You are on page 1of 8

‫معالم السياسة الدينية يف املغرب‬

‫برزت أولى معالم إعادة النظر يف السياسة الدينية املتبعة يف املغرب بعد أحداث ‪ 11‬سبتمبر‪ /‬أيلول ‪ 2001‬وما أعقبها من ضغوط خارجية إضافة إلى بعض‬
‫املعطيات املحلية‪ ،‬ولكن مبادرات التغيير الواسعة أطلقت بعد تفجيرات الدار البيضاء يف ‪ 16‬مايو‪/‬أيار ‪.2003‬‬

‫منتصر حمادة‬
‫إشراف‪ :‬مصطفى املرابط‬

‫من البديهي القول‪ :‬إن الخوض يف املستجدات امليدانية التي طالت الشأن الديني يف املغرب ليس باألمر الهين؛ نظًرا لتقاطع املعطيات املحلية والخارجية‬
‫من جهة‪ ،‬وتداخل األبعاد السياسية واإلستراتيجية والدينية‪ ،‬من جهة أخرى‪ .‬إن استحضار هذه الحالة املعقدة سيساعد ىلع فهم وقراءة الخارطة الدينية‬
‫الجديدة يف املغرب‪ ،‬فضًال عن فهم وتحليل العديد من املبادرات والقرارات التي مّهدت لرسم معالم سياسة دينية جديدة‪ ،‬تستهدف إعادة هيكلة الحقل‬
‫الديني املغربي يف اتجاه إحداث قطيعة نسبية مع أهم معالم تدبير الشأن الديني يف عهد العاهل املغربي الراحل‪ ،‬امللك الحسن الثاني‪ ،‬وبما يتناسب‬
‫والتحوالت املحلية واإلقليمية والعاملية‪.‬‬

‫خصوصية السياق املغربي‬


‫الصدمات األولى بين الدولة والحركة اإلسالمية يف العهد الجديد‬
‫مقتضيات ما بعد أحداث ‪ 11‬سبتمبر‪/‬أيلول ‪2001‬‬
‫معالم السياسات الدينية الجديدة‬
‫سلوك التيارات اإلسالمية السياسية‬
‫إكراهات املستجدات الداخلية‬
‫التأثيرات الخارجية ىلع التوازنات الداخلية‬
‫خالصة‬

‫خصوصية السياق املغربي‬

‫تتحّدد عالقة الدولة بالدين يف السياق املغربي من خالل الدستور املغربي الذي يؤسس لخصوصية عربية وإسالمية يف "التوفيق" بين "املشروعية‬
‫السياسية" و"الشرعية الدينية"؛ فزيادة ىلع إقرار الدستور املغربي للهوية اإلسالمية للدولة(‪- )1‬ىلع غرار أغلب الدول اإلسالمية التي نصت ىلع ذلك‪ -‬تتمّيز‬
‫الحالة املغربية بنوع من الخصوصية ُأجملت يف الفصل التاسع عشر من الدستور‪ ،‬والذي ينّص ىلع أن "امللك أمير املؤمنين واملمثل األسمى لألمة‪ ،‬ورمز‬
‫وحدتها‪ ،‬وضامن دوام الدولة واستمرارها‪ ،‬وهو حامي حمى الدين"‪.‬‬

‫بالنتيجة‪ُ ،‬تحّدد هذه النصوص‪ ،‬معالم عالقة الدين بالدولة يف السياق املغربي‪ ،‬ما دامت ُمجّسدة فقط يف مؤسسة إمارة املؤمنين‪ ،‬وبالتالي املؤسسة‬
‫امللكية‪ ،‬وهو التجسيد الذي ُيعتبر عائًقا دستورًيا أمام مختلف الحركات اإلسالمية التي تسعى إلى منافسة الدولة (إمارة املؤمنين واملؤسسة امللكية) ىلع‬
‫"تمثيل اإلسالم"‪.‬‬

‫ويمكن القول‪ :‬إن هذه السمة الغالبة يف عالقة الدولة بالدين هي التي حكمت طبيعة العالقة القائمة بين الدولة والحركات اإلسالمية ىلع وجه العموم؛ فمنذ‬
‫سبعينيات القرن املاضي تعرف هذه العالقة مًدا وجزًرا‪ ،‬وتتراوح بين التسامح النسبي والتقييد‪ ،‬رغم التطور امللحوظ الذي عرفه مسار عموم التيار اإلسالمي‬
‫باملغرب‪ ،‬الذي يشهد له كثير من املراقبين بنزوعه نحو تغليب خيار العمل السلمي ونبذ العنف‪ ،‬باإلضافة إلى ميله نحو التكيف مع ما يعتبرونه "خصوصية‬
‫مغربية"‪ ،‬والتي تتجلى بالخصوص ىلع املستوى العقدي‪-‬املذهبي‪ ،‬والسياسي‪ ،‬والثقايف‪-‬االجتماعي‪.‬‬

