Professional Documents
Culture Documents
اإلسالم
خاتم الديانات التوحيدية
إعداد :د -سعيد سامي
أستاذ التعليم العالي المدرسة العليا لألساتذة بفاس
التاريخ ،ديداكتيك التاريخ ،التشريع المدرسي والجامعي
رئيس شعبة التاريخ والجغرافيا 2012-2003
المنسق البيداغوجي لماستر الكفايات وتجويد الممارسات التعليمية-التعلمية 2014-2011
عضو الفريق البيداغوجي لماستر الديبلوماسية الدينية كلية الشريعة فاس 2021-2018
عضو الفريق البيداغوجي اإلجازة في التربية التعليم االبتدائي منذ 2019
عضو مختبر الشريعة والقانون والمجتمع 2020كلية الشريعة فاس
عضو مجلس تدبير مختبر الدراسات التطبيقية في الشريعة والقانون منذ 2022
عضو تكوين الدكتوراه الشريعة والقانون وقضايا العصر :تخصص الديبلوماسية الدينية
والعالقات الدولية :الدراسات التاريخية والجيو-سياسية ،منذ .2021
عضو الفريق البيداغوجي اإلجازة في التربية :التاريخ والجغرافيا بالتعليم الثانوي .2024
يمكن إيقافها .كل ثأر يؤدي إلى ثأر آخر إذا ما شعر الناس أن الثأر لم يكن متناسبا مع الجريمة
األصلية.
مبدأ األريحية والكرم فضيلتان هامتان علمتا العرب عدم التفكير بالغد .فهذه الفضائل ستصبح
هامة جدا في اإلسالم .لقد لعبت المروءة دورا جيدا في حياة العرب طيلة قرون ،لكنها في القرن
السادس لم تكن قادرة على الستجابة لظروف الحداثة .فخالل الفترة األخيرة من فترة ما قبل اإلسالم
التي يسميها المسلمون الجاهلية (أي زمن الجهل) يبدو أن سخطا واسع النتشار وقلقا روحيا كان
يسمان هذه الفترة .كان العرب محاطين بإمبراطوريتين عاتيتين هما المبراطورية الساسانية في
فارس واإلمبراطورية البيزنطية في بالد الشام .بدأت األفكار الجديدة من البلدان المستقرة تنفذ إلى
الجزيرة ،فالتجار الذين كانوا يسافرون إلى سورية أو العراق يعودون ومعهم قصص عن أعاجيب
الحضارة ،مع ذلك بدا العرب وكأنه محكوم عليهم ببربرية أبدية .كانت القبائل منشغلة في حروب
مستمرة جعلت جمع مصادرهم الضئيلة أمرا محال ،كي يصبحوا الشعب العربي الموحد الذي كانوا
يدركون وجوده بشكل غير واضح .لم يكونوا قادرين على حمل قدرهم وتأسيس حضارتهم بأيديهم.
بدل من ذلك ،كانوا عرضة لستغالل القوى العظمى .إن المنطقة األكثر خصوبة ومعرفة في جنوب
الجزيرة والمعروفة اآلن باسم اليمن التي كانت تستفيد من األمطار الموسمية ،أصبحت مجرد ولية
من وليات فارس .األفكار الجديدة التي كانت تتسلل إلى المنطقة جلبت معها خصوصيات النزعة
الفردية التي نسفت الروح الجماعية القديمة :فالعتقاد المسيحي بالحياة بعد الموت مثال ،جعل المصير
األبدي لكل فرد ذا قيمة مقدسة .فكيف كان باإلمكان جعل الفردية منسجمة مع المثل األعلى القبلي
الذي جعل دور الفرد ثانويا أمام المثل األعلى الجماعي الذي كان يؤكد على أن خلود الفرد؛ الذكر
أو األنثى ،إنما يكمن في بقاء القبيلة؟.
لقد كان محمد ذا عبقرية استثنائية .فعندما توفي في عام 632م كان قد جمع جميع القبائل في
الجزيرة العربية في جماعة موحدة أو أمة .لقد جلب للعرب روحانية فريدة تتناسب مع تراثاتهم،
فنزعت أغالل قدرات مختزنة ومكنتهم خالل مئة سنة من تأسيس إمبراطوريتهم العظيمة التي امتدت
من الهيماليا إلى جبال البيرينيه ،فكانت حضارة فريدة .عندما كان محمد يجلس مصليا في الكهف
الصغير على قمة جبل حراء أثناء اعتكافه في شهر رمضان عام 610م ،لم يكن باستطاعته أن يتصور
هذا النجاح الظاهرة.
بحلول القرن السابع توصل العرب إلى العتقاد بأن الكعبة الصومعة؛ المكعبة الشكل الضخمة
في قلب مكة ،كانت مكرسة هلل أساسا ،على الرغم من وجود اإلله النبطي هبل في الكعبة في ذلك
الوقت .كان المكيون فخورين جدا بالكعبة التي كانت أهم مكان مقدس في الجزيرة العربية .وكان
العرب يتوافدون على أرجاء الجزيرة ألداء الحج في مكة كل سنة ،يؤدون الشعائر التراثية في فترة
تبلغ عدة أيام .ي حرم العنف في الحرم وفي المنطقة المقدسة حول الكعبة .وهكذا كان بوسعهم التجار
بسالم عارفين مسبقا أن العداوات القبلية القديمة كانت مؤجلة مؤقتا .وكان القريشيون يعلمون أنهم
ما كانوا ليحققوا نجاحهم المادي لول الكعبة ،وأن امتيازهم بين القبائل العربية يعتمد على رفادة الكعبة
وعلى صيانة موجوداتها المقدسة القديمة.
[ العرب والحنيفية ]
لم تحقق اليهودية والمسيحية سوى تقدم قليل في المنطقة مع أن العرب كانوا يعترفون بأن هذا
الشكل المتقدم من الدين كان أعلى مستوى من وثنيتهم التراثية .وكانت قبائل يهودية في يثرب وفدك
إلى الشمال من مكة ،وبعض من القبائل الشمالية على الحدود الفاصلة بين المبراطورية الفارسية
والبيزنطية التي اعتنقت المونوفيزية Monophysiteأو المسيحية النسطورية .كان البدو متمسكين
3
باستقالليتهم بضراوة ،وكانوا مصممين على عدم الخضوع للقوى العظمى مثل إخوانهم في اليمن،
كما كانوا مدركين تماما أن الفرس والبيزنطيين قد استخدموا اليهودية والمسيحية كي يزيدوا من
صنائعهم في المنطقة .ويحتمل أنهم كانوا مدركين غريزيا أنهم قد عانوا بما فيه الكفاية من اقتالع
ثقافي بينما كانت تراثاتهم تتآكل .آخر شيء كانوا بحاجة إليه كان إيديولوجيا أجنبية مطرزة بلغات
وتراثات غريبة عنهم.
يبدو أن بعض العرب حاول اكتشاف شكل للوحدانية أكثر حيادية غير ملوثة بارتباطات
إمبريالية .ففي القرن الخامس م يخبرنا المؤرخ المسيحي الفلسطيني سوزومينوس Sozomenusأن
بعض العرب في سوريا اكتشفوا ما أسموه دين إبراهيم الحنيف الذي عاش قبل أن ينزل هللا التوراة
أو اإلنجيل ،وبالتالي لم يكن يهوديا ول مسيحيا .ويخبرنا محمد بن إسحق (ت 767م) أول كاتب سيرة
للنبي أن أربعة من قرشيي مكة قد قرروا اتباع الحنيفية دين إبراهيم الحق ،وقد جادل بعض العلماء
الغربيين أن هذه الطائفة الحنفية القليلة هي قصة تقوى ترمز إلى القلق الروحي الذي كان في الجاهلية،
لكن لبد أن لها أساسا واقعيا ،فالمسلمون األوائل يعرفون ثالثة من هؤلء األحناف األربعة وهم:
عبيد هلل بن جحش (ابن عمة محمد) ،وورقة بن نوفل الذي أصبح مسيحيا في النهاية (أحد مستشاري
محمد الروحيين) وزيد بن عمر خال عمر بن الخطاب (أحد المقربين من محمد ،والذي أصبح الخليفة
الثاني لإلمبراطورية اإلسالمية) .فهناك قصة تروى عن زيد قبل أن يغادر مكة كي يبحث في سوريا
والعراق عن دين إبراهيم .كان زيد واقفا قرب الكعبة متكئا على جدارها ،وقريش تؤدي طقس
الطواف حولها بالطريقة التي كانت مب جلة في ذلك العصر ،قال زيد" :يا معشر قريش ،والذي نفس
زيد بيده ما من أحد منكم يتبع دين إبراهيم سواي" .ثم أضاف حزينا" :يا إلهي لو أني أعلم كيف تريد
أن تُعبد ،لكنت عبدتك كذلك ،لكنني ل أعلم".
