجبــة يف اليــوم‪ .‬لكــن هــذا مل يجلــب الراحــة‬
‫إىل نايــار ألنــه بقــي يتضــور جوع ـاً‪ .‬ففــي كل يــوم كانــت األم واألوالد‬
‫يأكلــون الطعــام الــذي يحصلــون عليــه مــن منــزل الرباهمــن‪ ،‬بينــا هــو‬
‫يجلــس عــى الرشفــة ليصــي أو ليســتمع إىل ملحمــة الرامايانــا‪ .‬يعطونــه‬
‫أحيانـاً شــيئاً ليأكلــه‪ .‬مل يكــن يطلــب منهــم الطعــام أبــداً‪ .‬فقــط يأخــذ‬
‫مــا قــد ُيعطــى لــه‪.‬‬
‫مل يذهــب رامــان إىل املدرســة‪ ،‬طلبــت منــه أمــه ذلــك ألنهــا‬
‫تتحمــل النفقــات‪ .‬وافــق نايــار عــى رأيهــا عــى الرغــم‬ ‫ال تســتطيع أن َّ‬
‫مــن إميانــه بوجــوب أن يتعلــم طفلــه القـراءة والكتابــة‪ .‬قــال إن الطفــل‬
‫مــازال يف عامــه الســادس فقــط وميكــن االنتظــار حتــى العــام القــادم‪.‬‬
‫ـن ولديــه مل يناديــاه «بابــا» حتــى اآلن‪ ،‬كانــوا يضحكــون عندمــا‬ ‫لكـ ّ‬
‫يرونــه يتلمــس طريقــه يف ظلمتــه‪.‬‬
‫« ُبنيتــي‪ ،‬تعــايل!» يناديهــا باســطاً يديــه لكنهــا ال تقــرب منــه‪ ،‬بــل‬
‫تبقــى بعيــدة تختلــق لــه األعــذار‪ .‬طلــب مــرة مــن رامــان‪ُ « :‬بنــي‪،‬‬
‫أحــر يل بعــض أوراق التانبــول والبــذور ألمضغهــا»‪.‬‬
‫نفــذ الصبــي األمــر بدهــاء وخبــث‪ ،‬إذ ســكب الكلــس عــى التانبــول‬
‫ووضــع بعــض الحــى بــدالً مــن البــذور فاكتــوى فــم بابــو بالطعــم‬
‫الــاذع‪ .‬ص ّفــق رامــان وضحــك‪ ،‬وضحــك نايــار أيضــاً بهــذه املزحــة‬
‫الثقيلــة‪.‬‬
‫(‪ :Edavam )30‬شهر يف التقويم الهندي‪( .‬م)‬

‫‪208‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫يف أحــد األيــام‪ ،‬نــزل بابــو نايــار مــن الرشفــة إىل الفســحة األماميــة‬
‫مســتعيناً بعصــاه‪ .‬كان رامــان خارج ـاً مــن املطبــخ غاضب ـاً بعــد شــجار‬
‫مــع أمــه‪ ،‬فأوقــع العصــا ليســقط نايــار املســكني عــى وجهــه‪ .‬كان يحب‬
‫أن يصــف هــذه الحــوادث لعابــري الســبيل وميــدح حيويــة الولــد‪.‬‬
‫مــر عامــان عــى هــذا الحــال‪ .‬مل يــداوم رامــان يف املدرســة‪ ،‬وكث ـراً‬
‫مــا تحــدث بابــو نايــار عــن هــذا األمــر مــع برغــايف التــي كانــت تقــول‪:‬‬
‫«ميكنــك أن تقــول مــا تشــاء بلســانك الزلــق»‪.‬‬
‫«لكن أال يوجد أي أهمية ملا أقول؟»‬
‫مل تكــن تــرد عليــه بــيء‪ ،‬بــل تنــرف إىل عملهــا بــا اكــراث‪.‬‬
‫وحــدث أن تــورط رامــان برسقــة تافهــة فســأله أبــوه‪:‬‬
‫«هل هذا جيد‪ ،‬يا رفيقي؟»‬
‫«سأتدبر األمر» كان الجواب‪.‬‬
‫واىس بابــو نايــار نفســه عــى اعتبــار أن ابنه مــا زال طف ًال وسيســتقيم‬
‫عندمــا يكرب‪.‬‬
‫حملــت برغــايف مــن جديــد مــا أدهــش بابــو نايــار الــذي ســألها‪:‬‬
‫«برغــايف‪ ،‬كيــف حصــل هــذا؟»‬
‫مل تجــب‪ ،‬ويف هــذه املــرة‪ ،‬اضطــرت إلرســال رامــان ألحــد البيــوت‬
‫ليعمــل خادمــاً‪ .‬تذمــر بابــو مــن هــذا التــرف وشــكاها إىل الجــارة‬
‫كوتيامــا‪« :‬هــل كانــت عــى حــق يف إرســاله إىل مــكان بعيــد هكــذا؟ أال‬
‫يجــب أن يتعلــم الق ـراءة والكتابــة؟»‬
‫«يــا عزيــزي‪ ،‬نعــم»‪ ..‬ثــم أمســكت نفســها عــن الــكالم‪ .‬لقــد‬
‫كانــت شــاهد عيــان عــى الكثــر مــن أفعــال برغــايف املجحفــة‪ ،‬وكــم‬
‫أســفت عــى معاملتهــا الســيئة لبابــو نايــار‪ .‬يف إحــدى املــرات رأتهــا‬
‫تــأكل كفايتهــا مــن األرز والــكاري بينــا الرجــل الرضيــر يتضــور جوعـاً‪.‬‬

‫‪209‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫قدمــت اآلن مــن عنــد والــدة‬ ‫رأت ذلــك وبكــت‪ .‬زد عــى ذلــك‪ ،‬أنهــا ِ‬
‫بابــو نايــار تحمــل رســالة لــه منهــا‪ .‬النــاس يف الجــوار يتحدثــون عــن‬
‫األحــوال الحزينــة للرجــل‪ ،‬وعــدا الشــفقة مل يجــرؤ أحــد منهــم عــى‬
‫مصارحتــه مبــارشة مبــا يجــري حولــه‪ .‬عــى هــذا النحــو اختفــى الجانــب‬
‫املــزري لحياتــه وراء الظلمــة الرسمديــة التــي يقبــع يف داخلهــا‪ .‬كان‬
‫تحمــل عــبء‬ ‫النــاس يخشــون مــن حقيقــة أنــه لــن يكــون قــادراً عــى ّ‬
‫الجحيــم الــذي يعيــش فيــه إذا انكشــفت أمامــه‪ .‬كان إشــفاقه الــذي‬
‫ال يحـ ّد عــى برغــايف موضــع إعجــاب الجميــع‪ ،‬وأذهلهــم تفاؤلــه الــذي‬
‫ال يتزعــزع‪ .‬انحنــى العــامل أمــام روح التضحيــة املخلصــة املتفانيــة لديــه‪،‬‬
‫إذ مل يحــدث أن غضــب أبــداً مــن برغــايف‪ .‬مــن أي طينــة ُجبــل بحيــث‬
‫يســتطيع مواجهــة هــذا الواقــع املريــر؟‬
‫مل تقــدر كوتيامــا أن تضبــط نفســها عندمــا ســألها بابــو «ابني شــخص‬
‫ـب مهم‪ ،‬وســيتعلم القـراءة والكتابــة قريباً»‪.‬‬ ‫ذيك‪ .‬إنــه يعمــل يف مكتـ ٍ‬
‫«إنه ليس ابنك يا بابو نايار»‪.‬‬
‫«ليــس األمــر كذلــك‪ ،‬إنــه طفــلٌ للــه! أليــس هــذا العــامل ذاتــه‬
‫وهــاً؟»‬
‫تقو عىل أن تفعل ذلك‪..‬‬ ‫مل تجب كوتياما بيشء عىل هذا ومل َ‬
‫ولــدت برغــايف طف ـ ًا ذك ـراً هــذه املــرة وكان بابــو ســعيداً للغايــة‬
‫بالضيــف الجديــد‪.‬‬
‫قــال إن الطفــل ســيكون رفيقـاً لــه‪ .‬يف اليــوم التــايل جــاءت كوتيامــا‬
‫ـت مرغ ـ ًا‬ ‫مــرة ثانيــة‪ .‬قالــت لــه‪« :‬أنــت محظــوظ ألنــك ال تــرى‪ .‬لسـ َ‬
‫عــى رؤيــة البــؤس والــر يف هــذا العــامل»‪.‬‬
‫«ال يوجــد رش يف هــذا العــامل‪ .‬يف الحقيقــة‪ ،‬يوجــد فقــر‪ ،‬لكنــه‬
‫ســينتهي‪ .‬إذا كان مثــة حــزن‪ ،‬فهنــاك ســعادة أيضــاً‪ ،‬يــا أختــاه»‪.‬‬

‫‪210‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫«كال‪ ،‬يا عزيزي‪ ،‬ليس األمر كذلك‪»..‬‬


‫ـت تعيسـاً‪ ،‬واللـ ُه مل يغرقنــي يف الهمــوم‪ .‬لكــن بالطبــع أنــا قلــق‬ ‫«لسـ ُ‬
‫قليـ ًا عــى مســتقبل أطفــايل‪ .‬رامــان مل يبعــث يل ولــو رســالة»‪.‬‬
‫«لن يكون هذا شعورك لو كنت تراهم»‪.‬‬
‫«بل إنني أرى أطفايل!»‬
‫«إذا كان كذلك‪ ،‬هل أنت والدهم؟»‬
‫تــرو‪.‬‬
‫توقــف قلــب كوتيامــا للحظــة‪ ،‬ألنهــا أفشــت الحقيقــة بــا ٍٍّ‬
‫تــردد بابــو نايــار وهــو يبحــث عــن إجابــة‪ .‬وبعــد لحظــة قــال‪« :‬إنهــم‬
‫أطفــال يف كافــة األحــوال»‪.‬‬
‫«ما الذي تعلمه‪ ،‬يا بابو نايار؟»‬
‫لســت غبيــاً‪ ،‬يــا أختــاه‪ .‬إن‬ ‫ُ‬ ‫«رمبــا تكونــن عــى حــق‪ ،‬يــا أختــاه‪.‬‬
‫املكفوفــن لديهــم فــرط يف الــذكاء‪ .‬أعلــم أشــياء كثــرة‪ .‬يف إحــدى الليايل‪،‬‬
‫ســمعت خشخشــة العمــات املعدنيــة مــن داخــل املنــزل»‪.‬‬
‫«يحدث هذا وأنت تجلس يف الرشفة‪ .‬إنها شيطان!»‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‬
‫مل يجب بابو فوراً‪.‬‬
‫«وماذا يف ذلك؟ عىل األقل‪ ،‬لن يقول الناس إن األطفال بال أب»‪.‬‬
‫«هل يناديك هؤالء األطفال «يا أيب‘؟»‬
‫«كال‪ ،‬لكننــي أحبهــم‪ .‬انظــري‪ ،‬ابنــي رامــان وابنتــي ديفــايك يقفــان‬
‫أمامــي‪ .‬مــا أجملهــا‍! أحبــايئ الصغــار إنهــم أطفــايل‪ .‬أال يجــب أن أفعــل‬
‫شــيئاً لهــم؟»‬
‫«كانت تخدعك!»‬
‫«بــل يجــب أن نشــفق عليهــا! كــم تضــورت مــن الجــوع! رمبــا هــذه‬
‫وســيلتها الوحيــدة لكســب الــرزق‪ .‬إنهــا بحاجــة لــزوج أمــام النــاس‪.‬‬
‫عــى األقــل‪ ،‬كنــت مفيــداً لهــا بهــذا املعنــى»‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫مل تســتطع كوتيامــا أن تــرد عــى ذلــك‪ .‬كان قلبــه كبـراً ورحبـاً يســع‬
‫الكــون‪ .‬مل يكــن مجــرد شــخص يتلمــس طريقــه يف الظــام‪ .‬كان عقلــه‬
‫بلــورة ُتشـ ّـع بنــور داخــي رسمــدي‪ ،‬وعــوامل كثــرة كثــرة ترفــرف الهيــة‬
‫يف بهائهــا املنــر‪.‬‬
‫غــادرت كوتيامــا بصمــت تــام‪ .‬ويف تلــك الليلــة أيضـاً‪ ،‬ســمعه الجريان‬
‫ُينشــد قصيدة كوتشــيال‪.‬‬

‫ترجمها من اللغة األم (املااليامية) إىل اللغة اإلنكليزية ‪V. Abdulla‬‬


‫٭٭٭‬

‫‪212‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫غيسا‬
‫ماهاديفي فريما‬
‫إذا مل يكــن صعب ـاً ع ـيّ‪ ،‬حتــى يف هــذه األيــام املتأخــرة‪ ،‬أن أفهــم‬
‫كيــف أن بعــض الخواطــر الالواعيــة مــا تــزال تثــر سلســلة مــن‬
‫األحــداث املنســية مــن مــايض حيــايت بكامــل قدرتهــا عــى تهييــج قلبــي؛‬
‫عندهــا‪ ،‬رمبــا أســتطيع أن أفــر ملــاذا تجلــب معهــا الذكــرى األليمــة‬
‫لتلميــذ محــدد‪ ،‬صغــر وحزيــن ومذعــور‪ ،‬ذلــك الــذي‪ ،‬وبكامــل نضارتــه‬
‫ويفاعتــه‪ ،‬رطّ ــب شــواطئ حيــايت الجافــة مثــل موجــة ناعمــة مــا لبثــت‬
‫أن تالشــت ثانيــة يف املحيــط الالنهــايئ‪.‬‬
‫(‪)31‬‬
‫انجذبــت عــى الدوام وبشــكل يتعذر تفســره إىل أطــال جهانيس‬
‫والقــرى املحيطــة بهــا التــي تســتلقي عــى امتــداد نهــر الغانج‪ ،‬حتــى إِ َّن‬
‫النــاس الذيــن الحظــوا مشــاعري بــدؤوا يعلقــون ســاخرين بــأن هــذا‬
‫االنجــذاب رمبــا لــه عالقــة بــأدوار حيــايت الســابقة‪ .‬وفــوق ذلــك‪ ،‬مثــلُ‬
‫وقــت الفــراغ الــذي يحبــذ اآلخــرون‬ ‫ُ‬ ‫هــذا االنجــذاب أمــر غريــب!‬
‫قضــاءه يف زيــارة األصدقــاء القدامــى واملشــاركة يف االحتفــاالت والتمتــع‬
‫(‪)32‬‬
‫بالتســــليات‪ ،‬لـــم أكــن وحســب أقضيــه علـــى ضفــاف باهاغ ـرايث‬
‫نادبـاً هــذه األطــال وأركانهــا املنهــارة‪ ،‬بــل كنــت أقضيــه بــرور أيضـاً‪.‬‬
‫(‪ )31‬مدينة تاريخية يف والية أتر برديش الهندية‪( .‬م)‬
‫(‪ )32‬أحد روافد نهر الغانج‪( .‬م)‬

‫‪213‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫حشــد النســاء اللــوايت يأتــن لجلــب املــاء مــن الغانــج‪ ،‬يحملــن‬


‫ُ‬
‫جرارهــن الشــاحبة القدميــة أو تلــك الفخاريــة الحمــراء الجديــدة‬
‫أو اآلنيــة الالمعــة واألوعيــة النحاســية مــن بيوتهــن‪ .‬بعــض تلــك‬
‫البيــوت خــرب قديــم وأخــرى طُ ليــت حديث ـاً وجميعهــا تبعــرت مثــل‬
‫بيــوت األطفــال الرمليــة‪ .‬أصبحــت ملــ ًا بتفاصيــل كل ذلــك أيضــاً‪.‬‬
‫بعــض النســاء يلبســن ســارياً توســعت ثقوبــه‪ ،‬ولــدى األخريــات مــا‬
‫هــو جديــد‪ ،‬بعضهــن يلبســن ثيابــاً نظيفــة وأخريــات لديهــن كســاء‬
‫ملطــخ حتــى إنــه يســتحيل التمييــز بــن النســيج والوســخ‪ ،‬بعضهــن‬
‫ذوات ألبســة حم ـراء وأخريــات بثيــاب ســوداء خالصــة‪ .‬وســطَ الشــعر‬
‫املشــلل املدهــون بالزيــت إلحــدى النســاء يلمــع رشيــط قرمــزي بعــرض‬
‫اإلصبــع كأشــعة شــمس غاربــة‪ ،‬والشــعر املجعــد الجــاف ألخــرى‪،‬‬
‫ال علــم لهــا حتــى بأرخــص أنــواع زيــت الخــردل‪ ،‬يتــدىل يف خصــات‬
‫صغــرة حــول وجههــا وقــد بــدا بــؤرة لحزنهــا‪ .‬عــى املعاصــم الســوداء‬
‫ـن ملعــت كاألملــاس جواهــر اصطناعيــة؛ أســاور زجاجيــة‬ ‫املمتلئــة لبعضهـ ّ‬
‫بســيطة تبــاع يف املدينــة‪ ،‬وعــى املعاصــم النحيلــة ألخريــات‪ ،‬بــدت‬
‫األســاور الزائفــة املتســخة مــن الصمــغ تبــدو مثــل قشــور شــجر الصندل‬
‫امللتصقــة بالصخــور الســوداء‪ .‬ترتبــك بعــض النســوة ألن أســاورهن‬
‫مصنوعــة مــن النيــكل فقــط وتجهــدن يف إخفائهــا خلــف قدورهــن‪،‬‬
‫بينــا تديــر أخريــات دفــة الحديــث نحــو اإليقــاع املتناغــم ألســاورهن‬
‫املصنوعــة مــن الفضــة‪ .‬عــى آذان بعضهــن حلــق رخيــص مــن الصمــغ‬
‫يكلــف بضــع بنســات يتالمــح تحــت أغطيــة رؤوســهن‪ ،‬بينــا الحلــق‬
‫الطويــل ألخريــات بــدا وكأنــه سلســلة تصــل الخــدود واألعنــاق‪ .‬خالخيل‬
‫فضيــة عــى األقــدام املوشــومة باللــون القمحــي لبعضهــن بــدت تعــزز‬
‫تناســقهن‪ ،‬بينــا مقــدم الجــوارب الواســعة والكعــوب البيضــاء املتســخة‬

‫‪214‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫الدبقــة لألخريــات تجعــل الخالخيــل املتواضعــة املصنوعــة مــن التنــك‬


‫والقصديــر تبــدو وكأنهــا أصفــاد مــن الحديــد الرمــادي‪.‬‬
‫تغســل النســاء أيديهــن ووجوههــن أوالً‪ ،‬ثــم يخضــن يف املــاء‬
‫وميــأن قدورهــن الخزفيــة‪ .‬بعــد ذلــك‪ ،‬يضعــن قدورهــن عــى الضفــة‬
‫ويلقــن ُدثرهــن الدائريــة عــى رؤوســهن ناظـرات باتجاهــي وجميعهــن‬
‫يبتســمن مرتبــكات عــى نحــو متبايــن‪ ،‬يظهــرن تلقائي ـاً املعانــاة مــن‬
‫ـن عىل علم‬ ‫شــظف العيــش أو يبديــن ابتســامة تحمــل قصــة ســعادة‪ .‬هـ ّ‬
‫باملســافة التــي تفصــل بــن رشوطنــا االجتامعيــة‪ ،‬ورمبــا لهــذا الســبب‬
‫ال ميتنعن عن التواصل مع الشاطئ اآلخر عرب جرس البسامت‪.‬‬
‫األطفــال الرعــاة‪ ،‬وهــم يلوحــون ألبقارهــم وجواميســهم الســامئة‬
‫املندفعــة باتجاهــي‪ ،‬يلتقطــون ســاعاتهم اليدويــة ويبــدؤون يف قرنهــا؛‬
‫األطفــال الرعــاة‪ ،‬إذ يــرون نعجــة أو عنــزة تائهــة متوجهــة نحــوي‪،‬‬
‫ميســكون بهــا مــن أذنيهــا ويســحبونها إىل الــوراء رسيعـاً‪ ،‬وحتــى األوالد‬
‫الذيــن يتســكعون يف الجــوار وهــم يلعبــون طــوال اليــوم ال ينســون‪،‬‬
‫أثنــاء الصفــر‪ ،‬أن يخمنــوا مزاجــي‪.‬‬
‫الرعــاة العائــدون أو الذاهبــون لبيــع الحليــب يف املدينــة عــى‬
‫الشــاطئ املقابــل‪ ،‬العــال الذاهبــون إىل عملهــم يف الحصــن أو‬
‫الراجعــون‪ ،‬أصحــاب القــوارب الذيــن يحــررون الحبــال أو يربطونهــا‬
‫«ســألون وشــاحي باألحمــر»‪ ،‬رمبــا يلمحنــي‬‫ِّ‬ ‫وهــم ينفجــرون بأغنيــة‬
‫هــؤالء جميعـاً بشــكل خاطــف فيغــدون مرتبكــن ويلــوذون بالصمــت‪.‬‬
‫بعضهــم‪ ،‬أولئــك الذيــن يفخــرون بكونهــم مــن ذريــة أفضــل قليـاً‪ ،‬قــد‬
‫يعــ ّدون يل كأســاً مــن شــاي ناماســكارا‪.‬‬
‫ال أســتطيع أن أروي متــى وكيــف خطــرت ببــايل فكــرة تقديــم‬
‫التعليــم ألطفــال هــؤالء النــاس‪ .‬لكــن‪ ،‬مــن دون إجــراء استشــارات‬

‫‪215‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫النتخــاب شــخص يتــوىل التحضــرات‪ ،‬ومــن دون أي اختيــار لعنــارص‬


‫لجنــة منتخبــة‪ ،‬ومــن دون تشــكيل أيــة منظمــة والســعي ألجــل‬
‫تربعــات‪ ،‬باختصــار‪ ،‬مــن دون ّأي مــن اإلجــراءات الرســمية املعتــادة‪،‬‬
‫تجمــع تالميــذي حــويل تحــت الظــال الســميكة لشــجرة تــن‪ ،‬ومل أكــن‬
‫قــادراً بالــكاد أن أخمــن موقــف الجديــة املفــرض باملعلــم‪.‬‬
‫ثــم‪ ،‬كيــف يل أن أروي لكــم مــدى جوعهــم للتعلــم! لبــس بعضهــم‬
‫زينــة يف اآلذان وأســاور يف املعاصــم‪ ،‬وبــدوا يف قمصانهــم املغســولة‬
‫ومآزرهــم املتســخة خليط ـاً متناف ـراً مــن أهــل املدينــة وأهــل القــرى‪.‬‬
‫بعضهــم يذكّــر املــرء بفزاعــة الحقــول وهــم يلبســون قمصانهــم‬
‫الواســعة التــي اســتعاروها مــن إخوتهــم األكــر منهــم‪ .‬بعضهــم اآلخــر‪،‬‬
‫ذوو األضــاع الناتئــة والبطــون املنتفخــة واألرجــل املحنيــة الضعيفــة‪،‬‬
‫كذريــة برشيــة فقــط باملعنــى اإلج ـرايئ وبأقــل قــدر‬ ‫ميكــن تعريفهــم ّ‬
‫مــن الشــبه‪ .‬عــى الوجــوه الســقيمة الجربــاء املثــرة للشــفقة لبعضهــم‪،‬‬
‫ويف عيونهــم الحــادة ذات الربيــق الباهــت‪ ،‬اجتمــع اإلهــال الــذي لحق‬
‫بأعامرهــم كلهــا‪ .‬لكــن‪ ،‬مــن بينهــم جميع ـاً‪ ،‬وحــده غيســا كان فريــداً‪،‬‬
‫وحتــى اليــوم‪ ،‬هــو الوحيــد الــذي يطــوف ببــايل‪.‬‬
‫ال أزال أذكــر ذلــك املســاء وتلــك الســاعة عندمــا أثــارت البق ـرات‬
‫العائــدات إىل الحظــرة غيمــة مــن الغبــار‪ .‬بــدا وكأن الليــل نــر بقعـاً من‬
‫الظــال عــى عبــاءة املغيــب املنبســطة التــي ســطعت باللــون األحمــر‬
‫والذهبــي‪ .‬كان ال ُنــو ّيت يحــدق إىل األمــواج مرتبــكاً قليــاً‪ .‬خادمتــي‬
‫الوفيــة العجــوز وهــي تضحــك عاليـاً‪ ،‬جمعــت كتبــي وأوراقــي وأقالمــي‬
‫وأغ ـرايض الشــخصية األخــرى‪ ،‬لكنهــا كانــت اآلن تتذمــر مــن الظلمــة‬
‫املجتمعــة أو منــي مــن دون أن أعــرف ذلــك بالضبــط‪ .‬هــذه املــرأة‬
‫بدأت‬
‫ـوال صابــرة عـيّ‪ ،‬وعــر خدمتهــا ْ‬ ‫الفقــرة أمضــت عــر ســنوات ِطـ ٍ‬

‫‪216‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫تكتســب نوعـاً مــن عالقــة امللكيــة بالنســبة يل‪ ،‬ولكــن ُّأي مكافــأة نالتهــا‬
‫عــى صربهــا عــى النتائــج غــر الســعيدة غالب ـاً ألهــوايئ؟ فجــأة امتــأ‬
‫قلبــي بعرفــان بالجميــل نحوهــا‪ .‬لكــن‪ ،‬عندمــا تحركــت قدمــاي باتجــاه‬
‫القــارب‪ ،‬رأيــت شــكل امــرأة يتقــدم نحــوي خارجـاً مــن عتمــة الغســق‬
‫فوقفــت مندهشـاً‪ .‬تدريجيـاً‪ ،‬أصبحــت شــفاهها الســوداء البــارزة مرئيــة‬
‫بوضــوح‪ .‬كانــت عيناهــا ذابلتــن لكنهــا مازالتــا مخضلتــن بــاألىس‪.‬‬
‫أوصالهــا املهلهلــة غطتهــا باحتشــام بـــ داهــويت ملــوث مصنــوع مــن‬
‫قــاش خشــن ال أثــر للزينــة عليــه‪ ،‬ومــع ذلــك‪ ،‬كان مثــة مســحة مــن‬
‫الحســن عــى جســدها‪ .‬كانــت تضــع يدهــا عــى كتــف صبــي ضعيــف‬ ‫ُ‬
‫نصــف عــار تشــبث بســاقيها‪ .‬مل أمتكــن مــن رؤيتــه جيــداً يف الشــفق‬
‫الداكــن‪.‬‬
‫ـت مــا‬ ‫مــا قالتــه املــرأة‪ ،‬متلعثمــة ببضــع كلــات وإميــاءات‪ ،‬فهمـ ُ‬
‫يــي‪ :‬إنهــا أرملــة تذهــب للعمــل يف طــاء بيــوت اآلخريــن‪ ،‬لذلــك فإنهــا‬
‫تــدع طفلهــا الوحيــد هــذا هامئ ـاً متجــوالً بــا رعايــة‪ .‬لــو أننــي أســمح‬
‫لــه بالجلــوس مــع األطفــال اآلخريــن‪ ،‬فرمبــا يتعلــم شــيئاً‪ .‬يف يــوم األحــد‬
‫التــايل‪ ،‬رأيتــه جالســاً وحيــداً وراء اآلخريــن مشــيحاً بناظريــه جانبــاً‪.‬‬
‫كانــت ســحنته ســمراء داكنــة وجســمه مهله ـاً‪ ،‬وبــدا وجهــه املتعــب‬
‫وكأن العينــن الكليلتــن الباهتتــن ُحفرتــا فيــه حفــراً‪ .‬قــوة شــفتيه‬
‫الدقيقتــن املغلقتــن بإحــكام وشــعر ُه األشــعث العــايص املنتصــب عــى‬
‫رأســه عاكَســتا محيــاه الرقيــق الصــايف الخجــول‪ .‬ذراعــاه النحيلتــان‬
‫حملهــا كتفــان متدليــان ينتهيــان بيديــن أظافرهــا مقصوصة بخشــونة‬
‫وراحتاهــا قامتتــان‪ ،‬وتد ّلــت الذراعــان مــن عظــام كتفيــه الناتئــة مثــل‬
‫ذراعــن زائغتــن ملمثــل يلعــب دور فيشــنو يف مرسحيــة‪ .‬القدمــان‬
‫فحســب اللتــان تحمــان جســده الســليك بدتــا متينتــن بشــكل غــر‬

‫‪217‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫عــادي‪ ،‬وذلــك بســبب جريــه املتواصــل‪ .‬ولكــن‪ ،‬كفــى ذلــك كان غيســا‪.‬‬
‫كان مثــة شــعرية مــا‪ ،‬ال يف اســمه وال يف شــكله‪.‬‬
‫ومــع كل ذلــك‪ ،‬كانــت مثــة لهفــة مــا يف عينيــه الباحثتــن‪ ،‬ومــن‬
‫الصعــب وصــف ذلــك! نظرتــه املنتبهــة بقيــت مســتقرة عــى وجهــي‬
‫مثــل تحديــق ســاعة الزمــن ال تلــن‪ ،‬كــا لــو أن غايــة حياتــه كانــت أن‬
‫ينهــل كل علمــي ومعرفتــي‪.‬‬
‫نــأى األوالد اآلخــرون بأنفســهم دومــاً عــن غيســا‪ .‬مل يكــن ذلــك‬
‫النســاج الدنيــا‪ ،‬بــل عــى األخــص ألن‬
‫ملجــرد أنــه مــن أبنــاء طبقــة ّ‬
‫أمهاتهــم أو جداتهــم أو عامتهــم أو قريباتهــم مــن النســوة اليقظــات‬
‫ـن يف أذهانهــم وش ـ ّدوهم مــن آذانهــم موضحــن لهــم الــرورة‬ ‫طَ َب ْعـ َ‬
‫امللحــة والعاجلــة للبقــاء بعيــداً عــن غيســا‪ .‬وأكــدت النســوة مـراراً هــذا‬
‫األمــر‪ ،‬وكذلــك أيضـاً عــى الغمــوض الــذي يحيــط باســم غيســا‪ ،‬وهــذا‬
‫أفظــع يشء‪ .‬مل يكــن لــه أب حتــى قبــل والدتــه‪ .‬وألنــه مل يكــن لــه‬
‫أب يرعــاه يف البيــت‪ ،‬كانــت والدتــه تأخــذه معهــا فيتشــبث بهــا مثــل‬
‫صغــار القــردة‪ .‬كانــت تضعــه جانب ـاً بينــا تــرع يف عملهــا‪ ،‬وهكــذا‬
‫كان يــدب خلفهــا ويجــر بطنــه‪ .‬واكتســب الطفــل منــذ خـرات حياتــه‬
‫الباكــرة ذلــك االســم املالئــم لــه‪ .‬غيســا‪ ..‬الزاحــف‪.‬‬
‫أكــر مــن ذلــك‪ ،‬بــدأت النســاء األخريــات‪ ،‬أثنــاء توقفهــن يف مجيئهن‬
‫وذهابهــن‪ُ ،‬يطلعننــي بالتدريــج عــى الخــزي الــذي يلــف والدة غيســا‬
‫مســتخدمات رضوب التلميــح واإلميــاءات الفضوليــة كافــة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫وحياتــه‬
‫لكننــي‪ ،‬وبطريقــة معاكســة آلمالهــن‪ ،‬فقــدت تدريجي ـاً االهتــام مبــا‬
‫يخربننــي بــه ســوى اســمه‪.‬‬
‫أبي ـاً ميــور‬
‫كان والــده‪ ،‬باع ـراف الجميــع‪ ،‬مجــرد حائــك لكنــه كان ّ‬
‫بالنشــاط والحيويــة وطامحــاً إىل تحســن أوضاعــه‪ .‬هجــر عملــه يف‬

‫‪218‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫صناعــة الســال ومــا شــابه ذلــك‪ ،‬وارتقــى إىل معرفــة القليــل يف مهنــة‬
‫النجــارة‪ .‬ليــس فقــط أنــه ذات يــوم تــزوج فتــاة شــابة مــن قريــة أخــرى‪،‬‬
‫وبذلــك مل يخيــب آمــال الصبايــا الجميــات مــن أبنــاء طبقتــه وقريتــه‬
‫فحســب‪ ،‬بــل حطــم أيض ـاً آمــال أمهاتهــن وآبائهــن‪ .‬كان ذلــك أقــى‬
‫ـن العقــاب‬ ‫مــا ميكــن فعلــه مــن قبــل رجــل يك يوصــف باالنحـراف‪ .‬لكـ ّ‬
‫اإللهــي عــى هــذه الخطايــا كان معروفـاً جيــداً‪ .‬رمبــا‪ ،‬أيضـاً‪ ،‬أنــه أصبــح‬
‫أقــل جــرأة ونشــاطاً‪ ،‬ألنــه بعــد أن يصنــع األبــواب وإطاراتهــا لبيــوت‬
‫القريــة‪ ،‬أو بعــد أن ينهــي طــاء بيــوت أبنــاء الطبقــة العليــا‪ ،‬كان يلتمس‬
‫الذرائــع للتكاســل‪ .‬لكــن‪ ،‬فجــأة‪ ،‬مل تعــذره الكولـرا وطلبتــه للمجــيء إىل‬
‫ذلــك املــكان حيــث ال حاجــة إىل أعــذار أو حجــج للذهــاب‪ ،‬مــكان ال‬
‫يتصــوره ذكاؤه أو كربيــاؤه‪.‬‬
‫إبــاء منــه‪ .‬أراد عــدد مــن الحائكــن‬ ‫لكــن زوجتــه مل تكــن أقــل ً‬
‫الع ـ ّزاب‪ ،‬رغبــة منهــم يف املســاعدة‪ ،‬أن يأخــذ عــى عاتقــه‬ ‫األرامــل أو ُ‬
‫بــد‬
‫مســؤولية قيــادة قــارب حياتهــا إىل الشــاطئ اآلخــر‪ .‬لكنهــا‪ ،‬مل ُت ِ‬
‫لهــم رفضـاً رقيقـاً لطيفـاً‪ ،‬بــل عــى العكــس رفضـاً قويـاً الذعـاً وعنيفـاً‪.‬‬
‫قالــت‪« :‬كيــف يل أن أصبــح زوجــة ابــن آوى وأنــا كنــت زوجــة أســد؟»‪.‬‬
‫وعندمــا ذرفــت دمــوع الفجيعــة بصمــت‪ ،‬مرخيــة شــعرها ومهشــمة‬
‫خالخيلهــا الزجاجيــة والبســة داهــويت غــر مزخــرف الحــوايش‪ ،‬بــدأت‬
‫تتخــذ وضعيــة أرملــة ذات محتــد عريــق؛ عندهــا متام ـاً‪ ،‬بــدأ مجتمــع‬
‫ـاف عــى محيــط مــن الفــزع‪ .‬ويف أوج‬ ‫القريــة بأكملــه يأكلــه قلــق طـ ٍ‬
‫ذلــك‪ ،‬ولــد غيســا بعــد مــوت أبيــه‪ .‬يف الحقيقــة‪ ،‬كانــت والدتــه بعــد‬
‫ســتة أشــهر مــن الوفــاة‪ .‬ولكــن‪ ،‬يف هــذه الفســحة الزمنيــة‪ّ ،‬أي كالم‬
‫لــن يقولــه النــاس الجاهلــون‪ ،‬النــاس الذيــن تعــادل الدقيقــة عندهــم‬
‫عامـاً أحيانـاً والعــام يتــاىش يف دقيقــة أحيانـاً أخــرى! لذلــك‪ ،‬إذا امتــدت‬

‫‪219‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫الشــهور الســتة كاملطــاط ووصلــت إىل مقــدار ســنة‪ ،‬عندهــا كيــف لنــا‬
‫أن نلــوم هــؤالء القرويــن؟‬
‫ويــت القصــة مــراراً مــع كثــر مــن اإلضافــات بغيــة التأثــر يف‬ ‫ُر ْ‬
‫عقــي‪ .‬لكــن عنايــة إلهيــة جعلــت قلبــي ال مييــل إىل رواتهــا بــل إىل‬
‫بطلهــا‪ ،‬لذلــك أصبــح غيســا أقــرب إىل نفــي‪ .‬رمبــا مل يتوصــل أبــداً لفهــم‬
‫ســوء الســمعة املتصــل بحياتــه‪ ،‬وعــى أيــة حــال‪ ،‬مل يكــن لذلــك أي أثــر‬
‫عليــه‪ .‬رمبــا كان محمي ـاً إىل حــد مــا بحقيقــة أنــه مل ي ـ َد ْع حتــى ظلــه‬
‫يالمــس أي شــخص كــا لــو أنــه يحمــل مرض ـاً معدي ـاً‪.‬‬
‫مل يكــن أحــد مبثــل ذكائــه‪ ،‬ســواء يف إحساســه الجــاد والعميــق‬
‫مبســؤولية متابعــة عملــه الصغــر أو يف دراســته أو يف كونــه األول يف‬
‫الفهــم أو يف انتباهــه لتوقيــت التحضــرات والطريقــة التــي مل يــدع‬
‫يوم ـاً بقعــة حــر تســقط عــى كتابــه ومحافظتــه عــى نظافــة ســجله‪.‬‬
‫لــكل هــذه األســباب‪ ،‬اعتــدت أن أفكــر أحيانـاً وأن أرغــب يف اســتجدائه‬
‫مــن والدتــه يك يبقــى معــي وأعــد لــه بعــض الرتتيبــات املمتــازة فيــا‬
‫يخــص تعليمــه وتربيتــه‪ ،‬لكننــي رفضــت الفكــرة طاملــا أنــه كان الســلوى‬
‫تصحــر منــزل‬‫الوحيــدة لألرملــة الجليلــة املهملــة‪ .‬إنهــا لــن تقبــل أن ّ‬
‫زوجهــا‪ ،‬كنــت أعــرف هــذا متامــاً‪ .‬ثــم‪ ،‬كــم ســتصبح حياتهــا خاويــة‬
‫مــن دون طفلهــا إذا مــا ظــل معــي ال يفارقنــي‪ .‬أكــر مــن ذلــك‪ ،‬عندمــا‬
‫كنــت أرى مــدى إخــاص غيســا ذي الســنوات التســع يل –وأنــا مجــرد‬
‫ـرق الشــك إىل نفــي حــول مقــدار التعلــق والحــب الــذي‬ ‫أســتاذه– مل يـ َ‬
‫يكنــه لوالدتــه‪ .‬وهكــذا‪ ،‬بقــي غيســا يف ذلــك املــكان‪ ،‬يف تلــك الظــروف‬
‫القاســية التــي وضعــه القــدر فيهــا‪.‬‬
‫يف كل يــوم ســبت‪ ،‬اعتــاد غيســا أن يطيل بيديه الصغريتــن الضعيفتني‬
‫املســاحة الظليلــة تحــت شــجرة التــن مســتخدماً مزيج ـاً مــن الغضــار‬

‫‪220‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫وروث البقــر يك يجعــل املــكان مســتوياً أملــس‪ .‬بعدهــا‪ ،‬يف يــوم األحــد‪،‬‬
‫وحاملــا تذهــب والدتــه إىل العمــل‪ ،‬وبعــد أن ينظــف ويكنــس ألكــر‬
‫مــن مــرة الســاحة الظليلــة تحــت شــجرة التــن‪ ،‬يذهــب إىل ضفــة نهــر‬
‫الغانــج ويجلــس هنــاك متأبط ـاً كــرة خبــز يابســة مطويــة يف قطعــة‬
‫قــاش ممزقــة وســخة مــع بعــض امللــح أو الحبــوب املجففــة وحفنــة‬
‫مــن الســكر الخــام ومظ ِّلـ ًا عينيــه الشــاحبتني‪ ،‬لكــن املتلهفتــن‪ ،‬بيديــه‬
‫النحيفتــن الســوداوين‪ ،‬ثــم يحــدق بعيــداً يف املســافة‪ .‬مــا إن يلمــح‬
‫قــاريب األزرق واألبيــض حتــى يطــر كالســهم عــى ســاقيه الهزيلتــن‬
‫منادي ـاً زمــاءه جميع ـاً‪ ،‬وصارخ ـاً «غــورو صاحــب(‪ ،)33‬غــورو صاحــب»‪،‬‬
‫ثــم يتجــه إىل الشــجرة غــر عــارف كــم مــرة ســيعيد تنظيــف وكنــس‬
‫األرض قبــل أن أصــل فعليـاً‪ .‬يأخــذ اللــوح الخشــبي الصغــر مــن غصــن‬
‫متــدل‪ ،‬ميســحه ويضعــه عــى األرض‪ .‬بعدهــا‪ ،‬يتنــاول مــن تجويــف يف‬
‫الشــجرة علبــة الحــر الفارغــة املصنوعــة مــن زجــاج غــر مصقــول مــع‬
‫ريشــة الكتابــة الخـراء الزرقــاء‪ ،‬املهلهلــة ذات الــرأس املقطــوع والتــي‬
‫مل أســتخدمها أبــداً‪ ،‬ويضــع الجميــع يف املــكان املالئــم‪ ،‬وبعــد كل ذلــك‪،‬‬
‫يتقــدم العريــف الطريــف والتلميــذ الفريــد يف هــذه املدرســة الطريفــة‬
‫مرحب ـاً يب يف أحســن اســتقبال‪.‬‬
‫كنــت أمــي هنــاك أربعــة أيــام فقــط يف الشــهر‪ ،‬وأحيانـاً أقــل مــن‬
‫ذلــك بســبب أعبــاء العمــل يف موطنــي‪ ،‬لكــن حتــى خــال هــذه املــدة‬
‫ـت‬
‫القصــرة مــن األيــام التــي ال تعـ ُّـد أكــر منهــا عــى أصابعــك‪ ،‬حققـ ُ‬
‫فهــ ًا عميقــاً لقلــب هــذا الصبــي الــذي بــدا النهــايئ العذوبــة مثــل‬
‫ألبــوم مــن الصــور‪.‬‬
‫(‪ :guru )33‬املع ِّلم أو املرشــد الروحي‪ Sahib ،‬لقب مبعنى «س ّيد» يخاطب به الهنود عادة األوروبيني واألجانب (أو‬
‫أبناء البلد) ذوي املكانة االجتامعية أو الرسمية‪ ،‬والكلمة أصلها عريب‪( .‬م)‬

‫‪221‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ارتكبــت حامقــة محــددة إذ‬‫ُ‬ ‫ال أزال أذكــر ذلــك اليــوم‪ ،‬عندمــا‬
‫رشحــت وأكــدت لهــؤالء األطفــال الفق ـراء أهميــة النظافــة‪ ،‬مــن دون‬
‫أن آخــذ باالعتبــار نــدرة املالبــس عندهــم‪ .‬يف يــوم األحــد التــايل كان‬
‫الجميــع حارضيــن‪ ،‬بطريقــة أو بأخــرى‪ ،‬لكــن بعضهــم‪ ،‬غمــروا رؤوســهم‬
‫يف ميــاه الغانــج بطريقــة جعلــت األوســاخ تــذوب جزئيــاً وتشــكل‬
‫خطوطــاً ثخينــة واضحــة عــى وجوههــم‪ ،‬وآخــرون فركــوا أيديهــم‬
‫وأرجلهــم بالطريقــة ذاتهــا حتــى أصبحــت نظيفــة ومــن ثــم بــدت‬
‫كأنهــا مفصولــة عــن باقــي أجســادهم املتســخة‪ ،‬والبعــض أيضـاً‪ ،‬عمـ ًا‬
‫باملثــل الســائر«ال ميكنــك أن تجعــل الخيــزران يغنــي إذا مل يكــن هنــاك‬
‫خيــزران»‪ ،‬تركــوا أســالهم الباليــة وقمصانهــم امللطخــة بالوســخ يف‬
‫البيــت وقدمــوا إىل الصــف أشــبه بهيــاكل عظميــة حتــى إنــه ميكنــك‬
‫القــول عــن نســمة الحيــاة فيهــم‪« :‬إنهــا بالــكاد موجــودة‪ ،‬فــا الغريــب‬
‫ـن غيســا كان غائب ـاً‪ .‬عنــد ســؤايل عنــه‪ ،‬ارتبــك األوالد‬
‫إذا تالشــت؟» لكـ ّ‬
‫وبــدأ بعضهــم يهمــس للبعــض اآلخــر بســبب الغيــاب وأصبحــوا قلقــن‬
‫مــن إخبــاري بالســبب‪ .‬تــردد إىل ســمعي أنــه منــذ الــدرس الســابق‬
‫طلــب غيســا مــن والدتــه صابون ـاً يك يغســل مالبســه‪ ،‬لكــن يف ذلــك‬
‫الحــن مل تكــن والدتــه قــد حصلــت عــى أجرتهــا ولــن يبيعهــا الســاّ ن‬
‫صابونـاً بال َّديــن‪ .‬لكنهــا أخـراً‪ ،‬حصلــت عــى أجرهــا يف الليلــة البارحــة‪،‬‬
‫وعنــد الفجــر ذهبــت متجاهلــة عملهــا يك تشــري الصابــون يف الحــال‪.‬‬
‫ـت كان غيســا يغســل مالبســه‪ ،‬ألن غــورو صاحــب قــال‬ ‫وبعــد أن رجعـ ْ‬
‫إن عــى املــرء أن يســتحم ويغتســل ثــم يــأيت مرتدي ـاً مالبــس نظيفــة‪.‬‬
‫ولكــن ُّأي مالبــس كانــت لذلــك الطفــل العاثــر الحــظ! قميــص قديــم‬
‫ذهــب نصــف كمــه تص ـ ّدق بــه شــخص محســن‪ ،‬ووشــاح مثــل خرقــة‬
‫ممزقــة‪ .‬عندمــا وصــل غيســا بعــد أن اســتحم‪ ،‬ووقــف أمامــي يف هيئــة‬

‫‪222‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫تلميــذ متأخــر عــن درســه‪ ،‬البسـاً قميصـاً غــر جــاف ووشــاحه املثنــي‪،‬‬
‫ـي وتوهــج جســدي كلــه بالشــفقة‪ .‬يف تلــك اللحظــة‪،‬‬ ‫رطّ ــب الدمــع عينـ َّ‬
‫فهمــت كيــف أن درونــا‪ ،‬املعلــم رامــي الســهام‪ ،‬كان قــادراً عــى أن‬
‫يســتحث تابعــه يك يضحــي بإصبــع إبهامــه‪.‬‬
‫يف أحــد األيــام‪ ،‬ال أعــرف ملــاذا قمــت بذلــك‪ ،‬أحــرت معــي عــرة‬
‫أرطــال أو أحــد عــر رطـ ًا مــن حلــوى جاليبــي لتالميــذي‪ .‬لكــن لســبب‬
‫أو آلخــر‪ ،‬مل يذهــب أكــر مــن خمــس قطــع لــكل صبــي‪ ،‬رمبــا ذلــك عائــد‬
‫إىل أمانــة التاجــر الــذي وزنهــا أو عــدم انتبــاه الزبــون الــذي وزنــت لــه‬
‫أو ألن أحدهــم انتهــز الفرصــة مســبقاً وانتــزع بعضـاً منهــا عنــد وصولهــا‪.‬‬
‫انتحــب أحــد األوالد «لقــد حصلــت عــى أقــل مــن اآلخريــن»‪ ،‬وأخــرين‬
‫آخــر‪« :‬لقــد أخــذ أحدهــم حصتــي»‪ ،‬وأراد ثالــث املزيــد مــن أجــل أخيــه‬
‫الصغــر النائــم يف البيــت‪ ،‬ورابــع كان ســعيداً بتذكــره عــذراً آخــر لطلــب‬
‫املزيــد‪ .‬لكــن مــن بــن هــذا الحشــد الصاخــب‪ ،‬حيــث أخــذ كل واحــد‬
‫حصتــه‪ ،‬إىل أيــن انزلــق غيســا؟ مل يتجــرأ أحــد عــى إخبــاري‪ .‬ســمعت أحــد‬
‫األوالد الخبثــاء يهمــس لزميلــه‪« :‬إن ابــن الـــ‪ ..‬لديــه جــرو‪ .‬البــد أنــه ذهب‬
‫ـي املرفوعــن توقــف عــن املتابعــة‪.‬‬ ‫يك يطعمــه‪ ،»..‬لكنــه عندمــا رأى حاجبـ ّ‬
‫يف تلــك اللحظــة رجــع غيســا‪ .‬ســجلت كل تربيراتــه‪ ،‬لقــد وضــع قطعتــن‬
‫مــن حصتــه يف املنديــل الــذي اعتــاد أن يعــر فيــه مــاء الــرب وخبــأه يف‬
‫الســقيفة مــن أجــل والدتــه‪ ،‬وأطعــم قطعــة للجــرو وأكل قطعتــن‪ .‬ســألته‬
‫إن كان يريــد املزيــد‪ ،‬لكنــه خفــض عينيــه الباهتتــن وارتجفــت شــفتاه‬
‫قلي ـاً‪ .‬بــدا كأنــه يقــول‪ :‬إنــه أعطــى قطعــة واحــدة فقــط للجــرو‪ ..‬لعــلّ‬
‫غــورو صاحــب يعطينــي قطعــة أخــرى‪ ،‬فقــط ألجــل الجــرو‪..‬‬
‫وتركــت حادثــة عرضيــة قبــل االحتفــال املقــدس آثارهــا التــي‬ ‫ْ‬
‫ال متحــى بســهولة مــن ذهنــي‪ .‬يف تلــك األيــام‪ ،‬كان التوتــر بــن املســلمني‬

‫‪223‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫والهنــدوس يشــتد تدريجيــاً وبــدا أنــه يومــاً مــا ســيصل إىل ذروتــه‪.‬‬
‫كان غيســا يســتلقي مريض ـاً بالحمــى منــذ أســبوعني‪ ،‬أرســلت لــه دواء‬
‫لكننــي مل أمتكــن مــن ترتيــب أي عنايــة متريضيــة جيــدة لــه‪ .‬جلســت‬
‫والدتــه بنفســها يف البيــت ملــدة ثالثــة أو أربعــة أيــام‪ ،‬لكــن كان عليهــا‬
‫أحــرت لــه امــرأة عجــوزاً رضيــرة‬‫ْ‬ ‫أن تذهــب إىل العمــل‪ ،‬لذلــك‬
‫للجلــوس بقربــه‪.‬‬
‫و ّدعــت تالميــذي كاملعتــاد مســاء يــوم األحــد وذهبــت لرؤيــة‬
‫غيســا‪ ،‬لكننــي مل أبتعــد خمســن خطــوة عــن شــجرة التــن حتــى كاد‬
‫قلبــي ينفطــر حزن ـاً عندمــا رأيتــه ميــي متع ـراً صــويب‪ ،‬يطفــر ســاحباً‬
‫خطواتــه املتثاقلــة‪ .‬خمســة عــر يومـاً مل يقـ َـو عــى االســتيقاظ‪ ،‬لذلــك‬
‫توقعــت أنــه اآلن يهــذي‪ .‬مثــل ضــوء ســاطع‪ ،‬كانــت رجفــة مــن الهيــاج‬
‫تعــر جســده الناشــف‪ ،‬وعينــاه كانتــا أكــر بريق ـاً وبــدا وجهــه مثــل‬
‫قطعــة مــن الحديــد احمــرت ببــطء يف لهيــب كــر الحــداد‪ .‬ورغــم أنــه‬
‫كان يلهــث يف تنفســه فقــد تدبــر أمــر الحكايــة التــي تثقــل عــى ذهنــه‪.‬‬
‫لقــد نهــض مــن فراشــه بســبب العطــش لكنــه مل يجــد مــاء قريبـاً منــه‪،‬‬
‫ومبــا أنــه مل يهتـ ِـد إىل طريقــة لطيفــة يك يلفــت انتبــاه املــرأة الرضيــرة‬
‫روض نفســه عــى تحمــل املشــقة‪.‬‬ ‫التــي كانــت تتلــو صلواتهــا‪ ،‬فقــد ّ‬
‫خــال ذلــك‪ ،‬أخــر العــم مولــو‪ ،‬الــذي وقــف يف مدخــل البيــت‪ ،‬العجــو َز‬
‫الرضيــرة أن شــغباً يحــدث يف املدينــة‪ ،‬عندهــا قفــز غــورو صاحــب‬
‫فجــأة إىل ذهــن غيســا‪ .‬نهــض مــن فراشــه بهــدوء شــديد يك ال تســمع‬
‫املــرأة الرضيــرة شــيئاً‪ .‬وحاملــا غــادر العــم مولــو البــاب‪ ،‬تســلل غيســا يف‬
‫هــذا االتجــاه مســنداً نفســه عــى األشــجار تــارة وعــى الجــدران تــارة‬
‫أخــرى‪ .‬اآلن ســيبقى هنــا متشــبثاً بأقــدام غــورو صاحــب الــذي ينبغــي‬
‫عليــه أال يعــر النهــر تحــت أي ظــروف كانــت‪.‬‬

‫‪224‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫ســبب هــذا الوضــع مشــكلة معقــدة جــداً‪ .‬كان مــن الــروري‬ ‫ّ‬
‫بالنســبة يل أن أعــود إىل الضفــة األخــرى‪ ،‬لكــن اآلن‪ ،‬إىل جانــب ذلــك‪،‬‬
‫كان عــي أن أقــدم تفسـراً ما إىل غيســا املريــض بحيث ال تتفاقــم حالته‪.‬‬
‫الجيشــان مــن اإللحــاح‬‫مل يســبق أن ظهــر أبــداً مــن قبــل مثــلُ هــذا َ‬
‫والعــزم والتصميــم لــدى غيســا الــذي اعتــاد عــى الطاعــة والتحفــظ‬
‫والخنــوع‪ .‬يف العــام الســابق‪ ،‬ويف ظــرف مشــابه‪ ،‬شــاهد غيســا اثنــن‬
‫مــن املالحــن جراحهــا خطــرة‪ .‬اآلن رمبــا كان دماغــه الــذي أشــعلته‬
‫الحمــى يلتهــب بألــوان تلــك الصــور الذهبيــة الباكــرة وذلــك يجعــل‬
‫تلــك الحالــة املعقــدة أكــر صعوبــة‪ .‬ولكــن‪ ،‬يف محاولتــي املتكــررة يك‬
‫ـت فجــأة عــى وتــر حســاس وكان صوتــه أيض ـاً‬ ‫أرشح لــه األمــر‪ ،‬رضبـ ُ‬
‫جديــداً بالنســبة يل‪ .‬حاملــا ســمع غيســا أن هنــاك عــدداً مــن التالميــذ‬
‫ينتظروننــي وقــد قدمــوا مــن مســافة بعيــدة بالقطــار‪ ،‬أولئــك الذيــن‬
‫ال ميتلكــون ســوى فرصــة واحــدة يف العــام لرؤيــة أمهاتهــم‪ ،‬والذيــن‬
‫ســيكونون وحيديــن وحيــارى إذا مل أذهــب إليهــم‪ ،‬عندهــا كل عنــاد‬
‫غيســا وكل معارضتــه تالشــت وكأنهــا مل توجــد قــط‪ .‬ثــم مــن ميتلــك‬
‫قابليــة للفهــم مســاوية ملــا عنــد غيســا؟ أولئــك الذيــن ال يســتطيعون‬
‫ـاء‪ ،‬يجــب عــى غــورو صاحــب أن يكــون معهــم‪ .‬لــن‬ ‫رؤيــة أمهاتهــم مسـ ً‬
‫يدعــه غيســا ميكــث أكــر خشــية أن يغضــب اللــه منــه‪ ،‬إذ يـراه متجــوالً‬
‫وحيــداً عابثـاً‪ ،‬لقــد طلــب مــن غــورو صاحــب الذهــاب‪ ..‬وهكــذا مــى‪.‬‬
‫وإىل اليــوم‪ ،‬عندمــا أتذكــر تلــك النقاشــات‪ ،‬قلبــي ينفطــر‪ .‬لكــن مقــدار‬
‫الذهــول يف روحــي كان أعظــم‪ ،‬عندمــا أخــذت غيســا إىل بيتــه يف ذلــك‬
‫اليــوم وجعلتــه يســتلقي يف رسيــره الصغــر املتكــر‪ ،‬هــو الــذي قــدم يك‬
‫ينقــذين مــن املتاعــب ســاحباً جســده املنهــار امللتهــب بالحمــى‪.‬‬
‫تعــاىف غيســا مــن مرضــه تدريجي ـاً‪ ،‬ثــم بــدأ رصاعــه اليومــي مــع‬

‫‪225‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫هــواء الصيــف الحــار‪ .‬يحــزم األوراق املغــرة الجافــة ويطــوف كأنــه‬


‫مجنــون‪ ،‬لقــد بــدأت تعــذب الصبــي الحائــر‪ .‬غرفــة املدرســة تلــك‪ ،‬التــي‬
‫كنســها مـراراً وتكـراراً‪ ،‬ســتملؤها الريــح مــن جديــد بالغبــار واألوســاخ‪.‬‬
‫ســتلف الريــح نفســها بخــار مــن األوراق الزرقــاء والصف ـراء وأحيان ـاً‬
‫الخ ـراء‪ ،‬ثــم تشــبكها مــع بقايــا هيــاكل األغصــان التــي تشــتيك إىل‬
‫األوراق الجافــة التــي تنــوح مــن حــرارة الريــح الالذعــة‪ .‬بعــد ذلــك‪،‬‬
‫قــررت أن أبقــى هنــاك منــذ مــا بعــد الظهــرة وحتــى طلــوع الفجــر‪،‬‬
‫لكننــي علمــت أن غيســا‪ ،‬الــذي يفــرك ويحــك عينيــه وينظــف الغبــار‬
‫عــن كتابــه‪ ،‬ســيمكث هنــاك اليــوم كلــه كــا لــو أنــه ناســك براهمــي‬
‫جــوال مــن العصــور القدميــة‪ ،‬تقشــفه وزهــده يهــزم الهبــات الحــارة‬
‫لريــاح ال َّلــو املوســمية‪.‬‬
‫ـن‪ ،‬مثــل ولــد يعــدو نحــو هدفــه‪ ،‬رسعــان مــا‬ ‫ثــم مــرت األيــام‪ ،‬والزمـ ُ‬
‫أشــار بإصبعــه إىل اليــوم الــذي كان عــي أن أغــادر فيــه هــؤالء النــاس‪،‬‬
‫فأصبــح قلبــي مثق ـ ًا بالهمــوم‪ .‬كان بعــض األطفــال حزين ـاً وبعضهــم‬
‫اآلخــر ســعيداً يك يحصــل عــى عطلــة للعــب‪ .‬أراد بعضهــم أن يعــرف إن‬
‫كان عليهــم أن يعــدوا أيــام العطلــة بإضافــة نقطــة مــن محلــول الكلــس‬
‫عــى الجــدار كل يــوم أم بواســطة قطــع مــن الفحــم‪ .‬تســاءل بعضهــم‬
‫عــن كيفيــة حفــظ دفاترهــم جافــة خــال هطــول املطــر‪ ،‬حيــث بيوتهــم‬
‫ســتبدأ بالرشــح حتـاً‪ .‬وأراد بعضهــم حـ ًا ملشــكلة الفرئان التي ســتقرض‬
‫أوراقهــم‪ .‬اعتــر غيســا أن ال فــرق بــن مكوثــه أو بقائــه وســط هــذا‬
‫الصخــب والضجيــج‪ ،‬لــذا يف ذلــك اليــوم‪ ،‬كــا كان يحــدث غالب ـاً مــن‬
‫قبــل‪ ،‬مل أســتطع تدبــر أمــر رؤيتــه‪ .‬عندمــا غــادرت املــكان قلق ـاً جــداً‪،‬‬
‫كان قلبــي يرتجــف مــن الخفقــان وغشــاو ٌة ُتع ّتــم بالتدريــج رؤيتــي‪ .‬يف‬
‫تلــك األيــام‪ ،‬بــدأ األطبــاء يتوقعــون إصابتــي بقرحــة معديــة وحاجتــي‬

‫‪226‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫إلجـراء عمليــة جراحيــة‪ .‬بقيــت أتســاءل إن كنــت سأســتطيع أن أعــود‬


‫إىل تلــك القريــة مــرة ثانيــة‪ .‬عندمــا نظــرت حــويل املــرة تلــو األخــرى‪،‬‬
‫اســتقرت عينــاي عــى تلــك املشــاهد املألوفــة التــي طاملــا واجهتهــا‪.‬‬
‫كانــت البيــوت الطينيــة تغــوص إىل أفاريزهــا يف الغبــار الــذي انبثــق‬
‫مــن الـراب مثــل تنهيــدة‪ .‬فقــط الســطوح املبنيــة مــن التــن املتعفــن أو‬
‫الفخــار الغضــاري أو القــش القاتــم‪ ،‬مــا تـزال باديــة مثــل قــوارب عتيقــة‬
‫أو حطــام طــاف عــى ميــاه الغانــج املرتفعــة‪.‬‬
‫حقــول البطيــخ املمتــدة بعيــداً يف األفــق فــوق الرتبــة الرمليــة‬
‫للســهل الغرينــي بــدت أشــبه بجــزر بدائيــة عامئــة عــى امليــاه ووســطها‬
‫أكــواخ الح ـراس الخشــبية وســياجها املصنــوع مــن القــش أو القصــب‪.‬‬
‫هنــا وهنــاك‪ ،‬توهجــت بضعــة مصابيــح‪ .‬فجــأة‪ ،‬رأيــت شــك ًال قامتــاً‬
‫صغــراً يقــرب صــويب مــن بعيــد‪ .‬يجــب بالتأكيــد أن يكــون غيســا‪.‬‬
‫عرفتــه رغــم بعــد املســافة‪ .‬ال ريــب أن قلبــه الصغــر‪ ،‬بــكل قدرتــه عــى‬
‫اإلحســاس‪ ،‬عــرف أن عليــه أن يقــول وداع ـاً لصديقــه غــورو صاحــب‪.‬‬
‫مل أشــك بذلــك‪ ،‬لكنــي مل أكــن أدرك بعــد الحــب الــريء الصــايف الــذي‬
‫حملــه قلــب الصبــي تجاهــي‪ ،‬وال عمــق الكــرب الــذي يشــعر بــه تجــاه‬
‫فراقنــا‪.‬‬
‫عندمــا اقــرب منــي‪ ،‬بــرز شــكله مقابــل الظــال الحالكــة للشــفق‬
‫مثــل حــر أســود عــى أوراق لوزيــة اللــون‪ .‬كان يحمــل بطيخــة كبــرة‬
‫بيديــه‪ .‬وكان جــزء منهــا قــد اقتطــع وبــدا لــون داخلهــا األحمــر املــريئ‬
‫متامــاً معاكســاً لقرشتهــا القامتــة مثــل عنقــود مــن أزهــار القرنفــل‬
‫الورديــة الناضجــة الالمعــة عــى أوراق خ ـراء غامقــة‪.‬‬
‫ال ميلــك غيســا حديقــة أو أي نقــود‪ .‬إذن كيــف‪ !..‬البــد أنــه رسقهــا!‬
‫ـت لحظــة لهــذا التوقــع‪ ،‬لكنــي رسعــان مــا أدركــت أن اللــه هــو‬ ‫أذعنـ ُ‬

‫‪227‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫الــذي أودع ذهــب الحيــاة الخالــص يف ذلــك الجســد املتســخ‪ .‬لقــد‬


‫اعتقــد غيســا أن الكــذب عــى غــورو صاحــب يرقــى إىل مرتبــة الكــذب‬
‫العظيــم‪ .‬لقــد لفتــت البطيخــة انتباهــه منــذ بضعة أيــام‪ ،‬وقــرر الذهاب‬
‫وحيــداً إىل الحقــل ألنــه ال يعلــم كــم ســتتأخر والدتــه عــن الرجــوع‬
‫ـي كان يراقــب قميــص‬ ‫إىل البيــت‪ .‬وجــد هنــاك ابــن مالــك الحقــل‪ ،‬صبـ ّ‬
‫غيســا الجديــد منــذ عــدة أيــام‪ .‬عندمــا كان غيســا يخــره القصــة‪ ،‬قــال‬
‫الولــد اآلخــر إنــه مــن الجنــون بالنســبة لــه أن يكــون الشــخص الجائــع‪،‬‬
‫الــذي يفــرض أن يشــبع مــن أكل مــا يرتكــه اآلخــرون‪ ،‬مخدومـاً بســعادة‬
‫مــن قبــل مــن هــم أفضــل منــه‪ .‬قــال الولــد‪« :‬إذا مل يكــن لديــك املــال‪،‬‬
‫فأعطنــي إذاً قميصــك»‪ .‬ورشح يل غيســا أنــه كان عليــه الحصــول عــى‬
‫البطيخــة يف ذلــك اليــوم ألنهــا لــن تكــون مفيــدة يف اليــوم التــايل‪ ،‬لذلــك‬
‫فقــد تخــى عــن القميــص‪ .‬وال ينبغــي لـــ غــورو صاحــب أن يقلــق‪ ،‬ألنــه‬
‫لــن يلبــس ذلــك القميــص يف الصيــف بأيــة حــال‪ ،‬ثــم إن قميصــه القديم‬
‫كان جيــداً مبــا يكفــي لالســتعامل اليومــي‪ .‬كان عليــه أيض ـاً أن يقتطــع‬
‫قس ـ ًا مــن البطيخــة يك يتأكــد مــن جودتهــا‪ ،‬وأن يجوفهــا بأصابعــه يك‬
‫يــرى مــدى حالوتهــا‪.‬‬
‫إذا مل يقبــل غــورو صاحــب ذلــك‪ ،‬عندهــا‪ ،‬غيســا ســيبيك الليــل كلــه‪،‬‬
‫بــل ســيبيك طــوال العطلــة‪ ،‬وإذا قبلهــا‪ ،‬عندهــا كل يــوم ســوف يســتحم‬
‫وينظــف ثيابــه‪ ،‬ويعيــد ويذاكــر دروســه التــي تعلمهــا مــن غــورو‬
‫صاحــب تحــت الشــجرة‪ ،‬وســوف ينســخ الكتــاب كلــه عــى دفــره‬
‫ويريــه ملعلمــه بعــد نهايــة العطلــة‪.‬‬
‫مســحت بيــدي عــى رأس هــذا الصبــي‪ ،‬الــذي جعلــه إخالصــه نقيـاً‬
‫واضح ـاً‪ ،‬وبقيــت بــا ح ـراك يف قبضــة مشــاعر قويــة‪ .‬ال أصــدق أن أي‬
‫معلــم تلقــى مــن تلميــذ مثــل هــذا اإلجــال الــذي توفــر يل عــى ضفــة‬

