You are on page 1of 36

‫النقد األدبي في العصر العباسي‪:‬‬

‫• أوال‪ :‬أثر الثقافات الجديدة في األدب والنقد في العصر العباسي‪.‬‬


‫• المس احة الزماني ة لهذا العص ر تتجاوز عدة قرون‪ ،‬والمس احة المكاني ة ل ه كذل ك ممتدة األطراف‪،‬‬
‫فنح ن نتحدث ع ن ثقاف ة متنوع ة وأدب متنوع وبيئات مختلف ة‪ ،‬واتجاهات حديث ة ف ي األدب عام ة‬
‫وفي الشعر خاصة‪ ،‬وكل هذا أثّر بطبيعة الحال في النقد األدبي‪.‬‬
‫• و ّح د اإلس الم األم م والثقافات ف ي نس يج قوي ُمح َك م‪ ،‬وم ن مفاخ ر لغ ة العرب ومآثره ا أنه ا‬
‫اس توعبت حضارة الفرس وفلس فة اليونان‪ ،‬وتراث المص ريين وط ب الهن د‪ ،‬وألوانً ا أخرى م ن‬
‫العلوم والثقافة‪ .‬وأص بحت العربي ة ه ي الوعاء الذي حف ظ هذه العلوم وتل ك الثقافات م ن الضياع‬
‫واالندثار‪ ،‬عن طريق الترجمة التي شجعها حكام المسلمين‪.‬‬
‫• طرأ عل ى الشع ر ف ي العص ر العباس ي تجدد وتطور ف ي الموضوعات واألفكار والص ور واألس اليب‪،‬‬
‫ونبغ فيه كثي ٌر من المستعربين الذين يرجعون في أنسابهم إلى أصول غير عربية‪.‬‬
‫• لقد نظر كثير من األدباء والشعراء في العلوم الجديدة‪ّ ،‬‬
‫وغذوا أشعارهم بأفكار منها‪ ،‬فابن قتيبة يالحظ‬
‫على أبي نواس ‪-‬مثاًل ‪ -‬تأثره بالعلوم‪ ،‬فيقول‪" :‬وكان أبو نواس متفنِّنً ا في العلم‪ ،‬قد ضرب في كل نوع‬
‫منه بنصيب‪ ،‬ونظر مع ذلك في علم النجوم‪ ،‬يدلك على ذلك قوله‪:‬‬
‫ان فا ْعتَ َدالَ‬
‫الح َمالَ وقام َو ْز ُن ال َّز َم ِ‬
‫ت َ‬ ‫س َحلَّ ِ‬ ‫• َألَ ْم تَ َر ال َّ‬
‫ش ْم َ‬
‫• وق د ظه ر أث ر الثقاف ة الفارس ية ف ي الشع ر‪ ،‬خاص ة بع د أ ن اطل ع الشعراء عل ى كتاب ي (األدب الك بير)‬
‫وح َكمه م ووص اياهم‪ ،‬كم ا تمث ل‬
‫و(األدب الص غير) الب ن المقف ع‪ ،‬فنقلوا م ا فيهم ا م ن تجارب الفرس ِ‬
‫بعضهم األمثال الفارسية وأكثر بعضهم منها‪.‬‬
‫• انتقل ت الثقاف ة اليوناني ة بترجم ة الكت ب اليوناني ة الت ي كان ت مترجم ة إل ى الهندي ة‪ ،‬وم ن الهندي ة إل ى‬
‫العربي ة‪ ،‬كم ا تُرج م بعضه ا م ن اليوناني ة إل ى العربي ة مباشرة‪ ،‬فلق د تُرجم ت كت ب "أرس طو"‬
‫و"أفالطون" وغيرهما في المنطق والفلسفة‪ ،‬وتأثرت بذلك الثقافة العربية في شتى فروعها ومناحيها‪.‬‬
‫• وانطبع األدب في العصر العباسي بطوابع فكرية واضحة‪ ،‬ال نجد ما يشبهها في األعصر السابقة‪ ،‬فقد‬
‫تميز األدب في العصر العباسي بالتعمق في المعاني والتفصيل والتقسيم والتعليل؛ ولذلك وجدنا النقد‬
‫يتتبع هذه الظواهر الجديدة ويبحث عنها‪ ،‬كما هو الشأن في الحديث عن أبي تمام وعن المتنبي وعن‬
‫المعري وأبي العتاهية‪ ،‬والبحث في أفكارهم ومعانيها ومصادر هذه األفكار‪.‬‬
‫غرض م ن أغراض الشع ر‪ ،‬حت ى شع ر‬ ‫ٌ‬ ‫يخل م ن هذه الطواب ع الجديدة ٌّ‬
‫فن م ن فنون األدب‪ ،‬وال‬ ‫ُ‬ ‫• ول م‬
‫الزهد الذي ُع رف به أبو العتاهية‪ ،‬حيث الحظ عليه الدارسون أنه كان ذا صبغة علمية دينية فلسفية‪.‬‬
‫• ولم يقف دور العرب عند النقل والتمثل‪ ،‬فقد جاوزوا ذلك إلى االبتكار‪ ،‬فأضافوا إلى تلك‬
‫المعارف وزادوا عليه ا‪ ،‬وتع د مؤلفاته م مراج ع مفيدة إل ى يومن ا هذا؛ وم ن هؤالء‪ :‬الكندي‬
‫الفيلس وف‪ ،‬والرازي الط بيب‪ ،‬والخوارزم ي الرياض ي‪ ،‬وجابر ب ن حيان الكيميائ ي‪،‬‬
‫والفارابي‪ ،‬وابن سينا‪ ،‬وغير هؤالء كثير‪.‬‬
‫• ثانيا‪ :‬بيئات النقد األدبي واتجاهاته في العصر العباسي‪.‬‬
‫• تنوع ت ال بيئات الثقافي ة ف ي العص ر العباس ي وتعددت‪ ،‬فأص بحت عندن ا بيئات متنوع ة األفكار والمعارف‬
‫واالهتمامات؛ من هذه البيئات‪:‬‬
‫• ‪ -1‬بيئة الجزيرة العربية‪:‬‬
‫• وكان ت الجزيرة العربي ة موط ن العرب ال ُخلّ ص‪ ،‬الذي ن ل م يكونوا قب ل اختالطه م بغيره م م ن أص حاب‬
‫الفلس فة أ و الحضارات والنظ م المعقدة‪ ،‬فك ل م ا كان يعرف ه العرب ف ي بيئته م األول ى ه و حف ظ األشعار‬
‫وروايته ا ومعرف ة األخبار واألنس اب‪ ،‬م ع أشتات م ن المعارف الت ي اس تعانوا به ا عل ى الحياة ف ي بيئ ة‬
‫الصحراء‪.‬‬
‫• وتركزت الحرك ة العلمي ة ف ي بيئ ة الجزيرة بع د ظهور اإلس الم‪ ،‬وف ي العص رين األموي والعباس ي عل ى‬