هؤلء الذين كانت نبوءاتهم غير مفهومة ومشوشة ،وكان حريصا جدا على تمييز القرآن عن الشعر
العربي التقليدي.
جبريل في اإلسالم هو النظير للروح القدس في الوحي ،أي الوسيلة التي يتصل بها هللا مع
الناس .فجبريل لم يكن مجرد مالك عادي؛ بل حضور غامر كلي الوجود ول سبيل إلى الهرب منه.
كان في محمد ذلك الخوف المتعاظم من الحضور المقدس الذي أسماه األنبياء العبرانيون "قدوس"،
اآلخرية Othernessاإللهية المخيفة .لقد شعر هؤلء األنبياء أنهم مشرفون على الموت ،وفي حالة
إرهاق جسدي ونفسي لدى مرورهم بهذه التجربة .لكن محمدا لم يكن مثل أشعيا أو إرميا ألنه لم يكن
لديه عزاءات من تراث راسخ كي تدعمه .بدت التجربة مرعبة بعد أن هبطت عليه من الغيب؛ فتركته
في حالة صدمة عميقة .فعاد غريزيا وهو في كربه إلى زوجه خديجة.
رمى محمد نفسه وهو يرتجف في حجرها صائحا" :دثروني ،دثروني" .راجيا إياها أن تغطيه
من الحضرة المقدسة .وبعد أن خفت عنه وطأة الخوف سألها فيم إذا كان قد أصبح حقا مجنونا،
فأسرعت خديجة تقول له" :أعيذك باهلل من ذلك يا أبا القاسم ! .ما كان هللا ليصنع ذلك بك مع ما أعلم
منك من صدق حديثك ،وعظم أمانتك ،وحسن خلقك ،وصلة رحمك"!
لم يكن تصرف هللا عشوائيا .فقد اقترحت خديجة على محمد أن يستشير خالها ورقة بن نوفل
الذي أصبح مسيحيا وعارفا بالكتب المقدسة .لم يكن لدى ورقة شك على اإلطالق في أن محمد قد
تلقى الوحي من رب موسى واألنبياء ،وأنه قد أصبح المبعوث اإللهي إلى العرب .وبعد فترة كان
محمد قد اقتنع بحالته ،فبدأ يدعو القرشيين حامال إليهم كتابا مقدسا بلغتهم هم.
كان نزول القرآن مختلفا عن التوراة التي أوحيت إلى موسى ،كما في الرواية الموجودة في
العهد القديم ،في لقاء واحد على قمة جبل سيناء .فالقرآن نزل على محمد آية آية ،وسطرا تلو آخر
في فترة تبلغ 23سنة .كان نزول الوحي تجربة مؤلمة ،فقد وصف محمد هبوط الوحي "لم أتلق
الوحي مرة إل وشعرت أن روحي تكاد أن تخرج مني" .كان عليه ان يصغي متمعنا إلى الكلمات
اإللهية .قال إن مضمون الرسالة اإللهية كان أحيانا واضحا :بدا وكأنه كان يرى جبريل ويسمع ما
كان يقوله .وأحيانا أخرى كانت األصداء تخف عندما أكون مدركا لرسالتها.
ففي القرآن يخبر هللا محمدا أن يستمع إلى المعنى غير المترابط بانتباه ،أي بما سماه
وردزورث "سلبية حكيمة" .يجب أل يندفع لفرض كلمات أو لفرض معنى مفهومي معين ،بل عليه
النتظار حتى يفصح المعنى الحقيقي عن نفسه في وقته المناسب" .ال تُحّرك به لسانك لت َ ْعجل به .إن
علينا َج ْم َعهُ وقرآنه .فإذا قرأته فاتّبع قرآنه .ثم إن علينا بيانه".
لقد كانت عملية صعبة مثلها مثل كل عملية إبداعية .كان محمد يدخل في حالة نشوة ،وكما
يبدو كان يفقد وعيه أحيانا .كان يتصبب عرقا ،حتى في يوم بارد .وكان غالبا ما يشعر بوطأة داخلية
مثل الحزن الذي كان يجبره على أن يخفض رأسه بين ركبتيه .كان المتصوفون اليهود يتخذون هذا
الوضع عند الدخول في حالة وعي بديلة ،بينما لم يكن محمدا يعرف ذلك.
ليس مستغربا إذا وجد محمد هذه اإليحاءات عبئا هائال عليه :فهو لم يكن يعمل فقط في إيجاد
حل سياسي جديد كل الجدة لشعبه ،بل كان يتلقى وحيا آلخر كتاب مقدس .ألن القرآن ذو أهمية
مركزية للروحانية اإلسالمية .إننا نعرف عن محمد أكثر مما نعرف عن أي مؤسس ألي دين رئيسي
آخر .وفي القرآن الذي باإلمكان تحديد تواريخ سوره بدقة معقولة نستطيع رؤية كيفية نشأة رؤياه
وتطورها لتصبح أكثر كونية في مداها .في البداية لم يكن يتطلع إلى ما حققه لحقا ،بل كان هذا
يُوحي له شيئا فشيئا ،بينما كان يستجيب لمنطق األحداث الداخلي .لدينا في القرآن ما يشبه تعليقا
معاصرا على بدايات اإلسالم ،وهذا أمر فريد في تاريخ الدين ،ففي هذا الكتاب المقدس يبدو هللا وهو
5
يعلق على الحالة المتطورة لألحداث :يرد على بعض من منتقدي محمد ،ويشرح أهمية معركة ،أو
يتحدث عن نزاع داخل الجماعة اإلسالمية األولى .ويشير كذلك إلى البعد اإللهي في الحياة اإلنسانية.
فالقرآن لم ينزل على محمد بالترتيب الذي نقرؤه فيه اليوم ،بل بطريقة أكثر عشوائية :حسبما
تمليه األحداث ،وكما استمع إلى معناها األكثر عمقا .فكلما كانت تُوحي آية ،كان محمد يقرؤها
بصوت عال ،وكان المسلمون يحفظونها غيبا ،ويكتبها قلة من المتعلمين .بعد مضي نحو عشرين
سنة على وفاة النبي تم أول جمع رسمي للوحي .وضع كتاب الوحي السور األطول في البداية
واألقصر في النهاية .وهذا الترتيب ليس عشوائيا كما قد يبدو؛ ألن القرآن ليس قصة ول جدال يحتاج
إلى ترتيب متسلسل .إنه يتعرض لمواضيع متنوعة :حضور هللا في العالم الطبيعي ،حيوات األنبياء،
أو يوم القيامة .فالقرآن يبدو ممال ومكررا بالنسبة إلى غربي ل يتذوق جمال اللغة العربية ،ويبدو له
أنه يتعرض للموضوع ذاته مرة تلو أخرى .فالقرآن لم يكن من أجل الدراسة الخاصة ،بل من أجل
تالوة طقسية .فعندما يسمع المسلمون القرآن يرتل في المساجد ،فإنهم يُذكرون بمعتقدات دينهم كلها.
