Professional Documents
Culture Documents
تجوب و تقطن الصحاري الممتدة ما بين بادية السماوة و صحراء العربية السعيدة بالشام شمال ،و صعيد مصر و سيناء
غربا و خليج فارس و بلد عمان و البحرين شرقا ،و اليمن جنوبا.و كانوا ـ هم وغيرهم من فرس و يونانيين و بيزنطيين ـ
يسمون العرب المستقرين القاريين ممن لهم ممالك على حدود بلدهم ،بأسماء ممالكهم .فيقولون أهل الحيرة و النبط و
الغساسنة و حمير و مملكة سبأ و حضر موت إلخ..على أن تفيئ العرب إلى بائدة و عاربة و مستعربة و عدنانية و قحطانية
تفيئ فج ل علمية له .إنما المراد منه تغليب قريش على سائر الجناس و تغليب بني هاشم عن سائر البطون و القبائل.أما
الواقع و التاريخ فيجعلن العرب فئتين .فئة اختلطت بالشعوب و تفتحت على الحضارات فهذبت من عنجهيتها البدوية و
لينت سلوكها و طباعها ،و غيرت من نمط حياتها .فكان لها حظها من الحضارة و البنيان و الثار الشاهدة عليها من مدن و
قصور و منشآت ،و من كتابات و أقلم و لهجات.و فئة تمسكت بحبل البداوة و الشظف و الفقر و استمرأت حياة الكسب
السهل السريع الرخيص من وراء الرعي و التجار و الفروسية و حماية القوافل و قطع الطرق و اللصوصية .و كانت
تنتظم هذه الفئة الطويلة العريضة ضمن قبائل تنتشر على طول الجزيرة و عرضها ،وازعها المشترك وحدة النساب و
لهجة القرآن و تبادل المصالح مع قريش أهل مكة.و هذا التقسيم يوافق تقسيم أهل الخبار حينما يقسمون العرب إلى أهل
وبر و مدر.فيقولون أن عرب الوبر هم من كانوا يأوون الخيام المصنوعة من شعر الماعز و هم البدو الرحل ،أما عرب
المدر فهم من كانوا يتخذوا البيوت من الطين و الطوب الحمر ،و المدر هو الطين الجاف.وأمثال هؤلء عرب الحيرة و
الغساسنة و حمير و بنو كهلن و كندة الذين أتى عليهم و على ديارهم و معيشتهم الولى الزحف السلمي و البربرية
البدوية العربية.هؤلء العرب الذين طغوا في البلد و استعلوا على العباد و اكتسحوا البلدان و خربوا الديار ،الذين يسميهم
القرآن و أهل الخبار بالعراب البدو هم من سنتناول بالدرس في هذا المقال لنقف على خصائصهم التي تميزهم عن سائر
الناس و لو أن هذا يعتبر مستحيل ،و لنقف على معالم شخصيتهم و تفكيرهم و نظرتهم للمور و للكون و العالم و النسان.
فالحديث عن العرب و عقليتهم ،حديث قديم،حيث نجد الثوراة قد وصفتهم بأنهم :متنابذون يغزون بعضهم بعضًا ،مقاتلون
يقاتلون غيرهم كما يقاتلون بعضهم بعضًا "يده على الكل ،ويد الكل عليه").التكوين ،الصحاح 16الية (12يغيرون على
القوافل فيسلبونها ويأخذون أصحابها أسرى ،يبيعونهم في أسواق النخاسة ،أو يسترقونهم فيتخذونهم خدمًا ورقيقًا يقومون بما
يؤمرون به من أعمال ،إلى غير ذلك من نعوت وصفات.
وقد وصفهم "ديودورس الصقلي" بأنهم يعشقون الحرية ،فيلتحفون السماء .وقد اختاروا القامة في أرضين ل أنهار فيها ول
عيون ماء ،فل يستطيع العدّو المغامر الذي يريد اليقاع بهم أن يجد له فيها مأوى.و أنهم ل يزرعون حبًا ،ول يغرسون
شجرًا ،ول يشربون خمرًا ،ول يبنون بيوتًا .ومن يخالف العرف عندهم فإنه يقتل .وهو يشارك في وصفه هذا رأي
"هيرودوتس" الذي أشاد بحب العرب للحرية وحفاظهم عليها ومقاومتهم لية قوة تحاول استرقاقهم واستذلهم .فالحرية عند
العرب هي من أهم الصفات التي يتصف بها العرب في نظر الكتبة اليونان واللتين.
