You are on page 1of 22

‫‪ ...

‬في الصباحات الباكرة يوقظني غراب َيمّر صائحاً من فوق البيت‬


‫ي‪.‬‬
‫مباشرة ‪ ..‬أنا َمِدين لهذا الُمنّبه الح ّ‬
‫جه إلى عملي في المدينة ‪ ..‬أسير خارج قريتي مع الطريق السفلتي‬ ‫أتو ّ‬
‫الذي يصل الطريق الرئيس ‪..‬‬

‫خن ‪ ..‬ويدوس الحلزين‬ ‫طُرق الصباح لتخلو من رفقة ‪ ..‬رفيقي ُيد ّ‬ ‫ُ‬
‫الملونة‪..‬‬
‫ت حلزوناً‪.‬‬‫ـ انتبه ‪ ..‬لقد دس َ‬
‫يضحك ‪ :‬ـ اسم جميل لمخلوق لزج !‬
‫صَدفة‪ ..‬إنه ل يحتمل‬ ‫ـ انظر‪ ..‬هذا حلزون ملون ليزال في طور تكوين ال َ‬
‫صَدفة لتزال هشة ‪.‬‬ ‫أي لمس ‪ ..‬فال َ‬
‫ـ العالم يتحدث عن حقوق النسان ‪ ..‬وأنت تبكي على ) البوزوّية ( !‬
‫ـ يا مولنا ‪ ..‬الحلزين كائنات وادعة ‪ ..‬غير مؤذية ‪ ..‬ل تلسع ‪ ..‬ل تعضّ ‪..‬‬
‫شة ‪ ..‬ل صوت لها ‪ ..‬خطواتها صامتة ‪ ..‬وهي فوق ذلك ثنائية‬ ‫رطبة ‪ ..‬ه ّ‬
‫الجنس ‪ ..‬ذكر وأنثى في نفس الن ‪ ..‬فإذا قتلتَ حلزوناً فأنت تقترف جريمة‬
‫مزدوجة !‬
‫ي قضية باسم الحلزين ؟!‬ ‫ـ هل سترفع ِف ّ‬
‫ف عن السخرية‪ ..‬انتبه لخطواتك ‪ ..‬ول بأس بعد ذلك أن‬ ‫ـ أرجوك ‪ُ ..‬ك ّ‬
‫تتحدث عن حقوق النسان ‪ ..‬والبنية التحتية ‪ ..‬وانقطاع الكهرباء اليومي ‪..‬‬
‫سل إليك‬ ‫وغلء البنزين ‪ ..‬والكلسيكو بين برشلونة وريال مدريد ‪ ..‬فقط أتو ّ‬
‫ت أدري لماذا ل‬ ‫ـ إذا كنت تريدنا أن نسير معاً ـ ل تدهس الحلزين ‪ ..‬لس ُ‬
‫ينظر الناس تحت أقدامهم ؟!‬
‫َتمّر سيارة مسرعة‪ ..‬تقرمش قواقع الحلزين تحت إطاراتها ‪ ..‬تتلقى أعيننا‬
‫‪ ..‬ل أدري إن كان رفيقي يشمت بي ‪ ..‬يقول ‪:‬‬
‫ـ لعله من الفضل أن تضع لفتة في منطقة عبور الحلزين ‪ ..‬لفتة كبيرة‬
‫عليها صورة حلزون ملّون ‪.‬‬
‫ـ ها أنت تسخر من جديد ‪ ..‬حتى لو فعلنا فلن ينظر إليها أحد ‪ .‬أنهم دائمًا‬
‫مستعجلون ‪ ..‬ينبغي أن يكون ظهورالحلزين عقب مطر الخريف عيداً !‬
‫ـ على كل حال هو طريق للسيارات وليس للحلزين ‪.‬‬
‫ـ الحلزون قبل السيارة ‪.‬‬
‫أنظُر إلى الغربان تنغمس في الضباب ‪ ..‬تصعد مرة أخرى بأجنحة لمعة ‪..‬‬
‫الحلزين بصدفاتها المخططة بالحمر تنزلق بنعومة فوق العشب الند ّ‬
‫ي‬
‫طر الطريق ‪.‬‬ ‫الذي يؤ ّ‬

‫نلتفت فجأة على صرير الطارات ‪..‬‬


‫ـ اركبوا ‪.‬‬
‫ت تدهس الحلزون ‪.‬‬ ‫ـ كد َ‬
‫جلت ‪.‬‬
‫ـ هل تعتقد أنني أعمى ؟ وضعته بين الَع َ‬

‫ط الحلزون ‪ ..‬أضعه خارج الطريق ‪ ..‬أتساءل ‪ :‬لماذا يزحف بعضهم‬


‫‪ ...‬ألتق ُ‬
‫بينما يتشقلب الخرون فوق الريح ؟‬

‫تبتعد السيارة ‪ ..‬أحاول مراقبة الطريق من خلل غبش البخار‪ ..‬يقول‬


‫السائق وهو يمسح الزجاج من الداخل بظهر يده ‪:‬‬
‫ـ الحلزين اسم جميل لكائنات لزجة‪.‬‬

‫‪(1‬‬
‫ست ُأّمه في جيبه نصف‬ ‫سر رهبة اليوم الّول في المدرسة د ّ‬ ‫‪ِ ...‬من أجل َك ْ‬
‫خبة‪ ..‬طبطبت‬
‫ضّمْته‪ ..‬طبعت على رقبته ُقبلة صا ِ‬
‫قرش أصفر لمع ُمَدّور‪َ ..‬‬
‫على الجيب‪.‬‬

‫)‪(2‬‬
‫سس‬
‫جهًا إلى المدرسة في طرف القرية‪ ..‬تقوده ُأّمه‪ ..‬يتح ّ‬ ‫حَمل حقيبته ُمتو ّ‬
‫‪َ ...‬‬
‫في جيبه نصف القرش‪ ..‬يتتّبع نقوشه بإبهامه‪.‬‬
‫حين رأى رفاقه على الطريق نزع يده من يد ُأّمه بعصبّية‪ ..‬ومضى دون أن‬
‫يلتفت إلى الخلف‪.‬‬

‫)‪(3‬‬
‫خطاه‬
‫ث ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫‪َ ...‬نَقل نصف القرش إلى الجيب العلوي‪ ..‬بالقرب من القلب‪َ ..‬‬
‫شت‬‫ش‪َ ..‬قْرَم َ‬
‫ظِرين‪َ ..‬مّر من تحت الخّروبة‪ ..‬خشخش الَق ّ‬ ‫إلى رفاقه اْلُمنت ِ‬
‫ط نصف القرش‪..‬‬ ‫سَق َ‬
‫سَقط‪ ..‬و َ‬
‫الوراق الصفراء تحت حذائه الجديد‪ ..‬تَعّثر‪َ ..‬‬
‫ش أشبه بغابة‪.‬‬
‫وبنظرة ُأفقّية بدا الَق ّ‬

‫ش‪ ..‬أزاحوا الوراق‪..‬‬‫شطوا الَق ّ‬


‫حص‪ ..‬استنجد بالّرفاق‪ ..‬م ّ‬ ‫حَنى‪ ..‬تَف ّ‬
‫وقف‪ ..‬اْن َ‬
‫س مشطورة بين َرْهبة المدرسة‬ ‫ق جرس المدرسة‪ ..‬أسرع مع رفاقه بَنْف ٍ‬ ‫َد ّ‬
‫سرة ضياع نصف القرش‪ ..‬ودمعة على حاّفة السقوط‪.‬‬ ‫حْ‬
‫وَ‬

‫)‪(4‬‬
‫سس خواء الجيب‪..‬‬ ‫‪) ...‬ألف‪ ..‬باء‪ ..‬تاء(‪ ..‬العينان على السّبورة‪ ..‬واليد تتح ّ‬
‫ق جرس نهاية اليوم‪.‬‬ ‫)ألف‪ ..‬باء‪ ..‬تاء(‪ ..‬مضى دهر بأكمله قبل أن يد ّ‬