‫وإذا اعتبرنا فترة السبعينيات من القرن املاضي هي الفترة التي عرفت بروز أشكال تنظيمية للعمل اإلسالمي؛ فإننا سنجد ىلع رأسها جماعة "الشبيبة‬
‫اإلسالمية"‪ ،‬التي سرعان ما ستدخل يف صراع مع الدولة بعد اتهامها باغتيال أحد قيادات "االتحاد االشتراكي للقوات الشعبية"‪ ،‬عمر بن جلون؛ فبعد حملة‬
‫االعتقاالت يف صفوفها وفرار زعيمها ‪-‬عبد الكريم مطيع‪ -‬إلى الخارج‪ ،‬عرفت الجماعة مراجعات أفضت بها إلى تأسيس كيان جديد‪ُ ،‬سمي وقتها جمعية‬
‫"الجماعة اإلسالمية"‪ ،‬كإطار دعوي وثقايف‪ ،‬وقد ظل هو بدوره يتقلب يف أطوار استقرت به يف نهاية املطاف نحو تأسيس حركة "التوحيد واإلصالح"‪ .‬ولكن لم‬
‫يكن هذا اإلطار كافًيا لالستجابة لطموحات حركة‪ ،‬ظل األمل يحدوها لتجاوز العمل الدعوي‪ ،‬والبحث عن واجهة تعّبر من خاللها عن خياراتها السياسية‪ .‬وهذا ما‬
‫تحقق لها عندما التحق لفيف معتبر من أهم أطر الحركة بحزب "الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية" بقيادة عبد الكريم الخطيب سنة ‪ ،1996‬ليتم بعد‬
‫سنتين من تجربة االندماج هذه‪ ،‬تغيير اسم الحزب ليصبح "حزب العدالة والتنمية"؛ وذلك يف (‪.)1998‬‬

‫ويف بداية السبعينيات أيًضا برزت اإلرهاصات األولى ملا سُيعرف بجماعة "العدل واإلحسان"‪ ،‬التي لم ُيعترف بها رسمًيا حتى اليوم‪ ،‬بسبب مواقفها من الشرعية‬
‫الدينية إلمارة املؤمنين‪ ،‬وبالتالي الشرعية السياسية للمؤسسة امللكية‪ .‬وقد سبق ملرشدها‪ ،‬عبد السالم ياسين‪ ،‬أن بعث برسالة "ُنصح" إلى امللك الراحل‬
‫الحسن الثاني (رسالة "اإلسالم أو الطوفان" سنة ‪)1974‬؛ فتسببت بالزج به يف مستشفى األمراض العقلية واإلقامة الجبرية لسنوات طويلة)‪ ،‬وكذلك بعث ياسين‬
‫برسالة أخرى إلى امللك الحالي محمد السادس (رسالة "إلى من يُهّمه األمر"‪ ،‬يف ‪ 28‬يناير‪/‬كانون الثاني ‪ )2000‬دعاه فيها إلى "التوبة العمرية"‪ ،‬وقوبلت رسالته‬
‫برد عادي‪.‬‬

‫وبجانب هذا الطيف اإلسالمي الحركي‪ ،‬برز طيف آخر‪ ،‬أصبح ُيعرف بالتيار السلفي‪ ،‬وهو تيار متشّعب يمكن تصنيفه إلى تيارين أو شقين بارزين‪:‬‬

‫أل‬ ‫أ‬ ‫أل‬


‫األول‪" :‬السلفية العلمية"‪ ،‬ويعمل يف املؤسسات الدينية الرسمية (وخاصة يف املجالس العلمية) أو خارج هذه املؤسسات‪ ،‬تحت رقابة األجهزة‬
‫األمنية واإلدارة الترابية‪ ،‬ويوصف بالعلمية يف مقابل تيار "السلفية الحركية"‪.‬‬

‫الثاني‪" :‬السلفية الحركية"‪ ،‬أو ما اصُطلح عليه إعالمًيا أوًال‪ ،‬ثم أمنًيا فيما بعد (بعد منعطف أحداث الحادي عشر من سبتمبر‪/‬أيلول ‪ ،)2001‬بتيار‬
‫"السلفية الجهادية"‪.‬‬

‫وقد تكون التصريحات واملبادرات التي صدرت عن رموز هذا التيار (أي السلفية الجهادية) بعد هذه األحداث مباشرة‪ ،‬هي السبب الرئيس يف مراجعة صَّناع القرار‬
‫الديني واألمني املغربي ألهم معالم السياسية الدينية ‪-‬يف حقبة "العهد الجديد"‪ -‬وطرق تنفيذها‪.‬‬

‫الصدمات األولى بين الدولة والحركة اإلسالمية يف العهد‬

‫الجديد‬

‫مع صعود العاهل املغربي الحالي‪ ،‬امللك محمد السادس إلى سدة الحكم‪ ،‬لم يالحظ املتتبعون والباحثون أية تطورات نوعية أو مستجدة بخصوص املعالم‬
‫الكبرى لتدبير الشأن الديني‪ ،‬خاصة أنه تم اإلبقاء ىلع وزير األوقاف والشؤون الدينية السيد عبد الكبير العلوي املدغري‪ ،‬ووزير الداخلية السيد إدريس البصري‪،‬‬
‫وتكمن أهمية هذين املنصبين يف كون الوزارتين سياديتين وتابعتين مباشرة للتدبير امللكي‪ ،‬وليس للمؤسسة الحكومية‪.‬‬

‫كان ىلع املتتبع املغربي انتظار صدمة أحداث ‪ 11‬سبتمبر‪ /‬أيلول ‪ ،2001‬لتبرز أولى معالم مراجعة وإعادة النظر يف السياسة الدينية املتبعة‪ .‬وال شك أن‬
‫الضغوطات الخارجية (األميركية تحديًدا) التي جاءت بعد هذه األحداث الخطيرة‪ ،‬فضًال عن املعطيات املحلية‪ ،‬عّجلت بصدور قرارات أولية وجزئية‪ ،‬زعزعت‬
‫السياسات الدينية املتبعة طيلة عهد امللك الراحل الحسن الثاني‪ ،‬األمر الذي اعتبره كثير من املتتبعين تمهيًدا ملبادرات أكبر وأوسع‪ ،‬بدأ تنزيلها مباشرة بعد‬
‫صدمة تفجيرات الدار البيضاء يف ‪ 16‬مايو‪/‬أيار ‪.2003‬‬