ولم تكن رسالة محمد في بدايتها محكومة باإلخفاق على أية حال ،بل كانت رسالة أمل تحمل
السرور .ولم يكن عليه أن يثبت لقريش وجود هللا ،فهم جميعا يؤمنون ضمنيا باهلل الذي خلق السموات
واألرض ،وكان يعتقد معظمهم أنه كان هللا الذي عبده اليهود والمسيحيون .وهكذا كان اإليمان بوجود
هللا أمرا بديهيا" :ولئن سألتهم من خلق السموات واألرض ،وسخر الشمس والقمر ،ليقولن هللا،
فأنى يؤفكون .ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به األرض من بعد موتها ليقولن هللا .قل
الحمد هلل ،بل أكثرهم ال يعقلون .المشكلة التي كانت تواجهه هي أن القرشيين لو يكونوا يفكرون في
مضامين هذا العتقاد.
فوجود هللا أمر مسلم به ول جدال فيه .ففي القرآن نجد أن الكافر بنعمة هللا ليس ملحدا كما
نفهم من الكلمة التي نعني بها من ل يؤمن باهلل ،بل من ل يكون شاكرا له ،أي من يرى بكل وضوح
ما هو مدين هلل به لكنه يرفض تمجيده وينكر جميله.
لم يكن القرآن يعلم القرشيين أي شيء جديد ،فهو يُذكر باستمرار بأشياء معروفة مسبقا
يطرحها بأريحية واضحة .فكثيرا ما يستهل القرآن موضوعا بعبارة مثل ألم تر؟ .ألم تعتبروا؟ .لم
تكن كلمة هللا تصدر أوامر اعتباطية من أعلى ،بل كانت تدخل في حوار مع القريشيين .فهي تُذكرهم
مثال أن الكعبة هي بيت هللا الذي يتوقف عليه نجاحهم ،الذي كان بمعنى من المعاني دينا عليهم .كان
القريشيون يحبون القيام بالطواف الطقسي حول الكعبة ،لكن عندما وضعوا أنفسهم ونجاحهم المادي
في مركز الحياة نسوا تماما معاني هذه الشعائر القديمة وتوجهها .عليهم أن ينظروا إلى آيات نعمة
هللا وقدرته في العالم الطبيعي .فإذا ما فشلوا في إعادة إنتاج نعمة هللا من مجتمعهم ،فإنهم سيفقدون
كل صلة بالطبيعة الحقة لألشياء.
جعل محمد أصحابه ينحنون عدة مرات في صلوات طقسية كل يوم .فهذا المظهر الخارجي
سيساعد المسلمين على تنمية موقف داخلي ،وبإعادة توجيه حيواتهم .يسمى دين محمد باإلسالم "أي
عملية تسليم وجودي يقوم به كل مسلم إلى هللا" .فالمسلم رجال كان أم أنثى ،هو من سلم وجوده كله
إلى الخالق .ذُعر القري شيون عندما رأوا هؤلء المسلمين األوائل يؤدون الصالة :وجدوا أنه أمر غير
مقبول لفرد من قبيلة قريش الصلفة ،التي ترافقها استقاللية بدوية متغطرسة طوال قرون ،أن يكون
مستعدا للسجود على األرض كعبد .كان على المسلمين النسحاب إلى شعاب مكة كي يؤدوا صالتهم
سرا .فرد فعل القريشيين قد أوضح بكل جالء أن محمدا قد شخص روحهم بكل دقة.
كان اإلسالم في كلمات عملية يعني أن على المسلمين واجب خلق مجتمع تسوده العدالة
والمساواة ،ويعامل فيه الفقراء والضعفاء باحترام .فرسالة القرآن األخالقية األولى في غاية البساطة:
تكديس الثروات خطأ كبير .ل بأس في أن يجمع المرء ثروة إل أن تقاسم ثروة المجتمع بالعدل
6
فضيلة ،بإعطاء نسبة محددة من ثروة المرء إلى الفقراء .فالزكاة المرافقة للصالة هما ركنان أساسيان
من أركان اإلسالم الخمس .فعل محمد ما فعله األنبياء العبرانيون قبله عندما دعا إلى نظام أخالقي
يمكننا أن نطلق عليه أخالقا اشتراكية كنتيجة لعبادته هللا الواحد .ل وجود لمعتقدات إلزامية حول هللا.
في القرآن نج د أن هللا أكثر ل شخصانية من يهوي ،يفتقر إلى عواطف وانفعالت هللا في
الكتاب التوراتي المقدس .نستطيع أن نلمح فقط شيئا من هللا في آيات الطبيعة .وبما أنه متعال جدا،
نستطيع أن نتحدث عنه من خالل "رموز" فقط .ولذلك نجد القرآن يحث المسلمين دائما على رؤية
العالم كتجل ،يجب عليهم أن يقوموا بجهد تخيلي كي يروا عبر جزئيات العالم قدرة الوجود األول
الكاملة ،الحقيقة المتعالية التي تمد جميع األشياء بالحياة .ينبغي على المسلمين أن ينموا داخلهم موقفا
رمزيا أو تقديسيا.
يشدد القرآن دائما على استخدام العقل في فك رموز آيات أو رسالة هللا .يجب على المسلمين
أل يتخلوا عن عقولهم ،بل عليهم أن ينظروا إلى العالم بتمعن وفضول .فهذا الموقف بالذات هو الذي
مكن المسلمين لحقا من بناء تراث جميل للعالم الطبيعي الذي لم يكن يُعد خطرا على الدين كما عدته
المسيحية .فدراسة آلليات عمل العالم الطبيعي تبين أنه ذو بعد ومصدر متعال يمكننا أن نتحدث عنه
في رموز أو إشارات :ويجب أل تفسر قصص األنبياء ،أو روايات يوم القيامة ،أو مباهج الفردوس
بشكل حرفي ،بل كرموز لحقيقة أسمى ل يمكن وصفها.
هذا الجمال اللغوي الخارق في القرآن .وغالبا ما كان يصف المسلم هذه التجربة على أنها اقتحام
إلهي فصد حنينا دفينا وأطلق فيضا من المشاعر .فالفتى القريشي عمر بن الخطاب الذي كان خصما
عنيدا لمحمد ،كان قد نذر نفسه إلى الوثنية القديمة ،وكان على استعداد لغتيال النبي .لكنه اعتنق
اإلسالم ل برؤيا يسوع الكلمة ،بل بسماعه القرآن.
فهناك روايتان لقصة إسالمه تجدر اإلشارة إلى كليهما .األولى تروي أن عمرا قد اكتشف أن
أخته قد اعتنقت اإلسالم سرا .ولدى سماعه تالوة سورة جديدة زأر غاضبا راميا فاطمة المسكينة
إلى األرض أثناء دخوله المنزل .لكنه ربما شعر بالخجل عندما رآها تنزف ،ألن وجهه قد تغير لونه.
التقط المخطوط قائال" :ما هذا الهراء؟" ،وأخذ يقرأ المخطوط ،إذ كان عمر أحد القريشيين القالئل
الذين كانوا يقرؤون .وكان له سلطة معترف بها على الشعر العربي الشفوي ،وكان الشعراء
يستشيرونه بالمعاني الدقيقة للغة .لكنه لم يكن قد صادف أبدا شيئا مماثال للقرآن .قال مبديا إعجابه:
"ما أجمل وما أنبل هذا الكالم" ،واعتنق دين هللا الجديد على الفور .لقد وصل جمال الكلمات رغم ما
كان يضمره من حقد وضغينة إلى مركز تلق لم يكن مدركا له .فنحن جميعا نمر بتجربة مماثلة كالذي
يحصل عندما تالمس قصيدة ما وتر معرفة كامن في مستوى أعمق من المستوى العقالني.
أما في الرواية الثانية إلسالم عمر فتسير على النحو التالي :ذات ليلة قابل عمر محمدا في
الكعبة وهو يرتل القرآن بهدوء وحده أمام المحراب .كان عمر يود الستماع إلى الكلمات ،فتسلل
تحت القماش الدمشقي الذي كان يغطي المكعب الغرانيتي الضخم ،ودار حتى أصبح واقفا أمام النبي
مباشرة .وعندما قال له "ل شيء بيننا سوى غطاء الكعبة" سقطت كل دفاعاته ما عدا واحدا .بعدئذ
فعل سحر اللغة العربية فعله" :وعندما سمعت القرآن رق قلبي وبكيت ،ودخل اإلسالم قلبي" .فالقرآن
هو الذي منع أن يكون هللا مجرد وجود قدير "هناك خارجا" ،وإنما جلبه إلى داخل عقل وقلب وكيان
كل مؤمن.
