You are on page 1of 280

1

‫الدكتور جميل حمداوي‬

‫أسس علم االجتماع‬

‫المؤلف‪ :‬جميل حمداوي‬


‫العنوان‪ :‬أسس علم االجتماع‬
‫الطبعة األولى‪5102:‬م‬
‫حقوق الطبع محفوظة للمؤلف‬

‫‪2‬‬
‫اإلهداء‬
‫إلى أمي وأبي‬

‫إلى أهلي وعشيرتي‬

‫إلى أساتذتي‬

‫إلى زمالئي وزميالتي‬

‫إلى كل من علمني حرفا‬

‫أهدي هذا الكتاب المتواضع راجياً من المولى‬

‫عز وجل أن يجد القبول والنجاح‬

‫‪3‬‬
‫المقدمة‬
‫يهدف كتابنا (أسس علم االجتماع) إىل تعريف القراء والطلبة بعلم االجتماع‪،‬‬
‫وتبيان مكوناته املنهجية‪ ،‬واستكشاف عالقته بباقي املعارف والعلوم اإلنسانية‬
‫األخرى‪ ،‬ورصد املراحل التارخيية اليت مر هبا علم االجتماع‪ ،‬وحتديد خمتلف القضايا‬
‫اليت كان يطرحها‪ ،‬واستجالء املنهجية املعتمدة يف ذلك‪.‬‬
‫ومن جهة أخرى‪ ،‬فقد توقفنا عند جمموعة من األعالم الذين سامهوا يف إغناء علم‬
‫االجتماع‪ ،‬بالتوقف عند أطروحاهتم السوسيولوجية‪ ،‬وإبراز أهم املفاهيم‬
‫اإلبستمولوجية اليت اعتمدوا عليها يف التحليل والعرض والتقومي‪ ،‬مع تبيان خمتلف‬
‫املقاربات واملنهجيات اليت متثلوها يف دراسة الظواهر اجملتمعية‪ .‬لذلك‪ ،‬توقفنا عند‬
‫ابن خلدون‪ ،‬وسان سيمون‪ ،‬وهربرت سبنسر‪ ،‬وأوجست كونت‪ ،‬وإميل دوركامي‪،‬‬
‫وكارل ماركس‪ ،‬وماكس فيرب‪ ،‬وفيلفريدو باريتو‪ ،‬ونوربرت إلياس‪ ،‬وبيري بورديو‪...‬‬
‫إذاً‪ ،‬ما السوسيولوجيا؟ وما موضوعها؟ وما نشأهتا التارخيية؟ وما عالقتها بالعلوم‬
‫واملعارف األخرى؟ وما املنهجية املعتمدة يف دراسة الظواهر اجملتمعية؟ وما أهم أعالم‬
‫السوسيولوجيا الغربية والعربية؟ وما أهم القضايا اليت تطرحها كتاباهتم؟ وما أهم‬
‫خصوصياهتا النظرية والتطبيقية واإليديولوجية؟‬
‫هذا ماسوف نرصده يف كتابنا هذا الذي عنوناه ب ـ ـ(أسس علم االجتماع)‪ ،‬على‬
‫أساس أن هذا العلم مفيد جدا ملعرفة شكل اجملتمع وتطوره وتارخيه وطبيعته‪،‬‬
‫ودراسته على املستوى االجتماعي والسياسي واالقتصادي والثقايف والديين‪ ،‬بغية‬
‫الوصول إىل معرفة بنية اجملتمع وجتريدها يف جمموعة من القوانني الكلية العامة اليت‬
‫تتحكم يف مسار هذا اجملتمع‪ ،‬واليت تسعفنا يف فهم باقي اجملتمعات األخرى‬
‫باملقارنة والوصف والتجريب‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫وأرجــو مــن اج عــي وج ــل أن يلقــى هــذا الكتــا املتواض ــع رضــا الق ـراء‪ ،‬وأش ــكر اج‬
‫شكرا جييال على نعمه الكثـرية‪ ،‬وأمحـده علـى علمـه وصـحته وفضـالله الـيت التعـد وال‬
‫حتصى‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫المدخل‪:‬‬
‫مفهوم علم االجتماع‬
‫يعد أوغست كونت (‪ )Auguste Comte‬أول من حنت مصطلح علم‬
‫االجتماع (‪ )Sociologie‬سنة ‪0381‬م‪ ،‬فهو يتكون لديه من لوغوس‬
‫(‪ )logie‬مبعىن علم أو معرفة‪ ،‬وكلمة (‪ )Société‬اليت تدل على اجملتمع‪.‬‬
‫وبذلك‪ ،‬يكون مفهوم علم االجتماع هو علم اجملتمعات البشرية‪ ،‬أو علم دراسة‬
‫جمتمع اإلنسان أو جمتمع الفرد واجلماعة‪ ،‬أو دراسة الظواهر أو الوقالع أو احلقالق أو‬
‫العمليات االجتماعية‪ ،‬يف ضوء رؤية علمية وضعية وجتريبية‪ .‬وبعد ذلك‪ ،‬استقل‬
‫علم االجتماع عن الفلسفة مع إميل دوركامي (‪ ،)Émile Durkheim‬بعد‬
‫صدور كتابه (قواعد المنهج في علم االجتماع)‪ 0‬سنة ‪0381‬م‪.‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬فتاريخ نشأة علم االجتماع الغريب هو القرن التاسع عشرامليالدي‪ .‬يف‬
‫حني‪ ،‬ارتبط علم االجتماع العريب بابن خلدون الذي أسس علم العمران البشري يف‬
‫ضوء فلسفة التاريخ والعلل العلمية والعقلية يف القرن الثامن اهلجري‪ ،‬كما يتبني ذلك‬
‫جليا يف كتابه (المقدمة)‪ .2‬وبذلك‪ ،‬سبق علم االجتماع العريب صنوه الغريب بأكثر‬
‫من ستة قرون‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬يندرج علم االجتماع ضـمن العلـوم اإلنسـانية بصـفة عامـة‪ ،‬والعلـوم االجتماعيـة‬
‫بصفة خاصة‪ .‬واهلدف األساس الذي يسـعى إليـه هـو دراسـة اجملتمـع اإلنسـا بصـفة‬
‫عامة‪ ،‬ودراسـة التنظيمـات واجلمعيـات واجلماعـات واملتسسـات السياسـية الـيت تنتمـي‬
‫‪1‬‬
‫‪-Émile Durkheim: Les Règles de la méthode sociologique,‬‬
‫‪Paris, Alcan.0381.‬‬
‫‪ - 2‬ابن خلدون‪ :‬مقدمة ابن خلدون‪ ،‬حتقيق‪ :‬عبد اج حممد الدرويش‪ ،‬دار يعر ‪ ،‬الطبعة األوىل سنة‬
‫‪2112‬م‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫إليهــا أو تشــكلها اعــة مــن األف ـراد بصــفة خاصــة‪ .‬مبعــىن أن علــم االجتمــاع يــدرس‬
‫اإلنس ــان يف حض ــن اجملتم ــع‪ ،‬ويرص ــد خمتل ــف العالق ــات االجتماعي ــة ال ــيت يس ــلكها‬
‫اإلنس ــان م ــع ااخـ ـرين داخ ــل بني ــة اجملتم ــع‪ ،‬ب ــالمكيي عل ــى البع ــد االجتم ــاعي فهم ــا‬
‫وتفسـريا وتـأويال‪ .‬وكـذلك‪ ،‬يـدرس هـذا العلـم خمتلـف األنشـطة الـيت يقـوم هبـا اإلنسـان‬
‫داخــل اجملتمــع‪ ،‬كاألنشــطة السياســية‪ ،‬واالقتصــادية‪ ،‬واالجتماعيــة‪ ،‬والثقافيــة‪ ،‬والمبويــة‬
‫‪...8‬‬
‫وإذا ك ــان عل ــم ال ــنفس ي ــدرس س ــلوت الف ــرد‪ ،‬فـ ـ ن عل ــم االجتم ــاع ي ــدرس الظـ ـواهر‬
‫اجملتمعيــة الــيت تتصــف بالعموميــة‪ ،‬واالســتمرار‪ ،‬واالطـراد‪ ،‬واإللياميــة‪ ،‬والقهــر‪ ،‬واجلربيــة‬
‫اجملتمعية‪ .‬وهنات‪ ،‬علم الـنفس االجتمـاعي الـذي يـدرس اجلماعـات الصـغرية وخمتلـف‬
‫التفاعالت اليت تتم بني األفراد داخلها‪ ،‬سواء أكانت سلبية أم إجيابية‪.‬‬
‫وإذا كانت هنات دراسات سابقة حاولت فهم اجملتمع وتفسريه مع أفالطون‪،‬‬
‫وأرسطو‪ ،‬والفارايب‪ ،‬وميكيافيلي‪ ،‬ومونتيسكيو‪ ،‬وسان سيمون‪ ،‬وابن خلدون‪ ،‬ف هنا‬
‫حماوالت تأميلية وفلسفية ينقصها اجلانب العلمي والتجرييب‪ ،‬باستثناء مقدمة ابن‬
‫خلدون اليت نعتربها أساس علم االجتماع العمرا ؛ ألهنا قالمة على دراسة العلل يف‬
‫عالقتها بالنتالج‪ .‬ولكن يبقى كل من أوجست كونت وإميل دوركامي متسسني‬
‫حقيقيني لعلم االجتماع‪ .‬ومن مث‪ ،‬يرى دوركامي أن علم االجتماع هو الدراسة‬
‫العلمية للظواهر اجملتمعية‪ .‬ومن مث‪ ،‬يتسم هذا العلم بالطابع العلمي املوضوعي الذي‬
‫يتمثل يف التخلص من األفكار الشالعة واملسبقة على غرار توجهات ابن اهليثم‬
‫وديكارت‪ ،‬وااللتيام بالعلمية واحلياد والنياهة يف دراسة الظواهر االجتماعية‪ ،‬والتمييي‬
‫بني الظواهر الفردية والظواهر اجملتمعية‪ ،‬واالعتماد على اإلحصاء يف دراسة هذه‬
‫الظواهر اجملتمعية‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫‪-Salvador Giner: Sociologia, EdicionesPeninsula, Barcelona,‬‬
‫‪Espaňa, 1979, p: 11.‬‬