‫علوم الدين اإلسالمي وفنون اللغة العربية‪ .‬ومسائل الفقه‪ ،‬وعلوم اللغة العربية من نحو وبالغة‪ ،‬ولم يكن‬
‫لهذه البيئة اهتمام بما يسمى بالعلوم العقلية‪ ،‬وهي علوم الفلسفة‪.‬‬
‫• ‪ -2‬بيئة العراق‪:‬‬
‫• كانت أكبر بيئة ثقافية في العصر العباسي‪:‬‬
‫• ‪ -‬فقد اتخذ العباسيون من بغداد عاصمة لدولتهم‪.‬‬
‫• ‪ -‬وقدم إليها العلماء واألدباء والشعراء من كل مكان‪.‬‬
‫• وقد اهتمت بيئة العراق بعلوم الشريعة اإلسالمية واللغة العربية‪ ،‬لكنها لم تقتصر عليها‪ ،‬بل أضافت‬
‫إلى ذلك اهتما ًما بال ًغا بعلوم األوائل‪ :‬الفلسفة والطب والكيمياء‪ ،‬والرياضيات والفلك‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫• ‪ -‬كثر في العراق علماء التفسير والحديث والنحو والبالغة والشعراء والخطباء‪.‬‬
‫• ‪ -‬كثر فيها كذلك علماء الطب والكيمياء والفلك‪.‬‬
‫• ‪ -‬دار في مجالس العلم بها نشاط علمي كبير حول كتب الفلسفة ومقاالتها‪.‬‬
‫• ‪ -‬نشطت الترجمة لتنقل كل ما خلّفه اليونان والفرس من الكتب الفلسفية‪ ،‬في كثير من مدن العراق‪.‬‬
‫• ‪ -‬ول م تك ن العلوم الفلس فية ه ي المزدهرة وحده ا ف ي العراق ازدها ًرا ك بي ًرا‪ ،‬فق د ازدهرت علوم‬
‫الشريعة واللغة العربية‪.‬‬
‫• ‪ -‬كث ر ف ي هذه البيئ ة الم برزون م ن العلماء‪ ،‬أص حاب المص نفات المهم ة ف ي التفس ير والقراءات‬
‫والحديث والفقه والبالغة والنحو والتاريخ‪.‬‬
‫• ‪ -‬كما كثر فيها الشعراء واألدباء والكتاب والخطباء والنقاد‪.‬‬
‫• ‪ -3‬بيئة إيران‪:‬‬
‫• ‪ -‬أدى التناف س ف ي تشجي ع الثقاف ة والعل م واألدب بي ن الحكومات المتعاص رة والمتعاقب ة عل ى أقالي م‬
‫إيران إلى ازدهار الثقافة والعلم واألدب‪.‬‬
‫• ‪ -‬عمل كل أمير على أن يحشد في بالطه أشهر العلماء والشعراء‪ ،‬وكانوا في ذلك يتشبهون بالخليفة‬
‫العباسي في بغداد‪.‬‬
‫• وف ي علوم اللغ ة قدم ت هذه البيئ ة أب ا منص ور األزهري واض ع معج م (تهذي ب اللغ ة)‪ ،‬والفاراب ي‬
‫ص احب معج م (ديوان األدب)‪ ،‬والجوهري ص احب (تاج اللغ ة) و(ص حاح العربي ة)‪ ،‬والزمخشري‬
‫علي الفارس ي إمام النحاة ف ي القرن الراب ع‪ ،‬وأب ا هالل العس كري‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ص احب (أس اس البالغ ة)‪ ،‬وأب ا‬
‫واإلمام عبد القاهر الجرجاني‪ ،‬والقاضي الجرجاني‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫• بيئة الشام ‪:‬‬
‫• ‪ -‬اكتس بت الشام مكانته ا م ن بداي ة العص ر األموي‪ ،‬حي ث اتخ ذ األمويون م ن دمش ق عاص مة له م‪،‬‬
‫ً‬
‫مركزا مه ًّما من مراكز الثقافة والعلم‪.‬‬ ‫فأصبحت‬
‫• ‪ -‬وش ّد إليها كثير من العلماء واألدباء والشعراء رحالهم؛ لينعموا بالحظوة عند أمرائها‪.‬‬
‫• وبلغ ازدهار النشاط العلمي واألدبي َأ ْو َجهُ في القرن الرابع‪ ،‬خاصة في ظالل سيف الدولة الحمداني‪،‬‬
‫الذي أبدع المتنبي فيه كثي ًرا من المدائح‪.‬‬
‫• وباإلضافة إلى دمشق كانت هناك حواضر أخرى من حواضر الشام تع ّد بيئات ثقافية‪ ،‬فقد كانت حلب‬
‫والقدس وطرابلس ذات دور مهم في تنشيط حركة العلم واألدب‪.‬‬
‫• ‪ -‬لم تخ ُل البيئة الشامية من العلماء الكبار واألدباء المشهورين‪ ،‬وممن أنجبتهم هذه البيئة أبو العالء‬
‫المعري وهو الشاعر األديب‪ ،‬الناقد الفيلسوف‪.‬‬
‫• بيئة مصر‪:‬‬
‫• ‪ -‬برز ف ي هذه البيئ ة نشاط ثقاف ي ك بير‪ ،‬وكان البح ث منص بًّا ف ي مص ر عل ى علوم الشريع ة واللغ ة‬
‫العربية‪.‬‬
‫• ‪ -‬ول م يقتص ر النشاط ف ي مص ر عل ى القاهرة وحده ا‪ ،‬ب ل شارك ت في ه عدة حواض ر أخرى‬
‫كاإلسكندرية وأسيوط وغيرها‪.‬‬
‫• ‪ -‬وكان في مصر علماء مشهورون في التفسير والقراءات والفقه والحديث واألدب‪ ،‬وكان فيها كذلك‬
‫شعراء ونقاد على قدر كبير من معرفة فنون الكالم والبصر بمعانيه‪.‬‬
‫• ‪ -‬وكان للمس اجد الك بيرة ف ي مص ر دور مه م ف ي تنشي ط الحرك ة العلمي ة والثقافي ة‪ ،‬وم ن أشه ر هذه‬
‫المساجد‪ :‬الجامع األزهر‪ ،‬وجامع ابن طولون‪ ،‬وجامع عمرو بن العاص‪.‬‬
‫• ويمت د التأري خ لحرك ة الثقاف ة والعلوم ف ي العص ر العباس ي إل ى أبع د م ن هذه ال بيئات؛ أل ن العص ر‬