‫‪228‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫النهــر تلــك‪ ،‬وكل مــا تلقيتــه مــن هبــات وهدايــا تبــدو ضئيلــة بالنســبة‬
‫يل إذا قارنتهــا مــع ذلــك‪.‬‬
‫أعــددت بعــض الرتتيبــات الخاصــة ملعيشــة غيســا وغــادرت البيــت‬
‫ومكثــت عــدة شــهور قبــل أن أرجــع‪ .‬خــال تلــك املــدة مل أكــن قــادراً‬
‫عــى الحصــول عــى أخبــار جديــدة حــول غيســا‪ .‬ويف الوقــت الــذي‬
‫أصبــح بإمــكاين أن أجــد بعــض العافيــة للرجــوع إىل هنــاك مــرة ثانيــة‪،‬‬
‫أراح اللــه غيســا مــن الدراســة وإىل األبــد‪ .‬وإىل اليــوم‪ ،‬ال أملــك القــوة يك‬
‫أروي القصــة بكاملهــا‪ .‬رمبــا‪ ،‬عندمــا ينقلــب اليــوم إىل األمــس واألمــس‬
‫إىل أيــام كثــرة‪ ،‬وتتحــول األيــام إىل أشــهر واألشــهر إىل ســنوات‪ ،‬عندهــا‬
‫ســأكون قــادراً عــى أن أصــف النهايــة املهملــة لهــذه الحيــاة الصغــرة‬
‫ـت مــن تســليم كأننــي فيلســوف رواقــي‪ .‬أمــا اآلن‪ ،‬فــكل‬ ‫بــكل مــا أوتيـ ُ‬
‫شــبه لــه يف وجــوه صغــرة‬ ‫مــا أســتطيع فعلــه هــو أن أبحــث عــن َ‬
‫شــجية أخــرى‪.‬‬

‫ترجمها من اللغة األم (الهندية) إىل اإلنكليزية ‪ Sudha Chanola‬و‪Susan Tripp‬‬


‫٭٭٭‬

‫‪229‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫‪230‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫الثؤلول‬
‫و‪ .‬ف‪ .‬فيجايان‬
‫هــذه كانــت ذات مـ ّـرة حديقتــي‪ ،‬الحديقــة التــي توليتهــا بالرعايــة‪،‬‬
‫لكــن أعشــابها العمالقــة يف هــذه األيــام تق ّزمنــي‪ .‬هــا أنــا أجثــم مرتعــداً‬
‫املروعــة لعربــات العناكــب‪ ،‬منتظـراً الريــح‬ ‫وســطها أصغــي إىل الدمدمــة ّ‬
‫لتحملنــي عــى موجتهــا املســفوعة املليئــة بالغبــار وأوراق النبــات‪،‬‬
‫ـت‬‫وأتكلــم إليــك يــا أخــي يف األجيــال البعيــدة‪ .‬زمنــي يتــاىش‪ ،‬ارتكبـ ُ‬
‫ـي‪ ،‬ويجــب أن أك ِّفــر عــن ذلــك‪ .‬يجــب أن أب ِّلــغ‪..‬‬ ‫خطيئــة النبيــل والتقـ ّ‬
‫هــا أنــذا أعــود إىل قصــة الثؤلــول مدفوع ـاً يك أنظــر إمثــي مــن جديــد‪.‬‬
‫ُيعيقنــي إحســايس بالزمــان فــا أســتطيع اســتحضار أي قــدر مــن اليقــن‬
‫حــول البدايــة‪ ،‬ذلــك أن مــا أرويــه يف هــذه القصــة يحمــل حقيقــة‬
‫خالــدة تعــود إىل مــا وراء األزمنــة التــي نعرفهــا‪ .‬أتذكــر زوجتــي ســوما‬
‫وهــي تستكشــف الثؤلــول‪ ،‬الدقيــق مثــل بــذرة‪ ،‬تحــت شــفتي الســفىل‪.‬‬
‫وأتذكــر أيضـاً الطبيــب الجـ ّـراح الــذي قــال إنــه يســتطيع إزالتــه‪ ،‬وكيــف‬
‫ـت ذلــك ألن أبنــاء قومــي مل يحتاجــوا أبــداً للطــب الجراحــي‪ ،‬ألن‬ ‫رفضـ ُ‬
‫ِش ـ َف َاء ُه ْم يــأيت مــن ضفــاف األنهــار ومنحــدرات الجبــال التــي كشــف‬
‫الصحــة‬ ‫خصائصهــا الشــفائية القويــة لهــم َد ْن َف ْنتــاري الحكيــم‪ ،‬إلــه ِّ‬
‫والشــفاء‪ .‬لقــد وثقــت أجيــالٌ مــن أبنــاء قومــي بهــذا ال ـرايئ الحكيــم‪،‬‬

‫‪231‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ومل أســتطع أنــا أن أجــد ســبي ًال أخــرى يل أيضـاً‪ .‬هــذه كانــت خطيئتــي‪،‬‬
‫وقــد حــرت اآلن لحظــة اإلفضــاء‪..‬‬
‫٭٭٭‬

‫ـوس الحال َقـ ِـة جرحـاً يف‬‫أذكــر ذلــك الصبــاح عندمــا أحــدث نصــل ُمـ َ‬
‫ـبت ســوما أنــه شــامة‪ ،‬عالمــة عــى الحــظ‪،‬‬ ‫الثؤلــول ونــزف قلي ـاً‪ .‬حسـ ْ‬
‫وبــدا مثــراً لهــا عندمــا مننــا معــاً‪ .‬وبعــد عــ ّدة أيــام‪ ،‬ذات ليلــة يف‬
‫الف ـراش‪ ،‬ســألتني‪:‬‬
‫«هل تظن أن هذا ُمع ٍد؟»‬
‫«ال»‪ ،‬قلت لها «إنه مجرد ثؤلول»‪.‬‬
‫«كنت أتساءل»‪..‬‬
‫«إنني واثق أنه ليس كذلك»‪.‬‬
‫«لكن من األفضل إزالته‪ .‬يجب أن نخرب إيتشو مينون»‪.‬‬
‫ونســينا هــذا الحديــث‪ .‬إيتشــو مينــون هــو الطبيــب الجـراح الشــاب‬
‫الــذي تبعــد عيادتــه ســتة أميــال أو ســبعة‪ .‬يعيــش يف الجــوار عــى‬
‫ـلكت درب الهضبــة وحقــل األرز‪ ،‬لكــن املســافة تطــول‬ ‫ـل إذا سـ َ‬ ‫بعــد ميـ ٍ‬
‫ُعبــد‪ .‬كان باســتطاعتي املســر نحــو بيتــه لكننــي‬ ‫أكــر عــى الطريــق امل َّ‬
‫شــعرت بعــدم الرغبــة‪ .‬كنــت عــى ثقــة بــأن جســدي‪ ،‬ســليل األجيــال‬
‫النبيلــة‪ ،‬ســوف يســتعيد عافيتــه بربكــة األوراق والجــذور‪ .‬ففــي منــزيل‪،‬‬
‫مثــة ُحجــرة مثــل رسداب تحتــوي الكثــر مــن الحكمــة ُخطَّ ــت عــى‬
‫ســعف النخيــل؛ هنــاك‪ ،‬بحثــت يف أحــد األيــام عــن تريــاق يخلصنــي‬
‫مــن تلــك الندبــة الناميــة‪ ،‬ووجــدت إحــدى وصفــات َد ْن َف ْنتــاري الحكيم‪.‬‬
‫انطلقــت نحــو النهــر املجــاور حيــث املســاكب العشــبية الكثيفــة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫اقتلعــت األوراق والجــذور التــي أحتــاج إليهــا وأحرضتهــا إىل البيــت‪.‬‬

‫‪232‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫عندمــا رأت ســوما العجينــة الخ ـراء للــدواء فــوق الثؤلــول قالــت‬
‫تقصــه»‪.‬‬
‫«أفضــل لــو أنــك ّ‬
‫ّ‬
‫أون‪ ،‬ولــدي ذي الثامنيــة أعــوام الــذي بــدا‬‫وصــل كالمهــا إىل َسـ ْـمع ّ‬
‫قلقـاً‪ ،‬فجذبتــه إىل جانبــي‪.‬‬
‫تقصه»‪ ،‬قال‪.‬‬
‫«ال ّ‬
‫«مل تقول ذلك؟» سألته‪.‬‬
‫«ألنه سوف يؤذيك»‪.‬‬
‫«سنجرب هذه األدوية»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫«كام تريد»‪ .‬قلت وابتسمت‬
‫تومــض هــذه اللمــع مــن ذاكــريت بــا ســياق‪ ..‬اآلن تضخــم الثؤلــول‬
‫ومنــت قــرة متأللئــة حــول جــذره‪ .‬يف إحــدى الليــايل‪ ،‬وبينــا كنــا يف‬
‫الحظــت التأفــف والــرود يف اســتجابة ســوما‪ .‬بــدت ســوما‬ ‫ُ‬ ‫الفــراش‪،‬‬
‫املســتلقية بجانبــي مغمضــة العينــن وكأنهــا بعيــدة‪ .‬أخــرين خاطـ ٌـر مــا‬
‫أنهــا مل تكــن متــارس الحــب معــي بــل مــع ذايت األخــرى‪ ،‬تلــك التــي بــا‬
‫ثؤلــول؛ يــا للخيــال الجامــح الــذي غمــرين باليــأس‪ .‬التمســت العــودة‬
‫إليهــا مبدي ـاً بعــض االهتــام‪.‬‬
‫«سوما»‪ ،‬قلت «هل أنت بخري؟»‬
‫«أنا بخري»‪ ،‬قالت «فقط متعبة»‪.‬‬
‫«هل نخرب إيتشو مينون؟»‬
‫«ال حاجة لذلك»‪.‬‬
‫«هل أعطيك بعضاً من جرعات الدواء خاصتي؟»‬
‫«ال»‪ ،‬قالــت‪ ،‬ثـ ّـم أشــاحت بإميــاءة مل أرغــب يف فهم فحواهــا‪ .‬انقضت‬
‫لبثــت أن انتعشــت‪ ..‬كان مقامنــا يف‬ ‫ُ‬ ‫هــذه النوبــات مــن النكــد ومــا‬
‫دا ٍر ريفيــة‪ ،‬يف منطقــة تــزرع القمــح منــذ مئــات الســنوات‪ .‬تضاءلــت‬
‫أمالكنــا‪ ،‬لكــن كان مثــة مــا يكفــي ليكفــل حيــاة الفــراغ والتأمــل‪.‬‬

‫‪233‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫لكــن‬
‫ومل أعــرف مقــدار اتســاع األرايض وال كــم تثمــر مــن الحبــوب‪ّ ،‬‬
‫خادمنــا تشــاتاتان كان يجــري الحســابات يل‪ ،‬كــا كان والــده يفعــل‬
‫ألجــل أرسيت‪ .‬مل تكــن ســوما موافقــة عــى ذلــك وطاملــا تذمــرت مــن‬
‫ق ّلــة براعتــي‪ ،‬لكنــي كنــت أقــول لهــا إن تشــاتاتان يعــرف ذلــك أفضــل‬
‫ـتحم‪ ،‬أتلــو الصلــوات‪ ،‬ثــم أجلــس‬ ‫منــي‪ .‬يف كل يــوم أنهــض باك ـراً وأسـ ّ‬
‫أتجــول طــوال‬
‫ّ‬ ‫لل َغــ ْزل‪ .‬ينطلــق أوين إىل املدرســة وســوما إىل املطبــخ؛‬
‫اليــوم‪ ،‬أذهــل لــأرايض املمتــدة التــي تســتلقي حــول منزلنــا‪ ،‬حاضنــة‬
‫يف ظهريتهــا الرحيمــة‪ ،‬أوراق العشــب الســمراء الناعمــة‪ ،‬وضجيــج‬
‫عصافريهــا‪ ،‬واملــو ّدة املوغلــة يف القــدم ألفاعيهــا‪ .‬وباتجــاه أقــى جنــوب‬
‫قطعــة األرض املسـ ّـيجة‪ ،‬مثــة شــجرة التــن العمالقــة والرقعــة الجــرداء‬
‫وأتعجــب؛ ثــم رسعــان‬‫ّ‬ ‫التــي ُأحــرق فيهــا جســدا َوالِ ـ َد َّي‪ .‬هنــا أجلــس‬
‫مــا يحــل موعــد الطعــام وبعــده االســتلقاء للقيلولــة يف فــرة مــا بعــد‬
‫الظهــرة‪ .‬ويف املســاء أصطحــب أوين يف نزهــة طويلــة تنتهــي عنــد معبــد‬
‫شــيفا‪ ،‬هنــاك حيــث الكاهــن العجــوز يكــون محتفظ ـاً ألوين بنصيبــه‬
‫مــن القربــان املقــدس‪ ،‬حفنــةٌ مــن الســكر والفاكهــة وجــوز الهنــد‪.‬‬
‫هكــذا كانــت أيامــي تنقــي بســام‪.‬‬
‫يف إحــدى هــذه الزيــارات إىل املعبــد‪ ،‬وقــف أوين طويـ ًا أمــام متثــال‬
‫اإللــه‪ ،‬عينــاه مغمضتــان وراحتــا يديــه مضمومتــان‪ .‬فتــح عينيــه عندمــا‬
‫لحــق بــه الكاهــن العجــوز وقــدم لــه القربــان ثــم رقّصــه عــى كتفــه‪.‬‬
‫«هــل نذهــب لرؤيــة طيــور املــاء الســابحة؟» ســألته بينــا كنــا‬
‫نخطــو خارجــن مــن املعبــد‪.‬‬
‫«نعم»‪ ،‬قال أوين‪.‬‬
‫كان هــذا طقسـاً آخــر لنــا‪ ،‬نوعـاً مــن االتفــاق الــري بيننــا؛ نجلــس‬
‫عــى الدرجــات الحجريــة لربكــة املعبــد‪ ،‬هنــاك‪ ،‬وصفحــة امليــاه الخفيــة‪،‬‬

‫‪234‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫وطــر املــاء املهاجــر الــذي يثــر غضونــاً مــن الوميــض الفوســفوري‬


‫عربهــا‪ .‬وكالعــادة‪ ،‬نكــون وحدنــا‪.‬‬
‫الحــرم‪.‬‬
‫َ‬ ‫ســمعنا القــرع األخــر ألجــراس املعبــد؛ كانــوا يغلقــون‬
‫اســتلقى أوين عــى الحجــر‪ ،‬رأســه يف ِحجــري ورسعــان مــا غفــا يف نســائم‬
‫الربكــة اللطيفــة‪ .‬تركتــه ينــام؛ وعنــد اســتيقاظه كان القمــر يصعــد يف‬
‫األفــق وبــدأ يحــلّ الضبــاب‪ .‬ســألته يف طريــق العــودة‪« ،‬أوين‪ ،‬لقــد‬
‫أطلــت الصــاة اليــوم‪ .‬مــاذا طلبــت مــن اللــه؟»‪.‬‬
‫«أن يجعلني طف ًال صالحاً»‪ ،‬قال‪.‬‬
‫«وماذا أيضاً؟»‪.‬‬
‫رس»‪.‬‬
‫«حسناً»‪ ،‬قال «ذلك ّ‬
‫«ال َد ِاع َي ألن يكون رساً يا أوين‪ .‬ما هو؟»‬
‫وإل فلن يتحقق»‪.‬‬ ‫«لن أخرب أحداً به‪ّ ،‬‬
‫«ليس متاماً»‪ ،‬قلت مالطفاً «األمور ال تجري هكذا دامئاً»‪.‬‬
‫«حسناً إذن»‪ ،‬قال «لقد طلبت من الله أن ُيبعد الثؤلول عنك»‪.‬‬
‫تحسســت ال إراديــاً أســفل شــفتي الســفىل‪ .‬لقــد منــا الثؤلــول‪،‬‬
‫وأصبحــت حافتــه النــا ّزة أوســع‪ .‬عندمــا رجعنــا إىل البيــت‪ ،‬قالــت ســوما‬
‫ـاب يتكاثــف»‪.‬‬ ‫موبخــة «لقــد أبقيــت الولــد طوي ـ ًا يف الــرد فيــا الضبـ ُ‬
‫ـف ســوما‬‫مســاء اليــوم التــايل َش ـكَا أوين مــن أمل يف البلعــوم‪ .‬ومل تكـ ّ‬
‫عــن تذكــري بإهــايل‪.‬‬
‫«ســوما»‪ ،‬قلــت «عــادة مــا يصــاب األطفــال بنــزالت الــرد‪ .‬قليــل مــن‬
‫حســاء الفلفــل ســوف يجعــل وضعــه عــى مــا يـرام»‪.‬‬
‫حمى»‪.‬‬‫«أظن أنك ترغب يف أن تتحول نزلة الربد إىل ّ‬
‫«ما الذي تريدين مني فعله؟»‬
‫«أال تستطيع عرضه عىل طبيب؟»‬

‫‪235‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ليــس لــدي ســيارة‪ ،‬وإذا اصطحبــت أوين معــي مشــياً طــوال الطريــق‬
‫ـاء‪ ،‬فــإن نزلــة الــرد ســوف تتفاقــم؛ ألن‬ ‫إىل بيــت إيتشــو مينــون مسـ ً‬
‫الشــمس تكــون قــد غابــت متامــاً عندمــا يعــود الطبيــب إىل منزلــه‪،‬‬
‫والنــدى يتســاقط بكثافــة عــى الهضبــة‪ .‬ثـ ّـم إن لدينــا األعشــاب الطبيــة‪.‬‬
‫أرصت‪.‬‬
‫ـن ســوما ّ‬ ‫لكـ ّ‬
‫«لنــدع الولــد ميكــث يف البيــت»‪ ،‬قلــت «بإمــكاين الذهــاب وإحضــار‬
‫الــدواء مــن الطبيــب»‪.‬‬
‫«انس األمر»‪ .‬قالت سوما «سأقوم بإعداد حساء الفلفل»‪.‬‬ ‫َ‬
‫ـت مناشــداً «إنــه مــرض عــادي وال يســتدعي‬ ‫«لكــن‪ ،‬يــا ســوما»‪ ،‬قلـ ُ‬
‫إحضــار الطبيــب»‪.‬‬
‫ـي‬
‫ـس بــه‪ ،‬فــا َد ِاعـ َ‬
‫«انظــروا مــن الــذي يجــادل؟ إذا كان هــذا مــا تحـ ّ‬
‫ـت مــن عندهــا صامتـاً‬ ‫ـت بحـ ّدة مقطبــة الوجــه؛ خرجـ ُ‬ ‫إلحضــاره»‪ .‬تكلمـ ْ‬
‫ـرت خائضـاً يف ميــاه النهــر‪ ،‬وعندمــا‬ ‫وتوجهــت نحــو منــزل الطبيــب‪ .‬عـ ُ‬
‫وصلــت إىل قمــة الهضبــة توقفــت قليـ ًا ألتنفــس يف النســائم الطليقــة؛‬
‫كانــت الشــمس قــد غربــت والســاء مضــاءة بالشــفق القرمــزي؛‬
‫املتجســد‪ ،‬وطــارت العصافــر مقابــل‬ ‫ّ‬ ‫وانتصبــت الهضبــة مثــل شــيفا‬
‫الغيــوم الحمــر التــي تذروهــا الريــاح كأنهــا شــعره الحائــل اللــون‪ .‬لكــن‪،‬‬
‫رسيعـاً وســط هــذه التــال والغــروب‪ ،‬ســوف يســتبد يب الخــوف و ُيغلق‬
‫عــى حــزين بــا تعبــر‪ .‬لكــم‪ ،‬أنتــم يــا مــن تراقبــون قيــام الهضبــة‬
‫ومغيــب الشــمس‪ ،‬أقــول هــذا الــكالم‪ :‬ســوف يعــود الخــوف ويجــوس‬
‫باحثـاً عــن طريــدة وســط أشــجار هــذا املنحــدر‪ ،‬ذلــك مــا يجعــل هــذه‬
‫اللحظــات الوجيــزة مــن التبليــغ أثــرة‪ ..‬بينــا كنــت أنــزل هابط ـاً مــن‬
‫الهضبــة شــعرت بنــوع جديــد مــن النفــور تجــاه الثؤلــول‪.‬‬
‫للتو من عيادته‪.‬‬
‫كان إيتشو مينون قد وصل ّ‬

‫‪236‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫«لقد أنهيت عميل مبكراً اليوم»‪ ،‬قال‪.‬‬


‫متوجســاً عــى كــريس قبالتــه‪ .‬جعلنــي الطبيــب الشــاب‬ ‫ّ‬ ‫جلســت‬
‫أعــي وأشــعر بــداري املتداعيــة وبجهــي؛ كان ابــن عائلــة مــن حديثــي‬
‫الــراء‪ ،‬وأول رجــل يف ريفنــا يحــوز شــهادة املاجســتري يف الطــب مــن‬
‫إنكل ـرا‪.‬‬
‫«دكتور»‪ ،‬قلت «لقد أصيب أوين بنزلة برد»‪.‬‬
‫ــي للقلــق مــن يشء كهــذا»‪ .‬قــال مبتســ ًا‬ ‫«نزلــة بــرد؟ ال ال َد ِاع َ‬
‫«أرجــو أال تكــون حرارتــه مرتفعــة»‪.‬‬
‫«ال»‪.‬‬
‫دخــل إيتشــو مينــون إىل حجــرة جانبيــة وعــاد ومعــه مجموعــة مــن‬
‫العقاقــر‪ .‬أخــذت العقاقــر منــه ودسســتها يف جيبــي وقلــت مــردداً‬
‫«البــد أن تعــذرين إذا مــا ســببت لــك إزعاجـاً‪ ،‬لكنــه إلحــاح ســوما‪ .‬هــل‬
‫بإمكانــك املجــيء إىل البيــت؟»‬
‫«بالتأكيد‪ .‬وسوف نذهب بالسيارة معا»‪.‬‬
‫املعبد‬
‫أحسســت بالذنــب بشــأن الذهــاب بالســيارة تحديداً ألن الطريــق َّ‬
‫مــيء باملنعطفــات‪ ،‬خالفـاً للــدرب التــي متـ ّـر بالهضبــة وتعــر الحقــول‪ .‬ثـ ّـم‬
‫ـذرت للطبيــب‬ ‫انطلقنــا يف طريقنــا‪ ..‬قابلتنــا ســوما عنــد عتبــة البــاب‪ .‬اعتـ ْ‬
‫فغمغــم مامزح ـاً‪ .‬ثـ ّـم لحــق إتشــو مينــون بـــسوما إىل غرفــة نــوم الصغــر‬
‫ومضيــت وراءهــا‪ .‬كان أوين مســتلقياً تحــت بطانيــة‪ .‬اســتيقظ وابتســم لنــا‪.‬‬
‫ــت يف‬ ‫«يــا لــك مــن ولــد شــقي»‪ ،‬قــال إتشــو مينــون «هــل ُخ ْض َ‬
‫املــاء؟»‬
‫«ال»‪ ،‬قال أوين «جلست أراقب طري املاء وحسب»‪.‬‬
‫أحسســت باملــرارة‬
‫ُ‬ ‫«كان ذلــك بســبب الضبــاب»‪ ،‬قالــت ســوما‪.‬‬
‫املكتومــة يف صوتهــا‪ .‬وضحــك إتـــشو مينــون‪.‬‬

‫‪237‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫«إن قريبي هنا»‪ ،‬قال مامزحاً «يؤمن بعالجات املطر والندى»‪.‬‬


‫كانــت الكلــات مــا إن تنبعــث يف داخــي حتــى تنحــر؛ فــا‬
‫الــذي أســتطيع قولــه عــن العالَــم النبيــل لــأوراق والجــذور‪ ،‬وعــن‬
‫العهــد الــري بــن األب وابنــه وهــا يصغيــان إىل أجـراس معبــد شــيفا‬
‫ويراقبــان طــر املــاء الــذي يرســم خطوطـاً عــى صفحــة امليــاه العامتــة؟‬
‫ارتفعــت حـرارة أوين تلــك الليلــة‪ ،‬واســتمرت الحمــى خمســة أيــام‪.‬‬
‫يف أثنــاء تلــك الحمــى‪ ،‬ألقــى ذراعيــه حــويل وقــال‪« :‬أيب‪ ،‬لــن ترتكهــم‬
‫ميزقــون وجهــك‪ ،‬أليــس كذلــك؟»‬
‫«ملاذا تفكر بهذا األمر دوماً يا بني؟»‪.‬‬
‫«إنني خائف»‪.‬‬
‫«طاملا أن األمر يخيفك‪ ،‬فلن نرتكهم يجرون الجراحة»‪.‬‬
‫«ينبغي أن نحصل عىل الدواء من سفح التل»‪.‬‬
‫اآلن‪ ،‬أســتعيد كلــايت بحــزن‪ ،‬وأعــرف يــا بنــي‪ ،‬يف أي يشء خذلتــك‪.‬‬
‫ـت بريئـاً يافعـاً‪ ،‬وجاهـ ًا بأســاليب الجرثــوم؛ كان ينبغــي عــي‬ ‫لقــد كنـ َ‬
‫أن أس ـلّحك بتلــك املعرفــة‪..‬‬
‫منعتنــي ســوما مــن االعتنــاء بــأوين «ابــق بعيــداً»‪ ،‬قالــت «هــل‬
‫تريــد أن ُيصــاب الطفــل بالعــدوى؟»‬
‫رفعــت يــدي إىل الثؤلــول‪ ،‬كان لزج ـاً بســبب القيــح‪ .‬انســحبت إىل‬
‫الحــام ونظفــت القيــح ثــم نظــرت يف املــرآة‪ .‬لقــد منــا الثؤلــول وأصبــح‬
‫بحجــم حبــة العنــب‪ .‬تعــاىف أوين يف غضــون أســبوعني‪ .‬كان إتشــو مينــون‬
‫يــزوره كل يــوم خــال مرضــه‪ ،‬وحتــى بعــد أن شــفي‪ ،‬اعتــاد عــى زيارتنا‬
‫واالطمئنــان عــى الطفــل‪.‬‬
‫وكان الثؤلــول ينمــو رسيع ـاً‪ .‬يف إحــدى الليــايل‪ ،‬اســتيقظت عــى أمل‬
‫كبــر‪ .‬كانــت قنــوات الثؤلــول قــد انفتحــت‪ ،‬وشــعرت مبــاط هائــل كأنــه‬

‫‪238‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫مســتحلب أصفــر لحلــوى مفتتــة‪ .‬تحسســت الثؤلــول وأدركــت أنــه قــد‬


‫منــا بإف ـراط‪ .‬ويف الصبــاح‪ ،‬اتخــذت طريقــي إىل ســفح التــل وقطفــت‬
‫األوراق التــي أحتــاج إليهــا‪ ،‬ونزعــت الجــذور الفتيــة‪ ،‬ثــم جرشــتها معـاً‬
‫متوسـ ًا َب َركــة َد ْن َف ْنتــاري‪ .‬لكــن‪ ،‬اآلن بــدا وكأن‬
‫لتصبــح دواء‪ ،‬وترضعــت ِّ‬
‫الثؤلــول ميتــص الــدواء ذاتــه ويتغــذى عليــه ويكــر‪ .‬ورسعــان مــا منــا‬
‫إىل حجــم ليمونــة‪ .‬وإذا مــا ألقيــت نظــرة إىل األســفل‪ ،‬أســتطيع رؤيــة‬
‫الحظــت أن إتشــو مينــون‬
‫ُ‬ ‫خطــوط ظاللــه‪ ،‬وتســارعت وتــرة منــوه‪.‬‬
‫وعــى الرغــم مــن اســتمرار مجيئــه لزيارتنــا قــد توقــف عــن الحديــث‬
‫عــن الثؤلــول‪.‬‬
‫حصــل تغــر تدريجــي يف عالقتــي بالنــاس‪ .‬بــدأ ذلــك مــع شــخص‬
‫متبطّ ــل فضــويل قابلتــه يف مكتبــة القريــة وحــدق يب بقســوة‪ ،‬ثــم‬
‫تتــاىل األمــر مــع غــره واحــداً بعــد آخــر‪ ،‬إىل أن وجــدت نفــي مقــوداً‬
‫ـت‬‫بســهولة‪ ،‬لكــن بقســوة ال ترحــم‪ ،‬إىل ســجن إدراكهــم يل‪ .‬لكــن كنـ ُ‬
‫مــا زلــت قــادراً عــى حمــل الثؤلــول‪ ،‬الكبــر اآلن كحبــة الطامطــم‪ ،‬يف‬
‫أرجوحــة شــفتي‪ ،‬واملــي مج َهــداً إىل مستشــفى املدينــة‪ ،‬أنــوء بعــبء‬
‫الســبيل التــي رست فيهــا أنــا وأجــدادي‪ .‬وبــدأت ســوما اآلن متنــع ولــدي‬
‫ـرت أوين «إنــه عــدوى»‪.‬‬ ‫مــن االق ـراب منــي «إنــه مــرض»‪ ،‬أخـ ْ‬
‫آثــرت ّأل أســمع جــواب ولــدي‪ ،‬ألن القــدرة عــى تحمــل تلــك‬
‫املعرفــة قــد تالشــت منــي‪ ،‬ثــم تســلقت العليــة املســقوفة ببــطء‬
‫واتخذتهــا مســكناً يل منذئــذ‪ ..‬وذات ليلــة يف العليــة‪ ،‬وأنــا مســتلق عــى‬
‫ـاف أســايف‬‫ـت أطيـ َ‬
‫الرسيــر القديــم املصنــوع مــن الخشــب الــوردي‪ ،‬بلَّغـ ُ‬
‫ـاف األنهــار ومنحــدرات الجبــال‬ ‫مــن حــويل‪ .‬قلــت لهــم‪ :‬يــا آبــايئ‪ ،‬ضفـ ُ‬
‫هــذه تشــهد عــى حريتكــم‪ ،‬ولكــن‪ ،‬مــا الــذي أصابنــي‪ ،‬أنــا الــذي مــن‬
‫نســلكم؟ لقــد أورثتمــوين مخطوطاتكــم النفيســة عــى ســعف النخــل‬

‫‪239‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ومــا فيهــا مــن أرسار الشــفاء‪ ،‬ولكــن‪ ،‬ملــاذا أخفقــت هــذه األوراق‬
‫والجــذور يف التغلــب عــى هــذه الجرثومــة الغازيــة؟ مــن الســقف‬
‫القديــم‪ ،‬ومــن جــدران بيتنــا املنبســط‪ ،‬اســتيقظوا واســتمعوا إ ّيل وأجابــوا‬
‫عــن ســؤايل مبوجــة عارمــة مــن الحــزن‪.‬‬
‫اســتلقيت طويـ ًا هكــذا يف ظــلِّ أجــدادي‪ ،‬ثـ ّـم تنبهــت إىل شــخص ما‬
‫ـت وتحركــت‬ ‫يتحــرك خلســة يف عتمــة العليــة‪ .‬كانــت ســوما هنــاك‪ .‬نهضـ ُ‬
‫نحوهــا‪ .‬كانــت تحمــل ِقــدراً ترابيــة يف يديها‪.‬‬
‫أخذت الزبدية الباردة منها وشممت عبق أدوية َد ْن َف ْنتاري‪.‬‬
‫«ر ّيب الرحيم»‪ ،‬قلت‪.‬‬
‫«لقــد حصلــت عليهــا مــن ِفيــد ‪ .‬هــذه هــي وصفتــه العالجيــة‪،‬‬
‫(‪)34‬‬

‫خذهــا»‪.‬‬
‫ون بأنــوار‬ ‫َ‬
‫كانــت معــي وفــرة مــن األشــياء املباركــة‪ ،‬وقــد أ َضــا ُؤ ِ‬
‫ـت إىل ِفيــد عــى الرغــم مــن خشــيتها مــن‬ ‫لطيفــة هادئــة؛ إذاً‪ ،‬لقــد ذهبـ ْ‬
‫ـدت إىل العليــة متغلبــة عــى اشــمئزازها‬ ‫أمثالــه مــن الصيدالنيــن‪ ،‬وصعـ ْ‬
‫ـي فلــم تقاوم‪،‬‬ ‫الد َّمــل العمــاق القابــع عــى شــفتي‪ .‬طوقتهــا بذراعـ ّ‬ ‫مــن ُ‬
‫لكــن عندمــا انحنيــت لتقبيلهــا قالــت «ينبغــي ّأل نفعــل ذلــك‪ .‬أنــا ال‬
‫أقربــك ليــس مــن أجــي‪ ،‬ولكــن مــن أجــل ولدنــا»‪.‬‬
‫غري مع ٍد‪ .‬إنه ثؤلول»‪.‬‬‫«سوما»‪ ،‬قلت «إنه ُ‬
‫«نعم ثؤلول»‪ ،‬قالت‪.‬‬
‫«تعايل»‪ ،‬قلت‪.‬‬
‫ـت يف العتمــة مــرددة‪ ،‬ثــم منعتنــي بلطــف‪ .‬وعندمــا أخــذت‬ ‫وقفـ ْ‬
‫ـي‪ ،‬كان خداهــا رطبــن‪.‬‬ ‫وجههــا بــن راحتـ ّ‬
‫«آه‪ ،‬يا إلهي»‪ ،‬قلت‪.‬‬
‫(‪ )34‬يطلق االسم عىل الشخص الذي ميارس طب األورفيدا الهندي التقليدي‪( .‬م)‬

‫‪240‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫ركعــت عــى ركبتيهــا متنهــدة‪ ،‬ودون أن أســتطيع رفــع رأســها‪،‬‬ ‫ْ‬


‫جلســت بجانبهــا‪.‬‬
‫ُ‬
‫«أوين ال يأكل»‪ ،‬قالت «إنه يعاين كثرياً»‪.‬‬
‫تخبــو ذكريــايت عنــد تلــك اللحظــة‪ ،‬ومــن الرحمــة أن يحصــل ذلــك؛‬
‫أتذكــر أن كلــات غــر منطوقــة تحركــت مثــل موكــب مــن منــال‬
‫وانتقلــت منــي إليهــا ومــن كلينــا إىل طفلنــا‪ ،‬إىل أن اختفــت آثــار النــال‬
‫ومل يعــد مثــة ســوى عتمــة العليــة والزبديــة الرتابيــة التــي تحــوي الــدواء‬
‫املحــر مــن وصفــات َد ْن َف ْنتــاري‪ .‬جلســت لوهلــة ُأحملــق يف‬ ‫َّ‬ ‫النبيــل‬
‫الوعــاء ثـ ّـم غلبنــي اإلرهــاق والنــوم‪ .‬اســتيقظت ثانيــة‪ ،‬كان القمــر قــد‬
‫صعــد األفــق وبــان عــر النافــذة‪ .‬وأطيــاف أســايف عــى جــدراين تهتــز‬
‫اآلن‪ .‬نهضــت وذرعــت ســجني جيئــة وذهابـاً عــى رصاط آبــايئ‪ .‬يف تلــك‬
‫اللحظــة‪ ،‬حــدث أن ملــع ضــوء القمــر عــى حــد مــوىس حالق ـ ٍة عتيــق‪.‬‬
‫كوبــوين قــد َحلَــق بهــذا النصــل يومــاً‪ ،‬وبقــي هنــا‬‫عمــي األكــر ّ‬ ‫كان ّ‬
‫وســط مصنوعــات أثريــة مهجــورة عــى مــدى الســنني‪ .‬ملعــت الســكني‪،‬‬
‫لكــن ســالتنا‬
‫عمــي األكــر‪ .‬لقــد كنــا أناســاً نبــاء وأتقيــاء‪ّ ،‬‬ ‫وتذكــرت ّ‬
‫تخللهــا أســاف ملكيــون فخــورون أيضـاً‪ .‬كان كوبــوين نايــر مــن هــؤالء‪.‬‬
‫قوتــه بفضــل‬ ‫هــو الــذي جــاب منحــدرات التــال تحــت املطــر‪ ،‬وتنامــت ّ‬
‫تخيلــه‬
‫األغذيــة الخـراء التــي جــادت بهــا الفصــول املتعاقبــة‪ .‬أســتطيع ّ‬
‫جالسـاً أمــام الحــاق الخــادم إلجـراء الحالقــة الشــعائرية؛ الســكني التــي‬
‫مل يســتخدمها الحــاق مــع أي شــخص آخــر تط ّهــر فــروة الــرأس مــن‬
‫الشــعر‬
‫حــول خصلــة الشــعر املتدليــة ومــن حــول قضيبــه؛ وبع ـ ّد ج ـ ّز ّ‬
‫ينطلــق عاري ـاً يف منحــدرات التــال طلب ـاً للنســاء املتزوجــات يك يبــذر‬
‫ـون بسلســلة‬ ‫الج ِاه ُلـ َ‬
‫داخلهــن بــذور المَلَكيــة اللقيطــة؛ ّأمــا أوالدهــن‪َ ،‬‬
‫نســبهم‪ ،‬فســوف يعقبــون ويتزوجــون بعضهــم مــن بعــض‪ .‬أثارتنــي تلــك‬

‫‪241‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ـرف والتقطــت الســكني املتأللئــة يف ضــوء‬‫الربيــة‪ ،‬فمضيــت إىل الـ ّ‬


‫الحالــة ّ‬
‫القمــر‪ .‬ال أدري مــا أعقــب ذلــك؛ رمبــا أجربتنــي الســكني وقوتهــا‪ .‬انبجــس‬
‫لعمــي األكــر يف داخــي وامتــزج باملقاومــة غــر املجديــة‬
‫العنــف القاتــل ّ‬
‫ـكت الثؤلــول بيــدي‬
‫ـي‪ ،‬ومدفوعـاً بذلــك املزيــج الهائــل‪ ،‬أمسـ ُ‬
‫للنبيــل التقـ ّ‬
‫ـررت بالســكني عــى طــول جــذره‪.‬‬ ‫اليــرى‪ ،‬وباليــد اليمنــى مـ ُ‬
‫٭٭٭‬

‫الحظــت‬
‫ُ‬ ‫البــد أن الغيبوبــة قــد اســتغرقت أشــهراً‪ .‬عندمــا أفقــت‬
‫مــن خــال كـ َّـوة العليــة أن فص ـ ًا جديــداً قــد حــلّ ‪ .‬وبشــكل غريــزي‪،‬‬
‫رفعــت يــدي وتحسســت الثؤلــول‪ .‬كان هنــاك‪ ،‬متحدي ـاً ال ُيقهــر‪ .‬كان‬
‫بحجــم جــوزة الهنــد‪ ،‬وحولــه‪ ،‬مثــل صواعــد كلســية أو مرجــان‪ ،‬ملعــت‬
‫قشــور وتقرحــات‪ .‬قــدم تشــاتاتان إىل العليــة‪« .‬لقــد يئســنا مــن شــفائك‬
‫يــا ســيدي»‪.‬‬
‫«تشاتاتان»‪..‬‬
‫«ماذا تريد يا سيدي؟»‬
‫استلقيت قلي ًال بصمت يك أستعيد كلاميت‪.‬‬
‫«كم استغرقت الغيبوبة؟» سألته أخرياً «هل دامت طويالً»‪.‬‬
‫«ثالثة أشهر يا سيدي»‪.‬‬
‫رأيــت يف زاويــة العليــة أكوامــاً مــن األعشــاب الطبيــة الجافــة‬
‫وشــعرت بعبقهــا اللطيــف‪.‬‬
‫كنت تستخدم هذه األعشاب يف مترييض؟»‪.‬‬ ‫«هل َ‬
‫«أنت علمتنا أن نترصف عىل هذا النحو‪ ،‬يا سيدي»‪.‬‬
‫«تشاتاتان»‪..‬‬
‫«نعم يا سيدي»‪.‬‬

‫‪242‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫ـت صــدى‬ ‫رجعـ ْ‬


‫يف الوقــت الــذي تشــكلت الكلــات فيــه بداخــي ّ‬
‫نذي ـ ٍر مــا‪ ،‬كب ُّتهــا هنيهــة ثــم نطقتهــا مرتجف ـاً‪.‬‬
‫«تشاتاتان»‪ ،‬قلت «أين أوين؟»‬
‫مل يجــب تشــاتاتان‪ .‬نهــض مــن عنــد عتبــة البــاب حيــث كان يجلــس‪،‬‬
‫وخطــا ببــطء نحــو خزانــة يف الغرفــة وتنــاول رســالة مختومــة مــن‬
‫داخــل س ـلّة‪.‬‬
‫«هنا‪ ،‬يا سيدي»‪ ،‬قال «ها هي رسالة سيدة البيت»‪.‬‬
‫كررت الكلامت غري مص ّدق‪.‬‬ ‫«رسالة سيدة البيت؟» ُ‬
‫نظــر تشــاتاتان بعيــداً وكان صامت ـاً؛ وفتحــت الرســالة عــى عجــل‬
‫ـري عــر الورقــة الصقيلــة منكـراً مــا كُتــب فيهــا‪:‬‬ ‫ـت بناظـ ّ‬ ‫وقــرأت؛ انزلقـ ُ‬
‫إننــي راحلــة‪ .‬ميكننــا‪ ،‬أنــا وأنــت‪ ،‬أن نعــزي أنفســنا بــأن هــذا هــو قدرنــا‪.‬‬
‫إننــي راحلــة بعيــداً إىل بل ـ ٍد نــا ٍء مــع إتشــو مينــون‪ .‬لــن أكتــب أكــر‬
‫مــن هــذه الكلــات يك ال أســبب لــك املزيــد مــن األمل‪ .‬أســألكَ الصفــح‪،‬‬
‫وكذلــك هــو‪ ..‬ســوف يعيــش أوين يف بيــت أهــي‪ ،‬وســوف يتــوىل إخــويت‬
‫أحملــك وأنــت يف بلــواك عــبء رعايتــه‪..‬‬ ‫العنايــة بــه‪ .‬لــن ّ‬
‫حلّــت الظلمــة عــى عينــي‪ ،‬ومــا إن انقشــعت حتــى أحسســت‬
‫بارتعــاش الثؤلــول‪ ..‬عــى الجــدران هجعــت أطيــاف أســايف‪ .‬بحثــت‬
‫كوبــوين نايــر‪ ،‬لكنــي مل أعــر عليهــا‪.‬‬
‫عــن ســكني ّ‬
‫ـت ســكين ًة جديــدة ً‬
‫ورىض‬ ‫ببــطء‪ ،‬ومثــل رحيــل وقــدوم الفصول‪ ،‬عشـ ُ‬
‫ـت أنــزل مــن العليــة كلّ يــوم عنــد الفجــر‪ ،‬وأتجــول عــى‬ ‫جديــداً‪ .‬كنـ ُ‬
‫العشــب يف الحديقــة املخضلــة بنــدى الليــل‪ .‬وقبــل أن تعلــو الشــمس‬
‫يف األفــق‪ ،‬يــأيت تشــاتاتان إ ّيل باألعــال اليوميــة يف الحقــول والبســاتني‪،‬‬
‫ويقــوم بالحســابات‪ .‬بعــد ذلــك‪ ،‬تجلــب نــاين‪ ،‬أخــت زوجتــه‪ ،‬الحليــب‬
‫ـر طبق ـاً مــن املــوز ألجــل إفطــاري‪ ،‬ثــم تطبــخ وتغــادر‪ .‬أحيان ـاً‪،‬‬ ‫وتحـ ّ‬

‫‪243‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫يف املســاء‪ ،‬كان يــأيت تشــاتاتان يك يتفقــدين‪ ،‬ويكــون ذلــك آخــر أعــال‬
‫اليــوم‪ ،‬ثــم ُأتــرك وحيــداً مــع الثؤلــول‪ .‬امت ـ ّد املنــزل القديــم‪ ،‬ضخ ـ ًا‬
‫موحش ـاً‪ ،‬وغرفــه صــارت نائيــة‪ ،‬مثــل أقاليــم قصيــة يتعــذر الوصــول‬
‫إليهــا‪ ،‬وكــرت الهــوام يف أرجائــه من ّغصــة نــوم آبــايئ بضجيجهــا املــؤذي‪..‬‬
‫منــا الثؤلــول وتضخــم‪.‬‬
‫تراخــى اهتــام تشــاتاتان يب اآلن‪ ،‬وبــدأت نــاين تتهــرب‪ .‬اســتفرست‬
‫منهــا عندمــا رجعــت بعــد يــوم مــن الغيــاب؛ وبعــد إلحــاح كثــر أجابت‬
‫«كانــت لــدي مشــاغل يف البيــت»‪.‬‬
‫كان مــن الحامقــة أن أســأل أباهــا‪ ،‬ومــن الحامقــة بالنســبة يل أن‬
‫أطلــب أي يشء‪ ،‬هكــذا قلــت لنفــي‪ .‬وتذكــرت ســوما ومامنعتهــا‬
‫الشــديدة‪ ،‬ولقــاءات الحــب البــاردة‪ ،‬والليــايل التــي منحتنــا‬
‫معرفــة نهائيــة باغرتابنــا عــن بعضنــا‪ .‬كنــت أفكــر بـــسوما مجــدداً‪.‬‬
‫مــا عســاها تفعــل يف هــذه اللحظــة؟ كانــت الشــمس تصعــد يف‬
‫األفــق‪ ،‬ورسعــان مــا ســتحل الظهــرة‪ ،‬يف حــن رمبــا يكــون الوقــت‬
‫منتصــف الليــل يف البــاد التــي لجــأت إليهــا‪ .‬أراهــا مســتيقظة‬
‫مــن نومهــا اآلن؛ وأشــعر برطوبــة شــفتيها‪ ،‬واالســتدارة الجميلــة‬
‫لبطنهــا‪ .‬وبعــد ذلــك‪ ،‬اإلغفــاءة الطويلــة‪ .‬البــد أننــي جلســت مديــداً‬
‫بــا حـراك‪ ،‬طــوال ذلــك التحــرق شــوقاً واالعتــاج الــذي يف داخــي‪.‬‬
‫غادرت ناين‪.‬‬
‫ْ‬
‫ـاردت ذكــرى ســوما بشــبق مريــع‪ .‬ومــع تقــدم الليــل‬ ‫طــوال اليــوم طـ ُ‬
‫ـدأت‪ ،‬وحــلّ حنــان هائــل نحــو ابنــي‪ ،‬ومثــل طفــل صغــر‪ ،‬بكيــت‬ ‫هـ ُ‬
‫حتــى غلبنــي النعــاس‪ ..‬يف الصبــاح الباكــر التــايل‪ ،‬خرجــت مــن بوابــة‬
‫اح آخــر‪ ،‬وال أي‬‫الــدار‪ ،‬وتقدمــت خائض ـاً يف النهــر‪ .‬مل يكــن مثــة أي سـ ّـب ٍ‬
‫شــخص عــى مــرأى النظــر‪ .‬وقفــت عاريـاً يف املــاء املتدفــق‪ .‬كان الثؤلــول‬

‫‪244‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫يســتويل عــى وجهــي فقــط‪ ،‬لكــن جســدي كان مــا ي ـزال يل‪ ،‬وأوصالــه‬
‫متينــة جميلــة‪.‬‬
‫الثؤلــول اآلن بالطــة مــن اللحــم‪ .‬وأحسســت أيض ـاً بثقلــه‪ ،‬وعبث ـاً‬
‫حاولــت عــدم التفكــر فيــه ولــو للحظــة‪ .‬لذلــك ذهبــت ذات يــوم إىل‬
‫الســياج الفاصــل‪ ،‬حيــث تقبــع وراءه مســاكن الخــدم‪ .‬كان الوقــت‬
‫ظهــراً‪ ،‬ومل أتنــاول طعامــاً منــذ الصبــاح‪ .‬ناديــت نــاين فأتــت إىل‬
‫الســياج‪.‬‬
‫«هل ذهب تشاتاتان إىل الحقول؟» سألتها‪.‬‬
‫«نعم يا سيدي»‪.‬‬
‫كانت ناين تنظر اآلن بح ّدة إىل الثؤلول‪.‬‬
‫«سيدي»‪ ،‬قالت «لقد تضخم كثرياً»‪.‬‬
‫وقفنا عىل جانبي السياج‪ ،‬وقفنا قريبني من بعضنا‪.‬‬
‫ثم سألتها «ناين‪ ،‬ملاذا توقفت عن املجيء؟»‬
‫«أعباء البيت»‪ ،‬أجابت بال إقناع‪.‬‬
‫وصمتنا من جديد‪.‬‬
‫«ناين»‪ ،‬قلت «هل منعك تشاتاتان من املجيء؟»‬
‫«نعم»‪ ،‬غمغمت‪.‬‬
‫«هل قال إنه ُمع ٍد»‪.‬‬
‫ومن جديد وبحزن أومأت برأسها‪.‬‬
‫كانــت نــاين فتيــة‪ ،‬جميلــة جــال نســاء البلــد‪ ،‬أوصالهــا قويــة‪،‬‬
‫وبرشتهــا بلــون العســل الغامــق‪ ،‬وشــفتاها ســوداوان تتــأآلن بالنــداوة‪،‬‬
‫خصــات شــعرها الســارحة حــول صدغيهــا مثــل َشــعر ســالة قدميــة‪.‬‬
‫وتفجــر القيــح‬
‫ـف أنظــر إليهــا‪ ،‬تشــققت قــرة الثؤلــول ّ‬ ‫ثــم وأنــا واقـ ٌ‬
‫منــه بشــدة‪ .‬وقفــت بجانــب الســياج مصعوق ـاً‪.‬‬

‫‪245‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫وباندفاعة مفاجئة‪ ،‬نزعت ناين ثوبها العلوي ودفعته إيلّ‪.‬‬


‫«خذه يا سيدي»‪ ،‬قالت «وامسح القيح»‪.‬‬
‫أخــذت الثــوب املقــ ّدم يل‪ ،‬كان نهداهــا العاريــان يتشمســان اآلن‪.‬‬
‫مســحت القيــح باألصابــع وأرجعــت لهــا الثــوب غــر ملــوث‪.‬‬
‫«ناين»‪..‬‬
‫«نعم‪ ،‬يا سيدي؟»‬
‫«هل ستأتني؟»‪.‬‬
‫مل تر ّد‪.‬‬
‫«ناين»‪..‬‬
‫«نعم‪ ،‬يا سيدي؟»‬
‫صمت آخر‪.‬‬‫ٌ‬
‫«ناين»‪..‬‬
‫«نعم يا سيدي؟»‬
‫«ناين»‪ ،‬سألتها مجدداً «هل ستأتني إىل العمل؟»‬
‫قالت بهدوء «سوف آيت»‪.‬‬
‫عــدت متثاقــ ًا إىل البيــت وجلســت خلــف نافــذة مزخرفــة‬
‫ي االنتظــار طويـاً؛ رأيتهــا تعــر الســاحة‪ .‬دخلــت‬‫وانتظــرت‪ .‬مل يكــن عـ ّ‬
‫الغرفــة مرتبكــة ووقفــت أمامــي‪.‬‬
‫«ناين»‪..‬‬
‫«نعم يا سيدي»‪.‬‬
‫«هل أنت مشمئزة؟»‬
‫حنيت رأيس وأشحت بنظري‪ ،‬ومل تر ّد‪.‬‬
‫«سيدي»‪ ،‬قالت «متى سرتجع سيدة البيت؟»‬
‫«لن ترجع»‪.‬‬

‫‪246‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫طوفــت عيناهــا يف أرجــاء الغرفــة‪ ،‬ورسعــان‬ ‫مل تســألني نــاين املزيــد؛ ّ‬


‫مــا انصــب اهتاممهــا عــى األشــياء الصغــرة‪ ،‬خيــوط العنكبــوت وقشــور‬
‫املجعــدة يف الزاويــة‪ .‬التقطــت مكنســة‬‫املــوز الجافــة‪ .‬وكومــة األوراق ّ‬
‫وبــدأت تكنــس‪.‬‬
‫«ها قد عدت‪ ،‬يا سيدي»‪ ،‬قالت «كن مسرتيحاً»‪.‬‬
‫«ناين»‪..‬‬
‫ـندت املكنســة إىل الجــدار وقدمــت إيل‪ .‬مل أقصــد إخبارهــا بــيء‬ ‫أسـ ِ‬
‫مــا‪ ،‬لكنــي وجــدت نفــي أقــول «أريــد االســتحامم‪ .‬أريــد حاممـاً دافئاً»‪.‬‬
‫ـت نحــو الغــرف الداخليــة بــا ضجيــج‪ .‬ورسعــان مــا عبقــت‬ ‫توجهـ ْ‬
‫هنــاك روائــح الزيــوت الطبيــة فــوق ح ـرارة املوقــد‪ .‬عــادت وأخربتنــي‬
‫«حاممــك جاهــز يــا ســيدي»‪.‬‬
‫ـت‬ ‫الحمــص‪ .‬دخلـ ْ‬‫مشــيت نحــو الحــام وتبعتنــي بالزيــوت وعجينــة ّ‬
‫ـاقي‪.‬‬
‫ـدي وسـ ّ‬
‫الحــام بعــدي‪ ،‬ثــم بــدأت تفــرك الزيــوت عــى يـ ّ‬
‫«سيدي!» قالت ناين‪.‬‬
‫بــدأت‬
‫ُ‬ ‫كنــت أبــي‪ .‬شــ ّدت وجهــي إىل بطنهــا‪ ،‬حزينــاً خاضعــاً‬
‫ـي‪،‬‬ ‫ـت عينـ ّ‬‫أعريهــا‪ .‬شــدتني بقــوة إىل جســدها الناضــح بالعســل‪ .‬أغمضـ ُ‬ ‫ّ‬
‫وخلــف ســر تلــك الجفــون‪ ،‬كنــت مكتمـ ًا وســي ًام مــن جديــد‪ ..‬مغمــض‬
‫العينــن‪ّ ،‬قبلــت شــفتيها املنفرجتــن‪ ،‬واندلــق حــزين عليهــا وانقــى‪.‬‬
‫ارتعــش الثؤلــول‪.‬‬
‫ـال عديــدة‪ ،‬منــت بعمــق‪ .‬وعندمــا‬ ‫تلــك الليلــة‪ ،‬وألول مـ ّـرة منــذ ل ََيـ ٍ‬
‫اســتيقظت يف الصبــاح التــايل وجــدت الثؤلــول قــد منــا بشــكل جامــح‪.‬‬
‫واســتطعت بالــكاد أن أرفــع رأيس‪ ،‬وبــدأت أتجــول حــول املنــزل محنــي‬
‫الــرأس‪ ،‬يف حالــة يــرىث لهــا مثــل يشء وضيــع‪ .‬عــى هــذا النحــو‪ ،‬ذهبــت‬
‫نحــو املــرآة‪ ،‬وبــأملٍ كبــر رفعــت وجهــي قبالتهــا‪ .‬رأيــت وأنــا أتفحــص‬

‫‪247‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫صــوريت يف املــرآة شــقاً أحمــر عــى الثؤلــول‪ ،‬وبقعتــن ســوداوين‪.‬‬


‫ـعرت باالرتيــاح إذ ظننــت أن الثؤلــول كان ينفلــق ويســيل‬ ‫وللحظــة شـ ُ‬
‫قيحــه‪.‬‬
‫بهــذا األمــل املتجــدد يف ذلــك اليــوم‪ ،‬ذهبــت وقطفــت املزيــد مــن‬
‫ـددت منهــا دواء‪ .‬وعندمــا وضعتهــا‬‫األوراق والجــذور ثــم طحنتهــا وأعـ ُ‬
‫عــى الثؤلــول‪ ،‬لذعنــي كــا مل يحصــل مــن قبــل‪ ،‬وانتابنــي شــعور غــر‬
‫ـن الثؤلــول‬
‫ـر‪ ،‬لكـ ّ‬
‫ـف الــدواء وتقـ ّ‬
‫مألــوف بأنــه كان يتحــرك ويتلــوى‪ .‬جـ ّ‬
‫بــدا أضخــم أيضـاً‪.‬‬
‫بعــد أن حممتنــي مــاين بنحــو عــرة أيــام‪ ،‬أصبــح مــن الصعــب‬
‫ـرت يل الحليــب ذات صبــاح‪ ،‬كنــت‬ ‫ي حمــل نفــي‪ .‬وعندمــا أحـ ْ‬ ‫عـ ّ‬
‫أســتلقي محط ـ ًا تحــت ثقــل وجهــي‪.‬‬
‫«هل تتأمل كثرياً‪ ،‬يا سيدي؟» سألتني ماين‪.‬‬
‫حاولت بال جدوى أن أنهض‪ ،‬ثم استسلمت واستلقيت‪.‬‬
‫«دعني أرفعك‪ ،‬يا سيدي»‪.‬‬
‫رفعتني وأسندتني بالوسائد‪.‬‬
‫«ال أستطيع حمل هذا الثقل بعد»‪ ،‬قلت‪.‬‬
‫دفعــت راحــة يدهــا عــى صدرهــا مغمضــة العينــن؛ رأيــت شــفتيها‬
‫عرتنــي بلطــف‪ ،‬مشــيحة بوجههــا عــن‬ ‫تتمتــان بالصــاة‪ .‬بعــد ذلــك‪ّ ،‬‬
‫تشـ ّـوهي‪ .‬ونبقــت رغبــة هائلــة يف داخــي‪ ،‬مغمــوراً بــأمل وثقــل تلــك‬
‫الدملــة الهائلــة؛ رغبــت أن تدهننــي نــاين‪ ،‬رغبــت أننــا معــاً ندهــن‬
‫واحدنــا اآلخــر عــى قرميــدات الحــام البــاردة‪ .‬ورسعــان مــا كنــا‬
‫مدهونــن بـــ دنفانتــارا‪ ،‬مرهــم الحكمــة العتيــق‪ ،‬ونزلنــا إىل أرضيــة‬
‫الحريــة؛‬
‫املقيــد ّ‬‫الحــام مثــل أفعيــن ملتفتــن‪ .‬هكــذا يلتمــس اإلنســان ّ‬
‫ني محكــوم يقــي لحظاتــه األخــرة ال يف تذكــر اللــه بــل‬ ‫مثــل ســج ٍ‬

‫‪248‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫يف التـزاوج مــع األمـرات يف خيالــه‪ .‬هكــذا تــأيت لحظــة وحيــدة عندمــا‬
‫يختلــس شــخص مــا النظــر إىل زنزانــة ســجنك ويخــرك أنــه يســتطيع‬
‫إزالــة اللحــم املتــورم‪ ،‬لكنــك تنــرف إىل أوراقــك وجــذورك‪ ،‬مثلــا‬
‫يتحــول املحكــوم إىل أمرياتــه‪ ،‬لقــد انزلقــت اللحظــة ولــن تحــدث مــن‬
‫ـب مــع نــاين عندمــا اهتــز‬
‫جديــد أبــداً‪ ..‬كنــت عــى وشــك مامرســة الحـ ّ‬
‫وتخيلــت أننــي ســمعت ضجيج ـاً كأن ســمكة تغــوص‬ ‫الثؤلــول بعنــف‪ّ ،‬‬
‫يف املــاء‪ ،‬ورصخــة أمل انبعثــت عــن نــاين‪.‬‬
‫«ناين»‪ ،‬قلت «استيقظي! سوف تتجمدين»‪.‬‬
‫مــن الواضــح أن العنــف قــد أنهكهــا فنامــت‪ ،‬مرتخيــة الشــفتني‪،‬‬
‫راحتــا يديهــا اســتقرتا فــوق صدرهــا‪ ،‬والــدم والقيــح يج ّفــان أســفل‬
‫ـت حــوايس‬ ‫رستهــا‪ .‬ومـ ّـرة أخــرى صــارت شــهوة الثؤلــول شــهويت‪ .‬داخـ ْ‬ ‫ّ‬
‫وســقطت يف غيبوبــة‪.‬‬
‫ُ‬
‫البــد أن الغيبوبــة اســتمرت أيام ـاً عديــدة؛ أيقظتنــي رائحــة نتنــة‬
‫نفــاذة‪ .‬نهضــت ونظــرت إىل نــاين؛ ال يشء تغـ ّـر يف مشــهد االغتصــاب‪:‬‬
‫الشــفتان والفخــذان‪ ،‬واليــدان املســتقرتان عــى الصــدر‪ .‬ملســت ســاقيها‪،‬‬
‫كان اللحــم قــد بــدأ يتفســخ‪ ،‬وعندمــا أبعــدت يــدي ســمعت ضحكــة‬
‫مخيفــة مثــل قوقــأة ن ّقــار الخشــب‪ .‬كنــت وحيــداً مــع جثــة وعفونتهــا‪.‬‬
‫ضحــك نقــار الخشــب املتــواري مـ ّـرة أخــرى‪ .‬منحنــي الخــوف القــدرة‬
‫عــى النهــوض والتحــرك؛ ذهبــت إىل املــرآة يك ألقــي نظــرة عــى الثؤلول‪.‬‬
‫كان يتــدىل مــن شــفتي الســفىل مثــل ســلحفاة بحريــة‪ .‬تلــك البقعــة‬
‫الحم ـراء التــي رأيتهــا وظننتهــا التهاب ـاً ومرض ـاً محتم ـاً‪ ،‬انفتحــت اآلن‬
‫وصــارت فـاً‪ ،‬والنقطتــان الســوداوان صارتــا زوجـاً مــن العيــون؛ رأيــت‬
‫يف املــرآة شــفتني نازفتــن تســيالن بالبصــاق والقيــح‪ ،‬وعينــن صغريتــن‬
‫تشــيحان عنــي‪ .‬كانــت الشــفتان تتحــركان اآلن‪ ،‬ومــن جديــد ســمعت‬

‫‪249‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫عرفــت القوقأة‬ ‫القوقــأة الشــبحية لنقــار الخشــب‪ .‬وإذ أصغيــت بانتبــاه‪ّ ،‬‬
‫عــن نفســها بكلــات مــن الشــتائم الفاحشــة املســعورة‪.‬‬
‫تالشــت اآلن الفســحات األخــرة لحريتــي‪ ،‬الفســحات التــي ناشــدتها‬
‫ـت وحيــداً مــع‬ ‫بلهفتــي اليائســة‪ُ .‬أغلــق الســجن عـ ّ‬
‫ي مــن جديــد‪ ،‬و ُتركـ ُ‬
‫آمــر ســجني‪ .‬وبــدأ الثؤلــول اآلن يبلغنــي أوامــره‪ ،‬فأطعتــه‬ ‫الثؤلــول‪ِ ،‬‬
‫بائسـاً‪ .‬وك ّلــا فشــلت يف حــلّ لغــز قوقــأة نقــار الخشــب‪ ،‬نفــث الثؤلــول‬
‫دربــت نفــي عــى اإلصغــاء إىل هــذا الصوت‬ ‫القيــح عـيّ‪ .‬وبكـ ًّد صبــور ّ‬
‫الجديــد‪ ،‬ورسعــان مــا فقــدت القــدرة عــى الــكالم كالرجــال األح ـرار‪.‬‬
‫أخــذ الثؤلــول بزمــام عقــي عــر جــواذب خفيــة‪ ،‬وبــات اآلن ُيكرهنــي‬
‫عــى العمــل‪ .‬كان مثــة غرفــة متــاع يف األعــى‪ ،‬ويف إحــدى الليــايل أمــرين‬
‫الثؤلــول أن أصعــد إىل هنــاك‪ .‬كانــت الظلمــة حالكــة يف الداخــل‪ ،‬لكــن‬
‫بقع ـاً مــن ظــام أكثــف أرشــدتني يف طريقــي‪ .‬العناكــب التــي تع َّكـ َـر‬
‫غفوهــا العتيــق الت ّفــت حــول ســاقي مــن كل الجهــات‪ .‬أمــرين الثؤلــول‬
‫أن أفتــش يف الخــردة‪ .‬دسســت أصابعــي وســط األشــياء الرطبــة الصــدأة‪،‬‬
‫خفيــة‪ ،‬إىل أن ملســت يف النهايــة معدنـاً بــارداً‪ .‬كان ذلــك‬ ‫وســط ســموم ّ‬
‫نصــل كوبــوين نايــر‪ .‬مل أعــرف كيــف وصــل إىل غرفــة املتــاع‪ .‬أمــرين‬
‫الثؤلــول أن ألتقطــه‪ .‬ثــم نزلنــا مــن غرفــة املتــاع مــع الســاح‪.‬‬
‫كان مثــة غشــاوة مــن ضبــاب رقيــق يف الخــارج‪ ،‬وضــوء القمــر مــيء‬
‫بالقلــق‪ .‬أتذكــر أصابعــي ممســكة باملقبــض‪ ،‬أتذكــر الخطــوات األوىل من‬
‫الســر يف النــوم املهلــك‪ ،‬ثــم الغيبوبــة الطويلــة التــي غلبتنــي‪ .‬عندمــا‬
‫صحــوت كانــت الســكني مــا تـزال يف يــدي‪ ،‬وكنــت مغطــى ببقــع ســوداء‬
‫وحمــراء‪ .‬طلــب الثؤلــول منــي أن أنهــض؛ مشــينا إىل البــر القدميــة‪.‬‬
‫وأمــرين أن أطــرح الســكني يف البــر‪ .‬عندمــا رميــت الســكني إىل األعــاق‬
‫واخــرق صفحــات امليــاه العميقــة‪ ،‬رفعــت الصــاة إىل أجــدادي‪ .‬انحنــى‬