‫‪7‬‬
‫إذاً‪ ،‬فعلم االجتماع‪ ،‬مبفهومه العام‪ ،‬هو الذي يدرس الظواهر اجملتمعية يف ضوء‬
‫املقاربة العلمية املوضوعية‪ ،‬على أساس أهنا موضوعات ومواد وأشياء‪ .‬ويعين هذا أن‬
‫علم االجتماع يدرس اجملتمع دراسة وضعية خمتربية وميدانية‪ ،‬بالتوقف عند بعض‬
‫الظواهر اجملتمعية القاهرة أو املليمة لإلنسان بالتحليل والدراسة والتشخيص والوصف‬
‫فهما وتفسريا وتأويال‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬فعلم االجتماع " هو الدراسة العلمية للسلوت االجتماعي لألفراد واألساليب‬
‫اليت ينتظم هبا اجملتمع باتباع خطوات املنهج العلمي‪.‬‬
‫يالحظ الفرد داخل اجملتمع أن وسالل اإلعالم املختلفة تطالعه بأنباء وأخبار معينة‪،‬‬
‫منها ما يتعلق بكوارث طبيعية‪ ،‬وأخرى تتعلق بصراعات ومشكالت حتتاج إىل‬
‫حلول‪ ،‬وقسم آخر يتحدث عن قضايا العمل واضطرابات العمال‪ ،‬وقسم يتعرض‬
‫الجتاهات مشجعي كرة القدم‪ .‬مثل هذه األحداث‪ -‬إذا صح أن نطلق عليها هذه‬
‫التسمية‪ -‬هي أحداث عامة حتدث يف احلياة اليومية‪ .‬ولكن أحيانا يتساءل البعض‬
‫ملاذا أصبح اان مشجعو كرة القدم أكثر عنفا عما كانوا عليه يف املاضي؟ وملاذا جيد‬
‫بعض األزواج أن احلياة اليوجية أصبحت التطاق؟ فعندما نسأل أنفسنا هذه النوعية‬
‫من األسئلة ف ننا نسأل ستاال اجتماعيا‪ ،‬مبعىن أننا معنيون أو مهتمون بالطريقة اليت‬
‫يسلك هبا األفراد يف اجملتمع وتأثري ذلك السلوت يف أنفسهم ويف اجملتمع‪ .‬معىن ذلك‬
‫أن مفهوم "االجتماعي" هو املفهوم األساسي يف علم االجتماع‪ ،‬ألن الفرد الميكن‬
‫إال أن يكون كالنا اجتماعيا يعيش يف وسط اجتماعي‪ ،‬وعلى اتصال مستمر ببقية‬
‫أفراد اجملتمع‪ ،‬حيبث يندمج يف حميطهم ويتفاعل معهم بصورة إجيابية‪.‬وهذا يتكد أنه‬
‫‪2‬‬
‫دون وجود تفاعل إنسا مستمر الميكن أن يطلق علينا ذوي صفة "اجتماعية"‪".‬‬

‫‪ -‬حممد ياسر اخلواجة وحسني الدريين‪ :‬المعجم الموجز في علم االجتماع‪ ،‬مصر العربية للنشر‬ ‫‪2‬‬

‫والوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة األوىل سنة ‪2100‬م‪ ،‬ص‪.00:‬‬