‫سل مع‬
‫صّعد نظرة تو ّ‬ ‫ث التراب بأظافره الدامية‪َ ..‬‬
‫حَر َ‬
‫ع إلى الخّروبة‪َ ..‬‬ ‫أسَر َ‬
‫جحة‪َ ..‬تَمّلكه‬
‫شنة‪ ..‬وحين رأى الوراق الصفراء تتساقط متأر ِ‬ ‫خِ‬‫الساق اْل َ‬
‫ن الخّروبة تفعل ذلك عن قصد لُتخفي اصفرار نصف‬ ‫الغضب‪ ..‬فيبدو أ ّ‬
‫القرش‪.‬‬

‫س بثقل الحقيبة‪ ..‬التفت‬


‫ح ّ‬
‫اقترب من البيت‪ ..‬رأى ُأّمه تنتظره على العتبة‪ ..‬أ َ‬
‫خّروب ُتخفي تحتها نصف‬ ‫ن كل شجرة َ‬ ‫إلى الشجار اْلُمتناثرة‪ ..‬وبدا له أ ّ‬
‫قرش ضائع‪.‬‬

‫)‪(5‬‬
‫حساباته‪ ..‬تعامل‬
‫خطاه إلى أبعد من المدرسة‪ ..‬انتفخت جيوبه‪ ..‬و ِ‬
‫‪ ...‬قادته ُ‬
‫مع الكثير من النصاف‪ ..‬أنصاف حلول‪ ..‬أنصاف حقائق‪ ..‬أنصاف ِرجال‪..‬‬
‫سس كثيرًا من النصاف المصقولة المدّورة‪ ..‬تعّثر ِمرارًا‪ ..‬وسقطت‬ ‫حّ‬
‫وَت َ‬
‫أشياء َلم يُعد يذكرها‪.‬‬
‫)‪(6‬‬
‫ف‬
‫‪ ...‬حين عاد ذات يوم إلى قريته‪َ ..‬مّر من أمام الخّروبة اْلَهِرمة‪َ ..‬أوق َ‬
‫سرت الوراق الصفراء تحت حذائه‬ ‫ش‪ ..‬تك ّ‬
‫خشخش الَق ّ‬ ‫سّيارته‪ ..‬اقترب‪َ ..‬‬
‫ش‪.‬‬
‫سدًا بَأطراف أصابعه رؤوس الَق ّ‬ ‫حَنى ُمَم ّ‬
‫اللمع‪ ..‬اْن َ‬

‫حَمر!‬
‫ط َأ ْ‬
‫خّ‬‫َ‬

‫‪19/04/2009‬‬

‫أحمد يوسف عقيلة‬


‫)خ(‬
‫جهًا نباحه إلى الغراب المرتكز فوق غصن‬
‫‪َ ...‬مرزوق يلهث‪ ..‬ينبح‪ ..‬مو ّ‬
‫البّلوطة الجرد‪ ..‬فرّد الغراب بإيقاعات من الغاقات‪) :‬غاق‪ ..‬غاق‪ ..‬غاق(‪..‬‬
‫وهي تعني‪) :‬أنت مجّرد جرو صغير ل يستحق الهتمام‪ ..‬عاجز‪ ..‬جسدك‬
‫ل ذلك في‬
‫ضامر‪ ..‬قوائمك قصيرة‪ ..‬بينما أملك أنا جناحين(‪ ..‬وقد قال ك ّ‬
‫ثلث غاقات فقط‪ ..‬فهذه هي بلغة الغربان!‬

‫يقترب َمرزوق‪ ..‬يضع قائمتيه الماميتين على ساق الَبّلوطة الخشن‪..‬‬


‫يحاول بيأس أن يتسّلق وهو ينبح‪ ..‬فطار الغراب وصاح بانزعاج‪) :‬غاق‪..‬‬
‫غاق(‪ ..‬وهي تعني على الرجح‪) :‬تفو على الكلب!(‪ ..‬ثّم َمّد جناحيه فوق‬
‫الريح‪.‬‬

‫)ط(‬
‫‪ ...‬يتطّلع إلى قطيع الماعز‪ ..‬الراعي في الخلف‪ ..‬الكلب في المقّدمة‪..‬‬
‫والتيوس في الوسط‪ ..‬انعطف تجاهه أحد الكلب بسحنة غاضبة‪ ..‬فأخذ‬
‫موقف الدفاع‪ ..‬دار حوله الكلب وتشّممه من الخلف‪ ..‬ثّم حرث الرض‬
‫بقوائمه الربع‪ ..‬ومضى يلهث‪.‬‬

‫أعجبْته هيأة الفحل الَمهيبة‪ ..‬لكّنه لم يعرف ماذا يفعل الفحل بالقرنين‪..‬‬
‫ل تيسًا حتى بدون‬‫ن القرون زائدة عن الحاجة‪ ..‬فالتيس يظ ّ‬ ‫وفّكر‪) :‬يبدو أ ّ‬
‫قرون(‪.‬‬

‫ل تراه الكلب‪ ..‬ألقى نظرة‬‫مّر بالُقرب من قطيٍع آخر‪ ..‬حرص على أ ّ‬


‫ي قطيع!‬ ‫ن الراعي وكلبه وتيوسه من لوازم أ ّ‬
‫فاحصة‪ ..‬واستنتج أ ّ‬

‫شجيرات الشْبرق‪..‬‬ ‫تشّمم الرض‪ ..‬فاكتشف أثرًا لبول الكلب على ُ‬


‫فمضى لهثًا وهو يفّكر‪) :‬أينما وضعت أنفك اصطدم برائحة كلب أو تيس ‪..‬‬
‫ن عالمًا مزدحمًا بالكلب والتيوس إلى هذا الحّد هو بل شك عالم يبعث‬ ‫إّ‬
‫خرته من أحد الكلب‪ ..‬فأطلق‬ ‫ضٌة في مؤ ّ‬
‫ع ّ‬‫على‪ ..(...‬قطعت عليه أفكاره َ‬
‫خرته بالوحل البارد‪.‬‬‫صق مؤ ّ‬
‫ى حول نفسه‪ ..‬وأْل َ‬‫عواًء حاّدا‪ ..‬تَلّو َ‬

‫)أ(‬
‫ي‪ ..‬فلسعه نبات الحّريق‪ ..‬وأخذت ذّبابة خضراء‬ ‫ب الند ّ‬
‫‪ ...‬أخذ يلعق العش َ‬
‫تطوف حول أنفه‪ ..‬ثم التصقت بوجهه‪ ..‬فنفض ُأذنيه بفرقعة‪ ..‬وشتم العالم‬
‫الطاِفح بالمزعجين‪ ..‬انتحى جانبًا‪ ..‬أقعى‪ ..‬وبدأ يفّكر‪) :‬هناك أشياء كثيرة في‬
‫هذا العالم غير مفهومة‪ ..‬لماذا لسعني العشب‪ ..‬ولماذا بقيت وحدي‪ ..‬ولماذا‬
‫س وأخذوهم بعيدًا‪ ..‬منذ ذلك المساء لم أرهم‪ ..‬صحيح‬ ‫حشروا إخوتي في كي ٍ‬
‫ن ُأّمي لم تنم ليلَتها‪ ..‬أنا أتذّكر‬
‫أنني في تلك الليلة ارتويت من الحليب‪ ..‬لك ّ‬
‫ت بالبرد‪ ..‬وفي‬ ‫ذلك جيدًا‪ ..‬كانت تقف من نومها فجأة‪ ..‬حتى إنني شعر ُ‬
‫الصباح ظّلت ُممّددة بل حراك‪ ..‬ثّم جاؤوا في المساء وجّروها من ساقيها‬
‫الخلفيتين‪ ..‬انتظرُتها طيلة الليل ولم ترجع‪ ..‬كم َأْكَره المساءات!(‪.‬‬

