Professional Documents
Culture Documents
دراسة تأصيلية
)رسالة ماجستير(
إعداد
عبدالسلم المجيدي
الستاذ المساعد بكلية التربية ـ جامعة ذمار ـ اليمن
1
2
3
سورة البقرة
4
تقديم فضيلة الشيخ العلمة /عبد المجيد بن عزيز
الزنداني
5
قدم فيه الباحث –الذي أسأل ال له التوفيق وأن يجعله من العلماء
التقياء العاملين -فصوًل شيقة ،وبحوثًا رصينة ،جمع فيها ما تفرق في
الكتب المتخصصة في بحث هذه القضايا… .
فبدأ الباحث بحثه في فصله الول عن أول سلسلة البلغ عن ال
-جل ذكره -المتمثلة بجبريل ومؤهلته التي هيأته لنقل كلم ال
بأعلى درجات الحفظ ،ثم واصل في فصله الثاني البحث في كيفية اتصال
جبريل بالرسول ،وتهيئة جبريل والرسول لتحقيق ذلك
التصال بين ُمَعّلم من عالم الملئكة ورسول من عالم البشر ،وقّرب ذلك
بالمثلة المفيدة…ثم فصل في الفصل الثالث كيفية تلقي الرسول للفاظ
القرآن الكريم ،والهيئة التي تم بها ذلك التلقي ،وكيفية مجيء جبريل،
وكيفية إلقاء الوحي على قلب النبي ،وضرب لذلك المثلة التي تقرب
للذهان فهم ما نقل لنا من كيفية تلقي النبي للفاظ القرآن الكريم عن
جبريل.
ثم ناقش ما يتصل بذلك مما يتعلق بحالة النبي وقت التلقي،
وحرصه على الحفظ ،وما كان يعالج من الشدة من التنـزيل ،ويتعجل فيه
لرسوله ،وإمداده بالقدرة على تلقي ألفاظ من الحفظ ،وتولي ال
القرآن ،وحفظه ،وتفاصيل ترتيله ،وهيئات أدائه ،والمدارسة التي كان
يتعهد بها جبريل رسول ال في كل عام .
وعرض لنا في الفصل الرابع ما كان بين جبريل والرسول
من صحبة وألفة ،وهما يقومان بمهمة نقل كلم ال إلى خلقه وعباده.
واستعرض الباحث في الفصل الخامس بعض جهالت الجاهلين،
وشبهات المبطلين التي…ما فتئت تلقي بها قلوب الشياطين في قلوب
الكافرين والمفتونين …ودحضها بما فتح ال عليه من حجج وبراهين .
6
ت جديدًة تثري هذا الموضوع ،وتستفيد
وقد تضمن هذا البحث لفتا ٍ
من معطيات العصر ،في تقريب حدوث الوحي بين عالم الملئكة وعالم
البشر ،وفي رصد الوقائع العملية التي تم بها حفظ ذلك الوحي .
أسأل الله تعالى أن ينفع بهذا البحث طلب العلــم
القرآن ،وقضــايا اليمــان والعقيــدة، والمهتمين بعلوم
وأن يجزي صاحبه خير الجزاء .
والحمد لله رب العالمين .
7
تقديم فضيلة الستاذ الدكتور /أحمد بن علي المام
الحمد ل الذي هدانا بالقرآن الكريم ذي الذكر ،وجعل ُقّراءه أهل ال
حوافَر ُ فل ْي َ ْ فب ِذَل ِ َ
ك َ ه َ
مت ِ ِ
ح َوب َِر ْه َ ل الل ّ ِض ِ
ف ْ ل بِ َ ق ْ وخاصتهُ ،
ن" يونس ،"58/وصلوات ال المباركات، عو َ م ُ
ج َما ي َ ْم ّ خي ٌْر ِ
و َ ه َُ
وتسليماته الزاكيات على سيدنا محمد عبد ال ورسوله خاتم النبياء
والمرسلين ،من نزل عليه القرآن العظيم فتلقاه لفظًا وأداًء ،فأدى المانة،
عّلم أصحابه ،فاتصل سند التعليم بهم في الجيال ،وسيبقى ونصح المة ،و َ
وإ ِّنا ل َ ُ
ه ن ن َّزل َْنا الذّك َْر َح ُ محفوظًا بحفظ ال تعالى أبدًا إ ِّنا ن َ ْ
ن" الحجر. "9/ ظو َف ُ حا ِلَ َ
ثم أما بعد:
فلقسسسد سسسسعدت فــي جامعــة القــرآن الكريــم
والعلوم السلمية بمعرفــة البــاحث عبــد الســلم
مقبــل المجيــدي مــن خلل إشــرافي علــى بحثــه
لنيل درجــة التخصــص الولــى )الماجســتير( فــي
التفسير وعلــوم القــرآن الكريــم بعنــوان )تلقــي
النــبي ألفــاظ القــرآن الكريــم( ،وهــي دراســة
تأصــيلية لكيفيــة تلقــي النــبي ألفــاظ القــرآن
الكريم عن جبريل عن الله .
وقد ساعد الباحث حفظه للقرآن الكريم وتجويده ،وإتقانه ،وجمعه
للقراءات القرآنية ،ومقدرته البحثية ،وهمته العالية ،وجده في التحصيل،
مستشار رئيس جمهورية السودان لشؤون التأصيل والتخطيط الستراتيجي ،ومدير جامعة
القرآن الكريم والعلوم السلمية في أمدرمان سابقا ً .
8
ه
ؤِتي ِ ل الل ّ ِ
ه يُ ْ ض ُ
ف ْ ب…ذَل ِ َ
ك َ ق ،وأد ٍب ،وشو ٍوتفرغه لذلك في ح ّ
ظيم ِ" الحديد،21/الجمعة."4/ ل ال ْ َ
ع ِ ض ِ
ف ْذو ال ْ َ
ه ُوالل ّ ُ ن يَ َ
شاءُ َ م ْ
َ
أما الدراسة فقد خلصت إلى توثيق النص القرآني ،وذلك داخل فيما
ف في لفظه ،ول في ضمن ال تعالى من حفظ كتابه العزيز :ل يصيبه تحري ٌ
أدائه .
كما تناول البحث مراتب اللفظ القرآني ،وتوقيفية نقل ألفاظ القرآن
ل وأداًء ،وأحسن الباحث استخدام مصادر بحثه في دوائر واسعة الكريم أص ً
من العلوم في أصول الدين ،والتفسير ،وعلوم القرآن ،والسنة ،وأصول
الحديث ،والفقه وأصوله ،واللغة العربية… .
هذا وقد ُأجيز البحث ،ونال درجة المتياز ،مع التوصية بطباعته .
ونســأل اللــه تعــالى أن ينفــع بالكتــاب وكــاتبه
المسلمين ،ويوفقه لما يستقبل مــن عمــل ،وأن يجعــل
عملنا وإياه صالحًا ،ولوجهه خالصا ً متقبل ً عنده .
9
شك ٌْر
هسسسسداٌء و ُ
إِ ْ
إلى:
شيخي/ الربيين من أهل القرآن…يتصدر محرابهم القانت:
الشيخ المجاهد المجدد :عبد المجيد بن عزيز الزنداني ،وشيخي /شيخ
القراء :إسماعيل عبد العال أحمد الشرقاوي) ،(1وشيخي /الستاذ
الدكتور :أحمد علي المام)…(2
جعل نور السموات والرض في قلوبكم نورًا… تقتفون به آثار رسولكم:
ي مستقيم ،تغدق عليكم بينات الصحف ل إثر نبيٍل ،على صراط عل ّ نبي ً
حسم بحسام الفرقان،وسيف العزم ،فبارك المطهرة هداها ،فإذا سيركم قد ُ
حّمدًا طيباً
ال ذلك المسعى ،فهدى ،ثم بارك فيه فزاد فيه زيدًا صالحًا ُم َ
ح وبأساء وضراءُ ،يَتَرَبص فيه بدينكم مباركًا فيه كرتين ،في زمن قر ٍ
الدوائر… فما وهنتم لما أصابكم في سبيل ال ،وما ضعفتم ،وما استكنـتم…
ل منكم عبد ال ،فإذا أنتم عباده المخلصون، فارتقيتم أوج الربانية؛ إذ ك ٌ
ضكم :دمعٌة في سَعون في كمال النعمة بعد إذ تمت بكمال الدين…ريا ُ َت ْ
ل السفائن الفاتحة محراب الماجدين من المتهجدين ،ونغمُتكم :تهالي ُ
عد :السكينُة المنـزلُة – للمدائن،وسميُركم :تراتيل التنـزيل،وغوُثكم المسا ِ
دومًا -على المؤمنين ،وسائُقكم ابتسامة رسول ال مخترقًة الحجب
ب هو…وليُد الهيام ن القافلة ،ورقيبها،وعاصُمها :فح ٌ الساترة…أّما أمي ُ
ن في أفنان ق إلى َمَيسا ٍبالعودة ليام الفاروق…وفقه النعمان) ،(3وشو ٌ
()1شيخ الباحث الذي تلقى منه ألفاظ القرآن الكريم بقراءاته العشر من طرق الشاطبية
والدرة والطيبة .
()2أحسبهم كذلك ،والله حسيبهم ...ول أزكي على الله أحدا ً .
()3أبو حنيفة –رحمه الله تعالى ،-وهو إشارةٌ إلى أئمة السلف عمومًا ،والنعمان أقدم الربعة
–رحمهم الله تعالى. -
10
الجنان ...وإن لقيتم في سفر الدنيا نصبًا ،ففيصل رؤاكم الكلية –جلل الدنيا
وجمالها:-
ضيَع ِإيماَنُكم"البقرة . "143/
ن ال ِلُي ِ
َوَما َكا َ
11
مقدمة الشكر:
إلى:
شيخي الشيخ إسماعيل عبد العال أحمدُ :أشربت منك حب التعلق
فصرت إمام المتقين الذي جعله ال بكل ما اتصل بكتاب ال
سببًا في أن يكون القرآن شعورًا فياضًا يمل جسدي ،وروحًا تسري
في جوانحي ،وعواطفي ،وأحاسيسي...وأنبت في نفسي أن القرآن
هو القول الثقيل…فمن رام التشرف بالدخول في زمرة حفاظه فهو
حى إليه…وأن غير أنه ل ُيو َرائٌم أن يكون أمين كلم ال
ئ ليات الكتاب هو المنة العظمى؛ إذ قد آتاه ال استظهار امر ٍ
السبع المثاني والقرآن العظيم ،فل يمدن عينيه إلى ما سواه من
ع زنيٍم…وما يكون ذا إل وليد مجاهدٍة ،تستصحب صبر أولي متا ٍ
العزم …فإذا صاحبها ماجٌد…قد استمد عنوان مجده من رياض
القرآن…وما رأيت منك على طول المدى إل أن أسقامك تزداد
ى،
فيكون القرآن سميره غير المفارق…شفاًء لما في صدره ،وهد ً
ب بذلك رحمًة من ربهوموعظًة ،وزيدًا في إيمانه ،ورقيبًا…وُِه َ
يرجوها؛ إن فضله كان عليه كبيرًا…فله من ربه المان يوم الفزع
الكبر ،والخلد في الفراديس العلى يوم الفوز العظم .
12
شكر
إلى :الذين سارعوا في الخيرات ،وسابقوا إلى مغفرٍة من ربهم…بإزجاء
أفنان المساعدة ،للباحث في بحثه ،فازدانت بميسان الحسان ،وارتفعت
بعز التواضع:
يتصدر محرابهم القانت شيخي :الشيخ
ت بهالمجاهد المجدد عبد المجيد ابن عزيز الزنداني :أوي ُ
ن شديد؛ إذ نشر لي حقائق إيتاء اليمان قبل إلى رك ٍ
ت منه تأويل )الصبر ،واليقين ،والمامة في م ُالقرآن ،وع َل ِ ْ
الدين( ،وتعلقت بأهدابه علمًا ،وإيمانًا؛ إذ كان من الذين
أوتوا العلم واليمان ،وداعي صحبته يهتف بي) :يا بني!
إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك ،فاتبعني أهدك
صراطا ً سويًا( .
ويؤمهم شيخي الشيخ المبجل :الستاذ الدكتور /أحمد
علي المام ،إذ حّفتني بنعمة صحبته رحمٌة من ربي أرجوها ،فرأيت
قد تجسدت بشرًا سويًا ،وتوسمت فيه كا عل َِني ُ
مَباَر ً ج َ فيه معنىَ
و َ
ت رشدًا(،
معنى الصّديقية ،هاُتفها) :اتبعني على أن أعلمك مما علم ُ
وأحاطت بي عنايته :أبًا متابعًا لي في أدق أموري ،وأهونها ،وشيخًا مرشدًا
ب علمني الكتاب والحكمة ،وعلمني ما لم أكن أعلم، ي معاني) :ر ّ بذر ف ّ
خُلُقه القرآن :آتاني من لدنه حنانًا،
ي عظيمًا( ،وعالمًا ُواجعل فضلك عل ّ
ي بصائر سبيل من كان تقيًا ،وأما مكتبته ،وبيته ،ووقته، وزكاة ،وأنبت ف ّ
وتواضعه ،وآفاق علمه ،وفتحه للبصائر في طرح المسائل ،فذاك ما
ل عن ذكر حقه ،وحقيقته . يتوارى الوصف خج ً
13
ويمضي -حثيث ً
ا -في قافلتهم :شيخي :الشيخ
محجوب أحمد طه :والدي بعد والدي ،أغدق على فؤادي
حنان الب ،وإخبات اليمان ،وزكاة النفس ،وقذف في
قلبي أن بهارج الدنيا-علما ً كانت ،أو متاعًا -ل تدخل معي
وزر ،ول ترفع الصر. القبر ،ول تنجي من تبعة ال ِ
وشيخي :الشيخ عبد الله الزبير :لول أن تداركتني
به رحمة من ربي لن ُب ِذ ْ ُ
ت بعراء الجهالة المتعالمة ،وأنا
مذموم ،ثم زاد فأتبعني سببا ً بالتعاهد والستدراك ،ثم زاد
فأكمل ،ثم زاد فأجمل ،فإذا أنوار الله تحيط بي ،ولطفه
ي بسببه :صابرا ً على جفائي ،رافعا ً عني ما أجده يتتابع عل ّ
من أنوائي .
وإلى :أساتذتي :الشيخ محمد النسي ،والشيخ علي
مقبل الجابري ،والشيخ سعد حنتوس،وإلى…أبي عبد
الله…إذ عرفت منهم النور في بصائر القرآن حين يشرق
على تفكير النسان ،ولمست منهم إعانة لي على حمل
أعباء الحياة ،ورأيت منهم صدق التعبد لله .
ن عل بمتابه…فرؤيت فيه حقائقوإلى :مساعٍد…هو أمي ٌ
اليمان ،فسما بيقين القرآن في الدنيا إلى روح وريحان…
فأجال الطرف الحائر فيما وراء ذلك من رضوان…حتى
أشرقت بأبي الشروق شمس الخير ،ولهفة الظمآن
إلى مشارع الفرقان…تنبئ الدنيا عن حقيقة الخلص
للرحمن الودود…فأوتيت بمدد القرآن عطاء غير مجذوذ .
14
وإلى :الشيخ عبد الهادي والقائمين على دار الطلب
اليمنيين…
المقدمة
"اللهم إنا نحمدك أقصى مدى الحامدين ،ونعترف
بآلئك كما أوجبت على المطيعين ،من عبادك المعترفين،
ونسألك أن تصلي على نبيك المرتضى محمد وآله
الطاهرين ،وصحبه الراشدين ،وأن تحسن العون والتسديد
على ما ُأجمع فيه القربة إليك ،بما يحظي بالزلفة لديك،
وأن تجعل العمل لك ،والتصال بك ،والمطالب مقصورةً
على مرضاتك ،وإن قصرت الفعال عن مفروضاتك،
4
وصلتها برأفتك ،وجعلتها مما شملته بركات رحمتك") ( .
سب في تبيين وجوه )( بتصرف من استهلل المام أبي الفتح بن جني في كتابه ) المحت َ
4
شواذ القراءات واليضاح عنها ( تحقيق :علي النجدي ناصف وآخرون ،المجلس العلى
للشؤون السلمية – لجنة إحياء كتب السنة – القاهرة 1415هس 1994 -م .
15
وبعد:
فقد تمت كلمات الله صدقا ً وعدل ً) ( ،وكان
5
16
أهمية كل واحد من الثلثة )المعنى ،اللفظ،
أداء اللفظ( للخر ،وشدة تعلق كل بالخر،
مط َل ّعُ على مفاهيم اللغة ،ودللت اللفاظ ،يعلموال ُ
اعتراء التغير فيها بمجرد تغير أدائها ،فكيف تغير
لفظها؟).(6
وكانت الجهود الكثيفة التي وجهت للعتناء بلفظ
القرآن الكريم ،وطريقة أدائه مكونة الطار
الواقعي لحقيقة الحفظ اللهي قد بدئت من لدن
جبريل الذي علم النبي أضرب الوحي يقدمها
الوحي القرآني ،وبقيت هذه الجهود متتابعة إلى أيامنا،
نقل ً للفظ القرآن ،وطريقة أدائه ،وهيئات ضبطه ،وسبل
رسم ألفاظه ،ودروب الوقف والبتداء في آياته ،وعدد
تلك اليات ،وأزمنة حفظه ،ومراجعته ،وقراءته،
وإقرائه… وهذه ونحوها جهود من حيث المحافظة على
اللفظ .
وأساس السس في الدوات الواقعية للمحافظة
على اللفظ وأدائه هو المشافهة )التلقي(…وما
زال المسلمون يقررون –لذلك -أن القراءة سنة
يتلقاها الخر عن الول) ،(7ل يدخلها اجتهاد
بشري ،ول قياس عقلي ،ورسخ فيهم ذلك حتى صار
()6وهذا على تفصيل في أنواع الداء؛ إذ منه ما يرجع إلى الصفات الذاتية للفظ ،فل يستقيم
اللفظ بدونها كالستعلء ،والستفال ،والجهر ،والشدة … ومنه ما يرجع إلى الصفات العارضة
كالتفخيم ،والترقيق ،والفتح ،والمالة؛إذ هي راجعة إلى الستعلء ،والستفال… فل يتأثر أصل
اللفظ بأدائه هنا ،بل إن الدراسات الصوتية ،والملحظات العابرة لهيئات أداء الكلمات،
ونطق الجمل ،قد أثبتت تغير المعنى بتغير الهيئات الفرعية للداء ،كتغير النبر ،وهو من
الهيئات الموغلة في الفرعية من حيث نطق اللفاظ ،انظر :د .يوسف الخليفة أبو بكر:
البحث التربوي واللغوي في مجال تعليم القرآن الكريم ،بحث منشور في مجلة جامعة
القرآن الكريم والعلوم السلمية ،العدد الول ،ذو القعدة 1415هس .
()7انظر لمعرفة بعض الثار الدالة على ذلك) :ابن الجزري( أبو الخير محمد بن محمد بن
محمد :منجد المقرئين ومرشد الطالبين ص -20دار زاهد المقدسي ،تفضل بقراءته بعد
طبعه :الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي ،والشيخ أحمد محمد شاكر .
17
معلوما ً من الدين بالضرورة ،فاتفقوا على أن أول
شروط نقل القرآن التلقي المسِند من الشيخ إلى
الطالب ،وإن اختلفوا في بقية الشروط بعد ذلك،
وأصل أصول هذا التلقي :هو التلقي الذي
نقل القرآن من السماء إلى الرض ،وهو تلقي
النبي من جبريل ،ودراسته تضع الدارس على
أصل أصول السس المنهجية في الهيئة التعليمية
للفاظ القرآن الكريم ،وتمكنه من تحليل ما يتناقله
المسلمون من تلك الهيئات .
لذا استحق هذا الموضوع الجليل إفراده بالبحث
والدراسة لي ُْعلم من خلله كيف كان تلقي الرسول
ألفاظ القرآن من جبريل ،وكيف كان أداء
كما جبريل لتلك اللفاظ عند تعليمه للنبي
كيم ٍ
ح ِ ن ل َدُ ْ
ن َ م ْ
ن ِ قى ال ْ ُ
قْرآ َ ك ل َت ُل َ ّ
وإ ِن ّ َ
قال تعالىَ :
عِليم ٍ" النمل( )"6/؛ ومن أهم دواعي ذلك غير 8
َ
الطمئنان السابغ على حقيقة الحفظ
خذاللهي للفاظ القرآن الكريم أن ت ُت َ َ
التفصيلت المنهجية في طريقة تلقين
جبريل سبيل ً منهجيا ً في الخطة التعليمية
م عند الختلف جعُ إليها ،وي َُتحاك َ ُ
للفاظ القرآن ي ُْر َ
مناِتها ،ما دامت موضوعة ضمن دائرة ض َ
مت َ َ
إلى ُ
السوة والطاقة البشرية.
()8راجع) :الطاهر بن عاشور( :التحرير والتنوير ،223 / 19لم تذكر الطبعة ،ول الناشر ،و
)اللوسي( محمود شكري البغدادي ت 1270هس :روح المعاني في تفسير القرآن العظيم
والسبع المثاني ،19/237دار الفكر ،بيروت1417 ،هس 1997م– قرأه وصححه :محمد حسين
قي المراد في الية هو جبريل وأن صفتي مل ْ ِ
العرب؛ إذ رجحا ككثير من المفسرين أن ال ُ
العلم والحكمة إليه ترجع .
18
ويصبح طرق هذا الموضوع في حيز الضرورة في
ن تعالت فيه أصوات النهزام أمام الضغط الثقافي آ ٍ
المستعلي الوافد ،فنادت بعدم التزام اللفظ ،وأنكرت
التزام الداء من حيث الصل) ،(9بل حاولت فيها أن
ون صورة تجعل القرآن كأي بناء لغوي منطوق ي ُك َ ّ
أدائية ،تتغير بتغير الزمن ،ول يعوق هذا التغيير عوامل
التقديس).… (10
فهاهنا أصلن استلزما البحث في هذا
الموضوع:
إيجابي :وهو معرفة أصل أصول السس المنهجية
في الخطة التعليمية للفاظ القرآن الكريم ،والتأكيد
الواقعي لحقيقة الحفظ اللهي للفاظ القرآن الكريم
وأدائه .
منات الذاتية التي سلبي :وهو التأكيد على المت َ َ
ض َ
ضمتها عملية تلقي النبي ألفاظ القرآن الكريم من
جبريل مما يظهر معها تهافت أي طرح
غريب في ميدان تلقي اللفظ القرآني .
س –بالتفصيل -هيئة إلقاء
اقتضى ذلك كله أن ت ُد َْر َ
جبريل ألفاظ القرآن الكريم ،وهيئة تلقي النبي
دها ،وت ُب َّيين محكماُتها؛ إذ ذلك أصل
ع ُ
قعّد َ قوا ِ
لها ،وت ُ َ
()9انظر :مثال ذلك في كتاب :الفرقان لمن رمز لسمه بابن الخطيب ،وهو محمد محمد
عبد اللطيف ،الطبعة لم تذكر –دار الكتب العلمية – بيروت ،وقد طبع هذا الكتاب ،ومما
زعمه أن القرآن حفظ بمعناه ل بلفظه ،وأن القرآن ل يجب تلقيه من القراء ،فأصدر شيخ
الزهر بعد طبعه قرارا ً بتشكيل لجنة من ثلثة من العلماء لمناقشة ما جاء فيه ،فوضعت
اللجنة تقريرها المتضمن ذكر أباطيله عام 1948م ،وصودر الكتاب ،واختفى من أيدي الناس
على أن مصيره كان الهمال قبل ذلك ،وهو كذلك بعد ذلك .وانظر :غانم قدوري الحمد:
رسم المصحف دراسة لغوية تاريخية ،ط 1402 ،1هس – 1982م ،ص . 212
()10انظر) :عرجون( الشيخ محمد الصادق )عميد كلية أصول الدين(:بحث علمي لنقد
مزاعم حول قراءات القرآن في رسالة) :أصوات المد في القرآن الكريم( بكلية الداب -
جامعة السكندرية ،،جامعة الزهر ،اتحاد الطلب بكلية أصول الدين ،اللجنة الجتماعية
1386هس – 1966م .
19
أصول الكليات العلمية السلمية ،كما هو قاطع لمختلف
القوال ،ومتناَزع التأويلت في الجوانب التي ت َُتعلم في
القرآن الكريم من حيث لفظه ،ودخول طريقة أدائه في
ذلك التعليم.
ويلحظ في منهج البحث ما يلي:
-1الجمع بين القوال المختلفة في اللفظ عند عدم التنافي ،مع دللة
السياق ،أو غيره على إرادة الجمع) ،(11وذلك عند بحث مسائل الكتاب
العلمية…وما حال كثير من القوال الواردة في المسألة الواحدة إل كما
قال المام أبو إسحاق الشاطبي-رحمه ال تعالى" :-إذا تعددت الجهات زال
التدافع ،وذهب التنافي ،وأمكن الجمع"). (12
ت خاصة من حيث تعلقها -2قد يسمي الباحث بعض النصوص بتسميا ٍ
بالبحث نسبة وتمييزًا واختصارًا ،اجتهاداً منه ل لنص خاص ورد فيها،
كالتسمية بآية طه ،فيرجع عند الحالة إلى الية المخصوصة التي وردت
في ثنايا البحث من سورة طه ،ول تكون التسمية إل لما تكرر دورانه في
البحث .
-3يكرر الباحث استعمال عبارة) :كما هو المعمول به عند
المسلمين( في أدق الدقائق في نقل لفظ القرآن الكريم ،وتلوته
ن…تحقيقا ً كمسألة كيفيات الترتيل ،أو الوقت المستغرق للمد أو الغ ّ
لمرين:
ليكون دليل ً عمليا ً متواترا ً عاما ً يأخذ -1
صفة نقل المم عن المم ،ويقمع َزَبَدًا من الفكار التي تحاول
الطفو في واقع المسلمين ،زاعمة أن أسلوب نقل القرآن إنما
هو اجتهاد من بعض القراء ل غير؛ إذ إيقاف المتقول أمام هذه
الحقيقة الصارخة يجعله أمام أمرين ل بد له من أحدهما:
ل) :ابن القيم( أبو عبد الله شمس الدين محمد ()11وهو نهج المحققين من العلماء ،انظر مث ً
بن أبي بكر بن أيوب الُزرعي )691هس 751-هس( :تهذيب مدارج السالكين ،39 /1عند الكلم
َ َ
م … "النحل ،"76/ط ،5 ما أب ْك َ ُ ه َ
حد ُ ُ
نأ َجل َي ْ ِ
مث َل ً َر ُ ب الل ّ ُ
ه َ ضَر َ
و َ
َ على قوله تعالى:
1994-1414م ،وهذبه :عبد المنعم صالح العلي العزي -مؤسسة الرسالة ،بيروت .
) ()12الشاطبي( أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الللخمي ت 790هس :الموافقات في أصول
الشريعة ،1/313توزيع عباس أحمد الباز ،الطبعة لم تذكر .
20
إما التسليم بذلك ونبذ فكرته ،وإما معارضتها
بدليل يبرزه ،وهو أسلوب في الحوار مأخوذ من مفهوم
كم إن كنتم صادقين هان َ ُ
هاُتوا ب ُْر َ قوله تعالى ُ …
ق ْ
ل َ
"النمل. …"64/
ليستبين به مقدار الحفظ -2
اللهي لكتاب الله الكريم على هيئة
إجماعية للمة في كل ما يتعلق باللفظ
القرآني ،حتى في أدق التفاصيل ،وهو أمر يدعو
للدهشة ليس له تفسير إل أن الحفظ للكتاب
الكريم إلهي .
-4ولن الكلم في هذا البحث دائر حول أمر
سمعي ل عقلي ،فالشأن فيه يرجع إلى النقل ،ومجال
العقل الستنباط وفق قواعد وأصول الستنباط ،ولذا
يلتزم الباحث بإيراد نصوص القرآن الكريم وصحاح عند
الستدلل للحقيقة أو تقعيد القاعدة فيما يتعلق
بالموضوع ،ولكن قد يرد –في النادر-حديث ضعف عند
بعض صيارفة الحديث فيما كان سبيله الستئناس ل
التقعيد والتأصيل…وهذا منهج مقبول على تفصيل معلوم
عند علماء الحديث وأصول الفقه .
الهيكل العام للبحث:
يتكون البحث من خمسة فصول:
ووجه هذه القسمة :أن )تلقي النبي ألفاظ القرآن(
يستلزم الحاطة العلمية بس )التلقي( ،و)المتلقي( وهو
قى( وهومل ْ َ
قي( وهو جبريل ،و)ال ُ مل ْ ِالنسبي ،و)ال ُ
القرآن ،و)الخاص من ذلك ،وهو ألفاظ القرآن(…فتلك
ل في خمسة فصول إيماء وإشارة ،أو ص ُ
ف ّ خمسة محاور ،ت ُ َ
تبينا ً بالقصد الصلي ،وصريح العبارة ،وبيان ذلك أن يقال:
21
لما كان البحث دائرا ً حول كيفية تعليم جبريل ؛
فقد لزم أن تعرف مؤهلت المعلم من حيث هو معلم
خاص من عالم غيبي؛ فتظهر من خلل ذلك صورة تفرغه
لهذه المهمة الجليلة ،وجدارته القائمة على إعداده اللهي،
قي )المهاري(؛ فكان الفصل خل ُ ِ خل ْ ِ
قي ،وال ُ واستعداده ال َ
الول منعقدا ً لهذه الغاية ،وعنوانه :مؤهلت المعلم.
ولن المعلم الملقي ينتمي من حيث جنسه إلى عالم
الغيب بالنسبة للبشر ،وذا يقتضي عدم قدرة النسان في
أحواله الطبيعية على اللتقاء بعالم غيبي أو التصال به؛
م تفصيل السبل التي جعلت التصال بين فقد لزم أن ي ُعْل َ َ
المعلم جبريل والمتعلم وهو النبي ميسورا ً بل أكثر
يسرا ً من اتصال البشر بالبشر…فتخبت عند ذاك قلوب
الذين أوتوا العلم بأن جبريل كان يأتي النبي في كل
لحظة زمانية ،في أي حيز مكاني ليؤدي مهمته التعليمية
إنشاًء ،أو متابعة…وذلك مفصل في الفصل الثاني،
وعنوانه :اتصال جبريل بالنبي للوحي القرآني .
ة لغاية البحث الساسية:
ولما كان ما سبق تقدم ً
وهي بيان أوجه تعليم جبريل لفظ القرآن،
ومتعلقات ذلك؛ وتلقي النبي ألفاظ القرآن
منه ،فقد كان الفصل الثالث منعقدا ً لتلك الغاية،
وعنوانه :هيئة تلقي النبي ألفاظ القرآن الكريم من
جبريل بما يحتويه من مباحثه التسعة .
22
ضا ً أو
وإذ توجد في كل موضوع جوانب تقرب من محور البحث عََر َ
ضا ً؛ فقد كان الفصل الرابع منعقدا ً لهذه الغاية،
غََر َ
وعنوانه :الصول العامة في تعليم جبريل القرآن من
حيث اللفظ ،وهو يرمي لتحقيق هذا الهدف ل
لغيره ،كما أن فيه بيان لمظاهر الصحبة
المتميزة بين جبريل والنبي ،والرتباط
الوثيق بينهما ،والعلقة الحميمة التي تمثل أوج
الروابط بين مقرئ ملقي ،وقارئ متلقي .
ولن محور البحث وهو )التلقي( قد يجابه بجملة
انتقادات في دقته ،أو بقدٍح في هيئته ،وي َُر ّ
شح ذلك
غرابة التصال بين مخلوقين من مستويين فيزيائيين
مختلفين ،وخصوصيته بين طرفي العملية التعليمية
التلقينية؛ فقد انعقد الفصل الخير لمعالجة جانب
السلب في موضوع البحث ،بعد أن سبقته الفصول
الربعة بمعالجة جوانب اليجاب فيه ،ولذا كان الفصل
الخامس ،وعنوانه :دمغ الباطل ،وفيه يذكر الباحث بعض
الشبهات المقدوح بها في دقة تلقي النبي ألفاظ
القرآن الكريم ،دامغا ً باطلها بحقائق التلقي اليقينية التي
حفت العملية التعليمية بين النبي وجبريل ،ولذا
فتناولها سيكون من هذه الزاوية ل غير.
ولن البحث دائر حول منهج ُيعّلم وُيتعلم تلقيا ً فقد
ُألحق بالبحث مناقشة علمية حول ماهية المنهج المتلقى
)القرآن الكريم( من حيث حدوده اللفظية كنوع من
المعرفة لمذاهب العلماء حول الحدود الفاصلة في تعريف
القرآن الكريم ،وللتأكيد على أن اختلف ألفاظهم في
تعريفه…إن هو إل زيادة تأكيد منهم على بدهية حدوده
اللفظية عند المسلمين ،والمنهج التلقيني في تعلمه
وتعليمه لُيعَلم أن التلقي صفة ذاتية للقرآن الكريم .
23
وقد حذف الباحث من هذه الطبعة بعض المباحث،
والتراجم ،والحواشي التي لم يرها ضرورية في النشر
العام) ،(13وكانت من أصل الرسالة ،كما أن الباحث يعتذر
عن الطبيعة الجدلية التي كانت تسوق إليها طبيعة
المسألة المبحوثة سوقًا ،كما عمد إلى تزكية الجو العلمي
للبحث بجمل أدبية في آخر كل مرحلة من مراحل البحث
التي عبرت عنها الفصول والمباحث .
ومن الله –وحدهُ-يلتمس التوفيق والسداد،
والحمد لله رب العالمين .
()13أصل هذا البحث رسالة علمية قدمت لنيل درجة التخصص الولي )الماجستير( من قسم
التفسير وعلوم القرآن في جامعة القرآن الكريم والعلوم السلمية في السودان تحت
إشراف فضيلة الستاذ الدكتور/أحمد علي المام مدير جامعة القرآن الكريم سابقا ً ومستشار
الرئاسة لشؤون التأصيل ،ونالت درجة ممتاز مع التوصية بطباعتها .
24
الفصل الول
ملقي
مؤهلت المعلم ال ُ
وى ديدُ ال ْ ُ
ق َ ه َ
ش ِ عل ّ َ
م ُ َ
يتألف هذا الفصل من مقدمة وأربعة مباحث:
فالمقدمة لبيان جلية المر في ألفاظ القرآن الكريم وأنها ألفاظ رب
فيها سوى صفة الُمْر َ
سل الُمعّلم ،وليس العّزة وكلمه ،وليس لجبريل
فيها سوى صفة الُمْر َ
سل المبّلغ . للنبي
والمبحث الول يتكلم عن أهمية الحديث عن موضوع جبريل في
بعده التاريخي وأهدافه المنهجية .
والمبحث الثاني يفصل صفات جبريل التي صار بموجبها جديرًا
خلقية ،وسجاياهبتحمل الوحي القرآني ،وتعليمه للنبي في طبيعته ال َ
خلقية .
ال ُ
والمبحث الثالث يتحدث عن كون جبريل هو المختار الوحيد من
بين الملئكة ليكون أمين وحي ال لهل السماء .
والمبحث الرابع يتحدث عن نتيجة ذلك وهو أن جبريل هو المين
على وحي ال لهل الرض ،كما يتكلم هذا المبحث عن المقتضى
المنهجي لذلك ،وهو سد ذريعة القدح في الوحي .
25
مقدمة:
من المتكلم به ؟:
حي بالقرآن ؟ َ
من المو ِ
َ
وهي أهم مسالة منهجية يرتكز عليها البحث على الرغم من صغر
الحيز المحدد لها ،ولن تجيب الدراسة على هذا السؤال بل إن الجابة
التي في القرآن الكريم كافية بعد اطراح ما اعترى علماء الكلم من خلل
نذي َ وإ َِلى ال ّ ِ ك َ حي إ ِل َي ْ َ ك ُيو ِ ودخل؛ إذ يقول ال تعالى :ك َذَل ِ َ
م" الشورى ،"3/وحسبك عظمة أن كي ُ ح ِ زيُز ال ْ َ ع ِه ال ْ َ ك الل ّ ُ قب ْل ِ َن َ م ْ ِ
توا ُ ما َس َ كادُ ال ّ ت َ َ المتكلم بالقرآن هو ال الذي من عظمته
" الشورى ،"5/فليس لعلى رجل في البشر ن
ه ّ ق ِو ِ ف ْ ن َ م ْ ن ِ فطّْر َ ي َت َ َ
حي َْنا إ ِل َي ْ َ َ
حا ك ُرو ً و َ كأ ْ وك َذَل ِ َوهو النبي مقدار قطمير فيه َ
َ
ن" الشورى/ ما ُ لي َول َ ا ِ ب َ ما ال ْك َِتا ُ ري َ ت ت َدْ ِ ما ك ُن ْ َ رَنا َ م ِنأ ْ م ْ ِ
،"52ويبقى بعد ذلك تحديد أطر المحافظة على القرآن بعد
وصوله إلى البشر ليبقى متلوًا كما تكلم به ال ،ومقروءًا كما أنزله ال،
بما أنزله ال لفظًا وأداء ،لم يطرأ عليه تغيير لفظي ،ولم يشبه زيف من
تطوير لغوي ،أو تحريف لهجي إل في الحدود التي أرادها ال –تعالى
ذكره.-
وأول هذه الطر :أن الذي تولى أمر المحافظة عليه هو ال
وإ ِّنان ن َّزل َْنا الذّك َْر َ ح ُ زله كما قال تعالى مثبتًا الحفظ إ ِّنا ن َ ْ منـ ِ
ن" الحجر ،"9/وقال نافيًا طروء أدنى تغيير ل َ ظو َ ف ُ حا ِ ه لَ َ لَ ُ
" النعام ،"115/فهذا في كلمه من حيث هو كلم ه
مات ِ ِ ل ل ِك َل ِ َ مب َدّ َ ُ
مقول ،وأما فيه من حيث هو كلم مكتوب فقد قال –جل ذكره -إثباتاً
ْ
ه
زيٌز)(41ل ي َأِتي ِ ع ِب َ ه ل َك َِتا ٌ وإ ِن ّ ُللحفظ ونفيًا لمكان التغييرَ :
كيم ٍ
ح ِ
ن َ
م ْ زي ٌ
ل ِ ه ت َن ْ ِ خل ْ ِ
ف ِ ن َ
م ْ
ول ِ
ه َ
ن ي َدَي ْ ِ
ن ب َي ْ ِ
م ْ ال َْباطِ ُ
ل ِ
ميٍد" فصلت."42-41/ ح ِ َ
علم أن
والحفظ هنا ينصرف انصرافًا أوليًا إلى حفظ اللفاظ؛ لنه قد ُ
المعنى غير منضبط إل بضبط لفظه له ،فحفظ اللفظ مقت ٍ
ض
زم لحفظ اللفظ.
لحفظ المعنى ،وحفظ المعنى مستل ِ
ٍ
26
وإذا كان ذلك كذلك ،فما نوع نسبة القرآن في
ل كَ ِ
ريم "الحاقة،40/ سو ٍ و ُ
ل َر ُ ه لَ َ
ق ْ قوله-تعالى ذكره -إ ِن ّ ُ
التكوير "19/؟ .
ل يشك من له علم في كلم العرب ،وتصاريف أنواع خطابه ،بل من
يعاصر القوام في عاداتهم الكلمية أن النسبة إلى جبريل نسبة أداء ،ل
نسبة إنشاء ،وهو لزم وصفه بالرسالة؛لنه واسطة فيه ،وناقل له عن
سله ،وهو ال – تعالى ذكره -؛إذ إضافة القول إلى الرسول إنما هو ُمْر ِ
لدنى ملبسة لن جبريل يبلغ ألفاظ القرآن إلى النبي فيحكيها كما
ظها ،لذاظها ،ل أنه منشئ ألفا ِ أمره ال ،فهو قائلها أي صادرٌة منه ألفا ُ
قال القرطبي -رحمه الله تعالى -في تفسير سورة التكوير" :وأضاف الكلم
ن
مي َ عال َ ِ
ب ال ْ َن َر ّم ْ ل ِإلى جبريل ثم عداه عنه بقولهَتنـزي ٌ
" الحاقة"43/؛ ليعلم أهل التحقيق في التصديق أن الكلم ل ،(14)"
ل سو ٍ ل َر ُو ُق ْوبذلك صرح سائر العلماء) ،(15فقوله تعالى ل َ َ
ريم ٍ" التكوير "19/معناه لقول الرسول أي لقوله المبلغ له عن ال ، كَ ِ
فقرينة ذكر الرسول تدل على انه إنما يبلغ شيئًا أرسل به؛ فالكلم كلم ال
: ألفاظه ،ومعانيه ،وجبريل مبلغ عن ال ،وبهذا العتبار نسب
القول له).(16
فنسبة كلم الله –تعالى ذكره -لجبريسسل نسسسبة أداء )أي
تبليغ الرسول ما أمره الله بتبليغه( ل نسبة إنشاء.
) ()14القرطبي( أبو عبد الله محمد بن أحمد النصاري القرطبي :الجامع لحكام القرآن
1405 ،9/240هس 1985 -م ،دار إحياء التراث العربي -بيروت .
()15انظر :تفسير الجللين ،وبهامشه حاشية الصاوي ،4/389دار الفكر بيروت 1414هس -
1993م ،قدم له وأشرف على تصحيحه :صدقي محمد جميل ،والتحرير والتنوير ،30/155
مرجع سابق ،وروح المعاني . 30/104
) ()16الشنقيطي( محمد المين بن محمد المختار الجكني :أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
،703/ 7عالم الكتب -بيروت ،فالقول الذي ينـزل به على قلب النبيليس قوله من حيث الحقيقة
كما تقدم ،بل يأخذ فيه صفة الرسالة ،قال في التحرير والتنوير ،30/155مرجع سابق " :وفي
التعبير عن جبريل يوصف رسول إيماء إلى أن القول الذي يبلغه هو رسالة من ال مأمور بإبلغها
كما هي " .
27
وكذلك يقال في آية الحاقة بالنسبة للرسول ،فالنطق نطق
،أو
القارئ ،والكلم كلم الباري ،كما ُيقال هذا قرآن ابن مسعود
قرآن على بن أبي طالب ،أو قراءة فلن…عنوا به أنه خارج بصوته ل
أنه كلمه .
28
المبحث الول:
أهمية موضوع تعليم جبريل :
يتحدث هذا المبحث عن أهمية موضوع تعليم جبريل النبي
في إطاره التاريخي ،وتعلق ذلك بألفاظ القرآن الكريم ،وما تحققه دراسة هذا
الموضوع من أهداف؛ ذاك بأن هذا الموضوع هو الوجه الخر لموضوع
تلقي النبي ألفاظ القرآن الكريم من جبريل.
ويتألف هذا المبحث من مطلبين:
المطلب الول :الُبعد التاريخي والموضوعي للهتمام بهذا
الموضوع .
المطلب الثاني :أهداف دراسة هذا الموضوع .
المطلب الول :الُبعد التاريخي والموضوعي للهتمام بهذا
الموضوع:
إذا كان جبريل هو الذي بلغ رسول ال القرآن الكريم ،وعلمه إياه
جعل بأمر ال شيخًا للنبي ، ومعلمًا له بصريح قوله فإن جبريل قد ُ
قَوى" النجم ،"5 /فقد بات حتمًا على متتبعي ديدُ ال ْ ُ ه َ
ش ِ م ُ َ
عل ّ َ
ل كيفية تعليم جبريل القرآن علوم القرآن الكريم أن يتتبعوا تفصي ً
الكريم؛ إذ يأخذ حيز الهمية الولى في دراسة العلوم السلمية الشرعية،
ومن هاهنا اهتم العلماء بهذا الموضوع اهتمامًا بالغًا ،فإن كان المر كذلك؛
فليس الباحث بدعًا في اهتمامه بذا الموضوع ،بل كان هذا الموضوع كما لم
يزل على رأس قائمة المفردات العلمية والشرعية التي يمارس درايتها أولوا
ل عن أرباب الحجى من العلماء. النهى من المسلمين فض ً
ب ،فقد روتوأول من أثاره :الصحابة تعبًدا وازديادًا في طمأنينة قل ٍ
عائشة-رضي ال تعالى عنها -أن الحارث بن هشام سأل رسول ال ،فقال :يا
رسول ال ! كيف يأتيك الوحي؟ …الحديث).(17
قال السندي-رحمه ال تعالى":-ظاهره أن السؤال عن كيفية الوحي نفسه ،ل
عن كيفية الملك الحامل له ،ويدل عليه أول الجواب ،لكن آخر الجواب يميل
إلى أن المقصود بيان كيفية الملك الحامل ،فيقال يلزم من كون الملك في
()17يأتي بتمامه -إن شاء الله تعالى -في الفصل الثاني -المبحث الثالث .
29
صورة النسان كون الوحي في صورة مفهوم ُمَتَبّين أول الوهلة ،فبالنظر
إلى هذا اللزم صار بيانًا لكيفية الوحي ،فلذلك قوبل بصلصلة الجرس،
ويحتمل أن المراد للسؤال عن كيفية الحامل أي كيف يأتيك حامل
الوحي").(18
ولم تنقله عائشة-رضي ال تعالى عنها-ثم من بعدها إل لجللته عندهم ،فليست
المسألة فضول قول ،ونافلة كلم .
وقد قال الواقدي -فيما حكاه عنه ابن سعد" :-حج أمير المؤمنين هارون
ل عارفًا بالمدينة
الرشيد فورد المدينة فقال ليحيى بن خالد :ارتد لي رج ً
والمشاهد ،وكيف كان نزول جبريل على النبي ومن أي وجه كان
يأتيه …").(19
وجعل ابن حبان -رحمه ال تعالى-مسألة بدء الوحي وكيفية تلقيه أول أنواع
يحتاج إلى معرفتها من أخبار النبي ،حيث قال" :وأما أخبار النبي
عما احتيج إلى معرفتها ،فقد تأملت جوامع فصولها ،وأنواع ورودها،
لسهل إدراكها على من رام حفظها ،فرأيتها تدور على ثمانين نوعًا :النوع
الول :إخباره عن بدء الوحي وكيفيته…"). (20
بل هو رأس المفردات الصولية ،ويظهر هذا في صنيع المام
البخاري -رحمه الله تعالى -في صحيحه؛ إذ جعل كتاب بدء الوحي أول
ل على المنهج العلمي المسلوك عند المسلمين كتب الصحيح ،وإنما فعله دلي ً
ن إلى صواب هذا الفقه في أهمية موضوع طْمِئ ُ
في عد العلوم النافعة ،مما ُي َ
جبريل .وفي وصف ابن عباس لقراءة النبي إثر تعليم جبريل
ع للعلماء عمومًا ،وللمتخصصين له بأنه )قرأه –أي القرآن -كما قرأه( دا ٍ
في علوم القرآن خصوصًا ليتعرفوا على كنه تعليم جبريل للنبي
القرآن من حيث لفظه؛إذ يتوقف عليه معرفة هيئة نقل أصل الصول
السلمية.
) ()18السندي( أبو الحسن نور الدين عبد الهادي ت 1138هس :حاشية السندي ،2/150
مراجعة :عبد الفتاح أبو غدة1406 ،هس –1986م ،مكتبة المطبوعات السلمية ،حلب .
) ()19ابن سعد( محمد بن سعد بن منيع البصري الزهري )168هس -ت 230هس( :الطبقات
الكبرى ،دار صادر بيروت .
) ()20ابن حبان( محمد بن حبان بن أحمد التميمي البستي ت 354هس :صحيح ابن حبان
بترتيب ابن بلبان ،1/131مراجعة :شعيب الرناؤوط1399 ،هس1979 -م ،مؤسسة الرسالة،
بيروت .
30
وما للتعليل لهمية هذا المبحث يذهب هسذا المسذهب
في الستدلل على أمر وضسسوحه جلسسي كالشسسمس ،وقسسد
كان كافيا ً ما يظهر من كسسثرة اليسسات السستي تتحسسدث عسسن
جبريل وتعليمه للنبي ألفاظ القرآن دليل ً على صحة
هذا المرام ؟ .
31
المبحث الثاني:
صفات جبريل :
سيقتصر الباحث هاهنا على الصفات التي ترتبط
بموضوع البحث ،وهي الصفات التي حبا الله بها جبريل
ليقوم بهذه المهمة الجليلة ،وهي ما أعده الله فيه من
خُلقية من حيث أنه الرسول الذي خل ْ ِ
قية وال ُ السجايا ال َ
يحمل الوحي ،ويعلمه للرسول الذي يعلمه لهل الرض،
وكلمنا عن هذه الصفات مقتصٌر عليها من حيث أن
جبريل هو الناقل للقرآن من السماء إلى الرض،
وينقسم هذا المبحث إلى مطلبين من حيث عودة هذه
خُلقية،
خلقية ،أو إلى السجايا ال ُ
الصفات إلى الطبيعة ال َ
وقد يتداخلن:
) ()21ابن أبي عاصم( أبو بكر أحمد بن عمرو بن الضحاك الشيباني ت 287هس :الحاد
والمثاني ،3/456مراجعة :د .باسم فيصل أحمد الجوابرة1411 ،هس –1991م ،دار الراية
الرياض.
()22صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان ،14/337مرجع سابق ،وقال الشيخ شعيب
الرناؤوط " :إسناده حسن " .
32
تفسيرها" :أي الشياء المختلفة اللَوان ،ومنه يقال لما يخرج في الّرياض
من أْلوان الّزهر الَتَهاويل ،وكذلك لما ُيَعّلق على الَهواِدج من ألوان الِعهْ ِ
ن
حُدها َتهوال ،وأصلها مما يهول النسان وُيحّيره").(23 والّزينة ،وكأن وا ِ
ولجبريل القدرة على التشكل إلى أجسام أخرى ،ولكنه كان أكثر
حية الكلبي(…فعن جابر أن ما كان يأتيه في صورة الصحابي الجليل )ِد ْ
رسول ال قال) :عرض علي النبياء … ورأيت جبريل ،فإذا أقرب
جِعلت هذه الصفة أول من رأيت شبها ً دحية بن خليفة() ،(24وإنما ُ
الصفات لرتباطها بالقدرة التي أودعها ال في جبريل ليأتي النبي
فيعلمه القرآن بإطلق الزمان والمكان ،وعلى أي هيئة كان ،وتأتي أمثلة
على ذلك -إن شاء ال تعالى. (25)-
وهل كان النبي يرى جبريل في خلقته الصلية دائمًا ؟ .
الجواب :لم يره كذلك إل مرتين فقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة-
رضي ال تعالى عنها -مرفوعًا) :لم أره يعني جبريلعلى صورته التي
خلق عليها إل مرتين() ،(26وبين أحمد في حديث ابن مسعود أن الولى
خِلق عليها ،والثانية عند
كانت عند سؤاله إياه أن يريه صورته التي ُ
المعراج). (27
فيها والمر ل يستدعي البحث بدقة في عدد المرات التي رأى النبي
؛ إذ المراد بيان أن رؤيته لجبريل مرة تحقق جملة أمور جبريل
من حيث نقل القرآن:
) ()23ابن الثير( المبارك بن محمد بن محمد بن عبدالكريم أبو السعادات الجزري ت 606هس:
النهاية في غريب الثر ،5/282النهاية في غريب الثر تحقيق :طاهر أحمد الزاوي و محمود
محمد الطباخي 1399 ،هس – 1979م ،دار الفكر -بيروت.
()24صحيح مسلم ،1/153مرجع سابق ،وراجع) :الدينوري( عبد الله بن مسلم بن قتيبة ت
276هس :تأويل مختلف الحديث ،مراجعة :محمد زهري النجار1972 ،م – 1393هس ،دار
ي هذا ُ
الجيل –بيروت ،ففيه رد ٌ على من استنكر وجود خلق له قدرة على التشكل ،وقد أت ِ َ
ن ك ِب ْرٍ في نفسه ما هو ببالغه ،وأول كلم ابن قتيبة –رحمه الله تعالى" :-ولم يأت
م ْ
كر ِ
المستن ِ
أهل التكذيب بهذا وأشباهه ،إل لردهم الغائب عنهم إلى الحاضر عندهم ،وحملهم الشياء
على ما يعرفون من أنفسهم ،ومن الحيوان ،والموات ،واستعمالهم حكم ذوي الجثث في
الروحانيين…" .
()25انظر :الفصل الثاني -المبحث الثاني.
()26مسلم ،1/153مرجع سابق .
) ()27ابن حنبل( أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني ت 241هس :مسند المام أحمد 3/120
س مؤسسة قرطبة -مصر .وللترمذي من طريق مسروق عن عائشة -رضي الله تعالى عنها
) :-لم ير محمد جبريل في صورته إل مرتين :مرة عند سدرة المنتهى ،ومرة في أجياد( .
33
منها :إيقاع الطمأنينة في قلب النبي برؤيته لعظيم قدرة
ال تتجلى في جبريل من جهة ،ومن جهة أخرى لطمأنته ،وتثبيت
قلبه على قدرة جبريل على نقل القرآن ،وتبليغ رسالة ربه دون توا ٍ
ن،
وزادت هذه الطمأنينة تأكيدًا برؤيته له مرة أخرى .
ومنها :دفع توهم أن الذي يأتيه شيطان ل من قلبه فقط ،بل من
قلب غيره .
-2أنه َمَلك :والَمَلك واحد الملئكُة ،وهو في الصل جمع َمل ٍ
ك ثم
ف الهاء فيقال َملِئك، ك ،وقد تحذ ُ ت همزُته لكثرة الستعمال فقيل َمَل ٌ حذَف ْ ُ
ك بتقديم الهمزة من الُلوك الرسالة ،ثم قّدَمت الهمزة وقيل أصُله َمْأَل ٌ
جمع) ،(28فالرسالة طبيعة ذاتية ملزمة لكون الملك ملكًا ،وهذه الرسالة وُ
هي ما يصدر إلى الملئكة من أوامر فيؤدونها أدق أداء ،وأتمه؛ لن
الرسالة طبيعة ذاتية فيهم ،وليس يخفى أن هذه هي أولى وسائل اليقين في
نقل القرآن ،إذ كون الرسالة طبيعة ذاتية في الملئكة يستلزم :المانة في
نقلها ،وإتقان النقل ،ويعضد هذا أنهم المختارون ليكونوا وسائط بين
مه ْ
و ُ
ل َو ِ ه ِبال ْ َ
ق ْ قون َ ُ ال وخلقه ،ولذا فقوله تعالىل َ ي َ ْ
سب ِ ُ
َ
ح لحال الملئكة ،وليس بتأسيس " النبياء "27/إيضا ٌ نمُلو َ ع َ
ه يَ ْ
ر ِم ِ
ب ِأ ْ
ض تخرصات ح دح ُ لصفة جديدة بعد نعتهم بالملئكية ،واقتضى هذا اليضا َ
الشرك وأهله في طبيعة الملئكة .
ن في القرآن -3الروح :وقد وردت هذه اللفظة على خمس معا ٍ
الكريم) ،(29ول خلف ين المفسرين وغيرهم في أن المراد بها في قوله
ة
ح ُ
س َ
م ْ
)( النهاية في غريب الثر ،4/358مرجع سابق ،وفيه" :وفي حديث جرير :عليه َ
28
34
ن" الشعراء "194/هو جبريل،(30) ح ال َ ِ
مي ُ ه الّرو ُ تعالى ن ََز َ
ل بِ ِ
31
طهارة) (. خِلق من َ ويسمى جبريل روح القدس لنه ُ
وهذه الصفة الجليلة لجبريل ورد مدحه بها في معرض التأكيد
على سلمة نقل القرآن ،وبيان خصائص لفظه من سورة الشعراء ،وذلك
داٌل على مبلغها من جللة القدر في نقل القرآن من السماء إلى الرض،
ولعل من أسرارها في هذا الباب أن الروح فيه معنى الحياة والحركة،
ق حي ل يعروه ويومئ ذلك إلى أن تلقي جبريل للقرآن من ال تل ٍ
شائبة كسل ،أو موات؛ إذ كون الناقل مخلوقًا واحدًا وهو جبريل مدعاة
لن يشكك في نقله أقوام اعتادوا الجدل وألفوه .
ويزيد هذا المعنى إيضاحًا أن لفظة )روح( ل ترد في القرآن الكريم
إل للمور التي استأثر ال بها بأحد أنواع الستئثار علمًا )كروح
ظم خلقهعّ ل )كالقرآن(… ولذا ذكر ال خلق آدم ،و َ النسان( ،أو قو ً
حي ن ُرو ِم ْه ِفي ِ
ت ِ خ ُ
ف ْون َ َعندما بين أنه نفخ فيه من روحهَ
"ص "72/وهي المنقبة التي يذكرها له الناس يوم القيامة في حديث الشفاعة
الكبرى…وهذا يثبت ما ُذِكَر من علقة سلمة نقل القرآن من السماء إلى
الرض ،ودقة نقله كما قاله ال ،بوصف جبريل بالروح .
كما أن من أهم مقتضيات كونه روحا ً :إمكانية التصال
المطلق ،مع خفاء ذلك على من حوله ،وذاك يمكنه من المجيء إلى النبي
دون أن يشعر به أحد ،وذلك لن الروح تطلق على ما خفي). (32
-4السرعة والفورية في النـزول بالوحي القرآني:
ل بهيئته الشديدة على النبي ، وذلك عند
حتى لو كان جبريل ناز ً
القتضاء إنشاء أو استدراكًا ،وهذه الصفة إحدى التطبيقات للصفات
الخرى كالقوة ،والمانة ،ولُيذكر ها هنا نموذجان عن هذه السرعة من
حيث البلغ العام ،والبلغ القرآني:
()30وعند )ابن سعد( أبو عبد ال محمد بن سعد بن منيع البصري الّزهري ) :(230 -168الطبقات
س الكبرى ،194/1دار صادر -بيروت :عن قتادة في قوله تعالى َوَأّيْدَناُه ِبُرو ِ
ح اْلُقُد ِ
"البقرة "87/قال" :هو جبريل".
()31النهاية في غريب الثر ،4/23مرجع سابق .
()32انظر :المبحث الثاني من الفصل الثاني .
35
فنموذج البلغ العام :ما قاله صهيب): يا رسول ال! ما سبقني إليك
أحد ،وما أخبرك إل جبريل() .(33وهذا في الحداث الواقعية ،فكيف يكون
خَذت له كل الوسائل
الشأن في أمر يتعلق بالوحي القرآني اللهي ،وقد اُت ِ
اللهية المحضة ،والبشرية الُمعانة إعانة إلهية ليقرأه كما أنزله ال وهو
البلغ الخاص ؟ ،ونموذج ذلك :ما رواه سهل بن سعد الساعدي أنه
قال :رأيت مروان بن الحكم جالسًا في المسجد ،فأقبلت حتى جلست إلى
جنبه فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول ال أملى عليه …ل َ
ل
سِبي ِ
في َ ن ِدو َ
ه ُ
جا ِ وال ْ ُ
م َ ن َ
مِني َ
ؤ ِ ن ال ْ ُ
م ْ م ْن ِ دو َع ُ
قا ِ وي ال ْ َ ست َ ِيَ ْ
م " النساء– "95/قال :-فجاء ابن أم مكتوم ه ْ
س ِف ِوَأن ُ
م َ ه ْ
وال ِ ِم َ
َ
ه ب ِأ ْ الل ّ ِ
ي ،فقال :يا رسول ال! لو أستطيع الجهاد لجاهدت ،وكان وهو يمليها عل ّ
ل أعمى ،فأنزل ال على رسوله وفخذه على فخذي ،فثقلت علي رج ً
سّري عنه…فأنزل ال َ
غي ُْر حتى خفت أن ُتَرض فخذي ،ثم ُ
ر.(34) ُ
ضَر ِوِلي ال ّ أ ْ
ست ََوى" النجم "6/أي هو
فا ْة َ
مّر ٍ -5القوة :كما قال تعالى ُ
ذو ِ
صاحب جسٍم "في قوة وقدرة عظيمة على الذهاب فيما أمر به ،والطاقة
لحمله في غير آية النشاط والحدة ،كأنه ذو مزاج غلبت عليه الحدة)،(35
) : أريت
()33المستدرك على الصحيحين ،3/452مرجع سابق ،عن صهيب قال :قال رسول ال
دار هجرتكم سبخة بين ظهراني حرة ،فإما أن تكون هجرًا ،أو تكون يثرب(
.قال :وخرج رسول ال إلى المدينة وخرج معه أبو بكر ،وكنت قد هممت بالخروج معه
فصدني فتيان من قريش فجعلت ليلتي تلك أقوم ول أقعد فقالوا :قد شغله ال عنكم ببطنه ،ولم أكن
شاكيًا .فقاموا فلحقني منهم ناس بعدما سرت بريدًا ليردوني ،فقلت لهم :هل لكم أن أعطيكم أواقي من
ذهب وتخلون سبيلي وتفون لي؟ .فتبعتهم إلى مكة فقلت لهم :احفروا تحت أسكفة الباب فإن تحتها
الواق واذهبوا إلى فلنة فخذوا الحلتين .وخرجت حتى قدمت على رسول القبل أن يتحول
منها –يعني قباء -فلما رآني قال) :يا أبا يحيى ربح البيع( ثلثًا .فقلت :يا رسول ال! ما سبقني
إليك أحد وما أخبرك إل جبريل . وقال الحاكم " :هذا حديث صحيح السناد ولم يخرجاه" .
36
ض في مرارته ،على طريقة واحدة على غاية من فهو صعب المراس ،ما ٍ
الشدة ل توصف").(36
ويأتي تفصيلها في المطلب الثاني -إن شاء ال تعالى. -
على أنه ينبغي التنبيه من خلل الستعراض
لمظاهر قوة جبريل الخلقية أن هذه الخلقة
العظيمة التي هيأه الله -تعالى ذكره -بها تحمل في
طياتها تهيئته بحمل الجهزة التكوينية المناسبة لحفظ
كلم الجبار عند استماعه ،ثم نقله له كما هو إلى
النبي بالسرعة المطلوبة في الوقت المعين …ولذا
أول من يقوم من الصعق عندما يتكلم كان جبريل
الله
بالوحي –كما سيأتي إن شاء الله تعالى.(37)-
المطلب الثاني :صفاته من حيث سجاياه ال ُ
خُلقية:
ريم ٍ ل كَ ِ
سو ٍ و ُ
ل َر ُ ق ْ كريم :كما في قوله إ ِن ّ ُ
ه لَ َ (1
"التكوير ،"19/وهي صفة تقتضي نفي المذام كلها ،وإثبات صفات المدح
اللئقة به) ،(38وفي تفسيرها يقول اللوسي -رحمه ال تعالى" :-عزيز على
ال سبحانه وتعالى") ،(39وقال ابن كثير -رحمه ال تعالى" :-ملك حسن
الخلق بهي المنظر") ،(40وفي التحرير والتنوير في معنى كريم أنه:
"النفيس في نوعه"). (41
فقد جمعت له كلمة "كريم" كل المحامد ،كما أظهرت
تميزه بخصائص ل توجد لسواه من الملئكة ،فهو نفيس بين الملئكة .
()36انظر) :البقاعي( برهان الدين أبو الحسن إبراهيم بن عمر )ت 885هس( :نظم الدرر في
تناسب اليات والسور 1413 ،19/44هس1992 ،م ،ط ،3المكتبة التجارية ،مكة المكرمة .
( )37انظر :المبحث الثالث من هذا الفصل .
()38البحر المحيط ،8/434مرجع سابق .
()39روح المعاني ،30/104مرجع سابق .
()40ابن كثير ،4/409مرجع سابق .
()41انظر :التحرير والتنوير ،30/153مرجع سابق .
37
ذو قوة":أي شديد ،وقيل :المراد القوة في أداء طاعة ال ، (2
وترك الخلل بها من أول الخلق إلى آخر زمان التكليف ،وقيل :ل يبعد
أن يكون المراد قوة الحفظ ،والبعد عن النسيان ،والخلط"). (42
قّوٍة " التكوير "20/لذلك كله؛ إذ ول يستبعد شمول وصف ِذي ُ
ة بشيء! بل ذلك هو و ٍ يقتضي ذلك إطلُقها ،وعدم تقييد النكرة ُ
ق ّ
ظَهُر هذا المعنى حتى يصير في حيز الحقيقة المقررة: الظهر ،وُيست ْ
وى "النجم/ ديدُ ال ْ ُ
ق َ بمجيء كلمة )قوة( مجموعة في قوله َ …
ش ِ
،"5ومن حيث خصوص مناط البحث فإنه يظهر من خلل هذا الوصف
قوته في أداء هذه المانة الشاملة لكل أنواع القوة .
والمراد الكلي من هذا الوصف :قدرته على أداء مهمته
قّوٍة يعني أن جبريل ما ُكّلف به من أمر التعليمية ،فـِذي ُ
غير عاجز). (43
ويدخل في هذه القوة دخول ً أوليا ً:
قوة الحفظ . -1
وقوة الوصول إلى الرسول من البشر . -2
وتلطف المجيء ،له بما يحتاج من خصال يحتاجها -3
الملك ،ليعوض بها ضعف البشر عن إدراك المل الغيبي؛ لذا قال
الشوكاني" :ذي قوة شديدة في القيام بما كلف به").(44
وقوة البدن المتعددة المناحي لزمة للتنقل بين -4
هذه المسافات الهائلة في وقته الذي أمر بالتبليغ فيه بشكل دقيق،
قال الصاوي –رحمه ال تعالى – ذاكرًا بعض قوته" :فكان من قوته:
أن اقتلع قرى قوم لوط من الماء السود) ،(45وحملها على جناحه
فرفعها إلى السماء ،ثم قلبها ،وأنه صاح بثمود صيحة فأصبحوا
جاثمين ،وأنه يهبط من السماء إلى الرض ،ثم يصعد في أسرع
من رد الطرف").(46
()42روح المعاني ،30/104مرجع سابق .
()43انظر :تفسير الطبري ،30/80مرجع سابق .
()44فتح القدير ،5/481مرجع سابق .
( )45لعله يعني البحر الميت؛ إذ هو موضعهم …أو النفط السود؛ إذ أن موضعه غائر في
الرض أكثر من الماء…فعبر بموضعه دللة على اجتثاث القرى من أصلها في الرض .
()46حاشية الصاوي ،4/389مرجع سابق .
38
وهذا الخير الذي ذكره الصاوي هو المراد ،وما قبله خادم لليراد،
وتناقل المفسرون هذا المعنى في أداء الرسالة التي كلف بها جبريل على
أتم وجه وأتقنه ،بل جعل ذلك التقان هو طبيعة جبريل ،فقوله
ريم ٍ يحتمل أن تكون الصفة المشبهة تدل على الطبيعة والسجية كَ ِ
الذاتية ل المتكلفة)"،(47فالقوة حقيقتها مقدرة الذات على العمال العظيمة
التي ل يقدر عليها غالبًا ،وتطلق مجازًا على ثبات النفس على مرادها،
قّوٍة خذْ ال ْك َِتا َ
ب بِ ُ حَيى ُوالقدام على رباطة الجأش قالَيا ي َ ْ
قّوٍة" البقرة ،"63/فوصف جبريل ما آت َي َْناك ُ ْ
م بِ ُ "مريمُ "12/
خ ُ
ذوا َ
بس ِذي قوة يجوز أن يكون شدة المقدرة ،كما وصف بذلك في
قوله ُذو ِمّرٍة ،ويجوز أن يكون من القوة المجازية ،وهي الثبات في
وى" النجم"5/؛ ق َ ديدُ ال ْ ُ ه َ
ش ِ م ُ أداء ما أرسل به ،كما قال َ
عل ّ َ
د
دي ُ
ش ِ لن المناسب للتعليم هو قوة النفس ،ولذا وصف في النجم بـَ
قَوى استطاعته تنفيذ ما أمر ال به وى ،والمراد بـال ْ ُ ق َال ْ ُ
من العمال العظيمة القلبية والجسمانية ،فهو الملك الذي ينـزل على الرسل
بالتبليغ ،وقوته شملت قوة العقل ،إضافة إلى قوة الجسم وقوة أداء المهمة،
وإتقانها؛ولذا وصف بقولهُ ذو ِمّرٍة ،والمرة تطلق على الذات،
وتطلق على متانة العقل ،وأصالته ،وهو المراد هنا ،واتفق المفسرون على
أن المراد جبريل . (48)"
جِمَع هذا مع ما قرره أبو حيان -رحمه ال تعالى -في معنى صفة فإذا ُ
ريم ٍ وهو أنها صفة تقتضي نفي المذام؛ اتضحت إصرارية تثبيت ك َ ِ
قوة الحفظ وشدة الملكة التي بها يبلغ وحي ربه ،وتعليمه رسول ال
ل لكل حرف ،وتبيانًا لكل كلمة ،من غير أن يقال أن القرآن الكريم تفصي ً
ذلك مبالغ فيه ،أو أنه ليس في مقدرة جبريلمن حيث الحركة ،أو من
حيث الحفظ.
قه بضم القاف . ()47كما في فقيه من ف ُ
()48التحرير والتنوير ،30/155مرجع سابق ،وانظر :البحر المحيط ،8/154مرجع سابق،
وقد ذكر فيه عن الحسن أن "شديد القوى" هو الله ،واستبعده ،وكذا تفسير الشوكاني
،5/130مرجع سابق ،وأورد ابن كثير 4/210قول ً لبن عباس وقتادة" :منظرحسن" ،ثم
قال" :ول منافاة بين القولين" .
39
طاٍع " التكوير :"21/فهو مطاع في ملئكة ال المقربين م َُ (3
يصدرون عن أمره ،وهو مؤكد لحقيقة ائتمارهم بأمره ،ومن أسباب ذلك
أنه أمين الوحي في السماء لهل السماء -ويرد تفصيل ذلك إن شاء ال
تعالى ،… (49)-ومن صور طاعة الملئكة لجبريل طاعة خازن
السماء له ،كما في حديث السراء) ،(50وذلك كله مؤثر في الشعور
بمقدرة هذا المعلم .
ن" التكوير :"21/فهو أمين المانة التي تقتضي القيام َ
مي ٍأ ِ (4
بالتبليغ الذي يصل إلى درجة من الدقة حتى في هيئات اللفاظ الداخلية
والخارجية ،وقد اتخذت هذه المانة طابعين:
أ -طابع العموم في كل ما أؤتمن عليه :قال الطبري" :أمين
عند ال على وحيه ،ورسالته ،وغير ذلك مما ائتمنه عليه"). (51
ب -طابع الدقة والتفصيل :إذ يتسع ُأفق فهمها ليشمل هيئات
اللفاظ الداخلية فذلك مقتضى الطلق في وصفه بالمانة هنا .
وأمانته من حيث الصالة تتسم بسمتين:
فهي ملكٌة دائمٌة ثابتٌة ،وسجيٌة متجددٌة :إذ المين هو الذي يحفظ ما عُِهَد
له به حتى يؤديه دون نقص ،ول تغيير .
وأمين )فعيل( إما بمعنى مفعول :أي مأمون من أمنته على كذا ،وإما
صفة مشبهة من أُمن بضم الميم ،إذا صارت المانة سجيته).(52
م بين هاتين الصفتين )مطاع، وسر التيان بقوله تعالى ث َ ّ
م ظرف مكان َ أمين( في قوله َ ُ
ن :أن ث َ ّ مي ٍمأ ِع ثَ ّ
مطا ٍ
للبعيد ،والمراد أنه موصوف بذلك في السماء ،وهو يوحي بلزوم اكتفائكم
بهذه الوصاف المطمئنة القاذفة لليقين بسلمة الرسالة ،ودقتها ،وأنها
كما أرادها ال ،وكما قالها فهي قرآن لم تطرأ عليها بارقة تغيير من أحد
()49في المبحث الثالث من هذا الفصل .
()50ففيه :قال النبي : فلما جئت إلى السماء الدنيا ،قال جبريل لخازن السماء :افتح .قال :من
هذا ؟ قال :هذا جبريل قال :هل معك أحد ؟ قال :نعم ! معي محمد فقال :أرسل إليه ؟ .قال:
نعم .فلما فتح علونا السماء الدنيا …( الحديث …صحيح البخاري ،1/300مرجع سابق .
()51تفسير الطبري ،30/80مرجع سابق .
()52التحرير والتنوير ،30/157مرجع سابق ،وكذا روح المعاني ،30/104مرجع سابق .
40
من المخلوقين؛ إذ الكلم عن غيب ما أدراكم به أنتم؟ فلتسمعوا وصفه من
مرسله ،وخالقه ،وحسبكم أنه بهذه المكانة في ذلك المكان العلى ،ولو شاء
ال ما تل عليكم ما ُأمر بتبليغه ،ولذا قال اللوسي" :والمقام يقتضي
تعظيم المانة؛ لن دفع كون القرآن افتراء منوط بأمانة الرسول")…(53
عل َي َْنا…" الحاقة"44/؟ ،وقرئ ُثم و َ
ل َ ول َ ْ
و تَ َ
ق ّ كيف وقد قالَ :
ل على سائر الوصاف)،(54 )بالضم( تعظيمًا لوصف المانة ،وتفضي ً
55
فالعطف بها للتراخي في الرتبة؛ لن ما بعدها أعظم مما قبلها) ( ،وقال
الزمخشري":وقرئ ُثم تعظيمًا للمانة وبيانًا؛ لنها أفضل صفاته
المعدودة").(56
ولهذه المانة مقتضاها العملي الهام في جهتين:
-جهة في ذاته :بأن يكون في أعلى درجات الخشية ل تعالى،
والمراقبة له :وهذه وإن كانت سجية دائمة ملزمة للملك من حيث هو ملك،
: ظاهرة التميز ،فعن جابر قال :قال رسول ال إل أنها في جبريل
)مررت ليلة أسري بي بالمل العلى ،وجبريل كالحلس البالي من
خشية الله تعالى().(57
-جهة في غيره :وهو أن يكون جبريل إذ اتصف بها :مقبول
القول ،يصدق فيما يقول ،مؤتمن على ما يرسل به من وحي ،وامتثال أمر،
مؤديًا لما أؤتمن عليه أحسن الداء ،وأدقه فدخل في ذلك أن يؤدي لفظ
القرآن أحسن أداء ،وأتقنه …بل أن ينقله على أقوم هيئة ُأمر بها…فأعظم
ما أؤتمن عليه تأدية ألفاظ القرآن .
ن" التكوير :"20/أي هو ذوكي ٍ
م ِش َ
عْر ِ عن ْدَ ِذي ال ْ َ
ِ (5
ن) فعيل( من كي ٍ مكانة رفيعة عند ال العظيم جل جلله ،فـَ
م ِ
مكن إذا علت رتبته عند غيره ،يعني هو ليس من أفناد الملئكة ،بل هو
()53روح المعاني ،30/105مرجع سابق .
()54انظر :تفسير أبي السعود ،5/489مرجع سابق ،والقراءة المذكورة قراءة شاذة .
()55انظر :فتح القدير ،481/ 5مرجع سابق .
()56الكشاف ،4/191مرجع سابق .
()57رواه الطبراني في الوسط ) ،2/134الطبراني(مسند الدنيا أبوالقاسم سليمان بن
أحمد بن أيوب ت :360المعجم الوسط ،مراجعة :محمود الطحان ،1985-1405 ،مكتبة
المعارف -الرياض ،وصححه اللباني في صحيح الجامع رقم ،5864انظر) :اللباني( محمد
ناصر الدين :صحيح الجامع الصغير وزيادته ،أشرف على طبعه :زهير الشاويش ،ط 3
1408هس – 1988م ،المكتب السلمي – بيروت .
41
من السادة الشراف معتنى به انتخب لهذه الرسالة العظيمة ،وعدل عن
اسم الجللة إلى )ذي العرش( بالنسبة لجبريل لتمثيل حال جبريل
ومكانته عند ال بحالة المير الماضي في تنفيذ أمر الملك ،وهو
بمحل الكرامة لديه).(58
طن للتأمل فيه في قوله في وصف جبريل: ف َ ومما ي ُت َ َ
سُ
ط ن" التكويرَ :"20/تَو ُ كي ٍم ِ
ش َ عن ْدَ ِذي ال ْ َ
عْر ِ ة ِ و ٍ ِ ذي ُ
ق ّ
ن ،وسر كي ٍ ة وَ
م ِ و ٍ
ق ّش بين ِذي ُ عْر ِ عن ْدَ ِذي ال ْ َ
ِ
ذلك :ليتنازعه كل الوصفين على وجه اليجاز ،أي هو ذو قوة عند ال
،أي جعل ال مقدرة جبريل تخوله أن يقوم بعظيم ما يوكله ال
به مما يحتاج إلى قوة القدرة ،وقوة التدبير ،وهو ذو مكانة عند ال وزلفى
.
اقتصار مهمته في المحتوى العام على أنه (6
رسول :فليس له من أمر مضمون الرسالة شيء ،بل هو مبلغ له ،كما
أمر قال القرطبي" :إنه لقول رسول عن ال ،كريم على ال"). (59
أفيحل لقائل أن يقول :يمكن أن يجتهد البشر في قول ال ،وقد
منع منه جبريل؟!.
تمرسه على الرسالة التي تماثل هذا النوع :إذ (7
سول هذا التمرس على الرسالة، يظهر من وصفه بقولهَ :ر ُ
ل من أن يقول لقول ملك كريم ،ويتأكد هذا بأنه هو الذي كان وذلك بد ً
ينـزل على النبياء ،كما قال ورقة بن نوفل" :هذا الناموس الذي أنزل
على موسى") ،(60وكما قالَ َ
حَنا سل َْنا إ ِل َي ْ َ
ها ُرو َ فأْر َ
"مريم ،"17/ول خلف أنه جبريل هنا ،ولذا جاء في تفسير التحرير
والتنوير عند الكلم على سورة النجم" :وتخصيص جبريل بهذا
الوصف يشعر بأنه الَمَلك الذي ينـزل بفيوضات الحكمة على الرسل
والنبياء ،ولذلك لما ناول الملك رسول ال ليلة السراء كأس لبن وكأس
42
خمر ،فاختار اللبن قال له جبريل) : أخذت الفطرة ولو أخذت الخمر
غوت أمتك("). (61
ف بهذا الوصف النبي في ص َفإن اعُترض معترض بالقول :قد ُو ِ
سورة الحاقة وبالصيغة ذاتها ،ولّما يكن متمرسًا على الرسالة -بعد ،-فل
يستقيم هذا الستنباط .
فالجواب :ل نسلم أنه لم يكن متمرسًا ،إذ ما غشيه من تهيئة لتبليغ
62
الرسالة ،قائم مقام ذلك ،وسيأتي من هذه التهيئة ما يجلي ذا المعنى) (.
ل :هناك فرق بين جبريل والنبي من حيث قيام القرينة ويقال تنـز ً
ل على هذا التمرس أو عدمه . الحالية في ك ٍ
ومن أجل هذا التمرس يعهد لجبريل بالمهمات الجليلة ،ومنها -بعد
الوحي -نقل النبي في عالم السماء ليلة السراء :فعن أنس بن مالك
قال :كان أبو ذر يحدث أن رسول ال قال) :فرج عن سقف بيتي
وأنا بمكة فنسزل جبريل ففرج صدري ،ثم غسله بماء زمزم ،ثم
جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا ،فأفرغه في صدري،
ثم أطبقه ،ثم أخذ بيدي ،فعرج بي إلى السماء الدنيا ،فلما جئت
إلى السماء الدنيا ،قال جبريل لخازن السماء :افتح .قال :من
هذا ؟ قال :هذا جبريل قال :هل معك أحد ؟ قال :نعم! معي
محمد فقال :أرسل إليه ؟ .قال :نعم .فلما فتح علونا السماء
الدنيا …( الحديث). (63
ن قى ال ْ ُ
قْرآ َ ك ل َت ُل َ ّ حكيم عليم :كما قال َ :
وإ ِن ّ َ (8
عِليم ٍ" النمل "6/؛ إذ الكثر على أنها في نعت كيم ٍ َ
ح ِ ن ل َدُ ْ
ن َ م ْ
ِ
جبريل فالمعلم الُمْلِقي ل يلقي شيئًا إل بعلمه ،وليس دوره دورًا آليًا
في النقل ،بل يعلمه من حيث الجملة والتفصيل ،ويعلمه من حيث
الداء ،وأصل اللفظ ،كما يتسم بالحكمة التي بها يضع المور في
مواضعها ،ومن ذاك وقت تعليم اللفاظ ومكانه .
43
خُلقية التي تمنحه
خْلقية وال ُ
فهذه صفات جبريل ال َ
القدرة المينة الدقيقة على تعليم ألفاظ القرآن في وقتها
ت.الذي أمر الله به بأمانة ودقةٍ وحسن تأ ٍ
فإن اعُترض معترض على الستطراد في ذكر صفات الرسول الذي
حمله وليس يرجع ذا إلى لب البحث؛ فالجواب :في ذلك من الحكم:
الثناء على الرسول الُمْلِقي للقرآن ،والمبّلغ له إلى الرض أوًل ،وفيه تنويه
بالقرآن ،وتأكيد لصدقه وعظمته من حيث عظمة من قام بتبليغه ثانيًا ،وفيه
ل لدائه لفظًا وأداء تأكيد على الصفات التي جعلت هذا الرسول المتحمل أه ً
ثالثًا ،وفيه تحديد لحجم الجتهاد البشري فيه من حيث حجم اجتهاد الَمَلك
فيه رابعاً ،وبيان لصلية التوقيف في لفظه وفرعيته من حيث مؤهلت هذا
الرسول المعنوية ،وإمكاناته الحسية على نقل القرآن ،ومتابعته بدقة؛ إذ
منعه من إدخال اجتهاده مع عظيم مكانته من ال ، منٌع لغيره من ضََعَفة
المخلوقين من باب أولى ،وهذا خامسًا.
م
س ُق ِ ولذا كان قسم ال في سورة التكوير بقولهَ
فل َ أ ُ ْ
س… "التكوير "…15/لبيان صدق ْ س) (15ال ْ َ ِبال ْ ُ
ري الك ُن ّ ِوا ِ ج َ خن ّ ِ
ل بالثناء على طرفي التصال، الوحي القرآني ،وتمت هذه الغاية صدقًا وعد ً
ريم ٍ )(19 ل كَ ِ سو ٍ و ُ
ل َر ُ ه لَ َ
ق ْ والنقل القرآني بين السماء والرضإ ِن ّ ُ
ش…" التكوير ،"…-19فإجراء أوصاف عن ْدَ ِذي ال ْ َ
عْر ِ ة ِو ٍ ِذي ُ
ق ّ
الثناء على الرسول للتنويه به أيضًا ،وللكناية على أن ما نزل به صدق؛ لن
كمال القائل يدل على صدق القول) ،(64وانظر كيف زاد في ذكر صفات
جبريل إذ هو خبر عما عنده سبحانه وهو غيب عنهم ،فكثرة صفاته
أدعى لطمأنتهم ،ثم أخبرهم عمن عندهم بما يوفونه فل يحتاج إلى مزيد
كلم…ومما جاء في حواشي الكشاف تعليقًا على تأويل آيات التكوير:
44
"إنما ذكر جبريل بتلك الصفات واقتصر على نفي الجنون عن النبي
لن جبريل مجهول") (65أي عند البشر .
()65محمد عليان المزروقي الشافعي :حاشيته على الكشاف ،4/691دار المعرفة -
بيروت .
45
المبحث الثالث:
أمين الوحي في السماء لهل السماء:
في هذا المبحث تتضح المكانة الخاصة لجبريل من ربه ،بعد
أن اتضحت المكانة العامة له من خلل المبحث السابق ،إذ هو أمين الوحي
اللهي مطلقًا ،وأول ذلك أنه أمين الوحي في السماء لهل السماء ،وتلك من
أسباب جدارته الفائقة لمانة الوحي النازل لهل الرض .
فعن النواس بن سمعان قال :سمعت رسول ال يقول) :إن الله إذا
أراد أن يأمر بأمر تكلم به ،فإذا تكلم به أخذت السماء رجفة ،أو
قال رعدة شديدة فإذا سمع بذلك أهل السماء ،صعقوا فيخرون
سجدًا ،فيكون أول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من
وحيه بما أراد فيمر به جبريل على الملئكة ،فكلما مر بسماء
سألته ملئكتها :ماذا قال ربنا ؟ .قال جبريل: قال ربكم الحق
وهو العلي الكبير .فيقولون كلهم كما قال جبريل فينتهي
جبريل بالوحي حيث أمر من سماء وأرض(). (66
فجبريل هو أمين الوحي اللهي سواء كان هذا الوحي أرضيًا،
وموضوع )تلقي النبي ( يشكل أنموذجه ،أو سماويًا كما في حديث أبي
هريرة عن النبي قال) :إذا أحب الله العبد نادى جبريل :إن
الله يحب فلنا فأحببه ،فيحبه جبريل ،فينادي جبريل في أهل
السماء :إن الله يحب فلنًا ،فأحبوه ،فيحبه أهل السماء ،ثم يوضع
له القبول في الرض() ،(67وقال ) : إن العبد ليلتمس مرضاة
الله ،ول يزال بذلك فيقول الله لجبريل :إن فلنا ً عبدي يلتمس
أن يرضيني ،أل وإن رحمتي عليه ،فيقول جبريل :رحمة الله على
) ()66الطبراني( أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب ،مسند الدنيا ،ت 360هـ :مسند الشاميين
1984م – 1405هـ ،مؤسسة الرسالة ،بيروت ،مراجعة :حمدي بن عبد المجيد السلفي ،وأصل هذا
الحديث عند ابن حبان ،1/224مرجع سابق ،بلفظ) :إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل
السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا ،فيصعقون ،فل يزالون
كذلك حتى يأتيهم جبريل ،حتى إذاجاءهم جبريل ،فزع عن قلوبهم -قال -
فيقولون :يا جبريل ! ماذا قال ربك ؟ فيقول :الحق .فيقولون :الحق
الحق( .
( )67صحيح البخاري ،3/1175مرجع سابق .
46
فلن ،ويقولها حملة العرش ،ويقولها من حولهم حتى يقولها أهل
السماوات السبع ،ثم تهبط له إلى الرض().(68
وقد روى ابن مردويه من حديث ابن مسعود رفعه) :إذا تكلم الله
بالوحي يسمع أهل السماوات صلصلة كصلصلة السلسلة على
حّتى إ ِ َ
ذا الصفوان فيفزعون ويرون أنه من أمر الساعة وقرأ َ
قُلوب ِِهم…الية() ،(69وقد وقع في بعض روايات حديث ن ُع ْ
ع َ ُ
فّز َ
النواس ابن سمعان السابق ما نصه) :أخذت أهل السماوات منه رعدة
خوفا من الله وخروا سجدا فيكون أول من يرفع رأسه جبريل،
فيكلمه الله بما أراد ،فيمضي به على الملئكة ،من سماء إلى
سماء( ،وفي حديث ابن عباس عند ابن خزيمة وابن مردويه) :كمر
السلسلة على الصفوان ،فل ينسزل على أهل السماء إل صعقوا،
فإذا فزع عن قلوبهم إلى آخر الية ،ثم يقول :يكون العام كذا،
فيسمعه الجن …( ،وعند ابن مردويه من طريق بهز بن حكيم عن أبيه
) :ما نزل جبريل بالوحي ،فزع أهل السماء لنحطاطه، عن جده
وسمعوا صوت الوحي ،كأشد ما يكون من صوت الحديد على
الصفا فيقولون :يا جبريل بما أمرت …()(70الحديث.
وقد ل يكون الوحي أمرا ً إلهيا ً لحد من المخلوقين ،بل
هو حديث بين الجبار جل جلله وبين جبريل ،فعن أبي هريرة أن
رسول ال قال) :لما خلق الله الجنة ،قال لجبريل :اذهب ،فانظر
إليها .فذهب ،فنظر إليها ،ثم جاء ،فقال :أي رب ،وعزتك ،ل يسمع
بها أحد إل دخلها ،ثم حفها بالمكاره ،ثم قال :يا جبريل اذهب،
فانظر إليها .فذهب ،فنظر إليها ،ثم جاء ،فقال :أي رب ،وعزتك
لقد خشيت أن ل يدخلها أحد - .قال -فلما خلق الله النار ،قال :يا
جبريل اذهب ،فانظر إليها .فذهب ،فنظر إليها ،ثم جاء .فقال :أي
رب ،وعزتك ل يسمع بها أحد فيدخلها ،فحفها بالشهوات ،ثم قال:
يا جبريل اذهب ،فانظر إليها .فذهب ،فنظر إليها ،ثم جاء ،فقال:
أي رب وعزتك ،لقد خشيت أن ل يبقى أحد إل دخلها().(71
47
وقد ُأريد من التفصيل السالف أن ُتَبّين مكانة جبريل من الملك
قَوى ديدُ ال ْ ُ
ش ِه َ عل ّ َ
م ُ جل وعز ،ويربط بين ذلك وبين قوله تعالى َ
"النجم ،"5/فيستبين جللة تعليم لفظ القرآن ،وأنه ليس مجرد لفظ يرمى من فم
ع أن تلقي النبي للفظ القرآن من جبريل اعتراه لفم ،بل لو ادعى مد ٍ
من التوقيف ،ومنع الجتهاد أكثر مما اعترى معناه لما بعد عن إصابة سهم
فكره لعين الحقيقة ،وذلك واضح من حيث أن عتاب ال لنبيه في القرآن
الكريم إنما هو لصواب في أمر غير ما ذهب إليه في فهم معنى معين،
بخلف اللفظ ،فليس له فيه إل ما ُلّقَنه ،وقد حاول الجتهاد في هيئة التلقي
فمنع من ذلك).(72
وما سبق من أدلة توصلنا إلى نتيجة على قدر جليل من الهمية هي :أن
جبريل هو الوسيط بين ال وأنبيائه ،وهو المبحث التالي:
48
المبحث الرابع:
ورسله: اختيار جبريل ليكون الوسيط بين الله
ويتفرع هذا المبحث إلى ثلث جهات:
جهة من حيث عموم الرسالت السماوية ،وجهة من حيث خصوص
رسالة النبي ،وجهة من حيث خصوص الخصوص وهو كون جبريل
هو مقرئ النبي وتلك الجهات ُتشكل ثلثة مطالب للمبحث:
المطلب الول :من حيث عموم الرسالت السماوية .
المطلب الثاني :من حيث خصوص رسالة النبي .
المطلب الثالث :من حيث خصوص الخصوص وهو القراء .
المطلب الول :من حيث عموم الرسالت السماوية:
حي َْنا إ ِل َي ْ َ َ
ما ك كَ َ و َومن أدلتها غير ما تقدم قول ال : إ ِّنا أ ْ
ه " النساء ،" 163 /ومن َ َ
د ِع ِ ن بَ ْم ْ
ن ِ والن ّب ِّيي َح َ حي َْنا إ ِلى ُنو ٍ
و َ
أ ْ
ذلك حديث عائشة في بدء الوحي :فقال له ورقة) :هذا الناموس الذي
نزل ال على موسى().(73
فقد قال البخاري في معناه ":الناموس صاحب السر الذي يطلعه بما
يستره عن غيره") ،(74وقال ابن الثير" :في حديث الَمْبَعث)) :(75إنه َليْأتيه
صه الذي يطلعه على ب سّر الَمِلك ،وهو خا ّ س صاح ُ الّناُموس الكبر( النامو ُ
ما يطويه من غيره من سرائره…وأراد به جبريل؛ لن ال تعالى خ ّ
صه
غيره") ،(76وقال شارح الطحاوية طِلُع عليهما َ بالوحي والغيب اللّذين ل َي ّ
ن" النجم" "194/هو جبرائيل مي ُح ال ِ ه الّرو ُ في قوله ن ََز َ
ل بِ ِ
،سمي روحًا لنه حامل الوحي الذي به حياة القلوب إلى الرسل من البشر
صلوات ال عليهم أجمعين"). (77
وأهمية هذه النتيجة في هذه الدراسة :كامنٌة في :أن انفراد
ملك واحد من عالم الغيب ليكون الوسيط بين ال وبين نبيه في نقل
()73صحيح البخاري 1/4مرجع سابق .
()74صحيح البخاري ،3/1241مرجع سابق .
()75يعني الحديث الذي رواه البخاري عن عائشة عن أول بعثته وفيه :قال ورقة بن نوفل:
هذا الناموس الذي نزل الله على موسى….
()76النهاية في غريب الثر ،5/119مرجع سابق .
()77شرح العقيدة الطحاوية ،315مرجع سابق .
49
كلم ال يزيل كل وسوسة يقذفها الشيطان في نفس النسان ،تشكك في
أنه يحتمل أن أحد الشياطين المتصورة في صورة معينة قد ألقى كلمًا على
ل خطيرًارسول ال ،وعده رسول ال وحيًا ،وهو ما يدفع عام ً
ومنطقيًا من عوامل التشكيك في نقل كلم ال ،وقد أدرك المام
السيوطي أهمية هذا المسألة ،فألف رسالة بعنوان "لبس الَيَلب في الجواب
عن إيراد أهل حلب" ،قال" :لما وصل كتاب العلم إلى حلب -وقف عليه
واقف فرأى فيه قولي أن جبريل هو السفير بين ال وبين أنبيائه ،ل
يعرف ذلك لغيره ،فكتب على الهامش ،بل قد عرف ذلك لغيره من
الملئكة ،فأجاب فأجبت …الخ").(78
المطلب الثاني :من حيث خصوص رسالة النبي:
ل في التصريح بأن جبريل هو الوسيط بين ال تعالى وبين يكفي دلي ً
ه َ
ه ن َّزل ُفإ ِن ّ ُل َ ري َ جب ْ ِ
وا ل ِ ِعدُ ّ ن َ ن َ
كا َ م ْل َ ق ْنبيه قوله ُ
دى ه ً
و ُ ه َ ن ي َدَي ْ ِ قا ً ل ِ َ
ما ب َي ْ َ صدّ ّم َه ُن الل ّ ِ ك ب ِإ ِذْ ِ قل ْب ِ َ عَلى َ َ
ه
م ُ عل ّ َن " البقرة ،"97/وقوله َ مِني َؤ ِم ْ شَرى ل ِل ْ ُ وب ُ ْ َ
ص بنـزول خ ّ وى" النجم ،"5/فإن اُدعي أن إطلقها قد ُي َ ق َ ديدُ ال ْ ُ
ش ِ َ
جبريل بنوع من الوحي دون غيره ،اكتفي بالقول ردًا على ذلك :ذاك
جَد ،وإل فهو عليل ،فل ُيرتضى بمجرد عارض يفتقر الدليل ،فإن ُو ِ
التخمين ،ومن احتج بالعموم للملئكة بقول النبي) وأحيانا ً يتمثل لي
الملك …() (79الحديثُ ،يجاب عليه :بأن أداة التعريف فيه للعهد ل
للستغراق ،بقرينة التصريح بجبريل في رواية ابن سعد) .(80وقد كان
جبريل معلم الدين أصوًل وفروعًا؛ فعن أبي هريرة قال :قال رسول
ال) : هذا جبريل يعلمكم دينكم( ثم ذكر مواقيت الصلة)،(81
) ()78حاجي خليفة( مصطفى بن عبد الله القسطنطيني الرومي الحنفي ت 1067هس :
كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون 1992 ،2/1547م 1413 -هس ،دار الكتب العلمية
– بيروت . -
()79انظر :تخريجه في الفصل الثاني-المبحث الثالث.
()80طبقات ابن سعد ،1/197مرجع سابق ،وانظر فتح الباري ،12/442مرجع سابق .
) ()81البيهقي( أبوبكر أحمد بن الحسين بن علي بن موسى )384هس -ت 458هس( :سنن
البيهقي الكبرى ،مراجعة :محمد عبد القادر عطا1994 ،م1414-هس ،مكتبة دار الباز – مكة
المكرمة . 0
50
ونحوه حديث جبريل المشهور عن عمر ابن الخطاب عند البخاري
ومسلم) ،(82ومثله عن أبي هريرة عند مسلم).(83
ومما يدل على قرب جبريل ،ومتابعته ،وكونه
الواسطة التعليمية للنبي:
ما جاء عن أنس قال :بلغ عبد ال بن سلم مقدم رسول ال
المدينة ،فأتاه ،فقال :إني سائلك عن ثلث ل يعلمهن إل نبي :ما أول أشراط
الساعة؟ ،وما أول طعام يأكله أهل الجنة ؟ ،ومن أي شيء ينـزع الولد إلى
أبيه ؟ ،ومن أي شيء ينـزع إلى أخواله ؟ .فقال رسول ال ) : خبرني
بهن آنفا جبريل (فقال عبد ال :ذاك عدو اليهود من الملئكة…
الحديث).(84
كما أن جبريل هو واسطة النبي التعليمية
الوحيدة إلى عالم الغيب :فل يتعرف على العالم الغيبي إل
بواسطة جبريل.
ومن ذلك أن جبريل واسطته التعليمية إلى أهم عالمين غيبين يوازيان
عالم البشر :عالم الملئكة ،وعالم الجن:
فأما عالم الملئكة :فعن عائشة زوج النبي أن النبي قال في
حديث ذهابه إلى ثقيف) :فلم أستفق إل وأنا بقرن الثعالب ،فرفعت
رأسي ،فإذا أنا بسحابة قد أظلتني ،فنظرت ،فإذا فيها جبريل
فناداني ،فقال :إن الله قد سمع قول قومك لك ،وما ردوا
عليك ،وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم،
فناداني ملك الجبال ،فسلم علي ،ثم قال :يا محمد! فقال :ذلك
فيما شئت .إن شئت أن أطبق عليهم الخشبين ؟فقال النبي
:بل أرجو أن يخرج الله من أصلبهم من يعبد الله وحده ل يشرك
به شيئا ً().(85
51
ومن ذلك تعرفه على ملئكة السماء وخزنتها في حادثة السراء فقد
كانت واسطته هي جبريل .
وأما عالم الجن :فعن عبد ال بن مسعود قال :إن رسول ال ليلة
الجن وهو مع جبريل وأنا معه ،فجعل النبي يقرأ ،وجعل العفريت
يدنو ،ويزداد قربًا ،فقال جبريل للنبي ) :أل أعلمك كلمات
تقولهن فيكب العفريت لوجهه ،وتطفئ شعلته؟ قل أعوذ بوجه
الله الكريم ،وكلماته التامات التي ل يجاوزهن بر ،ول فاجر من
شر ما ينزل من السماء ،وما يعرج فيها ،ومن شر ما ذرأ في
الرض ،وما يخرج منها ،ومن فتن الليل والنهار ،ومن شر طوارق
الليل والنهار ،إل طارقا ً يطرق بخير يا رحمن.فكب العفريت
لوجهه وانطفأت شعلته().(86
ولهذا التفريع فائدة منهجية بديعة فيما نحن بصدد جمع شتاته ،من
حيث واقع وجود عالمين معروفين غير مرئيين من عوالم الغيب هما :عالم
الملئكة ،وعالم الجن ،تتمثل في حمايته من أن يتطرق إليه الشك عندما
يبلغه غير جبريل من الملئكة الوحي ،فيلقي الشيطان أنه ليس ملكًا،
وحمايته من الشياطين أن يفكروا بالتلبيس عليه).(87
كما هو أيضًا واسطته إلى غيب خارج ذلك :فعن أبي هريرة
قال :قال رسول ال) : أتاني جبريل فأخذ بيدي فأراني باب
الجنة الذي تدخل منه أمتي().(88
وبناء على أن جبريل هو الوسيط بين الله ورسله:
فهل كانت هيئات الوحي إلى النبي كما كانت
إلى النبياء السابقين على ما يظهر من قوله
) ()86النسائي( أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب ت 303هس :السنن الكبرى 6/237مراجعة:
د .عبد الغفار سليمان البنداري وسيد كسروي حسن1411 ،ه1991/-م دار الكتب العلمية -
بيروت ،وقد جاء في رواية) :علمنيهن جبريل وزعم أن عفريتا ً يكيدني( .
()87ونقل القاضي عياض الجماع على عصمتهفي الشفاء ،141/ 2ولكن ذلك إجماع
يفتقر إلى المستند ،فليكن ذا في طريق ذاك المستند .
()88المستدرك ،3/77مرجع سابق .
52
َ َ حي َْنا إ ِل َي ْ َ َ
ن
والن ّب ِّيي َ
ح َ
حي َْنا إ ِلى ُنو ٍ
و َ ك كَ َ
ما أ ْ تعالى:إ ِّنا أ ْ
و َ
ن ب َْعِدِه" النساء "163/؟ والجواب :ل! فل ريب في م ْ
ِ
اشتراكهم في أصل الوحي ،أما ما بعد ذلك فليس عندنا
ما يشير إلى الهيئات التفصيلية لوحي النبياء السابقين
حتى تتم المقارنة ،ول دليل في الية على ترجيح أحد
المرين إذ لو كانت تشبيهًا ،فإن التشبيه ل يقتضي أن
شّبه به ،وإن كانت إخبارا ً فهل شّبه مساويا ً للم َ يكون الم َ
المراد التفصيل أو القبيل ،ول دليل ثم على أحدهما ،وما
تطرق إليه الحتمال سقط به الستدلل ،وعلى ضوء هذا
التقرير يفهم قول ابن حجر-رحمه الله تعالى -في شرح هذه
الية" :ولما كان في الية أن الوحي إليه نظير الوحي إلى
النبياء قبله ناسب تقديم ما يتعلق بها ،وهو صفة الوحي،
وصفة حامله إشارة إلى أن الوحي إلى النبياء ل تباين
فيه"). (89
وإنما أورد هذا الكلم هاهنا لئل ُيفتَرض أن
القرآن نزل كما نزلت التوراة وحيا ً مكتوبًا ،لم تحتج إلى
تلقين استدلل ً بهذه الية ،فيجاب بما سبق ،ويضاف إليه
أن ليس ثم تفصيل عن الهيئة التي تم بها إيحاء التوراة
َ
ء
ي ٍ
ش ْل َن كُ ّ
م ْ
ح ِ في الل ْ َ
وا ِ وك َت َب َْنا ل َ ُ
ه ِ بدقة إل قولهَ :
يٍء" العراف "145/وهي ل تنفي ش ْ ل َ صيل ل ِك ُ ّ وت َ ْ
ف ِ ة َعظَ ً
و ِ
م ْ
َ
التلقين صراحة ،على أنها تبين المقدار الكبير في التغاير
بين إيحاء التوراة والقرآن من حيث أن التوراة كتبت
لموسى كتابة ولم تتلقن تلقينا ً ،والقرآن سمي
قرآنا ً علما ً عليه أشهر من اسم كتاب مع كونه
السم الثاني له في الشهرة ،دللة على اجتماع
القراءة والكتابة في الحفاظ على القرآن
الكريم ،لكن التلقين يسبق الكتابة عند ذكر
أساليب تعلم القرآن الكريم كما يسبق اسم
()89فتح الباري ،1/5مرجع سابق .
