You are on page 1of 210

‫األدب العباسي‬

‫‪-‬الفصل األول‪-‬‬

‫د‪.‬سراب حسن شامي‬


‫• الطابع السياسي‬
‫يبدأ العصر العباسي بإعالن الدولة العباسية على أنقاض الدولة األموية‬
‫سنة ‪132‬هـ ‪ ،‬وقد بدأت الخالفة العباسية بخالفة أبي العباس السفاح الذي‬
‫حكم ‪ 4‬سنوات ثم أبو جعفر المنصور الذي شجع على العلوم والترجمة ثم‬
‫المهدي الذي تقدمت في عهده العلوم واآلداب واحتفى بالشعراء‪ ،‬ثم‬
‫الهادي‪ ،‬ثم الرشيد الذي أصبحت بغداد في عهده بالعلماء واألدب وهو الذي‬
‫نكب البرامكة سنة ‪193‬هـ ثم األمين‪ ،‬ثم المأمون حيث ازدهرت الترجمة‬
‫ونبع كثير من العلماء والمفكرين ‪ ،‬ثم المعتصم الذي قرب األتراك‪ ،‬ثم‬
‫الواثق‪ ،‬ثم المتوكل‪.‬‬
‫• الطابع السياسي‪ ‬‬
‫ولعل من أبرز العوامل التي أدت إلى االزدهار األدب في العصر العباسي ‪:‬‬
‫‪-1‬تحول مراكز النشاط الثقافي واألدبي من دمشق إلى بغداد وقربها من‬
‫بالد الفرس‪.‬‬
‫‪-2‬اختالط العرب بغيرهم من األجناس حيث تعدد اإلنتاج األدبي والنوع‪.‬‬
‫‪-3‬احتواء المجتمع العباسي على شعوب مختلفة المذاهب والديانات‬
‫والعقليات‪.‬‬
‫‪-4‬تطور الحياة االجتماعية وتحولها إلى حياة متحضرة‪.‬‬
‫‪-5‬تنوع الثقافات من عربية‪ ،‬ويونانية‪ ،‬وفارسية‪ ،‬وهندية‪.‬‬
‫• الطابع االجتماعي للعصر ‪:‬‬
‫تجدر اإلشارة إلى أن الدولة اإلسالمية في ذلك الحين تتألف من عناصر‬
‫بشرية متنوعة ‪ .‬وشعوب متباينة في الجنس واللغة والثقافة‪ ،‬فالدولة التي‬
‫تمتد من حدود الصين والهند شرقا ً إلى المحيط األطلسي غربا ً ‪ ،‬ومن‬
‫السودان في الجنوب إلى بالد الترك والروم في الشمال‪ ،‬وتضم بالد‬
‫خراسان والسند وإيران والعراق والشام والجزيرة العربية ومصر‬
‫والمغرب‪ ،‬البد أن تحتوي على أجناس وعناصر بشرية متعددة‪.‬‬
‫• الطابع االجتماعي للعصر ‪ :‬‬
‫ومن أهم تلك العناصر ‪:‬‬
‫‪-1‬العنصر العربي ‪ :‬الذي أقصي عن نفوذ الدولة ويميلون إلى االعتزاز والفخر‪.‬‬
‫‪-2‬العنصر الفارسي ‪ :‬وهم عماد النظام السياسي واإلداري‪.‬‬
‫‪-3‬العنصر التركي ‪ :‬كان لهم نفوذ أيام المعتصم الذي بنى لهم سامراء وقد‬
‫أقصوا الفرس وكان كثير من الخلفاء من أمهات تركيات‪.‬‬
‫‪-4‬العنصر الرومي ‪ :‬أصبح هذا العنصر يمأل قصور الخلفاء ومنهم بعض‬
‫الشعراء (ابن الرومي)‪.‬‬
‫‪-5‬العنصر الزنجي ‪ :‬يجلبون من سواحل إفريقيا ويعملون في الحرف‪.‬‬
‫ومن الطبيعي أن يؤدي هذا االختالط بين العناصر المختلفة في عاداتها‬
‫وتقاليدها وثقافتها إلى نوع من انتشار الرقيق وانتشار الغناء واللهو والمجون‬
‫لكن ال يعني هذا أن الحياة كانت كلها لهواً ومجونا ً وترفا ً كما تصوره بعض‬
‫المؤلفات التي تجنح إلى المبالغة والتهويل‪.‬‬
‫• الطابع االقتصادي‬
‫في الحضارة والثراء والترف ألن الحياة الكريمة ترتكز على الحياة االقتصادية‬
‫نالحظ أن الخلفاء العباسيين ووزراءهم وكبار القادة وكل من اتصل بهم من‬
‫العلماء والشعراء واألدباء أصبحوا يتمتعون بثراء عريض‪ ،‬فعلى سبيل المثال‬
‫الفضل بن الربيع كان له قطيعة تغل سنويا ً مليون درهم‪ ،‬وابن مسعدة وزير‬
‫المأمون خلف بعد وفاته ثمانين مليون دينار ‪ ،‬وكان الخلفاء والوزراء والوالة‬
‫يغدقون على العلماء والشعراء واألدباء ‪ ،‬المهدي منح ابن أبي حفصة مائة ألف‬
‫درهم على قصيدة مدحه بها ‪ ،‬والرشيد كان يجزل العطاء لألدباء والفقهاء‬
‫والعلماء‪ ،‬األصمعي والكسائي ‪ ،‬واألمين كان إغداقه على إسحاق الموصلي‬
‫مشهوراً‪ ،‬البرامكة أعطوا سلمة الخاسر عشرين ألف دينار‪.‬‬
‫وهذه األموال دفعت إلى كثير من اللهو والبذخ في كل مناحي الحياة وكل أسبابها‬
‫المادية فاتخذوا القصور وزخرفوا الدور واقتنوا الفرش والوثيرة والمالبس‬
‫األنيقة واستكثروا من أدوات الزينة وحاولوا التفنن واالستمتاع بكل ملذات الحياة‬
‫الماديـة وقـد صور الجاحظ في مؤلفاته كثيراً من وجوه الحياة في ذلك الوقت‪.‬‬
‫• الطابع الديني ‪:‬‬
‫نظراً لتنوع الحياة واختالط األجناس‪ ،‬تعددت الملل والنحل‪ ،‬أهل‬
‫السنة‪،‬الشيعة‪ ،‬الخوارج‪ ،‬المعتزلة‪ ،‬الجبرية‪ ،‬الجهمية‪ ،‬غير أن أبرز ما يمكن‬
‫أن يشار إليه هو الزندقة والشعوبية ‪ ،‬والسبب فيها النفوذ الفارسي في الدولة‬
‫العباسية حيث برزت نزعة الشعوبية نسبة إلى الشعوب األعجمية‪ .‬وتقوم‬
‫فكرتها على مفاخرة الشعوب للعرب بما في حضارتهم وأن العرب شعب بدوي‬
‫ال حضارة لهم وال مدنية وال علوم ‪ ،‬وأخذوا يعيبون عليهم بعض العادات‬
‫والتقاليد ‪ ،‬وقد دخل فيها علماء وأدباء وشعراء‪ ،‬أمثال أبـي عبيدة اللغوي‪،‬‬
‫وسهل بن هارون‪ ،‬وبشار بن برد‪ .‬‬
‫وقد تنبه المهدي إلى هذه الملل من زندقة ومجوسية وغيرها فاتخذ ديوانا ً‬
‫خاصا ً لتعقب من يعتنق هذه المذاهب والتنكيل بهم‪ ،‬فكل من ثبتت زندقته نكل‬
‫به‪ ،‬وقد قتل من الزنادقة كثير ‪ ،‬منهم (ابن المقفع‪ ،‬وابن عبد القدوس‪ ،‬وشار‬
‫وحماد بن عجرد)‪.‬‬
‫• الطابع الديني ‪:‬‬
‫ولعل أهم النتائج لما تقدم ما يلي ‪ :‬‬
‫‪-1‬انتشار العادات األجنبية في المجتمع العباسي‪ ،‬حيث أخذ‬
‫العرب يحاكون غيرهم في العادات والتقاليد‪.‬‬
‫‪-2‬اتسعت الثقافة ونضج التفكير وبرع الناس في شتى أنواع‬
‫العلوم واآلداب والفنون‪.‬‬
‫‪-3‬ازدادت العناية بالترجمة وإحياء علوم األمم القديمة من‬
‫عربية وفارسية ورومية وسواها‪.‬‬
‫‪-4‬انتشرت المدارس وخزائن الكتب ودور الحكمة والمجالس‬
‫األدبية التي تقام فيها المناظرات والمحاورات‬
‫• الطابع الديني ‪:‬‬
‫‪-5‬نشأ في األدب فنون أدبية جديدة ‪ ،‬كالقصص والمقامات‪ ،‬وأدب الزهد ‪،‬وأدب‬
‫الطبيعة وغيرها وكثر الغلو والمبالغة في إنتاج األدباء وقصائد الشعراء ومالوا‬
‫إلى الحكم واألمثال والتعليالت العقلية المختلفة‪.‬‬
‫‪-6‬تطور فن الوصف في األدب العربي وانفسخ مجاله في وصف مظاهر الحضارة‬
‫العباسية المختلفة من قصور ورياض وأنهار وبرك ونحوها‪.‬‬
‫‪-7‬ظهر في األدب عمق الفكرة وانتشار الفلسفة وكثرة االستطرادات والتحليالت‬
‫لكثير من المعاني الدقيقة واألخيلة البعيدة‪.‬‬
‫ظهرت في اللغة العربية ألفاظ أعجمية جديدة فشاع اللحن والعجمة في ألسنة كثير‬
‫من المولدين الذين ال يحتج بكالمهم‪.‬‬
‫• الحركة العلمية ‪:‬‬
‫الدافع إلى العلم والتعلم في كل زمان ومكان هو اإلسالم‪ ،‬حيث ورد بيان فضل العلم‬
‫والتعلم في القرآن والسنة النبوية الشريفة في مواطن كثيرة ‪( :‬قل هل يستوي‬
‫الذين يعلمون والذين ال يعلمون) ‪ ،‬وفي السنة ‪( :‬من سلك طريقا ً يبتغي به‬
‫علما ً ‪.)...‬‬
‫وفي العصر العباسي ‪ :‬كان هناك خطان عكسيان غير متناقضين ‪ :‬‬
‫‪-1‬العرب يل ّمون بما لدى األمم المفتوحة من ثقافات وعلوم تطبيقية‪.‬‬
‫‪-2‬الشعوب األخرى سارعت في تعلم لغة القرآن والحديث وأكبّت على تعلم العربية‬
‫حتى أتقنوها فأصبح جمهور من العلماء والكتاب والشعراء منهم‪ ،‬فأبو حنيفة‬
‫وكثير من تالميذه من أصل فارسي (النعمان بن ثابت بن زوطى) واللغة (سيبوية)‬
‫والكتابة (ابن المقفع) والشعر (بشار وأبو نواس) وغيرهم‪.‬‬
‫• الحركة العلمية‬
‫وفي الحديث عن الحركة العلمية تجدر اإلشارة إلى أهم الظواهر التي كانت سببا ً‬
‫في ازدهار الحركة العلمية في ذلك العصر ‪ :‬الكتاتيب ‪ ،‬المؤدبون‪ ،‬األسواق ‪،‬‬
‫المساجد‪ ،‬حرفة األدب‪ ،‬الورق‪ ،‬المكتبات‪ ،‬مجالس الخلفاء والوزراء واألمراء‬
‫وعلية القوم‪ ،‬الندوات العلمية والمناظرات‪ ،‬النقل والترجمة‪ ،‬تدوين اللغة‬
‫والشعر ‪ ،‬االختصاص في التصنيف ووضع قواعد العلوم‪.‬‬
‫• ‪ )1‬الكتاتيب ‪ :‬‬
‫من المعروف أن عادة الناشئة في ذلك الوقت أن يبدأوا التعلم في الكتاتيب حيث‬
‫يتعلمون فيها مبادئ القرآن والكتابة وقصار السور من القرآن الكريم وشيئا ً من‬
‫الحساب وبعض األشعار واألمثال والحكم والنحو‪ .‬ويد ّرس في هذه الكتاتيب من‬
‫يطلق عليهم معلمون‪ ،‬وللجاحظ رسالة في هؤالء المعلمين الذين كانوا يضربون‬
‫الناشئة ويتقاضون أجوراً زهيدة ‪.‬‬
‫• ‪ )2‬المؤدبون ‪ :‬‬
‫هم الذين يعل ّمون أبناء الخاصة ‪ ،‬واشتهر عنهم أنهم موسوعيوا‬
‫الثقافة فيكون المؤدب غالبا ً إخباريا ً محدثا ً فقهيا ً لغوياً‪ ،‬وهؤالء‬
‫كانت تصرف لهم رواتب كبيرة ويعيشون في خفض من العيش‬
‫وسعة من الرزق‪ .‬المفضل الضبي مؤدب المهدي‪ ،‬الكسائي‬
‫مؤدب األمين والمأمون‪ ،‬وقطرب مؤدب األمين ‪ ،‬والفراء مؤدب‬
‫أبناء المأمون‬
‫‪ )3‬األسواق ‪:‬‬
‫كانت منهالً يلتقي فيه الشباب بفصحاء األعراب ويكتبون ما‬
‫يسمعونه منهم من اللغة والشعر (أبو نواس كان يلتقي بأصحاب‬
‫السليقة في سوق المربد) ولكل شاعر مشهور حلقة يجتمع فيها‬
‫أنصاره ورواته‪ ،‬بل كانت األسواق مكانا ً مالئما ً لتعليم الناشئة‬
‫الشعر والذائقة الشعرية‪ ،‬عندما يعرضون على كبار الشعراء‬
‫ويجيزونهم‪ .‬وكان هناك منابر نقدية في أسواق بغداد والبصرة‬
‫والكوفة‪ ،‬تتميز بالحرية النقدية بعكس النقد في مجالس الخلفاء‪.‬‬
‫• ‪ )4‬المساجد ‪:‬‬
‫في العصر العباسي كان للمساجد دور يشبه ما تقوم به الجامعات اليوم‪.‬‬
‫فباإلضافة إلى كونه بيتا ً للعبادة كان طالب العلم يتحلقون فيه حول األساتذة‬
‫يسمعون ويتعلمون ويكتبون ما يلقى عليهم من محاضرات وكان لكل عالم ‪،‬‬
‫أو فرع من المعرفة حلقة خاصة به‪ .‬ينشدون فيها الشعر‪ .‬وأصبح هناك‬
‫رجال يعرفون باسم (المسجديين)‪.‬‬
‫أ‪-‬كثرة العلماء المتخصصين في كل علم [فئة الفقهاء‪ ،‬فئة المحدثين‪ ،‬فئة‬
‫اإلخباريين]‪ .‬‬
‫ب‪-‬كثرة العلماء الموسوعيين الذين أخذوا من جميع الحلقات فأصبحوا‬
‫متنوعي الثقافة‪.‬‬
‫• ‪ )5‬حرفة األدب‬
‫عندما أغدق خلفاء بني العباسي ووزراؤهم والوالة وكبار القادة‬
‫على العلماء األموال وأجزلوا لهم العطايا أصبح العلماء‬
‫يتنافسون في نيل هذه العطايا ويشدون الرحال إليهم ‪ ،‬فالمهدي‬
‫جعل مكافأة العلماء سنّة متبعة واحتذى ذلك كل الخلفاء بعده‪،‬‬
‫فالرشيد أعطى األصمعي مائة ألف درهم‪ ،‬والمأمون وصل‬
‫النضر بن شميل بخمسين ألف‪ ،‬وابن طاهر وصل ابن سالم بـ ‪30‬‬
‫ألف‪ ،‬فأصبح احتراف األدب والعلم واالتجار به عرفا ً سائداً‪.‬‬
‫• ‪ )6‬الورق (الوراقة) الوراقين ‪:‬‬
‫كان الطالب يكتبون في الجلود والخرق والقراطيس المصنوعة‬
‫من ورق البردي وهذا يشكل عبئا ً على الطالب والمتعلم‪ ،‬وعندما‬
‫أنشأ البرامكة مصنعا ً للورق في بغداد كان هذا من أهم األسباب‬
‫التي أسهمت في الحركة العلمية والنهضة األدبية‪ ،‬فتفشت‬
‫الكتابة وكثر اإلمالء وانتشرت المصنفات والمخطوطات وتعددت‬
‫النسخ حتى اتخذ بعض العلماء وراقين‬
‫• ‪ )7‬المكتبـات ‪:‬‬
‫صناعة الورق ساعدت على انتشار الكتب واتخاذ المكتبات – مكتبة دار الحكمة‬
‫وأصبح لدى العلماء مكتبات ضخمة (مكتبة الواقدي) والخلفاء والوزراء (مكتبة‬
‫يحيى البرمكي) بل إن بعض الوراقين أصبح لديهم مكتبة يبيعون فيها الكتب ‪،‬‬
‫وينسخون المخطوطات ويموهون بعض خطوطها بماء الذهب ويتأنقون في‬
‫إخراجها‪.‬‬
‫• ‪ )8‬مجالس الخلفاء والوزراء والوالة ‪ :‬‬
‫كانت أشبه ما تكون بأندية أدبية تقام فيها الندوات والمحاضرات‬
‫والمناظرات في كل فن من العلوم واألداب‪ ،‬ومناظرة الكسائي‬
‫وسيبويه في مجلس الرشيد مشهورة‪ ،‬والمأمون من أكثر‬
‫الخلفاء ثقافة وكان مجلسه في بغداد عامراً بالندوات‬
‫والمناقشات في كل فروع المعرفة‪ ،‬وكان يجمع العلماء ويطرح‬
‫أمامهم المسائل فيتجادلون فيها ‪ ،‬وقد صور المسعودي القيمة‬
‫األدبية والحركة العلمية لمجلس المأمون وندواته في مروج‬
‫الذهب‪ ،‬ويجتمع في هذه المجالس كثير من أصحاب النحل والملل‬
‫واآلداب المختلفة فيتحاورون حول مسائلها‪.‬‬
‫• ‪ )9‬التـرجمــة‬
‫كان مجال الترجمة ضيقا ً في عهد األمويين حيث اقتصرت الترجمة على كتب قليلة‬
‫في الطب والنجوم‪ .‬أما في العصر العباسي فكان هناك ما يشبه مراكز الترجمة وقد‬
‫أنفق الخلفاء عليها األموال الطائلة منذ عصر أبي جعفر المنصور الذي كان أول‬
‫خليفة ترجمت له الكتب من اللغات الهندية والفارسية واليونانية‪.‬‬
‫في عهد المنصور ‪ :‬ترجمة كتب كتاب ‪ :‬كليلة ودمنة‪ ،‬والسند هند‪ ،‬والمجسطي‬
‫لبطليموس‪ ،‬وكتب أرسطو في المنطق‪ ،‬وكتاب إقليدس في علم الهندسة‪.‬‬
‫في عصر الرشيد ‪ :‬كان للبرامكة ودار الحكمة دور بارز في حركة الترجمة حيث‬
‫وظفوا طائفة كبيرة من المترجمين يترجمون من الكتب التي سبوها من بالد الروم‬
‫كما أعادوا ترجمة بعض الكتب المترجمة بشكل أدق‪ ،‬وأصبح هناك أسر كاملة‬
‫تشتغل بالترجمة مثل آل سهل وآل نوبخت‬
‫• ‪ )9‬التـرجمــة‬
‫وفي عصر المأمون ‪ :‬كان المأمون يراسل ملوك الروم ويطلب منهم‬
‫خزائن الكتب التي عندهم كي يترجمها ‪ ،‬وقد أرسل مجموعة من‬
‫المترجمين كي يختاروا له العلوم النافعة ومنهم ابن البطريق وابن‬
‫مطر وحنين بن إسحاق‪ ،‬ويوحنا بن ماسويه وغيرهم‪ .‬وفي عصر‬
‫المأمون أنشئ المرصد الكبير وأصبح بعد ذلك معهداً فلكيا ً يضم‬
‫علماء فلكيين ورياضيين كبار (االسطرالبي‪ ،‬الخوارزمي)‪.‬‬
‫وهذه الترجمة العلمية كان تسير إلى جنبها ترجمة لكثر من التراث‬
‫الهندي والفارسي واليوناني في األديان والتاريخ والفلسفة وغيرها‪،‬‬
‫مما كان له أكبر األثر في حضارة العصر العباسي وأدبه‪.‬‬
‫• تدوين (اللغة والشعر)‬
‫التدوين ‪ :‬االختالط بالعناصر األجنبية أضعفت اللغة العربية‪ ،‬ففشا اللحن في‬
‫اللغة‪ ،‬واضطر العلماء أن يجمعوا اللغة والشعر وجعلوا لذلك شروطا ً أو‬
‫حدوداً زمانية ومكانية‪ ،‬فال يأخذون عن حضري وال متاخم لبالد األجانب‪،‬‬
‫وإنما يأخذون من المنابع الصافية ويكتبون اللغة من أفواه أصحابها‬
‫مباشرة وحدود القبائل‪ ،‬قيس‪ ،‬وتميم ‪ ،‬وأسد‪ ،‬وهذيل‪ ،‬وكنانة ‪ ،‬وطي ‪ ،‬ولم‬
‫يأخذوا عن لخم‪ ،‬وجذام‪ ،‬وقضاعة‪ ،‬وغسان‪ ،‬وتغلب‪.‬‬
‫االختصاص في التصنيف ‪ :‬بعد العلم الموسوعي الذي الحظناه في الحلقات‪،‬‬
‫نرى بعد ذلك أن كل عالم تخصص في فن من الفنون يؤلف فيه ويضع‬
‫قواعده ‪ ،‬سيبويه يضع قواعد علم النحو‪ ،‬أبو حنيفة في الفقه‪ ،‬مالك‬
‫الحديث‪ ،‬الواقدي في التاريخ‪.‬‬
‫اتجاهات الشعر العباسي‬
‫–الفصل الثاني ‪ ,‬المحاضرة ‪3‬‬
‫• االتجاهات العامة‬
‫الشعر العباسي هو امتداد للموروث السابق عليه‪ ،‬غير أن مستجدات الحياة‬
‫ومتطلبات العصر ومظاهره تدفع الشعر إلى نوع من التبلور‪ ،‬فالحياة المتحضرة‬
‫جعلت غزل عمر بن أبي ربيعة يختلف عن غزل الجاهلين وشعر النقائص فن جديد‬
‫له مسبباته‪ ،‬وشعر الهاشميات لون أدبي جديد في تاريخ الشعر العربي‪ ،‬الخليفة‬
‫الوليد بن يزيد يعتبره البهيتي األب الفني للعصر العباسي كله‪ ،‬وذلك لما قام به من‬
‫حركة تجديدية وفتح األبواب أمام الشعراء في حرية التعبير حيث أغراهم بالتجديد‬
‫في الصياغة واألسلوب‪ ،‬واختيار األوزان الرشيقة القصيرة‪ ،‬واالقتصار على‬
‫المقطعات وما يتالءم مع الغناء‪.‬‬
‫• ونحن نعتبر المولدين أهم من دفع إلى حركة التجديد‪ ،‬فهم الذين ثاروا على‬
‫المقدمة واستبدلوها بالخمرية ‪ ،‬لماذا يأتون بمقدمة طللية فبينما ال يربطهم بالحياة‬
‫العربية أي عواطف أو ذكريات فهي ليست مواطن لهم‪ ،‬والذين حافظوا على‬
‫الطللية منهم يريدون محاكاة الشعر القديم والبناء على مثاله‪:‬‬
‫ش ُغ ُل *** وال شجاني لها شخص وال طلل‬ ‫مالي بدار خلتْ من أهلها ُ‬
‫قل لمن يبكي على رسم درس *** واقفا ً ماضر لو كان جلس‪ ‬‬
‫ومحاولتهم إقامة عمود الشعر الذي هو (شرف المعنى و صحته‪ ،‬وجزالة اللفظ‬
‫واستقامته‪ ،‬واإلصابة في الوصف‪ ،‬والمقاربة في التشبيه ‪ ،‬والتحام أجزاء النظم‬
‫والتئامها على غير من *** لذيذ الوزن‪ ،‬ومناسبة المستعار منه للمستعار له‪،‬‬
‫ومشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية حتى ال منافرة بينها) ‪ .‬ولكل باب‬
‫معيار عند العلماء ‪ ،‬انظر المرزوقي (إذا أخل الشاعر بشيء منها ُع ّد خارجا ً عن‬
‫عمود الشعر العربي وبذلك يبتعد عن الذوق العربي وعن استحسان الناس‬
‫لشعره)‪.‬‬
‫• االتجاه الذاتي‪ ‬‬
‫االتجاه الذاتي ‪ :‬وهو االنعكاف على الذات وتصوير مافي النفوس من مشاعر‬
‫وأحاسيس والمشاركة الوجدانية لألحباب والطبيعة‪ ،‬وللمذهب العقلي‪ ،‬واالنتماء‬
‫العرقي والديني وغيرها‪ ،‬فالشاعر يصور مثالً مأساته بفقد بصره‪ ،‬أو مأساة فقره‪،‬‬
‫أو مأساته في السجن‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫• االتجاه الواقعي ‪:‬‬
‫االتجاه الواقعي ‪ :‬حيث يسجل الشاعر أحداث عصره ووقائعه في أمانة وصدق‬
‫ومعروف أن العصر العباسي مليء بالفتن واألحداث‪ ،‬الفتنة بين األمين والمأمون‬
‫صورها الشاعر عمرو الوراق فهو يصور بغداد وما حل بها من خراب ودمار‪.‬‬
‫• االتجاه الشعبي ‪:‬‬
‫االتجاه الشعبي ‪ :‬وهو نزوع الشعر إلى الحياة الشعبية بعيداً عن بالط الخالفة وقد‬
‫استلهم الشعراء األغاني والحكايات الشعبية‪ ،‬أبو العتاهية يحاكي في أنشودته‬
‫أغاني المالحين في نهر دجلة‪ ،‬وتظهر النزعة الشعبية في كثير من األغراض‪،‬‬
‫كالزهد والتذكير بالقيامة‪ ،‬والغزل عند بشار شعبي لذا انتشر سريعا ً ‪ ،‬وهجاء أبي‬
‫نواس شعبي‪ ،‬و يقول يوهان فك (الموضوعات الشعبية وجدت مجاالً في األدب)‬
‫ويضم له شعر التسلية والترفيه والفكاهة‪ ،‬قصيدة بشار التي كتبها على لسان‬
‫حمار ‪ :‬‬
‫ولها خد أسيل ‪                   ‬مثل خد اشيفران‬
‫ومثل قصيدة ابن المعذل في طفيلي يذهب إلى موائد الطعام بدون دعوة ونحو ذلك‪.‬‬
‫• االتجاه االنساني ‪:‬‬
‫االتجاه اإلنساني‪ :‬ويظهر في اإلحساس بالوطن‪ ،‬لكثرة الحواضر والتنقل فيها‪ ،‬مثل‬
‫قصيدة محمد بن وهيب في حنينه إلى البصرة‪ ،‬ويدخل في هذا االتجاه الشعر‬
‫المتعلق بالصديق والصداقة واألمانة والتسامح والوفاء وغيرها ‪ ،‬وكثيراً ما نجد‬
‫مثل هذه األشعار عند شعراء الزهد‪.‬‬
‫المحاضرة الرابعة‬

