Professional Documents
Culture Documents
1
.1أما باقي الدول العربية واإلسالمية التي كانت مستقلة في ذلك الوقت ،فقد
اكتفت بتضمين النص على أن دين الدولة اإلسالم ،فلما استقلت سائر الدول
العربية درجت كذلك على تضمين نص على أن اإلسالم هو دين الدولة أو دين
الدولة الرسمي وأن العربية لغتها .وذلك باستثناء تركيا ،التي نص دستورها
في المادة الثانية على أنها دولة علمانية مؤسسة على حكم القانون .إل أن قليالا
من تلك الدساتير وصف الدولة نفسها بأنها إسالمية مثل موريتانيا (المادة
األولى) واليمن (المادة الثانية).
.2أما النص على مصادر التشريع فقد ورد في عدد من دساتير الدول العربية،
باختالف في التعبير .فالدستور اليمني تنص مادته الثالثة على أن الشريعة
اإلسالمية مصدر جميع التشريعات ،والماده ( )1من دستور سلطنة عمان
تنص على أن "الشريعة السالمية هي أساس التشريع".
ودساتير قطر والبحرين والكويت واإلمارات العربية المتحدة تنص على أن
"الشريعة اإلسالمية مصدر رئيسي للتشريع".
وتجدر اإلشارة بصفة خاصة الى الدستور المصري الذي ينص في المادة
الثانية على أن "مبادئ الشريعة اإلسالمية المصدر الرئيسي للتشريع"،
ودستور فلسطين الذي ينص في المادة الرابعة على أن "مبادئ الشريعة
اإلسالمية مصدر رئيسي للتشريع" .ودستور الجمهورية العربية السورية الذي
ينص في المادة الثانية على الفقه اإلسالمي كمصدر رئيسي للتشريع.
يالحظ أن الخالفات في الصياغة تنحصر في:
أ -الشريعة اإلسالمية ،مبادئ الشريعة اإلسالمية ،الفقه اإلسالمي.
ب -مصدر رئيسي ،مصدر أساسي ،المصدر الرئيسي.
2
النص في الدساتير السودانية:
.1سبق أن أشرنا الى أن دستور الحكم الذاتي لسنة 5511لم يتضمن نصا ا على
دين السودان أو أن غالبية سكانه مسلمون ول الى مصدر للتشريع.
كذلك جاء أول دستور للسودان المستقل ،دستور السودان المؤقت 5511خلوا ا
من أي نص على دين الدولة أو غالبية الشعب أو على أن الشريعة هي مصدر
للتشريع .بعد مضي عام منذ اإلستقالل كونت الجمعية التأسيسية لجنة للدستور
ضمت عددا ا من المفكرين والسياسيين من غير األعضاء .وكان من أهم
المسائل التي طرحت للبحث :إقتراح أن دين الدولة اإلسالم ،وأن الشريعة هي
مصدر من المصادر األساسية للتشريع ،وإقتراح آخر بالفدرالية ،ويهمنا في
هذا الصدد اإلقتراح األول الذي تقدم به األستاذ ميرغني النصري والذي
عارضه عدد من الشماليين وكل األعضاء الجنوبيين وعلى رأسهم األب
ساترنينو والسيد تسالدس بايزاما .وبالرغم من معارضة عدد كبير من أعضاء
اللجنة إل أنه عند عرضه للتصويت ،أيد اإلقتراح 57عضوا ا ولم يعترض
عليه أحد ونصه" :اإلسالم هو دين الدولة" و "الشريعة اإلسالمية هي أصل
أساسي من أصول التشريع في جمهورية السودان".
وقد تغيب عن أغلب الجلسات بما فيها تلك التي جرى فيها التصويت كل
األعضاء الجنوبيين.
وقد حال اإلنقالب العسكري األول الذي وقع في 57نوفمبر 5511دون تمكن
الجمعية التأسيسية األولى من إصدار دستور دائم للبالد.