‫)ح(‬
‫‪ ...‬مشى على حاّفة الطريق الترابي‪ُ ..‬متحاشيًا الِبَرك والماكن الموحلة‪..‬‬
‫ل صورته الباهتة في البركة الَعِكرة‪ ..‬تطّلع‬‫ل متأّم ً‬
‫ل رأسه يمينًا وشما ً‬
‫أما َ‬
‫ل على السيارة المسرعة‪ ..‬فأطلقت نباحها‬ ‫إلى الضجيج‪ ..‬نبح نباحًا متواص ً‬
‫أيضًا‪ ..‬قذفت في وجهه المياه الَعِكرة‪ ..‬وبّقعْته بالوحل قبل أن تختفي وراء‬
‫المنعطف‪.‬‬

‫)م(‬
‫طوم‪..‬‬ ‫شجيرة َب ّ‬ ‫‪ ...‬ابتعد عن الطريق‪ ..‬استلقى باسطًا ذراعيه بالقرب من ُ‬
‫أغمض عينيه وبدأ يحلم‪ ..‬حلم بأّنهم بنوا له ِوجارًا واسعًا نظيفًا‪ ..‬بسقف‬
‫أحمر ُمحّدب‪ ..‬وأصبح بإمكانه أن يتفّرج على المطر لّول مّرة دون أن‬
‫طخه الوحل‪ ..‬ويستطيع أن يستلقي دون أن يركله أحد أو‬ ‫ُيصاب بالَبَلل أو ُيل ّ‬
‫خرته‪ ..‬وإذا مّروا بالقرب من الِوجار مشوا على أمشاط‬ ‫َينهشه في مؤ ّ‬
‫أقدامهم حتى ل يوقظوه! بل وقّدموا له حساًء ساخناً يتصاعد منه البخار‬
‫طع اللحم‪ ..‬وقد كان يعتقد أّنه من غير المعقول‬ ‫ي‪ ..‬وتعوم فيه ِق َ‬ ‫شه ّ‬ ‫الحاّر ال ّ‬
‫أن ُيقّدموا له َهْبرة‪ ..‬أخذ يلغ الحساَء على مهل حتى ل ينفد بسرعة‪ ..‬وترك‬
‫غللة البخار إلى أن تزدحم في قاع الطبق‪..‬‬ ‫طع اللحم العائمة تحت ُ‬ ‫ِق َ‬
‫خرته‪ ..‬فنهض مذعورًا‪ ..‬وقبل أن يتلّقى‬ ‫صَدَمه شيء بعنف في مؤ ّ‬ ‫وفجأة‪َ ..‬‬
‫اللكزة الثانية من الحذاء قفز عاويًا‪ ..‬نظر إلى ُبَقع الوحل المتيّبسة على‬
‫س بأّنه كان سلوكًا‬ ‫سيقانه وجانبيه‪ ..‬وعبثًا حاول استعادة حلمه الحسائي‪ ..‬أح ّ‬
‫خاليًا من الحكمة‪ ..‬بل وحماقة‪ ..‬أن يلغ الحساَء على مهل‪ ..‬وينتظر حتى‬
‫ف لّنه لم يزدرد ولو َهْبرة واحدة‬‫س َ‬
‫طع اللحم في القاع‪ ..‬وَأ ِ‬ ‫تتراكم ِق َ‬
‫ي أثر للحساء‪ ..‬ثّم قال‬‫صغيرة‪ ..‬لعق جوانب فمه‪ ..‬لعّله يجد في لعابه أ ّ‬
‫ُمعّزيًا نفسه‪) :‬أكل الَهْبرة على كل حال ليس ممتعًا‪ ..‬فأنت تزدردها مّرًة‬
‫واحدة‪ ..‬وتبقى صفر الفم واليدين‪َ ..‬أّما العظمة فهي تبقى بين أسنانك فترًة‬
‫ت أن تكسرها فأنت تجد فيها‬ ‫طويلة‪ ..‬وتمنحك ُمتعَة الَقرقضة‪ ...‬وإذا استطع َ‬
‫ن البشر للسف ل يكتفون بسلخ الَهْبر‪ ..‬بل‬ ‫شيئًا من الداخل يمكن َلعقه‪ ..‬لك ّ‬
‫صونها‪ ..‬يتركونها ُمجّرد أنفاق خاوية‪ ..‬وأحيانًا‬ ‫يكسرون الِعظام أيضًا‪ ..‬يم ّ‬
‫خوائها من‬
‫ن واحدٍة إلى َ‬
‫يرفعونها بينهم وبين الشمس‪ ..‬ويتطّلعون بعي ٍ‬
‫الداخل!(‪.‬‬

‫)ر(‬
‫‪َ ...‬أْقَعى‪ ..‬أخذ ينظر إلى غربان المساء تطير ُمتأّنية في دوائر‪ ..‬تعبر بينه‬
‫س باللم في ظهره‪ ..‬وأدرك أنّ‬ ‫وبين الشمس ُمنحدرًة إلى الودية‪ ..‬أح ّ‬
‫ث نفسه‪) :‬تكون‬‫خرات تركل الحلم أيضًا‪ ..‬وحّد َ‬ ‫الحذية التي تركل المؤ ّ‬
‫سائرًا على جانب الطريق‪ ..‬أو نائمًا في أمان ال‪ ..‬وفجأة يتشمّم أحدهم‬
‫ضها أو يركلها‪ ..‬ل أدري متى يأتي ذلك اليوم الذي تكون فيه‬ ‫خرتك أو يع ّ‬ ‫مؤ ّ‬
‫طا أحمر؟!(‪.‬‬‫خّ‬‫خرات َ‬ ‫المؤ ّ‬

‫س بأنهما خاليتان من المعنى‪ ..‬ل‬


‫تثاءب‪ ..‬نبح نبحتين في الفراغ‪ ..‬أح ّ‬
‫تليقان ببلغة الكلب‪ ..‬فينبغي قبل كل شيء أن ُيصغي إلى نباحك‬
‫الخرون‪.‬‬

‫طخًا بالوحل‪ ..‬فاجتاحْته رغبة في أن ينبح على‬


‫كان جائعًا‪ ..‬مقرورًا‪ُ ..‬مل ّ‬
‫ت في كل التجاهات‪ ..‬نهض‪ ..‬وأخذ ينبح على لهب الغروب‬ ‫أحٍد ما‪ ..‬تَلّف َ‬
‫خلف سواد الغابة‪.‬‬

‫)‪(2005‬‬

‫ب الصباح‬
‫غرا ُ‬
‫ُ‬
‫‪27/01/2009‬‬

‫أحمد يوسف عقيلة‬


‫) إلى أحمد الفيتوري (‬

‫‪1‬‬
‫س ُتشرق من خلف الغيم على الودية الباردة‪ ..‬صاح‬ ‫‪ ...‬الشتاء‪ ..‬الشم ُ‬
‫ب وحيد‪ ..‬مسرعاً نحو‬ ‫الديك ُمفتِتحًا الفجر‪ ..‬من فوق بيتنا يعبر غرا ٌ‬
‫سها‬
‫خْفق جناحيه‪ ..‬ترفع ُأّمي رأ َ‬
‫الجنوب‪ ..‬ينعق دون أن يلتفت‪ُ ..‬كّنا نسمع َ‬
‫ُمبتسمًة للفأل الحسن وتهمس‪) :‬غراب فريد‪ ..‬صبح سعيد(‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫‪ ...‬تحت تأثير الفأل الحسن تسرع ُأّمي حافية‪ُ ..‬تطعم الكلب‪ ..‬تشرع في‬
‫حْرق‬
‫ت ُمبّكر‪ ..‬من باب ) َ‬
‫شه للدجاجة حتى تبيض في وق ٍ‬
‫تحميص القمح لتر ّ‬
‫المراحل(!‬