‫العباسي يمتد في الزمن قرونًا عديدة‪ ،‬ويمتد في المكان إلى بيئات كثيرة‪.‬‬
‫• وهذه الحياة العلمي ة أثّرت ف ي النق د تأثي ًرا بعي ًدا‪ ،‬ال ف ي ظواهره فق ط وال ف ي أشكال ه‪ ،‬ب ل ف ي جوهره‬
‫وحقيقته‪ ،‬وفي األمزجة التي يصدر عنها‪ ،‬وفي الثقافة التي ينحدر منها‪.‬‬
‫• فالنق د األدب ي من ذ القرن الثال ث يقوم إ ًذا عل ى عناص ر قديم ة‪ ،‬كان ت موجودة عن د العرب‪ ،‬وعناص ر‬
‫جديدة أتتهم من اختالطهم باألمم األخرى‪.‬‬
‫• كان النقد األدبي يقوم على البالغة والثقافة والتبحر والفلسفة والمنطق‪ ،‬وكل ما دخل في الذهن العربي‬
‫من المعارف األجنبية"‪.‬‬
‫• ووص ف هذا النق د بأن ه نق د متشع ب النواح ي مختل ف األمزج ة‪ ،‬دقي ق متأث ر بك ل م ا جاء ب ه العل م ف ي‬
‫ص در الدول ة العباس ية‪ ،‬ومتأث ر كذل ك بروح النق د القدي م‪ ،‬نق ٌد في ه بحوث قيم ة‪ ،‬منه ا م ا أدخ ل شيًئ ا م ن‬
‫الترتيب والتنظيم‪ ،‬والقواعد التي تعين الناقد على الفهم والحكم‪ ،‬ومنها ما شرح بعض مظاهر األدب‬
‫كثيرا من حاالته‪.‬‬
‫وعلل ً‬
‫• ويرصد تاريخ النقد األدبي عند العرب التفاوت واالختالف والتنوع الذي حدث في بيئات النقد‪ ،‬فيذكر أن‬
‫هذا النق د األدب ي ف ي العص ر العباس ي كان ينبع ث ع ن ذهنيات أرب ع‪ ،‬يمك ن أ ن تكون هذه الذهنيات بهذا‬
‫اللفظ هي التي تمثل االتجاهات؛ اتجاهات النقد األدبي في هذا العصر‪:‬‬
‫• ‪ -‬ذهنية اللغويين‪.‬‬
‫• ‪ -‬وذهنية األدباء‪.‬‬
‫• ‪ -‬ذهنية العلماء الذين أخذوا نصيبًا يسي ًرا من المعارف األجنبية‪.‬‬
‫• ‪ -‬ذهنية العلماء الذين تأثروا كل التأثر بما نُقل عن اليونان‪.‬‬
‫• تعددت اتجاهات النقد األدبي في العصر العباسي تب ًعا لتنوع الثقافة وتجددها‪:‬‬
‫• ‪ -1‬اللغويون هؤالء الذي ن يمك ن أ ن نعده م امتدا ًدا لم ا كان موجو ًدا قب ل العص ر العباس ي والعص ر‬
‫ض ا في‬
‫األموي‪ ،‬حيث النقد اللغوي الذي كان يمارسه علماء اللغة ورواة الشعر‪ ،‬الذين استمر نشاطهم أي ً‬
‫العصر العباسي‪.‬‬
‫• وانتش ر اللغويون ف ي البص رة والكوف ة وبغداد وغيره ا م ن المدن واألقالي م‪ ،‬وم ن هؤالء‪ :‬أب و س عيد‬
‫الس كري راوي ة البص ريين ف ي عهده‪ ،‬وأب و العباس ثعل ب أح د اللغويي ن والنحويي ن الكوفيي ن‪ ،‬وأب و‬
‫العباس ال ُمبَ ِّرد البصري‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫• هؤالء إ ًذا يمثلون االتجاه الذي كان موجو ًدا قب ل العص ر العباس ي والعص ر األموي لكن ه زاد علي ه ف ي‬
‫اهتمام ه باألدب الحدي ث وبالشع ر المحْ دث‪ .‬أص حاب هذا االتجاه الثان ي أخذوا القدي م ع ن اللغويي ن‬
‫والنحويي ن‪ ،‬و ُعنوا بال ُمحْ َدث أش د م ن عناي ة اللغويي ن والرواة‪ ،‬وحفل ت ب ه مجالس هم وأقبلوا عل ى تحلي ل‬
‫عناصره‪ ،‬وما يج ُّد فيه عه ًدا بعد عهد‪ ،‬ويوازنون بينه وبين ما يجدونه في المذهب القديم‪.‬‬
‫• ‪ -2‬اتجاه بذهنية األدباء‪:‬‬
‫• ‪ -‬ويمث ل هذا االتجاه طائف ة م ن العلماء والشعراء واألدباء‪ ،‬الذي ن كانوا يحرص ون عل ى القدي م‪،‬‬
‫ويضيفون إليه ذوقًا جدي ًدا‪.‬‬
‫• ‪ -‬ومن هؤالء الذين مارسوا هذا النقد عبد هللا بن المعتز‪ ،‬فقد كان كثير السماع غزير الرواية‪ ،‬يلقى‬
‫العلماء من النحويين واإلخباريين‪ ،‬ويقصد فصحاء العرب ويأخذ عنهم‪ ،‬ولكنه كان مع كل ذلك بار ًع ا‬
‫في األدب حسن الشعر‪ ،‬مهت ًّما بنقد ال ُمحْ َدثِين‪ ،‬وله رسالة في محاسن شعر أبي تمام ومساويه‪ ،‬وله كتب‬
‫أخرى ف ي النق د‪ ،‬وهذه الطائف ة كان ت أكث ر تس امحًا م ع الشع ر المحدث واالتجاه الجدي د م ن الطائف ة‬
‫األولى‪.‬‬
‫• ونقاد هذي ن االتجاهي ن وهذان االتجاهان ف ي النق د األدب ي ف ي العص ر العباس ي يتص الن بس بب وثي ق‬
‫ونسب عريق بالذوق العربي األصيل‪ ،‬وبالثقافة العربية الموروثة لم تبهرهم المعارف األجنبية‪ ،‬وإن‬
‫كان بعضهم يعرف عن هذه المعارف األجنبية ويأخذ منها بنصيب‪.‬‬
‫• ‪ -3‬االتجاه الثالث مثلته جماعة من العلماء الذين كانوا يلمون ببعض آثار األمم القديمة‪:‬‬
‫• ‪ -‬كانوا يدرسون الشعر القديم‪ ،‬ويدرسون الشعر المحدث‪ ،‬ويدرسون إلى جانب ذلك كثيرًا من العلوم‬