.1خالل السنة اإلنتقالية التي أعقبت اإلطاحة بذلك النظام ،قامت الحكومة
اإلنتقالية بوضع الدستور المؤقت لسنة 5512على غرار دستور سنة 5511
بتعديالت غير ذات بال .وقد جاء الدستور اإلنتقالي -كسابقه -خلوا ا من أي
نص على دين الدولة أو مصادر التشريع واستمر العمل بذلك الدستور خالل
فترة الديموقراطية الثانية بين 5515 – 5511بيد أنه كان من أول اهتمامات
3
الجمعية التأسيسية التي كانت انتخبت في أعقاب السنة اإلنتقالية وضع دستور
دائم للبالد ،وانطالقا ا من ذلك فقد قامت بتكوين لجنة قومية للدستور ولجنة فنية
للدراسات .وبالرغم من أن األخيرة قد قامت بدراسات مستفيضة لكل جوانب
الدستور إل أن موضوع الفيدرالية ،وأسلمة الدولة أو علمانيتها قد شغال حيزا ا
كبيرا ا من وقتها ،وجدير بالذكر أيضا ا أن النواب الجنوبيين قد قاطعوا أغلب
جلسات اللجنتين إحتجاجا ا على عدم تفهم زمالئهم الشماليين لمغبات الزج
بالدين في الدولة ورفض مطلب الفيدرالية.
.7في معرض دفاعه أمام اللجنة القومية عن علمانية الدستور ،أبدى عضو اللجنة
الفنية السيد ناتالي الواك تخوفه من أن تؤدي إسالمية الدستور الى إعاقة التقدم
اإلقتصادي ،ليس ذلك فحسب بل إنها قد تهدد الوحدة الوطنية .مهما يكن فقد
جاءت مسودة الدستور الدائم لسنة 5511خلوا ا من أي نص على الفدرالية ،بل
إن المادة الثانية نصت على أن جمهورية السودان دولة موحدة ،في الوقت ذاته
نصت المادة األولى على أن السودان "جمهورية إشتراكية ديموقراطية تقوم
على هدى اإلسالم" ،ومضت المادة الثانية فنصت على أن "اإلسالم دين الدولة
الرسمي واللغة العربية لغتها الرسمية".
وأفردت المادة 551للنص على مصدر التشريع على الوجه التالي:
"الشريعة اإلسالمية هي المصدر األساسي لقوانين الدولة".
وتمضي المادة 552فتحرم سن أي تشريعات تخالفها.
أما المادة 551فتفرض على الدولة العمل على تعديل القوانين الحالية للتأكد
من موافقتها للشريعة اإلسالمية ،وتنص المادتان كما يلي:
المادة :552
"يعتبر باطالا كل نص في أي قانون يصدر بعد إجازة هذا الدستور
ويكون مخالفا ا ألي حكم من أحكام الكتاب والسنة ."...
4
المادة :551
"على الدولة أن تصدر من التشريعات ما تعدل به جميع القوانين التي
تعارض أي حكم من أحكام الكتاب والسنة ،وأن تنفذ أحكام الشريعة
اإلسالمية التي كانت معطلة ،على أن تصدر تلك التشريعات بالتدرج
الذي تقتضيه الضرورة وفق ما يرى المشرع".
.1يجدر أن نذكر أن لجنة الدراسات الدستورية لم تتعرض -في إجتماعاتها الكلية
- plenary sessionsالى موضوع الصياغة ،وأن المواد سالفة الذكر وما
فيها من تفصيالت لم تناقشها اللجنة الفنية التي كانت معنية بالجدل حول
الموضوعين األساسيين :دين الدولة وأن الشريعة اإلسالمية مصدر أساسي
للتشريع ،وقد كان الرأي السائد بين األعضاء أن الشريعة اإلسالمية إنما هي
تعبير شامل ليس فحسب لألحكام والمقاصد الكلية والقيم اإلجتماعية المضمنة
في القرآن والسنة ،بل من اإلجتهاد وإعمال الفكر وتباين في الرأي كذلك ما
يتفرع عنها ،وهي بحسبانها كذلك من شأنها أن تثري الموسوعة التشريعية
لدول المجتمع اإلسالمي المعاصر.
مهما يكن فإن الجمعية التأسيسية الثانية لم تتمكن من إجازة مسودة 5511حتى
وقع إنقالب مايو 5515الذي أطاح بالديموقراطية الثانية والدستور اإلنتقالي
لسنة 5512وحل الجمعية التأسيسية قبل أن تعرض مسودة 5511للتصويت.
.5في عام 5571أقدم نظام نميري على إجازة دستور أطلق عليه إسم الدستور
الدائم .نصت المادة األولى من ذلك الدستور على أن السودان "جمهورية
ديموقراطية إشتراكية موحدة" وورد في المادة 5أن الشريعة اإلسالمية
والعرف مصدران رئيسيان للتشريع واألحوال الشخصية لغير المسلمين
تحكمها قوانينهم.