‫• التطور في الموضوعات القديمة‬


‫انتهينا في المحاضرة الماضية إلى أن الشعر العباسي كان يجري في اتجاهات‬
‫متنوعة وتأخذه منازع متعددة‪ ،‬ويمكن عن طريق موازنة بسيطة بين شعر بني‬
‫أمية والشعر في العصر العباسي نالحظ أن الفرق كبير وهائل‪ .‬فالشعر في عصر‬
‫بني أمية كان شديد االتصال بالشعر الجاهلي أما في العصر العباسي – فنظراً لسنة‬
‫التطور وطبيعة التحضر‪ -‬فقد تطور الشعر تطوراً خطيراً‬
‫• التطور في الموضوعات القديمة‬
‫ويمكن أن نرصد ذلك التطور بفعل المؤثرات المختلفة في ثالثة أنواع ‪:‬‬
‫‪ -1‬قديم متجدد اتسع أفقه وانفسح ميدانه وتعددت مسالكه وأساليبه‪.‬‬
‫‪ -2‬نوع قديم تقلص وانكمش وتغيرت بعض أساليبه وأهدافه‪ ،‬مثل النقائض‪.‬‬
‫‪ -3‬نوع جديد حيث دخل في الشعر اتجاهات جديدة لم تكن موجودة من قبل‪.‬‬
‫ولن نعنى إال باألول والثالث‪ ،‬وسنبدأ باألول ‪ :‬وهي تلك الموضوعات القديمة التي‬
‫نظم فهيا الجاهليون واإلسالميون وظل العباسيون ينظمون فيها بما يالئم حياتهم‬
‫المتحضرة والمتطورة عقليا ً وثقافيا ً وفكريا ً ويناسب أذواقهم وأحاسيسهم‬
‫ومشاعرهم المرهفة‬
‫المديح‬
‫• المديح‬
‫ولعل من أول تلك األغراض ‪:‬‬
‫أ) المديح ‪  :‬قصيدة المدح العباسية أهم فنون الشعر العباسي‪ ،‬لماذا؟ ألنها كما يقول‬
‫شوقي ضيف ‪ :‬في مقام الصحافة في العصر الحديث (فيها يسجل الشاعر األحداث‬
‫التي وقعت في عصره واألعمال التي يقوم بها الخلفاء ويصور فيها المثاليات‬
‫الخلقية والسياسة والحزبية والمذهبية فهي سجل للعصر ووثيقة من وثائقه‪ ،‬كذلك‬
‫يترجم الشاعر فيها عن ذاته ويعبر عن مواقفه وينثر في مديحته كثيراً من تأمالته‬
‫في الحياة والناس والكون)‪ .‬‬
‫ومعلوم أن الفضائل التي كان يمدح بها الجاهلي قد تغير بعضها في اإلسالم بل إن‬
‫أوصاف مثل القمار واألخذ بالثار واإلقبال على الشهوات قد أصبحت رذائل من وجهة‬
‫النظر اإلسالمية ‪ ،‬وهناك فضائل استمرت من ذلك كما يقول قدامة بن جعفر (العقل‪،‬‬
‫والعفة‪ ،‬والعدل والشجاعة) وفي العصر اإلسالمي كان الشعراء يستلهمون المعاني‬
‫اإلسالمية المحضة (كالسبق إلى اإلسالم وتمثل خصاله والورع والتقوى)‪.‬‬
‫بعد ذلك بدأ نوع من التخصص في المدائح فالخليفة يمدح بخصال خاصة وكذلك‬
‫الوزير والقائد والقضاة والكتاب واألدباء والمغنين وأهل اللهو‪ .‬فكل يمدح بما يناسبه‬
‫القائد يمدح بالجود والشجاعة‪ ،‬القاضي يمدح بالعدل واإلنصاف والتقوى ‪ ،‬وهكذا ‪.‬‬
‫• ب) من الناحية الشكلية ‪ :‬‬
‫‪ -1‬طرأ تغير كبير على مقدمة القصيدة المدحية‪ ،‬بدل افتتاح القصائد بالبكاء على‬
‫األطالل وعهود الهوى‪ ،‬ووصف الصحراء والراحلة‪ ،‬بدأوا يفتتحونها بالمقدمات‬
‫الخمرية وبالغزل حتى عند بعض المحافظين كقصدية مسلم في مدح الرشيد‬
‫وصف الطبيعة والرياض ومناظرها البهيجة‪.‬‬
‫‪ -2‬استغرق بعض الشعراء أكثر القصيدة المدحية في عرض مشاعرهم الذاتية‬
‫والتعبير عن رغباتهم وأحاسيسهم كقصيدة النمري في مدح الرشيد‪.‬‬
‫• ب) من الناحية الشكلية ‪ :‬‬
‫‪ -3‬طرأ على قصيدة المدح رقة األلفاظ بعد أن كانت جزلة فخمة تناسب موقف‬
‫المدح‪ ،‬كمدائح أبي العتاهية للمهدي والهادي‪.‬‬
‫‪ -4‬طرأ على المديحة نوع من الغلو والمبالغة كقول أبي نواس للرشيد‪ ‬‬
‫وأخفت أهل الشرك حتى أنه ‪     ‬لتخافك النطف التي لم تخلق‬
‫‪ -5‬ظهر نوع من التحزب في القصيدة المدحية في العصر العباسي (الحزب‬
‫العباسي‪ ،‬العلوي‪ ،‬األموي‪ ،‬الشعوبي) وكل شاعر يخلع على حزبه أفضل الصفات‬
‫وأحسنها (الشعوبية‪ ،‬إسماعيل بن يسار ‪ ،‬وأبو نواس‪ ،‬وبشار)‪.‬‬
‫الهجاء‬
‫• الفن الثاني الذي ظهرت فيه معالم التطور هو شعر الهجاء‪ ،‬ألنه يتصل بحياة‬
‫الشعب العامة والخاصة‪ ،‬ومع تطور الذوق العام وتغير األسباب الدافعة إليه تغير‬
‫مفهوم الهجاء عند الناس‪ ،‬فما كان هجا ًء موجعا ً ومراً في عصر لم يكن كذلك في‬
‫عصر آخر ‪ .‬ففي العصر الجاهلي اعتمد الهجاء على المنافرة والمفاخرة وصفات‬
‫الجبن والبخل ونحوها‪ .‬وحين ظهر اإلسالم اعتبر هذا الفن إثما ً ال يجوز أن ينطق‬
‫به شاعر‪ ،‬روي عن الرسول‪ ‬قوله ‪( :‬من قال في اإلسالم هجاء مقذعا ً فلسانه‬
‫هدر)‪ .‬وعمر سجن الحطيئة عندما هجا الزبرقان‪ .‬وفي العصر األموي ظهر فن‬
‫النقائض‪ ،‬واشتهر به (جرير والفرزدق واألخطل) ومادته األساسية النزعات‬
‫القبيلة والفخر باألنساب ‪ ،‬ثم أصبح مناظرات أدبية يحترفها الشعراء‪.‬‬
‫•‬
‫في العصر العباسي اختفى فن النقائض واتخذ الهجاء شكل المقطعات القصيرة‬
‫وتكون في الغالب خارج القصيدة‪ ،‬ومن ناحية الموضوع كان يميل إلى المساوئ‬
‫الشخصية في الغالب ويتناول حياة الفرد وال شأن له بالقبيلة ‪ ،‬كما في القديم (مثل‬
‫هجاء حماد عجرد لبشار) ‪:‬‬
‫وأعمى يشبه القرد ‪     ‬إذا ما عمى القرد‬
‫بل أصبح مجاالً لروح السخرية والفكاهة والضحك مثل هجاء أبي العتاهية لعبدهللا‬
‫بن معين ‪ ،‬ومنه الهجاء المذهبي ‪ :‬بشار وحماد تبادال االتهام بالزندقة‪ ،‬وأبو‬
‫نواس هجا أبان بن عبد الحميد والنظّام واتهمها بالزندقة‪.‬‬
‫هجاء ابن أبي عيينة في إسماعيل بن جعفر ‪( ،‬يعتمد على التصوير والتشخيص)‬
‫وألبي نواس مقطوعات كثيرة في الهجاء الساخر الكركتيري‪.‬‬
‫• تمجيد خصال الميت في مقابل المديح الذي هو تمجيد خصال الحي‪ ،‬وتطور الرثاء‬
‫يظهر من قول ابن رشيق (كان من عادة القدماء أن يضربوا األمثال في المراثي‬
‫بالملوك األعزة واألسود الخادرة والنسور والعقبان‪ ...‬وذلك في أشعارهم كثير‪،‬‬
‫فأما المحدثون فهم إلى غير هذه الطريق أميل ‪.)...‬‬
‫يموت خليفة أو وزير أو قائد بطل أو قريب أو صديق فيؤبنه الشعراء ويصورون‬
‫لوعتهم وحسرتهم على فراقه ‪ ،‬وخير ما يمثل العصر مراثي أبي تمام في محمد‬
‫بن حميد الطوسي ‪ ،‬والمراثي التي قيلت في يزيد بن مزيد الشيباني‪.‬‬
‫• وفي العصر العباسي حدث نوع من التغير أو التطور في شعر الرثاء‪ ،‬من ناحية‬
‫الشكل ومن ناحية الموضوع‪ ،‬والمرثي ‪ ،‬فأصبح الشعراء ينظمون مراثيهم في‬
‫بحور رقيقة رشيقة‪ ،‬الوافر‪ ،‬والخفيف‪ ،‬والرمل‪ ،‬والمتقارب والهزج‪ ،‬والرجز‪ ،‬وقد‬
‫كانوا ينظمون في البسيط‪ ،‬والطويل‪.‬‬
‫• من ناحية المرثيين‪ ،‬أصبحوا يرثون المغنين والقيان‪ ،‬وأهل اللهو‪ ،‬بل إن أبا نواس‬
‫يرثي كلبه‪ ،‬ومنهم من يرثي متاعه وأثاثه‪ ،‬فمحمد بن أبي كريمة يرثى قميصه‪،‬‬
‫وابن الزيات يرثي فرسه األشهب الذي طلبه المعتصم‪ ،‬ومحمد بن يسير يرثي‬
‫بستانه وهكذا‪.‬‬
‫وظهر رثاء المدن‪ :‬وقد رثيت بغداد بشعر كثير ‪ ،‬رثاها عبد الملك الوراق ‪:‬‬
‫من ذا أصابك يا بغداد بالعين ‪     ‬ألم تكوني زمانا ً قـرة العيـن‬
‫أستودع هللا قوما ً ما ذكرتهم ‪    ‬إال تحدر ماء العين من عيني‬
‫والخريمي رثاها بقصيدة ‪ 135‬بيتا ً ‪ ،‬وصف فيها بغداد وحياتها ومجتمعها الالهي‬
‫ووصف خرابها ‪:‬‬
‫يا بؤس بغداد دار مملكة‪     ‬درات على أهلها دوائرها‬
‫• ومن ناحية الموضوع واألسلوب فقد أضاف المحدثون من فكرهم الخصب‬
‫وتأمالتهم في حقائق الموت والحياة وسنن الوجود والفناء‪ ،‬ما جعل الرثاء يتجدد‬
‫في أسلوبه ومعانيه فاستنبطوا المعاني النادرة واألفكار الطريفة وصوروا أحزانهم‬
‫بطريقة تدل على ثراء الفكر العباسي وقدرته على تمثيل أحزانه وتفجعاته‬
‫وحسراته‪.‬‬
‫المحاضرة الخامسة‬
‫• أوالً ‪ :‬الوصف‪ ‬‬
‫الحظنا كيف كانت موضوعات الشعر القديمة تتجدد وتتوسع‪ ،‬وكيف كان الشاعر‬
‫العباسي يضيف عليها من تأمالتها وخياله الخصب‪ .‬وهناك موضوعات تكاد تكون‬
‫جديدة ‪ ،‬ومنها ‪:‬‬
‫أوالً ‪ :‬الوصف ‪:‬‬
‫والوصف بطبيعة الحال من أول أبواب الشعر نشأة في كل زمان وفي أي مكان‪،‬‬
‫ولعل مرد الشعر كله إلى الوصف (فالمادح يصف‪ ،‬والراثي يصف‪ ..‬الخ)‪ .‬غير أن‬
‫الشاعر في القديم يصف الصحراء‪ ،‬واإلبل‪ ،‬وحمر الوحش‪ ،‬والوعول‪ ،‬والبادية‪.‬‬
‫أما بعد أن استقر اإلنسان في العصر العباسي في الحواضر والمدن ذات القصور‬
‫العالية والبساتين الفيحاء والطبيعة الخالبة بجميع مظاهرها الصامتة والمتحركة‬
‫القصور‬
‫• ومن ذلك وصف الشعراء ‪:‬‬
‫‪ -1‬القصور ‪ :‬عدل شعراء العصر العباسي عن وصف األطالل إلى وصف القصور‬
‫فنشأ ما عرف "بالداريات" ولعل أكثر شعراء بني العباس في هذا المجال البحتري‬
‫حيث وصف قصوراً عديدة للمتوكل والمعتز مثل قصر الجعفري‪ ،‬والبديع‪،‬‬
‫والجوسق‪ ،‬وقصر الكامل‪ ،‬وابن أبي عيينة وصف قصراً بالبصرة‪ ،‬ووصف الحياة‬
‫داخل القصور‪.‬‬
‫السفن‬
‫•‬
‫‪ -2‬وصف السفن ‪ :‬وتسمى بالحراقات‪ ،‬انتشرت على ضفاف دجلة السفن النهرية‬
‫التي كان يملكها الخلفاء واألمراء واألغنياء ‪ ،‬وكان لها أشكال متنوعة‪ ،‬لألمين‬
‫خمس حراقات على خلقة األسد والفيل والعقاب والدلفين‪ ،‬والثعبان‪ ،‬ومن الشعراء‬
‫الذين وصفوا السفن بشار بن برد ‪ ،‬وأبو نواس‪ ،‬والحسين بن الضحاك‪ ،‬وأبو‬
‫الشيص‪ ،‬في مدحه البن األشعث‪.‬‬
‫الطبيعة‬
‫• ‪ -3‬وصف الطبيعة في مقطوعات وقصائد كثيرة ‪ ،‬ومن أشهر شعراء الطبيعة‬
‫البحتري وابن المعتز وابن الرومي‪ ،‬ومن الطبيعة الصامتة وصفوا األمطار‬
‫والسحاب والرياض واألزهار والورود‪ ،‬ومن الطبيعة الحية وصفوا الحمام‬
‫والطيور والنسور والحيوانات األليفة والغريبة‪.‬‬
‫مظاهر الحضارة‬

‫• ‪ -4‬وصفوا مظاهر الحياة العباسية المادية كاألثاث والثياب وأدوات الطعام‪،‬‬


‫واهتموا بالجانب الفكري فوصفوا الكتب‪ ،‬واألقالم ‪ ،‬والخطوط ونحوها‪.‬‬
‫ثانياً ‪ :‬الطرد‬
‫• هو الشعر الذي يقال في الصيد وهو معروف منذ الجاهلين عندما كان الجاهلي‬
‫يطارد حمار الوحش‪ ،‬والظباء‪ ،‬وفي العصر العباسي أصبح الصيد هواية منتشرة‬
‫خاصة بين الطبقة االرستقراطية يخرجون ومعهم البزاة والصقور والشياهين‬
‫وأبو نواس أكبر شاعر طرديات في األدب العربي وأكثرهم وصفا ً لرحلة الصيد‬
‫ويالحظ أن أكثر شعراء الطرد قد نظم في بحر الرجز لما فيه من المالءمة‬
‫للمضمون‪.‬‬
‫ثالثاً ‪ :‬المجـون والزندقة‬
‫•‬
‫عندما أصبح األدب في العصر العباسي عراقيا ً خضع تحت تأثير الفرس لذا انتشر‬
‫العبث والمجون والزندقة في الشعر‪ .‬كما هو في شعر األقيشر وأبي دالمة وحماد‬
‫عجرد ووالبة بن الحباب وأبي نواس ومطيع بن إياس‬
‫المحاضرة السادسة‬