‫فقد كشفت صدمة هجمات نيويورك وواشنطن لصناع القرار األمني والسياسي والديني باملغرب‪ ،‬حجم تغلغل تيار "السلفية الجهادية" وتبعاته يف األوساط‬
‫السلفية باملغرب‪ .‬فما اصُطِلح عليه آنذاك بـ"فتوى علماء املغرب حول دخول املغرب ودول العالم اإلسالمي يف الحلف الذي دعت إليه أميركا ضد اإلرهاب"‪،‬‬
‫واملؤَّرخة يف ‪ 18‬سبتمبر‪ /‬أيلول ‪ ،2001‬والتي وّقع عليها تسعة عشر عاًملا من علماء املؤسسة الدينية الرسمية (من مجالس علمية ودار الحديث الَحَسنية) إلى‬
‫جانب عدد من الوجوه السلفية‪ ،‬شَّكلت أول صدمة لصناع القرار هؤالء؛ حيث اعتبرت الفتوى هذه أنه "ال يجوز دخول املغرب‪ ،‬حكومة وشعًبا‪ ،‬يف الحلف الذي‬
‫دعت إليه الواليات املتحدة األميركية ضد اإلرهاب"‪ ،‬كما استنكرت "ما قامت به وزارة األوقاف من قلب النصوص الشرعية‪ ،‬وإلباس الحق بالباطل يف خطبة الجمعة‬
‫السياسية التي أجبرت خطباء مساجد املغرب ىلع إلقائها بتاريخ الجمعة ‪ 14‬سبتمبر‪ /‬أيلول ‪ 2001‬بمناسبة األحداث التي وقعت يف أميركا‪ ،‬والذي ُيعتبر عدواًنا‬
‫ىلع حرية األئمة وخطباء املساجد‪ ،‬وتحريًفا لكالم الله تعالى وكالم رسوله صَّلى الله عليه وسَّلم"‪.‬‬

‫وتال فتوى العلماء املغاربة السابقة الذكر‪ ،‬صدور تصريحات لبعض رموز التيار "السلفي الجهادي"‪ ،‬لم تكن تتردد يف اإلعالن عن التأييد الشرعي والصريح لتنظيم‬
‫"القاعدة"‪ ،‬من قبيل "اإلفتاء" بأن "نصرة تنظيم القاعدة فرض ىلع كل املسلمين"‪ ،‬وأن "الشيخ أسامة بن الدن ُمجّدد هذا القرن‪ ،‬وَفعل ما يجب أن يفعله كل‬
‫مسلم"‪ ،‬واإلعالن عن تأييد ضرب الواليات املتحدة األميركية وغيرها من التصريحات التي نّبهت صناع القرار األمني إلى أن املغرب أصبح يجني ثمار "استيراد"‬
‫األدبيات السلفية من املشرق طيلة العقود املاضية‪ ،‬وىلع عهد وزير األوقاف والداخلية السابقين‪ ،‬يف إطار توظيف التيار السلفي واإلسالمي عموًما ضد‬
‫التيارات الشيوعية واالشتراكية التي كانت تعارض املؤسسة امللكية الحاكمة‪.‬‬
‫كان وزير األوقاف والشؤون اإلسالمية السابق‪ ،‬عبد الكبير العلوي املدغري‪ ،‬أول ضحايا هذه التطورات الدولية واملحلية؛ حيث تمت إقالته وتعويضه بأحمد‬
‫التوفيق‪ ،‬املحسوب ىلع إحدى الطرق الصوفية‪ .‬فبدا واضًحا للمراقبين أن الدولة لجأت إلى توظيف إحدى مقومات التدين املغربي‪ ،‬واُملجّسد يف هذه الحالة‬
‫بالتدين الطرقي‪/‬الصويف‪ ،‬من أجل االنخراط يف "حرب طويلة" املدى ضد التدين السلفي (يف شقيه العلمي‪/‬السلمي‪ ،‬والحركي‪/‬الجهادي)‪ ،‬الذي اُتهم من ِقبل‬
‫صناع القرار الديني بأنه بعيد عن طبائع التدين املغربي السائدة منذ قرون مضت‪ ،‬والتي اختزلها يوًما َنْظم تعليمي البن عاشر(‪ )2‬جاء فيه‪ :‬يف عقد األشعري‬
‫وفقه مالك‪ /‬ويف طريقة الجنيد السالك‪.‬‬

‫مقتضيات ما بعد أحداث ‪ 11‬سبتمبر‪/‬أيلول ‪2001‬‬

‫تطورت األمور بشكل مثير وجّلي مع صدمة اعتداءات الدار البيضاء (مايو‪/‬أيار ‪ ،)2003‬والتي كانت حدًثا صادًما أمام املراقبين املحليين واإلقليميين والغربيين‪،‬‬
‫لإلعالن الرسمي عن نهاية ما كان ُيصطلح عليه بـ"االستثناء املغربي"‪ ،‬وُيقصد به آنذاك‪ ،‬خلو املغرب من أية اعتداءات دموية صادرة عن حركات أو جماعات‬
‫إسالمية‪ ،‬ىلع غرار ما عصف بالعديد من الدول العربية واإلسالمية ىلع حد سواء‪ .‬وتم ىلع إثر هذه األحداث اتخاذ جملة من التدابير‪ ،‬خاصة إصدار قانون‬
‫ملكافحة اإلرهاب‪ ،‬ومعه قانون آخر يروم تنظيم التعليم اإلسالمي العتيق‪ ،‬إضافة إلى إغالق عدد من املصليات الصغرى‪ .‬وعموًما‪ ،‬يمكن القول‪ :‬إن أغلب‬
‫السياسات الدينية املتبعة تم تسطيرها ىلع خلفية صدمة اعتداءات الدار البيضاء‪ ،‬والتي راهنت ىلع محورين اثنين ىلع األقل‪:‬‬