المفصل في تاريخ العرب قبل السلم الجزء 1ـ (262
أما كسرى فيقول :أنه نظر فوجد أن لكل أمة من المم ميزة وصفة ،فوجد للروم حظًا في اجتماع اللفة وعظم السلطان
وكثرة المدائن ووثيق البنيان ،وأن لهم دينًا يبين حللهم وحرامهم ويرد سفيههم ويقيم جاهلهم ،ورأى للهند ،نحوًا من ذلك في
حكمتها وطّبها مع كثرة أنهار بلدها وثمارها ،وعجيب صناعاتها ودقيق حسابها وكثرة عددها .ووجد للصين كثرة
صناعات أيديها وفروسيتها وهمتها في آلة الحرب وصناعة الحديد ،وان لها ملكًا يجمعها ،وأن للترك والخزر ،على ما بهم
من سوء الحال في المعاش وقلة الريف والثمار والحصون ملوك تضم قواصيهم وتدّبر أمرهم .ولم يَر للعرب دينا ول حزمًا
ول قوة .همتهم ضعيفة بدليل سكنهم في بوادي قفراء ،ورضاؤهم بالعيش البسيط ،والقوت الشحيح ،يقتلون أولدهم من الفاقة
ويأكل بعضهم بعضًا من الحاجة .أفصل طعامهم لحوم البل التي يعافها كثير من السباع لثقلها وسوء طعمها وخوف دائها".
ثم يضيف "وإن قَرى أحدهم ضيفًا عّدها مكرمة .وإن أطعم أكلة عدها غنيمة تنطق بذلك أشعارهم ،وتفتخر بذلك رجالهم".
" ثم إنهم مع قلتهم وفاقتهم وبؤس حالهم ،يفتخرون بأنفسهم ،ويتطاولون على غيرهم وينزلون أنفسهم فوق مراتب الناس".
"حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكّا أجمعين""،
" وأبوا النقياد لرجل واحد منهم يسوسهم ويجمعهم .إذا عاهدوا فغير وافين .سلحهم كلمهم ،به يتفننون ،وبكلمهم
ن .ل صبر لهم ،إذا حاربوا ووجدوا قوة أمامهم ،حاولوا جهدهم التغلب يتلعبون .ليس لهم ميل إلى صنعة أو عمل ول ف ّ
عليها ،أما إذا وجدوها قوة منظمة هربوا مشتتين متبعثرين شراذم .يخضعون للغريب ويهابونه ويأخذون برأيه فيهم ،ما دام
قويًا ،ويقبلون بمن ينصبه عليهم ،ول يقبلون بحكم واحد منهم ،إذا أراد أن يفرض سلطانه عليهم).بلوغ الرب ص 147و
ما بعدها(
وقد ُذكر أن أحد ملوك الهند كتب كتابًا إلى "عمر ين عبد العزيز" ،جاء فيه:
ل شق من الرض لها ملوك تجمعها ومدائن تضمها وأحكام تدين بها وفلسفة تنتجها "لم تزل المم كلها من العاجم في ك ّ
وبدائع تفتقها في الدوات والصناعات ،مثل صنعة الديباج وهي أبدع صنعة ،ولعب الشطرنج وهي أشرف لعبة ،ورّمانة
القبّان التي يوزن بها رطل واحد ومائة رطل ،ومثل فلسفة الروم في ذات الخلق والقانون ،والصطرلب الذي يعدل به
النجوم ويدرك به البعاد ودوران الفلك وعلم الكسوف وغير ذلك من الثار المتقنة ،ولم يكن للعرب ملك يجمع سوادها
ويضم قواصيها ،ويقمع ظلمها وينهى سفيهها ،ول كان لها قط نتيجة في صناعة و ل أثر في فلسفة إل ما كان من الشعر .و
قد شاركتها فيه العجم ،وذلك إن للروم أشعارا عجيبة قائمة الوزن و العروض ،فما الذي تفتخر به العرب على العجم ؟فإنما
حَلق السر. هي كالذئاب العادية ،و الوحوش النافرة ،يأكل بعضها بعضا و يغير بعضها على بعض .فرجالها موثوقون في َ
و نساؤها سبايا مردفات على حقائب البل ،فإذا أدركهن الصريخ استنقذن بالعشي ،و قد وطئن كما توطأ الطريق المهيع".