‫• الوزن‬
‫المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والقروي والبدوي وإنما‬
‫الشأن في إقامة الوزن كما يقول الجاحظ‪.‬‬
‫الخليل نظر في الشعر العربي فالحظ أن الجاهلين استخدموا خمسة عشر بحراً ‪،‬‬
‫على تفاوت ‪ ،‬ثم جاء األخفش استدرك عليه وزنا ً آخر هو (المتدارك) ‪.‬‬
‫ظهر الشعراء المولدون (من أصول غير عربية) ‪ ،‬وقد كانت ثقافتهم اللغوية‬
‫ضعيفة‪ ،‬والقافية تحتاج إلى ذخيرة لغوية من األلفاظ التي تجري على نسق واحد‪،‬‬
‫رأوا أن وحدة القافية تشكل قيداً ثقيالً عليهم يحرمهم من االنطالق بالخيال‬
‫واألفكار‪.‬‬
‫وكان لشيوع الغناء في القرن الثاني أثر بالغ في انصراف الشعراء عن األوزان‬
‫الطويلة المعقدة إلى األوزان الخفيفة الرشيقة التي تالئم الغناء في المجالس‬
‫والمنتديات ‪ ،‬وأحدث المغنون زحافات وعلالً كثيرة تناسب الغناء (يطيلون‬
‫الحروف ‪ ،‬ويمدون بعضها ‪ ،‬ويسكنون أخرى) ونحو ذلك ‪..‬‬
‫الوزن‬
‫•‬
‫ومن األوزان القصيرة التي شاعت في هذا العصر ‪ :‬مجزوء الرجز‪ ،‬ومجزوء‬
‫الكامل‪ ،‬ومجزوء المنسرح ‪ ،‬والهجز‪ ،‬والمضارع والمجتث والخبب (حاول بعض‬
‫الدارسين ربط البحر بالموضوع‪ ،‬فهذه الموضوعات تصلح للدندنة والترويح)‪.‬‬
‫البحر المنسرح فيه رقة وقد استعمله المولدون كما في قول أبي العتاهية في مدح‬
‫الرشيد‪ :‬‬
‫هللا بيني وبين موالتي ‪    ‬أبدت لي الصد والمالالت‬
‫وكقصيدة الخريمي في أحداث بغداد‪.‬‬
‫الوزن‬
‫•‬
‫كذلك استحدثوا أوزانا ً قديمة كانت نادرة في الشعر الجاهلي والشعر اإلسالمي‬
‫مثال ‪ :‬المقتضب والمضارع ليس لهما أصل في الشعر القديم ‪ ،‬وقد نظم فيهما أبو‬
‫نواس‪ ،‬مقتضب ‪ :‬‬
‫حامل الهوى تعب ‪       ‬يستخفه الطرب‪ ‬‬
‫المضارع ‪ :‬قول أبي العتاهية ‪    :‬‬
‫أيا عتب ما يضر ك ‪    ‬أن تطلقي صفادي‬
‫• المواليا ‪ :‬جارية البرمكي ‪  .‬ذكر ذلك المقري‪ ‬‬
‫• وكان أبو العتاهية أكثر الشعراء خروجا ً على األوزان التقليدية ‪ ،‬يقول ابن قتيبة‬
‫سهولة الشعر عليه ربما قال شعراً موزونا ً يخرج به عن‬ ‫عنه ‪" :‬كان لسرعته و ُ‬
‫أعاريض الشعر وأوزان العرب"‪.‬‬
‫ويذكر ابنه محمد أن أباه سئل عن العروض ‪ ،‬فقال ‪ :‬أنا أكبر من العروض‪.‬‬
‫• ومن المجددين في األوزان ‪ :‬سلم الخاسر ‪ :‬الذي مدح الهادي بقصيدة كل سطر‬
‫على وزن مستفعلن واحدة ولم يسمع قبله الشعر على جزء جزء ‪:‬‬
‫موسى المطر غيث بكر ‪     ‬ثم انهمر ألوى المرر‬
‫كم اعتسر وكم قدر ‪     ‬ثم غفر عدل اليسر‬
‫•‬
‫ومن األوزان القصيرة التي شاعت في هذا العصر ‪ :‬مجزوء الرجز‪ ،‬ومجزوء‬
‫الكامل‪ ،‬ومجزوء المنسرح ‪ ،‬والهجز‪ ،‬والمضارع والمجتث والخبب (حاول بعض‬
‫الدارسين ربط البحر بالموضوع‪ ،‬فهذه الموضوعات تصلح للدندنة والترويح)‪.‬‬
‫البحر المنسرح فيه رقة وقد استعمله المولدون كما في قول أبي العتاهية في مدح‬
‫الرشيد‪ :‬‬
‫هللا بيني وبين موالتي ‪    ‬أبدت لي الصد والمالالت‬
‫وكقصيدة الخريمي في أحداث بغداد‪.‬‬
‫القافية‬
‫• يرى بعض العلماء أن في استخدام هذه المخمسات والمسمطات دليالً على عجز‬
‫الشاعر وقلة قوافيه كما يذكر ابن رشيق (وما نسب إلى امرئ القيس ليس‬
‫بصحيح له)‪.‬‬
‫ويرجح يوهان فك أن بشاراً قد حاول نظم المزدوج والموشح وأن نشأة الدوبيت‬
‫أو الرباعي كانت في العصر العباسي (تتحد مصارعه في القافية ما عدا المصراع‬
‫الثالث)‬
‫ربابة ربة البيت ‪    ‬تصب الخل في الزيت‬
‫لها عشر دجاجات ‪    ‬وديك حسن الصوت‬
‫• كذلك من التجديد ‪ :‬التصريع داخل البيت ‪ :‬كما في قصيدة حماد الراوية ‪:‬‬
‫خالف الحلول بتلك الطلول‪        ‬وسحب الذيول بذاك المقام‬
‫وقول أبي الشيص ‪:‬‬
‫أحم الجناح شديد الصياح‪         ‬يُب ّكي بعين ال تهمالن‬
‫• وعلى هذا يمكن أن يقال أن شعراء العصر العباسي كانت لهم محاوالت تجديدية‬
‫في األوزان والقوافي وأنهم توسعوا في استخدام األوزان القصيرة وأباحوا‬
‫ألنفسهم تجزئة األوزان الطويلة وابتكروا أوزانا ً جديدة لم ينظم فيها القدماء‪،‬‬
‫وابتكروا أوزانا ً لم يعرفها العرب ولم يثبتها الخليل في عروضه‬
‫بشار‬
‫– الفصل الثالث ‪ ,‬المحاضرة السابعة‬
‫•‬
‫نتحدث عن شاعر تكاد تجمع المصادر القديمة على أنه رأس جماعة البديع‪.‬‬
‫فالجاحظ يقول عنه ‪( :‬إن بشاراً رأس أصحاب البديع وأن العتابي والنمري ومسلم‬
‫وأضرابهم هم أتباعه وتالمذته)‪.‬‬
‫يقول عنه صاحب "زهر اآلداب" ‪ :‬كان بشار أرق المحدثين ديباجة كالم‪.‬‬
‫وسمي أبو المحدثين ألنه فتق لهم أكمام المعاني ونهج لهم سبيل البديع فاتبعوه‪.‬‬
‫واألصمعي يراه أشعر من مروان‪ ،‬ألن مروان سلك طريقا ً سلكه كثير غيره وشركه‬
‫فيه معاصروه‪ ،‬أما بشار فقد سلك طريقا ً لم يسلك وأحسن وتفرد‪.‬‬
‫إنه بشار بن برد بن يرجوخ‪ ،‬وجده من فارس ممن سباهم المهلب بن أبي صفرة‬
‫سنة ‪ 80-‬هـ‪ -‬ووهبه المرأة من بني عقيل فولد بشار على الرق وأصبح من‬
‫موالي بني ُعقيل‪.‬‬
‫قيصر خالي إذا ‪    ‬عددت يوما ًنسبي‬
‫• وهناك أربعة أمور أثرت بشكل مباشر على طبيعته النفسية والشعرية ‪:‬‬
‫‪ -1‬أنه ولد أعمى‪ -2 .‬أنه من أصل فارسي‪ .‬‬
‫‪ -3‬أنه مولى‪ ،‬قنا ً ابن قن‪.‬‬
‫‪ -4‬أنه نشأ في أسرة فقيرة ومختلفة عن المجتمع حيث كان أبوه طيانا ً‪.‬‬
‫كل ذلك ولد عنده نوعا ً من المرارة‪ ،‬فأصبح يزدري الناس ويكثر من هجوهم فكان‬
‫أول غرض ينظم فيه هو الهجاء حتى شكاه الناس إلى أبيه فقال ‪(:‬ليس على‬
‫األعمى حرج)‪.‬‬
‫• اتجه إلى مربد البصرة وإلى حلقات العلم والشعر وحضر حلقات المتكلمين‬
‫وبخاصة مجالس واصل بن عطاء فأخذ شيئا ً من الفلسفة والمنطق‪.‬‬
‫شاع عنه إلحاد عقائدي تمثل في إشادته بعبادة النار وأنها أفضل من الطين‪:‬‬
‫األرض مظلمة والنار مشرقة ‪    ‬والنار معبودة منذ كانت النار‬
‫وفضل إبليس المخلوق من نار على آدم المخلوق من طين‪ ،‬وتذكر المصادر أنه‬
‫أخذ في إظهار زندقته‪.‬‬
‫• بعد أن مات المنصور وخلفه المهدي وفد على المهدي ولقي عنده حظوة وأصبح‬
‫من س ّم اره وممن يحضرون مجالسه ‪ ،‬وعندما رآه المهدي يفحش في شعره وكان‬
‫المهدي ال يجامل في الدين فأمره بالكف عن ذلك وأبعده عن القصر‪ ،‬وفي حملة‬
‫المهدي على الزنادقة ‪ ،‬قتل خلقا ً كثيراً‪ ،‬فالزم بشار البصرة وأخذ يرثى أصدقاءه‬
‫ثم هجا المهدي هجاء مقذعاً‪ ،‬بعد ذلك يشهد الشهود أن بشاراً زنديقا ً فيضرب‬
‫بالسياط حتى الموت‪.‬‬
‫األغراض الشعرية‬
‫• الهجـاء ‪  :‬نعود لذكر تلك العوامل التي انطوت عليها نفسه وجعلته يحس بمرارة‬
‫ألجلها سخط الناس وازدراهم ‪ -1 :‬العمى ‪ -2 ،‬األعجمية‪ -3 ،‬كونه مولى‪-4 ،‬‬
‫فقيراً بائسا ً‪.‬‬
‫فالهجاء ينفس عما بداخله من آالم ومآسي لذلك اصطدم مع كثير من الشعراء (في‬
‫شبابه هجا جريراً ليرد عليه فيشتهر) وخاصة مع حماد عجرد حيث دارت بينهما‬
‫معارك هجائية عنيفة استخدما فيها كل أنواع القذف والسباب ‪ ،‬وألنه كان شعوبيا ً‬
‫فقد هجا العرب‪ ،‬وفخر بأمجاد قومه الفرس‪.‬‬
‫• المديح ‪  :‬من األغراض التي سار فيها على النهج القديم حيث حاول أن يقلدهم في‬
‫المعاني واألخيلة حتى إنه نظم بعض مدائحه على غرار أراجيز رؤبة فأكثر من‬
‫الغريب والوحشي ‪.‬‬
‫ويصرح بأنه في بعض قصائده يريد أن يبنيها أعرابية وحشية والمعاني تكاد‬
‫تكون نفسها ‪ ،‬والكرم ‪ ،‬والمروءة ‪ ،‬الشجاعة‪ ،‬والنجدة‪ ،‬لكن هذا ال يعني أنه لم‬
‫يجدد‪ ،‬فقد أدخل في قصيدته معاني جديدة وصوراً جديدة ألهمها عقله الذكي‬
‫وذوقه الحضري‪:‬‬
‫إذا كنت في كل األمور معاتبــا ً ‪     ‬صديقك لم تلق الذي ال تعاتبــه‬
‫فعش واحد أو صل أخــاك فإنـه ‪     ‬مقارف ذنب مــرة ومجانبـه‬
‫إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ‪     ‬ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه‬
‫• المراثي ‪ :‬لم يؤثر له مراث كثيرة ألنه كان يكثر من اللهو‪ ،‬لكن عندما يصيبه‬
‫الموت كان يهز نفسه هزاً ‪ ،‬فعندما مات ابنه محمد قال ‪:‬‬
‫أصيب بن ّي حين أورق غصنه ‪    ‬وألقى عل ّي اله َم ك ّل قريب‬
‫كذلك نراه يحزن حزنا ً عميقا ً على أصدقائه الزنادقة الذين فتك بهم المهدي‪ ،‬وقد‬
‫ذكر أبو الفرج ميميته التي رثا بها خمسة من أصدقائه مليئة بالحزن واألسى ‪:‬‬
‫كيف يصفو لي النعيم وحيداً‪     ‬واألخالء في المقابر هام‬
‫ولعل أشهر فنونه الفخر والهجاء والغزل والمجون‪.‬‬
‫• األغراض الشعرية‪ ‬‬
‫من الظواهر في شعره‪ ‬النزعة الواضحة والقوية نحو الصنعة الشعرية سواء في‬
‫اللفظ أو المعنى ‪ ،‬فاللفظ مثل قوله ‪ :‬‬
‫فخمة فعمة بَرود الثنايا ‪     ‬صعلة الجيد غادة غيداء‬
‫لكن إنما استحق أن يكون رأس المحدثين بما أحدثه من الصنعة الشعرية المعنوية‬
‫أو في الصورة الشعرية حيث كانت ريشة فنان تبدع في تفاصيلها عن طريق‬
‫التجسيم والتجسيد واستقصاء عناصر الصورة ‪ :‬تجسم الهم ‪ :‬‬
‫فكأن الهم شخص ماثل ‪     ‬كلما أبصره النوم نفر‬
‫يصور السهاد واألرق فيقول ‪:‬‬
‫جفت عيني عن التغميض حتى ‪     ‬كأن جفونها عنها قصار‬
‫المحاضرة الثامنة‬ ‫أبو العتاهية‬
‫•‬
‫هو إسماعيل بن القاسم بن سويد‪ ،‬ولد في حدود سنة ‪ 130‬هـ ‪ ،‬أمه وأبوه من‬
‫الموالي‪ ،‬قال له المهدي يوما ً عندما سمعه يتغنى بعتبة ‪ :‬إنك إنسان معتّه‪ ،‬فأصبح‬
‫لقبا ً له وغلب عليه أبو العتاهية‪.‬‬
‫تدفق الشعر على لسانه وهو ال يزال شاباً‪ ،‬فاشتهر أمره بالكوفة فخالط المجان من‬
‫الشعراء أمثال ابن إياس ووالبة بن الحباب‪ ،‬ولما كانت الكوفة موئالً للعلماء‬
‫والشعراء والمتكلمين وأصحاب المذاهب ‪ ،‬أتيح ألبي العتاهية أن يتقن العربية‬
‫ويطلع على المذاهب والنحل‪ ،‬ويحضر حلقات العلم واألدب‬
‫• لكن هناك منعطفات في حياة أبي العتاهية يمكن أن تسجل على النحو التالي ‪:‬‬
‫‪ -1‬توثق الصلة بينه وبين المغني الذي اشتهر فيما بعد "إبراهيم الموصلي" ‪،‬‬
‫حيث أصبح إبراهيم من المقربين لدى المهدي وهو الذي قدم أبا العتاهية للمهدي‬
‫فأعجب به الخليفة فأوسع له في مجالسه واستمع لمدائحه ومنحه الجوائز‬
‫والعطايا ‪ ،‬فأصبح أبو العتاهية من المقدمين على كثير من الشعراء‪.‬‬
‫‪ -2‬تعلقه بعتبة جارية من جواري قصر المهدي وإغراقه في نظم الغزل فيها‬
‫وعندما علم المهدي سجنه وأمر بضربه مائة سوط وبسببها قال المهدي إنك‬
‫إنسان معته ‪ .‬بعدها خرج أبو العتاهية مع أصحاب اللهو في دور القيان والمجانة‪ .‬‬
‫• ‪ -3‬مالزمته للخليفة الهادي – بعد موت المهدي – في السفر والحضر وحصده‬
‫لجوائزه التي تبلغ أحيانا ً أكثر من مائة ألف درهم‪ .‬كذلك مدحه لكثير من وزرائه‬
‫وقادته‪.‬‬
‫‪ -4‬تحول حياته في عهد الرشيد من حياة لهو ومجون إلى حياة زهد وتقشف‬
‫فأكثر من شعر الزهد وذكر الموت والفناء والثواب والعقاب وذكر الفضائل‬
‫واألخالق ‪.‬‬
‫• زهـده ‪  :‬اختلط الموقف على كثير من الدارسين لشعره في الزهد ‪ ،‬هل هو حقيقة أم‬
‫مزيف أم مزيج من المعتقدات أم ماذا ! فهو يستقي في زهده كثيراً من آيات الذكر‬
‫الحكيم وأحاديث الرسول‪  ‬وكالم الوعاظ‪ ،‬وأحيانا ً تراه يهتم بمعتقدات المانوية مثل‬
‫بيان أصل جنس الشر وأصل جنس الخير‪ ،‬وأحيانا ً يمزج بين المانوية واإلسالم‬
‫فيدعو إلى الزهد ويشح شحا ً شديداً بما في يده ويلح في استجداء الخلفاء‬
‫والوزراء ‪ ،‬ويذكر الموت والفناء وال يذكر الجنة والنار‬
‫• والحقيقة أن هناك مجموعة من العوامل وراء زهده وتحوله من حياة اللهو‬
‫والمجون إلى حياة اإليمان والتقوى ذكر بعضها محمد خلف هللا ‪ ،‬وشوقي ضيف‪،‬‬
‫وبروكلمان‪ ،‬أنيس المقدسي‪ .‬ومنـها ‪:‬‬
‫‪ -1‬اتصاله بحركة الزهد والتصوف في ذلك الوقت ومنهم ‪( :‬رابعة العدوية‪،‬‬
‫وإبراهيم بن أدهم‪ ،‬وشفيق البلخي‪ ،‬والفضيل بن عياض)‪.‬‬
‫‪ -2‬إحساسه بضعة أصله ونقصه وشدة فقره كانت من الدوافع القوية في تزهده‪.‬‬
‫• ‪ -3‬تأثره بتيار الثقافات المتعددة والمنتشرة في القرن الثاني ‪ ،‬خير ما يصور ذلك‬
‫قصيدته (ذات األمثال)‪.‬‬
‫‪ -4‬فشله في حبّه لعتبة حيث أصبح الحرمان سببا ً في النكسة‪.‬‬
‫‪ -5‬الشعور باإلثم ومن ثم محاولة تطهير النفس من أدران اللهو والمجون‪.‬‬
‫احتقار الدنيا وزخارفها وترسيخ فكرة الموت والفناء‪.‬‬
‫• يتميز شعره بمميزات عدة أهمها " أنه ال يتمسك باألسلوب القديم الذي يتسم‬
‫بالجزالة والقوة بل يميل إلى اللين والخفة ويختار األلفاظ العذبة السهلة كما في‬
‫قوله ‪:‬‬
‫أتتـه الخالفة مناقـدة ‪     ‬إليه تجـرر أذيالهـا‬
‫فلم تك تصلح إال لـه ‪     ‬ولم يك يصلح إال لهـا‬
‫ولو رامها أحد غيـره ‪     ‬لزلزلت األرض زلزالها‬
‫ولو لم تطعه بنات القلوب ‪     ‬لما قبل هللا أعمالهــا‪ ‬‬
‫• المدح ‪ :‬كان يمدح بالتقوى واالنصراف عن الدنيا وملذاتها ‪ ،‬وقد مدح الخلفاء‬
‫والوزراء أمثال المهدي والهادي والرشيد‪ ،‬وكان يمدح الرشيد بالشجاعة والقوة‬
‫والحكمة‪.‬‬
‫• الهجـاء ‪  :‬حظه منه قليل لكنه مجيد له وقد هجا والبة حتى اضطره إلى الفرار كما‬
‫سعدى النائحة وقد وصفه بقلة العقل وقلة‬‫هجا عبد هللا بن معن مولى محبوبته ُ‬
‫الشجاعة وانعدام الرجولة‪ .‬كما هجا سلم الخاسر‪ ،‬وهجاءه محكم حتى إن كثيراً‬
‫منه ذهب مذهب األمثال كقوله ‪:‬‬
‫متى يظفر الغادي إليك بحاجة ‪     ‬ونصفك محجوب ونصفك نائم‬
‫الحرص أعناق الرجــال‬
‫ُ‬ ‫س ْلم بن عمـر ٍو ‪     ‬أذل‬
‫تعالى هللا يا َ‬
‫• الرثـاء‪ : ‬له مرا ٍ‬
‫ث كثيرة أشهرها مراثيه في صديقه علي بن ثابت الزنديق الذي‬
‫بكاه بكاء حار وصور حرقته ولوعته عليه‪.‬‬
‫• الزهـد‪ : ‬أشهر أغراضه ‪ ،‬حيث ظل أكثر من ثالثين عاما ً يذكر الموت والفناء‬
‫ويتحدث عن القبور والحساب والعذاب ‪ ،‬وقد تحول إلى واعظ يعظ الناس‬
‫وينذرهملزهـد‪ ‬أهوال اآلخرة مستمداً بعض نصائحه من القرآن والحديث ووعظ‬
‫الوعاظ وقصصهم‪ ،‬كما شاع في زهدياته األدعية واالبتهاالت والمناجاة ونشر‬
‫كثيراً من الحكم والنصائح واألمثال كالذي نراه في قصيدته "ذات األمثال"‪.‬‬
‫• الرثاء‪: ‬‬
‫ومن ناحية الموضوع واألسلوب فقد أضاف المحدثون من فكرهم الخصب‬
‫وتأمالتهم في حقائق الموت والحياة وسنن الوجود والفناء‪ ،‬ما جعل الرثاء يتجدد‬
‫في أسلوبه ومعانيه فاستنبطوا المعاني النادرة واألفكار الطريفة وصوروا أحزانهم‬
‫بطريقة تدل على ثراء الفكر العباسي وقدرته على تمثيل أحزانه وتفجعاته‬
‫وحسراته‪.‬‬
‫المحاضرة التاسعة‬ ‫ابن الرومي‬
‫•‬
‫نستغرب كثيراً عندما نجد صاحب األغاني أبا الفرج األصفهاني وكذلك ياقوت‬
‫الحموي في (معجم األدباء) ‪ ،‬واألنباري ال يذكرون ابن الرومي‪ ،‬حتى ابن النديم‬
‫صاحب "الفهرست" لم يخصه إال بكلمة قصيرة أشار فيها إلى أن ديوانه غير‬
‫مرتب حتى جمعه الصولي ورتبه على الحروف‪.‬‬
‫لكن في العصر الحديث ينال ابن الرومي حظوة كبيرة لدى عدد من األدباء والنقاد‬
‫ودارسي األدب العباسي ‪ ،‬ولعل من أشهر من كتب عنه العقاد وطه حسين وشوقي‬
‫ضيف وأنيس المقدسي‪ ،‬وعبد الحميد جيده ‪ ،‬وإيليا الحاوي‪ ،‬والمستشرق روفون‬
‫جست والمازني‪ ،‬والكيالني وغيرهم كثير‪.‬‬
‫• وتعتبر دراسة العقاد البن الرومي من أوفى وأحسن ما كتب عنه‪.‬‬
‫ولد ابن الرومي‪ ،‬علي بن العباس بن جريج في بغداد عام ‪221‬هـ‪ ،‬ويبدو من أسم‬
‫جده أنه كان رومي األصل‪ ،‬ويظهر من اسم أبيه أنه كان مسلما ً غير أن المشهور‬
‫أن أمه كانت من أصل فارسي‪.‬‬
‫• شعره‬
‫سيب‬‫يذكر صاحب الفهرست أن شعره على غير الحروف من رواية علي بن الم ّ‬
‫صديق ابن الرومي مباشرة‪ ،‬وديوانه من أكبر الدواوين وأضخمها ‪ ،‬ووجد من‬
‫ديوانه ثالث نسخ مخطوطة انتشر منها مجموعة من الطبعات‪ ،‬ويضم شعر ابن‬
‫الرومي جميع فنون الشعر التي نظم فيها الشعراء العرب‪ :‬‬
‫المديح‬
‫•‬
‫أ) المديح ‪  :‬يعتبر هذا الفن وسيلة وتسلية للمعيشة عنده ‪ ،‬وقد دون له مدائح غاية‬
‫في الطول يصل بعضها إلى أكثر من ثالثمائة بيت‪ ،‬وهو عادة ما يستهل مدائحه‬
‫بمقدمات طويلة تحتوي على النسيب وذكر النساء ثم البكاء على الشباب ثم يذكر‬
‫بعض الموضوعات األخرى الشائعة في العصر العباسي ثم يدلف إلى المدح الذي‬
‫يكون فيه عادة بعض المبالغة والتملق في الثناء على الممدوح‪ ،‬وتنتهي المديحة‬
‫عنده بالسؤال والشكوى من الزمان وأهواله‪.‬‬
‫الهجاء‬
‫• ب) الهجاء ‪  :‬هو ميدانه الذي برز فيه ‪ ،‬يقول ابن رشيق ‪ :‬غلب عليه الهجاء حتى‬
‫شهر به فصار يقال "أهجى من ابن الرومي" ‪ ،‬وله قطع في الهجاء تشتمل على‬
‫مئات األبيات ‪ ،‬وال يفوقها إال المدح ‪ ،‬ويمكن أن تقسم إلى هجاء معتدل وهجاء‬
‫مقذع‪ ،‬ففي القسم األول ‪ :‬نجده يسخر من بعض األفراد فيذكر بعض العيوب‬
‫واألخطاء‪ ،‬ويسخر أحيانا ً من العيون والذقون ويصف بالحقارة والبخل والجبن‬
‫وغير ذلك في سخرية الذعة وفكاهة نادرة‪.‬‬
‫القسم الثاني ‪ :‬قصائد طويلة تشتمل على هجاء عنيف ويقصد بها أولئك الذين‬
‫هاجموه أو سخروا منه وأغلبهم شعراء منافسون له ‪ .‬فيسبهم بأمور شائنة تتصل‬
‫بالعرض والنسب والشرف‪.‬‬
‫الوصف‬
‫•‬
‫ج) الوصف اشتهر ابن الرومي أيضا ً بأوصافه وله قصائد وصفية خالصة يصف‬
‫فهيا الطبيعة ‪ ،‬يصف البساتين والسحاب والنباتات وله قصائد مفاخرة بين‬
‫النرجس والورد ويفضل النرجس‪ ،‬وقد أظهر ابن الرومي في وصفه قوة مالحظة‬
‫بارعة بحيث أعطى أوصافه خصائص األحياء‪ ،‬وقد اشتهر بحبه للطبيعة ومدح‬
‫من أجلها‪.‬‬
‫الرثاء‬
‫•‬
‫د) الرثاء أما مراثيه فقليلة وليست ذات أهمية ما عدا مرثيته الشهيرة التي يبكي‬
‫فيها على ابنه محمد أوسط أبنائه ‪ ،‬وقد أفردت واعتبرت من أحسن المراثي‬
‫وأشهرها في الشعر العربي ‪:‬‬
‫توخى حمام الموت أوسط صبيتي ‪     ‬فلله كيف اختار واسطة العقد‬
‫ث في ابنه هبة هللا الذي مات في ريعان الشباب ‪ ،‬ورثى زوجته التي كما‬ ‫وله مرا ٍ‬
‫يفهم من شعره أنها ماتت فتية شابة‪.‬‬
‫• عقليته ونفسيته وأثرهما في شعره‬
‫يقول المعري عنه أن أدبه أكثر من عقله وقد تناوله في رسالة الغفران وانتقده في‬
‫تطيره‪ ،‬ومعروف عن أنه كثير التشاؤم‪ ،‬فهو يتشاءم من األلفاظ ومن الحوادث‬
‫ومن األشخاص واأللوان‪ ،‬حتى سخر منه األدباء والعقالء‪ ،‬يقول ابن رشيق ‪ :‬كان‬
‫ابن الرومي كثير التطير وربما أقام مدة طويلة ال يتصرف تطيراً بما يرى أو‬
‫يسمع‪.‬‬
‫يقول ابن الرومي ‪ :‬الطيرة عنوان الحدثان‪ ،‬وله فيها شعر كثير‪ ،‬كذلك كان شديد‬
‫االنفعال ‪ ،‬عصبي المزاج وهذا يفسر مبالغته في الهجاء واإلقذاع في طعن‬
‫اآلخرين‪ .‬‬
‫• لغتـه ‪:‬‬
‫ألفاظه موجزة ومحكمة وأسلوبه سهل يشبّهه بعضهم باألسلوب األدبي الحديث‬
‫لذلك ال يحتاج شعره غالبا ً إلى شرح لكن هذا ال يعني خلو شعره تماما ً من األلفاظ‬
‫الغريبة أو األلفاظ الفارسية التي ربما كانت دارجة تلك األيام‪ .‬وربما كان معظم‬
‫النقد الموجه إلى لغته منصبا ً على األخطاء النحوية‪ ،‬وقد كان بينه وبين األخفش‬
‫خصومة‪.‬‬
‫• الخصائص الفنية في شعره‬
‫‪ -1‬طول النفس في قصائده فهو ينشئ المطوالت التي تتجاوز المئة والمئتين بيت‬
‫في سبك جيد ومعاني متنوعة‪ ،‬غير أن التطويل أحيانا ً يفسد الشعر ‪ ،‬وقد م ّل‬
‫القدماء من مطوالته وأحس بذلك واعتذر عنه في بعض قصائده‪.‬‬
‫‪ -2‬استقصاء المعنى المطروق في القصيدة بحيث ال يتركه حتى يستوفيه إلى‬
‫آخره فهو كما يقول ابن رشيق يأخذ المعنى الواحد يولّده ويقلبه ظهراً لبطن‬
‫ويصرفه في كل وجه حتى يميته‪.‬‬
‫• الخصائص الفنية في شعره‬
‫‪ -3‬إجادته لفن التصوير والتشبيه بحيث يتبع الشيء الموصوف ويكرر تشبيهه‬
‫في كثير من قصائده بصور مختلفة مستخدما ً فن التشخيص والتجسيم في كثير من‬
‫بدائعه‪.‬‬
‫‪ -4‬وجود نوع من الحوار الداخلي في بعض قصائده مما يمثل العنصر القصصي‬
‫الدرامي‪،‬فهو كثيراً ما كان يصور المعاني أشخاصا ً يتحدث إليهم ويتحدثون إليه‪.‬‬
‫ومثال ذلك قصيدته في عتاب صديقه أبي القاسم الشطرنجي حيث صور خصاله‬
‫السيئة أشخاصا ً وأجرى بينه وبينها حواراً تمثيليا ً يبدأ بقلت وقلن‪ .‬وربما يرجع‬
‫هذا إلى ثقافته اليونانية ‪:‬‬
‫قلت أعجب بكن من كاسفات ‪     ‬كاشفات غواشي الظلمـاء‬
‫قلـن أعجـب بمهت ٍد يتمنى ‪     ‬أنه لم يزل على عميــاء‪ ‬‬
‫• أقوال النقاد فيه‪ ‬‬
‫يقول المرزباني ‪ :‬أشعر أهل زمانه بعد البحتري ‪ ،‬وأكثرهم شعراً وأحسنهم أوصافا ً‬
‫وأبلغهم هجاء‪.‬‬
‫يقول ابن رشيق ‪ :‬ابن الرومي أولى الناس باسم شاعر لكثرة اختراعه وحسن‬
‫افتنانه وقد غلب عليه الهجاء‪.‬‬
‫يقول الصفدي ‪ :‬كان شاعراً فحالً بعيد الغوص على المعاني‪.‬‬
‫المتنبي درس شعره ‪ ،‬وقد ذكره العكبري في شرحه لشعر المتنبي أكثر من أربعين‬
‫مرة مستشهداً باألبيات التي استوحاها المتنبي منه ‪.‬‬
‫• والنقاد الغربيون يفضلونه على البُحتري ألنهم يرونه أكثر إخالصا ً لنفسه‬
‫وشعره ‪ ،‬فهو صادق الشعور عميق اإلحساس كما في مرثيته البنه محمد‬
‫المحاضرة العاشرة‬ ‫أبو تمام‬
‫• أوالً ‪ :‬فخره بنسبه وتركيزه في أشعاره على الفخر بقبيلته طيء ومدحه للطائيين‬
‫والفخر بهم ‪ ،‬فهو وإن اختلف المؤرخون في نسبه إال أنه يرجع أصله إلى قبيلة‬
‫طيء القحطانية التي هاجرت من اليمن واستقرت في أرض الحجاز ثم انتشرت‬
‫إلى بالد الشام وما ذكره طه حسين بأنه طائي بالوالء منقول عن المستشرقين ‪،‬‬
‫وقد رفضه عدد من األدباء والنقاد وعلى رأسهم شوقي ضيف ومحمد نجيب‬
‫البهبيتي‪ ،‬واستدلوا على ذلك بكثرة افتخاره بطيء وتغنيه بأمجاد الطائيين‬
‫ومآثرهم وشيوع لهجة طيء في شعره‪.‬‬
‫رحالته‬
‫•‬
‫ثانيـا ً ‪ :‬رحالته ‪ :‬فقد كان يقول إن موطنه ظهور المطايا كناية عن كثرة أسفاره‬
‫وتنقالته ‪ ،‬ومن المعلوم أنه نشأ في دمشق ثم انتقل إلى حمص حيث بدأ حياته‬
‫الشعرية هناك في مدح أسرة بني عبد الكريم الطائية ثم رحل إلى مصر واتصل‬
‫بعياش بن لهيعة والتقى هناك بالشاعر يوسف السراج‪ ،‬وبعد أن ساءت العالقة‬
‫بينه وبين عياش عاد إلى الشام ومدح طائفة من الناس من أبرزهم المأمون ‪،‬‬
‫وأبو المغيث الرافقي‪ ،‬ومحمد بن حسان الضبي والحسن بن سهل‪.‬‬
‫رحالته‬
‫•‬
‫ثانيـا ً ‪ :‬رحالته ‪ :‬وبعد موت المأمون اتجه إلى خراسان ليمدح عبد هللا بن طاهر‪،‬‬
‫وهناك اتصل بالقادة المقيمين في ثغور المسلمين أمثال محمد بن حميد الطوسي‪،‬‬
‫ومحمد بن يوسف الثغري ‪ ،‬وأبي دلف العجلي‪ ،‬ثم عاد إلى بغداد وخرج مع‬
‫المعتصم إلى عمورية ثم وافته المنية في الموصل سنة ‪132‬هـ‪.‬‬
‫تجدر اإلشارة إلى أن هذه التنقالت كان الهدف من ورائها البحث عن الشهرة‬
‫ونشر الشعر عن طريق مدح الخلفاء والوزراء والبحث عن حظوة في بالط‬
‫الخالفة وكان الهدف كذلك هو السيطرة على الساحة الشعرية في مختلف األقطار‬
‫والواليات التابعة للدولة العباسية‪.‬‬
‫ثقافته‬
‫•‬
‫ثـالثـا ً ‪ :‬ثقافته‪ :‬ثقافته المتنوعة والمتعددة التي أثرت في شعره بشكل مباشر حتى‬
‫عدها بعضهم أغزر من شاعريته ‪ .‬حفظ القرآن وهو صغير‪ ،‬واجتهد في تحصيل‬
‫الثقافات والمعارف التي كان يموج بها ذلك العصر فاطلع على الشعر القديم‬
‫وتمرس بالشعر الحديث واعتنى بالثقافات الفلسفية والمذهبية‪.‬‬
‫• الخصائص العامة لمذهبه الشعري ‪:‬‬
‫أ) مخالفته لعمود الشعر العربي على حد قول اآلمدي‪ ،‬فشعره ال يشبه أشعار‬
‫األوائل وال على طريقتهم‪ ،‬لما فيه من االستعارات البعيدة والمعاني المولدة‬
‫والتكلف والتصنع‪.‬‬
‫ب) اإلفراط في البديع باستخدام الجناس والطباق والتورية وغيرها من المحسنات‬
‫البديعة‪.‬‬
‫ج) مزج األلوان البديعية بالثقافات الفلسفية ‪ ،‬ومحاولة الجمع بين المتناقضات‬
‫والمتضادات‪.‬‬
‫• أثر شعره في األدب والنقد من بعده ‪:‬‬
‫حيث تأثر بمذهبه الشعري عدد منهم مناصروه وخالفه آخرون فطعنوا في شعره‬
‫وخاصموه مما أدى إلى نشوب حركة نقدية واسعة ظهرت آثارها بشكل واضح‬
‫عند كل من الصولي واآلمدي وابن األعرابي والجرجاني وابن المعتز ودعبل‬
‫الخزاعي‪.‬‬
‫المحاضرة الـ‪11‬‬ ‫البحتري‬
‫•‬
‫إذا كان أبو تمام يمثل المذهب الجديد في الشعر العباسي‪ ،‬فإن البحتري يمثل‬
‫المذهب التقليدي ‪ ،‬ويعد عند النقاد والباحثين رأس مدرسة المحافظين في الشعر‬
‫العباسي ‪ ،‬فأبو تمام يمثل الخروج على عمود الشعر والثورة عليه ‪ ،‬والبحتري‬
‫يمثل المحافظة عليه والتمسك به‪.‬‬
‫• والمراد بعمود الشعر – في عبارة موجزة – تلك التقاليد الفنية التي ورثها‬
‫الشعراء المحدثون من الشعر القديم ‪ ،‬أو تلك المجموعة من األصول الفنية التي‬
‫كان الشعراء القدماء يقيمون شعرهم على أساسها‪.‬‬
‫مولده ونشأته‪ ‬‬
‫•‬
‫البحتري شاعر عربي طائي ‪ ،‬ال يشك أحد في صحة عروبته ‪ ،‬فهو أبو عبادة‬
‫الوليد بن عبد هللا ينتهي نسبه إلى بحتر أحد بطون طيئ‪.‬‬
‫ولد البحتري في البادية ونشأ بها ‪ ،‬وليس من شك في أن نشأته المبكرة بين البدو‬
‫في هذه البادية كان لها أثر واضح في اتجاهاته الفنية ‪ ،‬ولعلها كانت أحد العوامل‬
‫التي اتجهت به إلى الحرص على أساليب العرب ‪ ،‬والمحافظة على مذاهبهم الفنية‬
‫التقليدية ‪ ،‬أو ‪ -‬بعبارة أخرى – على (( عمود الشعر ))‪.‬‬
‫حياته‬
‫•‬
‫وأهم حدث مر بالبحتري في هذه الفترة األولى من حياته اتصاله بأبي تمام ‪،‬‬
‫وكناقد وفد إليه ليعرض عليه شعره ‪ ،‬فأنشده قصيدته التي مطلعها ‪:‬‬
‫أفاق صب من هوى فأفيقا ‪    ‬أم خان عهدا أم أطاع شفيق‬
‫• وأعجب أبو تمام بهذه القصيدة ‪ ،‬فلما انفض مجلسه دعاه إليه وقال له ‪ :‬أنت أشعر‬
‫من أنشدني ‪ ،‬وقد عاصر البحتري سبعة من الخلفاء العباسيين ‪ :‬الواثق والمتوكل‬
‫والمنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي والمعتمد‪.‬‬
‫حياته‬
‫•‬
‫وتبلغ مدائح البحتري في المتوكل وحده ثالثين قصيدة ‪ ،‬ولما قتل المتوكل نظم‬
‫قصيدته المشهورة التي رثى بها المتوكل ‪ :‬‬
‫محل على القاطول أخلق داثره ‪     ‬وعادت صروف الدهر جيشا يغاوره‬
‫• وفي أواخر خالفة المعتمد عاد البحتري عودته األخيرة إلى منبج حتى أدركته‬
‫منيته وهو شيخ في حدود الثمانين من عمره‪.‬‬
‫حياته‬
‫•‬
‫نستطيع أن نقسمها إلى ثالث مراحل ‪:‬‬
‫المرحلة الشامية األولى التي تبدأ منذ والدته في منبج ‪ ،‬وتستمر قرابة خمسة‬
‫وعشرين عاما ‪ ،‬وأهم حدث مر به فيها هو اتصاله بأبي تمام‪.‬‬
‫ثم المرحلة العراقية التي تبدأ منذ رحيله عن الشام إلى بغداد ‪ ،‬وتستمر قرابة‬
‫خمسين سنة أشد فترة في حياة البحتري الفنية ازدهارا وخصبا وعطاء ‪ ،‬ونظم‬
‫فيها أكبر موسوعة من شعره‪.‬‬
‫ثم المرحلة الشامية الثانية التي شهدت البحتري شيخا ولم تستمر هذه المرحلة‬
‫أكثر من خمس سنوات لم تكن بذات قيمة من الناحية الفنية‪.‬‬
‫ثقافته‬
‫•‬
‫فالبحتري إذن شاعر قليل الحظ من الثقافة العقلية واألجنبية ‪ ،‬ولكنه وافر الحظ‬
‫من الثقافة العربية القديمة ‪ .‬وساعده على ذلك نشأته األولى في البادية التي‬
‫أتاحت له االتصال القريب بلغة البدو وتقاليدهم وتراثهم الفني والفكري‪.‬‬
‫مذهبه الشعري‬
‫• ‪ ‬‬
‫األمر الذي الشك في أن اتصال البحتري بأبي تمام وصله بشئ من الثقافات العقلية‬
‫واألجنبية التي كان أبو تمام على صلة وثيقة واسعة بها ‪ ،‬كما أن اتصاله بالحياة‬
‫المتحضرة في العراق وفارس وصله بالحضارة الحديثة ‪ ،‬ولعل هذا هو الذي دفع‬
‫صاحب األغاني إلى القول بأن البحتري (( كان يتشبه بأبي تمام ))‪ .‬‬
‫ولكن هذا – في حقيقة أمره – غير صحيح ‪ ،‬ألن مذهب البحتري الفني يختلف‬
‫تمام االختالف عن مذهب أبي تمام ‪ ،‬فالبحتري كما يصفه االمدى (( أعرابي الشعر‬
‫مطبوع على مذهب األوائل ‪ ،‬وما فارق عمود الشعر المعروف ))‪.‬‬
‫شعره‬