53
)القرآن( اسم )الكتاب( ،وهو الجاري عند
المسلمين في مشارق الرض ومغاربها.
وجماع القول أن جبريلقد بلغ أخص مبلغ في مكانته عند ال من
بين الملئكة ،ولذا أسند إليه تعليم النبي لفظ القرآن ،فصار كل ما سبق
خادمًا لنقل القرآن الكريم .
المطلب الثالث :من حيث خصوص الخصوص :أي من حيث كون
جبريل هو المقرئ الوحيد للنبي من الملئكة ،فإن أبا حيان ُيَعّر ُ
ف
جبريل فيقول" :جبريل اسم ملك علم له ،وهو الذي نزل بالقرآن على
رسول ال ، وهو اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية
والعجمة").(90
وجبريل هو المقرئ له صراحة :فعن ابن عباس حدثه أن رسول
ال قال) :أقرأني جبريل على حرف ،فراجعته ،فلم أزل
أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف().(91
ولنه الملقي للنبي ألفاظ لقرآن الكريم :فقد باتت مسألة التلقي
جُع إلى طرقها عندمنه مصدر مرجعي بدهي في أوساط المةُ :يْر َ
ج بثبوت النقل عنها عند التعليم ،فعن العمش قال :سمعت حَت ُ
الختلف ،وُي ْ
الحجاج بن يوسف يقول وهو يخطب على المنبر :ألفوا القرآن كما ألفه
جبريل السورة التي تذكر فيها البقرة ،والسورة التي تذكر فيها النساء،
والسورة التي يذكر فيها آل عمران ،قال :فلقيت إبراهيم) ،(92فأخبرته
بقوله ،فسبه ،ثم قال :حدثني عبد الرحمن بن يزيد أنه كان مع عبد ال بن
مسعود ،فأتى جمرة العقبة ،فاستبطن الوادي ،فاستعرضها ،فرماها من بطن
الوادي بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ،فقلت :يا أبا عبد الرحمن ،إن
()90البحر المحيط ،1/316مرجع سابق .
()91صحيح البخاري ،4/1909مرجع سابق .
()92يعني :إبراهيم النخعي .
54
الناس يرمونها من فوقها ،فقال :هذا -والذي ل إله غيره -مقام الذي أنزلت
عليه سورة البقرة).(93
و)التأليف( في قول الحجاج :هل هو الترتيب كما هو أصل معنى الكلمة،
ل فإن كان هذا فيأم أنه تسمية السور كما يظهر من السياق ؟ وعلى ك ٍ
محله ،أو في تسمية سوره ،فكيف في وضعه وهيئات نطقه ؟ والشاهد
واضح من السناد إلى جبريل.
فإن اعُترض معترض بآيتي خاتمة البقرة؛ إذ أنزلهما ملك غير جبريل
؟فعن ابن عباس قال :بينما جبريل قاعد عند النبي سمع نقيضًا
من فوقه ،فرفع رأسه ،فقال) :هذا باب من السماء فتح اليوم ،لم يفتح
قط إل اليوم ،فنسزل منه ملك ،فقال :هذا ملك نزل إلى الرض لم
ينسزل قط إل اليوم ،فسلم ،وقال :أبشر بنورين أوتيتهما ،لم يؤتهما
نبي قبلك :فاتحة الكتاب ،وخواتيم سورة البقرة ،لن تقرأ بحرف
منهما إل أعطيته().(94
فالجواب :إما أن يكون أنزلهما بعد نزولهما ،أي تكرر النـزول للهتمام
أو لمر آخر ،وإما أن النـزول كان للفضل ل للنزال ذاته ،ويدل لهذا أنه ل
مراء في نزول الفاتحة قبل ذلك في مكة ،وواضح أن الحادثة في المدينة إذ
قد صرح متتبعوا النـزول بأن نزول البقرة كان في المدينة). (95
ووجه ثالث هو أن الواسطة بين الملك والرسول كان جبريل
فيرجع الوحي هنا إليه ،كحادثة السراء ،وهذا الوجه يتعدى هذه الحادثة
55
إلى كل حادثة جاء فيها ملك آخر مع جبريل كحديث طوفانه في ليلة
على بعض المعذبين من أمته).(96
مقياس مطلق لعداوة الله – عداوة جبريل
تعالى ذكره:-
ولما سبق كان التشديد ،والفزاع الكيد للعقل والعاطفة من مجرد
التفكير في الكلم على جبريل ،أو عدائه؛ إذ صار مقياسًا مطلقًا لعداوة
وا ل ِل ّ ِ
ه عد ُ ّ
ن َ ن َ
كا َ ال ورسله وملئكته ،ولذا كان قوله َ
م ْ
وعدُ ّ ه َن الل ّ َ
فإ ِ ّل َ مي َ
كا َ و ِ ري َ
ل َ جب ْ ِ
و ِ
ه َ
سل ِ ِ
وُر ُ
ه َملئ ِك َت ِ ِ و َ َ
ري َ
ل جب ْ ِ
وا ل ِ ِعد ُ ّن َ كا َن َم ْ ن "البقرة "98/عقب قولهَ ري َ ف ِ ل ِل ْ َ
كا ِ
" البقرة ،"97/فعداوتهم ل بمنـزلة المقدمة الكبرى؛ لنها العلة في
المعنى عند التأمل ،وعداوتهم لرسوله جبريل بمنـزلة المقدمة الصغرى
لنها السبب الجزئي المثبت).(97
ل ل يظهر فيها أن ري َ
جب ْ ِ
وا ل ِ ِ
عد ُ ّ
ن َ
كا َن َ م ْ وقوله تعالى َ
ك جواب الشرط ،لما تقرر في علم قل ْب ِ َ عَلى َ قوله ن َّزل َ ُ
ه َ
العربية أن اسم الشرط ل بد أن يكون في الجواب ضمير يعود عليه ،وقوله
ك ليس فيه ضمير يعود على من ،وقد صرح قل ْب ِ َ
عَلى َ ه َ ن َّزل َ ُ
بأنه جزاء للشرط الزمخشري وهو خطأ لما ذكرناه من عدم عود الضمير،
ولمعنى فعل التنـزيل ،فل يصح أن تكون الجملة جزاء ،وإنما الجزاء
محذوف لدللة ما بعده عليه ،والتقدير :فعداوته ل وجه لها ،أو ما أشبه)،(98
كذا قال أبو حيان –رحمه ال تعالى ،-ولو كان التقدير :فهو عدو ل أو فهو كافر
()96رواه البخاري ،6/3122مرجع سابق ،ونحو ما رواه البخاري في صحيحه 3/1182عن سمرة
)رأيت الليلة رجلين أتياني …قال :الذي يوقد النار مالك قال :قال النبي:
ف هو جبريل.
خازن النار ،وأنا جبريل وهذا ميكائيل( .وظاهٌر أن الُمَعّر َ
()97انظر :التحرير والتنوير ،1/623مرجع سابق .
()98انظر:البحر المحيط ،1/319مرجع سابق .
56
فإ ِن ُّه ن َّزل َُه فأشار
بالوحي… لكان أظهر ،وأولى ،وأنسب لقوله َ
بأن إنزال ال جبريل بالقرآن قامٌع لكل من تسول له نفسه عداوة جبريل
. وقد صرح أبو حيان بتقديرين قريبين من هذا –بعد ،-وهو إنما أورد
ه ل عين ما قاله الزمخشري في التقدير) ،(99وقال اللوسيَ :
فإ ِن ّ ُ أو ً
ك" :جواب الشرط إما نيابة ،أو حقيقة ،والمعنى من قل ْب ِ َ
عَلى َ ن َّزل َ ُ
ه َ
عاداه منكم فقد خلع ربقة النصاف ،أو كفر بما معه من الكتاب بمعاداته إياه
لنـزوله عليك بالوحي") .(100وموضع الستشهاد من هذا اليراد ربط
ك، قل ْب ِ َعَلى َ
جبريل بإنزال القرآن الكريم) ،(101وقد ذكر عبارةَ
وهو ينصرف انصرافًا أوليًا للقرآن الكريم ،وجعل هذا كله خادمًا للطمئنان
على نقل القرآن ،وإيصال كلم ال إلى الرض ،وهو زاجر بالشارة،
وبصريح العبارة عن الطعن فيه بعد ذلك أيضًا .
إنه جبريل …إنه القرآن الكريم… إنه رسول ال المين …فأين
أنت ياحافظ الذكر المبين؟ …:
أيها الشـادي بقرآن كريــم! …………وهو في ركن من البيت مقيـم
قسم! وأبسسلغ نوره للعسالميسن …………قم! وأسمعه
البرايسا أجمعيسن
مـن له من ثروة الهادي نصـيب …………فهو من جبريـل في الدنيا
قريب
()99الكشاف ،1/84مرجع سابق ،وكذا فعل الشوكاني في فتح القدير ،1/150مرجع سابق
.
()100روح المعاني ،1/220مرجع سابق .
عائد للقرآن :إما لنه تقدم في قوله َوِإَذا ِقيَل َلُهْم ()101إذ إن الضمير المنصوب فيَفِإّنُه َنّزَلُه
حّتىل" البقرة ،" 91/وإما لن الفعل ل يصلح إل له هنا على حد َ … آِمُنوا ِبَما َأنَزَل ا ُّ
حْلُقوَم " الواقعة ،"83/انظر :التحرير َ فَلْوَل ِإَذا َبَلَغ ْ
ت اْل ُ ب"ص" 32/ جا ِحَت ِباْل ِ
َتَواَر ْ
والتنوير ،1/621مرجع سابق ،وإليه ذهب الكشاف ،1/84مرجع سابق ،وقال " :إضماره فخامة
لشأن صاحبه حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه ،ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء
من صفاته… " .
57
الفصل الثاني
بالنبياتصال جبريل
لتلقينه الوحي القرآني
وفيه ثلثة مباحث
58
المبحث الول:
ل بالمَلك:
تهيئة النبي للوحي ،والتصا ِ
اقتضت بشرية الرسول ،وملكية الملك أن يهيأ النبي
لمكانية لقاء الرسول الملك في أي وقت ،على أي
حال من حيث اختلف الطبيعة في كل منهما ،وقصور
ة عن إدراك المَلك أو غيره من العوالم قدرة البشر طبيع ً
الغيبية ،كما أن من أهم أهداف هذه التهيئة إعداد النبي
ليستوعب كلم الله ،ويصير في مقام حمله وتبليغه،
وليكون جهده لوحده في ذلك مساويا ً لجهد المة في
حفظ كلم الله بحفظ الله له ،كما سيأتي في حادثة
شق الصدر الولى ،وتفرعت هذه التهيئة إلى فرعين هما
مطلبا هذا المبحث ،وهما:
المطلب الول :التهيئة اللهية للوحي .
المطلب الثاني :التهيئة البشرية للوحي .
59
وهو ممتقع اللون ،قال أنس :وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في
صدره) ،(103وفي لفظ ]قلبه فاستخرج القلب ثم شق القلب فاستخرج …[.
وأما المرة الثانية عن أنس بن مالك عن مالك بن
صعصعة قال :قال النبي ) : بينا أنا عند البيت بين
النائم واليقظان ،وذكر يعني رجل ً بين الرجلين ،فأتيت بطست
من ذهب ملئ حكمة وإيمانًا ،فشق من النحر إلى مراق البطن،
ثم غسل البطن بماء زمزم ثم ملئ حكمة وإيمانًا ،وأتيت بدابة
أبيض دون البغل ،وفوق الحمار يقال له :البراق فانطلقت مع
جبريل حتى أتينا السماء الدنيا …()(104الحديث.
وفي معنى الحكمة يقول النووي-رحمه ال تعالى" :-العلم المشتمل على
المعرفة بال ،مع نفاذ البصيرة ،وتهذيب النفس ،وتحقيق الحق للعمل به،
والكف عن ضده ،والحكيم من حاز ذلك").(105
ل" :وقد تطلق الحكمة على وعقب عليه ابن حجر-رحمه ال تعالى -قائ ً
القرآن ،وهو مشتمل على ذلك كله ،وعلى النبوة كذلك ،وقد تطلق على العلم
106
فقط ،وعلى المعرفة فقط") ( ،ويدل على صحة وجهة ابن حجر -رحمه ال
تعالى -في دللة الحكمة على القرآن قوله) : ل حسد إل في اثنتين:
رجل آتاه الله القرآن … ،وفي لفظ :رجل آتاه الله الحكمة ،فهو
يقضي بها ويعلمها().(107
فقد وقعت حادثة الشق مرتين ،لتحقيق غرضين
مختلفين:
فالمرة الولى :كان هدفها نزع حظ
الشيطان:
وبين ذلك أبو حاتم بن حبان -رحمه ال تعالى -بقوله" :شق صدر النبي
وهو صبي يلعب مع الصبيان ،وأخرج منه العلقة ،ولما أراد ال السراء
60
به أمر جبريل بشق صدره ثانيًا ،وأخرج قلبه فغسله ،ثم أعاده مكانه
مرتين في موضعين ،وهما غير متضادين").(108
وفي الديباج على صحيح مسلم " :فإن قيل :إنما وقع شق الصدر وهو
صغير ؟ فالجواب كما قال السهيلي :إنه وقع مرتين ،الثانية عند السراء
تجديدًا للتطهير").(109
قال ابن حجر-رحمه ال تعالى ":-قوله فَفَرج صدري هو بفتح الفاء والجيم
أيضًا أي شقه ،ورجح عياض -رحمه ال تعالى -أن شق الصدر كان وهو
صغير عند مرضعته حليمة ،وتعقبه السهيلي بأن ذلك وقع مرتين وهو
الصواب ،ومحصله إن الشق الول كان لستعداده لنـزع العلقة التي قيل
له عندها هذا حظ الشيطان منك ،والشق الثاني :كان لستعداده للتلقي
الحاصل له في تلك الليلة").(110
والظاهر أن الشق الول تعدت أهدافه ما ذكر ابن حجر -رحمه ال تعالى -إلى
استعداده للقاء الملك ،وإيداع قلبه كلم ال ،والنفي المبكر لحظ الشيطان
من قلبه حتى ل يشوش وجوده على تحقيق هذه الهداف ،ويدل على أن هذا
التقرير هو التحقيق في المسألة بقية حديث الشق الول ففيه :مسألة الوزن،
فعن أبي ذر الغفاري قال :قلت يا رسول ال ! كيف علمت أنك نبي حين
استنبئت ؟ فقال) :يا أبا ذر! أتاني ملكان وأنا ببعض بطحاء مكة فوقع
أحدهما على الرض ،وكان الخر بين السماء والرض ،فقال
أحدهما لصاحبه :أهو هو ؟ قال :نعم ! قال :فزنه برجل ،فوزنت به
فوزنته ،ثم قال :فزنه بعشرة فوزنت بهم ،فرجحتهم ،ثم قال :زنه
بمائة فوزنت بهم فرجحتهم ،ثم قال :زنه بألف ،فوزنت بهم،
فرجحتهم كأني انظر إليهم ينتثرون علي من خفة الميزان ،قال:
فقال أحدهما لصاحبه :لو وزنته بأمته لرجحها(). (111
وهذا يدل على أن جهده في تلقي الوحي القرآني وحفظه ،ينبغي أن
.يساوي جهد المة في ذلك ،وقد ساواه وزاد بحمد ال
()108صحيح ابن حبان ،14/242مرجع سابق .
()109الديباج على صحيح مسلم ،206 /1مرجع سابق .
()110فتح الباري شرح صحيح البخاري ،مرجع سابق .
)()111الدارمي( أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن ت 255هس :سنن الدارمي ،1/21تحقيق:
أحمد فواز زمرلي ،خالد السبع العلمي1407 ،هس ،دار الكتاب العربي -بيروت .وقد جاء
التصريح بأن الوزن جاء عقب الشق الول في عدد من الروايات منها ما أخرجه ابن سعد
،1/150مرجع سابق .
61
أما المرة الثانية :فمن أهدافها :استعداده
للتلقي الحاصل في تلك الليلة من حيث عظم ما أخذ
إليه من الصعود إلى السموات ،ورؤية اليات الكبرى
في سرعة ل تخطر على قلب بشر ،وذاك أمر بحاجة
إلى تهيئة ل تكفي فيها التهيئة الولى .
وقد ورد ما يدل على أن شق الصدر وقع أكثر من مرة ،فقد قال:
)فأردت أن أرجع ،فإذا أنا به وبميكائيل ،قد سدا الفق فهبط
جبريل فبقي ميكائيل بين السماء والرض فأخذني جبريل
فسلقني بحلوة القفا ،ثم شق عن قلبي ،فاستخرجه ،ثم
استخرج منه ما شاء الله أن يستخرج ،ثم غسله في طست من
ذهب بماء زمزم ،ثم أعاده مكانه ،ثم لمه ،ثم أكفأني كما يكفأ
الديم أو النية ،ثم ختم في ظهري حتى وجدت مس الخاتم
في قلبي ،ثم قال :اقرأ ! قلت :ما قرأت كتابا قط .فلم أدر ما
سم ِ َرب ّ َ
ك اقرأ! ثم قال:اقرأ .فقلت ما أقرأ؟ فقالا ْ ْ
قَرأ ِبا ْ
عل َق ) (2ا ْ ْ
وَرب ّ َ
ك قَرأ َ ن َ ٍم ْ
ن ِ
سا َ
لن َ خل َ َ
قا ِ خل َ َ
ق)َ (1 ذي َ ال ّ ِ
م )…(3حتى انتهينا إلى خمس آيات منها ،فما نسيت َ
الك َْر ُ
شيئا ً بعد ،ثم وزنني برجل ،فوزنته ثم وزنني بآخر فوزنته ،حتى
وزنت بمائة رجل ،فقال :ميكائيل من فوقه :أمة ورب الكعبة،
ثم أقبلت فجعلت ل يلقاني حجر ،ول شجر إل قال السلم عليك
يا رسول الله !حتى دخلت على خديجة فقالت :السلم عليك ،يا
رسول الله!().(112
قال ابن حجر -رحمه ال تعالى" :-ومناسبته ظاهرة") .(113ولم يتكلم على
إسناده فيكون حسًنا أو صحيحًا عنده على ما شرطه في المقدمة).(114
) ()112الهيثمي( الحافظ نور الدين :بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث ص ،23للحارث
بن أبي أسامة ،تحقيق د.حسين أحمد صالح الباكري1413 ،هس1992-م ،مركز خدمة السنة
والسيرة النبوية – المدينة المنورة .
()113قال ابن حجر -رحمه الله تعالى ،1/464 -مرجع سابق" :وقد روى الطيالسي والحارث
في مسنديهما من حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها -أن الشق وقع مرة أخرى عند
مجيء جبريل له بالوحي في غار حراء ،والله أعلم .وروى الشق أيضا وهو ابن عشر ،أو
نحوها في قصة له مع عبد المطلب أخرجها أبو نعيم في الدلئل ،وروى مرة أخري خامسة
ول تثبت".
) ()114ابن حجر( أحمد بن علي حجر العسقلني :هدي الساري مقدمة فتح الباري ص ،5
حقق أصولها :عبد العزيز بن باز رقم كتبها وأبوابها وأحاديثها محمد فؤاد عبد الباقي ط ،1
1410هس –1989م ،دار الكتب العلمية – بيروت ،لبنان .
62
والمقتضى الفعلي لهذا العداد للقلب قد ترتب عليه أمور جليلة ،بعد
أن كانت هذه التهيئة له ،لعل أهمها :نزول القرآن على قلبه ،وقدرته على
استيعابه وتحمله ،ومن صورها المحسوسة أن قلبه ل ينام وإن كانت
عينه تنام .
-2ثم بدأ يتعدى القوى البشرية القاصرة :فكان يرى ما ل
يستطيع البشر رؤيته ،ويسمع مال يستطيعون سماعه ،وأخبر عن ذلك
فقال) :إني أرى ما ل ترون ،وأسمع ما ل تسمعون ،أطت السماء،
وحق لها أن تئط ،ما فيها موضع أصبع إل ملك ساجد…(
الحديث).(115
ومن ذلك :أنه يمكن أن يرى بعض العوالم الغيبية في حدود ما أتاح
ال له كالملئكة والجن ،فأما الملئكة فظاهر من هذا الحديث ،ومن
الحديث عن جبريل وأما الجن فنحو حديث كلمه ورؤيته لجن
نصيبين) ،(116وقبضه على الشيطان الذي مر بين يديه).(117
وأما السماع فكسمعه للمعذبين في القبر ،كما قال) :لول أن
تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع()،(118
وهذا الحديث دال على أنه أوتي قوى أخرى كالصبر على تحمل سماع
عذاب القبـر ،وذلك كله في حدود معينة ،ل أنه قد خرج عن طبيعته البشرية
خروجًا كليًا ،ومن أهم ثمار ذلك مما له تعلق بموضوع البحث :ترسيـخ
اليقين في نفسه بوحي ربه بصفة خاصة ،وتأكده بأن الذي يأتيه مَلك ل
شيطان .
وابتدأ ظهور إحساسه ماديًا بالعوالم الغيبية ،وبدايات تمييزها لكن
دون يقين قبيل الوحي إليه تمهيدًا لنـزول الوحي عليه ،ولنه لم يأته الوحي
63
صراحة فقد خاف من هذه الظواهر على نفسه :فقد قال رسول ال
لخديجة) :يا خديجة ! إني أرى ضوءًا ،وأسمع صوتًا ،لقد خشيت أن
أكون كاهنا ً فقالت :إن الله ل يفعل بك ذلك يا ابن عبد الله ،إنك
تصدق …( الحديث) ،(119وعن ابن عباس أن النبي قال) :يا
خديجة ! إني أسمع صوتًا ،وأرى ضوءًا ،وإني أخشى أن يكون في
جنن().(120
-3وكان جبريل يأتيه في المنام :كنوع من التدريج في
–رضي ال اعتياد الطبيعة البشرية لرسول ال عليه؛ ففي حديث عائشة
121
تعالى عنها –في بدء الوحي قالت :أول ما بدئ به رسول ال الرؤيا) (…
قال ابن حجر –رحمه ال تعالى)" :-ما( في الحديث نكرة موصوفة ،أي أول
شيء ،ووقع صريحًا في حديث ابن عباس عند ابن عائذ ،ووقع في
مراسيل عبد ال بن أبي بكر بن حزم عند الدولبي ما يدل على أن الذي
كان يراه هو جبريل ،ولفظه :أنه قال لخديجة بعد أن أقرأه جبريل
ا ْ ْ
ق) :أرأيتك الذي كنت خل َ َ ك ال ّ ِ
ذي َ سم ِ َرب ّ َ
قَرأ ِبا ْ
أحدثك أني رأيته في المنام ،فإنه جبريل استعلن(").(122
-4الرؤيا الصادقة :فقد جاء في حديث عائشة -رضي ال تعالى عنها-
عند البخاري):أول ما بدئ به رسول ال من الوحي الرؤيا الصالحة
… وفي لفظ له :الرؤيا الصادقة( …وقد ُذِكَر في الحديث تفسيرها حيث
قالت عائشة) :فكان ل يرى رؤيا إل وقعت مثل فلق الصبح()،(123
فالرؤيا الصادقة" :هي التي ليس فيها ضغث ،قال ابن المرابط :هي التي
شِكل)،(124 ل ُم ْ
ليست ضغثًا ،ول من تلبيس الشيطان ،ول فيها ضرب مث ٍ
أي في أول المبتدءات من إيجاد الوحي الرؤيا) …(125وإنما شبهها بفلق
()119الطبقات الكبرى ،194/1مرجع سابق .
()120الطبقات الكبرى ،194/1مرجع سابق .
()121البخاري ،1/3مرجع سابق .
()122فتح الباري ،1/14مرجع سابق .
()123البخاري ،1/3مرجع سابق .
ً
()124قال ابن حجر -رحمه الله تعالى -تعقبيا" :وتعقب الخير بأنه إن أراد بالمشكل ما ل
يوقف على تأويله ،فمسلم
وإل فل".
()125والعلقة بين الرؤيا الصالحة والصادقة أنهما بمعنى واحد بالنسبة إلى أمور الخرة في
حق النبياء ،وأما بالنسبة إلى أمور الدنيا ،فالصالحة في الصل أخص ،فرؤيا النبي كلها
صادقة ،وقد تكون صالحة ،وهي الكثر ،وغير صالحة بالنسبة للدنيا كما وقع في الرؤيا يوم
64
الصبح دون غيره-كما قال ابن أبي جمرة -لن شمس النبوة كانت الرؤيا
مبادى أنوارها ،فما زال ذلك النور يتسع حتى أشرقت الشمس).(126
وعن علقمة بن قيس صاحب ابن مسعود) : إن أول ما يؤتى به
النبياء في المنام حتى تهدأ قلوبهم ،ثم ينسزل الوحي في اليقظة(
).(127
وأكثر ما سبق من الممهدات في المنام ،وذاك في ذاته تمهيد لليقظة
.
-5اليات التي كانت تظهر له :مثل تسليم الحجر؛ كما ثبت عن
جابر ابن سمرة قال:قال رسول ال ) إني لعرف حجرا ً بمكة
كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لعرفه الن().(128
وأول ذلك مطلقًا ما سمعه من بحيرى الراهب ،ثم ما سمعه عند بناء
الكعبة حيث قيل له اشدد عليك إزارك وهو في صحيح البخاري من حديث
جابر.(129)
-6التحنث :فقد جاء في حديث عائشة -رضي ال تعالى عنها) :-ثم حبب إليه
الخلء فكان يتحنث في غار حراء …(). (130
فقولها )حبب( :لم يسم فاعله؛ لعدم تحقق الباعث على ذلك ،وإن
كان كل من عند ال ،أو لُيَنَبه على أنه لم يكن من باعث البشر ،أو يكون
ذلك من وحي اللهام.
والخلء بالمد الخلوة ،والسر فيه أن الخلوة فراغ القلب لما يتوجه
سَر في الحديث معنى التحنث من بعض رواته ،فقال) :وهو له) .(131وقد ُف ِ
التعبد الليالي ذوات العدد( .
أحد ،وأما رؤيا غير النبياء :فبينهما عموم وخصوص ،إن فسرنا الصادقة بأنها التي ل تحتاج
إلى تعبير ،وأما إن فسرناها بأنها غير الضغاث ،فالصالحة أخص مطلقًا ،وقيل :الرؤيا
الصادقة ما يقع بعينه ،أو ما يعبر في المنام ،أو يخبر به ما ل يكذب ،والصالحة ما يسر .
()126فتح الباري ،8/717مرجع سابق .
()127قال في فتح الباري ،719 /8مرجع سابق" :روه أبو نعيم في الدلئل بإسناد حسن".
()128صحيح مسلم ،4/1782مرجع سابق .
()129فتح الباري ،3/443مرجع سابق ،وقال ابن حجر-رحمه الله تعالى -في حديث بحيرى
الراهب" :وهو عند الترمذي عن أبي موسى بإسناد قوي" .
()130البخاري ،1/3مرجع سابق .
()131انظر :فتح الباري بشرح صحيح البخاري ،1/13مرجع سابق .
65
وقد قيل في تأويل التحنث أنه من الحنفية إذ تبدل الثاء من الفاء
كثيرًا ،أو من إلقاء الحنث وهو الثم).(132
وحتى ل يتهم النبي بالتصال بالشياطين ،أو بالفيض الفلسفي
الذاتي من خلل الستيحاش بالناس ،والستئناس بالخلوة؛ إذ ذاك مظنة لهما
– فإن من أبرز الحقائق التي صاحبت خلوته أنه لم يكن مبتدعها في
قريش ،بل كانت تلك عادة متأصلة فيهم ،فإن الزمن الذي كان يخلو فيه كان
شهر رمضان) ،(133وكانت قريش تفعله ،كما كانت تصوم عاشوراء ،وهم
لم ينازعوا النبي في غار حراء ،مع مزيد الفضل فيه على غيره؛ لن
جده عبد المطلب أول من كان يخلو فيه من قريش ،وكان يعظمونه لجللته،
وكبر سنه ،فتبعه على ذلك من كان يتأله ،فكان يخلو بمكان جده ،وسلم
له ذلك أعمامه لكرامته عليهم).(134
وهل كان النبي متوقعًا للوحي بعد ظهور هذه العلمات كما يدل له
كلم البلقيني ،أم ل لشاهد فزعه ،ولقول عائشة-رضي ال تعالى عنها :-فجئه
الحق ،وأيده النووي …؟ .قال ابن حجر :الظاهر أن الولى :ترك الجزم
ن ي ُل ْ َ َ
ما ك ُن ْ َ بأحد المرين) ( ،ولكن قوله تعالىَ :
135
قى جو أ ْ
ت ت َْر ُ و َ
ك" القصص "86/ظاهٌر في نفي أن ن َرب ّ َم ْ
ة ِم ً
ح َ
ب ِإل َر ْك ال ْك َِتا ُ
إ ِل َي ْ َ
يكون النبي كان يتوقع شيئًا من الوحي .
المطلب الثاني :التهيئة البشرية للوحي:
فكما أن ال أمر جبريل ومن أعانه من الملئكة بتهيئة النبي
تهيئة إلهية مما هو خارج عن نطاق القدرة البشرية ،فقد كان النبي
يهيئ نفسه ومحيطه تهيئة يلهمها ال له بطريق من طرق الوحي لكيما
يتلقى الوحي الذي يأتيه متتابعًا قرآنًا كان أو غيره وهذه التهيئة نوعان:
()132انظر :فتح الباري بشرح صحيح البخاري ،1/13مرجع سابق .
()133رواه ابن إسحاق كما قال ابن حجر -رحمه الله تعالى-في فتح الباري ،12/361مرجع
سابق .
()134انظر :فتح الباري بشرح صحيح البخاري ،13 /1مرجع سابق .
()135انظر :فتح الباري ،12/356مرجع سابق .
66
أ -التهيئة الذاتية :ويشير إليها ملمحان:
أولهما :معالجته الشدة في تلقي القرآن كما سيأتي في حديث
المعالجة)(136؛ وما تلك المعالجة إل لما أراد النبي أن يبذله من طاقة
مستطاعة لحفظ القرآن الكريم ،بعد أن أخبر بثقله في قوله إ ِّنا
قيل َ" المزمل ،" 5/فكأن هذه الية كانت ول ً ث َ ِ عل َي ْ َ
ك َ
ق ْ سن ُل ْ ِ
قي َ َ
داعية تهيئته لتلقي لفظ القرآن الكريم .
وثانيهما :اجتنابه للثوم ونحوها ،مما تتأذى منه الملئكة ،وعندما
يخاف أن تظن أمته حرمتها يبين لهم العلة ،وجاء بعض الصحابة رسو َ
ل
ال بمرقة بقر فيها ثوم ،فوجد رسول ال ريح الثوم فقال):أخرجها(
قال :لم يا رسول ال ؟ ! أحرام ؟ فقال) :ل ،ولكن جبريل يناجيني().(137
وعلل الشافعي-رحمه ال تعالى -ذلك بقوله …":امتنع من أكل الضب؛
لنه عافه ،ل لنه حرمه ،وقد امتنع من أكل البقول ذوات الريح لن جبريل
يكلمه").(138
ب-التهيئة البيئية :لمحيطه الذي يتلقى فيه الوحي:
وأنموذجه ما في حديث أبي هريرة أن رسول ال ) : أتاني
جبريل فقال أتيتك البارحة ،فلم يمنعني أن أكون دخلت
إل أنه كان على الباب تماثيل ،وكان في البيت قرام سترٍ فيه
تماثيل ،وكان في البيت كلب ،فمر برأس التمثال الذي على
باب البيت يقطع ،فيصير كهيئة الشجرة ،ومر بالستر
فليقطع ،فليجعل منه وسادتان منبوذتان توطآن ،ومر بالكلب
67
فليخرج ،ففعل رسول الله وفي رواية :إما أن تقطع
رؤوسها ،أو تجعل بسطا ً توطأ(). (139
وعن عبد ال بن عمر بن الخطاب :وعد النبي جبريل
فقال) :إنا ل ندخل بيتًا ،فيه صورة ،ول كلب(). (140
وهكذا كانت التهيئة اللهية والتهيئة البشرية
لتصال أمين الوحي في السماء بأمين الوحي في
الرض… وتمضي هالت التعليم النورانية بين أشرف الخلق في
السماء ، وأشرف الخلق في الرض والسماء ، لَتعّلم وتعليم خير
الكلم في الرض والسماء:
ف…..في كفه الدهر والتاريخ والصح ُ
ف محمـد في فـؤاد الغـار مرتجـ ُ
مزمـل في رداء الطهر ،قد صعـدت…أنفـاسه في ربوع الكون تأتـل ُ
ف
ل…من القداسات حسَلس ٍ
جبريل يروي لنا اليسات في ُ
والفلك قد دلفوا
مسن السمسوات تهمي كل غادية…… .على ديارٍ بنوها
بالهدى شغفوا
) ()139الترمذي( أبو عيسى محمد بن عيسى السلمي 279هس :الجامع الصحيح سنن
الترمذي ،3/381مراجعة :أحمد محمد شاكر وآخرون ،دار إحياء التراث العربي ،وقال
الترمذي" :حسن صحيح" وقال الشيخ اللباني" :صحيح" .
()140صحيح البخاري ،3/1179مرجع سابق .
68
المبحث الثاني:
إمكانية التصال المطلق بين جبريل والنسبي:
يدرس هذا المبحث مسألة الطلق في اتصال جبريل بالنبي زمانًا
ومكانًا ،فل يحول دون لقائه به حائل ،وذلك حتى تطمئن قلوب المؤمنين
بدقة تلقي النبي ألفاظ القرآن الكريم؛ إذ إن إمكانية التصال المطلق من
أهم سمات اتصال جبريل به ،ولقائه له ،ومن سمات هذا الطلق:
-1اللتقاء الخفي ،والكلم الخفي :فل ضير في وجود بشر
من حوله ،أو عدم وجودهم لخفاء اتصاله ،حيث كان مجيء جبريل
دون أن يشعر به الناس ،وحديثه مع النبي أمامهم ،ول يسمعونه ،ليدل
بذلك على إمكانية التصال به في أي وقت دون عائق تثيره بشرية الرسول
أو غيره؛ إذ التصال به أمر خارج عن نطاق البشر ،وكان هذا من
أسباب التهيئة اللهية للنبي كما تقدم) ،(141ومما يدل على ذلك ما في
حديث ابن عباس قال :كنت مع أبي عند النبي وعنده رجل يناجيه،
وفي لفظ :وهو كالمعرض عن العباس فخرجنا من عنده ،فقال :ألم تر
إلى ابن عمك كالمعرض عني؟ ،فقلت :إنه كان عنده رجل يناجيه ،وفي
لفظ :فقال :أو كان عنده أحد ؟ قلت :نعم! قال :فرجع إليه ،فقال :يا رسول
ل تناجيه .قال:ال! هل كان عندك أحد؟؛ فإن عبد ال أخبرني أن عندك رج ً
)هل رأيته يا عبد الله ؟( قال :نعم ! قال) :ذاك جبريل ،وهو الذي
شغلني عنك() ،(142وكما في حديث عائشة-رضي ال تعالى عنها-أن النبي
قال لها) :يا عائشة! هذا جبريل يقرأ عليك السلم( فقالت:
وعليه السلم ورحمة ال وبركاته ترى ما ل أرى تريد النبي .(143)
-2ويناديه ويكلمه دون أن يشعر أحد من حواليه غالبا ً
سماعًا ،كما هو رؤية :فعن عائشة -رضي ال تعالى عنها :-لما كانت ليلتي
التي كان النبي فيها عندي انقلب ،فوضع رداءه ،وخلع نعليه ،فوضعهما
()141انظر :المبحث السابق من هذا الفصل -المطلب الول .
()142مسند المام أحمد بن حنبل ،1/293مرجع سابق ،وإنما ل يرى جبريل لنه الروح،
والروح :قال في النهاية" :ومنه الحديث الملئكة الّروحان ِّيون ،يروي بضم الراء وفتحها ،كأنه
سب ،ويريد به ن من زيادات الن ّ َ ف والنو ُ
سبة إلى الّروح ،أو الّروح وهو نسيم الّريح ،والل ُ ن ْ
ح
ُ الروا رواح:
ْ ال هذه من جُ ِ لعا
َ أ "إني ضماد: حديث ومنه: البصر، ركها يد
ُ ِ ل ة
ٌ َ
لطيف م
ٌ أجسا أنهم
موا أْرواحا ً لكونهم ل ي َُرْون فُهم بمنسزلة الْرواِح".
س ّ
نُ ، ة عن الج ّ كناي ٌ
هاهنا ِ
()143صحيح البخاري ،3/1177مرجع سابق .
69
عند رجليه ،وبسط طرف إزاره على فراشه ،فاضطجع ،فلم يلبث إل ريثما
ظن أن قد رقدت ،فأخذ رداءه رويدًا ،وانتعل رويدًا ،وفتح الباب ،فخرج ،ثم
أجافه رويدًا ،فجعلت درعي في رأسي ،واختمرت ،وتقنعت إزاري ،ثم
انطلقت على إثره حتى جاء البقيع ،فأطال القيام ثم رفع يديه ثلث مرات،
ثم انحرف ،فانحرفت ،فأسرع ،فأسرعت …قال) :فإن جبريل أتاني
حين رأيت ،فناداني ،فأخفاه منك ،فأجبته ،فأخفيته منك ،ولم يكن
يدخل عليك وقد وضعت ثيابك ،وظننت أن قد رقدت ،فكرهت أن
أوقظك ،وخشيت أن تستوحشي ،فقال :إن ربك يأمرك أن تأتي
أهل البقيع ،فتستغفر لهم …( الحديث).(144
معه ،أووغاية ما كانت تصل إليه قدراتهم ،أن يظنوا وجود جبريل
يعتادوا على بعض علمات محسوسة تدل عليه فقط ،مع كثرة معاشرتهم
لرسول ال وممارستهم لخبره عن مجيء الوحي له :فعن أنس ابن مالك
قال :خرج علينا رسول ال ذات يوم وهو غضبان ،ونحن نرى أن
معه جبريل حتى صعد المنبر-إلى أن قال أنس -ثم التفت نحو الحائط
فقال) :لم أر كاليوم في الخير والشر ،أريت الجنة والنار وراء هذا
الحائط().(145
وقد عبر أنس عن الظن بالفعل )نرى().(146
وكما رواه أبو سعيد الخدري أن النبي جلس ذات يوم على
المنبر ،وجلسنا حوله فقال) :إني مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح
عليكم من زهرة الدنيا وزينتها( فقال رجل:يا رسول الله ! أويأتي
الخير بالشر ؟ فسكت النبي فقيل له :ما شأنك تكلم النبي
ول يكلمك ،فرأينا أنه ينسزل عليه .قال :فمسح عنه الرحضاء
ق
ح ّ
ه َ عدَ الل ّ ِ و ْ ن َ ل إِ ّ قي َ ذا ِ "المعارج ،"6/وهم إنما يظنون ظنا ً بدليل قوله تعالىَ :
وإ ِ َ
نُ حْ َ ن ماَ َو نا
ّ َ ظ لّ إ
ّ ِ ن ُ ظ َ ن ن
ة إِ ْ
ع ُ
سا َ
ما ال ّ
ري َ ما ن َدْ ِ قل ْت ُ ْ
م َ ها ُ
في َ ة َل َري ْ َ
ب ِ ع ُسا َ وال َّ
ن" الجاثية."32/ قِني َست َي ْ ِم ْ
بِ ُ
70
فقال) :أين السائل( ،وكأنه حمده ،فقال) :إنه ل يأتي الخير بالشر
…(الحديث).(147
ومما يدل على رؤيتهم أو اعتيادهم لبعض العلمات الحسية
المصاحبة لمجيء المَلك :علمات الكرب المصاحبة للوحي كما سيأتي –إن
شاء ال تعالى.(148)-
ومن هذه العلمات ما جاء عن عائشة -رضي ال تعالى عنها-أن رسول
ال لما فرغ من الحزاب دخل المغتسل ليغتسل ،فجاء جبريل فقال:
أو قد وضعتم السلح؟ ،ما وضعنا أسلحتنا بعد .انهد إلى بني قريظة ،فقالت
عائشة –رضي ال تعالى عنها:-كأني أنظر إلى جبريل من خلل الباب قد
عصب رأسه من الغبار) ،(149وعن أنس ابن مالك قال :كأني أنظر إلى
غبار ساطع في سكة بني غنم موكب جبريل). (150
، والعين
فالذن المعتادة ل تسمع جبريل
المعتادة ل تراه ،وذلك لنه يصل إلى مركز البصار،
ومركز السمع مباشرة …ولهذا قال) : هذا جبريل
جاء يعلمكم دينكم( فلما أراد جبريل أن يعلمهم كان
ل بد من أن يتمثل لهم بشرا ً تدرك عيونهم صورته،
وتدرك أسماعهم صوته .
ول يستطيع البشر أن يروا الملك إل إذا تمثل لهم بشرًا ،فقرر
النووي )في حديث أم سلمة -رضي ال تعالى عنها -حيث رأت جبريل على
صورة دحية( :أن "فيه جواز رؤية البشر غير النبياء للملئكة ،ووقوع
ذلك ،ويرونهم على صورة الدميين؛ لنهم ل يقوون على رؤيتهم على
مل َك ًا ً
عل َْناهُ َ
ج َ ول َ ْ
و َ صورهم") ( ،ويشير إلى ذلك قوله تعالىَ
151
" النعام ،"9/وأوضح دليل على ذلك :كلم الملئكة مع عل َْناهُ َر ُ
جل ً لَ َ
ج َ
مريم بنت عمران –عليها السلم -حيث تمثل لها الملك بشرًا سويًا.
-3الطلق من حيث النداء والوقت :فعن أنس: احفظوا هذا
فإنه من كنـز الحديث ،قال :غزا النبي فسار ذلك اليوم إلى الليل ،فلما
()147صحيح البخاري ،2/532مرجع سابق ،وهو يدل على مجيء الوحي غير القرآني
شديدا ً .
()148انظر :الفصل الثالث -المبحث الخامس .
()149مسند المام أحمد بن حنبل ،131/6مرجع سابق .
()150صحيح البخاري ،3/1176مرجع سابق .
()151فتح الباري ،4/235مرجع سابق .
71
كان الليل نزل وعسكر الناس حوله ونام هو ،وأبو طلحة زوج أم أنس،
وفلن ،وفلن ،أربعة ،فتوسد النبي يد راحلته ،ثم نام ،ونام الربعة
إلى جنبه ،فلما ذهب عتمة من الليل ،رفعوا رؤوسهم فلم يجدوا النبي
عند راحلته ،فذهبوا يلتمسون النبي حتى يلقوه مقب ً
ل ،فقالوا :جعلنا
ال فداك ،أين كنت ؟ فإنا فزعنا لك؛ إذ لم نرك .فقال نبي ال ): كنت
نائما ً حيث رأيتم ،فسمعت في نومي دويا ً كدوي الرحى ،أوهزيزا ً
كهزيز الرحى ،ففزعت في منامي ،فوثبت ،فمضيت فاستقبلني
جبريل فقال :يا محمد ! إن الله عز وجل بعثني إليك الساعة
لخيرك ،فاختر إما أن يدخل نصف أمتك الجنة ،وإما الشفاعة يوم
القيامة …( الحديث).(152
ولنداء جبريل للنبي علمات ل يحس بها الخرون غالبًا،
فإن أحسوا بها كان إحساسًا غير متميز :فعن أبي ذر قال :كنت مع النبي
فلما أبصر يعني أحدًا قال) :ما أحب أنه يحول لي ذهبا ً يمكث
عندي منه دينار فوق ثلث إل دينارا ً أرصده لدين -ثم قال :-إن
الكثرين هم القلون إل من قال بالمال هكذا وهكذا -وأشار أبو
شهاب بين يديه وعن يمينه وعن شماله -وقليل ما هم( وقال:
)مكانك( وتقدم غير بعيد ،فسمعت صوتًا ،فأردت أن آتيه ،ثم ذكرت قوله
مكانك حتى آتيك ،فلما جاء ،قلت :يا رسول ال! الذي سمعت -أو
قال:-الصوت الذي سمعت ،قال) :وهل سمعت ؟( قلت :نعم قال):أتاني
جبريل فقال :من مات من أمتك ل يشرك بالله شيئا ً دخل الجنة
.قلت :وإن فعل كذا وكذا؟قال :نعم().(153
-4الطلق من حيث المكان :وكان يجيئه حيث كان عند
اقتضاء المجيء ،ووجود المر اللهي بالنـزول :فعن عبد الرحمن بن
عوف قال :دخلت المسجد فرأيت رسول ال خارجًا من المسجد،
ل ،فاستقبل القبلة ،فسجد
فاتبعته أمشي وراءه ،ول يشعر حتى دخل نخ ً
فأطال السجود ،وأنا وراءه حتى ظننت أن ال قد توفاه فأقبلت أمشي
حتى جئته فطأطأت رأسي أنظر في وجهه ،فرفع رأسه ،فقال) :ما لك يا
عبد الرحمن؟( فقلت له :لما أطلت السجود يا رسول ال !خشيت أن يكون
72
ال عز وجل قد توفى نفسك ،فجئت أنظر ،فقال):إني لما دخلت النخل
لقيت جبريل فقال:إني أبشرك أن الله عز وجل يقول :من
ت عليه().(154
ت عليه ،ومن صلى عليك صلي ُ سلم عليك سلم ُ
بل يأتيه إلى أخص أماكنه :فعن عائشة -رضي ال تعالى عنها -أن رسول
ال لما رجع يوم الخندق ،ووضع السلح ،واغتسل فأتاه جبريل وقد
عصب رأسه الغبار ،فقال):وضعت السلح ؟ فوال ما وضعته( فقال رسول
ال : فأين؟ .قال :هاهنا ،وأومأ إلى بني قريظة( قالت :فخرج إليهم
رسول ال .(155) وما سبق من أدلة تدل على هذا الطلق في المكان،
ل…في معسكره ،وسفره ،قاعدًا أو قائمًا أو مضطجعًا أو مقات ً
دددد :فل إشكال ول لبس في حدوث عملية
الوحي بين عالم الملئكة متمثل ً بجبريل وبين عالم
البشر متمثل ً بالنبي حتى تتلقف من قبل بعض
اللسنة بالغمز أو اللمز…تلك كانت شنشنة المستكبرين
مه ْ
ل ُن ب َي ْن َِنا ب َ ْ
م ْ عل َي ْ ِ
ه الذّك ُْر ِ ز َ
ل َ من قبل إذ قالواأ َ ُ
ؤن ْ ِ
ري" ص …"8/فلقد رأينا في عصرنا ن ِذك ْ ِ
م ْ ش ّ
ك ِ في َ
ِ
صورا من الوحي الخفي الذي يقع بين الناس بعد أن ً
يتوافر فيه شرطان :وسيلة الرسال المناسبة ،ووسيلة
الستقبال الخاصة …فترى شخصا ً في قرية أو مجتمع
يتلقى المعلومات من شخص آخر بعيد ،يملك جهاز
الرسال المناسب ،فيسمعه بأدق ما يكون السماع …
ومن ل يملك جهاز الستقبال بجواره ل يسمع شيئًا…
بل يتعدى المر من السماع إلى الرؤية ،فبواسطة
الهاتف المرئي تستطيع أن تسمع بجهازك كما تستطيع
أن ترى لكلم وصورة تبعد عنك آلف الميال وتحادثها
…فالشرط هو وجود جهاز الرسال والستقبال …فإذا
كان هذا صنع النسان ،وهو ما يزال يعد بالمزيد
مستقبل ً …فإن الذهن يتقبل بتلقائية شديدة أن يكون
خالق النسان قد زود المصطفين من رسله من
الملئكة ومن الناس بما يمكنهم من التصال المباشر
…وقد تقدمت مظاهر العداد اللهي لجبريل في
()154سنن البيهقي الكبرى ،9/285مرجع سابق .
()155صحيح البخاري ،3/1035مرجع سابق .
73
الفصل الول ليكون أمين وحي الله ،كما سبقت آنفا ً
مظاهر من التهيئة اللهية الخاصة للنبي الكريم
فهي لمحات تبين أن التصال بين المستويين
الفيزيائَيين لعالمي الملئكة والبشر أيسر –حتى -من
التصال بين البشر والبشر.
ولذا فإن التصال المباشر بين مستويين من عالم
الوجود الملئكي والبشري دون واسطة آلت ل شك
يتطلب قدرة خاصة ليتم التلقي ،وقدرة أخرى عند
الثنين )جبريل والنبي( ليتم الوحي …ولذلك كنا
نرى الثار الشديدة للتصال بينهما تظهر على الرسول
وهو يتلقى الوحي بعد أن هيأه الله لذلك التصال…
كما سيرد في المبحث الخامس من الفصل الثالث –إن
. شاء الله تعالى-
المانع من قرب جبريل :
ويأتي جبريل النبي حيث هو زمانًا ومكانًا إل أن يوجد مانع ،كأن
تكون امرأته خلعت ثيابها ،أو وجد في البيت ما يمنع الملك من
الدخول) ،(156وتقدم ما يدل على ذلك ،ول يعني أنه ل يكلمه إن وجد المانع،
بل يكلمه ،ولكن من مكان بعيد عن مكان المانع فعن عائشة -رضي ال تعالى
عنها-أن النبي) : فإن جبريل أتاني حين رأيت ،فناداني فأخفاه
منك ،فأجبته فأخفيته منك ،ولم يكن يدخل عليك ،وقد وضعت
ثيابك …(الحديث).(157
74
المبحث الثالث:
هيئات مجيء الملك بالوحي القرآني )من حيث
عموم الوحي(:
تعددت الوسائط التي يأتي بها الوحي إلى رسول ال هما
المذكورتان في حديث عائشة -رضي ال تعالى عنها-أن الحارث بن هشام
سأل رسول ال فقال :يا رسول ال! كيف يأتيك الوحي .فقال رسول
ال) : أحيانا ً يأتيني مثل صلصلة الجرس ،وهوأشده علي،
فيفصم عني ،وقد وعيت عنه ما قال وأحيانا ً يتمثل لي الملك
رج ً
ل ،فيكلمني ،فأعي ما يقول( قالت عائشة-رضي ال تعالى عنها:-ولقد
رأيته ينـزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ،فيفصم عنه وإن جبينه
ليتفصد عرقًا) ،(158وفي لفظ له) :كل ذاك :يأتي الملك أحيانا ً في مثل
صلصلة الجرس …( .
قال ابن حجر -رحمه ال تعالى" :-فقوله )كيف يأتيك الوحي( يحتمل أن
يكون المسئول عنه صفة الوحي نفسه ،ويحتمل أن يكون صفة حامله ،أو ما
هو أعم من ذلك ،وقوله) :كل ذلك يأتي الملك( :أي كل ذلك حالتان").(159
وهل مجيء الوحي منحصر في الحالتين ؟ظاهر الحديث يشير إلى
ذلك ،خاصة مع قوله) :يأتيني على نحوين( في رواية ابن سعد)،(160
وقوله )كل ذاك يأتي الملك( ،وفيه فائدة جليلة من حيث مجيء الوحي
في صورة معلومة محسوسة ل يمكنه الشك فيها ،بخلف ما لو كان إلهامًا
ل ،وليس المراد هنا نفي اللهام عن النبي ،بل هو ثابت ،لكن ل مث ً
لتبليغ الوحي المأمور بتبليغه؛ إذ هذا يرجع إلى هاتين الصورتين لذا الدليل،
ومن قال بالعكس فضمان الدليل عليه .
والمقتضى المنهجي لذلك :غرس الطمئنان على دقة نقل الوحي
ل ،ولالقرآني من حيث مجيئه في صورة محسوسة ،فل لبس فيها أو ً
75
يتطرق القادح إليها بسبب الخفاء ثانيًا ،بخلف اللهام في كل ذلك حيث
يمكن ادعاء ذلك فيه لخفائه.
وقد ُأوِرد على هذا الحصر أنه قد ثبت مجيئ الوحي في غير هاتين
الصورتين ،وقد ذكر ذلك ابن حجر-رحمه ال تعالى-وأجاب عليه)،(161
والجواب الجامع أن يقال :ما ذكر من هيئات أخرى للوحي في ذاته ،أوفي
حامله ل تخلو من أحد أمرين:
أن تكون عامة في النبياء وغيرهم ،كاللهام ،والرؤيا الصادقة،
فليس حولها كلم ،وليس السؤال واقعًا عنها). (162
أو أنها ترجع إلى أحد الصورتين كالنفث في الروع ،ودوي النحل،
فهو كصلصلة الجرس ،أو تكليمه لربه تعالى في المعراج فذاك كان
بواسطة نقل جبريلله إلى السماء ابتداء ،وقد قرر الحافظ ابن حجر
-رحمه ال تعالى -ذلك -بعُد -حيث قال" :وقد ذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه
على ستة وأربعين نوعًا ،فذكرها ،وغالبها من صفات حامل الوحي،
ومجموعها يدخل فيما ذكر"). (163
والمراد من هذا الستطراد تثبيت مجيء الملك بصورة محسوسة
حال الوحي بصورة عامة ليغدو مسلمًا في الذهن :أن الوحي كان يأتيه
بطريق محسوس ،فل يطرأ عليه احتمال التخييل)…(164وأما الوحي
القرآني فقد كانت الحتياطات فيه أشد من حيث إنزاله على القلب).(165
وليس الداعي ملحًا للسترسال في ذكر أنواع الوحي الشرعية،
واستقصاء متعلقاتها ،إذ المراد معرفة نوع خاص منه هو الوحي القرآني،
تعرفًا على الطريقة المنهجية المتخذة من قبل جبريل ،التي صاحبت
تعليمه ألفاظ القرآن للرسول ،وتطمينًا على هيئة نقله من حيث اللفظ…
س هذه القاعدة إذ قد ُأشرعت مراكب الخوض في عمق البحث :بما س ْ
ولُتَؤ َ
()161انظر :فتح الباري ،436/ 12مرجع سابق .
()162لكن قد قال البعض بالفرق بين رؤيا النبياء وغيرهم ،فرؤيا النبياء وحي ل يدخله خلل .
ل فالوحي القرآني قد كان أكثر احتياطا ً انظر :فتح الباري ،12/439مرجع سابق ،وعلى ك ٍ
من أن يكون رؤيا منام ،كما يلحظ في عرض هذا الفصل وفيما يليه .
()163فتح الباري ،1/24مرجع سابق .
()164انظر :الفصل الخامس -المبحث الول من هذه الدراسة .
()165انظر :الفصل الثالث -المبحث الثاني -المطلب الثاني من هذه الدراسة .
76
أن الوحي القرآني نوع خاص من عموم الوحي ،فسيذكر ما يتعلق به خاصًا
من حيث اللفظ ،كما سيذكر ما يتعلق به عامًا من حيث شدة ارتباطه
بالخاص ،فل يرد على الباحث بعض أمور تتعلق بعموم الوحي قد ذكرت
في ثنايا البحث… .
وقد آن أوان الخوض في المقصود الساسي من البحث بعد هذه
ن لعالم الضباب والتيه اليوم
التهيئة ،بيد أن كل ماسبق وما سيتلو مبي ٌ
كلمه من كل شوائب الدخل ،أو لوامع الدخن ،ليبقى هدى كيف حفظ ال
الحيارى في أزمنة استعار الضلل…
هدى سيبقى وما عشر وأربعة من الزمان سيبقى ما الزمان بقـي
الـله أنزله ،وال حافظه ،وال ينجـي به الدنيـا من الرهـ ِ
ق
77
الفصل الثالث
هيئة تلقي النبي ألفاظ القرآن من
جبريل
وفيه تسعة مباحث
ب تعليمي تتضآل الكلمات عن وصفه… إننا ندلف إلى هالت موك ٍ
ي نوٍر كانت هذهي شيٍء كان قادة هذه المة ،وأ ُ يرسم لعوالم الغتراب :أ ُ
المة من بعد…
أنا قصة من بدر أرسلها الهدى……محمد يرويها ،وجبريـل يكتب
وكعبتي الغراء بيتي وقبـلتـي.…..وبستاني المعمـور بالحب يثرب
ب البحث ومداره ،كما هو واضح من عنوانه، وهذا الفصل يشكل ُل ّ
وما سبق من الفصول كان تقدمًة له من حيث إثبات العوامل اليجابية التي
ل له ،خادٌم لغرضه ،والخامس خاتم له تخدمه ،وتله فصلن :الرابع مكم ٌ
سَم هذا الفصل إلى تسعة مباحث من حيث نفي العوامل السلبية…ولذا ُق ِ
يحاول الباحث من خللها إعطاء صورة نموذجية واقعية لتلقي النبي
ألفاظ القرآن الكريم بأمر ال من جبريل منذ أن يأمر ال -تعالى ذكره-
جبريل بتعليم الوحي القرآني للنبي ،وحتى تمام ذلك التعليم،
وبلوغه الكمال بالمتابعة ،والمراجعة والتعاهد…ولذا فمباحث هذا الفصل
هي:
المبحث الول :كيفية مجيء جبريل إلى النبي عند تعليمه الوحي
القرآني.
المبحث الثاني :هيئة إلقاء الوحي القرآني من جبريل على قلب النبي
.
المبحث الثالث :نزول جبريل توقيفي .
78
المبحث الرابع :مظاهر اجتهاد النبي في تلقي القرآن الكريم قبل نزول
التوقيف اللهي .
المبحث الخامس :سمات الرسول حين نزول الوحي القرآني عليه .
المبحث السادس :حديث المعالجة .
المبحث السابع :التلقي والتلقين .
المبحث الثامن :كيفية قراءة الرسول على جبريل من حيث المر
الشرعي ،والواقع التطبيقي.
المبحث التاسع :حديث المدارسة .
79
المبحث الول:
كيفية مجيء جبريل إلى النبي عند تلقينه الوحي
القرآني):(166
يدرس هذا المبحث هيئة مجيء جبريل ليلقي الوحي القرآني من
أول أمر ال له بالنـزول حتى إلقائه القرآن على قلب النبي ، فقد وصف
القرآن الكريم هيئة مجيء جبريل إلى النبي عند إبلغه الوحي
القرآني وصفًا دقيقًا ،وكان جل ذلك الوصف في سورة النجم) ،(167التي
صّدرت آياتها بإعلء شأن النبي بيانًا للرادة اللهية في اختياره للنبوة، ُ
ح في ذلك يلقيه شياطين النس وإبلغ كلم ال للناس ،والهجوم على قاد ٍ
حى" النجم ،"4/استؤنف ي ُيو َح ٌ و ْ
و ِإل َ
ه َ والجن … فلما قال إ ِ ْ
ن ُ
الكلم استئنافًا بيانيًا ،كأنه قيل :فكيف يأتيه هذا الوحي؟ ،ومن يأتيه به؟،
وكيف يلقيه إليه فيعيه ،ول يفارقنا؟ ،وكيف يأتيه الوحي القرآني وهو
وى… ديدُ ال ْ ُ
ق َ ه َ
ش ِ عل ّ َ
م ُ كلم ال ،فيطيقه وهو بشر؟ ،فقال الَ
" النجم ،"5/فسورة النجم" :مقصودها ذم الهوى ،لنتاجه الضلل
والعمى…والحث على اتباع النبي في نذارته التي بينتها سورة )ق(،
وصدقتها سورة الذاريات ،وأوقعتها وعينتها الطور").(168
()166المراد المجيء الخاص لجل الوحي القرآني ،فلُيلحظ هذا الختلف بين ما ذكر هنا وما
ذكر في المبحث الثالث من الفصل الثاني .
()167ول ينكر منكر على البحث إظهاَر كيفية تعليم الوحي للنبي من جبريل من خلل
هذه اليات فقد ذكر ذلك عدد من أرباب التفسير ،قال أبو السعود في تفسيره )،(5/43
هبطريق التفسير ،فإنه م ُعل ّ َ
وى عطف على َ ست َ َ مرجع سابق" :في قوله تعالى َ
فا ْ
حى بيان لكيفية التعليم" ،فإن اعُترض بأن هذا وصف للوحي َ
و َ إلى قوله تعالى َ
ما أ ْ
ً
في حالين فقط كان فيهما جبريل بخلقته الصلية ،وليس وصفا للوحي بصورته الدائمة،
فالجواب :فليكن كذلك ،وكما وصف اتصال جبريل بذلك في حالين ،هو دأبه في اتصاله
به دائمًا ،ما خل صورته الصلية؛ إذ قام الدليل على حصرها ،ول دليل على حصر بقية
الوصاف في هذه السورة في الحالين ،على أن الوحي القرآني النازل على القلب ،يأخذ
صورة غير الصورة التي يأتيه فيها الملك بصورة رجل ،كما هو ظاهر من وصف نزوله
بالقرآن بأنه )على القلب( .
()168انظر :نظم الدرر في تناسب اليات والسور ،19/40مرجع سابق .
80
ومن ثم فل إنكار على سائل على كيفية اتصال الملك بالنبي،
خْلَقة بين عالم الملئكة الذين هيأهم ال بقوى بها يكونوا
للتفاوت في ال ِ
عنده ،وبين البشر الذين الذين يضعفون عن مشاهدة عالم الملئكة أو الجن
ل عن تحملهم للوحي اللهي ،فاحتاجوا إلى الواسطة لنقل هذا فض ً
الوحي"ولما كان الوحي ظاهرًا في كونه بواسطة الَمَلك ،تشوف السامع إلى
بيان ذلك؛لن ذلك أضخم في حقه وأعلى لمقداره").(169
فلنتتبع هذا الوصف القرآني) (170لتلقي جبريل الوحي القرآني
من ال ،(171)وكيفية نزوله إلى النبي :
جبريل الوحي الذي يسمع من الله -1
172
ينـزل به :كما في حديث النواس بن سمعان السابق) (،
وفيه)فينتهي جبريل إلى حيث ُأمر من سماء أو أرض( .
وجبريل هو الذي ُيلقي على النبي الوحي القرآني ،وهو
أمين الوحي في السماء والرض ،ورسول ال إلى رسله من
البشر .
وهو معلم النبي ذي الصفات البالغة في قدرة حاملها -2
على أداء هذه الرسالة على أتم وجه وأحسنه ،فليس ُمَعّلم النبي
ذووى)ُ (5 ديدُ ال ْ ُ
ق َ مخلوقًا عاديًا بل لقد علم النبيَ
ش ِ
ِمّرٍة " النجم "6-5/وقد تقدمت صفاته).(173
لكن أبرز صفاته التي يشار إليها في هذا المقام -إذ أظهر -3
الَغَفَلُة تعجبهم من اتصال المل العلى بالبشر ،وسرعة وصول
الرسول السماوي إلى الرسول البشري مع وجود هذه المسافات
81
قَوى)ُ (5ذو ِمّرٍة… ،وقد ديدُ ال ْ ُ الهائلة بينهما-أنه َ …
ش ِ
تقدم شرحها).(174
عندما يريد ال من جبريل الوصول إلى النبي -4
175
لتبليغه الوحي-إرادة أمر وإذن) ( -فإنه يستعد للقيام بأمر ال،
ي بعد أن كان استعدادًاوهو بالفق العلى ،فاستعداده هنا فعل ٌ
فطريًا؛ ذلك بأن الفق هو اسم للجو الذي يبدو للناظر ملتقى بين
طرف منتهى النظر من الرض وبين منتهى ما يلوح كالقبة
الزرقاء ،وغلب إطلقه على ناحية بعيدة عن موطن القوم ومنه
أفق المشرق وأفق المغرب،ووصفه بالعلى ليفيد أنه من ناحية
السماء) ،(176ويومئ لهذا قوله ) : إنما ذلك جبريل ،ما رأيته
في الصورة التي خلق عليها غير هاتين المرتين :رأيته
منهبطا ً من السماء سادا ً عظم خلقه ما بين السماء
والرض( ).(177
فإن اعُترض بأن :هذا دال على رؤيته له ،ل على استعداده
للنـزول…فل يستقيم الستدلل! فالجواب:نعم !يدل على رؤيته له ،ولكن
تبقى الية محتملة للمرين إن كان بقية الحديث منقطعًا عما قبله ،كأنه قال:
المراد في اليات هو جبريل ،ثم استأنف فقال :ما رأيته … ،والقرب
هو ما استدل به عليه هاهنا من حيث أن سياق اليات وسببها بصدد تقرير
صدق الوحي ،وإمكانية اتصال الملك بالرسول).(178
واستعداده لداء هذه الرسالة والنـزول بها إلى العالم الرضي كما
ست ََوى في سورة النجم مفرع على ما تقدم من قوله فا ْقالَ
82
عّلمه وى "النجم ،"5/والفاء لتفصيل َ ق َديدُ ال ْ ُ ه َ
ش ِ م ُعل ّ َ
َ
والمستوي هو جبريل.
ومعنى استوائه :قيامه بعزيمة لتلقي رسالة ال ،كما يقال :استقل
قائمًا ،ومثل بين يدي فلن ،فاستواء جبريل هو مبدأ التهيؤ لقبول الرسالة
ق
ف ِو ِبال ُ ُه َ من عند ال ،وكذلك قيد هذا بجملة الحال في قوله َ
و ُ
عَلى"النجم ،" 7 /والضمير لجبريل ل محالة ،أي قبل أن ينـزل ال َ ْ
إلى العالم الرضي).(179
بعد استعداده لتنفيذ المر يبدأ بالنـزول بسرعة يعلم -5
مقدارها من أودع فيه القوة الهائلة لتبليغ الوحي القرآني إلى
الرسول حيث كان ،فل يبالي بمكانه في بيت أوفي فراش أو
بين أصحابه أوفي جهاده كما تقدم) (،ث ُ ّ
180
م دََنا
فت َدَّلى"النجم ،"8/والدنو :هو القرب ،والمراد إلى حيث يبلغ َ
الوحي وذلك إلى مكانه المحدد من الرض "وإذ كان فعل الدنو،
ق
ف ِ وىِ بال ُ ُ م علىا ْ
ست َ َ قد عطف بـ ث ُ ّ
عَلى علم أنه دنا إلى العالم الرضي ،أي أخذ في الدنو بعد ال َ ْ
فت َدَّلى انخفض من أن تلقى ما يبلغه إلى الرسول ،وَ
ل ،أي ينـزل من طبقات إلى ما تحتها ،كما يتدلى الشيء علو قلي ً
المعلق في الهواء بحيث لو رآه الرائي يحسبه متدليًا ،وهو ينـزل
ض").(181 إلى السماء غير منق ٍ
يزداد اقترابه من النبي حتى يصبح على مسافة -6
و أ َدَْنى َ
نأ ْ سي ْ ِ
و َ
ق ْب َ قا َ ن َ ف َ
كا َ قوسين منه أو أدنىَ
"النجم . "9/
83
وفائدة قوله أ َْو أ َدَْنى بيان دقة وصف المسافة بينهما؛ إذ
أو فيه للتخيير في التقدير ،وهو مستعمل في التقريب ،أي إن أراد
أحد تقريب هذه المسافة فهو مخير بين أن يجعلها قاب قوسين أو أدنى أي ل
أزيد ،إشارة إلى أن التقدير ل مبالغة فيه .
فَؤادُ َما َرَأى" النجم ،"11 /تأكيٌد على ب ال ْ ُ ما ك َذَ َوفي قولهَ :
ب قرب حسي ل مجرد اتصال روحاني ،على قول من تأوله بأنه رد أن الُقْر َ
لتكذيب المشركين فيما بلغهم من الخبر عن رؤية النبي الملك جبريل
،(182)ويؤيده ما رواه المام البخاري -رحمه ال تعالى -عن أبي إسحاق
ه حى إ َِلى َ الشيباني قال :سألت زر بن حبيش عن قوله َ َ
د ِ
عب ْ ِ و َ
فأ ْ
فَؤادُ َما َرَأى" النجم ،(183)"11-10/قال: ب ال ْ ُما ك َذَ َ
حى)َ (10 و َ
َ
ما أ ْ َ
حدثنا ابن مسعودأنه) (رأى جبريل له ستمائة جناح) ( ،وعن
185 184
ن ف َ
كا َ فت َدَّلى )َ (8 مسروق قال :قلت لعائشة :فأين قوله ث ُ ّ
م دََنا َ
ن أ َْو أ َدَْنى ؟ .قالت :ذاك جبريل كان يأتيه في صورة سي ْ ِ
و َ
ق ْب َ َ
قا َ
الرجل ،وإنه أتاه هذه المرة في صورته التي هي صورته فسد الفق).(186
84
والستدلل هاهنا فيه الكلم السابق الوارد عند ذكر هذا الحديث
آنفًا).(187
وعلى هذا فإن النبي كان يرى جبريل رؤيا
حقيقية ،لكنها رؤيا فؤاد كما أن العين ترى ضوءا ً
فترسل إشاراتها الضوئية إلى المخ فيتم وعيها في
المخ…فهل كانت رؤية النبي لجبريل تصل مباشرة
إلى مركز البصار في المخ ،كما أن استماعه لقراءته
يصل إلى مركز السمع في المخ…والمخ متصل بالمركز
العقلي المتحكم المسمى بالفؤاد…؟ قد يكون المر
كذلك؛ إذ لو كانت رؤيا جارحة لرآها كل من له الجارحة
ذاتها ممن يكون موجودا ً مع الرسول في مكان تلقي
خَرى" النجم"13 /؟. يقل ال عز وجلولقد رآه بالفق المبين" التكويرَ"23/وَلَقْد َرآُه َنْزَلًة ُأ ْ
فقالت :أنا أول هذه المة سأل عن ذلك رسول الفقال) :إنما هو جبريل ،لم أره على
صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين :رأيته منهبطاً من السماء سادا ً
عظم خلقه ما بين السماء إلى الرض( .ومن فوائد هذه الروايات :إسناد عائشة قولها
حال نزول جبريل عليه للرسول صراحة ،وقوله منهبطا ً دال على رؤية النبي لجبريل
منهبطًا من السماء لتبليغه الوحي .
* ()187فائدة :قد تأول أكثر المفسرين آيات النجم والتكوير في جبريل ،واختلفهم في رؤية النبي
لربه إنما هو بأمر خارجهما ،وليس ذا المعترك الكلمي ميدانًا للبحث ،إنما ُأريد هاهنا بيان
ضعف قول النووي في شرح مسلم ،2/321مرجع سابق" :لم تنف عائشة -رضي ال تعالى عنها-
وقوع الرؤية بحديث مرفوع ،ولو كان معها لذكرته ،وإنما اعتمدت الستنباط على ما ذكرته من
ل ،وخالفه غيره منهم لم يكن ذلك ظاهر الية وقد خالفها غيرها من الصحابة ،والصحابي إذا قال قو ً
القول حجة اتفاقًا ،والمراد بالدراك في الية الحاطة وذلك ل ينافي الرؤية" إذ قد ثبت الحديث
المرفوع الوارد في تأويل اليتين في مسلم ،حتى تعجب ابن حجر -رحمه ال تعالى -من هذا الذهول
فقال" :وجزمه بأن عائشة -رضي ال تعالى عنها-لم تنف الرؤية بحديث مرفوع تبع فيه ابن خزيمة،
فإنه قال في كتاب التوحيد من صحيحه :النفي ل يوجب علمًا ،ولم تحك عائشة -رضي ال تعالى
عنها -أن النبي أخبرها أنه لم ير ربه ،وإنما تأولت الية انتهى ،وهو عجيب! فقد ثبت ذلك عنها
في صحيح مسلم الذي شرحه الشيخ فعنده من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق في
الطريق المذكورة ،قال مسروق وكنت متكئًا … -ثم ذكر طريقًا آخر ،وفيه :فقلت :يا رسول ال! هل
رأيت ربك فقال :ل إنما رأيت جبريل منهبطًا " فتح الباري ،610 /8مرجع سابق .
ورابط هذا اليراد المعترض سبيل البحث بالبحث هو التأكيد على ما ُقّرر أعله من أن آيات النجم
جاءت موضحة أنموذج التصال بين جبريل والنبي .
85
الوحي ،وقد يقال باختلف جارحة النبي عن جارحة
غيره ،ولذا تمت تهيئته لتلقي الوحي القرآني كما
ب هذا :أننا نعلم أن سبق في الفصل الثاني ،وي ُ َ
قّر ُ
الحيوانات تشترك في جارحة السمع والبصر مع تفاوتها
في دقتهما ،ومدى تركيزهما…ولكن ذكر الفؤاد)(188
يجعل الحتمال الول أرجح وأوقع ،وإن كلن التفصيل
غير مجزوم به؛ إذ قد يكون التصال بالمراكز الساسية
للسمع والبصر ،والوعي في الفؤاد دون المرور
بالمراكز التي في المخ ،وقد يكون المر بصورة
تفصيلية غير ذلك ،ولكن ل شك أن الواقع العلمي الذي
نعيشه اليوم قد قرب تصور هذه العملية كثيرًا ،وما
َ
نحي ٍ
عدَ ِ
ن ن َب َأهُ ب َ ْ عل َ ُ
م ّ ول َت َ ْ
ب فهم ما لم يظهرَ
قّر ُ ظَ َ
هر ي ُ َ
"ص…"88/ويزيد هذا الحتمال رجحانا ً ما تم من إعداد
خاص لفؤاد النبي كما سبق التكلم عن ذلك في أول
الفصل الثاني .
عند نزوله على قلب النبي فإن اعُترض بالقول :إذا كان جبريل
لتلقينه الوحي القرآني على مسافة قاب قوسين أو أدنى -أفما كان يقرب
من النبي أكثر من ذلك ،أو ينأى عنه أكثر ؟ .فالجواب :إما أن يكون هذا
تصويرًا للحالة الغيبية غير المشاهدة لغير الرسول لنـزول المَلك عليه
َ ب ال ْ ُ
ما َرأى" النجم ،"11/و َ
ما ف َ
ؤادُ َ ما ك َذَ َ
)( ويزيد المر جلء ظهور الفرق بين َ
188
غى " النجم "17/إذ الولى لرؤية النبي لجبريل عند نزوله َ
ما ط َو َ
صُر َ ْ َزا َ
غ ا لب َ َ
بالوحي عليه بصفة دائمة ،والثانية لرؤيته له عيانا ً في خلقته الصلية في المرة الثانية من
جعلت كلمة المرتين اللتين شاهد فيهما الرسول جبريل في خلقته الصلية …هذا إن ُ
البصر واردة في معناها الحقيقي المباشر وهو الجارحة المعروفة ،وهو الظاهر ،كما أنه الذي
يدل عليه السياق…ويحتمل أن يكون المراد مركز البصر في الدماغ أو الفؤاد…وعلى كل
الحتمالين فإن ذكر الفؤاد في الية الولى مع علمنا أنه لم يكن الصحابة يشاهدون جبريل
إن جاء في الصورة الشديدة للوحي…يؤكد أن التصال كان بالمركز الصلي المباشر
للدراك عند النبي …والمر –بعد -بحاجة لمزيد تفصيل…لعله يكون في طبعات قادمة –إن
شاء الله تعالى.-
86
بالوحي ،وهي أشدها عليه ،فتكون في غاية الدقة في وصف مكان
في هذه الحالة ،وإن كان من حواليه المَلك،والمسافة التي تبعده عن النبي
ل يراه ،وإما أن يكون تصويرًا لحالة المجيء المشاهد للمَلك ،وهو كائن
ل ،فقد كان يتم للمَلك القرب من النبي أكثر كحديث عند تمثل المَلك رج ً
عمر المشهور في مجيء جبريل يعلمهم أمر دينهم حيث جعل ركبتيه
عند ركبتيه ،ووضع كفيه على فخذيه ،ولكن هذا المجيء المشاهد للمَلك ل
يتعلق به وحي قرآني؛ إذ هاهنا حقيقة تتعلق بهيئة المَلك عند الوحي
القرآني هي أن الوحي القرآني ل يأتي المَلك فيه إل بالصورة الشد .
فإن اعُترض بأنه قد جاء :الوحي القرآني في غار حراء والمَلك متجسٌد
للنبي ظاهٌر بارز ؟ .فالجواب :بل كان الوحي في غار حراء من أشد ما
لقيه النبي في تلقي الوحي القرآني وذلك ظاهر ،حتى رجع النبي
ق صدره بالوحي ترجف بوادره) ،(189ثم قد جاء أن النبي قد ُ
شّ
هناك ،وحسبك بذاك تهيئًة وشدًة لو صح ،على أن تجسد المَلك له في غار
حراء كان في بدايات الوحي تمهيدًا لن يعتاد التصال بالمَلك دون أن
يعتريه ضعف جسماني ،ول شك عقلي في أن الذي يتصل به ليس إل ملك،
ولذا قال صاحب التحرير والتنوير" :فكانت قواه البشرية يومئذ غير معتادة
لتحمل اتصال القوة الملكية بها مباشرة ،فكان ذاك –يعني التجسد– رفقًا
بالنبي أن ل يتجشم شيئًا يشق عليه").(190
وبعد ذا القرب تكون مرحلة اللقاء والتعليم :حيث يلقي -7
المَلك
ه حى إ َِلى َ َ به أن يلقيه َ على النبي ما أمره ال
د ِ
عب ْ ِ و َ
فأ ْ
حى" النجم ،"10 /وليس إلقاء المَلك من فٍم إلى فٍم فحسب ،بل َ
و َ
ما أ َْ
يلقيه على قلبه… كأن جبريل يصل رأسًا إلى مركز السمع
والبصر والوعي الكامل في الفؤاد…إذ إن جارحة البصر)العين(،
سَمُع
وجارحة السمع )الذن( ما هما إل تحويل وترجمة لما ُيشاَهد وُي ْ
من العالم الخارجي إلى مراكز وعيها في الدماغ ومنه إلى المركز
()189البخاري ،1/4مرجع سابق .
()190التحرير والتنوير ،26/97مرجع سابق .
87
الصلي للوعي )الفؤاد(…أما المَلك فيصل مباشرة بكلم مسموع،
كما أن صورته تصل مباشرة إلى مركز الفؤاد ،فيلقي بالوحي اللهي
على قلب النبي ،ويسمعه النبي سماع أذن وفؤاد بدليل تحريك
صل ذلك في المبحث الذي بعد هذا إن شاء ال ،-في
لسانه بعد المَلك –وسُيف َ
حين يرى الصحابة آثار ذلك من الشدة التي تعتري النبي ، والتي
سموها )ُبرحاء الوحي(…فيلقي المَلك الوحي حال كون هذا الُمْلَقى
بلسان عربي مبين ،فيقرؤه جبريل على النبي كما أمره ال
أن يقرأه؛ ولذا نسب الفعل إلى ذاته العلية سبحانه في قولهَ
فإ ِ َ
ذا
ه مبالغة في التأكيد على أن ما قرأه جبريل هو اللفظ َ ْ
قَرأَنا ُ
الذي أراد الأن يقرأه ،وبالهيئة ذاتها التي أرادها ،والنبي
حال قراءة جبريل مطرق مستمع ل يحرك لسانه –بعد تعليمه
ذاك– حتى يقضي جبريل قراءة الوحي عليه ،فإذا قضى انطلق
جبريل ،وقرأه النبي كما قرأه جبريل ،فل يعترض معترض
على هذا الموضع بالقول :إنا ل نراه يحرك لسانه ترديدًا ،إذ اللقاء
على قلبه ،ومعلوم أن عدم تحريك لسانه كان بعد نزول سورة
القيامة). (191
ويدل لما سبق تفصيله من مراحل حديث عبد ال بن عباسقال:
بينما رسول ال بفناء بيته بمكة جالس؛ إذ مر به عثمان بن مظعون
فكشر إلى رسول ال فقال له رسول ال ) : أل تجلس ؟( قال:
بلى ! قال فجلس رسول ال مستقبله ،فبينما هو يحدثه ،إذ شخص رسول
ال ببصره إلى السماء ،فنظر ساعة إلى السماء ،فأخذ يضع بصره حتى
وضعه على يمينه في الرض ،فتحرف رسول ال عن جليسه عثمان
إلى حيث وضع بصره ،وأخذ ينفض رأسه كأنه يستفقه ما يقال له ،وابن
مظعون ينظر ،فلما قضى حاجته ،واستفقه ما يقال له ،شخص بصر رسول
ال إلى السماء كما شخص أول مرة ،فاتبعه بصره حتى توارى في
السماء فأقبل إلى عثمان بجلسته الولى ،قال :يا محمد! فيم كنت أجالسك،
وآتيك ما رأيتك تفعل كفعلك الغداة .قال) :وما رأيتني فعلت ؟( قال:
()191وبأتي مزيد تفصيل لذلك –إن شاء الله تعالى-عند ذكر حديث المعالجة :المبحث
السادس من هذا الفصل .
88
رأيتك تشخص ببصرك إلى السماء ،ثم وضعته حيث وضعته على يمينك،
فتحركت إليه ،وتركتني فأخذت تنفض رأسك كأنك تستفقه شيئًا يقال لك،
قال) :وفطنت لذاك ؟( ،قال عثمان :نعم .قال رسول ال ): أتاني
رسول الله آنفًا ،وأنت جالس( قال :رسول ال؟ .قال) :نعم( .قال :فما
ْ
ء ِذيوِإيَتا ِ
ن َ
سا ِ
ح َ
وال ِ ْ
ل َ مُر ِبال ْ َ
عد ْ ِ ن الل ّ َ
ه ي َأ ُ قال لك ؟ قال :إ ِ ّ
عظُك ُ ْ
م ي يَ ِ وال ْب َ ْ
غ ِ ر َ وال ْ ُ
من ْك َ ِ ء َ ح َ
شا ِ ن ال ْ َ
ف ْ ع ِ
هى َوي َن ْ َ
قْرَبى َ ال ْ ُ
ن" النحل ،"90/قال عثمان فذلك حين استقر اليمان في عل ّك ُ ْ
م ت َذَك ُّرو َ لَ َ
قلبي وأحببت محمدًا). (192
وهكذا كان جبريل ينـزل بالوحي على خير النام… فتنـزل
معه على المؤمنين كُل سكينة ،وكل عزة ،وكل نصر…كيف ترى البشائر
التي تنـزل مع أول معلٍم للفاظ القرآن الكريم من الخلق طرًا لشرف
متعلٍم للفاظ القرآن الكريم من الخلق طرًا ؟ .
وقد قال عتيبة بن عتيبة بن مرداس التميمي الذي شهد حنينًا مع
المشركين ،فلما رأى المسلمين انفضوا عن النبي ،ثم ُنصر برغم ذلك
علم أنه جبريل النازل –بإذن ال –بالنصر ،فثّم أعلن إسلمه:
جّنُه
حول النبي إلى أن َ فضاربوا الناس حتى لم يروا أحدًا
الغس ُ
ق
من السماء ،فمهزوٌم ومعتن ُ
ق ثمة نزل جبريـل ينـصرهـم
لمنعـتنا إذن أسيـافنا الُعُت ُ
ق منا ،ولو غير جبريـل يقاتـلنا
89
المبحث الثاني:
على النسبي هيئة إلقاء الوحي القرآني من جبريل
:
يدرس هذا المبحث هيئة إلقاء الوحي القرآني بعد أن يكون جبريل
قد دنا من النبي في مرحلته الولى ،أي مرحلة ما قبل إلقاء الوحي
القرآني كلمًا ،ولذا انقسم هذا المبحث إلى مطلبين:
المطلب الول :الهيئة العامة للقاء الوحي القرآني .
المطلب الثاني :النـزول على القلب .
المطلب الول :الهيئة العامة للقاء الوحي القرآني :فلنبن الكلم
الن ترتيبًا على ما سبق في المبحث الول:
…وإذ قد دنا جبريل من النبي ،وآن أن ُيْلقي عليه -1
الوحي القرآني ،ويقرؤه عليه فيجب استصحاب أمرين:
أولهما :أن جبريل هو المقرئ الوحيد للنبي ، وقد تقدم تقرير
ذلك).(193
وثانيهما :أن جبريل ليس ملكًا عاديًا ،بل هو الروح)(194كما أن القرآن
روح ...فتجتمع الحياة الحقة منهما ،وإذا كانت الحياة تسري في الجسد
ن النبي روحًا، ح ُيَلّق ُ
الميت عندما ينفخ فيه الروح ،فما ظنك برو ٍ
وجبريل هو المين الذي يتسم بأمانة الداء فل يخرم مما يؤديه حرفًا،
زيادة ول نقصًا ،كما ل يخرم المكان ،ول الزمان ،ولذا استهلت آيات
حه الّرو ُ وصف كيفية إنزال جبريل بالقرآن بقوله تعالى ن ََز َ
ل بِ ِ
ن" النجم ،"194/ويضاف إلى هذا أن قلب النبي قد ُنزع منه مي ُال َ ِ
حظ الشيطان ،وتم إعداده إعدادًا إلهيًا) ،(195فل مجال فيه لمانٍع ذاتي
يمنع أو يشوش على تلقي ألفاظ القرآن الكريم .
-2ينخلع النبي من قدرته البشرية عند رؤيته المَلك ،وسماعه الوحي
مع بقائه على خلقته البشرية ،فالمراد انخلع القوى الباطنة ،ل الخلقة
90
الظاهرة) ،(196فالرؤية والسماع يكونان من المركزين
ب ما ك َذَ َ
المباشرين للسمع والبصر في الفؤاد؛ إذ َ
فَؤادُ َما َرَأى " النجم(197)"11 /؛ولذا كان يأتيه الوحي شديدًا عنيفًا؛
ال ْ ُ
إذ يتوجب عليه بذل ُقوى فوق الطاقة البشرية للسماع غير المعتاد بشريًا،
والرؤية غير المعتادة بشريًا ،والملكة القوية في الحفظ مما ل يعتاد
بشريًا ،زيادة في التأكيد على المحفوظ إذ كان ذلك من لوازم جمعه في
صدره ،وليتمكن من رؤية جبريل وسماعه ،وهو ما ل يراه من حوله،
ول يستطيعون سماعه) ،(198وعبر عن ذلك ابن خلدون-رحمه ال تعالى -فقال:
ف مفطوٌر على النسلخ من البشرية جملة ،جسمانيتها وروحانيتها "وصن ٌ
إلى الملئكة من الفق العلى ،ليصير في لمحة من اللمحات ملكًا بالفعل،
ع الكلم…) ،(199والخطاب ويحصل له شهود المل العلى في أفقهم ،وسما ُ
اللهي في تلك اللمحة ،وهؤلء النبياء -صلوات ال وسلمه عليهم -جعل ال
لهم النسلخ من البشرية في تلك اللمحة ،وهي حالة الوحي فطرًة فطرهم
جّبَلًة صورهم فيها ،ونزههم عن موانع البدن ،وعوائقه ،ماال عليها ،و ِ
داموا ملبسين لها بالبشرية ،بما ركب في غرائزهم من القصد ،والستقامة
التي يحاذون بها تلك الوجهة ،وركز في طبائعهم رغبًة في العبادة ،تكشف
لفق بذلك النوع من النسلخ متى بتلك الوجهة ،فهم يتوجهون إلى ذلك ا ُ
شاءوا ،بتلك الفطرة التي فطروا عليها ،ل باكتساب ،ول صناعة ،فلذا
()196فل ي َرِد ُ على هذا الكلم القول بالتناسخ ،أو قدرة البشر على التشكل؛ إذ ذاك ليس
لهم ،ول في إمكانهم ،وينبغي أن يفسر كلم العلماء الذين سينقل عنهم –بعد قليل -في هذا
الموضوع بهذا التفسير؛ إذ إن بقاء النبي في خلقته البشرية آن نزول الوحي عليه ثابت
تواترا ً كما ُيلحظ ذلك في النصوص التي ترد في هذا البحث .
( )197وما علقة ذلك بمركزي السمع والبصر الكائنين في الدماغ ؟ ،محل نظر وبحث بدأت
بعض الشارات العلمية بالتلميح إليها ،والمستقبل واعد بمزيد تجلية لهذا الموضوع .
)( وقال الصفهاني في أوائل تفسيره" :اتفق أهل السنة والجماعة على أن كلم الله 198
منسزل- ،إلى أن قال مبينا ً أن الله ع َّلم جبريل كيفية قراءة كلمه في السماء وهو ما
سبق في المباحث الماضية -ثم جبريل أداه في الرض وهو يهبط إلى المكان ،وفي ذلك
طريقتان:
إحداهما :أن النبي انخلع من صورة البشرية ،إلى صورة الملكية ،وأخذه من جبريل،
وثانيهما :أن الملك نخلع إلى البشرية حتى يأخذه النبي منه ،والولى أصعب الحالين"
فتح الباري ،3/123مرجع سابق ،ول شك أن الصورتين واردتان كما في حديث الحارث بن
هشام المتقدم ص . 68
( )199في الصل :الكلم النفساني…والبحث قائم على ما قرره محققو أهل السنة والجماعة
من أن الكلم حقيقي ل نفساني .
91
توجهوا ،وانسلخوا عن بشريتهم ،وتلقوا في ذلك عن المل العلى ما يتلقونه
ل في قواها لحكمة التبليغعاجوا)(200به على المدارك البشرية منـز ً
للعباد").(201
ف أن المقتضى المنهجي هنا يجب أن يتركز في أن جهود -وغير خا ٍ
الحفظ البشرية الضخمة للقرآن الكريم خلل القرون ،المؤيدة بالرعاية
اللهية إنشاء ،وإعدادًا ،وإمدادًا ،ومتابعة ،يجب أن تساوي في وزنها
وتركيزها هذه اللحظات التي يتلقى فيها النبي . وبعد ذلك يكون النـزول
بالقرآن على قلب النبي ، وهو المطلب الثاني .
المطلب الثاني :النـزول على القلب ) :(202إن إلقاء جبريل ألفاظ
القرآن على النبي ل يكون خطاب فٍم لفم ،بل قراءة فٍم على قلب
ص يتسم بهف للبشر ،ول نق ٍ ك ،فل يكون ثم أي ضع ٍ قل ْب ِ َ
عَلى َ
َ
البشر ،ول لجلجٍة تصحب إدراك البشر؛ إذ القراءة موجهة إلى مركز
إدراك البشر مباشرة ،وهو المركز الذي نزع منه جبريل حظ الشيطان،
وملئ حكمة)…(203فينخلع النبي عندها من بشريته ،وهو بشر! أي
ينخلع من القدرات البشرية المحدودة مع بقائه على خلقته البشرية…وذلك
لزالة أدنى خاطر يخطر على حائم حوله الشياطين ،من أن محمدًا قد
يفقد حرفًا من هول الموقف ،أو من تأثير الطبيعة ،ولذا كان هذا التصوير
ك ،وُأّكَد عليه في قل ْب ِ َ
عَلى َ
الدقيق لنـزول القرآن على محمدَ
القرآن مرتين :في "سورة البقرة ،"97/وفي "سورة الشعراء ."194/
المعنى :لم تخرج أقوال المؤولين فيها على أمرين:
أ -على روحك :لن الروح إحدى إطلقات القلب كما قال الراغب -رحمه
ال تعالى ،-وقال اللوسي -رحمه ال تعالى" :-وكون النزال عليه؛ لنه المدرك،
والمكلف دون الجسد ،وقد يقال :لما كانت له :جهتان :جهٌة ملكيٌة
()200أي مالوا وعادوا به بعد سماعه في طبيعة البشر .
()201عبد الرحمن بن خلدون ت 808هس :مقدمة ابن خلدون ،98ضبط المتن ووضع
الحواشي والفهارس :خليل شحادة ،مراجعة :د .سهيل زكار ،ط 1417هس1996 ،م -دار
الفكر -بيروت ،وإن كان التعبير عن هذه الحالة الدقيقة التي يكون فيها الرسول متصل ً
بالمَلك بحاجة إلى حذر في الكلمة خشية التزيد أو اليهام ،ولذا فقول ابن خلدون" :متى
شاءوا " فيه نظر كبير بل متى أذن الله لهم ،فجاءهم المَلك ل أنهم هم يذهبون…ولعل
من حكم ذلك بقاء صبغتهم البشرية أغلب حتى ل تكون حجة في عدم القتداء …
()202أفرد بالعنونة لجللته ،وعظيم خطره .
()203انظر :الفصل الثاني -المبحث الثاني .
92
يستفيض بها ،وجهة بشرية يفيض بها – جعل النزال على روحه لنها
المتصفة بالصفات الملكية التي يستفيض بها من الروح المين ،وللشارة
ك دون عليك الخصر ،وقيل :إن هذا لن قل ْب ِ َ
عَلى َ
إلى ذلك قيلَ
204
القرآن لم ينـزل في المصحف كغيره من الكتب") (.
ب -على العضو المخصوص:
وتخصيصه بالنزال عليه قيل :للشارة إلى كمال تعقله وفهمه ذلك
المنـزل ،حيث لم تعتبر واسطة في وصوله إلى القلب الذي هو محل
ل لكلمهالعقل…وقيل :للشارة إلى صلح قلبه وتقدسه حيث كان َمْنـِز ً
تعالى؛ ليعلم منه حال سائر أجزائه ،فإن القلب رئيس جميع العضاء،
وملكها ،ومتى صلح الملك صلحت الرعية").(205
فلم تخرج أقوال المؤولين في معنى )القلب( عن هذين المرين:
الروح . -1
العضو المخصوص … وعلى كل منهما فقد ُأريد من -2
النزال على القلب :المكان الناسب الذي ُهيأ التهيئة المناسبة
لجهود الحفظ ،ثم القراءة والقراء؛ ليخرج إلى عالم البشر ،وكان
النبي يسمعها ،ويعيها بقوة إلهية قدسية ،ل كسماع البشر منه
، وتنفعل عند ذلك قواه البشرية ،ولهذا تظهر آثارها على
ظّ
ن جسده الشريف ما يظهر ،ويقال لذلك )ُبَرحاء الوحي( حتى ُي َ
ظن أنهفي بعض الحايين أنه ُأغمي عليه وقد ُي َ
َأغفى).(206
وقد فتح الله –تعالى ذكره -أذهان البشرية في
عصرها الحاضر على حقائق علمية ضخمة تقرب لنا
بألفاظ القرآن على قلب النبي، سر نزول جبريل
فإن جبريل تعدى أداة التوصيل السمعي لدى البشر
وهي الذن الخارجية إلى مركز السمع مباشرة ،وأداة
التوصيل البصري لدى البشر وهي العين الخارجية إلى
مركز البصر مباشرة…ويزيد هذا تقريبا ً أن يقال :لما
كان القلب يتلقى الصوت كما يرى الصورة في
()204روح المعاني ،19/181مرجع سابق .
()205روح المعاني ،19/182مرجع سابق .
()206انظر :روح المعاني ،182/مرجع سابق .
93
المنام…والجارحة المباشرة من عين وأذن نائمة
مغطاة…ثم إذا استيقظ تذكر كله في اليقظة…وقد
جاء التشريح الطبي مؤكدا ً حقيقة مراكز السمع
والبصر ،وأنها مراكز في المخ تعي ما يصل إليه عن
طريق الجوارح كما تعي ما يصل إليها عن طريق
كشف يقرب لنا ما لم يكشف الرؤى المنامية ،وما قد ُ
ُ
مما قد غاب عنا ،وقد كانت أولى مراحل الوحي التي
هيأ بها النبي لتلقي الوحي المباشر هي الرؤى
المنامية الصادقة ،ثم رؤيته للمَلك في منامه كما سبق
تفصيل ذلك في الفصل الثاني ،وحالة الوحي في
ة لحالة الوحي في اليقظة…مما قد يقرب النوم مقرب ٌ
لنا فهم كيفية الوحي وحدوثه ،واستيعاب كيفية تلقي
النبي للوحي بواسطة التصال بعالم الملئكة …
بطريقة يرى الصحابة آثارها في النبي من تصبب
العرق في اليوم الشديد البرد ،وترجيع اللسان ،وثقل
جسم النبي (207) دون أن تشاهد أبصارهم صورة
الملك ،أو تسمع آذانهم صوته…لن التصال كان في
مستوى ل يدركونه ،ولكنهم يسمعون قرآنا ً معجزا ً ل
تنقضي عجائبه ،ول تشبع منه العلماء ،ول يخلق على
كثرة الرد .
وذكر أبو حيان -رحمه ال تعالى -سبعة أقوال في تخصيص ذكر
القلب) (208حاصلها راجع إلى قولين:
أ -فالول والثاني كالشيء الواحد مجموعهما :أن القلب محل التلقي)(209
لهذا المر الخطير ل سواه ،وإليهما يؤول السادس .
94
ب -والثالث والرابع والخامس تؤول إلى معنى واحد هو :كونه أشرف
عضٍو في الجسد ،وإليه ما يرجع السابع .
وكلهما متفرع عن القول الثاني الذي ذكره المام اللوسي-رحمه ال
تعالى)-العضو المخصوص( ،بيد أنه ل فائدة في الثاني من حاصل أقواله ،لو
ل أن يقول: ص لشرفه؛ إذ لقائ ٍ
خ ّ كان مجرد تكنية عن الجملة النسانية ،و ُ
)عليك( أخصر وأظهر ،وإذ المر كذلك فل ُبّد لتخصيصه من مغزى :هو
ما ذكر في الول من الحاصل ،كما يلوح للباحث أمر آخر:
هو أن ما أظهره اليهود من عدواة جبريل وادعاؤهم مجيئه
بالخراب) (210غمز في أمانته ،أو لمز في دقة نقله؛ إما لن الوحي ليست
ن أنمهمته ،أو لشدته على البشر أو غير ذلك ،فأثنى عليه أبلغ الثناء ،وَبّي َ
اللمز فيه أو إظهار العداء له هو ل ولملئكته ولرسله عداء ،وأنه
وميكال قرينا إخاء ،وسبق ذلك كله ببيان دقة نقله للوحي على فؤاد النبي
ن الل ّ ِ
ه"البقرة. "97/ وأنه ب ِإ ِذْ ِ
قل ْب ِ َ
ك: عَلى َ
الكاف في َ
ك قل ْب ِ َ
عَلى َ
وأما سبب التعبير عن ذلك بالكاف في قوله َ
دون الياء الدال على المتكلم فهو التأكيد المطرد على المصدرية اللهية
للقرآن الكريم ،ففيه إيماء إلى الحفظ للفظ والمعنى ،وصرح به في آية
الحجر ،وتفصيل ذلك في المبحث الثامن من هذا الفصل :كيفية قراءة
الرسول .
عَلى :
الحرف َ
ل على القلب ،،والقلب عَلى لن القرآن مُ ْ
سَتْع ٍ وأتى بلفظ َ
سامٌع له مطيٌع يتمثل ما أمر به ويجتنب ما نهى عنه ،وكانت أبلغ من
عَلى تدل على )إلى(؛ لن )إلى( تدل على النتهاء فقط ،وَ
211
الستعلء ،وما استعلى على الشيء يتضمن النتهاء إليه) ( .
عَلى: ويلوح للباحث ثلثة أمور في حرف الجر َ
أولها :أن الستعلء مستغرق للملكية ،مهيمن على المحل ،فارض
لسلطانه ،واضح ثقله وسيطرته في مكانه ،وكأنه ُأريد بذلك أن القرآن عندما
()210انظر في ذلك :صحيح البخاري ،3/1211مرجع سابق .
()211انظر :البحر المحيط ،1/320مرجع سابق .
95
ينـزله جبريل على قلبك قد تتام قبضُه على القلب ،وسيطرته عليه ،فهو
مهيمن على القلب في لفظه ،ل يستطيع القلب أن يفلت منه مثقال ذرة ،وفيه:
الشعار بأن ألفاظه مفروضة على القلب فرضًا ،فل مجال لزيغ حروفها
عنه ،ول لتحريف هيئتها ،مع حب قلب الرسول لها كما سيأتي) ،(212ولم
تبق فيه ذرة تتأثر إل به ،ول تحتفل إل له ،فهو خلي عن غيره ،وفي هذا
تمام الحفظ والفهم والهتمام ،ولذا قال الصاوي –رحمه ال تعالى" :-عبر بـ
عَلى لتمكنه ،وانصبابه ،ورسوخه؛ فإن الشيء إذا صب من أعلى َ
213
لسفل رسخ وثبت") (.
وثانيها :أن على مؤكدة للنزال من أعلى إلى أدنى :كما قال تعالى في آل
عل َي ْ َ ُ
نا…" آل عمران "84/ ل َ ز َما أن ْ ِ
و َ مّنا ِبالل ّ ِ
ه َ لآ َ عمران ُ
ق ْ
ل عليه من السماء إلى جه ،والُمْنـَزل إنما هو ُمْنـَز ٌ فالخطاب للنبي ُ مَو َ
ل إ ِل َي َْنا… ُ
ز َ
ما أن ْ ِ
و َ مّنا ِبالل ّ ِ
ه َ قوُلوا َ
ءا َ حيث هو ،بخلف آية البقرةُ
"البقرة "136/فإن الخطاب لصحابته ،ثم لمته –من بعد -والنزال إنما
يكون إليهم؛ إذ يتضمن حرف إلى معنى المجاورة ،ويجعل فعله
يتضمن معنى اليصال ،فليس ثم أعلى ول أدنى ،كأنهم قالوا :آمنا بال وما
أنزل على رسوله مما وصل إلينا…لنه إنما وصل إليهم من محمد وهو
بجوارهم ل فوقهم ،ولكن لرتباطه بأنزل أفاد أمرًا آخر -لقتضاء
النزال أعلى وأدنى -هو أن الوحي ُأنزل على غير المخاطبين ثم وصل
إليهم… فقد تضمن الفعل :أنزل ،والحرفإلى ذلك ببلغة بديعة،
وإعجاز عظيٍم ...ومن أسراره أنهم جعلوا -بهذا التعبير -ما أنزل على
الرسول هو ذاته ما وصل إليهم دون ريب…ومعلوم أن التضمين عند
العلماء ُمَقّدُم على تبادل الحروف). (214
96
وثالثها :أنه قال على ولم يقل )في( لئل يتوهم أن جبريلألقى القرآن
في قلب النبي دون سماع ،وسيأتي مزيد تفصيل له -إن شاء ال تعالى–
).(215
إعداد القلب مسبقًا:
وجهت لقلب النبي عناية فائقة ،وكان جبريل هو الذي هيأ
محمدًا واعتنى بقلبه خاصة في كل مرة يأمر ال ويأذن بذلك كما سبق
في حديث شق الصدر) ،(216وقد كان قلبه يحس ويعقل حتى إن نامت عيناه،
فعن جابر بن عبد ال قال :جاءت ملئكة إلى النبي وهو نائم فقال
بعضهم :إنه نائم ،وقال بعضهم :إن العين نائمة والقلب يقظان فقالوا :إن
ل ،فقال بعضهم :إنه نائم ،وقال بعضهم: ل ،فاضربوا له مث ً
لصاحبكم هذا مث ً
إن العين نائمة والقلب يقظان ،فقالوا :مثله كمثل رجل بنى دارًا ،وجعل فيها
مأدبة ،وبعث داعيًا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ،ومن لم
يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة ،فقالوا :أولوها له يفقهها،
فقال بعضهم :إنه نائم ،وقال بعضهم :إن العين نائمة والقلب يقظان فقالوا:
فالدار الجنة ،والداعي محمد فمن أطاع محمدًا فقد أطاع ال ومن
عصى محمدًا فقد عصى ال ،ومحمد فرق بين الناس() ،(217وفي
رواية الترمذي عنه قال :خرج علينا رسول ال يومًا ،فقال) :إني رأيت
في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي ،يقول
ل ،فقال :اسمع سمعت أذنك ،واعقل أحدهما لصاحبه اضرب له مث ً
عقل قلبك ،إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ً
…(الحديث). (218
فقد اشتمل النـزول على قلبه:
97
–رحمه ال-1على التحفيظ والتفهيم والتثبت :كما قال الزمخشري
ظكه ،وَفّهَمك إياه ،وأثبته في قلبك إثبات ما ل ينسى كقوله حّف َتعالى":-أي َ
سى ،(219)"وخص القلب ،والمعنى فل َ َتن َ ك َرئ ُ َق ِسن ُ َْ
عليك لنه محل الوعي والتثبت ،وليعلم أن المنـزل على قلبه محفوظ
ل يجوز عليه التبديل ،ول التغيير ،وحرف على مستعار
للدللة على التمكن مما سمي بقلب النبي مثل استعارته في قوله
م " البقرة ،(220)"5/وقد تقدم عَلى ُ ول َئ ِ َ ُ
ه ْن َرب ّ ِم ْدى ِ ه ً ك َ أ ْ
التوضيح بأن إرادة القلب حقيقية وليست مجازية…وأن المراد
الوصول إلى محل الوعي المباشر بعد تهيئته سابقًا لذلك .