‫‪250‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫الثؤلــول وأصغــى‪ ،‬ود ّنــس صلــوايت‪ .‬التمســت العـزاء يف أن الثؤلــول كان‬


‫مــا ي ـزال ناميتــي الزائــدة‪ ،‬وأنــه كان ذات يــوم مجــرد مشــكلة ســيالن‬
‫ـت قوقــأة نقــار الخشــب‪ ،‬ليــس يف أذين بــل‬ ‫تافهــة يف شــفتي‪ .‬ثـ ّـم تكلمـ ْ‬
‫يف داخــل عقــي‪ ،‬قائلــة‪ :‬لقــد انتهكــت القانــون‪.‬‬
‫سألت‪.‬‬
‫أين انتهكته؟ ُ‬
‫الذاكرة‪ ،‬قال الثؤلول‪ ،‬الذاكرة جرمية ضد التاريخ‪.‬‬
‫ـدت مــن جســدي‪ .‬ملــاذا‬‫تكلمــت بحــزن يف داخــل عقــي‪ ،‬لقــد ولـ َ‬
‫تصــادر حريتــي‪ ،‬حريــة مــن منحــك وجــودك‪.‬‬
‫تلـ ّـوى الثؤلــول بغيــظ شــديد‪ ،‬وقــذف رشــقات قاســية مــن األمل يف‬
‫مجــرى دمــي‪.‬‬
‫ارحمني‪ ،‬ارحمني‪ ،‬رصخت‪.‬‬
‫عندمــا تتحــدث إيل مــن اآلن فصاعــداً‪ ،‬قــال الثؤلــول‪ ،‬يجــب أن‬
‫تدعــوين أخــاك‪.‬‬
‫أخي‪ ،‬قلت‪.‬‬
‫ليس بهذا األسلوب‪ ،‬قال الثؤلول‪.‬‬
‫علمني كيف أقولها؟ سألت‪.‬‬
‫بهــذا األســلوب‪ ،‬قــال الثؤلــول‪ ،‬وعلّمنــي عبوديــة اإلرادة‪ .‬طاملــا كانت‬
‫األخــوة كلمــة حريــة‪ ،‬لكــن مــن اآلن فصاعــداً ســوف تتغــر الكلــات‪،‬‬
‫وكذلــك كل يشء أىت مــن مغــاور العقــل املقدســة‪.‬‬
‫يف تلــك الليلــة أمــرين الثؤلــول بالتوجــه نحــو بوابــة مزرعتنــا؛ وصــل‬
‫إىل ســمعي ضجيــج أنــاس عــى مســافة قليلــة‪ .‬كان مثــة رجــال رشطــة‬
‫بقبعاتهــم الحمــراء يف حالــة هيجــان‪ .‬تذكــرت الســكني والــدم عــى‬
‫راحتــي يــدي؛ اســتب ّد يب كــرب عظيــم‪ ،‬وســألت الثؤلــول‪ :‬أيــن خادمــي‬
‫املخلــص‪ ،‬وأيــن زوجتــه؟‬

‫‪251‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ال حاجة لك ألن تعرف‪ ،‬قال الثؤلول بقسوة‪.‬‬


‫ـررت‪ .‬يــا أخــي‪ ،‬ناديــت الثؤلــول وعقــي يبــي‪ .‬ثـ ّـم‬
‫ال حاجــة يل‪ ،‬كـ ُ‬
‫ـلمت لغلبتــه‪.‬‬
‫استسـ ُ‬
‫هيــا‬
‫ـت أن الثؤلــول ابتســم‪ .‬حســناً‪ ،‬قــال‪ .‬إنــه وقــت التغــذي‪ّ .‬‬ ‫عرفـ ُ‬
‫إىل الحــام‪.‬‬
‫ازدادت كثافــة الرائحــة النتنــة يف الحــام حتــى إنهــا كانــت بطعــم‬
‫مســتنقع املــوت‪ ،‬مــوت ال تعوضــه والدة جديــدة‪ .‬تثاقلــت بخطــوي‬
‫نحــو الداخــل‪ .‬طلــب منــي الثؤلــول أن أســتلقي مــن جديــد فــوق جثــة‬
‫نــاين مــن أجــل تــزاوج جنائــزي‪ّ .‬قبــل الثؤلــول الشــفتني الســوداوين‬
‫املنفرجتــن‪ ،‬ثــم ســمعت ضجيجــاً يشــبه أصــوات مقــص الحــاق‪.‬‬
‫زالــت شــفاه نــاين‪ ،‬وعرفــت الطعــم الــاذع للعفونــة‪ .‬وملعــت تكشــرة‬
‫عظيمــة مــن املوضــع الــذي كانــت الشــفاه فيــه؛ ورسعــان مــا اختفــت‬
‫العينــان والخــدان واألنــف‪ ،‬وكان مثــة ضجيــج تحطيــم عظــام وســحقها‬
‫يف خيميــاء التحـ ّـول‪ .‬تبــع ذلــك صــوت املضــغ الرتيــب‪ .‬ومــا إن انتهــى‬
‫ـرت بالنهــوض‪.‬‬‫األمــر حتــى ُأمـ ُ‬
‫وقفــت عــى قرميــد الحــام‪ .‬وكانــت نــاين مســتلقية بــا رأس عنــد‬
‫قدمــي‪ ،‬فخذاهــا متباعــدان ويداهــا مطويتــان فــوق صدرهــا‪.‬‬
‫واآلن إىل املــرآة‪ ،‬قــال الثؤلــول‪ .‬ورأيــت أن زوائــد لدنــة قــد تربعمــت‬
‫عليــه‪ ،‬إنهــا أيــدي الثؤلــول!‬
‫يا إلهي‪ ،‬قلت‪.‬‬
‫تفوهــت بتلــك الكلمــة حتــى احرتقــت الرمــاح عــر دمــي‬ ‫مــا إن ّ‬
‫ـت ضارعـاً‪ ،‬أخــي‪ ،‬أخــي! فارتـ ّدت‬ ‫وتالشــت قــدريت عــى التحمــل‪ ،‬فرصخـ ُ‬
‫الرمــاح‪.‬‬
‫س الثؤلول بذلك‪.‬‬
‫لت‪ّ ُ .‬‬‫وكل القدرة! هكذا ر ّت ُ‬
‫أخي‪ ،‬أخي العادل ّ‬

‫‪252‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫بأيديــه الناميــة الجديــدة بــدأ الثؤلــول يصطــاد؛ طــارد القطــط الربية‬


‫والفــران‪ ،‬التقــط عصيــاً مــن غرفــة املتــاع وافرتســها بهــا‪ .‬وأصبحــت‬
‫الجثــة املقطوعــة الــرأس اآلن مالط ـاً يبقبــق ويرغــي‪ ،‬ت ـزاوج الثؤلــول‬
‫معهــا مـ ّـرة بعــد مـ ّـرة‪.‬‬
‫يف إحــدى الليــايل تركــزت أفــكاري حــول ســوما وأوين بحــ ّدة مل‬
‫أعهدهــا مــن قبــل‪ .‬فتشــت عنهــا يف عتمــة حــزين الالســعة‪ ،‬لكنــي‬
‫تعــرت وســقطت وبكيــت‪ .‬وأصغــى الثؤلــول إيلّ‪ .‬يحــدث مـ ّـرة يف حيــاة‬
‫ـك‬
‫اإلنســان‪ ،‬رمبــا مـ ّـرة‪ ،‬أن يتحــول حزنــه إىل عمــق شــائن‪ ،‬وكإرادة ملـ ٍ‬
‫ـب‪ .‬وعندمــا خمــد عويــي‪،‬‬ ‫يجــرف كلّ يشء أمامــه‪ .‬اســتع ّد الثؤلــول وراقـ َ‬
‫ـأت‪ .‬وزالــت الرائحــة النتنــة اآلن؛‬‫انتظــرت قصــاص الرمــاح‪ .‬لكنهــا مل تـ ِ‬
‫ـأت‬
‫فبعــد جــاع واحــد أخــر‪ ،‬لعــق الثؤلــول املــاط بنهــم شــديد‪ .‬ومل تـ ِ‬
‫الرمــاح‪ ،‬لكنــي مل أســلم مــن القصــاص! إذ منعــت عــن مجــرى دمــي‬
‫جميــع املــواد املغذيــة‪ .‬منــا يف داخــي جــوع مثــل نــار خفيــة تحــرق‬
‫صــدوع الجبــال‪ .‬وبــدأت أتضــاءل برسعــة والثؤلــول يكــر ويكــر‪ ،‬حتــى‬
‫ثــم يف أحــد األيــام‪ ،‬حطــم‬‫أصبحــت أنــا مجــرد الحقــة ثانويــة بــه‪ّ .‬‬ ‫ُ‬
‫الثؤلــول أبــواب حجرتنــا التــي تحتــوي مخطوطــات ســعف النخيــل‪.‬‬
‫وفتــش فيهــا عــن أرسار َد ْن َف ْنتــاري‪ .‬اســتغرق الثؤلــول وهلــة مــن الزمــن‬
‫يف دراســتها‪ ،‬ومــى بعــد ذلــك إىل املنحــدر ليجلــب األوراق والجــذور‪.‬‬
‫شــاهدته يصنــع الــدواء ويضعــه يف طبقــة ثخينــة حــول قاعــدة جســمي‬
‫الضئيــل‪ .‬حــدث أمل فظيــع أعقبــه فقــدان للحــس ونــوم‪.‬‬
‫اســتيقظت وســط أعشــاب الهندبــاء الرباقــة‪ ،‬كانــت الشــمس تلمــع‬
‫الحيــة‪ .‬أدركــت أننــي كنــت يف‬ ‫فوقــي والريــح نــرت شــذا النباتــات ّ‬
‫حديقتــي‪ .‬رأيــت مخلوقـاً هائـ ًا يطـ ّـوف مــن وراء البيــت‪ .‬إنــه الثؤلــول!‬
‫أدويــة َد ْن َف ْنتــاري التــي اســتعملها الثؤلــول أعطــت مفعولهــا‪ ،‬ولقــد‬

‫‪253‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ـقطت عــن جســم الثؤلــول الضخــم‪ .‬كان مثــة تغــر عجيــب‬ ‫ـت وسـ ُ‬ ‫ذويـ ُ‬
‫يف مقيــاس األشــياء‪ ،‬بــدت أوراق العشــب مثــل أبــراج واليعاســيب‬
‫ـت إىل حجــم دودة‪.‬‬
‫هبطــت فوقهــا كالطائ ـرات‪ .‬وتقلّصـ ُ‬
‫طــوف الثؤلــول يف الحديقــة‪ .‬تســلقت الشــمس الظهــرة الحــارة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ثــم غربــت وأرشقــت مــن جديــد‪ .‬العناكــب اصطــادت وســط العشــب‪.‬‬
‫والثؤلــول يكــر ويتغــر‪ .‬ملــع جلــده األســود وأصبــح لديــه أربــع أرجــل‬
‫ـدن وزوج مــن األنيــاب‪ .‬أصبــح الثؤلــول‬‫وأذنــان كبريتــان متدليتــان‪ ،‬وبـ ٌ‬
‫فيـاً‪.‬‬
‫قدمــت ثلــة مــن الرباهــان نازلــن مــن الهضبــة ورأوا الفيــل ميــرح‬
‫يف ميــاه نهرنــا‪.‬‬
‫«فيلٌ ساحر حقاً»‪ ،‬قالوا‪.‬‬
‫«ميكن للمعبد أن يستخدمه يف املواكب»‪.‬‬
‫«ملن هذا الفيل؟»‬
‫«إنه لـ كوبوين»‪.‬‬
‫«إن كوبوين خبري متمكن بالفعل»‪.‬‬
‫«انظر هنا أيها الفيل»‪..‬‬
‫وبصــويت الــدودي الواهــن كخيــط يرقــة رصخــت‪ :‬أيهــا الرباهــان‬
‫األتقيــاء‪ ،‬هــذا ليــس في ـاً‪ ،‬إنــه جرثــوم‪ .‬ســوف أخربكــم حكايتــه‪ .‬لكــن‬
‫هبــت الريــح وعصــف صــوت األوراق امليتــة‪.‬‬ ‫الرباهــان مضــوا‪ّ .‬‬
‫حمــل الفيــل صدقــات املعبــد‪ ،‬الفاكهــة والســكر وأوراق جــوز الهنــد‬
‫الغضــة‪ ،‬وعــى ظهــره تألــق متثــال إلــه املعبــد‪ .‬و ُنســيت أحـزان التقــي‬
‫والنبيــل‪ ،‬وكذلــك رائحــة مــوت املــرأة الحنــون‪ .‬لكننــي حصلــت عــى‬
‫حريتــي‪ ،‬حريــة‪ ..‬لقــد وهبنــي الثؤلــول حريتــي‪ ،‬نعــم‪ ،‬الثؤلــول آمـ ُـر‬
‫ســجني‪ .‬بعــد ذلــك‪ ،‬جــاء مثــل طوفــان وعــي بالقــوة الحيــة التــي‬

‫‪254‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫حققــت ذاتهــا يف الجرثــوم الســام مثــل مــا تحققــت يف بــذور الحيــاة‪.‬‬


‫وتفتحــت الســاوات يف رأيس الضئيــل‪ ،‬وملعــت فيهــا شــمس مباركــة‪.‬‬
‫األرض والســاء‪ ،‬الغليــظَ‬
‫كل القــدرة‪ ،‬يــا مــن يتخلــل َ‬ ‫أيهــا النــور ّ‬
‫واللطيــف‪ ،‬لت ُِضــئْ يل فكــري‪..‬‬
‫من جديد‪ ،‬متتلئ أوراق النبيل وجذوره من سخاء الشمس‪.‬‬
‫تلــك كانــت حامقتــي‪ ،‬يــا إلهــي ومــوالي‪ ،‬إننــي نســيت صريورتــك‬
‫الخالــدة‪ .‬إنــك أنــت بــاب الســجني‪.‬‬

‫(املااليامية) إىل اإلنكليزية‬


‫ّ‬ ‫ترجمها املؤلف من اللغة األم‬
‫٭٭٭‬

‫‪255‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫‪256‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫وصلنا إىل أمريتسار‬


‫بيشام ساهني‬
‫مل يكــن يف املقصــورة كثــر مــن املســافرين‪ .‬يف املقعــد املقابــل يل‪،‬‬
‫كان رجــل مــن الســيخ يحدثنــي عــن تجاربــه يف الحــرب‪ .‬قــال إنــه قاتــل‬
‫عــى جبهــة بورمــا‪ ،‬وكلــا كان يــأيت عــى ذكــر الجنــود اإلنكليــز كان‬
‫ضمــت املقصــورة أيضـاً ثالثــة تجــار‬‫يضحــك مــن كل قلبــه محبــة لهــم‪ّ .‬‬
‫َبتانيــن‪ ،‬أحدهــم‪ ،‬الــذي يلبــس ســالوار كاميــز تقليــدي أخــر‪ ،‬اســتلقى‬
‫متمــدداً عــى الرسيــر العلــوي‪ .‬كان شــخصاً ثرثــاراً مــا انفــكّ يتبــادل‬
‫جالــس يف جــواري‪.‬‬‫ٍ‬ ‫النــكات مــع با ُبــو(‪ )35‬هنــدويس هزيــل الجســم‬
‫بــدا أن با ُبــو قــدم مــن بيشــاور‪ ،‬إذ بــن فينــة وأخــرى كانــا يتبــادالن‬
‫الحديــث بلغــة البوشــتو‪ .‬ويف زاويــة تحــت رسيــر الســيخي‪ ،‬جلســت‬
‫ـوات وأدعيــة واملســبحة يف يدهــا‪ ،‬وشــالٌ يغطــي‬‫امــرأة عجــوز تتلــو صلـ ٍ‬
‫رأســها وكتفيهــا‪ .‬هــؤالء فقــط هــم املســافرون الذيــن أســتطيع تذ ّكــر‬
‫وجودهــم معنــا يف املقصــورة‪ .‬رمبــا كان هنــاك آخــرون أيضــاً‪ ،‬لكنــي‬
‫ال أتذكرهم اآلن‪.‬‬
‫تحــرك القطــار ببــطء‪ ،‬وبــدأ املســافرون يتبادلــون األحاديــث فيــا‬
‫ـب النســيم يف الخــارج ومعــه متايلــت مويجــات رقيقــة مــن‬ ‫بينهــم‪ .‬هـ ّ‬
‫(‪ )35‬لقب مخاطبة يطلق عىل الهندويس عندما يكون موظفاً أو من الطبقة الوسطى‪( .‬م)‬

‫‪257‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ســنابل القمــح الناضجــة‪ .‬كنــت ســعيداً ألننــي يف الطريــق إىل دلهــي‬


‫لحضــور االحتفــاالت مبناســبة اســتقالل الهنــد‪.‬‬
‫يبــدو يل عندمــا أفكــر يف تلــك األيــام أننــا كنــا نعيــش وســط‬
‫غشــاوة‪ .‬لعــلّ ذلــك ألن الزمــن عندمــا ينقــي تبــدأ غشــاوة يف غمــر‬
‫حــوادث املــايض شــيئاً فشــيئاً‪ ،‬وتصبــح الغشــاوة أثخــن فأثخــن كلــا‬
‫خطونــا نحــو املســتقبل‪.‬‬
‫كان قــرار إنشــاء باكســتان قــد ُأعلــن للتــو‪ ،‬والنــاس يرضبــون‬
‫أخامس ـاً بأســداس مخمنــن مــا عــى تكــون عليــه الحيــاة واألوضــاع‬
‫لكــن مل يكــن أحــد ليعلــم عــى وجــه‬ ‫يف هــذه الدولــة الجديــدة‪ْ .‬‬
‫اليقــن مــا ســيكون عليــه الحــال يف املســتقبل‪ .‬ســألني الســيخي الــذي‬
‫يجلــس قبالتــي عــدة م ـرات إن كنــت أعتقــد أن محمــد عــي جنــاح‬
‫ســيبقى مقيـ ًا يف بومبــاي أم أنــه ســينتقل إىل باكســتان ويســتقر هنــاك‪.‬‬
‫كنــت أجيبــه يف كل مـ ّـرة‪« ،‬وملــاذا عليــه مغــادرة بومبــاي؟ أعتقــد أنــه‬
‫ســيواصل العيــش يف بومبــاي ويــزور باكســتان باســتمرار»‪ .‬كذلــك‬
‫ســادت تخمينــات مامثلــة بشــأن مصــر مدينتــي الهــور وغورداســبور‬
‫بعــد التقســيم‪ .‬انهمــك النــاس يف القيــل والقــال والتســلية كــا كانــوا‬
‫مــن قبــل‪ .‬بعضهــم هجــروا مواطنهــم إىل األبــد‪ ،‬يف حــن ســخر آخــرون‬
‫منهــم‪ .‬ال أحــد كان يعلــم مــا الخطــوة الصحيحــة التــي ينبغــي اتخاذهــا‪.‬‬
‫اســتهجن بعــض النــاس إنشــاء دولــة باكســتان‪ ،‬وابتهــج آخــرون بإنجــاز‬
‫االســتقالل‪ .‬م ّزقــت أعــال الشــغب بعــض األماكــن يف حــن كانــت أماكن‬
‫ـن الجميــع‬‫أخــرى منشــغلة بالتحضــر الحتفــاالت إعــان االســتقالل‪ .‬ظـ ّ‬
‫عــى وجــه العمــوم أن املتاعــب ســوف تتوقــف تلقائي ـاً بعــد تحقــق‬
‫الحريــة‪ .‬ويف تلــك الغشــاوة الضبابيــة شــعرنا بالطعــم العــذب للحريــة‪،‬‬
‫ولكــن بــدا أن عتمــة الاليقــن ســتظل مرافقــة لنــا‪ .‬وكانــت تلــوح بــن‬

‫‪258‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫ـات تــي مبــا يحمله املســتقبل‬ ‫الفينــة واألخــرى عــر هــذه العتمــة ومضـ ٌ‬
‫لنــا‪.‬‬
‫البتــاين املســتلقي يف‬‫كنــا قــد تجاوزنــا مدينــة ِج ْه َلــم عندمــا فــكّ َ‬
‫الرسيــر العلــوي رصة صغــرة وأخــرج منهــا قطعـاً مــن اللحــم املســلوق‬
‫وبعــض الخبــز‪ ،‬وبــدأ يوزعهــا عــى صحبــه‪ .‬وبأســلوبه املــرح املعتــاد‬
‫ق ـ ّدم بعــض اللحــم إىل با ُبــو الجالــس بجــواري‪.‬‬
‫« ُكلْهــا يــا با ُبــو‪ُ ،‬كلْهــا‪ .‬ســتمنحك القــوة والعافيــة وتصبــح مثلنــا‪،‬‬
‫وتــر زوجتــك منــك‪ .‬أال تــرى أنــك ضعيــف وهزيــل ألنــك ال تــأكل‬
‫ســوى حســاء العــدس‪ُ .‬كلْهــا‪ ،‬أيهــا النبــايت»‪.‬‬
‫ضحــك املســافرون‪ ،‬ور ّد با ُبــو ببضــع كلــات بلغــة البوشــتو وظــلّ‬
‫يبتســم ويهــز رأســه رافض ـاً‪.‬‬
‫البتاين اآلخر أيضاً‪.‬‬ ‫وتهكم عليه َ‬
‫«أيهــا الغبــي‪ ،‬إن كنــت ال تريــد تنــاول الطعــام مــن أيدينــا‪ ،‬امــد ْد‬
‫يديــك أنــت وخــذه بنفســك‪ .‬أقســم باللــه إنــه لحــم ماعــز وليــس لحــم‬
‫أي حيــوان آخــر كــا تظــن»‪.‬‬
‫البتــاين الثالــث وقــال‪« :‬يــا ابــن امللعونــة‪ ،‬مــن سـراك هنــا؟‬ ‫انضــم َ‬
‫لــن نخــر زوجتــك بذلــك‪ .‬ك ُْل مــن هــذا اللحــم الــذي معنــا وســوف‬
‫نــأكل مــن حســاء العــدس الــذي معــك»‪.‬‬
‫انفجــر الجميــع بالضحــك‪ .‬لكــن با ُبــو ظــل يبتســم ويهــز رأســه‬
‫رافضــاً‪.‬‬
‫«هــل مــن الالئــق أن نــأكل جميعـاً وأنــت تنظــر إلينــا فحســب؟»‬
‫ـل‪.‬‬
‫البتانيــون يف م ـزاج مسـ ٍٍّ‬ ‫كان َ‬
‫انضـ َّـم الســيخي البديــن إىل الحديــث وقــال «لــن يقبل الطعــام منك‬
‫ألنــك مل تغســل يديــك»‪ ،‬وانفجــر ضاحــكاً عــى املزحــة التــي أطلقهــا‪.‬‬

‫‪259‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫كان يضطجــع عــى املقعــد جانبيـاً ونصــف كرشــه متـ ٍٍّ‬


‫ـدل أمامــه‪« .‬لقــد‬
‫ـارشت األكل فــوراً‪ .‬لهــذا الســبب لــن يقبــل عزيــزي‬
‫ـتيقظت للتــو وبـ َ‬
‫َ‬ ‫اسـ‬
‫با ُبــو الطعــام مــن يديــك‪ ،‬وال يوجــد أي ســبب آخــر»‪ .‬بعــد كالمــه هــذا‪،‬‬
‫غمــزين وقهقهــه مــن جديــد‪.‬‬
‫ـت ال تريــد أكل اللحــم‪ ،‬إذن اذهــب واجلــس يف مقصــورة‬ ‫«إن كنـ َ‬
‫النســاء‪ُّ .‬أي شــأن لــك هنــا؟»‬
‫مـ ّـرة أخــرى‪ ،‬عـ ّـم الضحــك أرجــاء املقصــورة‪ .‬كان املســافرون قــد‬
‫انضمــوا معــاً إىل املقصــورة منــذ بدايــة الرحلــة‪ ،‬ونشــأت حالــة مــن‬
‫األلفــة فيــا بينهــم‪.‬‬
‫«تعــال واجلــس بجانبــي‪ .‬تعــال أيهــا الوغــد‪ ،‬ســوف نجلــس‬
‫ونــدردش عــن ســوق ِكيســاكَني»(‪.)36‬‬
‫٭٭٭‬

‫توقــف القطــار يف محطــة عــى جانــب الطريــق وصعــد مســافرون‬


‫جــدد وأقحمــوا أنفســهم يف املقصــورة‪.‬‬
‫«ما اسم هذا املكان؟» سأل أحدهم‪.‬‬
‫أجبــت وأنــا أتفحــص املــكان عــر‬
‫ُ‬ ‫«يبــدو يل أنهــا وزيــر أبــاد»‪،‬‬
‫النافــذة‪.‬‬
‫توقــف القطــار لفــرة قصــرة فحســب‪ ،‬لكــن خــال ذلــك وقــع‬
‫حــادث بســيط‪ .‬نــزل أحــد الرجــال مــن املقصــورة املجــاورة وذهــب إىل‬
‫صنبــور امليــاه عــى الرصيــف‪ .‬كان بالــكاد قــد مــأ قربتــه عندما اســتدار‬
‫فجــأة وبــدأ الركــض باتجــاه مقصورتــه وامليــاه تتــرب مــن القربــة‪.‬‬
‫كان املشــهد برمتــه منــذراً بالنســبة يل‪ ،‬فطاملــا رأيــت أناس ـاً يركضــون‬
‫(‪ )36‬أحد األسواق الرئيسية يف مدينة بيشاور‪( .‬م)‬

‫‪260‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫باألســلوب نفســه وعرفــت فــوراً مــا الــذي يعنيــه ذلــك‪ .‬اثنــان أو ثالثــة‬
‫مســافرين آخريــن بــدؤوا الركــض أيض ـاً نحــو مقصوراتهــم‪ .‬ويف خــال‬
‫ـوان ال أكــر‪ ،‬خــا الرصيــف مــن النــاس‪ .‬لكــن‪ ،‬يف داخــل مقصورتنــا كان‬ ‫ثـ ٍ‬
‫املســافرون يدردشــون ويتســلون كــا مل يدردشــوا أو يتســلوا مــن قبــل‪.‬‬
‫غمغم با ُبو الذي يجلس بجانبي‪« :‬يبدو أن أمراً سيئاً يحدث»‪.‬‬
‫أمــر مــا فعــاً‪ ،‬لكــن ال أحــد منــا كان بإمكانــه تحديــده‬ ‫حــدث ٌ‬
‫بدقــة‪ .‬ســبق يل أن شــاهدت حــاالت مــن أعــال الشــغب الجامعيــة‬
‫ـاس‬
‫وصــار بوســعي متييــز أي تغيــر طفيــف يحــدث يف الجـ ّـو العــام؛ أنـ ٌ‬
‫يركضــون‪ ،‬أبــواب تصفــق بقــوة‪ ،‬رجــال ونســاء يقفــون عــى أســطح‬
‫يخيــم عــى األجــواء؛ كلهــا عالمــات عــى‬ ‫صمــت غريــب ّ‬ ‫ٌ‬ ‫املنــازل‪،‬‬
‫الشــغب واملصادمــات‪.‬‬
‫فجــأة‪ُ ،‬ســمع صــوت شــجار يف البــاب الخلفــي للمقصــورة‪ .‬كان‬
‫بعــض املســافرين يحاولــون الدخــول منــه‪.‬‬
‫«ال‪ ،‬ال ميكنــك الدخــول»‪ ،‬رصخ أحدهــم «ال متســع هنــا‪ .‬أال تــرى؟‬
‫ال‪ ،‬ال‪ .‬ابتعــد»‪.‬‬
‫غلقــوا البــاب»‪ .‬ع َّلــق مســافر آخــر «يــا لهــؤالء النــاس‪ ،‬يدخلــون‬‫«أَ ِ‬
‫هكــذا وكأن املقصــورة بيــت عمهــم»‪.‬‬
‫كانت أصوات عديدة تصدر يف الوقت نفسه‪.‬‬
‫عندمــا يكــون أحــد املســافرين يف خــارج املقصــورة ويحــاول بيــأس‬
‫الصعــود إليهــا‪ ،‬كانــت تواجهــه مقاومــة شــديدة مــن أولئــك الذيــن يف‬
‫داخلهــا‪ .‬لكــن‪ ،‬مــا إن ينجــح يف الدخــول حتــى تتــاىش املقاومــة ورسعان‬
‫مــا يقبلــه اآلخــرون كأحــد رفــاق الطريــق‪ ،‬ومــن ثـ ّـم يف املحطــة التاليــة‪،‬‬
‫يبــدأ هــو أيض ـاً يف ال ـراخ عــى املســافرين الجــدد الذيــن يحاولــون‬
‫الصعــود إىل العربــة‪.‬‬

‫‪261‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ازداد االضطـراب‪ .‬رجــلٌ بثيــاب ملطخــة متســخة وشــاربني متدليــن‬


‫اندفــع بقــوة إىل داخــل املقصــورة‪ .‬بــدا مــن ثيابــه املتســخة أنــه بائــع‬
‫حلويــات‪ .‬مل ُيعــر أي انتبــاه إىل رصخــات االحتجــاج التــي أطلقهــا‬
‫املســافرون‪ .‬أقحــم نفســه يف الداخــل واســتدار محــاوالً أيضــاً حــر‬
‫صندوقــه األســود الضخــم‪.‬‬
‫«تعــايل‪ ،‬تعــايل‪ ،‬اصعــدي أنــت أيضـاً»‪ ،‬رصخ مخاطبـاً امــرأة نحيلــة‬
‫واهنــة كانــت وراءه‪ .‬دخلــت مــن البــاب بصحبــة فتــاة ســمراء شــابة يف‬
‫السادســة عــرة أو الســابعة عــرة مــن عمرهــا‪ .‬كان النــاس ال يزالــون‬
‫يرصخــون يف وجوههــم‪ .‬نهــض الســيخي مــن رسيــره العلــوي وجلــس‬
‫عــى وركيــه‪.‬‬
‫كان الجميــع يرصخــون يف وقــت واحــد‪« :‬أغلقــوا البــاب‪ .‬مل ال‬
‫تغلقونــه؟ ال ي ـزال النــاس يدخلــون علينــا»‪« .‬ال تدعــوا أحــداً يدخــل»‪.‬‬
‫«مــا الــذي تفعلونــه»‪« .‬فقــط اطــردوه‪ ،‬هنــاك شــخص»‪..‬‬
‫واصــل الرجــل حــر صندوقــه‪ ،‬يف حــن انكمشــت زوجتــه وابنتــه‬
‫ووقفتــا مقابــل بــاب الحــاّ م تنظ ـران بقلــق وخــوف‪.‬‬
‫«أال ميكنــك الذهــاب إىل مقصــورة أخــرى؟ وأحــرت نســاءك معــك‬
‫أيضـاً! أال تــرى أن املقصــورة مخصصــة للرجــال؟»‪.‬‬
‫كان الرجــل يلهــث وثيابــه تقطــر عرقـاً‪ .‬وبعــد أن ســحب صنــدوق‬
‫مالبســه انهمــك يف تجميــع أمتعتــه األخــرى‪.‬‬
‫لســت مــن أولئــك الذيــن يســافرون مــن دون‬ ‫ُ‬ ‫«معــي تذكــرة‪،‬‬
‫تذاكــر‪ .‬مل يكــن لــدي خيــار آخــر‪ .‬اندلعــت أعــال شــغب وعنــف يف‬
‫املدينــة‪ .‬أعــالٌ مروعــة وصلــت إىل محطــة القطــار»‪..‬‬
‫البتــاين الــذي كان يف‬ ‫الذ جميــع املســافرين بالصمــت مــا عــدا َ‬
‫الرسيــر العلــوي‪ .‬مــال إىل األمــام ورصخ «اخــرج مــن هنــا! ال يوجــد أي‬

‫‪262‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫متســع إضــايف هنــا‪ ،‬أال تــرى ذلــك؟»‬


‫دل إحــدى ســاقيه مــن الرسيــر وركل الرجــل‪ .‬لكــن‪ ،‬بــدالً‬ ‫وفجــأة‪ّ ،‬‬
‫مــن أن يصيبــه وقعــت رجلــه متامـاً عــى صــدر الزوجــة‪ .‬رصخــت متأملــة‬
‫وانهــارت عــى أرضيــة املقصــورة‪.‬‬
‫مل يكــن مثــة وقــت للمجادلــة‪ .‬واصــل بائــع الحلــوى تجميــع أمتعتــه‬
‫وســحبها إىل الداخــل‪ .‬كان كل مــن يف املقصــورة صامتـاً مذهــوالً‪ .‬وبعــد‬
‫الــرة الثقيلــة‪ ،‬كان يصــارع إلقحــام ركائــز رسيــر خشــبي‬ ‫ّ‬ ‫أن جــذب‬
‫البتــاين أعصابــه‪.‬‬
‫مفــكك إىل داخــل املقصــورة‪ .‬هنــا‪ ،‬فقــد َ‬
‫«اطردوه‪ ،‬ومن هو عىل أي حال؟» رصخ‪.‬‬
‫البتانيــن اآلخريــن وكان يف الرسيــر الســفيل ودفــع‬ ‫نهــض أحــد َ‬
‫صنــدوق الرجــل إىل خــارج املقصــورة‪.‬‬
‫يف ذلــك الصمــت‪ ،‬ســمعنا صــوت املــرأة العجــوز فقــط‪ .‬مــن هنــاك‬
‫يف الزاويــة حيــث كانــت تجلــس‪ ،‬متتمــت ببضــع كلــات‪« :‬أيهــا النــاس‬
‫الطيبــون‪ ،‬دعوهــم يصعــدوا‪ .‬تعــايل يــا ابنتــي واجليس بجانبي‪ .‬ســينقيض‬
‫الوقــت ونصــل‪ .‬اســتمعوا إيلّ‪ .‬ال تكونــوا قســاة إىل هــذا الحــد»‪..‬‬
‫ثم بدأ القطار بالتحرك‪.‬‬‫ّ‬
‫«أواه‪ ،‬األغــراض! مــا الــذي ســأفعله مــن دون أغــرايض!» رصخ‬
‫الرجــل بارتبــاك وعصبيــة‪.‬‬
‫«بابــا‪ ،‬نصــف أغراضنــا مــا ت ـزال يف الخــارج عــى الرصيــف! مــاذا‬
‫نفعــل؟» بكــت البنــت وهــي ترتجــف‪.‬‬
‫«انزلــوا‪ ،‬دعونــا ننــزل‪ .‬ال وقــت لدينــا»‪ .‬رصخ الرجــل مترنفـزاً‪ ،‬ورمــى‬
‫الــرة الكبــرة إىل الخــارج بينــا كان ميســك بقبضــة البــاب ثـ ّـم يرمــي‬
‫نفســه أيضــاً عــى الرصيــف‪ .‬تبعتــه ابنتــه املرتجفــة وزوجتــه التــي‬
‫كانــت ال ت ـزال متســك صدرهــا وتــن متأملــة‪.‬‬

‫‪263‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫«يــا لكــم مــن أرشار! رصخــت املــرأة العجــوز»‪« .‬لقــد فعلتــم شــيئاً‬
‫ســيئاً‪ .‬ماتــت املشــاعر الطيبــة يف قلوبكــم‪ .‬أمل تــروا أن ابنتــه الصغــرة‬
‫معــه‪ .‬أال توجــد شــفقة يف قلوبكــم»‪..‬‬
‫خيــم الصمــت‬ ‫غــادر القطــار الرصيــف الخــايل وانطلــق مرسعــاً‪ّ .‬‬
‫والرتقــب عــى املقصــورة‪ .‬وحتــى املــرأة العجــوز توقفــت عــن التمتمــة‪.‬‬
‫البتانيــن‪.‬‬
‫مل ميتلــك أحــد الشــجاعة لتحــدي َ‬
‫بعــد ذلــك مبــارشة اقــرب با ُبــو الجالــس بجانبــي وملــس ذراعــي‬
‫هامس ـاً مرتعش ـاً‪« :‬حريــق! انظــر! حريــق يف الخــارج هنــاك!»‬
‫يف تلــك اللحظــة كان القطــار قــد ابتعــد عــن الرصيــف وكل مــا‬
‫اســتطعنا رؤيتــه ســحب الدخــان املرتفعــة فــوق ألســنة اللهــب‪.‬‬
‫«بــدأ الشــغب! لهــذا كان النــاس يركضــون عــى الرصيــف‪ .‬اندلــع‬
‫الشــغب يف مــكان مــا!»‬
‫كانــت املدينــة تشــتعل برمتهــا‪ .‬وعندمــا أدرك املســافرون مــا‬
‫يحــدث‪ ،‬اندفعــوا جميع ـاً نحــو النوافــذ لرؤيــة مشــهد الن ـران جيــداً‪.‬‬
‫٭٭٭‬

‫خيــم صمــت ثقيــل الوطــأة عــى املقصــورة‪ .‬أبعــدت رأيس عــن‬ ‫ّ‬
‫النافــذة ونظــرت حــويل‪ .‬رأيــت با ُبــو الواهــن شــاحباً شــحوب املــوت‪،‬‬
‫فيــا جبهتــه املتعرقــة تلمــع يف الضــوء‪ .‬كان املســافرون يتبادلــون‬
‫نظـرات فاحصــة والرنفــزة باديــة عــى مالمحهــم‪ .‬مــن الواضــح أن توتـراً‬
‫جديــداً نشــأ فيــا بينهــم‪ .‬ورمبــا نشــأ توتــر مامثــل يف كل مقصــورات‬
‫البتانيــان‬
‫القطــار‪ .‬نهــض الســيخي مــن مقعــده وجلــس بجــواري‪ .‬قفــز َ‬
‫الجالســان عــى الرسيــر الســفيل والتحقــا بابــن بلدهــا يف الرسيــر‬
‫العلــوي‪ .‬رمبــا جــرت العمليــة نفســها يف املقصــورات األخــرى أيضــاً‪.‬‬

‫‪264‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫البتانيــون الثالثــة املنكمشــون‬ ‫توقفــت األحاديــث املتبادلــة متامــاً‪َ .‬‬


‫عــى بعضهــم يف الرسيــر العلــوي‪ ،‬بــدوا هادئــن متام ـاً‪ .‬كانــت عيــون‬
‫املســافرين مليئــة بالرتقــب والخشــية‪.‬‬
‫«أي محطة تلك؟» سأل أحد األشخاص‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫«إنها وزير أباد»‪.‬‬
‫ـل آخــر‪ .‬فقــد بــدا االرتيــاح واالطمئنــان عــى‬ ‫ـواب ر ُّد فعـ ٍ‬
‫تبــع الجـ َ‬
‫البتانيــن يف حــن ازداد توتــر املســافرين الهندوســيني والســيخ‪ .‬تنــاول‬ ‫َ‬
‫البتانيــون‬ ‫البتانيــن علبــة ســعوط مــن ُصدرتــه وتنشــقها‪ ،‬وحــذا َ‬ ‫أحــد َ‬
‫ـت املــرأة العجــوز التســبيح مبســبحتها‪ ،‬لكــن بــن‬ ‫اآلخــرون حــذوه‪ .‬واصلـ ِ‬
‫ـس أجــش قــادم مــن جهتهــا‪.‬‬ ‫حــن وآخــر كان يســمع صــوت همـ ٍ‬
‫عندمــا توقــف القطــار يف املحطــة التاليــة كان رصيفهــا خالي ـاً متام ـاً‪.‬‬
‫ـن أحــد الســقاة قــدم نحــو القطــار‬ ‫مل يكــن هنــاك أثــر حتــى لعصفــور‪ ،‬لكـ ّ‬
‫وصنــدوق املــاء عــى ظهــره‪َ .‬عـ َـر الرصيــف وبــدأ يصب امليــاه للمســافرين‪.‬‬
‫«قُتــل كثــر مــن النــاس‪ .‬مجــزرة‪ ،‬مجــزرة»‪ ،‬قــال‪ .‬بــدا كــا لــو أنــه‬
‫الناجــي الوحيــد وســط تلــك املذبحــة وأىت ألداء عمــل صالــح‪.‬‬
‫مــع انطالقــة القطــار مــن جديــد بــدأ النــاس فجــأة ُينزلــون الســتائر‬
‫عــى نوافــذ العربــة‪ .‬وال بــد أن جلبــة إغــاق الســتائر املختلطــة مــع‬
‫هديــر دواليــب القطــار ُســمعت عــى مســافة بعيــدة‪.‬‬
‫نهــض با ُبــو فجــأة مــن مقعــده وانبطــح عــى األرض‪ .‬كان وجهــه‬
‫البتانيــن يف األعــى‬ ‫مــا ي ـزال شــاحباً شــحوب املــوت‪ .‬صــاح بــه أحــد َ‬
‫ـار‬‫ـت عـ ٌ‬
‫هازئـاً‪« :‬ويحــك‪ ،‬مــا الــذي تفعلــه! هــل أنــت رجــل أم امــرأة؟ أنـ َ‬
‫البتانيــون اآلخــرون وقالــوا شــيئاً بلغــة البوشــتو‪.‬‬ ‫عــى الرجــال!» ضحــك َ‬
‫الجــو‬
‫ّ‬ ‫الذ با ُبــو بالصمــت‪ ،‬وكذلــك جميــع املســافرين اآلخريــن‪ .‬كان‬
‫مشــبعاً بالخشــية والرتقــب‪.‬‬

‫‪265‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫البتــاين‬
‫«لــن نــدع مثــل هــذا املخنــث يجلــس يف مقصورتنــا»‪ ،‬قــال َ‬
‫ـي‪ ،‬با ُبــو‪ ،‬مل ال تنــزل يف املحطــة التاليــة وتحــر نفســك يف مقصــورة‬ ‫«هـ ْ‬
‫ِ‬
‫النســاء؟»‪.‬‬
‫ـن بعــد هنيهــة‪،‬‬
‫متتــم با ُبــو بضــع كلــات رداً عليــه ثــم ســكت‪ .‬لكـ ْ‬
‫انتصــب بهــدوء‪ ،‬نفــض الغبــار عــن مالبســه وجلــس يف مقعــده‪ .‬كان‬
‫ســلوكه محـ ِّـراً متامـاً‪ .‬رمبــا كان خائفـاً مــن الحجــارة أو النـران التــي قــد‬
‫تصيــب القطــار‪ .‬ورمبــا هــذا هــو الســبب الــذي جعــل املســافرين يف‬
‫جميــع املقصــورات يســدلون الســتائر عــى النوافــذ‪.‬‬
‫مل يكــن مثــة يقــن حــول مــا حــدث‪ .‬لعــلّ بعــض املســافرين لســبب‬
‫أو آلخــر أســدلوا ســتارة وحــذا اآلخــرون حذوهــم بــا تفكــر‪.‬‬
‫٭٭٭‬

‫تواصلــت الرحلــة يف جــو مــن الريبــة‪ .‬حــلّ الليل‪ ،‬وجلس املســافرون‬


‫بصمــت وأعصــاب مشــدودة‪ .‬كان القطــار‪ ،‬بــن حــن وآخــر‪ ،‬يرتاخــى‬
‫فجــأة يف ســره‪ ،‬فيتبــادل املســافرون فيــا بينهــم نظــرات متســائلة‪.‬‬
‫وعندمــا يوشــك أحيان ـاً أخــرى عــى التوقــف‪ ،‬كان الصمــت يتعمــق يف‬
‫البتانيــون جلســوا بهــدوء واســرخاء لكنهــم أيض ـاً‬ ‫املقصــورة‪ .‬وحدهــم َ‬
‫توقفــوا عــن تبــادل األحاديــث إذ مل يجــدوا مــن يشــاركهم الــكالم‪.‬‬
‫البتانيــون بالتدريــج‪ ،‬يف حــن كان املســافرون اآلخــرون جالســن‬ ‫غفــا َ‬
‫يحدقــون يف الف ـراغ‪ .‬واملــرأة العجــوز غفــت أيض ـاً‪ ،‬كان الشــال يغطــي‬
‫تكومــت عــى مقعدها‪ .‬يف الرسيــر العلوي‪ ،‬اســتيقظ‬ ‫رأســها ووجههــا وقــد ّ‬
‫بحباتهــا‪.‬‬
‫البتانيــن وتنــاول ُســبحة مــن محفظتــه وبــدأ يعبــث ّ‬ ‫أحــد َ‬
‫ـر عــى‬‫يف الخــارج‪ ،‬ألقــى ضــوء القمــر مســحة مــن الغمــوض املحـ ِّ‬
‫الريــف املمتــد‪ .‬كان وهــج الن ـران يبــدو أحيان ـاً يف األفــق‪ .‬مثــة مدينــة‬

‫‪266‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫تحــرق‪ .‬أحيانــاً‪ ،‬كان القطــار يــرع ف ُتســمع قرقعــة دواليبــه عــر‬


‫امتــداد الريــف الصامــت‪ ،‬ويتباطــأ وئيــداً متعب ـاً أحيان ـاً أخــرى‪.‬‬
‫فجــأة‪ ،‬اختلــس با ُبــو الشــاحب نظــرة عــر النافــذة ورصخ بصــوت‬
‫شــديد االهتيــاج «إننــا نعــر هاربانســبورا!»(‪ُ )37‬دهــش املســافرون‬
‫جميع ـاً مــن هــذا الهيجــان املفاجــئ‪ ،‬والتفتــوا صوبــه محدقــن فيــه‪.‬‬
‫البتــاين الــذي بيــده الســبحة‬ ‫«إيــه‪ ،‬با ُبــو‪ ،‬ملــاذا تــرخ؟» خاطبــه َ‬
‫مســتغرباً «هــل تريــد النــزول هنــا؟ هــل‪ ..‬أضغــط زر الطــوارئ؟»‬
‫وضحــك ســاخراً‪ .‬مــن الواضــح أنــه مل يكــن يعلــم داللــة عبــور‬
‫للبتــاين بــأي يشء‪.‬‬ ‫يــوح املوقــع واالســم َ‬‫هاربانســبورا‪ .‬ومل ِ‬
‫مل يبــذل با ُبــو أي جهــد لــرح األمــر‪ ،‬بــل واصــل هـ ّز رأســه والنظــر‬
‫عــر النافــذة‪.‬‬
‫خيــم الصمــت عــى املســافرين مــن جديــد‪ .‬أطلــق املحــرك صفــره‬ ‫ّ‬
‫وتباطــأ القطــار يف الحــال‪ .‬وبعــد قليــل‪ ،‬ســمع صــوت قرقعــة عاليــة‪،‬‬
‫رمبــا ألن القطــار كان يغــر مســاره عــى الســكة‪ .‬با ُبــو‪ ،‬الــذي كان‬
‫وجــه بــره يف االتجــاه الــذي يتقــدم‬ ‫يختلــس النظــر عــر النافــذة‪َّ ،‬‬
‫فيــه القطــار‪.‬‬
‫«إننــا نقــرب مــن إحــدى البلــدات»‪ ،‬رصخ «إنهــا أمريتســار»‪ .‬ثـ ّـم‬
‫البتــاين‬
‫صــاح بأعــى صوتــه وانتصــب عــى مقعــده صارخــاً يف وجــه َ‬
‫هيــا‪ ،‬انــزل مــن مكانك!»‬ ‫الجالــس يف الرسيــر العلــوي «يــا ابــن امللعونــة‪ّ ،‬‬
‫البتــاين ويشــتمه بأقــذع األلفــاظ‪ .‬التفت‬ ‫طفــق با ُبــو يــرخ يف وجــه َ‬
‫البتــاين إليــه وســأله «مــا الــذي يجــري يــا با ُبــو‪ ،‬هــل تخاطبنــي أنا؟»‬
‫َ‬
‫أنصــت املســافرون اآلخــرون وهــم يــرون با ُبــو يف هــذه الحالــة‬
‫النفســية املهتاجــة‪.‬‬
‫(‪ )37‬بلدة يف الهور‪ ،‬البنجاب‪ ،‬تقع عىل الحدود الباكستانية الهندية‪ .‬والقطار هنا يكون قد دخل األرايض الهندية‪( .‬م)‬

‫‪267‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫«انــزل يــا حقــر‪ ،‬كيــف تجــرأت وركلــت امــرأة هندوســية يــا ابــن‬
‫الـ»‪..‬‬
‫ـي‪ ،‬احفــظ لســانك يــا با ُبــو! توقــف عــن الشــتائم أيهــا الخنزيــر‬
‫«هـ ْ‬
‫ِ‬
‫وإل فســأقطع لســانك!»‬‫ّ‬
‫«أنــت تتجــرأ وتصفنــي بالخنزيــر!» رصخ با ُبــو وقفــز نحــو مقعــده‪.‬‬
‫كان يرتجــف مــن رأســه حتــى قدميــه‪.‬‬
‫تكلمــت املــرأة العجــوز مــن جديــد متوســلة «اهــدؤوا أيهــا النــاس‬
‫الطيبــون‪ .‬تعقلــوا‪ .‬فكــروا فيــا تفعلــون»‪.‬‬
‫كانــت شــفتاها ترتعشــان مثــل شــفتي طيــف‪ ،‬وكان يســمع مــن‬
‫فمهــا وحســب صــوت همــس أجــش غامــض‪.‬‬
‫واصــل با ُبــو رصاخــه «يــا ابــن امللعونــة‪ ،‬هــل حســبت أن تنجــو‬
‫بفعلتــك تلــك؟»‬
‫دخــل القطــار إىل محطــة أمريتســار‪ .‬كان الرصيــف مزدحـ ًا بالناس‪،‬‬
‫وحاملــا توقــف القطــار‪ ،‬اندفعــوا نحو املســافرين‪.‬‬
‫«كيــف تجــري األمــور هنــاك؟ أيــن وقعــت الصدامــات؟» كانــوا‬
‫يســألون بقلــق‪.‬‬
‫كان هــذا هــو املوضــوع الوحيــد لحديثهــم‪ .‬جميعهــم يريــدون‬
‫معرفــة أيــن وقعــت الصدامــات‪ .‬تجمــع املســافرون حــول اثنــن أو ثالثة‬
‫مــن الباعــة الجوالــن الذيــن يبيعــون أق ـراص الخبــز الهنــدي املقليــة‪.‬‬
‫ـس الجميــع فجــأة أنهــم جيــاع وعطــاش‪ .‬ويف هــذه األثنــاء‪ ،‬ظهــر‬ ‫أحـ ّ‬
‫رجــان َبتانيــان خــارج مقصورتنــا ونــادوا أبنــاء بلدهــم وتحدثــوا معهــم‬
‫التفــت ونظــرت باحثــاً عــن با ُبــو لكنــي مل أره‪ .‬أيــن‬
‫ُّ‬ ‫بلغــة البوشــتو‪.‬‬
‫البتانيــون الثالثــة يف املقصــورة‬
‫ذهــب؟ مــا الــذي كان يشــغله؟ جمــع َ‬
‫أمتعتهــم وغادروهــا‪ .‬مــن املحتمــل أنهــم ذهبــوا للجلــوس يف مقصــورة‬

‫‪268‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫أخــرى‪ .‬كان الفــرز الــذي حــدث ســابقاً بــن املســافرين يف املقصــورات‬


‫ميتــد اآلن ليشــمل القطــار بأكملــه‪.‬‬
‫بــدأ املســافرون الذيــن احتشــدوا حــول الباعــة الجوالــن يتفرقــون‬
‫ويعــود كل منهــم إىل مقصورتــه‪ .‬يف تلــك اللحظــة وقــع بــري عــى‬
‫با ُبــو‪ .‬كان يشــق طريقــه عــر الحشــد متوجهـاً إىل املقصــورة‪ .‬كان وجهــه‬
‫ـت‬
‫ال يـزال شــاحباً جــداً‪ ،‬وتدلــت عــى جبهتــه خصلــة مــن شــعره‪ .‬الحظـ ُ‬
‫عندمــا اقــرب أكــر أنــه يحمــل قضيب ـاً مــن الحديــد يف إحــدى يديــه‪.‬‬
‫مــن أيــن حصــل عليــه؟ عندمــا دخــل إىل املقصــورة‪ ،‬أخفــى القضيــب‬
‫وراء ظهــره‪ ،‬وعندمــا جلــس‪ ،‬دفعــه تحــت املقعــد‪ .‬ومــن ثـ ّـم‪ ،‬رفــع برصه‬
‫ـاج وبــدأ ينظــر حواليــه‪.‬‬
‫البتانيــن اهتـ َ‬
‫نحــو الرسيــر العلــوي‪ ،‬وإ ْذ مل يــر َ‬
‫«األوغاد‪ ،‬لقد هربوا! أبناء امللعونة!»‬
‫نهــض غاضبــاً وبــدأ يــرخ يف املســافرين‪« :‬ملــاذا تركتموهــم‬
‫ـن املقصــورة كانــت تعــج‬ ‫يذهبــون؟ جميعكــم جبنــاء عاجــزون»‪ .‬لكـ ّ‬
‫ــه أحــد منهــم اهتاممــاً‪.‬‬ ‫باملســافرين ومل ُيولِ ِ‬
‫تهــادى القطــار إىل األمــام‪ .‬املســافرون الذيــن ركبــوا منــذ بدايــة‬
‫الرحلــة أتخمــوا بطونهــم بأقـراص الخبــز الهنــدي ورشبــوا مقاديــر هائلة‬
‫مــن املــاء‪ ،‬وبــدا عليهــم الرضــا ألن القطــار كان يجتــاز اآلن منطقة حيث‬
‫ال خطــر عــى حياتهــم وال عــى ممتلكاتهــم‪ .‬كان القادمــون الجــدد إىل‬
‫املقصــورة يتحدثــون مســببني ضجــة‪ .‬تدريجيـاً‪ ،‬بــدأ القطــار يســر وئيــداً‬
‫والنــاس يغفــون‪ .‬لكــن با ُبــو املســتيقظ املتحفــز ظــلّ يحــدق يف الفـراغ‪.‬‬
‫البتانيــون‪ .‬كان‬
‫ســألني مـ ّـرة أو مرتــن عــن االتجــاه الــذي ذهــب فيــه َ‬
‫ال يزال مغيظاً غاضباً‪.‬‬
‫يف اإليقــاع الوئيــد للقطــار‪ ،‬غلبنــي النــوم أيضــاً‪ .‬مل يكــن هنــاك‬
‫متســع لالســتلقاء فاتخــذت وضعيــة نــوم كان رأيس يتــدىل فيهــا تــارة‬

‫‪269‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫إىل هــذا الجانــب‪ ،‬وتــارة إىل جانــب آخــر‪ .‬كنــت أســتيقظ أحيانـاً مجفـ ًا‬
‫ألســمع الشــخري املــدوي للســيخي الــذي رجــع إىل مقعــده الســابق‬
‫ومتــدد عليــه بكامــل طولــه‪ .‬كان املســافرون جميع ـاً إمــا مســتلقني أو‬
‫مضطجعــن بأوضــاع عجيبــة توحــي بــأن املقصــورة مليئــة بالجثــث‪.‬‬
‫وحــده كان با ُبــو يجلــس منتصــب الجــذع‪ ،‬وكنــت أراه بــن حــن وآخــر‬
‫يختلــس النظــر مــن النافــذة‪.‬‬
‫يف كلّ مـ ّـرة يتوقــف فيهــا القطــار يف إحــدى املحطــات‪ ،‬كان ضجيــج‬
‫ويخيــم صمــت كئيــب عــى كلّ يشء‪ .‬أحيان ـاً‪،‬‬ ‫الدواليــب يهــدأ فجــأة ّ‬
‫كان يســمع صــوت يشء مــا يســقط عــى الرصيــف أو مســافر يرتجــل‬
‫مــن املقصــورة‪ ،‬فأســتوي جالس ـاً مجف ـاً‪.‬‬
‫٭٭٭‬

‫ـت‬ ‫يف إحــدى املـرات‪ ،‬عندمــا اســتيقظت مــن نومــي فجــأة‪ ،‬أحسسـ ُ‬
‫عــى نحــو مبهــم أن القطــار يتحــرك ببــطء شــديد‪ .‬اختلســت النظــر‬
‫مــن النافــذة‪ ،‬ورأيــت يف البعيــد‪ ،‬عنــد مؤخــرة القطــار‪ ،‬األضــواء الحمـراء‬
‫إلشــارات املــرور‪ .‬مــن الواضــح أن القطــار غــادر إحــدى املحطــات لكنــه‬
‫مل يســتأنف رسعتــه العاديــة‪.‬‬
‫ـت مــن بعيــد شــك ًال‬‫وصلــت إىل أذين أصــوات غامضــة متناثــرة‪ .‬ملحـ ُ‬
‫معتـاً‪ .‬اســتقرت عينــاي الناعســتان قليـ ًا عليــه‪ ،‬لكــن مل أبــذل أي جهــد‬
‫ـن مــا عــى أن يكــون‪ .‬كانــت املقصــورة مظلمــة‪ ،‬والضــوء قــد انطفــأ‬ ‫لتبـ ّ‬
‫فيهــا خــال الليــل‪ ،‬أمــا يف الخــارج فقــد بــدأ ضــوء النهــار يبــزغ‪.‬‬
‫ســمعت صوتـاً آخــر‪ ،‬كــا لــو أن أحدهــم يكشــط بــاب املقصــورة‪.‬‬
‫ـت‪ ،‬كان البــاب مغلقـاً‪ .‬عــاد الصــوت مــن جديــد‪ .‬كان هــذه املــرة‬ ‫التفـ ُّ‬
‫أكــر وضوحـاً‪ .‬كان أحدهــم يقــرع البــاب بالعصــا‪ .‬نظــرت عــر النافــذة‪،‬‬

‫‪270‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫فرأيــت رجـ ًا صعــد درجتــن ويســتند بقدمــه إىل عتبــة البــاب ويخبــط‬
‫ورصة تتــدىل‬ ‫عليــه بالعصــا‪ .‬كان يرتــدي مالبــس باهتــة عدميــة اللــون‪ّ ،‬‬
‫عــى كتفــه‪ .‬والحظــت أيض ـاً لحيتــه الســوداء الكثيفــة والعاممــة التــي‬
‫عــى رأســه‪ .‬وعــى مســافة يف الخــارج‪ ،‬كانــت مثــة امــرأة تجــري مبحــاذاة‬
‫القطــار‪ .‬كانــت عاريــة القدمــن ورصتــان تتدليــان عــى كتفيهــا‪ .‬يبــدو‬
‫أنهــا مل تكــن تســتطيع اإلرساع أكــر بســبب ثقــل مــا تحملــه‪ .‬وكان‬
‫الرجــل املســتند إىل عتبــة البــاب يلتفــت نحوهــا مـ ّـرة بعــد مـ ّـرة ويقــول‬
‫«هيــا‪ ،‬اصعــدي‪ ،‬اصعــدي أنــت أيض ـاً!»‬
‫بصــوت الهــث‪ّ :‬‬
‫خبط عىل الباب‪.‬‬‫من جديد‪ ،‬كان ُيسمع صوت ٍ‬
‫«أرجوكــم افتحــوا البــاب‪ ،‬كرمــى للــه‪ ،‬افتحــوا البــاب»‪ .‬كان الرجــل‬
‫يلهــث‪.‬‬
‫وإل فسيفوتنا القطار»‪..‬‬ ‫«معي امرأة‪ ،‬افتحوا الباب ّ‬
‫فجأة رأيت با ُبو ينهض من مقعده ويندفع نحو الباب‪.‬‬
‫«مــن هنــاك؟ مــاذا تريــد؟ ال يوجــد مــكان هنــا‪ .‬هيــا ابتعــد»‪ .‬تكلــم‬
‫وإل فســيفوتنا‬ ‫الرجــل مــن جديــد متوسـاً‪« :‬كرمــى للــه‪ ،‬افتحــوا البــاب ّ‬
‫القطار»‪.‬‬
‫وبعــد أن أدخــل يــده مــن النافــذة املفتوحــة‪ ،‬بــدأ يتلمــس مــزالج‬
‫البــاب‪.‬‬
‫«ال يوجــد مــكان هنــا‪ .‬أال تســمع؟ انــزل‪ ،‬أقــول لــك انــزل»‪ ،‬رصخ‬
‫با ُبــو‪ ،‬ويف اللحظــة التاليــة انفتــح البــاب برسعــة «يــا اللــه» هتــف‬
‫الرجــل مطلقــاً تنهيــدة ارتيــاح عميقــة‪.‬‬
‫يف تلــك اللحظــة بالــذات رأيــت قضيــب الحديــد يلمــع يف يــد با ُبــو‪،‬‬
‫رأس الرجــل‪ .‬ذُعــرت مــن هــذا املشــهد وبــدأت‬ ‫وخبــط برضبــة صاعقــة َ‬
‫ســاقاي ترتجفــان‪ .‬بــدا يل للوهلــة األوىل كــا لــو أن الخبطــة بقضيــب‬

‫‪271‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫الحديــد مل يكــن لهــا أثــر عــى الرجــل‪ ،‬فقــد كانــت يــداه مازالتــا‬
‫تقبضــان عــى مــزالج البــاب‪ .‬لكــن الــرة املتدليــة مــن كتفــه انزلقــت‬
‫إىل مرفقــه‪.‬‬
‫ثـ ّـم فجــأة نفــرت الدمــاء إىل األمــام وســالت عــى وجهــه مــن تحــت‬
‫ملحــت يف الضــوء الشــاحب للفجــر فمــه املفتــوح وأســنانه‬ ‫ُ‬ ‫عاممتــه‪.‬‬
‫ـن بدأتــا تنغلقــان شــيئاً فشــيئاً‪ ،‬نظــر إىل‬
‫تلمــع يف داخلــه‪ .‬وبعينيــه ال َّل َتـ ْ ِ‬
‫ـن امل ُْع َتـ ِـدي؟! وألي جــرم هاجمــه وانتقــم‬ ‫ـن َمـ ِ‬ ‫با ُبــو كــا لــو أنــه يتبـ ّ‬
‫منــه؟ يف تلــك األثنــاء‪ ،‬كان الظــام قــد انقشــع قلي ـاً‪ .‬ارتعشــت شــفتا‬
‫الرجــل مـ ّـرة أخــرى وملعــت بينهــا أســنانه‪ .‬بــدا أنــه يبتســم‪ ،‬لكنهــا يف‬
‫الحقيقــة كانتــا تتلويــان مــن الرعــب‪.‬‬
‫كانــت املــرأة الراكضــة مبحــاذاة ســكة القطــار تتذمــر وتطلــق‬
‫اللعنــات‪ .‬مل تعــرف حقيقــة مــا حــدث‪ .‬كانــت ال ت ـزال تظــن أن ثقــل‬
‫الــرة مينــع زوجهــا مــن الدخــول إىل املقصــورة ولذلــك ال ي ـزال عالق ـاً‬
‫عنــد عتبــة البــاب‪ .‬حاولــت مســاعدته فمــ ّدت يدهــا وهــي ال تــزال‬
‫راكضــة يك تضغــط وترفــع قدمــه حتــى تصــل إىل أرضيــة املقصــورة‪.‬‬
‫فجــأة‪ ،‬تراخــت قبضــة الرجــل عــى مــزالج البــاب وســقط رأســياً‬
‫عــى األرض مثــل شــجرة قُطعــت‪ .‬مــا إن ســقط حتــى توقفــت املــرأة‬
‫عــن الركــض‪ ،‬كــا لــو أن رحلتهــا قــد وصلــت إىل نهايتهــا‪.‬‬
‫وقــف با ُبــو مثــل متثــال حجــري قــرب بــاب املقصــورة‪ .‬كان ال يـزال‬
‫يحمــل القضيــب الحديــدي بيــده‪ .‬بــدا أنــه يريــد رميــه بعيــداً لكنــه مل‬
‫يقـ َـو عــى ذلــك‪ .‬مل يكــن قــادراً عــى إرجــاع يــده إىل مــا كانــت عليــه‪.‬‬
‫كنــت خائفــاً وواصلــت التحديــق فيــه مــن‬ ‫كنــت أتنفــس بصعوبــة؛ ُ‬
‫الزاويــة املعتمــة قــرب النافــذة حيــث أجلــس‪.‬‬
‫ثـ ّـم تزحــزح مــن مكانــه‪ ،‬وتحــت ضغــط دافـ ٍـع غــر واضــح خطــا‬

