Professional Documents
Culture Documents
• ونح ن ال نري د أ ن نص ادر عل ى أذواق هؤالء العلماء؛ فق د كان هذا ه و الذوق الذي ُربّي ت علي ه أحاس يسهم
ومشاعرهم ،ومن أجل هذا كانوا يعجبون بالنموذج القديم في الشعر العربي.
• لكن هذا الترصد من علماء اللغة ورواتها للشعراء المحدثين عاد بالخير الكثير ،على الشعر العربي ،وعلى
الشعراء المحدثين أنفسهم؛ فقد اهتموا بحفظ اللغة ،واهتموا كذلك بشعرهم.
حرص ا شدي ًدا عل ى أ ن ينه ل م ن معي ن اللغ ة العربي ة الص افي ،فيتوج ه إل ى البادي ة،
ً • فأب و نواس كان يحرص
ويقيم بها حواًل كاماًل يحفظ هذه اللغة ،ويأخذها من أفواه البدو ،ويحفظ نماذجها القديمة.
• ولذلك قال الجاحظ عنه" :ما رأيت أح ًدا كان أعلم باللغة من أبي نواس ،وال أفصح لهجة مع حالوة ومجانبة
االس تكراه" .ويقول أب و عمرو الشيبان ي العال م اللغوي ع ن أ بي نواس" :لوال م ا أخ ذ في ه أب و نواس م ن الرف ث،
الحتججنا بشعره؛ ألنه محكم القول".
ض ا من أصل غير عربي ،من أصل فارسي ،وهو زعيم ض ا بشار بن برد ،وهو أي ً •وفعل ذلك أي ً
المحدثين ،ويُعلل بشار إلتقانه العربية بنشأته في بني عقيل ،وتب ِّديه أعوا ًما.
•على هذا النحو يمكن أن نفهم أثر علماء اللغة والنحو في الشعر في العصر العباسي ،وهو أثر
إيجابي تمثل في تحفيز الشعراء ودفعهم إلى المحافظة على لغتهم ،واالستكثار من محفوظهم الشعري
وعنايتهم به.
•فاألس لوب الذي غل ب إ ًذا ه و أس لوب قائ م عل ى مخزون م ن القدي م ،و ُع ّدة م ن الذوق الحضري
الجدي د ،أس لوب يحاف ظ عل ى مادة اللغ ة ومقوماته ا التص ريفية والنحوي ة ،ويالئ م بينه ا وبي ن حياة
العباسيين المتحضرة؛ بحيث تُنفى عنه ألفاظ العامة المبتذلة ،وألفاظ البدو الح ِ
ُوشيَّة.
•وكان م ن الشعراء نف ر يُس رفون عل ى أنفس هم ف ي النه ج عل ى أس اليب الرجاز المحشوة بأواب د
األلفاظ ،لكنه م كانوا يعدون نابي ن عل ى ذوق العص ر ،فالذوق الغال ب إ ًذا ه و هذا الذوق المعتدل الذي
استفاد من القديم ،وأضاف إليه الحديث.
ثانيا :الخصومة الحقيقية بين القدماء والمحدثين.
• ويبدو أن المسألة أصبحت بعد ذلك مواجهة بين القديم والحديث ،أو بين القدماء والمحدثين.
•الخصومة بين القدماء والمحدثين لم تُمثل ظاهرة واضحة في العصر العباسي إال بعد ظهور أبي
تمام ،ومذه ب أ بي تمام ،والموازن ة بي ن طريق ة أ بي تمام وطريق ة البحتري؛ عندئ ذ اشت َّد الجدل بي ن
أنصار الشعر القديم وأنصار الشعر المحدث.
•كان أبو تمام يمثل الشعراء المحدثين ،والبحتري يمثل طريقة العرب القديمة في الشعر.
•وم ع أ ن أب ا نواس س بقت ثورت ه عل ى الشك ل القدي م طريق ة أ بي تمام ،وتمرَّد عل ى بناء القص يدة
العربي ة وس خر م ن بدئه ا بالوقوف عل ى األطالل ،وذه ب إل ى بدء قص ائده بالحدي ث ع ن الخم ر؛ لك ن
الخصومة لم تك ن حا ّدة حول أبي نواس ،فل م تنشأ خص ومة حادة بي ن أنص ار القدي م وأنصار الحدي ث،
ويكون أبو نواس محورها.
• لأن دعوة أبي نواس –حسب رأي الدكتور محمد مندور -لم تكن من الناحية الفنية ضرورة حتمية ،وأن أبا
ت بجديد.
نواس لم يأ ِ
• وأنه لم يفعل غير أن حاز الشعر القديم ولم يستطع أن يأتي بطريقة جديدة؛ ألنه حافظ على الهياكل القديمة
للقصيدة مستبداًل ديباجة بأخرى.
• وأن دعوته إلى الحديث في موضوعات الخمر لم تستطع أن تحرك نفوس الجميع ،أي :المجتمع ،أو الشعراء.
• ويضاف إلى ذلك أن دعوة أبي نواس كانت مشوبة بروح الشعوبية والغضّ من شأن العرب وتقاليدهم.
