You are on page 1of 6

‫باب إبطال االستحسان‬

‫( قال الشافعي ) وكل ما وصفت مع ما أنا ذاكر وساكت عنه اكتفاء بما ذكرت منه عما لم أذكر من حكم‬
‫هللا ثم حكم رسوله صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ثم حكم المسلمين دليل على أن ال يجوز لمن استأهل أن يكون‬
‫حاكما أو مفتيا أن يحكم وال أن يفتي إال من جهة خبر الزم وذلك الكتاب ثم السنة أو ما قاله أهل العلم ال‬
‫يختلفون فيه أو قياس على بعض هذا ال يجوز له أن يحكم وال يفتي باالستحسان إذ لم يكن االستحسان‬
‫واجبا وال في واحد من هذه المعاني ‪ ،‬فإن قال قائل فما يدل على أن ال يجوز أن يستحسن إذا لم يدخل‬
‫االستحسان في هذه المعاني مع ما ذكرت في كتابك هذا ؟ قيل قال هللا عز وجل { أيحسب اإلنسان أن‬
‫يترك سدى } فلم يختلف أهل العمل بالقرآن فيما علمت أن السدى الذي ال يؤمر وال ينهى ومن أفتى أو‬
‫حكم بما لم يؤمر به فقد أجاز لنفسه أن يكون في معاني السدى وقد أعلمه هللا أنه لم يتركه سدى ورأى‬
‫أ ن قال أقول بما شئت وادعى ما نزل القرآن بخالفه في هذا وفي السنن فخالف منهاج النبيين وعوام حكم‬
‫جماعة من روى عنه من العالمين ‪ ،‬فإن قال فأين ما ذكرت من القرآن ومنهاج النبيين صلى هللا عليهم‬
‫وسلم أجمعين ؟ قيل قال هللا عز وجل لنبيه عليه الصالة والسالم { اتبع ما أوحي إليك من ربك } وقال {‬
‫وأن احكم بينهم بما أنزل هللا وال تتبع أهواءهم } اآلية ثم جاءه قوم فسألوه عن أصحاب الكهف وغيرهم‬
‫فقال أعلمكم غدا يعني أسأل جبريل ثم أعلمكم فأنزل هللا عز وجل { وال تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا‬
‫إال أن يشاء هللا } اآلية وجاءته امرأة أوس بن الصامت تشكو إليه أوسا فلم يجبها حتى أنزل هللا عز وجل‬
‫{ قد سمع هللا قول التي تجادلك في زوجها } وجاءه العجالني يقذف امرأته قال لم ينزل فيكما وانتظر‬
‫الوحي فلما نزل دعاهما فالعن بينهما كما أمره هللا عز وجل وقال لنبيه { أن احكم بينهم بما أنزل هللا }‬
‫وقال عز وجل { يا داود إنا جعلناك خليفة في األرض فاحكم بين الناس بالحق } اآلية‪.‬‬

‫وليس يؤمر أحد أن يحكم بحق إال وقد علم الحق وال يكون الحق معلوما إال عن هللا نصا أو داللة من هللا‬
‫فقد جعل هللا الحق في كتابه ثم سنة نبيه صلى هللا عليه وسلم فليس تنزل بأحد نازلة إال والكتاب يدل‬
‫عليها نصا أو جملة ‪ ،‬فإن قال وما النص والجملة ؟ قيل النص ما حرم هللا وأحل نصا حرم األمهات‬
‫والجدات والعمات والخاالت ومن ذكر معهن وأباح من سواهن وحرم الميتة والدم [ ص‪ ] 314 :‬ولحم‬
‫الخنزير والفواحش ما ظهر منها وما بطن وأمر بالوضوء فقال { اغسلوا وجوهكم وأيديكم } اآلية فكان‬
‫مكتفى بالتنزيل في هذا عن االستدالل فيما نزل فيه مع أشباه له ‪ ،‬فإن قيل فما الجملة ؟ قيل ما فرض هللا‬
‫من صالة وزكاة وحج فدل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم كيف الصالة وعددها ووقتها والعمل فيها‬
‫وكيف الزكاة وفي أي المال هي وفي أي وقت هي وكم قدرها وبين كيف الحج والعمل فيه وما يدخل فيه‬
‫وما يخرج به منه ( قال الشافعي ) ‪ :‬فإن قيل فهل يقال لهذا كما قيل لألول قبل عن هللا ؟ قيل نعم ‪ ،‬فإن‬
‫قيل فمن أين قيل ؟ قبل عن هللا لكالمه جملة وقبل تفسيره عن هللا بأن هللا فرض طاعة نبيه فقال عز‬
‫وجل { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } وقال { من يطع الرسول فقد أطاع هللا } مع ما‬
‫فرض من طاعة رسوله ‪ ،‬فإن قيل فهذا مقبول عن هللا كما وصفت فهل سنة رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم بوحي ؟ قيل هللا أعلم أخبرنا مسلم بن خالد عن طاوس قال الربيع هو عن ابن جريج عن ابن‬
‫طاوس عن أبيه أن عنده كتابا من العقول نزل به الوحي‪.‬‬

