You are on page 1of 372

‫مؤرشات قرآنية‬ ‫اسم الكتاب‬

‫‪64‬‬ ‫ترتيب الكتاب يف مطبوعات الدار‬


‫یونس یولداش‬ ‫حترير‬
‫فرقان جويك‬ ‫اإلخراج الفني‪/‬الغالف‬
‫الرتقيم الدويل‬
‫الطبعة األوىل‪ ،‬يونيو ‪2016‬‬ ‫الطبعة‬
‫‪27580‬‬ ‫رقم اإليداع‬
‫‪Nida Yayıncılık Dağıtım Pazarlama‬‬ ‫دار النرش‬
‫‪İç ve Dış Ticaret Ltd. Şti.‬‬
‫‪Balaban Ağa Mahallesi Büyük Reşit Paşa Caddesi‬‬
‫‪Yümni İş Merkezi No: 16/11 Fatih/İstanbul‬‬
‫‪Tel: 0212 527 93 86 Faks: 0212 635 03 58‬‬
‫‪nida@nidayayincilik.com.tr - nidayayincilik.com.tr‬‬
‫‪Step Ajans Matbaa Ltd. Şti.‬‬ ‫دار الطباعة‬
‫‪Göztepe Mahallesi Bosna Caddesi No: 11‬‬
‫‪Bağcılar/İstanbul - Tel: 0212 446 88 46‬‬
‫‪stepajans@stepajans.com - stepajans.com‬‬
‫‪Sertifika No: 12266‬‬

‫النارش‪ :‬دار النداء اسطنبول ‪ -‬تركيا ‪© 2016‬‬


‫مجيــع حقــوق املحفوظــة‪ ،‬وغــر مســموح بإعــادة نــر أو إنتــاج هــذا الكتــاب أو جــزء منــه أو ختزينــه عــى‬
‫أجهــزة اســرجاع أو اســرداد الكرتونيــة أو ميكانيكيــة أو نقلــه بــأي وســيلة أخــرى أو تصويــره أو تســجيله‬
‫عــى أي نحــو بــدون أخــذ موافقــة كتابيــة مســبقة مــن النــارش‪.‬‬
‫مؤرشات قرآنية‬
‫نموذج لرصد حركة املجتمع‬

‫دراسة متكاملة ونظرية جديدة عن الوحدة القرآنية وسنن التاريخ ‪.‬‬

‫د‪.‬نزار كريكش‬
‫‪5‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫اهدآء‬

‫إىل أمي و ابنيت قوت إىل زوجىت هاجر و ابين حممد‬

‫‪5‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪6‬‬

‫قصة هذا الكتاب‬


‫هــذه األفــكار الــي أقدمهــا للقــارئ الكــرمي ليســت حبثـاً جــاء مــن جمموعــة‬
‫‪ ‬من‬
‫علي ألحصل هبا على شهادة بعينها‪  ،‬أو موضوعاً طلب ّ‬ ‫حبوث عرضت ّ‬
‫أن أكتــب فيــه‪  ،‬بــل هــي فكــرة حقيقيــة ملكــت علـ ًّـي كيــاين وأخــذت جانبـاً مــن‬
‫عمــري ‪ ....‬احتضنــت فيهــا ‪ ‬فكــريت‪ ،‬أقبلهــا‪ ،‬وأقلّبُهــا ‪ ..‬أســهر إن أيقظتــي‬
‫وأانم وهــي يف خميلــي وخاطــري ‪.‬‬
‫كمــا أهنــا ليســت وليــدة ســنة أو ســنتني بــل ترعرعــت مــع عمــري وســي‬
‫حيــايت ‪...‬تغــرت وتبدلــت وتطــورت كلمــا مــر الزمــن ودارت األايم ‪ ...‬كمــا‬
‫أهنــا ليســت حصيلــة كتــب وقـراءات وإن كان للكتــاب احلــظ األوفــر منهــا‪ ،‬بــل‬
‫هــي خالصــة جتربــة وأتمــل يف احليــاة و يف واقــع األمــة ويف ‪ ‬الكتــاب املقــروء‬
‫واملنظــور ‪.‬‬
‫ُســر‪  ،‬وقيــد مــن القيــود‪ ،‬لــذا ســيلحظ القــارئ النبــه‬
‫والفكــرة أســر مــن األ ُ‬
‫إحلــاح الفكــرة علــى قلمــي كلمــا بــدا لــه أهنــا ‪ ‬ضاعــت وتركهــا البحــث يف‬
‫زمحــة ‪ ‬التفاصيــل واألحــداث ‪ .‬والبحــث جــاء مــن رغبــة صادقــة لــدي يف إيصــال‬
‫هــذه الفكــرة بطريقــة علميــة مقبولــة لعلهــا تســهم يف خــروج األمــة مــن كبوهتــا‬
‫ومعاانهتــا فنحــن أمــام حتــدايت كبــرة كلمــا خرجنــا مــن هـ ّـم ‪ ،‬دخلنــا يف اثن و‬
‫هــذا يعــي أننــا نعيــش أزمــة حقيقيــة يف صناعــة القـرار‪ ،‬والتخطيــط للمســتقبل ‪.‬‬
‫كانــت البدايــة عندمــا كنــت أدرس الطــب يف جامعــة العــرب الطبيــة‬
‫ببنغــازي يف ليبيــا و كنــا نــدرس دورة اخلليــة احليــة الــي متــر مبراحــل أربــع مــن‬
‫التكثــف والتقابــل و االنفصــال و االنقســام للخليــة احليــة‪ ،‬و قــد ال حظــت‬
‫يف دراســي لتفســر القــرآن الكــرمي قولــه تعــايل يف ســورة األنعــام ( إن هللا فــاق‬
‫‪7‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫احلــب و النــوى االايت ) أهنــا تنطــق مــن اخللــق للتقديــر للهدايــة إىل املــوت‬
‫و احليــاة‪ ،‬اســتقرآت األمــر فوجدتــه متكــرراً‪ ،‬فرغــم تنــوع املشــاهد الــي يذكرهــا‬
‫القــرآن للكــون‪ ،‬يف املطــر و الســحب و الفلــك و النبــات و األنعــام و األجنــة و‬
‫الثمــار و احلدائــق و األهنــار و اجلبــال و الـرايح ‪ ....‬رغــم تنــوع تلــك املشــاهد‬
‫إال أهنــا ترتــب وفــق ظواهــر جامعــه هــي اخللــق و التقديــر و اهلدايــة و املــوت‬
‫و البعــث‪ ،‬هــذا األمــر أاثر يف التناظــر بــن تلــك الــدورة اخللويــة الــي ختلــق هبــا‬
‫اخلليــة اجلديــدة ‪ ،‬و مضــى األمــر يف حالــة مــن التأمــل لكتــاب هللا ‪ ،‬و بعــد أن‬
‫أمتمــت ق ـراءة كتــاب األســاس يف التفســر للشــيخ ســعيد حــوى‪ ،‬وجــدت أنــه‬
‫‪7‬‬
‫يضــع جمموعــة حمــاور هــي الــي ميكــن أن تكــون القاعــدة الناظمــة لرتتيــب القــرآن‬
‫الكــرمي‪ ،‬قلــت يف نفســي مل ال تكــون القاعــدة مــن ســنن الوجــود‪ ،‬و أن احملــاور‬
‫الــي ال حظهــا الشــيخ يف ســجنه ماهــي إال ســنن رابنيــة رتبــت علــى أساســها‬
‫الســور القــرآن الكــرمي ‪.‬‬
‫حاولــت جاهــداً أن أبعــد الفكــرة عــن ذهــي لكنهــا كانــت تلــح بشــكل‬
‫دوري‪ ،‬ألين أخــاف مــن الوهــم أكثــر مــن احلقيقــة‪ ،‬لــذا قــررت أن أحبــث جبــد‬
‫عــن هــذا النســق‪ ،‬و بــدأت أحبــث عــن الوحــدة القرآنيــة و خرجــت مــن األمــر‬
‫بوجــود ســنن مخســة هــي اهلدايــة و التدافــع و التنــازع و اجلــزء و االســتخالف‬
‫هــي القاعــدة الناظمــة لرتتيــب جمموعــات خمتلفــة مــن الســور و أن احلــروف‬
‫املقطعــة يف بدايــة الســور قــد تشــر لتلــك اجملموعــات ‪.‬‬
‫مل ينتــه األمــر عنــد ذلــك فأخــذت هــذه اجملموعــات و قـرأت القــرآن بشــكل‬
‫عمــودي حبيــث أخــذت الســور الــي تنطلــق مــن ســنة اهلدايــة ( أو احملــور األول‬
‫عنــد الشــيخ ســعيد كمــا سنشــرح تفصي ـاً ) و حبثــت عــن الصفــات اجلامعــه‬
‫و هــل هنــاك مــا ميكــن أن جيعــل تلــك الســور تنطلــق مــن ســنة واحــدة رغــم‬
‫اختــاف وحــدة كل ســورة موضوعيـاً ؟ و وجــدت أن األســلوب جــد متشــابه‪،‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪8‬‬

‫فأســلوب الســور الــي تنطلــق مــن ســنة اهلدايــة يقــرر احلقائــق‪ ،‬فيــه القســم و‬
‫التقريــر و اجلــدل حــول عــدم اســتجابة الكافريــن لدعــوة النــي و ســنة هللا يف‬
‫اهلدايــة‪ ،‬حــى القصــص و املشــاهد الكونيــة و الــزوااي الــي تؤخــذ هبــا هــذه‬
‫القصــص كانــت يف نفــس الســياق فســياق بــي اسـرائيل يف ســورة البقــرة‪ ،‬و اهــل‬
‫الكتــاب يف ال عمـران‪ ،‬و غــرق فرعــون يف ســورة يونــس‪ ،‬و قصــة موســى عليــه‬
‫الســام يف طــه‪ ،‬و ســورة النــور‪ ،‬و ابتــاء األنبيــاء يف ســورة العنكبــوت و قصــة‬
‫الــروم يف ســورة الــروم و لقمــان و الســجدة و الصافــات و ص و الزمــر و غافــر‬
‫و قصــة مؤمــن آل فرعــون و القســم املتكــرر يف ســور املفصــل ‪ ....‬كل ذلــك‬
‫رغــم اختــاف ســياق تلــك الســور و موضوعاهتــا إال أن حديث ـاً عــن املســتقبل‬
‫و فعلــه يف النــاس سـواء بتعجــل وعــد هللا و امليــل حنــو املاديــة و الــدوران حوهلــا‬
‫كبــي اسـرائيل أو اإلميــان الــذي يتحقــق عنــد املفاجــأة و صدمــة اإلنســان حــن‬
‫يتقابــل مــع املســتقبل كمــا حــدث لفرعــون أو يف عجلــة بــي اســرآئيل يف طــه أو‬
‫ابهلدايــة و التثبــت و عــدم العجلــة كمــا يف النــور أو الصــر علــى البــاء و عــدم‬
‫االســتعجال أو يف قصــة الــروم الذيــن انتصــروا يف بضــع ســنني ‪ ....‬كل ذلــك‬
‫رغــم تنــوع الســياق و تباعــده إال أن خيط ـاً جامع ـاً ميكــن أن يضمــه هــو ســنة‬
‫اهلدايــة ‪.‬‬
‫فعلت ذلك يف ابقي الســنن ‪ :‬التدافع و التنازع و اجلزء و االســتخالف‬
‫و مجعــت الســور الــي رآهــا الشــيخ ســعيد حــوى متشــاهبة و مجعــت اخلصائــص‬
‫الــي متيزهــا يف نســق هــذه الســنن ‪.‬‬
‫مــن يــدرس تفســر القــرآن جيــد أن املفس ـرين أحيــاانً ينتبه ـوا لذلــك كمــا‬
‫ذكر ابن كثري عن ســور احلمد كفاطر و األنعام و امللك و غريها ففيها ســياق‬
‫متشــابه إىل حــد مــا ذكــره صاحــب الظــال كذلــك‪ ،‬و بقـراءة التحريــر و التنويــر‬
‫‪9‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫البــن عاشــور جتــده يذكــر ذلــك و حيــاول أن يفســر القــرآن بعضــه ببعــض‪ ،‬فهــل‬
‫ميكــن أن تكــون هنــاك قاعــدة جامعــه هلــذا األمــر ؟؟‬
‫بعــد ذلــك كان علــى أن أنظــر للتاريــخ‪ ،‬دخلــت للســجن عــام ‪ ،1998‬و‬
‫مل يكــن عنــدان ســاعتها مــن الكتــب مــا ميكــن أن يســاعد يف البحــث التارخيــي‬
‫إال كتــاابً واحــداً و هــو مقدمــة ابــن خلــدون‪ ،‬كانــت حلظــة ســعيدة عندمــا التقينــا‬
‫اببــن خلــدون يف تلــك األجــوآء الكئيبــة ‪.‬‬
‫قـرأت املقدمــة أكثــر مــن مــرة‪ ،‬و قــررت أن أكتــب مبــا أعــرف مــن أحــداث‬
‫التاريــخ عــن هــذه الســنن‪ ،‬عــام ‪ 2003‬بعــد أن حكمـ‪9‬ـت حمكمــة الشــعب علــي‬
‫ابلســجن ملــدة عشــر ســنوات بتهمــة تشــكيل حــزب سياســي‪ ،‬يف ذلــك التاريــخ‬
‫كان نظــام القــذايف حيــاول أن يلتحــق ابجملتمــع الــدويل و انعكــس ذلــك علــى‬
‫حالنــا يف الســجن فســمح لنــا إبدخــال الكتــب ‪.‬‬
‫و قــد كان لدينــا مكتبــة كبــرة ‪ -‬ألن الــكل حيظــر مالديــه مــن كتــب ‪-‬‬
‫و كان األمــن الداخلــي حيفــظ الكتــب الــي يصادرهــا مــن املثقفــن مــن كل‬
‫التيــارات يف مكتبــة يف ســجن أيب ســليم بطرابلــس‪ ،‬و نظـراً ألين كنــت طبيبـاً يف‬
‫عيــادة الســجن مســح لنــا مبشــاهدة تلــك املكتبــة‪ ،‬و كنــت أعطــي بعــض حــرس‬
‫الســجن املــال ليحضــر يل كتــب عــامل املعرفــة لــوزارة الثقافــة الكويتيــة و كانــت‬
‫مــادة غنيــه جــداً للبحــث ‪.‬‬
‫يف تلــك الفــرة تفتــح ذهــي إىل صعوبــة األمــر فمــن غــر املعقــول اســتقراء‬
‫التاريــخ الــذي مــل مــن هــذه االســتقراءآت‪ ،‬لــذا كان علــى دراســة جمموعــة علــوم‬
‫كاالقتصــاد مبعونــة الدكتــور عبــد هللا شــاميه اســتاذ علــم االقتصــاد يف جامعــة‬
‫قاريونــس فكنــا نتــدارس بعــض الكتــب و بعــض احملاض ـرات الــي كان يلقيهــا‪،‬‬
‫كمــا أن اســتفدت مــن بعــض األفاضــل و أغلبهــم مــن أســاتذة اجلامعــات‪ ،‬و‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪10‬‬

‫ال أنســى عندمــا بعــث يل شــقيقي ‪-‬و امســه فــرج‪ -‬كتــاب تزفينــان تيــودوروف‬
‫عنوانــه فتــح أمريــكا‪ ،‬و كيــف أعجبــي الكتــاب واســتفدت منــه يف هــذا البحــث‪.‬‬
‫خرجــت مــن الســجن عــام ‪ 2006‬بعــد ضغــط مــن املنضمــات احلقوقيــة‪،‬‬
‫حيــث كنــا مــن ضمــن القائمــة الــي وصــف ســجنها أبنــه خمالــف حلقــوق اإلنســان‬
‫و حريــة ال ـرأي‪ ،‬و بعــد خروجنــا مــن الســجن مل نكــن نعــرف االنرتنــت و ال‬
‫اهلواتــف النقالــة‪ ،‬ألهنــا انتشــرت متأخــرة يف ليبيــا‪ ،‬فكنــت مســتغرب جــداً مــن‬
‫االنرتنــت وكنــت بســذاجة اختــره يف كل مــا أحبــث عنــه ‪.‬‬
‫كان البحــث مكتــوابً ابليــد و كان علــي أن أكمــل مســريت التعليميــة يف‬
‫جمــال الطــب‪ ،‬و كان الكتــاب يف حـوايل أربعمائــة صفحــة مكتوبــة يف كراســات‬
‫مــن احلجــم الكبــر مبراجعــه الكثــرة الــي تراكمــت خــال ســنوات الســجن ‪.‬‬
‫بعــد أن أكملــت دراســي بــدأت يف البحــث مــن جديــد و تعرفــت علــى‬
‫كارل بوبــر و كتبــه يف الســجن لكــن املســري كان بعــد الســجن و كذلــك‬
‫بــدأت أق ـرأ لكثرييــن ممــن ذكرهتــم يف مقدمــات البحــث ‪ .‬دراســي للماجســتري‬
‫عــن العنــاايت الفائقــة و مشــروع البحــث عــن ادارة ا جلــودة يف العنــاايت فتحــت‬
‫ذهــي علــى جمــال مهــم جــداً و هــو تكويــن النمــاذج و بنــاء املؤش ـرات‪ ،‬و هــو‬
‫اجملــال الــذي يتميــز بــه ختصصــي‪ ،‬لــذا كنــت أدرس كيفيــة تشــكيل هــذه النمــاذج‬
‫و قياســها مث تعرفــت علــى نظريــة الســرد و عالقــة ذلــك ابالس ـراتيجيا‪ ،‬و كل‬
‫ذلــك أفــادين أبن فكــرة وجــود مســلمات و منــاذج معرفيــة ممكنــة و أن خــوف‬
‫املفكريــن اإلســاميني و جهلهــم ابلكــون و تفاصيــل تكوينــه قــد انعكــس ( علــى‬
‫عكــس مــا هــو شــائع مــن أن الدارســن للكــون عليهــم أن يبتعــدوا عــن اجملــاالت‬
‫اإلنســانية ) يف اخلــوف مــن البحــث يف هــذه احليــاة ‪.‬‬
‫‪11‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫بعــد ذلــك كان علــى أن أقــارن ذلــك بكثــر مــن الكتــب و النظـرايت و قــد‬
‫فعلــت‪ ،‬و أفــدت كثـراً مــن كتــب فرانســيس فوكوايمــا و كتــب لورنــس فريدمــان‬
‫و كتــب عبــد الوهــاب املســري و الفيلســوف التونســي أبــو يعــرف املرزوقــي و‬
‫غريهــم ‪.‬‬
‫الفكــرة كانــت واضحــة يف ذهــي و كنــت أقــرب مــن هــؤالء املفكريــن‬
‫عــر ماأريــد ال عــر مــا يكتبــون و كنــت أدرس الفكــر اإلســامي و تبــن يل‬
‫بوضــوح أن تفــكك النــص و عــدم الربــط بــن موضوعيــة الســورة ووحــدة القــرآن‬
‫لــن توصــل الفكــر اإلســامي لصياغــات نظريــة مهمــا‪11‬طــال الزمــن‪ ،‬ألن القــرآن‬
‫واضــح يف صياغــة هــذا التفكــر و اخلارطــة الذهنيــة الــي نبحــث هبــا يف الكــون‬
‫و اجملتمــع و كنــت أقــول لنفســي إن مل تكــن هدايــة القــرآن يف منهــج البحــث و‬
‫النظــر يف الوجــود فمــا هــي اهلدايــة ؟ ‪.‬‬
‫ال يزال االعتقاد راســخاً يف ذهين أن تفكيك النص عرب االســتقراء الذي‬
‫يتجــاوز ترتيــب القــرآن و نســقه قــد يفيــد يف الفقــه و مقاصــد الش ـريعة و غــر‬
‫ذلــك‪ ،‬أمــا أن تكــون هنــاك نظـرايت واضحــة لدراســة التاريــخ و تتبــع مســارات‬
‫األحــداث فهــذا لــن حيــدث ‪ ،‬لــذا تعطلــت مســرة اإلصــاح و كانــت نســخ‬
‫مكــررة مــن نســق كــوين فكــري يؤخــذ يف الغالــب مــن الغــرب و عصــر األنـوار ‪.‬‬
‫لــذا أقــول هــذا املبحــث قــرآين املصــدر ‪ ..‬ابلقــرآن بــدأت وإليــه عــدت ‪،‬‬
‫كتــب جــزء كبــر مــن الكتــاب‪ ‬أو جلّــه يف الســجن حيــث قضيــت فيــه أكثــر‬
‫مــن ســبع ســنابل خضــر مــن أعوامــي ‪ ،‬و ســيلحظ القــارئ تنــوع مشــارب هــذا‬
‫الكتــاب ‪ ،‬ولكنهــا تعــود كلهــا إىل فكــرة أساســية هــي الــي مــن أجلهــا ُكتبــت‬
‫هــذه الســطور ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪12‬‬
‫‪13‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫مقدمة‬
‫القــرآن الكــرمي وحــدة واحــدة ‪ُ ،‬يق ـرأ كجملــة واحــدة ‪  ،‬وترتيبــه رابين‬
‫موقــوف ‪ ،‬وأســاس هــذا الرتتيــب هــو الســنن ‪ ‬اإلهليــة الــي تتكــرر كقاعــدة‬
‫تنطلــق منهــا الســور‪ ،‬وهــي مخــس ســنن‪ ،‬اهلدايــة‪13،‬و التدافــع‪ ،‬و التفــاوت‪،‬‬
‫و اجلـزاء‪ ،‬و االســتخالف‪ ،‬وميكــن الربــط بينهــا يف منــوذج واحــد ميكننــا مــن‬
‫دراســة الواقــع وصناعــة املؤشـرات الــي نرصــد ونتوقــع هبــا حركــة اجملتمــع ‪.‬‬
‫هــذه فكــرة هــذا الكتــاب‪ ،‬و كمــا تــرى أن الربــط بــن القــرآن و بــن الســنن‬
‫ليــس جبديــد لكــن الربــط بــن الوحــدة القرانيــة و ترتيــب القــرآن و الســنن األهليــة‬
‫هــذا هــو اجلديــد‪ .‬و مــن الصعوبــة مبــكان أن ينقــل املفكــر أو الكاتــب فكرتــه‬
‫دون أن تســقط عديــد األفــكار أثنــاء الكتابــة و اإلخ ـراج‪ ،‬لــذا بعــد أكثــر مــن‬
‫عشــر ســنوات كان السـؤال الــذي أطرحــه علــى نفســي هــو الكيفيــة الــي ميكــن‬
‫أن نعــرض هبــا هــذه الفكــرة و نتحقــق مــن هــذه الفرضيــة ‪.‬‬
‫للتحقــق مــن هــذه الفرضيــة كان البــد مــن توضيــح أمهيــة هــذا املوضــوع‬
‫ووضعــه يف ســياق منهجــي وفكــري يربــط بــن الفكــر اإلســامي وتفســر القــرآن‬
‫بعــد أن نضــع تصــوراً علمي ـاً لتطــور الفكــر اإلنســاين ‪ .‬وكان البــد مــن عــرض‬
‫مفهــوم النمــوذج وحتليــل النمــوذج املطــروح عــر شــرح للســنن اخلمســة وكيــف‬
‫عرضــت يف القــرآن و حدثــت يف التاريــخ ‪ ،‬مث الربــط بــن عناصــر النمــوذج‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪14‬‬

‫وصناعــة مؤش ـرات لرصــد حركــة اجملتمــع‪ ،‬مث الشــرح العلمــي لنظريــة الوحــدة‬
‫القرآنيــة بنــاءً علــى هــذه الســنن ‪.‬‬
‫ـال هــذا الــكل قــدر اإلمــكان إىل‬
‫انتقلنــا مــن اجلــزء إىل الــكل‪ ،‬وحاولنــا إمجـ َ‬
‫حني عرض عناصر النموذج مث تركيبها يف منوذج واحد من أجل تســهيل فهم‬
‫الفكــرة‪ ،‬وإن كان لالســتقراء دور كبــر يف اجيــاد العناصــر املكونــة للنمــوذج ‪.‬‬
‫يف البدايــة كان هنــاك فصــل متهيــدي وهــو عبــارة عــن جمموعــة حماض ـرات‬
‫كتبتهــا يف الســجن والقيتهــا يف ذلــك اجلــزء املهجــور مــن العــامل‪ ،‬وحتدثــت‬
‫فيهــا عــن فلســفة ‪ ‬التاريــخ و أهــم النظـرايت املتوفــرة يف هــذا اجملــال‪ ،‬وبعــد هــذا‬
‫التمهيــد حاولــت أن أبــن أمهيــة املوضــوع مــن حيــث ‪:‬‬
‫‪ -١‬سياق الفكر اإلسالمي والفلسفة العاملية ‪.‬‬
‫‪ -٢‬الربــط بــن النبــوة ( أو دراســة املســتقبل ) والرســالة (أو االهتمــام‬
‫مبوضــوع الش ـريعة اإلســامية) وكــون االهتمــام كان منصب ـاً علــى الثــاين دون‬
‫األول ‪ ‬ممــا قـ ّـزَم فقــه الواقــع إىل جمــرد معرفــة لتحقيــق منــاط أو فهــم جممــل دون‬
‫وجــود نظريــة هاديــة أو منــوذج لدراســة املســتقبل ووضــع الســيناريوهات احملتملــة‬
‫لــه ‪.‬‬
‫‪ -٣‬الفصــام املوجــود بــن التطــور الفكري‪ ‬النهضــوي والنظـرايت الــي هتتــم‬
‫ابلوحــدة القرآنيــة والوحــدة املوضوعيــة لســور القــرآن الكــرمي دون أن نــرى أث ـراً‬
‫لألخــرة علــى األوىل‪ ،‬بــل ظــل االســتدالل والبحــث يـراوح بــن اآلايت مــن هنــا‬
‫وهنــاك أو اســترياد املعرفــة وأســلمتها دون مراعــاة ملنهــج أو حماولــة لبنــاء منــاذج‬
‫تنبــع مــن ثقافــة القــرآن ومائدتــه ‪.‬‬
‫‪15‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫وبعــد ذلــك انطلــق البحــث ‪ ‬لشــرح النمــوذج املطــروح والفرضيــة ‪ ‬األساســية‬


‫عــن القــرآن فشــرحت النمــوذج بشــكل كلــي مث انتقلــت مــن الــكل إىل اجلــزء‬
‫فشــرحت كل ســنة مــن الســنن اخلمــس مــن حيــث القــرآن الكــرمي الــي عــرض‬
‫مــن خالهلــا الســور الــي تشــرك يف االنطــاق مــن الســنة الواحــدة علــى اختــاف‬
‫مواضيعهــا واخليــط اجلامــع بــن تلــك الســور وأردف ذلــك بوضــع ســيناريو لــكل‬
‫ســنة ميكننــا مــن وضــع تلــك الســنة يف متتاليــة متكننــا مــن رؤيــة أثــر الســنة‬
‫ومتظهرهــا عــر التاريــخ كمــا ســيأيت ‪ .‬ملــا انتهــى البحــث مــن ذلــك ‪ ،‬كان هنــاك‬
‫فصــل لعــرض النمــوذج عــر فكــرة ( العــن التارخييــة ) ‪.‬‬
‫‪15‬‬
‫يف الفصــل األخــر كان الرتكيــز علــى الفرضيــة األساســية وهــي الوحــدة‬
‫القرآنيــة فعرضــت للســور الــي انطلقــت منهــا هــذه الســنن ‪ ،‬فكانــت كل الســور‬
‫توضــع لتعــر عــن منطلــق واحــد يف شــكل أفقــي‪ ،‬وانتهــى بنــا األمــر إىل عــدة‬
‫جمموعــات كل جمموعــة تبــدأ بســورة تنطلــق ( وليــس موضوعهــا ) مــن ســنة‬
‫اهلدايــة مث التدافــع مث التفــاوت مث اجل ـزاء مث االســتخالف وتبــدأ جمموعــة أخــرى‬
‫بســور تنطلــق مــن تلــك الســنن بنفــس الرتتيــب و هكــذا ‪.‬‬
‫إذا كان الــكالم صفــة املتكلــم فلــم ال نبحــث عــن الســياق القــرآين‬
‫العــام ‪ ‬لنعــرف خارطــة الطريــق لطبــع الوجــود بعــد أن ثبتــت وقفيــة هــذا الرتتيــب‬
‫!!‪...‬ملَ نظــل نبحــث يف الواقــع بــا نظريــة و ال بوصلة‪  ‬هاديــة ؟ مل نصــر‬
‫علــى االرتبــاط هبرميــة النظــر للمجتمــع عــر تصدعــات نظريــة التطــور و تنــازع‬
‫البقــاء ‪ ‬بظــروف علميــة خمتلفــة متام ـاً عــن الواقــع و الثقافــة اإلســامية ؟ ‪.‬‬
‫هذا ابختصار ما سنبحر فيه عرب صفحات هذا الكتاب ‪....‬‬
‫‪ -‬فصول متهيدية عن فلسفة التاريخ ‪.‬‬
‫‪ -‬فصل عن السنن االجتماعية ومفهومها وعالقتها بدراسة املستقبل ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪16‬‬

‫‪ -‬فصول عن السنن اخلمس وعرض تفصيلي لتلك السنن ‪.‬‬


‫‪ -‬فصــل عــن صناعــة النمــوذج الكلــي وبنــاء املؤش ـرات لرصــد حركــة‬
‫اجملتمــع‪.‬‬
‫‪ -‬فصل عن الوحدة القرآنية والفرضية األساسية للكتاب ‪.‬‬
‫ويف ما يلي أبرز األفكار اليت هي جوهر هذا الكتاب ‪:‬‬
‫الفكــرة األوىل‪ :‬هنــاك الكثــر مــن الدع ـوات للتجديــد ‪ ،‬ولكنهــا ظلــت‬
‫تنطلــق مــن نظـرايت ال تــدرك النــص اإلدراك الكامــل ‪ ،‬ومــن درس النــص ظــل‬
‫منقطع ـاً عــن الكثــر مــن النظ ـرايت الــي ختــدم فهــم داللــة اخلطــاب القــرآين ‪،‬‬
‫فليــس هنــاك معرفــة كافيــة بعلــوم خمتلفــة كاللســانيات وفلســفة التاريــخ وعلــم‬
‫االقتصــاد وعلــم االجتمــاع ‪.‬‬
‫لــذا فضــرورة فهــم الســياق التارخيــي والفكــري لفهــم تطــور الفكــر اإلســامي‬
‫قضيــة مهمــة ‪ ،‬فتصنيفهــا علــى أســاس إســامي ولي ـرايل ويســاري ال ميكننــا‬
‫مــن النظــر ‪ ‬لفكــر النهضــة ‪ ‬كظاهــرة حضاريــة ختــص منطقــة معينــة مــن العــامل‬
‫وابلتــايل ال ميكننــا مــن فهــم املســار الطبيعــي هلــذا الفكــر ‪.‬‬
‫( إن أغلــب املنهجيــات والنظ ـرايت املأخــوذ هبــا يف نقــد ال ـراث يصعــب‬
‫قبــول أغلــب نتائجهــا ‪ ،‬وإن ســلمنا جــدالً ببعــض مســلماهتا ‪ ،‬فمــن الصعــب‬
‫قبــول أغلــب مســلماهتا‪ ،‬و إن قبلنــا جــدالً مســلماهتا ‪ ،‬فمــن الصعــب قبــول‬
‫أغلــب نتائجهــا ‪ ،‬وبعضهــا اآلخــر وإن قبلنــا نظ ـرايً نتائجهــا‪ ،‬فمــن الصعــب‬
‫قبــول أغلــب تطبيقاهتــا ؛ وترجــع هــذه الصعوبــة إىل وقــوع هــذه املنهجيــات‬
‫والنظـرايت يف أخطــاء صرحيــة بصــدد مضامــن الـراث‪  )....‬حـوارات مــن أجــل‬
‫املســتقبل د طــه عبــد الرمحــن الشــبكة العربيــة لألحبــاث والنشــر ‪.‬ص‪17‬‬
‫‪17‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫الفكــرة الثانيــة‪ :‬هــي قضيــة عــدم التناســق بــن التطــور الــذي حصــل‬
‫يف علــم التفســر والفكــر اإلســامي ‪ ،‬فمــازال األول مفصــوال عــن الثــاين ‪،‬‬
‫واالســتدالل عادة ما يكون عرب مفردات القرآن ال ســياقه العام ‪ ،‬وكما حيدث‬
‫يف اإلعجاز العلمي ‪ -‬من حماولة لفهم الظاهرة الكونية وإتباعها آبايت قرآنية‬
‫تنــزع مــن ســياقها وهــذا ال غبــار عليــه مــن انحيــة االســتدالل كمــا هــو الفقــه‬
‫بصفــة عامــة ‪ - ‬حيــدث يف جمــال الفكــر واحلركــة ‪ ،‬والصـواب بعــد التحقيــق هــو‬
‫أن القــرآن يرســم منــاذج لفهــم الكــون واجملتمــع ‪ ‬كإطــار للبحــث وليــس التفصيــل‬
‫يف مفــردات بعينهــا ‪ ( .‬انظــر الشــاطيب اجلــز الثــاين مــن املوافقــات‪ :‬املقاصــد‬
‫‪17‬‬
‫وتفصيــل طــرق االســتدالل ) ‪.‬‬
‫و يرجــع الســبب ‪ ‬يف ذلــك – يف وجهــة نظــري ‪ -‬إىل الرتكيــز علــى‬
‫الرســالة ( أو اجلانــب التش ـريعي ) وإمهــال النبــوة والقضــااي التكوينيــة الطبيعيــة‬
‫‪ ،‬أي االهتمــام بتطبيــق القــرآن دون االهتمــام بوضــع ســياق اترخيــي لفهــم‬
‫الكــون ‪ ‬والتاريــخ مــن القــرآن نفســه الــذي يصفــه مــن أنزلــه بقولــه ( قــل أنزلــه‬
‫الــذي يعلــم الســر يف الســموات واألرض ‪( )..,‬الفرقــان اآليــة ‪ ) 6‬هــذا الســر‬
‫مل نســتنبطه ‪ ‬مــن القــرآن بــل توجــه النمــوذج الفكــري عنــدان إىل مســار آخــر ‪،‬‬
‫انتهــى بنــا إىل معركــة بــن أنصــار الش ـريعة وبــن آخريــن أهلتهــم ‪ ‬بالبــل أوروبيــة‬
‫أحيــاانً وفكرانيــة ‪ ‬برانيــة عــن واقــع أليــم ‪.‬‬
‫الفكــرة الثالثــة‪ :‬وهــي تكويــن النمــوذج الــذي ميكننــا مــن رصــد حركــة‬
‫اجملتمــع عــر مــا مسينــاه العــن التارخييــة و هــي النظــر للمجتمــع يف فــرة زمنيــة‬
‫حمــددة‪ ،‬وأخــذ هــذه الصــورة الفوتوغرافيــة أو‪ ‬اللوحــة الزيتيــة وأتملهــا ودراســتها‬
‫من كل اجلوانب ( كما حاول االستاذ سراج الطياري مشكوراً تصميم غالف‬
‫الكتــاب ) ووضــع املؤش ـرات الــي تتنبــأ حبركــة كل عناصــر اللوحــة مــن خــال‬
‫جمموعــة مــن القواعــد والســيناريوهات الــي دلــت عليهــا الوحــدة القرآنيــة !!‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪18‬‬

‫هــذه الوحــدة القرآنيــة هــي أهــم مــا يف هــذا ‪ ‬البحــث وهــو الربــط بــن‬
‫الرتتيــب القــرآين والســنن اإلهليــة و هــو مــا مل نــر أحــداً أشــار إليــه وإن كان ألصــل‬
‫التقســيم والنظــر للوحــدة القرآنيــة مــن خــال األقســام القرآنيــة واجملموعــات‪ ‬‬
‫(وإعــادة ‪ ‬فهــم لفواتــح الســور تبعـاً لذلــك ) اتريــخ طويــل أفــردان لــه فصـاً خاصـاً‬
‫حــى ال يبــدو الــكالم جمــرد أفــكار مبعثــرة ‪.‬‬
‫الفكــرة الــي ذكــرت أثنــاء احلديــث عــن ســنة االســتخالف و هــي سلســلة‬
‫نقــل احلضــارات أظنهــا جديــرة ابالهتمــام ألهنــا تربــط بــن قضيــة النظــر للتاريــخ‬
‫كخــط متصــل والنظــر إليــه كــدورة متتاليــة‪ ،‬وقــد جــاءت هــذه الفكــرة مــن فهــم‬
‫لنظريــة سلســلة نقــل اإللكــروانت يف علــم الكيميــاء احليويــة و الــي كانــت مبثابــة‬
‫ثــورة يف هــذا العلــم ‪.‬‬
‫هــذه هــي األفــكار األساســية يف هــذا الكتــاب ‪ ،‬و الــي أمتــى أن تصــل‬
‫للقــارئ الكــرمي الــذي اعتــره مســؤوالً عنهــا مبجــرد قناعتــه هبــا ألننــا كمســلمني‬
‫مؤمنــن مــن كل التيــارات و األفــكار و املشــارب ابلقــرآن الكــرمي مســئولون عــن‬
‫فهــم هــذا الكتــاب والعمــل كل حســب مــا فتــح لــه مــن نوافــذ الفهــم وروزنتــه ‪ ،‬و‬
‫لوال الشــعور هبذه املســؤولية ملا كتبنا هذا الكتاب ‪ ،‬ولكنها مســئولية وكما قلنا‬
‫أســر أىب هللا إال أن يظهــر للعيــان ‪ ،‬أخرجــه الــذي خيــرج اخلــبء يف الســموات‬
‫واألرض ‪ ‬وهــو حســبنا وعليــه التــكالن وهللا املوفــق واهلــادي إىل سـواء الســبيل ‪.‬‬
‫‪19‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫الفصل األول*‬

‫تفسري التاريخ‪( :‬التحليل – التفسري – الفلسفة )‬

‫بني احلضارة و التطور ‪:‬‬


‫لقــد شــهد العصــر احلديــث ب ـوادر تفتــح مناهــج كثــرة لتفســر حركــة‬
‫التاريــخ‪ ،‬وقــد أفســحت هــذه املناهــج اجملــال واســعا‪19‬لدراســة عوامــل التحضــر‬
‫املاديــة واملعنويــة واالجتماعيــة واالقتصاديــة ‪ ...‬ودراســة التاريــخ دراســة حضاريــة‬
‫شــاملة حتليلية ال تقتصر علي األحداث‪ ،‬ورواية األخبار العســكرية و الرســائل‬
‫السياســية دون حبــث العوامــل املؤديــة إليهــا و النظــر ايل كيــان األمــة التارخيــي‬
‫نظــرة شــاملة تضــم كافــة جوانــب احليــاة فيهــا وحبــث عالقاهتــا ‪.‬‬
‫انتقــل العقــل البشــري ‪-‬هنــا يف املؤرخــن ‪ -‬مــن املنهــج الوصفــي الــذي‬
‫يصــف األحــداث بزماهنــا و مكاهنــا ايل املنهــج التفســري ‪ ،‬الــذي حيــاول‬
‫البحــث عــن األســباب واملســببات ومــن مث القوانــن الــي تصــل بنــا ايل شــاطئ‬
‫األمــان أي القــدرة علــي توقــي األخطــار قبــل وقوعهــا ‪ ،‬ومعرفــة العجــز قبــل‬
‫الصــدر أو قــل التوقــع الصــادق ‪.‬‬
‫‪ .1‬احلضارة ودور التاريخ ‪ ..‬من ابن خلدون إيل توينيب ‪.‬‬
‫‪ .2‬السري حنو املستقبل ‪ ..‬هناية التاريخ ‪.‬‬

‫البحث عن اللؤلؤة‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪20‬‬

‫تراكــم الوعــي التارخيــي يف األمــة االســامية ايل أن بلــغ الســيل الــزىب‪،‬‬


‫فتسـربت ميــاه املعرفــة مــن لســان عاملنــا ومفكـران اإلســامي ابــن خلــدون (‪.)1‬‬
‫فســبق التاريــخ أبســئلته و مالحظاتــه مــن خــال مقدمتــه الــي عرفــت مبقدمــة‬
‫ابــن خلــدون والــي انتقــل فيهــا مــن املنهــج الوصفــي إيل املنهــج التفســري قبــل‬
‫أن ينــادي بذلــك بعــض املؤرخــن يف األزمنــة املتأخــرة مفتتح ـاً بذالــك فكــرة‬
‫الــدورة التارخييــة ‪.‬‬
‫وإذا تركنــا ابــن خلــدون قلي ـاً‪ ،‬وســنعود إليــه فإننــا جنــد أ ّن البحــث عــن‬
‫القانون العام الشامل الذي يفسر لنا حركة التاريخ قد صاحب املوجة العارمة‬
‫الــي شــهدها القــرن الثامــن عشــر‪ ،‬واحلمــى الــي أصابــت الغــرب فجعلــت‬
‫مفكريــه يبحثــون عــن اللؤلــؤ يف كل شــيء‪ ،‬يف الطبيعــة بقوانــن امليكانيكيــة‬
‫عنــد إســحاق نيوتــن { ‪ ، } 1727 – 1642‬وبــن الفل ـزات يف كيميائهــا‬
‫مــن قوانــن عنــد لــوزان أبــو الكيميــاء احلديثــة { ‪ } 1794 – 1742‬وعلــوم‬
‫احليــاة وميكانيكيتهــا عنــد النمســاوي ابرســيلوس{ ‪ }1541 –1493‬أســتاذ‬
‫الطــب يف جامعــة ابزل بسويس ـرا العــام ‪ ،1526‬م والــذي أســهم هــو اآلخــر‬
‫يف ثــورة الطــب احلديــث وقــد مجــع املصنفــات الطبيــة القدميــة وأشــعل فيهــا النــار‬
‫أمــام طلبتــه يف قاعــة الــدرس‪ ،‬ليؤكــد أنــه ال جمــال للفلســفة يف الطــب بــل التجربــة‬
‫والبحــث املباشــر يف قوانــن الطــب مــن خــال اجلســم نفســه ‪ .‬أمــا فيمــا يتعلــق‬
‫ابلشــؤون اإلنســانية فــإن هــذا املنــاخ كان ينطــوي علــى االعتقــاد بوجــود قوانــن‬
‫اجتماعيــة مشــاهبة لتلــك القوانــن يف العلــوم الطبيعيــة‪ ..‬أمــا القانــون الــذي‬
‫ســيطر علــي هــذه القوانــن فــكان يتمثــل يف قانــون {التقــدم والتطــور }‪.‬‬
‫أي ضــرورة تطــور اجملتمعــات اإلنســانية حنــو مرحلــة أرقــي وأفضــل و هكــذا‬
‫عنــد البحــث عــن قوانــن احلركــة التارخييــة فــإن لدينــا منهجــن أساســيني مهــا ‪:‬‬
‫‪21‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫‪ .1‬مــا ميثــل علــم االجتمــاع العــريب الــذي أبدعــه ابــن خلــدون مــن خــال‬
‫خلفيتــه اإلســامية املتمثلــة يف فكــرة الــدورة التارخييــة‪ ..‬أي أن كل حضــارة متاثــل‬
‫العمــر البشــري مــن حيــث النشــأة والنمــو و الشــيخوخة ‪.‬‬
‫‪ .2‬مــا ميثــل علــم االجتمــاع الغــريب الــذي أتثــر بنظريــة التطــور لتشــارلز‬
‫دارون {‪ } 1882 – 1809‬وميكن تتبع أصول قانون التقدم قبل دارون ‪،‬‬
‫و الــي ســطرها يف كتابــه أصــل األنـواع ‪ ،‬عنــد كل مــن بليــز ابســكال {‪1623‬‬
‫–‪ } 1662‬شــارل مونتســكيو {‪ } 1755 1689-‬واملركيــز كوندروســيه‬
‫{‪ } 1794-1743‬وقــد عــر عــن وجهــة نظــره يف‪ 21‬مؤلــف بعنـوان ‪{ :‬مقــال‬
‫اترخيــي} يف تقــدم العقــل البشــري وقــد أجنــز عملــه هــذا و هــو خمتفــي عــن أنظــار‬
‫الث ـوار إابن الثــورة الفرنســية و هــو ينتظــر حكم ـاً ابإلعــدام ‪ ،‬و كانــت تلــك‬
‫املقالــة (خمطــط لتقــدم العقــل البشــري (‪ .)2‬وســنعطي اآلن فكــرة عــن هذيــن‬
‫التصوريــن حلركــة التاريــخ ‪ ,‬وطــرق البحــث عــن اللؤلــؤ ‪.‬‬

‫أ‪ .‬احلضاري الدوري‬

‫جــذر ابــن خلــدون فكــرة الــدورة التارخييــة مــن خــال وضعهــا يف إطــار‬
‫نظــري واضــح‪ ،‬أي صــاغ منهــا نظريــة ميكــن أن جتــد يف طياهتــا بــن جمموعــة‬
‫مــن القضــااي الــي تبــدو متناثــرة ال جامــع جيمعهــا وال رابط يربطهــا آلــة كشــف‬
‫واستكشــاف وتوقــع هــذه الفكــرة أعطــت ألصحــاب النظريــة الدوريــة عــدة‬
‫خصائــص منهــا ‪:‬‬
‫‪ .1‬النظــرة لتاريــخ كل أمــة ككيــان حضــاري مياثــل الكيــان العضــوي وميــر‬
‫مبراحــل مــن طفولــة وشــباب وشــيخوخة ومــوت و أجــل حمتــوم ومقــدور ســلفاً ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪22‬‬

‫‪ .2‬عــدم الرتكيــز علــي احلركــة العامــة للتاريــخ ومســار تقــدم البش ـرية وال‬
‫يعــي هــذا إمهاهلــا‪ ،‬إمنــا مل تــرز كمــا بــرزت فكــرة الــدورة التارخييــة فقــد ذكــر ابــن‬
‫خلــدون ((والدة العــامل)) والتغ ـرات الكــرى الــي حدثــت فيــه إال أنــه مل يعــط‬
‫أي تصــور اترخيــي لذلــك ‪.‬‬
‫‪ .3‬البحــث عــن مراحــل هــذه الــدورة‪ ،‬والعوامــل األساســية املؤثــرة يف كل‬
‫مرحلة‪,‬وعــادة مــا يكــون عامــل واحــد هــو املوجــه لفكــر املــؤرخ ‪ ،‬فالعصبيــة عنــد‬
‫ابــن خلــدون ‪ ،‬والتحــدي واالســتجابة عنــد توينــي ‪ ،‬والفكــر عنــد مالــك بــن بــي‬
‫وســوروكن (عــامل االجتمــاع األمريكــي )‪ ،‬و الرتبيــة عنــد حممــد عبــده وســنتعرض‬
‫اآلن لبعــض النظـرايت مــن خــال مــا يلــي ‪:‬‬
‫‪ .4‬الدورة التارخيية اليت يقرتحها املنظر ‪.‬‬
‫‪ .5‬قراءته التارخيية وفقا هلذا التصور ‪.‬‬

‫عبد الرمحن بن خلدون {‪ 808-732‬ه}‬


‫ويل الديــن عبــد الرمحــن بــن حممــد بــن حممــد بــن احلســن بــن حممــد بــن‬
‫جابــر بــن إبراهيــم عبــد الرمحــن بــن خلــدون ‪ .‬ولــد ســنة { ‪ 732‬ه } يف‬
‫تونــس ونشــأ فيهــا ‪,‬ويعــود نســبه ايل أســرة حضرميــة األصــل مــن عــرب اليمــن‬
‫‪ ،‬أقــام يف إشــبيلية‪ ،‬قــال عنــه روجيــه جــارودي { شــخصية عامليــة يف جمــال‬
‫العلوم اإلنســانية إيل جانب اتصافه كدبلوماســي وحمارب ومؤرخ وعامل اجتماع‬
‫وفيلســوف وفنــان } تــرىب علــى أيــدي أشــهر رجــاالت العلــم يف تونــس يف‬
‫ذلــك احلــن ‪ ،‬قبــل أن جيتاحهــا الطاعــون ويفتــك ابلنــاس‪ ،‬حيــث فجــع بوالديــه‬
‫و أبكثــر أســاتذته‪ ،‬وكان حينهــا يف الســابعة عشــر مــن عمــره ‪ ،‬و أكثــر مــن‬
‫الرتحــال ‪ ،‬مــن األندلــس إىل احلجــاز إىل الشــام إىل مصــر ذهــاابً و إايابً ال يهــدأ‬
‫‪23‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫وال يســتكني‪ ،‬يكــر ويفــر حامـاً معــه فكــره الــواثب يســجل مــا يعاينــه و مــا يـراه‬
‫‪ .‬هــذا احملــارب الــذي عرفتــه ســاحات السياســة يف ذلــك العصــر كان البــد أن‬
‫يس ـريح مــا فــوق األربعــن فــكان لــه ذلــك يف قلعــة ابــن ســامة يف اجلزائــر مــع‬
‫عائلتــه وكانــت اسـراحته هــذه اسـراحة النحــل ليضــع الشــهد ويف هــذه القلعــة‬
‫كتــب مقدمتــه ‪ ..‬وانتقــل بعدهــا إىل مصــر ليتــوىل منصــب القضــاء إىل أن تــويف‬
‫عــن عمــر يناهــز اخلامســة والســبعني يف آخــر رمضــان مــن ســنة مثانيــة ومثامنائــة‬
‫هجريــة ودفــن يف أرض الكنانــة‪ ..‬وميكــن أن نعــرض الــدورة الــي يقرتحهــا ابــن‬
‫خلــدون حــن قــال ‪ ( :‬الفصــل الســابع عشــر يف أطـوار الدولــة ) الطــور األول ‪:‬‬
‫‪23‬‬
‫طــور غلــب املدافــع واملمانــع واالســتيالء علــي امللــك وانتزاعــه مــن أيــدي الدولــة‪،‬‬
‫(والغالــب ) أســوة قــوم يف اكتســاب اجملــد و جبايــة املــال واملرافعــة عــن احلــوزة‬
‫واحلمايــة ال ينفــرد دوهنــا ألن ذلــك هــو مقتضــى العصبيــة الــي وقــع هبــا الغلــب‬
‫وهــي مل تــزل بعــد حاهلــا ‪.‬الطــور الثــاين ‪ :‬طــور االســتبداد علــي قومــه ؛ يكــون‬
‫صاحــب الدولــة يف هــذا الطــور معنيــا ابصطنــاع الرجــال واختــاذ املـوايل والصنائــع‬
‫واالســتكثار مــن ذلــك جلــدع أنــوف أهــل عشـرته ‪.‬الطــور الثالــث ‪:‬طــور الفـراغ‬
‫والدعــة لتحصيــل مثــرة امللــك ‪،‬مبــا ينــزع طبــاع البشــر إليهــا مــن حتصيــل وختليــد‬
‫اآلاثر ‪.‬الطــور الرابــع‪ :‬طــور القنــوع واملســاملة ‪ ،‬ويكــون صاحــب الدولــة قانعــا مبــا‬
‫بــى أولــوه ســلما ألنظــاره مــن امللــوك وأمثالــه مقلــداً مــن ســلفه ‪ .‬الطــور اخلامــس‬
‫‪:‬طــور اإلس ـراف والتبذيــر‪ ..‬ويف هــذا الطــور حيصــل يف الدولــة طبيعــة اهلــرم‬
‫ويســتويل عليهــا املــرض املزمــن الــذي ال تــكاد ختلــص منــه إىل أن تنقــرض ‪.‬‬
‫ويرجــع ابــن خلــدون منشــأ الدولــة ايل مــا أمســاه «العصبيــة» ويشــرح ذلــك قائــا‬
‫عــن العصبيــة ‪( :‬وذلــك أن صلــة الرحــم يف البشــر إال يف األقــل مــن صلتهــا عــن‬
‫ذوي القــرىب وأهــل األرحــام أن يناهلــم ضيــم أو تصيبهــم مهلكــة فــإن القريــب‬
‫جيــد يف نفســه مــن ظلــم قريبــه ) ويذكــر ( أن العصبيــة بــدون مناصــرة ال تعــي‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪24‬‬

‫شــيئا ‪ ,‬قــال ومــن هنــا نفهــم قــول رســول هللا صلــي هللا عليــه وســلم «تعلمـوا مــن‬
‫أنســابكم مــا تصلــون بــه أرحامكــم » ) ومــن هنــا ميكــن أن يقــوم مقــام القــرىب أي‬
‫شــي تصــل بــه الشــعوب وتتقــارب بــه الدولــة وامللــك والعمـران فالعصبيــة نـواة أو‬
‫مــادة غــر مرئيــة جتمــع القبيلــة وتقيــم الدولــة ومــا يتبــع ذلــك مــن ملــك وعمـران‬
‫‪ .‬انتبــه ابــن خلــدون إىل التغــر الكبــر الــذي حلــق التاريــخ مــن بعــد أن ســقطت‬
‫الدولــة العباســية ‪ ،‬و أدرك أن الزمــان ســيدور ‪ ،‬لــذا كان ال بــد مــن فهــم هــذا‬
‫املســار التارخيــي فــكان التفكــر يف كتابــة املقدمــة يقــول عــن هــذا التغيــر ( و أمــا‬
‫هلــذا العهــد و هــو أواخــر املائــة الثامنــة ‪ ،‬فقــد انقلبــت أحـوال املغــرب الــذي حنــن‬
‫شاهدوه ‪ ،‬و تبدلت ابجلملة ) ( فخربت األمصار واملصانع ‪ ،‬ودرست السبل‬
‫واملعامل ‪ ،‬وخلت الداير واملنازل ‪ ،‬وضعفت الدول والقبائل ‪ ،‬و تبدل الســاكن‬
‫وكأين ابملشــرق قــد نــزل بــه مــا نــزل ابملغــرب ‪ ،‬لكــن علــى نســبته ومقــدار عمرانــه‬
‫‪ ،‬وكأمنــا اندى لســان الكــون يف العــامل ابخلمــول واالنقبــاض ‪ ،‬فبــادر ابإلجابــة‬
‫وهللا وارث األرض ومــن عليهــا وإذا تبدلــت األحـوال مجلــة فكأمنــا تبــدل اخللــق‬
‫مــن أصلــه ‪ ،‬و حتــول العــامل أبســره ‪ ،‬وكأنــه خلــق جديــد ونشــأة مســتأنفه وعــامل‬
‫حمــدث فاحتــاج هلــذا العهــد مــن يــدون أح ـوال اخلليقــة ) ( املقدمــة ص‪)13‬‬
‫وهكــذا تشــكل الوعــي مــن خــال متابعــة األحــداث وفتــح بذلــك ابابً جديــداً‬
‫يف الفكــر اإلنســاين والفكــر اإلســامي ‪ ،‬لــذا فيمكــن اعتبــار ابــن خلــدون‬
‫بدايــة يف وضــع منــوذج معــريف لألوامــر القدريــة الكونيــة األمــر الــذي مل يســبقه‬
‫فيــه أحــد‪ ،‬فحــى كتــب السياســة الشــرعية والكتــب التارخييــة الــي كانــت تكتــب‬
‫للخلفــاء وامللــوك لـزايدة الوعــي ابلتاريــخ وتصــور دورتــه كانــت عرضـاً متسلسـاً‬
‫ونصائــح هامــة لالعتبــار ابلتاريــخ ‪ ،‬دون اللجــوء لوضــع قوانــن حمــددة‪ ،‬بــل حــى‬
‫لــو ذكــرت تلــك القوانــن كانــت مــن ابب االعتبــار مــن أحــداث بعينهــا دون‬
‫االنتبــاه ملســاراهتا ‪. )3(.‬رغــم إميــان ابــن خلــدون ابلنظريــة التطوريــة يف الكــون‬
‫‪25‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫كمــا هــو ظاهــر يف املقدمــة مــن تفســره لظاهــرة الوحــي إال أن رؤيتــه التارخييــة‬
‫ترتبــط ابلــدورة التارخييــة األمــر الــذي تبعــه فيــه اإلمــام حممــد عبــده ‪.‬‬

‫اإلمام حممد عبده { ‪1849‬م‪1905 -‬م } ‪)٤(:‬‬


‫حيــاة زاخــرة ابألحــداث تلــك الــي عاشــها هــذا اإلمــام الــذي ظلمــه النــاس‬
‫حي ـاً وميتاً‪..‬فبعــد أن حصــل علــي { العامليــة } بدرجــة فائقــة ســنة ‪1877‬‬
‫م و نظــم حلقــات خاصــة شــرح أثناءهــا كتــاب {هتذيــب األخــاق} البــن‬
‫‪ 25‬حيكت حوله املؤامرات‬ ‫مسكويه عني أستاذاً يف دار العلوم ‪ ،‬لكن سرعان ما‬
‫لصــده عــن التعليــم إال أنــه مل يلبــث أن عــن رئيــس التحريــر يف اجلريــدة الرمسيــة‬
‫‪ ،‬مث نشــبت ثــورة ع ـرايب ‪،‬واحتــل االجنليــز مصــر ســنة ‪1882‬م فأوقــف ذلــك‬
‫نشــاطه‪ ،‬مث حلق ابألفغاين ويف ابريس أسســا مجعية العروة الوثقى وله رســالة يف‬
‫علــم الــكالم مساهــا {رســالة التوحيــد } هــي الوحيــدة يف ابهبــا منــذ ذلــك احلــن‬
‫‪ ،‬وتــويف رمحــه هللا عــام ‪1905‬م ‪.‬‬
‫وقــد ســجل تلميــذه حممــد رشــيد رضــا دروس الشــيخ و مجعهــا يف تفســر‬
‫املنــار وقــد كانــت آراء األمــام حممــد عبــده تــدور حــول أمهيــة الرتبيــة كعامــل‬
‫أساســي يف الرقــي والتقــدم ‪ .‬قــال اإلمــام ‪ :‬فــإن األمــم الــي تــريب أوالدهــا علــى‬
‫االســتقالل الشــخصي تســتعبد من بقي من شــعوب خارج حميط ســلطتها قبل‬
‫أن ينقضــي هــذا اجليــل وهــو القائــل يف طاعــة الوالديــن {الــر واإلحســان} ال‬
‫يقتضيــان ســلب احلريــة واالســتقالل ‪ .‬وقــال أرأيــت لــو كانــت أمهــات ســلفنا‬
‫األجمــاد كأمهاتنــا أكان ـوا فتحــو املمالــك وفعلوهــا تلــك العظائــم ؟!‪ :‬ويثبــت‬
‫ذلــك اترخييــا رشــيد رضيــا قائــا‪ ( :‬وضــع رؤوس الغــرب قوانــن الرتبيــة ‪....‬‬
‫تربيــة شــديدة أيخــذون فيهــا ابلنظــام والطاعــة العميــاء ليكونـوا جنــداً لرؤســائهم‬
‫فاســتعبدوا النــاس مث زلزلــت االنقــاابت االجتماعيــة الســلطتني الدينيــة والزمنيــة‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪26‬‬

‫وأضعفتهمــا مبــا اســتفاده األوربيــون مــن العلــم واســتقالل العقــل واإلرادة مــن‬
‫املســلمني حبروهبــم الصليبيــة ومبــا بــث فيهمــا تالميــذ ابــن رشــد وغريهــم مــن‬
‫حكمــاء املســلمني فضعفــت الســلطات وانزعتهــم قــوة العلــم فنزعــت منهمــا مــا‬
‫نزعــت‪ ،‬فلمــا رأى الفريقــان أنــه ال قبــل هلمــا ابلعلــم وال قــدرة هلمــا علــي إطفــاء‬
‫نــوره‪ ،‬توجهــت إىل االســتعانة بــه علــي تقريــر ســلطاهنا بقــدر اإلمــكان فكانــت‬
‫املــدارس عــوانً يف إضعــاف إرادة أفـراد األمــة ‪ .‬االجنليــز أعــرق الشــعوب األوروبيــة‬
‫يف احلريــة الشــخصية واســتقالل اإلرادة علــي ثباهتــم يف تقاليدهــم‪ ..‬وحلريتهــم‬
‫واســتقالهلم كان ـوا أكثــر اســتفادة مــن اإلصــاح الديــي الــذي زلــزل ســلطة‬
‫البابــوي مــن بعــض البــاد وســل عرشــها مــن بعــض‪ ،‬وحكومــة هــذا الشــعب هــي‬
‫احلكومــة الــي جعلــت خدمــة اجلنديــة االختيــار (اختياريــة) و أقامــت الرتبيــة يف‬
‫املــدارس علــي قواعــد احلريــة الشــخصية‪ ..‬ولذلــك اســتولت علــي زهــاء مخــس‬
‫البشــر رغــم أن جندهــا أقــل مــن جنــد غريهــا مــن الــدول الكــرى وقــد فطــن‬
‫لذلــك بعــض علمــاء جرياهنــا الفرنســيني وأهاب ـوا بقومهــم ألجــل اتباعهــا وكتب ـوا‬
‫يف ذلــك مصنفــات كثــرة ‪ ..‬ككتــاب (ســر تقــدم السكســونيني) وكتــاب (الرتبيــة‬
‫االســتقاللية) وبــن صاحــب الكتــاب األول ‪( :‬إن التعليــم يف املــدارس الفرنســية‬
‫ال يــريب رجــاال و إمنــا يصنــع آالت تســتعملها احلكومــة لتنفيــذ سياســتها كمــا‬
‫تشــاء) ويذكــر أن اإلســام جــاء لــريب املســلمني علــي اســتقالل الفكــر واإلرادة‬
‫و أن الرتبيــة هــي الضمــان ألي تطــور مــادي قــد يفســد األخــاق ويذهــب‬
‫ابلنــاس‪ ،‬كمــا أهنــا الفتيــل الــذي يشــعل تيــار احلركــة وطاقــة العمــل والرغبــة يف‬
‫اجلهــاد ‪ !..‬واملثــال اآلخــر الــذي يثبــت هــذه احلقيقــة مــن مصــر ‪ .‬فقــد تعرضــت‬
‫لالحتــال االجنليــزي ثــاث مـرات (‪ )1882 1807- 1801-‬وقــد قــارن‬
‫اإلمــام عبــده بــن مقاومــة االحتــال الفرنســي ومقاومــة االحتــال االجنليــزي‪،‬‬
‫فقــال يف أحــد االحتفــاالت مبناســبة مــرور مائــة ســنة علــي حكــم حممــد علــي‬
‫‪27‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫« إن املصريــن قاوم ـوا احلملــة الفرنســية ســنة ‪ 1798‬مقاومــة عنيفــة رائعــة‬


‫وتعــددت ثوراهتــم وانتفاضاهتــم وأهنــم قتلـوا بعــض قــادة احلملــة الــي اهتــز مركزهــا‬
‫اهتـزازاً شــديداً وضاقــت عليهــا األرض مبــا رحبــت وملــا جــاءت احلملــة الربيطانيــة‬
‫إيل مصــر ســنة ‪ 1882‬إلمخــاد ثــورة عـرايب دخــل االجنليــز مصــر أبســهل الســبل‬
‫أو أبســهل مــا يدخــل بــه دامــر { الــذي يدخــل علــي القــوم بــدون اســتئذان}‬
‫علــي قــوم ‪ ،‬مث اســتقروا فلــم توجــد يف البــاد خنــوة يف رأس تثبــت هلــم أن يف‬
‫البــاد مــن حيامــي عــن اســتقالهلا ‪ ،‬وهــو ضــد مــا رأينــاه عنــد دخــول الفرنســيني‬
‫إيل مصــر وهبــذا رأينــا الفــرق بــن احليــاة األوىل واملــوت األخــر ‪ )4( .‬ووصــف‬
‫‪27‬‬
‫اإلمــام أنصــار حممــد علــي أبهنــم أنصــار االســتبداد وهــذا الرتكيــز هــو الــذي‬
‫أشــبعت بــه روح املصلحــن الذيــن عرف ـوا هــذه املدرســة التنويريــة وهــي الــي‬
‫صاغهــا اإلمــام حســن البنــا يف يف تركيــزه علــى مســألة الرتبيــة كأســاس لرتبيــة‬
‫األمــة بنــاء علــى أن التغيــر يبــدأ مــن نفــس الفــرد ليكــون يف هنايــة األمــر حضــارة‬
‫مبعانيهــا ومبانيهــا وجيــب أن نفــرق هنــا بــن هــذا الطــرح وطــرح مالــك بــن نــي ‪،‬‬
‫الــذي يركــز علــي اإلنســان مــن حيــث طــرق تفكــره وعالقتــه جبماعتــه والطــرح‬
‫الــذي ذكــره املــودودي يف كتابــه حيــث تبــى احلضــارة عنــده علــي ثالثــة أســس‬
‫جــاء الرســل مــن أجلهــا‪ - .:‬إحــداث االنقــاب الفكــري ‪ -‬تكويــن اجلماعــة‬
‫املؤمنــة ‪ -‬إقامــة حكومــة إســامية بديلــة ‪ .‬والــكل سـواء حممــد عبــده ومالــك‬
‫بــن بــي أو غريمهــا كتونــي وشــبنغلر وســوروكني واملــودودي يؤمنــون بوجــود دورة‬
‫اترخييــة وإن اختلف ـوا يف العامــل األساســي احملــرك هلــذه الــدورة ‪ .‬ولننظــر لنظــرة‬
‫مالــك بــن بــي رمحــه هللا ‪.‬‬

‫مالك بن نيب (‪ 1393-1325‬ه) (‪ ،1973-1905‬م) ‪)6(:‬‬


‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪28‬‬

‫رغــم مــا عانتــه اجلزائــر مــن اســتعمار وحــروب إال أهنــا قدمــت مــن املفكريــن‬
‫واملصلحــن الكثــر اإلبراهيمــي وابــن ابديــس ومالــك بــن بــي الــذي بعــد أن‬
‫تشــبع مــن دراســة القــرآن ولغتــه الــي بــدت مــن خــال كتابــه الظاهــرة القرآنيــة‬
‫ذهــب ليــدرس الكه ـرابء يف فرنســا ولكــن نزعتــه االجتماعيــة التارخييــة أقحمتــه‬
‫يف هــذا اجملــال ‪.‬‬
‫يــرى األســتاذ مالــك بــن بــي رمحــه هللا أن مشــكلة حركــة التاريــخ وتطــور‬
‫األمــة ميكــن أن تتصــور بطريقتــن ‪:‬‬
‫‪-‬إما أن حنلها يف نفس الفرد ذاته انظرين إيل ما يغري الذات اإلنسانية ‪.‬‬
‫‪ -‬و إمــا أن حنلهــا يف نطــاق مــا حييــط بــه انظريــن إىل مــا يغــر إطــاره‬
‫االجتما عــي‪.‬‬
‫وإذا حاولنا تفســر تقلبات األمم وفق العوامل النفســية واالجتماعية فإننا‬
‫جند أن حركة التاريخ ال خترج عن هذين اإلطارين النفسي واالجتماعي‪ ،‬وهبذا‬
‫فــإن حركــة تطــور األمــم والشــعوب مرهونــة ابلتغـرات النفســية واالجتماعيــة و مبــا‬
‫أن قواعد حركة التاريخ اثبتة ال تغريها عوامل البيئة وال الزمان فإن انبعاث أي‬
‫حضارة وجتديدها ال يتم إال يف الظروف نفسها اليت نشأت فيها أول مرة ‪.‬‬
‫ويري مالك رمحه هللا أن احلضارة متر مبرحل ثالث ‪:‬‬
‫‪ .1‬مرحلــة الــروح ‪ :‬أو نقطــة البدايــة واالنطــاق ‪...‬يف فجــر كل حضــارة‬
‫مــع ظهــور فكــرة دينيــة ‪ ..‬وضــرب مث ـاً ابلصحابــة رض ـوان هللا عليهــم والذيــن‬
‫متثــل فيهــم الســلوك النفســي االجتماعــي ‪ ،‬أي األان اجلماعــي والفــرد = جممــوع‬
‫مــن خــال ســلوك مثــل ســلوك عثمــان رضــي هللا عنــه يف ســاعة العســرة وميكــن‬
‫‪29‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫تشــبيه ذلــك ببــداايت اإلصــاح الديــي يف القــرن احلــادي عشــر عنــد تومــاس‬
‫االكويــي أو ســلوك حـواري عيســى عليــه الســام عنــد بدايــة دعوتــه ‪.‬‬
‫‪ .2‬مرحلــة العقــل ‪ :‬وهــي الــي يتعامــل فيهــا اإلنســان مــع املــادة أو‬
‫عــامل األشــياء ‪ ،‬وهنــا ختفــت جــذوة الدفعــة الروحيــة األويل وختتــل معادلــة‬
‫{الفرد=اجملتمــع} وميثــل ذلــك مبوقــف أو كلمــة عقيــل بــن أيب طالــب عندمــا قــال‬
‫‪ :‬علــي أقــرب لديــي ‪،‬وكان ذلــك عــام ‪ 38‬ه ‪ ،‬فــإن فتنــة مقتــل عثمــان ومعركــة‬
‫صفــن حادثــة عظيمــة يف نظــر مالــك متثــل دخــول معــامل اجلاهليــة واالحنــدار عــن‬
‫‪29‬‬ ‫مســتوايت الــروح القرآنيــة األوىل ‪.‬‬
‫‪ .3‬مرحلــة النفــس ‪ :‬وهنــا تنطلــق الغرائــز وتفســد النفــس‪ ،‬ويفقــد النــاس‬
‫القــدرة علــى التعــاون واالســتفادة مــن الوقــت واســتغالل األرض‪ ،‬ويصــل اجملتمــع‬
‫إىل مــا يطلــق عليــه ((قابليــة االســتعمار )) وهــذا مــا حــدث لألمــة مــن بعــد دولــة‬
‫املوحديــن‪ .‬واحلضــارة عنــده مزيــج مــن التفاعــل بــن اإلنســان والوقــت والـراب‪،‬‬
‫وحمــور التغيــر هــو اإلنســان الــذي يتعامــل مــع ثــاث عوامــل هي{عــامل الفكــر‬
‫واألشــخاص واألشــياء} وهــذا التعامــل خيتلــف ابختــاف املرحلــة الــي متــر هبــا‬
‫األمــة فيســود التفكــر يف عــامل الفكــر يف املرحلــة األوىل مث يف عــامل األشــياء يف‬
‫املرحلــة الثانيــة مث يف عــامل األشــخاص يف املرحلــة الثالثــة ‪ ،‬وهــو مــا أمســاه بتضخــم‬
‫الــذات وهــو التعلــق ابألشــخاص‪ ،‬وهكــذا ميكــن توجيــه احلضــارة مــن خــال‬
‫توجيه ســلوك اإلنســان يف التفكري ومن خالله يبدأ التأثري يف الوقت والرتاب ‪.‬‬

‫أرنولد توينيب (‪)7( )1975-1889‬‬


‫يف املقابــل جنــد دورات اترخييــة يف العــامل الغــريب‪ ،‬أتث ـراً اببــن خلــدون‪ ،‬و‬
‫هــؤالء ممــن يســمون ابملتشــائمني كتوينــي و شــبنغلر رأوا يف الــدورة التارخييــة‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪30‬‬

‫مســاراً تســر فيــه احلضــارة الغربيــة ‪ ،‬األمــر الــذي ذكــره صموئيــل هنتجتــون يف‬
‫كتابــه صــدام احلضــارات وإن كان هنتجتــون مل يعتمــد علــى فكــرة الــدورة ‪ ،‬بــل‬
‫وضــع منوذج ـاً خاصــا بــه كمــا ســيأيت ‪.‬‬
‫تتلخص دورة تويبين يف التايل ‪:‬‬
‫‪ .1‬أن العامل األساسي يف منو احلضارة هو أسلوب التحدي واالستجابة‬
‫كاملنــاخ القاســي‪ ،‬أو عــن البشــر مــن خــال التعــرض للحــروب وتظهــر احلضــارة‬
‫إذا مل يكن التحدي ابلغ القسوة‪.‬‬
‫‪ .2‬هنــاك أقليــة مبدعــة داخــل احلضــارة ‪،‬وشــعب مســاه الربوليتــاراي الداخليــة‬
‫وجـران برابــرة (بروليتــاراي خارجيــة ) خيضعــون هلــذه احلضــارة ‪.‬‬
‫‪ .3‬عندمــا تعجــز األقليــة املبدعــة عــن االســتجابة للتحــدايت الــي تواجــه‬
‫احلضــارة يبــدأ التفــكك واالختــال مــن خــال عوامــل داخليــة (اخلــاف بــن‬
‫الصفــوة والربوليتــاراي )‪.‬‬
‫‪ .4‬هنــا تبــدأ الصفــوه ابلعمــل علــي االســتبداد والتســلط ‪،‬فينمــو حجــم‬
‫الوحــدات السياســية وتبــدأ عمليــة تكويــن اإلمرباطوريــة ‪.‬‬
‫‪ .5‬تبــدأ االمرباطوريــة يف االنتشــار وحماولــة تكويــن مــا مســاه «ديــن عاملــي»‬
‫وقــد تعيــش احلضــارة يف هــذا الطــور فــرة طويلــة «بضعــة قــرون » كاإلمرباطوريــة‬
‫الرومانيــة و متثــل املســيحية الديــن العاملــي ‪.‬‬
‫‪ .6‬وتظهــر خــال املرحلــة األخــرة الــدورة احلضاريــة أربعــة أمنــاط مــن‬
‫الشــخصيات هــي ‪:‬‬
‫‪ .7‬املتطلع إيل املاضي ‪.‬‬
‫‪ .8‬املتطلع إيل املستقبل الذي يبدو كاملخلص ابلسيف‪.‬‬
‫‪31‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫‪ .9‬الرواقية الالمهتمة ‪.‬‬


‫‪ .10‬شــخصية املخلــص الديــي ويــري أن الســبيل الوحيــد للتخلــص مــن‬
‫هــذه املرحلــة هــو تغــر الشــكل علــي أســاس ديــي‪.‬‬
‫‪ .11‬هــذه األمثلــة ملــن يبحثــون عــن قوانــن احلركــة التارخييــة بــن أنقــاض‬
‫األمــم الســابقة ‪ ،‬فأحدهــم بــدا لــه أن العصبيــة هــي اإلكســر وآخــر ظهــر لــه‬
‫الفكــر كلؤلــؤة مفقــودة ‪ ،‬وشــد انتبــاه اإلمــام حممــد عبــده الرتبيــة وتغــى توينــي‬
‫بقانــون التحــدي واالســتجابة ولكــن أصحــاب النظريــة التطوريــة رأوا أن ذلــك‬
‫‪ 31‬اللؤلــؤ يف مــكان آخــر ‪..‬‬‫كلــه سـراب خدعهــم بــه التاريــخ ‪ ،‬فراحـوا يبحثــون عــن‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪32‬‬

‫الفصل الثاين‬

‫التطور والتاريخ العاملي‬


‫مقدمة للتاريخ املوجه‬

‫يف عــام ‪1890‬م كتــب أحدهــم قائــا ((التاريــخ اإلنســاين هــو ســجل‬
‫للتقــدم ‪،‬يهــدف إىل احلصــول علــى املعرفــة وزايدة احلكمــة والتطــور املســتمر مــن‬
‫مســتوي أدىن ايل مســتوى أعلــى مــن اخلــرة والرفاهيــة‪ ،‬وكل جيــل ينقــل للجيــل‬
‫الثــاين الثــروات املعرفيــة الــي ورثهــا ‪،‬بعــد أن أضــاف إليهــا عــن طريــق خربتــه‬
‫الذاتيــة والــي اتســعت نتيجــة ملــا ورثــه‪ ،‬أمــا إنقــاذ اإلنســان مــن عبــث وأه ـواء‬
‫(احلــكام) األف ـراد فهــو أمــر مــروك للتعديــل املســتمر للقوانــن املالئمــة)) ‪.‬‬
‫هــذا هــو املقصــود ابلتاريــخ املوجــه ذي املســار اخلطــي‪ ،‬التاريــخ الــذي ال‬
‫يبايل ابحلروب والدمار ‪ ،‬بقدر ما يعين ابلتطور املستمر الذي حيدث لإلنسان‬
‫سـواء يف املعرفــة {الــروح كمــا عنــد هبجــل} أو االقتصــاد كمــا عند{ماركــس}‬
‫أو حنــو الدميقراطيــة (فوكوايمــا) ‪ .‬وســنتحدث يف البدايــة عــن هــذه النظــرة‬
‫للتاريــخ يف الفكــر القــدمي (الكالســيكي) مث نتعــرض ألفــكار ماركــس وهيجــل و‬
‫آخريــن بشــيء مــن اإلجيــاز مث نتحــدث عــن فكــرة كتــاب هنايــة التاريــخ كنمــوذج‬
‫علــي هــذه النظــرة ‪.‬‬
‫أحــام الفالســفة ‪ :‬علــي الرغــم مــن أن التقاليــد واألصــول الفلســفية‬
‫التارخييــة الغربيــة قــد بــدأت يف اليــوانن إال أن كتّــاب التاريــخ اليــوانن القدامــى‬
‫مل يتعهــد ملثــل هــذا املشــروع‪ ،‬و هــو كتابــة اتريــخ عاملــي للبشـرية (ذلــك التاريــخ‬
‫الــذي يســعى إلعطــاء صــورة عــن التطــور الشــامل حلركــة اإلنســانية ‪،‬وحتديــد‬
‫‪33‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫النهايــة هلــذه احلركــة ) ‪ .‬فقــد حتــدث أفالطــون عــن دورة طبيعيــة معينــة ألن ـواع‬
‫احلكــم ‪ ،‬لكــن أول حماولــة لكتابــة اتريــخ عاملــي عنــد الغــرب كانــت عنــد‬
‫املــؤرخ املســيحي القــدمي (القديــس أوغســطني ) فلــم يهتــم مثــا ابلتاريــخ اخلــاص‬
‫ابليــوانن أو اليهــود إمنــا كان يعنيــه اإلنســان كإنســان فهــو احلــدث الــذي جتلــت‬
‫فيــه إرادة هللا علــى األرض وينتهــي التاريــخ بقيــام الســاعة وهنايــة احليــاة الدنيــا‪.‬‬
‫أمــا الفكــر اإلســامي فإنــه غــي ابحلديــث عــن مصــر اإلنســان‪،‬خاصة مــن‬
‫خــال «العقــد األخــروي الــذي جــاء بــه القــرآن يف حديثــه املتواصــل عــن الســاعة‬
‫أو اآلخــرة ‪ .‬لكــن املؤرخــن املســلمني يتحدثــون عــن بــدء اخلليقــة ونقــل عــن ابــن‬
‫‪33‬‬
‫حــزم أن هللا خيلــق كل حــن مجيــع العــامل خلقــا مســتأن ًفا دون أن يفنيــه (‪، )1‬‬
‫والشــيعة مثـاً ينتظــرون اإلمــام الغائــب ويف كتــب الســنة ابب {أحاديــث الفــن‬
‫} وفيهــا حديــث عــن املســتقبل ومســار البشـرية ‪ .‬أوىل احملــاوالت اهلامــة لكتابــة‬
‫تفســر للتاريخ العاملي تلك اليت متت يف القرن الســادس و اليت افرتضت وجود‬
‫قوانــن ميكننــا مــن خالهلــا التفــوق علــي الطبيعــة‪ ،‬وهــذا هــو االجتــاه العقــاين أو‬
‫العقالنيــة وهــي اجتــاه تنويــري يثــق يف اإلنســان ويرفــض الوصــااي امللقــاة عليــه ألنــه‬
‫ميلــك العقــل وأيض ـاً احل ـواس‪ ،‬وقــد ســاد هــذا االجتــاه يف القــرن الســادس عشــر‬
‫وهــو مديــن لــكل مــن {رينيــه ديــكارت {‪ }1650-1596‬أبــو الفلســفة‬
‫احلديثــة و فرانســيس بيكــون {‪ }1626-1561‬وميكــن أن نذكــر بعــض مــن‬
‫حــاول كتابــة اتريــخ عاملــي منهــم كوندروســيه وكتــاب {تقــدم العقــل البشــري‬
‫} و «اميــا نويــل كانــط» يف كتابــه فكــرة عــن التاريــخ العاملــي مــن منطلــق‬
‫التأليــف ويقــدم يف هــذه الكتــب الفكــرة عــن إمكانيــة وجــود انتظــام يف حركــة‬
‫التاريــخ العاملــي‪ ،‬فعلــى ســبيل املثــال ال يوجــد مــن يتوقــع اكتشــاف مجيــع القواعــد‬
‫الرايضيــة ولكــن تراكــم املعرفــة الرايضيــة أدى ايل بنــاء كامــل مــن هــذه املعرفــة‬
‫وميكــن أن نذكــر بعــض األســس الفلســفية هلــذا املشــروع ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪34‬‬

‫‪ .1‬فلســفة التنويــر مونتســيكيو (‪،)1755-1689‬جــان جــاك‬


‫روســو(‪)1787-1712‬فولتري(‪ )1778-1694‬هــؤالء اعتنق ـوا مذهــب‬
‫املاديــة الواحديــة‪ ،‬وميكــن تعريــف «املذهــب املــادي الــذي ال يعــرف إال بوجــود‬
‫املــادة فقــط وجــودا واقعي ـاً مســتقالً عــن ذات عارفــة‪ ،‬ويفســر كل شــي ابلعلــل‬
‫املاديــة وميكــن إرجــاع هــذا املذهــب جليوردانــو برونــو (‪ )1600-1548‬وهــذا‬
‫كمــا تــري منــط مــن وحــدة الوجــود‪ ،‬أكــده فيمــا بعــد تومــاس هوبــز(‪-1588‬‬
‫وعضـ ُـد هــؤالء مجيع ـاً نيوتــن بنظريتــه‬
‫‪ )1679‬وهــو تلميــذ لفرنســيس بيكــون ُ‬
‫امليكانيكيــة‪.‬‬
‫‪ .2‬يف علــم البيولوجيــا ظهــر مذهــب التطــور لتشــارلز دارون (‪-1809‬‬
‫‪)1882‬و هــو األهــم ‪.‬‬
‫‪ .3‬القــرن التاســع عشــر ظهــر مــا يعــرف ابملاديــة اجلدليــة والــي وضعهــا‬
‫كارل ماركــس (‪ )1883-1818‬والــي طــور فيهــا منهــج أســتاذه هيجــل‬
‫(‪ )1831-1770‬وســنذكر اآلن بشــيء مــن اإلجيــاز فلســفة ماركــس وهيجــل‬
‫مث ننظــر إيل أثرمهــا يف واقعنــا املعاصــر بعــد ذلــك‪.‬‬

‫جدل حىت النهاية(‪)2‬‬


‫اجلــدل قــدمي يف التاريــخ ‪ ،‬عنــد أفالطــون يف حماورتــه كان ســقراط فيهــا هــو‬
‫احملــاور األول حيــث يــدور حديــث بــن اثنــن يف موضــوع مــا مثــل (مــا طبيعــة‬
‫اخلــر) أو معــي (العدالــة) ومثــل هــذه املناقشــات يتــم حســمها علــي أســاس مبــدأ‬
‫التناقــض‪ ،‬أي الطــرف األقــل تناقضـاً مــع نفســه هــو الــذي يكســب املناقشــة ‪،‬‬
‫وإذا اتضــح أن الطرفــن املشــركني يف احل ـوار متناقضــن تناقض ـاً ذاتي ـاً‪ ،‬عندئــذ‬
‫ينشــأ موقــف اثلــث خــال مــن التناقضــات الــي انطــوى عليهــا حديــث الطرفــن‬
‫‪35‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫األولــن‪ ،‬لكــن هــذا املوقــف الثالــث حيمــل هــو ذاتــه تناقضاتــه الداخليــة‪ ،‬ويف‬
‫هــذه احلالــة يظهــر حـوار أخــر وحــل آخــر وهكــذا ‪..‬‬
‫وابلنســبة هليجــل فاجلــدل ليــس فقــط علــى مســتوى املناقشــات الفلســفية‬
‫بــل حيــدث اجلــدل ايض ـاً بــن اجملتمعــات و هــي التناقضــات الداخليــة الكــرى‬
‫قــد تفشــل يف التغلــب عليهــا وتنجــح جمتمعــات أخــرى يف ذلــك ‪ ،‬وهكــذا فقــد‬
‫اهنــارت االمرباطوريــة الرومانيــة يف رأي هيجــل ألهنــا أقامــت مبــدأ املســاواة العامــة‬
‫بــن كل البشــر دون االعـراف حبقوقهــم وكرامتهــم اإلنســانية (فهــي دولــة قانــون‬
‫اليهوديــة املســيحية ‪ ,‬وبــدوره‬
‫جــاف) وهــذا ميكــن أن يوجــد فقــط يف التقاليــد ‪35‬‬
‫كان العــامل املســيحي خاضعـاً لتناقضــات أخــرى منهــا وجــود طبقــة مــن التجــار‬
‫الذيــن تفوق ـوا اقتصــادايً دون قيــود مســيحية أخالقيــة فكان ـوا هــم األســاس يف‬
‫مرحلــة أخــرى مدنيــة ماديــة ‪ ،‬وهكــذا فاجملتمــع الدنيــوي الرومــاين ولــد جمتمع ـاً‬
‫ديني ـاً مســيحياً وهــذا بــدورة أجنــب جمتمع ـاً مدني ـاً أقــل تناقض ـاً ‪ .‬وهكــذا ينظــر‬
‫للتاريــخ «علــي أنــه ليــس جمــرد تتابــع للحضــارات املختلفــة أو املســتوايت املاديــة‬
‫مــن اإلجنــاز بــل أيضــا تتبــع لصــور «الوعــي» ‪.‬‬
‫يؤكــد هيجــل علــى وجــود خمطــط إهلــي للتاريــخ ‪ ،‬و أن هنــاك وعيـاً حبـراك‬
‫التاريــخ و معرفــة هبــذا املخطــط عــر فلســفتة ‪ ،‬لــذا ســنجد فيمــا بعــد كارل بوبــر‬
‫يف نقــده هليجــل يتحــدث عــن أتثــر هيجــل البالــغ يف كثــر مــن املفكريــن األملــان‬
‫‪ ،‬و تذكــر حنــا ارنــدت يف كتاهبــا الثــورة عــن أتثــر الثــورة الفرنســية يف توجيــه‬
‫الفكــر حنــو طبيعــة التغ ـرات الــي تشــهدها أورواب بعــد الفوضــى والــدم الــذي‬
‫شهدته فرنسا يف ثورهتا عام ‪ .1789‬أما ماركس فقد رأى أن الثورة حدثت‬
‫بعــد انبليــون يف العــام ‪ ،1835‬واألمــر الــذي اعتــره ماركــس ثــورة للعمــال ‪.‬‬
‫ماركــس قلــب املســألة رأس ـاً علــي عقــب فاجلــدل هنــا مــادي ال فكــري وال‬
‫فلســفي وهــذا مــا يســمى ابملاديــة التارخييــة واملاديــة اجلدليــة ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪36‬‬

‫قسم ماركس مراحل التاريخ إيل مخس مراحل ‪)3(:‬‬


‫‪ .1‬املرحلــة البدائيــة ‪ :‬حــن كان اإلنســان يعيــش يف الع ـراء ويرتــع يف‬
‫نبــات األرض ‪.‬‬
‫‪ .2‬املرحلــة املســتعبدة‪ :‬حيــث انقســم النــاس إيل ســادة وعبيــد الســادة‬
‫مالكــون للوســائل اإلنتاجيــة والعبيــد عمــال ومل يتعــد هــذا التطــور اح ـراف‬
‫الزراعــة وتربيــة املواشــي ‪.‬‬
‫‪ .3‬املرحلــة اإلقطاعيــة‪ :‬أن ميلــك الســيد األرض وتقــوم جبانــب هــذه‬
‫امللكيــة الواســعة ملكيــة ضئيلــة هــي ملكيــة الفــاح والصانــع ألدوات احلراثــة‪.‬‬
‫‪ .4‬املرحلــة الرمسيــة‪ :‬الــي اســتبعدت العامــل وقتلــت اليــد العاملــة وأدت إيل‬
‫حتميــة إنتقــال اإلنســانية إيل مرحلــة أخــرى عــن طريــق الصـراع الطبقــي ‪،‬وهــذه‬
‫هــي املرحلــة اخلامســة ‪ :‬أي املرحلــة الشــيوعية وهــي الفــردوس الــذي بشــر بــه‬
‫ماركــس العــامل ‪،‬حــن خيتفــي الصـراع ويســود العــدل واملســاواة ‪.‬‬
‫وقــد ظهــرت يف أثــر هــذه النظريــة عــدة حتميــات‪ ،‬فماركــس عنــده احلتميــة‬
‫(املصــر الــذي ال مفــر منــه) االقتصاديــة وجونيــو «احلتميــة العنصريــة» الــي‬
‫تنتهــي بســيطرة عنصــر واحــد مــن البشــر وهــو مــا ســعى بعــد ذلــك إليــه‬
‫هتلــر (االش ـراكية الوطنيــة) ولويــس هنــري مورجــان األمريكــي عنــده احلتميــة‬
‫التكنولوجيــة ‪ ،‬ومــن أكنــاف هــذه النظريــة خرجــت طائفــة تعــرف ابملســتقبليني‬
‫أي أولئــك الذيــن يصــدرون رؤاهــم للمســتقبل الــي تعتمــد اعتمــاداً أساســياً علــي‬
‫التقــدم التكنولوجــي علــي ســبيل املثــال يتحــدث مقــدم كتــاب «إبــداع حضــارة‬
‫جديــدة » ألفــن وهيــدي توفلــر كيــف أن النمــوذج الــذي قدمــاه حلضــارة املوجــة‬
‫«الثالثة » قدم فائدة عظيم للجيش األمريكي يف تزويده ابملعلومات واملعرفة‬
‫!!(‪)4‬‬
‫‪37‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫هناية التاريخ‪)5(:‬‬
‫يعد كتاب هناية التاريخ لفرنسي فوكوايما امتداداً ألفكار هيجل وماركس‬
‫يف البحــث عــن التاريــخ العاملــي وقــد اعتمــد يف كتابــه علــى دراســة جملموعــة مــن‬
‫علمــاء االجتمــاع معظمهــم مــن األمريــكان الذيــن كتب ـوا بعــد احلــرب العامليــة‬
‫الثانيــة عــن نظريــة التحديــث ‪ .‬وبينمــا احتــدم اخلــاف بــن أصحــاب نظريــة‬
‫التحديــث حــول كيفيــة ســر التطــور التارخيــي وهــل يســري يف خــط واحــد أم أن‬
‫هنــاك مداخــل أخــرى بدايــة للتحديــث‪ ،‬إال أن أحــداً مل يشــك يف أن التاريــخ‬
‫كان يتجــه حنــو هنايتــه وأن الدميقراطيــة لألمــم الصناعيـ‪37‬ـة املتقدمــة تقــع عنــد هــذه‬
‫النهايــة ونظريــة التحديــث تقــول «الدولــة األكثــر تطــورا يف الصناعــة تكشــف‬
‫للــدول األقــل تطــورا عــن صــور مســتقبلها » وكانــت هــذه املقولــة هــي بدايــة‬
‫نظريــة التحديــث الــي اعتمــدت علــي أعمــال علمــاء االجتمــاع أمثــال ماكــس‬
‫فيرب (‪ )1920-1864‬و إميل دوركامي (‪ )1917ً-1858‬وذهبت نظرية‬
‫التحديث إيل أن التطور الصناعي قد اتّبع خطاً متماســكا من النمو‪ ،‬وســوف‬
‫يســفر ابلتــايل عــن صيغــة معينــة للرتاكيــب االجتماعيــة والسياســية عــر دول‬
‫خمتلفــة وثقافــات خمتلفــة‪ ،‬وعندهــا يســود العــامل صيغــة واحــدة مــن الرتاكيــب‬
‫االجتماعيــة‪ ،‬وهــذا يــؤدي إيل حالــة ال كرامــة فيهــا ألحــد و خيتفــي الص ـراع‬
‫حوهلــا وحيــدث االنســجام العاملــي ‪ .‬وهــذا يعــي انتهــاء اجلــدل وابلتــايل التاريــخ‬
‫‪ .‬نظريــة التحديــث يتفــرع عنهــا مــا يعــرف ابلتحديثــات وهنــاك أمثلــة اترخييــة‬
‫يســتدل هبــا هــؤالء نذكــر منهــا ‪:‬احلملــة الفرنســية بقيــادة انبليــون علــي مصــر‬
‫‪1798‬م ســببت صدمــة قويــة للمجتمــع املصــري وأدت إيل إصالحــات كــرى‬
‫يف العســكرية املصريــة حتــت قيــادة الباشــا»حممد علــي» ودفــع هــذا النجــاح‬
‫بعمليــة التحديــث مــن خــال النجاحــات العســكرية ملصــر يف الشــام و دفــع‬
‫ذلــك الـوايل أو الســلطان حممــد الثــاين ابلتعهــد إبصالحــات داخليــة قضــى فيهــا‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪38‬‬

‫علــي اإلقطــاع عــام ‪1826‬م وجمموعــة إصالحــات سياســية أخــرى (التنظيمــات‬


‫اخلرييــة)‪ .‬قامــت بروســيا (املانيــا) إبصالحــات بعــد بــروز هتديــد انبليــون هلــا‪،‬‬
‫وكانــت اإلصالحــات عســكرية مثــل التجنيــد اإلجبــاري العــام يف روســيا وهــي‬
‫مرتبطــة ابلقوانــن النابليونيــة‪ .‬عمليــة التحديــث الــي قــام هبــا بيــر العظيــم يف‬
‫روســيا بعــد جولتــه يف أورواب يف هنايــة القــرن الســادس عشــر حيــث تعهــد بتغيــر‬
‫روســيا إيل قــوة أوروبية(نفــس األمثلــة تذكــر كث ـراً ولكــن كل يذكرهــا يف ســياق‬
‫خمتلــف فهــي عصرنــة وغربنــة عنــد البعــض و حتديــث وحداثــة عنــد البعــض‬
‫اآلخــر‪ .‬ويف كتــاب صــدام احلضــارات هلنتجتــون نفــس األمثلــة يف ســياق الغربنــة‬
‫) ‪ .‬و ميضــي يف كتابــه بوضــع عالقــة بــن الدميقراطيــة والنمــو االقتصــادي مؤكــدا‬
‫هناية التاريخ عندما تشــبع حاجات اإلنســان ‪،‬وختف الرغبة يف الســلطة مع منو‬
‫ملنهــج املعرفــة يبقــي خالــداً عــر احليــاة‪ ،‬إهنــا هنايــة التاريــخ إبجنــاز الرؤيــة فليــس‬
‫هنــاك أفضــل مــن احلضــارة !!*_‬

‫نقد التارخيانية‬
‫كتــب كثــر مــن املفكريــن والباحثــن يف هــذه النظـرايت ‪ ،‬لكننــا جيــب أن‬
‫ننتبــه إىل الســياق التارخيــي الــذي ولــدت فيــه هــذه النظـرايت فهــي أتيت ضمــن مــا‬
‫كتــب عنــه مؤخـرا لويــس فريدمــان كتابــه الضخــم و الفخــم االسـراتيجيا ‪ ،‬فــإن‬
‫الوعــي الــذي تشــكل عنــد هيجــل أو ماركــس وغريهــم كثــرون كــروزا لوكســمبورج‬
‫أو جرامشــي وأمســاء كثــرة أخــرى كلهــا كانــت تبحــث عــن الثــورة وقدرهتــا علــى‬
‫التغيــر أو مــا مســاه لويــس ( االس ـراتيجيا مــن حتــت )(‪ ،)6‬بــن مــن يــرى أن‬
‫األمــر ســيكون تلقائيــا مــن النــاس ‪ ،‬و مــن يــرى بضــرورة قيــادة وإدارة هلــؤالء‬
‫العمــال الثائريــن ‪.‬‬
‫‪39‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫هــذا املدخــل مهــم يف حبثنــا فنحــن هنــا ال نكتــب مــن أجــل العــرض‬
‫املدرســي هلــذه النظـرايت‪ ،‬بــل إن قــدرة هــذا الدايلكتيــك أو اجلــدل علــى التغيــر‬
‫مــن خــال اجملتمــع هــو متامـاً مــا كتــب عنــه اإلمــام حســن البنــا ‪ ،‬و ظلــت تلــك‬
‫االسـراتيجيا الــي ارتبطــت بفكــر احلــركات اإلســامية وفقـاً لفرضيــة أن اجملتمــع‬
‫ســيختار تلــك احلــركات وســينتقل تلقائيــا حنــو احلكومــة اإلســامية كمــا يفهــم‬
‫مــن النمــوذج الــذي طرحــه حســن البنــا ‪.‬‬
‫لكــن ســنجد أن تلــك الفــرة الــي أعقبــت الثــورة الفرنســية ونشــأ عنهــا‬
‫اجلمهوريــة الثانيــة يف منتصــف القــرن التاســع عشــر هـ‪39‬ـي الــي ولّـ َـدت أفــكاراً عــدة‬
‫‪ ،‬أو كانــت حمفــزة ملاركــس ليثبــت أن نظريتــه قــد آتــت أكلهــا ‪ ،‬و بــدت مالحمهــا‬
‫‪ ،‬و أن االســتقراء الــذي نتجــت عنــه تلــك القوانــن الــي تصــف املســار املتقــدم‬
‫للتاريــخ هــو قانــون الزب ال خــروج عنــه ‪.‬‬
‫كارل ماركــس نفســه كتــب عــن الثــورة املضــادة(‪ )7‬الــي أجهضــت الثــورة‬
‫األملانيــة عــام ‪1845‬و لــن ندخــل يف تفصيــل ذلــك ‪ ،‬لكــن مــا نريــد أن نبينــه‬
‫هــو مــا كتبــه كارل بوبــر يف كتابــه اجملتمــع املفتــوح و أعــداؤه و هــو الكتــاب الــذي‬
‫انتقــد فيــه كبــار املفكريــن مــن احلضــارة الغربيــة مــن أفالطــون إىل ماركــس‪ ،‬و‬
‫عــارض فكــرة النبـؤات التارخييــة واالفتيــات علــى املســتقبل إبصــدار الئحــة قوانــن‬
‫يتحــرك هبــا التاريــخ و يتوجــه مــن خالهلــا النــاس ‪.‬‬
‫هــذا األمــر مهــم ألن هــذا الكتــاب فتــح ابابً آخــر ملنهجيــة البحــث يف‬
‫التاريــخ وهــو الــذي مهــد الطريــق لنظـرايت أخــرى ســنذكرها بعــد قليــل ‪ ،‬كمــا أنــه‬
‫مهــم يف فهــم طبيعــة الدميقراطيــة و الشــمولية فوجــود ثــورة كان يقتضــي القــدرة‬
‫علــى حماربــة الليرباليــة والرأمساليــة وابلتــايل كمــا يــرى بوبــر القضــاء علــى احلضــارة‬
‫و الدخــول يف مفهــوم الدولــة الشــمولية و قدرهتــا علــى الســيطرة كمــا حــدث‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪40‬‬

‫مــع لينــن ‪ ،‬لــذا فطبيعــة الدولــة والنظــام السياســي سـرتبط هــي األخــرى ‪-‬عنــد‬
‫بوبــر ‪ -‬بطبيعــة النظــر ملشــاكل اجملتمــع وفهــم حركــة التاريــخ ‪ ،‬لــذا يريــد منــا بوبــر‬
‫أن منيــز بــن النبــؤة التارخييــة والتوقــع العلمــي ‪)8( .‬‬
‫جــاء هــذا الــكالم يف فــرة عصيبــة مــرت هبــا احلضــارة الغربيــة ‪ ،‬بــن تيــار‬
‫يدعــو للتعدديــة وإقامــة املؤسســات القــادرة علــى ضمــان اســتمرار النظــام‬
‫السياســي بــدون عنــف‪ ،‬عــر وجــود آليــة النتقــال الســلطة‪ ،‬ومشــاركة جمتمعيــة‪،‬‬
‫و مــن يــرى أن احلديــث عــن التعدديــة نــوع مــن الوهــم وأن إدارة اجملتمــع س ـواء‬
‫عــن طريــق البريوقراطيــة كمــا هــي عنــد ماكــس ويــر أو احلــزب القــوى كمــا فعــل‬
‫لينــن والنظــام االش ـراكي الــذي عقــب الثــورة البلشــفية عــام ‪. 1917‬‬
‫هــذا األمــر جعــل بوبــر أقــرب للمملكــة املتحــدة بعــد أن انتقــل مــن فينــا‬
‫حيــث قابــل فرويــد وأدلــر و غريهــم مــن علمــاء النفــس التحليلــي و عــرف فكــر‬
‫ماركــس وغريهــم مــن الفالســفة الذيــن انتقــد طريقــة نظرهــم للتاريــخ و للعلــم ‪،‬‬
‫لــذا كان حمتفيـاً ابنيشــتاين بعــد حماضرتــه عــن النســبية ‪ ،‬وبعدهــا ســافر للتدريــس‬
‫يف نيوزيلندا ومنها إىل بريطانيا ‪ ،‬لذا جند بوبر ينتقد وبقوة مدرســة فرانكفورت‬
‫الــي نشــأت يف أملانيــا‪http://plato.stanford.edu/entries/( .‬‬
‫‪/popper‬‬
‫مدرســة فرانكفــورت كانــت ضــد هــذا احلديــث عــن التعدديــة ‪ ،‬وتؤمــن‬
‫ابلدايلكتيــك التارخيــي ملاركــس ‪ ،‬و حتــاول أن تفســر ملــاذا مل تنطلــق ثــورة العمــال‬
‫كمــا توقــع ماركــس ؟ و وضعــت لذلــك منــاذج تفس ـرية عــر وضعهــا لنظريــة‬
‫ماركــس يف ســياق اجتماعــي ونفســي‪ ،‬و هــذا يعــي بقــاء النظــرة للتاريــخ ونقــد‬
‫الســببية و العقالنيــة املطلقــه ‪http://plato.stanford.edu/( .‬‬
‫‪)/entries/popper‬‬
‫‪41‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫بــدأت هــذه املدرســة فعلي ـاً عــام ‪ 1930‬و هــي ترتبــط مبؤسســة حبثيــة‬
‫للعلــوم االجتماعيــة ‪ ،‬ترأســها ماكــس أوركهاميــر ‪ ،‬بعــد تــرع فيليكــس ويــل عــام‬
‫‪ ،1923‬كانــت أملانيــا تعيــش مــا يعــرف ابجلمهوريــة األملانيــة إثــر الثــورة عــام‬
‫‪ ،1918‬لكــن صعــود النازيــة وبطشــها ابليهــود حيــث كان أغلــب الكتــاب يف‬
‫هــذه املؤسســة مــن اليهــود جعلهــم يلجــؤون للــوالايت املتحــدة األمريكيــة حيــث‬
‫انتشــروا يف جامعــة كولومبيــا يف نيويــورك للتأســيس بعــد ذلــك املدرســة النقديــة‬
‫الــي انتشــرت يف العــامل وعرفــت عــدة أجيــال وصنفــت أفكارهــا حتــت إطــار‬
‫النظريــة النقديــة ‪.‬‬
‫‪41‬‬
‫مل تستســلم هذه املدرســة للتيار الوضعي الســبيب ‪ ،‬و اعتربت أن الفلســفة‬
‫فقــدت معناهــا حــن أصبحــت تفقــد قيمهــا العليــا للتأمــل والنظــر يف التاريــخ ‪،‬‬
‫لــذا كان هيجــل والدايلكتيــك التارخيــي هــي الطريقــة الــي اتبعهــا اجليــل األول‬
‫مــن هــذه املدرســة لفهــم ملــاذا مل تنجــح توقعــات ماركــس ‪ .‬هــذا األمــر حــاول أن‬
‫يشــرحه أريــك فــروم يف كتبــه الــي أتثــرت ابلتحليــل النفســي لفهــم كيــف اســتطاع‬
‫هتلــر اســتغالل عاطفــة األملــان واعرتاضهــم علــى معاهــدة فرســاي بعــد احلــرب‬
‫الكونيــة األوىل للوصــول إىل حالــة مــن الســلطوية الــي القــت خوف ـاً مــن احلريــة‬
‫مــن اجملتمــع األملــاين ‪)9( .‬‬
‫العلــوم االجتماعيــة ال ميكــن قياســها عــر األدوات الــي نفهــم هبــا العلــوم‬
‫التطبيقيــة ‪ ،‬لــذا كانــت حماولــة لفهــم اجملتمــع وجتــاوز املاديــة ودراســة الدولــة‬
‫الشــمولية ‪ ،‬ونقــد اجملتمعــات األوروبيــة ‪ ،‬أوركهاميــر مث ـاً حــاول أن يتحــدث‬
‫عــن جدليــة بــن التنويــر واملاركســية‪ ،‬لــذا مــا حــدث مــا هــو إال تناقــض حصــل‬
‫بــن الفكــر التنويــري الــذي صحــب الثــورة الفرنســية وثــورة العمــال الــي توقعهــا‬
‫كارل ماركــس ‪ ،‬لــذا كان النقــد الــذي وجهــه ملاركــس و لفكــر التنويــر هــو جتــاوز‬
‫ســعادة اإلنســان وأن هــدف النظريــة االجتماعيــة هــو ختفيــف معاانتــه ‪ ،‬فقــد‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪42‬‬

‫غــاب عــن النظريــة العمليــة البعــد الغائــي والفلســفة الكليــة الــي شــكلت جوهــر‬
‫النظريــة النقديــة ‪ .‬أغلــب مــن يف هــذه املدرســة كانـوا مــن اليهــود وكلهــم عانـوا مــن‬
‫االســتبداد والدكتاتوريــة ‪ ،‬فليــس احلــل يف اللجــوء للســببية والعقالنيــة املطلقــة ‪،‬‬
‫فلكــي نضــع نظريــة للوجــود واحليــاة فليــس ذلــك بتجــاوز امليتافيزيقــا والغيــب بــل‬
‫إبعــادة ترتيــب الرتاكيــب القدميــة إىل أخــرى جديــدة (‪)10‬‬
‫النموذج اليت اتبعته هذه املدرسة قريب من النموذج املثايل عند أوجست‬
‫كونــت ‪ -‬كمــا ســيأيت يف احلديــث عــن النمــاذج ‪ -‬لكــن اوركهاميــر يــرى أبن‬
‫املاديــة نوعــن األول اخت ـزايل وميثلــه فالســفة التنويــر مــن فرنســا و هــم الــذي‬
‫اختصــروا الكــون واجملتمــع يف جمموعــة قــوى فيزايئيــة ‪ .‬الثــاين هــي املاديــة اجلدليــة‬
‫عنــد ماركــس ‪ ،‬أمــا املثاليــة فيقســمها إىل عقالنيــة وغــر عقالنيــة ويدخــل فيهــا‬
‫املدرســة املثالية األملانية ألوجســت كانت و هيجل و كذلك املدرســة التجريبية‬
‫لديــكارت ولــوك وليبينتيــز ‪ .‬املشــروع الــذي محلــه أوركهاميــر و تطــور مــع مدرســة‬
‫فرانكفــورت هــو حماولــة حتريــر املاديــة مــن االخت ـزال ‪ ،‬واســتعادهتا لشــيء مــن‬
‫املثاليــة و ربطهــا ابلســياق االجتماعــي ‪ .‬هــذا األمــر هــو الــذي انتشــر يف أعمــال‬
‫املدرســة وهــو الــذي جعــل املدرســة تتبــى التيــار اليســاري يف الــوالايت املتحــدة‬
‫الــذي عمــل علــى بروابغانــدا حتــاول تبــن مظــامل الرأمساليــة و اجلشــع و الــروح‬
‫االمرباطوريــة للــوالايت املتحــدة األمريكيــة ‪)10( .‬‬
‫هذا يعين أن طرح كارل بوبر قد يصطدم هو اآلخر بنفي املثالية واالجتاه‬
‫للتعامــل املــادي مــع التاريــخ ‪ ،‬ونفــي للكليــات ‪ ،‬فالسـؤال هــو هــل وجــود قوانــن‬
‫اترخييــة أو ســنن اجتماعيــة ( أو إهليــة أو اترخييــة ) يعــي قدرتنــا علــى التوقــع‬
‫واجلــزم ابملســتقبل ؟ ‪ ،‬و هــل هــذا ســيجعل التاريــخ يتحــرك يف مســار قــدري‬
‫مــن مرحلــة إىل أخــرى؟ ‪ ،‬و هــل حقــا أن وجــود تلــك املخططــات التارخييــة قــد‬
‫يــؤدي إىل نشــوء الدولــة الشــمولية أو أن املقاربــة ( الــي يطرحهــا كارل بوبــر يف‬
‫‪43‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫كتابــه ) وهــي التعامــل مــع املشــاكل اجلزئيــة للمجتمــع ( ‪) piecemeal‬‬


‫بنمــاذج اترخييــة تضــع الفعــل البشــري يف القلــب منهــا هــي الطريقــة األجــدى‬
‫للتعامــل مــع القوانــن التارخييــة ؟ ‪.‬‬
‫هــذه اآلســئلة مهمــه جــداً ألن الفكــر اإلســامي والدراســات حــول الســنن‬
‫التارخييــة عنــدان‪ ،‬مل جتــب عــن هــذه األســئلة ابلقــدر الــذي ميكننــا مــن حتديــد‬
‫اجملــال الــذي جيــب أن نضــع فيــه الســنن التارخييــة‪ ،‬فكــون القــرآن يــورد الكثــر مــن‬
‫هــذه الســنن ال يعــي أننــا منلــك القــدرة علــى اجلــزم ابملســتقبل ‪ ،‬بــل إن قدرتنــا‬
‫ســتظل حمــدودة ‪ ،‬ألن تركيــب األحــداث الــذي نعي‪43‬شــه يتجــاوز تلــك القــدرة‬
‫البشـرية‪ ،‬وال يعــي هــذا أن هــذه الســنن تتبــدل أو تتحــول لكــن كمــا يقــال حــى‬
‫يف الفقــه وأصولــه أن حاج ـزاً بيننــا وبــن اليقــن هــو اللغــة و أدوات االســتنباط‬
‫‪ ،‬وهنــا حاجــز آخــر وهــو إمكانيــة إحلــاق الــدال ابملدلــول عــر مؤش ـرات تؤكــد‬
‫ارتبــاط الظاهــرة ابملؤشــر ومــن مث اجلــزم بتك ـرار الســبب عــر املســبب ‪ ( .‬انظــر‬
‫الفصــل القــادم ) ‪.‬‬
‫إذاً جوهــر هــذه االســئلة هــو مــا جيعلنــا نتســاءل كيــف ملــن خيــوض يف‬
‫النظريــة السياســية والفكــر السياســي أن خيطــو خطــوة حنــو فهــم طبيعــة الدولــة‬
‫دون أن حيــدد نظرتــه مــن هــذه اخللفيــة الفلســفية ‪ ،‬لــذا فكتــاب بوبــر مهــم ألنــه‬
‫يبــن ســياق النظ ـرايت الفلســفية يف بعدهــا السياســي ‪ ،‬مبعــى أن أغلــب مــن‬
‫مساهــم ابلتارخيانيــن والذيــن يزعمــون القــدرة علــى التوقــع ابتــداء مــن أفالطــون‬
‫إىل ماركــس مــن خــال اســتقراء قوانــن التاريــخ كانـوا يف العــادة ضــد الدميقراطيــة‬
‫ومعاديــن للحضــارة األوروبيــة هكــذا ادعــى بوبــر ‪.‬‬
‫فاجلــزم حبتميــة التاريــخ فض ـاً عــن حتديــد مســاراته‪ ،‬ال يقــل خطــورة عــن‬
‫وجــود ســلطة تريــد أن جتــر النــاس علــى اختيــار سياســات اقتصاديــة واجتماعيــة‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪44‬‬

‫بعينهــا‪ ،‬و أن النظريــة العلميــة ال تعــي احلقيقــة املطلقــة ‪ ،‬وال ميكننــا أن ندعــي‬
‫أن الســنن التارخييــة هــي وســيلة للجــزم حبتميــة املســتقبل ‪ ،‬وأن حيــاط اجملتمــع‬
‫هبالــة مــن املســلمات الــي ال ميكــن اخلــروج عليهــا‪ ،‬ألن النظـرايت الــي نطرحهــا‬
‫مــا هــي إال تنظيــم لــآراء و األفــكار الــي خنتارهــا‪ ،‬هــذا التنظيــم ســيكون فرضيــة‬
‫قابلــة لالختبــار وقابليتهــا لالختبــار هــو الــذي يضفــي عليهــا طابعهــا العلمــي‪:‬‬
‫أي أننــا ميكــن أن نتعــرف علــى صدقهــا و كذهبــا سـواء مــن خــال دراســتها يف‬
‫الواقــع وقدرهتــا علــى توقــع فـرات زمنيــة حمــددة مــن التاريــخ ‪ ،‬أو أن خنتربهــا إن‬
‫كانــت قابلــة لالختبــار يف املعمــل‪ ،‬أمــا أن تطــرح قوانــن عامــة ال ميكــن اختبارهــا‬
‫هــذا الــذي ســيفضي يف النهايــة للتطــرف والعنــف و اجملهــول ‪.‬‬
‫ابلطبــع ســنجد بوبــر حيــارب النظــرة الدينيــة للتاريــخ‪ ،‬حــن يتحــدث عــن‬
‫اإلرادة اإلهليــة ‪ ،‬والــي اعتــر فيهــا فلســفة هيجــل تربيـراً للقيصــر فريدريــك ويليــام‬
‫الثــاين قيصــر بروســيا‪ ،‬حــن اعتــر الدولــة هــي هنايــة اجلــدل وهــي املنتهــى ‪ ،‬األمــر‬
‫الــذي تكــرر مــع لينــن وفهمــه لســيطرة احلــزب علــى حركــة اجلماهــر والعمــال‪ ،‬و‬
‫انتهــى األمــر إىل دولــة مشوليــة متامـاً كمــا كان هتلــر وميسـوليين ‪ ،‬كل ذلــك نتــاج‬
‫النظــرة الكليــة الــي جعلــت فيلســوفاً كهيجــل يــرر فلســفياً الدولــة الشــمولية يف‬
‫أملانيــا بنــاء علــى تلــك النظــرة الدينيــة ‪.‬‬
‫مــا جيــب أن ننبــه عليــه أن القــرآن عندمــا ذكــر هــذه الســنن طلــب منــا‬
‫البحــث والتحقــق مــن هــذه الســنن ابلســر يف األرض ومعرفــة عاقبــة الظاملــن ‪.‬‬
‫الطريقــة الــي يطرحهــا بوبــر أومهــت كثرييــن ابلنســبية فيمــا بعــد ‪ ،‬و أن ال وجــود‬
‫حلقيقــة مطلقــة ‪ ،‬هــذا األمــر الــذي ال نقــره حبــال (كمــا ســيأيت ) جــاء مــن ســوء‬
‫فهــم ملــا يطرحــه بوبــر و أان أفهــم هــذا الــكالم يف إطــار أن اجلــزم ابلغيــب حيتــاج‬
‫منــا اإلقـرار ابلعجــز عــن اإلدراك ‪ ،‬و آن الغيــب ال يعلمــه إال هللا ‪ ،‬وأن هنــاك‬
‫فرق ـاً بــن وجــود حقائــق قرآنيــة واضحــة كعاقبــة الظلــم و هنايــة األمــم وآجاهلــا‪،‬‬
‫‪45‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫وبــن وضــع خمطــط ( ســيناريو) حيــاول أن يتتبــع مســار التاريــخ الكلــي ويفســر‬
‫حركــة اتريــخ العــامل كمــا يكتــب أفالطــون وهيجــل أو ماركــس ألن نظرايهتــم‬
‫تلــك الــي انتقدهــا بوبــر ‪ -‬وكان األمــر صاعقـاً للحضــارة الغربيــة ‪ -‬بنيــت علــى‬
‫مقــارابت ومنهــج اســتقرائي للتاريــخ ال ميكــن اجلــزم بــه كقانــون مطلــق ألنــه يف‬
‫النهايــة يعــر عــن رأي ماركــس أو هيجــل ليــس إال ‪.‬‬
‫أبــو يعــرب املرزوقــي ينبهنــا بــذكاء أن كل تلــك املقــارابت ارتبطــت‬
‫ابلدايلكتيــك التارخيــي ‪ ،‬وأهنــا انعــكاس الحنـراف يف احلضــارة املســيحية مرتبــط‬
‫بوحــدة الوجــود والــذي تتجلــى بفكــرة جامعــة ال تقبــل‪45‬اجلــدل أحيــاان هــي الدولــة‬
‫كمــا عنــد هيجــل أو هــو الشــيوع عنــد ماركــس ‪ ،‬يقــول الدكتــور أبــو يعــرب‬
‫املرزوقــي عــن هــذه األفــكار ( مثلهــا مثــل نقيضتهــا واملاديــة بضروهبــا املختلفــة ‪,‬‬
‫ليســت إال صياغــة الهوتيــة صوفيــة مســتمدة مــن جمــازات ســطحية مثــل املقارنــة‬
‫مبراحــل نضــوج النبــات ‪ ،‬أو مراحــل تكويــن احلي ـوان ‪ ،‬أو املقارنــة بــن مراحــل‬
‫الفرد ومراحل حياة اجلماعة ) مث يقول (إذاً املادية التارخيية ليست سوى ذروة‬
‫وحــدة الوجــود الطبيعــة ) ‪.‬‬
‫لكــن الس ـؤال مــا البديــل ؟ هــذا مــا حاولــت فكــرة النمــاذج التارخييــة أن‬
‫جتيــب عنــه ‪.‬‬

‫النماذج التارخيية ‪:‬‬


‫كل النظـرايت الســابقة جــاءت يف ســياق البحــث عــن خمطــط للتاريــخ ‪،‬‬
‫يرتبــط مبــا يســمى النامــوس أو القانــون التارخيــي أو الســنن االجتماعيــة ‪ ،‬ويف‬
‫الغالــب يكــون هنــاك عامــل واحــد هــو احملــرك للــدورة التارخييــة أو املســار اخلطــي‬
‫للتاريــخ ‪ ،‬و هــذا قــد يدخــل يف جمــال االس ـراتيجيات الكــرى ‪ ،‬لكــن التأثــر‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪46‬‬

‫السياســي لذلــك قــد حيجــب الرؤيــة عــن املتغـرات املهمــة الــي قــد ختتفــي وســط‬
‫زخــم النظ ـرايت الكــرى ‪ ،‬كمــا أهنــا نظ ـرايت متيــل حنــو التعميــم واالخت ـزال ‪،‬‬
‫فاحلقيقــة عــادة مــا تكــون يف تفاصيــل قــد ال تنتبــه إليهــا تلــك النظ ـرايت ‪ ،‬أو‬
‫أن الســلطات القائمــة حتــاول فــرض نظريــة مــن هــذه النظ ـرايت ‪ ،‬كمــا انتقــد‬
‫كارل بوبــر هيجــل ‪ ،‬و كمــا نــرى مــن ســيطرة فرضيــات ومســلمات خمتلفــة عــر‬
‫ســلطات قائمــة تتحكــم يف املعرفــة وخمرجاهتــا ومتيــل ملذهــب مــن املذاهــب ‪،‬‬
‫كمــا يف قضيــة خلــق القــرآن أو االدبيــات املتعلقــة ابملذهــب الشــيعي أو الفكــر‬
‫الســلفي ‪.‬‬
‫هــذه التصــورات الكــرى ‪ ،‬قــد تتغــر مــع تغــر األوضــاع الســائدة يف بلــد‬
‫مــا ‪ ،‬فــكل النظ ـرايت الــي حتدثنــا عنهــا كانــت نتــاج ألحــداث عاشــها هــؤالء‬
‫املفكــرون كمــا ســبق ‪ .‬كتــب تومــاس كــون كتابــه بنيــة الثــورات العلميــة ‪ ،‬و هــو‬
‫الكتــاب الــذي الحــظ فيــه أن مســار الكشــوفات العلميــة ال يتحــرك بصــورة‬
‫تطوريــة متقدمــة بــل إن املســار متقطــع وهنــاك قف ـزات قــد انتقــل فيهــا اتريــخ‬
‫العلــوم‪ ،‬هــذا األمــر شــرحه تومــاس كــون يف املصطلــح الــذي أخــذ صيتـاً عاليـاً‬
‫فيمــا بعــد و هــو‪ :‬النمــوذج ‪.‬‬

‫النموذج‬
‫مــن املهــم هنــا أن نعــرف أن هــذه النظريــة مل ختــل مــن النقــد ‪ ،‬و رغــم‬
‫كوهنــا نظريــة يف اتريــخ العلــم أساسـاً إال أن الفكــرة تسـربت للعلــوم االجتماعيــة‬
‫واالس ـراتيجية ‪ ،‬فهــي ابختصــار اخرتقــت النظــرة التطوريــة اخلطيــة ابلقف ـزات‬
‫والثــورات الــي اقرتحهــا لتاريــخ العلــم‪ .‬ابلطبــع هنــا قــد يبــدو األمــر و كأنــه‬
‫أقــرب للــدورات لكنهــا فـرات خمتلفــة بــل يكمــل بعضهــا البعــض ‪ ،‬لــذا جيــب‬
‫أن نتفهــم هــذه النظريــة ألهنــا ســتقربنا أكثــر مــن فهــم فكــرة النمــاذج‪ ،‬والــي‬
‫‪47‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫قــد اضطــرب فهمهــا حــى يف فك ـران اإلســامي كمــا ســنقارن ذلــك بنمــوذج‬
‫العلمانيــة الشــاملة الــذي طرحــه الراحــل عبــد الوهــاب املســري كمــا أن كث ـراً‬
‫ممــن ينتقــدون هــذه الطريقــة مــن التفكــر مل يطلعـوا علــى هــذه الفلســفة االطــاع‬
‫الــكايف الــذي ميكنهــم مــن نقدهــا والــكل وقــف عنــد االســتقراء ومــن مث أصبــح‬
‫االســتدالل يدور مبنهج فقهي أصويل قد ال يصلح لفهم القضااي االسـراتيجية‬
‫واالجتماعيــة الــي متكــن املشــاريع اإلصالحيــة مــن فهــم الواقــع والتعامــل معــه ‪.‬‬
‫يقــول كــون ىف الفصــل العاشــر ‪ (:‬الثــورات كتغ ـرات لوجــه العــامل (إن‬
‫ـان النظــر ىف األشــياء مــا مل‬
‫الثــورات ( العلميــة ) جعلــت العلمــاء يــرون بعــد إمعـ‪47‬‬
‫يــروه مــن قبــل عندمــا كانـوا ينظــرون ىف نفــس هــذه األشــياء وعندمــا اســتخدموا‬
‫نفــس األدوات الــى اعتــادوا االســتعانة هبــا )(‪)11‬‬
‫هــذا التغــر هــو تغــر ىف النمــوذج ‪ ،‬وهــو النظريــة العامــة الــى يلتــزم هبــا‬
‫اجملتمــع العلمــى ىف زمــن مــا‪ ،‬و بلــوغ النظريــة درجــة النمــوذج اإلرشــادى يعــى‬
‫أهنــا افضــل مــن منافســاهتا‪ ،‬وينمــو العلــم مــن خــال (األلغــاز )الــى يطرحهــا‬
‫النمــوذج اإلرشــادى ‪.‬وتظــل احلــال علــى هــذا املنـوال الرتاكمــى ( كتــب دراســات‬
‫أحبــاث ىف إطــار النمــوذج ) إىل أن يظهــر شــذوذ عــن هــذا النمــوذج‪ ،‬هنــا يتيــح‬
‫النموذج اإلرشــادى نفســه وســيلة للخروج من هذا الشــذوذ وهو ما يســمى ‪self‬‬
‫‪« ”correction‬ويبــدأ النمــوذج اجلديــد‪ ،‬بعــد أن يلقــى مقاومــة مــن النمــوذج‬
‫القــدمي اىل أن يثبــت قدرتــه علــى التفســر واخلــروج مــن الشــذوذ) ‪)12( .‬‬
‫ميكــن تعريــف النمــوذج علــى أنــه ( جمموعــة مــن األفــكار الــي تتجــذر يف‬
‫اجملتمــع العلمــي لدرجــة أن نزعهــا يصبــح قضيــة سياســية متامـاً كمــا هــو مســألة‬
‫ختضــع للتجربــة العلميــة )(‪ )6‬هكــذا عندمــا يعمــل اجملتمــع العلمــي ضمــن‬
‫النمــوذج القــدمي يســمي ذلــك العلــم االعتيــادي أو املدرســي ( ‪normal‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪48‬‬

‫‪ )science‬ألن كل األحباث والدراسات والكتب تدور حول ذلك النموذج‬


‫يف خمتلــف اجملــاالت‪ ،‬ولكــن املالحظــة واســتمرار البحــث يكشــف عــن شــذوذ‬
‫يف قــدرة العلــم علــى تفســر الكــون والعــامل ‪ ،‬هنــا ينشــأ العلــم الثــوري أو الثــورة‬
‫العلميــة وهــو النمــوذج الثــوري اجلديــد الــذي حيــاول أن يقــاوم تلــك األفــكار‬
‫الســائدة والــي بنيــت علــى أساســها مؤسســات الدولــة واملؤسســات التعليميــة ‪.‬‬
‫املثــال الكالســيكي لذلــك هــو ثــورة كوبرنيكــس والــي قاومــت فكــرة مركزيــة‬
‫األرض ودوران األفــاك حوهلــا ‪ ،‬أبهنــا تــدور ضمــن األفــاك حــول الشــمس ‪.‬‬
‫هــذا النمــوذج قــد يغــر الكثــر مــن األفــكار والقضــااي الســائدة يف اجملتمــع لــذا‬
‫جنــد تلــك املقاومــة وحماولــة التدخــل حــى مــن الســلطات احلاكمــة والكنيســة‬
‫كمــا حــدث مــع نيكــوالس كوبرنيكــس و منوذجــه الــذي حتــدى النمــوذج القائــم‬
‫و ليــس صحيحـاً متامــا مايشــاع عــن معــاداة الكنيســة لــه كمــا ســنبني يف كتــب‬
‫أخــرى (‪. )1543-1473‬‬
‫تومــاس كــون نفســه شــعر ابحلــرج مــع ثــورة الشــباب يف أورواب عــام‪1960‬‬
‫ـوري وعندمــا قابلــه أحــد الطلبــة وقــال لــه شــكراً علــى فكــرة البــارادامي‬
‫حــن اعتــر ثـ ً‬
‫أو النمــوذج ‪ -‬ألهنــا اعتــرت ضمــن أدوات القهــر والســيطرة ‪ -‬قــال لــه اآلن‬
‫ميكننــا أن نســتمر بدوهنــم !!(‪ .)6‬لكــن املســار الــذي اختــذه كــون للعلــم ‪ ،‬ال‬
‫يـزال خطيـاً ( اجيابيــا) مبعــى أنــه رغــم وجــود هــذا التقطــع إال أنــه مســتمر ‪ ،‬وبــذا‬
‫يكــون املســار اخلطــي االجيــايب هــو األســاس حســب البعــض ‪ ،‬األمــر الــذي‬
‫خيتلــف مــع كارل بوبــر يف أن هــذا التقــدم ليــس ابلضــرورة حنــو الصـواب واملعرفــة‬
‫بــل إن عاملنــا ملــيء ابخلطــااي واملعتقــدات الفاســدة ‪ .‬لــذ بــى كارل بوبــر فلســفته‬
‫علــى قابليــة اخلطــأ بينمــا ارتبطــت حبــل األلغــاز عنــد تومــاس كــون ‪http://(.‬‬
‫‪)www.collier.sts.vt.edu/5306/kuhnpopper.pdf‬‬
‫‪49‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫فكــرة النمــاذج والبــارادامي انتشــرت كالنــار يف اهلشــيم ‪ ،‬ففــي مقــال نشـرته‬


‫اجلــارداين و صفــت كتــاب تومــاس كــون عــن النمــاذج أبنــه قــد غــر العــامل ‪،‬‬
‫يقــول املقــال‪ :‬إن مصطلــح التحــول يف النمــوذج (‪ )paradigm Shift‬قــد‬
‫حبــث عنــه أكثــر مــن عشــرة ماليــن ابحــث عــر جوجــل كمــا أن كتــاب كــون‬
‫تركيــب الثــورات العلميــة أكثــر الكتــب العلميــة انتشــاراً وأتث ـراً ‪.‬‬
‫يف حلظــة مــن اللحظــات يكــون النمــوذج الســائد أشــبه بــوزارة احلقيقــة يف‬
‫روايــة جــون أورويــل عــام ‪ ،1984‬لــذا كانــت تلــك الفــرة الــي عاشــها (بوبــر‬
‫‪ 49‬مثــل هــذه الــوزارة ‪ ،‬وهــي‬
‫وكــون) وغريهــم يف احلــرب العامليــة الثانيــة توحــي بوجــود‬
‫حماولــة الســيطرة علــى املعلومــات وتدفقهــا ‪ ،‬و املعرفــة وصناعتهــا ‪ .‬ال ميكننــا أن‬
‫نتحــدث أكثــر عــن فكــرة النمــوذج ‪ ،‬لكــن مــا حيــب قولــه هنــا هــو أن النمــاذج‬
‫كانــت أشــبه هبديــة لتيــار آخــر مــن النســبية ‪ ،‬فمــادام البحــث العلمــي يرتبــط‬
‫بســياق جمتمعــي وسياســي فاألمــر ال يتعلــق ابحلقيقــة بقــدر مــا هــو نســي يرتبــط‬
‫ابلســلطات وتصفيــق اجلماهــر ‪.‬‬
‫السـؤال الــذي جيــب أن نســأله ألنفنســا كيــف ميكــن فهــم فلســفة التاريــخ‬
‫يف ســياقنا العــريب و اإلســامي ومــا هــي إجابتنــا علــى كل تلــك األســئلة الــي‬
‫تطرحهــا فلســفة العلــم وفلســفة التاريــخ ؟ ‪.‬‬

‫السرد والقصص ‪:‬‬


‫تلــك النظ ـرايت الــي نشــأت لتفســر التاريــخ ‪ ،‬أو ملعرفــة املــآل الــذي‬
‫ســتصري إليــه األمــور وفــق قانــون أو نظريــة أو منــوذج مســبق كانــت نتــاج لواقــع‬
‫عاشــه هــؤالء املفكــرون و الباحثــون ‪ ،‬كانــت الســلطة بــا شــك جــزءاً منــه ‪،‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪50‬‬

‫فــا يوجــد كالم مــن كالم هــؤالء املفكريــن مطلقـاً بــل هــو نتــاج لواقــع ولظــروف‬
‫اجتماعيــة واقتصاديــة‪.‬‬
‫لــذا كانــت املســافة بــن تلــك األفــكار والواقــع ترتبــط بتقبــل اجملتمــع‬
‫والســلطات هلــذه األفــكار ‪ ،‬رمبــا تشــوهت بفعــل التفاعــل بــن املعرفــة والســلطة‪،‬‬
‫أو ألن اجملتمــع مل يتقبــل تلــك األفــكار‪ ،‬أو أن اجملتمــع انقســم حوهلــا ‪ ،‬يف هنايــة‬
‫األمــر جنــد أنفســنا أمــام قصــص خمتلفــة لتفســر الواقــع ‪ ،‬فليــس األمــر متعلــق‬
‫بنمــاذج تفسـرية تنتشــر يف اجملتمــع العلمــي فقــط ‪ ،‬بــل يتعــداه ليكــون جــزءاً مــن‬
‫حيــاة النــاس عــر االتصــال الــذي سيشــكل يف فــرة الحقــة جــزءاً مهم ـاً مــن‬
‫الفلســفة خاصــة تلــك الــي توســم أبهنــا تيــار مــا بعــد احلداثــة ‪.‬‬
‫هــذا التيــار يعــد امتــداداً للمدرســة النقديــة الــي عرفــت عــدة أجيــال ‪ ،‬فبعــد‬
‫جيــل (ماكــس اوركهاميــر ) ( ايريــك فــروم) ( هلــرت ماركــوس) (ثيــودور ادورنــو‬
‫)( ايرنســت بلــوخ ) وغريهــم جــاء مــن بعدهــم جيــل آخــر مــن أشــهرهم ( يورغــن‬
‫هابرمــاس) و( البــرت فيلمــر) و(الفريــد مسيــث ) ويف هــذا اجليــل ترســخت‬
‫فكــرة التواصــل اجملتمعــي و أن احلقيقــة أتيت يف ســياق اجتماعــي أو أن العلــوم‬
‫االجتماعيــة هــي انعــكاس للمجتمــع وثقافتــه ممــا يعطــي للتواصــل قيمتــه فيصبــح‬
‫اجملتمــع كالنــص األديب ميكــن قراءتــه ويصبــح التفاعــل والتواصــل أســاس احلقيقــة‬
‫االجتماعيــة ‪)13( .‬‬
‫هــذا األمــر فتــح اجملــال لتناغــم بــن النــص واللغــة ( علــم اللســانيات والعلــوم‬
‫االجتماعيــة ) فلــم يعــد األمــر يتعلــق مبعرفــة احلقيقــة بــل ابلتواصــل الفعــال إلقنــاع‬
‫اجملتمــع أو احللفــاء أو رجــال األعمــال ابلســرد الــذي يتخــذه الفاعــل السياســي‬
‫‪ .‬الســرد ‪ :‬هنــا يعــي وجــود عناصــر خمتلفــة يـراد أن يوضــع هلــا خــط جامــع ميكــن‬
‫أن يتحــول إىل قصــة متتاليــة قــادرة علــى إقنــاع الطــرف األخــر ابإلسـراتيجية الــي‬
‫‪51‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫يريدهــا هــذا الفاعــل السياســي ‪ ،‬لقــد عــاد للكلمــات واجلمــل اعتبارهــا و تـراءت‬
‫األس ـواق الكــرى وكأهنــا أمــام ثــورة التوقعــات لــن تفلــح إال بتدفــق املعلومــات‬
‫واألحــرف واملســتندات ‪.‬‬
‫ثــورة التوقعــات تلــك تعــززت بوجــود حجــم ضخــم مــن املعلومــات الــي‬
‫نعيــش فيهــا ‪ ،‬تلــك املعلومــات الــي صــارت جــزءاً مــن حياتنــا اليوميــة وهــي حتيــط‬
‫ابلنــاس كل النــاس‪ .‬وكل منــا يصنــع تلــك النمــاذج الــي تعــزز مصلحتــه ووجــوده‬
‫يف خارطــة التاريــخ و معادلــة السياســة وطبيعــة الســوق ‪.‬‬
‫لقــد تســطح العــامل(‪ )14‬بطريقــة جعلــت التنظي‪51‬مــات األساســية فيــه مــن‬
‫املمكــن أن أتخــذ شــكل شــبكات ممتــدة(‪ ، )15‬هــذه الشــبكات بنيــت علــى‬
‫التوقــع وصناعــة الق ـرار ‪ ،‬ومؤشــرها هــو تلــك القــدرة علــى االســتمرار يف الربــح‬
‫والســيطرة علــى الســوق العاملــي و حتولــت الــوالايت املتحــدة األمريكيــة إىل‬
‫حــارس لصناعــة البيئــة الــي ميكــن أن يتحــول فيهــا النظــام العاملــي إىل نظــام ميكــن‬
‫التحكم يف مدخالته وخمرجاته ‪ ،‬و إىل صناعة الالشعور الذي ميكن أن يهيئ‬
‫النــاس لتقبــل املرحلــة الكونيــة مــن اتريــخ احلضــارة وهــي الــي تســمى ابلعوملــة ‪.‬‬
‫يف عــامل املعلومــات ذلــك تنشــأ العالقــة مــع القصــة والســرد ليــس مــن‬
‫أجــل الســيطرة علــى األخــاق و األع ـراف بــل مــن أجــل التحكــم يف احلــدث‬
‫واملعلومات اليت ميكن أن تتحول إىل جمموعة مناذج وبرامج قد تضمن استمرار‬
‫ســيطرة الشــركات الكــرى والــوالايت املتحــدة األمريكيــة علــى النظــام العاملــي ‪.‬‬
‫بعــد ســقوط االحتــاد الســوفييت كانــت ســردية هنايــة التاريــخ ترتبــط ابلـراث‬
‫الكالســيكي اهليجلــي املاركســي ‪ ،‬ومنــوذج صــدام احلضــارات يرتبــط بنمــاذج‬
‫تومــاس كــون كمــا صــرح هنتجتــون يف بدايــة الكتــاب وهــي الــي القــت االنتشــار‬
‫األكثــر ‪ ،‬رمبــا لدعــم الــوالايت املتحــدة األمريكيــة والرئيــس بــوش لضــرورة نشــر‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪52‬‬