‫الكونية والنقلية‪ ،‬وكانوا يلمون ببعض آثار األمم القديمة‪ ،‬فجاء ذوقهم في نقد األدب مختلفًا عمن سبقهم‬
‫من أصحاب االتجاهين األول والثاني‪.‬‬
‫ومتأثرا بالجدي د؛ يعتم د عل ى القدي م ف ي‬
‫ً‬ ‫• ‪ -‬جاء ذوق أص حاب هذا االتجاه الثال ث معتم ًدا عل ى القدي م‬
‫الروح والشواهد‪ ،‬ويتأثر بالمعارف التي نُقلت وبالبالغة التي ُعرفت‪ ،‬وبالعلوم التي تُرجمت‪.‬‬
‫• ‪ -‬وظه ر أث ر هذا الجدي د أ و التأث ر بالمترج م والمنقول ف ي مؤلفاته م‪ ،‬الت ي اتس مت بالتنظي م والترتي ب‪،‬‬
‫وفي أحكامهم التي جنحت إلى التعمق والتعليل‪ .‬ومن هؤالء النقاد ابن قتيبة‪ ،‬العالم األديب الناقد‪.‬‬
‫• ‪ -4‬وأم ا االتجاه الراب ع ف ي النق د األدب ي ف ي العص ر العباس ي فتمثل ه ذهني ة العلماء‪ ،‬الذي ن وق ف‬
‫أص حابها عل ى بع ض آثار الفرس والس ريان واليونان‪ ،‬واس تمدوا معارف كثيرة م ن ميراث األم م‬
‫غير العربية‪ ،‬وتأثروا بما نقل عن "أرسطو" و"أفالطون"‬
‫• ‪ -‬اتخذوا م ن مقايي س األم م األخرى مقايي س لنق د األدب العرب ي‪ ،‬وق د كان أكث ر هذه المقايي س ال‬
‫يتصل بسبب باألدب العربي القديم‪ ،‬وال ينتهي إلى أصل من أصوله المعروفة‪.‬‬
‫• ‪ -‬كان القائمون بهذا النق د يجتلبون الشواه د م ن األدب العرب ي اجتالبً ا‪ ،‬ويحاولون أ ن يطبقوا عليه ا‬
‫المقاييس التي استقوها من الثقافات األجنبية‪.‬‬
‫• ‪ -‬مؤرخو النقد األدبي يمثلون ألصحاب هذا االتجاه بقدامة بن جعفر؛ صاحب كتاب (نقد الشعر)‪.‬‬
‫• واستمرت مسيرة النقد األدبي في العصر العباسي وهذه االتجاهات تتقارب أو تتباعد‪ ،‬حتى استطاع‬
‫الذوق العربي أن يفرض نفسه‪ ،‬وأن تكون الذهنية الرابعة التي تأثرت بما هو مترجم ومنقول‪ ،‬وحولت‬
‫النقد إلى فلسفة‪.‬‬
‫• وأثّر هذا االتجاه عندهم في طبيعة الشعر العربي وطبيعة األدب العربي‪ ،‬وكان االتجاه األغلب واألعم‬
‫اتجاهً ا توافقيًّ ا منص فًا لطبيع ة األدب العرب ي‪ ،‬ومنص فًا للنق د الذي يقوم عل ى الذوق األدب ي الس ليم‪ ،‬من‬
‫غير أن يخاصم المعارف الجديدة‪.‬‬
‫• لكنه يأخذ من العلم ما يأتنس به في الشكل أو الصورة‪ ،‬وال يجعله في موضع الجوهر أو الروح‪ ،‬حتى‬
‫يظل األدب أدبًا والعلم عل ًما‪.‬‬
‫• النقد في القرن الرابع كان خص بًا ج ًّدا‪ ،‬وكان متسع اآلفاق متنوع النظرات‪ ،‬معتم ًدا على الذوق األدبي‬
‫السليم‪ ،‬مؤتنسًا بمناحي العلم في الصورة والشكل‪ ،‬ال في الجوهر والروح‪.‬‬
‫• وظهرت آثار هذا المي ل ف ي الذوق‪ ،‬والبع د في الجوه ر ع ن العل م والفلس فة ف ي آثار النقاد‪ ،‬وف ي طريقة‬
‫النقد‪ ،‬فإن َحلّ ل هذا النقد الشعر َحلل بذوق سليم‪ ،‬وإن علل فبمنطق سديد‪ ،‬وإن عرض لفكرة أتى على‬
‫كل ما فيها‪.‬‬
‫• ونق ٌد يرج ع بن ا إل ى عه د متقدم ي اللغويي ن والرواة‪ ،‬فه م اس تمرار وامتداد للذي ن جرَ ْوا ف ي النق د عل ى‬
‫األصول العربية في القرن الثالث‪ ،‬وامتداد للغويين وللنقدة األدباء مجتمعين‪.‬‬
‫• فليسوا كاللغويين عكوفً ا على القديم ونفو ًرا من المح َدث‪ ،‬وليسوا كاألدباء يفهمون الشعر المحدث فه ًم ا‬
‫ال يكشف سره‪ ،‬وال يوضح علله وال يبين مراميه‪.‬‬
‫• إ ًذا‪ :‬اس تقر النق د األدب ي ف ي القرن الراب ع الهجري عل ى نم ط جم ع بي ن االتجاهي ن األول والثان ي‪ ،‬وزاد‬
‫عليهم ا تعمقً ا ف ي الفه م وص حة ف ي التعلي ل‪ ،‬وإفادة م ن الموروث‪ ،‬وإفادة كذل ك م ن الجدي د عل ى نح و‬
‫متوازن فيما بينهما‪.‬‬
‫• واعتمد هذا االتجاه على أن النقد صناعة ال بد فيها من طبع وقريحة‪ ،‬كما أنه ال بد في األدب نفسه من‬
‫طبع وقريحة‪ .‬فال بد من وجود الذوق السليم لألديب وللناقد على حد سواء‪ ،‬وهذا الطبع أو هذا الذوق ال بد‬
‫له من خبرة وطول معاناة‪ ،‬ال بد له من صقل‪ ،‬ال بد له من ثقافة‪ ،‬ولم يعد النقد يعتمد على العلم والمنطق‬
‫والفلسفة‪.‬‬
‫• وكان م ن أئم ة هذا االتجاه الناض ج أب و القاس م الحس ن ب ن بِش ر اآلمدي‪ ،‬والقاض ي الجُرجاني‪ .‬ومم ا قال ه‬
‫القاضي الجرجاني في شرح هذا االتجاه‪ ،‬وما يعتمد عليه في النظر إلى الشعر‪" :‬إن الشعر ال يُ َحبب إلى‬
‫النفوس بالنظ ر والمحاج ة‪ ،‬وإنم ا يعطفه ا علي ه القبول والطالوة ‪ ...‬ولك ل ص ناعة أه ل يُرج ع إليه م ف ي‬