)السيد محمود شكري اللوسي بلوغ الرب ج 1ص .(156
أما ابن خلدون فرأيه معروف في العرب ،خلصته أن:
لب إذا أخضع مملكة أسرع إليها الخراب ،يصعب انقياده لرئيس ،ل يجيد صناعة ول يحسن " العربي متوحش نّهاب س ّ
علمًا ول عنده استعداد للجادة فيهما ،سليم الطباع ،مستعد للخير شجاع" ).أحمد أمين في تلخيصه لرأي ابن خلدون في
كتابه فجر السلم (1/41وتجد آراء ابن خلدون هذه مدّونة في مقدمته الشهيرة لكتابه العام في التًاريخ.
ي ،ينظر إلى الشياء نظرة مادية وضيعة ،ول ل أو نموذجًا ،ماد ّ
و يرى المستشرق "أوليري" أن " :العربي الذي يعد مث ً
يقومها إل بحسب ما تنتج من نفع .يتملك الطمع مشاعره ،وليس لديه مجال للخيال ول للعواطف .ل يميل كثيرًا إلى دين ،ول
يكترث بشيء إل بقدر ما ينتجه من فائدة عملية .يمله الشعور بكرامته الشخصية حتى ليثور على كل شكل من أشكال
السلطة ،وحتى ليتوقع منه سيد قبيلته و قائده في الحروب الحسد والبغض والخيانة من أول يوم اختير للسيادة عليه ولو كان
صديقًا حميما له من قبل .من أحسن أليه كان موضع نقمته ،لن الحسان يثير فيه شعورًا بالخضوع وضعف المنزلة وأن
عليه واجبًا لمن أحسن إليه.
و يقول لمانس" :إن العربي نموذج الديمقراطية" ،ولكنها ديمقراطية مبالغ فيها إلى حد بعيد ،وإن ثورته على كل سلطة
تحاول أن تحدد من حريته ولو كانت في مصلحته هي السر الذي يفسر لنا سلسلة الجرائم والخيانات التي شغلت أكبر جزء
في تأريخ العرب ،وجهل هذا السر هو الذي قاد الوروبيين في أيامنا هذه إلى كثير من الخطاء ،وحملهم كثيرًا من الضحايا
كان يمكنهم الستغناء عنها ،وصعوبة قيادة العرب وعدم خضوعهم للسلطة هي التي تحول بينهم وبين سيرهم في سبيل
الحضارة الغربية ،ويبلغ حب العربي لحريته مبلغًا كبيرًا ،حتى إذا حاولت ان تحدها أو تنقص من أطرافها هاج كأنه وحش
في قفص ،وثار ثورة جنونية لتحطيم أغلله والعودة إلى حريته .ولكن العربي من ناحية أخرى مخلص ،مطيع لتقاليد قبيلته،
كريم يؤدي واجبات الضيافة والمحالفة في الحروب كما يؤدي واجبات الصداقة مخلصًا في أدائها بحسب ما رسمه العرف.
) المفصل .(1/265
وقد تعرض "أحمد أمين" في الجزء الول من "فجر السلم" للعقلية العربية ،وأورد رأي الشعوبيين في العرب ،ثم رأي
"ابن خلدون" فيهم ،وتكلم على وصف المستشرق "أوليري" لتلك العقلية ،ثم ناقش تلك الراء ،وأبان رأيه فيها وذلك في
الفصل الثالث من هذا الجزء "..،ثم استمر يناقش تلك الراء إلى أن قال :فلنقتصر الن على وصف العربي الجاهلي) ،فجر
السلم (1/43فوصفه بهذا الوصف:
"العربي عصبي المزاج ،سريع الغضب ،يهيج للشيء التافه ،ثم ل يقف في هياجه عند حد ،وهو أشد هياجًا إذا جرحت
كرامته ،أو انتهكت حرمة قبيلته .وإذا اهتاج ،أسرع إلى السيف ،وأحكم إليه ،حتى أفنتهم الحروب ،وحتى صارت الحرب
نظامهم المألوف وحياتهم اليومية المعتادة.