-2كما اشتمل النـزول على قلبه على اللفظ كما هو على المعنى
تصريحًا ل تلويحًا :كما قال الزمخشري":ولو كان أعجميًا لكان ناز ً
ل
ف ل تفهم معانيها ول على سمعك ،دون قلبك لنك تسمع أجراس حرو ٍ
تعيها").(221
واستدل أبو حيان -رحمه ال تعالى -على أنه كان يسمع من جبريل
ن" الشعراء،"195/ مِبي ٍي ُعَرب ِ ّن َ سا ٍ الحرف بقوله : ب ِل ِ َ
فقال" :الظاهر تعلقبلسان بس نـزل ،فكان يسمع من
جبريل حروفًا عربية" ،قال ابن عطية -رحمه ال تعالى":-وهو القول
الصحيح ،وتكون صلصلة الجرس صفة لشدة الصوت ،وتداخل حروفه،
وعجلة مورده ،وإغلظه").(222
…وبذا تم حفظ اللفاظ من زواياه الكلية).(223
ل أو-3التمكن من حفظ اللفاظ وجمعها ،دون أن ينخرم منها شيء أص ً
أداء .
98
اعُل موكب الوحي على كل رائٍم طمس النور بفمه ….اعُل موكب
الوحي..أو ما يكفي :جبريل في قيادتك ،ومحمد في ريادتك؟..اعُل
موكب الوحي..يتراءى لنا خبُرك..حتى ترتفع أعلم الحب فداًء بالمهج…
طرقتك زائـرة ،فحي خيـالها……..بيضاء ،تخلط بالحياء دللـها
قـادت فؤادك ،فاستقاد ،وقبلها……..قاد القلوب إلى الصبا فأمالها
هل يطمسون من السماء نجومها…..بأكفهم؟ أم يسترون هللـها؟
أم يدفعـون مقـالة عن ربـه؟….....جبريل بلغها النبي فقـالها.
99
المبحث الثالث:
نسزول جبريل توقيفي:
يراد من هذا المبحث التأكيد على حقيقة هامة في نقل القرآن من
السماء إلى الرض هي :التوقيفية في ذلك النقل ،ذلك بأن جبريل ليس له
من أمر الوحي القرآني شيء ،فنـزوله كان بأمر ال ،وبعد صدور أمره
،يكون نزول جبريل بإذنه ،وعليه فإن نـزول جبريل بأمر وإذن
إلهي قبل النـزول ،مستصحبان مع النـزول :كما هو ظاهر من قوله تعالى
ه" البقرة"97/؛ ولذا قال أبو ن الل ّ ِ ك ب ِإ ِذْ ِقل ْب ِ َعَلى َ ه َ ه ن َّزل َ ُ َ
فإ ِن ّ ُ
ه" بأمره ،وتيسيره ،وفيه تلويح ن الل ّ ِ السعود-رحمه ال تعالى:-ب ِإ ِذْ ِ
بكمال توجه جبريلإلى تنـزيله ،وصدق عزيمته ،وهو حال فاعل
نزله ") ،(224وقال الصاوي -رحمه ال تعالى" :-المراد بالذن المر ل
العلم"). (225
ه :نزول جبريل بالقرآن عن ن الل ّ ِ فاجتمع في قوله ب ِإ ِذْ ِ
أمر ال السابق ،ثم تيسيره له ذلك وتسهيله ،وهو مؤكد للمصدرية اللهية
للقرآن الكريم ،فما كان لجبريل من هوى شخصي ،ول إرادة ذاتية في
أن ينـزله على قلبك ،لنه ل يعدو أن يكون منفذًا لرادة ال ،وإذنه في
تنـزيل القرآن على قلبك ،ومنه نستنتج أمرًا بالغ الهمية هو :التوقيفية في
نزول المَلك:
فعن ابن عباس أن النبي قال :يا جبريل!ما يمنعك أن تزورنا
َ
نما ب َي ْ َ ك لَ ُ
ه َ ر َرب ّ َ
م ِ
ل ِإل ب ِأ ْما ن َت َن َّز ُو َ أكثر مما تزورنا ،فنـزلت َ
فَنا "مريم "64/إلى آخر الية ،قال :كان هذا الجواب خل ْ َما َ َ
و َديَنا َ أي ْ ِ
لمحمد ،(226)فقد تجذرت صفة الحق في كل أجزاء النزال
100
والتعليم:الحق هو الُمْنـٍِزل ،والحق في المْنـَزل ،الحق في النـزول ،كما في
َ
ق ن ََزل" السراء. "105/ ح ّ وِبال ْ َق أنَزل َْناهُ َ ح ّوِبال ْ َقولهَ
فإذا كانت التوقيفية صفة ذاتية للنـزول ،فكيف المنـَزل به؟ .
ن الله يظهر معنى وفي حرف الباء في قوله تعالى بإذْ ِ
المصاحبة والملبسة لمر ال في نزوله ،ل معنى التجاوز والجتهاد ،ثم
أخذ الذن ،فهو أمر ال وإذنه الذي اختاره؛ إذ معلوم أن هذا التعبير يفيد
ه س إل ب ِإ ِذْن ِ ِ ف ٌ م نَ ْأن الفعل تم بعد الذن ،كما قال ل ت َك َل ّ ُ
ه" البقرة،"255/ عن ْدَهُ ِإل ب ِإ ِذْن ِ ِ ع ِ ف ُش َ ذي ي َ ْذا ال ّ ِ
ن َ م ْ"هودَ "105/
227
مع أن الباء تفيد الملصقة ،وهي من أهم معاني الباء) ( ،فقد كان الذن
ستصحَبين اللهي أمرًا وإذنًا واقَعَين قبل النـزول ،ملصَقين للنـزولُ ،م ْ
حتى تمام أداء الوظيفة التعليمية .
وما سبق كان وصفًا لعمل الُمَعّلِم الُمْلقي ،فلننظر في عمل طالبه
المتلقن ، وهو المبحث التالي:
ى ل يفارقها فلهذا اقتصر عليها سيبويه" انظر :ابن هشام النصاري"اللصاق ،قيل :وهو معن ً
ت 761هس :مغني اللبيب عن كتب العاريب ،تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ،المكتبة
العصرية ،صيدا -بيروت ،طبعة بدون 1407هس – 1987م .
101
102
المبحث الرابع:
مظاهر اجتهاد النبي في تلقي القرآن من جبريل
قبل نزول التوقيف اللهي:
اجتهد النبي في تطبيق هيئات تمكنه من حفظ القرآن عند إلقاء
الملك له ،بيد أن جللة المر ،وعظمة قضية التلقي من السماء للرض
منعته من الجتهاد حتى في مثل هذه الجزئية بل صار فعله توقيفيًا ،فلم يقر
على اجتهاد ،وبين له هيئة تلقيه ،ولعل أهم حكم تأخير إنزال المر له بكيفية
تلقي القرآن أن يعلم المسلمون من بعده ضرورة الوقوف عند التوقيف
اللهي في تلقي القرآن ،وأن النبي ُنـهي عن بعض اجتهاداته المخالفة
للتوقيف اللهي في طريقة التلقي فكيف غيره ؟ .
فمن مظاهر اجتهاده الولى:
تحريك اللسان بالقرآن قبل فراغ جبريل منه :وهو -1
لقب ْ ِن َ م ْ
ن ِ ل ِبال ْ ُ
قْرآ ِ ج ْع َول ت َ ْ ظاهر آية سورة طه َ …
حي ُُه…"طه ،"114/وآيات سورة القيامة ضى إ ِل َي ْ َ ن يُ ْ َ
و ْ ك َ ق َ أ ْ
ه" القيامة "16/فإنه كان ج َ
ل بِ ِ ع َ ك ل ِت َ ْسان َ َ ه لِ َ ك بِ ِ حّر ْ ل تُ َ
يبادر إلى أخذه ويسابق المَلك في قراءته ،ولهذا قال ل
ج ْ
ل ع َول ت َ ْ ه كما قال َ ل بِ ِ ج َ ع َ سان َ َ
ك ل ِت َ ْ ه لِ َ ك بِ ِ حّر ْتُ َ
….( )"
228
وهذه الحركة تأخذ طابع العجلة لستذكار السابق ودراك اللحق،
وفي رواية لحديث ابن عباس في المعالجة) :كان رسول ال إذا نزل
عليه الوحي يلقى منه شدة ،وكان إذا نزل عليه عرف في تحريكه شفتيه،
يتلقى أوله229ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره ..
الحديث) ( ،وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن :كان يحرك به لسانه
يتذكره فقيل له :إنا سنحفظه عليك) ،(230وللطبري من طريق الشعبي:
103
ل من شدة حبه إياه، ل فأو ًوظاهر أنه كان يتكلم بما يلقي إليه منه أو ً
وخوفه من تفلته ،فأمر أن يتأنى إلى أن ينقضي النـزول). (232
-2دراسته بحيث يشق عليه )وهذا أعم من السابق(كما قال
الضحاك":السبب أنه كان يخاف أن ينسى القرآن ،فكان
يدرسه متى غلب ذلك عليه وشق فنـزلت").(233
التعجل في السؤال عن معانيه:كأنه كان يعجل في -3
الحفظ ،والسؤال عن المعنى جميعًا كما ُيظهر بعض المتحمسين
َ ل ِبال ْ ُ
ن
لأ ْ قب ْ ِن َ م ْن ِ قْرآ ِ ج ْ
ع َ من طلبة العلم ونحوهَ
ول َ ت َ ْ
يه" طه. (234)"114/ حُ ُ و ْ
ك َ ضى إ ِل َي ْ َ ق َ يُ ْ
القول القلبي والستفزاز العاطفي بالضافة إلى حركة -4
اللسان خشية انفلت القرآن ،وهو مستلزم لشدة اهتمام الفؤاد
بالُمْلَقى؛ إذ أنه ُيلمح بازاء عجلة اللسان عجلة الفؤاد المسببة
لضطراب القلب .
والمراد أن شغل اللسان كان بحركة السابق ،والقلب بتثبيت
اللحق .
ه
ك بِ ِ حّر ْ عند ذاك نزلت آيات سورة القيامة فقيل له ل ت ُ َ
ج َ
ل ع َه بالقرآن قبل فراغ جبريل منه ل ِت َ ْ ل بِ ِج َ
ع َك ل ِت َ ْ سان َ َ
لِ َ
ي عن اجتهاده، ه أي بقراءته ،وحفظه خوف أن ينفلت منه) (235فُنِه َ بِ ِ
ن له كيف يتلقى القرآن ،وآيات سورة القيامة تصف ذلك بدقة؛ إذ إن هذه وُبّي َ
104
اليات ونحوها دائرة حول تلقي الوحي من المَلك ،ففيها"تعليم من ال
لرسول ال في كيفية تلقيه الوحي من المَلك").(236
فقد استبان أن التوقيف في الوحي القرآني قد شمل هيئة الستماع
لتلوة المَلك .
105
المبحث الخامس:
سمات الرسول حين نزول الوحي القرآني عليه:
إذا كان المبحث السابق قد تحدث عن مظاهر اجتهاد رسول ال
في تلقي الوحي القرآني ،وعن نهيه عن ذلك؛ فقد لزم معرفة سماته حين
تلقى الوحي القرآني ،التي أبان بها عن خصائص التوقيف اللهي في تلقي
الوحي القرآني ،وهو المراد من هذا المبحث.وهذه السمات تتلخص في
التي:
تفريغ قلبه وحسه ،وتخلية فكره إل في الُمَتَلقى :ولذا -1
كانت الغطة في أول نزول جبريل عليه) ،(237كما كان الوحي
القرآني يأتيه في مثل صلصلة الجرس.
وصلصلة الجرس) :(238هو صوت متدارك ل يدرك في أول
الوهلة كصوت الجرس ،أي أن الوحي يجيء في صورة وهيئة لها مثل هذا
الصوت ،فنبه بالصوت غير المعهود على أنه يجيء في هيئة غير معهودة
فلذا قابله بقوله في صورة الفتى )وفي لفظ :الرجل( ،فصلصلة الجرس مثال
لصوت الوحي ،والصلصلة -بصادين مهملتين مفتوحتين بينهما لم ساكنة-
()237كما رواه البخاري ،1/3مرجع سابق ،وفي النهاية في غريب الثر ،3/342 ،2/327
َ
ت بالُبكاء(:
ش ُ ل بحْلقي فسأبني حتى أ ْ
جهَ ْ جبري ُ
مْبعث) :فأخذ َ ِ
مرجع سابق" :في حديث ال َ
ال ْ
ذني جبريل فَّغتني مب َْعث )فأخ َ
خنق ومثله غتت ففي حديث ال َ حْلق كال َ
صر في ال َ
سأب العَ ْ
ّ
دت منه صرا ً شديدا ً حتى و َ
ج ْ صرني عَ ْ ت والغَ ّ
ط سواء كأنه أراد ع َ َ هد( :الغَ ّ
ج ْ حّتى بَلغ ِ
مّني ال َ
مس في الماء َقهرا ً" ،وفي فتح الباري ،1/10مرجع سابق" :قوله
من ي ُغْ َ
جد َ
قة كما ي َ ِ
مش ّ
ال َ
)فغطنى( بغين معجمة وطاء مهملة وفي رواية الطبري بتاء مثناة من فوق كأنه أراد ضمنى
وعصرني ،والغط حبس النفس ،ومنه غطة في الماء ،أو أراد عمني ومنه الخنق ،ولبي داود
()238كما في حديث الحارث بن هشام الذي تقدم في الفصل الثاني -المبحث الثالث ص
. 68
106
في الصل صوت وقوع الحديد بعضه على بعض ،ثم أطلق على كل
صوت له طنين ،وقيل هو صوت متدارك ل يدرك في أول وهلة،
239
والجرس :الجلجل الذي يعلق في رؤوس الدواب واشتقاقه من الجرس) (
بإسكان الراء).(240
والحكمة في تقدم هذا الصوت الشديد :أن يقرع الوحي سمعه
فل يبقى فيه مكان لغيره). (241
ول بد من الشارة هنا إلى أن السلسلة )أو الصلصلة( ظاهرٌة
صوتيٌة قويٌة مهابٌة تظهر مع كل إنزال للوحي اللهي ،وقد تقدم حديث
النواس بن سمعان) :إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء صلصلة(
) ،(242وفي قصة حنين حين رمى النبي على وجوه العدو التراب ،فأخذ
كفًا من تراب ،يضرب به وجوههم ،وقال) :شاهت الوجوه( ،فهزمهم ال
،فحدث أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا:لم يبق منا أحد إل امتلت عيناه
وفمه ترابًا ،وسمعنا صلصلة بين السماء والرض كإمرار الحديد على
الطست).(243
فقد كانت هذه الظاهرة الصوتية تدل على
جللة الخطب ،وعظم المر ،وتصاحب نزول
المَلك وفعله القوي الشديد ،وهي ل شك داعية
إلى تفريغ القلب وانشغاله بما صاحبها دون
غيره .
()239ومنه قيل للهمزة الحرف الجْرسي لشدته وجلدته .انظر) :ابن الجزري( شمس الدين
أبو الخير محمد بن محمد ابن محمد بن علي ت 833هس :التمهيد في علم التجويد ص ،46
تحقيق غانم قدوري الحمد ،ط 1409 ،3هس 1989-م ،مؤسسة الرسالة -بيروت .
()240انظر :فتح الباري بشرح صحيح البخاري ،1/35مرجع سابق ،ونحوه نقل السندي في حاشيته
على سنن ابن ماجة ،2/146مرجع سابق .
()241فتح الباري ،1/37مرجع سابق .
()242انظر :الفصل الول -المبحث الثالث .
()243مسند المام أحمد بن حنبل ،5/286مرجع سابق ،ومعناه في) :أبو داود(سليمان بن الشعث
السجستاني الزدي ت 275هـ :سنن أبي داود ،4/32مراجعة :محمد محيي الدين عبد الحميد ،وقال
الشيخ اللباني" :حسن" .
107
-2المعاناة في تلقي الوحي :فقد كان نزول الوحي القرآني ،يستلزم
أمرًا زائدًا على الطباع البشرية؛ وذلك ليتم التأهل لستماع الوحي
القرآني ،ثم لحفظه ووعيه ومن ثم تبليغه ،وهي مسألة تستدعي النظر مع
ما عرف عن العرب في ذلك الوقت من الحفظ المفرط والذاكرة القوية،
لكأن هذه الخاصة التي تميز بها العرب ل تكفي للمحافظة على نص
القرآن ،أو تكفي ،لكن لمزيد التأكد والتأكيد وتوثيق النص القرآني .
ولن النبي لم يخرج عن حقيقته البشرية ،مع
زيادة الختصاص عنهم في كونه المصطفى من الله
سول ً ت إ ِل ّ ب َ َ
شًرا َر ُ ل ُ
كن ُ ه ْ
ن َرّبي َ
حا َ
سب ْ َ
ل ُ للرسالة ُ
ق ْ
"السراء"93 /؛ فقد اقتضى ذلك أن يكون في طبيعة أقوى من
مجرد كونه بشرا ً حال تلقيه الوحي مع المحافظة على حقيقته
البشرية ،ولذا كان يعاني شدة هائلة من الوحي القرآني بصفة
خاصة؛ لنه النازل على قلبه ،وفيه يقول ابن حجر-رحمه الله تعالى:-
"معاناة التعب والكرب عند نزول الوحي لما فيه من مخالفة
العادة ،وهو كثرة العرق فإنه يشعر بوجود أمر طارئ على
الطباع البشرية") ،(244على أن هذه المعاناة دليل حسي على
إتمام عملية الوحي.
وعلى الرغم من التهيئة اللهية للنبي ليستطيع قبول الوحي ،فقد
كعل َي ْ َ كان يعاني شدة عند نزوله مصداقًا لقوله : إ ِّنا َ
سن ُل ْ ِ
قي َ
قيل ً" المزمل ،" 5/وكانت الشدة تحصل له عند نزول الوحي ول ً ث َ ِ َ
ق ْ
245
لثقل القول") (.
واتخذت هذه الشدة مظاهر متعددة ،منها:
-1ما يؤدي إلى تغير ملمح وجهه :فعن عبادة بن الصامت:أن النبي
كان إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربد وجهه).(246
108
سِه حتى يظنه الموت، سِه وَنَف ِ
-2ومنها ما يؤدي إلى شعوره بشدٍة في نَْف ِ
وهذا يذكر بحديث الغطة في أول الوحي :فعن عبد ال بن عمرو قال:
سألت النبي فقلت :يا رسول ال! هل تحس بالوحي؟ فقال رسول ال
) :نعم أسمع صلصل ثم أسكت عند ذلك فما من مرة يوحي إلى
إل ظننت أن نفسي تفيض(). (247
-3ومنها ما ُيخِرج ملمح جسده عن تأثير بيئته من حيث ظهور شدة
الجهاد عليه :فعن زيد بن ثابت ):كان إذا نزل عليه الوحي ثقل
لذلك ،وتحدر جبينه عرقا ً كأنه جمان ،وإن كان في البرد().(248
-4ومنها ما يؤدي إلى ظهوره بمظهر تذلل العبد بيانًا لضعفه :فعن
عبادة ابن الصامت ):كان إذا أنزل عليه الوحي نكس رأسه ونكس
أصحابه رؤوسهم ،فإذا أقلع عنه رفع رأسه().(249
-5بل ُيَؤّثر على ما لمسه من بشر أو حيوان :فعن زيد بن ثابت
قال) :كنت أكتب الوحي لرسول الله وكان إذا نزل عليه أخذته
ُبرحاء) (250شديدة ،وعرق عرقا ً شديدا ً مثل الجمان ،ثم سري عنه،
فكنت أدخل عليه بقطعة الكتف ،أو كسرة ،فأكتب ،وهو يملي علي،
فما أفرغ حتى تكاد رجلي تنكسر من ثقل القرآن ،وحتى أقول ل
أمشي على رجلي أبدًا ،فإذا فرغت ،قال) :اقرأه( ،فأقرأه ،فإن كان
فيه سقط أقامه ،ثم أخرج به إلى الناس) ،(251وعند البيهقي) :وإن كان
ليوحى إليه ،وهو على ناقته فيضرب حزامها من ثقل ما ُيوحى إليه(
). (252
()247مسند المام أحمد بن حنبل ،2/222مرجع سابق ،وفيه :حدثنا عبد ال حدثني أبي ثنا قتيبة ثنا
بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عمروبن الوليد وقد تقرر في قواعد المصطلح قبول رواية قتيبة
عن ابن لهيعة .
()248رواه الطبراني ،وصححه اللباني في صحيح الجامع رقم ،4793مرجع سابق .
()249رواه مسلم ،1817 /4مرجع سابق .
()250في مختار الصحاح ص ،19مرجع سابقُ" :بَرحاُء الحمى وغيرها بالضم والمد شدة الذى
ح به المر َتْبريحًا أي جهده".
تقول منه َبّر َ
()251المعجم الوسط ،2/544مرجع سابق .
()252دلئل النبوة ،3/4وعند ابن سعد ،1/197مرجع سابق من مراسيل عكرمة) :كان إذا أوحي
إلى رسول ال وقذ-أي ضعف وسكن -لذلك ساعة كهيئة السكران( ،وعنده 1/197عن أبي أروى
109
وعن عائشة -رضي ال تعالى عنها :-أن النبي كان إذا أوحي إليه
جرانها ،فلم تستطع أن تتحرك ،وتلت قول ال وهو على ناقته وضعت ِ
قيل ً" المزمل ،( )"4/وفي لفظ :أن
253
ول ً ث َ ِ ك َ
ق ْ عل َي ْ َ
قي َسن ُل ْ ِ
إّنا َ
رسول الله كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته ل تستطيع أن تتحول
حتى سَرى عنه). (254
-6وهذه المظاهر ليست عوارض تأتي مع الوحي القرآني أحيانًا ،بل
هي سمته الدائم ،وعادته المستمرة عند نزول الوحي القرآني :فعن
عائشة):فأخذه ما كان يأخذه من الُبرحاء …() ،(255وهذا دال على العتياد.
ل على الملئكة يعانون منه فإذا ُأضيف إلى هذا حقيقة أن الوحي ثقي ٌ
وهم الملئكة…وإذا كان ثقل الوحي أمر طبعي بالنسبة للملئكة ،وهم من
هيأهم ال ليكونوا عنده ،فكيف بالبشر الموصوفين بالضعف؟ ،وقد تقدم
حديث السلسلة على الصفوان) ،(256وفي حديث ابن عباس عند ابن
مردويه )فل ينسزل على أهل سماء إل صعقوا( ،وعند مسلم عنه عن
رجال من النصار أنهم كانوا عند النبي فرمى بنجم ،فاستنار ،فقال:
)ما كنتم تقولون لهذا إذا رمى به في الجاهلية؟( قالوا) :كنا نقول مات
عظيم ،أو يولد عظيم .فقال) :إنها ل يرمي بها لموت أحد ،ول لحياته،
ولكن ربنا إذا قضى أمرا ً سبح حملة العرش ،ثم سبح أهل السماء
الدوسي قال) :رأيت الوحي ينـزل على النبي وإنه على راحلته فترغو وتفتل يديها ،حتى أظن أن
ذراعها تنقصم ،فربما بركت ،وربما قامت موتدة يديها حتى يسرى عنه من ثقل الوحي ،وإنه ليتحدر
منه مثل الجمان( .
()253المستدرك على الصحيحين ،2/549مرجع سابق ،قال الحاكم" :هذا حديث صحيح السناد ولم
يخرجاه" .وقال الذهبي في التلخيص" :صحيح" .
) ()254ابن راهويه( إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن راهويه الحنظلي ت 238هس :مسند
إسحاق بن راهويه 254 /2مراجعة :عبد الغفور بن عبد الحق البلوشي 1412هس –1991م،
مكتبة اليمان ،المدينة المنورة .
()255البخاري ،2/945مرجع سابق .
()256قال الخطابي" :السلسلة صوت الحديد إذا تحرك وتداخل" كما في فتح الباري ،8/533
مرجع سابق ،وقد تقدم الكلم على الصلصلة في ص .96
110
الذين يلونهم ،حتى يبلغ التسبيح سماء الدنيا ،ثم يقولون لحملة العرش:
ماذا قال ربكم ؟ …( الحديث).(257
دلئل عدة من حيث
ولثقل الوحي ومعاناة النبي
موضوع البحث:
فأولها :التأكيد على توثيق النص القرآني حال إنزاله ،برفع مستوى
النبي عن المستوى البشري مع بقائه خارج هذه اللحظات على بشريته
فهي الغلب عليه ،وهو ما يدعوه إلى تحمل ما يترتب على ذلك ،كما أن
وجود شدة الَعَرق في اليوم الشديد البرد ،وثقل الجسد يدل على طاقة جبارة
هائلة يبذلها النبي…وهو ما يؤدي إلى غرس الُمْلَقى إليه من القرآن
الكريم في فؤاده غرسًا ،ونقشها في قلبه نقشًا .
ومن المعلوم أنك عندما تضرب شخصا ً ضربا ً شديدًا ،أو
تضغط بعض أعضائه ضغطا ً موجعا ً وتقول إثر ذلك كلمة فإنه ل
ينساها …ولذا كان الغت أو الغط في أول الوحي ،وُبرحاء الوحي
بعد ذلك في مظاهرها المتعددة…وثمة ملحوظة أخرى :هي تنوع
ل ،وثقل جسد س ودوي نح ٍ
مظاهر هذه الُبرحاء بين صلصلة جر ٍ
لتحقيق هدف النقش بأساليب مفاجئة مختلفة ل تعتادها النفس
.وهو ما يعطي آفاقا ً كبيرة في السلوب التربوي الذي ينبغي أن
ي َُتبع في حياتنا التعليمية .
وثانيها :وجود العلمة الحسية المشعرة للنبي بنـزول الوحي،
وهو ما يدفع تطرق التوهم إليه فيطمئن قلبه –بعد -إذا استيقن ،ويدفع تطرق
التوهم إلى غيره ،فيعلمون سبل التصال الرسول المَلك والرسول البشر،
فيغدو ما يستنكرونه من هذا التصال كرماد اشتدت به الريح في يوم
عاصف .
وثالثها :أن العلمة الحسية على الرغم من شدتها إل أنها غير
مشاهدة لغيره ،ول محسوسة من أحد سواه ممن حوله ،إنما يشاهدون
أعراضها في جسده مما ل يدخل تحت نطاق القدرة البشرية) ،(258فل وجه
لنفي قراءة جبريل ما أنزله حرفًا حرفًا حال إنزال الوحي القرآني على
111
قلبه ،فعدم الشعور بذلك داخٌل في أن أمر الوحي برمته غير محسوس أو
غير معلوم لمن حوله ،بصفة دقيقة إل ما يرونه من علمات ظاهرية
صارت قرائن على وجود الوحي .
وفي عصرنا يمكن للنسان أن يسمع إنسانًا،
ويرى آخر عن طريق الهاتف المرئي دون أن يشترك
معه غيره من المحيطين به في زمان التكلم والرؤية إذا
سل عند من يتكلم ،والمستقِبل عند توافر الجهاز المر ِ
من يسمع …وهكذا نقرر بأن الله –تعالى ذكره -قد هيأ
القدرة لجبريل للتصال برسوله ، وهيأ الرسول
بمستقبلت لما ُيوحى إليه تدرك آثارها ،ول ترى
حقيقتها وكيفيتها .
ورابعها :أن المقتضى المنهجي لهذه الشدة التي يعانيها الرسول
ظ ألفاظ القرآن،
حَف ُ
عند إنزال الوحي القرآني :أن يستشعر ذلك من َي ْ
ظها ،ول يتعامل مع لفظ القرآن بتساهلٍ يذهب بركة القرآن… . حّف ُ
وُي َ
فإن اعُترض بأنه :قد ورد ما يدل على يسر الوحي ،وسهولة تأتيه
ففي رواية الطبراني لحديث الحارث بن هشام) :ويأتيني أحيانا في صورة
رجل يكلمني كلمًا ،وهو أهون علي(الحديث) (259فهذا يدل على أن ثم هينًا
في الوحي وأهون منه ،فالجواب :يوضح أمر هذه الرواية الروايات
الخرى ،وذلك أولى من العكس ،لطبيعة الشدة المصاحبة للوحي بالنسبة
ل عمن سواهم…فقد أراد بقوله) :أهونه(، لمن وصفوا بأنهم عند ال فض ً
المر النسبي أي بالنسبة إلى الهيئة الخرى من الوحي ،قال ابن حجر -رحمه
ال تعالى" :-يفهم منه أن الوحي كله شديد ،ولكن هذه الصفة أشدها"). (260
ولذا فإن الهيئة الخرى -وهو المجيء في صورة رجل -ليست
خاصة بالنبياء بل يشترك فيها غيرهم ،وقد كلمت الملئكة مريم بنت
عمران ،وليست بنبية عند الجمهور) ،(261كما كلم المَلك هاجر أم إسماعيل:
112
فقد قال ابن عباس ) : فإذا هي بالمَلك عند موضع زمزم فبحث بعقبه -أو
قال -بجناحه حتى ظهر الماء ،فجعلت تحوضه ،وتقول بيدها هكذا…فقال
لها المَلك :ل تخافوا الضيعة؛ فإن هاهنا بيت ال ،يبني هذا الغلم وأبوه،
وإن ال ل يضيع أهله…(). (262
وهل يتنافى هذا مع كون القرآن ميسرا ً للذكر كما
ن
م ْ ه ْ
ل ِ ف َ ن ِللذّك ْ ِ
ر َ ءا َ سْرَنا ال ْ ُ
قْر َ ول َ َ
قدْ ي َ ّ في قوله َ
ر" القمر"17/؟ ل؛ لوجوه:مدّك ِ ٍ
ُ
ت عن كيفية إيصاله من المل العلى إلى أولها :أن الحديث آ ٍ
الرض ل ما بعد ذلك ،إذ قد يقال ُيسر عند انتقاله من بشر إلى بشر ،على
أن التيسير المذكور في الية ينصرف إلى المعنى قبل اللفظ ،بدليل ذكر علة
التيسير )للذكر( .
وثانيها :قد ُينازع في الول ،فالثاني واضح وهو :أن أعظم الكلم
قد صيغ بأيسر الساليب المفهومة ،وإذا قورن بما ورد في معلقة امرئ
ن في توجيه عِلَم مقدار تيسيره ،مع أنه ل يستطاع مثله فذا وجه ثا ٍ القيس ُ
الية .
صّرح فيه أن مراده وثالثها :أن ما ذكر من المقتضى المنهجي قد ُ
استشعار ثقل القول ،ل أنه عند حفظه ثقيل ،ويدل له أنه ل يعرف كتاب
سماوي ،ول أرضي تيسر حفظه كالقرآن ،بل المقارنة هنا ل تتم لشدة البون
سان ِ َ
ك سْرَناهُ ب ِل ِ َما ي َ ّ بين المقارن بينهما) ،(263وهو قولهَ
فإ ِن ّ َ
ن" الدخان. "58/م ي َت َذَك ُّرو َه ْعل ّ ُ
لَ َ
على أنه ينبغي تقرير أن وصف الله لكلمه
بأنه )قول ثقيل( مع أنه كلم ،وكلمه –تعالى ذكره،
ل عن التشبيه والتمثيل-عندما ييسره للمخلوق ج ّ
و َ
لينقله بلسانه مع أن المعروف أنه يكون عبارة عن
اهتزازات هوائية فل يكون قول ً ثقيل ً إل لنه قول آخر
غير قول البشر ،وي ُْلقى بطريقة خاصة حتى تكاد فخذ
()262صحيح البخاري ،3/1227مرجع سابق ،وقد صرح برفعه في أثناء الحديث .
()263وانظر في معنى الية :روح المعاني ،27/129مرجع سابق ،والتحرير والتنوير
،27/179مرجع سابق .
113
ل كاتب الوحي ،وتضع الناقة له ج َ
ر ْ النبي أن ت َُر ّ
ض ِ
جرانها ،ويتفصد له جبين الرسول عرقًا ،فالثقل ِ
المراد قد يكون في العملية التلقينية الولى بين
جبريل والنبي، ثم يكون ميسرا ً بعد ذلك على
اللسنة ،وقد يكون الثقل هو في القيام به ،وتطبيق
معناه ،وقد يكون الثقل بالنظر إلى أنه كلم الجبار
العظيم كيف يطيق المخلوق حمله ،أو فهمه…ل شك
أن حدوث ذلك يدل على تيسير عظيم…مع أن عظمة
تجعله ثقيل ً على المخلوق…لكن الله كلم الله
يسره ،وبهذا ُيجمع بين آية المزمل وغيرها كآية
الدخان ،وآية القمر.
طَبعي في حفظ الوحي :والبند السابق كان يتكلم عن التكلف -3التكلف ال َ
غير الطبعي ،وهنا الشارة إلى التكلف الطبعي الذي كان في ابتداء
يعالج من الوحي ،وقد وصفه ابن عباسبقوله :كان رسول ال
التنـزيل شدة ،وكان مما يحرك به لسانه ،وكان ذلك يعرف منه…
الحديث).(264
فقوله )كان مما يحرك به لسانه( أي كان كثيرًا يفعل ذلك ،وكرر
)كان( لطول الكلم) ،يعالج( المعالجة المحاولة للشيء ،والمشقة في
تحصيله ،وكان ذلك يعرف منه ،أي يعرفه من رآه لما يظهر على وجهه
وبدنه من أثره). (265
-4تلقي الوحي القرآني تلقي استماع لصوت متكلم بأحرف :إذ الوحي
القرآني ليس إلقاء محضًا فجائيًا في النفس )كاللهام( ،بل حركة وصوت
ل َ مقطع حرفًا حرفًا متتابع على هيئة التعليم ،ويدل له صريحًا قوله:
ج ْ
ل ول َ ت َ ْ
ع َ " القيامةَ "16/ ه
ل بِ ِ ج َ ع َ
ك ل ِت َ ْ
َ
سان َ َ
ه لِ َ ك بِ ِحّر ْ تُ َ
ه" طه"114/ يح و
َ ْ ُ ُ َ
ك يَ
ِ ْ لإ ضى َ ْ
ق ي
ْ ُ ن أ لْ ِ بقَ ن م
ْ ِ ِ ْ ن رآ قُ ْ ل ِبا
قَوى" النجم ،"5/وفي لفظ للبيهقي لحديث ْ
ديدُ ال ُ ش ِه َ م ُ ّ
عل َ َ
ه
م ُ ّ
عل َ َ 266
الحارث ابن هشام )فيعلمني() ( ،وهي تطبيق واقعي لحقيقة
()264يأتي تفصيله إن شاء الله في المبحث الخامس من هذا الفصل .
()265انظر) :السيوطي( أبوالفضل جلل الدين عبد الرحمن بن أبي بكر ) 911 - 849هس(:
الديباج على صحيح مسلم 2/158مراجعة :أبو إسحاق الحويني الثري ،دار ابن عفان -
الخبر -السعودية .
()266وقال ابن حجر في فتح الباري ،18 /1مرجع سابق" :هي تصحيف" ،مع أنها ل تستبعد
كما هو واضح .
114
قَوى" النجم ،"5/ويدل لها قوله في الرواية المشهورة ديدُ ال ْ ُ َ
ش ِ
267
)فيكلمني( وعند أحمد )فيخبرني() ( ،ولذا كان النبي
يحرك شفتيه عند تلقي الوحي القرآني ،وما ذاك إل لمتابعة الحرف
الحرف) ،(268كما يدل له:حديث ابن عباس في قصة عثمان بن
مظعون ،وفيه) :إذ شخص رسول ال ببصره إلى السماء ،فنظر
ساعة إلى السماء ،فأخذ يضع بصره ،حتى وضعه على يمينه في
الرض ،فتحرف رسول ال عن جليسه عثمان إلى حيث وضع
بصره ،وأخذ ينفض رأسه كأنه يستفقه ما يقال له ،(269)(..وفي حديث
المعالجة ) ،(270وحديث المعارضة ) (271من البحث ما يزيد ذا الكلم
ل. تفصي ً
-5جمع القرآن في صدره : إذ الوحي القرآني كله إنزال على
رآَنهُ" القيامة/ ق ْو ُ ه َع ُ م َ ج ْعل َي َْنا َ
ن َ القلب ،ولما في قوله تعالى إ ِ ّ
"17ويرتبط بهذه الحقيقة مفهومان:
الول :أن ذلك ل ينافي أن تعليم جبريل هو إقراء
لكلمات من حروف متتابعة ،وتقدم في البند السابق .
الثاني :أنه لم ينـزل من القرآن الكريم شيء فيلقيه إليه المَلك وهو على
صورة الرجل على مجيئه السهل) ،(272بل جاء على الصورة الشد،
وهذه حقيقة لم ُتَعر كبير اهتمام لتقريرها ،ول في تقريرها ،لعل ذلك
لنها بدهية قرآنية ،ومن أدلتها:
كقل ْب ِ َ
عَلى َ ه َ ه ن َّزل َ ُ ل َ
فإ ِن ّ ُ ري َجب ْ ِ وا ل ِ ِ
عدُ ّ ن َ كا َن َ
م ْل َق ْ ُ -1
حى به من قرآن وغيره ،وإن " البقرة ،"97/فهذا عام في كل أنواع المو َ
كان جل المفسرين يذهب إلى أن الضمير يعود على القرآن الكريم عود
ح
ه الّرو ُ شهرة ل تستدعي سبق الذكر ،ولكن قوله تعالى ن ََز َ
ل بِ ِ
ك…" الشعراء- "195-194/وهو خاص قل ْب ِ َعَلى َن )َ (194 مي ُ ال ِ
115
بالقرآن الكريم -قد أظهر معنى الضمير الوارد في سورة البقرة ،فإن
ل.
ل مستق ً
نوزع في ذلك فحسبه أن يكون دلي ً
-2حديث التفلت التي ذكره بعد قليل)(273؛ إذ قد ضمن ال جمعه
في فؤاده .
-3ما ذكر لنا من حوادث إنزال القرآن كلها تخدم هذه الحقيقة ،ومنها
ما ذكره زيد بن ثابت في كتبه للقرآن) ،(274إذ وصفه يدل على العادة
المستمرة .
فلتنضم هذه الحقيقة الجليلة إلى حقائق تلقى
فتعطي بعدًا أعظم لمن عمي بصره عن
النبي القرآن من جبريل
حقائق تلقي القرآن ،فزعم دخول الجتهاد البشري المحض فيه ،ولتثبت
أن حفظ القرآن هو الحفظ الكامل الذي ل يطرقه شك في تفلت أو
نقصان؛ إذ مجيء جبريلكان على غير الهيئة المعتادة للبشر.
وثم حقيقة موازية تلوح في هذا الباب ،وهي :أن
هذا المجيء بهذه الشدة ل يستطيعه الجن في التسلط على بني آدم ،إذ
َمْبَلغ فعل الشيطان الغواء والوسوسة والغراء ،والتلبس على قول من
يثبته ،أما هذه الشدة التي يسمعها رسول ال فل سبيل للشيطان
لحداثها .
فإن اعُترض بأن :ظاهر آية سورة البقرة أن جبريل ألقى القرآن
في قلب النبي من غير سماع قراءة كما هو كذلك في سورة الشعراء
ك. قل ْب ِ َ
عَلى َ َ
خر أن معنى ذلك أن المَلك ،يقرؤه عليه فالجواب :قد ُبّين في مواضع ُأ َ
حتى يسمعه منه فتصل ألفاظه ومعانيه إلى قلبه بعد سماعه ،وذلك هو
معنى )نزوله على قلبه( ،وُيلحظ أنه لم يقل )في قلبه( -كما سبق في
ساَنك … حّرك ِبه ل ِ َ المبحث الثاني -وذلك كما في قولهل ت ُ َ
ل ن َ
قب ْ ِ م ْ
ن ِقْرآ ِ ل ِبال ْ ُج ْ ع َ َبياَنه" القيامة ،"…16/وقولهَ
ول َ ت َ ْ
116
َ
"طه"114/ ما عل ْ ً زدِْني ِب ِل َر ّ و ُ
ق ْ ه َحي ُ ُ
و ْ
ك َ ضى إ ِل َي ْ َ ن يُ ْ
ق َ أ ْ
.
وليس المراد من النـزول على القلب ما استدل به قوم راموا أمرًا ما
ف روحاني بدليل اليتين هم ببالغيه ،فادعوا أن القرآن إلهاُم وقذ ُ
المذكورتين؛ إذ العرب تستعمل النـزول على القلب ،وتكليم القلب ،وتكليم
الصدر ،وحفظ الصدر…ونحو ذلك في الحفظ والضبط والوعي والفهم
ل في نفي السماع ،كما قال أبو ذر): ما ترك رسول ال شيئاً مما
صبه جبريل وميكائيل عليهما السلم في صدره ،إل قد صبه في
صدري ،وما تركت شيئًا مما صبه في صدري ،إل قد صببته في صدر
مالك بن ضمرة(). (275
كغير ما تقدم، قل ْب ِ َعَلى َولعل من أعظم أسرار قوله تعالى َ
أن القرآن الكريم ل ينساه النبي نسيانًا كليًا كما روى ابن سعد من
طريق أبي سلمة الماجشون أنه بلغه أن رسول ال كان يقول) :كان
الوحي يأتيني على نحوين :يأتيني به جبريل فيلقيه علي كما يلقي
الرجل على الرجل فذلك ينفلت مني ،ويأتيني في شيء مثل صوت
حجر- الجرس حتى يخالط قلبي فذاك الذي ل يتفلت مني( وقال ابن
رحمه ال تعالى" :-وهذا مرسل مع ثقة رجاله ،فإن صح فهو محمول على
ساَنك ،فإن المَلك ما كان قبل نزول قوله ل ت ُ َ
حّرك ِبه ل ِ َ
ل في صور كثيرة ،ولم ينفلت منه ما أتاه به ،كما في قصة قد تمثل رج ً
مجيئه في صورة دحية ،وفي صورة أعرابي ،وغير ذلك ،وكلها في
الصحيح"). (276
وباعتبار أن الوحي القرآني كان شديدًا ،والنوم راحة ل شدة فيه،
ح سؤال على ميدان البحث: طَر ُ
ُي ْ
117
هل أوحي إلى النبي شيء من القرآن منامًا ،والجواب :أن
الظاهر من السمات العامة التي تقدمت أن ذلك لم يحدث ،لما يتطلبه
الوحي القرآني من استعداد وشدة .
فإن اعُترض بأن :سورة الكوثر نزلت منامًا كما رواه أنس قال:
)بينا رسول ال ذات يوم بين أظهرنا -إذ أغفى إغفاءة ،ثم رفع رأسه
متبسمًا ،فقلنا :ما أضحكك يا رسول ال ؟ ! قال) :أنزلت علي آنفًا سورة
ص ّ
ل ف َ ك ال ْك َ ْ
وث ََر)َ (1 فقرأ :بسم ال الرحمن الرحيم إ ِّنا أ َ ْ
عطَي َْنا َ
هَو ال َب َْتر" الكوثر ("3-1/الحديث ك ُ شان ِئ َ َ
ن َ
حْر) (2إ ِ ّ
وان ْ َ ل َِرب ّ َ
ك َ
) ،(277إذ ظاهره أن سورة الكوثر نزلت منامًا ؟.
فالجواب :ذكر العلماء عددًا من الجوبة ،ولكن اللوسي –رحمه ال
تعالى– ارتضى :أن معنى أغفى في الحديث منصرف إلى ظن بعض
الرواة أن ذلك حدث له ،وليس كذلك في واقع المر ،وإنما اعترته برحاء
ظن أنه الوحي حتى توهم بعض من حوله أنه أغفى فقال" :وقد ُي َ
أغفى ،ول يحتاج من قال إن الشبه أن القرآن كله نزل في اليقظة إلى
تأويل هذا الخبر بأنه خطر له في تلك الغفاءة سورة الكوثر التي
نزلت قبلها في اليقظة ،أو عرض عليه الكوثر الذي أنزلت فيه السورة
فقرأها عليهم ،ثم إنه على ما قيل أن بعض القرآن نزل عليه وهو
ل بهذا الخبر ،يبقى ما قلناه من سماعه ما ينـزل إليه، نائم استدل ً
ووعيه إياه بقوى إلهية قدسية ونومه ل يمنع من ذلك ،كيف وقد صح
عنه أنه قال )تنام عيني ول ينام قلبي("). (278
وهذا الذي مال إليه اللوسي ،هو ما ذهب إليه الرافعي) ، (279حيث نقل
عنه السيوطي قوله" :والولى أن تفسر الغفاءة بالحالة التي كانت تعتريه
عند الوحي ،ويقال لها ُبَرحاء الوحي؛ فإنه كان يؤخذ عن الدنيا ،والشبه أنه
لم ينـزل شيء من القرآن في النوم") ،(280ومال إليه السندي في حاشيته
118
على سنن النسائي فقال)" :إذ أغفى( الغفاء –بالغين المعجمة :-النوم
سَنة ،وهي حالة الوحي غالبًا ،ويحتمل أن القليل ،وفي المجمع :الغفاء ال ِ
281
يريد به العراض عما كان فيه") ( ،وقال ابن خلدون" :أن توجد لهم-أي
النبياء -في حال الوحي غيبة عن الحاضرين معهم مع غطيط ،كأنها
ي ،أو إغماٌء في رأي العين ،وليست منهما في شيء ،وإنما هي في غش ٌ
الحقيقة استغراق في لقاء الملك الروحاني ،بإدراكهم المناسب لهم الخارج
عن مدارك البشر بالكلية ،ثم يتنـزل إلى المدارك البشرية ،إما بسماع دوي
من الكلم ،فيتفهمه ،أو يتمثل له صورة شخص يخاطبه ،بما جاء به من عند
ال ثم تنجلي عنه تلك الحال وقد وعى ما ألقى إليه").(282
د
دي ُ ه َ
ش ِ عل ّ َ
م ُ ويكفي في الرد على هذا الوجهة قول الَ
قَوى" النجم"5/؛ إذ التعليم منا ٍ
ف للنوم إن ُأريد يالنوم ما يعتاد البشر، ال ْ ُ
ل إن ُأريد به نوم النبياء .
كما يظهر للباحث أن ما ُذِكَر في الحديث من نزول سورة الكوثر ليس
بنـزول حقيقي لتفاق أهل التفسير ومتتبعي النـزول أن هذه السورة مكية،
ت لمكيتها ،وكلم أنس مشعر بوجوده حال الحديث وهو وسياقها مثب ٌ
ي كما هو معلوم ،وقد قال البيهقي":والمشهور فيما بين أهل التفسير مدن ٌ
283
والمغازي أن هذه السورة مكية") ( ،وما ذكره اللوسي يصلح وجهًا عند
التنـزل للرد على نفي المعاناة في المنام من حيث أن قلب النبي ل ينام .
وإذ انتهت هذه المسألة؛ فهل معنى ما قرر هنا أن الوحي غير القرآني
لم يكن يأت النبي على الصورة الشد ؟ والجواب :ل! إذ ل يعني ما
قرر هاهنا ،أن الوحي غير القرآني لم يكن يأتيه بالصورة الشديدة ،بل قد
يأتيه كذلك كما في حديث عبادة ابن الصامت أنه قال) :كان رسول ال
إذا نزل الوحي عليه كرب لذلك ،وتربد وجهه ،فُأوحي إليه ذات يوم،
فلقي ذلك ،فلما سرى عنه ،قال رسول ال ): خذوا عني .قد جعل الله
ل ،الثيب بالثيب والبكر بالبكر ،الثيب جلد مائة ثم رجما ً
لهن سبي ً
) ()281السندي( أبو الحسن نور الدين بن عبد الهادي ت 1138هس :حاشية السندي على
النسائي ،2/134مراجعة :عبد الفتاح أبو غدة 1406هس – 1986م ،مكتبة المطبوعات
السلمية – حلب .
()282مقدمة ابن خلدون ص ،92مرجع سابق .
()283سنن البيهقي الكبرى ،2/43مرجع سابق .
119
بالحجارة ،والبكر بالبكر جلد مائة ،ثم نفي سنة() .(284وهو دال على
مجيء الوحي غير القرآني بالصورة الشد .
إنما المراد من البحث السابق نفي أن يأتيه الوحي القرآني بصورة نبذ
الرجل ،وإلقاء الفتى ،ولذا تكاد ل ترى حديثًا فيه ذكر لوحي قرآني إل
وصفة إنزاله هي الشديدة إن ُذِكرت ،حتى صار ذلك سيماء الوحي القرآني
التي يذكرها كتابه عند وصفه ،كما في حديث زيد ابن ثابت المتقدم.
-6ارتقاء القوى البشرية للنبي : لتسد كل ثغرة ضعف فيها عند
هع ُم َ
ج ْ عل َي َْنا َ ن َ التلقي حتى وقت البلغ ،كما قال تعالى إ ِ ّ
سى "العلى ،"6/وقد فل ت َن ْ َ ك َ رئ ُ َق ِسن ُ ْه" القيامةَ "17/ ءان َ ُقْر َ و ُ َ
ذي ك ال ّ ِ سم ِ َرب ّ َ قَرأ ِبا ْ
ْ قال ابن حجر-رحمه ال تعالى -في قوله ا ْ
ق" العلق" :"1/أي ل تقرؤه بقوتك ،ول بمعرفتك ،لكن بحول ربك خل َ َ َ
285
وإعانته") ( .
ر َ
ئ ق ِ ذا ُ ل في المر العامَ
وإ ِ َ -7الستماع والنصات :وهذا متج ٍ
فاست َمعوا ل َه َ
ن مو َ ح ُم ت ُْر َ عل ّك ُ ْصُتوا ل َ َ وأن ِ ُ َ ن َ ْ ِ ُ قْرآ ُ ال ْ ُ
ع
فات ّب ِ ْ قَرأ َْناهُ َ ذا َفإ ِ َ "العراف ،"204/فإن نوزع فيه فالمر الخاصَ
قْرآن َُه" القيامة ،"18/أي :فاستمع له وأنصت :كما في تفسير ابن عباس ُ
،(286) ويجعله نصًا في هذه المسألة نهيه عن تحريك لسانه .
والفرق بين الستماع والنصات :أن الستماع أخص من النصات؛ لن
الستماع الصغاء ،والنصات السكوت ،ول يلزم من السكوت
الصغاء). (287
عل َي َْنا
ن َ -8الوعي لما يقوله المَلك :وذا أمر قد تكفل ال به إ ِ ّ
سى فل َتن َ ك َ رئ ُ َ ق ِ سن ُ ْه" القيامةَ "17/ قْرآن َ ُو ُه َ ع ُ م َج ْ َ
120
"العلى ،"6/وسيأتي تحليل هذين الموقفين القرآنيين -إن شاء ال تعالى،(288)-
وحدد النبي إسقاطه الواقعي في قوله) :فيفصم عني وقد وعيت عنه
ما قال(.
وقوله) :فيفصم( يضرب أي فيقطع عني حامل الوحي "يقلع،
وأصل الفصم القطع"))(289وقد وعيت عنه( أي حفظت عنه أي أجده في
قلبي مكشوفًا ُمَتَبّينًا بل التباس ،ول إشكال). (290
-9تطبيق هيئات التلقي التوقيفية :وهذا ينبني على توقيفية هيئات
التحمل ،ويأتي ذلك في تحليل حديث المعالجة) ،(291ومن الملحظات التي
ل على التربية تقال هاهنا أن سورة القيامة من أول ما نزل في مكة ،وذاك دا ٌ
المبكرة على الطرق الصحيحة لتحمل القرآن الكريم .
292
ويرد بسط مفهوم التلقي والتلقين عقب حديث المعالجة) ( .
-10استعداد الملكات النفسية في النبي للحفظ:حيث اقترن تلقي
النبي بكمال الرغبة في الحفظ وحب المحفوظ ،ففي رواية الطبري
عن الشعبي) :عجل يتكلم من حبه إياه( ،ول تنافي بين محبته إياه والشدة
التي تلحقه في ذلك ،فُأِمَر بأن ينصت حتى يقضي ال وحيه ،ووعد
ج ْ
ل ع َ بأنه آمن من تفلته منه بالنسيان أو غيره ،ونحوه قولهَ
ول َ ت َ ْ
حي ُُه" طه "114/أي ضى إ ِل َي ْ َ ن يُ ْ َ ن َ ِبال ْ ُ
و ْك َ ق َ لأ ْقب ْ ِ م ْ
ن ِ قْرآ ِ
293
بالقراءة) (.
وعدم التنافي بين الحب والخوف لن الحب ولد الخوف فكان ما هو
معلوم).(294
()288انظر :حديث المعالجة المبحث السادس من هذا الفصل ،وآية العلى في الفصل
الخامس -المبحث الثاني .
) ()289السيوطي( أبو الفضل جلل الدين عبد الرحمن بن أبي بكر ،ت 911هس :تنوير
الحوالك شرح موطأ مالك ص 1969-1389 ،160م المكتبة التجارية الكبرى -مصر .
()290حاشية السندي على النسائي ،2/150مرجع سابق .
()291انظر :حديث المعالجة في المبحث السادس من هذا الفصل .
()292انظر :في المبحث السابع من هذا الفصل .
()293انظر :فتح الباري بشرح صحيح البخاري ،1/44مرجع سابق ،وانظر :تفسير القرطبي
،19/106مرجع سابق .
()294تفسير الطبري ،29/187مرجع سابق ،وانظر :روح المعاني ،29/243مرجع سابق .
121
والمقتضى المنهجي لذلك :غرس الجلل لحفظ القرآن في نفس
المتقدم لحفظه من حيث شرف الحفظ ،ومن حيث رهبة ادعاء النتساب إلى
زمرة الحفاظ إن لم يكن قائمًا بالقرآن تقويمًا للفاظه ،وقيامًا بأحكامه،
ل لخلقه…). (295 وتمث ً
ومازال حادي الشوق يأرز إلى الحرم المطهر والمسجد النبوي حيث
آثار جبريل والنبي…إذ ثم كان مركز َتَعّلم ألفاظ القرآن الكريم من
أمين الوحي في السماء لمين الوحي في الرض …
296
ل رامة بدا لهــا) ( ما لمطايانا تميـل مالـها؟……..أظن رم َ
ن ميلسها منل تحسـب ّ
ل…..وإنما سكُر الهوى أمالسسها
مل ٍ
حزون كلما…….تذكرت من يثرب أطـللها)(297 تجّد وجدًا في ال ُ
298
وإن حدا الحادي بذكر طيبٍة……هيـج ذكر طيـبٍة َبلبـالها) (
فشـوُقها يدفُعها حتى تـرى…...آمَـالها هناك ،أو آجـالها
دم له…فل هيبة له ،ول إجلل ل بالغٌ في حفظ القرآن من قبل المتق ّ حظ تساه ٌ ()295إذ ُيل َ
ً ً
ب معه في مسيرة حفظه حبا أو خوفا . ب الماء ،غيَر مصطح ٍيعتريه… لكأنما يشربه شر َ
()296رامة :موضع في البادية ،وأراد به التكنية عن البلد التي هواها فؤاده ،كما هوتها
ح بأنها طيبة –بعد.- صّر َ
القلوب…و َ
حزون :جمع حْزن ،وهي ما غلظ من الرض…يكني عن مشقة السفر . ()297ال ُ
َ
سواس فسي الصدور وحديث النفس ،فأما الب ِْلبال ،بالكسر، ()298الب َْلبال :ش ّ
دة الهم والوَ ْ
العرب . 69 /11 فمصدر انظر :لسان
122
المبحث السادس:
حديث المعالجة ودللته العامة:
يبسط هذا المبحث حديث المعالجة المشهور في تلقي النبي ألفاظ
القرآن الكريم من جبريل ،حيث ظهر فيه اجتهاد النبي في هذا
التلقي قبل نزول التوقيف اللهي ،والتزامه بمفردات التوقيف اللهي بعد
ذلك…وقد دل هذا الحديث على دللت هامة في مسألة تلقي القرآن من
جبريل ،ولذا فإن هذا المبحث سينقسم إلى خمسة مطالب:
المطلب الول :متن حديث المعالجة برواياته المختلفة .
المطلب الثاني :تحليل الموقف في حديث المعالجة .
المطلب الثالث :تحليل آيات سورة القيامة الورادة في حديث المعالجة .
المطلب الرابع :من فوائد حديث المعالجة .
المطلب الخامس :من الدللت الخاصة لحديث المعالجة .
المطلب الول :متن حديث المعالجة برواياته المختلفة:
كسان َ َ
ه لِ َ
ك بِ ِ عن ابن عباس في قوله تعالى ل َ ت ُ َ
حّر ْ
ه قال :كان رسول ال يعالج من التنـزيل شدة ]وفي ج َ
ل بِ ِ ع َ
ل ِت َ ْ
المعجم الكبير :إذا نزل عليه القرآن تلقاه بلسانه وشفتيه[ وكان مما يحرك به
]لسانه و[شفتيه ]وفي السنن الكبرى للنسائي مخافة أن يفلت منه[ ]فيشتد
عليه وكان يعرف منه[ فقال ابن عباس: فأنا أحركهما لكم كما كان
رسول ال يحركهما ،وقال سعيد :أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس
سان َ َ
ك ه لِ َ
ك بِ ِ يحركهما ،فحرك شفتيه ،فأنزل ال تعالى ل َ ت ُ َ
حّر ْ
قْرآن َُه قال :جمعه له في صدرك و ُه َع ُ م َ ج ْعل َي َْنا َ
ن َ ه إِ ّل بِ ِج َ ع َل ِت َ ْ
وتقرأه ،فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ،قال :فاستمع له وأنصت،
عل َي َْنا ب ََيان َُه ثم إن علينا أن تقرأه ،فكان رسول ال بعد ن َ م إِ ّ ث ُ ّ
ذلك إذا أتاه جبريل استمع ]وأطرق[ ،فإذا انطلق جبريل قرأه النبي
كما قرأه ]كما وعده ال[) ،(299وفي لفظ للبخاري :كان النبي إذا
نزل عليه الوحي حرك به لسانه -ووصف سفيان يريد أن يحفظه -فأنزل ال
ه ،وفي لفظ له :فقيل له ل َ ل بِ ِج َع َك ل ِت َ ْسان َ َ
ه لِ َ ك بِ ِحّر ْ ل َ ت ُ َ
()299صحيح البخاري ،1/6مرجع سابق ،والزيادات غير المعزوة هي للبخاري من طرق
أخرى .
123
عل َي َْنان َ ل ِبهِ يخشى أن ينفلت منه إ ِ ّ ج َ
ع َ سان َ َ
ك ل ِت َ ْ ه لِ َك بِ ِ حّر ْ تُ َ
ذافإ ِ َ نه أن نجمعه في صدرك ،وقرآنه أن تقرأه َ قْرآ َ ُ
و ُه َ ع ُم َج ْ َ
َ ْ
علي َْنا ن َ ه ث ُ ّ
م إِ ّ ع ُ
قْرآن َ ُ ه يقول أنزل عليه َ
فات ّب ِ ْ قَرأَنا ُ َ
ب ََيان َُه أن نبينه على لسانك ،وفي السنن الكبرى للنسائي :إذا نزل القرآن
عليه يعجل بقراءتها ليحفظه) ،(300وفي لفظ :كان يعالج من ذلك شدة فأنزل
ه يقول :لتعجل بأخذه، ل بِ ِ ج َع َك ل ِت َ ْ سان َ َ ه لِ َ حّر ْ
ك بِ ِ ال ل َ ت ُ َ
قْرآَنهُ يقول :جمعه أن نجمعه في و ُ ه َع ُم َ ج ْ عل َي َْنا َن َ يقول:إ ِ ّ
ه ع ُ ناه فإذا أنزلناهَ ، قَرأ َ ُْ ذا َ صدرك ،وأن تقرأهَ ،
فإ ِ َ
قْرآن َ ُ فات ّب ِ ْ
عل َي َْنا ب ََيان َُه :أن نبينه بلسانك
ن َ م إِ ّ يقول :فاستمع وأنصت ،ث ُ ّ
فاستراح رسول ال . (301)
المطلب الثاني :تحليل الموقف في حديث المعالجة:
سبب المعاناة :كان النبي يعاني عند إنزال القرآن عليه ،وتلقيه
له من صوت المَلك من مشكلة استيعاب قواه البشرية للفظه؛ إذ يخاف من
ضعفها مع عظم الُمْنزل ،فيتعجل أخذه من المَلك متلقيًا إياه بلسانه
وشفتيه) ،(302ل لصعوبة حفظه؛ إذ هو من قوم اشتهروا بالحافظة المدهشة
ل فيما يلي:حتى أقاموها مقام الكتابة ،وإنما كان سبب المعاناة متمث ً
ف في حدود ما تطيقه قواه البشرية؛ إذ تلك من علمه أنه قد ُكّل َ (1
أساسات الشريعة ،وتحديد مقدار هذه الطاقة عائٌد إلى مراقبة العبد لربه
الذي يعلم السر وأخفى ،ولذا فالنبي يستنفر -عند نزول الوحي عليه-
جميع قواه خوفًا من التقصير ،وهذا واضح عند تحليل النص للوهلة
الولى .
إشفاقه من أن يعتريه القصور البشري ،فينفلت بعض القرآن (2
منه ،خاصة أنه ل يعلم الغيب ،ول يدري كمية المنـزل من حيث
القلة والكثرة .
()300ونحوه في) :الحميدي( أبو بكر عبد الله بن الزبير ت 219هس :مسند الحميدي ،مراجعة:
حبيب الرحمن العظمي1381 ،هس ،دار الكتب العلمية –بيروت .
()301المعجم الكبير ،11/458مرجع سابق .
()302وفيه دليل على وجوب حفظ القرآن على النبي إذ لو كان يريد حفظ المعنى لما
احتاج لبذل هذا الجهد ،كما أن فيه دليل ً على أن القرآن ليس بإلهام .
124
حبه للقرآن الكريم ،ول تنافي بينه وبين السابق إذ الحب مولد (3
الشفاق .
ي النبي عن اتباع أساليبه الخاصة في تلقي القرآن وحفظه فُنِه َ
من العجلة بأخذه ،وتحريك اللسان لجل ذلك في موضعين من القرآن
الكريم ،هما موضعا طه والقيامة ،وُأخبر أن هيئة تلقي القرآن توقيف،
عَد بثلثة أمور وليست اجتهادًا ،وُبّين له الساليب التي يتلقى بها القرآنَ ،وُو ِ
ن له تحقيقه( :جمعه في صدره ضِم َ )من حيث اللفظ حيث ُأِمَر بذلك ،و ُ
)حفظ أصل اللفظ( ،وقراءته بعد ذهاب المَلك كما قرأه عليه المَلك)أداء
اللفظ بالهيئة التجويدية والدائية ذاتها( ،وتبيينه بلسانه أي أداؤه كما أنزل
إليه) ،(303فقد نُهي النبي عن اتباع أساليبه الجتهادية في تلقي الوحي
القرآني وتعلمه ،والموضعان اللذان فيهما النهي:
َ ل ِبال ْ ُ
ضى ق َ ن يُ ْ لأ ْ قب ْ ِ ن َ م ْ ن ِ قْرآ ِ ج ْع َول َ ت َ ْأحدهما :قوله َ
لج َ ع َ ك ل ِت َ ْ سان َ َ ه لِ َ ك بِ ِ حّر ْ ه" طه ،"114/والخر :ل َ ت ُ َ حي ُ ُ و ْك َ إ ِل َي ْ َ
ه …" القيامة."18-16/ بِ ِ
َ ل ِبال ْ ُ
ن
لأ ْ قب ْ ِ ن َ م ْ ن ِ قْرآ ِ ج ْ ع َول َ ت َ ْ فأما الول :وهو قوله َ …:
حي ُُه …" طه ،"114/فقد قرر المفسرون أنه يجوز أن و ْ ك َضى إ ِل َي ْ َ ق َ يُ ْ
يكون معنى العجلة بالقرآن العجلة بقراءته حال إلقاء جبريل آياته ،فعن
ابن عباس : كان النبي يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل
لج ْ ع َ ول َ ت َ ْ حرصًا على الحفظ وخشية من النسيان ،فأنزل الَ …
حي ُُه…" طه ،"114/فيكون ضى إ ِل َي ْ َ ن يُ ْ َ ن َ ِبال ْ ُ
و ْ ك َ ق َ لأ ْ قب ْ ِ م ْ ن ِ قْرآ ِ
المراد بقضاء وحيه :إتمامه وانتهاؤه ،أي انتهاء المقدار الذي هو بصدد
النـزول"). (304
كسان َ َ ه لِ َ ك بِ ِ حّر ْ وأما الثاني فهو في سورة القيامة :ل ت ُ َ
ذا َ ْ
ه
قَرأَنا ُ ه)َ (17
فإ ِ َ ءان َ ُ و ُ
قْر َ ه َع ُ م َ ج ْعل َي َْنا َن َ ه)(16إ ِ ّ ل بِ ِج َ ع َ ل ِت َ ْ
عل َي َْنا ب ََيان َُه "القيامة. "19-16/ن َ م إِ ّ ه)(18ث ُ ّ ءان َ ُ
قْر َ ع ُ فات ّب ِ ْ َ
()303وتفصيل ذلك يأتي في المطلب الثالث من هذا المبحث :تحليل آيات سورة القيامة .
()304انظر :التحرير والتنوير ،19/317مرجع سابق ،ونحوه في تفسير الجللين وحاشية الصاوي
عليهما ،3/80مرجع سابق ،وكذا في تفسير ابن كثير ،495/ 3مرجع سابق .
125
المطلب الثالث :تحليل آيات سورة القيامة الورادة في حديث
المعالجة:
مَعه: عل َي َْنا َ
ج ْ ن َ إ ّ •
ورد فيها معنيان):(305
-1علينا أن نجمعه في صدرك :وهو عن ابن عباس وهو في الصحيح
كما في متن الحديث ،وعن قتادة تفسيره بالحفظ)…(306وهما تعبيران آيلن
إلى معنى واحد .
307
-2الجمع هو التأليف :وهو ما رواه الطبري عن قتادة) ( ،ورواه
ه
ع ُم َ
ج ْعل َي َْنا َ
ن َ البخاري معلقًا عن ابن عباس فقال :قوله إ ِ ّ
قْرآن َُه :تأليف بعضه إلى بعض).(308 و ُ
َ
وكل المعنيين يكونان حقيقة الجمع ،وهي :جمعه في الصدر
محفوظًا كما أنزله ال بلفظه ونظمه وتأليفه… ولئن كان تأليفه )ترتيب
اليات للختلف في ترتيب السور( من ال ،فلن تكون أوجه الداء منه
أولى .
قْرَءان َُه :وقع في رواية الطبري في معناها :وتقرأه و ُ َ •
بعد ،أي :قراءتك إياه ،أي جريانه على لسانك ،فقرآنه مصدر مضاف
إلى المفعول). (309
ن عن ابن ه :ورد في هذه الية أربعة معا ٍ ذا َ ْ َ
فإ ِ َ
قَرأَنا ُ •
عباس:( )
310
الول :أي قرأه عليك الملك ،وهو مما ورد في متن الحديث .
()305وأورد اللوسي في ررح المعاني ،29/244مرجع سابق :قولين آخرين في معنى جمعه
وقرآنه وضعفهما ،ول يستحقان الشتغال بهما .
()306انظر :فتح الباري ،8/637مرجع سابق .
()307تفسير الطبري ،29/188مرجع سابق .
()308صحيح البخاري ،4/1770مرجع سابق .
()309حاشية الصاوي بهامش تفسير الجللين ،353/ 4مرجع سابق .
()310أما ابن حجر-رحمه الله تعالى -فقال" :والحاصل أن لبن عباس في تأويل قوله
عقولين" انظر :فتح الباري شرح صحيح البخاري ه وفي قوله َ تعالى ْ َ
فات ّب ِ ْ قَرأَنا ُ
،8/683مرجع سابق .
126
قْرآن َُه: ع ُ
فات ّب ِ ْ قَرأ َْناهُ َ ذا َ
فإ ِ َوالثاني :رواه عنه البخاريَ :
قْرآن َُه أي ما جمع فيه ،فاعمل ع ُ فإذا جمعناه وألفناهَ ،
فات ّب ِ ْ
بما أمرك ،وانته عما نهاك ال).(311
ه ذا َ ْ فإ ِ َ والثالث :رواه عنه البخاري فقال" :باب قوله َ
قَرأَنا ُ
ه بيناه قرآن َه ،قال ابن عباسْ َ :
قَرأَنا ُ ع ُ ْ ُ َ
فات ّب ِ ْ
ع اعمل به") ( .
312
فات ّب ِ ْ َ
ل فيوالرابع :أي) :فإذا أنزلناه( معلقًا ،رواه عنه البخاري موصو ً
قْرآن َُه فاتبع مجمله، ع ُ خلق أفعال العباد ،وفيهَ " :
فات ّب ِ ْ
وتفهم ما فيه").(313
ع ما يؤيد التأويل وعند الطبري من طريق قتادة في قولهَ
فات ّب ِ ْ
الثاني لبن عباس إذ قال فيه":اتبع حلله واجتنب حرامه").(314
والتفسير الول عن ابن عباس أشهر .
ول تنافي بين هذه التأويلت؛ إذ يصبح المعنى عند الجمع بين
الوارد فيها :فإذا أنزلناه فبيناه ،بأن قرأه عليه المَلك مجموعًا مؤلفًا فاستمع له
وأنصت ،فإذا انتهت قراءة جبريل فاقرأ أنت ،ثم اتبع ما فيه من حلل،
واجتنب ما فيه من حرام… فكانت ألفاظ التفسير مختلفة بحسب بدايات
نزول القرآن ونهاياته؛ إذ البدء يكون بنـزول المَلك ،ثم التبيين بقراءة المَلك
ع لنصات النبي ، ثم تكون مرحلة قراءة النبي ،ثم أيضًا ،وهو مستد ٍ
مرحلة العمل به...فقد اتفقت في حقيقتها ) ،(315ويدل لهذا أن ابن عباس
فسر قوله تعالى أنزلناها" النور ،"1/كما روى عنه البخاري :بيناها
()311صحيح البخاري ،4/1770مرجع سابق .
()312صحيح البخاري ،4/1877مرجع سابق ،وقال ابن حجر-رحمه الله تعالى" :-هذا
التفسير رواه على بن أبي طلحة عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما -أخرجه بن أبي
حاتم" انظر :فتح الباري شرح صحيح البخاري ،8/682مرجع سابق .
) ()313البخاري( أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن إسماعيل الجعفي ت 256هس :خلق أفعال
العباد 84مراجعة :د .عبد الرحمن عميرة ،دار المعارف السعودية -الرياض 1398هس –
1978م.
()314تفسبر الطبري ،29/188مرجع سابق .
()315وهذا التأويل لليات هو الموافق لتأويل ابن عباس كما سبق .وقد قال عنه صاحب
التحرير والتنوير ،29/349مرجع سابق" :هذا ما ل خلف فيه بين أهل الحديث وأئمة
التفسير" .
127
) ،(316وقال ابن حجر":كذا في النسخ ،والصواب )أنزلناها وفرضناها(
ب من بيناها" ) ،(317فجعل معنى بيناها لفرضناها ل لنزلناها ،وهو غري ٌ
حيث أنه صرح بأن النسخ اجتمعت على أن بيناها معنى لنزلناها ،فكان
النظر داعيًا إلى التأمل في المناسبة بينهما قبل صرفه بادئ الرأي إلى معنى
آخر ،وقد ظهرت للباحث مناسبة معنى النزال للبيان من خلل تأويل ابن
ه بأنه أنزلناه تارة ،وبمعنى بيناه تارة عباس لقوله ْ َ
قَرأَنا ُ
أخرى ،فقد جعل ابن عباس البيان لزم النزال ،وما أحسن ذاك بالنظر
إلى الذات اللهية ،فتخطئة النسخ جميعًا عارض يفتقد القرينة فنبقى على
الصل .
قْرآن َُه :(318) ورد فيها أربعة معا ٍ
ن: ع ُفات ّب ِ َْ •
أولها :فاستمع له وأنصت" :أي أنصت إلى قراءتنا") ،(319وقال
الزمخشري":فكن مصغيًا له فيه ،ول تراسله ،وطمئن نفسك أنه ل يبقى
غير محفوظ؛فنحن في ضمان تحفيظه".
ه ْ ذا َ وقال اللوسي":فكن مصغيًأ له ل مباريًا ،وقيلَ :
فإ ِ َ
قَرأَنا ُ
قْرآَنهُ أي :فاستمع وأنصت ،وصح فاتبع بذهنك وفكرك ُ
هذا من رواية الشيخين وغيرهما عن ابن عباس . (320)"
قْرآن َُه لجبريل، ع ُ
فات ّب ِ ْوثانيها :أن الضمير في قوله َ
والتقدير :فإذا انتهت قراءة جبريل فاقرأ أنت).(321
وثالثها :فاعمل ما أمرك .
ورابعها :اتبع مجمله وتفهم ما فيه .
ول تنافي بينها ،بل حال هذه الية كما سبق فيما قبلها .
عل َي َْنا ب ََيان َُه :ورد فيه معنيان أيضًا:ن َم إِ ّ ث ُ ّ •
()316صحيح البخاري ،4/1770مرجع سابق .
()317فتح الباري ،8/433مرجع سابق .
()318روح المعاني ،29/244مرجع سابق .
()319التحرير والتنوير ،29/349مرجع سابق .
()320روح المعاني ،29/244مرجع سابق .
()321فتح الباري ،8/683مرجع سابق .
128
أن نبينه بلسانك) ،(322والخر :العمل ،وذكر ابن جرير
القولين) ،(323ول تنافي بينهما كما يظهر) ،(324والقول فيهما كالقول في
ل بمثل ،وذلك أن بيان مجمله ،أو تفصيل مشكله غير الية السابقة ،مث ً
كائن إل بتحقيق لفظه ،وقد يقف الراسخون في العلم حيارى أمام لفظة
محرفة ،أو مصحفة حتى يتيقنوا لفظها أو يقاربوا ،ثم يسبروا غور معناها
بعد ،والمر هاهنا كذلك إذ ينصرف معنى البيان انصرافًا أوليًا إلى معنى
البيان اللفظي ،وهو آيل في كلم ال -بعد -إلى البيان المعنوي ،فمن فسره
بالبيان المعنوي فهو
باعتبار نهاية المر ،ولذا ُقّدَم تأويل الية بالبيان اللفظي عند العلماء:
فقال المدي":يجوز أن يراد بالبيان الظهار ،ل بيان المجمل :يقال
بان الكوكب إذا ظهر -قال -ويؤيد ذلك أن المراد جميع القرآن ،والمجمل
إنما هو بعضه ،ول اختصاص لبعضه بالمر المذكور دون بعض")،(325
قْرآن َُه " :إن علينا جمع و ُ
ه َ
ع ُ
م َ عل َي َْنا َ
ج ْ ومعنى الجملتين إ ِ ّ
ن َ
الوحي ،وأن تقرأه ،وفوق ذلك أن تبينه للناس بلسانك ،أي نتكفل لك بأن
يكون جمعه وقرآنه بلسانك ،أي عن ظهر قلبك ل بكتابة تقرؤها ،بل أن
يكون محفوظًا في الصدور ،مبينًا لكل سامع ل يتوقف على مراجعة ،ول
على إحضار مصحف من قرب أو بعد ،فالبيان هنا بيان ألفاظه ،ليس بيان
معانيه؛ لن بيان معانيه ملزم لورود ألفاظه") ،..(326وقال
اللوسي":يجوز أن يراد بالبيان الظهار ل بيان المجمل ،وقد صح من
رواية الشيخين وغيرهما وجماعة عن الحبر أنه قال في ذلك:ثم إن علينا أن
()322وعند البخاري في خلق أفعال العباد ،84مرجع سابق " :أن نثبته على لسانك " ول
يعترض بأنه يحتمل أن يكون قد اعتراها التصحيف؛إذ قد ورد في قوله تعالى َ
فت َب َي ُّنوا
"الحجرات "6/القراءة الخرىفتثبتوا والمعنى مرتبط بينهما؛ إذ التثبت ثمرة التبين.
()323تفسير الطبري ،29/189مرجع سابق .
()324كما ل منافاة بين القوال الثلثة التي أوردها ابن جرير ،29/189مرجع سابق في تأويل
وهي :فاستمع قرآنه ،فاتبع معانيه من الشرائع والحكام ،فاعمل به .
ه ع ُ
قْرآن َ ُ َ
فات ّب ِ ْ
()325فتح الباري شرح صحيح البخاري ،8/637مرجع سابق .
()326انظر :التحرير والتنوير ،29/350مرجع سابق .
129
نبينه بلسانك ،وفي لفظ :علينا أن تقرأه ،ويؤيد ذلك أن المراد بيان جميع
القرآن ،والمجمل بعضه" ). (327
وهذا عند التقديم لشيء على شئ ،وإل فإن الية محتملة لجميع أنواع
البيان يقدمها بيان اللفظ إذ الكلم فيه ،وغيره ُبْيَنى عليه ،ويقوي ذلك العموم
لنواع البيان :أن قوله بيانه جنس مضاف فيعم جميع أصنافه من إظهاره،
وتبيين أحكامه ،وما يتعلق بها من تخصيص ،وتقييد ،ونسخ ،وغير ذلك .
ففي هذه اليات :تكفل ال له أن يجمعه في صدره ،وأن ييسره لدائه
على الوجه الذي ألقاه إليه ،وأن يبينه له ،ويفسره ،ويوضحه ،فالحالة الولى
جمعه في صدره ،والثانية تلوته وبيانه في مخارج لفظه حق بيانه ،والثالثة
تفسيره ،وإيضاح معناه).(328
وتلخيصا ً للمعالم السابقة مع ما ورد في الفصل الول يقال:
انطلقا ً من قاعدتي الثبات والنفي الحاصرتين المانعتين لي
،وهما الوارتان في قوله – ل من الخلق في أداء كلم الله تدخ ٍ
ن" الحجر/
ظو َ ف ُ ه لَ َ
حا ِ وإ ِّنا ل َ ُ
ن ن َّزل َْنا الذّك َْر َح ُ إ ِّنا ن َ ْتعالى ذكره:-
ه" النعام "115/نفيًا ،فإن الحفظ ل ل ِك َل ِ َ
مات ِ ِ ل َ ُ
مب َدّ َ "9إثباتًا،
اللهي للكتاب الكريم في عالم المخلوقين قد بدأت
أدواته الواقعية بالتشكل مذ تكلم به الخالق –تعالى
ذكره :-فقد اختار الله حافظا ً قويا ً أمينا ً لنقل كلمه،
وتعليمه للخلق بدقة متناهية ،ونحن نعرف من وسائل
العصر ما يتمكن به النسان من حفظ كلمه بل تغير،
جلة التي س ِ
م َبل بنفس المؤثرات التي تحف بكلمه…كال ُ
إذا وجهت رسالة بواسطتها لشخص ،أمكنك أن تقول
له :قد قلت لك كذا وكذا مع أنك قلته في وقت آخر،
ومكان آخر…ول تكون كاذبا ً بذلك ،وإن كان لم يسمع
منك مباشرة …بل سمع من المسجل ،لكن المسجلة
()327روح المعاني ،29/244مرجع سابق .
()328انظر) :ابن كثير( أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي ت
774هس :تفسير القرآن العظيم ،4/383تقديم :محمد عبد الرحمن المرعشلي ،إعداد :مكتب
تحقيق دار إحياء التراث العربي ،أعد فهارسها :رياض عبد الله عبد الهادي ط -1417 ،1
1997م ،دار إحياء التراث العربي-بيروت .
130
لدقة حفظها ،وضبطها نقلت نقل ً أمينا ً …ولله المثل
العلى ،فقد جعل الله –تعالى ذكره-جبريل أمينا ً على
الوحي قويا ً على نقله لدرجة يكاد من دقتها أن يصح
القول بأن الذي اقرأ النبي هو الله –تعالى ذكره،-
ولذا جاز نسبة إقراء جبريل النبي كلم الله إلى
الله –تعالى ذكره -لشدة ضبطه وإتقانه ودقته …وهذا
ه ذا َ ْ هو سر إسناد الفعل إلى الله في قوله َ
فإ ِ َ
قَرأَنا ُ
مع أن القائم به هو جبريل …فكانت قراءة جبريل
مطابقة أمينة تماما ً كما تلقاه عن الله –جل وعل. -
المطلب الرابع :من فوائد حديث المعالجة ):(329
أول فائدة تتعلق بلفظ القرآن :هي أن اللتزام بجمع القرآن في صدر
النبي ثم جريانه على لسانه كما قرأه جبريل ..لم يقف عند قراءة اللفاظ
كما هي ،بل تعدى ذلك إلى )بيان اللفاظ( بيانًا واضحًا مستمدًا من عربية
اللسان من حيث العموم ،وهيئة تلوة القرآن من حيث خصوص كونه
"بتفهيم ما أشكل عليك من عْليَنا َبياَنهن َمإ ّث ُ ّ قرآنًا ،فتأويل
معانيه") (330قصٌر لعاٍم بغير دليل ،وتخصيص للمعنى بغير مخصص،
على أن النسب والوفق للمقام الكلم على اللفظ قبل المعنى "فإن الكلم له
لفظ ومعنى ،وله نسبة إلى الذن والقلب ومتعلق بهما ،فسماع لفظه حظ
الذن ،وسماع حقيقة معناه ومقصوده حظ القلب") ،(331وكلهما مراد
بيانه ،والول أولى لنه طريق إلى الثاني الذي هو الغاية من المرين ،قال
عل َي َْنا ب ََيان َُه" :أي بعد حفظه
ن َم إِ ّابن كثير في قوله ث ُ ّ
وتلوته ،نبينه لك ونوضحه ،ونلهمك معناه على ما أردنا وشرعنا"). (332
وثاني فائدة تؤخذ من هذه اليات مما يتعلق باللفظ :أن الحفظ
لللفاظ مقدم على استلهام المعنى وبيانه) ،(333وهي القاعدة المستنتجة من
عل َي َْنا ب ََياَنهُ ،فليس المعنى سابقًا للحفظ ،والمراد ن َم إِ ّ قوله ث ُ ّ
()329عدا ما تقدم في المطالب السابقة .
()330حاشية الصاوي ،3/354مرجع سابق .
()331تهذيب مدارج السالكين ،1/70مرجع سابق .
()332تفسير القرآن العظيم ،4/383مرجع سابق .
()333وهو ما رجحه العلماء في فهم الية كما سبق ،على أن الترجيح فرع التضاد ،ول تضاد
بحمد الله …
131
ليس إيجاد المعنى إذ هو قبل اللفظ في حيز العدم والخفاء ،وليس المراد
استحضاره في الذهن ،وهو يدل من جهٍة أخرى على أهمية ضبط اللفظ ،ل
عَم من أن المعاني الولية هي المقصودة بقطع النظر عن قالبها، على ما ُز ِ
334
وهي ما سمي أصوليًا بالمعاني الثانوية) ( ،ثم كانت هذه التسمية ،وذا
التقسيم سببًا في التهوين من الجانب اللفظي للكلمات…وبذا استبان غرور
سلم في أن المعنى يسبق اللفظ من من ادعى سبق الهتمام بالمعنى ،وقد ُي ّ
حيث الوجود النفسي ،ولكن الكلم هنا عن معنى موجود في الخارج عُّبر
ظ…فأّنى له أن ُيعرف دون عبور ممره الموصل إليه وهو اللفظ؟، عنه بلف ٍ
وهذا هو حال ألفاظ القرآن الكريم؛ إذ ل ُيعرف المعنى الذي ُيريده ال
في كلمه إل بمعرفة لفظه ،ولفظه هو ل لفظ غيره ،وهذا على القول
عل َي َْنا ب ََيان َُه للتراخي الزمني،ن َ م إِ ّ م في قوله ث ُ ّ بأنث ُ ّ
إما على القول بأنها للتراخي الرتبي ...فل تنخرم القاعدة كليًا لكنها تعدل
بحيث يقيد بيان المعنى بملزمة إتقان اللفظ إذ هو طريقه .
ولعــل هــذا المعنــى هــو الــذي يســوغ تعليــم
الصبيان ألفــاظ القــرآن ،وتحفيظهــم إياهــا ،وإن
لم يتقنوا معناها .
": كان كما ل ينافي هذا التأويل ما أورده ابن جرير عن ابن عباس
كسان َ َ
ه لِ َك بِ ِ ل يفتر من القرآن مخافة أن ينساه فقال ال ل ت ُ َ
حّر ْ
قْرَءان َُه ه أن نجمعه لك َ
و ُ ع ُ
م َج ْ عل َي َْنا َ
ن َ ه)(16إ ِ ّ
ل بِ ِ ج َع َ
ل ِت َ ْ
335
أن نقرئك فل تنسى") (؛ فإنها مؤيدة لما سبق مكملة له ففيها التأكيد على
بحفظ كتابه من حيث العموم ،بالضافة إلى ما نبأت به الروايات تكفل ال
الولى في هيئات حفظ كتابه من حيث الخصوص )خصوص التلقي في كل
مرة( وانظر ما سيأتي في بند تكرار المحفوظ). (336
132
تحريك الفم :فالقراءة النفسية ل وجود لها ،أو ل -1
337
تسمى قراءة عند الطلق) ( .ول يعترض على هذا بأنه:
ض بأن القرآن ِذْكٌر ،فيكون في النفس ،كالقول؛ إذ قال ال : منتق ٌ
ما ه بِ َ عذّب َُنا الل ّ ُ ول ي ُ َ م لَ ْ ه ْ س ِف ِ في أ َن ْ ُ ن ِ قوُلو َ وي َ َُ
ل " المجادلة ،"8/لن القراءة مرتبة أعلى من القول من قو ُ نَ ُ
حيث تحريك الفم
ن
ءا ُ قْر َئ ال ْ ُر َ ق ِ ذا ُ )الشفتين واللسان( ،ولذا قال ال َ
وإ ِ َ
فاست َمعوا ل َه َ
ن" العراف،"204/ مو َ ح ُ م ت ُْر َ عل ّك ُ ْصُتوا ل َ َ وأ ن ْ ِ ُ َ َ ْ ِ ُ
ولم يقل )وإذا قيل( ،ويدل له :أنه كان يمكن أن ل ينازع الصحابة رسول
في القراءة في الصلة لو قرأوا في أنفسهم ،وسمي فعُلهم قراءة ،ولكنه
أبى عليهم ،إذ القراءة ل بد فيها من تحريك الفم ،بل وإسماع النفس على
القل عند بعض الفقهاء)…(338وقد يقال كل ما ذكر معاَرض… فيجاب
حينئذ بأن القراءة النفسية -إن وجدت -لبد من تقييدها بذلك ،ول يكفي
فيها الطلق.
وقوله) :فأنا أحركهما( دللة على أن القراءة ل تسمى كذلك إل
سان َ َ
ك ه لِ َ ك بِ ِ حّر ْ بتحريك الشفتين ،ويدل على ذلك آية القيامةل َ ت ُ َ
َ ل ِبال ْ ُ
ن
لأ ْ قب ْ ِن َ م ْ
ن ِ قْرآ ِ ج ْ ع َ ول َ ت َ ْه وآية طهَ … ل بِ ِ ج َ ع َل ِت َ ْ
ح منها ضرورة تحريك اللسان في حي ُُه…؛ إذ ُيلَم ُ و ْ
ك َ ضى إ ِل َي ْ َ ق َ يُ ْ
حفظ القرآن إذ النهي مؤقت بقراءة المعلم .
ونأخذ منه أيضًا أفضلية استجماع القلب والنصات التام للسماع
الول من الشيخ ،لتكون خطوات لزمة من خطوات تلقي القرآن،
وقراءته ،وحفظه.
()337ولذا بوب المام البيهقي في سننه الكبرى ،7/350مرجع سابق" :باب الرجل يطلق امرأته في
نفسه ولم يحرك به لسانه".
()338انظر) :المهدي(أحمد بن يحيى المرتضى ت 840هس :البحر الزخار الجامع لمذاهب
علماء المصار ،وبهامشه :جواهر الخبار والثار المستخرجة من لجة البحر الزخار للعلمة
محمد بن يحيى بن بهران الصعدي ت 957هس ،أشرف عليها:عبد الله محمد الصديق ،وعبد
الحفيظ سعد عطية ،دار الكتاب السلمي -القاهرة ،وانظر :د .مصطفى ديب البغا :التحفة
الرضية في فقه السادة المالكية ص ،40شرح وأدلة وتكملة متن العشماوية ،ط 1412 ،1هس
– 1992م ،دار ابن كثير ،دمشق– بيروت .
133
ومن بواعث تحريك الفم عند قراءة القرآن :الحفظ ،وخشية النسيان،
وحب القرآن…ومن أسرار ذلك :تهييج اللسان لظهار استسلمه ل،
وحركته في طاعة ال ومبادرته في المشاركة في إظهار كلم ال
…فيشترك القلب ،واللسان ،ثم الجوارح بالعمل في إجلل كلم ال
،وقال ابن حجرفي تجلية عمل اللسان في إحياء البواعث المذكورة:
"قوله) :فيشتد عليه( ظاهر هذا السياق أن السبب في المبادرة حصول
المشقة التي يجدها عند النـزول فكان يتعجل بأخذه لنـزول المشقة سريعا،
وبين في رواية إسرائيل) :أن ذلك كان خشية أن ينساه ،حيث قال :فقيل له
ك تخشى أن ينفلت( ،وأخرج بن أبي حاتم سان َ َ
ه لِ َ
ك بِ ِ ل َ ت ُ َ
حّر ْ
من طريق أبي رجاء عن الحسن) :كان يحرك به لسانه ،يتذكره ،فقيل له:
إنا سنحفظه عليك( ،وللطبري من طريق الشعبي) :كان إذا نزل عليه عجل
يتكلم به من حبه إياه( ،وظاهره أنه كان يتكلم بما يلقى إليه منه أول فأو ً
ل
من شدة حبه إياه فأمر أن يتأنى إلى أن ينقضي النـزول ،ول بعد في تعدد
السبب"). (339
ضى )التحريك( موجب منهجيًا اعتماد وتعدد السبب مع اتحاد المقت َ
تحريك الفم عند إرادة تحقيق أحد تلك البواعث)الخوف،
والشفاق،والحب( .
-2أخذ النفس بالشدة في قراءة القرآن وحفظه:
أما في القراءة فحديث التعتعة :عن عائشة-رضي ال تعالى عنها -قالت :قال
رسول ال ) : الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ
القرآن ويتتعتع فيه وهوعليه شاق له أجران() ،(340والماهر ل تظهر
مهارته إل بعد الُدربة ،فينهار بناء من بنى سهولة أخذ القرآن على عربيته
أي أن حفظه سهل لمجرد كونه عربيًا ،وعدم الحاجة إلى الكلفة في تعلمه؛
إذ قد اتضحت ضرورة الكلفة للقسمين المذكورين في حديث التعتعة .
وأما في الحفظ فظاهر ذلك في حديث المعالجة.
134
وأما في المراجعة ففي أحاديث التفلت) . (341فل بد من أخذ النفس بشيء
من الشدة في قراءة القرآن ،وحفظه ،ومراجعته .
والمقتضى المنهجي لهذه الشدة :إعطاء قراءة القرآن ،وحفظه ،وتلوته،
ومراجعته ،حجمها الحقيقي دون هضم ،أو تقليل من حجمها ،إذ معظم
ل عن بقية أمة القرآن التهوين الحالت الواقعة في حياة حفاظ القرآن فض ً
ل ،أو تهاونًا ،أو هروبًا من الغراق في مفهوم البركة! من ذلك إما تكاس ً
فيقلل البعض من العزيمة في معالجة الوحي القرآني قراءة ،أو حفظًا ،أو
مراجعة ،لئل يهول مفهوم البركة على مفهوم بذل السباب ،أو الطلع
على بقية كتب أهل العلم ،أو التوسع في معرفة الثقافات العصرية…وهذه
مسألة بحاجة إلى مزيد تدبر دون شطط .
ن
م ْ ل ِ ه ْ ف َر َ ن ِللذّك ْ ِ سْرَنا ال ْ ُ
قْرآ َ قد ْ ي َ ّ ول ينافي هذا قولهَ
ول َ َ
سٌرر " القمر "17/كما تقدم) ( ،ولما هو ظاهر أن القرآن ُمَي َ
342
مدّك ِ ٍ
ُ
للذكرى ،ول علقة لذا مع موضوع الحفظ ،وحديث التعتعة المذكور آنفًا
صريح في هذا التقرير .
-3مخارج الحروف هي الخمسة المشهورة :فل يستدل بآية
ك على أن اللسان هو المخرج الوحيد، سان َ َ ه لِ َ القيامة ل َ ت ُ َ
حّر ْ
ك بِ ِ
ولذا ذكر في حديث المعالجة )الشفتين( ،قال ابن حجر":قوله) :وكان مما
يحرك به لسانه وشفتيه( اقتصر أبو عوانة على ذكر الشفتين ،وكذلك
إسرائيل ،واقتصر سفيان على ذكر اللسان ،والجميع مراد إما لن
التحريكين متلزمان غالبًا ،أو المراد يحرك فمه المشتمل على الشفتين
واللسان لكن لما كان اللسان هو الصل في النطق اقتصر في الية
عليه"). (343
ويقال على السياق نفسه :واقتصر على الشفتين واللسان لنهما الظاهران
للعيان ،بخلف الحلق والجوف والخيشوم .
135
136
المبحث السابع:
التلقي )والتلقين(:
يحلل هذا المبحث مصطلح )التلقي( ،ولذا فهو يتكون هذا المبحث
من خمسة مطالب:
المطلب الول :تعريفه .
المطلب الثاني :القرآن تلقين وليس إلهامًا .
المطلب الثالث :حكم التلقين .
المطلب الرابع :قواعده .
المطلب الخامس :المقتضى المنهجي لسلوب تلقي النبي.
المطلب الول :تعريفه:
التلقي في الوضع اللغوي :مأخوذ من اللقاء ،ويظهر في اللقاء
ل يلقى باللسان ،أو شيئًا يلقى باليد ،أو بغير كونه حسيًا مشاهدًا سواء كان قو ً
ن :خمسة منها ذلك ،فقد ذكر ابن الثير في النهاية لللقاء عشرة معا ٍ
صريحة في اللقاء الحسي ،ومنه قولهم :مالي أراك لقًا َبقًا؟ ،فاللقى :الُمْلَقى
على الرض ،وما بعده إتباع له ،ومعنيان صريحان في عودته للخطاب
ن منها تعود إلى اللقاء الحسي من حين مجيئه من جهة لخرى ،وثلثة معا ٍ
حيث كون أصلها واقعًا بالقول ،وهو فعل محسوس ،ومنه قولهم :ما يلقي
ل :أي ما يحضر قلبه لما يقوله منها ،والبال :القلب). (344 لها با ً
وتحصل من مفاهيم اللقاء في الوضع اللغوي الدللت التالية:
أنه حسي ،فليس أمرًا معنويًا ،وهو ما يضاد اللهام من حيث (1
الصل ،فاللهام شيء معنوي اعتباري .
أنه يعتمد على القول المحسوس عند كون اللقاء إلقاء لكلم، (2
ن م لَ َ م ال ْ َ َ َ
فأل ْ َكما في قولهَ …
كاِذُبو َ ل إ ِن ّك ُ ْ
و َ
ق ْ ه ُ
وا إ ِلي ْ ِ ق ْ
"النحل ،"86/فيكون كذلك من الُمْلقي ،وهو كذلك من الُمَتَلِقي ،كما في قوله
َ
م"….النور ،"15/فل يعقل أن يكون ه ب ِأل ْ ِ
سن َت ِك ُ ْ ون َ ُ تعالى إ ِذْ ت َل َ ّ
ق ْ
ف من القول إلقاء الكلم ،ول تلقيه أمرًا معنويًا محضًا لغة…هذا خل ٌ
تأباه طبيعة الوضع اللغوي ،فإذا ورد ما يدل على أنه معنوي ،فإما أن
()344انظر :النهاية في غريب الحديث والثر ،4/266مرجع سابق ،وكذلك :مختار الصحاح
،603مرجع سابق .
137
يكون ذلك على سبيل المجاز ،أو هو معتمد على إلقاء حسي ،كقولهم:
ل؛ فإن المراد :ما استمع له ،ول اكترث ُنعي إليه فلن فما ألقى لذلك با ً
به) ،(345وذلك صريح استعماله مجازًا ل يعلم معناه دون العلم باللقاء
الحسي ،فهو أصله .
يستعمل إلقاء القول استعماًل لغويًا خاصًا في التعليم ،وتلقيه في (3
التعلم ،والتواصي …وهما حسيان من حيث الصل ،ومنه قوله تعالى
ن" القصص ،"80/أي ما يعلمها ،ول صاب ُِرو َ ها إ ِّل ال ّ قا َ وَل ي ُل َ َّ
ت… ما ٍ ه ك َل ِ َ
ن َرب ّ ِ م ْ
م ِ ءادَ ُقى َ ُيَنَبُه عليها ،ومنه قولهَ
فت َل َ ّ
"البقرة.(346)"37/
حب اللقاء والتلقي عرفًا لغويًا حضور القلب ،فل يكون ُيصا ِ (4
ئ له ،وذلك واضح مما سبق من سرد لبعض مباغتًا ،غير ُمَتَهي ِ
الستعمالت اللغوية المختلفة لللقاء …وذلك يعني الفهم وحسن الخذ .
ص لغًة بالكلم الُمَتَعَلم. والتلقين هو اللقاء في كل ذلك إل أنه خا ٌ
حسن في اللقاء والتلقي ،وإل لم تطلق عليه هذه ول بد من ال ُ
347
ن َلِقن إذا كان حسن التلقي لما يسمعه) (. الكلمة؛ولذا يقال :فل ٌ
وهذه المعاني كلها تجتمع في تلقي النبي ألفاظ القرآن الكريم من
ق محسوسين ،بين جهتين اعتمدتا القول ،حال جبريل ،فهو إلقاء وتل ٍ
كونهما حاضري القلب ،يعتمد الخذ بينهما على القول ل غيره من أنواع
ن في ذلك ضوابط العملية التعليمية والتعّلمية . اليحاء ،مطبَقي ِ
ويظهر ذلك بينًا بل خفاء عند الجمع بين الوصف العام لخذ النبي
ه
م ُعل ّ َألفاظ القرآن الكريم من جبريل بأنه تعلم كما في قوله َ
ق كما قَوى " النجم ،"5/وبين الوصف الخاص لذلك بأنه تل ٍ ديدُ ال ْ ُ ش ِ َ
عِليم ٍ كيم ٍ َ ح ِن َ ن ل َدُ ْ م ْ
ن ِ ءا َ قى ال ْ ُ
قْر َ ك ل َت ُل َ ّ في قولهَ
وإ ِن ّ َ
"النمل. "6/
ول بد من التأكيد على ملحظة بارزة في العرف القرآني لدللة
اللقاء والتلقي ،هي أن اللقاء لم يستعمل في العرف القرآني إل للمر
()345انظر :النهاية في غريب الحديث والثر ،4/266مرجع سابق .
()346انظر :النهاية في غريب الحديث والثر ،4/266مرجع سابق .
()347انظر) :الزمخشري( جار الله محمود بن عمر :الفائق في غريب الحديث ،3/325
تحقيق :محمد أبو الفضل إبراهيم ،علي محمد البجاوي ،ط ،2توزيع دار الباز .
138
المحسوس ،وهذا يعطي التصور الولي لمفهوم إلقاء ألفاظ القرآن من
جبريل للنبي ، فتذهب الظنون العلمية التي تنافي ذلك في مكانها
من التوهمات المحضة .
التلقي في الوضع الصطلحي :هو عبارة عن الهيئة
المنهجية الشرعية لتعليم اللفاظ القرآنية بأن يقرأ الشيخ الية ،ويتلقاها
الطالب عنه بسمعه وفؤاده ،فالتلقي بهذا هو العملية المكملة لعملية التلقين إذ
التلقين من الشيخ ،والتلقي من الطالب ،كما قال البخاري -رحمه ال تعالى":-
عِليمٍ ن ل َدُ ْ قى ال ْ ُ
ك ل َت ُل َ ّ قال معمر) (َ :
وإ ِن ّ َ 348
كيم ٍ َ ح ِ ن َ م ْ
ن ِ
قْرآ َ
م
قى آدَ ُ فت َل َ ّ"النمل "6/أي يلقى عليك وتلقاه أنت أي تأخذه عنهم ،ومثلهَ
ت …" البقرة.(349)"37/ ه ك َل ِ َ
ما ٍ ن َرب ّ ِ
م ْ ِ
وقال أبو عبيدة" :وتل علينا أبو مهدي آية فقال :تلقيتها من عمي،
ول َتلقاها عن أبي هريرة تلقاها عن النبي وقال في قوله َ
ن" القصص :"80/أي ل ُيوَفق لها ،ول ُيَلَقُنها، صاب ُِرو َ ها إ ِل ّ ال ّ قا َي ُل َ ّ
ول ُيْرَزُقها ،وحاصله أنها تأتي بالمعاني الثلثة ،وأنها هنا صالحة لكل
منها ،وأصله اللقاء ،وهو استقبال الشيء ،ومصادفته"). (350
فإذا قيل )الهيئة الشرعية لتعليم القرآن الكريم( ،أو ُأطلق أحدهما
)التلقي أو التلقين( دخل فيه الخر ضمنًا .