‫‪ .1‬رسم إستراتيجية جديدة للدولة‪ ،‬طويلة املدى تستهدف جذور "العنف واإلرهاب"‪ ،‬من خالل الواجهات االجتماعية واالقتصادية والتعليمية والدينية‪.‬‬
‫ويف هذا جواب ىلع القراءات التي ربطت اعتداءات الدار البيضاء بهذه الواجهات‪.‬‬
‫‪ .2‬استقرار املؤسسة امللكية من خالل التأكيد ىلع مؤسسة "إمارة املؤمنين"‪ ،‬وإعادة االعتبار لها وملقتضياتها‪ .‬ويف هذا رسالة واضحة‪ ،‬سواء‬
‫بالنسبة لإلسالميين بحكم استنادهم إلى املرجعية اإلسالمية‪ ،‬أو بالنسبة للعلمانيين بحكم مطالبتهم بفصل الدين عن الدولة‪ .‬وهذا ما نستشفه‬
‫من الخطابات امللكية ملا بعد اعتداءات الدار البيضاء‪ ،‬حيث أكد أحدها (‪ 30‬يوليو‪/‬تموز ‪ )2003‬ىلع مرجعية إمارة املؤمنين‪ ،‬ونص ذلك‪" :‬باعتبار أمير‬
‫املؤمنين مرجعية دينية وحيدة لألمة املغربية‪ ،‬فال مجال لوجود أحزاب أو جماعات تحتكر لنفسها التحدث باسم اإلسالم أو الوصاية عليه؛‬
‫فالوظائف الدينية هي من اختصاص اإلمامة العظمى املنوطة بنا بمساعدة مجلس أىلع ومجالس إقليمية للعلماء"؛ مثلما أكد يف نفس الخطاب‬
‫ىلع أن "عالقة الدين بالدولة محسومة يف ظل تنصيص الدستور ىلع أن اململكة املغربية دولة إسالمية‪ ،‬وأن أمير املؤمنين مؤتمن ىلع حماية‬
‫الدين"‪.‬‬

‫معالم السياسات الدينية الجديدة‬

‫انطلقت سياسة ما أصبح ُيعرف يف املغرب بإعادة هيكلة الحقل الديني وإصالحه‪ ،‬بفتح مجموعة من املشاريع‪ ،‬شملت قطاعات متعددة‪:‬‬

‫املؤسسات الدينية‬
‫جاءت أولى املحطات املؤسساتية للسياسة الدينية عبر إصدار ظهير (مرسوم ملكي) يف ‪ 4‬ديسمبر‪/‬كانون األول ‪ 2003‬يف شأن اختصاصات وتنظيم وزارة‬
‫األوقاف والشؤون اإلسالمية‪ ،‬وظهير آخر يف ‪ 22‬إبريل‪/‬نيسان ‪ 2004‬بإعادة تنظيم املجالس العلمية‪.‬‬

‫وبعد هذه القرارات‪ ،‬جاء رد االعتبار املؤسساتي لرابطة علماء املغرب‪ ،‬وإضفاء اللقب امللكي ىلع النسخة الجديدة من املؤسسة التي تم تغيير اسمها‪،‬‬
‫وأصبحت تحمل اسم "الرابطة املحمدية للعلماء" من خالل تعيين أحمد عبادي ىلع رأس هذه املؤسسة‪ .‬باإلضافة إلى تجديد االهتمام بمؤسسة ال تقل عنها‬
‫أهمية‪ ،‬وهي دار الحديث الَحَسنية‪ ،‬وقد تم تعيين أحمد الخمليشي كمدير جديد لهذه املؤسسة‪ ،‬باإلضافة إلى إحداث مجلس علمي للجالية املغربية املقيمة‬
‫بالخارج‪.‬‬
‫اإلعالم‬
‫صاحب هذا الشق السياسي الرسمي شق آخر ال يقل أهمية عنه‪ ،‬وهو الشق اإلعالمي؛ فقد تَمّيزت السياسة الدينية الجديدة بإطالق "قناة محمد السادس للقرآن‬
‫الكريم"‪ ،‬ومعها "إذاعة محمد السادس"‪ ،‬كما تم أيًضا إطالق املوقع اإللكتروني لوزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية‪ ،‬وموقع الرابطة املحمدية للعلماء‪ ،‬وموقع‬
‫املجلس العلمي األىلع‪ ،‬و"إحياء" الئحة من املجالت والدوريات التي تصدر عن بعض املؤسسات الرسمية الدينية‪ ،‬باإلضافة إلى إطالق مجموعة من البرامج ذات‬
‫الطابع الديني يف مختلف القنوات التلفزيونية املغربية‪.‬‬