ثم يضيف
"خياله محدود وغير متنوع ،فقلما يرسم له خياله عيشة خيرًا من عيشته ،وحياة خيرًا من حياته يسعى وراءها ،لذلك لم
يعرف "المثل العلى" ،لنه وليد الخيال ،ولم يضع له في لغته لفظة واحدة دالة عليه ،ولم يشر إليه فيما نعرف من
ع أن يذهب كل قوله،وقلما يسبح خياله الشعري في عالم جديد يستقي منه معنى جديدًا ولكنه في دائرته الضيقة استطا َ
مذهب".
ل أن يحّدها حّد ،ولكن الذي فهموه من الحرية هي الحرية الشخصية ل الجتماعية، "أما ناحيتهم الخلقية ،فميل إلى حرية ق ّ
فهم ل يدينون بالطاعة لرئيس ول حاكم ،تأريخهم في الجاهلية -حتى وفي السلم -سلسلة حروب داخلية" وعهد عمر بن
الخطاب كان عصرهم الذهبي ،لنه شغلهم عن حروبهم الداخلية بحروب خارجية.
"والعربي يحب المساواة ،ولكنها مساواة في حدود القبيلة ،وهو مع حبه للمساواة كبير العتداد بقبيلته ثم بجنسه ،يشعر في
أعماق نفسه بأنه من دم ممتاز ،لم يؤمن بعظمة الفرس والروم مع ما له ولهم من جدب وخصب وفقر وغنى وبداوة
وحضارة ،حتى إذا فتح بلدهم نظر إليهم نظرة السيد إلى المسود").نفس المصدر (44/
ثم تحدث عن مظهر آخر من مظاهر العقلية العربية ،لحظه بعض المستشرقين و وافقهم هو عليه ،و هوأن :
طبيعة العقل العربي ل تنظر إلى الشياء نظرة عامة شاملة ،وليس في استطاعتها ذلك .فالعربي لم ينظر إلى العالم نظرة
عامة شاملة كما فعل اليوناني،بل كان يطوف فيما حوله؛ فإذا رأى منظرا خاصا أعجبه تحرك له ،و جاس صدره بالبيت أو
البيات من الشعر أو الحكمة أو المثل" .فأما نظرة شاملة وتحليل دقيق لسسه وعوارضه فذلك ما ل يتفق والعقل العربي.
وفوق هذا هو إذا نظر إلى الشيء الواحد ل يستغرقه بفكره ،بل يقف فيه على مواطن خاصة تستثير عجبه ،فهو إذا وقف
أمام شجرة ،ل ينظر إليها ككل ،إنما يستوقف نظره شيء خاص فيها ،كاستواء ساقها أو جمال أغصانها ،و إذا كان أمام
بستان ،ل يحيطه بنظره ،ول يلتقطه ذهنه كما تلتقطه "الفوتوغرافيا" ،إنما يكون كالنحلة ،يطير من زهرة إلى زهرة،
فيرتشف من كل رشفة" .إلى أن قال:
"هذه الخاصة في العقل العربي هي السر الذي يكشف ما ترى في أدب العرب -حتى في العصور السلمية -من نقص
وما ترى فيه من جمال".