• وأن معظم األغراض التي طرقها كان العرب قد سبقوا إليها ،وأن ما لم يسبقوا إليه كان شيًئ ا تافهً ا كالغزل
بالمذكر.
• كما أنه لم يساير مذهبه إلى النهاية ،بل كان يعود في مدائحه إلى مذاهب القدماء ترضيةً لممدوحيه ،وضمانًا
لنوالهم.
•الخص ومة الحقيقي ة بي ن القدماء والمحدثي ن إ ًذا قام ت حول مذه ب أ بي تمام ،فماذا كان مذه ب
أبي تمام؟
•مذهب أبي تمام رصده ابن المعتز في كتاب بعنوان (البديع) ،فالبديع إ ًذا هو مذهب أبي تمام.
•ول م يك ن البدي ع كان اخترا ًع ا م ن اختراعات أ بي تمام ،فالبدي ع موجود ف ي لغ ة العرب ،ف ي شع ر
الجاهليين ،في شعر اإلسالميين ،وفي القرآن الكريم الذي هو األسلوب المعجز في لغة العرب.
•لك ن أب ا تمام أس رف م ن هذا البدي ع وأكث ر حت ى خرج عل ى طريق ة العرب ،وأص بحت طريقت ه
معروف ة بهذا ،وم ن هن ا نش أ الخالف حول هذه الظاهرة ،وأص بح عندن ا خص ومة بي ن القدماء
والمحدثين محورها شعر أبي تمام.
•قال عبد هللا بن المعتز في كتابه (البديع)" :قد قدمنا في أبواب كتابنا هذا بعض ما وجدنا في القرآن
واللغ ة وأحادي ث رس ول هللا (ص) وكالم الص حابة واألعراب وغيره م ،وأشعار المتقدمي ن م ن الكالم
الذي س ماه المحدثون البدي ع؛ ليُعل م أ ن بشا ًرا ،ومس ل ًما ،وأب ا نواس ،وم ن تقيّله م وس لك س بيلهم ل م
يسبقوا إلى هذا الفن ،ولكنه كثر في أشعارهم ف ُعرف في زمانهم حتى سمي بهذا االسم ،فأعرب عنه
ود َّل عليه ،ثم إن حبيب بن أوس الطائي من بعدهم شغف به حتى غلب عليه ،وتفرغ فيه وأكثر منه،
فأحسن في بعض ذلك وأساء في بعض ،وتلك عقبى اإلفراط وثمرة اإلسراف".
•ف ي هذا الن ص إ ًذا يُقرر عب د هللا ب ن المعت ز أ ن البدي ع ل م يخترع ه أب و تمام اخترا ًع ا ،ب ل س بقه إلي ه
القرآ ن والحدي ث وشع ر المتقدمين .وأ ن أب ا تمام ُشغ ف بالبدي ع حت ى غل ب علي ه وتفرع في ه ،والمراد
بالبديع هنا :اإلكثار من االستعارة ،واإلكثار من الجناس وما يُسمى بعد ذلك الطباق والمقابلة .فأبو تمام
أكثر من هذه األلوان في شعره وكان يتعمدها تعم ًدا.
•باإلضافة إلى أنه كان يتصيد المعاني ويجري وراءها ،ويتعمد التعمق فيها واإلغراب ،فأصبح ألبي
تمام مذهب مخالف لمذهب الشعراء القدماء.
•وتنبه النقاد لهذه المالمح ،وتطرَّق الكالم إلى ما كان معتم ًدا في قصائد الشعر القديم من األوصاف،
و ُعرف ذلك بعمود الشعر ،وأصبح أبو تمام بمذهبه الجديد خار ًجا على عمود الشعر.
•واشت َّدت الخصومة بين أنصار أبي تمام وخصومه حتى ظهرت المؤلفات التي تعيب أبا تمام ،والتي
تنتصر ألبي تمام.
•ثم وجدنا من يتص َّدى للموازنة بين شعر أبي تمام وشعر البحتري ،ويجعل هذه الموازنة موضو ًع ا
لكتابه ،ويأخذ هذا الكتاب عنوانه منها ،وهو كتاب الموازنة بين الطائيين للناقد العربي القديم اآلمدي.
• إ ًذا :نشأ ت الخص ومة بي ن القدماء والمحدثي ن حول مذه ب أ بي تمام ،وكان س ببها أ ن أب ا تمام خرج إل ى
المحال باس تخدامه البدي ع وإفراط ه في ه ،وتعقب ه للمعان ي وتعمق ه فيه ا ،وق د جاء ذل ك على حس اب الص ياغة
السهلة التي ُعرفت بها طريقة القدماء ،والتي ُعرف بها البحتري.
• وتع َّدى األمر ذلك إلى التأليف ،وأصبحت عندنا كتب مهتمة بهذه الخصومة؛ منها:
• كتاب (البديع) لعبد هللا بن المعتز.
• وكتاب (الورقة) البن الجراح.
• وكتاب (أخبار أبي تمام) ألبي بكر الصولي.