‫الدميقراطيــة وتقســيم العــامل لعــامل اخلــر والشــر وفقــا للمحافظــن مــن احلــزب‬
‫اجلمهــوري‪ .‬لكــن ســردية أخــرى كتبهــا راســل جاكــويب أســتاذ التاريــخ الثقــايف‬
‫يف جامعــة كاليفورنيــا عــن هنايــة اليوتوبيــا ‪ ،‬رمبــا كانــت تفســر انتشــار األعمــال‬
‫الكــرى الــي هــي نــوع مــن الرمــوز واألعمــال الفارغــة مــن أي حلــول حقيقيــة‬
‫ملشــاكل العــامل‪.‬‬
‫((م ـ ــن احملتم ـ ــل يف املس ـ ــتقبل ‪ ،‬يف ع ـ ــامل خيل ــو م ــن أي جدي ــد ع ــامل يك ــون‬
‫ك ــل ش ــيء في ــه قـ ـ ـ ــد انتهـ ـ ـ ــى وتكـ ـ ـ ــون كـ ـ ـ ــل حلظـ ـ ـ ــة فيـ ـ ـ ــه تكـ ـ ـ ـرار للماض ـ ــي ‪،‬‬
‫أن يق ـ ــوم وض ـ ــع يك ـ ــون الفك ـ ــر في ـ ــه خالي ـاً مــن ك ــل العناص ــر االيديولوجي ــة‬
‫واليوتوبيـة ‪ .‬لكـن اإلزالـة التامـة للعناصـر الـيت تسـمو علـى األم ــر الواق ــع س ــوف‬
‫تع ـ ــي يف النهاي ـ ــة اع ـ ــتالل اإلرادة االنسـ ـ ــانية وتلفهـ ـ ــا‪ .‬وفيمـ ـ ــا يلـ ـ ــي يكمـ ـ ــن‬
‫أك ــر ف ــرق ج ــوهري ب ــن ه ــذين النم ــوذجني م ــن التس ـ ـ ـ ـ ــامي علـ ـ ـ ـ ـ ــى الواقـ ـ ـ ـ ـ ــع‪.‬‬
‫فبينمـ ـ ـ ـ ــا سـ ـ ـ ـ ــقوط اإليديولوجيــة أزمــة لطبقــة معينــة فقــط‪ ،‬وأتخــذ املوض ـ ـ ـ ـ ـ ــوعية‬
‫النامج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة ع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن إزال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة أقنع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة اإلي ـ ــديولوجيات دائمـ ـ ـاً ش ـ ــكل توض ـ ــيح‬
‫ال ـ ــذات ابلنسـ ـ ـ ــبة ﺠﻤﻟمتـ ـ ـ ــع ككـ ـ ـ ــل ‪ ،‬فـ ـ ـ ــإن زوال العنصـ ـ ـ ــر اليوت ـ ـ ـ ــويب زواالً اتم ـ ـ ـ ـاً‬
‫م ـ ـ ــن الفك ـ ـ ــر والفع ـ ـ ــل البش ـ ـ ـريني سـ ـ ــوف يعـ ـ ــين أن الطبيعـ ـ ــة البش ـ ـ ـرية والتطور‬
‫االنساين سيتخذان طابع ـاً جدي ــداًك ــل جـ ـ ــدة ‪ .‬إن اختفـ ـ ــاء اليوتوبيـ ـ ــا سـ ـ ــيخلق‬
‫وضـ ـ ــعاً سـ ــاكناً جامـ ــداً ال يكـ ــون فيـ ــه االنسـ ــان نفسـ ــه في ـ ـ ــه أكث ـ ـ ــر م ـ ـ ــن أي‬
‫ش ـ ـ ــيء ‪ .‬وس ـ ـ ــتواجهنا حـ ــن ذاك أكـ ــر ظـ ــاهرة متناقضـ ــة ختطـ ــر علـ ــى البـ ــال أو‬
‫اخليــال ‪ :‬وهــي أن اإلنســان الـ ـ ــذي فـ ـ ــاز بـ ـ ــأكرب سـ ـ ــيطرة فكريـ ـ ــة علـ ـ ــى الوج ــود‬
‫‪ ،‬يص ـ ــبح ‪ ،‬ح ـ ــن يـ ـ ـُـرك ب ـ ــا مـُثـ ـ ـُـل علي ـ ـ ــا ‪ ،‬جم ـ ـ ــرد خمل ـ ـ ــوق عش ـ ـ ـوائي إنزوائ ـ ـ ــي ‪.‬‬
‫وهكذا ‪ ،‬وبعـد تطـور مريـر ولكنـه بطـويل ‪ ،‬ويف حلظـة وصـوله اىل أعلـى مراحـل‬
‫ال ــوعي واإلدراك ‪ ،‬وح ـ ـ ــن يفق ـ ـ ــد الت ـ ـ ــاريخ ص ـ ـ ــفته كقـ ـَـ ــد ٍر أعم ـ ــى وبتزاي ـ ــد كون ـ ــه‬
‫خملوق ـ ــا ً م ـ ــن ص ـ ـ ـ ــنع االنس ـ ـ ـ ــان ‪ ،‬ويف ه ـ ـ ـ ــذه اللحظ ـ ـ ـ ــات اﺠﻤﻟيــدة ‪ ،‬إذا ختلــى‬
‫‪53‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫االنسان ع ــن اليوتوبي ــات ‪ ،‬فإنـ ـ ــه يضي ـ ـ ـّـع إرادتـ ـ ــه يف صـ ـ ــنع التـ ـ ــاريخ ويضيع معه‬
‫قدرتــه علــى فهــم التاريــخ )(‪)16‬‬
‫هكــذا ينتقــد تلــك النظ ـرايت الــي حتــاول أن تتخــذ مــن القصــة والروايــة‬
‫والســينما ووســائل االتصال االجتماعي كنوع من الشــبكة اليت صارت تشــكل‬
‫عقــول النــاس ومــن مث صــار الص ـراع حــول أدوات التحكــم هــو التفســر الــذي‬
‫يرتضيــه آخــرون ويرفضــه البعــض وهــو هنايــة التفســر واحلقيقــة واالزدواج بــن‬
‫أدوات الســلطة واملعرفــة ‪.‬‬
‫كان ذلــك االنتقــال حنــو الســرد كوســيلة للتف‪53‬ســر ينتشــر يف األدبيــات‬
‫األوروبيــة بعــد العــام ‪ 1960‬علــى يــد (روانلــد ابرثيــس) والــذي بــن أن الســرد‬
‫مل يعــد شــيئا خيتــص ابلثقافــة بــل هــو أمــر يتعلــق بــكل شــيء ميثــل التواصــل يف‬
‫العــامل سـواء كان يف عــامل اإلعــام أو السياســة أو االقتصــاد‪ .‬إن التحكــم حيتــاج‬
‫إىل ســرد و اســتمراد التنميــة والكســب حيتــاج إىل اســتقرار والقصــة الــي تدفــع‬
‫حنــو ضمــان معرفــة ســلوك املناوئــن فضـاً عــن احللفــاء هــي الــي تضمــن ذلــك‬
‫االســتمرار ومــن مث االســتدامة الــي صــارت جــزءا مــن الفكــر العاملــي ‪.‬‬
‫ابرثيــس يتحــدث عــن األســاطري والتاريــخ وأنــه عبــارة عــن حتيـزات لكاتبيــه ‪،‬‬
‫فالنص هو الذي صري الكلمات إىل أســطورة أو اتريخ ( ‪) Mythology‬‬
‫‪ ،‬ابلطبــع توســع األمــر ليصبــح كل وســائل االتصــال داخــل اجملتمــع ويف العــامل ‪،‬‬
‫و هكــذا تصبــح النظـرايت جــزءا مــن ســياق اجتماعــي وسياســي للوصــول حلالــة‬
‫مــن الســيطرة للحكومــات أو للقــوى العظمــي أو خللــق األتبــاع يف املؤسســات‬
‫املدنيــة أو اجلماعــات الــي ال متلــك الســلطة ‪)16(.‬‬
‫و ابلطبع كان مليشــيل فوكو أتثري من خالل نظريته عن املعرفة و الســلطة‬
‫و هــي الــي أثــرت يف إدوارد ســعيد املفكــر الفلســطيين الــذي يعــد مــن هــذه‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪54‬‬

‫املدرســة جبمعــه بــن نظريــة اهليمنــة جلرامشــي واملعرفــة مليشــيل فوكــو ‪ .‬هنــا يصبــح‬
‫الوعــي ابلتاريــخ وعــي بصناعــة املعرفــة يف إطــار فهــم منوذجــي للعالقــة بــن‬
‫االثنــن‪.‬‬
‫عنــد أدوارد ســعيد يكــون االستش ـراف مثــال علــى اهليمنــة ‪ ،‬وتصبــح‬
‫املعرفــة ضحيــة لالحنيــاز األمريكــي إلس ـرائيل‪ .‬وهكــذا يصبــح الص ـراع حــول‬
‫الســرد ومصــادر املعرفــة تفس ـراً كامن ـاً للمعــاانة الــي عاشــها الفلســطينيون و‬
‫مــن بينهــم إدوارد ‪ .‬تلــك العالقــة الــي تظهــر يف كتابــه املثقــف والســلطة ‪ ،‬والــي‬
‫تؤكــد قــدرة مؤسســات الســلطة علــى تكويــن خطاهبــا وفقـاً لقوهتــا وقدرهتــا علــى‬
‫االســتئثار ابملثقــف وإغرائــه‪ .‬خطــورة الســرد واملعرفــة أتكــد يف رســالته (احلــق يف‬
‫الســرد) وهي اليت بني فيها التالعب و عدم االكرتاث فقد نشــر انشــر بريطاين‬
‫التقريــر الــذي كتبتــه البعثــة الدوليــة عــن اخلروقــات الــي قــام هبــا اجليــش االسـرائيلي‬
‫ويســتغرب أنــه مل توجــد مــن ذلــك الكتــاب ولــو نســخة واحــدة يف الــوالايت‬
‫املتحــدة األمريكيــة ‪)16(.‬‬
‫فقضيــة الســرد والتعامــل مــع النــص ومــع احلــرف والرمــز صــارت هــي‬
‫النظ ـرايت الــي مثلــت تيــارات خمتلفــة س ـواء البنيويــة أو مــا بعــد البنيويــة أو‬
‫التفكيكيــة وغــر ذلــك لكنهــا يف جمملهــا تعــر عــن التعامــل مــع احلقائــق اجملتمعيــة‬
‫يف ســياق نصــي يســمى الســرد الــذي يســتخدم كإسـراجتية للســيطرة أو لتوجيــه‬
‫الـرأي العــام ( األتبــاع ) أو مواجهــة الســردايت الــي حتــاول أن تســر ضــد التيــار‬
‫وهــذا مــا حاولتــه املدرســة النقديــة والــي ميثلهــا اليســار وهــي الــي تنشــر العديــد‬
‫مــن األفــام والكتــب لنقــد اهليمنــة األمريكيــة و لعــل ذلــك يظهــر يف كثــر مــن‬
‫احلقائــق الــي يكتــب عنهــا نعــوم شاومســكي خاصــة كتابــه ســيطرة اإلعــام‬
‫(‪. )17‬‬
‫‪55‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫كاتــب آخــر مهــم يهتــم ابلســرد ‪-‬هــو تزفينــان تيــودوروف الفيلســوف‬


‫البلغــاري ‪ -‬فــإن وســائل االتصــال قــد تكــون بدايــة لرتابــط أكــر بــن دول العــامل‬
‫‪ ،‬الــذي حــاول أن ينظــر إليــه بتفكيــك مــا بعــد حداثــي عــر إعــادة هويــة تلــك‬
‫الدول إىل قضااي نفســية وســرد قد يفســر أحوال تلك الدول ‪ ،‬فهي دول عانت‬
‫من االســتعمار و كان ســبباً يف ختلفها لذا هلا منوذجها التفســري أو ســرديتها أو‬
‫طريقتهــا الــي انتشــرت داخــل اجملتمعــات كقصــص منتشــرة تفســر ذلــك التخلــف‬
‫وتواصلها عرب وسائل اإلعالم االجتماعي والتقنية احلديثة قد يكون بداية حلوار‬
‫حقيقــي بــن احلضــارات‪ .‬وال خيفــي أن ذلــك قــد يصاحبــه عوملــة لوســائل العنــف‬
‫‪55‬‬
‫والتطــرف والتخلــف كمــا هــي نظريــة التحــول العظيــم ‪)18( .‬‬
‫لقــد كان هلــذه املدرســة نقادهــا ‪ ،‬كمــا أن أعمــال تزفيتــان خاصــة كانــت‬
‫تدعــو للتأمــل يف إمكانيــة التكامــل والتعــدد ‪ ،‬لــذا ســنجد أنفســنا أمــام منــوذج‬
‫عاملــي جديــد يعتمــد علــى الســرد واملخطــط ( الســكريبت ) الــذي يرســم‬
‫األحــداث مــن جمتمــع آلخــر ‪ ،‬عندهــا يصبــح التفاهــم واحل ـوار أســاس لتصــور‬
‫العامل ‪ ،‬تتكامل احلضارة ‪ .‬ولكن هذا اجلانب املشــرق لن يكتمل فإن االحنياز‬
‫والنشــر ســيكون رهينــا السـراجتيات أكــر وهــذا مــا جيعــل دور الثقافــة والفنــون‬
‫رهينــا هــو األخــر بقــدرات أخــرى اقتصاديــة وسياســية ‪.‬‬
‫لــذا جنــد أن كتابــة التاريــخ ســتختلف عمــا عهــدانه ‪ ،‬فهــي نــوع مــن فهــم‬
‫تطــور الوعــي وتتبــع األعمــال الفنيــة واحلضاريــة واملشــاركات الــي أفضــت يف‬
‫هنايــة األمــر إىل األفــكار املؤسســة للنمــاذج احلاكمــة يف كل حضــارة ‪ ،‬لكــن كمــا‬
‫ذك ـران ســيدور األمــر حــول القــدرة علــى االنتشــار والنشــر ‪ ،‬وهــذا هــو الــدور‬
‫الــذي ميكــن أن تســهم فيــه ثــورة االتصــاالت ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪56‬‬

‫هــذا االنتشــار ســيعتمد علــى عــدة قضــااي لتقبــل األعمــال الــي حتــاول أن‬
‫تكتشــف وتبــدع عامل ـاً غــر العــامل الــذي نعيــش ‪ ،‬ألننــا ســنرى تقبــل األفــكار‬
‫وانتشــارها ســيعتمد علــى جمموعــة مــن الســنن والقواعــد االتصاليــة يف اخلطــاب‬
‫قــد تكــون هــي احلاكــم يف هنايــة األمــر لوجــود خرائــط خمتلفــة مــن الســرد الــذي‬
‫ميثــل تدافــع األفــكار عــر العــامل ‪.‬‬
‫هنــا تصبــح القصــة أو الروايــة يف حبكتهــا ‪ ،‬وســر األحــداث يف الروايــة‬
‫‪ ،‬الص ـراع ‪ ،‬الشــخصيات املؤثــرة ‪ ،‬واقعيــة التفاعــات داخــل القصــة ‪ ،‬أتثــر‬
‫الفرصــة واحلــظ ‪ ،‬وجممــوع العوامــل الــي ال ميكــن ألي خطــة أن تتوقــع نتائجهــا‬
‫( املفاجــأة ) (‪ )6‬كل ذلــك قــد حيــدد تقبــل القصــة أو الســرد ‪ ،‬وجممــوع أعمــال‬
‫كهــذه قــد حيــدد االنتشــار يف اخلارطــة املعرفيــة ‪.‬‬
‫ال ـراوي يســيطر علــى ســر األحــداث ‪ ،‬ويؤثــر علــى ســلوك الشــخصيات‬
‫الدراميــة ‪ ،‬و يســتخدم الفرصــة و احلــظ ليحــرك القصــة إىل النتيجــة الــي يريــد أن‬
‫يصــل إليهــا (‪ )6‬لكــن الواقــع قــد خيتلــف عــن ذلــك ‪ ،‬أتثــر الكلمــة أو جمموعــة‬
‫الثقافــة الــي نعيــش فيهــا قــد يكــون حمصلــة هلــذا التدافــع ‪ ،‬وتصبــح االسـراتيجيا‬
‫واألدوات املســتخدمة لتحديــد ســلوك اآلخريــن مســألة تتعلــق كثـراً ابملعرفــة الــي‬
‫تتحــدد أبدواهتــا كالكتابــة والروايــة و القصــة والســينما واالعــام االجتماعــي‬
‫‪ ،‬لتبقــى القــدرة علــى كتابــة األحــداث ابســتخدام كل األدوات ( التاريــخ ‪-‬‬
‫االحصاء ‪ -‬بناء النماذج التفسريية ‪ -‬اإلعالم ‪ -‬الصوت ‪ -‬الصورة ‪ -‬اخليال‬
‫) جــزءاً مــن ص ـراع مســتمر بــن احلاكــم واحملكــوم ‪ ،‬و بقــدر وجــود منــط ثقــايف‬
‫خمالــف للحاكــم ‪ ،‬أو يقــرب منــه تتحــدد رؤيــة اجملتمــع للمســتقبل ومــن هنــا‬
‫تتحــول الكلمــات إىل ســاح والثقافــة إىل ص ـراع ‪.‬‬
‫‪57‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫هــذا يعــي أن القصــة الــي حتمــل تفسـراً للواقــع قــد ختتلــف مــن بلــد آلخــر‬
‫وفقـاً لتاريــخ تلــك الــدول وثقافتهــا ‪ ،‬أو داخــل الدولــة الواحــدة ‪ ،‬كمــا بــن تزفينــان‬
‫وحياته يف بلغاراي حتت الرقابة والســيطرة ‪ ،‬وهذا ما نعيشــه من تناقض ‪ ،‬وعندما‬
‫تصبــح كل األدوات املتاحــة هــي نتــاج ملعرفــة مســبقة أتثــرت كثـراً مبــن يدفــع املــال‬
‫‪ ،‬يصبــح القــرآن كنـزا مل يســتطع كل احلــكام أن ينالـوا منــه ‪ .‬السـؤال الــذي نريــد‬
‫إيضاحــه مــن كل هــذا العــرض هــو حاجتنــا لســرد ينبــع مــن ثقافتنــا ومــن وعينــا‬
‫ابلكون واحلياة ‪ ،‬من التاريخ فهل منلك اإلجابة اليت ميكنها أن جتعلنا نشارك يف‬
‫هذا التواصل احلضاري الذي يعيشــه العامل ‪ ،‬العامل الذي بدأ يفطن لقيمة املعرفة‬
‫‪57‬‬
‫والكلمــات وحــى احلــروف صــارت تعــي الكثــر ؟ اإلجابــة ‪ :‬نعــم ‪.‬‬
‫دعــوان اآلن ننظــر لتطــور التفســر التارخيــي يف مســار بعــض األعمــال يف‬
‫العــامل العــريب واإلســامي ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪58‬‬

‫الفصل الثالث‬

‫دراسات عربية يف القرن العشرين‬

‫أصــدر مركــز دراســات الوحــدة العربيــة جملــداً ضخمـاً حــول اتريــخ الثقافــة‬
‫العربيــة يف القــرن العشـرين يبــن اإلســهامات املختلفــة يف فلســفة التاريــخ وكتابتــه‬
‫نذكــره إمتام ـاً للفائــدة ‪« .‬منــذ منتصــف القــرن العش ـرين تنامــى بــن املؤرخــن‬
‫العــرب واملســلمني اجتــاه جديــد لتفســر التاريــخ يف مــا عــرف أبســلمة التاريــخ»‪.‬‬
‫ورغــم تشــابه الدوافــع واألســباب الــي أدت إىل ظهــور مثــل هــذا االجتــاه ‪ ،‬مثــة‬
‫اختالفــات بيّنــة جتعــل منهــم فريقــن رئيســن ‪:‬‬
‫اإلجتاه األول ‪ :‬منظرو األسلمة التأصيليني أو التقليديني ‪ ،‬أمثال ‪ :‬سيد‬
‫قطــب‪ ،‬حممــد قطــب‪ ،‬حممــود شــاكر‪ ،‬عبــد احلليــم عويــس‪ ،‬حممــد رشــاد خليــل ‪،‬‬
‫ويوســف كمــال حممــد و غريهــم ‪ .‬أمــا اإلجتــاه الثــاين ‪ ،‬فيمثلــه منظــرو األســلمة‬
‫يعولــون يف بعــض األحيــان ‪ ،‬علــى‬ ‫احلداثيــون ‪ ،‬إن صــح التعبــر ‪ ،‬ونقصــد مــن ّ‬
‫مناهــج اترخييــة غربي ـةً ‪ ،‬ويســتقون بعــض آلياتــه التحليليــة ‪ .‬وأييت علــى رأس‬
‫هــذا االجتــاه ‪ :‬عمــاد الديــن خليــل‪ ،‬مالــك بــن نــي ‪ ،‬خالــد بالنشــكب ‪ ،‬أمحــد‬
‫إليــاس حســن ‪ ،‬وغريهــم ‪».‬‬
‫وميكن وصف ثالث مشروعات يف هذا اإلطار ‪:‬‬

‫املشروع األول ‪ :‬يقسم اتريخ العامل إىل قسمني كبريين ‪:‬‬


‫اتر يــخ األمــة املؤمنــة وعلــى رأســها أمــة حممــد صلــى هللا عليــه وســلم ‪.‬‬
‫اتريــخ األمــم غــر املســلمة أي اتريــخ اجلاهليــات ‪ ،‬وهــذا يؤكــد خطــأ مفهــوم‬
‫‪59‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫اجلاهليــة عنــد ســيد قطــب وحممــد قطــب مــن الناحيــة املنهجيــة إذ أهنــا يف هــذا‬
‫اإلطــار ال تســتند إىل أي منهــج حتليلــي ميكــن فهمــه ‪.‬‬
‫املشــروع الثــاين ‪ :‬يقســم اتريــخ العــامل اىل حقبتــن األوىل قدميــة والثانيــة‬
‫حديثــة ويفصــل بينهمــا القــرن الســابع للميــاد فص ـاً م ـران « وهكــذا يكــون‬
‫التوحيــد هــو جوهــر حركــة التاريــخ وهــذا جتســيد « لوحــدة النــوع اإلنســاين‬
‫ووحــدة احليــاة البشـرية القائمــة علــى مفهــوم اخلالفــة اإلنســانية يف مــا يؤكــد أمحــد‬
‫إليــاس » ‪.‬‬
‫املشــروع الثالــث ‪ :‬التيــار الــذي يتبنــاه حممــد‪59‬ابقــر الصــدر وســيد علــي‬
‫أشــرف ‪ ،‬وكالمهــا يتضمــن ثــاث حقــب اترخييــة ‪ ،‬و يف عرضهــم ربــط ابلقــرآن‬
‫الكــرمي وبعــض اإلشــارات املســتقبلية كعــودة املســيح وظهــور املهــدي املنتظــر ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫و ابجلملــة ســنجد أن كتــاب فلســفلة التاريــخ اإلســامي ‪ ‬لعمــاد الديــن‬
‫خليــل ال ميثــل ســوى إطاللــه علــى اخلصائــص العامــة لفلســفة التاريــخ وفــق‬
‫اخلصائــص العامــة لإلســام نفســه (‪ ) 2‬وهــذا مــا نلحظــه عنــد عبــد احلليــم‬
‫عويــس ‪ ‬يف كتابــه فلســفة التاريــخ حــن يؤكــد علــى دور اإلنســان يف الفعــل‬
‫التارخيــي « فــا مندوحــة للتفســر اإلســامي النبعــاث احلضــارة إذا كان تفسـراً‬
‫واقعيـاً ‪ ،‬صحيحـاً‪ ،‬صــادراً عــن قــوة عليــا متلــك كل أبعــاد املعرفــة ‪ ،‬ال مندوحــة‬
‫أن أييت جامعــا لــكل اخليــوط األساســية وال يطغــى فيــه جانــب علــى اجلوانــب‬
‫األخــرى » ‪()3(.‬ص ‪ )189‬وعلــى الرغــم مــن قــدرة هــذه التوجــه علــى تفنيــد‬
‫كثــر مــن فرضيــات املدرســة الغربيــة بتفســر الواقعــة التارخييــة تفس ـراً مــادايً ‪،‬‬
‫فإهنــا مل تقــدم رؤيــة متكاملــة لقـراءة مفــردات األحــداث التارخييــة الواقعــة داخــل‬
‫منظومة الفعل اإلهلي غري املباشر ‪ ،‬مثلما فشلت يف التوصل إىل نظام حتقيب‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪60‬‬

‫جامــع مانــع ‪ ،‬ميكــن أن يكــون مبثابــة أســاس مرجعــي يف مــا يتعلــق إبعــادة‬
‫كتابــة اتريــخ األمــة اإلســامية ‪ ،‬فض ـاً عــن أن الضوابــط الــي وضعهــا منظــرو‬
‫هــذا االجتــاه للتحقــق مــن صحــة املــروايت جــاءت أقصــر قامــة مــن تلــك الــي‬
‫وضعهــا ابــن خلــدون ‪ ()1( »...‬ص‪ )459‬أمــا التوجــه القومــي فــإن الكثــر‬
‫مــن الكتــب كانــت انعكاس ـاً لفكــرة العروبــة وحماولــة إثبــات ذلــك اترخييــا كمــا‬
‫عنــد الــدوري ( عبــد العزيــز الــدوري التكويــن التارخيــي لألمــة العربيــة ) (‪ )1‬أمــا‬
‫عبــد هللا العــروي فهــو يقوهلــا صراحــة بضــرورة القطيعــة مــع املاضــي فاملاركســية يف‬
‫اعتقــاد العــروي هــي أفضــل مدرســة للفكــر التارخيــي جيدهــا العــرب اليــوم مقــروءة‬
‫بطريقــة معينــة ‪)1( .‬‬
‫و يدخــل هــذا العــرض ضمــن التارخيانيــة الــي حتــاول الوصــول ‪ ‬إىل‬
‫حتميــات ‪ ‬مســتقبلية مــن مقــارابت طبيعيــة أو عــر املعرفــة ابلتاريــخ ‪ .‬واملراجــع‬
‫حملــاوالت فهــم التاريــخ وفلســفته جيــد أهنــا كانــت يف الغالــب أخــذا وردا حــول‬
‫التطــور ونظريتــه علــى األقــل يف احلــركات الــي صاحبــت الســتينات واإليديولوجيــا‬
‫احلاكمــة لتلــك الفــرة (‪ . )1,2‬إن مــن حيــاول وضــع اجملتمعــات ضمــن‬
‫قانــون ‪ ‬اترخيــي ‪ ‬حمــدد وقــدر ســابق ‪ ،‬خيلــط خلطـاً اتمـاً بــن وجود‪ ‬هــذه الســنن‬
‫الرابنيــة وبــن معرفتنــا الناقصــة وقدرتنــا علــى حتديــد مراحــل هــي اجتهــاد بشــري‬
‫علــى كل حــال ‪ ،‬وهــذه التارخيانيــة وحماولــة التنبــؤ ابملســتقبل ستفشــل إذا غفلنــا‬
‫عــن حقيقيــة االجتهــاد البشــري وضعفــه وســتكون نتيجــة تلــك الغفلــة األحاديــة‬
‫واالســتبداد كمــا كان مــآل املاركســية والتطوريــة العنصريــة مــع هتلــر ‪.‬‬
‫و ال يعــي هــذا حبــال مــن األح ـوال االع ـراض علــى وجــود ســنن رابنيــة‬
‫أو عــدم االهتمــام ابلتاريــخ بــل االعـراض علــى توظيــف التاريــخ لوضــع خطــط‬
‫للمســتقبل ‪ ،‬هــو خطــأ منهجــي وقعــت فيــه حــى التيــارات اإلســامية وهــو‬
‫ســر أتخرهــا عــن الركــب فمازالــت مراحــل حســن البنــا هــي األســاس وهــي‬
‫‪61‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫الــي يبــي عليهــا حــزب احلريــة والعدالــة يف مصــر برانجمــه االنتخــايب كمــا هــو‬
‫ظاهــر يف الصفحــات األوىل مــن برانجمهــم االنتخــايب ‪ ،‬وهــذا جيعلنــا خنلــص إىل‬
‫أن ‪ ‬اســتخدام التاريــخ لرصــد حركــة اجملتمــع ضمــن قوانــن قــد ختطــي وقــد‬
‫تصيــب وإمكانيــة التغيــر الدائــم لنماذجنــا حــال فشــلها هــو الطريــق الســليم‬
‫الــذي يتناســب مــع التواضــع العلمــي الــذي علمنــا إايه القــرآن واحلديــث‬
‫القدســي ( كلكــم ضــال إال مــن هديتــه ) ‪.‬‬
‫مــن املناســب هنــا أن نذكــر منــاذج حملاولــة بعــض املفكريــن اخلــروج عــن‬
‫النمــاذج الســائدة ‪ ،‬نذكــر بعضهــا هنــا ال للنقــد أو‪61‬املراجعــة إمنــا لتبــن املرحلــة‬
‫الفكريــة الــي هــي أشــبه حبركــة النقــد الــي تبنتهــا هــذه النمــاذج ‪.‬‬

‫الكوتش ونقد اجلابرى ‪:‬‬


‫اجلابرى املفكر العرىب الشــهري (‪ )2010-1936‬عمل أســتاذاً للفلســفة‬
‫ىف كليــة اآلداب ىف ال ـرابط ‪ ،‬ولــه سلســلة معروفــة أطلــق عليهــا مشــروع النقــد‬
‫العــرىب ‪ :‬تكويــن العقــل العــرىب‪ ،‬بنيــة العقــل العــرىب ‪ ،‬العقــل السياســى العــرىب ‪،‬‬
‫والعقــل األخالقــى العــرىب ‪ .‬وىف كتابــه يكشــف لنــا اجلابــرى عــن اخللفيــة املعرفيــة‬
‫الــى تســاعده ىف هــذا النقــد فيقــول ‪ :‬وإذا نظ ـران إىل املفاهيــم ووجهــات النظــر‬
‫الــى ســنعرضها ‪......‬أهنــا غائبــة عــن الســاحة الفكريــة العربيــة املعاصــرة ‪ ،‬أو‬
‫أهنــا مل تدخــل بعــد كعناصــر أساســية ىف اخلطــاب السياســى والسوســيولوجى‬
‫العــرىب (=خطــاب « علمــاء » السياســة والباحثــن االجتماعيــن العــرب) ‪,‬‬
‫الــذى مازالــت هتيمــن فيــه مفاهيــم أصبحــت اآلن قدميــة ومتجــاوزة ‪ ،‬أو علــى‬
‫األقــل تفقــد قوهتــا املفهوميــة واإلجرائيــة عندمــا تنقــل مــن اجملتمــع األوروىب املصنّــع‬
‫إىل اجملتمــع العــرىب الراهــن ‪)4(”...‬ويعــرض بعــد ذلــك هلــذه املفاهيــم فيقــول ‪:‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪62‬‬

‫وإذن فالتحليــل املــادي للتاريــخ كمــا مارســه ماركــس – دع عنــك قوالــب‬


‫املاديــة التارخييــة الســتالينية‪ -‬ليــس علمــا لتطــور اجملتمعــات عــر التاريــخ ‪ ،‬بــل‬
‫هــو تنظــر «متحيــز» ميــارس علــى املاضــي االقتصــادي االجتماعــي – ىف أورواب‬
‫خاصــة – اهلــدف منــه ال الكشــف عــن « احلقيقــة » كمــا هــي‪ ،‬بــل إبـراز أو‬
‫بنــاء « احلقائــق » الــي تزكــي النتائــج مــن الدراســة املســتخلصة مــن الدراســة‬
‫املشــخصة للنظــام القائــم ىف « احلاضــر» – حاضــر ماركــس ‪.‬‬
‫ونلحــظ هنــا كيــف خياطــب اجلابــرى اجليــل الــذى اعتــر املاركســية حتلي ـاً‬
‫مشولي ـاً وتفس ـراً لتاريــخ العــامل ‪ ،‬ويرســم لنــا كيــف خنــرج مــن األيديوجليــا إبعــادة‬
‫رســم العالقــة بــن الواقــع والفكــر ‪ .‬ويعضــد هــذا الـرأى ابمــرى الكوتــش‪ ،‬وهــو‬
‫مــن تالميــذ كارل بوبــر ( انظــر األعلــى ) والوعــى التارخيــى الــذى يصفــه‬
‫ابملاركســي اجملتهــد‪ ،‬مث يبــدأ ىف عــرض آرائــه ‪ .‬ولعــل الرتكيــز علــى كتابــه الشــهري‬
‫‪ ، history and class consciousness‬هــو املدخــل لنقــد املاديــة‬
‫التارخييــة الــى أثــرت ىف مشــروع النهضــة ‪ ،‬لــذا يقــول اجلابــرى ‪:‬‬
‫«مــن اخلطــأ اذاً تطبيــق املاديــة التارخييــة كمــا صاغهــا ماركــس تطبيقـاً حرفيـاً‬
‫علــى اجملتمعــات الســابقة للرأمساليــة » ‪.‬‬
‫و ينقــل عــن الكوتــش « ابلنســبة للعصــور مــا قبــل الرأمساليــة وابلنســبة‬
‫كذلــك لنمــط ســلوك عــدد مــن الفئــات االجتماعيــة الــى تعيــش ىف جمتمــع‬
‫رأمســايل والــى تعتمــد ىف حياهتــا علــى أســس اقتصاديــة غــر رأمساليــة‪ ،‬فــإن الوعــى‬
‫الطبقــي ال يكــون قــادراً ‪ ,‬بســبب مــن طبيعتهــا ذاهتــا‪ ،‬ال علــى أن يتخــذ شــكال‬
‫واضحــا وضوحــا اتمــا وال علــى التأثــر بوعــي ىف األحــداث التارخييــة “ص‪. 26‬‬
‫إن امــري الكوتــش ‪،‬الفيلســوف اجملــرى (‪ )1971-1985‬املاركســي ‪ ,‬كتــب‬
‫كتابــه املذكــور مابــن ‪ 1929 - 1919‬حــن اعتــر االيديوجليــا –ماركــس‬
‫‪63‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫– كانــت تنبيــه للربجوازيــة مــن ثــورة الربوليتــاراي‪ ،‬إنــه الوعــى ابلتاريــخ الــذى جعــل‬
‫ماركــس يكتــب مــا كتــب ‪.‬هــذا يتماشــى مــع فلســفة الكوتــش الــذى عــاىن أثنــاء‬
‫الثــورة اجملريــة عندمــا دعــم الثــورة واندى ابلتغيــر مــن خــال الوعــى وليــس القــوة‪،‬‬
‫هــذه الفلســفة الــى متتــد جبذورهــا إىل كارل بوبــر وتومــاس كــون ‪ » ,‬فقــد رحــل‬
‫الكوتش إثر حادث سيارة مروع ‪ ،‬بعد أن استقر ىف بريطانيا ىف مدرسة لندن‬
‫‪ ،‬الــى كان بوبــر أســتاذ املنطــق ومنهــج البحــث هبــا‪ ،‬وكان الكوتــش مــن أجنــب‬
‫تالميــذه وأخلصهــم لــه “( الفصــل الســابق )‬
‫‪63‬ـل هــو ذروهتــا‪ ،‬لــذا فــإن‬
‫إذاً حنــن أمــام فيلســوف مــن نفــس املدرســة بـ‬
‫اجلابــرى يصــل اىل النتيجــة التاليــة ‪:‬‬
‫«إن الدوغماتيــة (املاركســية منهــا والقوميــة واالغرتابيــة والســلفية ) الــى‬
‫ســادت الفكــر العــرىب ىف العقــود األخــرة كانــت تفــرض علــى النــاس نوع ـاً‬
‫واحــداً مــن الرؤيــة أو قــل الرؤيــة مــن زاويــة واحــدة فقــط ‪ ,‬فكنــا ال نــرى إال‬
‫مفتاح ـاً واحــداً وحيــداً ‪ ,‬والدوغماتيــة تقــوم علــى مفتــاح واحــد وحيــد يفتــح‬
‫مجيــع األب ـواب ‪».‬‬
‫مث يقــدم حتليلــه لتعثــر مشــروع النهضــة –وهــو تفســر أنضــج مــن كتابــه‬
‫املشــروع النهضــوي العــريب – فيقــول ‪:‬‬
‫« القبيلــة» « الغنيمــة » «العقيــدة» حمــددات ثالثــة حكمــت العقــل‬
‫السياســي العــريب املاضــي ومازالــت حتكمــه بصــورة أو أخــرى ىف احلاضــر ‪.‬‬
‫أجــل لقــد دخلــت احلداثــة بعــض جوانــب حياتنــا منــذ أكثــر مــن مائــة عــام ‪,‬‬
‫أى منــذ أن بــدأان حنتــك ابحلضــارة املعاصــرة ‪ ,‬فظهــرت التيــارات اإليديولوجيــة‬
‫النهضويــة واملعاصــرة مــن ســلفية وعلمانيــة وليبرياليــة وقوميــة واش ـراكية وقامــت‬
‫أحـزاب ونقــاابت ومجعيــات كمــا غرســت بنيــات تنتمــي إىل االقتصــاد احلديــث‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪64‬‬

‫فتعرضــت احملــددات الثالثــة ( القبيلــة – الغنيمــة – العقيــدة) إىل نــوع مــن القمــع‬
‫واإلبعــاد وأصبحــت تشــكل املكبــوت االجتماعــي والسياســي عنــدان ‪ .‬لقــد‬
‫كان الطمــوح العــرىب النهضــوى العــرىب يرمــى اساسـاً إىل جتــاوز تلــك احملــددات‬
‫املوروثــة مــن الوضــع االجتماعــي القــدمي وإق ـرار جمموعــات جديــدة عصريــة ‪.‬‬
‫غري أن اجملتمع العرىب مل يتمكن من حتقيق عملية التجاوز ‪...‬إىل أن يقول‬
‫لقــد عــاد املكبــوت ليجعــل حاضـران مشــاهبا ملاضينــا وجيعــل عصـران األيديولوجــي‬
‫النهضــوي والقومــي وكأنــه حلقــة اســتثنائية ىف سلســلة اترخينــا‪ ،‬فأصبحــت القبيلــة‬
‫حمــركا أساســيا وأصبــح الريــع جوهــر االقتصــاد عنــدان وأصبحــت العقيــدة إمــا‬
‫ريعيــة تربيريــة وإمــا خارجيــة ( نســبة للخـوارج )ص‪373‬‬
‫احلاجــة للنقــد ‪ ,‬نقــد العقــل واالقتصــاد والسياســة واجملتمــع‪ ،‬والنظــر اىل‬
‫النهضــة مــن منظــور خمتلــف متعــدد‪ ،‬أبـواب خمتلفــة‪ ،‬وعوامــل متعــددة‪ ،‬هــذا مــا‬
‫عملتــه فلســفة الكوتــش وغــره ىف مشــروع اجلابــرى ‪ ،‬وهــذا هــو فعــل التغيـرات‬
‫الــى حدثــت ىف العلــم والفلســفة سـواء ىف فيـزايء الكوانتــم أو ىف مدرســة الوعــى‬
‫ابلتاريــخ وإدراك العجــز عنــد بوبــر وتومــاس والكوتــش ‪.‬‬
‫و لكن النقد األساسى للجابرى كان يف تعامله مع الرتاث من منطق ما‬
‫بعــد البنيــوى خاصــة يف حديثــه عــن ميشــال فوكــو ‪Michel Foucault ،‬‬
‫‪ )1984-، (1924‬وقــد بــدت هــذه النزعــة واضحــة يف نقــده للعقــل العــرىب‪،‬‬
‫األمــر الــذى أدى إىل االحنـراف إىل النســبوية كمــا يــرى انقــدوه مــع أن الكوتــش‬
‫كان يتحــدث عــن النـواة الصلبــة يف العلــم الــى ال يتطــرق إليهــا التكذيــب وإالّ‬
‫وقعنــا يف رغبــة جاحمــة للنقــد توصلنــا إىل العدميــة النيتشــاوية‪ ،‬وقــد بــدا ذلــك يف‬
‫تفكيكــه للوحــدة القرآنيــة وإعــادة تفســر القــرآن علــى حســب ترتيــب النــزول‬
‫‪65‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫األمــر الــذى ال جيعــل القــرآن مهيمنـاً علــى الكتــب الســماوية فضـاً عــن األفــكار‬
‫البشـرية ‪ ,‬هــذا التقديــس هــو مــا نلمســه عنــد املرزوقــى ‪.‬‬
‫إذا كان اجلابرى ينادى ابلنقد‪ ،‬فإن للمرزوقي حتليال آخر لتعثر مشــروع‬
‫النهضــة ‪ ،‬ولــه رؤيــة لإلصــاح فلننظــر إليــه ‪.‬‬

‫املرزوقى ومشروع النهضة ‪:‬‬


‫ولد الدكتور أبو يعرب املرزوقي يف بنزرت‪ ،‬تونس‪ ،‬عام ‪ ،1947‬حصل‬
‫‪65‬عــام ‪ ،1972‬مث دكتــوراة‬ ‫علــى اإلجــازة يف الفلســفة مــن جامعــة الســوربون يف ال‬
‫درس الفلســفة يف كليــة اآلداب جامعــة تونــس األوىل وتــوىل‬ ‫الدولــة ‪ّ .1991‬‬
‫إدارة معهــد الرتمجــة (بيــت احلكمــة) يف تونــس‪ ،‬قبــل أن ينتقــل لتدريــس الفلســفة‬
‫اإلســامية يف اجلامعــة اإلســامية العامليــة مباليـزاي ‪.‬‬
‫مــن الصعــب مبــكان هنــا عــرض أعمــال الفيلســوف العــرىب الرائــع‪ ،‬إال أننــا‬
‫ســنركز علــى موضــوع حبثنــا‪ ،‬وهــو حمــاوالت املراجعــة املنهجيــة ملشــروع النهضــة‬
‫العــرىب اإلســامي‪ ،‬وكــون ذلــك أييت ىف إطــار تغــر كــوين ىف جمــال الفكــر والثقافــة‬
‫نشــأ عــن تغــر جوهــري ىف فهــم الكــون بــدأً ابلكوانتــم مث اجلينــوم لينعكــس ىف‬
‫فلســفة العلــم اىل أن انفــرط العقــد ىف تيــار مــا بعــد احلداثــة ‪.‬‬
‫ســنرى فيمــا بعــد تقــاراب كبـراً بــن املرزوقــى واملســري ىف نقدمهــا للحضــارة‬
‫الغربيــة وإن كان املســرى أوضــح ىف عرضــه للنمــاذج املركبــة واخلــروج مــن‬
‫االخت ـزال كمــا ســنرى ‪.‬‬

‫داللة الوضع الراهن عند املرزوقى ‪:‬‬


‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪66‬‬

‫ال خيفــي أبــو يعــرب انزعاجــه مــن املصلحــن والشــيوخ ممــن يتحدثــون عــن‬
‫اإلســام وهــو يــرى أن الســطحية قــد ســادت ‪ ,‬خاصــة عندمــا يتحــدث عــن‬
‫األصالــة واملعاصــرة كمــا صورهــا قوهلــم عــن الغرب‪-‬مســلمون بــا إســام – أو‬
‫حديثهــم فيمــا يعــرف ابلوســطية عــن كــون اإلســام حــل وســط بــن املســيحية‬
‫املغرقــة يف الــروح واليهوديــة الــى أشـربت املــادة ‪.‬‬
‫ذلــك أنــه يــرى أن القــرآن ثــورة إلصــاح البش ـرية مجعــاء وال ميكــن أن‬
‫يكــون حــا تلفيقيـاً لتفاهــات البشــر أو أنــه اكتشــاف ميكــن أن ميارســه الغــرب‬
‫جملــرد أهنــم حيســنون التعامــل أبخــاق العمــل الربوتســتانتية ‪ ،‬واألمــر أعمــق عنــد‬
‫املرزوقــى ‪ ،‬إذ أنــه يــرى أن األمــة قــد غابــت عــن دورهــا احلضــارى وفــق مايلــى ‪:‬‬
‫علة أهلية ذاتية ‪:‬‬
‫العالقــة ابلتاريــخ الديــي مــن خــال إصــاح الديــن إصالح ـاً جيمــع بــن‬
‫املنـ َـزل والطبيعــي وختــم الوحــي ‪.‬‬
‫مث العالقــة ابلتاريــخ الكــوين مــن خــال تقــدمي النمــوذج البديــل عــن (‬
‫العوملــات ) الالكونيــة بوجهيهــا الثيوقراطــي و (النووقراطــي)‪.‬‬
‫علة أجنبية ظرفية أو برانية ‪:‬‬
‫العالقــة ابلتعــن اجلزئــي للعنصريــة النافيــة لكليــة شــهود املطلــق أو القائلــة‬
‫بنظريــة الشــعب املختــار ‪.‬‬
‫مث العالقــة ابلتعــن الكلــي هلــذه العنصريــة النافيــة للشــهود إبطــاق واملبنيــة‬
‫علــى اجلحــود (شــروط هنضــة العــرب واملســلمني أبــو يعــرب ط عــامل الفكــر‬
‫ص‪)11-10‬‬
‫• •اجلمع بني الفكر الفلسفي والدين ( وهو عنوان كتاب آخر له )‬
‫‪67‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫• •ختم الوحي وداللته يف اإلمجاع االجتهادي ‪.‬‬


‫• • العنصرية ونفىكلية شهود املطلق وإمنا حلوله يف عنصر هو شعب هللا املختار‪.‬‬
‫• •وحدة الوجود أو جحود الشهود املتمثل يف املادية الغربية (أمريكا)‬
‫يف املســألة األوىل يقــرر اعتبــار معطيــات الوجــود الشــرعية معطيــات قائمــة‬
‫الــذات مثلهــا مثــل املعطيــات الطبيعيــة وجــوداً وإدراكاً وهــو مدلــول الفطــرة‬
‫اإلســامي « املرجــع الســابق ص‪.11‬‬
‫فهــو هنــا يتعامــل مــع الش ـريعة كمعطــى ميكــن‪67‬فهمــه والتعامــل معــه دون‬
‫وســيط يدعي املعرفة ‪ ,‬وهذه هي داللة املســألة الثانية الىت هي «ختم الوحي»‬
‫الــذى يقتضــي يف الوقــت نفســه «نفــى كل ســلطة روحيــة تســتفرد بفهمــه ذات‬
‫خاصيــة صوفيــة كانــت أو خاصيــة فلســفية »ص‪13‬‬
‫فالتعامــل مــع املنجــز (الوحــي اخلــامت ) يؤكــد معــى كــون الفعــل الــذى يريــد‬
‫اســتئناف احلضــارة إمنــا يريــد اكتشــاف أس ـرارها بتوســط أداة الفهــم اإلنســاين‬
‫دون اللجــوء اىل وســيط روحــي أو كهنــويت ‪ .‬وهنــا يريــد املرزوقــي أن حيــرران مــن ‪:‬‬
‫‪ -1‬اغتصــاب الســلطة التش ـريعية إبعــادة تكويــن ســلطة روحيــة منفصلــة‬
‫عــن إرادة األمــة الدينيــة مؤلفــة ممــا يســمى العلمــاء ‪.‬‬
‫‪ 2-‬واغتصــاب الســلطة التنفيذيــة إبعــادة تكويــن ســلطة زمانيــة منفصلــة‬
‫عــن إرادة األمــة السياســية مؤلفــة ممــا يســمى األم ـراء‪.‬‬
‫و تبــدأ بعــد ذلــك القـراءة التارخييــة الــي هــي تفســر للتخلــف الــذى أصــاب‬
‫الكــون مــن نفــى كليــة الشــهود وتعينــه يف ديــن أو جنــس وكذلــك نفــى الشــهود‬
‫مــن خــال وحــدة الوجــود ‪ ،‬ويبــدأ التقســيم الــذى ينتقــل مــن أرســطو إىل‬
‫أفلوطــن إىل املدرســة املثاليــة األملانيــة مــرورا ابلتحريــف الــذى أصــاب الداينــة‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪68‬‬

‫اليهوديــة املســيحية ‪ ،‬إىل أن نــرى كيــف تدرجــت العالقــة بــن الفلســفة والديــن‬
‫مــن العــداء إىل االلتقــاء الــذى يرتئيــه الكاتــب ‪ .‬ويعطــى هــذه العالقــة يف تــدرج‬
‫رائــع ‪ :‬صعــوداً مــن الوعــي اجلحــودي إىل الوعــي الشــهودي ‪:‬الوعــي اجلحــودي‬
‫فامليتافيزيقــا فاجلمــال فالتصــوف فالوعــي الشــهودي –» ونــزوال مــن الوعــي‬
‫الشــهودي إىل الوعــي اجلحــودي ‪ :‬الوعــي الشــهودي فالديــن فالفــن فالعلــم‬
‫فالوعــي اجلحــودي ‪.‬‬
‫هــذا ميكــن فهمــه مــن كتابــه اآلخــر» وحــدة الفكريــن» كالتــايل ‪ :‬املرحلــة‬
‫األوىل مــن هنايــة القــرن الســادس إىل القــرن الثالــث قبــل امليــاد ‪:‬‬
‫مرحلــة نشــأة الفلســفة وامليتافيزيقــا عنــد أرســطو و دور العلــم الرئيــس يف‬
‫السياســة‪ ،‬و معــى العلــم الرئيــس هــو حاجــة الرئيــس هنــا إىل األدوات العمليــة‬
‫الــى هــى القــوة وليــس العلــم الــذى ال يكفــى للرائســة ‪ ،‬لــذا حســمت هــذه‬
‫املرحلــة لصــاحل أرســطو ‪ ،‬وهــذا مــا نفهمــه مــن إخـوان الصفــا يف توظيــف الديــن‬
‫والفلســفة مــن أجــل الوصــول إىل احلكــم ‪ (.‬بتصــرف ص‪ )104‬وأوضــح مــن‬
‫ذلــك (أن التأويــل الباطــي الوســيط هــو عينــه نقــد اإليديوجليــا املاركســية املعاصــر‬
‫) (وكل نظــام مشــويل هــو مــن هــذا اجلنــس ‪ .‬وتلــك هــى العلــة يف حــرب األنظمــة‬
‫الشــمولية جبميــع ضروهبــا علــى الصحــوة االســامية الــى يتهددهــا خطــر التشــبه‬
‫مبــن حتــارب غــاايت ووســائل )‪.‬‬

‫املرحلة الثانية (ق‪3-‬ق‪)6‬‬


‫العــودة إىل احلــل األفالطــوين ولكــن البعــد الصــويف دون القــدرة علــى جتــاوز‬
‫قــدرة العلــم علــى القيــادة فامتزجــت اجلدليــة األفالطونيــة ابلصوفيــة عنــد أفلوطــن‬
‫وبرقلــس‪ ،‬كمــا يف كتاهبمــا الشــهري ‪:‬أثولوجيــا أرســطو ‪ :‬قــول يف الربوبيــة منحــول‬
‫‪69‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫علــى أرســطو‪ ،‬وجيمــع بــن شــذرات مــن اتســوعات أفلوطــن ‪ ،‬ومــن األصــول‬
‫الربوبيــة ‪ .‬وهــى ثقافــة خليــط بــن العلميــة التجريبيــة وامليتافيزيقــا ‪.‬‬
‫وهذه املرحلة أتُثرت هبا الفلسفة اإلسالمية فيما يسمية الرتميم الرابعي‪:‬‬
‫صاحب الرتميم األفالطوين الصويف ( السهروردى )‬
‫األرسطي الصويف ( ابن عريب )‬
‫األفالطوىن الكالمي ( الرازي )‬
‫‪69‬‬ ‫األرسطي الكالمي ( ابن رشد)‬
‫و هنــا يذكــر دعــاة التنويــر وعودهتــم إىل هــذا الرتميــم ‪ ،‬حــن جيعلــون‬
‫أصحــاب الرتميــم روادا رمبــا « غرهــم التناســب بــن أفكارهــم وأفــكار املثاليــة‬
‫األملانيــة » ‪ .‬وقولــه عــن هــذه املثاليــة « مثلهــا مثــل نقيضتهــا واملاديــة بضروهبــا‬
‫املختلفــة ‪ ،‬ليســت إال صياغــة الهوتيــة صوفيــة مســتمدة مــن جمــازات ســطحية‬
‫(مثــل املقارنــة مبراحــل نضــوج النبــات ‪ ،‬أو مراحــل تكويــن احليـوان ‪ ،‬أو املقارنــة‬
‫بــن مراحــل الفــرد ومراحــل حيــاة اجلماعــة ) مث يقــول» إذا املاديــة التارخييــة‬
‫ليســت ســوى ذروة وحــدة الوجــود الطبيعــة “‪ .‬وجيمــع هنــا بــن املثاليــة األملانيــة‬
‫وأفالطــون وأرســطو فيمــا يســميه جحــود مــا بعــد الطبيعــة وكذلــك جحــود مــا‬
‫بعــد التاريــخ يف حتريــف ديــن موســى وعيســى‪.‬‬
‫فاهليجليــة مجعــت األرســطية واملســيحية املعدلــة إبضافــة وحــدة الوجــود مــا‬
‫بعــد التارخييــة إىل وحدتــه مــا بعــد الطبيعيــة عنــد البينتــس ‪ ،‬واملاركســية أضافــت‬
‫اىل هــذا اجلمــع التوحيــد بــن األفالطونيــة واليهوديــة إبضافــة وحــدة الوجــود‬
‫التارخييــة إىل وحدتــه الطبيعيــة عنــد اســبينوزا ‪».‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪70‬‬

‫حنــن أمــام مشــروع تنويــري عــريب إســامي مبطّــن بوحــدة الوجــود واهليجليــة‬
‫‪ ،‬ممــا أدى اىل حمــاوالت ترميميــة يرفضهــا الكاتــب الــذى يذكــر بعــد ذلــك ‪:‬‬
‫‪-‬املرحلة العربية اإلسالمية من بداية ق‪ 7-‬اىل بداية ق‪ 16‬بعد امليالد )‬
‫و قــد ســادت هــذه املرحلــة الفكــر اإلنســاين بفضــل ســعي اإلســام يف‬
‫وجهــه الســالب إىل حتريــر العقــل مــن احنرافــات املرحلتــن الســابقتني ابلنقــد‬
‫النســقي الــذى يوجهــه الســالب إىل حتريــر العقــل مــن احنرافــات املرحلتــن‬
‫الســابقتني « مث يذكــر املراحــل الــى مــرت هبــا احلضــارة العربيــة اإلســامية مــن‬
‫• •التجاهل بني الفكرين الديين والفلسفي ‪...‬‬
‫• •اىل الصلــح املغشــوش بينهمــا عنــد متطــريف الباطــن ( اإلمساعيليــة ) والعــداء‬
‫الســاذج عنــد متطــريف الظاهــر ( أوائــل احلنابلــة ) ‪.‬‬
‫• •تقدمي البدائل عند الغزايل ‪.‬‬
‫• •الرتميمات األربعة السابقة الذكر ‪.‬‬
‫• •النقد اجلذرى التيمي واخللدوىن ‪.‬‬
‫ولكن هذا النقد مل يصل إىل الغرب بل وصلهم حماوالت الرتميم خاصة‪،‬‬
‫أن نقــد الغ ـزاىل للميتافيزيقــا وامليتااتريــخ القدميــن عرفــه فكــر النهضــة األوروبيــة‬
‫قبــل نضوجــه ‪.‬‬
‫هذه املراحل الىت اختصرانها هنا ‪ ،‬يسهلها لنا املرزوقى بتصور ‪:‬‬
‫« حصــر الوجــود يف اإلدراك ينتــج عنــه مــرض احللوليــة ( حلــول املطلــق‬
‫املزعــوم أو اإللــه يف اإلنســان الكامــل أو املســيح ) ومــرض الوصوليــة ( وصــول‬
‫النســى املزعــوم إىل املطلــق ‪ ،‬أو وصــول اإلنســان إىل االحتــاد مــع هللا )‪.‬‬
‫‪71‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫إذاً بــن احللوليــة والوصوليــة كان عقــد الوســط ابملرحلــة اإلســامية الــى‬
‫وصلــت مشــوهة للغــرب عــر الرتميمــات األربعــة ‪ ،‬دون أن يصــل النقــد التيمــى‬
‫واخللــدوىن ‪ ،‬والــذى تضمــن احلــل االســتخاليف الــذى جيمــع بــن الفكريــن‬
‫الفلســفي والديــي ويؤســس حلضــارة االســتخالف الــى هــى أمــل البش ـرية يف‬
‫اخلــروج مــن وحــدة الوجــود وادعــاء اإلحاطــة املعرفيــة عــر أتليــه اإلنســان كمــا‬
‫حــدث يف ‪:‬‬
‫‪-‬املرحلة احلديثة (ق‪16-‬ق‪:)18‬‬
‫الــي ميكــن أن نعــر عنهــا ابلعــودة إىل مــا بعــد‪71‬الطبيعــة ومــا بعــد التاريــخ‬
‫بعــد التخلــص مــن الرتميــم الرابعــي الــذى عطــل النهــوض األورويب ‪ ,‬لكــن هــذا‬
‫التخلــص مل يتخلــص مــن احللوليــة فــكان مــا كان مــن حمــاوالت املواءمــة بــن‬
‫الفكــر الديــي والفلســفي عنــد كانــط ‪،‬الــذى حــاول أن خيــرج مــن وحــدة الوجــود‬
‫‪ ،‬وذلــك بفلســفته النقديــة الــى ميكــن اختصارهــا ببســاطة شــديدة كالتــاىل ‪:‬‬
‫ليســت مهمــة نقــد املعرفــة ســوى العمــل علــى تبــن مــا يــرد إلينــا مــن اخلــارج‬
‫‪ ،‬ومــا نضفيــه حنــن علــى املعطيــات احلســية‪ ،‬عــن طريــق مــا لدينــا مــن صــور‬
‫أوليــة ســابقة علــى التجربــة‪ .‬وابلنســبة اىل املــكان والزمــان ابعتبــار مهــا صــوريت‬
‫احلساســية‪ ،‬فــإن كانــط يــرى أن املــكان والزمــان مهــا صــوراتن أوليتــان ختلعهمــا‬
‫احلساســية علــى شــى املعطيــات احليــة الــي تــرد إليهــا مــن اخلــارج‪ ،‬دون أن‬
‫يكــون هلمــا أدىن وجــود واقعــي يف العــامل اخلارجــي‪ ،‬ابعتبارمهــا موضوعــن قائمــن‬
‫بذاهتمــا ‪.‬‬
‫و هــذا يعــى أن إدراك اإلنســان هــو اإلحســاس ‪ ،‬ولكــن أي إنســان ‪ ،‬إنــه‬
‫اإلنســان الــذى ال خيــرج عــن احللوليــة املســيحية الالتينيــة ‪ ،‬لــذا كانــت حمــاول‬
‫الربــط بــن التجريبيــة والنقديــة مــن منطلــق االعتمــاد علــى االنســان اإللــه ‪ ،‬لــذا‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪72‬‬

‫قــال املرزوقــي ‪« :‬وقــد اقتضــى ذلــك إعــادة النظــر يف الرتميــم والتقويــض العربيــن‬
‫اإلســاميني ونظرييهمــا الالتينيــن املســيحيني لتجاوزمهــا وأتسيســهما صراحــة‬
‫علــى الــذات الفرديــة مبــا هــى انظــرة خاصــة وعلــى الــذات املتعاليــة الفرديــة مث‬
‫اجلماعيــة مــن حيــث الشــرط اخللقــي للنظــر ‪ ،‬ومبــا هــى عاملــة خاصــة (كنــط‬
‫وشــيلنج ) أتسيســا مبــا يتماشــى مــع املنزلــة احللوليــة يف املســيحية ‪».‬‬
‫و هــذا يعــى ببســاطة أن كانــط كان يريــد أن يوائــم بــن الفرديــة واإلميــان‬
‫املســيحي و الوضعيــة ‪ ،‬أى أن االعتمــاد علــى احلــس قــد أمهــل املعتقــد الديــي‬
‫‪ ،‬الــذى ي ـراد لــه أن يبقــى مــن خــال نقــده نقــداً يتفــق مــع اإلميــان املســيحى‬
‫الربوتســتانيت ( الفرديــة ) ولكــن دون التنــازل عــن احللوليــة واعتقــاد حلــول اإللــه‬
‫يف اإلنســان مبــا يلغــي احلــس والتجربــة ( الشــرط اخللقــي للنظــر) ‪.‬‬
‫فصــل املرزوقــي‬
‫هــذا االحنـراف عــر حماولــة كانــط وديــكارت وشــيلنج كمــا ّ‬
‫‪ ،‬ينقلنــا اىل املرحلــة املعاصــرة (ق‪ 19-‬إىل اآلن )‪.‬‬
‫املدرســة املثاليــة األملانيــة ‪ ،‬وهنــا جنــد أبســط الطــرق للقــارئ العــادي هــو‬
‫مســاع مــا نقلــه املرزوقــي عــن هيجــل ‪:‬‬
‫( فالدولــة هــى املثــال اإلهلــي كمــا يوجــد علــى األرض وهــي بذلــك تكــون‬
‫أكثــر موضوعــات اتريــخ العــامل حتديــداً إبطــاق ‪ ,‬حيــث تتضمــن احلريــة وجودهــا‬
‫املوضوعــي وتنعــم بــه ‪ .‬ذلــك أن القانــون هــو بوجــود الــروح واإلرادة املوضوعــي‬
‫يف حقيقتهمــا‪ .‬فــا تكــون حــرة إال اإلرادة الــى تطيــع القانــون ‪ .‬ومبقتضــى كــون‬
‫الدولــة أو الوطــن وجــوداً مشــركاً‪ ،‬ومبقتضــى كــون الدولــة أو الوطــن وجــوداً‬
‫مشــركاً‪ ،‬ومبقتضى خضوع إرادة اإلنســان الذاتية للقوانني ‪ ،‬يزول التناقض بني‬
‫احلريــة والضــرورة )هنــا تصبــح الدولــة هــى ظــل هللا يف االرض ‪ ,‬وطاعــة قانوهنــا‬
‫هــو عــن احلريــة ‪ ،‬وهــذا هــو املعــى الــذى نفهمــه مثــا مــن فلســفة هيدجــر الــذى‬
‫‪73‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫يذكــره املرزوقــي علــى أنــه قريــب مــن فلســفة هيجــل ‪ ،‬وهــذا األمــر يتضــح مــن‬
‫عالقــة األول ابلنازيــة وإميانــه ابلدولــة الــى صــارت مــع املدرســة املثاليــة مقــدس‬
‫جيــب اإلميــان بــه ‪.‬وهنــا أتيت املدرســة النســبية العدميــة العصريــة يف املرحلــة‬
‫املعاصرة (نيتشــه ‪ ،‬فوكو ‪ ...‬اخل ) ‪ .‬إهنا الثورة القرآنية وحضارة االســتخالف‬
‫اليت ال تدعي إحاطة االنسان ابملعرفة ‪ ،‬واليت جتعل اإلنسان يف حبث مستمر‬
‫عــن املعرفــة ‪ ،‬دون ادعــاء العلــم احمليــط ‪.‬‬
‫إن هــذا الــكالم يذكـران ابملدرســة النقديــة خاصــة عندمــا يتحــدث املرزوقــي‬
‫‪73‬ـه احللوليــة ‪ ،‬و هــذا عــن‬ ‫عــن املعرفــة الكانطيــة وينقــد العلــم احمليــط الــذى تدعيـ‬
‫مــا ذكــره جــاك دريــدا عندمــا حتــدث عــن املعرفــة الكانطيــة ( و لكــن مــن منطــق‬
‫يســتبعد املتيافيزيقــا ) ‪ ،‬فنحــن إذا أمــام نقــد للماديــة وإمهــال قضيــة االســتخالف‬
‫كمدخــل للفلســفة اإلســامية ( و هــذا مــا متيــز بــه الدكتــور أبــو يعــرب ) ‪ ،‬وهــذا‬
‫النقــد للوضعيــة هــو عــن مــا قالــه املســري وهــو عــن النقــد الــذى ســنراه يوجــه‬
‫للصحــوة االســامية والعلمانيــة يف بــادان ‪ .‬انظــر إىل هــذا الــكالم الواضــح «‬
‫إن العلــم هبــذه النســبية هــو الــذى جيعــل العلــم اجتهــادايً قابـاً للتحســن املســتمر‬
‫ألنــه دائــم االنفتــاح علــى املراجعــة » ‪ .‬لكــن كالعــادة جنــد النقــد مــن بعــض الذيــن‬
‫ال جييــدون البنــاء علــى فهــوم اآلخريــن والتنقيــح و االســتفادة حــى مــن األخطــاء‬
‫أو البنــاء علــى إبــداع املبدعــن‪ ،‬فقــد انتهــج هنجـاً فلســفياً واضحـاً ُمعلَنـاً ليثبــت‬
‫هــذه األفــكار و يقـرأ القــرآن مــن هــذه الزاويــة ‪.‬‬
‫لكــن قـراءة كتــاب أبــو يعــرب املرزوقــي (شــيء مــن النقــد والتجربــة) تبــن أن‬
‫النمــاذج الســائدة هــي نتــاج لســلطات قائمــة متلــك املــال وقــادرة علــى اســتمرار‬
‫منــاذج بعينهــا مــا دامــت تلــك الســلطات قــادرة علــى نشــر الفكــر الــذي تريــد ‪.‬‬
‫مــع املرزوقــي حنــن أمــام قلــق ورغبــة يف فتــح آفــاق جديــدة لألمــة ‪ ،‬انطلقــت مــن‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪74‬‬

‫نظريــة معرفيــة تلتقــي مــع رؤيــة عامــة ال تتفــق مــع األحاديــة والدوغماتيــة الــى‬
‫أنتقدهــا اجلابــرى ورســم كيفيــة اخلــروج منهــا املســرى ‪.‬‬

‫املسريى والنماذج املركبة ‪)٦(:‬‬


‫عنــد املســرى جنــد الرؤيــة واضحــة جليــة ‪ ،‬بــل إن الطريقــة الــى ينبغــى أن‬
‫نســلكها لفهــم الواقــع والنهــوض بــه أكثــر وضوحـاً ‪ ,‬مــن خــال عرضــه الرصــن‬
‫يف كافــة كتبــه والــى تــدور حــول التحــول مــن النمــاذج االختزاليــة إىل النمــاذج‬
‫املركبــة لفهــم الواقــع املعقــد ‪.‬‬
‫فالنمــوذج عنــده عبــارة عــن بنيــة تصوريــة أو خريطــة معرفيــة جيردهــا عقــل‬
‫اإلنســان (بشــكل واع أو غــر واع) مــن كــم هائــل مــن العالقــات والتفاصيــل‬
‫واحلقائــق (املوضوعيــة)‪ ،‬فهــو يســتبعد بعضهــا حبســباهنا غــر دالــة (مــن وجهــة‬
‫خاصــا‪ ،‬وجيــرد‬
‫نظــره) ويســتبقي البعــض اآلخــر‪ .‬مث يربــط بينهــا وينســقها تنســي ًقا ً‬
‫عامــا ‪ ،‬و يفــرق املســري كمــا هــو معلــوم عنــد الفالســفة بــن النمــوذج‬
‫منهــا منطًــا ً‬
‫االختـزايل والنمــوذج املركــب ‪.‬‬
‫النمــوذج االختـزايل األرســطي قــد يلجــأ إىل تبســيط الظواهــر املركبــة احنيــازاً‬
‫لقيــم بعينهــا ‪ ،‬ومــن مث يصبــح الواقــع كمــا يقــول خيتــزل الواقــع إىل عــدة عناصــر‬
‫بســيطة ‪ ،‬مســتبعداً كثـراً مــن العناصــر واألبعــاد مصــدر تركيبيــة الظاهــرة ‪ ،‬أمــا‬
‫النمــوذج املركــب فهــو نتــاج عمليــة معقــدة مــن التفكيــك و الرتكيــب لتفســر و‬
‫اقــع معقــد ‪ ،‬لــذا ختتلــف النمــاذج التفسـرية املركبــة الــي هــي أقــدر علــى تفســر‬
‫الظاهــرة اإلنســانية املركبــة ‪.‬‬
‫يرجع هذا التعريف ملاكس ويرب و هو ما يعرف ابلنموذج املثايل ‪Ideal‬‬
‫‪ ،typus‬و من مث هذا التعريف خيتلف عن تعريف توماس كون السابق (‪)7‬‬
‫‪75‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫‪ ،‬فتعريــف املســري أحــد طــرق البحــث يف الظواهــر اإلنســانية واالجتماعيــة ‪،‬‬


‫لــذا فالفــرق كبــر بــن االثنــن ‪ ،‬فنمــوذج املســري ينشــأ عــن عقــل يولــد األفــكار‬
‫أو النمــوذج للواقــع ‪ ،‬فهــو ال يعتمــد أوالً علــى معلومــات كشــرط أساســي لبنــاء‬
‫النمــوذج و اثنيـاً هــو مــن يضــع ذلــك النمــوذج ‪ ،‬أمــا تومــاس كــون فهــو يتحــدث‬
‫عــن حلظــة مــن حلظــات التاريــخ يســود فيهــا نســق أو منــوذج فكــري حمــدد ‪،‬‬
‫عندمــا يفشــل ذلــك النمــوذج يف تفســر الواقــع جيــد مــن حيــاول الدفــاع عنــه ضــد‬
‫أي منــوذج ثــوري جديــد يريــد أن يفســر الواقــع ‪.‬‬
‫و لكــن اإلشــكال هنــا يف أن املســري رمحــه هللا‪75‬يؤكــد علــى وجــود منــوذج‬
‫كامــن يف أي منــوذج معــريف ‪ ،‬فالنمــوذج املعــريف هــو النمــوذج الــذي حيــاول‬
‫أن يصــل إىل الصيــغ الكليــة والنهائيــة للوجــود اإلنســاين ‪ .‬النمــوذج املعــريف هــذا‬
‫قــد يكــون حــى يف التحليــل السياســي واالقتصــادي ‪ ،‬فــا بــد مــن البحــث‬
‫عــن هــذا املشــرك الــذي تتولــد عنــه األفــكار يف العالقــة ابلنمــوذج الكامــن بــن‬
‫ثالثيــة هللا واإلنســان والطبيعــة ‪ .‬ورغــم أنــه ال ينكــر وجــود منحــى خــاص بــكل‬
‫ظاهــرة إال أنــه يريــد تعميــم بعــض القضــااي الــي متثــل الظاهــرة اإلنســانية كظاهــرة‬
‫عامــة عــر التاريــخ ‪ .‬وأظــن أن نظــرة إىل مــآل منــوذج ماكــس ويــر ومــا آلــت إليــه‬
‫أملانيــا جيعلنــا نــرى أبن منــوذج املســري قــد يــؤول بنــا إىل حالــة مــن الشــمولية الــي‬
‫ينكرهــا املســري نفســه ‪ ،‬ملــاذا؟‬
‫حنــن نعيــش يف واقــع صــار للســلطات فيــه قــوة علــى فــرض األفــكار (‬
‫الســعودية مث ـاً ) ‪ ،‬ورغــم اتفــاق الــدول العربيــة اإلســامية يف هــذا النمــوذج‬
‫الكامــن‪ ،‬إذ ال يوجــد نســق واحــد حيكــم الــدول العربيــة ( اذا اســتثنينا بعــض‬
‫الــدول الــي حكمــت بنظــام البعــث القومــي ) فــإن دول كاجلزائــر واملغــرب وليبيــا‬
‫ومصــر و الســعودية وبعــض دول اخلليــج واليمــن ليــس فيهــا نســق ميكــن أن‬
‫يســمى نســقاً علماني ـاً مــادايً‪ ،.‬بــل إن ق ـراءة حمــدد للنــص القــرآين ‪ ،‬وحتالفــات‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪76‬‬

‫جمتمعيــة وعالقــات دوليــة هــي الــي رمســت خميلــة اجملتمــع ‪ ،‬و شــكلت ســرديته‬
‫اخلاصــة‪ .‬لــذا فاإلنســان يف هــذه اجملتمعــات حاضــر وبقــوة ‪ ،‬فدراســة اجملتمــع يف‬
‫فــرة زمانيــة حمــددة ‪ ،‬و بنــاء منــوذج تفســري للواقــع ‪ ،‬ال يعــي املاديــة الــي ينفــر‬
‫منهــا املســري بقــدر مــا يعــي فهــم العالقــة بــن املســلمات الفكريــة يف اجملتمــع‬
‫و عالقتهــا ابلســلطة احلاكمــة‪ .‬و بــا شــك ســيكون هــذا النمــوذج إنســاين ألن‬
‫قوانــن عــدة ميكــن أن حتكــم النمــوذج التفســري املطــروح تلــك القوانــن هــي‬
‫الــي حتــدد اهلويــة الكامنــة يف النمــوذج‪ .‬وتبقــى مســألة الســلطة مســألة مهمــة ال‬
‫ميكــن أن هنــرب منهــا ‪ ،‬وقــد ظهــر ذلــك يف ســرة املســري ومشــاركته السياســية‬
‫يف مصــر حــن انتصــرت الســلطة حينـاً ومــا أن هزمــت حــى عــادت مصــر لصــورة‬
‫أكثــر اتســاقاً فيمــا يبــدو مــع إسـرائيل ‪.‬‬
‫فيمــا يبــدو يل وهللا أعلــم أن املســري يف منزلــة بــن منزلتــن ألنــه يقتنــع‬
‫بضــرورة اختبــار النمــاذج التفس ـرية بعكــس ويــر الــذي ال ميكــن لنموذجــه أن‬
‫خيضــع لذلــك ‪ ،‬لــذا فــإن شــيئا مــن املثاليــة ميكــن أن تتســرب إىل منــاذج املســري‬
‫خاصــة يف منوذجــه العلمانيــة الــذي بــدى وكأنــه نــوع مــن التطــور الناقــد للماديــة‬
‫وقريــب مــن نقــد مدرســة فرانكفــورت فأنــت يف النهايــة أمــام شــكاية مــن ماديــة‬
‫العــامل والعلمانيــة الشــاملة للحركــة الصهيونيــة ‪ ،‬النقطــة الــي ابتــدأ منهــا املســري‬
‫نقــده للخطــاب العــريب ‪ ،‬و اعــرف هنــا أن هــذه اإلشــارة حتتــاج ملزيــد مــن‬
‫البحــث فلعلنــا نفردهــا ابلبحــث ‪.‬‬
‫ســنعود بعــد قليــل لكيفيــة بنــاء النمــاذج ( حســب تعريــف املســري) ‪،‬‬
‫وحنن نضيف إىل ذلك عدة عالقات بني النموذج و السنن اإلهلية أو القوانني‬
‫االجتماعيــة وعالقــة ذلــك ابلبنــاء النظــري ‪ ،‬و إن كان املســري ال يــرى هنــاك‬
‫فرقـاً بــن النظريــة والنمــوذج حســب بعــض الفالســفة ‪ .‬فإننــا و يف إطــار وضــع‬
‫الســنن اإلهليــة يف صــورة منــوذج تفســري فــا بــد لنــا مــن طــرح هــذا اإلشــكال‬
‫‪77‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫‪ .‬فاملســري يؤكــد يف كتبــه علــى بنــاء هــذه النمــاذج الــي خترجنــا مــن االختـزال‬
‫‪ ،‬وهــذا مــا أكــده يف موســوعته عــن الصهيونيــة ومنوذجــه للعلمانيــة الشــاملة ‪،‬‬
‫وإذا أتملنــا منــوذج العلمانيــة جنــد تشــاهبا كبـراً بــن املرزوقــي واملســري ‪ ،‬إال أن‬
‫املســري يصــف احلضــارة الغربيــة دون أن يركــز علــى البديــل القــرآين كمــا عنــد‬
‫املرزوقــي ‪ ،‬واملرزوقــي يركــز علــى املثاليــة األملانيــة والتحريــف الــذي أصيبــت بــه‬
‫العيســوية واملوســوية ‪.‬‬
‫لكــن يف هنايــة املطــاف جنــد منــوذج وحــدة الوجــود الــذي أصيبــت بــه‬
‫ـادة أمــور يتفــق فيهــا االثنــان‬
‫احلضــارة الغربيــة ‪ ،‬واملاديــة الــي ســاوت الطبيعــة ابملـ ‪77‬‬
‫‪ .‬تبــدأ رويــة املســري مــن خــال مرحلــة أوىل تســود فيهــا العلمانيــة اجلزئيــة ‪،‬‬
‫حينمــا يكــون جماهلــا مقصــوراً علــى اجملالــن االقتصــادي والسياســي ‪ ،‬وحــن‬
‫تكــون هنــاك بقــااي مطلقــات مســيحية وإنســانية ‪ ،‬وحــن تتســم الدولــة ووســائل‬
‫اإلعــام وقطــاع اللــذة ( الدعايــة واإلعــان والســينما ‪ )....‬ابلضعــف والعجــز‬
‫عــن اقتحــام ( أو اســتعمار ) كل جمــاالت احليــاة ‪ ،‬وحــن تكــون هنــاك معياريــة‬
‫إنســانية أو طبيعيــة ‪ /‬ماديــة ‪ .‬و يف املراحــل األخــرة‪ ،‬ومــع تزايــد قــوة الدولــة‬
‫متكنهــا مــن الوصــول إىل الفــرد وإحــكام‬ ‫ووســائل اإلعــام وقطــاع اللــذة ‪ ،‬و ُّ‬
‫القبــض عليــه مــن الداخــل واخلــارج ‪ ،‬ومــع اتســاع جمــال عمليــات العلمنــة‬
‫وضمــور املطلقــات واختفائهــا ‪،‬وهتميــش اإلنســان ‪ ،‬وســيادة النســبية األخالقيــة‬
‫‪ ،‬مث النســبية املعرفيــة ( ابهت ـزاز الكليــات ) ‪ -‬تظهــر العلمانيــة الشــاملة يف‬
‫مرحلتيهــا ‪ ،‬الصلبــة والســائلة» ‪ )6(.‬ج‪ 1‬ص‪222‬‬
‫و يتحــول اجملتمــع مــن جمتمــع يرتبــط ابملطلقــات ( النمــوذج الكامــن هللا‬
‫واإلنسان والطبيعة ) لتزاح القيم واملطلقات ‪ ،‬وتبقى الثنائية الصلبة ( االنسان‬
‫والطبيعــة ) مث تبــدأ املرحلــة الســائلة حــن يتــم « تبســيط ظاهــرة اإلنســان ‪ ،‬إذ‬
‫يصبــح جمــرد عناصــر موضوعيــة ( قابلــة للدراســة ) غــر شــخصية ‪ ،‬متماثلــة‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪78‬‬

‫إىل حــد كبــر ‪ ،‬فيســهل التعامــل معهــا ( معاجلتهــا ) ودراســتها والتحكــم فيهــا‬
‫وإخضاعهــا لنمــاذج حتليليــة بســيطة ( عــادة كميــة) وقواعــد إجرائيــة ذات طابــع‬
‫مــادي كمــي عــام (وهــذا هــو الرتشــيد املــادي للحيــاة) ‪ .‬هكــذا نــرى متتاليــة‬
‫تفســر لنــا الكثــر يف «مصطلــح» مل تلــم أطـراف اترخيــه إال عــر منــوذج خيرجنــا‬
‫مــن اخت ـزال املفهــوم إىل تعريــف ال حيمــل أي داللــة تفس ـرية‪ :‬فصــل الديــن‬
‫عــن الدولــة ‪.‬‬
‫و يف نقــد اخلطــاب العــريب واإلســامي ومشــروع النهضــة جنــد املســري‬
‫يقــول ‪:‬‬
‫(إن مل نطــور خطــاب عربي ـاً إســاميا معاص ـراً يعــر عــن رؤيــة العــرب و‬
‫واقعهــم وللعــامل أبســره ‪ ،‬وإن مل نعـ ّـر عــن هــذه الرؤيــة مبصطلحــات منفتحــة‬
‫مســتمدة مــن تراثنــا ومســتفيدة مــن لغــة العلــم احلديــث ‪ ،‬إن مل نفعــل ذلــك فــإن‬
‫اآلخــر ســيقوم بتطويــر هــذا اخلطــاب نيابــة عنــا وســنتبناه بوعــي أو غــر وعــي ) ‪.‬‬
‫مث يصــف التيــارات إبمجــال فيقــول ‪ :‬وبذلــك ميكــن القــول أن العنصــر‬
‫املشــرك بــن كل هــذه اخلطــاابت وطــرق الرؤيــة والتعبــر أهنــا جتعــل الغــرب نقطــة‬
‫مرجعيــة صامتــة يقبلهــا البعــض بقضهــا وقضيضهــا ويرفضهــا البعــض اآلخــر‬
‫ابلطريقــة نفســها ‪ .‬مث يقــول تقريبــا نفــس كالم املرزوقــي ‪ ”:‬اإلســام مبقــدوره‬
‫أن يســهم يف تقــدمي احلداثــة اإلنســانية علــى أهنــا بديــل للحداثــة املنفصلــة عــن‬
‫القيمــة الــي تــؤدي إىل النســبية والدارونيــة “‪.‬‬
‫و يف دراســة عــن اخلطــاب اإلســامي املعاصــر يقــول ‪« :‬مل يعــد ابإلمــكان‬
‫االســتمرار يف احلديــث عــن اســترياد القيــم الغربيــة وت ْك ـرار مــا قــال بــه بعــض‬
‫أســافنا مــن أن مشــروع احلداثــة اإلســامي هــو بعينــه مشــروع احلداثــة الغــريب‬
‫مــع إضافــة بعــض التعديــات ‪ ،‬بعــد إضافــة بعــض القيــم إليــه ! ‪ )8(.‬هــذا النقــد‬
‫‪79‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫لالختـزال جنــد الكثــر ينبــه عليــه ‪ ،‬وهــي متثــل مراجعــة حقيقيــة للدوغماتيــة الــي‬
‫ج ـ ّذرت أطــر حمــددة جــرى علــى أساســها تصنيفــات متعــددة وحــرب ابردة‬
‫وســاخنة يف العقــود الغابــرة ‪ .‬هــذه النمــاذج الــي ذكرانهــا تبــن لنــا فكــرة النمــوذج‬
‫وارتباطهــا بنقــد مشــروع النهضــة ‪ ،‬واملقصــود أن الفكــر النهضــوي تطــور مــع‬
‫التطــور الــذي حصــل يف الفكــر اإلنســاين ‪ ،‬فاجلابــري يســتند إلمــري الكوتــش ‪،‬‬
‫و املســري يبــدو أنــه يســتند للمدرســة النقديــة و الفيلســوف البولنــدي زجيمونــد‬
‫بومانــس ‪ ،‬وقــد شــكل منــوذج املســري ( مثـاً احلداثــة الســائلة املصطلــح الــذي‬
‫اســتخدمه زجيمونــد ) منوذجــا ســائداً عنــد بعــض الكتــاب ‪ ،‬وصــار لزامـاً علــى‬
‫‪79‬‬
‫اجلميــع تطويــر آليــات الفكــر والتحليــل للخــروج مــن االخت ـزال واملفتــاح الــذي‬
‫يفتــح كل األب ـواب والنظ ـرات النهائيــة الكــرى إىل التواضــع الــذي حدثنــا عنــه‬
‫املرزوقــي ‪.‬‬

‫القرآن و التاريخ‬
‫هــل لنــا بتفســر للتاريــخ عــر القــرآن؟ وهــل مــن طريقــة لفهــم ذلــك دون‬
‫املســاس بنــص القــرآن أو تفكيكــه أو الغــدر بســياقه ‪ ،‬أو توقيــف ترتيبــه؟ وهــل‬
‫لنــا مــن التدبــر يف ســياقه ومعرفــة النمــاذج الــي ميكــن مــن خالهلــا فهــم التاريــخ‬
‫أو الواقــع الــذي نعيشــه ‪ .‬كنــت أظــن أن األمــر ســهل يف عرضــه ‪ ،‬خاصــة وأن‬
‫النـوااي واضحــة يف فهــم القـران وتدبــر آايتــه واالستســام لنســقه أو ســياقه‪ .‬لكــن‬
‫نقاشــات مــع مهتمــن ومتابعــات ملــا يكتــب هنــا و هنــاك جنــد أننــا عــادة مــا‬
‫هنتــم بقضــااي يف الواقــع هــي نــوع مــن العجــز والبطالــة أكثــر منهــا معرفــة وحبثــا‬
‫و علميــا‪ .‬وحــى ال يكــون الــكالم مرس ـاً ســنحاول هنــا أن جنيــب علــى أهــم‬
‫األســئلة اليت تتعارض مع فكرة هذا الكتاب وهي أن ظاهرة التكرار يف القرآن‬
‫مــا هــي إىل منــوذج ( جمموعــة قضــااي أساســية ) ميكنهــا أن تكــون بدايــة لنمــوذج‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪80‬‬

‫تفســري يرتبــط ابلقــرآن وهــذا التكـرار ميكــن أن يفهــم عــر فهــم مفاتــح الســور‬
‫والــي متثــل ســور القــرآن كمجموعــات ‪.‬‬
‫هــذه اجملموعــات تتكــرر فيهــا قضــااي بعينهــا بصــورة ملفتــة جتعــل اســتنباطها‬
‫عــر االســتقراء ومــن مث مجعهــا كنمــوذج مركــب‪ -‬أي فيــه مدخــات كثــرة ‪-‬‬
‫فكــرة قــد تكــون بدايــة لفهــم أعمــق للقــرآن الكــرمي ‪ ،‬دون أن نلجــأ لتفكيــك‬
‫النــص يف الســور ‪ ،‬واللجــوء لتارخيانيــة القــرآن عــر املكــي واملــدين ‪ ،‬بــل نبقــي‬
‫علــى علــوم القــرآن كمــا حــاول العلمــاء أن يوصلوهــا إلينــا‪ ،‬مــن خــال دراســة‬
‫النــص يف الزمــان و املــكان ( املكــي واملــدين ‪ ،‬الناســخ واملنســوخ ) وكذلــك‬
‫احلــرص علــى وحــدة الســورة ( الوحــدة املوضوعيــة لســورة ) عــر علــم التناســب‬
‫و هــي عالقــة اآلايت بعضهــا ببعــض ‪ ،‬ومــن مث تنشــأ وحــدة موضوعيــة للســياق‬
‫أو تتابــع اآلايت ووحدهتــا العضويــة فتعــر عــن األســاليب البالغيــة واملشــاهد‬
‫والصــور الــي متيــز كل ســورة مــن ســور القــرآن ‪ ( .‬انظــر الفصــل األخــر مــن هــذا‬
‫الكتــاب للتفصيــل ) ‪.‬‬
‫بعــد ذلــك هــل تتبــع هــذا الســياق يف القــرآن كجملــة واحــدة وهــي نظريــة‬
‫الوحــدة القرآنيــة يصلــح أن يهدينــا لفهــم مــا الــذي حــدث عــر التاريــخ‪ .‬البعــض‬
‫يــرى أن فلســفة التاريــخ وهــذه التيــارات الــي ذك ـران طرف ـاَ منهــا هــي نتــاج‬
‫للحضــارة الغربيــة واترخيهــا وهــذا نســبياً أمــر غــر صحيــح ‪ ،‬ألن هــذه التيــارات‬
‫كانــت تسرتشــد بزمــن مــا قبــل احلداثــة فمــا مــن كاتــب مــن هــؤالء إال ولــه ســند‬
‫مــن التاريــخ القــدمي أي قبــل احلداثــة ‪ )١٠( .‬ففكــرة أن التاريــخ قــد يتحــول إىل‬
‫أيديولوجيــا ‪ ،‬وأن حقائــق التاريــخ قــد تتحــول ألســباب سياســية إىل أداة مــن‬
‫أدوات الســلطة ‪ ،‬أمــر ال ميكــن إنــكاره ‪ ،‬لــذا فــإن اســتمرار القــرآن بــدون حتريــف‬
‫أو تبديــل ‪ ،‬هــو قضيــة أساســية ليــس للتاريــخ بــل منهــج التاريــخ ‪ ،‬ليــس إلثبــات‬
‫حقائــق علميــة بــل لطــرق البحــث العلمــي ‪ ،‬ليــس لتأكيــد النظـرايت االجتماعيــة‬
‫‪81‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫بــل كنمــوذج لرصــد حركــة اجملتمــع ‪ .‬مــا نريــد أن نؤكــده وحنــن يف هــذه املقدمــة‬
‫هــو أن القــرآن قــد بــن لنــا حركــة التاريــخ بطريقــة متكننــا مــن دراســته ‪ ،‬أي أنــه‬
‫أعطــاان األســس الــي ينبغــي أن نضعهــا يف حســباننا وحنــن حنــاول أن نفلســف‬
‫التاريــخ ونــدرس طبــع الوجــود ‪ ،‬وهــذا أمــر ظاهــر ليــس يف أن احلــق ينتصــر علــى‬
‫الباطــل وأن االبتــاء للمؤمنــن ســنة ماضيــة وأن اجلماعــة خــر مــن الفــرد كمــا‬
‫حيــاول بعــض مــن يكتــب يف الســنن أن يظهــر األمــر علــى أنــه أتصيــل جملموعــة‬
‫مواعــظ دعويــة وحركيــة ‪ ،‬بــل إن القــرآن قــد فســر لنــا كيــف انتقــل العــامل مــن طــور‬
‫إىل طــور وكيــف اســتخلفت األمـ ُـم بعضهــا بعض ـاً ‪ ،‬وكيــف مــرت تلــك األمــم‬
‫‪81‬‬
‫بنســق حمــدد هــو الــذي أخرجهــا عــن دائــرة التاريــخ ‪ ،‬كمــا أنــه أظهــر أح ـوال‬
‫اإلنســان يف اجملتمعــات وتقلبهــا ‪ ،‬وبــن كيــف أن االختــاف ســنة ماضيــة ‪،‬‬
‫وأن االســتقرار الــذي يشــهده العــامل هــو نتــاج هلــذا االختــاف وأن قفـزات عــدة‬
‫يقفزهــا التاريــخ لتســتمر احلضــارة ‪ ،‬عــر ســنة االســتخالف ‪ ،‬والتعايــش الــذي‬
‫مكــن هللا بــه اإلنســان مــن اكتشــاف احليــاة والطبيعــة ‪ ،‬وأن ذلــك االكتشــاف‬
‫جــزء مــن آليــة اســتمرار احليــاة واســتخالف اإلنســان علــى األرض ‪.‬‬
‫هــل ذكــر القــرآن ذلــك ؟ نعــم وبــكل وضــوح ‪ ،‬هــل بقـراءة القــرآن ميكننــا‬
‫أن نضــع ألنفســنا منوذج ـاً تفســرايً ميكننــا مــن خاللــه بنــاء مؤش ـرات لدراســة‬
‫اجملتمعــات الــي نعيشــها وفهــم ســياقها يف إطــار كــوين مل ينطلــق مــن معــاانة‬
‫األفـراد وثقافتهــم ؟ هــذا مــا نطمــح إليــه يف هــذا الكتــاب ‪ ،‬أو علــى األقــل تقديــر‬
‫أن نفتــح ابابً للتفكــر فيــه ‪.‬‬
‫ابلطبــع ســيكون بنــاء ذلــك النمــوذج عمـاً ال يطيقــه هــذا البحــث ‪ ،‬لكــن‬
‫التفكــر هبــذه الطريقــة مهــم ‪ ،‬فنحــن نعيــش يف عصــر تكاثــرت فيــه املعلومــات‬
‫وصار آللف و الم و ميم و (حم ) و (عسق) ‪ ...‬معىن و أي معىن !! ‪ .‬إن‬
‫اجلــدل حــول االعجــاز العلمــي للقــرآن وهــو حماولــة بيــان ذكــر القــرآن لكثــر ممــا‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪82‬‬

‫اكتشــف يف العصــر احلديــث منهجيــة عليهــا كثــر مــن املآخــذ ‪ ،‬وهــي منهجيــة‬
‫قــد تصلــح يف جوانــب وقــد تكــون خمطئــة يف بعــض القضــااي‪ .‬لكنهــا يف هنايــة‬
‫األمــر قــد ال يكــون هلــا مــردود عملــي ســوى القــول أبن القـران معجــز ‪ ،‬و هــذا‬
‫جيــب أن ينبــع مــن القــرآن وهــو أمــر إميــاين قــد يزيــد مــن ثقــة بعــض القلــوب‬
‫ابلقــرآن أو يعيــد ثقتهــا فيــه ‪ ،‬لكــن ال ميكــن أبي حــال إثبــات أن تلــك الطريقــة‬
‫هلــا ســند صحيــح ميكــن الرجــوع إليــه ‪ ،‬ألن القــرآن هـ ٍ‬
‫ـاد و هــو مرشــد ودليــل ‪،‬‬
‫وهــذه القضــااي الــي يتعــرض هلــا اإلعجــاز العلمــي هــي قضــااي ســابقة فليــس يف‬
‫األمــر حقيقــة معــى اهلدايــة ‪.‬‬
‫لكــن مــا ينطبــق مــع وظيفــة القــرآن يف اهلدايــة هــو أن يعطينــا طريقــة‬
‫نــدرس هبــا الكــون واجملتمــع ‪ ،‬وســيلة نفتــح هبــا آفــاق هــذا الكــون ونعــرف ســر‬
‫احلضــارات واألمــم ‪ ،‬فهــو ال يرتكنــا نتأمــل يف الكــون واجملتمــع دون دليــل ومرشــد‬
‫‪ ،‬هــذا الدليــل وهــذا النمــوذج اإلرشــادي الــذي نســتنبطه مــن القــرآن ‪ ،‬ســنجد‬
‫فيه األسس اليت حتكم النفس واجملتمع و الكون ‪ ،‬وإذا ما صادف ذلك إرادة‬
‫وســلطة واعيــة مؤمنــة بعظمــة هــذا القــرآن فــإن نتــاج ذلــك بــا شــك ســيكون‬
‫ســرداً قرآني ـاً يعيــد للقلــوب وللعقــول تصــوراً خمالف ـاً للحيــاة والعــامل ‪ ،‬و يصبــح‬
‫اجملتمــع العلمــي أكثــر اتســاقاً بنمــاذج قرآنيــة جتعــل البحــث و االكتشــاف و‬
‫النظــر للكــون جــزءا مــن االختــاف احلضــاري الــذي يشــهده العــامل ‪ ،‬ويكــون‬
‫هلــذه األمــة طــرف مــن معادلــة التاريــخ واحلضــارة ‪.‬‬
‫النمــاذج كمــا ذك ـران قــد تكــون جمموعــة أفــكار أو نســق ( نظــام ) مــن‬
‫األفــكار املرتابطــة‪ ،‬لــذا فالبحــث عــن هــذه النســق أو النظــام يف ســياق القــرآن‬
‫حيتــاج لدراســة متكاملــة للقــرآن الكــرمي دون اســتخدام أدوات فقهيــة تركــز علــى‬
‫اجلزئيــات أو تســتنبط قوانــن مفــردة عــر االســتقراء بــل إننــا يف بنــاء النمــاذج‬
‫املركبــة حنتــاج جملموعــة عناصــر ‪ ،‬و إىل آليــة أو قصــة أو متتاليــة مناذجيــة (‬
‫‪83‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫بتعب ـرات املســري كمــا ســيأيت ) لنجعــل هــذا النســق قاب ـاً للتطبيــق ‪ ،‬هــذا‬
‫التطبيــق هــو الــذي يقيــس قــدرة هــذا النمــوذج علــى التفســر ‪ ،‬و إذا كانــت قــدرة‬
‫ذلــك النمــوذج علــى التفســر ضعيفــة جلــأان لغــره ‪ ،‬دون أن ميــس ذلــك قداســة‬
‫القــرآن ‪ ،‬ألن النمــاذج ليســت أيديولوجيــا مغلقــة بــل هــي متثيــل علمــي للكــون‬
‫والتاريــخ واختيــار لســرد حمــدد لتفســر احليــاة ‪.‬‬
‫عندمــا هنتــدي ابلقــرآن للوصــول لتلــك النمــاذج ‪ ،‬حنــن علــى ثقــة مــن عجــز‬
‫عقولنــا ‪ ،‬ونعــرف أن بيننــا وبــن هدايــة هللا روزنــة مــن رمحتــه نســأله إايهــا كل يــوم‬
‫مخــس مـرات ونعــرف أن معرفــة مـراد هللا أمــر يصعــب‪83‬و لكننــا نســدد ونقــارب ‪،‬‬
‫ليبقــى احلـوار والتواصــل والبحــث عــن منــاذج ميكــن مــن خالهلــا توقــع األحــداث‬
‫و اســتدراج معــى النبــؤة مــن القــرآن أمــر متصــل يصلنــا ابحليــاة والتاريــخ بعــد أن‬
‫قطعتنــا األهـواء والســلطات و التقليــد للغــر عقــوداً طويلــة ‪.‬‬
‫مــن املمكــن أن نفهــم التفســر القــرآين لألحــداث ببعــض اآلايت والســياق‬
‫لبعض الســور ‪ ،‬كما أن مجع هذه الســياقات يف منوذج واحد قد يكون وســيلة‬
‫أخــرى ‪ .‬نذكــر هنــا بعــض الســياقات الــي تفســر بعــض األحــداث‪ :‬ففــي ســورة‬
‫األع ـراف عــرض ملســرة احلضــارة منــذ آدم عليــه الســام ‪ ،‬و بعــد أن عــرض‬
‫القــرآن عــدة منــاذج لتفاعــل األمــم مــع خمرجــات احلضــارة املاديــة ‪ ،‬قــال تعــاىل ‪:‬‬
‫( ‬

‫ـي إِالَّ أ َ‬
‫َخـ ْذ َن أ َْهلَ َهــا ِبلْبَأْ َســاء َو َّ‬
‫الضـَّـراء لَ َعلَّ ُهـ ْـم‬ ‫ِ ٍِ ِ‬
‫‪ 1‬ومــا أ َْر َسـ ْلنَا ف قـَْريـَـة ّمــن نـَّ ٍّ‬
‫يَضََّّرعُــو َن‬
‫آبءَ َن‬ ‫ـس َ‬ ‫الَ َســنَةَ َحـ َّـى َع َفـ ْـوا َّوقَالُـواْ قَـ ْد َمـ َّ‬ ‫الســيِّئَ ِة ْ‬
‫ ثَّ بَ َّدلْنَــا َم ـ َكا َن َّ‬ ‫‪ُ 2‬‬
‫َخ ْذ َن ُهــم بـَ ْغتَ ـةً َوُهـ ْـم الَ يَ ْشــعُُرو َن‬ ‫السـ َّـراء فَأ َ‬ ‫الضـ َّـراء َو َّ‬
‫َّ‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪84‬‬

‫ات ِّمـ َـن َّ‬ ‫َن أَهــل الْ ُقــرى آمنُـواْ واتـََّقــوا لََفتحنَــا علَي ِهــم ب ــرَك ٍ‬
‫السـ َـماء‬ ‫‪َ 3‬ولَـ ْـو أ َّ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ ََ‬
‫ض ولَ ِكــن َك َّذب ـواْ فَأَخ ْذ َنهــم ِبـَـا َكانُـواْ يك ِ‬
‫ْســبُو َن‬ ‫َ‬ ‫ُ َ ُ‬ ‫َواأل َْر ِ َ‬
‫ات َوُه ْم َنئِ ُمو َن‬ ‫‪ 4‬أَفَأ َِم َن أ َْه ُل الْ ُقَرى أَن َيْتِيـَُه ْم َبْ ُسنَا بـَيَ ً‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض ًحى َوُه ْم يـَْل َعبُو َن‬ ‫‪ 5‬أ ََو أَم َن أ َْه ُل الْ ُقَرى أَن َيْتيـَُه ْم َبْ ُسنَا ُ‬
‫ال ِ‬ ‫الل فَالَ يْمن مكْر َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اسُرو َن‬ ‫الل إِالَّ الْ َق ْوُم َْ‬ ‫‪ 6‬أَفَأَمنُواْ َمكَْر َّ َ َ ُ َ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ ‪ 7‬أَوَل يـهـ ِـد لِلَّ ِذيــن ي ِرثـُـو َن األَر ِ‬
‫اهــم‬
‫َصبـْنَ ُ‬ ‫ض مــن بـَْعــد أ َْهل َهــا أَن لَّـ ْـو نَ َشــاء أ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ََ‬ ‫َ ْ َْ‬
‫بِ ُذنُوبِِـ ْـم َونَطْبَـ ُـع َعلَــى قـُلُوبـ ْـم فـَُهـ ْـم الَ يَ ْسـ َـمعُو َن‬
‫ِِ‬
‫ـك ِمــن أَنبائِهــا ولََقـ ْد جاءتـهــم رسـلُهم ِبلْبـيِنَـ ِ‬
‫ـات‬ ‫‪ 8‬تِْلـ َ‬
‫ـص َعلَْيـ َ ْ َ َ َ َ َ ْ ُ ْ ُ ُ ُ َّ‬ ‫ـك الْ ُقـَـرى نـَُقـ ُّ‬
‫ـوب الْ َكافِ ِريـ َـن‬
‫الل َعلَــى قـلُـ ِ‬
‫ـك يَطْبَـ ُـع َُّ َ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فَ َمــا َكانُـواْ ليـُْؤِمنُـواْ ِبـَـا َك َّذبُـواْ ِمــن قـَْبـ ُـل َك َذلـ َ‬
‫ِِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ِ‬
‫ني )(‬ ‫‪َ 9‬وَمــا َو َج ـ ْد َن ألَ ْكثَ ِرهــم ّمـ ْـن َع ْهــد َوإِن َو َج ـ ْد َن أَ ْكثـََرُهـ ْـم لََفاســق َ‬
‫األع ـراف ‪)104-94‬‬
‫هــذا يلقــي الضــوء علــى اســتخالف األمــم و القصــص الــي ذكــرت يف‬
‫الســورة ويفســر ذلــك التتابــع لنفــس األخطــاء الــي وقعــت فيهــا البش ـرية ‪،‬‬
‫اخلطــأ املســتمر لإلنســان حــن ال يــدرك التاريــخ وال يؤمــن ابلقــدر ‪ .‬مثــال آخــر‬
‫يف ســورة الكهــف وهــي قصــة موســى مــع اخلضــر فقــد فســر اخلضــر ملوســى‬
‫األحــداث وبــن لــه كيــف أن كل األحــداث كانــت حلكمــة وخطـوات مســتقبلية‬
‫مل يصــر عليهــا موســى عليــه الســام ‪ .‬ويف ســورة طــه كان موســى عليــه الســام‬
‫مل يضــع ســياق رســالته يف مســرة حياتــه فســرد لــه كيــف تتالــت األقــدار إىل أن‬
‫واجــه فرعــون قــال تعــايل (‬
‫ُخَرى‬
‫ك َمَّرًة أ ْ‬
‫‪َ 1‬ولََق ْد َمنـَنَّا َعلَْي َ‬
‫وحى‬
‫ك َما يُ َ‬ ‫‪ 2‬إِ ْذ أ َْو َحيـْنَا إِ َل أ ُِّم َ‬
‫‪85‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫ـوت فَاقْ ِذفِيـ ِـه ِف الْيـ ِـم فـ ْليـ ْل ِقـ ِـه الْيـ ُّـم ِب َّ ِ‬ ‫‪ 3‬أ َِن اقْ ِذفِيـ ِـه ِف التَّابـ ِ‬
‫لســاح ِل َيْ ُخـ ْذهُ‬ ‫َّ َ ُ َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صنَـ َـع َعلَــى َعْيـ ِـي‬ ‫ـك َمَبَّ ـةً ّمـ ِّـي َولتُ ْ‬ ‫ـت َعلَْيـ َ‬ ‫َعـ ُـد ٌّو ِّل َو َعـ ُـد ٌّو لَّــهُ َوأَلْ َقْيـ ُ‬
‫ـاك إِ َل‬ ‫ِ‬
‫ـول َهـ ْـل أ َُدلُّ ُكـ ْـم َعلَــى َمــن يَ ْك ُفلُــهُ فـََر َج ْعنَـ َ‬ ‫ـك فـَتـَُقـ ُ‬ ‫ُختُـ َ‬ ‫‪ 4‬إِ ْذ تَْشــي أ ْ‬
‫ـون‬ ‫ـاك ِمـ َـن الْغَـ ِّـم َوفـَتـَنَّـ َ‬
‫ـاك فـُتُـ ً‬ ‫ـت نـَْف ًســا فـَنَ َّجيـْنَـ َ‬
‫ـك َكـ ْـي تـََقـَّـر َعيـْنـَُهــا َوال َْتـَـز َن َوقـَتـَْلـ َ‬ ‫أ ُِّمـ َ‬
‫ِ‬ ‫فـلَبِثْـ ِ ِ‬
‫ـت َعلَــى قَـ َـد ٍر َي ُم َ‬
‫وســى‬ ‫ني ِف أ َْهـ ِـل َم ْديـَ َـن ُثَّ جْئـ َ‬ ‫ـت ســن َ‬ ‫َ َ‬
‫ك لِنـَْف ِسي) (سورة طه ‪)41-37‬‬ ‫اصطَنـَْعتُ َ‬ ‫‪َ 5‬و ْ‬
‫هكــذا بــن ملوســى مســرة حياتــه ‪ ،‬وعندمــا ذهــب موســى لفرعــون كان‬
‫‪85‬‬
‫سـؤال فرعــون عــن تفســر التاريــخ ( فمــا ابل القــرون األوىل ) ‪ ،‬مل هلكــت ومــا‬
‫احلكمــة يف هالكهــا وهــل هلــا مــن حســاب ‪ ،‬إهنــا أســئلة ليــس جبديــدة ‪ ،‬بــل‬
‫كانــت تســأل بعمــق حــى يف زمــن األولــن ومــن ق ـرأ كتــاب ثيوســيديدس عــن‬
‫احلــرب بــن أثينــا و اســبارطة يتبــن لــه ذلــك العمــق ‪.‬‬
‫يف القــرآن جنــد األســلوب القصصــي أحــد األســاليب املهمــة هلدايــة النــاس‬
‫للكيفية اليت يتعاملون هبا مع األحداث ‪ ،‬فقصة يوسف عليها السالم ‪ ،‬كانت‬
‫إلخـراج النــاس مــن غفلتهــم عــن طبيعــة القــدر والتاريــخ وتسلســل األحــداث مــن‬
‫ـص ِبـَـا أ َْو َحيـْنَــا إِلَْيـ َ‬
‫ـك‬ ‫صـ ِ‬
‫َح َسـ َـن الْ َق َ‬
‫ـك أ ْ‬
‫ـص َعلَْيـ َ‬
‫حوهلــم لــذا جــاء يف بدايتهــا (حنـ ُـن نـَُقـ ُّ‬
‫ـن (‪3‬ســورة يوســف )‪.‬‬ ‫ِِ‬ ‫ٰهـ َذا الْ ُقــرآ َن وإِن ُكنـ ِ ِ ِ ِ‬
‫ـت مــن قـَْبلــه لَمـ َـن الْغَافلـ َ‬
‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬
‫القــرآن أعطــاان قــدرة علــى تفســر التاريــخ ‪ ،‬مــن خــال جمموعــة ســنن‬
‫وقوانــن اترخييــة ‪ ،‬أو منطلقــات لفهــم الكــون لكننــا مل نركــب أي منــوذج ومل خنتــر‬
‫قدرتــه علــى التفســر بــل ظلــت دراســات الســنن حبيســة التخصصــات الشــرعية‬
‫وظــل فقــه الســنن أبعــد مــا يكــون عــن الدراســات املســتقبلية والوحــدة القرآنيــة‬
‫لغلبــة املنهجيــة الفقهيــة األصوليــة علــى مــن يكتــب يف هــذا دعــوان نتعمــق أكثــر‬
‫يف ذلــك ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪86‬‬
‫‪87‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫الفصل الرابع‬

‫فقه السنن ‪ :‬مراجعة نقدية‬

‫انتبه رواد النهضة ملوضوع الســنن مبكراً ‪ ،‬فهذا اإلمام حممد عبده ‪ ‬يرســم‬
‫مالمــح هــذا الفقــه ‪ ،‬ومــن بعــده ‪ ‬صاحــب املنــار حممــد رشــيد رضــا ‪ ،‬والعالمــة‬
‫بــن عاشــور يف تفســره التحريــر والتنويــر يذكــر هــذه الســنن يف أكثــر مــن موضــع‬
‫دعي فيهــا احلديــث‬ ‫مــن تفســره ‪ .‬لكــن إذا حاولنــا أن نضــع فــرة زمنيــة اســتُ َ‬
‫‪87‬‬

‫عــن الســنن لســد نقــص ‪ ‬فكــري أو حماولــة لفهــم قضــااي حمــددة ‪ ،‬فإننــا ‪ ‬نــرى‬
‫بوضــوح ‪ ‬أن هــذا املوضــوع صــار ‪ ‬أيخــذ مكانــه الالئــق يف الثمانينــات مــع‬
‫الشــيخ حممــد الغ ـزايل رمحــه هللا ‪ ،‬و بــروز فكــر ســيد قطــب ومتامــه فيمــا بعــد‬
‫رمحهمــا هللا ‪ .‬أبــو بكــر زيــدان ‪ ‬وكتابــه عــن الســنن اإلهليــة أصبــح أيقونــة لــكل‬
‫مــن أراد أن يتحــدث ‪ ‬عــن الســنن يف تلــك الفــرة ‪.‬‬
‫هــذا الســياق لــروز احلديــث عــن الســنن ميكــن أن نفهــم منــه عمقــا يف‬
‫حماولــة فهــم مســألة النهضــة ‪ ،‬وعالقــة ذلــك بفهــم التاريــخ ‪ ،‬خاصــة مــع بــروز‬
‫تيــارات يســارية تنهــل مــن التاريــخ وجدليتــه ‪ ،‬أو ‪  ‬بدايــة االنتقــال مــن العامــل‬
‫الواحــد واأليديولوجيــا إىل حماولــة فهــم الواقــع وفــق قوانــن اترخييــة أو ســنن‬
‫اجتماعيــة ‪.‬‬
‫هنــاك تفســر آخــر للمســري وهــو بدايــة علمنــة الديــن كمــا حــدث‬
‫يف أورواب حــن بــدأ احلديــث عــن قوانــن الطبيعــة والكتــاب املنظــور حــى مت‬
‫إمهــال ‪ ‬الكتــاب املقــروء ‪ ‬وأزيــح الديــن عــن النمــوذج املعــريف !! ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪88‬‬

‫لكــن مــا يبعــد هــذا التفســر هــو أن اجملتمعــات اإلســامية مل تدخــل مرحلــة‬
‫احلداثــة ومل ينشــأ احلديــث عــن الســنن مــن فـراغ بــل مــن آايت واضحــة ‪  ،‬أي‬
‫أن الــدال علــى ذلــك الفقــه هــو النــص ‪ ‬نفســه الــذي خيتلــف بطبيعتــه عــن النــص‬
‫والبيئــة الــي مالــت إىل الزمنيــة يف أورواب وانتقلــت مــن العلمانيــة اجلزئيــة إىل‬
‫العلمانيــة الشــاملة ‪.‬‬
‫أايً كان األمــر فــإن ‪ ‬احلاجــة إىل فقــه الســنن ملحــة ‪ ،‬حلاجتنــا لبنــاء علــم‬
‫اتريــخ علــى غـرار علــم ابــن خلــدون رمحــه هللا فهــو األســاس يف هــذا املوضــوع ‪،‬‬
‫كمــا أن ابــن تيميــة وحديثــه عــن األمــر القــدري بدايـةً حقيقيـةً هلــذا الفقــه ‪ ،‬أمــا‬
‫الشــاطيب فحديثــه عــن العــادات ( الســنن ) يف املوافقــات و إن كان حبجــم أقــل‬
‫إال أنــه مهــم ‪ ،‬خاصــة يف إدخــال موضــوع املقاصــد بعمــق يربــط هــذه املقاصــد‬
‫أبصــول الفقــه والفقــه العــام ‪ ‬الــذي يلتصــق حبيــاة النــاس ‪.‬‬
‫و مــن خــال متابعــة بعــض هــذه الكتــب وهــي يف العــادة إمــا مشــاريع‬
‫فكريــة أو حبــوث دراســات عليــا ‪ ،‬جنــد غلبــة التأصيــل والتقعيــد‪ ،‬مــن خــال‬
‫حماولــة فهــم الســنن لغــوايً‪ ،‬مث بيــان أمهيــة فقــه الســنن االجتماعيــة أو اإلهليــة ‪ ،‬مث‬
‫بيــان كــف ميكــن اســتنباط تلــك الســنن مــن القــرآن‪ ،‬مث يبــدأ احلديــث عــن الســنن‬
‫و إفـراد كل ســنة ‪ ‬ابلتأصيــل وبيــان اآلايت الدالــة علــى ذلــك مــن القــرآن وبعــض‬
‫األحــداث التارخييــة الــي تدلــل علــى واقعيــة ومضــاء تلــك الســنن ‪ .‬‬
‫هــذه املنهجيــة هــي الغالبــة س ـواء يف كتــاب أبوبكــر زيــدان‪ ،‬أو حبــوث‬
‫أخــرى للمهتمــن بفلســفة التاريــخ الدكتــور عمــاد الديــن خليــل وعبــد احلليــم‬
‫عويــس ومصطفــى عكاشــة وأمحــد هبشــور وغريهــم ‪ .‬وســنرى فيمــا بعــد تداخــل‬
‫دراســة الســنن مــع دراســة املســتقبل ‪ ،‬وحمــاوالت أســلمة املعرفــة ‪ ،‬ولكــن كل‬
‫تفعــل هــذه الســنن يف فهــم األحــداث‬
‫ذلــك يفتقــد إىل املنهجيــة العمليــة الــي ّ‬
‫‪89‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫نوضــح املنهجيــة الــي نراهــا منهجيــة علميــة ‪ ‬وعمليــة يف وضــع‬


‫والتاريــخ ‪ .‬لكــي ّ‬
‫تلــك الســنن يف ســياق أو متتاليــة مناذجيــة ميكــن أن تكــون أكثــر تفسـراً للواقــع‬
‫‪ ،‬ولكــي تتضــح تلــك املنهجيــة ســنعرضها يف صــورة نقــد عــام لفقــه الســنن كمــا‬
‫عــرض يف بعــض تلــك املراجــع ‪ ،‬وينقســم املبحــث كالتــايل ‪:‬‬
‫إشكالية التعريف ؟‬
‫حتمية السنن وحجيتها ؟‬
‫املنهج ‪ :‬منهجية االستنباط ؟‬
‫‪89‬‬
‫صناعة النماذج ‪ :‬السنن يف السياق االجتماعي ‪.‬‬
‫بعــد أن نتــم ذلــك نكــون قــد وضعنــا األســس الــي ننطلــق منهــا لفهــم ‪ ‬ســنن‬
‫التاريــخ فلنبدأ‪:‬‬

‫إشكالية التعريف ‪:‬‬


‫عــادة مــا تبــدأ األحبــاث املتعلقــة بفقــه الســنن ابحلديــث عــن تعريــف الســنن‬
‫لغــة فهــي الســرة والطريقــة ‪ ،‬وهــي تعــي « القانــون املطــرد احلتمــي» الــذي ال‬
‫يتبدل وال يتحول ‪ .‬و أغلب التعريفات اللغوية كاألزهري والراغب وغريه تدور‬
‫حــول معــي الطريقــة والســرة ‪ )1(.‬لكــن املعــى اللغــوي واملعــى االصطالحــي‬
‫عنــد البعــض قــد يضطــرب فهــي الطريقــة (املتبعــة يف عامــل هللا مــع البشــر بنــاء‬
‫علــى ســلوكهم وأفعاهلــم وموقفهــم مــن شــرع هللا وأنبيائــه ومــا يرتتــب علــى ذلــك‬
‫مــن نتائــج يف الدنيــا واآلخــرة ) عنــد الدكتــور عبــد الكــرمي زيــدان (‪ .)2‬وهــي‬
‫قانــون مطــرد كمــا يذكــر ذلــك الراحــل الشــيخ حممــد الغـزايل يف كتبــه وغــره ‪)3(.‬‬
‫هــذا يعــي أن الســنن االجتماعيــة حســب هــذا املفهــوم أيخــذ معــى الشــرط ‪،‬‬
‫والرتابــط بــن الســبب والنتيجــة والتــازم بــن االثنــن هــو الســنة ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪90‬‬

‫أمــا معــى الطريقــة فهــو اآلليــة أو الســرة املتبعــة يف التعامــل مــع األحــداث‬
‫‪ ،‬مبعــى اإلعــداد واإلمــداد للح ـوادث ‪ ،‬هــذا يقتضــي وجــود خارطــة حمــددة‬
‫يتحــرك هبــا التاريــخ ‪ ،‬وهــذا املعــى ســيقتضي وجــود جمموعــة قوانــن للتاريــخ ‪،‬‬
‫فهــا هنــا قضيتــان جتمعــان املعــى اللغــوي واملعــى االصطالحــي الطريقــة و القانــون‬
‫املطــرد الــذي درج عليــه بعــض املتقدمــن ‪ ،‬فــكل ســنة فيهــا معــى الطريقــة ومعــى‬
‫القانــون كمــا ســيأيت ‪.‬‬
‫يقســم الشــاطيب رمحــه هللا يف املوافقــات العــادات ( الســنن ) إىل ضربــن‬
‫ضــرب ال خيتلــف حبســب األعصــار واألمصــار واألحـوال ‪ ،‬وضــرب خيتلــف مــن‬
‫جمتمــع آلخــر ‪ .‬يقــول الشــاطيب عــن األول و( فيقضــى بــه علــى أهــل األعصــار‬
‫اخلاليــة ‪ ،‬والقــرون املاضيــة ‪ ،‬للقطــع أبن جمــاري ســنة هللا تعــاىل يف خلقــه علــى‬
‫هــذا الســبيل ال ختتلــف عمومـاً كمــا تقــدم ‪ ،‬فيكــون مــا جــرى منهــا يف الزمــان‬
‫احلاضــر حمكوم ـاً بــه علــى الزمــان املاضــي واملســتقبل مطلقــا ‪ ،‬كانــت العــادة‬
‫وجوديــة أو شــرعية )(‪.)4‬‬
‫و يقــول حممــد رشــيد رضــا يف املنــار ( فالســنن هــي النظــام الــذي جــرى‬
‫عليــه أمــر األمــم ) ‪ ،‬لكــن صاحــب املنــار اإلمــام حممــد عبــده كان ـوا يتحدثــون‬
‫عــن ســنة تنــازع البقــاء يف أكثــر مــن موضــع ‪ ،‬وكان حديثــه قــول تعــاىل ( كان‬
‫النــاس أمــة واحــدة ) يف ســورة البقــرة (‪، )5‬وهــذا يشــي ابالرتبــاط هبــذه الســنة‬
‫التطوريــة وربــط الســنن اإلهليــة هبــا ‪ ،‬وهــذا نتــاج ملــا انتشــر يف زمنهــم ‪ ،‬ممــا قــد‬
‫انتهــى علــى األقــل يف جوانــب منــه بعــد اكتشــاف ال‪ DNA‬يف اخلمســينيات‬
‫مــن القــرن العشـرين ‪.‬‬
‫و الغريــب أن أكثــر البحــوث يف هــذا اجملــال ال جتــد عــن البحــث طريقــة‬
‫أو آليــة ( ممــا يســمى ســرد أو ســيناريو) ملــا يتحدثــون عنــه ‪ ،‬وحــى وإن وجــد‬
‫‪91‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫فإنــه غــر متفــق عليــه حــى جيــري قياســه علــى غــره ‪ ،‬والفكــرة الــي نطرحهــا أن‬
‫الســياق القــرآين العــام ‪ ،‬فيــه هــذه الطريقــة ( الــي هــي حقيقــة الســنة ) وهــي‬
‫حمكومــة بقوانــن نفســية حلركــة اإلنســان ‪ ،‬وجمتمعيــة لســلوك اجملتمعــات ‪ .‬لــذا‬
‫ينبغــي أن نراعــي يف الســنن هــذا املعــى ‪ ،‬وفعــل هللا يف األمــم والطريقــة املتبعــة يف‬
‫كل دورة اترخييــة جملموعــة مــن النــاس ‪.‬‬
‫هــذا اإلغفــال هلــذا املفهــوم ‪ ،‬جعــل احلديــث عــن الســنن بعيــداً عــن املعــى‬
‫التفسريي الذي يتكرر يف القرآن ‪ ،‬فكثري من اآلايت ترسم منحنيات واضحة‬
‫ألحـوال األمــم يف السـراء و الضـراء ‪ ،‬وتفاعــل النــاس‪91‬مــع هــذه التحــوالت ‪ ،‬بــل‬
‫وطبيعــة اإلنســان يف كل مرحلــة مــن مراحــل التاريــخ ‪ ،‬أيخــذ شــكالً متوجي ـاً ‪،‬‬
‫يوحــي إبمكانيــة توقــع مســاره ‪ ،‬كمــا أنــه يفتــح ابابً لبنــاء مؤش ـرات لتتبــع هــذا‬
‫املســار ‪( .‬كمــا ســيأيت ) ‪.‬‬
‫يقــول الدكتــور د‪.‬راشــد ســعيد ( لقــد حظــي مفهــوم الســنن وتفســر‬
‫معناهــا يف ال ـراث اإلســامي بكثــر مــن املعــاين ‪ ،‬نتيجــة اختــاف احلقــول‬
‫والتخصصــات واملباحــث الــي تتصــل هبــا مــن زاويــة أخــرى ‪ ،‬وبســبب شــبكة‬
‫العالقــات والتداخــل بــن علــوم املقاصــد والغــاايت وعلــوم الوســائل واألدوات يف‬
‫منظومــة املعرفــة اإلســامية املشـراة ‪ .‬فهنــاك معــى للســنة يف زمــن الرســول صلــى‬
‫هللا عليــه وســلم‪ ،‬ومعــى هلــا يف زمــن اخللفــاء الراشــدين ‪ ،‬ومعــى يف زمــن التابعــن‬
‫‪ ،‬ومعــى عنــد األصوليــن ‪ ،‬وآخــر عنــد الفقهــاء ‪ ،‬ومفهــوم هلــا عنــد أهــل الدعــوة‬
‫واحلســبة ‪ ،‬ومفهــوم عنــد علمــاء العقيــدة ‪ ،‬وآخــر عــن علمــاء التفســر)‪)6(٠‬‬
‫هــذا االختــاف لــه ســبب أخــر ‪ ،‬وهــو أن البحــث يف الســنن ال يـزال يف‬
‫بدايتــه‪ ،‬ومل يكــن هنــاك هــدف ســوى إثبــات معــى الســنن ووجودهــا يف القــرآن‬
‫‪ ،‬وإثبــات أن خمالفــة هــذه الســنن هــو ســبب للهــاك والعقــاب (‪،)1,2,6,5‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪92‬‬

‫ومل يكــن املنطلــق هــو إجيــاد منــوذج تفســري للواقــع ‪ ،‬فليــس هنــاك مناقشــة‬
‫منهجيــة للربــط بــن النمــاذج التفس ـرية والعلــوم املختلفــة ‪ ،‬لــذا كان احلديــث‬
‫عــن أســلمة املعرفــة وعــن فقــه الســنن وعــن املقاصــد وعــن فلســفة التاريــخ بينهمــا‬
‫فصــال ‪ ،‬ومل خنــرج مــن ذلــك بنمــوذج يفســر األحــداث‪ ،‬أو ميكننــا مــن خاللــه‬
‫بنــاء اسـراتيجية لفهــم الصراعــات القائمــة ‪ ،‬ألن الرتكيــز علــى القيــم األساســية‬
‫لإلســام وليــس الوصــول إىل منــوذج فيــه رســم مشــهد أو ســرد ميكــن أن يفســر‬
‫الواقــع يف جزئياتــه أو التعامــل مــع كلياتــه ‪ .‬املقصــد أن الغايــة مــن فقــه الســنن مل‬
‫تكــن هــو التفســر للواقــع‪ ،‬و إمنــا كانــت يف بدايتهــا‪.‬‬
‫« يف مرحلــة الفكــر ينبغــي أن يفهــم بعضنــا بعض ـاً ‪ ،‬ألنــه مل تولــد بعـ ُـد‬
‫املصطلحــات ومل توضــع إبزائهــا معــان حمــددة ‪ ،‬بــل تكــون فكــرة حيــاول ‪ ‬املفكــر‬
‫أن يســتولدها وأن يســتنبطها ‪ ،‬مث بعــد ذلــك جتلــس اجلماعــة العلميــة وحتــاول‬
‫أن جتعــل هلــا لفظ ـاً ‪ ،‬وأن تصنــع مصطلح ـاً ‪ ،‬تيســر عليــه التحــول مــن فكــر‬
‫إىل ‪ ‬علــم »‪.)1 (.‬‬
‫كمــا أن البعــض ممــن كتــب يف ذلــك ‪-‬ولعــل هــذا مــا نق ـرأه عنــد أبوبكــر‬
‫زيــدان ‪ -‬كان لــه عالقــة بســنة اجل ـزاء فهــو يتحــدث عــن ســنة واحــدة بطريقــة‬
‫مغايــرة فمث ـاً يعقــد فصــوالً ‪ ،‬يف فصــل عــن ســنة هللا يف الظلــم والظاملــن ‪،‬‬
‫وآخــر عــن ســنة هللا يف الطغيــان والطغــاة ‪ ،‬ســنة هللا يف املرتفــن ‪...‬اخل (‪. )2‬‬
‫وميكــن مجــع كل هــذا يف ســنة واحــدة وهــي ســنة اجلـزاء ‪ ،‬وهــذا ســيتكرر معنــا يف‬
‫ســنن أخــرى كســنة االبتــاء وســنة اهلدايــة ‪ ،‬فغيــاب التفكــر عــر آليــة حمــددة (‬
‫ميكانــزم ) جعــل التكـرار لنفــس املعــى ‪ ،‬مــع أن القــرآن يف تكـراره ونســقه بــن‬
‫االرتبــاط بــن جمموعــة أحــداث اترخييــة جبامــع واحــد وهــي الطريقــة املتبعــة يف‬
‫تلــك األح ـوال والــي حتكمهــا قوانــن أو ارتباطــات اثبتــة ‪.‬‬
‫‪93‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫و للتوضيــح نقــول مث ـاً أنــه بــدل القــول جب ـزاء هللا يف الظاملــن ‪ ،‬واملرتفــن‬
‫‪ ،‬والعصــاة ‪ ،‬واملتنازعــن ‪ ،‬أو ســنة هللا يف االســتدراج واملكــر ابلظاملــن‪ ...‬اخل‬
‫‪ ،‬فــإن اجلامــع هــو اجلـزاء وأن كل جمتمــع ســينتهي بطريقــة تشــابه مســاره الــذي‬
‫ابتــدأ بــه ‪ ،‬لــذا فهنــاك التفــاف يف املشــهد هــو الــذي يريــد منــا القــرآن تتبعــه‪،‬‬
‫و ليــس جمــرد احلديــث عــن عاقبــة الظلــم والطغيــان ‪ .‬فمثـاً يبــن القــرآن ظاهــرة‬
‫كونيــة مهمــة وهــي أن املنحــى يف هنايتــه يرتفــع ارتفاعـاً قــد خيــدع الظـاّم والطغــاة‬
‫وهــذا مــا حيــدث حــى عنــد وفــاة اإلنســان ممــا هــو مثبــت علميـاً ال جمــال لذكــره‬
‫‪ -‬بتجمــع الكثــر مــن املـواد يف اخلــااي الــي تعطــي اإلنســان قــوة يســميها النــاس‬
‫‪93‬‬
‫راحــة املــوت !!( كمــا ســيأيت )‬
‫و مثـاً عنــد احلديــث عــن ســنة االبتــاء‪ ،‬واحلديــث عــن ســنة اهلدايــة‪ ،‬أو‬
‫مــا يســميه قانــون العمــل‪ ،‬وعنــد احلديــث عــن تــداول األايم ‪ ،‬هــو يف هنايــة‬
‫املطــاف حديــث عــن ارتبــاط ســلوك اإلنســان وتفاعلــه مــع مســار احليــاة والسـراء‬
‫والضـراء ‪ ،‬فــإن قــدرة اإلنســان علــى التفاعــل مــع هــذا التمــوج وهــو حالــة السـراء‬
‫والض ـراء ابختــاذ ســبيل واحــد عــر عنــه الرســول الكــرمي مث ـاً يف دعائــه بقولــه‬
‫خشــيتك يف الســر والعلــن ‪ ،‬والقصــد يف الغــى والفقــر ‪ ،‬كلمــة احلــق يف الغضــب‬
‫والرضــا ‪ ،‬أي املنحــى الثابــت وســط هــذا التمــوج هــو مــا يعــر عــن معــى اهلدايــة‬
‫وحقيقــة اإلميــان ممــا منســيه إمجــاالً ســنة اهلدايــة ‪.‬‬
‫ســنن أخــرى تذكــر بنفــس الطريقــة ‪ ،‬فتصبــح كل عالقــة شــرطية ســنة ‪،‬‬
‫ألن الباحــث ال يســأل عــن الكيــف ‪ ،‬بــل يتخــذ مــن خلفيتــه الشــرعية ( عــادة)‬
‫االســتداللية طريقة يف فهم جمال آخر خمتلف عن العلوم الفقهية ‪ ،‬فالســنة هي‬
‫الطريقــة املتبعــة ‪ ،‬فكــون هللا جييــب املضطــر أو يزيــد الشــاكرين أو ميكــر ابملاكريــن‬
‫‪ ،‬أو ييســر أمــر املتقــن ‪...‬اخل هــذه حقيقــة نؤمــن هبــا ونعمــل مــن خالهلــا ‪ ،‬أمــا‬
‫الس ـؤال عــن الطريقــة الــي تتحــرك هبــا األحــداث لتنتهــي يف صــاحل هــؤالء فهــو‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪94‬‬

‫معــى الســنة لغــة ‪ ،‬وهــو املعــى الــذي ينســجم مــع فهمنــا ملناهــج البحــث وفلســفة‬
‫العلــم ‪ ،‬الــي حتــاول يف هنايــة األمــر أن تفســر الواقــع ‪ ،‬هكــذا بــدون البحــث‬
‫عن آلية قد تكون جامعة و مشــهد ميكن إدراج العديد من املشــاهد يف إطاره‬
‫جنــد أنفســنا نســتعني مبناهــج فقهيــة لدراســة قضيــة خمتلفــة املنطلــق واألهــداف ‪.‬‬
‫كما أن املصطلحات اليت تستخدم قد تكون يف دالالهتا الكلية متشاهبه‬
‫فيحكــم علــي جمموعــة ظواهــر مبصطلحــات خمتلفــة وتكثــر املصطلحــات والســنن‬
‫وهــي يف حقيقــة األمــر تعبــر عــن شــيء واحــد فأظــن مث ـاً أن ســنة االبتــاء‬
‫وســنة التــداول وســنة اهلدايــة مث ـاً هــي حديــث عــن التموجــات الــي حتــدث‬
‫للنــاس فــإن كان األمــر يتعلــق ابلنــاس وحياهتــم فهــو‬
‫ســنة االبتــاء وإن كان ابلتحــوالت الــي حتــدث للجماعــات واجملتمعــات‬
‫يف مســارها بــن السـراء والضـراء ومــا ينــدرج حتتهمــا مــن أحــداث كان احلديــث‬
‫عــن ســنة التــداول ‪ ،‬لكــن وضــع كل ذلــك يف آليــة واحــدة عــر مصطلــح أو‬
‫ســنة اهلدايــة ميكننــا مــن فهــم حتــوالت النــاس النفســية وســلوك اجملتمعــات مــع‬
‫متوجــات التاريــخ وأتثــر التوقــع واليقظــة للمســتقبل حبيــاة النــاس ‪ ،‬وهكــذا يتوحــد‬
‫املصطلــح ليضــم أكــر عــدد مــن املشــاهد كاالبتــاءات ‪ ،‬واألزمــات الــي تصيــب‬
‫اجملتمعــات ‪ ،‬وصناعــة الق ـرارات الــي ترتبــط ابحلالــة االقتصاديــة للمجتمــع ‪،‬‬
‫فتكــون عــن الراصــد حلركــة اجملتمــع علــى املنحــى يف متوجــه ‪ ،‬ف ـرأي النــاس‬
‫والساســة خيتلــف يف السـراء عنــه يف الضـراء ‪ ،‬لــذا فســنة اهلدايــة أو التــداول أو‬
‫االبتــاء فــا مشــاحة يف االصطــاح يف هنايــة األمــر ‪ ،‬هــي الســنة الــي حتكــم‬
‫توقعــات النــاس مــع متوجــات احليــاة ‪ ،‬وإن مل يكــن اإلميــان والصــر علــى البــاء‬
‫و تــداول األايم هــو اهلدايــة بعينهــا فمــاذا تكــون ؟ ‪.‬‬
‫‪95‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫هــذا األمــر أيخــذ أمهيتــه عندمــا هنتــم ابآلليــات الــي تتحــرك األحــداث مــن‬
‫خالهلــا ‪ ،‬وعندمــا يكــون مهنــا هــو اخلــروج بنمــوذج تفســري ‪ ،‬حــن نريــد أن‬
‫خنــرج بنمــوذج جامــع هلــذه الســنن ميكــن حتليــل وتفســر األحــداث مــن خاللــه ‪،‬‬
‫أي عندما يكون املنطلق هو التفكري االسـراتيجي وليس جمرد اســتقراء اآلايت‬
‫الدالــة علــى وجــود ســنن قرآنيــة ‪.‬‬
‫و ينبغــي أن يكــون واضحـاً أن القصــد هنــا ليــس وضــع منــط اثبــت للســنن‬
‫بــل التنبيــه علــى ضــرورة توســيع جمــال النظــر يف فقــه الســنن‪ ،‬و أحــد اخلصائــص‬
‫‪95‬ـة تتغــر حــى يف اجملــاالت‬
‫األساســية هلــذه النمــاذج أهنــا متغــرة ‪ ،‬فاحلقائــق العلميـ‬
‫التطبيقيــة ( علــى عكــس مــا يــردد مــن يكتــب يف فقــه الســنن ) ‪ ،‬فالنمــاذج تتغــر‬
‫وال فــرق بــن العلــوم االجتماعيــة والتطبيقيــة إال يف أدوات البحــث ‪ ،‬لــذا فنحــن‬
‫ال نصــر علــى مــا نطرحــه مــن منــوذج‪ ،‬فــإن وجــد مــن يقتنــع بــه ويســعى لتطبيقــه‬
‫علــى ف ـرات اترخييــة ملعرفــة قدرتــه علــى التوقــع فبهــا و إن اتفقنــا علــى هــذه‬
‫الطريقــة يف التعامــل مــع الســنن فقــد وصــل الكتــاب إىل أهــم أهدافــه‪.‬‬