وقد خلص من بحثه ،إلى أن هذا النوع من النظر الذي نجده عند العربي ،هو طور طبيعي تمر به المم جميعًا في أثناء
سيرها إلى الكمال .فهو؛ و هو يريد الدفاع عن العرب يحكم عليهم بعدم الكمال .فكيف لهم يهدون الناس و يخرجونهم من
الظلمات إلى النور؟
وتقوم نظرية أحمد أمين في العقلية العربية على أساس أنها حاصل شيئين وخلصة عاملين ،أثرا مجتمعين في العرب وكّونا
فيهما هذه العقلية التي حددها ورسم معالمها في النعوت المذكورة .والعاملن في رأيه هما :البيئة الطبيعية والبيئة
الجتماعية .وعنى بالبيئة الطبيعية ما يحيط بالشعب طبيعيًا من جبال وأنهار وصحراء ونحو ذلك .وبالبيئة الجتماعية ما
يحيط بالمة من نظم اجتماعية كنظام حكومة ودين وأسرة ونحو ذلك .وهما معًا مجتمعين غير منفصلين ،أّثرا في تلك
طا من أنكر العقلية .ولهذا رفض أن تكون تلك العقلية حاصل البيئة الطبيعية وحدها ،أو حاصل البيئة الجتماعية وحدها .وخ ّ
أثر البيئة الطبيعية في تكوين العقلية ومن هنا انتقد "هيكل" " ،"Heagelلنه أنكر ما للبيئة الطبيعية من أثر في تكوين
العقلي اليوناني .وحجة "هيكل" أنه لو كان للبيئة الطبيعية أثر في تكوين العقليات ،لبان ذلك في عقلية التراك الذين احتلوا
أرض اليونان وعاشوا في بلدهم .ولكنهم لم يكتسبوا مع ذلك عقلهم ولم تكن لهم قابلياتهم ول ثقافتهم .و رّد "أحمد أمين"
عليه هو أن "ذلك يكون صحيحًا لو كانت البيئة الطبيعية هي المؤثر الوحيد ،إذن لكان مثل العقل اليوناني يوجد حيث يوجد
إقليمه ،و ينعدم حيث ينعدم ،أما والعقل اليوناني نتيجة عاملين ،فوجود جزء العلة ل يستلزم وجود المعلول") .المفصل
(1/270
و عليه فأحمد أمين يأخذ بمقولة النسان ابن بيئته ترصيعا للكلم و تهوينا لوقعه على نفوس من يهمهم المر.إذ ،في حين
نجده يعرض أكثر الصور قثامة للعقلية العربية،فإننا نجده يحاول تبريرها بخضوع النسان العربي و غيره للظروف البيئية
خر الطبيعة و البيئة في صالحه ،و ليس النسان هو من الطبيعية و الجتماعية المحيطة به .فتناسى أن النسان هو من س ّ
كونته الطبيعة و صقلته و فرغته حسب شهوتها و قوالبها .و تناسى أن النسان هو من صنع المجتمع و وضع له قوانينه و
آلياته ،و هو الذي بالتالي يملك بيده و حده أمر تعطيل تلك الليات و هدمها أو تغييرها أو البقاء عليها ،حسب ما تتطلبه
ظروفه و رغباته و أهواؤه.
كما تناسى أحمد أمين كذلك أنه كما تخاف الطبيعة الفراغ فكذلك التاريخ ل يقبل الصدف .فإذا كانت العقلية العربية هذه هي
حالهأ ،فإن لذلك علُله و أسباُبه و التي ل تنحصر بالضرورة في العوامل البيئية الطبيعية و الجتماعية ،دون الخذ بعين
العتبار العوامل النفسية التكوينية والعوامل التربوية و الثقافية ،ناهيك عن العوامل القتصادية و الجيو سياسية العامة .و
بالطبع بقدر ما تضيق في أي دراسة ،خانة السباب و العلل المنطقية المؤدية إلى معلول ما ،بقدر ما تكثر بؤر الشك و نقط
الفراغ فيها،فل يجد المؤرخ العربي في مثل هذه الحال ،غير الصدفة ملجأ تنقذه من ورطته .هذا مع العلم أن العالم العربي
يرفض مقدما مبدأ الصدفة و ينبذه.
و لحافظ وهبة في كتاب " جزيرة العرب في القرن العشرين" ملحظات قيمة عن عقلية البدو العرب المعاصرين في
الجزيرة العربية ،جاء فيه
"أما البدو ،فهم القبائل الرحل المتنقلون من جهة إلى أخرى طلبًا للمرعى أو للماء ،والطبيعة هي التي تجبر البدوي على
ي حياةالمحافظة على هذه الحياة ،وحياة البدوي حياة شاقة مضنية ،ولكنه وهو متمتع بأكبر قسط من الحرية يفضلها على أ َ
مدنية أخرى .هذه الحياة الخشنة هي التي جعلت القبائل يتقاتلون في سبيل المرعى والماء ،وهي التي جعلت سوء الظن يغلب
على طباعهم ،فالبدوي ينظر إلى غيره نظرة العدو الذي يحاول أخذ ما بيده أو حرمانه من المرعى".