‫‪272‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫إىل األمــام خطــوة قصــرة ونظــر باتجــاه مؤخــرة القطــار‪ .‬كان القطــار‬
‫ـت كومــة ســوداء عــى‬ ‫مرسعـاً‪ .‬ويف البعيــد‪ ،‬عــى جانــب الســكة‪ ،‬جثمـ ْ‬
‫األرض‪.‬‬
‫دبــت الحركــة يف جســم با ُبــو‪ ،‬وبحركــة عجــى مــن يــده رمــى‬ ‫ّ‬
‫ثــم التفــت وألقــى نظــرة عــى املقصــورة‪ .‬كان‬ ‫القضيــب إىل الخــارج ّ‬
‫املســافرون نامئــن‪ .‬لكــن عينيــه مل تقعــا عــيَّ‪.‬‬
‫لوهل ـ ٍة‪ ،‬وقــف عنــد البــاب مــردداً‪ ،‬ثــم أغلقــه‪ .‬تفحــص مالبســه‬
‫ويديــه يك يــرى إن كان هنــاك أثــر للدمــاء عليهــا‪ ،‬ثـ ّـم تشــممهم‪ .‬مــى‬
‫عــى رؤوس أصابعــه وجلــس عــى مقعــده بجانبــي‪.‬‬
‫ـاف مــن جميــع الجهــات‪ .‬مل‬ ‫بــزغ النهــار‪ ،‬وأرشق ضــوء ســاطع صـ ٍ‬
‫يضغــط أحــد عــى زر الطــوارئ إليقــاف القطــار‪ .‬اســتلقت جثــة الرجــل‬
‫هــب النســيم يف الخــارج ومعــه متايلــت‬ ‫عــى بعــد أميــال وراءنــا‪ّ .‬‬
‫مويجــات رقيقــة مــن ســنابل القمــح الناضجــة‪.‬‬
‫اســتوى الســيخي يف جلســته وتلمــس كرشــه‪ .‬كان با ُبــو يحملــق‬
‫أمامــه ويــداه معقودتــان وراء رأســه‪ .‬مازحــه الســيخي قائ ـ ًا «يــا لــك‬
‫ـن لــك قلبـاً شــجاعاً‪.‬‬
‫مــن رجــل ِمقــدام‪ .‬صحيـ ٌـح أنــك ال تبــدو قويـاً‪ ،‬لكـ ّ‬
‫البتانيــون منــك وهربــوا مــن هنــا‪ .‬لــو أنهــم بقــوا هنــا‪،‬‬ ‫لقــد خــاف َ‬
‫ـت بالتأكيــد هشــمت رأس واحــد منهــم»‪..‬‬ ‫لكنـ َ‬
‫ابتســم با ُبــو‪ ،‬كانــت ابتســامته رهيبــة‪ ،‬وح ـ ّدق يف وجــه الســيخي‬
‫طوي ـ ًا طوي ـاً‪.‬‬

‫ترجمها املؤلف من اللغة األم (الهندية) إىل اإلنكليزية‬


‫٭٭٭‬

‫‪273‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫‪274‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫شاه جيهان وجيشه الخاص‬


‫سونيل غا ْنغو َبدْيايا‬
‫فجــأة يف أحــد األيــام اندلعــت فــوىض كبرية يف ســوق قريــة غاجيبور‪.‬‬
‫عــى الــدوام كان يحــدث ع ـراك بــن بائعــي البطاطــا الحلــوة وبائعــي‬
‫اليقطــن حــول اختيــار أفضــل املواضــع لعــرض بضائعهــم‪ ،‬وبــن الحــن‬
‫واآلخــر كانــت األمــور تحتــدم بينهــم‪ .‬لكــن هــذه املــرة كان الدخــان‬
‫حقيقـ ًة أكــر مــن النــار‪ .‬بــدأ جمــع مــن النــاس بالـراخ والعويــل خوفـاً‬
‫ـب آخــرون لعناتهــم املدويــة‪ ،‬فحــدث هــرج‬ ‫عــى رؤوســهم‪ ،‬يف حــن صـ ّ‬
‫بالعــي متوعديــن‬
‫ّ‬ ‫ومــرج‪ ،‬ووصــل األمــر ببعضهــم إىل حــد التلويــح‬
‫ـف أكــر‪ .‬لكــن رأسـاً واحــداً ال غــر هــو الــذي أصابتــه رضبــة مــن‬ ‫بعنـ ٍ‬
‫إحــدى العــي‪ .‬ومــن ســيكون هــذا الشــخص عــدا هــازو؟ هــازو الــذي‬
‫مل يكــن ال مــن بائعــي البطاطــا الحلــوة وال اليقطــن؛ األمــر بــكل بســاطة‬
‫أن مــن طبيعتــه الحضــور وســط أي حــدث مهــا يكــن‪ ،‬بغــض النظــر‬
‫عــن األســباب‪.‬‬
‫أوقــف املتعاركــون مــن الزمرتــن شــجارهام حاملــا شــاهدوا مذهولني‬
‫ـرح يف رأس هــازو‪ ،‬ال بــل إنهــم تعــروا ببعضهــم‬ ‫الــدم النافــر مــن جـ ٍ‬
‫وهــم يندفعــون للوصــول إليــه‪ .‬ويــا لَرصخــات التفجــع التــي أطلقوهــا!‬
‫رأســه إحــدى العــي وطُ ــرح أرضـاً مل ينبــس‬
‫ـج ْت َ‬ ‫مــع أن هــازو الــذي شـ َّ‬

‫‪275‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫بكلمــة‪ .‬حضــن رأســه املجــروح بــن يديــه‪ ،‬وألقــى نظـرات عجــى حولــه‬
‫مــروع‪ .‬تــرف وكأن الخطــأ خطــؤه‪ .‬ورمبــا بــدا‬ ‫بــري َّ‬‫مثــل حيــوان ّ‬
‫األمــر فعليـاً كذلــك‪ ،‬فرسعــان مــا انهالــت عليــه موجــات مــن الشــفقة‬
‫ممزوجــة بالتقريــع‪ ،‬والــكل بــا اســتثناء يســأل‪« :‬مــا الــذي كنــت تفعلــه‬
‫ـي املتطايــرة؟»‬
‫هنــاك‪ ،‬أتلـ ِّـوح برأســك وســط العـ ّ‬
‫كذلــك كان حــظ هــازو عــى الــدوام‪ .‬بــدا وكـــأن املصيبــة هــي التــي‬
‫راودتــه‪ .‬وقــع الحــادث هنــاك يف ســاحة ســوق غاجيبــور عندمــا أقــدم‬
‫وليــه ثــم أطلقــه‪ .‬اندفــع الثــور‬
‫أحدهــم عــى ربــط ذيــل أحــد الثـران ِّ‬
‫مبــارشة نحــو هــازو‪ ،‬نطحــه بكامــل قوتــه وطرحــه أرضـاً‪ .‬نجــا اآلخــرون‬
‫جميعـاً حتــى إن خدشـاً واحــداً مل يصــب أي واحــد منهــم‪ .‬كذلــك وقبــل‬
‫وقــت طويــل مــن حادثــة الثــور‪ ،‬ذهــب هــازو يف إحــدى امل ـرات إىل‬
‫البحــرة يك يجمــع بعــض األعشــاب الصالحــة لــأكل‪ ،‬فــكان أن غــرس‬
‫ثعبــان مــايئ أنيابــه يف جســمه‪ .‬وغنــي عــن القــول إنهــا املــرة األوىل يف‬
‫الحقيقــة التــي يعــض فيهــا ثعبــان مــن هــذا النــوع شــخصاً يف غاجيبــور‪.‬‬
‫ال بــد أنكــم تتســاءلون اآلن مــا الــذي كان يفعلــه هــازو هنــاك‬
‫متجــوالً يف ســوق غاجيبــور؟ وحســناً تفعلــون بهــذا الســؤال‪ .‬فقبــل‬
‫كل يشء‪ ،‬مل يكــن لــدى هــازو يشء ليبيعــه أو ليشــريه‪ .‬والحقيقــة أنــه‬
‫ال يوجــد أي ســبب مهــا يكــن لتطوافــه هنــاك‪ .‬كان عــى الــدوام يرتدي‬
‫ثوبـاً داكنـاً ملفوفـاً عــى بدنــه مثــل لبــاس الســارنغ‪ ،‬وقميصـاً داخليـاً‪،‬‬
‫األمــر الــذي يفــر بــا شــك االنطبــاع لــدى مــن ي ـراه بــأن ذراعيــه‬
‫وســاقيه ذوات طــول بالــغ قياس ـاً إىل بقيــة جســمه‪ .‬كان يحلــق ذقنــه‬
‫مـ ّـرة واحــدة كل أســبوع أو نحــوه‪ .‬واألغــرب مــن ذلــك كانــت عادتــه‬
‫غريــب‬
‫ٍ‬ ‫وجــه‬
‫ِ‬ ‫يف تثبيــت عينيــه عــى وجــه أحــ ٍد مــا بــن الجمــوع‪،‬‬
‫أو صديــق‪ ،‬والبقــاء محدقـاً فيــه‪ .‬ويجــب تذكريكــم أن هــذا ال يعنــي أبداً‬

‫‪276‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫وجــود أي يشء مــن اللجاجــة يف تحديقــه‪ ،‬بــل عــى العكــس‪ ،‬كان يبــدو‬
‫عليــه أنــه ال يريــد أي يشء مــن العــامل حولــه‪.‬‬
‫مل يكــن ســوق غاجيبــور ذلــك املــكان الطاهــر‪ .‬كــر ُة تبــادل النقــود‬
‫لرتصــد يشء مــا‪.‬‬
‫بــن األيــادي متنــح الجشــعني عــى الــدوام الفرصــة ّ‬
‫ومل يكــن قليـ ًا عــدد األشــخاص املســتعدين والراغبــن يف إثــارة الخــاف‬
‫بــن الهنــدوس واملســلمني أو التحريــض عــى مشــكالت أكــر خطــورة‬
‫فيــا بينهــم‪ .‬كان آخــر مســؤول محــي مســل ًام هــو شــيخ أنــور عــي‪،‬‬
‫ـن منافســه املهــزوم الهنــدويس فيشــنو ســيكدار ظــلّ ميلــك نفــوذاً‬ ‫لكـ ّ‬
‫كافي ـاً‪ .‬كل ذلــك جعــل الســام يف الســوق معلق ـاً بخيــط وا ٍه ميكــن أن‬
‫ينقطــع عنــد أقــلّ شــد‪.‬‬
‫ويف الواقــع‪ ،‬ال يســتطيع ّإل رجــل ذيك إثبــات نفســه يف بيئــة مثــل‬
‫هــذه‪ ،‬وحتــى أمهــر الرجــال يظــل بحاجــة إىل ســند قــوي‪ ،‬إما من لســانه‬
‫املعســول أو مــن عضالتــه املفتولــة‪ ،‬وإذا مل يتوفــر لــه ذلــك فعــى األقــل‬
‫يحتــاج ســلطة املــال‪ .‬لكــن هــازو مل يكــن ميلــك أي يشء مــن كل ذلــك‪،‬‬
‫ال بــل إنــه مل يكــن يتمتــع بأبســط أشــكال الفهــم العــادي‪ .‬ومل يكــن‬
‫ـب قلي ـاً‪ ،‬كان يقــي‬ ‫يعــرف كيــف يتعاطــى مــع اآلخريــن‪ .‬عندمــا شـ ّ‬
‫ـل تســلقها‪ ،‬محدقـاً يف‬ ‫أيامــه يف حقــل مقفـ ٍر جامثـاً عــى قمــة شــجرة نخـ ٍ‬
‫ـزء مــن الســاء يغــوص يف بحـ ٍر مــن‬ ‫الســاء‪ .‬ومــع غــروب الشــمس‪ ،‬وجـ ٌ‬
‫الحمــرة‪ ،‬كان هــازو املحـ ِّدق يبــدو مثــل مــن اكتشــف معنــى خاصـاً يف‬
‫كل تلــك العظمــة‪ .‬مــى بعــض النــاس بعيــداً يف التســاؤل إن كان هــذا‬
‫الولــد ســوف يكــر ويصبــح أحــد الحكــاء أو الرجــال املقدســن‪.‬‬
‫ويف أحــد األيــام ســقط هــازو عــن شــجرة النخيــل‪ .‬كان ذلــك آخــر‬
‫عهــده بالتحديــق يف الســاء مــن مجثمــه الشــاهق؛ ومنــذ ذلــك الحــن‬
‫تعــن عليــه االكتفــاء بالتحديــق يف انعــكاس الســاء الحمـراء عــى ميــاه‬

‫‪277‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫قنــاة الــري‪.‬‬
‫ـج رأس هــازو يف ذلــك اليــوم املقـ َّدر يف ســوق غاجيبــور‪،‬‬ ‫عندمــا ُشـ َّ‬
‫صديــق عمــه ضــادة مــن أوراق النباتــات‬ ‫ُ‬ ‫صنــع لــه ُم َّزمــل غانــدا‬
‫ووضعهــا عــى الجــرح‪ .‬ثــم دفــع إليــه بســيجارة وســأله‪« :‬ف ّكــر جيــداً‬
‫اآلن‪ .‬مــن الشــخص الــذي رضبــك؟ هــل ح ـ ّددت مالمحــه متام ـاً؟»‬
‫عم مزمل»‪.‬‬ ‫ه ّز هازو شيخ رأسه مينة ويرسة «ال‪ ،‬يا ّ‬
‫(‪)38‬‬

‫نظــر إليــه مزمــل بــازدراء وتابــع «مــن قــال إنــك ال تصلــح لــيء؟‬
‫وإل‪ ،‬فمــن‬‫لقــد أوقفــت العـراك بذلــك الــرأس الجريــح‪ ،‬وهــذا يكفــي‪ّ .‬‬
‫يعلــم إىل أيــن كانــت األمــور ســتصل؟ اذهــب‪ ،‬اذهــب إىل البيــت»‪.‬‬
‫انطلــق هــازو إىل البيــت وهــو ينفــخ ســيجارته‪ .‬مل تخلــف تعليقــات‬
‫مزمــل أي أثــر لديــه‪ .‬كان رأســه مــا ي ـزال يؤملــه‪ ،‬والــدم النافــر يســيح‬
‫نــزوالً إىل عنقــه ثــم ظهــره‪ ،‬ليلطــخ قميصــه الداخــي باللــون األحمــر‪.‬‬
‫عــر هــازو قنــاة الــري وجفــف ثيابــه وكان الطقــس بــارداً‪ ،‬ثــم‬
‫تهــادى وئيــداً عــر الحقــل‪ .‬مل يســبق ألحــد أن رآه ميــي بــأي قــدر مــن‬
‫الرسعــة‪ ،‬كان كل يشء يف حياتــه محكومـاً باإليقــاع البطــيء ذاتــه‪ .‬هكــذا‬
‫خلقــه اللــه‪ ،‬فمــن هــو يك يحتــج عــى ذلــك؟ واصــل املــي تحــت ســاء‬
‫مــا بعــد الظهــرة‪ ،‬كان يراقبهــا وهــي تنــر ظلّهــا حولــه‪.‬‬
‫كان هــازو ابــن أحــد املــايل‪ ،‬ومــع ذلــك كان بــا نفــع وكأنــه بقــرة‬
‫عقيمــة عنــد أرسة هندوســية‪ .‬مل يكــن يقــدر عــى فعــل أي يشء؛ ال‬
‫العمــل يف الحقــول وال حــول البحـرات‪ ،‬وال حتــى أبســط أعــال املنــزل‬
‫قرعــه عمــه وأبــوه عــى عــدم كفاءتــه‪ ،‬لكنهام‬ ‫الرتيبــة‪ .‬يف إحــدى املـ ّـرات ّ‬
‫استســلام يف آخــر األمــر‪ .‬مل يكــن هــازو يتهــرب مــن العمــل‪ ،‬كل مــا يف‬
‫األمــر أنــه ال يســتطيع حقيقــة أن يفعــل أي يشء‪ .‬وحتــى عندمــا أرســلوه‬
‫(‪ )38‬كنية هازو‪(.‬م)‬

‫‪278‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫يك يزيــل األعشــاب الضــارة مــن الحقــول‪ ،‬كل مــا فعلــه هــو الجلــوس‬
‫مقرفص ـاً هنــاك واملنجــل يف يــده‪ ،‬محدق ـاً بصمــت يف األعشــاب‪ .‬رمبــا‬
‫كان يبــدو عليــه االســتغراق يف التأمــل‪ ،‬لكــن األقــرب إىل الحقيقــة أنــه‬
‫كان فــارغ الــرأس بــكل مــا يف الكلمــة مــن معنــى‪.‬‬
‫زوج عندمــا‬ ‫ومــع ذلــك‪ ،‬تبعــت حيــاة هــازو املســار املعتــاد‪ ،‬فقــد ّ‬
‫حــان موعــده‪ ،‬وأنجــب أربعــة أبنــاء‪ .‬لكــن هــازو مل يكــن ذلــك الــزوج‬
‫واألب عــى غـرار اآلخريــن‪ .‬مل يكــن أبنــاؤه يبالــون بــه‪ ،‬واعتــادوا دومـاً‬
‫التحــدث إليــه بفظاظــة‪ّ .‬أمــا زوجتــه شــديدة الشــكوى فكانــت تتذمــر‬
‫وتتأفــف مــن الصبــاح إىل املســاء‪ ،‬وعندمــا يجــف حلقهــا مــن كــرة‬
‫الرثثــرة كانــت تنهــار مــن التعــب‪ .‬ومل يكــن يبــدو عــى هــازو أنــه‬
‫يالحــظ أي يشء‪ .‬حيثــا وجــد‪ ،‬كان يلبــث فحســب‪.‬‬
‫توقــف هــازو قبيــل وصولــه إىل البيــت يك يغســل قدميــه‪ .‬فــرك‬
‫داع للعجلــة‪ ،‬فــكل‬‫ـرو‪ .‬ومل يكــن لديــه أي ٍ‬ ‫إحداهــا باألخــرى ببــطء وتـ ٍٍّ‬
‫مــا ســيفعله عــى أي حــال هــو الجلــوس عــى الرشفــة وانتظــار أح ـ ٍد‬
‫مــا يــأيت لــه بــيء مــن الطعــام ليأكلــه‪ .‬ويف الواقــع‪ ،‬كان الطعــام هــو‬
‫الــيء الوحيــد الــذي يهتــم هــازو بــه‪ ،‬كان يجــد متعــة حقيقيــة يف‬
‫الطعــام‪.‬‬
‫ويف هــذه األيــام مل يكــن هــازو يحصــل دامئـاً عــى وجباتــه الثــاث‬
‫املشــبعة يومي ـاً‪ .‬عندمــا كان ال ي ـزال ضمــن عائلتــه األكــر كان يتدبــر‬
‫بــأي وســيلة الحصــول عــى مــا يريــد‪ .‬فاألمهــات ميلكــن عــادة حنــواً‬
‫ـق إضــايف‬‫زائــداً عــى أطفالهــن الضامريــن‪ ،‬وطاملــا شــعرت أم هــازو بقلـ ٍ‬
‫عــى ابنهــا الــذي ال حيــل لــه‪ .‬مضــت ســنة اآلن عــى وفــاة أمــه‪ ،‬وكان‬
‫والــده قــد تــويف قبلهــا‪ .‬أخــوه األكــر انفصــل عــن العائلــة وأســس أرسته‬
‫الخاصــة تــاركاً هــازو يف حــرة بشــأن كيفيــة إعالــة زوجتــه وأطفالــه‪.‬‬

‫‪279‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫كانــت سـ ِّـيدا أولَ مــن الحــظ إصابــة هــازو «هــل أرى دم ـاً عــى‬
‫رأســك؟»‬
‫«أواه‪ ،‬ها! إنه دم»‪.‬‬
‫«واآلن مــا الــذي جــرى لــك؟ مـ ْـم؟ ال تقــل يل إنــك ذهبــت إىل هنــاك‬
‫وســقطت ثانيــة؟» مــع كل كلمــة تخــرج مــن فــم سـ ِّـيدا كانــت تقــرب‬
‫خطــوة ويرتفــع صوتهــا أعــى فأعــى‪ .‬كانــت قويــة متينــة البنيــان‪،‬‬
‫ال يوحــي مرآهــا بأنهــا أنجبــت أربعــة أطفــال‪ .‬تفنــي نفســها يف العمــل‬
‫طــوال اليــوم وتنجــز وحدهــا مــا يقــدر عليــه اثنــان مــن أقــوى الرجــال‪،‬‬
‫هــذا عــدا عــا يكفــي مــن ســاطة لســانها‪.‬‬
‫ــر َة لكنــه يتحــدث مثــل‬ ‫كان ابــن هــازو األكــر يف ال َّثالِ َثــ َة َع ْ‬
‫البالغــن‪ .‬يعمــل راعــي بقــر لــدى إحــدى عائــات القريــة‪ .‬واآلن انضـ ّـم‬
‫إىل ّأمــه يف توجيــه اللــوم والتقريــع إىل والــده‪ .‬ورسعــان مــا تجمــع أفـراد‬
‫األرسة واحــداً بعــد اآلخــر واحتشــدوا حــول هــازو‪.‬‬
‫ظــلّ هــازو ســاكناً هادئ ـاً‪ .‬عــرف أن هــذا اليــوم ســيكون مثــل‬
‫أي يــوم آخــر‪ .‬يــرع الجميــع بزجــره وتأنيبــه ويف النهايــة يتوقفــون‬
‫عــن ذلــك‪ .‬ســوف تهبــط العتمــة وتــرخ بنــات آوى وطيــور الليــل‪،‬‬
‫وبعــد ذلــك يســكن كل يشء‪ .‬متامـاً مثــل أي يــوم آخــر‪ ،‬لكــن مل تكــن‬
‫ـا ينتظــره مــن تغــر خطــر يف مجــرى حياتــه‬ ‫لــدى هــازو أي فكــرة عـ ّ‬
‫هــذه املـ ّـرة‪.‬‬
‫رسعــان مــا تبــن للجميــع أن هــازو مل يســقط ويشــج رأســه‪ ،‬بــل إن‬
‫ـال‬
‫شــخصاً مــا قــد رضبــه بإحــدى العــي‪ .‬كان بــن الحارضيــن مــن مل ُيبـ ِ‬
‫ـض آخــر أســفوا مــن كل‬ ‫بتلــك األخبــار‪ ،‬وآخــرون شــعروا بالغضــب‪ ،‬وبعـ ٌ‬
‫قلوبهــم بشــأن مــا وقــع لهــازو‪ .‬كان الجميــع عــى يقــن مــن أن شــخصاً‬
‫لطيفـاً بســيطاً مثــل هــازو لــن يفعــل أي يشء يســتحق عليــه مثــل هــذه‬

‫‪280‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫الرضبــة‪ .‬لكــن‪ ،‬وا أســفاه كــم هــي غريبــة أحــوال العــامل‪ ،‬ففــي املــآل‬
‫ـق رأســه‪.‬‬‫هــازو هــو مــن ُشـ ّ‬
‫كان شــعر هــازو ملبــداً بالدمــاء يف بعــض املواضــع‪ ،‬وكان يصغــي‬
‫إىل كل مــا يقــال مــن دون أن يبــدو عــى وجهــه أي انفعــال‪ .‬مل يحمــل‬
‫هــازو ضغينــة إزاء أي شــخص‪ ،‬أو يضمــر أي اســتياء‪ ،‬كل مــا قالــه هــو‪:‬‬
‫ـم ســيرضبني أحـ ٌـد مــا؟ شــعرت بتلــك الرضبــة الشــديدة‬ ‫«ومــن يــدري لِـ َ‬
‫عــى الــرأس وســقطت عــى األرض‪ .‬ليــس األمــر بهــذا الســوء صدقــوين‪،‬‬
‫قليــل مــن الــدم فحســب‪ ،‬هــذا كل يشء»‪.‬‬
‫لســيدا قــد حــر مبكــراً يف ذلــك اليــوم‬‫األخ األكــر ِّ‬‫إخــاص َ‬ ‫ْ‬ ‫كان‬
‫واســتمع اآلن إىل آخــر مــا لحــق بهــازو مــن ســوء حــظ‪ .‬إخــاص الــذي‬
‫ســفعته الحيــاة بلهيبهــا ونــال قســطه منهــا كان يعــرف متامـاً كيــف أن‬
‫العــامل يغــدر يف هــذه األيــام بالبســطاء واألبريــاء‪ .‬ينتمــي هــو وأختــه‬
‫ســيدا إىل قريــة ليســت بعيــدة عــن قريــة هــازو‪ .‬كان يعيــش منــذ‬ ‫ِّ‬
‫بعــض الوقــت يف املدينــة ومل يقطــع صالتــه مبوطنــه‪ .‬صقلــت إقامتــه‬
‫املؤقتــة هنــاك حواســه وكان قــادراً عــى ســاع ومتييــز أبســط همهــات‬
‫القريــة وســط زحمــة القيــل والقــال‪.‬‬
‫مــر ببيــت أختــه ورأى‬ ‫كان يف طريــق عودتــه إىل املدينــة عندمــا ّ‬
‫كيــف يعيشــون‪ .‬فجــأة‪ ،‬اقــرح عليهــم أن يصطحــب هــازو معــه إىل‬
‫املدينــة‪ ،‬وهنــاك ســوف يصنــع منــه رجـاً‪ ،‬عــدا عــن أن بإمــكان هــازو‬
‫العمــل وكســب بعــض املــال‪.‬‬
‫يف البدايــة‪ ،‬مل يأخــذ أحــد كالمــه عــى محمــل الجــد‪ .‬كان هــازو‬
‫ســاذجاً مغ ّفــ ًا وليــس مســتبعداً أن تدهســه ســيارة خــال أيامــه‬
‫األوىل يف املدينــة‪ّ .‬أمــا أن يكســب رزقــه هنــاك فذلــك أمــر غــر‬
‫مرجــح إىل حــد بعيــد‪ .‬فــا الــذي يعرفــه هــازو يك يعمــل؟ حتــى يف‬

‫‪281‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫القريــة مل يســتطع أبــداً أن يعمــل أي يشء‪ ،‬والجميــع يعلــم أن حيــاة‬


‫املدينــة قاســية‪ ،‬والــكالب تنهــش بعضهــا بعضـاً هنــاك‪ .‬أجــاب إخــاص‬
‫عــن تســاؤالتهم كلهــا‪ ،‬ورشح لهــم أنــه حتــى أكــر النــاس ســذاجة‬
‫يتعلمــون مــا يكفــي إلنقــاذ أنفســهم وســط بيــت يحــرق‪ .‬وميكنكــم‬
‫القــول إن البيــت يف املدينــة يكــون معرض ـاً للنــار دوم ـاً‪ .‬تلــك هــي‬
‫املســألة‪ ،‬يجــب أن يتعلــم هــازو كيــف ينقــذ نفســه ويحافــظ عليهــا‪.‬‬
‫ـم‪ ،‬أي فائــدة يجنيهــا مــن بقائــه يف القريــة؟ طــوال إقامتــه فيهــا مل‬ ‫ثـ ّ‬
‫يدخــل إىل جيبــه بنــس واحــد‪ .‬هنــاك يف املدينــة‪ ،‬حتــى لــو عمــل يف‬
‫كل‪ ،‬ال أحــد‬
‫لــف الســجائر فذلــك يؤمــن لــه خمــس روبيــات يف اليــوم‪ّ .‬‬
‫يجــوع يف املدينــة‪.‬‬
‫حــ ّدق هــازو يف عينــي إخــاص محــاوالً اســتيعاب مــا يقولــه‪.‬‬
‫مل تكــن لديــه أي فكــرة عــن املدينــة‪ ،‬ومل يســبق لــه حتــى أن خــرج‬
‫وســليامنبور‬‫عــن دائــرة القــرى املحيطــة بــه‪ ،‬مونســيدانغا يف جانــب ُ‬
‫يف الجانــب املقابــل‪ ،‬وبينهــا حــواىل مثــاين أو عــر قــرى عــى األكــر‪.‬‬
‫ومــع ذلــك‪ ،‬عندمــا التفــت إليــه إخــاص وســأله‪« ،‬حســناً يــا هــازو‪ ،‬هــل‬
‫ســتأيت معــي؟» أومــأ هــازو برأســه وقــال نعــم‪.‬‬
‫ّأجلــوا مغادرتهــم حتــى الصبــاح‪ .‬حــزم هــازو أغراضــه يف رصتــن‬
‫ســيدا‬
‫خشــنتني‪ ،‬ووجهــه يشــع بالبســات‪ .‬طــأن إخــاص أختــه ّ‬
‫«ال تقلقــي‪ ،‬ســأعتني بــه‪ .‬ولســوف تريــن أنــه ســيبدأ يف إرســال الحواالت‬
‫إليــك خالل شــهر أو شــهرين»‪.‬‬
‫كان عليهــم الســر بعيــداً نحــو أدنغاتــا حتــى يلتقــوا بإحــدى‬
‫الحافــات‪ .‬ســبعة أميــال متامـاً‪ .‬هنــاك طريــق جديــد ُشــق بعــد إنشــاء‬
‫القنــاة‪ .‬كان صباح ـاً مثالي ـاً‪ .‬الشــمس مل تشــتد بعــد‪ ،‬وبــرودة خفيفــة‬
‫منعشــة يف األجــواء‪ .‬ســار هــازو متئــداً يراقــب انعــكاس الســاء عــى‬

‫‪282‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫قنــاة الــري‪ .‬وظــلّ إخــاص املحــب للحديــث يتكلــم طــوال الطريــق‪،‬‬


‫لكــن هــازو مل يســمع حتــى نصــف مــا تحــدث بــه‪ .‬بــدا هــازو وكأنــه‬
‫ريــة املتأللئة‪.‬‬
‫الد ّ‬
‫يكتشــف ألول مـ ّـرة بهــاء الســاء املنعكســة عــى امليــاه ُّ‬
‫هنــاك‪ ،‬بالقــرب مــن ســليامنبور التفــت إخــاص إىل هــازو «أنــت!‬
‫انظــر حولــك‪ .‬هنــاك عــى ميــن الحقــل يــا هــازو»‪.‬‬
‫كان مثــة رتــل قــادم مــن ذلــك االتجــاه يرفــع األعــام عاليـاً‪ .‬ال بــد أن‬
‫عددهــم يصــل إىل مئــة وخمســن شــخصاً‪ .‬كانــوا يصيحــون‪ ،‬لكــن هــازو‬
‫وإخــاص مل مييــزا صياحهــم مــن تلــك املســافة البعيــدة‪ .‬واحتشــدت‬
‫مجموعــة أخــرى مــن األشــخاص عــى الجانــب اآلخــر للقنــاة‪ ،‬وهــؤالء‬
‫ـي ورفــوش وفــؤوس‪.‬‬ ‫أيضـاً معهــم أعالمهــم وعـ ّ‬
‫علّــق إخــاص عــى املشــهد «أســتطيع أن أقــول لــك إن معركــة‬
‫حقيقيــة ســتقع يف هــذا اليــوم‪ .‬تعــال يــا هــازو‪ .‬دعنــا نذهــب ونتجنــب‬
‫التــورط يف مثــل هــذا األمــر»‪.‬‬
‫لكــن هــازو كان بطبيعتــه عاجـزاً عــن اإلرساع‪ ،‬ووقــف هناك مسـ َّـمراً‬
‫مذهــوالً يحــدق يف الرتــل بعينــن جاحظتــن‪ .‬غــادر الرتــل الحقــل واتخذ‬
‫طريقــه صعــوداً نحــو أعــى الســد الـرايب‪ ،‬يتأرجــح ويتلــوى مثــل ثعبــان‬
‫هائــل‪ .‬يف الجــوار كان مثــة جــر مــن الخيــزران‪ ،‬مــن الواضــح أنهــم‬
‫قصــدوه يك يجتــازوا القنــاة عــره ويصلــوا إىل الحقــل الوســيع‪ .‬هنــاك‬
‫ستنشــب املعركــة‪.‬‬
‫ســبق لهــازو أن ذهــب إىل ســليامنبور لكنــه مل يـ َـر ج ـراً آنــذاك‪.‬‬
‫أربكــه األمــر‪ ،‬مــن الــذي أنشــأه وملــاذا؟ أيكــون ذلــك مــن أجــل هــذه‬
‫املعركــة بالــذات؟‬
‫رسع إخــاص خطواتــه‪ .‬وعندمــا التفــت إىل الخلــف اســتطاع أن‬ ‫ّ‬
‫يــرى هــازو غــر بعيــد‪ ،‬لكنــه كان واقف ـاً بــا ح ـراك‪ .‬كان هــازو مرك ـزاً‬

‫‪283‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫بــره عــى الرتــل باالســتغراق ذاتــه الــذي يفعلــه مــع أي يشء آخــر‪.‬‬
‫بــدأ األشــخاص يف الرتــل وأولئــك الذيــن يف الحقــل يطلقــون‬
‫صيحاتهــم غــر بعيــد عــن مــكان تسـ ّـمر هــازو‪ .‬رجــع إخــاص إىل الــوراء‬
‫وســحب معــه هــازو املــردد يف الذهــاب صارخـاً يف وجهــه «أيهــا األبلــه!‬
‫مــا الــذي تحــدق فيــه؟ لعلــك ال متانــع يف أن يشــج رأســك ثانيــة؟ دعنــا‬
‫هيــا»‪.‬‬
‫نذهــب‪ّ .‬‬
‫كان عــى إخــاص أن يجـ ّـر هــازو جـ ّـراً‪ .‬ومل يتجــرأ عــى التوقــف حتــى‬
‫ابتعــد متام ـاً عــن ســليامنبور ووصــا إىل قــرب مصنــع مثلجــات يف راتــان‬
‫ـوان اللتقاط أنفاســهام‪.‬‬‫أغـراول‪ .‬كَا َنــا يلهثــان مــن التعــب واحتاجــا بضــع ثـ ٍ‬
‫ع ّلــق إخــاص قائ ـ ًا «أجــزم مــا رأيــت أن هنــاك بعــض الجثــث‬
‫مبعــرة يف الحقــل‪ ،‬رمبــا خمــس أو حتــى ســبع»‪.‬‬
‫وفجــأة ت ـراءى لهــازو أنــه رأى بالضبــط ســبعة رجــال أمــام عينيــه‬
‫متامـاً‪ ،‬وجــو ٌه إىل األعــى ووجــوه إىل األســفل وجميعهــم ممــددون هناك‬
‫يف الحقــل‪ .‬وحيــث كان يجــب أن يــرى جثثـاً‪ ،‬رأى بقعـاً مــن الدمــاء‪.‬‬
‫قطــع إخــاص عــى هــازو حلــم اليقظــة «هــل تعــرف ملــاذا يقتــل‬
‫النــاس بعضهــم بعضـاً؟»‬
‫طاملــا قالــت سـ ّـيدا إن هــازو عندمــا يســتغرق يف التفكــر يبــدو متامـاً‬
‫مثــل بقــرة وتحديقتهــا الذاهلــة‪ .‬كذلــك كان الحــال اآلن‪ .‬مذهوالً بالســؤال‬
‫الــذي طرحــه عليــه إخــاص مل يســتطع هــازو ســوى أن يجيــب أواه‪،‬‬
‫يا أخي‪ ،‬أنت تسأل الشخص الخطأ‪ .‬ما الذي يدريني بكل ذلك؟»‬
‫ــم يجــب ّأل تعــرف؟ كل مــا عليــك فعلــه هــو التفكــر قليــ ًا‬ ‫«لِ َ‬
‫بشــأن ذلــك»‪.‬‬
‫«لكننــي أفكــر كثـراً‪ .‬كــن وكــا تعلــم‪ ،‬عندمــا كنــت مجــرد طفــل‬
‫صغــر قــال أحــد املــايل الكبــار أن ال يشء يف رأيس ســوى روث بقــر‬

‫‪284‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫جــاف‪ .‬رمبــا هــذا هــو الســبب يف أننــي ال أفهــم أي يشء‪ ،‬هــل تظــن‬
‫ذلــك؟»‬
‫«دعــك مــن هــذا اله ـراء‪ ،‬واصـ ِـغ إيلّ‪ .‬يقتــل النــاس بعضهــم بعض ـاً‬
‫يك يظ ّلــوا أحيــاء‪ .‬إذا حــاول أحدهــم قتلــك‪ ،‬يتعــن عليــك أن تســبقه‬
‫وإل فســيكون مصــرك املــوت»‪.‬‬ ‫وتطعنــه ّ‬
‫أؤذ أي شــخص طــوال حيــايت‪ .‬فلــاذا يريــد أي أحــد أن‬ ‫«ولكنــي مل ِ‬
‫يقتلنــي؟»‬
‫هيــا تعــال‪ ،‬ودعنــا نذهــب إىل كلكتــا‪ .‬ســرى‬ ‫«يــا لــك مــن مغفــل‪ّ .‬‬
‫كيــف أصنــع منــك رجـ ًا هنــاك»‪.‬‬
‫كان إخــاص قــد اســتأجر غرفــة عــى طريــق دارغــا‪ ،‬غــر بعيــد‬
‫عــن مــاواليل مــع أحــد عــر إىل أربعــة عــر رجـ ًا يف منــزل طينــي‬
‫مــن طابقــن‪ .‬إنــه املنــزل النموذجــي يف مدينــة‪ ،‬حيــث ينحــدر‬
‫جميــع الرجــال مــن عائــات قرويــة‪ .‬يطبخــون الطعــام ألنفســهم‬
‫ويذهبــون إىل أعاملهــم مــن الصبــاح حتــى املســاء‪.‬‬
‫مل تكــن هنــاك أي مشــكلة يف إطعــام هــازو أيضــاً إضافــة إىل‬
‫هــذه األفــواه الكثــرة‪ ،‬لكنهــم قــرروا مــع ذلــك أن يســندوا إليــه‬
‫عم ـ ًا يســاعد فيــه بطريقــة مــا‪ .‬يف البدايــة‪ ،‬عهــدوا إليــه بشــؤون‬
‫املطبــخ‪ ،‬لكــن هــازو مل يكــن طباخـاً أبــداً‪ ،‬إذ مل يحــرق األرز فحســب‬
‫ـم إنــه كان يجلــس هنــاك فحســب‪،‬‬ ‫بــل كاد يفقــد أصابعــه أيضـاً‪ .‬ثـ ّ‬
‫رس مــا ويريــد‬
‫محدق ـاً يف نــار املوقــد كــا لــو أنــه عــر فيهــا عــى ّ‬
‫مشــاهدته‪.‬‬
‫ـم أعطــوه جميــع الصحــون واملالبــس يك ينظفهــا‪ .‬عندمــا عــادوا‬ ‫ثـ ّ‬
‫مكومــة يف الفنــاء إىل‬
‫يف املســاء مــن أعاملهــم‪ ،‬كانــت الصحــون ّ‬
‫جانــب أكــداس املالبــس الرطبــة‪ .‬كان هــازو جالسـاً هنــاك فحســب‪،‬‬

‫‪285‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫مــن دون أن يفعــل أي يشء‪ .‬بــدا مأخــوذاً وهــو يحــدق يف الفـراغ أو‬
‫يراقــب قطـرات املــاء الســاقطة بانتظــام مــن الصنبــور‪.‬‬
‫كان ســيف اللــه يف منزلــة زعيــم هــؤالء املقيمــن‪ ،‬يعمــل مراس ـ ًا‬
‫يف إحــدى املحاكــم الصغــرة‪ ،‬ويعطــي لنفســه طابعــاً جديــاً‪ .‬واآلن‪،‬‬
‫بعــد يــوم عمــل شــاق يــرى هــازو يف هــذا الوضــع الــذي ال يســتطيع‬
‫احتاملــه‪ .‬اندفــع نحــوه وانهــال عليــه بلكمــة قويــة عــى أذنيــه «أيهــا‬
‫األبلــه الغبــي! أيهــا األحمــق اللعــن!»‬
‫حــر إخــاص حــاالً‪ .‬تكلــم بصــوت رصــن بقــدر مــا اســتطاع «عــى‬
‫أي حــال‪ ،‬لقــد جلبتــه إىل هنــا يك أصنــع منــه رجــاً‪ .‬إذا كان األمــر‬
‫ـات فليكــن ذلــك»‪.‬‬‫يتطلــب بضــع لكـ ٍ‬
‫ثـ ّـم إن هــازو كــر فجــأة‪ .‬ففــي ذلــك املســاء غســل جميــع الصحــون‬
‫والثيــاب‪ .‬وقــف ســيف اللــه وإخــاص بجانبــه طــوال الوقــت‪ ،‬ومــا إن‬
‫ـوان قليـ ًا حتــى تأتيــه لكــزة يف ظهــره‪.‬‬
‫يتـ َ‬
‫ـب‬ ‫مل يزعــج هــازو أي يشء مــن ذلــك عــى اإلطــاق‪ .‬ال بــل إنــه أحـ ّ‬
‫هــؤالء الجــدد املحيطــن بــه‪ .‬ففــي بضعــة أيــام قليلــة اســتطاع التأقلــم مــع‬
‫مــا حولــه‪ .‬تــوىل جميــع املســتأجرين األربعــة عــر تعليمــه كيــف يكــون‬
‫رج ـاً‪ .‬وإذا صــدف أن ارتكــب خطــأ فيــا يقــوم بــه‪ ،‬كان يتلقــى خبطــة‬
‫قويــة مــن أحدهــم‪ .‬كان بضعــة منهــم يف ســن ابنــه لكــن ذلــك مل مينعهــم‬
‫مــن إمســاكه بعنقــه ودفعــه بقــوة‪ .‬ومــع ذلــك‪ ،‬كان هــازو ســعيداً هنــاك‪.‬‬
‫كان املنــزل يخلــو بعــد الظهــر يف حــن يعــج الشــارع بالحيــاة‪ .‬ميــر‬
‫ـب هــازو الجلــوس‬ ‫الباعــة املتجولــون ومعهــم بضائعهــم املتنوعــة‪ .‬أحـ ّ‬
‫عــى الرشفــة ومراقبتهــم وهــم يعــرون أمامــه‪.‬‬
‫ـاء‬
‫ـاح َم َسـ َ‬
‫وكان هنــاك يف الجــوار مســجد يبــث نــداءات الصــاة َص َبـ َ‬
‫عــر ميكروفــون‪ .‬مل يســبق لهــازو مــن قبــل أن ســمع صــوت ميكروفــون‬

‫‪286‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫يف مســجد‪ .‬جــاءه الصــوت ورست رعشــة يف عمــوده الفقــري وكأن اللــه‬
‫يف األعــى يدعــوه إليــه مبــارشة مــن الســاوات‪.‬‬
‫مــا إن يجلــس هــازو للصــاة حتــى ال يعــود راغبـاً يف النهــوض‪ .‬كان‬
‫يحــدق بــا ح ـراك يف األرض أمــام ناظريــه‪ ،‬ولــو اســتطاع لبقــي كذلــك‬
‫طــوال الوقــت‪ ،‬ثــم يقــوم نعيــم أو قــادر بجذبــه‪.‬‬
‫ـل مــا لهــازو‪ .‬وكان واضحـاً أن هــازو‬ ‫وعــد إخــاص أختــه بتأمــن عمـ ٍ‬
‫يجــب ّأل يبقــى عالــة عــى اآلخريــن طــوال الوقــت‪ .‬تطلــب األمــر بعض‬
‫ـف‬ ‫ـغل للـ ّ‬
‫الجهــد واســتطاع إخــاص الحصــول لهــازو عــى عمــل يف مشـ ٍ‬
‫الســجائر يف إحــدى بلــدات األكــواخ القريبــة‪.‬‬
‫العمــل ســهل‪ ،‬وال عجلــة فيــه وال ضغــط وال يحتــاج بــذل جهــد‬
‫لتذمــر رئيــس‬
‫عضــي شــاق‪ ،‬وال حتــى املقــت الناجــم عــن اإلصغــاء ّ‬
‫الورشــة‪ .‬كل مــا ينبغــي لهــازو القيــام بــه هــو أن يتمــدد بارتيــاح يف‬
‫زاويــة الغرفــة مــع سـلّة مــن التبــغ ولوازمــه يف حضنــه‪ ،‬ويلف الســجائر‪.‬‬
‫األجــر ســت روبيــات لــكل ألــف ســيجارة‪ .‬كان بعــض األشــخاص يلفــون‬
‫ـن يكفــي هــازو أن‬ ‫ألفـاً وخمســمئة أو ألفــن مــن الســجائر يف اليــوم‪ .‬لكـ ْ‬
‫يلــف ألف ـاً أو حتــى خمســمئة ســيجارة يف البدايــة‪.‬‬
‫يف يومــه األول‪ ،‬لــف هــازو خمــس ســجائر‪ ،‬ويف اليــوم التــايل ســبع‪.‬‬
‫ســخر منــه جميــع العــال‪ ،‬ومــن كل مطــرح يف الغرفــة كانــت تــأيت‬
‫مالحظاتهــم الســاخرة «حســناً‪ ،‬واآلن أيهــا الرجــل‪ ،‬هــل غفــوت؟»‪.‬‬
‫مل يكــن هــازو ينــام يف العمــل البتــة‪ .‬كان يحــدق يف التبــغ ولوازمــه‪،‬‬
‫ـرف عينــه‪ .‬عبــق التبــغ ومظهــره يســحرانه فــا يقــدر‬ ‫مــن دون أن تـ ّ‬
‫عــى تحريــك أي عضلــة مــن جســمه‪ .‬وحتــى بعــد التوبيخــات املتكــررة‬
‫لــف أكــر مــن عــر ســجائر يف اليــوم‪ .‬أخــراً‪،‬‬ ‫مل يتوصــل هــازو إىل ّ‬
‫اســتدعى مالــك املشــغل إخــاص وأخــره أنــه ال يســتطيع اإلبقــاء عــى‬

‫‪287‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫عامــل مثــل هــذا‪ ،‬وال دفــع أجــر لشــخص ال يلــف ســوى عــر ســجائر‬
‫هزيلــة يف اليــوم‪.‬‬
‫كان هــازو عاجـزاً عــن القيــام حتــى بأبســط املهــات التــي ينجزهــا‬
‫اآلخــرون بــكل ســهولة‪ ،‬لعــلّ اللــه أفــرده لعمــل خــاص مل يكــن هــازو‬
‫يــدري بــه حتــى اآلن‪.‬‬
‫مل يكــن لــف الســجائر آخــر األعــال التــي زاولهــا هــازو‪ ،‬فقــد تدبــر‬
‫لــه األصدقــاء أعــاالً أخــرى‪ ،‬لكــن بــا فائــدة‪ .‬أحيان ـاً كان امتيــاز ميـ ّـر‬
‫بال ّنــزل يف آخــر املســاء‪ .‬شــخص مليــح‪ ،‬ممتلــئ الجســم قليـ ًا مــع لحيــة‬
‫كثــة‪ .‬كان يعمــل مســاعد طبــاخ يف فنــدق كبــر‪ ،‬وينحــدر مــن قريــة‬
‫ـي‬ ‫ســيف اللــه نفســها‪ .‬كان يقــي وقتـاً طيبـاً يف زيــارة أصدقائــه والتسـ ّ‬
‫معهــم‪ .‬وهــم يغتبطــون دومـاً برؤيتــه خصوصـاً أنــه ال يــأيت أبــداً ويــداه‬
‫فارغتــان‪ .‬يجلــب دومـاً ســلة كبــرة مليئــة باألطعمــة الشــهية‪ .‬أرز مب ّهــر‬
‫أو دجــاج بالــكاري أو لحــم ماعــز بــري‪ ،‬أو بــازالء مــع صلصــة اللحــم‬
‫والفلفــل‪ .‬ومل يك ّلــف أحــد منهــم نفســه ويســأله مــن أيــن يــأيت بــكل‬
‫هــذه األطبــاق‪ ،‬هــل هــي مرسوقــة أم مجــرد بقايــا طعــام الفنــدق‪.‬‬
‫مل يــذق هــازو مــن قبــل مثــل هــذا الطعــام‪ ،‬واآلن يأكلــه بشــهية‬
‫كبــرة‪ .‬كان امتيــاز يعطــف عــى هــازو‪ ،‬ويدافــع عنــه عندمــا ينتهــره‬
‫اآلخــرون‪ ،‬فيقــول لهــم «اخجلــوا مــن أنفســكم‪ .‬كــم عــدد النــاس مثــل‬
‫هــازو اللطيــف الــريء املســكني ميكــن أن تــروا يف هــذه األيــام؟ رجــلٌ‬
‫مثلــه ال يعــرف حتــى مصلحتــه الشــخصية‪ ،‬مــن املؤكــد أنــه لــن يغمــس‬
‫يديــه يف زاد اآلخريــن»‪.‬‬
‫تذمــر ســيف اللــه قائـ ًا «حتــى لــو تســلل شــخص إىل هنــا يف وضــح‬ ‫ّ‬
‫النهــار فلــن يوقفــه صاحبنــا هــازو‪ .‬فقــط ســوف يحــدق يف الســارق‪،‬‬
‫ومــن املحتمــل حتــى أن يعجــب بــه»‪.‬‬

‫‪288‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫أطلــق امتيــاز ضحكــة مجلجلــة وأردف قائـ ًا «يف هــذه األيــام‪ ،‬يا‬
‫أخــي‪ ،‬ليــس مــن الســهل أن تحدد من اللــص‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬ســأحصل‬
‫لهــازو عــى عمــل لدينا يف الفنــدق»‪ُ .‬صعــق الجميع‪ .‬مل يكــن الفندق‬
‫الــذي يعمــل فيــه امتيــاز مجــرد فنــدق عــادي‪ ،‬بــل مؤسســة فخمــة‬
‫يتوقــف فيهــا الســادة والســيدات األجانــب يف أثنــاء رحالتهــم‪ ،‬وينزل‬
‫فيهــا األغنيــاء القادمــون مــن دلهــي وبومبــاي‪ .‬مثــة رشفــة رائعــة‬
‫للفنــدق‪ ،‬منظرهــا مــن بعيــد يحبس األنفــاس‪ .‬يف إحدى املـرات‪ ،‬وقع‬
‫قــادر يف ورطــة وذهــب إىل الفنــدق لرؤيــة امتيــاز‪ .‬اعرتضــه البــواب‪،‬‬
‫إذ ال يســمح للعاملــن بالخــروج مــن املطبــخ إبــان ســاعات العمــل‪،‬‬
‫وال بدخول الغرباء إىل هناك‪.‬‬
‫حــاول كثــر مــن املقيمــن الحصــول عــى عمــل يف الفنــدق‪،‬‬
‫فهنــاك‪ ،‬البقشــيش متوفــر دومــاً عــدا عــن األجــر الثابــت‪ .‬طاملــا‬
‫عجــز امتيــاز عــن مســاعدتهم يف ذلــك‪ ،‬واآلن يريــد تأمــن عمــل‬
‫لهــازو هنــاك؟‬
‫بــدأ الجميــع بالتحــدث دفعــة واحــدة‪ ،‬لكــن ســيف اللــه ومبكانتــه‬
‫املحفوظــة كزعيــم لهــم رفــع يــده بوقــار وأســكتهم‪ .‬ثــم التفــت إىل‬
‫تدمــر نفســك‪ .‬إذا‬‫امتيــاز وقــال «أنــت ال تعــي مــا تقــول‪ .‬ســوف ّ‬
‫أســندت عمـ ًا يف الفنــدق لذلــك املغ ّفــل فســيكرس بعــض األشــياء التــي‬
‫ويضيــع بعضهــا ويحطّ ــم مــا تبقــى‪ .‬ســوف يبــول يف‬
‫تقــع عليهــا يــداه‪ّ ،‬‬
‫امليــاه التــي يرشبهــا النــزالء‪ ،‬وأنــت ســوف تطــرد مــن عملــك‪ .‬رجــل‬
‫ال يســتطيع حتــى أن يلــف ســجائر‪ ،‬كيــف لــه أن ينجــز أي عمــل مهــا‬
‫كان‪ .‬دعــه وشــأنه‪ ،‬دعــه ميكــث هنــا فحســب‪ ،‬يتدبــر أمــوره‪ .‬نســتطيع‬
‫االعتنــاء بــه‪ ،‬إنــه أحــد مخلوقــات اللــه التــي ال نفــع لهــا‪ .‬ومــع ذلــك‬
‫لــن نتخــى عنــه»‪.‬‬

‫‪289‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫لكــن امتيــاز مل يستســلم لــكل مــا قالــوه «ال ينبغــي لــك أن تقلــق‬
‫بشــأين‪ .‬ليــس مثــة مــا ينكــر يف العمــل الــذي سأســنده إليــه‪ .‬إنــه عمــل‬
‫ســهل‪ ،‬العمــل األبســط يف العــامل»‪.‬‬
‫ـط العمــل إىل‬ ‫تدخــل قــادر مقاطعـاً «ملــاذا إذاً والحــال كذلــك مل تعـ ِ‬
‫واحـ ٍد منــا؟ ســمعت أن املشــغل الــذي نعمــل فيــه ســيغلق؟»‪.‬‬
‫أجابــه امتيــاز «لــن تقــدر عــى القيــام بذلــك العمــل‪ .‬فــكل شــخص‬
‫يالمئــه عمــل معــن‪ .‬والعمــل الــذي أتحــدث عنــه مثــايل بالنســبة لهــازو‬
‫وليــس ألي شــخص آخــر‪ .‬كل مــا عليــه القيــام بــه هــو الوقــوف يف بقعــة‬
‫محــددة واالنحنــاء باحـرام للنــزالء»‪.‬‬
‫صاح قادر ونعيم يف الحال «سينىس‪ ،‬سينىس أن ينحني»‪.‬‬
‫«ومــا املشــكلة إذا نــي ذلــك بضــع مـرات؟ هــذا غــر مهــم‪ .‬ال بــل‬
‫لــن يالحــظ أحــد ذلــك‪ .‬يكفــي أن يكــون واقفـاً هنــاك فحســب»‪.‬‬
‫التفــت إخــاص إىل هــازو «مــا قولــك يــا هــازو؟ هــل تريــد العمــل‬
‫يف الفنــدق؟»‬
‫أومــأ هــازو موافق ـاً بــا لحظــة تــردد‪ .‬بــدا وكأنــه شـ ّـم يف الحــال‬
‫الشــذا الفــواح لــكل تلــك األطبــاق الشــهية‪ ،‬فطائــر الغنــم‪ ،‬والســمك‬
‫واللحــم بالــكاري‪ ،‬وكل أنــواع الوجبــات الرائعــة‪.‬‬
‫أرسع امتيــاز بالذهــاب إىل ســوق إنتــايل واشــرى بنفســه بنطالــن‬
‫وقميصــن طويلــن لهــازو‪ ،‬ثــم اصطحبــه إىل الفنــدق‪.‬‬
‫مل يحــدث قــط أن أغــرم هــازو بعمـ ٍـل جديــد‪ .‬لكــن هــذا كان عم ـ ًا‬
‫مثاليـاً بالنســبة إليــه‪ .‬مل يكــن مثــة حاجــة للتنقــل أو ألي جهــد عضــي‪ ،‬وال‬
‫لف الســجائر‪.‬‬‫وجــود لرئيــس ورشــة يتذمــر ويشــكو‪ .‬كان أســهل حتــى مــن ّ‬
‫كان عليــه الوقــوف بانتبــاه مبحــاذاة جــدار املرحــاض األبيــض‬
‫املتألــق املخصــص للرجــال يف الطابــق األول مــن الفنــدق الفخــم‪ .‬ومــا‬

‫‪290‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫إن يدخــل أحــد الســادة حتــى ينحنــي لــه إىل األســفل‪ .‬وميكــن القــول إن‬
‫األمــر ميــي مــن دون أن يتوقــف أحــد أبــداً لــرى إن كان هــازو ينحنــي‬
‫أم ال‪ .‬كان هــازو يصغــي إىل أصــوات تدفــق البــول وهــي ترتطــم بحــوض‬
‫املرحــاض‪ .‬بــدا لــه أن نغمــة الصــوت تختلــف باختــاف الســادة‪ .‬ال بــل‬
‫حتــى الروائــح كانــت متاميــزة‪ .‬عندمــا يريــد أحــد النــزالء غســل يديــه‬
‫يف املغســلة كان هــازو يخطــو إىل األمــام ويقــدم لــه الصابــون واملنشــفة‪.‬‬
‫مل يكــن كثــر مــن النــزالء يزعجــون أنفســهم بأمــر الصابــون واملنشــفة‪،‬‬
‫حتــى إن بعضهــم مل يكــن يتوقــف إطالقـاً ليغســل يديــه‪ ،‬بــل يفعــل مــا‬
‫جــاء ألجلــه برسعــة ويذهــب‪.‬‬
‫ذُهــل هــازو مــن هــذه الرفاهيــة والــرف وكل ذلــك مــن أجــل‬
‫مبولــة‪ ،‬وليــس حاممـاً كامـ ًا حتــى‪ .‬ومل ميلــك نفســه عــن التســاؤل إن كان‬
‫خمــن أن‬ ‫صديقهــم ســيف اللــه الحكيــم بــكل مــا لديــه مــن معرفــة قــد ّ‬
‫النــاس ميكــن أن يصنعــوا مثــل هــذه الغرفــة البهيــة املبهرجــة اســتجابة‬
‫لنــداء الطبيعــة‪ .‬كانــت الجــدران بالغــة النعومــة والصقــل حتــى إن عينــي‬
‫هــازو كانتــا تنزلقــان عليهــا‪ .‬املرايــا بهيــة جــداً‪ ،‬وعندمــا مل يكــن أحــد‬
‫هنــاك ليخدمــه‪ ،‬كان هــازو يحــدق ناظ ـراً نفســه يف تلــك املرايــا‪.‬‬
‫ـر َة‬
‫يظــل هــازو يف الخدمــة مــن الواحــدة ظهـراً حتــى الحاديــة َعـ ْ َ‬
‫ليــاً‪ .‬وعــدا عــن اســراحتني قصريتــن‪ ،‬كان يقــف هنــاك فحســب‪.‬‬
‫الوقــوف عــى‬
‫ُ‬ ‫مل يكــن العمــل مرهقــاً لــه إطالقــاً‪ ،‬ومل يزعجــه البتــة‬
‫قدميــه طــوال الوقــت‪ ،‬ففــي النهايــة هــا قــد وجــد مــاذاً بعيــداً عــن‬
‫التوبيخــات التــي كانــت تنهــال عليــه طــوال اليــوم‪.‬‬
‫مل يكــن النــزالء يتكلمــون معــه إطالق ـاً‪ ،‬ومــن املحتمــل أن كثرييــن‬
‫مل يالحظــوا وجــوده هنــاك‪ .‬كان بعضهــم يلقــي إليــه ببعــض النقــود‬
‫أثنــاء خروجــه‪.‬‬

‫‪291‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ميــي النهــار هادئ ـاً‪ ،‬وال يبــدأ توافــد النــزالء حتــى املســاء‪ .‬هنــاك‬
‫بــاران يف الطابــق األول مــن الفنــدق‪ ،‬ومــع حلــول الليــل واشــتداد‬
‫الضجيــج يبــدأ البــاب يف غرفــة هــازو البيضــاء بالتأرجــح بــن الفينــة‬
‫واألخــرى‪.‬‬
‫بالطبــع‪ ،‬ســبق لهــازو أن رأى بعــض الســكارى خــال حياتــه‪ .‬ففــي‬
‫ســوق غاجيبــور كانــوا يبيعــون كحــول النخيــل‪ .‬ومــع أن هــازو مل يــردد‬
‫أبــداً عــى متاجــر الخمــر ّإل أنــه شــهد مـ ّـرة بعــض العابريــن الذيــن‬
‫أحدثــوا شــجاراً كبــراً بعــد أن رشبــوا هنــاك حتــى الثاملــة‪ .‬لكــن‬
‫الســكارى يف الفنــدق كانــوا مــن صنــف مختلــف‪ .‬ال شــغب وال فظاظــة‬
‫وال ع ـراك‪ .‬أحيان ـاً يعجــز الســكران عــن الوقــوف بثبــات عــى قدميــه‪،‬‬
‫أو رمبــا ينهمــك يف التحــدث إىل الجــدار أو يقــف فحســب متاميـ ًا مينــة‬
‫ويــرة عاج ـزاً عــن تزريــر بنطالــه‪ .‬ويحــدث أن يتوعــك نزيــل هزيــل‬
‫الجســم ويبــدأ بالتقيــؤ أو يقــف نزيــل آخــر يف بعــض األحيــان أمــام‬
‫املرايــا غــر قــادر عــى مــا يبــدو عــى التعــرف عــى وجهــه املنعكــس‬
‫فيهــا‪.‬‬
‫متثــال‪ ،‬محشــوراً بجانــب‬
‫ٍ‬ ‫لكــن هــازو يبقــى طــوال ذلــك مثــل‬
‫الجــدار يراقــب مــا حولــه باهتــام شــديد‪ .‬مل يكــن يبــادر مبســاعدة‬
‫ـأل ينبــس بــأي كلمــة‬ ‫النــزالء املتوعكــن‪ ،‬فقــد أوصــاه امتيــاز م ـراراً بـ ّ‬
‫وأل يقــرب مــن أي شــخص مــا مل‬ ‫ّإل إذا طُ لــب منــه ذلــك مبــارشة‪ّ ،‬‬
‫َي ْســ َت ْد ِع ِه أوالً‪.‬‬
‫بعــد الظهــر تنتــر رائحــة النفتالــن‪ ،‬ومــع مــرور الوقــت تســود‬
‫روائــح أخــرى‪.‬‬
‫يف أحــد األيــام‪ ،‬دخــل شــابان إىل املرحــاض حــوايل الســاعة العــارشة ّإل‬
‫ـاء‪ .‬العيــون حمــر والشــعر أشــعث‪ ،‬مــن الواضــح أنهــا ثَ ِ ِ‬
‫الن‪.‬‬ ‫ربعـاً مسـ ً‬

‫‪292‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫بــات هــازو يعــرف كثـراً مــن النــزالء املواظبــن عــى القــدوم‪ ،‬لكنــه‬
‫مل يــر هذيــن الشــابني مــن قبــل‪ .‬مــع كل وجــه جديــد كان هــازو يراقــب‬
‫كل يشء باهتــام‪ ،‬ويصغــي بانتبــاه إىل كل مــا يســمعه‪ ،‬عــى الرغــم مــن‬
‫أنــه مل يفهــم ســوى القليــل مــا يقولــه النــزالء‪.‬‬
‫كان هــذان الشــابان شــاعرين‪ .‬وعــادة ال يــأيت الشــعراء كثــراً إىل‬
‫الفنــدق باســتثناء املناســبات النــادرة التــي يدعــو فيهــا أحــد الزبائــن‬
‫األغنيــاء صحبــه‪.‬‬
‫حملــق أحــد الشــاعرين يف الجــدار وغمغــم موهنــاً «ال أســتطيع‬
‫الصــر دقيقــة أخــرى‪ .‬كلــا رأيتــه ازداد غضبــي»‪.‬‬
‫خاطــب الشــاعر الثــاين الجــدار أمامــه أيض ـاً «مــن تقصــد؟ ذلــك‬
‫القــزم مــع املــرأة؟ لقــد صـ ّـم أذين بحديثــه‪ .‬يف املــرة القادمــة التــي يفتــح‬
‫فيهــا فمــه‪ ،‬ســأعاجله بلكمــة»‪.‬‬
‫«ال‪ ،‬ال‪ ،‬ال أقصــد ذلــك الشــخص‪ ،‬بــل خــادم املرحــاض الغبــي هــذا‪.‬‬
‫مــا الفائــدة مــن جعــل أبلــه مســكني يقــف يف مبولــة طــوال اليــوم؟»‬
‫«ذلــك تقليـ ٌـد أخذنــاه عــن الربيطانيــن‪ .‬مثــلٌ آخــر عــى املحــاكاة‬
‫الذليلــة املقرفــة لــكل مــا هــو بريطــاين»‪.‬‬
‫«هل ما زالوا يفعلون هذه األشياء يف إنكلرتا؟»‬
‫«لقد احتفظوا بهذه العادات املثرية لالشمئزاز ملستعمراتهم»‪.‬‬
‫«لكن هذا البلد هو مستعمرة مارواري حالياً»‪.‬‬
‫اتجــه الشــاعران إىل املغســلة لتنظيــف أيديهــا‪ .‬بــدأ أحدهــا بــرش‬
‫املــاء عــى وجهــه يف حــن حـ ّدق الثــاين ناظـراً نفســه يف املــرآة‪.‬‬
‫تسمر هازو هناك جامد الوجه وبيديه الصابون واملناشف‪.‬‬ ‫ّ‬
‫فجــأة‪ ،‬وبــا ســابق إنــذار‪ ،‬جــأر أحــد الشــاعرين وســأله «مــن أيــن‬
‫أنــت؟ مــن قريــة؟ مــن مقاطعــة؟»‬