‫‪8‬‬
‫ويعين هذا أن علم االجتماع اليهتم فقط بدراسة الظواهر اجملتمعية املرتبطة ببنية‬
‫اجملتمع‪ ،‬بل يهتم أيضا بدراسة أفعال األفراد‪ ،‬حينما يتفاعلون فيما بينهم ويتواصلون‬
‫لفظيا أو بصريا‪ .‬وإذا كان إميل دوركامي قد ربط السوسيولوجيا بدراسة اجملتمع‬
‫مبختلف ظواهره ووقالعه وأحداثه وعملياته وحقالقه‪ ،‬ف ن ماكس فيرب قد ركي على‬
‫الفرد الفاعل أو الذات مبا تقوم به من أفعال جتاه الذوات األخرى يف عالقة متاثلية‬
‫مع بنية اجملتمع‪.‬أي‪ :‬هنات من يربط السوسيولوجيا باجملتمع أو املوضوع (دوركامي)‪،‬‬
‫وهنات من يربطه بالذات أو الفاعل(ماكس فيرب)‪.‬وهنات من جيمع بينهما يف عالقة‬
‫متاثلية كماهو حال أنتو غيدني يف كتابه (علم االجتماع)‪.2‬‬
‫ومثة جمموعة من التعاريف اليت ختص علم االجتماع‪ ،‬فقد عرفه بيممي سروكني‬
‫بقوله‪ ":‬هو ذلك املفهوم الذي يشري إىل يع املعلومات اخلاصة بالتشابه بني‬
‫خمتلف اجلماعات اإلنسانية وأمناط التفاعل املشمت بني خمتلف جوانب احلياة‬
‫االجتماعية اإلنسانية‪ ،‬لذلك عرفه بأنه العلم الذي يدرس الثقافة االجتماعية‪ .‬كما‬
‫عرفه بأنه دراسة اخلصالص العامة املشمكة بني يع أنواع املظاهر االجتماعية‪".‬‬
‫أما رايت ميلي‪ ،‬فريى " أن علم االجتماع هو العلم الذي يدرس البناء االجتماعي‬
‫للمجتمع والعالقات املتبادلة بني أجياله‪ ،‬وما يطرأ على ذلك من تغري"‪.‬‬
‫أما جورج ليندبرج فريى أن علم االجتماع" هو علم اجملتمع"‪ .‬بينما يرى ماكيفر "‬
‫أنه العلم الذي يدرس العالقات االجتماعية"‪.6‬‬
‫ويعرفه ماكس فيرب بقوله " هو العلم الذي يعىن بفهم النشاط االجتماعي وتأويله‪،‬‬
‫وتفسري حدثه ونتيجته سببيا‪".7‬‬

‫‪ -‬أنتو غديني‪ :‬علم االجتماع‪ ،‬تر ة‪ :‬فايي الصياغ‪ ،‬منشورات املنظمة العربية للم ة‪ ،‬بريوت‪،‬‬ ‫‪11‬‬

‫لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل سنة ‪2111‬م‪.‬‬


‫‪ -‬حممد حامد يوسف‪ :‬علم االجتماع‪ :‬النشأة والمجاالت‪ ،‬املكتب العلمي للنشر والتوزيع‪،‬‬ ‫‪6‬‬

‫اإلسكندرية‪ ،‬مصر‪ ،‬طبعة ‪0881‬م‪ ،‬ص‪.10-11:‬‬

‫‪9‬‬
‫وعلى العموم‪ ،‬فعلم االجتماع هو ذلك العلم الذي يدرس الوقالع والظواهر‬
‫واألحداث واحلقالق االجتماعية من جهة أوىل‪ .‬ويدرس أفعال األفراد وتصرفاهتم‬
‫وسلوكياهتم يف عالقة بااخرين‪ ،‬ضمن سياق تفاعلي اجتماعي معني من جهة‬
‫ثانية‪ .‬ويدرس األنظمة واملتسسات االجتماعية من جهة ثالثة‪.‬‬
‫أما فيما خيص موضوع علم االجتماع‪ ،‬ف نه يدرس ثالثة مواضيع أساسية كربى‬
‫هي‪ :‬احلقالق االجتماعية‪ ،‬والعمليات االجتماعية‪ ،‬واحلقالق العلمية‪ .‬ويدرس كذلك‬
‫العالقات االجتماعية املتبادلة بني الناس عرب عمليات التفاعل االجتماعي من أجل‬
‫معرفة مظاهر التماثل واالختالف؛ ودراسة اجملتمع وظواهرة وبناله ووظيفته؛ ودراسة‬
‫مكونات األبنية االجتماعية املختلفة‪ ،‬مثل اجلماعات العامة؛ واملقارنة بني الظواهر‬
‫واحلقالق االجتماعية املختلفة‪.3‬‬
‫وعلى أي حال‪ ،‬يدرس علم االجتماع اإلنسان داخل اجملتمع‪ ،‬والبنية االجتماعية‪،‬‬
‫والتفاعل بني األفراد واجلماعات‪ ،‬والسياق االجتماعي‪ ،‬واجلماعات اإلنسانية‬
‫املختلفة‪...‬‬
‫إذاً‪ ،‬يدرس علم االجتماع العام الظـواهر اجملتمعيـة دراسـة علميـة مـن جهـة‪ .‬أو حيـاول‬
‫فهم الفعل اإلنسا وتأويله داخل بنية جمتمعيـة مـا‪ ،‬برصـد خمتلـف الـدالالت واملعـا‬
‫واملقاصــد الــيت يعــرب عنهــا هــذا الفعــل أثنــاء عمليــة التفاعــل والتواصــل االجتمــاعي مــن‬
‫جهة أخرى‪.‬‬
‫ومن جهة أخرى‪ ،‬تستعني املقاربة السوسيولوجية بالدراسات التارخيية والتطورية‬
‫واملقارنة واالجتماعية والسياسية واالقتصادية والثقافية واإلثنية والدينية‬
‫واللسانية‪...‬إخل‪ .‬ويعين هذا أن علم االجتماع يتداخل مع جمموعة من العلوم‬

‫‪7‬‬
‫‪-Max weber: Économie et société, Poquet, 1995, p. 28.‬‬
‫‪ - 3‬حممد ياسر اخلواجة وحسني الدريين‪ :‬المعجم الموجز في علم االجتماع‪ ،‬ص‪.02:‬‬