‫شبعان‬
‫ب ال ّ‬
‫حّماس‪ ..‬وفي الخارج الكل ُ‬
‫سَمُع صوت القمح يتقافز في ال َ‬
‫َأ ْ‬
‫ينبح على الضباب‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫حّماس فوق‬‫عق‪ ..‬يتقاُفز القمح في ال َ‬‫‪ ...‬يتكّرر عبوُر الغراب الوحيد الزا ِ‬
‫ل صباح‬
‫ن الدجاجة التي تشبع ك ّ‬ ‫وطأة الجمر‪ ..‬ينبح الكلب على الضباب‪ ..‬لك ّ‬
‫َقمحًا ساخنًا َلم َتمنح بيضَتها الولى بعد‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫ن دجاجتنا ل تبيض عندنا‪ ..‬فتشهق صافقةً‬ ‫‪ ...‬أخيرًا‪ ..‬تكتشف ُأّمي أ ّ‬
‫صلت غير‬
‫شيت لها َكيلة َقمح ساخن‪ ..‬وما ح ّ‬‫يديها‪) :‬كسب الحرام‪ ..‬ر ّ‬
‫ي َلْذع النار‪ ..‬والدحي للجيران(‪.‬‬ ‫الّروث! ِل ّ‬

‫ن ذلك َلم َيمنعها في الصباح التالي من أن تقفز حافية‪ ..‬وترفع رأسها‬


‫لك ّ‬
‫ُمبتسمًة للغراب العابر‪) :‬غراب فريد‪ ..‬صبح سعيد(‪.‬‬
‫***‬
‫)‪(2008‬‬

‫شْمس‬
‫عْين ال ّ‬
‫َ‬

‫‪11/04/2009‬‬

‫أحمد يوسف عقيلة‬


‫‪1‬‬
‫ن المعجزات قد أصبحت جزءًا من الماضي البعيد‪ ..‬منذ أن‬ ‫‪ُ ...‬كّنا نعتقد أ ّ‬
‫ف النبياُء عن الظهور‪ ..‬حيث كانت الملئكة َتْنزل بكلمات ال‪ ..‬ويضرب‬ ‫َك ّ‬
‫ي البحَر بعصاه فينفلق‪ ..‬أو َيمشي فوق الماء‪ ..‬أو يستيقظ فجأة ويصعد‬ ‫النب ّ‬
‫إلى السماء السابعة ويعود وفراشه ليزال دافئًا‪ ..‬وّلى ذلك الزمن الذي كان‬
‫فيه البشر قريبين من ال أكثر مما ينبغي‪ ..‬لكن ما إن تقّلد ضابطنا رئاسة‬
‫مركز الشرطة في قريتنا حتى بدأ َيجترح المعجزات‪ ..‬الواحدة تلو‬
‫الخرى‪ ..‬ما إن ننبهر بخارقة من خوارقه حّتى ُينسينا إّياها بأخرى‪ ..‬حّتى‬
‫أصبح من المألوف أن تسمع أهل قريتنا وهم ُيصّبحون على بعضهم‬
‫يتساءلون‪:‬‬
‫ـ ما هي آخر معجزات ضابطنا؟‬

‫‪2‬‬
‫‪ ...‬في إحدى المّرات ُيخرج من جيبه بيضة‪ ..‬يطلب من أفراد الشرطة أن‬
‫يجعلوها تقف على سطح الطاولة الصقيل‪ ..‬يضعها فوق الطاولة فتتدحرج‪..‬‬
‫ظرًا‪.‬‬
‫ُيثّبتها بسّبابته منت ِ‬

‫ل بتجّرأ أحد حّتى على ُمجّرد المحاولة‪ ..‬يقولون بصوت واحد‪:‬‬


‫ـ مستحيل!‬
‫ت احتفاِلي‪:‬‬
‫يبتسم‪ ..‬يضغط البيضة حتى تنكسر‪ ..‬يرفع يده ويقول بصو ٍ‬
‫ـ هكذا يقف البيض على السطح الصقيلة‪ ..‬غصبًا عنه!‬

‫ن البيضة‬‫يصّفق أفراد الشرطة ويصّفرون‪ ..‬رغم أّنهم يلحظون أ ّ‬


‫سّره‪:‬‬
‫مسلوقة! يتساءل ضابطنا في ِ‬
‫ن كولومبوس فعل هذا أيضاً أمام‬ ‫ـ هل يعرف هؤلء الوغاد الصغار أ ّ‬
‫ن العاَلم ل يقف أبدًا‪ ..‬وليقنعها بتمويل رحلته‪ ..‬رغم أ ّ‬
‫ن‬ ‫إيزابيل‪ ..‬لُيثبت لها أ ّ‬
‫بيضة كولومبوس َلم تكن مسلوقة؟!‬

‫‪3‬‬
‫ل كبيرًا أعمى‪ ..‬هل تعرفون الغربال‬ ‫‪ ...‬ذات صباح يلتقط ضابطنا غربا ً‬
‫العمى؟ إّنه ذلك النوع من الغرابيل ذي العيون الضّيقة جّدا‪ ..‬لغربلة‬
‫طي‬
‫سّكر المطحون أو الحّناء‪ ..‬لقد قّرر ضابطنا أن ُيغ ّ‬
‫الشياء الدقيقة كال ّ‬
‫عْين الشمس بالغربال‪.‬‬ ‫َ‬

‫‪4‬‬
‫عْين‬
‫‪ ...‬في الضحى‪ ..‬ضابطنا ُيدير وجهه إلى الشرق‪ ..‬يرفع الغربال في َ‬
‫الشمس‪ ..‬يرفض تناول إفطاره‪ ..‬حّتى إّنه َوّبخ الشرطي الذي دعاه إلى‬
‫الفطار‪:‬‬
‫ـ هذا وقت فطور يا حيوان؟‬

‫‪5‬‬
‫عْين الشمس‪ ..‬ظهيرة‬ ‫‪ ...‬ينتصف النهار‪ ..‬ضابطنا يضع الغربال في َ‬
‫قائظة‪ ..‬صافية‪ ..‬ل مزنة فيها‪ ..‬وجهه متجّهم‪َ ..‬يُنّز عرقًا‪ ..‬يَوّبخ العري َ‬
‫ف‬
‫الذي يدعوه إلى الغداء‪:‬‬
‫ـ هذا وقت غداء يا خرقة؟‬
‫ويعاقبه أيضًا‪:‬‬
‫ـ اعتبر نفسك نايب عريف!‬

‫‪6‬‬
‫‪ ...‬بعد العصر‪ ..‬ضابطنا ُيدير وجهه ناحية الغرب‪ ..‬يخفض غرباله قلي ً‬
‫ل‬
‫ط الفق يتمّوج أمام عينيه‪.‬‬
‫خّ‬‫ِبمحاذاة صدره‪ ..‬يداه ترتعشان‪َ ..‬‬
‫‪7‬‬
‫‪ ...‬حاشت قطعان القرية‪ُ ..‬أوقِدت التنانْير‪ ..‬بدأت النساء في حلب‬
‫ن‪ ..‬يسمعن صوت الشخب في السطل وهن ملتفتات ناحية ضابطنا‬ ‫أبقاره ّ‬
‫جراء‪َ ..‬يمّر غراب بينه وبين الشمس الغاربة‪ ..‬يسقط‬ ‫الذي تنبح عليه ال ِ‬
‫شْمس(‪.‬‬
‫ضْربة َ‬
‫مغشّيا عليه‪ ..‬قال الطبيب في تقريره‪َ ) :‬‬

‫‪8‬‬
‫‪ُ ...‬يفيق ضابطنا في اليوم التالي‪ ..‬معصوب الرأس‪ ..‬جبهته ُمتقّرحة‪..‬‬
‫يفتح عينيه ببطء‪ ..‬أفراد الشرطة يتحّلقون حوله‪ُ ..‬يهّنئونه لّنه استطاع أن‬
‫عْين الشمس بغربال!‬ ‫طي َ‬‫ُيغ ّ‬