‫‪293‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫مروعـاً‪ ،‬وعينــاه مثــل عينــي بقــرة مربوطــة إىل وتــد‪ ،‬تسـ ّـمر هــازو‬ ‫َّ‬
‫هنــاك وقــد أذهلتــه مفاجــأة الســؤال وعجــز عــن الجــواب‪.‬‬
‫لكــن الســكارى لجوجــون عــى نحــو غريــب‪ .‬بــدا أن الرجــل يريــد‬
‫أن يعــرف مــن أيــن هــازو‪ ،‬ومــن دون تلــك املعلومــة ســيفقد كل متعــة‬
‫الســكر‪ .‬قبــض الشــاعر عــى ذقــن هــازو بخشــونة وصــاح بــه «ويحــك‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫مل ال تــر ّد عــى ســؤايل؟»‬
‫مرتجفاً‪ ،‬أجاب هازو «من غاجيبور يا سيدي»‪.‬‬
‫«يف أي مقاطعة؟»‬
‫«ميدنبور»‪.‬‬
‫«ما ْاس ُمكَ ؟»‬ ‫َ‬
‫«هازو»‪.‬‬
‫«هــازو؟ أي نــوع مــن األســاء هــذا؟ أنــا أســألك عــن اســمك‬
‫الحقيقــي‪ ،‬اســمك الــذي تناديــك بــه أمــك»‪.‬‬
‫طاملــا نــاداه الجميــع باســم هــازو منــذ والدتــه‪ .‬بالطبــع‪ ،‬هــو ميلــك‬
‫اسـ ًا آخــر‪ ،‬لكــن أحــداً مل يســتعمله ملناداتــه أبــداً‪.‬‬
‫«ش ْهجان يا سيدي»‪.‬‬ ‫َ‬
‫ُأحبــط الشــاعر متامـاً «ذلــك اســم غريــب‪ .‬إنــه اســم غريب لشــخص‬
‫ـمعت بــأي شــخص اســمه شــهجان مــن‬ ‫أخمــن‪ .‬هــل سـ َ‬ ‫غريــب‪ ،‬كــا ّ‬
‫قبــل؟ هــل أنــت هنــدويس أم مســلم؟»‬
‫ـس مرتعــد أجــاب‬ ‫ـوت هامـ ٍ‬ ‫بــدأ هــازو يرتجــف مــن جديــد‪ .‬وبصـ ٍ‬
‫«نحــن مســلمون»‪.‬‬
‫يف هــذه اللحظــة متامــاً انفجــر الشــاعر الثــاين بالضحــك «أ ْمل‬
‫تســتوعب داللــة االســم؟ إنــه شــاه جيهــان‪ ،‬يــا صــاح‪ ،‬أقصــد اإلمرباطــور‬
‫أتوســل إليــك يــا صاحــب الجاللــة‪ ،‬قــل يل مــن أخــذك‬ ‫شــاه جيهــان‪ّ .‬‬

‫‪294‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫أس ـراً وحبســك يف هــذه املبولــة؟ مــا الــذي حــدث للقلعــة يف آغ ـرا؟»‬
‫صفــع الشــاعر األول صديقــه عــى ظهــره «دعنــا نذهــب‪ .‬دعنــا‬
‫نخــرج مــن هــذا املــكان‪ .‬يــا للقــرف‪ ،‬مــا زلنــا نســمح مبامرســة هــذه‬
‫املهــن الكريهــة‪ .‬ليتنــي أســتطيع الذهــاب إىل مديــر الفنــدق ألعاجلــه‬
‫بركلــة عــى مؤخرتــه مــن أجــل ذلــك»‪.‬‬
‫«رمبــا تريــد ذلــك اآلن بعــد أن رشبــت خمــس زجاجــات مــن‬
‫الويســي‪ ،‬لكنــك غــداً لــن تأبــه‪ .‬ثـ ّـم أي صنيــع تفعلــه إذا ركلــت املديــر‬
‫عــى مؤخرتــه؟ ذلــك ســيجلب لــك ركلــة عندمــا تلــوح عنــد البــاب يف‬
‫املــرة القادمــة»‪.‬‬
‫«رمبا‪ ،‬لكنني يوماً ما سأركل مؤخرته‪ ،‬وسرتى»‪.‬‬
‫كان الشــاعر الثــاين يرتنــح قلي ـ ًا عــى قدميــه عندمــا اتجــه صــوب‬
‫البــاب‪ .‬كان كالمــه مشوشـاً وهــو يقــول لهــازو «أيهــا األســر‪ ،‬اإلمرباطــور‪،‬‬
‫يومــاً مــا كنــت الحاكــم ســيداً عــى جميــع أرايض هندســتان‪ .‬واآلن‪،‬‬
‫أنــت أســر يف هــذه املبولــة‪ .‬هــا أنــت مجــدداً‪ ،‬ولعــلّ هــذا تــاج محــل‬
‫خاصتــك‪ .‬أمتنــى لــك ليلــة طيبــة»‪.‬‬
‫مل يــرك أي يشء مــا قالــه الرجــات أثــراً يف هــازو‪ .‬يف الحقيقــة‪،‬‬
‫هــو مل يفهــم الكثــر منــه‪ .‬إنــه هــذر بعــض الســكارى‪ .‬وبالنســبة إىل‬
‫ض َبــا ُه حتــى اإلغــاء أو مل يحطــا عمــوده‬ ‫هــازو كان يكفــي أنهــا مل َي ْ ِ‬
‫الفقــري إىل نصفــن‪.‬‬
‫ـض وقــت طويــل حتــى‬ ‫ولكــن الحــدث تــرك عالمتــه البــارزة‪ .‬إذ مل ميـ ِ‬
‫دخــل إىل املرحــاض ســيد بنغــايل آخــر‪ .‬خاطبــه وهــو يحــاول الثبــات يف‬
‫ـي‪ ،‬أنــت‪ ،‬هــل‬‫«هـ ْ‬
‫وقفتــه متحسس ـاً بنطالــه الــذي يــكاد يفلــت منــه ِ‬
‫حقـاً اســمك هــو شــاه جيهــان‪ .‬هــذا اســم رائــع مل أســمع بــه مــن قبل»‪.‬‬
‫بــدا أن الشــاعرين متتعــا بســهرة حافلــة مــع هــذا االســم بعــد‬

‫‪295‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ثــم أحدثــا صخبــاً شــديداً وطُ لــب منهــا‬ ‫رجوعهــا إىل البــار‪ ،‬ومــن ّ‬
‫علــم باســم‬
‫مغــادرة الفنــدق‪ .‬لكــن كثرييــن مــن النــزالء باتــوا عــى ٍ‬
‫ذلــك النكــرة الــذي يعمــل يف مرحــاض الرجــال‪ .‬وبــن حــن وآخــر كان‬
‫ــي‪ ،‬شــاه جيهــان‪ ،‬ناولنــي منشــفة»‪.‬‬ ‫«ه ْ‬‫بعضهــم يناديــه صارخــاً ِ‬
‫طبع ـاً مل يكــرث هــازو ألن اســمه أصبــح شــهرياً جــداً‪ .‬ففــي كثــر‬
‫مــن األوقــات‪ ،‬عندمــا كان النــزالء ينادونــه باســمه مل يكــن يتمكــن مــن‬
‫اســتيعاب يشء مــا يقولونــه‪ .‬كانــوا يتحدثــون بشــكل مختلــف عــاّ‬
‫ُيلـ ّـم بــه هــازو‪ ،‬وإذا كان بينهــم بعــض الســكارى‪ ،‬فــا يكــون الحديــث‬
‫واضح ـاً بــأي حــال‪.‬‬
‫أحــب فــرات مــا بعــد‬ ‫ّ‬ ‫أجمــل مــا يف ذلــك العمــل أن هــازو‬
‫الظهــر‪ .‬كان مثــة أيــام‪ ،‬باســتثناء الســبت واألحــد‪ ،‬ال يــأيت فيهــا أحــد‬
‫بــن الســاعتني الثالثــة والسادســة‪ .‬وكان بإمــكان هــازو أن يخــرج يف‬
‫ذلــك الوقــت لكنــه مل يكــن يفعــل ذلــك مطلقـاً‪ .‬كان يقــف هنــاك‪ ،‬بــا‬
‫حـراك‪ ،‬محدقـاً يف الجــدار املتأللــئ‪ .‬بالنســبة لــه‪ ،‬مل يكــن مثــة أبهــج مــن‬
‫هــذا املنظــر يف العــامل كلــه‪.‬‬
‫يف إحــدى ف ـرات مــا بعــد الظهــر‪ ،‬الحــظ هــازو خط ـاً مــن النمــل‬
‫ـل‪ ،‬جميعهــا‬ ‫ـدب منحــدراً عــى الجــدار‪ .‬كان صف ـاً طوي ـ ًا مــن ال َّن ْمـ ِ‬ ‫يـ ّ‬
‫حمـراء وتســر فــرداً فــرداً بانتظــام‪ ،‬وال منلــة واحــدة تحيــد عــن الصــف‪.‬‬
‫مل يهتــم هــازو مبــا تفعلــه تلــك النمــات عــى جــدار الحــام‪ ،‬وال باملكان‬
‫الــذي تذهــب إليــه‪ .‬األمــر كلــه أن النمــات الحمــراء عــى الجــدار‬
‫األبيــض كانــت بالغــة الروعــة‪ .‬ســحره املنظــر وظــلّ يحــدق فيــه طويـ ًا‬
‫طوي ـاً‪.‬‬
‫فجــأة تذكــر هــازو الرتــل الــذي رآه يف ســليامنبور عندمــا كان يف‬
‫طريقــه إىل كلكتــا بصحبــة إخــاص‪ .‬لقــد ســار مبحــاذاة ضفــة القنــاة‪،‬‬

‫‪296‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫ثــم عــر ج ـراً إىل الجانــب اآلخــر‪ .‬واآلن‪ ،‬أال يبــدو ذلــك مثــل هــذا؟‬
‫بلــل هــازو يديــه مبيــاه الصنبــور ورســم خطـاً من املــاء عــى الجدار‪.‬‬
‫ـن املــاء ســال عــى الجــدار‬ ‫هنــاك‪ ،‬هنــاك القنــاة‪ ،‬والجــر أيض ـاً‪ .‬لكـ ّ‬
‫الزلــق‪ .‬لذلــك رســم هــازو مــن جديــد خطـاً أضخــم عــى الجــدار‪.‬‬
‫توقــف صــف النمــل فجــأة عنــد خــط املــاء‪ .‬تحركــت بعــض‬
‫ـان‬
‫النمــات كلٌّ يف اتجــاه عنــد مقدمــة الخــط‪ ،‬ورجعــت واحــدة أو ا ْث َن َتـ ِ‬
‫برسعــة كــا لــو أنهــا تستشــر البقيــة‪.‬‬
‫ذُهــل هــازو‪ .‬أليــس رتــل النمــل يف طريقــه لعبــور الجــر إىل‬
‫الجانــب اآلخــر مــن القنــاة؟ اهتــز طرب ـاً للعبــة‪ ،‬وهمــس «يــا أطفــايل‬
‫الصغــار الطيبــن‪ ،‬ملــاذا تذهبــون إىل هنــاك حيــث املــاء؟ أي فائــدة مــن‬
‫كاف هنــا»‪.‬‬
‫التــورط يف املتاعــب؟ انظــروا‪ ،‬هنــاك حيــز ٍ‬
‫وضــع خطـاً آخــر مــن املــاء‪ ،‬فاســتدار رتــل النمــل‪ ،‬واتخــذ اتجاهـاً‬
‫آخــر‪ .‬مل يســبق لهــازو أن كان ســعيداً إىل هــذا الحــد طــوال حياتــه‪.‬‬
‫كانــت النمــات تصغــي إليــه‪ .‬تطيعــه‪ .‬راس ـ ًا خط ـاً بعــد خــط عــى‬
‫الجــدار‪ ،‬تابــع هــازو «يف هــذا االتجــاه‪ ،‬يف هــذا االتجــاه»‪.‬‬

‫ترجمها عن اللغة األم (البنغالية) إىل اإلنكليزية ‪Phyllis Granoff‬‬


‫٭٭٭‬

‫‪297‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫‪298‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫انعتاق‬
‫نريمال فريما‬
‫كان معلّــم املدرســة أول شــخص قابلتــه يف تلــك البلــدة املهملــة‬
‫ـت مــن الحافلــة‪.‬‬
‫النائيــة يف الجبــال‪ .‬كانــت الســاء متطــر عندمــا ترجلـ ُ‬
‫ـررت يف ســفري خــال الســاعات الثــاث األخــرة بثالثــة منــاذج مختلفة‬
‫مـ ُ‬
‫مــن الطقــس! الســاء الســاطعة فــوق بهوفــايل‪ ،‬والغيــوم فــوق رامغــارا‪،‬‬
‫واملطــر الهاطــل اآلن هنــا‪ .‬توقفــت الحافلــة عــى جانــب الطريــق‬
‫يف وســط البلــدة‪ .‬أمتعتــي البائســة التــي حملتهــا مــن دلهــي طــوال‬
‫الطريــق قذفــت مــن فــوق الــرف؛ حقيبــة قامشــية كانــت تخــص أيب‪،‬‬
‫وصنــدوق ثيــاب عتيــق عليــه طوابــع ممزقــة مــن الرحــات الســابقة‬
‫ما تزال ملتصقة عليه مثل رصاصري ميتة‪.‬‬
‫وقفــت هنــاك مبحــاذاة الطريــق وحــويل أمتعتــي املهشــمة التــي‬
‫ُنقعــت بهزالهــا‪ .‬للمطــر أســلوبه يف تجريــد اإلنســان واملدينــة مــن‬
‫الوقــار‪ .‬تشــبثت مبحفظتــي إىل صــدري ليــس ألنهــا يف ذلــك املــكان‬
‫ملحرتميــة طبقتــي‬
‫ّ‬ ‫املهجــور بــدت التذكــرة الوحيــدة بالحضــارة ورمـزاً‬
‫الوســطى‪ ،‬بــل لســبب آخــر أيضــاً؛ لقــد احتــوت الهــدف الكامــل‬
‫لرحلتــي‪ ،‬الــذي ألجلــه تركــت بيتــي وجئــت إىل هــذه البلــدة الجبليــة‬
‫املوحشــة‪.‬‬

‫‪299‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫عمومــاً‪ ،‬ميكــن أن تكــون أغلــب البلــدات الهنديــة الصغــرة‬


‫موحشــة جــداً ومقبضــة للصــدر‪ .‬إىل جانــب ذلــك‪ ،‬كان الجــو بــارداً‬
‫ومعتـ ًا وماطـراً‪ .‬مــا ْإن بــدأت الحافلــة بالرحيــل حتــى متلكتنــي رغبــة‬
‫جنونيــة يف القفــز عــى متنهــا والطلــب مــن الســائق أن يأخــذين إىل‬
‫بهوفــايل وهالدفــاين يف طريــق العــودة إىل دلهــي‪ ..‬إىل حيــايت املألوفــة‬
‫املطمئنــة‪ ،‬إىل نورهــا ودفئهــا وأمانهــا‪ .‬لكــن الحافلــة مل تتوقــف ومل‬
‫اقبــت تقهقرهــا‪،‬‬
‫ترجــع‪ ،‬بــل تحركــت مبتعــدة صاعــدة الطريــق‪ .‬ر ُ‬
‫كانــت أضواؤهــا الخلفيــة مثــل بقــع حم ـراء مــن الــدم عــر حبــال‬
‫املطــر الغزيــر‪.‬‬
‫نظــرت حــويل‪ .‬كان مثــة بعــض الدكاكــن ومحــات األكل الرخيصــة‬
‫ـددت عتم َتها‬
‫قبالــة الطريــق‪ ،‬وورايئ يف املنحــدر ثــاث أو أربــع مغــاور بـ ْ‬
‫قناديــلُ مضيئــة‪ .‬ويف املوضــع األســفل القريــب مــن واقيــة موقــف‬
‫الحافلــة كان مثــة كشــك لبيــع الشــاي‪ ،‬وتحــت مظلتــه املصنوعــة مــن‬
‫الخيــش‪ ،‬جلــس بعــض الرجــال عــى مقاعــد طويلــة‪ .‬وضعــت محفظتــي‬
‫لكــن حقيبتــي وصنــدوق ثيــايب كانــا يف هيئــة‬ ‫فــوق رأيس كاملظلــة‪ّ ،‬‬
‫مزريــة‪ ،‬ومنظرهــا منقو َعــن باملطــر عــى جانــب الطريــق بــدا أكــر‬
‫مدعــاة للرثــاء مــن منظــري‪.‬‬
‫عندمــا نظــرت نحــو املجموعــة يف دكان الشــاي‪ ،‬كنــت آمــل أن يــريث‬
‫بقيــت هنــاك غــر ملحــوظ وراء جــدار‬ ‫ُ‬ ‫أحــد األشــخاص لحــايل‪ .‬رمبــا‬
‫املطــر؛ بــدا أنــه قــد حجبنــي عــن بقيــة العــامل‪ .‬ومــى وقــت طويــل منذ‬
‫ترجلــوا مــن الحافلــة معــي‪.‬‬
‫أن اختفــى يف العتمــة املســافرون الذيــن ّ‬
‫فجــأة رأيــت مظ ّلــة ترفــرف أمامــي كــا لــو أنهــا غــر قــادرة عــى‬
‫ـت رج ـ ًا مــن لحــم ودم أم شــبحاً‪ .‬والح مــن تحتهــا‬ ‫اتخــاذ ق ـرار إن كنـ ُ‬
‫وجـ ٌـه نحيــل لرجــل‪.‬‬

‫‪300‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫«هــل تلــك أمتعتــك؟» ســألني مشـراً إىل صنــدوق الثيــاب والحقيبة‬


‫عىل األرض‪.‬‬
‫«نعم» قلت ببؤس‪.‬‬
‫«إىل أين أنت ذاهب؟»‬
‫«هل مثة فندق يف الجوار؟» أجبت وأنا أكاد أنتحب من اليأس‪.‬‬
‫«فنــدق؟ ويف هــذا املــكان؟» نظــر إ ّيل غــر مصــ ّدق‪ ،‬كــا لــو أين‬
‫طامــح لبلــوغ الســاء مــن دون أن أمــوت‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫«هل يوجد ّأي مكان أستطيع املكوث فيه؟»‬
‫«كــم مــن الوقــت؟» وانعكســت مســحة مــن الجديــة الباهتــة يف‬
‫عينيــه‪ .‬حدقــت ثانيــة فيــه وأنــا حائــر بشــأن إجابــة رسيعــة‪ .‬عندمــا‬
‫غــادرت البيــت مل أفكــر باأليــام أو األســابيع‪ .‬وقبــل أن أقــول ّأي يشء‬
‫دفــع مظلتــه جزئي ـاً فوقــي‪.‬‬
‫قبــل ذلــك‪ ،‬كنــت وحــدي مب َّل ـ ًا تحــت املطــر؛ واآلن إذ تشــاركنا‬
‫مظلــة واحــدة‪ ،‬تب ّلــل هــو أيض ـاً‪.‬‬
‫«مثــة اسـراحة عــى بعــد حــوايل ثالثــة كيلومـرات‪ ،‬لكــن عليــك أن‬
‫تتســلق صاعــداً طــوال الطريــق»‪.‬‬
‫حمل؟»‬‫«هل أستطيع تأجري ّ‬
‫«يف هــذا الطقــس؟» جالــت عينــاه عــى صــف الدكاكــن قبــل أن‬
‫تنعكســا عائدتــن نحــوي‪ ،‬ثــم التقــط صنــدوق ثيــايب مــن مقبضــه‪.‬‬
‫«تعال معي»‪ ،‬قال‪.‬‬
‫الســر مرسع ـاً مــن دون انتظــاري‪ .‬وفــات أوان الطلــب منــه‬ ‫وغ ـ ّذ ّ‬
‫أن يتوقــف‪ .‬ومل يكــن مثــة مــن خيــا ٍر أمامــي ســوى أن أمســك حقيبتــي‬
‫وأتبعــه‪ُ .‬دهشــت مــن أن رج ـ ًا مبثــل نحافتــه يســتطيع املــي بهــذه‬
‫الرسعــة وصنــدوق ثيــاب يف يــده ومظ ّلــة يف األخــرى‪.‬‬

‫‪301‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫صــار موقــف الحافلــة والدكاكــن وراءنــا ونحــن نتابــع التســلق‪.‬‬


‫ــر خلفــه‪ .‬بــن‬ ‫كان مــن الصعــب اللحــاق بــه‪ ،‬وبــدا كــا لــو أين ُأ َج ّ‬
‫الفينــة واألخــرى كان حــذايئ يغــوص يف الوحــل والحفــر املغمــورة‬
‫باملــاء‪ .‬اســتدار يف إحــدى املـ ّـرات نحــوي وقــال شــيئاً مل أســتطع ســاعه‪.‬‬
‫ـتطعت فحســب اإلصغــاء إىل رضبــات قلبــي التــي كانــت تتزايــد مــع‬ ‫اسـ ُ‬
‫كلّ خطــوة‪ .‬امتــزج العــرق باملطــر كــا لــو أنهــا يغســان وجهــي‪.‬‬
‫عندمــا أفكــر اآلن بذلــك التســلق الشــاق تتملكنــي الدهشــة إذ‬
‫اســتطعت القيــام بــه مبــارشة بعــد رحلــة مرهقــة وعــى الرغــم مــن‬
‫الشــعور املزعــج بالقلــق‪ .‬فحتــى اآلن‪ ،‬كنــت قــد تســلقت الســنني‬
‫فحســب وليــس الجبــال‪ .‬حق ـاً‪ ،‬إن تســلق الجبــال ليــس ســه ًال لرجــل‬
‫يبــدأ منبــه ســاعته البيولوجيــة يف الصخــب عنــد منتصــف درجــات‬
‫الســلم‪ .‬للمـ ّـرة األوىل يف حيــايت‪ ،‬وهــذا ضــد إراديت‪ ،‬أضــع قدمــي يف بلــد ٍة‬
‫أكــون فيهــا غريبـاً متامـاً‪ .‬ولــو أن األمــر عائــد يل ملــا كنــت قــد تخطيــت‬
‫عتبــة بيتــي وجئــت عــر كل هــذه املســافة إىل هنــا‪ .‬فــا خيــار يل يف‬
‫ألن الخيــار قـ َّـرره الشــخص الــذي قدمــت إىل هنــا يك ألتقيــه‪.‬‬ ‫األمــر‪ّ ،‬‬
‫٭٭٭‬

‫فتح الباب وقال‪« :‬ها نحن هنا»‪.‬‬


‫كانــت الظلمــة كثيفــة يف الداخــل حتــى إنني مل أســتطع رؤيــة أي يشء‪.‬‬
‫تريثــت يف املدخــل‪ ،‬محــاوالً تجنــب املطــر‪ .‬ورسعــان مــا ســمعت رصي ـراً‬
‫ورأيــت ومضــة عــود ثقــاب يحــرق عندمــا أشــعل مصباح ـاً مــن النــوع‬
‫الــذي يســتخدم يف األجــواء العاصفــة‪ .‬يف تلــك اللحظــة فقــط أدركــت أنــه‬
‫ـأت يب إىل نــزل للمســافرين أو حتــى إىل مــأوى‪ ،‬بــل إىل منزلــه‪ .‬تــرددت‬
‫مل يـ ِ‬
‫ـن عصفــة مــن الريــح دفعتنــي إىل الداخــل‪.‬‬
‫عنــد البــاب لكـ ّ‬

‫‪302‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫هــل مثــة مــا يدعونــه اإلرادة؟ رمبــا تكــون إحــدى أوهــام اإلنســان‬
‫األثــرة‪ .‬فحتــى عندمــا تندفــع إرادتنــا قُدمــاً‪ ،‬نتــواىن إىل الخلــف‪،‬‬
‫ُمجرجريــن بطريقــة مــا‪ .‬تثابــر إرادتنــا وتشـ ّقنا إىل أجـزاء عديــدة‪ .‬بقــي‬
‫جــزء منــي ورايئ هنــاك يف البيــت‪ ،‬وجــزء آخــر ال يقــوى عــى الح ـراك‬
‫وقــف عــى عتبــة البــاب املفتــوح يرتعــش يف تيــار املطــر الغامــر‪ ،‬وجــزء‬
‫ـأس‪ .‬قــادين معلــم املدرســة إىل غرفتــه بالطريقــة‬ ‫أخــر ال يـزال يرتقــب بيـ ٍ‬
‫ذاتهــا التــي ســاقتني الريــح بهــا إىل الداخــل‪ .‬مل يكــن يل رأي يف األمــر‪.‬‬
‫«اجلــس‪ ،‬مــن فضلــك»‪ ،‬قــال مشـراً إىل رسيــره املنخفــض الــذي كان‬
‫مــع الكــريس قطعتــي األثــاث الوحيدتــن يف الغرفــة‪ .‬ســحب الكــريس‬
‫ورشع يفــكّ أربطــة حذائــه املوحــل املبلــل‪.‬‬
‫«لقد طلبت منك أن تأخذين إىل فندق»‪ ،‬قلت بنزق‪.‬‬
‫ـل‬‫ـر أن هــذه غرفــة فنــدق‪ ،‬إذا كان ذلــك مفيــداً‪ .‬قـ ْ‬ ‫«هيــا تعــال! اعتـ ْ‬
‫ّ‬
‫يل إىل أيــن ســتذهب يف هــذا الطقــس؟» قــال ذلــك ضاحــكاً‪ .‬ولكــن هــل‬
‫لضحكتــه‪ ،‬وللجــدران املزعجــة املتاميلــة يف لهــب املصبــاح‪ ،‬ولجســدي‬
‫ألي منهــا معنــى؟ بالطبــع ال بــد أن يكــون لهــا‬ ‫امللطــخ بالوحــل؛ هــل ّ‬
‫ـت هنــا‪ ،‬هكــذا قلــت لنفــي‪ .‬أغلقــت البــاب خلفــي‬ ‫وإل ملــا كنـ ُ‬
‫معنــى ّ‬
‫يف وجــه الريــح واملطــر والظلمــة‪ ،‬ثــم دلفــت إىل الغرفــة‪.‬‬
‫للوهلــة األوىل‪ ،‬بــدت الغرفــة مثــل كــوخ رطــب كئيــب‪ ،‬معلــق يف‬
‫الهــواء وعرضــة للغيــوم التائهــة التــي قــد تدخــل يف أي وقــت‪ ،‬عــى‬
‫الرغــم مــن أن دخــان الســجائر ضمنــه بــدا مامنعــاً للخــروج‪ .‬تطــلّ‬
‫الغرفــة عــى مــا بــدا مثــل مســتودع بضائــع‪ ،‬فثمــة موقــد كاز عــى لــوح‬
‫خشــبي وبعــض اآلنيــة‪ .‬مــن الواضــح أنــه اعتــاد طبــخ طعامــه هنــاك‬
‫يف زاويــة أخــرى حيــث يوجــد دلــو مــاء وكــوز نحــايس ومقعــد مض ّلــع‬
‫خفيــض‪ ،‬مــا يعنــي أيضـاً أنــه مــكان لالســتحامم‪ .‬ومثــة نافــذة مغلقــة‬

‫‪303‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫يف الجــدار نــر عليهــا غســيله يف الخــارج يك يجــف تحــت اإلفريــز‪،‬‬


‫لكنــه بالطبــع كان يقطــر مــاء اآلن‪.‬‬
‫كان يشــعل املوقــد وظهــره باتجاهــي‪ ،‬لكنــه ظــلّ حريصـاً عــى أال‬
‫أغيــب عنــه‪ .‬ومــع أين لســت رج ـ ًا ثقيــل الــوزن ّإل أين غصــت عميق ـاً‬
‫يف رسيــره الخفيــض حتــى إِ َّن عجيــزيت كان تحتــك بغبــار أرض الغرفــة‪.‬‬
‫أحرض الشاي يف كؤوس ثم جلس القرفصاء عىل الحصري قبالتي‪.‬‬
‫مرة تأيت فيها إىل هنا‪ ،‬أليس كذلك؟» سألني‪.‬‬ ‫«هذه أول ّ‬
‫«نعم»‪.‬‬
‫«عرفت ذلك لحظة رأيتك»‪.‬‬
‫أنعمــت النظــر يف وجهــه الشــاحب وراء ذيــل البخــار الصاعــد مــن‬
‫كأس الشــاي الــذي بــن يديــه‪.‬‬
‫ـت‬‫ترجلـ َ‬
‫ـن ذلــك»‪ ،‬تابــع حديثــه «فعندمــا ّ‬ ‫«مل يكــن مــن الصعــب تبـ ّ‬
‫مــن الحافلــة بقيــت واقفـاً تحــت املطــر عــى جانــب الطريــق‪ ،‬يف حــن‬
‫إن ّأي شــخص مــن هــذه البلــدة ســوف يهــرع مرسعــاً يف الحــال»‪.‬‬
‫ضحــك كاشــفاً عــن أســنان صف ـراء لكــن غــر متســخة‪ .‬بــدت أســنانه‬
‫منســجمة مــع وجهــه الباهــت املســفوع بالريــح واملطــر‪.‬‬
‫«لدينــا عــدد قليــل مــن الســياح يف هــذا الوقــت مــن الســنة»‪ ،‬قــال‬
‫مالحظـاً بعــد توقــف‪ .‬ونظــر إ ّيل بفضــول مــردد‪ ،‬كــا لــو أنــه توقــع‪ ،‬إذ‬
‫ذكــر الســياح‪ ،‬أننــي ســوف أفــي إليــه بســبب زيــاريت يف هــذا الطقــس‬
‫الســيئ‪ .‬لكنــي بقيــت صامت ـاً‪ ،‬فقــد ارتكبــت للتـ ّـو خطــأ مبجيئــي إىل‬
‫هنــا معــه ومل أرغــب يف ارتــكاب خطــأ آخــر‪.‬‬
‫«منــذ متــى وأنــت تعيــش هنــا؟» ســألته متفاديـاً بذلــك استفســاره‬
‫املضمر‪.‬‬
‫«خمــس‪ ..‬ال‪ ،‬ســت ســنوات»‪ .‬وضــع نظارتــه عــى األرض وعــ ّد‬

‫‪304‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫رؤوس أصابعــه «جئــت إىل هنــا يف الســنة التــي تــويف بهــا رئيــس الــوزراء‬
‫شاســريجي يف طشــقند‪ .‬أتذكــر كيــف ســمعت األخبــار الحزينــة هنــا‬
‫وأنــا يف رسيــر املشــفى»‪.‬‬
‫«هــل كنــت يف املشــفى آنــذاك؟» ســألته كــا لــو أننــي أبــدي‬
‫تعاطفــي‪.‬‬
‫عمــي‪ ،‬وهــو طبيــب يف املشــفى‪ ،‬بــأن أحــر للعــاج‬ ‫«أقنعنــي ّ‬
‫ـت أعيــش‪ ،‬ال تعــاين مــن‬ ‫الطبــي عــى الرغــم مــن أن أملــورا‪ ،‬حيــث كنـ ُ‬
‫ق ّلــة األطبــاء‪ .‬عــى أيــة حــال‪ ،‬عندمــا غــادرت الرسيــر علمــت أيضـاً أن‬
‫املدرســة املحليــة العليــا لديهــا شــاغر مــن أجــل مع ّلــم لغــة إنكليزيــة‪،‬‬
‫فحصلــت عــى الوظيفــة»‪ .‬ابتســم وتابــع «أتيــت إىل هنــا لالستشــفاء‬
‫مــن دون أن أعلــم أن ذلــك ســوف يحــلّ مشــكلة بطالتــي أيض ـاً»‪.‬‬
‫«إذاً‪ ،‬أنت ال تقطن هنا؟ وهذا ليس بيتك؟»‬
‫«هــل تدعــو هــذا الكــوخ بيتـاً؟ وتنقلــت عينــاه بحــزن عــر الغرفــة‪،‬‬
‫مــن الدلــو يف الزاويــة‪ ،‬إىل املوقــد عــى اللــوح الخشــبي‪ ،‬ثــم لهــب‬
‫املصبــاح الشــاحب‪ ،‬وعــادت إ ّيل أنــا املدفــون يف الرسيــر؛ كل األشــياء‬
‫مثــرة للشــفقة‪.‬‬
‫«هل تشعر بالربد؟ هل أشعل ناراً؟»‬
‫«ال‪ ،‬أرجــوك ال تزعــج نفســك»‪ .‬قلــت لــه «إننــي بحالــة جيــدة»‪.‬‬
‫ـس‪ ،‬ذلــك الفقــدان‬ ‫ـت بحالــة جيــدة إذا كان ذلــك يعنــي فقــدان الحـ ّ‬ ‫كنـ ُ‬
‫الــذي يجعــل حتــى اإلعيــاء يتقهقــر يائســاً‪ .‬كان مبقــدوري أن أرى‬
‫األشــياء التــي عــى الســطح فحســب؛ ليلــة ماطــرة‪ ،‬وســقف راشــح؛ ّأمــا‬
‫يف أعامقــي‪ ،‬فلــم أكــن أشــعر بــيء‪ .‬كان معلــم املدرســة قلقــاً مــن‬
‫تحفظــي‪ ،‬وضعــف اســتجابتي‪ ،‬ورمبــا شــعر بالذنــب ألنــه قــدم يب إىل‬
‫هــذا املــكان‪.‬‬

‫‪305‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫«كام تعلم‪ ،‬مثة يف الغابة نزل لالسرتاحة»‪ ،‬قال مبدياً املساعدة‪.‬‬


‫«ولكــن ينبغــي الحصــول عــى إذن رســمي لإلقامــة هنــاك‪ ،‬أليــس‬
‫كذلــك؟»‬
‫«ذلــك صحيــح»‪ ،‬وافــق معــي «لكــن ال يصعــب إرضــاء الناظــر إذا‬
‫رغــب املــرء يف اإلقامــة يومـاً أو يومــن‪ ..‬وعــى أيــة حــال‪ ،‬مــا املــدة التــي‬
‫تحتــاج إليهــا لإلقامــة؟»‬
‫مل يكــن مثــة أي أثــر للفضــول يف نــرة صوتــه هــذه املـ ّـرة‪ ،‬فــكل مــا‬
‫ي ثابتــة متوازنــة‪.‬‬‫ـتقرت نظرتــه عـ ّ‬ ‫أراده هــو أن يقــدم املســاعدة‪ .‬اسـ ّ‬
‫اســتطعت أن أثــق فيــه ذلــك الزمــان واملــكان‪ .‬وتوقعــت أنــه قــد‬
‫رحالــة وال ســائحاً‪ .‬فمــن أنــا؟ ومــاذا كنــت‬‫ـخص مســبقاً أننــي لســت ّ‬ ‫شـ ّ‬
‫أفعــل هنــاك؟ فجــأة‪ ،‬وجد ُتنــي مغلوبـاً باليــأس والضعــف‪ .‬فلــي أعطــي‬
‫ي أن أناقــش تاريــخ عائلتــي‪.‬‬ ‫معنــى ملــا كنــت ســأقوله لــه كان عــ ّ‬
‫وشــككت أنــه حتــى يف هــذه الحالــة ســوف يفهــم الدافــع وراء زيــاريت‪.‬‬
‫لســت متيقنـاً مــا رآه يف وجهــي يف تلــك العتمــة الباهتــة‪ .‬هــل هــو‬
‫ـح عـيّ‪.‬‬ ‫يــأس منتصــف العمــر أم يشء آخــر؟ مهــا كان ذلــك فهــو مل يلـ ّ‬
‫ذهــب يك يجمــع مالبســه املبللــة ويعرصهــا يف زاويــة املطبــخ‪.‬‬
‫ـت وحــدي‪ ،‬أطلقــت تنهيــدة ارتيــاح‪ .‬ثــم نــرت بطانيتــي‬ ‫وإذ ُتركـ ُ‬
‫عــى األرض‪ .‬كان املصبــاح متوضع ـاً عــى ثــاث قوائــم مبحــاذاة رأيس‪،‬‬
‫وتحــت ضوئــه الشــاحب أخرجــت مــن محفظتــي حزمــة مــن األوراق‪.‬‬
‫أردت أن ألقــي نظــرة عليهــا للمــرة األخــرة‪ .‬كنــت مثــل طالــب يســتعد‬
‫لالمتحــان ويكتشــف فجــأة أن ملحوظاتــه غــر مرتبــة وعدميــة املعنــى‬
‫وبــا فائــدة‪ .‬كان صــك امللكيــة الــذي تركــه أيب قــد تعفــن وأصبــح هشـاً‬
‫بفعــل الزمــان‪ .‬وبــدا الصــك أكــر بؤسـاً يف ضــوء الغرفــة الباهــت‪ .‬بــن‬
‫صفحاتــه ثــاث رســائل‪ ،‬واحــدة مــن أخــي الناســك‪ ،‬وأخــرى مــن أختــي‬

‫‪306‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫الصغــرى‪ ،‬وميكــن متييزهــا بســهولة مــن خــط اليــد‪ ،‬والثالثــة كانــت‬


‫ومجعــدة وقــد أعطتنــي إياهــا ّأمــي قبيــل مغــادريت باتجــاه‬ ‫ّ‬ ‫مطويــة‬
‫عجــل بــن األوراق‪ .‬مل أعــرف مــا‬ ‫ٍ‬ ‫محطــة الحافــات‪ ،‬فرميتهــا عــى‬
‫الكلــات التــي اســتخدمتها أمــي التــي ترتعــش شــفتاها عندمــا تكتــب‪.‬‬
‫ومل أقــرأ رســالتها حتــى اآلن‪ ،‬بــل ومل أرغــب يف ذلــك‪ .‬يف الضــوء الواهــن‬
‫بــدت يل رســائل األحيــاء ميتــة مثــل أوراق امللكيــة الباليــة التــي أوىص‬
‫بهــا أيب امليــت‪ .‬لــو وضعــت حزمــة األوراق عــى املوقــد‪ ،‬فــإن بيتنــا‬
‫وعائلتــي كلّهــا‪ ،‬وكذلــك العالقــات بــن األحيــاء وبينهــم وبــن األمــوات‪،‬‬
‫ســوف تفنــى حــاالً يف اللهــب‪ ..‬وســأنجو أنــا وحــدي‪ ،‬وهــو‪ ،‬ذلــك الــذي‬
‫جئــت مــن بعيــد ألراه‪.‬‬
‫ســقط ظــلّ مع ّلــم املدرســة عــى األوراق التــي يف يــدي‪ .‬كان يقــف‬
‫عنــد بــاب املطبــخ‪ ،‬يــداه مبللتــان وأكــام قميصــه مطويــة حتــى‬
‫املرفقــن‪.‬‬
‫«هل تسعى إلقامة دعوى قضائية؟» قال مبتسامً‪.‬‬
‫ـت األوراق إىل املحفظــة‪ .‬كان عــى حــق‪ ،‬بطريقــة مــا‪ ،‬فقــد‬ ‫أرجعـ ُ‬
‫ي أن أواجــه تحقيق ـاً أولي ـاً غــداً؛ فبعــد عــر ســنوات كاملــة؛‬ ‫كان ع ـ ّ‬
‫ي رغبــة جنونيــة يف أن أجــده حــاالً وأنهــي املســألة وأســتقلّ‬ ‫اســتولت عـ ّ‬
‫حافلــة الرجــوع صباح ـاً وأعــود إىل دلهــي‪ .‬قطــع مع ّلــم املدرســة حلــم‬
‫ـخنت املــاء»‪.‬‬‫اليقظــة الــذي انتابنــي قائ ـ ًا «عليــك أن تغتســل‪ .‬لقــد سـ ّ‬
‫٭٭٭‬

‫أمضيــت الليــل عنــد معلــم املدرســة‪ .‬كانــت بحــوزيت بطانيتــي‬


‫ـح يف األمــر املتعلــق مبــن‬
‫الخاصــة‪ ،‬لــذا مل يكــن مثــة مشــكلة‪ ،‬لكنــه ألـ ّ‬
‫أرص عــى النــوم عــى األرضيــة تــاركاً يل املــكان‬
‫يشــغل الرسيــر‪ .‬فقــد ّ‬

‫‪307‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫األفضــل‪ ،‬ومل أتجــرأ عــى إخبــاره أن رسيــره املرتنــح رمبــا يضمــن يل‬
‫وحســب قضــاء ليلــة مليئــة بالهلوســات حــول الــزالزل‪ .‬أيضـاً‪ ،‬رمبــا كان‬
‫ـص‬‫ي أن أصــر عــى أمــر آخــر‪ :‬قلقــت مــن أنــه قــد يثــور فيــا يخـ ّ‬ ‫عـ ّ‬
‫رصت يل صندوقــاً مليئــاً بالطعــام‬ ‫وجبــات الطعــام‪ .‬ذلــك أن زوجتــي ّ‬
‫يكفينــي مــدى العمــر‪ .‬فاقرتحــت عليــه أن نتقاســمه معــاً بــدالً مــن‬
‫الطبــخ يف الليــل‪ .‬ونظ ـراً للطقــس البــارد فــإن الطعــام مل يفســد عــى‬
‫ـر َة ســاعة‪ .‬كان للطعــام‬‫الرغــم مــن الرحلــة التــي اســتغرقت إحــدى َعـ ْ َ‬
‫نكهــة العنايــة واالهتــام الحميــم مــن أهــل البيــت البعيــد‪ .‬عندمــا‬
‫رأى األوعيــة مليئــة بأق ـراص الخبــز املقــي واملخلــات والخضــار وأرز‬
‫بــوالو املوســمي‪ ،‬امتــدت عــى وجهــه نظــرة أىس كــا لــو أنــه نــدم عــى‬
‫إشــفاقه تجــاه شــخص ال يبــدو أنــه يســتحقه‪ .‬مل يقــل شــيئاً بــل مــى‬
‫لتســخني الطعــام عــى املوقــد‪.‬‬
‫مل تكــن غرفتــه مرتبــة ّأمــا املطبــخ فنظيــف‪ .‬طبقــات الغبــار‬
‫غطــت الكتــب‪ ،‬وتكومــت املجــات القدميــة عــى األرض‪ّ ،‬أمــا الســقف‬
‫فاســو ّد مــن الســخام‪ .‬خزانــة حائلــة اللــون انتصبــت مبحــاذاة الجــدار‪،‬‬
‫أدرجهــا نصــف مغلقــة الحــت ثيابــه عــى حوافهــا‪ .‬إجــاالً‪ ،‬بــدت‬ ‫ُ‬
‫ـزل‪ .‬البــد أنــه مــن املوحــش‬ ‫غرفــة مهملــة كئيبــة كأنهــا غرفــة يف نـ ٍ‬
‫البغيــض بالنســبة لــه أن يعيــش فيهــا وحيــداً عــى مــدار العــام‪ .‬ورمبــا‬
‫أي يشء‬ ‫قــدم يب ألنــه كان مستوحش ـاً جــداً‪ .‬مل أدهــش ألنــه مل يعلــم ّ‬
‫عنــي‪ ،‬بــل أَذ َْهل َِنــي أنــه إذ أحــرين معــه فقــد اختــار أوالً ّأل يســألني‬
‫مــن أنــا ومــن أيــن أتيــت‪ .‬ومتلكنــي شــكّ مزعــج بأنــه قــد علم مســبقاً‬
‫يوضــح أنــه ذهــب للقــاء الحافلــة يف مثــل هــذا املطــر‪.‬‬‫كل يشء‪ .‬ذلــك ّ‬
‫ُتــرى‪ ،‬مــن ميكــن أن يخــره بــأن يتوقــع مجيئــي ســوى ذلــك الــذي‬
‫ـت لرؤيتــه؟‬ ‫قدمـ ُ‬

‫‪308‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫«العشــاء جاهــز»‪ ،‬أعلــن ذلــك وق ـ ّدم صينيــة «هلـ ّـم! ســوف يــرد‬
‫خــال لحظــات»‪.‬‬
‫«ألن تأكل أنت أيضاً؟»‬
‫«لقــد أكلــت مبكــراً يف املســاء قبــل أن أذهــب للتجــول‪ .‬ذلــك‬
‫يضمــن نومــاً هادئــاً‪ ..‬أرجــوك‪ ،‬أكمــل تنــاول طعامــك»‪.‬‬
‫ركــن نفســه عــى حصــر قبالتــي‪ .‬وبينــا كنــت آكل غمــرين حــزن‬
‫غامــض‪ .‬ذهبــت أفــكاري نحــو أرسيت‪ .‬ففــي هــذا الوقــت‪ ،‬ال بــد أن‬
‫زوجتــي قــد نزلــت إىل الطابــق الســفيل يك تــرى ّأمــي‪ ،‬تاركــة األطفــال‬
‫يدرســون يف غرفهــم‪ .‬مــن هــذا املــكان القفــر‪ ،‬رمبــا أصبحــوا أيضــاً‬
‫ي تصديــق أننــا‬ ‫وكأنهــم مخلوقــات مــن كوكــب آخــر‪ .‬فقــد َص ُعــب ع ـ ّ‬
‫ـر َة ســاعة مضــت!‬
‫كنــا مع ـاً منــذ إحــدى َعـ ْ َ‬
‫ـف املطــر‪ .‬ســيكون الغــد صحــواً»‪ .‬بــدا منتشــياً‬ ‫«انظــر! لقــد َت َو َّقـ َ‬
‫مثــل طفــل‪.‬‬
‫توقفــت يــدي عــى مقربــة مــن فمــي عندمــا اســتدرت ألنظــر‪ُ .‬نهري‬
‫صغــر كان مــا ي ـزال يتدفــق يف الخــارج ســاقطاً عــن ســقف الصفيــح‬
‫املائــل‪ .‬وكان مثــة ضبــاب خفيــف خلــف األفاريــز التمعــت عــره النجــوم‬
‫كــا لــو أنهــا اغتســلت باملطــر‪.‬‬
‫«هل مدرستك قريبة؟»‬
‫«لقــد نســيت أن أخــرك‪ .‬يف الحقيقــة‪ ،‬نحــن نجلــس يف املبنــى‬
‫امللحــق بســاحة املدرســة»‪.‬‬
‫«ال تقل ذلك!» نظرت حويل مذهوالً‪.‬‬
‫«يف الواقــع‪ ،‬هــذه الغرفــة جــزء مــن مبــاين املدرســة أتاحتهــا إدارة‬
‫املدرســة يل ألنهــم ال ميتلكــون تجهي ـزات أخــرى يق ّدمونهــا‪ ..‬عــى أيــة‬
‫حــال‪ ،‬املدرســة مغلقــة حالي ـاً بســبب العطلــة الشــتوية»‪.‬‬

‫‪309‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫«أال تقصد مكاناً ما خالل العطلة؟»‬


‫«يف الواقع‪ ،‬ال أرغب يف ذلك‪ .‬لكنني أنزل إىل أملورا نادراً جداً»‪.‬‬
‫«أال تشعر بالوحدة هنا؟»‬
‫ظــلّ صامتــاً لحظــة طويلــة‪ ،‬ثــم قــال وهــو مســتغرق يف أفــكاره‪:‬‬
‫أفضــل املقــام هنــا عــى‬
‫«بطريقــة مــا‪ ،‬نعــم‪ ،‬أحيان ـاً‪ .‬ومــع ذلــك‪ ،‬أظننــي ّ‬
‫ـعرت بالوحــدة‪ ،‬ميكننــي دومـاً الذهــاب إىل الناســك بابا»‪.‬‬ ‫أملــورا‪ .‬ثــم‪ ،‬إذا شـ ُ‬
‫«بابا‪ ..‬من يكون؟»‬
‫رمــاين بنظــرة فاحصــة وارتســمت ابتســامة صغــرة رقيقــة عــى‬
‫شــفتيه «ال يوجــد ســوى رجــل مقــ ّدس واحــد هنــا»‪.‬‬
‫مل يعــد باســتطاعتي كبــح جــاح نفــي «هــل أخــرك أي يشء‬
‫عنــي؟»‬
‫«عنك؟» كانت الحرية بادية عليه‪.‬‬
‫«عن مجيئي إىل هنا»‪.‬‬
‫أتيت لرؤيته؟» بدا مستغرباً متاماً‪.‬‬ ‫«وملاذا‪ ،‬هل َ‬
‫«أسمع أن الناس يأتون من أماكن بعيدة لتلقي بركاته»‪.‬‬ ‫ُ‬
‫«يف مثل هذا الطقس؟» ح ّدق يب متشككاً‪.‬‬
‫«لــدي إجــازات فائضــة‪ .‬وفكّــرت أنهــا قــد تكــون أنســب وقــت‬
‫لزيارتــه‪ ..‬هــل يعيــش بعيــداً عــن هنــا؟»‬
‫جلــس متأم ـ ًا لفــرة مــن الوقــت «ليــس بعيــداً جــداً»‪ ،‬قــال غــر‬
‫ـال إىل حــد مــا «رمبــا أكــر قلي ـ ًا مــن كيلومــر إىل األعــى»‪.‬‬‫مبـ ٍ‬
‫بــدا االمتعــاض عليــه‪ .‬رمبــا مل يصدقنــي‪ ،‬ألن عــى املــرء أن يكــون‬
‫مجنونـاً قليـ ًا يك يجتــاز كل هــذا الطريــق ويف مثــل هــذا الطقــس نحــو‬
‫بلــدة نائيــة مرميــة بعيــداً بــن الجبــال يك يــرى غــورو(‪ )39‬محليـاً‪.‬‬
‫(‪ :Guru )39‬املع ِّلم الروحي عند الهندوس‪( .‬م)‬

‫‪310‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫الحقـاً‪ ،‬جمـ َـع األطبــاق املتســخة وأخذهــا إىل الزاويــة التــي يحتفــظ‬
‫فيهــا بدلــو مــن املــاء‪ .‬بعدهــا‪ ،‬ولوقــت طويــل‪ ،‬كان رنــن األطبــاق‬
‫وقعقعتهــا ورش امليــاه األصــوات الوحيــدة يف الغرفــة‪.‬‬
‫مل نتحــدث عــن الرجــل املقــدس فيــا تبقــى مــن الليلــة‪ .‬وال عــن‬
‫مــرة‬
‫ّأي يشء آخــر‪ .‬أعددنــا أنفســنا للنــوم بصمــت‪ .‬قــدم يل الرسيــر ّ‬
‫ثانيــة لكننــي كنــت قــد هيــأت ف ـرايش عــى األرض‪ .‬وإذ بــدأ يســتقر‬
‫يف الرسيــر ممســكاً بروايــة‪ ،‬ســألني فحســب إن كنــت أمانــع يف تــرك‬
‫املصبــاح مشــتعالً‪.‬‬
‫طــوال حيــايت‪ ،‬كانــت تلــك الليلــة األوىل التــي أقضيهــا يف منــزل‬
‫شــخص غريــب‪ .‬اســتلقيت متوســداً محفظتــي وحاولــت النــوم‪ ،‬لكــن‬
‫ذلــك كان صعبــاً‪ .‬خــال أرقــي‪ ،‬بــدا الليــل املعتــم وقــد أخــذين مــن‬
‫عائلتــي وعمــي‪ .‬لــو علمــت زوجتــي بأننــي ســوف أبيــت يف غرفــة‬
‫معلــم مدرســة للمــرة األوىل بعيــداً عــن املنــزل‪ ،‬ملــا ص ّدقــت ذلــك‪ .‬فقــد‬
‫اعتــرت عــى الــدوام أننــي رجــلٌ يحــب املكــوث يف البيــت‪ .‬كان أســفها‬
‫الوحيــد أننــي مل أصطحبهــا أبــداً يف عطلــة‪ .‬كان الســفر بالنســبة يل دومـاً‬
‫هــو رحــات العمــل القصــرة‪ .‬ومل يســبق يل أن و ّدعــت أحــداً للذهــاب‬
‫ـج أو نحــو منطقــة جبليــة‪.‬‬ ‫إىل مــكان للحـ ّ‬
‫مل يكــن هــذا املوضــع مكانـاً للحــج أو منطقــة جبليــة‪ .‬موقعــه بــن‬
‫الجبــال جعلــه يصلــح فقــط كمشــفى بيطــري أو معبــد شــيفا حيــث‬
‫عــاش‪ ..‬وحيــث مــا يـزال يعيــش‪ .‬عندمــا يغــادر شــخص حياتنــا‪ ،‬رسعــان‬
‫مــا نثــأر منــه ونبعــده إىل املــايض‪ .‬نرفــض قبــول أنــه يوجــد يف زمانــه‬
‫الخــاص‪ ،‬خارج ـاً ومســتق ًال عــن زماننــا‪.‬‬
‫مل أنــم حتــى وقــت متأخــر مــن الليــل‪ .‬عصفــت الريــح بالجــدار‬
‫وهــ ّزت الســطح‪ .‬وكلّــا عــرت حافلــة الطريــق يف األســفل‪ ،‬انزلقــت‬

‫‪311‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ظــال األشــجار املتشــكلة مــن أضوائهــا عــى الجــدار‪ ،‬وعلــق يف الهــواء‬


‫هســيس إطاراتهــا عــى الطريــق الرطــب‪ .‬يف إحــدى اللحظــات‪ ،‬وإذ‬ ‫ُ‬
‫عــرت حافلــة يف األســفل‪ ،‬رفــع معلــم املدرســة رأســه عــن الوســادة‪،‬‬
‫حــدق بعينــن نصــف مغمضتــن إىل الســاعة‪ ،‬تنهــد بعمــق‪ ،‬ثــم قــال‬
‫«هــذه الحافلــة تقصــد باهوفــايل»‪ ،‬ومـ ّـرة ثانيــة‪ ،‬عندمــا اقرتبــت حافلــة‬
‫أخــرى مطلقــة صــدى املنبــه «هــذه ذاهبــة إىل رامناغــار»‪ .‬تظاهــرت‬
‫وانزلقت‬
‫ُ‬ ‫بالنــوم وأنــا مغمــض العينــن إىل أن غلــب النــوم هــذا التظاهــر‬
‫يف حلــم‪ .‬عندمــا اســتيقظت مجــدداً كان الوقــت قــد تجــاوز منتصــف‬
‫الليــل‪ .‬املصبــاح ُأطفــئ والغرفــة مغمــورة يف العتمــة‪ .‬للحظــة‪ ،‬مل أســتطع‬
‫أميــز أيــن كنــت أو مــن هــذا الشــخص النائــم عــى الرسيــر مســتلقياً‬ ‫أن ّ‬
‫عــى جنبــه‪.‬‬
‫عندمــا اســتيقظت يف الصبــاح وجــدت حزمــة مســتطيلة مــن ضــوء‬
‫الشــمس تنتظــر عــى طــرف الف ـراش‪ .‬نهــار ســاطع بــارد مــأ الغرفــة‪.‬‬
‫ـت إىل‬ ‫كان الرسيــر فارغـاً‪ ،‬وعــدة الشــاي عــى األرض حــول املوقــد‪ .‬وصلـ ْ‬
‫هبــات نســيم خفيــف يف الخــارج‪.‬‬ ‫مســمعي ّ‬
‫مل أص ـ ّدق أن الســاعة كانــت تشــر إىل العــارشة‪ ،‬إذ مل يســبق يل أن‬
‫ـت النــوم حتــى مثــل هــذا الوقــت‪ .‬غســلت وجهــي برسعــة ثــم‬ ‫أطلـ ُ‬
‫وضعــت املطــرة والــكأس يف مكانهــا‪ ،‬وقلبــت حزمــة األوراق التــي‬
‫تضمنــت بطاقــة بريديــة أرســلها يل أخــي املتغـ ّـرب قبــل أســبوعني‪ .‬ثـ ّـم‬
‫خرجــت أبحــث عــن معلــم املدرســة‪.‬‬
‫ـي َج َبــلٌ جليــل‪ .‬انتصــب‬ ‫مل يكــن هنــاك‪ .‬وبــدالً منــه‪ ،‬صــدم َع ْي َنـ َّ‬
‫الجبــل صلبــاً شــامخاً يف الهــواء‪ ،‬راســخاً بثبــات يف األرض الصخريــة‪،‬‬
‫مســتقراً‪ ،‬وحقيقي ـاً ال يشــبه أبــداً جبــال األمــس التــي الحــت كقطــع‬
‫النقــود عندمــا تحركــت الحافلــة مبتعــدة‪ .‬ح ّلــق الجبــل فــوق املدينــة‬

‫‪312‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫حاضن ـاً عزلتهــا‪ .‬حجبــه املطــر والعتمــة عــن ناظــري يف الليــل‪ ،‬واآلن‪،‬‬
‫ألبهتــه‪ .‬هــا أنــا هنــا‪ .‬وهــذه مل تكــن‬ ‫يف هــذه اللحظــة‪ ،‬تنبهــت متام ـاً ّ‬
‫مجــرد بلــدة هامشــية أخــرى بــل مقصــدي األخــر‪ :‬عــامل مكتمــل بذاتــه‪،‬‬
‫معــزول لكــن غــر ضائــع يف غابــة كثيفــة‪ ،‬عــى عكــس مــا تصورنــاه‬
‫مســبقاً يف البيــت‪ :‬بلــدة مكتفيــة بذاتهــا‪ ،‬فيهــا مركــز للتســوق ومحطــة‬
‫حافــات ومستشــفى ومعبــد ومدرســة ثانويــة‪..‬‬
‫انتصبــت املدرســة عــى أرض منبســطة‪ .‬مجموعــات مــن األشــجار‬
‫املصفـ ّـرة ب ّقعــت البلــدة املمتــدة أعــى وأســفل منطقــة التســوق‪ .‬ويف‬
‫ـن َي َد ْيـ ِـه‪..‬‬‫ـت معلــم املدرســة َو َف ْأس ـاً َبـ ْ َ‬ ‫شــجرة إىل األســفل قلي ـاً‪ ،‬ملحـ ُ‬
‫رس األصــوات التــي أيقظتنــي وظننتهــا هبــات‬ ‫عندهــا توضــح يل ّ‬
‫النســيم؛ كانــت الفــأس يف يــده تعلــو وتهبــط بتناغــم عــى الغصــون‬
‫التــي ســقطت مصــدرة حفيفــاً خفيفــاً‪.‬‬
‫نزلــت نحــو ســفح التلــة عــى الطريــق الــذي صعدنــاه البارحــة‪.‬‬
‫ورسعــان مــا الحــت أمــام ناظــري يف األســفل حجــارة األســقف الرماديــة‬
‫املشمســة‪ .‬وانتــر نحــوي الدخــان املتصاعــد مــن نــران الطبــخ يف‬
‫الســقائف مــع ضجيــج الســوق‪ .‬تجولــت قليــ ًا ألســتقر عــى مقعــد‬
‫ـن فيهــا الذبــاب‪.‬‬ ‫متوضــع يف الســاحة أمــام دكاكــن الطعــام التــي يطـ ّ‬
‫كان الطقــس بــارداً عــى الرغــم مــن ســطوع الشــمس؛ ألقــت الشــمس‬
‫شــباكاً مــن الوهــم وحســب عــى واقــع الــرودة التــي يتعــذر اجتنابهــا‪.‬‬
‫طلبــت شــاياً‪.‬‬
‫«أتريد كأساً واحد ًة فقط من الشاي‪ ،‬يا سيدي؟»‬
‫ــن َع َ‬
‫ــيَّ‪.‬‬ ‫اســتدرت ألحــدق يف عينــن حمراويــن خدرتــن ُم َث َّب َت َت ْ ِ‬
‫الزهــاد‪ ،‬عاري ـاً متام ـاً ســوى مــن مئــزر يســر وســطه‪ ،‬يجلــس‬ ‫كان مــن ّ‬
‫متكاســ ًا عــى مقعــده‪« .‬أنــت تنــزل عنــد معلــم املدرســة؟» واتجــه‬

‫‪313‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ليجلــس بجــواري عــى مقعــدي‪.‬‬


‫مل أســتطع ســوى أن أغمغــم «نعــم» مجيبـاً عــن عبارته املســتفهمة‪.‬‬
‫ظننــت أن لديــه موهبــة خارقــة يف قــراءة أفــكار اآلخريــن‪ .‬ومل أكــن‬
‫ألســتغرب لــو أخــرين بــأين أب لطفلــن وقدمــت مــن دلهــي‪ .‬لكنــه مل‬
‫ينبــس بــأي كلمــة إضافيــة‪ ،‬فقــد تسـ ّـمر انتباهــه عــى الشــاي بــن يديه‪.‬‬
‫جئت»‪ ،‬تجرأت عىل سؤاله الحقاً‪.‬‬ ‫«من أين َ‬
‫وضــع كأســه الفارغــة عــى املقعــد ومســح لحيتــه املنســابة عــى‬
‫انحنــاء مرفقــه‪.‬‬
‫«اســألني إىل أيــن أمــي‪ .‬إننــي هنــا لبضعــة أيــام فقــط»‪ .‬عكســت‬
‫املعرقتــان باللــون األحمــر طأمنينــة خلــواً مــن الهـ ّـم‪.‬‬
‫عينــاه َّ‬
‫«أين نصبت كوخك‪ ،‬يا بابا؟»‬
‫للحظــة حســبت أن إصبعــه الصغــرة ارتفعــت صــوب الســاء‪،‬‬
‫لكنهــا‪ ،‬وبلطــف‪ ،‬اســتقرت أدىن مــن الســاء وأشــارت إىل قمــة جبــل‬
‫رشعــت تنبثــق مــن بــن غشــاوة الصبــاح الوامضــة بوهــن‪.‬‬
‫«أال يقــع هنــاك معبــد شــيفا؟» ومل أقـ َـو عــى كبــت رجفــة االنفعــال‬
‫والدهشــة التــي أثارهــا املعبــد يف داخيل‪.‬‬
‫«ال تسـ ّـمه معبــد شــيفا! بــل معبــد َمهــاكال»‪ .‬وحدجنــي بنظــرة‬
‫ـأت إىل هنــا مــن قبــل؟»‬‫ســاخرة المئــة «أمل تـ ِ‬
‫«هذه زياريت األوىل»‪.‬‬
‫ـال «كيــف لــك أن‬ ‫«األوىل؟ هــل أنــت متأكــد؟» وضحــك بصــوت عـ ٍ‬
‫تكــون متأكــداً مــن أنــك مل تــر كل هــذا مــن قبــل يف مــكان مــا؟ ال‪ ،‬ال!‬
‫ليــس مثــة مــا هــو مـ ّـرة أوىل»‪.‬‬
‫«إنني أراك أيضاً للمرة األوىل»‪.‬‬
‫«حقـاً؟» قــال وعينــاه تختلســان النظــر إيل «وذلــك الــيء هنــاك؟»‬

‫‪314‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫وأشــار إىل شــجرة صنوبــر متاميلــة ارتفعــت مــن املجــرى املــايئ عــر‬
‫الطريــق‪.‬‬
‫محياً «ما الذي فيها؟»‬ ‫«ما بها؟ إنها شجرة»‪ .‬كنت َّ‬
‫«ومــا الــذي َّيف أنــا؟» وســحب غليونــاً مــن تحــت ثوبــه الهزيــل‬
‫وأشــعله مــن فحمــة متوهجــة مــن جــذع يحــرق يف موقــد مــن الطــن‬
‫والحجــر‪« .‬مــا الــذي ت ـراه يفَّ؟»‬
‫ـف الدخــان القــارص متكاسـ ًا نحــو األعــى مــن الطــرف املتوهج‬ ‫التـ ّ‬
‫للغليون‪.‬‬
‫طوفــت بناظــري يف جســمه العــاري‪ .‬كلّ عظامــه نتــأت المعــة‬ ‫ّ‬
‫مكبــل ضمــن جلــد أســمر‬ ‫ّ‬ ‫ـي‬‫ـ‬ ‫عظم‬ ‫ـكل‬‫ـ‬ ‫هي‬ ‫ـة‪:‬‬
‫ـ‬ ‫الحائل‬ ‫ـتاء‬ ‫ـ‬ ‫الش‬ ‫ـمس‬ ‫يف شـ‬
‫خشــن صامــد يف وجــه الــرد مــن دون رجفــة أو قشــعريرة‪ ،‬ال بــل‬
‫يضمــه‪ ..‬ال‪ ،‬مل أر هــذا الرجــل أبــداً مــن قبــل‪ ،‬لكنــي‬ ‫زو َد بالــدفء مــا ّ‬ ‫ّ‬
‫برؤيتــه‪ ،‬تذكــرت رزمــة عظــام أيب ورمــاده التــي حملتهــا ألجــل مباركتهــا‬
‫مــن دلهــي إىل كنــكال‪ .‬هــل عربــة القطــار املتدافعــة املدمدمــة أعــادت‬
‫املجتمــع أمكنه أن يشــبه‬
‫ِ‬ ‫بطريقــة مــا تجميــع العظــام‪ ،‬حتــى إِ َّن الشــكل‬
‫ـت مــن أن املــرء‬
‫ـي الــذي أمامــي‪ ..‬ثـ ّـم ُدهشـ ُ‬ ‫كثـراً الهيــكل العظمــي الحـ ّ‬
‫حتــى لــو مل يــر إنســاناً معين ـاً مــن قبــل‪ ،‬فــإن هــذا األخــر ميكــن أن‬
‫يعيــد إىل الحيــاة ذكــرى آخــر كان ذات مـ ّـرة حيـاً لكنــه اآلن ميــت‪ .‬فــا‬
‫كنــت أراه فيــه ليــس الرجــل الــذي جلــس رائق ـاً جــداً بجانبــي عــى‬
‫ـل آخــر مــى وقــت طويــل منــذ أن مــات‪.‬‬ ‫ـكاس لرجـ ٍ‬
‫املقعــد بــل انعـ ٌ‬
‫«هل أنت يف رحلة استجاممية؟» رمقتني عيناه الدامعتان‪.‬‬
‫بقيت صامتاً‪.‬‬
‫ُ‬
‫ـركات بابــا‪ ،‬هــل‬
‫تحــرك مقرتب ـاً منــي «ال بــد أنــك جئــت قاصــداً بـ ِ‬
‫أنــا عــى صــواب؟»‬