وجاء في المادة 51أن دين السودان هو اإلسالم ويهتدي المجتمع بهديه بوصفه
دين الغالبية وتسعى الدولة للتعبير عن قيمه وأن المسيحية دون عدد كبير من
5
المواطنين ويهتدون بهديها وتسعى الدولة للتعبير عن قيمها وأن الدولة تعامل
كافة المواطنين بما فيهم أهل الديانات األخرى على أساس المساواة المطلقة.
عند إستعادة الديموقراطية عام 5511كان المتوقع أن يعمل المجلس العسكري .51
اإلنتقالي -ل بدستور النظام المايوي الذي أطاحت به ثورة أبريل ،ول بمسودة
5511التي لم تجز قبل إنقضاء الديموقراطية الثانية – بل بالدستور اإلنتقالي
لسنة 5512الذي كان آخر دستور إرتضاه النظام الديموقراطي .ولكن المجلس
العسكري اإلنتقالي قام بإصدار دستور إنتقالي في سنة 5511تضمن نصوصا ا
ممعنة في الخالفية ،يهمنا منها في هذا الصدد حكم المادة الرابعة التي تنص:
"الشريعة اإلسالمية والعرف مصدران أساسيان للتشريع .واألحوال
الشخصية لغير المسلمين يحكمها القانون الخاص بهم".
النص أن تكون الشريعة اإلسالمية مصدرا ا أساسيا ا للتشريع أمر إعترض عليه
الجنوبيون أعضاء لجنة الدستور في عام ،5517وفي عام 5511ولم تتمكن
الجمعية التأسيسية في فترات النظام الديموقراطي من إجازته فكيف جاز
للمجلس العسكري اإلنتقالي أن يصطنع صالحيات ل تؤهله لها طبيعة تكوينه
ولم تضفها عليه القوى األساسية التي فجرت ثورة أبريل وكلفته بتسيير شئون
الحكومة أثناء السنة اإلنتقالية؟
لم تتمكن الحكومة الديموقراطية الثالثة – بسبب إنشغالها بالخالفات الحزبية .55
ومسائل إنصرافية أخرى – من إتخاذ أي إجراء يرمي الى إعداد مسودة
للدستور الدائم حتى أطاح بها إنقالب الجبهة اإلسالمية في يونيو .5515ويبدو
أن العمل إستمر بذلك الدستور اإلنتقالي حتى صدر دستور سنة .5551
نظرا ا الى اإلتجاه اليديولوجي للنظام الحاكم وغياب القوى السياسية األخرى .51
ومنظمات المجتمع المدني ،ليس غريبا ا أن يتضمن ذلك الدستور النصوص
الخالفية التي سبقت اإلشارة اليها .ليس من بين هذه النصوص ما ورد من حكم
تقريري في المادة األولى بأن اإلسالم دين غالبية السكان ،ذلك نص تقريري
6
يصف الواقع ول تعترض عليه األقليات الدينية .ولكن المادة الربعة تمضي
فتقول:
"الحاكمية في الدولة هلل خالق البشر .والسيادة فيها لشعب السودان
المستخلف يمارسها عبادة هلل وحمالا لألمانة وعمارة للوطن وبسطا ا
للعدل والحرية والشورى وينظمها الدستور والقانون".
لحظ تعبير الحاكمية الذي يذكر بسيد قطب وأبو األعلى المردودي والذي
استهجنه بعض الفقهاء المعاصرين بمن فيهم بعض مؤسسي حزب األخوان
المسلمين في مصر.
وتنص المادة :11
"الشريعة اإلسالمية وإجماع األمة استفتاء ودستورا ا وعرفا ا هي مصادر
التشريع ول يجوز للتشريع تجاوزا ا لتلك األصول .ولكنه يهتدي برأي
األمة العام وبإجتهاد علمائها ومفكريها ،ثم بقرار ولة أمرها".
ثم ننتقل الى آخر مرحلة من مراحل التطور الدستوري حتى اليوم :الدستور .51
النتقالى لسنة 1111الذى تمخض عن اتفاقية السالم الشامل.
المادة األولى تصف طبيعة الدولة كما يلى:
جمهورية السودان دولة مستقلة ذات سيادة ،وهي دولة ديموقراطية ل )5
مركزية تتعدد فيها الثقافات واللغات وتتعايش فيها العناصر واألعراق
واألديان.