‫‪ ...‬يبتسم ضابطنا‪ ..‬يتقّبل التهاِني‪ ..‬يغمرُه إحساس بالّزهو‪ ..‬يرفع قبضتيه‬


‫في الهواء‪ ..‬ترتفع القبضات لصدى قبضتيه‪ ..‬يرى العريف‪ُ ..‬يعيد إليه‬
‫سْقف‪..‬‬ ‫ُرتبته‪َ ..‬يمنح الشرطي الذي وّبخه ترقيًة استثنائية‪ ..‬يرفع بصره إلى ال ّ‬
‫ضّيق عينيه‪ ..‬يبدأ التفكير في اجتراح معجزة أخرى‪ ..‬على الرغم من أّنه َلم‬ ‫ُي َ‬
‫طى عين الشمس بالغربال!‬ ‫غّ‬
‫يستطع أن يتذّكر كيف َ‬
‫***‬
‫)‪(2008‬‬
‫اْنِتحال‬

‫‪21/01/2009‬‬

‫أحمد يوسف عقيلة‬


‫‪1‬‬
‫خِتن فيها الذئب‬
‫‪ ...‬شآبيب راعدة‪ ..‬تتخّللها الشمس‪ ..‬اللحظة التي َي ْ‬
‫ي الوادي تنبح على‬
‫أبناءه‪ ..‬الغصان تلمع‪ ..‬تقطر‪ ..‬كلب تتقابل على ضّفَت ّ‬
‫بعضها‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫سيل‪ ..‬ينشق بأنفه‪ ..‬يقضم الشوكولتة‪ُ ..‬يمّرر‬‫‪ ...‬طفل يراقب رغوة ال ّ‬
‫لسانه فوق شفتيه‪ُ ..‬يغمض عينيه استمتاعًا‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫‪ ...‬أستذري تحت الصخرة المشرفة على مجرى الوادي‪ ..‬أعرف هذه‬
‫جّر‬
‫اللحظة جّيدا‪ ..‬في الَبْرد‪ ..‬تحت المطر‪ ..‬لوح شكولتة رقيق‪ ..‬مقرمش‪َ ..‬ي ُ‬
‫السعادة من ُأذنيها‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫‪ ...‬يْنزلق الطفل‪ ..‬يسقط لوح الشوكولتة‪ ..‬الغلف اللمع يطفو فوق‬
‫طخ ُكّفيه وُركبتيه‪..‬‬
‫سيل‪ ..‬يجري الطفل بمحاذاة الغلف‪ ..‬يتعّثر‪ ..‬الوحل يل ّ‬
‫ال ّ‬
‫تتناسل المسافة‪ ..‬يقف‪ ..‬يلهث‪ ..‬ينفث البخار‪ ..‬يرسل بصره مع امتداد‬
‫سيل‪ ..‬غلف الشوكولتة يومض قبل أن يتوارى في انعطافة الوادي‪.‬‬ ‫ال ّ‬

‫‪5‬‬
‫‪ ...‬الطفل من خلل دموعه يكتب رسالة إلى ال‪ ..‬يضعها في زجاجة‪..‬‬
‫سيل‪.‬‬
‫يرسلها مع ال ّ‬

‫‪6‬‬
‫ض الرسالة‪:‬‬
‫ط الزجاجة‪ ..‬أف ّ‬
‫‪ ...‬أنحدُر إلى مضيق الوادي‪ ..‬ألتق ُ‬
‫ي لوح الشوكولطة‪ ..‬أو أرسل لي لوحًا آخر من الجّنة‪ ..‬فقد‬ ‫عد إَل ّ‬
‫)يا َرّبي‪َ ..‬أ ِ‬
‫جّنة مليئة بالشياء‬
‫ن لديك َ‬
‫ل شيء‪ ..‬وأ ّ‬
‫أخَبَرنا الُمَعّلم أّنك قادر على ك ّ‬
‫الحلوة(‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫‪ ...‬أصعُد إلى رأس الوادي‪ ..‬أضُع لوح شوكولتة في الزجاجة ملفوفًا‬
‫سيل‪.‬‬
‫بورقة‪ ..‬أرسلها مع ال ّ‬

‫‪8‬‬
‫ح غامر‪ ..‬يفضّ الورقة ُمرتِعشًا‪ ..‬يقرأ‬
‫‪ ...‬الطفل يلتقط الزجاجة بفر ٍ‬
‫الرسالة‪:‬‬

‫ب الشوكولطة‪ ..‬إليك هذا اللوح الحلو المقارمش(‪.‬‬


‫)أنا أعرف أّنك ُتح ّ‬
‫يتلّفت‪ ..‬يراِني‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫ي‪ ..‬أتظاهُر ِبمسح‬
‫عدًا بالُقرب مّني‪ ..‬يقف‪ُ ..‬يطيل النظَر إَل ّ‬
‫‪َ ...‬يمّر صا ِ‬
‫حذائي‪ُ ..‬يقهقه‪:‬‬

‫ب أخطاًء إملئّية؟ فقد أخطأ في هجاء كلمة المقرمش‪..‬‬


‫ـ لماذا يرتكب الّر ّ‬
‫فاضاف ألفًا بعد القاف‪.‬‬

‫شْبرق‪ُ ..‬يضيف‪:‬‬
‫شجيرات ال ّ‬
‫أواصل مسح حذائي على ُ‬

‫ل‪ ..‬فهو ُيشبه‪ُ ..‬يشبه‪.....‬‬


‫ب ليس جمي ً‬
‫ط الّر ّ‬
‫نخ ّ‬
‫ـ ُثم إ ّ‬

‫تلشت كلماته الخيرة في الضحك‪ ..‬وواصل الصعود وهو يقضم‬


‫الشوكولتة باستمتاع‪.‬‬
‫***‬
‫)‪2009‬‬
‫طة‬
‫الِق ّ‬

‫‪07/05/2007‬‬

‫أحمد يوسف عقيلة‬

‫‪1‬‬
‫‪ ...‬أحد المساءات الربيعية‪ ..‬في تلك اللحظة التي يكون فيها قرص‬
‫الشمس في متناول كّفيك‪ ..‬اللحظة التي تتوّهج فيها التنانير‪ ..‬وتنعقد حَُزم‬
‫ف تحت الصخرة‪ ..‬غائبة‬ ‫طة تتمّدد في تجوي ٍ‬‫الدخان فوق الوادي‪ ..‬كانت الِق ّ‬
‫عن الوعي‪ ..‬بلغ اللم ُمنتهاه‪ ..‬حتى تلشى الحساس باللم‪.‬‬

‫لمومة‪ ..‬هذه أول مّرة‬ ‫أفاقت‪ ..‬استدارت‪ ..‬غمرها إحساس جارف با ُ‬


‫تعرف طعم هذا الحساس‪.‬‬
‫تأّملت ُأسرتها‪ ..‬خمس ُقطيطات‪ ..‬أربٌع ِبيض‪ ..‬وواحٌد أسود‪ ..‬تشّممْتهم‪..‬‬
‫ي‪ ..‬والسواد له‪ُ ..‬ترى أين هو الن‪..‬؟ ل َهّم له سوى الّنزول من‬‫ـ البياض ِل ّ‬
‫طٍة واعتلء ُأخرى‪ُ ..‬ثّم يتلّهى ويصطاد‪ ..‬إنه ل يعرف حتى مذاق‬ ‫فوق ِق ّ‬
‫اللم‪ ..‬ولكن‪ ..‬ل بأس‪ ..‬دعونا نتذّوق اللحظة الراهنة‪.‬‬
‫لحسْتهم‪ ..‬واحدًا واحدًا‪ُ ..‬ثّم استلقت من جديد‪ ..‬ومنحْتهم أثداءها الطافحة‬
‫بالحليب‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫ت‪ ..‬وهي‬
‫ت نظرًة على صغارها الُعميان‪ ..‬لقد ارتو ْ‬
‫في الصباح‪ ..‬أْلق ْ‬
‫س رأسه في حضن الخر‪.‬‬ ‫الن مستغِرقة في نوٍم عميق‪ ..‬كل واحد يد ّ‬