إنها حالة غزو تقتحم "منزل وجودنا الصغير الحذر ،ويأمرنا :بدل حياتك" .فبعد صدور
أوامر كهذه فإن المنزل "لن يعود صالحا للسكن كما كان من قبل" .يبدو أن المسلمين مثل عمر قد
تعرضوا إلدراك لمستقر مماثل ،لصحوة وإحساس باألهمية مزعج مكنتهم من القيام بقطيعة مع
الماضي والتراث .فحتى القريشيون الذين رفضوا اعتناق اإلسالم ،كان القرآن مصدر إزعاج لهم،
ألنهم وجدوا أنه يقع خارج نطاق مجالتهم المألوفة :لم يكن القرآن شبيها بإلهام الكاهن أو الشاعر،
ولم يكن كذلك مثل تمائم ساحر .وتبين بعض القصص أن قسما من القريشيين المقتدرين بقوا ثابتين
في معارضتهم التي كانت تهتز لدى سماعهم إحدى السور .لقد أوجد محمد شكال أدبيا جديدا كليا لم
يكن الناس مستعدين له ،وكان يدخل النشوة في قلوب اآلخرين .ويبدو محتمال جدا أنه ما كان لإلسالم
من دون تجربة القرآن هذه أن يضرب جذوره .فكما رأينا بقي اإلسرائيليون القدماء نحو 700سنة
حتى تمكنوا من إحداث قطيعة مع ولءاتهم الدينية القديمة كي يقبلوا الوحدانية ،بيد أن محمدا تمكن
من مساعدة العرب على إنجاز هذا النتقال الصعب في مدة 23سنة فقط.
جدا ،ل بد أنها قد بدت إنجازا هشا لجميع القرشيين الذين كانوا يتفاخرون بالكتفاء الذاتي ،ول بد أن
العديد قد شعروا بالخوف العميق واليأس الذي شعر به أولئك المواطنون في روما الذين ضجوا
مطالبين بالدم المسيحي .ويبدو أن القري شيين قد وجدوا أن القطيعة مع آلهة األجداد كانت تهددهم
بمخاطر كبيرة .ولم يمض وقت طويل حتى أصبحت حياة محمد مهددة بالخطر.
وهكذا أصبحت صوامع إلهات الكعبة نقاط روحية أساسية في الساحة العاطفية عند العرب
مثلها في ذلك مثل الكعبة ،فأجدادهم كانوا يتعبدون هناك منذ زمن سحيق ،وهذا كان يعطيهم إحساسا
ّ
والعزى .ومناة الثالثة األخرى .ألكم الذكر وله األنثى .تلك إذا شافيا بالستمرارية" .أفرأيتم الالت
قسمة ضيزى .إن هي إال أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم وما أنزل هللا بها من سلطان .إن يتبعون
إال الظن وما تهوى األنفس ،ولقد جاءهم من ربهم الهدى .أم لإلنسان ما تمنى .هللف اآلخرة واألولى.
وكم من ملك في السموات ال تغني شفاعتهم شيئا إال من بعد أن يأذن هللا لمن يشاء ويرضى.
لقد أصبح الشرك أكبر الذنوب جميعا.
وشكل مفهوم وحدانية هللا األساس األخالقي في القرآن .كانت كلمة الشرك تعني الخضوع
إلى سلع مادية أو وضع الثقة في كائنات أدنى من هللا ،لذا يُعد الشرك أكبر ذنب في اإلسالم .وكالتوراة
يصب القرآن سخريته على اآللهة الوثنية :إنها آلهة غير فعالة أبدا .فهي ل تستطيع تقديم العون أو
الطعام .ووضعها في مركز حياة المرء أمر غير جيد ،ألنها ل قدرة لها .وبدل من ذلك ،يجب على
المسلم أن يدرك أن هللا هو الحقيقة الفريدة والنهائية" :قل هو هللا أحد .هللا الصمد .لم يلد ولم يولد.
ولم يكن له كفؤا أحد".
لقد شدد المسيحيون ،كما شدد أتانازيوس أيضا ،على أن الخالق الواحد هو مصدر الوجود
وبيده قدرة الخالص ،وقد عبروا عن هذه الرؤية في الثالوث والتجسيد .يعود القرآن إلى فكرة
الوحدانية اإللهية المتعالية ،ويرفض تخيل أن يلد هللا ابنا :ليس هناك إله سوى هللا خالق السموات
واألرض ،وهو وحده القادر على أن ينقذ اإلنسان ،وأن يرسل إليه العون الروحي والمادي الذي
يحتاجه .فعن طريق العتراف به فقط على أنه الصمد أي "العلة األولى لكل ما في الوجود" ،يبلغ
المسلمون بعدا للحقيقة تقع خارج الزمن والتاريخ .وسيأخذهم هذا البعد خارج انقساماتهم القبلية التي
كانت تمزق مجتمعهم .كان محمد يعرف أن الوحدانية هي عدو القبلية :فوجود إله واحد في مركز
العبادة سيلم شمل المجتمع والفرد كذلك.
ليس هناك مفهوم تبسيطي لفكرة هللا على أية حال .فهذا اإلله الواحد ليس كائنا مثلنا يمكننا
معرفته أو فهمه .فعبارة هللا أكبر التي تدعو المؤمنين إلى الصالة تميز بين هللا وبقية الوجود ،وبين
هللا كما هو في ذاته ،وبين أي شيء يمكننا قوله عنه .فاهلل الذي ل سبيل إلى فهمه أو الوصول إليه قد
أراد أن يجعل نفسه معروفا .في تراث قديم ،أي الحديث ،يقول هللا لمحمد :كنت سرا دفينا ،أردت أن
أعرف ،ولذلك خلقت العالم كي أغدو معروفا .فعن طريق تأمل آيات الطبيعة والقرآن ،يتمكن
المسلمون من لمح ذلك الجانب من األلوهة التي التفتت نحو العالم ،والتي يسميها القرآن وجه هللا.
ويوضح اإلسالم لنا ،مثلما أوضح الدينان األقدم منه ،أننا نرى هللا عبر قدراته فقط ،وتكيف هذه
القدرات وجوده الذي ل سبيل إلى فهمه بما يتناسب وفهمنا المحدود .فالقرآن يحث المسلمين على
تنمية وعي أبدي "التقوى" بوجه أو بذات هللا الذي يحيط بنا من كل جانب" :فأينما تولوا فثم وجه
هللا .إن هللا واسع عليم".
يرى القرآن هللا ،كما رآه اآلباء المسيحيون :المطلق ،وهو وحده ذو وجود حق "كل من عليها،
فإن ويبقى وجه ربك ذو الجالل واإلكرام" .هلل األسماء الحسنى التي يبلغ تعدادها 99إسما .وتؤكد
على أنه األعظم ومصدر جميع الصفات اإليجابية التي نجدها في الكون .وهكذا العالم موجود ألنه
هو الغني "غنى ل نهائي" .إنه واهب الحياة "المحيي" ،العارف باألشياء جميعا "العليم" ،منتج الكالم
9
"الكلمة" .فلوله لما كانت حياة أو معرفة أو كالم .إنها تأكيد على أن هللا فقط له الوجود الحق والقيمة
واإليجابية .مع ذلك تبدو أسماء هللا وكأن كال منها يلغي اآلخر" :القابض" الذي يأخذ بعيدا" ،الباسط"
الذي يعطي بسخاء" .الخافض" الذي ينزل إلى أدنى مرتبة" ،الرافع" الذي يعز .تلعب أسماء هللا
دورا مركزيا في التقوى اإلسالمية :فهي تردد وتعد على حبات السبحة ،وترتل كحلقة ،فهذه األسماء
تذكر المسلمين أن هللا الذي يعبدون ل يمكن احتواءه في مجالت بشرية ،ويرفض التعريف المبسط.