"إن البدوي في الصحراء ل يهمه إل المطر والمرعى ،فأزمته الحقيقية انحباس المطر وقلة المرعى ول يبالي بما يصيب
العالم في الخارج ما دامت أرضه مخضرة ،وبعيره سمينا وغنمه قد اكتنزت لحمًا وقد طبقت شحمًا".
"أما إذا نما السكان وضاقت بهم الرض أو لم تجد أراضيهم بالمرعى ،فليس هناك سبيل إل الزحف والقتال ،أو الهجرة إن
كان هناك سبيل إليها ،وكذلك القبيلة التي غلبت على أمرها وحرمت من مراعيها وأراضيها ليس أمامها سبيل آخر سوى
الهجرة.
"لقد كان البدو قبل ثلثين سنة في غارات وحروب مستمرة ،كل قبيلة تنتهز الفرص للغارة على جارتها لنهب مالها،
وتعدد المارات وتشاحن المراء وتخاصمهم مما يشجع البدوي.
وقد جرى العرف أن القبائل تعتبر الرض التي اعتادت رعيها ،و المياه التي اعتادت أن تردها ملكًا لها ،ل تسمح لغيرها"
من القبائل الخرى بالدنّو منها إل بإذنها ورضاها ،وكثيرا ما تأنس إحدى القبائل من نفسها القوة فتهجم بل سابق إنذار على
".قبيلة أخرى و تنتزع منها مراعيها و مياهها
إن قبائل العرب ليسوا كلهم سواء في الشر و التعدي على السابلة و القوافل ،فبعضها قد اشتهر أمره بالكرم و السماحة و"
".الترفع عن الدنايا ،كما اشتهر بعضها بالتعدي و سفك الدماء بل سبب سوى الطمع فيما في ايدي الناس
ليس للبدوي قيمة حربية تذكر ،و لذا كان اعتماد المراء على الحضر ،فهم الذين يصمدون للقتال و يصبرون على بلئه و
بلوائه .و كثيرا ما كان البدو شرا على المير المصاحبين له ،فإن ذلك المير إذا ما بدت الهزيمة كانوا هم البادئين بالنهب و
)السلب و يحتجون بأنهم هم أولى من العداء المحاربين")وهبة ص 11و ما بعدها
"و البدوي إذا لم يجد سلطة تردعه أو تضرب على يده يرى من حقه نهب الغادي و الرائح ،فالحق عنده القوة التي يخضع
لها ،و يخضع غيره بها .على أن لهؤلء قواعد للبادية معتبرة عندهم كقوانين يجب احترامها ،فالقوافل التي تمر بأرض قبيلة
و ليس معها من يحميها من أفراد هذه القبيلة معرضة للنهب ،ولذا فقد اعتادت القوافل قديما أن يصحبها عدد غير قليل من
القبائل التي ستمر بأرضها و يسمون هذا رفيقا.
ويضيف"و البدوي يحتقر الحضري مهما أكرمه ،كما أن الحضري يحتقر البدوي ،فإذا و صف البدوي الحضري ،فإنه في
حضيري تصغيرا لشأنه. الغالب يقول ُ
و من عادة البدوي الستفهام عن كل شيء ،و انتقاد ما يراه مخالفا لذوقه أو لعادته بكل صراحة ،فإذا مررت بالبدوي في
الصحراء استوقفك و سألك من أين أنت قادم؟ و عمن وراءك من المشايخ و الحكام؟ و عن المياه التي مررت بها ؟ وعن
أسعار الغذية و القهوة؟ وعمن في البلد من القبائل؟ و عن العلقات السياسية بين الحكام بعضهم و بعض.