فإن اعُترض بالقول :لم ل ُيستخدم مصطلح التعليم بدل التلقين؟ .
فالجواب :أن التلقين أخص من التعليم ،ووجه خصوصيته في غاية
الهمية في تعليم ألفاظ القرآن الكريم؛ إذ :الفرق بين التعليم والتلقين:
أن التلقين يكون في الكلم فقط ،والتعليم يكون في الكلم -1
وغيره ،تقول :لقنه الشعر ،ول تقول لقنه التجارة والنجارة،
والخياطة ،كما يقال علمه في جميع ذلك .
التعليم يكون في المرة الواحدة ،والتلقين ل يكون إل في -2
المرات .
()348عنى بمعمر هنا أبا عبيدة معمر بن المثنى اللغوي ،انظر :مجاز القرآن ،ل معمر بن
راشد شيخ عبد الرزاق .
()349صحيح البخاري ،2721 /6مرجع سابق .
) ()350أبو عبيدة( معمر بن المثنى ت 210هس :مجاز القرآن عند ذكر سورة البقرة ،1/38
وسورة النمل ،2/91حققه د .محمد فؤاد سزكين ،ط ،1الخانجي الكتبي بمصر 1954م .
139
التلقين هو مشافهتك الغير بالتعليم ،وإلقاء القول إليه -3
ليأخذه عنك ،ووضع الحروف مواضعها ،والتعليم ل يقتضي ذلك،
ولهذا ل يقال :إن ال يلقن العبد ،كما يقال إن ال يعلمه). (351
وقد ورد تلقي النبي ألفاظ القرآن الكريم موصوفًا بالمر العام،وهو
قَوى" النجم ،"5/وموصوفًا ديدُ ال ْ ُ ش ِ ه َ عل ّ َ
م ُ التعليم في قولهَ
نن ل َدُ ْ
م ْ
ن ِ قى ال ْ ُ
قْرآ َ ك ل َت ُل َ ّ
وإ ِن ّ َبالمر الخاص وهو)التلقي(َ
ت لن يكون من أهمها :نفي اللهام في ليم" النمل"6/لغايا ٍ
عِ ٍكيم ٍ َ
ح ِ
َ
تلقي النبي ،وإثبات المشافهة صيغًة وحيدًة للتعليم القرآني من حيث
اللفظ .
المطلب الثاني :القرآن تلقين وليس إلهامًا ):(352
فهو تعليم مباشر )تلقين( وليس إلهامًا :إذ قد تنوعت وسائل الوحي
كما قال ابن قتيبة -رحمه ال تعالى":-كل شيء دللت به عن كلم ،أوكتاب ،أو
إشارة أو رسالة ،وذكر له معان في القرآن :الشارة ،واليماء ،واللهام،
والعلم في المنام ،والعلم بالوسوسة من الشيطان ،والمر …ثم قرر أن
معناه في خصوص الوحي بالقرآن التلقين من جبريل للنبي ،ونص
ه
م بِ ِذَرك ُ ْ
ن ُ
لن ِ ذا ال ْ ُ
قْرآ ُ ه َ
ي َي إ ِل َ ّ وُأو ِ
ح َ قوله في قوله َ
غ" النعام" :"19/فهذا إرسال جبريل بالقرآن") ( زاد في
353
ن ب َل َ َ
م ْ
و َ
َ
فتح الباري من معاني الوحي :العلم في خفاء ،والكتابة ،والمكتوب،
والتصويت شيئًا بعد شيء -قال-وقيل أصله التفهيم ،وكل ما دللت به من
كلم ،أو كتابة ،أو رسالة ،أو إشارة فهو وحي ،وشرعًا :العلم بالشرع،
وقد يطلق ويراد به اسم المفعول منه أي الموحى ،وهو كلم ال المنـَزل
على النبي (354) فمدار الحديث في هذا المبحث حول حالة خاصة من
الوحي بمعناه المصدري هو العلم والتفهيم بالتصويت شيئًا بعد شيء،
ل ،وحول حالة خاصة الوحي بمعنى وذلك أعم من أن يتمثل له الملك رج ً
اسم المفعول وهو القرآن والمراد كيفية تلقي الرسول للفاظه .
()351انظر) :العسكري( أبو هلل الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد ت بعد
395هس:الفروق في اللغة ص . 75
()352انظر :حديث المعالجة في المبحث السادس من هذا الفصل .
) ()353ابن قتيبة( أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري )ت 276هس( :تأويل مشكل
القرآن ص ،489شرحه ونشره :السيد أحمد صقر -المكتبة العلمية .
()354فتح الباري ،1/15مرجع سابق .
140
ويلحظ أن المدلول اللغوي للوحي يوضح طبيعته:
فل تراه عين غير المــوحى إليــه ،ول تســمعه أذن غيــره
كذلك…ويمكــن أن ي ُــدرك ببســاطة أن المــدلول اللغــوي
للــوحي يشــير إلــى أن ثــم نوعــا ً منــه ل تســمعه الذن
المعتادة ،ول العين المعتادة ،ويصل إلى مركز البصــار،
ومركز الســمع مباشــرة،ويمكــن التعــبير عنــه مــن خلل
المعــاني الســابقة للــوحي بــالقول :التفهيــم والعلم
بالتصويت شــيئا ً بعــد شــيء ،ولــذا لمــا أراد جبريــل أن
يســتعلن للنــاس كــان ل بــد مــن تمثلــه بصــورة البشــر،
بخلف الصورة الشد للوحي ،فإنه ل يستعلن ،بل يكون
خفيًا،ولكنــه محسـوس للنــبي، والصــحابة إنمـا يـرون
آثــاره –كمــا ســبق…-فلــذا قــال ) :هــذا جبريــل جــاء
يعلمكم دينكم( فلما أراد جبريل أن يعلمهم كان ل بــد
من أن يتمثل لهم بشرا ً تدرك عيــونهم صــورته ،وتــدرك
أسماعهم صوته كما تقدم في الفصل الثاني مفص ً
ل.
وليس تعليم جبريل الرسول بالتصويت شيئًا بعد شيء مسألة
فرعية ،بل هي مسألة من مسائل الصول ،يذكرها العلماء في كتب العقائد،
فقد جاء في العقيدة الطحاوية عند قول المام الطحاوي-رحمه ال تعالى" :-نزل
ح بتعليم
به الروح المين ،فعلمه سيد المرسلين" قال الشارح" :تصري ٌ
ل لتوهم القرامطة وغيرهم أنه تصوره في نفسهجبرائيل إياه إبطا ً
إلهامًا").(355
ومن أدلة كون الوحي القرآني تلقينا ً:
كيم ٍ
ح ِ
ن َ ن ل َدُ ْ
م ْن ِ قْرآ َقى ال ْ ُ ك ل َت ُل َ ّوإ ِن ّ َقوله َ : -1
عِليم ٍ" النمل."6/
َ
قْرآن َُه" القيامة"18/؛ ففيها ع ُ قَرأ َْناهُ َ
فات ّب ِ ْ ذا َ فإ ِ َقوله َ : -2
المر بالستماع والنصات؛ إذ الستماع والنصات للمًلك ينافي اللهام
الذي يقع في النفس دون استماع لحد،وُينظر المبحث السابق في معنى الية
.
141
سى " العلى"6/؛ إذ القراء فل َ َتن َك َ رئ ُ َ قوله َ :
سن ُ ْ
ق ِ -3
ينافي اللهام منافاة لغوية وشرعية .
أول لقاء لجبريل بالنبي في غار حراء؛ إذ أقرأه -4
ولم ُيْلِهْمه ،بل أكد له القراء بضمه إليه .
356
حديث الحارث بن هشام المتقدم) (؛ إذ حالتا الوحي -5
المذكورتان تنافيان اللهام .
ح
ه الّرو ُ ويدل على ذلك الباء في قوله ن ََز َ
ل بِ ِ -6
ن" الشعراء "194/إذ هي :للملبسة ،والجار والمجرور َ
مي ُ
ال ِ
متعلق بمحذوف حال ،كأنه قال :نزل في حال ملبسة له على حد
خرج زيد بثيابه) ،(357ولو كان إلهامًا لما احتيج للنـزول به.
-7حديثا المعالجة) (358والمدارسة).(359
المطلب الثالث :حكم التلقين:
يجب التزامه منهجًا وحيدًا في تعليم ألفاظ القرآن الكريم ،ونبذ ما
سواه من حيث التقعيد العام) ،(360ويؤكد هذا الحكم أسلوب أخذ النبي
القرآن عن جبريل؛ إذ كان النبي في ابتداء المر إذا لقن القرآن
نازع جبريل القراءة ،ولم يصبر حتى يتمها مسارعة إلى الحفظ…
قاله الحسن وغير واحد) ،(361وقد جاء في رواية ابن أبي حاتم :يتلقى
أوله ،ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره،
وتفصيل الستدلل أن يقال:
ل ،ثم بقراءته كما ُأنزلكان الوعد بجمع القرآن في صدر النبي أو ً
عل َي َْنا إليه ،وكما سمعه من جبريل ثانيًا في قوله –تعالى ذكره-إ ِ ّ
ن َ
ن ه)(18ث ُ ّ
م إِ ّ ءان َ ُ ع ُ
قْر َ قَرأ َْناهُ َ
فات ّب ِ ْ ذا َ ه)َ (17
فإ ِ َ ءان َ ُ و ُ
قْر َ ه َ
ع ُ
م َ
ج ْ
َ
()356انظر :الفصل الثاني -المبحث الثالث .
()357حاشية العلمة الصاوي على تفسير الجللين ،3/224مرجع سابق .
()358انظر :المبحث السادس من هذا الفصل .
()359انظر :المبحث التاسع من هذا الفصل .
()360ولم يكن استدلل صاحب كتاب الحلقات القرآنية على وجوب التلقين وسيلة وحيدة في
تعليم القرآن الكريم ،وتعلمه موفقًا؛ إذ حصر المر في دائرة )ما ل يتم الواجب إل به فهو
ف الحكم ،ويجعل الستدلل على أصل القضية مضيعا ً لها .انظر :عبد ضع ُواجب( وذلك مما ي ُ ْ
المعطي محمد رياض طليمات :الحلقات القرآنية ،دراسة منهجية شاملة ،ط 1417 ،1هس -
1997م ،إصدار برنامج تحفيظ القرآن الكريم-جدة .
()361فتح الباري ،8/633مرجع سابق .
142
عل َي َْنا ب ََيان َُه "القيامة ،"19-17/وعدًا من ال ،فقد صار حقًا على ال
َ
فعل ذلك ...فليس للقدرة الملئكية التي يتمتع بها جبريل دخل في
ل على مقدار العتناء وعظمة ذاك ،ول أسند المر للقدرة البشرية ،وهذا دا ٌ
الهتمام وشدة التوقيف في تلقي لفظ القرآن الكريم .
-وإن كان الوعد إلهي كذلك :فما فائدة إقراء جبريل له ؟ أما
كان كافيًا جمع ال القرآن في صدر النبي إلهامًا أو قذفًا إلى
قلبه بالقدرة اللهية التي وسعت كل شيء ؟.
والجواب :هاهنا أعظم دليل على وجوب التزام منهج التلقي والتلقين
كأساس للمنهجيات التعليمية في إقراء ألفاظ القرآن الكريم…فل وزن لرسم
"خط" المصحف ،ول للغة ،ول لتعلم فردي أحادي دون شيخ)سند(…في
تلقي لفظ القرآن الكريم…ولو لم تكن هذه الحكمة ،فما كان فائدة إلقاء
جبريل القرآن للنبي قراءَته،ونزوله بالقرآن )على( –وليس في -قلب
محمد ؟ مع أن اللهام ل يستدعي النـزول.
ومنه نأخذ جللسسة الركسسن العظسسم فسسي تعلسسم القسسرآن
وقبول قراءة لفظ لتعسسد قرآنسسًا ،وهو الســند المقبــول
قرائيا ً الضامن للمشافهة .
-ويتضح من هنا أمر آخر هو :أن جبريل لم ُيَعّلم
النبي بتلوته عليه الهيئات الخارجية للحرف
)والمراد تركيب الحروف المعروف( ،والهيئات الداخلية
)الهيئات الصوتية للحرف الواحد( ،والهيئات اللزمة عند
تركيب كلمة بكلمة وحرف بحرف ،وهيئات الوقف
والبتداء ،ونحو ذلك من أحكام التلوة ،وتفصيلت علم
القراءة والتجويد)…(362لم يفعل جبريل ذلك إلقاًء
وقراءًة وإقراًء للفظ القرآني إل ليقرأها النبي على
أصحابه والناس أجمعين كذلك ،ثم تتناقلها الجيال كذلك،
ل بعد ذلك فيركب من كلمتين أو أكثر لفظًا فل يأتي متقو ٌ
ت في مقدار التوقيف بين ما ذكر )( المراد هنا التقعيد العام ،ل التفصيلي ،وإل فث َ ّ
م تفاو ٌ
362
من حيث التفصيل ،ففي الوقف والبتداء ل شك أن النبي كان يلحظ جبريل فيه ،وكذا
ة بذلك كما يلحظ في حفظة القرآن مع مشايخهم، الصحابة مع نبيهم ،والعادة جاري ٌ
م ل تفصيلي .والدواعي متوافرةٌ عليه ،وقد كانوا يلحظون ما دونه…ولكن التوقيف فيه عا ٌ
143
جديدًا أو معنى جديدًا فيقرأ به ما دام الجماع السابق في
التلقي ،والفهم عند السابقين لمعنى الية ينافيه ) بخلف ما
إذا دخل ضمنه أو وضحه( ،وذلك كمن يركب معنى جديدًا
وإياك ُ َ
مُنوا ِبالل ّ ِ
ه ن تُ ْ
ؤ ِ مأ ْ ْ في قوله -تعالى ذكرهّ ِ َ -
" الممتحنة ،"1/ويستحل قراءتها كذلك زاعمًا أنه ل َرب ّك ُ ْ
م
يوجد دليل ملزم لقراءتها كما تلقيت ،أو كمن يركب من
ن دا ِ ك ال ْ َ
وال ِ َ ما ت ََر َ
م ّب ِصي ٌ ل نَ ِ قولهِللّر َ
جا ِ
ن
دا ِ ك ال ْ َ
وال ِ َ ما ت ََر َ م ّ ب ِصي ٌ ء نَ ِ سا ِ وِللن ّ َ ن َ قَرُبو َ وال َ ْ َ
ن " النساء "7/معنى جديدًا؛ بأن يقرؤها: بو
َ ُ َ ر قْ َ ل وا َ
ن دا ِوال ِ َك ال ْ َما ت ََر َم ّ ب ِ صي ٌ ل نَ ِ جا ِِللّر َ
بصي ٌ ء نَ ِ سا ِوِللن ّ َ ن َ قَرُبو َوال َ ْ ويسكت ،ثم يقولَ
َ
ن؛ إذ التلقي مفسٌد قَرُبو َ وال ْ ن َ دا ِ وال ِ َك ال ْ َ ما ت ََر َ م ّ ِ
لهذه القراءة المبتَدعة .
ذا ل ما تقدم من معنى قولهَ
فإ ِ َ ويبين ما سبق من تفصي ٍ
…فكان وعدًا إلهيًا بأن قَرأ َْناهُ :(363)أي :عليك بقراءة جبريل َ
ُيكرره النبي كقراءة جبريل.
فإن اعُترض بأنه :قد يعتري قراءة جبريل الخلل…فلماذا
ه أي بقراءة جبريل ..ولَم ل يكون اللهام ارتكاب تأويل ْ َ
قَرأَنا ُ
ل عن استماع جبريل ؟ . الرباني بدي ً
فالجواب :تظهر حكمٌة بالغٌة من التعبير عن قراءة جبريل على
ه؛ إذ لم يقل قرأه جبريل ،وذلك ليكون من النبي بلفظ ْ َ
قَرأَنا ُ
ه أي ذا َ ْ قبيل إسناد ما هو للمأمور للمر) ،(364فقولهَ " :
فإ ِ َ
قَرأَنا ُ
إذا قرأه جبريل عنا فأسندت القراءة إلى ضمير الجللة على طريقة
ن ،أوس ،أو تخمي ٍ المجاز العقلي والقرنية واضحة")…(365نفيًا لي حد ٍ
بارقٍة تتلجلج في الصدور عن عدم إتقان جبريل للقراءة كما أرادها ال
144
من حيث هيئاتها الصوتية المصاحبة )الداخلية والمشتركة() (366فضلً
ه إخباره بإزالة دخل عن اللفاظ في ذاتها فأوجز لنا في ْ َ
قَرأَنا ُ
ن قد يطرأ عند تحليل الموقف القرآني بين جبريل والنبي إذ شيطا ٍ
ب هذا بأن يقال: كان القارئ هو ال بإسناد القراءة إليه…وي ُ َ
قّر ُ
كأن أداء جبريل للفاظ القرآن الكريم عبارة عن
ة تعيد ما تكلم الله به ،وجبريل كأنه مسجل مسجل ٍ
يعيد ما تكلم الله –تعالى ذكره -به…دون زلل أو خطل
في أدق الهيئات الدائية للحرف فيما خل الصفة اللهية
المنزهة عن التمثيل والتخيل…فيقرأه جبريل كما
نقله عن الله –تعالى ذكره -كما تنقل المسجلة ،فجعل
الله –تعالى ذكره -إقراء جبريل على النبي إقراء
من الله –تعالى ذكره -لنبيه لشدة دقة جبريل
في بيانه للحرف؛ إذ هو الواسطة بين الله ورسوله
محمد ينقله كما أقرأه الله له تماما ً لكل حرف،
وأحسن تفصيل ً لكل كلمة .
وفي هذا يقول ابن كثير" :وأن ييسره على الوجه الذي ألقاه
إليه") ،(367وقال الزمخشري":جعل قراءة جبريل قراءته") ،(368وقال
اللوسي":أتممنا قراءته عليك بلسان جبريل المبلغ عنا") ،(369وفي
، المقابل فقد ضمن ال قراءة النبي ألفاظ القرآن كما أنزله ال
وبالهيئة التي سمعها من جبريل ،كما قال في الجللين" :فكان يسمع
ثم يقرؤه") ،(370ولذا قال ابن عباسكما في البخاري" :فكان إذا أتاه
جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده ال .(371)"
وهاهنا مسألة مهمة :إذ الية حوت المر اللهي بإعادة المقروء كما قرأه
جبريل ،كما حوت الضمان اللهي بذلك أيضًا ،والثاني وهو الضمان
()366المراد بالمشتَركة الصوت المصاحب للحرف عند التقائه حرفا ً آخر في كلمته أوفي
كلمة أخرى ،كالدغام مثل ً .
()367ابن كثير ،4/383مرجع سابق .
()368الكشاف ،4/165مرجع سابق .
()369روح المعاني ،29/117مرجع سابق .
()370الجللين ،4/254مرجع سابق .
()371انظر :حديث المعالجة في المبحث السادس من هذا الفصل .
145
تقدم ما يثبته من فهم العلماء للية ،والول قال عنه ابن كثيرَ " :
فإ ِ َ
ذا
قْرَءان َُهع ُ ه أي إذا تله عليك الملك عن ال تعالى َ َ ْ
فات ّب ِ ْ قَرأَنا ُ
أي فاستمع له ثم اقرأه كما أقرأك") ،(372وقد يسر ال ذلك عليه .
المطلب الرابع :قواعد التلقي والتلقين:
من خلل ما سبق يمكن إجمال قواعد التلقي والتلقين في:
-1قراءة الشيخ على الطالب ،وهو ما كان جبريل يفعله مع النبي
)السماع من لفظ الشيخ( .
-2إنصات الطالب لشيخه عند استماعه قراءته ،وهو ما ُأِمَر به النبي.
-3استماع الطالب من شيخه ،استماع ُأذن وفؤاد ،وهو ما ُأِمَر به النبي
.
-4إعادة الطالب المقروء الذي قرأه الشيخ على الطالب ،وهو ما ُأِمَر به
النبي .
وهاهنا سؤال متعلق بهذه القاعدة:إذ نرى نبينا يؤمر بإعادة
المقروء كما قرأه الملك مع أن ل حاجة لذلك ما دام قد وعد بجمع القرآن في
صدره وإجرائه على لسانه فلم يكرره بعد استماعه للملك ؟ .
والجواب :لتثبيت القاعدة الثالثة والرابعة من قواعد التلقيَ ،وِلَم
يكرره إل لتبيان أسلوب التلقي؟…ولرسم خطواته بدقة فائقة النظير
تؤذن بتوقيفية تلقي اللفظ القرآني من جميع زواياه…وما ظن أنه اجتهاد
فهو إلى التوقيف يعود في أصله…إذ التكرار لمور منها :تثبيت تلوة
ت من الشيخ ،بغض النظر عن سِمَع ْ
القرآن بالهيئة ذاتها ،وتنغيماِتها التي ُ
الصوت من حيث الملحة ونقيضها ،ومنها تثبيت المحفوظ أو المقروء .
-5أن يكون الُمعاد موافقًا لقراءة الشيخ ومطابقًا لها ،والمراد من
الموافقة :الموافقة في أصل اللفاظ وأدائها ،وهو ما تراه عند عامة الناس
من المقرئين والقارئين…ويبقى تفاوتهم بعد ذلك من حيث الملحة في
الصوت ،والختلف في العوامل النفسية إلى تؤدي إلى اختلف المشاعر
والحاسيس ،ويظهر أثرها في القراءة ،وقد ترى أن هذه العوامل التي
146
يسمح فيها الجتهاد في أداء لفظ القرآن ليس مما كلف بها العبد عمومًا إذ
هي تعود إلى أمر خارج عن نطاق قدرته ،وإن كان ثم قدٌر من الحث على
التزام مسلك معين في هذه الناحية :كتدبر القراءة ،وقراءة القرآن بحزن .
وهذا مأخوذ مما سبق في قول ابن عباس :كما قرأه ،ويدل له قول
النبي ) :من أحب أن يقرأ القرآن غضا ً كما أنزل فليقرأه على
قراءة ابن أم عبد( ).(373
-6أن يصحب القراءة تحريــك للشــفتين ،وهسسو مسسا
يعني نوعا ً من الجهر بالقراءة ،ويدل له فعل النسسبي كمسسا
فسي هسذا الحسديث؛ إذ النهسي مسؤقت حستى يقضسي جبريسل
الوحي ،فالنكار عليه ليس لتحريك لسانه وشسسفتيه ،بسسل
لكون هذا التحريك حاصل ً حسسال قسسراءة جبريسسل ،فيبقسسى
التحريك هو الصل عندما ينتهي توقيت النهي ،كما يدل له
ما سيرد في المقتضيات اللغوية لتعريسسف القسسرآن الكريسسم
ملحسسق الكتسساب ،علسسى أن التلقيسسن ل يتسسأتى وجسسوده إل في ُ
بالجهر بالقرآن الكريم على ما هو بديهي .
لكن هل يشترط استماع الشيخ لطالبه عنــد
إعــادة المقــروء؛ إذ فسسي المعالجسسة) :فكسسان إذا انطلسسق
جبريل قرأه كما قرأه…( ؟ .
الظاهر أن ذلك بحسب حالة الطالب من حيث اطمئنان شيخه لقدرته
على إعادة المقروء باقتدار أو عدم قدرته ،وأما أن جبريل لم يكن يسمع
من النبي لصريح قول ابن عباس :فإذا انطلق جبريل قرأه كما
قرأه…فالجواب من وجهين:
سّلم أن جبريل ل يسمع لعدم إحاطتنا علمًا بقدرةأولهما :ل ُن َ
جبريل على السماع من حيث تعديها لمكان حضوره أو ً
ل.
ن لضمان ال لنبيه إعادة المقروء كما وثانيهما :أن ذلك كائ ٌ
قرأه عليه جبريل ،ومن هنا ُأخذ نظر الشيخ في مدى مقدرة الطالب…
()373السنن الكبرى للنسائي ،5/71مرجع سابق) ،ابن ماجة( أبو عبد الله محمد بن يزيد
القزويني ت 275هس :سنن ابن ماجه ،1/49مراجعة :محمد فؤاد عبد الباقي ،دار الفكر -
بيروت ،صحيح ابن حبان ،543 /15مرجع سابق ،مستدرك الحاكم ،2/247مرجع سابق،
مسند أحمد ،4/278مرجع سابق .
147
فلول وعد ال لنبيه بقراءته على لسانه كما قرأه لما انصرف ،ثم إن
الوحي يحميه ظاهرًا كان أو غائبًا ،وبذلك يخضع المر الواجب في هذه
المسألة لمعرفة الشيخ .
وهل يشترط أداء هذه القواعد كلها في التلقي والتلقين ؟ الظاهر
عدم الشتراط للول؛ إذا استبدل به قراءة الطالب على شيخه ،إما ابتداء،
وإما حفظًا مباشرًا عن ظهر قلب ،وذلك لن النبي) الطالب( كان
يعرض القرآن على جبريل في رمضان ،وأما قراءة جبريل في أول
نزول اليات فسببه عدم معرفة الرسول بها ابتداء؛ ولذلك عامل العلماء
قراءة العالم معاملة عرض الطالب كما سيأتي تفصيله في حديث
المعارضة) ،(374وقد يترجح أحدهما )السماع من لفظ الشيخ ،أو عرض
الطالب على الشيخ( لعارض يراه الشيخ في تلميذه من نجابة أو بلدة…
وهو المعمول به عند المسلمين إلى اليوم .
وهاهنا مسألة في غاية الهمية من ناحية دراسة وسائل المعرفة
سَبة لليقين في المنهج السلمي وهي :أن َثّم نوعًا من التواتر الذي يفيد الُمْك ِ
اليقين الضروري أو النظري ،وهو التواتر العملي بأن يتناقل المسلمون
ل دون نكير ،فيأخذ حكم المتواتر ،ولو كان ل جي ًالعمل في العبادة جي ً
مستنده آحادًا كأركان الصلة ومقادير الزكاة ،وألفاظ الذان ،ورمي الجمار
ت في هذا النوعفي مناسك الحج ،وكثير من مثل ذلك…ووجود جزئيا ٍ
مختلف فيها أمٌر ل يخرم هذه القاعدة…فاضمم إلى هذه المثلة أداء القرآن
تجده أولى منها جميعًا ،من حيث ثبوت اليقينية له ،وهذا تكرار لمٍر سبق
ذكره في المنهج ،أوجبه العتناء بالمقام ،كما أن تفصيله ليس هنا .
المطلب الخامس :المقتضى المنهجي لما سبق:
وتقرير هذه المسألة له ما بعده ،إذ ينبني عليها ثلثة
أمور منهجية:
148
أولها :التزام هذه الطريقة)التلقي( منهجًا لتعليم القرآن الكريم :إذ
إن توافر الدواعي للطرق الخرى في إنزال القرآن الكريم وحيًا) ،(375مع
عدم استعمالها ،وتخصيص طريقة التلقين مع عدم الحاجة إليها إذ أن ال قد
قْرآن َُه ،وبقوله و ُ
ه َ ع ُ
م َج ْعل َي َْنا َ
ن َ تكفل بأن يلهمه القرآن بقوله إ ِ ّ
سى ،قال الشوكاني-رحمه ال تعالى" :-أي فل َ َتن َ ك َ رئ ُ َ
ق ِسن ُ ْ
376
سٌمسنجعلك قارئًا بأن نلهمك القراءة ،فل تنسى ما تقرؤه") ( ،وهذا َو ْ
لستخدام غيرها بالبدعية ،ومن ثم فاستعمال أسلوب القراءة المباشرة من
المصحف دون تلقين بدعة ،أو أنه َتَعّلٌم للقرآن على غير الطريقة التي
شرعها القرآن ،وهو ما قرره الصاوي-رحمه ال تعالى -في قوله" :والحكمة
في تلقي رسول ال عن جبريل ظاهرًا أنه يكون سنة متبعة لمته،
فهم مأمورون بالتلقي من أفواه المشايخ ،ول ُيْفِلح من أخذ العلم أو القرآن
من السطور ،بل التلقي له سر آخر") ،(377وهذا أمر مقرر في أذهان
ل دائرة تعليمهم عنه مثقال ذرة) ،(378وهذا ما يعطي تصورًا المسلمين لم َتِم ْ
وإ ِّنا ل َ ُ
ه ن ن َّزل َْنا الذّك َْر َح ُعن مدى الواقعية الحقيقة قوله إ ِّنا ن َ ْ
ظون" الحجر."9/ ف ُ َ لَ َ
حا ِ
وثانيها :في التزام هذه الطريقة دفع ليهام إلقاء الشيطان في ما
يتلقنه النبي ،من حيث واحدية الملك الملقن وعدم تغيره ،ومن حيث
تعليمه تعليمًا تلقينيًا ،ل تتطرق إليه شبهة الوسوسة ،وسيأتي مزيد تفصيل
لذلك في فصل دمغ الباطل). (379
وثالثها :شمول التوقيفية في أداء الوحي القرآني ،ومن ثم تبليغه
وتناقله لصل اللفظ ،ولهيئة أدائه.
ي لحجم الجتهاد في نقل القرآن الكريم من حيث ن أول ٌرابعها :بيا ٌ
تظاهر جوانب التوقيف في النقل ،فبقي الجتهاد محصورًا فيما تتفاوت فيه
()375ككونها أسهل وأسرع ،وهي بالنظر إلى قدرة الله ليست أعسر إذ هي ل تعجز كلمة
كن مع وقوعها في أمور أخرى أقل شأنا ً من القرآن ،ومثالها النفث في الروع ،أو
اللهام .
()376فتح القدير ،4/522مرجع سابق .
()377حاشية الصاوي ،3/80مرجع سابق .
()378وقد أسهب في الكلم عن ذلك المام الشاطبي في الموافقات ،المقدمة الثانية عشرة
،1/91مرجع سابق .
()379انظر :الفصل الخامس -المبحث الول .
149
ج عن نطاق قدرتهم كالصوت ،أو عدم قدرات البشر في الداء مما هو خار ٌ
التقان ويدل له حديث التعتعة).(380
فإن اعُترض بالقول :ما شأن مقالة البحث :ومقدار الجتهاد فيه ؟
وأين مكمن الجتهاد فيا وصف ؟ .
ط فيشّ ث واسٌع من حيث تحديُد أطره حتى ل ُي َ فالجواب :هذا مبح ٌ
شر هاهنا إلى ما يتعلق بالجزئية مناط البحث :فمكمن الجتهاد فهمها ،ولُي َ
مع هذا التشديد في التوقيف في تلقي القرآن الكريم–حتى في هيئة استماعه
ن في الصوت الممنوح من ال للنسان من حيث الملحة والحسن – كام ٌ
فقد يكون نديًا ،أو أقل نداوة ،وفي الصوت من الجهر والمخافتة وفي النفس
ط حتى لموضوع الجهر الممنوح من ال ،على أن التوقيف ضاب ٌ
ص تقيد ذلك) ،(381ومما ُيشار إلى دخول الجتهاد والمخافتة؛إذ وردت نصو ٌ
ت نادرة لم يرد التنصيص على كيفية النطق الجزئي لها ،فترجع فيه جزئيا ٌ
إلى الحالة العامة فيها على اللغة العربية ،كمثل الوقف على أواخر الكلم،
وإدخال الروم والشمام فيه عند من يزعم أن ل نص ورد روايٌة فيها)،(382
ى فيه القواعد ونحو الوقف والبتداء إذ أمر الجتهاد فيه واسٌع ما دام مراع ً
العامة التي وضعها علماء القراء مستقاًة من هيئات التلقين ،فهو علٌم
توقيفي في الجملة ،ومثله علم العدد)الفواصل( ففيه نوع اجتهاد فيما لم يرد
ص على عده ،أو ورد فيه نصان موهمان للعد وعدمه ،فاختلف فيه علماء ن ٌ
383
العدد ،لكنه قليل جدًا بل نادر إذا ما قورن بالمتفق عليه) ( ،لكن الشأن هنا
أعلى من الشأن في بقية العلوم النقلية ،فلئن كانت تلك العلوم "كلها مستندًة
إلى الخبر عن الواضع الشرعي ،ول مجال فيها للعقل إل في إلحاق
الفروع من مسائلها بالصول لن الجزئيات الحادثة المتعاقبة ل تندرج
تحت النقل الكلي بمجرد وضعه فتحتاج إلى اللحاق بوجه قياسي ،إل أن
ي فرجع هذا هذا القياس يتفرع عن الخبر بثبوت الحكم في الصل وهو نقل ٌ
150
القياس إلى النقل لتفرعه عنه") (384فإن القياس هاهنا -لشدة ضبط التلقين
للجوانب المختلفة للفظ القرآن الكريم ،ولعدم كون الجزئيات حادثة ول
ل على مثال ضمتهما قاعدٌة ن في قياس مثا ٍمتعاقبة إذ كلها موجودة -كام ٌ
كلية ،وهو المعنى الذي أشار إليه المام الشاطبي -رحمه ال تعالى -في قوله في
نفي القياس العام في تلقي القراءة:
س في القراءة وما لقيا ٍ
ل…….فدونك ما فيه الرضا مدخ ٌ
متكفل ً
ص من القياس" :فاقتس لتنضل")(385؛ ولذا ع مخصو ٍ مع قوله في إثبات نو ٍ
ترى كثرًة غامرًة من الجزئيات اللفظية القرآنية آتية على غير القياس
المخصوص دللة على أصلية النقل فيها ،ولذا احتاج الدارس للقرآن إلى
ب ليوافق الخط اللفظ التلقين لزامًا ،وأكد تلك الحاجة أن المصحف لم ُيْكَت ْ
تمامًا كما هو مقرر في علم الرسم بل ل بد من التلقي ،وهو ما يجعل العمدة
ن ل من حيث هو كتاب… . الولى للقرآن من حيث هو قرآ ٌ
وفي خصوص الفعل العملي لتلقي النبي من جبريل فقد تقدم
ِذْكُر لمظاهره في صفات جبريل في الفصل الول كما يظهر ذلك بارزًا
في ثنايا البحث بما يجعل هذا المر قطعيًا معلومًا من الدين بالضرورة .
وفي خاتمة هذا المبحث يقال:
ن ن َّزل َْنا قد جاءت آيات القيامة مفصلًة لمدلول قوله إ ِّنا ن َ ْ
ح ُ
ن" الحجر ،(386)"9/ومن هذه اليات ظو َف ُ
حا ِه لَ َ
وإ ِّنا ل َ ُ
الذّك َْر َ
المؤكدة المفصلة لية الحجر نأخذ :تكفل ال المطلق بشأن هذا القرآن :وحيًا
()384المقدمة لعبد الرحمن بن خلدون ،549مرجع سابق .
()385انظر) :متن الشاطبية( :باب الفتح والمالة ،وباب الراءات ،مرجع سابق .وانظر) :أبو
شامة( شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل الدمشقي المقدسي :إبراز المعاني من حرز
الماني ،دار صادر -بيروت ،والشيخ عبد الفتاح القاضي ت 1403هس :الوافي في شرح
الشاطبية في القراءات السبع ،ط 1414- 5هس –1994م ،مكتبة السوادي – جدة ،مكتبة
الدار – المدينة المنورة .
ن شدة وضوح هذه الية في دورانها حول اللفظ ،وفي ذلك رد ٌ على من زعم أن )( وبي ٌ
386
ف لمفهوم اللفظ ل للفظ…فإن زال اللفظ فأنى لنا الحفظ المضمون للقرآن الكريم منصر ٌ
بمفهومه؟ .
151
قَرأ َْناهُ ،وإسناده إليه
ذا َ وحفظًا وجمعًا وبيانًا ،وهيئة تعليمَ
فإ ِ َ
بكليته ليس للرسول من أمره إل حمله وتبليغه) ،(387وحتى تبليغه بكيفيٍة هي
الكيفية ذاتها التي سمعها من المَلك كما تقدم مرارًا .
152
المبحث دددددد:
كيفية قراءة الرسول القرآن على جبريل من حيث
المر الشرعي ،والواقع التطبيقي):(388
ت المباحث المتعلقة بنـزول الوحي ،وكيفية تلقي النبي
وبعد أن ُذِكَر ْ
ف لما يقوم به النبي من له ،وسماته حين ذلك ،كان لبد من وص ٍ
ل عند قراءته القرآن على جبريل مذ ينـزل عليه الوحي القرآني عم ٍ
حتى تمام العملية التعليمية ،من حيث المر الشرعي والواقع التطبيقي…
لُيَعَلَم أي شيء كان النبي ،وأي شيء كان تعلمه للفاظ القرآن
الكريم ،وتعليمه…وأي قوم –بعد -هم المسلمون:
س علي الخير منهم ،وجعفٌر…….وحمزة ،والسجاد ذو الثفنا ِ
ت أنا ٌ
إذا افتخروا يومًا أتوا بمحمـٍد…….وجبريل ،والقرآن ،والسورات
وقد تلخص ذلك فيما يلي:
-1تبدأ باستشعار المصدرية اللهية للقرآن الكريم
دائما ً عند قراءة القرآن الكريم :ويظهر أنموذج هذا في قوله
ن
م َ ه ِ في ِ فَنا ِ صّر ْ و َ عَرب ِّيا َ ءاًنا َ قْر َ ك أ َن َْزل َْناهُ ُ وك َذَل ِ َ َ :
َ َ َ ّ َ
عالى م ِذك ًْرا)َ (113
فت َ َ ه ْ
ثل ُ د ُ ح ِ
و يُ ْ نأ ْ قو َ م ي َت ّ ُه ْ عل ُ دل َ عي ِ
و ِ ال ْ َ
نم ْ
ن ِ قْرآ ِ ل ِبال ْ ُ ج ْ ع َ ق ،ثم قال بعد :ول ت َ ْ ح ّ ك ال ْ َ مل ِ ُه ال ْ َالل ّ ُ
َ
ما" طه/ عل ْ ً زدِْني ِ ب ِ ل َر ّ ق ْو ُ ه َ حي ُ ُو ْك َ ضى إ ِل َي ْ َ ق َ ن يُ ْ لأ ْ قب ْ ِ َ
َ
ه على "114فأكد على المصدرية اللهية في عدة ألفاظ:أنَزل َْنا ُ
فَنا، صّر ْ و َ الرغم من أن المباشر للنزال هو جبريل َ ،
نقضي في قراءة يعقوب على الرغم من أن المباشر للقراءة هو
جبريل ،وأشار إلى تفرده بهبة المنح اللهية ،ورأسها القرآن الكريم
ما ،ثم وسط بين اليتين بقوله عل ْ ً
زدِْني ِ ب ِ ق ْ
ل َر ّ و ُ َ
ق وهي جملة اعتراضية ،وفي ك ال ْ َ
ح ّ ه ال ْ َ
مل ِ ُ عاَلى الل ّ ُ َ
فت َ َ
تفريع الجملة العتراضية على إنزال القرآن إشارٌة أيضًا إلى أن القرآن
قانون ذلك الملك ،وأن ما جاء به هو السياسة الكاملة الضامنة صلح
نبيه
ُ ()388أريد بالمر الشرعي :مجموع التوجيهات الشرعية التي أمر الله
ُ
بتطبيقها وأن يقرأ القرآن بها من حيث انتماؤها إلى الحكام الخمسة ،وأريد بالواقع
التطبيقي :واقع النبي من حيث التزامه بتلك التوجيهات ،والهدف من ذلك كما سُيذكر
أعله التأكيد على التوقيفية في لفظ القرآن وأدائه ،بالضافة إلى الهداف المنهجية الخرى .
153
أحوال متبعيه في الدنيا والخرة) ،(389وفي هذا السبيل ترى التعبير عن
إنزال القرآن يرجع إلى هذه المصدرية عند الكلم على النازل ،والمنـَزل
به ،والمنـَزل عليه .
ك:قل ْب ِ َعَلى َ ه ن َّزل َ ُ
ه َ ومن الشارة إلى هذه المصدريةَ :
فإ ِن ّ ُ
ُ أِمَر بإخبار اليهود عن نفسه؛ لم يقل فإنه نزله على قلبي مع أن محمدًا
ل أن يحكي ما له عن نفسه أن تخرج لن من شأن العرب إذا أمرت رج ً
فعل المأمور مرة مضافًا إلى كناية نفس المخبر عن نفسه إذا كان المخبر
عن نفسه ،ومرة مضافًا إلى اسمه كهيئة كناية اسم المخاطب؛ لنه وإن
ب مأموٌر بحكاية ما قيل له) ،(390كما كان مأمورًا بقيل ذلك فهو مخاط ٌ
قال الزمخشري موضحًا لذلك" :جاءت على حكاية كلم ال كما تكلم به
كأنه قيل :قل ما تكلمت به من قولي :من كان عدوًا
لجبريل. (391)"ولهذا حكمة عظيمة من حيث التأكيد على المصدرية
اللهية للقرآن ،والدقة المتناهية في نقله من السماء إلى الرض،
ك بالخطاب…ولو قال )على قل ْب ِ َ
عَلى َ َ اقتضت فحكاية كلم ال
ت لقلب قلبي( لقيل هذه دعوى ،لم يبينها لنا ربك ،ولم يقلها… ثم فيه تثبي ٌ
الرسول ، وطمأنٌة له من أن تزعزعه كثرة تشكيكات أهل الكتاب
ومن والهم ،فكأن الخطاب من ال للرسول قصدًا له ،ل لخصومه
من أهل الكتاب…وهم مقصودون تبعًا ل استقلًل ،وذا يوائم قوله
ص
ق ّ ك…"الفرقانَ "32/
وك ُل ً ن َ ُ ؤادَ َ
ف َ ه ُ …ك َذَل ِ َ
ك ل ِن ُث َب ّ َ
ت بِ ِ
فيك ِ جاءَ َ
و َ
ك َؤادَ َف َه ُت بِ ِ ما ن ُث َب ّ ُ
ل َ
س ِء الّر ُن أ َن َْبا ِ
م ْك ِ عل َي ْ َ
َ
ن" هود. "120/ مِني َؤ ِ وِذك َْرى ل ِل ْ ُ
م ْ ة َعظَ ٌ
و ِ
م ْو َق َ ح ّه ال ْ َذ ِه ِ َ
ه" البقرة "97/مؤكد ن الل ّ ِ والكلم في الباء في قوله:ب ِإ ِذْ ِ
لما ُذِكر
392
هنا ،وقد تقدم) ( .
154
ولتأكيد التقرير هنا فلُتَتأّمل هذه المصدرية في أول سورة نزلت في
قوله ا ْ ْ
ق" العلق ،"1/فالباء لها ثلثة خل َ َ
ذي َ ك ال ّ ِ
سم ِ َرب ّ َ قَرأ ِبا ْ
أوجه من التفسير:
-1إما أن تكون للستعانة ،والجار والمجرور متعلقان بالفعل )اقرأ( ،أي
اقرأ مستعينًا بذكر اسم ربك.
-2وإما أن تكون للمصاحبة ،والجار والمجرور في موضع الحال من
ضمير اقرأ الثاني مقدمًا على عامله للختصاص ،أي اقرأ ما سيوحى إليك
مصاحبًا قراءتك اسم ربك ،فالمصاحبة مصاحبة الفهم والملحظة لجلله،
ويكون هذا إثباتًا لوحدانية ال باللهية .
-3وإما أن تكون بمعنى على كقولهَ
طاٍر قن َ ه بِ ِ ْ
من ْ ُ
ن ت َأ َ
ن إِ ْ
م ْ
"آل عمران "75/أي على قنطار ،والمعنى اقرأ على اسم ربك ،أي على إذنه،
ل من ربك).(393 أي أن الملك جاء على اسم ربك أي مرس ً
ثم تتجلى هذه المصدرية في موقف تعليمه القراء في إضافة اسم
إلى السم الظاهر )ربك( المضاف إلى الكاف ،ثم تجلت تارة أخرى في
ك ال َك َْرُم… الثلث اليات كالستئناف وَرب ّ َ قوله ا ْ ْ
قَرأ َ
البياني ،كأنه الرسول قال :وكيف اقرأ ،ولست بقارئ ؟ فأجيب :الذي
علم القراءة بالقلم ،يعلمك ما لم تعلم ،ول عجب في أن تقرأ ،إذ العلم
يحصل بوسائل أخرى مثل الملء والتلقين واللهام ،وتأمل في وصفه
في هذا الموقف بالكرم… .
واستشعار المصدرية اللهية للقرآن له مقتضياته الهامة ،وفيما
يتعلق بمدار البحث هنا تبرز المقتضيات التالية:
أ -يقذف في قلب النسان كل ما تصل إليه مشاعره الداخلية وانفعالته
العاطفية وحركات أركانه الخارجية من التعظيم ل ،وبذل الوسع في
تحقيق كلمه ،وقد نقل اللوسي عن الطيبي ما يؤكد هذا من حيث اللفظ،
عاَلى ل … عطف على قوله َ
فت َ َ ج ْ ع َفمما قاله" :ول ت َ ْ
ق لما فيه من إنشاء التعجب ،فكأنه قيل :حيث ح ّ ك ال ْ َ ه ال ْ َ
مل ِ ُ الل ّ ُ
ظْم
نبهت على عظمة جللة المنـِزل ،وأرشدت إلى فخامة المنـَزل ،فَع ّ
()393انظر :التحرير والتنوير ،30/436مرجع سابق ،وانظر :تفسير الثعالبي ،427 /4مرجع
سابق .
155
جنابه الملك الحق المتصرف في الملك والملكوت ،واقبل بكلك على
تحفظ كتابه ،وتحقق مبانيه ،ول تعجل به") ،(394وقال سيد
قطب":فتعالى ال الملك الحق الذي تعنو له الوجوه ،ويخيب في
حضرته الظالمون ،ويأمن في ظله المؤمنون الصالحون ،هو منـٍزل هذا
القرآن من عليائه ،فل يعجل به لسانك ،فقد أنزل القرآن لحكمة ولن
يضيعه ،إنما عليك أن تدعو ربك ليزيدك من العلم ،وأنت مطمئن إلى ما
يعطيك ،ل تخشى عليه الذهاب ،وما العلم إل ما يعلمه ال؛ فهو الباقي
الذي ينفع ول يضيع ،ويثمر ول يخيب"). (395
ب -استمداد العون والتوفيق في تحقيق لفظه ،وإتقان مبناه)،(396
سّيه أو تفلته من قائله ،ومنـزله جل شأنه ولذاك كانت خاتمة وعدم ِن ِ
آية طه بالدعاء ،ومما يعضد هذا المفهوم ما أعقب ال –جل ذكره -لية
هدَْنا إ َِلى آدَ َ
م ع ِ
قد ْ َول َ َ
ر لقصة آدم ،حيث قالَ : طه من ِذْك ٍ
عْزًما" طه ،"115/ونسيان آدم ه َ جدْ ل َ ُ ول َ ْ
م نَ ِ ي َ
س َ ل َ
فن َ ِ ن َ
قب ْ ُ م ْ
ِ
س ،وذلك عندما ُوِكل إلى نفسه في هنا كان لمٍر واحٍد محسو ٍ
ظ؟ ،ولذا فليرجع النبي المراقبة ،فكيف سيكون النسيان لمتعدٍد ملفو ٍ
إلى ربه فيستعين على تحمل القرآن وحفظه وأدائه ،فكأنه لما مدح
القرآن ،وحرض على استعمال التؤدة والرفق في أخذه ،وعهد على
ل للنسيان وترك العزيمة بأمره ،وترك النسيان فيه ضرب حديث آدم مث ً
العزيمة) ،(397وذكر ابن عطية :أن في ذلك مزيد تحذير للنبي عن
العجلة لئل يقع فيما ل ينبغي ،كما وقع آدم.(398)
كان ذلك فحوى المر اللهي .
والصورة التطبيقية لهذا قبل التوقيف القرآني على هيئة تلقي القرآن
لستشعار هذه المصدرية :تعجل النبي نزول القرآن واستكثاره منه،
156
َ ل ِبال ْ ُ
ن
لأ ْقب ْ ِن َم ْ ن ِ قْرآ ِ ج ْع َول َ ت َ ْ إذ ورد في تفسير قوله تعالى َ
حيُه ثلث تفسيرات: و ْ
ك َضى إ ِل َي ْ َ يُ ْ
ق َ
ه ل بِ ِج َع َ
ك ل ِت َ ْسان َ َه لِ َ ك بِ ِحّر ْ أحدها :أنها كقوله تعالى ل َ ت ُ َ
.
ي للنبي عن استعجال نزول القرآن ،لنه ما يتنـزل والثاني :أنها نه ٌ
إل بأمر ربه ،وليس للنبي من المر شيء ،ويدل له حبه
للوحي ،وتشوقه إليه ،قال صاحب التحرير والتنوير":لما كان النبي
حريصًا على صلح المة شديد الهتمام بنجاتـهم؛ ل جرم خطرت بقلبه
الشريف عقب سماع تلك اليات رغبًة ،أو طلبًة في الكثار من نزول
القرآن ،وفي التعجيل به إسراعًا بعظة الناس وصلحهم ،فعلمه ال
أن يكل المر إليه"). (399
والصورة التطبيقية بعد التوقيف القرآني على هيئة تلقي القرآن:
هو استراحة النبي (400)من خوف تفلت القرآن منه بعد تكفل ال
ما ،واتباع عل ْ ًزدِْني ِ ب ِ ق ْ
ل َر ّ بعدم ذلك ،والكثار من دعاء َ
و ُ
ما أوقفه القرآن من هيئات في حفظه ،وعدم استعجال نزول القرآن عليه
إذ لكل أجل كتاب ،وإرجاع كل فضل ينـزله ال على نبيه لمنـِزله
بل َر ّ ق ْ ،وقد قال أبو حيان -رحمه ال تعالى -في قولهَ
و ُ
ما" :وهذا القول متضمن للتواضع ل ،والشكر له على عل ْ ً
زدِْني ِِ
ما علم من ترتيب العلم ،أي كما علمتني مآرب لطيفة في باب التعلم،
ل ما كان عندي فزدني علمًا"). (401 وأدبًا جمي ً
ج -على أن من أهم مقتضيات المصدرية اللهية التي حفت بالحقائق
السابقة تؤدي إلى حقيقة الحق في إنزال القرآن وتلقينه للرسول
َ
ق أنَزل َْنا ُ
ه ح ّ وِبال ْ َ
وتلقيه من جبريل وهو معنى قوله تعالى َ
()399التحرير والتنوير ،19/316مرجع سابق ،ونقل اللوسي -رحمه الله تعالى -نحوه عن
الماوردي ،وتراجع هذه المصادر لمعرفة التفسير الثالث .
()400كما عبر ابن عباس في حديث المعالجة ،انظر :المبحث السادس من هذا الفصل .
()401البحر المحيط ،6/281مرجع سابق ،ولعله ناقل عن الكشاف ،2/448مرجع سابق .
157
ل" السراء ،"105/وحقيقة الحق هي أولى دعائم ق ن ََز َ وِبال ْ َ
ح ّ َ
التوقيف في نقل القرآن الكريم .
-2الستماع والطراق عند تلوة جبريل عليه :وذلك
قْرآن َُه" القيامة "18/علىع ُ فات ّب ِ ْقَرأ َْناهُ َ
ذا َ تنفيذًا لقولهَ
فإ ِ َ
ما تقدم). (402
والصورة التطبيقية لذلك ما قاله ابن عباس: فكان رسول ال
بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع ]وأطرق[ .
وهذا هو الساس الشرعي والمنهجي في جعل القراءة البتدائية من
الشيخ أو عليه مع نظر الطالب في المصحف هي أول خطوات حفظ
القرآن) (403كما تقدم في التلقين والتلقي).(404
والستماع والنصات يحقق نتائج ترفع من مستوى الستيعاب
المنهجي للفاظ القرآن الكريم ،ومنها:
خ لستشعار المصدرية اللهية ،من حيث الطمأنينة وعدم أ -أن ذلك ترسي ٌ
الجزع ،أو الخوف على فوات شيء من القرآن لعموم الوعد اللهي بالحفظ
لكتابه ،ثم لخصوص الوعد اللهي بجمع القرآن في صدر النبي وعدم
نسيه له إلى أن يبلغه ،ثم عدم نسيه له نسيانًا كليًا .
ل،
ل ،ومح ً ب -أن ذلك أقوى في استيعاب لفظ الية ،ومن ثم حفظها أص ً
ووضعًا ،وأداًء .
ج -أن ذلك أقوى في استيعاب معنى الية ،وَفْهِمها بعكس الترديد خلف
جبريل فإنه باعث على الضطراب والرتباك ،وخاصًة إن اقترن
ع يلحق ،قال اللوسي -رحمه ال الترديُد لموضع سبق بالستماع لموض ٍ
405
تعالى":-إنه ربما يشغل التلفظ بكلمة عن سماع ما بعدها") ( ،وقال أبو
158
السعود -رحمه ال تعالى" :-إن استقرار اللفاظ في الذهان تابع لستقرار
معانيها فيها ،وربما يشغل المتلفظ بكلمة عن سماع ما بعدها"). (406
-3ترديد القرآن بعد انتهاء جبريلمن قراءته،
ليطمئن القلب بتحفظه :وهو صريح في المر القرآني،
قْرآن َُه كما تقدم) ،(407وقال و ُ
ه َع ُ
م َج ْعل َي َْنا َ
ن َ والوعد اللهي إ ِ ّ
ن
م ْن ِ قْرآ ِ ل ِبال ْ ُ
ج ْ
ع َول َ ت َ ْالزمخشري -رحمه ال تعالى -في قولهَ
حي ُُه…" طه":"114/لما ذكر القرآن ضى إ ِل َي ْ َ ن يُ ْ َ َ
و ْ
ك َ ق َ لأ ْ قب ْ ِ
وإنزاله قال على سبيل الستطراد" :وإذا لقنك جبريل ما ُيوحى إليك
ن عليه ريثما يسمعك ويفهمك ،ثم أقبل عليه بالتحفظ بعد من القرآن ،فتأ ّ
ه
ك بِ ِحّر ْ ذلك ،ولتكن قراءتك مساوقًة لقراءته ،ونحوه قوله ل ت ُ َ
ه. (408)" ل بِ ِ ج َ ع َك ل ِت َ ْسان َ َ لِ َ
والصورة التطبيقية لذلك ما وصفه ابن عباس في حديث
المعالجة :فإذا انطلق جبريل قرأه النبي. …
-4تحريك فمه وشفتيه عند الحفظ أو القراءة :وهذا
مأخوٌذ من منطوق آيات القيامة ،ومن مفهوم حديث المعالجة وقد مضى،
ومن الحديث التي في الجهر بالقرآن .
ل ،في القراءة الترسل ) -5الترتيل() (409تبيين الحروف :الّتْرِتي ُ
فيها ،والتبيين بغير بغي) ،(410وقد عرفه مجاهدبقوله في قوله:
ن ت َْرِتيل ً قال" :بعضه أثر بعض على ءا َقْر َ ل ال ْ ُ َ
وَرت ّ ِ
412 411
تؤدة") ( ،وعن قتادة قال" :بينه بيانًا") (.
()406تفسير أبي السعود ،3/668مرجع سابق ،وانظر :تفسير أبي حيان ،6/281فتح القدير
،3/487أضواء البيان ،4/518تفسير القرطبي ،11/250تفسير ابن كثير ،3/148مراجع
سابقة ،وذكر ابن كثير حديث أبي هريرة ] اللهم انفعني بما علمتني ،وعلمني ما ينفعني،
وزدني علمًا ،والحمد لله على كل حال[ .
()407انظر :حديث المعالجة في المبحث السادس من هذا الفصل .
()408الكشاف ،2/488مرجع سابق .
( )409حكم الترتيل ،وتحليل عناصره الذاتية والطارئة ليس من ميدان البحث ،ولذا لن يكون
توسع في ذلك .
()410مختار الصحاح ص ،98مرجع سابق .
()411رواه الطبري قال ابن حجر-رحمه الله تعالى -في فتح الباري شرح صحيح البخاري
،9/89مرجع سابق" :بسند صحيح" .
()412تفسير الطبري ،127 /28مرجع سابق .
159
فالترتيل يتضمن عنصرين يشكلن ماهيته الذاتية ،هما :التأني
)التؤدة( ،وتبيين الحروف وهما متلزمان ،وهما يقتضيان أمرًا ثالثًا :هو
إشباع الحركات ،ويستلزم الترتيل أمرًا رابعًا هو :السكينة والوقار التي
تميز قارئ القرآن عن مطرب اللحان ،فاجتمعت في الترتيل أربع
ضَمنات :التأني والتؤدة ،وتبيين الحروف ،وإشباع الحركات ،والسكينة مت َ
413
والوقار) (.
وللطبيعة التفصيلية لهذا المبحث من حيث معرفة كيف علم جبريل
النبي القرآن من حيث اللفظ فإنه سُيْفَرُد لكل من العنصرين
نءا َقْر َل ال ْ ُ الولين بند مستقل من خلل تحليل قوله َ …
وَرت ّ ِ
ت َْرِتيل ً " المزمل ،"4/وأما الخيرين فالشارة العابرة لهما في مقاٍم كذا
حظ التصريح بها جميعًا آتيًا في كلم العلماء مما سيرد المقام كافية ،وُيل َ
في البحث عند الكلم عن العنصرين الولين .
فأما تبيين الحروف فهو لزم التؤدة والتأني؛ إذ من غايات التأني:
تفصيل الحروف ،قال اللوسي-رحمه ال تعالى" :-اقرأه على تؤدة وتمهل
وتبيين حروف ،بحيث يتمكن السامع من عدها ،من قولهم )ثغر َرِتل( إذا
كان مفلجًا لم تتصل أسنانه بعضها ببعض ،وأخرج العسكري عن علي في
المواعظ أن رسول ال سئل عن هذه الية فقال :بينه تبيينًا ،ول تنثره نثر
الدقل ،ول تهذه هذ الشعر ،قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ول يكن هم
أحدكم آخر السورة") ،(414وعند الشوكاني" :اقرأه حرفًا حرفًا" ،قال
الزجاج" :هو أن يبين الحروف ،ويوفيها حقها من الشباع ،وأصل الترتيل:
التنضيد والتنسيق وحسن النظام ،وتأكيد المصدر بالفعل يدل على المبالغة
على وجه ل يلتبس فيه بعض الحروف ببعض ،ول ينقص من النطق من
مخرجه المعلوم ،مع استيفاء حركته المعتبرة") ،(415وقال الطبري" :بينه
ل") ( ،وقال ابن حجر":قولهَ …
416
لوَرت ّ ِ تبيينًا ،وترسل فيه ترس ً
()413وذا موضح التأصيل الشرعي لمراتب القراءة المعروفة في علم التجويد .
()414روح المعاني ،29/178مرجع سابق ،ونحوه عند أبي السعود ،5/412مرجع سابق .
()415تفسير الشوكاني ،5/387ونحوه القرطبي ،19/36مرجع سابق ،وقال سيد قطب –
ن
وهو المعروف قدره في اللغة العربية":-وترتيل القرآن وهو مد الصوت به ،وتجويده بل تغ ٍ
ر ،ول تخلٍع في التنغيم" .
ول تط ٍ
()416تفسير الطبري ،29/126مرجع سابق .
160
ل بتبيين الحروف ،وإشباع ن ت َْرِتيل أي اقرأه مترس ً ءا َ قْر َ ال ْ ُ
الحركات"). (417
وفي القرآن الكريم تذكر لنا صورة تطبيقية ملئكية) (418لمبدأ الترتيل
في قول الَ… وَرت ّل َْناهُ ت َْرِتيل ً" الفرقان "32/فهو خبر عن المل
ف؛ فإن هيئة قراءة القرآن يجب أن تتماثل ،ولم العلى ،ولن القراءة توقي ٌ
يأخذها جبريل في المل العلى إل عن ال ،فحكى ال كيفية قراءة
جبريل ثم أمر النبي بقراءة القرآن على الهيئة ذاتها فقال …:
ن ت َْرِتيل ً وصلة ما بين خبر المل العلى ،والمر ءا َ ل ال ْ ُ
قْر َ وَرت ّ ِ َ
ل اللهي الكريم مضمٌر تدل عليه الخبار الخرى والتقديرَ …:
وَرت ّ ِ
ن… ،وذلك على نسق ما سمعته من جبريلإذ قد رتلناه على ءا َ قْر َ ال ْ ُ
ص بترتيل القرآن ترتيلً، ل ،وفي أضواء البيان" :هذه الية ن ٌ لسانه ترتي ً
وأكد بالمصدر تأكيدًا لرادة هذا المعنى) (كما قال ابن مسعود:ل
419
تنثروه نثر الدقل ،ول تهذوه هذ الشعر ،قفوا عند عجائبه ،وحركوا به
القلوب ،ول يكن هم أحدكم آخر السورة"). (420
والصورة التطبيقية لذلك :ما وصف صحابة رسول ال كلم نبي
ال حيث كان يرتل كلمه ،ويترسل فيه فجابر بن عبد ال يقول:
)كان في كلم رسول ال ترتيل أوترسيل() ( ،وعن عائشة -رضي
421
ال تعالى عنها) :-أن النبي كان يحدث حديثًا لوعده العاد لحصاه لم يكن
ت على أبي هريرة سرعة يسرد الحديث كسردكم() ،(422وأنكر ْ
ت عليه، حديثه ،وقالت) :ولو أدركته لرددت عليه() ،(423أي لنكر ٌ
ت له أن الترتيل في التحديث أولى من السرد ،فقولها "لم يكن يسرد وبين ْ
ل بعضه إثر بعض لئل يلتبس الحديث كسردكم أي يتابع الحديث استعجا ً
()417فتح الباري شرح صحيح البخاري ،3/23مرجع سابق ،وقال في " :9/89تبيين حروفها
والتأني في أدائها ،ليكون أدعى إلى فهم معانيها " .
()418واغتفرت النسبة إلى الجمع خوفا ً من اللبس .
()419واستدل صاحب التحرير والتنوير ،316 /29مرجع سابق :بالمصدر على تأكيد إرادة
المعنى ،وفي هذا رد على من يتوهم الترتيل هنا بمعنى التنجيم .
()420أضواء البيان ،8/610مرجع سابق .
()421سنن أبي داود ،260 /4مرجع سابق ،قال الشيخ اللباني :صحيح .
()422صحيح البخاري ،3/1307مرجع سابق .
()423صحيح البخاري ،1307 /3مرجع سابق ،صحيح مسلم ،1940 /3مرجع سابق .
161
على المستمع ،زاد السماعيلي من رواية بن المبارك عن يونس) :إنما
ل فهمًا تفهمه القلوب(") ،(424وقال في كان حديث رسول ال فص ً
موضع آخر" :قولها )لو عده العاد لحصاه( أي لوعد كلماته ،أو
مفرداته ،أو حروفه لطاق ذلك ،وبلغ آخرها ،والمراد بذلك المبالغة في
الترتيل والتفهيم"). (425
وإذا كان ذا في حديثه المعتاد ،فكيف في تلوة كلم ال ؟ .
وإنما ابتدأ البحث بحديث جابر حتى ل َيِرَد على جوهر التقرير
هاهنا أن الترتيل قد يراد به التفريق في النزال )التنجيم( ،فحديث جابر
يرده ،وإن كان المعنى الذي قيل وارٌد ،لكن في غير ذا المكان). (426
وتصف أم سلمة -رضي ال تعالى عنها -الصورة التطبيقية لترتيل
الرسول )بأن قراءة رسول ال كانت :بسم ال الرحمن الرحيم
الحمد ل رب العالمين يعني كلمة كلمة() ،(427وعن ابن أبى مليكة أن
بعض أزواج النبي ول أعلمها إل حفصة سئلت عن قراءة رسول ال
ن مي َ عال َ ِ
ب ال ْ َ مدُ ل ِل ّ ِ
ه َر ّ فقالت) :إنكم ل تطيقونها قالت :ال ْ َ
ح ْ
تعني الترتيل) ،(428وقد صرح متتبعو سننه بأن الترتيل عادته في
قراءته ،ويقرنون ذلك بعادته في اعتدال أركانه في الصلة) ،(429قال ابن
حجر-رحمه ال تعالى":-ومن المعلوم من عادته ترتيل القراءة ،وتعديل
الركان"). (430
162
وقد كان ترتيله للسورة يصيرها أطول من أطول منها ،وهو
الموافق لقراءة معتدلي قراء المسلمين في هذه
اليام ،فقد روى مسلم من حديث حفصة -رضي ال تعالى عنها -أنه كان
يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها). (431
وعن يعلى بن مملك :أنه سأل أم سلمة -رضي ال تعالى عنها -عن قراءة
رسول ال وصلته ،فقالت) :وما لكم وصلته؟ ،كان يصلي وينام قدر
ما صلى ،ثم يصلي قدر ما نام ،ثم ينام قدر ما صلى ،حتى يصبح( ،ونعتت
قراءته فإذا هي تنعت قراءته حرفًا حرفًا).(432
وفي معنى قولها)ثم نعتت قراءته( يقول السندي" :أي وصفت
وبينت بالقول ،أو بالفعل بأن قرأت كقراءته .وقوله) :حرفًا حرفًا(،
وقال أبو البقاء :نصبهما على الحال أي مرتلة").(433
وقوله )حرفًا حرفًا( يبين العلقة بين أصل الوضع اللغوي
والستعمال العرفي لكلمة ترتيل .
وكان ترتيله في الصلة نموذجًا عمليًا يسمعه الصحابة ثلث
مرات يوميًا على القل ،ولم يكن ترتيله مقتصرًا على الفرائض بل ذلك
شأنه في النوافل؛ ومن ذلك بّوب ابن حبان في صحيحه":ذكر ما كان
يرتل المصطفى قراءته في صلة الليل").(434
وإنما كان الكثار من هذه الوصاف لتطبيق النبي للترتيل،
والستزادة منها في البحث ،لهميتها البالغة في إثبات أمر جوهري هو:
تحري صحابة رسول ال لنقل الهيئة الداخلية لقراءته )الداء(،
كتحريهم لنقل أصل ألفاظه .
-6التأني في تلوة القرآن :وهو جوهر الترتيل الذي أمر ال
ن ت َْرِتيل ً.
ءا َ ل ال ْ ُ
قْر َ به في قوله َ …
وَرت ّ ِ
()431صحيح مسلم ،6/3352مرجع سابق ،ول مكان لما ادعاه ابن حبان -رحمه ال تعالى -أن
الركعة الولى من صلة الظهر إنما طالت على الثانية بالزيادة في الترتيل فيها مع استواء المقروء
فيهما ،إذ ما الدليل على استواء المقروء؟وما الدليل على ترتيله في الولى دون الثانية ،مع أن عادته
المستمرة هي الترتيل ؟ .
()432سنن أبي داود ،73 /2مرجع سابق ،وقال اللباني " :ضعيف " .
()433حاشية السندي على النسائي ،2/181مرجع سابق .
()434صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان ،6/318مرجع سابق .
163
فحقيقة ترتيل القرآن" :قراءته على ترسل ،وتؤدة بتبيين الحروف،
وإشباع الحركات حتى يجيء المتلو منه شبيهًا بالثغر المرتل ،وهو المفلج
المشبه بنور القحوان ،ول يهذه هذًا ول يسرده سردًا ،كما قال عمر :شر
السير الحقحقة ،وشر القراءة الهذرمة ،حتى يشبه المتلو في تتابعه الثغر،
وقوله ت َْرِتيل ً تأكيٌد في إيجاب المر به ،وأنه ما لبد منه
ج ضمن للقارئ") ،(435فليس هذا المر تحسينيًا في القراءة ،بل هو مندر ٌ
الطلب الشرعي .
نقْرآ ِ ل ِبال ْ ُ ج ْع َول َ ت َ ْوالتصريح بالتأني ظاهر في قولهَ …
ضى إ ِل َي ْ َ َ
سان َ َ
ك ه لِ َ ك بِ ِحّر ْ ه… ل ت ُ َ حي ُ ُ و ْ ك َ ق َ ن يُ ْ لأ ْ قب ْ ِن َ م ْ ِ
ل منهما زجٌر عن الستعجال في حفظ الكتاب ه؛ إذ في ك ٍ ل بِ ِ ج َ ع َل ِت َ ْ
الكريم ،وذاك في معنى الستعجال في تلوته ،ولذا قال الزمخشري في
جل ََة: "ك َل ّ زجٌر لرسول ال عا ِ ن ال ْ َحّبو َ ل تُ ِقوله ك َل ّ ب َ ْ
ث على الناة ،والتؤدة ،وقد بالغ عن عادة العجلة ،وإنكاٌر لها عليه ،وح ٌ
جل ََة كأنه قال :بل أنتم يا ن ال ْ َ
عا ِ حّبو َ ل تُ ِ في ذلك بإتباعه قولهب َ ْ
طِبْعُتْم عليه تعجلون في كل شيء ،ومن ثم ل ،و ُ جٍ عَ بني آدم لنكم خلقتم من َ
تحبون العاجلة") ،(436وقال اللوسي":ك َل ّ إرشاد للرسول،
ب له في الناة ،وبالغ سبحانه في ذلك خٌذ به عن عادة العجلة ،وترغي ٌ وَأ ْ
ل - ثم سرد اللوسي غير ذلك لمزيد حبه إياه بإتباعه قوله ب َ ْ
ب باستحسان كلم الزمخشري – قال :-واللئق بجزالة عّق َالمعنى ،و َ
التنـزيل ،ولطيف إشاراته ما أشار إليه ذو اليد الطولى جار ال تجاوز ال
ط في تحليل الموقف القرآني عن تقصيراته") ،(437وتفصيل الستدلل مبسو ٌ
الذي تثيره كل من اليتين).(438
)شر السير الحقحقة( على لسان الهواتف قبل النبوة ،انظر) :الصبهاني( إسماعيل بن
محمد بن الفضل التيمي ت 535هس :دلئل النبوة ،2/169تحقيق :محمد محمد الحداد،
1409هس ،دار طيبة -الرياض ،وجاءت على لسان الحسن البصري ،انظر) :ابن المبارك( أبو
عبد الله عبد الله بن المبارك ابن واضح المروزي ت 181هس :كتاب الزهد ص ،468تحقيق:
حبيب الحمن العظمي ،دار الكتب العلمية -بيروت .
()436الكشاف ،4/165مرجع سابق ،وكذا أبو السعود ،5/431مرجع سابق .
()437روح المعاني ،245/ 29مرجع سابق .
()438انظر :حديث المعالجة في المبحث السادس من هذا الفصل .
164
وقد بين ال مدى هذا النهي ،ومدة هذه العجلة المنهية :في قوله
حي ُُه ضى إ ِل َي ْ َ َ ل ِبال ْ ُ
و ْ
ك َ ن يُ ْ
ق َ لأ ْ ن َ
قب ْ ِ م ْ
ن ِ ءا ِ
قْر َ ج ْع َ َ
ول ت َ ْ
"طه."114/
ل؛ فإنهوالغاية من التأني :التدبر ،فقد قال ابن كثير" :اقرأه على تمه ٍ
يكون عونًا على تدبره"). (439
والتأني يستلزم السكينة والوقار ،ولذا ففي تفسير الجللين" :ورتل
ل ،وتؤدٍة ،وسكينٍة، القرآن :تثبت في تلوته" ،وقال الصاوي ":اقرأ بترتي ٍ
ووقار").(440
والتأني يقتضي إشباع الحركات كما سبق في كلم الزمخشري آنفًا،
وفي التحرير والتنوير" :وُأريد بترتيل القرآن :ترتيل قراءته ،أي التمهل في
النطق بحروف القرآن حتى تخرج من الفم واضحًة ،مع إشباع الحركات
التي تستحق الشباع"). (441
وقال ابن حجر-رحمه ال تعالى -في حديث المعالجة)" :(442وشاهد
الترجمة منه :النهي عن تعجيله بالتلوة؛ فإنه يقتضي استحباب التأني فيه،
وهو المناسب للترتيل"). (443
وتذكر حفصة –رضي ال تعالى عنها-الصورة التطبيقية لهذا التأني في
قولها :كان النبي يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها،
ويزيد هذا إيضاحًا حديث أبي وائل قال :غدونا على عبد ال فقال رجل:
شعر؟ ،إنا قد سمعنا القراءة ،وإني قرأت المفصل البارحة فقال) :هّذا كهذ ال ِ
لحفظ القرناء التي كان يقرأ بهن النبي ،ثماني عشرة سورة من
المفصل ،وسورتين من آل حم().(444
شعر(؛ لنهم كانوا إذا أنشدوا القصيدة، وإنما قال) :هّذا كهذ ال ِ
أسرعوا ليظهر ميزان بحرها ،وتتعاقب قوافيها على السماع ،والهذ:
إسراع القطع). (445
()439ابن كثير ،4/370مرجع سابق ،ونحوه عند الشوكاني في فتح القدير ،5/387مرجع
سابق .
()440حاشية الصاوي ،4/338مرجع سابق .
()441التحرير والتنوير ،29/316مرجع سابق .
()442انظر :المبحث السادس من هذا الفصل .
()443فتح الباري شرح صحيح البخاري ،9/90مرجع سابق .
()444صحيح البخاري ،4/1924مرجع سابق .
()445التحرير والتنوير ،29/316مرجع سابق .
165
حِلَل هذا الكلم مليًا من حيث تعريف الترتيل اللغوي، فإذا ُ
ب لمقدار هذه ضّمناته في الستعمال العرفي حتى يتم الوصول إلى تقري ٍ ومت َ
446
ف أن إنشاد الشعر في المحافل ط لذاك التمهل) (؛ إذ غير خا ٍ التؤدة ،وضب ٍ
ث مع إسراعٍ ل بين المعنى والمبنى ،وتري ٍ ب وتفاع ٍ
عادًة ل يخلو من ترتي ٍ
ق بآخر البيت ف عند سماع الشعر ،كما ل يخلو من نوع محاولة إلصا ٍ ُيْعَر ُ
شّبهِة بقراءة
لتتناغم أوزانها وكلماتها ،وذاك حالٌة بين السرعة المفرطة الُم َ
نشرات الخبار ،أو إلقاء خطب المنابر الُمَهّيجِة للسامع ،وبين البطاء
الممل…فإذا كان هذا اللقاء للشعر مذمومًا ،وهو بهذه المنـزلة غير
جلة اللقاء نسبيًا من حيث واقُعه ،ظهر أن ترتيل القرآن الكريم المتع َ
يستلزم تأنيًا أكثر ،وتؤدٌة أعظم ،ومحاولة إظهاٍر للمبنى أجمل ،تتكفل
بإبداٍء للمعنى أكمل ،ل على حسابه كما هو معلوم ،من غير مبالة بإدراك
نهايات اليات ،وخواتيم السور…وهذا الضبط لتلك التؤدة هو ما تسمعه
من مهرة القراء في عصرنا كما في كل عصر ،وهو ما عليه غالب حال
المسلمين حتى الميين منهم الذين ل يعرفون إل بعض آيات يرددونها،
فإنه يظهر تغير طريقة قراءتهم ،ونبرات صوتهم إن كانت للقرآن
الكريم).(447
وليضبط هذا التأني من الجهة المقابلة :إذ إن الهتمام باللفظ على
حساب المعنى ،أو الغلو في التؤدة ،أو الفراط في التغني بالقرآن مدًا،
وابتداء ،ووقفًا… يضاد غاية الترتيل ،ويصبح اللفظ غاية بعد أن كان
وسيلة ،ويكون القرآن كتابًا للستمتاع الموسيقي المجرد فحسب ،وهو كتاب
الهداية…فل َيِرُد على ما ُقّرَر آنفًا ما انحدر إليه بعض متزعمي القراء،
ومتصدريه في هذا الباب .
فإن اعُترض بأن الرابط بين ما يرومه هذا المبحث من بيان
متعلقات تعليم جبريل للنبي من حيث اللفظ وبين موضوع
الترتيل غير واضح ،ول نص صريح في علقة جبريل بالترتيل ؟ .
ة لمنكر التواتر في الداء ،إذ أصل الداء ()446وليس في تفاوت ضبط ذلك حج ٌ
ت عند عامة المسلمين ،فضل ً عن عامة القراء ،وهو ما يدور كالمد مث ً
ل :ثاب ٌ
سّلم بالنظر في تواترها ،ول ضير في ذلك . ُ َ ي فقد مراتبه أما حوله، الكلم
()447وهذا من أعظم أدلة التواتر ،وهو ظاهرة ٌ ليست بغريبة على المناهج المعرفية لدى
المسلمين تدل على مقدار الحفظ اللهي للكتاب الكريم .
166
فالجواب :كان المر بالترتيل مبكرًا على سنن نزول الوحي ،فقد
كان جملة ما نزل من القرآن حين نزول أوائل سورة المزمل سورتين أو
سن ُل ْ ِ ثلث على أصح القوال) ( ،ويشير قوله فيهاإ ِّنا َ
448
قي
قيل ً" المزمل (449)"4/إلى أن القرآن بادئ بالنـزول، ول ً ث َ ِ ك َ
ق ْ عل َي ْ ََ
وهذه بدايٌة إضافية ل حقيقية أوجب تقريرها الكثرة الكاثرة لما سينـزل
من الوحي بعدها مقارنة بما سبق…ولما كان جبريل هو المقرئ
لرسول ال ما ينـزل من القرآن ،كما أنه الذي يعارضه به تعاهدًا،
ومراجعة ،وتثبيتًا ،فقد لزم أن يكون جبريل هو الذي يقرئه بالترتيل
وَرت ّل َْناهُ ت َْرِتيل ًابتداء ،وهو ما صرح به في قولهَ ...
"الفرقان. "32/
ضى القول بأن المراد بالترتيل في هذه الية هو التفريق ول ُيرت َ
قا َ
ل و َالزمني في النزال لقرينة سياق الية ،فأولها قولهَ
ة… حد َ ً وا ِة َمل َ ً
ج ْن ُ قْرآ ُه ال ْ ُ
عل َي ْ ِ
ل َ فُروا ل َ ْ
ول َ ن ُّز َ ن كَ َ
ذي َ ال ّ ِ
"الفرقان"32/؛ لن التأسيس أولى من التأكيد) ،(450وقد تقدم في سياق الية
التنبيه على تفريق القرآن زمنيًا في إنزاله إلى الرض من كلم الكفار
مع إقرارهم على ذلك وبيان الحكمة منه ،فصارت نهاية الية دالًة على
ض بأن معنى آخر هو هيئة تلوة القرآن ،على أن الُعرف الشرعي قا ٍ
لفظة )رتل( مستعملٌة في هيئة أداء القرآن) (451ل في تنجيمه ،وقد تقرر
في الصول تقديم الحقيقة الشرعية والعرفية على اللغوية) ،(452فتحرر
من هذا أن جبريل كان يقرئ النبي القرآن بالترتيل .
ويختم هذا بالقول:
167
ول إن سورة المزمل قد نعتت بدقة الطبيعة الذاتية للقرآن الكريمَ
ق ْ
قي، سن ُل ْ ِ
قيل ،وكيفية وصولها من السماء إلى الرضَ ثَ ِ
ل ،وهيئة النطق به، قم ِ الل ّي ْ َ
ووسيلة الستعانة على تلقيهُ
والوقت المختار لمراجعته ،وبيان الوقات التي تصرف في أموٍر أخرى
عِلَم
غير مراجعته وتعاهده…وإذ قد كانت هذه العناية الكثيرة الدقيقة… ُ
مقدار التوقيفية في نقل لفظ القرآن الكريم .
فإن اعُترض بأن :اللقاء هو هيئة أداء القرآن من جبريل للنبي
قي ،واللقاء سن ُل ْ ِ ،ول دليل أصرح فيه من آية المزمل إ ِّنا َ
ى :أيهو رمي الشيء من اليد إلى الرض وطرحه ،ويقال :شيٌء لق ً
مطروح ،وإذا كان كذلك فهو ل يفيد التمهل .
فالجواب :عن هذا اليراد:
-1غاية ما يدل عليه أصل الوضع اللغوي لمادة ألقى هو الطرح ،فأين
اقتران السرعة معه أو عدم اقترانها؟ ،على أن الحقيقة العرفية مقدمٌة
على الوضع اللغوي .
-2ل يضرب دين ال بعضه ببعض ،بل يؤخذ هذا الدليل مجموعًا
إليه بقية الدلة السابقة والمقترنة ،فيكون النقل محققًا ،والتقرير مصدقًا .
-3اللقاء في آية المزمل مستعاٌر لمعنى البلغ الذي يأتي دفعة واحدة
لن النبي لم يكن متوقعًا له ،ول مترقبًا حدوثه ،فُأريد تنبيهه على
كمية الُملقى عليه من خلل ما يشعر به لفظ )نلقي( ليقدر المر حق
قدره ،فاستعير اللقاء للبلغ دفعًة على غير ترقب). (453
ل :ورود التعبير ويدل على أنه ليس المراد باللقاء القذف دون تمه ٍ
ل،
عنه في السنة بالنبذ )فينبذه إلي( وذلك عندما يتمثل الملك له رج ً
وهذا الوصف يضاد معنى القذف السريع؛ إذ أن الرجل عندما ينبذه إليه
إنما ينبذه في لغة البشر ول يقتضي ذاك السرعة ،وقد ورد التعبير عن
ل إ ِن ّك ُ ْ
م و َ ق ْ م ال ْ َه ْ َ
وا إ ِلي ْ ِ
ق ْ الكلم باللقاء في قولهَ
فأ َل ْ َ
قى ك أ َل ْ َ فك َذَل ِ َن" النحل ،"86/ومنه قولهَ لَ َ
كاِذُبو َ
ي" طه ،"87/وتقدم تفصيل ذلك في المبحث السابع . ر ُّم ِ
سا ِ
ال ّ
168
ب في مدخله ،من حيث أن الوحي يستلزم على أن هذا اليراد غري ٌ
السرعة وإل ل يسمى وحيًا ،ويرد فيه ما سبق ،ثم إن السرعة واض ٌ
ح
معناها في النسبية )الضافية( مقارنٌة بفعل البشر ،ل من حيث أنها
سرعة مطلقة .
وهنا أمٌر ينبغي التنبه له هو أن اللقاء إنما يكون للمر الحسي
كالحجر والكلم ،وقد يستعار للمر غير المشاهد كالوسوسة كما في
قولهَ
َ
ي إ ِل ّول ن َب ِ ّ
ل َ
سو ٍ
ن َر ُ م ْ ك ِ قب ْل ِ َن َم ْسل َْنا ِ
ما أْر َو َ
ه" الحج.( )"52/
454 ُ شي ْ َقى ال ّ مّنى أ َل ْ َ إِ َ
من ِي ّت ِ ِفي أ ْ ن ِطا ُ ذا ت َ َ
-7التغني بالقرآن ،والجهر به :فعن أبي هريرة أنه كان
يقول :قال رسول ال ) :لم يأذن ال لشيء ما أذن للنبي يتغنى)(455
ب له :يريد يجهر به) ،(456زاد في لفظ له :قال سفيان: بالقرآن( ،وقال صاح ٌ
تفسيره يستغني به) ،(457وفي لفظ) :ما أذن ال لشيء ما أذن لنبي حسن
الصوت بالقرآن يجهر به( ،وعن معقل بن يسار قال :قال رسول ال
) : ل يأذن ال لشيء إذنه لذان المؤذنين ،والصوت الحسن بالقرآن(
) ،(458وعند ابن حبان )ما أذن ال لشيء كأذنه للذي يتغنى بالقرآن يجهر
به().(459
ن أن اللقاء)( انظر :تحليل هذه الية في الفصل الخامس ،وكان هذا التنبيه حتى ل ي ُظ َ ّ
454
169
والمعنى" :ما أذن ال لشيء كَأَذِنه لنبي يتغّنى بالقرآن أي ما استمع
جَهر به"). (460
ستماعه لنبي َيَتغّنى بالقرآن أي ْيتُلوه َي ْ ال لشيء كا ْ
وقال أبوحاتم بن حبان" :قوله يتغنى بالقرآن يريد يتحزن به،
وليس هذا من الُغنية ،ولوكان ذلك من الغنية لقال )يتغانى به( ،ولم يقل
)يتغنى به( وليس التحزن بالقرآن وطيب الصوت ،وطاعة اللهوات بأنواع
النغم بوفاق الوقاع ،ولكن التحزن بالقرآن هو :أن يقارنه شيئان :السف
والتلهف :السف على ما وقع من التقصير ،والتلهف على ما يؤمل من
جع ،بدر الجف ُ
ن التوقير ،فإذا تألم القلب ،وتوجع ،وتحزن الصوت ،وَر ّ
بالدموع ،والقلب باللموع ،فحينئٍذ يستلذ المتهجد بالمناجاة ،ويفر من الخلق
إلى وكر الخلوات ،رجاء غفران السالف من الذنوب ،والتجاوز عن
الجنايات والعيوب ،فنسأل ال التوفيق له") ،(461فقوله )ما أذن ال( :يريد ما
استمع ال لشيٍء )كَأَذِنه( كاستماعه للذي يتغنى بالقرآن يجهر به يريد
يتحزن بالقراءة). (462
وفي سنن البيهقي" :قال أبو عبيدة :في قوله )كأذنه( يعني ما استمع
ال لشيء كاستماعه لنبي يتغنى بالقرآن ،ولم يرض ومن رواية من روى
كإذنه قال وقوله )يتغنى بالقرآن( إنما مذهبه عندنا تحزين القراءة"). (463
صل من أقوال أئمة الشأن :أن لفظ )أذن( بفتحة ثم ح َ
والمعنى المَت َ
كسرة في الماضي ،وكذا في المضارع مشترك بين الطلق ،والستماع
تقول :أذنت آذن بالمد ،فإن أردت الطلق فالمصدر بكسرة ثم سكون ،وإن
أردت الستماع فالمصدر بفتحتين ،كما قال عدي بن زيد:
إن همي في سماع ن
أيها القلب تعلل ب ِد َ ْ
نوأذ َ ْ
ع واستماع ،فأصل َأَذن بتفحتين أن المستمع يميل بإذنه إلى أي في سما ٍ
464
جهة من يسمعه) (.
وهو ما قرره العلماء ،وشهد له الشتقاق اللغوي ،وممن قرر ذلك:
170
قال السيوطي " :قال النووي :معناه عند الشافعي وأصحابه وأكثر
العلماء من الطوائف وأصحاب الفنون :تحسين صوته به ،والصحيح أنه من
تحسين الصوت ويؤيده الرواية الخرى يتغنى بالقرآن يجهر به"). (465
وقال السندي":يتغنى بالقرآن :أي يحسن صوته
به حال قراءته أو هو الجهر ،وقوله )يجهر به( تفسير له أو
يلين ،ويرقق صوته ليجلب به إلى نفسه والى السامعين
الحزن والبكاء ،وينقطع به عن الخلق إلى الخالق جل وعل
"). (466
ح أن هذه مرتبة فوق مرتبة الترتيل… . وواض ٌ
-8الترجيع في القرآن :هو تقارب ضروب الحركات في
القراءة ،وأصله الترديد ،وترجيع الصوت :ترديده في
الحلق). (467
والصورة التطبيقية لذلك :ما رواه معاوية بن
قرة عن عبد الله بن المغفل المزني قال :رأيت رسول
الله يوم الفتح على ناقة له يقرأ سورة الفتح أو من
سورة الفتح -قال :-فرجع فيها ،قال :ثم قرأ معاوية
يحكي قراءة ابن مغفل ،وقال :لول أن يجتمع الناس
عليكم لرجعت كما رجع ابن مغفل يحكي النبي فقلت
لمعاوية كيف كان ترجيعه قال آ آ آ ثلث مرات).(468
فهذا يحتمل أمرين :أحدهما :أن ذلك حدث من هز
الناقة ،والخر :أنه أشبع المد في موضعه ،فحدث ذلك،
والثاني هو الصحيح بقرينة السياق؛ فإن في بعض طرقه
)لول أن يجتمع الناس لقرأت لكم بذلك اللحن( أي
النغم .قال ابن حجر":والذي يظهر أن في الترجيع
()465الديباج على صحيح مسلم ،2/393مرجع سابق .
()466حاشية السندي على النسائي ،180 /1مرجع سابق .
()467فتح الباري ،9/92مرجع سابق .
()468صحيح البخاري ،6/2742مرجع سابق .
171
قدرا ً زائدا ً على الترتيل ،فعند ابن أبي داود من
طريق أبي إسحاق عن علقمة قال :بت مع عبد الله بن
مسعود في داره ،فنام ،ثم قام ،فكان يقرأ قراءة الرجل
في مسجد حيه ل يرفع صوته ،ويسمع من حوله ،ويرتل،
469
( ،ويدل لهذا الكلم ما جاء عن أم هانئ – ول يرجع")
رضي الله تعالى عنها :-كنت أسمع صوت النبي وهو يقرأ وأنا
جعُ القرآن). (470
نائمة على فراشي ي َُر ّ
كما يدل هذا الحديث على أن الترجيع غالب
فعله في تلوة القرآن الكريم .
فقد تحصل من هذا أن أداء القرآن يستلزم:
تحريك اللسان والشفتين)القراءة( ،والترتيل ،والتغني،
والترجيع .
ويتضح مما سبق أن أداء القرآن ينقسم إلى
قسمين:
الداء الصلي ،ويمثل الترتيل بعناصر -1
حقيقته ،وهو المسمى في علم التجويد :حق الحروف .
ب -الداء الفرعي :ويمثل التغني والترجيع حقيقة،
ويسمى في علم التجويد مستحق الحروف .
واللفظ يستحيل معناه بتغير الداء الصلي ،أو تركه،
وقد يحدث ذلك بترك الداء الفرعي .
فالمراتب في أداء لفظ القرآن الكريم أربعة من
حيث الماهية اللغوية ،والمدلول الشرعي )وترجع هيئات
ق ،وحدٍر ،وتدويرٍ إليها(: الترتيل من تحقي ٍ
ف من القراءة :ول تكون إل بإخراج كل حر ٍ -1
م للقرآن وغيره ،وأصبحت س عا ٌ
مخرجه ،وهي جن ٌ
بالقراءة تنصرف إلى قراءة القرآن عن ظهر قل ٍ
عندهم ،وهو المفهوم من كلمة )القرآن( أي المقروء
() 469فتح الباري ،9/92مرجع سابق .
) ()470الطحاوي( أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلمة 321هس :شرح معاني الثار ،1/344
مراجعة محمد زهري النجار -ط 1410 ،1هس – 1990م ،دار الكتب العلمية –بيروت .
172
من الصدر ،في مقابل لفظ الكتاب أي المكتوب،
قَرأ من الصحف التي ك ُت ِ َ
ب ويقتضي هذا المفهوم أن ي ُ ْ
حفظ فيها بالتلقي من فيها ،أو من الصدور التي ُ
الفواه .
ة بالقرآن الكريم ،فهو ة خاص ٌ الترتيل :وهو هيئ ٌ -2
ة أعلى من القراءة ،وعلى هذا فإن الترتيل مرتب ٌ
يحتوي مراتب القراءة الثلثة الشهيرة :التحقيق،
والحدر ،والتدوير بحسب تفاوت درجات الترتيل
ليكون أحدها .
ة بالقرآن الكريم ،فهو ة خاص ٌ التغني :وهو هيئ ٌ -3
ة أعلى من مرتب ٌ
م للصوت على القواعد المتلقاة، الترتيل ،ففيه تنغي ٌ
فل ي َرِد ُ عليه الغناء المعروف عند البشر .
الترجيع :وهو ترديد ٌ للفظ المقروء المرَتل -4
مَتغنى به ،أو زيادة تحبيره وتحسين أدائه بزيادة ال ُ
تحقيق المد ونحوه .
وعلى هذا التقرير :فل يمكن إطلق القول بنفي
تواتر الداء حتى ُيسأل عن ماهيته المقصودة من هذه
ي واضح، المراتب ،وتواترها)اليقين في ثبوتها( بده ٌ
وإن تفاوتت مراتبها في التواتر ،فما ورد على ألسنة
471
حمل على الداء ي لتواتر الداء ي ُ ْ
بعض العلماء) (من نف ٍ
الذي ل ينضبط بالتلقي ،وهو ما صّرح به ابن خلدون،
وذلك كتحديد مراتب المد بالدقة المتناقلة بعدد
ع إلى ذات الحرف )وهو الحركات ،فإن أصل المد راج ٌ
المسمى بالمد الطبيعي( ،وهذا يندرج في )القراءة(،
صرفة من ع إلى عربيته ال ِ ومده فوق ذات الحرف راج ٌ
لقائه للهمز أو السكون ،على ما هو مقرٌر في علوم
ن
ن وتبيي ٍالعربية ،وذا عائدٌ للقراءة أيضًا ،وترديده بتأ ٍ
أظهُر للحروف يرجع إلى الترتيل ،وتواتُره بين
ة
المسلمين أبين من أن ُيتكلم عليه ،وتنغيمه على هيئ ٍ
()471انظر إشارة إلى كلم بعضهم في هامش ص ،170من هذا المبحث .
173
ة يرجع إلى التغني والترجيع ،وتواتره بين معين ٍ
المسلمين معلوم أيضًا ،وبقي التحديد الكثر دق ً
ة من
سلم بعدم أربع حركات ،أو ست ،أو نحو ذلك قد ي ُ َ
تواتره) ،(472ول ضائر يضير القرآن من عدم تواتره،
ل يقول: كسي أنواع الثياب ،فقائ ٌ ن ُ
فمثله كمثل إنسا ٍ
ث
م ثوبه إلى رسغه ،وآخر يقول بل إلى خنصره ،وثال ٌ ك ّ
ً
يقول بل بين ذلك…مع اتفاقهم جميعا على أنه
م قدصَر الك ّ
ق َاكتسى… فأين من يقول بأن الزاعم ِ
أنقص في طبيعة الرجل الصلية؟ ،وبأن الزاعم طول
الكم قد زاد في خلقة الرجل الصلية؟ فكذلك القرآن ل
يضيره تفاوت مراتب المد ونحوها حتى يقال بأن الذي
ر قد زاد في كلم الله…ونحو ذلك ،ول زاد دون توات ٍ
يتسع المقام لكثر من هذا .
-9مماثلة قراءة النبي لقراءة جبريل :
ويدخل في ذلك مماثلة أصل اللفظ ،وهيئة أدائه الداخلية،
وذلك تطبيقا ً لمر الله ،وتحقيقا ً لوعده في قولهإ ِ ّ
ن
قْرَءان َُه فتكفل سبحانه بجمع لفظ القرآن و ُه َ
ع ُ
م َ
ج ْعل َي َْنا َ
َ
وهيئة أدائه في صدر النبي) الحفظ( ،وبأن يقرأه بعد
ن في كما سمعه من جبريلأصل ً وأداء ،والختلف كائ ٌ
الصوت فحسب ،إذ صوت جبريل يختلف عن صوته
فسهِ . سه يختلف عن ن َ َ ف ُ ،ون َ
نم إِ ّ ل هذا الوعد لصل اللفظ ولدائه بقوله ث ُ ّ وُأِكد شمو ُ
عل َي َْنا ب ََيان َُه"القيامة ،"19/والبيان هو إظهار الكلمة حرفًا حرفًا ،دونَ
سّمى )الظهار( -وهو حكٌم من أحكام النون والميم ج ،أو تداخل فلذا ُي َ دم ٍ
الساكنتين في علم التجويد -البيان لن فيه تبيين للنون والحرف الذي بعدها
ب ،أو إدغاٍم ،وتقدم الكلم عن ذلك).(473 دون إخفاٍء ،أو قل ٍ
()472وهو ما صّرح به ابن الجزري -رحمه الله تعالى -في منجد المقرئين ص ،43على
الرغم من إنكاره الشديد على ابن الحاجب -رحمه الله تعالى. -
()473انظر :حديث المعالجة في المبحث السادس من هذا الفصل ص . 113
174
والصورة التطبيقية لهذا عبر عنها ابن عباس بقوله) :فإذا انطلق
جبريل قرأه النبي كما قرأه ]كما وعده ال[). (474
قْرَءان َُه لجبريل والتقدير: ع ُ والضمير في قوله َ
فات ّب ِ ْ
فإذا انتهت قراءة جبريل فأقرأ أنت ،وتقدم تفصيل ذلك في المبحث
السابع من هذا الفصل .
-10قراءته على الناس كما أقرأه جبريل من
ل اللفظ وأداؤه :ويختلف عن البند السابق في أنه حيث أص ُ
أخص منه مطلقًا من حيث أنه مأموٌر بتلوته على الناس لقوله
َ ُ
نتأ ْ مْر ُ ه…" النعام ،"19/وقوله :إ ِن ّ َ
ما أ ِ م بِ ِ …ل ُن ْ ِ
ذَرك ُ ْ
ء
ي ٍ
ش ْ ل َ ه كُ ّ ول َ ُ
ها َم َ
حّر َ ة ال ّ ِ
ذي َ ه ال ْب َل ْدَ ِ
ذ ِ
ه ِب َ عب ُدَ َر ّ أَ ْ
و ال ْ ُ َ كون من ال ْمسل ِمين َ َ َ ُ
ن…
قْرآ َ ن أت ْل ُ َ وأ ْ ُ ْ ِ َ َ نأ ُ َ ِ ْ تأ ْ مْر ُوأ ِ َ
"النمل ،"91/والسابق أعم من حيث أنه يقرؤه لنفسه أو للناس .
وإنما ُأْفِردت هذه النقطة بالذكر مع دخولها فيما سبق لهميتها في
إحداث اليقين القطعي بحقيقة :أن النبي كان يقرأ ألفاظ كما أقرأه
خِرُم منها حرفًا ،ول هيئًة لعموم قول ابن عباس ):كما جبريل ل َي ْ
ن ت ِل ْ َ ُ َ
ء
قا ِ م ْ ن أب َدّل َ ُ
ه ِ ن ِلي أ ْ ما ي َ ُ
كو ُ ل َق ْأقرأه( ،ولقولهُ
َ
ي…" يونس. "15/ حى إ ِل َ ّ ما ُيو َع إ ِل ّ َ
ن أت ّب ِ ُ
سي إ ِ ْ نَ ْ
ف ِ
فإذا اجتمع –كما سبق:-
ة
المر اللهي الموجب اتباع هيئ ٍ -1
معينٍة للنطق بالقرآن )الداء( ،وهو قوله
ن ت َْرِتيل ً" المزمل "4/ونحوها،
ءا َ ل ال ْ ُ
قْر َ َ …
وَرت ّ ِ
والتطبيق الملئكي )جبريل(لذلك -2
المر مبالغة في اتباع تلك الهيئة كما في قوله
وَرت ّل َْناهُ ت َْرِتيل ً" الفرقان،(475) "32/
َ …
175
والنص النبوي عليها )اقرأ وارق -3
476
ورتل() (…ونحوه،
ي لها،
ق النبو ّ والتطبي ُ -4
ودقة وصف الصحابة لتلك الهيئة، -5
مع تناقل هذه الهيئة عبر الجيال … -6
كانت النتيجة التلقائية لهذه المقدمات هي:
التوقيفية المحضة في نقل هيئة أداء القرآن ،كنقل
أصل ألفاظه… .
فإذا ُأضيف إلى هذا :أن الرسول كان إذا انطلق جبريل
قرأه كما قرأه ،وأن الصحابة حفظوه وكتبوه كما أقرأهم
الرسول…وأن حلقات الحفظ هذه قد توالت من الله –جل
وعل -إلى رسوله من أهل السماء إلى رسوله من أهل
الرض ،ثم إلى صحابة رسوله ،ثم إلى المة باختلف
مكانها وزمانها…بأعلى درجات الحفظ والضبط…كما كان
الرسول يقوم بالعرض اليومي للصحابة عند نزول القرآن،
وفي الصلوات الجهرية ،وفي نوافله الليلية التي كان يصل
ورُده فيها إلى سدس القرآن الكريم في كل ليلة غالبًا…فقد
ة بالقلم ،وأداًء بالصوت الذي ضمن الله للقرآن حفظه :كتاب ً
ع
ت حروفه في أدق صفاتها ومخارجها من حيث مقاط ُ فظ َ ْ
ح ِ
ُ
ق،ٍ ترقي أو د،
ٍ م أو ة،
ٍ غن من يصاحبه وما الخروج( أماكن الداء)
ت أماكن الوقف َ ظ ف
ح ِل…كما ُ م ،أو استعلٍء ،أو استفا ٍ
ْ أو تفخي ٍ
والبتداء ،والسكتات الواجبة والجائزة… .
فحفظ الله –تعالى ذكره -ألفاظ القرآن في هذه المة
بالدوات الواقعية النسانية التي تتسم بأعلى قواعد الحفظ،
وأدق مقاييس الضبط .
ض على هذه النتيجة الحتمية بأنها منخرمٌة بما
ول يعترض معتر ٌ
ُيشاهد من اختلف أداء القرآن ،لنه هذا الختلف مرده إلى أموٍر
خارجيٍة أخرى كالختلف الفطري في أصوات الناس ،والختل ِ
ف
ف العقلي من حيث النفسي من حيث التذوق لنغمة التصويت ،والختل ِ
تقدير البطء والسرعة… وهذا كله ل يقدح في التوقيف في الداء ،حذَو
()476صحيح ابن حبان ،3/43مرجع سابق؛ إذ مفهومه دال على مراد التقرير ،وكأحاديث
التغني بالقرآن .
176
التوقيف في الصلة ،إذ ل جدال في أنها عبادٌة توقيفية ،وترى
الختلف فيها واردًا من حيث البطء والسرعة في أداء أركانها… وما
يشبه ذلك مما يرجع إلى البشر .
وهذه ،وما سبقها توطئٌة لثبات ما هو عند المسلمين َبَدهي من أن
هيئة قراءة القرآن صفٌة ذاتيٌة للفظ ،وليست صفًة عارضة ،أو أمرًا
تتميميًا) ،(477كما أن في هذا التقرير إشارٌة إلى منبع الوهم الزاعم عدم
تواتر أوجه الداء ،وهو ما صرح به ابن الحاجب وابن خلدون -رحمهما ال
تعالى…(478)-وحسب ذا القول أن يكون مناقضًا للمقتضى اللغوي لمادة
الترتيل ،ولما تراه من اجتماع المة على تفاصيل تطبيق الترتيل ،الذي
ينصرف مفهومه في أول وهلة إلى الصفات العارضة للقراءة وحروفها .