‫( قال الشافعي ) وما فرض رسول هللا صلى هللا عليه وسلم شيئا قط إال بوحي فمن الوحي ما يتلى ومنه‬
‫ما يكون وحيا إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فيستن به أخبرنا عبد العزيز بن محمد عن عمرو بن‬
‫أبي عمرو عن المطلب بن حنطب أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال { ما تركت شيئا مما أمركم هللا‬
‫به إال وقد أمرتكم به وال شيئا مما نهاكم عنه إال وقد نهيتكم عنه وإنالروح األمين قد ألقى في روعي أنه‬
‫لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها فأحملوا في الطلب } ( قال الشافعي ) وقد قيل ما لم يتل قرآنا إنما‬
‫ألقاه جبريل في روعه بأمر هللا فكان وحيا إليه وقيل جعل هللا إليه لما شهد له به من أنه يهدي إلى صراط‬
‫مستقيم أن يسن وأيهما كان فقد ألزمهما هللا تعالى خلقه ولم يجعل لهم الخيرة من أمرهم فيما سن لهم‬
‫وفرض عليهم اتباع سنته ( قال الشافعي ) ‪ :‬فإن قال قائل فما الحجة في قبول ما اجتمع الناس عليه ؟‬
‫قيل لما أمر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بلزوم جماعة المسلمين لم يكن للزوم جماعتهم معنى إال‬
‫لزوم قول جماعتهم وكان معقوال أن جماعتهم ال تجهل كلها حكما هلل وال لرسوله صلى هللا عليه وسلم‬
‫وأن الجهل ال يكون إال في خاص وأما ما اجتمعوا عليه فال يكون فيه الجهل فمن قبل قول جماعتهم‬
‫فبداللة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قبل قولهم‪.‬‬

‫( قال الشافعي ) رحمه هللا وإن قال قائل أرأيت ما لم يمض فيه كتاب وال سنة وال يوجد الناس اجتمعوا‬
‫عليه فأمرت بأن يؤخذ قياسا على كتاب أو سنة أيقال لهذا قبل عن هللا ؟ قيل نعم قبلت جملته عن هللا ‪،‬‬
‫فإن قيل ما جملته ؟ قيل االجتهاد فيه على الكتاب والسنة ‪ ،‬فإن قيل أفيوجد في الكتاب دليل عن ما‬
‫وصفت ؟ قيل نعم نسخ هللا قبلة بيت المقدس وفرض على الناس التوجه إلى البيت فكان على من رأى‬
‫البيت أن يتوجه إليه بالعيان وفرض هللا على من غاب عنه البيت أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام‬
‫ألن البيت في المسجد الحرام فكان المحيط بأنه أصاب البيت بالمعاينة والمتوجه قصد البيت ممن غاب‬
‫عنه قابلين عن هللا معا التوجه إليه وأحدهما على اإلحاطة واآلخر متوجه بداللة فهو على إحاطة من‬
‫صواب جملة ما كلف وعلى غير إحاطة كإحاطة الذي يرى البيت من صواب البيت ولم يكلف اإلحاطة‬
‫( قال الشافعي ) ‪ :‬فإن قيل فيم يتوجه إلى البيت ؟ قيل قال هللا تعالى { هو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا‬
‫بها في ظلمات البر والبحر } وقال { وعالمات وبالنجم هم يهتدون } وكانت العالمات جباال يعرفون‬
‫مواضعها من األرض وشمسا وقمرا ونجما مما يعرفون من الفلك ورياحا يعرفون مهابها على الهواء‬
‫تدل على قصد البيت الحرام فجعل عليهم طلب الدالئل على شطر المسجد الحرام فقال { ومن حيث‬
‫خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره } وكان معقوال [ ص‪315 :‬‬
‫] عن هللا عز وجل أنه إنما يأمرهم بتولية وجوههم شطره بطلب الدالئل عليه ال بما استحسنوا وال بما‬
‫سنح في قلوبهم وال خطر على أوهامهم بال داللة جعلها هللا لهم ألنه قضى أن ال يتركهم سدى وكان‬
‫معقوال عنه أنه إذا أمرهم أن يتوجهوا شطره وغيب عنهم عينه أن لم يجعل لهم أن يتوجهوا حيث شاءوا‬
‫ال قاصدين له بطلب الداللة عليه‪.‬‬