‫التكوين والتأطير‬
‫لقد تم يف هذا السياق إطالق خطة "ميثاق العلماء"‪ ،‬والتي تشمل خصوًصا املجلس العلمي األىلع واألئمة واملساجد إلى جانب الجاليات املغربية املقيمة‬
‫بالخارج تأسيًسا ىلع خطاب ملكي ُألقي يف ‪ 27‬سبتمبر‪/‬أيلول ‪2008‬؛ فخالل ترؤسه للمجلس العلمي األىلع‪ ،‬دعا من خالله إلى تفعيل خطة "ميثاق العلماء"‬
‫وفق برنامج محدد‪ ،‬يشرف عليه املجلس العلمي األىلع‪ ،‬ويقوم ىلع التعبئة الجماعية‪ ،‬والخطاب "الديني املستنير"‪ ،‬قبل صدور تصريح عن وزير األوقاف‬
‫والشؤون اإلسالمية أحمد التوفيق‪ ،‬أقّر من خالله أن "أمير املؤمنين اختار (ميثاق العلماء) ليكون محور ومركز خطابه السامي خالل ترؤس جاللته للدورة العادية‬
‫للمجلس العلمي األىلع؛ نظًرا لألهمية التي يتمتع بها العلماء ودورهم يف حفظ العهد القائم بين جاللته وبين األمة"‪ ،‬مضيًفا أن هذا امليثاق عبارة عن عقد‬
‫"يلزم العلماء بمساعدة األمة يف حماية دينها وملتها‪ ،‬وأن ال يتركوا مجاًال للتشويش ىلع العقيدة"‪ ،‬حسب ما جاء يف تصريح أدلى به أحمد التوفيق خالل‬
‫برنامج "ضيف خاص" بثته القناة التلفزيونية الثانية يوم ‪ 30‬سبتمبر‪/‬أيلول ‪.2008‬‬

‫أما مجال اإلفتاء‪ ،‬فقد "عرف بدوره تجديًدا‪ ،‬حيث اسُتحدثت لدى املجلس العلمي األىلع الهيئة العلمية املكلفة باإلفتاء‪ ،‬والتي "تختص وحدها بإصدار الفتاوى‬
‫الشرعية‪ ،‬صيانة لها من تطاول الخارجين عن اإلطار املؤسسي الشرعي إلمارة املؤمنين‪ ،‬الذي نحن مؤتمنون عليه"‪ ،‬بتعبير العاهل املغربي يف خطاب ألقاه‬
‫خالل ترؤسه للمجلس العلمي األىلع بتطوان (شمال املغرب) يوم ‪ 27‬سبتمبر‪/‬أيلول ‪ ،2008‬وتختص الهيئة "وحدها دون غيرها بإصدار الفتاوى يف القضايا ذات‬
‫الصبغة العامة‪ ،‬ومن مقاصد هذه الهيئة تفعيل االجتهاد الجماعي يف الوقائع والنوازل املستجدة‪ ،‬وتحصين الفتوى من الدخالء الذين ال علم لهم"‪ ،‬بتعبير‬
‫محمد يسف‪ ،‬الكاتب العام للمجلس العلمي األىلع‪.‬‬

‫ولعل الحدث األبرز هو إشراك املرأة يف مجاالت التكوين والتأطير الدينيين‪ ،‬وذلك بتدشين ورش عمل لتكوين املرشدات الدينيات‪ .‬فضًال عن اختيار امرأة لعضوية‬
‫املجلس العلمي األىلع‪ ،‬وإدماج نساء أخريات يف املجالس العلمية املحلية‪ ،‬كما عّين العاهل املغربي ‪ 40‬رئيًسا جديًدا للمجالس العلمية خالل سنة ‪،2009‬‬
‫وأعلن خالل خطاب ألقاه يف ‪ 27‬سبتمبر‪/‬أيلول عن رفع عدد املجالس العلمية من ‪ 30‬إلى ‪ 70‬مجلًسا بهدف "تحقيق سياسة القرب الديني من املواطنين‪،‬‬
‫وتعزيز املساهمة الفاعلة للعلماء يف املسار اإلصالحي والتحديثي‪ ،‬الخاص بتأهيل الشأن الديني"‪.‬‬

‫وُيالَحظ أن تعامل صناع القرار الديني مع موضوع علماء املؤسسات الرسمية‪ ،‬قد تمّيز باالنتقال من مرحلة "التأهيل"‪ ،‬نحو مرحلة "القرب"‪ ،‬نظرًيا ىلع األقل؛ ألنه‬
‫عملًيا ال زال هناك العديد من التحديات الذاتية والعاملية التي تعوق الحديث عن تأهيل نوعي رصين ملؤسسة العلماء يف مغرب "العهد الجديد"‪.‬‬

‫فقد كانت الدفعة األولى من اإلصالحات التي طالت إعادة هيكلة الشأن الديني‪ ،‬يف الشق الخاص بالعلماء‪ ،‬وحملت عنوان "التأهيل"‪ ،‬من منطلق أن إعادة‬
‫الهيكلة تلك‪ ،‬كانت تتطلب بالدرجة األولى رسم معالم الطريق ووضع االختيارات الكبرى للدولة‪ ،‬يف حين جاءت املرحلة الثانية‪ ،‬تحت شعار "القرب"‪ ،‬يف ما ُيشبه‬
‫إقراًرا ملكًيا بحتمية التأسيس لنوع من التقييم العملي لتلك التجربة بعد أربع سنوات من عمرها‪ ،‬وذلك عبر التأكيد ىلع الال مركزية يف املؤسسات الدينية‪ ،‬من‬
‫خالل إعادة النظر يف خريطة انتشار املجالس العلمية املحلية وتعميمها‪.‬‬