‫‪11‬‬
‫واملعارف املساعدة واملكملة‪ .‬ومن مث‪ ،‬يهدف إىل بناء نظرية عامة لوصف اجملتمع‬
‫ورصده بغية التحكم فيه أو إصالحه أو تغيريه أو احلفاظ عليه‪.‬‬
‫ويالحظ أن مثة منهجني مهيمنني يف علم االجتماع‪ :‬منهجا علميا موضوعيا يتكـىء‬
‫العلي‪ ،‬ومنهجا ذاتيا إنشاليا تأمليا وأخالقيا وتأويليا يقـوم علـى‬ ‫على التفسري السبيب و َ‬
‫الفه ــم‪ .‬ويع ــين هــذا أن ثنالي ــة الذاتي ــة واملوض ــوعية حاض ــرة يف جمــال العل ــوم اإلنس ــانية‬
‫بش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــكل الف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــت لالنتب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاه‪ .‬ويف ه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذا الص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدد‪ ،‬يق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــول إدغ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــار‬
‫م ـ ــوران(‪":)EdgarMorin‬هن ـ ــات منط ـ ــان م ـ ــن السوس ـ ــيولوجيا يف جم ـ ــال البح ـ ــث‬
‫االجتمـاعي‪ :‬سوسـيولوجيا أوىل ميكــن نعتهـا بالعلميـة كسوســيولوجيا أوغيسـت كونــت‬
‫وإميــل دوركــامي‪ ،‬وسوســيولوجيا أخــرى ميكــن نعتهــا باإلنشــالية كسوســيولوجيا مــاكس‬
‫فيرب ويورغ زميل‪.‬وتعترب األوىل مبثابة طليعة السوسـيولوجيا‪.‬يف حـني‪ ،‬تعتـرب الثانيـة مبثابـة‬
‫املــتخرة الــيت م تتحلــل‪ ،‬بشــكل مناســب‪ ،‬مــن إســار الفلســفة‪ ،‬ومــن املقالــة األدبيــة‪،‬‬
‫والتأم ــل األخالق ــي‪ .‬يس ــتعري ال ــنمط األول م ــن السوس ــيولوجيا منوذج ــا علمي ــا ك ــان‬
‫بالضرورة هو منوذج الفييياء يف القرن التاسع عشر‪ .‬وهلذا النموذج ملمحان‪ ،‬فهو آيل‬
‫وحتم ــي يف آن واح ــد‪ ،‬إذ يتعل ــق األم ــر‪ ،‬يف الواق ــع‪ ،‬بتحدي ــد الق ـوانني والقواع ــد ال ــيت‬
‫ت ــتثر‪ ،‬تبع ــا لعالق ــات س ــببية‪ ،‬خطي ــة ومنتظم ــة‪ ،‬يف موض ــوع عيل ــه‪ ،‬ويف مث ــل ه ــذا‬
‫النموذج يتم استبعاد كل ماحييط باملوضـوع املـدروس مـن موضـوعات أخـرى‪ .‬يضـاف‬
‫إىل ذلــك أن هــذا املوضــوع املــدروس يــتم تصــوره كمــا لــو كــان مســتقال اســتقالال كليــا‬
‫ع ـ ـ ــن ش ـ ـ ــروط مالحظت ـ ـ ــه‪ .‬والش ـ ـ ــك أن مث ـ ـ ــل ه ـ ـ ــذا التص ـ ـ ــور يس ـ ـ ــتبعد م ـ ـ ــن احلق ـ ـ ــل‬
‫السوس ـ ــيولوجي ك ـ ــل إمكاني ـ ــة لتص ـ ــور ذوات أو ق ـ ــوى فاعل ـ ــة أو مس ـ ــتولية ال ـ ــذوات‬
‫وحريتها‪.‬‬
‫أم ــا يف السوس ــيولوجيا اإلنش ــالية‪ ،‬فـ ـ ن ذات الباح ــث حتض ــر‪ ،‬باملقاب ــل‪ ،‬يف موض ــوع‬
‫الباح ــث‪ ،‬فه ــو ينط ــق‪ ،‬أحيان ــا‪ ،‬بض ــمري امل ــتكلم‪ ،‬والي ـواري ذاته‪...‬لق ــد ك ــان مفه ــوم‬
‫ال ـ ــذات غ ـ ــري مستس ـ ــاغ م ـ ــن قب ـ ــل املعرف ـ ــة العلمي ـ ــة؛ ألن ـ ــه ك ـ ــان مفهوم ـ ــا ميتافيييقي ـ ــا‬

‫‪11‬‬
‫ومتعاليــا‪...‬يف حــني‪ ،‬إن تقــدم املعرفــة البيولوجيــة احلديثــة‪ ،‬يســمح‪ ،‬اليــوم‪ ،‬مبــنح مفهــوم‬
‫الذات أساسا بيولوجيا‪ .‬فماذا يعين أن يكون اإلنسان ذاتا‪ ،‬اليوم؟ إنـه يعـين أن يضـع‬
‫اإلنسان نفسه يف قلب عامله‪...‬فالذات هي‪ ،‬باجلملة‪ ،‬املوجود الـذي حييـل علـى ذاتـه‬
‫‪8‬‬
‫وإىل اخلارج والذي يتموضع يف مركي عامله‪".‬‬
‫وبناء على ما سبق‪ ،‬يتأكد لنـا أن مثـة طـريقتني يف التعامـل مـع الظـواهر اجملتمعيـة‪ ،‬إمـا‬
‫أن نتمث ــل الطريقـ ــة الوض ــعية التفس ـ ـريية يف تبي ــان العالق ــات الثابت ــة الـ ــيت توج ــد ب ــني‬
‫الظ ـواهر واملتغــريات‪ ،‬وإمــا أن نتمثــل طريقــة الفهــم الســتجالء البعــد اجملتمع ــي بفهــم‬
‫أفعال الذات وتأويلها‪.‬‬
‫وعل ــى العم ــوم‪ ،‬يعتم ــد عل ــم االجتم ــاع عل ــى ثالث ــة مب ــادىء منهجي ــة أساس ــية ه ــي‪:‬‬
‫الفه ــم‪ ،‬والتفس ــري‪ ،‬والتأوي ــل‪ .‬ويع ــين املب ــدأ املنهج ــي األول فه ــم فع ــل الف ــرد يف إط ــار‬
‫نظري ــة الت ــأثري والت ــأثر أو يف إط ــار نظري ــة التفاع ــل االجتم ــاعي‪.‬أي‪ :‬فه ــم املع ــا ال ــيت‬
‫يتخـ ــذها الفعـ ــل الفـ ــردي داخـ ــل اجملتمـ ــع املعطـ ــى‪ .‬وينسـ ــجم هـ ــذا املبـ ــدأ مـ ــع العلـ ــوم‬
‫اإلنسانية أو علـوم الثقافـة والـروو‪ .‬ومبـا أن اإلنسـان فاعـل فـردي ميلـك وعيـا‪ ،‬ويصـدر‬
‫فعلــه عــن معــىن أو مقصــدية مــا‪ ،‬فمــن الصــعب دراســته دراســة علميــة ســببية وعليــة‬
‫موضــوعية؛ ألن ذلــك يتنــا مــع مبــدإ الذاتيــة يف العلــوم اإلنســانية‪ .‬وأكثــر مــن هــذا‪،‬‬
‫فاإلنس ــان ف ــرد واع وعاق ــل وحس ــاس الميك ــن مقاربت ــه يف ض ــوء عل ــوم التفس ــري؛ ألن‬
‫النتالج ستكون‪ -‬بالريب ‪ -‬نسبية لـيس إال‪ ،‬مهمـا حاولنـا أن نتمثـل العلميـة واحليـاد‬
‫والنياهة املوضوعية يف ذلك‪.‬‬
‫ويعين املبدأ املنهجي الثا متثل التأويل يف إدرات حقيقة الواقع أو العام املوضوعي‪.‬‬
‫ويعين هذا أن فهم فعل الفاعل الفردي الميكن أن يتحقق إال مبعرفة األحكام‬
‫املسبقة‪ ،‬وحتديد السياق اجملتمعي‪ ،‬واالنطالق من املعرفة اخللفية‪ ،‬والبحث عن يع‬