• وكتاب (االنتصار من ظلمة أبي تمام) .ألبي علي المرزوقي.
• وبعض هذه الكتب وصل إلينا في العصر الحديث ،وبعضها لم يصل ،ثم هذا الكتاب المهم الذي وضعه
اآلمدي في (الموازنة بين أبي تمام والبحتري).
•ونجد خالفًا شبيهًا بهذا الخالف يثور بعد ذلك عند ظهور أبي الطيب المتنبي.
•لكن الخالف بين الخصومة التي نشأت حول أبي الطيب المتنبي ،والخصومة التي نشأت حول
طرازا مختلفًا ،ال يشبه أبا تمام تما ًما وال يشبه البحتري تما ًما.
ً مذهب أبي تمام أن المتنبي كان
•جاء المتن بي فمأل الدني ا وشغ ل الناس بشعره ،ووجده أنص ار القدي م أن ه يُمك ن أ ن يرض ي ذوقه م
ويجدوا عنده ما يريدونه ،كما وجد أنصار المحدث عنده ما يطلبونه ،وكثر ُحسَّاد المتنبي.
•وكان ت الخصومة حول ه فيه ا كثي ر م ن الدوافع الشخصية الت ي ترجع إلى الهوى ،وإل ى الحسد؛
ولذلك نجد القادة يقررون أن الخصومة حول المتنبي نشأت منذ اتصاله بسيف الدولة ،وذيوع صيته
وإخماله ذكر الشعراء اآلخرين.
• ويرى المستشرق "بالشير" عن الحركة التي قامت حول المتنبي في بالد الحمدانيين ،أنه أخذت تتكون حول
المتنبي شيًئا فشيًئا حلقة من المعجبين به.
• والحلقة التي أشار إليها بالشير كانت تضم شعراء وعلماء لغة ،وظ َّل المتنبي موضع إعجاب وثناء من كثير
من الشعراء ،واألدباء.
• وم ن علماء اللغ ة الذي ن كانوا معجبين بشع ر المتن بي ابن جن ي ،وم ن الشعراء الذي ن كانوا معجبين بع د ذلك
بالمتنبي ،وهو عالم وشاعر وناقد أبو العالء المعري.
• وم ن أس باب الحس د والغيرة ف ي ص دور كثي ر م ن معاص ريه ،أ ن المتن بي كان عنده اعتداد بالنف س وإعجاب
وثقة.
• وبعض الوجهاء الذين كانوا يطمعون في أن يمدحهم المتنبي ،ولم يمدحهم ثارت عليه نفوسهم.
• وانتهت هذه األحقاد عليه بإثارة الشبهات حوله وحول شعره ،وتجريح هذا الشعر والغضّ من قيمته ،واتهامه
بأنه سرق معاني شعره من غيره ،وأكثر الذين عابوه كانوا من األدباء والشعراء الذين أخملهم المتنبي بإبداعه.
•والحقيقة أن الخصومة حول المتنبي أنتجت عد ًدا كبي ًرا من المؤلفات والكتب ،منها مثاًل :
•(اإلبانة عن سرقات المتنبي لف ً
ظا ومعنًى) للعميدي،
•و(الصبح المنبي عن حيثية المتنبي) للشيخ يوسف البديعي،
•و(الوساطة بين المتنبي وخصومه) لعلي بن عبد العزيز الجرجاني .القاضي الجرجاني
•وظل ت الخص ومة حول المتن بي قائم ة بع د ذل ك ،ولك ن ثائرة هذه الخص ومة هدأ ت بع د أ ن ذه ب
عصر المتنبي ،وأصبح النقد الذي يدور حول شعر المتنبي أميل إلى اإلنصاف.
•فهذه المفارقة بين ذوق سائد وذوق جديد التي مثّلها الخالف بين أبي تمام والبحتري أواًل ،ثم الحيرة
واالختالف حول شع ر المتن بي بع د ذل ك ،ك ل ذل ك أ َّدى إل ى إثراء الحرك ة النقدي ة ف ي العص ر العباس ي،
وأم ّدن ا هذا الجدل بالكثي ر م ن المؤلفات الت ي أثرت المكتب ة العربي ة ف ي النق د األدب ي ،حول القضاي ا
المختلفة التي أثارتها هذه الخصومات كعمود الشعر ،واللفظ والمعنى ،والطبع والصنعة ،والسرقات،
والبديع ،واالستعارة ،والقرب والبعد فيها ،والمحسنات البديعية ،وما يُستحسن وما يُعاب.
•وم ن حس ن الح ظ أنن ا نج د نقا ًدا منص فين يس تطيعون أ ن يق ّوموا الف ن الشعري لذات ه ،وأ ن يحكموا
عل ى الشاع ر بمعزل ع ن هذا التجري ح الشخص ي ،وم ن أفض ل هؤالء النقاد وأكثره م عداًل وإنص افًا
القاض ي الجرجان ي ص احب كتاب (الوس اطة بي ن المتن بي وخص ومه) ،واآلمدي ص احب كتاب
(الموازنة بين الطائيين).