تلتزم الدولة باحترام وترقية الكرامة اإلنسانية ،وتؤسس على العدالة )1
والمساواة واإلرتقاء بحقوق اإلنسان وحرياته األساسية وتتيح التعددية
الحزبية.
السودان وطن واحد جامع تكون فيه األديان والثقافات مصدر قوة )1
وتوافق وإلهام.
7
تنص المادة الثانية على أن "السيادة للشعب ،وتمارسها الدولة طبقا ا لنصوص
هذا الدستور والقانون ،دون إخالل بذاتية جنوب السودان والوليات".
وتنص المادة الثالثة تحت عنوان "حاكمية الدستور القومي اإلنتقالي" على أن:
"الدستور القومي اإلنتقالي هو القانون األعلى للبالد ،ويتوافق مع
الدستور اإلنتقالي لجنوب السودان ،ودساتير البالد وجميع القوانيين".
أما مصادر التشريع فقد أفرغت في المادة الخامسة على الوجه التالي:
تكون الشريعة اإلسالمية واإلجماع مصدرا ا للتشريعات التي تسن على )5
المستوى القومي وتطبق على وليات شمال السودان.
يكون التوافق الشعبي وقيم وأعراف الشعب السوداني وتقاليده ومعتقداته )1
الدينية التي تأخذ في اإلعتبار التنوع في السودان ،مصدرا ا للتشريعات
التي تسن على المستوى القومي ،وتطبق على جنوب السودان أو
ولياته.
في حالة وجود تشريع قومي معمول به حاليا ا ،أو قد يسن ،ويكون )1
مصدره دينيا ا أو عرفيا ا ،يجوز للولية وفقا ا للمادة ( )5( 11أ) في حالة
جنوب السودان ،التي ل يعتنق غالب سكانها ذلك الدين أو ل يمارسون
ذلك العرف أن:
أ -تسن تشريعا ا يسمح بممارسات أو ينشئ مؤسسات في تلك الولية
تالئم دين سكان الولية وأعرافهم ،أو
ب -تحيل التشريع الى مجلس الوليات إلجازته بواسطة ثلثي جميع
الممثلين في ذلك المجلس أو يبتدر إجراءات لسن تشريع قومي تنشأ
بموجبه المؤسسات البديلة المالئمة.
وبامعان النظر في هذه األحكام تبدر المالحظات التالية: .52
أ -وصف طبيعة الدولة في المادة األولى ،وصف تقريري لغبار عليه
ول خالف حوله.
8
ب -حكم سيادة الشعب في المادة الثانية خال من العبارات المضمنة في
المادة الرابعة من دستور سنة 5551الخاصة بممارسة السيادة
"عبادة هلل ...الخ " .ثم أن عبارة" :دون إخالل بذاتية جنوب السودان
...الخ" حشو ل معنى له .كيف يتصور أن سيادة الشعب التى
يمارسها "طبقا ا لنصوص هذا الدستور والقانون" ،كيف يتصور أن
ممارسة السيادة على هذا النحو يمكن أن يكون فيها إخالل بذاتية
الجنوب.
ج -قارن عنوان المادة الثالثة من الدستور النتقالي "حاكمية الدستور
القومي اإلنتقالي" بالمادة الرابعة من دستور سنة 5551التي نصت
على أن الحاكمية هلل.
د -لم يعد التوافق الشعبي وقيم وأعراف الشعب السوداني وتقاليده ...الخ
مصدرا ا للتشريع الذي يطبق على شمال السودان بل إقتصرت على
تلك التي تطبق على الجنوب.
نشأة الربط بين الدولة والدين:
.51باستقراء التاريخ يمكن القول بأن فكرة الربط بين الدين والدولة كانت بدءا ا من
ظواهر المجتمعات الوثنية التي كان يمارس فيها السحر والكهنوت نفوذا ا
كبيرا ا ،واستمر حتى ظهور الدولة البدائية .Primordial Stateففرعون كان
حاكما ا والها ا في آن واحد" :أنا ربكم األعلى" .وحتى عندما لم يتصف الحاكم
باأللوهية فقد كان مرتبطا ا بها ارتباطا ا وثيقا ا في أذهان الناس ،مثالا الدولة
الفارسية القديمة (حتى قبل الفيلسوف زرادشت) ،كان يظن أنها نزلت من
اآللهة (انظر دائرة المعارف البريطانية "المجلد السابع" ص .)175
أما مجتمع التوحيد ،فقد فصل منذ أول عهده فصالا واضحا ا بين اإلله والحاكم
وبين الدين والدولة .ومن ذلك أن بني اسرائيل كانوا ينكرون صفة النبوة لمن
اتخذ مظهر الملك حتى إذا اتصف بالحكمة والتقوى فداؤد وسليمان عندهم
9
ملوك ل أنبياء .ليس غريبا ا اذن أن يميز المسيح عليه السالم بين ما لقيصر وما
هلل.