‫حتمية السنن وخصائصها ‪:‬‬


‫ال خيتلــف الباحثــون كثـراً حــول خصائــص الســنن االجتماعيــة فهــي ســنن‬
‫عامــة ‪ ،‬مطــردة ‪ ،‬ال حتــايب ‪ ،‬ال تتبــدل وال تتحــول وكل ذلــك بنــص القــرآن (‬
‫ولــن جتــد لســنة هللا تبديـاً ولــن جتــد لســنة هللا حتويـاً ) ‪.‬‬
‫يقــول الشــيخ الغ ـزايل رمحــه هللا ( الســنن االجتماعيــة يف القــرآن الكــرمي‬
‫هــي القوانــن املطــردة و الثابتــة ‪ ،‬الــي تشــكل إىل حــد كبــر ميكانيكيــة احلركــة‬
‫االجتماعيــة ‪ ،‬حركــة اجملتمــع ‪ ،‬وتعــن علــى فهمهــا‪ ،‬وكلمــة ســنة تعــي القانــون‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪96‬‬

‫املطــرد الــذي ال يتخلــف إال يف قضــااي الســنن اخلارقــة‪ ،‬أمــا الســنن اجلاريــة فــا‬
‫يــرى اطرادهــا واضح ـاً وصارم ـاً كقوانــن املــادة )(‪. )7‬‬
‫االط ـراد ‪ :‬يعــي عــدم التخلــف ‪ ،‬حــدوث نفــس النتائــج بوجــود عــن‬
‫األســباب ‪ ،‬و إمكانيــة التكـرار ‪ ،‬وهــذا يعــي أن ذكــر هــذه اخلاصيــة يؤكــد معــى‬
‫القانــون‪ ،‬لــذا فقوهلــم االط ـراد مرتبــط مبعــى القانــون أكثــر مــن معــى الطريقــة ‪،‬‬
‫ألن القانــون لــه معــى احلتــم والثبــات واالســتمرارية‪ ،‬أمــا الطريقــة فأنــت تبحــث‬
‫عــن مشــهد متكــرر ينتهــي بنفــس النتائــج ‪ ،‬لكــن املعــى يف هنايــة األمــر متشــابه‬
‫وهــو وجــود عالقــات موضوعيــة وليســت عش ـوائية ‪ ،‬أتخــذ الطابــع العلمــي ‪.‬‬
‫يقــول ابــن عاشــور يف تفســره ملعــى التبديــل والتحويــل الــي تتكــرر يف‬
‫القــرآن الكــرمي يف أكثــر مــن موضــع ‪ ،‬التبديــل تغيــر شــيء ‪ ،‬والتحويــل نقــل‬
‫الشــيء مــن مكانــه إىل غــره وكأنــه مشــتق مــن احلــول وهــو اجلانــب واملعــى ‪ :‬أنــه‬
‫ال تقــع الكرامــة يف موقــع العــذاب و ال يــرك عقــاب اجلــاين وعلــى هــذا املعــى‬
‫قــول احلكمــاء ‪ :‬مــا ابلطبــع ال يتخلــف وال خيتلــف ‪ )8( .‬أمــا عبــد الكــرمي‬
‫زيــدان فيصــف األمــر بقولــه (فســنّة هللا تعــاىل اثبتــة ومطــردة وعامــة غــر مقتصــرة‬
‫علــى فــرد دون فــرد وال علــى قــوم دون قــوم ‪ .‬ولــوال ثباهتــا واطرادهــا وعمومهــا‬
‫ملــا كان معــى يف ذكــر قصــص وأخبــار األمــم الســابقة وطلــب االعتبــار مبــا حــل‬
‫هبــم ‪ ،‬ولكــن ملــا كان مــا جــرى هلــم وعليهــم جيــري علــى غريهــم إذا فعلـوا فعلهــم‬
‫‪ ،‬حســن ذكــر قصصهــم وطلــب االعتبــار واالتعــاظ هبــا )‪)2( .‬‬
‫فهي إذا ســنن عامة ‪ ،‬متكررة وهذا معىن اطرادها ‪ ،‬وهي شــاملة فإن كل‬
‫شــيء يف هــذا الكــون سـواء يف اجملــال الطبيعــي أو اجملــال اإلنســاين يف النفــس‬
‫واجملتمع كلها حمكومها بنسق واحد وطريقة متبعه ال تتغري ‪ .‬واآلايت يف ذلك‬
‫واضحــة بــل إن جوهــر اإلســام هــو االميــان ابلقــدر الــذي كتبــه هللا علــى عبــاده‬
‫‪97‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫‪ ،‬لــذا تــرز قضيتــان أساســيتان يف فهــم الســنن وهــي الرابنيــة واحلتميــة ومهــا مــا‬
‫يســتحقان منــا النقــاش واملراجعــة ‪.‬‬
‫و املالحــظ أن الرتكيــز علــى الســببية قــد أوغــل فيــه البعــض حــى صــار‬
‫احلديــث عنهــا أشــبه ابملدرســة الوضعيــة الــي حتدثنــا عنهــا ســابقاً ‪ ،‬لكــن مــا‬
‫خيفف غلواؤها عند هؤالء هو احلديث عن أن هللا خالق األســباب واملســببات‬
‫فهــي ســببية مؤمنــة تنطلــق مــن اإلميــان بتكامــل الكــون وجراينــه بقانــون مســاه عبــد‬
‫الكــرمي زيــدان يف مقالــة أعــاد نشــرها يف كتابــه ابلقانــون الرهيــب ‪.‬‬
‫‪97‬ـخ كان حديثـاً عــن فعــل‬ ‫هــذا املعــى يؤكــد أن احلديــث عــن الســنن والتاريـ‬
‫هللا يف التاريــخ ‪ ،‬وهــذا مــا أكــده أنــور وجــدي يف هنايــة كتابــه االســام وحركــة‬
‫التاريــخ ‪ )9(،‬لكــن دعــوان نقــول أبن مــن كتــب يف هــذا اجملــال أتثــر هــو األخــر‬
‫ابحلديــث عــن القوانــن االجتماعيــة فأغلــب الكتــب األساســية يف هــذا املوضــوع‬
‫كتبــت يف القــرن العش ـرين س ـواء أنــور وجــدي (‪ )2002-1917‬أم كتــاب‬
‫أبــو بكــر زيــدان (‪ ،)2014-1917‬وكان هنــاك تك ـرار لبعــض القضــااي‪ ،‬يف‬
‫الرســائل والكتــب الــي كتبــت بعــد ذلــك ‪ ،‬لــذا فــأي تطــور يف هــذا اجملــال ينبغــي‬
‫أن ينتبــه أبن احلديــث عــن قوانــن اجتماعيــة ( رهيبــة ) هــو حقيقــة قرآنيــة ظاهــرة‬
‫‪ ،‬لكــن القــول ابلقــدرة علــى اليقــن مبطابقــة األحــداث لتلــك الســنن أو حتميتهــا‬
‫هــو جــزء مــن ثقافــة ذلــك العصــر ‪.‬‬
‫فقــد انتشــر احلديــث عــن القوانــن االجتماعيــة ‪ ،‬وعــن التطوريــة الــي‬
‫انتشــرت يف كتــب حممــد عبــده ورشــيد رضــا ‪ ،‬وكــرر ذلــك األســتاذ حممــد الراشــد‬
‫يف كتبــه(‪ ، )10‬لــذا فــإن االميــان ابلقــدر وابألســباب ال يعــي اإلميــان حبتميــات‬
‫ميكــن اجلــزم مــن خالهلــا مبســتقبل األحــداث الــي نعيشــها ‪ ،‬وهــذا ظاهــر ‪ ،‬وهنــا‬
‫يــرز الفــرق بــن النمــاذج االختزاليــة والنمــاذج املركبــة ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪98‬‬

‫فمثالً ميكن القول أن مقتل القذايف أو هروب بن علي هو من سنة اجلزاء‬


‫‪ ،‬فللظــامل هنايــة وج ـزاء مــن جنــس عملــه ‪ ،‬ولكــن ‪ ‬ال ميكــن تفصيــل أحــداث‬
‫أكثــر تعقيــداً واجلــزم ‪ ‬بســنيتها ‪ ،‬فيجــب التفريــق بــن النــص احلتمــي ‪ ‬والواقــع‬
‫الــذي ال ميكــن اجلــزم مبطابقتــه للنــص ‪.‬‬
‫فاحلدث عادة ما يكون مركبا من عناصر متعددة ‪ ،‬أو أحداث متداخلة‬
‫إن شئنا الدقة ‪ ،‬فال ميكن اجلزم بتفسري كامل للحدث من خالل ُسنة واحدة‬
‫وفهــم ذلــك املركــب مــن خــال تعميــم مفهــوم واحــد قــد ال ميــت للحــدث بصلــة‪.‬‬
‫التفريــق بــن حتميــة الســنن كنــص فــرآين نؤمــن بــه وكتحليــل حلــدث يدخــل فيــه‬
‫الفهــم ‪ ‬البشــري هــو مــا جيعلنــا نطالــب ابلتمييــز بــن الســنن ‪ ‬كمفهــوم ‪ ‬قــرآين‬
‫اثبــت ‪ ،‬وبــن قــدرة الــذات العارفــة للواقــع وتفســرها ألحداثــه ‪.‬‬
‫هــذه القضيــة مــن القضــااي الــي أوقعــت الكثــر مــن الكتّــاب يف خــوض‬
‫موضــوع الســنن ببســاطة ال جتــدي السياســي واملــؤرخ يف منهجيــة حبثــه‪ :‬كمــا‬
‫نق ـرأ يف كتــب الشــيخ الدكتــور علــي الصــايب فإدخــال موضــوع الســنن عــادة‬
‫ال ميلــك ‪ ‬قــدرة تفس ـرية للقضــااي التارخييــة الــي يطرحهــا‪ .‬وبــذا كان الســرد‬
‫التارخيــي ‪ ‬هــو املنتصــر يف هنايــة األمــر ‪)11( .‬هنــا جيــب التفريــق بــن الــدروس‬
‫املســتفادة مــن األحــداث التارخييــة كالصــر علــى الفــن وضــرورة وجــود قيــادة‬
‫وضــرورة لــزوم اجلماعــة ‪....‬اخل ‪ ‬كخطــاب أخالقــي‪  ،‬ومفهــوم الســنن كأداة‬
‫مــن أدوات التحليــل والتنبــؤ‪.‬‬
‫التفريــق بــن الســنن كمــا تعــرض يف الكتــب الــي تناولــت هــذا املوضــوع‬
‫بعــرض كل ســنة ‪ ‬مبفردهــا وعــرض بعــض اآلايت الــي تتحــدث عــن تلــك الســنة‬
‫حمــل البحــث وبــن الســنن كأداة تفس ـرية للواقــع ‪ ،‬جيعلنــا نبحــث عــن أفضــل‬
‫‪99‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫الطــرق لالســتفادة مــن الســنن كمجموعــة قواعــد حتكــم التاريــخ والســلوك‬


‫البشــري ‪.‬‬
‫هــذا يعــي أننــا ‪ ‬جيــب أن نبحــث يف الطريقــة املتبعــة يف االســتنباط مــن‬
‫القــرآن ‪ ،‬وكذلــك كيــف ميكــن وضــع هــذه الســنن يف مجلــة حتليليــة ‪ ،‬شـريطة أن‬
‫نعــرف دائم ـاً أن هــذا الفهــم هــو ‪ ‬شــيء بعيــد عــن النــص واحلتميــة ‪ ،‬بــل هــو‬
‫تصــور معــريف نبــع مــن ثقافتنــا لتفســر الواقــع ‪.‬‬
‫جممــوع النمــاذج والرتاكيــب الــي نســتنبطها يف فهــم الواقــع هــي اجتهــاد‬
‫بشــري ال يؤثــر يف حــال فشــله يف فهــم الواقــع علــى النـ‪99‬ـص القــرآين ‪ ،‬بــل إنــه يبــن‬
‫ضــرورة البحــث عــن منــوذج آخــر لفهــم الواقــع ‪ .‬ولعــل مصطلــح أعلــى تفس ـراً‬
‫وأقــل تفس ـراً هــي الطريقــة الصحيحــة الــي جتعــل ‪ ‬كل االجتهــادات تــدور يف‬
‫جمــال البحــث والتغيــر والتطويــر ‪.‬‬
‫ميكــن أن نضــع اجلهــود الــي حبثــت يف موضــوع الســنن كبدايــة ال بــد‬
‫منهــا للتفريــق بــن األســس واملنطلقــات ‪ ،‬واملفاهيــم واألفــكار ‪ ،‬فهــي مرحلــة‬
‫مهمــة للتأســيس والنقــاش ‪ .‬ونقطــة مهمــة ‪ ‬آخــرى وهــي أن العــرض الســابق‬
‫‪ ،‬يعطــي ‪ ‬املوضــوع ديناميكيــة أكثــر عمليــة ‪ ،‬حلــل لغــز األمــة ‪ ،‬وســر ختلفهــا‬
‫‪ ،‬ومســألة النهضــة ‪ ،‬حبيــث يصبــح النمــوذج اجلديــد أكثــر تفس ـراً للواقــع مبــا‬
‫يتماشــى مــع التغـرات الكونيــة ‪ ‬اهلائلــة الــي حدثــت يف العــامل ‪ ‬وأثــرت يف األمــة‬
‫العربيــة واإلســامية ‪ (. ‬انظــر فيمــا بعــد )‬
‫الوعــي يعلــم الســنن ‪ ،‬يقتضــي وجــود نظريــة ســابقة ‪ ،‬وتبــدأ نظــرة جديــدة‬
‫يف إزاحــة إطــار معــريف ســابق ‪ ،‬وهــذا غــر متوفــر بــل احلديــث يف هــذه الكتــب‬
‫عــن أتســيس علــم للســنن ‪ .‬ولكــن املشــكلة ليســت فقــط يف ‪ ‬االنتقــال مــن‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪100‬‬

‫الفكــرة اىل العلــم ‪ ،‬بــل إن احلاجــة ملحــة ملعرفــة إشــكالية الفكــر والنهضــة الــي‬
‫أدت إىل تعثــر مشــروع النهضــة ‪.‬‬
‫و املعــى أن فقــه الســنن ليــس جمــرد اكتشــاف مــن عــدم ‪ ،‬بــل إن هنــاك‬
‫أســبااب قــد أدت إىل احلديــث عــن الســنن االجتماعيــة ‪ ،‬وهــي تعثــر مشــاريع‬
‫اإلصــاح ‪ ،‬وأتخرهــا يف مالحقــة األحــداث ‪ ،‬وتدهــور مؤشـرات النهضــة رغــم‬
‫تكدس احلديث عن النهضة والرغبة يف التغيري ‪ .‬هذا الســياق مهم ألنه يعطي‬
‫مســألة الســنن صــورة فتــح مرحلــة جديــدة مــن الفكــر يشــكل منوذج ـاً يبــدأ يف‬
‫إزاحــة كثــر مــن املفاهيــم الــي عطّلــت التغيــر والنهضــة ‪.‬‬
‫الدوغماتيــة والعامــل األحــادي كمــا ســبق هــو عائــق فكــري أمــام التغيــر‬
‫‪ ،‬الثنائيــات الــي أرهقــت الفكــر العــريب عائــق آخــر ‪  ،‬وإمهــال قضــااي أساســية‬
‫يف الفكــر االجتماعــي والسياســي ‪ ،‬كالعالقــة بــن احليــز العــام واحليــز اخلــاص‬
‫‪ ،‬أو عالقــة اجملتمــع ابلفــرد وعالقــة الدولــة ابجملتمــع ‪ ،‬ومنــط االســتيالء علــى‬
‫الســلطة ‪  ،‬وشــرعية اجلماعــات الدينيــة يف اجملتمعــات احلديثــة ‪ ،‬وارتبــاط اهلويــة‬
‫مبفهــوم التنميــة ‪ ،‬وصناعــة اسـراتيجية األمــة ‪.....‬اخل ‪)12(.‬كل هــذه القضــااي‬
‫تقتضــي وجــود قواعــد فكريــة ومعرفيــة ‪ ،‬ترتقــي لتؤســس منــاذج سياســية حقيقيــة‬
‫ميكــن التعاطــي معهــا وإبرازهــا كنمــوذج حضــاري فاعــل ‪ ،‬يظهــر يف مؤش ـرات‬
‫تنمويــة حقيقيــة ‪ .‬إذاً احلاجــة إىل فهــم الســنن تقتضــي فهــم ســياق اترخيــي‬
‫للفكــر اإلســامي يــرز أيــن أخفــق هــذا الفكــر ‪ ،‬ومــا هــي قــدرة مناذجنــا الفكريــة‬
‫الســابقة علــى الوصــول إىل حقيقيــة العلــل الــي تعــاين منهــا األمــة ‪.‬‬
‫و هــذا مــا حيــدث حــى يف العلــوم الطبيعيــة عندمــا تفشــل نظريــة يف تفســر‬
‫ظاهــرة كونيــة‪ ،‬يبــدأ التفكــر يف تفســر خــارج إطــار النمــاذج الســابقة ‪ ، ‬وتبــدأ‬
‫‪101‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫النظريــة اجلديــدة يف الــروز والتفســر إىل أن تعطــي تفس ـراً أكثــر قبــوالً لــدى‬
‫اجملتمــع العلمــي وهنــا تصبــح إطــاراً ويف مرحلــة متقدمــة علمـاً ‪ .‬‬
‫الرابنيــة واإلميــان ابلقضــاء والقــدر ال يعــي قدرتنــا علــى التفســر واجلــزم‪،‬‬
‫ألننــا أدواتنــا حمــدودة ‪ ،‬وتعقيــد املشــهد يقتضــي صياغــة منــاذج مبســطة خنتــر بعــد‬
‫ذلــك قدرهتــا علــى التفســر ‪ ،‬بــل ال بــد قبــل ذلــك مــن اكتشــاف النمــاذج الــي‬
‫نســتبطنها يف تفســر األحــداث سـواء علــى صعيــد املعارضــة الــي أتخــذ شــكل‬
‫مجاعــات أو حــركات أو آراء تنتشــر بــن النــاس ‪ ،‬وبــن التفسـرات الــي تنتشــر‬
‫بطريقــة منظمــة عــر دول و مراكــز دراســات ‪101 .‬‬

‫الــذي يســاعد علــى فهــم هــذا األمــر هــو أن القــرآن ملــا جــزم بوجــود الســنن‬
‫وحدثنــا عــن األمــم الســابقة وعــن آجاهلــا وفعــل هللا هبــا ‪ ،‬ذكــر ذلــك يف ســياق‬
‫قــرآين ‪ ،‬هــذا الســياق ميكــن مــن خاللــه رســم مشــاهد حمكومــة هبــذه الســنن ‪ ،‬مث‬
‫نقــوم بعــد ذلــك بقيــاس هــذا املشــاهد علــى الواقــع مــن خــال جمموعــة مؤشـرات‬
‫تتطــور عــر البحــث والوقــت كمــا ســنفصل بعــد قليــل‪ .‬لكــن السـؤال هنــا كيــف‬
‫ميكــن اســتنباط هــذه النمــاذج املركبــة‪ ،‬هــذا هــي املراجعــة األخــرى الــي نعرضهــا‬
‫يف منهجيــة االســتنباط للســنن‪.‬‬

‫منهجية استنباط متعثرة ‪:‬‬


‫إذا كان مــن معــاين الســنة هــو الطريقــة املتبعــة أو الســرة واآلليــة فــإن‬
‫الرتكيــز علــى معــى القانــون هــو اجت ـزاء افرتضتــه خلفيــة معرفيــة ملــن كتــب يف‬
‫هــذا املوضــوع ‪ ،‬و البــد مــن إضافــة معــى االليــة الــي ميكــن تتبــع مشــاهدها عــر‬
‫القــرآن ‪ ،‬دون اجلــزم حبتميــة أو عرضهــا كقوانــن الزبــة ‪ ،‬ألهنــا يف هنايــة األمــر‬
‫تفســر واقع ـاً متغ ـراً عــر نــص قطعــي مطلــق ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪102‬‬

‫هــذا خالصــة مــا ذك ـرانه يف مراجعتنــا ملــا كتــب يف هــذا اجملــال‪ .‬قضيــة‬
‫أخــرى ‪ ‬ينبغــي مراجعتهــا‪ ،‬وهــي أن أغلــب الكتــب الــي تتحــدث عــن الســنن‬
‫ترتبــط ابلقــرآن الكــرمي‪ ،‬ويبــدأ االســتدالل ابلقــرآن دون وجــود منهجيــة واضحــة‬
‫‪ .‬مــاذا نعــي بذلــك ؟‪ ‬‬
‫تفصيــل ذلــك ســنذكره يف الفصــل الــذي نتحــدث فيــه عــن الوحــدة القرآنيــة‬
‫‪ ،‬ولكــن الفكــرة األساســية هــى ‪ ‬أن املنهــج املتبــع عــادة مــا يســتخدم منهــج‬
‫االســتقراء أو مــا يســمى ابلتفســر املوضوعــي عــر تتبــع كل اآلايت الــي حتدثــت‬
‫يف موضــوع واحــد وحماولــة اخلــروج بقاعــدة جامعــة لتلــك اآلايت‪  .‬وهــذا املنهــج‬
‫املستخدم يف أصول الفقه يف كتاب األم للشافعي وما تبعه من كتب األصول‬
‫كاإلمــام اجلويــي يف الربهــان واملصــاحل واملفاســد للعــز بــن عبــد الســام وكتــاب‬
‫املوافقــات للشــاطيب ‪....‬إىل آخــره ‪  ،‬جنــد أنــه ال يصلــح لالســتدالل يف جمــال‬
‫الســنن ‪ .‬ملــاذا ؟‬
‫‪ -1‬أن االســتقراء عــادة مــا يرتبــط ابلوصــول إىل حكــم أو قاعــدة فقهيــة‪،‬‬
‫أمــا الســنن فعــادة مــا يتعلــق األمــر بفهــم ‪ ‬أثــر ســنة معينــة يف أحــداث اترخييــة يـراد‬
‫تفســرها وفهــم مآالهتــا وحماولــة القيــاس علــى أساســها ‪ .‬و هــذا كمــا ذكـران مــن‬
‫ســيطرة معــى القانــون وليــس الطريقــة‪.‬‬
‫‪ -2‬أن ذكــر اآلايت مبتــورة عــن ســياقاهتا خيرجنــا مــن فهــم القــرآن بســياقه‬
‫إىل فهــم الباحــث الــذي يضــع القاعــدة مث يســتدل عليهــا ‪ ،‬فاالســتدالل ابلقــرآن‬
‫الســتخراج أحــكام فقيهــة عــادة ‪ ‬مــا تكــون غــر مقصــودة يف الســياق ‪ ،‬أمــا‬
‫يف موضــوع الســنن فــإن الســياق جنــده يشــرح الســنن شــرحاً فالســياق لــه قيمــة‬
‫عظيمــة يف الفهــم ‪ .‬فيمكــن للفقيــه مثـاً أن يســتدل علــى أقــل مــدة للحمــل مــن‬
‫خــال آايت تتحــدث عــن طاعــة الوالديــن فمثـاً قولــه تعــاىل ( و محلــه و فصالــه‬
‫‪103‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫يف عامــن ) دون أن يكــون الســياق يتجــه حنــو حتديــد هــذه املــدة ‪ ،‬لكــن يف‬
‫احلديــث عــن الســنن يتســع فهمنــا هلــا بقــدر اتســاقنا ابلســياق القــرآين ‪.‬‬
‫‪ -3 ‬أن التقــدم الــذي حصــل يف علــم التفســر وهــو ‪ ‬الوحــدة املوضوعيــة‬
‫يف الســورة والوحــدة القرآنيــة ظــل منفص ـاً عــن حمــاوالت اإلصــاح وحمــاوالت‬
‫ق ـراءة التاريــخ مــن خــال دراســة الســنن األمــر الــذي أدى اىل فصــام معــريف مل‬
‫يفطن له الكثريون ‪ ،‬فبسبب غياب منوذج معريف واضح جند الرتدد بني القرآن‬
‫كمرجــع واملصطلحــات املســتقاة مــن علــوم أخــرى ومــن هنــا كان االضطـراب‬
‫‪103‬ـن هــذا املوضــوع أي ربــط‬ ‫ســيد املوقــف ‪ ،‬و ال جتــد يف الكتــب الــي حتدثــت عـ‬
‫بــن هــذا املنهــج يف التفســر وفقــه الســنن ‪ ،‬وهــذا مــا نريــد التنبيــه عليــه ‪.‬‬
‫‪ -4‬وجــود كثــر مــن املنزلقــات يف حمــاوالت يل أعنــاق النصــوص لغــر‬
‫مــا نزلــت لــه مــن أجــل إثبــات حقائــق معينــة أو إثبــات نظريــة إصالحيــة أو‬
‫أيديولوجيــا معــدة مســبقاً ‪ ،‬وهــذا كمــا حــدث يف الفقــه لكثــر مــن أصحــاب‬
‫املذاهــب حــن يغلبــون مشــهور املذهــب علــى املعــى الواضــح لــآايت ‪.‬‬
‫‪ -5‬ملــا أتكــد معــى القانــون كان اســتخدام أســاليب الشــرط لالســتدالل‬
‫علــى هــذه القوانــن دون مراعــاة اخلصائــص الــي ذكــرت يف فقــه الســنن اإلهليــة‬
‫أبهنا تســرى على الكافر واملؤمن فمثالً يتحدثون عن ســنة االســتخالف (نصر‬
‫هللا يســتحقه املؤمنــون الذيــن يتبعــون رس ـوله ويطيعــون شــرعه وينصــرون دينــه )‬
‫(‪ . )٢‬وغــر هــذا كثــر ممــا يدخــل فيــه األمــر الشــرعي مــع األمــر القــدري مبعــى‬
‫أن وجــود مواصفــات و فعــل حمــدد مــن املؤمنــن يقتضــي نتائــج بعينهــا ‪ ،‬وهــذا‬
‫ال ميكــن إنــكاره؛ لكــن القــرآن رغــم اســتخدامه هلــذا األســلوب إال أن مفهــوم‬
‫الســنن كان يعــرض بطريقــة ختتلــف ‪ ،‬يظهــر فيهــا هــذا السـراين عــر مشــاهد مــن‬
‫التاريــخ وآليــة تظهــر يف القصــص القــرآين ‪ ،‬وســرد الطريقــة الــي ينصــر هللا هبــا‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪104‬‬

‫املؤمنــن ‪ ،‬ويســتدرج هبــا الظاملــن ‪ ،‬و يفاجــئ هبــا الغافلــن ‪ ،‬ويبســط الــرزق‬
‫للمرتفــن ‪ ،‬و يرفــع درجــات العاملــن ‪ ،‬و يســخر فيهــا الكــون للعاملــن ‪ ،‬ويقــدم‬
‫ويؤخــر ويســتخلف املســتخلفني ‪ ،‬يدفــع النــاس بعضهــم ببعــض ‪ ،‬ويســن القتــال‬
‫بــن املختلفــن ‪ ،‬و يــورث األرض مــن يشــاء مــن عبــاده الصاحلــن ‪ .‬الســنن‬
‫ليســت يف تكـرار هــذه املعــاين بــل بفهــم الســياق الــذي يرســم خارطــة ذهنيــة‬
‫جتعــل مــن هــذه املعــاين آلــة تفس ـرية لواقــع مركــب ظــل غامض ـاً يفاجئنــا‬
‫مبفاجــآت ال تغــي معهــا دندنتنــا عــن فقــه الســنن و أمهيتــه ‪.‬‬
‫ســنفصل هــذه القضــااي يف الفصــل القــادم ‪ ،‬ونضــع إطــاراً للربــط بــن‬
‫الوحــدة القرآنيــة وفقــه الســنن ‪ ‬وفهــم حركــة التاريــخ ‪ .‬أمــا النقطــة الــي جيــب أن‬
‫نذكرهــا وحنــن يف بدايــة عرضنــا هلــذا النمــوذج ‪ ،‬هــو التفريــق بــن األمــر الشــرعي‬
‫واألمــر القــدري ‪ ،‬فهــو مقدمــة مهمــة حــى ال خنلــط بــن األمريــن فنحــن يف فقــه‬
‫الســنن نتحــدث عــن أوامــر قدريــة كونيــة ‪ ،‬فكيــف نفــرق بينهمــا ومــا أمهيــة ذلــك‬
‫يف فقــه الســنن اإلهليــة ؟‬

‫األوامر القدرية والكونية ‪:‬‬


‫هنــا البــد مــن التفريــق بــن مفهومــن أساســيني سيســتمر احلديــث عنهمــا‬
‫يف بقيــة هــذا الفصــل مهــا ‪:‬‬
‫‪ -‬األمر القدري ‪.‬‬
‫‪ -‬األمر الشرعي ‪.‬‬
‫وهــذا املوضــوع غايــة يف األمهيــة ابلنســبة لبحثنــا ألنــه يتعلــق ابلفكــر‬
‫الفلســفي والفكــر الديــي والعالقــة بينهمــا‪ .‬ويتعلــق كذلــك ابلتمييــز بــن األمــر‬
‫‪105‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫الشــرعي واألمــر القــدري واملنــاط الــذي ينبغــي أن يتنــزل فيــه هــذا احلكــم ومــا‬
‫حيكمــه مــن ســنن وقوانــن ‪.‬‬
‫يقســم العلمــاء األحــكام إىل حكــم شــرعي وحكــم قــدري كــوين ( هــذه‬
‫تســمية اإلمــام ابــن تيميــة وأصلهــا قولــه تعــاىل إمنــا أمــره إذا أراد شــيئاً أن يقــول‬
‫لــه كــن فيكــون اآليــة ) ‪ ،‬وقــد يطلــق عليهــا مـراد شــرعي وكــوين أو قضــاء أو أمــر‬
‫علــى اختــاف التســميات واخلــاف فيهــا ال يعنينــا اآلن ‪ .‬وابــن تيميــة يبحــث‬
‫يف لفــظ القــدرة ‪ ،‬ويفضــي بــه البحــث إىل أن لفــظ القــدرة يتنــاول نوعــن ‪( :‬‬
‫‪ 105‬منــاط األمــر والنهــي ‪( .‬‬
‫أحدمهــا ) القــدرة الشــرعية املصححــة للفعــل الــي هــي‬
‫الثــاين ) القــدرة القدريــة املوجبــة للفعــل ‪ ‬الــي هــي مقارنــة للمقــدور وال يتأخــر‬
‫عنهــا ‪ .‬ومــن ذلــك قولــه تعــاىل ( فاتقـوا هللا مــا اســتطعتم ) لــو أراد اســتطاعة ال‬
‫تكــون إال مــع الفعــل ‪ ,‬لــكان ‪ ‬قــد قــال فافعلـوا منــه مــا تفعلــون ‪ ،‬فــا يكــون مــن‬
‫مل يفعــل شــيئاً عاصيـاً لــه ( ‪.)13‬‬
‫و كتــب ابــن القيــم طافحــة ابلتمييــز بــن القضــاء القــدري والشــرعي سـواء‬
‫يف هتذيــب مــدارج الســالكني أو يف طريــق اهلجرتــن أو شــفاء الغليــل يف منــازل‬
‫القــدر والتنزيــل فقولــه تعــاىل مث ـاً ( وقضينــا إىل بــي ‪ ‬إس ـرائيل يف الكتــاب‬
‫لتفســد ّن ‪ )...‬هــو قضــاء قــدري أمــا قولــه تعــاىل ( وقضــى ربــك أال تعبــدوا‬
‫إال إايه ) قضــاء شــرعي‪ )14(.‬ولعلنــا ســنعود إىل مدرســة ابــن تيميــة لكننــا‬
‫نعطــي مثــاالً يوضــح الفــارق بــن االثنــن فننقــل عــن ابــن خلــدون قولــه( اعلــم‬
‫أن امللــك غايــة طبيعيــة للعصبيــة وليــس وقوعــه منهــا اختيــاراً إمنــا هــو بضــرورة‬
‫الوجــود ‪ ‬وترتيبــه كمــا قلنــاه مــن قبــل‪ ،‬وأن الش ـرائع والــدايانت وكل أمــر حيــل‬
‫ذم‬
‫عليــه اجلمهــور فالبــد فيــه مــن العصبيــة) ‪ ‬مث قــال ( مث وجــدان الشــارع قــد ّ‬
‫العصبيــة ونــدب إىل إطراحهــا وتركهــا فقــال « إ ّن هللا أذهــب عنكــم عبيــة (‬
‫الفخــر) اجلاهليــة وفخرهــا آبابئهــا ‪ )...‬مثّ أجــاب عــن هــذا التعــارض بقولــه (‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪106‬‬

‫وليــس م ـراده ‪ -‬أي الشــارع‪ -‬فيمــا ينهــى عنــه أو يذمــه مــن أفعــال البشــر أو‬
‫ينــدب إىل تركــه وإمهالــه ابلكليــة أو اقتالعــه مــن أصلــه وتعطيــل القــوى الــي ينشــأ‬
‫عنهــا ابلكليــة إمنــا قصــده تصريفهــا يف أغ ـراض احلــق جهــد االســتطاعة)‪.‬ص‬
‫‪ .138‬و هــذا الــذي قالــه ابــن خلــدون هــي األخــرة ‪ ‬دون األوىل ‪  ،‬ذلــك أن‬
‫البحــث يف أمــور السياســة قــد اقتصــر علــى األحــكام الشــرعية ‪ ،‬وال يعــي هــذا‬
‫عــدم االعتنــاء ابألحــكام القدريــة ‪ ،‬إال أهنــا مل تنتظــم ذلــك النظــم الــذي عرضــه‬
‫ابــن خلــدون يف مقدمتــه‪  .‬حــاول اإلمــام حممــد عبــده وصاحــب املنــار التنبيــه إىل‬
‫غفلــة املســلمني عــن علــم الســنن ( راجــع املنــار ص‪ 500‬ج ‪ )7‬لكــن املشــكلة‬
‫تظــل يف رســم العالقــة بــن القــدر والشــرع أو بــن الفكــر الفلســفي والديــي ‪.‬‬
‫وهــذا يعــي مــن الناحيــة العمليــة أن إجيــاد هــذه املعادلــة ســيجعل لتطبيــق‬
‫األمــر الشــرعي أث ـرا يف التاريــخ والواقــع‪ ،‬وســيبدأ مســار جديــد للتاريــخ‬
‫واألحــداث‪  .‬ومثــال بســيط علــى ارتبــاط األمريــن مع ـاً‪ ،‬هــو قولــه تعــاىل ( إذا‬
‫لقيتــم الذيــن كفــروا زحفــا فــا تولوهــم األدابر )‪  .‬ينقــل ‪ ‬الدكتــور جمــدي عاشــور‬
‫أن ســبب ذلــك ‪ ‬النهــي هــو مــا يوقعــه التــويل مــن اهلزميــة الشــنيعة والتقتيــل ‪(..‬‬
‫ص‪. )387 - 386‬‬
‫ورغــم أنــه ينقــل عــن املفس ـرين وصحيــح البخــاري ‪ ،‬إال أن ابــن خلــدون‬
‫بــن فيــه معــى أوىل مــن هــذا الــذي ذكــره‪ :‬فــإن العــرب كان ـوا يغــزون علــى‬
‫طريقــة حــرب العصــاابت ابلنفــرة ‪ ،‬ومل تعــرف جزيــرة العــرب الزحــف وتقســيم‬
‫الصفــوف إال مــع اإلســام ‪ ،‬لــذا كان التــويل يــوم الزحــف هــو خــروج عــن خمطــط‬
‫متكامــل ‪ ‬للحــرب ‪.‬‬
‫فالبحــث هنــا خمتلــف متام ـاً عــن معــى الصــر والثبــات والســمع والطاعــة‬
‫مقارنــة ابحلديــث عــن تكنيــك احلــرب وأثــر املعصيــة ســيكون أكــر ملــا يلحقــه مــن‬
‫‪107‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫هزميــة يف الصــف املتماســك ‪ .‬ال ميكننــا أن نتحــدث عــن هــذا املوضــوع مبعــزل‬
‫عــن كتــاب الدكتــور أبــو يعــرب املرزوقــي وحــدة الفكريــن الفلســفي والديــي ‪.‬تــرز‬
‫أمهيــة فيلســوفنا يف أنــه يلــم شــعث كثــر مــن القضــااي الــي ظلــت لفــرة مــن الزمــن‬
‫غــر مرتبطــة بعضهــا ببعــض ‪.‬‬
‫فاحلديــث عــن الفكــر الديــي والفكــر الفلســفي ومســألة الديــن والسياســة‬
‫ومركزية احلضارة الغربية و الغربنة والعالقة مع اآلخر ‪.....‬اخل ‪ ,‬هذه القضااي‬
‫ابإلضافــة حلديثنــا عــن الســنن واألمــر القــدري واألمــر الشــرعي هــي قضــااي تبــدو‬
‫‪107‬الدكتــور أبســلوب علمــي‬ ‫خمتلفــة لكنهــا يف الواقــع هــي قضــااي أساســية مجعهــا‬
‫رصــن يف كتابــه ‪.‬‬
‫والواقــع أن تلخيــص الكتــاب مــن الصعوبــة مبــكان ‪ ،‬و حنــاول أن نوضــح‬
‫مــن هــذه املدرســة مــا خيــص حبثنــا وهــو عالقــة األمــر الشــرعي ابألمــر القــدري‬
‫وعالقــة ذلــك مبســائل غايــة يف األمهيــة كعالقــة الديــن ابلسياســة ‪ ,‬طبيعــة‬
‫العالقــة بــن احلضــارات ‪.....‬اخل ‪.‬‬
‫أحيــاانً جتــد عنــد املفكــر مجــا تعــر عــن حمتــوى فكــره يضعهــا ليلخــص مــا‬
‫يدور يف ذهنه ‪ ,‬ولكن اكتشــاف هذا النص الثمني ليس ابألمر اهلني ‪ ،‬ولكن‬
‫حنــاول أن نذكــر مــا حنســبه كذلــك ‪ ,‬فمثــا يقــول الدكتــور أبــو يعــرب يف كتابــه‬
‫الوحــدة بــن الفكريــن الفلســفي (‪ )١٥‬والديــي مايلــي ‪:‬‬
‫(اليــكاد أحــد ينكــر أن احلضــارة اإلســامية قــد حتــددت يف القــرآن الكــرمي‬
‫معرفـةً ذاهتــا‪...‬‬
‫ّ‬
‫بكوهنا ‪ :‬حضارة ذات رسالة خامتة أوال ‪.‬‬
‫آيتها معجزة إبداعية اثنياً ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪108‬‬

‫وفكرهــا ســاع إىل التوحيــد بــن الديــن الطبيعــي والديــن املنــزل يف مفهــوم‬
‫الفكــرة اثلث ـاً ‪.‬‬
‫ابالستناد إىل موقف أساسه نقد التجارب الدينية السابقة رابعاً ‪.‬‬
‫وإىل ســلطان اإلمجــاع االجتهــادي بديـاً مــن الســلطان الروحــي املعصــوم‬
‫أخ ـراً‪)....‬‬
‫والــذي جيمــع كل هــذه امليـزات احلضاريــة هــو انتهــاء ظاهــرة الوحــي وختــم‬
‫النبــوة مبعجــزة خالــدة‪ ،‬فيهــا قــدرة علــى التحــدي ‪ ،‬و قفــل البــاب أمــام أي‬
‫ســلطان روحــي معصــوم ميثــل امللجــأ مــن اخلطــأ واحلــرز مــن التاريــخ ‪ .‬كل ذلــك‬
‫مل يتحقــق إال بقــدرة هــذا الديــن علــى اجلمــع أو التوحيــد كمــا يــرى الكاتــب بــن‬
‫الديــن الطبيعــي والديــن املنــزل ‪.‬‬
‫مث يقــول «وقــد اســتدلت علــى اتصافهــا هبــذه الصفــات أبدلــة مســتمدة‬
‫مــن اجملــاالت التاليــة ‪:‬‬
‫‪-١‬جمال نظرية الطبيعة خلقاً ( النظام الطبيعي والوجود )‬
‫‪-٢‬وجمال نظرية الشريعة أمراً ( النظام اخللقي والشرع )‬
‫‪-٣‬وجمــال نظريــة الوحــدة الكليــة بينهمــا يف القيــام السياســي االجتماعــي‬
‫لإلنســان عامــة ‪ ,‬دون متييــز عرقــي أو طبقــي ‪ ,‬ودون فصــل بــن اخللــق واألمــر ‪.‬‬
‫ويشرح النقطة الثالثة ‪-‬نذكرها ألمهيتها ‪ -‬كالتايل ‪:‬‬
‫الدليــل التارخيــي اخللقــي متثلــه كل اآلايت الــي تدعــو لتدبــر أحــداث‬
‫األمــم اخلاليــة ‪ ،‬خاصــة اتريــخ الرســاالت الســابقة ‪ ،‬جممــل الــدالالت يف هــذا‬
‫البــاب هــو اســتبدال االحتــكام إىل مســتقبل غــر حمــدد حــى ولــو كان منظــوراً‬
‫ابالحتــكام إىل التاريــخ يف اجملــال القيمــي ‪ .‬والعلــة بينــة ‪ :‬فمــن جيعــل الديــن‬
‫‪109‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫مســؤولية دنيويــة لتحقيــق القيــم ال ميكــن أن يــرد األمــر إىل اآلخــرة إبطــاق ‪ ،‬بــل‬
‫البــد مــن اعتبــار احليــاة الدنيــا أيضـاً غــر خارجــة عــن اجلـزاء والعقــاب ‪ .‬ويكــون‬
‫هــذا اجلـزاء والعقــاب ابلتدافــع ‪ :‬فاألمــة الــي جتاهــد يف ســبيل هللا مكلفــة حبفــظ‬
‫قيــم الديــن ‪ ،‬ومــن مث الدفــاع عــن القيــم ‪ ،‬واحليلولــة دون العــدوان عليهــا وال‬
‫نبحــث هنــا عــن صحــة هــذا املوقــف أو عــدم صحــة ‪ .‬مــا يهمنــا هــو تناســقه‬
‫مــع النظــرة إىل وظيفــة العقيــدة الدينيــة الــي ال ميكــن فيهــا الفصــل بــن الدنيــوي‬
‫واألخــروي ‪ ،‬وبــن التاريــخ ومــا بعــده إال ابملعــى الــذي حيــول دون توثينهمــا ‪.‬‬
‫‪-٤‬وجمــال نظريــة الوحــدة اجلزئيــة احليــة بينهمــا‪109‬يف قيــام املوحــد العضــوي (‬
‫اجلســم ) واملعنــوي ( الــروح) للشــخص اإلنســاين دون ‪:‬‬
‫‪ -٥‬فصل بني األمر واخللق ‪.‬‬
‫‪ -٦‬وأخـراً جمــال نظريــة الوحــدة اجلامعــة بــن األبعــاد الســابقة مبــا هــي عــن‬
‫آية اآلايت ‪.‬‬
‫و لــو رك ـزان يف شــرحه جملــاالت النظــر وحماولــة إثبــات التناغــم بــن هــذه‬
‫اجملــاالت ومــا يرتتــب علــى ذلــك مــن « ختليــص اإلنســانية مــن الفصــل بــن‬
‫الديــي والسياســي ‪ ،‬أو بــن الروحــي والزمــاين ‪ ,‬وبــن مــا بعــد التارخيــي والتارخيــي‬
‫بفضــل الكشــف عــن األصــل الواحــد املتقــدم عليهــا مجيعـاً » ‪ ,‬أٌقــول إذا ركـزان‬
‫يف ذلــك ســنصل إىل نتيجــة مفادهــا أن حركــة التاريــخ تثبــت وجــود قيــم حمــددة‬
‫هــي الــي كانــت وراء تــداول األايم وتبــدل األح ـوال ‪ ،‬مــن حيــث وجودهــا‬
‫وغياهبــا قيام ـاً وســقوطاً ‪ ،‬وأن الديــن جــاء حلراســة هــذه القيــم ‪.‬‬
‫ومــن مث تتناغــم األحــكام الشــرعية مــع حركــة اجملتمــع‪ ،‬وبــذا ينتهــي الفصــل‬
‫الــذي عرفتــه الفلســفات األفالطونيــة التوراتيــة اجلرمانيــة احملدثــة والــي يف جمملهــا‬
‫حتــاول أن تثبــت إمكانيــة هــذا «الفصــل »مــن خــال علــل داخليــة تعــر عنهــا‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪110‬‬

‫اجلدليــة التارخييــة مبــا انتهــى ابلبشـرية إمــا إىل وحــدة الوجــود مــن خــال تفاعــل‬
‫النظــام الطبيعــي مــن داخلــه بــدون علــة خارجــة عنــه ‪ ،‬أو وحــدة الوجــود‬
‫التارخييــة ( شــعب هللا املختــار) كمــا طــورت فيمــا بعــد مــع املاركســية ‪.‬‬
‫و ال يفــرق هنــا بــن هيجــل وماركــس أو بــن املثاليــة املعاصــرة ونقيضتهــا‬
‫املادية أبشكاهلا املختلفة ‪ ,‬فهي « ليست إال صياغة الهوتية صوفية مستمدة‬
‫مــن جمــازات ســطحية ( مثــل املقارنــة مبراحــل نضــوج النبــات ‪ ,‬أو املقارنــة بــن‬
‫مراحــل حيــاة الفــرد وحيــاة اجلماعــة ‪ ,‬وكلهــا مقــارانت ســطحية ال تــدل علــى‬
‫شــئ‪ )...‬أو قياســات لفظيــة ( مثــل املقارنــة بــن الثالــوث وحــدود القيــاس ‪,‬‬
‫والتثليــث املســيحي إخل مــن ســطحيات هيجليــة خاصــة ) ومهدويــة تســعى إىل‬
‫حتقيــق مــا يســمى مبدينــة هللا يف األرض ‪ ،‬إذ املاديــة التارخييــة ليســت يف احلقيقــة‬
‫إال ذروة وحــدة الوجــود الطبيعيــة ‪ ،‬حيــث يعتــر اإلنســان والتاريــخ غايــة التطــور‬
‫املــادي ‪ ،‬وهــو املدلــول احلقيقــي للماديــة اجلدليــة الــي هــي عــن الروحانيــة اجلدليــة‬
‫‪. )......‬‬
‫هــذا النــص مــن أوضــح مــا يكــون يف كالم الدكتــور أبــو يعــرب املرزوقــي‬
‫‪ ،‬فــكل هــذه الفلســفات تســتند يف هنايــة األمــر حماولــة تفســر احليــاة يف اجملــال‬
‫الطبيعــي والتارخيــي دون اللجــوء إىل وجــود إعجــاز خلقــي فعيســى خلــق مــن‬
‫أب وأم للوصــول إىل معــي طبيعــي ‪ ،‬واليهــود شــعب هللا املختــار مبــا يلغــي أي‬
‫تغ ـرات اترخييــة معجــزة كنقــل الرســالة مــن أمــة إىل أمــة مبــا هــي عمليــة اترخييــة‬
‫أشــبه ابخللــق ‪.‬‬
‫و كالمــه عــن االحتــكام إىل التاريــخ بــدال عــن االســتبدال إىل مســتقبل‬
‫غــر حمــدد ‪ ،‬يشــرحه قولــه « فاملاضــي الــذي يعتــر حــداثً خالص ـاً ينفــي عنــه‬
‫‪111‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫التناهــي املعــى الالحــق ليــس إال اهلويــة مبعناهــا الطبيعــي الومهــي ( طبيعــة اثبتــة‬
‫ال تتغــر) ‪.‬‬
‫و املســتقبل الــذي يعتــر معــى خالصـاً ينفــي عنــه التناهــي احلــدث الالحــق‬
‫ليس إال اهلوية مبعناها الشــرعي الومهي ( حكم شـريعي حتكمي ) ‪ ”.‬واحلاضر‬
‫عندما ال نعتربه وحدة جوهرية حية فنتصوره مجعاً أتليفياً بني هذين العنصرين‬
‫املتنافرين واملتقدمني عليه ابلذات ال يكون إال جحودايً ‪».‬‬
‫و املعــى أن املاضــي فيــه عــرة واضحــة ليــس فيهــا احتمــال ‪ ،‬لــذا فهــي‬
‫الالمتناهيــة ملعــاين كثــرة ميكــن‬
‫‪111‬‬ ‫حــدث خالــص ‪ ،‬ينفــي عنــه االحتمــاالت‬
‫أن حيتملهــا املســتقبل ‪ ،‬وبــذا يكــون املاضــي هويــة واضحــة هلــا ثبــات املعــى‬
‫ووضوحــه ‪ .‬فكونــك عــريب وتســكن يف بلــد كــذا ‪ ،‬وعملــك كــذا ‪ ،‬أمــر ليــس‬
‫فيــه احتمــال بعكــس النظــر إىل جمموعــة االحتمــاالت املســتقبلية املفتوحــة ‪ ،‬لــذا‬
‫فهويتــك اثبتــة ‪.‬‬
‫أمــا املســتقبل الــذي هــو معــى وخيــال ال بــد فيــه مــن حكــم شــرعي حيكــم‬
‫نتائجه ‪ .‬كل الشـرائع والقرارات ســتنبين على رؤية مســتقبلية ولذا معرفة الغيب‬
‫هــي ثــروة كبــرة تعــادل الدنيــا واملــال وكل شــيء ‪ ,‬وهــو جوهــر احلكــم الشــرعي‬
‫‪ ،‬كمــا نــرى يف القــرآن بوضــوح ‪ ،‬حيــث أن اخليــار الــذي يضعــه الشــارع ‪،‬‬
‫واحلكــم املرتتــب عليــه هــو الواقــع بيــان لنتائــج مســتقبلية مــا كانــت لتكــون لــوال‬
‫معرفــة الســنن والقوانــن الــي حتكــم اجملتمعــات ‪ ،‬وألن القــرآن ال يريــد لنــا أن‬
‫نكــون أشــبه آالت تطبــق األحــكام دون وعــي كان التفصيــل يف تطبيــق بعــض‬
‫االحــكام ‪ ،‬وتــرك لنــا نصــوص قرآنيــة لفهــم هــذا االرتبــاط بــن احلكــم الشــرعي‬
‫واحلكــم القــدري ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪112‬‬

‫كل هــذا ســنعود إليــه تفصيــا يف ســنة اهلدايــة لكــن مــا نريــد أن نؤكــده‬
‫هنــا هــو أن األحــكام الشــرعية واألحــكام القدريــة مرتبطــة ومتناغمــة ‪ ،‬كمــا‬
‫أوضــح ذلــك بوضــوح الشــاطيب يف املوافقــات عندمــا حتــدث عــن مقصــد مــن‬
‫مقاصد الشريعة ‪ ,‬وهو « تكليف املكلّف مبقتضاها » ‪ ،‬و معىن هذا املقصد‬
‫كمــا شــرحه بوضــوح هــو مراعــاة الفطــرة البش ـرية يف األحــكام وقــدرات النــاس‬
‫وطبيعتهــم ‪ ،‬ولكــن مــا يلفــت االنتبــاه هــو مــا يذكــره كــون الشــارع كلمــا وجــد‬
‫إقبــاال طبيعيــا مــن املكلــف علــى أمــر كان احلكــم ابإلابحــة إذا كان هــذا االقبــال‬
‫يف أمــر حيقــق مصــاحل النــاس وحفــظ حقوقهــم ( مثــال الــزواج وحفــظ النســل فهــو‬
‫أمــر فطــري يبيحــه الشــارع حلفــظ النســل ) ‪ ،‬وكذلــك إذا وجــد أمـراً فطـراي فيــه‬
‫فســاد للمجتمــع كان النهــي ‪ ،‬كاألاننيــة واحلســد كان النهــي والتحــرمي ( ســورة‬
‫احلجــر) ‪.‬‬
‫هــذا مثــال علــى التناغــم بــن األمــر الشــرعي والقــدري وليــس التوحيــد‬
‫بينهمــا كمــا يبنغــي أن نؤكــد ‪ .‬هــذا األمــر يعــر عنــه عبــد الوهــاب املســري‬
‫بطريقــة مغايــرة ‪ ،‬ومهمــا يســميه الطبيعــة \ املــادة واإلنســان ‪ ،‬فهــو يــرى أن‬
‫احلضــارة الغربيــة قــد ســاوت بــن الطبيعــة واملــادة وحتييــد هللا ‪-‬ســبحانه ‪ -‬كمــا‬
‫يف منوذجــه عــن العلمانيــة الشــاملة الــذي ذك ـرانه ‪.‬‬
‫لكــن علينــا أن ننبــه أن مــا يقــف عنــده املســري أو املرزوقــي مــا هــو إال‬
‫مرحلــة مــن مراحــل التفكــر ‪ ،‬فــإن التيــارات الــي امتــدت يف املدرســة النقديــة‬
‫قــد جتــاوزت الســببية املطلقــة والعقالنيــة إىل مســاحات أوســع مــن الشــك يف‬
‫النظ ـرايت الكــرى واملاديــة الــي انتقــدت ابحنيازهــا للرأمساليــة والكســب علــى‬
‫حســاب اإلنســان و قيــم اجملتمــع ‪.‬‬
‫‪113‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫هــذا األمــر ‪ -‬كمــا ذك ـران مــن قبــل ـ إن فقــه الســنن اإلهليــة \ التارخييــة‬
‫\ االجتماعيــة أييت ضمــن تصــور شــامل حيــدد موضــع اإلنســان مــن حركــة‬
‫األحــداث وهــو املغالبــة هلــذه الســنن مــن خــال فهمهــا ‪ ،‬وحماورهتــا ‪ ،‬والتنــازع‬
‫معهــا عــر األحــكام الشــرعية الــي وضعــت وفقـاً هلــذه الســنن‪ ،‬فالفعــل البشــري ‪،‬‬
‫واألحــكام الشــرعية جــاءت يف تفاعــل اتم مــع الظواهــر االجتماعيــة ‪ ،‬وهــذا هــو‬
‫البعد الذي بينه الشــاطيب يف موافقاته ‪ ،‬فإن األحكام الشــرعية جاءت لتضبط‬
‫حركــة اجملتمــع وجــاءت للتكليــف مبقتضاهــا فهــي تقــع ضمــن اســتطاعة اإلنســان‬
‫وفطرتــه وهــي تضبــط حركتــه ‪ ،‬وهــذا لــن يكــون إال ابلتناغــم مــع العــادات الكونيــة‬
‫‪113‬‬
‫واالجتماعيــة الــي فصلهــا الشــاطيب يف موافقاتــه رمحــه هللا ‪( .‬انظــر أعلــى )‬
‫ابــن القيــم رمحــه هللا يف كتابــه طريــق اهلجرتــن (‪ ، )16‬بــن بطريقــة عجيبــة‬
‫مراتــب الفعــل البشــري مــع الوجــود ‪ ،‬و هــو يتحــدث عــن فقــر اإلنســان هلل ‪،‬‬
‫هــذا املعــى الصــويف الــذي شــرحه هــذا العلــم مــن أهــل الســنة واجلماعــة؛ يرســم‬
‫لنــا ابــن القيــم حركــة األحــداث والنــاس يف افتقــار دائــم لدافــع رابين ‪ ،‬لــذا فــاهلل‬
‫حــي ال أتخــذه ســنة وال نــوم ‪ ،‬وال يعجزعــن حفــظ الســموات واألرض ‪ ،‬فهــو‬
‫يدفــع هــذا هبــذا‪ ،‬يرفــع أق ـوام وخيفــض آخريــن ‪ ،‬ينــزع امللــك ممــن يشــاء ويعــز‬
‫مــن يشــاء ويــذل مــن يشــاء ‪ ،‬فاإلميــان ( وهــو الــذي يتــدرج فيــه النــاس بفقرهــم‬
‫هلل ) هــو الــذي ترتقــي فيــه الشــعوب واألمــم بــن طيــف مــن الفقــر املدقــع إىل‬
‫االســتغناء والطغيــان؛ هــذا مــا نقلنــاه عــن املرزوقــي حــن قــال ( صعــوداً مــن‬
‫الوعــي اجلحــودي إىل الوعــي الشــهودي ‪:‬الوعــى اجلحــودي فامليتافيزيقــا فاجلمــال‬
‫فالتصــوف فالوعــي الشــهودي – ونــزوال مــن الوعــي الشــهودي اىل الوعــي‬
‫اجلحــودي ‪ :‬الوعــي الشــهودي فالديــن فالفــن فالعلــم فالوعــي اجلحــودي ) ‪.‬‬
‫ذلــك الوعــي الــذي يشــهد فيــه اإلنســان قــدرة هللا هــو املعرفــة بطبيعــة احليــاة‬
‫‪ ،‬وطبــع الوجــود ‪ ،‬و ســنن هللا يف األنفــس واألفــاق ‪ ،‬حــن تذهــب الغفلــة ‪،‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪114‬‬

‫يتجلــى هــذا الوعــي وينضبــط بقيــم العــدل واإلحســان واجلمــال ‪ ،‬وتتشــكل‬


‫النظــم الــي تبــي احليــاة يف خمتلــف جماالهتــا ‪ .‬الرتابــط الــذي رســم مالحمــه املرزوقــي‬
‫بــن وعــي اإلنســان وفقــه اإلنســان مبــا يعطــي للقيــم قدرهتــا اخلالقــة لبنــاء‬
‫مؤسســات اجملتمــع؛ هــو مــا يعطــي موضــوع الســنن ومدخــل األوامــر القدريــة‬
‫واألوامــر الشــرعية أمهيتــه يف فهــم هــذا الســنن ‪ ،‬و هــذا مــا مل جنــده يف كثــر مــن‬
‫األحبــاث الــي اطلعنــا عليهــا ‪ .‬إذا اتضــح ذلــك فلنختــم هــذا الفصــل ابحلديــث‬
‫عــن الطريقــة الــي نتعامــل هبــا مــع الســنن عــر احلديــث عــن النمــاذج و بنــاء‬
‫املؤش ـرات ‪.‬‬

‫النماذج وبناء املؤشرات ‪:‬‬


‫يف الدراســات املســتقبلية توجــد عــدة منــاذج للتنبــؤ ودراســات إمكانيــات‬
‫التحــول والتغيــر ‪ .‬ويف مناهــج البحــث البــد مــن وصــف الظواهــر حمــل البحــث ‪،‬‬
‫مث حماولــة ‪ ‬فهمهــا وتفســرها ‪ ،‬مث التنبــؤ كخطــوة مهمــة «لالســتكثار مــن اخلــر»‬
‫والبعــد عــن األزمــات أو الســوء ‪،‬النمــاذج مهمــة ألهنــا تســاعدان يف ‪:‬‬
‫• •الربط بني قضااي خمتلفة تبدو غري متسقة ‪.‬‬
‫• •إبـراز بعــض القضــااي اهلامشــية ووضعهــا يف قلــب الصــورة بعــد تفســر الواقــع‬
‫بشــكل صحيــح‪.‬‬
‫• •حتديد األولوايت ‪.‬‬
‫• •وضع خارطة طريق ختتصر الكثري من الوقت ‪ ‬والتكاليف‪.‬‬
‫• •التوقع ورمبا التنبؤ ابألحداث املستقبلية‪.‬‬
‫هل حنن حباجة للتنبؤ أو التوقع ؟‬
‫‪115‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫أعتقد أن األمة اإلسالمية فقدت أهم ميزاهتا بعد وفاة النيب صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ، ‬حني انطفأ نور النبوة ‪ ،‬وتركت األمة بدون بوصلتها ‪ ،‬وأن عالقة اآلمة‬
‫ابلنص القرآين كمعلَم ‪ ‬على املســتقبل بدت ختفت شــيئاً فشــيئاً ‪ ،‬فمن حماوالت‬
‫أتويــل النصــوص ‪( ،‬عمــار تقتلــه الفئــة الباغيــة ‪ ،‬الـراايت الســود ) إىل إمهــال ذلــك‬
‫املســتقبل عنــد املعتزلــة ‪ ،‬أو اإلغ ـراق يف ترقــب الغيــب عنــد الشــيعة ‪ ،‬أو الرتكيــز‬
‫علــى اجلانــب العملــي مــن الشـريعة عنــد أهــل الســنة ‪.‬‬
‫و اذا أردان أن نســقط ذلــك علــى األمــة اإلســامية جنــد أن االهتمــام‬
‫التوقــع أو قيمــة النبــوءة يف‬
‫ابلرســالة ظــل يتصاعــد مــع إمهــال لقدرتنــا علــى ‪115‬‬
‫اإلســام ‪.‬النبــوءة ‪ ‬املقصــودة هنــا ليســت ابلتعلــق بشــخص أو ويل أو إهلــام ‪،‬‬
‫بــل بقــدرة األمــة ‪ ‬علــى فهــم النــص والتفاعــل معــه وتوقــع األحــداث مــن خاللــه‬
‫‪(.‬انظــر فيمــا بعــد عنــد احلديــث عــن ســنة اهلدايــة )‪.‬‬
‫إن هللا يعاقــب املذنبــن ‪ ‬مــن الظلمــة واملتخلفــن أبن يطبــع علــى قلوهبــم‬
‫فــا يســمعون ‪ ،‬كمــا يف آيــة األعــرف األيــة ( ‪( )100‬فنطبــع علــى قلوهبــم فهــم‬
‫اليســمعون ) لــذا فهــم يتخلفــون ( فــا يســتطيعون مضيـاً وال يرجعــون )‪ .‬وهــذا‬
‫يعــي أن حاجتنــا لســماع النذيــر ومــن مث العمــل وفــق مســار متوقــع ســلفاً تكمــن‬
‫يف قدرتنــا علــى فهــم الواقــع ‪ ،‬ومعرفــة حركــة اجملتمــع وترقــب مســارات ظواهــره‬
‫املختلفــة ‪ ،‬حــى نتمكــن مــن دراســة مــا نقــوم بــه يف جمتمعاتنــا وارتبــاط األســباب‬
‫ابلنتائــج وصناعــة التجــارب ‪.‬‬
‫لقــد رأينــا النجــاح يف حــزب العدالــة والتنميــة برتكيــا ‪ ،‬يف مؤش ـرات منــو‬
‫واضحــة ‪ ،‬وكذلــك يف ماليـزاي مــع مهاتــر حممــد ‪ ،‬لكــن مل متتــد تلــك النجاحــات‬
‫لتكون ثقافة اترخيية تشرح النصوص القرآنية وتربطها ربطاً حمكماً فظلت تلك‬
‫التجــارب جتــارب زمنيــة مرتبطــة بشــخصيات حمــددة يف عــامل الشــخص وليــس‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪116‬‬

‫يف مناهــج املعرفــة ‪ ‬واإلدراك ‪ ‬للقــرآن والســنة ‪ .‬و إّذا كان لبعــض املرجعيــات‬
‫الفكريــة مــن تـراث فكــري ‪ ،‬فهــو مل يقـرأ أو مل يتفــق عليــه يف احلديقــة اخللفيــة‬
‫لرتكيــا ‪.‬‬
‫إن قدرتنــا علــى فهــم ‪ ‬مؤش ـرات التغيــر ال يعــي فقــط رســم منحنيــات‬
‫وقوائــم رقميــة أو رســوم بيانيــة ‪ ،‬إنــه فهــم عميــق لألمــل كمحــرك للحيــاة ‪،‬‬
‫وعقيــدة أبن ‪ ‬النظــر للمســتقبل هــو ‪ ‬جوهــر اإلميــان كمــا ‪ ‬علمنــا القــرآن ‪ ،‬وإنــه‬
‫بفقــدان األمــل ســتتحول احليــاة إىل حســاابت رقميــة ال معــى هلــا ‪ ،‬وســتتحول‬
‫احلــركات اإلســامية إىل مجــع مــن املســتبدين جيمعــون األصـوات للحصــول علــى‬
‫املــال ‪.‬‬
‫لــذا فــا بــد مــن بنــاء النمــاذج اخلاصــة مبجتمعاتنــا وبنــاء مؤش ـرات وفق ـاً‬
‫لتلــك النمــاذج ‪،‬لتوقــع األحــداث والتخطيــط للمســتقبل ‪ ،‬مــن مث بعــث األمــل‬
‫ورســم خميــال اجتماعــي حيــدث فاعليــة ودفــع حلركــة ‪ ‬اجملتمــع عــر ســردايت أو‬
‫قصــص لتبقــى قوانــن االتصــال الــي علمنــا إايهــا القــرآن مفســرة لالســتجابة‬
‫والرفــض واالختــاف والتدافــع الــذي يشــكل القــوى احملركــة للتاريــخ ‪.‬‬
‫لكــي يصبــح فقــه الســنن اإلهليــة أقــدر علــى تفســر الواقــع البــد مــن بنــاء‬
‫مؤش ـرات وفــق املعطيــات املعرفيــة الــي متنحنــا إايهــا هــذه الســنن ‪ ،‬وألن هــذه‬
‫الســنن جــاءت يف ســياق قــرآين حمــدد ‪ ،‬ينبغــي أن يكــون هلــذه الســنن ( هنــا‬
‫مبعــى القوانــن ) مــن منــاذج ميكنهــا أن متثــل املشــاهد التارخييــة الــي ميكــن أن‬
‫نتوقــع عمــل هــذه الســنن فيهــا ‪.‬‬
‫صناعــة النمــاذج تبــدأ ابلتجريــد‪ ،‬وفــق صــورة ذهنيــة ( تســمى فرضيــة أو‬
‫نســقا أو نظاما ‪ ).....‬والتفكيك للواقع املركب يف عناصر ( نشــاطات بشـرية‬
‫) مث يتـ ّـم الربــط بــن املعلومــات وصياغــة النمــوذج ابلرتكيــب ‪ .‬التجريــب يكــون‬
‫‪117‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫مــن خــال االرتبــاط ابلواقــع وتقييــم النمــوذج ومعرفــة قدرتــه التفسـرية ‪ ،‬وملعرفــة‬
‫قــدرة النمــوذج علــى التفســر أو التنبــؤ يتــم بنــاءً علــى جمموعــة مــن املؤشـرات ‪.‬‬
‫املؤشــر ‪ :‬هــو عنصــر مــا يف الواقــع ميكــن مالحظتــه بســهولة ‪ ،‬والتحــوالت الــي‬
‫تطـرأ عليــه تطـرأ علــى مفهــوم جمــرد ‪)17( .‬‬
‫لــو رجعنــا إىل جمموعــة التقاريــر الــي تصدرهــا املنظمــات الدوليــة عــن الدولــة‬
‫الفاشلة ‪ ،‬أو الشفافية ‪ ،‬أو التنافسية أو التنمية البشرية ‪....‬اخل ‪ ،‬جند أن هذه‬
‫التقارير بنيت على منوذج يرى أبن العناصر األساســية يف القضية املراد قياســها‬
‫ينبغــي ترتيبهــا علــى النحــو الــذي يظهــر بــه التقريــر ‪117،‬فتقريــر التنافســية مثـاً يــرى‬
‫أبن مــا حيقــق التنافســية هــو املرحلــة الــي ميــر هبــا اقتصــاد البلــد فهــل هــذه البــاد‬
‫ال تـزال حتتــاج لبنيــة حتتيــة لإلنتــاج والتصنيــع ‪ ،‬أم أن هــذه البلــد منتجــة ومصنعــة‬
‫وتعتمــد يف تنافســيتها علــى الكفــاءة أم أهنــا تعتمــد علــى االبــداع يف إنتاجهــا ‪،‬‬
‫يضــع التقريــر هــذه املراحــل الثالثــة ويقيســها يف كل دولــة ومــن مث يضــع هلــا درجــة‬
‫حتــدد التنافســية واملرحلــة الــي متــر هبــا هــذه الدولــة هــل ال تـزال يف حاجــة لبــى‬
‫أساســية للتنافــس أم أهنــا تعــدت الكفــاءة ليكــون اقتصادهــا اقتصــاد معرفــة ومــن‬
‫مث تصبــح دولــة أكثــر تنافســية (‪.)18‬‬
‫هــذا التفكــر الــذي ابتــدأ منــذ الســتينات يف الــوالايت املتحــدة ‪ ،‬ينتشــر‬
‫اآلن ويســتخدم املعلومــات الضخمــة ( ‪ )Big Data‬يف صناعــة النمــاذج‬
‫واملؤشـرات ‪ ،‬وميكــن القــول أن هــذه النمــاذج قــد طالــت كل شــيء مــن حولنــا‬
‫‪ ،‬فهــل يعقــل أن تظــل كل هــذه املعطيــات الــي نفقههــا مــن فقــه الســنن حبيســة‬
‫االســتقراء واالســتدالل والتكرار يف رســائل املاجســتري والدكتوراه ‪ ،‬ويظل الواقع‬
‫مبؤش ـراته يهتــز حولنــا وحنــن نســتقبل املفاجــآت والصدمــات وال نــدري أيــن‬
‫الطريــق و أيــن الســبيل ‪ ،‬فــإن مل يكــن معــى اهلدايــة الــذي هــو جوهــر رســالة‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪118‬‬

‫القــرآن هــو هــذا املعــى الــذي حيــدد خياراتنــا وصناعــة قراراتنــا وفــق القيــم واملعرفــة‬
‫الــي يصوغهــا القــرآن بســوره وآايتــه فــا أدري مــا هــي اهلدايــة ؟؟؟‬
‫هــذا النقــد العــام الــذي ذكـرانه يف هــذا الفصــل مصــدره ابلطبــع مراجعــة‬
‫لكثــر مــن الكتــب والتفاســر الــي تناولــت موضــوع الســنن ‪ ،‬ولكنــه مييــز بــن‬
‫الســنن كقوانــن اترخييــة وبــن النمــاذج كإطــار فكــري يربــط بــن جمموعــة مــن‬
‫األحــداث عــر هــذه القوانــن ‪ ،‬ونريــد أن ننبــه أن الرتكيــز يف الغالــب كان بعــرض‬
‫مفــرد لــكل ســنة مــن الســنن ‪ ‬دون وجــود منــاذج مركبــة تبــن فاعليــة هــذه الســنن‬
‫وقدرهتــا علــى التفســر الواقــع ‪ ،‬فعندمــا نريــد أن نفهــم ســر النهضــة يف جتربــة مــن‬
‫التجــارب أو نبحــث عــن ســبب ختلــف دولــة مــن الــدول البــد مــن وضــع أهــم‬
‫املفاصــل ‪ ،‬كعناصــر مفصليــة هــي عمــد النمــوذج ‪ ،‬والبــد مــن الربــط بــن هــذه‬
‫العناصــر وفــق الســنن التارخييــة مث نتبــن مــن صحــة فهمنــا هلــذه الســنن وقدرتنــا‬
‫حنــن علــى التفســر مــن خــال هــذه النمــاذج وتلــك الســنن ‪.‬‬
‫مــا ذكـرانه عــن طريقــة بنــاء النمــاذج جيــب أن نضعــه يف إطــار واقعــي مــن‬
‫خــال تبــن مــا هــي النمــاذج الســائدة ‪ ،‬وهــل مــن قــوى سياســية بعينهــا تســعى‬
‫لنشــر ســردايت حمــددة ‪ ،‬هــذه الســردايت يـراد هلــا أن تســتمر داخــل اجملتمــع ‪،‬‬
‫ليبقــى حديثنــا عــن النمــاذج جمــرد بدايــة ملشـوار طويــل حــى نتمكــن مــن حتويــل‬
‫النمــاذج إىل ســردية ميكــن أن تتحــول إىل أداة للتغيــر ورســم املخيــال اجملتمعــي ‪.‬‬
‫أي أننــا حاولنــا أن جنمــع بــن النمــوذج التفســري للمســري الــذي هــو منــوذج‬
‫تبســيطي للواقع ‪ ،‬وبني النموذج مبعىن املفاهيم الســائدة داخل اجملتمع والســيما‬
‫اجملتمع العلمي ‪ ،‬ليبقى التدافع بني السرد املنتشر و السرد الذي تثبته النماذج‬
‫اجلديــدة هــو مســار التغيــر‪ .‬هنــا ميكننــا العــودة لعلــم االجتمــاع ‪ -‬لتشــارلز تيلــي‬
‫عــامل االجتمــاع الربيطــاين الــذي يرســم تلــك العالقــة بــن الســردايت الســائدة يف‬
‫اجملتمــع والنمــاذج املعرفيــة أو املعرفــة بصفــة عامــة‪ ،‬لكــن ســنعرض عــن تفصيــل‬
‫‪119‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫ذلــك اآلن ‪ ،‬فاملقصــود هــو بيــان الطريقــة الــي ســنعرض هبــا موضــوع الســنن‬
‫ومربراهتــا ‪ ،‬ونظــن أن أقــرب الطــرق للفهــم هــو بعــرض الســنن كالتــايل ‪:‬‬
‫‪-‬عــرض اآلليــة ( امليكانيــزم ) الــي ميكــن أن تكــون مشــهدا متكــرراً يف‬
‫القــرآن ‪.‬‬
‫‪-‬حندد القانون أو السنة االجتماعية اليت ميكنها أن حتكم ذلك املشهد‪.‬‬
‫‪-‬بعــد ذلــك نضــع كل املشــاهد الــي ســنذكرها تباعــا يف منــوذج واحــد ‪،‬‬
‫نســتخلص منــه قصــة تفس ـرية نســميها ســردا ‪.‬‬
‫‪119‬‬
‫هذه املنهجية ســتكون أكثر فاعلية لالنتقال حنو التفســر عرب فقه الســنن‬
‫اإلهليــة ‪ .‬خــال ذلــك العــرض سنســتخدم عــدة أدوات ‪ ،‬سنســتقرئ الســنن ‪،‬‬
‫و ســنضع كل املشــاهد املتشــاهبه حتت قانون واحد أي أننا سنســتخدم القياس‬
‫كآلــة للربــط بــن جمموعــة قضــااي تبــدو خمتلفــة ‪ .‬ســتتضح هــذه اآلليــة أكثــر مــن‬
‫خــال متابعــة احلديــث عــن الســنن اخلمســة ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪120‬‬

‫الفصل اخلامس‬

‫السنن اخلمس‬

‫حاولنــا فيمــا ســبق أن نضــع إطــاراً عامـاً جيعــل القــارئ يف ســياق الفرضيــة‬
‫الــي نطرحهــا ‪ ،‬ومل نشــأ أن يكــون العــرض تقليــدايً ‪-‬جمــرد عــرض للكتــب الــي‬
‫كتبــت يف موضــوع الســنن ‪ -‬أو بيــان حلاجتنــا إىل فهــم مركــب للســنن اإلهليــة‬
‫‪ -‬بــل اخــران منهج ـاً نقــدايً و افرتضنــا فرضيــة أن فقــه الســنن عــوجل مبنهــج‬
‫اســتداليل علــى طريقــة أصــول الفقــه‪ ،‬ومل ينضــج ابلشــكل الــكايف الــذي ميكــن‬
‫مــن خاللــه تتبــع الواقــع ‪ .‬وانطلقنــا بعــد ذلــك لنقــد عــام للطريقــة الــي يعــرض‬
‫هبــا موضــوع الســنن اإلهليــة ‪ ،‬وبينــا أن حتميــة هــذه الســنن مصــدره النــص ‪ ،‬وال‬
‫ميكن لفهمنا البشري أن يتحول إىل نص مقدس ‪ ،‬بل البد من صناعة مناذج‬
‫مركبــة واختبــار هــذه الســنن ومــدى فهمنــا هلــا مراعــن دائم ـاً إمكانيــة اخلطــأ ‪،‬‬
‫وضــرورة تنزيــه النــص عــن ذلــك ‪ .‬وعرضنــا كذلــك حاجتنــا للتنبــؤ أوالتوقــع ‪،‬‬
‫وكونــه رديفــا للرســالة الــي كانــت موضــع الرتكيــز عنــد أهــل الســنة واجلماعــة ‪.‬‬
‫وقلنــا إن املنهجيــة املســتخدمة لالســتنباط مل تربــط فهــم الســنن ابلتقــدم الــذي‬
‫حصــل يف علــم التفســر خاصــة يف علــم املناســبة والوحــدة املوضوعيــة للســورة‬
‫الواحــدة ‪ ,‬والوحــدة القرآنيــة ‪.‬‬
‫لــذا فمهمتنــا اآلن أن نبــن مــا لدينــا يف هــذا اجملــال ‪ ،‬وســتنحصر يف‬
‫اآليت ‪:‬‬
‫‪ .1‬صناعة منوذج لرصد حركة اجملتمع ‪.‬‬
‫‪121‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫‪ .2‬عــرض لنظريــة ( فكــرة ) الوحــدة القرآنيــة وفرضيتهــا األساســية هــي أن‬


‫ســر ترتيب القرآن هو الســنن االجتماعية !!‬
‫والواقــع أن اجلــدل بــن اجلــزء والــكل يالحقنــا يف هــذا املوضــوع‪ ،‬فإننــا‬
‫حنــاول أن نســلك أســلم الطــرق للوصــول إىل عقــل القــارئ ‪ ،‬ونظــن أن أســلم‬
‫طريقــة هــي أن ننتقــل مــن الــكل إىل اجلــزء مث نعــود إىل الــكل مــن جديــد ‪.‬‬

‫منوذج لرصد حركة اجملتمع ‪:‬‬


‫‪121‬ش ـرية أو ظواهــر اترخييــة‬‫هــذا النمــوذج يتمثــل يف أن مخــس نشــاطات ب‬
‫ميكــن ربطهــا يف منــوذج واحــد و رصــد حركــة اجملتمــع مــن خالهلــا مــن خــال‬
‫صياغــة مثــال أو آليــة ( ســرد أو طريقــة أو ســرة أو ســيناريو ) لكــي نتمكــن مــن‬
‫تفســر الظواهــر االجتماعيــة وبنــاء املؤشـرات الــي تعــزز مــن قدرتنــا علــى التوقــع‬
‫وحتديــد املشــكالت ومــن مث األولــوايت للتخطيــط والعــاج ‪.‬‬
‫هــذه الظواهــر حتكمهــا مخــس ســنن أو قواعــد أو قوانــن أو نواميــس متكننــا‬
‫من ضبط فهمنا هلذه األحداث ‪.‬ســنذكر هذه الســنن مث نذكر ســيناريو مبدئي‬
‫مبســط لنمــوذج الــذي نطرحــه ‪:‬‬
‫ســنة اهلدايــة ( مؤشــر احلركــة أو االسـراتيجية ) فهــي مبثابــة القانــون الــذي‬
‫حيكــم حركــة اجملتمــع املســتقبلية ( كمــا يشــر لفــظ اهلدايــة )‪ ،‬ويتمثــل ذلــك يف‬
‫ظواهــر اترخييــة _ نبــوة ‪ ،‬ادعــاء نبــوة ‪ ،‬رؤيــة مناميــة‪ ،‬أســاطري ورمــوز ‪ ،‬نظـرايت‬
‫اترخييــة ‪ ،‬دراســات مســتقبلية – ويتمثــل ذلــك يف كتــاب أو خميــال اجتماعــي‬
‫حيــوي كل املعلومــات الــي ترســم مســتقبل األمــة أو اجملتمــع نســميها مبدئي ـاً (‬
‫الوحــدة الرتكيبيــة للمجتمــع ) ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪122‬‬

‫ســنة التدافــع ‪ :‬احلركــة ابلفكــر تشــكل قــوى تتدافــع يف اجملتمــع يف‬


‫كافــة اجملــاالت ‪(.. ،‬ظهــور حركــة جديــدة متلــك قــوة وفكــرة ‪ ,‬مـوارد اقتصاديــة‬
‫جديــدة تكتشــف ‪ ,‬تغــر توقعــات النــاس حنــو املســتقبل ‪ ,‬حــزب سياســي يفــوز‬
‫يف االنتخــاابت ‪ ,‬ثقافــة تســود داخــل اجملتمــع وغريهــا مــن النشــاطات ) يظهــر‬
‫ذلــك يف مخــس نظــم أساســية ‪:‬‬
‫• •النظم النفسية‬
‫• •النظم االقتصادية‬
‫• •النظم االجتماعية‬
‫• •النظم السياسية ‪.‬‬
‫• •النظم الثقافية ‪.‬‬
‫يف سنة التدافع ثالث عناصر أساسية هي ‪:‬‬
‫االختالف _احلركة _ التوازن‬
‫كل هــذه النظــم تتدافــع ( ختتلــف وحتــدث ح ـراكاً ) للوصــول إىل حالــة‬
‫مــن االســتقرار يســميها القــرآن صــاح األرض ويطلــق علــى مــن يفعــل ذلــك‬
‫ابلصــاحل ‪.‬‬
‫هذا التدافع حيافظ على «تفاوت » معني بني طبقات اجملتمع ‪.‬‬
‫ســنة التنــازع ‪ :‬يبــدأ تغــر اجملتمــع ‪ ،‬بتغــر «درجــة التفــاوت» بــن درجــات‬
‫اجملتمــع ( طبقاتــه ) املختلفــة ‪ ،‬وذلــك عــر تغــر نفســي يظهــر يف صــورة ختلــي‬
‫عــن هويــة اجملتمــع ( العقــد االجتماعــي ) مث بقطــع الصــات االجتماعيــة بــن‬
‫‪123‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫أفراد اجملتمع ‪ ،‬األمر الذي يظهر يف صورة فســاد يف األرض وهذا له مؤشـرات‬
‫كثــرة يف الســنة النبويــة كمــا يف أحاديــث الفــن ‪.‬‬
‫ســنة اجلـزاء ‪ :‬إذا ازداد التفــاوت بــن طبقــات اجملتمــع و أدى إىل اإلبتعــاد‬
‫عــن هويــة اجملتمــع وتقطعــت أواصــره و ظهــر ذلــك يف مؤشـرات واضحــة‪ ،‬يدخــل‬
‫اجملتمــع يف أزمــة ‪ ،‬مث خيــرج اجملتمــع مــن تلــك األزمــة و لكــن دون حــدوث تغيــر‬
‫حقيقــي يف ســلوك الســلطة احلاكمــة عــر عمليــة إصــاح جذريــة ‪ ،‬ورمبــا حدثــت‬
‫بعــد تلــك األزمــة حالــة مــن الرخــاء وارتفــاع مؤش ـرات اقتصاديــة حمضــة ‪ ،‬تبعــد‬
‫‪123‬ـورة مفاجئــة‪ (.‬نشــاطات‬‫اجملتمــع عــن مراجعــة ذاتــه إىل أن تســقط دولــة وبصـ‬
‫اترخييــة تعــر عــن هــذه الســنة ‪ :‬ســقوط األمــم ‪ ,‬عقــاب الطغــاة ‪ ,‬األزمــات‬
‫االقتصاديــة الــي حدثــت للقــوى العظمــى ‪. )....‬‬
‫ســنة االســتخالف ‪ :‬وهــى عمليــة متكاملــة تنقــل البشـرية مــن مرحلــة إىل‬
‫أخــرى وتتغــر فيهــا موازيــن الســيادة بــن األمــم ‪ ،‬ويولــد العــامل فيهــا مــن جديــد‬
‫‪ ،‬وكأهنــا نشــأة مســتأنفة وخلــق جديــد ابلتعب ـرات اخللدونيــة‪ ،‬وحيــدد تلــك‬
‫التغـرات ثــاث قضــااي أساســية ‪ :‬النمــو الســكاين –التغـرات البيئيــة والتقنيــة –‬
‫الثقافــة الــي تتبــع تلــك التغـرات ( يظهــر ذلــك يف املوجــات احلضاريــة وتــداول‬
‫القــوى العظمــى كمــا ســيأيت ) ‪.‬‬
‫هــذا هــو التصــور الطبيعــي حلركــة اجملتمــع دون تدخــل بشــري مــن إصــاح‬
‫أو نظــم سياســية تنظــم هــذا املســار الطبيعــي ‪ ،‬أمــا يف حالــة وجــود نظــم متوازنــة‬
‫‪ ،‬وحمافظــة علــى تفــاوت معقــول بــن درجــات اجملتمــع فــإن األرض ســتخرج‬
‫خباايهــا وتبــدأ مؤشـرات النهضــة والعمـران يف الظهــور وتصــل إىل أقصــى مــدى‬
‫ميكــن أن يتخيلــه اإلنســان مــن رفاهيــة ‪ ،‬ويعلمنــا القــرآن أن ذلــك املســار‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪124‬‬

‫غــر خطــي ‪ ،‬بــل إن قصــة ســليمان كانــت ســابقة اترخييــة يف الســيطرة علــى‬
‫مقتــدرات الطبيعــة وتســخريها ‪.‬‬
‫و يالحــظ أن النشــاطات البشـرية أو التمظهـرات التارخييــة هلــذه الســنن ‪،‬‬
‫هلــا أثــر جمتمعــي علــى ســلوك األفـراد ‪ ،‬فينتقــل النــاس بــن األمــل عنــد وجــود رؤيــة‬
‫مســتقبلية ملؤهــا النهضــة والعمـران ويصيبهــم اليــأس عندمــا يظهــر هلــم خطــأ تلــك‬
‫الرؤيــة ‪ ،‬ممــا يغيــب عنهــم الفاعليــة واملبــادرة ‪ ،‬وحيــدث نزاعــا بــن درجــات اجملتمــع‬
‫‪ ،‬ممــا يقطــع األواصــر ‪ ،‬ويؤثــر يف مؤش ـرات النهضــة والعم ـران إىل أن يدخــل‬
‫اجملتمــع يف غيــاابت الظلــم واالســتبداد ‪ ،‬فتنشــأ عنــد النــاس طبائــع االســتبداد‬
‫ويتخلــف اجملتمــع عــن ركــب احلضــارة ‪.‬‬
‫كل ذلــك مــن املمكــن أن يتغــر يف املفهــوم اإلســامي ‪ ،‬بــل هــو جوهــر‬
‫التكليــف ‪ ،‬مــن خــال منازعــة القــدر ‪ ،‬فالبــد مــن رؤيــة مســتقبلية واضحــة‬
‫واالنطــاق مــن هويــة النــاس ‪ ،‬ودراســة املســتقبل ‪ ،‬ودعــم احل ـراك اجملتمعــي ‪،‬‬
‫وتشــجيع التنــوع ‪ ،‬ودعــم االســتقرار ‪ ،‬وحماربــة الفقــر ‪ ،‬واحلــرص علــى األســرة‬
‫كلبنــة يف بنــاء اجملتمــع وعلــى تكافــؤ الفــرص بــن أف ـراد اجملتمــع ‪ ،‬و كذلــك‬
‫بنــاء مؤسســات متوازنــة متنــع االســتبداد ‪ ،‬وتنميــة حتافــظ علــى مقتــدرات البلــد‬
‫‪ ،‬وتربيــة تضمــن جيــل حيمــل االمانــة‪ ...‬كل ذلــك ســيغري املســار إىل مســار‬
‫آخــر فيــه جتديــد وتطويــر ومواكبــة وترقّــب للمســتقبل واســتمرار لقــوة احلضــارة‬
‫وازدهارهــا ‪.‬‬
‫هــذه الســنن اخلمســة يف نظريــة الوحــدة القرآنيــة متثــل ســر ترتيــب الســور ‪,‬‬
‫واالنتقــال مــن ســورة إىل ســورة يف جمموعــات خمتلفــة ‪ ،‬كل جمموعــة تنطلــق يف‬
‫ترتيبهــا مــن ســنة اهلدايــة إىل التدافــع إىل التفــاوت إىل اجلـزاء إىل االســتخالف ‪،‬‬
‫إىل أن تنتهــي جمموعــة وتبــدأ أخــرى بنفــس النســق‪ ،‬مــع اختــاف املوضوعــات‬
‫‪125‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫لــكل جمموعــة ( لتفصيــل ذلــك انظــر الفصــل التــايل ) ‪ ،‬أمــا يف هــذا الفصــل‬
‫فســنأخذ الســور الــي تنطلــق مــن هــذه الســنن لعرضهــا بشــكل أفقــي ( أي‬
‫االوائــل مــن اجملموعــات‪ ،‬أو الســور الــي متثّــل ســنة التدافــع مــع بعضهــا البعــض‬
‫‪ ،‬وكذلــك التفــاوت واجل ـزاء بنفــس الرتتيــب ) ‪.‬‬
‫قبــل أن نتنــاول كل ســنة مــن هــذه الســنن كســيناريو أو متتاليــة ‪ ،‬سنشــرح‬
‫العالقــة بــن هــذه الســنن اخلمســة والوحــدة القرآنيــة و كيــف أن هــذا النســق قــد‬
‫تكــرر عــر القــرآن ‪ ،‬وألن فهــم هــذا التك ـرار يرتبــط بفهــم اجملموعــات القرآنيــة‬
‫‪125‬ـر بعــد ذلــك إىل القــرآن‬ ‫فســنحاول أن نشــرح الفكــرة جمملــة ( كلــي ) مث ننظـ‬
‫وكيــف عــرض هــذه الســنن ‪ ،‬ويف أي الســور يذكرهــا ‪ ،‬وموقعهــا مــن ترتيــب‬
‫القــرآن ‪ ،‬مث نذكــر مــن التاريــخ مــا يرســم املمارســة التارخييــة هلــذا النمــوذج وأثــر‬
‫تلــك الســنة يف األحــداث ‪ ،‬ممــا يســاعد علــى فهمهــا ومالحظتهــا يف التاريــخ ‪،‬‬
‫وقراءهتــا يف إطــار النمــوذج املطــروح ‪.‬‬
‫لذا ســندرس يف كل جمموعة الســور اليت يذكر القرآن الســنة اليت نعرضها‬
‫‪ ،‬وسنأخذ هذه السور بشكل أفقي ‪ ،‬أي سنحاول أن خنرج يف هناية الدراسة‬
‫مبجموعــة الســور الــي تتحــدث عــن ســنة التدافــع أو التنــازع ‪ ...‬ونقــارن ذلــك‬
‫بنظريــة الوحــدة القرآنيــة الــي ســنطرحها فيمــا بعــد ‪ .‬كلمــا تقدمنــا يف الكتــاب‬
‫أكثــر ســيتضح األمــر ‪ ،‬لــذا فلننتقــل مــن الشــكل الكلــي للفكــرة مث نفصــل يف‬
‫أجزائهــا لنعــود يف هنايــة الكتــاب وننظــر نظــرة كليــة مــرة أخــرى ‪.‬‬

‫نسق قرآين ‪:‬‬


‫يف القــرآن الكــرمي خطــاب متســق حليــاة اإلنســان ومســار التاريــخ ‪ ،‬فأنــت‬
‫يف كل اآلايت تشــعر أبن رســالة واحــدة هــي الــي يوصلــك إليهــا النــص القــرآين‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪126‬‬

‫‪ ،‬لــذا كانــت ســورة اإلخــاص ثلــث القــرآن ‪ ،‬وكانــت ســورة أو آيــة تعــدل‬
‫غريهــا مــن اآلايت ‪ ،‬ال للتفاضــل بــن األايت والســور ‪ ،‬بــل ألن هنــاك رســالة‬
‫و معــان أساســية يف القــرآن الكــرمي ‪ .‬هــذا املعــى قــد يفهــم منــه وجــود قاعــدة‬
‫لرتتيــب الســور و اآلايت يف القــرآن ‪ ،‬فــإن النســق القــرآين ينطلــق مــن مســلمات‬
‫هــي الــي تشــعر القــاريء ابلتكـرار ‪ ،‬و مــا هــو بتكـرار إمنــا منــوذج كامــن ‪ ،‬قــد‬
‫نقــرب منــه ونبتعــد بقــدر رغبتنــا يف اهلدايــة واالســتزادة مــن القــرآن ‪ ،‬واألهــم مــن‬
‫ذلــك هــو إمياننــا ابلغيــب ‪ ،‬أبن ســر الســموات واإلرض هــو ذلــك النســق الــذي‬
‫خلقــت بــه األكـوان ‪ ،‬وحتــرك بــه التاريــخ ‪.‬‬
‫هذا النسق أي النظام الكامن الذي ميثل قاعدة لالنتقال من معىن آلخر‬
‫أو مــن ســورة ألخــرى ‪ ،‬هــو النمــوذج املعــريف الــذي نبحــث عنــه‪ ،‬فاإلنســان يف‬
‫تقلبــه مــع املســتقبل‪ ،‬واجملتمعــات ابختالفهــا‪ ،‬وتفــاوت النــاس‪ ،‬ومشــاهد الكــون‬
‫وتعاقــب األجيــال يتكــرر يف القــرآن يف كل جمموعــة ســور ‪.‬‬
‫فكــرة اجملموعــات طرحهــا الشــيخ ســعيد حــوى يف تفســره (كمــا ســيأيت)‬
‫‪ ،‬فــكل جمموعــة ســور تشــكل وحــدة واحــدة ‪ ،‬ويؤكــد وجــود هــذه اجملموعــات‬
‫هــو األحــرف املقطعــة ‪ ،‬فهــي أشــبه بعالمــة لبدايــة جمموعــة وهنايــة أخــرى ‪ ،‬لكــن‬
‫القراءة املتأنية تبني أن كل جمموعة هلا موضوعها اخلاص ‪ ،‬وأن االنتقال داخل‬
‫اجملموعــة بــي علــى نســق واحــد هــو املقصــود مــن هــذا العــرض اجملمــل ‪.‬‬
‫يف البدايــة نبــن وحــدة املوضــوع يف بعــض اجملموعــات القرآنيــة مث نعــرض‬
‫النســق الــذي كان علــى أساســه االنتقــال مــن ســورة ألخــرى ‪ ،‬مبعــى أن وحــدة‬
‫اجملموعــات مقدمــة لوجــود نســق يتكــرر عــر هــذه اجملموعــات ‪ ،‬وابلطبــع هــذا‬
‫العــرض هــو عــرض مبدئــي جممــل ســنفصله يف ابقــي الكتــاب ‪.‬‬
‫‪127‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫مث ـاً جمموعــة آل عم ـران (امل ) إىل األع ـراف ( املــص ) هــي جمموعــة‬
‫ظاهــر مــن ســياق ســورها أهنــا تتحــدث عــن احلضــارات الســماوية الثــاث‬
‫‪ ،‬اليهوديــة واملســيحية واإلســام ‪ ،‬وأن هــذا الرتكيــز علــى تفصيــل اجلوانــب‬
‫العقائديــة والتش ـريعية وضبــط العالقــة بــن الــدايانت الثالثــة مل يتكــرر يف أي‬
‫جمموعــة أخــرى مــن ســور القــرآن ‪ ،‬هــذا األمــر ظاهــر يف ذاتــه ‪ ،‬فســياق هــذه‬
‫الســور يبــدو متصـاً ‪ ،‬فســورة آل عمـران تتحــدث عــن التأويــل ( كمــا ســيأيت‬
‫) الذي أحدثته احلضارات السابقة لإلسالم ‪ ،‬وأن األمر قد آل إىل حالة من‬
‫املاديــة والتعصــب ‪ ،‬وتبــن الســورة حقيقــة ميــاد املســيح ‪ ،‬الــذي مثــل تفســر‬
‫‪127‬‬
‫ميــاده نقطــة افـراق بــن التفســر املــادي لألحــداث واإلميــان ابلغيــب ‪ ،‬األمــر‬
‫الــذي بينتــه الســورة يف ارتبــاط أمــر املســيح ابملاديــة مــن خــال الســياق املتصــل‬
‫عــر منــوذج غــروة أحــد‪ ،‬والــي مثلــت درس ـاً بليغ ـاً يف اإلميــان ابلقــدر‪ ،‬والتــوكل‬
‫على هللا ‪ ،‬لتختم السورة بتبيان طبيعة اإلميان بني التأمل الكوين ( اآلايت من‬
‫‪ 190-‬إىل هناية ســورة آل عمران ) املوصل للوعي الشــهودي الذي ينطلق‬
‫مــن عــامل املــادة إىل عــامل الفكــرة واإلميــان‪ ،‬والســببية الــي حتــاول أن متثــل الكــون‬
‫بقوانــن فيزايئيــة تعمــل بشــكل ذايت أشــبه بســاعة كبــرة ال تنتهــي مــن دوراهنــا ‪.‬‬
‫هــذا ســياق ســورة آل عم ـران؛ أمــا ســورة النســاء فإهنــا تبــن تش ـريعات‬
‫احلضــارة اإلســامية يف جوانــب احليــاة‪ ،‬وتقــارن ذلــك ابلتحريــف التش ـريعي‬
‫الذي طال احلضارات الســابقة (اآلايت من ‪ ،)58-44‬وتبني أن االختالف‬
‫بــن احلضــارات ال مينــع وجــود تكامــل بــن احلضــارات وقيــم جــاءت الرســاالت‬
‫لرتســيخها‪ ،‬وهذا ما بينته الســورة يف خواتيمها يف اإلميان بكافة الرســل وحجية‬
‫الرســالة اخلامتــة (اآلايت ‪ 179‬ومــا بعدهــا ) ‪.‬‬
‫ســورة املائــدة بينــت مــن جانبهــا عالقــة احلضــارات الثالثــة‪ ،‬وكيــف دخــل‬
‫النقــص واالحنـراف يف الداينــة املســيحية واليهوديــة و لعــل ذلــك اتضــح يف رمزيــة‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪128‬‬

‫قصــة هابيــل وقابيــل كمــا ذكــر الـرازي يف تفســره (انظــر ســنة التفــاوت )‪ ،‬وكمــا‬
‫هــو ظاهــر مــن ذكــر حمــاوالت اليهــود املعاديــة للرســول صلــى هللا عليــه وســلم ‪،‬‬
‫لــذا يؤمــر النــي بتبليــغ الرســالة وأن أيمــر ابملعــروف والنهــي عــن املنكــر ‪ .‬تنتهــي‬
‫الســورة أبمــر واضــح بعــدم نقــض العهــد مــع هللا واحلفــاظ علــى بنيــة اجملتمــع (‬
‫حتــرمي اخلمــر والنـزاع واحلــدود ‪( ) ...‬ســورة املائــدة اآليــة ‪1‬ومــا بعدهــا واآلايت‬
‫‪.)89-87‬‬
‫يف ســورة األنعام يبدأ احلديث عن حركة التاريخ‪ ،‬وأن كل األمم هلا ســنن‬
‫متضي هبا ‪ ،‬وآجال تنتظرها‪( -‬اآلايت ‪-)11-1‬و أن االستكبار واالستبداد‬
‫هــو احنـراف كبــر يعجــل مــن ســقوط احلضــارات ويقــرب مــن آجــال األمــم ‪ .‬يف‬
‫ســورة األع ـراف جنــد ت ـوايل هــذه احلضــارات (اآليــة‪ ، ) -38‬كمــا هــو ظاهــر‬
‫مــن لفــظ االســتخالف الــذي اســتخدم يف القصــص الــي ذكرهتــا الســورة‪ -‬فــكل‬
‫نــي ذكــر قومــه أبهنــم خلفــاء لغريهــم ( واذكــروا إذ جعلكــم خلفــاء ‪( )...‬‬
‫آايت القصــص يف األع ـراف مــن ‪ ، ) 100-58‬األمــر الــذي مل يتكــرر مبثــل‬
‫هــذا الوضــوح يف غريهــا مــن القصــص القــرآين ‪ ،‬مث تذكــر الســورة قصــة موســى‬
‫عليــه الســام بنســق خمتلــف عــن غريهــا مــن الســور‪ ،‬فتفصــل الســورة يف هنايــة‬
‫فرعــون وتذكــر الــدم والضفــادع واألمـراض الــي أصابتهــم ‪ ،‬والسـراء الــي أصابتهــم‬
‫بعــد ذلــك وغفلتهــم عــن تفســر مــا حيــدث ‪ ،‬واســتخالف بــي إس ـرائيل بعــد‬
‫ظلــم الفراعنــة‪ ،‬ليعــود االحن ـراف عــر األجيــال عــن هنــج موســى عليــه الســام‬
‫‪)169-167(.‬‬
‫فنحــن هنــا أمــام موضــوع متكامــل عــن طبيعــة األمــة اإلســامية وتشـريعاهتا‬
‫وعالقتهــا بغريهــا وســياقها التش ـريعي ويف ســنن التاريــخ وســقوط األمــم‬
‫واحلضــارات؛ لكــن السـؤال مل رتــب هــذا املوضــوع عــر هــذه الســور هبــذه الطريقــة‬
‫؟ ‪ .‬فاحلديــث يف البدايــة يف ســورة آل عمـران (امل ) عــن قضــااي عقائديــة تتعلــق‬
‫‪129‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫ابإلميــان ‪ ،‬وأن الديــن عنــد هللا اإلســام ‪ ،‬و أن هللا يعــز مــن يشــاء و يــذل مــن‬
‫يشــاء ‪ ،‬وأن األايم دول ‪ ،‬وأن تقلبــات احليــاة والتاريــخ ال ميكــن تفســرها عــر‬
‫قــدرة اإلنســان علــى الســيطرة علــى احليــاة ‪ ،‬بــل بقدرتــه علــى حتقيــق أهدافــه‬
‫بــدل حماولتــه إيقــاف هــذه األمـواج ‪ ،‬وهــذا هــو التـوايل الــذي حــدث بــن التــوراة‬
‫واالجنيــل و القــرآن بعــد أتويــل الكتــب املقدســة يف إطــار مــادي مل تســتجب‬
‫هــذه األمــم لدعــوة النــي هلــذا التفســر املــادي الــذي زلــت فيــه تلــك احلضــارات‬
‫الطريــق ‪.‬‬
‫‪ ، 129‬ونظــام احلكــم والتدافــع‬
‫و يف ســورة النســاء يبــدأ احلديــث عــن التشـريعات‬
‫مــع اآلخريــن س ـواء عــر التش ـريعات أو ابملواجهــة املباشــرة‪ ،‬أمــا ســورة املائــدة‬
‫فاحلديــث عــن الوفــاء ابلعهــد وااللت ـزام ابلقيــم واملبــاديء ويســرد لنــا مــا حــدث‬
‫لليهــود والنصــاري مــن نقــض للعهــد وفســاد يف األرض‪ ،‬ممــا يفســر العــداء الــذي‬
‫واجــه بــه اليهــود املســلمني يف املدينــة ‪ .‬أمــا األنعــام فاحلديــث عــن طبيعــة األمــم‬
‫يف آجاهلــا وهــي بــن السـراء والضـراء مث السـراء مث مفاجــأة الســقوط‪ ،‬وأن مســرة‬
‫احليــاة ضمــن القــدرة اإلهليــة و احلكمــة واخلــرة الــي ميكــن مــن قراءهتــا فهــم حركــة‬
‫الكــون (اآلايت‪ . )99-95‬هــذا األمــر هــو الــذي ال يعطــي ألحــد احلــق يف‬
‫الســيطرة علــى مقتــدرات الشــعوب ‪ ،‬حــن ذكــر منــوذج األكابــر وهــم يقســمون‬
‫الثــروات ويوزعوهنــا بينهــم ويشــرعنون هــذا الظــامل (‪136-140‬اآلايت) واإلذالل‬
‫واســتغالل األطفال وتقدميهم قرابانً للســردايت اليت حياولون من خالهلا الســيطرة‬
‫علــى النــاس مســتغلني عاطفتهــم جتــاه أبنائهــم ‪ ،‬وأن مســألة احلكــم تتعلــق مبنــع‬
‫الفســاد واحلكــم الرشــيد وليــس ابلســيطرة علــى حيــاة النــاس وأن هــذا هــو األمــر‬
‫اجلامــع لــكل التش ـريعات الســابقة (االايت ‪. )153-151‬‬
‫ويف األعراف ظاهر السياق احلديث عن استخالف اإلنسان يف األرض‬
‫وقصــة آدم عليــه الســام مث اســتخالف األمــم واحــدة تلــو األخــرى‪ ،‬واألخطــاء‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪130‬‬

‫الــي وقعــت فيهــا تلــك األمــم ‪ ،‬الــي مل تســتطع أن تســتفيد مــن تســخري األرض‬
‫واإلمــكاانت الــي وجــدوا أنفســهم يف فــرة مــن التاريــخ قادريــن عليهــا‪ ،‬لتؤكــد‬
‫الســورة أن هــذا االنتقــال هلــذه اإلمــكاانت مــن أمــة إىل أخــرى هــو تسلســل‬
‫يف مســرة احلضــارات حمكــوم بســنن وليــس أم ـراً يرتبــط ابلقــدرة علــى تكديــس‬
‫األشــياء واملــال ‪.‬‬
‫هــذا األمــر يبــن إمكانيــة اجيــاد نســق ينظــم الرتتيــب هلــذه اجملموعــات‪ ،‬لكــن‬
‫هــل هــذا النســق يف احلديــث عــن تفاعــل اإلنســان مــع متــوج األحــداث والفــرق‬
‫بــن العقليــة املاديــة واملؤمنــون ابلغيــب مث احلديــث عــن االختــاف والقضــااي‬
‫التش ـريعية مث احلديــث عــن العالقــات واملســافات ( التفــاوت ) بــن النــاس‬
‫واجلوانــب النفســية يف هــذه العالقــات ( منــوذج قابيــل وهابيــل ) مث احلديــث عــن‬
‫ســقوط األمــم واســتخالفها هــو أمــر يتكــرر علــى اختــاف الســور وموضوعاهتــا‬
‫‪ .‬هــذا مــا نقولــه ‪ ،‬و مــا حنــاول أن نبينــه بعــرض جمموعــة أخــرى ‪.‬‬
‫جمموعــة أخــري ذكرانهــا يف هنايــة الكتــاب وهــي جمموعــة يونــس عليــه‬
‫الســام وتبــدأ بســورة يونــس ( الــر ) وتنتهــي بســورة احلجــر (الــر) ‪ ،‬وموضوعهــا‬
‫كما يبدو هو عالقة الدعوة والداعية‪ ،‬فالتواصل بني املرســل واملســتقبل حتكمه‬
‫قواعــد وســنن‪ ،‬فتبــدأ الســور بتفســر اســتجابة املشــركني لدعــوة النــي صلــى هللا‬
‫عليــه و ســلم؛ لكــن هــذا التفســر اختلــف يف طريقــة عرضــه مــن ســورة ألخــرى‬
‫( كمــا هــو يف الفصــل األخــر مــن هــذا الكتــاب ) ‪ ،‬ترتيــب هــذا العــرض (‬
‫مــع اختــاف املوضــوع ) مل خيتلــف عــن ترتيــب جمموعــة آل عمـران ‪ ،‬فاحلديــث‬
‫عــن تفاعــل اإلنســان مــع السـراء والضـراء عــر منــوذج الســفينة املتكــرر يف القــرآن‬
‫الكــرمي‪ ،‬وهــي حالــة اإلنســان الصفريــة بــدون وجــود أي ســبب للســيطرة علــى‬
‫األحــداث ‪ ،‬حــن جيــد نفســه يف عبــاب البحــر و تعالــت األمـواج مــن حولــه ‪،‬‬
‫تلــك احلالــة الــي قــد تشــابه فطــرة اإلنســان قبــل أن خيــرج مــن حالــة الفقــر بتعبــر‬
‫‪131‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫ابــن القيــم رمحــه هللا ‪ ،‬يتعلــق اإلنســان بنــداء تلــك الفطــرة فيلجــأ إىل هللا ‪ ،‬لكــن‬
‫بعــد أن يــزول ذلــك اخلطــر ‪ ،‬ويشــعر ابلقــدرة علــى الســيطرة يبــدأ يف حســاابت‬
‫جديــدة ‪ ،‬هــذا املشــهد هــو الــذي ذكرتــه الســورة ‪ ،‬وفسـرته ابلعجلــة الــي ركبــت‬
‫يف اإلنســان ‪ ،‬لكــن الســورة تؤكــد إمكانيــة االنقــاب مــن طــرف آلخــر عندمــا‬
‫حيــدث مــا ال يتوقعــه اإلنســان كمــا بينــت بقصــة فرعــون عندمــا انتقــل إىل‬
‫الطــرف اآلخــر و قــال ( آمنــت أنــه ال إلــه إال الــذي آمنــت بــه بنــو إسـرائيل )‪،‬‬
‫وتؤكد الســورة أن ذلك حدث يف كل األمم الســابقة ( فلوال كانت قرية آمنت‬
‫فنفعهــا إمياهنــا )(‪ ، )98‬بعــد أن أييت العــذاب تؤمــن األمــم مبــا كانــت تســتبعده‬
‫‪131‬‬
‫وتــرى أنــه هـراء وســخف !! ‪.‬‬
‫ســورة هــود تبــن أن هــذا التواصــل مرتبــط بســنة التدافــع والــي مــن عناصرهــا‬
‫االختالف لتجد الســياق يبني تدافع األنبياء مع أقوامهم وحماوالت االســتعالء‬
‫مــن قــوم نــوح والتهديــد مــن قــوم هــود واإلغـراء مــن مثــود والتشــهري مــن قــوم لــوط‬
‫و البغــي مــن قــوم شــعيب واالســتبداد مــن فرعــون ‪ ،‬لــذا جنــد عــرض القصــص يف‬
‫ســورة هود عرضاً فريداً مل يتكرر يف غريه من الســور ‪ ،‬فعرض القصص اخلمس‬
‫املتكــررة يف القــرآن اختلــف بــن ســورة األع ـراف وســورة هــود وفق ـاً لرتتيــب‬
‫تلــك الســور وموضعهــا يف جمموعتهــا األوىل ركــزت علــى االســتخالف ( يذكــر‬
‫تســخري األرض وخالفــة أمــة ألخــرى ) والثانيــة ( هــود ) تذكــر دعـوات األنبيــاء‬
‫و كيــف واجههــم أقوامهــم ‪ ،‬تعــايل قــوم نــوح ‪ ،‬وبطــش قــوم هــود ‪ ،‬وإغ ـراء‬
‫قــوم صــاحل ‪...‬و تنتهــي الســورة بذكــر ســنة التدافــع واالختــاف ‪ ،‬أمــا ســورة‬
‫يوســف فالتفاعــل النفســي واحلســد والغــرة ظاهــر يف الســرد‪ ،‬وقــد بينــت ســورة‬
‫الرعــد ذلــك بذكــر التفــاوت بــن درجــات النــاس وأن ذلــك ســنة كونيــة كالــزرع‬
‫( يســقى مبــاء واحــد ونفضــل بعضهــا علــى بعــض يف األكل ) ‪ ،‬وســورة إبراهيــم‬
‫وذكــر االســتبداد واالســتكبار وأن ذلــك االســتبداد هــو الــذي منــع النــاس مــن‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪132‬‬

‫اإلميــان لنجــد أنفســنا أمــام احلديــث عــن االســتخالف يف ســورة احلجــر وذكــر‬
‫آدم و تتابــع األمــم ‪ ،‬لكــن قصــة آدم تعــرض لرتكــز ال علــى ســبب اســتخالف‬
‫آدم يف األرض بــل علــى مانــع مــن موانــع التصديــق ( وهــو موضــوع اجملموعــة )‬
‫وهــو التعلــق ابملــادة كمــا أنكــر الشــيطان مكانــة اإلنســان عندمــا نظــر للصلصــال‬
‫واحلمــأ املســنون ‪.‬‬
‫رمبــا قــد اتضحــت الفكــرة قلي ـاً فــكل جمموعــة هلــا موضوعهــا ‪ ،‬لكــن‬
‫ترتيبهــا لــه نســق آخــر‪ ،‬نفــرض أنــه متكــرر ‪ .‬هــذا ال يعــي أن األمــر قاعــدة ال‬
‫تنخــرم فالبــد أن ميضــي الرتتيــب هبــذه الطريقــة ‪ ،‬بــل املقصــود هــو اكتشــاف‬
‫هــذا النســق الكامــن يف الرتتيــب ‪ ،‬فقــد جتــد ســورة فيهــا حديــث عــن العجلــة‬
‫واملســار املتغــر للتاريــخ وفيهــا أيضـاً حديــث عــن االختــاف ‪ ،‬لكــن ابالســتقراء‬
‫والتأمــل ‪ ،‬ميكــن فهــم موضــوع كل جمموعــة ومعرفــة النســق الــذي تتحــرك فيــه‬
‫اجملموعــة دون اش ـراط أن يكــون هنــاك ســنة واحــدة فقــط هــي الــي حتكــم‬
‫اجملموعــة ‪ .‬فلــو أخــذان مثــاالً آخــر‪ ،‬ســور طــه واألنبيــاء واحلــج واملؤمنــون ( كمــا‬
‫ذكــر الشــيخ ســعيد رمحــه هللا ) ‪ ،‬جنــد أن موضــوع التمكــن هــو الرابــط بــن‬
‫تلــك الســور ‪ ،‬ففــي طــه كيــف جنــى هللا موســى وبــي اس ـرائيل مــن عدوهــم و‬
‫أنــزل عليهــم املــن والســلوى ‪ ،‬وكيــف جنــى هللا األنبيــاء يف ســورة األنبيــاء وجعــل‬
‫هلــم ذكـراً ومكانــة يف التاريــخ ‪ ،‬بعــد أن جــرت عليهــم ســنة احليــاة ابالبتــاء عــر‬
‫التمــوج الــذي هــو طبــع الوجــود ( ســنة اهلدايــة ) ‪.‬‬
‫فهنــا ســوراتن (طــه واألنبيــاء) جنــد فيهمــا قضيــة العجلــة واملفاجــأة الــي‬
‫حلــت بســحرة فرعــون حــن آمن ـوا بــن عشــية وضحاهــا‪ ،‬وعجلــة قــوم موســى‬
‫وتكــرر لفــظ العجلــة يف ســياق القصــص ( مــا أعجلــك عــن قومــك اي موســي )‬
‫( أعجلتــم أمــر ربكــم )‪ ،‬وكيــف أن النــاس يــوم القيامــة يتســاءلون ( كــم لبثتــم )‬
‫وكأن احليــاة متضــي سـريعاً‪ ،‬ألن اإلنســان ابــن حلظتــه‪ ،‬ويف قصــة آدم جنــد ســياقاً‬
‫‪133‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫مل يتكــرر فرتكــز علــى النســيان و العجلــة فقــال عــن آدم عليــه الســام ( فنســي‬
‫ومل جنــد لــه عزمــا ً )‪ ،‬مث يبــن بوضــوح ســنة اهلدايــة ( كمــا ســنفصل ) ( ولــو أان‬
‫أهلكناهــم بعــذاب مــن قبلــه لقال ـوا ربنــا لــوال أرســلت إلينــا رســوالً مــن قبــل أن‬
‫نــذل و خنــزى ) (طــه اآليــة ‪.)134‬‬
‫هــذا العــرض يتكــرر يف ســورة األنبيــاء ( فمــا حيكمنــا هــو موضــوع الســورة‬
‫وفهمهــا ) ففيهــا حديــث عــن املفاجــأة الــي حتــدث لألمــم عنــد خــروج األحداث‬
‫عــن املتوقــع ( فلمــا أحس ـوا أبســنا إذا هــم منهــا يركضــون ) ومعــى اإلحســاس‬
‫‪133‬أنــه صــار ظاهـراً ال حيتــاج‬
‫كمــا ســيأيت هــو التوقــع لكــن مــن أحــس ابلشــيء أي‬
‫لكثــر ذكاء ‪ ،‬فهــو أشــبه ابلوقــوع ‪ ،‬إذا هــم منهــا يركضــون ‪ ،‬وإذا هنــا للمفاجــأة‬
‫كمــا هــي عنــد النحــاة ‪ .‬تؤكــد الســورة عجلــة اإلنســان ( خلــق اإلنســان مــن‬
‫عجــل ) وأن العــذاب أييت بغتــه فيبهــت اإلنســان ‪ .‬مث تذكــر قصــص األنبيــاء‬
‫وكيــف انتصــروا يف هنايــة املطــاف ‪.‬‬
‫التمكــن ظاهــر كذلــك يف ســورة احلــج منوذجــه الظاهــر هــو إبراهيــم عليــه‬
‫الســام وتلــك االســتجابة اهلائلــة الــي اســتمرت ليومنــا هــذا‪ ،‬لكــن العــرض يف‬
‫ســورة احلــج يف جــزء منــه يتحــدث عــن التدافــع يف ذكــر غــزوة بــدر‪ ،‬وجــزء آخــر‬
‫يتحــدث عــن التفــاوت والتنــازع الــذي حيدثــه يف النفــس البش ـرية‪ ،‬فتبــن أن‬
‫تــاوة القــرآن ينقســم النــاس حوهلــا وأهنــم يــكادون يســطون ابلذيــن آمن ـوا كمــا‬
‫هــو حســد قابيــل ونــزغ الشــيطان إلخــوة يوســف وحســد قريــش لنبــوة النــي كمــا‬
‫يف ســورة اإلس ـراء حــن قال ـوا ( أبعــث هللا بش ـراً رســوال) وهنــا قــال ( يــكادون‬
‫يســطون ابلذيــن يتلــون عليهــم آايتنــا )(ســورة احلــج اآلية‪-٧٢‬ومــا بعدهــا) لــذا‬
‫كان الرتكيــز علــى معــى االصطفــاء واالجتبــاء‪ ،‬و هــو املعــى املتكــرر يف املائــدة‬
‫و هــود و النحــل فــاهلل هــو صاحــب الفضــل يف مــا يعــرف ابلصـراع علــى املكانــة‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪134‬‬

‫( بتعب ـرات هيجــل ) لتنتهــي الســورة بتأكيــد معــى التمكــن و طريقــه وهــو‬
‫التدافــع وجتــاوز هــذا التنــازع ‪.‬‬
‫فســورة احلــج انتقلــت يف ســياقها مــن ســنة ألخــرى‪ ،‬فاملهــم هــو تتبــع‬
‫الســياق‪ ،‬أمــا ســورة املؤمنــون فســياقها واضــح يف التســخري و متكــن اإلنســان‬
‫مــن األرض‪ .‬لكــن ضمــن موضــوع اجملموعــة‪ ،‬ســنجد احلديــث عــن الوارثــن‬
‫لــأرض‪ ،‬وعــن تســخري الســموات واألرض‪ ،‬وعــن تتابــع األمــم‪ ،‬ومتكــن األنبيــاء‬
‫يف هنايــة املطــاف ويف هنايتهــا ( أهنــم هــم الفائــزون )‪ ،‬فالســياق متصــل ابحلديــث‬
‫عــن الفــوز والنصــر والتمكــن ضمــن نســق قريــب مــن األنســاق يف اجملموعــات‬
‫األخــرى قــد جيتمــع األمــر يف ســورة واحــدة أو أكثــر مــن ســورة لكــن تتبعــه يظهــر‬
‫هــذا النمــوذج الكامــن ‪.‬‬
‫موضــوع اجملموعــة هــو الــذي حيــدد الســياق للســور و النســق هــو القاعــدة‬
‫يف ترتيــب الســور‪ ،‬فســور كالــذاراايت إىل الواقعــة‪ ،‬كلهــا تثبــت اليــوم اآلخــر‬
‫و طبيعــة احليــاة أهنــا مل ختلــق للص ـراع علــى املــال ( الــرزق) ‪ ،‬لكــن ألن طبيعــة‬
‫هــذا اإلثبــات هــي طبيعــة فيهــا جوانــب منطقيــة و أخــرى تتعلــق ابلوحــي و‬
‫الكتــاب كانــت أربــع ســور تكــرر فيهــا القســم و جوابــه و التقريــر ألدلــة اليــوم‬
‫اآلخــر ‪ ،‬لكــن ســورة الرمحــن ظهــر فيهــا معــى التدافــع و معــى التفــاوت ( كمــا‬
‫ســنبني يف ســنة التفــاوت بــن املقربــن و اهــل اليمــن وفــق مــا ذكــره النســفى و‬
‫القرطــي) ‪ ،‬أمــا ســورة الواقعــة فظاهــر فيهــا معــى اجل ـزاء و االســتخالف فقــد‬
‫ذكــر فيهــا قضــااي تتعلــق ابخللــق و النشــأة و الطاقــة و امليــاه و كلهــا متعلقــات‬
‫لالســتخالف و الــدورات الكــرى يف التاريــخ‪ ،‬إنــه نســق متكــرر مــع اختــاف‬
‫القضــااي الــي تعاجلهــا هــذه اجملموعــات و الســور ‪.‬‬
‫‪135‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫ذك ـران يف هنايــة الكتــاب منــوذج آخــر مــن احلواميــم‪ ،‬ومنــوذج مــن قصــار‬
‫الســور‪ ،‬وابالســتقراء والربــط بــن موضــوع الســورة و اجملموعــة جتــد تك ـرار هــذا‬
‫النســاق يف احلديــث عــن العجلــة واالختــاف والتفــاوت واآلجــال ( للمســتبدين‬
‫واألمــم ) واالســتخالف ( ومــا يتعلــق هبــا مــن تســخري وتتابــع لألمــم بعضهــا‬
‫ببعــض ) ‪ .‬مــاذا لــو حاولنــا دراســة هــذه اخلماســية‪ ،‬وتتبعهــا يف القــرآن الكــرمي‪،‬‬
‫وأن توضــع يف متتاليــة أو آليــه حتكمهــا ســنة نســتقرئها مــن فهــم هــذه األليــات‬
‫وتكرارهــا مث نضــع كل تلــك الســنن يف منــوذج واحــد ‪ ،‬ونتتبعــه عــر التاريــخ ‪.‬‬
‫يف موش ـرات لرصــد حركــة‬ ‫حنــاول بعــد ذلــك أن نضــع ذلــك النمــوذج‪135‬‬
‫اجملتمــع‪ ،‬أليــس ذلــك األمــر يعــي أننــا قــد وضعنــا أيدينــا علــى بدايــة ســرد حقيقــي‬
‫ميكــن أن يصلــح لفهــم اجملتمــع ورصــد حركتــه ؟ ‪.‬‬
‫ســنحاول أن نقــوم بذلــك يف مــا يلــي يف ابقــي فصــول هــذا الكتــاب ‪.‬‬
‫ســنتعرض اآلن لــكل ســنة يف النســق الــذي ذك ـرانه يف الفصــل الســابق‪ ،‬أي‬
‫أننــا ســنفكك هــذا النمــوذج لعناصــره املكونــة ‪ ،‬وسنســمي كل عنصــر (ســنة)‬
‫ســندرس كل ســنة مــن خــال مــا يلــي ‪:‬‬
‫نذكر العناصر املكونة هلذه السنة ‪.‬‬
‫مث املتتالية أو اآللية أو املشهد التارخيي الذي تتجلّى فيه السنة ‪.‬‬
‫مث نذكر اآلايت أو السور اليت تذكر هذه السنة ‪.‬‬
‫وأنخــذ بعــد ذلــك جولــة قصــرة ( ليســت مملــة ) يف التاريــخ عــن كل ســنة‬
‫مــن هــذه الســنن حــى ميكــن أن نرصدهــا يف الواقــع ‪ .‬فلنبــدأ بفهــم القواعــد‬
‫الــي حتكــم النمــوذج الســابق مث حنــاول أن نعيــد رســم املشــهد يف ضــوء القــرآن‬
‫والدراســة الكليــة للنمــوذج وهللا املوفــق ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪136‬‬

‫الفصل السادس‬

‫سنة اهلداية ‪ :‬املستقبل‬

‫اهلدايــة هــي البيــان والداللــة املوصلــة للغايــة ‪ .‬وســنة اهلدايــة نعــي هبــا‬
‫ذلــك القانــون الــذي حيكــم حركــة الوجــود والنــاس مل ـراد هللا مــن هــذا الكــون‪.‬‬
‫فاهلدايــة تكــون غريزيــة كهدايــة احليـوان والــدواب‪ ،‬أو هدايــة تصديــق واســتجابة‬
‫للدع ـوات املختلفــة ولألمــارات والعالمــات يف هــذا الوجــود ‪ .‬وهــذا التصــور‬
‫يبــن أننــا نعيــش احليــاة يف تتابــع ومســار حمــدد‪ ،‬وأن الزمــن الــذي نعيشــه حيــوي‬
‫دالئــل ونــذر لألحــداث القادمــة‪ ،‬وأن هــذه الدالئــل قــد تكــون يف عــامل الفكــر‬
‫كالرســاالت الســماوية‪ ،‬أو يف عــامل املــادة كالعالمــات الكونيــة‪ ،‬أو يف عــامل‬
‫النفــس مــن اإلهلــام والتوفيــق أو يف عــامل اخليــال كالــرؤى واألحــام ‪.‬‬
‫واملتتالية حتدث كالتايل ‪:‬‬
‫• •يتشكل اجملتمع حول نظرية حمددة ترسم صورة املستقبل ( نبوءة )‪.‬‬
‫• •يؤمــن النــاس بتلــك النبــوءة ‪...‬يتحــرك اجملتمــع بتلــك النبــوءة ويبــي نظمــه‬
‫مــن وحيهــا ‪.‬‬
‫• •الزمن ميتد وتبدأ أمارات تدل على صدق أو كذب النبوءة ‪.‬‬
‫• •حركة اجملتمع يف شكل موجي بني حالة ازدهار وحالة أزمة وافتقار ‪.‬‬
‫• •يتأُثر اإلميان بتلك النبوءة حبالة اجملتمع وصدق النبوءة يف ذاهتا ‪.‬‬
‫• •إذا كانت النبوءة غري صادقة ينتهي اجملتمع بصوة مفاجئة ( صدمة ) ‪.‬‬
‫‪137‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫• •إذا كانــت صادقــة ‪ ،‬يعــي أهنــا قريبــة مــن األحــداث وابلتــايل يصبــح لــدى‬
‫اجملتمــع معرفــة مســبقة خميــال جمتمعــي ميكنــه مــن جتــاوز احملــن واالســتفادة مــن الفــرص ‪.‬‬
‫‪(.‬للمزيــد انظــر ‪j curve a new way to understand‬‬
‫‪why nation fail,Ian Bremmer, Simon SChuster‬‬
‫‪),2006‬‬
‫يف الكــون جنــد هــذه الســنة ظاهــرة فلــكل شــيء نـواة حتــوي كل مســتقبل‬
‫ذلــك الكائــن نبــاات كان أم حيـواان ‪ .‬هــذا األمــر أظهــر ممــا يســتدل عليــه خاصــة‬
‫يف علــم اجلينــات الــي غــرت الكثــر مــن املفاهيــم الفل‪137‬ســفية الســائدة ‪ ،‬فلــم يكــن‬
‫يتصــور الفالســفة واملتكلمــون كيــف للمســتقبل أن يوجــد يف احلاضــر ‪ ،‬فلــم‬
‫يعــرف ال أفالطــون وال هيجــل وهيــوم وال غريهــم أن خليــة ال تــرى ابلعــن فيهــا‬
‫كل املعلومــات عــن اإلنســان وحياتــه ورمبــا ســبب وفاتــه‪.‬‬
‫هــذا نقــل التفكــر مــن الســرد التطــوري لدارويــن إىل تصــور آخــر عــن‬
‫املســتقبل واحليــاة ‪ ،‬وصــارت إمكانيــة أن يكــون املســتقبل معــدا ســلفاً أمـرا ممكنــا‬
‫يف قصة اكتشاف غريت جمرى التاريخ يف ‪ 28‬فرباير ‪ 1953‬بعد حصار من‬
‫الســتالنيية للعــامل هرمــان مولــر الــي رفضــت فكــرة أن تكــون هنــاك طفــرة جينيــة‬
‫ليذهــب مولــر للــوالايت املتحــدة ‪ ،‬و يفتــح إلمكانيــة اكتشــاف اجلينــوم اىل أن‬
‫اكتشــف جيمــس طومســون واليكســيس كريــك اجلينــوم عندهــا صاح ـوا ‪ :‬لقــد‬
‫اكتشــفنا ســر احليــاة ‪)1(.‬‬
‫صحيــح أن التطــوري مل تنتــه بعــد ذلــك ألن االف ـراض الي ـزال قائمــا‬
‫ابلتطــور عــر اجلينــات‪ ،‬لكــن املعــى الفلســفي و زعزعــة تلــك النظريــة مــن عرشــها‬
‫حقيقــة‪ ،‬خاصــة بعــد اكتشــاف جينــات ال ميكــن تتبــع أســافها و األهــم هــو أن‬
‫االفـراض الــذي وضــع لإلنســان املتوحــش يف بدايتــه أو اإلنســان الــذي يبحــث‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪138‬‬

‫عــن مصاحلــه مث تطــور ليشــكل عالقــات اجتماعيــة ابت خمالفــا للدراســات‬


‫احلديثــة عــن اإلنســان يف فطرتــه ‪.‬‬
‫هــذا يعــي أن تفســر النظــام السياســي مل يعــد ابإلمــكان االعتمــاد فيــه‬
‫علــى تومــاس هوبــز و جــون لــوك كمــا نكــرر إىل اليــوم‪ ،‬إلن فكــرة الص ـراع‬
‫أو العقــد الــذي ينهــي هــذا الص ـراع غــر صحيحــة مــن هــذا اجلانــب‪ ،‬بــل إن‬
‫اإلنســان مــدين بطبعــه حققــة ال ميكــن جتاوزهــا‪ ،‬لــذا ميكــن أن يكــون اخلــوف‬
‫مــن املســتقبل و التوقعــات هــي الــي تفســر ســكينة النــاس و متاســكهم حــن‬
‫جيــدون مــن يعطيهــم ذلــك األمــل يف املســتقبل‪ ،‬و هــذا يفســر وجــود األداين يف‬
‫كل امللــل و النحــل ‪ ( .‬قــارن بكتــاب فرانســيس فوكوايمــا ‪The Origin‬‬
‫‪ ، of Political System‬و للمزيــد انظــر ‪j curve a new way‬‬
‫‪to (Understand why nation fail,Ian Bremmer,‬‬
‫‪Simon SChuster ,2006‬‬
‫لــذا ســنجد يف العــرض القــرآين الرتكيــز علــى الفطــرة البش ـرية املتعلقــة ابهلل‬
‫قبــل أن تكــون فرق ـاً و أح ـزاابً تبحــث عــن املــال و الــرزق و تتقلــب يف احليــاة‪،‬‬
‫كمــا يف آايت الــروم (‪ 35-30‬االايت مــن ســورة الــروم ) الــي تذكــر ابلفطــرة‬
‫الــي فطــر هللا النــاس عليهــا‪ ،‬قبــل أن يكونـوا أحـزاابً‪ ،‬ليذكــر الســياق بعــد ذلــك‬
‫النــاس و حاهلــم يف السـراء و الضـراء‪ ،‬تلــك األنثربوبوجيــا تتكــرر كمــا هــو اخللــق‬
‫و بدايتــه يف كل يــوم و يف كل ض ـراء ‪.‬‬
‫هــذا األمــر ميكــن أن يفســر بدايــة اجملتمعــات فوجــود فكــرة مســتقبلية أو‬
‫ن ـواة أو مركــز جاذبيــة (انظــر فيمــا بعــد ) جيتمــع عليهــا النــاس لتبــدد خماوفهــم‬
‫و ترســم لوحــة املســتقبل ( بصــور خمتلفــة يف التاريــخ ) يشــكل العقــل اجلمعــي‬
‫ويبــدأ النظــام السياســي الــذي يثــق فيــه اجملتمــع بعــد ذلــك ‪.‬‬
‫‪139‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫يف ســنة اهلدايــة ثــاث عناصــر ( نبــوءة – زمــن – صدمــة ) ‪ .‬النبــوءة قــد‬
‫تكون وحياً من الســماء ‪ ،‬أو رؤاي أو كهانة رمجاً ابلغيب ‪ ،‬رموزا أو أســطورة ‪،‬‬
‫أيديولوجيــات حتمــل رؤيــة مســتقبلية الزمــن قــد يطــول أو يقصــر ‪ ،‬ومتــوج احلركــة‬
‫بــن الس ـراء والض ـراء يؤثــر يف ارتبــاط اجملتمــع بتلــك النبــوءة واإلميــان هبــا ‪ ،‬وكل‬
‫االحتمــاالت واردة يف التاريــخ ‪ :‬قــد تصــدق النبــوءة وال يؤمــن هبــا النــاس ‪ .‬قــد‬
‫تكــذب النبــوءة ويؤمــن هبــا النــاس ‪ .‬وقــد تصــدق النبــوءة ويصدقهــا النــاس إال‬
‫أن طــول األمــد ( الزمــن ) جيعــل النــاس يكذبــون تلــك النبــوءة ‪ .‬صــدق التوقــع‬
‫ميكــن أن يوضــع يف معادلــة واضحــة كالتــايل ‪:‬‬
‫‪139‬‬

‫(القدرة على التوقع = الواقع – التوقع )‬


‫و أتيت املفاجــآت أو الصدمــة لتبــن صحــة مســار اجملتمــع مــن عدمــه ‪،‬‬
‫وبعــد الصدمــة حيــدث تغــر هائــل يف اجملتمــع ال ميكــن فهمــه يف إطــار الســبب‬
‫واألســباب ‪.‬هــذا العــرض اجملمــل ســيتأكد بذكــر اآلايت واألحــداث التارخييــة‬
‫الــي تبــن هــذا الســنة ‪.‬‬

‫املفاجأة يف القرآن ( فقه الرتقب ) ‪:‬‬


‫الســور الــي عرضــت ســنة اهلدايــة وهــي أوائــل جمموعــات يف الوحــدة‬
‫القرآنيــة (البقــرة ‪ ،‬آل عمـران يونــس ‪ ،‬طــه ‪ ،‬األنبيــاء‪ ،‬النــور ‪ ،‬العنكبــوت ‪ ،‬الــروم‬
‫‪ ،‬لقمــان ‪ ،‬الســجدة ‪ ،‬الصافــات ‪ ،‬ص ‪ ،‬الزمــر‪ ،‬غافــر ‪ ،‬اجلاثيــة ‪ ،‬األحقــاف‬
‫‪ ،‬الــذارايت ‪ ،‬النجــم ‪ ،‬الطــور ‪ ،‬القمــر ‪ ،‬جــزء ســبّح ‪ ،‬احلاقــة املعــارج ‪ ،‬نــوح ‪،‬‬
‫اجلـ ّـن ‪ ،‬املرســات ‪ ،‬عـ ّـم ‪ ،‬النزعــات ‪ ،‬عبــس ‪ ،‬الــروج ‪ ،‬الطــارق ‪ ،‬التكويــر ‪،‬‬
‫االنفطــار ‪ ،‬الفجــر ‪ ،‬البلــد ‪ ،‬التــن ‪ ،‬العصــر) ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪140‬‬