‫سلوك التيارات اإلسالمية الرئيسية‬

‫يمكن إيجاز أهم معالم تفاعل الحركات اإلسالمية املغربية مع تدبير الشأن الديني ‪-‬وقبله الشأن السياسي‪ -‬يف توجهين بارزين‪ُ ،‬يهيمنان ىلع أداء اإلسالميين‬
‫املغاربة بشكل عام‪:‬‬
‫هناك أوًال توجه نحو املشاركة يف املؤسسات الرسمية‪ ،‬سياسية كانت أم دينية‪ ،‬والقائم أساًسا ىلع اإلقرار بشرعية املؤسسة امللكية ومعها‬
‫منظومة إمارة املؤمنين (إضافة طبًعا إلى نبذ اللجوء إلى العنف)‪ ،‬وهو الشعار الذي يميز أداء حركة "التوحيد واإلصالح" التي تعتبر النواة الصلبة‬
‫لحزب العدالة والتنمية‪ ،‬فهذا التيار إضافة إلى مشاركته يف العمل السياسي‪ ،‬نجده مندمًجا أيًضا يف املؤسسات الدينية الرسمية‪ ،‬وخصوًصا يف‬
‫املجالس العلمية املحلية‪ ،‬وفوقها‪ ،‬املجلس العلمي األىلع‪ ،‬الذي يضم قيادات سابقة يف حركة "التوحيد واإلصالح"‪.‬‬

‫يف مقابل التيار اإلسالمي املشارك يف العمل السياسي الشرعي‪ ،‬واملنخرط يف املؤسسات الدينية الرسمية‪ ،‬نجد جماعة "العدل واإلحسان"‪ ،‬غير‬
‫املعترف بها رسمًيا‪ ،‬والتي أصبحت مواقفها تجاه أحداث الساحة الدينية والسياسية مثيرة ومباشرة‪.‬‬

‫يالحظ أن ُمجَمل ردود الفعل والتعليقات الصادرة عن رموز الجماعة تصّب يف نقد أداء املؤسسة الدينية الرسمية والتقليل من دورها (كاملجلس العلمي‬
‫األىلع¬)‪ ،‬وتوجيه انتقادات حادة لـ "مؤسسة ال تواكب قضايا العصر"‪ ،‬بتعبير فتح الله أرسالن‪ ،‬الناطق الرسمي باسم الجماعة‪.‬‬

‫ويحيلنا الحديث عن التيارات اإلسالمية التي تشتغل خارج العمل السياسي إلى الحديث عن حركات "اإلسالم املغربي غير الرسمي"‪ ،‬سواء تعَّلق األمر بالتيارات‬
‫"السلفية" (العلمية والدينية)‪ ،‬أو العلماء والدعاة املستقلين‪ ،‬من الذين يحظون بمتابعة جماهيرية نوعية عبر أشرطة األقراص املدمجة أو املؤلفات أو املواقع‬
‫اإللكترونية‪ ،‬وقد يكون االنتماء للتيار السلفي املوصوف بالوهابي القاسم املشترك بين هؤالء‪ ،‬بما يفسر سعي صناع القرار للتعامل مع هذه التيارات‪ ،‬سواء تعلق‬
‫األمر بتبني املقاربة املؤسساتية‪ ،‬عبر إدماج هؤالء يف مؤسسات الدولة (كما هو الحال مع نموذج تيار "السلفية العلمية")‪ ،‬أو تبني املقاربة األمنية الصارمة‬
‫(بالنسبة لتيار "السلفية الجهادية")‪.‬‬

‫إكراهات املستجدات الداخلية‬

‫كانت هذه أبرز معالم السياسة الدينية طيلة "العهد الجديد" اللصيق بحقبة حكم امللك محمد السادس‪ ،‬ولعل بروز الئحة من املستجدات امليدانية‪ ،‬محلًيا‬
‫وعاملًيا‪ ،‬يقف وراء طرح العديد من األسئلة واالستفسارات من لدن الباحثين واملتتبعين لقضايا الشأن الديني‪ ،‬ليس يف املغرب وحسب‪ ،‬ولكن أيًضا يف الوطن‬
‫العربي ويف بعض مراكز البحث األوروبية واألميركية‪.‬‬

‫ويوجد ىلع رأس هذه املستجدات‪ ،‬جملة من التحديات تكشف عنها‪ ،‬بين الفينة واألخرى‪ ،‬بعض التصريحات الرسمية‪ ،‬كتلك التي أكد عليها البيان الختامي‬
‫ألعمال الدورة العاشرة للمجلس العلمي األىلع ‪-‬والتابع للوزارة الوصية ىلع الشأن الديني‪ ،‬أي وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية‪ ،‬والذي انعقد يف منتصف إبريل‪/‬‬
‫نيسان ‪-2010‬؛ حيث اعتبر أن أهم التحديات تكمن يف ثالثي "التشيع والتنصير والسلوكيات املنحرفة"‪ .‬ويف سياق مقتضيات هذه التحديات‪ ،‬برزت خالل السنين‬
‫األخيرة جملة من التحديات املحلية املرتبطة بالتحدي العلماني‪ ،‬يف شقه السياسي واملدني واإلعالمي يف آن واحد‪ ،‬لتنضاف إلى التحدي العقدي املرتبط‬
‫خصوًصا بالتشيع والتنصير‪ ،‬ىلع اعتبار أنهما لصيقان بمشاريع خارجية‪.‬‬