‫خصائصها‪ ،‬ويُستظهر بمعرفتهم عند اشتباه أحوالها‪ ،‬وكثير من شؤون النقد تُمتحن بالطبع ال بالفكر"‪.‬‬
‫• فنحن نجد الكالم في هذا إعالء من شأن الطبع واالستعداد والذوق؛ الذوق المدرب والطبع المثقف‪ .‬وكان‬
‫تعريض ا‬
‫ً‬ ‫هذا الكالم م ن القاض ي الجرجان ي محاول ة من ه إلبعاد أص حاب الذهني ة العلمي ة ع ن النق د‪ ،‬وكان‬
‫بالذين تصدوا لممارسة النقد األدبي‪ ،‬والكالم في الشعر دون أن يكون لهم فيه طبع أو ذوق‪.‬‬
‫• وكم ا انحس رت ف ي مجال النق د األدب ي ذهني ة المنطقيي ن والعلماء والفالس فة‪ ،‬انحس رت كذل ك ذهني ة‬
‫النحويين‪ ،‬الذين كانوا يقتصرون في نقدهم لألشعار على ما فيها من اللغة‪.‬‬
‫• أصبح الذوق الجديد أو االتجاه الجديد يتجاوز هذه النظرة‪ ،‬وينظر إلى العمل األدبي على أنه يتكون من‬
‫عناصر متعددة‪.‬‬
‫• والذي ن مارس وا النق د ف ي هذا االتجاه الناض ج ‪-‬إ ًذا‪ -‬ه م األدباء العلماء‪ ،‬الذي ن ُعنوا بدراس ة الشع ر‪،‬‬
‫وتحاوروا فيه وتخاصموا بنظر أعمق وأفق فسيح‪ ،‬وحللوا الظواهر األدبية وعللوها‪ .‬وأرجعوا كل شيء‬
‫إلى أصل وسبب‪.‬‬
‫الموازنة بين األدباء في العصر العباسي‬
‫• أوال‪ :‬ما كان بين علماء اللغة ورواتها والشعراء المولدين‪.‬‬
‫• ثانيا‪ :‬الخصومة الحقيقية بين القدماء والمحدثين‪.‬‬
‫• كان أم ر علماء اللغ ة م ع الشعراء المولدي ن‪ ،‬والخص ومة بي ن القدماء والمحدثي ن لهم ا أث ر ك بير ف ي‬
‫الدراسات النقدية التي ألَّف فيها نُقاد العصر العباسي‪.‬‬
‫• يكمن سبب الخصومة بين علماء اللغة والشعراء المولدين والمحدثين‪ ،‬في أن غاية علماء اللغة بجمعها‬
‫واس تنباط قواعده ا؛ حت ى ال تنش أ أجيال بع د أ ن اختل ط العرب بغيره م م ن األم م‪ ،‬تجه ل لغ ة القرآ ن‪،‬‬
‫وتجهل طرق االستدالل على األحكام من القرآن"‪.‬‬
‫• ووجدت هذه الجهود م ن علماء اللغ ة والنح و أمثال المفض ل الض بي‪ ،‬واألص معي‪ ،‬وأب و عمرو ب ن‬
‫ضا أرادوا أن يحافظوا على لغة القرآن الكريم‪.‬‬
‫العالء تشجي ًعا من خلفاء بني العباس؛ ألنهم أي ً‬
‫• كان خلفاء بني العباس يشجعون هؤالء العلماء‪ ،‬ويحثون طالب العلم على مدارسة اللغة والتعمق فيها‪،‬‬
‫ورواية ما يتصل بها من أنساب‪ ،‬وأيام‪ ،‬وأخبار‪ ،‬وأشعار‪.‬‬
‫• وجعلوا م ن مقايي س ومعايي ر وم بررات الوظائ ف الك بيرة عنده م التفوق ف ي اللغ ة العربي ة‪ ،‬فكانوا ال‬
‫يستوزرون وال يستكتبون إال من حذقها وبرع في أدائها‪.‬‬
‫ص ا على أن يتعلم أبناؤهم اللغة العربية‪ ،‬وأن يتقنوها‪ ،‬وكانوا من أجل‬‫• بل إن هؤالء الخلفاء كانوا حرا ً‬
‫ذل ك يحضرون ألبنائه م ف ي القص ور كبار علماء اللغ ة‪ ،‬وكبار رواة الشع ر؛ ليؤ ّدبوه م عل ى أدب هذه‬
‫كثيرا من نماذجها الشعرية األصيلة‪.‬‬
‫ً‬ ‫اللغة‪ ،‬ويحفّظوهم‬
‫• وم ن أج ل هذا وجدن ا المفض ل الض بي مثاًل ص احب (المفضليات)‪ ،‬وه ي قص ائد اختاره ا المفض ل م ن‬
‫الشعر العربي أراد أن يؤ ِّدب بها ويعلمها المهدي وهو ما يزال ناشًئ ا صغي ًرا‪ ،‬بهذا أصبح لعلماء النحو‬
‫واللغة‪ ،‬وهؤالء المعنيون بالشعر العربي القديم نفوذ ما سرى في القصر العباسي‪.‬‬
‫ُّ‬
‫تكتظ باللغويين من مثل الكسائي واألصمعي‪ ،‬فكان ال بد للشعراء أن يجزلوا لهم‬ ‫• وكانت مجالس الخلفاء‬
‫في العطاء حتى ينالوا استحسانهم‪ ،‬ويرى ذلك الخلفاء منهم‪.‬‬
‫•و ّ‬
‫كأن علماء النحو ورواة اللغة أصبحوا في قصور الخلفاء العباسيين يُنظر إليهم على أنهم قضاة الشعر‬
‫فهم الذين يجيزون الشعراء‪ ،‬أو ال يجيزونهم‪.‬‬
‫• يقول الخلي ل ب ن أحم د للشاع ر اب ن مناذر‪" :‬إنم ا أنت م معش ر الشعراء تب ع ل ي وأن ا كراك ب الس فينة‪ ،‬إ ن‬
‫قررتكم ورضيت قولكم نفقتم‪ ،‬وإال كسدتم"‪.‬‬
‫•ومضى هؤالء النقاد من علماء اللغة ورواتها متمسكين بالنموذج الشعري القديم‪ ،‬حتى إنهم أسقطوا‬
‫بعض الشعراء العباسيين‪ ،‬كما نجد في قول أبي عمرو بن العالء مثاًل ‪ُ " :‬ختم الشعر بذي الرمة‪ ،‬والرجز‬
‫برؤبة"‪ ،‬ولما سُئل عن المح َدثين قال‪" :‬إنهم َك ٌّل على غيرهم؛ إن قالوا حس نًا فقد ُ‬
‫س بقوا إليه‪ ،‬وإن قالوا‬
‫قبيحا فمن عندهم"‪.‬‬