‫‪315‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫«حسناً»‪ ،‬وحدقت به‪.‬‬


‫«هــل تعــرف الطريــق؟» تك ّلــم مبنتهــى اللطــف «إنــه يقيــم عــى‬
‫الطريــق إىل املعبــد‪ .‬اصعــد الدرجــات الصخريــة حتــى تصــل إىل درب‪.‬‬
‫اســتدر واتبعــه‪ ،‬وســوف يقــودك مبــارشة إليــه»‪.‬‬
‫«هل سيكون ممكناً أن أراه؟»‬
‫«ميكنــك أن تحــاول‪ .‬لــن يكــون مثــة مشــكلة ّإل إذا كان قــد أوى‬
‫إىل صومعتــه‪ .‬إذا كان يف الداخــل‪ ،‬ال تزعجــه‪ .‬إنــه ليــس عــى مــا ي ـرام‬
‫يف هــذه األيــام»‪.‬‬
‫«هل هو مريض؟»‬
‫ال بــد أن شــيئاً يف صــويت قــد ضايقــه‪« .‬املــرض جــزء مــن الحيــاة‪.‬‬
‫والجســم رسيــع العطــب»‪.‬‬
‫مل أجــد يف مــا قالــه داعيــاً للقلــق‪ .‬دهشــتي كانــت قليلــة مــن‬
‫أنــه مل يكتــب يف رســالته أي كلمــة عــن املــرض‪ .‬هــل خــاف أن أحــر‬
‫والدتنــا معــي؟ وضحكــت يف داخــي عــى خوفــه‪ .‬كيــف للوالــدة‪،‬‬
‫التــي ال تســتطيع حتــى صعــود درجــات بيتنــا‪ ،‬أن تواجــه قســوة رحلــة‬
‫تســتغرق يومــاً بالحافلــة‪ ،‬وإىل ارتفــاع ‪ 2100‬مــر؟‬
‫(‪)40‬‬
‫انتصبــت عــى قدمــي مــن دون ّأي كلمــة‪ .‬رفــع أغــوري بابــا‬
‫للتــو؟»‬
‫بــره وخاطبنــي «مــاذا‪ ،‬هــل تغــادر ّ‬
‫«كم يستغرق األمر حتى أصل إىل هناك؟»‬
‫تضيــع الطريــق‬‫العمــر ك ّلــه؟» وابتســم‪« .‬لكــن‪ ،‬إذا مل ّ‬‫«يســتغرق ُ‬
‫فرمبــا تصــل يف نصــف ســاعة»‪.‬‬
‫ــأ ُت مطــريت مبــاء للــرب مــن الــدكان‪ .‬وعندمــا أخرجــت‬ ‫َم ْ َ‬

‫(‪ :aghuri baba )40‬من رهط الزّهاد الهندوس الذين يعتزلون الحياة الدنيوية وتتســم بعض طقوســهم بالقســوة‬
‫عىل الجسد‪( .‬م)‬

‫‪316‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫محفظتــي ألدفــع مثــن كأســن مــن الشــاي‪ ،‬قــال بابــا «ادفــع مــن أجــل‬
‫ثــاث‪ .‬ســوف أتنــاول كأس ـاً ُأ ْخـ َـرى»‪ .‬مل أســتدر‪ ،‬بــل ارتقيــت الطريــق‬
‫صاعــداً‪.‬‬
‫كان ســفح الجبــل مائـ ًا بشــدة نحــو األعــى كمثــل نخلــة منتصبــة‪.‬‬
‫األشــجار متــأ املــكان لكــن وال واحــدة عــى جانــب الــدرب يك تظللــه‪.‬‬
‫وقبــل أن ميــي وقــت طويــل ســال العــرق عــى جســمي مثــل نبــع‬
‫جبــي‪ .‬وإىل جانــب خــويف مــن ارتفــاع ضغــط الــدم‪ ،‬خشخشــت بــن‬
‫أضالعــي نبضــات قلبــي املدويــة‪.‬‬
‫بلغنــي إىل هنــا الصــوت الواهــن لضجيــج الســوق وقرقعــة‬
‫الحافــات‪ .‬ومــن ثـ ّـم حتــى هــذه األصــوات اختفــت‪ ..‬ووجــدت نفــي‬
‫وحيــداً متامـاً؛ ليــس مثــة إنســان أو حيــوان أو حتــى هــواء‪ .‬صدمنــي أنــه‬
‫حتــى لــو صعــدت وصعــدت فــإن الــدرب لــن يبلــغ نهايــة أبــداً‪ ،‬وال أنــا‬
‫كذلــك‪ ،‬فســأظلّ أصعــد إىل األبــد‪ ،‬مغتسـ ًا بالعــرق‪ ،‬ال أرى شــيئاً‪ ،‬عقــي‬
‫مشــوش‪ ،‬قدمــاي ترفضــان التوقــف حتــى لــو اس ـ ُتنفدت قــواي‪.‬‬
‫إىل األمــام يف األعــى‪ ،‬تفــرع الطريــق إىل ثــاث شــعب‪ ،‬كأنهــا ثــاث‬
‫أصابــع ممــدودة مــن يــد مرفوعــة‪ .‬وبــرزت عالمــة عــى شــجرة عنــد‬
‫املفــرق مشــرة مبــوازاة املمــر اليمينــي‪ ،‬الســهم الــذي عليهــا ُنقشــت‬
‫عليــه ثــاث كلــات‪ :‬نحــو اسـراحة الغابــة‪ .‬تذكــرت إصبــع أغــوري بابــا‬
‫املوجهــة عاليــاً نحــو معبــد َمهــاكال‪ .‬إذا كان املمــر اليمينــي يتقــدم‬
‫نحــو االس ـراحة‪ ،‬فــا بــد أن املمــر األوســط فحســب يقــود إىل املعبــد‪.‬‬
‫انطلقــت صاعــداً املمــر األوســط‪ .‬رمبــا كان مثــة بضــع درجــات صخريــة‬
‫هنــا فيــا مــى‪ ،‬أمــا اآلن‪ ،‬ويف هــذا الفصــل‪ ،‬فــإن الحجــارة امله ّدبــة‬
‫بــأوراق العشــب كانــت زلقــة بســبب مــا يكســوها مــن طحالــب‪ .‬عنــد‬
‫كل خطــوة كان تنفــي يبــدو عســراً‪ .‬وأنــا أجرجــر نفــي صاعــداً‪،‬‬

‫‪317‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ألقــى حمــل ســنوات عمــري بثقلــه ع ـيّ‪ .‬لكــن مــا هــو أثقــل وطــأة‬
‫كان حمــلٌ آخــر أحملــه؛ الوثائــق القانونيــة ورســائل العائلــة‪ .‬مل أمتالــك‬
‫ـم كان مــن الــروري أن أجلــب لــه الرســائل‬ ‫نفــي عــن التســاؤل لِـ َ‬
‫شــخصياً‪ ،‬كان بإمــكاين أن أدعهــا مــع معلــم املدرســة وأعــود راجع ـاً يف‬
‫حافلــة املســاء‪ .‬ولكــن‪ ،‬عندهــا كيــف ســيبدو مجيئــي كل هــذه املســافة‬
‫ومــن ثــم رجوعــي مــن دون أن أراه‪ ..‬رجوعــي خــايل الوفــاض كــا كان‬
‫الحــال‪ .‬ثـ ّـم‪ ،‬إنــه مــا زال يعيــش هنــا يف هــذا الصقــع مــن العــامل مــدة‬
‫عــر ســنوات‪ ،‬فيــا أنــا بــدأ يتملكنــي اليــأس يف اليــوم األول لزيــاريت‪.‬‬
‫ال بــد أنــه أيض ـاً تســلق هــذه الحجــارة ذاتهــا للمــرة املشــؤومة األوىل‬
‫منــذ عــر ســنوات مضــت‪ .‬لكنــه كان شــاباً آنــذاك‪ .‬تذكــرت وجهــه‬
‫مــن آخــر صــورة لــه وبــدا فيهــا «بشوش ـاً» كــا يقــال باإلنكليزيــة‪ .‬يف‬
‫الصحــف فــوق رســالة الوالــد (كان مــا يـزال حيـاً آنــذاك)‪ :‬أرجــوك ُعــد‬
‫إىل البيــت‪ ..‬لكنــه مل يرجــع‪ ،‬بــل ومل يكتــب لنــا رســالة حتــى‪ .‬ومضينــا‬
‫يف البحــث عنــه‪ .‬طافــت الرشطــة بنــا يف جــوالت عديــدة عــى مشــارح‬
‫الجثــث حيــث اســتعرضنا صفــوف املــوىت بحثـاً عــن ذلــك الــذي غادرنــا‬
‫ـب بــن ليلــة وضحاهــا‪.‬‬ ‫كغريـ ٍ‬
‫تســاءلت وأنــا أحــاول اســرداد أنفــايس ْإن كنــت ســأقدر عــى‬ ‫ُ‬
‫التعــرف عليــه عندمــا أراه‪.‬‬
‫ّ‬
‫٭٭٭‬

‫تقطــر العــرق يف عينــي حائــكاً غشــاوة تــأألت مرتعشــة وراءهــا‬


‫غابــةٌ صنوبريــة خــراء‪ .‬أخــراً‪ ،‬ويف مســاحة مقطوعــة الشــجر‪،‬‬
‫جلســت عــى درجــة‬ ‫ُ‬ ‫بــرز املعبــد للنظــر أبيــض‪ ،‬مهيبــاً‪ ،‬هادئــاً‪.‬‬
‫وتركــت النســيم يجففنــي‪ .‬الهــدوء يعـ ّـم املــكان‪ ،‬الَ أَ ْت ِق َيـ َ‬
‫ـاء منذوريــن‬

‫‪318‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫ـرد أقعــى عــى‬ ‫وال َسـ ِّنيايس(‪ )41‬قــد يكونــون اعتزلــوا العــامل هنــا‪ ..‬فقــط قـ ٌ‬
‫وركيــه فــوق غصــن متأرجــح مــن شــجرة قدميــة بجــوار املعبــد‪ .‬نظــر‬
‫إ ّيل بفضــول خاطــف ضاربـاً ذيلــه الطويــل قبــل أن يقفــز إىل الســقف‪.‬‬
‫أصــوات مكظومــة لــأوراق وال يشء آخــر؛ وعــاد الصمــت‪ .‬بــدا‪ ،‬وســط‬
‫الهــدوء العميــق‪ ،‬أننــي والقــرد كنــا الوحيديــن اللذيــن يلتمســان املــأوى‬
‫عنــد م ـزار مهــاكال‪ ،‬الواحــد الخالــد الــذي يرتبــع عــى عــرش املــوت‪.‬‬
‫أحيانــاً تحــر اآللهــة إلنقاذنــا يف صــورة حيوانــات‪ .‬هــذا كان شــأن‬
‫القــرد الــذي ب ـ ّدد شــكويك بحفيــف ذيلــه عندمــا نهضــت يك أتابــع إىل‬
‫ـي‪.‬‬
‫ـت خفيف ـاً عــى َق َد َمـ َّ‬
‫األمــام‪ .‬كنـ ُ‬
‫ـويت‪ ،‬وممــر ممهــد امتـ ّد إىل األمــام‬ ‫مل يكــن املعبــد بعيــداً‪ .‬األرض سـ ّ‬
‫مخرتقـاً بحـراً أخــر متالطـ ًا مــن أشــجار الصنوبــر‪ .‬وإذ تســقط أوراق‬
‫الصنوبــر اإلبريــة تنتــر رائحــة فواحــة يف الهــواء‪ .‬كان أغــوري بابــا‬
‫عــى حــق‪ :‬مــا كــدت أمــي بضــع مئــات أخــرى مــن األمتــار حتــى‬
‫ـارغ ّإل‬
‫انبثقــت أمامــي مســاحة أخــرى مقطوعــة الشــجر مثــل ِفنــاء فـ ٍ‬
‫ـري‬
‫مــن العشــب والصخــور‪ .‬بضــع خطــوات إىل األمــام‪ ،‬وفاجــأت ناظـ ّ‬
‫صخــرة‪ .‬توقفــت يف ســري عندمــا أدركــت أنهــا مل تكــن مجــرد صخــرة‪.‬‬
‫عنــد النظــرة الثانيــة‪ ،‬وكــا يف لغــز مصـ ّـور‪ ،‬مــا كان صخــرة اســتحال‬
‫إىل صومعــة مبنيــة مــن الحجــارة والخشــب والطــن‪ ،‬ضميمــةٌ رشــيقة‬
‫ملــا هــو طبيعــي ومــا هــو مصنــوع مــن اإلنســان‪ .‬كان جزؤهــا املشـ ّـيد‬
‫محاذيـاً مبــارشة لجــرف صخــري‪.‬‬
‫إحــدى الصخــور الناتئــة مــن الجــرف وقبــل أن تنحــدر إىل األرض‬
‫عــى الجانبــن شــكلت ســقفاً فــوق �ثَ َال َثـ ِـة حجــارة بيضــاء يعلوهــا‬
‫بــاب‪.‬‬
‫(‪ُ :Sanyasi )41‬تطلق عىل الشخص الذي يعتزل العامل ويتفرغ للعبادة‪( .‬م)‬

‫‪319‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫مشــيت فــوق حجــارة البــاب ال َّث َال َثـ ِـة‪ .‬تد َّلــت قبضــة املــزالج بــا‬
‫ــم يف الداخــل‪ .‬حدقــت‬ ‫مخي ٌ‬
‫إحــكام مفكوكــة مــن مشــبكها‪ .‬الهــدوء ِّ‬
‫عــر فتحــة ضيقــة يف البــاب‪ ،‬وللوهلــة األوىل مل أر شــيئاً ســوى العتمــة‪.‬‬
‫ـص باهــت مــن ضــوء النهــار دخــل مــن نافــذة غــر مرئيــة‪ ،‬أو رمبــا‬ ‫بصيـ ٌ‬
‫مــن فتحــة البــاب ذاتهــا واخــرق العتمــة‪ .‬حزمــة ضئيلــة جــداً مــن‬
‫ضــوء الشــمس امتــدت عــى األرض‪.‬‬
‫غــاف عــى رسيــره يف موضــع مــا يف الداخــل‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫لعلّــه مريــض أو‬
‫لذلــك رمبــا مل يتســلم رســالتي وبالتــايل ال يتوقــع قدومــي‪ .‬أو‪ ،‬رمبــا‬
‫أطــال الســهر بانتظــاري مســاء البارحــة ومــن ثــم افــرض أننــي أَ ْر َجـ ْأ ُت‬
‫زيــاريت‪ ..‬مــددت يــدي يك أحــرك املــزالج لكنــه تأرجــح مفتوح ـاً قبــل‬
‫ـت إىل الحجــرة الســفلية‪ ،‬كــا لــو أين للحظــة قصــرة‬ ‫أن أملســه‪ .‬تراجعـ ُ‬
‫أردت الفـرار‪ ،‬حتــى لــو ظهــر يف املدخــل‪ .‬مــن املحتمــل أن مــا جعلنــي‬
‫أتراجــع ليــس الخــوف‪ ،‬بــل اللهفــة املتقــدة لرؤيتــه جيــداً‪ ،‬كــا يفعــل‬
‫املــرء حــن يبتعــد قليـ ًا يك يــرى عــى نحــو أفضــل لوحــة عــى جــدار‪.‬‬
‫أي ـاً كان‪ ،‬فقــد بســط يــده ليمســك يب مــن يــدي ويرفعنــي‪ ،‬ويف هــذه‬
‫االندفاعــة ســقطت محفظتــي‪ .‬تدحرجــت عــى الحجــارة‪ ،‬وثائــق امللكية‬
‫ربــكاً إىل‬ ‫والرســائل واألوراق املهلهلــة؛ كل يشء تناثــر وتبعــر‪ .‬انحنيــت ُم َ‬
‫ـأن‪ .‬شــعرت بيــده‬ ‫األرض يك أســتعيدها‪ .‬ركــع بجانبــي والتقــط األوراق بتـ ٍٍّ‬
‫عــى ركبتــي املرتجفــة‪ .‬اســتدرت ورأيــت يــده ال وجهــه للمــرة األوىل‬
‫منــذ عــر ســنوات‪.‬‬
‫ال أذكــر كــم بقينــا راكعــن هنــاك‪ .‬أخــراً‪ ،‬عندمــا رفعــت رأيس‬
‫عرفتــه حــاالً؛ وجهــه‪ ،‬عينيــه اليقظتــن‪ ،‬غافـ ًا عــن حقيقــة أننــي مل أره‬
‫مــن قبــل أبــداً ملتحي ـاً‪ .‬كان بخصــات شــعره األشــيب يشــبه غريب ـاً يف‬
‫وس ـ ِّنيايس‪.‬‬
‫ـي َ‬‫منزلــة وســطى مــا بــن أخ منـ ّ‬

‫‪320‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫ثــم‪ ،‬مــن يــده التــي عــى ركبتــي رسى دفء مثــر لذكريــات‬ ‫ّ‬
‫ـاض مشــرك حفظتهــا ذاكــرة متجمــدة‪.‬‬ ‫وعواطــف حيــاة أرسة غابــرة ومـ ٍ‬
‫بــدأ الجليــد بالذوبــان عنــد ملســته‪.‬‬
‫مال إىل األمام يك يلتقط املحفظة «تعال‪ ،‬دعنا ندخل»‪.‬‬
‫تبعته إىل داخل صومعته‪.‬‬
‫وجهنــي ويــده فــوق كتفــي إىل إحــدى حصريين‬ ‫«أرجــوك‪ ،‬اجلــس»‪ّ .‬‬
‫عــى األرض‪ .‬جلــس القرفصــاء مقابــي عــى بســاط وظهــره مســتند إىل‬
‫الجدار‪.‬‬
‫تطــاول الوقــت‪ .‬كنــت أجلــس معــه يف صومعتــه‪ ،‬ومــع ذلــك مل‬
‫أســتطع حمــل نفــي عــى تصديــق أننــي بلغــت نهايــة رحلتــي‪.‬‬
‫«هل تسلمت رسالتي؟»‬
‫«نعم‪ .‬كان من املفرتض أن تأيت البارحة»‪.‬‬
‫«لقد أتيت البارحة‪ ،‬لكن الحافلة تأخرت ثالث ساعات»‪.‬‬
‫«أين متكث؟»‬
‫«عند معلّم املدرسة‪ .‬لقد اصطحبني إىل منزله»‪.‬‬
‫كنــت تواقـاً ألســأله إن كان أرســل معلــم املدرســة ملالقــاة الحافلــة‪،‬‬
‫لكننــي مل أفعــل‪ .‬كبحنــي بــروده وتحفظــه‪ .‬بــدا كأنــه رســم حــول نفســه‬
‫خطـاً مل أتجــرأ عــى تجــاوزه‪ .‬وذلــك الــدفء الــذي رسى عندمــا ملســني‬
‫ـس الطبقــات الخارجيــة وحســب‪ ،‬مل يصــل إىل‬ ‫عــى مدخــل البــاب مـ ّ‬
‫نــواة وجودنــا‪.‬‬
‫«هل وجدت صعوبة يف اكتشاف الطريق إىل هنا؟»‬
‫«ال‪ ،‬مطلقـاً‪ .‬قابلــت أغــوري بابــا يف أحــد دكاكــن الشــاي‪ .‬لقــد زودين‬
‫باالتجاهــات الالزمة»‪.‬‬
‫«هل فعل؟ ما الذي أخربك به أيضاً؟» كان يستأنس إىل حد ما‪.‬‬

‫‪321‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫«ال يشء»‪ .‬نظرت إليه متفحصاً للحظة‪« .‬هل أنت مريض؟»‬


‫«ال بــد أنــه أخــرك بذلــك‪ .‬ال يشء ذو أهميــة كبــرة‪ .‬إنهــا مشــكلة‬
‫التنفــس القدميــة؛ إنهــا تتفاقــم يف هــذا الطقــس»‪ .‬بــدا وكأنــه يجــد‬
‫الحديــث عــن اعتاللــه أكــر إيالم ـاً مــن وجــع التعايــش معــه‪.‬‬
‫«أيكون لهذا االرتفاع الكبري أي عالقة بذلك؟»‬
‫هـ ّز رأســه نافيـاً «ال‪ ،‬ال أظــن ذلــك‪ .‬لع ّلــك تتذكــر أننــي عانيــت مــن‬
‫هــذه املشــكلة حتــى عندمــا كنــت يف البيــت»‪.‬‬
‫ـت وجلــس عــى‬ ‫عندمــا جــاء عــى ذكــره‪ ،‬انســلّ «البيــت» بصمـ ٍ‬
‫كعبيــه بيننــا‪ .‬أغمــض عينيــه‪ .‬لــو أن ورقــة شــجر ســقطت يف الخــارج‪،‬‬
‫لكــر صوتهــا صمــت الصومعــة‪.‬‬
‫«هــل كل يشء عــى مــا ي ـرام هنــاك؟» ســألني بجفــاف‪ ،‬ومــع أن‬
‫صوتــه احتفــظ مبســافة عــن البيــت ّإل أنــه كان يحــوم حولــه‪.‬‬
‫«نعم‪ ،‬كل يشء عىل ما يرام»‪.‬‬
‫«ال بد أن الطابق األريض غري مسكون»‪.‬‬
‫«وملاذا؟» مل أفهم يف الحال قصده «الوالدة تعيش فيه»‪.‬‬
‫«هل تعني وحدها؟» ونظر إ ّيل بح ّدة‪ ،‬مستغرباً‪.‬‬
‫«نعم»‪.‬‬
‫«أال تعيش معك يف الطابق العلوي؟»‬
‫«حسناً‪ ،‬إنها تفضل العيش يف الطابق األريض»‪.‬‬
‫حــدق يب وكأن ال علــم لــه مبــا جــرى يف البيــت‪ ،‬مــع أننــي كتبــت‬
‫لــه عــن كل مــا خطــر ببــايل‪ .‬هــو مل يــر ذلــك يحــدث أمــام عينيــه‪ ،‬وأنــا‬
‫الــذي رأيــت‪ ،‬بــدأت مــن جديــد أرى ذلــك مــن الخــارج عــر عينيــه‬
‫هــو‪ ،‬وبــدأت أفهــم لِــاَ ذا كان مســتغرباً؛ فمــن يف الخــارج لديــه الســبب‬
‫يك يســتغرب إذ يــرى امــرأة عندهــا بيــت وثالثــة أبنــاء بالغــن ومتــي‬

‫‪322‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫أيامهــا األخــرة وحيــدة يف زاويــة‪.‬‬


‫رص غصــن شــجرة وأصــدر حفيفـاً‪ .‬وفجــأة‪ ،‬دوى صــوت‬ ‫يف الخــارج‪ّ ،‬‬
‫مكتــوم عــى الســطح تبعــه عــدو رسيــع وانطــاق غبــار مــن الســقف‪.‬‬
‫خــرج وســمعت صوتــه محمــوالً عــى الصمــت‪ .‬ســمعته ينطلــق نحــو‬
‫قمــة الجبــل ويرجــع إىل أن أدركتــه موجــات الصــدى وحملتــه بنعومــة‬
‫بعيــداً‪.‬‬
‫عندما رجع سألته‪« :‬من كان هناك؟»‬
‫«إنــه قــرد»‪ ،‬وابتســم‪« .‬تنــزل القــردة مــن املعبــد يك تنعــم‬
‫ذهبــت إىل املعبــد؟»‬
‫َ‬ ‫بالشــمس‪ ..‬هــل‬
‫«ليس بعد‪ .‬أعلم أنه معبد قديم»‪.‬‬
‫«لع ّلــه ليــس بــذاك القــدم‪ .‬لكــن متثــال شــيفا قديــم‪ .‬لقــد وجــد‬
‫مدفون ـاً يف ســفح الجبــل‪ .‬ســوف آخــذك إىل املعبــد يف يــوم مــن هــذه‬
‫األيــام‪ ..‬هــل ترغــب يف تنــاول الشــاي؟»‬
‫«من سيعدها؟ أنت؟»‬
‫«ومن غريي؟» وضحك «ستكون جاهزة بلمح البرص»‪.‬‬
‫وجمعهــا إىل جانــب واحــد‪ .‬بــان‬‫مــى عــر الصومعــة نحــو ســتارة ّ‬
‫وراءهــا موضــع ســفيل منعــزل منحــدر إىل الخلــف‪ .‬كان مثــة مقعــد‬
‫خشــبي خفيــض يف الزاويــة‪ ،‬وإىل جانبــه آنيــة خزفية وكأســان نحاســيتان‬
‫نظيفتــان‪ .‬يف الجــدار فوقهــا‪ ،‬مثــة فتحــة هوائيــة‪ ،‬يحســبها املــرء نافــذة‪،‬‬
‫بــدت مثــل إطــار يضــم غصــن شــجرة كثــر العقــد وصخــوراً رماديــة‬
‫ـدل يف الصمــت الر ّنــان‪ .‬ال حركــة ســوى للريــح‪.‬‬ ‫ورشيطـاً مــن الســاء تـ ّ‬
‫ف ّكــرت بينــي وبــن نفــي‪ :‬إنــه يعيــش هنــا‪ ،‬وحيــداً‪ ،‬يومـاً يف الداخــل‬
‫ويومـاً يف الخــارج‪ ،‬يف بــرد الشــتاء ورطوبــة املطــر وحـ ّـر الصيــف‪ .‬كانــت‬
‫مجــرد شــبح فكــرة‪ ،‬بــا جوهــر وغــر ملموســة وغــر مرتبطــة بالواقــع‬

‫‪323‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫الضــاري‪ .‬عندمــا نــرى رج ـ ًا ميت ـاً رمبــا نفكــر ّإمــا باملــوت أو بالرجــل‬
‫أو بكليهــا‪ ،‬لكننــا نفشــل يف التعبــر عــن الواقــع لرجــل يواجــه موتــه‪.‬‬
‫ملــاذا كنــت أفكــر يف املــوت؟ هــو الــذي كنــت أجلــس يف صومعتــه كان‬
‫حيـاً جــداً‪ ،‬عــى الرغــم مــن أننــي وجــدت صعوبــة يف إقنــاع نفــي أنــه‬
‫كان الشــخص ذاتــه الــذي أتيــت لرؤيتــه‪.‬‬
‫عــاد ومعــه صينيــة مــن الربونــز عليهــا كأســان مــن الشــاي وقطـ ُـع‬
‫شــاكارباراس مملــح‪.‬‬
‫«مل ال تتحــرك بعيــداً عــن تيــار الهــواء؟» ســألني‪ ،‬واضع ـاً الصينيــة‬
‫بيننــا عــى لــوح خشــبي مضلــع خفيــض‪.‬‬
‫تناولــت كأيس وانتقلــت إىل الخلــف نحــو الجــدار‪ .‬كنــا رابضــن‬
‫مقابــل بعضنــا بعضـاً يف الصومعــة الضيقــة‪ ،‬وحيديــن معـاً بينــا كانــت‬
‫الريــح تصفــق البــاب مــن حــن آلخــر وتهــز الشــجر‪.‬‬
‫«تعبــق الشــاي برائحــة الخشــب املحــروق‪ ،‬أليــس كذلــك؟» قــال‬
‫مالحظ ـاً‪.‬‬
‫«أليس لديك موقد كريوسني؟»‬
‫«ليــس مــن الســهل تأمــن الكريوســن هنــا‪ ،‬لكــن الحطــب وفــر‪.‬‬
‫ميكننــي جمعــه خــال جولتــي الصباحيــة‪ .‬إنــه يســاعد أيض ـاً يف طــرد‬
‫املفضــل»‪.‬‬
‫الــرودة‪ ..‬تعــال‪ ،‬خــذ قطعــة شــاكارباراس‪ ،‬فطاملــا كان طبقــك ّ‬
‫أخــذت بعض ـاً منــه‪ ،‬ممتن ـاً ألنــه ال ي ـزال يتذكــر مثــل هــذا األمــر‬
‫العــادي‪ ،‬مــع أننــي توقعــت أال يعلــم ســوى القليــل ع ّنــا‪ ،‬فقــد اعتــاد‬
‫العيــش يف الطابــق األريض معظــم وقتــه مــع الوالــدة‪ ،‬ونــادراً مــا كان‬
‫يصعــد إىل الطابــق العلــوي‪ .‬كان يقابــل أطفــايل فقــط عندمــا ينزلــون‬
‫إىل فنــاء البيــت يك يلعبــوا‪.‬‬
‫احتســينا الشــاي بصمــت‪ .‬مل يطــرح أســئلة عــن البيــت‪ ،‬وكان ذلــك‬

‫‪324‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫مســتغرباً‪ ،‬لكــن جيــداً رمبــا‪ ،‬فــا الــذي ميكــن أن يســألني عنــه‪ ،‬أو‪،‬‬
‫عنــد أي نقطــة ســوف أســتعيد روايــة الســنوات العــر الطويلــة التــي‬
‫باعــدت بيننــا‪ .‬كان يكفــي أننــا حظينــا ببضــع ســاعات ألنفســنا‪ .‬واآلن‪،‬‬
‫مــا بعــد الظهــرة ينقــي متثاقـ ًا والظــال تهبــط مــن القمــم الجبليــة‬
‫املواجهــة للصومعــة‪.‬‬
‫وصــل ظــلٌّ إىل مــا بيننــا مقسـ ًا الغرفــة إىل نصفــن‪ ،‬واحــد حيــث‬
‫يجلــس يف عتمــة صفـراء ذابلــة‪ ،‬واآلخــر حيــث أجلــس أنــا مقابلــه قــرب‬
‫البــاب‪ .‬رشيــط رفيــع مــن ضــوء مــا بعــد الظهــرة الباهــت انتــر فــوق‬
‫العتبــة يف لحظــة ســكون‪.‬‬
‫«كيف حال األطفال؟»‬
‫«بخري»‪ ،‬قلت‪« .‬موين بدأت تذهب إىل الكلية»‪.‬‬
‫«والصغرية؟»‬
‫ـمت عندمــا ف ّكــرت بهــا «لقــد‬
‫«لقــد أصبحــت بالغــة اآلن»‪ .‬وابتسـ ُ‬
‫أرادت أيض ـاً أن ترافقنــي إىل هنــا»‪.‬‬
‫«حقاً؟»‬
‫«مل يســبق لهــا أن قدمــت إىل الجبــال‪ .‬قالــت إنهــا تريــد أن تــرى‬
‫عمهــا»‪.‬‬
‫أيــن يعيــش ّ‬
‫«كانت صغرية جداً عندما‪ ..»..‬وقرص كالمه‪.‬‬
‫ـت متحفـزاً ألكمــل الجملــة لــه لكننــي‬ ‫ـادرت البيــت‪ ..‬كنـ ُ‬
‫عندمــا غـ ُ‬
‫مل أفعــل‪ .‬تركتهــا تتــدىل غــر مكتملــة حــول أصــل األمل يف قلــب األىس‬
‫الهامــد‪ .‬رمبــا تلــك هــي الطريقــة التــي يســتغرق بهــا األىس حيــاة املــرء‪،‬‬
‫مدفون ـاً يف األعــاق‪.‬‬
‫مل يكــن مثــة أي ذكــر إضــايف لألطفــال‪ .‬التقــط الصينيــة مــع البقايــا‬
‫ودخــل إىل القســم املنعــزل وراء الســتارة‪.‬‬

‫‪325‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫جلســت وحيــداً يف الضــوء الغســقي للصومعــة‪ .‬يف الخــارج‪ ،‬كانــت‬


‫الظــال تثخــن عــى األرض لكــن الشــمس مــا تـزال ترتيــث عــى الجبــل‬
‫املحــ ّدب‪ .‬طــار رسب مــن الغربــان نحــو األســفل خلــف الصومعــة‪،‬‬
‫ممزق ـاً الجــو الهــادئ ب َن ِع ِيقـ ِـه الصاخــب‪.‬‬
‫ومصبــاح يف يــده‪ .‬عندمــا وضعــه عــى اللــوح الخشــبي‬ ‫ٌ‬ ‫رجــع‬
‫الخفيــض يف الوســط‪ ،‬الح أمامــي يف ومضــة عجــى‪ .‬يف تلــك ال ُهنيهــة‬
‫الوجيــزة‪ ،‬أذهلنــي َّأن لديــه شــيئاً ُم ِهــاّ ً‪ ،‬شــيئاً َج ْو َه ِر ّي ـاً يف ذهنــه كان‬
‫يصارعــه‪ ،‬وأراد أن يخــرين عنــه‪ .‬نالــت الحــرة منــه فجلــس هادئــاً‪.‬‬
‫جلــس ورأســه محنــي‪ ،‬ضــوء املصبــاح يالعــب صورتــه الجانبيــة‬
‫ـعر األشــيب‪ ،‬والكتفــن الضخمتــن‪ ،‬وانحنــاءة‬ ‫املســتغرقة يف التفكــر‪ ،‬الشـ َ‬
‫ـت أرى والــدي مــن جديــد‪ ،‬الطريقــة التــي كان يبــدو‬ ‫عنقــه‪ .‬كأننــي كنـ ُ‬
‫ـب ألجــي عــى املجاميــع الحســابية عــى‬ ‫بهــا يف طفولتــي وهــو منصـ ّ‬
‫لــوح الكتابــة بينــا نظــريت املذهولــة تظــلّ تطـ ّـوف حــول عنقــه‪.‬‬
‫«هل يأيت إىل زيارتكم؟»‬
‫«مــن؟» كنــت َمذ ُْهــوالً هــل كان يتكلــم عــن والدنــا؟ يف اللحظــة‬
‫التاليــة‪ ،‬أدركــت أنــه يتكلــم عــن أخينــا األكــر الــذي انتقــل إىل جــزء‬
‫آخــر مــن املدينــة‪« .‬آه نعــم‪ ،‬إنــه يزورنــا‪ .‬أحيانـاً‪ .‬يف الحقيقــة‪ ،‬إنــه مــن‬
‫أرســلني إىل هنــا»‪.‬‬
‫«ألي غرض؟»‬
‫«يريدنــا أن نبيــع بيتنــا‪ .‬لقــد أحــرت معي صــك البيــع يك توقّعه»‪.‬‬
‫حــاالً‪ ،‬شــعرت بالفــرج‪ .‬فاملهمــة التــي تجشــمت ألجلهــا هــذه الرحلــة‬
‫الطويلــة قــد متــت‪ .‬كيــف آلــت يف النهايــة ألن تصبــح بســيطة رائعــة‬
‫عــى نحــو ال يصـ ّدق!‬
‫رفــع رأســه‪ .‬جالــت عينــاه عــى الحقيبــة امللقــاة عــى األرض‪.‬‬

‫‪326‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫وببــطء‪ ،‬اتضــح عــى محيــاه فهـ ٌـم لفحــوى األوراق التــي ســاعد عــى‬
‫اســرجاعها عنــد مدخــل بابــه‪.‬‬
‫متربمـاً نوعـاً مــا «إذا بعتــم البيــت»‪ ،‬قــال بتم ّهــل «فأيــن‬
‫نظــر إ ّيل ّ‬
‫ســتعيش ّأمنــا؟»‬
‫«ذلك عائد لها‪ .‬بإمكانها أن تعيش مع ّأي واحد م ّنا»‪.‬‬
‫«وماذا عنك؟»‬
‫«ال بد أن أستأجر بيتاً‪ .‬ويف الحقيقة‪ ،‬لقد وجدت واحداً مسبقاً»‪.‬‬
‫«إذاً‪ ،‬كل القــرارات قــد اتخــذت‪ .‬مــا الــذي أســتطيع قولــه يف‬
‫املوضــوع اآلن؟»‬
‫«أنت أيضاً لك حصة يف امللكية»‪.‬‬
‫«حقاً؟» وضحك «لقد تخليت عن كل ذلك منذ وقت طويل»‪.‬‬
‫نظرت إليه بصمت‪.‬‬ ‫ُ‬
‫«هل مثة رضورة حقاً لبيع البيت؟»‬
‫ـن أخانــا يرغــب يف رشاء عقــار يف ديهـرادم‪ .‬إنــه بحاجــة‬ ‫«رمبــا ال‪ ،‬لكـ ّ‬
‫إىل نقود»‪.‬‬
‫أثــر مــن التهكــم يف‬ ‫«ولذلــك يريــد بيــع بيــت أبينــا؟» كان مثــة ٌ‬
‫صوتــه‪.‬‬
‫«وكيف له أن يؤمن املال بطريقة غري ذلك؟»‬
‫وهباته يف رشاء البيت»‪.‬‬ ‫«إن أبانا وضع كل مدخراته ِ‬ ‫ّ‬
‫توف»‪.‬‬
‫«أعلم‪ .‬لكنه ّ‬
‫«صحيح‪ .‬ولكن‪ ،‬كيف ألشيائه ّأل تظلّ له؟»‬
‫حدقــت بــه‪ .‬ومذهــوالً‪ ،‬فكــرت‪ ،‬وشــعرت كأننــي أســأل‪ ،‬ملــاذا‪ ،‬طاملــا‬
‫أنــه اعتــزل العــامل‪ ،‬مــا زال مهتـ ًا إن كان البيــت ســيباع أو ال‪.‬‬
‫انحنى إىل األمام‪ ،‬وابتسامة حافلة بالذكريات عىل شفتيه‪.‬‬

‫‪327‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ـت يف الســنة األخــرة مــن املاجســتري عندمــا ابتــاع‬ ‫«تعلــم أنــك كنـ َ‬
‫ـت تــدرس يف ضــوء‬ ‫والدنــا البيــت‪ .‬مل نكــن منلــك الكهربــاء آنــذاك وكنـ َ‬
‫القنديــل يف غرفتــك عــى الســطح»‪.‬‬
‫«نعم‪ ،‬أتذكر»‪.‬‬
‫«كنت تعيش مع زوجتك يف فناء الدار»‪.‬‬
‫فنــاء الــدار‪ ،‬الغرفــة عــى الســطح‪ ،‬مــا الــذي كان يرمــي إليــه؟ مــن‬
‫الواضــح أنــه مل يكــن يتكلــم عــن البيــت‪ .‬فــا يقولــه كان شــيئاً آخــر‬
‫مختلف ـاً جــداً‪ ،‬لكننــي فشــلت يف إدراكــه يف أثنــاء انفعــايل‪.‬‬
‫ـت مــا بــدا كعينــن براقتــن لحيــوان بـ ّـري‬ ‫مــن طــرف عينــي رأيـ ُ‬
‫ـبب الومــض‬ ‫أومضتــا وراء الفتحــة الهوائيــة التــي يف الجــدار الجانبــي‪ .‬سـ ّ‬
‫يل انقالب ًــا حقيقي ـاً‪.‬‬
‫«ما ذلك اليشء؟»‬
‫«وميض الربق»‪.‬‬
‫وحــلّ القلــق محــلّ الخــوف «يجــب أن أغــادر‪ .‬ســيكون مــن‬
‫ي نــزول املنحــدر إذا بــدأ املطــر»‪.‬‬ ‫الصعــب عــ ّ‬
‫داعي للعجلة»‪.‬‬ ‫«ال َ‬
‫«سيقلق معلم املدرسة»‪.‬‬
‫«إنــه يعلــم أنــك هنــا»‪ .‬ثــم‪ ،‬وبعــد لحظــة تــردد‪ ،‬أضــاف‪« :‬مل ال‬
‫متكــث معــي الليلــة؟»‬
‫ـت‪ ،‬محــاوالً ّأل أبــدو‬‫كنــت جاهـزاً لإلجابــة «إنــه ضغــط الــدم»‪ ،‬قلـ ُ‬
‫أحمــق‪« .‬قــد ال يكــون مناســباً يل أن أمــي الليــل ك ّلــه يف مثــل هــذا‬
‫االرتفــاع»‪.‬‬
‫وعرفــت أننــي كنــت أخــدع نفــي‪ ،‬ألننــي ســوف أقــي الليــل‬ ‫ُ‬
‫يف الجبــال عــى أي حــال‪ .‬لكــن فكــرة قضــاء الليــل معــه يف صومعتــه‬

‫‪328‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫كانــت ال تطــاق بالنســبة يل‪ .‬نســتطيع أن نقــي ليالينــا مــع شــخص‬


‫مــا معــروف لنــا متامـاً أو غريــب متامـاً‪ .‬لكنــه مل يكــن ّأيـاً مــن هذيــن‪،‬‬
‫شــعرت نحــوه بالبعــد والقــرب يف اآلن ذاتــه‪ ،‬ورمبــا هــذا هــو يف املقــام‬
‫األول الســبب الــذي ُأرسـ ُ‬
‫ـلت أنــا لرؤيتــه‪.‬‬
‫التقطت حقيبتي وتهيأت للمغادرة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫«انتظــر لحظــة‪ .‬ســأعود يف الحــال»‪ .‬ومــى إىل القســم الخلفــي‬
‫مــن صومعتــه‪ ،‬ثــم ظهــر ومظ ّلــة يف يــده ويف األخــرى مصبــاح‪« .‬احتفــظ‬
‫بهــذه»‪ ،‬قــال‪ ،‬وأعطــاين املظ ّلــة‪« .‬دعنــي أرافقــك بعــض الطريــق»‪.‬‬
‫خطــا نــازالً درجــات املدخــل البيضــاء باســطاً يــده وراءه يك يســندين‬
‫يف الوقــت ذاتــه‪ .‬ل َْم َس ـ ُته الرقيقــة جــداً تدفقــت يف أورديت بحث ـاً عــن‬
‫الهيابــة التــي ربضــت متواريــة يف اللحظــة نفســها التــي‬ ‫الذكريــات ّ‬
‫انبعــث فيهــا حــب وعاطفــة الســنني املاضيــة ليضيئــا العتمــة‪ ..‬هــل هــو‬
‫الشــخص ذاتــه الــذي غادرنــا إىل األبــد؟‬
‫رأيتــه يتوقــف ويســتدير‪« .‬حســناً»‪ ،‬قــال مبتس ـاً‪« .‬ظننــت أنــك‬
‫تتبعنــي»‪.‬‬
‫أرسعــت بخطــوايت‪ .‬العتمــة تســتلقي تحــت ســتار متوهــج رقيــق‬
‫مــن ضــوء النجــوم املتأللئــة يف ســاء كثيفــة صافيــة‪ .‬يشء ال يصــدق‪،‬‬
‫فمنــذ برهــة قصــرة مضــت كان مثــة ومــض مــن الــرق!‬
‫ـن الطريــق والصخــور‬ ‫مــى بيــر أمامــي‪ ،‬ضــوء مصباحــه يتبـ ّ‬
‫واألشــجار واألجــات عــى جانبيــه‪ .‬صفــق طــر بجناحــه وطــار فوقنا‬
‫مذعــوراً ثــم دخــل يف العتمــة‪ .‬فجــأة‪ ،‬وإذ ارتطــم وعــاء الطعــام‬
‫أدركــت أن محفظتــي ليســت‬ ‫ُ‬ ‫باملطــرة يف داخــل حقيبــة الكتــف‪،‬‬
‫معــي‪.‬‬
‫«محفظتي‪ ..‬أعتقد أنني تركتها ورايئ يف صومعتك»‪.‬‬

‫‪329‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫«ال بــأس‪ ،‬ســتكون بأمــان هنــاك‪ .‬ميكنــك أن تســردها غــداً»‪ .‬توقــف‬


‫واســتدار نحــوي «هــل فيهــا ّأي مــن كتاباتــك؟» ســألني متحفـزاً‪.‬‬
‫افرتضت‬
‫ُ‬ ‫إنهــا املــرة األوىل طــوال اليــوم التــي يشــر فيهــا إىل كتابــايت‪.‬‬
‫أنــه مــى وقــت طويــل منــذ أن نــي أننــي أكتــب‪ .‬الكتابــة بالنســبة‬
‫يل كانــت مــن قبيــل النشــاط غــر املألــوف‪ ،‬وتقريب ـاً مثــل داء خــاص‬
‫ال ينبغي مناقشته علنياً‪.‬‬
‫«ال‪ ،‬ال يشء مــن ذلــك‪ .‬إنهــا تحتــوي عــى وثائــق امللكيــة وبعــض‬
‫الرســائل املرســلة إليــك»‪.‬‬
‫واستأنفنا املسري‪.‬‬
‫«مل أطلع عىل ّأي من قصصك منذ وقت طويل»‪.‬‬
‫«مل أكتــب الكثــر‪ .‬ألننــي مشــغول جــداً يف مكتــب الصحيفــة‪ ..‬هــل‬
‫تصلــك املجــات هنــا؟»‬
‫«ليــس بانتظــام‪ .‬يجلــب معلــم املدرســة بعضهــا مــن املكتبــة‬
‫بــن الحــن واآلخــر‪ ،‬وأذكــر أننــي رأيــت واحــدة مــن قصصــك يف أحــد‬
‫األعــداد القدميــة»‪.‬‬
‫احتفظــت بخطــوة وراءه وقلبــي يخفــق خجـاً‪ .‬فمنــذ عدة ســنوات‬
‫كتبــت قصــة‪ ،‬ويف الحقيقــة‪ ،‬كتبتهــا بغــرض النــر‪ .‬مل تكــن تــدور حــول‬
‫شــخص غــادر البيــت بقــدر مــا تــدور عــن أولئــك الذيــن خلفهــم وراءه‪.‬‬
‫كان أيب وأمــي ‪-‬وعــى األخــص أمــي‪ -‬يأمــان بأنــه ســوف يعــود مبــارشة‬
‫إذا صــدف وقــرأ القصــة‪ .‬ملــاذا التحــدث عــن العــودة وهــو مل يبعــث‬
‫حتــى ولــو بطاقــة بريديــة هزيلــة‪ ..‬كنــت مغتبط ـاً إذ مل يتمكــن مــن‬
‫رؤيــة خجــي يف العتمــة‪ .‬وقلــت مــن غــر تفكــر «إنــك مل تكاتبنا أبــداً!»‬
‫وغــص حلقومــي بالــكالم وكنــت خجــ ًا عــى نحــو مضاعــف‪ .‬فقــد‬ ‫َّ‬
‫عزمــت عنــد مغــادريت دلهــي عــى أننــي لــن أســأله أي أســئلة مــن هــذا‬

‫‪330‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫النــوع‪ ،‬لكنهــا كانــت اآلن ملقــاة أمامنــا‪ ،‬محاذيــة لنــا‪ ،‬مثــل بقعــة ضــوء‬
‫مصباحــه الرباقــة يف املمــر الجبــي‪.‬‬
‫«مل يكن مثة جدوى من ذلك» قال‪.‬‬
‫«هل تعلم كم بحثنا عنك يف كل األماكن املحتملة؟»‬
‫ال‪ ،‬ال طائــل مــن االســتمرار‪ .‬كيــف‪ ،‬وهــو يف قمتــه املطمئنــة‪ ،‬أن‬
‫يســتوعب لوعــة الخنافــس الراكضــة املضطربــة يف الســهول البعيــدة؟‬
‫مل يكــن ليعلــم كيــف يشــعر املــرء عندمــا يقــوم بجــوالت ال تحــى عىل‬
‫املشــايف وأرصفــة القطــارات ومحطــات الحافــات‪ ،‬أو عندمــا يتفحــص‬
‫قوائــم األشــخاص املفقوديــن لــدى الرشطــة‪ ،‬أو يحــدق يف وجــوه املــوىت‬
‫يف املشــارح‪ ،‬أو يضــع اإلعالنــات يف الصحــف‪ :‬نرجــوك أن تعــود‪ .‬الوالــدة‬
‫مريضة‪..‬‬
‫«ما زلت أعتقد أنه مل يكن هناك جدوى من ذلك»‪.‬‬
‫«كان بإمكانك عل األقل أن ُتعلمنا بأنك سامل»‪.‬‬
‫«لنفــرض أننــي فعلــت‪ ،‬فهــل كان ذلــك سيســاعدكم عــى تحمــل‬
‫األمل؟»‬
‫«أنا ال أتحدث عن األمل»‪.‬‬
‫«ما الذي تتحدث عنه إذاً؟»‬
‫فتشــت يف أعامقــي بحثـاً عــن جــواب فلــم أجــد‪ .‬مل أســتطع وضــع‬
‫ـن والــديت املتقدمــة‪،‬‬
‫إصبعــي عــى أي يشء واإلشــارة إليــه‪ ،‬ال األمل وال سـ ّ‬
‫وال إخفاقــايت الخاصــة؛ كل يشء ســيظلّ يجــري بالطريقــة التــي كان‬
‫عليهــا‪ ،‬إىل هــذا الحــد أو ذاك‪.‬‬
‫«ما الذي دفعك إذاً إىل مراسلة البيت بعد عرش سنوات؟»‬
‫ي فعــل ذلــك»‪ .‬وتنفــس بعمــق‪.‬‬ ‫ـت للحظــة‪« .‬رمبــا مل يكــن ع ـ ّ‬ ‫صمـ َ‬
‫«لقــد اســتغرقت كل هــذه الســنوات العــر ألراســلكم‪ .‬طويلــة مبــا‬

‫‪331‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫يكفــي‪ ،‬كــا أظــن‪ ،‬ألن ال يكــون مثــة فــرق لديكــم إن كنــت حيـاً أو ميتـاً»‪.‬‬
‫كان مثــة تجـ ّـرد يف نــرة صوتــه‪ ،‬ذلــك التجــرد الــذي يتجــى بطريقــة‬
‫أخــرى يف األشــجار والصخــور والجــداول‪ ،‬وهــو أســمى مــن أمل ووجــع‬
‫العالقــات املشوشــة‪ .‬لقــد اســتغرقه األمــر عــر ســنوات صارمــة مــن‬
‫العزلــة يك ينــال تجـ ّـرده‪.‬‬
‫ســمعت دمدمــة عــى املنحــدر تحتنــا‪ ،‬كــا لــو أن صخــرة انفصلــت‬
‫وكانــت تتدحــرج برسعة‪.‬‬
‫«ما ذلك الضجيج؟»‬
‫«إنه شالل ماء‪ .‬إنني أجلب املاء من هناك»‪.‬‬
‫«أليس بعيداً جداً»‪.‬‬
‫«ليــس كثـراً‪ .‬يف الواقــع‪ ،‬الجــدول يجــري عــى مســافة قصــرة تحت‬
‫الصومعــة‪ .‬ســأريك املوضــع غداً»‪.‬‬
‫تــواً‪ ،‬تبــدد تعبــي وخجــي‬ ‫إذاً‪ ،‬هــو يحــر املــاء بنفســه‪ّ .‬‬
‫ووجعــي املقيــم‪ .‬الطأمنينــة املفاجئــة تصادمــت مــع ررششــات املــاء‬
‫مــن الجــدول املنحــدر‪ .‬وقرعــت أجـراس الصــاة املســائية يف املعبــد‬
‫فوقنــا‪.‬‬
‫«يجب أن ترجع»‪ ،‬قلت‪« .‬أستطيع تلمس طريقي»‪.‬‬
‫«حســناً»‪ ،‬وافــق معــي‪ ،‬لكنــه مل يبــادر بأيــة حركــة ذهــاب‪ .‬كــا‬
‫أننــي مل أقــو عــى حمــل نفــي عــى التحــرك أيض ـاً‪.‬‬
‫«سأعود غداً»‪ ،‬قلت مؤكِّداً‪.‬‬
‫«هــل الوضــع عــى مــا يـرام عنــد معلــم املدرســة؟ إن لديــه غرفــة‬
‫واحــدة فقــط‪ .‬تســتطيع االنتقــال إىل االسـراحة إذا أحببــت»‪.‬‬
‫«ال‪ ،‬ال رضورة لذلــك‪ .‬إننــي مرتــاح متام ـاً هنــاك‪ .‬ثــم‪ ،‬إنهــا مســألة‬
‫يــوم أو يومــن آخريــن»‪.‬‬

‫‪332‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫يــوم أو يومــان آخ ـران‪ ،‬تعــرت الكلــات خارجــة مــن فمــي عــن‬


‫تأرجحــت جيئــة وذهابــاً‪ ،‬مهتــزة بفعــل الريــح ووقــع‬ ‫ْ‬ ‫غــر قصــد‪.‬‬
‫أجــراس املعبــد‪.‬‬
‫ـادرت مرسعـاً‪ .‬تقدمــت إىل األمــام نــازالً املنحــدر باتجــاه منعطــف‬ ‫غـ ُ‬
‫الطريــق‪ .‬عندمــا وصلــت‪ ،‬اســتدرت إىل الــوراء‪ ،‬رأيتــه مــا زال واقفـاً عنــد‬
‫املوضــع الــذي غادرتــه فيــه‪ ..‬ثابتـاً‪ ،‬بــا حـراك‪.‬‬
‫٭٭٭‬

‫كانــت األضــواء كأنهــا معلقــة عــى حبــل عــى طــول الطريــق‬


‫املزدحــم يف األســفل‪ .‬غــي البلــدة النامئــة ســديم ضبــايب‪ .‬هــل كان نامئـاً‬
‫أيضـاً اآلن‪ ،‬أم مــازال صاحيـاً وحــده يف صومعتــه؟ لقــد التقيــت بــه بعــد‬
‫ـت‪ ..‬ال أســتطيع قضــاء حتــى ليلــة واحــدة‬ ‫عــر ســنوات كاملــة ومــا زلـ ُ‬
‫معــه؟ إنــك كاتــب‪ ،‬قلــت لنفــي؛ مــع ذلــك فإنــك تتجنــب بســهولة‬
‫الواقــع الخــام عندمــا تواجهــه؛ كــا لــو أن الحيــاة يشء منفصــل عــن‬
‫حقيقــة الوجــود أو أن الحقيقــة يشء منفصــل عــن الكتابــة‪ ،‬كــا لــو‬
‫أن الحيــاة والحقيقــة والكتابــة ال متــت بــأي صلــة بعضهــا إىل بعــض‪،‬‬
‫كــا لــو أن ك ًال منهــا يتــدىل مثــل جثــة بــاردة مــن مشــنقته الخاصــة‬
‫أفــر بهــذه الطريقــة‪ ،‬فلــاذا مكثــت هنــا‬ ‫ي أن ّ‬ ‫املعزولــة‪ .‬إذا كان عــ ّ‬
‫ليلــة واحــدة ح ّتــى؟ كان ينبغــي أن أتعجــل الحصــول عــى توقيعــه عــى‬
‫الوثائــق ومــن ثـ ّـم أســتقل حافلــة الرجــوع إىل البيــت‪ .‬أي أهميــة للبقــاء‬
‫يف البلــدة إذا كنــا ســنقيض الليــل تحــت ســقوف مختلفــة؟ ملــاذا نحــن‬
‫جميعــاً‪ ،‬إخــويت وأخــوايت‪ ،‬جففنــا مثــل ســاق نبتــة ذاويــة حــن حــلّ‬
‫وقــت الحســاب؟ كيــف حــدث أنــه عنــد نقطــة معينــة‪ ،‬محبتنــا كلّهــا‬
‫غاصــت يف الرمــل والرمــاد؟ كيــف نســتطيع أن يــرك واحدنــا اآلخــر إىل‬

‫‪333‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫قــدره ويبقــى بعيــداً؟ أمل يكــن طغيــان هــذه الالمبــاالة اآلمثــة هــو مــا‬
‫دفعــه إىل االبتعــاد عــن البيــت؟‬
‫حتــى مــع اندفاعــي نــازالً الهضبــة‪ ،‬غصــت عميقــاً يف مســتنقع‬
‫الذنــب واتهــام الــذات‪ .‬ومــع كل خطــوة تقربنــي مــن مســكن معلــم‬
‫املدرســة‪ ،‬كانــت تشــتعل يب رغبــة كثيفــة يف أن أصبــح غــر مــريئ أو أن‬
‫أتــاىش بطريقــة مــا يف رسيــره طــوال الليــل وأغــادر إىل دلهــي حــاالً‬
‫عنــد الصبــاح‪.‬‬
‫كان معلــم املدرســة منشــغ ًال يف املطبــخ‪ ،‬فدخلــت مــن دون أن‬
‫يالحظنــي‪ .‬مل أمتكــن مــن اســتجامع الشــجاعة الكافيــة ألواجهــه يف تلــك‬
‫اللحظــة‪ .‬كلّ مــا أردتــه كان تبديــل ثيــايب واللجــوء إىل الفـراش‪ .‬كان مثــة‬
‫مجمـ ٌـر متوهــج يف الغرفــة‪ .‬عندمــا اقرتبــت منــه شــعرت فجــأة بإنهــاك‬
‫وح ّمــى‪ .‬يف نــواة وجــودي‪ ،‬قلبــي املحمــوم وجســدي‬ ‫شــديد وبــرد ُ‬
‫تلويــا وتحـ ّـركا مع ـاً‪ ،‬بينــا «أنــاي» انزاحــت جانب ـاً‬
‫املرتعشــان بالــرد‪ّ ،‬‬
‫غــر مباليــة‪ .‬كان هــذا جيــداً بحــد ذاتــه‪ُ ،‬متيح ـاً‪ ،‬إذ حصــل‪ ،‬مقياس ـاً‬
‫مــا الرتيــاح إنســان عــادي رمبــا ال يعتــزل العــامل مثــل ســادهوس(‪ )42‬أو‬
‫ســي ِّنيايس‪ ،‬لكنــه يســتطيع رغــم ذلــك‪ ،‬وإن لفــرة وجيــزة‪ ،‬أن يغــادر‬
‫جســده وقلبــه وتوتراتهــا‪ ،‬ويتحــرر‪ ،‬وينــزوي جانب ـاً‪ .‬لكننــي مل أكــن‬
‫ـت مــن‬ ‫يف ُحســن طالعــي‪ .‬فــا كــدت أمتــدد عــى الرسيــر حتــى جفلـ ُ‬
‫ـت فرأيــت معلــم املدرســة واقفـاً‬ ‫صــوت قــادم مــن جهــة املطبــخ‪ .‬التفـ ُ‬
‫متلبس ـاً‪.‬‬
‫يف املدخــل محملق ـاً كــا لــو أنــه أمســك يب ِّ‬
‫«متى دخلت؟» سألني‪.‬‬
‫ـت عــى مــا يـرام»‪ ،‬بذلــك‪ ،‬قدمــت‬ ‫«منــذ وقــت قليــل وحســب‪ .‬لسـ ُ‬
‫اعتــذاراً عرضياً‪.‬‬
‫(‪ :Sadhus )42‬من رهط الرجال املقدسني الهندوس الج ّوالني الذين يعتزلون حياتهم الدنيوية‪( .‬م)‬

‫‪334‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫ذلــك جعلــه يهــدأ نوعـاً مــا ويجاملنــي «قلت لــك الليلــة املاضية أن‬
‫تنــام عــى الرسيــر‪ .‬ففــي الشــتاء تصبــح أرضية الغرفــة رطبة وبــاردة»‪.‬‬
‫حمــى»‪ ،‬قــال‬ ‫وجــس نبــي «ال ّ‬
‫ّ‬ ‫وضــع راحــة يــده عــى جبينــي‬
‫مســتنتجاً «لكــن ال بــد أنــك منهــك‪ .‬لــدي بعــض الربانــدي‪ .‬أنصحــك بــأن‬
‫تتنــاول رشــفة‪ ،‬ذلــك ســوف يريحــك»‪.‬‬
‫أخــرج زجاجــة صغــرة مــن الخزانــة وأحــر كأســن‪ .‬نهضــت‬
‫وجلســت عــى الرسيــر‪ .‬قبالتنــا نحــن االثنــن توضــع املجمــر املتوهــج‬
‫مثــل إلــه خفــي غامــض نســعى لكســب رضــاه‪ .‬وبينــا كنــا نــرب‪،‬‬
‫بــدد الصمــت طائــر يف الخــارج بصوتــه الضــارع الغريــب‪.‬‬
‫«إنــه طائــر النينــار‪ .‬صوتــه يدعــو األطفــال للنــوم»‪ .‬وتنــاول جرعــة‬
‫مــن كأســه «هــل ترغــب يف بعــض املــاء الدافــئ يف رشابــك؟»‬
‫«ال‪ .‬ال تزعــج نفســك‪ .‬هذا حســن‪ ..‬هــل لديكم محــاّت للمرشوبات‬
‫الكحوليــة يف البلدة؟»‬
‫ن مــن أملــورا أو‬ ‫«وال واحــد‪ .‬إننــي أحصــل عــى زجاجــة كل حــ ٍ‬
‫باهوفــايل‪ ،‬ذلــك بفضــل ســائق الحافلــة اللطيــف»‪.‬‬
‫وبفضــل الربانــدي واملجمــر بــدأت شــفتاي ترتخيــان والعقــد تنحــلّ ‪.‬‬
‫ـاش متامـاً‪ّ ،‬إل‬
‫وعــى الرغــم مــن أن مشــاعر الذنــب والقلــق الغامــر مل تتـ َ‬
‫أنهــا تراجعــت بعيــداً إىل مســافة بعيــدة يك تســتقر يف داخــي‪ .‬شــعرت‬
‫بالــدوار‪ ،‬وانتبهــت عــى نحــو مبهــم إىل أن معلــم املدرســة كان يرمقنــي‬
‫وعالمــات الفضــول عــى وجهــه‪.‬‬
‫«هل ذهبت لرؤية بابا؟»‬
‫نظــرت إىل أســنانه الصفـراء‪ .‬رمبــا مل يتوقــع أن الشــخص الــذي يدعــوه‬
‫بابــا قــد يكــون بطريقــة مــا قريبـاً يل‪ .‬يصعــب عــى النــاس التفكــر بــأن‬
‫الرجــال املقدســن ينحــدرون مــن بيــوت عاديــة ولهــم مــاض عــادي‪.‬‬

‫‪335‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫«هل كان يف صومعته؟»‬


‫«ويف أي مكان غريه سيكون؟»‬
‫«أينــا كان‪ .‬فــإىل وقــت قريــب اعتــاد التجــول يف جــوار املــكان‪،‬‬
‫حتــى إنــه كان يــأيت للتســوق»‪.‬‬
‫«أمل يعد يخرج؟»‬
‫«ال أعلــم‪ .‬مــع أننــي مل أره يف الجــوار مؤخ ـراً‪ .‬يف إحــدى الف ـرات‬
‫كنــت أذهــب لرؤيتــه يف صومعتــه وأســاعده يف األعــال اليوميــة‪ ،‬لكنني‬
‫ـجع فتوقفــت عــن الذهــاب‬ ‫وجــدت ســلوكه غريبـاً نوعـاً مــا وغــر مشـ ِّ‬
‫إىل هنــاك»‪.‬‬
‫«ما الذي استغربته إىل هذا الحد يف سلوكه؟»‬
‫حــدق يف راحــة يــده كــا لــو أن الجــواب كان مكتوبـاً هنــاك‪ ،‬ثــم‬
‫تنــاول رشــفة مــن كأســه‪« .‬يف الصيــف املــايض اعتــدت عــى إحضــار‬
‫يحبــذ ذلــك‪ .‬ففــي أحــد‬ ‫املــاء لــه»‪ ،‬قــال رافعــاً بــره إيلّ‪( :‬لكنــه مل ّ‬
‫الصباحــات كنــت عائــداً مــن الشــال عندمــا قابلنــي عــى الطريــق‪،‬‬
‫ســألني‪ :‬هــل مبقــدورك أن تجمــع يل بعــض الحطــب؟ أجبتــه «ومل ال؟»‪.‬‬
‫عندهــا ســألني مبتسـ ًا إن كنــت أســتطيع إعــداد وجباته‪« .‬ال مشــكلة»‪.‬‬
‫قلــت فــوراً‪ .‬فعــى أي حــال‪ ،‬إنــه ال يــأكل ســوى مـ ّـرة واحــدة يف اليــوم‪.‬‬
‫ـت‪« :‬أنــت يجــب‬ ‫ـم يــا بابــا»‪ ،‬قلـ ْ‬
‫«ومــا الــذي ســأفعله أنــا؟» ســألني «ولِـ َ‬
‫ـت العــامل»‪.‬‬
‫أن تقــي وقتــكَ يف التأمــل والصلــوات‪ ،‬فألجــل ذلــك اعتزلـ َ‬
‫هــل تعلــم مــا قالــه عندهــا؟)‪.‬‬
‫وصمت معلم املدرسة محدقاً يف اللهب املضطرم للجمر‪.‬‬
‫«ما الذي قاله؟» سألته بإلحاح‪.‬‬
‫«قال‪ :‬كيف لك أن تتأمل يف ما ال تعرف شيئاً عنه؟»‬
‫«هل قال ذلك؟»‬