‫أول مــا يقابلنــا مــن مفاهيــم يف القــرآن يف بدايــة ســورة البقــرة ‪ ،‬تســاعدان‬
‫علــى فهــم ســنة اهلدايــة ‪ ,‬هــو مفهــوم يف تصنيــف النــاس ‪( ,‬اآلايت األوىل مــن‬
‫الربــع األول مــن البقــرة ) ‪ ,‬ليــس علــى أســاس مــن لغتهــم أو عرقهــم أو حــى‬
‫دينهــم ‪ ،‬بــل إن الواضــح مــن الســياق يف بدايــة الســورة ‪ ،‬أن التصنيــف ارتبــط‬
‫رجح القرطيب أن اإلميان ابلغيب ‪ ،‬املقصود‬ ‫ابإلميان ابلغيب من عدمه ‪ ،‬وقد ّ‬
‫‪ ،‬هــو الغيــب الــذي أخــر بــه الرســول صلــى هللا عليــه وســلم ‪ ،‬ممــا ال هتتــدي‬
‫إليــه العقــول » (‪)2‬‬
‫و ذكــرت مقدمــة البقــرة – كمــا روي عــن جماهــد – أصنافـاً ثالثــة للنــاس ‪،‬‬
‫األول ذلــك الــذي يؤمــن ابلغيــب ‪ ،‬وهــو مــا ميثــل كل األحــداث املســتقبلية الــي‬
‫أخــر هبــا النــي ‪ ،‬وهــذا ميثــل قدرهتــم علــى التعامــل مــع املســتقبل واالســتعداد لــه‬
‫‪ ،‬وقــد ذكــرت اآلايت الصــاة والصدقــة وغــر ذلــك كمؤشــر علــى هــذه القــدرة‬
‫‪ ،‬والصنــف الثــاين ذاك الــذي ال تنفعــه النــذارة ‪ ،‬فــا ينفعــه إنــذار وهــو أمــر‬
‫مســتقبلي ‪.‬ومل يفطــن البعــض ملعــى النذيــر يف اآليــة ‪ ،‬ومل يعتــر أن هنــاك مقابلــة‬
‫بني الفريقني ‪ ( .‬كأبو السعود وصاحب الظالل يف تفسريمها ) ‪ ،‬أما الصنف‬
‫الثالــث ‪ ،‬فهــم املنافقــون ‪ ،‬وخالصــة القــول فيهــم أهنــم يعيشــون حلظــة وال‬
‫يبالــون إال حباضرهــم ‪ ،‬وال يســتمعون إال ألهوائهــم وال ينقــادون إال لشــهواهتم ‪.‬‬
‫هــذا التصنيــف بــي علــى أســاس القــدرة علــى جتــاوز الواقــع (املؤمنــون)‬
‫وآخــرون ال ينفعهــم نذيــر وال يســتطيعوا أن يتجــاوزوا الواقــع ( الكافــرون)‬
‫وآخــرون املنافقــون ‪ :‬مصلحيــون بــن هــؤالء وهــؤالء كمــا وصفهــم القــرآن يف‬
‫بدايــة البقــرة ‪ .‬هــذا الوصــف اتضــح مــن خــال عــرض مســار احلضــارة اليهوديــة‬
‫‪ ،‬وهــي حضــارة توصــف أبهنــا ميتــة يف علــم احلضــارات ‪ ،‬لكــن العــرض القــرآين‬
‫يركــز علــى االنتقــال مــن الرســالة واملهمــة الــي أوكلــت إىل بــي إس ـرائيل إىل‬
‫املاديــة الزمنيــة الــي غــرت مســار األحــداث ابلنســبة لليهــود ‪.‬‬
‫‪141‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫تدرج األمر يف القرآن كالتايل ‪:‬‬


‫عــدم االعتبــار ابلتاريــخ الــذي مــر هبــم‪ ،‬والتاريــخ عــرض بطريقــة متموجــة‬
‫ينتقــل فيهــا مــن الس ـراء ( النجــاة مــن فرعــون ‪ ،‬هدايــة الكتــاب ‪ ،‬النجــاة مــن‬
‫العذاب والصاعقة ‪ )....‬إىل الضراء ( فرعون ‪ ،‬األمر أبن يقتل بعضهم بعضا‬
‫‪ ،‬الصاعقــة ) ‪ ،‬وهــم يف كل ذلــك ال يعتــرون أبن مــا حيــدث ميثــل رســالة وأمــارة‬
‫اترخييــة لوجــود خلــل يف ســلوكهم ‪ ،‬لــذا كان األمــر الثــاين يتعلــق بتعاملهــم مــع‬
‫الكتــاب وذكــر كيــف احنرفـوا عــن تعاليــم الكتــاب يف قصــة الســبت وقصــة البقــرة‬
‫‪141‬ضــااي ‪:‬‬
‫‪...‬اخل ‪ .‬هــذا االمــر أوصــل بــي إسـرائيل إىل ثــاث ق‬
‫املادية ‪ :‬املتاجرة ابلكتاب واملادية ‪(.‬من اآلية ‪ 40‬إىل اآلية )‬
‫العصبية ( وحدة التاريخ ) ‪ :‬أسطورة شعب هللا املختار ‪ 68(.‬إىل ‪)92‬‬
‫الوثنية ‪ :‬السحر يف قصة سليمان ‪)102-96(.‬‬
‫هــذا التــدرج ميكننــا مــن فهــم كيــف تنتقــل احلضــارة مــن الرســالية إىل‬
‫الوثنيــة ‪ ،‬وكل ذلــك انتقــال مــن اإلميــان ابلغيــب إىل انســداد األفــق عــن النــذارة‬
‫واملســتقبل ‪ .‬هنــا نصــل إىل معــى مهــم وهــو أن ‪ :‬األمــة الــي تفقــد قدرهتــا علــى‬
‫االعتبــار ابلتاريــخ تدخــل يف ماديــة وحســاابت زمنيــة متنــع عنهــا القــدرة علــى‬
‫قيــادة العــامل ‪ .‬لــذا جنــد احلديــث عــن اإلمامــة يف احلديــث عــن ســيدان إبراهيــم‬
‫‪ ،‬وكيــف صــور القــرآن لألمــة دور الـرايدة ‪ ،‬وأن هــذا الــدور لــن يكــون يف ذريـ ٍـة‬
‫بعينهــا ‪ ( ،‬قــال ومــن ذريــي قــال ال ينــال عهــدي الظاملــن ) ‪ ،‬وهــذا يســميه‬
‫صاحــب املنــار ســنة الفطــرة ‪ ،‬وهــو معــى اهلدايــة‪ ،‬إذ أن طبيعــة اإلميــان واحلــذر‬
‫مــن املســتقبل أمــر يتــوزع توزيعـاً طبيعيـاً بــن األمــم والشــعوب‪ ،‬وهــو املعــى الــذي‬
‫تكــرر يف أكثــر مــن موضــع ‪ ،‬فاهلدايــة بيــد هللا يوزعهــا كمــا يشــاء ‪ ،‬وأساســها‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪142‬‬

‫هــو التعلــق ابملســتقبل أو الرغبــة يف احلاضــر والتعامــل إبطــاق مــع األســباب‬


‫واملســببات واالعتقــاد مبطلــق املعرفــة ‪.‬‬
‫يف ســورة آل عم ـران يشــرح ذلــك بصــورة أخــرى ‪ ,‬قــال تعــاىل ( هــو‬
‫الــذى أنــزل الكتــاب منــه آايت بينــات هــن أم الكتــاب ‪,‬اآليــة ‪ ، ) 7‬يــرى ابــن‬
‫القيــم يف إعالمــه أن هــذه اآليــة تفســر مــا حــدث لــأداين الثالثــة مــن أتويــل‬
‫‪ ,‬وأن الكتــاب الــذي هــو أًصــل ومنطلــق احلضــارات الثالثــة‪ ،‬وأن اتريــخ هــذه‬
‫احلضــارات يــدور حــول الكتــاب وطريقــة فهمــه أو أتويلــه‪ ،‬و أن االحن ـراف يف‬
‫التأويــل يؤكــد حقيقــة أن لــكل أمــة مصــدراً فك ـرايً تنطلــق منــه وأن هــذه الســنة‬
‫ترتبــط ابرتبــاط تلــك األمــة بــن الرســالة واملــادة أو اإلميانيــة والزمنيــة‪ ،‬قــال ابــن‬
‫القيــم ( و ليــس هــذا خمتصـاً أي التأويــل بديــن اإلســام فقــط ‪ ،‬بــل ســائر أداين‬
‫الرســل مل تــزل علــى االســتقامة والســداد حــى دخلهــا التأويــل ‪ ,‬فدخــل عليهــا‬
‫مــن الفســاد مــاال يعلمــه إال رب العبــاد أي أن إشــكال هــذه األمــم كان النــص‬
‫املكــون أو النـواة األساســية و هــذا مــا حيــدث لــكل أمــة ســوآء بنــص أو نظريــة‬
‫مســتقبلية أو ظــرف اترخيــي تكونــت فيــه الدولــة تلكــم هــي الن ـواة الــي حتــوي‬
‫مســتقبل األمــة‪.‬‬
‫وقد تواترت البشارات بصحة نبوة حممد صلى هللا عليه وسلم يف الكتب‬
‫املتقدمــة و لكــن ســلطوا عليهــا التأويــل فأفســدوها ‪ ,‬كمــا أخــر ســبحانه عنهــم‬
‫مــن التحريــف والتبديــل والكتمــان ‪ ،‬فالتحريــف حتريــف املعــاين ابلتأويــات الــي‬
‫مل يردهــا املتكلــم هبــا ‪ ،‬و التبديــل تبديــل لفــظ بلفــظ آخــر‪ ,‬والكتمــان جحــد ‪.‬‬
‫وهــذه االدواء الثالثــة منهــا غــرت األداين وامللــل ‪ ,‬وإذا أتملــت ديــن املســيح‬
‫وجــدت النصــارى إمنــا تطرقـوا إىل إفســاده ابلتأويــل مبــا ال يــكاد وجيــد قــط مثلــه‬
‫يف شــئ مــن األداين ‪ ،‬ودخل ـوا إىل ذلــك مــن ابب التأويــل ‪ ،‬كذلــك زاندقــة‬
‫األمــم مجيعهــم تطرق ـوا إىل إفســاد آايت الرســل ‪ ()....‬فاف ـراق أهــل الكتابــن‬
‫‪143‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫‪ ,‬وافـراق األمــة علــى ثــاث وســبعني فرقــة إمنــا أوجبــه التأويــل ‪ ،‬وإمنــا أريقــت‬
‫دمــاء املســلمني يــوم اجلمــل وصفــن واحلــرة وفتنــة ابــن الزبــر وهلــم جـراً ابلتأويــل )‬
‫(‪ )7‬وعالقــة هــذا التأويــل بســنة اهلدايــة ظاهــرة ‪ ،‬إذ أن هــذا التأويــل هــو الــذي‬
‫يرســم للنــاس املســتقبل ‪ ،‬وإن األحــداث هــي خــر تصديــق لتلــك التفس ـرات‬
‫‪ ،‬وعلــى قــدر هــذا الصــدق يف التأويــل تكــون اهلدايــة‪ ،‬كقــدرة يوســف علــى‬
‫أتويــل رؤاي امللــك ‪ ،‬و التصديــق بذلــك التأويــل خيتلــف فيــه النــاس وينقســمون‬
‫إىل األصنــاف الــي ذكرهتــا مقدمــة ســورة البقــرة ‪ .‬وتبــن الصــورة املاديـةَ الــي فســر‬
‫هبــا ميــاد املســيح عليــه الســام‪ ،‬و كيــف انتقلــت تلــك احلضــارة مــن الرابنيــة إىل‬
‫‪143‬‬
‫التعلــق ابألشــخاص والتفســر املــادي لألحــداث ‪.‬‬
‫هــذا األمــر اتضــح يف غــزوة أحــد‪ ،‬وفيهــا تصويــر واضــح لتأثــر التعلــق‬
‫ابألسباب و قدرة األمة على اختاذ القرار ‪ ،‬و ما حيدثه ذلك من سراء ( نصر‬
‫يف غــزوة أحــد ) ض ـراء ( فشــل )‪ ،‬و تفســر ماحــدث يف أحــد بــن املؤمنــن‬
‫و املنافقــن و تبــن الســورة طبيعــة احليــاة واالبتــاء هبــذا التمــوج يف األحــداث‬
‫وكيــف ينقســم النــاس عــر هــذا األحــداث إىل االصنــاف الســابقة ‪.‬‬
‫يف ســورة يونــس بيــان واضــح للســنة ‪ ،‬يفســر مــا ســبق‪ ،‬حيــث تشــرح‬
‫الســورة الســنة كالتــايل ‪:‬‬
‫(و لــو يعجــل هللا للنــاس الشــر اســتعجاهلم ابخلــر لقضــي إليهــم أجلهــم‬
‫فنــذر الذيــن ال يرجــون لقــاءان يف طغياهنــم يعمهــون ‪ .‬وإذا مــس اإلنســان الضــر‬
‫دعــاان جلنبــه أو قاعــداً أو قائمـاً فلمــا كشــفنا عنــه ضــره مـّـر كأ ْن مل يدعنــا إىل ضــر‬
‫مســه ‪ ،‬كذلــك زيــن للمســرفني مــا كانـوا يعملــون) (‪ 11‬األيــة )‬
‫هــذا الوصــف يتكــرر يف الســور الــي ذك ـران أهنــا تنطلــق مــن هــذه الســنة‬
‫بصــورة خمتلفــة‪ ،‬وهــي أســاس لفهــم ســنة اهلدايــة‪ ،‬العجلــة الــي ركــب منهــا‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪144‬‬

‫يتعجــل الس ـراء دائم ـاً‪ ،‬فمــا أن يصــاب بضــر حــى‬


‫اإلنســان‪ ،‬هــي الــي جتعلــه ّ‬
‫يتعجــل انتهــاء أجلــه ( أي الضــر )‪ ،‬وجمــيء الفــرج ينســيه ذلــك الضــر‪ ،‬ويزيــن‬
‫ّ‬
‫لــه املســتقبل أنــه علــى وتــرة واحــدة‪ ،‬ومــا عليــه إال أن جيمــع مــن األســباب‬
‫مــا مينــع عنــه الضــر ويعطيــه اخللــود يف الدنيــا ‪.‬‬
‫وتعطينا السورة مثال لذلك ‪:‬‬
‫( هــو الــذي يســركم يف الــر والبحــر حــى إذا كنتــم يف الفلــك وجريــن هبــم‬
‫بريــح طيبــة وفرح ـوا هبــا جاءهتــا ريــح عاصــف وجاءهــم املــوج مــن كل مــكان‬
‫وظن ـوا أهنــم أحيــط هبــم دع ـوا هللا خملصــن لــه الديــن لئــن أجنيتنــا مــن هــذه‬
‫لنكونــن مــن الشــاكرين ‪.‬فلمــا أجناهــم إذا هــم يبغــون يف األرض بغــر احلــق ‪)....‬‬
‫(‪)22‬‬
‫لــذا فالرؤيــة املســتقبلية الــي يبــدأ هبــا أي حـراك اجتماعــي هــي مــا يؤثــر يف‬
‫نفســية النــاس ورغباهتــم‪ ،‬و يؤثــر يف قناعاهتــم‪ ،‬وأييت هنــا دور املفاجــأة يف تغيــر‬
‫املفاهيــم والتصــورات فمــن أقصــى التكذيــب قــد ينقلــب األمــر إىل إميــان حــن‬
‫يفــرض الواقــع نفســه ( قــل أرأيتــم إن أاتكــم عذابــه بيــاات أو هنــارا مــاذا يســتعجل‬
‫منــه اجملرمــون )(أمث إذا مــا وقــع آمنتــم بــه ۚ آآلن وقــد كنتــم بــه تســتعجلون) (مث‬
‫قيــل للذيــن ظلم ـوا ذوق ـوا عــذاب اخللــد هــل جتــزون إال مبــا كنتــم تكســبون)‬
‫(‪)52-50‬‬
‫مــا حــدث لفرعــون حــن أدركــه الغــرق يف نفــس الســورة ( قــال آمنــت‬
‫أنــه ال ألــه إال الــذي آمنــت بــه بنــو إسـرائيل) فــكل القــرى آمنــت حــن جاءهــا‬
‫العــذاب ( إال قــوم يونــس ملــا آمنـوا كشــفنا عنهــم عــذاب اخلــزي يف احليــاة الدنيــا‬
‫ّ‬
‫‪()...‬يونــس االيــة ‪.)91‬‬
‫‪145‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫فاإلنســان عندمــا حيــدث مــا ال يتوقعــه ‪ ،‬يؤمــن ابلواقــع اجلديــد ‪ ،‬وهــذا‬


‫معــى العجلــة الــي يذكرهــا القــرآن‪ ،‬وهــو الســلوك الطبيعــي لإلنســان قبــل أن‬
‫هتذبــه األداين‪ ،‬لــذا فالقــدرة علــى التعامــل مــع األحــداث هــي جوهــر التغــر‬
‫الــذي حيدثــه اإلميــان يف اإلنســان و هــو أســاس الفكــر اآلس ـراتيجي املعاصــر‬
‫الباحــث عــن إمكانيــة توقــع حركــة اآلخــر ‪.‬‬
‫يف ســورة طــه جنــد إميــان الســحرة يكشــف عــن هــذه الســنة‪ ،‬فكمــا أن‬
‫فرعــون آمــن حــن غــرق مــن البحــر ‪ ،‬فهــؤالء آمنـوا ملــا رأوا صــدق معجــزة موســى‬
‫يؤثــر يف اإلميــان والتصديــق‬
‫عليــه الســام ‪ ،‬فاملفاجــأة ‪ ،‬وحــدوث مــا ال يتوقــع‪145‬‬
‫‪ ،‬فــإذا صــادف ذلــك خلفيــة لــدى اإلنســان ‪ ،‬كمعرفــة مســبقة أو إميــان بشــيء‬
‫مشــابه ‪ ،‬فــإن درجــة اإلميــان وســرعته تــزداد وهــذا مــا حــدث مــع الســحرة ‪.‬‬
‫وبعــد أن انتهــى ظلــم فرعــون ‪ ،‬تبــن الســورة ضــرورة البنــاء املتــدرج وعــدم‬
‫العجلــة لــذا كان الس ـؤال ( مــا أعجلــك عــن قومــك اي موســى؟)(‪ ، )83‬لــذا‬
‫قــال للنــي اســتفادةً مــن درس بــي اس ـرائيل ( وال تعجــل ابلقــرآن مــن قبــل أن‬
‫يقضــى إليــك وحيــه )(‪ ، )114‬ويف قصــة آدم عليــه الســام ( فنســي ومل جنــد‬
‫لــه عزمــا )(االيــة ‪)115‬‬
‫و مل يــرد يف قصــة آدم مثــل هــذا التعبــر يف القــرآن و هــو مناســب لســنة‬
‫اهلدايــة و موضــوع اجملموعــة وهــو فقــه التمكــن ‪ ،‬فلكــي تتكــون أمــة هلــا مهمــة‬
‫و اس ـراتيجية اترخييــة واضحــة البــد مــن فهمهــا‪ ،‬والصــر علــى نتائجهــا وعــدم‬
‫تقييــم األفــكار مبؤشـرات اقتصاديــة ماديــة‪ ،‬بــل ال بــد مــن ربطهــا بقدرهتــا علــى‬
‫اخلــروج ابجملتمــع مــن حــال إىل حــال بتصــور واضــح للمســتقبل تبــى عليــه طبيعــة‬
‫احلـراك االجتماعــي ‪ ،‬لــذا فالعجلــة وعــدم التبصــر ‪ ،‬والســقوط مــع أول اختبــار‬
‫قــدري خيالــف توقعــات النــاس هــو مــا نبهــت لــه الســورة ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪146‬‬

‫ويف هنايــة الســورة ‪( :‬ولــو أ ّن أهلكناهــم بعــذاب مــن قبلــه لقالـوا ربنــا لــوال‬
‫أرســلت إلينــا رســوالً فنتبــع آايتــك مــن قبــل أن نــذل وخنــزى ‪ .‬قــل كل مرتبــص‬
‫فرتبص ـوا فســتعلمون مــن أصحــاب الص ـراط الســوي ومــن أهتــدى )(‪. )134‬‬
‫فهنــا ثــاث قضــااي ‪:‬‬
‫• •ضرورة الرسالة لتفادي العذاب (نبوة توافق التاريخ وتستجيب للتحدايت‬
‫بتعبريات توينيب) ‪.‬‬
‫• •الرتبص واالنتظار سيبني صدق النبوة ‪.‬‬
‫• •أن اهلداية ترتبط هبذا االنتظار والقدرة على فهم األحداث ‪.‬‬
‫يف ســورة األنبيــاء جنــد قولــه تعــاىل « وكــم قصمنــا مــن قريــة ظاملــة وأنشــأان‬
‫أحس ـوا أبســنا إذا هــم منهــا يركضــون ‪ ,‬ال تركض ـوا‬‫بعدهــا قوم ـاً آخريــن ‪ ،‬فلمــا ّ‬
‫وارجع ـوا إىل مــا أترفتــم فيــه ومســاكنكم لعلكــم تســئلون)(‪ )13-11‬ومعــى‬
‫أحسـوا هنــا توقعـوا ‪ ،‬و إذا للمفاجــأة ( إذا هــم يقنطــون ‪ -‬إذا هــم يستبشــرون‬
‫‪ -‬فــإذا هــي ثعبــان مبــن ) ‪ .‬فهــذه القريــة ملــا توقــع أهلهــا العــذاب أبن‬
‫اجتمعــت النــذر واألمــارات عليهــا عرف ـوا ضالهلــم ‪ ،‬فطلــب منهــم أن يعــودوا‬
‫وينظروا إىل املادة اليت آمنوا هبا والرتف الذي عاشــوه لعلهم يفقهون ويهتدون‬
‫إىل الطريــق الصحيــح الــذي ال يوصلهــم إىل مثــل هــذه النهايــة و هــو طريــق‬
‫اإلميــان والتصديــق ‪ .‬لــذا كان احلديــث عــن العجلــة الــي جتعــل مــن األمــم رهينــة‬
‫للمكاســب الوقتيــة وتبتعــد عــن فهــم حقيقــة بنــاء اجملتمعــات والتفســر احلقيقــي‬
‫ملــا حيــدث هلــا‪ (،‬خلــق اإلنســان مــن عجــل )‪ ( ،‬بــل أتتيهــم بغت ـةً فتبهتهــم )‬
‫وهــذا وصــف للمفاجــأة كزمــن ولتأثــر ذلــك علــى ســلوك اإلنســان وعجــزه مــع‬
‫الصدمــة ( فتبهتهــم فــا يســتطيعون ردهــا وال هــم ينصــرون )(‪.)40-37‬‬
‫‪147‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫وتعطينــا الســورة صــورة لتأثــر هــذا القانــون ‪ ،‬ففــي قصــة إبراهيــم قــال تعــاىل‬
‫( قــال بــل فعلــه كبريهــم هــذا فســئلوهم إن كان ـوا ينطقــون فرجع ـوا إىل أنفســهم‬
‫فقال ـوا إنكــم أنتــم الظاملــون مث نكس ـوا علــى رؤوســهم لقــد علمــت مــا هــؤالء‬
‫ينطقــون ) (‪ ،)65‬قــد توفــرت عوامــل الســنة ‪ ،‬أو البيئــة الــي حيــدث معهــا هــذا‬
‫االنقــاب‪ ،‬فــإن ذلــك املنظــر‪ ،‬وتلــك الظــروف ‪ ،‬أرجعــت القــوم إىل تصورهــم‬
‫عــن اآلهلــة ‪ ،‬وكوهنــا ال تدفــع عنهــم الضــر أوتكشــف هلــم عــن الغيــب ‪ ،‬ولكــن‬
‫ســرعان مــا رجع ـوا لســابق عهدهــم لتمكــن ذلــك الشــرك فيهــم ‪.‬‬
‫‪147‬من غيب العلوم ‪ ،‬ولكن‬ ‫قد تكتشــف ســر حقيقة ‪ ،‬أو تفتح لك روزنة‬
‫ســرعان ما خيتفي ذلك الســر وتغلق تلك الروزنة ‪ ،‬وتعود لتعرف تلك الوســيلة‬
‫الــي أوصلتــك لتلــك احلقيقيــة فــا تســتطيع ‪ ،‬لــذا فالصدمــة واملعرفــة الــي نشــأت‬
‫عنهــا قــد ال جتــدي صاحبهــا شــيئا كهــؤالء وإميــان فرعــون وكل األمــم الــي آمنــت‬
‫ســاعة العذاب (وحرام على قرية أهلكناها أهنم ال يرجعون )(‪. )95‬‬
‫ويف هــذه الســور ‪ ،‬هبــذا املعــي ‪ ،‬جنــد أن االقتنــاع والتصديــق مرتبــط‬
‫ابخللفيــة الثقافيــة للمســتقبل ‪ ،‬فتتشــكل القناعــة إذا وافقــت نفســية املتلقــي ‪،‬‬
‫ووجــود خلفيــة معرفيــة متكنــه مــن االســتجابة ‪ ،‬هــذا األمــر يعــر عنــه القــرآن يف‬
‫أكثــر مــن موضــع كالقصــص و يونــس بقولــه ( مــن قبلــه مؤمنــن ) ( مبــا كذبـوا‬
‫بــه مــن قبــل ) ‪ ،‬أو مــا يعــرف ابخلتــم والطبــع علــى القلــوب حــن تكــون املســافة‬
‫بــن املرســل واملتلقــي بعيــدة جــداً حبيــث يصعــب تصــور الرســالة كمــا ســيأيت يف‬
‫احلديــث عــن االس ـراجتيا وعالقتهــا ابملســتقبل ‪.‬‬
‫يف ســورة النــور حديــث عــن األصنــاف الثالثــة‪ ،‬املؤمــن والكافــر واملنافــق‪،‬‬
‫وذلــك مثــل النــور وقــد ذكــر ابــن كثــر تشــاهباً مــع مقدمــة البقــرة ‪ .‬واملثــل واضــح‬
‫يف مــن لديــه رؤيــة واضحــة‪ ،‬ومــن ختتلــط عليــه األمــور مث ال جيــد شــيئاً والــذي‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪148‬‬

‫هــو غــارق يف الظلمــات ال رؤيــة لــه وهــدف ( إذا أخــرج يــده مل يكــد يراهــا)‬
‫ومــن يقـرأ الســورة يف ضــوء مــا ســبق يــرى أن االنطالقــة مــن نفــس املنطلــق وهــو‬
‫اهلدايــة وارتباطهــا ابلعجلــة والتفاعــل مــع األحــداث مــع اختــاف موضــوع‬
‫الســورة كمــا ســنبني ‪.‬‬
‫ويف ســورة العنكبــوت ‪ ،‬حديــث عــن االبتــاء وهــي جــزء مــن ســنة اهلدايــة‪،‬‬
‫فاإلنســان خيتــر يف ســاعة الضـراء والسـراء‪ ،‬ابختياراتــه وثقتــه مببادئــه و منطلقاتــه‬
‫‪ ،‬وفيهــا نق ـرأ حديث ـاً عــن العجلــة و موقــف اإلنســان مــن الض ـراء والس ـراء ‪،‬‬
‫فاإلمــام البخــاري يثــر أمامنــا تســاؤالً يف صحيحــه ‪ ،‬حــن يذكــر حديــث ابــن‬
‫مســعود يف ســورة الدخــان عنــد احلديــث عــن ســورة الــروم يف كتــاب التفســر‪،‬‬
‫ـى واحــد ‪ ،‬وهــو ســنة‬ ‫هــذا التســاؤل يــدل علــى أن الســورتني عــرات عــن معـ ً‬
‫اهلدايــة ‪.‬‬
‫وبيــان ذلــك ‪ ،‬أنــه يف ســورة الــروم ذكــر حممــد بــن كثــر ( احلديــث رقــم‬
‫‪ )4774‬عــن مســروق قــال ( بينمــا رجــل حيــدث يف كنــدة فقــال جيــيء دخــان‬
‫يــوم القيامــة فيأخــذ أبمســاع املنافقــن وأبصارهــم أيخــذ املؤمــن كهيئــة الــزكام ‪،‬‬
‫ففزعنــا‪ ،‬فأتيــت ابــن مســعود وكان متكئ ـاً‪ ،‬فغضــب فجلــس فقــال ‪ :‬مــن علــم‬
‫فليقــل ‪ ،‬ومــن مل يعلــم فليقــل هللا أعلــم فــإن مــن العلــم أن يقــول ملــا ال يعلــم ‪ :‬ال‬
‫أعلــم ‪ ،‬فــإ ّن هللا قــال ( قــل مــا أســألكم عليــه مــن أجــر ومــا أان مــن املتكلفــن‬
‫) وإن قريشــا أبطــأوا عــن اإلســام فدعــا عليهــم النــي صلــى هللا عليــه وســلم‬
‫فقــال ‪ :‬اللهــم أعـ ّـي عليهــم بســبع كســبع يوســف فأخذهتــم ســنة حــى هلك ـوا‬
‫فأكلـوا امليتــة والعظــام ‪ ،‬ويــرى الرجــل مــا بــن الســماء واألرض كهيئــة الدخــان ‪،‬‬
‫فجــاء أبــو ســفيان فقــال ‪ :‬اي حممــد جئــت أتمـران بصلــة الرحــم ‪ ،‬وإن قومــك قــد‬
‫هلكـوا فــادع هللا فقـرأ ( فارتقــب يــوم أتت الســماء بدخــان مبــن ‪.‬ربنــا اكشــف‬
‫عنــا العــذاب ‪....‬اآليــة ) فيكشــف عنهــم عــذاب اآلخــرة إذا جــاء‪ ،‬مث عــادوا‬
‫‪149‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫إىل كفرهــم ‪ ،‬فذلــك قولــه تعــاىل ( يــوم نبطــش البطشــة الكــرى إان منتقمــون )‬
‫يــوم بــدر ‪.‬‬
‫قــال ابــن حجــر ‪( :‬وقــد جــرى البخــاري علــى عادتــه يف إيثــار اخلفــي علــى‬
‫الواضح ‪ ,‬فإن هذه الســورة أوىل إبيراد هذا الســياق من ســورة الروم ملا تضمنته‬
‫مــن ذكــر الدخــان ‪ ,‬ولكــن هــذه طريقتــه يذكــر احلديــث يف موضــع مث يذكــره يف‬
‫الوضــع الالئــق بــه عــارايً عــن الـزايدة اكتفــاءً بذكرهــا يف املوضــع اآلخــر ‪ ,‬شــحذاً‬
‫لألذهــان وبعثـاً علــى مزيــد االســتحضار)(‪)4‬‬
‫‪149‬ـنة ‪ ،‬فــإن الرابــط واضــح ‪،‬‬
‫وألن ســورة الــروم والدخــان تنطلــق مــن نفــس السـ‬
‫فــإن ( ســورة الــروم) هــي األخــرى تضمنــت وعــداً مــن هللا بقولــه ( غلبــت الــروم‬
‫يف أدىن األرض وهــم مــن غلبهــم ســيغلبون يف بضــع ســنني )(االيــة ‪ )2‬و بـ ّـن‬
‫أن النــاس ال يعلمــون صــدق مــا يعــد هللا بــه وخيــر عنــه‪ ،‬وأن النــاس يتعلقــون‬
‫ابلقريــب احلاضــر وال ينتبهــون إىل البعيــد املســتقبل ‪ ،‬وهــذا مــا ذكــره ابــن مســعود‬
‫رضــي هللا عنــه أن قريــش عندمــا يكشــف عنهــا العــذاب عــادوا ملــا هن ـوا عنــه ‪،‬‬
‫وكذبـوا الرســول فيمــا أنذرهــم منــه ‪ ،‬فصدقّــه هللا يف بــدر ‪.‬‬
‫الســورة الــي ذكـران أهنــا تنطلــق مــن هــذه الســنة تتشــابه يف هــذا املعــى الــذى‬
‫يبني حالة اإلنسان يف السراء والضراء‪ ،‬ويكثر فيها ذكر الزمن فرغبة اإلنسان‬
‫يف الرفــاه متنعــه مــن الشــعور احلقيقــي ابلزمــن‪ ،‬لــذا تنقضــي الدنيــا وحيســبها يومــا‬
‫أو عشـراً ‪ ،‬ومنهــم مــن يظــن أنــه بقــي ســاعة ‪ ،‬وينقلــب مــن حــال إىل حــال‪ ،‬و‬
‫قد بني مؤمن آل فرعون يف سورة غافر هذه السورة بطريقة مل تتكرر يف القرآن‬
‫إال يف ذاك املوضــع حــن قــال هلــم (ولقــد جاءكــم يوســف مــن قبــل ابلبينــات فمــا‬
‫زلتم يف شــك مما جاءكم به ۖ حىت إذا هلك قلتم لن يبعث هللا من بعده رســوال‬
‫ۚ كذلــك يضــل هللا مــن هــو مســرف مـراتب)(‪ )34‬فاالســرخاء يف التعامــل مــع‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪150‬‬

‫املســتقبل و طــول األمــد جعلهــم ال يؤمنــون بتك ـرار ظاهــرة الرســالة أو الوحــي‬
‫ممــا جعلهــم يســتبعدون أن أيتيهــم نذيــر بعــد يوســف‪ ،‬و هــذا التســويف يف‬
‫التعامــل مــع املســتقبل و عــدم التخطيــط هــو عــن معــى العجلــة الــذي ذكـرانه‬
‫فمــا أن تتغــر األوضــاع لألفضــل أو لألسـوأ حــى يبــدأ املنحــى اخلطــي ابلتكــون‬
‫يف عقولنــا بينمــا التغـرات التارخييــة أتيت يف صــورة مفاجــأة عندهــا يتغــر اإلنســان‬
‫كليـاً و هــذه هــي اهلدايــة يف أن وجــود قــدرة علــى ســلوك حمــدد وفــق هــذا التمــوج‬
‫هــو الــذي مينــع املفاجــأة و هــذا مابينتــه هنايــة الســورة ‪.‬‬
‫قــال تعــاىل ( فلــم يــك ينفعهــم إمياهنــم ملــا رأوا أبســنا ‪ ،‬ســنة هللا الــي قــد‬
‫خلــت يف عبــاده وخســر هنالــك املبطلــون )(غافــر( ‪ (. 85‬ميكــن للقــارئ أن‬
‫يرجــع للفصــل األخــر مــن هــذا الكتــاب لــرى اخلصائــص العامــة للســور الــي‬
‫انطلقت من سنة اهلداية ) سنحاول اآلن أن نتتبع هذا املعىن يف مناذج اترخيية‬
‫خمتلفــة (‪)5‬‬

‫الثورة الدينية ‪:‬‬


‫ميكــن اعتبــار الدعــوة الدينيــة نوعــا مــن الثــورة الفكريــة واالجتماعيــة نظ ـرا‬
‫ً لعمــق التغيــر الــذي حتدثــه يف التاريــخ ‪ .‬هــذه الدع ـوات تبــدأ ابحلديــث عــن‬
‫القــدر واملســتقبل الــذي ينتظــر اجملتمــع ‪ ...‬يبــدأ اإلميــان بتلــك الــرؤى وينتشــر‬
‫األمــر بــن النــاس‪ ،‬ويالحــظ الباحثــون أن ذلــك ينبــع مــن نفســية تتــوق للتغيــر‪،‬‬
‫فاحلضــارات األساســية لديهــا هنايــة ترمسهــا ألتباعهــا ‪ ،‬الدعــوة املهديــة أو معركــة‬
‫اهلريجمــدون أو عــودة املســيح ‪ .‬لكــن كيــف ميكــن لكلمــات و نبــوءات أن تبقــى‬
‫كل هــذا الزمــن وتتبعهــا هــذه األعــداد اهلائلــة مــن النــاس؟ ‪ .‬حــاول بعــض‬
‫البحاثــة أن جيمــع اليوتوبيــات (املصطلــح الــذي ســكه تومــاس مــور يف القــرن‬
‫الســادس عشــر كنــوع مــن البحــث عــن الدولــة الفاضلــة ) ‪ ،‬فهنــاك أحــام عنــد‬
‫‪151‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫أفالطــون يف أثينــا و بلــواترك(‪46‬م‪-119‬م) يف اٍســبارطة ‪ ،‬والسفســطائيني‬


‫والرواقيــن ‪ ،‬وجميــئ املســيح كان أمـاً لليهــود يف اخلــاص مــن ظلــم الرومــان ‪،‬‬
‫القديــس أوغســطني يكتــب يف الدولــة الرومانيــة كتــاابً يــرد فيــه علــى مــن اعتــر‬
‫املســيح ســبباً يف تقهقهــر الدولــة وتزعــزع أركاهنــا ‪ ،‬ويبــن كيــف أن العــودة إىل‬
‫تعاليــم املســيح هــي الطريــق للمدينــة الفاضلــة القويــة ‪.‬‬
‫علــم املســتقبليات اآلن يــدرس هــذا التطــور يف الفكــر املســتقبلي‪ ،‬فالبشـرية‬
‫قــد اعتــادت الكثــر مــن النتائــج لكثــر مــن الســلوكيات‪ ،‬و مــن هنــا بــدأ التفكــر‬
‫‪ 151‬و هــذا يؤكــد أمهيــة هــذه‬
‫يف املســتقبل كجــزء مســتقبل مــن النشــاطات البشـرية‪،‬‬
‫الســنة و املســتقبل يف نشــأة و اســتمرار و احلضارة ‪.‬‬
‫(‪ )6‬لقــد اســتمرت تلــك النبــوءات يف التأثــر حــى الوقــت احلديــث وقــد‬
‫مجعــت ذلــك التأثــر جريــس هالســل يف الكتــاب الشــهري النبــوءة والسياســية‬
‫(‪ ، )7‬نق ـرأ يف بداايتــه ‪ (...‬إن اإلميــان بعــودة املســيح ‪ ،‬وأبن هــذه العــودة «‬
‫مشــروطة » بقيــام دولــة صهيــون ‪ ،‬وابلتــايل بتجميــع اليهــود يف أرض فلســطني‬
‫‪ ،‬لعــب يف املاضــي ‪ ،‬يلعــب اليــوم ‪ ،‬دوراً ساســياً يف صناعــة قـرار قيــام اسـرائيل‬
‫وهتجــر اليهــود إليهــا ‪ ،‬ومــن مث دعمهــا) ‪ .‬إن اســتمرار هــذه احلضــارات جــاء‬
‫لعمــق اتســاقها ابلنبــوآت الــي نزلــت علــى الرســل صلـوات هللا عليهــم ‪ ،‬والنبــوة‬
‫الــي صدقتهــا األحــداث و ارتبطــت ابآلخــرة ‪ ،‬كل ذلــك ال شــك فيــه و هــو مــا‬
‫نريــد أن نثبتــه يف جزئيــة املســتقبل واســتمرار أثــره يف التاريــخ عــر هــذه النبــوءات‬
‫املوجــودة يف كل الرســاالت الســماوية ‪.‬‬

‫اإلصالح الديين املسيحي‬


‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪152‬‬

‫بــدأ اإلصــاح الكالفيــي ببســاطة كمقاومــة لســيطرة الكنيســة ‪ ،‬ومــن‬


‫الناحيــة الواقعيــة كعــودة لتعاليــم اإلجنيــل ‪.‬كانــت الدعــوة تنتشــر بــن النــاس‬
‫‪ ،‬حــى مــن خيتلــف مــع كالفــن كان يــرى أهنــا فرصــة وحييــي فيــه قدرتــه علــى‬
‫مواجهــة ســيطرة الكنيســة ‪ .‬هــذه الظاهــرة انتشــرت بوضــوح يف بريطانيــا وأملانيــا‬
‫‪ ،‬لوثر تعلم أن الكنيسة ال حتتاج إىل املال ‪ ،‬وكان ملك أملانيا يرى أن ذلك‬
‫فرصــة لتخليصــه مــن ســيطرة الكنيســة‪ ،‬هنــري الثامــن يف بريطانيــا كان يعتقــد‬
‫نفــس املعتقــد يف اخلــاص مــن الكنيســة ‪.‬‬
‫انتشــر اإلصــاح يف أورواب كلهــا‪ ،‬و كاد أن يفســد فرنســا الــي دخلــت يف‬
‫حــرب ملــدة ثالثــن عامـاً ‪ ،‬ليــس مــن املنطــق كل هــذا جملــرد دعــوى إصالحيــة‪،‬‬
‫لــوال أن هــذه الدعــوة رمســت الواقــع عــر أتويــل لنصــر يعــر عــن حقائــق ملموســة‬
‫داخــل اجملتمــع ‪ ،‬و أعطــت صــورة مغايــرة للمســتقبل فســرعان ماانتشــرت ‪ ،‬و‬
‫التفســر الذيــي لذلــك هــو يف عقيــدة اخلــاص ‪ ،‬الــذي مثــل األمــل للعــامل الغــريب‬
‫‪ ،‬فلــم تــك دعــوة كالفــن لتبلــغ هــذا املبلــغ لــوال أهنــا بينــت اخلــاص بطريقــة مغايــرة‬
‫للكنيسة‪.‬‬
‫هــذه العقيــدة جعلــت لوثــر ينفــي أن تكــون للكنيســة حــق يف بيــع صكــوك‬
‫الغف ـران ‪ ،‬وابلتــايل نفــي أي ســلطة للبــااب علــى النــاس ‪ ،‬وينــدرج ذلــك علــى‬
‫الكنيســة‪ .‬والقاعــدة يف كل ذلــك أن الســلطة الوحيــدة للمســيحية هــي مــن‬
‫خــال الكتــاب ‪ ,‬ومــن حــق النــاس أن يدرس ـوا هــذا الكتــاب ويفهمــوه‪،‬‬
‫وال أحــد لــه أن ينجــى مــن عــذاب هللا إال برمحــة هللا ‪.‬هــذه العقيــدة بنيــت‬
‫علــى القدريــة واعتقــاد أن مصــر كل إنســان حيــدده هللا يف األزل كمــا كان‬
‫واضحـاً مــن عقيــدة كالفــن ( يف عــام ‪ 1560‬كان هنــاك ‪ 2000‬كنيســة تتبــع‬
‫حلركــة اإلصالح)هــذه العقيــدة هــي أســاس الربوتســتانتية ‪ ،‬وهــو أتويــل للكتــاب‬
‫أحــدث نقلــة كبــرة يف أورواب ‪ ،‬وهــي مصــدر لكثــر مــن التغــر ات يف العــامل‬
‫‪153‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫الغــريب ‪ .‬فقــد كانــت تعــر عــن نقلــة حقيقيــة يف التفكــر داعبــت اآلمــال ورمســت‬
‫مســتقبالً ظل ينتشــر يف أورواب ‪ ،‬فأي منطق ميكن أن يفســر ســرعة االنتشــار ‪،‬‬
‫لكنهــا ســنة هللا يف انتشــار الدعـوات كلمــا رمســت املســتقبل بتعبــر حقيقــي عــن‬
‫الواقــع كان هلــا الســبق واالنتشــار ‪ .‬يبــن ابــن خلــدون ذلــك يف هــذه القاعــدة ‪.‬‬

‫قاعدة خلدونية ‪:‬‬


‫قــال ابــن خلــدون يف الفصــل الثالــث واخلمســون مــن الفصــل الثالــث –‬
‫‪153‬ـن املالمــح والكشــف عــن‬
‫حتــت عنـوان ‪:‬يف ابتــداء الــدول واألمــم ويف الــكالم عـ‬
‫مســمى اجلفــر‪:‬‬
‫(اعلــم أن مــن خصائــص النفــوس البش ـرية التشــوق إىل عواقــب أمورهــم‬
‫وعلــم مــا حيــدث هلــم مــن حيــاة ومــوت وخــر وشــر ســيما احل ـوادث العامــة‬
‫كمعرفــة ســيما احلـوادث العامــة كمعرفــة مــا بقــي مــن الدنيــا ومعرفــة مــدد الــدول‬
‫أو تفاوهتــا والتطلــع إىل هــذا ‪ ،‬طبيعــة جمبولــون عليهــا ‪ ،‬ولذلــك جتــد الكثــر‬
‫مــن النــاس يتشــوقون إىل الوقــوف علــى ذلــك يف املنــام واألخبــار والكهــان ملــن‬
‫قصدهــم مبثــل ذلــك مــن امللــوك والســوقة معــروف ولقــد جنــد يف املــدن صنف ـاً‬
‫مــن النّــاس ينتحلــون املعــاش مــن ذلــك لعلمهــم حبــرص النــاس عليــه ) (وكان‬
‫مــن العــرب الكهــان والعرافــون يرجعــون إليهــم يف ذلــك وقــد أخــروا مبــا ســيكون‬
‫للعــرب مــن امللــك والدولــة كمــا وقــع لشــق وســطيح يف أتويــل رؤاي ربيعــة بــن‬
‫نصــر مــن ملــوك اليمــن أخربهــم مبلــك احلبشــة بالدهــم مث رجعـوا إليهــم مث ظهــور‬
‫امللــك والدولــة للعــرب مــن بعــد ذلــك وكــذا يف أتويــل رؤاي ســطيح لــرؤاي املوبــذان‬
‫حيــث بعــث إليــه كســرى هبــا مــع عبــد املســيح وأخربهــم بظهــور دولــة العــرب)‬
‫‪(.‬املقدمــة داراهلــال‪)209‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪154‬‬

‫هــذه الطبيعــة قــد تتحــول إىل ســيكولوجية جمتمعيــة‪ ،‬وهــذا مــا جعــل‬
‫غوســتاف لوبــون يبحــث يف كتابــه عــن ســيكولوجيا اجلماهــر عــن الســبب‬
‫وراء هــذا االتبــاع للدع ـوات والثــورات ‪ ،‬ممــا يســمى ابحل ـراك االجتماعــي ‪ ،‬ومل‬
‫ختتلــف األمــم يف تقبلهــا لدعــوة و أخــرى ‪ ،‬وهــذا بــا شــك هــو السـؤال الــذي‬
‫بينــه القــرآن للنــي وهــو حيــزن وأيســى مــن تكذيــب قومــه لــه ‪ ،‬فيقــول لــه إن هــذا‬
‫التصديــق لدعوتــك حمكــوم بســنن أخــرى ‪ ،‬يقــول لوبــون عــن ســبب كتابتــه هلــذا‬
‫الكتــاب ( منــذ بــداايت أحباثــى التارخييــة وأان عاجــز عــن تفســر ظاهــرة تبــدو‬
‫معقــدة وهــي كيــف خيلــق االعتقــاد )‪ ،‬هــذا األمــر جعلــه يلجــأ إىل ســيكولوجيا‬
‫اجلماهــر ‪ ،‬أبن للجماهــر طابــع نفســي أشــبه ابلبنــاء التشــرحيي لإلنســان ‪،‬‬
‫ويؤكــد أن التفســر هــو يف تفســر االعتقــاد والـرأي كيــف ينتشــر ‪ ،‬وســنرى بعــد‬
‫قليــل كيــف حتــول هــذا األمــر إىل مــا يعــرف اس ـراجتيا القلــب والعقــل ‪ ،‬وأن‬
‫اخللفيــة الثقافيــة قــد تؤثــر يف تقبــل األفــكار واملعتقــدات كمــا ســيأيت ‪.‬‬

‫معجزة نبوية ‪:‬‬


‫حتــرك التاريــخ هبــذه األمــة اإلســامية وســار اخللفــاء الراشــدون علــى ســنة‬
‫الرســول صلــى هللا عليــه وســلم وكانــت الفتوحــات اإلســامية بســرعة أذهلــت‬
‫املؤرخــن ‪ ،‬يفســرها ابــن خلــدون علــى أهنــا معجــزة ‪ ،‬علــى اعتبــار أن قيــام الدولــة‬
‫أيخذ مدة طويلة ( املطاولة ) حىت تنتصر الدولة وتســتقر ‪ .‬لكن هذا التفســر‬
‫يبــدو جمانبـاً للصـواب ‪ ،‬بــل لنــا أن ننظــر إىل العمــر الزمــي لتلــك اإلمرباطــورايت‬
‫والوهــن الــذي أصاهبــا ‪ ،‬وننظــر إىل النبـوات الــي مــأت قلوهبــم ابلرعــب ‪ ،‬وكأن‬
‫ـاض ‪ ،‬ممــا أفقدهــم القــدرة علــى‬‫انتهاءهــم وذهاهبــم أمــر معــد ســلفاً ‪ ،‬وقــدر مـ ٍ‬
‫املواجهــة وكان الســقوط املفاجــئ للقــوى العظمــى ملــا للصدمــة مــن أثــر ظاهــر يف‬
‫‪155‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫التاريــخ ‪ ،‬إن كان مــن معجــزة فهــي معجــزة نبــوة النــي صلــى هللا عليــه وســلم ‪،‬‬
‫أمــا انتصــاره فــا خيــرج عــن ســنن هللا ‪.‬‬

‫السياسة والتأويل ‪:‬‬


‫ميكــن تقســيم العــامل بعــد وفاتــه صلــى هللا عليــه وســلم وانتهــاء ظاهــرة الوحــي‬
‫مــن التاريــخ إىل ‪:‬‬
‫• •عامل يؤول الوحي الصادق الستشراف املستقبل ‪.‬‬
‫‪155.‬‬ ‫• •عامل يؤول كتب حمرفة وفيها نبوات خمتلفة‬
‫• •وثنية مغرقة يف اخلرافة والشرك فيها العرافون واملنجمون وطرق أخرى ‪.‬‬
‫• •الرؤى واألحالم ( وحنن نذكرها لوجود كثري من الشواهد التارخيية عليها )‪.‬‬
‫واتريــخ احلضــارة اإلســامية بعــد وفاتــه صلــى هللا عليــه وســلم ‪ ،‬هــو يف‬
‫أساســه اتريــخ التأويــل ( راجــع نقــل ابــن القيــم الســابق ص‪ 85 84‬إعــام‬
‫املوقعــن ) وأمــام هــذا االختــاف ظهــرت فــرق كثــرة كل منهــا حيــاول أن يثبــت‬
‫لنفســه الصـواب فيمــا يدعيــه مــن تصــورات وفهــم للكتــاب ‪ ،‬وكل أتويــل كان لــه‬
‫مــآل يف التاريــخ وكانــت الفــرق اإلســامية ‪.‬‬
‫عندمــا قتــل عثمــان رضــي هللا عنــه ‪ ،‬وقــام ســيدان معاويــة بــن إيب ســفيان‬
‫يطالــب بدمــه ‪ ،‬قــال ابــن عبــاس لعلــي بــن أيب طالــب ‪ :‬اعتــزل فلــو كنــت يف‬
‫حجــر طلبــت منــه حــى تســتخرج ‪....‬فعصــاين‪ ،‬وأمي هللا ‪ ،‬ليتأمــر ّن عليكــم‬
‫معاويــة ‪ ،‬وذلــك أن هللا يقــول ( ومــن قتــل مظلوم ـاً فقــد جعلنــا لوليــه ســلطاانً‬
‫فــا يســرف يف القتــل إنــه كان منصــوراً ) و ليحملنكــم قريــش علــى ســنن فــارس‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪156‬‬

‫والــروم ‪ ،‬وليقيمــن عليكــم النصــارى واليهــود واجملــوس ‪ ،‬فمــن أخــذ منكــم مبــا‬
‫يعــرف جنــا ‪ ،‬ومــن تــرك وأنتــم اتركــون كنتــم كقــرن مــن القــرون هلــك (‪)8‬‬
‫ومن هنا قامت الدولة األموية ‪ ،‬فلم أتت يف ســياق يفتح أفاق املســتقبل‬
‫فكــرة مســتقبلية ‪ ،‬بــل هــي رد فعــل للواقــع ‪ ،‬وهــذا هــو اجلــزء الثــاين مــن نبــوءة‬
‫ابــن عبــاس‪ ،‬و قولــه و ليحملنكــم قريــش علــى ســنن فــارس والــروم ‪ ،‬لــذا كان‬
‫عمرهــا ألــف شــهر فقــط ‪ ،‬وهــذا قصــر إذا مــا قــورن ابلدولــة العباســية أو الدولــة‬
‫العثمانيــة ‪ ،‬فالدولــة العباســية بنيــت علــى فكــرة آل البيــت وحقهــم يف اخلالفــة ‪،‬‬
‫فهــم أصحــاب الـراايت الســود ال ينــزع ملكهــم حــى يعطــوه للمهــدي املنتظــر ‪.‬‬
‫أمــا الدولــة العثمانيــة فهــي الدولــة الــي أصبحــت ملجــأ لــكل راغــب يف الــذب‬
‫عــن الديــن واجلهــاد يف ســبيل هللا ‪ ،‬لنشــر اإلســام وإعــادة جمــده ‪.‬أمــا الدولــة‬
‫الفاطميــة فقامــت علــى أفــكار شــيعية تؤمــن بقدســية اخلليفــة وأنــه ظــل هللا يف‬
‫األرض ‪ .‬وتــرز ســنة اهلدايــة يف اتريــخ هــذه الــدول والفــرق اإلســامية بصفــة‬
‫عامــة هــي ‪:‬‬
‫• •كلمــا كان لــدي الفكــرة الــي انطلقــت منهــا فرقـةً مــا رؤيــة مســتقبلية بعيــدة‬
‫املــدى كان هلــا أتثــر أطــول واســتمرار يف التاريــخ بغــض النظــر عــن صحتهــا ‪ .‬لــذا‬
‫فالتأويــل مبعــى حماولــة معرفــة مــآالت الــدول كان ســائداً يف القــرن الثــاين اهلجــري‬
‫‪ ،‬رغبــة يف التطلــع للمســتقبل‪ ،‬مقاتــل بــن ســليمان (‪ 150‬ه) الــذي نســبه أبــو‬
‫حــامت إىل أنــه اســتقى علومــه ابلقــرآن مــن اليهــود والنصــارى وجعلهــا موافقــة ملــا يف‬
‫كتبهــم ‪....‬يف قولــه تعــاىل ( وإن مــن قريــة إال حنــن مهلكوهــا ‪ )....‬يتوقــع التــايل‬
‫‪...‬أمــا مكــة فتخرهبــا احلبشــة وهتلــك املدينــة ابجلــوع والبصــرة ابلغــرق والكوفــة ابلــرك‬
‫واجلبــال ابلصواعــق والرواجــف وأمــا خرســان فهالكهــا ضــروب مث ذكرهــا بلــداً بلــداً‬
‫(‪ )9‬البــداءة عنــد الشــيعة‪ ،‬فاملختــار الثقفــي تكهــن وأدعــى نــزول الوحــي واســتوىل‬
‫علــى بــاد اجلزيــرة وعلــم مصعــب ابــن الزبــر أن أبراهيــم ابــن األشــر ال ينصــر املختــار‬
‫‪157‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫‪ ،‬فطمــع عنــد لــك يف قهــر املختــار‪ ،‬وحلــق بــه عبيــد هللا بــن احلــر اجلعفــي وحممــد بــن‬
‫األشــعث الكنــدي ‪ ,‬وأكثــر ســادة الكوفــة‪ ،‬غيظ ـاً منهــم علــى املختــار‪ ،‬الســتيالئه‬
‫علــى أمواهلــم وعبيدهــم ‪....‬وأخــر املختــار أتباعــه أن الوحــي أخــره أنــه ســينتصر علــى‬
‫مصعــب‪ ،‬فلمــا هــزم قــال ألتباعــه (إن هللا تعــاىل كان قــد وعــدين بذلــك لكنــه بــدا‬
‫لــه )(‪)10‬‬
‫مبثل هذه التصورات ميكن فهم مل اســتمر الشــيعة‪ ،‬وهم يف انتظار املهدي‬
‫املنتظــر ومل اضمحــل املعتزلــة رغــم عقالنيتهــم ‪ ،‬وأفــل جنمهــم حــن صــاح ســيبويه‬
‫‪157‬نــه مل يبــق يف هــذه البلــدة‬
‫املوســوي (‪358‬ه ) هــذه الــدار دار كفــر حســبكم أ‬
‫العظيمــة مــن يقــول خبلــق القــرآن ( ‪)11‬‬
‫وعلــى هــذا نفهــم اخل ـوارج وكيــف هزم ـوا ‪ ،‬فبعــد عــدة ثــورات يف العصــر‬
‫العباســي ‪ ،‬مل يبــق منهــم إال اإلابضيــة يف عمــان وبعــض مناطــق إفريقيــا ‪ .‬أمــا‬
‫الدولــة العباســية ‪ ،‬وهــم ميثلــون أهــل الســنة ‪ ،‬كان ابتــداء أمرهــا يف وصيــة أيب‬
‫هاشــم عبــد هللا بــن حممــد بــن احلنفيــة حملمــد بــن عبــدهللا بــن العبــاس حفيــد‬
‫العبــاس عــم الرســول صلــى هللا عليــه وســلم ابإلمامــة وقلــده أمــر الشــيعة‪ ،‬وجــاء‬
‫يف الصحيفــة الصفـراء ‪ -‬الــي يرجــع أصلهــا إىل حممــد بــن احلنفيــة الــذي ورثهــا‬
‫عــن أبيــه علــى ابــن أيب طالــب حيــث أعطــاه إايهــا احلســن بــن علــي أخــاه ‪ -‬مــا‬
‫يلــي ( اي بــن عــم إان كنــا نظــن أن اإلمامــة فينــا فقــد زال الشــك وصــرح اليقــن‬
‫‪ ,‬أبنــك اإلمــام دون أيب ‪ )...‬واحتــوت الوصيــة علــى ( علــم راايت خراســان‬
‫الســود مــى تكــون وكيــف تكــون ومــى تقــوم و مــى زماهنــا وعالماهتــا وآايهتــا وأي‬
‫أحيــاء العــرب أنصارهــا‪ ،‬وأمســاء رجــال يقومــون بذلــك كيــف صفتهــم وصفــة‬
‫رجاهلــم وأتباعهــم ‪ ،‬فكانــت تلــك الصحيفــة عنــد حممــد بــن علــى احلنفيــة ‪,‬حــى‬
‫إذا حضــره املــوت دفعهــا إىل ابنــه عبــدهللا بــن حممــد وهــو يكــى أاب اهلاشــم‪)....‬‬
‫(‪)12‬وذكــر هــذه الوصيــة العديــد مــن املؤرخــن كالبــاذري ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪158‬‬

‫هذا ال يتعلق ابحلق و الباطل وأن الدعوة األكثر تقبالً يف الباطل ‪ ،‬فهذا‬
‫موضــوع آخــر ‪ ،‬وقــد عــرف التاريــخ تقبــل اجلماهــر ألفــكار ســادية ســلطوية ‪،‬‬
‫واتبــع النــاس احلمقــى واجملرمــن ‪ ،‬والدراويــش واملســتبدين دون أن يعــي ذلــك‬
‫صدقهــم ‪ ،‬إمنــا احلــق كمــا يعــرف بصــدق النبــوءات يعــرف بعمــق الرســاالت‬
‫والقيــم وصــدق اإلميــان ابهلل و ابلقــدر ‪ ،‬لكــن احلديــث عــن الســنن هــو حديــث‬
‫عــن أوامــر قدريــة كمــا ســبق ‪.‬‬

‫فتح أمريكا ‪)13(:‬‬


‫احلالــة النموذجيــة الــي تظهــر فيهــا ســنة اهلدايــة هــي مــا حــدث عنــد فتــح‬
‫املكســيك ‪ .‬احلملــة الثالثــة الــي تنــزل إىل الس ـواحل األمريكيــة‪ ،‬وهــي تتألــف‬
‫مــن بضــع مئــات مــن الرجــال والــذي يرســل كورتيــس قائــد احلملــة هــو حاكــم‬
‫كــواب‪ ،‬إال أنــه بعــد رحيــل الســفن يغــر هــذا احلاكــم رأيــه فريفــض كورتيــس ويعلــن‬
‫أنــه لــن خيضــع إال للســلطة املباشــرة إســبانيا ‪ .‬و تصــل احلملــة إىل مكســيكو‬
‫حيــث قائــد األزتيــك ماكتيزومــا ‪ ،‬وجــرى اســتقبال ودي‪ ،‬و بعــد ذلــك بوقــت‬
‫أســر اإلمرباطــور(ص‪ 62‬فتــح أمريــكا ) تزفينــان تيــودوروف الباحــث يف املركــز‬
‫الوطــي للبحــث العلمــي يف ابريــس وصاحــب كتــاب «فتــح أمريــكا » يف حتليلــه‬
‫هلــذا احلــادث الغريــب مــن تســليم ملــك األزتيــك نفســه فيقــول « عندمــا جــرى‬
‫إخبار(موكتيزومــا) مبــا حــدث ‪ ،‬أحــس ابلضيــق وابحلــزن الشــديد‪ ،‬وقــدم عــدداً‬
‫مــن اهلنــود قرابــن (هلوتبزيلــو بوتشــيللي) الــذي كان إهلــه اخلــاص ابحلــرب‪ ،‬لكــي‬
‫يوحــي إليــه مبــا ســوف حيــدث ابلنســبة لرحلتنــا إىل مكســيكو ولكــي يســتوضح‬
‫األمــر فيمــا يتعلــق مبســألة دخولنــا إىل املدينــة) ‪.‬‬
‫و بعــد أن ذكــر دعــوة موكتيزومــا للعرافــن والبــاابوات واملتنبئــن ابملســتقبل‬
‫يقــول علــى لســان أحــد اإلســبان ( لــو عــرف اهلنــود مــدى قلتنــا وضعفنــا ونفــاذ‬
‫‪159‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫ق ـواان يف ذلــك احلــن) مث قــال ‪ (:‬وجيــد املــرء أتكيــداً عام ـاُ هلــذا املعــى مــن‬
‫جانــب اهلنــود جتــاه اإلســبان يف عــن بنــاء رواايت الســكان األصليــن عــن الفتــح‬
‫‪ ،‬فهــذه الــرواايت تبــدأ دائم ـاً بتعــداد النــذر الــي تعلــن قــدوم اإلســبان ( ‪....‬‬
‫فاحلاضــر يصبــح مفهومـاً مبجــرد أن يــرى املــرء أنــه قــد جــرى اإلعــان عنــه ابلفعــل‬
‫يف املاضــي ) مث قــال ( متــارس هــذه النبــوءات أث ـراً يوقــع الشــلل ابهلنــود الذيــن‬
‫يســتمعون إليهــا ‪ ,‬وتقلــل مــن قدرهتــم علــى املقاومــة ) ‪.‬‬
‫وأايً كان أمــر هــذه النب ـوات‪ ،‬قبــل أو بعــد الفتــح‪ ،‬فــإن ســلوك موكتيزومــا‬
‫‪159‬ــده يف كتبــه و أن بعــض‬ ‫وصدمتــه‪ ،‬يؤكــد أنــه مل يكــن يتوقــع مــا حــدث ومل جي‬
‫الظواهــر أكــدت لــه أهنــا النهايــة‪ ،‬أو أنــه عندمــا مســع عــن اإلســبان قــام بتأويــل‬
‫بعــض األحــداث علــى أهنــا نــذر يف الســنوات األربــع الــي ســبقت وصــول‬
‫األســبان إىل هــذه األراضــي (احرتقــت معابدهــم مــن عاليهــا إىل ســافلها‪ ،‬وأهنــم‬
‫قد قاموا إبغالقها‪ ،‬وأن املعابد ســوف حترتق من جديد‪ ،‬وأن اجلدران احلجرية‬
‫ســوف تنهــار ‪ )......‬كلهــا نــذر يســرت لبضــع مئــة مقاتــل أن يســيطروا علــى‬
‫شــعب أبكملــه ‪.‬‬

‫اجتاهات التاريخ ‪:‬‬


‫األســاس الــذي انطلقنــا منــه يف ســنة اهلدايــة‪ ،‬هــي الفطــرة الــي فطــر عليهــا‬
‫اإلنســان يف حالتــه الطبيعيــة ‪ ،‬قبــل األداين ‪ ،‬وهــي حالــة الرغبــة املســتقرة داخــل‬
‫كل واحــد منــا يف أن ال تغتالــه األحــداث ‪ ،‬أو أن يعكــر صفــو راحتــه بــؤس أو‬
‫شــقاء ‪ .‬هــذه الرغبــة حســب مــا ورد يف القــرآن هــي فطــرة بشـرية جتعلــه يتطلــع‬
‫دائم ـاً للمســتقبل و حيــرص علــى اســتمرار األوضــاع احلســنة كماهــي ‪ .‬وهــذا‬
‫الفهــم أكثــر حركــة مــن حماولــة تصويــر اإلنســان كذئــب يصــرع غــره كمــا عنــد‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪160‬‬

‫هوبــز ‪ ،‬أو تصويــره ككائــن غــر مفكــر واعتبــار الفكــر حالــة حيوانيــة فاســدة‬
‫عنــد جــان جــاك روســو ‪.‬‬
‫مبعــى أن اإلنســان رغــم هلعــه وجزعــه ‪ ،‬وحبــه للمــال واحليــاة والتملــك ‪،‬‬
‫إال أن فيــه تطلعــا و( شــوقا قدميــا) للمســتقبل عــر عــن ذلــك القــرآن ابخلــوف‬
‫مــن احلاضــر واحلــزن علــى املســتقبل ‪ .‬هــذه اخلاصيــة ‪ ،‬هــي مــا جعلــت‬
‫النــاس ينتظمــون يف مجاعــات وأمــم كمــا رأينــا مــع األزتيــك وتعلقهــم مبــا كتــب‬
‫يف كتبهــم‪ ،‬أو مــا حــدث مــن أتويــات للكتــب الســماوية ‪ ،‬و مــع الزمــن و‬
‫تشــكلت خلفيــة ثقافيــة عــر الرســاالت الســماوية و الثقافــات الــي تلتهــا و‬
‫أحدثتهــا س ـواء ابإلميــان أو ابلرفــض غــرت مــن مســار احلضــارات الثالثــة ‪.‬‬
‫أان هنــا ال أحتــدث عــن نظريــة يف فهــم التاريــخ ‪ ,‬ولكــي أشــر إىل جــزء مــن‬
‫صــورة اترخييــة متكاملــة ‪ ,‬أخفــق املســلمون يف االســتفادة منهــا يف الظواهــر الــي‬
‫نقرأهــا ‪ ،‬يف ح ـوايل ‪ 20%‬مــن القــرآن الكــرمي ‪.‬إن مثــل تلــك النظ ـرايت الــي‬
‫تتخــذ مــن فهــم اإلنســان الطبيعــي واإلنســان املــدين متــكاً لبنــاء الــدول هــي مبثابــة‬
‫أتويــات جديــدة للوحــي خاصـةً يف قــارة أورواب ‪.‬‬
‫فقــد اختــذت روح احلريــة أشــكاالً عديــدة ‪ ،‬فهــي دســتورية عنــد مريابــو‪،‬‬
‫وثوريــة عنــد دالتــون ‪ ،‬وشــعرية خياليــة عنــد شــلر وشــلي والمارتــن ‪ ,‬ومصــدر‬
‫وحــي عنــد ماتزيــي ‪ ،‬وعقليــة عنــد كندرســيه وجــون ســتيوارت مــل ‪ ،‬وعمليــة‬
‫عنــد كيــدن وكافــور ‪،,‬وحربيــة مغامــرة عنــد كشـراين وغارليبــادردي « ‪.‬وميكننــا أن‬
‫نتصــور االنتقــال الكبــر الــذي حــدث يف أورواب مــن خــال حبــث القــرن التاســع‬
‫عشــر ومــا حــدث فيــه مــن أفــكار وأحــام تبعتهــا تغـرات وحــروب وثــورات ‪.‬‬
‫( بــدأ األمــر يف النظــر إىل التــوراة وحماولــة تفســرها تفس ـراً علميــا ً‪،‬أي‬
‫وضعهــا حتــت معيــار النقــد العلمــي ‪ ،‬وهــذه الفكــرة – فكــرة نقــد الت ـوارة –‬
‫‪161‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫تكهــن هبــا الفيلســوف اليهــودي االمســردامي اســبينوزا يف كتبــه والقــت قبــوالً‬


‫لــدى العلمــاء ‪).....‬هــذه املرحلــة هلــا أمثلــة كثــرة‪ ،‬كأدبيــات ارنســت رينــان ‪,‬‬
‫وكونيبــر ‪ ،‬وماثــر أرنولــد‪ ،‬كانــت تبحــث عــن الوســيلة الــي ميكــن مــن خــال‬
‫فهــم التاريــخ ومعرفــة أسـراره ‪ ,‬فحــاول بعضهــم فهــم التاريــخ مــن خــال التــوراة‪،‬‬
‫وحــاول بعضهــم أن يعتمــد علــى التاريــخ يف فهــم املســتقبل‪ ،‬فشــكك يف املســيح‬
‫مــن الناحيــة التارخييــة ‪ ،‬ولكــن كان هنــاك حتفــظ شــديد يف التعــدي علــى أصــول‬
‫اإلميــان ) ‪.‬‬
‫(أصبــح النــاس يســألون إذا كان علــم األحيــاء‪161‬هــو املفتــاح لفهــم مغاليــق‬
‫املاضــي كمــا زعــم دارون يف كتــاب أصــل األن ـواع ‪ 1859‬م أفــا ميكنــه أيض ـاً‬
‫أن يســاعد يف صــوغ املســتقبل “ انتشــرت هــذه النظريــة يف بريطانيــا‪ ،‬ألهنــا‬
‫أكــدت النزعــة الفرديــة القائمــة يف بريطانيــا والــي تلقتهــا علــى يــد وليــم بــت الــذي‬
‫استوعب كثرياً كتاب آدم مسيث ثروة األمم ‪.‬وقد أصبح احللم يف بريطانيا كما‬
‫يذكــر هربــرت فيشــر ‪ ,‬هــو أن يكونـوا أحـراراً بعيديــن عــن أي تدخــل للحكومــة‬
‫‪ ,‬وهكــذا انتشــر مذهــب احلريــة يف التاريــخ ؟ و يف اجلانــب اآلخــر ‪ .‬جنــد أن‬
‫نــي اإلشـراكية – املزعــوم – وهــو كارل ماركــس (‪ )1818-1883‬وكان ال‬
‫يعــرف بــكل املذاهــب القائمــة يف أورواب ‪ ,‬فــكان حيتقــر احلريــة وميقــت القوميــة‬
‫‪ ,‬وألــف كتابــه ( رأس املــال ) الــذي قبلــه النــاس يف مجيــع أحنــاء املســكونة كتــوراة‬
‫الطبقــات العاملــة ‪ .‬ويف فرنســا شــاعت مصطلحــات االش ـراكية والشــيوعية‬
‫بــن النــاس ‪ ,‬وشــاعت يف ذلــك احلــن فكــرة بــن الطبقــات الباريســية الســفلى‬
‫أبن انقــاابً هائـاً يوشــك أن يقــع فيشــرب الســاقي نبيــذ ســيده وترتــدي اخلــادم‬
‫دمقــس ســيدهتا » ‪. )1(.....‬‬
‫ويــرز يف القــرن العشـرين عــدة أيديوجليــات‪ ،‬وكلهــا اعتمــدت علــى نظـرات‬
‫مســتقبلية‪ ،‬لينــن يعتقــد أنــه نــي ‪ ،‬ويشــعر أن األقــدار اختارتــه ملهمــة عظيمــة‪،‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪162‬‬

‫ويكتــب كتابــه مــن الثــورة إىل الدولــة‪ ،‬ويقــود االحتــاد الســوفيايت‪ ،‬بفكــرة‬
‫مســتقبلية‪ ،‬انتهــت بســقوط مفاجــئ لالحتــاد الســوفيايت ‪)14(.‬‬
‫أو هتلــر ونظريتــه التطوريــة العنصريــة ‪ ،‬الــي تنتهــي بســيطرة اجلنــس اآلري‬
‫علــى العــامل ‪ ( ،‬دمائنــا تطلــب وطن ـاً واحــداً ‪ ,‬ولــن تســتطيع األمــة األملانيــة‬
‫امتــاك احلــق األخالقــي لتحقيــق سياســية اســتعمارية حــى جتمــع أطفاهلــا _‬
‫املانيا والنمســا‪ -‬يف وطن واحد ( كفاحي ص‪ )3‬أما الصهيونية ‪ ،‬فقد حتولت‬
‫إىل أيديوجيا حني قررت أال تنتظر القدر يف عودة اليهود بل ال بد من العمل‬
‫علــى هجرهتــم ألرض امليعــاد (للتفصيــل انظــر االيديولوجيــا اليهوديــة املســري‬
‫عــامل املعرفــة) ‪ .‬أمــا الثــورة اإلســامية يف إي ـران ‪ ،‬فجــاءت فكــرة واليــة الفقيــه‬
‫لتنقــل النــاس مــن االنتظــار لتهيئــة الظــروف لعــودة املهــدي املنتظــر ‪.‬‬

‫الروح الوطنية ‪:‬‬


‫تتضــح أمهيــة عــرض القــرآن لســنة اهلدايــة بشــكل جــدي أكثــر ‪ ،‬عنــد‬
‫فهــم العالقــة بــن التغـرات االجتماعيــة كالثــورات مثـاً وتقبُــل النــاس وتكيفهــم‬
‫مــع الواقــع اجلديــد ‪ .‬تقبــل األفــكار الوافــدة هــذا ‪ ,‬هــو مــا يفســر تعامــل الــدول‬
‫القائمــة إابن دعــوة النــي صلــى هللا عليــه وســلم للديــن اجلديــد بــن مــن يذعــن‬
‫فك ـرايً ملعرفــة مســبقة ابلكتــب الدينيــة ومــن يرفــض هــذا األمــر مجلــة واحــدة (‬
‫ساســان مث ـاً ) ‪.‬‬
‫هــذا األمــر يرتبــط بســنة اهلدايــة إذ أن اجملتمــع قــد تتشــكل فيــه روح وطنيــة‬
‫تعــر عــن مــدى ثبــات األع ـراف والتقاليــد والقوانــن يف احليــاة اليوميــة للنــاس‪،‬‬
‫مثــل هــذه اجملتمعــات قــد تشــهد تغ ـرات وثــورات لكــن تظــل حتافــظ علــى‬
‫تلــك األع ـراف ‪ .‬يقــول جوســتاف لوبــون “ بــدون ثبــات الــروح «القوميــة (‬
‫‪163‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫‪ )ancestral‬لــن يكــون هنــاك دميومــة ‪ ،‬وبــدون مرونــة لــن تتكيــف مــع البيئــة‬
‫احمليطــة هبــا مــع تقــدم احلضــارة “ ‪.‬‬
‫بغيــاب أع ـراف اثبتــة ‪ ،‬تكثــر الثــورات ويصبــح اجملتمــع مفتوح ـاً لتغ ـرات‬
‫متعــددة‪ ،‬ومثــال ذلــك يقــول لوبــون «كــواب والفلبــن ‪...‬الــي مــرت فجــأ ًة مــن‬
‫حكــم اإلســبان إىل الــوالايت املتحــدة ‪ .‬وألن حكــم األســبان جعــل هــذه الــدول‬
‫مرتعـاً لألمـراض واالوبئــة كانــت الــوالايت املتحــدة بعــد أعـوام قليلــة قــادرة علــى‬
‫تغيــر الدولــة متام ـاً ‪ :‬املــاراي‪ ،‬احلمــى الصف ـراء ‪ ،‬الطاعــون ‪ ،‬الكول ـرا اختفــت‬
‫ات‪ ،‬املصانــع ‪ ،‬املــدارس ‪،‬‬ ‫‪163‬‬ ‫متام ـاً ‪ ،‬اجملــاري صرفــت ‪ ،‬الطــرق عبــدت‪ ،‬القطــار‬
‫والوفيــات قلــت الثلثــن ( ‪)15‬‬
‫هــذا املثــال يبــن اجملتمعــات الــي مل متلــك روح قوميــة أو خلفيــة فكريــة‬
‫جيعلهــا تقبــل التغ ـرات بســهولة ش ـريطة احلكــم الرشــيد القــادر علــى التغيــر ‪.‬‬
‫الفــرق هنــا أن املســألة ليســت يف القوميــة الــي رمبــا تكــون الفكــر الســائد يف‬
‫زمــن لوبــون ‪ ،‬إمنــا هــي اخللفيــة الفكريــة الثقافيــة الــي تشــمل الديــن و األعـراف‬
‫والتاريــخ املشــرك واملخيلــة اجملتمعيــة و أتثــر اإلعــام ‪ ،‬ممــا يرســم املســتقبل أمــام‬
‫النــاس ‪.‬‬
‫واملثال على أتثري تلك اخللفية الفكرية ( القومية عند لوبون ) واألعراف‬
‫علــى ثبــات اجملتمــع وعصيانــه علــى التغيــر املفاجــئ هــو اململكــة املتحــدة ‪ ،‬فإنــه‬
‫كمــا يقــول لوبــون ( فرغــم أهنــا دولــة عميقــة جــداً ‪ ،‬قــد شــهدت ثــوراتن وقتلــت‬
‫ملــك‪ ،‬لكــن الــدرع الواقــي الــذي حيــوي ذلــك الفكــر كان متجــذراً يف ذلــك‬
‫اجملتمــع ابلشــكل الــذي يبقــي أع ـراف اجملتمــع وتقاليــده‪ ،‬وكان اجملتمــع م ـرانً‬
‫ابلقــدر الــذي مكنــه مــن التكيــف مــع الواقــع اجلديــد ابلقــدر املطلــوب ‪.‬هــذا‬
‫بفســر التغــر الكبــر الــذي حــدث يف فرنســا والــي قضــت متاماًعلــى امللكيــة‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪164‬‬

‫‪ ،‬وبقــاء امللكيــة واألع ـراف الدســتورية يف بريطانيــا إىل اآلن بــل إن كثــر مــن‬
‫املؤرخــن والساســة يــرون أن دور امللكــة أكثــر مــن رمــزي ؟! ‪ .‬هــذا يبــن اخللفيــة‬
‫الفكريــة وأثرهــا‪ ،‬وهــو مــا يعــر عــن كيفيــة وصــول الدعــوة إىل املدعــو ‪ ،‬و مل‬
‫يســتجيب أانس ويرفــض آخــرون ‪ ،‬لكــن مــاذا عــن الصدمــة وأتثريهــا ؟‬

‫عقيدة الصدمة ‪)17(:‬‬


‫يف دراســة عــن العبقريــة والقيــادة نق ـرأ ( لقــد ثبــت يف النهايــة أن ح ـوايل‬
‫‪ % 20‬مــن التبايــن اخلــاص ابلنصــر التكتيكــي هــو مــا ميكــن التنبــؤ بــه فعـاً ‪.‬‬
‫أمــا النســبة الباقيــة الــي مقدارهــا ‪ 80%‬فتظــل رهــن الصدفــة) ‪ .‬كان ميلتــون‬
‫فريدمــان املرشــد الكبــر حلركــة الرأمساليــة غــر املقيــدة ‪ ،‬والرجــل الــذي يعــود إليــه‬
‫الفضــل يف وضــع نظــام االقتصــاد العاملــي املعاصــر الس ـريع العجلــة ‪ ،‬مــن بــن‬
‫أولئــك الذيــن من ـوا بضــرورة اســتخدام الصدمــة يف إحــداث تغيــر جــذري يف‬
‫التغيــر‪ ،‬حتــدث التغيــر احلقيقــي ‪.‬‬
‫فعنــد حــدوث األزمــة ‪ ,‬تكــون اإلج ـراءات املتخــذة منوطــة ابألفــكار‬
‫الســائدة ‪ .‬وهنــا أتيت ‪ ،‬علــى حــد اعتقــادي وظيفتنــا األساســية ‪ :‬وهــي أن‬
‫نطــور البدائــل للسياســات املوجــودة‪ ،‬وأن نبقيهــا حيــة ومتوفــرة إىل حــن يصبــح‬
‫املســتحيل يف احليــاة السياســية حتميــة سياســية )( كان الربوفســور يف جامعــة‬
‫شــيكاغو مقتنعـاً بضــرورة التصــرف بســرعة يف خاطفــة عنــد وقــوع أزمــة مــا ‪ ,‬يف‬
‫ســبيل فــرض تغيــر س ـريع ال رجــوع عنــه يســتبق اســتيقاظ اجملتمــع املرهــق مــن‬
‫الصدمة» ‪ ( ) .‬وقد اعترب فريدمان أنه سيكون أمام اإلدارة اجلديدة القادمة‬
‫مهلــة زمنيــة مــن ســتة شــهور إىل تســعة شــهور ‪ ,‬حــى حتقــق تغيـرات كبــرة يف‬
‫حــال مل تنتهــز الفرصــة كــي تتصــرف حبــزم خــال تلــك الفــرة ‪ ,‬فإهنــا تكــون قــد‬
‫ضيعــت فرصتهــا الوحيــدة ) ‪ (.‬نعومــي كاليــن‪ ،‬عقيــدة الصدمــة ‪)16‬‬
‫‪165‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫كانــت املــرة األوىل الــي تعلــم فيهــا فريدمــان كيــف يســتغل الصدمــة أو‬
‫أزمــة واســعة النطــاق يف منتصــف الســبيعينيات ‪ ,‬عندمــا عمــل مستشــاراً ‪,‬‬
‫ـيلي ‪ ,‬اجلنـرال أو غســتو بينوشــي ‪ (.‬بــرزت الصيغــة جمــدداً‬ ‫لــدى الدكتاتــور التشـ ّ‬
‫يف الع ـراق‪ ،‬وبشــكل أعنــف بكثــر ‪ ,‬فبداي ـةً جــاءت احلــرب‪ ،‬الــي صممهــا‬
‫أصحــاب عقيــدة الصدمــة والرتهيــب العســكرية‪ ،‬حبيــث تعمــل علــى ( التحكــم‬
‫ـدو وبصريتــه وإدراكــه‪ ،‬فتجعلــه عاج ـزاً بــكل معــى الكلمــة علــى‬ ‫يف إرادة العـ ّ‬
‫الفعــل ورد الفعــل ) وجــاءت بعدهــا املعاجلــة اجلذريــة ابلصدمــة االقتصاديــة الــي‬
‫فرضــت بينمــا كان البلـ ُـد ال يـزال حتــت هليــب النــار‪ ،‬مــن قبــل كبــر مبعوثــي األمــم‬
‫‪165‬‬
‫املتحــدة بــول براميــر ‪ :‬خصخصــة شــاملة‪ ،‬جتــارة كاملــة احلريــة وضريبــة اثبتــة‬
‫بنســبة ‪ , % 15‬وتقليــص دراماتيكــي لدوراحلكومــة‪ ,‬وعندمــا قــاوم العراقيــون‬
‫املشــروع حوصــروا ونقل ـوا إىل الســجون ‪( ).‬كاليــن ص‪ )18‬لقــد اســتخدم‬
‫مفهــوم الصدمــة يف العــاج ابلصدمــة الكهرابئيــة‪ ،‬ويف اســتجواب الســجناء‪،‬‬
‫ومت اســتخدام التغيــر اهلائــل الــذي حتدثــه الصدمــة بصــورة ســيئة‪ ،‬حيــث أراد‬
‫فريدمــان إحــداث جــذري كاســتخدام لألزمــات املختلفــة ‪.‬‬
‫مــا يهمنــا هــو التأثــر اهلائــل للصدمــة‪ ،‬والتوقعــات املختلفــة داخــل اجملتمــع‪،‬‬
‫وحنــن ال نقــر اســتخدام الســنن هبــذه الطريقــة‪ ،‬بــل السياســية القرآنيــة‪ ،‬يف العمــل‬
‫مــع التوقعــات جندهــا إمــا ابألمــر ابلرتقــب أو االنتظــار والصــر ‪...‬اخل‪ ،‬مبعــى‬
‫أن القــدرة علــى التوقــع مــع الدعــوة الصادقــة للتغيــر تضمــن نــوع مــن الثقــة‬
‫وعــدم التذبــذب يف احلركــة مــع األزمــات ( االبتــاءات )‪ ،‬وال بــد مــن مالحظــة‬
‫أن الســور الــي ذكـران أهنــا تنطلــق مــن ســنة ا هلدايــة يكثــر فيهــا األمــر ابلرتقــب‬
‫و النتظــار و الرتبــص‪ ،‬و ذلــك ظاهــر يف الســرة‪ ،‬فصــر النــي يف مكــة وبعــد‬
‫أحــد‪ ،‬ويف حادثــة األفــك وغريهــا‪ ،‬تبــن أمهيــة وضــع حمــددات اثبتــة يف صناعــة‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪166‬‬

‫السياســات‪ ،‬مبعــى أن القــدرة علــى التوقــع‪ ،‬متكننــا مــن تنفيــذ خمتلــف الــرؤى‬
‫واملخططــات املســتقبلية ‪.‬‬

‫االسرتاجتيا ‪ :‬اتريخ املستقبل‬


‫انتبــه االسـراتيجيون لقيمــة التوقعــات يف فهــم ســلوك الــدول واجملتمعــات‪،‬‬
‫فــكان توقــع ســلوك اخلصــم عــر نظريــة اللعبــة‪ ،Game thoery‬يف البدايــة‬
‫كان التفكــر يف جتــاوز الســياق اجملتمعــي واالقتصــادي والتعامــل مــع الســلوك‬
‫العقــاين ألط ـراف الن ـزاع ‪ ،‬لكــن كيــف ميكــن فهــم وتوقــع ســلوك أكثــر مــن‬
‫طــرف‪ ،‬فصعوبــة االعتمــاد علــى العقالنيــة كوســيلة لتوقــع ســلوك النــاس ‪،‬‬
‫ووضعــه يف إطــار ميكــن توقعــه ‪ ،‬تبــن صعوبــة اعتبــار ســلوك النــاس ســلوكاً‬
‫عقالني ـاً مرتبــط بتحقــق املصلحــة و جتنــب املفســده ‪ ،‬لــذا كان التفكــر يف‬
‫التمييــز بــن الســياق االجتماعــي والثقــايف والق ـرار الــذي يتخــذه النــاس مبلــك‬
‫إرادهتــم ‪ ،‬ففــي حــن حــرص املنظــرون عــن فلســفة التاريــخ علــى األول‪ ،‬كان‬
‫لالس ـراتيجيني خاصــة مــن الــوالايت املتحــدة األمريكيــة ومؤسســة ‪،RNA‬‬
‫حمــاوالت جــادة يف تطويــر نظريــة اللعبــة ‪.‬‬
‫فمــي ميكــن فهــم ســلوك النــاس واألف ـراد وتوقــع هــذا الســلوك إذا كان‬
‫اإلنســان ال يتصــرف دائمــا وفــق حســاابت عقليــة‪ ،‬فهــو يتعــرض للنســيان ‪،‬‬
‫وتغمره العاطفه‪ ،‬ويشــعر ابلغريه‪ ،‬كل ذلك يصعب تفســره حبســاابت القوة و‬
‫الكســب و اخلســارة ‪ .‬هــل حيــدث هــذا عنــد تكويــن حتالفــات ؟ هــذا ماجعــل‬
‫التفكــر ينتقــل لفهــم هــذه التحالفــات و كيــف ميكــن أن تكــون أكثــر عقالنيــة‬
‫‪ ،‬لكــن هــذه التحالفــات حتتــاج لقيــادة فكيــف تتشــكل القيــادة وكيــف ميكنهــا‬
‫أن تتحــول حلــركات اجتماعيــة ‪.‬‬
‫‪167‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫نظرايت كثرية حتاول تفســر هذه الظاهرة‪ ،‬وجعلت االسـراجتيا تتميز عن‬
‫غريهــا مــن الظواهــر االجتماعيــة ‪ ،‬ألهنــا تتعلــق بســلوك االنســان يف عالقتــه بغــره‬
‫و خيياراته يف املشاركة السياسية سواء كانت هذه املشاركة مظاهرة أو انتخاب‬
‫أو انتمــاء فكــري أو أيديولوجــي ‪ .‬لكــن ســنة اهلدايــة كمــا عرضناهــا كشــفت‬
‫شــيئا مهم ـاً ‪ ،‬وهــي إمكانيــة حتييــد ذلــك الســياق االجتماعــي واالقتصــادي‬
‫والثقــايف ‪ ،‬عندمــا جيــد اجملتــع نفســه يف حالــة التقــاء اتم مــع املســتقبل‪ ،‬هنــا تبــدو‬
‫حقيقــة الســلوك البشــري الــذي عــاوة علــى جلــوءه هلل أو إىل قــوة خــارج إطــار‬
‫األســباب‪ ،‬فــإن العنصــر األساســي احملــرك لــه هــو الفطــرة أو الغريــزة ‪.‬‬
‫‪167‬‬
‫هــذا جوهــر ســنة اهلدايــة ‪ ،‬فــإن هــذا املشــهد املتكــرر يف القــرآن ‪ ،‬يف‬
‫اإلنســان وهــو يف حالــة كــرب تتخطفــه األم ـواج ‪ ،‬واجملتمعــات عندمــا حتــل هبــا‬
‫املصائــب والنــاس عندمــا يعلمــون علــم اليقــن هنايتهــم ‪ ،‬عندهــا يصبــح للفطــرة‬
‫والســلوك الغريــزي ســلطاانً مينــع اإلنســان مــن التفكــر يف األســباب واملــادة‪،‬‬
‫وهكــذا يكــون هنــاك طيــف مــن الســلوك بــن توفــر األســاب وانعدامهــا‪ .‬اإلميــان‬
‫يكمــن يف اســتحضار تلــك احلالــة عنــد التعاطــي مــع األســباب ‪.‬‬
‫هــذا األمــر هــو الــذي كشــف عنــه دانيــل كاهنيمــان يف نظريتــه عــن وجــود‬
‫نوعــن مــن األدراك مساهــا النظــام ‪ ١‬والنظــام ‪ ، ٢‬فنحــن نتصــرف حيــال كثــر‬
‫مــن القضــااي بــدون تفكــر‪ ،‬بــل ابلغريــزة خاصــة عنــد مواجهــة األخطــار‪ ،‬وهنــا‬
‫يصبــح لــدى اإلنســان نوعــن مــن االس ـراجتيا األول تلــك الق ـرارات الــي تنشــأ‬
‫يف مواجهــة األخطــار ‪ ،‬وهــذا مــا يفســر قــدرة كثريمــن القــادة عــر التاريــخ علــى‬
‫إبــداع خطــط عســكرية انجحــة وق ـرارات حكيمــة جتــاه امللمــات الــي تصيــب‬
‫تلــك اجملتمعــات ‪ .‬فالعواطــف والشــعور ابخلطــر جيعــل اإلدراك يتخــذ ق ـرارات‬
‫بــدون أن حتفــز النظــام الثــاين الــذي خيطــط و حيســب األمــور بدقــه ‪)18( .‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪168‬‬

‫هــذه الغريــزة الــي تقــرر هــي العجلــة الــي جتعــل اإلنســان يلجــأ لــكل مــا‬
‫ميكنــه مــن اخلــروج مــن األخطــار الــي تواجهــه‪ ،‬وعندمــا تصدمــه األحــداث فــإن‬
‫انقــاابً هائ ـاً حيــدث لإلنســان ويتعاطــى األمــور بشــكل خمتلــف متام ـاً ‪ .‬علــم‬
‫األعصــاب والســلوك حيــدد الوعــي اإلنســاين عــر جمموعــة منــاذج يبنيهــا الدمــاغ‬
‫لــكل األحــداث الــي متــر بــه‪ ،‬فينشــأ الوعــي ويتجــدد مــع كل حــدث مماثــل ‪ ،‬و‬
‫هــذا مــا ميســى بقــوة العــادة ‪ ،Power Of Habit‬لــذا فتشــكيل النمــوذج‬
‫وتالقــي النمــاذج هــو مــا ميكــن مــن االتبــاع ‪ ،‬وعندمــا ال ميكــن فهــم الــذي جيــري‬
‫يف العــامل عــر النمــاذج الدماغيــة ( والــي قــد تكــون معرفــة أو مشــاهدة عصفــور‬
‫يشــرب مــن مــاء ) حيــدث الصدمــة والتغيــر ‪)19(.‬‬
‫هذا األمر جعل احلديث عن ســلوك عقالين رشــيد يهدف للربح كوحدة‬
‫حتليــل لســلوك اإلنســان أشــبه ابألســطورة و هــي الفرضيــة الــي بــى عليهــا أدم‬
‫مسيــث نظريتــه و الــي حــاول االسـراتيجيون البنــاء عليهــا يف فهــم ســلوك االحتــاد‬
‫الســوفيايت إابن احلــرب البــاردة‪ ،‬و تظهــر لنــا ســنة اهلدايــة أمهيــة املســتقبل يف‬
‫صناعــة ســلوك اإلنســان‪ ،‬هــذا الســلوك الــذي يتفاعــل مــع الواقــع وفــق خمزونــه‬
‫املعــريف‪ ،‬و مــن مث تصبــح مســألة الرشــد إحــدى األهــداف الــي يســعى إليهــا‬
‫النظــام و القانــون يف التصــور اإلســامي ‪ ،‬و الرشــد هنــا يعــي غيــاب اهللــع و‬
‫اجلــزع و التفاعــل املفــرط الــذي رأينــاه مثـاً يف حــاالت األزمــات االقتصاديــة أو‬
‫الرفــاه الــذي عاشــته أمريــكا مثــا قبــل الكســاد الكبــر يف بدايــة القــرن و أزمــة‬
‫الرهــن العقــاري يف القــرن احلــادي و العشــرون ‪.‬‬
‫ال ننســى أن قانــون اهلدايــة ( الزمــن الرؤيــة املســتقبلية واملفاجــأة أو التحقــق‬
‫) هــو جــزء مــن منــوذج مركــب حنــاول أن نربطــه ابلوحــدة القرآنيــة ‪ ،‬لــذا فنحــن‬
‫حنــاول أن نفــكك النمــوذج إىل جمموعــة قوانــن نربطهــا يف ســيناريو ومشــاهد‬
‫اترخييــة ولكــن تظــل جــزء مــن الــكل ‪ ،‬لــذا فالرتكيــز علــى جــزء مــن النمــوذج ال‬
‫‪169‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫يعين الرتكيز على عامل واحد كما ســبق وأن أوضحنا ‪ ،‬لذا ســننطلق اآلن إىل‬
‫جــزء اثين مــن النمــوذج املركــب وهــو «ســنة التدافــع» ‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪170‬‬

‫الفصل السابع‬

‫سنة التدافع ‪ :‬االختالف والتنوع‬

‫التدافــع ســنة أخــرى مــن الســنن الــي ذكرهــا القــرآن‪ ،‬وكان هلــا صــدى كبـرا‬
‫يف كثــر مــن التش ـريعات ‪ ،‬علــل القــرآن هبــا كث ـراً مــن األحــداث التارخييــة؛ و‬
‫ودفْــع مصــدران لــه ‪ .‬قــال أبوحــامت‬ ‫لفــظ التدافــع مشــتق مــن الفعــل دفــع ‪ ،‬ودفــاع َ‬
‫‪ :‬دافــع ودفــع مبعــى واحــد ‪ ,‬مثــل طرقــت النعــل وطارقــت ‪ ,‬أي خصفــت‬
‫إحدامهــا فــوق األخــرى ‪ ,‬واخلصــف احلــرز (‪ .)1‬والدفــع اإلزالــة ابلقــوة‪ ،‬واملدافعــة‬
‫‪ :‬املزامحــة‪ ،‬واالندفــاع ‪ :‬املضــي يف األمــر‪ ،‬ووردت يف القــرآن يف عــدة مواضــع‪،‬‬
‫وبصــور خمتلفــة ســنذكرها ابلتفصيــل بعــد قليــل ‪.‬‬
‫ابالستقراء جند أن هذه السنة حتتوي عدة عناصر هي ‪:‬‬
‫‪ .1‬االختالف‬
‫‪ .2‬التوازن‬
‫‪ .3‬احلركة ‪.‬‬
‫والت ـوازن نتيجــة حلركــة العناصــر املختلفــة يف كل حــدث أو تفاعــل ‪.‬‬
‫واالختــاف يطلــق علــى عــدم التســاوي ‪ ،‬ويطلــق علــى املضــادة لغـةً‪ ،‬ونتصــوره‬
‫كالتــايل ‪:‬‬
‫• •يتقابل عنصران متضادان ‪.‬‬
‫• •يتقابــل عنصــر ســائد وعــدة عناصــر مقابلــة لــه‪ ،‬وهــذا مــا يفهــم مــن‬
‫التعب ـرات القرآنيــة ‪.‬‬
‫‪171‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫قال الزركشي ( ومن مجع الظلمات والنور ( هللا ويل الذين آمنوا خيرجهم‬
‫مــن الظلمــات إىل النــور ‪ , )....‬ولذلــك مجــع ســبيل الباطــل وأفــرد ســبيل احلــق‬
‫( وأن هــذا صراطــي مســتقيماً فاتبعــوه وال تتبع ـوا الســبل ) ‪.....‬وقــال ( ومــن‬
‫ذلــك إف ـراد اليمــن ومجــع الشــمائل ( عــن اليمــن وعــن الشــمال عزيــن ) أي‬
‫متفرقــن (‪ )2‬وهــذه الســنة ظاهــرة‪ ،‬فقــد اســتطاع ايليــا بريغوغويــن الــذي ولــد يف‬
‫موســكو ونشــأ منــذ طفولتــه يف بلجيــكا ويف مرحلــة شــبابه هبرتــه مشــكلة الزمــن‬
‫ودهــش لتناقــض ظاهــري قائــم‪ ،‬فمــن انحيــة كان هنــاك إميــان فيزايئــي بعامــل‬
‫االنــرويب – أي ان الكــون يف اهنيــار مســتمر وأن كل االمنــاط املنظمــة ســتفىن‬
‫‪171‬‬
‫يف النهايــة‪ ،‬ومــن انحيــة أخــرى كان هنــاك اع ـراف بيولوجــي أبن احليــاة ذاهتــا‬
‫منظمــة وأننــا ابســتمرار نصعــد حنــو مســتوايت أعلــى وأعقــد مــن التنظيــم )‬
‫(‪ )3‬ووضــع بريغوغويــن فكــرة النظــام والفوضــى‪ ،‬و الــي وصفــت مــع غريهــا مــن‬
‫التصــورات فكــرة النظــم‪ ،‬أي فكــرة التغذيــة االســرجاعية‪ ،‬واملثــال الــذي يســاعد‬
‫علــى توضيــح هــذه الفكــرة هــو الثريموســتاد املنــزيل الــذي حيافــظ علــى درجــة‬
‫حـرارة معينــة للغرفــة يف أي ظــرف ‪ ،‬فعندمــا يشــغل الثريموســتاد الفــرن الكهرابئــي‬
‫يقــوم بتوجيــه ارتفــاع احلـرارة الناجتــة حــى تصــل للدرجــة املطلوبــة لتدفئــة الغرفــة‪،‬‬
‫وعندمــا تنخفــض درجــة احل ـرارة فإنــه سيشــعر هــذا التغيــر يف حميطــه ويشــغل‬
‫الفــرن مــرة اثنيــة‪.‬‬
‫و هــذا أمــر مســتقر يف كثــر مــن اجملــاالت العلميــة طبيــة وفيزايئيــة وإداريــة‬
‫‪...‬تتحــرك قــواتن متقابلتــان‪ ،‬هــذه احلركــة تصــل إىل درجــة مــن الت ـوازن عندمــا‬
‫تكــون القــوة الســائدة هــي القــوة األكثــر جتانس ـاً وتناغمــا ً ‪ .‬لــذا جنــد أن‬
‫احلـراك االجتماعــي يتأثــر مبــدي ترابــط تلــك احلــركات االجتماعيــة وتوازهنــا‪ ،‬وإذا‬
‫تصــوران أن اجملتمــع حيــوي عــدة نظــم فــإن كل نظــام ســتتدافع فيــه عــدة قــوى‬
‫خمتلفــة أو متقابلــة ليصــل اجملتمــع إىل حالــة التـوازن ( ابلتــدرج ) مــن جديــد أي‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪172‬‬

‫احلالــة الــي تســود فيهــا القــوة املتوازنــة ‪ .‬فعنــدان نظــام تتخللــه قــواتن متقابلتــان‬
‫يقابــل بعضهمــا البعــض وتتحــرك القــوى املختلفــة دفع ـاً حنــو االســتقرار‪ ،‬وهــذه‬
‫النظــم هــي ‪ :‬النظــم النفســية ‪ .‬النظــم االقتصاديــة ‪ .‬النظــم االجتماعيــة ‪ .‬النظــم‬
‫السياســية ‪ .‬النظــم الثقافيــة ‪.‬‬
‫و ال شــك أن علــم االجتمــاع واملدرســة البنيويــة ( النظــم ) قطعــت شــوطاً‬
‫يف هــذه اجملــال ‪ ،‬ولكــن مــا نريــد أن نســجله أن اجملتمعــات يف بدايتهــا تشــهد‬
‫نوعــا مــن املرحليــة ‪ ،‬أي أن مــن ســنن الكــون أنــه ميكــن مالحظــة فــروق زمنيــة‬
‫يف النشــأة والرتكيــب ‪ ،‬لكــن هــذه املرحليــة ختتفــي مــع نشــأة اجملتمعــات‬
‫واكتمــال تركيبهــا ‪ ,‬كاجلنــن متامـاً فإننــا نعــرف مــى تتشــكل نظمــه املختلفــة‬
‫العصبيــة واهلضميــة ‪....‬لكــن يصعــب بعــد نشــأته خلقــا آخــر تصــور تلــك‬
‫املرحليــة الــي نشــأ هبــا هــذا اخللــق ‪ .‬والرتتيــب هنــا مهــم وحيــدث هبــذا التــدرج‬
‫كمــا نــرى‪.‬‬
‫لقــد دلــت الدرســات املعاصــرة ضــرورة وجــود اختــاف لــه أســباب جينيــة‬
‫داخــل اجملتمــع بــن ال يلقــي ابال للتفــاوت داخــل اجملتمــع و غيــاب العدالــة‬
‫االجتماعيــة و هــم يف العــادة مييلــون للســلطات احلاكمــة خاصــة إذا هتــدد‬
‫االســتقرار‪ ،‬بينمــا جنــد بعــض الوطنيــن مــن مييلــون جملموعــات أو توجهــات بنــاء‬
‫علــى رغبتهــم يف رفــع الظلــم و الضيــم (‪)4‬‬
‫هــذا اخلــاف يرتبــط مبعــدل التفــاوت داخــل اجملتمــع ‪ ،‬و قــدرة النــاس علــى‬
‫حتمــل العيــش وســط ذلــك التناقــض و الظلــم االجتماعــي لــذا فهنــاك عالقــة‬
‫وطيــدة بــن االســتقرار و االختــاف و التفــاوت‪ ،‬فكلمــا ازداد االختــاف يعــي‬
‫ذلــك وجــود عــدم تفــاوت داخــل اجملتمــع ممــا جيعــل األحــداث متيــل حنــو النـزاع‬
‫( ســنة التفــاوت الفصــل القــادم ) بينمــا وجــود اختــاف يفضــي ملقاربــة الســتوية‬
‫‪173‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫هــو طبيعــة النظريــة السياســية و النظــام السياســي الــذي حيــدث االســتقرار و‬


‫العدالــة االجتماعيــة ‪.‬‬
‫وإذا تذكـران مــا قلنــاه يف ســنة اهلدايــة فــإن القصــة تبــدأ بفكــرة أو اعتقــاد‬
‫جيمــل تصــوراُ حنــو املســتقبل ‪ ,‬ينتشــر يف اجملتمــع تطلع ـاً حنــو مســتقبل أفضــل‪،‬‬
‫وتنشــأ لــدى هــذه الفكــرة مــع الوقــت و التجــارب الــي تتحــرك آبليــة ســنة اهلدايــة‬
‫( االســتجابة لآلفــكار اجملربــة ) قــوة دفــع تتــدرج مــن الناحيــة النفســية إىل‬
‫الناحيــة الثقافيــة ( أي أهنــا ســتكون جــزءا مــن ثقافــة اجملتمــع )‪ ،‬ومبــا أن اجملتمــع‬
‫‪ 173‬إىل حالــة مــن االســتقرار‬ ‫القائــم خمتــل التـوازن فــإن احلـراك االجتماعــي ســيتدرج‬
‫وفــق قانــون ‪ :‬األكثــر تــوازان يدفــع األقــل تــوازان ‪.‬‬
‫وهــذا كمــا حيــدث يف اجملتمــع الواحــد‪ ،‬فإنــه حيــدث يف احملتمعــات واألمــم‬
‫املختلفة حني تدفع أمة واحدة بقية األمم وتسود أفكارها ومبادئها واقتصادها‬
‫وعاداهتــا وسياســتها وثقافتهــا علــى العــامل ( التمكــن يف املصطلــع القــرآين والقــوة‬
‫العظمــي ابملصطلــح السياســي ) ‪ .‬ولنتذكــر أن الدفــع وســيلة للصــاح أو‬
‫االســتقرار أي أن التمظهـرات التارخييــة لســنة التدافــع تعــر عــن حـراك جمتمعــي‬
‫أدى إىل االســتقرار ‪ ،‬ومــن اخلطــأ أن نفســر حتلــل األمــم وتدهورهــا وفــق قانــون‬
‫التوازن ( انظر سنة التنازع للتفصيل ) ‪ .‬ولنجمع اآلن السور اليت حتدثت عن‬
‫هــذه الســنة والــي عــادة مــا تكــون اثين اجملموعــات القرآنيــة فلنبــدأ ‪....‬‬

‫االختالف والتنوع يف القرآن الكرمي ‪:‬‬


‫املواضــع الــي ذكــرت فيهــا ســنة التدافــع كثــرة‪ ،‬وعــادة مــا جتــد القــرآن‬
‫ي ـزاوج بــن ســنيت التدافــع والتفــاوت أو التنــازع ‪ ،‬إال أننــا ســنذكر املواضــع الــي‬
‫ذكــرت فيهــا عناصــر ســنة التدافــع مــن االختــاف (التقابــل) والتـوازن واحلركــة‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪174‬‬

‫‪ .‬هــذه املواضــع وردت يف كل مــن ‪ :‬ســورة البقــرة‪ ،‬ســورة النســاء‪ ،‬ســورة هــود‪،‬‬
‫ســورة احلــج‪ ،‬ســورة النحــل‪ ،‬ســورة الفرقــان‪ ،‬ســورة األح ـزاب‪ ،‬ســورة فصلــت‪،‬‬
‫ســورة القتــال‪ ،‬ســورة الرمحــن‪ ،‬ســورة الطــاق‪ ،‬ســورة املزمــل‪ ،‬ســورة املطففــن‪،‬‬
‫ســورة الشــمس‪ ،‬ســورة العلــق‪ ،‬ســورة الزلزلــة‪ ،‬ســورة قريــش‪ ،‬واملاعــون والكوثــر‬
‫‪( .‬ســورة البقــرة ســنذكرها يف كل الســنن ألهنــا مشلــت كل هــذه الســنن ) يف‬
‫ســورة البقــرة يقابلنــا قولــه تعــاىل ( ولــكل وجهــة هــو موليهــا فاســتبقوا اخل ـرات‬
‫‪ .‬أيــن مــا تكونـوا أيت بكــم هللا مجيعـاً ‪ .‬إن هللا علــى كل شــيء قديــر ) ‪ .‬قــال‬
‫أبــو العاليــة ( لليهــود وجهــة هــو موليهــا‪ ،‬وللنصــارى وجهــة هــو موليهــا وهداكــم‬
‫أيتهــا األمــة إىل القبلــة ) ( تفســر ابــن كثــر) وهنــا اختــاف يف اجتــاه كل أمــة‪،‬‬
‫هــذا االختــاف ال يــؤدي إىل فســاد أو نـزاع‪ ،‬لوجــود التدافــع أو التســابق الــذي‬
‫ذكرتــه اآليــة‪ ،‬والــذي تؤكــد اآلايت أن وجــود هــذا االختــاف جــزء مــن ســنة‬
‫التدافــع بــن األمــم حــن ذكــرت اآليــة ( ولئــن آتيــت الذيــن أوتـوا الكتــاب بــكل‬
‫آيــة مــا تبع ـوا قبلتــك ) فهــذا خــر عــن قــدر هللا بوجــود هــذه االختــاف بــن‬
‫األمــم لــن جيــدي معــه دعــوة أو ح ـوار ‪.‬‬
‫جــاءت هــذه اآلايت بعــد أن بــن لألمــة ســياقها التارخيــي‪ ،‬ورســالتها الــي‬
‫كلفــت هبــا ليبــن أن وجــود األمــة اإلســامية مل أيت ليلغــي هــذا التنــوع بــل‬
‫لتتســابق األمــم وتتدافــع حنــو اخلــر‪ ،‬وبعــد أن بــن رســالة هــذه األمــة بــدأ يف‬
‫ذكــر جمموعــة نظــم ( ســنذكرها بعــد قليــل ) وبــن كيــف حيــدث التدافــع يف قولــه‬
‫( الشــهر احل ـرام ابلشــهر احل ـرام واحلرمــات قصــاص )‪ ( ،‬فمــن اعتــدى عليكــم‬
‫فاعتــدوا عليــه مبثــل مــا اعتــدى عليكــم ) قــال ابــن كثــر إن هــذا أمــر ابلعــدل‬
‫حــى مــع املشــركني كمــا قــال ( وإن عاقبتــم فعاقب ـوا مبثــل مــا عوقبتــم بــه )‬
‫النحــل ( وجـزاء ســيئة ســيئة مثلهــا ) الشــورى‪ ،‬فربــط ابــن كثــر بــن هــذه اآلايت‬
‫وســنة التدافــع حبيــث يكــون املعــى ادفعوهــم مبثــل ماقاتلوكــم وعتــدوا عليكــم أي‬
‫‪175‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫مــن جنــس الســوء يكــون الدفــع‪ ،‬فالقتــال ابلقتــال‪ ،‬والرمــح ابلرمــح‪ ،‬والكلمــة‬
‫ابلكلمــة‪ ،‬واليشــرط يف هــذا تقليدهــم‪ ،‬أبن يوضــع الغصــب مــكان الغصــب‬
‫أو الفســاد مــكان الفســاد إمنــا هــو جمــاز وحتريــض علــى دفــع الباطــل وقتالــه ) (‬
‫تســمى هــذه اســتعارة تبعيــة حبيــث يراعــى اللفــظ واملشــاكلة كقولــه ســيئة ســيئة‬
‫‪ ,‬ومكــروا ومكــر هللا ‪....‬دون أن يطلــق علــى القتــال أنــه ســوء وأن هللا ماكــر‬
‫ســبحانه ( ذكــره القرطــي و شــبيه مــن نفــس الــكالم عنــد ابــن القيــم يف إعــام‬
‫املوقعــن ‪).‬‬
‫‪175‬ظــم الــي ي ـراد منهــا بنــاء‬
‫ويف ســورة النســاء ‪ ،‬جنــد ذك ـراً جملموعــة مــن الن‬
‫اجملتمــع‪ ،‬ودفعــه حنــو القيــم األساســية الــي انطلقــت مــن التصــور الفكــري الــذي‬
‫جــاء بــه اإلســام‪ ،‬وجنــد أن كل تلــك النظــم تدفــع تصــورات ونظــم ســابقة داخــل‬
‫اجملتمــع ‪ ،‬جنــد هــذه اآليــة ( مــن يشــفع شــفاعة حســنة ‪ )...‬يف ســياق احلديــث‬
‫عــن اجلهــاد‪ ،‬وهــو مــن أبــرز مظاهــر ســنة التدافــع بــن احلــق والباطــل ‪ ،‬ويف ســورة‬
‫هــود ‪ ،‬جنــد حديثــا عــن اختــاف النــاس والتدافــع بــن األنبيــاء وأقوامهــم ( ولقــد‬
‫آتينــا موســى الكتــاب فاختلــف فيــه ‪ )...‬وقــال ( فلــوال كان مــن القــرون مــن‬
‫قبلكــم أول ـوا بقيــة ينهــون عــن الفســاد يف األرض ‪ )...‬وقــال ( ولوشــاء ربــك‬
‫جلعــل النــاس أمــة واحــدة واليزالــون خمتلفــن إال مــا رحــم ربــك ولذلــك خلقهــم‬
‫ومتــت كلمــة ربــك ألمــأن جهنــم مــن اجلنــة والنــاس أمجعــن ) ( ‪)118-116‬‬

‫يف هذه اآلايت جند ‪:‬‬


‫‪ .1‬طائفة مرحومة تقابل جمموعات خمتلفة من الناس ‪.‬‬
‫‪ .2‬ذكر الفساد والصالح كهدف هلذا التدافع ‪.‬‬
‫‪ .3‬حتمية االختالف ووجود هذا التدافع ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪176‬‬

‫وإذا أَضفنــا آيــة ( إن احلســنات يذهــن الســيئات ) ســورة هــود ‪ ,‬عرفنــا‬


‫أن قولــه ( أويل بقيــة ) وهــم قلــة يقيمــون الصــاة‪ ،‬وينفقــون أمواهلــم ويفعلــون‬
‫احلســنات الــي تدفــع الســيئة عــن اجملتمــع‪ ،‬حــى يذهــب الفســاد‪ ،‬ويقــل‬
‫االختــاف وتنــزل الرمحــات ‪.‬‬
‫‪ .4‬أنــه ســبحانه أخــر أبن النــاس اليزالــون خمتلفــن أبــداً‪ ،‬مــع أنــه إمنــا‬
‫خلقهــم لالختــاف‪ ،‬وهــو قــول مجاعــة مــن املفسـرين ( ولذلــك خلقهــم ) معنــاه‬
‫‪ :‬لالختــاف خلقهــم‪ ،‬وهــو مــروي عــن مالــك بــن أنــس قــال ‪ :‬خلقهــم ليكونـوا‬
‫فريقـاً يف اجلنّــة وفريقـاً يف الســعري وحنــوه عــن احلســن فالضمــر يف خلقهــم عائــد‬
‫علــى النــاس فالميكــن أن يقــع منهــم إال مــا ســبق يف العلــم‪ ،‬وليــس امل ـراد هنــا‬
‫االختــاف يف الصــور كاحلســن والقبــح أو غــر ذلــك مــن االختــاف الطبيعــي‬
‫‪ ,‬وقــد ذكــروا أن االختــاف هنــا بــن امللــل مــن يهوديــة ونصرانيــة و حنفيــة )‬
‫(االعتصــام الشــاطيب ص‪ 408‬ج‪. )2‬‬
‫ويف ســورة النحــل‪ ,‬جنــد مقارنــة بــن فريقــن‪ ,‬األول يف قولــه تعــاىل ( وإذا‬
‫قيــل هلــم مــاذا أنــزل ربكــم قال ـوا أســاطري األولــن ) وهــؤالء هــم املســتكربون‪,‬‬
‫والثــاين قولــه تعــاىل ( وقيــل للذيــن اتق ـوا مــاذا أنــزل ربكــم قال ـوا خ ـراُ ) وفيهــا (‬
‫ولوشــاء هللا جلعلكــم أمــة واحــدة ولكــن يضــل مــن يشــاء ويهــدي مــن يشــاء )‬
‫االايت(‪. )30-24‬‬
‫ويف ســورة احلج‪ ،‬يذكر ســبحانه هذا االختالف ( إن الذين آمنوا والذين‬
‫هــادوا والنصــاري والصابئــن واجملــوس والذيــن أشــركوا إن هللا يفصــل بينهــم يــوم‬
‫القيامــة ) مث يقــول ( هــذان خصمــان اختصمـوا يف رهبــم ) (‪ )18-17‬االايت‬
‫وروي أهنــا يف الذيــن تبــارزوا يف بــدر‪ ،‬وهــي عامــة يف اخلصــام بــن احلــق الواحــد‪،‬‬
‫والباطــل املختلــف‪ ،‬بــن املؤمنــن واليهــود والنصــارى واجملــوس والذيــن أشــركوا ‪.‬‬
‫‪177‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫مث ذكــر ســنة التدافــع ( ولــوال دفــع هللا النــاس بعضهــم ببعــض هلدمــت‬
‫صوامــع وبيــع وصلـوات ومســاجد يذكــر فيهــا اســم هللا كثـراً )‪ ...‬فالتدافــع كمــا‬
‫هو ظاهر من أجل منع الفســاد‪ ،‬والتوازن بني األمم ‪ ،‬فقد ذكر ســبحانه رموز‬
‫األمــم املختلفــة و ذكــر أن هنــاك دفعـاً مينــع الفســاد مــن االنتشــار ‪.‬‬
‫ويف ســورة الفرقــان ذكــر الفريقــن بصــورة واضحــة‪ ،‬يف توزيــع الظــال و‬
‫األمطــار و األفــكار و التوافــق و التنافــر يف تشــبيه رائــع بــن املــاء امللــح و‬
‫العــذب و املــاء الــذي منــه النســب و األصهــار‪ ،‬ويف ســورة األح ـزاب بيــان‬
‫‪177‬جنــد ذكــر االختــاف (‬ ‫للتدافــع الــذي حــدث يف املدينــة‪ ،‬ويف ســورة فصلــت‬
‫ولقــد آتينــا موســى الكتــاب فاختلــف فيــه ) ونق ـرأ ( ومــن آايتــه الليــل والنهــار‬
‫والشــمس والقمــر )‪ ،‬ويف ســورة القتــال حديــث عــن التدافــع والقتــال ( الذيــن‬
‫كفــروا وصــدوا عــن ســبيل هللا ‪..‬والذيــن آمنـوا مبــا أنــزل علــى حممــد ‪ , )...‬ويف‬
‫ســورة الرمحــن( مــرج البحريــن يلتقيــان )‪ ،‬واإلنــس واجلــان واملشــرق واملغــرب‪ ،‬ويف‬
‫الطــاق الرجــل وامل ـرأة‪ ،‬ويف ســورة الشــمس متقابــات ظاه ـرات كذلــك ‪.‬‬
‫و األمــر ظاهــر بتميــز هــذه الســور عــن غريهــا هبــذه املتقابــات واحلديــث‬
‫عــن االختــاف والتدافــع ( مقارنــة ابلســور الــي ذكرانهــا يف ســنة اهلدايــة )‬
‫‪.‬املالحظة الثانية يف هذه السور وهي ذكر النظم املختلفة النفسية واالقتصادية‬
‫‪...‬وبرتتيــب يبــدو مقصــود ‪ ,‬نذكــره فيمــا يلــي ‪.‬‬

‫استقراء مثري ‪:‬‬


‫الســور الــي ذكــرت االختــاف ‪ ,‬ومقابلــة الســيئة ابحلســنة ‪ ,‬تذكــر كذلــك‬
‫مخســة نظــم ( النفســية – االقتصاديــة – االجتماعيــة –– السياســية – الثقافيــة‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪178‬‬

‫) وتذكــر االختــاف بصــورة واضحــة ‪ ,‬وهــذا يتضــح لنــا ابلنظــر إىل نظــم هــذه‬
‫الســور ‪ ,‬وطريقــة عرضهــا واأللفــاظ الــي تكــرر فيهــا ‪.‬‬
‫يف ســورة البقــرة (االايت مــن ‪ )188-178‬جنــد مخســة أحــكام تذكــر‬
‫متتاليــة وهــي ‪:‬‬
‫القصاص ‪.‬‬
‫الوصية ‪.‬‬
‫الصيام ‪.‬‬
‫احلكم والقضاء‪.‬‬
‫احلج والقتال ‪.‬‬
‫والقصــاص فيــه حفــظ للنفــس‪ ،‬واح ـرام هلــا ‪ .‬والوصيــة مســألة اقتصاديــة‬
‫والصيــام مســألة اجتماعيــة الرتباطهــا ابلتقــوى وتربيــة اإلرادة‪ ،‬مث جنــد قولــه تعــاىل‬
‫( وال أتكل ـوا أموالكــم بينكــم ابلباطــل وتدل ـوا هبــا إىل احلــكام ) مث ذكــر احلــج‬
‫والقتــال مــن أجــل محايــة احلرمــات ‪ ,‬وهــي مســائل سياســية تتعلــق ابحلــكام‬
‫والعالقــات اخلارجيــة للدولــة ‪ .‬و ذكــر فيمــا بعــد مســألة ختتــص ابلثقافــة يف‬
‫مســتهل احلديث عن احلج يف قوله تعاىل ( يســئلونك عن األهلة ) فقد ســألوا‬
‫عــن اهلــال وكيــف يبــدأ مث يصبــح بــدراً مث يعــود كمــا بــدأ وهــي مســألة تتعلــق‬
‫ابالعتقــادات والتصــورات أي الثقافــة ‪.‬‬
‫ويف ســورة النســاء‪ ،‬جنــد أوالً ‪ :‬األمــر ابلتقــوى وهــي مســألة نفســية (‬
‫وهنــاك تفريــق بــن النفــس مــن الناحيــة املاديــة أو املعنويــة )‬
‫اثنياً ‪ :‬األمر حبفظ أموال اليتامى ونظام املواريث وهي مسألة اقتصادية‪.‬‬
‫‪179‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫اثلثاً ‪ :‬تنظيم مسألة النكاح وهي مسألة اجتماعية ‪.‬‬


‫رابعاً ‪ :‬احلديث عن السلطة القضائية والتشريعية يف قوله تعاىل ( اي أيها‬
‫الذيــن آمن ـوا أطيع ـوا هللا وأطيع ـوا الرســول وأويل األمــر منكــم ‪ )....‬وبعــد ذلــك‬
‫احلديــث عــن القتــال والعالقــة ابآلخــر وهــي مســائل سياســية ‪.‬‬
‫خامسـاً ‪ :‬األمــر ابالنتمــاء والــوالء للمؤمنــن والتمســك ابلتوحيــد وعــدم‬
‫مـواالة أعــداء األمــة وهــي مســائل ثقافيــة ‪.‬‬
‫يــزداد األمــر وضوح ـاً ‪ ،‬إذا نظ ـران إىل ترتيــب القصــص يف ســورة هــود‬
‫‪179‬‬
‫ســنجده كالتــايل ‪:‬‬
‫قصة نوح عليه السالم ‪.‬‬
‫قصة هود عليه السالم ‪.‬‬
‫قصة صاحل عليه السالم ‪.‬‬
‫قصة لوط عليه السالم ‪.‬‬
‫قصة شعيب عليه السالم ‪.‬‬
‫قصة موسى عليه السالم ‪.‬‬
‫وإذا اعتــران أن اخللــل عنــد قــوم نــوح خلــل عقائــدي يتعلــق بتوجــه قومــه‬
‫عقيدهتــم ( فهــم أول مــن عبــد األصنــام ) فــإن اخللــل عنــد قــوم هــود هــو مــرض‬
‫نفســي‪ ،‬فهــم يســتبدون بقوهتــم‪ ،‬وإذا بطش ـوا ابلنــاس كان ـوا جبابــرة يتكــرون‬
‫ويفســدون ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪180‬‬

‫أمــا قــوم صــاحل فكانـوا مرتفــن ‪ ,‬وينحتــون اجلبــال مرتفــن فارهــن‪ ،‬وعندهــم‬
‫طعــام لــن هضيــم ‪ ،‬فعندهــم رفاهيــة اقتصاديــة واضحــة ‪ .‬أمــا قــوم لــوط فقــد‬
‫أصيبـوا بــداء وخيــم ‪ ،‬فيــأيت الرجــل منهــم الرجــل وهــو مــرض اجتماعــي خطــر ‪.‬‬
‫أمــا قــوم شــعيب فقــد غــاب عنهــم العــدل‪ ،‬وطففـوا امليـزان‪ ،‬و هــذا يشــمل‬
‫كل شــيء‪ ،‬مــن التطفيــف يف األس ـواق إىل القضــاء إىل الســلطات احلاكمــة‪،‬‬
‫وعاثـوا يف األرض فســاداً‪ ،‬وهــو خلــل سياســي ‪ .‬أمــا قــوم فرعــون الذيــن واجههــم‬
‫موســى عليــه الســام ‪ ,‬فاخللــل ثقــايف‪ ،‬ألن فرعــون اســتبد برأيــه واعتقــد النــاس‬
‫ألوهيتــه فاملســألة فكريــة أو ثقافيــة‪ .‬وعلــى هــذا فالرتتيــب مقصــود مــن املــرض‬
‫النفســي إىل االقتصــادي إىل االجتماعــي إىل السياســي إىل الثقــايف ‪.‬‬
‫ويف ســورة النحــل جنــد الرتتيــب كالتــايل ‪( :‬إن هللا أيمــر ابلعــدل واإلحســان‬
‫و إيتــاء ذي القــرىب وينهــى عــن الفحشــاء واملنكــر والبغــي ) والعــدل يتعلــق‬
‫ابلعقيــدة كمــا يــدل ســياق الســورة‪ ،‬فالعــدل مــن معادلــة الشــيء وموازنتــه‪،‬‬
‫والشــرك هــو نــوع مــن الظلــم‪ ،‬فــا يعــدل هللا شــيء ‪.‬‬
‫أمــا اإلحســان فهــو مســألة نفســية تتعلــق حبســن املعاملــة واالح ـرام‬
‫واملرمحــة‪....‬‬
‫أما إيتاء ذي القرىب فهو مسألة اقتصادية‪...‬‬
‫أما الفحشاء واملنكر فهو سلوك اجتماعي‪...‬‬
‫أما البغي فهو مسألة سياسية ‪....‬‬
‫ويف سورة اإلسراء جند تفصيل ذلك ‪ ,‬فأمر سبحانه ‪:‬‬
‫ابإلحسان للوالدين ‪.‬‬
‫‪181‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫التعامــل مــع املــال واالنفــاق منــه ( وال جتعــل يــدك مغلولــة إىل عنقــك وال‬
‫تبســطها كل البســط )‬
‫النهي عن القتل والزان والوأد ‪...‬وهي مسائل اجتماعية ‪.‬‬
‫مث جــاء قولــه ( أوف ـوا الكيــل إذا كلتــم وزن ـوا ابلقســطاس املســتقيم ) فهــي‬
‫مســألة سياســية أو قضيــة حكــم ترتبــط ابلعــدل والنهــي عــن البغــي وهــي يف هــذا‬
‫الســياق ألهنــا مرتبطــة بقضــااي عمليــة هــي مســألة سياســية ‪.‬‬
‫مث جــاءت مســألة ثقافيــة ( وال تقــف مــا ليــس لــك بــه علــم ) أي ال تتبــع‬
‫‪181‬‬
‫إال بعــد التجربــة‪ ،‬فالبــد مــن التحــري والبعــد عــن الظنــون‪ ،‬وهــي مســألة تنظــم‬
‫طريقــة التفكــر أو أهنــا تتعلــق ابلثقافــة كمــا هــو يف بعــض تعاريــف الثقافــة ‪.‬‬
‫ويف سورة املؤمنون جند وصف املؤمنني ‪.‬‬
‫قد أفلح املؤمنون – وهي قضية عقائدية ‪.‬‬
‫الذين هم يف صالهتم خاشعون –‬
‫والذين هم عن اللغو معرضون – مسألة نفسية‬
‫والذين هم للزكاة فاعلون – وهي مسألة اقتصادية‬
‫والذين هم لفروجهم حافظون – وهي مسألة اجتماعية‬
‫والذيــن هــم ألماانهتــم وعهدهــم راعــون – وهــي مســألة تتعلــق ابلســلطات‬
‫( سياســية ) ‪.‬‬
‫هــذه الصفــات يتكــرر ذكرهــا يف ســورة املعــارج ويف ســورة الفرقــان بصــورة‬
‫أخــرى ‪:‬‬
‫الذين ميشون على األرض هوان ( جانب نفسي ) ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪182‬‬

‫إذا أنفقوا مل يسرفوا ومل يقرتوا ( جانب اقتصادي ) ‪.‬‬


‫ال يقتلون النفس اليت حرم هللا إال ابحلق وال يزنون ( جانب اجتماعي ) ‪.‬‬
‫ال يشهدون الزور ( جانب يتعلق ابلسلطة القضائية (سياسي) ‪.‬‬
‫والذين إذا ذكروا آبايت رهبم مل خيروا عليها صماً وعمياانً ( جانب ثقايف‬
‫يتعلق ابلفكر والفهم ) ‪.‬‬
‫هــذه اإلشــارات الــي قــد خنتلــف حوهلــا تصنيفهــا‪ ،‬والــي ابســتقرائها – إذا‬
‫اتفقنــا حوهلــا – جيعــل مــن التدافــع أمـراً واســعاً يشــمل كثــر مــن اجملــاالت‪ ،‬فهنــاك‬
‫تدافــع اقتصــادي‪ ،‬وآخــر اجتماعــي ‪ .....‬لــذا البــد مــن تتبــع هــذه الســنة يف‬
‫اجملــاالت االقتصاديــة عــر تنــوع مصــادر الدخــل‪ ،‬و تنــوع فاعليــة املؤسســات‬
‫واألف ـراد يف االقتصــاد‪ ،‬و يف اجملــال االجتماعــي يف تكويــن األســرة‪ ،‬وتدافــع‬
‫احلــركات االجتماعيــة‪ ،‬واألمــن اجملتمعــي ‪ ،‬الــذي يــدل عليــه تــدين معــدالت‬
‫اجلرميــة‪ ،‬وكذلــك يف اجلانــب السياســي جنــد ت ـوازن الســلطات املختلفــة يف‬
‫اجملتمــع ( وليــس ابلضــرورة ســلطات مونتيســيكيو الثالثــة ) إىل أن نصــل إىل‬
‫التنــوع الثقــايف‪.‬‬
‫و األمــر الــذي نـراه هنــا هــو هــذا الرتتيــب فهــو مهــم يف فهــم بنــاء اجملتمــع‪،‬‬
‫خاصــة يف تكويــن اجملتمــع أمــا يف مراحــل متقدمــة كمــا هــو الكــون مــن حولنــا‪،‬‬
‫فــا ميكــن مالحظــة أي مراحــل إال يف حــاالت التخلــق والتكويــن‪ ،‬أمــا بعــد‬
‫أن نــدرس الكــون كمــا هــو فــا ميكــن مالحظــة مراحــل بعينهــا‪ .‬لــذا ســنرى‬
‫فيمــا بعــد أن معــى الت ـوازن ال يعــي فقــط بدراســة الواقــع و توازانتــه بــل بفهــم‬
‫التشــكل الــذي ينشــأ عــن هــذا التـوازن فالوصــول حلالــة مــن عــدم التـوازن يعــي‬
‫حتلــل منظومــة كاملــة و نشــأة أخــرى (‪ )4‬و هكــذا تنشــأ ( ‪)Emergenc‬‬
‫قــوى أخــرى و هــذا التشــكل أيخــذ جانبـاً معرفيـاً يف دراســة املســتقبل و يســمى‬
‫‪183‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫‪ Complexity Theory‬و هــذا مــا جيعلنــا نذكــر أن احلديــث عــن‬


‫التدافــع يبنغــى أن يفهــم يف إطــار منــوذج كامــل فيــه مــن الت ـوازن الــذي يفســر‬
‫االســتقرار و التفــاوات الــذي يفســر يف جانــب منــه التحلــل كل ذلــك يقــع يف‬
‫خارطــة املســتقبل و الزمــن بــن التشــكل و التشــتت و الفوضــى و تبقــى ميــزة‬
‫القرآن يف احلديث عن ظاهرة اخللق و االستخالف اليت جند هلا أثراً يف العلوم‬
‫املعاصرة يف بعض القضااي املتعلقة ابلفلك و الفيزايء خاصة و علوم املستقبل‬
‫يف النظ ـرايت الــي تفســر نشــأة الكــون و املســتقبل ‪ .‬هــذا االســتطراد لنتذكــر‬
‫ســياق التدافــع و اآلن لكــي يتضــح األمــر أنخــذ أمثلــة اترخييــة يكــون فيهــا تقابــل‬
‫‪183‬‬
‫بــن جمموعــة مــن النظــم ‪ ،‬لنــرى كيــف يدفــع اجملتمــع حنــو الصــاح ‪.‬‬

‫اتريخ التدافع‪:‬‬
‫لــن جنــد صعوبــة يف ذكــر أمثلــة عــن التدافــع فنظريــة الت ـوازن ألفــت فيهــا‬
‫كتــب وجملــدات كثــرة ‪ ،‬وهــو أمــر ظاهــر لــكل دارس للتاريــخ ‪ ,‬لــذا ســتكون‬
‫مهمتنــا ســهلة ‪ ,‬فيهــا فقــط تذكــر أبفــكار أساســية ‪:‬‬
‫• •وجود قوة سائدة وجمموعة قوى توازن تلك القوة ‪.‬‬
‫• •النظم املختلفة وكيف تتأثر ابلتدافع ( احلركة واالختالف والتوازن ) ‪.‬‬

‫القوى العظمى‪:‬‬
‫هناك عدة نظرايت لتفسري العالقات الدولية‪ ،‬هل هي عالقة بني جمموعة‬
‫قوى خمتلفة ‪ ،‬متثلها الدولة القطرية ‪ ،‬وما يسمى ابلنظرية الواقعية ‪ ،‬فالدولة هي‬
‫الوحــدة الفاعلــة يف السياســة الدوليــة ‪ .‬لــذا فالعالقــة بــن الــدول هــي عالقــة تـوازن‬
‫قوى بني الدول ‪ ،‬هذه النظرية برزت بشــكل كبري بعد ســقوط الشــيوعية ‪ ،‬حني‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪184‬‬

‫اعتقــد أصحــاب هــذه النظريــة ‪ ،‬أبن الــدول وهــي ‪ 184‬دولــة ( أكثــر أو أقــل )‬
‫ســتتدافع للوصول إىل التوازن ‪ .‬وقد برزت نظرية أخرى تقســم العامل إىل قســمني‬
‫خاصــة بعــد أن أعلــن الرئيــس األمريكــي جــورج بــوش أنــه مــن ليــس معنــا فهــو‬
‫ضــدان ‪ ،‬وهــي نظريــة قدميــة ‪ ،‬فعلــى مــدى التاريــخ كان هنــاك ميــل لــدى الشــعوب‬
‫لتقســيم العــامل إىل حنــن وهــم ‪ .‬شــرق وغــرب ‪ ،‬مشــال وجنــوب ‪ ،‬ودار ســلم ودار‬
‫حــرب ‪ ،‬مناطــق الســام ( ‪ 15%‬مــن العــامل ) ومناطــق فوضــى ‪....‬اخل ‪.‬‬
‫و هنــاك نظ ـرايت أخــرى تتحــدث عــن الوصــول إىل هنايــة التاريــخ‪ ،‬و أن‬
‫العامل يتدرج يف احلركة حنو حالة من الدميقراطية وسيادة القانون واقتصاد السوق‬
‫واحلريــة الفرديــة ابعتبارهــا جنــة هللا يف األرض ‪ .‬وآخــرون شــعروا ابلالمبــاالة ‪ ،‬وأن‬
‫العــامل ميضــي دون بوصلــة وهــي مــا يعــرف ابلفوضــى املطلقــة ‪. )5(.‬‬
‫و ينطلــق البعــض للحديــث عــن التدافــع ابحلديــث عــن دار احلــرب ودار‬
‫السالم يف تراثنا الفقهي‪ ،‬وهذا يف رأيي أمر شرعي علمي ال عالقة له ابلسنن‬
‫الــي هــي قوانــن أو عــادات اترخييــة أو قــل هــي أدوات للتحليــل ال ميكــن اخللــط‬
‫بــن األمريــن بــل ال بــد للحكــم علــى صحــة هــذا التقســيم مــن مراجعــة الظــروف‬
‫التارخييــة الــي اضطــرت الدولــة للجــوء إىل التعامــل مــع اآلخــر هبــذه الطريقــة ‪.‬‬
‫أمــا الــذي نتحــدث عنــه اآلن فهــو الربــط بــن املفهــوم القــرآين للتدافــع‬
‫‪-‬كمــا ســبق‪ -‬و التاريــخ‪ ،‬الــذي يــدل علــى حقيقــة وجــود قــوة عظمــى مســيطرة‬
‫يف كل مرحلــة مــن مراحــل التاريــخ‪ ،‬هــذه القــوة‪ ،‬تقابلهــا جمموعــة قــوى خمتلفــة‪،‬‬
‫هــذا التصــور يتضــح يف كثــر مــن األمثلــة التارخييــة‪ ،‬والــي خلصهــا بــول كنــدي‬
‫يف كتابــه ســقوط القــوى العظمــى‪ ،‬الــي مشلــت الربتغــال وإســبانيا‪ ،‬وبريطانيــا‬
‫والوالايت املتحدة األمريكية‪ ،‬واليت بينت أن القوة العظمي تعتمد يف أساســها‬
‫علــى ت ـوازن نظمهــا الداخليــة ‪ ،‬مــن حيــث قــوة اقتصادهــا وت ـوازن ذلــك مــع‬
‫‪185‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫النمــو الســكاين واالســتقرار السياســي‪ ،‬األمــر الــذي ظهــر جليــا يف حتليــل‬