‫فاملجموعة اإلعالمية "تيل كيل" مثًال‪ ،‬والتي ُتصدر أسبوعية "نيشان" بالعربية و"تيل كيل" بالفرنسية‪ ،‬أصبحت بمثابة "الناطق اإلعالمي" للتيار العلماني‬
‫املتشدد أو املتطرف‪ ،‬ويبرز هذا جلًّيا يف طبيعة الخط التحريري لهذه املجموعة‪ ،‬التي تدعو صراحة إلى فصل صارم بين الدين والدولة‪ ،‬وتندد علنا باحتفاالت‬
‫املغاربة بعيد األضحى‪ ،‬باعتباره "مجزرة حيوانية ال تُمت بصلة لرقي التحضر اإلنساني"‪ ،‬كما تدعو املجموعة اإلعالمية إلى تطبيق النموذج التونسي يف‬
‫التعامل مع شهر رمضان‪ ،‬بأن يتم فتح املقاهي والحانات يف فترة الصوم‪ ،‬وتروج للشذوذ الجنسي وغيرها من امللفات واملواد الصادمة‪ ،‬والتي لم يسبق لعلماء‬
‫املؤسسات الدينية الرسمية ‪-‬وخاصة املجلس العلمي األىلع‪ -‬أن أصدروا بيانات تتناولها بالتقييم والتقويم‪ ،‬وهو ما يطرح تساؤالت عن فعالية هذه‬
‫املؤسسات‪ ،‬وعن أسباب غيابها عن التعاطي مع هذه اإلشكاالت‪ ،‬مع أن ميثاق تأسيسها "ُيلزم العلماء بمساعدة األمة يف حماية دينها وملتها‪ ،‬وأن ال يتركوا‬
‫مجاًال للتشويش ىلع العقيدة" حسب تصريح وزير األوقاف والشؤون اإلسالمية‪ ،‬أحمد التوفيق‪.‬‬

‫التأثيرات الخارجية ىلع التوازنات الداخلية‬


‫فيما يتعلق بتأثيرات العوامل الخارجية ىلع توازنات الحقل الديني يف املغرب؛ فهي تكمن ىلع الخصوص يف الحضور الوازن والفعال ملا أصبح ُيسمى بـ‬
‫"تنظيم القاعدة يف بالد املغربي اإلسالمي"‪ ،‬والذي أصبح وجوده يف منطقة املغرب العربي يقلق صناع القرار األمني يف املنطقة بأسرها‪ ،‬ناهيك عن‬
‫الواليات املتحدة األميركية وأوروبا‪ ،‬خاصة فرنسا وإسبانيا وإيطاليا‪ ،‬بحكم القرب الجغرايف وبسبب طبيعة التحالفات اإلستراتيجية بين هذه الدول الثالث والدول‬
‫املغاربية‪.‬‬

‫وال تقتصر التأثيرات الخارجية ىلع مناورات "جهاديي" املنطقة‪ ،‬ولكن هناك أيًضا مناورات البلدان املجاورة للمغرب؛ حيث كانت أبرز الخالصات الصادمة‬
‫للمتتبعين للشأن الديني يف املنطقة‪ ،‬ىلع هامش انعقاد أعمال "مؤتمر مكافحة اإلرهاب يف دول الصحراء والساحل" الذي احتضنته الجزائر يف ‪ 16‬مارس‪/‬آذار‬
‫‪ ،2010‬عدم دعوة املغرب للمشاركة يف أعمال املؤتمر‪ ،‬مقابل دعوة جميع باقي دول املغرب العربي وبعض الدول األفريقية من الساحل‪ ،‬وخاصة بوركينا فاسو‬
‫وتشاد ومالي والنيجر‪ ،‬بما ال يخدم إستراتيجية املغرب األمنية والدينية والسياسية يف مواجهة أتباع بن الدن يف املنطقة‪.‬‬

‫أما بالنسبة للتأثيرات املحتملة للمحسوبين ىلع تيار "السلفية الجهادية"؛ فإن إدارة هذا امللف يتوّزع ىلع منحيين اثنين‪ ،‬هما‪:‬‬

‫املستجدات الخاصة باملحسوبين ىلع التيار‪ ،‬حيث ُيعَلن بين الفينة واألخرى عن "تفكيك خاليا إسالمية كانت تعتزم القيام بأعمال تخريبية"‪.‬‬
‫وهناك يف املقابل‪ ،‬املنحى النوعي الصادر عن رموز تيار "السلفية الجهادية"‪ ،‬ونقصد به بروز سلسلة مراجعات داخل السجون املغربية‪ ،‬وقد جّسد‬
‫ذروتها صدور وثيقة تحت عنوان "أنصفونا‪ ..‬يف سبيل البحث عن مخرج مللف ما ُيعرف بالسلفية الجهادية"‪ ،‬عن عبد الوهاب رفيقي (امللقب بأبي‬
‫حفص)‪ ،‬يف فبراير‪/‬شباط ‪ ،2010‬ورّوجت الوثيقة ملشروع إصالحي يروم تحقيق ستة أهداف تدعو إلى "الوسطية"‪ ،‬وتبرئة املعتنقين للمنهج‬
‫الوسطي‪ ،‬وفتح قنوات التواصل من أجل حل امللف الشائك‪ ،‬وتنوير الرأي العام بكل مراحل القضية وحيثياتها وإشكاالتها وتصنيفاتها وتحدياتها‪.‬‬