‫ن من‬ ‫خرجت لصطياد ما يمكن اصطياده‪ ..‬تطّلعت حولها‪ ..‬إنها في مأم ٍ‬


‫شقاوة الولد‪ ..‬اختارت هذا التجويف الصخري البعيد‪ ..‬حتى ل تكون هدفًا‬
‫للمقاليع‪.‬‬

‫اْلتفتت إلى بيتها‪..‬‬


‫ـ ولكن ماذا لو تسّللت إحدى الفاعي‪..‬؟‬

‫ارتعشت وهي تتصّور ذلك‪ ..‬أخذت ُتضّيق الفتحة‪ ..‬كّومت التراب في‬
‫المدخل‪ُ ..‬ثّم‪...‬‬
‫ـ ماذا يفعل هذا الثعلب الملعون هنا‪..‬؟ إنه يتشّمم كل شيء‪ ..‬ل يجب أن‬
‫يراني‪.‬‬

‫عادت‪ ..‬حشرت صغارها في أعماق التجويف‪ ..‬وأخذت موقف الدفاع‪..‬‬


‫فّكرت‪:‬‬
‫ـ إننا قريبون من المدخل‪ ..‬في متناول المخالب‪.‬‬

‫غلت‪ ..‬ولم تُعد ترى‬


‫شرعت تحفر إلى الداخل‪ ..‬تحفر‪ ..‬حتى تو ّ‬
‫صغارها‪ ..‬عادت‪ ..‬أخذت تلتقطهم من أعناقهم‪ ..‬يتأرجحون بين فّكي‬
‫لمومة‪!..‬‬
‫اُ‬
‫ـ والن أصبحتم في مأمن‪.‬‬

‫ل‪ ..‬تلتقط أنفاسها‪ ..‬لعقت صدرها‪ُ ..‬ثّم أطلعت رأسها من‬‫ت قلي ً‬
‫مكث ْ‬
‫الفتحة‪.‬‬
‫ن رائحته ل تزال قوية‪.‬‬
‫ـ اختفى الثعلب‪ ..‬لك ّ‬
‫رفعت أنفها في كل التجاهات‪..‬‬
‫ن أنه يخدعني‪ ..‬صغاري لن‬
‫صد من خلف الصخرة‪ ..‬يظ ّ‬
‫ـ آه‪ ..‬المخادع يتر ّ‬
‫يكونوا ُلقمة سهلًة لحد‪.‬‬

‫‪ ...‬وبقيت تسّد المدخل‪.‬‬

‫خّروبة المجاورة‪ ..‬ونعبت نعيبًا‬


‫طت ُبومة على ال َ‬‫‪ ...‬في المساء‪ ..‬ح ّ‬
‫جعًا‪.‬‬
‫فا ِ‬
‫ـ لم يُعد ينقصني سوى البومة‪ ..‬إنها أخطر من الثعلب‪ ..‬لن تجد صعوبة في‬
‫الدخول‪ ..‬لكنني لن أترك صغاري الن‪ ..‬سأرى َمن مّنا ستصبر أكثر‪..‬؟ هل‬
‫ستبَقين فوق الغصن إلى البد‪..‬؟!‬

‫‪3‬‬
‫سس الثداء‪ ..‬لم يغمض‬ ‫‪ ...‬في آخر الليل أخذت القطيطات تموء‪ ..‬وتتح ّ‬
‫لم جفن‪.‬‬‫لُ‬
‫ـ ماذا أفعل لحمايتهم‪..‬؟ ماذا أفعل لدفع الخطر عن العائلة‪..‬؟ إذا خرجتُ‬
‫ت قتلهم الجوع‪ ..‬ذلك السافل‪ ..‬يغرز أسنانه في‬ ‫صدون‪ ..‬إذا بقي ُ‬
‫اْلتهمهم الُمتر ّ‬
‫ن المر ل يعنيه‪ ..‬لو‬
‫عنقي‪ ..‬يقذف في أحشائي عائلة كاملة‪ُ ..‬ثّم يختفي‪ ..‬كأ ّ‬
‫أنه يأتي الن لتناوبنا الحراسة‪ ..‬ولكن ل مناص من الخروج غدًا‪ ..‬لُبّد من‬
‫الخروج في نهاية المطاف‪ ..‬لن أسمح لهم بدفننا أحياء‪.‬‬

‫ظلل الشجار‬‫أطلعت رأسها‪ ..‬تأملت القمر الحائم فوق الوادي‪ ..‬و ِ‬


‫الباهتة‪ ..‬أطلقت البومة ثلث نعبات متتالية ُمؤّكدًة وجودها‪ ..‬ومسحت‬
‫سحابُة ضوَء القمر‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫ف عن‬‫في الفجر‪ ..‬رفعت نفسها بوهن من بين صغارها‪ ..‬التي لم َتُك ّ‬
‫خَرج‪ ..‬جّفت الثداء‪ ..‬الجوع ينهشها‪..‬‬ ‫المواء طوال الليل‪ ..‬زحفت ناحية الَم ْ‬
‫سر الَبيض في العشاش الدافئة‪ ..‬والزقزقات الولى‬ ‫كانت تسمع تك ّ‬
‫صيفيرات الوليدة‪ ..‬أخرجت رأسها‪ ..‬استرابت‪..‬‬ ‫للُع َ‬
‫ـ كالعادة‪ ..‬المور على أسوأ ما ُيرام‪ ..‬الثعلب فوق الصخرة‪ ..‬البومة في‬
‫صدون‬‫جوار‪ ..‬إنهم يتر ّ‬ ‫ن الفعى تكمن في ال ِ‬ ‫أعلى الشجرة‪ ..‬ول شك أ ّ‬
‫صغاري من فوق ومن تحت‪.‬‬
‫خيار‪ ..‬سّدت‬
‫أغمضت عينيها‪ُ ..‬ثّم‪ ..‬قررت أن تعود‪ ..‬ل يزال هناك ِ‬
‫المدخل بكومة من التراب‪ ..‬وغابت في ظلمة الصخرة‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫‪ ...‬عند ارتفاع الضحى‪ ..‬بدأت كومة التراب تتحّرك‪ ..‬انتصبت ُأذنا‬
‫الثعلب‪ ..‬أدارت البومة رأسها‪ ..‬تكّورت الفعى‪ ..‬انزاح التراب‪ ..‬برز‬
‫المخلبان‪ ..‬الرأس‪ ..‬الكتفان‪ ..‬انضغط الجسد مقذوفاً إلى الخارج‪ُ ..‬منتِفخة‪..‬‬
‫تتمايل‪ ..‬أثداؤها تُنّز بالحليب‪ ..‬انحدرت مع الوادي‪ ..‬تمشي بهدوء‪ ..‬ل يبدو‬
‫عليها أثر للخوف‪ ..‬أو القلق‪.‬‬

‫صدون‪..‬‬ ‫‪ ...‬تسابق الُمتر ّ‬


‫ست بدفء التراب‪..‬‬ ‫غلت‪ ..‬أح ّ‬‫الفعى أول الداخلين‪ ..‬كانت أقربهم‪ ...‬تو ّ‬
‫أخرجت لسانها تلتقط الرائحة الشهية‪ ..‬ولكن‪ ..‬لم يكن هناك َأثٌر لشيء‪ ..‬ل‬
‫ف من الَوَبر‪ ..‬وُبَقٍع من الّدم‪!..‬‬
‫شيء سوى ُنَت ٍ‬