‫احلــروب الفاصلــة الــي خاضتهــا تلــك القــوى ‪.‬‬
‫ابــن خلــدون يعطينــا هــذه القاعــدة‪( :‬أن لــكل دولــة حصــة مــن املمالــك‬
‫واألوطــان )‬
‫( وانظر أيضاً شــأن العرب أول دول اإلســام ملا كانت عصائبهم موفورة‬
‫كيــف غلبـوا علــى مــا جاورهــم مــن الشــام والعـراق ومصــر ألســرع وقــت جتــاوزوا‬
‫ذلك إىل ما وراءه من الســند واحلبشــة وأفريقية واملغرب مث إىل االندلس ‪ ,‬فلما‬
‫‪185‬ـة ونفــذ عددهــم يف تلــك‬
‫تفرق ـوا حصص ـاً علــى املمالــك والثغــور ونزلوهــا حاميـ‬
‫التوزيعــات أقصــروا عــن الفتوحــات ) املقدمــة ص‪112‬‬
‫و هــذا يعــي أن األمــة الناشــئة تتســع إىل حــد مقــدر هلــا ال تتجــاوزه‪،‬‬
‫وهــذا يقتضــي اســتمرار اختــاف األمــم ‪ ،‬دون ســيادة أمــة واحــدة وســيطرهتا ‪.‬‬
‫هــذه اجلغرافيــا التوســعية نراهــا يف فتوحــات الدولــة األمويــة والدولــة العباســية‪” ،‬‬
‫فقــد كان للخالفــة األمويــة ميــل للشــؤون املتوســطية‪ ،‬وأاتح فتــح صقليــة علــى‬
‫بــي األغلــب أمــام اإلســام ســبالً جديــدة إىل الغــرب ووضــع يف أيــدي أهلــه‬
‫إمــكاانت جديــدة‪ ،‬أمــا اخلالفــة العباســية فوجههــا إىل املشــرق « ومــن ذلــك‬
‫احلــن كانــت اخلالفــة العباســية آســيوية خالصــة ‪ ،‬وســيتجه نشــاطها التجــاري‬
‫حنــو اخلليــج الفارســي وحبــار اهلنــد‪ ،‬وســيكون اتســاع أراضيهــا يف نواحــي آســيا‬
‫الوســطى» (‪)6‬‬
‫هــذه اخلرائــط تغــرت مــع الدويــات املختلفــة الــي تغــرت حركتهــا وفــق‬
‫الرؤيــة املســتقبلة و الذهنيــة االسـراتيجية واألخطــار احملدقــة بتلــك الــدول ‪ .‬لقــد‬
‫كتــب مورخــون مــن احلضــارة االغريقيــة عــن ذلــك التـوازن ووصفـوا تلــك العالقــة‬
‫بــن اثينــا و اســبارطه ‪ )7( ،‬اتريــخ الفتوحــات يف التاريــخ العاملــي يــرز هــذه‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪186‬‬

‫الظاهــرة‪ ،‬وعلــى هــذا جــرى االســكندر املقــدوين يف زحفــه علــى آســيا الصغــرى‬
‫ومعظــم مناطــق الشــرق‪ ،‬حــن أراد توحيــد العــامل‪ ،‬فهــو أول إنســان يف التاريــخ‬
‫فكــر يف األخــوة اإلنســانية والوحــدة البش ـرية ‪.‬‬
‫و كذلــك الرومــان عندمــا احتل ـوا ســوراي ســنة ‪ 64‬ق‪ .‬م‪ ،‬وانتهــت بضــم‬
‫مصــر إليهــا مث غــزت مشــال أفريقيــا بكاملــه‪ ،‬بعــد قضائهــا املــرم والنهائــي علــى‬
‫مدينــة قرطاجــة و بذلــك حقق ـوا حلــم االســكندر املقــدوين ‪ .‬و يتضــح دلــك‬
‫أيضـاً يف الدولــة العثمانيــة فعندمــا تسـلّم ســليمان األول « القانــوين » (‪900‬ه‬
‫) ابخلالفــة فكــر الســلطان ابلتوســع يف فتوحاتــه إلقامــة االمرباطوريــة العامليــة الــي‬
‫كان والــده الســلطان ســليم يرمــي إىل حتقيقهــا يف حياتــه‪ ،‬فوضــع نصــب عينيــه‬
‫االســتيالء علــى احلــدود الشــمالية ململكتــه وأرســل إىل ملــك اجملــر لويــس الثــاين‬
‫يطلــب فيــه دفــع اجلزيــة مهــدداً إايه ابحلــرب عنــد التمنــع‪ ،‬وبذلــك احنســر مــد‬
‫القــوة الغربيــة حنــو حــوض البحــر املتوســط ‪ ،‬واهنــارت أول امرباطوريــة أوروبيــة‬
‫عــر القــارات » ‪)8( .‬‬
‫و تظهر سنة التدافع عند وقف زحف العثمانيني عند النمسا وعاصمتها‬
‫فيــا ّن بعــد حصارهــا أربعــة أايم أمــر اخلليفــة برفــع احلصــار‪ ،‬ولــو فتحــت فيــاان‬
‫لفتحــت أورواب‪ ،‬كمــا أنــه لــو انتصــر املســلمون يف بــاط الشــهداء (‪114‬ه)يف‬
‫حــدود فرنســا لفتحــت أورواب‪ ،‬ولكنهــا ســنة هللا يف أن يبقــى االختــاف وهــذا‬
‫هــو التدافــع ‪.‬‬
‫و تظهر العالقة بني أمة وجمموعة أمم‪ ،‬يف املســألة الشــرقية يقول شــكيب‬
‫أرســان ( فلــوال ثقــل محــل الروســية علــى ظهــر العثمانيــن وكوهنــم أصبح ـوا‬
‫مــن عــداوة الــروس ال ميكلــون معهــا قبض ـاً وال بســطاً‪ ،‬ملــا متكنــت فرنســا مــن‬
‫االســتيالء علــى اجلزائــر ‪ ,‬وال علــى تونــس ‪ ,‬وال متكنــت إيطاليــا مــن دخــول‬
‫‪187‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫طرابلــس ‪ ,‬وال انكلـرا مــن احتــال مصــر والســودان‪ ،‬بــل كانــت الدولــة العثمانيــة‬
‫أبمتهــا انحيــة الروســية تقــدر علــى محايــة هــذه البلــدان‪ ،‬ال ســيما يف بدايــة األمــر‬
‫) ‪(.‬حاضــر العــامل االســامي‪ ،‬أرســان‪ ،‬ج‪ 1‬ص‪)333‬‬
‫و عندما قامت الثورة الفرنســية أبفكارها وفلســفتها كانت رؤية مســتقبلية‬
‫جديــدة ( انظــر الفصــل الســابق ) وكانــت زعامــة انبليــون بوانبــرت ‪ ,‬هتــدف إىل‬
‫حتريــر أورواب ‪ ,‬لكــن ظهــرت العالقــة بــن أمــة وجمموعــة أمــم عندمــا وقفــت أووراب‬
‫( روســيا‪ ،‬النمســا ‪ ،‬بروســيا‪ ،‬بريطانيــا) ‪ ,‬علــى إقصــاء انبليــون بوانبــرت عــن‬
‫‪187‬ـت تســوية فيــاان الشــهرية‬
‫فرنســا‪ ،‬وهــزم انبليــون يف ووترلــو عــام ‪1815‬م‪ ،‬وقامـ‬
‫‪ .‬لقــد حــاول هتلــر وموسـوليين وغريهــم فتــح العــامل‪ ،‬وانتصــار اجلنــس اآلري‪ ،‬و‬
‫عــودة رومــا القدميــة إال أن قيــام حــروب طاحنــة دفعــت شــر هــؤالء عــن العــامل‪،‬‬
‫فكانــت احلــروب العامليــة األوىل والثانيــة ‪.‬‬
‫بعــد احلــرب العامليــة الثانيــة كان العــامل ينتظــر قــوى عظمــى أخــرى بعــد‬
‫إســبانيا والربتغــال وبريطانيــا هــي الــوالايت املتحــدة األمريكيــة والــي فرضــت‬
‫جمموعــة مــن النظــم السياســية واالقتصاديــة جعلهــا أقــدر علــى قيــادة العــامل‪ .‬إال‬
‫أن العالقــة أصبحــت عالقــة تنــازع عندمــا بــرز االحتــاد الســوفيايت الــذي غــر‬
‫العالقــة مــن التدافــع إىل التنــازع كمــا هــو ظاهــر يف احلــرب البــاردة( انظــر الفصــل‬
‫القــادم ) ‪ .‬هــذا العــرض املختصــر للغايــة يبــن كيــف كان يف كل مرحلــة مــن‬
‫مراحــل التاريــخ عالقــة بــن قــوة عظمــى ( ممكــن هلــا ابلتعبــر القــرآين ) وأمــم‬
‫أخــرى متفاوتــة يف قوهتــا االسـراتيجيه تصنــع التدافــع مــع القــوى العظمــى ومتنــع‬
‫مــن صبــغ العــامل بلــون واحــد ‪.‬‬
‫يبقــى سـؤال مهــم‪ ،‬وهــو مــا هــي العوامــل الــي أدت إىل ظهــور هــذه القــوى‬
‫العظمــى ؟ اجل ـواب يف جمملــه جممــوع النمــوذج الــذي نطرحــه وهــو وجــود رؤيــة‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪188‬‬

‫مســتقبلية صحيحــة واســتقرار (تنــوع وت ـوازن ) وقــدرة علــى االســتمرار هبــذا‬


‫االســتقرار وتنميــة تراعــي التغـرات يف عــدد الســكان وتطــور التاريــخ بصفــة عامــة‬
‫‪ .‬مــا ســنذكره اآلن هــو كيــف تطــور نظــام العــامل تبعــا هلــذه القــوى العظمــي سـواء‬
‫يف اجلانــب االقتصــادي أو االجتماعــي أو السياســي أو الثقــايف ومــا صاحــب‬
‫ذلــك مــن اســتقرار م ّكــن هــذه الــدول مــن االنتصــار يف املعــارك والتوســع اجلغـرايف‬
‫والتفــوق احلضــاري ‪.‬‬

‫تدافع النظم ‪:‬‬


‫لقــد مضــى وقــت طويــل علــى البش ـرية لتــدرك كيــف يتكــون اجملتمــع مــن‬
‫نظــم خمتلفــة وكيــف تتحــرك هــذه النظــم لتصــل ابجملتمــع إمــا إىل حالــة مــن العدالــة‬
‫االجتماعيــة أو إىل وضــع يتســم ابلتظــامل اجملتمعــي ‪ .‬كان املــال وكانــت الســلطة‬
‫و القيــم ‪ .‬يف كل مرحلــة مــن عمــر الدنيــا تدافــع املــال والســلطة والقيــم‪ ،‬تعــددت‬
‫صــور هــذا التدافــع‪ ،‬ففرضــت القــوى العظمــى ســلطتها وأفــرزت نظــم اقتصاديــة‬
‫كانــت تتدافــع مــع املعــامل املتعــدد القــوى والنظــم املختلفــة ‪.‬‬
‫ولكــن الظاهــر أن النظــم السياســية واالقتصاديــة ومنــط احليــاة االجتماعيــة‬
‫واخللفيــة الثقافيــة لألمــة تشــكل يف النهايــة نظام ـاً عاملي ـاً يؤثــر يف كل مرحلــة‬
‫مــن مراحــل التاريــخ‪ ،‬كانــت الدولــة االمرباطوريــة التوســعية الــي ترتبــط ابجملتمــع‬
‫مبؤسســات كالقبيلــة أو النبــاء ومـ ّـاك األراضــي‪ ،‬مــع متايــز واضــح للمجتمــع‬
‫عــن احلاكــم أو امللــك‪ ،‬إال أن اجليــوش‪ -‬الــي تعــر عــن اســتحواذ الســلطة و‬
‫تشــكل مؤسســة الدولــة يــرز مــن خاللــه اس ـراتيجية الدولــة وقوهتــا السياســية‬
‫واالقتصاديــة مــن خــال فــرض الضرائــب علــى األف ـراد‪ -‬شــكل قــوة دفــع مــع‬
‫القــوى الغــر مســلحة ‪ ،‬يف القــرن الســادس عشــر مــع نشــأة الدولــة القوميــة‬
‫كانــت الرغبــة يف الســيطرة علــى التجــارة و هــو مــا يعــرف ابملريكانتليــة (التجــارة‬
‫‪189‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫)‪ ،‬وكانــت صــورة ماديــة حبتــة تعــر عــن اقتصــاد الدولــة مــن خــال مــا متلــك‬
‫مــن املــال والذهــب والســيطرة علــى طــرق التجــارة‪ ،‬ويف عصــر ســيطرة بريطانيــا‬
‫كانــت قاعــدة الذهــب هــي النظــام االقتصــاد العاملــي‪ ،‬وانتهــى األمــر بعــد احلــرب‬
‫الكونيــة الثانيــة يف مؤمتــر بريتــون وودز وســيطرة الــوالايت املتحــدة االمريكيــة‬
‫فالــدوالر هــو املعيــار‪ ،‬والبنــك الــدويل وصنــدوق النقــد هــو املراقــب هلــذا االقتصاد‬
‫العاملــي وأمريــكا هــي الشــرطي الــذي حيــرس العــامل عــر مؤسســة تســمى األمــم‬
‫املتحــدة ‪ (.‬للتفصيــل انظــر رمــزي زكــي اتريــخ الفكــر النقــدي عــامل املعرفــة ‪،118‬‬
‫النظــام العاملــي اجلديــد والنظــام العاملــي القــدمي هنضــة مصــر للطباعــة و النشــر‪،‬‬
‫‪189‬‬
‫نعــوم شاومســكي ) ‪.‬‬
‫بعــد ســقوط االحتــاد الســوفيايت كان احلديــث عــن نظــام عاملــي جديــد‬
‫وحديــث عــن العوملــة علــى اعتبــار أهنــا حــدث غــر مســبوق وهــذا مــا ال يقــره‬
‫التاريــخ !!‪ .‬التاريــخ يــدل علــى أن العــامل مل يــرك بــا نظــام عاملــي فيــه قــوة عظمــى‬
‫بنظمهــا املختلفــة وجمموعــة قــوى تقــرب أو تبتعــد مــن القــوة العظمــى ‪(.‬فمثـاً‬
‫جنــد أنــه خــال الفــرة ‪ 1815‬إىل ‪ 1914‬كان مــن ن ـواح عــدة ‪ ,‬أكثــر‬
‫انفتاح ـاً ممــا هــو عليــه اليــوم ‪ .‬فحقبــة العوملــة املفرتضــة مل تشــهد بزوغ ـاً لســوق‬
‫ـدول يف جمــال هجــرة اليــد العاملــة‪ ،‬ال خيضــع ألي ضوابــط مقيــدة وإن‬ ‫جديــد مـ ّ‬
‫فقـراء العــامل ومعوزيــه يواجهــون ‪ ,‬مــن نـواح عــدة‪ ،‬فرصـاً أقــل للهجــرة هــذه األايم‪،‬‬
‫ممــا كان عليــه ســابقاً ‪.)9(.‬‬
‫ونالحــظ مث ـاً أن املعــدل الوســطى البســيط لنصيــب بلــدان شــرق آســيا‬
‫مــن التجــارة العــام ‪ 1990‬ي ـوازي مــا كان عليــه العــام ‪ ،1913‬وأدىن مــن‬
‫معــدل العــام ‪ 1938‬وأن تكامــل االســتثمار بــن بلــدان شــرقي آســيا يف العــام‬
‫‪ 1938‬كان أعلــى ممــا بلغــه مطلــع عقــد التســعينيات ‪) 9(.‬هــذا يعــي أن‬
‫اســتمرار تلــك العالقــة بــن القــوة العظمــى و ابقــي العــامل يرتبــط أساس ـاً برؤيــة‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪190‬‬

‫تعــر املســتقبل ‪ ،‬و توازنــت بــن القــوة العظمــي و ابقــي القــوي أي تـوازن النظــام‬
‫العاملــي ‪.‬‬
‫القــوة العظمــى يت ـوازن بداخلهــا القــوة االقتصاديــة ابلنســبة لتنافســها‬
‫العســكري يف اخلــارج كمــا عنــد بــول كينــدي ‪ « ,‬فمث ـاً عــام ‪ 1845‬كان‬
‫انتــج الدخــل القومــي لربيطانيــا (‪ )GDP‬متثــل ‪ 30%‬مــن الدخــل العاملــي ‪.‬‬
‫(‪.)10‬الربفســور جريميــي بــاك يف حتليلــه لعمــل كينــدي ‪ ,‬يــرى أن الق ـرارات‬
‫املختلفــة الــي تتخذهــا القــوة العظمــى هــي عوامــل ترتاكــم ووزهنــا أكــر يف قــوة‬
‫الدولــة ( صناعــة الق ـرار) ‪)9(.‬‬
‫ولكــن القــوة االقتصاديــة هــي تعبــر عــن تـوازن يظهــر يف مؤشـرات خمتلفــة‪،‬‬
‫تعــر عــن اســتقرار مــايل وسياســي وحــى اجتماعــي‪ ،‬وكذلــك صناعــة الق ـرار‬
‫تعــر عــن اســتقرار سياســي‪ ،‬وهــذا مــا دلــل عليــه كينــدي يف أكثــر مــن موضــع‬
‫يف عرضــه إلســبانيا أو بريطانيــا أو يف حــرب الشــمال واجلنــوب يف الــوالايت‬
‫املتحــدة األمريكيــة ‪.‬‬
‫تتبــع هنــرك كيســنجر يف كتابــه النظــام العاملــي (‪)kissinger,2014‬‬
‫األنظمــة الــي نشــأت عــر العــامل ‪ ،‬و انتهــى بــدرس مهــم ( حســاابت القــوى بــا‬
‫بعــد أخالقــي ســيحول كل خــاف إىل اختبــار قــوة ) ‪ ،‬التـوازانت الــي حتــدث‬
‫يف النظــام العاملــي تتقاطــع فيمــا بينهــا بــن الــدول الواحــدة و املنظمــات الــي‬
‫تنشــئها القــوة املتمكنــة و العالقــات الدوليــة ‪ ،‬و كمــا حيــدث يف الدولــة الواحــد‬
‫فــإن هلــذا النظــام العاملــي شــرعية و ســلطات تتدافــع مــع غريهــا للحفــاظ علــى‬
‫آالســتقرار و الت ـوازن ‪.‬‬
‫‪191‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫الت ـوازن داخــل اجملتمــع و الدولــة ميكــن فهمــه مــن خــال معرفــة –كمــا‬
‫تبــن مــن ســلوك اجملتمعــات الــي حققــت التنميــة – كيــف تتـوازن النظــم املختلفــة‬
‫ويتحــاور النــاس للوصــول إىل االســتقرار واإلصــاح ولنأخــذ مثــاال علــى ذلــك‪.‬‬

‫اسرتاحة يف هولندا ‪:‬‬


‫يبلــغ عــدد ســكان هولنــدا ( وامسهــا الرمســي هــو األرض الواطئــة )‬
‫‪( 228,639‬يوليــو ‪ )2010‬ومســاحتها ‪ 1.600‬كيلومــر مربــع ‪ .‬فيهــا‬
‫‪ 65.4%papiamento‬و اللغــة‬ ‫‪191‬‬
‫عــدة لغــات تشــكل اللغــة البابيامنتــو‬
‫االجنليزية ‪ , 15.9%‬االملانية ‪ ( 7.3%‬لغة رمسية ) واالســبانية (‪)6.1%‬‬
‫وغريهــا ‪.‬‬
‫ونظامهــا السياســي برملــاين‪ ،‬ورغــم مــا مــرت بــه مــن حمــن خــال احلــرب‬
‫العامليــة الثانيــة‪ ،‬إال أن امللكــة ويلمينــا أبعــدت عــن امللــك نتيجــة لظروفهــا‬
‫الصحيــة‪ ،‬وتبعهــا يف امللــك ابنتهــا امللكــة جوليــاان‪ ،‬والــي اتبعــت هنجــا ملكي ـاً‬
‫دســتورايً ‪ .‬ورغــم الدعــم الشــعيب للملكــة‪ ،‬إال أن الفضيحــة االقتصاديــة الــي‬
‫حلقــت ابألمــر ب ـرانرد زوج امللكــة األملــاين األصــل ‪ -‬الــذي كان لــه دور ابرز‬
‫يف احلــرب العامليــة ‪ -‬أطاحــت ابلعــرش‪ ،‬فقــد شــهد االقتصــاد اهلولنــدي من ـواً‬
‫واضح ـاً بعــد احلــرب العامليــة الثانيــة ‪.‬‬
‫وإذا تركنــا احلــرب البــاردة ألهنــا ال تعـ ّـر عــن التدافــع وســنأيت علــى تلــك‬
‫الفرتة ‪ -‬فقد برز يف املشهد التارخيي آنذاك ‪ -‬فإن املرحلة اليت تلت احلرب‬
‫البــاردة بينــت جبــاء كيــف اســتطاعت هولنــدا أن تدفــع أتثــر العوملــة بنظمهــا‬
‫الداخليــة الفاعلــة ‪ .‬تبــن املعجــزة اهلولنديــة كيــف ميكــن لتدافــع النظــم داخــل‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪192‬‬

‫البلــد الواحــد أن يكــون فاعـاً يف مقاومــة العوملــة‪ ،‬أي أن هــذا املثــال ييــرز ســنة‬
‫التدافــع مــن جهتــن ‪:‬‬
‫• •وجود نطام عاملي تقابله جمموعة قوى متعددة الثقافات ‪.‬‬
‫• •فاعليــة التدافــع عندمــا يؤكــد قــدرة الشــعوب واألمــم علــى الدفــع حنــو‬
‫االســتقرار والصــاح ‪.‬‬
‫تؤكــد حالــة هولنــدا أن تشــكل جتربــة حامســة لدراســة أتثـرات العوملــة علــى‬
‫دولــة الرفــاة ‪ .‬نظـراً لكوهنــا أكثــر االقتصــادات تدويـاً يف العــامل ‪ .‬وأهنــا احتفظــت‬
‫هبــذه الســمة لفــرة معينــة ‪ .‬إن نســبة صادراهتــا وواردهتــا الســلعية إىل إمجــايل‬
‫انجتهــا احمللــي تضعهــا يف خانــة واحــدة مــع ســنغافورة‪ ،‬إذ بلغــت هــذه النســبة‬
‫إمجــاالً ‪ 83.4%‬العــام ‪.1995‬‬
‫ويســتثمر اهلولنديــون رســاميل كبــرة يف اخلــارج ‪...‬كيــف اســتطاعت‬
‫هولنــدا أن تواجــه ؟ «يبــدو أن اجل ـواب يكمــن يف تكيــف هولنــدا عــر مزيــج‬
‫مــن الضغــوط االقتصاديــة احملتومــة الــي أرغمــت احلكومــات علــى االســتجابة‬
‫‪ ،‬والتحــرك احلاســم ‪ ،‬واالســتعداد ملواصلــة احل ـوار ‪ ،‬مب ـوازاة ســعي الشــركاء‬
‫االجتماعيــن إلجيــاد خيــارات سياســية جديــدة ‪ ،‬يفــرض مــن الناحيــة النظريــة‪،‬‬
‫أن النظــم اهلرميــة علــى ط ـراز حكومــة برملــان ويستمنســر هــي األشــكال‬
‫املؤسســاتية األكثــر فاعليــة‪ ،‬واألشــكال األقــل تبعيــة لطريقــة العيــش القدميــة‬
‫الراســخة‪ ،‬أي األشــكال الكفيلة بكســر طوق الرتتيبات القدمية ‪ .‬غري أن جتربة‬
‫اململكــة املتحــدة تبــن أن هــذا يفضــي إىل املغــاالة يف سياســة إدارة االقتصــاد‬
‫الكبــر ( املاكــرو)‪ ،‬و إىل خــروج جــذري ومفــرط عــن السياســة الســابقة‪ ،‬وإمهــال‬
‫نشــدان تعــاون مجاعــات املصــاحل االجتماعيــة ‪ .‬ويبــدو أن هولنــدا توافــرت علــى‬
‫اخللطــة احملظوظــة ابمتــاك احلكومــة قــدراً قليـاً مــن اهلرميــة يكفــي للخــروج مــن‬
‫‪193‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫طريــق اخلــاف املســدود بــن مجاعــات املصــاحل املنطمــة ‪ ,‬ولكــن ليــس قــدراً‬
‫كبـراً مــن اهلرميــة حبيــث يدمــر التجكــم االجتماعــي التفاوضــي يف كل مياديــن‬
‫السياســة ‪».‬‬
‫مثــال ذلــك « إزاء أزمــة اقتصاديــة متســارعة ‪ :‬فخــال ركــود ســنوات‬
‫‪ 1983-1981‬ســنوات ‪ 1983-1981‬أصاب اإلفالس واحدة من كل‬
‫‪ 25‬شــركة ‪ ,‬وفقــدت هولنــدا ‪ 200‬ألــف وطيفــة ‪ » .‬هــذا أدى إىل ‪:‬‬
‫• •هددت احلكومة بتجميد األجور‬
‫‪193‬‬
‫• •توصــل أرابب العمــل والنقــاابت إىل إب ـرام اتفــاق بــدالً مــن فقــدان كل‬
‫اســتقاللية يف حتديــد األجــور ‪.‬‬
‫• •انتهــي مــأزق ســنوات ‪ 1982-1986‬املســتعصي ‪ ،‬حــن اعرتفــت‬
‫النقــاابت ابحلاجــة إىل اســتعادة القــدرة التنافســية عــن طريــق االعتــدال يف األجــور‪.‬‬
‫• •اعــرف أرابب العمــل ابحلاجــة إىل التفاهــم ( بســبب خشــيتهم مــن أن‬
‫تعمــد احلكومــة يف إطــار جتميــد األجــور‪ ،‬إىل فــرض برامــج املشــاركة يف الوظائــف ‪،‬‬
‫والدعــم املــايل للوظائــف ‪ ،‬الــي مــن شــأهنا أن تقــوض اســتقالليتهم أيض ـاً )‪.‬‬
‫« إن االســتغناء عــن التحكــم عــر التفــاوض واالعتمــاد علــى هرميــة‬
‫الســلطة والســوق وحدمهــا كاان هــدف معظــم االقتصاديــن الليرباليــن ‪ .‬غــر‬
‫أن مثــال هولنــدا يبــن كيــف ميكــن للتحكــم االجتماعــي التفاوضــي » أن‬
‫يصــل ابجملتمــع لالســتقرار واخلــروج مــن األزمــات ‪ (.‬للتفصيــل انظــر كتــاب‬
‫فيســر وهيمرييــك معجــزة هولنــدا ‪ 1997‬و كتــاب العوملــة وأدوات التحكــم‬
‫املرجــع الســابق ص‪ . )256‬لقــد ظهــر هــذا التدافــع يف مؤش ـرات كثــرة تــدل‬
‫علــى التنــوع داخــل اجملتمــع و املؤسســات‪ ،‬فهــي يف الرتتيــب الثــاين عشــر علــى‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪194‬‬

‫مســتوى العــامل يف البنيــة التحتيــة‪ ،‬والرتتيــب الســابع يف البنيــة التحتيــة‪ ،‬وهــي يف‬
‫الرتتيــب العاشــر يف تنــوع مصــادر الدخــل (‪)11‬هــذه النمــوذج ظاهــر يف تدافــع‬
‫جمموعــات املصــاحل والشــركات واحلكومــات كأط ـراف تت ـوازن لتصــل االســتقرار‬
‫حــى يف وجــود نظــام عاملــي يدفــع حنــو التخلــف والتنــازع بــن مكــوانت اجملتمــع ‪.‬‬
‫هــذا التدافــع مل حيــدث فقــط علــى مســتوى االقتصــاد بــل إن النمــوذج‬
‫التوافقــي الــذي عرضــه أرينــد ليجفــرت عــن الدميقراطيــة التوافقيــة هــو مثــال‬
‫آخــر علــى وجــود مؤسســات متعــددة وســلطات متنوعــة و زايدة األشــكال و‬
‫النظــم اإلداريــة للتحكــم حيــدث حالــة اســتقرار يف اجملتمــع و تنميــة‪ ،‬و الكــون‬
‫مــن حولنــا ظاهــر يف هــذا التنــوع فمــن درس البيولوجيــا و الكيميــاء احليويــة و‬
‫غريهــا مــن العمليــات الكونيــة‪ ،‬يعــرف كيــف أن تعقيــد تلــك النظــام هــو ســر‬
‫اســتقرارها‪ ،‬ألن ســاعتها فقــط ترتكــز الســيطرة و التحكــم وكلمــا صغــرت تلــك‬
‫العمليــات كان النظــام أكثــر اســتقراراً لــذا فاحلديــث عــن ســلطات ثــاث فقــط‬
‫داخــل اجملتمــع أو عــن هتميــش فريــق أو طائفــة منــه يصبــح ضــد هــذا التـوازن و‬
‫التدافــع ‪)12( .‬‬
‫دعنــا نلخــص مــا ســبق مــع مالحظــة – دائم ـاً‪ -‬أننــا ال نتعــرض لنظريــة‬
‫حتــاول تفســر كل شــيء بــل نرســم لوحــة فيهــا مشــاهد كثــرة ‪ ،‬وحتكمهــا ســنن‪،‬‬
‫وســتدل املؤشـرات علــى قــدرة النمــوذج علــى التفســر‪ ،‬ويصمــد هــذا النمــوذج‬
‫أمــام األحــداث علــى حســب قدرتــه علــى التفســر ‪ .‬ميكــن تلخيــص مــا ســبق‬
‫كالتــايل ‪:‬‬
‫• •التدافع يتكون من ثالث عناصر هي االختالف ‪ ,‬التوازن ‪ ,‬احلركة ‪.‬‬
‫• •االختالف يكون بني قوة وجمموعة قوى ‪.‬‬
‫• •يف العالقــات الدوليــة تبــدو قــوة عظمــى وجمموعــة قــوى أخــرى خمتلفــة ‪,‬‬
‫‪195‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫فتكــون القــوة العظمــى هــي املعيــار لتحديــد تلــك القــوى ‪ ,‬أي علــى مــدى قرهبــا أو‬
‫بعدهــا مــن النمــوذج الــذي يتأثــر بــه العــامل يف كل اجملــاالت الــي ترســم معاملهــا القــوة‬
‫العظمــى ورؤيتهــا وثقافتهــا‬
‫• •تتأثــر كل الــدول هبــذه القــوة ‪ ,‬ولكــن تتدافــع جمموعــة النظــم داخــل هــذه‬
‫الــدول لتــرز القــدرة علــى الدفــع كمــا رأينــا يف النمــوذج اهلولنــدي ‪.‬‬
‫• •هــذه النظــم هــي النظــم النفســية ( والــي تعــر عــن مــدى قابليــة اجملتمــع‬
‫لألفــكار والتوجهــات )النظــم االقتصاديــة والنظــم السياســية والنظــم الثقافيــة ‪.‬‬
‫‪195‬‬
‫• •يف مشهد التدافع يكون الغالب هو االستقرار والصالح ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪196‬‬

‫الفصل السابع‬

‫سنة التنازع ‪:‬التفاوت‬

‫إذا كانــت ســنة اهلدايــة حتكــم توجهــات الشــعوب وإمياهنــم مبختلــف‬


‫االفــكار والتطلعــات‪ ،‬وإذا كانــت ســنة التدافــع تشــرح لنــا أتثــر هــذه االفــكار‬
‫يف خارطــة العــامل والنظــم املختلفــة لألمــم‪ ،‬فــإن ســنة التنــازع أو (التفــاوت)‬
‫حتكــم مشــهدا مــن التاريــخ تتحلــل فيــه اجملتمعــات وتظهــر عالمــات الص ـراع‬
‫واالضمحــال يف األمــة أو العــامل ‪ .‬بنفــس الطريقــة سنشــرع يف شــرح هــذه الســنة‬
‫‪ ،‬مث نتبع ااثرها يف القرآن والتاريخ ‪ .‬فالتنازع‪ :‬شدة االختالف‪ ،‬وهو تفاعل‬
‫مــن الن ـزاع‪ ،‬أي األخــذ‪ ،‬قــال األعشــى‪:‬‬
‫وقهــوة مــزة راووقهــا خضــل‬ ‫انزعتهــم قضــب الرحيــان متكئـاً‬
‫( القرطــي‪ ،‬تفســر النســاء)‬
‫وهــو علــي ســبيل االســتعارة ‪ ،‬فــإن االختــاف الشــديد يشــبه التجــاوب‬
‫بــن شــخصني أمــا مــا نعنيــه هنــا‪ ،‬فإنــه تلــك احلالــة الــي تســود اجملتمــع مــن‬
‫االختــاف الشــديد الــذي ميــزق اجملتمــع أو ميــزق العالقــة بــن األمــم الــي ختتلــف‬
‫فيمــا بينهــا اختالف ـاً خيــل ابلت ـوازن ويفضــي للحــروب والفســاد ‪.‬‬
‫وكمــا أن عناصــر التدافــع – االختــاف واحلركــة والت ـوازن – فــإن ســنة‬
‫التنــازع حتتــوي ثالثــة عناصــر‪ )1( :‬التفــاوت (‪ )2‬التنافــس (التســابق)‬
‫(‪ )3‬الفســاد «أو احلــرب» ‪.‬‬

‫التفاوت‪-:‬‬
‫‪197‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫هــذا هــو املصطلــح اإلســامي الــذي يقــارب معــي الطبقــة يف علــم‬


‫االجتمــاع املعاصــر أو هــو التــدرج الــذي ورد يف عــدة آايت وأحاديــث‪ ،‬وهــو‬
‫الــذي يســتخدم يف علــم االجتمــاع مرتبط ـاً مبصطلــح الطبقــة ‪.‬لكــن مفهــوم‬
‫الطبقــة أو التفــاوت‪ ،‬اختــذ عــدة صــور علــى حســب التصــور اإليديولوجــي الــذي‬
‫اتفــق منــه هــذا املصطلــح ‪ « .‬والطبقــة عنــد ماركــس »عبــارة عــن جتمــع مجاعــة‬
‫مــن النــاس‪ ،‬تعتمــد يف هويتهــا علــي موقعهــا مــن ملكيــة وســائل اإلنتــاج «أمــا يف‬
‫النظــام الرأمســايل » فهــي عبــارة عــن جتمــع مجاعــة متماثلــة يف بعــض اخلصائــص‬
‫كاملهنــة والتعليــم واملســتوى الثقــايف والدخــل وامللكيــة ‪.‬وال مينــع هــذا مــن احلـراك‬
‫‪197‬‬
‫االجتماعــي ‪ ،‬يعــي التغيــر الطبقــي داخــل اجملتمــع ‪.‬‬
‫وقــد ظهــر هــذا املصطلــح يف القــرن التاســع عشــر بعــد ظهــور الثــورة‬
‫الصناعيــة يف أورواب والــي متخــض عنهــا ظهــور طبقــات مــن العمالــة وأصحــاب‬
‫رؤوس املــال ‪.‬أمــا التفــاوت أو التــدرج يف املفهــوم اإلســامي كمــا نـراه فهــو ســنة‬
‫كونيــة ال يــؤدي إىل مــا تعارفــت عليــه اجملتمعــات الغربيــة مــن تقســيم النــاس‬
‫إىل طبقــات متصارعــة أي أن اإلســام يقــر هــذا التفــاوت كســنة كونيــة أو أمــر‬
‫قــدري‪ ،‬ولكنــه خيتلــف مــع هــذه اإليديولوجيــات يف معايــر هــذا التفــاوت وكيفيــة‬
‫التعامــل مــع هــذا التفــاوت أو الطبقــة ‪.‬‬
‫وعندمــا نتحــدث عــن التفــاوت ســنذكر خطــاب جــان جــاك روســو يف‬
‫أصــل التفــاوت ويف أسســه بــن البشــر‪ ،‬هــذا الكتــاب أعطــى أبعــاداً اجتماعيــة‬
‫وسياســية هلــذا التفــاوت البــد مــن ذكرهــا ‪.‬‬
‫يف شــهر تش ـرين الثــاين ‪ /‬س ـؤال املناظــرة الــذي بســطته أكادمييــة دجيــون‬
‫علــى عمــوم الكتــاب واألدابء ‪ :‬مــا أصــل التفــاوت بــن البشــر وهــل جييــزه‬
‫الناموس الطبيعي ؟ ‪(.‬ســافر روســو إىل غابة ســان جرمان ملا يزيد عن األســبوع‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪198‬‬

‫و» توغــل فيهــا» ‪ ,‬متوحــداً ‪ ,‬ابحث ـاً عــن آاثر أايم اإلنســان اخل ـوايل )‪ .‬و‬
‫التفــاوت عنــد روســو يرتبــط بفهــم طبيعــة احلكــم واملؤسســات السياســية فيقــول‬
‫« إذا تتبعنــا تقــدم التفــاوت يف خمتلــف انقالابتــه وحــق امللكيــة‪ ،‬وحــده الثــاين‬
‫يف أتســيس الرايســة‪ ،‬وحــده الثالــث واألخــر يف تبديــل الســلطة الشـريعة بســلطة‬
‫ـوي‬
‫جوزتــه احلقبــة األويل‪ ،‬ووضــع القـ ّ‬ ‫اعتباطيــة حبيــث إن وضــع الغــي والفقــر ّ‬
‫جوزتــه احلقبــة الثالثــة وهــو‬
‫والضعيــف جوزتــه احلقبــة الثانيــة‪ ،‬ووضــع الســيد والعبــد ّ‬
‫آخــر درجــات التفــاوت واحلــد الــذي تنتهــي إليــه مجيــع احلــدود األخــرى‪ ،‬وذلــك‬
‫إىل أن تقــوض انقــاابت جديــدة احلكومــة ابلكليــة أو تقرهبــا مــن التأســيس‬
‫الشــرعي ‪)1(.‬‬
‫ويقــول (تســتمد خمتلــف أشــكال احلكومــات أصوهلــا مــن فــروق قــد تزيــد‬
‫شـ ّدة أو تنقــص بــن األشــخاص إابن أتســيس ( العقــد ) ‪ ,‬فــإذا كان اإلنســان‬
‫مرتبــة شـريفة سـواء بســلطانه‪ ،‬أو خبلقــه الفاضــل أو بثرائــه أو بوجاهتــه‪ ،‬انتخــب‬
‫حاكم ـاً مبفــرده ‪ ،‬فــإذا ابلدولــة وقــد صــارت ملوكيــة‪ ،‬وإذا كانــت هنــاك عديــد‬
‫األشــخاص يتســاوون يف ما بينهم ويتفوقون على غريهم انتخبوا مجيعاً حكاماً‪،‬‬
‫فــإذا ابحلكــم أرســتقراطياً ‪ ،‬وأمــا مــن مل تكــن حظوظهــم أو مواهبهــم فاحشــة‬
‫التبايــن‪ ،‬وكان ـوا أقــل البشــر بعــداً عــن احلالــة الطبيعيــة‪ ،‬فقــد احتفظ ـوا ابإلدارة‬
‫العليــا مشــركة بينهــم وألف ـوا حكم ـاً دميقراطي ـاً) ‪(.‬روســو ‪،‬ص‪)148‬‬
‫نلحــظ الربــط بــن العقــد االجتماعــي وطبيعــة احلكــم والتفــاوت‪ ،‬ورغــم‬
‫شــهرة كتــاب العقــد االجتماعــي إال أن كتــاب أصــل التفــاوت مل يلــق نفــس‬
‫االهتمــام‪ ،‬ولكــن التفــاوت الــذي يعتــره روســو أم ـراً حــاداثً وأن األصــل هــو‬
‫املســاواة فهــم بطريقــة تطوريــة انتقلــت مــن احلالــة الطبيعيــة إىل نشــأة اجملتمعــات‬
‫وبدايــة التفــاوت ‪.‬‬
‫‪199‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫ســنرى أن القــرآن يــرز التفــاوت كســنة طبيعيــة حــى يف مســائل كالــرزق‬


‫أو العلــم ويربــط ذلــك بتصــور عــام مــن مـ ّـن هللا وفضلــه الــذي يؤتيــه مــن يشــاء‪،‬‬
‫و بتحكمــه يف الــرزق الــذي يبســطه ملــن يشــاء ويقــدر‪ ،‬وامللــك الــذي يؤتيــه مــن‬
‫يشــاء وينزعــه ممــن يشــاء ‪.‬‬
‫وهــذا واضــح جــداً يف ســورة الشــورى والــي ســيتطلب الســياق أن نتحــدث‬
‫عنهــا اآلن ‪ .‬ففــي هــذه الســورة جنــد ذكــر ثــاث قضــااي ‪:‬‬
‫• •الوفاء بعقد اإلميان ‪.‬‬
‫‪199‬‬
‫• •التواصــل وعــدم التفــرق يف الديــن مهمــا كانــت االختالفــات الفكريــة‬
‫واملســتوايت املعيشــية ‪.‬‬
‫• •بنــاء نظــام حكــم يرتبــط بعقــد اإلميــان مبــي علــى الرغبــة يف دفــع الظلــم‬
‫وإقامــة العــدل وعمــارة األرض ‪.‬‬
‫هــذه الثالثــة جندهــا يف كافــة الســور الــي تنطلــق مــن هــذه الســنة وهــي‬
‫الوفــاء ابلعقــود والتعــاون وعمــارة األرض ( ضدهــا ‪ :‬نقــض العهــد – قطــع مــا‬
‫أمــر هللا بــه أن يوصــل – الفســاد يف األرض) وســياق الســورة واضــح يف احلــث‬
‫علــى التحاكــم للكتــاب يف القضــااي الــي قــد تــؤدي إىل التفرقــة يف الديــن أو يف‬
‫االختالفــات الــي هــي أمــر طبيعــي مــع األداين األخــرى ( ســنة التدافــع ) ‪.‬‬
‫وبعــد أن يبــن ضــرورة وجــود تصــور واضــح عــن احليــاة الدنيــا واملســتقبل‬
‫وذلــك ابإلميــان ابليــوم اآلخــر‪ ،‬بــن أن توزيــع الــرزق أمــر طبيعــي يبســطه هللا كمــا‬
‫يشــاء وبعــد أن يشــرح قيــام الدنيــا هبــذا التفــاوت وأنــه لــو بســط الــرزق لفســد‬
‫اخللــق (للعالقــة الطبيعيــة الــي ذكرانهــا يف ســنة اهلدايــة وهــو ازدايد الرغبــة مــع‬
‫الوفــرة أي الرغبــة الطبيعيــة يف إبقــاء حالــة السـراء ولــو أدى ذلــك للبغــي والظلــم‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪200‬‬

‫) ومل تقم احلياة إال على هذا التفاوت والذي لن يستقيم إال بوجود دين ينظم‬
‫حيــاة البشــر ولــن تنتظــم تلــك احليــاة إال ابلشــورى بــن أبنــاء األمــة ‪ ,‬وقدرهتــم‬
‫علــى احلـوار وكظــم الغيــظ ‪.‬‬
‫هــذا مــا فطــن لــه روســو فيقــول(‪( )1‬فــإن حنــن اعتــران التأســيس البشــري‬
‫فقــط الــذي حنــن بصــدده اآلن‪ ،‬ألفينــا أنــه إذا كان مــن حــق احلاكــم الــذي بيــده‬
‫الســلطان كلّــه واملســتأثر بــكل م ـزااي العقــد أن يعــدل عــن الســلطة‪ ،‬فاألحــرى‬
‫ابلشــعب‪ ،‬وهــو مــن حياســب حســاابً غاليـاً علــى أخطــاء رؤســائه أن يعــدل عــن‬
‫تبعيتــه ‪ .‬غــر أن هــذه االنشــقاقات املريعــة واالضط ـراابت الدائمــة الــي يــؤدي‬
‫إليها‪,‬ابلضــرورة هــذا الســلطان ذو اخلطــر الشــديد ‪ ،‬تبــن أكثــر مــن أي شــيء‬
‫آخــر كــم كانــت احلكومــات البش ـرية يف حاجــة إىل قاعــدة أصلــب مــن جمــرد‬
‫العقــل‪ ،‬وكــم كان ضــرورايً للســكينة العموميــة أن تتدخــل املشــيئة اإلهليــة لكــي‬
‫جتعــل الســلطة العليــا طابع ـاً مقدس ـاً ومرعــي احلرمــة يبطــل لــدى الرعــااي حــق‬
‫التصــرف فيهــا‪ ،‬وهــو حــق وخيــم العواقــب ‪ .‬لــوكان مــا يفعلــه الديــن إمنــا املـ ّـن‬
‫فقــط هبــذا اخلــر علــى البشــر لــكان كافيـاً حلملهــم علــى وجــوب حمبتــه واعتناقــه‬
‫‪ ).....‬ص ‪147‬‬
‫هــذا مــا يقولــه روســو صاحــب العقــد االجتماعــي‪ ،‬والــذي يــرى أبن العقــد‬
‫ينخــرم مــامل تكــن هنــاك مرجعيــة دينيــة متنــع النــاس مــن التصــرف يف قضــااي احلكــم‬
‫بــدون مراعــاة لقيــم دينيــة عليــا‪ ،‬بغــض النظــر عــن اختالفنــا مــع لفــظ التقديــس‬
‫للحاكــم فالديــن اإلســامي ال يفضــي قداســة علــى البشــر ‪ .‬والــذي يهمنــا هنــا‬
‫هــو أن نربــط بــن العقــد أو امليثــاق‪ -‬الــذي يربــط اجملتمــع والــذي نـراه يف ســياق‬
‫ســورة الشــورى ابلنهــي عــن التفــرق كأســاس إلقامــة الديــن ومرجعيتــه الفكريــة‬
‫الــي ال بــد أن تنشــأ حبكــم املعتقــد واإلميــان ابلكتــاب مهمــا كانــت االختالفــات‬
‫الــي يعززهــا البغــي واملنافســة علــى املــال واجلــاه والشــرف‪ ،‬و هــو مــا حــل ببــي‬
‫‪201‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫إسـرائيل مــن قبــل ‪ -‬وبــن التفــاوت كســنة طبيعيــة كمــا هــو ســياق الســورة الــذي‬
‫ذكــر ذلــك وبــن اســتقرار اجملتمــع وعمــارة األرض مــن خــال النهــي عــن امليــل‬
‫حنــو التفكــر يف مراكمــة املــادة والشــهوات واالختــاف والتفرقــة ( فمــا أوتيتــم‬
‫مــن شــيء فمتــاع احليــاة الدنيــا وزينتهــا ومــا عنــد هللا خــر وأبقــى للذيــن آمن ـوا‬
‫وعلــى رهبــم يتوكلــون والذيــن جيتنبــون كبائــر اإلمث والفواحــش وإذا مــا غضب ـوا‬
‫هــم يغفــرون والذيــن اســتجابوا لرهبــم وأقامـوا الصــاة وأمرهــم شــورى بينهــم وممــا‬
‫رزقنهــم ينفقــون ‪ )....‬فاالســتقرار االجتماعــي واالقتصــادي والسياســي والــذي‬
‫ينعكــس يف قــوة الدولــة وقدرهتــا علــى دفــع العــدوان ال يكــون إال بنظــام حكــم‬
‫‪201‬‬
‫ينظّــم التفــاوت بــن النــاس وهــذا مــا بينــه القــرآن مــن الشــورى بــن أبنــاء األمــة‬
‫والرضــا بــن احلاكــم واحملكــوم ‪.‬‬
‫لقــد ذك ـران هنــا التفــاوت أببعــاده املخلفــة لكــي نــرز أن الســياق القــرآين‬
‫حــن يركــز علــى هــذه الثالثيــة فــإن األمــر مرتابــط ويؤســس لفهــم حقيقــي لنظــام‬
‫احلكــم يف اإلســام دون التك ـرار املمــل للقــول أبن االســام مل يقــدم ح ـاً‬
‫سياســياً ملشــكلة احلكــم !!‬
‫التنافــس‪ :‬وهــو حركــة كل طبقــة ورغبتهــا يف الوصــول إىل درجــة أعلــى‬
‫أو طبقــة أعلــى ‪ .‬وختتلــف هــذه احلركــة ابعتبــار معيــار التفــاوت‪ ،‬فبعــض النــاس‬
‫يتنافــس للوصــول إىل رأس املــال وبعضهــم يتنافــس يف جمــال الثقافــة وبعضهــم‬
‫يتنافــس يف جمــال الديــن والتقــوى وهكــذا ‪.‬‬
‫الفساد‪ :‬نتاج هذا التنافس ( ابملعىن السليب كما يف احلديث فتنافسوها)‬
‫عــادة مــا يكــون خلـاً اجتماعيـاً يــؤدي إىل تفــكك اجملتمــع وحتلــل شــبكته أمــا‬
‫إن كان التنافــس منبعـاً للصــاح أو نشـراً للخــر فهــذا هــو التدافــع الــذي ســبق‬
‫ذكــره ‪ .‬وهــذا جيـران للتفريــق بــن التدافــع والتنــازع ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪202‬‬

‫بني التدافع والتنازع ‪-:‬‬


‫لتوضيــح الفــرق بــن التنــازع والتدافــع‪ ،‬نذكــر فكــرة «التغذيــة االســرجاعية»‬
‫الــي تؤكــد علــي وجــود اســتقرار يف أي منظومــة‪ ،‬للحفــاظ علــى توازهنــا وت ـوازن‬
‫القــوة الســالبة واملوجبــة بداخلهــا‪ ،‬وهــذا مــا يعــرف ابلتغذيــة االســرجاعية الســالبة‬
‫الــي تســعي للحفــاظ علــي االســتقرار ‪.‬‬
‫و يف أوائــل الســتينات الحــظ الناقــدون أن اهتمامـاً مبالغـاً فيــه ينفــق علــى‬
‫االســتقرارية وليــس علــى التغــر‪ ،‬مــا كان ضــروري ابلنســبة لــه ‪ ،‬هــو املزيــد مــن‬
‫األحبــاث حــول التغديــة االســرجاعية اإلجيابيــة «‪»positive feedback‬‬
‫العمليــات الــي ال تقمــع التغــر بــل تضخمــه وال حتافــظ علــى االســتقرارية بــل‬
‫تتحداهــا‪ « .‬إن التغديــة االســرجاعية اإلجيابيــة تســاعد علــي تغيــر أيــة عمليــة‬
‫ذاتيــة االســتثارة مثــل ســباق التســلح مث ـاً ‪ .‬ففــي كل مــرة ينتــج فيــه االحتــاد‬
‫الســوفييت ســاحاً جديــداً تســعى الــوالايت املتحــدة إلنتــاج ســاح أكــر‬
‫وأحــدث ‪،‬وهــذا مــا يثــر االحتــاد الســوفييت لبنــاء ســاح أكــر منــه‪ .‬حــي درجــة‬
‫اجلنــون العاملــي‪ .‬إذاً فالتغذيــة االســرجاعية الســالبة حتافــظ علــي االســتقرار أمــا‬
‫التغذيــة االســرجاعية املوجبــة تســتثري النظــام إىل حركــة مــن التســارع تــؤدي إىل‬
‫حتلــل واضط ـراب‪ .‬وكل عمــل يــؤدي إىل االســتقرار ميكننــا أن نقرنــه ابلتوافــق‪،‬‬
‫وكل عمــل يــؤدي إىل التســابق أو التســارع ميكننــا أن نقرنــه ابلنـزاع ‪ .‬إذا عرفنــا‬
‫ذلــك فلنذكــر بعــض الفــروق األخــرى بــن التنــازع والتدافــع‪-:‬‬
‫‪ .1‬مــن حيــث الباعــث‪ ،‬فــإن الباعــث يف التدافــع هــو الوصــول إىل‬
‫االســتقرار وتوفــر منــاخ عاملــي لإلعمــار ‪ ،‬أمــا الباعــث يف التنــازع فهــو احلــد‬
‫وحماولــة الوصــول للســيادة والســيطرة ‪..‬‬
‫‪203‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫‪ .2‬التدافــع يرتبــط ابالختــاف وتـوازن القــوى أمــا التنــازع فريتبــط ابلتفاوت‬


‫والتدرج ‪.‬‬
‫‪ .3‬احلركــة يف التدافــع تكــون ابلتأثــر املتبــادل‪ ،‬أمــا احلركــة يف التنــازع تكــون‬
‫ابلتجــاذب وحماولــة اإلعاقــة ‪.‬‬
‫‪ .4‬أن التدافــع نظــام مغلــق تنتهــي فيــه احلركــة لالســتقرار أمــا التنــازع فإنــه‬
‫حركــة مفتوحــة تنتهــي ابنفجــار (أو حــرب) ‪.‬‬
‫‪ .5‬التدافــع يعــر عــن قــوة التأثــر‪ ،‬والتنــازع يرتبــط بدرجــة التأثــر أي‬
‫‪203‬‬
‫الرتبــة ويبقــي السـؤال مــا هــو الفــرق بــن االختــاف والتفــاوت ؟ هــو الفــارق‬
‫األساســي بــن التدافــع و التنــازع ‪.‬‬
‫يعطينا الشاطيب جواابً عن هذا السؤال فيقول ‪-:‬‬
‫و ذلــك أن املراتــب وإن تفاوتــت ال يلــزم مــن تفاوهتــا نقيــض أو ضــد ‪.‬‬
‫ومعــي هــذا أنــك إذا قلــت فــان عــامل فقــد وصفتــه ابلعلــم وأطلقــت ذلــك عليــه‬
‫إطالق ـاً حبيــث ال يس ـراب يف حصــول ذلــك الوصــف لــه علــى كمالــه ‪ .‬فــإذا‬
‫قلــت وفــان فوقــه يف العلــم «فهــذا الــكالم يقتضــي أن الثــاين حــاز رتبــة يف‬
‫العلــم فــوق رتبــة األول وال يقتضــي أن األول متصــف ابجلهــل ولوعلــي وجــه‬
‫مــا‪)2(.‬‬
‫مث قــال وألجــل ذلــك ملــا ســئل النــي صلــى هللا عليــه وســلم عــن خــر دور‬
‫األنصــار‪ ،‬أجــاب مبــا عليــه األمــر يف ترتيبهــم يف اخلرييــة بقولــه ‪« ..‬خــر دور‬
‫االنصــار بنــو النجــار‪ ،‬مث بنــو عبــد األشــهل‪ ،‬مث بنــو احلــرث بــن اخلــزرج مث بنــو‬
‫ســاعدة» مث قــال‪ :‬ويف كل دور االنصــار خــر «رفعـاً لتوهــم الضــد‪ ،‬مــن حيــث‬
‫كانــت أفعــل التفضيــل قــد تســتعمل لذلــك الوجــه »‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪204‬‬

‫فاالختــاف يكــون بــن أجنــاس إمــا متضــادة يؤثــر بعضهــا ببعــض أو‬
‫أجنــاس ال عالقــة مباشــرة هلــا ببعــض ‪ ،‬والتفــاوت يكــون يف اجلنــس الواحــد‬
‫‪ .‬فالعلــم درجــات ‪،‬لكنــه نقيــص اجلهــل‪ ،‬وهــو كذلــك عنصــر خمتلــف عــن‬
‫املــال أو اجملتمع(االجتمــاع) واالجتمــاع درجــات‪ ،‬لكنــه نقيــض الفــرد أو‬
‫التفــرد ‪ ،‬وهــو كذلــك عنصــر خمتلــف عــن املــال أو العلــم ‪ .‬والعلــم واملــال‬
‫واالجتمــاع اجنــاس خمتلفــة يؤثــر بعضهــا يف البعــض االخــر‪ .‬هــذا هــو الفــرق‬
‫بــن التدافــع والتنــازع ‪ ،‬واالختــاف والتفــاوت فلنركــز اآلن علــى سـؤال‪ :‬كيــف‬
‫يكــون لســنة التنــازع دور يف حتلــل اجملتمــع أو يف مســألة التغــر؟‬

‫متتالية التنازع ‪-:‬‬


‫التغيــر مبعنــاه الشــامل‪ ،‬ميكــن أن جنعــل لــه ميكانيكيــة متكــن مــن فهــم‬
‫آليتــة‪ ،‬والتعامــل معهــا ‪.‬التغيــر الــذي نعنيــه هنــا‪ ،‬هــو التحــول مــن االســتقرار إىل‬
‫االضطراب‪ ،‬ومن القوة والتماســك إىل الضعف والتحلل‪ ،‬وال نعين به العكس‬
‫‪.‬إننــا نــرى أن هنــاك فرقـاً بــن النشــأة والتحلــل ‪ .‬يف منــو احلضــارة ‪ ،‬يبــدأ األمــر‬
‫بفكــرة أو عقيــدة تشــكل هويــة اجملتمــع وتعيــد تقســيمه حســب تلــك اهلويــة‬
‫هــذا النمــو يكــون ابلدفــع‪ ،‬بتـوازن القــوى ‪ ،‬والتــدرج الــذي يعيــد اســتقرار‬
‫اجملتمــع أمــا التحلــل فــإن لــه طريقــة أخــرى‪ ،‬ختتلــف عــن النمــو أو التدافــع ‪.‬‬
‫وقــد درج املفكــرون اإلســاميون علــي األخــذ مبفهــوم املخالفــة يف هــذه املســألة‪،‬‬
‫علــى اعتبــار أن التغيــر يكــون بنفــس الطريقــة الــي يكــون هبــا إعــادة بنــاء اجملتمــع‬
‫أو اإلصــاح ‪ ،‬لذلــك جندهــم يذكــرون قولــه تعــاىل‪« :‬إن هللا ال يغــر مــا بقــوم‬
‫حــي يغــروا مــا أبنفســهم» ‪ ,‬ويعنــون هبــا إصــاح اجملتمــع (التغيــر)‪ ،‬مــع أن اآليــة‬
‫تتحــدث عــن العقــاب وتغــر النعمــة إىل نقمــة‪ ،‬لذلــك قــال بعــد ذلــك ‪»:‬وإذا‬
‫أراد هللا بقــوم ســوءً فــا مـراد لــه» ‪.‬‬
‫‪205‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫و هــذا جتــده كثـراً يف كالم اإلمــام حســن البنــا يف رســائله ‪ ،‬وكالم مالــك‬
‫بــن نــي يف كتبــه كمشــكلة األفــكار يف العــامل االســامي « أو شــروط النهضــة‬
‫أو يف كالم جــودة ســعيد يف كتابــه »حــي يغــروا مــا أبنفســهم أو غريهــم مــن‬
‫املفكريــن الذيــن عنـوا هبــذه املســألة‪ .‬وانطالقـاً مــن هــذه اآليــة نــرى أن التغيــر‪ ،‬ال‬
‫ميكــن فهمــه عــن طريــق مفهــوم املخالفــة‪ ،‬بــل إن التدافــع هــو الســبيل لإلصــاح‬
‫أو هــو طريــق النمــو‪ ،‬أمــا التحلــل فإنــه لــه ميكانيكيــة أخــرى هــو مــا نريــد أن‬
‫نذكــره األن ‪ .‬بعــد أن يســتقر اجملتمــع بنظمــه املختلفــة‪ ،‬وت ـوازن القــوى فيــه ‪،‬‬
‫واســتقرار طبقاتــه‪ ،‬يبــدأ التحلــل بثــاث مراحــل ‪ ،‬ميكــن تلخيصهــا كالتــايل‪-:‬‬
‫‪205‬‬
‫‪ .1‬حــدث بســيط (وال يشــرط أن يكــون عظيمـاً) ‪ ،‬يثــر اهتمــام اجملتمــع‬
‫‪ ،‬ويشــككه يف فكرتــه وهويتــه ويبحــث اجلميــع عــن حــل ‪(...‬فتنــة ‪ +‬نقــض‬
‫العهــد) ‪.‬‬
‫‪ .2‬ينقســم اجملتمــع حــول هــذا احلــادث ‪ ،‬يؤثــر ذلــك يف تفــاوت اجملتمــع‬
‫(قطــع األوصــال) ‪.‬‬
‫‪ .3‬نشــوء الصـراع أو النـزاع ومــن مث احلــروب واجلرائــم ‪...‬اخل (الفســاد يف‬
‫االرض)‪.‬‬
‫‪ .4‬وال يتمكــن اجملتمــع مــن وضــع تصــور للمســتقبل أو حــل للفــن الــي‬
‫تت ـواىل عليــه وهــذا يدخــل يف دور مغلــق (فتنــة – فســاد) ‪.‬‬
‫احلــادث البســيط‪ ،‬و ابلضــرورة األحــداث الكــرى‪ ،‬أمــر قــدري ال ميلــك‬
‫اجملتمــع حيالــه شــيئاً‪ ،‬ولكنــه خيــرج النــاس ويفــن معادهنــم‪ ،‬وخيتــر عقائدهــم ‪ ،‬لــذا‬
‫يتنــازع النــاس ويفرتقــون‪ ،‬وينشــأ عــن ذلــك تنــازع وجرائــم تكــون عالمــات علــى‬
‫بدايــة االهنيــار هلــذا اجملتمــع وانقســام يصحبــه تغــر يف النظــم اخلمســة (النفســية‬
‫واالقتصاديــة واالجتماعيــة والسياســية والثقافيــة) ‪ .‬واملالحــظ كمــا ذك ـران مــن‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪206‬‬

‫قبل – أن التغيري النفسي هو األساس‪ ،‬مث االقتصاد مث االجتماع مث السياسة‬


‫مث الثقافــة و ال يشــرط الرتتيــب كمــا يف ســنة التدافــع‪ ،‬وابختصــار فــإن حــاداث‬
‫مــا يعيــد ترتيــب اجملتمــع‪ ،‬ويزيــد مــن نســبة التفــاوت بــن طبقاتــه ممــا يثــر نــزوع‬
‫طبقــة إىل درجــة أعلــى وإن أدى األمــر إىل حتلــل اجملتمــع واهنيــاره ‪ .‬هــذا يعطــي‬
‫تصــوراً عامـاً عــن هــذه الســنة ومــا يذكــر اآلن مــن شـواهد قرانيــة ونبويــة واترخييــة‬
‫ســتعمق هــذا املفهــوم ‪.‬‬

‫يف ظالل القرآن ‪-:‬‬


‫ســنجد هــذه الســنة يف عــدة ســور هــي‪ :‬البقــرة‪ ،‬املائــدة‪ ،‬يوســف والرعــد‪،‬‬
‫اإلس ـراء والنحــل‪ ،‬احلــج‪ ،‬الشــعراء‪ ،‬األح ـزاب‪ ،‬الشــورى‪ ،‬الفتــح واحلج ـرات‪،‬‬
‫الرمحــن‪ ،‬التحــرمي‪ ،‬املدثــر‪ ،‬الليــل‪ ،‬العــادايت‪ ،‬الكافــرون ‪.‬‬
‫يف ســورة البقــرة نقـرأ قولــه تعــاىل‪ { :‬إن هللا ال يســتحي أن يضــرب مثـاً‬
‫مــا بعوضــة فمــا فوقهــا‪ ،‬فأمــا الذيــن آمن ـوا فيعلمــون أنــه احلــق مــن رهبــم ‪ ،‬وأمــا‬
‫الذيــن كفــروا فيقولــون مــاذا أراد هللا هبــذا مثـاً يضــل بــه كثـراً ويهــدي بــه كثـراً‬
‫ومــا يضــل بــه إال الفاســقني الذيــن ينقضــون عهــد هللا مــن بعـ ِـد ميثاقــه ويقطعــون‬
‫مــا أمــر هللا بــه أن يوصــل ويفســدون يف األرض أولئــك هــم اخلاســرون }(‪)26‬‬
‫ومعــى اآليــة ‪ :‬أنــه تعــاىل أخــر أنــه ال يســتحي أي ال يســتنكف ‪ ،‬وقيــل ‪:‬ال‬
‫خيشــى أن يضــرب مث ـاً مــا‪ ،‬أي مث ـاً كان أبي شــيء كان صغ ـراً أو كب ـراً‬
‫ومــا (هنــا) للتقليــل‪ ،‬وتكــون بعوضــة منصوبــة علــى البــدل ‪ ،‬كمــا تقــول ألضربــن‬
‫ض ـرابً مــا ‪ ,‬فيصــدق أبدين شــيء أو تكــون (مــا) نكــرة موصوفــة ببعوضــة ‪،‬‬
‫وكيــف أن تكــون بعوضــة منصوبــة حبــذف حــرف اجلــر ‪.‬‬
‫‪207‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫قــال قتــادة ‪ « :‬فأمــا الذيــن آمن ـوا فيعلمــون أنــه احلــق مــن رهبــم » أي‬
‫يعلمــون أنــه كالم هللا والرمحــن وأنــه مــن عنــد هللا ‪ .‬قــال أبــو العاليــة ‪« :‬أنــه احلــق‬
‫مــن رهبــم » معــى هــذا املثــل ‪(،‬وأمــا الذيــن كفــروا فيقولــون مــاذا أراد هللا هبــذا‬
‫مثـاً) كمــا قــال تعــاىل (وال يـراتب الذيــن أوتـوا الكتــاب واملؤمنــون وليقــول الذيــن‬
‫يف قلوهبم مرض والكافرون ماذا أراد هللا هبذا مثالً‪ ,‬كذلك يضل هللا من يشــاء‬
‫ويهــدي مــن يشــاء ومــا يعلــم جنــود ربــك إال هــو ) وكذلــك قــال هنــا (يضــل بــه‬
‫كث ـراً ويهــدي بــه كث ـراً ومــا يضــل بــه إال الفاســقني) ‪ .‬واختلــف املفســرون يف‬
‫العهــد امل ـراد هنــا هــل هــو ميثــاق الفطــرة يف ســورة األع ـراف (وإذ أخــد ربــك‬
‫‪207‬‬
‫مــن بــي آدم اآليــة ) ‪ ،‬أو امليثــاق الشــرعي الــذي أخــده هللا علــى أهــل الكتــاب‬
‫واملســلمني‪ .‬وقطع ما أمر هللا به أن يوصل يشــمل كل ما أمر هللا بوصله وفعله‬
‫علــى أحــد األقـوال ‪ .‬والفســاد يف األرض يشــمل القتــل والســرقة وقطــع الطريــق‬
‫وإهــاك احلــرث والنســل وغــر ذلــك كثــر ‪ .‬وقــد مثلــت هــذه اآلايت طريــق‬
‫الضــال‪ ،‬فأخــرت ‪-:‬‬
‫‪ .1‬بوجــود مثــل بســيط ‪(،‬بعوضــة فمــا فوقهــا) ‪،‬إمــا أعلــى أو أدىن كمــا هــو‬
‫يف تفســرها‪ ،‬هذا املثل يشــتبه على بعض الناس ‪.‬‬
‫‪ .2‬ينقســم اجملتمــع حيــال هــذا املثــل إىل مؤمنــن ثبت ـوا علــى إمياهنــم‪،‬‬
‫وآخــرون ضل ـوا بعــد هــدى كان ـوا عليــه ‪.‬‬
‫وهــذا يعــي أن اهلدايــة هنــا ليســت هدايــة التصديــق الــي حتدثنــا عنهــا يف‬
‫ســنة اهلدايــة ‪ ،‬بــل هــي هدايــة التوفيــق الــي خيــرج هبــا اإلنســان مــن الفــن الــي‬
‫تواجهــه ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪208‬‬

‫‪ .1‬حتدثــت اآليــة عــن آاثر هــذا الضــال يف نقــص العهــد ‪ ،‬وقطــع مــا‬
‫أمــر هللا بــه أن يوصــل والفســاد يف األرض ‪ .‬ونتصــور أن الفــن تســتمر ‪ ،‬ويــزداد‬
‫معهــا الضــال إىل أن أيذن هللا بــزوال تلــك األمــة‬
‫وإذا علمنــا أن املثــل وصــف غريــب للشــيء ‪ ،‬علمنـاً أن هــذا االختــاف‬
‫حــادث يف اجملتمــع ‪ ،‬اشــتبه األمــر فيــه علــي بعــض النــاس‪ ،‬فــكان ســبباً يف‬
‫االنقســام وتفــكك اجملتمــع وظهــور اجلرميــة أو الفســاد ‪ .‬واملثــل هنــا‪ ،‬كمــا يفهــم‬
‫مــن تكـرار هــذا اللفــظ يف القــرآن ‪ ،‬شــامل لــكل املفاهيــم واألفــكار الــي تنكرهــا‬
‫العقــول ‪ ،‬وكذلــك األحــداث الــي ال يعلــم النــاس حكمتهــا ‪،‬أو التكاليــف الــي‬
‫ال تقبلهــا النفــوس لضعــف إمياهنــم ويقينهــا ابملنهــج الــذي آمنــت بــه ‪ .‬وتعطينــا‬
‫ســورة البقــرة حتلي ـاً هلــذا التحلــل‪ ،‬مــن خــال عــرض قصــة بــي إس ـرائيل يف‬
‫مقدمــة الســورة ‪ .‬ذكــرت نقضهــم للعهــد‪ ،‬قــال تعــاىل‪ (:‬اي بــي إسـرائيل اذكــروا‬
‫نعمــي الــي أنعمــت عليكــم وأوف ـوا بعهــدي أوف بعهدكــم )‪ .‬وذكرهــم بنعمــه‬
‫عليهــم ســبحانه يف أكثــر مــن موضــوع ‪ ،‬وذكرهــم لنعمــه‪ ،‬وســخطهم علــي بــاءه‬
‫‪ ،‬أي أهنــم مل يتفهمـوا احلكمــة مــن األحـوال املختلفــة الــي مــرت هبــم مث ذكرهــم‬
‫مبيثاقــه الشــرعي الــذي أخــده عليهــم ‪،‬وذكــر كيــف أن عقوهلــم مل حتتمــل فهــم هــذا‬
‫التشـريع وكيــف ضلـوا يف شــأن البقــرة ‪.‬‬
‫وذكــر فســادهم وقتلهــم لألنفــس وظلمهــم ألنفســهم وحتريــف كتاهبــم‬
‫وتكذيبهم لألنبياء وقطعهم ملا أمر هللا به أن يوصل من صالة ‪ ،‬وزكاة ‪ ،‬وصلة‬
‫الرحــم ومــا إىل ذلــك ‪ .‬فــكان اترخيهــم مثــاالً واضح ـاً لنقــض العهــد الفطــري‬
‫والشــرعي‪ ،‬وقطعهــم ملــا أمــر هللا بــه أن يوصــل‪ ،‬مث ذكــر الفســاد يف األرض (‬
‫كالقتــل‪ ،‬واألســر‪ ،‬والســحر ‪....‬اخل )و دخلـوا بعــد ذلــك يف دورة مغلقــة‪ ،‬كلمــا‬
‫ردوا إيل الفتنــة أركس ـوا فيهــا‪ ،‬ومل خيرج ـوا منهــا إىل اآلن وأعطتنــا الســورة مثــاالً‬
‫هلــذا التحلــل‪ ،‬ذكــر بعــده قصــة طالــوت وجالــوت‪ ،‬وعلــل هــذه القصــة بقولــه‪-:‬‬
‫‪209‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫( ولــوال دفــع هللا النــاس بعضهــم ببعــض لفســدت األرض ولكــن هللا ذو فضــل‬
‫علــى العاملــن )‪ .‬مث قــال (تلــك الرســل فضلنــا بعضهــم علــى بعــض منهــم مــن‬
‫كلــم هللا ورفــع بعضهــم درجــات وآتينــا عيســى ابــن مــرمي البينــات وأيــدانه بــروح‬
‫القــدس ولــو شــاء هللا مــا اقتتــل الذيــن مــن بعدهــم مــن بعــد مــا جاءهتــم البينــات‬
‫ولكــن اختلفـوا فمنهــم مــن آمــن ومنهــم مــن كفــر ولــو شــاء هللا مــا اقتتلـوا ولكــن‬
‫هللا يفعــل مــا يريــد)‪.‬‬
‫قــال ابــن كثــر ( خيــر تعــاىل أنــه فضــل بعــض الرســل علــى بعــض كمــا قــال‬
‫‪209‬داوود زبــوراً ) وقــال ههنــا‬
‫تعــاىل ولقــد فضلنــا بعــض النبيــن علــى بعــض وآتينــا‬
‫تلــك الرســل فضلنــا بعضهــم علــى بعــض يعــي موســى وحممــداً صلــى هللا عليــه‬
‫وســلم وكذلــك آدم كمــا ورد بــه حديــث اإلس ـراء حــن رأى النــي صلــى هللا‬
‫عليــه وســلم يف الســموات تفــاوت منازهلــم عنــد هللا عــز وجــل ) ‪ .‬وال تعــارض‬
‫بــن هــذه اآليــة وقولــه صلــى هللا عليــه وســلم يف احلديــث الصحيــح ((ال ختــروا‬
‫بــن األنبيــاء)) ألن املنــع مــن التفضيــل إمنــا هــو مــن جهــة النبــوءة الــي هــي‬
‫خصلــة واحــدة ال تفاضــل فيهمــا‪ ،‬وإمنــا التفضيــل يف زايدة األحـوال واخلصــوص‬
‫والكرامــات واإلنطــاق واملعج ـزات املتباينــات‪ ،‬وأمــا النبــوءة يف نفســها فــا‬
‫تتفاضــل وإمنــا تتفاضــل أبمــور أخــرى زائــدة عليهــا‪ ,‬ولذلــك منهــم رســل وأولــو‬
‫عــزم ‪ ،‬ومنهــم مــن اختــذ خليــا ‪ ،‬ومنهــم مــن كلــم هللا ورفــع بعضهــم درجــات ‪.‬‬
‫قــال العالمــة ابــن عاشــور يف تفســر قولــه تعــاىل ( ورفــع بعضهــم درجــات‬
‫) وعليــه فالعــدول مــن التصريــح ابالســم أو ابلوصــف املشــهور بــه لقصــد دفــع‬
‫االحتشــام عنــد البليــغ الــذي هــو املقصــود مــن هــذا الوصــف وهــو حممــد صلــى‬
‫هللا عليــه وســلم « وقــد ذكــر العلمــاء عــدة م ـزااي – ال ختفــى – للنــي صلــى‬
‫هللا عليــه وســلم هــي الدرجــات الــي رفــع هبــا صلــي هللا عليــه وســلم ‪ .‬وقــال‬
‫أيض ـاً (( مث جيــوز أن يكــون الضمــر املضــاف إليــه يف قولــه مــن بعدهــم م ـراداً‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪210‬‬

‫بــه مجلــة الرســل أى ولــو شــاء هللا مــا اقتتــل الذيــن مــن بعــد أولئــك الرســل مــن‬
‫األمــم املختلفــة يف العقائــد ‪ .‬مثــل اقتتــال اليهــود والنصــارى يف اليمــن مــن قصــة‬
‫أصحــاب األخــدود ‪،‬ومقاتلــة الفلســطينيني لبــي إس ـرائيل انتصــاراً ألصنامهــم‬
‫‪،‬ومقاتلــة احلبشــة ومشــركي العــرب انتصــاراً لبيعــة القليــس الــي بناهــا احلبشــة يف‬
‫اليمــن ‪....،‬ويكــون املـراد ابلبينــات صــدق حممــد صلــي هللا عليــه وســلم فتكــون‬
‫اآليــة إحيــاء علــى الذيــن عانــدوا النــي وانوأوا املســلمون وقاتلوهــم‪) ...‬‬
‫(وجيــوز أن يكــون ضمــر مــن بعدهــم ضمــر الرســل علــي إرادة التوزيــع‬
‫‪ ،‬أي الذيــن مــن بعــد كل رســول مــن الرســل فتكــون مفيــدة أن أمــة كل‬
‫رســول مــن الرســل اختلف ـوا واقتتل ـوا اختالف ـاً واقتتــاالً نشــأ مــن تكفــر بعضهــم‬
‫بعضـاً كمــا وقــع لبــي إسـرائيل يف عصــور كثــرة بلغــت فيهــا طوائــف منهــم مــن‬
‫اخلــروج مــن الديــن إىل حــد أن كفــر بعضهــم بعض ـاً ‪ ،‬فتقاتلــت اليهــود غريهــم‬
‫قتــاالً جــرى بــن مملكــة يهــوداً ومملكــة إسـرائيل ‪ ،‬ومقاتلــة النصــارى كذلــك مــن‬
‫جـراء اخلــاف بــن اليعاقبــة وامللكيــة قبــل اإلســام ‪ ،‬واشــهر مقاتــات النصــارى‬
‫احلــرب القطبيــة الــي نشــأت يف القــرن الســادس عشــر مــن التاريــخ املســيحي‬
‫بــن أشــياع الكاثوليــك وبــن أشــياع مذهــب لوثــر الراهــب اجلرمــاين الــذي دعــا‬
‫النــاس إىل إصــاح املســيحية واعتبــار أتبــاع الكاثوليكيــة كفــاراً الدعائهــم ألوهيــة‬
‫املســيح‪ ,‬فعظمت بذلك حروب بني فرانســا وإســبانيا وجرمانيا وانكلرتا وغريها‬
‫من دول أورواب ‪ .‬والحظ يف اآلية االســتدراك (ولكن اختلفوا) فلم يقل ولكن‬
‫اقتتل ـوا إمنــا جــاء بســبب القتــل وهــو االختــاف ‪( .‬التحريــر و التنويــر)‬
‫إذا عرفنــا هــذا فلنذكــر بعــض املســائل الــي تعطيهــا لنــا اآليــة ‪ :‬األوىل‬
‫‪ -:‬مفهــوم التفاضــل ‪ ،‬وهــو املـزااي الــي تعمــق يف امليــزة الواحــدة ‪ ،‬فــكل الرســل‬
‫مبعوثــون مــن هللا ‪ ،‬ولكــن لــكل منهــم ميــزه فضلتــه عــن اآلخــر كمــا ذكـران منــذ‬
‫قليــل ‪.‬‬
‫‪211‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫الثانيــة‪ -:‬ارتبــاط هــذا التفاصيــل بذكــر االختــاف واالقتتــال مــن بعدهــم‬


‫‪ ،‬فلــو اعتــران أن الضمــر مــن بعدهــم املـراد بــه مجلــة الرســل أي اختــاف األمــم‬
‫املختلفــة فيمــا بينهــم ‪ ،‬كمــا هــو الـرأي األول‪ ،‬فإننــا نعلــم مــن ذلــك أن التفاضــل‬
‫بــن األنبيــاء كان ســبباً يف هــذا االقتتــال فقــد حســد اليهــود النصــارى وحســد‬
‫النصــارى املســلمني‪ ،‬وحســد النصــارى اليهــود وحســد املشــركون املســلمني‬
‫وانصبوهــم العــداء‪.‬‬
‫الثانية ‪ :‬أن هذا األمر كان بعد مرحلة النبوءة ‪ ،‬وبعد قيام احلجة ووجود‬
‫‪211‬‬ ‫الدالئل على نبوءة األنبياء ورسالة الرسل ‪.‬‬
‫الثالــث ‪ -:‬أن هــذا تســبب يف القتــال مــع األمــم املختلفــة ‪ ،‬واألمــة‬
‫الوا حــدة‪.‬‬
‫الرابعة ‪ -:‬أن التفاوت أمر طبيعي ألنه قال فضلنا فنسب ذلك ايل ذاته‬
‫الشـريفة ‪،‬أمــا االختــاف فنســبه للنــاس فقــال ( اختلفـوا ‪ )..‬فنســب اخلــر ايل‬
‫نفســه وهــو التفــاوت ‪ ،‬واالختــاف إيل النــاس ‪ ،‬وإن كان مــن عنــده ســبحانه‪.‬‬
‫اخلامســة ‪ -:‬أن وجــود البينــات يف األمــة ‪ ،‬ينفــي الســبب الــذي يتبــادر‬
‫للذهــن ‪ ،‬وهــو عــدم وضــوح الرؤيــة ‪ ،‬ويرجعــه إىل أســباب أخــرى نفســية وهــي‬
‫الــي عــر عنهــا ابلبغــي ‪ .‬هــذا البغــي هــو نتــاج التفاعــل الســيء مــع ســنة التفــاوت‬
‫الــذي يــؤدي إيل القتــال و التنــازع ‪.‬‬
‫السادســة‪ -:‬أن فهمنــا مــن قصــة طالــوت وجالــوت أن مــا أصــاب بــي‬
‫إسـرائيل مــن تشـريد ‪ ،‬كان ســبباً يف حماولتهــم النهــوض أبعبــاء اجلهــاد ‪،‬وعلمنــا‬
‫«أن يكــون لــه‬
‫أن احلســد كان ســبباً وعائقـاً هلــم مــن هــذا النهــوض ‪ ,‬حــن قــال ّ‬
‫امللــك علينــا‪ ..‬فــكان احلســد عائقـاً أمــام وحدهتــم ‪ ،‬رغــم وضــوح اآلايت الدالــة‬
‫علــي ملــك طالــوت ‪ ،‬قــال تعــاىل ((وقــال هلــم نبيئهــم إن آيــة ملكــه أن أيتيكــم‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪212‬‬

‫التابــوت فيــه ســكينة مــن ربكــم وبقيــة ممــا تــرك آل موســى وهــارون ‪ ))..‬فجاءهــم‬
‫مــن اآلايت مــا يــدل علــى ملكــه الــذي أعطــاه هللا إايهــا‪ ،‬لكنهــم تنازعـوا امللــك‬
‫‪ ،‬وحني ســار هبم ملكهم بعد ذلك ‪ ،‬ظهر ضعف نفوســهم أكثر حني شـربوا‬
‫مــن النهــر الــذي امتحنهــم هللا بــه ‪.‬‬
‫الســابعة ‪ -:‬كانــت تلــك احملــن ســبباً يف انقســام بــي إس ـرائيل وتنازعهــم‬
‫وتعليــق اآليــة بذكــر التفــاوت واالختــاف ‪ ،‬يــدل علــى أن ســبب التنــازع هــو‬
‫التفــاوت الــذي يــؤدي إىل احلســد مــن مث القتــال والفســاد ‪ ،‬واملقصــود هنــا التنبيــه‬
‫علــى احملنــة الــي أظهــرت هــذا النـزاع يف االمــة الواحــدة ‪.‬‬
‫الثامنة‪ -:‬ذكر هللا أن سنة التدافع منعت هذا النزاع ‪،‬حني هزم جالوت‬
‫‪،‬وقتــل داود جالــوت وآاته هللا امللــك وعلمــه ممــا يشــاء ولــوال دفــع هللا النــاس‬
‫بعضهــم بعــض لفســدت األرض ولكــن هللا ذو فضــل علــى العاملــن ‪.‬‬
‫الثامنــة ‪ -:‬مالحظــة ذلــك احلـراك االجتماعــي ‪ ،‬الــذي نقــل داود (وكان‬
‫رجـاً قصـراً مســقاماً مصفــاراً أصفــر أزرق ‪ ،‬راعيـاً للغنــم ‪ ،‬الحــول لــه وال قــوة‬
‫علــي قتــل جالــوت الــذي كان مــن أشــد النــاس قــوة وبطش ـاً – إىل أن يكــون‬
‫ملــكاً ونبي ـاً‪ ،‬ســخر هللا لــه كل شــيء ‪.‬‬
‫التاســعة ‪ -:‬كيــف أبــرزت تلــك احملنــة فئــة جديــده اثبتــة‪ ،‬وفئــة أخــرى‬
‫اهنزمــت‪ ،‬وظهــرت خبــااي نفوســهم ‪ ،‬وســوء س ـريرهتم ‪،‬وضعــف إرادهتــم ‪.‬‬
‫العاشــرة‪ -:‬هــذا يــدل علــي تفضيــل هللا لبعضهــم ورفــع درجاهتــم ‪،‬وأنــه‬
‫يتخــذ مــن احملنــة والفــن ‪،‬ســتاراً يرفــع هبــا مــن يشــاء وخيفــض مــن يشــاء ‪.‬‬
‫احلاديــة عشــر‪ -:‬أن التدافــع مرتبــط ابلتنــازع ‪ ،‬فبعــد كل ن ـزاع وقتــال‪،‬‬
‫يكــون دفــع لطبقــة جديــدة‪ ،‬يؤتيهــا هللا امللــك واحلكــم‪.‬‬
‫‪213‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫الثانيــة عشــر‪ -:‬أن التدافــع قــد يكــون ســببه طبيعــي كاألمـراض واألوجــاع‬
‫‪ ،‬كمــا يف قصــة مــن خرج ـوا مــن دايرهــم وهــم ألــوف نتيجــة انتشــار الطاعــون‬
‫فيهــم‪ ،‬كمــا يف أحــد الــرواايت ‪ ،‬أو بســبب القتــال ‪ ،‬كمــا يف بــي إس ـرائيل‬
‫الذيــن أخرجـوا مــن دايرهــم وأبنائهــم‪ ،‬هــذه احملــن هــي الــي يكــون بســببها ذلــك‬
‫احلـراك االجتماعــي أي النـزاع ‪ ،‬وينتــج عنــه اســتقرار يف اجملتمــع بعــد ذلــك (أي‬
‫تدافــع) فتكــون جدليــة كالتــايل (تنــازع – تدافــع – تنــازع – وهكــذا)‪.‬‬
‫الثالثــة عشــر‪ -:‬أن التدافــع اختــاف بــن منظومتــن فكريتــن ‪ ،‬كمــا قــال‬
‫‪ 213‬يظهــر بســبب التفاضــل‬ ‫تعــاىل منهــم مــن آمــن ومنهــم مــن كفــر ‪ ،‬وأن التنــازع‬
‫أي أن احملــرك هــو التفاضــل ومــا يتبعــه مــن حســد ‪ ،‬والتدافــع هــو الصــورة الــي‬
‫ينتهــي هبــا هــذا النـزاع ‪.‬‬
‫ويف ســورة املائــدة قــال تعــاىل‪( :‬وأنزلنــا إليــك الكتــاب ابحلــق مصدق ـاً‬
‫ملــا بــن يديــه مــن الكتــاب ومهيمن ـاً عليــه فاحكــم بينهــم مبــا أنــزل هللا وال تتبــع‬
‫أهواءهــم بعدمــا جــاءك مــن احلــق ‪،‬لــكل جعلنــا منكــم شــرعة ومنهاجــا‪ ،‬ولــو‬
‫شــاء هللا جلعلكــم أمــة واحــدة‪ ،‬ولكــن ليبلوكــم فيمــا آاتكــم فاســتبقوا اخلـرات إىل‬
‫هللا مرجعكــم مجيع ـاً فينبئكــم مبــا كنتــم فيــه ختتلفون)(االيــة ‪.)52‬‬
‫و معــى مهيمنــا عليــه أي مؤمتن ـاً عليــه كمــا نقــل عــن ابــن عبــاس أو‬
‫مبعــى الرقابــة أو الشــهادة علــى الكتــب الســابقة فقــد ذكــرت الســورة تسلســل‬
‫االحنـراف عــن الكتــب الســماوية مــن حتريــف أهــل الكتــاب ‪ .‬مث قــال ســبحانه‬
‫(لــكل جعلنــا منكــم شــرعة ومنهاج ـاً) ‪ ،‬فالش ـريعة هــي ابتــداء الطريــق واملنهــج‬
‫الطريــق املســتمر ‪ ،‬وهــذا أدى ايل تفاضــل األمــم أو اختالفهــا يف األحــكام‬
‫العمليــة والش ـريعة مــع اتفاقهــا يف أصــول الديــن ‪ ،‬لذلــك قــال ( ولــو شــاء هللا‬
‫جلعلكــم أمــة واحــدة ولكــن ليبلوكــم فيمــا أاتكــم ) قــال صاحــب املنــار ‪ :‬أي‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪214‬‬

‫ولكــن مل يشــأ ذلــك بــل جعلكــم نوعـاً ممتــازاً يرقــى أطـوار احليــاة ابلتدريــج علــي‬
‫ســنة اإلرتقــاء ‪ ،‬فــا تصلــح لــه ش ـريعة واحــدة يف كل طــور مــن أط ـوار حياتــه‪،‬‬
‫يف مجيع أحواله ومجاعاته وآاتكم من الشـرائع واملناهج يف الفهم واهلداية وذكر‬
‫أن البشـرية نــوع ممتــاز ألهنــا قابلــة للتطــور واالرتقــاء وليســت تســاير أنـواع اخللــق‬
‫األخرى « ‪ .‬هذا الفهم وال شك أتثر بسنة تنازع البقاء (التطور) اليت سادت‬
‫الفكــر االجتماعــي يف تلــك الفــرة‪ ،‬ولكــن الــكالم ميكــن أن نفهمــه يف ضــوء‬
‫اآلايت الســابقة والســياق العــام للســورة‪ ،‬فيقــال إن هنــاك تفاضــا بــن األمــم‬
‫‪ ،‬كل علــي حســب ش ـريعته ومناهجــه‪ ،‬هــذا التفضيــل ينبغــي أال يكــون ســبباً‬
‫يف التنــازع‪ ،‬بــل جيــب أن يكــون ميــداان للتســابق يف اخل ـرات ‪ .‬هــذا التســابق‬
‫يتحــول إىل نـزاع وحــرب إذا أخــذ صفــة الصــدام ‪ ،‬وأيخــذ صفــة التدافــع إذا كان‬
‫تســابقاً حنــو اخل ـرات ‪ ( ،‬الــي جــاءت بصفــة اجلمــع الــذي يــؤدي ابلبش ـرية‬
‫حنــو التكامــل ‪.‬‬
‫و لكــن يف اآليــة إشــكال وهــو قولــه ( فاســتبقوا اخل ـرات ) فمــن املعــي‬
‫ابخلطــاب ومــا هــي داللــة هــذا األمــر ‪ ،‬هنــا عــدة احتمــاالت ‪:‬‬
‫‪ .1‬أن يكــون املعــي ابخلطــاب هــم املســلمون خاصــة وعلــى هــذا فــا‬
‫إشــكال يف االيــة ‪.‬‬
‫‪ .2‬أن يكــون املعــي ابخلطــاب هــم مجيــع األمــم الثالثــة‪ ،‬ويــرد اإلشــكال‪،‬‬
‫هــل هــذا إق ـرار ابلش ـرائع الســابقة‪ ،‬وعــدم اجلــزم ابتبــاع النــي صلــى هللا عليــه‬
‫وســلم ‪ .‬وحيــل هــذا اإلشــكال علــى هــذا القــول إذا اعتــران االســتباق ابخلـرات‪،‬‬
‫مبعــي املبــادرة ابإلميــان مــن أهــل الكتــاب ‪،‬أو االبــداع أو االســتباق ابخل ـرات‬
‫مــع املؤمنــن ‪.‬‬
‫‪215‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫‪ .3‬أن األمــر هنــا قــدري ‪ ،‬مبعــي أن هــذا هــو قدركــم فليكــن هــذا الشــرع‬
‫‪ ،‬ســبباً يف انتشــار اخلــر ‪،‬ال ســبباً يف الن ـزاع ‪ ،‬واترك ـوا األمــور املختلــف فيهــا‪،‬‬
‫فســينبئكم هللا عنهــا يــوم القيامــة ‪ .‬وهللا أعلــم‬
‫و علــي كل حــال فــإن اآليــة أقــرت التســابق كوســيلة للحركــة بــن األمــم‪،‬‬
‫ولكــن التوجيــه يف أن يكــون حنــو اخلـرات‪ ،‬كمــا أقــرت االختــاف ‪ ،‬والتفاضــل‬
‫بــن املناهــج ‪ ،‬معلــوم مــن تفاضــل الرســل ‪ ،‬وذكــر القــرآن بقولــة (ومهيمن ـاً)‬
‫فهــذه ميــزة للقــرآن وللرســالة اخلامتــة ‪.‬‬
‫‪215‬ـذا املعــى‪ ،‬فقــد ذكــر هللا‬
‫وإذا أتملنــا ســياق ســورة املائــدة جنــد تفصيــل هـ‬
‫األمــة يف بدايــة الســورة ابلوفــاء ابلعهــد‪ ،‬قــال تعــاىل‪ :‬اي أيهــا الذيــن آمن ـوا أوفــو‬
‫ابلعقــود « قــال املفســرون أى ابلعهــود مث ذكــر الوصــال أو التواصــل يف قولــه‬
‫(وتعاون ـوا علــى الــر والتقــوى وال تعاون ـوا علــى اإلمث والعــدوان ) و بعــد آايت‬
‫كلهــا يف هــذا املعــى‪ ،‬ذكــر نقــض أهــل الكتــاب للعهــد يف قولــه (فبمــا نقضهــم‬
‫ميثاقهــم لعناهــم )‪ ،‬وعــن النصــارى قــال ‪( :‬ومــن الذيــن قالـوا إان نصــارى أخــذان‬
‫ميثاقهــم فنس ـوا حظ ـاً ممــا ذكــروا بــه فأغرينــا بينهــم العــداوة والبغضــاء إىل يــوم‬
‫القيامــة ) مث ذكــر قصــة هابيــل وقابيــل و كيــف تتكــون هــذه العــداوة بــن بــي‬
‫البشــر ‪ ،‬قــال صاحــب املنــار يف مناســبة هــذه القصــة ‪ :‬إهنــا بيــان لكــون احلســد‬
‫الــذي حــرف اليهــود عــن اإلميــان ابلنــي صلــى هللا عليــه وســلم ومحلهــم علــي‬
‫عداوته‪ ،‬عريق يف اآلدميني ‪ ،‬وأثر من آاثر من سبقهم ‪...‬وقال يف تفسري قتل‬
‫هابيــل قابيــل «وكــذا مــا جبلـوا عليــه مــن حــب الكمــال ومــا يتبعــه مــن حســد‬
‫الناقــص ملــن يفوقــه يف الفضائــل واألعمــال ‪ ،‬وكــون احلاســد يبغــي إن قــدر مــا‬
‫مل يزعــه ديــن أو قــدر»‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪216‬‬

‫فــإن تقبــل قـرابن هابيــل دل علــي أفضليتــه وعلــو مرتبــة هابيــل علــي قابيــل‪،‬‬
‫وأراد هابيــل أن يبــن لــه معيــار هــذا التفــاوت فقــال ‪ :‬إمنــا يتقبــل هللا مــن املتقــن‬
‫‪ .‬ولكــن هــذا التفــاوت طــوع لقابيــل قتــل هابيــل « فقتلــه » ‪ .‬وهــذا كمــا يــدل‬
‫الســياق مــا حــدث لألمــم الثالثــة فــإن التفــاوت بــن هــذه األمــم جعــل مــن بعــض‬
‫اليهــود ينصبــون العــداء لألمــة اإلســامية ‪ ،‬وجعــل مــن بعــض النصــارى كذلــك‬
‫يناوئــون النــي ويك ّذبونــه ‪.‬تفســر املنــار ج‪)339( 6‬‬
‫ســنة التنــازع كذلــك يف قولــه ‪ :‬وليزيــد ّن كثـراً منهــم مــا أنــزل اليــك مــن ربــك‬
‫طغيــاانً وكفـراً‪ ،‬وتكــرر ذلــك مرتــن ‪ ،‬فــإن القــرآن مــع كونــه هدايــة إال أن احلســد‪،‬‬
‫جعــل منــه ســبباً يف زايدة طغيــان اليهــود خاصـةً وهــذه العالقــة بــن زايدة اهلــدى‬
‫يف جانــب وزايدة الطغيــان يف جانــب هــو مــا نعنيــه بســنة التنــازع ‪.‬‬
‫و يســتمر األمــر علــى هــذا املن ـوال إيل أن تتغلــب أمــة علــى األخــرى‪ ،‬أو‬
‫أن حيــدث حــادث كبــر يدفــع البشـرية حنــو اإلصــاح ‪ ،‬وهــو مــا قالــه تعــاىل (‬
‫كلمــا أوقــدوا انراً للحــرب أطفأهــا هللا ويســعون يف األرض فســاداً وهللا ال حيــب‬
‫املفســدين )‪ .‬فهــذه العالقــة يف التنــازع بــن اهلدايــة والطغيــان هــو مــا تعنيــه ســنة‬
‫التنــازع؛ عندمــا تكــون العالقــة بــن الـزايدة يف اهلدايــة مــن جانــب و الطغيــان مــن‬
‫جانــب فتلــك هــي العالقــة التدافعيــة ‪.‬‬
‫و الســبب يف نشــوء عالقــة التنــازع هــو احلســد والبغــي‪ ،‬أو الضعــف يف‬
‫جانــب اهلدايــة و التحلــل الداخلــي ملــن ميثلــه فقــد تكــون اهلدايــة متوفــرة لــدى‬
‫األمــة‪ ،‬لكــن هنــاك ضعــف يف النفــس وحتلــل يف بنــاء األمــة مينــع مــن هــذا التدافــع‬
‫‪ ،‬وتكــون الن ـوازع النفســية هــي احملــرك للتنــازع وهــذا مــا تريــد أن تبــن خطورتــه‬
‫الســورة ‪ .‬انظــر إيل هــذه اآلايت مــن املائــدة ‪ ( -:‬وال حيرمنكــم شــنآن قــوم أن‬
‫صدوكــم عــن املســجد احلـرام أن تعتــدوا ‪ ( )..‬ولكــن يريــد ليطهركــم ‪ ( )....‬فــا‬
‫‪217‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫ختش ـوا النــاس واخشــون ‪ ،‬وال تشــروا آباييت مثن ـاً قليــل )‪ ( .‬فطوعــت لــه نفســه‬
‫قتل أخيه)‪ ( .‬أولئك الذين مل يرد هللا أن يطهر قلوهبم )‪ ( .‬فاعلم أمنا يريد هللا‬
‫أن يصيبهــم ببعــض ذنوهبــم )‪ ( .‬قــل ال يســتوي اخلبيــث والطيــب ولــو أعجبــك‬
‫كثــرة اخلبيــث )‪ ( .‬ليعلــم هللا مــن خيافــه ورســله للغيــب )‪.‬‬
‫أتمــل كيــف مينــع ( واخلــوف مــن النــاس ‪ ،‬والنجاســة ‪ ،‬والتطويــع النفســي‬
‫للبغــي واحلســد ‪ ،‬والذنــوب واخلبــث ‪ ،‬وعــدم خشــية هللا ابلســر والعلــن هــذا‬
‫ابإلضافــة لالعتــداء وأكل الســحت ‪ ،‬وشــرب اخلمــر ‪ ،‬والتنــازع واحلــروب الــي‬
‫‪217‬ـذا األمــة مــن قدرهتــا علــى‬
‫ذكــرت يف الســورة وحــذرت منهــا )‪ ،‬كيــف مينــع كل هـ‬
‫دفــع الباطــل والوصــول هبــا إيل حالــة االســتقرار ‪ ،‬وهــو الــذي حــذر هللا منــه األمــة‬
‫( إن تتولـوا يســتبدل هللا قومـاً غريكــم )‪.‬‬
‫فإذاوجــدان التنــازع بــن أفـراد األمــة هــو الســائد‪ ،‬و رأينــا أن الطغيــان يــزداد‬
‫‪ ،‬علمنــا أن األســباب النفســية الــي ذكرهتــا الســورة مــن الشــنآن واخلــوف مــن‬
‫النــاس ‪ ..‬اخل ‪ ،‬هــي الســبب يف اخللــل الداخلــي لألمــة املســلمة‪ ،‬والســبب يف‬
‫غيــاب الدفــع املقلــص لفســاد األمــم األخــرى‪ ،‬علمنــا معــى قولــه تعــاىل ( إن‬
‫هللا ال يغــر مــا بقــوم حــى يغــروا مــا أبنفســهم ) فــإن الفســاد والضــال ســيزداد‬
‫مــع كل فتنــة ‪ ،‬حــى تــزول تلــك العقــد النفســية ‪..‬هــذا مــا ميكــن أن جنــده عنــد‬
‫هيجــل ابلتطلــع حنــو املكانــة و اجلــاه كمحــرك مــن حمــركات التاريــخ ‪.‬‬
‫إذا تبني ذلك ‪ ،‬علمنا أن هذا التفاوت بني هذه األمم ‪ ،‬ميكننا من فهم‬
‫طبيعــة العالقــة بــن األمــم‪ ،‬وتعطينــا الســورة صــورة هلــذا التفــاوت ‪ ،‬قــال تعــاىل ‪:‬‬
‫لتجــد ّن أشــد النّــاس عــداوًة للذيــن آمنـوا اليهــود والذيــن اشــركوا ولتجــد ّن أقرهبــم‬
‫مــود َة للذيــن آمنـوا الذيــن قالـوا إان نصــارى ‪ ...‬اآليــة )‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪218‬‬

‫و هذه اآلية تقيد كثرياً من اآلايت األخرى كقوله تعاىل ‪ « -:‬إن الذين‬
‫آمنـوا والذيــن هــادوا والصابئــن والنصــارى » املائــدة « ويف آايت أخــرى يزيــد «‬
‫والذيــن أشــركوا « ‪ .‬فــإن هــذه اآلايت تتحــدث عــن األمــم ابختالفهــا ‪ ،‬ولكنهــا‬
‫ال حتــدد ترتيبـاً ابلنســبة للعالقــة ابألمــة املســلمة ‪ ،‬فهــي مطلقــة مــن هــذا اجلانــب‬
‫‪ ،‬أمــا األمــة اإلســامية ‪ ،‬فعالقتهــا ابألمــم مقيــدة ابآليــة الســابقة ‪.‬‬
‫و الضابــط يف هــذه العالقــة هــو اإلميــان ابهلل واليــوم اآلخــر ‪ ،‬فلمــا كان‬
‫مــن النصــارى ممــن ال يســتكربون كانـوا أقــرب هلــذه األمــة أمــا اليهــود فهــم أشــد‬
‫عــداوة مث املشــركون ‪ ،‬أمــا الصائبــون واجملــوس ‪ ،‬فــإن العلمــاء اختلفـوا – وخاصــة‬
‫الصابئــن – يف كوهنــم مــن أهــل الكتــاب أم ال أمــا اجملــوس فاملشــهور أهنــم ليسـوا‬
‫أهــل كتــاب ‪ ،‬أمــا الصابئــون فاخلــاف قائــم فيهــم ‪.‬هــذا الرتتيــب ميكــن املســلمني‬
‫مــن فهــم طبيعــة العالقــات بــن هــذه األمــم ‪ ،‬ولكــن هــذه العالقــة ليســت مــن‬
‫التعصــب يف شــيء ‪،‬ألن شــرط العالقــة هــو وجــود اإلميــان وقوتــه‪ ،‬واالرتبــاط‬
‫شــرطي هبــذا اإلميــان و قوتــه واملعــى واضــح ‪.‬‬
‫و هــذا التفــاوت خيتلــف عــن التدافــع ‪،‬ألن التدافــع يتعلــق مبوازيــن القــوة ‪،‬‬
‫وهــي متغــرة أمــا التفــاوت فيتعلــق بدرجــة كل أمــة وقيمتهــا الفكريــة أو احلضاريــة‬
‫املالزمــة هلــا وختتلــف الدرجــة أو الرتبــة ‪ ،‬والقــوة أو التأثــر ‪ ،‬يف أن الدرجــة ال‬
‫تقتضــي القــوة أو التأثــر ‪ ،‬والعكــس صحيــح ‪.‬‬
‫يف ســورة الرعــد ‪-:‬نقـرأ قولــه تعــاىل (ويف األرض قطــع متجــاورات وجنــت‬
‫ونفضــل‬
‫مــن أعنــاب وزرع وخنيــل صن ـوان وغــر صن ـوان تســقى مبــاء واحــد ّ‬
‫بعضهــا علــى بعــض يف األكل إن يف ذلــك آلايت لقــوم يعقلــون )(‪ .)4‬قــال‬
‫القرطــي ‪ :‬قولــه تعــاىل (متجــاورات ) أي قــرى متدانيــات‪ ،‬تراهبــا واحــد‪ ،‬وماؤهــا‬
‫واحــد ‪،‬وفيــه زروع وجنــات‪ ،‬مث تتفــاوت يف الثمــار والثمــر‪ ،‬فيكــون البعــض‬
‫‪219‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫حلــو‪ ،‬والبعــض حامــض‪ ،‬والغصــن الواحــد مــن الشــجرة قــد خيتلــف التمــر فيــه‬
‫مــن الكــر والصغــر واللــون والطعــم ‪)....‬‬
‫وقولــه تعــاىل (ونفضــل بعضهــا علــى بعــض ) قــال احلســن املـراد هبــذه اآليــة‬
‫املثل ‪ ،‬ضرب هللا تعايل بين آدم ‪،‬أصلهم واحد‪ ،‬وهم خمتلفون يف اخلري والشر‪،‬‬
‫واإلميــان والكفــر ‪ ،‬كاختــاف الثمــار الــي تســقى مبــاء واحــد ) قــال الشــاعر‬
‫الناس كالنبت والنبت ألوان منها شجرة والكافور والبان‬
‫هــذه الصــور الكونيــة للتفاضــل أو التفــاوت ‪ ،‬كانــت مقدمــة لبيــان تفــاوت‬
‫‪219‬‬
‫النــاس يف اســتجابتهم هلــذا املنهــج ففــرق هللا بــن صنفــن‪ ،‬حيــث قــال ‪ -:‬الذيــن‬
‫يوفــون بعهــد هللا وال ينقضــون امليثــاق‪ ،‬والذيــن يصلــون مــا أمــر هللا بــه أن يوصــل‬
‫وخيشــون رهبــم وخيافــون ســوء احلســاب والذيــن صــروا ابتغــاء وجــه رهبــم أقام ـوا‬
‫الصــاة وانفقـوا ممــا رزقنهــم سـراً وعالنيــة ويــدرؤون ابحلســنة الســيئة أولئــك هلــم‬
‫عقــى الــدار ‪.‬‬
‫والصنــف اآلخــر ذكــر صفاتــه فقــال ( والذيــن ينقضــون عهــد هللا مــن بعــد‬
‫ميثاقــه ويقطعــون مــا أمــر هللا بــه أن يوصــل ويفســدون يف األرض أولئــك هلــم‬
‫اللعنــة وهلــم ســوء الــدار )‪ .‬مث ذكــر الســبب يف نقــض العهــد‪ ،‬وهــو اخللــل يف‬
‫تصــور حركــة احليــاة فقــال ‪-:‬‬
‫«هللا يبســط الــرزق ملــن يشــاء ويقــدر وفرح ـوا ابحليــاة الدنيــا ومــا احليــاة‬
‫الدنيــا يف األخــرة إال متــاع » ‪ .‬فإهنــم ملــا بســط هلــم الــرزق ‪ ،‬شــعروا ابلفــرح‬
‫والفخــر‪ ،‬فنقض ـوا العهــد‪ ،‬وتنكــروا هلويتهــم ووالئهــم لإلســام ‪ .‬أمــا األوفيــاء‬
‫فإهنم شاكرون يف السراء ‪ ،‬صابرون يف الضراء ‪ ،‬وهذا ما نفهمه يف قوله تعاىل‬
‫‪« -:‬الذيــن آمن ـوا فتطمئــن قلوهبــم بذكــر هللا إال بذكــر هللا تطمئــن القلــوب» ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪220‬‬

‫هــذا الطمأنينــة الــي جــاءت يف ســياق بســط الــرزق وقــدره‪ ،‬تــدل علــى‬
‫ثبــات قلوهبــم ووفــاء نفوســهم ‪ ،‬فكلمــا حلــت أبمتهــم قارعــة أو قريب ـاً منهــم ‪،‬‬
‫متســكوا ابهلل وبوالئهــم لــه‪ ،‬واســتمروا يف اإلنفــاق ‪ ،‬رغــم مــا هــم فيــه مــن بــاء‬
‫كمــا مدحهــم هللا ‪ ..‬والذيــن صــروا ابتغــاء وجــه رهبــم واقامـوا الصــاة وانفقـوا مــم‬
‫رزقناهــم سـراً وعالنيــة « ‪ .‬ولعــل هــذا يشــرح لنــا قولــه تعــاىل‪ »-:‬إن هللا ال يغــر‬
‫مــا بقــوم حــي يغــروا مــا أبنفســهم ‪ ،‬وهــو مــا يــزداد وضوحـاً إذا قـرأان هــذا املثــل ‪:‬‬
‫« أنــزل مــن الســماء مــاءً فســالت أوديــة بقدرهــا فاحتمــل الســيل زبــداً رابيـاً وممــا‬
‫يوقــدون عليــه يف النــار ابتغــاء حليــة أو متــاع زبــد مثلــه كذلــك يضــرب هللا احلــق‬
‫والباطــل‪ ,‬فأمــا الزبــد فيذهــب جفــاء وأمــا مــا ينفــع النــاس فيمكــث يف األرض‬
‫كذلــك يضــرب هللا األمثــال » ‪.‬‬
‫قــال القرطــي ‪( -:‬إن صــح هــذا التفســر فاملعــى فيــه إن هللا ســبحانه مثــل‬
‫القــرآن ابملــاء‪ ،‬ومثــل القلــوب ابألوديــة ‪ ،‬ومثــل احملكــم ابلصــايف ‪ ،‬ومثــل املتشــابه‬
‫ابلزبــد)‪ .‬إذا علمنــا هــذا فلنــا أن نفهــم طبيعــة احلــق والباطــل مــن حركتهمــا‬
‫فالبدايــة «وحــي » أو إن ـزال ‪ ،‬واحلركــة تتســم ابلت ـوازن‪ ،‬كل واد بقــدره مث يبــدأ‬
‫االنفصــال أو االفتتــان ‪ .‬هــذا االفتتــان يقســم ال ـوادي ‪ ،‬كمــا تفتــق احلليــة مــن‬
‫الذهــب والفضــة وســائر األمتعــة ‪ .‬مث يســتقر األمــر أبن يذهــب الزبــد ‪ ،‬ويســتقر‬
‫احلــق وهــو مــا ينفــع النــاس ‪.‬‬
‫وإذا نظـران إىل ســياق الســورة ‪ ،‬ومــا ذكـرانه يف ســنة اهلدايــة وســنة التدافــع‬
‫‪ ،‬جنــد أن حركــة كل حضــارة ‪ ،‬يف بدايتهــا متوازنــة مرتبطــة ابلوحــي ‪ ،‬لكــن‬
‫هــذه احلضــارة‪ ،‬يعلــو زبدهــا ‪ ،‬وشــكوك أبنائهــا‪ ،‬وشــهواهتم ونقضهــم لعهــد‬
‫أبنائهــم ‪،‬وختــرج ضعــف نفوســهم ‪ ،‬وتتقطــع أواصــر جمتمعاهتــم وتنتشــر الرويبضــة‬
‫فيهم‪...‬فيعلــو الباطــل ويزبــد و يرغــي ‪.‬‬
‫‪221‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫وإذا اعتــر هــذا العلــو مــن احلـراك االجتماعــي ‪ ،‬الــذي تنتقــل فيــه طبقــة مــن‬
‫درجــة إىل أخــرى ‪ ،‬فــإن هــذا هــو التنــازع الــذي نذكــره ‪ ،‬وهــو أن ينقــض جــزء‬
‫مــن النــاس والءهــم ألمتهــم ‪ ،‬ويقطعــون مــا أمــر هللا بــه أن يوصــل‪ ،‬ويقتلــون‬
‫ويرتشــون ويســارعون يف اإلمث‪ ،‬حــى يعل ـوا شــأهنم‪ ،‬وترتفــع مكانتهــم‪ ،‬فــرى‬
‫أســعد النــاس لكــع ابــن لكــع ‪ ،‬وتــرى الرجــل التافــه يتــوىل أمــور النــاس ‪ .‬كل‬
‫ذلــك زبــد ‪ ،‬تظهــره اجملتمعــات يف حركتهــا وكل مــا نقـرأه يف التاريــخ عــن جرائــم‬
‫ومظــامل ‪،‬هــو مــن الزبــد الــذي تظهــره كل أمــة يف حركتهــا‪ ،‬أو يعــر عــن إنســانيتها‬
‫وعمــق حضارهتــا ‪.‬‬
‫‪221‬‬
‫إذا تذك ـران قصــة يوســف وكيــف كانــت ‪ ،‬مــا هــي أســباهبا ودوافعهــا‪،‬‬
‫وقيمتهــا مــن هــذا املثــل الباطــل كيــف يطف ـوا الزبــد‪ ،‬ويعل ـوا الباطــل‪ ،‬فإننــا جنــد‬
‫صــدق مــا ذكـرانه مــن أن التفــاوت ســيزداد إىل التنافــس‪ ،‬أو حمــاوالت الصعــود‬
‫ولــو علــى حســاب اجملتمــع وثوابتــه وهــذا مــا ينشــر الفســاد ‪ « .‬وهللا اعلــم »‬
‫وميكننــا هــذا مــن ترتيــب اجملتمعــات وفــق آاثرهــا احلضاريــة وال يســتوي‬
‫اإلسبان يف مذاحبهم وجرائمهم يف املكسيك‪ ،‬وما أثرت به احلضارة اإلسالمية‬
‫يف شــرق آســيا وغــرب أفريقيــا‪ ،‬وبــن هــذا وذاك درجــات ونســب تعطــي كل‬
‫حضــارة ســبقها وفضلهــا ‪ .‬ولعــل ســورة النحــل تؤكــد هــذه احلقائــق ‪.‬‬

‫ففي سورة النحل ‪-:‬‬


‫فضلـوا‬
‫قــال تعــاىل‪( :‬وهللا فضــل بعضكــم علــى بعــض يف الــرزق فمــا الذيــن ّ‬
‫بـرادي رزقهــم علــى مــا ملكــت أمياهنــم فهــم فيــه سـواء أفبنعمــة هللا جيحــدون )‪.‬‬
‫فهــذه اآليــة تقــرر وجــود التفاضــل بــن النــاس ‪،‬كمــا تقــرر أن تغيــر ذلــك غــر‬
‫ممكــن ‪ ،‬فاآليــة أو التفضيــل قــدري ال ميكــن إلغــاؤه ‪ ،‬ولكــن التعامــل معــه ‪،‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪222‬‬

‫مبحاولــة التقريــب ‪،‬ال اإللغــاء والتشــويه ‪ .‬وقــد بينــت الســورة أثــر هــذا التفضيــل‬
‫يف حركــة األمــم قــال تعــاىل ‪-:‬‬
‫(وأوف ـوا بعهــد هللا إذا عاهــدمت وال تنقض ـوا األميــان بعــد توكيدهــا وقــد‬
‫جعلتــم هللا عليكــم كفيـاً إن هللا يعلــم مــا تفعلــون ‪ .‬وال تكونـوا كالــي نقضــت‬
‫غزهلــا مــن بعــد قــوة أنــكااثً تتخــذون أميانكــم دخ ـاً بينكــم أن تكــون أمــة هــي‬
‫أرىب مــن أمــة إمنــا يبلوكــم هللا بــه وليبينــن لكــم يــوم القيامــة مــا كنتــم فيــه ختتلفــون‬
‫ولــو شــاء هللا جلعلكــم أم ـةً واحــد ًة ولكــن يضــل مــن يشــاء ويهــدي مــن يشــاء‬
‫ـألن عمــا كنتــم تعملون)(النحــل ‪ . )92‬قــال جماهــد‪« :‬كان ـوا حيالفــون‬ ‫‪ .‬ولتسـ ّ‬
‫احللفــاء فيجــدون أكثــر منهــم وأعــز فينقضــون حلــف هــؤالء وحيالفــون أولئــك‬
‫الذيــن هــم أكثــر وأعــز » فذكــر أن هــذا النقــض للعهــد مــن أجــل التفــاوت بــن‬
‫أمــة وأمــة ؟ فشــل يف االبتــاء‪ ،‬ونقــض لغــزل اإلمجــاع ‪ ،‬وخــروج عــن ســنن هللا‬
‫وم ـراده ‪ .‬وقــد ذكــرت اآليــة ‪:‬‬
‫‪ .1‬التفاوت يف قوله «أمة هي أرىب من أمة”‪.‬‬
‫‪ .2‬االختالف «ولو شاء هللا جلعلكم أمة واحدة ‪.‬‬
‫‪ .3‬ارتبــاط اهلدايــة والوصــال بــن أعضــاء اجملتمــع ‪ ،‬يف قولــه تعــاىل ‪( :‬وال‬
‫تكون ـوا كالــي نقضــت غزهلــا مــن بعــد قــوة أنــكااثً ) ‪ .‬ويف هــذه النقــاط شــرح‬
‫وافــر لســنة التنــازع ‪،‬فــإن التفــاوت بــن أمــة وأمــة ‪ ،‬جيعــل مــن البعــض ينقضــون‬
‫العهــد ويقطعــون مــا أمــر هللا بــه أن يوصــل ‪ ،‬وقــد بينــت اآليــة أن التفــاوت الــذي‬
‫يــرز بــن األمــة ‪ ،‬ســاعة تكــون أمــة أقــوى أو عــى منــه ‪ ،‬مــا هــو إال ابتــاء مــن‬
‫ســبحانه ‪.‬‬
‫و هــذا يذكـران بقاعــدة ابــن خلــدون‪ ،‬يف كــون األمــة املغلوبــة مولعــة بتقليــد‬
‫األمــم الغالبــة‪ ،‬ويف الواقــع أن هــذا الولــع هــو ســبب هالكهــم‪ .‬فــإن اهلويــة هــي‬
‫‪223‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫املكانــة الــي يعتقــد أبنــاء كل أمــة أهنــم يســتحقوهنا‪ ،‬لــذا هــذه اهلويــة تتأثــر عندمــا‬
‫تتعــرض األمــم حلالــة مــن الضعــف تتطلــع معهــا ألن تكــون غــر هويتهــا ‪ ،‬فــا‬
‫هــي احتفظــت هبويتهــا‪ ،‬و ال ارتقــت مبكوانهتــا وامكانيتهــا الذاتيــة و قــد حــدث‬
‫هــذا يف مطلــع القــرن العش ـرين لألمــة اإلســامية ‪ ،‬حــن هــرع بعــض أبنائهــا‬
‫للغــرب ‪.‬‬
‫فهــذه اآليــة بينــت أن التفــاوت فتنــة هــذه الفتنــة قســمت اجملتمــع ‪ -‬إن مل‬
‫يتفهمهــا وحيســن التعامــل معهــا – سينقســم اجملتمــع ويبــدأ الن ـزاع وينتشــر‬
‫الفســاد‪ ،‬وهــذا مــا نعنيــه بســنة التنــازع ‪ .‬وقــد ذكـ‪223‬ـرت ســورة اإلس ـراء صــورة‬
‫واضحــة هلــذا االنقســام ‪.‬‬
‫ففــي ســورة اإلسـراء ‪ -:‬تــكاد تكــون هــذه الســورة شــرح هلــذه الســنة لــذا‬
‫ســنعطيها عنايــة أكثــر ‪ .‬شــرحت الســنة كيــف حتلــل اجملتمــع اليهــودي ‪،‬وكيــف‬
‫ـدى‬
‫نقــض العهــد مــع هللا ‪،‬قــال تعــاىل (ولقــد آتينــا موســى الكتــاب وجعلنــه هـ ً‬
‫لبــي إسـرائيل أال تتخــذوا مــن دوين وكيــا ) فهــذا هــو األســاس‪ ،‬الــوالء الكامــل‬
‫هلل ‪ ،‬هذا الوالء يتمثل يف االعتصام ابهلل يف كل حال‪ ،‬ويف كل فتنة أو ظلمة‪.‬‬
‫و قــد كان لبــي إسـرائيل نظــرة واضحــة للمســتقبل ‪ ،‬قــال تعــاىل (وقضينــا‬
‫إيل بــي إسـرائيل يف الكتــاب لتفســدن يف األرض مرتــن) وهــذا القضــاء قــدري‬
‫ال شــرعي ‪ ،‬وقــد جاءهتــم مــن األوامــر الشــرعية ‪ ،‬مــا مينــع عنهــم هــذا الفســاد أو‬
‫التحلــل ؟ ‪ .....‬قــال تعــاىل (إن أحســنتم أحســنتم ألنفســكم وإن أســأمت فلهــا‬
‫‪.)....‬‬
‫و عندمــا نقــض اليهــود واعتصم ـوا بغــر هللا‪ ،‬و اختــذوا س ـواه وكيــا‪،‬‬
‫انقســموا إىل كثــرة انكثــن للعهــود‪ ،‬وقلــة أوفيــاء‪ ،‬فتحــرك اجملتمــع‪ ،‬وتنازعـوا كمــا‬
‫حــدث بــن مملكــة اليهــود ومملكــة إسـرائيل ‪ .‬وبغــض النظــر عــن حتديــد التاريــخ‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪224‬‬

‫هلتــن الدولتــن‪ ،‬فــإن الظاهــر مــن اتريــخ بــي إس ـرائيل أهنــم كل مــا دب فيهــم‬
‫النـزاع‪ ،‬و قتــل األنبيــاء كزكـراي وشــعيبا‪ ،‬حــل هبــم مــن العــذاب مــا ذكــره هللا ‪ ،‬كمــا‬
‫حــدث علــى يــد خبتنصــر أو جالــوت أو مــا فعلــه العمالقــة أو كمــا حــدث هلــم‬
‫مــع الرســول صلــى هللا عليــه وســلم حــن نقضـوا عهدهــم معــه صلــى هللا عليــه‬
‫وســلم ‪ .‬وقــد بينــت الســورة الســبب الــذي جعــل األمــم تنقــض عهدهــا مــع هللا‬
‫وتنقســم هــذا االنقســام او الن ـزاع (ومــن مث الفســاد ) ‪:‬‬
‫‪ .1‬منها كثرة اخلبث ‪ ،‬قال تعاىل (وإذا أردان أن هنلك قرية أمران مرتفيها‬
‫فســقوا فيهــا ) ‪،‬أخــذاً بقــول مــن فســر أمـران مبعــى كثـران ‪ ،‬كمــا قــال صلــى هللا‬
‫عليــه وســلم خــر مــال العبــد خيــل مأمــورة أي كثــرة ‪،‬أمــا مــن فســرها جعلناهــم‬
‫أمـراء فــإن كثــرة اخلبــث تكــون بقــوة أتثــره ‪ .‬وهنــاك أقـوال أخــرى وهللا أعلــم‪.‬‬
‫والــذي جعلنــا أنخــذ هبــذا الـرأي هــو كثــرة تكـرار لفــظ الكثــرة يف القــرآن ‪،‬‬
‫فتجــده يقــول ( ولكــن كثـراً منهــم ) فــأن العــرة عــادة ابلسـواد واألكثــر أتثـراً ‪(.‬‬
‫راجــع تفســر املنــار ســورة املائــدة هنايــة اجلــزء الســادس)‬
‫‪ .1‬التفــاوت يف الــرزق فبعــد أن ذكــرت الســورة هــاك األمــم‪ ،‬قــال ‪:‬‬
‫مــن كان يريــد العاجلــة عجلنــا لــه فيهــا مــا نشــاء ‪ )..‬ويف املقابــل (و مــن أرد‬
‫اآلخــرة وســعى هلــا ســعيها فأولئــك كان ســعيهم مشــكوراً )‪ ،‬مث قــال ‪ :‬كال‬
‫منــد هــؤالء وهــؤالء مــن عطــاء ربــك ومــا كان عطــاء ربــك حمظــوراً انظــر كيــف‬
‫فضلنــا بعضهــم علــى بعــض ولآلخــرة أكــر درجــات وأكــر تفضيـاً ) فذكــر هــذا‬
‫التفاضــل يف الدنيــا‪ ،‬والتذكــر ابلتفاضــل ابآلخــرة ‪،‬مــن هــذا الســياق لــه داللــة‬
‫واضحــة يف ســبب اختيــار أي الطريقــن ‪.‬‬
‫هذا جيعلنا نفهم السياق كالتايل ‪...‬‬
‫‪225‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫إن التفاضــل يف الــرزق‪ ،‬ووجــود أغنيــاء مرتفــن‪ ،‬وفقـراء معدمــن ‪ ،‬يؤثــر يف‬
‫إرادة النــاس واختيارهــم فــإن اختــار اجملتمــع الدنيــا‪ ،‬وانتشــر الــرف والفســق كان‬
‫نـزاع والفســاد ‪..‬‬
‫‪ .1‬الن ـزاع وتضخيــم الــذات‪ ،‬قــال تعــاىل ‪( -:‬وقــول لعبــادي يقول ـوا الــي‬
‫هــي أحســن إن الشــيطان ينــزغ بينهــم إن الشــيطان كان لإلنســان عــدواً مبين ـاً‬
‫) ربكــم أعلــم بكــم إن يشــأ يرمحكــم أو إن يشــأ يعذبكــم ومــا أرســلناك عليهــم‬
‫وكيـاً وربــك أعلــم مبــن يف الســموات واألرض ولقــد فضلنــا بعــض النبيــن علــي‬
‫‪225‬‬ ‫بعــض وآتينــا داود زبــورا ) ‪.‬‬
‫وذكــر التفاضــل يف آخــر اآلايت وقولــه ربكــم أعلــم بكــم‪ ،‬مــن ســياق احلــث‬
‫علــى البعــد عــن الن ـزاع واختيــار اللفــظ احلســن ‪ ،‬جيعلنــا نفهــم أن التفاخــر‬
‫والرتائــي‪ ،‬ابلقــرب مــن هللا‪ ،‬وأهليــة الرمحــة‪ ،‬لفــرد مــن األفـراد‪ ،‬أو أمــة مــن األمــم‬
‫‪،‬هــو ســبب «النــزغ الشــيطاين»‪ ،‬و»التنــازع االنســاين»‪ ،‬فكمــا قــال اليهــود حنــن‬
‫أبنــاء هللا‪ ،‬قالــت النصــارى حنــن أبنــاء هللا‪ ،‬فاآليــة تريــد أن تبعــد هــذه املشــاعر‬
‫العدوانيــة‪ ،‬لتجعــل مــن هــذا التفــاوت ســنة رابنيــة ال دخــل للنــاس فيهــا ‪ ،‬وال‬
‫جيــب أن تكــون ســبباً يف الن ـزاع ‪.‬‬
‫و ذكــرت الســورة هــذا التفاضــل وأثــره يف الضــال علــى لســان إبليــس‬
‫كرمــت علــي )‪ ...‬وضــال املشــركني حيــث قال ـوا‬ ‫‪ (..‬قــال أرأيــت هــذا الــذي ّ‬
‫‪(..‬أبعــث هللا بشـراً رســوالً) ‪ .‬هــذا االســتغالل والتباغــض والتحاســد هــو ســبب‬
‫حتلــل األمــم والتنــازع بــن البشــر‪ ،‬مهمــا كانــت اآلايت والدالئــل علــى صــدق‬
‫النبــوءة أو الرســالة‪ ،‬قــال تعــاىل ‪ (:‬وخنوفهــم فمــا يزيدهــم إال طغيــاانً كب ـراً ‪).‬‬
‫ولعــل هــذا يوضــح لنــا األســاس للتغيــر ‪ .‬وهللا اعلــم ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪226‬‬

‫و يف ســورة احلــج نق ـرأ قولــه تعــاىل ‪( :‬ومــا أرســلنا مــن قبلــك مــن رســول‬
‫أو نــي إال إذا متــى ألقــى الشــيطان يف أمنيتــه فينســخ هللا مــا يلقــى الشــيطان‬
‫مث حيكــم هللا آايتــه وهللا عليــم حكيــم ‪ .‬ليجعــل مــا يلقــى الشــيطان فتنــة للذيــن‬
‫يف قلوهبــم مــرض والقاســية قلوهبــم وإن الظاملــن لفــي شــقاق بعيــد)(‪ . )52‬و‬
‫ليعلــم الذيــن أوتـوا العلــم أنــه احلــق مــن ربــك فيؤمنـوا بــه فتخبــت لــه قلوهبــم وإن‬
‫هللا هلــاد الذيــن امنـوا إيل صـراط مســتقيم وهــذه اآليــة مــن أكثــر اآلايت إشــكاالً‪،‬‬
‫فاخلــاف حوهلــا كبــر‪ ،‬وحيتــاج لرســالة خاصــة لشــرحها ولكــن إذا فهمناهــا يف‬
‫ضــوء اآلايت الســابقة ســيزول كل إشــكال ‪.‬‬
‫إذا مــا تصــوران مــا ينــزل علــى الرســول أو النــي ‪ ،‬يثــر الشــيطان حولــه‬
‫الشــبهات والشــكوك ‪ ،‬فــإذا حدثــت فتنــة ‪،‬أو أزمــة ‪ ،‬يبــدأ أتويــل أهــل الضــال‪،‬‬
‫واتبــاع املتشــابه ويثبــت آخــرون أمــام هــذه الفتنــة فينقســم اجملتمــع ‪،‬ليهتــدي‬
‫املهتــدون‪ ،‬أي يــزدادون هدايــة ‪،‬ويــزداد اآلخــرون ضــاالً ‪ .‬وعلــى هــذا فاهلدايــة‬
‫هنــا هدايــة التوفيــق ال هدايــة التصديــق ‪،‬كمــا ذكـران يف آيــة البقــرة ‪(..‬فأمــا الذيــن‬
‫آمن ـوا فيعلمــون أنــه احلــق مــن رهبــم‪ ،‬وأمــا الذيــن كفــروا فيقولــون مــاذا أراد هللا‬
‫هبــذا مث ـاً يضــل بــه كث ـراً ويهــدي بــه كث ـراً‪ ،)..‬وقــد ذكــرت ســورة الرعــد هــذا‬
‫الضــال وأســبابه ‪،‬و كذلــك ســورة اإلس ـراء‪ ،‬ومــا هــو إال التفــاوت الــذي يثــر‬
‫احلســد والنـزاع‪ ،‬فتختلــف التأويــات حيــال األزمــات ‪،‬وهــذا ظاهــر مــن اآلايت‬
‫معلــوم مــن التاريــخ ‪.‬‬
‫و هــذه اآليــة كافيــة يف بيــان ســنة التنــازع‪ ،‬وهنــاك مشــاهد كثــرة مــن الســرة‬
‫ذكــرت يف مواضــع يف ســورة التوبــة واألح ـزاب والقتــال وفتــح واحلج ـرات كلهــا‬
‫تعطــي صــور عمليــة هلــذه الفــن ‪ .‬ويف ســورة الرمحــن تكــرر قولــه تعــاىل (فبــأي‬
‫آالء ربكمــا تكــذابن ) إحــدى وثالثــن مــرة‪ ،‬ذكــر ثالثــة منهــا عقــب آايت‬
‫فيهــا عجائــب خلــق هللا وبدائــع صنيعــه ومبــدأ اخللــق ومعادهــم ؟‪ ،‬مث ســبعة‬
‫‪227‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫منهــا عقــب آايت فيهــا ذكــر النــار وشــدائدها ‪،‬علــى عــدد أبـواب جهنــم ‪،‬وبعــد‬
‫هــذه الســبعة مثانيــة يف وصــف اجلنتــن وأهلهــا علــى عــدد أب ـواب اجلنــة ومثانيــة‬
‫أخــرى بعدهــا للجنتــن اللتــن دوهنمــا‪ )...‬وإذا أتملنــا الســورة جنــده ســبحانه‬
‫ذكــر هــذا التقابــل املنتشــر يف رحــاب هــذا الكــون ‪،‬وذكــر بنعمــة املي ـزان الــذي‬
‫قامــت بــه الســموات واألرض ‪،‬والعــدل الــذي بــه خلقنــا وذكــر يف هــذا التقابــل‬
‫وهــذا التـوازن‪ ،‬تفــاوت درجــات العبــاد بــن اجلنــة والنــار ‪( .‬أمــا النــار فقــد ذكــر‬
‫عــذاب الكافريــن ‪،‬أمــا اجلنــة فقــد ذكــر تفاضــل اجلنتــن يف قولــه تعــاىل ( ومــن‬
‫دوهنمــا جنتــان )‪.‬‬
‫‪227‬‬
‫(قــال ابــن جريــج هــي أربــع جنــان ‪ :‬جنتــان منهمــا للســابقني املقربــن فيهمــا‬
‫مــن كل فاكهــة زوجــان وعينــان جتـراين وجنتــان ألصحــاب اليمــن فيهمــا فاكهــة‬
‫والنحــل ورمــان وفيهمــا عينــان نضاختــان ‪،‬وقــال ابــن زيــد ‪ :‬األوليــان مــن ذهــب‬
‫للمقربــن ‪،‬واألخـراين مــن ورق ألصحــاب اليمــن ) ‪.‬‬
‫قــال القرطــي (‪ -: )4‬وإيل هــذا ذهــب احلليمــي أبوعبــدهللا احلســن بــن‬
‫احلســن يف كتــاب( منهــاج الديــن ) لــه واحتــج ملــا روى ســعيد بــن جــر عــن‬
‫ابــن عبــاس ‪(،‬وملــن خــاف مقــام ربــه جنتــان ) إىل قولــه (مدهامتــان) قــال ‪:‬‬
‫هــااتن للمقربــن وهــااتن ألصحــاب اليمــن ‪،‬وعــن أيب موســى األشــعري حنــو‬
‫ذلــك ‪ .‬وملــا وصــف هللا اجلنتــن أشــار اىل الفــرق بينهمــا ‪ :‬فقــال يف األوليــن‬
‫(فيهمــا عينــان جت ـراين )ويف األخريــن (فيهمــا عينــان نضاختــان )أي ف ـواراتن‬
‫ابملــاء ‪،‬لكنهمــا ليســتا كاجلاريتــن ألن النضــخ دون اجلــري‪ ،‬وقــال (فيهمــا مــن‬
‫كل فاكهــة زوجــان ) معــروف وغريــب أو رطــب وايبــس‪ ،‬فهــو مل خيصــص‪،‬‬
‫ويف األخريــن (فيهمــا فاكهــة وخنــل ورمــان ) ومل يقــل مــن كل فاكهــة‪ ،‬وقــال‬
‫يف األوليــن (متكئــن علــى فــرش بطائنهــا مــن اســتربق ) وهــو الديبــاج‪ ،‬ويف‬
‫األخريــن (متكئــن علــى رفــرف خضــر وعبقــري حســان) قــال (رفــرف) هــو‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪228‬‬

‫كل ثوب عريض وقيل الوسائد )‪ ،‬والعبقري ثياب منقوش تبسيط‪ ،‬وال شك‬
‫أن الديبــاج أعلــى مــن الرشــى (أي الثــوب املنقــوش )‪.‬‬
‫وهنــاك تفــاوت آخــر حــن ذكــر يف املقربــن «قاص ـرات الطــرف » ويف‬
‫أصحــاب اليمــن «مقصــورات » قــال القرطــي يف تفســره «قاص ـرات قهــرن‬
‫أعينهــن علــي أزواجهــن » أمــا مقصــورات فمعناهــا حمبوســات حبــس صيانــه‬
‫وتكرمــة ‪ .‬وهنــاك مــن ذكــر أن املقصــورات أعلــى وأفضــل وأن ذكــر اجلنتــن‬
‫األوليــن علــى أهنمــا ألصحــاب اليمــن أو األخرييــن منهمــا للمقربــن علــي‬
‫اعتبــارات أخــرى‪ ،‬واملقصــود أن ذكــر اجلنــة والنــار‪ ،‬ومــا فيهمــا مــن تقابــل‪ ،‬مل‬
‫مينــع مــن التفاضــل والتفــاوت مــن اجل ـزاء‪ ،‬ومل ينــاف العــدل‪ ،‬وهكــذا نعلــم أن‬
‫التفــاوت ال يعــي الظلــم إمنــا احلكمــة يف إجيــاد املعادلــة الــي حتافــظ علــى هــذا‬
‫التفــاوت دون إاثرة ملشــاعر احلســد والتنافــس املرضــي الــذي يــؤدي إيل نـزاع‪،‬‬
‫لــذا ال جنــد يف اجلنــة حســداً وال تنازعـاً‪ ،‬حلكمــة هللا الباهــرة‪ ،‬وعدلــه العظيــم‪ ،‬يف‬
‫جـزاء عبــاده املطيعــن كل علــى حســب درجتــه‪ ،‬وعقابــه لعبــاده العاصيــن علــى‬
‫حســب عتوهــم و كفرهــم و قــد أرشــد ســبحانه إىل الطريــق الصحيــح للتعامــل‬
‫مــع هــذا التفــاوت فقــال ‪( :‬اي أيهــا النــاس إان جعلناكــم شــعوابً وقبائــل لتعارفـوا‬
‫) وذكــر يف ســورة املطففــن طريقــة أخــرى وهــي التســابق والتنافــس يف اخلــر‬
‫والطاعــة فقــال ‪( :‬ويف ذلــك فليتنافــس املتنافســون ) ‪.‬‬