‫نالحظ أن استخدام البديع عنده يختلف عن استخدامه عند أبي تمام من ناحيتين ‪،‬‬
‫فهو – من ناحية – لم يفرط فيه إفراط أبي تمام ‪ ،‬ولم يبالغ في استخدامه ‪ ،‬وهو –‬
‫من ناحية أخرى – لم يعقد فيه ‪ ،‬ولم يتعمق في أغواره كما كان يفعل أبو تمام‪.‬‬
‫فاالستعارة عند البحتري تختلف تمام االختالف عن االستعارة عند أبي تمام ‪ ،‬فهي‬
‫ليست أكثر من تلك الصورة المألوفه التي نعرفها في الشعر العربي القديم ‪ ،‬والتي‬
‫تعتمد أوال وقبل كل شئ على التشبيه‪ .‬والجناس عند البحتري ال ينتشر انتشاره عند‬
‫أبي تمام ‪ ،‬وال يختلط أو يمتزج بعنصر التصوير الذي كان أبو تمام يعتمد عليه‬
‫اعتمادا كبيرا‪ .‬‬
‫شعره‬

‫أما اللون البديعي الوحيد الذي أفرط فيه البحتري إفراطا غير عادي فهو الطباق ‪ ،‬مع‬
‫ذلك – لم يصل إلى ذلك البدع الرائع الغريب الذي وصلت إليه (( نوافر األضداد ))‬
‫عند أبي تمام ‪ ،‬وإنما هو طباق ساذج بسيط ال يعدو وضع لفظه في مقابل لفظة‪.‬‬
‫ولعل هذا هو الذي جعل الدكتور شوقي ضيف يطلق عليه (( طباق الذاكرة ))‪ .‬وهو‬
‫طباق نستطيع أن نرى صورة منه في هذه األبيات ‪:‬‬
‫منى وصل ومنك هجــر ‪     ‬وفي ذل وفيك كــــــــبر‬
‫وما سواء إذا التقينــــــا ‪     ‬سهل على خلة ووعــر‬
‫قد كنت حرا وأنت عبـد ‪     ‬فصرت عبدا وأنت حر‬
‫أنت نعيمي وأنت بؤسي ‪     ‬وقد يسوء الذي يســــر‬
‫شعره‬
‫•‬
‫نالحظ أن شيئا من المنطق ينقص البحتري في شعره ‪ ،‬فال تظهر فيه تلك الروابط‬
‫العقلية الدقيقة بين األفكار التي تظهر بوضوح في شعر أبي تمام ‪ ،‬وذلك الن‬
‫البحتري كان يؤمن بان الشعر ال يمكن أن يكون صناعة عقلية تقوم على‬
‫المزاوجة بين العقل والشعور أو االمتزاج بين الفن والثقافة كما كان عند أبي تمام‬
‫‪ ،‬وهو يصرح بمذهبه الفني في هذه األبيات المشهورة التي يقول فيها مدافعا‬
‫عنه ‪.‬‬
‫كلفتمونا حدود منطـــقكم ‪     ‬والشعر يغنى عن صدقه كذبه‬
‫ولم يكن ذو القروح يلهج ‪     ‬بالمنطق وما نوعه وما سببه‬
‫والشعر لمح تكفي إشارته ‪     ‬وليس بالهذر طولت خطبــــه‬
‫شعره‬
‫•‬
‫ومعنى هذه الفكرة في ضوء مذهب البحتري أن الشعر ال يقوم على أساس عقلي ‪،‬‬
‫وال يخضع لمقاييس المنطق‪.‬‬
‫ولعل هذا هو الذي دفع بروكلمان إلى القول بان البحتري اقل فطنة من المتنبي ‪،‬‬
‫ولكنه أكثر شاعرية من أبي تمام ‪.‬‬
‫ولعل شيئا من ذلك هو الذي جعل أبا العالء يطلق على شعره (( عبث الوليد ))‬
‫مستغال اسمه في هذه التورية الجميلة ‪.‬‬
‫فالبحتري في كل شعره حريص أشد الحرص على اختيار ألفاظه وانتقائها بحيث‬
‫تتالءم مع الموضوع الذي ينظم فيه ‪ ،‬مع جنوح واضح إلى اللفظ القريب إلى الفهم‬
‫‪ ،‬البعيد عن األغراب والتعقيد‬
‫المحاضرة الـ‪12‬‬ ‫المتنبى‬

‫المتنبي شاعر القرن الرابع غير منازع ‪ ،‬بل هو – عند كثير من الباحثين – أكبر‬
‫شاعر أنجبته العربية في تاريخها األدبي الطويل‪.‬‬
‫ولد المتنبي بالكوفة في سنة ‪ 303‬للهجرة ‪ ،‬ويكتنف الغموض أسرته وأصله ‪،‬‬
‫ويختلف الرواة في نسبه ‪ ،‬إنه أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد ‪ ،‬ولكنهم‬
‫يتفقون على أنه عربي ينتهي نسبه من جهة أبيه إلى قبيلة جعفى اليمنية ‪ ،‬ومن جهة‬
‫أمه إلى قبيلة همدان اليمنية أيضا ‪ ،‬وقضى المتنبي فترة طفولته في الكوفة ‪ ،‬فتعلم‬
‫فيها القرآن ‪ ،‬ودرس شيئا ً من علوم اللغة واألدب ‪ ،‬وروى نصوصا من الشعر‬
‫العربي ‪ ،‬هذا إلى جانب ما كان يتعلمه فيها من أصول الدين اإلسالمي ‪ ،‬وبدأ ينظم‬
‫الشعر وهو صبي صغير فيها ‪ ،‬وهم يذكرون أن أول شعر قاله هذان البيتان ‪:‬‬
‫• بأبي من وددته فافترقنا ‪    ‬وقضى هللا بعد ذاك اجتماعا‬
‫فافترقنا حوالً فلما التقينا‪     ‬كان تسليمه على وداعــا‬
‫حياته‬
‫•‬
‫ويروي الرواة له مقطوعات أخرى نظمها في صباه نراه في بعضها يتغزل ‪ ،‬وفي‬
‫بعضها يهجو ويتهكم ‪ ،‬وفي بعضها يمدح ‪ ،‬وفي بعضها يفتخر ‪ ،‬ومن بين هذه‬
‫المقطوعات المبكرة تلك المقطوعة التي تعكس ذلك الطموح البعيد ‪ ،‬بل الغرور‬
‫الذي ال حد له ‪:‬‬
‫• أي محل ارتقـى ‪    ‬أي عظيم أتقــى‬
‫وكل ما خلق هللا ‪    ‬وما لم يخـــلق‬
‫محتقر في همتي ‪    ‬كشعرة في مفرقي‬
‫حياته‬

‫ويرى أنه وهو في صباه يحمل عقل الشيوخ وحكمتهم ‪:‬‬


‫• نفس تصغر نفس الدهر من كبر ‪     ‬لها نهى كهله في سن أمرده‬
‫• بل يرى أنه أحسن من الناس جميعا ‪ ،‬فما أحد من الناس فوقه ‪:‬‬
‫• أمط عنك تشبيهي بما وكأنه ‪     ‬فما أحد فوقي وال أحد مثلي‬
‫• وأقام المتنبي مع أبيه في البادية بضع سنين ‪ ،‬يأخذ من جوها الصحة والقوة ومن‬
‫أهلها الفصاحة والبيان واللغة والغريب‪.‬‬
‫رحالته‬

‫وفكر في أن يتخذ من شعره وسيلة للعيش ‪ ،‬فأخذ يتصل ببعض الرؤساء يمدحهم‬
‫ليستعين بما يهدونه إليه من عطاء على حياته ‪ .‬حاول أن يجرب حظه مع سيف‬
‫الدولة فمدحه بقصيدته التي مطلعها ‪:‬‬
‫• ذكر الصبا ومراتع اآلرام ‪    ‬جلبت حمامى قبل وقت حمامى‬
‫• وكان ذلك في سنة ‪ ، 231‬وهنا خطرت في ذهن المتنبي فكرة ‪ :‬لماذا ال يكون ملكا ً‬
‫أو أميراً ؟ ومضى يصور طموحه ورغبته في المغامرة التي تصل به إلى الملك‬
‫والسلطان أو تنتهي به إلى الموت والهالك ‪:‬‬
‫• أفكر في معاقرة المنــايا ‪    ‬وقود الخيل مشرفة الهوادي‬
‫زعيم للقنا الخطى عزمي‪     ‬بسفك دم الحواضر والبوادي‬
‫رحالته‬
‫ومضى يجاهر به ويعلنه على الناس ‪ ،‬حتى وصل به األمر إلى درجة التهديد‬ ‫•‬
‫بالثورة والخروج على السلطان ‪ ،‬وتحدى الملوك واألمراء والحكام جميعا ‪:‬‬
‫أيملك الملك واألسياف ظامئــة ‪     ‬والطير جائعة لحم على وضم‬ ‫•‬
‫من لو رآني ما ًء مات من ظمـأ ‪     ‬ولو مثلت له في النوم لم ينم‬
‫فألقى لؤلؤ الغورى والى اإلخشديين على حمص القبض عليه وألقى به في غياهب‬ ‫•‬
‫السجن ‪ ،‬وكان ذلك في أواخر سنة ‪ ، 321‬وتكثر الروايات واألخبار عن السبب أو‬
‫األسباب التي ألقت بالمتنبي في السجن ‪ ،‬فجماعة يرون أن المتنبي أدعى النبوة‬
‫وجماعة يرون أن المتنبي بعد أن فكر في الثورة فتصدى له لؤلؤ ثم القي به في‬
‫السجن وخرج المتنبي من السجن ‪ ،‬واستقرت به الحياة في أنطاكية ‪ ،‬وسيطر على‬
‫نفسه إحساس بالسخط والتشاؤم‪:‬‬
‫ودهر ناسه ناس صغــار ‪     ‬وإن كانت لهم جثث ضخام‬ ‫•‬
‫وما أنا منهم بالعيش فيهم ‪     ‬ولكن معدن الذهب الرغام‬
‫رحالته‬