بيد أن األمر قد تغير عندما بدأت الوثنية تشوب مفاهيم التوحيد الخالص .فما أن
تنصر قسطنطين األول في أول القرن الرابع الميالدي حتى بدأت تظهر أفكار
التعددية في مفهوم هللا ،واكتسب اإلمبراطور الروماني قداسة ل تضفى عادة
على البشر .وسرعان ما اتخذت الدولة إسما ا قدسيا ا عندما قام البابا بتتويج
شارلمان إمبراطورا ا عام 111م فنشأت اإلمبراطورية الرومانية المقدسة Holy
Roman Empireالتي استمرت ألف عام حتى 5111م.
وعندما اختلف ملك انجلترا هنري الثامن ( )5255 – 5127مع البابا حول
مسائل دنيوية بحتة ،بعضها سياسي وبعضها شخصي يتعلق بتعدد الزوجات
والطالق ،فصل الكنيسة اإلنجليزية من روما وجعلها جهازا ا روحيا ا في إطار
الدولة ونصب نفسه رئيسا ا لها (انظر دائرة المعارف البريطانية ،المجلد الثامن
ص .)775
على نقيض ذلك لم يطلق اليهود على دولتهم األولى إسم دولة جهوڤا أو الدولة
اإللهية وإنما عرفت بأنها دولة بني إسرائيل.
وعندما وضع الرسول الكريم أول دستور مكتوب في تاريخ الحضارة اإلنسانية
لم يسمه الدستور اإلسالمي أو العهد اإلسالمي أو الصحيفة اإلسالمية وإنما
سماه "صحيفة المدينة".
ونجد بعد الخلفاء الراشدين دولة بني أمية ،ودولة بني العباس ،والدولة
الفاطمية ،والدولة العثمانية.
قبل أن نتطرق الى تداعيات النص في الدستور على تسمية الدولة بأنها .51
إسالمية أو أن دينها اإلسالم أو أن الشريعة اإلسالمية هي مصدر التشريع،
لعله يجدر أن نتدبر ما إذا كان اإلصرار على تضمين هذه النصوص نتيجة
10
إللزام إسالمي حتمي ل محيص عنه ،أم أنه مجرد رد فعل علق بالمجتمعات
اإلسالمية المعاصرة جراء سيطرة اإلستعمار الغربي ،وخوف تغول الغرب
الفكري والثقافي؟
ماهو األثر القانوني لنصوص دين الدولة ومصادر التشريع؟
.57دين الدولة اإلسالم
ليبدو أن لهذا النص – من الناحية القانونية البحتة – أي أثر قانوني.
صالحيات أجهزة الدولة المختلفة تحكمها النصوص الدستورية الخاصة بها.
وحقوق األفراد :حرية التملك ،الحرية الشخصية ،حريات التعبير والتجمع،
المساواة أمام القانون ،كلها منصوص عليها بتفصيل في فصل يفرد لهذا
الغرض .ول سبيل الى الزيادة فيها أو اإلنتقاص منها استنادا ا الى نص يجعل
اإلسالم دين الدولة.
مهما يكن فإنها قاعدة أساسية من قواعد تفسير النصوص القانونية أن تعطى
الكلمات والعبارات المعاني الطبيعية التي تستعمل بها عادة.
وبإعمال هذه القاعدة يعدو أن يكون للعبارة معنى سوى أن الدولة تعتنق الدين
اإلسالمي .وذلك قول "ليس فيه معنى سوى أنه فضول" .لقد رأينا أن مثل
هذه التسميات في أوربا كانت لها أسباب سياسية ل عالقة لها بالدين.
مصادر التشريع .51
قبل أن نناقش ما إذا كان ثمة فرق بين أن تكون الشريعة اإلسالمية أصالا من
أصول التشريع أو مصدرا ا من مصادره أو أن تكون مصدرا ا أساسيا ا أو
المصدر األساسي ،دعنا نحاول أن نفهم مدلول عبارة "الشريعة السالمية".