-11تكرار المحفوظ :ليرسخ فيه ،فقد قال الزمخشري -رحمه ال
تعالى" : -فأمر أن يستنصت له ،ملقيًا إليه بقلبه وسمعه حتى يقضي إليه ،ثم
()477فتبيين الحروف هو ما يعبر عنه علماء التجويد بقولهم :إخراج الحرف من مخرجه مع
إعطائه حقه ومستحقه ،إذ منعه من الصفات الذاتية إعداٌم لذاته ،كمن أراد إخراج الدال غير
ن لحقيقته ،وإزراٍء به
جها تاًء ،ومنعه من الصفات العارضة هضٌم له وعدم بيا ٍ خِر ُ
مجهورٍة فهو ُم ْ
ن بدون ساتٍر له من ملبس ،والعراب النحوي من صفاته العارضة ،فهذا يستنكره أهل اللغة كإنسا ٍ
هو المقياس في دحر فكر من توسوس له نفسه التهاون في صفات الحروف العارضة ،ومن هاهنا
يمكن إرساء قاعدة قوية في منع التطوير المزعوم في الصوات اللغوية العربية ،وذلك لوجوب
ق من سابق . التزام بيان الحرف في القرآن الكريم على ما تلقاه لح ٌ
م ذلك بأن )( أما ابن الحاجب :فصّرح بذلك في مختصر الصول له ،وقد نفى عنه قو ٌ
478
عبارة الستثناء من التواتر لم ترد في النسخ المشورة من المختصر ،وأما ابن خلدون فقد
رجح ذلك في المقدمة ص - 552تاريخ ابن خلدون -تأليف :عبد الرحمن بن خلدون ت 808
هس ضبط المتن ووضع الحواشي والفهارس :خليل شحادة – مراجعة الدكتور :سهيل زكار –
دار الفكر بيروت الطبعة الثالثة 1417هس –1996م :حيث قال" :وقد خالف بعض الناس في
ط ،وأباه الكثرت للداء ،وهو غير منضب ٍ تواتر طرقها -يريد القراءات –؛لنها عندهم كيفيا ٌ
وقالوا بتواترها ،وقال آخرون بتواتر غير الداء منها كالمد والتسهيل لعدم الوقوف على
جح كلمهم ابن الحاجب فهو عنه كيفيته بالسمع وهو الصحيح" ولعله عنى بالبعض الذين ر ّ
ل ،ولو نفي التواتر عن الداء كما قيل ،لنفاه عن أصل اللفظ ،وهو ما ل يقول به ابن ناق ٌ
الحاجب ،ول يرضاه ،وهو الصولي المقرئ الكبير؛ إذ الداء يتضمن النطق بأصل اللفظ )وهذا
المسمى مخارج الحروف( ،وصفاته الصلية ،ويتضمن الصفات العارضة الناشئة عن الصفات
ضمن الول أو الثاني ،إذ ل ُ
الصلية ،ونفي تواتر الداء نفي لصل اللفظ سواًء أريد َ به المت َ
ة
يستقيم نفي الصفة العارضة بدون نفي أصلها ،ول تستطيع تصنيف التأني في القراءة صف ً
ن ،وقد تقدم ب ،وأما الول فأمره بي ٌ أصلية ،فل جرم أنها إلى الصفات العارضة تنتسب بسب ٍ
ل ،والتكرار هنا هو في أسلوب طرح الكلم…فكلم ابن الحاجب-رحمه الله في المتن تحلي ٌ
تعالى -حال ثبوته عنهُ ،يشير إلى ما صّرح به من بعد ابن خلدون من أن المراد هو ما ل
يتوقف ضبطه على السمع كمراتب المد .
177
يقضيه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه") ،(479وهو من معاني في قوله
قال اللوسي-رحمه ال تعالى" :-اتبع قرآنه بالدرس على ه
ءان َ ُقْر َ ع ُ َ
فات ّب ِ ْ
معنى كرره حتى يرسخ في ذهنك") ،(480وأورد ابن جرير)(481عن ابن
كحّر ْ :ل ت ُ َ ":كان ل يفتر من القرآن مخافة أن ينساه ،فقال ال عباس
مَعُه"القيامة "17-16/أن عل َي َْنا َ
ج ْ ن َ
ه)(16إ ِ ّ ج َ
ل بِ ِ ع َك ل ِت َ ْسان َ َه لِ َبِ ِ
قْرَءان َُه أن نقرئك فل تنسى"؛ وهذا دالة على تكرار و ُ نجمعه لكَ
المحفوظ ،والمعارضة والمدارسة نموذج للصورة التطبيقية لهذا التكرار .
178
م
و ُ وأ َ ْ
ق َ وكونه أبلغ في الحفظ :مجمل فصله الشوكاني بقولهَ " :
ل ،وأثبت قراءًة لحضور القلب فيها ،وهدوء قيل ً أي أشد مقا ً ِ
الصوات…" .
ول يتوقف ذلك عند مجرد الحفظ ،بل يتعداه إلى تبيين اللفظ فقد نقل
الشوكاني عن قتادة ومجاهد" :أي أصوب للقراءة ،وأثبت للقول؛ لنه
ل بالقرآن"). (484 زمان التفهم ،وقال الكلبي :أبين قو ً
والمقصود أن قيام الليل هو محٌل لتكون مواطأة القرآن بين القلب
واللسان أشد ،كما أنه أجمع للتلوة أي أرسخ للحفظ ،ولهذا قال
قيل ً" المزمل ،"6/أي أجمع للخاطر م ِ و ُ
ق َ وأ َ ْ
وطًْئا َ شد ّ َ ي أَ َه َ ِ
في أداء القراءة وتفهمها …). (485
وطًْئا شدّ َي أَ َه َ ل ِ ة الل ّي ْ ِ شئ َ َ
ن َنا ِ وعلقة قوله : إ ِ ّ
ن ت َْرِتيل)(4إ ِّنا
ءا َقْر َ ل ال ْ ُ وَرت ّ ِقيل ً بما قبلها َ … م ِ و ُق َ وأ َ ْ َ
ل لتخصيص قيل ً" المزمل "5-4/أنها تعلي ٌ ول ث َ ِ ك َ
ق ْ عل َي ْ َ
قي َ سن ُل ْ ِ َ
زمن الليل بالقيام فيه ،والمراد :إن في قيام الليل تزكيٌة وتصفيٌة لسِرك،
وارتقاٌء بك إلى المراقي الملكية ،فالمعنى :إن صلة الليل أعود على تذكر
القرآن ،والسلمة من نسيان بعض اليات ،وأعون على المزيد من التدبر،
قال ابن عباس ": أدنى من أن يفقهوا القرآن" ،وقال قتادة" :أحفظ
للقرآن" ،وقال ابن زيد":أقوم قراءة لفراغه من الدنيا") ،(486وقد اشتهر
حديث حذيفة في قيامه بسورة البقرة وآل عمران والنساء)(487
أنموذجًا لورده في المراجعة في قيام الليل .
()484فتح القدير ،5/388مرجع سابق ،وراجع :تفسير أبي السعود ،5/412مرجع سابق .
()485انظر :تفسير ابن كثير ،4/370مرجع سابق .
ن ءار
ْ َ َ ُ
ق ْ ل ا ل تر و
َ َ ّ ِ تعالى قوله في وقال ()486التحرير والتنوير ،29/163مرجع سابق،
ة بقيام الليل أي :رتل قراءتك في القيام ،ويجوز أن تكون أمرا ً مستقل ً متعلقا ً ت َْرِتيل ً متعلق ٌ
يكيفية قراءة القرآن ،جرى ذكره بمناسبة قيام الليل ،وهذا أولى لن الصلة تدخل في ذلك
وانظر :البحر المحيط /8/363مرجع سابق .
()487رواه مسلم ،3/342مرجع سابق .
179
وقد جعل النبي قيام الليل وردًا للمراجعة اليومية؛ ولذا جعله
البحث نموذجًا للوقت النموذجي لها) ،(488فقد كان النبي يقرأ ما ُيْلَقى
إليه في الليل أثناء قيامه في الصلة .
ولمراجعة القرآن في صلة الليل أثٌر في تثبيته بل ذلك أحد أهم
ص فيقواعد حفظه .وفي موضوع تلقي النبي يوجد دليلن :عاٌم وخا ٌ
مراجعته في الليل:
فأما الدليل العام فقد قال) : إذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل
والنهار ذكره ،وإن لم يقم به نسيه() (489ومن أحق منه بوصف
صاحب القرآن؟ .
ن قياُمه في صلته كان بما ُيْلَقى إليه
وأما الدليل الخاص الذي فيه :أ ّ
فما حدثت به عائشة –رضي ال تعالى عنها– أن رسول ال قام ليلة من الليالي
فقال) :يا عائشة !ذريني أتعبد لربي( قلت :وال إني لحب قربك ،وأحب
ما يسرك ،قالت :فقام فتطهر ،ثم قام يصلي ،فلم يزل يبكي حتى ب ّ
ل
()488ل يعني هذا نفي الغايات الشرعية الخرى لقيام الليل .
()489رواه مسلم ،1/536مرجع سابق ،عن ابن عمر -رضي ال عنهما ،-وقوله )لم يقم به(
تحتمل معنى قيام الليل ،وتحتمل معنى العمل به ،وقد قال المباركفوري في معنى قول الصحابي
يخاطب رسول ال) : أن ل أقوم بها( :كما في تحفة الحوذي " :150/8أي في صلة الليل"،
انظر) :المباركفوري( أبو الُعل محمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم ،ط 1410 ،1هـ – 1990م،
دار الكتب العلمية – بيروت .
ويؤكد هذا المعنى الحديث الذي وردت فيه هذه العبارة ما روى الترمذي 156/5عن أبي
هريرةقال :بعث رسول ال بعثًا ،وهم نفر فدعاهم رسول ال فقال) :ماذا معكم من
ل منهم هو من أحدثهم سنًا ،فقال ) :ماذا معك ياالقرآن ؟( فاستقرأهم ،حتى مّر على رج ٍ
فلن ؟( قال :معي كذا ،وكذا ،وسورة البقرة .قال) :معك سورة البقرة؟( .قال :نعم!.
قال) :اذهب ،فأنت أميرهم( فقال رج ٌ
ل –هو أشرفهم :-والذي كذا وكذا يا رسول ال !ما
منعني أن ل أتعلم القرآن إل خشيت أن ل أقوم به .قال رسول ال ) :تعلم القرآن،
واقرأه ،وارقد ،فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه ،وقام به كمثل جراب
محشو مسكا ً تفوح ريحه كل مكان ،ومن تعلمه ،فرقد وهوفي جوفه كمثل
جراب وكىء على مسك( حسنه الترمذي ،وضعفه اللباني ،وصححه ابن حبان ،وقال
الشيخ شعيب الرناؤوط في تعليقه على ابن حبان" :رجاله ثقات رجال الصحيح غير عطاء مولى
أبي أحمد" .
180
الرض ،وجاء بلل يؤذنه بالصلة ،فلما رآه يبكي ،قال :يا رسول ال!
تبكي وقد غفر ال ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال) :أفل أكون عبدا ً
شكورا ً ؟ لقد نزلت علي الليلة آيات ،ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها
َ
ف الل ّي ْ ِ
ل خت َِل ِ
وا ْ
ض َ
والْر ِ
ت َ
وا ِ
م َ
س َ
ق ال ّ في َ ْ
خل ِ إ ِ ّ
ن ِ
ص بأنه غير صريحٍ في َوالن َّهاِر… (الية) ،(490ول يعترض على الن ّ
الدللة على المراد؛ لن قرائن الحال ،واقتران الوصف بالحكم في الحديث
ب من إيراده ،وهو مراجعته لما ُأنِزل عليه ،والذي ُأنزل مقتضيان المطلو َ
عليه هنا اليات العشر من سورة آل عمران .
بل كان يؤكد على المراجعة ببيان وسائل التدارك عند الفوات فعن
عبد الرحمن ابن عبد القاري:قال سمعت عمر بن الخطاب يقول :قال
رسول ال ) :من نام عن حزبه ،أو عن شيء منه فقرأه فيما بين
صلة الفجر وصلة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل() ،(491وقد شمل
قوله )حزبه( الصلة والقرآن ،وهو إلى القرآن أقرب؛ إذ مصطلح الحزب
على لسان النبي يختص بالقرآن).(492
كما جعل شدة الحض على قيام الليل مع الهتمام فيه بقراءة
القرآن مقترنًا ببيان الحد الدنى للقراءة أمراً لزمًا لتكون دافعًا إلى الترقي
المستمر في زيادة كمية المقروء كما في قوله) : من قام بعشر آيات
لم يكتب من الغافلين ،ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ،ومن قام
بألف آية كتب من المقنطرين() ،(493وفي الحديث إشارٌة برمي الذي لم
181
ج نحو القيام ،وقراءة هذا المقدار ،وما يقم بعشر آيات بالغفلة ،وفي ذلك تهيي ٌ
الحكم هنا إل غير تحريٍم لترك قيام الليل ما أشبهه بالتحريم .
شِرعت الوسائل البديلة لقيام الليل لمن فتر أو كسل متضمنة بل ُ
الرتباط الدائم بالقرآن ،والستفزاز الشعوري بقيام الليل ،وإن لم يقمه فقد
قال): من قرأ بمائة آية في ليلة كتب له قنوت ليلة() ،(494وسواًء كان
شَعَر به تعدية معنى الحديث القراءة المجردة ،أو القراءة مع قيام الليل الذي َأ ْ
ف في الستدلل على المطلوب . الفعل بالباء ،فإطلق القراءة فيه كا ٍ
على أن حرص النبي على استذكار القرآن ومراجعته أوضح
من أن ُيَدلل عليه ،ولئن كان قد قال في حرفٍة عادية) :من علم الرمي ثم
ل أكثر من ذلك في أصل تركه فليس منا فقد عصى() ،(495لهو قائلٌ ثم فاع ٌ
أصول الشريعة السلمية .
-13التعاهد السنوي :وذلك بمراجعة القرآن على جبريل
سنويًا في كل رمضان ،ويأتي تحليل هذا الموقف التعليمي) ،(496وهذا
هو الصل الشرعي المنهجي في العرضة الثانية أو الثالثة تأكيدًا وتثبيتًا
للمحفوظ ،وهذا التعاهد غير التعاهد الدائم )المراجعة الدائمة(؛ إذ كلمنا عن
اتصال الرسول التعليمي بجبريل في القرآن الكريم من حيث اللفظ،
ل ذاتي .
والمراجعة الدائمة عم ٌ
فإن اعُترض بأنه :لم يتم عرض الجزء الذي نزل بعد آخر
رمضان قبل موت النبي ؟ .
ن القواعد العامة فالجواب :ليس عدم العلم علمًا بالعدم ،بل إ ّ
للموضوع هي التي تجعل الباحث يميل إلى الحكم بالنفي أو الثبات عند
ض في خصوص عِر َعدم وجود النص الصريح في مدار النـزاع ،وما ُ
عَرض موضوعنا يجعل الناظر فيها يميل إلى ترجيح أن النبي قد َ
القرآن قبل وفاته ،وذلك لما رأيَته من الهتمام المؤّكد بذلك من خلل ما
سبق ،ولقد خرج النبي إلى شهداء أحد قبل وفاته فصلى عليهم بأمر
) ()494المقدسي( أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد بن أحمد الحنبلي ت 634هس :الحاديث
المختارة ،278 /8تحقيق :عبد الملك ابن عبد الله دهيش1410 ،هس ،مكتبة النهضة الحديثة،
مكة المكرمة .
()495رواه مسلم ،1522 /3مرجع سابق .
()496في المبحث التاسع من هذا الفصل ص . 177
182
ربه) ،(497فكيف يكون المر له في خصوص القرآن الكريم ،على أنه
لو لم يتم العرض فل ضير للتكفل بالحفظ أو لما قاله ابن حجر-رحمه ال
ل بالنسبة لما تقدم
تعالى" :-وكأن الذي نزل في تلك اليام لما كان قلي ً
غُتِفَر أمر معارضته"). (498
اْ
وفي آخر هذا المبحث :فهل أتاك نبأ
رسول الله إذ يتلقى ألفاظ ألفاظ القرآن
الكريم؟ ،وجبريل إذ يعلمه لفظ القرآن
ج
سَر َي الشوق أشعل ُ المجيد؟… فيا حاد َ
العزيمة…وأمط عنا –بذاك-في الظلماء ذ َ
ل
الهزيمة….ويا رسول الله:
زل قد كنت بدرا ً ونورا ً ُيستضـاء به ….عليك َتنـ ِ
بمن ذي العزة الكت ُ
وكان جبريـل باليـات يحضرنا … .فغـاب عنا،
ب
ل الشوق ينسك ُ وك ُ
183
المبحث التاسع:
تحليل حديث المدارسة )المعارضة(:
قد تكررت -فيما سبق -الشارة إلى حديث المعارضة ،ولنه ُيَمّثل
أنموذج المراجعة السنوية للقرآن الكريم من جهٍة ،ولما يتضمنه من دلل ٍ
ت
متميزٍة من حيث تلقين جبريل للنبي ألفاظ القرآن من جهٍة أخرى؛
عقد هذا المبحث ،وينقسم إلى خمسة فقد لزم إبرازه بالبحث والتحليل ،لذا ُ
مطالب:
المطلب الول :متن الحديث برواياته المختلفة .
المطلب الثاني :الدللت العامة لحديث المعارضة .
ضّمنات المعارضة . المطلب الثالث :مت َ
المطلب الرابع :إيراٌد على ما سبق ودفعه .
المطلب الخامس :المقتضى المنهجي لحديث المعارضسسة
.
184
الحديث:ل يسأل شيئًا إل أعطاه) .(503وحديث فاطمة الذي أشار إليه
البخاري هو ما روته عائشة -رضي ال تعالى عنها-
185
186
قالت :إنا كنا أزواج النبي عنده جميعًا ،لم تغادر منا واحدة ،فأقبلت
فاطمة -عليها السلم-تمشي ،ول وال ما تخفى مشيتها من مشية رسول ال
،فلما رآها رحب وقال:مرحبًا بابنتي ،ثم أجلسها عن يمينه ،أو عن
شماله ،ثم سارها فبكت بكاء شديدًا ،فلما رأى حزنها سارها الثانية ،فإذا هي
تضحك ،فقلت لها أنا من بين نسائه :خصك رسول ال بالسر من بيننا،
ثم أنت تبكين ،فلما قام رسول ال سألتها :عم سارك؟ ،قالت :ما كنت
لفشي على رسول ال سره .فلما ُتوفي ،قلت لها :عزمت عليك بما لي
عليك من الحق لما أخبرتني .قالت :أما الن فنعم ،فأخبرتني ،قالت :أما
حين سارني في المر الول ،فإنه أخبرني )أن جبريلكان يعارضه
بالقرآن كل سنة مرة ،وإنه قد عارضني به العام مرتين ،ول أرى الجل
إل قد اقترب فاتقي الله ،واصبري ،فإني نعم السلف أنا لك( قالت:
زعي سارني الثانية ،قال) :يا فاطمة
جَفبكيت بكائي الذي رأيت ،فلما رأى َ
أل ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أوسيدة نساء هذه المة(
).(504
المطلب الثاني :الدللت العامة لحديث المعارضة:
والدللت المأخوذة من هذا الحديث هي:
اعتماد مبدأ المدارسة في مفردات التعليم المنهجي -1
للفاظ القرآن الكريم :فقد تنوعت روايات الحديث في
وصف هذا الموقف التعليمي بين جبريل والنبي ،
فوصفه بعضها بأنه )مدارسة( ،وبعضها بأنه )معارضة(،
وبعضها )يعرض عليه القرآن( ،وبعضها أبهم الفاعل،
وصّرح البعض بأن الفاعل للعرض هو النبي ،والبعض
أن الذي كان يعرض هو جبريل ومنه استنباط المام
النسائي :أن جبريل هو الذي كان يعرض القرآن على
النبي ،وهو ما أشار إليه البخاري في قوله :وروى أبو
هريرة وفاطمة -رضي ال تعالى عنهما -عن النبي أن جبريل
()504صحيح البخاري ،5/2317 ،مرجع سابق .
187
كان يعارضه القرآن…وهذه الوصاف مستلزمٌة سبَر
معانيها اللغوية والصطلحية ،للتمكن من تحليل هذا
الموقف التعليمي المتميز ،والخروج بنتائج حقيقيٍة تترتب
عليه .
ومن ذلك:
جَمع ذاك إلى -1أن المدارسة تستلزم الفقه الدقيق ،ول بد من أن ُي ْ
حسن المعنى وتركيزه ،صحَة اللفظ وعذوبته وقوته ،كما جاء عن
عبد الملك بن عمير عن قبيصة ابن جابر) :أل أخبركم عن من
صحبت؟! صحبت عمر بن الخطاب ،فما رأيت أحدًا أفقه في كتاب
ال ،ول أحسن مدارسًة منه…() .(505فليس المعنى فقط هو المعتبر
في المدارسة ،وظاهٌر أنه ل يستطاع الوصول إليه إل عبر اللفظ،
ف فيه
فإن كان هذا اللفظ هو كلم ال كان من البدهي أن لكل حر ٍ
دللته التي ل يقوم غيره فيها مقامه… .
-2والمدارسة الرمضانية هي الساس الشرعي المنهجي للعرضة
الثانية ،والثالثة للقرآن الكريم من الطالب على شيخه…كما هو
معمول به عند المسلمين ،تدقيقًا للفظ وتأكيدًا للحفظ ،وتثبتًا من
الداء .
التأكيد على الحفظ في حق الرسول بما ليس -2
بعده :والمراد بذلك مقتضياته التعليمية في حق المة ،ذلك
أن ال قد تكفل بإقراء النبي على هيئة قراءة جبريل
سيه من صدره ثانيًا ،ثم لفظًا وأداء أو ً
ل ،ثم تكفل بعدم ِن ّ
بحفظ كتابه ثالثًا … وعلى الرغم من ذلك فقد كانت
المعارضة السنوية للقرآن الكريم تأخذ مجراها الدوري،
) ()505المزي( أبو الحجاج جمال الدين يوسف بن الزكي عبد الرحمن ت 742هس :تهذيب
الكمال ،23/472مراجعة :بشار عواد معروف1400 ،هس 1980-م ،مؤسسة الرسالة
-بيروت ،وقد رواه البخاري في التاريخ الكبير ،175 /7ومما يلزم إضافته في سياق تقرير
المعنى المشار إليه :أن قبيصة قد تأثر بصحبة هؤلء الساتذة ،فكان كما قال عبد الملك ابن
عمير إذا ذكر الفصحاء" :فصحاء الناس ثلثة :الحسن البصري ،وموسى بن طلحة القرشي،
وقبيصة بن جابر السدي …" تهذيب الكمال ،23/472مرجع سابق .
188
مع جملة تأكيدات فيها على غايتها وفحواها) ،(506كتكرار
المعارضة مرتين في العام الذي توفي فيه ،واستمرارها في
كل ليلة من شهر رمضان مع أنه كان يمكن الكتفاء ببعض
المجالس سواء كرر جميع القرآن كل ليلة ،أو فرقه على
الليالي وهو الظهر وهو ما أكده المام النووي -رحمه ال
تعالى -في شرحه لهذا الحديث حيث قال" :واستحباب
الكثار من القراءة في رمضان وكونها أفضل من سائر
الذكار؛إذ لو كان الذكر أفضل أو مساويًا لُفِعل ،فإن
اعُترض بأن المقصود تجويد الحفظ ،قلنا :الحفظ كان
ل ،والزيادة فيه تحصل ببعض المجالس "). (507 حاص ً
وهل للعتكاف علقة بعرض القرآن ؟ ذاك ما ل يمكن نفيه أو
إثباته ،ولكن العلقة طردية بين العتكاف وعرض القرآن) ،(508ومت َ
ضّمن
العتكاف الذي يجعل تلوة القرآن من أساساته ،والنقطاع ل من
أوصافه الذاتية)…(509قد يوحيان بهذه العلقة .
-3تأكيد المعارضة السنوية ،وتعويضها عند فواتها لعارض :فقد اختلف
في سبب معارضته مرتين في العام الذي توفي بعده ،ول شك أن مجرد
ف في التأكيد على أصل أصول الدين ،ويجعل العلم اللهي بوفاته سبب كا ٍ
ذلك كالمقطوع به استنباطه حيث قالت ابنته فاطمة) :أخبرني أن جبريل
كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة وإنه قد عارضني به العام مرتين ول
أرى الجل إل قد اقترب( ،لكن هذا ل يفسر اعتكافه مرتين على المستوى
ذاته من القوة…وقد عرض ابن حجر-رحمه ال تعالى -اختلف العلماء في
()506ولذا قال ابن حجر -رحمه الله تعالى" :-وفيه استحباب تكثير العبادة في آخر العمر،
ومذاكرة الفاضل بالخير والعلم ،وإن كان هو ل يخفى عليه ذلك لزيادة التذكرة والتعاظ،
وفيه أن ليل رمضان أفضل من نهاره ،وأن المقصود من التلوة الحضور والفهم ،لن الليل
مظنة ذلك لما في النهار من الشواغل والعوارض الدنيوية والدينية ".
507
)( فتح الباري شرح صحيح البخاري ،31/1مرجع سابق .
)( حيث كان يعرض القرآن مرة ،ويعتكف عشرة أيام ،فلما عرضه مرتين اعتكف عشرين 508
يومًا…ولقائ ٍ
ل أن يقول :ليست هذه العلقة مؤثرة ،بل اتفق الطراد لعارض .
()509حتى أن اعتكاف النبي كان تصاحبه شدٌة في التبتل ،قال ابن حجر-رحمه ال تعالى-في
الفتح ،4/285مرجع سابق" :وقد روى ابن المنذر عن ابن شهاب أنه كان يقول:عجبًا للمسلمين ،
تركوا العتكاف والنبي لم يتركه منذ دخل المدينة حتى قبضه ال " ،وقال مالك " :أنه لم يعلم أن
أحدًا من السلف اعتكف إل أبا بكر بن عبد الرحمن ،وأن تركهم لذلك لما فيه من الشدة" .
189
سبب اعتكافه في العام الذي توفي بعده عشرين يومًا فقال" :قيل :السبب في
ذلك أنه علم بانقضاء أجله ،فأراد أن يستكثر من أعمال الخير؛ ليبين
لمته الجتهاد في العمل إذا بلغوا أقصى العمل ليلقوا ال على خير
أحوالهم) ،(510وقيل :السبب فيه أن جبريل كان يعارضه بالقرآن في كل
ض فيه عارضه به مرتين؛ فلذلكرمضان مرة ،فلما كان العام الذي ُقِب َ
اعتكف قدر ما كان يعتكف مرتين ،ويؤيده أن عند ابن ماجة) :وكان
يعرض عليه القرآن في كل عام مرًة ،فلما كان العام الذي قبض فيه عرضه
عليه مرتين() ،(511وقال ابن العربي :يحتمل أن يكون سب ُ
ب ذلك أنه لما
ترك العتكاف في العشر الخير بسبب ما وقع من أزواجه ،واعتكف بدله
عشرًا من شوال –اعتكف في العام الذي يليه عشرين ليتحقق قضاء العشر
في رمضان انتهى ،وأقوى من ذلك أنه إنما اعتكف في ذلك العام عشرين
لنه كان العام الذي قبله مسافرًا ،ويدل لذلك ما أخرجه النسائي وللفظ له
وأبو داود وصححه ابن حبان وغيره من حديث بن أبي بن كعب أن
النبي كان يعتكف العشر الواخر من رمضان ،فسافر عامًا فلم يعتكف
فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين ،وقال في موضع آخر :ويحتمل أيضًا
أن يكون السر في ذلك أن رمضان من السنة الولى لم يقع فيه مدارسة
لوقوع ابتداء النـزول في رمضان ثم فتر الوحي ،ثم تتابع ،فوقعت المدارسة
في السنة الخيرة مرتين ليستوي عدد السنين والعرض ،ويحتمل تعدد هذه
القصة بتعدد السبب ،فيكون مرة بسبب ترك العتكاف لعذر السفر ،ومرة
بسبب عرض القرآن مرتين"). (512
وقد ظهر أن من بين القوال الخمسة المذكورة في التعليل لعتكافه
عشرين يومًا قولن يرجعان إلى علقة العتكاف بالقرآن الكريم .
وهل كانت المعارضة تتم قبل أن ُيفرض صيام رمضان ؟ الظاهر
من قول ابن عباس) :وكان جبريل يلقاه كل ليلٍة في رمضان حتى
ضّعف هذا أنه أخبر عن نفسه بعدم العلم باقتراب أجله إل بعد أن رأى جبريل ()510ي ُ َ
ن في منتهى رمضان فكذلك العتكاف فيقوى من هنا أن عارضه القرآن مرتين ،وذاك كائ ٌ
يكون للعتكاف علقة في معارضة القرآن ،ولكن يقوي الستنباط الول النعي العام له
في سورة النصر وكانت بعد فتح مكة ،فلقائل ذاك القول أن يقول :استكثر من الخير بعدما
نزلت عليه هذه السورة ومن ذلك العتكاف ،وأما المعارضة فكانت تحديدا ً أدق من النعي
العام .
()511سنن ابن ماجة ،2/345مرجع سابق .
()512فتح الباري ،4/285مرجع سابق .
190
ينسلخ ]كان يلقاه في كل سنة في رمضان[()– (513أن المعارضة كانت تتم
في كل رمضان حتى قبل أن يفرض صيامه ،ويقوي ذلك رواية )من(؛ فإن
)من( هاهنا إما لبتداء الغاية الزمانية على قول من يجيزها أي من ابتداء
شهر رمضان فيه بعد نبوته إلى آخر رمضان قبل وفاته ،وفيه إدماج معنى
الحرفين في التقدير ،أو أن )من( لبيان الجنس فيصدق على جميع
رمضانات النبوة).(514
قال ابن حجر-رحمه ال تعالى" :-وهذا ظاهٌر في أنه كان يلقاه كذلك في
كل رمضان منذ أنزل عليه القرآن ،ول يختص ذلك برمضانات الهجرة،
وإن كان صيام شهر رمضان إنما ُفِرض بعد الهجرة؛ لنه كان يسمى
رمضان قبل أن يفرض صيامه").(515
-4التركيز في عنصر الوقت لتثبيت ومراجعة لفظ القرآن الكريم :وذلك
ل ،ليتم الوصول إلى باعتماد الدرس الليلي :إذ كانت المعارضة تتم لي ً
الكمال في الحاطة بالدرس القرآني إذ يتم حفظ ،أو مراجعة ما يراد تثبيته
من الليل ،ثم يعقبه نوٌم ،ثم تجري مراجعته سحرًا أو بكرة؛ لنه إذا تساوى
زمن الحفظ واليقظة بين التعلم والتذكر؛ فإن زمن النوم أقل ضررًا على
ت جديدة خلل النوم يحصل الحفظ من زمن اليقظة؛ لعدم التعرض لخبرا ٍ
ت جديدة،بسببها النسيان؛ فإن النسيان إنما يحدث من جراء حصول خبرا ٍ
516
ل ،فيطمس أشياء قبلها) ( ،ولذا قال ابن حجر-رحمه يفسح لها الدماغ مجا ً
ال تعالى" :اختيار الليل لن المقصود من التلوة الحضور والفهم ،لن الليل
مظنة ذلك ،لما في النهار من الشواغل والعوارض الدنيوية والدينية" .وقد
مر نحو هذا في فوائد آيات المزمل). (517
-5التركيز في عنصر الوقت:اعتماد رمضان زمانًا للمعارضة ،ول
يخفى مدى ملءمة ذلك .
191
-6التركيز في عنصر الوقت :تعويض المعارضة عند فواتها لعارض:
وتقدم) ،(518وتجدر الشارة إلى استبعاد الغرض التعبدي المحض من
ض
ب لدائم العمل إن حجب عنه لعار ٍ تعويض المعارضة؛ لن الجر ُيْكَت ُ
519
معتبٍر كسفٍر أو مرض على ما تقرر في التقعيد الصولي) ( ،فقد ثبت
النص بذلك فعن أبي بردة –واصطحب هو ويزيد بن أبي كبشة -في سفٍر،
فكان يزيد يصوم في السفر ،فقال له أبو بردة :سمعت أبا موسى-يعني أباه
هو الشعري-مرارًا يقول :قال رسول ال ) : إذا مرض العبد أو
سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما ً صحيحا ً().(520
وكل ما سبق يجعل الحكم بإلزامية المراجعة السنوية على النبي
أمرًا بالغ الوضوح .
ويجب إبراز ملحظٍة هي :أن ما تفرع عما تقرر أعله من تعويض
سّلُم
ل أن يقول :ل ُن َ المعارضة تأسس على تحتم المراجعة عليه ، ولقائ ٍ
ب جبريل عن معارضة النبي القرآن ج ُ حَ
تعويض المعارضة ،بل ما ُي ْ
في سفره ،وكونه لم ُيْنَقل فلن عدم العلم ليس علمًا بالعدم ،ويكفي قرائن
الحوال الخرى ،أما المعارضة مرتين في آخر رمضان فتأكيدًا على
القرآن الكريم ل للتعويض ،وهو الذي يظهر من الحديث .
ح هذا منتثبيت الحفظ بالعمل ،والعبادات التي تباركه :وُيْلَم ُ -7
الحالة النفسية التي تتعاظم عندها الطاعة بعد تلقي القرآن الكريم أو
مدارسته مع جبريل ،وتلك مسألٌة واضحةٌ في نص الحديث:
في زيادة النفاق من حيث الشكر،
وقيام الليل من حيث المراجعة والذكر،
وتمام القول أن خلقه القرآن ،وذاك كافٍ في القامة عليه ،والحفاظ
على نصه؛ إذ قد استحالت اللفاظ بمعانيها إلى جسٍد متحرك ،قال ابن
حجر-رحمه ال تعالى -في شرح هذا الحديث":قيل الحكمة فيه :أن مدارسة
القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس ،والغنى سبب الجود ،والجود
في الشرع إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي ،وهو أعم من الصدقة ،وأيضًا
فرمضان موسم الخيرات ،لن نعم ال على عباده فيه زائدة على غيره
()518انظر ص 174من هذا البحث .
()519انظر :الموافقات ،1/342مرجع سابق .
()520صحيح البخاري ،3/1092مرجع سابق .
192
فكان النبي يؤثر متابعة سنة ال في عباده فبمجموع ما ذكر من
الوقت ،والمنـزول به ،والنازل ،والمذاكرة حصل المزيد في الجود
والعلم عن ال تعالى"). (521
ففي هذا الحديث أن مداومة التلوة توجب زيادة
الخير).(522
منات المعارضــة :تتضسسمن ضـ ّ
المطلــب الثــالث :مت َ
المعارضة بين جبريل والنبي المفاهيم التالية:
523
-1الراءة :إذ" :عرض الشيء عليه يعرضه عرضًة أراه إياه") (
ض النبي القرآن على جبريليتضمن نظر جبريل في … فَعْر ُ
لفظ النبي وأدائه تصويبًا ،وتفهيمًا ،وتعبدًا ،وعرض جبريل
يتضمن نظر النبي في لفظ جبريل تعلمًا ،وتفهمًا ،وتعبدًا ،إذ ك ٌ
ل
منهما ُيِري الخر لفظه ،وأداءه ،ويحتمل أيضًا :ومعناه ،ولذا جاء في مادة
عرض" :وعرضت الكتاب ،وعرضت الجند عرض العين إذا أمررتهم
عليك ،ونظرت في حالهم"). (524
-2المقابلة :من قولهم عارض الكتاب بالكتاب قابله به)،(525
ل به ،فيظهر من ذلك ع مقاَب ٌ
ل عليه ،وفر ٌ
ل مقاَب ٌ
ويشترط أن يكون َثّم أص ٌ
ج عن نطاق البشر في أرقى ما يمكن أن يصل إليه التدقيق ،مما هو خار ٌ
مقابلة حفظ رسول ال على ما ُأِمر جبريل بحفظه من ربه ،وأهم
صفٍة ذاتيٍة لجبريل عند نزوله من السماء أنه ما ينـزله ربه إل
بالحق). (526
ك ر َرب ّ َ
م ِ
َ
ل ِإل ب ِأ ْ
ما ن َت َن َّز ُ
و َ
َ بل إن مجرد النسزول ل يكون إل بأمر من الله ،لقوله:
:ل
"مريم ،"64/وليس للملك الجتهاد في إنشاء أمر ،أو تنفيذه كما في قوله
َ
ن" النبياء ،"27/فالحق صفة ذاتية في النسزول مُلو َ
ع َ
ه يَ ْ
ر ِ
م ِ
م ب ِأ ْ
ه ْ
و ُ
ل َ
و ِ ه ِبال ْ َ
ق ْ سب ِ ُ
قون َ ُ يَ ْ
والنازل والمنسَزل به ،فل مس من باطل يعتريه ،ول اجتهاد من مخلوق يأتيه .
193
-3الظهور :ففي مختار الصحاح" :عرض له كذا أي ظهر،
وعرضته له أظهرته له وأبرزته إليه")…(527فإظهار القرآن ،وإبرازه من
النبي لجبريل ،والعكس يعني إظهار ألفاظ القرآن لفظًا لفظًا من
الشيخ لتلميذه ومن التلميذ على) (528شيخه ،ويؤكد هذا العرض الدقيق ما
جاء في معنى مادة عرض" :عرض الجند إذا أمرهم عليه ونظر في
حالهم") ،(529وهذه غايٌة في الدقة في وصف تثبيت ألفاظ القرآن الكريم في
قلب النبي ،ول َيِرُد على هذا التقرير احتمالية أن يكون ما كان يعرضه
الرسول ،أو ما كان يعرض عليه هو معاني القرآن وأمور الشريعة؛ إذ
لو كان المر كذلك لقيل يعرض عليه الشريعة أو نحوها من العبارات ،ول
يخصص القرآن بالذكر .
فإن اعُترض بأن :القرآن هو الشريعة كلها نصًا أو تضمنًا ،فعبر به
في الحديث عنها ،فالمعروض هو أحكام الشريعة ل ألفاظ القرآن .
ح؛ لن تخصيص ح ،والستدلل غير صحي ٍ فالجواب :الدليل صحي ٌ
القرآن بالذكر في جميع الروايات يدل على اقتصار الكلم عليه ،ولو أراد
الكلم عن الشريعة أو الدين ونحوها لما عدل عن لفظها أو ما يدل عليه
َ عَلى َ عل َْنا َ
ر
م ِ
ن ال ْ م َ
ة ِع ٍ
ري َ
ش ِ ك َ ج َ
م َ كما في قوله ث ُ ّ
ها…" الجاثية ،"18/وكما في قول النبي) هذا جبريل جاء ع َ َ
فات ّب ِ ْ
يعلمكم دينكم( ،لم يقل قرآنكم…فتقرر بهذا أنه أراد لفظ القرآن
بخصوص مفهومه .
ويمكن القول على طريقة السبر والتقسيم الصولية:
إما أن يكون المعروض هو ألفاظ القرآن ،وإما معانيه ،وإما شيٌء آخر،
ول جائٌز أن يكون شيئًا آخر ،لن الكلم على القرآن ،ول جائٌز أن يكون
عْرفًا ،فتعين أن المعروض هو ن ُ
معاني القرآن لنه ل يطلق عليها قرآ ٌ
ألفاظ القرآن .
فإن اعُترض بالقول :فهل معنى ذلك أن النبي لم يكن يعرض
معانيه على جبريل؟ .
194
فالجواب :بل يحتمل أنه كان يعرضها ،ولكن دللة الحديث على
عرضها بالتبع أو بالشارة ،ل بالقصد الصلي…ولقد تمسك المسلمون
بذلك في ظاهرة مذهلة تقدم التواتر العملي والعلمي المفيد للعلم
530
الضروري في أن المعروض كان في المقام الول هو ألفاظ القرآن) (،
وذلك كتمسكهم بشعائر السلم الضرورية كرمي الجمار على الرغم من
آحادية نصوصها…فتقرر أن المعروض هو ألفاظ القرآن ،وذاك مؤشٌر
على مقدار الحراسة التي كانت تحف ألفاظه .
فإن اعُترض بأن :المعروض إنما هو القرآن من حيث النسخ
وعدمه) (531ويقويه حديث ابن عباس ،فالجواب :ذاك بعض
المعروض ل كله عند التنـزل في إثباته… وإل فمن ذا يعقل أن يعرض
ت مبتورًة على جبريل هي الناسخة ،دون عرض النبي آيا ٍ
مواضعها وسورها ؟ على أن تصريح الصحابة ،بأن النبي عرض
القرآن مرتين في العام الذي توفي بعده واضح في عرضه القرآن كله ل
بعضه من أوله إلى آخره… ول يعرف للعرض معنى غير هذا عند
إطلقه ،وأجيال المسلمين تتوارث هذا المعنى فهمًا وتطبيقًا ،ولينبئهم
بعلٍم زاعٌم غير ذلك .
-4الَعَرضية اللفظية :إذ إن استخدام لفظة يعرض في أغلب
الروايات عند الراوي الواصف لما حدث ،ثم مجيئها على لسان النبي
ل على فحواها ،وهو عرض اللفاظ واستعراضها ،ومعلوٌم أن ) (532دا ٌ
العرض ضد الطول)…(533فهل يكون أثر إيقاع هذه اللفظة الدقيقة الوصف
()530ويمكنك استخدام أسلوب الصوليين :تخريج المناط ثم تنقيحه للوصول إلى هذه
النتيجة .
()531على قول من يثبت النسخ .
()532راجع متن الحديث في المطلب الول من هذا المبحث ص .177
ض ر
َ َ َ ع "و وفيه: سابق، ()533لسان العرب ،9/137مرجع سابق ،مختار الصحاح ،178مرجع
ب ،وهو من النوادر وقوله َ
ض ،أي أظهره فظهرن فهو كقولهم كّبه فأك ّ الشيء فأعَْر َ
ضا…" الكهف "100 /أي أبرزناها حتى نظروا عْر ً ن َري َف ِ ذ ل ِل ْ َ
كا ِ مئ ِ ٍ
و َ
م يَ ْ
هن ّ َ
ج َ ضَنا َ عَر ْ َ
و َ
ن ت هي أي استبانت وظهرت ،ورآه في ع ُْرض الناس أيضا ً أي فيما بينهم ،وفل ٌ ْ ض
َ ر
َ ْ ع فأ إليها،
ة للناس أي ل يزالون يقعون فيه ،وجعلت فلنا ً ض ٌ من ع ُْرض الناس أي من العامة ،وفلن ع ُْر َ
م…" البقرة/ مان ِك ُ ْ
ض ً َ
ة لي ْ َ عْر َ
ه ُعُلوا الل ّ َ
ج َ
ول ت َ ْ َ
عرضة لكذا أي نصبته له ،وقوله
ض" وهذا كله مقرٌر مبدأ )العرضية اللفظية( ،والقصد من ً
"224أي نصبا ،ونظر إليه من ع ُْر ٍ
استخدام هذه اللفظة لبيان جعل ألفاظ القرآن عرضة للمقابلة والظهار في )ع ُْرض( اللفاظ
أي فيما بينها من )عُْرض( اللفاظ أي من عامتها .
195
إل عرض اللفاظ واحدًا واحدًا ،واقتضاء لفظة العرض سبر الجوانب
الداخلية في اللفظة أداٌء ومعنى ؟ .
فيعرض "من العرض وهو بفتح العين وسكون الراء ،أي يقرأ،
والمراد يستعرضه ما أقرأه إياه") (534بل قد صرح بعض شراح الحديث
أثناء شرحهم لحديث المعالجة بأن العرضية تشمل الحروف حرفًا حرفًا،
ف عقب سماعه من قال السندي –رحمه ال تعالى ":-يحرك شفتيه أي لكل حر ٍ
جبريل.(535)"
ول ُيعترض بأن هذه بديهة! وتحصيل حاصل ،إذ ل يمكن عرض
ل على شدةاللفاظ دون حروفها؛ لن التصريح بمتابعة الحروف دلي ٌ
العتناء بها ،وفيه رٌد على زاعٍم التكلف في حق من يخوض غمار علم
الصوتيات ،على أنه قد ُيْعنى بالحرف غير ذلك ،وهو اللفظ فيدخل ما ذكر
ضمنًا .
ل على أن لفظة )يعرض( تتضمن سبر الجوانب ومما جاء دا ً
الداخلية قول النبي ) :لئن كنت أقصرت الخطبة ،فقد أعرضت
المسألة() .(536قال ابن منظور" :أي جئت بالمسألة واسعًة كبيرًة")،(537
وذاك بما تضمنته جوانبها الداخلية من معنى ،ولذا يقال فيمن يطيل
العبارات أي اللفاظ الخارجية :أطلت الخطبة ،ول يقال أعرضت… .
فإن اعُترض بالقول :ذاك ما نبغ! فالمعروض-على ذلك-هو المعنى
ل فليس أحدهما بأجلى من الخر في الدخول ل اللفظ ،فالجواب :أما تنـز ً
()534فتح الباري ،9/43مرجع سابق .
()535حاشية السندي ،2/34مرجع سابق .
()536صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان ،2/98مرجع سابق :عن البراء بن عازب -رضي ال
تعالى عنه -قال :جاء أعرابي إلى النبي فقال :يا رسول ال! علمني عم ً
ل يدخلني الجنة .قال:
)لئن كنت أقصرت الخطبة ،فقد أعرضت المسألة :أعتق النسمة ،وفك
الرقبة( قال :أو ليستا بواحدة ؟ قال) :ل عتق النسمة أن تفرد بعتقها ،وفك الرقبة
أن تعطي في ثمنها ،والمنحة الوكوف ،والفيء على ذي الرحم القاطع ،فإن
لم تطق ذاك ،فأطعم الجائع ،واسق الظمآن ،ومر بالمعروف ،وانه عن
المنكر ،فإن لم تطق ذلك ،فكف لسانك إل من خير(.
وقال الشيخ شعيب الرناؤوط في تعليقه على ابن حبان :إسناده صحيح ،وهو في مستدرك الحاكم
وقال :هذا حديث صحيح السناد ولم يخرجاه ،قال الذهبي في التلخيص)لمستدرك الحاكم( :صحيح
.
ض
)( لسان العرب ،9/137مرجع سابق ،وفي النهاية " :323 /3ومنه الحديث )فإذا ع ُْر ُ
537
196
الولي في اللفظة ،وأما حقيقٌة فإن دخول الداء الداخلي للفظ أقرب،
وأسرع تبادرًا إلى الذهن)(538من دخول المعنى في العرض ،وهو
المستخدم اصطلحًا في سائر العلوم ،وهذا من نوادر اصطلحات العلوم
السلمية ،وقد قال ابن الثير في معنى حديث جبريل ":أي كان
يدارسه جميع ما نزل من القرآن ،من المعارضة المقابلة "). (539
وما أسهل تصور هذا لكل مسلم يقرأ القرآن الكريم؛ إذ ما زال
عرض اللفاظ القرآنية هو لب عملية تعليم القرآن الكريم تتواتر بالمعنى
الصطلحي واللغوي في جميع المصار كما هي في سائر
العصار).(540
-5المعارضة هي الغاية في تحقيق اللفظ والتثبت
منه :فالعرض هو قراءة التلميذ على شيخه ،ويقابله السماع وهو قراءة
الشيخ وسماع تلميذه منه ،وقد يستعمل أحدهما في معنى الخر ،والقراءة
أعم منهما ،ولذا بوب البخاري":باب القراءة والعرض على
المحدث") … (541قال ابن حجر ":إنما غاير بينهما بالعطف لما بينهما
من العموم والخصوص ،لن الطالب إذا قرأ كان أعم من العرض
وغيره ،ول يقع العرض إل بالقراءة؛ لن العرض عبارة عما يعارض به
الطالب أصل شيخه معه ،أو مع غيره بحضرته فهو أخص من القراءة "
…) ،(542وهذا معناه بالمفهوم الحديثي ،ول بد فيه من القراءة ،فل تسمى
المناولة) (543عرضًا إل تقييدًا .
وقد ذكر العلماء الختلف بين العرض والسماع من حيث الفضلية
في التحقيق العلمي للنص :على ثلثة أقوال:
ض أيضا
)( فمن اشتقاقات عرض كما في مختار الصحاح ص ،178مرجع سابق" :والعِْر ُ
538
197
الول وهو المشهور :الذي عليه الجمهور أن السماع من لفظ الشيخ
ض يصير القراءة عليه أرفع رتبًة من القراءة عليه ما لم يعرض عار ٌ
أولى ،ومن ثم كان السماع من لفظه في الملء أرفع الدرجات لما يلزم
منه من تحرز الشيخ والطالب .
والثاني :القراءة على الشيخ أرفع من السماع من لفظه ،ونقله
الدارقطني في غرائب مالك عنه ،ونقله الخطيب بأسانيد صحيحة عن
شعبة وابن أبي ذئب وغيرهما ،واعللوا ذلك :بأن الشيخ لو سها لم يتهيأ
للطالب الرد عليه ،وعن أبي عبيد قال :القراءة علي أثبت وأفهم لي من أن
أتولى القراءة أنا).(544
والثالث :وهو المعروف عن مالك وعن سفيان الثوري :كلهما سواء،
وروى البخاري معلقًا عن الحسن البصري" :ما أبالي قرأت عليك ،أو
قرأت علي").(545
وهذا كله في الحديث ،وأما القرآن فإن قراءة الطالب على شيخه
)العرض( هو الصل ،وهو المعروف عن السلف كما هو المعمول به إلى
جز العرض في الحديث بجوازه في الن ،ولذا احتج مالك على من لم ُي ْ
تلوة القرآن "فيما رواه الخطيب في الكفاية من طريق ابن وهب قال:
سمعت مالكًا ،وسئل عن الكتب التي تعرض عليه :أيقول الرجل حدثني ؟
قال) :نعم! كذلك القرآن ،أليس الرجل يقرأ على الرجل فيقول :أقرأني
فلن؟( ،وروى الحاكم في علوم الحديث من طريق مطرف قال :صحبت
مالكًا سبع عشرة سنة ،فما رأيته قرأ الموطأ على أحد ،بل يقرأون عليه
-قال :-وسمعته يأبى أشد الباء على من يقول :ل يجزيه إل السماع من
لفظ الشيخ ،ويقول :كيف ل يجزيك هذا في الحديث ،ويجزيك في القرآن،
والقرآن أعظم ؟"). (546
وأما معارضة النبي ألفاظ القرآن على جبريلفقد اتسمت
بسمتين:
السمة الولى :أنها أتت بعد خطوات الحفظ التي أولها خطوات
التلقين…والمقتضى المنهجي لذلك جعل المعارضة مرتبة تالية للمتقنين
()544انظر :فتح الباري ،1/135مرجع سابق .
()545الثر :رواه البخاري ،35 /1وانظر :فتح الباري ،1/150مرجع سابق .
()546انظر :فتح الباري ،1/152مرجع سابق .
198
لتأكيد الحفظ ،وتثبيت مخارج الحروف ،والتأكد من وجوه الداء ،وبقاء
ل له بفعل المد ،فالمعارضة هي غاية كل ذلك على الدوام دون تطرق خل ٍ
التحقيق .
والسمة الثانية :أنها جمعت بين السماع والعرض ،فأزالت قوادح كل
طريقٍة على حدة:
أما العرض )من النبي على جبريل عرض الطالب على
شيخه( :فقد جاء في رواية البخاري) :يعرض عليه النبي (وعليها
أغلب الروايات .
وأما السماع )من النبي لجبريل سماع الطالب لشيخه( :فقد
جاءت بقية الروايات مبهمة فاحتملت العرض والسماع ،وتأكد ذلك
بروايات المفاعلة )يعارض ،يدارس ونحوها( ،والمفاعلة ل تكون إل من
طرفين غالبًا) ،(547ووردت روايات مصرحة بالسماع ،منها ما رواه
البخاري عن أبي هريرة قال) :كان يعرض على النبي القرآن كل
عاٍم مرة ،فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه ،وكان يعتكف كل
عام عشرًا فاعتكف عشرين في العام الذي قبض فيه(). (548
ويزيد المر تأكيدًا أن القراء والمحدثين ل يستخدمون إل لفظ
)يعرض( للتعبير عن المراد لتصل أعلى درجات الحتياط في نقل ألفاظ
القرآن الكريم ،وذا ما فهمه المام النسائي فبوب في سننه الكبرى" :باب
عرض جبريل القرآن") ،(549ومن قبله المام
البخاري حيث بوب" :باب كان جبريل يعرض القرآن على
النبي. (550)"
()547وقد تستخدم في فاعل واحد مثل عاقب وداوى وسافر …ولكن هذا استثناء ،وذاك
أصل .
()548صحيح البخاري ،4/1911مرجع سابق ،وعند السماعيلي في مستخرجه على البخاري
بلفظ" :كان جبريل يعرض على النبي القرآن في كل رمضان".
()549ورواية صحيح ابن خزيمة ،193 /3مرجع سابق ،فيها إجمال يؤيد هذا الستنتاج ،ففيها:
)يأتيه جبريل فيعرض عليه القرآن(…،فيستأنس بذلك على المطلوب ،ويصير هذا في حيز
الثبات بحديث عائشة -رضي الله تعالى عنها -عن فاطمة في المعارضة ،حيث قالت) :إن
جبريل كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة ،وإنه قد عارضني به مرتين( قال ابن حجر-رحمه
الله تعالى -في فتح الباري )" :(43 /9والمعارضة مفاعلة من الجانبين ،كأن كل ً منهما كان
تارة يقرأ والخر يستمع" .
()550صحيح البخاري ،4/1911مرجع سابق ،وهو ما رجحه ابن حجر-رحمه الله تعالى-فقال:
"فيحمل على أن كل ً منهما كان يعرض على الخر".
199
وينبغي أن يلحظ أنه لم يوجد مثل هذا )العرض أكثر من مرة( في
الساليب العلمية التعليمية التي تتبع في ديار المسلمين إل في خصوص
مادة القرآن الكريم ،وكان ذلك مقتضى منهجيًا من مقتضيات هذه
الطريقة التي اتبعها النبي في تعلمه على يد جبريل ، ووجودها في
بقية العلوم الشرعية مقارنة بالقرآن الكريم في حكم النادر .
-6عرض القرآن بالحروف المأذون بالقراءة بها):(551
سَم أمر عرضه للقرآن كله )لكل ما نزل منه( في كل رمضان حِإذ قد ُ
بحديث العرضتين الثابت عن ابن عباس ،وفاطمة ،وأبي هريرةرضي
ال تعالى عنهم ،وفي ذلك دللة على أمرين:
أنه كان يعرض كل ما نزل ،وأنه كان يقسم ذلك العروض على
ليالي رمضان) ،(552ويدل لذلك حديث ابن عباس أن رسول ال
قال) :أقرأني جبريل على حرف فلم أزل أستزيده حتى انتهى إلى
سبعة أحرف().(553
ل لما احتمله ابن حجر-رحمه ال تعالى-
ق روايات العرض مجا ًكما لم ُتْب ِ
ل أن يقسم ما نزل من القرآن في كل سنة على ) (554من أن العرض محتم ٌ
()551ل يمكن لنطاق البحث أن يتوسع في شرح مدلول حديث الحرف السبعة؛ ولكن يقال
صل ما ورد في هذا الموضوع من أقوال يرجع إلى :أن المراد من على سبيل الجمال :مح ّ
الحرف السبعة من حيث العموم ومراد الحديث ،ل من حيث التحديد هو "ما يشمل اختلف
اللهجات ،وتباين مستويات الداء الناشئة عن اختلف اللسن ،وتفاوت التعليم ،وكذلك ما
يشمل اختلف بعض اللفاظ ،وترتيب الجمل ،بما ل يتغير به المعنى المراد " ،أو يتغير
المعنى بما ل يتضاد به المعنيان الواردان في القراءتين ،ويكون الجميع مرادًا ،دون تكرار
ل للمصحف ،وفي ذلك تيسير ظاهر" ،وهذا دون محاولة حصر تلك الوجوه في للية ،أو تطوي ٍ
سبع لغات ،أو وجوه من الخلف ،ويظل معنى الحديث بعد ذلك يشير إلى الرخصة التي
جاءت تيسيرا ً وحل ً لمشكلة واجهت الجماعة المسلمة ،دون تحديد لبعاد تلك الرخصة ،لكنها
ل تخرج عن إطار وجوه القراءات المروية " .
وما بين علمتي التنصيص الوليين هو من كلم الدكتور عبد الصبور شاهين ،انظر:
لخريين هو من كلم غانم تاريخ القرآن ،61دار القلم 1966م ،وما بين علمتي التنصيص ا ُ
ً
قدوري الحمد ،انظر :رسم المصحف ،144مرجع سابق ،وانظر أيضا) :الباقلني( محمد بن
الطيب ت 403هسُ :نكت النتصار لنقل القرآن ،تحقيق د .محمد زغلول سلم ،الناشر :منشأة
المعارف بالسكندرية ،الطبعة بدون لكل ما سبق .
()552وقد صرح ابن حجر-رحمه الله تعالى -ببعض ذلك في فتح الباري ،9/45مرجع سابق،
فقال" :ولول التصريح بأنه كان يعرضه مرة واحدة ،وفي السنة الخيرة مرتين -لجاز أنه كان
يعرض جميع ما نزل عليه كل ليلة ،ثم يعيده في بقية الليالي".
()553البخاري ،3/1177مرجع سابق .
()554فتح الباري ،9/45مرجع سابق .
200
ليالي رمضان؛ إن أراد به أنه ل يقرأ إل ما نزل في تلك السنة ،أما إن
أراد به أنه يخصص لكل ما نزل ليلة فذاك أبعد من حيث زيادة عدد
الليالي على عدد سنوات النـزول ،ومن حيث أن أهداف العرض تأكيد
تأليف آياته على ما أراد ال ،ل على ترتيب نزولها ،وهما مختلفان كما
سُم أمر عرضه حَل بعيدًا ،وإن افترض…وبذا ُي ْ هو معلوم…فيظل احتما ً
لكل ما نزل من القرآن). (555
وبقي أمر عرضه القرآن بجميع حروفه المأذون في القراءة بها
فهل كانت العرضة كذلك؟ والجواب :ل نص في ذلك ،بيد أن المؤشرات
ل راجحًا ،لنه كان يقول للمختلفين في ل احتما ً
العامة تجعل ذلك محتَم ً
القراءة ) :أقرأني جبريل() ( ،أو )هكذا ُأنزلت() ( قال ابن حجر-
557 556
رحمه ال تعالى" :-ولعله كان يعيد ذلك الجزء مرارًا ،بحسب تعدد الحروف
المأذون في قراءتها ،ولتستوعب بركة القرآن جميع الشهر"). (558
201
-رحمه ال تعالى- أهواءهم قبل أعمالهم") ،(559وقد أورد أبو إسحاق الشاطبي
هذا الثر في معرض الستدلل). (560
والجواب من وجوه:
ل في صحة هذا الثر من حيث السند ،ثم من أن الشأن أو ً .1
حيث المتن ،فأما سنده فمنقطع حيث جاء في الموطأ:
وحدثني عن مالك عن يحيى بن سعيد أن عبد ال بن مسعود ،فقد ضَُع َ
ف
من حيث السند .
ومن حيث المتن -على فرض صحة السند واتصاله -فإن .2
نكارة موضع الشاهد منها واضح؛ حيث لم َتِرد في بقية طرق الثر ،فقد
ورد في موضٍع آخر من الموطأ والمعجم الكبير دون موضع الشاهد،
كما أنها فاسدٌة معنى عند أخذها على ظاهرها؛ إذ كيف تحفظ حدود
القرآن ،وحروفه مضيعة.
فإن اعُترض بأن روح القرآن باقية -أي مقاصده الكلية -وإن ذهبت
ألفاظه .
فالجواب :في إطلق هذا القول نظر إن أطلقنا القول بضياع
سّلم ذلكحروفه ،وهل نعرف روحه دون تأكدنا من حروفه؟ ،فإن ُ
عًة .
جَذ َ
ف في ذاتها فيعاد الكلم عليها َ فمقاصده المزعوم بقاؤها حرو ٌ
على أن حروفه تلك:
إما أن تكون متغيرة ،وإما أن تكون منعدمة وإما أن تكون قائمًة بالنفس،
وإما أن تكون ثابتة:
فالول :وهو ما كانت حروفه متغيرة ل يعتبر شرعًا صالحًا للبشر لعدم
ل عن أن يكون شرعًا إلهيًا . انضباطه ،أو ظهور معالمه فض ً
والثاني :وهو ما كانت حروفه منعدمًة ،أو قائمًة بالنفس فل يتعلق به
حكم؛ لنه معدوم .
) ()559إمام دار الهجرة( أبو عبد ال مالك بن أنس الصبحي ت 179هـ :موطأ المام مالك ،1/173
مراجعة :محمد فؤاد عبد الباقي -دار إحياء التراث العربي ،مصر ،وقد جاء هذا الحديث مرفوعًا فيما
رواه الطبراني في المعجم الكبير ،197 /3مرجع سابق ،عن حزام بن حكيم بن حزام عن أبيه عن
النبيقال) :إنكم قد أصبحتم في زمان كثير فقهاؤه ،قليل خطباؤه ،كثير معطوه،
قليل سؤاله ،العمل فيه خيٌر من العلم ،وسيأتي زمان قليل فقهاؤه ،كثير خطباؤه،
كثير سؤاله ،قليل معطوه ،العلم فيه خير من العمل( .
()560انظر :الموافقات ،2/173مرجع سابق .
202
ن بعد ما سبق ،وهو المراد . والثالث :متعي ٌ
ولو صح هذا الزعم القائل بأن"اللفاظ مجرد وسائل فل تقدس في
ذاتها ،بل المر متجه إلى روح القرآن ومقاصده" ،لصح أن يقال من
ب أولى :فل داعي لتقديس جميع الوسائل العلمية والعملية في الحياة، با ٍ
فتعطل دراسة اللغة العربية للحجة ذاتها ،ومثلها سائر علوم الوسائل،
ول يحتاج لدراسة العلوم الطبية؛ لن المقصد شفاء المريض! ول ُيْدَرى
كيف سُيشفى؟! ،ول داعي لستخدام أداٍة لرتقاء السقف؛ لن الهدف
الوصول إلى السقف؟! ،ول تدري كيف سيصل؟! ،لتحدث -بعُد-
فوضى ضاربة في الحياة العلمية والعملية .
عند التسليم بصحة موضع الستشهاد في الحديث ،فإن وضعه .3
في موضعه الصحيح هو الحكمة ذاتها…إذ إن مراد ابن مسعود منه
ترك التعمق في السعي وراء اللفاظ ،وحتمية إعطائها القدر المناسب
ل بها عن المراد منها ،والنهي عن التنطع، ل شاغ ٍ لها دون إيغا ٍ
والتعمق…والنهي عن اليغال والغلو ليس خاصًا بالوسائل بل هو عام
ل…وذا من بدهيات دللت سبيل القصد، في كل شيء مقاصدًا ووسائ ً
561
والوسطية في الشريعة ،بل في سائر جوانب الحياة المختلفة) (…
وهذا الفهم لمنطوق كلم ابن مسعود هو ما نص على مثله السيوطي
-رحمه ال تعالى -في تنوير الحوالك حيث قال)" :قليل قراؤه( أي الخالون
من معرفة معانيه ،والفقه فيه) ،وتضيع حروفه( أي أن المحافظين على
حدوده أكثر من المحافظين على التوسع في معرفة أنواع
القراءات"). (562
ومن الدلة على أن المام أبا إسحاق الشاطبي -رحمه ال تعالى -ل يريد
ما ذهب إليه هؤلء ،أنه قال -بعد -معددًا القواعد التي تنبني على الصل
الذي ذكره ،وورد الستدلل بكلم ابن مسعود ضمنه" :اتباع الهوى في
الحكام الشرعية مظنٌة لن يحتال بها على أغراضه ،فتصير كاللة المعدة
ل على أن كلم ابن مسعود ينبغي أن لقتناص أغراضه") ،(563وهذا دا ٌ
ُيفهم في إطاره ،فل يتخذ مطية لهدم الشريعة التي هي أصل أثر ابن مسعود
()561انظر :الموافقات ،2/120مرجع سابق .
()562تنوير الحوالك شرح موطأ مالك ص ،144مرجع سابق .
()563الموافقات ،2/176مرجع سابق .
203
،ولذا فإنه كان ُيَقّعُد لقراءته أقوى تقعيد ،ويعتمد على أوثق السانيد
وهو قوله) :أخذتها من في رسول ال .(564)(
ومن أحسن أدلة التوقيفية في أداء القرآن قوله) :ما أنا بقارئ(؛
ل )ما أنا بقارئ( إذ كررها ثلثًا وبين أبو شامة –رحمه ال تعالى -بأن قوله أو ً
ل على المتناع ،وثانيًا على الخبار بالنفي المحض ،وثالثًا على دا ٌ
الستفهام" ،ويؤيده أن في رواية أبي السود في مغازيه عن عروة أنه قال:
)كيف أقرأ( ،وفي رواية عبيد بن عمير عن ابن إسحاق) :ماذا اقرأ( وفي
مرسل الزهري في دلئل البيهقي) :كيف أقرأ( ،وكل ذلك يؤيد أنها
استفهامية"). (565
204
يكون لحفظة القرآن معارضة سنوية للقرآن الكريم على مشايخهم ،أو
معارضة ثانية بعد ختم القرآن حفظًا على القل ،وتزداد عدد مرات
المعارضة بحسب حالة الطالب…وتكون للمسلمين عمومًا عرضة للقرآن
خ متقن ،وأفضل أوقات ذلك فيالكريم نظرًا أو غيبًا عن ظهر قلب على شي ٍ
رمضان…مع ظهور التعبد والتبتل عند قراءة القرآن في العرضة…خاصًة
النفاق .
205
جمًا(، .7إنزال القرآن الكريم وتلقينه للنبيمرَت ً
ل )مجّودًا ُمَن ّ
ووجوب ترتيله على النبي على الهيئة ذاتها التي رتله بها جبريل
.
.8تهيئة مراجعٍة يوميٍة للقرآن الكريم في قيام الليل أو غيره
). (568
.9تهيئة مراجعٍة سنوية للقرآن الكريم في كل رمضان يعارض
ل منهما الخر -ألفاظ القرآن الكريم فيها النبي وجبريل - ك ٌ
متضمنًة النظر في ألفاظه من حيث أصل اللفظ ومن حيث الداء .
الفصل الرابع
الصول العامة في تلقي النبي
ألفاظ القرآن الكريم
وفيه خمسة مباحث
تظاهرت الدلة على إلزامية تلقي النبي ألفاظ القرآن من جبريل
وحفظها ومراجعتها ،وحفها بالعوامل التي تجعل العتناء بها واجبًا
يوميًا ل ُيترك ول ُينسى ،وجعل تلقيها ،ثم تبليغها في غاية الدقة تحقيقًا
عقد هذا الفصل للفاظها ،وبيانًا لمخارج حروفها ،وإتقانًا لدائها؛ وقد ُ
ليدرس الصول العامة التي توضح ما سبق ،وتعضده ،في أمور حياة النبي
مما يتعلق بموضوع التلقي من قريب أو من بعيد؛ ولبيان العلقة بين
206
معلم النبي جبريل وبين النبي ، والصحبة الحميمة بينهما ،ولذلك
ينقسم هذا الفصل إلى خمسة مباحث:
المبـحث الول :اللمحات العامة في تلقي النبي ألفاظ القرآن من
جبريل.
المبـحث الثـاني :دقة جبريل في النقل العام .
المبـحث الثالث :العلقة العامة)الصحبة( بين جبريل والنبي ،
وأثرها في تلقي ألفاظ القرآن الكريم .
المبـحث الرابع :التوقيفية في غير أداء القرآن .
المبـحث الخامس :الواجبات التي كانت على النبي بالنظر إلى تلقي لفظ
القرآن الكريم .
207
المبحث الول:
اللمحات العامة في تلقي النبي ألفاظ القرآن
من جبريل :
يدرس هذا المبحث اللمحات العامة في تلقي النبي
ألفاظ القرآن الكريم من جبريل ،والمراد بذلك جملة
حقائق تجلت بها عملية التلقيُ ،تجمل في مطلبين:
المطلب الول :من حيث مصدر التلقي .
المطلب الثاني :من حيث مؤشرات في طريقة التلقي .
المطلب الول :من حيث مصدر التلقي:
والمراد به تثبيت بدهية السناد في بيان مصدر تلقي القرآن الكريم؛
حيث صار إسناد رسول ال عن جبريل عن رب العالمين في نقل
ألفاظ القرآن الكريم بصفة خاصة من بين سائر أنواع الوحي بديهة)(569
يذكرها الصحابة ،لبيان أقصى درجات علم اليقين في نقل نصوص ألفاظ
المعلومات التي تصل إلى البشر ،وإبرازًا لدليل الصدق في النقل وتطمينًا،
ومحافظة على السناد ،وبيانًا للطريقة التعليمية الصحيحة في تلقي القرآن،
وتصييرًا لتوقيفية المتلقى مسلمة ل تناقش في أذهان المسلمين…وهذه
المواقف تجلي هذه الحقيقة:
-1فعن زاذان أبي عمر عن ابن مسعود قال له :يا أخي! إن لنا مجلسًا
فائتنا فأقبلت إليه في مجلسه ،فتعلمت منه سبعين سورة .فقال لي عبد ال:
أخذتها من في رسول ال نـزل بها جبريل من عند رب العالمين
). (570
ل وهو يقول :السابقون الولون من -2مر عمر بن الخطاب برج ٍ
المهاجرين والنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي ال تعالى عنهم
ورضوا عنه إلى آخر الية ،فوقف عليه عمر ،فقال :انصرف! فلما
انصرف ،قال له عمر :من أقرأك هذه الية ؟ قال :أقرأنيها أبي بن كعب.
فقال :انطلقوا بنا إليه! فانطلقوا إليه ،فإذا هو متكئ على وسادة ،يرجل
)( ولعل ذلك عائد إلى ما يشير إليه الصوليون من مسألة ورود اجتهاده في ال ُ
سّنة 569
ل خاصة كما هو معلوم ،انظر :نهاية السول ،4/437النبوية ل وضعًا ،بل اجتهادا ً في أحوا ٍ
مرجع سابق .
()570المعجم الكبير ،9/77مرجع سابق .
208
رأسه ،فسلم عليه ،فرد السلم ،فقال :يا أبا المنذر! قال :لبيك! قال :أخبرني
هذا إنك أقرأته هذه الية ،قال :صدق تلقيتها من رسول ال .قال عمر:
أنت تلقيتها من رسول ال .قال :نعم! أنا تلقيتها من رسول ال ثلث
مرات ،كل ذلك يقوله وفي الثالثة وهو غضبان :نعم! وال لقد أنـزلها ال
على جبريل ،وأنـزلها على محمد فلم يستأمر فيها الخطاب ول ابنه .
فخرج عمر وهو رافع يديه وهو يقول :ال أكبر ال أكبر). (571
-3وعن ابن عباس أن ُأبيًا قال لعمر :يا أمير المؤمنين! إني تلقيت
القرآن ممن تلقاه أو ممن يتلقاه من جبريل وهو رطب).(572
-4وعن زر بن حبيش قال :قلت لبي بن كعب :إن ابن مسعود كان ل
يكتب المعوذتين في مصحفه ؟ فقال :أشهد أن رسول ال أخبرني أن
قال له :قل أعوذ برب الفلق فقلتها ،فقال :قل أعوذ برب الناس جبريل
فقلتها فنحن نقول ما قال النبي .( )
573
209
ولذا كان يصرح أحينًا بواسطته عن ربه في الوحي مع أنها معلومة
ضرورة كما في مسند الشهاب سمعت جابر بن عبد ال يقول :قال رسول
ن ارتضيته لنفسي ،ولن ال : قال جبريل : قال ال ) :هذا دي ٌ
576
يصلحه إل السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه( ) ( .
وإنما أراد من ذلك أن تصير هذه الحقيقة ضرورًة في حياة
المة؛ لتغدو في قلبها ،وعلى ألسنة أبنائها بدهيًة ل تحتاج إلى نظر أو
استدلل ،وهو ما ُيْلَمس من النصوص السابقة .
ت في
المطلب الثاني :من حيث مؤشرا ٌ
طريقة التلقي:
ل :التعليم المباشر للبدايات والنهايات ومواضع أو ً
اليات :ومسلك جبريل في تعليم النبي هذه الناحية يأتي على
وجهين:
ص :بالتنصيص على مكان الية ،ونهاية السورة ،كحديث وجٌه خا ٌ
عثمان بن أبي العاص قال :كنت عند رسول ال جالسًا ،إذ شخص
ببصره ،ثم صوبه حتى كاد أن يلزقه بالرض -قال :-ثم شخص ببصره،
فقال) :أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الية بهذا الموضع من هذه
ء ِذي ال ْ ُ ْ
قْرَبى وِإيَتا ِ
ن َ
سا ِ
ح َ
وال ِ ْ
ل َ مُر ِبال ْ َ
عد ْ ِ ن الل ّ َ
ه ي َأ ُ السورة إ ِ ّ
عل ّك ُ ْ
م م لَ َ
عظُك ُ ْ
ي يَ ِ وال ْب َ ْ
غ ِ ر َ وال ْ ُ
منك َ ِ ء َ ح َ
شا ِ ن ال ْ َ
ف ْ ع ْ
هى َ وي َن ْ َ
َ
577
ن " النحل.( )("90/ ّ
ت َذَكُرو َ
وجٌه عاٌم :بأن يضع له علمًة لبتداء السورة ،أو انتهائها ،أو
الفصل بين السورتين؛ كما في حديث ترجمان القرآن ابن عباس)(578
) ()576القضاعي( أبو عبد الله محمد بن سلمة بن جعفر ت 454هس :مسند الشهاب ،329 /2
تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي ،ط 1407 ،2هس 1986 -م ،مؤسسة الرسالة .ونحوه ما
في المعجم الوسط ،9/139مرجع سابق عن أنس بن مالك عن عن جبريل عن الله
قال) :من أهان لي وليا ً فقد بارزني بالمحاربة …( ،وأصله في صحيح مسلم ،1/432مرجع
سابق .
()577مسند المام أحمد بن حنبل ،4/218مرجع سابق .
ت الحاديث عن ابن عباس في كتب علوم القرآن ،وقد شهد له النبي في هذا )( ك َث َُر ْ
578
الباب بخصوصه كما ذكر في ترجمته ،وقال ابن مسعود :نعم ترجمان القرآن ابن عباس،
س أسناننا ما عشره منا أحد ،وروي ابن أبي خيثمة بسند فيه جابر
وقال :لو أدرك ابن عبا ٍ
الجعفي أن ابن عمر كان يقول :ابن عباس أعلم أمة محمد بما أنسزل على محمد ،وروى ابن
سعد بسند صحيح :أن أبا هريرة قال لما مات زيد بن ثابت :مات اليوم حبر المة ،ولعل الله
210
قال :كان جبريل ينـزل على رسول ال الوحي فإذا قالِ :ب ْ
سِم ا ِّ
ل
حيِم ،افتتح سورة أخرى).(579ن الّر ِ
حَم ِ
الّر ْ
حَم ِ
ن ل الّر ْ وعنه قال:إن النبي كان إذا نـزل جبريل فقالِ:ب ْ
سِم ا ِّ
حيِم ،علم أنها سورة).(580 الّر ِ
ثانيًا :التوسط في كمية المنـزل :الذي يعلمه جبريل للنبي
ويوضح ذلك الحديث الذي رواه الحاكم :عن ابن عباس قال) :فصل
القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة في السماء الدنيا ،فجعل جبريل
ينسزله على النبي ورتلناه ترتيل ً( قال سفيان -أحد رجال إسناد
الحديث :-خمس آيات ،ونحوها).(581
وعن أبي العالية قال :قال عمر بن الخطاب): تعلموا القرآن
خمس آيات خمس آيات ،فإن جبريل نـزل به على محمد خمس آيات
خمس آيات() .(582ول يخفى أن هذا وصف لحال الغالب ،وإل فقد ينـزل ما
هو أكثر من ذلك ،وما هو أقل .
ثالثًا :مقارنة التلقين بالمر بكتابة الوحي القرآني
على سبيل الفورية :فقد جاء في فضائل الصحابة :عن فاطمة بنت
عبد الرحمن قالت :حدثتني أمي أنها سألت عائشة ،وأرسلها عمها فقال :إن
أحد بنيك يقرئك السلم ،ويسألك عن عثمان بن عفان؛ فان الناس قد
شتموه .فقالت :لعن ال من لعنه ،فوال لقد كان قاعدًا عند نبي ال وإن
رسول ال لمسنٌد ظهره إلي وإن جبريل ليوحي إليه القرآن ،أنه
ليقول له) :اكتب يا عثيم( ،فما كان ال لينـزله تلك المنـزلة إل وهو كريٌم
على ال ورسوله). (583
أن يجعل في ابن عباس خلفا ً منه …تهذيب التهذيب ،7/67مرجع سابق .
()579رواه الطبراني في المعجم الكبير ،82 /12مرجع سابق .
()580المستدرك على الصحيحين ،2/668مرجع سابق ،وقال" :هذا حديث صحيح السناد ولم
يخرجاه" .
()581المستدرك علىالصحيحين ،2/667مرجع سابق ،وقال" :هذا حديث صحيح السناد ولم
يخرجاه" .
) ()582الخطيب البغداي( أبو بكر أحمد بن علي 463هس:تاريخ بغداد – 288/ 31دار الكتب
العلمية ،بيروت .
()583أخرجه )ابن أبي عاصم( أبو بكر عمرو بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني )ت
287هس( :كتاب السنة
،592 /2حققه محمد ناصر الدين اللباني ،ط 1413 ،3هس 1993 -م ،المكتب السلمي -
بيروت ،وعبد الله ابن أحمد في فضائل الصحابة . 1/498
211
ض تلقائي لوصف وكحديث عثمان بن أبي العاص المتقدم آنفًا ،وهذا مقت ٍ
القرآن بالكتاب .
رابعًا :التركيز :من حيث توقيف الله لنبيه على
الوقات التي ينسزل عليه الوحي فيها ،والوقات التي
يراجع فيها رسول الله القرآن )قيام الليل ،رمضان(؛ إذ
الهتمام بهذا الموضوع بلغ حد بيان الوقات التي ينشغل
فيها قلب المرء وجوارحه بما ل يتعلق بالقرآن؛حتى ت ُهَْتبل
الوقات الخرى المحددة في مراجعة القرآن كما قال:
حا طَِويل ً" المزمل ،"7/قال ابن سب ْ ً
ر َ في َالن ّ َ
ها ِ ن لَ َ
ك ِ إ ِ ّ
زيد" :فراغا ً طويل ً لحوائجك ،فافرغ لدينك
بالليل") ،(584ول يعني التوقيف هنا نفي ما عدا هذه
الوقات للقراءة أو المراجعة ،بل المراد الوقوف على
مدى العناية بالقرآن الكريم .
212
المبحث الثاني:
الدقة في النقل العام:
وإنما ُأورد هذا الفصل بعد حديثي المعالجة والمعارضة على سبيل
الستئناف البياني ،للرد على مستكثٍر على الشريعة أن تتضمن ألفاظها تلك
الدقة التي جعلتنا نستخرج منها تلك المعاني ،التي قد تخفى على عابر
النظر؛ وأنى يستكثر ذلك… والكلم هو كلم ال المتلو المحفوظ
بحفظه له ،والُمَعّلم له هو جبريل ،والمَُتَعّلُم له هو محمد خاتم
حب هنا صَسَت ْالرسل؟ .فقد تميز نقل جبريل بالدقة في غير القرآن ،فُي ْ
ل :فكيف إن كان المنقول كلم ال المتلو؟ . بين يدي هذا المبحث سؤا ٌ
ومن صور هذه الدقة:
الدقة في نقل الحداث الواقعية :كان جبريل -1
يأتيه بأدق التفاصيل والوصاف للحداث الواقعة الحاضرة
والمستقبلية ،حتى ما ل يترتب عليه حكم شرعي:
ومن ذلك ما جاء عن أنس قال :بعث النبي أقوامًا من بني
سليم إلى بني عامر في سبعين ،فلما قدموا ،قال لهم خالي :أتقدمكم ،فإن
َأّمنوني حتى أبلغهم عن رسول ال وإل كنتم مني قريبًا ،فتقدم ،فَأّمنوه،
ل منهم ،فطعنه ،فأنفذه، فبينما يحدثهم عن النبي إذ أومأوا إلى رج ٍ
فقال :ال أكبر! فزت ورب الكعبة .ثم مالوا على بقية أصحابه ،فقتلوهم
ل أعرج صعد الجبل ،فأخبر جبريل النبي أنهم قد لقوا ربهم إل رج ً
فرضي عنهم وأرضاهم...الحديث). (585
ل شديدًا، جهينة ،فقاتلونا قتا ًوعن جابر :غزونا مع رسول ال قومًا من ُ
فلما صلينا الظهر قال المشركون :لو ملنا عليهم ميلًة لقتطعناهم ،فأخبر
جبريل رسول ال بذلك … الحديث). (586
()585صحيح البخاري ،1031/3مرجع سابق .
()586صحيح مسلم ،1/575مرجع سابق .
213
وخرج معاوية على حلقة في المسجد ،فقال :ما أجلسكم؟ ،قالوا:
جلسنا نذكر ال ،قال :آل ما أجلسكم إل ذاك؟ قالوا :وال ما أجلسنا إل ذاك.
قال :أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ،وما كان أحٌد بمنـزلتي من رسول ال
أقل عنه حديثًا مني ،وإن رسول ال خرج على حلقة من أصحابه فقال:
)ما أجلسكم؟( قالوا :جلسنا نذكر ال ،ونحمده على ما هدانا للسلم ،ومن
به علينا .قال) :آلله ما أجلسكم إل ذاك؟( قالوا :وال ما أجلسنا إل ذاك.
قال) :أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ،ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن
الله عز وجل يباهي بكم الملئكة().(587
فإذا تأمل القارئ نقل جبريل هاهنا ،وشغل ذهنه بكيفية نقله
للقرآن -أخبت قلبه لما سبق ذكره من الدقة البالغة في تلقي النبي ألفاظ
القرآن من جبريل ،وتعليم جبريل إياه ذلك .
-2الدقة في نقل أحداث المستقبل :فقد روت أم سلمة
-رضي ال تعالى عنها -أن رسول ال اضطجع ذات ليلة للنوم ،فاستيقظ وهو
حائٌر ،ثم اضطجع ،فرقد ،ثم استيقظ وهو حائٌر ،دون ما رأيت به المرة
الولى ،ثم اضطجع فاستيقظ وفي يده تربة حمراء يقلبها ،فقلت :ما هذه
التربة يا رسول ال؟ قال) :أ خبرني جبريل أن هذا يقتل بأرض
العراق( –للحسين -فقلت لجبريل :أرني تربة الرض التي يقتل بها فهذه
تربتها().(588
وهل التربة الحمراء أهم من نقل أداء ألفاظ القرآن؟ .
غير أن الدقة هي السمة الدائمة لعمل جبريل وتعليمه ،حتى
اتسعت لتعليم الصلة عمليًا :فعن ابن عباس قال :قال رسول ال:
َ
مني جبريل عند البيت مرتين ،فصلى بي الظهر حين زالت الشمس )أ ّ
وكانت قدر الشراك ،وصلى بي العصر حين كان ظله مثله ،وصلى بي يعني
المغرب حين أفطر الصائم ،وصلى بي العشاء حين غاب الشفق ،وصلى بي
الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم ،فلما كان الغد صلى بي
الظهر حين كان ظله مثله ،وصلى بي العصر حين كان ظله مثليه ،وصلى بي
المغرب حين أفطر الصائم ،وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل ،وصلى بي
214
الفجر فأسفر ،ثم التفت إلي فقال :يا محمد! هذا وقت لنبياء من قبلك
والوقت ما بين هذين الوقتين().(589
فكيف تعليمه القرآن؟ ،وظاهٌر أن تعليم الصلة عمليًا يقرب أن تطلق
عليه وجهًا أدائيًا ،فلداء القرآن أعلى شأنًا من بيان الهيئات التفصيلية
للصلة بأسلوب عملي ،فما الذي يستنكره من شذ عن سائر المسلمين وقال:
إن الداء ليس متواترًا ،أو لم يعلمه جبريل رسول ال ،على أن أهل
المآرب اتخذوا ذلك ذريعًة ليبطلوا أصل اللفظ .
وأقل الحوال أن يكون أداء لفظ القرآن شأنه كشأن الهيئات
التفصيلية للصلة ،فيظهر عند ذاك برهان عدم المبالغة في ذلك عندما تجد
القرآن ذاته يتكلم عن الهيئات التفصيلية لتلقي القرآن وتلقينه وأدائه ،ول
يوجد ذلك لتفصيل أمور الصلة .
()589سنن أبي داود ،1/107مرجع سابق ،قال الشيخ اللباني" :حسن صحيح" ،وأصله في
صحيح البخاري 1/195مرجع سابق .
215
المبحث الثالث:
العلقة العامة بين جبريل والنبي
وأثرها في تعليم ألفاظ القرآن:
للنبي،وهذا المبحث كالستعراض لمظاهر صحبة جبريل
وبيان العلقة الحميمة التي تربط الُمَعّلم الُمْلقي بالمَتَعّلم المتلقي ،مع
ت ثناياها فيما سبق ،فما ُأوِرَد هنا فهو لزيادة التبيين فيأن هذه المعاني قد ُبّث ْ
هذه الناحية الخاصة ،وينقسم هذا المبحث إلى ثلثة مطالب متدرجًا من
العموم إلى خصوص المتابعة التعليمية:
المطلب الول :صلة هذا المبحث بموضوع البحث العام .
المطلب الثاني :نماذج من العلقة العامة .
المطلب الثالث:التعاهد والستدراك .
المطلب الول :صلة هذا المبحث بموضوع البحث العام:
إن بحث هذه المسألة يستلزم الستقلل في الدراسة عن غيرها ،لكنها
ت خادمٍة
ل ،بل لتحقيق غايا ٍ ُذكرت في هذا المكان مختصرة ،ل نافلة قو ٍ
لموضوع البحث ،ومن ذلك:
أ -التنبيه بالدنى على العلى :وعليه اعتمد الباقلني-رحمه ال تعالى -في
الرد على من نسب إلى ابن مسعوٍد إنكار المعوذتين ،فقال" :ولو كان قد
أنكر -يعني عبد ال ابن مسعود -السورتين على ما ادعوا -لكانت الصحابة
تناظره على ذلك ،وكان يظهر وينتشر ،فقد تناظروا في أقل من هذا ،أمٌر
يوجب التكفير والتضليل ،فكيف يجوز أن يقع التخفيف فيه"). (590
) ()590الباقلني(أبو بكر بن الطيب :إعجاز القرآن ص ،365قدم له وشرحه وعلق عليه:
الشيخ محمد شريف سكر ،بيروت دار إحياء العلوم ،ط 1408 ،1هس – 1988م .وهذا الدليل
من أعظم الدلة التي تبين فقه المتفقه ودقيق بصره…وتراه ي ُذ ْك َُر مبثوثا ً في كتب أصول
الفقه بأسماء متعددة منها :القياس الولوي ،والعموم المعنوي ،ونحو ذلك…ومن أجل هذه
الهمية التي يكتسبها هذا الدليل نبه عليه ابن رشد -رحمه الله تعالى -في مقدمة كتابه
الفقهي الفريد :بداية المجتهد ،انظر) :ابن رشد( القاضي أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد
الحفيد ت 595هس :بداية المجتهد ونهاية المقتصد -المقدمة ،1/5تحقيق وتعليق :محمد
صبحي حسن حلق ،الطبعة الولى 1415هس مكتبة ابن تيمية – القاهرة .
216
ى من ل قد بلغ مستو ً
وإذا كان التكليف بالمور العبادية الفرعية مث ً
الدقة في التوقيف تعجم كل من يريد التهوين من اللفظ القرآني ،فتحيل ما
ل ،فكذلك نقل كلم ال…ومن نماذج ذلك أن النبيجاءه أعجمه مهم ً
ي إليه فأراه الوضوء والصلة ،فلما فرغ من في أول ما ُأو ِ
حَ جبريل
الوضوء أخذ غرفة من ماء ،فنضح بها فرجه). (591
ول ُيَعّلمه هذا المستوى من الدقة في المور العبادية التي اصطلح
على تسميتها بالفرعية ،وُيْفِقَر أصل أصول الشريعة من المماثلة في دقة
التعامل ،بل كان مستوى الدقة في لفظ القرآن بالغًا غاية ل يصدقها عقلٌ
ل بشري؛ لنها ل تخطر بشري ،لول أنها نقلت…وإنما قيل :ل يصدقها عق ٌ
على باله من حيث هذه الضخامة في تتبع قراءة النبي حرفًا حرفًا،
ل حروف القرآن أخطر وأجل . كنقلهم عدد شعرات النبي ،(592) وَلَنْق ُ
عّلم والمتعلم م َ
ب -بيان ُرقي الصحبة بين ال ُ
التي تؤدي إلى المتابعة المتميزة التي كان
النبي يحظى بها من جبريل بأمر الله ، وذي
معَّلم والمتعلم هنا ،ل ة لل ُالمتابعة تعطي خصوصي ً
توجد بين غيرهما ،ل جرم أن قول اللهَ …
فإن ّ َ
ك
سٌر لتلك العلقة التي بلغت ف ّ عي ُن َِنا…" الطورُ "48/
م َ ِبأ ْ
ذروتها ،حتى يكاد جبريل ل يفارق رسول الله إل فيما
ندر أمرا ً من ربه ،مع المعية العامة والخاصة لله…
وذا كله يعطيك مؤشرا ً واضحا ً على المتابعة التي كانت
ألفاظ القرآن تحظى بها ،واستحالة تطرق الخلل لداء
اللفظ ،بله اللفظ… .
ج -تثبيت ما سبق من تحليل في تعليم جبريل
لرسول الله لفظ القرآن ،وأن ما ذ ُك َِر ليس مبالغ ً
ة
) ()591الكسي( أبو محمد عبد بن حميد بن نصر ت 249هس :المنتخب من مسند عبد بن
حميد ،مراجعة :صبحي البدري السامرائي س محمود محمد خليل الصعيدي1408 ،هس -
1988م ،مكتبة السنة -القاهرة ،ورواه ابن ماجة ،1/157مرجع سابق .وقال اللباني:
"صحيح" .
()592إشارة إلى حديث أنس عند الترمذي ،4/435مرجع سابق .
217
استهوتها الزخارف اللفظية ،والعاطفة المجردة مما قد
م أن البحث صدر منها . يزعم زاع ٌ
رع الحديث عن صحبة النبي لجبريل ش ِ ول ْي ُ ْ
ث كهذا الحديث أن تعروه ق لحدي ٍ ح ّ أشرعته…و ُ
مرة الحياء…فلتغتفر زلة ح ْهزة الذكرى ،و ُ
التقصير فيه بداية …
ة……..خلف ث عن القوم ،فاللفاظ ساجد ٌ حد ّ َْ
ن تبته ُ
ل ب ،والوزا ُ
المحاري ِ
المطلب الثاني :نماذج من العلقة العامة بين جبريلوالنبي
:
ل :في المسائل الشخصية :يظهر جبريل غاديًا رائحًا في أو ً
أموٍر تتعلق بخصوصيات النبي السرية ،ومن ذلك:
-1زواجه من عائشة -رضي ال تعالى عنها:-وفيها يظهر أن جبريل قد
يستخدم وسائل متعددة وربما غير معهودة لخبار النبي وتعليمه ،فعن
عائشة -رضي ال تعالى عنها -قالت :قال لي رسول ال ) : رأيتك في المنام
يجيء بك الملك في سرقة من حرير ،فقال لي :هذه امرأتك ،فكشفت
عن وجهك الثوب ،فإذا هي أنت ،فقلت :إن يك هذا من عند الله يمضه(
) ،(593والتصريح بأن المَلك هو جبريل قد وقع عند ابن حبان عنها
قالت) :جاء بي جبريل إلى رسول الله في خرقة حرير ،فقال :هذه
زوجتك في الدنيا والخرة(). (594
ر غيــر ذي بــال عنــد مقــارنته فإن كان ذا في أم ٍ
بأداء القرآن الكريم ،فكيف بالقرآن الكريم؟.
-2مراجعته لحفصة –رضي ال تعالى عنها :-فقد طلق النبي حفصة بنت
عمر ،فدخل عليها خالها قدامة وعثمان ابنا مظعون فبكت ،وقالت :وال ما
218
ع .وجاء النبي فقال ) :قال لي جبريل راجع حفصة
طلقني عن شب ٍ
595
فإنها صوامة قوامة وإنها زوجتك في الجنة() ( .
-3زواج ابنته :فعن أبي هريرة أن رسول ال لقي عثمان بن عفان
وهو مغموم فقال) :ما شأنك يا عثمان؟( قال:بأبي أنت يا رسول ال
وأمي!هل دخل على أحد من الناس ما دخل علي؟ توفيت بنت رسول ال
رحمها ال ،وانقطع الصهر فيما بيني وبينك إلى آخر البد .فقال رسول
ال ) : أتقول ذلك يا عثمان وهذا جبريل يأمرني عن أمر الله عز
وجل أن أزوجك أختها أم كلثوم على مثل صداقها وعلى مثل عدتها
فزوجه رسول الله إياها().(596
-4إخباره بأسرار بيته :كان ل يدرك بعض أموره العائلية مما غيبها
واقع في الرض ،كخبر ابنه إبراهيم حتى يأتيه جبريل بالوحي ،كما في
المستدرك عن أنس قال :لما ولد إبراهيم ابن النبي أتاه جبريل فقال:
)السلم عليك يا أبا إبراهيم() .(597فذا في خبر الرض ،فكيف يكون في
خبر السماء؟ وإنما يكثر البحث من المور الدقيقة؛ لستقلل البعض أن
يكون َثّم اهتماٌم شرعي بأمور الداء في اللفظ القرآني ،فُيقَرن هذا بهذا لُيعَلم
المر .
ثانيًا :في المسائل البدنية :مما يعود على الناس بمصالح في
أبدانهم :فقد روى أبو الحكم البجلي وهو عبد الرحمن بن أبي نعم قال:
دخلت على أبي هريرة وهو يحتجم فقال لي :يا أبا الحكم احتجم -قال-
فقلت :ما احتجمت قط .قال :أخبرني أبو القاسم) أن جبريل أخبره أن
الحجم أفضل ما تداوى به الناس هذا( ).(598
فكيف يبلغ الظن بمتابعة جبريل للنبي في مسائل الوحي
عامة ،ثم فيه حين يكون قرآنًا بصفة خاصة؟.
ثالثًا :الوزير :فقد كان جبريل وزير رسول ال الول من أهل
السماء؛ إذ روى الحاكم :عن أبي سعيد الخدري قال :قال رسول ال
()595المستدرك على الصحيحين ،4/16مرجع سابق ،وفي صحة الحديث نظٌر بائن ،وقد بين
الباحث في المقدمة أنه قد ُتذكر بعض الحاديث الضعيفة استئناسا ً ل استدلل ً للحكام .
()596المستدرك على الصحيحين ،4/54مرجع سابق .
()597المستدرك على الصحيحين ،660/2مرجع سابق .
()598المستدرك على الصحيحين ،4/232مرجع سابق ،وقال" :صحي ٌ
ح على شرط الشيخين ،ولم
يخرجاه" ،وقال الذهبي" :على شرط البخاري ومسلم " .
219
) :وزيراي من أهل السماء جبريل وميكائيل ومن أهل الرض أبو بكر
وعمر() ،(599ولئن اشترك مكائيلفي وزارته مع جبريل ،فإن جبريل
يتميز في علقته بالنبي بأمور أخرى…حسبه منها أن يكون الُمَكّل َ
ف
بإبلغه وتعليمه وحي السماء ،ولئن كان في الحديث نظٌر فإن قرائن الحال
السابقة والتالية مما ُذِكَر في البحث شاهدٌة بصدق معناه ،قال ابن الثير
ب أْمِرى، -رحمه ال تعالى" :-وفيه )أميري من الملئكة جبريل (أي صاح ُ
ت إلى ُمشاورته وُمؤاَمرِته فهو َأميرك").(600
َوَوِلّيى ،وكل من َفِزع َ
وكونه كان في مقام الوزير ،ل يعني أنه الوزير المنفذ المتلقي
للوامر ،بل كان كان كثيرًا ما يكون المشير المر شأن المعلم مع المتعلم،
فقد كان ابن عباس يحدث أن ال-تبارك وتعالى -أرسل إلى نبيه ملكًا
من الملئكة ومعه جبريل ،فقال المَلك) :إن الله يخيرك بين أن تكون عبدا ً
نبيًا ،وبين أن تكون ملكًا ،فالتفت رسول الله إلى جبريل
كالمستشير فأشار جبريل بيده أن تواضع ،فقال رسول الله ) : بل
أكون عبدا ً نبيًا ،قال فما أكل بعد تلك الكلمة طعاما متكئا ً().(601
رابعًا :الناصح ابتداء :فلم يقتصر دور جبريل على المتابعة ،بل
كان يقوم بنصحه ابتداء :فعن سهل بن سعد قال :جاء جبريل إلى
النبي فقال):يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت ،وأحبب من أحببت
فإنك مفارقه ،واعمل ما شئت فإنك مجزي به ،ثم قال :يا محمد!
شرف المؤمن قيام الليل ،وعزه استغناؤه عن الناس().(602وهذه
()599سنن الترمذي ،5/616مرجع سابق ،قال الترمذي" :حسن غريب" ،قال اللباني" :ضعيف"،
المستدرك على الصحيحين ،قال" :هذا حديث صحيح السناد ولم يخرجاه" .وقد تمثلت هذه الوزارة
في مظاهر كثيرة :منها :اشتراكهما في تغسيل قلبه ،ومعالجته من مرضه ،والسياحة به في عالم
البرزخ … .
()600النهاية في غريب الثر ،1/65مرجع سابق .
()601السنن الكبرى للنسائي ،4/171مرجع سابق .
()602المستدرك على الصحيحين ،4/360مرجع سابق ،وقال" :هذا حدي ٌ
ث صحيح السناد،
ولم يخرجاه" ،وقال الذهبي" :صحيح" .
220
نصائح ابتدائية ،كما هي متابعٌة في أبواب الزهد والرقائق توضح العلقة
المثالية للمعلم بتلميذه .
خامسًا :وتجري بينهما المناقشة والمباحثة :عن معاذ بن
رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه - وكان أبوه من أهل بدر -قال :جاء
جبريل إلى النبي فقال) :ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال :من أفضل
المسلمين –أو كلمة نحوها – قال وكذلك من شهد بدر من الملئكة(
). (603
سادسًا :علقة حب :وجبريل رفيقه الثير ،كما قال في مرض
موته) : مع الرفيق العلى ،مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين
والصديقين والشهداء إلى قوله رفيقا ً() ،(604وفي رواية :فقال) :أسأل
الله الرفيق العلى السعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل()…(605فبدأ
بجبريل.
وعلقة الحب علقٌة متبادلٌة بينهما ،فقد روى عبد بن حميد
من طريق عكرمة-رحمه ال تعالى -قال) :أبطأ جبريل في النسزول أربعين
يوما ً فقال له النبي يا جبريل ما نسزلت حتى اشتقت إليك قال :أنا
كنت أشوق إليك().(606
وكان ينقبض ويضيق إذا تأخر عليه جبريل حتى اشتد على
النبي فيما روته عائشة -رضي ال تعالى عنها -وفي يده عصا فألقاها من يده
221
وقال) :ما يخلف الله وعده ول رسله() ،(607وفي حديث ميمونة عند
مسلم نحو حديث عائشة ،وزاد فيه ابن حبان) :أنه أصبح واجمًا().(608
وتجري بينهما المناقشة والخذ والرد دون أن يكون
مكان جبريل عائقًا عن ذلك رد فعن عمرو بن العاص: أن النبي
س
ن الّنا ِ م َن ك َِثيًرا ِ ضل َل ْ َ ن أَ ْ ه ّب إ ِن ّ ُ تل قوله في إبراهيمَ:ر ّ
م
حي ٌ فوٌر َر ِ غ ُك َفإ ِن ّ َصاِني َ ع َ ن َ م ْ و َ مّني َ ه ِ عِني َ
فإ ِن ّ ُ ن ت َب ِ َ
م ْف َ َ
ن
وإ ِ ْ
ك َ عَبادُ َم ِه ْ م َ
فإ ِن ّ ُ ه ْ عذّب ْ ُن تُ َ"إبراهيم :"36/وقال عيسى إ ِ ْ
فإن ّ َ َ
م" المائدة "118/فرفع يديه، كي ُ ح ِ زيُز ال ْ َ ع ِ ت ال ْ َك أن ْ َ م َ ِ ه ْ فْر ل َ ُغ ِتَ ْ
وقال) :اللهم أمتي أمتي( ،وبكى ،فقال ال ) :اذهب إلى محمد -وربك
أعلم -فسله ما يبكيك؟( فأتاه جبريل فسأله فأخبره –وال بما قال أعلم-
فقال ال) :يا جبريل اذهب إلى محمد ،فقل :إنا سنرضيك في أمتك ول
نسوءك().(609
رضت ونحو ما في البخاري عن ابن عباس أن النبي) : ع ُ ِ
ي المم ،فأجد النبي يمر معه المة ،والنبي يمر معه النفر ،والنبي
عل ّ
يمر معه العشرة ،والنبي يمر معه الخمسة ،والنبي يمر وحده ،فنظرت
فإذا سواد ٌ كثيٌر ،قلت :يا جبريل! هؤلء أمتي؟…(). (610
ويرقيه :فقد روى مسلم عن عائشة-رضي ال تعالى عنها -زوج النبي
قالت :كان إذا اشتكى رسول ال رقاه جبريل ،قال) :باسم الله يبريك ،ومن
كل داء يشفيك ،ومن شر حاسد إذا حسد ،ومن شر كل ذي عين()،(611
222
)يا محمد! وعنده :عن أبي أن جبريل أتى النبي فقال:
612
اشتكيت؟ قال :نعم! قال :باسم الله أرقيك …() ( .