الشهادة هي أول ركن في اإلسالم" :أشهد أن ل إله إل هللا ،وأن محمدا رسول هللا" .لم تكن
هذه الشهادة مجرد تأكيد لوجود هللا ،بل اعترافا بأن هللا هو الحقيقة الوحيدة ،والوجود الكامل الحق
الوحيد .هللا هو الوجود الحق الوحيد في الجمال والكمال :جميع الكائنات التي تبدو موجودة ولها هذه
الصفات إنما تملكها طالما أنها تشارك في هذا الوجود األساسي .وينبغي على المسلمين أن يكملوا
حياتهم بجعل هللا فقط بؤرة تركيز في حياتهم وأولويتهم الوحيدة .فقول إن هللا واحد لم يكن مجرد
تعريف عددي ،بل كان دعوى لجعل الواحد العامل المحرك في حياة المرء والمجتمع .فباإلمكان
رؤية وحدانية هللا في الذات المتكاملة حقا .وكانت وحدانية هللا تتطلب من المسلمين اإلقرار
باإليحاءات الدينية في أديان أخرى :هناك إله واحد فقط ،وجميع األديان الحقة لبد أنها مستمدة منه
وحده .اإليمان بالحقيقة العليا الوحيدة مشروط ثقافيا ،وسيتم التعبير عنها في مجتمعات مختلفة في
طرق مختلفة .لكن بؤرة كل عبادة حقة يجب أن تكون موحاة من هللا ومتجهة إلى الوجود الذي أسماه
العرب دائما "هللا".
أحد أسماء هللا في القرآن هو "النور" ،فاهلل هو مصدر كل معرفة ،وهو السبيل الذي من خالله
يستطيع الناس لمح المتعالي :هللا نور السموات واألرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ،المصباح
في زجاجة ،الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة ال شرقية وال غربية يكاد
زيتها يُضيء ولو لم تمسسه نار ،نور على نور يهدي هللا لنوره من يشاء ،ويضرب هللا األمثال
للناس وهللا بكل شيء عليم".
تذكرنا أداة التشبيه "كـ" بالطبيعة الرمزية األساسية في الخطاب القرآني عن هللا .فالنور ليس
هو ذات هللا ،بل يشير إلى الستن ارة التي يسبغها على ظهور محدد (المصباح الذي يشع في قلب
الفرد) (المشكاة) .ل يمكن تعريف النور ذاته بحامليه ،لكنه مشترك بينهم جميعا .فكما أشار المفسرون
المسلمون منذ عصور قديمة إلى أن النور رمز جيد للتعبير عن الحقيقة اإللهية تحديدا ،التي تتعالى
على الزمان والمكان.
أمر طبيعي أن يشير القرآن إشارات خاصة إلى الرسل الذين كان يعرفهم العرب ،مثل نوح
وإبراهيم ،وموسى ويسوع الذين كانوا أنبياء اليهود والمسيحيين ،ويذكر أيضا هود وصالح اللذين
أرسال إلى الشعوب العربية القديمة في مدين وثمود.
إن إيمان محمد في استمرارية التجربة الدينية سرعان ما وضع على المحك .فبعد النشقاق
عن قريش أصبحت الحياة مستحيلة أمام المسلمين في مكة .كان العبيد والمحررون الذين لم تكن لهم
حماية قبلية يعذبون بوحشية حتى أن بعضهم قد توفي تحت التعذيب ،وفرضت مقاطعة على بني
هاشم في محاولة لتجويعهم وإخضاعهم بالتالي .وفي النهاية أصبحت حياة محمد في خطر .ودعا
العرب الوثنيون في يثرب المسلمين إلى ترك عشيرتهم والهجرة إلى يثرب :فكانت هذه خطوة ل
سابقة لها إطالقا :ألن القبيلة بالنسبة للعربي كانت هي القيمة المقدسة في شبه الجزيرة ،فكان هذا
الرد خرقا لمبادئ أساسية .كانت يثرب ممزقة بحروب ل تندمل بين الجماعات القبلية المتنوعة،
وكان كثير من الوثنيين على استعداد لقبول اإلسالم كحل روحي وسياسي لمشكالت الواحة .كانت
في يثرب ثالث قبائل يهودية كبيرة قد أعدت عقول الوثنيين لتقبل الوحدانية ،أي أنهم لم يشعروا بما
10
شعر به القريشيون بتشويه سمعة اآللهة العربية .وهكذا انطلق نحو 70مسلما مع أسرهم قاصدين
يثرب في صيف عام 622م.
التاريخ بجعل اإلسالم حقيقة سياسية :فقد رأينا أن القرآن يدعو جميع المؤمنين إلى العمل من أجل
إقامة مجتمع تسوده العدالة والمساواة .وقد أخذ المسلمون هذا النداء السياسي بجدية كبيرة حقا .فلم
يكن في نية محمد أن يصبح قائدا سياسيا في البداية ،لكن األحداث التي لم يكن بوسعه التنبؤ بها دفعته
باتجاه حل سياسي جديد كليا للعرب .فخالل السنوات العشرين للهجرة ووفاته عام 632م دخل
المسلمون األول في صراع من أجل البقاء ضد خصومهم في المدينة وضد قريش في مكة ،وكان
هؤلء جميعا على استعداد لستئصال األمة.
في الغرب قدم محمد على أنه قائد محارب فرض اإلسالم على عالم متردد بقوة السالح ،إل
أن حقيقة األمر كانت شيئا مختلفا تماما .لقد كان محمد يحارب من أجل حياته ،وكان يطور لهوت
الحرب العادلة في القرآن ،وسيوافقه معظم المسحيين على ذلك ،ولم يجبر محمدا أحدا على اعتناق
دينه .فقد نص القرآن بكل وضوح "ل إكراه في الدين" .وفي القرآن تعتبر الحرب بغيضة ،والحرب
العادلة الوحيدة هي حرب الدفاع عن النفس .وفي بعض األحيان من الضروري أن نحارب صونا
لقيم ممتازة ،تماما مثلما اعتقد المسيحيون بضرورة محاربة هتلر .كان محمد يتمتع بمواهب سياسية
رفيعة المستوى .ففي حوالي نهاية حياته كانت قد انضمت معظم القبائل إلى األمة ،علما أن محمدا
كان يعلم أن إسالمهم كان إما إسميا أو سطحيا .في عام 630م فتحت مكة بواباتها لمحمد الذي أخذها
دون سفك دماء.
فُرض الحج على المسلمين مرة في الحياة إن سمحت ظروفهم الحياتية بذلك .فمن الطبيعي
أن يتذكر الحجيج محمدا ،لكن فُسرت شعائر الحج كي تذكرهم بإبراهيم وهاجر وإسماعيل أكثر مما
تذكرهم بنبيهم .تبدو هذه الشعائر إلنسان غير مسلم غريبة مثلما مثل أية طقوس دينية أو اجتماعية،
لكنها قادرة على إطالق تجربة دينية عالية التركيز .وتعبر بشكل تام عن الجوانب الذاتية والجماعية
في الروحانية اإلسالمية .فاآلن الحجيج الذين يجتمعون في مكة في الوقت المحدد ليسوا عربا فقط،
لكنهم قادرون على جعل الطقوس العربية طقوسهم .فعندما يتوافدون إلى الكعبة بمالبس اإلحرام التي
تلغي جميع الفوارق العرقية أو الطبقية ،فإنهم يشعرون بأنهم قد تحرروا من مشاغلهم األنانية في
حياتهم اليومية ،وأنهم مندمجون في مجتمع له هدف واحد وتوجه واحد .إنه يصيحون بانسجام "ها
نحن في خدمتك أيها الرب (لبيك اللهم لبيك) قبل أن يبدأوا الطواف حول الكعبة.