لعله جدير بالمالحظة أن هذه العبارة لم ترد في الكتاب ول في السنة ،على
األقل لم تستعمل فيهما بمعنى مجموعة لقوانين محددة ،بل استعملت في آية
واحدة بمعنى "نهج في الحياة"" :ثم جعلناك على شريعة من األمر فأتبعها"
.51:21
11
كذلك استعمل اللفظ المرادف لغويا ا في آية أخرى بنفس المعنى" :لكل جعلنا
منكم شرعة ومنهاجا ا" 21:1
واستعمل الفعل "شرع" بمعنى" "اختط" أو " سن" في آيتين" :شرع لكم
من الدين ماوصى به نوحا ا والذى أوحينا اليك" " ،51:21أم لهم شركاء
شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به هللا" .15:21
ولم ترد عبارة الشريعة في أي من الوف األحاديث المدونة في صحيح
البخاري أو مسلم ،إل أن دائرة المعارف اإلسالمية تقول إن اللفظ قد ورد
في حديث واحد في مسند األمام احمد بن حنبل بمعنى "منهاج" وذلك شبيه
بالتعبير الذي كان يستعمله علماء اليهود والنصارى الذين كانوا يعيشون بين
العرب ويتحدثون لغتهم (كانوا يستعملونها كأنما هي مقابل للكلمة
العبرية ” “misvaويتحدثون عن "شريعة موسى" بمعنى الرسالة المتكاملة
التي دعا اليها من توحيد وسلوك وقوانين) .وبالرغم من أن فقهاء المسلمين
فيما بين القرنين السابع والتاسع الميالدي قد أحرزوا تقدما ا كبيرا ا في استنباط
المصطلحات للتعبير عن المفاهيم الفلسفية والجدلية والفقهية إل أنهم لم
يستعملوا كلمة شريعة كمصطلح محدد Term of artإل ما كان من باب
ايرادها مرادفا ا لـ "حكم" "فرض" ،سنة .ومع ذلك فقد ظلت تستعمل بمعنى
"منهاج" أو رسالة.
مهما يكن فإن عبارة الشريعة اإلسالمي لم يستعملها فقهاء أي من المذاهب
األربعة ول حتى اإلمام الشافعي الذي وضع علم أصول الفقه لم يستعملها
في الرسالة (انظر دائرة المعارف األسالمية، BRILL (1997)،Leiden،
.)PP. 321-328بل حتى في عهد الفقيه الحنفي ابن عابدين ظلت الكلمة
تستعمل للتعبير عن علوم الشريعة المنزلة من عند هللا أي أنها كانت تستعمل
كمرادف لكلمة "الفقه" (انظر مقدمة ابن خلدون ،طبعة صادر ،بيروت ،ص
.)115
يبين مما سبق أن لفظ "الشريعة اإلسالمية" بمعنى مدونة القوانين
اإلسالمية ،لم يستعمل إل في عصور متأخرة.
12
ما هو األثر القانوني للنص على أن الشريعة االسالمية مصدر للتشريع؟
.55بافتراض أن حداثة العبارة ل تقف حائالا دون ايرادها في دساتير الدول
اإلسالمية المعاصرة وجعلها المصدر األساسي أو مصدرا ا أساسيا ا لتشريعاتها،
فما هو األثر القانوني لهذا النص؟
أولا :ليس في القرآن سوى عدد ل يتجاوز الثالثين من األحكام ذات الصفة
القانونية الملزمة Positive Lawمنها بضع أحكام تتعلق بالعقوبات،
والباقي باألحوال الشخصية.
أما السنة فبالرغم من أنها تتضمن عددا ا كبيرا ا من األحكام إل أن
اإلختالف حولها يغلب على اإلتفاق عليها ،كما أن بينها تناقضا ا مربكاا.
واألحاديث الخاصة بربا النشيئة وربا الفضل من األمثلة على ذلك
التناقض والغموض.
واإلختالف أكبر عندما ننتقل من هذين المصدرين األساسيين الى
اإلجتهاد ،إذ ل ينحصر اإلختالف على المذاهب األربعة بل يتعداه الى
عدة المدارس المتفرعة عنها.