‫‪9‬‬
‫‪-Edgar Morin: Sociologie, Fayard, Le Seuil, Points, Essais,‬‬
‫‪1984, pp:11-18.‬‬

‫‪12‬‬
‫املصادر اليت تساعدنا على فهم ذلك الفعل‪ ،‬واستجالء املعىن الذي يصدر عنه‪.‬‬
‫وميكن االستعانة كذلك باألفكار املسبقة‪ ،‬على الرغم من تعارض ذلك مع العلم‪،‬‬
‫على أساس أهنا مصادر أولية تسعفنا يف تفهم الفعل وتأويله‪ .‬ومن هنا‪ ،‬يتطلب‬
‫الفهم ثقافة شخصية من جهة أوىل‪ ،‬ومعايشة حقيقية للفاعل من جهة ثانية‪،‬‬
‫ومشاركته يف بناء عوامله املوضوعية والواقعية من جهة ثالثة‪ .‬لذا‪ ،‬البد من التغلغل‬
‫إىل عام الفرد لفهم املعىن الذي يلصقه على عامله من أجل فهمه جيدا‪ ،‬وتأويل‬
‫فعله وسلوكه حسب الظروف الظاهرة واحليثيات اليت يوجد فيها هذا الفعل‪،‬‬
‫والبحث عن العالقة التفاعلية املوجودة بني الذات واملوضوع‪ .‬وخيضع هذا التعامل‬
‫كله ملبدأين أساسيني مها‪ :‬املوضوعية العلمية واحلياد األخالقي‪ ،‬بعدم إصدار أحكام‬
‫القيمة‪ ،‬واالبتعاد‪ -‬قدر اإلمكان‪ -‬عن االعتقادات وااراء الشخصية‪.‬‬
‫أما املبدأ املنهجي الثالث‪ ،‬فيقوم على التفسري السبيب والعلي كربط الفعل ببنية‬
‫اجملتمع‪ ،‬أو تفسري الظواهر اجملتمعية تفسريا ترابطيا وسببيا‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬ويتسم علم االجتماع بعدة خصالص وممييات‪:‬‬
‫‪ ‬يعتمــد علــم االجتمــاع علــى املالحظــة الوصــفية والتجريبيــة وامليدانيــة‪ ،‬واالســتعانة‬
‫بآلي ــة املعايش ــة بغي ــة بن ــاء احلق ــالق االجتماعي ــة‪ ،‬وفه ــم الوق ــالع والظ ـ ـواهر اإلنس ــانية‬
‫واجملتمعي ــة‪ ،‬واالبتع ــاد ع ــن املقارب ــات الفلس ــفية وامليتافيييقي ــة ال ــيت تعي ــق تط ــور املعرف ــة‬
‫اإلنسانية وتقدمها وازدهارها‪ ،‬واستبدال التأمل الفلسفي بالتفسري العلمـي واالسـتقراء‬
‫السبيب والعلي والوضعي‪.‬‬
‫‪ ‬علم االجتماع علـم تراكمـي‪ ،‬إذ تبـىن كـل نظريـة جديـدة علـى النظريـات السـابقة‬
‫يف جم ـ ـ ــال السوس ـ ـ ــيولوجيا‪ .‬وم ـ ـ ــن مث‪ ،‬فهن ـ ـ ــات اس ـ ـ ــتمرارية وتط ـ ـ ــور وتـ ـ ـ ـراكم وقط ـ ـ ــالع‬
‫إبستمولوجية يف عملية التصحيح والتعديل والتطوير‪.‬‬
‫‪ ‬علــم االجتمــاع لــيس علمــا أخالقيــا أو قيميــا‪ ،‬فهــو اليعــىن بــاحلكم علــى اجملتمــع‬
‫مــن الناحيــة األخالقيــة أو حيكــم علــى األفعــال االجتماعيــة بــاخلري أوالشــر‪ ،‬فهــو عل ـم‬

‫‪13‬‬
‫حمايــد وموضــوعي يصــف الواقــع ويشخصــه وجيــد احللــول املاللمــة لــذلك‪.‬ولكن ينشــد‬
‫تفسري األخالق إذا كان هلا ارتباط وثيق بالوقالع اجملتمعية‪.01‬‬
‫وحيقق علم االجتماع جمموعة من األهداف األساسية اليت ميكن حصرها فيما يلي‪:‬‬
‫‪‬بنــاء معرفــة علميــة وموضــوعية حــول اجملتمــع وبنياتــه الفرعيــة وعالقــة ذلــك بــاألفراد‬
‫الفاعلني؛‬
‫‪‬التوصل إىل جمموعة مـن القواعـد والبـىن الثابتـة واملتغـرية الـيت تـتحكم يف اجملتمعـات‬
‫بنية وداللة ووظيفة؛‬
‫‪‬وصــف اجملتمــع وتشخيصــه فهمــا وتفسـريا وتــأويال بغيــة احلفــاظ عليــه أو إصــالحه‬
‫أو تغيريه؛‬
‫‪ ‬إدارت الف ـوارق بــني الثقافــات واجملتمعــات ملعرفــة أســلو التعامــل مــع ااخ ـرين‪،‬‬
‫وتفــادي املشــكالت الناجتــة عــن اخــتالف التجــار اجملتمعيــة‪ ،‬مثــل‪ :‬االخــتالف بــني‬
‫البيض والسود؛‬
‫‪ ‬دراس ــة الوق ــالع واحلقــالق والعمليــات االجتماعي ــة دراس ــة علمي ــة بغي ــة االس ــتفادة‬
‫منها على صعيد وضع السياسة العامة للدولة أو اجملتمع؛‬
‫‪ ‬تق ــومي نت ــالج املب ــادرات السياس ــية املتبع ــة يف إص ــالو اجملتم ــع وتغي ــريه أو احلف ــاظ‬
‫عليه؛‬
‫‪ ‬التنوير الذايت‪ ،‬وتعميق فهمنا ألنفسنا بشكل جيد؛‬
‫‪‬حل املشكالت اإلنسانية اليت يعا من األفراد واجلماعات؛‬
‫‪ ‬بنــاء اإلنســان داخــل اجملتمــع بنــاء تكوينيــا ســليما‪ ،‬والســمو بــه يف مراتــب الفضــيلة‬
‫والســعادة والكمــال‪ ،‬والرفــع مــن قيمتــه املاديــة واملعنويــة واألخالقيــة‪ ،‬والييــادة يف درجــة‬
‫رفاهيته وازدهاره؛‬
‫‪ ‬دراسة أمناط السلوت االجتماعي وآثاره ودوافعه على الفرد واجلماعة‪.‬‬