‫( قال الشافعي ) وقال هللا عز وجل { وأشهدوا ذوي عدل منكم } وقال { ممن ترضون من الشهداء }‬
‫فكان على الحكام أن ال يقبلوا إال عدال في الظاهر وكانت صفات العدل عندهم معروفة وقد وصفتها في‬
‫غير هذا الموضع وقد يكون في الظاهر عدال وسريرته غير عدل ولكن هللا لم يكلفهم ما لم يجعل لهم‬
‫السبيل إلى عمله ولم يجعل لهم إذ كان يمكن إال أن يردوا من ظهر منه خالف العدل عندهم وقد يمكن أن‬
‫يكون الذي ظهر منه خالف العدل خيرا عند هللا عز وجل من الذي ظهر منه العدل ولكن كلفوا أن‬
‫يجتهدوا على ما يعلمون من الظاهر الذي لم يؤتوا أكثر منه‪.‬‬
‫( قال الشافعي ) وقال هللا جل ثناؤه { ال تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما‬
‫قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم } فكان معقوال عن هللا في الصيد النعامة وبقر الوحش وحماره‬
‫والثيتل والظبي الصغير والكبير واألرنب واليربوع وغيره ومعقوال أن النعم اإلبل والبقر والغنم وفي‬
‫هذا ما يصغر عن الغنم وعن اإلبل وعن البقر فلم يكن المثل فيه في المعقول وفيما حكم به من حكم من‬
‫صدر هذه األمة إال أن يحكموا في الصيد بأولى األشياء شبها منه من النعم ولم يجعل لهم إذ كان المثل‬
‫يقرب قرب الغزال من العنز والضبع من الكبش أن يبطلوا اليربوع مع بعده من صغير الغنم وكان‬
‫عليهم أن يجتهدوا كما أمكنهم االجتهاد وكل أمر هللا جل ذكره وأشبه لهذا تدل على إباحة القياس وحظر‬
‫أن يعمل بخالفه من االستحسان ألن من طلب أمر هللا بالداللة عليه فإنما طلبه بالسبيل التي فرضت عليه‬
‫ومن قال أستحسن ال عن أمر هللا وال عن أمر رسوله صلى هللا عليه وسلم فلم يقبل عن هللا وال عن‬
‫رسوله ما قال ولم يطلب ما قال بحكم هللا وال بحكم رسوله ‪ ،‬وكان الخطأ في قول من قال هذا ‪ ،‬بينا بأنه‬
‫قد قال ‪ :‬أقول وأعمل بما لم أومر به ولم أنه عنه وبال مثال على ما أمرت به ونهيت عنه وقد قضى هللا‬
‫بخالف ما قال فلم يترك أحدا إال متعبدا‪.‬‬