لقد شهد اليهود والمسيحيون أيضا على روحانية الجماعة .فالحج يمد كل فرد مسلم بتجربة
كمال ذاتي في جو األمة ،وهللا في وسطها .فكما في معظم األديان :السالم والنسجام هما موضوعان
ُحرم كل نوع من العنف ،حتى قتل حشرة هامان في الحج ،وما أن يدخل الحجاج في اإلحرام حتى ي ّ
أو النطق بكلمة نابية .ومن هنا كان السخط الذي عم العالم اإلسالمي خالل موسم الحج عام 1987
عندما قـام الحجاج اإليرانيون بمظاهرة قـتل فيها 402شخصا وجرح 649آخرون.
توفي محمد بشكل غير متوقع بعد فترة مرض قصيرة في حزيران عام 632م .فحاولت بعض
القبائل البدوية الرتداد عن األمة ،لكن الوحدة السياسية في الجزيرة العربية كانت قد ترسخت .وفي
النهاية قبلت القبائل المرتدة دين هللا الواحد :لقد بين النجاح المحمدي المدهش للعرب أن الوثنية التي
خدمتهم جيدا طوال قرون كانت دون فاعلية في العالم الحديث .لقد أدخل دين هللا روح الجماعة
الرحيمة التي كانت سمة األديان المتطورة :فاألخوة والعدالة الجتماعية هما فضيلتاه المميزتان له.
والمساواة ما تزال سمة مميزة للمثل اإلسالمية.
كانت حياة محمد تتضمن المساواة بين الجنسين .جرت في يومنا هذا العادة على القول أن
اإلسالم دين يحط من قدر النساء ،لكن دين هللا كان موقفه إيجابيا من النساء .في الجاهلية ،كانت
الجزيرة العربية ما تزال تحتفظ بالمواقف الجاهلية اتجاه النساء ،والتي سادت قبل العصر المحوري.
كان تعدد الزوجات شائعا ،كن يبقين في منازل آبائهن .وكانت نساء النخبة يتمتعن بسلطة وامتياز ل
12
بأس بهما .فزوجة محمد األولى خديجة تاجرة ناجحة .لكن معظم النساء كن على قدم المساواة مع
العبيد ،دون حقوق سياسية أو إنسانية ،ووأد البنات كان عادة شائعة .كانت النساء من أوائل المعتنقين
لإلسالم ،وكان تحريرهن مشروعا عزيزا جدا على قلب محمد .لقد حرم القرآن وأد البنات تحريما
تاما .وسخر من حزن العرب حينما يرزقون باإلناث .وقد أعطى اإلسالم المرأة حقوقا قانونية في
اإلرث والطالق :معظم النساء الغربيات لم يكن لهن مثل هذه الحقوق حتى القرن التاسع عشر .لقد
شجع محمد النساء على لعب دور فعال في شؤون األمة ،وكن يعبرن عن آرائهن بشكل مباشر ،وكن
واثقات من أنهن سيلقين آذانا صاغية .ففي إحدى المناسبات شكت نساء المدينة إلى الرسول أن
الرجال كانوا يعزلوهن أثناء تدارسهم القرآن ،وطل بن منه أن يأمر الرجال بالكف عن ذلك؛ وهذا ما
فعله .وتساءلت النساء لماذا خاطب القرآن الرجال فقط في الوقت الذي أسلمت فيه النساء أيضا.
فكانت النتيجة نزول الوحي مخاطبا النساء كما خاطب الرجال ،وأكد على المساواة بين الجنسين
أخالقيا وروحيا .ولذلك خاطب القرآن النساء صراحة ،وقلما يحدث هذا في اليهودية أو المسيحية.
فالسياسة ليست أمرا عرضيا في حياة المسلم الدينية الشخصية ،كما في المسيحية التي ل تثق
بالنجاح الدنيوي .فالمسلمون يعتبرون أنفسهم ملزمين بإنجاز مجتمع عادل وفقا إلرادة هللا ،واألمة
لها أهمية مقدسة قد باركها هللا ،كما بارك السعي لتحرير اإلنسانية من الضطهاد والظلم .فسالمة
األمة السياسية لها المكانة نفسها في الروحانية اإلسالمية كخيار ثيولوجي محدد.
[ الحديث والسنة ]
التراثيون الذين حاولوا العودة إلى مثل محمد والراشدين .أدى ذلك إلى تشكيل القانون الشرعي
(أي العرف المبني على القرآن والحياة والقواعد السلوكية التي مارسها النبي) .كان يتم تناقل عدد
مربك من التراث الشفوي حلول كلمات "الحديث" وممارسة محمد "السنة" وأصحابه األوائل .فتم
جمعهما خالل القرنين الثامن والتاسع على يد عدد من جامعي الحديث :أكثرهم شهرة محمد بن
إسماعيل البخاري ،ومسلم بن عجاج القرشي .وبما أن محمد قد استسلم كليا هلل كان على المسلمين
ان يحذووا حذوه في حياتهم اليومية .فعن طريق محاكاة أسلوب حديث ،وأكل ،واغتسال ،وتعبد،
وحب محمد كان القانون المقدس اإلسالمي يساعد المسلمين على أن يعيشوا حياة منفتحة على اإللهي.
فعن طريق قولبة أنفسهم وفقا للنبي كانوا يأملون في بلوغ انفتاحه الداخلي هلل .فعندما يتبع المسلمون
سنة كالمبادرة بالتحي ة ،أو الرفق بالحيوانات ،واللطف مع اليتامى والفقراء ،مثلما كان كريما وصادقا
في تعامله فإنه يتم تذكيرهم باهلل .يجب أل تكون المظاهر الخارجية غايات بحد ذاتها بل وسيلة لبلوغ
التقوى "معرفة هللا" كما وصفها القرآن وكما مارسها النبي ،والتي تتكون من تذكر مستمر (الذكر).
حدث جدال كبير حول صحة السنة والحديث :اعتبرها البعض أكثر مصداقية مما اعتبرها آخرون:
لكن في النهاية فإن مسألة الصحة التاريخية لهذه التراثات أمر أقل أهمية من أهمية الحقائق التي
عبرت عنها .لقد أثبتت أنها قادرة على إحضار إحساس مقدس باهلل إلى داخل حياة الماليين من
المسلمين عبر القرون.
تهتم المسلمات واألحاديث المجموعة حول النبي بشؤون الحياة اليومية ،لكنها مهتمة
بالماورائيات أيضا ،ونشوء الكون ،والالهوت .ويعتقد أن عددا من هذه األقوال قد ورد على لسان
هللا إلى محمد .تؤكد هذه األحاديث الشريفة على ذات هللا وحضوره في المؤمن .فيرتب حديث مشهور
ال مراحل التي يفهم المؤمن عبرها الحضور اإللهي الذي يبدو متجسدا في المؤمن تقريبا :تبدأ باللتزام
بأوامر القرآن والشريعة ،ثم تتقدم لتصل إلى أعمال التقوى الطوعية.
13
فاهلل المتعالي ،كما في اليهودية والمسيحية ،هو أيضا حضور مالزم نقابله هنا على األرض.
وباستطاعة المسلمين تنمية إحساس بهذا الحضور اإللهي بطرق مماثلة لتلك الطرق التي اكتشفها
الدينان السابقان.
بنى المسلمون الذين طوروا هذا النوع من الورع على محاكاة محمد ،ويعرف هؤلء بأهل
الحديث أي التراثيون .وقد لقى الورع استحسانا لدى عامة الناس ألن أخالقهم كانت أخالق مساواة
صارمة .لقد عارضوا رفاهية القصور األموية والعباسية ،لكنهم لم يقفوا في صف التكتيكات الثورية
الشيعية ،لم يعتقدوا أن الخليفة يجب أن تتوافر فيه مزايا روحانية استثنائية ،فهو بكل بساطة متصرف.
ومن خالل التأكيد على الطبيعة المقدسة لكل من القرآن والسنة ،فإنهم زودوا كل مسلم بوسائل
الحتكاك المباشر مع هللا ،الحتكاك الذي كان مدمرا وحديا جدا مع السلطة المطلقة .لم تكن هناك
حاجة تدعو إلى وجود طبقة من الكهنوت لتعمل كوسطاء ألن كل مسلم مسؤول أمام هللا عن مصيره.