ويقاتل عنه :فقد روى مسلم في باب) :قتال جبريل وميكائيل-
عليهما السلم-عن النبي يوم أحد(… عن سعد: رأيت عن يمين رسول
ال وعن شماله أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ول بعد،
يعني جبريل وميكائيل –عليهما السلم-وفي لفظ له:يقاتلن عنه كأشد ما
يكون القتال) ".…(613ول غرو! فتقطيع اليدي ل وقع له عند رؤية
يوسف.
وكان يواسيه:
س قال :جاء جبريل ذات يوم إلى رسول ال وهو فعن أن ٍ
614
جالس حزين قد خضب بالدماء ،الحديث سيأتي) ( .
س قال: كما أن النبي ينشغل عمن سواه :فعن ابن عبا ٍ
كنت مع أبى عند رسول ال وعنده رجل يناجيه ،فكان كالمعرض عن
أبى ،فخرجنا من عنده ،فقال لي أبى :أي بني! ألم تر إلى ابن عمك
ل يناجيه .قال :فرجعنا
كالمعرض عني؟ فقلت :يا أبت! إنه كان عنده رج ٌ
إلى النبي فقال أبى :يا رسول ال! قلت لعبد ال كذا وكذا ،فأخبرني أنه
ل يناجيك فهل كان عندك أحٌد؟ فقال رسول ال) : وهل كان عندك رج ٌ
رأيته يا عبد الله؟( قال :قلت :نعم! قال) :فإن ذاك جبريل وهو الذي
شغلني عنك(). (615
سابعا ً :وهو صاحبه في الدنيا والخرة :فعن أبي بكر الصديق
في حديث الشفاعة ،قال رسول ال وهو يحكي قول عيسى :
)…ولكن انطلقوا إلى سيد ولد آدم فإنه أول من تنشق عنه الرض يوم
فيشفع لكم إلى ربكم عز وجل ،قال:
القيامة انطلقوا إلى محمد
فينطلق فيأتي جبريل ربه فيقول الله :ائذن له وبشره بالجنة .
223
قال :فينطلق به جبريل فيخر ساجدا ً قدر جمعة ،ويقول الله :ارفع
رأسك يا محمد! وقل يسمع واشفع تشفع قال :فيرفع رأسه ،فإذا نظر
إلى ربه خر ساجدا ً قدر جمعة أخرى ،فيقول الله :ارفع رأسك
وقل يسمع واشفع تشفع .قال :فيذهب ليقع ساجدا ً فيأخذ جبريل
بضبعيه فيفتح الله عز وجل عليه من الدعاء شيئا لم يفتحه على بشر
قط() (616الحديث.
ويمكن أن يجري بينه وبين ربه الكلم والنقاش
)أتاني جبريل بواسطته :فعن أبي سعيد أن رسول ال قال:
فقال :إن ربي وربك يقول لك :كيف رفعت ذكرك؟ قال:الله أعلم
قال:إذا ذكرت ذكرت معي(). (617
ة في ذلك الوقت للتعليم:
ة غير معتاد ٍ
وقد يأتيه بوسيل ٍ
ُ فعن عائشة -رضي ال تعالى عنها -قالت :قال رسول ال :
)أريت ِ
ك في
المنام مرتين إذا رجل يحملك في سرقة حرير فيقول هذه امرأتك
فأكشفها فإذا هي أنت فأقول إن يكن هذا من عند الله يمضه().(618
مَعّلم المتعلم :فعن عبد ال بن عمرو بن العاص ويداعب ال ُ
قال :نـزل جبريل إلى النبي في أحسن صورة لم ينـزل في مثلها
قط ضاحكًا مستبشرًا فقال) :السلم عليك يا محمد! قال :وعليك السلم
يا جبريل .قال :إن الله بعثني إليك بهدية كنوز العرش أكرمك الله بهن
قال :وما تلك الهدية يا جبريل؟ فقال جبريل؟ قل يا من أظهر الجميل
…() (619الحديث .
224
ويقعد عند النبي : فقد روى ابن حبان عن ابن عباس: بينما
جبريل عند النبي سمع نقيضًا من فوق ،فرفع رأسه فقال) :هذا باب
من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إل اليوم ،فنسزل منه ملك فقال :هذا
ملك نسزل إلى الرض لم ينسزل قط إل اليوم .فسلم ،وقال :أبشر
بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك :فاتحة الكتاب وخواتيم سورة
البقرة لن تقرأ بحرف منهما إل أعطيته().(620
ف لمقتضيات الوحي كتخلفه عنه لوجود
ض منا ٍ
ـ ويتخلف عنه لغر ٍ
ب). (621
كل ٍ
مكان مميز عرف باسمه )مقاعد وكان لجبريل
جبريل(:
فعن عائشة -رضي ال تعالى عنها -أنها لما توفي سعد بن أبي وقاص
أرسل أزواج النبي أن يمروا بجنازته في المسجد فيصلين عليه ،ففعلوا
فوقف به على حجرهن يصلين عليه ،ثم أخرج به من باب الجنائز الذي كان
إلى المقاعد…الحديث) ،(622وورد التصريح بالسم في حديث أنس ابن
مالك قال:صلى رسول ال يومًا الظهر بالمدينة ثم أتى المقاعد التي
كان يأتيه عليها جبريل فقعد عليها فجاء بلل فنادى بالعصر) ،(623وعن
حارثة ابن النعمان قال :مررت على رسول ال جبريل جالس
في المقاعد فسلمت عليه ثم أجزت ،فلما رجعت وانصرف النبي قال:
)هل رأيت الذي كان معي؟( .قلت :نعم قال):فإنه جبريل وقد رد عليك
السلم().(624
ومن ذا العرض ُيْفَهُم سر نعي فاطمة-رضي ال تعالى عنها -أباها إلى
جبريل دون غيره من الملئكة وسائر الخلق:
س قال :لما ثقل النبي جعل يتغشاه ،فقالت :فاطمة – فعن أن ٍ
رضي ال تعالى عنها -واكرب أبتاه! ،فقال لها) :ليس على أبيك كرب بعد
()620وفي صحيح ابن حبان ،3/57مرجع سابق ،وقوله) :أبشر بسورتين( :دا ٌ
ل على إطلق
السورة على ما دونها .
()621انظر :المبحث الثالث من الفصل الثاني .
()622صحيح مسلم ،2/668مرجع سابق .
()623صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان ،14/481مرجع سابق ،وقال شعيب الرناؤوط" :إسناده
صحيح على شرط مسلم" .
( )624مسند المام أحمد بن حنبل ،5/433مرجع سابق ،وواض ٌ
ح أنه ما قال :معه جبريل إل
بعد أن أعلمه النبي .
225
اليوم( ،فلما مات ،قالت) :يا أبتاه! أجاب ربًا دعاه ،يا أبتاه! من جنة
الفردوس مأواه ،يا أبتاه! إلى جبريل ننعاه( ،فلما دفن قالت فاطمة –رضي ال
تعالى عنها) :-يا أنس! أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول ال التراب؟(
). (625
ل!… -يا ابنت رسول الله!لم تطب…وإنما نعته إلسسى
معَّلمسسه وصسساحبه ،وخليلسسه ،ووزيسسره…فسسإليه جبريل لنسسه ُ
ُينعى…وأما الله –جل ذكسسره -فقسسدر مسسوته ،وإليسسه المرجسسع
والمآب .
المطلب الثالث:التعاهد والستدراك:
ل :التعاهد :من حيث ارتباطه بموضوع البحث ،فإن نماذجه تنقسم أو ً
ص:
إلى قسمين :عاٍم وخا ٍ
-1التعاهد العام ،وهو من حيث كون جبريل شيخ الرسول
ومعلمه:
يصل تعاهد جبريل للنبي حد المواساة والتثبيت له في
شخصه ،فكيف في أصل رسالته؟ فعن أنس بن مالك قال :جاء جبريل
س ،قد ضربه بعض أهل مكة، إلى النبي ذات يوم وهو حزي ٌ
ن جال ٌ
فقال) :فعل بي هؤلء وفعلوا( قال :تحب أن أرَيك آيًة؟ فنظر إلى شجرٍة
من وراء الوادي ،فقال :ادع تلك الشجرة .فدعاها .فجاءت تمشي حتى
قامت بين يديه فقال لها :ارجعي .فرجعت حتى عادت إلى مكانها فقال
النبي حسبي().(626
بل يبلغ أن يسمع من المور الغيبية مما ل يترتب عليه كبير أمٍر
عند عامة المة ،عن أبي سعيد الخدري قال :سمع رسول ال صوتًا
هاله ،فأتاه جبريل ،فقال رسول ال ) : ما هذا الصوت يا جبريل؟
فقال :هذه صخرة هوت من شفير جهنم من سبعين عامًا ،فهذا حين
سمعك صوتها فما رؤي رسول الله بعد بلغت قعرها فأحب الله أن ي ُ ْ
ذلك اليوم ضاحكا ً ملء فيه حتى قبضه الله() (.
627
226
ي… فكيسف تسرى الهتمسام كائنسا ً فسي فهذا لمسرٍ غيسب ٍ
أصل أصول الشرع السلمي؟ بسسل فسسي أصسسل معنسساه وهسسو
اللفظ ،مع شدة انتشاره ،وعظيم احتياج الناس إليه .
ومن ذلك :التعاهد من حيث حفظه من الخطار الغيبية :فعن خالد
بن الوليد أنه شكى إلى رسول ال فقال :إني أجد فزعًا بالليل فقال:
)أل أعلمك كلمات علمنيهن جبريل وزعم أن عفريتا ً من الجن يكيدني :أعوذ
بكلمات الله التامات التي ل يجاوزهن بر ،ول فاجر ،من شر ما ينسزل من
السماء ،وما يعرج فيها ،ومن شر ما ذرأ في الرض ،وما يخرج منها ،ومن شر
فتن الليل وفتن النهار ،ومن شر طوارق الليل والنهار ،إل طارقا ً يطرق بخير
يا رحمن(). (628
-2التعاهد الخاص ،وهو من حيث استكمال متعلقات القرآن الكريم -لفظًا
-التتميمية :فلئن تمثلت متعلقاته الضرورية والحاجية في إنـزاله ،وإقرائه
على الهيئة التي أمر ال ،والمراجعة الدورية له خلل فترة النـزال
لتثبيت اللفظ ،وتقويم هييئة أدائه ،وغير ذلك…فقد تمثلت متعلقاته التتميمية
في عدة مظاهر ،منها:
إعداد مراجع القراء :في عهد النبي وبعده؛ إذ بلغ الحفظ اللهي
للقرآن الكريم أن تعاهد جبريل مراجَع القراء من الصحابة الكرام،
والمراد من متصدريهم في هذا الباب ،ومن ذلك:
إعداد أبي بن كعب :كما جاء في البخاري عن أنس بن مالك قال
ن
ذي َن ال ّ ِ النبي لبي) :إن الله أمرني أن أقرأ عليك ل َ ْ
م ي َك ُ ِ
ب قال :وسماني؟ قال) :نعم!( فبكى ،وفي ل ال ْك َِتا ِ ن أَ ْ
ه ِ م ْ
فُروا ِكَ َ
لفظ له) :أن أقرئك القرآن( ،قال :آل سماني لك؟ .قال) :نعم!( قال :وقد
ت عند رب العالمين؟) ،(629والتصريح باسم جبريل عند أحمد عن ُذِكْر ُ
ن قال جبريل ) :يا أبي حبة البدري قال :لما نـزلت ل َ ْ
م ي َك ُ ِ
محمد إن ربك يأمرك أن تقرئ هذه السورة أبي بن كعب( فقال النبي :
)يا ُأبي إن ربي عز وجل أمرني أن أقرئك هذه السورة( فبكى ،وقال :ذكرت
ثمة؟ قال) :نعم!() ،(630واتخذ هذا المر طابع العموم لكل القرآن :فعند
227
)إن الله تبارك وتعالى أحمد عن أبي بن كعب قال :قال رسول ال :
أمرني أن أعرض القرآن عليك( قال :وسماني لك ربي تبارك وتعالى؟ قال:
)نعم!( الحديث). (631
وصار هذا السناد مشتهرًا ،فعن عبيد بن ميمون التبان المقرىء
قال :قال لي هارون بن المسيب :بقراءة من تقرأ؟ فقلت :بقراءة نافع .قال:
فعلى من قرأ نافع؟ فقلت :خبرنا نافع أنه قرأ على العرج عبد الرحمن بن
هرمز ،وأن العرج قال :قرأت على أبى هريرة ،وقال أبو هريرة :قرأت
على ُأبي ابن كعب ،وقال أبي :عرضت على النبي القرآن فقال:
)أمرني جبريل أن أعرض عليك القرآن(). (632
إعداد ابن عباس :فعند أبي نعيم عن عبد ال بن بريدة عن ابن
عباس قال :انتهيت إلى رسول ال وعنده جبريل ، فقال له
ن حبر هذه المة فاستوص به خيرا ً(). (633 جبريل) : إنه كائ ٌ
وهذان النموذجان يدلن دللٌة واضحٌة على خلفية انتخاب النبي
لعدٍد من أصحابه ليكونوا مراجع للقراء .
634
ومن ذلك حديث )خذوا القرآن من أربعة …() (،
وحديث )من أحب أن يقرأ القرآن …(). (635
ثانيًا :متابعة الستدراك :إذ كان الرسول تحت سمع ال
وبصره حافظًا له ،ومعينًا ومؤيدًا ،فأول أشكال الحفظ :حفظه من الخطأ
في الفروع َبْلَه الصول ،وُمَعّلُم رسول ال جبريل يتابعه في صغائر
()631أخرجه أحمد ،3/490مرجع سابق .
()632المعجم الوسط ،2/88مرجع سابق ..وفيه فوائد:
أولها :عدم إرادة التحديد عند ذكر السناد ،إذ قد بات من المعلوم أن نافعًا قرأ على سبعين من
التابعين ،على أن قراءته هي قراءة المدنيين ،فليس هو مدارها ،ول هو مبتدعها ،أو منشؤها ،إنما
ُأريد المحافظة على السناد ،ثم اشتهرت به .
وثانيها :مرجعية القراءة إلى ال المتكلم بالقرآن المجيد ،فليس ثم اجتهاد بشري ،بل ول غيره في
نقل ألفاظ القراءة .
وثالثها :التأكيد على السناد بين جبريل والنبي.
()633تهذيب التهذيب ،5/244مرجع سابق .
()634أخرجه البخاري ،3/1385مرجع سابق ،مسلم ،1913 /4مرجع سابق .
()635السنن الكبرى للنسائي ،5/71مرجع سابق ،سنن ابن ماجه ،1/49مرجع سابق ،صحيح
ابن حبان ،543 /15مرجع سابق ،مستدرك الحاكم ،2/247مرجع سابق ،مسند أحمد
،4/278مرجع سابق .
228
أموره ودقائقها ،فكيف جلئلها؟ فاستدراكه عليه بعد الخبار ،كإخباره
س-خاصًة بالنبي، بالوحي ابتداء ،وقد كانت هذه المتابعة –من حيث النا ُ
وعامًة للمة- ،ومن حيث المر الشرعي المتاَبع عليه-خاصًة في ألفاظ
القرآن الكريم ،وعامًة في سائر أمور الشرع:
أ -الخاصة من حيث المستدَرك عليهم:
فمن ذلك :ما أنـزله ال على نبيه استدراكًا له على مجانبة
الصواب الشرعي في المسائل الحربية )أسرى بدر نموذجًا() ،(636والمسائل
الدعوية )قصة ابن أم مكتوم نموذجًا() ،(637والمسائل السياسية )العفو عن
المنافقين في عام العسرة نموذجًا() ،(638ومسائل الفقه العملي )الصلة على
جا() ،(639ولكن منهج البحث يرمي إلى ما فيه التصريح بوجود المنافق نموذ ً
جبريل ونـزوله بالوحي ،فلُتذكر نماذج من ذلك:
– 1استدراك جبريل في الدللة على ليلة القدر :فعن أبي سلمة قال:
انطلقت إلى أبي سعيد الخدري فقلت :أل تخرج بنا إلى النخل نتحدث؟
فخرج ،فقال :قلت :حدثني ما سمعت من النبي في ليلة القدر قال:
اعتكف رسول ال عشر الول من رمضان واعتكفنا معه ،فأتاه جبريل
فقال :إن الذي تطلب أمامك ،فاعتكف العشر الوسط فاعتكفنا معه ،فأتاه
جبريل فقال :إن الذي تطلب أمامك قام النبي خطيبًا صبيحة عشرين من
رمضان فقال) :من كان اعتكف مع النبي فليرجع فإني أريت ليلة القدر،
وإني نسيتها وإنها في العشر الواخر في وتر ،وإني رأيت كأني أسجد في
طيٍن وماٍء( ،وكان سقف المسجد جريد النخل ،وما نرى في السماء شيئًا،
طْرنا ،فصلى بنا النبي حتى رأيت أثر الطين والماء
فجاءت قزعٌة ،فُأْم ِ
على جبهة رسول ال وأرنبته تصديق رؤياه) (.
640
229
- 2استدراك جبريل في هيئة الكل :فقد كان رسول ال يأكل
متكئًا ،فنـزل عليه جبريل فقال :انظروا إلى هذا العبد كيف يأكل متكئًا!
فجلس رسول ال ،(641)وعند البخاري) :ل آكل متكئا ً(). (642
- 3استدراك جبريل في الفتاء :فعن أبي قتادة أنه سمعه يحدث
عن رسول ال :أنه قام فيهم ،فذكر لهم أن الجهاد في سبيل ال واليمان بال
أفضل العمال ،فقام رجل فقال :يا رسول ال! أرأيت إن قتلت في سبيل ال
ر عني خطاياي! فقال له رسول ال) :نعم! إن قتلت في سبيل الله ُتَكّف ُ
ل غيَر مدبٍر( ثم قال رسول ال) :كيف قلت؟( ب مقب ٌوأنت صابٌر محتس ٌ
قال :أرأيت إن قتلت في سبيل ال أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول ال:
ل غيَر مدبرٍ إل الدين فإن جبريل قال ب مقب ٌ )نعم! وأنت صابٌر محتس ٌ
لي ذلك(). (643
- 4استدراك جبريل في اللباس :فعن جابر بن عبد ال يقول :لبس
ي له ،ثم أوشك أن نـزعه ،فأرسل به إلى النبي يومًا ِقباًء من ديبا ٍ
ج ُأهِد َ
عمر بن الخطاب فقيل :له قد أوشك ما نـزعته يا رسول ال! فقال) :نهاني
عنه جبريل( فجاءه عمر يبكي ...الحديث). (644
-5استدراك جبريل في الفروع :وذلك إن لم تستدرك عليه المة
بعد أن يكون قد أبلغها:
فعن أبي سعيد الخدري قال :بينما رسول ال يصلي بأصحابه
إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره ،فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم ،فلما
قضى رسول ال صلته قال) :ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟( قالوا:
) ()641الطحاوي( أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلمة بن عبد الملك بن سلمة ت 321هس:
شرح معاني الثار ،4/275مرجع سابق .
()642صحيح البخاري ،2062 /5مرجع سابق .
()643صحيح مسلم ،3/1501مرجع سابق .
()644صحيح مسلم ،3/1644مرجع سابق .
230
أتاني )إن جبريل رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا .فقال رسول ال :
فأخبرني أن فيهما قذرا وقال إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى
في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما() ،(645وعن خلد بن السائب
النصاري عن أبيه أن رسول ال قال) :أتاني جبريل فأمرني أن
آمر أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالهلل( أو قال )بالتلبية( يريد
أحدهما).(646
-6استدراك جبريل لتكرار العمل الفرعي فكيف القرآن فعن عائشة
-رضي ال تعالى عنها -عن النبي قال) :ما زال يوصيني جبريل بالجار حتى
ظننت أنه سيورثه() ( ،وعن أبي أمامة أن رسول ال قال) :ما
647
جاءني جبريل قط إل أمرني بالسواك لقد خشيت أن أحفى مقدم في(
).(648
- 7استدراك جبريل في هيئة الوعظ:أبا هريرة يقول :مر رسول
ط من أصحابه وهم يضحكون ،فقال) :لو تعلمون ما أعلم ال على ره ٍ
لضحكتم قليل ً ولبكيتم كثيرا ً( ،فأتاه جبريل فقال) :إن الله يقول لك لم تقنط
عبادي؟( –قال -فرجع إليهم ،فقال) :سددوا وقاربوا وأبشروا(). (649
ب -العامة من حيث المستدَرك عليهم:
والمراد المتابعة والستدراك على الخطاء التي تقع فيها أمته :فعن
ل من الصحابة ينظرون في القدر ثوبان قال :اجتمع أربعون رج ً
والجبر ،فيهم أبو بكر وعمر فنـزل الروح المين جبريل فقال) :يا
()645سنن أبي داود ،1/175مرجع سابق ،قال الشيخ اللباني" :صحيح" .
()646سنن أبي داود ،2/162مرجع سابق ،وأصله في صحيح البخاري ،وقال اللباني" :صحيح".
()647صحيح البخاري ،5/2239مرجع سابق .
()648مسند المام أحمد بن حنبل ،263 /5مرجع سابق .
()649صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان ،1/319مرجع سابق ،قال الشيخ شعيب الرناؤوط:
"إسناده صحيح على شرط مسلم" ،وقال ابن حبان -رحمه ال تعالى)" :-سددوا(يريد به :كونوا
مسددين ،والتسديد :لزوم طريقة النبي واتباع سنته ،وقوله )وقاربوا( يريد به ل تحملوا على
النفس من التشديد ما ل تطيقون) ،وأبشروا( ،فإن لكم الجنة إذا لزمتم طريقتي في التسديد ،وقاربتم
في العمال".
231
محمد! أخرج على أمتك فقد أحدثوا( .فخرج عليهم في ساعٍة لم يكن يخرج
عليهم فيها ،فأنكروا ذلك منه ،وخرج عليهم ملتمعًا لونه متوردًة وجنتاه
كأنما تفقأ بحب الرمان الحامض ،فنهضوا إلى رسول ال حاسرين
أذرعهم ترعد أكفهم وأذرعهم فقالوا :تبنا إلى ال ورسوله .فقال) :أولى لكم،
إن كدتم لتوجبون ،أتاني الروح المين فقال أخرج على أمتك يا محمد فقد
أحدثت(). (650
بل يتولى جبريل تصويب المسلمين وتسديدهم أحيانًا ،نحو ما
قالت عائشة :فسمعت رسول ال يقول لحسان) :إن روح القدس ل يزال
يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله().(651
ج -الخاصة من حيث المر الشرعي :وهو متابعة ألفاظ القرآن الكريم،
فقد تجلى في المعارضة السنوية ،وهو أنموذجه البارز ،وتقدم). (652
د -العامة من حيث المر الشرعي :فكما سلف .
جِمَع ما ُذِكَر هاهنا إلى ما ذكر في التصال المطلق لجبريل فإن ُ
، ضع في المسلمات أن الغاية من ذلك كله تلقي كلم ال بالنبي َ ،وُو ِ
ت أن كلم ال أعلى من أن يتطرق والمحافظة عليه وتبليغه للمة ،علم َ
إليه قول البشر ،واجتهاد البشر ،ولذا تفرد رب البشر بالمحافظة عليه،
فيثبت في الذهن بذا كِله أن الداء للفظ القرآني ل يتطرق إليه اجتهاٌد
بشري ،وإل فما فائدة هذه المتابعة الدقيقة الهائلة؟ ،ويحصل اليقين باستحالة
تطرق الوهم ،أو الضياع ،أو التضييع لكلم ال العظيم ،فأين متابعٌة كهذه
جِمَع إلى هذا ما هو مسلم من المتابعة الربانية وأنه كما قال المتابعة؟! فإن ُ
عي ُن َِنا…" الطور … "48/فل يكون للخطأ مدخ ٌ
ل ك ب ِأ َ ْ
فإ ِن ّ َربه عنهَ …
لدائه لكلم ربه.
وقد كان جبريل يأمر رسول ال ببعض الهيئات الجانبية
ل ،ول أداء ،فيحافظ عليها… التي ل تعلق لها بالقراءة ل وضعًا ،ول مح ً
232
فكيف ما له تعلق بها؟ ،ومن ذلك ما اشتهر في علم المصطلح بالحاديث
المسلسلة بالفعال المختلفة .
ي المة وسيدها… -نراك هائمين ومن بعيٍد نراك –يا نب َ
محبين…ليس الهيام بك وجبريل لشخصيكما فحسب –وإن كان ذلك الهيام
هو الشرف الرفع ،-ول الحب لصحبتكما –وإن كان ذلك الحب هو السنى
العلى… -إنما الهيام والحب –مع ذلك-لتصال أهل الرض بخبر
السماء…فيا لوعتاه على انقطاعه –وإن كان الرؤوف الرحيم لم يتركنا
بعدكما عالة… -فعن أنس قال :قال أبو بكر –بعد وفاة رسول ال
-لعمر :انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها ،كما كان رسول ال
يزورها ،فلما انتهينا إليها بكت .فقال لها :ما يبكيك؟! ما عند ال خيٌر
لرسوله .قالت :ما أبكي أن ل أكون أعلم أن ما عند ال خيٌر لرسوله
،ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء…فهيجتهما على البكاء،
فجعل يبكيان معها). (653
ل…..وليل أخي أرقت فبات ليـلي ل يـزو ُ
لالمصيبة فيه طـو ُ
وأسعدني البكساء ،وذاك فيما…..أصيسب
المسلمون به قليسس ُ
ل
ض الرسـو ُ
ل فقد عظمت مصيبته ،وجلـت…..عشية قيل قد ُقِب َ
ح أرضنـا مما عراهـا…… تكـاد بنـا جوانُبها تميـ ُ
ل وتصبـ ُ
فقدنا الوحي والتنـزيـل فينا… ....يروح به ويغدو جبرئيــ ُ
ل
233
لمبحث الرابع:
التو قيفية في غير أداء القرآن:
يرمي هذا المبحث إلى ذكر نماذج من التوقيفية اللهية في غير أداء
ل له في أقل
القرآن الكريم ،مما هو أقل شأنًا من أداء اللفظ القرآني ،أو مماث ٍ
الحوال؛ وذلك تأييدًا للتوقيفية في أداء اللفظ:
واشتد حرص البحث هاهنا على ما سبق من
منهج البحث من أنه ل يورد إل ما فيه ِذك ٌْر
لجبريل بجامع أن كل ً من المرين )أداء اللفظ
القرآني ،وغيره من أمور الدين( معلمه هو
جبريل :
ل :التوقيفية في تفسير آي القرآن :ومع أو ً
ل ،وهيئة تفسيرٍ للقرآن ،إل أن ل ،وفع ًأن حياته كلها قو ً
ذلك كله بإلهام من الله وتوفيق ،وتوقيف إل فيما ندر مما
دا )…(654وعلى الرغم من يتبعه الوحي استدرا ً
كا ،أو تأيي ً
م من جبريل هذا كله؛ فإن تأويله للقرآن لم يكن إل تعلي ٌ
له فعن عائشة –رضي الله تعالى عنها– )أن النبي كان ل
يفسر شيئا ً من القرآن برأيه ،إل آيا ً بعدد علمهن إياه
جبريل().(655
()654وقد قال عبد الله بن عمرو بن العاص للرسول : أكتب عنك ما سمعت ؟ ،قال:
)نعم !( ،قال :قلت :في الغضب والرضى ؟ قال) :نعم !فإنه ل ينبغي لي أن أقول في ذلك
إل حقا ً( ،انظر :صحيح ابن خزيمة ،26 /4مرجع سابق .
()655مسند أبي يعلى ،8/23مرجع سابق ،وقال محقق الكتاب سليم حسين أسد" :إسناده ضعيف".
234
ل من حديث جابر ل ،وابن مردويه موصو ً وروى الطبري مرس ً
"العراف/ جاِهِلي َ
ن ن اْل َ
عِض َ
عِر ْ
ف َوَأ ْ :لما نـزلتُ
خِذ اْلَعْفَو َوْأُمْر ِباْلُعْر ِ
"199سأل جبريلفقال) :ل أعلم حتى أسأله( ثم رجع ،فقال) :إن ربك
يأمرك أن تصل من قطعك ،وتعطى من حرمك ،وتعفو عمن ظلمك().(656
235
)جاءني جبريل فقال :يا وعن أبي هريرة أن النبي قال:
محمد! إذا توضأت فانتضح(). (659
وعن ابن عباس قال :جاء جبريل إلى رسول ال فذهب به
ليريه المناسك ،فانفرج له ثبير) (660فدخل منى ،فأراه الجمار ،ثم أراه
ت حتى عرفات ،فتتبع الشيطان النبي عند الجمرة ،فرماه بسبع حصيا ٍ
ساخ ،ثم تبع له في الجمرة الثانية ،فرماه بسبع حصيات حتى ساخ ،ثم تبع
له في جمرة العقبة ،فرماه بسبع حصيات حتى ساخ ،فذهب).(661
بل كان ل يحدث شيئًا يتصل بالدين من تلقاء نفسه ،حتى فيما يمكن
دخوله في النصوص العامة ،فعن رافع بن خديج قال :كان رسول ال
بأخرة إذا اجتمع إليه أصحابه ،فأراد أن ينهض قال) :سبحانك اللهم
وبحمدك ،أشهد أن ل إله إل أنت ،أستغفرك ،وأتوب إليك ،عملت سوءًا،
وظلمت نفسي ،فاغفر لي؛ إنه ل يغفر الذنوب إل أنت( –قال -فقلنا:يا رسول
)أجل! جاءني جبريل فقال :يا محمد! ت أحدثتهن؟ قال:
ال!إن هذه كلما ٍ
662
هن كفارات المجلس() ( ،فإحداثه لهن ليس أمرًا من عند نفسه كما ظهر .
وكان يأبى الجابة على سؤال فرعي حتى يستأمر جبريل
ل أتى النبي فقال :يا
فيه ،كما سبق ،وعن جبير ابن مطعم أن رج ً
رسول ال! أي البلدان شر؟ فقال) :ل أدري( ،فلما جاءه جبريل قال) :يا
جبريل! أي البلدان شر؟ قال :ل أدري حتى أسأل ربي ،فانطلق جبريل،
فمكث ما شاء الله ،ثم جاء ،فقال :يا محمد! إنك سألتني أي البلدان شر،
663
فقلت :ل أدري ،وإني سألت ربي :أي البلدان شر ،فقال :أسواقها() (.
ي وهو فرع اللفظ ،فليكن فإن كان يأبى أن يفسر القرآن إل بوح ٍ
كذلك فيما هو فرع أقرب للفظ من المعنى ،وهو أداء ذلك اللفظ .
وإن كان يأبى إحسسداث ذك سرٍ يناسسسب الحسسال ،وهسسو
فسسرع تعقسسل المعنسسى فسسي النصسسوص العامسسة ،فكيسسف بفسسرع
()659الجامع الصحيح سنن الترمذي ،1/71مرجع سابق ،وقال الترمذي :حديث غريب" ،قال
الشيخ اللباني" :ضعيف".
()660اسم جبل .
()661صحيح ابن خزيمة 4/315مرجع سابق .
()662السنن الكبرى للنسائي ،6/113مرجع سابق .
()663مسند أبي يعلى ،13/400مرجع سابق .
236
ألفاظ هذه النصوص العامة مما ل مجال فيه للعقل ،وهسسو
أداؤها؟.
وإن كان ل يحدث شيئًا من تلقاء نفسه في التكليفات الفرعية ،فليكن
المر كذلك في فروع اللفاظ ،وجامع كل أنه فرع .
وهذا عند فقدان نصوص توقيفية الداء ،فكيف وقد اتسعت هذه
النصوص حتى شملت الهيئة الشخصية للمتلقي؟). (664
ل لما يجانبه التهويل؛ إذ ليس خطب أداء ول يعترض بأن هذا تهوي ٌ
اللفظ كخطب ما قيس عليه ،لنه يجاب بأن أداء اللفظ يحيل المعنى غالبًا ،إذ
ل لمعناها من إن إدغام النون في الصاد من )صنوان( لتصير صوان محي ٌ
س معناها بريالصنو إلى غيره ،وإبدال الهمز في رئيًا لتصير ريًا ملب ٌ
الظمآن ،بعد أن كانت صريحة في الرؤية ،وكلها وجوٌه أدائية كما هو مقرر
عند علماء القراءات…؟ فل تهويل َثّم ،بل هو وضٌع للمور في
نصابها).(665
237
دددددد دددددد:
:،،،،، ،، ،،،،،
للهمية البالغة التي نالها حفظ القرآن في الصدر من بين مفردات تلقي
النبي ألفاظ القرآن على جبريل ؛ فقد لزم إفراد هذا الموضوع
ل يسبر غوره ،ويحلل بعض جوانبه ،ولذا انعقد هذا المبحث ث مستق ٍبمبح ٍ
متألفًا من مقدمة وثلثة مطالب:
المقدمة :الواجبات التي كانت على النبي بالنظر إلى لفظ
القرآن .
المطلب الول :تأصيل لفظة )الحفظ( .
ضّمنات الحفظ .
المطلب الثاني :مت َ
المطلب الثالث :هل كان الحفظ واجبًا على النبي ؟ .
238
ن أَ ْ لقول ال إ ِن ّ َ
َ ُ
ذي ة ال ّ ِ ه ال ْب َل ْدَ ِذ ِه ِب َ عب ُدَ َر ّ تأ ْ مْر ُما أ ِ
ن
مي َ سل ِ ِم ْ ن ال ْ ُ م ْ ن ِ كو َ ن أَ ُ َ
تأ ْ مْر ُ
ء ُ
وأ ِي ٍ َش ْ ل َ ه كُ ّ ول َ ُها َ م َ
حّر َ
َ
ي إ ِل َي ْ َ
ك ح َ ما ُأو ِ ل َ ن" النمل ،"91/ات ْ ُ قْرآ َو ال ْ ُ َ
ن أت ْل ُ َ
)َ (91
وأ َْ
ع ك َل َ َ
م الله… م َ
س َ
حّتى ي َ ْ ن ال ْك َِتا ِ
ب "العنكبوت َ … ،"45/ م ْ
ِ
" التوبة ."6/
وبعض هذه الواجبات قد تقدم تفصيله وذلك الواجب الول،
والثاني ،والرابع ،والخامس ،وبعضها ليس من مدار البحث تبيينه،
وذلك التبليغ والقراء) …(667فليقتصر كلم البحث هنا على الحفظ:
239
وورد موصوفًا به الغاية من عملية تلقي القرآن في حديث ابن
عباس في نـزول آيات القيامة) ،(670وهو معنى الجمع الوارد في
سورة القيامة؛ إذ تفسيره بالحفظ هو قول جميع المفسرين حقيقًة أو
حكمًا ،واستخدم المسلمون هذه اللفظة فيما يثبت في الذاكرة ،فعن عمر
قال) :قام فينا النبي مقامًا ،فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل
الجنة منازلهم ،وأهل النار منازلهم حفظ ذلك من حفظه ،ونسيه من
نسيه(). (671
وقد صار الحفظ يطلق على ذلك ،فصار حقيقًة عرفية لدى العلماء،
ولذا بوب ابن حبان -رحمه ال تعالى -فقال" :ذكر استحقاق المامة بالزدياد
من حفظ القرآن على القوم ،وإن كان فيهم من هو أحسب وأشرف
منه") ،(672ثم شاع بعد ذلك حتى صار حقيقةً عرفيًة عند عامة المسلمين،
فإن أطلق لفظ )حافظ( أو )حفظ( لم ينصرف لغير حفظ القرآن ،وإن ُأريد به
غير القرآن لم يرد على ألسنة الخاصة والعامة إل مقيدًا ،فرسخ بذلك مفهوم
الحفظ في الصدر عندهم كمرادف للقراءة من الذاكرة في خصوص القرآن
الكريم ،ولذا دعا الرسول إلى حضهم على القراءة من المصحف التي
ق عليها مؤخرًا مصطلح )القراءة نظرًا( ،فقال) :من سره أن يحب الله ُأطِل َ
ورسوله؛ فليقرأ في المصحف().(673ولعل إطلق الحفظ على القرآن المودع
في الذاكرة للربط حفظ ال للقرآن بحفظ العبد له ،وأن حفظ العبد له بالمفهوم
السالف الذكر مستقى منه .
ت ربما ضّمنا ٍ
ولجل ما يحتويه مصطلح )حفظ(في هذا الباب من ُمَت َ
لم يلتفت إليها قوٌم ،وربما قلل من شأنها آخرون؛ فقد وجب أن نخوض
()670انظر :حديث المعالجة في المبحث السادس من الفصل الثالث ص . 113
()671رواه البخاري ،3/1166مرجع سابق .
()672صحيح ابن حبان ،5/499مرجع سابق .
) ()673أبو نعيم( أحمد بن عبد الله الصبهاني ت 430هس :حلية الولياء وطبقات الصفياء /7
1405 ،209هس ،دار الكتاب العربي -بيروت ،وصححه اللباني في صحيح الجامع الصغير
،2/234مرجع سابق .
240
غمارها لنعلم سر الختيار القدري لها لترتبط بألفاظ القرآن؛ ففيه
يتضح لنا دقة نقل ألفاظ القرآن إلينا ،وتعليم جبريل للنبي وهو
الرابط بين استقصاء هذه المسألة وبين غاية البحث ،على أن تحليلنا لها
ن من حيث ُمَتَعّلقها البشري ل من حيث ُمَتَعّلقها اللهي ،كما
إنما هو كائ ٌ
سبق في تأصيلها من حيث اللفظ .
()674مختار الصحاح ص ،178مرجع سابق ،ففيه :وحفظه أيضا استظهره ،وانظر :فتح
الباري شرح صحيح البخاري ،8/567مرجع سابق .
()675مختار الصحاح ص ،178مرجع سابق .
ظ الشيء بالكسر حفظا حرسه .ف َ ()676مختار الصحاح ،178مرجع سابق ففيهَ :
ح ِ
241
–رحمه ل أمانٍة ،ولذا بوب المام البخاري)الحفظ( قد اتسع مفهومه ليشمل ك ّ
ال تعالى" :-باب حفظ المرأة زوجها في ذات يده والنفقة"). (677
ل ،أو يلج إليهوارتبط مفهوم الحفظ بحراسة المحفوظ من أن يعتريه خل ٌ
ل صغر أو كبر؛ ولذا بوب البخاري –رحمه ال تعالى" :-باب حفظ دخ ٌ
اللسان") ،(678وأورد أبو داود –رحمه ال تعالى– مجموعُة أحاديث في ذلك،
ومن حيث لفظ القرآن ،فإن حفظه بهذا المعنى)الحراسة( يعنى التثبت من
دقائق اللفظ ،ومن ذلك ما رواه عروة بن الزبير –رحمه ال تعالى– في حديث
قبض العلم :فقالت –عنى عائشة– يا ابن أختي! انطلق إلى عبد ال فاستثبت
لي منه الذي حدثتني عنه ،فجئته ،فسألته ،فحدثني به ،كنحو ما حدثني،
فأتيت عائشة ،فأخبرتها ،فعجبت ،فقالت) :وال لقد حفظ عبد ال بن عمرو(
). (679
ن - 3شموله للكلي والتفصيلي من حيث اللفظ :ففي قولهَ
وإ ِ ّ
ما
ن َ عل َ ُ
مو َ ن ) (11ي َ ْ ما َ
كات ِِبي َ ن ) (10ك َِرا ً
ظي َ
ف ِ م لَ َ
حا ِ عل َي ْك ُ َْ
ن معنى يكتبون؛إذ عل َ ُ
مو َ ن" النفطار ،"12-10/فضّمن ي َ ْ عُلو َ ف َ تَ ْ
سّلٌم شمول ذلك للتفصيلي والجمالي من تلك مهمتهم الساسية) ،(680وُم َ
السم الموصول الدال على العموم في قولهَماا ،واستقرار هذا
ل اللفظ وطريقة أدائه ،وما خرج عن
ض أن يشمل هذا الحفظ أص َ العموم مقت ٍ
خِرج له ،ومن ثم فادعاء خروج الداء عن الحفظ ،أو هذا فالمفتاح في الُم ْ
عن تبليغ القرآن ادعاٌء يفتقر إلى الدليل .
()677صحيح البخاري ،5/2052مرجع سابق ،وبّوب أيضًا :باب حفظ السر .
()678صحيح البخاري ،5/2376مرجع سابق ،ومن ذلك حديث سنن أبي داود ،1/127مرجع
سابق) :فإذا قال ذلك قال الشيطان حفظ مني سائر اليوم( ،وكذلك حديث سنن أبي
ف َ
ظ الماشية ح ْ
ن ِ َ ف َ َ
ظ الحوائط بالنهار على أهلها ،وأ ّ ح ْ
ن ِ
داود ،3/298مرجع سابق) :فقضى أ ّ
َ
ن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل(. َ
بالليل على أهلها ،وأ ّ
()679صحيح البخاري ،6/2665مرجع سابق .
ر،
)( لمعنى في غاية الهمية هو أنهم يعلمون ما يكتبونه من مثقال الذر من خيرٍ أو ش ٍ
680
242
المطلب الثالث :هل كان الحفظ واجبًا على ؟:
ويبقى بعد ما تقدم من تحليل لمدلول الحفظ :أن
يجاب عن سؤال في هذا الباب هو :هل كان الحفظ
للفاظ القرآن واجبا ً على النبي ؟ .
الجواب:
نعم ،كان واجبًا على النبي وجوبًا مقطوعًا به ،والدليل على ذلك:
- 1أول سورة نـزلت عليه هي سورة اقرأ باسم ربك
):(681فبدايتهاا ْ ْ
ما قَرأ ،فأنى له بالقراءة وقد قال ربه عنهَ :
ن" الشورى ،"52/وذاك ما ُلي َ ول ا ِ ب َ ما ال ْك َِتا ُ
ري َ ت ت َدْ ِك ُن ْ َ
قَرأ أمر بالقراءة، ب قراءته من حفظه ،فقوله : ا ْ موج ٌ
ب ،والمر ظ عن ظهر قل ٍ ن مكتوب ،أو محفو ٍ ق بكلٍم معي ٍ والقراءة نط ٌ
ل في الحال أول في حقيقته من الطلب لتحصيل فع ٍ بالقراءة مستعم ٌ
الستقبال ،فالمطلوب أن يقرأ ما سُيقرأ عليه ،وفي حديث عائشة –رضي
ال تعالى عنها– في بدء الوحي ) :فرجع بها رسول ال يرجف فؤاده()(682
ت عليه ليحفظها ل ليكتبها أي رجع متلبسًا أي فرجع باليات التي ُقِرَئ ْ
بها ،أي بوعيها ،وهذا يدل أن رسول ال تلقى ما أوحي إليه ،وقرأه
حينئٍذ ،ويزيد ذلك إيضاحًا قولها في الحديث ذاته )فانطلقت به خديجة إلى
ورقة بن نوفل ،فقالت له خديجة :يا ابن عم اسمع من ابن أخيك( أي:
اسمع القول الذي ُأوحي إليه ،وهذا ينبئ بأن رسول ال عندما قيل
ك اليات الخمس كان قد سم ِ َرب ّ َقَرأ ِبا ْ له بعد الغطة الثالثة ا ْ
قرأها ساعتئٍذ ،كما أمره ال ، أو حفظها على القل ،ورجع من غار
حراء إلى بيته يقرؤها ،وعلى هذا يكون قول الملك له في المرات الثلث
قَرأ إعادٌة للفظ المنـزل من ال ،إعادَة تكريٍر للستئناس ا ْ
()681هذا هو السم المشهور عند علماء التفسير ،وكذلك على ألسنة الصحابة .
()682صحيح البخاري ،1/3مرجع سابق .
243
قَرأ بالقراءة التي لم يتعلمها من قبل) ،(683ولم ُيْذَكر لفعل ا ْ
ل؛ إما لنه ُنـّزل منـزلة اللزم ،وأن المقصود أوجد القراءة ،وإما مفعو ٌ
لظهور المقروء من المقام ،وتقديره :اقرأ ما سنلقيه إليك من القرآن).(684
فإن اعُتِرض بأن :القراءة تتحقق القراءة بكلمٍة وكلمتين ،وآيٍة
وآيتين ،وسورٍة وسورتين ،فأين وجوب قراءته عليه كله ،ومن ثم فأين
وجوب حفظه عليه كله؟ .
فالجواب مما سيأتي:
ي…" العراف/ ُ
م ّ ي ال ّ ل الن ّب ِ ّ سو َ – 2أميته : فهو الّر ُ
ة ل نكتب ول نحسب ،الشهر هكذا ة أمي ٌ ،"157وقد قال ) :إنا أم ٌ
وهكذا ،يعني مرة تسعة وعشرين ،ومرة ثلثين( )(685ومن كان ذا شأنه
فهو يحفظ ،فلو لم يؤمر بالقراءة لكانت أميته كافيًة في وجوب الحفظ
عليه .
ولذا كانوا يعتمدون على حفظهم للسنن النبوية؛ فقد دخل زيد بن ثاب ٍ
ت
على معاوية فسأله عن حديث ،فأمر إنسانًا يكتبه ،فقال له زيد:
)إن رسول الله أمرنا أن ل نكتب شيئا ً من حديثه فمحاه() ،(686فما هم
فاعلون في كلم رب البرية ؟.
-3مقتضى إرساله ،وحقيقة وظيفته وهو التبليغ ،ورأس ما يبلغه
ن ل إ ِل َي ْ َ ز َ ُ القرآن ،وقد قال ربه … : ب َل ّ ْ
م ْ ك ِ ما أن ِ غ َ
غ…" الشورى/ ك إ ِل ّ ال َْبل ُ عل َي ْ َ
ن َ ك…" المائدة … "67/إ ِ ْ َرب ّ َ
حط بالقرآن حفظًا ،أنى ،وقد ،" 48ول يكون مبلغًا رسالة ربه وهو لم ُي ِ
سال َت َُه … ر َ ت ِ غ َ ما ب َل ّ ْ ف َ ل َ ع ْ ف َ م تَ ْن لَ ْ قال ربهَ …:
وإ ِ ْ
ن
قْرآ ُ ذا ال ْ ُه َ ي َ ي إ ِل َ ّ ح َ وُأو ِ "المائدة …"67/وقول ال َ …:
244
غ …" النعام "19/قاطٌع لكل خطيب في هذه ن ب َل َ َ ُ
م ْ و َه َ ذَرك ُ ْ
م بِ ِ لن ِ
المسألة .
َ
جاَر َ
ك ست َ َ
نا ْ كي َر ِ م ْ
ش ِ ن ال ْ ُ م ْ حد ٌ ِ نأ َ وإ ِ ْ - 4قوله َ …:
َ َ
ه…" التوبة :"6 /وبين هذا الدليل م الل ّ ِ كل َ ع َ م َ س َ حّتى ي َ ْ جْرهُ َ فأ ِ
ص مطلق ،فل َيِرُد عليه التكرار . وبين الدليل الثاني عموٌم وخصو ٌ
سى" العلى ،" 6/فإنه فل َ َتن َ ك َرئ ُ َ ق ِ سن ُ ْ - 5قوله َ
ض إعانة ال له على الحفظ ،المستلزم وجوبه عليه ،وتزداد قوة مقت ٍ
الحفظ كلما ازدادت أهمية المحفوظ ،وليس هناك ما هو أكثر أهميًة في
حياة المسلم من أهمية القرآن الكريم َبْلَه المسلم الول َبْلَه الرسول،
وقد قال ابن عباس ):إنما يحفظ الرجل على قدر نيته() ،(687فكيف لو
جمعت هذا إلى ما تكفل ال به من جمع القرآن في صدر النبي
فأي حافظٍة تلك التي سُترى؟ .
قْرآن َُه" القيامة :" 17/ و ُ
ه َ ع ُ
م َ ج ْ عل َي َْنا َ
ن َ – 6قوله تعالى إ ِ ّ
قْرآن َُه :إن علينا جمع و ُه َ ع ُ م َ ج ْ
علي َْنا َ َ ن َ ومعنى الجملتينإ ِ ّ
الوحي ،وأن تقرأه ،وفوق ذلك أن تبينه للناس بلسانك ،أي نتكفل لك بأن
يكون جمعه وقرآنه بلسانك ،أي عن ظهر قلبك ل بكتابٍة تقرؤها ،بل أن
يكون محفوظًا في الصدور ،مبينًا لكل سامع ،ل يتوقف على مراجعٍة،
ف من قرب أو بعد .فالبيان هنا بيان ألفاظه ليس ول على إحضار مصح ٍ
688
بيان معانيه لن بيان معانيه ملزم لورود ألفاظه) (… .
فبعد إلقاء جبريل القرآن على النبي يكون النبي قد
قْرَءان َُه ع ُ حفظه في صدره ،ويسهل إدراك أن قوله َ
فات ّب ِ ْ
بمعنى أن تقرأه) ،(689ل يراد منه القراءة من الوراق ،ول من
المصحف بل يعني القراءة من المحفوظ في الصدر؛ إذ لم يقرأ النبي
كتابًا ،وليس بقارئ ،وما كان يدري ما الكتاب ،وكذلك فإن جمعه في
صدره يعني الحفظ في الصدر .
()687الجامع لداب الراوي والسامع ،2/312مرجع سابق .
()688انظر :التحرير والتنوير ،29/350مرجع سابق ،وانظر :تحليل آيات القيامة في المبحث
السادس من الفصل الثالث ص .116
()689تقدم شرح الية في حديث المعالجة في المبحث السادس من الفصل الثالث ص
. 116
245
وهذه حقيقٌة من حقائق الصطلح الشرعي في هذا الباب :أن
القراءة في حق الرسول تعني قراءته من محفوظه ،كما يظهر مما
سبق .
فإن اعُترض بأن :ذا كان جائًزا أول المر قبل التبليغ ،أما استمرار
حفظه بعد فل؟.
فالجواب :إن لم يجب استمرار الحفظ ،فكيف يكون التذكير الذي هو
جزٌء من ماهية التبليغ؟وقد قال ال-تعالى ذكره-في معرض حصر مهمة
ت ُمذَك ٌّر" الغاشية . "21/ َ النبي َ :
ما أن ْ َ فذَك ّْر إ ِن ّ َ
وعند النظر في الشريعة يستبين أن من أهم أسماء القرآن )الذكر(،
س
ن ِللّنا ِ ك الذّك َْر ل ِت ُب َي ّ َوَأنَزل َْنا إ ِل َي ْ َ والذكر عاٌم للناس كلهم َ …
فذَك ّْرص للمؤمنين َ … م…" النحل ،"44/وخا ٌ ه ْ ما ن ُّز َ َ
ل إ ِلي ْ ِ َ
عيِد" ق ،"45/وذلك كله مستلزٌم للتذكير بما و ِف َ خا ُ ن يَ َم ْ ن َ قْرآ ِِبال ْ ُ
يريده ال المقتضي لستمرارية الحفظ…ولذا كان جبريل يدارس
ل على وجوب الستمرار النبي القرآن كل عام ،فإن لم يكن هذا دلي ً
لحفظ القرآن فعلى ماذا يدل هذا؟.
كيم ٍ ح ِ
ن َ ن ل َدُ ْ م ْ ن ِقْرآ َ قى ال ْ ُ ك ل َت ُل َ ّ وإ ِن ّ َ - 7قولهَ :
عِليم ٍ" ق:"9/والحفظ ل يتم للقرآن خارج النواميس اللهية ،وذلك َ
أمران:
س؛ إذ قد أحاط أ -ما يتم بالقدرة اللهية المحضة ،وهو مشاهٌد ملمو ٌ
بالكتاب الكريم من المكر الكبار ما كادت أن تميد منه الجبال ،ول تكفي
القدرة السلمية المتمحض بشريتها لصده ،خاصة في فترات
الستضعاف…وعلى الرغم من ذلك يظل الكتاب الكريم محتفظًا بثبات
لفظه ،وازدياد رسوخ نصه .
246
ب -ما شرفت المة بالتكليف به؛ إذ هي وارثة الكتاب ،وقد قال ال
:ث ُ ّ
صطَ َ َ
عَباِدَنا… ن ِ م ْ في َْنا ِ نا ْ ذي َ ب ال ّ ِوَرث َْنا ال ْك َِتا َمأ ْ
ظ أهل الكتاب السابقين على ما نـزل إليهم ،لذاك حِف َ
"فاطر ،"32/ولئن اسُت ْ
ن أوجب في حقنا ،وقد قال الصاوي –رحمه ال تعالى …" :-سيما ،وقد كائ ٌ
خَدَمًة من البشر يحفظونه" ) ،(690وقال صاحب التحرير جعل ال له َ
والتنوير" :حتى حفظته المة عن ظهور قلوبها من حياة النبي،(691)"
بيد أن هذه المة المشرفة قد ميزها ال بتوليه حفظ الكتاب بذاته،
ح عدم المنافاة بين ذلك وإيجاب حفظه على المة ،بل وجوب وواض ٌ
حفظه على المة هو أول أدلة واقعية الحفظ اللهي له… .
وقد اتضح وجه الدللة :من الية على وجوب حفظ النبيللقرآن
ل أوليًا). (692 هو :دخوله في المة دخو ً
َ ل ِبال ْ ُ
ضى ق َن يُ ْ
لأ ْ قب ْ ِن َم ْ ن ِ قْرآ ِ ج ْ ول َ ت َ ْ
ع َ - 8قوله تعالىَ … :
ما" طه."114/ عل ْ ًزدِْني ِ ب ِ ل َر ّ ق ْو ُ ه َحي ُ ُو ْ
ك َإ ِل َي ْ َ
وجه الدللة :حرصه على حفظ القرآن ،مع تكليفه بالرسالة،
يستلزم وجوب حفظ القرآن عليه …
247
، ل على وجوب ملزمة حفظه لكتاب ال – 9بقاؤهأميًا):(693وذا دا ٌ
للزوم استظهاره ،واستدعائه متى لزم المر ،لداء رسالة ال تبليغًا أو
تذكيرًا ،حتى لو كان مخدعه أو مرتعه ،أو مدخله أو مطلعه ،أو مسكنه ،أو
ض على هذا بأن ال قد كفاه ذلك بالكتاب الذي كان َمْرَبعه…ول ُيْعَتَر ُ
يكتبه صحبه من كتبة الوحي؛ إذ محال أن يصطحب الِكتاب والُكّتاب في كل
مكان…يريد فيه التبليغ والدعوة…ل لعزتها آنها ،بل لخصوصية احتياجه
إلى الدعوة والتبليغ ضرورة كونه نبيًا…ومن يفترضها هنا ،يفترض
المحال… .
ي أولوا النهى من طلبة )( وما ذهب إليه البعض من تعلمه الكتابة بعد نبوته فشذوذ ٌ قد ن ُهِ َ
693
العلم عن تتبعه ،على أن كثيرا من الشذوذ ل ُيروى على وجهه ،بل ينقل على ً
الهوى العقلي أو العاطفي لناقله .ويوضح ذلك من حيث خصوص موضوعنا ما قاله
ابن كثير في تفسيره ،3/4مرجع سابق" :وهكذا كان رسول الله دائمًا ،إلى يوم الدين ل
ب يكتبون بين يده الوحي يحسن الكتابة ،ول يخط سطرًا ،ول حرفا ً بيده بل كان له ك ُّتا ٌ
والرسائل إلى القاليم ،ومن زعم من متأخري الفقهاء كالقاضي أبي الوليد الباجي ومن تابعه
أنه كتب يوم الحديبية :هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ،فإنما حمله على ذلك رواية
في صحيح البخارى" :ثم أخذ فكتب" ،وهذه محمولة على الرواية الخرى" :ثم أمر فكتب"،
ولهذا اشتد النكير من فقهاء المشرق والمغرب على من قال بقول الباجي ،وتبرءوا منه،
ل ،وخطبوا به في محافلهم ،وإنما أراد الرجل -أعني الباجي -فيما ظهر وأنشدوا في ذلك أقوا ً
سن الكتابة ،كما قال إخبارا ً عن ح ِعنه أنه كتب ذلك على وجه المعجزة ،ل أنه كان ي ُ ْ
الدجال )مكتوب بين عينه كافر( ،وفي رواية )ك ف ر يقرؤها كل مؤمن( ،وما أورده بعضهم
ماو َف ل أصل له ،قال الله تعالىَ : من الحديث أنه لم يمت حتى تعلم الكتابة فضعي ٌ
هخطّ ُ ول ت َ ُ ب لتأكيد النفيَ ن ك َِتا ٍ م ْه ِ قب ْل ِ ِ ن َم ْ ت ت َت ُْلو" العنكبوت "48/أي تقرأ ِ ك ُن ْ َ
مين ِك تأكيد أيضا ،وخرج مخرج الغالب ،كقوله تعالى ول طائر يطير بجناحيه ً َ ب ِي َ ِ
ن أي لو كنت تحسنها لرتاب بعض مب ْطُِلو َ ب ال ْ ُ "النعام ،"38/وقوله تعالى إ ِ ً
ذا لْرَتا َ
الجهلة من الناس ،فيقول إنما تعلم هذا من كتب قبله ،مأثورة عن النبياء ،مع أنهم قالوا ذلك
مَلى َ َ
ي تُ ْ ه َ ها َ
ف ِ ن اك ْت َت َب َ َ وِلي َ طيُر ال ّ سا ِ قاُلوا أ َ و َمع علمهم بأنه أمي ل يحسن الكتابة َ
في سّر ِ م ال ّعل َ ُ
ذي ي َ ْ ه ال ّ ِ
ق ْ َ
ل أن َْزل َ ُ ُ صيل ً" الفرقان "5/قال الله وأ َ ِ عل َي ْ ِ
ه ب ُك َْرةً َ َ
248
ول َب َ ن ك َِتا ٍ م ْ ه ِقب ْل ِ ِ ن َم ْت ت َت ُْلو ِ ما ك ُن ْ َ -10قوله َ :
و َ
ت
ت ب َي َّنا ٌو آَيا ٌ ه َ ل ُ ن)(48ب َ ْ مب ْطُِلو َب ال ْ ُ ذا لْرَتا َ ك إِ ً مين ِ َ خطّ ُ
ه ب ِي َ ِ تَ ُ
حدُ ِبآَيات َِنا إ ِل ّ ج َ ما ي َ ْ
و َ عل ْ َ
م َ ن ُأوُتوا ال ْ ِ ذي َ ر ال ّ ِ
دو ِ ص ُفي ُ ِ
ن ،يعني أنك لم تكن تقرأ كتابًا حتى يقول أحد :هذا القرآن مو َ ال ّ
ظال ِ ُ 0000
الذي جاء به هو مما كان يتلوه من قبل ثم نفى الكتابة عنه ،والمقصود نفي
حالتي التعلم )بالقراءة والكتابة( استقصاًء في تحقيق وصف المية ،وقوله
م" ن ُأوُتوا ال ْ ِ
عل ْ َ ر ال ّ ِ
ذي َ دو ِص ُ
في ُت ِ ت ب َي َّنا ٌ
و آَيا ٌ
ه َل ُ ب َ ْ
أي بل القرآن آيات في صدر النبي .(694)
ض بأنه قد ورد في تفسير الذين أوتوا العلم :أصحاب النبي ول ُيْعَتَر ُ
،لن أول الذين أوتوا العلم هو النبي .
أن رسول ال قال ذات يوم -11حديث عياض بن حماٍر المجاشعي
في خطبته) :أل إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم ،مما علمني يومي
ل نحلته عبدا ً حلل ،وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ،وإنهم أتتهم هذا:كل ما ٍ
ت لهم ،وأمرتهم أنت عليهم ما أحلل ُ الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ،وحرم ْ
يشركوا بي ما لم أنسزل به سلطانًا ،وإن الله نظر إلى أهل الرض ،فمقتهم
عربهم وعجمهم إل بقايا من أهل الكتاب ،وقال :إنما بعثتك لبتليك وأبتلى
بك ،وأنسزلت عليك كتابا ً ل يغسله الماء ،تقرؤه نائما ً
ويقظانًا…(الحديث). (695
قال ابن كثير ":أي لو غسل الماء المحل المكتوب فيه ،لما احتيج إلى ذلك
المحل ،لنه قد جاء في الحديث الخر) :لو كان القرآن في إهاب ما أحرقته
ن على القلوب،ظ في الصدور ،ميسٌر على اللسنة ،مهيم ٌ النار( ،ولنه محفو ٌ
معجٌز لفظًا ومعنى ،ولهذا جاء في الكتب المتقدمة في صفة هذه المة
أناجيلهم في صدورهم"). (696
249
وقال النووي":أي محفوظًا في الصدور ،ل يتطرق إليه الذهاب بل
يبقى على ممر الزمان) ،تقرؤه نائمًا ويقظانًا( :أي يكون محفوظًا لك في
حالتي النوم واليقظة ،وقيل تقرؤه في يسر وسهولة").(697
ص في أنه يحفظه أمرًا وإخبارًا عن الواقع . وهذا ن ٌ
جِهُد نفسه فيه عند تلقيه الوحي :كما تقدم في - 12ما كان النبي ُي ْ
روايات حديث المعالجة) ،(698وفيها):يحرك لسانه( يريد أن يحفظه…يعجل
بقراءته ليحفظه ،ولبن أبي حاتم) :يتلقى أوله ،ويحرك به شفتيه خشية أن
ينسى أوله ،قبل أن يفرغ من آخره( ،وفي مسند الحميدي) :يعجل به يريد
ف هنا للفظ إذ لو كان المراد المعنى لما احتاج أن يحفظ( ،والحفظ منصر ٌ
لذاك الجهاد .
- 13ومما يدل على وجوب حفظ النبي للقرآن ،حفه بالعوامل
المساعدة على الحفظ ،مثل تنجيم القرآن ،وترتيله؛ وهو ما صرح به
صاحب التحرير والتنوير حيث قال في فوائد الترتيل":وفائدة هذا :أن يرسخ
حفظه ،ويتلقاه السامعون ،فيعلق بحوافظهم ،ويتدبر قارئه ،وسامعه معانيه،
ح بأن عمل النبي كي ل يسبق لفظ اللسان عمل الفهم") ،(699وهو تصري ٌ
ضبط الثنين :لفظ اللسان ،وعمل الفهم .
ومن هذه العوامل المساعدة على الحفظ :التنبيه ابتداًء على صعوبة
ن غير متوقعة ،ول معتادٍة في المحفوظ من حيث اشتماله على معا ٍ
تفاصيلها ،لئل يدور بخلد الذي يريد الحفظ وهو )النبي(أو ً
ل أنها
معتادة فاللسان لن يضيعها؛ فيتأهب له ،ويقدره حق قدره ،كما قال
قيل" المزمل ،"5/والثقل ول ث َ ِ ك َ
ق ْ عل َي ْ َ
قي َ سن ُل ْ ِإ ِّنا َ
ل مجازي ل محالة مستعاٌر لصعوبة حفظه؛ الموصوف به القول ثق ٌ
ن ليست من معتاد ما يجول في مدارك قومه ،فيكون لشتماله على معا ٍ
()697شرح صحيح مسلم ،17/189ونقلها السيوطي في الديباج ،222 /6مرجع سابق .
()698انظر :المبحث السادس من الفصل الثالث ص .113
()699التحرير والتنوير ،317 /29مرجع سابق .
250
حفظ ذلك عسيرًا على الرسول المي ،تنوء الطاقة عن تلقيه ،فقد
ل،
مهد لهذه الحقيقة بأوامر هي وسائل لتحقيق مقتضاها :من قيام لي ٍ
قيل ً ول ث َ ِ عل َي ْ َ
ك َ
ق ْ سن ُل ْ ِ
قي َ ن ،فقوله : إّنا َ وترتيل قرآ ٍ
ل للمر بقيام الليل).(700
"المزمل "5/تعلي ٌ
- 12الترهيب من نسيان القرآن :وإن لم يصح في عقوبٌة ذلك حديث
م
ب لِ َ
ل َر ّقا َ مرفوع) ،(701فقد دخل في عموم قولهَ :
ك أ َت َت ْ َ
ك ل ك َذَل ِ َ صيًرا)َ (125
قا َ ت بَ ِكن ُ قدْ ُ و َمى َ ع َ شْرت َِني أ َ ْ ح َ َ
سى" طه،( )"125-124/ ك ال ْي َ ْوك َذَل ِ َ
702
م ُتن َو َ ها َسيت َ َ آَيات َُنا َ
فن َ ِ
وقال ابن حجر في قول البخاري-رحمه ال تعالى" :-باب نسيان القرآن،
وهل يقول نسيت آية كذا وكذا"" :كأنه يريد أن النهي عن قول نسيت آية
كذا وكذا ليس للزجر عن هذا اللفظ ،بل للزجر عن تعاطي أسباب
النسيان المقتضية لقول هذا اللفظ").(703
والنبي أول من يدخل في الخطاب بذلك على راجح أقوال
الصوليين).(704
()700انظر :التحرير والتنوير ،29/164مرجع سابق ،ول ينافي هذا تيسير القرآن للذكر؛ إذ
ن هاديا ً في كل
ن ومكا ٍ
هو كذلك بالنظر إلى أنه الحق الصالح برغم صغر حجمه لكل زما ٍ
مجال ،وهو كذلك بالنظر إلى من اتبع قواعده في أسلوب حفظه ،ولذا أمر النبي بتعاهده
فهو أشد تفلتا ً من البل في عقلها .
()701لكن قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ،9/86مرجع سابق" :قد أخرج بن أبي داود من وجٍه
آخر مرسل نحوه ولفظه…) :أعظم من حامل القرآن وتاركه( -في معرض التهديد بأكبر الذنوب-
ومن طريق أبي العالية موقوفًا) :كنا نعد من أعظم الذنوب أن يتعلم الرجل القرآن ،ثم ينام عنه حتى
ينساه( وإسناده جيد ،ومن طريق ابن سيرين بإسناٍد صحيح في الذي ينسى القرآن) :كانوا يكرهونه،
ل شديدًا( ،ولبي داود عن سعد بن عبادة مرفوعًا) :من قرأ القرآن ثم نسيه لقي ال ويقولون فيه قو ً
وهو أجذم( وفي إسناده أيضًا مقال ،وقد قال به من الشافعية أبو المكارم الروياني ،واحتج بأن
العراض عن التلوة يتسبب عنه نسيان القرآن ،ونسيانه يدل على عدم العتناء به ،والتهاون بأمره
…" .
()702وانظر في هذا الموضوع :تفسير ابن كثير ،118 /4والقرطبي ،30/ 16مرجعان
سابقان ،وبين أن المراد " النسيان الكامل" واصل ً حد الترك ل النسيان الذي يغلب ،ومصنف
ابن أبي شيبة ،6/124والترغيب والترهيب ،2/232وفتح الباري ،9/80مرجع سابق ،ونيل
الوطار .160 /2
()703فتح الباري ،9/85مرجع سابق .
()704انظر :نثر الورود على مراقي السعود ،188 /1مرجع سابق عند قول الناظم في باب
المر:
251
وبعد هذا الستعراض لبعض أدلة وجوب حفظ النبي للفاظ
ط لها ،والتعريف بوجوب القرآن الكريم ،فإن الكلم على هذه المسألة غم ٌ
ن هذه
ف بما هو كالضرورة ،بل إ ّ الحفظ على النبي للفاظ القرآن تعري ٌ
ف في بدهية الحكم عليها ،والستدلل عليها تضييٌع المسألة مما تصورها كا ٍ
لها…إنما ُأريد الشارة المجردة؛ ليعلم الذين آمنوا كم ُأحيط بألفاظ هذا
الكتاب الكريم من رعاية .
252
253
الفصل الخامس
دمسسغ البسساطسسل
وفيه مبحثان
ض العوامل المقدوح بها في دقة تلقي النبي
ث بع َ
وفيه يذكر الباح ُ
من منظور البحث وزاويته ،فبعدما ألفاظ القرآن الكريم من جبريل
توافرت عوامل اليجاب على تحرير متعلقات موضوع تلقي النبي
ألفاظ القرآن من جبريل ،وجبت الشارة إلى نفي عوامل السلب عن ذلك
التلقي من حيث خصوص هذا الموضوع ،فكان هذا الفصل منعقدًا لهذه
الغاية .
ل ضمن ما سبق ،فبمجرد ض ما يقدح به في هذا الموضوع داخ ٌ
ح ُ وَد ْ
معرفة طبيعة الوحي القرآني ،وإنزاله ،وتعليمه ،وَتَعّلِمه بين النبي
سَقَمة القلوب قد
ض كل شبهٍة ،ولكن مرضى العقول ،و َ وجبريلُتْدح ُ
تعتريهم نفثات الشياطين ،فيورون َزْنَد الشبهة ،ليوقعوا غيرهم في البلبلة
والضطراب التصوري لحقائق القضايا العتقادية ،وليس المر مع
الصنف الول مستلزمًا النقاش لفساد الصل الذي يتكئون عليه ،إل أن
النقاش يكون مع من يتأثر بعقابيل أقوالهم ،وخبال زللهم…ومجموع الشبه
الواردة في باب تلقي النبي ألفاظ القرآن من جبريلَمَرّدها إلى جهتين:
جهة تأثير العوامل الخارجية :على تلقي النبي من حيث أن
حي له قد يكون جبريل ينتمي إلى العالم الغيبي ،فقد ُيْز َ
عم أن المو ِ
ساحرًا ،أو جنًا ،أو يؤثر هذان في النبي حال َتَلّقيه الوحي ،فيحسب
الكلمة من جبريل وهي من غيره ،فجماع هذه العوامل هو التهام
254
بالتخيل لعدم الثقة بكون الُمْلِقي بالوحي هو جبريل لحتمالية كونه
غيره .
وجهة تأثير العوامل الداخلية :وُيراد بها ما يعتري النسان من
ف ،وقصوٍر يؤثران على استيعابه للفظ القرآن الكريم؛ إذ لم يخرج ضع ٍ
النبي عن طبيعته البشرية وهو يتلقى الوحي القرآني ،والنسيان
والقصور البشري أنموذجان لهذا النوع من العوامل .فيتألف هذا الفصل
من مبحثين:
المبحث الول :العوامل الخارجية .
المبحث الثاني :العوامل الداخلية .
على أن شرط البحث في الكلم عن هذا الموضوع أل يتطرق
للعوامل الخرى التي قذف بها المشركون ،ول تعلق لها بالتلقي من جبريل
،كالتهام بكونه شاعرًا) ،(705أو كذابًا ،تنـزه عما يقول الظالمون ،أو
اتهام المسلمين بضياع شيٍء من القرآن)…(706؛ إذ الخوض في ذلك مُ ْ
خِر ٌ
ج
للبحث عما هو له…ولذا فإن حركة البحث هاهنا ستنحصر في هذا الشرط
دون غيره .
المبحث الول:
دفع العوامل الخارجية:
يجمع العوامل الخارجية المقدوح بها في صحة تلقي اللفظ )التخيل(،
وتنقسم إلى خمسة أقساٍم من حيث درؤها عن صحة تلقي النبي، ويمكن
ص من حيث درؤها عن دقة تلقي النبي عها إلى أمرين :عاٍم وخا ٍ
إرجا ُ
ل عن صحة تلقيه ،يكونان مطلبي المبحث: فض ً
المطلب الول :دفع تهمة التخيل في تلقي ألفاظ القرآن بصفة عامة .
255
المطلسسب الثسساني :دفسسع تهمسسة التخيسسل فسسي تلقسسي ألفسساظ
القرآن من حيث تفصيل العوامل المظنون إحداثها التخيل
.
المطلب الول :دفع تهمة التخيل في تلقي ألفاظ القرآن بصفة
عامة:
يرجع هذا الدفع إلى جميع أركان تلقي اللفظ القرآني :من اللفظ في
ذاته ،وطرفي التصال ،وطبيعة الدين السلمي ،وينحصر ذلك الدفع
فيما يلي:
ن عاٌم ،إثباتًا للقرآن، - 1بالضمان اللهي بالحفظ لكتابه :وهذا ضما ٌ
وإ ِّنا ل َ ُ
ه ن ن َّزل َْنا الذّك َْر َ ح ُإ ِّنا ن َ ْ ونفيًا لما عداه عنه ،ومستنده قوله
" الحجر . "9/ ن
ظو َ ف ُ حا ِ لَ َ
707
وتقدم أن الحفظ يقتضي الحراسة والمراقبة) ( ،وهو مدلوله هنا…
وفي هذه الية جيء بالجملة السمية مؤكدًة بتوكيدين ،ونسب فيها الحفظ
المحذوف متعّلقه إفادًة للعموم إلى ضمير العظمة ،وفي ذلك من الدللة على
العتناء بأمر القرآن ما فيه). (708
- 2بالضمان اللهي بعدم تطرق شائبٍة من الباطل إليه :وهذا ضما ٌ
ن
ص يدحر عوامل السلب ،بعد الضمان العام بالمحافظة الشاملة لثبات خا ٌ
كلم ال في كتابه ،ونفي أن يتطرق إليه غيره ،فكان هذا الضمان تأكيدًا
ثانيًا على نفي عوامل السلب من أن تتطرق لكتاب ال ،كما قال
ه ال َْباطِ ُ ْ
ن
م ْ ول َ ِ ه َ ن ي َدَي ْ ِ
ن ب َي ْ ِ
م ْل ِ زيٌز ل َ ي َأِتي ِع ِب َه ل َك َِتا ٌوإ ِن ّ ُ َ
ميٍد" فصلت ،"42- 41/والمراد ح ِكيم ٍ َ ح ِ
ن َ م ْل ِ زي ٌ
ه َتن ِ ف ِ خل ْ َِ
709
استمرار النفي ،ل نفي الستمرار) (.
وإثبات هذا النفي يعتمد على إحدى مقدمتين:
إما أن يثبت للمدعو صدق الرسول في دعوى الرسالة بغير بينة
صّدق -بعُد -في هذا الضمان، القرآن الكريمِ ،لُي َ
256
وإما أن يثبت للمدعو كون القرآن بلفظه ،أو بمعناه ،أو بهما معًا ليسا من
ق الرسول صّد َ ث من القرآن ُيْتَلىَ ،فُي َ بشٍر ،بل من ال من خلل بضٍع حدي ٍ
في بقية القرآن … .وقد تحققت كل المقدمتين) (.
710
- 3بمعرفة طبيعة الوحي القرآني :إذ حقيقته كلم ال الذي أنـزل إلى
الرض لينذر به من حضر ،ومن بلغ ،وهذا يقتضي الديمومة والبقاء
والهيمنة…وإذا كانت هذه ماهيته ،فيستحيل طروء تغيير فيه من خارج
مكان إنـزاله ،ولذا ورد في سورة التكوير الربط بين نفي ما وجه إلى
نمي َ عال َ ِو إ ِل ّ ِذك ٌْر ل ِل ْ َ ه َن ُ الرسول الكرم وبين طبيعة الوحيإ ِ ْ
" التكوير ،"27/وكذلك في سورة النجم حيث نفى طعن الطاعنين في
ما
و َ م َ حب ُك ُ ْ صا ِ ل َ ض ّما َ الوحي الذي يتلوه رسول ال بقولهَ
ن طبيعة الوحي ن ال َْهَوى" النجم ،"3-2/ثم َبّي َ ع ْ ق َ ما ي َن ْطِ ُو َوى* َ غ ََ
حى" النجم ،"4/فدعوى التخيل فيه ي ُيو َ
ح ٌ و إ ِل ّ َ
و ْ ه َ
ن ُ بقوله إ ِ ْ
سّلُم بالوحي ابتداء ،ثم يعتريه مضاد لطبيعته ،وهذا التقرير يكون لمن ُي َ
ف من القول :بأن خْل ٍإرجاف المرجفين؛إذ لو استجاب للشبهة لوصل إلى ُ
سّلَم بالوحي القرآني ويعرف طبيعته ،ثم ينقضه بقبول المرجفات حوله . ُي َ
وما سبق كان حفظًا للُمْنـَزل ،ونفيًا لي دخل من خلل القرآن
ف في نفي ما يظنه المتخرص رجمًا بالغيب ،وَثّم الُمْلَقى ،فتصوره كا ٍ
ح في صحة تلقي اللفظ ي لي قد ٍ ظ للنازل به ،والُمْنـَزل عليه ،ونف ٌ حف ٌ
القرآني ،ودقته من خلل ذلك ،وهو ما يأتي:
- 4بتأكيد التصال الحسي بين جبريل والنبي وهو ما تراه في قوله
ما ي ََرى عَلى َ ه َ ماُرون َ ُ ما َرَأى * أ َ َ
فت ُ َ ؤادُ َف َب ال ْ ُ ما ك َذَ ََ :
" النجم . "12-11/
فالكذب يطلق على التخيل والتلبيس من الحواس ،كما يقال :كذبته
عينه) ،(711وهم ولجوا له من باب التخيل مجادلة أو جحودًا ،إذ قراءة
ماُرون َُه (712)من المراء وهي المجادلة ،وقراءة ت ُ َ
ل :القاضي عياض بن موسى اليحصبي :الشفا تعريف حقوق المصطفى ،دار ()710راجع مث ً
الكتب العلمية ،بيروت -لبنان ،وغيرها من كتب السيرة أو العجاز القرآني البياني والعلمي
والتشريعي… .
()711التحرير والتنوير ،26/99مرجع سابق .
()712قرأ )تمارونه( بإثبات اللف أبو عمرو وابن كثير ونافع وابن عامر وأبو جعفر وعاصم من
العشرة ،والبقية بحذف اللف .انظر :طيبة النشر في القراءات العشر ،مرجع سابق ،عند
257
مُرون َُهمن مراه إذا جحده ،كأنه قال :بعضكم يجادله ،وبعضكم ت ُ ْ
يجحده ،كما هو المعتاد في توزيع الدوار المخطط أو التلقائي في عالم
المعاندين .
رأى" النجم/
َ ب ال ْ ُ
ما َ
ؤادُ َف َ ما ك َذَ َ فالظهر أن قوله تعالى َ
،"11تدور حول معنيين:
ب من المشركين فيما بلغهم من الخبر عن أحدهما :أن هذا رٌد لتكذي ٍ
رؤية النبي المَلك جبريل ،وهو الذي يؤذن به قوله -بعد-
عَلى َما ي ََرى وال في قوله ه َماُرون َ ُ
فت ُ َ أ َ َ
ض عن المضاف إليه ،أي فؤاده ،وعليه فيكون تفريع فَؤاد عو ٌ ال ْ ُ
عَلى َما ي ََرى استفهامًا ه َ ماُرون َ ُ فت ُ َالستفهام في قوله أ َ َ
إنكاريًا لنهم ماروه .
َ
فَؤادُ َما َرأى تأكيدًا ب ال ْ ُ ما ك َذَ َ والخر :أن يكون َ
ن أْو أدَْنى لرفع احتمال َ َ ب َ ن َ ف َلمضمون قوله َ
سي ْ ِ و َ ق ْ قا َ كا َ
ي ،وليس مجرد اتصا ٍ
ل ب حس ٌ المجاز في تشبيه العرب ،أي هو قر ٌ
ل في ماُرون َُه مستعم ً فت ُ َروحاني ،فيكون الستفهام في قولهأ َ
الفرض ،والتقدير :أفستكذبونه فيما يرى بعينيه ،كما كذبتموه فيما بلغكم
عن ال.(713)
نصنا( . قول الناظم في سورة النجم) :تمروا تماروا حبر عم
()713انظر :التحرير والتنوير ،26/99مرجع سابق .
258
والمعنى :رآه بعينه ،وعرفه بقلبه ،ولم يشك في أن ما رآه حق)،(714
ويمكن للباحث أن يقول :إن قراءة التشديد ك َذّ َ
ب تفيد يقينه مما رآه،
ب تفيد صدقه فيما نقل ) …(715وفي ذلك وقراءة التخفيف ك َذَ َ
تنويٌه بمدى الدقة ،وطمأنينٌة بحقيقة الواقع المحكي… وتعدية الفعل
بحرف الستعلء لتضمنه معنى الغلبة أي :هبكم غالبتموه على عبادتكم
اللهة ،وعلى العراض عن سماع القرآن ،ونحو ذلك ،أتغلبونه على ما
رأى ببصره) ،(716فهذا المقطع يؤكد تلقي الرسول عن جبريل تلقي
ن فحسب ،وخص الفؤاد؛ لن رؤية ب ،وعي ٍ
ن ودقٍة ،ل رؤية قل ٍ
رؤيٍة ،وتمك ٍ
الفؤاد ل يتأتى معها تخيل ،بخلف رؤية العين التي قد تخدع خداع
نظر) ،(717وقد تقدم مرارًا)(718أن رؤية النبي لجبريل وسماعه له
ل بمركز السمع والبصر في الفؤاد مباشرة . حال إلقاء الوحي يكون متص ً
()714انظر :البحر المحيط ،8/158مرجع سابق ،وقد قيل :إن المرئي هو ال ،ويكفيه ضعفًا حديث
عائشة -رضي ال تعالى عنها -المتقدم لفظه في المبحث الول من الفصل الثالث ص 77وما قبلها،-
والحديث في صحيح مسلم ،1/159مرجع سابق .
ل جرم أن نقدم خبر عائشة على تأويل ابن
عباس؛ فترجيحه ظاهٌر من حيث أنها سألت رسول
الله ،أما ابن عباس فظاهر كلمه أنه مجرد
استنتاج ،فتطرق الحتمال إلى روايات غيرها ل إلى
حديثها كما هو ظاهر ،وانظر :البحر ،8/158مرجع
سابق ،تفسير ابن كثير ،4/210مرجع سابق،
وانظر :المبحث الول في الفصل الثالث .
()715قرأ بالتثقيل هشام عن ابن عامر ،وأبو جعفر من العشرة ،وبقية العشرة بالتخفيف…
انظر) :ابن الجزري( محمد بن محمد بن محمد بن علي ت 833هس :طيبة النشر في
القراءات العشر ص ،97مرجع سابق ،عند قول الناظم) :كذب الثقيل لي ثنا( .
()716انظر :حاشية الصاوي ،175 /4مرجع سابق ،التحرير والتنوير ،26/99مرجع سابق،
وقيل :إن المراد أمر السراء والمعراج ،والسياق وسبب السورة ُيبعدان ذلك ،وتقدم نوع
إشارة لذلك ،انظر :المبحث الول من الفصل الثالث ص . 72
()717انظر :ظلل القرآن ،6/3405مرجع سابق .
()718انظر –مث ً
ل :-المبحث الول من الفصل الثالث ص . 77
259
-5برؤية النبي لجبريل في صورته التي خلقه ال عليها عيانًا
كما قالَ :
ُ
ن" التكوير ،"23/وقال: قدْ َرآهُ ِبالفق ال ْ ُ
مِبي ِ ول َ َ
خَرى"النجم :"13/أي إن كنتم تجحدون رؤيته ة أُ ْ
قدْ َرآهُ ن َْزل َ ً ول َ َ
َ
لجبريل في الرض ،فلقد رآه رؤية أعظم من حين يأتي إليه للوحي إذ
رآه في العالم العلوي…وأكد ذلك بالقسم ،فضمير الرفع في رآه عائد إلى
صاحبكم ،وضمير النصب عائد إلى جبريل ،وأكد ذلك بقوله َ
ما
صُر َوَما طََغى" النجم ،"17/أي :رأى جبريل رؤية ل غ ال ْب َ ََزا َ
خطأ فيها ،ول زيادة على وصف ،أي ل مبالغة فيها). (719
ومن حكم رؤية النبي لجبريل في هيئته التي خلق عليها :أن
ن في ذاته إلى ملئكية جبريل فرآه على هيئته الحقيقية مرتين، طَمِئ ّ
َي ْ
د موطئٌة للقسم ،أي :وبال ق ْول َ َ
وأكد ذلك بالقسم؛ إذ اللم في قوله َ
لقد رآه). (720
لفق المبين ،قيل :بعد أمر غار حراء ،حين رآه فالمرة الولى :با ُ
لفق :الفضاء ي بين السماء والرض له ستمائة جناح) ،(721وا ُ على كرس ٍ
الذي يبدو للعين من الكرة الهوائية بين طرفي مطلع الشمس ومغربها من
حيث يلوح ضوء الفجر ويبدو شفق الغروب ،وهو يلوح كأنه قبة زرقاء،
لفق غير ذلك والمعنى :رآه بين السماء والرض ،وقيل في معنى ا ُ
ن أي ا ُ ) ( ...وأيًا كان فوصفه بـ ال ْ ُ
722
لفق الواضح البين، مِبي ِ
لفق الذي تراءى فيه جبريل للنبي بأنه ُأف ٌ
ق والمقصود :نعت ا ُ
ن ل تشتبه فيه المرئيات ،ول يتخيل فيه الخيال ،وجعلت تلك ح بي ٌ
واض ٌ
ل؛ لن الخيلة التي يتخيلها الصفة علمًة على أن المرئي ملك ،وليس بخيا ٍ
()719انظر :التحرير والتنوير ،26/100مرجع سابق .
()720روح المعاني ،3/106مرجع سابق .
()721انظر :البخاري ،1/3مرجع سابق .
()722انظر :التحرير والتنوير ،26/100مرجع سابق ،والغير المذكور ليس المراد منه
المغايرة الكلية )التباين( بل من حيث الخصوص ،أي اختلف في تحديد مكان جهة ا ُ
لفق .
260
المجانين إنما يتخيلونها على الرض تابعًة لهم على ما تعودوه من وقت
الصحة) ،(723وقد وصف النبي المَلك الذي رآه عند نـزول سورة المدثر
ي بين السماء والرض) ،(724ولهذا تكرر ذكر ظهور المَلك بأنه على كرس ٍ
ذو وى)ُ (5 ديدُ ال ْ ُ
ق َ ش ِ ه َ عل ّ َ
م ُ لفق في سورة النجم في قولهَ با ُ
عَلى- إلى أن قال- ق ال َ ْ و ِبال ُ ُ
ف ِ ه َو ُوى)َ (6 ست َ َ
فا ْ ة َ مّر ٍِ
ْ ُ قدْ َرآهُ ن َْزل َ ً ول َ َ َ
وىخَرى…المأ َ ةأ ْ ما ي ََرى َ عَلى َ ه َماُرون َ ُ أ َ
فت ُ َ
"النجم. "18-5/
والمرة الخرى عند سدرة المنتهى) ،(725وتكرار الرؤية للتأكيد؛ لئل
يكون للوهم سبيل إلى نفسه وسائر من بلغ من الخلق أجمعين ،وقد كانت
ك فيه ،ول يزيغ البصر عنده ،ول يطغى . شّ ن ل ُي َ
الخرى في مكا ٍ
– 6عصمته من التقول على ال عمدًا ،أو خطأ ،أو سهوًا ،وكل
ل في حقه ،وقد اجتمعت المة على عصمته فيما طريقه البلغ ذلك محا ٌ
من القوال ،وأنه معصوٌم عن الخبار عن شيٍء منها بخلف ما هو به ل
726
قصدًا ول عمدًا ،ول سهوًا ،ول غلطًا) ( ،ولذا قال الحلبي -رحمه ال تعالى-
عِلَم وتقرر في النفوس من عصمة النبياء من الشيطان، في سيرتهُ " :
واختص نبينا من بين سائر النبياء-عليهم الصلة والسلم-بالختم) (
727
261
حَكُم معه كلمات ال ،وذا شبيٌه بما كان يصدر منه من السهو في ُت ْ
الصلة ،فكذلك سهوه في قراءة القرآن بعد البلغ ،ومكان التفصيل في
ذلك بعد قليل -إن شاء ال تعالى. (729)-
ل من النبي سهوًا ،أو - 7تدخل القدرة اللهية مباشرًة عند حصول تقو ٍ
ل وإل فهو غيرعمدًا مع عدم من يستطيع إثبات ذلك التقول ،وهذا تنـز ً
ع ،ودليله قوله أ ْ
َ
عَلى الل ّ ِ
ه فت ََرى َنا ْقوُلو َ م يَ ُ واقٍع ،ول متوق ٍ
ه ال َْباطِ َ فإن ي َ ْ
ل ح الل ّ ُ م ُ وي َ ْ ك َقل ْب ِ َ عَلى َ م َ خت ِ ْ ه يَ ْ شأ الل ّ ُ ذًبا َ ِ ْ َ كَ ِ
ول َ ْ
و ه…" الشورى . "24/وقد شمل قولهَ مات ِ ِ ق ب ِك َل ِ َ ح ّ ق ال ْ َ
ح ّ وي ُ ِ َ
ْ َ َ َ َ َ
من)(45ث ُ ّمي ِ ه ِبالي َ ِ من ْ ُخذَْنا ِ ل)(44ل َ وي ِ ض القا ِ ع َ علي َْنا ب َ ْ ل َ و َ
ت َق ّ
َ
ن زي َ
ج ِ
حا ِه َ عن ْ ُد َ ح ٍ نأ َ م ْم ِ من ْك ُ ْ
ما ِ ف َ ن)َ (46 وِتي َ ه ال ْ َ من ْ ُ
عَنا ِ قطَ ْ لَ َ
"الحاقة ،"47-44/حالة التقول عمدًا ،أو سهوًا ،وهو ما عبر عنه الشيخ إبراهيم
الكوراني-رحمه ال تعالى-بقوله" :السلطان المنفي عن العباد المخلصين ،هو
الغواء أعني التلبيس المخل بأمر الدين ،وهو الذي الجماع على أن النبي
معصوٌم منه".
ل عن حرف من - 8استحالة تغيير هيئٍة من هيئات أدائه فض ً
ل ت َ
قا َ م آَيات َُنا ب َي َّنا ٍ
ه ْ ذا ت ُت َْلى َ َ
علي ْ ِ حروفه؛ لقولهَ
وإ ِ َ
ه َ َ
ل ه ُ
ق ْ و ب َدّل ْ ُذا أ ْ ر َغي ْ ِن َ قْرآ ٍ ت بِ ُ قاءََنا ائ ْ ِ ن لِ َجو َ ن ل ي َْر ُذي َ ال ّ ِ
ن ت ِل ْ َ ُ َ
سي" يونس ،"15/وللمر ف ِء نَ ْقا ِ م ْ ه ِ ن أب َدّل َ ُن ِلي أ ْ كو ُما ي َ ُ َ
قْرآن َُه و ُ ه َ ع ُ
م َ
ج ْعل َي َْنا َ
ن َ اللهي المقترن بالوعد في قوله إ ِ ّ
"القيامة ،"17/كما تقدم).(730
ي يناله بسوٍء في نفسه أو -9بحراسة الرسول من أن يأتيه عدٌو غيب ٌ
ت قلب النبي ،وتزيد المؤمنين إيمانًا ،وتدحر وحيه :هذه الحراسة ُتَثّب ُ
هُر ْ ب َ َ
فل ي ُظ ِ م ال ْ َ
غي ْ ِ تخرصات المشركين ،وذلك كما قال َ :
عال ِ ُ
سل ُ ُ غيب َ
ك ه يَ ْ ل َ
فإ ِن ّ ُ سو ٍ ن َر ُ م ْ ضى ِ ن اْرت َ َ م ْ دا)(26إل ّ َ ح ً
هأ َ عَلى َ ْ ِ ِ َ
َ
قدْ أب ْل َ ُ َ
غوا ن َ مأ ْ عل َ َ
دا) (27ل ِي َ ْ
ص ًه َر َ ف ِخل ْ ِن َم ْ و ِ
ه َ ن ي َدَي ْ ِن ب َي ْ ِم ْ ِ
دا د ع
َ ء
ٍ ي شَ ّ
ل ُ ك صى ح َ أ و م ه يد َ ل ما ب طَ حا َ أ و م ه بر ت َ ل سا ر
َ ً ْ َ ْ ِ ْ َ ْ َ ِ َ ِ َ ّ ِ ْ َ َ ِ َ
" الجن ."28 -26/
()729انظر :المبحث الثاني من هذا الفصل ص .275
()730انظر :المبحث السادس من الفصل الثالث ص .113
262
ك وهو ل سل ُ ُ ه عائد إلى ال ، ي َ ْ فإ ِن ّ ُ فقوله َ :
فإ ِن ُّه ،والثالث والرابع محالة عائد إلى ال ،كما عاد إليه ضميرَ
ه وهما عائدان إلى ف ِخل ْ ِ ن َ م ْ
و ِ ه َ ن ي َدَي ْ ِ ن ب َي ْ ِ م ْ ضميراِ
دامن بين ص ً ل ،أي فإن ال يسلك ،أي يرسل للرسول َر َ سو ٍ َر ُ
يدي الرسول ومن خلفه ،أي ملئكٌة يحفظون الرسول من إلقاء الشياطين
نن ب َي ْ ِم ْ عليه من غيوبه ،والمراد بـِ إليه ما يخلط عليه ما أطلعه ال
ه الكناية عن جميع الجهات ،والمراد من تلك الكناية ف ِ خل ْ ِ ن َ م ْ و ِ ه َ ي َدَي ْ ِ
السلمة من التغيير والتحريف .
كسل ُ ُ ل به للفعلي َ ْ والرصد :اسم جمٍع ،ونصب على أنه مفعو ٌ
ذلك ليبلغ ك أي يفعل ال سل ُ ُم بقوله ي َ ْ عل َ َ ،ويتعلقل ِي َ ْ
الغيب إلى الرسول ،كما أرسل إليه ل يخالطه شيء مما ُيْلِبسُ عليه
الوحي ،ويعلم ال أن الرسل أبلغوا ما أوحي إليهم ،كما بعثه دون
تغيير .
م أن الغيب َ
قدْ أب ْل َ ُ َ
ه ْ ت َرب ّ ِ سال َ ِ ر َ غوا ِ ن َ وُفهم من قوله أ ْ
المُتحَدث عنه هو الغيب المتعلق بالشريعة وأصولها من البعث والجزاء،
م ط بِ َ َ حا َ ورأس ذلك الوحي القرآني ،وقوله َ
ه ْ ما لدَي ْ ِ وأ َ َ
عدًَدا الواو واو الحال فالجملة حاليٌة ،أو أن ء َ ي ٍ ل َ صى ك ُ ّ َ
ش ْ ح َ وأ َْ
َ َ َ
غوا قدْ أب ْل ُ ن َ ل لجملةأ ْ الجملة اعتراضية؛ لن مضمونها تذيي ٌ
م أي أحاط بجميع ما لدى الرسل من تبليغ وغيره، ه ْ ت َرب ّ ِ سال َ ِ ر َ ِ
م ه ي د َ ل ما ب َ
ط حا َ أ و فقوله ذلك، عدا مما ٍ
ء شي بكل وأحاط
َ ْ ِ ْ ِ َ َ َ
سل إليهم ،وقوله تعميٌم بعد تخصيص ما قبله بعلمه ،وتبليغهم ما ُأر ِ
عدًَدا تعميٌم أشمل بعد تعميم .وعّبر عن ء َ ي ٍ ل َ صى ك ُ ّ َ
ش ْ ح َ وأ ْ َ
العلم بالحصاء على طريقة الستعارة تنبيهًا بعلم الشياء بمعرفة العداد،
ل على دقة وشمول العلم اللهي).(731 وذلك دا ٌ
وهذا الحفظ يشمل الرسول المَلكي ،والرسول البشري لعموم
ى آخر :هو ح لمعن ً لم صال ٌ ل ،والضمير في ل ِي َْع َ َ سو ٍ ن َر ُ م ْ ِ
العودة على الرسل ،أي ليعلم الرسل ،والمراد هنا زيادة اطمئنانهم بأن ما
()731انظر :التحرير والتنوير ،29/154مرجع سابق .
263
أمروا بتبليغه هو ذاته ما بّلغوه لم يستطع أحٌد أن يزيد فيه أو ينقص
ى ثالثللحراسة الغيبية من العالم الغيبي المعادي ،كما يصلح الضمير لمعن ً
هو العودة على المشركين ،والتقدير :ليعلم أهل الشرك أن الرسل قد أبلغوا
رسالت ربهم…).(732
ة لمــا قبلــه( بتفصــيل صــفات ) - 10وهــو كلي ـ ٌ
الرسول السسذي يحملسسه ،والرسسسول السسذي ي ُب َّلغسسه والتأكيسسد
عليها :إذ يلزم عنهسسا لسسذاتها نفسسي تسسسرب الخلسسل وهمسًا ،أو
ل ،نقصا ً أو زيادة ،وقسد تقسدمت مسؤهلت المعلسم الستي تخي ً
733
س) (، 734وسسسوا ٍ ب ،ودحسسر كسسل يلزم عنها لذاتها نفي كل ري ٍ
كما تقدمت التهيئة الخاصة بالرسول .( )
ة لما قبله أيضًا(إكمال الدين ،فقد ) - 11وهو كلي ٌ
َ
ف
م"المائدة ،" 3/س وهو كسسا ٍ ت ل َك ُ ْ
م ِدين َك ُ ْ مل ْ ُ
م أك ْ َ قال ال ْي َ ْ
و َ
في منع الزيادة أو النقصان في اللفظ ،ومن ثم فل مجسسال
لزيادة آيةٍ أو نقصانها في القرآن إل ما جاء من قائل هسسذه
الية ،أي من اللسسه ممسسا نسسسزل بعسسد تلسسك اليسسة ،والتعسسبير
بالكمسال للسدين دون التمسام فيسه مزيسد مزيسةٍ لنسه يعنسي
الكمال المطلق ،أما التمام فهو التمام الضافي النسبي .
-12إجماٌل لنفي جميع العوامل :بأن يقال :الخلُل المقدوح به في تلقي
اللفظ القرآني :إما أن يكون تخيل دائمًا ،أو طارئًا،
ل برؤية المشركين وشهادتهم؛ إذ لم ير فالول وهو التخيل الدائم باط ٌ
المشركون له ندًا في عقله أفيتهمونه بعد إذ بلغ أشده ،وبلغ أربعين سنة؟
).(735
264
والثاني وهو التخيل الطارئ :إما أن يكون غير متعمٍد ،وإما إن يكون
متعمدًا،
فالول وهو الطارئ غير المتعمد فليس إل الجنون ،أو الضلل في
ن "الدخان "14/نفاه جُنو ٌ م ْم َ عل ّ ٌم َ التفكير ،فأما الجنون فهو ما قالوه ُ
ال عنه في سورة التكوير ،ويأتي ذكره بأكثر من هذا بعد قليل)،(736
لض ّ ما َ وأما الضلل في التفكير فنفاه عنه في سورة النجم؛ إذ قالَ :
م ،وبينهما تقارب؛ لن المجنون ل يهتدي إلى وسائل حب ُك ُ ْ
صا َِ
ضل، ّ الصواب ،وهو معنى َ
َ
م والثاني وهو الطارئ المتعمد :فإما أن يكون الشعر؛ كما قالواأ ْ
ن" الطور ،"30/وإما أن مُنو ِ ب ال ْ َ ه َري ْ َص بِ ِعٌر ن َت ََرب ّ ُ ن َ
شا ِ قوُلو َ يَ ُ
يكون السحر؛كما قالوا إن هذا إل سحر يؤثر" المدثر ،"24/
ق"ص ،"7/وكلها خت ِل َ ٌ ذا إ ِل ّ ا ْ ه َ ن َ وإما أن يكون الكذب؛كما قالواإ ِ ْ
زعمه المشركون المبطلون في رسول ال فنفاها ال صراحًة على
لسو ٍ ل َر ُ و ُ ه لَ َ
ق ْ وجه الخصوص في غير ما موضع كما قال إ ِن ّ ُ
ول
ن )َ (41
مُنو َ
ؤ ِ قِليل ً َ
ما ت ُ ْ ر َ
ع ٍ ل َ
شا ِ و ِق ْو بِ َ
ه َما ُو َ
ريم ٍ )َ (40كَ ِ
ن" الحاقة ،"42-40/وعلى وجه ما ت َذَك ُّرو َقِليل ً َ
ن َ ه ٍ ل َ
كا ِ و ِ
ق ْبِ َ
ل وغوايٌة فنفاه فيالعموم بإرجاعها إلى أصلها؛ إذ السحر والكذب ضل ٌ
عَراءُ
ش َوال ّ سورة النجم ،والشعر المتعارف بينهم غواية كما قالَ
ن" الشعراء "224 /أي يحبذون أقوالهم لنها وو َغا ُم ال ْ َ
ه ْع ُي َت ّب ِ ُ
737
غواية) (...فقد نفى عمومًا وخصوصًا ،وشرد بهم آراءهم ،وَقْذ َ
ف
الشياطين في عقولهم .