‫واستطاع المتنبي أن يصل إلى سيف الدولة الحمداني في سنة ‪ 337‬حين قدم سيف‬
‫الدولة إلى أنطاكية بعد انتصاره على الروم فمدحه بقصيدة الميمية ‪:‬‬
‫• وفاؤكم كالربع أشجاه طاسمه بأن‪     ‬تسعدا والدمع أشفاه ساجمه‬
‫• وتوطدت الصلة بينهما ‪ ،‬وظل المتنبي في بالط سيف الدولة زهاء تسع سنين حتى‬
‫فارقه في سنة ‪ .345‬وكانت آخر قصيدة أنشدها له في حلب هيه ميمية ‪:‬‬
‫• عقبى اليمين على عقبى الوغى ندم ‪     ‬ماذا يزيدك في إقدامك القسم‬
‫مع سيف الدولة‪ ‬‬
‫•‬
‫والواقع أن المتنبي قال في سيف الدولة شعراً كثيراً ويحفظ لنا ديوانه أكثر من‬
‫ثمانين قصيدة ومقطوعة قالها فيه ‪ ،‬حتى ليوشك أن يؤلف شعره فيه ديوانا‬
‫مستقال‪ .‬السبب في هذا يرجع إلى أن المتنبي وجد في سيف الدولة – وهو األمير‬
‫العربي –المثل الذي كان يفتقده في غيره من األمراء األعاجم الذين اتصل بهم من‬
‫قبل ومدحهم ‪ ،‬وكان سيف الدولة نفسه مثقفا ثقافة واسعة ‪ ،‬ومن هنا كانت‬
‫مجالسه تحفل دائما بالعلماء واألدباء والكتاب والشعراء والفالسفة والفقهاء‬
‫واللغويين ‪ .‬ولهذا كان المتنبي حريصا دائما على أن يقدم لهذا األمير المثقف‬
‫ولهذه البيئة المثقفة أجود ما يمكن أن يقدمه من شعر ‪ ،‬ويرى الدكتور طه حسين‬
‫أن شعر المتنبي في سيف الدولة من أجمل الشعر العربي كله وأروعه وأحقه‬
‫بالبقاء‪.‬‬
‫مع سيف الدولة‪ ‬‬
‫•‬
‫والرواة يذكرون أن سيف الدولة كان يعطي المتنبي كل سنة ثالثة آالف دينار‬
‫طوال المدة التي قضاها معه‪ .‬ولكن الذي حدث هو أن هذه الصلة بين الشاعر‬
‫واألمير قد انقطعت وانتهى األمر إلى فرار المتنبي من حلب ومن سيف الدولة‪.‬‬
‫أسباب فراقه لسيف الدولة‪ ‬‬
‫األسباب التي أدت إلى هذه القطيعة‪:‬‬
‫من الممكن أن نرد هذه األسباب إلى شئ أساسي في شخصية المتنبي ‪ ،‬فقد كان المتنبي‬
‫مغرورا اشد الغرور ‪ ،‬متعاليا على غيره من الشعراء محتقرا لهم‪.‬‬
‫• خليلي إني ال أرى غير شاعر ‪     ‬فكم منهم الدعوى ومنى القصائد‬
‫فال تعجبا أن السيوف كثيـرة ‪     ‬ولكن سيف الدولة اليوم واحــد‬
‫• ويقول مرة غيرهما‪:‬‬
‫وما الدهر أال من رواة قصــائدي ‪     ‬إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا‬
‫فسار به من ال يسير مشمـــ را ‪     ‬وغنى به من ال يغني مغـــــردا‪ ‬‬
‫اجزني إذا أنشدت شعرا فإنــما ‪     ‬بشعري أتاك المادحون مــرددا‬
‫ودع كل صوت غير صوتي فإنني ‪     ‬أنا الطائر المحكى واآلخر الصدى‬
‫• وبدأت الدسائس تحاك حول المتنبي ‪ ،‬وكان أشد الماكرين بالمتنبي الكائدين له‬
‫شخصان من أسرة سيف الدولة هما أبو فراس الحمداني ‪ ،‬وأبو العشائر الحمداني ابنا‬
‫عمه‪.‬‬
‫مفارقته لسيف الدولة‪ ‬‬
‫•‬
‫حتى إذا ما كانت سنة ‪ 345‬دارت مناقشة حادة في مجلس سيف الدولة بين‬
‫المتنبي واحد العلماء المتصلين به وهو ابن خالويه النحوي ‪ ،‬فقد خطأ ابن خالويه‬
‫المتنبي من الناحية النحوية وغضب المتنبي لذلك ‪ ،‬ورد على ابن خالويه ردا‬
‫غليظا فغضب ابن خالويه واخرج من كمه مفتاحا من حديد ‪ ،‬وضرب به وجه‬
‫المتنبي فشجه وسال دمه‪.‬‬
‫وكان المتنبي يتوقع أن يغضب سيف الدولة له وينصره ‪ ،‬فلم يفعل شيئا ً ولم‬
‫يغضب لما حدث ‪ ،‬وخرج المتنبي من عند سيف الدولة ويدخل المتنبي مصر سنة‬
‫‪ 346‬بعد أن فارق سيف الدولة بشهور قليلة ‪ ،‬وهو يمنى نفسه بأنه سوف ينال‬
‫من كافور ما لم ينله من سيف الدولة ‪ ،‬إنه ال يريد من كافور ماال وإنما يريد أن‬
‫يوليه أمر والية من الواليات ليصبح أميرا عليها‪.‬‬
‫مدحه لكافور‪ ‬‬

‫ومدح المتنبي كافورا بثماني قصائد أنشده أوالها في جمادي اآلخرة من سنة ‪346‬‬
‫وهي يائيته‪:‬‬
‫كفى بك دا ًء أن ترى الموت ‪    ‬شافيا وحسب المنايا أن يكن امانيا‬
‫وأنشده آخرها في شوال ‪ 349‬وهي بائيته‪:‬‬
‫منى كن لي أن البياض ‪    ‬خصاب فيخفى بتبييض القرون شباب‬
‫إن شعر المتنبي في كافور لم يكن كله مدحا خالصا ‪ ،‬ولكنه ينحل إلى ثالثة‬
‫موضوعات‪ :‬حديث للمتنبي عن نفسه وعن آماله ‪ ،‬وحنين إلى أيامه السالفة ‪ ،‬ومدح‬
‫لكافور‪ .‬وانتهى المتنبي بعد طول االنتظار إلى اليأس من كافور ‪ ،‬وضاقت نفسهأ وبدأ‬
‫يرى فيه عبدا زنجيا حقيراً ‪ ،‬وبدأ يهجوه سرا ‪ ،‬وودع كافورا بقصيدة هجاء رائعة ‪:‬‬
‫• عيد بأية حال عدت ‪    ‬ياعيد بما مضى أم ألمر فيك تجديد‬
‫أما األحبة فالبيدا ‪    ‬دونهم فليت دونك بيدا دونها بيد‬
‫وفاته‬

‫في سنة ‪ 352‬توفيت أخت سيف الدولة (( خولة )) فبعث إليه المتنبي بقصيدته‬
‫البائية في رثائها‪:‬‬
‫• طوى الجزيرة حتى جاءني خبر ‪    ‬فزعت فيه بآمالي إلى الكــذب‬
‫حتى إذا لم يدع لي صدقه أمال ‪    ‬شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي‬
‫• وأخذ المتنبي طريقه إلى بغداد وليس معه إال ابنه وغلمانه‪ .‬وفي الطريق قريبا من‬
‫دير عاقول في الجانب الغربي من سواد بغداد تلقاه فاتك االسدي خال ضبه‬
‫القرمطي الذي هجاه المتنبي من قبل في الكوفة ‪ ،‬ومعه جماعه من األعراب كانوا‬
‫يتربصون له في الطريق ‪ ،‬فكان بينهم شئ من قتال انتهى بمصرع المتنبي‬
‫ومصرع ابنه وغلمانه جميعا ‪ ،‬ونهب ما كان معهم من متاع وكتب ومال‪ .‬وكان‬
‫ذلك في أواخر رمضان من سنة ‪.354‬‬
‫آراء القدماء فيه‪ ‬‬
‫•‬
‫المتنبي عند أكثر القدماء والمحدثين شاعر العربية األكبر ‪ ،‬وفي رأي أبي العالء‬
‫هو أشعر المحدثين‪ .‬ومع ذلك فهنالك من يختلفون حوله ‪ ،‬ومن نصبوا من أنفسهم‬
‫خصوما له ‪ ،‬وقد دفع هذا أحد كبار النقاد العرب ‪ ،‬وهو القاضي عبد العزيز‬
‫الجرجاني ‪ ،‬إلى تأليف كتابه (( الوساطة بين المتنبي وخصومه )) الذي حاول فيه‬
‫أن يقف موقف القاضي العادل بين أنصاره وخصومه‪ .‬وقد سجل الجرجاني معركة‬
‫القدماء حوله بالتفصيل في كتابه (( الوساطة )) فعرض حجج الفريقين‪ :‬أنصاره‬
‫وخصومه ‪ ،‬وكذلك المعركة عند الثعالبي في (( يتيمة الدهر ))‬
‫آراء القدماء فيه‪ ‬‬
‫• ووراء الجرجاني والثعالبي وأمثالهما ‪ ،‬فريقان من النقاد‪ :‬متعصب عليه ومتعصب‬
‫له ‪ ،‬ففي كفة االتهام نرى أمثال (( المنصف للسارق والمسروق من المتنبي ))‬
‫البن وكيع ‪ ،‬و ((اإلبانة عن سرقات المتنبي )) للعميدي ‪ ،‬و (( الرسالة الموضحة‬
‫في مساوئ المتنبي )) للحاتمي ‪ ،‬و (( الكشف عن مساوئ شعر المتنبي ))‬
‫للصاحب بن عباد‪ .‬وفي كفة الدفاع نرى أمثال (( الفسر )) و (( معاني أبيات‬
‫المتنبي )) البن جنى أهم المعجبين به في عصره وأكثرهم تعصبا له ‪ ،‬وأشدهم‬
‫إثارة لخصومه الذين شغلوا بالرد عليه من أمثال ابن فورجة الذي ألف كتابين‬
‫سمى أحدهما (( التجني على ابن جنى )) وسمى اآلخر (( الفتح على أبي الفتح ))‬
‫‪ ،‬وأبي حيان التوحيدي الذي ألف (( الرد على ابن جنى في شعر المتنبي ))‬
‫والشريف المرتضى الذي ألف (( كتاب تتبع أبيات المعاني للمتنبي التي تكلم عليها‬
‫ابن جنى ))‪.‬‬
‫آراء القدماء فيه‪ ‬‬
‫•‬
‫وأهم ما أخذه عليه القدماء خروجه على النحو واللغة والوزن في بعض أبياته ‪،‬‬
‫والتعقيد المعنوي بسبب بعد استعارته تارة ‪ ،‬وغموض معانيه والتناقض واإلحالة‬
‫فيها تارة أخرى ‪ ،‬والتعقيد اللفظي نتيجة لغرابة لغته وتنافر كلماته ‪ ،‬والخروج‬
‫بالشعر من طريق الشعر إلى طريق الفلسفة ‪ ،‬ثم التفاوت في مستواه الفني ‪،‬‬
‫وأخيراً مسألة السرقات‪.‬‬
‫آراء القدماء والمحدثين‪ ‬‬
‫•‬
‫وأما المحدثون فقد ذهب الدكتور طه حسين في كتابه (( مع المتنبي )) إلى أن فن‬
‫المتنبي يختلف باختالف أطوار حياته ‪ ،‬فخير شعره في سيف الدولة ‪ ،‬أما شعره‬
‫في مصر فمدحه لكافور بعضه جيد وبعضه متوسط ‪ ،‬وأما هجاؤه له فقد وفق إلى‬
‫اإلجادة فيه ‪ ،‬أما أجمل ما قاله المتنبي في مصر فهو (( ذلك الغناء الحزين الذي‬
‫صور فيه آماله الضائعة وآالمه وغربته ))‪.‬‬
‫آراء المحدثين‪ ‬‬
‫•‬
‫وأما األستاذ العقاد فالمتنبي عنده فخر العرب ‪ ،‬وشاعر التجارب والحكم ‪،‬‬
‫والشاعر العظيم القليل النظير‪ .‬وهو إلى جانب ذلك فنان ولكنه ال يدخل عالم الفن‬
‫من باب الجمال ‪ ،‬وإنما من باب القوة‪.‬‬
‫وأما األستاذ المازني ففي مقاالته التي كتبها في (( حصاد الهشيم ))ال يبدي‬
‫إعجابه بالمتنبي‪ .‬فهو ليس أحب الشعراء إليه ‪ ،‬وال أعزهم عليه‪ .‬فيأتي في شعره‬
‫بالثقيل الجافي أو بالضعيف المهلهل‪.‬‬
‫آراء المحدثين‪ ‬‬
‫•‬
‫أما الدكتور عبد الوهاب عزام فهو متعصب للمتنبي تعصبا ً واضحا ً ‪ ،‬وهو يعني في‬
‫كتابه (( ذكرى أبي الطيب بعد ألف عام )) بمناقشة كل ما هوجم به ودفعه عنه ‪،‬‬
‫فيرد اإلغراب في شعره إلى قلة مباالته بالناس وإعجابه بنفسه ‪ ،‬وينكر اتهامه‬
‫بالخطأ المعنوي ‪ ،‬ويرى أنها دعوى بال دليل ‪ ،‬ويعد خروجه إلى طريق الفلسفة‬
‫من حسناته‪.‬‬
‫والدكتور شوقي ضيف من المعجبين أيضا بالمتنبي ‪ ،‬وهو في كتابه (( الفن‬
‫ومذاهبه في الشعر العربي )) يسلكه في مذهب التصنع ‪ ،‬ويرى أنه استطاع (( أن‬
‫يحلق في أسمى أفق للشعر العربي )) ‪ ،‬وأن يخفي بمهارته حقيقة فنه وصناعته ‪،‬‬
‫وأعانه على ذلك أنه (( كان صاحب صوت ضخم ال يرتفع به حتى يحدث جلبة‬
‫شديدة ))‪.‬‬
‫عقليته‬
‫•‬
‫أن أهمية المتنبي في تاريخ الشعر العربي ترجع إلى أنه استطاع أن يحرره من‬
‫قيود الصنعة البديعية والزخارف اللفظية التي كبله بها شعراء مدرسة البديع ‪،‬‬
‫وأن يعود به على أصالته التي كان عليها في عصور ازدهاره وإلى أن يعبر تعبيراً‬
‫حراً عن نفس صاحبه وعقله ال تقيده قيود الصنعة الثقيلة التي تحد حركته ‪ ،‬كان‬
‫المتنبي طبعة جديدة تختلف عن الشعراء في جانب من أهم الجوانب التي تميزه‬
‫من بينهم ‪ ،‬وهو ذلك (( العنصر العقلي )) الذي جعله قاعدة أساسية يقوم عليها‬
‫بناؤه الفني ‪ ،‬وبقدر ما تخفف المتنبي في شعره من أثقال الزينة اللفظية ‪ ،‬وحرره‬
‫من قيود الزخرف البديعي ‪ ،‬بقدر ما أثقله باألفكار العقلية البعيدة ‪ ،‬والتراكيب التي‬
‫كان في كثير من األحيان يحرص على أن يبنيها بناء منطقيا ً أرسطيا ً ‪.‬‬
‫ثقافته‬
‫•‬
‫كان المتنبي واسع االطالع على ثقافات عصره ‪ ،‬شديد االتصال بها ‪ ،‬حتى ليخيل‬
‫لمن يقرأ شعره أنه لم يكد يترك جانبا من جوانب المعرفة في عصره إال اتصل به‬
‫واستغله في شعره‪ .‬ولم تقف صلة المتنبي عند الثقافات العقلية ‪ ،‬وإنما امتدت‬
‫لتصل أسبابه بالثقافات اللغوية والنحوية واألدبية اتصاالً وثيقا ً‪ .‬وذكروا أنه واسع‬
‫االطالع على كتب اللغة والنحو ودواوين الشعر ‪ ،‬واسع العلم بأسرار اللغة‬
‫وغريبها ولهجاتها ‪ ،‬ومذاهب النحاة وشواهدهم ‪ ،‬ومذاهب الشعراء واتجاهاتهم‬
‫الفنية‪ .‬مما أمده برصيد لغوي وفني ثري راح ينفق منه بغير حساب ‪ ،‬ويتصرف‬
‫في ثقة بل في جرأة‪.‬‬
‫ثقافته‬
‫•‬
‫لقد استطاع المتنبي أن يجمع بين البداوة والحضارة ‪ ،‬ويتداخل فيه الموروث‬
‫العربي بأصالته وعراقته ‪ ،‬والوافد األجنبي بطرافته وجدته ‪ ،‬وأيضا بتعقيداته‬
‫الفلسفية وتشكيالته العقلية وأقيسته المنطقية‪.‬‬
‫شعره‬
‫•‬
‫بدأ خطواته الفنية األولى على درب أبي تمام الذي كان معجبا به إعجابا شديداً ‪،‬‬
‫أخذ يصدر عن نفسه في أصالة طبيعية حطمت المذاهب الفنية التي جنح إليها‬
‫الشعراء السابقون عليه ‪ ،‬متخذاً له مذهبا خاصا به يقوم على أساس تحرير الشعر‬
‫العربي من القيود ‪ ،‬ووضع نهاية لقضية الصراع بين القديم والجديد التي شغلت‬
‫القرن الثالث ‪ ،‬واستهلكت جهود نقاده المحافظين والمجددين على السواء ‪،‬‬
‫وظهرت على األفق خصومة جديدة حول األصالة والشاعرية‪ :‬طائفة المعجبين به‬
‫المتعصبين له المؤمنين بأصالته وشاعريته ‪ ،‬وطائفة الرافضين له ‪ ،‬المتحاملين‬
‫عليه‪.‬‬
‫شعره‬
‫•‬
‫وشادن روح من يهواه في يــده‪     ‬سيف الصدود على أعلى مقلده‬
‫ما اهتز منه على غصن ليبتــره‪     ‬إال اتقاه بترس من تجـــلده‬
‫ذم الزمان إليه من أحبتـــــه‪     ‬ما ذم من بدره في حمد أحمـده‬
‫شمس إذا الشمس القته على فرس ‪    ‬تردد النور فيها من تــردده‬
‫إن يقبح الحسن إال عند طلعتــه‪     ‬والعبد يقبح إال عند سيــده‬
‫• ففي هذه األبيات يحاول تقليد أستاذه الكبير فنرى صبغ التشخيص ‪ ،‬ونرى صبغ‬
‫الطباق ‪ ،‬ونرى مراعاة النظير ‪ ،‬ونرى محاولة لالقتراب من قمة أبي تمام ‪ ،‬ثم‬
‫يتقدم المتنبي خطوات في طريقه الفني ‪ ،‬ويبدأ في التخلص من متابعة أبي تمام‬
‫في دروبه البديعية ‪ ،‬ويبدأ في العمل على تحقيق رسالته الفنية في (( تحرير‬
‫الشعر )) والخروج به من إسار البديع على عالم فسيح ينطلق فيه كيف يشاء‪.‬‬
‫شعره‬
‫•‬
‫تقوم نظرية المتنبي في الشعر على أساسين‪ :‬العودة بأسلوبه إلى أصالته األولى‬
‫التي أصلتها له عبقريات رواده ‪ ،‬ثم تحريره من قيود المدرسة البديعية التي أثقلت‬
‫كواهله وقيدت حركته ولننظر في هذه األبيات‪:‬‬
‫• ال افتخار إال لمن ال ‪    ‬يضــام مدرك أو محارب ال ينـــام‬
‫ليس عزما ما مرض المرء ‪    ‬فيه ليس هما ما عاق عنه الظالم‬
‫واحتمال األذى ورؤية جانـيه‪     ‬غذاء تضوي به األجســـام‬
‫كل حلم أتى بغير اقتـــدار ‪    ‬حجة ال جئ إليها اللئـــام‬
‫من يهن يسهل الهوان علـيه‪     ‬ما لجرح بميت إيـــــالم‬
‫شعره‬
‫•‬
‫ومع استقرار حياة المتنبي في ظالل سيف الدولة ‪ ،‬ومع اتصاله بالنشاط العقلي‬
‫الخصب ‪ ،‬وظهرت الحكم الناضجة التي استمدها المتنبي من ثقافته الفلسفية‬
‫وأيضا من تجربته العريضة في الحياة ‪ ،‬وظهرت أيضا صور من التعقيد المعنوي‬
‫واللفظي ‪ ،‬ولننظر في هذه األبيات لنرى كيف أخذ العنصر العقلي يفرض نفسه‬
‫على شعره‪:‬‬
‫• أنت يافوق أن تعزى عن الـ ‪    ‬أحباب فوق الذي يعزيك عقال‬
‫وبألفاظك اهتدى فإذا عــزا‪     ‬ك قال الذي له قلت قبـــال‬
‫لك إلف يجره وإذا مــــا‪     ‬كرم األصل كان لإللف أصال‬
‫شعره‬
‫• مضى المتنبي في قصيدته يعزف هذا اللحن الفلسفي العميق ‪ ،‬استطاع المتنبي أن‬
‫يتحول بهذا الموقف إلى تأمالت عقلية هادئة تحاول أن تفلسف قضية الحياة‬
‫والموت ‪ ،‬وعلى امتداد الطريق الفني الذي سلكه المتنبي وظل شعره محتفظا بذلك‬
‫المزاج الغريب من انفعاالت البدوي الحادة العنيفة وعقالنية الحضري المثقف‬
‫الواسع األفق ‪ ،‬مع تفاوت في (( عملية المزج بين العناصر )) يرجع إلى ظروف‬
‫حياته وما تتركه من آثار على نفسيته في ضوء هذه النظرية ‪ ،‬نظرية (( التفاوت‬
‫في مزج العناصر ))‬
‫شعره‬
‫•‬
‫نستطيع أن نوزع شعر المتنبي في مجموعتين فنيتين‪ :‬مجموعة ترتفع فيها نسبة‬
‫العناصر البدوية بما تحمله معها من ارتفاع الصوت االنفعالي ‪ ،‬ومجموعة ترتفع‬
‫فيها نسبة العناصر األجنبية بما تحمله معها من ارتفاع صوت العقل ‪ ،‬ومن اليسير‬
‫أن نجد تفسيراً له ‪ ،‬إذا وضعنا في حسابنا أمرين‪ :‬تكوين المتنبي الثقافي من ناحية‬
‫‪ ،‬والذين كان يتجه إليهم بشعره من ناحية أخرى‪.‬‬
‫شعره‬
‫•‬
‫تبدأ القصيدة بذلك اللون من الغزل الذي عرف به المتنبي ‪ ،‬وتدور األبيات األولى‬
‫التسعة عشر منها في جو بدوي خالص‪.‬‬
‫• من الجآذر في زى االعـاريب‪     ‬حمر الحلي والمطايا والجاليـب‬
‫إن كنت تسال شكا في معارفهـا‪     ‬فمن بالك بتسهيد وتعذيـــب‬
‫ال تجزني بضنى بي بعدها بقـر تجزى‪     ‬دموعي مسكوبا ً بمسكوب‬
‫سوائر ربما سارت هوادجهــا‪     ‬منيعة بين مطعون ومضـروب‬
‫نجيع من الفرسان مصبوب‬‫ٍ‬ ‫وربما وخدت أيدي المطى بهـا ‪    ‬على‬
‫كم زورة لك في األعراب خافي ٍة ‪    ‬أ‪ ‬دهى وقد رقدوا من زورة الذيب‬
‫أزورهم وسواد الليل يشفع لـي‪     ‬وأنثى وبياض الصبح يغرى بـي‬
‫شعره‬
‫•‬
‫ثم ينتقل بعد هذه المقدمة الطويلة إلى مدح كافور ‪ ،‬فيمدحه بتلك الصفات التقليدية‬
‫المألوفة في المدح العربي القديم‪ :‬الحكمة والتجربة والحلم والشجاعة والكرم ‪ ،‬أما‬
‫القصيدة األخرى فمع أنها تبدأ البداية التقليدية بمقدمة غزلية نرى فيها اإلبل‬
‫والظعائن والهوادج فإننا نحس أن جواً حضريا ينتشر بينها‪.‬‬
‫• با ٍد هواك صبرت أم لم تصبـرا ‪     ‬وبكاك إن لم يجر دمعك أو جـرى‬
‫كم غر صبرك وابتسامك صاحبا لم‪    ‬ا رآه وفي الحشا ماال يـــرى‬
‫أمر الفؤاد لسانه وجفونــــه ‪     ‬فكتمنه وكفى بجسمك مخبـــرا‬
‫تعس المهارى غير مهرى غـدا ‪     ‬بمصور لبس الحرير مصــوراً‬
‫شعره‬
‫•‬
‫استطاع المتنبي أن يضع نهاية لتلك الخصومة بين القديم والجديد ‪ ،‬وأن يشغل‬
‫عصره بقضيته هو أو بمذهبه الفني الذي فرض نفسه على المجتمع األدبي في‬
‫القرن الرابع الذي يعد بحق عصر المتنبي دون منازع‪.‬‬
‫المحاضرة الـ‪13‬‬ ‫أبو العالء المعري‪-‬‬
‫•‬
‫يعد أبو العالء أهم شاعر عرفته العربية في القرن الخامس الهجري ‪ ،‬بل هو ‪-‬‬
‫عند بعض المحدثين ‪ -‬أهم شاعر عرفه الشعر العربي على امتداد تاريخه الطويل‪.‬‬
‫وهو ‪-‬على كل حال – خاتمة أجيال العمالقة الذين شهدهم الشعر العربي في رحلته‬
‫الطويلة منذ أن بدأها رواده األوائل من أعماق الجزيرة العربية في العصر‬
‫الجاهلي‪.‬‬
‫أبو العالء المعري‬
‫•‬
‫قضية أبي العالء في النقد العربي لم تكن قضية األصالة الشعرية واختالف النقاد‬
‫حولها كما كان الموقف مع المتنبي ‪ ،‬وإنما كانت قضية جديدة ظهرت إرهاصاتها‬
‫المبكرة عند أبي تمام ‪ ،‬وازدادت ظهورا عند المتنبي ‪ ،‬ثم فرضت نفسها في قوة‬
‫واستعالء عند أبي العالء وهي قضية تطويع الشعر للفلسفة‪.‬‬
‫مولده ونشأته‪ ‬‬