‫( قال الشافعي ) في قول هللا عز وجل { أيحسب اإلنسان أن يترك سدى } إن من حكم أو أفتى بخير‬
‫الزم أو قياس عليه فقد أدى ما عليه وحكم وأفتى من حيث أمر فكان في النص مؤديا ما أمر به نصا‬
‫وفي القياس مؤديا ما أمر به اجتهادا وكان مطيعا هلل في األمرين‪.‬‬

‫ثم لرسوله فإن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أمرهم بطاعة هللا ثم رسوله‬

‫‪ ،‬ثم االجتهاد فيروى { أنه قال لمعاذ بم تقضي ؟ قال بكتاب هللا قال ‪ ،‬فإن لم يكن في كتاب هللا قال بسنة‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال ‪ ،‬فإن لم يكن قال أجتهد قال الحمد هلل الذي وفق رسول رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم } وقال ‪ { :‬إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر } فأعلم أن‬
‫للحاكم االجتهاد والمقيس في موضع الحكم‬
‫(قال الشافعي ) ومن استجاز أن يحكم أو يفتي بال خبر الزم وال قياس عليه كان محجوجا بأن معنى‬
‫قوله أفعل ما هويت وإن لم أومر به مخالف معنى الكتاب والسنة فكان محجوجا على لسانه ومعنى ما لم‬
‫أعلم فيه مخالفا ‪ ،‬فإن قيل ما هو ؟ ‪.‬‬

‫قيل ال أعلم أحدا من أهل العلم رخص ألحد من أهل العقول واآلداب في أن يفتي وال يحكم برأي نفسه‬
‫إذا لم يكن عالما بالذي تدور عليه أمور القياس من الكتاب والسنة واإلجماع والعقل لتفصيل المشتبه فإذا‬
‫زعموا هذا قيل لهم ولم لم يجز ألهل العقول التي تفوق كثيرا من عقول أهل العلم بالقرآن والسنة والفتيا‬
‫أن يقولوا فيما قد نزل مما يعلمونه معا أن ليس فيه كتاب وال سنة وال إجماع [ص ] ‪: 316‬وهم أوفر‬
‫عقوال وأحسن إبانة لما قالوا من عامتكم ؟ ‪ ،‬فإن قلتم ألنهم ال علم لهم باألصول قيل لكم فما حجتكم في‬
‫علمكم باألصول إذا قلتم بال أصل وال قياس على أصل ؟ هل خفتم على أهل العقول الجهلة باألصول‬
‫أكثر من أنهم ال يعرفون األصول فال يحسنون أن يقيسوا بما ال يعرفون وهل أكسبكم علمكم باألصول‬
‫القياس عليهم أو أجاز لكم تركها ؟ فإذا جاز لكم تركها جاز لهم القول معكم ألن أكثر ما يخالف عليهم‬
‫ترك القياس عليها أو الخطأ‬
‫‪ ،‬ثم ال أعلمهم إال أحمد على الصواب إن قالوا على غير مثال منكم لو كان أحد يحمد على أن يقول على‬
‫غير مثال ألنهم لم يعرفوا مثاال فتركوه وأعذر بالخطأ منكم وهم أخطئوا فيما ال يعلمون وال أعلمكم إال‬
‫أعظم وزرا منهم أتركتم ما تعرفون من القياس على األصول التي ال تجهلون ‪ ،‬فإن قلتم فنحن تركنا‬
‫القياس على غير جهالة باألصل قيل ‪ ،‬فإن كان القياس حقا فأنتم خالفتم الحق عالمين به وفي ذلك من‬
‫المأثم ما إن جهلتموه لم تستأهلوا أن تقولوا في العلم وإن زعمتم أن واسعا لكم ترك القياس والقول بما‬
‫سنح في أوهامكم وحضر أذهانكم واستحسنته مسامعكم حججتم بما وصفنا من القرآن‬