‫‪ - 01‬حممد ياسر اخلواجة وحسني الدريين‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.02:‬‬

‫‪14‬‬
‫وفيما خيص أقسام علم االجتماع‪ ،‬فيمكن احلديث ‪ -‬من جهة‪ -‬عن العلم‬
‫االجتماع النظري وعلم االجتماع التطبيقي‪ .‬ومن جهة أخرى‪ ،‬ميكن احلديث عن‬
‫عدة ميادين لعلم االجتماع العام‪ ،‬فهنات الفيييولوجيا االجتماعية‪ ،‬واملورفولوجيا‬
‫االجتماعية‪ ،‬وعلم االجتماع احلضري‪ ،‬وعلم االجتماع القروي‪ ،‬وعلم االجتماع‬
‫االقتصادي‪ ،‬وعلم االجتماع الثقايف‪ ،‬وعلم االجتماع األخالقي‪ ،‬وعلم االجتماع‬
‫اجلمايل‪ ،‬وعلم االجتماع اللغوي أو اللسا ‪ ،‬وعلم اجتماع احلرو ‪ ،‬وعلم اجتماع‬
‫البيئة‪ ،‬وعلم اجتماع الطب أو الصحة‪ ،‬وعلم االجتماع املهين‪ ،‬وعلم االجتماع‬
‫الصناعي‪ ،‬وعلم اجتماع األد ‪ ،‬وعلم االجتماع السياسي‪ ،‬وعلم االجتماع‬
‫اإلداري‪ ،‬وعلم اجتماع األسرة‪ ،‬وعلم اجتماع اجلمعيات والتنظيمات‪ ،‬وعلم اجتماع‬
‫المبية‪ ،‬وعلم النفس االجتماعي‪ ،‬وعلم اجتماع املسرو‪ ،‬وعلم اجتماع اإلعالم‪،‬‬
‫وعلم االجتماع اجلنالي‪ ،‬وعلم اجتماع األديان‪ ،‬وعلم االجتماع القانو ‪ ،‬وعلم‬
‫اجتماع املعرفة‪...‬‬
‫ويعــين هــذا أن علــم االجتمــاع هــو علــم عــام‪ ،‬يتضــمن العديــد مــن الفــروع والشــعب‬
‫والتخصصات العلمية‪ ،‬ويتأرجح هذا العلـم بـني مـاهو ذايت وموضـوعي‪ ،‬كمـا يتـأرجح‬
‫على املستوى املنهجي بني الفهم‪ ،‬والتفسري‪ ،‬والتأويل‪.‬‬
‫عـ ــالوة علـ ــى ذلـ ــك‪ ،‬يسـ ــتند علـ ــم االجتمـ ــاع كـ ــذلك إىل خط ـ ـوات املـ ــنهج العلمـ ــي‬
‫كاإلحســاس باملش ــكلة‪ ،‬وط ــرو األس ــئلة واإلش ــكاليات‪ ،‬ووض ــع الفرض ــيات‪ ،‬وحتدي ــد‬
‫املوض ــوع‪ ،‬ورص ــد بواعث ــه الذاتي ــة واملوض ــوعية‪ ،‬وتبي ــان أهداف ــه وأمهيت ــه‪ ،‬واإلش ــارة إىل‬
‫الدراس ــات العلمي ــة الس ــابقة‪ ،‬وحتدي ــد املتغـ ـريات البشـ ـرية واليماني ــة واملكاني ــة‪ ،‬وش ــرو‬
‫املفاهيم االصطالحية‪ ،‬وطرو تصميم الدراسة‪ ،‬مع ذكر الصعوبات‪ ،‬والثنـاء علـى مـن‬
‫أسدى إىل الباحث أية مساعدة من قريب أو من بعيد‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫وخالصة القول‪ ،‬فعلم االجتماع هو ذلك العلم الذي يدرس الوقالع االجتماعية‬
‫واألفعال والتنظيمات واملتسسات االجتماعية‪ ،‬بالمكيي على الوقالع واحلقالق‬
‫والعمليات والعالقات االجتماعية‪ ،‬ضمن السياق التفاعلي اللغوي والرميي‪،‬‬
‫باستخدام مناهج متنوعة إما وضعية وإما تفهمية وإما تأويلية‪ ،‬بغية بناء نظرية عامة‬
‫للمجتمع قصد وصفه وتشخيصه وتقوميه‪ ،‬من أجل احلفاظ عليه أو إصالحه أو‬
‫تغيريه جيلا أو كليا‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫ابن خلدون المؤسس األول لعلم االجتماع‬

‫يعد العالمة ابن خلدون (‪0216-0882‬م) (‪313-782‬ه) من أهم املفكرين‬


‫املسلمني اجلهابذة الذين عاشوا مابني القرنني الثامن والتاسع اهلجريني‪ .‬ومن مث‪ ،‬فهو‬
‫أندلسي األصل‪ ،‬أمازيغي النشأة‪ ،‬تونسي املولد‪ ،‬خترج من جامع الييتونة‪ .‬وقد كان‬
‫مثقفا موسوعيا ملما بكل املعارف والعلوم والفنون واادا املعروفة يف عصره‪ .‬وبرع‬
‫كثريا يف علم التاريخ وفلسفته‪ .‬بل يعد‪ ،‬يف احلقيقة‪ ،‬متسس علم االجتماع من‬
‫جهة‪ ،‬ومتسس علم العمران البشري من جهة أخرى‪ ،‬قبل أن ينسب ذلك العلم‪،‬‬
‫بعد مخسة قرون‪ ،‬إىل سان سيمون أو أوغست كونت أو إميل دوركامي‪ .‬وقد كان‬
‫ابن خلدون قريبا من امللوت واحلكام والسالطني يف األندلس‪ ،‬واملغر ‪ ،‬واجليالر‪،‬‬
‫وتونس‪ ،‬ومصر‪ .‬وقد عاىن الكثري من جراء أحابيل السلطة ومكالدها‪ .‬وقد مارس‬