‫ً‬
‫• وكان األصمعي يختم الشعر بابن ميادة وابن هرمة‪ ،‬وأنشده إسحاق الموصلي بيتين من شعره دون أن يُسمي‬
‫قائلهم ا‪ ،‬فلم ا أظه ر إعجاب ه بهم ا‪ ،‬قال ل ه إس حاق‪" :‬إنهم ا ل ي"‪ ،‬فبادره قائاًل ‪" :‬أفس دت الشع ر‪ ،‬إ ن التولي د فيهم ا‬
‫لبين"‪ .‬وهو قوله‪:‬‬‫ّ‬
‫ص َدى ويشفى الغلي ُل‬
‫يُروى منها ال َّ‬ ‫إليك سبي ُل‬
‫هل إلى نظر ٍة ِ‬
‫ــــــب القـــــلي ُل‬
‫ُّ‬ ‫إن ما ق َّل منك يكثُ ُر عنـــدي وكثي ٌر ممـــــن تُ ِح‬
‫ّ‬

‫• ويروي الرواة أ ن اب ن مناذر كان يقول أل بي ع بيدة‪ِ " :‬‬


‫اتق هللا واحك م بي ن شعري وشع ر عدي ب ن زي د‪ ،‬وال‬
‫تقل‪ :‬ذاك جاهلي وهذا عباسي‪ ،‬وذاك قديم وهذا محدث‪ ،‬فتحكم بين العصرين‪ ،‬ولكن احكم بين الشعرين‪ ،‬ودع‬
‫العصبية"‪ ،‬كأن الشعراء أح ُّس وا بأن علماء النحو واللغة يتعصبون للقديم ضد الحديث‪ ،‬وأنهم حتى لو وجدوا في‬
‫الشعر المحدث شيًئا يستحق التنويه به كانوا يغضّون من قيمته‪.‬‬
‫• إن الغاية النبيلة التي توخاها علماء اللغة والنحو‪ ،‬هي المحافظة على القرآن الكريم ولغته‪ ،‬ال تمنع أن يكون‬
‫عند اللغويين أحيانًا ميل للهوى والتعصب للقديم‪.‬‬
‫• وكان ابن األعرابي ‪-‬وهو أحد هؤالء العلماء‪ -‬يقول‪" :‬إنما أشعار هؤالء المحدثين ‪-‬مثل أبي نواس وغيره‪-‬‬
‫مثل ريحان يُشم يو ًم ا ويذوى‪ ،‬فيرمى به‪ ،‬وأشعار القدماء مثل المسك والعنبر كلما حركته ازداد طيبًا"‪.‬‬

‫• ونح ن ال نري د أ ن نص ادر عل ى أذواق هؤالء العلماء؛ فق د كان هذا ه و الذوق الذي ُربّي ت علي ه أحاس يسهم‬
‫ومشاعرهم‪ ،‬ومن أجل هذا كانوا يعجبون بالنموذج القديم في الشعر العربي‪.‬‬

‫• لكن هذا الترصد من علماء اللغة ورواتها للشعراء المحدثين عاد بالخير الكثير‪ ،‬على الشعر العربي‪ ،‬وعلى‬
‫الشعراء المحدثين أنفسهم؛ فقد اهتموا بحفظ اللغة‪ ،‬واهتموا كذلك بشعرهم‪.‬‬

‫حرص ا شدي ًدا عل ى أ ن ينه ل م ن معي ن اللغ ة العربي ة الص افي‪ ،‬فيتوج ه إل ى البادي ة‪،‬‬
‫ً‬ ‫• فأب و نواس كان يحرص‬
‫ويقيم بها حواًل كاماًل يحفظ هذه اللغة‪ ،‬ويأخذها من أفواه البدو‪ ،‬ويحفظ نماذجها القديمة‪.‬‬

‫• ولذلك قال الجاحظ عنه‪" :‬ما رأيت أح ًدا كان أعلم باللغة من أبي نواس‪ ،‬وال أفصح لهجة مع حالوة ومجانبة‬
‫االس تكراه"‪ .‬ويقول أب و عمرو الشيبان ي العال م اللغوي ع ن أ بي نواس‪" :‬لوال م ا أخ ذ في ه أب و نواس م ن الرف ث‪،‬‬
‫الحتججنا بشعره؛ ألنه محكم القول"‪.‬‬
‫ض ا من أصل غير عربي‪ ،‬من أصل فارسي‪ ،‬وهو زعيم‬ ‫ض ا بشار بن برد‪ ،‬وهو أي ً‬ ‫•وفعل ذلك أي ً‬
‫المحدثين‪ ،‬ويُعلل بشار إلتقانه العربية بنشأته في بني عقيل‪ ،‬وتب ِّديه أعوا ًما‪.‬‬
‫•على هذا النحو يمكن أن نفهم أثر علماء اللغة والنحو في الشعر في العصر العباسي‪ ،‬وهو أثر‬
‫إيجابي تمثل في تحفيز الشعراء ودفعهم إلى المحافظة على لغتهم‪ ،‬واالستكثار من محفوظهم الشعري‬
‫وعنايتهم به‪.‬‬
‫•فاألس لوب الذي غل ب إ ًذا ه و أس لوب قائ م عل ى مخزون م ن القدي م‪ ،‬و ُع ّدة م ن الذوق الحضري‬
‫الجدي د‪ ،‬أس لوب يحاف ظ عل ى مادة اللغ ة ومقوماته ا التص ريفية والنحوي ة‪ ،‬ويالئ م بينه ا وبي ن حياة‬
‫العباسيين المتحضرة؛ بحيث تُنفى عنه ألفاظ العامة المبتذلة‪ ،‬وألفاظ البدو الح ِ‬
‫ُوشيَّة‪.‬‬
‫•وكان م ن الشعراء نف ر يُس رفون عل ى أنفس هم ف ي النه ج عل ى أس اليب الرجاز المحشوة بأواب د‬
‫األلفاظ‪ ،‬لكنه م كانوا يعدون نابي ن عل ى ذوق العص ر‪ ،‬فالذوق الغال ب إ ًذا ه و هذا الذوق المعتدل الذي‬
‫استفاد من القديم‪ ،‬وأضاف إليه الحديث‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬الخصومة الحقيقية بين القدماء والمحدثين‪.‬‬
‫• ويبدو أن المسألة أصبحت بعد ذلك مواجهة بين القديم والحديث‪ ،‬أو بين القدماء والمحدثين‪.‬‬
‫•الخصومة بين القدماء والمحدثين لم تُمثل ظاهرة واضحة في العصر العباسي إال بعد ظهور أبي‬
‫تمام‪ ،‬ومذه ب أ بي تمام‪ ،‬والموازن ة بي ن طريق ة أ بي تمام وطريق ة البحتري؛ عندئ ذ اشت َّد الجدل بي ن‬
‫أنصار الشعر القديم وأنصار الشعر المحدث‪.‬‬