ثم دحض أساس المتعمد بأنواعه بالتزكية له ولما ينطق به ،فقال:
ن ال َْهَوى" النجم"3/؛فإن المراد استمرار نفي النطق ع ْ ق َما ي َن ْطِ ُ و ََ
738
ل نفي استمرار النطق) ( ،وهنا نأخذ صراحة التوقيف في القراءة؛ فقد
قال قتادة -رحمه ال تعالى -في معناها" :أي ما ينطق بالقراءة عن هواه").(739
265
والهوى ميل النفس إلى ما تحبه أو تحب أن تفعله دون أن تقتضيه
ى يقتضي نفي جنس ما ينطق به عن العقل السليم ...ونفى النطق عن هو ً
التصاف بالصدور عن هوى سواء كان القرآن أو غيره ،ولكن القرآن هو
المقصود لنه سبب هذا الرد عليهم).(740
المطلب الثاني :دفع تهمة التخيل في تلقــي
ألفــاظ القــرآن مــن حيــث تفصــيل العوامــل
المتهمة بإحداث التخيل:
وهي أربعة عوامل:
أو ً
ل :دفع تهمة التخيل بسبب الضللية التفكيرية:
إذ ربمسسا قسسال قسسائل :إن اعتكسسافه وتحنثسسه ، ثسسم
ط ضسسالةٍ فسسي اعتزاله لعوائد قريش قد أوصسسله إلسسى خطسسو ٍ
ن
ن ،فيبسسدأ بكلم ٍ حس س ٍ س َح ْالتفكير ،وإن قصد الخير ورام ال ُ
لينتهي بعده إلى ما ل ي ُْرتضى ،أو ربمسسا سسسولت لسسه ع ُْزَلتسسه
ن ابتداءه بما يقسسول مسسن بسسديع الكلسسم ،ثسسم س ُ
ح ّط َْرقا ً غويا ً ي ُ َ
ج سسسيره بعسوج قصسده…لسسذا كسان القسسم فسسي عو َ ُ يستبين ِ
سورة النجم كالستئناف البياني بعسسد أن ذكسسر فسسي سسسورة
ف فسسي إبطسساله ،فكسسأن الطور اتهامهم إياه بمسسا تصسسوره كسسا ٍ
بعض القلوب قد مالت إلى النبي ثسسم اعتراهسسا التفكيسسر
طر قبل قليل ،فكان الجواب على وسوستها: س ّم َال ُ
غَوى :فالضللة عدم الهتداء ما َ
و َ حب ُك ُ ْ
م َ صا ِ
ل َ ض ّما َ َ -1
إلى الطريق الموصل إلى المقصود ،وهو مجاٌز في سلوك ما ينافي الحق،
266
والغواية :فساد الرأي وتعلقه بالباطل) ،(741وفي تفسير الجللين" :الغوى
جهل عن اعتقاد فاسد"). (742
- 2ببيان طبيعة الوحي :كما في سورة التكوير وسورة النجم ،ففي سورة
و ِإل ِذك ٌْر ه َن ُ التكوير َبّين طبيعة الوحي ببيان غايته ،فقال :إ ِ ْ
ن"التكوير ،"27 /وفي سورة النجم بين طبيعته من حيث أن مي َ عال َ ِ ل ِل ْ َ
الذكر الحق مطلقًا الذي ل شائبة ضلل فيه ،ول غواية تعتريه ل يكون إل
حى" النجم ،"4/وهو استئنافٌ ي ُيو َ
ح ٌ و ْو ِإل َ ه َ ن ُ عن وحي إ ِ ْ
ن ال َْهَوى" النجم " 3 /؛كأنه قيل بعد نفي ع ِ
ق َ ما ي َن ْطِ ُ و َ ي لجملةَ بيان ٌ
الضلل ،والغواية ،ونفي النطق عن الهوى :فما هو الثبات؟ ماذا هو كائ ٌ
ن
ى ،أو سحرًا ،أو اختلقًا ،أو أساطير الولين…؟ فقال: إن لم يكن مفتر ً
هَو عائٌد إلى حى ،فالضمير في ُ ي ُيو َح ٌ و ْو ِإل َ ه َن ُ إ ِ ْ
و
ه َدُلوا ُ المنطوق به المأخوذ من فعل ينطق كما في قوله ا ْ
ع ِ
عِدُلوا،(743) وى أي العدل المأخوذ من فعل ا ْ ق َب ِللت ّ ْ قَر ُ أَ ْ
حى صفٌة لـ ووضح الشوكاني -رحمه ال تعالى -ذلك بقولهُ" :يو َ
ي تفيد الستمرار التجددي ،وتفيد نفي المجاز ،أي هو وح ٌ
ي ح ٌ و َْ
حقيقٌة ل مجرد التسمية"). (744
ع تكراٍر هاهنا لما سبق في رقم ) (3من المطلب وقد حدث نو ُ
الول ،فإنما ارتكب ذلك للهمية…على أن المكرر هو فحوى الفكرة ،ل
تفصيلها .
ثانيًا:دفع تهمة التخيل بتأثير الجنون:
267
شهادة الخصم للرسول كافيٌة لدحض هذه التهمة :حيث قال
ن" التكوير :" 22/ففي
جُنو ٍ
م ْ حب ُك ُ ْ
م بِ َ صا ِ
ما َ نافيًا لهذه التهمة َ
و َ
التعرض لعنوان الصحبة مضافًة إلى ضميرهم تكذيب لهم بألطف وجه؛ إذ
هو إيماٌء إلى أنه نشأ بين أظهرهم من ابتداء أمره إلى الن ،فأنتم أعرف
ل ،وأكملهم وصفًا ،وأصفاهم ل ،وأرجحهم قي ً به ،وبأنه أتم الخلق عق ً
ب من الحمق والجنون ،وبهذا أبطل ذهنًا ،فل يسند إليه الجنون إل من ُرّك َ
ل مؤكدًا ومؤيدًا ،فتأكيده بالقسم وزيادة الباء بعد النفي ،وتأييده قولهم إبطا ً
ن الذي بّلغه صاحُبهم ،والصاحب حقيقته بما أومأ ال إليه ،ووصفه بأ ّ
ذو الصحبة ،وهي الملزمة في أحوال التجمع والنفراد للمؤانسة،
والموافقة ،ومنه قيل للزوج :صاحبة ،وللمسافر مع غيره :صاحب…وقد
يتوسعون في إطلقه على المخالط في أحوال كثيرة ،ولو في الشر)،(745
م ،وقد تقرر حب ُك ُ ْصا ِ ولما سبق عدل عن اسم العلم إلى وصفه بـ َ
ل من عند ال هذا أيضًا في مقام إثبات طبيعة القرآن المجيد ،وأنه منـز ٌ
وى غ َ ما َ و َم َ حب ُك ُ ْصا ِ ل َ ض ّما َ في سورة النجم ،حيث قال تعالى عنهَ
" النجم . "2/
ثم نفى أن تكون وسوسًة ذاتيًة لن الخلل إما من الرسول الذي
ي قذفه غيرهما بينهما ،وهو الشيطان حمله ،أو الذي تلقاه ،أو من أمٍر خارج ٍ
ت ذاتيٍة طرأت على التلقي من البشر ،فنفى كل ذلك، ل غير ،أومن تخيل ٍ
م...والمعنى :ليس القرآن من وساوس حب ُك ُ ْ
صا ِما َو َوفي قولهَ
المجانين ،فسلمة ُمَبّلغه من الجنون تقتضي سلمة قوله عن أن يكون
وسوسًة). (746
عل ّ ٌ
م م َوُدِفعت هذه التهمة ببيان طيبعة الوحي؛كما قال عنهمُ
مجُنون" الدخان ،" 14/فأجابْ َ
ن مث ْل ِ ِ
ه إِ ْ ث ِ دي ٍ فل ْي َأُتوا ب ِ َ
ح ِ ٌ َ ْ
ن"الطور ،"34/فالمجانين يمكن تقليد كلمهم حتى على قي َصاِد ِكاُنوا َ َ
الصبيان .
ثالثًا:دفع تهمة التخيل بتأثير الجن:
268
وأصل هذه الشبهة في عقول أصحابها :عائٌد إلى أمرين:
- 1أن الجن عالم غيبي كالملئكة ،فيحتمل عندهم أن يكون ملك الوحي
من الجن ل من الملئكة لستواء الحتمالين؛ إذ هما غيب بالنسبة للبشر،
ولذا أورد ابن الثير –رحمه ال تعالى– رواية لحديث بدء الوحي ،قالت فيها
ن ،أو
جّعَرض له ال ِ
عِرض له :أي َن يكون ُ خديجة –رضي ال عنها) :-أخاف أ ْ
س().(747أصاَبه منهم َم ّ
- 2تشبيه حالة الوحي الشــديدة بحالــة الكهــان،
قال ابن خلدون -رحمسسه اللسسه تعسسالى" :-ولجل هذه الغايسسة فسسي
ت ََنسّزل السسوحي كسسان المشسسركون يرمسسون النبيسساء بسسالجنون،
ي أو تابعٌ من الجن ،وإنما لبسسس عليهسسم بمسسا ويقولون له رئ ٌ
شاهدوه من ظاهر تلك الحوال ،ومن يضسسلل فمسسا لسسه مسسن
هسساد").(748ولسسذا فبعسسد وصسسف القسسرآن الكريسسم للرسسسول
قى عليه القسسرآن بصسسفاتهما اللئقسسة مل ْ َ
قي ،والرسول ال ُ مل ْ ِ
ال ُ
التي تزيل وطأة الشبهة المستحكمة لكل ذي عقل – نفى
ضسي ّعُ علسسى المل َسسك تأديسسة أمسسانته،
ي يُ َ ل خسسارج ٍ طروَء تسسدخ ٍ
وعلسسى الرسسسول تبليسسغ وحسسي ربسسه ،ول يكسسون ذلسسك فسسي
النسسس لنهسسم أضسسعف مسسن أن يحصسسل منهسسم التسسدخل؛ إذ
ن
حوكموا إلى قوانينهم ومواضسسعاتهم فعجسسزوا ،وذاك إذعسسا ٌ
للقرآن الكريسسم) ،(749فالتسسدخل الخسسارجي ل يكسسون إل مسسن
الجن .ودفع هذا العامل يكسسون بمسسا سسسبق ،بالضسسافة إلسسى
التي:
()747النهاية في غريب الحديث ،3/211ولم يعثر الباحث على مخرج الحديث بهذا اللفظ
ي. بعد ل ٍ
()748مقدمة ابن خلدون ص ،92مرجع سابق .
عل َ ُ
م ول َ َ
قدْ ن َ ْ )( ولما نسبوا شبهتهم إلى وضع البشر ،أتوا بما أضحك عليهم الصبيان َ
749
َ َ
نسا ٌ ذا ل ِ َه َ و َ
ي َ
م ّ
ج ِ
ع َ
هأ ْن إ ِل َي ْ ِ
دو َ ذي ي ُل ْ ِ
ح ُ ن ال ّ ِ
سا ُ
شٌر ل ِ َه بَ َ عل ّ ُ
م ُ ما ي ُ َ قوُلو َ
ن إ ِن ّ َ م يَ ُه ْأن ّ ُ
ن" النحل. "103/ مِبي ٌ
ي ُ عَرب ِ ّ َ
269
- 1التأكيد على صدق الرؤية والتصال الحسي بين النبي ومعلمه
:وقد تمثل هذا التأكيد في عدة مظاهر تثبيتًا لقلب النبي الملئكي جبريل
جَم ُ
ل ، ودرءًا لتكذيب المكذبين ،ووسوسة المتخرصين ،وهذه المظاهر ُت ْ
في التي:
أ-ببيــان مكانــة جبريــل عنسسد اللسسه ،واسسستعداده
الفطري والفعلي لداء رسالة الوحي ،وقد مضسسى تفصسسيل
ذلك). (750
ب -النفي المؤكد المتكرر لن يكون الوحي القرآني
ن ،ذلسسك بسسأن تسسدخل العسسالم الغيسسبي المقابسسل كلم شسسيطا ٍ
ت مسسن كسسونهم عالم سا ً غيبي سًا، للملئكسسة -وهسسو الشسسياطين -آ ٍ
ولنهم كذلك فطريق علمهم مصدر العلم الغيسسبي ل ريسسب-
جي ـم ٍ ن َر ِ طا ٍ ش ـي ْ َ ل َو ِ و بِ َ
قـ ْ ه َما ُ وهو النقل-حيث قالَ :
و َ
ه
ت ِبــ ِ مــا ت َن َّزَلــ ْ
و َ"التكسسوير ،" 25/وقسسال فسسي الشسسعراءَ :
ن عو َ طي ُســت َ ِمــا ي َ ْ
و َم َ غــي ل َ ُ
هــ ْ مــا ي َن ْب َ ِ
و َ
ن )َ (210طي ُ ال ّ
شــَيا ِ
"الشعراء."211- 210/
َ
ول َ
ل َسو ٍ
ن َر ُ م ْ ك ِقب ْل ِ َ
ن َ م ْسل َْنا ِ
ما أْر َو َ وكما في قوله :
َ
" الحج-52/ه… ُ شي ْ َ
قى ال ّ مّنى أ َل ْ َ ي إ ِل ّ إ ِ َ
من ِي ّت ِ ِ
في أ ْ ن ِ طا ُ ذا ت َ َ ن َب ِ ّ
،"54ولتؤخذ هذه اليات في سورة الحج نموذجًا لبيان عناصر هذا النفي،
المزيل للشبهة المثبت لفؤاد المبلغ ،ومن َثّم لفؤاد أتباعه وطالبي الحق من
بعده ،وذلك بعد إكمال بقية بنود الدفع لهذه الشبهة حتى ل تنفصم عرى
الفكار المتسلسلة .
ماو َ
ن)َ (210
طي ُ
شَيا ِ ه ال ّ ما ت َن َّزل َ ْ
ت بِ ِ -2بقوله تعالىَ :
و َ
ع
م ِ
س ْ
ن ال ّ
ع ِ
م َ
ه ْ
ن)(211إ ِن ّ ُ
عو َ
طي ُ
ست َ ِ
ما ي َ ْ
و َ
م َ غي ل َ ُ
ه ْ ي َن ْب َ ِ
()750انظر :الفصل الول ص ،14فهو معقود ٌ لذلك .
270
ن" الشعراء :"211-210/وفيها منعهم منعًا جازمًا من قربان عُزوُلو َ لَ َ
م ْ
شي ْ َ
ل َ و بِ َ اللقاء في القرآن ،ونحو قولهَ :
جيم ٍن َر ِطا ٍ و ِ
ق ْ ه َ
ما ُو َ
" التكوير "25/أي :إنما هو مَلك ل مثل الذي يتراءى للكهان).(751
-3قوله ): من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان ل يتمثل في
صورتي() ،(752وليس منع الشيطان أن يأتي بصورة النبي إل لمكان
خصوصية كونه مصدر نقل الوحي من بين البشر ،فمصدر نقل الوحي
السماوي أولى بالمنع ،ولذا قال اللوسي-رحمه ال تعالى" :-وإذا لم يتمثل
ب أولى ،وعلله الشراح بلزوم اشتباه الحق منامًا؛ فلن ل يتمثل يقظًة من با ٍ
بالباطل").(753
-4ما قاله القاضي عياض –رحمه ال تعالى":-ل يصح أن يتصور الشيطان
بصورة المَلك وُيلبس عليه ،واعلم أن المة مجتمعة على عصمة النبي
754
من الشيطان وكفايته منه…") ( ،وقيده الشيخ إبراهيم الكوراني –رحمه ال
تعالى:-بأن ل يلبس عليه تلبيسًا قادحًا) ،(755ولم يقع استقراًء ،وقال ابن
العربي":تصور الشيطان في صورة المَلك ملبسًا على النبي كتصوره
في صورة النبي ملبسًا على الخلق") ،(756وقيده الكوراني بما قيد به كلم
القاضي عياض ،ول يظهر لتقييد الكوراني وجه نظر؛ إذ من البدهي إن
كان الشيطان ل يستطيع التصور بصورة النبي أل يستطيع التصور
بصورة من هو أعلى منه من حيث مكان تلقي الوحي ل من حيث
()751انظر :البحر المحيط ،8/430مرجع سابق .
()752صحيح البخاري ،1/52مرجع سابق .
ث طويل الذيل محله أصول الفقه ،ومنه ()753روح المعاني ،17/274مرجع سابق ،وهو بح ٌ
قرر العلماء أن اللهام ليس مصدرا ً للحكام عند غير النبي . راجع نهاية السول ،4/457
مرجع سابق ،قسم الدلة المختلف فيها ،وكذلك :نثر الورود ،225 /2مرجع سابق .
()754الشفا ،2/117مرجع سابق .
()755روح المعاني ،17/265مرجع سابق ،وأراد أن غير القادح مثله كالنسيان الطارئ كما
سيأتي تقريره -إن شاء الله -في المبحث الثاني من هذا الفصل ص .275
)()756ابن العربي( أبو بكر محمد بن عبد الله :أحكام القرآن ،1299 /3تحقيق :علي محمد
البجاوي -دار الجيل -بيروت.
271
الفضلية) ،(757ولذا ل يتصور أن يأتي الشيطان بصورة مَلك؛ إذ ل تعرف
ل عن رب العزة.(758) حقيقة صورة المَلك ،فض ً
عُتِرض بأنه :قد عرف النبي الهيئة الحقيقية لجبريل ، فإن ا ْ
فل يمتنع مجيء الشيطان بها ،فالجواب :يمتنع مجيئه من باب القياس
الولوي على النبي كما سبق .
-5ومما ُيْدَفع به توهم اللقاء الشيطاني في لفظ القرآن الكريم:
فردانية المَلك الموكل بالوحي ،وهو جبريل ،فليس ثم ملك آخر يأتي إلى
النبي إل عبره .وقد تقدم هذا). (759
ن أن يأتي الشيطان متقمصًا ومن أعظم مقتضياته المنهجيةَ :أْم ُ
شخصية
المَلك ،ويزعم أنه ملك…فيصدق لعدم اطلع النبي على كامل العاَلَمين
ك آخر الغيبين الخرين ،ولذا فالصحيح الذي ل لبس فيه أنه لم يقترن به مل ٌ
غير جبريل كما مضى).(760
()757فل يرد على الكلم هنا بحث مسألة تفضيل الملئكة والبشر ،وانظرها في :شرح
العقيدة الطحاوية ص ،301مرجع سابق .
…وليس
صاص المتأخرين عن القرون الفاضلة ذكٌر لرؤية الله ()758ويكثر في أحاديث ال ُ
ق ّ
صاص مصدرا ً من مصادر المعرفة في هذا الباب ،وانظر كلم الكوراني بإسهاب في :روح ق ّ
ال َ
المعاني ،17/269مرجع سابق .
()759راجع :المبحث الرابع من الفصل الول ص .40
،ففي الطبقات الكبرى ،190/1 ك آخر غير جبريل ()760وتذكر بعض الخبار أنه قد ُقِرن به مل ٌ
مرجع سابق ،عن عامرأن رسول ال ُأنـِزلت عليه النبوة ،وهو ابن أربعين سنة ،وكان معه
عِزل عنه إسرافيل ،وُقِرن به جبريل عشر سنين بمكة ،وعشر سنين مهاجره إسرافيل ثلث سنين ،ثم ُ
بالمدينة ،فقبض رسول ال وهو ابن ثلث وستين سنة .قال محمد بن سعد –رحمه ال
تعالى":-فذكرت هذا الحديث لمحمد بن عمر – يعني الواقدي ،-فقال :ليس يعرف أهل العلم ببلدنا أن
إسرافيل ُقِرن بالنبي وإن علماءهم ،وأهل السيرة منهم يقولون :لم يقرن به غير جبريل من
حين أنـزل عليه الوحي إلى أن قبض . "
ويكفي في الدللة على بطلنها :قصة عبد الله بن سلم حين سأل اليهود رسول
الله عن صاحبه من الملئكة ،فأخبره أنه جبريل ،ولو كان ثم متسعٌ لذكر غيره لذكره
لنفرة يهود من جبريل ،ول يعني هذا أن ل زائر له من الملئكة سوى جبريل ،بل تأتيه
الملئكة لكن وسيطه في التعرف عليهم جبريل كما تقدم في الفصل الول من هذه
الدراسة ص ،43ونفى اللوسي –رحمه الله تعالى -في روح المعاني ،19/263مرجع سابق
صدق اقتران إسرافيل في روح المعاني ،فقال" :وذلك لم يثبت أصل ً ".
272
عُتِرض بما أورده ابن الثير -رحمه ال تعالى -في النهاية؛ إذ قال: فإن ا ْ
ب منهم،ضرو ٌ"وفيه –أي في الحديثَ)-يأتيِني أْنحاٌء من الملئكة( أي ُ
سوى جبريل ،( )"فهذا
761
واحُدهم َنحٌو يعني أن الملئكة كانوا َيُزوُرونه ِ
يدل على تعدد الملئكة الذين يأتون النبي .
فالجواب :هذا الحديث رواه ابن خزيمة من حديث أبي سعيدوفيه:
ل شديدًا -قال -وناس جياع ،ثم قمنا "…وقعنا في تلك البقلة الثوم ،فأكلنا أك ً
إلى المسجد ،فوجد رسول ال الريح ،فقال) :من أكل من هذه الشجرة
الخبيثة فل يقربنا في مسجدنا( فقال الناس :حرمت حرمت .فبلغ ذلك
رسول ال فقال) :يا أيها الناس إنه ليس لي تحريم ما أحل الله،
ولكنها شجرة أكره ريحها ،وإنه يأتيني أنحاٌء من الملئكة فأكره أن
ل في صحته ،وقد سكت عليه ابن حجر في يشموا ريحها() ،(762فالشأن أو ً
ضًا ،وثانيًا :ل مراء في أنه
غَر َ
ضًا ل َعَر َالتلخيص الحبير مع أن أورده َ
كان يأتيه غير جبريل لكن مدار النـزاع في أنه كان يأتيه من يأتيه من
الملئكة دون واسطة جبريل فمن زعم ذلك فليبرز الدليل ،فإنه قاطٌع
للتأويل ،وتقدم ما يشير لتعريف جبريل النبي بالملئكة الذين
يأتونه) ،(763كقوله )فنـزل منه ملك لم ينـزل …( ،وقوله )وأنا جبريل،
سّر هذا المتناع عن مجيء الملئكة دون تعريف وهذا ميكائيل()…(764و ِ
ي كذلك الشياطين ،وقد جعل ال لك ٍ
ل جبريل بهم :أن الملئكة عالٌم غيب ٌ
قدرًة على التصور والتشكل ،وما قامت الدلئل على ملئكية غير جبريل
عند رسول ال إذ استقر في قلبه العلم اليقيني على َمَلكيته بعد أن لم يكن
كذلك أول لقاء ،فصار وسيطه إلى العالم الغيبي حتى ل يختلط عليه المَلك
بالشيطان .
فرع :تحليل آيات سورة الحج:
النهاية في غريب الثر ،5/30مرجع سابق . ()761
رواه ابن خزيمة ،2/345مرجع سابق . ()762
راجع :الفصل الول من هذه الدراسة خصوصا ً ص . 43 ()763
صحيح البخاري ،1/466مرجع سابق . ()764
273
وهي قولهَ
َ
يول َ ن َب ِ ّ ل َ سو ٍ ن َر ُ م ْ ك ِ قب ْل ِ َ ن َ م ْ سل َْنا ِ ما أْر َ و َ
ما ّ س ُ ه َ ُ َ قى ال ّ مّنى أ َل ْ َ إ ِل ّ إ ِ َ
ه َ خ الل ُ في َن ْ َ من ِي ّت ِ ِ في أ ْ ن ِ شي ْطا ُ ذا ت َ َ
م ) كي ٌ ح ِ م َ عِلي ٌه َ والل ّ ُ ه َ ه آَيات ِ ِ م الل ّ ُ حك ِ ُ م يُ ْ ن ثُ ّ طا ُ شي ْ َ قي ال ّ ي ُل ْ ِ
م ه ْ في ُ ُ ة ل ِل ّ ِ شي ْ َ قي ال ّ ما ي ُل ْ ِ ع َ
قلوب ِ ِ ن ِ ذي َ فت ْن َ ً ن ِ طا ُ ل َ ج َ (52ل ِي َ ْ
ق
قا ٍ ش َ في ِ نل ِ َ مي َ ن الظال ِ ِ ّ وإ ِ ّ م َ ه ْ قلوب ُ ُ ُ ة ُ سي َ ِ قا ِ ْ
وال َ ض َ مَر ٌ َ
ك ن َرب ّ َ م ق ح ْ لا ه ن َ أ م ْ ل ع ْ ل ا توا أو ُ ن ذي ّ ل ا م َ ل ع ي ل و د
َ ّ ِ ْ ُ ّ َ ِ ُ ِ َ َ َ ْ َ ِ (53 ) بَ ٍ
عيِ
مُنوا نآ َ ذي َ هاِد ال ّ ِ ه لَ َ ن الل ّ َ وإ ِ ّ م َ ه ْ قُلوب ُ ُ ه ُ ت لَ ُ خب ِ َ فت ُ ْ ه َ مُنوا ب ِ ِ ؤ ِفي ُ َْ
قيم ٍ" الحج ."54- 52/ ست َ ِ م ْ ط ُ صَرا ٍ إ َِلى ِ
تتجلى العناصر التي تؤخذ من هذه اليات ردًا لشبهة قذف الجن بما يلي:
سننية هذه الشبهة في المم :فهي سنٌة ماضيٌة من سنن ال فيمن خل أُ -
ل من الرسل من ي من النبياء ،ول رسو ٌومن تل ،وذلك أنه لم يسلم نب ٌ
محاولة قذف الشيطان في سعيه الحثيث لسلمة المة لرب العالمين ،فهي
ما َ
و َ شنشنة المم الظالمة ،وعادة فعل الشيطان ،وذا معنى قوله
قىمّنى أ َل ْ َ إ ِل ّ إ ِ َ
ذا ت َ َ ول َ ن َب ِ ّ
ي ل َ
سو ٍ
ن َر ُم ْ ك ِ قب ْل ِ َ
ن َم ْسل َْنا ِ
َ
أْر َ
ل نكرٌة في ُ شي ْ َ
سو ٍ َر ُ ه ،فقوله ن َب ِ ّ
ي، من ِي ّت ِ ِ
في أ ْ ن ِطا ُ ال ّ
سياق النفي فأفادت العموم ،ثم ُأّكد عمومها ثانيًا بحرف الجر الزائد ،فـ
)من( مزيدٌة لستغراق الجنس ،فصارت نصًا مؤّكدًا للعموم ،ثم ُأّكد ذلك
ثالثًا من حيث شمول ذلك لصناف المكلفين من ال بإصلح أمور
قومهم سواء كانوا أنبياء أو رسل) ،(765ثم ُأّكد ذلك رابعًا من القصر
ف على صفٍة ،وهو قصٌر المستفاد من النفي والستثناء ،فهو قصر موصو ٍ
ي ،أي دون أن نرسل أحدًا منهم في حال الخلو من إلقاء الشيطان إضاف ٌ
ف في الفرق بين النبي والرسول على أقوال :من أظهرها أن الرسول من جاء ()765ا ْ
خت ُل ِ َ
بشريعة جديدة ناسخة ،والنبي من جاء مجددا ً للشريعة السابقة .راجع :التحرير والتنوير
،296/ 17روح المعاني ،17/256تفسير أبي السعود 4/35فتح القدير 3/577مجموع
فتاوى شيخ السلم ،3/365مراجع سابقة .
274
ومكره) ،(766والية مسوقٌة لتسلية النبي بأن السعي في إبطال اليات
أمر معهود ،وأنه لسعي مردود). (767
ويرى المتأمل في الية أن هذا التتابع للمؤكدات من أعظم وسائل
ترسيخ اليقين بكلم رب العالمين؛ إذ يقع في فؤاد المتحمس استلزام أن
، إما تنقطع أفئدة المعاندين عن إظهار العناد على القل في كلم ال
غيرة ال على كلمه ،أو لضآلة مكرهم بالغًا ما بلغ إزاء لضرورة ِ
جبروت ال…فتتالت المؤكدات إمعانًا في ترسيخ سنن ال الخاصة
بهذه الدار التي ل تزن عند ال جناح بعوضة). (768
ب -الوصف الدقيق لهيئة إفساد الشيطان عقول القوم وقلوبهم عندما يريد
النبياء إصلحهم :إذ إن إصلح الناس أمر عزيٌز عسير المنال فسماه ال
أمنية) ،(769ثم إن النبياء عند ممارسته يضادهم الشيطان في سعيه
الحثيث لعدام الخير ،أو الحيلولة بينه وبين الناس يلقي وسوسة في نفوس
-ويكون للمر الناس تفسد محاولة الصلح ،ورشح استعارة اللقاء
شّدُة فعله ،وقوة تأثيره حتى كأنه أمٌر المحسوس -للمر غير المشاهد ِ
ت تفسد ما س ،وتقدير الية :أدخل الشيطان في نفوس القوام ضلل ٍ محسو ٌ
قاله النبياء من الرشاد ،ومعنى إلقاء الشيطان في أمنية النبي والرسول:
إلقاء ما يضادها ،كمن يمكر فيلقي السم في الدسم ،فإلقاء الشيطان
بوسوسته :أن يأمر الناس بالتكذيب والعصيان ،ويلقي في قلوب أئمة الكفر
مطاعن يبثونها في قومهم ،ويروج الشبهات بإلقاء الشكوك التي تصرف
نظر العقل عن تذكر البرهان ،وذلك هو الصبر على اللهة المذكور في
قولهَ
َ
عَلى صب ُِروا َ
وا ْشوا َ م ُ
نا ْمأ ِه ْ مل ُ ِ
من ْ ُ ق ال ْ َ
وان ْطَل َ َ
د" ص ،"6/وقال اللوسي-رحمه ال يءٌ ي َُرا ُ
ش ْ ذا ل َ َ
ه َ
ن َ هت ِك ُ ْ
م إِ ّ ءال ِ َ
َ
()766التحرير والتنوير ،17/299مرجع سابق .
()767انظر :التحرير والتنوير ،17/299مرجع سابق ،وروح المعاني ،17/257مرجع سابق .
()768إشارةً إلى الحديث المشهور ،أخرجه :البخاري ،4/1759مرجع سابق ،ومسلم
،4/2147مرجع سابق .
()769عند اللوسي " :17/257التمني نهاية التقدير" ،قال" :والمنية الصورة الحاصلة في
النفس من التمني" .
275
تعالى" :-إذا قرأ شيئًا من اليات ألقى الشيطان الشبه والتخيلت فيما يقرؤه
النبي على أوليائه ليجادلوه بالباطل ،ويردوا ما جاء به كما قال
َ
م… جاِدُلوك ُ ْ
م ل ِي ُ َه ْ ن إ َِلى أ ْ
ول َِيائ ِ ِ حو َ ن ل َُيو ُ
طي َ ن ال ّ
شَيا ِ َ …
وإ ِ ّ
نطي َشَيا ِ وا َ عدُ ّي َ عل َْنا ل ِك ُ ّ
ل ن َب ِ ّ ج َك َوك َذَل ِ َ" النعامَ ،"121/
ل
و ِ ف ال ْ َ
ق ْ خُر َ
ض ُز ْ م إ َِلى ب َ ْ
ع ٍ ه ْ
ض ُع ُ
حي ب َ ْ
ن ُيو ِ وال ْ ِ
ج ّ س َ
لن ِ
ا ِ
غُروًرا …" النعام.(770)"112/ ُ
ي وليس لفظيًا :وذلك ببث الشبهات ،وتضخيم جـ -اللقاء الشيطاني معنو ٌ
الوساوس ،وينفى اللقاء اللفظي لضعف مقدرة الجن في حالتهم الغيبية عن
إظهار ألفاظ يسمعها البشر في الحالت المعتادة) ،(771ل إذا تمثلوا في هيئة
إنسية ،فإن فعلوا فاللقاء اللفظي عليهم أعز وأعسر من حيث خضوعهم
لقوانين الطبيعة البشرية ،وهاهم أشد الناس عنادًا لرسول ال لم
يستطيعوا فعل ذلك مع حرصهم كل الحرص .
ي ،فل مكان له في القدرة على الخلط وإذ قد تقرر أن اللقاء معنو ٌ
ضع َ عل َي َْنا ب َ ْ و َ
ل َ و تَ َ
ق ّ ح هذا بقولهَ
ول َ ْ شُ في ألفاظ القرآن ،وُيَر َ
ن" الحاقة ."45-44/ مي ِ ه ِبال ْي َ ِمن ْ ُخذَْنا ِ ل)َ(44ل َ َ وي ِ اْل َ َ
قا ِ
د -الوسائل الوقائية والجتثاثية للقاء الشيطان المعنوي في عقول الناس:
-1المعية العلمية اللهية الحاكمة :إذ ليست الساحة للشيطان ليصول
ي إذا ما قورن بعلم ال ،ثم ئ نسب ٌ فيها كما يشاء ،بل وجوده فيها طار ٌ
إن المر كله ل فهو بحكمته وتدبيره َ مّكن الشيطان من إلقاء
تلك الشبهة ،ثم في حكمته في أسلوب إزالة آثاره ،ومن هنا يظهر سر
م"الحج ،"52/كما أن إظهار كي ٌ
ح ِم َ عِلي ٌ
ه َ والل ّ ُ
التذييل بقولهَ
ل على التأكيد على إرادة ذلك ،ووصفه اسم الجللة في مقام الضمار دا ٌ
بوصف )فعيل( مبالغة في العلم بكل ما من شأنه أن ُيْعَلم ،ومن
جملته ما صدر عن العباد من قول وفعل ،عمدًا أو خطأ).(772
()770روح المعاني ،17/257مرجع سابق .
()771أما في غير الحالت المعتادة فقد يستطيع الشيطان إسماع النسان ،انظر :رفاعي
سرور :عندما ترعى الذئاب الغنم ص ،114ط 61412هس ،1992-مكتبة الحرمين للعلوم
النافعة .
()772تفسير أبي السعود ،4/34مرجع سابق .
276
- 2إزالة آثار الشبهة الشيطانية بالقدرة اللهية المباشرة :وذلك إذا
تعلق المر بكتاب ال ،فال بهديه وبيانه ينسخ ما ُيْلقي الشيطان،
أي يزيل الشبهات التي يلقيها الشيطان ببيان ال الواضح ،ويزيد
آيات دعوة رسله بيانًا ،وذلك هو إحكام آياته ،أي تحقيقها وتثبيت مدلولها
وتوضيحها بما ل شبهة بعده إل لمن رين على قلبه) ،(773قال اللوسي
-رحمه ال تعالى" :-فيبطل ما يلقيه من تلك الشبه ،ويذهب به بتوفيق النبي
لرده ،أو بإنـزال ما يرده").(774
-3إحكام ال آياته :فيزيد آيات دعوة رسله بيانًا ،،وإحكام اليات
أهم من نسخ ما يلقي الشيطان؛ إذ بالحكام يتضح الُهدى ،ويزداد ما
يلقيه الشيطان نسخًا ،وصيغة المضارع في الفعلين للدللة على
الستمرار التجددي .
- 4بيان حكمة ال من تمكين الشيطان من ترويج شبهاته ،حتى
يبقى المؤمنون على ثقٍة بمعية ال ،وذلك ما بينه في قوله
م
ه ْ في ُ ُ ة ل ِل ّ ِ شي ْ َ
قي ال ّ ما ي ُل ْ ِ ع َ ل ِي َ ْ
قلوب ِ ِ ن ِذي َ فت ْن َ ً
ن ِ
طا ُ ل َ ج َ
ق ش َ
قا ٍ ن لَ ِ
في ِ مي َ ن ال ّ
ظال ِ ِ وإ ِ ّ
م َ قُلوب ُ ُ
ه ْ ة ُ
سي َ ِ وال ْ َ
قا ِ ض َ
مَر ٌ
َ
ب َِعيٍد؛ مما يزيد إيمان المؤمنين ،وإخبات المخبتين .
– 5تكفل ال بالهداية الدائمة للمؤمنين ،وبعصمة نبيهم من
ل عن المر اللفظي الدائم التلوة، الخطأ في المر المعنوي الحال فض ً
ن من قذف أي تخي ٍ
ل وعصمة مجموع المة عن الخطأ…ُيْبِعد الَتَمّك ِ
يحاوله الشيطان في ما يتلوه النبي من الوحي؛ ومن هنا كان التذييل
ط
صَرا ٍ مُنوا إ َِلى ِ
نآ َ ذي َهاِد ال ّ ِ
ه لَ َ
ن الل ّ َ بقولهَ …
وإ ِ ّ
قيم ٍ ،ول يقدح في ذلك بقاء الشبهة تفعل فعلها في نفوس ست َ ِ
م ْ
ُ
الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم؛ إذ ل يزال ترددهم باقيًا إلى أن
()773انظر :التحرير والتنوير ،17/299مرجع سابق ،وراجع لتفصيل خارطة عمل الشيطان:
عندما ترعى الذئاب الغنم ص ،23مرجع سابق .
()774روح المعاني ،17/257مرجع سابق .
ل على مدىفائدة :واستبعاد كثيرٍ من العلماء وقوع الشبهة اللفظية في القرآن الكريم دا ٌ
أهمية اللفاظ في مقابل المعاني في القرآن الكريم ،وذلك لن التحريف إن وقع في اللفظ
فقد وقع في أصل المعنى .
277
تأتيهم الساعة بغتة ،أو يأتيهم عذاب يوم عقيم ،ول يخل شكهم هذا
بالوثوق بالقرآن عند الذين آمنوا والذين أوتوا العلم .
وبهذا التأويل يظهر مقدار جللة السلك البديع الذي انتظمت فيه هذه
اليات) ،(775وَوَهى ما ُأوِلع به بعض المفسرين الذين يميلون إلى الكثار
ن ضعفها واضح سندًا من الغرائب من إيراد قصة الغرانيق…مع أ ّ
ومتنًا) ،(776فل يشتغل البحث بإيرادها ،مكتفيًا بالحالة على موارد ذلك
()775وهو التفسير الذي رجحه بل فسر به هذه اليات عدد ٌ من المفسرين منهم :الطاهر بن
عاشور ،17/299مرجع سابق ،واللوسي ،17/257مرجع سابق ،وأبو حيان ،6/382مرجع
سابق ،ونحوه أبو السعود ،4/34مرجع سابق .
ل :لو صحت هذه القصة فإنه يسري عليها ما ذكر هاهنا من وسائل ()776على أنه يقال تنسز ً
ي ،كما يكون الجواب عنها بما
الجتثاث للمر المعنوي ،إذ سريانه على المر اللفظي أولو ٌ
ذكر قبل وبعد ،وبما أجاب به عنها من قالوا بصحتها.
278
في الهامش).(777وليس في هذا اتهاٌم للمفسرين الذين أوردوا هذه القصة؛
لنه ليس كلهم أورد هذه القصة ،ووقوع بعضهم في الغلط
يوجبه النظر الشرعي والعقلي ،وَوَلُع البعض في فترٍة بالغرائب أمٌر
متقرٌر لدارسي علم تأريخ العلوم ،ومحاولة العدو الدسّ في عقائد
خر ،قد بدأ في فجرل عن تراثهم في المجالت اُل َ
المسلمين فض ً
السلم ،على أنه لم يستطع أن يمس لفظ القرآن ،ولذا حاول الكثار من
()777انظر :التحرير والتنوير ،17/306مرجع سابق ،وردها البيهقي وقال" :هذه القصة غير
ثابتة من جهة النقل" ،ورده القاضي عياض في الشفا ،2/117مرجع سابق ،وقال" :وإنما
أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب ،المتلقفون من الصحف كل
صحيٍح وسقيم" ،وقال اللوسي ،17/263مرجع سابق" :وفي كتاب )التقياء( لبي منصور
الماتريدي :أن قوله )تلك الغرانيق العلى( من جملة إيحاء الشيطان إلى أوليائه من الزنادقة
ة من حتى يلقوا بين الضعفاء وأرقاء الدين ،ليرتابوا في صحة الدين ،وحضرة الرسالة بريئ ٌ
هذه الرواية" ،وذكر اللوسي أوجه ردها ،بعد أن فسرها بما يشبه التفسير الذي ارتضاه
الباحث ،وأورد هذه القصة :ابن حجر في فتح الباري ،8/441مرجع سابق كالمؤيد لثبوت
ع ،لكن كثرة ف ،وإما منقط ٌ أصلها؟! وقال" :وكلها سوى طريق سعيد بن جبير إما ضعي ٌ
ل".… ،ورد على عياض وابن العربي إبطالهما لصل القصة، الطرق تدل على أن للقصة أص ً
وقال في نقدهما لها" :وجميع ذلك ل يتمشى على القواعد ،فإن الطرق إذا كثرت وتباينت
ل ،وقد ذكرت أن لها ثلثة أسانيد منها على شرط الصحيح، مخارجها دل ذلك على أن لها أص ً
وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل ،وكذا من ل يحتج به لعتضاد بعضها ببعض…ثم
ل -ما يستحيل كقولهم فيها :ألقى الشيطان على رها –بعد أن سلم بأن لها أص ً تأول من ظاه ِ ِ
ة من حيث عدم تطبيق موازين المتن بعد تطبيق موازين السند، لسانه… وهذا فيه غراب ٌ
والقصة أوردها ساكتا ً بل مقررا ً السيوطي –الذي يجعل ابن حجر مثله العلى -في شرح
سنن ابن ماجة ،وابن الثير في النهاية ،3/364وابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث ص
،179مرجعان سابقان ،قال اللوسي –رحمه الله تعالى" :-وذهب إلى صحة القصة أيضا ً
خاتمة المتأخرين الشيخ إبراهيم الكوراني ثم المدني" ،ثم قال تعقيبا ً على كلم الكوراني:
ة
ٍ شرذم "لكن إثبات صحة الخبر أشد من خرط القتاد…وتأويل جميع الظواهر الكثيرة لقول
قليلةٍ بصحة الخبر المنافي لها مع قول جم ٍ غفيرٍ بعد الفحص التام بعدم صحته مما ل يميل
إليه القلب السليم ول يرتضيه ذو الطبع المستقيم … -ثم قال:-وتوسط جمعٌ في أمر هذه
القصة فلم يثبتوها كما أثبتها الكوراني ،ولم ينفوها بالكلية ،وإليه أميل" وقال ابن كثير
،3/204مرجع سابق" :ولم أرها مسندة ٌ بوجهٍ صحيٍح" .وقال الشوكاني في فتح القدير
،3/577مرجع سابق" :ولم يصح شيء من هذا ،ول ثبت بوجهٍ من الوجوه ،ومع عدم صحته
ض
ع َ عل َي َْنا ب َ ْ و َ
ل َ ق ّ ول َ ْ
و تَ َ بل بطلنه فقد دفعه المحققون بكتاب الله سبحانه ،قال تعالى َ
ن" الحاقة،"46-44/ وِتي َه ال ْ َ
من ْ ُ قطَ ْ
عَنا ِ م لَ َن)(45ث ُ ّ مي ِه ِبال ْي َ ِ خذَْنا ِ
من ْ ُ ل)(44ل َ َ وي ِ
قا ِ ال َ َ
حى" النجم ،"4-3/وقوله ي ُيو َح ٌ و ْو ِإل َ ه َ ن ُ وى)(3إ ِ ْ ه َ ْ
ن ال َ وقولهَ
ع ِ ق َ ما ي َن ْطِ ُ و َ
َ
قِليل ً" السرا ،"74/فنفى المقربة شي ًْئا َ م َ ه ْ ن إ ِل َي ْ ِت ت َْرك َ ُ قدْ ك ِدْ َ ك لَ َ
ن ث َب ّت َْنا َول أ ْ ول َ َْ
للركون فضل عن الركون ،وقال إمام الئمة ابن خزيمة :إن هذه القصة من وضع الزنادقة "، ً
وقال أبو حيان ،6/382مرجع سابق ناقدا ً إيراد المفسرين لها" :وقد ذكر المفسرون في
كتبهم ما ل يجوز وقوعه من آحاد المؤمنين منسوبا ً إلى المعصوم صلوات الله عليه…وهي
ة سئل عنها محمد بن إسحاق جامع السيرة فقال :هذا من وضع الزنادقة ،وصنف في قص ٌ
ذلك كتابًا" ،وقد ألف الشيخ اللباني كتابا ً في هذا الباب هو" :نصب المجانيق لنسف قصة
الغرانيق".
279
وضع الثار ،والخبار التي يتلقفها فاضلٌ وغيره ،ثم ٌتَتناَقل في حدود
الغفلة الصلية أو الطارئة عن موازين نقل الخبار الصارمة).(778
رابعًا :دفع التخيل بشبهة السحر:
هذه مجموعة أسس بين يدي هذه المسألة:
- 1لم ترتفع صبغة البشرية عن النبي بعد نبوته بل ظلت هي الصل
فيه ،ولكنه كان يرتفع عن الصبغة البشرية في أوقات محدودة بتهيئة خاصة
من ال له فيما يتميز فيه عن البشر وهو الوحي ،وهذا معلوٌم من الدين
م مث ْل ُك ُ ْشٌر ِ ما أ ََنا ب َ َ ق ْ
ل إ ِن ّ َ بالضرورة ،ومن أدلة ذلك قوله ُ
َ
م ما إ ِل َ ُ
هك ُ ْ ي أن ّ َحى إ ِل َ ّ "الكهف ،"110/ثم بين الجزئية التي تميز بها ُيو َ
د ،وكقوله) فمن رغب عن سنتي فليس مني() (779في ح ٌوا ِ
ه َإ ِل َ ٌ
معرض النكار على من عد طبعه مختلفًا عن طباع البشر .ولول هذه
الحقيقة لما كان محطًا للقتداء .
سّلمًة دينية؛ فإن النبي يعتريه ما يعتري البشر - 2وإذا كانت هذه م َ
من المرض والنصب والوصب والهم والحزن ،بما ل يقدح في نبوته ،ول
والل ّ ُ
ه يمس ما أمر به أن يبلغه ،وهذا داخل في عموم قوله َ :
س " المائدة. "67/
ن الّنا ِم ْ
ك ِ م َص ُ
ع ِ يَ ْ
- 3ليس مقام البحث مقامًا صالحًا لمناقشة مسألة سحر النبي من حيث
الثبات والنفي ،وقصارى القول في هذا المقام أن ُتدحض شبهة تأثير
السحر في الوحي القرآني على قول من يثبت أن النبي قد سحر). (780
- 4من أثبت ذلك يتفق مع النفاة في عصمة النبي وهو يلقي الوحي
اللهي قرآنًا كان أو غيره من تطرق تأثير السحر عليه ،واستدلوا بما رواه
()778وأنى يستغرب ذلك وقد درجت مجموع ٌ
ة غير قليلةٍ من أفاضل المفسرين على إيراد
خبر فضائل القرآن الشهير المنسوب إلى أبي ابن كعب رفعه ،مثل :الكشاف للزمخشري،
وكتفسير البيضاوي ،والخازن .
()779صحيح البخاري ،5/1949مرجع سابق .
()780انظر في هذا الباب :تأويل مختلف الحديث ص ،182مرجع سابق .
280
حر النبي حتى كان سِالبخاري:عن عائشة -رضي ال تعالى عنها -قالتُ :
يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله ،حتى كان ذات يوٍم دعا ودعا ،ثم قال:
ت أن الله أفتاني فيما فيه شفائي ،أتاني رجلن فقعد أحدهما )أشعر ِ
عند رأسي ،والخر عند رجلي فقال أحدهما للخر :ما وجع الرجل؟
قال :مطبوب .قال :ومن طبه؟ قال :لبيد بن العصم .قال :في ماذا؟
ف ط َل ْعَةِ ذ َك ْرٍ .قال :فأين هو؟ قال :في
ج ّ
ة ،و َ
ط ،ومشاط ٍ
قال :في مش ٍ
)نخلها بئر ذروان( .فخرج إليها النبي ثم رجع ،فقال لعائشة حين رجع:
كأنه رؤوس الشياطين .فقلت:استخرجته؟ فقال :ل ،أما أنا فقد شفاني الله،
وخشيت أن يثير ذلك على الناس شرا ً ثم دفنت البئر().(781
وذكر السماعيلي مدة ذلك فروى :أنه أقام أربعين ليلة ،وعند أحمد:
ستة أشهر ،ويمكن الجمع بأن تكون الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه
والربعين يومًا من استحكامه).(782
- 5السحر الذي وقع عليه تسلط على جسده فقط ،كما كانت الحمى
ط السحر على جسده ظهر سّل ِ
تتسلط عليه ،والسم الذي سمته به يهود…وَت َ
في عدة مظاهر ،منها:
أ -كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ول يفعله :كما في هذه الرواية،
صّرح بمدلول ذلك في رواية أخرى للبخاري ،ولفظها) :حتى كان يرى و ُ
أنه يأتي النساء ول يأتيهن( ،وفي لفظ) :أنه يأتي أهله ول يأتيهم() ،(783قال
المازري" :وهذا كثيرًا ما يقع تخيله للنسان في المنام ،فل يبعد أن يخيل
إليه في اليقظة".
()781صحيح البخاري ،3/1192مرجع سابق ،وانظر :تفسير ابن كثير ،4/575مرجع سابق .
()782فتح الباري ،10/223مرجع سابق .
()783صحيح البخاري ،5/2175مرجع سابق .
281
ومعنى )يرى( ،قال الداودي) :يرى( بضم أوله :أي يظن ،وقال ابن
التين :ضبطت يرى بفتح أوله ،وهو من الرأي ل من الرؤية ،فيرجع إلى
معنى الظن).(784
ب -التسلط على بصره :ففي مرسل يحيى بن يعمر عند عبد الرزاق:
حر النبي) :حتى أنكر بصره( ،وعنده في مرسل سعيد بن المسيب: سِ
ُ
)حتى كاد ينكر بصره() .(785قال عياض -رحمه ال تعالى":-فظهر بهذا أن
السحر إنما تسلط على جسده ،وظواهر جوارحه ل على تمييزه
ومعتقده").(786
ض جسدي :فإن صون النبي من الشياطين ل يمنع جـ – نوع مر ٍ
إرادتهم كيده فقد جاء في الصحيح) :أن شيطانا ً أراد أن يفسد عليه صلته
منه( ،فكذلك السحر لم ينله من ضرره ما يدخل نقصًا على ما فأمكنه الله
يتعلق بالتبليغ ،بل هو من جنس ما كان يناله من ضرر سائر المراض من
ل ل يستمر ،بل ف عن الكلم ،أو عجٍز عن بعض الفعل ،أو حدوث تخي ٍ ضع ٍ
كيد الشياطين ،واستدل ابن القصار على أن الذي أصابه يزول ويبطل ال
كان من جنس المرض بقوله في آخر الحديث) :أما أنا فقد شفاني الله(،
وفي الستدلل بذلك نظر لكن يؤيد المدعي أن في رواية عمرة عن عائشة
عند البيهقي في الدلئل) :فكان يدور ،ول يدري ما وجعه( ،وفي حديث ابن
عباسعند ابن سعد :مرض النبي وأخذ عن النساء والطعام والشراب،
فهبط عليه ملكان… لحديث ،قال المازري" :أنكر بعض المبتدعة هذا
الحديث ،وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها ،قالوا :وكل ما أدى
إلى ذلك فهو باطل ،وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعوه من
الشرائع؛ إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أنه يرى جبريلوليس هو ثم،
282
حى إليه بشيٍء ،ولم يوح إليه بشيء ،قال المازري :وهذا كله وأنه ُيو َ
مردوٌد؛ لن الدليل قد قام على صدق النبي فيما يبلغه عن ال ،وعلى
عصمته في التبليغ ،والمعجزات شاهدات بتصديقه ،فتجويز ما قام الدليل
ل ،وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لجلها، على خلفه باط ٌ
ول كانت الرسالة من أجلها فهو في ذلك عرضٌة لما يعترض البشر
كالمراض ،فغير بعيٍد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما ل حقيقة له
مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين").(787
ل ي َأِتي ِ
ن ه ال َْباطِ ُ ْ وقال ابن قتيبة" :وأما قول ال
ن ب َي ْ ِ
م ْل ِ
لم يرد بالباطل أن المصاحف ل " فصلت "42/فإنه
ه خل ْ ِ
ف ِ ن َ م ْ ول ِ ه َي َدَي ْ ِ
يصيبها ما يصيب سائر العلق والعروض ،وإنما أراد أن الشيطان ل
ل فيه ما ليس منه قبل الوحي وبعده). (788 خَ يستطيع أن ُيْد ِ
هذا كلم ال الحق…وذا رسول ال المبلغ لكلمه…وذا حفظ
ال -تعالى ذكره -لكلمه…وروح القدس جبريل هو الواسطة؟ فأين –
في الدنيا -كهذا ،وذا ،وذا…؟
وقال ال :قد أرسلت عبـدًا … ..يقول الحق ليس به خفـاُء
وقال الله :قد يسرت جنسدا ً …..
هم النصار عرضتها اللقاُء
وجـبريـل رسول ال فيـنا…..وروح القدس ليس له كفاُء
283
المبحث الثاني:
دفع العوامل الداخلية )الذاتية(:
عالج القرآن الكريم العوامل النسانية الذاتية التي تؤدي إلى تغيير
اللفظ كإجراء ضروري للحفاظ على نصه سالمًا من يمسه التغيير في أدائه
ل عن جوهر لفظه… ،وكانت معالجة الكتاب الكريم لهذه المشكلة فض ً
ُمَبّكَرة ،تناسب تبكيرها مع حدوث التلقي الول للقرآن الكريم في الرض
من جبريل إلى النبي ويأخذ المبحث نموذجين ينتميان لهذه العوامل،
للنظر في كيفية معالجة القرآن الكريم لهما في تلقي النبي من جبريل
ألفاظ القرآن الكريم ،ويشكل النموذجان مطلبي هذا المبحث ،وهما:
المطلب الول :معالجة مشكلة النسيان .
المطلب الثاني :معالجة مشكلة التهمة بقصور العاطفة البشرية والتفكير
البشري .
284
كم… أي تركناكم، سيَنا ُ تركتم اليمان بلقاء هذا اليوم…إّنا ن َ ِ
كم…"البقرة "237/أي ول ل ب َي ْن َ ُض َ سوا ال َ
ف ْ ول ت َن ْ َ وقوله َ …
تتركوا ذلك).(792
فقد جعل ابن قتيبة النسيان في حقيقته اللغوية نوعين بعد الشيوع:
ضد الحفظ ،وهو المعنى الصلي ،والترك)(793الذي يجعل المتروك
ي فقد صار في حقيقته نسيانًا بعلقة الغياب ،إل أن ك كل ٌ
كالمنسي ،فهو تر ٌ
ي من حيث التذكر ت ،والغياب في الترك كل ٌ الغياب في النسيان مؤق ٌ
للمنسي ل من حيث الوجود في الحافظة ،وعند إضافة مفهوم كلم
اللغويين إلى ذلك نجد أن النسيان ل يكون إل في شيٍء معلوٍم .
ويكمن دفع هذا العامل في لفظ القرآن ،وأدائه عن تلقي الرسول
فيما تلقاه من جبريل في البنود التالية:
- 1قد اتضح من خلل ما سبق أن معالجة هذه المشكلة ظهر من أول
نـزول القرآن الكريم ،كما مر ذلك عند تحليل حديث المعالجة وغيره ،فقد
كانت المعالجة لقضية النسيان في المرحلة المكية…ولبدهية هذه الحقيقة
استدل على أن سورة العلى مكية بورود ما يدل على معالجة مشكلة
سى" العلى"6/؛إذ فل َ َتن َك َ رئ ُ َ ق ِ النسيان فيها ،وهو قولهَ
سن ُ ْ
إن ما اشتملت عليه من المعاني يشهد لكونها مكية" ،وحسبك بقوله تعالى
سى ،(794)"فقد صارت اليات المعاِلجة لهذه فل َ َتن َ ك َ رئ ُ َ َ
سن ُ ْ
ق ِ
المشكلة مقياسًا لمعرفة المكي والمدني .
- 2من أبرز اليات التي عالجت هذه المشكلة آيات سورة العلى،
وكتقريٍر للحقيقة السابقة فسورة العلى ثامنٌة بحسب ترتيب النـزول عند
جابر بن زيد ،وروي عن ابن عباس وعكرمة والحسن –رضي ال تعالى
عنهم– أنها سابعة).(795
- 3لن مشكلة النسيان مشكلة فطريٌة تتعلق بخلق النسان فقد ربط
القرآن الكريم بينها وبين القوانين التي وضعها خالق النسان في الكون ،ثم
في النسان ،ومن هنا ندرك سرًا من أسرار الستهلل في سورة العلى
تأويل مشكل القرآن ص ،390مرجع سابق . ()792
وانظر فتح الباري ،9/80مرجع سابق . ()793
التحرير والتنوير ،272/ 30مرجع سابق . ()794
انظر :التقان ص ،21مرجع سابق . ()795
285
بجذب النظر إلى اليات الكونية ،وخلق ال لها ،ثم تحكمه بها ،فمتى ما
شاء اطردت تلك القوانين ،ومتى ما شاء منعها من الطراد ،وعطلها عن
السريان؛ فإذا أراد النسان التخلص من مشكلة النسيان ،فليسبح باسم ربه
العلى الذي بيده مقاليد أمر الخلق ،وأسبابه ،وقوانينه ،والذي تعالى عن أن
يحكمه شيء ،أو يعجزه أمر؛ إذ يغدو القضاء على مشكلة النسيان آيٌة في
ذاته تخالف قوانينها ،القوانين المألوفة عند البشر ،وإن كانت تسير وفق
قوانين أخرى في ذاتها)(796؛ وإذ هي كذلك آية فل بد لتحقيقها من إذن ال
نلأ ْ سو ٍن ل َِر ُ ما َ
كا َ و َالذي يشمل أمره البتدائي وإذنه المستمرَ
ن الله…" غافر ،"78/والفتتاح بأمر النبي بأن ة إل ِبإذْ ِ َيأِتي ِبآي ٍ
يسبح اسم ربه بالقول ،يؤذن بأنه سيلقي إليه عقبه بشارًة وخيرًا له ،وذلك
سى اليات ،ففيه براعة فل ت َن ْ َ ك َرئ ُ َ
ق ِ قولهَ
سن ُ ْ
استهلل) ،(797وفيه قال القرطبي":وهذه بشرى من ال تعالى ،بشره بأن
أعطاه آية بينة ،وهي أن يقرأ عليه جبريلما يقرأ عليه من الوحي ،وهو
ي ل يقرأ ،ول يكتب ،فيحفظه ول ينساه")" ،(798وهي بشرى لمته من أم ٌ
ن بها إلى أصل هذه العقيدة؛ فهي من ال ،وال كافلها طْمِئ ّ
ورائهُ ،ت َ
799
وحافظها في قلب نبيها") (.
وفي هذا تأكيٌد على المصدرية اللهية .
- 4ولزالة أي آثاٍر تشكيكيٍة نابعٍة من احتمال نسيان الرسول لشيٍء
ص:
ت أنواط هذه المشّكِكات بتقعيدين :عاٍم وخا ٍ طع ْ من الوحي ،فقد ُق ّ
فأما العام فهو :عصمة الشرع السلمي المطهر من غوائل النقص،
والتغيير ،والنسيان ،من حيث كونه شرعًا إلهيًا خاتمًا تكفل منـزله بالحفاظ
عليه ،ثم من حيث كونه شرعًا ميسرًا ،ومن أهم أوجه تيسيره :تيسير
286
سَرى" العلى ،"8/ ك ل ِل ْي ُ ْ
سُر َ المحافظة عليه ،ولذا قالَ :
ون ُي َ ّ
فاشتمل الكلم على تيسيرين:
ف به النبي أي جعله يسيرًا مع وفائه بالمقصود، تيسير ما ُكّل َ
فمما ذكره القرطبي في تأويلها قوله" :أي نهون عليك الوحي ،حتى تحفظه
وتعمل به" ).(800
ف به ،حيث قال اللوسي":نوفقك وتيسير النبي للقيام بما ُكّل َ
توفيقًا مستمرًا للطريقة اليسرى في كل بابٍ من أبواب الدين ،علمًا،
وتعليمًا ،واهتداء ،وهداية ،فيندرج فيه تيسير تلقي طريقي الوحي")(801
….
سَرى "العلى:"8/ ك ل ِل ْي ُ ْ
سُر َ فقوله َ :
ون ُي َ ّ
مســـتعاٌر للتهيئة ،والتســـخير ،أي نهيئك للمـــر
اليسير في أمر الدين ،وعواقبه من تيسير حفــظ
القرآن لك ،وتيسير الشريعة….
أو يكون المعنى :ونيسر لك اليسرى على القلب ،وفي وصفها
باليسرى إيماٌء إلى أنها يسرى من حيث ذاتها ،فلم يبق إل حفظه من الموانع
التي يشق معها تلقي اليسرى….
- 5وأما التقعيد الخاص فهو الوسيلة التي تقضي قضاًء مبرمًا على
مشكلة نسيان الرسول للقرآن الكريم بعد أن يلقيه علي جبريل قبل
أن يبلغه ،إذ تكفل ال بتعطيل قانون النسيان في ذات الرسول في
هذه المرحلة ،وفي المعجم الكبير للطبراني ما يزيد حديث ابن عباس في
المعالجة إيضاحًا في هذا الموضوع ،فقد قال ابن عباس ) :كان النبي
287
إذا أتاه جبريل بالوحي لم يفرغ حتى َيْزُمل) (802من الوحي ،حتى
يتكلم النبي بأوله مخافة أن يغشى عليه( ،فقال له جبريل:لم تفعل ذلك؟
سى ،"ولذا قرر ل َتن َ
ك َف َ قال:مخافة أن أنسى فأنـزل ال َ
سُنْقِرئُ َ
الشوكاني أن" :السهو والنسيان فيما طريقه البلغ غير جائز") ،(803وقد
سبق تعميم هذه الجزئية في عصمته.(804)
سى ،"الفاعل ضمير مستتر فل َ َتن َ رئ ُ َ
ك َ وفي قوله َ
سن ُ ْ
ق ِ
تقديره نحن يعود على ال ،وفي ذلك فوائد:
أولها :التكفل بإقرائه ،وذلك ضمان بأن يصل إلى النبي كما أراد
عَلى ال أن يصل ل كما تتحمله قوى البشر ،فإيثار وصفال ْ
في هذه السورة لنها تضمنت التنويه بالقرآن والتثبيت على تلقيه .
وثانيها :دفع فطرة النسيان الخلقي في الرسول في فترة إلقاء القرآن
عليه إلى أن يبلغه ،فهذا موقع البيان الصريح بوعده بأنه سيعصمه من
نسيان ما يقرئه ،فيبلغه كما أوحي إليه ويحفظه من التفلت عليه).(805
شٌر ليس لجبريل فيه ي مبا ِ وثالثها :أن التكفل بالمرين تكفٌل إله ٌ
شيٌء إل قراءة القرآن عليه لحكمٍة عظيمٍة هي تثبيت مبدأ التلقين في نقل
القرآن الكريم ،وقد مضت الشارة إليها) ،(806أما إقراؤه بمعنى جمع القرآن
ض ،ودليلهي مح ٌ في صدره ،ودفع النسيان عنه في الفترة المذكورة فأمٌر إله ٌ
رُئك ،وما ذكر في ما سبق) ( ،والضمير في قولهَ
807
ق ِسن ُ ْ
تحليل آيات سورة القيامة) ،(808ومبدأ استشعار المصدرية اللهية .
سى" العلى"6/ فل َ َتن َك َ رئ ُ َ فقد تعين أن قولهَ
سن ُ ْ
ق ِ
حى إليه) ،(809وافتتاح سورة وعد من ال بعونه على حفظ جميع ما ُيو َ
ل :عدا وأسرع معتمدا ً على أحد شقيه رافعا ً جنبه الخر ،انظر :لسان
()802زمل يزمل زما ً
العرب ،6/81مرجع سابق .
()803فتح القدير ،3/579مرجع سابق .
()804انظر :المبحث الول من هذا الفصل ص .253
()805انظر :التحرير ،279 /30مرجع سابق .
()806انظر :المبحث السابع من الفصل الثالث ص 135وما بعدها .
()807انظر :حديث المعالجة في المبحث السادس من الفصل الثالث ص .113
()808انظر :المبحث السادس من الفصل الثالث ص . 116
()809انظر :التحرير ،279 /30مرجع سابق .
288
دى ه َف َقدَّر َ ذي َ وال ّ ِوى)َ (2 س ّ
ف َ خل َ َ
ق َ ذي َ العلى بقوله ال ّ ِ
ن بتقرير الحقيقة السابقة من حيث كمال التقرير؛ "لن "العلىُ "3-2/مْؤِذ ٌ
لهذين الوصفين مناسبة بما اشتملت عليه السورة ،فإن الذي يسوي خلق
ل أعباء الرسالة ،ل يفوته أن حّم ِ
النبي تسويٌة تلئم ما خلقه لجله من َت َ
يهيئه لحفظ ما يوحيه إليه ،وتيسيره عليه ،وإعطائه شريعًة مناسبًة لذلك
سى فل َ َتن َ ك َرئ ُ َق ِ سن ُ ْالتيسير") ( ،وقال المام اللوسيَ " :
810
ن لهدايته تعالى شأنه الخاصة برسوله ،إثر بيان هدايته العامة لكافة بيا ٌ
811
مخلوقاته سبحانه ،وهي هدايته لتلقي الوحي وحفظ القرآن") (…أي
ي لم تكن تدري ل من قوة الحفظ والتقان ،مع أنك أم ٌ سنقرئك فل تنسى أص ً
ما الكتاب ،وما القراءة ،ليكون ذلك لك آيًة مع ما في تضاعيف ما تقرأه من
اليات البينات").(812
-6إذا كانت آيات سورة القيامة قد أرست أساس جمع القرآن في
صدر النبي بأن يلقيه عليه جبريل ،وحددت له قواعد التلقين؛ فإن
هذه اليات ترسي أساس بقاء ذلك الُمْلَقى إلى حين أدائه تبليغًا للناس ،وإنما
سى فل َ َتن َ ك تمهيدًا للمقصود الذي هو َ رئ ُ َ
ق ِ ابتدئ بقولهَ
سن ُ ْ
،وإدماجًا ،للعلم بأن القرآن في تزايٍد مستمٍر ،فإذا كان قد خاف من
نسيان بعض ما ُأوحي إليه على حين قلته؛ فإنه سيتتابع ويتكاثر فل يخشى
نسيانه ،فقد تكفل له عدم نسيانه مع تزايده…والسين علمة استقبال
مدخولها… فهي دالٌة على أن القراء يستمر ،ويتجدد…وقولهَ …
فل َ
سى خبٌر مراٌد به الوعد والتكفل له بذلك).(813 َتن َ
289
ح من خلل الوعد بذلك المر بما تضمنه الوعد ،ولعل على أنه ُيلَم ُ
هذا هو مراد من فسر الية بالنهي ،إذ الوعد ل ينفي المر بفعل السباب
ض له .
التي تؤدي إلى عدم النسيان بل هو مقت ٍ
- 7وحتى ل يخرج الرسول عن صفاته البشرية بهذه الكفالة اللهية،
ت هذه الكفالة اللهية قدرها الضروري ،وذلك من وقت سماع النبي خذ ْ
فقد ُأ ِ
القرآن من جبريلإلى النتهاء من تبليغه ،وحفظه بوسائل الحفظ من
قراءة ،وكتابة بحيث ل يمكن نسيانه من مجموع المة لكفالة ال لها
بالعصمة عن الخطأ ،فإذا ما تم ذلك فإن النبي يعود إلى حالته الطبيعية
البشرية فيعتريه النسيان ،وهذا هو معنى الستثناء في قوله ِ: إل
شاءَ الل ُّه… أي أن بعض القرآن ينساه النبي إذا شاء ال أن ما َ َ
ينساه ،ويدخل في هذا :نوعان يرجعان إلى الحقيقة اللغوية لمادة "نسي":
أولهما :النسخ في العمل :وسماه اللوسي) :نفي نسيان المضمون(،
فقال" :أي سنقرئك القرآن فل تغفل عنه ،فتخالفه في أعمالك") ،(814وقال
القرطبي":وقيل :النسيان بمعنى الترك ،أي يعصمك من أن تترك العمل به،
ل ما شاء ال أن تتركه لنسخه إياه ،فهذا نسخ في العمل") ،(815وقال به
الجنيد ،وأقره ابن كيسان النحوي) ،(816ويجعل هذا المفهوم للنسيان في حيز
ه
سوا الل َ الثبات ما قرره أحمد بن يحيى ثعلب في قول ال … ن َ ُ
سي َُهم …"التوبة" :"63/ل ينسى ال عز وجل ،إنما معناه تركوا ال َ
فن َ ِ
فتركهم ،فلما كان النسيان ضربًا من الترك وضعه موضعه ،وقوله تعالى
سىطه "126/أي تركتها فكذلك م ت ُن ْ َك الَيو َ وك َ ِ
ذل ِ َ سي َْتها َ فن َ ِ َ …
تترك في النار") ( ،ومثله قوله تعالى …ن َ ُ
817
م… ه ْ
سي َ ُ ه َ
فن َ ِ سوا الل َ
كم…" البقرة/ ل ب َي ْن َ َ
ض َ
ف ْسوا ال َ ،وقوله-تعالى ذكرهَ …-
ول َ ت َن ْ َ
. "237
سخ هذا المفهوم في معنى النسيان المستثنى مطابقته ،لقوله وُيَر ّ
-تعالى
()814تفسير روح المعاني ،30/188مرجع سابق ،وانظر :تفسير الطبري ،30/154مرجع
سابق ،فإنه أورد أسماء القائلين بالنسخ العملي .
()815تفسير القرطبي ،20/19مرجع سابق .
()816لسان العرب ،14/132مرجع سابق .
()817لسان العرب ،14/132مرجع سابق .
290
َ ْ خ من آي َ
و
ها أ ْ
من ْ َ
ر ِ
خي ْ ٍ
ت بِ َها ن َأ ِ
س َ
و ُنن ِ
ةأ ْس ْ ِ ْ َ ٍ ذكرهَ :-
ما َنن َ
سَها أي نأمركم ها " البقرة ،"106/قال ابن منظورُ ":نن ِ مث ْل ِ َ
ِ
بتركها ،يقال أنسيته أي أمرت بتركه ،ونسيته تركته ،ثم نقل عن الفراء
نحوًا من التقرير السابق"). (818
وثانيهما :ما يعرض نسيانه للنبي نسيانًا مؤقتًا :كشأن عارض
الحوافظ البشرية ،ثم يقيض ال له ما ُيَذّكُره به ،ففي صحيح البخاري عن
ل يقرأ من الليل بالمسجدعائشة -رضي ال تعالى عنها -قالت :سمع النبي رج ً
فقال) :يرحم الله فلنًا! لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتهن ،أو كنت
أنسيتها من سورة كذا وكذا() ،(819وفيه أيضًا :أن رسول ال أسقط آيًة
ت؟ فقال) :نسيتها(). (820 خ ْسَ
في قراءته في الصلة فسأله أبي بن كعب :أَُن ِ
فدخل في هذا قول من قال" :الستثناء بمعنى القلة") ،(821وتظهر
فى" العلى"7/ خ َ
ما ي َ ْ
هر و َ ج ْ عل َ ُ
م ال َ بذلك مناسبة قوله إن ّ ُ
ه يَ ْ
ل للجملة السابقة في أن ما يقرؤه النبي من القرآن هو من قبيل تذيي ً
الجهر فال يعلمه ،وما ينساه فيسقطه هو من قبيل الخفي ،فيعلم ال
أنه اختفى في حافظته حين القراءة ،فلم يبرز إلى النطق به) ،(822وقال
القرطبي":الجهر ما حفظته من القرآن في صدرك ،وما يخفى هو ما نسخ
من صدرك").(823
وعدم جواز نسيانه على مجموع المة ،هو ما عبر عنه القرطبي
بعدم النسيان الكلي في قوله":وقيل إل ما شاء ال أن ينسى ،ثم يذكر بعد
()818لسان العرب ،14/132مرجع سابق ،وذهب إلى أن معنى الية يشير إلى النسخ قتادة
والحسن وغيرهما ،انظر روح المعاني ،30/188مرجع سابق ،وحكاه صاحب الكشاف قول ً
،4/204مرجع سابق ،وارتضاه في تفسير الجللين وأيده الصاوي في حاشيته عليهما
،4/411مرجع سابق ،وكذا في البحر المحيط ،7/458مرجع سابق ،وانظر تفصيل تلك
القوال في :فتح القدير ،4/523مرجع سابق .
()819رواه البخاري ،5/2345مرجع سابق .
()820رواه البخاري ،5/2346مرجع سابق .
()821راجع :التحرير والتنوير ،30/281مرجع سابق ،وروح المعاني ،30/190مرجع سابق،
وانظر :ابن كثير ،4/428مرجع سابق .
()822انظر :التحرير والتنوير ،282 /30مرجع سابق .
()823تفسير القرطبي ،21/ 20وأشار الزمخشري إلى نحو من ذلك ،4/204مرجع سابق .
291
ذلك ،فإذًا قد نسي ،ولكنه يتذكر ول ينسى نسيانًا كليًا") ،(824وقال عنه
اللوسي":ثم إنه ل يقر على نسيانه القليل أيضًا ،بل يذكره ال تعالى أو
سُر من ُيَذّكُره ،ثم إن المراد من نفي نسيان شيٍء من القرآن:نفي النسيان ُيَي ّ
التام المستمر مما ل يقر عليه ،(825)وقرر المام النووي ذلك فقال:
"قوله) كنت أنسيتها( دليل على جواز النسيان عليه فيما قد َبّلغه إلى
المة ،وقال القاضي عياض":جمهور المحققين :جواز النسيان عليه ابتداًء،
فيما ليس طريقه البلغ ،واختلفوا فيما طريقه البلغ والتعليم ،ولكن من
جّوز قال :ل ُيَقر عليه ،بل ل بد أن يتذكره ،أو يذكره")،(826
وقال السماعيلي":النسيان من النبي لشيء من القرآن يكون
على قسمين:
أحدهما :نسيانه الذي يتذكره عن قرب ،وذلك قائم بالطباع البشرية،
وعليه يدل قوله في حديث ابن مسعود في السهو) :إنما أنا بشر
مثلكم أنسى كما تنسون()،(827
والثاني :أن يرفعه ال عن قلبه)…(828
نح ُفأما القسم الول فعارض سريع الزوال لظاهر قوله إ ِّنا ن َ ْ
ن " الحجر ،(829)" ،"9/وقال ابن ظو َف ُ ه لَ َ
حا ِ وإ ِّنا ل َ ُ
ن َّزل َْنا الذّك َْر َ
معُ بين القوال المختلفة في (4)824تفسير القرطبي ،20/19مرجع سابق ،وبهذا التقرير ي ُ ْ
ج َ
ه… حال كون هذه الجملة القرآنية تتسع لكل تلك شاءَ الل ّ ُ
ما َ
ِإل َ معنى قوله:
التآويل ،وتحتملها من حيث الصيل الشرعي واللغوي ،وبذا ل يكون مبرٌر لستظهار المام
الطاهر بن عاشور -رحمه الله تعالى -لكون معنى الستثناء ينصرف إلى النسخ في التلوة،
م قولن ضعيفان ذكرهما القرطبي في انظر :التحرير والتنوير ،30/280مرجع سابق .وث َ ّ
،19/ 20مرجع سابق . آخر تأويل هذه الجملة
()825روح المعاني ،20/190مرجع سابق .
()826شرح صحيح مسلم ،6/323مرجع سابق .
()827البخاري ،2/900مرجع سابق .
()828يعني كنسخ العمل المذكور .
()829فتح الباري ،9/86مرجع سابق ،والذي قرأ بضم أوله من غير همزة هم الكوفيون وابن
عامر ونافع من السبعة ،وقرأ أبو عمرو وابن كثير بفتح أوله بهمزة ننسأها انظر:
متن الشاطبية في القراءات السبع ،مرجع سابق عند قول الناظم في فرش سورة البقرة:
)وننسخ به ضم وكسر كفى…وننسها مثله من غير همز ذكت إلى( .
292
حجر":وفي الحديث حجة لمن أجاز النسيان على النبي فيما ليس طريقه
البلغ مطلقًا ،وكذا فيما طريقه البلغ ،لكن بشرطين :أحدهما أنه بعدما يقع
منه تبليغه ،والخر أنه ل يستمر على نسيانه ،بل يحصل له تذكره…إما
ل ،وزعمبنفسه ،وإما بغيره ،فأما قبل تبليغه فل يجوز عليه فيه النسيان أص ً
ل ،وإنما يقع
بعض الصوليين وبعض الصوفية أنه ل يقع منه نسيان أص ً
شّرع لمن بعده من المسلمين ما يصنعون إن وقع ن -أي لُي َ سّ منه صورته لُي َ
لهم النسيان ،-قال عياض :لم يقل به من الصوليين أحٌد إل أبو المظفر
ف").(830 ل ضعي ٌ السفراييني ،وهو قو ٌ
831
فقد تضافرت) ( عبارات العلماء على جواز النسيان غير الكلي
على النبي ، وإنما ُأكثر من إيرادها للهمية .
ع بين القوال المختلفة م ُ ج َوبهذا التقرير ي ُ ْ
شاءَ الل ُّهحال كون هذه ما َ في معنى قولهِ :إل َ
الجملة القرآنية تتسع لكل تلك التآويل ،وتحتملها من حيث
الصيل الشرعي واللغوي ،وبذا ل يكون مبرر لصاحب
التحرير والتنوير -رحمه الله تعالى -لكون معنى الستثناء ينصرف
إلى النسخ في التلوة). (832
وعلى هذا التقرير يحمل قول الفراء-رحمه ال تعالى -في وجه
شاءَ الل ُّه… " العلى "7/وهو لم يشأ أن تنسى ما َ الستثناءِ ":إل َ
ت
وا ُما َ
س َ
ت ال ّ
م ْ دا َ
ما َ
ها َ في َن ِ دي َ خال ِ ِشيئًا ،كقولهَ :
ك… "هود ،"107/ول يشاء) ،(833ويقال في شاءَ َرب ّ َ ما َ ض إ ِل ّ َوالْر ُ
َ
()830فتح الباري ،9/86مرجع سابق .
ى واحد هو التعاون والجتماع .انظر :لسان العرب )( فائدة :تضافر وتظافر وتظاهر بمعن ً
831
كيل ً" السراء ،"86/ولم يشأ -سبحانه -ذلك ،وصّرح بذلك من أئمة اللغة أبو عل َي َْنا َ
و ِ ه َ
بِ ِ
إسحاق ،ثم ذكر في توجيه الية قريبا ً مما قُّرر هاهنا فقال" :ويجوز أن يكون )إل ما شاء
293
الكلم :لعطينك كل ما سألت إل ما شئت ،وإل أن أشاء أن أمنعك ،والنية
على أن ل يمنعه شيئًا ،فعلى هذا مجاري اليمان ،يستثنى فيها ،ونية
الحالف التمام")(834؛ إذ ل وجه لنفي النسيان مطلقًا) ،(835وقد ثبت من
ح ،إل على سبيل نفي النسيان الكلي كما سبق تقريره ،وكما ق صحي ٍطري ٍ
ل عليه قوله في حديث بدء الوحي الذي رواه الحارث في مسنده: حَم ُ
ُي ْ
)فما نسيت شيئا ً بعد(). (836
ومن أعظم فوائد الستثناء ومقتضياته المنهجية في تعليم القرآن
الكريم ما قرره اللوسي من":أن ال –تعالت قدرته– ُيْعِلُم عباده بضعفهم
وقدرته ،حتى يعلم النبي أن عدم النسيان من فضله تعالى ،وإحسانه ل
من قوته ،أي حتى يتقوى على ذلك جدًا ،أو ليعرف غيره ذلك").(837
وهو تأكيٌد على المصدرية اللهية ،ومقتضياتها .
المطلب الثاني :معالجة مشكلة التهمة بقصسسور العاطفسسة
البشرية ،والتفكير البشري:
أما العاطفة البشرية التي يحتمل اتهام الرسول بها فيمكن أخذ
التهمة بالخوف من عدم قبول الكفار لبعض القرآن نموذجًا؛ إذ قد ُيتهم بأن
صاص ذلك دفعه إلى كتم بعض القرآن ،وهو ربما الذي دفع بعض الُق ّ
المتأخرين ليدبجوا مهازيل من الحاديث بأن النبي كان يود أل ينـزل ما
ينفر الكفار منه.
الله( مما يلحق بالبشرية ،ثم يتذكر بعد ،ليس أنه على طريق السلب للنبي شيئا ً أوتيه
من الحكمة" .انظر :لسان العرب ،14/132مرجع سابق ،وانظر في ورود كلم مستثنى
منه ول يقتضي التحقق :شرح العقيده الطحاوية ص ،425مرجع سابق .
) (3)834الفراء( أبي زكريا يحي بن زياد ت 207هس :معاني القرآن 3/256دار السرور –
ب منه قول من قال" :الستثناء بمعنى تحقيق :أحمد يوسف نجاتي ،محمد علي النجار ،وقري ٌ
القلة ،وأريد بها النفي مجازًا ،وقيل الكلم عليه من باب :ول عيب فيهم غير أن سيوفهم"...
انظر :روح المعاني ،30/190مرجع سابق .
()835حتى أن المام أبا حيان -رحمه الله تعالى -في البحر المحيط ،8/458مرجع سابق،
نعى على من زعم أن الستثناء غير مراد ،وقال" :يجعل الستثناء كل استثناء ،وهذا ل ينبغي
ساقط تثريبه ،ثم ح ،ولكن ي ّ
م فصي ٌ
أن يكون في كتاب الله ،ول في كلم فصيح" ،وهو كل ٌ
مع به بين تلك القوال في التقرير أعله . ج ِ
تثريب اللوسي -رحمه الله تعالى -عليه بما ُ
()836مسند الحارث ،2/867مرجع سابق .
()837انظر :روح المعاني ،191/ 30مرجع سابق ،وانظر :البحر المحيط ،8/430مرجع
سابق .
294
فيؤخذ هذا النموذج في نفي هذه التهمة:
ن" التكوير،"24/ ضِني ٍب بِ َ عَلى ال ْ َ
غي ْ ِ و َ ه َ ما ُ َ
و َ حيث يقول ال
838
وقد ورد في هذه الية تأويلن بحسب القراءتين الواردتين فيها) ( ،وكل
ى ثانيًا بحسب النظر إلى حرف الستعلء )على(، قراءٍة تتضمن معن ً
ن ،ترجع إلى الشبهة المذكورة في فصارت هذه الكلمة نافية لربعة معا ٍ
المطلب بأعظم الساليب إعجازًا:
ل ،بل هو ُمَبّلٌغ الوح َ
ي ن أي ببخي ٍ ضِني ٍ فالقراءة الولى ب ِ َ
ن بمتهٍم ،فنفى ال عنه النقص ،واعتوار الشك َ
كله ،وب ِظِني ٍ
،وإن ن إن كان المراد)(839جبريل َ
مي ٍ في المانة ،تأكيدًا لقوله أ ِ
كان المراد النبي فكذلك ،ل يبخل بالوحي ،ول يقصر في التبليغ والتعليم
.
أما الصفة الثانية المنفية في قراءة الضاد فهي الحرص ،وتلوح من
ن أي ببخيل…مع ضِني ٍ بين ثنايا التعبير عن عدم التقصير بقوله ب ِ َ
أنه أمكن أن يقول بمقصر؛ إذ إن البخيل إنما يبخل بما عنده نظير ما يزعمه
صّرح لهم بجميع الوحي مصلحًة له إلى وقت الحاجة ،فلو كان النبي ل ُي َ
بقصد المصلحة ،فيتأول تأخير بعض الوحي لعدم حلول وقته كالبخيل،
خ له مما قد يشينه في ت لهم ،أو توبي ٌ ومما يمكن التمثيل به :ما فيه تبكي ٌ
قلوبهم )كما في سورة عبس(… ،فقد يقال :للمعرفة بأن المصلحة الدعوية
تقتضي كتم هذه اليات خوف الفتنة-كما يطرأ على تفكير بعض الدعاة-
فسيكتمها لذلك بفعل عاطفته البشرية… ،ولكن ال نفى عنه هذه
العاطفة القاصرة…فل يبخل بالوحي لجل المصلحة الظاهرة ،فكيف لو
عدمت؟.سواًء كان هذا تتابعًا في وصف جبريل أو كان وصفًا للرسول
عَلى إل الجليل… ويؤيد ما ُقّرر هاهنا :أن فعل البخل ل يتعدى بـَ
على تضمينه معنى الحرص ونحوه) ،(840ولذا قال ابن زيد في هذه الية:
()838قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس عن يعقوب بالظاء ،وقرأ الباقون بالضاد .
انظر :طيبة النشر ،مرجع سابق ،عند قول الناظم) :بظنين الظا رغد حبر غنا …( .
()839انظر :تفسير القرطبي ،19/242مرجع سابق ،فقد ذكر أن أهل التأويل اختلفوا في
ن جبريل أو محمد . ضِني ٍ
ب بِ َ عَلى ال ْ َ
غي ْ ِ و َ
ه َ
ما ُ صاحب هذه الية َ
و َ
()840وهو ما قال به اللوسي -رحمه الله تعالى ،-انظر :روح المعاني ،30/107مرجع
سابق ،ومثله قرر صاحب التحرير والتنوير ،30/162مرجع سابق ،في إحدى المعاني التي
وجه بها الية .
295
"الغيب القرآن الذي لم يضن به على أحٍد من الناس …أداه وبلغه ،بعث
ال به الروح المين جبريل إلى رسول ال فأدى جبريل ما
استودعه ال إلى محمد وأدى محمد ما استودعه ال
ن ،ول كتم ،ول تخرص").(841 وجبريل إلى العباد ليس أحٌد منهم ض ّ
ن بالظاء المشالة معناها :ما هو َ
والقراءة الثانية :ب ِظِني ٍ
ن ،والتهمة مطلقٌة ،ونفيها َ
مي ٍعلى الغيب بمتهٍم ،تأكيدًا لقوله أ ِ
ق ،فتشمل ما قيل في معنى الظنة به :تقصيرًا ،أو ضعف قوٍة على مطل ٌ
842
ف عنه.
التبليغ) ( ،فكل ذلك منت ٍ
والصفة الثانية المنفية بقراءة الظاء هي التجرؤ :حيث يظهر
ن" بالظاء المشالة" معنى المتجرئ عند عدم الرضا َ
تضمينب ِظِني ٍ
عَلى مقـام بالقرآن المنـَزل ،بقرينة قيامَ
ئ عليه،في ،والمعنى :ليس بمتهٍم في أمر الغيب –وهو الوحي -ول متجر ٍ
فيقول من عند نفسه شيئًا فيدعي أنه الوحي ،بل ما بلغه هو الغيب ل ريب
فيه ،ولذا فعكسه يتعدى بعلى كقولك :ائتمنه على كذا .
غ لترجيح اللوسي سّو ٌ وعلى ما ذكر في تأويل القراءتين ل يظهر ُم َ
هذه القراءة الخيرة على الولى بأنها أنسب بالمقام لتهام الكفرة
حَكٍم بالغٍة بادي الرأي… له ،(843)إذ قد ظهر ما في القراءة الولى من ِ
وربما يظهر للمتأمل –بعُد– أيضًا في هذه ،وفي غيرها – ما ل تنقضي معه
عجائب القرآن – على أن الطبري رجح القراءة الخرى بالضاد).(844
ك في ذات المَلك من حيث كما يظهر في هذه الية :نفي تسرب ش ٍ
ن ،أو تسرب َ
التهمة أو من حيث الخلل"النقص" على قراءة ب ِظِني ٍ
ك في ذات النبي من الحيثية ذاتها ،وهو القرب أن يكون المراد ،لن شٍ
طر عليها ،وهذا ل فطرًة قد ُف ِ ل ول خل ٍ ف بطاعته لربه بل دخ ٍ المَلك معرو ٌ
معلوٌم حتى عند كفرة العرب ،وكذلك من حيث سياق السورة .
وسبحان الله بحمده ،سبحان الله العظيم،
والحمد لله رب العالمين .
فيما خرجه ابن جرير في تفسيره عنه ،30/82مرجع سابق . ()841
انظر :روح المعاني ،106/ 30مرجع سابق . ()842
روح المعاني ،106/ 30مرجع سابق . ()843
انظر :تفسير الطبري ،30/83مرجع سابق . ()844
296
297
298
ملحق
مناقشة علمية لتعريف القرآن الكريم:
يرمي هذا الملحق إلى بيان ماهية القرآن من حيث أصله اللغوي،
وبيان حدوده في الوضع الشرعي ،من حيث لفظه؛ إذ إن القرآن هو
موضوع تلقي النبي من جبريل ،ولذا يتألف هذا الملحق من
مبحثين:
المبحث الول :القرآن في الوضع اللغوي ،ومقتضياته .
المبحسسسث الثسسساني :القسسسرآن فسسسي الوضسسسع الصسسسطلحي،
ومقتضياته .
المبحث الول:
"القرآن" في الوضع اللغوي ،ومقتضياته:
يهدف هذا المبحث إلى استخراج معطيات وذاتيات الحقيقة اللغوية
لمادة )قرأ( في أصل الوضع اللغوي ،ومقتضيات ذلك ،ولذا فهو ينقسم إلى
مطلبين:
المطلب الول :أقوال العلماء في الوضع اللغوي للقرآن .
المطلب الثاني :مقتضيات مادة )القرآن( لغة .
المطلب الول :أقوال العلماء في الوضع اللغوي للقرآن:
ف في أصل هذه اللفظة على قولين عامين: اخُتِل َ
ل جعله مشتقًا ،ثم اختلف
ل جعله علمًا شخصيًا غير مشتق ،وقو ٍ قو ٍ
ل خمسٍة في أصل ذلك الشتقاق ،وتفصيل ذلك القائلون باشتقاقه على أقوا ٍ
مبسوط فيما يلي):(845
سبيل التحقيق العلمي في هذه المسألة لربط ذلك بمحور البحث ،وهو لفظ القرآن الكريم
وكيفية تلقي النبي له .
299
ص بكلم ال ،فهو غير مهموٍز، ق خا ٍ - 1فقيل :هو اسٌم غير مشت ٍ
والراء محركٌة بالفتح ،وبه قرأ ابن كثير) ،(846وهذا مروي عن الشافعي
-رحمه ال تعالى ،(847)-قال الشافعي" :وقرأت على إسماعيل بن قسطنطين،
خَذ منوكان يقول :القرآن اسٌم ،وليس بمهموٍز ،ولم يؤخذ من قرأت ،ولو ُأ ِ
ئ قرآنًا) ،(848ولكنه اسٌم للقرآن مثل التوراة والنجيل" قرأت كان كلما ُقِر َ
ويهمز قرأت ول يهمز القرآن ،واختار هذا القول المام السيوطي -رحمه ال
تعالى -في التقان)…(849؛ فالقرآن على هذا قد ُو ِ
ضَع علًما
ل)،(850على هذا الكتاب الكريم كما أن التوراة علٌم على الكتاب الذي مرتج ً
أنزل على موسى ،والنجيل علٌم على الذي أنزل على عيسى.
-وذهب الجمهور إلى أنه مشتق ،ثم اختلفوا في أصل اشتقاقه:
ق من قرنت الشيء -2فرجح الشعري -رحمه ال تعالى -أنه مشت ٌ
سمي القرآن بذلك لنه تضم حروفه بالشيء :إذا ضممت أحدهما للخر ،و ُ
وكلماته بعضها إلى بعض ،كما تضم أحكامه في العلم والعمل فل
تجزأ).(851
()846وحمزة وقفا ً .
) ()847الحاكم( أبو عبد الله محمد بن عبد الله ابن البيع النيسابوري ) 321هس ،ت 405هس(:
المستدرك على الصحيحين ،2/250مراجعة :مصطفى عبد القادر عطا1411 ،هس 1990-م،
دار الكتب العلمية -بيروت ،الطبعة لم تذكر .وفيه عن :محمد بن إدريس الشافعي حدثنا
إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين قال :قرأت على شبل ،وأخبر شبل أنه قرأ على عبد
الله بن كثير ،وأخبر عبد الله أنه قرأ على مجاهد ،وأخبر مجاهد أنه قرأ على ابن عباس
:قرأ أبي على وأخبر ابن عباس أنه قرأ على أبي بن كعب ،وقال ابن عباس
النبي .
()848ليست هذه النتيجة مستلَزمة للمقدمة… إذ يصح أن يؤخذ من قرأت ،ول يسمى كل ما
رئ قرآنا ً من حيث تخصيص الشرع ،أو العرف للعام ،وإن بقي اسمه عاما ً .
قُ ِ
()849التقان في علوم القرآن ،1/51مرجع سابق .وانظر :لسان العرب ،11/78مرجع
سابق .
()850العلم المرتجل :ما لم يسبق له استعمال قبل العلمية في غيرها كسعاد وأ َُدد .
انظر) :ابن عقيل( بهاء الدين عبد الله ابن عقيل العقيلي ) 698هس 769 ،هس( :شرح ابن
عقيل على ألفية ابن مالك ،1/100تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد في حاشيته عليه
المسماة :منحة الجليل بتحقيق شرح ابن عقيل ،لم تذكر الطبعة ول الدار .
()851التقان في علوم القرآن ، 1/51مرجع سابق ،وانظر) :أبو البقاء( أيوب بن موسى
الحسيني الكفوي الكليات 1412 ،721هس – 1992م ،قابله على نسخة خطية ،وأعده للطبع،
ووضع فهارسه :د .عدنان درويش – محمد المصري – مؤسسة الرسالة –بيروت ط ،1تفسير
التحرير والتنوير ،1/71مرجع سابق .ثم انظر إلى ذم القرآن لمن يجزئه في قوله تعالى
300
وهذا هو القول الشتقاقي الول) ،(852ويومئ له حديث ابن
مسعود) :إنا قد سمعنا القراءة ،وإني لحفظ القرناء التي كان يقرأ بهن
ثماني عشرة سورة من المفصل ،وسورتين من آل حم()…(853وقد النبي
يناَزع في هذا الستدلل .
ق من القرينة ،وأنه اسم جمٍع لها ،والقرينة -3وقيل :أنه مشت ٌ
ضا ،فهي قرائن على ق بعضها بع ً صّد ُ
العلمة ،قالوا :لن آياته ُي َ
الصدق) ،(854ونسبه السيوطي للفراء -رحمه ال تعالى).(855
وهذا هو القول الشتقاقي الثاني .
وعلى كل القوال المتقدمة فإن ]قرآن[ وزنه ُفعال ،ونونه أصلية .
وعلى القولين الشتقاقيين السابقين :فإن أصلهما واحد هو الَقْرن)(856؛
ن بقرينة كذا أي بضميمة كذا، إذ القرينة ترجع إليه ،ومنه :صدق فل ٌ
والمراد ما اقترن بصحة صدقه ،وهذا هو المطلوب الول).(857
ق من قرأ…ثم اختلف القائلون بذلك في أصل المدلول -وقيل بل هو مشت ٌ
اللغوي لكلمة قرأ…
-4فقال قوٌم منهم الزجاج -رحمه ال تعالى":-تدور كلمة )قرأ( على معنى
الجمع والضم .ومنه قرأت الماء على الحوض أي جمعته)…(858قال ابن
منظور-رحمه ال تعالى" :-قرأه يقَرؤه ويقُرؤه ،الخيرة عن الزجاج قرءًا
وقراءة ،وقرآنًا ،الولى عن اللحياني فهو مقروء" .
ن" كالحجر ."91/راجع فيها :فتح القدير ،3/180 ضي َ
ع ِ
ن ِ
ءا َ عُلوا ال ْ ُ
قْر َ ج َ
ن َ ال ّ ِ
ذي َ
)الشوكاني( محمد بن علي ابن محمد الشوكاني 1250هس :فتح القدير الجامع بين الرواية
والدراية من التفسير ط 1995 - 1415 ،1م ،اعتنى به ،وراجع أصوله :يوسف الغوش -
دار المعرفة بيروت .
()852ويظهر من صنيع البخاري -رحمه الله تعالى -في الصحيح تأييده ،إذ أورد في معنى
القرآن" :سمي القرآن لجماعة السور ،وسميت السورة لنها مقطوعة من الخرى ،فلما
قرن بعضها إلى بعض سمي قرآنا ً" .انظر :صحيح البخاري ،4/1770مرجع سابق .
()853صحيح البخاري ،4/1924مرجع سابق .
()854تفسير التحرير والتنوير ،1/71مرجع سابق .
( )855التقان ،1/51مرجع سابق
()856ومنه اقترن قرانا ً ومقارنة .انظر لسان العرب ،11/134مرجع سابق .
()857في اصطلح الباحث .
()858التقان ،1/51مرجع سابق
301
الذي أنزله قال أبو إسحاق النحوي -رحمه ال تعالى":-يسمى كلم ال
على نبيه كتابًا وقرآنًا وفرقانًا ،ومعنى القرآن معنى الجمع ،وسمي قرآنًا؛
859
لنه يجمع السور فيضمها") ( ،وإلى نحو ذلك مال ابن فارس –رحمه ال
تعالى ،-وقال أبو عبيدة" :لنه جمع السور بعضها إلى بعض") ،(860وقال
الراغب ":لنه جمع ثمرات الكتب السالفة المنـزلة ،وقيل لنه جمع أنواع
العلوم كلها").(861
وهذا هو القول الشتقاقي الثالث .
862
وعلى هذا فالقرآن مصدٌر بمعنى اسم الفاعل ،أي الجامع) (.
ط الزجاج القول السابق :باشتقاق القرآن من َقَرن ،وقال":هو غّل َ
وقد َ
ض بأن الخلف لفظي بين هذا القول ،والقول سهٌو") ،(863مع أن التأمل قا ٍ
الذي جعل اشتقاق القرآن من الَقْرن من حيث أن حاصل كل منهما الضم
ف ،وضم كلمٍة إلى كلمٍة ،وضم سورٍة إلى ف إلى حر ٍوالجمع :فضم حر ٍ
سورٍة…يصدق عليه أن ُيجعل المصدر )َقْرن( مكان المصدر )ضم( ،فإذا
المعنى واحد ،وهذا هو المطلوب الثاني .
فقد تحصــل مــن المطلــوب الول والثــاني :أن
ق ـْرن أو الجمــع ،وهمــا آيلن القرآن مأخوذ من ال َ
إلى معنى واحد .
-5وقال قوٌم :قرأ بمعنى تل ،والقرآن مصدر بمعنى اسم المفعول
)المقروء أو المتلو( زيدت فيه اللف والنون ،كما زيدتا في الغفران
ي المام عبد الرحمن الثعالبيوالرجحان) .(864وإلى هذا المعنى مال رأ ُ
-رحمه ال تعالى ،-وقدمه على المعنى الول ،قال":ومنه قول حسان:
()859لسان العرب ،11/78مرجع سابق ،وانظر) :ابن فارس( أبو الحسين أحمد بن فارس
بن زكريا الرازي :معجم المقاييس في اللغة ،2/78بتحقيق وضبط عبد السلم هارون ،ط
1411 ،1هس – 1991م ،دار الجيل .
) ()860أبو عبيدة( معمر بن المثتى التيمي :مجاز القرآن ،3ط ،1الخانجي الكتبي بمصر
1954م .حققه د .محمد فؤاد سزكين.
) ()861الراغب( أبو القاسم الحسين بن محمد الصفهاني ت 502هس :المفردات في غريب
القرآن ،398تحقيق محمد سيد كيلني ،دار المعرفة -بيروت .
) ()862الشنقيطي( محمد المين بن محمد المختار الشنقيطي :نثر الورود على مراقي
السعود - 1/88تحقيق وإكمال تلميذه الدكتور :محمد ولد سيدي ولد حبيب الشنقيطي -
الناشر :محمد محمود محمد الخضر القاضي -دار المنارة جدة ط 1995 - 1415 ،1م .
()863الكليات ،1/721مرجع سابق .
()864نثر الورود ،1/88مرجع سابق ،وانظر الكليات ص ،720مرجع سابق .
302
ضحوا بأشمط عنوان السجود به
يقطع الليل قرآنا وتسبيحا ً
أي قراءة").(865
وقد أيد هذا المعنى إمام المفسرين الطبري -رحمه ال تعالى،-
فقال":والواجب أن يكون تأويله على قول ابن عباس: التلوة
والقراءة") ،(866وكذا رجح هذا المعنى صاحب كتاب "النبأ العظيم") (.
867
) ()865الثعالبي( عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الجزائري :الجواهر الحسان في
تفسيرالقرآن ،1/32دار القلم ،بيروت .
) ()866الطبري( أبو جعفر محمد بن جرير الطبري )ت :(310تفسير الطبري المسمى جامع
البيان في تأويل القرآن ،1/41ط 1388 3هس –1968م ،شركة مكتبة ومطبعة مصطفى
البابي الحلبي وأولده بمصر .
()867د .محمد عبد الله دراز :النبأ العظيم ص ،5اعتنى به وخرج أحاديثه :عبد الحميد
الدخاخني ط 1417 1هس1997-م ،دار طيبة الرياض .
()868المراد بالصلية هنا أنها ليست ساقطة سقوطا ً كامل ً من الكلمة ،ل المراد الصرفي؛ إذ
يصدق على كونه مأخوذا ً من قراءة ل من القرن ،وغاية البحث منصبة على جمع أصل
التفكير في أصل الكلمة على القولين .
()869هو الدكتور محمد عبد الله دراز ذاته في كتابه النبأ العظيم ص ،6مرجع سابق .
303
وهذا اللقب ل يعني فقط أن هذا المسمى جامع للسور واليات ،أو أنه
مجموع تلك السور واليات من حيث هي نصوص مؤلفة في صفحات
القلوب ،أومن حيث هي نقوش مصفوفة في المصحف واللواح ،أو من
حيث هي أصوات مرتلة منظومة على اللسنة ،بل يعني شيًئا أدق من ذلك
كله ،وهو أن هذا الكلم قد جمع فنون المعاني والحقائق ،وأنه قد حشدت
ب ت ِب َْياًنا ك ال ْك َِتا َعل َي ْ َون َّزل َْنا َ
َ : فيه كتائب الحكم والحكام؛ كما قال
يء" النحل . "89 / ش ْ ٍ ل َ ل ِك ُ ّ
ذا وأكد أبوبكر النباري -رحمه ال تعالى -ذلك بقوله َ
فإ ِ َ
قْرآن َُه" القيامة ،"18 /إذ قال في معناه":إذا ألفنا منه ع ُفات ّب ِ ْ قَرأ َْناهُ ََ
شيئًا،فضممناه إليك ،فخذ به ،واعمل به ،وضمه إليك")(870؛ إذ إن التأليف
هو جمع كائن هاهنا باللفاظ وهو التلوة ،وبالنقوش وهو الكتابة).(871
وهذا هو المطلوب الثالث .
واستلزام الجمع التلوة في مادة )قرأ( كاستلزام الجمع الكتابة في
ك واحٍد المعنى الذي ارتضاه الطبري مادة )كتب( ،وبذا اجتمع على سل ٍ
للقراءة وهو التلوة ،والمعنى الخر الذي نسبه إلى قتادة،وهو التأليف فل
يكون-بعد -لقوله -رحمه ال تعالى":-ولكل القولين ،أعني قول ابن عباس
ح في كلم العرب ،غير أن أولى وقول قتادة اللذين حكيناهما وجٌه صحي ٌ
ه )َ (17
فإ ِ َ
ذا قْرآن َ ُو ُه َ ع ُ
م َ
ج ْعل َي َْنا َ
ن َقوليهما بتأويل قول ال تعالىإ ِ ّ
قْرآن َُه" القيامة ،" 18-17 /قول ابن عباس(872)" ع ُفات ّب ِ ْ قَرأ َْناهُ َ َ
ن في قوانين الترجيح؛ لن أقل أحوال الترجيح أن يكون فرع التغاير؛ -مكا ٌ
إذا كان الترجيح ترجيحًا أولويًا ول تغاير هنا .
) ()870النباري( أبو بكر محمد بن القاسم :الزاهر في معاني كلمات الناس ،1/71تحقيق :د.
حاتم صالح الضامن ،اعتنى به :عز الدين البدوي النجار -ط 1ن 1412هس – 1992م،
مؤسسة الرسالة – بيروت .
()871هذا استطراد ٌ -ل يذم-في معنى كتب بجانب قرأ ليتضح معنى الكتاب إلى جانب القرآن
من حيث دللة قرأ على الجمع القرائي ،ودللة كتب على الجمع الخطي .
()872تفسير الطبري ،1/42مرجع سابق .