‫‪ ،‬ثم السنة وما يدل عليه اإلجماع من أن ليس ألحد أن يقول إال بعلم وما ال تختلفون فيه من أن الحاكم لو‬
‫تداعى عنده رجالن في ثوب أو عبد تبايعاه عيبا لم يكن للحاكم إذا كان مشكال أن يحكم فيه وكان عليه‬
‫أن يدعو أهل العلم به فيسألهم عما تداعيا فيه هل هو عيب ‪ ،‬فإن تطالبا قيمة عيب فيه وقد فات سألهم‬
‫عن قيمته فلو قال أفضلهم دينا وعلما إني جاهل بسوقه اليوم وإن كنت عالما بها قبل اليوم ولكني أقول‬
‫فيه لم يسعه أن يقبل قوله بجهالته بسوق يومه وقبل قول من يعرف سوق يومه ولو جاء من يعرف سوق‬
‫يومه فقال إذا قست هذا بغيره مما يباع وقومته على ما مضى وكان عيبه دلني القياس على كذا ولكني‬
‫أستحسن غيره لم يحل له أن يقبل استحسانه وحرم عليه إال أن يحكم بما يقال إنه قيمة مثله في يومه ‪.‬‬

‫وكذلك هذا في امرأة أصيبت بصداق فاسد يقال كم صداق مثلها في الجمال والمال والصراحة والشباب‬
‫واللب واألدب فلو قيل مائة دينار ولكنا نستحسن أن نزيدها درهما أو ننقصها لم يحل له وقال للذي يقول‬
‫أستحسن أن أزيدها أو أنقصها ليس ذلك لي وال لك وعلى الزوج صداق مثلها وإذا حكم بمثل هذا في‬
‫المال الذي نقل رزيته على من أخذ منه ولم يسع فيه االستحسان وألزم فيه القياس وأهل العلم به ولم‬
‫يجهل ألهل الجهالة قياسا فيه ألنهم ال يعلمون ما يقيسون عليه فحالل هللا وحرامه من الدماء والفروج‬
‫وعظيم األمور أولى أن يلزم الحكام والمفتين ( قال الشافعي )أفرأيت إذا قال الحاكم والمفتي في النازلة‬
‫ليس فيها نص خبر وال قياس وقال أستحسن فال بد أن يزعم أن جائزا لغيره أن يستحسن خالفه فيقول‬
‫كل حاكم في بلد ومفت بما يستحسن فيقال في الشيء الواحد بضروب من الحكم والفتيا ‪ ،‬فإن كان هذا‬
‫جائزا عندهم فقد أهملوا أنفسهم فحكموا حيث شاءوا وإن كان ضيقا فال يجوز أن يدخلوا فيه وإن قال‬
‫الذي يرى منهم ترك القياس بل على الناس اتباع ما قلت قيل له من أمر بطاعتك حتى يكون على الناس‬
‫اتباعك ؟ أو رأيت إن ادعى عليك غيرك هذا أتطيعه أم تقول ال أطيع إال من أمرت بطاعته ؟ فكذلك ال‬
‫طاعة لك على أحد وإنما الطاعة لمن أمر هللا أو رسوله بطاعته والحق فيما أمر هللا ورسوله باتباعه‬
‫ودل هللا ورسوله عليه نصا أو استنباطا بدالئل أورأيت إذ أمر هللا بالتوجه قبل البيت وهو مغيب عن‬
‫المتوجه هل جعل له أن يتوجه إال باالجتهاد بطلب الدالئل عليه ؟ أورأيت إذا أمر بشهادة العدل فدل على‬
‫أن ال يقبل غيرها هل يعرف العدل من غيره إال بطلب الدالئل على عدله ؟ أورأيت إذا أمر بالحكم‬
‫بالمثل في الصيد هل أمر أن يحكم إال بأن يحكم بنظره ؟ فكل هذا اجتهاد وقياس أورأيت إذا أمر النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم باالجتهاد في الحكم [ص ] ‪: 317‬هل يكون مجتهدا على غير طلب عين وطلب‬
‫العين ال يكون إال باتباع الدالئل عليها وذلك القياس ألن محاال أن يقال اجتهد في طلب شيء من لم يطلبه‬
‫باحتياله واالستدالل عليه ال يكون طالبا لشيء من سنح على وهمه أو خطر بباله منه ‪.‬‬