فقبل كل شيء عملت التراثات أن القرآن كان حقيقة أبدية ،مثل التوراة واللوغوس ،الذي كان
فيه بشكل ما ،جانب من هللا ذاته ،فقد استقر في عقله قبل بداية الزمن .وكان اعتقادهم بأن القرآن غير
مخلوق ،يعني أن باستطاعة المسلمين سماع هللا الالمرئي مباشرة لدى سماعهم ترتيل القرآن .فالقرآن
كان يمثل حضور هللا بينهم .كالمه على شفاههم عندما يرتلون كلماته المقدسة ،وعندما يمسكون
الكتاب المقدس فكأنما كانوا يلمسون هللا ذاته .وقد اعتقد المسيحيون األول بأن يسوع اإلنسان هو هللا
مجسدا بطريقة مماثلة.
وبما أنه ليس له ذرية فقد انقطع نسله .أما اإلسماعيليون الذين يعرفون باسم "السبعاويين" فقد اعتقدوا
أن السابع من بين هؤلء األئمة كان اإلمام األخير .وقد ظهر تأثير فكرة المنتظر بين اإلثني عشريين
الذين يعتقدون أن اإلمام الثاني عشر أو المتواري سوف يعود كي يدشن عصرا ذهبيا .كانت هذه
أفكار خطرة ،ولم تكن هدامة سياسيا ،بل باإلمكان تفسيرها وبسهولة بشكل تبسيطي فج .كما طورت
الشيعة األكثر تطرفا تراثا سريا قائما على تفسير القرآن رمزيا .كانت تقيتهم مبهمة بالنسبة لمعظم
المسلمين الذين كانوا يعتبرون هذه الفكرة التجسيدية ضربا من التجديف ،وكان الشيعة أفرادا من
األرستقراطية والمثقفين .ففي الغرب نميل إلى تصوير التشيع على أنه طائفة إسالمية تالزمها
األصولية ،لكن هذا التقييم ليس دقيقا .لقد أصبح التشيع تراثا معقدا ،وفيه كثير مما هو مشترك مع
أولئك المسلمين الذين حاولوا تطبيق الجدل القرآني بشكل منهجي على القرآن .يعرف هؤلء
العقالنيون باسم المعتزلة الذين شكلوا جماعات متميزة ،وكانوا ذوي التزام سياسي راسخ .كانوا
ينتقدون رفاهية البالط بشدة ،وكانوا نشطاء سياسيا ضد المؤسسة.
تجنبا لهذا الخطر ،أتى التراثيون بالفارق الذي مجده الزمن والذي استخدمه اليهود
والمسيحيون على السواء ،أي الفارق بين جوهر هللا وقدراته .فادعوا أن بعضا من تلك القدرات التي
مكنت هللا المتعالي من نقلها إلى العالم مثل القدرة ،المعرفة ،اإلدارة ،السمع ،البصر الكالم التي تنسب
إلى هللا في القرآن -أنها وجدت معه منذ األزل بالطريقة نفسها التي وجد فيها القرآن غير المخلوق.
كانت متميزة عن جوهر هللا الذي ل سبيل إلى معرفته والتي سوف تراوغ فهمنا دائما .فكما تخيل
اليهود أن حكمة هللا أو التوراة قد وجدت مع هللا من قبل بداية الزمن ،كذلك كان المسلمون يطورون
فكرة مماثلة كي تعطي فكرة عن شخصية هللا ،وكي تذكر المسلمين أن ليس باإلمكان احتواءه كليا
بالعقل البشري .لو لم يقف الخليفة المأمون (832-813م) إلى جانب المعتزلة ،ولو لم يجعل أفكارهم
معتقدا إسالميا رسميا لما أثر هذا الجدل العويص إل على قلة من الناس .لكن عندما بدأ الخليفة
بتعذيب التراثيين كي يفرض العتقاد المعتزلي على الناس شعر عامة الناس بالرعب من هذا السلوك
غير اإلسالمي .فالزعيم التراثي أحمد بن حنبل (855-780م) الذي نجا من الموت في التحقيق معه
أصبح بطال شعبيا .فقداسته ومقدرته -لقد صلى من أجل معذبيه -وتحديه الخالفة ،وإيمانه بالقرآن
المنزل أصبح كلمة السر لثورة شعبية ضد عقالنية المعتزلة.
رفض ابن حنبل تشجيع أي نوع من النقاش العقالني حول هللا .وهكذا عندما طرح المعتزلي
الحيان القرابيصي (ت 859م ) حل تسوية تعتبر القرآن كالم هللا وأنه حقا منزل إل انه عندما صيغ
في كلمات بشرية أصبح مخلوقا ،أدان ابن حنبل هذا العتقاد .وكان القرابيصي على استعداد تام
لتعديل وجهة نظره ثانية فأعلن أن اللغة العربية المكتوبة والمنطوقة في القرآن كانت منزلة طالما
أنها مستمدة من كالم هللا األزلي .بيد أ ن ابن حنبل أعلن أن هذا الرأي غير شرعي أيضا ،فمن العبث
والخطر أن نتأمل في أصل القرآن بهذه الطريقة العقالنية ،فالعقل لم يكن أداة مناسبة لستكشاف هللا
الذي ل يوصف .واتهم المعتزلة بأنهم يجردون هللا من كل سر ،وأنهم يجعلوه صيغة مجردة ليس لها
قيمة دينية .عندما استخدم القرآن كلمات تجسيد بشرية لوصف قدرات هللا في العالم ،أو عندما قال
القرآن إن هللا يتكلم ويرى ويجلس على عرشه أصر ابن حنبل على تفسير هذه الكلمات حرفيا دون
التساؤل كيف .باإلمكان مقارنة ابن حنبل مع مسيحيين راديكاليين مثل اتانازيوس الذي أصر على
تفسير متطرف لعقيدة التجسيد في وجه الهراطقة األكثر عقالنية .كان ابن حنبل يشدد على عدم قدرة
اإلنسان على وصف هللا الذي يوجد خارج كل منطق وتحليل مفهومي.
مع ذلك يؤكد القرآن باستمرار على العقل والفهم فكان موقف ابن حنبل ينم عن سذاجة في
العقل .فقد وجد مسلمون كثر رأيه ضال وإبهاميا .فأبو الحسن بن إسماعيل األشعري (941-878م)
الذي كان معتزليا ثم تحول إلى تراثي بحلم رآه قدم تسوية.
ومن تلك الفترة فصاعدا أخذ األشعري باستخدام األساليب العقالنية المعتزلية كي يرفع الروح
الالأدرية عند ابن حنبل .فحيث نادى المعتزلة بأن وحي هللا ل يمكن أن يكون غير عقالني ،كان
األشعري يستخدم العقل والمنطق ليبين أن هللا كان خارج نطاق فهمنا .كان المعتزلة في خطر تخفيض
هللا إلى مفهوم جاف لكنه متماسك .بينما أراد األشعري أن يعود إلى هللا الممتلئ دما في القرآن ،على
الرغم من عدم اتساق طرحه .كان األشعري مثل دينس األريوباغيتي ألنه اعتقد أن التناقض سيؤدي
إلى زيادة فهمنا هلل .رفض أن يخفض هللا إلى مفهوم باإلمكان مناقشته وتحليله مثل أية فكرة إنسانية
أخرى .كانت الصفات اإللهية المعرفة ،القدرة ،الحياة وما شابه حقيقية تنتمي إلى هللا منذ األزل ،لكنها
كانت متميزة عن جوهر هللا ،ألن هللا باألساس واحد بسيط ومتفرد .ل يمكن اعتباره كائنا معقدا ألنه
هو البساطة ذاتها .ليس في وسعنا تحليله عن طريق تعريف صفاته العديدة أو تقسيمه إلى أجزاء
أصغر .لقد رفض األشعري أية محاولة إلزالة النقائض :فقد أصر على أنه عندما يكون القرآن أن
16
هللا يجلس على عرشه يجب علينا أن نقبل هذا كحقيقة حتى وإن تكن خارج نطاق فهمنا لنتصور
روحا محضة جالسة.