‫‪336‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫ـت لــه إن كان األمــر كذلــك‪ ،‬فلــاذا تركــت عائلتــك وأتيــت إىل‬ ‫«قلـ ُ‬
‫ـت بعيــداً‬ ‫هنــا؟ هــل تتخيــل مــا كان رده؟ قــال يل‪« :‬مل أتــرك شــيئاً؛ مضيـ ُ‬
‫وحســب»‪ .‬مل يعــد مثــة يشء ألفعلــه‪ ،‬لذلــك تركــت دلــو املــاء يف موضعــه‬
‫ورست يف طريقــي‪ .‬إننــي أتســاءل‪ ،‬الرجــل الــذي ال يريــد أن ُيخــ َدم‪،‬‬
‫كيــف تســتطيع خدمتــه؟»‬
‫تنهــد معلــم املدرســة وتابــع بعــد برهــة‪« :‬إننــي أعيــش هنــا وحيــداً‬
‫أيض ـاً لكــن لــدي عمــل أقــوم بــه‪ .‬ملــاذا هــو هنــا؟ إنــه ال يقــرأ كتبــه‬
‫املقدســة وال يتلــو صلواتــه وال يتأمــل وال يلقــي خطبـاً‪ .‬وحتــى ال يقــدم‬
‫النصــح ملــن يزورونــه آتــن احرتامـاً وإجــاالً لــه؟»‬
‫«أما يزال الناس يذهبون لرؤيته؟»‬
‫«إنهــم يفعلــون‪ .‬ثــم إنــك أنــت أيضـاً قدمــت مــن بعيــد يك تحظــى‬
‫برؤيتــه فقط!»‬
‫«لقد سمعت عن شهرته»‪ .‬قلت بال اهتامم‪.‬‬
‫«وهكــذا يفعــل اآلخــرون‪ .‬بعضهــم يــأيت لتحقيــق رغبــة أو مــن‬
‫أجــل تل ّقــي بركاتــه‪ ،‬أو ملجــرد الفضــول»‪.‬‬
‫ـرت يف داخــي فلــم‬ ‫شــعرت أن نظــرة معلــم املدرســة تخرتقنــي‪ .‬نظـ ُ‬
‫أجــد شــيئاً‪ ،‬ال مــن رغبــة وال مــن فضــول‪ ،‬مــا عــدا خيــط وا ٍه لعالقــة‬
‫تتأرجــح وســط نســيج عنكبــويت ال معلــم املدرســة قــادر عــى إمســاكه‬
‫وال أنــا قــادر عــى قطعــه‪.‬‬
‫أحض العشاء؟ لقد تأخر الوقت»‪.‬‬ ‫«هل ّ‬
‫ذهــب إىل املطبــخ وبقيــت جالســاً عــى الرسيــر‪ .‬يف الخــارج‪،‬‬
‫سقســقت الجداجــد برتابــة مملــة‪ .‬أثــارت الربانــدي ّيف ح ـرارة ناعمــة‬
‫مريحــة‪ ،‬انتــر دفؤهــا ببــطء ليقــارع بــرودة عظامــي والتعــب املرتاكــم‬
‫مــن رتابــة الحيــاة اليوميــة‪.‬‬

‫‪337‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫«هل غلبك النعاس؟»‬


‫أفقــت جفــاً؛ فقــد هدهــدين الــدفء فعــ ًا وآل يب إىل النــوم‪ .‬وضــع‬
‫طبقــن مــن الطعــام عــى األرض‪ :‬خ ـراوات مــن ال ـ ّدال‪ ،‬وتشــابايت حــارة‬
‫ســميكة القــوام‪ ..‬لقــد أعـ ّد الوجبــة بنفســه‪ .‬حســد ُته عــى بســاطته إذ أكــرم‬
‫وفــاديت مــن دون أن يعــرف مــن أكــون‪ .‬كنــت متأث ـراً لدرجــة أننــي أردت‬
‫االعــراف لــه أن هــذا البابــا غــر التقليــدي مل يكــن ســوى أخــي‪ ،‬لكنــي‬
‫تغلبــت عــى هــذا الدافــع حــاالً؛ ذلــك ســوف يربكــه وحســب‪ ..‬بعــض‬
‫كليــة ومــن األفضــل أن ترتك وشــأنها‪.‬‬
‫الحقائــق ليــس مــن الــروري معرفتهــا ّ‬
‫«ســوف متكــث هنــا لبضعــة أيــام‪ ،‬أليــس كذلــك؟» كان أســلوبه لينـاً‬
‫ودوداً وتواقاً‪.‬‬
‫«ال‪ ،‬يجــب أن أرحــل يف الصبــاح»‪ ،‬قلــت خجـ ًا قليـ ًا «لقــد حصلــت‬
‫عــى يومــي إجــازة فقط»‪.‬‬
‫«أيــن تعمــل؟» كان هــذا أول ســؤال مبــارش يوجهــه يل‪ ،‬وبــدا‬
‫اهتاممــه يف غايــة الصــدق حتــى إننــي شــعرت باالمتنــان تجاهــه‪.‬‬
‫أخربتــه عــن عمــي يف الجريــدة وعــن أطفــايل وبيتــي‪ .‬أصغــى إيل‬
‫ـت‬‫بهــدوء‪ .‬وبعــد أن أنهيــت كالمــي مل ينبــس ببنــت شــفة حتــى ظننـ ُ‬
‫أنــه مل يســمعني مطلق ـاً‪ .‬رفعــت بــري إىل وجهــه‪ .‬يف ضــوء القمــر‬
‫الباهــت النــازل مــن النافــذة‪ ،‬رأيــت عينيــه الواســعتني املفتوحتــن‬
‫مثبتتــن عـيّ‪ .‬أثــار األمــر حفيظتــي‪ .‬فــا الــذي كان يعتمــل يف رأســه؟‬
‫ـت مــن مــكان بعيــد‬ ‫«انظــر‪ ،‬مل ال متكــث يومــن أيض ـاً؟ لقــد أتيـ َ‬
‫جــداً‪ ،‬وســيكون مــن العــار أن تعــود بهــذه الرسعــة»‪.‬‬
‫«ما الغاية؟ وما الذي سأفعله هنا؟»‬
‫«ميكنــك أن تصحــب بابــا وقتــاً أطــول‪ .‬إنــه وحــده متامــاً يف هــذه‬
‫األيــام»‪.‬‬

‫‪338‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫«وملاذا ال تكرث زياراتك له أنت؟»‬


‫«يف الحقيقة‪ ،‬ال أعرف مباذا أتحدث معه»‪.‬‬
‫«عــى أي حــال‪ ،‬لقــد تــرك بيتــه وأهلــه بنفســه‪ .‬وأن يعيــش املــرء‬
‫وحيــداً ليســت تلــك املحنــة العظيمــة‪ .‬ثــم‪ ،‬إنــك أنــت أيض ـاً تعيــش‬
‫وحيــداً» قلــت مجــادالً‪.‬‬
‫«األمــر مختلــف بالنســبة يل‪ .‬فأنــا أذهــب باســتمرار إىل أملــورا لعـ ّدة‬
‫أيــام كل شــهر‪ .‬ولــو اســتطعت العثــور عــى منــزل أفضــل الســتقدمت‬
‫عائلتــي»‪ .‬وإذ خطــرت عــى بالــه فكــرة‪ ،‬برقــت يف عينيــه نظــرة حــرى‬
‫«إننــي ال أفهــم شــيئاً مــا»‪ ،‬قــال عــى نحــو ملتبــس «لقــد مـ ّـرت ســنوات‬
‫عديــدة منــذ أن قــدم بابــا للعيــش هنــا‪ .‬ولكــن‪ ،‬حتــى اآلن‪ ،‬ال يبــدو أن‬
‫أحــداً مــن عائلتــه قــد زاره أبــداً»‪.‬‬
‫أصبــح لــدي شــك مقيــم بأنــه قــد عــرف كل يشء عنــي ولكنــه‬
‫حــاذر أال يظهــر ذلــك عــى وجهــه‪.‬‬
‫«من املحتمل أن عائلته ال تعلم بأنه هنا»‪.‬‬
‫«هل تعني أنهم طوال هذه السنوات مل يعرثوا عليه؟»‬
‫«البــد أنهــم بذلــوا مــا يف وســعهم‪ .‬إنــه بلــد شاســع‪ .‬كيــف للمــرء أن‬
‫ينقــب يف كل جــزء منــه؟»‬
‫حــدق يف عتمــة الخــارج واســتغرق يف التفكــر‪ .‬وأخـراً نطــق قائـاً‪:‬‬
‫«رمبــا مل تكــن لديــه عائلــة‪ .‬بعــض األشــخاص يرتكــون أهلهــم وبيوتهــم‬
‫بحثـاً عــن اللــه يف عزلتهــم الشــديدة»‪.‬‬
‫«ال بد أنك سألته عن ذلك»‪.‬‬
‫«إنــه ال يخربنــا ســوى القليــل عــن نفســه وكذلــك القليــل عــن اللــه‪.‬‬
‫أرتــاب يف بعــض األحيــان إن كان حق ـاً َس ـ ِّنيايس‪ .‬وأرتــاب إن كان حق ـاً‬
‫قــد اعتــزل العــامل وكـ ّـرس نفســه للــه»‪.‬‬

‫‪339‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ســألت نفــي‪ ،‬ومــا هــو إن مل يكــن َسـ ِّنيايس؟ فمنــذ عــر ســنوات‬
‫مضــت‪ ،‬تــرك كل مــن يف البيــت يبــي‪ ،‬واآلن‪ ،‬كيــف يســتطيع أن يهجــر‬
‫اللــه أيضـاً؟ مل يحمــل الليــل يل أي جــواب‪.‬‬
‫نزلــت إىل فـرايش عــى أرضيــة الغرفــة بينــا متــدد معلــم املدرســة‬
‫عــى رسيــره كــا فعــل يف الليلــة الســابقة‪.‬‬
‫ولكــن عــى عكــس الليلــة الســابقة‪ ،‬مل تكــن الغرفــة معتمــة‬
‫متامــاً‪ :‬تــدىل القمــر أســفل نافــذة املطبــخ ملقيــاً غبــاراً مــن الضــوء‬
‫الخافــت عــى األشــياء يف الغرفــة‪ .‬بقيــت مســتيقظاً لوقــت طويــل‪.‬‬
‫وعندمــا تحولــت أفــكاري نحــو عائلتــي‪ ،‬بــدا أنهــم ينتمــون إىل عــامل‬
‫آخــر؛ وعندمــا ف ّكــرت بأخــي الــذي يعيــش حيــاة الناســك‪ ،‬بــدا عاملــه‬
‫أيض ـاً عامل ـاً آخــر غــر معــروف لنــا‪ .‬هــذه العــوامل الصغــرة املختلفــة‬
‫يتاخــم واحدهــا اآلخــر‪ ،‬ومــع ذلــك فهــي فعلي ـاً تبعــد ماليــن األميــال‬
‫عــن بعضهــا‪ .‬كيــف أصبحــت هــذه العــوامل مســجونة يف عزلتهــا؟ كان‬
‫الســؤال مؤمل ـاً ومخيف ـاً‪ .‬دسســت الســؤال تحــت ف ـرايش طــوال الليــل‬
‫واســتدرت عــى جانبــي‪.‬‬
‫٭٭٭‬

‫دارت الغربــان عالي ـاً أرساب ـاً أرساب ـاً‪ ،‬وانحــدرت بنعيقهــا الصاخــب‬
‫عــر الهــواء يك تحــط عــى الصخــور والطرقــات والغصــون وقمــم‬
‫األشــجار يف كل مــكان‪ .‬رصخاتهــا الحــادة شــظّ ت أجــواء الســاء‪.‬‬
‫ذهبــت مــع معلــم املدرســة إىل موقــف الحافــات‪ .‬كان مثــة حشــد‬
‫وحملون تكاســلوا‬
‫قليــل مــن املســافرين تحــت ســقيفته‪ ،‬وكالب شــاردة ّ‬
‫خــارج محــات الطعــام قبالــة الطريــق‪ .‬شــق معلــم املدرســة طريقــه‬
‫نحــو نافــذة الحجــز‪ .‬نقــر عليهــا بأصابعــه عــدة مـ ّـرات قبــل أن يلــوح‬

‫‪340‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫منهــا رأس‪ .‬ورسعــان مــا رجــع مبعلومــة مفادهــا أنــه ليــس مثــة حجــز‬
‫مســبق‪« .‬عليــك أن تحصــل عــى تذكرتــك يف الحافلــة»‪ ،‬هكــذا أخــرين‪.‬‬
‫«هل سألت عن مواعيد املغادرة؟»‬
‫«هنــاك حافلــة واحــدة تذهــب مبــارشة إىل دلهــي يف الســاعة‬
‫السادســة‪ّ .‬أمــا األخــرى فتغــادر يف الثامنــة‪ ،‬لكــن ســيكون عليــك أن‬
‫تغــر الحافلــة إىل أخــرى يف باهوفــايل»‪.‬‬
‫قلــت لنفــي‪ :‬مــا زال أمامــك وقــت طويــل حتى الســاعة السادســة‪.‬‬
‫لقــد حزمــت أمتعتــي مســبقاً‪ .‬ويف الحقيقــة‪ ،‬لقــد تركتهــا يف دكان‬
‫حلويــات يك أوفــر عــى نفــي مشــقة التعريــج عــى معلــم املدرســة‬
‫عندمــا أعــود مــن الجبــل بعــد الظهــر‪ .‬حملــت معــي حقيبتــي الصوفيــة‬
‫واملظ ّلــة التــي أعطــاين إياهــا أخــي يف الليلــة الســابقة‪.‬‬
‫«تعــال ولنتنــاول كأسـاً ُأ ْخـ َـرى مــن الشــاي‪ .‬أمامــك صعــود طويــل»‪.‬‬
‫كنــا قــد تناولنــا الشــاي قبــل االنطــاق نحــو موقــف الحافــات‪ .‬كان‬
‫الــرد شــديداً ح َّتــى إننــي مل أســتطع مقاومــة إغ ـراء الشــاي الســاخن‬
‫عــى املوقــد الدافــئ يف دكان بيــع الشــاي‪.‬‬
‫كان معلــم املدرســة‪ ،‬عــى غــر العــادة‪ ،‬هادئـاً منــذ أن طلــب منــي‬
‫يف الصبــاح ّأل أســتعجل الرحيــل إىل دلهــي‪ .‬ولكنــه مل يلــح يف األمــر‬
‫عندمــا أخربتــه أن عــي العــودة يك أكتــب زاويتــي للجريــدة يف اليــوم‬
‫التــايل‪ .‬ومل نتحــدث باملزيــد عــن بابــا؛ بــدا وكأننــا وصلنــا إىل اتفــاق‬
‫ضمنــي عــى التعتيــم عــى صومعتــه واملعبــد واس ـراحة الغابــة وكل‬
‫يشء أعــى مــن ذلــك‪ .‬كانــت الســاء تتلبــد بالغيــوم مــن دون أن يبــدو‬
‫ـر بأنــه يــوم ال ممطــر وال مشــمس‪.‬‬ ‫هطــول املطــر وشــيكاً؛ كانــت تبـ ِّ‬
‫كتلــة رماديــة مــن رفــوف الســحاب املســتنفد تك َّدســت وعلقــت بــن‬
‫الــوادي يف األســفل وذرى الجبــال يف األعــى‪.‬‬

‫‪341‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫«تعــر هــذه الغيــوم فــوق باهوفــايل يك تصــل إىل هنــا»‪ .‬قــال‬


‫معلــم املدرســة مالحظ ـاً‪« .‬الســحب املمطــرة الرئيســية تنعطــف نحــو‬
‫رانكيهيــت وناينتــال‪ ،‬بينــا ُتدفــع الحثالــة نحــو أرض القصــاص يف هــذه‬
‫املناطــق النائيــة‪ ..‬يك ُتتــم عقوبتهــا‪ ،‬إذا جــاز التعبــر»‪.‬‬
‫«عجبـاً؟» تناولــت رشــفة مــن الشــاي‪« .‬أال تواصــل هــذه الســحب‬
‫طريقهــا إىل مــكان آخــر؟»‬
‫«إنهــا ال متــي إىل أي مــكان‪ .‬فقــط الغربــان تفعــل ذلــك‪ .‬انظــر إىل‬
‫جموعهــا هنــاك!» قــال ضاحــكاً‪.‬‬
‫فعـ ًا كانــت الغربــان يف كل صــوب فــوق الــذرى‪ ،‬وأعــايل البيــوت‪،‬‬
‫واألشــجار‪..‬‬
‫«أليــس عددهــا كبــراً بالنســبة لبلــدة صغــرة كهــذه؟ ُيقــال إن‬
‫لعنــة ح ّلــت بهــذا املــكان وإن كل املــوىت فيــه ســيولدون مــن جديــد‬
‫كغربــان»‪.‬‬
‫«وما يزال الناس يعيشون هنا؟»‬
‫«نعــم‪ ،‬هــم يفعلــون‪ ،‬ألنهــم يعتقــدون أيضــاً أن هــذه الغربــان‬
‫وضــح يل عــى نحــو‬ ‫بدورهــا ســوف تصــل إىل الخــاص عنــد املــوت»‪ّ ،‬‬
‫وقــور‪« .‬هــذه البلــدة يف منزلــة خيمــة عبــور للبــر والغربــان يف‬
‫طريقهــم نحــو االنعتــاق»‪.‬‬
‫توقــف معلــم املدرســة عــن االبتســام‪ .‬وبنظــرة كئيبــة يف عينيــه‪،‬‬
‫حــ ّدق بهــدوء يف أرساب الغربــان الســوداء والبلــدة الضئيلــة الغارقــة‬
‫يف الســحب الضبابيــة‪ .‬أرض القصــاص للغيــوم القادمــة مــن باهوفــايل‪،‬‬
‫هكــذا دعاهــا‪ ،‬الطــرف األقــى لــأرض؛ عــا ُمل أرواح املــوىت والغربــان‪.‬‬
‫ـى نصــف عمــره هنــا‪.‬‬ ‫لقــد قـ ّ‬
‫مل يسمح يل بأن أدفع مثن الشاي‪.‬‬

‫‪342‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫«حــاول أن تعــود مبكــراً‪ .‬ســأراك هنــا»‪ .‬تــردد لحظــة قبــل أن‬


‫يضيــف‪« :‬وأبلغــه احرتامــايت أيضــاً»‪.‬‬
‫«مل ال ترافقنــي؟ ســيكون ســعيداً لرؤيــاك»‪ .‬مل أكــن أرغــب بالذهــاب‬
‫وحــدي هذه املـ ّـرة‪.‬‬
‫فوجــئ عــى حــن غـ ّـرة‪« .‬ال‪ ،‬ال»‪ ،‬قــال متملص ـاً «بإمــكاين أن أراه‬
‫دوم ـاً فيــا بعــد‪ .‬أمــا بالنســبة لــك فقــد تكــون هــذه هــي الفرصــة‬
‫األخــرة»‪.‬‬
‫بعد ذلك‪ ،‬انرصف فجأة واختفى يف السوق‪.‬‬
‫٭٭٭‬

‫كان الطريــق الصاعــد موح ـاً‪ ،‬ورذاذ خفيــف بــدأ بالتســاقط‪ .‬ومــع‬
‫أن الوقــت كان منتصــف اليــوم‪ ،‬لكــن العتمــة كانــت تنســدل بالتدريــج‪.‬‬
‫كنــت‬
‫نــرت املظلــة فــوق رأيس وواصلــت الســر بخطــى طويلــة‪ُ .‬‬
‫ألهــث عندمــا وصلــت إىل الــدرج الحجــري الــذي يقــود إىل املعبــد‪.‬‬ ‫ُ‬
‫شــعرت برغبــة يف الجلــوس يك أســتعيد أنفــايس؛ ليــس مناســباً أن أباغتــه‬
‫الهثـاً متعرقـاً‪ .‬ومــن جهــة ثانيــة‪ ،‬مــا إن أصــل عنــده حتــى ينبغــي يل أن‬
‫أغــادر ولــن أمتكــن مــن البقــاء معــه طويـاً‪ ،‬إذ يجــب أن أعــود وألحــق‬
‫ـراً لبضــع دقائــق‪.‬‬‫بحافلــة الســاعة السادســة‪ .‬كنــت متحـ ِّ‬
‫تحــت الطريــق كان مثــة كــوخ ريفــي جميــل لقضــاء العطلــة‬
‫ـف مــى؛‬ ‫ال بــد أنــه هنــاك منــذ أيــام اإلنكليــز‪ ..‬أثـ ٌـر مــن عــامل أليـ ٍ‬
‫مواقــد مشــتعلة‪ ،‬وضحــكات جــذىل للصبايــا يف ممراتــه‪ ،‬وموســيقى‬
‫تصــدح مــن املذيــاع‪ .‬يتطلــب األمــر جهــداً يك يســتوعب املــرء أنــه هنــا‬
‫يف هــذه املناطــق النائيــة عــاش أنــاس عاديــون ســعداء ال شــأن لهــم‬
‫بالصومعــة املنعزلــة ألخــي الناســك الزاهــد أو بالوحشــة التــي يعيشــها‬

‫‪343‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫معلّــم املدرســة‪ .‬وأنــا أيضــاً‪ ،‬أمضيــت ضمــن أربعــة جــدران وثــرة‬


‫مامثلــة األربعــن عامـاً مــن حيــايت‪ .‬لكــن‪ ،‬مــن هنــا مــن هــذه املرتفعات‬
‫الضبابيــة بــدا فجــأة أن مــا هــو مألــوف ومعــروف يغــوص يف الالواقــع‪..‬‬
‫ي للحظـ ٍة الخــوف‪ :‬مــا الــذي‬ ‫ثـ ّـم‪ ،‬ومــن دون إنــذار مســبق اســتحوذ عـ ّ‬
‫كان ســيحدث يل لــو أنــه يف لحظــة اضطـراب انقلــب عاملــي رأسـاً عــى‬
‫ـي الهزيلــن مثــل‬ ‫عقــب؟ رمبــا كنــت ســأتخبط يف الظلمــة عبثـاً‪ ،‬بجناحـ ّ‬
‫حــرة التقطــت مــن غرفــة املعيشــة بــن اإلبهــام والســبابة ورميــت‬
‫خــارج النافــذة يف الليــل‪ ،‬غــر قــادرة أبــداً بعــد ذلــك عــى العثــور عــى‬
‫ـت قــادراً عــى‬‫طريــق الرجــوع‪ .‬لكــن‪ ،‬يــا للرحمــة‪ ،‬مـ ّـرت اللحظــة وكنـ ُ‬
‫أن أضحــك عــى نفــي‪ .‬وضعــت يــدي يف جيــب معطفــي وتلمســت‬
‫دفــر حســايب املــريف؛ وتلمســت الشــال حــول عنقــي الــذي أهدتــه‬
‫يل زوجتــي يف الذكــرى الســنوية املاضيــة لزواجنــا؛ احتــوت حقيبــة‬
‫ســفري الجلديــة صــور طفـيَّ؛ كنــت رشيــكاً يف ملكيــة بيــت يف دلهــي؛‬
‫ولــدي كتــب تحمــل أغلفتهــا اســمي؛ براهــن صلبــة ال جــدال فيهــا‬ ‫ّ‬
‫عــى وجــودي الدنيــوي‪ .‬ولــدت قبــل أربعــن عام ـاً‪ ،‬وتــري ّيف نســمة‬
‫الحيــاة بــا انقطــاع‪ .‬بــدا مســتحي ًال أن تخوننــي اآلن وتدعنــي أتحــول إىل‬
‫ـث‪ .‬هرولــت نحــو صومعــة أخــي ســعيداً بــأن الحافلــة ســوف‬ ‫مجــرد عـ ّ‬
‫ترجعنــي بعــد بضــع ســاعات إىل عاملــي‪.‬‬
‫ركضــت تقريبــاً‬
‫ُ‬ ‫تنهــدت بارتيــاح عندمــا الحــت صومعــة أخــي‪.‬‬
‫صاعــداً فــوق الدرجــات الحجريــة الثــاث‪ .‬ملــع الضــوء الشــاحب‬
‫ـق يف البــاب‪ .‬ومــا إن هيــأت نفــي لتحريــك سلســلة‬ ‫للمصبــاح عــر شـ ٍٍّ‬
‫البــاب حتــى ســمعت صوتــه‪ ،‬وبــدا كأنــه يصــي أو يتحدث إىل نفســه أو‬
‫حمــى قويــة‪ .‬نظــرت عــر الشــق ورأيتــه‬ ‫يتمتــم نامئـاً أو أنــه يف غيبوبــة ّ‬
‫واقف ـاً تحــت فتحــة التهويــة‪.‬‬

‫‪344‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫حتــى اليــوم‪ ،‬ال أســتطيع نســيان ذلــك املشــهد؛ مــع أن كلمة مشــهد‬
‫رمبــا ال تصلــح لوصــف ذلــك‪ .‬الشــخص الــذي رأيتــه عــر الشــق مل يكــن‬
‫الناســك ‪-‬مهرطقـاً أم ال‪ -‬ومل يكــن أخــي الــذي أعرفــه‪ .‬غائبـاً متامـاً عــاّ‬
‫وقفــت‬
‫ُ‬ ‫حولــه‪ ،‬كان يتحــدث إىل نفســه ويضحــك يف الوقــت نفســه‪.‬‬
‫متلــؤين الرهبــة‪ ،‬عاجـزاً ملتصقـاً بالبــاب‪ ،‬ممزقـاً مــا بــن الخــوف وصــات‬
‫ـزء منــي كان يدفعنــي بتهــور يك أمــي‬ ‫وإن جـ ٌ‬
‫املحبــة القدميــة‪ ،‬حتــى ْ‬
‫ألتشــبث بــه‪ ،‬أرصخ بوجهــه يف حــر ٍة حــول مــا كان يقــوم بــه‪ ،‬وإىل مــن‬
‫كان يتحــدث‪ ،‬وعــى مــاذا كان يضحــك!!‬
‫يقولــون‪ ،‬عندمــا تصمــت الــروح يتكلــم الجســد؛ يهــدر الــدم يف‬
‫الصمــت املميــت ونســمع قلبنــا يخفــق‪ .‬حــدث مثــل هــذا يل أيض ـاً‪،‬‬
‫ال أتذكــر متــى يــدي بكامــل إرادتهــا حركــت السلســلة أو متــى هــو‬
‫فتــح البــاب‪ ،‬لك ّنــي أتذكــر متامـاً ملســة يــده عــى كتفــي وصــوت كلامتــه‬
‫يف أذين‪« :‬مــا الــذي ّأخــرك؟ إين أنتظــرك منــذ الصبــاح»‪.‬‬
‫ـج‬
‫كان صوتــه واقعيـاً جــداً‪ ،‬هادئـاً ورابــط الجــأش حتــى إن رأيس ارتـ ّ‬
‫إىل األعــى‪ .‬اندهشــت إذ رأيتــه يبتســم بصفاء‪.‬‬
‫هــل هــو الشــخص نفســه الــذي كان منــذ لحظــة يضحــك إىل نفســه‬
‫ويهــذي مثــل مجنون؟‬
‫«كأنــك‪ »..‬بــارشت بســؤاله‪ ،‬لكنــي غــرت رأيــي يف اللحظــة األخــرة‬
‫وتركــت الســؤال قبــل أن يتشــكل‪ .‬تأرجــح بــاب يف داخــي منغلــق‪ .‬يف‬
‫املــايض أيضـاً‪ ،‬أغلقــت أبوابـاً كثــرة ورايئ‪ ،‬لــن يضــر أن تزيــد واحــداً‪.‬‬
‫«تبدو يدك ساخنة»‪ ،‬قلت بدالً من ذلك «هل أنت بخري؟»‬
‫بلطــف وقــال كــا لــو أنــه مل يســمعني‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫أزاح يــده عــن كتفــي‬
‫الجــو بــارد جــداً يف الخــارج»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫«ادخــل‪.‬‬
‫ركنــت مظلتــه يف إحــدى الزوايــا‪ ،‬وخلعــت حــذايئ‪ .‬كان الجــو يف‬ ‫ُ‬

‫‪345‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫الداخــل بــارداً مثــل الخــارج‪ .‬ألقــى مصبــاح الناســك لطخــة صفـراء مــن‬
‫الضــوء يف الغرفــة العاريــة‪.‬‬
‫«أين كنت طوال هذا الوقت؟» سألني‪.‬‬
‫«ذهبت إىل موقف الحافالت يك أحجز مقعداً يف رحلة املساء»‪.‬‬
‫مل يقــل شــيئاً‪ .‬ويف دائــرة الضــوء الباهتــة‪ ،‬ال وجهــه الشــاحب‪،‬‬
‫وال لحيتــه الشــائبة‪ ،‬وال حاجبــاه األســودان الكثيفــان؛ ال يشء منهــا‬
‫ي كانــت فاتــرة‬‫الحــت عليــه أي رعشــة انفعــال‪ .‬نظرتــه التــي ألقاهــا عـ ّ‬
‫ال دافئــة وال بــاردة‪.‬‬
‫«مــررت يف جولتــي الصباحيــة باالســراحة‪ .‬ســبق يل أن عرفــت‬
‫القيــم عليهــا‪ .‬ميكنــه أن يؤمــن لــك غرفــة إضافيــة»‪.‬‬ ‫ّ‬
‫«وما الفائدة من ذلك؟»‬
‫داعي لإلرساع يف العودة»‪.‬‬ ‫«ميكنك أن ترتاح بضعة أيام‪ .‬ال َ‬
‫حمــل صوتــه مجــرد قــدر ضئيــل مــن اإللحــاح وأثـراً باهتـاً لعاطفــة‬
‫بعيــدة‪ .‬ضبطُ ــه الظاهــري لنفســه جعلــه ينــوء تحــت وطــأة اهتاممــه‬
‫الفاتــر‪.‬‬
‫مكثت؟»‬
‫ُ‬ ‫«هل ستكون سعيداً إذا‬
‫بصوت مرتفع قليالً‪« :‬هل ستمكث ألجيل فقط؟»‬ ‫ٍ‬ ‫ضحك‬
‫أتيت إىل هنا فقط يك أراك»‪.‬‬ ‫«وهل يل أحد هنا غريك؟ ُ‬
‫«فكّرت أنك رمبا تو ّد قضاء بعض األيام هنا»‪.‬‬
‫«هل تريد مني ذلك؟»‬
‫يهــم»‪ .‬وصمــت‪ .‬ثــم أضــاف بتمهــل‪« :‬ملَ ال متنــح‬ ‫«مــا أريــده ال ّ‬
‫نفســك عطلــة؟»‬
‫مضيــت يف طريقــك‪.‬‬‫ُ‬ ‫«هنــاك يف املنــزل‪ ،‬قــد يظنــون أين أيضــاً‬
‫أال يكفي َس ِّنيايس واحد يف األرسة؟»‬

‫‪346‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫«هــل يعتقــدون حقــاً أننــي َســ ِّنيايس؟» وابتســم «أعيــش هنــا‬


‫بالطريقــة نفســها التــي عشــتها هنــاك‪ .‬مثــة تغيــر يف األمكنــة فحســب»‪.‬‬
‫«هــل هــذا كل مــا يف األمــر؟ أتعتقــد أن ال يشء آخــر قــد تغــر‪.‬‬
‫وأنــك أنــت مل تتغــر؟»‬
‫ـرت؟ مــا الــذي تعتقــده؟» أظــن أننــي اســتبنت أثـراً مــن‬ ‫«هــل تغـ ُ‬
‫اللهــو يف عينيــه‪.‬‬
‫«مل أتخيل أبداً أنه ميكن أن أراك من جديد يف هذه الحياة»‪.‬‬
‫«يف هــذه الحيــاة؟ مــا الــذي تعنيــه؟» ونظــر إ ّيل بذهــول «وهــل‬
‫هنــاك حيــاة أخــرى غــر هــذه؟»‬
‫ـن تحديقته‬ ‫رمقتــه بنظــرة فاحصــة حــذرة‪ :‬هــل كان يلهــو معــي؟ لكـ ّ‬
‫كانــت جازمــة ثابتــة ومثــة حــزن يف صوته‪.‬‬
‫«إذا كنــا نعيــش حيــاة واحــدة فقــط‪ ،‬والعيــش هنــا ال يختلــف عــاّ‬
‫كان هنــاك يف البيــت‪ ،‬فــا كانــت الغايــة إذن مــن‪ ..‬مــن تغيــرك لألمكنة؟»‬
‫«مثة غاية»‪ ،‬قال بتمهل «هناك‪ ،‬أنا مل أكن ُأ ُّ‬
‫هم أحداً»‪.‬‬
‫«وهنا؟»‬
‫يل أن آبه له لو هممته»‪.‬‬ ‫«هنا ليس مثة من ع َّ‬
‫«كيف ميكن أن‪ ..‬أن تتخىل عن أهلك؟»‬
‫رأســه‬
‫أطــرق مفكـراً‪ .‬تســلل ضــوء النهــار إىل الغرفــة الصغــرة‪ .‬تــرك َ‬
‫يســقط عــى صــدره حتــى مل تعــد تظهــر ســوى خصالت شــعره األشــيب‪.‬‬
‫والوجــه الــذي رأيتــه متغضنـاً مــن الضحــك منــذ برهــة وجيــزة كان اآلن‬
‫ظـ ًا راكــداً يف بركــة معتمــة‪.‬‬
‫«كل»‪ ،‬نطــق أخــراً‪« .‬ال ميكــن‪ .‬وهــذا مــا جعلنــي أكتــب إليــك‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ليــس مــن اإلنصــاف أن يتخــى املــرء عــن أنــاس أو أشــياء محدديــن يك‬
‫يصبــح َس ِّنياســياً»‪..‬‬

‫‪347‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫مــال بعيــداً عــن الجــدار‪ .‬كانــت عينــاه مغمضتــن‪ .‬تحــرك البــاب‬


‫مــع هبــة ريــح جرفــت أغصان ـاً وغبــاراً إىل الداخــل‪.‬‬
‫وألق نظرة فحسب‪ .‬انظر إىل هؤالء»‪ ،‬قال يل‪.‬‬ ‫«تعال ِ‬
‫ذهبــت وفتحــت البــاب أكــر‪ .‬كان مثــة ثالثــة أو أربعــة رجــال‬
‫يقفــون يف الخــارج وبصحبتهــم امرأتــان‪ .‬عندمــا رأوين تقــدم أحــد‬
‫الرجــال إىل األمــام يك يســأل إن كان بابــا يف الداخــل‪.‬‬
‫حتــى قبــل أن أبــادر بإجابتــه ســمعت صــوت أخــي مــن ورايئ‪« :‬من‬
‫فضلكــم‪ ،‬اجلســوا تحــت الشــجرة‪ .‬ســأكون معكم خــال لحظات»‪.‬‬
‫مــع ســاعهم لصوتــه‪ ،‬شــبك كل واحــد منهــم يديــه بتواضــع‪.‬‬
‫تنحيــت جانب ـاً يك أدع أخــي ميــر‪ .‬مــا إن هبــط إىل آخــر درجــة حتــى‬ ‫ّ‬
‫تقــدم الزائــرون واحــداً بعــد آخــر يك يلمســوا قدميــه‪ .‬كانــت أصغــر‬
‫االمرأتــن آخرهــا‪ ،‬شــابة جــداً تلبــس شــاالً أســود‪ .‬رفعــت برصهــا إىل‬
‫بابــا‪ ،‬ثـ ّـم ركعــت عــى ركبتيهــا وانحنــت حتــى المــس رأســها قدميــه‪.‬‬
‫ـت عــى هــذه الحالــة إىل مــا بــدا وقت ـاً طوي ـاً‪.‬‬ ‫بقيـ ْ‬
‫طــوال ذلــك كان أخــي يقــف ســاكناً‪ .‬مل ينطــق بــأي كلمــة‪ ،‬ومل ميــدد‬
‫يــده مـ ّـرة مبــاركاً‪.‬‬
‫أخـراً‪ ،‬التفــت نحــوي‪« .‬انتظــر يف الداخــل»‪ ،‬قــال يل‪« .‬لــن يســتغرق‬
‫األمــر كثـراً مــن الوقــت»‪ .‬بــدا مضطربـاً قليـاً‪ .‬راقبتــه بيشء مــن التربم‪.‬‬
‫هــل كان خجـ ًا منــي أمــام الزائريــن؟‬
‫رجعــت إىل الداخــل وخففــت وهــج املصبــاح حتــى أتيــح لضــوء‬
‫يشــع أكــر يف الغرفــة‪ .‬كان الزائــرون العابــرون‬ ‫ّ‬ ‫النهــار الرمــادي أن‬
‫يجلســون معــه عــى مصطبــة منخفضــة طليــت باألبيــض تحــت شــجرة‬
‫ـت إىل الداخــل شــذرات‬ ‫دلــب قامئــة هنــاك عــى أحــد الجوانــب‪ .‬وصلـ ْ‬
‫مــن أصواتهــم وهــم يتحدثــون إىل «بابــا» لكننــي مل أســمع أي ر ّد منــه‪.‬‬

‫‪348‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫وتذكــرت خج ـ ًا الســؤال الــذي طرحتــه عليــه بخصــوص تركــه األرسة‪.‬‬


‫لقــد تركنــا‪ ،‬ولكــن هــل ســيرتكه الغربــاء وشــأنه؟ مــا الــذي لديــه ليقدمه‬
‫لهــم؟ ملــاذا يواصلــون املجــيء عنــده؟ مــن املؤكــد أنهم يحظــون يف هذه‬
‫الزيــارات بــيء ال علــم يل بــه‪ .‬هــل كنــت أنظــر إىل غريــب يف هيئــة‬
‫أخــي‪ ،‬وأطــرح عليــه أســئلة ال أهميــة لهــا يف هــذا املــكان؟ تأرجحــت‬
‫ذكريــايت عائــدة إىل ســنوات عديــدة خلــت‪ ،‬إىل جــواليت عــى املشــارح‬
‫بحثـاً عنــه‪ .‬بــدا يل وكأين واحــد مــن أولئــك الكثرييــن الذيــن يصطفــون‬
‫أمــام املصطبــة يك يتلقــوا بركاتــه‪ ..‬يك يلقــوا عليــه نظــرة عــن قــرب‪.‬‬
‫لكــن كان ذلــك زمنـاً آخــر ومكانـاً آخــر؛ بــدالً مــن املنصــة‪ ،‬كانــت ألــواح‬
‫الثلــج التــي توضــع عليهــا الجثــث مثــل أســاك ميتــة‪ .‬عندمــا تلــكأت‬
‫قــرب األلــواح مفتشـاً عنــه‪ ،‬دفعنــي حــارس املرشحــة مــن الخلــف‪ .‬هيــا‪،‬‬
‫برسعــة‪ ،‬قــال بفظاظــة‪ :‬هنــاك آخــرون أيض ـاً ينبغــي لهــم أن يتعرفــوا‬
‫هيــا؟ أمواتهــم؟‪ ..‬النــاس اآلخــرون‪..‬‬ ‫عــى جثــث أمواتهــم‪ ،‬أرسع‪ ،‬تحــرك‪ّ ،‬‬
‫ـت طــوال الســنوات العــر التاليــة ُأزحـ ُـم وأدفــع و ُأنهــز بــا انقطــاع‪.‬‬ ‫كنـ ُ‬
‫ـت أننــي أســتلقي عــى لــوح بــارد عــى األرضيــة وهــو ينحنــي‬ ‫الحظـ ُ‬
‫فوقــي قلقـاً‪.‬‬
‫«تشويت!» كان يصيح يب‪.‬‬
‫ســمعته عــى نحــو خافــت وأبــرت املصبــاح الــذي يحملــه فوقــي‪.‬‬
‫مضــت عــر ســنوات منــذ أن نــاداين بذلــك االســم املحبــب‪ :‬تشــويت‪..‬‬
‫األخ الصغــر‪.‬‬
‫كنــت؟ هــل أنــا يف البيــت؟ حدقــت فيــه‬ ‫مروعــاً‪ .‬أيــن ُ‬ ‫نهضــت َّ‬
‫ي‪.‬‬
‫ــع َت ْ ِ‬
‫بعينــن ُم َّت َس َ‬
‫ـوت»‪ ،‬قــال بلطــف‪ .‬رأيتــه عــى نحــو أوضــح اآلن‪ ،‬ورأيــت‬ ‫«لقــد غفـ َ‬
‫دثــاره يغطينــي‪ ،‬دافئـاً بحـرارة جســدي‪.‬‬

‫‪349‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫«هل غادر أولئك الناس؟»‬


‫«غادروا منذ وقت طويل»‪.‬‬
‫«ما هذا الدثار؟ ال أذكر أنني‪..»..‬‬
‫ـوح‬
‫ـت رأيتــك ترتجــف كــا لــو أنــك تســتلقي عــى لـ ٍ‬ ‫«عندمــا دخلـ ُ‬
‫مــن الثلــج»‪ ،‬قــال مبتسـاً‪.‬‬
‫ـت مــن حلــم قديم‬ ‫ـوح مــن الثلــج‪ ،‬هــل كان ذلــك حقـاً؟ أفقـ ُ‬ ‫عــى لـ ٍ‬
‫ـوء أصفــر ذابــل انتــر عــر األرضيــة‪ .‬والشــمس‬ ‫دام عــر ســنني‪ .‬ضـ ٌ‬
‫الحــت مــن بــن الغيــوم‪ ،‬متأهبــة للغــروب عنــد األفــق‪ .‬وتألقــت قمــم‬
‫الجبــال تحــت شــمس األصيــل‪.‬‬
‫ـم ثانيــة برفــق بالـ ٍـغ مائـ ًا عـيَّ‪« :‬ابــق مســتلقياً‪ ،‬وارتــح قليـ ًا‬ ‫تك َّلـ َ‬
‫ســأع ّد لــك بعــض الشــاي»‪.‬‬
‫رأيتــه وابتســامة هادئــة عــى فمــه كــا لــو أنــه أيض ـاً صحــا للتـ ّـو‬
‫لــوح مــن الثلــج‪ ،‬لوحــه هــو‪ ،‬وخــرج إىل الضــوء حيــث‬ ‫مــن فــوق ٍ‬
‫ـايض‪ .‬ويف اللحظــة املتلبثــة‪ ،‬اعـراين شــعور بــأن نظــريت‬ ‫امتــزج حــارضه مبـ َّ‬
‫وصمتــه كانــا رضبـاً مــن التهيئــة‪ ،‬ألن هــذه اللحظــة اســتغرقت الصحراء‬
‫الخرســاء الشاســعة التــي امتــدت إىل املــايض؛ كانــت تهيئــة لكلينــا‪.‬‬
‫ولعــلّ هــذا هــو الســبب الوحيــد الــذي اســتدعاين ألجلــه‪ .‬أراد االنقطــاع‬
‫ع ّنــا‪ ،‬جميع ـاً‪ ،‬مـ ّـرة واحــدة أخــرة‪ ،‬انقطاع ـاً نهائي ـاً تام ـاً‪.‬‬
‫نهضــت ببــطء‪ ،‬طويــت دثــاره ووضعتــه يف الزاويــة‪ .‬مشــيت نحــو‬
‫البــاب‪ ،‬لبســت حــذايئ والتقطــت حقيبتــي‪ .‬تلفــت حــويل بحث ـاً عنــه‪.‬‬
‫كان يقــف هنــاك‪ ،‬واملصبــاح مــا زال يف يــده مــع أنــه ال لــزوم لــه عنــد‬
‫املدخــل‪.‬‬
‫«يجب أن أرحل»‪ ،‬قلت «اقرتب موعد الحافلة»‪.‬‬
‫نظــر إ َّيل بصمــت‪ .‬ثــم قــال بهــدوء‪« :‬انتظــر لحظــة‪ .‬ســأعود حــاالً»‪.‬‬

‫‪350‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫مــى إىل داخــل الجــزء الخلفــي ثـ َّـم عــاد ومحفظتــي يف يــده بــدالً مــن‬
‫املصبــاح‪.‬‬
‫«هــل ستســهو عــن هــذه مــرة أخــرى؟» قــال مبتســاً‪ ،‬وأعــاد‬
‫توقــف للحظــة‬
‫ٍ‬ ‫املحفظــة إيلّ‪« .‬لقــد أخــذت الرســائل»‪ ..‬ثــم بعــد‬
‫أضــاف‪« :‬ميكنــك أن تــرى أننــي وقعــت جميــع األوراق»‪.‬‬
‫رأيتــه يســتدير بهــدوء‪ .‬الشــمس تتخلــل أغصــان شــجرة الدلــب‬
‫ـت عنــد قدميــه يك أقــدم‬ ‫بجانــب صومعتــه وتســقط عنــد قدميــه‪ .‬انحنيـ ُ‬
‫لــه احرتامــي‪ ،‬شــعرت بيــده فــوق رأيس‪ ،‬أصابعــه متســح شــعري‪ ،‬وملســته‬
‫املتوقــدة ترســل موجــات الحـرارة عــر جســدي‪.‬‬
‫غصــن أســود كثيــف مــن‬ ‫ٌ‬ ‫رفعــت رأيس‪ .‬بــدت الصومعــة خاليــة‪.‬‬
‫ٍٍّ‬
‫متــدل عــر فتحــة التهويــة ألقــى ظــ ًا مديــداً يف‬ ‫الشــجرة املعمــرة‬
‫وصلــت إىل‬
‫ُ‬ ‫تســلقت بهــدوء قدميــه‪..‬‬
‫ْ‬ ‫الداخــل‪ .‬بقعــةٌ مــن الشــمس‬
‫نهايــة رحلتــي‪.‬‬
‫التقطت محفظتي وخرجت‪.‬‬
‫٭٭٭‬

‫هــذا كل يشء؛ حق ـاً‪ ،‬مل يبــق يشء ُليقــال‪ .‬الحق ـاً‪ ،‬بالطبــع‪ ،‬هبطــت‬
‫املشــجر‪ ،‬مغتســ ًا‬
‫َّ‬ ‫ســائراً عــى الطريــق متجهــاً نحــو ســفح الجبــل‬
‫ـمس تغــرب‪ .‬كان كل يشء يقــود إىل طريــق دلهــي وأصدقــايئ‪،‬‬ ‫ـج شـ ٍ‬‫بوهـ ِ‬
‫املتخيلــة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ومكتــب الصحيفــة‪ ،‬وأصائــل الصيــف الالفحــة وقصــي‬
‫أىت معلــم املدرســة وأغــوري بابــا لوداعــي عنــد موقــف الحافــات‪.‬‬
‫مبــرور الوقــت‪ ،‬املرتفعــات الضبابيــة حيــث التقيــت أخــي للمــرة‬
‫األخــرة‪ ،‬ومعلــم املدرســة وأغــوري بابــا‪ ،‬جميعهــم تقهقــروا يف ذاكــريت‪،‬‬
‫عــى الرغــم مــن أن كل يشء‪ ،‬يف بعــض األحيــان‪ ،‬كان يعــود عــى نحـ ٍو‬

‫‪351‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ـض‪ ..‬مع ّلــم املدرســة الــذي وقــف مبحــاذاة نافــذة الحافلــة ســألني‬ ‫ممـ ٍ‬
‫برصاحــة إن كانــت األمنيــة التــي جعلتنــي أكابــد عنــاء الرحلــة قــد‬
‫تحققــت‪ .‬وقبــل أن أمتكــن مــن التفكــر بــأي جــواب‪ ،‬انطلقــت الحافلــة‪.‬‬
‫ركــض مبوازاتهــا مســافة قصــرة ثــم غــاب‪ .‬عندمــا نظــرت مفتش ـاً عــن‬
‫أغــوري بابــا‪ ،‬رأيــت أنــه مل يتحــرك مــن مكانــه‪ ،‬لقــد اســتحوذ عليــه يشء‬
‫أكــر ســحراً يف الســاء فــوق رأســه؛ وقــف عالق ـاً يف موضعــه‪ ،‬محدق ـاً‬
‫إىل األعــى يف أرساب الغربــان فــوق قمــم األشــجار‪ ،‬كانــت تــدور يف‬
‫الهــواء هنــاك فــوق غابــة الصنوبــر ومعبــد الواحــد األبــدي‪ ،‬وتتجمــع يف‬
‫العتمــة الصاخبــة لســا ٍء مكفهــرة‪.‬‬

‫ترجمها من اللغة األم (الهندية) إىل اإلنكليزية ‪Kuldip Singh‬‬


‫٭٭٭‬

‫‪352‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫أماسا‬
‫ديفانورو ماهاديفا‬
‫أماســا هــو اســم أماســا‪ .‬رمبــا التصــق بــه اســم أماســا بســبب ســواد‬
‫ـوم مــن الشــهر القمــري (أَ َمڤازيــا)‪ .‬لــو‬
‫برشتــه أو ألنــه ولــد يف أول يـ ٍ‬
‫أن والديــه عــى قيــد الحيــاة لعرفنــا ســبب التســمية‪ .‬لكنــه مــا إن بــدأ‬
‫يحبــو حتــى نــادى القــدر أمــه التــي ولدتــه وأبــاه الــذي أنجبــه ك ًال عــى‬
‫حــدة إىل مصــره‪ .‬منــذ ذلــك الحــن ومعبــد مــاري يعنــي أماســا وأماســا‬
‫يعنــي معبــد مــاري‪ .‬لكــن مجــرد اإلقامــة يف معبــد مــاري ال تعنــي أنــه‬
‫يتيــم‪ .‬فطاملــا كان املعبــد مــأوى لكثرييــن مــن أمثالــه‪ .‬ففــي الصيــف‬
‫خصوصـاً‪ ،‬يغــدو املعبــد الصغــر دومـاً مخيـ ًا للنــاس الذيــن يســتظلون‬
‫مــن الحــر‪ .‬ولكــن‪ ،‬عــدا عــن أماســا‪ ،‬مثــة رجــل عجــوز يعيــش هنــاك‪.‬‬
‫رجــلٌ موغــل يف العمــر لدرجــة أن كل شــعرة يف رأســه وجســمه وأوصاله‬
‫قــد شــابت‪ .‬مل يحــدث حتــى اآلن أن رآه أحــد ينهــض مــن مكانــه الــذي‬
‫يجلــس فيــه عــادة‪ .‬يف إحــدى زوايــا املعبــد‪ ،‬مثــة بطانيــة مفروشــة‬
‫ســوداء باليــة ال أحــد يعــرف كــم هــي قدميــة‪ .‬كان يجلــس عليهــا دومـاً‪،‬‬
‫قدمــاه ممددتــان أمامــه‪ ،‬أو تســتندان عــى دعامــة‪ ،‬أو واضع ـاً يديــه‬
‫وراء ظهــره‪ .‬وفيــا عــدا هــذه األوضــاع الثالثــة أو األربعــة‪ ،‬ال يبــدو أنــه‬
‫يعــرف أي جلســة ُأخــرى‪ .‬بطريقــة مــا‪ ،‬اعتــاد هــذه الجلســة وعينــاه‬

‫‪353‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫نصــف مغمضتــن‪ .‬ومل يجلــس أبــداً بطريقــة أخــرى‪ .‬تجعلــه هــذه‬


‫الجلســة يبــدو غارقـاً يف التفكــر‪ .‬أو رمبــا ذلــك عائــد إىل وجهــه املغضــن‬
‫وشــاربه األبيــض الثخــن مثــل ذراع‪ ،‬والــذي ينســدل مــن وجهــه الــذاوي‬
‫فــوق رقبتــه‪ .‬عمومـاً‪ ،‬يبــدو مســتغرقاً يف التفكــر‪ .‬إىل جانبــه عصــا مــن‬
‫الخيــزران بطــول رجــل‪ .‬ومــع أنــه ال يســتعملها كث ـراً ألن أماســا دوم ـاً‬
‫يف الجــوار عندمــا يحتــاج إىل التنقــل‪ ،‬لكنــه يلتقطهــا ليطــرد الدجاجــات‬
‫واألغنــام والعن ـزات الصغ ـرات التــي تتجــول قريبـاً منــه‪.‬‬
‫تحدثنــا عــن كل هــذا ومل نخربكــم اســمه‪ .‬كل مــن يف القريــة‪ ،‬مــن‬
‫صغريهــا إىل كبريهــا‪ ،‬ينادونــه كوريايــا‪ ،‬كوريايــا (راعــي الغنــم)‪ .‬هــل‬
‫ـن املؤكــد أنــه‬
‫ســمي هكــذا منــذ مولــده؟ هــذا ال يهمكــم وال يهمنــا‪ .‬لكـ ّ‬
‫ظــل يرعــى غنــم زعيــم القريــة مــن اليــوم الــذي اســتطاع فيــه الوقــوف‬
‫عــى قدميــه إىل اليــوم الــذي مل يعــد يســتطيع املــي عليهــا‪ .‬وإىل‬
‫اآلن‪ ،‬وهــو الجالــس بعينــن نصــف مغمضتــن‪ ،‬مــا زال ُيحــي لنفســه‬
‫الغنــات واحــدة واحــدة عــى أصابعــه‪ .‬يكــرر هــذا األمــر ســت أو ســبع‬
‫مـرات يف اليــوم‪ .‬مل ينــس ذلــك يومـاً واحــداً‪ .‬ترعــرع أماســا أمــام عينيــه‬
‫ـاد‬
‫ويف كنفــه وبلــغ اآلن العــارشة أو الحاديــة عــرة مــن عمــره‪ .‬مــا إن ينـ ِ‬
‫كوريايــا حتــى يجيبــه أماســا‪ .‬ينتظــر كوريايــا وأماســا رنــن جــرس الديــر‬
‫بتــوق كلــا حــلّ املســاء عــى القريــة‪ .‬ويف اللحظــة التــي يــرن فيهــا‪،‬‬
‫يقبــض أماســا عــى الصحــن والــكأس اللذيــن يحتفــظ كوريايــا بهــا‬
‫بجانبــه ثــم يركــض‪ .‬ومبــا أن املســاء يكــون قــد حــلّ للتــو‪ ،‬فلــن تســتطيع‬
‫أن تــرى أماســا عندمــا يجــري يف ســواد العتمــة‪ .‬لكــن‪ ،‬إذا أمعنــت‬
‫الحـ ْـري‪ ،‬فســرى العتمــة ذاتهــا تتحــرك مــن خــال‬ ‫النظــر خــال الليــل ِ‬
‫جريــه‪ .‬ال يعــرف املــرء كــم غــاب‪ ،‬فقــط عندمــا ينــادى أيايــا بشــكل‬
‫يهــز الليــل تعــرف أنــه قــد رجــع‪ .‬يجلــس كوريايــا إذا كان مســتلقياً‪،‬‬

‫‪354‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫ثــم يــأكالن كالعــادة ثريــد الديــر معــاً تحــت جنــح الظــام‪ .‬بعدهــا‬
‫يذهــب أماســا للنــوم‪ .‬وعــى الرغــم مــن أن القريــة تنــام أيضـاً يف هــذه‬
‫األثنــاء‪ ،‬فــإن نبــاح الــكالب ونعيــق البــوم يخرتقــان صمــت الليــل بــن‬
‫الفينــة واألخــرى‪ .‬يحــدق الرجــل الهــرم العاجــز عــن النــوم يف الليــل‪،‬‬
‫يتمتــم أشــياء لنفســه‪ ،‬ينــادي أماســا عــدة مـرات‪ ،‬وإذ ال يلقــى جوابـاً‪،‬‬
‫يخلــد للنــوم آخــر األمــر‪.‬‬
‫٭٭٭‬

‫كــا ُيعقــد مهرجــان مــاري يف جميــع القــرى املجــاورة مرة يف الســنة‪،‬‬


‫كذلــك يحــدث يف قريــة أماســا‪ .‬يف أثنــاء ذلــك وحســب‪ ،‬ينتقــل كوريايــا‬
‫إىل موضــع آخــر‪ ،‬ألن أهــل القريــة ينظفــون املعبــد ويطلونــه بالكلــس‬
‫األبيــض وال ـراب األحمــر‪ ،‬بحيــث يصبــح بــارزاً للعيــان‪ .‬ومــا إن يتــم‬
‫ذلــك حتــى تغــدو كل الجوانــب مخططــة باللونــن األبيــض واألحمــر‬
‫فــإذا ســقطت شــمس الصبــاح عليهــا شــع معبــد مــاري بربيــق إضــايف‪.‬‬
‫لكــن زاويــة كوريايــا‪ ،‬وعــى الرغــم مــن إحاطتهــا بــكل هــذا اللمعــان‪،‬‬
‫تبــدو أكــر اكتئابــاً‪ .‬ويف البهــو‪ ،‬يتنقــل بعــض الرجــال جيئــة وذهابــاً‬
‫منشــغلني بتجهيــز املشــاعل وقــص الــورق امللــون لتزيــن الســاحة‬
‫وأشــياء كثــرة غريهــا‪ .‬ومبــا أن الجميــع تقريب ـاً يرتــدون ألبســة بيضــاء‬
‫جديــدة يتوهــج املعبــد بالبيــاض‪ .‬حتــى باســا ّنا الرجــل األســود القصــر‬
‫املتباهــي بشــاربه الفرنــي‪ ،‬كان يلبــس زيـاً أبيــض جديــداً‪ ،‬ومــع ذلــك‬
‫يــزداد ســواده ملعانـاً وتــرز أســنانه الصفـراء الكبــرة مــن فمــه املغلــق‬
‫وتعكــس ملعــان مالبســه‪ .‬كان باســانا يحمــل مقشــة بيــده وتقــدم نحــو‬
‫زاويــة كوريايــا ويــرخ «أيايــا»‪ .‬وألن كوريايــا ال يجيــب إال بعــد أن‬
‫ُيكلمــوه عــدة مـرات‪ ،‬فقــد اعتــاد الجميــع عــى التحــدث معــه بصــوت‬

‫‪355‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫مرتفــع‪ .‬يفتــح عينيــه ببــطء وينظــر ليشــاهد األشــكال البيضــاء تــأيت‬


‫وتــؤوب أمــام ناظريــه‪ .‬يف هــذا الجــو‪ ،‬تطفــو ذكرياتــه القدميــة وتبــدأ‬
‫بالتشــكل أمامــه‪ .‬كان مهرجــان مــاري يعنــي رقصــة النمــر بالنســبة‬
‫لــه‪ .‬يرقــص النمــر أمــام عينيــه وصــوت الطبلــة يــرن يف أذنيــه‪ .‬تلــك‬
‫كانــت أيــام زعيــم القريــة الكبــر‪ .‬آنــذاك‪ ،‬كان كوريايــا طف ـ ًا قامتــه‬
‫بطــول أماســا‪ .‬أثــرت رقصــة كوريايــا الحامســية يف الزعيــم الكبــر فأعطاه‬
‫هديــة مــن األلبســة ومــن ثــم قــال‪« :‬ابــق يف بيتــي وســتحصل عــى‬
‫الطعــام والكســاء حتــى آخــر حياتــك‪ .‬كل مــا هــو مطلــوب منــك أن‬
‫تعتنــي بالغنــم فحســب»‪ .‬كان وجهــه املتغضــن يــرق ويتألــق يف كل‬
‫غضــن فيــه بريــق معبــد مــاري والنــاس املحيطــن بــه‪ .‬رصخ باســانا‬
‫عــال هــذه املــرة «أيايــا»‪ .‬أدار وجهــه ونظــر نحــو‬
‫يف أذنيــه بصــوت ٍ‬
‫األعــى ورأى باســانا وأدرك ســبب حضــوره‪ .‬مــ ّد يــده اليــرى بينــا‬
‫عصــا الخيــزران يف يــده اليمنــى‪ .‬أمســك بســانا بيــده‪ ،‬فنهــض ومــى‬
‫بطيئ ـاً إىل الزاويــة األخــرى واســتعان بالعصــا لتســاعده عــى الجلــوس‪.‬‬
‫نفــض باســانا البطانيــة مرتــن وبســطها يف الزاويــة حيــث كان كوريايــا‬
‫قــد جلــس للتــو‪ .‬ســبح الغبــار املنفــوض مــن البطانيــة يف أشــعة شــمس‬
‫الصبــاح‪ .‬أمــا حيــث كانــت البطانيــة مفروشــة مــن قبــل‪ ،‬فقــد ظهــرت‬
‫طبقــة كثيفــة مــن الغبــار األحمــر وال ـراب‪ ،‬لكنهــا بــدت بيضــاء أيض ـاً‬
‫بعــد أن ســقطت عليهــا شــمس الصبــاح‪.‬‬
‫٭٭٭‬

‫كان الوقــت ظهـراً عندمــا رجــع أماســا من جــوالت اللعــب‪ .‬مل يصدق‬
‫مــا رآه‪ .‬كان يجــري هنــاك كل مــا يخطــر بالبــال‪ .‬مــأت منخريــه رائحــة‬
‫الكلــس والرتبــة وروث البقــر اللــزج الطــري حــول معبــد مــاري‪ُ .‬نقــل‬

‫‪356‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫كوريايــا مــن زاويــة إىل أخــرى‪ .‬تح ّلــق بعــض الرجــال يف البهــو وأخــذوا‬
‫يقفــزون نحــو األعــى عــى رؤوس أصابعهــم ناظريــن إىل يشء مــا‪ .‬يف‬
‫الوســط‪ ،‬كان هنــاك رجــل يفعــل شــيئاً مــا‪ .‬وثــب أماســا نحــو األعــى‬
‫وأخــذ يختلــس النظــر‪ .‬رأى أكاليــل وعصافــر برأســن وأشــياء أخــرى‬
‫ُتصنــع مــن أوراق فضيــة ملّونــة‪ .‬كل مــا ُصنــع هنــاك بــدا عجيبـاً أمــام‬
‫عينيــه‪ .‬وبينــا كان الرجــل يف الوســط يصنــع هــذه األشــياء‪ ،‬كان النــاس‬
‫املحتشــدون ُيشــرون عليــه ويعـ ّـرون عــن إعجابهــم كل بــدوره‪« :‬يجــب‬
‫ـي!‬‫أن يكــون عــى هــذا النحــو‪ ..‬يجــب أن يكــون عــى هــذا النحــو‪ِ ..‬هـ ْ‬
‫هــا!» وهكــذا‪ .‬وبعــد أن مــأ عينيــه بــكل مــا اســتطاع‪ ،‬تقــدم أماســا‬
‫نحــو كوريايــا وجلــس بجانبــه‪ .‬هنــاك كانــت بعــض املظــات واملكانــس‬
‫الكبــرة الحم ـراء والبيضــاء املخصصــة للمعبــد قــد نــرت لتجــف يف‬
‫الشــمس عــى شــكل صــف يف الجانــب اآلخــر‪ .‬ويف زاويــة قريبــة‪ ،‬كانــت‬
‫شــجرة جــوز هنــد باســقة تتاميــل صــوب الســاء بلطــف‪ .‬اتجهــت عينــا‬
‫أماســا نحــو قمــة الشــجرة حيــث ســبعة أو مثانيــة عناقيــد كبــرة مــن‬
‫حباتهــا قــد أثقلتهــا نحــو األســفل‪ .‬وعندمــا نــزل بناظريــه الحــظ أن‬ ‫ّ‬
‫أحدهــم قــد صبــغ ســاقها عــى شــكل خطــوط كلســية بيضــاء وتربــة‬
‫حمـراء‪ .‬اقــرب مــن كوريايــا ونــادى‪« :‬أيايــا»‪ .‬نظــر كوريايــا نحــوه كأنــه‬
‫يقــول «مــا هــذا؟» أجــاب أماســا بدهشــة «انظــر‪ ،‬يــا أيايــا! انظــر!‬
‫أحدهــم صبــغ شــجرتك بالكلــس األبيــض واأللــوان»‪ .‬حــدق كوريايــا‬
‫بنظــر ٍة إىل األمــام إىل مســافة قصــرة فحســب‪ ،‬بعدهــا كان كل يشء‬
‫غارق ـاً يف الضبــاب‪ .‬لكــن مــا رآه هــو التــايل‪ :‬أحدهــم اســتخدم جــوزة‬
‫هنــد للســحر والشــعوذة إذ دفنهــا يف البقعــة املخصصــة إلحـراق جثــث‬
‫املــوىت‪ .‬نبتــت الشــجرة وشــقت األرض وبــرزت للوجــود‪ .‬قطفهــا مــن‬
‫هنــاك وزرعهــا يف زاويــة معبــد مــاري وهــو يقــول‪« :‬اتركوهــا هنــا يف‬

‫‪357‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫الزاويــة‪ ،‬مثــي أنــا»‪ .‬منــت الشــجرة أمــام ناظريــه وأَطْ لَعــت األوراق‬
‫التــي تظللهــم والنــدوب التــي حملــت الرباعــم واألوراق مــا تـزال عــى‬
‫جذعهــا‪َ .‬كـ ُـرت و َكـ ُـرت‪ ،‬اســتطالت واســتطالت‪ ،‬واآلن تنتصــب هنــاك‬
‫كاملــة النمــو‪.‬‬
‫٭٭٭‬