ثانياا :حتى إذا افترضنا أن ثمة أحكاما ا تتصف باإلتساق واإلنسجام
والوضوح ،حينئذ تكون الشريعة نفسها هي تلك األحكام والقوانين ل
مصدرا ا من مصادر التشريع ،إل إذا جاز أن نقول "األحكام مصدر
تشريع األحكام" أو "القوانين مصدر تشريع القوانين".
مصادر التشريع هي الدوافع التي تمليه :المصلحة العامة ،القيم
الروحية ،األعراف اإلجتماعية وهكذا ،تلك مصادر يستوحى بها عند
تشريع األحكام الملزمة على الناس إذ يضطربون في حياتهم اليومية.
13
ثالثاا :ل مناص إذن من أن نفهم الشريعة اإلسالمية في هذا المضمار على
أنها ل تعني سوى المبادئ اإلحتماعية والقيم الروحية المضمنة في
مئات اآليات القرآنية وعدد كبير من األحاديث النبوية والتي يسميها
بعض الفقهاء "المقاصد الكلية" :العدل ،البر ،اإلحسان ،العطف على
الفقراء والمساكين ،المساواة ،العمل الصالح ،ومجانبة الظلم والبغي
والعدوان.
هذه هي المقاصد التي تصلح بل تجدر أن تكون مصدر التشريع.
تداعيات تضمين النص في الدساتير السودانية:
فهم الشريعة اإلسالمية على أنها مجموعة قوانين محددة ،وتطبيقها وتضمينها .11
في الدستور على أنها كذلك ،أدى الى أضرار إجتماعية بالغة والى خلل في
القيم وسوء فهم لروح اإلسالم ،نذكر منها على سبيل المثال:
أولا :فسرت عبارة الشريعة اإلسالمية على انها ل تعني سوى تطبيق
عقوبات الحدود ،والقصاص والتعزير .هذا هو الفهم الذي دعا نظام
النميري الى اإلحتفال بمرور عام على الغلو في القطع والقتل
والصلب ،بحسبانه مرور عام على تطبيق الشريعة ،وقد سمعت من
مصدر موثوق أن البرفسير جارودي اعتذر عن حضور تلك
اإلحتفالت قائالا إن الذي يمارس حينئذ في السودان ليس هو الشريعة.
ثانيا :صرف النظر عن مقاصد الشريعة الكلية المفرغة في مئات اآليات
واألحاديث ،والتي تصلح مصدرا ا للتشريع في المجتمعات اإلسالمية
المعاصرة ولتأسيسها على قواعد العدل ،وحكم القانون والديموقراطية
والرفاهية اإلجتماعية.
14
ثالثاا :إيهام الناس بأنه حسب الحاكم ان يجلد ويقطع ويصلب وأن ذلك يكفي
أن يجعله حاكما ا إسالميا ا دون إعتبار لتحقيق مقاصد الشريعة الكلية
التي ل يصلح المجتمع بدونها.
رابعاا :أفرد الدستور اإلنتقالي لسنة 1111بابا ا خاصا ا عنوانه "وثيقة الحقوق"
ونصت مواد ذلك الباب ( )21 – 17على الحقوق والحريات
األساسية ،وعلى واجب الدولة في كفالتها وصيانتها .وقد إنضم
السودان الى اتفاقيات وعهود دولية تكفل تلك الحقوق ،أهمها ،العهد
العالمي للحقوق السياسية واإلجتماعية (.)5571
لكن النص في الدستور على أن الشريعة اإلسالمية مصدر التشريع
وفهمنا الضيق لمعنى تلك العبارة ،اضطرنا الى ازدواجية بين الدستور
والقوانين التشريعية من جهة ،وبين التزامات الدولة بموجب العهود
واإلتفاقيات الدولية وممارستها في حكم البالد من جهة أخرى .نسوق
األمثلة التالية على سبيل المثال ل الحصر.
من بين تلك الحقوق األساسية حرية العقيدة (المادة ،)11وهي
حق كفلته المادة 1من العهد العلمي المذكور ،ولكن قانون
العقوبات السوداني يوقع عقوبة اإلعدام على الردة (المادة .)515
المادة السابعة من العهد العالمي المذكور تحرم العقوبات القاسية
والمهينة لكرامة اإلنسان ،ولكن المادة 575من قانون العقوبات
تفرض قطع اليد على السرقة والمادة 511تعرض من يحكم عليه
بما يسمونه "الحرابة" Armed robberyبالقتل والصلب
وبالقطع من خالف .والمادة 11تنص على عقوبة القصاص.