‫ولد أبو العالء أحمد بن عبد هللا بن سليمان سنة ‪ 363‬للهجرة في بلدة قريبة من حلب‬
‫اسمها معرة النعمان ‪ ،‬واليها نسب فعرف بالمعري ‪ ،‬ولقب بابي العالء ‪ ،‬ولم يكد يبلغ‬
‫الرابعة من عمره حتى أصيب برمض الجدري فذهب ببصره ‪ ،‬وأبو العالء المعري‬
‫عربي خالص العروبة ‪ ،‬ينتهي نسبة إلى قبيلة عربية قديمة كانت تنزل في الشام ‪،‬‬
‫هي قبيلة تنوخ اليمنية ‪ ،‬وكانت أسرته على قدر كبير من الثقافة الدينية مما أتاح له‬
‫أن يتصل بالجو العلمي ‪ ،‬وان يكون والده هو أستاذه األول الذي تلقى على يديه العلم‬
‫والى جانب والده طائفة من العلماء الذين كانوا موجودين في بلدته اخذ عنهم كثيراً‬
‫من العلوم العربية‪.‬‬
‫ثقافته‬
‫•‬
‫وقرأ شعر المتنبي على ابن سعد النحوي ‪ ،‬كما قرأ أيضا على أصحاب ابن خالويه‬
‫اللغوي الكبير ‪ ،‬اندفع نحو الفلسفة يدرسها ويتعمق فيها ‪ ،‬وفي رأي القفطي أن‬
‫هذه المرحلة التي شغل نفسه فيها بدراسة الديانات وأقوال الفالسفة هي التي‬
‫أثارت في عقله تلك الشكوك العقلية التي تنتشر في شعره ‪ ،‬واتسعت دائرة ثقافاته‬
‫حتى أوشكت أن تضم كل ما كان يعرفه عصره من علوم لغوية ودينيه وفلسفية ‪،‬‬
‫وأيضا من تراث عربي قديم‪ .‬لزم بيته واعتزل حياة الناس ‪ ،‬وسمى نفسه رهين‬
‫المحبسين‪ :‬حبس نفسه في بيته ‪ ،‬وحبس بصره عن النظر ‪ ،‬وان يكن في بعض‬
‫شعره يصرح بأنه رهين ثالثة سجون‪:‬‬
‫• أراني في الثالثة من سجوني ‪     ‬فال تسال عن الخبر النبيــــــث‬
‫لفقد ناظري ولزوم بيتـــــــي ‪     ‬وكون النفس في الجسم الخبيث‬
‫آثاره‬

‫فرض على نفسه أسلوبا خاصا في الحياة يخضع لمجموعة من األفكار الفلسفية ‪،‬‬
‫وانقطع في بيته عن الحياة واألحياء إال عن كتبه التي عكف عليها ‪ ،‬وتالميذه الذين‬
‫كانوا يلتفون حوله ‪ ،‬وفي هذه العزلة أيضا ألف كتبه الكثيرة وأشهرها رسالة‬
‫الغفران ‪ ،‬والفصول والغايات ‪ ،‬وشروحه على دواوين الشعراء الثالثة الكبار أبي‬
‫تمام والبحتري والمتنبي التي سماها (( ذكرى حبيب )) و (( عبث الوليد )) و‬
‫(( معجز احمد )) ‪ ،‬كما نظم أيضا ديوانه المشهور (( اللزوميات )) الذي سجل في‬
‫فلسفته في الحياة والموت ‪ ،‬كما جمع شعره الذي نظمه في المرحلة السابقة من‬
‫حياته وسماه (( سقط الزند )) ثم عكف على شرحه في كتاب سماه (( التنوير ))‪.‬‬
‫ديوانه سقط الزند ‪ :‬المديح‪ ‬‬

‫مرت حياة أبي العالء الفنية بمرحلتين اختلف فيهما شعره اختالفا كبيرا‪ :‬مرحلة ما‬
‫قبل العزلة ويمثلها ديوانه (( سقط الزند )) ‪ ،‬ومرحلة ما بعد العزلة ويمثلها ديوانه‬
‫(( اللزوميات ))‪.‬‬
‫في (( سقط الزند )) يدور في دائرة الموضوعات التقليدية التي نعرفها في الشعر‬
‫العربي ‪ ،‬ففيه مدح ورثاء ووصف وشكوى من الزمان ويشغل المدح القسم األكبر‬
‫منه ففيه أربع وثالثون قصيدة في المدح ‪ ،‬منها تسع عشرة موجهة إلى أشخاص‬
‫معروفين أشار إليهم في مقدماتها ‪ ،‬وخمس عشرة لم يشر إلى أصحابها وهي ظاهرة‬
‫تبدو غريبة على أبي العالء الذي لم يعرف عنه انه كان يتكسب بشعره ‪ ،‬ويعلل‬
‫العلماء ذلك بان هذا المدح كان على سبيل المران على قول الشعر والتدريب عليه ‪،‬‬
‫ولكننا ‪ -‬مع ذلك – نرى بعض مدائحه موجهة إلى بعض أصدقائه ردا على قصائدهم‬
‫التي كانوا يوجهونها إليه فهي – من هذه الناحية – تدخل في باب االخوانيات‪.‬‬
‫الهجاء‬

‫وظاهرة أخرى تلفت النظر ‪ ،‬وهي اختفاء الهجاء منه ‪ ،‬وتعليل هذه الظاهرة أيسر‬
‫من الظاهرة السابقة ‪ ،‬فقد كانت نفسية أبي العالء من الصفاء ما جعله ينأى بنفسه‬
‫عن أن يقف من احد موقف حقد أو كراهية ‪ ،‬أو لعله اسقط ما قد يكون نظمه من‬
‫هجاء في صدر حياته‪.‬‬
‫الرثاء‬

‫وأما الرثاء فقليل في هذا الديوان ‪ ،‬فليس فيه منه سوى ثماني قصائد ‪ ،‬منها‬
‫قصيدتان في رثاء أمه ‪ ،‬وواحدة في رثاء أبيه ‪ ،‬وأخرى في شخص مجهول ‪،‬‬
‫واألربع الباقية في بعض اإلشراف أو العلماء الذين كان يعرفهم‪.‬‬
‫ولعل قصيدته الدالية التي رثى بها أبا حمزة الفقيه هي أروع قصائد الرثاء في‬
‫الديوان‪ .‬وتعليل هذا يسير ‪ ،‬فهذه القصيدة من نتاج مرحلة ما بعد العزلة التي تمثل‬
‫نضج وينظر إليها نظرة شاملة يحاول من ورائها أن يستشف أسرار الكون‪.‬‬
‫• غير مجد في ملتي واعتقادي‪     ‬نوح ٍ‬
‫باك وال ترنم شـــــاد‬
‫وشبيه صوت النعي إذا قيس‪     ‬بصوت البشير في كل ناد‬
‫أبكت تلكم الحمامة أم غنــت‪     ‬عـلى فرع غصنها المياد؟‬
‫• وعلى المستوى الفني تقف قصيدة الرثاء األخرى‪:‬‬
‫• أحسن بالواجد من وجده صبر يعيد النار في زنده ففي هذه القصيدة تختفي النغمة‬
‫الحزينة الباكية التي كانت تظهر من حين إلى حين ‪ ،‬لتظهر بدال منها نغمة فلسفية‬
‫توشك أن تسيطر عليها من بدايتها إلى نهايتها ‪ ،‬وكأنما تحولت من قصيدة رثاء‬
‫إلى قصيدة في فلسفة الموت والحياة‪.‬‬
‫في هذه القصيدة تحولت أحزان أبي العالء إلى تأمالت فلسفية تأخذ في قسم كبير‬
‫منها شكل الحكم التي يركز فيها ما انتهى إليه من آراء في الحياة والموت من‬
‫خالل تجربته التي عاشها ‪:‬‬
‫• يا دهر يا منجز ايعـــــاده ‪     ‬ومخلف المأمول من وعده‬
‫أي جديد لك لم تبـــــــــله ‪     ‬وأي أقرانك لم تــــــــرده‬
‫تستأسر العقبان في جوها ‪     ‬وتنزل األعصم من فــنده‬
‫الفخر‬
‫•‬
‫أما الفخر فهو على قلته في الديوان حيث لم يتجاوز ست قصائد ‪ ،‬فإننا نحس في‬
‫ثناياه أنغام المتنبي الصاخبة بكل ما فيها من غرور وتعال ومبالغة في اإلحساس‬
‫بالذات على نحو ما نرى في هذه األبيات‪:‬‬
‫• ولو مال السهى عينيه مــنى ‪     ‬ابر على مدى زحل وزادا‬
‫أفل نوائب األيام وحــــــدي ‪     ‬إذا جمعت كتائبها احتشادا‬
‫وكم من طالب أمدى سيلقى ‪     ‬دوين مكاني السبع الشـداد‬
‫وكم عين تؤمل أن ترانـــي ‪     ‬فتفقد عند رؤيتها الســوادا‬
‫الوصف‬

‫الوصف في هذا الديوان لونا آخر من هذه المحاوالت لتقليد الشعراء والمران على‬
‫قول الشعر ‪ ،‬ومع ذلك ففي القصائد القليلة وصف أبو العالء الليل والصبح والظالم‬
‫والصحراء والنجوم والقمر ‪ ،‬وقد الحق بدواوينه قسما خاصا لوصف الدروع سماه‬
‫(( الدرعيات ))‪:‬‬
‫رب ليل كأنه الصبح في الحسن‪     ‬وان كان اسود الطيلســان‬
‫قد ركضنا فيه إلى اللهو لمــــــا ‪    ‬وقف النجم وقفة الحيـران‬
‫كم أردنا ذاك الزمان بمــــــــدح‪     ‬فشغلنا بذم هذا الزمـــــان‬
‫اللزوميات‬
‫•‬
‫وأما اللزوميات فهي ديوانه الذي نظمه بعد العزلة وهي الوثيقة الدقيقة التي‬
‫سجلت في صدق وأمانة نظريته الفلسفية‪ .‬واللزوميات – باتفاق الباحثين جميعا –‬
‫شيء جديد في الشعر العربي سواء في مضمونه أو في شكله لم يسبقه إليه شاعر‬
‫من قبل ويلتزم شكال ثابتا ‪ ،‬مما أتاح لصاحبه أن يطلق عليه اسما يدل عليه‬
‫فالثقافات العقلية لم تكن في هذا الديوان عنصرا وافدا كما كانت في شعر أبي تمام‬
‫والمتنبي ‪ ،‬وإنما كانت مقوما أساسيا من مقوماته ‪ ،‬وقاعدة أساسية قام عليها‬
‫بناؤه الفني‪ .‬وهذا هو الفرق الجوهري بينه وبينهم‪.‬‬
‫فلسفته‬
‫•‬
‫تدور اللزوميات حول فلسفة أبي العالء في الحياة وما بعد الحياة ‪ ،‬الحياة‬
‫اإلنسانية موقف اإلنسان منها ومصيره بعدها ‪ ،‬وهي بهذا تدور في مجالين من‬
‫مجاالت البحث الفلسفي‪ :‬المجال األخالقي الذي يتصل بسلوك اإلنسان في الحياة ‪،‬‬
‫والمجال الميتافيزيقي الذي يتصل بمصير اإلنسان بعد الحياة ‪ .‬وزع الدكتور طه‬
‫حسين في كتابه (( تجديد ذكرى أبي العالء )) فلسفته على أربع اتجاهات‪ :‬فلسفة‬
‫طبيعية ‪ ،‬وفلسفة رياضية ‪ ،‬وفلسفة إلهية ‪ ،‬وفلسفة عملية‪.‬‬
‫• تقوم الفلسفة عند أبي العالء على قاعدة من الشك ‪ ،‬الشك في كل شيء إال في‬
‫هللا والعقل‪:‬‬
‫حقيقتين ال مجال للشك فيهما ‪:‬‬
‫• كذب الناس ال إمام سوى العقل ‪     ‬مشيرا في صبحه والمساء‬
‫أيها الغر قد خصصت بعقــــــــل ‪     ‬فاسألنه فكل عقل نبــــــــــي‬
‫• تدور فلسفة أبي العالء األخالقية حول محورين‪ :‬المجتمع الذي يعيش فيه ‪،‬‬
‫والناس الذين يعيشون في هذا المجتمع‪ .‬وهو يقف من هذين الجانبين موقف الناقد‬
‫االجتماعي الدقيق المالحظة ‪ ،‬النافذ النظرة ‪ ،‬القادر على لمح العيوب والنقائص‬
‫في مجاالت الحياة االجتماعية المختلفة التي يتحرك فيها الناس‪.‬‬
‫• أرى دنياك خالطها قذاها ‪     ‬راعيت أن يهذبها مصفى‬
‫النقد االجتماعي‬
‫• ‪ ‬‬
‫وينتشر النقد االجتماعي في اللزوميات فال يكاد يخلو موضع فيه من هذه النظرة‬
‫اليائسة المتشائمة التي يبدو أبو العالء من خاللها تارة رفيقا بالناس مشفقا عليهم‬
‫‪ ،‬وتارة أخرى عنيفا بهم ساخطا عليهم‪.‬‬
‫• وهم البهام قصيرة أعمارهـــم ‪     ‬ويؤملون أطاول اآلمــال‬
‫لم تلق إال جاهال متعاقـــــــــال‪     ‬متجمال منهم بغير جمال‬
‫مثل البهائم أبهمت عن رشدها ‪     ‬إال احتمال ثقائل األحمـال‬
‫• سجـــــــــــــايا كلها غدر وخبث‪     ‬توارثها أناس عن أنـــــاس‬
‫وكل حـــــــــــــي بها ظــــــــالم ‪     ‬وما بها اظلم من ناسهــــــا‬
‫النقد االجتماعي في شعره‪ ‬‬
‫•‬
‫وعيوب المجتمع ونقائصه أصناف شتى تقاسمها البشر فيما بينهم ‪ ،‬فرجال‬
‫السياسة ظالمون ال يعطون شعوبهم حقوقها‪.‬‬
‫ظلموا الرعية واستجازوا كيدها‪     ‬فعدوا مصالحها وهم أجراؤها‬ ‫•‬
‫واألغنياء بخالء مغتصبون لحقوق الفقراء‪.‬‬ ‫•‬
‫وفي المعاشر من لو جاز من ذهب‪     ‬طودا لضن بإعطاء المثاقيل‬ ‫•‬
‫ورجال الدين مراؤون منافقون‪.‬‬ ‫•‬
‫كذب يقال على المنابر دائما‪ ً    ‬أفال يميد لما يقال المنبر‬ ‫•‬
‫النقد االجتماعي‪ ‬‬
‫•‬
‫والمنجمون كذابون محتالون‪.‬‬
‫سالت منجمها عن الطفل الذي ‪     ‬في المهد كم هو عائش من دهره‬ ‫•‬
‫فأجابها مائة ليأخذ درهمـــــــا ‪     ‬واتى الحمام وليدها في شهـــــره‬
‫والعلماء ال حاجة بالمجتمع إليهم‪.‬‬ ‫•‬
‫إذا كان علم الناس ليس بنافع‪     ‬وال دافع فالخسر للعلماء‬ ‫•‬
‫واألدباء والشعراء كذابون مزيفون‪.‬‬ ‫•‬
‫وما أدب األقوام في كل بلدة ‪     ‬إلى المين إال معشر أدبـــــــاء‬ ‫•‬
‫وما شعراؤكم إال ذئـــــــاب ‪     ‬تلصص في المدائح والسباب‬
‫نقد الحياة‪ ‬‬

‫أما المجال اآلخر الذي دارت فيه فلسفة أبي العالء هو المجال الميتافيزيقي فهو يدور‬
‫هللا والقدر والمصير‪.‬‬
‫حول ثالثة محاور أساسية ‪:‬‬
‫وعلى امتداد ديوانه الكبير (( اللزوميات )) يتردد اإليمان الصادق بذات هللا وصفاته‬
‫وال يقبل أي اتهام له بالشك أو اإلنكار‪.‬‬
‫• وهللا حق وابن ادم جاهــــــــل ‪     ‬من شانه التفريط والتكذيــب‬
‫وهللا حق وان ما جت ظنونكم ‪     ‬وان اوجب شيء أن تراعوه‬
‫والحياة في رأي أبي العالء قدر مقدور قضاه هللا علينا ‪ ،‬وال يد لنا فيه ‪ ،‬وال حيلة‬ ‫•‬
‫لنا معه ‪ ،‬وال نملك له تغييرا أو تبديال‪ .‬وتتردد هذه األفكار في اللزوميات بثورة‬
‫واسعة ‪ ،‬وال يفتأ أبو العالء يبدئ فيها ويعيد وال يمل من تكرارها وتقليبها على‬
‫شتى وجوهها‪.‬‬
‫ما باختياري ميالدي وال هرمي ‪     ‬وال حياتي ‪ ،‬فهل من بعد تخيير؟‬ ‫•‬
‫والخير والشر في فلسفة أبي العالء يعيشان معا في هذه الحياة ممتزجين ال‬ ‫•‬
‫انفصال بينهما‪.‬‬
‫والخير والشر ممزوجان ما افترقا‪     ‬فكل شهد عليه الصاب مذرور‬ ‫•‬
‫• مشكلة المصير هي نهاية المطاف في فلسفة أبي العالء الميتافيزيقية ‪ ،‬وهي تمثل‬
‫قمة الحيرة التي فرضت نفسها على كثير من جوانب فلسفته ‪ ،‬فما بعد الموت أمر‬
‫غيبي فوق مستوى العقل والروح شيء مجهول ال نعرف عنه وال عن مصيره‬
‫شيئا‪.‬‬
‫• أن تسال العقل ال يوجدك من خبر ‪     ‬عن األوائل إال أنهم هلكوا‬
‫أما الحقيقة فهي أنى ذاهــــــــــب‪     ‬وهللا يعلم بالذي انا القـــى‬
‫فلسفته‬

‫وتتردد في شعره أبيات يتحدث فيها عن اليوم اآلخر وكأنه أمر مفروغ منه ال مجال‬
‫للجدل فيه أو االختالف حوله ‪ ،‬فيذكر الجنة والنار والجزاء والثواب والعقاب دون أن‬
‫تثير في نفسه أي شك‪.‬‬
‫• خاب الذي سار في دنياه مرتحال ‪    ‬وليس في كفه من دينه طرف‬
‫ال خير للمرء إال حي آخرة‪     ‬يبقى عليه فذاك العز والشرف‬
‫• وتتردد في لزومياته دعوة عريضة إلى هذا المذهب النباتي الذي اخذ نفسه به‬
‫والذي يرى بعض القدماء انه أخذه عن البراهمة الهنود‪.‬‬
‫• فال تأكلن ما اخرج البحر ظالما‪     ‬وال تبغ قوتا من غريض الذبائح‬
‫وال بيض امات أرادت صريحة ‪    ‬ألطفالها دون الغواني الصــرائح‬
‫شعره في سقط الزند‪ ‬‬