‫الّدْهِلْيز )قصة قصيرة(‬

‫‪22/01/2007‬‬

‫أحمد يوسف عقيلة‬


‫‪1‬‬
‫‪ ...‬يجب أن آخذ نَفسًا‪ ..‬إّنِني أْلَهث‪ ..‬منذ الصباح وأنا أحفر‪ ..‬أيّ‬
‫عمايا(*‪..‬‬ ‫سّموَنِني )ُبو َ‬‫صباح‪..‬؟ كائن مثلي يستوي عنده الصباح والمساء‪ُ ..‬ي َ‬
‫جّرد قصوٍر في الرؤية‪ ..‬ل‬ ‫ظْلمة ُم َ‬
‫عينا العمى تنظران إلى الداخل‪ ..‬ال ّ‬
‫ل من خلل دفء الشمس‪ ..‬أو َبْرد الليل‪ ..‬أو حركة العاَلم‬ ‫إحساس بالزمن إ ّ‬
‫الفوقي وهم يدوسوننا‪ ..‬على الرغم من أّنهم َيمتلكون عيونًا‪ ..‬إّنهم ُيثِقلون‬
‫حَتَمل‪ ..‬هل هذا هو َقَدُرنا‪..‬؟ نفترش التراب‬ ‫الرض‪ ..‬ثقل الكائن الذي ل ُي ْ‬
‫حْفر‪ ..‬لو تحّول‬ ‫حْفر‪ ..‬ول شيء غْير اْل َ‬ ‫حْفر‪ ..‬اْل َ‬ ‫سده أيضًا‪ ..‬اْل َ‬ ‫ونلتحفه ونتو ّ‬
‫لّول‪!..‬‬ ‫حّفار ا َ‬ ‫ت على ميدالية اْل َ‬ ‫حصل ُ‬ ‫ث أوِلمِبي َل َ‬‫حَد ٍ‬
‫حْفر إلى َ‬ ‫اْل َ‬
‫‪2‬‬
‫ي اّتجاه يروق ِلي‪ُ ..‬أَكّوم التراب‬ ‫‪ ...‬ل أعترف بأّية حدود‪ ..‬أحفر في أ ّ‬
‫لعلن عن وجودي‪ ..‬لقول بأّنِني أكثر اْلتصاقًا‬ ‫في ُكْدَوة فوق الرض‪ُ ..‬‬
‫طينة الولى‪ ..‬في بعض الحيان أجد جذرًا فأقضم منه‬ ‫بالتراب‪ ..‬بال ّ‬
‫وأمضي‪ ..‬أو تعترضِني صخرة فأدور حولها‪ ..‬أّما قواعد السمنت فهي‬
‫ألعن ما يعترض طريقي‪ ..‬تستعصي على مخالِبي وأسناِني‪ ..‬فأحفر إلى‬
‫السفل‪ ..‬أهبط‪ ..‬أنحدر‪ ..‬البشر ُيقّيدون بيوتهم بالرض‪ ..‬يربطونها‪ ..‬ينسون‬
‫غْير ُهَدى‪..‬‬ ‫أّنهم سيدخلون نَفقًا ُمظِلمًا كَنَفقي‪ ..‬دروِبي ُمتعّرجة‪ ..‬أسْير على َ‬
‫ل أملك خارطة‪ ..‬لكّنِني ل أخطئ رائحة النثى ولو كان بيِني وبينها جبل‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫ل يوم أحفر نَفقًا جديدًا‪ ..‬حّتى إّنِني‬ ‫‪ ...‬طال هذا السرداب وتعّرج‪ ..‬في ُك ّ‬
‫ل أستطيع العودة في هذه المتاهة إلى نقطة البداية‪ ..‬يبدو الحفر في كثير من‬
‫غل‪ ..‬جائع إلى‬ ‫س بقّوة خفّية تدفعني إلى التو ّ‬ ‫ح ّ‬‫الحيان حاجة في ذاته‪ُ ..‬أ ِ‬
‫حث‬ ‫شيٍء ما‪ ..‬ل أعرفه على وجه التحديد‪ ..‬حياتي ُكّلها ُمجّرد بحث‪ ..‬لكن َب ْ‬
‫عن ماذا‪..‬؟ أحفر فراغًا ل ينتهي‪ ..‬فراغًا َيمتّد خلفي ُكّلما أوغلت‪ ..‬كائن‬
‫مثلي ل ُيتِقن شيئًا سوى السير في دروب ملتوية ينحتها بأظافره‪ ..‬وصفي‬
‫ل‪ ..‬أنا أنف وأسنان قاطعة‬ ‫بأنني أعمى ليس دقيقًا‪ ..‬فأنا ل أمتلك عينين أص ً‬
‫ومخالب ُمدّببة‪ ..‬آلة ُمَعّدة للحفر‪ ..‬النَفق الهّم َلم أحفره َبْعد‪ ..‬أحياناً أتساَءل‪:‬‬
‫ي أن أفعل‪..‬؟ َيْبرق هذا السؤال في ذهِني إلى درجة أّنني‬ ‫جب عَل ّ‬ ‫ماذا يتو ّ‬
‫حَر الفعى‪..‬‬ ‫جْ‬
‫أتوّقف عن الحفر‪ ..‬عملي محفوف بالمخاطر‪ ..‬قد أدخل فجأة ُ‬
‫حّير‬‫ي قاذورات النسان‪ ..‬أمٌر ُم َ‬ ‫أو تنبش ملجئي الثعالب‪ ..‬أحيانًا تندلق عل ّ‬
‫ن ملذاتنا غير آمنة‪.‬‬ ‫ل هذا العناء أ ّ‬ ‫أن نكتشف بعد ك ّ‬
‫‪4‬‬
‫شّم في دهاِلْيز‬ ‫سة َ‬ ‫حلة‪..‬؟ وحا ّ‬ ‫ماذا يفعل مخلوق ل َيْملك سوى أظافر مو ِ‬
‫ملّوثة‪..‬؟ ما الغاية من وجود كائن أعمى ل يملك سوى النزواء تحت‬
‫ظلمة الَعَمى‪..‬؟! في بعض الحيان ُأَفّكر في فتح ُكّوة‬ ‫الرض‪..‬؟ أل تكفيِني ُ‬
‫نحو السماء‪ ..‬ليتني أقدر أن أحفر َنَفقًا إلى العلى‪ ..‬عيب السماء أنها بعيدة‬
‫أكثر مما ينبغي‪ ..‬ل أستطيع َلْمسها بأظافري‪ ..‬حّتى إنِني ل أتمكن من‬
‫شّمها‪ُ ..‬تَرى ما رائحة السماء‪..‬؟‬ ‫َ‬
‫‪5‬‬
‫ت أّيتها‬ ‫ت أشّم رائحة النثى من خلل مساّم التراب‪ ..‬أين أن ِ‬ ‫بدأ ُ‬
‫ل ِمّنا من جهته‪ ..‬ل لقاء بغير‬ ‫اْلَموُؤدة‪ ..‬نحن الحياء اْلَمقبورون‪ ..‬ليحِفْر ُك ّ‬
‫ن وقتٌ‬ ‫غْيَمَتْي ِ‬
‫حْفر‪ ..‬احفري قبل أن يهطل المطر فيعيقنا الوحل‪ ..‬ما َبْين َ‬ ‫َ‬
‫صحو‪.‬‬
‫طٌع لل ّ‬ ‫ُمستْق َ‬
‫‪6‬‬
‫‪ ...‬ما هذا الَبَلل‪..‬؟ َلم يُعد ينقصِني سوى المطر‪ ..‬الن سأغرق في‬
‫حْفر‪ ..‬إذا أقبل‬ ‫سّهل اْل َ‬
‫الوحل‪ ..‬لكن ل بأس‪ ..‬من إيجابّيات المطر أّنه ُي َ‬
‫ك‪ ..‬أسمع‬ ‫ك‪ ..‬أسمع ِ‬ ‫ت‪..‬؟ أسمع ِ‬ ‫الشتاء‪ ..‬لم يكن الربيع بعيدًا‪ ..‬أين أن ِ‬
‫ك‪ ..‬الوحل‬ ‫ل‪ ..‬أمامك مباشرة‪ ..‬أشّم ِ‬ ‫مخالَبك‪ ..‬ل تّتجِهي َيِمينًا‪ ..‬إلى اليسار قلي ً‬
‫ق الرض‬ ‫يتحّرك‪ ..‬أنا أحفر أيضًا‪ ..‬وأرتعش‪ ..‬أنا الّذَكر الوحيد الذي يش ّ‬
‫بأظافره من أجل ُأنثاه‪.‬‬
‫‪7‬‬
‫شر بالمطر في‬ ‫حمومة‪ ..‬استب ِ‬ ‫‪ ...‬أخْيرًا‪ !..‬طال انتظاري لهذه اللحظة اْلَم ْ‬
‫هذه الصحراء اْلُمظِلمة‪ُ ..‬يَبّلل روحي‪ ..‬أنتشي برائحة الّثَرى‪ ..‬تعالي نِقْيم‬
‫عزلتنا أبدّية‪..‬‬ ‫شْمس‪ ..‬زَمننا بل فواصل‪ُ ..‬‬ ‫عرسنا في الظلمة‪َ ..‬نهاراتنا بَغْير َ‬
‫ن أرواحنا ُتضيئه‪ ..‬كن ُ‬
‫ت‬ ‫نَفقنا ضّيق‪ُ ..‬متعّرج‪ُ ..‬مْعِتم‪ُ ..‬مجّرد ُثْقب أسود‪ ..‬لك ّ‬
‫ت أيضًا مقرورة وترتعشْين‪ ..‬نحن‬ ‫ك في آخر الّنَفق‪ ..‬أن ِ‬ ‫على يِقْين من وجود ِ‬
‫ن الرومانسّية قد ماتت‪..‬؟‬ ‫الن نتمّرغ فوق سريٍر من الوحل‪َ ..‬من قال بأ ّ‬
‫أستطيع أن أقول بأننا الن َنْلمس السماء‪.‬‬
‫***‬
‫)‪(2006‬‬
‫ـــــــــــــــــــ‬
‫خْلد‪ ..‬بضم الخاء وكسرها وسكون اللم كما‬ ‫عَمايا‪ :‬التسمية المحلية لل ُِ‬ ‫* بو َ‬
‫جرذان العمياء‪ ..‬يعيش في أنفاق‪..‬‬ ‫جاء في لسان العرب‪ ..‬وهو نوع من اْل ُ‬
‫يكثر في الجبل الخضر بليبيا‬
‫التاريخ حين يكتبه الطّباء )قراءة(‬