‫وما يزيد من تعقيد هذه التحديات الخارجية زيادة ىلع التحديات العقدية واإليديولوجية سالفة الذكر (أي التحدي الشيعي والتنصيري والعلماني)‪ ،‬بروز بعض‬
‫العوائق الذاتية يف مشروع إعادة هيكلة الحقل الديني‪ ،‬بعضها يرجع إلى انعدام التنسيق بين املؤسسات الدينية الرسمية وغياب رؤية واضحة تجمع عملها؛‬
‫مما يخلق تشوًشا وتصادًما ينعكس سلًبا ىلع الساحة الدينية‪ ،‬وبعضها اآلخر يعود إلى غياب تقييم مستمر لنتائج هذه السياسات الجديدة‪ ،‬باإلضافة إلى شيوع‬
‫خطاب الطمأنة الذي يصرف النظر عن حقيقة التحديات واإلشكاالت التي تواجه الشأن الديني‪.‬‬

‫خالصة‬

‫يقدم هذا التقرير معالم الخارطة الدينية يف املغرب‪ ،‬ويبرز مدى تنوعها الخصب وتعقدها كـ"ظاهرة" يتداخل فيها الديني والسياسي واالجتماعي والثقايف‪،‬‬
‫من جهة‪ ،‬والداخلي والخارجي‪ ،‬من جهة أخرى؛ ولذلك ليس بغريب أن يصبح موضوع الحالة الدينية يف املغرب يف كل أبعادها‪ ،‬من أكثر املواضيع‪ ،‬دراسة‬
‫ومتابعة‪ ،‬خاصة من طرف مراكز البحوث الغربية‪ .‬ويمكن اعتبار املغرب ىلع هذا املستوى من بين النماذج املتقدمة يف العالم العربي واإلسالمي يف اختبار‬
‫تلك العالقة الشائكة بين اإلسالم والسياسة؛ حيث نجد من جهة‪ ،‬مؤسسة إمارة املؤمنين (التي تجمع بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية) والتيارات‬
‫اإلسالمية (التي يتماهى لديها الديني والسياسي)‪ ،‬ومن جهة أخرى تيارات سياسية وفكرية يتراوح موقفها من الدين بين العداء السافر والدعوة الصريحة إلى‬
‫الفصل‪ ،‬ليس فقط بين الديني والسياسي‪ ،‬وإنما فصل القيم أيًضا عن املرجعية الدينية وربطها بما يعتبرونه املنظومة الحقوقية اإلنسانية الكونية‪ .‬فاملغرب‪،‬‬
‫وهو يعيش ىلع إيقاع تحوالت سريعة وعميقة‪ ،‬طاولت كل مستويات الحياة الفردية والجماعية‪ ،‬يف أبعادها السياسية واالجتماعية والثقافية والروحية‪ ،‬انخرط‬
‫بشكل مباشر يف تفكير ونقاش مجتمعي حول سؤال الهوية‪ ،‬الذي يتجَّلى ‪-‬ىلع األقل‪ -‬يف مستويين‪:‬‬

‫‪ .1‬املستوى املؤسساتي‪ :‬املتمثل يف مسلسل اإلصالحات الشاملة للحقل الديني‪ ،‬والسعي إلى إعادة هيكلته وفق ما ُيعتبر خصوصية مغربية يف‬
‫طبائع التدين وأنماطه ىلع مستوى العقيدة (األشعرية)‪ ،‬واملذهب (املالكية)‪ ،‬والتصوف (ىلع طريقة الُجنيد)‪ .‬وهو ما أدى إلى مراجعة وظائف‬
‫مؤسسات تسيير الشأن الديني والعالقات القائمة بينها‪ ،‬وإلى إعادة االهتمام بقضايا التدين واإلصالح يف املجتمع ‪-‬كما بَّين التقرير‪ -‬من خالل‬
‫املخططات والبرامج التي تتراوح بين التعليم والتكوين واإلعالم‪...‬‬
‫‪ .2‬املستوى املجتمعي‪ :‬املتمثل يف تصاعد الصراع بين التيارات السياسية والثقافية حول منظومة القيم واملحددات الثقافية والحضارية للمغرب‪،‬‬
‫األمر الذي أفرز مجموعة من التحديات تبتدئ من األسرة واملرأة وتنتهي باملسألة اللغوية‪ ،‬مروًرا باملجاالت الفنية والحقوقية والحريات العامة‬
‫والفردية‪...‬‬

‫_______________‬
‫* منتصر حمادة‪ ،‬كاتب وباحث يف الشؤون الدينية والحركات اإلسالمية‪.‬‬

‫** باحث يف مركز الجزيرة للدراسات‪.‬‬

‫هوامش‬
‫(‪ )1‬الفقرة األولى من ديباجة الدستور تقول‪" :‬اململكة املغربية دولة إسالمية ذات سيادة كاملة"‪ ،‬والفصل السادس من الدستور ينص ىلع أن "اإلسالم دين‬
‫الدولة‪ ،‬والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية"‪.‬‬

‫(‪ )2‬نظم ابن عاشر من كتب مذهب املالكية (املرشد املعين ىلع الضروري من علوم الدين يف مذهب اإلمام مالك رحمه الله تعالى) للعالمة عبد الواحد ابن‬
‫عاشر‪ ،‬ويحتوي هذا املتن ىلع‪ 317‬بيتًا‪ ،‬بين فيها األحكام الدينية الضرورية التي ال ينبغي ألحد أن يجهلها‪ ،‬وبدأها بمقدمة كلية يف العقيدة ىلع مذهب أبي‬
‫الحسن األشعري قبل أن يتسع ليشمل بقية األحكام األخرى‪.‬‬

You might also like