‫•كان أبو تمام يمثل الشعراء المحدثين‪ ،‬والبحتري يمثل طريقة العرب القديمة في الشعر‪.‬‬
‫•وم ع أ ن أب ا نواس س بقت ثورت ه عل ى الشك ل القدي م طريق ة أ بي تمام‪ ،‬وتمرَّد عل ى بناء القص يدة‬
‫العربي ة وس خر م ن بدئه ا بالوقوف عل ى األطالل‪ ،‬وذه ب إل ى بدء قص ائده بالحدي ث ع ن الخم ر؛ لك ن‬
‫الخصومة لم تك ن حا ّدة حول أبي نواس‪ ،‬فل م تنشأ خص ومة حادة بي ن أنص ار القدي م وأنصار الحدي ث‪،‬‬
‫ويكون أبو نواس محورها‪.‬‬
‫• لأن دعوة أبي نواس –حسب رأي الدكتور محمد مندور‪ -‬لم تكن من الناحية الفنية ضرورة حتمية‪ ،‬وأن أبا‬
‫ت بجديد‪.‬‬
‫نواس لم يأ ِ‬
‫• وأنه لم يفعل غير أن حاز الشعر القديم ولم يستطع أن يأتي بطريقة جديدة؛ ألنه حافظ على الهياكل القديمة‬
‫للقصيدة مستبداًل ديباجة بأخرى‪.‬‬
‫• وأن دعوته إلى الحديث في موضوعات الخمر لم تستطع أن تحرك نفوس الجميع‪ ،‬أي‪ :‬المجتمع‪ ،‬أو الشعراء‪.‬‬
‫• ويضاف إلى ذلك أن دعوة أبي نواس كانت مشوبة بروح الشعوبية والغضّ من شأن العرب وتقاليدهم‪.‬‬
‫• وأن معظم األغراض التي طرقها كان العرب قد سبقوا إليها‪ ،‬وأن ما لم يسبقوا إليه كان شيًئ ا تافهً ا كالغزل‬
‫بالمذكر‪.‬‬
‫• كما أنه لم يساير مذهبه إلى النهاية‪ ،‬بل كان يعود في مدائحه إلى مذاهب القدماء ترضيةً لممدوحيه‪ ،‬وضمانًا‬
‫لنوالهم‪.‬‬
‫•الخص ومة الحقيقي ة بي ن القدماء والمحدثي ن إ ًذا قام ت حول مذه ب أ بي تمام‪ ،‬فماذا كان مذه ب‬
‫أبي تمام؟‬
‫•مذهب أبي تمام رصده ابن المعتز في كتاب بعنوان (البديع)‪ ،‬فالبديع إ ًذا هو مذهب أبي تمام‪.‬‬
‫•ول م يك ن البدي ع كان اخترا ًع ا م ن اختراعات أ بي تمام‪ ،‬فالبدي ع موجود ف ي لغ ة العرب‪ ،‬ف ي شع ر‬
‫الجاهليين‪ ،‬في شعر اإلسالميين‪ ،‬وفي القرآن الكريم الذي هو األسلوب المعجز في لغة العرب‪.‬‬
‫•لك ن أب ا تمام أس رف م ن هذا البدي ع وأكث ر حت ى خرج عل ى طريق ة العرب‪ ،‬وأص بحت طريقت ه‬
‫معروف ة بهذا‪ ،‬وم ن هن ا نش أ الخالف حول هذه الظاهرة‪ ،‬وأص بح عندن ا خص ومة بي ن القدماء‬
‫والمحدثين محورها شعر أبي تمام‪.‬‬
‫•قال عبد هللا بن المعتز في كتابه (البديع)‪" :‬قد قدمنا في أبواب كتابنا هذا بعض ما وجدنا في القرآن‬
‫واللغ ة وأحادي ث رس ول هللا (ص) وكالم الص حابة واألعراب وغيره م‪ ،‬وأشعار المتقدمي ن م ن الكالم‬
‫الذي س ماه المحدثون البدي ع؛ ليُعل م أ ن بشا ًرا‪ ،‬ومس ل ًما‪ ،‬وأب ا نواس‪ ،‬وم ن تقيّله م وس لك س بيلهم ل م‬
‫يسبقوا إلى هذا الفن‪ ،‬ولكنه كثر في أشعارهم ف ُعرف في زمانهم حتى سمي بهذا االسم‪ ،‬فأعرب عنه‬
‫ود َّل عليه‪ ،‬ثم إن حبيب بن أوس الطائي من بعدهم شغف به حتى غلب عليه‪ ،‬وتفرغ فيه وأكثر منه‪،‬‬
‫فأحسن في بعض ذلك وأساء في بعض‪ ،‬وتلك عقبى اإلفراط وثمرة اإلسراف"‪.‬‬
‫•ف ي هذا الن ص إ ًذا يُقرر عب د هللا ب ن المعت ز أ ن البدي ع ل م يخترع ه أب و تمام اخترا ًع ا‪ ،‬ب ل س بقه إلي ه‬
‫القرآ ن والحدي ث وشع ر المتقدمين‪ .‬وأ ن أب ا تمام ُشغ ف بالبدي ع حت ى غل ب علي ه وتفرع في ه‪ ،‬والمراد‬
‫بالبديع هنا‪ :‬اإلكثار من االستعارة‪ ،‬واإلكثار من الجناس وما يُسمى بعد ذلك الطباق والمقابلة‪ .‬فأبو تمام‬
‫أكثر من هذه األلوان في شعره وكان يتعمدها تعم ًدا‪.‬‬
‫•باإلضافة إلى أنه كان يتصيد المعاني ويجري وراءها‪ ،‬ويتعمد التعمق فيها واإلغراب‪ ،‬فأصبح ألبي‬
‫تمام مذهب مخالف لمذهب الشعراء القدماء‪.‬‬
‫•وتنبه النقاد لهذه المالمح‪ ،‬وتطرَّق الكالم إلى ما كان معتم ًدا في قصائد الشعر القديم من األوصاف‪،‬‬
‫و ُعرف ذلك بعمود الشعر‪ ،‬وأصبح أبو تمام بمذهبه الجديد خار ًجا على عمود الشعر‪.‬‬
‫•واشت َّدت الخصومة بين أنصار أبي تمام وخصومه حتى ظهرت المؤلفات التي تعيب أبا تمام‪ ،‬والتي‬
‫تنتصر ألبي تمام‪.‬‬
‫•ثم وجدنا من يتص َّدى للموازنة بين شعر أبي تمام وشعر البحتري‪ ،‬ويجعل هذه الموازنة موضو ًع ا‬
‫لكتابه‪ ،‬ويأخذ هذا الكتاب عنوانه منها‪ ،‬وهو كتاب الموازنة بين الطائيين للناقد العربي القديم اآلمدي‪.‬‬
‫• إ ًذا‪ :‬نشأ ت الخص ومة بي ن القدماء والمحدثي ن حول مذه ب أ بي تمام‪ ،‬وكان س ببها أ ن أب ا تمام خرج إل ى‬