و مع أن البدوي قد اعتاد النهب و السلب ،فإنهم كثيرا ما يعفون عن أهل العلم خوفا من غضب ال عليهم ،و بعض البدو ل
يحلف كاذبا مهما كانت النتيجة .و البدوي ينكر إذا وجد مجال للنكار ،و يفلت بمهارة من الجابة عما يسأل ،و لكن إذا وجه
له اليمين و كان ل مفر له اعترف بجرمه إذا كان مذنبا ،و ل يحلف كذبا"
"وليس أعدل من البدوي في تقسيم الغنيمة حتى قد يتلفون الشيء تحريا للعدل ،و يقسمون السجادة بينهم كما يقسمون
القميص لو السروال ،كل هذا إرضاء لضمائرهم دفعا للضلم ،إنهم يعرفون الخيام حق المعرفة لنها بيوتهم التي يعيشون
فيها ،و مع ذلك فهم يقسمونها مراعاة للعدل ،أما البل و الغنم فأنهم يقسمونها إذا أمكن القسمة أو يقومونها بثمن إذا لم يكن
هناك سبيل للقسمة".
"و البدو ل يفهمون الحياة حق الفهم كما يفهمها الحضري ،ل يفهمون البيوت و هندستها ،ول يفهمون فائدة البواب والنوافذ
الخشبية ،حتى أن البدو الذين كانوا في جيش الملك حسين في الثورة العربية كان عملهم بعد الستيلء على الطائف نزع
خشب النوافذ والبواب ،ل لبيعها والنتفاع بثمنها بل لستعمالها وقودَا إما للقهوة أو الطبخ أو التدفئة .وبدو نجد قد فعلوا مثل
ل ،اكتشفت الحكومة أن النوافذ الخشبية والبواب تنقص جْرَو ْ
ذلك تمامأ ،فعندما أسكنت الحكومة بعض القبائل في ثكنة َ
بالتدريج ،وأنها استعملت للطبخ وتحضير القهوة ،فأخرجهم جللة الملك توًا من الثكنة ،وأسكن الحضر فيها ،والحضر
بطبيعتهم يصفمون ما ل يفهمه جهلة البدو عن النوافذ والبواب.
"وللبدو مهارة فائقة في اقتفاء الثر ،وكثيرًا ما كانت هذه المعرفة سببا في اكتشاف كثير من الجرائم ول تكاد تخلو قبيلة من
طائفة منهم.
"والقبائل العريقة المشهورة من حضر وبادية تحافظ على أنسابها تمام المحافظة وتحرص عليها كل الحرص ،فل تصاهر
إل من يساويها في النسسب ،والقبائل المشكوك في نسبها ل يصاهرها أحد من القبائل المعروفة.
"أما حكام العرب ،فيترفعون عن سائر الناس حضرهم وبدوهم،ل يزوجون بناتهم إل لقرباهم .أما هم فيتزوجون من
يشاءون .وطبقات الحكام يترفع بعضها على بعض :الشراف يرون أنفسهم أرفع الخلق بنسبهم ،وآل سعود يرون أنفسهم
أرفع من الشراف ،وأرفع من سواهم من حكام العرب الخرين" ).وهبة ص 13و ما بعدها(
أما القرآن فقد وصف العرب بالغلظة والجفاء وبعدم الدراك وبالنفاق وبالتظاهر في اللسان بما يخالف ما في الجنان:
ن في قلوبكم ،وإن تطيعوا ال ورسوله ،ل يلتكم قالت العراب :آمنا ،قل ،لم تؤمنوا ،ولكن قولوا :أسلمنا ،ولما يدخل اليما ُ
من أعمالكم شيئًا ،إن ال غفور رحيم)الحجرات (14
وممن حولكم من العراب منافقون ومن أهل المدينة َمَرُدوا على النفاق ،ل تعلمهم ،نحن نعلمهم ،سنعذبهم مرتين ،ثم يرّدون
إلى عذاب عظيم) التوبة .(101
فالعرابي "البدوي"حسب القرآن إنسان ل يعتمد عليه ،مسلم ومع ذلك يتربص بالمسلمين الدوائر ،فإذا خذل المسلمون في
معركة ،أو شعر بضعف موقفهم خذلهم وانقلب عليهم ،أو اشترط شروطًا ثقيلة عليهم ،بحيث يجد فيها مخرجًا له ليخلص
نفسه من الوضع الحرج الذي أصاب المسلمين.