‫شعاع من التاريخ‬
‫رأينا عند حديثنا عن ســنة اهلداية يف عرضنا التارخيي للســنة‪ ،‬أن األفكار‬
‫الــي تطلعــت للمســتقبل أثــرت يف مســار الشــعوب حبســب قرهبــا مــن مســار‬
‫التاريــخ وبعدهــا ‪ .‬ذلــك يف التاريــخ يف النبــوءات‪ ،‬يف مرحلــة الوحــي‪ ،‬ويف الدولــة‬
‫العباســية والفــرق اإلســامية‪ ،‬ويف املكســيك عنــد شــعوب املــااي‪ ،‬ويف قبائــل‬
‫‪229‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫أفريقيــا‪ ،‬ودولــة املوحديــن‪ ،‬وأفــكار ابــن خلــدون واأليديولوجيــات املختلفــة يف‬


‫العصــر احلديــث ‪.‬‬
‫و عنــد حديثنــا عــن ســنة التدافــع نظ ـران لتأثــر تلــك األفــكار يف خارطــة‬
‫العــامل والت ـوازن الــدويل ‪ ,‬رأينــا ذلــك يف أتثــر احلضــارات األساســية اإلســامية‬
‫واليهوديــة والنصرانيــة ‪ ,‬ويف تغــر مســرة الفتوحــات بــن الدولتــن األمويــة‬
‫والعباســية وكذلــك التحالــف األوريب ضــد الدولــة العثمانيــة والثــورة الفرنســية ‪.‬‬
‫أمــا اآلن يف ســنة التنــازع‪ ،‬فــإن الرتكيــز علــى حتلــل النظــم ومســار األمــم‬
‫وحتلــل أخــرى واهنيــار كامــل‬
‫بعــد هــذا التحلــل‪ ،‬ســنرى أن التشــابك بــن منــو أمــة‪229‬‬

‫حلضــارة مــن احلضــارات أمــر ليــس مــن الســهل تصــوره ‪ ،‬أو التحكــم فيــه لكننــا‬
‫هــذا التفكيــك يبــن أتثــر األفــكار يف ســنة اهلدايــة ‪ ,‬وت ـوازن القــوى يف ســنة‬
‫التدافــع ‪ ,‬والص ـراع يف ســنة التنــازع‪ ،‬نســعى لوضــع منــوذج كامــل‪ ،‬يبســط هــذه‬
‫الصــورة املعقــدة ويســاهم يف وضــع توقعــات ومؤشـرات وآليــات لفهــم املســتقبل‬
‫واحلاضــر ‪ .‬لــذا عندمــا نركــز علــى التفــاوت يف فهــم بعــض الفــن والقواصــم الــي‬
‫مــرت ابألمــة فــإن هــذا ســيظل حتليــا جزئيــا جيــب أن يفهــم يف ضــوء النمــوذج‬
‫الكامــل كمــا ســنعرضه بعــد هــذا التحليــل للســنن اخلمســة وربطهــا ابلوحــدة‬
‫القرآنيــة كمــا نراهــا ‪.‬‬

‫العواصم من القواصم ‪:‬‬


‫تعرضــت احلضــارة اإلســامية لعــدة حمــن نذكــر منهــا غيــاب الوحــي بعــد‬
‫وفــاة الرســول صلــى هللا عليــه وســلم‪ ،‬وكانــت مصيبــة عظيمــة‪ ،‬وخطب ـاً جل ـاً‪،‬‬
‫انطفــأت فيــه أنـوار املدينــة‪ ،‬ودخــل هبــا النــاس يف حــرة عظيمــة‪ ،‬ولكــن هللا عصــم‬
‫هــذه األمــة مــن االنقســام و التفــرق‪ ،‬فوقــف ســيدان أبوبكــر يذكــر املســلمني‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪230‬‬

‫ابملعــاين األساســية هلــذه األمــة ( مــن كان يعبــد حممــداً فــإن حممــداً قــد مــات ومــن‬
‫كان يعبــد هللا فــإن هللا حــي ال ميــوت ) ‪.‬‬
‫و احلمــد هلل أن األمــة مل تنقســم بعــد الرســول صلــى هللا عليــه وســلم‪ ،‬ومل‬
‫حيــدث نزاعـاً يف مســألة اخلالفــة وقــد كتــب الدكتــور مجــال عبــد اهلــادي كتــاابً يف‬
‫املوضــوع بعن ـوان ( اســتخالف أيب بكــر الصديــق ) فنــد فيــه آراء املستشــرقني‬
‫الــي تصــر علــى حصــول ص ـراع سياســي حقيقــي ‪(.‬طبعــة دار الوفــاء للنشــر‬
‫والتوزيــع املنصــورة) ‪ .‬وكان التأثــر احلقيقــي لوفــاة الرســول صلــى هللا عليــه وســلم‬
‫بظهــور كذابــن ّادع ـوا النبــوءة ‪ ,‬وارتــدت أحيــاء كثــرة مــن األع ـراب ‪ ،‬وجنــم‬
‫النفاق ابملدينة ‪ ،‬و إحناز إىل مســيلمة الكذاب بنو حنيفة وخلق كثري ابليمامة‬
‫‪ ،‬والتفــت علــى طليحــة األســدي بنــو أســد وطــئ ‪ ،‬وبشــر كثــر أيض ـاً ادع ـوا‬
‫النبــوءة كمــا ادعاهــا مســيلمة الكــذاب‪ ،‬وعظــم اخلطــب واشــتدت احلــال‪ ،‬ونفــذ‬
‫الصديــق جيــش أســامة‪ ،‬فقــل اجلنــد عنــد الصديــق ‪ ،‬فطمعــت كثــر مــن األعـراب‬
‫يف املدينــة ‪ ،‬هنــا حصــل االنقســام يف ال ـرأي حــول هــذا احلــادث ‪ ،‬فاخلليفــة‬
‫كان يــرى قتــال أهــل الــردة ‪ .‬وعمــر بــن اخلطــاب ومجهــور الصحابــة‪ ،‬يــرى أن‬
‫يتألــف القــوم حــى يتمكــن اإلســام مــن قلوهبــم ‪ ،‬ولكــن كان لبعــد نظــر اخلليفــة‬
‫الصديــق وتوافــق اآلراء أن ينقــذ األمــة مــن هــذه القاصمــة ‪.‬‬
‫بعــد ذلــك كانــت خالفــة عمــر رضــي هللا عنــه وهــا هــو حذيفــة يبــن لنــا‬
‫هــذه املراحــل التارخييــة الــي مــرت هبــا األمــة ‪ « ,‬روى ابــن ماجــه عــن شــقيق‬
‫عــن حذيفــة قــال ‪ :‬كنــا جلوس ـاً عنــد عمــر بــن اخلطــاب فقــال ‪ :‬أيكــم حيفــظ‬
‫حديــث رســول هللا يف الفتنــة ؟ قــال حذيفــة ‪ :‬فقلــت أان‪ ،‬فقــال إنــك جلــريء‪،‬‬
‫قــال كيــف مسعتــه يقــول ؟ قلــت مسعتــه يقــول ‪ :‬فتنــة الرجــل يف أهلــه ومالــه وجــاره‬
‫يكفرهــا الصــاة والصيــام والصدقــة واألمــر ابملعــروف والنهــي عــن املنكــر ‪ ,‬فقــال‬
‫عمــر ليــس عــن هــذه أســأل إمنــا أريــد الــي متــوج كمــوج البحــر‪ ،‬قــال مالــك وهلــا‬
‫‪231‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫اي أمــر املؤمنــن إن بينــك وبينهــا اباب مغلق ـاً‪ ،‬قــال يفتــح أم يكســر ؟ قلــت ‪:‬‬
‫بــل يكســر قــال‪ :‬ذلــك أجــدر أن ال يغلــق قلــت حلذيفــة أكان عمــر يعلــم مــن‬
‫البــاب قــال‪ :‬نعــم كمــا يعلــم أن دون غــد الليلــة ‪ ,‬ذلــك أين حدثتــه حديثـاً ليــس‬
‫ابألغاليــط ‪ ,‬قــال فهبنــا أن نســأله مــن البــاب ‪ ,‬فقلنــا ملســروق ‪ :‬ســله فســأله‬
‫‪ ,‬فقــال ‪ :‬هــو عمــر (أخرجــه البخــاري ومســلم ) ‪ .‬لقــد ســارت األمــة مبعيــار‬
‫التقــوى الــذي بــدأت معاملــه ظاهــرة يف االنتقــال الســلمي للســلطة بــن أيب بكــر‬
‫وعمــر رضــي هللا عنهمــا‪ ،‬و لكــن القبائــل الــي ارتــدت مل تتشــرب هــذا املعيــار‬
‫فســرعان مــا ارتــدت‪ ،‬وشــكلت معارضــة خطــرة‪ ،‬وانقــاابً خط ـراً علــى القيــم‬
‫‪231‬‬
‫واألفــكار الــي جتــذرت عــر جهــاد طويــل و كفــاح مريــر أرادت أن تقتطــف مثرتــه‬
‫دون أدىن اســتحقاق أو ميــزة ‪ .‬هــذا يعــي أن الشــرعية كانــت قائمــة سـواء مــن‬
‫انحية اختيار الناس بعهد البيعة أو من الســر الذاتية لســيدان أيب بكر وعمر ‪.‬‬
‫ولكــن يف خالفــة عمــر رضــي هللا عنــه انتهــج سياســة فيهــا نــوع تقســيم‬
‫للمجتمــع خاصــة عنــد توزيعــه للعائــدات الــي تــرد إىل بيــت املــال مــن الفتوحــات‬
‫الــي انتشــرت يف زمنــه فالقاعــدة الــي اعتمــدت مقياسـاً لتوزيــع العطــاء فكانــت‬
‫متصلــة ابلعقيــدة أي األســبقية واجلهــاد ( مــن دولــة عمــر إىل دولــة عبدامللــك‬
‫د‪.‬إبراهيــم بيضــون دار النهضــة العربيــة ص‪ . )88‬وعمــر مــن خــال مواقفــه‬
‫العادلــة كان نصـراً للمســتضعفني والطبقــة احملرومــة والشـواهد علــى ذلــك كثــرة‬
‫معروفــة ‪ .‬هــذه السياســية مل تــرق لكثــر مــن طبقــات اجملتمــع الــذي اتســع اتســاعاُ‬
‫كبـراً يف مصــر والعـراق والشــام وكانــت النتيجــة هــو ثــورة مضــادة انتهــت بكســر‬
‫البــاب ودخــول تيــارات مــن الفــن الــي صــارت متــوج كمــوج البحــر ‪.‬‬
‫ال ميكــن ابلطبــع تفســر هــذه الفــرة فقــط مــن خــال هــذا التفــاوت يف‬
‫اجملتمــع الــذي صــورانه قبــل قليــل لكــن كمــا نذكــر دائمـاً‪ ،‬هــذا جــزء مــن الصــورة‬
‫فقــط فهنــاك مشــاهد أخــرى ينبغــي أن ترســم لفهــم الصــورة الكاملــة كمــا ســنأيت‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪232‬‬

‫عليــه يف هنايــة البحــث ‪ .‬ويف خالفــة عثمــان رضــي هللا عنــه شــعر رضــي هللا عنــه‬
‫أبن تغـرات كثــرة طـرأت علــى اجملتمــع‪ ،‬فــإن الصحابــة أصبحـوا موضــع حســد‬
‫مــن القبائــل الــي دخلــت اإلســام مؤخ ـراً ‪ .‬لــذا جنــده يعــزل بعــض الصحابــة‬
‫عــن الواليــة كأيب موســى األشــعري عــن البصــرة و عمــار بــن ايســر عــن الكوفــة‬
‫واملغــرة بــن شــعبة عــن الكوفــة أيض ـاً‪ ،‬وعبــد هللا بــن مســعود رضــي هللا عنهــم‬
‫أمجعــن ‪.‬‬
‫و هــذه سياســة واضحــة الداللــة أبنــه أراد أن خيفــف مــن غلـواء الشــحناء‬
‫الــي اثرت يف نفــوس البعــض مــن أهــل البلــدان املفتوحــة كالعـراق مثـاً يف البصــرة‬
‫والكوفــة‪ ،‬أي أنــه أراد أن حيــدث حـراكاُ اجتماعيــا مفــاده أن تتأخــر ‪.‬‬
‫مرتبــة الصحابــة ودرجتهــم يف اجملتمــع حــى ال تثــار النفــوس مــن اإلرث‬
‫التارخيــي واجلهــادي هلــؤالء الصحابــة الك ـرام ‪ ،‬ومــا موقفــه هــذا إال كمــا قــال‬
‫يعقوب عليه السالم ( ال تقصص رؤايك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً‪)...‬‬
‫‪ .‬يدلــك علــى ذلــك عزلــه أليب موســى األشــعري رضــي هللا عنــه وقصتــه‪ -:‬أنــه‬
‫كتــب إىل عمــر يف أايمــه فيســأله املــدد فأمــده جبنــد الكوفــة ‪ .‬فأمرهــم أبــو موســى‬
‫قبــل قدومهــم عليــه برامهرمــز فذهب ـوا إليهــا وفتحوهــا و ســبوا نســاءها وذراريهــا‬
‫فحمدهــم علــى ذلــك ‪ ،‬وكــره نســبة الفتــح إىل جنــد الكوفــة دون جنــد البصــرة ‪،‬‬
‫فقــال هلــم ‪ :‬إين كنــت قــد أعطيتهــم األمــان وأجليتهــم ســتة أشــهر فرعـوا عليهــم ‪,‬‬
‫فوقــع اخلــاف يف ذلــك بــن اجلنــد ‪.......‬هــذا اخلــاف بــن أيب موســى وأهــل‬
‫البصــرة اســتمر خلالفــة عثمــان فشــكوا شــح أيب موســى‪ ،‬وشــكا جنــد الكوفــة مــا‬
‫نقمـوا عليــه فحشــي ممــاألة الفريقــن علــى أيب موســى بعزلــه عــن البصــرة ووالهــا‬
‫عبــدهللا بــن عامــر بــن كريــز‪ ،‬وكان مــن ســادات قريــش ‪ (....‬ال ـرايض النضــره‬
‫ص ‪89-88‬ج‪)3‬‬
‫‪233‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫و الظاهــر أن عثمــان رضــي هللا عنــه كان يعمــل ذلــك عــن وعــي وإدراك‬
‫حــن قــال ( إن عمــر كان يعمــل برأيــه وال أيلــو عــن اخلــر‪ ،‬وأان أعمــل برأيــي‬
‫وال ألــو عــن اخلــر وقــد أوصــاين هللا بــذوي ق ـرابي وأان مســتوص هبــم أبرهــم (‬
‫يتفجــر الوضــع وعملــه علــى توحيــد األمــة‬ ‫ج ‪ 3‬ص‪. ) 83‬ورغــم حرصــه أالّ ّ‬
‫حــن مجــع القــرآن وحــرق اللغــات الســبع الــي نــزل هبــا القــرآن عــدا لغــة قريــش ‪،‬‬
‫وأتلــف النــاس ابملــال مــا اســتطاع إال أن توتــر الوضــع ووجــد الفتيــل الــذي اشــعل‬
‫الفتنــة وكســر ابهبــا ‪.‬‬
‫‪233‬ال تتناســب مــع عواقبهــا‪،‬‬ ‫هــذا الفتيــل الــذي قســم األمــة كان مــن حادثــة‬
‫فقــد وجــد غــام اســود معــه كتــاب زعمـوا أن اخلليفــة كتبــه البــن أيب الســرح أن‬
‫«إذا أاتك فــان وفــان فاحتــل لقتلهــم وأبطــل كتابــه وقــف علــى عملــك حــى‬
‫أيتيــك أمــري إن شــاء هللا »( ‪ 64‬ج‪ )3‬وكان بعــد ذلــك مــا كان مــن انقســام‬
‫األمــة بعــد مقتــل عثمــان رضــي هللا عنــه ‪ .‬وصــدق عبــد هللا بــن ســام رضــي هللا‬
‫عنــه حــن قــال ملــن يبغــي قتــل عثمــان « هللا هللا يف هــذا الرجــل أن تقتلــوه فــوهللا‬
‫إن قتلتمــوه لتطــرد ّن جريانكــم املالئكــة‪ ،‬ولتســلن ســيف هللا املغمــود فيكــم فــا‬
‫يغمــد إىل يــوم القيامــة !!‪.‬‬
‫بعــد أن بويــع علــي رضــي هللا عنــه ( ‪35‬ه‪-40‬ه) اختلــف الصحابــة‬
‫يف شــأن الــوالة الذيــن والهــم عثمــان رضــي هللا عنــه ‪ ,‬وعندمــا طلــب أوليــاء‬
‫عثمــان بدمــه خــاف رضــي هللا عنــه مــن الفتنــة الــي ســتصحب ذلــك فإنــه لــو‬
‫تعاطــى القــود مــن تلــك القبائــل الــي خرجــت علــى عثمــان‪ ،‬لتعصــب هلــم قبائــل‬
‫وصــارت ح ـرابُ أخــرى ‪.‬‬
‫هــااتن الفتنتــان‪ ،‬أو االختبــاران واجهتــا اجملتمــع املســلم بعــد خالفــة علــي‪،‬‬
‫وابلطبــع ســيتأثر عقــد اجملتمــع ابلرضــى ابلســلطة احلاكمــة مبوقــف األخــرة مــن‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪234‬‬

‫هــذه القضــااي و مــآل ذلــك يعــر عــن قــوة شــرعية الســلطة احلاكمــة ومــدى‬
‫التوافــق اجملتمعــي وحــول هويــة اجملتمــع ‪ ،‬والقيــم الــي بــي عليهــا ومــا يصحــب‬
‫ذلــك مــن فــن وحــروب هــو نتــاج حل ـراك جمتمعــي تكــون الدوافــع النفســية فيــه‬
‫هــي األســاس يف التغيــر ‪.‬‬
‫اختــار علــي رضــي هللا عنــه أن يعــزل الــوالة الذيــن والهــم عثمــان رضــي هللا‬
‫عنــه‪ ،‬رغــم مشــورة املغــرة بــن شــعبة لــه ‪ ,‬قــال ابــن خلــدون « وهــذا علــي أشــار‬
‫عليــه املغــرة ألول واليتــه ابســتبقاء الزبــر ومعاويــة وطلحــة علــى أعماهلــم حــى‬
‫جيتمــع النــاس علــى «بيعتــه» وتتفــق الكلمــة ولــه بعــد ذلــك مــا شــاء مــن أمــره‬
‫وكان ذلــك مــن سياســية امللــك فــأىب فـراراُ مــن الغــش الــذي ينــايف اإلســام وغــدا‬
‫عليــه املغــرة مــن الغــداة فقــال ‪ :‬لقــد اشــرت عليــك ابألمــس مــا أشــرت مث عــدت‬
‫إىل نظــري فعلمــت أنــه ليــس مــن احلــق والنصيحــة و أن احلــق فيمــا رأيتــه أنــت‪،‬‬
‫فقــال علــى ‪ :‬ال وهللا بــل أعلــم أنــك نصحتــي ابألمــس وغششــتين اليــوم و لكــن‬
‫منعــي ممــا أشــرت بــه زائــد احلــق « وهكــذا كانــت أحواهلــم يف إصــاح دينهــم‬
‫بفســاد دنياهــم ‪ (».....‬املقدمــة ص‪ 191‬ط‪ .‬دار اهلــال ) ‪ .‬ويظهــر مــن‬
‫ذلــك أن عليـاً حــاول أن يعــود ابألمــة إىل مــا قبــل عثمــان رضــي هللا عنــه فــكان‬
‫ذلــك احلـراك االجتماعــي اخلطــر الــذي ظهــرت آاثره يف معركــة اجلمــل وصفــن‬
‫وظهــور اخل ـوارج ‪ .‬انقســمت األمــة بعــد مقتــل علــي رضــي هللا عنــه حــول فهــم‬
‫مــا جــرى ومــن هــو علــى احلــق كل حســب وجهــة نظــره‪ ،‬متامـاً كمــا بــن القــرآن‬
‫كيــف تنقســم األمــم عندمــا ختتلــف يف تفســر األحــداث وينفــرط عقــد اجملتمــع‬
‫ويتفــرق الديــن وتنشــب احلــروب وينتشــر الفســاد ‪.‬‬
‫هــذه احلــروب ظهــرت يف شــكل ثــورات خمتلفــة صاحبــت الدولــة األمويــة‬
‫كثــورة احلســن الــي مثلــت االجتــاه اإلســامي الــذي يدافــع عــن النمــوذج األول‪،‬‬
‫وحركــة ابــن الزبــر الــي اختــذت مــن مكــة مرك ـزاً هلــا ‪ ،‬واملختــار الثقفــي الــذي‬
‫‪235‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫قــاد حركــة التشــيع يف الكوفــة وثورتــه املشــهورة ‪ ،‬وحــركات اخل ـوارج كالصفريــة‬
‫واألزارقــة‪ ،‬وثــورات امل ـوايل الذيــن وجــدوا يف الفــرق األخــرى كالشــيعة ‪ ،‬فرص ـةً‬
‫هلــم يف املســاواة مــع العناصــر العربيــة األخــرى ‪ .‬االنقســام الــذي أحدثــه مقتــل‬
‫عثمــان رضــي هللا عنــه وأفــرز هــذه االجتاهــات ‪ ،‬أثــر يف تركيبــة اجملتمــع املســلم‬
‫وذلــك مــن خــال عناصــر ثالثــة ‪:‬‬
‫• •تبدل الوالء من والء عقائدي فكري إىل والء طائفي ‪.‬‬
‫• •نزاعات وانقسامات تظهر يف صورة فرق إسالمية خمتلفةكتب عنها الكثري ‪.‬‬
‫‪235‬‬
‫• •الفساد الذي أثبته التاريخ على مدى األصعدة ‪.‬‬
‫هــذه العناصــر هــي العناصــر املكونــة لســنة التنــازع‪ ،‬وحدثــت تبع ـاً لتبــدل‬
‫املعيــار الــذي علــى أساســه تفــاوت النــاس فمــن معيــار التقــوى واجلهــاد إىل‬
‫معيــار القبيلــة والطائفيــة والعــرق ‪ .‬هــذا األمــر أثــر يف نســبة التفــاوت داخــل‬
‫اجملتمــع‪ ،‬األمــر الــذي انعكــس علــى اجلانــب النفســي‪ ،‬وانتشــار احلــذر والرتبــص‪،‬‬
‫والتشــيع واحلــروب‪ ،‬واجلانــب االقتصــادي الــذي بــرز يف معاملــة امل ـوايل مــن‬
‫املســلمني وفرض اخلراج واجلزية عليهم ‪ ,‬يف خلط عجيب بني الرؤية السياســية‬
‫واألحــكام الشــرعية‪ ،‬واجلانــب االجتماعــي حيــث عمــل معاويــة رضــي هللا عنــه‬
‫علــى إحــداث ت ـوازن بــن القبائــل املختلفــة‪ ،‬ومنــا الشــعور القومــي يف الدولــة‬
‫ككل‪ ،‬ويف اجلانــب السياســي متثــل يف اعتمــاد النظــام امللكــي الوراثــي‪ ،‬ويف‬
‫اجملــال الثقــايف بــرزت مســالة اخلالفــة والشــعوبية الــي كانــت إف ـرازاً مــن إف ـرازات‬
‫العصبيــة الــي بــرزت يف الدولــة األمويــة ‪.‬‬

‫أغيلمة قريش ‪:‬‬


‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪236‬‬

‫روي عــن أيب هريــرة قولــه عــن الصــادق املصــدوق قولــه ( هــاك أمــي علــي‬
‫يد أغيلمة من قريش ) ( رواه البخاري ) قال القرطيب « وكأهنم وهللا أعلم يزيد‬
‫بــن معاويــة ‪ ،‬وعبيــد هللا بــن زايد ‪ ،‬ومــن تنــزل منزلتهــم مــن أحــداث ملــوك بــي‬
‫أميــة » التذكــرة ص ‪ . 643‬وبعــد أن ســقطت الدولــة األمويــة وبــرزت الدعــوة‬
‫العباســية كمنقــذ وأمــل يف املســتقبل ابســتخدام بعــض األحاديــث وال ــتأويالت‬
‫لتصويــر نبــوءة أصحــاب ال ـراايت كان لتلــك النشــأة أتثريهــا يف اتريــخ الدولــة‬
‫العباســية وهــو االنفتــاح علــى اآلخــر مــن الفــرس والــروم واهلنــود وامل ـوايل » ‪« .‬‬
‫ومــن زواج العــرب بغــر العربيــات نشــأت اخلؤولــة العجميــة يف مقابــل العمومــة‬
‫العربيــة مث أضيــف إىل ذلــك ازدايد عــدد املـوايل العــرب عنهــم فــرزت الشــعوبية‬
‫الــي بــدأت ابلقــول ابلتســوية بــن العــرب وغريهــم ممــن مجــع اإلســام بينهــم »‬
‫( اتريــخ الفكــر العــريب ص‪ « .)242‬وكان مــن املظاهــر البــارزة يف العصــر‬
‫العباســي نشــوء طبقــة الرقيــق واجل ـواري » وكان ـوا ينالــون حظهــم مــن التعليــم‬
‫والثقافــة وكانــت أمهــات األوالد مــن اجل ـواري تنــال مــن االهتمــام مــا ال تنــال‬
‫الزوجــة احلــرة « ‪ ,‬هــذه الطبقــة مزجــت الــدم العــريب بــدم غــر عــريب فنتــج مــن‬
‫هــذا مزيــج حضــارة وثقافــة انفعتــان إىل جانــب مــا كان لذلــك مــن املســاوئ‬
‫الــي انءت هبــا احليــاة العباســية حقبــة طويلــة مــن الزمــن ( اتريــخ الفكــر العــريب‬
‫ص ‪. )242‬‬
‫و ســرعان مــا انتشــرت االنقســامات داخــل الدولــة العباســية ونشــأت‬
‫الدولــة العباســية‪ ،‬ومل يكــن هنــاك مســاع لــآراء الــي تســعى لتوحيــد اخلالفــة‬
‫وبقائهــا كقــوة وامرباطوريــة واحــدة‪ ،‬رمبــا لالنفصــال الــذي حــدث بــن أهــل‬
‫ال ـرأي والش ـريعة كمــا قــال ابــن خلــدون ( ومــا انقــرض شــأن اخلالفــة وطورهــا‬
‫وصــار امللــك كلــه ملــكاً وســلطاانً صــارت اخلطــط الدينيــة بعيــده عنــه ‪)...‬‬
‫وعندمــا حتــاول طبقــة مــن العلمــاء أن تؤثــر يف املســار السياســي فإهنــا تواجــه‬
‫‪237‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫وتعــذب وتقصــل ‪ ،‬وهكــذا انتشــرت األخطــاء واآلراء غــر الصائبــة الــي أدت‬
‫إىل انقســامات ومســارات خمتلفــة بعــدت ابألمــة عــن جــادة الطريــق ‪ .‬ســنذكر‬
‫اآلن كيــف حــدث أن انتشــرت حادثــة ( أو مثــل ) ختتلــف عليــه األمــة وكيــف‬
‫يقصــي أهــل احلكمــة عــن صناعــة القـرار ومــا يتبــع ذلــك مــن انقســام وفســاد ‪.‬‬

‫حمنة خلق القرآن ‪:‬‬


‫مــن ذلــك مثـاً مــا حــدث يف أايم املنصــور مــن صداقــة بينــه وبــن عمــرو‬
‫‪237‬ـدي‪ .‬وبــدأ نفــوذ املعتزلــة‬
‫بــن عبيــد مــن املعتزلــة وكذلــك يف عهــد اهلــادي واملهـ‬
‫يظهــر بعــد فتنــة األمــن واملأمــون حيــث قتــل األمــن يف ســنة ( ‪198‬ه) وأصبــح‬
‫املأمــون اخلليفــة الوحيــد ‪ .‬اندفــع املأمــون يف تيــار االعت ـزال وصــار يدافــع عنــه‬
‫فكانت تلك فتنة قســمت األمة ‪ .‬برز هذا االنقســام ابالختبارات اليت أجراها‬
‫املأمــون للفقهــاء واملشــايخ يف الدولــة ‪ ,‬فقــد كتــب إىل صاحــب الشــرطة يف‬
‫بغــداد والرقــة أيض ـاً أبن ميتحــن الفقهــاء واملشــايخ وأهــل احلديــث فمــن مل يقــر‬
‫خبلــق القــرآن وجــب أن تبطــل شــهادته‪ ،‬وأخــذ اســحاق بــن إبراهيــم نف ـراً مــن‬
‫كبــار الفقهــاء و فيهــم األمــام أمحــد بــن حنبــل فامتحنهــم وعذهبــم حــى أقــروا‬
‫أبن القــرآن خملــوق إال ابــن حنبــل فقــد عــذب وخلعــت يــده وســجن ومل يقــر‬
‫بذلــك « ( اتريــخ الفكــر العــريب ص‪ .) 290‬والشــك أن دعــوى خلــق القــرآن‬
‫ليســت جمــرد مســألة فلســفية بــل هــي تصــور جديــد وثقافــة جديــدة امتُحنــت بــه‬
‫الدعــوة العباســية فهــي تتــدرج مــن خلــق القــرآن إىل القــول بفنائــه ومــا جنــده يف‬
‫مذهبهــم مــن نفــي القــدر الســابق و مــا يتعلــق بذلــك مــن نفــي اإلمامــة وكوهنــا يف‬
‫قريــش ‪ .‬هــذه املنظومــة الفكريــة كادت أن تعصــف ابلدعــوة العباســية القائمــة‬
‫علــى مفاهيــم خمالفــة هلــذه املنظومــة اســتمدت منهــا شــرعيتها‪ ،‬واســتطاع املتــوكل‬
‫ابــن املعتصــم ســنة ‪232‬ه أن يبطــل االمتحــان وهنــى عــن اجلــدل يف القــرآن ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪238‬‬

‫و يف املغــرب العــريب جنــد كذلــك قيــام دويــات خمتلفــة ففــي املغــرب األدين‬
‫ابلقــروان‪ ،‬قامــت دولــة األغالبــة ‪ ,‬ويف املغــرب األوســط بتاهــرت قامــت دولــة‬
‫الرســتميني‪ ،‬ويف املغــرب األقصــى قامــت دولــة بــي املــدرار يف نكســور والريــف‬
‫الغــريب قامــت دولــة بــي صــاحل بــن منصوراحلمــري‪ ،‬ويف شــالة بتامســنا قامــت‬
‫دولــة بــي صــاحل بــن طريــف الربغواطــي « ‪ .‬واحلــدث األبــرز يف املغــرب هــو قيــام‬
‫دولــة الفاطميــن‪ ،‬وال شــك أنــه مشــهد مــن مشــاهد االنقســام الــذي حــدث‬
‫يف األمــة اختلطــت فيــه الشــرعية السياســية ابملفاهيــم الدينيــة وتنازعــت املؤسســة‬
‫الدينيــة والسياســية األمــر ‪.‬‬
‫يقــول ابــن األثــر « املعــز بــن ابديــس‪ ،‬كان ماشــياً يف القــروان والنــاس‬
‫يســلمون ويدعــون لــه‪ ،‬فاجتــاز مجاعــة كانــت هنــاك فقيــل لــه هــؤالء رافضــة‬
‫يســبون أيب بكر و عمر‪ ،‬فقال املعز –رضي هللا عن أيب بكر وعمر فانصرفت‬
‫العامــة مــن فورهــا إىل درب القلــى ابلقــروان وهــو موضــع جيتمــع فيــه الشــيعة‬
‫مــن كان يســكن فيــه منهــم » وذكــر ابــن عــذارى أن املعــز بــن ابديــس تتلمــذ‬
‫علــى وزيــره أيب احلســن ابــن أيب الرجــال وكان ورعـاً زاهــداً‪ ،‬فعلمــه وأدبــه‪ ،‬ودلــه‬
‫علــى مذهــب مالــك‪ ،‬وعلــى الســنة واجلماعــة ‪ ،‬و الشــيعة ال يعلمــون ذلــك‬
‫وال أهــل القــروان « إىل أن أعلــن ذلــك واجتمــع حولــه النــاس ضــد الرافضــة‬
‫«فقتــل منهــم مــا ينيــف عــن الثالثــة آالف ( ابــن خلــدون ج ‪ , 6‬وابــن عــذارى‬
‫ص ‪ .)395‬هكــذا هــي مواطــن النـزاع تنتظــر مــن يشــعل فتيلهــا‪ ،‬كمــا حــدث‬
‫يف ثــورة أيب يزيــد بــن خملــد بــن كيــداد اليفــرين املعــروف بصاحــب احلمــار ســنة‬
‫‪366‬ه واســتغرقت ثورتــه ‪ 25‬ســنة ( يف اتريــخ املغــرب الكبــر ‪ 18‬ســنة )‪،‬‬
‫وكذلــك يف الفتنــة الكوندريــة الــي بــدأت خبطبــة مجعــة عندمــا أوحــي الكنــدري‬
‫وزيــر طغــر ليــك الســلجوقي الســلطان آنــذاك أن يلعــن كل خــارج عــن الديــن‬
‫ولعن األشــاعرة‪ ،‬فســرعان ما اضطرب األمر‪ ،‬واســتطاع الكندري أن يتحصل‬
‫‪239‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫علــى أمــر مــن الســلطان ابلقبــض علــى الرئيــس الف ـرايت وأيب القاســم القشــري‬
‫وإمــام احلرمــن وأيب ســهل بــن املوفــق و نفيهــم ومنعهــم مــن احملافــل ‪.‬‬
‫و قــد جزعــت البــاد االســامية مــن أقصاهــا إىل أقصاهــا هلــذه الفتنــة وملــا‬
‫أصــاب أهــل الســنة الــي عمــت علمــاء األمــة وأئمتهــا حــى خــرج أربعمائــة قــاض‬
‫مــن قضــاة املســلمني مــن بالدهــم بســبب هــذه الواقعــة ومجعهــم موســم احلــج‪،‬‬
‫يتدارســون األمــر فيمــا بينهــم ‪ ،‬ويشــهد لض ـراوة هــذه احملنــة رســالة القشــري‬
‫املســماة ( شــكاية أهــل الســنة حبكايــة مــا انهلــم مــن احملنــة )‪ .‬وقــد بعــث هبــذه‬
‫‪239‬ريــح الفتنــة إال بعــد مقتــل‬
‫الرســالة إىل البــاد اإلســامية يســتنجد أهلهــا ومل هتــدأ‬
‫الكنــدري وبعــد ظهــور نظــام امللــك حيــث اســتقرت األوضــاع وأطمــأن أهــل‬
‫الســنة واجلماعــة (‪ . )5‬واحلــدث األبــرز هــو االنقســامات الــي انتهــت بغــزو‬
‫التتــار هنايــة اخلالفــة العباســية (‪ . )6‬واحلديــث طويــل عــن هــذه االنقســامات‬
‫و هــو واضــح ذك ـران مــا حيتملــه املقــام ومــا يــدل علــى ســنة التنــازع والفــن الــي‬
‫تواجــه اجملتمــع وكيــف ينفــرط عقــد شــرعية الســلطة احلاكمــة ويبــدأ االنقســام و‬
‫وتنشــب احلــروب ‪.‬‬

‫الدول املمزقة ‪:‬‬


‫من املهم أن نتذكر هنا كيف تتغري الشــرعية ( أو اهلوية اجلامعة أو الوالء‬
‫داخــل اجملتمــع ) بوجــود حـوادث «بســيطة «وطارئــة » لكنهــا تعــر عــن سلســلة‬
‫مــن القـرارات اخلاطئــة لتنتهــي بتمــزق الدولــة وانتشــار الفســاد أبنواعــه ‪.‬العالقــة‬
‫بــن حتلــل الدولــة و التفــاوت وطبقيــة اجملتمــع كانــت أســاس النظريــة الــي طرحهــا‬
‫ماركــس كمــا عرضناهــا يف الفصــل األول مــن هــذا الكتــاب ‪ .‬لــذا حنــن هنــا ال‬
‫نريــد أن ندلــل علــى وجــود هــذه الطبقيــة فهــذا أمــر مقــرر ‪ ,‬لكــن مــا نريــد أن‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪240‬‬

‫نوضحــه هــو أن منيــز املشــهد التارخيــي الــذي أيخــذ تعبــر الفتنــة يف القــرآن أو‬
‫األزمــة يف الواقــع املعاصــر ‪.‬‬
‫واألزمــة كمــا نطرحهــا هنــا تبــدأ مــن حــدث «بســيط» و «طــارئ» كمــا‬
‫عــر بعــض املؤرخــن يف أحــداث شــرق أورواب عــام ‪ ،1989‬وتنتهــي بص ـراع‬
‫طبقــي وفســاد مــن انقــاابت وحــروب أهليــة وصراعــات طائفيــة ‪ (.‬انظــر هنايــة‬
‫التاريــخ لعــرض هــذه األحــداث الطارئــة كمــا ذكرهــا صاحــب الكتــاب ‪ .‬مرجــع‬
‫ســابق) لــذا فاجلدليــة التارخييــة لــن تصلــح لتفســر اتريــخ العــامل إمنــا هــي مشــهد‬
‫مــن املشــاهد التارخييــة الــي تشــكل الصــورة الكاملــة للوحــة التاريــخ ‪ .‬و األمــر‬
‫الثاين الذي حيتاج منا إىل شــيء من العمق و هو البعد االقتصادي يف مشــهد‬
‫التفــاوت وعالقتــه حبلــول مشــاكل التنميــة خاصــة بعــد جتــاوز علــم االقتصــاد‬
‫لثنائيــة الدولــة والقطــاع اخلــاص ‪ .‬والظاهــر أن حمــاوالت اإلصــاح الــي شــهدهتا‬
‫دول كروســيا القيصــر وتركيــا أاتتــورك ومكســيك ســاليناس كانــت تــدل علــى‬
‫الكيفيــة الــي تتمــزق هبــا األمــة مــع تعاظــم التظــامل االجتماعــي ‪ .‬وتبــدو جتــارب‬
‫كالسويد و النرويج ( ‪ ) Nordic model‬انجحة يف التغلب على اآلاثر‬
‫الســيئة للطبقيــة ‪.‬‬
‫يف روســيا مبجــيء بيــر العظيــم (‪ )1725-1869‬وحماوالتــه االنفتــاح‬
‫علــى الغــرب قســم اجملتمــع حــول هــذا االنفتــاح‪ ،‬إال أنــه حــاول اإلبقــاء علــى‬
‫األجهــزة األمنيــة دون تغيــر األمــر الــذي مهــد الطريــق للثــورة البلشــفية عــام‬
‫‪(1917‬و يف حماولتــه التحديــث و اللحــاق ابلغــرب ‪ ،‬ابلرغــم مــن ذلــك عــزز‬
‫بيــر العظيــم أيض ـاً خصائــص روســيا اآلســيوية ابكتمــال االســتبدادية الشــرقية‬
‫‪ ،‬والتقليــل مــن احتماليــة التعدديــة االجتماعيــة أو السياســية ‪ ،‬نبــاء روســيا مل‬
‫يكونـوا أقــوايء أبــداً وقــد قلصهــم بيــر أكثــر مــن ذلــك بتوســيع خدمــات النبالــة ‪،‬‬
‫وبناء تسلســل الرتب املؤسســي واالســتحقاق وليس املولد والوضع االجتماعي‬
‫‪241‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫‪ ،‬النبــاء – مثــل الفالحــن الذيــن كان ـوا خاضعــن للتجنيــد يف خدمــة الدولــة‬
‫جاع ـاً منهــم االرســتقراطية الذليلــة )( صــدام احلضــارات ص‪. )264‬‬
‫و يف هنايــة الدولــة العثمانيــة كانــت اإلصالحــات فيمــا يعــرف ابلتنظيمــات‬
‫اخلرييــة وحمــاوالت الدولــة املركزيــة بنــاء مؤسســات الدولــة كمــا فعــل حممــد علــى‬
‫يف مصــر إال أن التيــارات الفكريــة اإلصالحيــة كانــت يف معــزل عــن هــذه‬
‫اإلصالحــات وكانــت قضيــة اهنيــار الدولــة هــي الشــغل الشــاغل لرجــاالت الدولــة‬
‫« لقــد ضمــت روســيا حتــت زعامــة كاتريــن الثانيــة أراض وشــعوابً مــن الدلــة‬
‫ـهدت مصــر جمــيء انبليــون‬ ‫العثمانيــة والفارســية منــذ قــرون تقريب ـاً ‪ ،‬كمــا شـ‪241‬‬
‫وحماولتــه اســتعمارها‪ ،‬وظهــر إحســاس ابخلطــر الداهــم كان وراء إطــاق حركــة‬
‫إصــاح مؤسســي بقيــادة رجــال الدولــة وهــم – كمــا نعرف‪-‬ميتطــون آلــة الدولــة‬
‫الــي تعمــل ابســتمرار دون انتظــار بــروز أفــكار ومفكريــن ‪)7( ».‬‬
‫هــذا ابلطبــع كان أساس ـاً يف بــروز التيــارات املختلفــة كمــا مــن تيــارات‬
‫تنــادي ابجلامعــة اإلســامية وبقــاء اخلالفــة والنقاشــات الفكريــة الــي كانــت تــرى‬
‫أبنــه ميكــن جتــاوز فكــرة اخلالفــة الــي اعتــرت زمنيــة يف نظــر التيــارات األخــرى ‪.‬‬
‫و إذا انتقلنــا إىل التفــاوت كأســاس لبنــاء االقتصــاد ننظــر إىل هندســة‬
‫اجملتمــع مــن خاللــه جنــد أن تركيــا يف هــذا اجملــال فريــدة حقـاً فمــدارس البســفور‬
‫الــي أسســت يف مطلــع القــرن العشـرين كانــت فكــرة لتقســيم اجملتمــع لطبقــات‪،‬‬
‫حيــث أن هلــا مناهــج خمتلفــة والدخــول والنجــاح فيهــا أمــر صعــب و حمتــوى‬
‫مناهجهــا خمتــارة بعنايــة لتكويــن طبقــة وطنيــة قــادرة علــى قيــادة اجملتمــع ‪)8(.‬‬
‫‪.‬وهــذا مــا جنــده يف اجلامعــات األمريكيــة واالجنليزيــة الــي يتخــرج منهــا قــادة‬
‫اجملتمــع ورؤســائه‪ ،‬و يف ظــل نظــام رأمســايل جنــد هــذه الطبقيــة تقتضــي رؤاي‬
‫واضحــة حلركــة اجملتمــع ووجــود آليــات خمتلفــة للتعامــل مــع هــذه الطبقيــة ‪ .‬وإذا‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪242‬‬

‫أعرضنــا عــن النظــام الســوفيايت لفشــله يف حتقيــق املســاواة فــإن أحــداث بســيطة‬
‫وطارئــة كمــا ذكــر املؤرخــون كانــت كفيلــة ابهنيــار حلــم املســاواة ‪ ,‬فــإن التجربــة‬
‫الســويدية حتتــاج إىل كثــر مــن التفكــر ‪.‬‬

‫احلروب األهلية ‪:‬‬


‫هنــاك عــدة برامــج معلوماتيــة ضخمــة حتــاول أن تضــع كل املعلومــات‬
‫عــن احلــروب بطريقــة ميكــن اســتخالص املعلومــات املقارنــة ومــن مث املعرفــة‬
‫(‪ ،)... COW،UPDS‬فهنــاك إحصائيــات عــن احلــروب داخــل الدولــة‬
‫الواحــدة‪ ،‬فبعــد احلــرب الكونيــة الثانيــة و حتديــداً العــام ‪ 1964‬إىل العــام‬
‫‪ 2011‬هناك مائة و اثنتان دولة عانت من احلروب األهلية ‪ 40 .‬من هذه‬
‫احلــروب يف أفريقيــا‪ 20 ،‬يف أمريــكا الالتينيــة ‪ 18‬يف آســيا ‪ 13،‬يف اورواب ‪،‬‬
‫‪ 11‬يف الشــرق األوســط ( ‪ .)19-18‬هنــاك إمجــاع تقريبـاً حــول تناقــص عــدد‬
‫و زمــن هــذه احلــروب مــن بعــد ال ـزايدة امللحوظــة يف العــام ‪ 1992‬بعــد هنايــة‬
‫االمرباطويــة الســوفياتية ‪.‬‬
‫تعريــف االحـراب الداخلــي‪ ،‬كمــا هــي التســمية احلديثــة بــدالً عــن احلــروب‬
‫األهليــة‪ ،‬تعــرف بوجــود مشــروعني سياســيني داخــل دولــة واحــدة وكذلــك‬
‫اســتعمال ألســلحة الدولــة‪ ،‬وارتفــاع يف عــدد القتلــى حيــدد أبكثــر مــن ألــف يف‬
‫الســنة‪ ،‬علــى أن ينــال كل طــرف مــن الطــرف اآلخــر ‪.‬‬
‫النظـرايت املتوفــرة يف فلســفة الصـراع داخــل اجملتمعــات بــدأت منــذ ماركــس‬
‫الــذي ركــز علــى ص ـراع الطبقــات ‪ ،‬لكــن جرامشــي املنظــر األمريكــي أخــران‬
‫مــن ســجنه عــن ســيطرة الثقافــة‪ ،‬حــن يكــون لأليديولوجيــا القــدرة علــى إشــعار‬
‫اآلخريــن بدونيتهــم ممــا حيفــز الصـراع داخــل اجملتمــع‪ ،‬مدرســة فرانكفــورت ( انظــر‬
‫‪243‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫الفصــول األوىل مــن هــذا الكتــاب) حاولــت أن تركــز علــى الربوابجانــدا و أثرهــا‬
‫يف أتجيــج الص ـراع‪ ،‬لــذا مــن الطريــف أن ننتبــه أن هــذه النظ ـرايت تــدور بــن‬
‫الثقافــه و الطبقيــة ‪ .‬ولــو حلظنــا يف املتتاليــة الــي ذكرانهــا فــإن الن ـزاع اجملتمعــي‬
‫يرتبــط مبفهــوم جديــد يقســم النــاس‪ ،‬أي ســردية تشــرعن للنــاس الص ـراع ‪ ،‬فــإن‬
‫الدراســات عــن احلــروب األهليــة متيــل للحديــث عــن ســياق جمتمعــي اقتصــادي‬
‫ينشــأ مــن خاللــه الصـراع ‪ .‬ميكــن فهــم خمطــط هلــذه النزاعــات و أســباهبا ممــا يؤكــد‬
‫هــذه الرؤيــة كالتــايل ‪:‬‬
‫‪243‬ورونــدا و نيجــراي ليســت‬
‫‪ -‬الصراعــات اإلثنيــة و العرقيــة كمــا يف البوســنة‬
‫بســبب وجــود التعدديــة العرقيــة ‪ ،‬بــل إن احلــرب أتيت يف ســياق اجتماعــي و‬
‫اقتصــادي هــو الــذي يــؤول للحــرب ‪.‬‬
‫‪-‬يف احلــروب الــي تنشــأ ألســباب عرقيــة أو سياســية يكــون احلديــث عــن‬
‫الظلــم و االضطهــاد هــو الدافــع للمشــاركة يف احلــروب ((‪ Grivances‬لكــن‬
‫أغلــب الدراســات تؤكــد أن ‪:‬‬
‫‪ -‬أن املطامــع و ليســت املظــامل هــي الدافــع هلــذه احلــروب ((‪،Greed‬‬
‫و هــذا تــدل عليــه حقيقــة أن الــدول الغنيــة ابملـوارد مــع وجــود ضعــف يف الدولــة‬
‫تكــون عرضــة أكثــر مــن غريهــا للحــروب ‪ ،‬و اقتصــادايت احلــرب الــي تنشــأ هلــا‬
‫عالقــة أبطـراف خارجيــة و تتأثــر أتثـراً مباشـراً ابلعوملــة االقتصاديــة ‪ .‬هــذا يعــي‬
‫أن احلروب الداخلية تشــكل فرصة لسماســرة احلروب و يكون اســتمرار احلرب‬
‫هدفـاً مســتقالً بذاتــه ابلنســبة هلــذه األطـراف اخلارجيــة‪ ،‬و هــذا مــا ميكــن أن نـراه‬
‫بوضــوح يف حــاالت كمــا يف السـراليون وليبــراي عــام‪. 1990‬‬
‫رغم اجلدل يف الدراســات بني املظامل و املطامع كســبب للحروب األهلية‬
‫لكــن املظــامل توجــد يف كل مــكان و مــع هــذا مل تكــن ســبباً للحــروب ‪ ،‬لــذا‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪244‬‬

‫ففــي كثــر مــن الدراســات ال جنــد أن األســباب الــي تــؤدي للحــروب تكمــن يف‬
‫وجــود فســاد سياســي أو قمــع للح ـرايت و لكــن مــا ينشــأ داخــل اجملتمــع مــن‬
‫إمكانيــة للتموضــع داخــل الســلطة ( التطلــع ملرتبــة أفضــل ‪Struggle for‬‬
‫‪ ،) recogenetion‬و هنــا جتــد الدراســات متيــل هلــذا الســبب ‪)9( .‬‬

‫الرأمسالية الشاملة يف الوالايت املتحدة ‪:‬‬


‫«لكــي حيــدث صـراع طبقــي البــد مــن وجــود أوالً ‪ :‬تفــاوت بــن الطبقــات‬
‫طبقــة عليــا وأخــرى دنيــا مــن حيــث القــوة ‪ ,‬اثنيـاً عــدم قــدرة الطبقــة الدنيــا علــى‬
‫احلركــة والتأثــر ‪« ».‬يف الــوالايت املتحــدة ( يف نشــأهتا ) كان هنــاك إنــكار‬
‫لوجــود هــذه الطبقــات ‪ ,‬لكــن الواقــع كان يفــرض هــذا التفــاوت يف مجاعــات‬
‫املصــاحل ‪ ».‬وميكــن جتنــب الص ـراع إذا مســح للطبقــات الدنيــا أن تــرك طبقتهــا‬
‫وترتبــط بطبقــات ومجاعــات مصــاحل أعلــى ‪. )10(.‬‬
‫لقــد تصــور جيفرســون اجملتمــع املثــايل كاقتصــاد زراعــي ميتلــك فيــه كل فــرد‬
‫مــا يكفيــه لكــي يكــون انخبـاُ ‪ ,‬كانــت األرض يف تلــك األايم الوســيلة الرئيســية‬
‫لرتاكــم الثــروة واكتســاب حــق التصويــت “ وقــد مشــل حلــم جيفرســون ابلنســبة‬
‫ألمريــكا مفهومــي الدميقراطيــة السياســية واالقتصاديــة مع ـاً‪ ،‬فكالمهــا يف ذهنــه‬
‫شــيء واحــد ال ينفصــان‪ ،‬وقــد وضــع هــو واآلابء اآلخــرون املؤسســون اإلطــار‬
‫العــام ملفهــوم الدميقراطيــة هــذا وإدخالــه الدســتور‪.‬‬
‫لقــد أشــار توكفيــل إىل «أن القــوة اهلائلــة للمصلحــة اخلاصــة‪ ،‬يف ســياق‬
‫التشــتت الواســع للقــوة وامللكيــة خففــت مــن الطمــع املدمــر اجتماعي ـاً حبيــث‬
‫أهنــا محلــت النــاس علــى التعــاون ‪ ”...‬الطبقــات الرأمساليــة والعمــال وجــدوا يف‬
‫الــوالايت املتحــدة األمريكيــة جنبـاً جبنــب لفــرة طويلــة ومــع ذلــك كان إبمــكان‬
‫‪245‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫الطبقات العاملة أن ترتقي وتصبح طبقة رأمسالية ‪ .‬ونظراً لعظم املنظمات اليت‬
‫نشأت يف الوالايت املتحدة واليت كان بعضها يضم ‪ 1.700.000‬مشارك‪،‬‬
‫هــذه املنظمــات الفيدراليــة كانــت تتجمــع يف منظمــات لتواجــه منظمــات أخــري‬
‫رأمساليــة ‪ . )11(.‬ومــن األمثلــة البــارزة يف اتريــخ الــوالايت املتحــدة علــى هــذا‬
‫الص ـراع الطبقــي‪ ،‬االش ـراكيني الذيــن تعاظــم عددهــم مــن ‪ 150000‬ألــف‬
‫يف عــام ‪ 1900‬إىل ‪ 300.000‬يف عــام ‪ 1902‬و‪ 450.000‬يف عــام‬
‫‪.1904‬‬
‫‪245‬ـم وأوراق حبثيــة ومطــوايت‬
‫كان عندهــم أدبيــات كثــرة وجملــة تنشــر أفكارهـ‬
‫يوميــة وأســبوعية تنتشــر يف ربــوع الــوالايت املتحــدة ‪».‬وكان تنظيــم هــذه احلركــة‬
‫مبــي علــى فكــرة الصـراع الطبقــي يقولــون « النبــاء تصارعـوا يف الطبقــات الدنيــا‬
‫مــن اجملتمــع ( ‪ )plebeian‬يف رومــا امللــك واملواطنــون مــع النبــاء يف العصــور‬
‫الوســطى‪ ،‬والحقـاً امللــك والنبــاء مــع البورجوازيــن أمــا اآلن فبــن البورجوازيــن‬
‫والعمــال ( الربوليتــاراي ) » ‪« .‬وكان امل ـزاج الســائد يف البلــد هــو عــدم وجــود‬
‫هــذا الصـراع إال أن االشـراكيني يقاتلــون مــن أجــل الفــوز ابلنقــاابت واحتــادات‬
‫العمــل »( ‪.)34-33‬وقــد انتبــه الرئيــس روزفلــت إىل خطــورة هــذا الصـراع‬
‫يف أمريــكا فقــال ( فــوق كل اعتبــار علينــا أن نتذكــر أن أي تبــي للطبقــة يف‬
‫عــامل السياســة – إذا كان مــن املمكــن هــو مدمــر للمجتمــع ورفاهيتــه أكثــر‬
‫مــن الصـراع العرقــي أو الطائفــي أو الديــي » (ص‪. )46‬‬
‫« وخــال العقــود الــي ســبقت احلــرب العامليــة الثانيــة‪ ،‬اختلطــت‬
‫السياســات املدافعــة عــن الرأمساليــة الشــاملة ابالش ـراكية والشــيوعية‪ ،‬فحينمــا‬
‫كان األمريكيــون يدعــون للعدالــة واملســاواة‪ ،‬والفــرص االقتصاديــة األكــر مــن‬
‫خــال إصالحــات شــاملة‪ ،‬كانـوا يتهمــون حــاأل أبهنــم اشـراكيون «لكــن كســاد‬
‫الثالثينيــات العظيــم كان ال بــد بعــده مــن االع ـراف بضــرورة عــدم االستســام‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪246‬‬

‫للرأمساليــة والقــوى اخلفيــة وكان احلــل عنــد «جــون مينــارد كينــز‪ ،‬الــذي أكــد أن‬
‫الكســاد كان نتيجــة عــدم كفايــة الطلــب الكلــي وليــس خلــا يف أســاس النظــام‬
‫الرأمســايل ‪ .‬مــن هنــا كان احلــل الوســط وهــو الدميقراطيــة االقتصاديــة والــذي‬
‫اندى بــه كتــاب كثــر أشــهرهم لويــس كيســلو ومورتيمــور‪ ،‬وهكــذا عــاد حلــم‬
‫جــورج واشــنطن للظهــور !!‬
‫لكــن بعــد احلــرب العامليــة الثانيــة بــدأ التفــاوت يــزداد والفجــوة تتعمــق‬
‫داخــل اجملتمــع‪« ،‬فمــاذا ســيحدث ل‪ 57‬يف املئــة مــن الناخبــن اآلمريكيــن‬
‫ممــن ال يشــاركون ابمللكيــة املســامهة والذيــن سيشــكلون ح ـوايل ‪ 107‬ماليــن‬
‫مــن البالغــن فــوق ســن ‪ 18‬ســنة ‪1997‬؟ «وشــيئاً فشــيئا بــدى هــذا التفــاوت‬
‫يظهــر فالناتــج احمللــي اإلمجــايل زاد بنســبة ‪ 36%‬يف املئــة بــن العامــن ‪1973‬‬
‫و‪ 1995‬يف حــن هبــط األجــر احلقيقــي للعاملــن غــر املشــرفني بنســبة ‪ 14‬يف‬
‫املئــة ‪ ».‬ويشــكل هــؤالء العاملــون األغلبيــة الســاحقة مــن ال‪ 107‬مليــون مــن‬
‫اآلمريكيــن البالغــن الذيــن أش ـران إليهــم ت ـواً ‪« .‬ويف الثمانينيــات تــدل األرقــام‬
‫علــى أن املكاســب كانــت مــن نصيــب ‪ 20‬يف املئــة فقــط مــن قــوة العمــل‪،‬‬
‫فقــد ذهــب ل‪ 1‬يف املئــة فقــط مــا نســبته ‪ 64‬يف املئــة مــن املكاســب ‪ .‬وبــن‬
‫العامــن ‪ 1968‬و‪ 1988‬بــدأ التفــاوت يتســارع ويتغــر هيكليــا ً » ‪ ,‬وقــد‬
‫خلــص أحدهــم هــذا بقولــه « كمــا تبــن بيــاانت تــدين األجــور‪ ,‬فــإن العمــال‬
‫غرياملاهريــن يف العــامل األول يف طريقهــم ألن يصبح ـوا هامشــيني » ‪)11(.‬إذا‬
‫انتقلــت الــوالايت املتحــدة مــن احللــم مبجتمــع ال تفــاوت فيــه‪ ،‬إىل أفــكار متفرقــة‬
‫هنــا وهنــاك مث االستســام بضــرورة تدخــل الدولــة ملشــاركة اجلميــع يف الطــب و‬
‫تقليــل الفجــوة داخــل اجملتمــع إىل أن اتســع اخلــرق علــى الراتــق وســجلت أرقــام‬
‫قياســية يف التفــاوت داخــل اجملتمــع األمريكــي والــذي انتهــى ابألزمــة األخــرة ‪.‬‬
‫‪247‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫الدميقراطية االجتماعية ‪Nordic Model:‬‬


‫فيلنــدا‪ ،‬الدمنــارك‪ ،‬الســويد‪ ،‬والنرويــج ‪ ،‬وأيســلندا ‪ ،‬والــي ال تتبــع لالحتــاد‬
‫األورويب تشــكل منوذجـاً خاصـاً يف االقتصــاد هــو منــوذج الــدول االســكندانفية‬
‫وكلهــا تشــكل منــوذج الدميقراطيــة املدنيــة أو االجتماعيــة ودولــة الرفــاه والــي‬
‫تتلخــص يف اآليت « الرفــاه الشــامل الــذي يؤكــد علــى تقــدمي اخلدمــات لــكل‬
‫أفـراد اجملتمــع والــي متــول عــر الضرائــب وتقــدم دخــول كافيــة للعمــال مــن حيــث‬
‫االســتهالك واالدخــار ‪.‬جــزء كبــر مــن ميزانيــة الدولــة يذهــب للتنميــة رأس املــال‬
‫التنميــة ‪ .‬مؤسســات ســوق‬ ‫البشــري يف تربيــة األطفــال والتعليــم واألحبــاث و‪247‬‬
‫العمــل والــي تشــمل احتــادات العمــال وجتمعــات العاملــن (‪employer‬‬
‫‪ )association‬تؤثــر أتث ـراً كب ـراُ يف ت ـوازن األجــور وتعطــي منحــا كبــرة يف‬
‫التقاعد وأتثري حقيقي هلذه املؤسســات يف ســوق العمل ‪».‬إذاً الضرائب ورأس‬
‫املــال البشــري ومؤسســات اجملتمــع املــدين والت ـوازن بــن الشــركات االســتثمارية‬
‫وهذا البناء يف ظل رفاه شامل للجميع هو ما مييز منوذج الدول االسكندانفية‪،‬‬
‫وقبــل كل ذلــك هــو التوافــق اجملتمعــي الــذي مييــز ذلــك النمــوذج والتعــاون القائــم‬
‫ببــن القطــاع اخلــاص واحلكومــة واجملتمــع ‪.‬‬
‫هــذا التوافــق هــو نتــاج لتفاعــل احلــكام واحملكومــن‪ ،‬وبــدل أن ينقســم‬
‫اجملتمــع إىل قطــاع خــاص وقطــاع عــام يف ثنائيــة مرهقــة كانــت فكــرة القطــاع‬
‫الثالــث (‪ )contracting out‬كوســيلة انجعــة حلــل مشــاكل العوملــة‬
‫والتفــاوت العميــق يف األجــور واخلدمــات ‪ (.‬ص ‪ . )440‬إن املؤش ـرات الــي‬
‫بــدت فيهــا الــدول االســكندانفية يف املراتــب األويل ( انظــر تقريــر التنافســية‬
‫‪ )2011‬تبــن جناعــة أن يشــارك اجلميــع يف صناعــة الق ـرار كيــف أن وجــود‬
‫تفــاوت معقــول بــن طبقــات اجملتمــع ســيؤدي إىل االســتقرار والتنميــة ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪248‬‬

‫ذكـران يف ســنة التدافــع أن االختــاف الطبيعــي داخــل اجملتمــع يتعلــق بقــدرة‬


‫النــاس علــى حتمــل وجــود تفــاوت داخــل اجملتمــع و ســلوكهم النابــع مــن هــذا‬
‫التحمــل ‪ ،‬لــذا فــإن احلســد و التجســس و البغضــاء و غريهــا هــي نتــاج طبيعــي‬
‫هلــذا التفــاوت الــذي يـراوح فيــه اجملتمــع بــن بــن قانــون يســمح ابختــاف النــاس‬
‫و تنميــة قدراهتــم و بــن اســتمرار وجــود تفــاوت و طبقــات حمرومــة‪ ،‬هــذا األمــر‬
‫ابلطبــع ســيتأثر ابقتصــاد البلــد و ابلنمــو الســكاين و مــا إىل ذلــك ( كمــا ســيأيت‬
‫) لكنــه ســيؤثر بشــكل أو أبخــر بتصــور النــاس حنــو املســتقبل هــذا التصــور هــو‬
‫الــذي حيــرك ماكينــة اجملتمــع حنــو اهللــع أو اجلــزع ‪.‬‬
‫و اخلالصــة مــن هاتــن التجربتــن تبــن الفــارق بــن النظــم االقتصاديــة‬
‫واالجتماعيــة والسياســية كنظــم تتدافــع فيمــا بينهــا وكيــف أن خيــارات اجملتمــع‬
‫والفكــر السياســي واالقتصــادي يف التعامــل مــع األزمــات ( الكســاد الكبــر يف‬
‫الــوالايت املتحــدة والعوملــة يف الســويد) هــو مــا يؤثــر يف التفــاوت داخــل اجملتمــع‬
‫و مــن مث انقســامه ( أو ترابطــه ) وانتشــار الفســاد فيــه ( أو اخنفــاض معــدالت‬
‫الفســاد واجلرميــة داخــل اجملتمــع ) ‪.‬‬
‫بعــد هــذه اجلولــة يف اتريــخ التفــاوت إن جــاز التعبــر ‪ ,‬والــي حاولنــا أن‬
‫تكــون جــادة تبــن القــدرة التفسـرية للســنن يف فهــم الواقــع مهمــا كان معقــداً‬
‫‪ ,‬فقــد آن األوان لعــرض مشــهد آخــر مــن مشــاهد التاريــخ وســنة أخــرى مــن‬
‫ســنن حركتــه وهــي ســنة اجل ـزاء ‪.‬‬
‫هــذه هــي الســنة الرابعــة الــي نتعــرض هلــا يف هــذا البحــث ‪،‬وهــي تتعلــق‬
‫بــكل حــرك وهنايتــه وصــورة هــذه النهايــة واألجــل الــذي حتــدث فيــه ‪.‬‬
‫‪249‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫الفصل التاسع‬

‫سنة اجلزاء ‪ :‬الزمن وعواقب الدهر‬

‫ذكـران يف ســنة اهلدايــة أن مســار التاريــخ يتحــرك مــن الشــهادة إيل الغيــب‬
‫أو مــن الكبــر املرئــي إيل الصغــر غــر املرئــي ‪ .‬وهــذه النظــرة تصــور حركــة التاريــخ‬
‫علــي أهنــا كشــف ومعرفــة وتفاعــل فكــري وعقلــي مــع حركــة األحــداث وتطويــر‬
‫‪ 249‬املســتقبل يســبق املاضــي‬‫اجملتمعــات ويؤكــد أن األايم تكشــف عــن نفســها وأن‬
‫‪ .‬وهــذا جيعلنــا ننظــر إيل الزمــن نظــرة خمتلفــة تؤكــد ارتباطــه ابلقــدرة والتمكــن‬
‫مــن احليــاة فكلمــا ازدادت قــدرة اإلنســان كانــت حركتــه أســرع وكذلــك حركــة‬
‫األحــداث مــن حولــه ‪ .‬هــذا األمــر كمــا حيــدث يف املســار اخلطــي للتاريــخ حيــدث‬
‫يف كل دورة مــن دورات األمــم‪ ،‬حيــث تكشــف كل أمــة شــيئاً مــن اجملهــول‬
‫وتــرك يف التاريــخ بصمتهــا الــي هتتــدي هبــا أمــة أخــري‪ ،‬وتنطلــق مــن نقطــة‬
‫جديــدة يف مســار زمــي حمــدد ‪.‬‬
‫وهــذا ليــس جبديــد فــان تفاعــل احلضــارات وتالقحهــا أمــر معــروف مشــهور‬
‫لكــن اجلديــد هــو ارتبــاط أجــل األمــم ابنتهــاء جتربتهــا و أفكارهــا يف تلــك‬
‫اللحظــة الــي تكتشــف فيهــا أمــة مــن األمــم ســادت العــامل وقادتــه أهنــا قــد حــادت‬
‫عــن طريــق والســنن وارتبــاط ذلــك بعمــارة األرض واســتمرارها‪ ،‬لــذا يكــون‬
‫جزاؤهــا أم ـراً مهيب ـاً حــى تذكــره األمــم مــن بعدهــا ‪.‬‬
‫و الميكــن تصــور حــدوث ذلــك إال إذا اعتــران حركــة األمــم علــي أهنــا‬
‫تفاعــل ونتيجــة هلــذا التفاعــل فاألمــة حتصــد مــا تــزرع مــن أفــكار ونظــم ومعطيــات‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪250‬‬

‫مدنيــة وعمرانيــة وفنيــة ثقافيــة ‪ .‬ســنتحدث يف هــذه الســنة ونبــن عناصرهــا‬


‫وآليتهــا وصورهــا مــن القــرآن والتاريــخ كالســابق ‪.‬‬

‫عناصر سنة اجلزاء ‪:‬‬


‫العنصــر األساســي يف هــذه الســنة هــو «الزمــان»‪ :‬ويعــرف علــى أنــه هــو‬
‫عبــارة عــن امتــداد موهــوم غــر قــار الــذات متصــل األج ـزاء‪ ،‬يعــي أي جــزء‬
‫يفــرض يف ذلــك االمتــداد أن يكــون هنايــة لطــرف أو بدايــة لطــرف آخــر أو هنايــة‬
‫هلمــا علــي اختــاف العبــارات كالنقطــة املفروضــة يف اخلــط املتصــل فتكــون كل‬
‫آن مفــروض يف االمتــداد الزمــي هنايــة وبدايــة لــكل مــن الطرفــن قائمــة هبــا “(‪)1‬‬
‫‪ .‬ويف أوائــل هــذا القــرن أثبــت أينشــتاين أن الزمــن قابــل للتكثــف والتمــدد وأطلــق‬
‫نظريــة الزمــن املطلــق‪ ،‬وقــد وضــع املثــال اخلالــد عــن املراقبــن وعربــة القطــار الــذي‬
‫جيــري تقريبــا كمــا يلــي ‪( :‬يقــف رجــل جبانــب عربــة القطــار ويــرى وميضــي ضــوء‬
‫ينبعثــان بتزامــن واحــد‪ ،‬أحدمهــا يف أقصــي الطــرف الشــمايل للعربــة واآلخــر يف‬
‫جنوهبــا واملراقــب واقــف وســط املســافة بــن الوميضــن‪ ،‬جيلــس شــخص آخــر‬
‫يف قطــار سـريع جــداً يســر مشــاالً مبحــاذاة العربــة‪ ،‬ومــا أن ميــر ابملراقــب الواقــف‬
‫يف اخلــارج حــي يــرى وميضــي الضــوء إال أهنمــا متزامنــن ‪ .‬ليســا ابلنســبة لــه‬
‫إن القطــار يتســارع بــه مــن وميــض إىل آخــر فالضــوء يف أحــد الوميضــن يصــل‬
‫إليــه أســرع مــن الضــوء اآلخــر ابلنســبة لــه أيضـاً يبــدو لــه أن الوميــض الشــمايل‬
‫قــد أضــاء أوالً )‪ .‬وفكــرة الزمــن هــذه اختلفــت مــن حضــارة إيل أخــرى كمــا‬
‫اختلفــت عــر تقــدم املعرفــة البش ـرية فمــن الزمــن الدائــري يف العصــر القــدمي إيل‬
‫الزمــن اخلطــي عنــد نيوتــن يف الثــورة الصناعيــة إيل هــذه النســبة الــي يتحــدث‬
‫عنهــا أينشــتاين ‪ .‬ولكــن يف جمــال التاريــخ تبــدو األحــداث هــو ذلــك االمتــداد‬
‫الــذي يعــر عــن الزمــان ‪ .‬والزمــن يف ســنة اجلـزاء هــو أجــل األمــم الــذي يــرز أو‬
‫‪251‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫تظهــر عالماتــه يف حلظــة معينــة تراكمــت عــر أحــداث خمتلفــة هــي يف الواقــع مثــرة‬
‫حركــة األمــة أو جـزاء ألعماهلــا حبيــث يصــدق وصــف الدائــرة أو التطابــق علــي‬
‫حركتهــا دون أن يلغــي ذلــك مفهــوم املســار اخلطــي الــذي يــؤول يف النهايــة إيل‬
‫الفنــاء وهــذا الــكالم هــو مــا ســنفصله اآلن ‪.‬‬

‫متتالية السنة ‪:‬‬


‫ميكن تلخص سنة اجلزاء يف متتالية كاآليت ‪:‬‬
‫‪251‬وانتشــار الفســاد‪ ،‬يتعلــق‬
‫‪ -‬بعــد زمــان مــن الفــن‪ ،‬الــي تقســم اجملتمــع‪،‬‬
‫النــاس بفكــرة جديــدة يعتقــدون فيهــا النجــاة مــن هــذه الفــن ‪.‬‬
‫‪ -‬هــذه الفكــرة تظهــر يف ســاعة مــن احملــن والفقــر واجلــوع ‪ ،‬ويتغــر الواقــع‬
‫بعــد ذلــك إيل االنفـراج والرفاهيــة‪ ،‬ويربــط النــاس هــذا التغيــر هبــذه االفــكار ‪.‬‬
‫‪ -‬ولكــن مــع هــذا االنف ـراج والســعة تــزداد الفجــوة بــن طبقــات اجملتمــع‪،‬‬
‫وينشــأ معهــا االســتبداد بطباعــه ومشــاكله املختلفــة ‪.‬‬
‫‪ -‬ينتهــي اجملتمــع يف حلظــة مفاجــأة أو صدمــة تقضــي علــي بنــاء اجملتمــع‬
‫الفكــري واالقتصــادي والسياســي ‪.‬‬
‫‪ -‬هــذه النهايــة ترتبــط يف صورهتــا بتاريــخ تلــك األمــة يف املرحلــة أو الزمــن‬
‫الــي امتــدت فيــه‪ ،‬وهــو مــا يعــر عــن العلمــاء بقوهلــم اجلـزاء مــن جنــس العمــل ‪.‬‬

‫يف ظالل القرآن ‪-:‬‬


‫حتدثــت ســور كثــرة عــن هــذه الســنة ســورة البقــرة وســورة األنعــام وســورة‬
‫إبراهيــم وســورة املؤمنــون وســورة الكهــف وســورة النمــل وســورة ســبأ وســورة‬
‫ق وســورة امللــك وســورة القيامــة وســورة االنشــقاق والغاشــية وســورة الضحــى‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪252‬‬

‫والقارعــة والنصــر واملســد ‪ .‬واملالحظــة األساســية يف هــذه الســور هــو أهنــا تذكــر‬
‫إبمجــال مفهــوم األجــل «الزمــن» وتذكــر متتاليــة ســنة اجلـزاء أي أهنــا مل تــرد هبــذه‬
‫الطريقــة إال يف هــذه الســور ‪ -‬وتذكــر املتكربيــن واملســتضعفني كمــا أهنــا تذكــر‬
‫صــورة األنبيــاء والصاحلــن وهــم مســتضعفون يف األرض ينتظــرون رمحــة هللا ‪.‬‬
‫وســتذكر بعــض هــذه الســور ونركــز علــي هــذه النقــاط الــي ســيتخللها مشــاهد‬
‫قرآنيــة اترخييــة ‪.‬‬
‫سورة البقرة ‪:‬‬
‫تذكر السورة ثالث صور اترخيية ‪-:‬‬
‫األويل ‪ :‬صورة النمرود وبن فاحل ‪.‬‬
‫الثانية ‪ :‬صورة هالك بيت القدس ‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬سيدان إبرهيم وسؤال هللا سبحانه عن احلياة والوت ‪.‬‬
‫وتركــز الســورة يف الصــورة األويل علــي ملــك النمــرود ورغبتــه يف اخللــود‬
‫وتركــز يف الثانيــة علــى أتثــر الزمــن يف احليــاة واملــوت علــي صعيــد األف ـراد‬
‫واجملتمعــات ويف الثالثــة علــى اإلحيــاء بعــد اإلماتــة‪ ،‬وهــذا ســنتعرض لــه يف ســنة‬
‫االســتحالف يف الســورة نق ـرأ قولــه تعــايل ‪( :‬أمل تــر إيل الــذي حــاج إبراهيــم يف‬
‫ربــه أن آاته هللا امللــك إذ قــال إبراهيــم ريب الــذي حييــي ومييــت قــال أان أحيــي‬
‫وأميــت قــال إبراهيــم فــإن هللا أييت ابلشــمس مــن املشــرق فــأت هبــا مــن املغــرب‬
‫فبهــت الــذي كفــر وهللا ال يهــدي القــوم الظاملــن)‪.‬‬
‫وقــد ذكــروا مــن اســتبداد النمــرود الكثــر مــن قتلــه للنــاس ومنعــه للطعــام‬
‫وجربوتــه وحماربتــه هلل ســبحانه‪ ،‬وتذكــر هــذه الصــور مــن القــدرة علــي اإلحيــاء‬
‫واإلماتــة‪ ،‬وذلــك لغــرض الســياق‪ ،‬وقــد اســتطاع ســيدان إبراهيــم عليــه أن يبــن‬
‫‪253‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫عجــز منــرود أمــام التغ ـرات الكونيــة اهلائلــة ‪ ،‬واســتطاع أن خيرجــه مــن ماديتــه‬
‫الضيقــة يف فهمــه للحيــاة واملــوت إيل جمــال أرحــب‪ ،‬وفهــم أوســع ملدلوهلــا‪ ،‬مــن‬
‫خــال التغ ـرات الكونيــة الــي ذكرهتــا اآليــة ‪.‬إهنــا صــورة جتســد االســتبداد فهــو‬
‫اعتقــاد ابلقــدرة الذاتيــة‪ ،‬واعتقــاد ابلقــدرة علــي البقــاء ‪ ،‬وغفلــة عــن تقلــب الدهــر‬
‫‪ ،‬وتــداول األايم ‪.‬‬
‫إن للحيــاة واملــوت أج ـاً حمــدداً ‪ ،‬وقــدرة اإلنســان علــي بعــض األســباب‬
‫ال ميكنهــا أن تؤثــر يف شــيء مــن هــذه اآلجــال املقــدرة‪ ،‬إنــه زمــن مقــدر ليــس‬
‫‪253‬لــذي شــعر بــه الــذي مــر‬ ‫إال ‪ .‬والصــورة الثانيــة تؤكــد هــذا املعــى‪ ،‬فــإن الزمــن ا‬
‫علــي تلــك القريــة وكأنــه يــوم أو بعضــه‪ ،‬كانــت يف الزمــن املقــدر مائــة عــام ‪ ،‬إنــه‬
‫الشــعور الــذي صــور لــه أنــه يــوم لكــن احلقيقــة أنــه مائــة عــام ‪ ،‬وهــذا مثــال ظاهــر‬
‫لنســبية الزمــن ‪ ،‬وارتبــاط ذلــك بتغيــر القريــة وهنضتهــا يؤكــد أتثــر الزمــن واألجــل‬
‫يف هــاك األمــم وهنضتهــا ‪.‬‬
‫هــذه الفكــرة عــن نســبية الزمــن تكــررت يف الســور الــي تنطلــق مــن هــذه‬
‫الســنة بوضــوح كقصــة أصحــاب الكهــف وســورة املؤمنــون يف موقــف الكافريــن‬
‫يــوم القيامــة ويف النمــل يف قصــة ســيدان ســليمان عليــه الســام وهنايــة ســبأ‪ .‬وإذا‬
‫نصــر‪ ،‬فإننــا‬
‫كانــت القريــة هــي البيــت املقــدس ـ وأن خراهبــا كان علــي يــد خبــت ّ‬
‫نعــرف الفســاد واخلــاف الــذي حــدث بــن مملكــة يهــود ومملكــة إس ـرائيل ‪،‬‬
‫فــكان ذلــك اخلـراب صــورة مــن صــور اهلــاك و علــي هــذا يكــون االرتبــاط بــن‬
‫احلــدث عــن احليــاة واملــوت‪ ،‬وبدايــة احلديــث عــن خـراب القريــة يف قولــه تعــاىل‬
‫((أو كالــذي مــر علــي قريــة وهــي خاويــة علــي عروشــها ‪ ))...‬ظاهــر يف كــون‬
‫احليــاة واملــوت تشــمل األف ـراد واجملتمعــات ‪ ..‬والصــورة الثالثــة تلــك الــي تشــرح‬
‫كيــف تبــدأ احليــاة وتــدب وماهيــة املــوت احليــاة يف سـؤال ســيدان إبراهيــم عليــه‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪254‬‬

‫الســام لربــه كيــف حييــي املوتــى ‪ .‬هــذه الصــور ذكــر فيهــا االســتبداد ‪ ،‬ومفهــوم‬
‫الزمــن‪ ،‬وهــاك اجملتمعــات و القــرى وهنضتهــا ‪.‬‬

‫سورة األنعام ‪-:‬‬


‫تذكر الســورة آلية ســنة اجلزاء يف قوله تعاىل ‪ (-:‬ولقد أرســلنا إيل أمم من‬
‫قبلــك فأخذانهــم ابلبأســاء والضـراء لعلهــم يتضرعــون ‪ .‬فلــوال إذ جاءهــم أبســنا‬
‫تضرعـوا ولكــن قســت قلوهبــم وزيــن هلــم الشــيطان مــا كانـوا يعملــون فلمــا نسـوا‬
‫مــا ذكــروا بــه فتحنــا عليهــم أبـواب كل شــيء حــي إذا فرحـوا مبــا أوتـوا أخذانهــم‬
‫بغتــة فــإذا هــم مبلســون ) ‪ .‬وهــذه الصــورة للمراحــل الــي تســبق هــاك األمــم‪،‬‬
‫هــو مــا اعتــرانه متتاليــة لســنة اجلـزاء ففــي املرحلــة األوىل هــي الضـراء‪ ،‬البأســاء‪،‬‬
‫وذلــك ابألســباب الطبيعيــة كاألم ـراض والك ـوارث الطبيعيــة أو طريــق احلــروب‬
‫والفــن وهــي أســباب بش ـرية ‪ .‬وبعــد ذلــك يكــون مــا عــر عنــه القــرآن بقولــه‬
‫«فتحنــا عليهــم أبـواب كل شــيء » وهــو يصــور الرفــاه االجتماعــي هبــذه الصــورة‬
‫البليغــة الــي تصــور دخــول كل شــيء ‪...‬وفتــح األبـواب مجيعهــا ‪ :‬انفتــاح كامــل‬
‫يصحبــه الرغبــة يف كل شــيء ‪...‬والفــرح بذلــك والنشــوة الــي تصحــب ذلــك‬
‫‪.‬ومقابــل ذلــك قســوة القلــب ســاعة الضـراء يف قولــه تعــايل « فلــوال إذ جاءهــم‬
‫أبســنا تضرعـوا ولكــن قســت قلوهبــم ‪».‬‬
‫يقــول أريــك فــروم « وبينمــا نالحــظ فيمــا يتعلــق حبيــاة الفــرد أنــه ال ميكــن‬
‫أن يقــف شــخص مكتــوف اليديــن وهــو يــري خطـراً ماحقـاً علــي حياتــه مقبــا‬
‫عليه إال إذا فقد الرشــد فإننا نالحظ أن املســؤولني املوكلني ابلشــؤون العامة ال‬
‫يفعلــون شــيئاً وإن النــاس الذيــن أوكلـوا إليهــم أمورهــم يرتكهــم علــي هــذه احلــال‬
‫‪ .‬ولكــن كيــف ميكــن ألقــوى غرائـزان وهــي غريــزة البقــاء أن تبــدو كأهنــا فقــدت‬
‫القــدرة علــي حتريكنــا ‪ .)٢(».‬لقــد أعطــي الق ـران لذلــك تفس ـراً وهــو تفســر‬
‫‪255‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫جممــل ‪ « :‬ولكــن قســت قلوهبــم » « وزيــن هلــم الشــيطان مــا كانـوا يعملــون »‪.‬‬
‫هــذه القســوة وهــذا التزيــن تشــرحه الســورة‪ ،‬فــان ســياقها يبــن إص ـرار قريــش‬
‫علــى تكذيــب نبــوءة الرســول صلــي هللا عليــه وســلم وأهنــم يســتبعدون التغـرات‬
‫واهلــاك الــذي وعدهــم بــه‪ ،‬وتذكــر الســورة هــؤالء األكابــر يف قولــه تعــايل «‬
‫وكذلــك جعلنــا يف كل قريــة أكابــر جمرميهــا » ‪ .‬وتذكــر اســتبدادهم وحتكمهــم‬
‫يف أرزاق النــاس ‪ ...‬وهــذا الســياق جيعلنــا نقبــل تفســر ضمــور غريــزة البقــاء‪،‬‬
‫مبعــي أهنــا مرحلــة مــن التبلــد والعفويــة أو الغفلــة عــن التاريــخ ال جيــدي معهــا‬
‫حتذيــر وال تنبيــه ‪.‬‬
‫‪255‬‬
‫و الطامــة الكــرى‪ ،‬يف ذلــك التغيــر الــذي ذكرتــه الســورة وهــو الرفــاه‬
‫واالنفتــاح التــام ألن ذلــك ســيؤثر يف تفســر األحــداث ويوطــن لالســتبداد‬
‫يف اجملتمــع ويعطيــه الصالحيــة والشــرعية بكونــه صانــع االنتصــارات ومهنــدس‬
‫اإلجنــازات ‪ .‬و تعطــي الســورة كغريهــا مــن الســور يف هــذه الســنة دور اجلـ ّـن‬
‫والشــيطان يف تصويــر القــدرة علــى البقــاء متام ـاً كمــا حــدث يف بدايــة اخللــق (‬
‫اآلايت ‪.)1333-111‬‬
‫ســورة إبراهيــم ‪:‬مثــال آخــر ‪ ..‬فذكــر قصــة موســى عليــه الســام يف بدايــة‬
‫الســورة يؤكــد أتثــر هــذه الســنة يف عــرض القصــة فقــد ركــزت علــى شــكر النعــم‬
‫و احلــذر مــن تبــدل األحـوال و قــال ( و إذا أتذن ربكــم لئــن شــكرمت ألزيدنكــم‬
‫) ‪ ،‬و فيهــا هنايــة قريــش فإهنــا مــرت بنفــس املراحــل‪ ،‬فذكــرت الســورة جــدال‬
‫املســتكربين واملســتضعفني يــوم القيامــة‪ ،‬مث ذكــر كفــار قريــش بقولــه « أمل تـرإىل‬
‫الذيــن بدل ـوا نعمــة هللا كف ـراً وأحل ـوا قومهــم دار الب ـوار » وقــد نقــل عــن ابــن‬
‫عبــاس وعلــي ابــن أيب طالــب وغريمهــا أهنــا نزلــت يف كفــار قريــش‪ ،‬وأن الب ـوار‬
‫هــو يــوم بــدر ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪256‬‬

‫و يفســر هــذا قولــه تعــايل يف ســورة املؤمنــون ‪« :‬ولــو رمحناهــم وكشــفنا‬


‫مــا هبــم مــن ضــر للج ـوا يف طغياهنــم يعمهــون ولقــد أخذانهــم ابلعــذاب فمــا‬
‫اســتكانوا لرهبــم ومــا يتضرعــون حــي إذا فتحنــا عليهــم ابابً ذا عــذاب شــديد إذا‬
‫هــم فيــه مبلســون ‪ ».‬قــال النســفي ‪ :‬ملــا أخذهــم هللا ابلســنني حــي أكلـوا العلهــز‬
‫جــاء أبــو ســفيان إىل رســول هللا صلــي هللا عليــه وســلم فقــال لــه ‪ :‬انشــدك هللا‬
‫والرحــم الســت تزعــم أنــك بعثــت رمحــة للعاملــن فقــال « بلــي » فقــال قتلــت‬
‫اآلابء ابلســيف واألبنــاء ابجلــوع فنزلــت اآليــة ‪ ،‬واملعــي لــو كشــف هللا عنهــم هــذا‬
‫الضــر وهــو القحــط الــذي أصاهبــم برمحتــه هلــم ووجــدوا اخلصــب «للج ـوا» أي‬
‫لتمــادوا ‪ .‬قــال تعــاىل ‪« :‬ولقــد أخذانهــم ابلعــذاب فمــا اســتكانوا لرهبــم ومــا‬
‫يتضرعــون “‪ ،‬فقــد مــر علــى قريــش مرحلــة ‪ ,‬مــن الضـراء ومل يتضرعـوا فيهــا مث‬
‫كشــف هللا عنهــم القحــط‪ ،‬كمــا يف آيــة الدخــان (إان كاشــفوا العــذاب قليـاً )‬
‫مث جاءهــم يــوم بــدر وهــو قولــه تعــايل (حــي إذا فتحنــا عليهــم ابابً ذا عــذاب‬
‫شــديد إذا هــم فيــه مبلســون ) ويف الســورة كذلــك بيــان لنســبية الزمــن يف هنايتهــا‬
‫(‪ )114-112‬فهــذا مثــال آخــر لنهايــة قريــش واملثــال اآلخــر يف القــرآن يف‬
‫ســورة ســبأ ‪.‬‬

‫سورة سبأ ‪-:‬‬


‫قــال تعــاىل‪( :‬لقــد كان لســبأ يف مســكنهم آيــة جنتــان عــن ميــن ومشــال‬
‫ورب غفــور ‪ ,‬فأعرض ـوا فأرســلنا‬
‫كل ـوا مــن رزق ربكــم واشــكروا لــه بلــدة طيبــة ّ‬
‫عليهــم ســيل العــرم وبدلنهــم جبنتيهــم جنتــن ذوايت أكل مخــط وأثــل وشــيء مــن‬
‫ســدر قليــل) ‪.‬‬
‫مث قــال ‪( :‬وجعلنــا بينهــم وبــن القــرى الــي ابركنــا فيهــا قــرى ظاهــرة وقــدران‬
‫فيهــا الســر ســروا فيهــا ليــايل وأايمـاً آمنــن فقالـوا ربنــا ابعــد بــن أســفاران وظلمـوا‬
‫‪257‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫أنفســهم فجعلناهــم أحاديــث ومزقناهــم كل ممــزق إن يف ذلــك آلايت لــكل‬


‫صبــار شــكور ‪ )....‬والســياق انتقــل مــن حــال الضـراء بتبــدل اجلنّــة ‪ ،‬إيل حــال‬
‫السـراء وهي ســهولة الســر ‪ ،‬وســرعة االتصال ‪ ،‬وما تبع ذلك من رواج جتاري‬
‫‪ ،‬مث ذكــر العــذاب بقولــه ( ومزقناهــم كل ممــزق ) أي تفرق ـوا ‪ ( ،‬وجعلناهــم‬
‫أحاديــث ‪ )...‬وحتدثنــا الســورة عــن املســتكربين واملســتضعفني ‪ ،‬وعــن املــادة‬
‫وحبهــا وقــول املرتفــن ((حنــن أكثــر ام ـواالً وأوالداً ومــا حنــن مبعذبــن ‪. ))...‬‬
‫ويف الســورة كذلــك عالقــة اجلــن والشــيطان هبــؤالء الطغــاة يف تصويــر إمكانيــة‬
‫اخللــود ابمتــاك املــال واملــادة‪ .‬فهــذا مثــال آخــر عــن متتاليــة الســنة ضـراء وسـراء‬
‫‪257‬‬
‫مث عــذاب ‪.‬‬

‫سورة الكهف ‪-:‬‬


‫ويف ســورة الكهــف جنــد الصــورة احلقيقيــة للزمــن‪ ،‬وارتبــاط األحــداث مبــا‬
‫قــدر هللا‪ ،‬واألجــل الــذي يســبق املــادة واألســباب‪ ،‬فهاهــم أصحــاب الكهــف‪،‬‬
‫ســيعودون إيل املســتقبل‪ ،‬وســيتحرك القــدر هبــم‪ ،‬ثالمثائــة ســنة دون أن يشــعروا‬
‫بذالــك‪ ،‬فقــد أســرع هبــم الزمــان‪ ،‬وكأهنــم يف مركــب ســار هبــم بســرعة جتــاوزت‬
‫هبــم واقعهــم األليــم وختلــص مــن جاذبيــة األســباب يف عــامل آخــر‪ ،‬هــو القــدر‪ ،‬هــو‬
‫حركــة التاريــخ‪ ،‬إنــه مركــب آخــر حييــل أحــام الظاملــن هبــاءاً منشــوراً‪ ،‬وأمنيــات‬
‫امللــوك ويــات وثبــوراً‪ ،‬كمــا حــدث لصاحــب اجلنتــن ‪ ،‬حــن أهلــك هللا جنتــه ‪،‬‬
‫وحــن تعلــم موســى عليــه الســام مــن اخلضــر حكمــة القــدر‪ ،‬وتفســر األحــداث‬
‫فكانــت أكثــر عمق ـاً‪ ،‬و أوســع مــدى مــن نظ ـرات النــاس الــي ال تعــرف إال‬
‫الزمــن احملــدود‪ ،‬ومــا تـراه العيــون ‪.‬‬
‫إن ســنة اجلزاء تصف تلك احلركة من الضراء إيل السـراء‪ ،‬على أهنا حركة‬
‫حنــو نقطــة النهايــة‪ ،‬أو األجــل‪ ،‬تلــك اللحظــة الــي تغفــل عنهــا األمــم‪ ،‬يف زخــم‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪258‬‬

‫االنفتــاح الــذي يســبق اهلــاك‪ ،‬حــى إذا جــاء األجــل كان احلــدث األليــم ‪(.‬‬
‫وتلــك القــرى أهلكناهــم ملــا ظلمـوا وجعلنــا ملهلكهــم موعــداً ))ولننظــر إل ســورة‬
‫النمــل وهــي تعمــق هــذا املعــي ‪....‬‬

‫سورة النمل ‪-:‬‬


‫تصــف الســورة ابلعمــق القــرآين املعهــود ‪،‬طبيعــة األمــم قبــل ســاعتها ‪،‬‬
‫وتصــور تلــك الغفلــة الــي تعمــي العيــون عــن أمــارات اهلــاك ‪،‬فتقــول ((إن‬
‫الذيــن ال يؤمنــون ابآلخــرة زينّــا هلــم أعماهلــم ‪ . ))...‬وتصــور ذلــك يف ملكــة‬
‫ســبأ (وقالــو حنــن أولـوا قــوة وأولـوا أبس شــديد واألمــر إليــك ‪ )...‬وقولــه (وزيــن‬
‫هلــم الشــيطان أعماهلــم ‪ )..‬وقــول امللكــة حــن ســألت عــن العــرش (كأنــه هــو‬
‫‪ )....‬قيــل هلــا أدخلــي الصــرح ‪ .‬فلمــا رأتــه حســبته جلــة ‪ )....‬وعــن قــوم لــوط‬
‫(أأتتــون الفاحشــة وأنتــم تبصــرون)‪ ..‬وعــن قــوم صــاحل ‪( ..‬ومكــرو مكـرا ومكـران‬
‫مك ـراً وهــم ال يشــعرون) ‪ ..‬وعــن قــوم موســى ‪ ( ..‬وجحــدوا هبــا واســتيقنتها‬
‫أنفســهم )‪..‬‬
‫إن التعلــق ابحملسوســات ‪ ،‬خيفــي عنــد االنســان حاســة احلــذر والرتبــص‪،‬‬
‫وال شــك أن ســرعة احلركة اليت وصفتها الســورة عند ســيدان ســليمان كانت هي‬
‫القــوة الــي انتصــر هبــا علــي ُملــك امللكــة‪ ،‬إن االنتبــاه حلركــة التاريــخ واالهتمــام‬
‫ابملواصــات واملعلومــات‪ ،‬ومراقبــة التاريــخ أجــدى بكثــر مــن تكديــس األمـوال‬
‫وبنــاء القــوة الطائشــة ‪.‬‬
‫إن التأمــل يف الســورة يصــور لنــا اهلدايــة والعلــم علــي أهنــا اتصــال بقوانــن‬
‫احليــاة متكــن النــاس مــن احلركــة والتفاعــل مــع احليــاة أكثــر مــن القــوة واجلــروت‬
‫واملكــر والشــهوات بــل تصــور لنــا مســرة العلــم والرمحــة ورحلــة األنبيــاء علــي أهنــا‬
‫‪259‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫تســر وال تعــرف الوقــوف ‪ ،‬مهمــا بــدأ احلــق ضعيف ـاً أو جامــدا ومــا ذلــك إال‬
‫ألن العلــم احلقيقــي خيتصــر الزمــن ‪ ،‬ويقــرب املســافات ومــا أمجــل وصــف القــرآن‬
‫(وتــري اجلبــال حتســبها جامــدة وهــي متــر مــر الســحاب ) ‪.‬إن عــدم االنتبــاه‬
‫حلركــة التاريــخ واعتقــاد مجــوده هــي الغفلــة الــي تزيــن للظاملــن ظلمهــم وللمجرمــن‬
‫جرمهــم لكــن التاريــخ يتحــرك وال ينتهــي ‪.‬‬
‫إن القــرآن ملــئ ابحلديــث عــن مصــر الظاملــن الــذي اختلــف (املصــر)‬
‫ابختــاف أعمــال األمــم وجرمهــم ويؤكــد القــرآن علــي أن املصــر يرتبــط ابألجــل‬
‫‪259‬صــور ال علــى أنــه حــدث‬‫احملتــوم ويؤكــد لنــا انفــكاك الزمــن عــن عــامل األســباب وي‬
‫قــد يرتبــط ابملاضــي كمــا تتوهــم أو أنــه قــد يفاجئنــا فنعتقــد ابلصدفــة ألنــه زمــن‬
‫مقــدر تنتهــي فيــه األمــم مهمــا بــدت قويــة ومرتفــة ‪.‬‬
‫ومالحظــة أخــرة ‪ ،‬وهــي أن القــرآن يف هــذه الســور الــي حتــدث فيهــا‬
‫عــن هــاك األمــم ذكــر احلــق وأهلــه مســتضعفني ينتظــرون رمحتــه أو اإلنســان‬
‫يف خامتتــه كمــا يف حــال إبراهيــم عليــه الســام يف ســورة األنعــام وســورة إبراهيــم‬
‫وحــال الفتنــة يف ســورة الكهــف وحــال لــوط وصــاحل مــع قومــه يف ســورة النمــل‬
‫ويف ســورة فاطــر وامللــك والواقعــة والقيامــة وحــال النــي عليــه الصــاة والســام يف‬
‫ســورة الضحــى ‪ ،‬إذا عرفنــا هــذا فلننظــر للتاريــخ ‪.‬‬

‫الدكتاتورية و قوانينها‬
‫يقــول ابــن خلــدون حتــت عنـوان ‪ :‬يف أن اهلــرم إذا نــزل يف دولــة ال يرتفــع‬
‫قــال واهلــرم مــن األم ـراض املزمنــة الــي ال ميكــن دواءهــا وال ارتفاعهــا ملــا أنــه‬
‫طبيعــي واألمــور الطبيعيــة الــي ال تتبــدل وقــد بينتــه كثــر مــن أهــل الدولــة ممــن هلــم‬
‫يقظــة يف السياســة فــرى مــا نــزل بدولتهــم مــن عـوارض اهلــرم ويظــن أنــه ممكــن‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪260‬‬

‫االرتفــاع فيأخــذ نفســه بتــايف الدولــة وإصــاح مزاجهــا عــن ذلــك اهلــرم وحيســب‬
‫أنــه حلقهــا بتقصــر مــن قبلــه مــن أهــل الدولــة وغفلتهــم وليــس كذلــك فإهنــا‬
‫أمــور طبيعيــة ‪ .‬مث قــال ‪( :‬ورمبــا حيــدث عنــد آخــر الدولــة قــوة توهــم أن اهلــرم قــد‬
‫ارتفــع عنهــا ويومــض ذابهلــا إماضــة اخلمــود كمــا يقــع يف الــذابل املشــتعل فإنــه‬
‫عنــده مقاربــة انطفائــه يومــض إمياض ـةً توهــم االشــتعال وهــي انطفــاء ‪ ,‬فاعتــر‬
‫ذلــك والتغفــل عــن ســرهللا تعــاىل وحكمتــه يف إطـراد وجــوده علــي مــا قــدر فيــه‬
‫ولــكل أجــل كتــاب « ص ‪ ..190‬ويــكاد يكــون كالم ابــن خلــدون تفس ـراً‬
‫أليــة االنعــام الســابقة فهــو يــرى ان اهلــرم لــه اجــل حمتــوم وان ظاهــر االنتعــاش قبــل‬
‫النهايــة ختــدع كثــر مــن الساســة يف فهــم مســار دولتهــم) ‪.‬‬

‫هناية دولة فارس ‪:‬‬


‫بعد أربعة قرون من أتســيس إمرباطورية آل ساســان (ســنة ‪ )226‬علي‬
‫يــد أزدشــر ابــن اببــك وهــو عصــر طويــل تزعزعــت فيــه أســس االمرباطوريــة‬
‫الفارســية واختــل نظامهــا ‪ ،‬فالطبقيــة نظــام معــروف‪ ،‬و تقديــس األكاســرة‬
‫أمــر مشــهور ‪ ....‬ونظ ـرا لالســتبداد الــذي مارســه الساســانيون خاصــة بعــد‬
‫أن فرضـوا علــي النــاس الداينــة الزرادشــتية‪ ،‬ورغــم القــوة الكبــرة الــي متتعــت هبــا‬
‫دولــة فــارس والرفــاه الكبــر الــذي عاشــته يف هنايتهــا‪ ،‬والــذي ظهــر يف الغنائــم‬
‫الكثــرة جــداً الــي غنمهــا املســلمون مــن الفضــة والذهــب والياقــوت فضـاً عــن‬
‫وفــرة العمـران والبنــاء كاحلدائــق وغريهــا مــن قصــور آل ساســان إال أهنــا انتهــت‬
‫وســقطت يف أيــدي الفاحتــن املســلمني ‪.‬‬
‫و ال شــك أن الفتــح اإلســامي كان املســمار األخــر الــذي دق يف نعــش‬
‫تلــك اإلمرباطوريــة الــي أصاهبــا اهلــرم‪ ،‬وأعلــن األكاســرة عــن هنايتهــم حــن اندوا‬
‫أبهنــم ال زال ـوا قــوة عظمــى وغفل ـوا عــن كل املظــامل الــي تشــي بنهايتهــم مثــل‬
‫‪261‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫غلبهــم أمــام الــروم ‪ ....‬تلــك االمرباطوريــة املرتهلــة الــي أصاهبــا اهلــرم فاســتبدوا‬
‫وظلم ـوا حــي قتــل آخــر األكاســرة يزدجــرد الثالــث ‪-‬بعــد أن ظــل يطــارده‬
‫املســلمون ســنة ‪ 31‬ه ـ ‪ .‬ويــروي ابــن خلــدون قصــة طريفــة توضــح ذلــك يف (‬
‫الفصــل الثالــث واألربعــون ‪:‬‬
‫يف أن الظلــم مــؤذن خب ـراب العم ـران إعلــم أن العــدوان علــى النــاس يف‬
‫أمواهلــم ذاهــب آبماهلــم يف حتصيلهــا واكتســاهبا ملــا يرونــه حينئــذ مــن أن غايتهــا‬
‫ومصريهــا انتهاهبــا مــن أيديهــم وإذا ذهبــت آماهلــم يف اكتســاهبا وحتصيلهــا‬
‫‪ 261‬االعتــداء ونســبته يكــون‬‫انقبضــت أيديهــم عــن الســعي يف ذلــك وعلــى قــدر‬
‫انقبــاض الرعــااي عــن الســعي يف االكتســاب فــإذا كان االعتــداء كث ـرا عامــا يف‬
‫مجيــع أب ـواب املعــاش كان القعــود عــن الكســب) مث يقــول ‪:‬‬
‫( وانظــر يف ذلــك مــا حــكاه املســعودي يف أخبــار الفــرس عــن املوبــذان‬
‫صاحــب الديــن عندهــم أايم هبـرام بــن هبـرام ومــا عــرض بــه للملــك يف إنــكار مــا‬
‫كان عليــه مــن الظلــم والغفلــة عــن عائدتــه علــى الدولــة بضــرب املثــال يف ذلــك‬
‫علــى لســان البــوم حــن مســع امللــك أصواهتــا وســأله عــن فهــم كالمهــا فقــال لــه إن‬
‫بومــا ذكـرا يــروم نــكاح بــوم أنثــى وإهنــا شــرطت عليــه عشـرين قريــة مــن اخلـراب يف‬
‫أايم هبرام فقبل شــرطها وقال هلا إن دامت أايم امللك أقطعتك ألف قرية وهذا‬
‫أســهل مـرام فتنبــه امللــك مــن غفلتــه وخــا ابملوبــذان وســأله عــن مـراده فقــال لــه‬
‫أيهــا امللــك إن امللــك ال يتــم عــزه إال ابلش ـريعة والقيــام هلل بطاعتــه والتصــرف‬
‫حتــت أمــره وهنيــه وال قـوام للشـريعة إال ابمللــك وال عــز للملــك إال ابلرجــال وال‬
‫قـوام للرجــال إال ابملــال‪).....‬‬

‫مروان احلمار ‪-:‬‬


‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪262‬‬

‫عندما ظلم األمويون الناس‪ ،‬كان عليهم أن ينتظروا املفاجأة‪ ،‬فاملؤرخون‬


‫املســلمون عرفـوا هنايــة الدولــة األمويــة قريــن ذلــك الظلــم ‪ ،‬ولكــن الناظــر إيل قــوة‬
‫جيــش مــروان الثــاين ووفــرة املــال والعــدة والعتــاد عنــده‪ ،‬مل يتوقــع تلــك النهايــة الــي‬
‫مــى هبــا مــروان الثــاين وابلتــايل ســقوط الدولــة األمويــة ‪ .‬وقــد أرجــع املستشــرق‬
‫دانيــال دنيــت أن هزميــة مــروان بــن حممــد إىل أخطــاء عســكرية فحســب ‪،‬‬
‫وهــذا ممــا ال يعقــل‪ ،‬لكــن فهمنــا لســنة اجلـزاء جيعــل مــن تلــك القــوة الــي بــدا هبــا‬
‫مــروان الثــاين ماهــي إال حجــاب خيفــي الفشــل اإلداري‪ ،‬واالزدواج بــن الســلطة‬
‫واملــال ممــا جعــل هنايتهــم هبــذه الصــورة املفاجــأة ‪.‬‬
‫إن الظلــم والغفلــة الــي ظهــرت يف غيــاب القــدرة اإلداريــة الــي شــهد هبــا‬
‫املؤرخــون عــاوة علــي ابت ـزاز أم ـوال النــاس كل ذلــك كان ســبباً يف هنايــة دولــة‬
‫بــي أميــة‪ ،‬وقــد ظهــرت ســنة اجل ـزاء يف هنايتهــا حــن بــدت دولتهــم قويــة أمــام‬
‫حركــة الدعــوة العباســية ‪.‬‬
‫و حاول مروان أن يســتنجد ابلقبائل الشــامية يف قنسـرين ومحص ولكنها‬
‫مل تســتجب لــه بــل العكــس هامجتــه بعضهــا لغــرض ســلب مؤنــه وأرزاقــه‪ ،‬ومل‬
‫يســتطيع مــروان البقــاء طويـاً يف دمشــق حيــث انقســم النــاس إيل قســمني بــن‬
‫مؤيــد لألمويــن ومعــارض هلــم حيــث أقســمت بعــض القبائــل اليمانيــة ميــن الــوالء‬
‫لبــي هاشــم ‪.‬‬
‫فرتكهــا متجهــا حنــو فلســطني فمصــر‪ ،‬وكان أيمــل العــون مبصــر الــي كانــت‬
‫حينــذاك يف حالــة اضطـراب وفوضــى ورمبــا كان يهــدف التوغــل غـرابً إيل إفريقيــا‬
‫‪.‬وقــد فوجــئ مــروان وهــو خمتبــئ يف إحــدى كنائــس قريــة بوصــر بكتيبــة عامــر‬
‫املســلى املوصلــي وقتــل وهــو حيــارب يف ذي احلجــة ســنة ‪ 132‬ه متــوز ‪750‬‬
‫م ‪( .‬مرجــع ســابق)‬
‫‪263‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫ليس هوالكو وحده ‪-:‬‬


‫كان للدولــة العباســية م ـوارد ثــروة كبــرة مــن حنطــة وشــعري ورز ومثــور‬
‫وزيتــون وفواكــه وغريهــا‪ ،‬وهلــا مـوارد مائيــة عديــدة كمــا كانــت لديهــم تلــك الثــروة‬
‫املعدنيــة مــن الذهــب والنحــاس واحلديــد والفضــة واألحجــار الكرميــة واللؤلــؤ‬
‫واخلشــب ‪ .‬كمــا حســن العباســيون نظــام الــري والزراعــة وابتدعـوا طريقــة املقامســة‬
‫لتخفيــف احلمــل علــى الفالحــن وهــذا أدى ايل زايدة اإلنتــاج ‪.‬‬
‫و يف حقــل الصناعــة كانــت الصناعــة الرئيســية هــي صناعــة املنســوجات‬
‫‪263‬ـة لالســتهالك الداخلــي‬ ‫وكانــت تنتــج بكميــات كبــرة يف كل أحنــاء الدولـ‬
‫والتصديــر ‪ .‬وكان الشــطر األكــر مــن ذهــب العــامل يرتكــز فيهــا بفضــل مــا هتيــأ هلــا‬
‫مــن فائــض اقتصــادي كبــر ومــن ســيطرة علــي أعلــى البحــار وأرابح ضخمــة مــن‬
‫التجــارة مــع البــاد اإلفريقيــة واآلســيوية واألوروبيــة ‪(.‬التاريــخ النقــدي للتخلــف‬
‫ص‪ 18‬عــامل املعرفــة )‪ .‬كل هــذه الســيطرة والقــوة الظاهــرة ‪،‬ســرعان مــا اهنــارت‬
‫عندمــا اجتــاح املغــول العــامل اإلســامي ‪ ,‬وكان اجتياحهــم خيــر العــامل‪ ،‬أن هــذه‬
‫القــوة ختفــي اخلالفــات الكبــرة واالنقســامات الطائفيــة واملذهبيــة‪ ،‬واالســتبداد‬
‫السياســي الــذى كان العــامل اإلســامي يعانيــه يف تلــك الفــرة ‪ .‬ويصــف لنــا‬
‫املؤرخــون مقــدم التتــار البغــدادي فيقولــون ( أول قــدوم التيــار طلــع عســكر‬
‫بغــداد وكســروا بــرك التتــار وكان عســكر املســلمني دون عشــرة آالف وجــاء‬
‫هوالكــو يف حنــو مائــي ألــف و عســكر املســلمون مث ســروا يطلبــون اخلليفــة‬
‫وطلــع معــه القضــاة واملدرســون واألعيــان يف حنــو ســبع مئــة نفــس فلمــا وصلـوا‬
‫إىل احلربيــة جــاء األمــر حبضــور اخلليفــة ومعــه ســبعة عشــر نفس ـاً فاتفــق أن أيب‬
‫أحدهــم فحكــى يل أيب قــال ‪:‬ســقنا مــع اخلليفــة وانزل ـوا مــن بقــي عــن دواهبــم‬
‫وخربـوا رقاهبــم ووقــع الســيف يف بغــداد فبقــي القتــل أربعــن يومـاً‪ ،‬وأنزلـوا اخلليفــة‬
‫يف خيمــة والســبعة عشــر يف خيمــة‪ ،‬قــال والــدي ‪ -:‬فــكان اخلليفــة جيــيء إيل‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪264‬‬

‫عنــدان كل ليلــى ويقــول ‪:‬ادع ـوا يل ؛ إيل أن اتفــق أنــه كان يف خيمتــه فنــزل‬
‫عليهــا طائــر فبعــد ذلــك بعــث إليــه هوالكــو فأحضــره فقــال‪ :‬أيــش هــذا الطــر‬
‫ايــش عمــل ايــش قــال لــك ‪...‬مث جــرت حمــاوالت مــع اخلليفــة وابنــه مث أمــر هبمــا‬
‫فأخرجــا فرفســومها حــى مــاات ‪ )) .‬وكان ذلــك ســنة ‪ 656‬ه ـ ‪.‬‬

‫الس كاساس‬
‫عند دنو أجله يكتب الس كاســاس يف وصيته إين أعتقد أن ســبب هذه‬
‫الفعــال املارقــة واحملرمــة والشــائنة الــي اقرتفــت بشــكل ابلــغ احليــف واالســتبداد‬
‫والرببريــة‪ ،‬فــإن هللا ســوف يصــب علــي إســبانيا غضبــه وحنقــه‪ ،‬ألن إســبانيا‬
‫كلهــا قليــا أو أكثــر قــد انلــت نصيبهــا مــن الثــروات املمتزجــة ابلــدم الــي جــرى‬
‫اغتصاهبــا عــر كل هــذه اجلوانــب وكل هــذه اإلابدات ( مقولــة إلســباين عاصــر‬
‫فتــح املكســيك )‪« .‬والس كاســاس عاشــر البــااي الــي فعلهــا اإلســبان و دون‬
‫الدخــول يف التفاصيــل وجملــرد إعطــاء فكــرة جيــب أن نتذكــر دائم ـاً أن عــدد‬
‫ســكان األرض يف عــام ‪ 1500‬البــد و أنــه يبلــغ حنــو ‪ 400‬مليــون نســمة‪،‬‬
‫يســكن ‪ 80‬مليــون منهــم القارتــن اآلمريكيتــن‪ ،‬وحبلــول أواســط القــرن الســادس‬
‫عشــر ‪ ،‬يتبقــى مــن هــذه املاليــن مثانيــة عشــر مليــوان‪ ،‬أمــا إذا قصـران القــول يف‬
‫حديثنا على املكســيك فإن عدد ســكاهنا عشــية الفتح ‪ ،‬يبلغ حنو ‪ 25‬مليون‬
‫نســمة‪ ،‬بينمــا يبلــغ عــام ‪ 1600‬مليــون نســمة »‪.‬‬
‫هذه اإلابدة ‪ ،‬مل يتصور غبتها اإلسبان‪ ،‬وعندما كانت هناية إمرباطوريتهم‬
‫قريبــة طفــق أزوريــن املؤلــف اإلســباين بعــد أن اســتعرض أحــداث االســتعمار‬
‫اإلســباين األمريكــي ال جيــد أي داع للقلــق والتشــاؤم فهــو يقــول ‪:‬‬
‫‪265‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫«ليــس هنــاك أي تدهــور ‪ ،‬بــل إن عاملـاً جديــداً اكتشــف حديثـاً وأجنــب‬


‫عشـرين أمــة‪ ،‬وكســحت لغــة واحــدة أمامهــا العديــد مــن اللغــات احملليــة األصيلــة‬
‫‪ ،‬وشــيدت مشــروعات الري هائلة وخطت الطرق ‪ ،‬وأزالت الغاابت وقســمت‬
‫األرض وزرعتها وتسلقت اجلبال الشاهقة وبنيت اجلسور فوق األهنار العريضة‬
‫وأنشــأت اجملالــس احملليــة يف آالف املــدن والبــاد وتعــرف مجــوع غفــرة مناهــج‬
‫علــوم احليــاة يف التجــارة والصناعــة واملالحــة والزراعــة ورعايــة املاشــية يف جانــب‬
‫جديــد مــن املعمــورة حتمــل إيل شــعوبه ودولــه الثــروة والغــى فمــن الــذي قــام هبــذا‬
‫العمــل الضخــم اجلبــار ؟ أهــو فرنســىا وإجنلـرا وإيطاليــا والنمســا وروســيا متحــدة‬
‫‪265‬‬
‫كلهــا مع ـاً يف هــذا اجملهــود الفريــد املــارد ؟ كال‪ ،‬إهنــا أمــة واحــدة وقــد قامــت‬
‫بــه وحدهــا وهــذه األمــة هــي األمــة اإلســبانية ‪ )) .‬اتريــخ أورواب هربــرت فيشــر‬
‫ص‪ . 215‬لكن نبوءة الس كاســاس ‪ ،‬كانت أكثر عمقاً ‪ ،‬فقد خدع ازورين‬
‫اإلســبان مبــا ذكــره‪ ،‬وســرعان مــا أمهــل التاريــخ أولئــك الظلمــة املتجربيــن ‪ ،‬الذيــن‬
‫شــعروا بقوهتــم اخلَلقيــة واخلُلقيــة علــي شــعوب املــااي واألزتيــك ‪ ,‬لقــد قامــت امـرأة‬
‫مــن املــااي ملتهم ـةً الــكالب ‪ ,‬وعندمــا انتشــر اجلــدري بــن اهلنــود تركوهــم ومــا‬
‫أرســله إليهــم الــرب مــن عقــاب كمــا زعمـوا‪ ،‬وعندمــا تـُـرك اهلنــود ميوتــون جوعـاً‬
‫ألهنــم عندمــا فنـوا مــن العمــل يف بنــاء مكســيكو العظيمــة سـواء ابلســقوط مــن‬
‫أماكــن عاليــة أو حتــت ركام الألبنيــة الــي ي ـراد إعــادة تركيبهــا أو جوع ـاً ومرض ـاً‬
‫ألهنــم ال أجــرة هلــم وال طعــام لكــن هنايــة اإلســبان كانــت مدهشــة أمهلهــم العــامل‬
‫وأورواب وأصبح ـوا اتبعــن يف عهــد أســرة بوربــون لفرنســا وفقــدت مســتعمراهتا‬
‫وانتهــت مــن التاريــخ كقــوة عامليــة هلــا دورهــا واتثــر هــذه النهايــة كانــت ج ـزاءً‬
‫وفاق ـاً لذلــك الشــعور ابلتفــوق والغطرســة الــي مارســها يف خزائنهــم ذهــب‬
‫مســروق مغتصــب ممــزوج ابلدمــاء كمــا قــال الس كاســاس ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪266‬‬

‫وطبق ـاً لبعــض التقدي ـرات يتبــن أنــه يف الفــرة مــا بــن ســنة ‪1660-‬‬
‫‪ 1503‬نقــل مــن أمريــكا ايل إشــبيليه ‪181‬طن ـاً مــن الذهــب و ‪17000‬‬
‫طــن مــن الفضــة ( التاريــخ النقــدي ص‪ )40‬وقــد اعتقــد اإلســبان أن سياســة‬
‫املريكانتليــة يف شــكلها املعــدين اخلالــص حيــث متنــع هــذه النظريــة خــروج الذهــب‬
‫والفضــة مــن البــاد‪ ،‬اعتقــاداً منهــا أن ثروهتــا تــزداد بتكديــس الذهــب والفضــة‬
‫واكتنــازه و ابلتــايل تســتقر الدولــة وتســتمر الدولــة و تزدهــر‪ ،‬و لكــن ســرعان مــا‬
‫احنطــت اإلمرباطوريــة اإلســبانية‪ ،‬واثرت املســتعمرات ضدهــا يف أمريــكا اجلنوبيــة‬
‫كمــا أن سياســية االكتنــاز الــي منعــت التصديــر وحرمــت التجــارة‪ ،‬كل ذلــك‬
‫ســاهم يف ســقوط اإلمرباطوريــة ‪ .‬ولننظــر إيل أورواب يف فــريت احلــرب الكونيــة‬
‫األوىل والثانيــة لنــري كيــف ســقطت بريطانيــا كدولــة عظمــي ‪.‬‬

‫اململكة املتحدة ‪:‬‬


‫متكننا ان نتصور الفرتة اليت مرهبا العامل قبل احلرب العاملية األوىل وخاصة‬
‫بريطانيا كالتايل ‪:‬‬
‫‪ .1‬ازدهارورفــاه اقتصــادي عاشــته بريطانيــا والــدول الرأمساليــة بصفــة عامــة‬
‫يقــول هربــرت فيشــرعن تلــك الفــرة «وأخــذ االعتقــاد يــزداد قــوة ورســوخا أبن‬
‫العــامل يســر حنــو االحتــاد وبــدا للنــاس كأن رجــال السياســة قــد تعلم ـوا أخ ـراً‬
‫الــدرس أبن السياســة هــي فــن الســعادة البش ـرية »‬
‫‪ .2‬لكــن احلــرب دمــرت كل هــذه األمــال وتنــادت النمســا واملانيــا وبلغــاراي‬
‫وتركيــا ابلصلــح وبــدا النصــر حليف ـاً للــدول الدميقراطيــة الغربيــة ومــرت بريطانيــا‬
‫بفــرة اقتصاديــة كانــت مدينــة فيهــا ألمريــكا ابلشــيء الكثــر ‪.‬‬
‫‪267‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫‪ .3‬فــرة مــا قبــل الكســاد الكبــر عــرف فيهــا العــامل فــرة مــن االزدهــار‬
‫الالمــع مــن ‪29-24‬م ‪.‬‬
‫‪ .4‬فرتة الكساد الكبري من ‪33-29‬م‬
‫‪ .5‬مث بعــد ذلــك أصبــح االقتصــاد العاملــي يتعــاىف إىل أن كانــت احلــرب‬
‫العامليــة الثانيــة و ســقطت قاعــدة الذهــب بزعامــة بريطانيــا وبــدأ ظهــور الــوالايت‬
‫املتحــدة بنظــام بريتــون وودز والتفصيــل هلــذه املراحــل متعــذر وقــد خيــرج بنــا عــن‬
‫املوضــوع لكــن للنظــر إىل هــذا املنحــى ‪:‬‬
‫‪267‬‬

‫الحــظ االزدهــار الــذي ســبق الكســاد الكبــر واحلــرب الثانيــة منــذ‬


‫عــام ‪1939‬م وانظــر كيــف فوجئــت ابحلــرب ‪ ،‬وانظــر كيــف كانــت نتائــج‬
‫احلــرب الثانيــة وكيــف اختفــت بريطانيــا كقــوة اســتعمارية كــرى ( اجتــاه مصــر‬
‫حنــو الــوالايت املتحــدة مثــا) وانظــر إيل بــروز الــوالايت املتحــدة وتغــر قاعــدة‬
‫الذهــب الــذي كانــت مبوجبــه بريطانيــا قــوة عظمــى مســيطرة علــي قــوة الشــعوب‬
‫إن حلظــات االزدهــار لبعــض األمــم قــد تكــون هــي نفســها حلظــات النهايــة‬
‫«ولــكل أجــل كتــاب « ومــا تــدري نفــس أبي أرض متــوت» ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪268‬‬

‫و اآلن صــار األمــر واضح ـاً فيمــا يعــرف ابقتصــاد الفقاعــة فــكل كســاد‬
‫يســبقه رواج و تضخــم يف كل الــدورات االقتصاديــة الــي تــدور بــن الكســاد‬
‫و التضخــم فــإن زايدة عــرض املــال الربــوي يف االقتصــاد الرأمســايل جيعــل النــاس‬
‫حيلمــون فــوق أحالمهــم مبــا تغريــه هلــم املصــارف مــن إمكانيــة العيــش الرغيــد و‬
‫افــق آليــة الرغبــة و قطــاع اللــذه ممــا يرفــع األســعار فــوق القــدرة الشـرائية احلقيقيــة‬
‫لتحــدث بعــد ذلــك األزمــات الدوريــة و الكســاد حــن يكتشــف النــاس عجزهــم‬
‫عــن العيــش يف ذلــك املســتوى‪ ،‬فتضــخ األمـوال مــن الدولــة بســندات مــن الديــن‬
‫فينتعــش االقتصــاد فيحــدث التضخــم و بعدهــا الكســاد‪ ،‬و حــن يســبق‬
‫االزمــات زايدة كبــرة يف أســعار األصــول رغــم أهنــا يف احلقيقــة ليــس هلــا هــذه‬
‫القيمــة الــي تعطيهــا هــذا الســعر يشــبه األمــر الفقاعــة كمــا حــدث يف األزمــات‬
‫االقتصاديــة يف الثمانينــات و األزمــة األخــرة عــام ‪.2008‬‬

‫هتلر وموسوليين وآخرون ‪)3( :‬‬


‫النظــم الدكتاتوريــة ال ترتبــط بشــخص بــل هــي نســق و ظاهــرة اجتماعيــة‪،‬‬
‫و علــم الســلطة هــو مــا ميكــن أن يضعنــا يف قلــب الفهــم احلقيقــي هلــذه النظــم‪،‬‬
‫و معرفــة السياســة أو احلديــث عنهــا دون فهــم الدكتاتوريــة نــوع مــن اخليــال‪ ،‬هــذا‬
‫مــا نشــهده يف بعــض النظـرايت الــي حاولــت أن تبــن أن النظــم السياســية رغــم‬
‫اختالفهــا هــي جمــرد طيــف ممتــد مــن التحالفــات الواســعة نســميها الدميقراطيــة‬
‫إىل حتالفــات ضيقــة يصنعهــا الدكتاتــور عــر املــال و اجلــاه نســميها الدكتاتوريــة‪،‬‬
‫هــذا األمــر ظاهــر يف اتريــخ الظلمــة و الطغــاة‪ ،‬و إن مــن أمــة إال خــاف فيهــا‬
‫ظلمــة يعانــدون األداين والعلــم و املعرفــة و الفالســفة‪ ،‬مجــع بعضهــم أشــهرهم‬
‫ح ـوايل مائــة عــر التاريــخ الــذي نعرفــه‪ ،‬و الشــك أهنــم أكثــر ألن حتديــد معــامل‬
‫الدميقراطيــة خيتلــف مــن نظريــة ألخــرى‪ ،‬و كمــا رأينــا فــإن وجــود أكابــر داخــل‬
‫‪269‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫اجملتمــع ومســتضعفني يعــر عــن اضط ـراب خــرج عــن حــدود الت ـوازن أدى إىل‬
‫تفــاوت كبــر جــداً داخــل اجملتمــع‪ ،‬و أن تلــك الفئــة الــي تريــد اســتمرار ذلــك‬
‫الوضــع تقــوم بوضــع املســوغات الســتمرار ذلــك احلكــم اترة ابلتألــه و اترة‬
‫بصناعــة النظ ـرايت الــي تربهــن قــدرات ذلــك احلاكــم علــى حتقيــق الســعادة‬
‫للنــاس ‪.‬‬
‫رأينــا ذلــك يف القصــص القــرآين يف النمــرود و فرعــون و قــارون و ســبأ و‬
‫غــر ذلــك ممــا عــرت عنــه الســور الــي انطلقــت مــن ســنة اجلــزآء ابحلديــث عــن‬
‫‪269‬ـن يرجــع بعضهــم لبعــض‬ ‫املســتكربين و املســتضعفني و شــقاقهم يــوم القيامــة حـ‬
‫القــول ‪ .‬و قــد ركـزان أثنــاء احلديــث عــن التاريــخ عــن هنايــة هــؤالء الظلمــة حــن‬
‫يشــعرون ابالرتيــاح و ابلقــوة قبــل هنايتهــم‪ ،‬و هــذا ظاهــر يف كثــر مــن األمثلــة‬
‫كمــا بــن ابــن خلــدون‪ ،‬فمــاو زي دونــج دكتاتــور الصــن يف القــرن العشـرين بعــد‬
‫أن حكم الصني أربعة عقود وضع خالهلا كتابه األمحر و قســم اجملتمع الصيين‬
‫إىل قســمني و اســتغل الفالحــن يف حربــه الــي أشــعلها داخــل اجملتمع‪،‬قبــل أن‬
‫يــرك البلــد بثالثــن مليــون جائــع حــن أصــر علــى تــرك الزراعــة مــن أجــل خطــوة‬
‫لألمــام كمــا يدعــى و بعــد أن أقــام الثــورة الثقافيــة الــي ألغــت كل تنــوع و تعــدد‬
‫يف اجملتمــع الصيــي و تـرأ األبــن مــن أبيــه و األخ مــن أخيــه حوفـاً مــن أصحــاب‬
‫القمصــان احلمــر‪ ،‬و جــد نفســه معــزوالً عــن العــامل فقــرر أن يتقــرب مــن الشــيطان‬
‫األمريكــي‪ ،‬و حــدث لــه مــا كان‪ ،‬و كان كمــن اجتــاز عقبــة‪ ،‬كــؤود فهاهــو‬
‫نيكســون و عجــوزه هنــري كيســينجر يطــأ البســط احلمـراء يف الصــن‪.‬‬
‫لكــن يف تلــك األثنــاء الــي شــعر فيهــا مــاوزي دونــج ابلقــوة كانــت خيــوط‬
‫االنقســام تنســج حول حزبه و حفائه فكيف ميكن لطاغية أن يرجم الشــيطان‬
‫األمريكــي كل هــذا الســنني مث يعــود ليحتضنهــم‪ ،‬انقســم ابتاعــه و تقاتل ـوا و‬
‫صــارت اجلثثــت تطفــو فــوق األهنــار اختلفـوا يف عــدد القتلــى هــل ابملئــات مــن‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪270‬‬

‫األلــوف أم و صلـوا للمليــون لكــن احملصلــة هــو مــوت مــاو زي دونــج و حتطمــه‬
‫يف حلظــة مــن اللحظــات اإلنتصــار ‪.‬‬
‫هتلــر كذلــك بعــد أن غـزا العــامل و أشــعل حـرابً أكلــت األخضــر و اليابــس‬
‫بــدت أمــارات اهلزميــة جليشــه و صــار يشــعر ابخلــوف‪ ،‬لكــن هنايــة الدكتاتــور‬
‫لتأتيــه يف حالــة أتهبــه للمخاطــر‪ ،‬فقــد تعــرض حلادثــة عجيبــه قبــل أن ينتحــر‬
‫روهتــا كتــب التاريــخ فقــد اتفــق بعــض اجلنـراالت علــى اغتيالــه و قــد وصلـوا إىل‬
‫أن وضع ـوا املتفج ـرات يف مكتبــه و يف اجتمــاع لــه بزابنيتــه و انفجــرت القنبلــة‬
‫و ينجــو هتلــر أبعجوبــه ‪ .‬الربوابجانــدا األملانيــة صــورت األمــر علــى أهنــا رعايــة‬
‫إهليــة هلتلــر ليكمــل املســرة و ماهــي كذلــك بــل هــو اســتدراج و فــخ و قــع فيــه‬
‫هتلــر ليســتمر يف ظلمــه فلــو ســلم أملانيــا و دخــل يف معاهــدة صلــح لــكان ذلــك‬
‫أســهل الطــرق للحلفــاء الــذي اســتنزفوا يف تلــك احلــرب الشــعواء ‪.‬‬
‫أمــا موســيليين فهــو الــذي يريــد أن يغــزو برومــا النجــوم و املســؤول األول‬
‫عــن أكــر جمــازر التاريــخ يف ليبيــا حيــث فــرق األب عــن انبــه األم عــن زوجهــا‬
‫مبشــروعه برتحيــل الليبيــن و رميهــم مــن الطائ ـرات قبــل نفيهــم جلــزر مهجــورة‬
‫حيــث ال كالً و الغــذاء ‪ ،‬جيــد نفســه و قــد جــر إيطاليــا إىل كارثــة اقتصاديــة‪،‬‬
‫يقــرر امللــك عمانوئيــل اقالتــه مــن رائســة الــوزراء و حيجــر عليــه إىل أن ينقــذه‬
‫صديقــه هتلــر و يهــرب بــه‪ ،‬إىل أملانيــا و يؤســس لــه مجهوريــة يف مشــال ايطاليــا‪،‬‬
‫و بعــد أن متزقــت خيــوط العنكبــوت اهلتلريــة وصــار األخــر حيتــاج ملــن ينقــذه و‬
‫انقــذ احللفــاء علــى هتلــر و موسـوليين يقبــض االيطاليــون علــى موسـوليين ليقتــل‬
‫و يــدىل مــن رجليــه الليــايل ذات العــدد‪ ،‬و يكــون عــرة ضحكــت منهــا نســاء‬
‫رومــا حــى وصــل األمــر ألن يقضــو حاجتهــم علــى رأســه‪ ،‬فــأويت مــن حيــث ال‬
‫حيتســب و هــو يف أوج قوتــه هــو و مجهوريتــه املزعومــه ‪.‬‬
‫‪271‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫و مالنــا نذهــب بعيــداً فهاهــو القــذايف بكتابــه األخضــر‪ ،‬و حكمــه وجاهــه‬
‫ومالــه‪ ،‬جيــد نفســه قــد اندمــج ابلنظــام العاملــي ‪ ،‬و صــارت أقــوى الــدول تعطيــه‬
‫مفاتيــح مدريــد و تتقــرب لــه بنســاء رومــا و كرامــة رئيــس وزراء بريطانيــا حــن زاره‬
‫يف خيمتــه كالتلميــذ أو عندمــا زارتــه كونداليـزا رايــس وزيــرة اخلارجيــة يف حكومــة‬
‫بــوش االبــن و هــي كاملوظــف الــذي ينتظــر وظيفتــه خائفــا و راجيـاً‪ ،‬و بعــد أن‬
‫قفــل كل امللفــات ســوآء العلميــات االرهابيــة الــي قــام هبــا يف لــو كــر يب أو يف‬
‫قضيــة حقــن أطفــال بنغــازي ابأليــدز أو أبســلحة الدمــار الشــامل‪ ،‬جيــد ذلــك‬
‫العــامل و قــد ختلــى عنــه و تركــه يف يــد شــعبه ذليــا طريــداً يتحايلهــم أن ينبــس‬
‫‪271‬‬
‫ببنــت شــفة‪ ،‬دون جــدوى فــإذ مبلــك امللــوك و رئيــس الصح ـراء و قــد تغطــي‬
‫وجهــه ابلدمــاء ابكي ـاً متحس ـراً‪ ،‬يرفعونــه إىل اهلــوآء ليســقط يف إىل اإلرض و‬
‫يســقط معهــا حكمــه و هيلمانــه ‪.‬‬

‫هناية اإلمرباطورية الشريرة‪:‬‬


‫يف هنايــة الدولــة الروســية الســابقة بــدأت الدعــوة ايل إعــادة البنــاء مــن‬
‫مخس ســنني خلت من شــهر ابريل ‪1985‬م وقد طرحها غورابتشــوف كخطة‬
‫إصالحيــة أمــام اللجنــة املركزيــة للحــزب ومتــت املوافقــة عليهــا يف املؤمتــر الســابع‬
‫والعش ـرين وهــي موضــوع كتابــه الــذي صــدر أوال ابللغــة االجنليزيــة الربوس ـريكا‬
‫عمليــة إعــادة بنــاء والتفكــر السياســي اجلديــد لنــا والعــامل أمجــع ونقــل إيل عديــد‬
‫اللغــات وحظــي أبربــع ترمجــات عربيــة مــن بينهــا الرتمجــة الــي صــدرت عــن دار‬
‫الكرمــل للنشــر والتوزيــع (‪ .)4‬يف هــذا الكتــاب نقـرأ «لقــد حــل جمتمعنــا وبنجــاح‬
‫قضــااي اتمــن نرجــي العمــل وقــدم الضمــاانت االجتماعيــة األساســية لكنــه مل‬
‫يتمكــن مــن أن يســتمر يشــكل كامــل اإلمــكاانت االشـراكية فيمــا يتعلــق بتلبيــة‬
‫احلاجــات املتناميــة لتحســن ظــروف املســكن واتمــن املـواد الغذائيــة كمــا وكيفــا‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪272‬‬