‫(قال الشافعي )وإنه ليلزم من ترك القياس أكثر مما ذكرت وفي بعضه ما قام عليه الحجة وأسأل هللا‬
‫تعالى لي ولجميع خلقه التوفيق وليس للحاكم أن يقبل وال للوالي أن يدع أحدا وال ينبغي للمفتي أن يفتي‬
‫أحدا إال متى يجمع أن يكون عالما علم الكتاب وعلم ناسخه ومنسوخه خاصه وعامه وأدبه وعالما بسنن‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وأقاويل أهل العلم قديما وحديثا وعالما بلسان العرب عاقال يميز بين‬
‫المشتبه ويعقل القياس ‪.‬‬
‫فإن عدم واحدا من هذه الخصال لم يحل له أن يقول قياسا ‪ ،‬وكذلك لو كان عالما باألصول غير عاقل‬
‫للقياس الذي هو الفرع لم يجز أن يقال لرجل قس وهو ال يعقل القياس وإن كان عاقال للقياس وهو مضيع‬
‫لعلم األصول أو شيء منها لم يجز أن يقال له قس على ما ال تعلم كما ال يجوز أن يقال قس ألعمى‬
‫وصفت له اجعل كذا عن يمينك ‪ ،‬وكذا عن يسارك فإذا بلغت كذا فانتقل متيامنا وهو ال يبصر ما قيل له‬
‫يجعله يمينا ويسارا أو يقال سر بالدا ولم يسرها قط ولم يأتها قط وليس له فيها علم يعرفه وال يثبت له‬
‫فيها قصد سمت يضبطه ألنه يسير فيها عن غير مثال قويم وكما ال يجوز لعالم بسوق سلعة منذ زمان ثم‬
‫خفيت عنه سنة أن يقال له قوم عبدا من صفته كذا ألن السوق تختلف وال لرجل أبصر بعض صنف من‬
‫التجارات وجهل غير صنفه والغير الذي جهل ال داللة عليه ببعض علم الذي علم قوم كذا كما ال يقال‬
‫لبناء انظر قيمة الخياطة وال لخياط انظر قيمة البناء ‪ ،‬فإن قال قائل فقد حكم وأفتى من لم يجمع ما‬
‫وصفت قيل فقد رأيت أحكامهم وفتياهم فرأيت كثيرا منها متضادا متباينا ورأيت كل واحد من الفريقين‬
‫يخطئ صاحبه في حكمه وفتياه وهللا تعالى المستعان ‪ ،‬فإن قال قائل أرأيت ما اجتهد فيه المجتهدون كيف‬
‫الحق فيه عند هللا ؟ قيل ال يجوز فيه عندنا وهللا تعالى أعلم أن يكون الحق فيه عند هللا كله إال واحدا ألن‬
‫علم هللا عز وجل وأحكامه واحد الستواء السرائر والعالنية عنده وأن علمه بكل واحد جل ثناؤه سواء ‪،‬‬
‫فإن قيل من له أن يجتهد فيقيس على كتاب أو سنة هل يختلفون ويسعهم االختالف ؟ ‪.‬‬

‫أو يقال لهم إن اختلفوا ‪ :‬مصيبون كلهم أو مخطئون أو لبعضهم مخطئ وبعضهم مصيب ؟ قيل ال يجوز‬
‫على واحد منهم إن اختلفوا إن كان ممن له االجتهاد وذهب مذهبا محتمال أن يقال له أخطأ مطلقا ولكن‬
‫يقال لكل واحد منهم قد أطاع فيما كلف وأصاب فيه ولم يكلف علم الغيب الذي لم يطلع عليه أحد ‪ ،‬فإن‬
‫قال قائل فمثل لي من هذا شيئا قيل ال مثال أدل عليه من الغيب عن المسجد الحرام واستقباله فإذا اجتهد‬
‫رجالن بالطريقين عالمان بالنجوم والرياح والشمس والقمر فرأى أحدهما القبلة متيامنا منه ورأى‬
‫أحدهما القبلة منحرفة عن حيث رأى صاحبه كان على كل واحد منهما أن يصلي حيث يرى وال يتبع‬
‫صاحبه إذا أداه اجتهاده إلى غير ما أدى صاحبه اجتهاده إليه ولم يكلف واحد منهما صواب عين البيت‬
‫ألنه ال يراه وقد أدى ما كلف من التوجه إليه بالدالئل عليه ‪ ،‬فإن قيل فيلزم أحدهما اسم الخطأ قيل أما‬
‫فيما كلف فال وأما خطأ عين البيت فنعم ألن البيت ال يكون في جهتين ‪ ،‬فإن قيل فيكون مطيعا بالخطأ‬
‫قيل هذا مثل جاهد يكون مطيعا بالصواب لما كلف من االجتهاد وغير آثم بالخطأ إذ لم يكلف صواب‬
‫المغيب العين عنه فإذا لم يكلف صوابه لم يكن عليه خطأ ما لم يجعل عليه صواب عينه ‪ ،‬فإن قيل أفتجد‬
‫سنة تدل على ما وصفت ؟ قيل نعم ‪.‬‬