‫بعد ديوان (( سقط الزند )) من الناحية الفنية امتدادا لمذهب المتنبي الذي كان أبو‬
‫العالء مفتونا به في صدر حياته الفنية فتنة شديدة‪ .‬ولم يختلف عنه إال بمقدار ما‬
‫اختلفت بينهما هذه الظروف‪.‬‬
‫تدور موضوعات (( سقط الزند )) في الدائرة التقليدية التي دار فيها الشعر العربي‬
‫القديم ‪ ،‬ولم يضف أبو العالء إليها جديدا إال ما كان من (( الدرعيات )) التي تعد‬
‫موضوعا جديدا في هذا الشعر وتنهج قصائد الديوان كلها المنهج التقليدي للقصيدة‬
‫العربية ‪ ،‬فتبدأ بمقدمات طللية أو غزلية أو وصف الشيب والشباب أو الطيف أو‬
‫رحلة الظعائن ‪ ،‬وفي بعض القصائد نراه يبدأ بالفخر بنفسه ‪ ،‬وأحيانا نراه يبدأ‬
‫بمجموعة من الحكم تشغل المقدمة كلها ‪ ،‬وأكثر ما يكون ذلك في قصائد الرثاء ‪،‬‬
‫وفي قصائد أخرى نراه يبدأ بموضوعها مباشرة دون تمهيد له‬
‫وربما كانت اشد هذه المقدمات توهجا في ديوانه مقدمة قصيدته العينية التي قالها‬
‫في وداع بغداد قبل رحيله عنها ‪:‬‬
‫بنى من الغربان ليس على شرع ‪     ‬يخبرنا أن الشعوب إلى صــدع‬
‫أصدقه في مرية وقد امتـــــــرت ‪     ‬صحابة موسى بعد آياته التسع‬
‫• وعلى هذا المستوى من الروعة واإلبداع والطرافة تقف مقدمتان أخريات‪ :‬مقدمة‬
‫تائيته التي نظمها في أواخر أيامه ببغداد ‪ ،‬ومقدمة طائيته التي نظمها بعد عودته‬
‫إلى المعرة‪.‬‬
‫• هات الحديث عن الزوراء أو هيتا ‪     ‬وموقد النار ال تكرى بتكريتا‬
‫ويقول في األخرى‪:‬‬
‫• بنازلة سقط العقيق بمثلـــــها ‪     ‬دعا ادمع الكندى في الدمن السقط‬
‫تجل عن الرهط االمائي غادة ‪    ‬لها عقيل في ممالكها رهــــــــــــط‬
‫وبناء القصيدة العقلي في (( سقط الزند )) اعتمد على الثقافات العقلية ولكنه لم‬ ‫•‬
‫يستطع إن يتحرر من أغالل البديع وصنعته الزخرفية‪.‬‬
‫بنيت على االيطاء سالمة من الـ ‪     ‬قواء واألكفاء واإلصراف‬ ‫•‬
‫ما زاغ بيتكم الرفيع وإنمـــــــــا ‪     ‬بالوجد أدركه خفى زحاف‬
‫وفي غير قليل من قصائده نراه يتعمد البديع تعمدا ‪ ،‬ويتكلف ألوانه تكلفا فيه كثير‬ ‫•‬
‫من اإللحاح والمبالغة واإلفراط‪.‬‬
‫يبعن تراث آباء كـــــــرام ‪     ‬ويشرين الحجول أو الحجاال‬ ‫•‬
‫يغالين المدارع والمدارى ‪     ‬ويرخصن المناصل والنصاال‬
‫ومع الجناس يظهر الطباق‪.‬‬ ‫•‬
‫رجوت لهم أن يقربوا فتباعدوا ‪     ‬وان ال يشطوا بالمزار فقد شطــوا‬ ‫•‬
‫يمانون أحيانا شآمون تـــــارة ‪     ‬يعالون عن غور العراق لينحطوا‬
‫وظاهرة أخيرة تلفت النظر في هذا الديوان وهي (( لزوم ماال يلزم )) ‪ ،‬حيث نراه‬ ‫•‬
‫في بعض قصائده يلتزم بعض الحروف قبل حرف الروى في أبياتها كلها ‪ ،‬نراها‬
‫في قصيدته‪:‬‬
‫ذلت لما تصنع أيامنا ‪     ‬نفوسنا تلك األبيات‬
‫فقد التزم في أبياتها جميعا ً الياء المشددة الممدودة قبل حرف الروي‪.‬‬ ‫•‬
‫شعره في اللزوميات‪ ‬‬
‫•‬
‫واللزوميات ديوان ضخم ‪ ،‬يعد من أضخم دواوين الشعر العربي ‪ ،‬إذ يبلغ عدد‬
‫قصائده ومقطوعاته ألفا وخمسمائة واثنتين وتسعين قصيدة تقع في نحو أحد‬
‫عشر الف بيت من الشعر‪ .‬ولكن أكثره مقطوعات قصيرة تتراوح بين البيتين‬
‫والستة ‪ ،‬وطائفة منه قصائد طويلة يرتفع بعضها إلى حوالي مائة بيت‪ .‬التزم أبو‬
‫العالء في هذا الديوان ثالث لوازم ثابتة فرضها على شعره مع أنها مما ال يجب‬
‫التزامه في الشعر‪.‬‬
‫اللزوميات‬

‫التزم أن يرتب قصائده ومقطوعاته على ترتيب البحور العروضية كما رتبها الخليل ‪،‬‬
‫من حيث أوزانها األصلية ‪ ،‬ومن حيث تشكيالتها الموسيقية المختلفة‪.‬‬
‫والتزم أن يرتب قوافيها على ترتيب حروف المعجم جميعا ‪ ،‬ولم يكتف بهذا ‪ ،‬وإنما‬
‫التزم مع كل حرف أن ينظم على حركاته الثالث‪ :‬الضمة والفتحة والكسرة ‪ ،‬ثم يأتي‬
‫بعد ذلك السكون ‪ ،‬فيبدأ بالحرف مضموما ً ثم مفتوحا ً ثم مكسوراً ثم ساكنا ً ثم ينتقل‬
‫إلى الحرف الذي يليه ملتزما نفس الترتيب‪.‬‬
‫والتزم قبل كل حرف من حروف الروى حرفا آخر أو أكثر من الحروف الهجائية ‪،‬‬
‫ولم نعرف شاعراً قبل أبي العالء التزم قبل حروف الروى أكثر من حرف واحد‪.‬‬
‫• يا أمة في التراب هامدةً ‪       ‬تجاوز هللا عن سرائركم‬
‫ياليتكم لم تطوا إماءكم ‪        ‬وال دنوتم إلى حرائركم‬
‫إن استرحتم مما نكابده ‪        ‬فنحن من بعد جرائركم‬
‫ولكن هذا ليس كل شيء التزامه أبو العالء في لزومياته هنالك لوازم أخرى تتصل‬
‫ببنائها الداخلي فرضها على نفسه ‪ ،‬وأهم هذه اللوازم التي تتصل بالبناء الداخلي‬
‫للزوميات ثالث ‪ :‬اللوازم اللغوية ‪ ،‬واللوازم الثقافية ‪ ،‬واللوازم البديعية‪.‬‬
‫واألمثلة على ذلك كثيرة ومن أمثلة الصورة األولى قوله‪:‬‬
‫• عفوك للعالم ال تخليـــن ‪     ‬حنظبةً منه وال عنظبــــه‬
‫ال ظبة الصارم باشرتها ‪     ‬فيك وال زرت بحجى ظبه‬
‫• ومثله أيضا ً من لزومية أخرى‪:‬‬
‫فكوارب وزوارع وكوافر ‪     ‬وحواصد وجوامع ودوائس‬
‫• وأما في مجال التالعب اللفظي بمصطلحات الثقافات فاألمثلة أكثر من أن تحصى ‪،‬‬
‫على نحو ما نرى في هذه األبيات المتفرقة‪:‬‬
‫• أنا صائم طول الحياة وإنمــــــا ‪    ‬فطرى الحمام ويم ذاك أعيـــــــــــد‬
‫إذا غدوت من األوطان مرتحال ‪    ‬فضاه في البين حذف الواو من يعد‬
‫وفر هذا الفتى مديد بسيـــــــط ‪    ‬وافر كامل خفيف طويـــــــــــــــــل‬
‫اللزوميات‬ ‫•‬
‫وإلى جانب هذه اللوازم العقلية واللغوية مجموعة من اللوازم البديعية ‪ ،‬ولكن أهم‬
‫لونين انتشرا بصورة واسعة الجناس والطباق‪.‬‬
‫أال إنما الدنيا نحوس ألهلها ‪     ‬فما في زمان أنت فيه سعود‬ ‫•‬
‫يتراءى الجناس في اللزوميات بجمع درجاته في صورة معقدة بالغة التعقيد تصل‬ ‫•‬
‫أحيانا إلى درجة التكلف الثقيل والتصنع المتعمد‪.‬‬
‫تبعت تبعا ‪ ،‬وفي القصر غالت ‪     ‬قيصراً ‪ ،‬وانتحت لكسرى بكسر‬ ‫•‬
‫وطوت طيئا ‪ ،‬وآدت إيـــــــــاد ‪     ‬وأصابت ملوك قسر بقســـــــر‬
‫• أبو العالء شاعر وفيلسوف معا ‪ ،‬أو هو فيلسوف الشعر العربي الذي استطاع‬
‫بعبقريته أن يطوع الشعر العربي للفلسفة ‪ ،‬وأن يثبت قدرته على التعبير عن أدق‬
‫اآلراء الفلسفية وأعمقها واستطاع أن يقدم ديوانا في الشعر الفلسفي ظل على‬
‫امتداد القرون المتطاولة يحتل قمة شامخة متميزة بين قمم الشعر العربي‪.‬‬
‫‪ -‬الفصل الرابع‬ ‫النثر األدبي‬
‫•‬
‫اهتم القدماء في المقابل بالنثر‪ ،‬على أنه وجد قبل الشعر‪ ،‬وأنه أغزر منه مادة‪،‬‬
‫وأن الرواة يحفظونه‪ .‬كما اهتموا بالمفاضلة بينه وبين الشعر ‪ ،‬ابن رشيق مثالً‬
‫يفضل الشعر‪ ،‬للوزن والقافية‪ ،‬وألنه ينشد قائماً‪ ،‬غير أن هناك من يرى أن الشعر‬
‫أقدم من النثر وهذا في جميع األمم قديمها وحديثها أو على األقل ظهرا معا ً ‪،‬‬
‫فاألمم تعبر عن شعورها وتتغنى به قبل أن تعرف النثر بسنوات طوال ‪ ،‬بل األمم‬
‫البدائة والبدوية تعرف الشعر وهي تجهل النثر‪.‬‬
‫في العصر الجاهلي‬
‫• ‪ ‬‬
‫الجاهليون ‪ :‬لهم نثر قليل يتمثل في بعض الخطب‪ ،‬وسجع الكهان‪ ،‬والحكم‬
‫والوصايا وغيرها‪ ،‬ومن األدباء من يذهب إلى أن هذا النثر منسوب لشعوبيه‬
‫والقصص (والتكثر في الرواية) والعصبية الدينية أثر في ذلك ‪ ،‬ومنهم طه‬
‫حسين ‪.‬‬
‫في العصر اإلسالمي‪ ‬‬

‫في العصر اإلسالمي ‪ :‬كان لنزول القرآن وطريقة أسلوبه وألفاظه ومعانيه أثر بارز‬
‫في نثر هذا العصر ‪ ،‬وأصبح للخطابة والكتابة دوافع وأغراض متنوعة ونشأ في هذا‬
‫العصر ما يسمى بالدواوين وكان الكتاب يكتبون الرسائل الديوانية واألخوانية‪ ،‬بل إن‬
‫األحاديث النبوية وكتب الرسول‪ ‬ومراسالته تعد من النصوص النثرية المتميزة‬
‫بخصائص معينة ‪ ،‬وكذلك رسائل الخلفاء ومكاتباتهم‪ ،‬وفي عصر بني أمية تطورت‬
‫الخطابة‪ ،‬الدينية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬واالجتماعية‪ ،‬كخطب زياد ‪ ،‬والحجاج ‪ ،‬وغيرهما‬
‫والكتابة بعد تعريب و تطورت الدواوين وفي هذا العصر برز عبد الحميد الكاتب الذي‬
‫وضع أساس المنهج الكتابي والذي يعد نقطة تحول في الكتابة الفنية‪ ،‬إذ يقال بدئت‬
‫الكتابة بعبدالحميد وانتهت بابن العميد‪.‬‬
‫في العصر العباسي‪ ‬‬

‫في العصر العباسي ‪ :‬تطورت الكتابة الفنية فأصبحت أكثر عمقا ً واتساعا ًوتميزت‬
‫بتنوع الموضوعات وتعدد األساليب واعتنى أصحابها بالناحية الفنية والزينة‬
‫اللفظية‪ ،‬التي تحقق اإلمتاع إلى جانب الغرض األساس‪.‬‬
‫صفات الكتابة في العصر العباسي‬