‫‪16/01/2007‬‬

‫أحمد يوسف عقيلة‬

‫قراءة في كتاب )سهاري درنة( للدكتور محمد محمد المفتي‬

‫هذا كتاب تفاصيل كما يقتضي العنوان )سهاري(‪ ..‬جمع سهراية‪ ..‬وهي‬
‫سع معناها‪ ..‬سهاري تحفل‬ ‫صة‪ ..‬مأخوذة من السهر‪ُ ..‬ثّم تو ّ‬
‫حديث الليل خا ّ‬
‫ن المفتي طبيب فكتابته ليست مجرد توثيق‪ ..‬بل فيها الكثير‬ ‫بالتفاصيل‪ ..‬ول ّ‬
‫من التشخيص‪ ..‬دون إصدار أحكام قطعّية‪ ..‬ونلمس فيها أيضاً شيئًا من‬
‫ن المفتي قضى شطرًا من طفولته في درنة‪ ..‬لكن دون‬ ‫الحنين‪ ..‬ربما ل ّ‬
‫انسياق عاطفي ُيبعده عن الموضوعية‪.‬‬

‫من اهتمام المفتي بالتفاصيل اختيار عناوين‪) :‬سهاري درنة(‪) ..‬هدرزة في‬
‫ن لكل مدينة خصوصيتها في اللهجة‪.‬‬‫بنغازي(‪ ..‬ل ّ‬

‫)سهاري درنة( ليس مجرد تاريخ اجتماعي للمدينة‪ ..‬بل تاريخ عام‪ُ ..‬كِتب‬
‫بلغة أدبية شّفافة‪ ..‬أقرب إلى سرد القصص )السهاري(‪ ..‬بعيدًا عن اللغة‬
‫الجافة المعهودة للمؤرخين‪ ..‬واستشهد فيه بالوثائق ـ كما هو متوّقع ـ وكذلك‬
‫شْعر وغناوي الَعَلم وحّتى رسائل النترنت‪ ..‬فكل شيء‬ ‫بالصَور وقصائد ال ّ‬
‫من الممكن أن ُيصبح وثيقة ذات أهمية عند المفتي‪.‬‬

‫صر كتبهم على فتوحات‬ ‫ابتعد عن آفات المؤرخين كالنتقاء‪ ..‬وَق ْ‬


‫السلطين وأخبارهم‪ ..‬أكثر ما يغيظني في كتب التاريخ تمحورها حول‬
‫بؤرة واحدة‪ ..‬وهي قصر الخليفة‪ ..‬حّتى لُيخّيل إليك وأنت تقرأ مجلدات‬
‫ن الخليفة يعيش وحده في قصره‪ُ ..‬محاطاً بخلءات شاسعة‬ ‫تاريخنا العربي أ ّ‬
‫ل أثر فيها لمخلوق‪ ..‬فل ِذْكر للناس ول لتفاصيل حياتهم اليومية‪ ..‬لكنّ‬
‫المفتي رصد التبدلت في المسكن والشارع والمدرسة والدكان والمقهى‬
‫والحديقة والملبس والمسكن والعادات والتقاليد واللهجة‪ ..‬ووسائل‬
‫المواصلت والتعليم والمسرح والرياضة والمكتبات‪ ..‬وعلقات المدينة‬
‫بالخر في الداخل والخارج‪.‬‬

‫ي كتاب من القطع‬ ‫تاريخ مدينة ـ بالطبع ـ ل ُيمكن أن يوضع بين دفَت ّ‬


‫الصغير ل يتجاوز مائتي صفحة‪ ..‬لكن المفتي كان )يلتقط(‪ ..‬يلتقط التفاصيل‬
‫الداّلة‪ ..‬يرّكز على المفاصل والمرتكزات الساسية‪ ..‬وهذا ـ في رأيي ـ هو‬
‫سّر الكتابة الناجحة‪ ..‬ليس في التاريخ فقط‪ ..‬بل حتى في الرواية والقصة‬‫ِ‬
‫شْعر‪) ..‬اللتقاط(‪ ..‬دون الخوض في ُركام الحداث الذي يشتت‬ ‫القصيرة وال ّ‬
‫ص‪.‬‬
‫القارئ وُيثِقل الن ّ‬

‫سب لمحمد المفتي أنه لم يكتب التاريخ بطريقة تقليدية‪ ..‬لكنه بطريقة ما‬ ‫حَ‬‫ُي ْ‬
‫ُيعيد كتابة التاريخ بنَفس جديد‪ ..‬أو ُيعيد قراءته على القل‪ ..‬أو بتعبير أكثر‬
‫دّقة ُيعيد رؤية التاريخ من زاوية متروكة‪ ..‬بأسلوب أقل ما ُيقال فيه أّنه‬
‫ل‪.‬‬
‫ن هذه هي الغاية من أي أسلوب في الكتابة‪ ..‬المتاع أو ً‬‫ممتع‪ ..‬ل ّ‬

‫ىى ىىىىى ىىىىىىى‬


‫ىىىىىى‬

‫‪Naje4004@yahoo.com‬‬

You might also like