تلك عقوبات لم يبتدعها اإلسالم وإنما ابتدعتها نظم سبقتنا بآلف
السنين وعرفها فرعون وقانون حمرابي.
15
خامساا :فهم الشريعة اإلسالمية على أنها مدونة قانون يشمل ،ليس القرآن
والسنة فحسب بل كذلك اجتهادات الفقهاء في ظروف اجتماعية
وإقتصادية تختلف اختالفا ا كبيرا ا عن العصر الحاضر وتفصل بيننا
وبينها قرون التخلف والجمود التي ألمت بالمجتمع اإلسالمي ،ذلك
الفهم فرض علينا عدم التفريق بين الربا الذي حرمه القرآن الكريم
والفائدة المصرفية على القروض واإليداعات البنكية.
ل جدال أن الربا حرام "وأحل هللا البيع وحرم الربا" " ،171:1اتقوا
هللا وذروا مابقي من الربا إن كنتم مؤمنين" 171:1ولكن القرآن لم
يعرف الربا وإنما اكتفى بوصفه:
"وما أتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فال يربو عند هللا".
ومعلوم أن هللا سبحانه وتعالى يضاعف األجر" :وإن تك حسنة
يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا ا عظيماا" " ،21:2إن تقرضوا هللا قرضا ا
حسنا ا يضاعفه لكم .57:12 "...
إذن فالسعي للربا ليربو في أموال الناس لبد أن يكون معناه لكي
يتضاعف" :يا أيها الذين آمنوا ل تأكلوا الربا أضعافا ا مضاعفة"
.511:1
هذا هو الربا الذي كان يمارس في الجاهلية وهو يختلف عن العمليات
المصرفية في أوجه ،إذ أنه كان يمارس في خفية ،وأنه لم يكن يخضع
لضوابط وأن الدافع وراءه كان استغالل الضعفاء والفقراء ،بينما
تمارس البنوك عملها جهرا ا تحت رقابة الدولة وخضوعا ا لضوابط
قانونية وحد أعلى للفائدة تفرضه البنوك المركزية ،والهدف منه تيسير
القروض لحاجة عامة الناس والمستثمرين على السواء" ،لكيال يكون
(المال) دولة بين الغنياء منكم" .7:15
16
لو قد برزت الى خير الوجود مصارف تحت إشراف الدولة في
عصور اإلجتهاد ،ولو قد كان تدني قيمة العملة Depreciation
ظاهرة دائمة من ظواهر األوضاع اإلقتصادية والمالية كما هو اليوم،
لما ساوى الفقهاء بين الربا والقرض المصرفي .ولكن فقهاء عصرنا ل
تتأنى لهم أصالة الفقهاء السابقين فساووا بين الفائدة المصرفية والربا،
وأفتوا بأن تمارس المصارف عمليات المضاربة والمشاركة وهما
أصالا وسيلة الى تزاوج المال مع العمل تزاوجا ا يفضي الى شراكة
حقيقية تعود بالنفع للشريكين.
أما نقلهما الى مجال العمل المصرفي فقد أدى الى معامالت وهمية
تعود على البنوك بفوائد هى عين الربا ،بينما تؤدى فى الوقت ذاته الى
زيادة كلفة رأس المال ،وبالتالي الى ارتفاع األسعار وغالء المعيشة،
كما أدت الى اقصاء الفقراء والمساكين من ميدان العمليات المصرفية
وقصرها على المستثمرين ،فأصبح المال دولة بين األغنياء ،وصار
المستثمرون والبنوك هم وحدهم المستفيدين على حساب البقرة
الحلوب :المستهلك الضعيف.
الخاتمة:
سعيا ا الى تفادي التداعيات سالفة الذكر أقترح مناقشة الصيغة التالية كبديل .15
للصيغة الحالية:
"المصلحة العامة ومبادئ العدالة اإلجتماعية والقيم والمقاصد الكلية المضمنة
في كتاب هللا وسنة رسول هللا (والواردة في اصحاحات العهد الجديد األربعة)
هي مصادر التشريع".
أو
17
"المصلحة العامة ومبادئ العدالة اإلجتماعية والقيم والمقاصد الكلية المضمنة
في كتاب هللا وسنة رسول هللا (والواردة في اصحاحات العهد الجديد األربعة)
والعرف والتقاليد التي ل تتعارض معها هي مصادر التشريع".
18