‫‪17‬‬
‫القضاء املالكي يف مصر إبان عهد املماليك‪ .‬وعايش فمة املغول‪ ،‬واستوعب تاريخ‬
‫العصور الوسطى بشكل جيد؛ مما ساعده ذلك على طرو نظرية العمران البشري‪،‬‬
‫واستجالء نظرية أطوار الدولة‪.‬‬
‫(مقدمة ابن‬ ‫وقد ألف ابن خلدون جمموعة من الكتب واملصنفات أمهها كتا‬
‫(تاريخ ابن خلدون المسمى بكتاب العبر وديوان المبتدإ‬ ‫خلدون)‪ ،00‬وكتا‬
‫والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان‬
‫األكبر)‪ ،05‬و(التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا)‪...03‬‬
‫إذاً‪ ،‬إىل أي مدى ميكن احلديث عن فكر سوسيولوجي عند ابن خلدون؟ وما أهم‬
‫تصوراته النظرية واملنهجية يف جمال علم االجتماع أو العمران البشري؟ وما أهم‬
‫القراءات اليت انصبت على الماث اخللدو بالدرس والتحليل والتقومي والتصنيف؟‬
‫وما أهم االنتقادات املوجهة إىل الفكر االجتماعي عند ابن خلدون؟‬
‫هذا ماسوف نرصده يف كتابنا هذا الذي عنوناه (ابن خلدون المؤسس األول‬
‫لعلم االجتماع)‪ ،‬على أساس أن ابن خلدون متسس علم االجتماع‪ ،‬وميتلك‬
‫منهجية علمية جتريبية واستنباطية يف فهم الظواهر اجملتمعية وتفسريها وتأويلها‪ .‬كما‬
‫تعرض هذا العام املتنور لتشويه كبري على مستوى القراءات لماثه االجتماعي‪ ،‬إىل‬
‫جانب تيييف فكري وإيديولوجي مقصود أو غري مقصود من قبل قراء مستشرقني‪،‬‬
‫ومستعمرين‪ ،‬وماديني‪ ،‬وماركسيني‪ ،‬وعلمانيني‪ ،‬وقوميني‪ ،‬وغريهم كثري‪ ...‬ومن مث‪،‬‬

‫‪ -00‬ابن خلدون‪ :‬مقدمة ابن خلدون‪ ،‬دار ابن اهليثم‪ ،‬هورية مصر العربية‪ ،‬الطبعة األوىل سنة‬
‫‪2111‬م‪.‬‬
‫‪ -02‬ابن خلدون‪:‬تاريخ ابن خلدون‪ ،‬دار ابن حيم‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل ‪2118‬م‪.‬‬
‫‪ -08‬ابن خلدون‪ :‬التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫الطبعة األوىل سنة ‪2118‬م‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫فكتابنا هذا استعراض هلذه القراءات املختلفة‪ ،‬مع تبيان منطلقاهتا النظرية واملنهجية‬
‫واإليديولوجية‪.‬‬
‫و نرجو من اج عي وجل أن يوفقنا يف هذا الكتا املتواضع‪ ،‬ويسدد خطانا‪،‬‬
‫ويرشدنا إىل ما فيه صاحلنا‪ ،‬ونستغفره عن هفواتنا وكبواتنا وأخطالنا وزالتنا‪ .‬كما‬
‫نستسمح القراء األفاضل عما يف هذا الكتا من نقص وتقصري ونسيان‪ ،‬فالكمال‬
‫والتمام من صفات سبحانه وتعاىل جل شأنه وعال‪ ،‬وماتوفيقي إال باج‪.‬‬

‫المبحث األول‪ :‬التصور النظري‬


‫يرتبط علم االجتماع عند ابن خلدون بعلم التاريخ‪ .‬ويعين هذا أنه الميكن فهم‬
‫الوقالع والظواهر اجملتمعية إال بدراسة التاريخ دراسة علمية‪ ،‬لتتبع اجملتمعات يف‬
‫تطورها ومسارها الدياكرو لرصد القوانني الكلية اليت تتحكم فيها‪ .‬وجند هذا‬
‫املقم التارخيي عند علماء االجتماع الوضعيني‪ ،‬وخاصة أوجست كونت‪ ،‬وإميل‬
‫دوركامي‪ ،‬وسان سيمون‪ ،‬وهربرت سبنسر‪ ،‬وغريهم‪ ،...‬وحىت عند علماء االجتماع‬
‫املاركسي‪ .‬فلقد "استخدم ماركس املنهج التارخيي يف دراسة الظواهر االجتماعية‪،‬‬
‫وفهمه لعملية تقسيم العمل االجتماعي وتطور اجملتمع البشري الذي من خالل‬
‫جمموعة من املراحل التارخيية واالجتماعية‪ ،‬اليت بدأها منذ ظهور اجملتمعات القبلية أو‬
‫ما أمساها باملشاعية البدالية‪ ،‬مارا مبرحلة العبودية‪ ،‬مث مرحلة اإلقطاع اليت مهدت‬
‫لظهور الرأمسالية اليت حتمل الكثري من التناقضات اليت جيب تغيريها بواسطة الثورة‬
‫وقيام االشماكية واجملتمع الشيوعي الالطبقي‪.‬لقد ساعده هذا املنهج يف دراسة‬

‫‪19‬‬
‫مسرية التاريخ ودميومة التغري املستمر كبديهية أساسية تفسر عموما طبيعة‬
‫ميكانييمات احلياة االجتماعية‪"02.‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬يقوم علم االجتماع على التاريخ واملقارنة والتفسري ملعرفة طبيعة اجملتمعات‬
‫والدول واألمم‪ ،‬ومقارنة بعضها ببعض قصد حتديد القوانني اليت تتحكم فيها‪.‬‬
‫لكن البد أن يكون ذلك التاريخ مبنيا على النياهة والعلمية واحلياد واملوضوعية‪،‬‬
‫بعيدا عن اخلرافات والشالعات واألساطري واإلسراليليات والروايات اليالفة أو‬
‫الكاذبة‪ .‬وبتعبري آخر‪ ،‬يعد علم التاريخ مدخال ضروريا إىل علم االجتماع أو علم‬
‫العمران البشري‪ ،‬كأنه منطق علم االجتماع‪ ،‬وأساسه املنهجي‪.‬‬
‫أضف إىل ذلك أن معرفة التاريخ ممكنة ومهمة لإلنسان لبناء املاضي واحلاضر معا‪،‬‬
‫واستشراف املستقبل‪ ،‬وخاصة إذا بنيناها على الوثالق املتوفرة‪ ،‬واملشاهدات الصادقة‪،‬‬
‫واألخبار احلقيقية‪ ،‬واملعايشة امليدانية‪ ،‬ونقحنا املرويات بتشذيب زوالدها‪ ،‬وتعميق‬
‫دواخلها‪.‬أي‪ :‬قراءة هذه املنقوالت املروية يف ضوء النقد الداخلي (املنت)‪ ،‬والنقد‬
‫اخلارجي (السند)‪ .‬ويف هذا‪ ،‬يقول ابن خلدون يف بداية مقدمته‪ ":‬اعلم أن فن‬
‫التاريخ فن عييي املذهب‪ ،‬جم الفوالد‪ ،‬شريف الغاية‪ ،‬إذ هو يوقفنا على أحوال‬
‫املاضني من األمم يف أخالقهم‪ .‬واألنبياء يف سريهم‪ .‬وامللوت يف دوهلم وسياستهم‪.‬‬
‫حىت تتم فالدة االقتداء يف ذلك ملن يرومه يف أحوال الدين والدنيا‪ ،‬فهو حمتاج إىل‬
‫مآخذ متعددة ومعارف متنوعة وحسن نظر وتثبت يفضيان بصاحبهما إىل احلق‬
‫وينكبان به عن امليالت واملغالط ألن األخبار إذا اعتمد فيها على جمرد النقل وم‬
‫حتكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران واألحوال يف االجتماع اإلنسا‬
‫وال قيس الغالب منها بالشاهد واحلاضر بالذاهب فرمبا م يتمن فيها من العثور‬
‫وميلة القدم واحليد عن جادة الصدق‪ .‬وكثرياً ما وقع للمترخني واملفسرين وألمة‬