‫وتنظــم عمــل وســائط النقــل وفــق املســتوي املطلــوب وحتســن اخلدمــات الطبيــة‬
‫والتعليميــة ومعاجلــة املشــاكل األخــرى ‪.‬‬
‫و لكنــه يقــول بعــد ذلــك ‪« :‬إن لدينــا نتاج ـاً ضخم ـاً مــن الفــوالذ وامل ـواد‬
‫اخلــام والطاقــة والوقــود ال مثيــل لــه يف العــامل ومــع ذلــك جنــد نقصـاً يف هــذه املـواد‬
‫بســبب التبديــد وقصــور االســتخدام وبلــدان حتتــل املركــز األول يف العــامل مــن‬
‫حيــث إنتــاج حبــوب األعــاف ولكنــه مضطــر الســترياد ماليــن األطنــان مــن‬
‫هــذه املــادة ســنوايً ولدينــا أكــر عــدد مــن األطبــاء وأســرة املستشــفيات ابلنســبة‬
‫لــكل ألــف مواطــن‪ ،‬وابلرغــم مــن ذلــك تعــاين نوقــص خطــرة وتدنيــا يف مســتوي‬
‫العنايــة الصحيــة ‪ .‬وصوارخينــا تشــق طريقهــا بدقــة متناهيــة حنــو مذنــب هــايل‬
‫ويشــرع لوعدهــا مــع كوكــب الزهــرة ولكــن رغــم النصــر للفكــر اهلندســي والعلمــي‬
‫تالحــظ ختلفــا واضحــا يف جمــال اســتخدام املنجـزات العلميــة لتلبيــة االحتياجــات‬
‫االقتصاديــة وكذلــك ختلفــا يف األجهــزة املخصصــة لالســتخدام املنــزيل ابلنســبة‬
‫للمســتوي العصــري ‪ .‬هــذا التناقــض هــو مثــال ظاهــر علــي ســنة اجلـزاء فروســيا‬
‫امتلكــت كل مــا ذكــره الرئيــس غورابتشــوف وهــي صــورة القــوة والتملــك لكنهــا‬
‫كمــا ذكــر الرئيــس كانــت تعــاين مــن خلــل داخلــي كبــر ‪.‬‬
‫إهنا صور متكررة يف األمم‪ ،‬أموال مكدسة كذهب إسبانيا أو مستعمرات‬
‫بريطانيــا او إنتــاج روســيا‪ ،‬وتناقــض داخلــي وقهــر واســتبداد حــي إذا غفــل أكابــر‬
‫تلــك األمــم وجمرموهــا‪ ،‬وزينــت هلــم الشــياطني وهــم اخللــود ‪ ,‬واطمأنــت لثقافــة‬
‫التكديــس كانــت النهايــة املفاجئــة كنهايــة اإلمرباطوريــة الش ـريرة حســب تعبــر‬
‫الرئيــس اآلمريكــي نيكســون ‪.‬‬
‫وعلينــا أن نالحــظ هنــا أن االنتبــاه هلــذه التناقــض قــد ســهل يف عص ـران‬
‫احلديــث فــإن الــدول تســتطيع أن تالحــظ مي ـزان املدفوعــات ومعــدالت النمــو‬
‫‪273‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫ومؤشـرات التنميــة ومــع ذلــك كلــه جنــد إصـرار حــكام تلــك الــدول علــى املضــي‬
‫قدمــا يف سياســة القمــع واإلرهــاب وهــذا ممــا ال جتــد لــه تفس ـراً إال أن الكــر‬
‫والعوامــل النفســية متنعهــم مــن الرجــوع عــن تلــك السياســات اخلاصــة حــي وإن‬
‫حــدث ذلــك فلــن يكــون إال بعــد فـوات األوان وحصــول املفاجــأة وقــرب النهايــة‬
‫‪.‬‬
‫لقــد دعــا غورابتشــوف إيل االنتبــاه فقــال ‪ :‬أبن تكــدس كميــة ضخمــة مــن‬
‫العتاد احلريب وخباصة النووي لدى الدولتني العظميني ليحمل البلدين مسؤولية‬
‫خاصــة اجتــاه العــامل أمجــع وحتملهمــا وجــوب الســعي‪273‬لتصحيــح العالقــات فيمــا‬
‫بينهمــا‪ .‬هــذا الشــعور ابخلطــر لــو اســتطاعت الشــعوب تنميتــه واالســتفادة منــه‬
‫يف تغيري سياســات حكوماهتم رمبا كان له أثر يف زايدة عمر دوهلم ولكن لكل‬
‫أمــة أجــل قاعــدة رابنيــة ال ميكــن أن ننســاها حبــال مــن األحـوال ‪.‬‬
‫هــذه األمثلــة أرجــو أن تكــون قــد أضــاءت شــيئا مــن ظلمــات الغفلــة عــن‬
‫ســنة اجلـزاء واختــم بــكالم األســتاذ الراشــد‪« :‬قــال يف القــرآن الكــرمي شـواهد ويف‬
‫كتــب التاريــخ ويف مــروايت املعمريــن وحملمــود شــتيت خطــاب وهــو مســلم وافــر‬
‫الصــدق كتــاب عنوانــه عدالــة الســماء يــروي بعــض قصــص مدارهــا عــن هــذه‬
‫املوازيــن حــي أن قاتــا قتــل قتي ـاً رمــاه يف حفــرة وبعــد دهــر طويــل أراد رجــل‬
‫اثلــث قتــل القاتــل فهــرب منــه وظــل يركــض ســاعة يتنقــل مــن خمبــأ ايل خمبــأ مث‬
‫مل جيــد يف النهايــة مــا يواريــه إال احلفــرة الــي رمــى فيهــا ضحيتــه القدميــة فجــاء‬
‫اآلخــر فقتلــه فيهــا “‪.‬‬
‫مث قــال ‪ :‬وهــاك األمــم حــن يشــيع املنكــر وتنتشــر املعاصــي يشــاهد يف‬
‫املــدن احلريــة ومدينــة بومــي الفاســقة جبنــوب إيطاليــا حمفوظــة مــن يــوم أهلكهــا‬
‫بركان فيزوف قبل ألفي ســنة وقد جتولت هبا ورأيت دانن اخلمر وصور النســاء‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪274‬‬

‫الع ـرااي كأهنــا رمســت أمــس (‪ .)4‬إن اجل ـزاء ســنة ماضيــة يف األف ـراد واجملتمعــات‬
‫وهناايت األمم مســورة يف كتب التاريخ بني النمرود وفرعون وذو نواس يف ســبا‬
‫ويزدجــرد يف فــارس ومــروان بــن حممــد واملســتعصم اخلليفــة العباســي وفردينانــد‬
‫وموسـوليين وهتلــر هــذا ســحل وهــذا انتحــر وأخـراً رأينــا هنايــة القــذايف يف أبشــع‬
‫مــا يكــون جـزاءً وفاقـاً ملــا كان عليــه مــن وحشــية وســادية وغريهــم كثــر إال أن‬
‫هــذه الســنة ومراحلهــا ومتتاليتهــا وارتباطهــا ابلزمــن هــو مــا تبــن لنــا مــن خــال‬
‫هــذا العــرض ‪.‬‬
‫‪275‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫الفصل التاسع‬

‫التغري العظيم وسنة االستخالف‬

‫نصل اآلن إىل آخر السنن اخلمسة اليت تساهم يف تسيري حركة التاريخ‪،‬‬
‫وتضبــط إيقاعــه وهــي ســنة االســتخالف ‪ .‬وترتبــط هــذه الســنة ابملــكان وحتكــم‬
‫تغـرات هائلــة يولــد فيهــا العــامل ويتجــدد بعــد أحقــاب كثــرة مــن عمــره ‪ .‬هــذه‬
‫‪ 275‬ووراثــة األرض بــن األمــم‬
‫التغـرات اجتماعيــة تظهــر يف تــداول األايم بــن النــاس‬
‫‪ ،‬و كونيــة تظهــر يف تبـ ّدل صــور الطاقــة ومصــادر العيــش‪ ،‬وكافــة التغـرات البيئيــة‬
‫الــي أثــرت يف حيــاة النــاس ‪.‬‬

‫سنة االستخالف ‪:‬‬


‫اخلالفــة ‪ :‬تعــي النيابــة عــن الغــر‪ ،‬قولــك خلــف فــان فــاانً يعــي القيــام‬
‫ابألمــر مــن بعــده‪ ،‬وهنــاك إذا مســتخلَف و مســتخلِف بفتــح الــام و كســرها‬
‫(انظــر الكليــات للكفــوي ص‪ .)237‬واخلالئــف مجيــع خليفــة‪ ،‬وقــد تكــون‬
‫للفــرد وللجماعــة‪ ،‬فيخلــف اإلنســان إنســاانً آخــر يف مالــه وأهلــه‪ ،‬وخيلــف‬
‫ـوم قومـاً آخريــن يف أرضهــم أو ثقافتهــم أو زماهنــم‪ ،‬فهنــاك اســتخالف مــكان‬ ‫قـ ٌ‬
‫واســتخالف أرض واســتخالف زمــان وقــد تتداخــل هــذه الكلمــة مــع لفــظ‬
‫ـورث فقيــل املـراث األمــر القــدمي توارثــه اآلخــر عــن األول‪،‬‬
‫املـراث‪ ،‬واإلرث واملـ ّ‬
‫والبقيــة مــن الشــيء‪ ،‬وقيــل اإلرث يف احلســب والــورث يف املــال ( الكفــوي‬
‫ص‪ .)78‬وهذا يدل على أن الوراثة فيها معىن االســتمرار لألصل‪ ،‬والبقاء مع‬
‫االنتقــال‪ ،‬بعكــس االســتخالف فــإن فيــه معــى احلداثــة واجل ـ ّدة‪ ،‬وأن يســتأنف‬
‫غري العمل األول إما لعجز األول أو تشريفاً للمستخلّف ونظراً يف قدرته على‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪276‬‬

‫القيــام بواجــب اخلالفــة‪ ،‬فالوراثــة تعــي ابلضــرورة فنــاء األول‪ ،‬أمــا االســتخالف‬
‫فــا يعــي ابلضــرورة ذلــك ‪.‬‬
‫و االســتخالف طريــق للتمكــن‪ ،‬واملـراث هــو املــادة الــي تبقــى ويســتطيع‬
‫اإلنســان أو اجلماعــة التمكــن مــن خالهلــا‪ ،‬فــإذا ورث اإلنســان مــاالً‪ ،‬فهــذا‬
‫يعــي أنــه اســتحق ملكيتــه‪ ،‬ولكــن هــذا ال يعــي متكنــه منــه‪ ،‬فقــد يكــون عاجـزا‬
‫ً أو صغ ـراً أو ســفيهاً ‪ .‬وقــد ُجعــت هــذه املصطلحــات يف آيــة واحــدة‪ ،‬قــال‬
‫تعاىل « ونريد أن منن على الذين استضعفوا يف األرض وجنعلهم أئمة وجنعلهم‬
‫الوارثــن ومنكــن هلــم يف األرض » ‪ .‬فالوراثــة هنــا مبعــى االســتخالف والتمكــن‬
‫هي املرحلة اليت أتيت بعد االســتخالف ‪ .‬واملعىن الذي نقصده ابالســتخالف‬
‫يف هــذا املبحــث‪ ،‬تلــك املتتاليــة املتكاملــة الــي تنتقــل فيهــا قــدرات أمــة أو‬
‫جمموعــة مــن األمــم إمــا إىل أمــة أخــرى أو جيــل آخــر مــن النــاس ‪ (.‬اســتخالف‬
‫الزمــان )‬
‫هــذا االنتقــال قــد يكــون يف األرض ( اســتخالف مــكان ) وقــد يكــون‬
‫يف األفـراد واألجيــال ( اســتخالف انســان) و مــا حيكــم هــذا مــن توريــث وزايدة‬
‫يف عــدد الســكان و تفــاوت يف النمــو الســكاين بــن دول خمتلفــة ‪ .‬وقــد يكــون‬
‫ذلــك يف الســلطة والســيطرة فنســميها متكــن أو خالفــة ‪.‬‬

‫عناصر سنة االستخالف ‪:‬‬


‫التجــدد مســة مــن مســات احليــاة‪ ،‬وداللــة مــن دالئــل العظمــة اإلهليــة‪ ،‬الــي‬
‫ظهــرت يف مظاهــر احليــاة املتجــددة ‪ ،‬والتغ ـرات الكونيــة اهلائلــة‪ ،‬الــي حتــدث‬
‫عــر الزمــن املمتــد مــن بدايــة احليــاة إىل هنايتهــا ‪ .‬هــذا التجــدد والبعــث ظاهــرة‬
‫متكــررة يف كثــر مــن الكائنــات احليــة والظواهــر الطبيعيــة واألشــياء ال تتحــرك يف‬
‫‪277‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫مســار واحــد‪ ،‬إمنــا هــي تعــرف لغــة الكمبيوتــر بــن الصفــر والواحــد‪ ،‬أو مــا يشــابه‬
‫الكوانتــم يف الفي ـزايء احلديثــة ‪ .‬و حيــدث ذلــك يف التاريــخ مــن خــال النمــو‬
‫الســكاين والتطــورات التقنيــة املدعومــة ابلنمــاذج العلميــة‪ ،‬والتغ ـرات الثقافيــة‬
‫الــي تصحــب ذلــك عــر تغ ـرات مكانيــة وســقوط قــوى عظمــى ابســتئناف‬
‫جديــد حلركــة التاريــخ ‪ .‬لــذا فعناصــر هــذه الســنة ‪:‬‬
‫• •النمو السكاين وسنة التوالد ‪.‬‬
‫• •التغريات البيئية ‪.‬‬
‫‪277‬‬
‫• •الثورات العلمية ‪.‬‬
‫• •التغريات اجليو اسرتاتيجية ‪.‬‬
‫نتعــرض اآلن ملتتاليــة أو ســيناريو يشــرح هــذه الســنة وســنذكر بعــد العــرض‬
‫القــرآين هــذه العناصــر عــر التاريــخ بشــئ مــن التفصيــل ‪.‬‬

‫متتالية االستخالف ( سلسة نقل احلضارات ) ‪:‬‬


‫• •يف هنايــة مرحلــة مــن مراحــل التاريــخ ينتشــر اضط ـراب يف األرض وتكثــر‬
‫الك ـوارث واألزمــات ‪.‬‬
‫• •يصحب ذلك ازدايد يف عدد السكان وتفاوت بني احلضارات يف ذلك ‪.‬‬
‫• •يصحــب ذلــك كشــوفات علميــة وثــورات حدثــت عــر التاريــخ صناعيــة‬
‫ومعلوماتيــة ‪....‬هتيــئ الظــروف لتحــوالت فكريــة وثقافيــة ‪.‬‬
‫• •حتدث تغريات يف ميزان القوى وتزداد القدرة على التوقع و تنشــأ نظرايت‬
‫ورؤى تقود مؤسسات الدولة واجملتمع ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪278‬‬

‫• •تبــدأ العالقــة تتشــكل عــر ســنة التدافــع بــن قــوة وجمموعــة قــوى أخــرى يف‬
‫التشــكل مــن جديــد ‪.‬‬
‫حــدث هــذا عــر التاريــخ كمــا هــو ظاهــر يف الثــورة الزراعيــة ومــا تبعهــا‬
‫مــن تغــر دميوغ ـرايف وتغــر جي ـوا س ـراتيجي أعــي يف تغــر القــوى املســيطرة يف‬
‫املــكان واإليديولوجيــا ‪ .‬ولكــن السـؤال الــذي جيــب أن جنيــب عنــه كيــف جنمــع‬
‫بــن الــدورات التارخييــة املتكــررة واملســار اخلطــي التقدمــي يف الكشــف العلمــي‬
‫والنمــو الســكاين وزايدة القــدرة علــى التوقــع مــن احلاضــر إىل املســتقبل أو مــن‬
‫الشــهادة إىل الغيــب !‬
‫وميكــن أن نقــارن هــذا التداخــل بسلســلة نقــل اإللكــروانت يف‬
‫الكيميــاء احليويــة والــي عرفنــا مــن خالهلــا كيــف يكــون اجلســم طاقتــه‪ ،‬وهــي‬
‫ابختصــار أن يف كل خليــة بيــت لصناعــة الطاقــة يســمى امليتوكونــدراي‪ ،‬فيهــا‬
‫تنتقــل اإللكــروانت ( الشــحنات الســالبة ) عــر جمموعــة مــن الربوتينــات الكبــرة‬
‫احلجــم نســبياً ومــع كل الكــرون يرتبــط ابلربوتــن ختــرج شــحنة إجيابيــة ( بروتــون‬
‫) وهكــذا تتجمــع جمموعــة مــن الربوتــوانت الــي تشــكل ســيالً دافعـاً يتحــد مــع‬
‫بعــض العناصــر لتكويــن الطاقــة واملــاء ‪.‬‬
‫و األمر شبيه مبا حنن فيه‪ ،‬حيث أن كل دورة اترخيية خترج انجتاً حضارايً‬
‫( علــم‪ ،‬صناعــة‪ ،‬لغــة ‪ ،‬أو نتائــج ســلبية وســنن ســيئة كقــوم لــوط ‪ )...‬هــذه‬
‫النتائــج جتمــع ليكــون ســيالً هائ ـاً مــن املعرفــة الــي نعيشــها اآلن ( أو الفســاد‬
‫األخالقــي املنتشــر) فالعلمــاء شــعروا ابلقــدرة اهلائلــة الــي ميتلكهــا اإلنســان يف‬
‫هــذا العصــر ‪ ,‬وشــعروا أن مــا نعلمــه حنــن‪ ،‬مل يكــن خيطــر ببــال أحــد‪ ،‬يقــول‬
‫نيوتــن ( أبــدو لنفســي كمــا لوأنــي صــي يلعــب علــى شــاطئ البحــر تلفــت‬
‫انتباهــه مــن فينــة إىل أخــرى حصــاة أنعــم أو صدفــة أمجــل مــن العاديــة‪ ،‬بينمــا‬
‫‪279‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫ميتــد حميــط احلقيقيــة العظيــم أمــام انظريــه دون اكتشــاف «( ميتشــيو كاكــو عــامل‬
‫املعرفــة ص‪.)11‬‬
‫فالتاريــخ الــدوري وظيفتــه هــو إخـراج منتجــات حضاريــة تتجمــع عــر الزمــن‬
‫لتشــكل خطــا متسلســا يعــر عــن تقــدم البش ـرية يف متواليــة ســكانية ومعرفيــة‬
‫تنتقــل األخــرة فيهــا مــن الشــهادة إىل الغيــب‪ ،‬كمــا ســنزيد إيضاحــا مــن خــال‬
‫العــرض القــرآين واملراجعــة الفكريــة هلــذه النظريــة مــع بعــض النظ ـرايت احلديثــة‬
‫‪ .‬نبــدأ ابلقــرآن الكــرمي وبنفــس الطريقــة نذكــر الســور الــي انطلقــت مــن هــذه‬
‫‪279‬‬ ‫الســنة ‪.‬‬

‫الثورات يف القرآن الكرمي ‪:‬‬


‫عرضــت عــدة ســور قرآنيــة لســنة االســتخالف ‪ ،‬وهــذه الســور هــي‬
‫األع ـراف‪ ،‬احلجــر‪ ،‬مــرمي‪ ،‬املؤمنــون ‪ ،‬القصــص ‪ ،‬يــس ‪ ،‬الشــورى ‪ ،‬ق ‪ ،‬ن ‪،‬‬
‫اإلنســان ‪ ،‬االنشــقاق ‪ ،‬الغاشــية ‪ ،‬الشــرح ‪ ،‬التكاثــر ‪ ،‬اإلخــاص واملعوذتــن‬
‫‪ .‬هــذه الســور إبمجــال تذكــر عــدة قضــااي متالزمــة مــع بعضهــا البعــض وهــي ‪:‬‬
‫• •قصــة آدم واإلنســان بصفــة عامــة مــع الشــيطان أو بطريقــة أخــرى ‪ ,‬قصــة‬
‫اســتخالف اإلنســان علــى األرض ‪.‬‬
‫• •البعــث كحقيقــة حتــدث بعــد مــوت اإلنســان وتعميــم هــذه احلقيقيــة كوني ـاً‬
‫يف عــامل النبــات والكــون يف تعاقــب الليــل والنهــار‪ ،‬وســنة التوالــد الــي تعــي اســتمرار‬
‫البش ـرية عــر الت ـزاوج بــن األزواج البش ـرية واحليوانيــة والنباتيــة ‪....‬اخل ‪.‬‬
‫• •ظاهــرة التعايــش ‪ :‬وذكــر ذلــك يف أكثــر مــن موضــع فالتعايــش يعــي أن يف‬
‫األرض قــدرة علــى توفــر حاجــات اإلنســان فيهــا مقــدرات تكفــي البشـرية ( ظاهــرة‬
‫الوفــرة ) وذلــك حيــدث عــر الكشــوفات الــي يقدرهــا هللا للبشــر يف مصــادر امليــاه‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪280‬‬

‫والطاقــة والتقنيــة‪ ،‬لــذا فالتصــور اإلســامي لظاهــرة الوفــرة متثلــه ظاهــرة التعايــش شـريطة‬
‫أن يكــون هنــاك كشــف علمــي وعدالــة يف التوزيــع ‪.‬‬
‫• •ذكــر الرمحــة يف ظاهــرة اخللــق واإلحيــاء للنبــات واإلنســان و إخـراج النهــار‬
‫و بعــث الرســل ( كمــا ســورة يــس ) ‪.‬‬
‫• •هــذا التكـرار هلــذه القضــااي‪ ،‬كل ســورة حســب ســياقها‪ ،‬جعلنــا نذكــر هــذه‬
‫الســور علــى أهنــا تنطلــق مــن ســنة االســتخالف كمــا ســنفصل يف الفصــل االخــر‬
‫مــن هــذا الكتــاب ‪ .‬ســنبدأ ببعــض هــذه الســور لتفصيــل املتتاليــة الــي عرضــت لســنة‬
‫االســتخالف ‪.‬‬

‫ميثاق الفطرة يف األعراف ‪:‬‬


‫ذكــرت ســورة األع ـراف قصــة آدم‪ ،‬واســتخالف اإلنســان يف األرض‪،‬‬
‫قــال تعــاىل ‪« :‬ولقــد مكناكــم يف األرض وجعلنــا لكــم فيهــا معايــش قلي ـاً مــا‬
‫تشــكرون “(االيــة ‪ . )10‬والربــط هنــا واضــح بــن التمكــن والتعايــش‪ ،‬فــاألرض‬
‫ســخرت وذللــت لتكــون مســرحاً حلركــة النــاس‪ ،‬ومتكينهــم منهــا ال يكــون إال‬
‫بتجــدد صــور الطاقــة وتوافــر كشــف علمــي يناســب األوضــاع االقتصاديــة‬
‫واالجتماعيــة‪ ،‬والتطــور الفكــري والسياســي والعالقــة بــن احلضــارات ومــدى‬
‫نضجها ‪ .‬وذكرت الســورة بعد ذلك اســتخالف هللا آلدم ونزوله لألرض بعد‬
‫أن م ّكــن مــن اجلنّــة ( اســكن أنــت وزوجــك اجلنّــة وكال منهــا حيــث شــئتما وال‬
‫تق ـراب هــذه الشــجرة فتكنــا مــن الظاملــن)‪.‬‬
‫هذا التمكني وما تبعه من اســتخالف يف األرض بعد أن أفلح الشــيطان‬
‫يف إغـواء آدم‪ ،‬يالحــظ ســياق الســورة التفصيــل يف الكيفيــة الــي انتقــل هبــا آدم‬
‫مــن التمكــن لالســتخالف مــن اإلغ ـواء إىل رابعيــة الفحشــاء والبغــي والشــرك‬
‫‪281‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫واجلهل ‪ .‬وتذكر لنا الســورة بعد ذلك املســار اخلطي للبشـرية‪ ،‬وتؤكد أن األمم‬
‫حتركــت يف دورات متتابعــة‪ ،‬دون أن تفطــن لألخطــاء الــي كان عليهــا جتنبهــا‬
‫إن أحســنت االســتفادة مــن دروس املاضــي ‪ .‬قــال تعــاىل « كلمــا دخلــت أمــة‬
‫لعنــت أختهــا ‪ ,‬حــى إذا ّادارك ـوا فيهــا مجيع ـاً قالــت أخراهــم ألوهلــم ربنــا هــؤالء‬
‫أضلــوان فآهتــم عــذاابً ضعفـاً مــن النــار‪.)38( »...‬‬
‫فتبــن الســور تكـرار األخطــاء والــدورات املتكــررة الــي مل ينشــأ عنهــا الوعــي‬
‫ابخللــل الكامــن وراء تلــك الــدورات‪ ،‬وترســم لنــا الصــورة الــي حيــدث هبــا نقلــة‬
‫‪281‬ـي صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫عظيمــة مــن وراء تلــك الــدورات املتكــررة كرســالة النـ‬
‫تشــبه ذلــك حبيــاة األرض بعــد مواهتــا قــال تعــاىل «وهــو الــذي يرســل الريــح بشـراً‬
‫بــن يــدي رمحتــه حــى إذا أقلــت ســحاابً ثقــاالً ســقناه لبلــد ميــت فأنزلنــا بــه املــاء‬
‫فأخرجنــا بــه مــن كل الثم ـرات كذلــك خنــرج املوتــى لعلكــم تذكــرون ‪ .‬والبلــد‬
‫الطيــب خيــرج نباتــه إبذن ربــه والــذي خبــث ال خيــرج إال نكــدا “(‪)58-57‬‬
‫والنكــد هــو العســر املمتنــع عــن إعطــاء اخلــر‪ ،‬ففــي اآليــة متثيــل حليــاة األمــم حبيــاة‬
‫األرض » ( وقــد ذكــر ذلــك عــن النحــاس وجماهــد وغريمهــا ) ‪.‬‬
‫و املثــل ال يشــرط يف االســتخالف أن يتبعــه عمــارة لــأرض‪ ،‬بــل قــال (‬
‫والبلــد الطيــب حيــرج نباتــه إبذن ربــه ) فثمــار ونتــاج تلــك احلضــارة الطيبــة‪ ،‬أي‬
‫الــي كانــت تربتهــا صاحلــة ونشــأهتا صحيحــة‪ ،‬هــي الثمــار الــي تســاعد يف عمــارة‬
‫األرض ومنــع الفســاد فيهــا‪ ،‬أمــا الرتبــة الفاســدة فــإن املــاء الــذي حيييهــا ال ينتــج‬
‫شــيئاً فهــي تربــة ختفــي حتتهــا قســوة وفســاداًكمــا يف آيــة البقــرة « كصفـوان عليــه‬
‫تـراب فأصابــه وابــل فرتكــه صلــداً » ‪ .‬وهــذا ميثــل احلضــارات الــي أمثــرت اجلهــل‬
‫والقتــل وإهــاك احلــرث والنســل ومــا أكثــر ذلــك يف قصــة االســتخالف ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪282‬‬

‫و تذكــر الســورة قصص ـاً اترخييــة متيــز االســتخالف كظاهــرة تعــر عــن‬
‫دورات التاريــخ وتكـرار نفــس األخطــاء بعــدم فهــم ســنن التاريــخ وتذكــر الفســاد‬
‫الذي حل يف تلك األمم‪ ،‬لذا جند السياق يركز يف دعوة األنبياء على حنو مميز‬
‫عــن القصــص القــرءاين يف ســور أخــرى بقوهلــم « واذكــروا إذ جعلكــم خلفــاء»‬
‫‪ .‬و طريقــة عــرض هــذه القصــص واضحــة يف بيــان أســباب االســتخالف فيذكــر‬
‫كيــف اســتخلفت أمــة بعــد األخــرى ويذكــر اإلمــكاانت الــي وفــرت لتلــك األمــة‬
‫(ظاهــرة التعايــش ) مث يبــن اخللــل الــذي أودى بتلــك األمــة ومنعهــم مــن دخــول‬
‫مســار التاريــخ فيبــدأ بقــوم نــوح عليــه الســام ‪ .‬وبعــد ذلــك كان قــوم عــاد الذيــن‬
‫قــال هلــم ســيدان هــود عليــه الســام ( واذكــروا إذ جعلكــم خلفــاء مــن بعــد قــوم‬
‫نــوح وزادكــم يف اخللــق بســطة فاذكــروا آالء هللا لعلكــم تفلحــون)‪.‬‬
‫و قد بني هلم سيدان هود موطن اخللل يف الشرك ابهلل وقد أوحي إليه أن‬
‫مصــر قومــه هــو اهلــاك إن اســتمروا يف غيهــم‪ ،‬لكــن تعلقهــم ابآلهلــة منعهــم مــن‬
‫النظــر حلقائــق التاريــخ ‪ .‬واألمــر يتكــرر مــع قــوم صــاحل وإمكاانهتــم خمتلفــة‪ ،‬قــال‬
‫ســيدان صــاحل « واذكــروا إذ جعلكــم خلفــاء مــن بعــد عــاد وبوأكــم يف األرض‬
‫تتخــذون مــن ســهوهلا قصــوراً وتنحتــون اجلبــال بيــواتً فاذكــروا آالء هللا وال تعثـوا‬
‫يف األرض مفســدين » ‪.‬‬
‫فالرفاهيــة الــي كانـوا فيهــا كان نتاجهــا فســاداً أعمــى أبصارهــم عــن إطــار‬
‫فكــري اترخيــي خــارج نطــاق حســاابهتم املاديــة الضيقــة ‪ ،‬فتنكــروا ملعجــزة ســيدان‬
‫صــاحل ( فأخذهتــم الرجفــة فأصبحـوا يف دايرهــم جامثــن ) ‪.‬‬
‫و قــوم لــوط ابتدع ـوا إتيــان الرجــال للرجــال فكانــت ســنة عــرت سلســلة‬
‫احلضــارات وعكــرت هنــر احليــاة وأخلــت بســنة التكاثــر فلفظهــم التاريــخ بعــد‬
‫أن ذاق ـوا العــذاب يف الدنيــا (و أمط ـران عليهــم مط ـراً فانظــر كيــف كان عاقبــة‬
‫‪283‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫اجملرمني ) ‪ .‬وقوم شعيب كذلك قال هلم ( وانظروا كيف كان عاقبة املفسدين‬
‫) فــكان البغــي والظلــم هــو الدائــرة الــي أعمــت أبصارهــم عــن املســتقبل البعيــد‪،‬‬
‫فســرعان مــا هلكـوا ومل يثمــروا مــا يذكــر هلــم خبــر مــن عمــارة األرض أو إصــاح‬
‫فيهــا ‪ .‬واملالحــظ أن القصــص املذكــورة‪ ،‬ذكــرت الرابعيــة الســابقة الــي هبــا حيــل‬
‫الفســاد وتســتخلف األمــم‪ ،‬وهــي الشــرك والفحــش والبغــي واجلهــل ( القــول‬
‫علــى هللا بغــر علــم والتكذيــب آبايت هللا مــع قــوم صــاحل ) ‪.‬‬
‫و التعقيــب علــى تلــك القصــص يبــن هــذا املعــى ( أو مل يهــد للذيــن‬
‫بذنوهبــم ونطبــع علــى قلوهبــم‬
‫يرثــون األرض مــن بعــد أهلهــا أن لــو نشــاء أصبناهــم‪283‬‬
‫فهــم ال يســمعون ‪ .‬تلــك القــرى نقــص عليــك مــن أنبائهــا ولقــد جاءهتــم رســلهم‬
‫ابلبينــات فمــا كانـوا ليؤمنـوا مبــا كذبـوا بــه مــن قبــل كذلــك يطبــع هللا علــى قلــوب‬
‫الكافريــن ) (‪ )100‬هــذه اآليــة اشــتملت علــى معــان جيــدر بنــا أن نذكرهــا‬
‫بصيغــة واضحــة كالتــايل ‪:‬‬
‫• •ذكــر الوراثــة وهــو هنــا قريــب مــن معــى االســتخالف وهــذا مــا ذكرتــه‬
‫القصــص الســابقة وهــي متثــل دورة التاريــخ ‪.‬‬
‫• •ذكــرت اآليــة ســنة اجل ـزاء ( ولــو نشــاء أصبناهــم بذنوهبــم ) وهــذه الذنــوب‬
‫هــي الرابعيــة الســابقة ‪ ,‬وآليــة وقوعهــا حتكمهــا ســنة التفــاوت أمــا ارتبــاط اهلــاك‬
‫ابإلصابــة بســبب الذنــوب حتكمهــا ســنة اجل ـزاء ‪.‬‬
‫• •ذكــرت اآليــة عقــاابً آخــر وهــو قولــه تعــايل ( ونطبــع علــى قلوهبــم فهــم ال‬
‫يســمعون) ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪284‬‬

‫يف هــذه اآليــة حــذف ملفعــول يســمعون‪ ،‬حيــث مل تذكــر مــا هــو الشــيء‬
‫الــذي ال يســمعونه‪ ،‬وهــذا احلــذف ( تشــجيع العربيــة ) كمــا مســاه ابــن جـ ّـي‬
‫يقصــد منــه فتــح ابب التدبـّـر والتأمــل علــى مصراعيــه ‪ .‬هــذه العقوبــة هــي‬
‫أزمــة تصيــب غريــزة حــب البقــاء‪ ،‬فتغــر األمــم ابزدهــار حضارهتــا ورفاهيتهــا‬
‫وال تتدبــر عاقبــة أحواهلــا املفككــة‪ ،‬والنــذر الــي تنــذر حبــدوث أزمــات كبــرة أو‬
‫حــى ســقوطها ‪ .‬وهــذا يؤكــد الظاهــرة الــي ذكرانهــا مــن قبــل يف ســنة اجل ـزاء‪،‬‬
‫أن األمــم يف طــور اهلــرم‪ ،‬ومرحلــة النهايــة تعيــش تناقض ـاً بــن القــدرة املاليــة‬
‫مــن جانــب‪ ،‬وعوامــل التفــكك واالضمحــال مــن جانــب آخــر ‪ ,‬وهنــا زايدة‬
‫أخــرى‪ ،‬وهــي احنســار الــرؤى عــن املســتقبل وعــدم القــدرة علــى االســتجابة لنــداء‬
‫العلــم واإلصــاح الــذي ينــذر ابهلــاك والنهايــة‪ ،‬وقــد ظهــر ذلــك يف قصــص‬
‫الســورة‪ ،‬حيــث أن األنبيــاء كانـوا ينبهــون وينــذرون هبــذا املســتقبل ‪ ،‬ولكــن ألن‬
‫االســتبداد واالســتكبار هــو عالمــة النهايــة‪ ،‬مل يســتجب ك ـراء تلــك القــرى‬
‫لتلــك الدعـوات ظنـاً منهــم أن تلــك دورة طبيعــة للتاريــخ وســيخرجون مــن تلــك‬
‫األزمــات كمــا خرجـوا مــن غريهــا ( كمــا نســمع عــن الــدورات االقتصاديــة مثـاً)‪.‬‬
‫تفصــل يف قصــة‬
‫وقــد أعطتنــا الســورة مثــاالً واضــح املعــى فــأول مــرة ّ‬
‫موســى وبــي إس ـرائيل كاملــة وتبــن كيــف مل يتفهــم قــوم فرعــون اآلايت الــي‬
‫خرجــت عــن طبيعــة األزمــات الطبيعــة وظنّـوا األمــر دورة طبيعيــة‪ ،‬وتبــن كيــف مل‬
‫يســتجب بنــو إسـرائيل للتحــول العظيــم الــذي حــدث مــع جمــيء النــي صلــى هللا‬
‫عليــه وســلم وعــدم مالحظتهــم لــوالدة العــامل بعــد مبعثــه صلــى هللا عليــه وســلم ‪.‬‬
‫و تؤكد القصة ‪-‬كما هي يف ســورة األعراف اليت حنن يف ســياقها ‪-‬على‬
‫معــى الوراثــة واالســتخالف يف ألفاظهــا يف أكثــر مــن موضــع كمــا هــو ظاهــر‬
‫مــن قولــه ( إن األرض هلل يورثهــا مــن يشــاء ) ( ويســتخلفكم يف األرض فينظــر‬
‫كيــف تعملــون ) ( وأور ثنــا األرض القــوم الذيــن كان ـوا يســتضعفون )‪ .‬ولكــن‬
‫‪285‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫يف الســياق تركيــز واضــح علــى مســألة األجيــال أكثــر مــن القصــص الســابقة‪،‬‬
‫وذلــك وهللا أعلــم ألن القصــص الســابقة كانــت ألمــم ابئــدة‪ ،‬أمــا بنــو إسـرائيل‬
‫فــإن فيهــم أجيالــة متفاوتــة‪ ،‬قــال تعــاىل ( ومــن قــوم موســى أمــة يهــدون ابحلــق‬
‫)‪ ،‬ففــي كل قصــة مــع موســى عليــه الســام كان هنــاك أانس صاحلــن مــن بــن‬
‫األجيــال الــي اتبعــت طريــق الرســل واالنبيــاء‪ ،‬وهــذا املعــى يؤكــد أن ســياق ســورة‬
‫األعراف يتحدث عن معىن االســتخالف أببعاده املختلفة سـواء يف التاريخ أو‬
‫الكــون أو األفـراد وتعاقــب األجيــال ‪ .‬ويصــر املعــى املفهــوم مــن أتمــل الســورة‪،‬‬
‫هــو أن صــاح األرض حمــدد حلركــة األمــم ودورة التاريــخ‪ ،‬وأن هــذا التعاقــب هــو‬
‫‪285‬‬
‫استخالف لألمم واألفراد حىت تعمر األرض‪ ،‬وعندما يصل الفساد إىل مرحلة‬
‫مــن الثقــل واالختنــاق‪ ،‬فــإن تعاقــب األجيــال‪ ،‬وظاهــرة التعايــش ابإلمــكاانت‬
‫املاديــة والفكريــة هتيــئ الظــروف لنشــأة حضــارة جديــدة ووالدة العــامل ‪ .‬كل مــن‬
‫يقـرأ الســرة ويتأمــل مبعــث النــي يبــن كيــف تغــرت بوصلــة التاريــخ وولــدت أمــة‬
‫اســتخلفها هللا األرض وأعطاهــا العــدة والعتــاد لقيــادة البشـرية ‪.‬‬
‫تؤكــد الســورة كذلــك أن التأثــر منعــدم بــن األجيــال‪ ،‬وأن لــكل جيــل‬
‫خصوصيتــه‪ ،‬فبإمــكان كل جيــل أن يبــدع دون أن يشــعر بســلطان مــا يف اآلابء‬
‫علــى حركتــه وفاعليتــه و هــذا مــا جيــب أن نفهمــه مــن قولــه تعــاىل ( وإذ أخــذ‬
‫ربــك مــن بــي آدم مــن ظهورهــم ذريتهــم ‪.‬وأشــهدهم علــى أنفســهم ‪ .‬ألســت‬
‫بربكــم قال ـوا بلــى شــهدان أن تقول ـوا يــوم القيامــة إان كنــا عــن هــذا غافلــن ‪.‬أو‬
‫تقول ـوا إمنــا أشــرك آابؤان مــن قبــل وكنــا ذريــة مــن بعدهــم ‪.‬أفتهلكنــا مبــا فعــل‬
‫املبطلــون )(‪. )172‬‬
‫قــال ابــن كثــر « خيــر تعــاىل أنــه اســتخرج ذريــة بــي آدم مــن أصالهبــم ‪,‬‬
‫شــاهدين علــى أ ّن هللا رهبــم ومليكهــم ‪ ,‬وأنــه ال إلــه إال هــو ‪ ,‬كمــا أنــه تعــاىل‬
‫فطرهــم علــى ذلــك وجبلهــم عليــه « قــال تعــاىل « وأقــم وجهــك للديــن حنيف ـاً‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪286‬‬

‫فطــرة هللا الــي فطــر النّــاس عليهــا ال تبديــل خللــق هللا » ويف الصحيحــن عــن‬
‫أيب هريــرة رضــي هللا عنــه قــال « قــال رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم ‪« :‬كل‬
‫مولــود يولــد علــى الفطــرة» ‪.‬‬
‫و قــال ابــن جريــر عــن األســود بــن س ـريع مــن بــي ســعد « قــال غــزوت‬
‫مــع رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم أربــع غــزوات ‪ ,‬قــال ‪ :‬فتــأول القــوم الذريــة‬
‫بعــد مــا قتلـوا املقاتلــة فبلــغ ذلــك رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم فاشــتد عليــه‬
‫مث قــال ‪ :‬مــا ابل أق ـوام يتأولــون الذريــة ؟ فقــال رجــل اي رســول هللا أليس ـوا‬
‫أبنــاء املشــركني ‪ ,‬فقــال ‪ :‬إ ّن خياركــم أبنــاء املشــركني إال أهنــا ليســت نســمة ولــد‬
‫تولــد إال ولــدت علــى الفطــرة فمــا تـزال عليهــا حــى يبــن عنهــا لســاهنا ‪ ,‬فأبواهــا‬
‫يهوداهنــا وينصراهنــا « قــال احلســن ‪ :‬وهللا لقــد قــال هللا يف كتابــه » وإذ أخــذ‬
‫هللا مــن بــي آدم مــن ظهورهــم ذريتهــم « اآليــة ‪ ,‬وقــد وردت أحاديــث يف أخــذ‬
‫الذريــة مــن صلــب آدم عليــه الســام ومتييزهــم إىل أصحــاب ميــن و أصحــاب‬
‫الشــمال » ( تفســر ابــن كثــر ج‪ 2‬ص‪. )63‬‬
‫و مــن أتمــل األحاديــث ال ـواردة يف هــذا الشــأن‪ ،‬يــرى االرتبــاط بــن هــذا‬
‫امليثــاق ومســألة القــدر‪ ،‬فــاهلل خلــق خلقـاً للنــار وخلقـاً للجنــة ‪ ,‬فإنــه ال عالقــة‬
‫لألبنــاء بعقائــد آابئهــم فلهــم اســتقاللية للتفكــر واإلبــداع‪ ،‬و هــذا منطقــي مــع‬
‫ســنة التوالد فإن ظاهرة االســتخالف لن تكتمل إذا كان األبناء نســخة مكررة‬
‫مــن اآلابء ‪.‬‬
‫وبنفــس الطريقــة مــع اختــاف الســياق واملوضــوع جنــد ســورة احلجــر‬
‫تتحــدث عــن دورة األمــم واســتخالفها ‪ ,‬وظاهــرة التعايــش ( اإلمــكاانت الــي‬
‫متكــن النــاس مــن االســتمرار مــع نقــص املـوارد) وتعاقــب األجيــال ( ســنة التوالــد‬
‫‪287‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫وظاهــرة االبــداع والــوالدة علــى الفطــرة ) أو مفهــوم الســالة فلننظــر إىل ســورة‬
‫احلجــر و كيــف انطلقــت مــن هــذه الثالثيــة ‪.‬‬

‫احنسار الرؤية وختلف األمم ‪:‬‬


‫يف كل الســور الــي انطلقــت مــن ســنة جنــد أن األكابــر تنعــدم أمامهــم‬
‫الســبل وتنحســر قدامهــم الــرؤى فــا يبصــرون وال يســمعون إال للواقــع الــذي‬
‫يعيشــون ‪ ،‬واحليــاة الــي يتمتعــون هبــا ‪ ،‬وهــذا ينبيــك عــن انتهــاء دورهــم وعــدم‬
‫‪287‬ســار الرؤيــة جتــدد يف ســبل‬
‫قدرهتــم علــى اإلبــداع ومواصلــة الســر‪ ،‬ويصحــب احن‬
‫احليــاة ‪ ،‬يدفعهــا إبــداع العلمــاء واملكتشــفني ‪ ،‬وتطــور التقنيــة وجتــدد األجيــال‬
‫وتغــر الفكــر والقــوى ‪.‬‬
‫تصــور لنــا ســورة احلجــر احنســار الرؤيــة هــذا ( ولــو فتحنــا عليهــم ابابً مــن‬
‫الســماء فظلـوا فيــه يعرجــون لقالـوا إمنــا ســكرت أبصــاران بــل حنــن مســحورون )‬
‫ولكــن تؤكــد الســورة أن إعـراض هــؤالء ال يعــي فســاد األرض‪ ،‬أو قدرهتــم علــى‬
‫إمضــاء أغراضهــم ‪ ،‬واســتمرار احليــاة بنســق ال معــى لــه و كأنــه أم ـواج يضــرب‬
‫بعضهــا بعــض‪ ،‬بــل إن األرض حمفوظــة‪ ،‬سـواء يف املقــدرات يف عــامل الشــيء أو‬
‫يف اهلدايــة الــي تشــمل عــامل الفكــر أو األجيــال القــادرة علــى القيــادة يف عــامل‬
‫الشــخص ‪..‬‬
‫وتوضــح الســورة هــذا احلفــظ فتؤكــد للنــي صلــى هللا عليــه وســلم ( إان حنــن‬
‫نزلنــا الذكــر وإان لــه حافظــون ) ‪ ،‬ويف عــامل الشــيء ( ولقــد جعلنــا يف الســماء‬
‫بروجـاً وزيناهــا للناظريــن وحفظناهــا مــن كل شــيطان رجيــم ) ( وأنبتنــا فيهــا مــن‬
‫كل شــيء مــوزون وجعلنــا لكــم فيهــا معايــش ومــن لســتم لــه برازقــن ‪.‬وإن مــن‬
‫شــيء إال عنــدان خزائنــه ومــا ننزلــه بقــدر معلــوم ) و هــذه هــي ظاهــرة التعايــش‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪288‬‬

‫بوضــوح ال جتــده إال يف الســور الــي تنطلــق مــن ســنة االســتخالف ‪ ،‬فهنــاك‬
‫تناســق بــن كميــة امليــاة املكتشــفة و املعايــش الــي حيتاجهــا النــاس واســتمرار‬
‫التــوزان عــر جتــدد احليــاة‪ ،‬وابلطبــع يتبــع ذلــك ابلضــرورة مــا يظهــر للعلمــاء‬
‫واملكتشــفني ممــا يســهل حيــاة النــاس ومعاشــهم‪ ,‬وبعــد ذلــك اكتشــافهم للحيــاة‬
‫ومصريهــم ‪ .‬و يف عــامل األشــخاص يقــول تعــاىل ( وإان لنحــن حنيــي ومنيــت وحنــن‬
‫الوارثــون ‪ .‬ولقــد علمنــا املســتقدمني منكــم واملســتأخرين ) فاإلحيــاء هنــا يعــي‬
‫إحيــاء النطفــة يف الرحــم ‪ (,‬القرطــي ج‪10‬ص‪)17‬‬
‫أمــا املســتقدمني واملســتأخرين فالصحيــح أنــه كل األمــم الســابقة والالحقــة‬
‫قــال ابــن عبــاس كل مــن هلــك مــن لــدن آدم ‪ ،‬وقريــب مــن ذلــك عــن عكرمــة‬
‫والشــعيب‪ ،‬أبق ـوال خمتلفــة ميكــن أن تتضمــن هــذا املعــى ‪ .‬وبعــد ذلــك تؤكــد‬
‫الســورة أن ســبب ضــال إبليــس يف قصــة االســتخالف األوىل كان لســبب‬
‫مــادي لــذا جنــد ذكــر الصلصــال واحلمــأ املســنون‪ ,‬ومل يذكــر هبــذا التفصيــل إال‬
‫يف هــذا املوضــع ‪.‬‬
‫وبعــد ذكــر كيــف حيفــظ الفكــر والعقــل والكــون واألجيــال حيدثنــا عــن‬
‫دورات التاريــخ وكيــف تتجــدد األمــم يف ســياق خمتلــف ال جمــال للتفصيــل فيــه ‪.‬‬

‫إرث األنبياء ‪:‬‬


‫يف ســورة مــرمي تركيــز واضــح علــى معــى الوراثــة أو التوريــث ‪ .‬و قــد ذكـران‬
‫عنــد عرضنــا للســنة ( أي االســتخالف ) أن منــو الســكان يؤثــر عــر وراثــة‬
‫الســلوك أو انتقــال الصفــات‪ ،‬وقــد تعرضــت الســورة لذلــك‪ ،‬قــال ســيدان زك ـراي‬
‫( رب هــب يل مــن لدنــك وليــا يرثــي ويــرث مــن آل يعقــوب ) ‪ .‬وذكــرت قصــة‬
‫ســيدان عيســى وهــي قصــة جــاءت بعــد قصــة حيــى ووراثتــه الكتــاب ‪ ،‬وفيهــا وراثــة‬
‫‪289‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫ســيدان عيســى ملعــى النبــوءة واألخــاق الفاضلــة الــي غابــت عــن بــي إس ـرائيل‬
‫وذكــر تعــاىل أن األرض هلل وقــال ( وإان لنحــن الوارثــون ) ‪ .‬وكثــر يف الســورة‬
‫معــى احليــاة والبعــث مــن اســم ابــن زكـراي ( حيــى ) إىل خلــق ســيدان عيســى إىل‬
‫التأكيــد علــى بعــث األحيــاء بعــد املمــات ‪ .‬ورد يف الســورة لفــظ اخل ْلــف –‬
‫ابلســكون‪ -‬قــال تعــاىل «فخلــف مــن بعدهــم خلــف»‪ ،‬ويطلــق هــذا علــى اجليــل‬
‫الفاســد – علــى املشــهور – والــذي وصــف ابتبــاع الشــهوات وتــرك الصل ـوات‬
‫فمعــى الوراثــة احليــاة واخلالفــة مطــرد يف الســورة ‪.‬‬
‫‪289‬‬
‫صفة الوارثني ‪:‬‬
‫هــذه الوراثــة ليــس اجلامــع فيهــا النبــوءة فقــط‪ ،‬بــل إن القــرآن يذكــر صفــات‬
‫فاضلــة هــي الــي حتــدد األجيــال الــي يكتــب هلــا النصــر والتمكــن ‪ .‬فقــد ذكــرت‬
‫ســورة مــرمي بعــض هــذه الصفــات والــي يف جمملهــا مــكارم األخــاق وال ختــرج‬
‫عــن ثــاث صفــات هــي الوفــاء والوصــال والصــاح ونعــي ابلوصــال اإلحســان‬
‫للوالديــن وللنــاس أي أن يكــون اإلنســان مفتاح ـاً للخــر مغالق ـاُ للشــر‪ ،‬يصــل‬
‫مــن قطعــه ويعطــي مــن منعــه‪ ،‬مجــع ذلــك ســبحانه يف قولــه ( خــذ العفــو وأمــر‬
‫ابلعــرف وأعــرض عــن اجلاهلــن ) ‪ .‬وســورة املؤمنــون تعطــي هــذا املعــى‪ ،‬فذكــر‬
‫ســبحانه صفــات الوارثــن يف بدايــة الســورة ‪ ،‬قــال ( قــد أفلــح املؤمنــون ) إىل‬
‫آخــر الصفــات مث قــال ( أولئــك هــم الوارثــون ‪ .‬الذيــن يرثــون الفــردوس هــم فيهــا‬
‫خالــدون ) ‪ ,‬مث بــدأ بذكــر ظاهــرة التعايــش بذكــر مشــاهد كونيــة تبــن اســتمرار‬
‫كميــات امليــاه وختزينهــا وجتــدد مصــادر الغــذاء وحفــظ الكــون مــن خــال البنــاء‬
‫احملكــم للســماء ‪ .‬ويف الســورة ذكــر ملفهــوم الســالة الــي خلــق منهــا اإلنســان و‬
‫كذلــك ذكــر للمــكان واالســتمرارية يف قولــه تعــاىل ( وشــجرة ختــرج مــن طــور‬
‫ســيناء تنبــت ابلدهــن وصبــغ لآلكلــن )(‪ . )20‬وهــذا الذكــر ألمســاء األمكنــة‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪290‬‬

‫ال جتــده إال يف الســور الــي انطلقــت مــن هــذه الســنة سـواء يف التاريــخ وانطالقــة‬
‫ســيدان موســى لفرعــون أو احلــرم املكــي أو خلــق عيســى عليــه الســام ‪ .‬لــذا‬
‫فالعوملــة التعــي ســيولة املــكان بــل للجغرافيــا دور يف إطــار تطــور العــامل كمــا‬
‫يكتــب الكثــرون هــذه األايم ‪.‬‬
‫بعــد ذك جنــد احلديــث عــن التاريــخ واســتخالف األمــم‪ ،‬عــر عــن ذلــك‬
‫ابإلنشــاء‪ ،‬و قــد بينــت الســورة أن هــذا االســتخالف ليــس عبث ـاً‪ ،‬بــل إنــه‬
‫منــع للفســاد وضمــان الســتمرارية احليــاة ( ولــو اتبــع احلــق أهواءهــم لفســدت‬
‫الســموات واألرض )(‪71‬االيــة) ‪ .‬و لــذا فاخلطــة اإلهليــة الســتمرار احليــاة الدينــا‬
‫كانت بتوفري ســبل العيش‪ ،‬وهتيئة أجيال صاحلة قادرة على اســتمرار األخالق‬
‫الفاضلــة وكتــب هلــا االســتمرار والنصــر والتمكــن ‪ .‬لــذا فليــس مــن عــادة هللا‬
‫يف هــذه الدنيــا أن يظــل الشــر منفــرداً بــل إن مــن وراء احلضــارات والتقنيــة قيمـاً‬
‫ـان ظلــت متنــع أهــل األرض مــن فســادها وإال ملــا اســتمر الكــون‬ ‫ال تنتهــي ومعـ ٍ‬
‫كل هــذا الزمــن الطويــل حــى بكثــرة احلــروب الــي نعيشــها فــإن قيمـاً ظلــت هــي‬
‫احلاكمــه تتكتــب اإلســتدامة للحيــاة ‪ .‬هــذا التحليــل هــو الــذي أعطــى للرتبيــة‬
‫قيمتهــا التارخييــة وجعــل رهطــا غــر قليــل مــن املفكريــن يصــرون علــى هــذا املعــى‬
‫لكــن التأثــر املتأخــر هلــذه الطريقــة جيعلهــا جــزءا مــن معادلــة كاملــة لتغــر التاريــخ‬
‫ال كمــا ظــن البعــض أهنــا أتثريهــا ميكــن أن حيــدث التغيــر الشــامل كمــا ســيأيت ‪.‬‬

‫يس ‪:‬‬
‫تكاد تكون ســورة يس شــرحاً لســنة االســتخالف‪ ،‬يف التاريخ ويف الكون‬
‫واحليــاة ‪ .‬يف التاريــخ يقــول تعــاىل ( أومل يــروا كــم أهلكنــا مــن قبلهــم مــن القــرون‬
‫أهنــم إليهــم ال يرجعــون) ويف الكــون ( وآيــة هلــم األرض امليتــة أحييناهــا وأخرجنــا‬
‫منهــا حبـاً فمنــه أيكلــون ) ‪ .‬وبعــد ذكــر ملشــاهد اخللــق يقــول تعــاىل ( وإذا قيــل‬
‫‪291‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫هلــم اتقـوا مــا بــن أيديكــم ومــا خلفكــم لعلكــم ترمحــون ) ألن بيــان احلاضــر بــن‬
‫أيديهــم واملســتقبل فيمــا خلفهــم ‪ ,‬هــو عــن الرمحــة الــي متنــع عنهــم املفاجــآت‬
‫وفجائــع الدهــر ‪ ,‬لكــن نظ ـراً لعــدم االنتبــاه للمســتقبل واإلغ ـراق يف احلاضــر‪،‬‬
‫كمــا ذك ـران يف ســورة احلجــر وكمــا هــو واضــح يف هــذه الســورة ( وجعلنــا مــن‬
‫بــن أيديهــم ســداً اآليــة )‪.‬‬
‫و يف قصة أصحاب القرية واليت حددت كمركز للفعل أييت إليها الرجال‬
‫واملصلحــون بيــان كيــف أن جمــرد التنبيــه واإلنــذار مــن املســتقبل هــو رمحــة وخلــق‬
‫ونشــأة لألمــم‪ ،‬و فيهــا حديــث عــن تك ـرار البشــر‪291‬لألخطــاء ( ايحســرة علــى‬
‫العبــاد مــا أيتيهــم مــن رســول إال كانـوا بــه يســتهزؤن) و هــذا مــا هــو واضــح يف‬
‫قصــة أصحــاب اجلنّــة يف ســورة القلــم مثــال آخــر ‪ ،‬وهــو تصويــر واضــح للن ـزاع‬
‫بــن الساســة واملهتمــن ابلبيئــة واملصلحــن مثــال مــن الواقــع والرمزيــة هلــذا الصـراع‬
‫بــن األخــاق و عمــارة األرض والشــر والفســاد ‪.‬‬
‫و يف ســورة القلــم كذلــك نفــس املفــردات وأتكيــد الذاكــرة االجتماعيــة‬
‫ابلقســم ابلقلــم واحلديــث عــن الفســاد يف األرض والتظــامل اجملتمعــي واألخــاق‬
‫كقيمــة حتفــظ اســتمرار احلضــارة وبقائهــا ‪ .‬ولعــل قولــه تعــاىل ( سنســمه علــى‬
‫اخلرطــوم ) نــوع مــن التنبيــه هلــذه اآلاثر الــي تســتمر حلفــظ التاريــخ وذاكرتــه‪،‬‬
‫لــذا يكثــر يف هــذه الســور احلديــث عــن الغــل الــذي ينــزع مــن قلــوب املؤمنــن‬
‫تلــك اآلاثر الــي هــي بقيــة حركــة احليــاة وهنــات املؤمنــن وخطاايهــم ‪ .‬ومــن‬
‫ذلــك اآلاثر يف الوجــوه ( رجــال يعرفــون كالً بســيماهم ) ( سنســمه علــى‬
‫اخلرطــوم ) كل ذلــك ســيبقى ليــدل علــى حركــة التاريــخ ورجاالتــه ‪ .‬إن الناظــر‬
‫هلــذه الســور جيــد مفــردات ( اخللــق‪ -‬اإلحيــاء – الوراثــة – الرمحــة – الســالة‬
‫–املعايــش ‪ ).....‬كلهــا معــان ميكــن أن تــرز ســيناريو واحــد كخطــة لبقــاء احليــاة‬
‫و اســتمرار احلضــارة ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪292‬‬

‫والدة العامل واستئناف اخللق ‪:‬‬


‫ممــا مييــز هــذا الكــون هــو أنــه ال يبلــى فهنــاك إلــه عظيــم يرســم خطــى الكــون‬
‫وجيعــل لــه غايــة يتحــرك هلــا ‪ .‬هــذه الــوالدة مل تتضــح يف الدراســات املختلفــة‬
‫عــن فلســفة التاريــخ واتريــخ العــامل‪ ،‬بــل أكثــر النظ ـرايت كانــت مبتــورة إمــا أهنــا‬
‫ـى‬
‫تركــز علــى الدمــار الــذي ينتظــر النــاس أو الوفــرة الــي ســتجعل النــاس يف غـ ً‬
‫عن القدر والغيب يف حلظة من اإلشــباع والســعادة ‪ .‬وســنحاول أن نشــرح يف‬
‫عجالــة هــذه النظـرايت مــع الرتكيــز علــى نظريــة التغــر الكبــر والــي هــي مــا انتهــى‬
‫إليــه العلــم يف فهــم اتريــخ احلضــارة اإلنســانية والــي هــي بيــان لســنة االســتخالف‬
‫كمــا ذكرهــا القــرآن مــع بعــض القضــااي الــي طرحــت للفهــم ومــن بينهــا فكــرة‬
‫( سلســة نقــل احلضــارات ) والــي حتتــاج منّــا إىل النظــر والتدقيــق للربــط بــن‬
‫التاريــخ الــدوري واملســار اخلطــي للتاريــخ ‪.‬‬
‫وضعــت جمموعــة الســيناريو العاملــي يف عــام ‪ 1995‬التابعــة للمؤسســات‬
‫املهتمــة ابلبيئــة يف اســتكهومل مصطلــح «التغــر العظيــم »ووضعــت تصــوراً لتطــور‬
‫احلضــارة مــن العصــر احلجــري إىل مــا يســمى املرحلــة الكونيــة مــن احلضــارة ‪.‬‬
‫وأهــم القضــااي الــي تشــي هبــذه املرحلــة ( حســب هــذه النظريــة ) هــي ‪:‬‬
‫• •التغ ـرات البيئيــة الكونيــة ‪ :‬فالعــامل أصبــح أكثــر وعيــا ابلتغ ـرات البيئيــة‬
‫وطبقــة األوزون وارتفــاع درجــة ح ـرارة األرض ‪.‬‬
‫• •التقنيــة ‪ :‬ظهــور الكمبيوتــر الشــخصي يف البدايــة مــن هــذه املرحلــة وانتهــت‬
‫ابإلنرتنت ‪ .‬هذا أثر يف االقتصاد ووفر بيئة لظهور اقتصاد املعرفة وســهل عبور رأس‬
‫املــال للشــركات وظهــور الســوق العاملــي ‪.‬‬
‫• •التغريات اجليواسـراتيجية ‪ :‬ســقوط االحتاد الســوفيايت‪ ،‬واحلرب الباردة ‪ ،‬و‬
‫غيــاب عائــق كبــر أمــام النظــام الرأمســايل ‪.‬‬
‫‪293‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫• •التكامــل االقتصــادي ‪ :‬كل األس ـواق املنتجــات والتمويــل والعمالــة‬


‫واملســتهلك أصبحــت كونيــة أكثــر ‪.‬‬
‫• •املؤسســات ‪ :‬ظهــر بعــض الالعبــن األساســن كمنظمــة التجــارة العامليــة‬
‫والتكامــل بــن مؤسســات اجملتمــع املــدين يف العــامل وكذلــك ظهــور ظاهــرة عامليــة‬
‫كالتطــرف والدعــوة املســتمرة لالعتــدال واحل ـوار ‪ )1(”.‬ولتنظيــم التفكــر يف هــذا‬
‫املوضــوع ميكــن وصــف ثــاث نظ ـرايت لفهــم مســتقبل البش ـرية وهــي كالتــايل ‪:‬‬
‫• •املسار التقليدي‬
‫‪293‬‬
‫• •املسار الرببري أو التشتت‬
‫• •نظرية التغري العظيم ‪.‬‬
‫يف املســار التقليــدي ينقســم التطــور العاملــي بــن قــوى الســوق وإصــاح‬
‫السياســيات ‪ .‬قــوى الســوق تشــمل التنافســية وتكامــل الســوق العاملــي الــذي‬
‫يقــود معــدالت النمــو يف العــامل ‪ .‬والتغ ـرات البيئيــة واالجتماعيــة أتخــذ درجــة‬
‫متأخــرة مــن االهتمــام ‪.‬‬
‫إصــاح السياســيات يبــدأ مــن رغبــة الدولــة يف اإلصــاح حملاربــة الفقــر‬
‫والتنميــة املســتدامة ‪.‬‬
‫واملســار الثــاين و هــو حــدوث أزمــة عامليــة وحــروب يتفاعــل معهــا العــامل‬
‫(‪ )fortress world‬وحيــاول أن مينــع هــذا الدمــار ‪ ,‬لــذا ينقســم العــامل بــن‬
‫مــن يريــد أن حيمــي الوضــع العاملــي وأغلبيــة مــن الفقـراء خــارج التحالــف الغــي‬
‫‪)1(.‬‬
‫أمــا يف نظريــة التغــر العظيــم فهنــاك رؤيــة هتتــم بثــاث قضــاي أساســية‬
‫هــي ‪:‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪294‬‬

‫• •نوعية احلياة بدل االهتمام املفرط بعامل األشياء والكم ‪.‬‬


‫• •التضامن اإلنساين من املستوى احمللي إىل املستوى العاملي‪.‬‬
‫• •النشاط اإلنساين كجزء من نظام بيئي متكامل ‪.‬‬
‫هــذا التغــر يف التفكــر والــذي اتضــح مــن عمــل مهــم قدمــه جمموعــة مــن‬
‫الباحثــن وتكرمــت املنظمــة العربيــة للرتمجــة بتقدميــه للقـراء العــرب وهــو ( اقتصــاد‬
‫القــرن احلــادي والعشـرين ) والــذي انقــش بورقــات علميــة متخصصــة مبــا ال يــدع‬
‫جمــاالً للشــك الوصــول ملرحلــة تغــرت فيهــا كثــر مــن املفاهيــم الرأمساليــة الــي مل‬
‫تعــد تصلــح لتفســر العوملــة مبفهومهــا الصحيــح املبــي علــى فهــم للتغـرات الكبــرة‬
‫الــي حدثــت بعــد التغـرات البيئيــة والثقافيــة والدميوغرافيــة والتقنيــة ‪.‬‬
‫و يذكــر أصحــاب هــذه النظريــة القــوى الدافعــة حنــو هــذه املرحلــة الكونيــة‬
‫والــي تشــمل ‪:‬‬
‫• •النمو السكاين ‪.‬‬
‫• •االقتصاد ‪.‬‬
‫• •القضااي االجتماعية ‪.‬‬
‫• •الثقافة ‪.‬‬
‫• •التقنية ‪.‬‬
‫• •البيئة ‪.‬‬
‫• •احلوكمة واحلكم احمللي ‪.‬‬
‫هــذه القضــااي جيــب أن منيــز فيهــا بــن النتيجــة والســبب‪ ،‬فالنمــو الســكاين‬
‫والتقنيــة والبيئــة هــي األســاس الــي أثــرت يف ثقافــة اجملتمــع واقتصــاد العــامل وأدى‬
‫‪295‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫إىل نشــوء اجملتمــع املــدين العــامل ومفهــوم املواطنــة العامليــة ‪ ,‬والســعي احلثيــث حنــو‬
‫الالمركزيــة فيمــا يعــرف ابحلكــم احمللــي ‪ .‬لــذا فكمــا ذكـران يف ســنة االســتخالف‬
‫جند أن القضااي األساسية اليت أدت إىل الثورة الكونية اليت يشهدها العامل هي‬
‫النمــو الســكاين والتقنيــة والبيئــة ومــا تبــع ذلــك مــن قضــااي ثقافيــة و اقتصاديــة‬
‫وجيــو اسـراتيجية ‪.‬‬

‫النمو السكاين ‪:‬‬


‫‪295‬هنــاك –اترخيي ـاً‪ -‬ثــاث‬
‫يوكــد عــامل األحيــاء روبــرت كيتــس أنــه كانــت‬
‫موجــات مــن االنفجــارات الســكانية ‪ ,‬ترافقــت كلهــا مــع إدخــال علــم‬
‫وتكنولوجيــا جديديــن ‪:‬‬
‫لقــد بــدأ االنفجــار الســكاين األول منــذ ح ـوايل مليــون ســنة‪ ،‬عندمــا‬
‫اكتشــف البشــر اســتخدام اآلالت ممــا أطلــق زايدة يف ســكان العــامل بضــع‬
‫مئــات األالف إىل مخســة ماليــن ‪.‬و أتــت الثــورة الثانيــة الــي بــدأت منــذ ‪10‬‬
‫آالف ســنة مضت مع اكتشــاف الزراعة ‪ ,‬وتدجني احليواانت والنبااتت ‪ ,‬ويف‬
‫هــذا الوقــت منــا الســكان مائــة ضعــف إىل ح ـوايل ‪ 500‬مليــون ‪.‬‬
‫وبــدأ االنفجــار الســكاين الثالــث منــذ عــدة مئــات مــن الســنني مــع الثــورة‬
‫الصناعيــة ‪ .‬هــذه العالقــة بــن زايدة عــدد الســكان مــع إدخــال تكنولوجيــا‬
‫جديدة ‪ ,‬تؤكد الرتابط بني هذه القضااي ‪ ,‬فمن التوقعات اليت أذيعت مناســبة‬
‫العــام الــدويل للمســنني (‪ )1999‬أن يزيــد ســكان العــامل بنســبة ‪ 50%‬خــال‬
‫العشـرين عامـاً القادمــة ‪ ,‬ولكــن الشــيخوخة ( الشــيوخ ) ســوف يزيــدون بنســبة‬
‫أكــر هــي ‪ 75%‬ليصل ـوا حينــذاك عــام ‪ 2020‬إىل ألــف بليــون نســمة يف‬
‫‪ 580‬مليــوانً يف الوقــت احلــايل ‪. )2,1( .‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪296‬‬

‫وتفســر مــا جيــري مــن تغ ـرات يف الرتكيبــة الســكانية للعــامل ليــس صعب ـاً‬
‫‪ ,‬فالــدول علــى خمتلــف اجتاهاهتــا تســعي لتقليــل اخلصوبــة أي القــدرة علــى‬
‫اإلجنــاب‪ ،‬واجلهــود الدوليــة لضبــط الســكان انجحــة إىل حــد كبــر والظــروف‬
‫االقتصاديــة و االجتماعيــة وانتشــار التعليــم وتبــدل امليــول عنــد الرجــال والنســاء‬
‫جتــاه األســرة الكبــرة ‪ ,‬كل ذلــك جعــل العــامل أمــام إخصــاب أقــل ‪ .‬واإلنســان‬
‫نتيجــة لتحســن الصحــة واملعيشــة يعيــش أكثــر فمتوســط العمــر حالي ـاً ( عــام‬
‫‪ )1999‬هــو ‪ 66‬ســنة يرتفــع فــوق الســبعني لبلــدان مثــل ‪ :‬الســعودية‪ ،‬قطــر‪،‬‬
‫البحريــن‪ ،‬كنــدا‪ ،‬الصــن‪ ،‬الــوالايت املتحــدة األمريكيــة‪ ،‬وينخفــض إىل اخلمســن‬
‫يف إفريقيــا جنــوب الصح ـراء ( نفــس املصــدر ) ‪ .‬هــذه العالقــة املذكــورة بــن‬
‫زايدة العمــر واخنفــاض معــدالت اخلصوبــة مثبتــة وعــر عنهــا الشــاعر العــريب‬
‫قدميــا فقــال ‪:‬‬
‫وأم الصقر مقالة نزور‬ ‫بغاث الطري أكثرها فراخاً‬
‫وابختصــار فــإن منــو الســكان يكــر ويزدحــم العــامل هبــذا النمــو ومييــل حنــو‬
‫الشــيخوخة ‪ ,‬لــذا فهنــاك توقعــات أبن يــزداد عــدد الســكان إىل ‪ 50%‬حبلــول‬
‫عــام ‪ . ) 2 ( !! 2050‬هــذه التأث ـرات لنمــو الســكان ومــا يتبعــه مــن ردة‬
‫فعــل‪ ،‬لتقليــل االنفجــار ‪ ,‬مل حيــد مــن منــو الســكان ‪ ,‬وكل ذلــك يفــرض ضغطـاً‬
‫هائالً على موارد الغذاء والنظام البيئي‪ ،‬فقدرة اإلنســان على اســتغالل األرض‬
‫قــد ال يتناســب مــع جتــدد احليــاة‪ ،‬وتبــدل مصــادر الطاقــة والغــذاء ‪ ,‬فقــد وصــل‬
‫صيــد الســمك يف العــامل يف العــام ‪ 1997‬إىل ‪ 100‬مليــون طــن يف العــام‪،‬‬
‫ونشــرت جملــة العلــوم الوســائل املســتخدمة يف الصيــد مــن أشــعة ومتفج ـرات‬
‫وغريهــا مــن الوســائل احلديثــة ‪ ,‬ممــا ال يســمح لتكاثــر األمســاك بتعويــض الفاقــد‪،‬‬
‫« و ابملثــل فــإن اإلنتــاج العاملــي مــن احلبــوب وصــل إىل القمــة عنــد ‪ 1.7‬بليــون‬
‫‪297‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫طــن يف العــام‪ ،‬ويف هــذه األثنــاء تعــادل مســاحة الغــاابت املزالــة كلي ـاً مســاحة‬
‫قــارة الــوالايت املتحــدة ‪.‬‬
‫واإلحصــاءات كثــرة عــن األم ـراض وانق ـراض احلي ـواانت واالحتبــاس‬
‫احلـراري وكلهــا ترتبــط بشــكل مــا بنشــاط الســكان ‪,‬ومنوهــم أيضـاً‪ ،‬وعندمــا برهــن‬
‫العلمــاء علــى أن منتجــات الكلــور وفلــور كربــون (‪ )cfc‬والــي تســتخدم بشــكل‬
‫واســع كوســيط للتربيــد تشــكل خط ـرا واضح ـاً ومباش ـراً علــى طبقــة األوزون‬
‫تكاثفــت ‪ 31‬دولــة أوروبيــة ووقعــت اتفاقيــة اترخييــة يف مونــرايل ‪ 1987‬للبــدء‬
‫‪ 2000‬ولكــن كثـرا مــن رجــال‬‫‪297‬‬ ‫يف التوقــف عــن اســتخدام ‪ cfc‬حبلــول العــام‬
‫البيئــة ال يــرى أن هــذه االتفاقيــات هلــا أي أتثــر حقيقــي (‪ .)3‬وإذا كان النمــو‬
‫الســكاين يؤثــر يف اســتهالك مقتــدرات األرض ويفــرض إبداع ـاً علمي ـاً لبعــث‬
‫احلياة يف العامل ‪ ,‬فإن النمو السكاين يؤثر يف دورة التاريخ‪ ،‬فهذه اإلمرباطورية‬
‫الربتغاليــة يعــد املؤرخــون ضآلــة عــدد الســكان الربتغاليــن الــذي مل يتجــاوز املليــون‬
‫نســمة يف القــرن الســادس عشــر كســبب مــن أســباب ســقوطها ‪.‬‬
‫ويالحــظ هنتجتــون هــذا التغــر يف عــدد الســكان وتفاوتــه بــن األمــم‬
‫فيقــول ( مــن الناحيــة الكميــة ) وابلتــايل يشــكل الغربيــون أقليــة تتناقــص بثبــات‬
‫مــن ســكان العــامل أمــا العــامل اإلســامي فإنــه يــزداد ابضط ـراد ( انظــر صــدام‬
‫احلضــارات ص ‪ 174‬وص‪ 230‬جــدول يثبــت تضخــم الشــباب املســلم إيـران‬
‫ازدادت النســبة أكــر مــن ‪ 20%‬وحدثــت ثــورة ‪ 1979‬وكذلــك اجلزائــر ‪،‬‬
‫و‪ 2010‬يــزداد شــباب ليبيــا ) ‪ .‬ومــن الناحيــة التنمويــة يقــول ( فالت ـوازن بــن‬
‫الغــرب والســكان هــو اآلخــر آخــذ يف التغــر‪ ،‬الشــعوب غــر الغربيــة تصــر أكثــر‬
‫صحــة وأكثــر حتــوالً حنــو احليــاة املدنيــة وأكثــر تعليمـاً ‪ ،‬وذكــر األرقــام الــي تــدل‬
‫علــى ذلــك ‪ ,‬واملقصــود هنــا أن نســبية النمــو قــد تكــون كميــة وقــد تكــون كيفيــة‬
‫‪ ,‬وكل ذلــك يؤثــر يف اقتصــاد هــذه الــدول ومنوهــا أو يف حركــة التاريــخ ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪298‬‬

‫النمــو الســكاين العــام يســاهم يف املســار اخلطــي للبشـرية والتفــاوت النســي‬


‫هلــذا النمــو يؤثــر يف مســاره الدائــري ‪ ,‬أي أن سلســلة نقــل احلضــارات تتأثــر‬
‫علــى الصعيديــن الدائــري واخلطــي ‪ .‬وهنــاك اجيابيــة يف النمــو الســكاين وهــي‬
‫أن تعاقــب األجيــال قــد يزيــد مــن القــدرة اإلبداعيــة إذ أن احتمــال حتســن‬
‫الســاالت وظهــور أجيــاالً أكثــر وعي ـاً وإبداع ـاً وارد علــى كل حــال ‪ ,‬ولكــن‬
‫البعــض قــد يشــكك يف ذلــك ويعتــر أن البشـرية تســر حنــو االحنطــاط ‪ .‬يقــول‬
‫ميتشــيو كاكــو يف كتابــه رؤى مســتقبلية ‪ :‬ننســى أحيــاانً ان حلركــة حتســن‬
‫النســل اترخي ـاً طوي ـاً غــر حممــود يف الــوالايت املتحــدة األمريكيــة ‪ ,‬وأن هلــا‬
‫جــذوراً عميقــة يف حضارتنــا ‪ ,‬لقــد كان فرانيســي جالتــون ابــن عــم شــارلز دارون‬
‫وإبهلــام مــن عمــل األخــر ‪ ،‬قضــي عــدة عقــود يــدرس شــجرات العائــات لكثــر‬
‫مــن الكتــاب والعلمــاء والفالســفة والفنانــن والسياســيني ووصــل إىل قناعــة أبن‬
‫إمكاانهتــم العظيمــة انتقلــت إليهــم عــر األجيــال »ص‪.338‬‬
‫و هنا نالحظ أن االختالف يزداد كلما ازداد عمر البشــر أي أن املســار‬
‫حنــو التشــتت واالختــاف وارد كمــا هــو قانــون الثريمــو ديناميــك الثــاين ابزدايد‬
‫التشــتت مــع الزمــن وهــذا نق ـرأه يف تراثنــا فيمــا يقــال أبن النــاس ال يزالــون يف‬
‫تناقــص يف أعمارهــم وأخالقهــم ‪ ,‬وال ننســى أن القــرآن بــن وجــود صفــات‬
‫الوارثــن يف كل دورات التاريــخ وتطــور القيــم البشـرية ويف اللحظــة الــي ختتفــي‬
‫فيهــا هــذه القيــم تنتهــي الدنيــا ‪.‬‬

‫التغريات الثقافية ‪:‬‬


‫ممكــن أن جنمــل ذلــك يف عــدة تغـرات تذكــر يف نظريــة التحــول العظيــم ‪,‬‬
‫كاالقتصــاد الــي متيــل حنــو العوملــة أكثــر فأكثــر ‪ ,‬وابلطبــع هنــاك جــدل حــول‬
‫ذلــك لكــن اجلــدل هــو يف النمــوذج االقتصــادي الــذي يفســر هــذه الظاهــرة‬
‫‪299‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫وليــس يف حقيقــة وجودهــا‪ ( ،‬وهنــا تواجــه احلكومــات صعوبــة يف توقــع‬


‫وتنظيــم هــذا التشــتت واحلـراك الكــوين للشــركات الكــرى )‪ )1(.‬و يف اجلانــب‬
‫االجتماعــي جنــد ازدايد نســبة الفقــر وتنامــي الفجــوة بــن الفق ـراء واألغنيــاء‪،‬‬
‫األمــر الــذي يســتدعي اخلــروج مــن الفردانيــة الليبرياليــة وبــدأان نســمع عــن املواطــن‬
‫الكــوين واجملتمــع املــدين العاملــي لــذا فنظريــة امليــزة النســبية تتجــه حنــو امليــزة املطلقــة‬
‫فليــس مبقــدور االقتصــاد أن ينظــر إىل الــدول كجــزر منفصلــة ومــن مث كان لثــورة‬
‫االتصــاالت دور كبــر يف تنامــي الوعــي العاملــي هبــذه الظواهــر الكونيــة وضــرورة‬
‫التفاعــل مــع العــامل كقريــة واحــدة ‪.‬‬
‫‪299‬‬
‫و مــن مث جنــد أن احلوكمــة أو احلكــم الرشــيد والالمركزيــة جــزء مــن التغـرات‬
‫العظمــى يف مؤسســات الدولــة حيــث مل يعــد ابإلمــكان احلــد مــن النشــاطات‬
‫املســتقلة ملؤسســات اجملتمــع املــدين و القطــاع اخلــاص واإلدارات احملليــة ‪.‬إن‬
‫نظريــة التحــول العظيــم و بعــض النمــاذج الديناميــة يف العلــوم املســتقبلية بــدأت‬
‫تنظــر ملــا يعــرف ابلكمــات أو القفـزات التارخييــة خاصــة مــع وجــود منــوذج جديــد‬
‫و هــو التصميــم الذكــي يظهــر أن كل فــرة اترخييــة أو حقبــة طويلــة فيهــا قــوى‬
‫عظمــي و حمــددات تقنيــة و مصــادر للميــاه و الطاقــة و هــذا مــا ذكـرانه يف ســنة‬
‫االســتخالف ‪.‬‬
‫هــذه إطاللــة بســيطة تبــن أن ســنة االســتخالف كمــا عرضنــاه تعــى بتغــر‬
‫عظيــم يف الكــون حتكمــه عــدة ســنن أو قواعــد ويتأثــر بظاهــرة التعايــش ومــا‬
‫يصحــب ذلــك مــن تفــاوت بــن األمــم يؤثــر يف تدافعهــا ‪ .‬أظــن أن الوقــت قــد‬
‫حــان ألن نعــرض التناســق بــن الســنن اخلمــس وهــو مــا نســميه النمــوذج القــرآين‬
‫لرصــد حركــة اجملتمــع ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪300‬‬

‫الفصل العاشر‬

‫عني التاريخ ‪ :‬منوذج لرصد حركة اجملتمع‬

‫هــذه الســنن الــي ذكــرت ابلتفصيــل يف الفصــول الســابقة‪ ،‬البــد هلــا مــن‬
‫ترتيــب تنتظــم فيــه مــع بعضهــا البعــض ‪ .‬قــد يظــن ظــان أن ســنة اهلدايــة أو‬
‫ســنة التدافــع أو غريمهــا مــن الســنن تتحــدث عــن مرحليــة زمنيــة حبيــث تســبق‬
‫ســنة اهلدايــة ســنة التدافــع وتســبق ســنة التدافــع ســنة التنــازع وهكــذا ‪ ...‬هــذا‬
‫التصــور هــو التصــور الــذي يســود بعــض مناهــج التغيــر الــي تتخــذ مــن املرحليــة‬
‫طريقهــا للتأثــر يف اجملتمعــات ولكنهــا عــادة مــا تصطــدم مــع الواقــع حبيــث تكــون‬
‫األحــداث بعيــدة عــن أي مرحليــة مزعومــة ‪ .‬وعــادة مــا جتــد مــن يتخــذ املرحليــة‬
‫طريق ـاً للتغيــر‪ ،‬ينظــر للتاريــخ مبنظــور خطــي أو دائــري ويف الغالــب مــا يكــون‬
‫هــذا املنظــور آحــادي يف التمييــز بــن العوامــل املختلفــة احملركــة للتاريــخ‪ ،‬فيتــم‬
‫الرتكيــز علــى عامــل واحــد يظهــر يف صــورة مقــوالت أو شــعارات ختتصــر الفكــر‬
‫كالوحــدة ضــرورة حتميــة أو اإلســام هــو احلــل ‪ ...‬والــذي يدفــع هــؤالء للرتكيــز‬
‫علــى عامــل دون اآلخــر هــو املراحــل املعــدة ســلفاً لفهــم األحــداث وطريقــة‬
‫التغيــر ‪(.‬راجــع الفصــل الثالــث للتفصيــل )‬
‫و حنــن اآلن وقــد درســنا مخســة ســنن أو عــادات إهليــة أو قواعــد اترخييــة‬
‫علــى تفصيــل ذكـرانه مــن قبــل يف فهــم القواعــد ‪،‬حاولنــا أن نقتبــس مــن القــرآن‬
‫مــا يضــيء لنــا شــيئاً مــن صــور التاريــخ املختلفــة‪ ،‬و تبقــى مســألة النظــم مســألة‬
‫أساســية إذا أردان أن نضيــف مــا ميكننــا مــن فهــم الواقــع وصناعــة مؤشـرات تــدل‬
‫عليــه ‪ .‬والفكــرة الــي نطرحهــا لنظــم الســنن نقتبســه مــن العــن البشـرية وحتديــداً‬
‫‪301‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫مــن ظاهــرة تســمى ‪ )binocular vision (1‬وتعــي الرؤيــة املزدوجــة فــإن‬


‫هللا قــد زود اإلنســان بعينــن ليبصــر هبمــا‪ ,‬والظاهــرة الغريبــة ‪ ,‬أننــا رغــم ذلــك‬
‫نبصــر العــامل علــى أنــه صــورة واحــدة ومتناســقة ‪ ،‬ذات ابعــاد ‪ ،‬ونســب متفاوتــة‬
‫‪ ,‬فاملنطــق يقــول « مــادام هنــاك عينــان فمجــال الرؤيــة ال بــد وأن خيتلــف ‪ ,‬فمــا‬
‫الــذي جيعــل الصــورة الــي نراهــا صــورة واحــدة ؟ ‪ .‬اإلجابــة الــي يضعهــا علمــاء‬
‫الفســيولوجيا هــي أن الدمــاغ البشــري وحتديــداً الفــص اخللفــي منــه يقــوم بثــاث‬
‫عمليــات للوصــول إىل الصــورة الواحــدة املتناســقة ‪ ،‬هــذه العمليــات هــي ‪:‬‬
‫‪301‬‬ ‫‪ .1‬الدمج بني الصور ‪fusion‬‬
‫‪ .2‬حتديد األبعاد ‪depth perception‬‬
‫‪ .3‬النسب ‪portions‬‬
‫فلــو تصــورت أن عصفــوراً يف قفــص‪ ،‬فالبــد أن تكــون صــورة العصفــور‬
‫بعيــدة عــن أعمــدة القفــص‪ ،‬والبــد أن تكــون نســبة حجــم العصفــور للقفــص‬
‫حمــددة حــى ميكــن رؤيــة العصفــور داخــل القفــص‪ ،‬والبــد أن تندمــج كل صــورة‬
‫تلتقطهــا كل عــن علــى حــدة‪ ،‬حبيــث ميكــن تصــور العصفــور وحــده والقفــص‬
‫كذلــك‪ ،‬مث تندمــج الصــوراتن أببعــاد ونســب خمتفلــة تعطينــا يف هنايــة األمــر‬
‫وبســرعة صــورة العصفــور داخــل القفــص ‪ .‬لــو تصــورت لوحــة مجيلــة لبــول‬
‫ســيزار أو بيــر بروجــل‪ ،‬فــإن نســبة كل عناصــر اللوحــة أببعادهــا ودجمهــا يف‬
‫لوحــة واحــدة حيتــاج إىل ختطيــط وذوق رفيــع‪ ،‬حبيــث يتــم الرتكيــز علــى العناصــر‬
‫املهمــة ‪ ،‬وتظليلهــا واختيــار أل ـوان ســاخنة هلــا ‪ ,‬وأل ـوان ابردة للمشــاهد الــي‬
‫يـراد هتميشــها‪ ،‬و إذا مــا أردت أن تــرز شــخصية اترخييــة أظهــرت رغــم بعدهــا‬
‫ختــرج مــن البحــر أو تنعكــس علــى أشــعة الشــمس ( انظــر التفضيــل اجلمــايل عــامل‬
‫املعرفــة ص‪. )257‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪302‬‬

‫أو تصــورت مقطوعــة ملــوزاد أو بيتهوفــن أو لعبــد الوهــاب أو الســنباطي‬


‫فــإن مقام ـاً تتناســق فيــه النغمــات‪ ،‬حبيــث يكــون للمقطوعــة نغمــة حمــددة أو‬
‫مقام ـاً حمــدداً ‪ ،‬وال أبس مــن االنتقــال بــن املقامــات ‪ ،‬حــى يلتــف ويــدور يف‬
‫النغمــات مث يعــود إىل مقامــه األول كأنــه أول منــزل !! فالبــد مــن أبعــاد وأزمنــة‬
‫خمتلفــة ونســب إليقاعــات املقطوعــة حــى تؤثــر يف الســامع وتوصــل إىل املـراد ‪.‬‬
‫وقــد راعــي أن العصافــر ال تطلــق أي مقــام مــن املقامــات الــي نعرفهــا كاحلجــاز‬
‫أو الكــورد‪ ،‬فهــي تعــزف مقطوعــة ال نفهمهــا‪ ،‬رمبــا تكــون هــي الصـواب وحنــن‬
‫كمــا حنــن دائمـاً جنهــل أسـرار الكــون ونظــن أننــا نعــرف كل شــيء !!‬
‫و فــوق ذلــك كلــه‪ ،‬جنــد أن القــرآن يف فواصلــه املختلفــة‪ ،‬وتركيــزه يف بعــض‬
‫الســور علــى بعــض املعــاين وإب ـرازه لبعــض املواقــف واأللفــاظ‪ ،‬علــى اختــاف‬
‫املواضــع والســور ‪ ،‬فضـاً عــن األلفــاظ والكلمــات‪ ،‬يعطينــا وحــدة قرآنيــة فريــدة‬
‫‪ ،‬وصــوراً متكاملــة ملعــى الوجــود وطبعــه ‪....‬‬
‫حنــاول اآلن أن نطبــق هــذه الثالثيــة ( الدمــج ‪ ،‬األبعــاد ‪ ،‬النســب ) علــى‬
‫الســنن اخلمســة الســابقة ( اهلدايــة والتدافــع والتنــازع واجل ـزاء واالســتخالف )‬
‫ولكــي ميكننــا ذلــك‪ ،‬فإننــا خنلــص إىل عــدة مشــاهد أو صــور متظهــرت فيهــا هــذه‬
‫الســنن وحكمــت مــن خالهلــا‪ ،‬مث ندمــج هــذه الصــور وحنــدد أبعادهــا ونســبها‬
‫املختلفــة حــى خنــرج بصــورة ذات خلفيــة ‪ ،‬تتحــرك عناصرهــا وفــق هــذه الســنن !‬

‫الصورة األويل ‪:‬‬


‫األنبيــاء عليهــم الســام وبعــض املبدعــن ورمبــا الدجالــن أو الذيــن ادع ـوا‬
‫النبــوءة وبعــض الكهنــة للملــوك قدميــا وبعــض الساســة ومراكــز األحبــاث ودهاقنــة‬
‫اإلعــام لرؤســاء احملدثــن يصــورون املســتقبل للنــاس ويرمســون معاملــه للنــاس ‪.‬‬
‫‪303‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫الصورة الثانية ‪:‬‬


‫صــورة أمــة ذات قــوة وســيادة ورؤيــة للمســتقبل‪ ،‬مرهوبــة اجلانــب‪ ،‬عزيــزة‬
‫البنيــان‪ ،‬قويــة األركان‪ ،‬ال يرومهــا عــدو‪ ،‬وال يســتهني بشــأهنا إنســان‪ ،‬فهــي‬
‫أمــة ظاهــرة بــن األمــم تريــد أن حتمــل النــاس علــى أفكارهــا ونظمهــا ‪,‬اقتصــاد‬
‫قــوي وجمتمــع منظــم وجيــش وتقنيــة تفــوق ابقــي األمــم‪ ,‬والعــامل يقابلهــا علــى‬
‫اختــاف مذاهبــه ومشــاربه‪ ،‬وبقــوى متفاوتــة ‪ ،‬كحمــات اإلســكندر املقــدوين‬
‫أو محــات الرومــان أو الفتوحــات اإلســامية أو محــات التتــار والصليبيــن أو‬
‫ســيطرة الدولــة العثمانيــة علــى جــزء كبــر مــن العــامل أو‪303‬مرحلــة االســتعمار والقــوى‬
‫العظمــى مــن الربتغــال واإلســبان واالجنليــز أو مرحلــة األيديولوجيــات مــن اهلتلريــة‬
‫والفاشســتية والشــيوعية والليرباليــة الرامساليــة إىل العوملــة ‪.‬‬

‫الصورة الثالثة ‪:‬‬


‫صــورة احلــروب والفــن والدمــاء واألشــاء‪ ،‬واإلبعــاد والطــرد‪ ،‬والســجن‬
‫واالعتقــال‪ ،‬واجملاعــات والطبقيــة بــن الغــي الفاحــش والفقــر املدقــع‪ ،‬واملؤامـرات‬
‫والرشــى والكــذب واالنقــاابت والفســاد بــكل مظاهــره‪ ،‬كحــرب الثالثــن عامـاً‬
‫واضطهــاد هيجونــوت يف فرنســا‪ ,‬وحماكــم التفتيــش وجملــس الــدم‪ ،‬واحلــروب‬
‫العامليــة واحلــروب اإلســبانية األهليــة واحلــروب اليواننيــة اإليطاليــة واحلــرب األهليــة‬
‫يف لبنــان وصـراع العــرب مــع الصهاينــة‪ ،‬و النزاعــات داخــل دول العــامل الثالــث ‪.‬‬

‫الصورة الرابعة ‪:‬‬


‫صــورة أمــة متهالكــة قــد أصاهبــا اهلــرم وخنــرت عظامهــا األايم‪ ،‬وأوهــن‬
‫عزماهتــا الظلــم‪ ،‬و قــوض أركاهنــا االســتبداد ‪ ،‬ورغــم ذلــك‪ ،‬فــإن املســتكربين‬
‫مــن تلــك األمــم يراهنــون علــى قــوة ممالكهــم‪ ،‬وخلــود أممهــم‪ ،‬كمــا كان الشــأن‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪304‬‬

‫مــع ملــوك الفــرس ومــروان بــن حممــد‪ ،‬واملســتعصم وحممــد الثــاين‪ ،‬وانبليــون‬
‫وغورابتشــوف مبــارك والقــذايف وبــن علــي ‪ ...‬فهــي صــورة متناقضــة جــداً بــن‬
‫األم ـوال والعم ـران اهلائــل‪ ،‬والتفــكك االجتماعــي والتخلــف احلضــاري ‪ .‬هــذه‬
‫الصــورة ختتلــف قطع ـاً عــن ســابقتها ‪...‬‬

‫الصورة اخلامسة ‪:‬‬


‫صــورة مــد علمــي وتطــور فكــر وجتــدد يف األجيــال وتغـرات بيئيــة يصاحبهــا‬
‫فوضــى وثــورات عامليــة كالثــورة الزراعيــة والصناعيــة واملعرفــة ومــا صاحبهــا مــن منــو‬
‫ســكاين وثــورات علميــة وتقنيــات وتغـرات بيئيــة مكنــت العــامل مــن االســتمرار ‪.‬‬
‫هذه هي الصور اليت ذكرانه من قبل ‪..‬‬
‫حيكــم الصــورة األويل ســنة اهلدايــة ( لــو صدقــت الرؤيــة املســتقبلية كان‬
‫االســتمرار والبقــاء عــر التاريــخ ‪ ,‬قــوة الفكــرة = الواقــع – التوقــع‬
‫حيكــم الصــورة الثانيــة ســنة التدافــع ( األكثــر تـوازانً يدفــع األقــل تـوازان بغــض‬
‫النظر عن اإلمكاانت املادية ) ‪.‬‬
‫حيكــم الصــورة الثالثــة ســنة التنــازع ( نظريــة التحــدي واالســتجابة ‪,‬‬
‫فاالســتجابة للتحــدايت هــي الــي ترســم مســار األمــة إمــا االنقســام أو التغــر‬
‫واإلصــاح )‬
‫حيكــم الصــورة الرابعــة ســنة اجل ـزاء ( هنايــة األمــم الــي تبلــغ فيهــا التفــاوت‬
‫نســب كبــرة أمــر حتمــي حبكــم عامــل الزمــن وغيــاب التحديــث والتطويــر والرؤيــة‬
‫االسـرايتجية )‬
‫‪305‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫حيكــم الصــورة اخلامســة ســنة االســتخالف ( النمــو الســكاين والتطــور‬


‫العلمــي والتقــي والتغـرات البيئيــة تســتلزم تغـرات يف دورة التاريــخ بعــد كل فــرة‬
‫مــن الزمــن ) ‪.‬‬
‫دعنــا اآلن ندمــج بــن هــذه الصــور ونضــع هلــا أبعــاداً وحنــدد نســبها ووزهنــا‬
‫يف التأثــر ‪.‬و التصــور الــذي ميكــن أن نذكــره للربــط بــن هــذه اخلماســية أن‬
‫وجــود اســتقرار و تدافــع داخــل اجملتمــع قــد يعــي يف حقيقــة األمــر تقــارابً يف‬
‫تفــاوت اجملتمــع ممــا يهــيء النــاس لتقبــل الســلطات القائمــة و االطمئنــان علــى‬
‫‪305‬قناعــة جبــدوى ماهــم فيــه‪،‬‬ ‫املســتقبل‪ ،‬و كلمــا اســتمر هــذا االســتقرار كان هنــاك‬
‫يف حــال تغــرت األح ـوال و اختــر اجملتمــع أبحــداث خمتلفــة ســيكون أمــام‬
‫اجملتمــع مســار تتغــر فيــه تلــك النظــرة وينقســم اجملتمــع و يتطلــع كل إىل مرتبــة‬
‫أفضــل و ينتهــى األمــر إىل اســتبداد طبقــة حتكــم ابلنــار و احلديــد‪ ،‬تكــدس‬
‫األشــياء و تغفــل عــن حركــة التاريــخ إىل أن ميــر العــامل مبرحلــة جديــدة فيهــا قــوى‬
‫عظمــي و تدافــع و تنــازع و تطلــع للمســتقبل ‪.‬‬
‫الــذي ميكننــا مــن حتديــد هــذه األبعــاد والنســب هلــذه الصــور هــو املنظــور‬
‫أو احملطــة أو مركــز الرؤيــة الــي ننظــر منهــا ‪ .‬هــذه احملطــة جتعلنــا ننظــر للمشــهد‬
‫كلوحــة متكاملــة فيهــا جمموعــة مــن النشــاطات اإلنســانية نقســمها وفقــأ للســنن‬
‫اخلمســة مث نبــن وفــق ملوقــع الرؤيــة حجــم كل نشــاط ومــدى أتثــره يف حركــة‬
‫اللوحــة أو التاريــخ ‪.‬‬
‫ميكننا تلخيص هذه النشاطات كاليت ‪:‬‬
‫• •الدساتري والنظم السياسية اليت حتكم األمم ‪.‬‬
‫• •صناعة القرار داخل اجملتمع وكيف تتم ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪306‬‬

‫• •اجتاهات اجملتمع وعالقة احلاكم ابحملكوم ‪.‬‬


‫• •املال والقدرات املالية والعسكرية للدولة ‪.‬‬
‫• •األحزاب السياسية والطوائف والتعددية داخل اجملتمع ‪.‬‬
‫• •معدالت الدخل ومدى التفاوت بني طبقات اجملتمع ‪.‬‬
‫• • العالقات االجتماعية واألعراف والتقاليد ‪.‬‬
‫• •معدل اجلرمية والنزاعات داخل اجملتمع ‪.‬‬
‫• •طبائع اجملتمع ومعاانته التارخيية ومدى أتثريها على شخصية اجملتمع ‪.‬‬
‫• •النمو السكاين ‪.‬‬
‫• •مؤشرات التنمية البشرية ( الصحة والتعليم ومعدالت الدخل ) ‪.‬‬
‫• •االكتشافات واملخرتعات ‪.‬‬
‫• •التغريات البيئية ومصادر الطاقة ‪.‬‬
‫• •عوامل أخرى ‪.‬‬
‫كل نشــاط مــن هــذه النشــاطات ميكــن مجعهــا حتــت ســنة مــن الســنن‬
‫اخلمسة‪ ،‬مث حناول أن ندمج بني السنن من خالل جمموعة روابط‪ ،‬والعالقات‬
‫الــي جتعلنــا ننظــر إىل املشــهد كصــورة واحــدة ‪.‬‬
‫فاالخرتاعــات واالكتشــافات عــادة مــا تفتــح الســبيل حنــو التقــدم وجتديــد‬
‫الوســائل للعيــش والطاقــة ‪ ،‬كمــا أهنــا تســاعد يف رســم املســتقبل ‪ ،‬كمــا هــو‬
‫شــأن املســتقبليات يف هــذا العصــر ‪ .‬كمــا أن ظهــور أمــة مــن األمــم‪ ،‬وازدهارهــا‬
‫وامتالكهــا لعناصــر القــوة‪ ،‬يشــكل يف حــد ذاتــه حتــدايً ألمــم أخــرى ضعيفــة ‪ ،‬أو‬
‫أقــل قــوة ‪ ،‬ممــا يســهم يف تقســيم اجملتمعــات املغلوبــة إىل تيــار ينــادي ابحملافظــة‬
‫‪307‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫علــى أصــول األمــة‪ ،‬وتيــار ينــادي بنبــذ املاضــي واالهتــداء خبطــى األمــم الغالبــة‬
‫‪ .‬العوامــل النفســية تؤثــر يف نــوع االســتجابة الــي يســتجيبها اجملتمــع للتأث ـرات‬
‫املختلفــة الــي حتــدث داخــل اجملتمــع ‪.‬‬
‫العــادات والش ـرائع تؤثــر يف شــبكة العالقــات االجتماعيــة ومــن مث نــوع‬
‫االســتجابة للتغ ـرات املختلفــة ‪ ,‬كمــا أن وجــود نظــم وتكتــات بش ـرية قــد‬
‫تســاعد يف اســتقرار اجملتمــع بعكــس التفــاوت الطبقــي الــذي عــادة مــا يــرز يف‬
‫غيــاب اجملتمــع املــدين واألح ـزاب السياســية وغــر ذلــك مــن أشــكال التجمــع‬
‫البشــري املنظــم املت ـوازن القــادر علــى الدفــع ‪307 .‬‬

‫و منــو الســكان يعطــي لألمــم قــوة‪ ،‬خاصــة إذا كان هنــاك تنميــة إنســانية‬
‫تطــور قــدرات البشــر‪ ،‬وإال فاألمــر ينقلــب وابالً علــى أهلــه ‪ .‬هــذه العالقــات‬
‫هــي الــي حتــدد األبعــاد والنســب هلــذه العوامــل فتكــون الصــورة متكاملــة أو‬
‫اللوحــة املرســومة كمــا هــي يف هــذه الســطور ‪ ....‬اجلــزء القريــب مــن الصــورة‬
‫حبجــم كبــر‪ ،‬تبــدو النزاعــات واحلــروب س ـواء داخــل اجملتمــع الواحــد‪ ،‬أو بــن‬
‫اجملتمعــات املختلفــة ‪ ،‬وهــي صــورة حزينــة ملؤهــا البــؤس واألســى‪ ،‬واألشــاء‬
‫والدمــار‪ ،‬صــورة لإلنســان يف نقعــه للغبــار‪ ،‬وغاراتــه علــى بــي جنســه‪ ،‬وكنــوده‬
‫وحجــوده‪ ،‬وظلمــه وجهلــه ‪ ...‬يف أحــد جوانــب اللوحــة وحبجــم كبــر أيضـاً تبــدو‬
‫ش ـوارع العــامل املتقــدم والعم ـران والتقــدم العلمــي والشــركات الكــرى والقــدرات‬
‫العســكرية اهلائلــة لقــوة عظمــى وجمموعــة قــوى قريبــة وبعيــدة مــن القــوة العظمــى ‪.‬‬
‫هــذا اجملتمــع القــوي هــو ســبب انقســم اجملتمعــات الضعيفــة‪ ،‬وهــو نفســه ســيكون‬
‫ســبب هنضتهــا يف صــورة أخــرى تتنــاوب فيهــا األدوار‪ ،‬وتتــداول فيهــا األايم ‪.‬‬
‫فكمــا أن يف الطبيعــة أهنــاراً طويلــة ‪ ،‬وحبــاراً عميقــة ‪ ،‬و أشــجاراً كثيفــة‪،‬‬
‫فــإن الرباكــن والــزالزل والفيضــاانت تنتشــر يف مناطــق كثــرة مــن العــامل‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪308‬‬

‫حبيــث تتقابــل مناطــق بيئيــة خمتلفــة عــر األرض ( يتقابــل فيهــا احلــار ابلبــارد‬
‫واالســتقرار ابالضطـراب ) فكــذا صــورة التاريــخ حتــوي أممـاً مزدهــرة وشــعوابً‬
‫تتنــازع يف مناطــق التصــدع الــي أشــار إليهــا هنتجتــون يف الشــام ويف كشــمري‬
‫وشــرق أورواب ‪ ....‬ويف اجلــزء البعيــد مــن الصــورة حيــث يبــدو احلجــم‬
‫أقــل وتطلــع علينــا صــورة ابــن اهليثــم وال ـرازي نيوتــن وانيشــتني وواطســون‬
‫وهــم يثــروا األســئلة حــول الســماء والطبيعــة والنجــوم والزمــان واملــكان ‪...‬‬
‫هــؤالء يغــرون وجهــة نظــر النــاس عــن الزمــان واملــكان‪ ،‬ويغــرون مــن وجهــة‬
‫امللــوك واحلــكام عــن املســتقبل ‪ ..‬ويف الصــورة خلفيــة تشــكلت أبلــوان‬
‫خمتلفــة لثقافــات متجــددة تتغــر عــر الزمــن وعــر الثــورات العلميــة لتؤثــر يف‬
‫األحــداث بصــورة متدرجــة متأنيــة ‪ ...‬ويف الصــورة مســاحة واســعة ‪ ،‬لفضــاء‬
‫األرض الــذي مل يســتغل والشــعوب املتخلفــة‪ ،‬الــي بعضهــا يــزرع بطــرق‬
‫بدائيــة وبعضهــا يعبــد اإللــه وبعضهــا حيلــم برجــوع األزتيــك أو الطــوارق‬
‫‪ !!...‬هــل مــن مثــال هلــذه الصــورة ؟ األمــر صعــب وميكــن تقنيــا ًرســم‬
‫هــذه اللوحــة لكــن كقصــة وروايــة فاألمــر صعــب جــداً ‪ ,‬ولكــن القــرآن‬
‫الكــرمي إبعجــاز غريــب يعطينــا منوذجـاً هلــذه اللوحــة العجيبــة وذلــك يف قصــة‬
‫يوســف عليــه الســام فلننظــر كيــف يكــون ذلــك ؟‬

‫لوحة قرآنية ‪( :‬قصة يوسف عليه السالم )‬


‫هــذه اللوحــة بنيــت علــى خطــوط خمتلفــة ‪ ،‬أشــبه بســكك احلديــد‪ ،‬أو‬
‫اهليــكل الــذي تتحــرك مــن خاللــه الصــورة كمــا يف شاشــات الكمبيوتــر وغــره ‪.‬‬
‫هــذه اخلطــوط ســتكون متدرجــة كالســلم‪ ،‬يف اجلانــب القريــب مــن الصــورة حيــث‬
‫الن ـزاع والقتــال هــو الســائد‪ ،‬الن التفــاوت هــو مــا يثــر غريــزة التفــوق واحلســد‬
‫لــدى اإلنســان ( الشــعور ابلكرامــة ) ‪ .‬ويف اجلانــب القريــب حيــث البنــاايت‬
‫‪309‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫العاليــة‪ ،‬واألهنــار واملصانــع الكبــرة واألشــجار الكثيفــة واملراكــز التجاريــة حيــث‬


‫تعــر األمــة القائــدة عــن وجودهــا‪ ،‬جنــد اخلطــوط متقابلــة متوازنــة داخــل النظــم‬
‫املكونــة لتلــك األمــة ‪ ...‬أمــا اجلانــب البعيــد مــن الصــورة فاخلطــوط متعرجــة‬
‫ويبــدو عليهــا التشــتت ‪ ،‬ألهنــا متثــل اآلمــال واملســتقبل الــذي تنتظــره األمــم‬
‫البائســة ‪ ,‬هنــاك حيــث تقبــع اليوتوبيــا ‪...‬‬
‫و يعطينــا القــرآن صــورة هلــذه اآلمــال ويف طيــات ذلــك يعلمنــا كيــف‬
‫تتشــكل اللوحــة التارخييــة ‪...‬وذلــك يف قصــة يوســف عليــه الســام ‪ .‬يبــدأ‬
‫‪309‬ــف رؤايه ( أحــد عشــر‬ ‫الســياق ابلوحــدة التارخييــة للقصــة ‪ ،‬حــن رأى يوس‬
‫كوكب ـاً والشــمس والقمــر رأيتهــم يل ســاجدين ) ؟! ‪ .‬هنــا يبــدو املســتقبل هــو‬
‫الذي يصنع احلاضر أو احلدث‪ ،‬ويبدو القدر ســابق لكل شــيء ‪ .‬هذا الســبق‬
‫تكثــف يف خيــال يوســف ورؤايه ‪ !...‬لقــد كان يف خلفيــة الصــورة‪ ،‬يف البــدو‬
‫حيــث يوســف وأبــوه وإخوتــه ‪...‬‬
‫تبدأ القصة ابلعوامل النفســية احملركة‪ ،‬من خالل ســنة التفاوت ‪ ،‬فيوســف‬
‫أحــب إىل أبينــا منّــا‪ ،‬لــذا وجــب قتلــه ‪ ...‬وأحــب هــذه‪ ،‬أفعــل التفضيــل ‪ ،‬هــي‬
‫أســاس تلــك الصــورة املزعجــة يف التاريــخ ‪ ،‬حيــث احلــروب والن ـزاع ‪ ...‬هــذه‬
‫هــي الصــورة القريبــة حيــث احلــروب والنزاعــات العرقيــة و القوميــة و السياســية‬
‫أو حيــث الشــعور ابلكرامــة أو العصبيــة ‪ ،‬حنــن أفضــل األمــم حنــن أقــوى حنــن‬
‫أعــز ‪ !..‬وتبــدأ األحــداث عــر ســنة التدافــع ‪ ،‬فاملــال يدفــع الســيارة للمتاجــرة‬
‫بيوســف‪ ،‬والرغبــة والشــهوة تدفــع امـرأة العزيــز إلغـراء يوســف وحماولــة مـراودة‬
‫عفتــه‪ ،‬والفســاد القضائــي يفضــي بــه للســجن ‪...‬‬
‫و هــذا هــو اجلانــب القريــب مــن الصــورة حيــث األمــم املزدهــرة أو القويــة (‬
‫والــي قــد تكــون فاســدة أو مشــركة رغــم تـوازن نظمهــا ) تؤثــر يف األمــم األخــرى‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪310‬‬

‫وحيــاة النــاس ‪ ،‬عــر نظمهــا التجاريــة وأحواهلــا االجتماعيــة والقضائيــة ‪ ,‬إن‬


‫فســدت فســد النــاس ‪ ,‬وإن صلحــت صلــح النــاس ‪ .‬ولكــن يف خضــم تلــك‬
‫األوضــاع وتلــك القــوة الدافعــة مــن تيــار األحــداث كانــت صــورة يوســف جبمالــه‬
‫وعلمــه ترســم املســتقبل لدولــة كانــت ســنة اجل ـزاء حتيــط هبــا ‪...‬؟ كانــت رؤاي‬
‫امللك تعرب تعبرياً واضحاً عن ســنة اجلزاء فإنه رأى مرحلة من السـراء مث الضراء‬
‫مث مرحلة ( يغاث فيها الناس ) ‪ .‬فقدم مشــروعه الذي قفز ابمللك من النهاية‬
‫إىل البدايــة‪ ،‬وكانــت بذلــك عمليــة إصــاح كــرى بقيــادة يوســف عليــه الســام ‪.‬‬
‫مــن النــادر أن جتــد هــذه العمليــة تنجــح جناحـاً كامـاً لغيــاب تلــك القـراءة‬
‫الواعيــة للمســتقبل وهــذا مــا ينقــص أمتنــا ‪ .‬وترينــا القصــة دوران األحــداث عــر‬
‫اجلـزاء فقــد تعلــم إخوتــه أن الكــذب ال جيــزي وأن اجلـزاء للظاملــن قانــون ال يتغــر‬
‫‪ ,‬قــال ( معــاذ هللا أن أنخــذ إال مــن وجــدان متاعنــا عنــده إان أذاً ملــن الظاملــن‬
‫) ‪ .‬وعندمــا صدق ـوا مــع أبيهــم مل ينفعهــم صدقهــم ‪ ,‬ألهنــم كذب ـوا أول مــرة ‪,‬‬
‫وهكــذا يبــدو لــكل مــن تتبــع حــركات االلتفــاف داخــل الصــورة جتــد كيــف تعلــم‬
‫األحــداث النــاس يف الدنيــا قبــل اآلخــرة ‪ ...‬وبعــد كل ذلــك كانــت والدة العــامل‬
‫حــن تغــرت األفــكار وانتقلــت الدعــوة اإلبراهيميــة إىل مصــر ‪ ،,‬حيــث احلضــارة‬
‫والعمـران يف خدمــة التوحيــد واإلميــان ‪.‬‬
‫فمــا أعجــب هــذا النظــم الــذي جــاءت بــه الســورة ‪ ,‬ولــو تتبعــت القصــة‬
‫يف كتــب العهــد القــدمي أو اجلديــد ال جتــد ســيناريو حمكــم ضمــن هــذا اهليــكل‬
‫العجيــب الــذي ال يســتطيعه ســوى خالــق هــذا الكــون وموجــد هــذا الوجــود ‪(.‬‬
‫راجــع مقدمــة تفســر ســورة يوســف األســاس يف التفســر الشــيخ ســعيد حــوى‬
‫) ‪ .‬دعنــا اآلن نضــع هــذه الســنن يف جمموعــة مؤش ـرات تســاعدان علــى رصــد‬
‫حركــة اجملتمــع ‪.‬‬
‫‪311‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫صناعة النماذج وبناء املؤشرات ‪:‬‬


‫مــا ســبق يدلنــا علــى أن التاريــخ يتحــرك يف اجتاهــات خمتلفــة ويتأثــر مبؤثـرات‬
‫متعــددة وعوامــل متنوعــة يف القــوة والتأثــر ‪.‬‬
‫و هنا حناول أن نرصد حركة اجملتمع ضمن هذه املؤشرات اخلمسة ‪:‬‬
‫‪ .1‬مؤشر االسرتاتيجيا ( سنة اهلداية )‬
‫‪ .2‬مؤشر االستقرار ( سنة التدافع )‬
‫‪311‬‬ ‫‪ .3‬مؤشر التفاوت ( سنة التنازع )‬
‫‪ .4‬مؤشر النمو ( سنة اجلزاء )‬
‫‪ .5‬مؤشر التطور ( سنة االستخالف ‪.‬‬
‫ميكن أن نضع هذه السنن يف نظام نقاط لنرصد حركة اجملتع كالتايل ‪:‬‬

‫مؤشر االسرتاتيجيا ‪(:‬املستوى االسرتاتيجي)‬


‫ويعــر عــن تصــور صانــع القـرار لألخطــار احملدقــة بــه والفــرص املتاحــة أمامــه‬
‫‪ ,‬مــن خــال تصــوره للمســتقبل وقراءتــه لــه ‪.‬‬
‫توقعاتنــا ماهــي إال قــرب أو بعــد هــذه التوقعــات مــن األحــداث املســتقبلية‬
‫فأحيــاان يتطابــق مــع الواقــع ( ‪ )0‬وأحيــاانً يبتعــد كثـراُ (‪ -1‬أو ‪. )+1‬‬
‫وميكن بناء مؤشرات لذلك من مثل ‪:‬‬
‫• •كيفية صناعة القرار ‪.‬‬
‫• •مدى مشاركة اجملتمع يف صناعة اسرتاتيجية الدولة ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪312‬‬

‫• •هل هناك خطة اسرتايتجية يف الدولة ‪.‬‬


‫• •هل القرار مبين على معلومات ومعرفة ابلواقع ‪...‬‬
‫• •طبيعــة النظــام السياســي وإمكانيــة التغيــر فيــه مــن حيــث املرونــة والقــدرة‬
‫علــى التغيــر ‪.‬‬
‫هــذا املؤشــر مهــم للغايــة لــذا فهــو شــرط ضــروري ملعرفــة توجــه اجملتمــع‬
‫والتنبــؤ لألحــداث الــذي تنتظــره ‪.‬‬

‫مؤشر االستقرار ‪(:‬مستوى املؤسسات )‬


‫يشــر إىل مــدى تنــوع القــوى املؤثــرة يف اجملتمــع وتدافعهــا ‪ ,‬ومــدى ثبــات‬
‫مؤسســاته وقدرهتــا علــى التدافــع فيمــا بينهــا ‪.‬‬
‫اإلعالم ‪( :‬حكومي – غري حكومي‪ -‬خمتلط )‬
‫حرية الصحافة‬
‫عدد املظاهرات واالعتصامات يف السنة ‪.‬‬
‫دور القطاع اخلاص يف الدخل القومي وفاعليته ‪.‬‬
‫تنوع مصادر الدخل ‪.‬‬
‫تنوع سلة املدفوعات ‪.‬‬
‫التنوع العرقي والديين والطائفي ‪.‬‬
‫مؤسسات اجملتمع املدين من حيث العدد والفاعلية و( القوانني املنظمة)‬
‫عدد األحزاب ‪.‬‬
‫‪313‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫الثقافة‪.‬‬
‫عدد الكتب الصادرة يف كل سنة ‪.‬‬
‫ساعات القراءة ‪.‬‬
‫تنوع التخصصات والتوجهات ‪...‬‬
‫يف كل مــا ســبق ميكــن أن حتســب يف مؤشــر يعــر عــن حالــة االســتقرار يف‬
‫حالــة التنــوع والفاعليــة ‪.‬‬
‫‪313‬‬
‫مؤشر التفاوت (املستوى االجتماعي )‬
‫وهــو مســتوى اجتماعــي يعــر عــن شــبكة العالقــات االجتماعيــة ومــدى‬
‫ترابطهــا وتوافقهــا مــع احللــم األساســي الــذي قــام عليــه اجملتمــع وهــي الثالثيــة‬
‫القرآنيــة الوفــاء ابلعهــد والوصــال والصــاح ‪.‬‬
‫تفاوت توزيع الدخل ‪.‬‬
‫ميكن قياسها مثالً ‪.‬‬
‫يضرب عدد املشتغلني يف القطاع بعدد أفراد األسرة ‪.‬‬
‫نسبة القطاع إىل عدد السكان ‪.‬‬
‫حتــدد حصــة هــذه النســبة مــن الســكان مــن الدخــل احمللــي ويطــرح منــه‬
‫الناتــج احمللــي يف القطــاع املعــي ‪.‬‬
‫معدل دخل الفرد احلقيقي (مايعرف اختصاراً ‪.)PPP‬‬
‫معدل اجلرمية ‪.‬‬
‫املظاهرات واالحتجاجات ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪314‬‬

‫الطالق والعنوسة والقضااي املهمشة داخل اجملتمع ‪.‬‬


‫عدد دور الرعااي‪.‬‬
‫عدد املساجد واإلقبال عليها‪ .‬؟‬
‫التدين واألخالق االجتماعية ومدى االستمساك هبا ‪.‬‬

‫مؤشر النمو‬
‫التغري يف املؤشـرات مع ســنة أســاس الدراســة‪ ،‬فهذا ميكن أن يقيس درجة‬
‫استقرار الدولة و مؤسساهتا كما يف مؤشر احلوكمه ‪.‬‬
‫معــدل النمــو = التغــر مضــروب يف ســنة األســاس مقســوم علــى ســنة‬
‫األســاس مضــروب يف مائــة ‪ ,‬وهــذا يعــي القــدرة علــى احملافظــة أو النمــو للدولــة‬
‫عــر الزمــن ويرســم منحــى لذلــك يبــن املســار ‪.‬‬

‫مؤشر التطور ‪:‬‬


‫وينظــر إىل التغ ـرات اهليكليــة ومــدى قــدرة صانــع الق ـرار علــى مواكبــة‬
‫التغ ـرات س ـواء يف عــدد الســكان أو التقنيــة احلديثــة وكذلــك امل ـوارد الطبيعيــة‬
‫للدولــة ( التنميــة املســتدامة ) ‪ .‬ويشــمل ذلــك مؤش ـرات التنميــة البش ـرية (‬
‫الصحــة ‪,‬التعليــم ‪,‬ومســتوى الدخــل انظــر تقريــر التنميــة البش ـرية ‪.) 2011‬‬
‫وكذلــك بعــض املؤشـرات الــي تشــمل مثـاً البنيــة التحتيــة واســتخدام االنرتنــت‬
‫وغريهــا ( انظــر تقريــر التنافســية ‪ .) 2011‬ميكــن وضــع هــذه املؤش ـرات يف‬
‫صــورة نقــاط حتســب علــى كل مؤشــر وتوضــع يف معادلــة كالتــايل ‪ :‬ألخــذ صــورة‬
‫عــن ( توجــه اجملتمــع ) = مؤشــر االس ـراتيجية * مؤشــر التطــور ‪ ( +‬موشــر‬
‫االســتقرار – مؤشــر التفــاوت ) ‪ /‬مؤشــر النمــو ‪.‬‬
‫‪315‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫نالحــظ أن صناعــة األسـراتيجية هــي مؤثــر كبــر يف املعادلــة لــذا كانــت يف‬
‫جهة الضرب أما مؤشــر التفاوت فيمكن أن يكون ابلســالب ويؤثر يف املعادلة‬
‫وجيعلهــا صفريــة أو ســالبة ‪ .‬هــذا جمــرد تصــور عــن الطريقــة الــي ميكــن مــن خالهلــا‬
‫االســتفادة مــن هــذه الســنن ومــن مث وضــع صــورة كليــة عــن حالــة اجملتمــع ومــن مث‬
‫العمــل معــه أوالفتــوى لــه أو تقــدمي املشــروعات النافعــة هلــذا اجملتمــع ‪.‬‬

‫‪315‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪316‬‬

‫الفصل األخري‬

‫نظرية الوحدة القرءانية‬

‫يف هذا الفصل حناول أن نضع نظرية الوحدة القرآنية يف سياقها التارخيي‬
‫مــن خــال عــرض اتريــخ الرتتيــب القــرآين والنظ ـرايت املختلفــة يف هــذا اجملــال‬
‫‪ .‬واملالحــظ يف علــوم القــرآن أنــه تطــور مــن دراســة للنــص لغــة ً و بالغــة‪ ،‬إىل‬
‫حمــاوالت جــادة لفهــم اخلطــاب القــرآين مــن خــال الســياق التارخيــي الــذي نــزل‬
‫فيــه القــرآن ‪.‬‬
‫وقــد دلــت آايت قرآنيــة كثــرة علــى أن ذلــك مقصــودا ولتوضيــح ذلــك كان‬
‫املبحــث حــول اإلن ـزال والتنزيــل ‪ .‬ولفهــم الســياق التارخيــي للخطــاب القــرآين‬
‫كانــت هنــاك مباحــث كثــرة كاملكــي واملــدين وأســباب النــزول ‪ ,‬مث كان هنــاك‬
‫معايــر معينــة لفهــم اخلطــاب املكــي واملــدين ‪.‬‬
‫كمــا أن الســياق القــرآين أخــذ عنايــة يف الفهــم خاصــة مــن خــال مبحــث‬
‫احملكــم واملتشــابه ورد الثــاين إىل األول وكذلــك أحــكام مــن مثــل النســخ والنســأ‬
‫والعمــوم واخلصــوص واملقيــد واملطلــق ‪ .‬كمــا أن املعــاين أخــذت حظهــا مــن‬
‫خــال التفســر املوضوعــي الــذي يعــى ابلبحــث يف اجملــاالت املختلفــة كالفقــه‬
‫والفلســفة والتصــوف والتاريــخ ‪ .....‬ويطلــق التفســر املوضوعــي كذلــك علــى‬
‫حمــاوالت فهــم النــص يف ســياق اآلايت أو حماولــة التعامــل مــع الســورة كوحــدة‬
‫واحــدة موضوعيـاً عضــواي مــن حيــث الرتكيــب اللغــوي ‪ .‬كمــا أن ترتيــب القــرآن‬
‫أخ ـراً أخــذ حظ ـاُ مــن العنايــة مــن خــال نظريــة الوحــدة القرآنيــة ‪ ,‬ولعــل هــذا‬
‫أهــم مــا يعنينــا يف هــذا الفصــل وســنبدأ ابحلديــث عــن مســألة ترتيــب القــرآن (‬
‫‪317‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫انظــر مقدمــة اخلطــاب السياســي يف القــرآن حممــد ســامل ابحلــاج مركــز دراســات‬
‫الوحــدة العربيــة للتفصيــل ) ‪.‬‬

‫ترتيب القرآن ‪:‬‬


‫يقصــد برتتيــب القــرآن ؛ ترتيــب آايتــه يف كل ســورة ‪ ،‬وترتيــب ســور القــرآن‬
‫كمــا هــي يف املصحــف‪ ،‬وهــو مــا يعــرف برتتيــب التــاوة ‪ .‬وقــد يعمــد بعــض‬
‫العلمــاء إىل ترتيــب القــرآن علــى حســب نزولــه‪ ،‬خاصــة مــن خــال مــا نــزل مبكــة‬
‫‪317‬وايــة ‪ .‬وقــد أمجــع علمــاء‬‫واملدينــة ‪ ،‬وهــذا ترتيــب زمــي يطلــق عليــه ترتيــب الر‬
‫األمــة‪ ،‬علــى أن ترتيــب اآلايت يف كل ســورة ترتيــب توقيفــي ال جيــوز املســاس‬
‫بــه ‪ (( )1(.‬وأمــا ترتيــب الســور علــى مــا هــو عليــه اآلن فاختلــف ‪ :‬هــل هــو‬
‫توقيــف مــن النــي – صلــى هللا عليــه وســام – أو مــن فعــل الصحابــة أو مفصــل‬
‫؟ ‪ .‬يف ذلــك ثالثــة أقـوال ‪ (( :‬مذهــب مجهــور العلمــاء منهــم مالــك ‪ ،‬والقاضــي‬
‫أبــو بكــر بــن الطيــب – فيمــا أعتمــد واســتقر عليــه رأيــه مــن أحــد قوليــه – إىل‬
‫الثــاين ‪ ،‬وأنــه – صلــى هللا عليــه وســلم – فــوض ذلــك إىل أمتــه بعــده ‪ .‬وذهبــت‬
‫طائفــة إىل األول ‪ ،‬ويرجــع اخلــاف إىل اللفــظ ‪ ،‬ألن القائــل ابلثــاين يقــول ‪ :‬أنــه‬
‫رمــز إليهــم بذلــك لعلمهــم أســباب نزولــه ومواقــع كلماتــه ؟ وهلــذا قــال اإلمــام‬
‫مالــك ‪ :‬إمنــا ألفـوا القــرآن علــى مــا كانـوا يســمعونه مــن النــي – صلــى هللا عليــه‬
‫وســلم – مــع قولــه أبن ترتيــب الســور اجتهــاد منهــم قــال اخلــاف أنــه ‪ :‬هــل‬
‫ذلــك بتوقيــف قــويل أم مبجــرد اســتناد فعلــي ‪ ،‬وحبيــث بقــي هلــم فيــه جمــال نظــر)‪.‬‬
‫ومــا روي مــن فعــل النــي مــن قـراءة بعــض الســور علــى غــر ترتيــب القــرآن ‪ ،‬ال‬
‫خيــرج عــن كونــه توســعة لألمــة ‪ ،‬وال ينهــض دلي ـاً علــى أن الرتتيــب مــن فعــل‬
‫الصحابــة ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪318‬‬

‫(( والقــول الثالــث قــال إليــه القاضــي أبــو حممــد بــن عطيــة ‪ :‬أن كثـراً مــن‬
‫الســور كان قــد علــم ترتيبهــا يف حياتــه – صلــى هللا عليــه وســلم – كالســبع‬
‫الط ـوال واحلواميــم واملفصــل‪ ،‬وأشــاروا إىل أن مــا ســوي ذلــك ميكــن أن يكــون‬
‫فــوض األمــر فيــه إىل األمــة بعــده ‪ .‬قــال القاضــي أبــو بكــر بــن الطيــب ‪(( :‬‬
‫قــد اختلــف الســلف يف ترتيــب القــرآن ‪ ،‬فمنهــم مــن كتــب يف املصحــف الســور‬
‫علــى اتريــخ نزوهلــا ‪ ،‬وقــدم املكــي علــى املــدين ‪ ،‬ومنهــم مــن جعــل مــن أولــه (‬
‫أقـرأ ابســم ربــك الــذي خلــق ) وهــو أول مصحــف علــي ‪ ،‬وأمــا مصحــف ابــن‬
‫مســعود فأولــه ( مالــك يــوم الديــن ) مث البقــرة ‪ ،‬مث النســاء علــى ترتيــب خمتلــف‬
‫‪ ،‬ويف مصحــف أيب كان أولــه احلمــد ‪ ،‬مث النســاء ‪ ،‬مث آل عمـران ‪ ،‬مث األنعــام‬
‫مث األعـراف ‪ ،‬علــى اختــاف شــديد ‪ (( .‬ومــن نظــم الســور علــى املكــي واملــدين‬
‫مل يــدر أيــن يضــع الفاحتــة ‪ ،‬الختالفهــم يف موقــع نزوهلــا )) ‪ . .‬قــال أبــو جعفــر‬
‫الزبــر ‪ :‬اآلاثر تشــهد أبكثــر ممــا نــص عليــه ابــن عطيــة والنقــل الســابق ‪)) ،‬‬
‫فأكثــر اآلاثر تــدل علــى أن الرتتيــب توقيفــي ‪.‬‬
‫قال الزركشي ‪:‬‬
‫لرتتيــب وضــع الســور يف املصحــف أســباب تطلــع علــى أنــه توقيفــي صــادر‬
‫عــن حكيــم أحدهــا حبســب احلــروف ‪ ،‬كمــا يف احلواميــم ( آل حــم ) واثنيهــا‬
‫ملوافقــة أول الســورة آلخــر مــا قبلهــا‪ ،‬كآخــر احلمــد يف املعــي وأول البقــرة ‪ .‬اثلثهــا‬
‫للــوزن يف اللفــظ ‪ ،‬كآخــر مــا قبلهــا ‪ ،‬كآخــر (( تبــت )) وأول اإلخــاص ‪،‬‬
‫ورابعها ملشاهبة مجلة السورة جلملة األخرى مثل (( الضحي )) و (( أمل نشرح‬
‫)) ‪ .‬قــال بعــض األئمــة ‪ :‬وســورة الفاحتــة تضمنــت اإلق ـرار ابلريوبيــة وااللتجــاء‬
‫إليــه يف ديــن اإلســام ‪ ،‬والصيانــة عــن ديــن اليهوديــة والنصرانيــة ‪ .‬وســورة البقــرة‬
‫تضمنــت قواعــد الديــن وآل عم ـران مكملــة ملقصودهــا ‪ ،‬مبنزلــة التامــة الدليــل‬
‫علــى احلكــم) ‪.‬‬
‫‪319‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫( و أمــا ســورة النســاء فتتضمــن مجيــع أحــكام األســباب الــي بــن النــاس‬
‫‪ ،‬وهــي نوعــان خملوقــة هلل تعــايل ‪ ،‬ومقــدوره هلــم ‪ ،‬كالنســب والصهــر ‪ ،‬وهلــذا‬
‫افتتحهــا ( ربكــم الــذي خلقكــم مــن نفــس واحــد وخلــق منهــا زوجهــا )) مث ((‬
‫واتق ـوا هللا الــذي تســاءلون بــه واألرحــام))‪ ،‬وبــن الذيــن يتعاهــدون ويتعاقــدون‬
‫فيمــا بينهــم ‪ ،‬ومــا تعلــق بذلــك مــن أحــكام األمـوال والفــروج واملواريــث ‪ ،‬ومنهــا‬
‫العهــود الــي حصلــت ابلرســالة ‪ ،‬والــي أخذهــا هللا علــى الرســل ‪ .‬و أمــا ســورة‬
‫املائــدة فســورة العقــود وهبــن متــام الشـرائع ‪ ،‬قالـوا ‪ :‬وهبــا متــام الديــن فهــي ســورة‬
‫التكميــل )‪.‬‬
‫‪319‬‬
‫و قــد قســم العلمــاء القــرآن إىل أربعــة أقســام ‪ ،‬الطـوال ‪ ،‬املئــون ‪ ،‬املثــاين ‪،‬‬
‫املفصــل وقــد جــاء ذلــك يف حديــث مرفــوع أخرجــه أبــو عبيــد مــن جهــة ســعيد‬
‫بــن بشــر عــن قتــادة عــن أيب امللبــح ‪ ،‬عــن وأملــه بــن األســقع عــن النــي – صلــي‬
‫هللا عليــه وســلم – قــال ‪ :‬أعطيــت الســبع الط ـوال مــكان التــوراة ‪ ،‬وأعطيــت‬
‫املئــن مــكان اإلجنيــل ‪ ،‬وأعطيــت املثــاين مــكان الزبــور ‪ ،‬وفضلــت ابملفصــل )) ‪.‬‬
‫وهو حديث غريب ‪ ،‬وســعيد بن بشــر فيه لني ‪ ،‬وأخرجه أبو داود الطيالســي‬
‫يف مســنده‪ .‬والســبع الط ـوال أوهلــا البقــرة وآخرهــا ب ـراءة ‪ ،‬ألهنــم كان ـوا يق ـرأون‬
‫األنفــال وبـراءة ســورة واحــدة ‪ .‬ومسيــت طـوال لطوهلــا ‪ .‬واملئــون مــن ســورة يونــس‬
‫إىل ســورة القصــص ‪ ،‬ومسيــت بذلــك ألن كل ســورة منهــا تزيــد علــى مائــه آيــة أو‬
‫تقارهبــا ‪ .‬واملثــاين ‪ :‬ومسيــت كذلــك ألن املعــاين تثــي فيهــا وتبــدأ مــن العنكبــوت‬
‫واختلــف يف هنايتهــا‪ ،‬الختالفهــم يف بدايــة املفصــل ‪ .‬واملفصــل ‪ :‬مســي كذلــك‬
‫لكثــرة فصولــه ‪ ،‬ويف أولــه أثنــا عشــر قــوالً ‪:‬‬
‫‪ -10‬االنسان ‪.‬‬ ‫‪ -7‬تبارك ‪.‬‬ ‫‪ -4‬ق ‪.‬‬ ‫‪ -1‬اجلاثية‪.‬‬
‫‪ -11‬سبح ‪.‬‬ ‫‪ -8‬الفتح ‪.‬‬ ‫‪ -5‬الصافات ‪.‬‬ ‫‪ -2‬القتال‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪320‬‬

‫‪ -12‬والضحى ‪.‬‬ ‫‪ -9‬الرمحن ‪.‬‬ ‫‪ -6‬الصف ‪.‬‬ ‫‪ -3‬احلجرات‪.‬‬


‫قــال الزركشــي ‪ ( :‬و الصحيــح عنــد أهــل األثــر أن أولــه (( ق ))) ولكــن‬
‫الشــيخ ســعيد حــوي أعتــر (( ق )) هنايــة قســم املئــن ‪ ،‬واعتــر الــذارايت هــي‬
‫بدايــة املفصــل ‪ ،‬وهنــاك أصــل اخلــاف ‪ .‬يف مســند أيب داوود ‪ ،‬عندمــا ســئل‬
‫الصحابــة كيــف حتزبــون القــرآن قالـوا ‪ :‬ثــاث ‪ ،‬مخــس ‪ ،‬ســبع ‪ ،‬تســع ‪ ،‬إحــدي‬
‫عشــرة ‪ ،‬ثــاث عشــرة ‪ ،‬حــزب املفصــل وحــدة ‪ .‬فــإذا عــددت مثاني ـاً وأربعــن‬
‫ســورة كانــت الــي بعــد ســورة ( ق ) ‪ .‬و لكــن الشــيخ ســعيد حــوي يف تفســره‬
‫لســورة الــذارايت ‪ ،‬ذكــر قــول ابــن كثــر مــن كــون بدايــة املفصــل مــن (( ق )) ‪،‬‬
‫وأعتــر أن البدايــة مــن ســورة الــذارايت ‪ ،‬بنــاء علــى أن الصحابــة كانـوا يعــدون‬
‫األنفــال والتوبــة ســورة واحــدة ؛ وعلــى هــذا يتغــر احلســاب لتكــون ســورة (( ق‬
‫)) هنايــة املثــاين ‪ ،‬وتكــون ســورة الــذارايت بدايتــه ‪ ،‬ونظــم الســور يؤيــد ذلــك‬
‫‪ )2(.‬إذا عرفنا هذه املســألة ‪ ،‬فلنذكر جهود العلماء يف حماولة فهم الســر وراء‬
‫هــذا الرتتيــب الزمــي أو ترتيــب الروايــة ‪.‬‬
‫هذه احملاوالت ستذكرها وفق هذا الرتتيب ‪:‬‬
‫‪ .1‬أصول الرتتيب الزمين وعلم املناسبة‪.‬‬
‫‪ .2‬الشاطيب ونظرته للتفسري‪.‬‬
‫‪ .3‬حماوالت املستشرقني‪.‬‬
‫‪ .4‬الشهيد سيد قطب يف الظالل‪.‬‬
‫‪ .5‬األساس يف التفسري للشيخ سعيد حوي‪.‬‬
‫‪ -1‬علم املناسبة‪-:‬‬
‫‪321‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫قــال أبــو القاســم احلســن بــن حممــد بــن حبيــب النيســابوري يف كتــاب‬
‫التنبيــه علــى فضــل علــوم القــرآن ‪ -:‬مــن أشــرف علــوم القــرآن علــم نزولــه وجهاتــه‬
‫وترتيــب مــا نــزل مبكــة ابتــداء ووســطا وانتهــاءً ‪ ،‬وترتيــب مــا نــزل ابملدينــة كذلــك‬
‫‪ ،‬مث مــا نــزل مبكــة وحكمــه مــدين ‪ ،‬ومــا نــزل ابحلديبيــة وحكمــه مكــي )(‪. )1‬‬
‫هــذا االعتنــاء برتتيــب النــزول ‪ ،‬كان اهلــدف منــه حماولــة العلمــاء ‪ ،‬لفهــم اجلــو‬
‫الــذي نــزل فيــه النــص ‪ ،‬حــى يتمكن ـوا مــن فهمــه وتعيــن مناطــه ‪ .‬وقــد اعتــي‬
‫العلمــاء ‪ ،‬كذلــك مبــا يعــرف بعلــم املناســبة ‪ .‬وقــد أفــرده ابلتصنيــف األســتاذ أبــو‬
‫اجلعفــر بــن الزبــر ‪ ،‬والشــيخ أيب حيــان ‪ ,‬وتفســر اإلمــام فخــر الديــن الـرازي فيــه‬
‫‪321‬‬
‫الشــيء الكثــر مــن ذلــك ‪ .‬وهــذا العلــم يعــي يف اللغــة املقاربــة ‪ ،‬وفــان يناســب‬
‫فــاان أي يقــرب منــه ويشــاكله ‪ .‬ويعــي بــه مناســبة كل اآليــة لألخــرى ‪ ،‬وجعــل‬
‫أج ـزاء الــكالم بعضهــا آخــذا أبعنــاق بعــض ‪ ،‬فيقــوى بذلــك االرتبــاط ويصــر‬
‫التأليــف حالــه حــال البنــاء احملكــم املتالئــم األجـزاء ‪ (( .‬وقــد قــل اعتنــاء املفسـرين‬
‫هبــذا النــوع لدقتــه ‪ ،‬وعــن أثــر منــه لإلمــام فخــر الديــن الـرازي وقــال يف تفســره ‪:‬‬
‫أكثــر لطائــف القــرآن مودعــة يف الرتتيبــات والروابــط ) ‪.‬‬
‫( قــال القاضــي ابــن العــريب يف (( سـراج املريديــن )) ‪ :‬ارتبــاط آي القــرآن‬
‫بعضهــا ببعــض حــى تكــون كالكلمــة الواحــدة ‪ ،‬متســقة املعــاين ‪ ،‬منتظمــة املبــاين‬
‫علــم عظيــم ‪ ،‬مل يتعــرض لــه إال عــامل واحــد عمــل فيــه ســورة البقــرة ‪ ،‬مث فتــح‬
‫هللا عــز وجــل لنــا فيــه ‪ ،‬فلمــا مل جنــد لــه عملــه ‪ ،‬ورأينــا اخللــق أبوصــاف البطلــة‬
‫ختمنــا عليــه ‪ ،‬وجعلنــاه بيننــا وبــن هللا ورددانه إليــه ‪ .‬وقــال الشــيخ أبــو احلســن‬
‫الشــهرزادي ( شــرقي بغــداد ) ‪ :‬أول مــن أظهــر ببغــداد علــم املناســبة ومل نكــن‬
‫مسعنــاه مــن غــره هــو الشــيخ األمــام أبــو بكــر النيســابوري ‪ :‬وكان غزيــر العلــم يف‬
‫الشـريعة واألدب ‪ ،‬وكان يقــول علــى الكرســي إذا قــرئ عليــه اآليــة ‪ :‬مل جعلــت‬
‫هــذه اآليــة إىل جنــب هــذه ؟ ومــا احلكمــة يف جعــل هــذه الســورة إىل جنــب‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪322‬‬