304
فقـــد التقـــت المعـــاني الربعـــة )القـــرن،
القرينة ،الضم ،التلوة( في الجمــع ،لكنــه قــرن،
وضم ،وجمع خاص بالحروف القرآنية وهو معنــى
التلوة ،فالمعاني الولى باعتبار المعنــى العــام،
والتلوة باعتبار المعنى الخاص .وهذا واضح مــن
المطلوبات الثلثة .
وقد تحصل مما سبق أن القرآن يعني في ذاته الجمع ،وقد ُأريد به
ص هو جمع الحروف في النطق ،وهو الذي اصطلح على جمٌع مخصو ٌ
تسميته بالتلوة ،وهي حالٌة خاصٌة من القراءة ترتبط غالبًا بالقرآن الكريم،
ولهذه النتيجة أهميتها البالغة كما سيأتي -إن شاء ال تعالى -في المطلب الثاني
من هذا المبحث .
-6وقال قطرب -رحمه ال تعالى":-إنما سمي القرآن قرآنًا لن القارئ
يظهره ،ويبينه ،ويلقيه من فيه أخذًا من قول العرب:ما قرأت الناقة سلى قط،
أي:ما رمت بولد) ،(873قال حميد ابن ثور:
حا ،ولم تقرأ جنيًنا ول دمًا")(874
مرا ً أراها غلماها الخلى فتشذرت
وهــــذا هــــو القــــول الشــــتقاقي الخــــامس
)القرآن:البيان ،والظهار(.
المطلب الثاني :مقتضيات مادة )القرآن( لغة:
بالعودة المتأملة إلى المقررات اللغوية في المطلب السابق يمكن
ي لها لتقترن
استخراج ذاتيات ومعطيات مادة )قرأ(؛ فما كان اختياٌر قدر ٌ
بكلم رب العالمين علمًا عليه إل لدللت تضمنتها مادتها:
فأما أوًل :فإن قاعدة التفكير في الصل اللغوي لكلمة )قرآن( هي:
) ()873التبريزي( المام الخطيب أبي زكريا يحي بن علي التبريزي )ت :(502شرح القصائد
العشر ص - 380علق عليه :السيد أحمد الخضر -مكتبة الثقافة الدينية -القاهرة .وانظر:
التقان في علوم القرآن ،1/51مرجع سابق .
()874الزاهر في معاني كلمات الناس ،1/72مرجع سابق .
305
ف مهموٌز( أ -من حيث القولن العامان :أن لفظ )قرآن( هو مصدٌر )وص ٌ
جِعل علمًا) ،(875من )قرأ( على ما ذهب إليه الجمهور ،ولكنه ُنِقل و ُ
شخصيًا على الكتاب الكريم ،ومن باب الشتراك اللفظي فإنه يطلق على
بعضه ،أو على جميعه ،وكونه صار علمًا شخصيًا هو عين ما ذهب إليه
الشافعي ومحققو الصوليين).(876
وبذا ل يتعارض القولن العامان الواردان في الصل اللغوي للفظ
)قرآن( من حيث أصل فكرتهما ،بعد سلوك هذه السبيل التوفيقية في الجمع
بينهما .
فالقرآن على وزن ُفعلن ،وزنة فعلن وردت في المصادر مثل
غفران ،وشكران ،وبهتان ،كما وردت زيادة النون في أسماء العلم ،مثل
ق منعثمان وعدنان ،وحسان .واسم )قرآن( صالح للعتبارين؛ إذ هو مشت ٌ
معنى الضم والجمع سواء كان أصل الشتقاق قراءة ،أو َقْرنًا ؛لذا اتفق
أكثر القراء على قراءة لفظ )قرآن( مهموزًا أنى وقع في التنـزيل ،ولم
يخالفهم إل ابن كثير،وحمزة وقفًا ،حيث قرآه بفتح الراء بعدها ألف وإسقاط
الهمز على تخيف المهموز ،وهي لغة حجازية ،والصل توافق القراءات
في مدلول اللفظ المختلفة قراءته) ،(877ويؤكد هذا المعنى أن المام أبا
عمرٍو المقرئ قد قرأ على ابن كثير ،فهو من جملة شيوخ أبي عمرو في
القراءات ،لكن اختياره المنقول إلى يومنا هو قراءة لفظ
)القرءان(بالهمز) …(878ومعلوٌم مكانه من النحو واللغة،كما هي في
()875المراد شبيه بالوصف ،ل أنه وصف حقيقي وذلك بمشابهة المصدر للوصف في عمل
الفعل ونحوه .
()876روح المعاني ،1/62مرجع سابق ،النبأ العظيم ص ،7مرجع سابق .
ص بالقرآن م خا ٌ)( التحرير والتنوير ،1/71مرجع سابق .وإنما مال الشافعي إلى أنه عل ٌ
877
ق لن سنده في القراءات يتصل بابن كثير -رحمه الله -انظر :الكليات ص ،720 غير مشت ٍ
مرجع سابق ،ولسان العرب ،11/78مرجع سابق .
()878خلفا ً لما نقله في لسان العرب ،11/78مرجع سابق من أنه ل يهمز…انظر:
)الشاطبي( أبو القاسم أو أبو محمد القاسم بن فيرة بن خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي
ت 590هس :حرز الماني ووجه التهاني )متن الشاطبية( ،ط 1412 ،1هس 1992 -م ،المكتبة
الثقافية -بيروت ،عند قول الناظم في فرش سورة البقرة) :ونقل )قرآن( والقرآن دواؤنا(،
وانظر) :ابن الجزري( محمد بن محمد بن محمد بن علي ت 833هس :طيبة النشر في
القراءات العشر ص ،97عند قول الناظم في باب نقل الهمز) :كيف جا القرآن دف(،
ضبطه وصححه وراجعه :محمد تميم الزعبي ،توزيع مكتبة دار الهدى ،المدينة المنورة .
306
القراء ،فلو لم يستقر عنده اتحاد المعنيين مهموًزا ،أو مخفًفا لكان أجدر أن
ينقل الوجه الذي ارتضاه شيخه .
فقد تقرر أن لفظة )قرآن( مصدٌر مشتق من )قرأ ،أو قرن( صار
علًما شخصًيا على ذلك الكتاب الكريم) ،(879وهما القولن العامان .
كما تقرر على القول الشتقاقي الول ،والثاني ،والثالث ،والرابع
أن القرآن مأخوذ في أصل معناه من الجمع والضم))(880وهو القرن( ،لكنه
ت خارجٍة من مخارجها ،تصير بضمها ص لجملة أصوا ٍجمٌع مخصو ٌ
ص من ع خا ٌ وجمعها لبعضها قرآنًا ،ويسمى النطق بها تلوة ،فهي نو ٌ
ظَهَرةُ ،مَبّينة،
القراءة ،صارت مقترنة بالقرآن ،وهذه الحرف تخرج ُم ْ
حَددة كما حددها الشارع) ،(881وهو القول الشتقاقي الخامس . ُم ْ
وبهذا يكون أصل التفكير في الصل اللغوي لكلمة )قرآن( قد اتحد،
وإن اختلفت عبارات المعبرين عنه ،وهو معنى الجمع والضم ،ولكن
بعضهم عبر عن ذلك بما يؤول إليه جمع الحروف ،وَقْرِنها ببعضها عند
نطق القارئ بها في خصوص القرآن فسماه تلوة ،وبعضهم نظر إلى أن
حروف القرآن ل تكون كذلك حال التلفظ بها إل أن تخرج محددة ُمَبّينة
ظَهرة ،فجعل الشتقاق آتيًا من ذلك .
ُم ْ
()879هاهنا إشكالن :أولهما :متعلقٌ بصحة التعبير في هذه الجملة؛ إذ ل يقال مصدٌر
مشتقٌ على مذهب البصريين السائد ،مع اتفاقهم على أن المصدر جامد ،وهو أصل
المشتقات .قال الحريري في ملحة العراب:
ومنه يصح اشتقاق الفعل والمصدر الصل وأي أصل
إل أن يراد بالشتقاق هنا معنى أعم من الشتقاق الصطلحي ،وهو رد لفظة إلى لفظة …
وثانيهما :إن قررنا أن القرآن علم فكيف يجتمع ال والعلمية في كلمة…
ويجاب عليه بأنه ل إشكال فقد قال ابن مالك :وبعض العلم عليه دخل
للمح ما قد كان عنه نقل.
فذكر ذا وحذفه كالفضل والحرث والنعمان
سيان .
انظر :نثر الورود ،89-1/88مرجع سابق .
قراءة ،والْقتراء،
()880وصرح ابن الثير في النهاية بذلك فقال" :قد تكرر في الحديث ِذكر ال َ
جمعَْته فقد قََرأَته…" ،انظر:
ل شيء َ قرآن ،والصل في هذه الّلفظة الجم ُ
ع ،وك ّ والقاِرئ ،وال ُ
)ابن الثير( المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم ابن الثير الجزري :النهاية في غريب
الثر 3/358مراجعة طاهر أحمد الزاوي +محمود محمد الطباخي1399 ،هس 1979 -م ،دار
الفكر -بيروت .
()881هذا هو أصل فكرة التوقيف .
307
ولمعرفة الصل التفكيري في اشتقاق هذه الكلمة أهمية بالغة ،كان
ما سبق أول ملمحها .
وأما ثانيًا :فإن كون الخطاب الشرعي واردًا بأصل الوضع العربي،
فتفهم مفرداته من خلل مقتضيات الدللة في اللغة العربية) ...(882يسوغ لنا
-إن لم يحتم علينا -أن ننظر في مقتضيات الدللة اللغوية لمادة )قرأ(،
ل أو إلغاء -قرين ونعتمد تلك الدللت كحقائق ما لم يخصصها -تعدي ً
شرعي .
فمن ذلك:أن كون )قرآن( قد صارت علما ً شخصيا ً يحتسسم
قراءة ألفاظها ،وفق خصوصيتها ،ول تصح فيها كسسل قسسراءة
يطلق عليها قراءة .
وأما ثالثًا :فإن كلمة )قرآن( تدل في أصل معناها على الجمع كما
سبق ،وهذا يقتضي أن تكون الحروف مجموعة في كلمتها حال النطق ،فل
ل عن قرينه في الكلمة ذاتها ،كما ل يجوز نطق كل حرف في الكلمة مستق ً
حّدد هذا القدَر التلقي ُ
ن بد من قدر من اجتماع الكلمات أثناء التلوة ،وُي َ
الشرعي الذي هو أساس الداء القرائي ،وُيْبنى على هذا أن قراءة القرآن
حرفًا حرفًا -على معنى الحرف الهجائي -أي لكل حرف على حدة باطلة،
وكذا القراءة لكل كلمة على حدة باطلة -من حيث هي قراءٌة للقرآن -إل أن
تصح لصارف خارجي)(883؛ إذ ل يسمى ذلك قرآنًا لمنافاته المقتضى
اللغوي لمادة )قرآن( .وصرح بما يشبه هذه النكتة المام التفتازاني –رحمه
ال تعالى -فقال" :يدخل في الحد –يعني تعريف القرآن– الحرف ،أو الكلمة،
ول يسمى قرآنًا في عرف الشيوع") ،(884ذلك بأنه لم يجمع إلى غيره .
()882انظر :الموافقات في أصول الشريعة ،89/ 2مرجع سابق ،عند الكلم على مقاصد
الشريعة في وضع الشريعة للفهام .
ن"الرحمن ،"64/والمراد بالكلمة هاهنا: مَتا ِ
ها ّ )( كأن تكون الكلمة آية بأكملها ُ
مد ْ َ 883
308
ومن جهٍة أخرى فإن لفظة الجمع ،ومعنى )الجامع( و)المجموع(
على ما تقرر سابقًا يقتضي بطلن قراءة اليات أو الكلمات معكوسة
حروفها إذ لم تنـزل -من حيث هي قرآن -إل بهذه الهيئة المعينة من الجمع
فجمعها على غير ذلك مبطل لكونها قرآنًا ،وجاز تقديم بعض السور على
بعض لنها قد ُأنزلت كذلك مقدمًا بعضها على بعض ،ثم ُتلقيت عن الرسول
ل ،بخلف اليات أو الكلمات . مع جواز تقديم بعضها على بعض نق ً
وأما رابعًا :فإن قراءة القرآن غير كائنٍة في حقيقتها قراءة للقرآن إل
إذا اقترنت باللفظ …وذا يستلزم الصوت ،فكان لبد من الصوت في قراءة
خَذ هذا المسَتْنَتج مما أورده ابن منظور القرآن سواء كان خفيًا أو جهريًا .وُأ ِ
في لسان العرب ،حيث قال" :معنى قرأت القرآن :لفظت به مجموعًا أي
ألقيته").(885
وأما خامسًا :فالقراءة الحقيقية للقرآن من حيث هي قراءٌة للقرآن هي
عا ،ول يرد على هذا الصل ورود التي يكون الصوت فيها مجهوًرا مسمو ً
القراءة السرية في الشرع؛ ذلك أنه ل إشكال في تسميتها قراءة ،لكن ل
يطلق عليها هذا الطلق إل وهي مقيدة به ،أما مطلق القراءة دون قيد
فتصرف إلى القراءة المجهور بها ،ويدل على هذا الصل حديث ابن عباس
قال :قرأ النبي فيما ُأِمر ،وسكت فيما ُأِمر
في م ِن ل َك ُ ْ
كا َ سّيا" مريم "64 /ل َ َ
قدْ َ ك نَ ِن َرب ّ َ ما َ
كا َ َ …
و َ
وة ٌ رسول الل ّ ُ
س َ
هأ ِْ َ ُ ِ
سن ٌَة…" الحزاب ،"21 /وأوله) :سمع قومًا يتقارؤون() ،(886معناه:أنهح َ
َ
سِمُع نفسه قراءته ،وقال ابن منظور":كأنه رأى
كان ل يجهر فيها ،أو ل ُي ْ
قومًا يقرؤون فيسمعون نفوسهم ومن قرب منهم").(887
( )885لسان العرب ،22/78مرجع سابق ،وفي 11/80منه" :قال أبو إسحاق النحوي:
مجموعا ً " . وقرأت القرآن لفظت به
()886صحيح البخاري ،1/268مرجع سابق ،والذي عند ابن منظور لفظه) :كان ل يقرأ في
الظهر والعصر( .
()887لسان العرب ،11/79مرجع سابق ،وهو ما قرره ابن الثير في معناها ،انظر النهاية
،3/123مرجع سابق .
309
فأشعر الكلم بمنطوقه أن المخافتة في قراءة القرآن ليست هي
الصل ،بل تكون مقيدة بالمخافتة عند طلبها لتكون كذلك…ويبقى هذا
الستنتاج بحاجة إلى غربلة وقوة بحث ليكون كسابقيه) ،(888من حيث قوة
الثبوت).(889
وأما سادسًا :فمن المقتضيات اللغوية الهامة لمادة قرأ من حيث هي
متعلقة بألفاظ القرآن الكريم :حتمية البيان ليعتد بالخارج من الفم قرآنًا ،فل
يكفي اللفظ )مجرد التصويت( حتى يقترن بالبيان في القراءة ،وهذا يستفاد
ل من قول ابن عباس في قوله لغًة من القول الشتقاقي الخامس ،ونق ً
قْرآن َُهع ُ قَرأ َْناهُ َ
فات ّب ِ ْ ذا َ َ
فإ ِ َ
890
"القيامة" :" 18/فإذا بيناه لك بالقراءة فاعمل بما بيناه لك") ( .
ت ذاتية ،أي ج وصفا ٌ ن للتجويد من حيث أنه مخار ٌ وهذا تقعيٌد حس ٌ
من حيث إعطاء الحرف حقه ،كما أنه رافد لقتضاء لفظة )القرآن( ذاتيًا
لداء محدد من قبل الشارع ،وقد تظاهرت عبارات أهل العلم على دللة
لفظ )القرآن( على هذا المعنى ،فأورد ابن القيم -رحمه ال تعالى -ذلك في
الفوائد المشّوق إلى علوم القرآن) ،(891وقال في زاد المعاد" :وأما المهموز
-عنى مادة قرأ -فإنه من الظهور والخروج على وجه التوقيت والتحديد،
ومنه قراءة القرآن؛ لن قارئه يظهره ويخرجه مقداًرا محدودًا ل يزيد ول
ه" القيامة/ قْرآن َ ُو ُه َ
ع ُ
م َ عل َي َْنا َ
ج ْ ن َ ينقص ،ويدل عليه قوله إ ِ ّ
ضا ،ثم ،"17ففرق بين الجمع والقرآن ،ولو كان واحًدا لكان تكريًرا مح ً
310
–رحمه استدل بقول ابن عباس السابق) ،(892وهو الذي ختم عليه اللوسي
ظَهر
ال تعالى -بطابع التصديق ،فقال" :فمعنى القرآن :المقروء المتلو ،أو الُم ْ
الُمْبَرز") ،(893وقرره في )نثر الورود( بنحو هذه العبارة).(894
سا :فإن القراءة تستلزم حبس النفس ،ورياضة الفك ،قال وأما ساد ً
أبوعمرو ابن العلء -رحمه ال تعالى" :-دفع فلن جاريته ُتَقّرُئها :أي تمسكها
حتى يتحقق الستبراء"). (895
وقبل النتقال إلى التعريف الصطلحي للقرآن الكريم ،فإن الناظر
فيما سبق يتضح له سبب الختيار القدري والشرعي للفظة )قرآن( لتقترن
؛ إذ كان بسبب تضمنها لمقتضيات ذاتية تجعل لفظها وهيئة أداء بكلم ال
بتعليمه للنبي بأمر من ال ،ل هذا اللفظ توقيفية ،وهو ما قام جبريل
فرق في ذلك بين أصل اللفظ ،ول هيئة أدائه ،وقد رأيت أن أول أدلة ذلك
هو المقتضيات اللغوية للفظة )قرآن( .
) ()892ابن القيم( شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر :زاد المعاد في هدي خير
المعاد ،5/635حقق نصوصه وخرج أحاديثه ،وعلق عليه :شعيب الرنؤوط ،وعبد القادر
ظ أنه عتب على أبي ح ُ
الرنؤوط ،ط 1405 ،8هس –1985م ،مؤسسة الرسالة ،بيروت .وُيل َ
عبيدة -قال " :-لزعمه أن القرآن مشتقٌ من الجمع" ،ول عتب على أبي عبيدة ول ملمة؛ إذ
إن تفريق ابن القيم بين )قرى( المعتل و)قرأ( المهموز فيه نظر؛ فإن ابن فارس قد قال بعد
كلمه عن المعتل" :فإذا همز هذا الباب فهو والول سواء" .انظر :معجم المقاييس ،2/78
-رحمه الله تعالى -من حيث هو فارس مرجع سابق،ول شك في تقديم كلم ابن فارس
هذا الميدان في هذا الشأن .
()893روح المعاني ،1/88مرجع سابق .
()894انظر نثر الورود ،1/89 :مرجع سابق .
()895لسان العرب ،11/81مرجع سابق .
311
المبحث الثاني:
"القرآن" في الوضع الصطلحي ،ومقتضياته:
يرمي هذا المبحث إلى بيان المراد بالقرآن من حيث الوضع
الصطلحي ،ومقتضيات ذلك من حيث ألفاظه تحديدًا وتبيينًا لهيئة
القراءة…وفيه ثلثة مطالب:
المطلب الول :بواعث تعريف القرآن اصطلحًا .
المطلب الثاني :أقوال العلماء في الوضع الصطلحي لكلمة )قرآن( .
المطلب الثسالث :إشسارات عامسة حسول علقسة التعريسف
الصطلحي بألفاظ القرآن الكريم.
المطلب الول :بواعث تعريف القرآن اصطلحًا:
تناول العلماء تعريف القرآن ل بسبب الجهل به ،أو عدم وضوحه
للناس ،بل لمور:
أولها :ضبط ما تعبد به تلوًة .
ثانيها :ضبط ما تجوز به الصلة وأقله ،وما ل تجزئ قراءته فيها .
ثالثها :ضبط الدلة الشرعية الكلية ،والتفصيلية التي يستدل بها على
مواضعها من علوم الشرع ،وجزئيات الحياة العلمية ،والعملية .
رابعها :تحديد القطعي ثبوتًا ودللة ،وغيره من الوحي المنـَزل لُيْبنى
عليه تفصيلت الجتهاد العلمي ،وطرائق التعادل والترجيح .
خامسها :بيان الحدود التي أذن للعقل البشري التصرف فيها من
لفظة بحسب ما أنزل وجوًبا أو جواًزا ،إلزاًما أو اختياًرا)(896في مادة اللفظ
القرآني وهيئته الصوتية .
سادسها :بيان ما ُيَكّفر به جاحده من لفظه ،وما ل يكفر بجحده .
سابعها :تحديد المعجز من لفظه ومعناه ،وغيره؛ إذ هو المعجزة
التي لم تزل حجة قائمة على العباد إلى قيام الساعة).(897
()896وجوبًا :كأداء لفظ السور في هيكله الصوتي الصلي ،وجوازا ً كالختيار بين التيان
بالبسملة أو عدمها ،إلزاما ً كالتزام مد تقوم به ذات الحرف في المد الصلي ،وإل أخل
بطبيعة الحرف ،واختيارا ً كاختيار أحد القراءات لداء لفظ القرآن أو أحد الوجه من ثلثة
العارض للسكون مثل ً .
()897أشار إلى بعض هذا صاحب التفسير المنير ،1/14لكن بغير هذا البيان ،انظر :د .وهبة
الزحيلي :التفسير المنير ،ط ،1دار الفكر .
312
ولشهرة القرآن الكريم ،ووضوح حدوده اللفظية الظاهرة لعامة
الناس؛ فقد رأى البعض أنه من غير المستساغ اللهث وراء الحدود المنطقية
لتبيان الماهية ،أو المميزات الشخصية في القرآن للجمهور ،ولذا يكفي
للتعريف بالقرآن آنئذ أن يقال :هذا المصحف ،أو أن يقال :القرآن الكريم
هو القرآن الكريم…حذَو كل الواضحات التي يزيدها التعريف خفاء ،والحد
حّده البعض حّده) ،(898و َسا ،ولذا أعرض البعض عن تعريفه أو َ المنطقي إلبا ً
ل عن الجمهور إل زيادة التأكيد على بما ل حاصل تحته للمتخصص فض ً
899
المعنى الذي يتبادر إلى ذهن المسلم فور سماعه لفظ )قرآن() ( ،لكنه
يستدرك على هذا الرأي :بأن هذه الدراسة ترتبط ارتباطًا ل يخفى بمسألة
تعريف القرآن الكريم من حيث معالجتها المتخصصة لقضايا مصادره
اللفظية ،وهيئات أدائها عند هذه المصادر ،ومن ثم وجب أن يسير البحث
في سبيل التعريف بالحدود المنطقية دون إيغال…حتى يتحقق المراد،
وتنجلي الهداف المستقرأة من ذكر علماء علوم القرآن وأصول الفقه
للتعريف المنطقي للقرآن الكريم) (900المحدد لماهيته ،ولذا فإن الطبيعة
العلمية للبحوث بصفة عامة ،والمنهجية لهذا البحث بصفة خاصة تفرض
حّلل وُتَنّقح ،ثم
أن تذكر أقوال العلماء السابقين في المسألة مناط البحث ،ثم ُت َ
تحقق .
المطلب الثاني :أقوال العلماء في الوضع الصطلحي لكلمة
)قرآن(:
ويتضمن هذا المطلب بعض الشارات التفصيلية لعلقة التعريف
الصطلحي بألفاظ القرآن الكريم ،وذلك فيما يلي:
عرف المام الغزالي -رحمه ال تعالى -القرآن الكريم بقوله :ما نقل إلينا
ل متواتًرا). (901
بين دفتي المصحف على الحرف السبعة المشهورة نق ً
شرح التعريف :ما :اسم موصول بمعنى الذي .
()898انظر الدراسات القرآنية المتكاثرة حول القرآن الكريم التي لم ت ُِعر الحد المنطقي
ل… وفي مقدمتها :تفسير الطبري ،1/40مرجع سابق؛ إذ اكتفى بتأويل للقرآن الكريم با ً
اسم القرآن من حيث اللغة .
()899كما عرفه أبو زهرة في كتاب أصول الفقه ص - 30والصل في هذا الكتاب ونحوه أنه
كتاب متخصص -بقوله" :هذا الكتاب الذي نزل على النبي ."تأليف :محمد أبو زهرة:
أصول الفقه ،دار الفكر العربي .
()900سبق الشارة إليها آنفا ً .
313
النقل :هو تحويل الشيء من موضع إلى موضع)،(902
وهو مطلق فيشمل النقل بالشفاه ،والنقل بالكتابة ،وإليه يشير تسمية القرآن
باسم القرآن ،وباسم الكتاب ،ولكن النقل بالشفاه هو المراد الول من النقل
هنا ،وقد يعبر عنه بالسند القرائي ،وعلى هذا فالمشافهة هي سبيل إقراء
القرآن ،وفي تحليل آيات سورة القيامة –كما تقدم-يتضح أن هذا المعنى هو
السبيل الوحيد الذي قرأ به النبي على جبريـل.
الدفتان :الّدف والدفة :الجنب من كل شيء بالفتح ل غير،
والجمع دفوف ،ودفتا الرحل والسرج والمصحف :جانباه وضمامتاه)،(903
ويقال :بات يتقلب على دفيه ،وعلى دفتيه ،وهما جانباه ،ومنه :رماك ال
بذات الدف :أي ذات الجنب).(904
المصحف :هو الجامع للصحف المكتوبة بين الدفتين ،كأنما
ُأصحف أي جعل جامعًا للصحف المكتوبة بين الدفتين .قال أبو عبيدة:
"تميم تكسر الميم ،وقيس تضمها ،ولم يذكر من يفتحها"). (905
والصحف :جمع صحيفة وهي :التي يكتب فيها ،وتجمع
على صحائف وصحف أيضًا .وتخالف الورقة في أنها وجه؛ ولذا
قيل فيها هي ما أقبل عليه منه ،وجعل الزمخشري –رحمه ال تعالى-من
المجاز قولهم :صن صحيفة وجهك).(906
والفرق بين المصحف والكتاب :استلزام المصحف للدفتين ،بخلف
الكتاب فهو حقيقة لغوية صادقة على كل ما يكتب فيه صفحة كان أو أكثر؛
) ()901الغزالي( حجة السلم أبو حامد محمد بن محمد الغزالي :المستصفى من علم
الصول ،1/101دار الفكر -بيروت .
وهذا الحد هو الحد ذاته الذي أورده صدر الشريعة في التنقيح ،1/46بيد أنه لم يذكر قيد
)على الحرف السبعة المشهورة( ،وهذا الخير هو عين التعريف الذي أورده )ابن قدامة(
موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي الدمشقي )ت 620هس(:
روضة الناظر وجنة المناظر ،مكتبة المعارف – الرياض .وهو قريب من تعريف التفتازاني
التي ،وهو التعريف الرابع عند )الشوكاني( محمد بن علي بن محمد )ت 1255هس( :إرشاد
الفحول إلى تحقيق الحق من علم الصول ص - 26دار المعرفة -بيروت .
()902لسان العرب ،14/246مرجع سابق .
()903والضمامة :ما تضم به شيئا ً إلى شيء .انظر :لسان العرب ،8/88مرجع سابق .
()904لسان العرب ،4/374مرجع سابق ،وجعل الزمخشري -رحمه الله تعالى) -دفتي
فا ،أو غيره ،فهو فيه حقيقة
المصحف( من المجاز ،مع أن الدف الجنب من كل شيء مصح ً
لغوية ،ل مجاز مستعمل ،انظر) :الزمخشري( جار الله أبي القاسم محمود بن عمر :أساس
البلغة ص ،190دار الفكر بيروت 1994-1415م .
()905لسان العرب ،7/291مرجع سابق .
()906أساس علم البلغة ص ،349مرجع سابق .
314
ولذا قال أبو عمرو ابن العلء":قال بعض العرب –وذكر إنسانًا :-فلن
لعوب ،جاءته كتابي فاحتقرها؟ فقلت :أتقول جاءته؟ قال:نعم! أليس
بصحيفة؟"). (907
فقد استبان أن لفظة )المصحف( عربية صريحة).(908
على الحرف السبعة المشهورة :عنى الحرف المذكورة
في حديث )أقرأني جبريل على حرف فلم أزل استزيده حتى أقرأني مع
سبعة أحرف( .
متواترًا :التواتر هو الخبر الثابت على ألسنة قوم ل
يتصور تواطؤهم على الكذب) .(909وخرج به ما نقل بطريق الحاد كقراءة
ابن مسعود( والذكر والنثى( ،أو بطريق الشهرة العرفية كقراءة
ابن مسعود ( فاقطعوا أيمانهما( وقد خرجتا بما سبق من قيد،
لكن استلزام مساواة المعّرف للمعّرف أوجب إيراده .
عُتِرض على ذلك بأن علماء الصول خاصة قد اعتدوا فإذا ا ْ
بتعريف الكتاب ل القرآن ،فهل من فرق؟.
فُيجاب :ل فرق ،إنما هو تقليٌد درجوا عليه ،فبعضهم ُيَعّرف
الكتاب تعريفًا لفظيًا بالقرآن ،ثم ُيَعّرف القرآن بعد؛ من باب تعريف الشيء
بما هو أشهر منه) ،(910وبعضهم يجعل تعريف الكتاب هو القرآن و ما
بعده؛ لن القرآن علم أشهر من الكتاب .
وبناًء على ذلك :فهل يجوز إطلق لفظ القرآن أو الكتاب علمًا على
غير الكتاب الكريم؟ .
315
أما مطلقًا فل يجوز…ولذا يظهر نوع حصٍر أظهره القصر) (911في
ب" البقرة "2/؛ إذ تعريف الطرفين مفيٌد للقصر، ك ال ْك َِتا ُ
قوله ذ َل ِ َ
لكأنه قال :ذلك الكتاب الكامل الحقيق بأن يخص به اسم الكتاب لغاية تفوقه
على بقية الفراد في حيازة كمالت الجنس). (912
ي أوحالي) (913فجائز… -أما إطلق لفظة )الكتاب( مقيدًة بقيٍد لفظ ٍ
وقول ابن منظور" :إذا أطلق الكتاب فالمراد به التوراة لقوله تعالى…
ُ
وَراءَ ب الل ّ ِ
ه َ ن أوُتوا ال ْك َِتا َ
ب ك َِتا َ ن ال ّ ِ
ذي َ م ْ
ق ِ
ري ٌ ف ِن َب َذَ َ
م…" البقرة ُ (914)""101/يصَرف إلى إرادة نطق لفظة ه ْ
ر ِهو ِظُ ُ
ي ،هو كلم المسلمين عن غير المسلمين…أو نحو )كتاب( مقيدًة بقيٍد حال ٍ
ذلك من القيد الحالي .
ق على كل ما كتب فيه ،ثم صار علمًا فالكتاب من حيث الصل صاد ٌ
شخصيًا حال الطلق على القرآن الكريم ،ولذا قال أبو البقاء":والكتاب قد
غلب في العرف العام على جمع من الكلمات المنفردة بالتدوين ")،(915
فإيقاع اللبس مانع من إطلق الكتاب على غير القرآن إل بقرينة مذكورة أو
مقدرة .فإن كان هذا في الكتاب ،فهو في القرآن أولى بالتفصيل ذاته .
إيرادات على التعريف:
ل :العلمة أحمد الدمنهوري: ()911في تعريف )القصر( في علم المعاني وطرقه ،انظر مث ً
حلية اللب المصون ،104مكتبة اليمن الكبرى -صنعاء ،الطبعة لم تذكر .
()912روح المعاني ،1/174مرجع سابق ،وما بعدها .
()913كنحاة يذكرون الكتاب ،عنوا به "كتاب سيبويه" .
()914لسان العرب ،12/23مرجع سابق .
()915الكليات ص ،610مرجع سابق .
316
عُتِرض على التعريف السابق بأنه :يلزمه الدور) ،(916لنه فإن ا ْ
عّرف القرآن بما نقل في المصحف ،فإذا سئل عن المصحف قالوا هو َ
القرآن ،فتوقف المعّرف على المعّرف ،وهو الدور ذاته).(917
والجواب :ل دور…ذلك لن المصحف معلوم عرفًا ،فل يحتاج إلى
تعريف .وقال التفتازاني -رحمه ال تعالى" :-معرفة المصحف إنما تتوقف
على القرآن ،بمعنى المجموع المشخص ،وهو معلوٌم معهوٌد بين الناس
يحفظونه ويتدارسونه ،فل يشتبه عليهم فل دو") ،(918ويمكن القول بأن
اللم في )المصاحف( للجنس ،ول يضر تعميمه لغير القرآن ،لن القيد
الخير يخرجه للعهد ،والمعهود مصاحف القراء).(919
وقال ابن قدامة" :وقيدناه بالمصاحف لن الصحابة -رضي ال عنهم-
بالغوا في نقله ،وتجريده عما سواه ،حتى كرهوا التعاشير والنقط لكيل
يختلط بغيره ،فنعلم أن المكتوب في المصاحف هو القرآن ،وما خرج منه
فليس منه؛ إذ يستحيل في العرف والعادة مع توفر الدواعي على حفظ
القرآن أن ُيْهَمل بعضه ،فل ينقل ،أو يخلط ما ليس منه").(920
عُتِرض بالقول :لم اقتصر على ذكر النقل في المصاحف تواترًا فإن ا ْ
دون غير ذلك من الخصائص؟ .
ح ،ومضمر ،والفرق ()916الدور هو :توقف الشيء على ما يتوقف عليه ،وهو نوعان :مصر ٌ
بين الدور ،وبين تعريف الشيء بنفسه هو :أنه في الدور يلزم تقدمه عليها بمرتين إن كان
صريحًا ،وفي تعريف الشيء بنفسه يلزم تقدمه على نفسه بمرتبة واحدة .انظر :التعريفات
ص ،140مرجع سابق .
()917أورد هذا العتراض اللوسي -رحمه الله تعالى -في روح المعاني ،20-1/19مرجع
سابق ،إرشاد الفحول ص 26مرجع سابق) ،المحبوبي( عبد الله بن مسعود المحبوبي
البخاري الحنفي :التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه ،1/46 ،ضبطه وخرج آياته
وأحاديثه :الشيخ زكريا عميرات ،ط 1996 -1416 ،1م ،دار الكتب العلمية -بيروت،
)المهدي( أحمد بن يحي بن المرتضى ) 764هس -ت 840هس( :منهاج الوصول إلى معيار
العقول في علم الصول ط 1412 1هس 1992 -م ،دار الحكمة اليمانية -صنعاء) ،الطبري
الزيدي( علي بن صلح بن علي بن محمد :شفاء غليل السائل عما تحمله الكافل ط ،1
1408هس – 1988م ،مكتبة اليمن الكبرى – صنعاء .
()918شرح التلويح 1/46مرجع سابق .
) ()919ملجيون( أحمد بن أبي سعيد بن عبيد الله الحنفي الصديقي الميهوي )ت 1130هس(:
نور النوار وبهامشه كشف السرار ،1/18ط 1406 1هس1986 -م ،دار الكتب العلمية –
بيروت .
()920روضة الناظر ،1/43مرجع سابق .
317
فالجواب :لن ذلك لحصول الحتراز به عن جميع ما عدا القرآن؛ إذ
سائر الكتب السماوية وغيرها ،والحاديث اللهية والنبوية) (921لم ينقل منها
شيٌء بين دفتي المصاحف؛ لنها أسم لهذا المعهود عند الناس حتى
الصبيان). (922
فإن سئل عن هذا التعريف :هل هو حد أم رسم؟ .
فالجواب :قد كاد منظرو المناطقة أن يجمعوا على أن تعريف القرآن
ل يكون إل رسمًا ،ويتعذر حده؛ لنه علم شخص فيمكن تشخيصه ببيان
سماته المميزة ل ببيان ذاتياته) .(923ولذا ل سبيل إلى حده على طريقة
الحدود المنطقية إل بالشارة إليه ،أو باستحضاره معهودًا في الذهن ،فيقال
القرآن :هو هذا ،أو يقال :القرآن هو بسم ال الرحمن الرحيم الحمد ل…إلى
أن يصل إلى الجنة والناس ،فما يعرفه العلماء به إنما هو رسم) (924ل حد .
وقد جرى على التعريف السابق ثلٌة من العلماء ،وعليه دارت
عباراتهم ،وثم تعاريف أخر ارتضاها ثلة أخرى من العلماء ،ولكن أشهر
ف يغاير التعريف السابق في صيغته هو تعريف المام الطبري الزيدي تعري ٍ
()921ومنسوخ التلوة على قول من يثبه .
) ()922السنوي( جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن الشافعي :نهاية السول في شرح
منهاج الصول - 2/3للقاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي ،عالم الكتب .
()923سبب كونه علما ً شخصيا ً أحد أمرين :إما لن جبريل نزل به مشخصًا ،وإما لنه
عبارة عن هذه الكلمات المركبة تركيبا ً خاصًا ،سواء قرأه جبريلأو زيد أو عمرو،
والمركب تركيبا ً خاصا ً كالعلم الشاخص .انظر شرح التلويح ،1/46مرجع سابق .
()924الرسم :هو الذي لم يشتمل التعريف فيه على شيء من الذاتيات ،أو اشتمل على شيء ولكن لم
يكن به فصل الشيء المعّرف ،وتمييزه عن غيره ،وإنما اشتمل على عرضيات بها كان تعريف
الشيء وتمييزه عن كل ما سواه ،وينقسم إلى :رسٍم تام :وهو ما كان تعريفًا للشيء بذكر جنسه
القريب مع خاصته اللزمة الشاملة ،ورسم ناقص :وهو ما كان تعريفًا للشيء بذكر خاصته اللزمة
الشاملة وحدها .
تعريف الحد :هو الذي يشتمل على الذاتيات ،ويكون شرح المفرد التصوري بها ،وينقسم
إلى :حٍد تام :وهو ما كان تعريفًا للشيء بذكر تمام ذاتياته ،أي بذكر جنسه وفصله القريبين،وحٍد
سمي الحد حدًاناقص :وهو ما كان تعريفًا للشيء بذكر البعض الذي بفصله عن غيره من ذاتياته ،و ُ
لن الحد في اللغة المنع ،والحد المنطقي يمنع من دخول غيره فيه .انظر :ضوابط المعرفة ص
،143مرجع سابق ،وانظر :جمال الدين الحسن بن الحسين بن القاسم بن محمد :شرح التهذيب في
علم المنطق ص 40مع الحاشية ،ط 1405 ،1هـ – 1985م ،مركز الدراسات والبحوث – صنعاء .
318
في شرح الكافل؛ إذ قال :هو الكلم المنـزل على نبينا محمد للعجاز
بسورة منه). (925
شرح التعريف :الكلم :جنس دخل فيه سائر الكلم .
المنـزل :فصل أول ،خرج به الكلم
غير المنسزل في السماء كالباقي في اللسسوح المحفسسوظ ،أو
كلم الملئكسسة ،أوفسسي الرض ككلم النسساس ،أو الحسساديث
النبوية على القول بأن لفظها لم ينسزل ،وكذا خسسرج الكلم
النفسي عند القائلين به .
ويجوز في هذه اللفظة )المنـزل( التخفيف أي المنـزل دفعة واحدة؛لن
ل ،ويجوز القرآن نزل دفعة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا أو ً
أن يقرأ مشددًا على أن نزوله في الواقع قطعًا قطعا ،في أزمنة مختلفة مدة
النبوة). (926
وقد يعترض بأن :اللفاظ ل تنـزل؟ .
فالجواب :ل تقبل اللفاظ حقيقة النـزول حسًا ،ولكن المراد المجاز
الصوري)(927؛ لنه نزل بها روح القدس بالحق من ربك .
على نبينا محمد :خرج ما نزل على غيره النبياء والتوراة
والنجيل .
()925انظر شفاء غليل السائل ،1/30مرجع سابق ،وعلى هذا التعريف دارت عبارات جماعة
من العلماء فهو التعريف الذي أورده المام المهدي في معيار العقول وشرحه ص ،239
مرجع سابق ،وهو الذي أورده المام الزركشي في البحر إل أنه قال" :بآية منه" ،ولم يذكر
لفظ )نبينا( ،وزاد المتعبد بتلوته ،وهو الذي أورده الحسين بن أمير المؤمنين المنصور بالله
القاسم بن محمد في هداية العقول إلى غاية السؤل في علم الصول ،432/ 1إل أنه قال:
"بسورة من جنسه" ،وهو الذي أورده صاحب مراقي السعود في منظومته ،إل أنه قال :لف ٌ
ظ
ل على محمد…لجل العجاز وللتعبد ،انظر :نثر الورود ،1/90مرجع سابق ،وهو منسز ٌ
تعريف )السنوي( جمال الدين عبد الرحيم ابن الحسين السنوي ) 704هس 772 -هس( :زوائد
الصول ص ،202ط 1993 -1413 1م ،دراسة وتحقيق :محمد سنان سيف الجللي ،مكتبة
الجيل الجديد-صنعاء .
()926نور النوار ،1/18مرجع سابق .
) ()927الزركشي( بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الشافعي :البحر المحيط ،440 /1
قام بتحريره عبد القادر عبد الله العاني ،راجعه :د .عمر سليمان الشقر -ط 1413 ،2هس –
1992م ،دار الصفوة .
319
للعجاز بسورٍة منه :خرج ما نزل عليه ل
للعجاز،كالحاديث النبوية والقدسية ،وقال البعض :بآية منه بدل بسورة
منه لن مقتضى قوله تعالىْ َ
ه…" الطور"34/ مث ْل ِ ِ
ث ِ
دي ٍ فل ْي َأُتوا ب ِ َ
ح ِ
حاكٌم بأن التحدي واقع بأقل من السورة) ،(928لكن الخطاب هاهنا محمو ٌ
ل
ث إما عوض عن كلمة، دي ٍ ح ِعلى العرف ،فالتنوين في قوله ب ِ َ
أو جملة أي بحديث يصح أن يسمى حديثًا ،أو حديث معهود بينكم تسميته
حديثًا؛ إذ ل إعجاز بالكلمتين يقينيًا مع صحة إطلق لفظة حديث عليه،
فتحصل أن مقتضى الية ما يصح تسميته حديثًا كانت آية أو أكثر صدق
عليها ذا اللفظ .كما أوردوا هذا القيد "سورة" لدفع إيهام أن العجاز بكل
القرآن فقط). (929
عُتِرض بأن :العجاز ليس من خصائص المعرف لنه علمة فإن ا ْ
على صدق الرسول ل على كون هذا الكلم من عند ال ؛ إذ يتصور
العجاز بما ليس بكتاب ال. (930)
فالجواب :ظاهٌر أنه ل يكون علمة على صدق الرسول إل لكونه
من عند ال؛ إذ هذه خاصة العجاز فيه ،وبيان هذا أن يقال :قد ادعى
الرسول أن علمة صدق كون هذا الكلم من عند ال ،وبرهانه
عجز العالمين عن معارضته ،فصحت الدعوى ،ولم يكن القرآن علمة
على صدقه إل لكونه من عند ال ،فالعجاز دال على خاصة هي أهم
ح فيخصائص القرآن ،وكون العجاز قد يحصل من غير القرآن غير قاد ٍ
()928هكذا جاء في :الحسين بن أمير المؤمنين المنصور بالله القاسم بن محمد ،حواشي
هداية العقول إلى غاية السؤل في علم الصول - 1/431لم تذكر بقية المعلومات .
ص يتضمن آيات قرآنا ً م من أوله وآخره توقيفا ً مسم ً
ى باسم ٍ خا ٍ م مترج ٌ
)( السورة ":كل ٌ
929
كان أو غيره" فخرجت آية الكرسي بقوله يتضمن آيات ،ويندفع ما قيل بأن السورة موقوفة
على معرفة القرآن فيدور؛ إذ السورة عامة ،وقد ذكر في الكشاف أن في النجيل سورة
المثال ،انظر :شفاء الغليل ،1/30مرجع سابق ،كذا قال وهو ناقل عن شرح غاية السؤل
،1/433لكن آية الكرسي قد اختلف في عدها إذ من علماء العدد من عدها آيتين ،وهو العدد
المكي ،فتخرج على كلمه بشرط إرادة الجمع الحقيقي في قوله "آيات" . .ويمكن اختصار
ذلك بأن الحديث المراد السورة العرفية ،فل دور .
()930هذا إيراد الغزالي على التعريف في المستصفى ،1/101مرجع سابق .
320
كون العجاز صفة ذاتية للقرآن ،إذ الشتراك العام ل ينفي الخصوصية
الذاتية ،ومن أجل ذلك جيء بالجنس ،ثم الفصل في التعريفات .
931
عُتِرض :بأن التعريف إنما يكون بالجلى ل بالخفى) (، فإن ا ْ
ويخفى على العامة معرفة كونه معجزًا ،فتطرح هذه الصفة من
التعريف). (932
فالجواب :بل العجاز من أوضح خصائص القرآن التي يجب أل
يعرى تعريف القرآن عنها؛ ذلك لن كون القرآن معجزًا إما لزم بين
بالمعنى العم؛إذ من تعقل القرآن علم لزوم العجاز له قطعًا ،أو لزم بين
المعنى الخص؛ إذ من تعقل حقيقة العجاز علم لزوم العجاز للقرآن
قطعًا) ،(933فهذا أقل أحواله ،وتمام هذا القول أن يقال :يوضح ذلك أن
التحدي لعموم الثقلين ل استثناء فيه فقد صار عامًا ل خاصًا ،فيكون من
لوازمه التي يعرفه بها من بعد ومن قرب .
ربط ما سبق بموضوع البحث:
وإنما كانت هذه الطالة في مناقشة ذاتية وصف العجاز للقرآن،
ليعلم منه أن النقل بالمشافهة في أداء لفظ القرآن أحق بتثبيت كونه ذاتيًا
للقرآن ،إذ هو متفق عليه بين العلماء ،بل ُيْذَكُر في أول التعريف ،ولن هذه
بدهية عند العلماء ،بل عند عامة المسلمين ،فإن المراد هو تثبيت مقتضياتها
من دخول النقل في أصل اللفظ ،وهيئة
أدائه…وهو ما يتجلى أكثر بدراسة كيفية تعليم جبريل للنبي ألفاظ
القرآن ،وتلقي النبي لها .
()931انظر شرح التهذيبص ،43وقد أصر على هذا اليراد اللوسي -رحمه الله تعالى -في
روح المعاني . 1/30
()932انظر :شرح الغاية ،433 /1مرجع سابق ،شفاء الغليل ،1/30مرجع سابق .
()933انظر :هداية العقول ،1/433مرجع سابق ،شرح الكافل ،1/30مرجع سابق .
321
فهذان هما التعريفان المشتهران عند العلماء…) ،(934ويمكن
الستدراك على ما سبق من كلٍم بالتي:
-1لبد في التعريف من مساواة المعّرف للمعّرف ،ول مساواة هنا؛ إذ ثم
خصائص للقرآن بارزة لم تذكر فيه،فقد أغفل البعض بيان الغاية من إنزال
عَلىالقرآن بشكل صريح ،مع أنه قد جاء صريحًا في قوله تعالىَ :
ن " الشعراء "194/؛ إذ قدم بيان الغاية من
ري َذ ِ
من ِن ال ْ ُ
م ْ
ن ِ
كو َ قل ْب ِ َ
ك ل ِت َ ُ َ
إنزال القرآن على اللسان الذي نزل به ،وهو دال على العتناء به ،وقد يقال
قد أشير إلى ذلك ضمنًا في قولهم للعجاز ،أو أن هذه غاية وهم يتكلمون
عن العراض الذاتية في التعريف ،وذا الخير مستبعد إذ يرد عليه إيراد
غير العراض الذاتية كما هو واضح ،كما يرد عليه عدم التسليم بأن
ق عن السترسال في ذا المجال . النذار ليس عرضًا ذاتيًا…والمر ضائ ٌ
وكما أغفل البعض الغاية التي يحملها القرآن في ذاته ،وهي جعل
الرسول من المنذرين ،فقد أغفل البعض وسيلتها ،وهي التدبر وكلهما
صفتان ذاتيتان للقرآن). (935
322
-2لم يستبن من التعريف كيفية قراءة هيئات اللفظ القرآني؛ إذ ل ُيْلَمح من
ف الفرق بينهما؛ إذ المادة)(936
التعريف إل مادة اللفظ ل هيئته ،وغير خا ٍ
هي جوهر اللفظ المحسوس ،والهيئة هي حليته الخارجية الذاتية والعرضية،
وبتعبير آخر :لم يظهر من التعريف تحديد مدى الجتهاد السائغ في أداء
اللفظ المتواتر) .(937إل أن يقال :إن تقييد الغزالي -رحمه ال تعالى -بقوله
"على الحرف السبعة المشهورة"يشير إلى ذلك .لكن السمة البارزة في
التعريف -عند العمل بعمومه وظاهر لفظه -أنه جعل القرآن الكريم مقيد
اللفظ في مادته وهيئته بالنقل ،وهو ما يعطي الفكرة العامة عن النقل ،كما
أنه يمنع عنه تسرب الجتهاد البشري ،وللهمية البالغة لهذا الوصف
الذاتي في القرآن فقد ابتدأ التعريف بذكره .
ت عامة حول علقة التعريف الصطلحي
المطلب الثالث :إشارا ٌ
بألفاظ القرآن الكريم:
وبعد هسسذه الجولسسة فسسي أقسسوال العلمسساء السسواردة فسسي
خَتم بها هسسذا الملحسسق مَلة إشارات ي ُ ْ
ج ْ
تعريف القرآن ،تذكر ُ
مما يتعلق بموضوع البحث:
أوًلُ :تْعَقُد في هذا الملحق مسألٌة أصوليٌة علمية بحتة ل يراد منها
إل وضع السس العلمية التي تحدد معايير التعامل مع كتاب ال في نقل
ألفاظه ،وتحديد ما يطلق عليه كلم ال من غيره ،ومن ثم لزم بيان ماهية
ألفاظه في مادتها وهيئتها بدقة تضطر الباحث إلى نبٍذ اللمام التقريبي
الجماهيري بعيدًا ،متى ما كان عائقًا عن الدقة المتوخاة) (938للمتخصصين .
ء نطقها المعتاد من مخارج ما ِ )( ولينطق بتخفيف الهمز مثال ً موضحًا :فقوله ال ّ
س َ
936
ً
الحروف هي المادة ،أما الهمز ففيه لحمزة وقفا خمسة أوجه :ثلثة أوجه البدال ،والتسهيل
بالروم مع المد والقصر…فهل هي متواترةٌ بالنقل أم جائزة القراءة من حيث إحالة القرآن
ما لم يرد في نطقه نص إلى العربية ،فيعمل فيه بقواعدها .
()937فاللفظ متواتر قطعا ً بموجب هذا القول ،وبقيت الهيئة "الداء"محل نظر…وهذا اليراد
تمهيد لقرار مدى أهمية إضافة قيد العربية في التعريف .
()938قيل هذا إشارة إلى التقعيد البديع الذي وضعه المام أبو إسحاق الشاطبي في
موافقاته حول طرائق وضع التعاريف ،1/56المقدمة السادسة .
323
ثانيًا :أرادت هذه الدراسة -بعد التسليم بتواتر )يقينية( نقل كتاب
ال دينًا وواقعًا -أن تكون مقدمة للوصول إلى تحقيق هذا الهدف -تحديد
كيفية نقل كتاب ال -من حيث مادته "اللفظ" ،ومن حيث صورة هذه
المادة "خط اللفظ" ،ومن حيث هيئة المادة الصوتية "صوت اللفظ"،
وهذه هي الصفات الصلية للفظ ،ومن حيث الهيئة الصوتية الداخلية
للحرف ،وهذه هي صفاته العارضة مفردة أو مركبة ،والخيران يشكلن
ما يعرف بالداء ،ومن ثم تحديد ماهيته بشكل دقيق ،وهذا يحتم على
ك بأهداب الحذر ،متمس ٍ ن مصحوب باليقين بال الدراسة بذل جهد مض ٍ
العلمي والعملي في نقاش جزئيات المسائل المتعلقة بالتعريف ،وبعبارة
أخرى أكثر إيضاحًا وتحديدًا :هل القرآن الكريم هو المقروء بقراءة واحدة
أو رواية واحدة ،أو هو مجموع القراءات والروايات؟ فهذا الجهد المبذول
في هذه الرسالة هو مقدمٌة للجواب على ذلك السؤال الكبير ،من حيث أن
الذي نقل القرآن من السماء أول مقامات الجواب :معرفة كيف علم جبريل
النبي ألفاظ القرآن ،لينقله النبي إلى كل الثقلين .
ف ذات ٌ
ي ثالثًا :إن الهيئة العامة لنقل القرآن وهي المشافهة ،وص ٌ
لمدلول القرآن أو لزٌم له ،فل يتصور إقراء القرآن بغير هذه الهيئة ،فالخط
تابع للمشافهة ،والجازة العامة تابعٌة لها أيضًا ،ومن َثم فالعتماد على خط
المصحف لمعرفة قراءة هيئة ألفاظ القرآن باطل إن لم يقترن بالمشافهة .
ط مطوٍر تطويرًا داخليًا فرعيًا ل ولعل من أسرار بقاء المصحف على خ ٍ
ف نوع مخالفة ظاهرة للملء الحديث أساسيًا لخطه الول ،ولكنه مخال ٌ
الصرار على جعل النقل مشافهة هو أساس إقراء القرآن أو تعلمه)،(939
وتأكيدًا لهذه المسألة فقد صرح العلماء أن السند القرائي الذي يقتضي النقل
مشافهة -شرط في أن يسمى ما يقرؤه القارئ قرآنًا ،وهو ما عّبر عنه
()939انظر :د .فضل حسن عباس :إتقان البرهان في علوم القرآن ،1/481ط 1997 - 1م،
دار الفرقان .
324
المام الشوكاني -رحمه ال تعالى -بقوله " :المتلو")(940؛ إذ ينصرف هذا اللفظ
انصرافًا أوليًا إلى تلوة الشيخ على تلميذه أو التلميذ على شيخه .
رابعًا :ل نستطيع الن -كنتيجة لما سبق -وضع التعريف العلمي
الدقيق للقرآن الكريم من حيث مادة لفظه ،وصورتها ،وهيئتها الصوتية ،ول
يعترض على هذا البيان بأنه كلم من يريد ركوب صعب دونه قوله :
ن" الحجر "9/؛ إذظو َف ُ ه لَ َ
حا ِ وإ ِّنا ل َ ُ
ن ن َّزل َْنا الذّك َْر َ إ ِّنا ن َ ْ
ح ُ
القرآن أشهر من أن يعرف ،والتعريف له تنكيٌر بل ظلٌم ،واتهاٌم ،وطم ٌ
س
بالفم لشعاع الشمس الساطع ،وتنطٌع ،قد أتت محّذرات النهي عنه ؛ لن
حّدد معالم التصال بين القرآن الكريم ف ُي َ
الباحث إنما عنى صياغة تعري ٍ
وقراءته باعتبارها وجهه الناطق ،ولفظة المسموع ،وخطه المكتوب،
وصفاته الممثلة لذاته ،وأعراضه الناتجة عن صفاته ،وقد سبق بين يدي
القارئ ذكر لشهر تعاريف العلماء للقرآن الكريم ،وفيها إشارٌة إلى كيفية
صورته اللفظية نطقًا وخطًا بعبارات مختلفة )مثل :النقل ،المتواتر وهو
يستلزم النقل ،المتلقى ،المكتوب في الصحف( ،وزاد المام الغزالي -رحمه
ال تعالى -ذلك تحديدًا ،فذكر اشتراطه النقل على الحرف السبعة المشهورة،
ف للجلى بالخفى؛ إذ القراءات أشهر من الحرف السبعة، وفيه أنه تعري ٌ
وأوضح وأكثر ذكرًا لو ذكرها حتى انغرس في ذهن العامة أنها هي
القراءات السبعة المشهورة ،وفي قول القائل "الحرف السبعة" في علوم
القرآن نوع إبهاٍم ما زال محارًة العلماء إلى يومنا) ،(941ومن ثم فغير سائٍغ
()940انظر تعريفه المذكور قبل قليل .
()941والمحارة ليست في مراد الحديث بل في تحديده ،أما مراده العام فأوضح من أن
يوضح ،ولكن تحديد مفهوم العدد في حديث الحرف السبعة هو المحارة ل تحديد مدلوله
العام ،وهذا أشبه بمسألة الصفات في علم العقيدة )اليمان(؛ إذ مفهومها واضح وإن كان
تحديد كيفيتها غير ممكن ،ومعلوم أن التشبه ل يقتضي تساوي طرفيه في وجه الشبه ،وعلى
هذا التفصيل يحمل مراد السيوطي في تصريحه بأن الحديث مشكل في ألفيته في مصطلح
الحديث ص ،32وابن سعدان النحوي كما ذكره عنه أبو شامة ،انظر) :أبو شامة( شهاب
الدين عبد الرحمن بن إسماعيل ابن إبراهيم المقدسي :المرشد الوجيز إلىعلوم تتعلق
بالكتاب العزبز ،حققه :طيار آلتي قولج 1395ه1975- -م ،دار صادر ،بيروت .
325
أن تكون الحرف السبعة في قائمة مشخصات القرآن الكريم؛ إذ إن التعبير
بقول القائل )بقراءاته المنقولة بين المسلمين تواترًا( أوضح .
ول ُيعترض على ما حدث في هذا الملحق من إطالٍة غير
معتادة) (942في بحث مثال هذه المسائل ،إذ الخوض في تعريف القرآن
الكريم من المنظار القرآني أو الصولي ليس ترفًا ثقافيًا مستهلكًا للوقت
غايته إبراز العضلة الكلمية ،والقدرة التنظيرية ،بل هو ذو خطٍر ل يقبل
مرورًا حذَو عابر السبيل؛ إذ به تحدد معلم شخصية أصل السلم العظم
من حيث توقيف نقله ،وتواتر تلقيه ،وُأسس ذلك توقيفًا أو اجتهادًا،
ويستدعي ذلك كله مكانته التي جعلته أعظم مركز تدار حوله البحوث،
وتتجدد في سبيل التبصير بحقائقه الدراسات .
خامسًا :اشتراط التواتر يستلزم جملة أمور على ما هو معلوم في
كتب علوم القرآن) ،(943ومنها:
أ -النقل بالمشافهة :ولسسذا ينقطسسع التسسواتر الحسسديثي
بمجرد تدوين كتاب الحديث غالبًا؛ إذ يعتمد بعد ذلسسك علسسى
ق تواتره أمسسة ثبوت الكتاب لمؤلفه ،بخلف أداء القرآن فبا ٍ
عن أمة ل ُيغني وجود المصحف عنه ،كما هسسو معمسسول بسسه
عند جميع المسلمين .
ب -اليقين في النقل :حيث ُتجمع المة خلفًا عن سلف ،ول مجال للنفراد
في ذلك ،مما يجعل كل ما يثبت بهذا الطريق متيقنًا مجزومًا به .
وبناًء على ذلك يمكن القول بقبول التعريف بالحرف السبعة على إرادة المراد منها
بغض النظر عن تحديدها؛ إذ تدخل القراءات فيها دخول ً أوليا ً .
()942وقد تكرر العتذار لحتياج المر لذلك .
ل :-الشيخ طاهر الجزائري الدمشقي )1268هس – 1328هس( :التبيان لبعض ()943انظر -مث ً
المباحث المتعلقة بالقرآن على طريق التقان ص ،102اعتنى به عبد الفتاح أبو غدة،
مكتب المطبوعات السلمية -حلب .
326
ت أن ال تعالى قد
وهذا يقتضي من حيث موضوع البحث أن ُيْثَب َ
ف نبّيه بسمات جعلت تلقيه ألفاظ القرآن الكريم من جبريل وتعلمه ح ّ
عليه قائمًا مقام جهد المة بأسرها ،كما تجلى ذلك في الفصول السابقة .
)وإلى الله -تعالى ذكره -جزيل الضراعة والمنة بقبول ما
منه لوجهه ،والعفو عما تخلله من تزين وتصنع لغيره(). (944
د،
وصلى الله تعالى وسلم على نبينا محم ٍ
وعلى آله وصحبه أجمعين .
والحمد لله رب العالمين .
327
328
فهرس المصادر
أبرز المراجع والمصادر الواردة في هذا البحث بعد
القرآن الكريم ،هي:
)أبو حيان( محمد بن يوسف بن علي بن -1
329
)أبو شامة( شهاب الدين عبد الرحمن بن -6
إسماعيل الدمشقي المقدسي :إبراز المعاني من
حرز الماني ،دار صادر-بيروت .
)أبو شامة( شهاب الدين عبد الرحمن بن -7
إسماعيل بن إبراهيم المقدسي :المرشد الوجيز
إلىعلوم تتعلق بالكتاب العزبز-حققه :طيار آلتي
قولج 1395هس –1975م ،دار صادر ،بيروت .
)أبو عبيدة( معمر بن المثتى التيمي :مجاز -8
330
العاريب ،تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد،
المكتبة العصرية ،صيدا-بيروت ،طبعة بدون 1407هس
1987 -م .
)ابن أبي داود( :أبو بكر عبد الله بن سليمان -14
بن الشعث السجستاني )ت 316هس( :كتاب
المصاحف ،ط 1936 ،1م ،صححه آرثر جفري،
المطبعة الرحمانية بمصر .
)ابن أبي العز( صدر الدين محمد بن علء -15
الدين علي بن محمد الحنفي ت 792هس :شرح
العقيدة الطحاوية ،ط 1408 ،9هس 1988 -م ،خرج
أحاديثها محمد ناصر الدين اللباني ،المكتب
السلمي -بيروت .
) -16ابن أبي عاصم( أبو بكر أحمد بن عمرو بن
الضحاك الشيباني ) - 206ت 287هس( :الحاد
والمثاني ،مراجعة :د .باسم فيصل أحمد الجوابرة،
1411هس –1991م ،دار الراية الرياض .
)ابن أبي عاصم( أبو بكر عمرو بن أبي عاصم -17
331
) -20ابن الجزري( شمس الدين أبو الخير محمد
بن محمد بن محمد :منجد المقرئين ومرشد
الطالبين -دار زاهد المقدسي ،تفضل بقراءته بعد
طبعه :الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي ،والشيخ
أحمد محمد شاكر .
)ابن الجزري( شمس الدين أبو الخير محمد -21
بن محمد بن محمد بن علي ت 833هس :التمهيد في
علم التجويد ،تحقيق غانم قدوري الحمد -ط ،3
1409هس 1989-م مؤسسة الرسالة -بيروت .
)ابن الجزري( محمد بن محمد بن محمد بن -22
332
الرنؤوط ،وعبد القادر الرنؤوط ،ط 1405 ،8هس -
1985م ،مؤسسة الرسالة ،بيروت .
)ابن القيم( شمس الدين أبي عبد الله محمد -27
بن أبي بكر :الفوائد المشوق إلى علوم القرآن،
1987م ،دار مكتبة الهلل ،بيروت .
) -28ابن القيم( شمس الدين محمد بن أبي بكر
بن أيوب الّزرعي الدمشقي :الروح ،عالم الكتب -
بيروت .
)ابن المبارك( أبو عبد الله عبد الله بن -29
المبارك بن واضح المروزي
)181 - 118هس( :كتاب الزهد ،تحقيق :حبيب الحمن
العظمي ،دار الكتب العلمية -بيروت .
)ابن تيمية( أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ت -30
728هس ،شيخ
السلم :مجموع فتاوى شيخ السلم أحمد ابن
تيمية ،جمع وترتيب :عبد الرحمن ابن قاسم
العاصمي النجدي الحنبلي1991 - 1421 ،م ،دار
عالم الكتب الرياض .
) -31ابن جني( أبو الفتح عثمان )ت 392هس( :سر
صناعة العراب ،تحقيق مصطفى السقا1954 ،م،
مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي.
)ابن حجر( أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن -32
333
وأحاديثها محمد فؤاد عبد الباقي ط 1،1410هس -
1989م ،دار الكتب العلمية -بيروت،لبنان .الطبعة
الولى 1410هس 1989-م.
) -34ابن حجر( شهاب الدين أحمد بن حجر
العسقلني ت 852هس :الدرر الكامنة في أعيان
المائة الثامنة .حققه وقدم له :محمد سيد جاد
الحق ،دار الكتب الحديثة.
) -35ابن حجر( :المطالب العالية بزوائد المسانيد
الثمانية ،تحقيق المحدث الشيخ حبيب الرحمن
العظمي .
) -36ابن خزيمة( إمام الئمة أبو بكر محمد بن
إسحاق بن خزيمة السلمي
)223-311هس( :صحيح ابن خزيمة ،مراجعة :د.محمد
مصطفى العظمي )1390هس1970-م( ،المكتب
السلمي -بيروت ،عدد الجزاء . 4
) -37ابن خلكان( أبو العباس شمس الدين أحمد
بن محمد بن أبي بكر بن خلكان 608هس 681 -هس:
وفيات العيان وأنباء أبناء الزمان ،حققه د .إحسان
عباس ،دار صادر ،بيروت .
)ابن راهويه( إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن -38
راهويه الحنظلي
) ،161ت 238هس( :مسند إسحاق بن راهويه،
مراجعة :عبد الغفور بن عبد الحق البلوشي
1412هس 1991-م ،مكتبة اليمان ،المدينة المنورة .
) -39ابن سعد( محمد بن سعد بن منيع البصري
الزهري )168هس – ت 230هس( :الطبقات الكبرى،
دار صادر بيروت ،عدد الجزاء . 8
334
ابن عطية :المحرر الوجيز في تفسير الكتاب -40
335
)ابن قتيبة( عبد الله بن مسلم بن قتيبة -46
336
) -52الزهري( أبو منصور محمد بن أحمد )282هس-
370هس( :تهذيب اللغة1964 ،م -القاهرة .
) -53السنوي( جمال الدين عبد الرحيم ابن
الحسين السنوي ) 704هس 772 -هس( :زوائد
الصول ،ط 1993 -1413 1م ،دراسة وتحقيق:
محمد سنان سيف الجللي ،مكتبة الجيل الجديد -
صنعاء .
) -54السنوي( جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن
الشافعي :نهاية السول في شرح منهاج الصول -
للقاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي،
عالم الكتب.
) -55الصبهاني( إسماعيل بن محمد بن الفضل
التيمي )ت 457هس – 535هس( :دلئل النبوة ،تحقيق:
محمد محمد الحداد1409 ،هس ،دار طيبة -الرياض .
) -56اللباني( محمد ناصر الدين :صحيح الجامع
الصغير وزيادته ،أشرف على طبعه :زهير الشاويش،
ط 1408 3هس 1988 -م ،المكتب السلمي -بيروت
.
)اللوسي( محمود شكري البغدادي ،ه -57
337
) -59الهدل( محمد بن أحمد بن عبد الباري:
الكواكب الدرية ،شرح :الشيخ محمد بن أحمد
الرعيني الشهير بالحطاب ،ط 1410 ،1هس1990-م
-مؤسسة الكتب الثقافية ،بيروت .
)الباقلني( محمد بن الطيب ت 403هسُ :نكت -60
النتصار لنقل القرآن ،تحقيق د .محمد زغلول سلم،
الناشر :منشأة المعارف بالسكندرية .
) -61الباقلني(أبو بكر بن الطيب :إعجاز القرآن،
قدم له وشرحه وعلق عليه :الشيخ محمد شريف
سكر ،بيروت دار إحياء العلوم ،الطبعة الولى
1408هس 1988 -م .
) -62البخاري( أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن
إسماعيل الجعفي )256 ،194هس( :خلق أفعال
العباد ،مراجعة :د .عبد الرحمن عميرة ،دار
المعارف السعودية -الرياض 1398هس 1978-م .
) -63البخاري( أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن
المغيرة الجعفي،
)194هس -ت 256هس( :صحيح البخاري،مراجعة د.
مصطفى ديب البغا1407 ،هس 1987-م ،دار ابن
كثير ،اليمامة ،بيروت.
) -64البقاعي( برهان الدين أبو الحسن إبراهيم بن
عمر )ت 885هس( :نظم الدرر في تناسب اليات
والسور1413 ،هس1992 ،م ،ط ،3المكتبة التجارية،
مكة المكرمة .
)البيهقي( أبوبكر أحمد بن الحسين بن علي بن -65
338
مراجعة :محمد عبد القادر عطا1994 ،م1414-هس،
مكتبة دار الباز -مكة المكرمة.
بلشير :القرآن :نزوله ،تدوينه ،ترجمته، -66
وتأثيره ،نقله إلى العربية :رضا سعادة ،ط ،1
1974م ،دار الكتاب اللبناني -بيروت.
)التبريزي( المام الخطيب أبي زكريا يحي بن -67
علي التبريزي
)ت :(502شرح القصائد العشر ،علق عليه :السيد
أحمد الخضر ،مكتبة الثقافة الدينية -القاهرة .
)الترمذي( أبو عيسى محمد بن عيسى -68
339
) -72الجرجاني( علي بن محمد بن علي:
التعريفات ،حققه ،وقدم له ،ووضع فهارسه:
إبراهيم البياري ،ط 1405 ،1هس 1985 -م ،دار
الكتاب العربي -بيروت .
) -73جولد تسهير( :مذاهب التفسير السلمي،
ترجمة عبد الحليم
النجار1956 ،م ،مكتبة الخانجي -مصر .
)الجللين( جلل الدين المحلي ،وجلل الدين -74
340
-78الحسين بن أمير المؤمنين المنصور بالله
القاسم بن محمد :حواشي هداية العقول إلى غاية
السؤل في علم الصول.
-79حسن ضياء الدين عتر :المعجزة الخالدة ،ط
1409 ،2هس 1989 -م ،مكتبة الطالب الجامعي -
مكة .
) -80الحلبي( علي بن برهان الدين ت 1044هس:
السيرة الحلبية في سيرة المين المأمون ،دار
المعرفة -بيروت 1400هس .
) -81الحميدي( أبو بكر عبد الله بن الزبير )ت
219هس( :مسند الحميدي ،مراجعة :حبيب الرحمن
العظمي1381 ،هس ،دار الكتب العلمية -بيروت.
)دكتور( عبد الصبور شاهين :تاريخ القرآن، -82
341
) -88دكتور( إبراهيم أنيس :الصوات اللغوية ،ط ،4
1971م ،مكتبة النجلو المصرية -القاهرة .
) -89دكتور( عبده الراجحي :اللهجات العربية في
القراءات القرآنية1969 ،م ،دار المعارف بمصر .
) -90دكتور( صبحي الصالح :مباحث في علوم
القرآن ،ط 1964 ،3م ،دار العلم للمليين -بيروت .
)دكتور( عبد الفتاح إسماعيل شلبي :المالة -91
في القراءات واللهجات العربية ط ،1مكتبة نهضة
مصر ،القاهرة 1957م .
)الخطيب البغداي( أبو بكر أحمد بن علي س -92
342
)الداني( :المحكم في نقط المصاحف ،تحقيق -97
د .عزة حسن1960 ،م ،مديرية إحياء التراث
القديم ،وزارة الثقافة والرشاد -دمشق .
) -98الداني( :المقنع في معرفة مرسوم مصاحف
أهل المصار ،تحقيق محمد أحمد دهمان1940 ،م،
مكتبة الدراسات السلمية -دمشق .
) -99الدمياطي( الشيخ أحمد بن محمد الشهير
بالبنا )ت 1117هس( :إتحاف فضلء البشر في
القراءات الربع عشر ،صححه علي محمد الضّباع،
1359هس مطبعة عبد الحميد أحمد حنفي بمصر .
) -100الذهبي( المام شمس الدين أبي عبد الله
محمد بن أحمد بن عثمان :طبقات القراء للذهبي،
تحقيق :د .أحمد خان 1418هس – 1997م ،دار
الفيصل .
) -101الذهبي( شمس الدين محمد بن أحمد بن
عثمان )ت 748هس( :سير أعلم النبلء ،إشراف
الشيخ شعيب الرناؤوط ،ط 1404 ،2هس 1984-م،
مؤسسة الرسالة .
) -102الرازي( محمد بن أبي بكر بن عبد القادر ت
721هس :مختار الصحاح ،مراجعة :محمود خاطر،
مكتبة لبنان بيروت 1415هس 1985 -م .
) -103الراغب( أبو القاسم الحسين بن محمد
الصفهاني ت 502هس :المفردات في غريب القرآن،
تحقيق محمد سيد كيلني ،دار المعرفة -بيروت .
-104رفاعي سرور :عندما ترعى الذئاب الغنم ،ط
61412هس ،1992-مكتبة الحرمين للعلوم النافعة .
343
) -105الزرقاني( الشيخ محمد عبد العظيم :مناهل
العرفان في علوم القرآن ،ط 3،1943هس،دار إحياء
الكتب العربية .
) -106الزركشي( بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد
الله الشافعي :البحر المحيط ،440 /1قام بتحريره
عبد القادر عبد الله العاني ،راجعه :د .عمر سليمان
الشقر -ط 1413 ،2هس 1992 -م ،دار الصفوة .
) -107الزركشي( :البرهان في علوم القرآن،تحقيق
محمد أببو الفضل إبراهيم،ط 1957 ،1م ،دار إحياء
الكتب العربية -القاهرة .
) -108الزركلي( خير الدين الزركلي :العلم،
الطبعة العاشرة 1992م .
)الزمخشري( أبو القاسم جار الله محمود بن -109
344
) -114السيوطي( أبو الفضل جلل الدين عبد
الرحمن بن أبي بكر،
)849هس -ت 911هس( :تنوير الحوالك شرح موطأ
مالك1969 -1389 ،م ،المكتبة التجارية الكبرى -
مصر .
) -115السيوطي( أبوالفضل جلل الدين عبد
الرحمن بن أبي بكر ) 911 - 849هس( :الديباج على
صحيح مسلم ،مراجعة :أبو إسحاق الحويني الثري-
دار ابن عفان -الخبر -السعودية ،عدد الجزاء . 5
)السيوطي( جلل الدين عبد الرحمن بن أبي -116
345
) -121الشاطبي( أبو إسحاق إبراهيم بن موسى
اللخمي الغرناطي المالكي ت 790هس :الموافقات
في أصول الشريعة ،المقدمة الثالثة ،توزيع عباس
أحمد الباز ،الطبعة لم تذكر .
)الشاطبي( أبو القاسم أو أبو محمد القاسم -122
346
)الشوكاني( محمد بن علي ت 1250هس: -127
347
) -134الطبري الزيدي( علي بن صلح بن علي بن
محمد :شفاء غليل السائل عما تحمله الكافل ،ط ،1
1408هس 1988 -م ،مكتبة اليمن الكبرى -صنعاء .
) -135الطحاوي( أبو جعفر أحمد بن محمد بن
سلمة 229هس – 321هس :شرح معاني الثار،
مراجعة محمد زهري النجار ،ط 1410 ،1هس –
1990م ،دار الكتب العلمية –بيروت .
-136عبد الرحمن بن خلدون ت 808هس :مقدمة
ابن خلدون ،ضبط المتن ووضع الحواشي
والفهارس :خليل شحادة ،مراجعة :د .سهيل زكار،
ط 1417هس1996 ،م -دار الفكر -بيروت .
-137عبد الوهاب حمودة :القراءات واللهجات ،ط
1948 ،1م ،مكتبة النهضة المصرية -القاهرة .
عبد المعطي محمد رياض طليمات:الحلقات -138
348
-142عبد الفتاح القاضي ت 103هس :الوافي في
شرح الشاطبية في القراءات السبع ،ط 1414- 5هس
1994-م ،مكتبة السوادي -جدة ،مكتبة الدار -
المدينة المنورة .
)العزي( عبد المنعم صالح العلي :أقباس -143
من مناقب أبي هريرة ،ط 1412 ،3هس 1991 -م،
دار المنطلق -المارات العربية المتحدة .
) -144العسكري( أبو هلل الحسن بن عبد الله بن
سهل بن سعيد ت بعد 395هس :الفروق في اللغة .
غانم قدوري الحمد :رسم المصحف دراسة -145
349
المجيد السلفي ،ط 1407 ،2هس 2986 -م ،مؤسسة
الرسالة .
)الكسي( أبو محمد عبد بن حميد بن نصر -151
350
-158محمد الصادق عرجون عميد كلية أصول
الدين ،جامعة الزهر :بحث علمي لنقد مزاعم حول
قراءات القرآن في رسالة) :أصوات المد في
القرآن الكريم( بكلية الداب -جامعة السكندرية،،
اتحاد الطلب بكلية أصول الدين ،اللجنة الجتماعية
1386هس – 1966م .
محمد أبو زهرة :أصول الفقه ،دار الفكر -159
العربي .
محمد عليان المزروقي الشافعي :حاشيته -160
351
المختارة ،تحقيق :عبد المَلك بن عبد الله دهيش،
1410هس ،مكتبة النهضة الحديثة ،مكة المكرمة .
) -166المهدي( أحمد بن يحي بن المرتضى )764
هس -ت 840هس( :منهاج الوصول إلى معيار العقول
في علم الصول ،ط 1412 ،1هس 1992 -م ،دار
الحكمة اليمانية -صنعاء .
) -167المهدي( أحمد بن يحيى المرتضى ت
840هس:البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء المصار،
وبهامشه:جواهر الخبار والثار المستخرجة من لجة
البحر الزخار للعلمة محمد بن يحيى بن بهران
الصعدي ت 957هس،أشرف عليها :عبد الله محمد
الصديق ،وعبد الحفيظ سعد عطية ،دار الكتاب
السلمي -القاهرة .
)الموصلي( أبو يعلي أحمد بن علي بن المثنى -168
352
مركز خدمة السنة والسيرة النبوية -المدينة
المنورة .
) -172الوزير( محمد بن إبراهيم الوزير ت 840هس:
ترجيح أساليب القرآن على أساطير اليونان ،وما
بعدها ط ،1دار الكتب الثقافية -بيروت .
) -173الواحدي( أبو الحسن علي بن أحمد
النيسابوري )ت 468هس( ،تعليق وتخريج :د.
مصطفى ديب البغا ،ط 1408 ،1هس – 1988م ،دار
ابن كثير – دمشق .
)اليماني( عبد الباقي بن عبد المجيد :إشارة -174
353
354
الفهرس الموضوعي
أ -الجمالي:
الموضوع ال
صسسف
حة
التصدير والستهلل أ
التقديم للكتاب 1
تقديم فضيلة الشيخ العلمة المجاهد /عبد 1
المجيد بن عزيز الزنداني
تقديم فضيلة الشيخ الدكتور /أحمد بن 3
علي المام
شكر 5
مقدمة 6
ملقي
الفصل الول /مؤهلت العلم ال ُ 14
مقدمة :من الموحي بالقرآن؟من المتكلم به؟ 15
المبحث الول /أهمية موضوع تعليم جبريل 18
المبحث الثاني /صفات جبريل 22
المبحث الثالث :أمين الوحي في السماء 37
لهل السماء
المبحث الرابع :اختيار جبريل ليكون 40
355
ورسله الوسيط بين الله
الفصل الثاني/اتصال جبريلبالنبي للوحي 49
القرآني
المبحث الول :تهيئة النبي للوحي، 50
والتصال بالمَلك
المبحث الثاني :إمكانية التصال المطلق 61
بين جبريل والنـبي
المبحث الثالث :هيئات مجيء المَلك 68
بالوحي القرآني ) من حيث عموم الوحي (
الفصل الثالث /تلقي النبي ألفاظ القرآن 71
من جبريل
المبحث الول :كيفية مجيء جبريل إلى 72
النبي
عند تلقينه الوحي القرآني
المبحث الثاني :هيئة إلقاء الوحي القرآني 82
من جبريل على النـبي
المبحث الثالث :نـزول جبريل توقيفي 92
المبحث الرابع :مظاهر اجتهاد النبيفي 94
تلقي القرآن من جبريل قبل نزول
التوقيف اللهي
المبحث الخامس :سمات الرسول حين 96
نزول الوحي القرآني عليه
113المبحث السادس :حديث المعالجة ودللته
العامة
127المبحث السابع :التلقي )والتلقين(
144المبحث الثامن :كيفية قراءة الرسول
القرآن على جبريل من حيث المر
356
الشرعي ،والواقع التطبيقي
المبحث التاسع :تحليل حديث المدارسة 177
)المعارضة(
الفصل الرابع /الصول العامة في تلقي النبي 199
ألفاظ القرآن الكريم
المبحث الول :اللمحات العامة في تلقي 200
النبي ألفاظ القرآن من جبريل
المبحث الثاني :الدقة في النقل العام 206
المبحث الثالث :العلقة العامة بين جبريل 209
والنبيوأثرها في تعليم ألفاظ
القرآن
المبحث الرابع :التوقيفية في غير أداء 228
القرآن
المبحث الخامس :الحفظ في الصدر 232
357
فهرس المصادر 319
الفهرس الموضوعي 340
ب-التفصيلي:
الموضوع ال
صسسف
حة
التصدير والستهلل أ
التقديم للكتاب 1
تقديم فضيلة الشيخ العلمة المجاهد /عبد 1
المجيد بن عزيز الزنداني
تقديم فضيلة الشيخ الدكتور /أحمد بن 3
علي المام
شكر 5
مقدمة 6
الفصل الول: 14
ملقي
مؤهلت العلم ال ُ
مقدمة :من الموحي بالقرآن؟من المتكلم 15
به؟
المبحث الول /أهمية موضوع تعليم جبريل 18
المطلب الول :البعد التاريخي 18
والموضوعي للهتمام بهذا الموضوع
المطلب الثاني :أهداف دراسة هذا 20
الموضوع
المبحث الثاني /صفات جبريل 22
المطلب الول :صفاته من حيث 22
358
خْلقية طبيعته ال َ
-1عظمة الخلقة 22
أسباب رؤية النبيلجبريل في 23
خلقته الصلية مرتين
-2أنه ملك 24
-3الروح 24
-4السرعة والفورية في النـزول بالوحي القرآني 25
-5القوة 27
المطلب الثاني :صفاته من حيث 27
خُلقية سجاياه ال ُ
-1كريم 27
-2ذو قوة 28
-3مطاع 30
-4أمين 31
جهتا المقتضى العملي للمانة 32
-5عند ذي العرش مكين 33
-6اقتصار مهمته في المحتوى العام على أنه رسول 33
-7تمرسه على الرسالة التي تماثل هذا النوع 33
-8حكيم عليم 35
علقة هذا الموضوع بالموضوع العام 35
المبحث الثالث :أمين الوحي في السماء 37
لهل السماء
المبحث الرابع :اختيار جبريل ليكون 40
الوسيط بين الله ورسله
المطلب الول :من حيث عموم 40
الرسالت السماوية
359
المطلب الثاني :جهة من حيث 41
خصوص رسالة النبي
جبريلهو واسطته التعليمية الوحيدة إلى عالم الغيب 43
المطلب الثالث :من حيث خصوص 45
الخصوص
عداوة جبريلمقياس مطلق لعداوة ال 47
الفصل الثاني: 49
اتصال جبريل بالنبي للوحي القرآني
المبحث الول :تهيئة النبي للوحي، 50
والتصال بالمَلك
المطلب الول :التهيئة اللهية للوحي 50
-1حادثة شق الصدر ،وأهدافها في كل مرة 50
-2ثم بدأ يتعدى القوى البشرية القاصرة 54
-3وكان جبريليأتيه في المنام 56
-4الرؤيا الصادقة 56
-5اليات التي كانت تظهر له 57
-6التحنث 58
المطلب الثاني :التهيئة البشرية 59
للوحي
أ-التهيئة الذاتية 59
ب-التهيئة البيئية 60
المبحث الثاني :إمكانية التصال المطلق 61
بين جبريل والنـبي
-1التصال الخفي والكلم الخفي 61
-2ويناديه ويكلمه دون أن يشعر أحد من 62
حواليه غالبا ً
360
-3الطلق من حيث النداء والوقت 64
-4الطلق من حيث المكان 65
المانع من قرب جبريل 67
المبحث الثالث :هيئات مجيء المَلك 68
بالوحي القرآني )من حيث عموم الوحي(
المقتضى المنهجي لذلك 69
الفصل الثالث: 71
تلقي النبي ألفاظ القرآن من جبريل
المبحث الول :كيفية مجيء جبريل إلى 72
النبي
عند تلقينه الوحي القرآني
آيات النجم تصور تصويرًا دقيقًا هذه اللحظات ،وتفصيل ذلك 73
حديث عثمان بن مظعون يؤكد التفصيل السابق 80
المبحث الثاني :هيئة إلقاء الوحي القرآني 82
من جبريل على النـبي
المطلب الول :الهيئة العامة للقاء الوحي القرآني 82
انخلع النبي عن هيئته البشرية عند سماع الوحي ،وحدود 83
ذلك
المقتضى المنهجي لذلك على مستوى المة العام 84
المطلب الثاني :النـزول على القلب 84
المعنى 85
قل ْب ِ َ
ك عَلى َ الكاف في َ 88
إعداد القلب مسبقا ً 90
مشتملت النـزول على قلب النبي 90
المبحث الثالث :نـزول جبريل توقيفي 92
361
المبحث الرابع :مظاهر اجتهاد النبيفي 94
تلقي القرآن من جبريل قبل نزول
التوقيف اللهي
المبحث الخامس :سمات الرسول حين 96
نزول الوحي القرآني عليه
-1تفريغ قلبه وحسه ،وتخلية فكره إل في الُمَتَلَقى 96
الظاهرة الصوتية الشديدة المصاحبة للوحي القرآني ،والحكمة
منها
-2المعاناة في تلقي الوحي 97
مظاهر الشدة المصاحبة للوحي القرآني 98
دلئل ثقل الوحي القرآني ،والمقتضى المنهجي لذلك…ل 101
يتساهل من يحاول حفظ القرآن في الحفظ
هل يتنافى ذلك مع كون القرآن ميسرًا للذكر؟ 103
-3التكلف الطبعي في حفظ الوحي 104
-4تلقي الوحي القرآني تلقي استماع لصوت متكلم بأحرف 104
-5جمع القرآن في صدره 105
حقيقة هامة :مجيء جبريلللوحي القرآني كان على 106
الصورة الشد ،ومقتضى ذلك
النـزول على القلب ل يدل على اللهام ،بل هو مؤيد لقوة 107
الفهام
ك قل ْب ِ َ
عَلى َمن أسرارَ 107
هل أوحي إلى النبيشيء من القرآن منامًا؟ والجواب عن 107
حديث سورة الكوثر
هل معنى ذلك :أن الوحي غير القرآني لم يكن يأتي النبي 109
منامًا؟
-6ارتقاء القوى البشرية للنبي. 110
362
-7الستماع والنصات 110
-8الوعي لما يقول المَلك 111
-9تطبيق هيئات التلقي التوقيفية 111
-10استعداد المَلكات النفسية في النبي 111
المقتضى المنهجي لذلك 112
المبحث السادس :حديث المعالجة ودللته 113
العامة
المطلب الول :متن حديث المعالجة برواياته المختلفة 113
المطلب الثاني :تحليل الموقف في حديث المعالجة 114
سبب المعاناة 114
ما وعد به من حيث اللفظ 115
المطلب الثالث :تحليل آيات سورة القيامة الورادة في حديث 116
المعالجة
قْرآن َُه
و ُ ه َ ع ُم َ عل َي َْنا َ
ج ْ ن َ إ ِ ّ 116
قْرآن َُهع ُ فات ّب ِ ْقَرأ َْناهُ َذا َ َ
فإ ِ َ 117
في سورة النور؟ . هل )بيناها( هو معنى أنزلناها 118
عل َي َْنا ب ََيان َُه ن َ م إِ ّ ث ُ ّ 119
تقدم البيان اللفظي على البيان المعنوي في الوجود الخارجي 120
المطلب الرابع :من فوائد حديث المعالجة 121
ومن فوائده أن الحفظ لللفاظ مقدم على استلهام المعنى 121
المسوغ الشرعي لتعليم الصبيان ألفاظ القرآن 123
المطلب الخامس :ومن دللت الحديث الخاصة 123
-1تحريك الفم ،وبواعثه 123
-2الشدة في قراءة القرآن وحفظه 125
-3مخارج الحروف هي الخمسة المشهورة 126
المبحث السابع :التلقي )والتلقين( 127
363
المطلب الول :تعريفه 127
حاصل مفاهيم اللقاء في الوضع اللغوي 127
التلقين في الوضع الصطلحي 129
الفرق بين التعليم والتلقين 130
المطلب الثاني :القرآن تلقين وليس إلهامًا 131
ليست هذه المسألة مسألة فرعية 132
من أدلة كون الوحي تلقينًا 132
المطلب الثالث :حكم التلقين 133
المقتضى المنهجي لتلقين جبريل النبيالهيئات الخارجية 134
والداخلية للحرف والتركيبية للحروف
التلقي مفسٌد للقراءة المبتدعة 135
المر اللهي بإعادة المقروء يحوي الضمان اللهي بإعادته 136
المطلب الرابع :قواعد التلقي والتلقين 137
لم يكرر النبيالمقروء بعد ذهاب المَلك؟ 137
هل يشترط استماع الشيخ لطالبه عند إعادة المقروء؟ 139
هل يشترط أداء هذه القواعد كلها في التلقي والتلقين؟ 139
المطلب الخامس :المقتضى المنهجي لما سبق 140
هل ثم اجتهاد في أداء القرآن؟ وأين الجتهاد فيما سبق من 141
خلل تحليل حديث المعالجة
المبحث الثامن :كيفية قراءة الرسول 144
القرآن على جبريل من حيث المر
الشرعي ،والواقع التطبيقي
-1تبدأ باستشعار المصدرية اللهية 144
للقرآن الكريم
نموذج ظهور التأكيد على هذه المصدرية من 146
خلل أول آيات نزلت
364
مقتضيات استشعار هذه المصدرية اللهية 147
الصورة التطبيقية لهذا البند قبل التوقيف 148
القرآني على هيئة تلقي القرآن
الصورة التطبيقية لهذا البند بعد التوقيف 149
القرآني على هيئة تلقي القرآن
حقيقة الحق في إنزال القرآن وتلقينه للرسول 149
-2الستماع والطراق عند تلوة جبريل 149
الصورة التطبيقية لذلك 149
الساس الشرعي والمنهجية في جعل القراءة 149
البتدائية من الشيخ أو عليه
النتائج المترتبة على ذلك 150
-3ترديد القرآن بعد انتهاء جبريلمن 150
قراءته ليطمئن القلب بتحفظه
الصورة التطبيقية لذلك 151
-4تحريك فمه وشفتيه عند الحفظ أو 151
القراءة
-5الترتيل )تبيين الحروف( 151
عنصرا الترتيل،ومقتضاهما ،ومستلزمهما 151
الصورة التطبيقية الملئكية للترتيل 153
الصورة التطبيقية لذلك 153
وهذه الصورة هي الصورة الموافقة لقراءة 155
معتدلي المسلمين هذه اليام
-6التأني في تلوة القرآن 156
الغاية من التأني 157
365
التأني يستلزم السكينة والوقار 157
التأني يقتضي إشباع الحركات 158
الصورة التطبيقية لهذا التأني 158
محاولة لضبط مقدار هذا التأني 159
علقة تعليم جبريل ألفاظ القرآن للنبي 159
بالترتيل
هل المراد بالترتيل في الية الترتيل الزمني أي 160
التفريق في النزال؟
وصف آيات المزمل لتفصيلت دقيقة في هذا 160
الموضوع
-7التغني بالقرآن والجهر به 162
معنى التغني الوارد في الحديث 163
-8الترجيع في القرآن 164
الصورة التطبيقية لذلك 164
أقسام أداء القرآن 165
مراتب أداء اللفظ القرآني 166
-9مماثلة قراءة النبيلقراءة جبريل 167
الصورة التطبيقية لذلك 168
-10قراءته على الناس كما أقرأه 168
جبريلمن حيث أصل اللفظ وأدائه
الدليل اليقيني القاطع للتوقيفية في 169
نقل ألفاظ القرآن الكريم أصل ً وأداء
هل يؤثر على هذه النتيجة الختلف الصوتي 169
المشاهد بين المسلمين؟
هيئة قراءة القرآن صفة ذاتية للفظ عند 170
366
المسلمين وليست صفة عارضة
-11تكرار المحفوظ 171
-12تركيز المراجعة في قيام الليل 171
تعلقات قيام الليل بلفظ القرآن الكريم 171
قيام الليل ورد للمراجعة اليومية للنبي 173
مفهوم )حزب( على لسان النبي 174
-13التعاهد السنوي 175
المبحث التاسع :تحليل حديث المدارسة 177
)المعارضة(
المطلب الول :متن الحديث برواياته المختلفة 177
المطلب الثاني :الدللت العامة لحديث المعارضة 178
-1اعتماد مبدأ المدارسة في مفردات التعليم المنهجي للفاظ 178
القرآن الكريم
-2التأكيد على الحفظ بما ليس بعده في حق الرسول 179
-3تأكيد المعارضة السنوية ،وتعويضها عند فواتها لعارض 180
هل كانت المعارضة تتم قبل أن يفرض صيام رمضان؟ 182
-4التركيز في عنصر الوقت لتثبيت ومراجعة ألفاظ القرآن 182
الكريم…
-7تثثبيت الحفظ بالعمل 183
المطلب الثالث :متضمنات المعارضة 184
-1الراءة 184
-2المقابلة 185
-3الظهور 185
فهل معنى ذلك أن النبي لم يكن يعرض معانيه؟ 186
-4العرضية اللفظية 187
367
-5المعارضة هي الغاية في تحقيق اللفظ والتثبت منه 189
اختلف العلماء في أفضلية العرض والسماع 189
سمات معارضة النبي 190
-6عرض القرآن بالحروف المأذون في القراءة بها 192
المطلب الرابع :إيراٌد على ما سبق ودفعه 194
من أحسن أدلة التوقيفية في نقل ألفاظ القرآن الكريم أص ً
ل 197
وأداء
المطلب الخامس :المقتضى المنهجي لدللت حديث 197
المعارضة ،ومفردات تلقي النبي ألفاظ القرآن الكريم
368
أقل أحوال أداء اللفظ القرآني أن يكون كأداء الصلة عملياً 207
المبحث الثالث :العلقة العامة بين جبريل 209
والنبيوأثرها في تعليم ألفاظ
القرآن:
المطلب الول :صلة هذا المبحث بموضوع البحث العام 209
والنبي المطلب الثاني :نماذج من العلقة العامة بين جبريل 211
ل :في المسائل الشخصية أو ً 211
ثانيًا :في المسائل البدنية 213
ثالثًا :الوزير 213
رابعًا :الناصح ابتداء 214
خامسًا:وتجري بينهما المناقشة والمباحثة 214
سادسًا :علقة حب 214
سابعًا :وهو صاحبه في الدنيا والخرة 217
مقاعد جبريل 218
المطلب الثالث :التعاهد والستدراك 219
دددد:د ددددددد 219
-1التعاهد العام من حيث كون جبريلشيخًا للرسول 219
-2التعاهد الخاص من حيث استكمال متعلقات القرآن الكريم 221
لفظًا التتميمية ،إعداد مراجع القراء
ثانيًا :متابعة الستدراك 223
أ-الخاصة من حيث المستدرك عليهم 223
-1الستدراك في الدللة على ليلة القدر 223
-2في هيئة الكل 224
-3في الفتاء 224
-4في اللباس 224
369
-5في الفروع 225
-6في تكرار العمل الفرعي 225
-7في هيئة الوعظ 225
ب -العامة من حيث المستدرك عليهم 226
ج-الخاصة من حيث المر الشرعي 226
د-العامة من حيث المر الشرعي 226
المبحث الرابع :التوقيفية في غير أداء 228
القرآن
أوًل :التوقيفية في تفسير آي القرآن 228
ثانيًا :التوقيفية في الدعاء 229
ثالثًا :في المسائل الفرعية 229
المبحث الخامس :الحفظ في الصدر 232
المقدمة :الواجبات التي كانت على النبيبالنظر إلى لفظ 232
القرآن
المطلب الول :تأصيل كلمة )الحفظ ( 233
المطلب الثاني :متضمنات الحفظ 235
-1الستظهار 235
-2الحراسة 235
-3شموله للكلي والتفصيلي من حيث اللفظ 236
المطلب الثالث :هل كان الحفظ واجبًا على؟ 236
ما ذهب إليه البعض من أن النبيكتب في آخر حياته 241
شذوٌذ ،وكثيٌر من الشذوذ ل يروى على وجهه
الفصل الخامس: 246
دمغ الباطل ،وفيه:دفع العوامل المقدوح بها في دقة تلقي
النبي ألفاظ القرآن الكريم من جبريل
المبحث الول :العوامل الخارجية 248
370
المطلب الول :دفع تهمة التخييل في تلقي ألفاظ القرآن 248
بصفة عامة
-1بالضمان اللهي بالحفظ لكتابه 248
-2بالضمان اللهسسي بعسسدم تطسسرق شسسائبة باطسسل 248
إليه
-3بمعرفة طبيعة الوحي القرآني 249
-4بتأكيد التصال الحسي بين جبريسسلوالنسسبي 250
-5برؤية النبيلجبريل في صورته عيانا ً 252
-6عصمته 253
-7تسدخل القسدرة اللهيسة مباشسرة عنسد حصسول 254
التقول
-8استحالة تغيير هيئة من هيئاته 254
-9بحراسة الرسولبالرصد 255
-10بتفصسسسسيل صسسسسفات الرسسسسسول الرضسسسسي 256
والسماوي ؛ إذ ينتج عنها لذاتها دفع هذه التهمة
-11إكمال الدين 256
-12دفسسع إجمسسالي لتلسسك العوامسسل علسسى طريقسسة 257
الصوليين
المطلب الثاني :دفع تهمة التخييل في تلقي ألفاظ القرآن من 258
حيث تفصيل العوامل المتهمة بإحداث التخييل
ل :دفع التخييل بسبب الضللية التفكيرية أو ً 258
ثانيًا :دفع التخييل بتأثير الجنون 260
ثالثًا :دفع التخييل بتأثير الجن 261
أصل هذه الشبهة 261
دفع هذا العامل 262
371
-1التأكيد على صدق الرؤية والتصال الحسي بين النبي 262
ومعلمه جبريل
النفي المؤكد المتكرر لن يكون الوحي القرآني كلم شيطان 262
ما
و َ
ن )َ (210طي ُ ه ال ّ
شَيا ِ ما ت َن َّزل َ ْ
ت بِ ِ -2بقوله َ
و َ 262
ن
عو َ
طي ُ
ست َ ِ
ما ي َ ْ
و َ
م َ غي ل َ ُ
ه ْ ي َن ْب َ ِ
-3قوله ) :من رآني في المنام فقد …( 263
-4عدم جواز أن يتمثل الشيطان بصورة النبي 263
-5فردانية المَلك الموكل بالوحي 264
هل اقترن بالنبيملك آخر غير جبريل 264
فرع :تحليل آيات الحج 266
أ -سننية هذه الشبهة في المم 266
ب-الوصف الدقيق لهيئة إفساد الشيطان عقول القوم وقلوبهم 267
ج-اللقاء الشيطاني معنوي وليس لفظيًا 268
د -الوسائل الوقائية والجتثاثية للقاء الشيطان المعنوي في 268
عقول الناس
-1المعية العلمية اللهية الحكيمة الحاكمة 268
- 2إزالة آثار الشبهة الشيطانية بالقدرة اللهية المباشرة 268
آياته -3إحكام ال 269
- 4بيان حكمة ال من تمكين الشيطان من ترويج شبهه 269
- 5تكفل ال بالهداية الدائمة للمؤمنين ،وبعصمة نبيهم 269
ل عن المر اللفظي من الخطأ في المر المعنوي الحال فض ً
الدائم التلوة
الشارة إلى تهافت قصة الغرانيق 270
رابعًا :دفع التخييل بشبهة السحر: 271
372
هل خرج النبي عن الطبيعة البشــرية 271
خروجا ً مطلقًا؟
مظاهر السحر الذي وقــع علــى النــبي 273
على قول مــن يثبتــه ،وهــي لــم تتعــد
التسلط على جسده
المبحث الثاني :دفع العوامل الداخلية 275
المطلب الول :معالجة مشكلة النسيان 275
النسيان في حقيقته اللغوية نوعان بعد الشيوع: 275
ضد الحفظ ،وهو المعنى الصلي ،والترك
-1معالجة هذه المشكلة ظهر من أول نـزول القرآن الكريم 276
- 2من أبرز اليات التي عالجت هذه المشكلة آيات سورة 276
العلى
-3ربط القرآن الكريم بينها وبين القوانين التي وضعها خالق 276
النسان في الكون
-4قطعت أنواط هذه المشككات بتقعيدين :عام وخاص: 277
العام هو :عصمة الشرع السلمي المطهر من غوائل 278
النقص ،والتغيير ،والنسيان ،من حيث كونه شرعًا إلهيًا خاتمًا
مهيمنًا
التقعيد الخاص :تكفل البتعطيل قانون النسيان في ذات 278
الرسول في …
-6هذه اليات ترسي أساس بقاء الُمْلَقى إلى حين أدائه تبليغًا 280
للناس
-7أخذت هذه الكفالة اللهية قدرها الضروري ،فإذا ما تم فإن 281
النبي يعود إلى حالته الطبيعية البشرية
شاءَ الل ُّهما َالستثناء في قوله تعالىِ : :إل َ 281
يدخل في هذا :نوعان يرجعان إلى الحقيقة اللغوية لمادة 281
373
"نسي" :أولهما :النسخ في العمل
وثانيهما :ما يعرض نسيانه للنبينسيانًا مؤقتًا 282
فوائد الستثناء ومقتضياته المنهجية في تعليم ألفاظ القرآن 285
الكريم
المطلب الثاني :معالجة مشكلة التهمة بقصور العاطفة 286
البشرية ،والتفكير البشري
تضمن قوله ب ِظِني ٍ
نأربعة أوجه تبين العجاز َ 286
البياني لهذه الية
ملحق :مناقشة علمية لتعريف القرآن الكريم 289
المبحث الول" :القرآن" في الوضع اللغوي ،ومقتضياته 289
المطلب الول :أقوال العلماء في الوضع اللغوي للقرآن 289
المطلب الثاني :مقتضيات مادة )القرآن( لغة 296
المبحث الثاني" :القرآن" في الوضع الصطلحي، 303
ومقتضياته
المطلب الول :بواعث تعريف القرآن اصطلحًا 303
المطلب الثاني :أقوال العلماء في الوضع الصطلحي لكلمة 305
"قرآن"
المطلب الثالث :إشارات عامة حول علقة التعريف 315
الصطلحي بألفاظ القرآن الكريم
فهرس المصادر 319
الفهرس الموضوعي :أ-الجمالي 340
ب-التفصيلي 343
374
375
376
377