‫أخبرنا عبد العزيز بن محمد عن يزيد بن عبد هللا بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن بسر بن سعيد عن‬
‫أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول {‬
‫إذا حكم الحاكم [ص ] ‪: 318‬فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر }قال يزيد بن‬
‫الهاد فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم فقال هكذا حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة‬
‫‪ ،‬فإن قال قائل فما معنى هذا ؟ قيل ما وصفت من أنه إذا اجتهد فجمع الصواب باالجتهاد وصواب العين‬
‫التي اجتهد كان له حسنتان وإذا أصاب االجتهاد وأخطأ العين التي أمر يجتهد في طلبها كانت له حسنة‬
‫وال يثاب من يؤدي في أن يخطئ العين ويحسن من يؤدي أن يكف عنه وهذا يدل على ما وصفت من‬
‫أنه لم يكلف صواب العين في حال ‪ ،‬فإن قيل ذم هللا على االختالف قيل االختالف وجهان فما أقام هللا‬
‫تعالى به الحجة على خلقه حتى يكونوا على بينة منه ليس عليهم إال اتباعه وال لهم مفارقته ‪ ،‬فإن اختلفوا‬
‫فيه فذلك الذي ذم هللا عليه والذي ال يحل االختالف فيه ‪ ،‬فإن قال فأين ذلك ؟ قيل قال هللا تعالى { وما‬
‫تفرق الذين أوتوا الكتاب إال من بعد ما جاءتهم البينة }فمن خالف نص كتاب ال يحتمل التأويل أو سنة‬
‫قائمة فال يحل له الخالف وال أحسبه يحل له خالف جماعة الناس وإن لم يكن في قولهم كتاب أو سنة‬
‫ومن خالف في أمر له فيه االجتهاد فذهب إلى معنى يحتمل ما ذهب إليه ويكون عليه دالئل لم يكن في‬
‫من خالف لغيره وذلك أنه ال يخالف حينئذ كتابا نصا وال سنة قائمة وال جماعة وال قياسا بأنه إنما نظر‬
‫في القياس فأداه إلى غير ما أدى صاحبه إليه القياس كما أداه في التوجه للبيت بداللة النجوم إلى غير ما‬
‫أدى إليه صاحبه ‪ ،‬فإن قال ويكون هذا في الحكم ؟ قيل نعم ‪ ،‬فإن قيل فمثل هذا إذا كان في الحكم داللة‬
‫على موضع الصواب قيل قد عرفناها في بعضه وذلك أن تنزل نازلة تحتمل أن تقاس فيوجد لها في‬
‫األصلين شبه فيذهب ذاهب إلى أصل واآلخر إلى أصل غيره فيختلفان ‪ ،‬فإن قيل فهل يوجد السبيل إلى‬
‫أن يقيم أحدهما على صاحبه حجة في بعض ما اختلفا فيه ؟ قيل نعم إن شاء هللا تعالى بأن تنظر النازلة ‪،‬‬
‫فإن كانت تشبه أحد األصلين في معنى واآلخر في اثنين صرفت إلى الذي أشبهته في االثنين دون الذي‬
‫أشبهته في واحد وهكذا إذا كان شبيها بأحد األصلين أكثر‬

You might also like