‫ولعل من صفات الكتابة في هذا العصر ‪ :‬‬


‫‪ -1‬اإلطناب واإلطالة إذ تأثر أصحابها بالنزعة الفارسية‪.‬‬
‫‪ -2‬االتجاه إلى الموضوعات الشخصية واالجتماعية واإلنسانية فطرق الكتاب‬
‫موضوعات التهنئة واالعتذار والتعزية واالستعطاف والنسب والفكاهة وغيرها‪.‬‬
‫الرسائل‬
‫•‬
‫الرسائل الرسمية ‪ :‬الرسائل الخاصة بشؤون الدولة ومصدرها الديوان لذلك سميت‬
‫بالرسائل الديوانية‪.‬‬
‫الرسائل الخاصة ‪ :‬وقد جرى العرف على تسميتها بالرسائل االخوانية وهي التي‬
‫تكتب في تهيئة أو تعزية أو نحو ذلك‪ .‬‬
‫الرسائل الديوانية‪ ‬‬
‫•‬
‫الرسائل الديوانية ‪ :‬ويمتاز اإلنشاء فيها ببسط الكالم ولها قواعد مقررة منها‪:‬‬
‫‪ -1‬براعة االستهالل أو التحميدات‪ ،‬بحيث يأتي في صدر الكتاب ما يدل على آخره‪.‬‬
‫‪ -2‬أن يأتي الكاتب بمقدمة للغرض الذي يريد أن يكتب عنه‪.‬‬
‫‪ -3‬أن يراعي الكاتب مواقع اآليات والشعر بحسب الغرض‪.‬‬
‫‪ -4‬استعمال البديع ‪ ،‬أي المحسنات اللفظية والمعنوية‪.‬‬
‫الرسائل األدبية‪ ‬‬
‫•‬
‫الرسائل األدبية ‪:‬ال تختلف من حيث الصناعة اللفظية عن الرسائل الديوانية لكنها‬
‫تختلف عنها في األغراض إذ هي عبارة عن مكاتبات إخوانية أو مناظرات أدبية أو‬
‫وصف مشاهدات شخصية‪ ،‬ويمكن أن تجمل فيما يلي ‪:‬‬
‫‪ -1‬اإلخوانيات ‪ :‬تشمل المكاتبات بين إخوان األدب‪.‬‬
‫‪ -2‬المناظرات ‪ :‬ما كان يجري بين األدباء من محاورات ومناظرات‪.‬‬
‫‪ -3‬المفاكهات ‪ :‬تشمل المكاتبات الهزلية الساخرة المكتوبة بأسلوب أدبي ساخر‪.‬‬
‫‪ -4‬األوصاف‪ :‬وتشمل كل ما يمكن أن يوصف كالمعارك‪ ،‬والطبيعة‪ ،‬والصيد‪،‬‬
‫واألخالق وغيرها‪.‬‬
‫‪ -5‬الحكايات ‪ :‬وتشمل أنواع القصص والمقامات والحكايات المختلفة ونحوها‪.‬‬
‫مدارس النثر الفني‪ ‬‬
‫•‬
‫ويمكن تقسيم النثر األدبي الفني إلى مذاهب ومدارس ‪:‬‬
‫‪ -1‬مدرسة الترسل الطبيعي ومذهبها إرسال الكالم دون تقيد باالزدواج والتوازن‬
‫من غير احتفال بالسجع أو غيره من المحسنات ويمثلها عبد هللا بن المقفع‪.‬‬
‫‪ -2‬مدرسة الترسل الصناعي التي تميل إلى اإلطناب والجمع بين السجع‬
‫واألزدواج ويمثلها ابن الزيات والصولي‪.‬‬
‫‪ -3‬مدرسة التحليل والتفريع واالستطراد وتمتاز بكثرة التقصي واالستطراد إلى‬
‫جانب الفكاهة والسخرية‪ ،‬ورائد هذه المدرسة ومؤسسها أبو عثمان الجاحظ‬
‫وسهل بن هارون‪.‬‬
‫المحاضرة الـ‪15‬‬ ‫أعالم النثر في العصر العباسي ‪-‬‬
‫• ابن المقفع‪ ‬‬
‫وزبِ ْه بن داذويه‪ ،‬كان أبوه من قرية تسمى جور‪ ،‬ويظهر أنه‬ ‫فارسي األصل ‪ُ ،‬ر ْ‬
‫عُنى عناية شديدة بتأديبه‪ ،‬حتى أتقن اللغتين الفارسية والعربية‪ .‬ولما قامت الدولة‬
‫العباسية كتب لسليمان بن علي عم المنصور وواليه على البصرة‪ ،‬وألخيه عيسى‬
‫بن علي والي األهواز وعلى يديه أعلن إسالمه وتكنى بأبي محمد‪.‬‬
‫ويقال إن المنصور إنما أمر بقتله لما ثبت عنده من زندقته وكيده لإلسالم‪ ،‬ويقول‬
‫الجاحظ إن ابن المقفع أغرى عبد هللا بن علي بالمنصور‪ ،‬ففُطن له‪ ،‬وقتُل‪ ،‬وأغلب‬
‫الظن أنه ال يريد بإغرائه لعبد هللا بن علي سوى صيغة هذا األمان المشئوم‪.‬‬
‫• ثقافته‬
‫كان ابن المقفع يجمع بين الثقافات العربية واإلسالمية والفارسية والهندية‬
‫واليونانية‪ ،‬وقد نقل إلى العربية عن لغته خير ما عرف من الثقافات األخيرة‪،‬‬
‫وكان للثقافة الفارسية الحظ األكبر‪.‬‬
‫واألدب الصغير رسالة قصيرة في نحو ثالثين صحيفة تتضمن طائفة من الوصايا‬
‫الخلقية واالجتماعية التي ترشد الناس إلى صالح معاشهم في أنفسهم وفي‬
‫عالقاتهم بعناصر المجتمع من أهل السلطان ومن األصدقاء ومن غيرهم‪.‬‬
‫أما األدب الكبير فرسالة أكثر طوالً إذ تمتد إلى نحو مائة صحيفة‪ ،‬موزعة بين‬
‫موضوعين كبيرين‪ ،‬هما السلطان وما يتصل به من السياسة والحكم‪.‬‬
‫• نثره‬
‫وكان ذهنه من الخصب‪ ،‬بحيث يستنبط كثيراً من اآلراء واألفكار وخاصة ما يتصل‬
‫باإلصالح االجتماعي والسياسي‪ .‬ولعل هذا اإلصالح الذي دفعه إلى ترجمة‬
‫ورجح كثير من‬
‫ّ‬ ‫القصص الخيالي الهندي‪ ،‬أو بعبارة أخرى ترجمة كليلة ودمنة‪.‬‬
‫الباحثين أن ابن المقفع لم يزد إال الفصل الذي وضعه بين يدي القصص وسماه‬
‫"عرض الكتاب"‪.‬‬
‫وحقا ً حمل عليه الجاحظ في ترجمته لمنطق أرسطو‪ ،‬إذ الحظ في ألفاظه قصوراً‬
‫أحيانا ً عن أداء المعاني المنطقية‪ ،‬وهو قصور منشؤه صعوبة أداء هذه المعاني‬
‫ألول مرة في العربية‪.‬‬
‫• نثره‬
‫وغض الجاحظ من ترجمته لمنطق أرسطو هو الذي دفع طه حسين في كتابه "من‬ ‫ّ‬
‫حديث الشعر والنثر" إلى التشكيك في مقدرته على أداء المعاني الدقيقة العميقة‬
‫حتى ليقول عنه ‪" :‬له عبارات من أجود ما تقرأ في العربية وبنوع خاص في األدب‬
‫الكبير وفي كليلة ودمنة‪ ،‬ولكنه عند ما يتناول المعاني الضيقة التي تحتاج إلى دقة‬
‫التعبير يضعف‪ ،‬فيكلف نفسه مشقة ويكلف اللغة مشقة"‪.‬‬
‫• بالغته‬
‫ولم يكن ابن المقفع بليغا ً فحسب‪ ،‬بل كان أكبر بلغاء عصره ‪ ،‬فقد استطاع أن‬
‫يحتفظ للعربية في ترجماته بمقوماتها األصيلة ‪ ،‬كما استطاع المالئمه بين األخيلة‬
‫نحس عنده نُبُواً وال انحرافاً‪ ،‬مما‬
‫ّ‬ ‫والصور الفارسية وذوق اللغة العربية ‪ ،‬بحيث ال‬
‫يشهد له بقدرته البيانية وأنه استطاع أن يحوز لنفسه السليقة العربية التامة بكل‬
‫إشاراتها وسماتها اللغوية‪.‬‬
‫• أسلوبه‬
‫كان من أوائل من ثبّتوا األسلوب الكتابي العباس ّي المولّد‪ ،‬وهو أسلوب يقوم على‬
‫الوضوح وأن تشفّ األلفاظ عن معانيها وأن تخلو من كل غريب وحش ّي ومبتذل‬
‫عامي‪ .‬ولم ي ْقصر ابن المقفع هذا األسلوب على ما ينشئه من رسائل ديوانية أو‬
‫إخوانية ‪ ،‬بل عممه في ترجماته ‪ .‬وكانت غزارة معانيه سببا ً في أن يتميز هذا‬
‫األسلوب عنده باإليجاز واالقتصاد الشديد‪ ،‬فاأللفاظ بقدر المعاني ال تنقص وال تزيد‬
‫‪ ،‬والمعاني تؤدَّى أداء فصيحا ً رصيناً‪ ،‬دون قصد إلى الجمال التعبيري من سجع أو‬
‫ترادف صوتي‪ .‬‬
‫كان يبهره جمال القرآن وصياغاته فاستعار من ألفاظه وأساليبه كثيراً في جوانب‬
‫كتاباته حتى في القصص الحيواني قصص كليلة ودمنة‪.‬‬
‫• بديعه‬
‫وعنده هنا شيء من السجع الذي يأتي عفواً سمحاً‪ ،‬وكأنما ابتغى هنا التنميق‬
‫بأكثر مما كان يبتغيه في ترجماته‪ .‬نذكر تهنئة بمولودة ألحد أصدقائه على هذا‬
‫النمط ‪" :‬بارك هللا لكم في االبنة المستفادة‪ ،‬وجعلها ز ْيناً‪ ،‬وأجرى لكم بها خيراً‪ ،‬فال‬
‫تكرهها ‪ ،‬فإنهن األمهات واألخوات والعمات والخاالت ‪ ،‬ومنهن (الباقيات‬
‫ورب جارية ف َرحت أهلها بعد‬
‫ّ‬ ‫مسرتهم ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫غالم ساء أهله بعد‬
‫ٍ‬ ‫الصالحات) ورب‬
‫مساءتهم"‪.‬‬
‫المحاضرة الـ‪16‬‬ ‫سهل بن هارون‬
‫•‬
‫سهل بن هارون بن راهبوني‪ ،‬كما جاء في البيان والتبيين‪ ،‬وفي كتاب البخالء‬
‫"راهبون" ‪ .‬وهو فارسي األصل‪ .‬وال يُ ْعرف تاريخ مولده ‪ .‬وأغلب الظن أنه ُولد في‬
‫منتصف القرن الثاني الهجري ‪ ،‬وقد ترك مسقط رأسه مبكراً إلى البصرة‪ ،‬وأقبل‬
‫على التزود من ينابيع الثقافة التي كانت منبثةً بها‪ ،‬وخاصة علم الكالم وما نُقل‬
‫عن األجانب من مختلف الترجمات فارسية ويونانية وهندية ‪ ،‬وأخذ هو نفسه‬
‫يشارك في ترجمة بعض الرسائل عن لغته األصلية‪ .‬وكان يلزم المأمون في‬
‫مجالسه وندواته التي كان يعقدها لكبار العلماء والمتكلمين‪ ،‬وما زال خازنا ً بدار‬
‫الحكمة حتى توفي سنة ‪ 215‬للهجرة‪.‬‬
‫• بالغته‬
‫واشتهر سهل في زمانه بالحكمة والبالغة حتى سماه معاصروه بُ ُز ْرجمهر اإلسالم‬
‫إشارة إلى أن يحل في العربية محل بزرجمهر في الفارسية وما أثر عنه من حكم‬
‫ق الوجه‪،‬‬‫وأمثال كثيرة ‪ ،‬ووصفه الجاحظ فقال ‪" :‬كان سهل سهالً في نفسه عتي َ‬
‫حسن الشارة‪ ،‬بعيداً عن الفَدامة ‪ ،‬تقضي له بالحكمة قبل الخبرة وبرقة الذهن قبل‬
‫المخاطبة وبدقة المذهب قبل االمتحان‪.‬‬
‫وكان سهل يحسن القول نثراً وشعراً ‪ ،‬وفيه يقول الجاحظ ‪" :‬ومن الخطباء‬
‫الشعراء الذين جمعوا الشعر والخطب والرسائل الطوال والقصار والكتب الكبار‬
‫سير الحسان المد ّونة واألخبار المولّدة سهل بن هارون بن راهبوني"‪.‬‬ ‫المجلدة وال ّ‬
‫• آثاره‬
‫ويظهر أنه ُع ني في كثير من كتبه بالقصص على ألسنة الحيوان‪ ،‬مشاكلة لكتاب‬
‫كلية ودمنة‪ ،‬وكان من أهم ما وضعه في ذلك كتاباه ‪" :‬ثعلة وعفراء" و"النمر‬
‫والثعلب" وقد أشاد المسعودي بأولهما‪.‬‬
‫وعثر السيد عبد القادر المهيري حديثا ً عن كتاب النمر والثعلب‪ ،‬ونشر مقتطفات‬
‫منه مع مقدمة في العدد األول من حولية الجامعة التونسية‪ ،‬والكتاب‪ ،‬أو بعبارة‬
‫أدق القصة تدور على ثالث شخصيات هي الثعلب الحكيم والذئب الجحود والنمر‬
‫الطاغي‪ ،‬وتتسلسل القصة تسلسالً دقيقا ً‪.‬‬
‫• مصادره‬
‫يستمد من المأثور عن الرسول‪  ‬والصحابة والتابعين وعن حكماء األمم القديمة‬
‫وخاصة حكماء أمته الفارسية ‪ ،‬مما يدل على اتساع ثقافته ‪ .‬وقدرته المنطقية التي‬
‫تتضح في إيراد األقسام المتقابلة إيراداً مستقصياً‪ ،‬كما تتضح في استخدام األقيسة‬
‫وتصحيح األدلة استخداما ً دقيقاً‪ ،‬كما يتضح إلحاحه على المعاني حتى لكأنه يريد‬
‫أن يحصرها ويحيط بكل دقائقها‪.‬‬
‫• رسائله‬
‫ولسهل بجانب رسائله األدبية الطويلة رسائل إخوانية يتضح فيها جمال التعبير‬
‫ودقة التفكير على نحو ما نرى في الرسالة التالية ‪ ،‬وقد كتب بها إلى صديق تماثل‬
‫للشفاء من مرض ‪" :‬بلغني خب ُر الفترة في إلمامها وانحسارها ‪ ،‬والشَّكاة في‬
‫حلولها وارتحالها‪ ،‬فكاد يَشْغل القلق بأوله‪ ،‬عن السكون آلخره‪ ،‬وتُ ْذهل الحيرة في‬
‫ابتدائه ‪ ،‬عن المسرة في انتهائه‪ .‬وكان تعيري في الحالين بقدرهما ارتياعا ً لألولى‬
‫وارتياحا ً لألخرى"‪.‬‬
‫• أسلوبه‬
‫وهو في جميع جوانب كتاباته شديد الغوص والتدقيق في معانيه‪ ،‬وجاء السجع‬
‫على لسانه في أكثر هذه الرسالة ‪ ،‬وهو إنما يجيء عنده أحيانا ً عفواً‪ .‬وليس معنى‬
‫ذلك أنه لم يكن يُ ْعنَى بتوفير الجمال ألساليبه فهو من هذه الناحية يتقدم ابن المقفع‬
‫خطوات‪ ،‬إذ يعنى ببسط عباراتها‪ ،‬حتى يجري فيها ضروبا ً من التقطيعات‬
‫والتوقيعات الصوتية ومن أجل ذلك يكثر عنده الترادف ‪ ،‬حتى يصل إلى ما يريد‬
‫من ازدواج وايقاعات متقابلة ‪ ،‬ودائما ً حين نقرؤه يلذ عقولنا بغزارة معانيه‬
‫ودقتها كما يلذ أسماعنا بجرس كالمه وحسن أدائه وما يكفل له من تلوينات‬
‫صوتية بديعة‪.‬‬
‫المحاضرة الـ‪17‬‬ ‫الجاحظ‬
‫•‬
‫أبو عثمان عمرو الجاحظ شخصية بارزة في تاريخ األدب العربي‪ .‬ولد بالبصرة‬
‫سنة ‪ 150‬هـ وفيها نشأ وتأدب ‪ ،‬وقد سمع من األصمعي وأبي عبيدة وأبي زيد‬
‫األنصاري ‪ ،‬وأخذ النحو عن األخفش‪ ،‬وكان صديقه‪ ،‬وأخذ الكالم عن النظام ‪،‬‬
‫وتلقف الفصاحة من العرب شفاها ً بال ِمربَد‪.‬‬
‫ومن شهادة معاصريه ومن جاء بعده نستدل أن الرجل كان ذا منزلة أدبية عالية‪.‬‬
‫وقال أبو الفضل بن العميد ‪" :‬ثالثة علوم‪ ،‬الناس كلهم عيال فيها على ثالثة أنفس‪:‬‬
‫أما الفقه فعلى أبي حنيفة‪ ،‬وأما الكالم فعلى أبي الهذيل‪ ،‬وأما البالغة والفصاحة‬
‫واللّسن والعارضة فعلى أبي عثمان الجاحظ"‪.‬‬
‫طرق أبوابا ً شتى من العلم فألف فيها كثيراً من الكتب والرسائل حتى بلغ فهرست‬
‫مؤلفاته ما يقارب المئة والستين‪.‬‬
‫مذهبه النظري في بالغة اإلنشاء‬
‫• مذهبه النظري‪ :‬‬
‫‪ )1‬مطابقة العبارة لمقتضى الحال‪ ‬‬
‫قال ‪" :‬ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني‪ ،‬ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين‬
‫وبين أقدار الحاالت‪ ،‬فيجعل لكل طبقة من ذلك كالماً‪ ،‬ولكل حالة من ذلك مقاماً‪،‬‬
‫حتى يقسم أقدار الكالم على أقدار المعاني‪ ،‬ويقسم أقدار المعاني على أقدار‬
‫المقامات‪ ،‬وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحاالت‪.‬‬
‫ومن قوله في ذلك ‪" :‬وكالم الناس في طبقات كما أن الناس أنفسهم طبقات‪ .‬فمن‬
‫الكالم الجزل والسخيف والمليح والحسن والقبيح والسمج والخفيف والثقيل‪ ،‬وكله‬
‫عربي‪ ،‬وبكل قد تكلموا "‪.‬‬
‫مذهبه النظري في بالغة اإلنشاء‬
‫•‬
‫‪ )2‬بيان أو وضوح الداللة‪ ‬‬
‫والبيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى‪ ،‬وهتك الحجب دون الضمير‬
‫حتى يفضي السامع إلى حقيقته ‪ ،‬ويهجم على محصوله‪ ،‬كائنا ً ما كان ذلك البيان‪،‬‬
‫ومن أي جنس كان ذلك الدليل ‪ ،‬ألن مدار األمر والغاية التي إليها يجري القائل‬
‫والسامع إنما هو الفهم واالفهام ‪ :‬فبأي شيء بلغت االفهام وأوضحت عن المعنى‪،‬‬
‫فذلك هو البيان في ذلك الموضع‪.‬‬
‫مذهبه النظري في بالغة اإلنشاء‬
‫•‬
‫‪ )3‬اإليجاز وعدم التكلف‬
‫قال ‪" :‬وأحسن الكالم ما كان قليله يغنيك عن كثيره‪ ،‬ومعناه في ظاهر لفظه"‪.‬‬
‫وقد انتقد قول إياس " فالزيادة من الخير خير " بقوله " وليس كما قال ‪ ،‬بل للكالم‬
‫غاية ‪ ،‬ولنشاط السامعين نهاية وما فضل عن مقدار االحتمال ودعا إلى االستثقالل‬
‫والمالل فذاك الفاضل هو الهذر وهو الخطل وهو االسهاب الذى سمعت الحكماء‬
‫يعيبونه"‬
‫• مزاياه اإلنشائية‪ ‬‬
‫عرف بمزايا إنشائية خاصة‪ ،‬ولئن لم يبتدعها صار علما ً فيها‪ ،‬وصارت تنسب إليه‬
‫وأهمها االفتنان‪ ،‬واالستطراد‪ ،‬والتوازن‪ ،‬وقصر العبارة‪.‬‬
‫وذلك ظاهر في رسائله المختلفة التي طرق فيها شتى المواضيع فتراه فيها يجمع‬
‫بني الحقائق ‪ ،‬وشواذ االعراض وغرائب األطوار ومستملح النكات ويقرن ذلك بما‬
‫ال يحصى من االستشهادات‪ .‬خذ كتابه "البيان والتبين" مثالً فتراه مجموعة من‬
‫األقوال المختلفة في البالغة والخطابة‪ ،‬وما إلى ذلك من أخبار وشواهد وتراجم‬
‫ونوادر يكثر فيها التنادر واالستطراد‪ ،‬فتجيء متداخلة كثيرة الفروع‪.‬‬
‫وهذه الطريقة على ما نرى هي التي تقرن التنادر أو االفتنان عنده بعبارة قصيرة‬
‫شديدة االتزان كثيرة االستطراد‪ .‬وسنرى ذلك في الكالم على رسائله‪.‬‬
‫• أسلوبه الكتابي‪ ‬‬
‫مدح وزير المتوكل وذكر له خصاالً أربعا ً ‪ ،‬وإليك بعض ما قاله في الخصلة الرابعة‬
‫‪" :‬وإذا لم يكن اللفظ رائعاً‪ ،‬والمعنى بارعاً‪ ،‬وبالنوادر موشّحاً‪ ،‬وبالملح مجل ّواً‪ ،‬لم‬
‫تصغ له األسماع‪ ،‬ولم تنشرح له الصدور‪ ،‬ولم تحفظه النفوس‪ ،‬ولم تنطق به‬
‫األفواه‪ ،‬ولم يخلد في الكتب‪ ،‬ولم يقيّد بالدرس‪ ،‬ولم يجذل به قائل‪ ،‬ولم يلتذ به‬
‫سامع‪.‬‬
‫ويجري على هذه الطريقة من توازن وقصر عبارة فيقول ‪" :‬ولكن العجب العجيب‪،‬‬
‫والنادر الغريب‪ ،‬الذي تهيأ في عمر ابن الخطاب (رضه) واتسق له‪ :‬وذلك أنه غير‬
‫صر األمصار‪ ،‬ويد ّون الدواوين‪،‬‬ ‫عشر حجج يفتح الفتوح‪ ،‬ويد ّوخ البالد‪ ،‬ويم ّ‬
‫ويفرض الفروض‪ ،‬ويرتب الخاصة‪ ،‬ويدبّر العامة"‪.‬‬
‫المحاضرة الـ‪18‬‬ ‫ابن العميد‪ ‬‬
‫•‬
‫يرجع أبو الفضل بن العميد إلى أسرة فارسية‪ .‬وكان أبوه وزيراً وكاتبا ً فنشأ الولد‬
‫في بيت أدب وكتابة‪.‬‬
‫أجمع الذين ترجموا على اإلشادة بفضله وتعظيم فنه ‪ :‬نذكر منهم قيّم كتبه مسكويه‬
‫صاحب تجارب األمم ‪ ،‬وأبا منصور الثعالبي صاحب يتيمة الدهر‪ ،‬وابن خلكان‬
‫صاحب وفيات األعيان‪.‬‬
‫كان ابن العميد مغرما ً باقتناء الكتب شديد الحرص على مطالعتها‪.‬‬
‫وكان أكتب أهل عصره وأجمعهم آلالت الكتابة حفظا ً للغة والغريب‪ ،‬وتوسعا ً في‬
‫النحو والعروض‪ ،‬واهتداء إلى االشتقاق واالستعارات ‪ ،‬وحفظا ً للدواوين من‬
‫شعراء الجاهلين واإلسالم‪.‬‬
‫• منزلته األدبية‬
‫البن العميد في عالم األدب منزلة عالية ال تنكر‪.‬‬
‫وقال مسكويه ‪" :‬وأما كتاباته فمعروفة من رسائله المدونة‪ .‬ومن كان مسترسالً لم‬
‫يخف عليه عل ّو طبقته فيها‪ .‬وأما األدب والترسل فلم يقارنه فيه أحد في زمانه‪،‬‬
‫ويدلك على منزلته وفود األدباء والعلماء عليه من مختلف األقطار‪.‬‬
‫• فنه اإلنشائي‬
‫ابن العميد من أهل القرن الرابع الهجري‪ .‬ويمتاز هذا القرن باستقرار السجع في‬
‫اإلنشاء الديواني وشيوعه في حلقات األدب حتى أصبح الزي اإلنشائي السائد‪.‬‬
‫في هذا القرن أصبح اإلنشاء األدبي فنا ً ذا أصول ‪ .‬وأه ّم مزاياه كما هو معروف‬
‫التزام السجع والبديع والتأنق في تحليته بالشعر واألمثال‪ .‬وكان البن العميد يد‬
‫تذكر في ذلك حتى عدّه البعض إمام الكتاب في عصره‪.‬‬
‫آراء النقاد فيه‪ ‬‬
‫•‬
‫أما النقاد فعلى اختالف بيّن في الحكم عليه ‪ .‬فالمتأمل يرى من رسائله الديوانية‬
‫واألدبية ما يلي ‪ :‬‬
‫‪ -1‬أنه على تصنّعه معتدل يبرز السجع في كالمه ولكن ال يتقيد به دائما ً تقيّم‬
‫المتأنقين الذين عاصروه‪ .‬كقوله ‪" :‬أسأل هللا أن يع ّرفني بركته‪ ،‬ويلقّيني الخير في‬
‫باقي أيامه وخاتمته وأرغب إليه في أن يقرب على الفلك دوره‪ ،‬ويقصر سيره‬
‫ويخفف حركته‪ ،‬ويعجل نهضته‪ ،‬وينقص مسافة فلكه ودائرتـه"‪ .‬فهو يمزج السجع‬
‫بغير السجع مزجا ً معتدالً‪ .‬أما سجعه فأكثره من القصير الفقرات الحسن االزدواج‪.‬‬
‫آراء النقاد فيه‬

‫• ‪ -2‬يتكلف البديع أحياناً‪ ،‬كقوله ‪" :‬وصل كتابك فصادفني قريب العهد بانطالق‪ ،‬من‬
‫عنت الفراق‪ ،‬وأوقفني مستريح األعضاء والجوانح من جوى االشتياق‪ ،‬فإن الدهر‬
‫جرى على حكمه المألوف في تحويل األحوال‪ ،‬ومضى على رسمه المعروف في‬
‫تبديل األشكال‪.‬‬
‫آراء النقاد فيه‬

‫• ‪ -3‬يتغارب في إشاراته التاريخية واللغوية والعلمية‪ .‬ومن هذا النمط رسالة قال‬
‫فيها ‪" :‬كتابي جعلني هللا فداك وأنا في ك ّد وتعب منذ فارقت شعبان‪ ،‬وفي جهد‬
‫ونصب من أشهر رمضان‪ ،‬وفي العذاب األدنى دون العذاب األكبر من ألم الجوع‬
‫ووقع الصوم"‪.‬‬
‫مزاياه اإلنشائية‪ ‬‬
‫•‬
‫‪ -1‬أهم مزاياها اإلنشائية ‪:‬‬
‫‪ -2‬عدم التقيد بالسجع مع شيوعه فيها‪.‬‬
‫‪ -3‬ميله فيها إلى الترادف واالطناب كقوله ‪" :‬فقد يغرب العقل ثم يؤوب‪ ،‬ويعزب‬
‫اللب ثم يثوب‪ ،‬ويذهب الحزم ثم يعود‪ ،‬ويفسد العزم ثم يصلح"‪.‬‬
‫‪ -4‬لهجته الخطابية البليغة كقوله سائالً ‪" :‬كيف وجدت ما زلت عنه‪ ،‬وكيف تجد ما‬
‫صرت إليه‪ ،‬ألم تكن من األول في ظل ظليل ونسيم عليل"‪.‬‬
‫‪ -5‬طالوتها وقصر فقراتها‪.‬‬
‫المحاضرة الـ‪19‬‬ ‫المقامات‬
‫• إن أول من فتح باب عمل المقامات عالّمة الدهر وإمام األدب البديع الهمذاني فعمل‬
‫مقاماته المشهورة المنسوبة إليه وهي في غاية البالغة وعلو الرتبة في الصنعة‪.‬‬
‫ثم تاله اإلمام أبو القاسم محمد قاسم الحريري‪.‬‬
‫بديع الزمان الهمذاني‬

‫• أبو الفضل أحمد بن الحسين ‪ ،‬نشأ في همذان ودرس على أبي الحسين أحمد بن‬
‫فارس اللغوي المشهور وعيسى بن هشام اإلخباري وغيرهما‪.‬‬
‫ترك موطنه قاصداً الصاحب بن عباد وبقي عنده زمنا ً يتزود من ثماره‪.‬‬
‫ق في بالد خراسان‬
‫قال الثعالبي ‪" :‬وتصرفت به أحوال جميلة وأسفار كثيرة‪ ،‬ولم يب َ‬
‫وسجستان وغزنه بلدة إال وحلّها وجنى وجبى ثمرتها‪ ،‬واستفاد من خيرها‬
‫سم"‪.‬‬‫وميرها‪ ،‬ففاز برغائب النعم ؛ وحصل على غرائب القِ َ‬
‫ثم القى عصاه بهراة‪ .‬وفي سنة ‪ 398‬هـ لبّى نداء ربه وهو في األربعين من عمره‬
‫وكان قد بلغ أوج شهرته األدبية‪.‬‬
‫ثقافته‬

‫• وكان الهمذاني بارعا ً في الفارسية‪ ،‬يترجم ما يقترح عليه من األبيات الفارسية‬


‫المشتملة على المعاني الغريبة‪ ،‬باألبيات العربية فيجمع فيها بين اإلبداع‬
‫واإلسراع‪ .‬ويجمع المؤرخون على أن الرجل كان سريع الخاطر والحفظ واسع‬
‫المعرفة اللغوية والبيانية‪ ،‬تطيعه األلفاظ واألشكال البديعة طاعة األدوات للصانع‬
‫الماهر‪.‬‬
‫شخصيته‬

‫• وكان في البديع على ما يظهر مرارة لسان شديدة على من ينقم عليهم كما في‬
‫كتاب بعث به إلى ابن ميكال رئيس نيسابور‪ .‬ومثل هذا الكالم الالذع كثير في‬
‫رسائله‪ .‬بل قد يبلغ به إلى درجة عدم الصفح عند المقدرة كقوله ‪" :‬وردت رقعتك‬
‫التعزز‪ ،‬ومددت إليها يد التق ّزز‪ ،‬وجمعت عنها ذيل‬
‫ّ‬ ‫أطال هللا بقاءك فأعرتها طرف‬
‫وخطبت من مودتي ما لم‬
‫َ‬ ‫التح ّرز فلم تن َد على كبدي ‪ ،‬ولم تحظ بناظري ويدي‪،‬‬
‫أجدك لها كفواً ‪ ،‬وطلبت من عشرتي ما لم أرك لها رضا ً"‪.‬‬
‫مقاماته‬
‫•‬
‫قال أبو إسحاق الحصري يصف البديع ومقاماته ‪":‬وهذا اسم (أي البديع) وافق‬
‫مسماه ‪ ،‬ولفظ طابق معناه‪ .‬كالمه ُغض الماكسر‪ ،‬أني ُ‬
‫ق الجواهر‪ ،‬يكاد الهوا ُء‬
‫يسرقه لطفا ً ‪ ،‬والهوى يعشقهُ ظرفا ً"‪.‬‬
‫على أن ما وصلنا من مقاماته األربعمائة ال يتجاوز اإلحدى والخمسين‪ .‬والذي‬
‫يطالعها يرى في بطلها أبي الفتح ما يراه عادة في أبطال المقامات األخرى‪ ،‬من‬
‫جشع وتحيل مقرونين بذكاء واختبار واسع‪ .‬وهي تتناول المواضيع األدبية‬
‫واللغوية والكالمية واألخبار‪.‬‬
‫خصائص مقاماته‪ ‬‬

‫وتتجلى فيها المزايا التالية ‪:‬‬


‫‪ )1‬سهولة المأخذ وعدم التقيد دائما ً باالزدواج والسجع‪ ‬‬
‫كقوله من المقامة الفزارية ‪" :‬فقلت على ِرسلك يا فتى‪ ،‬ولك فيما تصحبني حكمك‪.‬‬
‫فقال الحقيبة بما فيها ‪ .‬فقلت وإنّ وحاملتها‪ .‬ثم قبضت بجمعي عليه‪ ،‬وقلت ال والذي‬
‫ألهمها لمساً‪ ،‬وشقها من واحدة خمسا ً"‪.‬‬
‫وعند مقارنة مقامات البديع بمقامات الحريري يتبين لنا أن لغة بديع الزمان خالية‬
‫من التكلف واالعتساف‪.‬‬
‫خصائص مقاماته‬

‫• ‪ )2‬روح الدعابة والظرف‬


‫ومع أن بعض مقاماته قصيرة تكاد ال تجد فيها أثراً لحكاية أو نكته‪ ،‬فإن البعض‬
‫اآلخر يدل على روح فكهة تحب النكتة وتحسن سرد الحكاية ‪ .‬ومن مقاماته الفكهة‬
‫‪ :‬المقامة البغدادية‬
‫خصائص مقاماته‬

‫• ‪ )3‬مرارة التهكم والهجاء‬


‫وتظهر في مقاماته كما تظهر في رسائله كقوله في المقامة المارستانية ‪" :‬وأنتم يا‬
‫مجوس هذه األمة تعيشون جبراً‪ ،‬وتموتون صبراً‪ ،‬وتساقون إلى المقدور قهراً"‪.‬‬
‫وصاف ماهر‪ .‬وهو ال يكثر من الحكم والعظات ولكن أكثرها‬ ‫والبديع في مقاماته ّ‬
‫راجع إلى ذم الدنيا وأهلها ذما ً ينم عن نفس م ّرة وطبع متب ّرم‪.‬‬
‫المقامة الصيمرية‬
‫•‬
‫تجمع إلى حالوة القصة حكمة العظة جمعا ً يملك النفس وهو يضعها على لسان‬
‫رجل اسمه أبو العنبس الصيمري ‪ ،‬قال ‪" :‬وكنت عندهم أعقل من عبد هللا بن‬
‫عباس‪ ،‬وأظرف من أبي نواس‪ ،‬وأسخى من حاتم‪ ،‬وأشجع من عمرو ‪ ،‬وأبلغ من‬
‫سحبان وائل‪ ،‬وأدهى من قصير ‪ ،‬وأشعر من جرير ‪ ،‬وأعذب من ماء الفرات‪،‬‬
‫وأطيب من العافية‪ ،‬لبذلي مروءتي وإتالفى ذخيرتي‪.‬‬

You might also like