فل يكلف نفسه ،ول يخشى من مصير سيئ ينتظره إن غلب المسلمون.
ل يعلموا حدود ما أنزل ال على رسوله ،و ال عليم حكيم .ومن العراب من يتخذ ما ينفق العراب أشد كفرًا ونفاقًا وأجدر أ ّ
سلْم في الغالب عن عقيدة وعنمغرمًا ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء وال سميع عليم)التوبة (98والعرابي لم ُي ِ
فهم ،إنما أسلم لن رئيسه قد أسلم .فسّيد القبيلة إذا آمن وأسلم ،أسلمت قبيلته معه .وقد دخلت قبائل برمتها في اِلنصرانية
لدخول سّيدها فيها .وقد وردت في سورة الحجرات هذه اليات في وصف بعض العراب:
(قالت العراب آمنا ،قل :لم تؤمنوا ،ولكن قولوا :أسلمنا ،ولما يدخل اليمان في قلوبكم .وإن تطيعوا ال ورسوله ل يلتكم من
أعمالكم في شيئًا .إن ال غفور رحيم .إنما المؤمنون ،الذين آمنوا بال ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في
سبيل ال ،أولئك هم الصادقون .قل أتعّلمون ال بدينكم ؛ وال يعلم ما في السموات وما في الرض .وال بكل شيء عليم.
ن هداكم لليمان إن كنتم صادقين)الحجرات 14و ما ي إسلمكم ،بل ال يمن عليكم ،أ ْ يمّنون عليك أن أسلموا .قل ل تمّنوا عل ّ
بعدها(
وقد استثنى القرآن بعض العراب مما وصمهم به من الكفر والنفاق والتربص وانتهاز الفرص فنزل الوحي فيهم:
)ومن العراب من يؤمن بال واليوم الخر ،ويتخذ ما ينفق قربات عند ال وصلوات الرسول ،أل إنها قربة لهم ،سيدخلهم
ال في رحمته ،إن ال غفور رحيم).التوبة 99ـ المصتف 1/280و ما بعدها(
وذكر أن الرسول وصفه "سراقة" وهو من أعراب "بني مدلج" بقوله:
"وان كان أعرابيا بّوال على عقبيه").الغاخر ، 64/بلوف الرب (3/425
عَيْيَنة بن حصن" قائد "غطفان" يوم الحزاب ب "الحمق المطاع". وأنه نعت " ُ
"وكان دخل على النبي صلى ال عليه وسلم ،بغير إذن ،فلما قال له أين الذن؟ قال ما استأذنت على مضربي قبلك .وقال:
ما هذه الحميراء معك يا محمد؟ فقال :هي عائشة بنت أبي يكر .فقال :طلقها وأنزل لك عن أم البنين.و هناك أمور كثيرة
ن عليه ولم يزل
تذكر في جفائه .أسلم ثم ارتد وآمن بطليحة حين تنبأ وأخذ أسيرًا فأتي به أبا بكر ،رضي ال عنه ،أسيرا فم ّ
مظهرًا للسلم على جفوته وعنجهيته ولوثة أعرابيته حتى مات".
والبدوي الذي تمكن "ابن سعود" أو غيره من الحكام من ضبطه بعض الضبط ومن الحد من غاراته على الحضر أو على
البدو ألخرين ،هو البدوي نفسه الذي عاش قبل الميلد وفي عهد إسماعيل ،والذي قالت في حقه التوراة" :يده على الكل و
يد الكل عليه" .و هو سيبقى كذلك ما دام بدويا ترتبط حياته بالصحراء ،ينتهز الفرص كلما وجد وهنا في الحكومات وقوة في
نفسه على أخذ ما يجده عند الخرين ،وهو إن هدأ و سكن ،فلنه يجد نفسه ضعيفا تجاه سلطة الحكومة ،ليس في استطاعته
مقاومتها لضعف سلحه ،فإذا شعر بقوته لم يخش عندئذ أحدا .المصنف 1/283
.
يتبع
أبو نبي الصغاليك