‫هــذه الســورة ؟ وكان يــزري علــى علمــاء بغــداد لعــدم علمهــم ابملناســبة ‪ :‬انتهــى‬
‫(‪. ))1‬‬
‫و اعتــي العلمــاء كذلــك ابملناســبة بــن الســور ‪ ،‬وكتــب يف ذلــك اإلمــام‬
‫برهــان الديــن البقاعــي – اإلمــام الســيوطي ‪ ،‬الــذي نقــل عنــه األلوســي يف روح‬
‫املعــاين (‪ )3,4,5‬الكثــر مــن آرائــه يف مناســبة الســور ‪ ،‬وأكثرهــا مــن الرتاعــي‬
‫اللفظــي ‪ ،‬بــن هنايــة ســورة وأخــرى و أنضجهــا كتــاب البقاعــي ‪.‬‬
‫قال الســيوطي ‪ ( :‬لرتتيب وضع الســور يف املصاحف أســباب تطلع على‬
‫أنــه توقيفــي صــادر مــن عليــم حيكــم ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬حبسب احلروف كما يف احلواميم و ذوات ( الر)‪.‬‬
‫الثــاين‪ :‬ملوافقــة أخــر الســورة ألول مــا بعدهــا ‪.‬كآخــر احلمــد يف املعــى ‪.‬‬
‫و أول البقــرة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬الوزن يف اللفظة‪ .‬كآخر تبت و أول اإلخالص ‪.‬‬
‫الرابــع ‪ :‬ملشــاهبة مجلــة الســورى جلملــة أخــرى‪ ،‬كالضحــى و أمل نشــرح‬
‫)‪(.‬الســيوطي ‪)59‬‬
‫أمــا البقاعــي فقــد اعتــى ابلوحــدة القرءانيــة عنايــة خاصــة رغــم أنــه كان‬
‫يشــتكي مــن عــدم االهتمــام هبــذا اجملــال كغــره يقــول ( فتكــون الســورة كالشــجرة‬
‫النضــرة العاليــة‪ ،‬و الدوحــة البهيجــة األنيقــة اخلاليــة‪ ،‬املزينــة أبنـواع الزينــة املنظومــة‬
‫بعــد أنيــق الــورق أبفنــان الــدر‪ ،‬و أفناهنــا منقطعــة إىل تلــك املعاطــف كالدوائــر‪،‬‬
‫و كل دائــرة هلــا شــعبه متصلــة مبــا قبلهــا‪،‬‬
‫و شــعبة ملتحمــه مبــا بعدهــا‪ ،‬و آخــر الســورة قــد واصــل أوهلــا‪ ،‬كمــا الحــم‬
‫انتهاؤهــا مــا بعدهــا‪ ،‬و عانــق ابتداؤهــا مــا قبلهــا‪ ،‬فصــارت كل ســورة دائــرة‬
‫‪323‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫كــرى‪ ،‬مشــتملة علــى دوائــر االايت الغــر‪ ،‬البديعــة النظــم‪ ،‬العجيبــة الضــم‪ ،‬بلــن‬
‫تعاطــف أفناهنــا‪ ،‬و حســن تواصــل مثارهــا و أغصاهنــا )(‪.)4‬‬
‫و أمهيــة البقاعــي تكمــن يف أن حماولتــه كانــت تنطلــق مــن إميــان أبن‬
‫اإلعجــاز يكمــن يف هــذه املعــاين املرتبطــة ابلرتتيــب‪ ،‬ورغــم أمهيــة البقاعــى إال أننــا‬
‫ال جنــد صــدى يف كتــب كاألســاس يف التفســر أو الظــال أو كتــاب الشــيخ‬
‫الغـزايل عــن الوحــدة القرءآنيــة‪ ،‬فــإن قــدرة البقاعــي علــى جتــاوز اعجــاز اللفــظ و‬
‫النســق يف اجلملــة الواحــدة إىل االهتمــام ابملعــاين الكليــة و الربــط داخــل الســورة‬
‫الواحــدة كان ســابق لزمانــه بــكل املعايــر ‪ .‬و هــو‪323‬يشــر إىل معــى مهــم أن‬
‫االهتمــام ابملســتوى اللغــوي و األســلويب قــد يوحــي أبن إعجــاز القــرآن إعجــاز‬
‫لغــوي صــرف‪ ،‬حبيــث يكــون املعــى اتبــع هلــذا اإلعجــاز‪ ،‬هــذا مــا أنكــره البقاعــي‬
‫حــن أنكــر الســجع يف القــرآن‪ ،‬و هــذا كذلــك مــا أكــده اجلرجــاين يف إعجــازه‪،‬‬
‫فإن بناء اجلمل و ترتيبها حممول على املعاين‪ ،‬و هذا بني يف اآلايت و السورة‬
‫الواحــدة ووحدهتــا البنائيــة لرتكيــب اجلمــل‪ ،‬الــي هــي مقصــودة مــن أجــل الوحــدة‬
‫املوضوعيــة و الوحــدة القرءانيــة‪ ( .‬اعجــاز القــرآن اجلرجــاين )‬
‫ال ميكــن لــكل هــذا التصــور عــن تناســب الســور و القــرآن أن يكــون مبعــزل‬
‫عــن الفكــر و النمــاذج املعرفيــة‪ ،‬بــل إن مــا جعــل ذلــك العلــم حيفظــه النــاس بينهــم‬
‫و بــن هللا‪ ،‬أنــه مل أيت أوانــه أمــا يف زمــن صــارت النمــاذج و اللوغاريتمــات هــي‬
‫ســر الثــورة املعرفيــة فــإن علــم التناســب و الوحــدة القرآنيــة هــو الفكــر الــذي جيــب‬
‫أن نكــون بــه تصوراتنــا عــر فهــم لســور و القــرآن بوحدتــه حــى تكــون الرؤيــة‬
‫أوســع و هــذا ماحــدث لفقــه الســنن االهليــة حيــث ارتبــط بفهــم جزئــي لســياق‬
‫كلــي‪ ،‬فلــم نســتطع مــن خاللــه صناعــة منــاذج معرفيــة لفهــم احليــاة و الوجــود ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪324‬‬

‫و كمــا تــرى يف هــذه النقــول أن هــذا ترتيــب ‪ ،‬س ـواء بــن اآلايت ‪ ،‬أو‬
‫الســور ‪ ،‬مل يكــن فيــه قانــون عــام يضبطــه‪ ،‬بــل كان يرتبــط بفهــم الســور و‬
‫األايت‪ ،‬وتبنــاه آحــاد مــن العلمــاء ختمـوا عليــه وجعلــوه بينهــم وبــن رهبــم‪ .‬ولكــن‬
‫لإلمــام الشــاطيب رأي واضــح يف ترتيــب القــرآن ‪ ،‬س ـواء يف وحــدة الســورة أو‬
‫الوحــدة القرآنيــة ‪ ،‬وهــذا مــا نذكــره اآلن ‪.‬‬
‫الشاطيب والوحدة املوضوعية ‪)6(:‬‬
‫قــال الشــاطيب ‪ :‬إن الســياقات ختتلــف ابختــاف األح ـوال واألوقــات‬
‫والن ـوازل ‪ .‬وهــذا معلــوم يف علــم املعــاين والبيــان ‪ .‬فالــذي يكــون علــى ابل‬
‫املســتمع مــن التفهــم وااللتفــاف إىل أول الــكالم وآخــره ‪ ،‬حبســب القضيــة ومــا‬
‫اقتضــاه احلــال فيهــا‪ ،‬ال ينظــر يف أوهلــا دون آخرهــا وال يف آخرهــا دون أوهلــا ‪،‬‬
‫فــإن القضيــة وإن اشــتملت علــى مجــل فبعضهــا متعلــق ابلبعــض ‪ ،‬ألهنــا قضيــة‬
‫واحــدة انزلــة يف شــيء واحــد ‪ .‬فــا حميــص للمتفهــم عــن رد آخــر الــكالم علــى‬
‫أولــه ‪ ,‬وأولــه علــى آخــره ؛ و أنــذاك حيصــل مقصــود الشــارع يف فهــم املكلــف‬
‫فــإن فــرق النظــر يف أجزائــه ‪ ،‬فــا يتوصــل بــه إىل مـراده ‪ ،‬فــا يصــح االقتصــار يف‬
‫النظر على بعض أجزاء الكالم دون بعض ‪ ،‬إال يف موطن واحد ‪ ،‬وهو النظر‬
‫يف فهــم الظاهــر حبســب اللســان العــريب ومــا يقتضيــه ال حبســب مقصــود املتكلــم‬
‫‪ ،‬فــإذا صــح لــه الظاهــر علــى العربيــة رجــع إىل نفــس الــكالم ‪ ،‬فعمــا قريــب يبــدو‬
‫لــه منــه املعــى امل ـراد ‪ ،‬فعليــه ابلتعبــد بــه ‪( .‬مث نظــر إىل تعــدد القضــااي وضــرورة‬
‫ربــط الــكالم أولــه وآخــره ‪ ،‬وضــرب لذلــك مثــاالً بســورة البقــرة ‪ ،‬ابعتبارهــا نظمــا‬
‫واحــدا مــن أوهلــا آلخرهــا مــع اختــاف القضــااي الـواردة فيهــا) ‪.‬‬
‫مث قال يف فصل آخر ‪ :‬وهل للقرآن مأخذ يف النظر على أن مجيع سوره‬
‫كالم واحــد حبســب خطــاب العبــاد ‪ ،‬ال حبســبه يف نفســه ؟ فــإن كالم هللا يف‬
‫‪325‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫نفســه كالم واحــد ال تعــدد فيــه بوجــه وال ابعتبــار )) ‪ (( .‬فيصــح يف االعتبــار‬
‫أن يكــون واحــدا‪ ،‬ابملعــى املتقــدم ‪ ،‬أي يتوقــف فهــم بعضــه علــى بعــض بوجــه مــا‬
‫‪ ،‬وذلــك أنــه يبــن بعضــه بعضـاً ‪ (( . )) ..‬ويصــح أن ال يكــون كالمـاً واحــداً‬
‫‪ ،‬وهــو املعــى األظهــر فيــه ‪ ،‬فإنــه أنــزل ســوراً مفصــوالً بينهــا ابالبتــداء‪ ،‬فقــد كانـوا‬
‫يعرفــون انقضــاء الســورة وابتــداء األخــرى بنــزول ( بســم هللا الرمحــن الرحيــم ) ‪.‬‬
‫والظاهــر أن الشــاطيب يــرى ارتبــاط القــرآن وكونــه ســورة واحــدة ‪ ،‬ألنــه قــال يف‬
‫موضــع آخــر ‪ ،‬حمــاوالً فهــم القــرآن وحــدة واحــدة ‪ ،‬أن القــرآن املــدين مبــي علــى‬
‫القــرآن املكــي ‪ .‬قــال عبــد هللا دراز معلق ـاً علــى مــا ســبق ‪ (( ،‬وأمــا كونــه نــزل‬
‫‪325‬‬
‫ســوراً مفصــوالً بعضهــا مــن بعــض ببســم هللا اخل فــا يقتضــي اســتقالل بعضهــا‬
‫عــن بعــض ابملعــي املـراد ‪ ،‬وكيــف أييت بنــاء املــدين علــى املكــي وأن كل منهمــا‬
‫يبــى بعضــه علــى بعــض إذا أخــذت كل ســورة علــى حدهتــا غــر منظــور فيهــا ملــا‬
‫ورد يف غريهــا ‪ .‬ولألســتاذ عبــد هللا دراز حمــاوالت يف نظــم الســورة الواحــدة يف‬
‫كتابــه النبــأ العظيــم ‪.‬‬

‫االستشراق والرتتيب الزمين ‪)5(-:‬‬


‫ظهــرت يف أورواب يف منتصــف القــرن التاســع عشــر حمــاوالت لرتتيــب ســور‬
‫القــرآن ودراســة مراحلــه التارخييــة ‪ ،‬منهــا حماولــة وليــم مويــر ‪wiliam muir‬‬
‫الــذي قســم املراحــل القرآنيــة إىل ســت ‪ ،‬مخــس يف مكــة وسادســتها يف املدينــة‬
‫واعتمــد فيهــا – إىل حــد غــر قليــل – علــى ســرة الرســول – صلــي هللا عليــه‬
‫وســلم – وأســانيدها بعــد دراســتها دراســة نقديــة حشــد هلــا الكثــر مــن معلوماتــه‬
‫التارخييــة ‪ .‬ولكــن وقــع – مــع ذلــك – يف أخطــاء عديــدة وأخــذ بــرواايت واهيــة‬
‫‪ (( .‬ومنهــا حماولــة ويــل ‪ Weil‬الــي بدأهــا ســنة ‪ 1844‬ومل تتخــذ صورهتــا‬
‫النهائيــة إال ســنة ‪ ، 1872‬وال يقيــم فيهــا وزانً للــرواايت واألســانيد اإلســامية‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪326‬‬

‫) ‪ (( .‬وكان ويــل )) قــد قســم املراحــل القرآنيــة إىل أربــع‪ ،‬ثــاث يف مكلــة‬
‫ورابعــة يف املدينــة ‪ ،‬فتابعــه علــى ذلــك نولدكــه ســنة ‪ 1860‬عندمــا ظهــر ((‬
‫اتريــخ القــرآن )) ؟‪( .‬وهــذا الرتتيــب املوضوعــي مل خيــرج عمــا قــام بــه علمــاء‬
‫املســلمني مــن تقســيم القــرآن إىل مكــي ومــدين حســب املعايــر الزمانيــة واملكانيــة‬
‫والشــخصية )‪ .‬و حمــاوالت كثــرة مــن هــذا النــوع ‪ ،‬اعتمــدت علــى دراســة الواقــع‬
‫التارخيــي يف مكــة ومقارنتــه أبســلوب القــرآن يف مكــة ‪ ،‬وترتيــب القــرآن املكــي‬
‫علــى حســب ذلــك الواقــع ‪ ،‬مث النظــر إىل القــرآن املــدين وأســلوبه وترتيبــه وفــق‬
‫املعطيــات التارخييــة ‪.‬‬
‫و هــذه الطريقــة قــد تفيــد يف فهــم آيــة معينــة ابعتبارهــا قضيــة منفصلــة‪ ،‬أمــا‬
‫اعتمــاد ذلــك لتفهــم القــرآن وحــدة واحــدة ‪ ،‬مــن خــال وقائــع اترخييــة ‪ ،‬فأنــه‬
‫ال يقــدم عليــه إال مــن مل يفقــه ســور القــرآن ‪ ،‬ومل يــع إعجــازه ‪ ،‬املتمثــل يف نظــم‬
‫آايتــه وســورة‪ ،‬و هــذا تفكيــك مــن خــال أســباب النــزول و معرفــة واقــع النــص‬
‫( مــكاانً و زمــاانً و ســبباً ) قــد يصلــح لفهــم اآلايت لكــن أن يكــون ذلــك‬
‫لتفكيــك النــص فهــذا يفقــد النــص وحدتــه و بــذا يصبــح املصحــف جمــرد كتــاب‬
‫مفــكك ميكــن أن تق ـرأ ســورة و اليضــرك غريهــا فــا تتغــرك نظرتــك للكــون‬
‫و ال تزيــدك الق ـراءة شــيئاً‪ .‬هــذا املنهــج الرتكيــي قــد ينفــر منــه البعــض حبجــة‬
‫التكلف و التعســف‪ ،‬لكن صعوبة هذه القضااي ال تكمن يف التعســف و ال‬
‫التكلــف إمنــا تكمــن يف أهنــا قضــااي كليــه‪ ،‬و بعضهــا حيتــاج ملعــاانة طويلــة مــع‬
‫النــص حــى تظهــر تلــك الوحــدة لــذا يشــعر الذيــن ميــرون علــى الكلمــات‬
‫مــرور الك ـرام أهنــا مــن التكلــف فقــد مسعــت أحدهــم يتكــيء علــى أريكتــه‬
‫و يقــول أن مــا كتبــه الشــيخ ســعيد حــوى مث ـاً مــن التكلــف ‪ ،‬فبعــد أن‬
‫مجــع الرجــل ثالثــة عشــر جــزءاً يف القــرآن الكــرمي يقفــل أحدهــم ذلــك اجلــزء‬
‫بتهمــة التعســف‪ ،‬و هــذا انبــع مــن عــدم شــعور حبجــم األزمــة املعرفيــة الــي‬
‫‪327‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫نعيشــها و أتخــران الشــديد يف عــامل اجملتمــع و التاريــخ و دراســة االسـراتيجيا‬


‫و املســتقبليات و لوكانــت هــذه القضــااي حاضــرة وشــعر أبمهيتهــا ملــا وجــد‬
‫غــر فقــه الســنن و الوحــدة القرآنيــة طريقـاً لذلــك‪ ،‬أمــا جعــل القــرآن عزيــن‬
‫و أنــت تتحــدث عــن قضــااي كليــه فهــذا هــو التعســف و التكلــف ‪.‬‬

‫يف ظالل القرآن ‪)8(-:‬‬


‫إن القــرآن الكــرمي كتــاب أحكمــت آايتــه مث فصلــت مــن لــدن حكيــم خبــر‬
‫‪327‬ـه ‪ ،‬بــل إن هــذه اآلايت‬ ‫‪ ،‬وهــو مــن مث ال يعــرف تناقض ـاً أو اختالفــا بــن آايتـ‬
‫يفســر بعضهــا بعــض ‪ ،‬ومــا نــزل منهــا متأخـراً مبــي علــى مــا نــزل متقدمـاً كمــا‬
‫يــري الشــاطيب ‪ ،‬وكان هــذا ال ـرأي للشــاطيب هــو منطــق الدعــوة إىل تفســر‬
‫القــرآن موضوع ـاً موضوع ـاً ‪ )).‬وهــو مــا يعــرف ابلتفســر املوضوعــي ‪ ،‬الــذي‬
‫يطلــق ابعتباريــن ‪:‬‬
‫‪ -1‬اعتبار كل سورة من القرآن ذات موضوع واحد‪.‬‬
‫‪ -2‬تتبــع موضــوع واحــد عــر القــرآن وهــو رأي كثــر مــن العلمــاء كالشــيخ‬
‫حممــد الغ ـزايل واألســتاذ البهــي اخلــويل‪ ،‬أمــا االعتبــار األول ‪ ،‬فــإن أشــهر مــن‬
‫حتــدث عنــه هــو الشــهيد ســيد قطــب يف كتابــه الشــهري‪ :‬يف ظــال القــرآن‪.‬‬
‫يقــول ســيد قطــب ‪ :‬لــكل ســورة مــن ســور القــرآن شــخصيتها اخلاصــة‬
‫‪ ،‬ومالحمهــا املميــزة ‪ ،‬وحمورهــا الــذي تشــد إليــه موضوعاهتــا مجيع ـاً ‪ ..‬ومــن‬
‫مقتضيــات الشــخصية اخلاصــة أن تتجمــع املوضوعــات يف كل ســورة وتتناســق‬
‫حــول حمورهــا يف نظــام خــاص هبــا ‪ ،‬تبــي فيهــا مالحمهــا ومتيــز بــه شــخصيتها ‪،‬‬
‫كالكائــن احلــي املميــز الســمات واملالمــح ‪ ،‬وموقــع هــذا – واحــد مــن جنســه‬
‫علــى العمــوم ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪328‬‬

‫وقــد حــاول – رمحــه هللا – أن يــرز يف مقدمــة كل ســورة ‪ ،‬شــخصية‬


‫الســورة وترابــط صورهــا املختلفــة ‪ ،‬ليشــكل مــن خالهلــا لوحــة أببعادهــا املختلفــة‬
‫وظالهلــا املمتــدة يف مســاحات خمتلفــة ‪ .‬ويف هــذه الوحــدة ‪ ،‬واعتبــار الســورة‬
‫وحــدة واحــدة ‪ ،‬كالكائــن احلــي ‪ ،‬حيــاول ســيد أن يعطــي كل ســورة إيقاعهــا‬
‫اخلــاص هبــا ‪ ،‬يف وزن فواصلهــا ‪ ،‬واختــاف معانيهــا ‪ ،‬وتنــوع القضــااي الــي‬
‫تعرضهــا الســورة ‪.‬‬
‫املشــاهد الكونيــة والقصــص التارخييــة ‪ ،‬وأســلوب اخلطــاب واجلــدل يف‬
‫كل ســورة ‪ ،‬يعــرض مــن منطلــق موضــوع واحــد ‪ ،‬ختتلــف إيقاعاتــه الداخليــة‬
‫ابختالف القضية املطروحة‪ ،‬مع وجود نغمة واحدة هي السائدة يف كل سورة‬
‫‪ .‬واملشــاهد ليســت جامــدة بــل هــي حيــة متحركــة ‪ .‬وفواصــل الســورة تعطــي‬
‫جرسـاً خاصـاً لــكل ســورة ‪ .‬ولــكل ســورة معــى ورســالة يـراد إيصاهلــا للقــاريء ‪.‬‬
‫وهبــذه الطريقــة يكــون لــكل ســورة أبعادهــا املختلفــة يف الصــورة والصــوت واحلــس‬
‫واملشــاعر ‪ .‬إهنــا صناعــة احليــاة مــن الكلمــات ! ‪ .‬أمــا الوحــدة القرآنيــة العامــة‬
‫فقــد أشــار هلــا ســيد بعــض اإلشــارات الــي ال ترتقــي ألن تكــون نظريــة ميكــن مل‬
‫أطرافهــا‪ ،‬والتعامــل هبــا يف فهــم الوحــدة القرآنيــة العامــة هــذه اخلطــوة حنــو الوحــدة‬
‫القرآنيــة هــي الــي ســعى إليهــا األســتاذ ســعيد حــوي ‪.‬‬

‫األساس يف التفسري لسعيد حوي (‪-:)2‬‬


‫اســتطاع األســتاذ ســعيد حــوى ‪ ،‬أن يضــع قاعــدة تفســر طريقــة ترتيــب‬
‫القــرآن مــن خــال جملداتــه الكثــرة يف « األســاس يف التفســر» ‪ .‬هــذه الطريقــة‬
‫ختتلــف عــن النظــرة الزمنيــة املرتبــط ابلقــرآن املكــي واملــدين ‪ ،‬بــل تنطلــق مــن‬
‫القــرآن برتتيبــه التوقيفــي ‪ ،‬وتنظــر إليــه لكتــاب متكامــل ‪ ،‬بغــض النظــر عــن‬
‫الزمــان الــذي نــزل فيــه ‪ ،‬وال تســتخدم مفهــوم املكــي واملــدين إال يف حــدود فهــم‬
‫‪329‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫القضااي اجلزئية يف اآلايت املختلفة وملخص هذه النظرية ‪ ،‬أن لكل سورة من‬
‫ســور القــرآن حمــوراً تــدور عليــه ‪ ،‬هــذا احملــور موجــود يف مقدمــة البقــرة ‪.‬‬
‫وعندما جتمع هذه احملاور ســتجدها مخســة حماور ‪ ،‬وينشــأ عن ذلك عدة‬
‫جمموعــات مــن الســور حبيــث يكــون احملــدد لبدايــة اجملموعــة هــو انتهــاء حمــاور‬
‫اخلمســة‪.‬و تفصيــل ذلــك ‪ ،‬أن احملــاور اخلمســة هــي كالتــايل ‪-:‬‬
‫األول ‪ -:‬قولــه (( ذلــك الكتــاب ال ريــب فيــه هــدى للمتقــن ‪ )) ..‬ومــا‬
‫بعدهــا إىل ‪..‬‬
‫‪329‬‬
‫الثــاين ‪ -:‬قولــه تعــايل (( اي أيهــا النــاس اعبــدوا ربكــم الــذي خلقكــم ‪..‬‬
‫)) ومــا بعدهــا إىل ‪..‬‬
‫الثالــث ‪ -:‬قولــه تعــايل (( إن هللا ال يســتحي أن يضــرب مثــا مــا بعوضــة‬
‫فمــا فوقهــا‬
‫وما بعدها إىل ‪..‬‬
‫الرابع ‪ -:‬قوله (( كيف تكفرون ابهلل وكنتم أموااتً ‪ .. )) ..‬إىل‬
‫اخلامــس ‪ -:‬قولــه (( هــو الــذي خلــق لكــم مــا يف األرض مجيع ـاً ‪)) ..‬‬
‫وقصــة آدم إىل قولــه (( والذيــن كفــروا وكذبـوا آبايتنــا أولئــك أصحــاب النــار هــم‬
‫فيهــا خالــدون )) ‪.‬‬
‫واعترب سورة البقرة ذاهتا ‪ ،‬حتوي أو تفسر هذه احملاور ‪ ،‬مث يبدأ‬
‫قسم املفصل‬
‫تبدأ اجملموعة األوىل كالتايل ‪-:‬‬
‫احملور األول ‪.‬‬ ‫آل عمران‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪330‬‬

‫احملور الثاين ‪.‬‬ ‫النساء‬


‫احملور الثالث ‪.‬‬ ‫املائدة‬
‫احملور الرابع ‪.‬‬ ‫األنعام‬
‫احلور اخلامس ‪.‬‬ ‫األعراف‬
‫مث تبدأ جمموعة جديدة ‪.‬‬
‫واحملدد حملور السورة هو موضوعها وعالقتها ابحملاور السابقة‬
‫تتعلق ابحملور الثاين ‪.‬‬ ‫يف األنفال‬
‫تتعلق ابحملور الثالث ‪ .‬وهبذا ينتهي قســم الطول‪ ،‬أما‬ ‫والتوبة‬
‫قســم املئني فمجموعاته هي‪:‬‬
‫اجملموعة األوىل ‪:‬‬
‫يونــس ( احملــور األول) هــود ( احملــور) يوســف و الرعــد ( احملــور الثالــث)‬
‫ابراهيــم ( احملــور الرابــع) احلجــر ( احملــور اخلامــس ) ‪.‬‬
‫اجملموعة الثانية ‪-:‬‬
‫أمــا الســور مــن النحــل إىل مــرمي فقــد اختــار هلــا حمــاور أخــري يف ســورة‬
‫البقــرة ‪ ،‬مــن قولــه تعــايل (( اي آيهــا الذيــن آمنـوا ادخلـوا يف الســلم كافــة إىل قولــه‬
‫«كان النــاس أمــة واحــدة» ‪.‬‬
‫أما اجملموعة الثالثة ‪-:‬‬
‫طه –األنبياء (احملور األول )‬
‫احلج – (الثاين والثالث) املؤمنون – (الرابع و اخلامس) ‪.‬‬
‫‪331‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫اجملموعة الرابعة ‪-:‬‬


‫أمــا الســور مــن النــور إىل القصــص فلهــا نفــس حمــاور ســورة النحــل‬
‫وجمموعتهــا وهبــذا ينتهــي قســم املئــن ‪.‬‬
‫أما قسم املثاين‬
‫فاجملموعة األوىل ‪-:‬‬
‫من العنكبوت إىل يس كالتايل ‪:‬‬
‫‪331‬األول) ‪.‬‬
‫العنكبوت ‪ /‬الروم ‪ /‬لقمان ‪ /‬السجدة (احملور‬
‫األحـزاب ( احملــور الثــاين و الثالــث) ســبأ وفاطــر (احملــور الرابــع) ‪ ،‬يــس‬
‫‪( :‬احملــور اخلامــس) ‪.‬‬
‫اجملموعة الثانية ‪-:‬‬
‫أما الصافات وص فهما جمموعة واحدة تتحدث عن (احملور األول) ‪.‬‬
‫واجملموعة الثالثة ‪ « -:‬آل محيم » ‪.‬‬
‫الزمر ‪ /‬غافر – (احملور األول) ‪.‬‬
‫فصلت – (احملور الثاين) ‪.‬‬
‫الشورى –(احملور الثالث) ‪.‬‬
‫اجملموعة الرابعة ‪:‬‬
‫أما الزخرف و الدخان جمموعة واحدة – (احملور األول) ‪.‬‬
‫اجملموعة اخلامسة‬
‫واجلاثية ‪ ،‬األحقاف – (احملور األول) ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪332‬‬

‫القتال – احملور الثاين ‪.‬‬


‫الفتح ‪ /‬احلجرات – احملور الثالث ‪ .‬ق ‪( :‬الرابع و اخلامس) ‪.‬‬
‫وينتهي هنا قسم املثاين ليبدأ قسم املفصل ‪.‬‬
‫اجملموعة األوىل ‪:‬‬
‫الذارايت ‪ /‬الطور ‪ /‬النجم ‪ /‬القمر ‪ /‬األول ‪.‬‬
‫الرمحن ‪ /‬الثاين الثالث ‪.‬‬
‫الواقعة ‪ /‬الرابع واخلامس ‪.‬‬
‫اجملموعة الثانية ‪:‬‬
‫املسبحات ( األول )‪.‬‬
‫(الثاين )‪.‬‬ ‫الطالق‬
‫التحرمي ( الثالث ) ‪.‬‬
‫( الرابع )‪.‬‬ ‫امللك‬
‫(اخلامس)‪.‬‬ ‫القلم‬
‫اجملموعة الثالثة ‪-:‬‬
‫احلاقة ‪ /‬املعارج ( األول ) ‪.‬‬
‫( األول ) ‪.‬‬ ‫نوح ‪ /‬اجلن‬
‫( الثاين ) ‪.‬‬ ‫املزمل‬
‫( الثالث ) ‪.‬‬ ‫املدثر‬
‫‪333‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫اجملموعة الرابعة ‪ -:‬القيامة واإلنسان – جمموعة واحدة ( األول ) ‪.‬‬


‫اجملموعة اخلامسة ‪ -:‬املرسالت والنبأ – جمموعة واحدة ( األول ) ‪.‬‬
‫اجملموعة السادسة ‪ -:‬النزعات ‪ /‬عبس ‪ /‬التكوير ‪ /‬األقطار ( األول ) ‪.‬‬
‫املطففني – الثاين – الثالث ‪.‬‬
‫االنشقاق – الرابع واخلامس ‪.‬‬
‫اجملموعة السابعة ‪ -:‬الربوج – الغاشية ‪.‬‬
‫‪333‬‬
‫الربوج – األول ‪ .‬األعلى ‪ :‬الثاين ‪ /‬الثالث ‪.‬‬
‫الطاقة – األول ‪ .‬الغاشية ‪ :‬الرابع ‪ /‬اخلامس ‪.‬‬
‫اجملموعة الثامنة ‪ -:‬الفجر البلد ‪ /‬األول ‪.‬‬
‫الشمس ‪ /‬الثاين ‪.‬‬
‫الليل ‪ /‬الثالث ‪.‬‬
‫الضحى ‪ /‬الرابع ‪.‬‬
‫الشرح ‪ /‬اخلامس ‪.‬‬
‫اجملموعة التاسعة ‪ -:‬التني – العلق ‪ /‬األول والثاين ‪.‬‬
‫اجملموعة العاشرة ‪ -:‬القدر ‪ / -‬األول ‪.‬‬
‫الزلزلة ‪ /‬الثاين ‪.‬‬
‫العادايت ‪ /‬الثالث ‪.‬‬
‫اجملموعة احلادية عشر ‪ -:‬القارعة ‪ /‬األول ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪334‬‬

‫التكاثر ‪ /‬الثاين ‪.‬‬


‫اجملموعة األخري ‪-:‬‬
‫العصر – اهلمزة ‪ /‬األول ‪.‬‬
‫قريش – الفيل ‪ /‬الثاين ‪.‬‬
‫املاعون – الكوثر – الكافرون ‪ /‬الثالث ‪.‬‬
‫الفتح – املسد ‪ /‬الرابع ‪.‬‬
‫اإلخالص واملعوذتني ‪ /‬اخلامس ‪.‬‬
‫فكانت حوايل أربعا وعشـرين جمموعة ‪ ،‬كل جمموعة تتحرك ضمن حماور‬
‫مقدمــة ســورة البقــرة و هــذا مثــال يوضــح ذلــك هــو جمموعــة الفجــر ‪:‬‬
‫أن ســورة الفجــر تتحــدث عــن اإلنســان وماديتــه‪ ،‬وكذلــك ســورة البلــد‬
‫تتحدث عن هذا اإلنســان واملســارات اليت يتحرك فيها – ( وهديناه النجدين‬
‫) ‪ .‬فهــي تنطلــق مــن موضــوع اهلدايــة ( احملــور األول ) ‪.‬‬
‫أمــا ســورة الشــمس فتحكــي عــن العبــادة ‪( ..‬قــد أفلــح مــن زكاهــا ‪.)..‬‬
‫فهــي تنطلــق مــن احملــور الثــاين أي العبــادة ‪ .‬أمــا ســورة الليــل ففيهــا بيــان للضــال‬
‫واهلدايــة مــن خــال أعمــال اإلنســان ‪ ،‬فأمــا مــن أعطــي واتقــي وصــدق ابحلســي‬
‫فسنيســره لليســرى ‪ .‬فهــي تتحــدث عــن احملــور الثالــث ‪ ،‬إلن فيــه « فأمــا الذيــن‬
‫آمن ـوا فيعلمــون أنــه احلــق مــن رهبــم – وأمــا الذيــن يف قلوهبــم مــرض فيقولــون‬
‫مــاذا أراد هللا هبــذا مثـاً يضــل بــه كثـرا ويهــدي بــه كثـراً » ‪ .‬أمــا ســورة الضحــى‬
‫‪ ..‬فهــي تنطلــق مــن احملــور الثالــث‪ ،‬ففيهــا حديــث عــن الليــل والــوداع والف ـراق‬
‫‪ ..‬فتنطلــق مــن نعــم هللا علــى املســاكني واليتامــي ‪ ..‬وهــو موضــوع احملــور الرابــع‬
‫والتذكــر ابلنعــم ‪ - ،‬كيــف تكفــرون ابهلل وكنتــم أمـوااتً ‪ . « ..‬أمــا ســورة الشــرح‬
‫‪335‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫فتطلــق مــن احملــور اخلامــس ‪ ،‬ألن فيهــا رفــع لذكــر الرســول – صلــى هللا عليــه‬
‫وســلم – ومتكــن لــه كمــا هــو موضــوع احملــور اخلامــس وخالفــة األرض ‪ .‬وال‬
‫يشــرط كمــا تــرى التطابــق أو التفصيــل ‪ ،‬إمنــا هــو روح النــص ‪ ،‬واإلشــارات‬
‫العابــرة الــي جتمــع بينــه وبــن احملــور ‪ ،‬وقــد قــدم الكثــر مــن األدلــة الــي يف جمملهــا‬
‫مقنعة إال أن أســئلة كثرية تدور حول هذا املوضوع ‪ ،‬هو ما حاولت أطروحتنا‬
‫هــذه اإلجابــة عنــه ‪.‬‬

‫السنن اإلهلية والرتتيب القرآين ‪:‬‬


‫‪335‬‬
‫رغــم غرابــة النظريــة الــي طرحهــا األســتاذ ســعيد حــوي ‪ ،‬وصعوبــة التصديــق‬
‫هبــا ‪ ،‬ورغــم التشــابه الكبــر بــن الســور‪ ،‬الــي تنطلــق مــن حمــور واحــد ‪ ،‬إال أن‬
‫هنــاك عــدة ممي ـزات أو خصائــص تســتحق التقديــر واإلشــارة ‪ ،‬حــى نتفهــم‬
‫ســياق هــذه النظريــة يف اتريــخ علــم التفســر هــذه اخلصائــص هــي ‪-:‬‬
‫‪ )1‬تعتــر هــذه النظريــة أول نظريــة ‪ ،‬تعتمــد ترتيــب املصحــف أساس ـاً‬
‫للفهــم ‪ ،‬وتنظــر إىل ذلــك الرتتيــب علــى أنــه يســر وفــق قانــون مطــرد ‪ ،‬وقواعــد‬
‫اثبتــة‪ .‬فــكل النظ ـرايت الســابقة اعتمــدت علــى قــوة فهــم املفســر ‪ ،‬وذوقــه يف‬
‫تفهــم آايت الكتــاب‪ ،‬و إن كان هنــاك قواعــد لفهــم الرتتيــب ‪ ،‬فهــي عامــة‬
‫جمملــة‪ ،‬ال ميكــن أتطريهــا يف نظريــة متكاملــة ‪.‬‬
‫فعندمــا يقــول ســيد – مث ـاً – ( رمحــه هللا ) إن هــذه الســور متناســقة‬
‫منتظــم عقدهــا مــن بدايتهــا إىل هنايتهــا ‪ ،‬وأن هــذا القــرآن وحــدة واحــدة ‪ ،‬فــان‬
‫الس ـؤال الطبيعــي مــا هــي القاعــدة الــي ينطلــق منهــا هــذا الرتتيــب يف اآلايت‬
‫ويف الســور ‪ .‬؟‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪336‬‬

‫فإن كنت تصف لوحة جبماهلا وتناسقها ‪ ،‬وكنت ابرعاً مؤثراً يف وصفك‬
‫‪ ،‬فــإن ذلــك ال يغــي عــن وضــع نظريــة تقيــم هبــا مجــال اللوحــة ‪ ،‬دون أن يعــي‬
‫ذلــك ابلضــرورة وضــع الفــن يف قواعــد جامــدة ‪ ،‬تغيــب حيويتــه » الــي هــي أكــر‬
‫ميزاتــه ‪ .‬وكل النظـرايت قبــل األســاس ‪ ،‬كانــت وصفـاً عامـاً‪ ،‬ال يســتند إىل أي‬
‫إطــار ميكــن الرجــوع إليــه ‪ ،‬فالرتتيــب الزمــي – املكــي واملــدين – ال ميكــن أن‬
‫يكــون هــو املقصــود مــن ترتيــب املصحــف ‪ ،‬بــل هــو مناقــض لرتتيــب القــرآن‬
‫الذي مل يعتمد على ذلك التاريخ الضيق ‪ .‬كما أن احلركية اليت اندي هبا ســيد‬
‫عــر القــرآن‪ ،‬ال يوجــد هلــا ضابــط ميكــن أن نتفــق عليــه ‪.‬‬
‫لكــن أن يقــول إنســان إن ســر الرتتيــب يف مقدمــة البقــرة ‪ ،‬فذلــك حتديــد‬
‫وتنظــر ‪ ،‬يعتــر يف حــد ذاتــه بغــض النظــر عــن االقتنــاع بنظريتــه مــن عدمــه –‬
‫شــيء جديــد ‪ ،‬ونقلــة يف طريقــة النظــر والتفكــر ‪.‬‬
‫‪ )2‬أن تقســيم القــرآن إىل جمموعــات ‪ ،‬أعطــى للحــروف يف أوائــل الســور‬
‫‪ ،‬فائــدة كبــرة مــن حيــث تقســيم القــرآن مــن خالهلــا إىل جمموعــات ‪ ،‬وأقســام‬
‫(الط ـوال ‪ /‬املئــن ‪ /‬املثــاين ‪ /‬املفصــل) ‪ ،‬مــن حيــث أن ذلــك م ـراد مــن وضــع‬
‫القــرآن هبــذه الطريقــة‪.‬‬
‫هــذا يفتــح جمــاالً للبحــث عــن كيفيــة االســتفادة مــن ذلــك وهــذا ال ـرأي‬
‫حــول أوائــل الســور قريــب مــن قــول جماهــد وابــن زيــد ‪ ،‬حيــث أهنمــا ي ـراين أن‬
‫هذه احلروف أمساء للســور ‪ « ،‬وبيانه أن القائل قرأت ( املص) عرف الســامع‬
‫أنــه قـرأ الســور الــي افتتحــت ب ( املــص ) ‪ ،‬وروي عــن ابــن عبــاس أهنــا أقســام‬
‫‪ .‬واملقصــود أن مثــل هــذه اآلراء‪ ،‬و التقســيمات ‪ ،‬البــد هلــا مــن فائــدة ‪ ،‬هــذا‬
‫مــا قالــه الشــيخ ســعيد حــوي مــن خــال هــذه النظريــة ولكــن مــع ذلــك تبــدو‬
‫النظريــة مفككــة وانقصــة ‪ ،‬مــن خــال عــدة ثغ ـرات ‪-:‬‬
‫‪337‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫‪ )1‬أن الس ـؤال املنطقــي ‪ ،‬مــا هــو الســر يف مقدمــة البقــرة ‪ ،‬حــى تكــون‬
‫حمــوراً جلميــع ســور القــرآن ؟‪.‬‬
‫‪ )2‬أن الشــيخ غــر مــن احملــاور يف جمموعــة النحــل وجمموعــة النــور ‪ ،‬ويف‬
‫هــذا اضطـراب يبعــث عــن السـؤال عــن ســر هــذا التغيــر ‪ ،‬وابلتــايل يفتــح النقــد‬
‫لقائــل أن يســأل مــاذا لــو وضــع أحدهــم حمــاور مــن ســورة أخــرى ‪ ،‬هــل سيشــتبه‬
‫عليــه األمــر فــرى التناســق والرتابــط الــذي رآه الشــيخ !!‪.‬‬
‫‪ )3‬مــن املنطقــي أن يكــون بــن كل جمموعــة وحــدة موضوعيــة ‪ ،‬تربــط‬
‫‪337‬ـيخ أو يهتــم بــه ‪.‬‬
‫ســوره بعضهــا ببعــض ‪ ،‬وهــذا مــا مل يؤكــد عليــه الشـ‬
‫‪ )4‬مــا هــي الفائــدة مــن هــذا التقســيم ‪ ،‬إن كان القــرآن ‪ ،‬أشــبع حبث ـاً‬
‫وتفس ـراً ‪ ،‬فإننــا ســنتعب أنفســنا لنؤكــد احلقائــق املوجــودة لدينــا ‪ ،‬وهــذا جهــد‬
‫فــارغ ‪.‬‬
‫النظريــة الــي نطرحهــا انطلقــت لســد هــذه الثغ ـرات ‪ ،‬وتعطــي للوحــدة‬
‫القرآنيــة فائــدة عظيمــة ‪ ،‬هــي مفتــاح لكثــر مــن اإلشــكاالت الــي تواجههــا هــذه‬
‫األمــة ‪ .‬و خمتصــر النظريــة كمــا يلــي ‪-:‬‬
‫‪ -‬أن تقسيم القرآن ال يرتبط مبقدمة البقرة ‪ ،‬إمنا يرتبط بسنن هللا يف هذا‬
‫الوجــود ‪ ،‬هــذه الســنن هــي الســر يف هــذا الرتتيــب ‪ ،‬فــإذا قمنــا مبعرفــة القانــون‬
‫املطــرد يف ترتيــب كل جمموعــة ‪ ،‬ووجدانهــا متشــاهبة ‪ ،‬فــأن ذلــك يدلنــا علــى‬
‫هــذه الســنن ‪.‬‬
‫‪ -‬هــذا القانــون ‪ ،‬ال يكــون مبجــرد ربــط هنايــة ســورة ببدايــة األخــرى ‪ ،‬بــل‬
‫مــن خــال فهــم شــامل لــكل ســورة ‪ ،‬وحتديــد اإلضافــة الــي أضافتهــا كل ســورة‬
‫علــى ســابقتها ‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪338‬‬

‫‪ -‬أن كل جمموعــة البــد هلــا مــن وحــدة موضوعيــة ‪ ،‬وهــذا مــا دل عليــه‬
‫االســتقراء ‪.‬‬
‫‪ -‬أن اعتبار الســنن «ســر الرتتيب »‪ ،‬يعفينا من شــبهة االنتقال من حمور‬
‫إىل حمــور ‪ ،‬ألن الســنن ال تتبــدل وال ختتلــف ‪ ،‬وهــذا يعطــي ملعــى الســنن قيمتــه ‪،‬‬
‫إذ كثـراً مــا نعتــر بعــض األشــياء ســنناً وهــي أبعــد شــيء عــن هــذا املعــى ‪.‬‬
‫‪ -‬إن هذا التقســيم الرتباطه ابلســنن ‪ ،‬ســيمكننا من وضع منوذج للتاريخ‬
‫‪ ،‬يرتبــط أساس ـاً ابلقــرآن وعرضــه التارخيــي ‪ ،‬وهــذا ســيمكننا مــن وضــع منــوذج‬
‫تشــرحيي ‪ ،‬يكــون ن ـواة للمشــروع احلضــاري اإلســامي وابلتــايل يكــون للــكالم‬
‫فائــدة عظيمــة يف اجملــاالت الــي تنقــص املشــروع احلضــاري اإلســامي أعــي‬
‫التاريــخ والسياســة ‪.‬‬
‫إن طبــع الوجــود «هــو الــذي حيــدد معــي التش ـريع» ‪ ،‬وحيــدد احلركــة‬
‫املســتقبلية لــكل أمــة ‪ ،‬وأي خلــل يف فهــم هــذا الطبــع ســيؤول بنــا إىل‬
‫اخلسـران ‪ .‬إن عــرض املشــروع اإلســامي مــن خــال الفقــه اإلســامي فقــط‬
‫يطــرح أســئلة كثــرة ‪ ،‬إذ أنــه مليــئ ابلتغـرات ‪ ،‬ومــن مث ســيكون النقــد يتعلــق‬
‫ابلتجربــة التارخييــة أكثــر مــن اإلميــان ابألحــكام التش ـريعية ‪.‬‬
‫إن النمــوذج التارخيــي املرتبــط ابلســنن االجتماعيــة ‪ ،‬املرتبطــة ابلقــرآن‬
‫الكــرمي ســتعطي يف النهايــة منوذجـاً بســيطاً ‪ ،‬أشــبه ابخلارطــة القرآنيــة حلركــة‬
‫التاريــخ ‪ ،‬ومــن خالهلــا ســتكون احلركــة ‪ ،‬واملشــروع التش ـريعي املناســب‬
‫لتلــك اخلارطــة ‪ .‬إن كل االيديولوجيــات انطلقــت مــن فهــم التاريــخ ‪ ،‬لتضــع‬
‫التش ـريع املناســب لتلــك احلركــة ‪ ،‬وعندمــا يغيــب هــذا الفهــم ســتكون‬
‫التهمــة ابملثاليــة والطوابويــة منطقيــة اىل حــد مــا ‪.‬‬
‫‪339‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫‪ -‬عندمــا عرضنــا للســنن االجتماعيــة اخلمــس ‪ ،‬كان اســتداللنا يف كل‬


‫ســنة مبجموعــة ســور انطلقــت مــن هــذه الســنن ‪.‬‬
‫‪ -‬كانت السور اليت انطلقت من سنة اهلداية هي ‪-:‬‬
‫« آل عم ـران – يونــس – طــه – األنبيــاء – النــور – العنكبــوت –‬
‫الــروم – لقمــان – الســجدة – الصافــات – ص – الزمــر – غافــر – الزخــرف‬
‫– الدخــان – اجلاثيــة – األحقــاف – الــذارايت إىل القمــر – املســبحات –‬
‫احلاقة إىل اجلن‪ -‬النبأ واملرسالت – النزعات وعبس – الشمس والتكوير –‬
‫‪ –339‬العصــر – اهلمــزة » ‪..‬‬
‫الــروج – الفجــر – البلــد – التــن – القــدر – البينــة‬
‫‪ -‬والسور اليت انطلقت من سنة التدافع وسنة التنازع ‪:‬‬
‫« النســاء واملائــدة» ‪ .‬األنفــال والتوبــة ‪ »,‬هــود ويوســف والرعــد » ‪.‬‬
‫«النحــل واإلس ـراء» ‪« .‬احلــج» ‪.‬‬
‫« الفرقــان والشــعراء» ‪ « .‬األحـزاب» ‪ « .‬فصلــت والشــوري» ‪« .‬القتــال‬
‫والفتــح واحلجـرات» ‪.‬‬
‫« الرمحــن» ‪ « .‬الطــاق والتحــرمي» ‪ « .‬املزمــل واملدثــر» ‪« .‬املطففــن‬
‫واألعلــى» ‪ « .‬الشــمس والليــل» ‪ « .‬الزلزلــة والعــادايت» ‪ « .‬قريــش والفيــل»‪.‬‬
‫« واملاعــون والكوثــر والكافــرون» ‪.‬‬
‫والسور اليت انطلقت من سنة اجلزاء هي ‪-:‬‬
‫األنعــام ‪ .‬إبراهيــم ‪ .‬الكهــف ‪ .‬املؤمنــون ‪ .‬النمــل ‪ .‬ســبأ وفاطــر ‪ .‬ق ‪.‬‬
‫تبــارك ‪ .‬القيامــة ‪ .‬االنشــقاق ‪ .‬الغاشــية ‪ .‬الضحــى ‪ .‬القارعــة ‪ .‬الفتــح واملســد‬
‫واإلخــاص ‪.‬‬
‫والسور اليت انطلقت من سنة االستخالف هي ‪-:‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪340‬‬

‫األع ـراف ‪ .‬احلجــر – مــرمي – املؤمنــون – القصــص – يــس – ق –‬


‫الواقعــة – ن – اإلنســان – والشــرح – التكاثــر – واملعوذتــن ‪.‬‬
‫‪ -‬لــكل ســورة تتحــدث عــن ســنة مــن الســنن مالحظــة أساســية تنطلــق‬
‫منهــا وجمموعــة مــن األمــور واملعــاين اجلامعــة هلــا ‪.‬‬
‫• •املالحظة األساسية يف السور اليت حتدثت عن سنة اهلداية ‪:‬‬
‫أن فيهــا حديثــا عــن اهلدايــة واإلميــان والكفــر والتصديــق والتكذيــب‪ ،‬وفيهــا‬
‫حديــث عــن الوعــد والتصديــق بــه ‪ ،‬واالســتعجال وكونــه ســببا للضــال‪ ،‬وقــد‬
‫شــرحنا شــيئا مــن ذلــك عنــد حديثنــا عــن ســنة اهلدايــة ولكــن هنــاك أمــور أخــرى‬
‫تؤكــد ذلــك ‪:‬‬
‫‪ -1‬عادة ما تكون هذه السور بداية جمموعة وفيها حروف مقطعة‪.‬‬
‫‪ -2‬يف هذه السور حديث عن العجلة واهلداية كما يف سورة آل عمران‬
‫يف غــزوة أحــد‪ ،‬وســورة يونــس وعجلــة فرعــون وكفــار قريــش ‪ ،‬وســورة طــه وعجلــة‬
‫بــي إس ـرائيل‪ ،‬وســورة النــور وعجلــة الذيــن انل ـوا مــن الســيدة عائشــة ‪ ،‬وعجلــة‬
‫كفــار قريــش يف العنكبــوت وهكــذا‪.‬‬
‫‪ -3‬يف هــذه الســور حديــث عــن الزمــن ولذلــك عالقــة ابلعجلــة واهلدايــة‬
‫(انظــر حديثنــا عــن ســنة اهلدايــة)‪.‬‬
‫‪ -4‬يف هــذه الســور تفصيــل ملعــى األســباب واملســببات وقضــااي اإلميــان‬
‫األساســية‪.‬‬
‫‪ -5‬يف هذه السور ذكر لسنة اهلداية ‪ ،‬وأتثري املفاجأة يف اإلنسان‪.‬‬
‫• •واملالحظــة األساســية يف الســور الــي تنطلــق منهــا ســنة التدافــع ‪ ،‬هــو أن‬
‫ذكــر االختــاف يرتبــط بذكــر األحــكام الشــرعية يف اجملــاالت املختلفــة وهنــاك أمــور‬
‫‪341‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫جامعــة آخــري ‪:‬‬


‫‪ -1‬أن تبدأ عادة ابلنداء للمؤمنني أو الناس ‪.‬‬
‫‪ -2‬أن فيها أحكاما تشريعية والنظم املختلفة املكونة للمجتمع‪.‬‬
‫‪ -3‬أن فيهــا ذكــر التقابــل بــن احلــق والباطــل ‪ ،‬أو اإلســام والكفــر ‪ ،‬أو‬
‫أصحــاب النــار واجلنــة ‪ ،‬أو اجلــن واألنــس (كمــا يف ســورة الرمحــن ) أو مشــاهد‬
‫يف الكــون كســورة الشــمس ‪.‬‬
‫عنصر من عناصر التدافع‬
‫‪341‬‬
‫‪ -4‬أن فيها ذكرا لالختالف وهو جزء أو‬
‫‪ -5‬فيها ذكر للتدافع وصور اترخيية لذلك كما سبق‪.‬‬
‫• •واملالحظــة األساســية للســور الــي تنطلــق مــن ســنة التنــازع ‪ ،‬هــو الربــط بــن‬
‫انقســام اجملتمعــات وثالثيــة الوفــاء ابلعهــد ووصــل مــا أمــر هللا بــه أن يوصــل والفســاد‬
‫يف األرض ‪.‬‬
‫وهناك أمور جامعة هي ‪:‬‬
‫‪ )1‬ذكــر انقســام اجملتمعــات مــن خــال بعــض األحــداث‪ .‬كمــا ذكـران –‬
‫متامـاً – يف ســنة التنــازع ‪.‬‬
‫‪ )2‬ذكر ثالثية الوفاء والوصال والصالح ‪ ،‬يف أغلب هذه السور‪.‬‬
‫‪ )3‬ذكــر قيــام احلجــة علــى اجملتمعــات قبــل حتللهــا ‪ ،‬كمــا يف ســورة بـراءة ‪،‬‬
‫وســورة اإلسـراء وفيهــا (ومــا كنــا معذبــن حــى نبعــث رســوالً) ‪ ،‬االســتقراء طويــل‬
‫لكنــه صحيــح‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪342‬‬

‫‪ )4‬ذكــر صــور للجرميــة يف اجملتمــع كاحلرابــة والســرقة يف املائــدة ‪ ،‬وقطــع مــا‬


‫أوامــر هللا بــه أن يوصــل يف الرعــد ‪ ،‬والـزان و القتــل يف اإلسـراء ‪ ،‬وصــور الشــرك‬
‫يف احلــج ‪ ،‬ومظــامل اإلمث يف الشــعراء وهكــذا‪.‬‬
‫‪ )5‬فيهــا ذكــر للــوالء و الـراء بصــورة و اضحــة و عالقــة ذلــك ابهلويــة و‬
‫حتلــل اجملتمعــات ظاهــرة‪.‬‬
‫• •واملالحظــة األساســية للســور الــي تنطلــق مــن ســنة اجلـزاء ‪ ،‬هــو ذكــر هــاك‬
‫األمــم بعــد مرحلــة مــن الس ـراء ‪ ،‬وغربــة احلــق فيهــا ‪ ،‬وذكــر النهايــة بصفــة عامــة يف‬
‫اجملتمعــات واحليــاة ‪ ،‬واألمــور اجلامعــة ‪:‬‬
‫‪ )1‬تبدأ هذه السور بلفظ احلمد « أو ما يدل على كقوله (تبارك)»‪.‬‬
‫‪ )2‬ذكر هالك األمم كما يف سنة اجلزاء‪.‬‬
‫‪ )3‬ذكــر غربــة األنبيــاء خاصــة ســيدان إبراهيــم ‪ ،‬وغربــة النــي يف مكــة يف‬
‫ســورة الضحــى ‪ ،‬وغربــة أصحــاب الكهــف‪.‬‬
‫‪ )4‬تذكــر هــذه الســور كذلــك ‪ ،‬بعــض األمــم الــي مل متــر بطــور التنــازع ‪،‬‬
‫ووصلــت للتمكــن ‪ ،‬كمــا تكــرر يف هــذه الســور قصــة ســليمان‪.‬‬
‫‪ )5‬يكثر ذكر األجل يف هذه السور‪.‬‬
‫‪ )6‬ذكر عظمة هللا يف إهالك األمم و إحيائها‪.‬‬
‫• •واملالحظة األساســية للســور اليت تنطلق من ســنة االســتخالف ‪ ،‬هي ذكر‬
‫خلق احلياة يف األشــياء ‪ ،‬وحياة األمم أو اســتخالفها ‪ ،‬وبعث الناس بعد املمات ‪.‬‬
‫واألمور اجلامعة هي ‪-:‬‬
‫‪343‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫‪ )1‬أن هــذه الســور هنايــة جمموعــات ‪ ،‬وفيهــا ذكــر للحــروف املقطعــة‬


‫بطريقــة تــدل علــى أهنــا هنايــة‪.‬‬
‫فنهايــة جمموعــة «امل» البقــرة وآل عم ـران ‪ ،‬حــى األع ـراف وتنتهــي ب‬
‫«املــص» ‪.‬‬
‫وهناية جمموعة « امل» يونس ‪ ،‬هي ( الر) ‪ ،‬احلجرات ‪.‬‬
‫وهناية جمموعة «النحل» سورة مرمي ( كهيعص ) ‪.‬‬

‫‪343‬‬
‫وهناية جمموعة « طه » سورة املؤمنون ‪.‬‬
‫وهناية جمموعة «النور» سورة القصص ( طسم ) ‪.‬‬
‫وهناية جمموعة « العنكبوت » سورة ( يس ) ‪.‬‬
‫وهناية جمموعة «الصافات» سورة ( ص ) ‪.‬‬
‫وهناية جمموعة «الزمر » ( حم ‪ .‬عسق) ‪.‬‬
‫وهناية جمموعة اجلاثية سورة ( ق ) ‪.‬‬
‫وهناية جمموعة املسبحات ( ن ) والقلم ‪.‬‬
‫‪ )2‬أن فيها ذكر للحياة ‪ ،‬كما ذكران يف سنة االستخالف‪.‬‬
‫‪ )3‬أن فيهــا ذكــر الرمحــة للداللــة علــى بعــث احليــاة بعــد املمــات وهــذا‬
‫مســتقرأ وظاهــر جــداً‪.‬‬
‫هــذه هــي املالحظــات األساســية يف هــذه الســور‪ ،‬ولكــن جيــب أن نذكــر‬
‫أن احلكــم علــى هــذه املالحظــات إمنــا هــو ابلغالــب ‪ ،‬فــا ميكــن تعميــم هــذه‬
‫املالحظــات ‪ ،‬حبيــث ال ختــرج شــاردة وال واردة عــن هــذه املالحظــات ‪ .‬أن‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪344‬‬

‫النظــر دائمـاً إىل املوضــوع العــام للســورة ‪ ،‬دون االعتنــاء بوجــود بعــض األلفــاظ‬
‫الــي ال تتمشــى مــع القاعــدة‪ ،‬كأن تقـرأ لفــظ اهلدايــة يف ســورة تتحــدث عــن‬
‫التدافــع فتنكــر مــا قلنــاه ‪ ،‬ألن القائــد يف كل هــذا هــو املعــى والوحــدة املوضوعيــة‬
‫للســورة ‪ .‬هــذا االســتقراء حيتــاج إىل تفصيــل ‪ ،‬وهــو مــا ســيكون يف كتــاب‬
‫مســتقل فينظــر إىل تفســر مــن خــال هــذه النظريــة ‪ .‬إن شــاء هللا تعــاىل ‪ .‬مــن‬
‫خــال مــا ســبق ســتكون لدينــا عــدة جمموعــات قريبــة مــن جمموعــات الشــيخ‬
‫ســعيد‬
‫الــي ذكــرت قبــل قليــل ‪ .‬ولكــن النظريــة ال تقــف عنــد هــذا احلــد ‪ ،‬بــل إن‬
‫اســتقراء هــذه اجملموعــات يثبــت وجــود وحــدة موضوعيــة بــن هــذه اجملموعــات‬
‫وهــو مــا ســنذكره اآلن ‪.‬‬
‫الوحدة املوضوعية للمجموعات ‪-:‬‬
‫كل جمموعــة مــن هــذه اجملموعــات ‪ ،‬عــاوة علــى أهنــا تنطلــق مــن ســنة‬
‫حمــددة ‪ ،‬إال أهنــا تنتظــم مــع بقبــة الســور يف ســياق خــاص بــكل جمموعــة ‪،‬‬
‫وبــكل ســورة ‪.‬‬
‫فهناك أربع مستوايت للفهم ‪-:‬‬
‫‪ -1‬مستوى يتعلق ابلوحدة القرآنية العامة ‪.‬‬
‫‪ -2‬مستوى يتعلق ابجملموعة وموضوعها ‪.‬‬
‫‪ -3‬مستوى يتعلق بسياق السورة ‪.‬‬
‫‪ -4‬مستوي يتعلق ابلسنة اليت تنظم ترتيب السور يف كل جمموعة ‪.‬‬
‫وهــذه املســتوايت ميكــن تصورهــا بعــد فهــم ســياق الســورة وســياق اجملموعــة‬
‫‪ ،‬والــذي ســنركز عليــه اآلن هــو وحــدة اجملموعــة أي املســتوى الثــاين ‪.‬‬
‫‪345‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫لــو نظــرت إىل كل جمموعــة مــن هــذه اجملموعــات لوجدهتــا حتمــل موضوعـاً‬
‫متكامـاً ‪ ،‬تتناولــه كل ســورة مــن زاويــة معينــة هــي الســنة الــي هــي أشــبه خبارطــة‬
‫الســورة ‪ ،‬أو اخللفيــة هلــا ‪ ،‬فــإن لــكل كالم منهجيــة تظهــر عــر املعــاين الــي‬
‫تـرادف يف املوضــوع املطــروح ‪ ،‬وإن الــكالم صفــة املتكلــم ‪ ،‬لــذا ســتبدو صفتــه‬
‫وفعلــه أو ســننه يف كالمــه ‪ .‬أمــا املســتوى األول واملســتوى الثالــث ‪ ،‬فهمــا مــا‬
‫يذكــره املفســرون مــن تفســر القــرآن ابلقــرآن ‪ ،‬والوحــدة املوضوعيــة للســورة‬
‫الواحــدة ‪ ،‬ومــا نضيفــه هنــا هــو كــون الســورة هلــا خارطــة أو ســنة تؤثــر يف ســياقها‬
‫‪ ،‬وكون هلا عالقة مبجموعة من الســور حتدد جمال احلديث يف تلك الســورة ‪.‬‬
‫‪345‬‬
‫وسنأخذ بعض النماذج اليت تدل وتبني وحدة هذه اجملموعات ‪.‬‬

‫‪ )1‬جمموعة ( الر) ‪ -:‬هذه اجملموعة بداية قسم املئني» ‪.‬‬


‫هذه اجملموعة تتكون من ‪-:‬‬
‫‪ -‬سورة يونس ( سنة اهلداية ) ‪.‬‬
‫‪ -‬سورة هود ( سنة التدافع ) ‪.‬‬
‫‪ -‬سورة يوسف ( سنة التنازع ) ‪.‬‬
‫‪ -‬سورة الرعد ( سنة التنازع ) ‪.‬‬
‫‪ -‬سورة إبراهيم ( سنة اجلزاء ) ‪.‬‬
‫‪ -‬سورة احلجر ( سنة االستخالف ) ‪.‬‬
‫لــو نظـران إىل موضــوع هــذه اجملموعــة ‪ ،‬لوجــدانه يتحــدث عــن فقــه الدعــوة‬
‫‪ ،‬ونقصــد هبــذا الفقــه ‪ ،‬فقــه اســتجابة النــاس للدع ـوات ‪ ،‬واملقصــود يف الســور‬
‫دعــوة اإلســام ‪ ،‬املختلفــة يف القــرآن الكــرمي ‪ ،‬فتثبــت الســور صــدق القــرآن ‪،‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪346‬‬

‫واألســباب املانعــة مــن التصديــق ‪ ،‬ومســرة الدعـوات عــر هــذا اجلــدل مــع النــاس‬
‫يف التصديــق مبــا يف الكتــاب ‪.‬‬
‫يف ســورة يونــس نقـرأ منــذ البدايــة ‪ ( ..‬الــر – تلــك آايت الكتــاب احلكيــم‬
‫أكان للنــاس عجب ـاً أن أوحينــا إىل رجــل منهــم أن أنــذر النــاس وبشــر الذيــن‬
‫آمن ـوا أن هلــم قــدم صــدق عنــد رهبــم ‪ .‬قــال الكافــرون إن هــذا لســاحر مبــن‬
‫) ‪ .‬ويســتمر الســياق يف مناقشــة الكافريــن هبــذا الكتــاب‪ ،‬وبيــان معــى اهلدايــة‬
‫مــن خــال عــرض ســنة اهلدايــة ‪ ،‬كمــا ذك ـران هــذه الســورة مــن قبــل‪ ،‬ويتأكــد‬
‫مــن خــال ذلــك كــون القــرآن وحيــا‪ ،‬وكــون ســنة اهلدايــة ‪ ،‬وضــرورة وجــود هــذا‬
‫التمايز بني الناس‪ ،‬هو الذي يؤول يف النهاية إىل هذا الوضع ‪ ،‬فيؤكد السياق‬
‫صدق الكتاب ‪ ( .‬وما كان هذا القرآن أن يفرتي من دون هللا ولكن تصديق‬
‫الــذي بــن يديــه ) ‪ « .‬أم يقولــون افـراه ‪ :‬قــل فأتـوا بعشــر ســور مثلــه مفــرايت‬
‫)‪ .“ ..‬واآلايت كثــرة يف هــذا املعــى يف هــذه الســورة ‪ .‬حبيــث يعــرض موضــوع‬
‫الدعــوة مــن خــال ســنة اهلدايــة ‪ ،‬أي كيــف تؤثــر هــذه الســنة يف الدع ـوات ‪.‬‬
‫يف ســورة هــود ‪ ،‬جنــد أن املوضــوع يبــدو أكثــر تفصي ـاً ‪ ( ..‬أم يقولــون اف ـراه‬
‫‪ :‬قــل فأتـوا بعشــر ســور مثلــه مفــرايت ) ‪ ( .‬كتــب أحكمــت آايتــه مث فصلــت‬
‫مــن لــدن حكيــم خبــر ) ‪ ( .‬أفمــن كان علــى بينــة مــن ربــه ويتلــوه شــاهد منــه ‪.‬‬
‫ومــن قبلــه كتــاب موســى إمامـاً ورمحــة ‪ .‬اآليــة ) ‪.‬‬
‫و الحــظ أن ســورة يونــس دعتهــم إىل ســورة واحــدة ‪ ،‬فلمــا كان اجملــال‬
‫جمــال تفصيــل كانــت الدعــوة اىل عشــر ســور ‪ ،‬وللعلمــاء آراء يف هــذا اجملــال‬
‫ينظــر إليهــا يف كتــب التفســر ‪ .‬و لكــن ال يعــي هــذا تشــابه وتكـرار الســورتني ‪،‬‬
‫فــإن ســورة هــود تعــرض هــذا املوضــوع مــن خــال ســنة التدافــع ‪ ،‬فتجــد التقابــل‬
‫بــن املؤمنــن والكافريــن واحلــق والباطــل ‪ ،‬والتدافــع فيمــا بينهمــا هــو الســائد ‪.‬‬
‫( مثــل الفريقــن كاألعمــى واألصــم والبصــر والســميع هــل يســتواين مث ـاً ) ‪.‬‬
‫‪347‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫( فلعلــك اترك بعــض مــا يوحــي إليــك وضائــق بــه صــدرك أن يقولـوا لــوال أنــزل‬
‫إليــه اآليــة)‬
‫و جنــد التقابــل بــن دع ـوات األنبيــاء وأقوامهــم ‪ ،‬وتعــرض الســورة صــوراً‬
‫للمواجهــات بــن النــي وقومــه ‪ ،‬مــن اســتضعاف ومتييــز طبقــي عنــد قــوم نــوح‬
‫‪ ،‬وهتديــد ابلكيــد مــن قــوم هــود ‪ ،‬إىل اإلغ ـراء ابلســلطة واملــال عنــد شــعيب‬
‫وصــاحل عليهمــا الســام ‪ ،‬حــى حماولــة التشــهري واإلرجــاف مــع ســيدان لــوط‬
‫عليــه الســام ‪ .‬ويف هنايــة الســورة حديــث عــن االختــاف ‪ ،‬وعــن التدافــع يف‬
‫‪347‬تناولت موضوع الكتاب‬ ‫قوله ( إن احلســنات يذهنب الســيئات ) ‪ .‬فهي ســورة‬
‫والدعــوة و لكــن مــن خــال ســنة التدافــع فهــي ســورة أخــرى لنفــس املوضــوع ‪.‬‬
‫أمــا ســورة يوســف ‪ ،‬فأهنــا ترمــز إىل أن احلقيقــة قــد تبــدو أمــام النــاس ‪،‬‬
‫ولكــن لوجــود ســنة التنــازع ‪ ،‬فــإن النــاس ال يؤمنــون ‪ ،‬ولكــن تؤكــد أن ذلــك هــو‬
‫مــا حيــرك التاريــخ يف اجتــاه الدعــوة الصاحلــة والديــن احلــق الــذي يريــده هللا ‪ .‬فهــذا‬
‫التنــازع ‪ ،‬والرغبــة يف التفــوق عنــد أخــذ يوســف ‪ ،‬أخــرج يوســف مــن حضــن‬
‫أبيــه ‪ ،‬ولكنــه كان طريقــة للنصــر ( أي اخلــروج ) والتمكــن ‪ ،‬وتبـ ّـن الســورة ‪،‬‬
‫كيــف تكــون النفــس مانعـاً مــن اتبــاع احلــق ‪ ،‬وكيــف يصــر احلــق غريبـاً يف زمحــة‬
‫الكــذب واألهـواء‪ ..‬انظــر ‪ ( ..‬وجــاءوا أابهــم عشــاء يبكــون ‪ ..‬قالـوا اي أابان إان‬
‫ذهبنــا نســتبق وتركنــا يوســف عنــد متاعنــا فأكلــه الذئــب ومــا أنــت مبؤمــن لنــا ولــو‬
‫كنّــا صادقــن ‪ .‬وجــاءوا علــى قميصــه بــدم كــذب) ‪.‬‬
‫فاحلــق بـ ّـن ‪ ،‬لكنــه ضــاع مــع الدمــوع ‪ ،‬واحللــف ‪ ،‬والرغبــة يف التفــوق أبي‬
‫وســيلة‪ ،‬فكذلــك التنــازع الــذي عــاانه الرســول – صلــى هللا عليــه وســلم – مــن‬
‫قومــه ومــن اليهــود و مــا هــو إال احلســد والغــرة و ليــس احلــق واملنطــق ‪ .‬وهــذه‬
‫صــورة أخــرى ‪ ( ..‬وشــهد شــاهد مــن أهلهــا إن كان قميصــه قــد مــن قبــل‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪348‬‬

‫فصدقــت وهــو مــن الكاذبــن ‪ ،‬وإن كان قميصــه قــد مــن دبــر فكذبــت وهــو‬
‫مــن الصادقــن ‪ ( ).‬فلمــا رأي قميصــه قــد مــن دبــر قــال إنــه مــن كيــد كــن ‪( ).‬‬
‫مث بــدا هلــم مــن بعــد مــا رأوا اآلايت ليســجننه حــى حــن ) ‪ .‬فانظــر إىل ظلــم‬
‫النــاس‪ ،‬فهــم ال يتحركــون للحــق ‪ ،‬ولكــن ملــا تريــده تقومهــم وأهوائهــم ‪ .‬وتذكــر‬
‫الســورة صــوراً أخــرى هلــذه النفــس البشـرية يف حركتهــا مــع واقــع احليــاة‪ ،‬والنـزاع‬
‫بــن احلــق والنفــس حــى علــى أخــص النــاس هلل ســبحانه ‪.‬‬
‫قــال تعــايل ‪ « -:‬إال حاجــة يف نفــس يعقــوب قضاهــا وإنــه لــذو علــم ملــا‬
‫علمنــاه » ‪« .‬فأســرها يوســف يف نفســه ومل يبدهــا هلــم » ولكــن كان احلــق هــو‬
‫الــذي ينتصــر دائمـاً ‪ .‬ويف هنايــة الســورة ( ومــا أكثــر النــاس ولــو حرصــت مبؤمنــن‬
‫) فهــو نفــس املوضــوع ‪ ،‬الــذي بدأتــه ســورة يونــس و لكــن مــن منطلــق آخــر و‬
‫هــو ســنة التنــازع ‪.‬‬
‫و قد شــرحت ســورة الرعد ‪ ،‬املعين املقصود من ســورة يوســف ‪ ..‬فبدأت‬
‫( املــر‪ .‬تلــك آايت الكتــاب والــذي أنــزل إليــك مــن ربــك احلــق ولكــن أكثــر‬
‫النــاس ال يؤمنــون ) ‪ ( .‬إن هللا ال يغــر مــا بقــوم حــى يغــروا مــا أبنفســهم ) ‪.‬‬
‫( أفلــم ييــأس الذيــن آمن ـوا أن لــو يشــاء هللا هلــدى النــاس مجيع ـاً ) ‪ ( .‬الذيــن‬
‫آتيناهــم الكتــاب يؤمنــون بــه ومــن األح ـزاب مــن ينكــر بعــض ) ‪ .‬فهــو نفــس‬
‫املوضــوع ‪ ،‬ولكــن الزاويــة خمتلفــة ‪ ،‬ففيهــا ذكــر للتفاضــل كســنة كونيــة اجتماعيــة‬
‫( يســقي مبــاء واحــد ونفضــل بعضهــا علــى بعــض يف اآلكل ) ‪ ( .‬أفمــن يعلــم‬
‫أن مــا أنــزل إليــك مــن ربــك احلــق كمــن هــو أعمــي ) ‪ .‬و ذكــر ثالثيــة الوفــاء‬
‫والوصــال والصــاح ‪ ،‬املتعلقــة بســنة التنــازع ‪ .‬و الغريــب أن بدايــة الســورة فيــه‬
‫إضافــة احلــرف امليــم ( املــر ) ‪ ،‬والســورة فيهــا معــي التغيــر ‪ ،‬فهــل لذلــك عالقــة‬
‫‪ .‬هللا أعلــم ‪.‬‬
‫‪349‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫أمــا ســورة إبراهيــم ففيهــا موضــوع الكتــاب والدعــوة ولكــن مــن خــال‬
‫ســنة اجلـزاء ‪ ( .‬كتــاب أنزلنــاه إليــك لتخــرج النــاس مــن الظلمــات إىل النــور ) ‪.‬‬
‫ويبــدأ يف ذكــر قصــة موســى ‪ ،‬وحماولــة املســتكربين إلخ ـراج األنبيــاء و مشــهد‬
‫االســتضعاف يف الســورة واضحــة ‪ ،‬ومــا ذلــك إال ألهنــا تتنــاول املوضــوع مــن‬
‫منطلــق ســنة اجل ـزاء ‪ .‬وفيهــا ذكــر قصــة ســيدان إبراهيــم وقولــه ( رب أجنبــي‬
‫وبــي أن تعبــد االصنــام ‪ ..‬رب أهنــن أضللــن كثـراً مــن النــاس ) ‪ .‬وفيهــا أتكيــد‬
‫علــى أن للظلــم هنايــة ‪ ،‬وأجــل ال يتأخــر ‪ ،‬فهــو نفــس املوضــوع ولكــن مــن زاويــة‬
‫أخــرى هــي ســنة اجل ـزاء‪.‬‬
‫‪349‬‬
‫و يف ســورة احلجــر ‪ ،‬حديــث عــن اســتخالف األمــم يف األرض وقصــة‬
‫خالفــة اإلنســان يف األرض مــن خــال قصــة آدم ‪،‬وحديــث عــن ظاهــرة‬
‫التعايــش يف الكــون ‪ ,‬مــن خــال املخــزون الــذي وشــع فيهــا مــن ميــاه و ســنة‬
‫التوالــد وتتعاقــب األمــم (ولقــد علمنــا املســتقدمني منكــم واملســتأخرين ليصــل مــن‬
‫خــال ذلــك إىل أن القــرآن حمفــوظ وأن التكذيــب ال يؤثــر يف الدعـوات ‪ ،‬ألن‬
‫األرض البــد هلــا مــن مــن يصلحهــا وهــم أصحــاب احلــق ‪ ( ..‬ولقــد آتينــاك ســبعاً‬
‫مــن الثــاين والقــرآن العظيــم ‪ .‬ال متــدن عينيــك إىل مــا متعنــا بــه أزواجـاً منهــم ) ‪.‬‬
‫و كمثــال علــى ذلــك ‪ ،‬خــذ كل قصــة يف هــذه اجملموعــة ‪ ،‬ســتجدها‬
‫جديــدة يف عرضهــا حمتلفــة عــن عرضهــا يف أي جمموعــة أخــرى ‪ ،‬وســتجد أن‬
‫القصــة يف اجملموعــة الواحــدة ختــدم الســياق والســنة أميــا خدمــة لتحقيــق املعــى‬
‫امل ـراد مــن ذلــك الغــرض ‪ .‬فــا جتــد يف القــرآن مث ـاً غــرق فرعــون « وطلبــه‬
‫النجــاة » إال يف ســورة يونــس ‪ .‬وتلــك الطريقــة ختــدم ســياق الســورة والســنة الــي‬
‫انطلقــت منهــا ‪ ،‬وهــو إميــان فرعــون ملــا رأى العــذاب ‪ ،‬كمــا هــي ســنة اهلدايــة‪،‬‬
‫أبن حتقــق الوعــد يبعــث علــى اإلميــان ‪ .‬قــال تعــاىل ‪ ( -:‬فلــم يــك ينفعهــم إمياهنــم‬
‫ملــا رأوا أبســنا ‪ .‬ســنة هللا ) ‪ .‬ولــن جتــد تلــك اإلغـراءات والتهديــد لألقـوام‪ ،‬إال‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪350‬‬

‫يف ســورة هــود ‪ ،‬فهــو أكثــر وضوحـاً وتنوعـاً ‪ ،‬ومثــال ذلــك ‪ ( ..‬قالـوا اي صــاحل‬
‫لقــد كنــت فينــا مرجـوا قبــل هــذا ) فهــي الســلطة واإلغـراء هبــا‪ ،‬وإذا أتملــت بقيــة‬
‫القصــص لوجــدت عرضــه القصــة يســر لبيــان كيــف ال يركــن النــي ال للرتهيــب‬
‫وال لإلغـراء ‪ ،‬وهــذا هــو عــن معــى التدافــع ولــو اتملــت قصــة يوســف لوجدهتــا‬
‫فريــدة مزيــدة يف القــرآن ولــو أتملــت دعــاء ســيدان إبراهيــم لوجدتــه كذلــك ‪.‬‬
‫ولــو أتملــت ذكــر احلمــأ املســنون يف ســورة احلجــر ‪ ،‬فإنــه مل يذكــر يف إال يف هــذا‬
‫املوضــوع ليعــر أميــا تعبــر عــن املاديــة الــي متنــع النــاس مــن احلــق كمــا هــو موضــوع‬
‫اجملموعــة فتأمــل ســر كتــاب هللا وعظمتــه ‪.‬‬

‫‪ )2‬جمموعة « آل حم »‪ - :‬هذه اجملموعة يف قسم املثاين‪.‬‬


‫هــذه اجملموعــة حتتــوى علــى ‪ -:‬ســورة الزمــر ( ســنة اهلدايــة ) ‪ .‬ســورة غافــر‬
‫( ســنة اهلدايــة ) ‪ .‬ســورة فصلــت ( ســنة التدافــع ) ‪ .‬ســورة الشــورى ( ســنة‬
‫التنــازع ) ‪.‬واملوضــوع الــذي تتناولــه اجملموعــة هــو اإلخــاص ‪ .‬يف ســورة الزمــر ‪:‬‬
‫( تنزيــل الكتــاب مــن هللا العزيــز احلكيــم ‪ .‬إان أنزلنــا إليــك الكتــاب ابحلــق فأعبــد‬
‫هللا خملص ـاً لــه الديــن ) ‪ .‬وتبــدأ الســور يف بيــان هــذا املعــى ‪ (..‬قــل أين أمــرت‬
‫أن أعبــد هللا خملصـاً لــه الديــن ) ‪ ( .‬أليــس هللا بــكاف عبــده وخيوفونــك ابلذيــن‬
‫مــن دونــه ) ‪ ( .‬ولقــد أوحــي إليــك وإىل الذيــن مــن قبلــك لئــن أشــركت ليحبطــن‬
‫عملــك ولتكونــن مــن اخلاس ـرين ) ‪ .‬وهــذا املوضــوع يعــرض يف هــذه الســورة ‪،‬‬
‫مــن منطلــق ســنة اهلدايــة (إان أنزلنــا عليــك الكتــاب للنــاس ابحلــق فمــن أهتــدي‬
‫فلنفســه ومــن ضــل فإمنــا يضــل عليهــا ) ‪ ( .‬ذلــك هــدى هللا يهــدى بــه مــن يشــاء‬
‫ومــن يضلــل هللا فمــا لــه مــن هــاد ‪ ،‬وتؤكــد الســورة إخــاص اإلنســان هلل ســاعة‬
‫شــدة ‪ ،‬وهــي احلقيقــة الــي تنطلــق منهــا ســنة اهلدايــة‪ ،‬كمــا حــدث لفرعــون حــن‬
‫أدركــه الغــرق أخلــص هلل ‪ .‬وســورة غافــر تؤكــد معــى اإلخــاص ‪ ( :‬هــو احلــي‬
‫‪351‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫ال إلــه إال هــو فأدعــوه خملصــن لــه الديــن ) ‪ ( .‬فادعــوه خملصــن لــه الديــن ‪.‬‬
‫احلمــد هللا رب العاملــن ) ‪ ( .‬قــل إين هنيــت أن أعبــد الذيــن تدعــون مــن دون‬
‫هللا ملــا جــاءين البينــات مــن ريب ) ‪ .‬وفيهــا قصــة إخــاص ‪ ،‬وهــي قصــة مؤمــن‬
‫آل فرعــون مــع موســى ‪ .‬وهــي تطــرح هــذا املوضــوع مــن خــال ســنة اهلدايــة ‪،‬‬
‫فتؤكــد معــى اهلدايــة ابلضــال وارتباطــه ابلعجلــة ‪ ،‬ويف هنايتهــا ‪:‬‬
‫« فلــم يــك ينفعهــم إمياهنــم ملــا رأوا أبســنا ســنة هللا » ‪ .‬أمــا ســورة فصلــت‬
‫ّ‬
‫فتتحــدث كذلــك عــن اإلخــاص ‪ ( -:‬قــل إمنــا يوحــى إيل أمنــا إهلكــم إلــه واحــد‬
‫فاســتقيموا إليــه واســتغفروه وويــل للمشــركني ) ‪351( .‬إن الذيــن قال ـوا ربنــا هللا مث‬
‫اســتقاموا تتنــزل عليهــم املالئكــة أال ختافـوا وال حتزنـوا ) ‪.‬‬
‫و لكــن العــرض هنــا خيتلــف ففيــه تركيــز علــى إحاطــة هللا بــكل شــيء ‪،‬‬
‫وتقديــره لــأرزاق ‪ ،‬وعلمــه ابألعمــال ‪ ،‬ممــا يبعــث النفــس علــى االجتــاه إليــه‬
‫وحــده ‪ ،‬وهــذا العــرض يتوافــق مــع ســنة التدافــع ‪ ،‬فــإن تلــك اإلحاطــة كمــا‬
‫عرضتهــا الســورة فيهــا معــى التدافــع ‪ ،‬قــال تعــاىل « ومــن آايتــه الليــل والنهــار‬
‫والشــمس والقمــر ‪. » ..‬‬
‫و فيهــا اختــاف النــاس ( مــن عمــل صاحلـاً فلنفســه ومــن أســاء فعليهــا ‪..‬‬
‫) وقبلهــا ( ولقــد آتينــا موســى الكتــاب فاختلــف فيــه ) ‪ ( .‬إن الذيــن يلحــدون‬
‫يف آايتنــا ال خيفــون علينــا أفمــن أييت آمنــا يــوم القيامــة ) ‪ .‬ونالحــظ أن عــرض‬
‫توجــه اإلنســان هلل خيتلــف ‪ ،‬ففــي ســورة الزمــر وســورة غافــر كان بصــورة أن‬
‫اإلنســان يتوجه إىل هللا يف ســاعة الشــدة قال تعاىل ‪ ( :‬وإذا مس اإلنســان ضر‬
‫دعــاان مث إذا خــوانه نعمــة منــا نســي مــا كان يدعـوا إليــه مــن قبــل ) ‪ .‬لكــن يف‬
‫ســورة فصلــت جتــد تفصيــل هــذه األحـوال ‪ ،‬فبــدأ بعــرض طبيعــة اإلنســان – ال‬
‫يســئم اإلنســان مــن دعــاء اخلــر ) ‪ .‬وذكــر موقفــه مفص ـاً بعــد النعمــاء ‪( ..‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪352‬‬

‫ليقولــن هــذا يل ومــا أ ظــن الســاعة قائمــة ولئــن رددت اىل ريب إن يل عنــده‬
‫للحســى ) ‪ .‬مث ذكــر موقفــه عنــد الشــدة ( لــذو دعــاء عريــض ) فأحـوال الدنيــا‬
‫‪ ،‬هــي مــن التقابــات ‪ ،‬كالليــل والنهــار والشــمس والقمــر ‪ ،‬العمــل الســيئ‬
‫واحلســن ‪.‬‬
‫و يف الســورة ‪ ( :‬ادفــع ابلــي هــي أحســن الســيئة ) ‪ .‬أمــا ســورة الشــورى‬
‫ففيهــا هــذا اإلخــاص املقصــود يف هــذه اجملموعــة ‪ ( ..‬ومــا اختلفتــم فيــه مــن‬
‫شــيء فحكمــه إىل هللا ذلكــم هللا ريب عليــه توكلــت وإليــه أنيــب ) ‪ ( .‬أن أقيمـوا‬
‫الديــن وال تتفرقـوا فيــه ) ( فلذلــك فــادع واســتقم كمــا أمــرت ) ‪.‬‬
‫و لكن العرض هنا من منطلق آخر وهو ســنة التفاوت ‪ ،‬فإن اإلخالص‬
‫البد أن مينع من التنازع والتفرق ‪ ( ،‬الذين جيتنبون كبائر اإلمث والفواحش وإذا‬
‫مــا غضبـوا هــم يغفــرون ‪ ( ) ..‬وأمرهــم شــورى بينهــم ) ‪ .‬وعندمــا ذكــرت توجــه‬
‫اإلنســان هلل ‪ ،‬كانــت طريقــة العــرض كالتــايل ‪ ( -:‬وإذا أذقنــا اإلنســان منــا رمحــة‬
‫فــرح هبــا وإن تصبهــم ســيئة مبــا قدمــت أيديهــم فــإن اإلنســان كفــور ) ‪ .‬فالـزايدة‬
‫هنــا ‪ ،‬يف قولــه ( مبــا قدمــت أيديهــم ) ‪.‬‬
‫و ســياق الســورة يبــن الســبب ‪ ،‬فــإن ســنة التنــازع ‪ ،‬تبــدأ بفعــل اإلنســان‬
‫وتغري نفســه ‪ ،‬كما يف آية الرعد و يف كل الســور اليت حتدثت عن ســنة التنازع‬
‫‪ ،‬لــذا ذكــر فعــل اإلنســان يف التغــر مــن احلســن إىل األسـوأ ‪.‬‬
‫و يف الســورة بيــان هلــذا ‪ ،‬فهــي هنــت عــن التفــرق وعــن الذنــوب ‪ ،‬وبينــت‬
‫أن الرزق والدنيا اليت هى سبب النزاع بيد هللا ‪ ,‬وأن الوفرة أساس لكن ذنوب‬
‫تــؤدي هبــم إىل الكــوراث قــال تعــاىل ( أو يوبقهــن مبــا كســبوا ) ( ومــا أصابكــم‬
‫مــن مصيبــة فبمــا كســبت أيديكــم ) لذلــك جــاءت مســألة التوجــه هبــذه الطريقــة‬
‫‪353‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫‪ .‬واذا أتملــت القــرآن لــن جتــد جمموعــة مــن الســور فيهــا معــى اإلخــاص هبــذه‬
‫الطريقــة وهــذا الرتتيــب ‪ ،‬خاصــة مســألة التوجــه ‪ ،‬الــي تتالــت يف الســور األربعــة‪.‬‬

‫جمموعة الذارايت ‪-:‬‬


‫هــذه اجملموعــة يف قســم املفصــل ‪ .‬هــذه اجملموعــة تتكــون مــن ‪ :‬ســورة‬
‫الــذارايت ‪ :‬ســنة اهلدايــة ‪ .‬ســورة الطــور ‪ :‬ســنة اهلدايــة ‪ .‬ســورة النجــم ‪ :‬ســنة‬
‫اهلداية ‪ .‬سورة القمر ‪ :‬سنة اهلداية ‪ .‬سورة الرمحن ‪ ( :‬سنة التدافع و التفاوت‬
‫‪353‬أدىن أتمــل هلــذه اجملموعــة‬
‫) ‪ .‬ســورة الواقعــة ‪ ( :‬ســنه اجل ـزاء االســتخالف ) ‪.‬‬
‫‪ ،‬يعطيــك موضوعهــا ‪ ،‬فهــي تتحــدث عــن اآلخــرة ولكــن ليــس العــرض هنــا‬
‫عرضــا ملشــاهد اآلخــرة كمــا يف جمموعــة التكويــر ‪ ،‬بــل املوضــوع حتديــداً هــو‬
‫دالئــل اليــوم اآلخــر ‪ ،‬يعــرض يف كل ســورة علــى حســب الســنة الــي تنطلــق‬
‫منهــا الســورة ‪ .‬ســورة الــذارايت عرضــت األدلــة كونيــة واترخييــة الــي تــدل علــى‬
‫قيــام الســاعة ‪ .‬أمــا ســورة الطــور فعرضــت األدلــة املنطقيــة علــى قيــام الســاعة (‬
‫أم خلق ـوا مــن غــر شــيء أم هــم اخلالقــون إىل آخــر اآلايت ) ‪ .‬وســورة النجــم‬
‫عرضت أدلة الوحي والرســالة ‪ .‬وســورة القمر إىل أدلة وآايت القرآن القصصية‬
‫أو التارخييــة ‪ .‬وكل هــذه الســور انطلقــت بوضــوح مــن ســنة اهلدايــة ‪ ،‬ألن ســنة‬
‫اهلدايــة ‪ ،‬حتكــم إميــان اإلنســان ابملســتقبل ‪ ،‬وتصديقــه بوعــود هللا ســبحانه ‪.‬‬
‫لــذا ســتجد أن أصحــاب اجلنــة هــم الذيــن صدق ـوا ابلســاعة وهــي وعــد هللا ‪.‬‬
‫انظــر إىل صفاهتــم ‪ ( :‬كانـوا قليـاً مــن الليــل مــا يهجعــون ) ‪ ( .‬إان كنــا قبــل يف‬
‫أهلنــا مشــفقني ) ‪ .‬فهــي صــورة لإلنســان القلــق الــذي ينتظــر املســتقبل اجملهــول‬
‫الــذي يهابــه ويرجــوه يف آن واحــد ‪ .‬ويف ســورة النجــم ‪ ( ..‬أم لإلنســان مــا متــى‬
‫فللــه اآلخــرة أو األوىل ) ‪ .‬فهــو مســار حمــدد للمســتقبل ال ميلــك اإلنســان معــه‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪354‬‬

‫شــيئا ‪ ،‬أمــا ســورة القمــر فهــي واضحــة ‪ ،‬فإهنــا كلهــا عالمــات علــى املســتقبل‬
‫‪ ،‬واإلنســان بــن التصديــق والتكذيــب‬
‫كمــا دل التاريــخ يف صــور قرآنيــة رائعــة كنخــل منقعــر وهشــيم حمتضــر‬
‫وعيــون وأب ـواب للســماء مبــاء تنهمــر ‪ .‬فعــرض هــذه الســور – قطع ـاً – ينطلــق‬
‫مــن ســنة اهلدايــة ‪ .‬أمــا ســورة الرمحــن ‪ ،‬فواضــح أن موضوعهــا هــو التصديــق‬
‫ابليــوم اآلخــر وأدلــة ذلــك الكونيــة ‪ ،‬وتكــرر فيهــا ( فبــأي آالء ربكمــا تكــذابن‬
‫) ولعلــك اآلن عرفــت مل كانــت عــروس القــرآن ‪ ،‬ملــا فيهــا مــن هــذا التقابــل بــن‬
‫اإلنــس واجلــان ‪ ،‬واللؤلــؤ واملرجــان ‪ ،‬والنــار واجلنــان ‪ .‬ولكــن يف الســورة كذلــك‬
‫تفــاوت بــن أهــل النــار وأصحــاب اليمــن واملقريبــن لــذا فالســورة عرضــت‬
‫املوضــوع مــن خــال ســنة التدافــع والتنــازع أو التفــاوت كمــا بــن النســفي يف‬
‫تفســره بوضــوح وذكاء‪(.‬انظــر ســنة التدافــع ) وســورة الواقعــة ‪ ،‬عرضــت ملوضــوع‬
‫اآلخــرة مــن منطلــق ســنة اجلـزاء و االســتخالف ففيهــا حديــث عــن جـزاء النــاس‬
‫‪ ،‬وفيهــا حديــث عــن البعــث ‪ ،‬واحلســاب ‪ .‬ولــن جتــد بطــول القــرآن جمموعــة‬
‫ســور عرضــت هلــذا املوضــوع هبــذه الطريقــة وهــذا الرتتيــب ‪ .‬أي أن الســياق ال‬
‫يثبــت يف أي جمموعــة هــذا املنحــى إال يف هــذه اجملموعــة ‪.‬‬
‫وأختم مبجموعة أخرى من آخر املفصل وهي ‪:‬‬

‫جمموعة الفجر ‪-:‬‬


‫يف هــذه اجملموعــة ‪ ،‬يبــدو موضــوع اإلنســان وطبيعيــة املاديــة هــو اجلامــع‬
‫بــن ســورة ‪ :‬الفجــر – البلــد – الشــمس – الليــل – الضحــى – الشــرح ‪ .‬يف‬
‫ســورة الفجــر ‪ « :‬كال بــل ال تكرمــون اليتيــم وال حتضــون علــى طعــام املســكني‬
‫وأتكلــون الـراث أكالً ملـاً ‪ .‬وحتبــون املــال حبــا مجـاً » ‪ .‬ويف ســورة البلــد «فــا‬
‫‪355‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫اقتحم العقبة ‪ ،‬وما أدراك ما العقبة ‪ ،‬فك رقبة ‪ ،‬أو إطعام يف يوم ذي مسغبة‬
‫‪ ،‬يتيم ـاً ذا مقربــة أو مســكيناً ذا مرتبــة ‪ )) .‬ويف ســورة الشــمس « ونفــس ومــا‬
‫سـواها ‪ ،‬فأهلمهــا فجورهــا وتقواهــا ‪ ،‬قــد أفلــح مــن زكاهــا وقــد خــاب مــن دســاها‬
‫» ‪ .‬ويف ســورة الليــل « فأمــا مــن أعطــى واتقــى وصــدق ابحلســى فسنيســره‬
‫لليســرى وأمــا مــن خبــل واســتغىن فسنيســره لليســرى ‪ .‬ومــا يغــي عنــه مالــه إذا‬
‫تــردي » ‪ .‬ويف ســورة الضحــى ‪ « :‬فأمــا اليتيــم فــا تقهــر ‪ ،‬وأمــا الســائل فــا‬
‫تنهــر ‪ ،‬وأمــا بنعمــة ربــك فحــدث » ‪ .‬ويف ســورة الشــرح ‪ « :‬أمل نشــرح لــك‬
‫صــدرك » ‪ .‬فطبيعــة اإلنســان ‪ ،‬وعالقتــه بنفســه ‪ ،‬وزكاهتــا ‪ ،‬واحلــث علــى تعلــم‬
‫‪355‬‬
‫معــى اإلنســانية ‪ ،‬مــن خــال تلــك الطبقــات احملرومــة ‪ ،‬خــط جامــع يف هــذه‬
‫الســور ‪ ،‬ولــو أتملــت القــرآن ‪ ،‬ملــا وجــدت مثــل هــذا الرتتيــب والرتكيــز علــى‬
‫هــذا املوضــوع ‪ .‬وإذا أردت أن تعــرف كيــف عــرض هــذا املوضــوع فتذكــر الســنن‬
‫اخلمس ‪ ،‬فســورة الفجر وســورة البلد ‪ ،‬عرفت املوضوع من منظور ســنة اهلداية‬
‫لــذا جتــد معــي الوعــد وطبيعــة اإلنســان يف السـراء والضـراء ‪ ،‬قــال ‪« :‬إن ربــك‬
‫لباملرصــاد » ومعــى الوعــد فيهــا واضــح ‪ .‬وقــال عــن اإلنســان «فأمــا اإلنســان إذا‬
‫مــا ابتــاه ربــه فأكرمــه ونعمــه فيقــول رب أكرمــي» ويف ســورة البلــد « وهدينــاه‬
‫النجديــن» ‪.‬‬
‫« والذيــن كفــروا وكذبـوا آبايتنــا هــم أصحــاب املشــأمة عليهــم انر موصــدة‬
‫فهــذا وعــد ‪ .‬والــذي يؤكــد هــذا املعــى أن موضــوع اليتامــى ‪ ،‬عــرض كحقيقــة‬
‫يف اتريــخ اإلنســان ‪ ،‬فإنــه اعتــاد ظلــم اليتامــي وقهــر املســاكني ‪ .‬أمــا يف ســورة‬
‫الشــمس ‪ ،‬الــي تنطلــق مــن ســنة التدافــع ‪ ،‬فالتقابــل فيهــا واضــح بــن الشــمس‬
‫والقمــر ‪ ،‬والليــل والنهــار ‪ ،‬والــزكاة واخلبــث أو الفجــور والتقــوى ‪ .‬لكــن عــرض‬
‫مسألة اليتامى ‪ ،‬فيه حث وأمر ابلزكاة ‪ ،‬يف قوله » قد أفلح من زكاها «وهذا‬
‫خبــاف تقريــر احلقيقــة اجملــردة يف ســوريت الفجــر والبلــد ‪ .‬أمــا يف ســورة الليــل ‪،‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪356‬‬

‫الــي تنطلــق مــن ســنة التنــازع ‪ ،‬ففيهــا عــرض يناســب تلــك الســنة ‪ ،‬فقــد ذكـران‬
‫يف ســنة التنــازع ‪ ،‬أن حــداثً مــا يقســم اجملتمــع إىل قســمني ‪ ،‬هــذا احلــدث قــد‬
‫يــؤدي إىل حتلــل األمــة ‪ ،‬إذا مل تســتجب لــه االســتجابة الصحيحــة ‪ ،‬فمســار‬
‫األمــة ســاعة الفــن يف مفــرق طــرق ‪« .‬فأمــا مــن أعطــى واتقــى وصــدق ابحلســى‬
‫فسنيســره لليســرى» ‪.‬‬
‫الحــظ الفــرق بــن تقريــر احلقيقــة ‪ ،‬واحلــث علــى الفعــل والعمــل ‪ ،‬ونتيجــة‬
‫العمــل يف الســور األربعــة ‪ .‬هــذا األســلوب – ابالســتقراء – متكــرر يف كل‬
‫جمموعــة ‪ .‬ولعلــك تصــل إىل ســر التعبــر يف الســورتني يف قولــه « والنهــار إذا‬
‫جالهــا والليــل إذا يغشــاها » ‪ .‬يف ســورة الشــمس ‪ .‬وقولــه « والليــل إذا يغشــي‬
‫والنهــار إذا جتلــي » ‪ .‬فلــو أخــذان بـرأي جماهــد أن الضمــر يف ( جالهــا ) يعــود‬
‫علــى األرض ‪ ،‬فــإن اختــاف التعبرييــن يوحــي أبن املقصــود يف ســورة الشــمس‬
‫‪ ،‬هــو إضــاءة الدنيــا ‪ ،‬وطلــوع النهــار املقابــل لليــل ‪.‬‬
‫أمــا يف ســورة الليــل فلــم يذكــر الضمــر ( إذا جتلــى ‪ ) ..‬فــإن املقصــود‬
‫هــو تلــك القــدرة الــي أخرجــت النهــار مــن الليــل ‪ ،‬وهــذا مناســب ‪ ،‬للحــث‬
‫علــى العطــاء والصدقــة لكــي يهتــدي اإلنســان لليســرى ‪ ،‬فــكان املعــي ‪ :‬إن‬
‫تلــك القــدرة ســتخرجك مــن العســر إىل اليســر ‪ ، ،‬أو مــن الظلمــات إىل النــور‬
‫وهللا أعلــم ‪ .‬فأنظــر إىل أتثــر الســنة يف عــرض املوضــوع املطــروح ‪ .‬أمــا ســورة‬
‫الضحــى ‪ ،‬فإهنــا تتنــاول املوضــوع مــن منظــور ســنة اجل ـزاء ‪ ،‬الــذي يبــدو فيــه‬
‫احلــق ضعيف ـاً ‪ ،‬مودع ـاً منبــوذاً ‪ ،‬حــي ينعــم هللا عليــه ويؤويــه إىل كنفــه ‪ ،‬فتبــدأ‬
‫الســورة ‪ « :‬والضحــى والليــل إذا ســجى مــا ودعــك ربــك ومــا قلــى ‪. )) ...‬‬
‫مث تريــد مــن النــي – صلــى هللا عليــه وســلم – أن يقابــل النعمــة ابلشــكر ‪« .‬أمل‬
‫جيــدك يتيم ـاً فــآوى ‪ ..‬إخل» اآلايت ‪ ،‬مث يقــول « فأمــا اليتيــم فــا تقهــر » ‪.‬‬
‫وقــد ذكـران أن الســور الــي حتدثــت عــن ســنة اجلـزاء كلهــا تذكــر نعمــة هللا وتبــدأ‬
‫‪357‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫حبمــده ‪ ،‬فكذلــك األمــر هنــا ‪ .‬ويف جــو هــذا الضعــف واخلــوف مــن الف ـراق ‪،‬‬
‫ومشــهد الضحــى والليــل إذا ســجى ‪ ،‬يقــول ســبحانه « أمل نشــرح لــك صــدرك‬
‫» ‪ « .‬فــإن مــع العســر يس ـراً ‪ . » ...‬وهــذا لــه عالقــة بســنة االســتخالف ‪،‬‬
‫فــإن الرمحــة اإلهليــة ســتفعل معــك مــا فعلــت مــع زكـراي ومــرمي وإبراهيــم وإمساعيــل‬
‫وموســي وإدريــس ‪ ،‬وســتحيي أرضــك ‪ ،‬وتشــرح صــدرك ‪ ،‬ويرتفــع ذكــرك وهــذا‬
‫مــا حــدث ‪.‬‬
‫هــذه األمثلــة توضــح املقصــود مــن نظريــة الســنن الــي نطرحهــا ‪ ،‬فــإن كل‬
‫‪357‬ـة ‪ ،‬تؤثــر يف ســياق ســور‬‫ســورة تتعلــق مبجموعــة مــن الســور ‪ ،‬عالقــة موضوعيـ‬
‫اجملموعة الواحدة ‪ .‬هذا الســياق الذي يشــمل ســور اجملموعة الواحدة ‪ ،‬ترتتب‬
‫فيــه الســور وفــق الســنن اخلمــس الــي هــي طبــع الوجــود ‪ .‬فكأنــه ســبحانه وهــو‬
‫يتكلــم بكتابــه ‪ ،‬كانــت كلماتــه يف اآلايت والســور ‪ ،‬تعبـراً عــن صفاتــه وســننه‬
‫الــي بثهــا يف الوجــود ‪ .‬فيقــرر املوضــوع يف ســورة مث يفصــل يف ســورة وفــق ســنة‬
‫التدافــع ‪ ،‬مث يتحــدث عــن املســارات املختلفــة للموضــوع ‪ ،‬وفــق ســنة التنــازع‬
‫‪ ،‬مث هنايــة األمــر لــكل مســار وفــق ســنة اجل ـزاء ‪ ،‬وكيــف جيــدد ســبحانه احليــاة‬
‫واملعــاين وفــق ســنة االســتخالف ‪ .‬ولــو تتبعــت هــذه اجملموعــات لوجــدت مــا‬
‫قلتــه لــك واضحـاً ‪ ،‬فتأملــك للســبع الطـوال يبــن لــك عالقــة األمــة بغريهــا مــن‬
‫األمــم‪ ،‬لوجــدت أن العــرض يف ســورة البقــرة وآل عم ـران كان عرض ـاً تتميــز بــه‬
‫شــخصية األمــة املســلمة ‪ ،‬و لوجــدانه يطلــب مــن األمــم األخــرى الوصــول إىل‬
‫احلــد األدىن مــن نقــاط االتفــاق ‪ ( ..‬قــل اي أهــل الكتــاب تعالـوا إىل كلمــة سـواء‬
‫) ‪ .‬أمــا يف ســورة النســاء فإنــه يعــرض النظــم املختلفــة للمجتمــع‪ ،‬لكنــه يعــرض‬
‫العالقــة مــع األمــم األخــرى‪ ،‬علــى أهنــا عالقــة تدافــع تتأثــر فيهــا النظــم بعضهــا‬
‫ببعض ‪ ( ،‬أمل تر إىل الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشــرون الضاللة ويريدون‬
‫أن تضل ـوا الســبيال ) ‪ .‬ويف ســورة املائــدة حيــذر مــن االحن ـراف يف املســار ( ال‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪358‬‬

‫تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ‪ ) ..‬ويف ســورة األنعام ‪ ،‬يصور األمة يف حالة‬
‫ضعفهــا ‪ ( ،‬وال تطــرد الذيــن يدعــون رهبــم ابلغــداة والعشــي ) ‪ ،‬وكذلــك فتنــا‬
‫بعضهــم ببعــض ليقولـوا أهــؤالء مــن هللا عليهــم مــن بيننــا) ‪ ..‬فهــذا الضعــف لألمــة‬
‫يرتبــط بســنة اجلـزاء الــي هتلــك الظاملــن ‪ ،‬وترفــع الشــاكرين ‪ .‬أمــا ســورة األعـراف‬
‫فإهنــا تذكــر لألمــة بصــاح األرض كشــرط للبقــاء ‪ ( ..‬وال تفســدوا يف األرض‬
‫بعــد إصالحهــا‪ ..‬وأدعــوه خوفـاً وطمعـاً إن رمحــة هللا قريــب مــن احملســنني ) ومــن‬
‫مث يبــن ســنة االســتخالف عــر التاريــخ ‪ ...‬ولــو نظــرت إىل ســوريت األنفــال‬
‫والتوبــة لقلــت أن القتــال هــو املوضــوع ‪.‬‬
‫و لــو نظــرت إىل جمموعــة طــه لوجــدت أن النصــر والتمكــن هــو املوضــوع‬
‫‪ .‬يف طــه ‪« ..‬فمــن تبــع هــداي فــا يضــل وال يشــقي »‪ .‬يف األنبيــاء ‪« ..‬ولقــد‬
‫كتبنــا يف الزبــور مــن بعــد الذكــر أن األرض يرثهــا عبــادي الصاحلــون » ‪ .‬ويف‬
‫احلج ‪ ..‬ومن كان يظن أن لن ينصره هللا فليمدد بسبب إىل السماء مث ليقطع‬
‫إن جزيتهــم اليــوم مبــا صــروا أهنــم‬‫« ويف ســورة املؤمنــون ( قــد أفلــح املؤمنــون ) ّ‬
‫هــم الفائــزون ) ‪ .‬وهكــذا األمــر يف كل اجملموعــات ‪ ،‬ولــو قــدر هللا و كتبنــا كتــاابً‬
‫كامـاً يف هــذه اجملموعــات التضــح األمــر أكثــر وأكثــر ‪ .‬تبقــى نقطــة أخــرة ‪،‬‬
‫وهــي وحــدة كل قســم مــن أقســام القــرآن ‪ ،‬وهــو أمــر طويــل لــن تتعــرض إليــه إمنــا‬
‫نشــر إلىــه إشــارة لعــل هللا يقــدر لنــا أن نوضحهــا يف كتــاب آخــر ‪.‬‬
‫هــذه هــي نظريــة الوحــدة القرآنيــة و عالقتهــا ابلســنن االجتماعيــة‪،‬‬
‫جمموعــات ترتتــب وفــق ســنن مخــس مــع وحــدة موضــوع كل جمموعــة ‪ ،‬وجممــل‬
‫هــذه اجملموعــات يشــكل األقســام الــي ترتبــط يف موضــوع واحــد ‪ ،‬هــو موضــوع‬
‫القــرآن الكــرمي الــذي ال تــردد يف إطــاق مصطلــح اهلدايــة عليــه ‪ ،‬فموضــوع‬
‫القــرآن هــو اهلدايــة ‪.‬‬
‫‪359‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫‪359‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪360‬‬

‫املراجع‬

‫الفصل األول ‪:‬‬


‫‪ -1‬مقدمة ابن خلدون ‪ ،‬دار و مكتبة اهلالل ‪.١٩٩١،‬‬
‫‪ -2‬كوندروسيه ‪ ،‬ترمجة حممد بدوي ‪ ،‬اهليئة املصرية للكتاب ‪.١٩٩٥ ،‬‬
‫‪ -3‬انظــر مث ـاً درر الســلوك يف سياســة امللــوك ‪ ،‬أبــو احلســن علــى بــن‬
‫حممــد البصــري الشــهري ابملــاوردي ‪ ٤٥٠‬ه ـ دار الوطــن ال ـرايض ‪،‬رســوم دار‬
‫اخلالفــة ‪ ،‬هــال بــن احملســن احلـراين ‪٤٤٨‬ه ‪ ،‬دار الرائــد العــريب بــروت الطبعــة‬
‫الثانيــة ‪.١٩٨٦‬‬
‫‪ -4‬تفســر املنــار ‪ ،‬تفســر ســورة النســاء ‪ ،‬اجلــزء الثالــث ‪ ،‬حممــد رشــيد‬
‫رضا ‪ ،‬اهليئة املصرية للكتاب‪( .‬تفســر قوله تعاىل ( اي أيها الذين آمنوا أطيعوا‬
‫هللا ورسـوله ‪. ) ...‬‬
‫‪ -5‬الدولــة اإلســامية دولــة إســامية مفــرى عليهــا ‪ ،‬عبــد العزيــز حممــد‬
‫شــناوي ‪ ،‬مكتبــة االجنلــو مصريــة ‪.١٩٨٠ ،‬‬
‫‪ -6‬شروط النهضة مالك بن نيب ‪ ،‬دار القدرس ‪.٢٠٠٩ ،‬‬
‫‪ -7‬خمتصــر دراســة التاريــخ ‪ ،‬ارنولــد توينــي ‪ ،‬املركــز القومــي للرتمجــه ‪ ،‬فـؤاء‬
‫حممد شــبل‪.‬‬

‫الفصل الثاين ‪:‬‬


‫‪ -1‬الفصــل يف امللــل و األه ـواء و النحــل ‪ ،‬ابــن حــزم الشهرســتاين ‪،‬‬
‫‪ ١٣٤٨‬ه ‪ ،‬مكتبــة الســام العامليــة‪.‬‬
‫‪361‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫‪Batch Book ,2001, George Hegel, -2‬‬


‫‪Philosophy of History‬‬
‫‪ -3‬نظريــة علــم االجتمــاع ‪ ،‬نيقــوال تيماشــيف ‪ ،‬طبعــة دار املعــارف‬
‫املصريــة ‪ ،‬الطبعــة األوىل ‪.١٩٧٠ ،‬‬
‫‪ -4‬رؤى مســتقبلية ‪ ،‬ميتشــيو كاكــو ‪ ،‬ترمجــة ســعد الديــن خرفــان ‪ ،‬عــامل‬
‫املعرفــة العــدد ‪.٣٩٩‬‬
‫‪ -5‬هنايــة التاريــخ ‪ ،‬فرانســيس فوكوايمــا ‪ ،‬ترمجــة حســن أمحــد أمــن ‪،‬‬
‫‪361‬‬
‫مركــز األه ـرام‪.‬‬
‫‪Oxford، Lawes freedman،Strategy ،2013 -6‬‬
‫‪Excerpt from: Karl Marx. “Revolution -7‬‬
‫‪and Counter-Revolution.” iBooks. https://‬‬
‫‪)itun.es/us/4jYvD.l, karl marx‬‬
‫‪Rutledge, fifth edition, Karl Poper, ,1966 -8‬‬
‫‪Open Society and its enemies‬‬
‫‪ -9‬اخلــوف مــن احلريــة ‪ ،‬اريــك فــروم ‪ ،‬ت جماهــد عبــد املنعــم ‪ ،‬املؤسســة‬
‫العربيــة للنشــر ‪.١٩٧٢ ،‬‬
‫‪Cambridge Companion of Critical -10‬‬
‫‪Theory Fred Rush Cambridge University 2004‬‬
‫‪ -11‬تركيــب الثــورات العلميــة‪ .‬داراملعرفــة اجلماعيــة ت ‪ ،‬ت ماهرعبــد‬
‫القــادر‪.‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪362‬‬

‫‪ -12‬فلسفة العلم ىف القرن العشرين ص‪ 389‬دميىن طريف اخلوىل‪.‬‬


‫‪ -13‬الفعل التواصلي عند هابرماس ‪ ،‬جلول مقورة ‪ ،‬بيسان ‪.٢٠١٥ ،‬‬
‫‪The world is Flat Thomas L fredman -14‬‬
‫‪Book‬‬ ‫‪summary‬‬ ‫‪Collection‬‬ ‫(‪Business‬‬
‫‪) publisher‬‬
‫‪ -15‬راســل جاكــويب‪ ،‬هنايــة اليوتيبيــا ‪ ،‬السياســة والثقاف ــة ف ــي زم ـ ــن‬
‫الالمب ـ ــاالة ‪ ،‬ترمج ـ ــة ف ـ ــاروق عب ـ ــدالقادر‪ ،‬سلس ـ ــلة ع ـ ــامل املعرف ـ ــة‪ -‬الكوي ـ ــت‪-‬‬
‫الع ـ ــدد ‪،٢٠٠١، ٢٦٩‬ص ‪.14 13-‬‬
‫‪The mondlay press, Ronald ,1972. -16‬‬
‫‪Berthes, Mythology‬‬

‫آنظر كذلك ‪:‬‬


‫‪Edinburgh , Jon Simon , , 2006 .‬‬
‫‪Contemporary‬‬ ‫‪Critical‬‬ ‫‪theory‬‬
‫‪Open Media Book, Noam ,2002 -17‬‬
‫‪Chomsky, Media Control‬‬
‫‪ -18‬اخلوف من الربابرة ‪ ،‬تزفيتان تيودوروف ‪ ،‬كلمة ‪.2009،‬‬

‫الفصل الثالث ‪:‬‬


‫‪363‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫‪ -1‬الثقافــة العربيــة يف القــرن العش ـرين ‪ ،‬مركــز دراســات الوحــدة العربيــة‬


‫‪ ،‬ص‪ .460-456‬مــن املمكــن النظــر لكتــاب نظريــة الثــورة العربيــة للدكتــور‬
‫عصمــت ســيف الدولــة ‪ ،‬و كتــاب اخلاطـرات لإلمــام األفغــاين غريهــا للتحقــق‬
‫مــن االرتبــاط بنظريــة التطــور وميكــن الرجــوع هلــذه الدراســة (الدكتــور توفيــق‬
‫شــومر ‪ ،‬النشــوء واالرتقــاء يف املقتطــف ‪،‬جملــة جامعــة ‪ ،٢٠١٠‬دمشــق)‬
‫‪ -2‬التفســر اإلســامي للتاريــخ ‪ ،‬عمــاد الديــن خليــل ‪ ،١٩٩١ ،‬الطبعــة‬
‫الثالثــة ‪ ،‬دار العلــم للماليــن‪.‬‬
‫‪ -3‬تفســر التاريــخ اإلســامي ‪ ،‬عبــد احلليــم‪363‬عويــس ‪ ،٢٠٠ ،‬الطبعــة‬
‫األوىل ‪ ،‬دار الوفــاء للطبــاع و النشــر‪.‬‬
‫‪ -4‬العقــل السياســي العــريب‪ ،‬عابــد اجلابــري ‪ ،‬مركــز دراســات الوحــدة‬
‫العربيــة‪.‬‬
‫‪ -5‬شــروط هنضــة العــرب واملســلمني ‪،‬أبــو يعــرب املرزوقــي ‪ ،‬عــامل الفكــر‬
‫ص‪.11-10‬‬
‫‪ -6‬موسوعة العلمانية الشاملة والعلمانية اجلزئية ‪ ،‬عبد الوهاب املسريي‬
‫‪ ،‬دار الشروق‪.‬‬
‫‪Glendessary Press, ludwig ,1971 -7‬‬
‫‪Bachmann, legacy of Weber‬‬
‫‪-8‬كتاب اهلوية واحلركية اإلسالمية ‪ ،‬حترير سوزان حريف‪ -‬دار الفكر‪.‬‬
‫‪Rutledge, Dino Franco, Critical ,2015 -9‬‬
‫‪Theory‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪364‬‬

‫الفصل الرابع ‪:‬‬


‫‪ -1‬الســنن اإلهليــة يف األمــم و األف ـراد ‪ ،‬جمــدي عاشــور ‪ ،‬دار الســام‬
‫‪.٢٠٠٦،‬‬
‫‪ -2‬الســنن اإلهليــة يف األمــم و األف ـراد ‪ ،‬عبــد الكــرمي زيــدان ‪ ،‬مؤسســة‬
‫الرســالة‪.‬‬
‫‪ -3‬احملاور اخلمسة للقرآن الكرمي ‪ ،‬حممد الغزايل ‪ ،‬دار الشروق‪.‬‬
‫‪ -4‬املوافقات ‪ ،‬الشاطيب ‪ ،‬دار الفكر العريب ‪ ،‬ج ‪.٢٧٩-٢‬‬
‫‪ -5‬تفســر املنــار ‪ ،‬يف أكثــر مــن موضــع يتحــدث عــن ســنة تنــازع البقــاء‬
‫‪ ،‬يف ســورة البقــرة و ســورة املائــدة و ســورة هــود و معلــوم أن اإلمــام حممــد عبــده‬
‫قــد صــرح بقناعتــه بنظريــة التطــور انظــر علــى ســبيل املثــال اإلمــام حممــد عبــده‬
‫للراحــل حممــد عمــارة ‪ ،‬دار الشــروق‪.‬‬
‫‪ -6‬أتصيــل علــم الســنن الرابنيــة ‪ ،‬راشــد ســعيد شــهوان ‪ ،‬جملــة القســم‬
‫العــريب كليــة أصــول الديــن عمــان ‪ ،‬العــدد اخلامــس عشــر ‪.٢٠٠٨‬‬
‫‪ -7‬كيــف نتعامــل مــع القــرآن الكــرمي ‪ ،‬حممــد الغـزايل ‪ ،‬حـوار عمــر عبيــد‬
‫حســنه‪.‬‬
‫‪ -8‬تفســر التحرير و التنوير ابن عاشــور ‪ ،‬تفســر ســورة فاطر ‪ ،‬ج ‪٢٣‬‬
‫مــن القــرآن الكــرمي‪ ،‬ط دار ســحنون‪.‬‬
‫‪ -9‬االســام و حركــة التاريــخ ‪ ،‬أنــور وجــدي ‪ ،‬دار الكتــاب اللبنانيــة ‪،‬‬
‫‪.١٩٨٠‬‬
‫‪ -10‬املنطلق ‪ ،‬حممد أمحد الراشد ‪ ،‬دار الرسالة‪.‬‬
‫‪365‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫‪ -11‬فقــه التمكــن ‪ ،‬علــى الصــايب ‪ ،‬مكتبــة الصحابــة ‪ ،‬مكتبــة التابعــن‬


‫‪ ،‬ط ‪ )٦٠٦-٦٠٥(٢٠٠١ ،١‬فبعــد جولــة يف قصــص القــرآن عــن مصطلــح‬
‫التمكــن يصــل الشــيخ إىل نفــس النتيجــة بــدون أي آليــة واضحــة و هــي أن‬
‫هنــاك ســننا و أســبااب جيــب اتباعهــا ‪ ،‬و ســتكون لنــا دراســة إن شــاء هللا عــن‬
‫مؤلفــات الشــيخ ‪ ،‬خاصــة يف كتابتــه عــن التاريــخ و الــي كانــت أشــبه ابلــدروس‬
‫املســتفادة و ليــس للوصــول إىل آليــات ميكــن أن تكــون منوذجـاً لفهــم الواقــع و‬
‫دراســته‪.‬‬
‫‪ 365‬طبائــع االســتبداد ‪ ،‬دار‬
‫‪ -12‬قــارن ابلقضــااي الــي ذكرهــا الكواكــي يف‬
‫الكتــاب املصــري ‪ ،‬ص‪.123‬‬
‫‪ -13‬أثــر القــرآن علــى منهــج التفكــر النقــدي عنــد ابــن تيميــة ‪ ،‬د‪.‬جمــدي‬
‫الســعيد الكردي ‪ ،‬الدار اجلماهريية للنشــر والتوزيع‪.‬‬
‫‪ -14‬شفاء الغليل يف مسائل القدر و التنزيل ‪ ،‬ابن القيم ‪ ،‬دار احلكمة‬
‫العلمية‪.‬‬
‫‪ -15‬وحــدة الفكريــن الفلســفي و الديــي ‪ ،‬أبــو يعــرب املرزوقــي ‪ ،‬دار‬
‫الفكــر املعاصــر‪.‬‬
‫‪ -16‬طريق اهلجرتني و ابب السعادتني ‪ ،‬ابن القيم ‪ ،‬املكتبة العلمية ‪.‬‬
‫‪ -17‬مرجع سابق ‪.‬‬
‫‪18-http://reports.weforum.org/global-‬‬
‫‪2016 -competitiveness-report-2015‬‬

‫الفصل اخلامس ‪:‬‬


‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪366‬‬

‫‪ -1‬اجلينوم ‪ ،‬مات ريديل ‪ ،‬عامل املعرفة ‪ ،‬رقم ‪.٢٧٥‬‬


‫‪ -2‬أحــكام القــرآن أليب بكــر حممــد بــن عبــد هللا (ابــن العــريب) (‪٤٦٨‬ه‪-‬‬
‫‪ )٥٤٣‬ه حتقيق علي حممد البباوي ص‪ ٨‬ج‪.١‬‬
‫‪ -3‬إعالم املوقعني ‪ ،‬ابن القيم ‪ ،‬دار إحياء الرتاث العريب ص ‪.316‬‬
‫‪ -4‬فتــح البــاري شــرح صحيــح البخــاري ‪ ،‬آمحــد بــن علــي بــن حجــر‬
‫العســقالين ‪ ،‬ط الســلفية ‪ ،‬ج ‪ ٨‬ص‪.٦٥٠‬‬
‫‪ -5‬سنرجئ احلديث عن السرية ألننا سنفرد هلا حبثاً خاصاً ‪.‬‬
‫‪ -6‬املدينــة الفاضلــة عــر التاريــخ مــاراي لوي ـزا بنــري ترمجــة عطيــات أبــو‬
‫الســعود ‪.)225‬‬
‫‪ -7‬النبــوءة والسياســة ‪ ،‬جريــس هالســل ‪ ،‬ترمجــة حممــد الســماك ‪ ،‬دار‬
‫الشــروق‪.‬‬
‫‪ -8‬تفسري ابن كثري ‪ ،‬ط دار إحياء الكتاب العريب ‪.‬‬
‫‪ -9‬التفسري واملفسرون ‪ ،‬حمد حسني الذهيب ‪ ،‬دار الكتب احلديث‪.‬‬
‫‪ -10‬الفــرق بــن الفــرق عبــد القاهــر بــن حممــد (‪429‬ه) ص ‪ 96‬مكتبــة‬
‫دار الرتاث‪.‬‬
‫‪ -11‬ضحى اإلسالم ‪ ،‬أمحد أمني ‪ ،‬ص ‪٢٠‬‬
‫‪ -12‬راجــع طبيعــة الدعــوة العباســية ‪،‬د فــاروق عمــر‪ ،‬دار اإلرشــاد ص‬
‫‪113-111‬‬
‫‪ -13‬فتح أمريكا ‪ ،‬تزفيتان تودوروف ‪ ،‬دار العامل الثالث‪.‬‬
‫‪367‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫‪ -14‬اتريخ أورواب‪ ،‬هربرت فيشر‪ ،‬دار املعارف‪.‬‬


‫‪ -15‬سيكولوجيا اجلمهور‪ ،‬جوستاف لوبون ‪ ،‬دار الساقي‪.‬‬
‫‪Robert Mathew, bretwalda ،The ،2011-16‬‬
‫‪state and revolution‬‬
‫‪ -17‬عقيدة الصدمة‪ ،‬نعومي كالين‪ ،‬شركة املطبوعات للنشر‪2011 ،‬‬
‫‪19-Thinking Fast and Slow , Daniel‬‬
‫‪367‬‬
‫‪Kahneman,FCS,2011‬‬
‫‪20-Future‬‬ ‫‪of‬‬ ‫‪Mind‬‬ ‫‪MIchio Kaku ,‬‬
‫‪Doubleday,‬‬ ‫‪2004‬‬

‫الفصل السادس‬
‫‪ -1‬اجلامــع ألحــكام القــرآن ص‪247‬ج‪ 1‬دار الكتــاب العــريب حتقيــق‬
‫عبــد الــرزاق اهلــدي‪.‬‬
‫(حممد أبو الفضل‬
‫‪ ·- 2‬الربهان يف علوم القرآن‪ ،.‬بدر الدين الزركشي ّ‬
‫إبراهيم‪ ،‬حم ّقق)‪ .‬القاهرة‪ :‬مكتبة دار الرتاث‪.‬‬
‫‪- 3‬حضارة املوجه الثالثة‪ ،‬فان توفلر‪ ،‬ترمجة عصام‬
‫‪Al Gore. “The Future.” iBooks. -4‬‬
‫‪https://itunes.apple.com/us/book/the-future/‬‬
‫‪id570583011?mt=11‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪368‬‬

‫‪ -5‬انظــر للمزيــد صــدام احلضــارات صموئيــل هنتجتــون دار اجلماهرييــة ‪،‬‬


‫هنايــة التاريــخ فوكوايمــا العبيــكان ‪ ،‬هنايــة اليوتوبيــا راســل جاكــويب عــامل املعرفــة ‪،‬‬
‫رؤيــة العــامل يف املفهــوم االســامي حممــد جمــذوب مركــز دارســات العــامل املعاصــر‬
‫‪ -6‬انظر اتريخ املسلمني يف البحر املتوسط ‪ ،‬حسني مؤنس ‪ ،‬ط الدار‬
‫املصرية اللبنانية ‪،‬ص‪.55‬‬
‫‪Thucydides. “The History of the -7‬‬
‫‪Peloponnesian War.” iBooks. https://itun.es/us/‬‬
‫‪lazkE.l‬‬
‫‪ -8‬لظاهــرة االستشـراقية‪ ،‬د ‪ .‬ساســي ســامل احلــاج‪ ،‬مركــز دراســات العــامل‬
‫االســامي ‪.١٩٩٢ ،‬‬
‫‪ -9‬العوملــة‪ :‬االقتصــاد العاملــي وإمــكاانت التحكــم‪ ،‬بــول هريســت‪،‬‬
‫جراهــام كومبســون ترمجــة فــاحل عبــد اجلبــار‪ ،‬عــامل املعرفــة ‪٢٧٣ ،‬‬
‫‪10-why great power rise and fall lieutenant‬‬
‫‪colonel greg mosey USAWC class 2009‬‬
‫‪competitive report 2011 ,global world -11‬‬
‫‪economic forum ,professor Klaus‬‬
‫الفصل السابع‬
‫‪ -1‬خطــاب يف أصــل التفــاوت و أسســه بــن البشــر‪ ،‬جــان جــاك روســو‪،‬‬
‫ت بولــس غــامن ‪ ،‬مركــز دراســات الوحــدة العربيــة‪ ،‬ص‪١٩٤‬‬
‫‪ -2‬املوافقات ‪ ،‬الشاطيب‪ ،‬دار السالم ‪ ،‬ج ‪ ٢‬ص ‪٣٥‬‬
‫‪369‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫‪ -3‬ال ـرايض النضــرة‪ ،‬امجــد بــن عبــد هللا حمــب الديــن الطــري‪٦٤٩ ،‬ه‪،‬‬
‫دار الكتــب العلميــة‪ ،‬ط ‪٢٠١٠ ،٢‬‬
‫‪ -4‬التذكرة‪ ،‬القرطيب ‪ ،‬ط املنهاج ‪.‬‬
‫‪ -5‬فقه إمام احلرمني عبد العظيم الديب ص‪45‬ص‪ 46‬دار الوفاء‬
‫‪ -6‬انظر املختار اجلزري دار الكتاب العريب ص‪244‬‬
‫‪ -7‬التيار الرئيسي طارق البشري دار الشروق «ص‪٢٣‬‬
‫‪the rise of political‬‬
‫‪ -8‬للمزيد انظر ‪369 islam in Turkey‬‬
‫‪by angel f.stephen larrable RND‬‬
‫‪Understanding Civil War, Edward -9‬‬
‫‪Neman, Routledge, 2014‬‬
‫‪War‬‬ ‫‪of‬‬ ‫‪classes‬‬ ‫‪,jack‬‬ ‫‪ -10‬انظــر‪london,‬‬
‫‪Macmilam,2012‬‬
‫‪ -11‬اقتصــاد القــرن احلــادي والعش ـرين ووليــام هــال املنظمــة العربيــة‬
‫للرتمجــة‪.‬‬
‫‪Yale‬‬ ‫‪University‬‬ ‫‪,Arend,2009-12‬‬
‫‪lijjpphrt,Pattern‬‬ ‫‪of‬‬ ‫‪Democracy‬‬
‫الفصل الثامن‬
‫‪ -1‬الكليــات أليب البقــاء الكفــوي ص‪ 468‬ســنة ‪ 1099‬هجريــة‪،‬‬
‫حتقيــق عــدانن درويــش ‪ ،‬حممــد املصــري ‪ ،‬دار الرســالة‪.‬‬
‫‪ -2‬اإلنسان بني اجلوهر واملظهر ‪،‬أريك فروم ‪.‬عامل املعرفة ‪.140‬‬
‫د‪.‬نزار كريكش‬ ‫‪370‬‬

‫‪The‬‬ ‫‪Dictator’s Handbook,BRUCE -3‬‬


‫‪.BUENO,PUBLIC‬‬ ‫‪AFFAIR,2011‬‬
‫‪ -4‬ضــرورة اإلنســان االقتصــادي نــدوة يف األكادمييــة املغربيــة ســبق ذكــره‬
‫والورقــة بعنـوان هــل الربوسـريكا ثــورة علــى ثــورة اكتوبــر ص ‪ 82‬حملمــد حبيــب‪.‬‬
‫‪ -5‬صناعة احلياة حممد أمحد الراشد ص‪ 13-12‬دار البشر‬
‫الفصل التاسع‬
‫‪http://www.greattransition.org/archives/ -1‬‬
‫‪papers/The_Great_Transition_Today.f‬‬
‫‪ -2‬جملة العريب العدد ‪ 490‬سبتمرب ص ‪ 76‬أرقام‪.‬‬
‫و للتفصيل أنظر ‪ Futrure , algor‬مرجع سابق ‪ .‬يف هذا الكتاب‬
‫ســتة حمركات للتغريات الكونية ‪.‬‬
‫‪ -3‬رؤي مستقبلية‪ ،‬ميتشيو كاكو‪ ،‬عامل املعرفة رقم ‪،270‬ص ‪426‬‬
‫الفصل العاشر‬
‫‪Ganong’s Review‬‬ ‫‪of‬‬ ‫‪Medical‬‬ ‫‪-1‬‬
‫‪Physiology,Lange,‬‬ ‫‪24th‬‬ ‫‪edition‬‬
‫الفصل احلادي عشر‬
‫(حممــد أبــو الفضــل‬
‫‪ -1‬الربهــان يف علــوم القــرآن‪ ،.‬بــدر الديــن الزركشــي ّ‬
‫إبراهيــم‪ ،‬حم ّقــق)‪ .‬القاهــرة‪ :‬مكتبــة دار الـراث‪.‬‬
‫‪ -2‬االساس يف التفسري‪ ،‬سعيد حوي‪ ،‬دار السالم ‪.‬‬
‫‪371‬‬ ‫مؤرشات قرآنية‬

‫‪ -3‬تناســق الــدرر يف تناســب الســور ‪ ،‬الســيوطي ‪ ،‬جــال الديــن‬


‫الســيوطي‪ ،‬املكتبــة العلميــة‪ ،‬ط ‪1986, 1‬‬
‫‪ -4‬نظم الدرر يف ترتيب تناسب اآلايت السور‪ ،‬برهان الدين البقاعي‪،‬‬
‫‪885‬ه‪ ،‬دار الكتــاب اإلســامي ‪ ،‬و كذلــك كتابــه مصاعــد النظــر يف ترتيــب‬
‫الســور ‪ ،‬مكتبــة املعــارف‪ , 1987 ،‬حتقيــق الدكتــور عبــد الســميع حممــد أمحــد‬
‫حســنني‪ ،‬مكتبــة املعــارف ج ‪ 1‬ص‪5‬‬
‫‪ -5‬روح املعــاين يف تفســر القــرآن العظيــم ‪ ،‬األلوســي‪،‬حتقيق علــى عبــد‬
‫البــاري عطيــة‪ ،‬دار الكتــب العلميــة‪ ،‬الطبعــة األوىل‪1415371،‬‬
‫‪ -6‬املوافقات ‪ ،‬الشاطيب ‪ ،‬دار السالم‪،‬ج ‪.4‬‬
‫‪ -7‬مباحــث يف علــوم القــرآن‪ ،‬صبحــي الصــاحل‪ ،‬دار العلــم للماليــن‪،‬‬
‫الطبعــة الرابعــة و العشــرون‪.2000 ،‬‬
‫‪ -8‬يف ظالل القران ‪ ،‬سيد قطب‪ ،‬دار السالم ‪.‬‬

You might also like