‫المحال باس تخدامه البدي ع وإفراط ه في ه‪ ،‬وتعقب ه للمعان ي وتعمق ه فيه ا‪ ،‬وق د جاء ذل ك على حس اب الص ياغة‬
‫السهلة التي ُعرفت بها طريقة القدماء‪ ،‬والتي ُعرف بها البحتري‪.‬‬
‫• وتع َّدى األمر ذلك إلى التأليف‪ ،‬وأصبحت عندنا كتب مهتمة بهذه الخصومة؛ منها‪:‬‬
‫• كتاب (البديع) لعبد هللا بن المعتز‪.‬‬
‫• وكتاب (الورقة) البن الجراح‪.‬‬
‫• وكتاب (أخبار أبي تمام) ألبي بكر الصولي‪.‬‬
‫• وكتاب (االنتصار من ظلمة أبي تمام)‪ .‬ألبي علي المرزوقي‪.‬‬
‫• وبعض هذه الكتب وصل إلينا في العصر الحديث‪ ،‬وبعضها لم يصل‪ ،‬ثم هذا الكتاب المهم الذي وضعه‬
‫اآلمدي في (الموازنة بين أبي تمام والبحتري)‪.‬‬
‫•ونجد خالفًا شبيهًا بهذا الخالف يثور بعد ذلك عند ظهور أبي الطيب المتنبي‪.‬‬
‫•لكن الخالف بين الخصومة التي نشأت حول أبي الطيب المتنبي‪ ،‬والخصومة التي نشأت حول‬
‫طرازا مختلفًا‪ ،‬ال يشبه أبا تمام تما ًما وال يشبه البحتري تما ًما‪.‬‬
‫ً‬ ‫مذهب أبي تمام أن المتنبي كان‬
‫•جاء المتن بي فمأل الدني ا وشغ ل الناس بشعره‪ ،‬ووجده أنص ار القدي م أن ه يُمك ن أ ن يرض ي ذوقه م‬
‫ويجدوا عنده ما يريدونه‪ ،‬كما وجد أنصار المحدث عنده ما يطلبونه‪ ،‬وكثر ُحسَّاد المتنبي‪.‬‬
‫•وكان ت الخصومة حول ه فيه ا كثي ر م ن الدوافع الشخصية الت ي ترجع إلى الهوى‪ ،‬وإل ى الحسد؛‬
‫ولذلك نجد القادة يقررون أن الخصومة حول المتنبي نشأت منذ اتصاله بسيف الدولة‪ ،‬وذيوع صيته‬
‫وإخماله ذكر الشعراء اآلخرين‪.‬‬
‫• ويرى المستشرق "بالشير" عن الحركة التي قامت حول المتنبي في بالد الحمدانيين‪ ،‬أنه أخذت تتكون حول‬
‫المتنبي شيًئا فشيًئا حلقة من المعجبين به‪.‬‬
‫• والحلقة التي أشار إليها بالشير كانت تضم شعراء وعلماء لغة‪ ،‬وظ َّل المتنبي موضع إعجاب وثناء من كثير‬
‫من الشعراء‪ ،‬واألدباء‪.‬‬
‫• وم ن علماء اللغ ة الذي ن كانوا معجبين بشع ر المتن بي ابن جن ي‪ ،‬وم ن الشعراء الذي ن كانوا معجبين بع د ذلك‬
‫بالمتنبي‪ ،‬وهو عالم وشاعر وناقد أبو العالء المعري‪.‬‬
‫• وم ن أس باب الحس د والغيرة ف ي ص دور كثي ر م ن معاص ريه‪ ،‬أ ن المتن بي كان عنده اعتداد بالنف س وإعجاب‬
‫وثقة‪.‬‬
‫• وبعض الوجهاء الذين كانوا يطمعون في أن يمدحهم المتنبي‪ ،‬ولم يمدحهم ثارت عليه نفوسهم‪.‬‬
‫• وانتهت هذه األحقاد عليه بإثارة الشبهات حوله وحول شعره‪ ،‬وتجريح هذا الشعر والغضّ من قيمته‪ ،‬واتهامه‬
‫بأنه سرق معاني شعره من غيره‪ ،‬وأكثر الذين عابوه كانوا من األدباء والشعراء الذين أخملهم المتنبي بإبداعه‪.‬‬
‫•والحقيقة أن الخصومة حول المتنبي أنتجت عد ًدا كبي ًرا من المؤلفات والكتب‪ ،‬منها مثاًل ‪:‬‬
‫•(اإلبانة عن سرقات المتنبي لف ً‬
‫ظا ومعنًى) للعميدي‪،‬‬
‫•و(الصبح المنبي عن حيثية المتنبي) للشيخ يوسف البديعي‪،‬‬
‫•و(الوساطة بين المتنبي وخصومه) لعلي بن عبد العزيز الجرجاني‪ .‬القاضي الجرجاني‬
‫•وظل ت الخص ومة حول المتن بي قائم ة بع د ذل ك‪ ،‬ولك ن ثائرة هذه الخص ومة هدأ ت بع د أ ن ذه ب‬
‫عصر المتنبي‪ ،‬وأصبح النقد الذي يدور حول شعر المتنبي أميل إلى اإلنصاف‪.‬‬
‫•فهذه المفارقة بين ذوق سائد وذوق جديد التي مثّلها الخالف بين أبي تمام والبحتري أواًل ‪ ،‬ثم الحيرة‬
‫واالختالف حول شع ر المتن بي بع د ذل ك‪ ،‬ك ل ذل ك أ َّدى إل ى إثراء الحرك ة النقدي ة ف ي العص ر العباس ي‪،‬‬
‫وأم ّدن ا هذا الجدل بالكثي ر م ن المؤلفات الت ي أثرت المكتب ة العربي ة ف ي النق د األدب ي‪ ،‬حول القضاي ا‬
‫المختلفة التي أثارتها هذه الخصومات كعمود الشعر‪ ،‬واللفظ والمعنى‪ ،‬والطبع والصنعة‪ ،‬والسرقات‪،‬‬
‫والبديع‪ ،‬واالستعارة‪ ،‬والقرب والبعد فيها‪ ،‬والمحسنات البديعية‪ ،‬وما يُستحسن وما يُعاب‪.‬‬
‫•وم ن حس ن الح ظ أنن ا نج د نقا ًدا منص فين يس تطيعون أ ن يق ّوموا الف ن الشعري لذات ه‪ ،‬وأ ن يحكموا‬
‫عل ى الشاع ر بمعزل ع ن هذا التجري ح الشخص ي‪ ،‬وم ن أفض ل هؤالء النقاد وأكثره م عداًل وإنص افًا‬
‫القاض ي الجرجان ي ص احب كتاب (الوس اطة بي ن المتن بي وخص ومه)‪ ،‬واآلمدي ص احب كتاب‬
‫(الموازنة بين الطائيين)‪.‬‬

You might also like