كان األشعري يحاول أن يوجد سبيال وسطا بين الظالمية العنيدة والعقالنية المتطرفة .فبعض
الحرفيين قالوا :إذا كان المباركون سوف يرون هللا في السماء ،كما ذكر القرآن ،فال بد أن يكون له
مظهر مادي.
قبل بعض الشيعة آراء كهذه بسبب اعتقادهم أن األئمة كانوا تجسيدات لإلله .أصر المعتزلة
على أنه عندما يتحدث القرآن عن يدي هللا مثال يجب أن يفهم ذلك مجازيا ككناية عن كرمه وسخائه.
عارض األشعري الحرفيين عن طريق اإلشارة إلى أن القرآن أكد على أننا نستطيع أن نتكلم عن هللا
في لغة رمزية ،لكنه عارض التراثيين أيضا في رفضهم اإلجمالي للعقلي .قال إن محمدا لم تقابله
هذه المشكالت ولو حدث ذلك لكان قدم توجيها للمسلمين .على المسلمين واجب استخدام القياس
كأدوات تفسيرية لالحتفاظ بمفهوم ديني صحيح عن هللا.
كان األشعري يختار دائما موقع تسوية وسط .ولذلك جادل بأن القرآن كان كلمة هللا المنزلة
األبدية ،لكنها حبر وورق ،والكلمات العربية المكونة لآليات المقدسة كانت مخلوقة .وأدان اعتقاد
المعتزلة باإلرادة الحرة ،ألن هللا وحده هو الخالق ألفعال اإلنسان ،وعارض نظرة التراثيين أيضا
في أن البشر ل يساهمون إطالقا في خالصهم ،فكانت تسويته تنطوي على ضرر لحد ما :يخلق هللا
األفعال لكنه يسمح للبشر امتالك جدارة أو عدم جدارة للقيام بهذه األفعال .لم يكن األشعري مثل ابن
حنبل ألنه كان مستعدا لطرح أسئلة ،وأن يستكشف هذه المشكالت الماورائية ،مع أنه يختتم قوله في
النهاية :من الخطأ أن نحاول احتواء الحقيقة التي ل توصف ،الخفية التي نسميها هللا في منهج عقالني
مرتب.
لقد أسس األشعري تراث علم الكالم اإلسالمي الذي يترجم عادة بكلمة "الالهوت" .استمر
خلفاؤه في القرنين العاشر والحادي عشر في تطوير أفكاره .فاألشاعرة األوائل أرادوا تأسيس إطار
ميتافيزيقي لمناقشة سليمة لسيادة هللا .فأبو بكر الباقالني (ت1013م) الالهوتي البارز األول من
المدرسة األشعرية وافق في كتابه "التوحيد" المعتزلة في قولهم أن بإمكان البشر إثبات وجود هللا
بالمنطق والجدل العقالني :فالقرآن يصور إبراهيم وهو يكتشف الخالق األزلي عن طريق التفكير
منهجيا بالعالم الطبيعي .لكن الباقالني رفض مقولة أن بإمكان البشر التمييز بين الخير والشر دون
وحي ألنهما ليسا مجالين طبيع يين بل أوجدهما هللا :هللا ليس مقيدا بمفاهيم بشرية عما هو حق أو
باطل.
طور الباقالني نظرية تعرف باسم المذهب الذري أو السببية التي حاولت أن تجد أساسا عقليا
لشهادة المسلم :لم يكن هناك إله أو حقيقة أو يقين سوى هللا .كل شيء في العالم معتمد على اهتمام هللا
المباشر بشكل مطلق .فالكون كله تم تخفيضه إلى ذرات فردية ل تحصى :الزمان والمكان ليسا
مستمرين ،وما من شيء له هوية محددة خاصة به .فالكون الظاهري قد خفض إلى العدم على يد
الباقالني .لقد أحيا الكون وأمر خلقه في الوجود في كل ثانية .لم تكن هناك قوانين طبيعية تشرح بقاء
الكون .على الرغم من أن مسلمين آخرين يكيفون أنفسهم مع العلم بنجاح كبير إل أن األشعرية كانت
عدائية باألساس تجاه العلوم الطبيعية ،ومع ذلك كان لها مرجعها الديني .كانت محاولة ميتافيزيقية
لشرح حضور هللا في كل جزء من تفاصيل الحياة اليومية ،وتذكر أن الدين لم يكن يعتمد على المنطق
العادي .فإذا ما استخدم المنطق كمبدأ أكثر من استخدامه عرضا حقيقيا للحقيقة فقد يساعد المسلمين
على تطوير الشعور باهلل (التقوى) الذي وصفه القرآن.
17
يكمن ضعف األشعرية في استبعاد الدليل العلمي لصالح النقيض ،وتفسيرها الحرفي لموقف
ديني مراوغ محير باألساس .لقد أحدثت األشعرية فجوة بين الطريقة التي كان ينظر فيها المسلم إلى
هللا والطريقة التي كان يفكر فيها بأمور أخرى.
لقد حاول المعتزلة واألشاعرة ،في طرق مختلفة ربط التجربة الدينية باهلل بالفكر العقالني
العادي فكان هذا الربط هاما .كان المسلمون يحاولون أن يجدوا فيما إذا كان باإلمكان الحديث عن
هللا مثلما تناقش المسائل األخرى .فقد رأينا أن اليونانيين قد اتفقوا على توازن لم يكن متوازنا ،وأن
الصمت هو الشكل المالئم فقط لالهوت .ووصل المسلمون إلى النتيجة ذاتها في نهاية المطاف.
كان محمد وأصحابه ينتمون إلى مجتمع أكثر بدائية من مجتمع الباقالني .لقد امتدت
اإلمبراطورية اإلسالمية إلى العالم المتحضر ،وكان على المسلمين مواجهة أساليب فكرية أكثر تعقيدا
في تصور هللا والعالم .عاش محمد ،وبشكل غريزي ،في الصدام العبري القديم مع هللا ،فكان على
األجيال الالحقة أيضا أن تعيش من خالل بعض المشاكل التي وجهتها الكنائس المسيحية ،وتراجع
البعض إلى لهوت التجسيد على الرغم من إدانة القرآن للتأليه المسيحي للمسيح .فالمغامرة اإلسالمية
توضح أن مفهوم إله شخصي متعال ميال إلى توليد النوع نفسه من المشكالت ويفضي إلى النوع
نفسه من الحلول.
أوضحت تجربة علم الكالم أنه على الرغم من إمكانية استخدام طرائق عقالنية لتبيان أن هللا
كان عصيا على الفهم عقالنيا إل أن هذا يجعل المسلمين قلقين .فلم يصبح علم الكالم أبدا بأهمية
الالهوت في المسيحية الغربية .فالخلفاء العباسيون الذين آزروا المعتزلة وجدوا أنهم ل يستطيعون
فرض معتقداتهم على المؤمنين ،ولم يفلحوا في ذلك .أما العقالنية فقد استمرت في التأثير على مفكرين
في العصور الوسطى ،لكنها بقيت مسعى أقلية ،وأصبح معظم المسلمين ل يثقون بالمشروع كله،
فاإلسالم مثل المسيحية واليهودية قد نشأ من تجربة سامية لكنه اصطدم بالعقالنية اليونانية في مراكز
الهيلينية في الشرق األوسط .وكان مسلمون آخرون يحاولون هلننة هللا اإلسالمي بشكل أكثر جذرية.
فأدخلوا عنصرا فلسفيا جديدا إلى األديان الوحدانية الثالث .وسوف تتوصل هذه األديان إلى
استنتاجات هامة جدا ،لكنها مختلفة حول فاعلية الفلسفة وعالقتها بسر هللا.
المراجع المعتمدة:
Karen Armstrong : A HISTORY OF GOD. The 4000 Year Quest of Judaism ,
Christianity and Islam. ALFRED A.KNOPF. NEW YORK. 1994.
آرمسترونغ كارين :هللا واإلنسان على امتداد 4000سنة من إبراهيم الخليل حتى العصر الحاضر .ترجمة :محمد
الجورا .دار الحصاد .دمشق .ط .1996 .1