‫كان األصدقــاء واألقربــاء مــن الجــوار يتوافــدون إىل القريــة مبــرور‬


‫أيــام املهرجــان‪ .‬يــزورون أوالً معبــد مــاري كعادتهــم ثــم ينرصفــون إىل‬
‫مشــاغلهم‪ .‬قســم منهــم يهمــل كل يشء ويجلــس للرثثرة وحســب‪ُ .‬ت ْن َبش‬
‫كل الفضائــح القدميــة مــن القــرى املختلفــة وتــروى مــن جديــد‪ .‬كان‬
‫باســانا يف الســاحة يســخن جلــد الطبلــة فــوق نــار خفيفــة مــن القــش‬
‫وين ّغمهــا يف الوقــت الــذي كان يجــري كل ذلــك‪ .‬يتقافــز حولــه األطفــال‬
‫مثــل جيــش مــن القــردة ومــن بينهــم أماســا‪ .‬عندمــا رفــع الطبلــة إىل‬
‫ودق عليــه‪ ،‬صــدح صوتهــا يف جهــات القريــة األربــع‪ ،‬تشــاد‬ ‫صــدره ّ‬
‫تشــاد ناغونــا ناغونــا ناغونــا‪ .‬بــدأ األطفــال حولــه يرقصــون بعــد عجــزه‬
‫تحمــس باســانا أيضــاً وأخــذ يرقــص ضاربــاً طبلتــه‪:‬‬‫عــن مقاومتهــم‪ّ .‬‬
‫وانغــو‪ ،‬وانغــو‪ ،‬وانغــو‪ ،‬تشــويك‪ .‬رقــص األطفــال وهــم يتســاقطون أو‬
‫ـاض يف دق الطبلــة‪ .‬ال أحــد يعــرف مــن ع ّلــم أماســا‬
‫يتحــاذون وباســانا مـ ٍ‬
‫الرقــص ســوى الســاء‪ ،‬فقــد انهمــك فيــه أكــر مــن الجميــع؛ راقبــوه‬
‫مذهولــن حتــى النســوة اجتمعــن حولــه يحدقــن فيــه‪ .‬مل تســتطع‬
‫بنغــاري أن تــرف نظرهــا عــن أماســا إطالقـاً‪ .‬شــعرت وهــي تشــاهده‬
‫بشــهوة عميقــة داخلهــا لتحصــل عــى ولــد مــن صلبهــا بــن ذراعيهــا‪.‬‬
‫مــرت ســت أو ســبع ســنوات منــذ أن تزوجــت دون أن يثمــر زواجهــا‬
‫عــن ولــد حتــى اآلن‪ .‬طاملــا أغاظتهــا ســخرية النــاس منهــا بســبب ذلــك‬

‫‪358‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫حتــى إنهــا كانــت تضطــر للنــوم يف الخــارج أحيانـاً‪ .‬مل تكــن تســتطيع أن‬
‫للمعالجــن مثــن العــاج‪ ،‬فهــي وزوجهــا فق ـران للغايــة‪ .‬كانــت‬ ‫تدفــع ُ‬
‫يف الثالثينيــات مــن عمرهــا ولكنهــا تبــدو مثــل عــروس شــابة‪ .‬مل يكــن‬
‫الرجــال الذيــن يرونهــا يقــدرون عــى كبــح رغبتهــم فيهــا‪ ،‬حتــى ولــو‬
‫ـن األمــور‬ ‫للحظــة؛ تلــك كانــت معاناتهــا‪ .‬ومــع ذلــك مل يثمــر شــيئاً‪ .‬لكـ ّ‬
‫ال ميكــن أن تجــري عــى هــذا النحــو لألبــد‪ .‬عــى مــدى فــرة طويلــة‪،‬‬
‫وعندمــا يحــل الليــل‪ ،‬صــارت الحجــارة تســقط عــى بيتهــا‪ ،‬واحــداً إثــر‬
‫آخــر‪ .‬فيكيــل زوجهــا اللكــات لهــا ويخفــي نفســه يف البيــت‪ .‬ثـ ّـم مــا‬
‫لبثــت الحجــارة أن توقفــت عــن الســقوط وبــدأ النــاس ينســون‪ .‬واآلن‪،‬‬
‫أمــام عينيهــا‪ ،‬كان أماســا يواصــل الرقــص‪.‬‬
‫٭٭٭‬

‫يف الوقــت الــذي كان يجــري فيــه كل هــذا املشــهد‪ ،‬كان مثــة ســيدان‬
‫مــن مــاك األرايض يجـران َج ْديــن ســمينني‪ .‬انشــقت الحشــود فــوراً إىل‬
‫نصفــن‪ ،‬وركــض الصبيــة هنــا وهنــاك‪ .‬أصيــب الجديــان بالذعــر بســبب‬
‫رضبــات الطبلــة وتراجعــا مســعورين‪ .‬وبينــا ترنــح الرجــال الذيــن‬
‫ميســكون بهــا‪ ،‬انضــم إليهــم اثنــان آخ ـران وقبضــوا عليهــا بإحــكام‬
‫وأوقفوهــا أمــام معبــد مــاري‪ .‬تتالــت رضبــات الطبلــة املســعورة‬
‫فتجمــد الجديــان وعيونهــا تحملــق هنــا وهنــاك‪ .‬انتصــب املعبــد‬
‫أمــام الجميــع ومتثــال اإللهــة الفــي يشــع عــر البــاب املفتــوح‪ .‬خــال‬
‫ذلــك‪ ،‬كانــت تنبعــث هبــات مــن دخــان البخــور‪ .‬ثــم‪ ،‬رجــلٌ يرتــدي‬
‫فقــط قطعــة صغــرة مــن القــاش تســره بــن خــره وركبتيــه خــرج‬
‫حامـ ًا املــاء املقــدس وإكليـ ًا مــن الزهــر يف يديــه‪ .‬وقــف أمــام الجديــن‬
‫وأغمــض عينيــه ثــم أخــذ يتمتــم‪ .‬كانــت األوردة املنتفخــة تــرز مــن‬

‫‪359‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫قــص إكليــل‬
‫جســده األســود وتنبــض مرتافقــة مــع متتامتــه‪ .‬عندئــذ‪ّ ،‬‬
‫الزهــر إىل قســمني وربطهــا حــول رقبتــي الجديــن ثــم نــر األزهــار‬
‫املتســاقطة عــى جبهتيهــا ورش املــاء املقــدس عــى جســديهام وهــو‬
‫ـاض‬ ‫يضــم يديــه للصــاة قائ ـاً‪« :‬إن ارتكبنــا أخطــاء‪ ،‬فأنــا أرجــوك‪ ،‬تغـ َ‬
‫عنهــا‪ ،‬أيتهــا األم‪ ،‬واقبــي هــذا منــا»‪ .‬تــردد صــدى صوتــه املرتعــش يف‬
‫أرجــاء املعبــد‪ .‬تحلــق النــاس جميع ـاً حــول املعبــد حابســن أنفاســهم‬
‫بســبب الجلبــة البعيــدة‪ .‬لــف الســكون كل يشء لوهلــة‪ ،‬مــا عــدا عيــون‬
‫الج ْديــان وارتفــع‬
‫الج ْديــن التــي بقيــت تــدور وتــدور‪ .‬فجــأة‪ ،‬ارتعــش َ‬ ‫َ‬
‫صــوت الطبلــة مــرة أخــرى وحجــب كل الضجيــج اآلخــر‪ .‬تقدمــت ثُلــة‬
‫األطفــال‪ ،‬ومــن بينهــم أماســا‪ ،‬ورشعــوا بالركــض خلــف الطبلــة‪ .‬حــاول‬
‫الكبــار إبعادهــم‪ ،‬لكــن األطفــال رجعــوا يف اللحظــة التــي أدار فيهــا‬
‫الكبــار ظهورهــم‪ .‬وصــل املوكــب إىل حقــل مفتــوح‪ .‬هنــاك‪ ،‬وقــف رجــل‬
‫قــوي البنيــة مســتنداً إىل َج ْدعــة شــجرة وســكني يف يــده‪ .‬مل يلحــظ أحـ ٌـد‬
‫األطفــال الذيــن احتشــدوا مــرة أخــرى ألن كل شــخص كان منشــغ ًال‬
‫بطريقــة مــا‪ .‬ويف الوقــت الــذي كان رجــان يقبضــان عــى الجديــن‬
‫مــن ســيقانهام الخلفيــة واألماميــة وميــددان الرقبتــن عــى الج ْدعــة‪،‬‬
‫أســقط الرجــل الســكني املســلولة وفصــل الرأســن عــن الجســدين‬
‫فمــي الرأســن‬‫برضبــة واحــدة‪ .‬صــب أحــد األشــخاص املــاء املقــدس يف َ‬
‫املقطوعــن فتجرعــا منــه مرتــن ثــم انغلقــا نهائيــاً‪ .‬وعــى الجانــب‬
‫اآلخــر‪ ،‬كان الجســدان يتلويــان‪ .‬بعــد ذلــك‪ ،‬اســتقر الرأســان ســاكنني‬
‫وجحظــت العيــون لألعــى وانبجــس الــدم مــن الجســدين املتلويــن‬
‫وهــا يــدوران ويشــبعان األرض بحمــرة دمهــا‪ .‬ارمتــى أحــد األشــخاص‬
‫يف الوســط وســحب إكليــي الزهــر مــن رقبتــي الجديــن اللذيــن يقطـران‬
‫ـف بهــذا‪ ،‬بــل زيــن بهــا رقبــة أماســا وقــال‪« :‬ارقــص!» وإذ‬ ‫دمـاً‪ .‬مل يكتـ ِ‬

‫‪360‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫خضــب الــدم حلقــه وبــدأ يقطــر‪ ،‬ذُعــر أماســا وركــض وتبعــه آخــرون‪.‬‬ ‫ّ‬
‫يــر حتــى يف نومــه ســوى هــذا املشــهد‪ .‬واســتيقظ مذعــوراً عــدة‬ ‫مل َ‬
‫مـرات تلــك الليلــة‪ .‬تركــوا املصابيــح مشــتعلة طــوال الليــل‪ .‬نــام الغربــاء‬
‫جميعـاً حــول املعبــد‪ ،‬كل واحـ ٍد متلفــع بشــاله األبيــض‪ .‬يف تلــك الليلــة‪،‬‬
‫توهــج معبــد مــاري بالضــوء‪.‬‬
‫٭٭٭‬

‫تلــك أيضـاً كانــت الليلــة التــي فعــل فيهــا ســي ّدابا‪ ،‬أحــد عــال معــر‬
‫ســكة الحديــد‪ ،‬أكــر مــا ينبغــي لــه‪ .‬قـ ِـدم وجوفــه مــيء باملُســكرات‪.‬‬
‫يف الواقــع‪ ،‬مل يكــن خطــؤه‪ ،‬فاملرشوبــات الروحيــة هــي التــي أوقــدت‬
‫الحــاس والغيــظ يف داخلــه تلــك الليلــة‪ .‬عندمــا كان يغمــض عينيــه‪،‬‬
‫كانــت تثــور عاصفــة يف داخلــه‪ .‬كان يرتنــح حــول نفســه مائ ـ ًا عــى‬
‫عصــاه يلــف الشــوارع بــا هــدف‪ .‬كلــا وصــل إىل أحــد أعمــدة‬
‫اإلنــارة يغضــب ويندفــع فجــأة نحــوه ثــم يرفســه ويرضبــه بعصــاه‪.‬‬
‫هــ ّز هيجا ُنــه الجــوار بالكامــل‪ .‬مل يقنــع بهــذا‪ ،‬بــل كان يجعــل مــن‬
‫الســيايس املحــي‪ ،‬أو املقــاول‪ ،‬أو رئيســه يف العمــل يف‬
‫َّ‬ ‫العمــود أيضــاً‬
‫الســكة الحديديــة‪ ،‬أو الدائــن ما ّدابــا‪ ،‬ليــرخ فيــه‪« :‬يــا ابــن الزنــا!‬
‫تحســب نفســك شــخصاً مهــاّ ً ملجــرد أن تتجــول بألبســة بيضــاء‪ُ .‬تخفــي‬
‫ـس وجودنــا نحــن املرشديــن‪ .‬إننــا نتكــئ عــى‬ ‫وجهــك كلــا رأيتنــي‪ .‬انـ َ‬
‫أي زاويــة يف الشــارع»‪ .‬ثـ ّـم أطلــق عوي ـ ًا طوي ـ ًا وبــى‪ .‬ومــا لبــث أن‬
‫ـاط أكــر‪« :‬ال تصــب جــام غضبــك عــي‪ .‬انظــروا إليــه يضحــك‬ ‫تابــع بنشـ ٍ‬
‫عــى كلــايت‪ ..‬اضحــك‪ ،‬اســخر‪ .‬إنــه زمانــك‪ ،‬اضحــك‪ .‬مــا الــذي تفعلــه‬
‫ســوى أن تضحــك؟ إنــك‪ ،‬بعــد كل هــذا‪ ،‬مــن يهتــم بالفقـراء‪ .‬اضحــك‪..‬‬
‫دع الشــيوعيني يأتــوا‪ .‬ســيضعون نهايــة لضحكتــك‪ .‬وحتــى يحــن ذلــك‪،‬‬ ‫ِ‬
‫‪361‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫عمــت ضحكاتــه ورصخاتــه‬ ‫ميكنــك أن تضحــك ضحــكاً كث ـراً كث ـراً»‪ّ ..‬‬


‫وأربكــت دروب القريــة وعــوت يف أرجــاء الليــل املظلــم البــارد‪ .‬كان‬
‫أماســا يســتيقظ فزعــاً بــن الحــن واآلخــر‪ .‬ال بــد أن املشــهد اســتمر‬
‫لفــرة طويلــة‪ .‬مل يعــرف أحــد متــى وأيــن بالضبــط ســقط ســي ّدابا آخــر‬
‫األمــر‪ .‬تالشــت وخمــدت ضحكاتــه ورصخاتــه‪.‬‬
‫٭٭٭‬

‫غصــت‬ ‫حــل الفجــر مــن جديــد وأمضــت القريــة الصبــاح تتثــاءب‪ّ .‬‬
‫رشفاتهــا بالنــاس‪ ،‬ومــع ذلــك‪ ،‬كان مثــة كثــرون مل ينهضــوا مــن نومهــم بعــد‪.‬‬
‫مثـاً‪ ،‬ســي ّدابا‪ .‬وعنــد الظهــرة وصــل راقصــو رقصــة النمــر إىل معبــد مــاري‪.‬‬
‫جــاء خــادم زعيــم القريــة وقــال‪« :‬يحتــاج بيــت الزعيــم إىل جــوز الهنــد»‪،‬‬
‫وقبــل أن يرحــب بــه كوريايــا‪ ،‬كان قــد تســلق الشــجرة وقطــف جــوز الهنــد‬
‫ورسحنهــا ثــم‬
‫وذهــب‪ .‬ويف البيــوت‪ ،‬مســحت النســاء شــعورهن بالزيــت ّ‬
‫وهرعــن هنــا وهنــاك‪ .‬أثــار الشــبان ُبدعاباتهــم الفتيــات‬ ‫ّزي ّنهــا بالزهــور‪ُ ،‬‬
‫العابـرات وتعرضــوا لتوبيخهــن‪ .‬جذبــت دقــات رقصــة النمر كل الســكان إىل‬
‫معبــد مــاري‪ ،‬وانتظــر الجميــع وصــول راقــي رقصــة النمــر بشــوق‪ .‬فجــأة‪،‬‬
‫فُتــح قفــص النمــر وحدقــت فيــه العيــون‪ .‬قفــز منــر ضخــم خارج ـاً منــه‬
‫يعــض ليمونــة بــن أســنانه‪ .‬تراجــع الجمهــور املذهــول إىل الــوراء وشــكل‬
‫حلقــة حولــه‪ .‬وظهــر للعيــان واحـ ٍد تلــو اآلخــر‪ ،‬ضبــع ومهــرج وبضعــة منــور‬
‫أخــرى‪ .‬وكان مثــة جــرو منـ ٍر بينهــا أيضـاً‪ .‬وبعــد أن خرجــوا جميعـاً‪ ،‬وقفــوا‬
‫تقبلــوا‬
‫عــى شــكل نســق يضمــون أيديهــم معـاً يف حالــة صــاة لإللهــة ثــم ّ‬
‫املــاء املقــدس‪ .‬بــدأت الرقصــة حــاالً بعــد ذلــك‪ .‬كان الضبــع أفضلهــم وكان‬
‫الــزي التنكــري الــذي يلبســه مالمئ ـاً متام ـاً‪ .‬هــل تتذكــرون الرجــل الــذي‬
‫كان يحمــل الســكني عنــد تقديــم األضحيــة البارحــة؟ لقــد كان هــو الرجــل‬

‫‪362‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫نفســه‪ .‬كانــت الحشــود تبتعــد عندمــا ميــي متجهـاً نحوهــم ُمن ِّغـ ًا خطــوه‬
‫مــع دقــة الطبلــة‪ .‬عندمــا وصــل موكــب الرقــص إىل الشــارع‪ ،‬تســلق األطفال‬
‫والنســاء امل ـراس وأخــذوا يراقبــون املشــهد وقلوبهــم يف أيديهــم‪ .‬مل يكــن‬
‫عــى الراقصــن إال أن يتجهــوا نحوهــم حتــى يندفعــوا إىل داخــل بيوتهــم‬
‫ويحكمــوا إغــاق األبــواب‪ .‬تابــع الراقصــون املســر داخــل الشــارع الــذي‬
‫فيــه بيــت اإلقطاعــي ورقصــوا يف ســاحة القريــة‪ .‬كل وجهــاء القريــة مبــا‬
‫فيهــم أفـراد الطبقــة العليــا‪ ،‬كالزعيــم والكاهــن‪ ،‬تجمعــوا ليشــاهدوا الرقص‪.‬‬
‫قدمــوا الهدايــا للراقصــن‪ ،‬تبعـاً ملكانتهــم االجتامعيــة وعـ ّـروا عــن إعجابهــم‪.‬‬
‫ظــل النــاس يف القريــة يشــاهدون الرقــص ويســمعون دقــات الطبلــة حتــى‬
‫وقــت متأخــر مــن الليــل‪ .‬أولئــك الذيــن أخلــدوا للنــوم وأطبقــوا أجفانهــم‪،‬‬
‫بــل وحتــى الرجــال الذيــن عـ ّـروا زوجاتهــم لي ـاً‪ ،‬كانــوا يتخيلــون رقصــة‬
‫النمــر ودقــات الطبلــة برفقتهــم دامئـاً‪ :‬دانغــو دانغــو دانغــو تشــويك‪ .‬خــرج‬
‫زعيــم القريــة إىل الرشفــة بعــد أن عجــز عــن النــوم‪ ،‬فــرآه خادمــه الــذي‬
‫كان ســاهراً فنهــض واقفـاً عــى قدميــه‪ .‬وضــع الزعيــم غليونــه بــن شــفتيه‬
‫وأشــعل عــود ثقــاب‪ .‬للحظ ـ ٍة‪ ،‬توهــج وجهــه محمـ ّـراً يف العتمــة وانطفــأ‪.‬‬
‫ـت‪ ،‬وبعــد قليــل‪ ،‬توجــه نحــو الخــادم قائـاً‪« :‬مــن‬ ‫ظــلّ يدخــن غليونــه بصمـ ٍ‬
‫ـب جــرو النمــر؟» «إنــه أماســا»‪ ،‬جــاء الجــواب «ومــن‬ ‫ذاك الولــد الــذي ال َعـ َ‬
‫يكــون أماســا؟» اســتفرس الزعيــم‪« .‬ذلــك هــو الولــد اليتيــم الــذي يعيــش‬
‫«أواه‪ ،‬متــى َكـ ُـر؟» وأمــام‬
‫مــع كوريايــا‪ .‬نعــم إنــه هــو»‪ُ .‬دهــش الزعيــم ّ‬
‫بحركاتهــا الكثــرة العجيبــة رقصـ ُة النمــر التــي يرقصهــا أماســا‪.‬‬
‫ِ‬ ‫عينيــه‪ ،‬مـ َّـر ْت‬

‫ادية) إىل اإلنكليزية ‪A. K. Ramanujan‬‬


‫ترجمها من اللغة األم (الك ّن ّ‬
‫و‪Manu Shetty‬‬
‫٭٭٭‬

‫‪363‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫‪364‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫الكتاب املساهمون‬
‫برميينــدرا ميــرا (اللغــة البنغاليــة) ‪Premendra 1988-1904‬‬
‫‪ Mitra‬نــر عــدداً مــن الروايــات منهــا‪ Kuyasha :‬و‪،Panchashar‬‬
‫ومجموعــة شــعرية ‪ Sagar Theker Phera‬نالــت جائــزة أكادمييــة‬
‫ســاهيتيا للعــام ‪ .1957‬كان أيضــاً مــن الكتــاب البارزيــن يف أدب‬
‫األطفــال‪.‬‬
‫أمريتــا بريتــام (اللغــة البنجابيــة) ‪Amrita 2005-1919‬‬
‫‪ Pritam‬نــرت مــا يزيــد عــى ســبعني كتاب ـاً يف الروايــة والقصــة‬
‫القصــرة‪ .‬نالــت جائــزة أكادمييــة ســاهيتيا للعــام ‪ ،1956‬ووســام‬
‫‪ Padma Shree‬الهنــدي الرفيــع تكرميـاً لهــا يف عــام ‪ُ .1969‬ر ِّشــحت‬
‫أيضــاً إىل جائــزة ‪ Rajya Sabha‬يف عــام ‪ .1986‬عاشــت يف دلهــي‬
‫وكانــت تحــرر مجلــة ‪ Nagmani‬البنجابيــة الشــهرية‪.‬‬
‫موكريجــي (اللغــة اإلنكليزيــة) ‪Bharati 2017- 1942‬‬ ‫بــارايت ِ‬
‫‪ Mukherji‬نــرت روايتــن ‪ ،Wife‬و‪،The Tiger's Daughter‬‬
‫وعملــن آخريــن غري روائيني هــا ‪،Days and Nights in Calcutta‬‬
‫و‪ ،The Sorrow and the Terror‬ومجموعــة قصصيــة قصــرة‬
‫‪ .Darkness‬فــازت مجموعتهــا القصصيــة ‪The Middleman And‬‬
‫‪ Other Stories‬بجائــزة النقــاد الوطنيــة األمريكيــة يف عــام ‪.1988‬‬

‫‪365‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫غا ْنغــا َدر غادجيــل (اللغــة املاراتيــة) ‪Gangadhar 2008-1923‬‬


‫‪ Gadgil‬نــر حــوايل خمســن كتاب ـاً يف مجــاالت الروايــة والقصــص‬
‫القصــرة وأدب الرحــات واملرسحيــات وأدب األطفــال‪ .‬تــرأس مؤمتــر‬
‫األدبــاء املاراتيــن لعمــوم الهنــد وكان عضــواً يف املجلــس التنفيــذي‬
‫ألكادمييــة ســاهيتا‪.‬‬
‫و‪ .‬ر أنانتــا مــوريت (اللغــة الك َّناديــة) ‪U. R. 2014-1942‬‬
‫‪ Anantha Murthy‬نــر عــدة روايــات ومجموعــات قصصيــة‬
‫حــول بعضهــا إىل أفــام ســينامئية حــازت جوائــز‪.‬‬ ‫ومرسحيــات‪ِّ ،‬‬
‫نالــت روايتــاه ‪ ،Smsakara‬و‪ Ghatashradaaha‬جائزتــن عامــي‬
‫‪ 1970‬و‪ ،1978‬عــى التــوايل‪ .‬كذلــك ُمنــح زمالــة هومــي بابــا للكتابــة‬
‫اإلبداعيــة يف عــام ‪ ،1972‬وجائــزة أكادمييــة ســاهيتيا يف واليــة‬
‫كارناتــاكا عــام ‪.1983‬‬
‫األوريســية) ‪1991- 1914‬‬‫ّ‬ ‫غوبينــات موهانتــي (اللغــة‬
‫‪ Gopinath Mohanty‬نــر أربعــاً وعرشيــن روايــة ومثــاين‬
‫مجموعــات قصصيــة‪ .‬نــال يف عــام ‪ 1952‬جائــزة أكادمييــة ســاهيتيا‬
‫عــن روايتــه ‪ ،Amrutura Santana‬وجائــزة جنانبيــث ‪Jnanpith‬‬
‫لعــام ‪ 1974‬عــن روايــة ‪ Matimatal‬ومنــح أيضــاً وســام ‪Padma‬‬
‫‪ Bhushan‬يف عــام ‪.1981‬‬
‫راجــا راو (اللغــة اإلنكليزيــة) ‪ Raja Rao 2006- 1909‬نــر‬
‫خمــس روايــات ومجموعتــن قصصيتــن‪ ،‬مــن بينهــا ‪Kanthapura‬‬
‫التــي حظيــت باهتــام نقــدي كبــر‪ .‬نــال جائــزة أكادمييــة ســاهيتيا‬
‫لعــام ‪ 1961‬عــن روايتــه ‪ ،The Serpent and the Rope‬وكذلــك‬
‫جائــزة ‪ Newstadt‬الدوليــة لــأدب‪.‬‬
‫التاميليــة) ‪S. Mani«1985- 1907‬‬ ‫ّ‬ ‫س‪ .‬مــاين «مــوين» (اللغــة‬

‫‪366‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫‪«Mowni‬نــر روايــة قصــرة وثالثــن قصــة قصــرة‪ .‬يعــد مــن أهــم‬


‫الك ّتــاب التاميــل املعارصيــن‪ُ .‬ترجمــت قصتــه ‪ transformation‬إىل‬
‫اللغــة الفرنســية ونــرت يف مجلــة ‪.litteratures De' Lindi‬‬
‫أنيتــا ديســاي (اللغــة اإلنكليزيــة) ‪ Anita Desai- 1937‬نــرت‬
‫أوىل رواياتهــا ‪ Cry the Peacock‬يف عــام ‪ .1963‬نــرت أيضـاً عــدة‬
‫ـينامئياً لروايتهــا ‪ .In Custody‬نالــت‬
‫َّ‬ ‫كتــب لألطفــال‪ ،‬وســيناريو سـ‬
‫جائــزة أكادمييــة ســاهيتيا لعــام ‪ 1977‬عــن روايتهــا ‪Fire on the‬‬
‫‪.Mountain‬‬
‫تشــونيالل ماديــا (اللغــة الغوجاراتيــة) ‪Chunilal 1968- 1922‬‬
‫‪ Madia‬نــر عــدداً مــن الروايــات واملجموعــات القصصيــة‬
‫واملرسحيــات‪ .‬بــدأ الكتابــة يف ســن مبكــرة ويعــد يف صــدارة ك ّتــاب‬
‫جيلــه يف واليــة غوجــارات‪ .‬نــال جوائــز عديــدة مــن حكمومــة‬
‫بومبــاي تقديــراً ألعاملــه األدبيــة‪.‬‬
‫املاراتيــة) ‪ P. S. Rege 1981- 1910‬ذاع‬ ‫ّ‬ ‫ب‪ .‬س‪ .‬ريجــي (اللغــة‬
‫صيتــه كشــاعر‪ ،‬وهــو مــن الشــخصيات البــارزة يف األدب املــارايت‬
‫الحديــث‪ .‬ظــل رئيسـاً لكليــة ‪ Elphistone‬يف بومبــاي لعدة ســنوات‪،‬‬
‫وارتبــط اســمه أيضـاً مبعهــد الدراســات املتقدمــة يف ســيمال عاصمــة‬
‫(ســڤيرتي) املنشــورة هنــا صــدرت‬ ‫واليــة هيامتشــال براديــش‪ .‬قصتــه َ‬
‫عــام ‪ 1962‬وتعــد مــن األعــال القصصيــة القليلــة التــي كتبهــا‪.‬‬
‫تاكازهــي سيفاســانكارا بيــاّ ي (اللغــة املاالياميــة) ‪1999- 1914‬‬
‫‪ Thakazhi Sivasankara Pillai‬نــر خمســن روايــة وعــدة‬
‫مجموعــات قصصيــة‪ .‬نــال عــام ‪ 1957‬جائــزة ســاهيتا األكادمييــة عــن‬
‫روايتــه ‪ ،Chemeen‬وجائــزة ‪ Vayalar‬عــن روايتــه ‪ Kayar‬يف عــام‬
‫‪ ،1978‬وجائــزة نهــرو لعمــوم األرايض الهنديــة عــام ‪.1975‬‬

‫‪367‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ماهاديفــي فريمــا (اللغــة الهنديــة) ‪Mahadevi 1987- 1907‬‬


‫‪ Verma‬نــرت حــوايل عرشيــن كتاب ـاً يف مجــاالت الروايــة والشــعر‬
‫والقصــة القصــرة ومذ ّكراتهــا‪ُ .‬منحــت زمالــة أكادمييــة ســاهيتيا‬
‫وجائــزة ‪ Mangla Prasad Paritoshik‬املتميــزة‪.‬‬
‫و‪ .‬ف‪ .‬فيجايــان (اللغــة املاالياميــة) ‪O. V. Vijayan- 1930‬‬
‫نــر باللغــة املالياالميــة ثــاث روايــات‪ ،‬وثــاث روايــات قصــرة‬
‫وخمــس مجموعــات قصصيــة‪ ،‬وعــدة كتــب تضــم مقــاالت سياســية‪.‬‬
‫ترجمــت عــدة أعــال لــه إىل اإلنكليزيــة منهــا‪ ،‬روايتــه ‪The Saga of‬‬
‫‪ ،Dharmapuri‬ومجموعتــه القصصيــة ‪After the Hanging and‬‬
‫‪.Other Stories‬‬
‫بيشــام ســاهني (اللغــة الهنديــة) ‪Bhisham 2003-1915‬‬
‫‪ Sahni‬نــر خمــس روايــات‪ ،‬ومثــاين مجموعــات قصصيــة‪ ،‬وثــاث‬
‫مرسحيــات طويلــة وســرة ذاتيــة عــن أخيــه املمثــل والكاتــب بالـراج‬
‫ســاهني‪ .‬نــال يف عــام ‪ 1974‬جائــزة الكاتــب املتميــز التــي متنحهــا‬
‫حكومــة البنجــاب‪ ،‬وجائــزة أكادمييــة ســاهيتيا يف عــام ‪ 1975‬عــن‬
‫روايتــه ‪ ،Tamas‬وجائــزة اللوتــس لرابطــة الكتــاب األفرو‪-‬آســيويني‬
‫عــام ‪ ،1981‬وجائــزة نهــرو لعمــوم الهنــد عــام ‪ ،1983‬وجائزتــن مــن‬
‫معهــد واليــة أتــر براديــش الهنديــة‪.‬‬
‫ســونيل غا ْنغو َب ْديايــا (اللغــة البنغاليــة) ‪Sunil 2012- 1934‬‬
‫‪ Gangopadhyay‬نــر عــدة روايــات وقصــص قصــرة‪ ،‬وقصائــد‪،‬‬
‫ومرسحيــات‪ ،‬وســيناريوهات‪ُ .‬ترجمت روايتــه ‪ Arjum‬إىل اإلنكليزية‪،‬‬
‫وحـ َّـول املخــرج ســاتيايت راي روايتــه ‪ Aranyer Din Ratri‬إىل فيلــم‬
‫ســيناميئ حظــي بتقديــر النقــاد‪.‬‬
‫نريمــال فريمــا (اللغــة الهنديــة) ‪Nirmal Verma 2005- 1929‬‬

‫‪368‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫نــر عــدة مجموعــات قصصيــة‪ ،‬ومقــاالت‪ ،‬وأدب الرحــات‪،‬‬


‫وروايــات منهــا ‪ Ve Din‬و‪ .Parinde‬يعـ ّـد مــن أكــر الكتــاب احرتامـاً‬
‫وارتبــط اســمه بحركــة ‪( Nai Kahani‬حركــة القصــة الجديــدة) يف‬
‫الخمســينيات‪.‬‬
‫ديفانــورو ماهاديفــا (اللغــة الك ّناديــة) ‪Devanuru - 1949‬‬
‫‪ Mahadeva‬نــر مجموعــة قصصيــة بعنــوان ‪ ،Devanooru‬وقصــة‬
‫حولــت إىل فيلــم ســيناميئ‪.‬‬‫مطولــة ‪ِّ Odalaala‬‬
‫قصــرة ّ‬

‫‪369‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫‪370‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫تعريف باملحررين‬
‫ســتيفن ألــر (‪ :)Stephen Alter‬كاتــب أمــريك ولــد وترعــرع يف‬
‫الهنــد حيــث كان يعمــل والــداه هنــاك‪ .‬أكمــل تعليمــه يف جامعــة‬
‫ويســليان‪ ،‬يف واليــة كونيكــت‪ .‬نــر أربــع روايــات حظيــت باهتــام‬
‫كبــر‪،Neglected Lives، Silk and Steel، The Godchild، Renuka :‬‬
‫واثنــن مــن األعــال غــر الروائيــة هــا‪،All the Way to Heaven :‬‬
‫وحــرر أيضــاً كتابــاً بعنــوان ‪Great Indian‬‬
‫َّ‬ ‫و‪.Amritsar to Lahore‬‬
‫درس يف جامعــة القاهــرة‪ .‬يعيــش يف‬ ‫‪ .Hunting Stories‬ســبق لــه أن ّ‬
‫ـدرس مــادة الكتابــة اإلبداعيــة‬
‫ماساتشوســتس مــع زوجتــه وولديــه ويـ ِّ‬
‫يف معهــد ماساتشوســتس‪.‬‬
‫فيــال ديســانايايك (‪ :)Wimal Dissanayake‬أســتاذ الدراســات‬
‫الثقافيــة يف جامعــة هونــغ كونــغ وزميــل مســاعد يف مركــز رشق ‪ -‬غــرب‬
‫يف هونولولــو‪ ،‬هــاواي‪ .‬حصــل عــى الدكتــوراه مــن جامعــة كامــردج‬
‫ونــر حــوايل ثالثــن كتابــاً يف مجــاالت األدب والســينام واالتصــال‪.‬‬
‫مذيــع حائــز عــى جوائــز‪ ،‬وشــاعر ورئيــس التحريــر املؤســس ملجلــة‬
‫‪.East-West Journal‬‬

‫‪371‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫‪372‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫المترجم في سطور‬

‫د‪ .‬معني رومية‬

‫• مواليد ‪ :‬سوريا – الالذقية – ‪.1965‬‬

‫املؤهالت العلمية‪:‬‬
‫• بكالوريوس يف الهندسة املدنية – جامعة ترشين – سورية – ‪.1989‬‬
‫• بكالوريوس يف الفلسفة – جامعة دمشق – سورية – ‪.1998‬‬
‫• ماجســتري يف الفلســفة – جامعة دمشــق ‪ ( 2005 -‬األطروحة بعنوان‪ :‬اإليكولوجيا من‬
‫منظور فلسفي)‪.‬‬
‫• دكتوراه يف الفلسفة ‪ -‬جامعة دمشق ‪( 2012 -‬األطروحة بعنوان‪ :‬أنطولوجيا العالقة بني‬
‫الحضارة واإليكولوجيا)‪.‬‬

‫من ترجامته‪:‬‬
‫• الفلســفة البيئية‪ :‬مــن حقوق الحيوان إىل اإليكولوجيا الجذريــة‪( ،‬أنثولوجيا يف جزأين)‬
‫تحرير‪ :‬مايكل زميرمان‪ ،‬سلسلة عامل املعرفة‪ ،‬الكويت‪ ،‬العددان ‪.2006 - 333 ،332‬‬
‫• مدخل إىل الفكر اإليكولوجي‪ ،‬مجموعة من املفكرين‪ ،‬وزارة الثقافة‪ ،‬دمشق‪.2007 ،‬‬
‫• شــبكة الحياة‪ :‬فهــم علمي جديد للمنظومــات الحية‪ ،‬فريتجوف كابــرا‪ ،‬الهيئة العامة‬
‫السورية للكتاب‪ ،‬دمشق‪.2008 ،‬‬
‫• الرؤية املنظوماتية للعامل‪ ،‬إرفني الشلو‪ ،‬الهيئة العامة السورية للكتاب‪ ،‬دمشق‪.2011 ،‬‬
‫• كيف تحل مســألة‪ :‬منحى جديــد يف الطريقة الرياضية‪ ،‬جورج بوليــا‪ ،‬املنظمة العربية‬
‫للرتجمة‪ ،‬بريوت ‪.2016‬‬
‫• قاموس العلوم االجتامعية‪ ،‬تحرير‪ :‬كريغ كالهون‪ ،‬وحدة ترجامن‪ ،‬بريوت‪ ،‬قيد النرش‪.‬‬

‫من مؤلفاته‪:‬‬
‫• من البيئة إىل الفلسفة‪ ،‬دار معابر للنرش‪ ،‬دمشق‪2011 ،‬‬
‫• إضافة إىل مقاالت ودراسات وترجامت عديدة يف املجالت الدورية العربية تتناول ميداين‬
‫الفلسفة البيئية وفلسفة العلم‪.‬‬

‫‪373‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫‪374‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫المراجع في سطور‬

‫د ‪ .‬أمري العزب‬

‫• مرصي الجنســية‪ ،‬أكادميي ومرتجم معتمد‪ .‬محارض اللغويات ودراسات الرتجمة‪ .‬حارض‬
‫يف العديــد من الجامعــات املختلفة كجامعتي قطــر والدمام وله ما يربــو عىل ‪ 30‬كتاباً‬
‫وقاموســاً يف مجال اللغويات والرتجمة‪ .‬ويعمل محك ًام دولياً لدراسات التداولية ولغويات‬
‫النــص بكندا ولنــدن والواليات املتحدة األمريكية‪ .‬وترأس قســم الرتجمة بصحيفة الرشق‬
‫الســعودية سابقاً‪ .‬وشــغل منصب مستشــار أكادميي بالجامعة اإللكرتونية سابقاً‪ .‬وعمل‬
‫مستشــاراً وعضواً باملركز العريب للدراسات اإلسرتاتيجية والسياسية واالقتصادية والرتجمة‪،‬‬
‫فض ًال عن كونه مرتج ًام فورياً يف العديد من املؤمترات الدولية وكاتباً صحفياً‪.‬‬

‫بعض من اإلنتاج العلمي واألديب (مؤلفات ومرتجامت)‪:‬‬


‫‪ - 1‬مصطلحات وتعبريات إسالمية شهرية «إنجليزي – عريب»‬
‫‪ - 2‬تعبريات صحفية يف لغة الصحافة «إنجليزي – عريب»‬
‫‪ - 3‬حكم وأمثال مشهورة «إنجليزي – عريب»‬
‫‪ - 4‬مصطلحات وتعبريات شهرية يف التنمية البرشية «إنجليزي – عريب»‬
‫‪ - 5‬اللغة االصطالحية للرسائل القصرية والدردشة عىل اإلنرتنت «إنجليزي – عريب»‬
‫‪ - 6‬قاموس املخترصات الشهرية «إنجليزي – عريب»‬
‫‪ - 7‬قاموس األفعال املركبة الشهرية «إنجليزي – عريب»‬
‫‪ - 8‬قاموس املصطلحات الدبلوماسية الشهرية «إنجليزي – عريب»‬
‫‪ - 9‬قامــوس املصطلحــات والتعبريات القانونية‪ ،‬السياســية‪ ،‬الدبلوماســية املتداولة‬
‫«إنجليزي – عريب»‬
‫‪ - 10‬قاموس املصطلحات والتعبريات التجارية‪ ،‬االقتصادية واملالية املتداولة «إنجليزي‬
‫– عريب»‬
‫‪ - 11‬قاموس أشهر مصطلحات اإلنرتنت والكمبيوتر «إنجليزي – عريب»‬
‫‪ »101« - 12‬مصطلح أمرييك «إنجليزي – عريب»‬

‫‪375‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫‪376‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫ما صدر من هذه السلسلة‬


‫تأليف ‪ :‬ليونيد أندرييف‬ ‫حياة إنسان‬ ‫‪314‬‬
‫تأليف ‪ :‬ميخائيل بولجاكوف‬ ‫دون كيشوت‬ ‫‪315‬‬
‫تأليف ‪ :‬كنيث ياسودا‬ ‫واحدة بعد أخرى تتفتح أزهار الربقوق‬ ‫‪316‬‬
‫تأليف ‪ :‬خلدون طائر‬ ‫ملحمة عيل الكاشاين‬ ‫‪317‬‬
‫تأليف ‪ :‬جالل آل أحمد‬ ‫نون و القلم‬ ‫‪318‬‬
‫تأليف ‪ :‬تشاندرا سيخار كامبار‬ ‫سريي سامبيجي‬ ‫‪319‬‬
‫تأليف ‪ :‬جورج أورويل‬ ‫أيام بورمية‬ ‫‪320‬‬
‫تأليف ‪ :‬ايتالو كالفينو‬ ‫ست وصايا لأللفية القادمة‬ ‫‪321‬‬
‫تأليف ‪ :‬ت‪ .‬س‪ .‬إليوت‬ ‫السكرتري الخصويص‬ ‫‪322‬‬
‫تأليف ‪ :‬مجموعة من القاصني الربازيليني‬ ‫قصص برازيلية‬ ‫‪323‬‬
‫تأليف ‪ :‬روالن بارت‬ ‫شذرات من خطاب يف العشق‬ ‫‪324‬‬
‫تأليف ‪ :‬جيمز ماكربايد‬ ‫لون املاء‬ ‫‪325‬‬
‫تأليف ‪ :‬أمريتا بريتام‬ ‫وجهان لحواء‬ ‫‪326‬‬
‫تأليف ‪ :‬اليخاندرو كاسونا‬ ‫املنزل ذو الرشفات السبع‬ ‫‪327‬‬
‫تأليف مجموعة من القاصني الباكستانيني‬ ‫من األدب الباكستاين الحديث‬ ‫‪328‬‬
‫تأليف ‪ :‬مجموعة من القاصني األتراك‬ ‫مختارات من القصة الرتكية املعارصة‬ ‫‪329‬‬
‫تأليف ‪ :‬بهرام بيضايئ‬ ‫مرسحية محكمة العدل يف بلخ‬ ‫‪330‬‬
‫تأليف ‪ :‬بنانا يوشيموتو‬ ‫مطبخ ‪ -‬خياالت ضوء القمر‬ ‫‪331‬‬
‫تأليف ‪ :‬جونرت جراس‬ ‫الطباخون األرشار ‪ -‬الجرة املكسورة‬ ‫‪332‬‬
‫تأليف ‪ :‬هايرنش فون كاليست‬ ‫شمل تشابه ضائع‬ ‫‪333‬‬
‫تأليف ‪ :‬أندريه شديد‬ ‫حكايات الهنود األمريكيني و أساطريهم‬ ‫‪334‬‬
‫تأليف ‪ :‬فالدميري هلباتش‬ ‫زهرة الصيف‬ ‫‪335‬‬
‫تأليف ‪ :‬مجموعة من القاصني اليابانيني‬ ‫طام ‪ -‬طام زنجي‬ ‫‪336‬‬
‫تأليف ‪ :‬ليوبولد سيدار سنغور‬ ‫اليربوح‬ ‫‪337‬‬
‫تأليف ‪ :‬نيكولو ماكيافليل‬ ‫منزل النور‬ ‫‪338‬‬
‫تأليف ‪ :‬جوهر مراد‬ ‫كثبان النمل يف السافانا‬ ‫‪339‬‬
‫تأليف ‪ :‬تشنوا أشيبي‬ ‫أناتول وجنون العظمة‬ ‫‪340‬‬
‫تأليف‪ :‬أرتور شنيتسلر‬ ‫غرام ميتيا‬ ‫‪341‬‬
‫تأليف‪ :‬إيفان بونني‬ ‫آرنجندن والحارس اللييل‬ ‫‪342‬‬
‫تأليف‪ :‬فيمي أوسوفيسان‬ ‫ورقة يف الرياح القارسة‬ ‫‪343‬‬
‫تأليف‪ :‬تنغ ‪ -‬هسنغ يي‬ ‫مدرسة الدكتاتور‬ ‫‪344‬‬
‫تأليف‪ :‬إيريش كسترن ‪ -‬تيد هيوز‬ ‫رسائل عيد امليالد‬ ‫‪345‬‬
‫تأليف‪ :‬سليامن جيغو ديوب‬ ‫حكايات وخرافات أفريقية (‪ - )1‬الطفل امللك‬ ‫‪346‬‬
‫تأليف‪ :‬فريدريش شيللر‬ ‫مرسحية عذراء أورليان‬ ‫‪347‬‬
‫‪377‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ما صدر من هذه السلسلة‬


‫تأليف‪ :‬سليامن جيغو ديوب‬ ‫حكايات وخرافات أفريقية (‪)2‬‬ ‫‪348‬‬
‫األدغال والسهول العشبية تحيك‬
‫تأليف‪ :‬مجموعة من القاصني‬ ‫القصة القصرية اإلسبانو أمريكية‬ ‫‪349‬‬
‫املتحدثني باألسبانية‬ ‫يف القرن العرشين‬
‫تأليف‪ :‬وول سوينكا‬ ‫مرسحيتا‪ - 1 :‬محنة األخ جريو‬ ‫‪350‬‬
‫‪ - 2‬تح ُّول األخ جريو‬
‫تأليف‪ :‬أو‪ .‬هرني‬ ‫روض األدب (مختارات قصصية)‬ ‫‪351‬‬
‫تأليف‪ :‬ب‪ .‬بريشت‬ ‫مرسحية «آنتيجون»‬ ‫‪352‬‬
‫تأليف‪ :‬هرني برونل‬ ‫أجمل حكايات الزن يتبعها فن الهايكو‬ ‫‪353‬‬
‫تأليف‪ :‬الوشه‬ ‫مرسحية «املقهى»‬ ‫‪354‬‬
‫تأليف‪ :‬برايان فرييل‬ ‫مرسحيتا‪ 1- :‬صناعة تاريخ‬ ‫‪355‬‬
‫‪ 2 -‬ترجامت‬
‫تأليف‪ :‬ج‪ .‬م‪ .‬كويتتزي‬ ‫رواية «الشباب»‬ ‫‪356‬‬
‫تأليف‪ :‬مجموعة من الشعراء املجريني‬ ‫مختارات من الشعر املجري املعارص‬ ‫‪357‬‬
‫(شعراء السبعينيات)‬
‫تأليف‪ :‬إيجون وولف‬ ‫مرسحيتا‪ 1- :‬تالميذ الخوف‬ ‫‪358‬‬
‫‪ 2-‬الغزاة‬
‫تأليف‪ :‬وليام سارويان‬ ‫اسمي آرام (مجموعة قصصية)‬ ‫‪359‬‬
‫تأليف‪ :‬مجموعة من القاصني املتحدثني باألملانية‬ ‫حامل اإلكليل (قصص مختارة)‬ ‫‪360‬‬
‫تأليف‪ :‬سيالفومري مروجيك‬ ‫الصــــــورة (مرسحية)‬
‫ُّ‬ ‫‪361‬‬
‫تأليف‪ :‬تحسني يوجل‬ ‫األيام الخمسة األخرية لرسول (رواية)‬ ‫‪362‬‬
‫تأليف‪ :‬إيرينيوش إيريدينسيك‬ ‫سبع مرسحيات ذات فصل واحد (من بولند)‬ ‫‪363‬‬
‫أندچـي ماليشكا‬
‫ستانيسالف ليم (ستانيسواف)‬
‫سوافومري مروچيك‬
‫تأليف‪ :‬مجموعة من القاصات الفارسيات‬ ‫سبع نساء‪ ...‬سبع قصص‬ ‫‪364‬‬
‫تأليف‪ :‬نويل كاورد‬ ‫زمن الضحك‬ ‫‪365‬‬
‫(ملهاة خفيفة من ثالثة فصول)‬
‫تأليف‪ُ :‬روبني دايڤيد غونساليس غاليغو‬ ‫باألبيض عىل األسود (رواية)‬ ‫‪366‬‬
‫تأليف‪ :‬تيان هان‬ ‫مرسحيتا‪ 1- :‬سهرة يف املقهى‬ ‫‪367‬‬
‫‪ 2-‬موت ممثل مشهور‬
‫تأليف‪ :‬مايكل هلامن‬ ‫إمرأة وحيدة «فروغ فرخزاد وأشعارها»‬ ‫‪368‬‬
‫سرية حياة‬

‫‪378‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫ما صدر من هذه السلسلة‬


‫تأليف‪ :‬ييجى شانيافسيك‬ ‫«املالح» (مرسحية من األدب البولندي)‬ ‫‪369‬‬
‫تأليف‪ :‬بول أوسرت‬ ‫ليلة التنبؤ (رواية)‬ ‫‪370‬‬
‫تأليف‪ :‬نويل كاورد‬ ‫هذا الجيل املحظوظ (مرسحية)‬ ‫‪371‬‬
‫تأليف‪ :‬أمادو همباطي با‬ ‫ال وجود لخصومات صغرية‬ ‫‪372‬‬
‫تأليف‪ :‬جريوم لورنس وروبرت إي‪ .‬يل‬ ‫الليلة التي أمضاها ثورو يف السجن (مرسحية)‬ ‫‪373‬‬
‫تأليف‪ :‬مجموعة من الشعراء اإليرانيني‬ ‫مختارات من الشعر اإليراين الحديث‬ ‫‪374‬‬
‫تأليف‪ :‬بول بولز‬ ‫العقرب وقصص أخرى (الجزء األول)‬ ‫‪375‬‬
‫تأليف‪ :‬بول بولز‬ ‫العقرب وقصص أخرى (الجزء الثاين)‬ ‫‪376‬‬
‫تأليف‪ُ :‬فروغ فرخزاد‬ ‫«األسرية» (مختارات من ديوان شعر)‬ ‫‪377‬‬
‫تأليف‪ :‬مونيكا عيل‬ ‫شارع بريك لني (الجزء األول)‬ ‫‪378‬‬
‫تأليف‪ :‬مونيكا عيل‬ ‫شارع بريك لني (الجزء الثاين)‬ ‫‪379‬‬
‫تأليف‪ :‬كورماك مكاريث‬ ‫الطريق (رواية)‬ ‫‪380‬‬
‫تأليف‪ :‬مجموعة من األدباء األوزبك‬ ‫مختارات من القصص القصرية األوزبكية‬ ‫‪381‬‬
‫تأليف‪ :‬مارغريت دوراس‬ ‫عشيق الصني الشاملية (رواية)‬ ‫‪382‬‬
‫املجموعة القصصية الكاملة إلرنست همنغواي (الجزء األول) تأليف‪ :‬إرنست همنغواي‬ ‫‪383‬‬
‫املجموعة القصصية الكاملة إلرنست همنغواي (الجزء الثاين) تأليف‪ :‬إرنست همنغواي‬ ‫‪384‬‬
‫املجموعة القصصية الكاملة إلرنست همنغواي (الجزء الثالث) تأليف‪ :‬إرنست همنغواي‬ ‫‪385‬‬
‫تأليف‪ :‬آرافيند آديغا‬ ‫النمر األبيض (رواية)‬ ‫‪386‬‬
‫تأليف‪ :‬دوبرافكا أوجاريسك‬ ‫موطن األمل (رواية)‬ ‫‪387‬‬
‫تأليف‪ :‬باسكال كينيارد‬ ‫فيال أماليا (رواية)‬ ‫‪388‬‬
‫تأليف‪ :‬جوليان بارنز‬ ‫اإلحساس بالنهاية (رواية)‬ ‫‪389‬‬
‫تأليف‪ :‬إيزابيل إبرهاردت‬ ‫ياسمينة (وقصص أخرى)‬ ‫‪390‬‬
‫َ‬
‫تأليف‪ :‬شيخ حامد كان‬ ‫املغامرة الغامضة (رواية)‬ ‫‪391‬‬
‫تأليف‪ :‬أناندا ديفي‬ ‫الرجال الذين يحادثونني (رواية)‬ ‫‪392‬‬
‫تأليف‪ :‬مجموعة من األدباء اإليرانيني‬ ‫القصة اإليرانية الحديثة‬‫أنطولوجيا ّ‬ ‫‪393‬‬
‫تأليف‪ :‬أمادو همباطي با‬ ‫حكايات حكامء أفريقيا وأسطورة نجدو ديوال‬ ‫‪394‬‬
‫تأليف‪ :‬نور الدين فرح‬ ‫خرائط (رواية)‬ ‫‪395‬‬
‫تأليف‪ :‬كريسنت توروب‬ ‫إله الصدفة (رواية)‬ ‫‪396‬‬
‫تأليف‪ :‬ألربتو مينديس‬ ‫أزهار عباد الشمس العمياء (رواية)‬ ‫‪397‬‬
‫تأليف‪ :‬تيه نينغ‬ ‫األبدية بعيدة جدا (وقصص أخرى)‬ ‫‪398‬‬
‫تأليف‪ :‬سوزانا تامارو‬ ‫اذهب حيث يقودك قلبك (رواية)‬ ‫‪399‬‬
‫تأليف‪ :‬إدريس الرشايبي‬ ‫الحضارة أمي (رواية)‬ ‫‪400‬‬

‫‪379‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫ما صدر من هذه السلسلة‬


‫تأليف‪ :‬أنيتا ديساي‬ ‫فنان االختفاء (ثالث روايات قصرية)‬ ‫‪401‬‬
‫تأليف‪ :‬بزرگ علوي‬ ‫عيناها (رواية)‬ ‫‪402‬‬
‫َ‬
‫تأليف‪ :‬ديبورا ليڤي‬ ‫السباحة إىل املنزل (رواية)‬ ‫‪403‬‬
‫تأليف‪ :‬دافيد فونكينوس‬ ‫ال ِّر َّقة (رواية)‬ ‫‪404‬‬
‫تأليف‪ :‬يو هوا‬ ‫عىل قيد الحياة (رواية)‬ ‫‪405‬‬
‫تأليف‪ :‬يورج أكلني‬ ‫األب (رواية)‬ ‫‪406‬‬
‫تأليف‪ :‬دافيد فوي ْن ِك ْينوس‬ ‫إِ ِّ ْن أَ َت َع َاف (رواية)‬ ‫‪407‬‬
‫تأليف‪ :‬بينلويب فيتزجرالد‬ ‫الوردة الزرقاء (رواية)‬ ‫‪408‬‬
‫تأليف‪ :‬مجموعة من الكاتبات الرتكيات‬ ‫إبداعات نسائية (مجموعة قصصية)‬ ‫‪409‬‬
‫هاينِيش ها ْي ِن ْه‬ ‫تأليف‪ْ :‬‬ ‫اإليـــاب (ديوان شعر)‬ ‫‪410‬‬
‫تأليف‪ :‬جان كريستوف روفان‬ ‫سبع حكايا تعود من بعيد‬ ‫‪411‬‬
‫تأليف‪ :‬توف جانسون‬ ‫املخادع الحقيقي (رواية)‬ ‫‪412‬‬
‫تأليف‪ :‬يـــو هـــوا‬ ‫اليـوم السابع (رواية صينية طويلة)‬ ‫‪413‬‬
‫تأليف‪ِ :‬ج ْلبري ِس ْي ُن ِويه‬ ‫الرجل الذي كان َي ُنظر إىل‪ ‬الليل (رواية)‬
‫ُ‬ ‫‪414‬‬
‫تأليف‪ :‬جويديب روي ــــــ باتاجاريا‬ ‫َرا ِوي َم َّرا ِكش (رواية)‬ ‫‪415‬‬
‫تأليف‪ :‬سارة نوفيتش‬ ‫َفتَا ٌة يف َحالَ ِة َح ْرب (رواية)‬ ‫‪416‬‬
‫تأليف‪ :‬تاتيانا سويل‬ ‫آكلو اللوتس الجزء األول (رواية)‬ ‫‪417‬‬
‫تأليف‪ :‬تاتيانا سويل‬ ‫آكلو اللوتس الجزء الثاين (رواية)‬ ‫‪418‬‬
‫تأليف‪ :‬أوليف سنيور‬ ‫بستنة يف املنطقة االستوائية (ديوان شعر)‬ ‫‪419‬‬

‫‪380‬‬
‫مختارات من القصة القصرية الهندية الحديثة‬

‫ﻗﺴﻴﻤﺔ اﺷﺘﺮاك ﻓﻲ إﺻﺪارات‬


‫اﻟﻤﺠﻠﺲ اﻟﻮﻃﻨﻲ ﻟﻠﺜﻘﺎﻓﺔ واﻟﻔﻨﻮن وا داب‬

‫ﻋﺎمل اﳌﻌﺮﻓﺔ اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ اﻟﻌﺎﳌﻴﺔ ﻋﺎمل اﻟﻔﻜﺮ إﺑﺪاﻋﺎت ﻋﺎﳌﻴﺔ ﺟﺮﻳﺪة اﻟﻔﻨﻮن اﳌﴪح اﻟﻌﺎﳌﻲ‬
‫اﻟﺒﻴﺎن‬
‫د‪.‬ك دوﻻر د‪.‬ك دوﻻر د‪.‬ك دوﻻر د‪.‬ك دوﻻر د‪.‬ك دوﻻر د‪.‬ك دوﻻر‬
‫‪20‬‬ ‫‪18‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪12‬‬ ‫‪12‬‬ ‫‪25‬‬ ‫ﻣﺆﺳﺴﺔ داﺧﻞ اﻟﻜﻮﻳﺖ‬
‫‪10‬‬ ‫‪8‬‬ ‫‪10‬‬ ‫‪6‬‬ ‫‪6‬‬ ‫‪15‬‬ ‫أﻓﺮاد داﺧﻞ اﻟﻜﻮﻳﺖ‬
‫‪24‬‬ ‫‪36‬‬ ‫‪24‬‬ ‫‪16‬‬ ‫‪16‬‬ ‫‪30‬‬ ‫ﻣﺆﺳﺴﺎت دول اﻟﺨﻠﻴﺞ اﻟﻌﺮيب‬
‫‪12‬‬ ‫‪24‬‬ ‫‪12‬‬ ‫‪8‬‬ ‫‪8‬‬ ‫‪17‬‬ ‫أﻓﺮاد دول اﻟﺨﻠﻴﺞ اﻟﻌﺮيب‬
‫‪100‬‬ ‫‪48‬‬ ‫‪100‬‬ ‫‪40‬‬ ‫‪50‬‬ ‫‪100‬‬ ‫ﻣﺆﺳﺴﺎت ﺧﺎرج اﻟﻮﻃﻦ اﻟﻌﺮيب‬
‫‪50‬‬ ‫‪36‬‬ ‫‪50‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪25‬‬ ‫‪50‬‬ ‫أﻓﺮاد ﺧﺎرج اﻟﻮﻃﻦ اﻟﻌﺮيب‬
‫‪50‬‬ ‫‪36‬‬ ‫‪50‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪50‬‬ ‫ﻣﺆﺳﺴﺎت ﰲ اﻟﻮﻃﻦ اﻟﻌﺮيب‬
‫‪25‬‬ ‫‪24‬‬ ‫‪25‬‬ ‫‪10‬‬ ‫‪15‬‬ ‫‪25‬‬ ‫أﻓﺮاد ﰲ اﻟﻮﻃﻦ اﻟﻌﺮيب‬

‫ﺗﺠﺪﻳﺪ اﺷﱰاك‬ ‫اﻟﺮﺟﺎء ﻣﻞء اﻟﺒﻴﺎﻧﺎت ﰲ ﺣﺎﻟﺔ رﻏﺒﺘﻜﻢ ﰲ‪ :‬ﺗﺴﺠﻴﻞ اﺷﱰاك‬

‫اﻟﻌﻨﻮان‪:‬‬
‫اﻟﺮﻣﺰ اﻟﱪﻳﺪي‪:‬‬ ‫اﳌﺪﻳﻨﺔ‪:‬‬
‫اﻟﺒﻠﺪ‪:‬‬
‫رﻗﻢ اﻟﻬﺎﺗﻒ‪:‬‬
‫اﻟﱪﻳﺪ اﻹﻟﻜﱰوين‪:‬‬
‫ﻣﺪة اﻻﺷﱰاك‪:‬‬ ‫اﺳﻢ اﳌﻄﺒﻮﻋﺔ‪:‬‬
‫ﻧﻘﺪا ‪ /‬ﺷﻴﻚ رﻗﻢ‪:‬‬ ‫اﳌﺒﻠﻎ اﳌﺮﺳﻞ‪:‬‬
‫‪20 / /‬م‬ ‫اﻟﺘﺎرﻳﺦ‪:‬‬ ‫اﻟﺘﻮﻗﻴﻊ‪:‬‬

‫ﻟﻠﺘﻮزﻳﻊ واﻻﺷﺘﺮاﻛﺎت ﻳﻤﻜﻨﻜﻢ اﻟﺘﻮاﺻﻞ ﻣﻌﻨﺎ ﻋﺒﺮ اﻟﺒﺮﻳﺪﻳﻦ‬


‫ا‰ﻟﻜﺘﺮوﻧﻴﻴﻦ اﻟﺘﺎﻟﻴﻴﻦ‪:‬‬
‫‪dist.nccal@nccal.gov.kw‬‬
‫‪dist.nccal@gmail.com‬‬

‫‪381‬‬
‫مجموعة من كتّاب شبه القارة الهندية‬

‫‪382‬‬
‫أسامء وأرقام وكالء التوزيع‬
‫أوالً‪ :‬التوزيع املحيل – دولة الكويت‬
‫اإلمييل‬ ‫رقم الفاكس‬ ‫رقم الهاتف‬ ‫وكيل التوزيع‬ ‫الدولة‬ ‫م‬
‫‪im_grp50@yahoo.com‬‬ ‫‪00965 /24826823‬‬ ‫‪00965 24826820 /1/2‬‬ ‫املجموعة اإلعالمية العاملية‬ ‫الكويت‬ ‫‪1‬‬

‫ثانياً‪ :‬التوزيع الخارجي‬


‫‪bander.shareef@saudidistribution.com‬‬
‫‪babiker.khalil@saudidistribution.com‬‬
‫‪00966 /12121766 – 1212774‬‬ ‫‪00966 /14419933 – 14418972‬‬ ‫الرشكة السعودية للتوزيع‬ ‫السعودية‬ ‫‪2‬‬

‫‪cir@alayam.com‬‬
‫‪rudainaa.ahmed@alayam.com‬‬
‫‪00973 /17617744‬‬ ‫‪00973 /17617733 – 36616168‬‬ ‫مؤسسة األيام للنرش‬ ‫البحرين‬ ‫‪3‬‬

‫‪eppdc@emirates.net.ae‬‬
‫‪info@eppdco.com‬‬ ‫‪00971 /43918354 – 43918019‬‬ ‫‪00971 43916501 /2/3‬‬ ‫رشكة اإلمارات للطباعة والنرش والتوزيع‬ ‫اإلمارات‬ ‫‪4‬‬
‫‪essam.ali@eppdco.com‬‬

‫‪alattadist@yahoo.com‬‬ ‫‪00968 /24493200‬‬ ‫‪00968 /24492936 – 24496748 – 24491399‬‬ ‫مؤسسة العطاء للتوزيع‬ ‫سلطنة عُامن‬ ‫‪5‬‬

‫‪thaqafadist@qatar.net.qa‬‬ ‫‪00974 /44621800‬‬ ‫‪00974 /44621942 – 44622182‬‬ ‫رشكة دار الثقافة‬ ‫قطر‬ ‫‪6‬‬

‫‪ahmed_isaac2008@hotmail.com‬‬ ‫‪00202 /25782540‬‬ ‫‪00202 25782700/1/2/3/4/5‬‬ ‫مؤسسة أخبار اليوم‬ ‫مرص‬ ‫‪7‬‬
‫‪00202 25806400‬‬

‫‪topspeed1@hotmail.com‬‬
‫‪00961 /1653259‬‬ ‫‪00961 1666314 /15‬‬ ‫مؤسسة نعنوع الصحفية للتوزيع‬ ‫لبنان‬ ‫‪8‬‬
‫‪00961 /1653260‬‬
‫‪sotupress@sotup.com.nt‬‬ ‫‪00216 /71323004‬‬ ‫‪00216 /71322499‬‬ ‫الرشكة التونسية‬ ‫تونس‬ ‫‪9‬‬

‫‪s.wardi@sapress.ma‬‬ ‫‪00212 /522249214‬‬ ‫‪00212 /522249200‬‬ ‫الرشكة العربية األفريقية‬ ‫املغرب‬ ‫‪10‬‬
‫‪alshafiei.ankousha@aramex.com‬‬
‫‪basem.abuhameds@aramex.com‬‬
‫‪00962 /65337733‬‬ ‫‪00962 /6535885 – 797204095‬‬ ‫وكالة التوزيع األردنية‬ ‫األردن‬ ‫‪11‬‬

‫‪wael.kassess@rdp.ps‬‬ ‫‪00970 /22964133‬‬ ‫‪00970 /22980800‬‬ ‫رشكة رام الله للتوزيع والنرش‬ ‫فلسطني‬ ‫‪12‬‬

‫‪alkaidpd@yahoo.com‬‬ ‫‪00967 /1240883‬‬ ‫‪00967 /1240883‬‬ ‫القائد للنرش والتوزيع‬ ‫اليمن‬ ‫‪13‬‬
‫‪daralryan_cup22@hotmail.com‬‬
‫‪daralryan_12@hotmail.com‬‬
‫‪002491 /83242703‬‬ ‫‪002491 /83242702‬‬ ‫دار الريان للثقافة والنرش والتوزيع‬ ‫السودان‬ ‫‪14‬‬

You might also like