‫‪ -02‬وسيلة خيار‪ :‬اإليدولوجيا وعلم االجتماع‪ ،‬جدلية االنفصال واالتصال‪ ،‬منتدى املعارف‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل سنة ‪2108‬م‪ ،‬ص‪.081:‬‬

‫‪21‬‬
‫النقل من املغالط يف احلكايات والوقالع العتمادهم فيها على جمرد النقل غثاً أو‬
‫مسيناً‪ ،‬وم يعرضوها على أصوهلا‪ ،‬وال قاسوها بأشباهها‪ ،‬وال سربوها مبعيار احلكمة‬
‫والوقوف على طبالع الكالنات وحتكيم النظر والبصرية يف األخبار فضلوا عن احلق‬
‫وتاهوا يف بيداء الوهم والغلط‪ ،‬وال سيما يف إحصاء األعداد من األموال والعساكر‬
‫إذا عرضت يف احلكايات إذ هي مظنة الكذ ومطية اهلذر‪ ،‬وال بد من ردها إىل‬
‫األصول وعرضها على القواعد‪.‬‬
‫و هذا كما نقل املسعودي وكثري من املترخني يف جيوش بين إسراليل بأن موسى‬
‫عليه السالم أحصاهم يف التيه بعد أن أجاز من يطيق محل السالو خاصة من ابن‬
‫عشرين فما فوقها فكانوا ستمالة ألف أو يييدون ويذهل يف ذلك عن تقدير مصر‬
‫والشام واتساعهما ملثل هذا العدد من اجليوش لكل مملكة من املمالك حصة من‬
‫احلامية تتسع هلا وتقوم بوظالفها وتضيق عما فوقها تشهد بذلك العوالد املعروفة‬
‫واألحوال املألوفة مث أن مثل هذه اجليوش البالغة إىل مثل هذا العدد يبعد أن يقع‬
‫بينها زحف أو قتال لضيق مساحة األرض عنها وبعدها إذا اصطفت عن مدى‬
‫البصر مرتني أو ثالثاً أو أزيد فكيف يقتتل هذان الفريقان أو تكون غلبة أحد‬
‫الصفني وشيء من جوانبه ال يشعر باجلانب ااخر واحلاضر يشهد لذلك فاملاضي‬
‫أشبه باايت من املاء باملاء‪"01.‬‬
‫يتبني لنا‪ ،‬من هذه القولة‪ ،‬أن ابن خلدون يعترب علم التاريخ فنا جم الفالدة أو علما‬
‫من أشرف العلوم وأمساها؛ والسبب يف ذلك أنه يعرفنا بأحوال األمم والدول وطبالع‬
‫اجملتمعات‪ ،‬ويساعدنا على فهم تطور اجملتمعات اإلنسانية يف ماضيها وحاضرها‬
‫ومستقبلها‪ .‬ومن مث‪ ،‬فالتاريخ هو أساس علم االجتماع أو علم العمران البشري‪ ،‬أو‬
‫هو الذي يسعفنا يف معرفة اجملتمع وتفسريه بشكل جيد‪ ،‬يف ضوء جمموعة من‬

‫‪ -01‬ابن خلدون‪ :‬مقدمة ابن خلدون‪ ،‬ص‪.8 :‬‬

‫‪21‬‬
‫القواعد العقلية والفلسفية واألصولية‪ ،‬كاستخدام الذهن والفكر والقياس واالعتبار‬
‫بأحداث املاضي بغية بناء احلاضر‪ ،‬واالستعداد الستشراف املستقبل‪.‬‬
‫وما يدعو إليه ابن خلدون هو تنقيح األخبار والروايات التارخيية‪ ،‬واستخدام العقل‬
‫والتأمل يف عملية النقل‪ ،‬وافتحاص املرويات يف ضوء علم اجلرو والتعديل‪ ،‬وسرب‬
‫تلك الروايات وضبطها بناء على مقاييس املقارنة واملنطق والواقع‪.‬لذلك‪ ،‬انتقد ابن‬
‫خلدون املترخني السابقني الذين كانوا ينقلون األخبار الكاذبة‪ ،‬دون فحصها أو‬
‫نقدها أو غربلتها أو تقوميها بطريقة علمية نييهة‪ ،‬كما هو حال املسعودي والبكري‬
‫وكثري من املترخني واملفسرين ااخرين الذين استسلموا للمهات واألباطيل‬
‫واإلسراليليات واخليعبالت‪ ،‬ينقلوهنا يف كتبهم دون أن حيللوها ويناقشوها بالعقل‬
‫واملنطق والتجربة الواقعية‪ .‬وقد يكون ذلك التييد يف األخبار أو تيييفها مرده إىل‬
‫بواعث ذاتية وأهواء شخصية وموضوعية مقصودة أو غري مقصودة‪ ،‬أو سببها الرغبة‬
‫يف حتقيق املنافع أو املصاحل الشخصية أو الدنيوية‪ ،‬أو يكون ذلك لدواع سياسية‬
‫وحيبية وطالفية أو دينية‪ .‬ويف هذا السياق‪ ،‬يقول ابن خلدون‪":‬اعلم أنه ملا كانت‬
‫حقيقة التاريخ أنه خبر عن االجتماع االنساني الذي هو عمران العالم وما‬
‫يعرض لطبيعة ذلك العمران من األحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف‬
‫التغلبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشأ عن ذلك من امللك والدول ومراتبها‬
‫وما ينتحله البشر بأعماهلم ومساعيهم من الكسب واملعاش والعلوم والصنالع وسالر‬
‫ما حيدث من ذلك العمران بطبيعته من األحوال‪ .‬وملا كان الكذ متطرقاً للخرب‬
‫بطبيعته وله أسبا تقتضيه‪ .‬فمنها التشيعات لآلراء واملذاهب‪ ،‬ف ن النفس إذا‬
‫كانت على حال االعتدال يف قبول اخلرب أعطته حقه من التمحيص والنظر حىت‬
‫تتبني صدقه من كذبه‪ ،‬وإذا خامرها تشيع لرأي أو حنلة قبلت ما يوافقها من‬
‫األخبار ألول وهلة‪ .‬وكان ذلك امليل والتشيع غطاء على عني بصريهتا عن االنتقاد‬
‫والتمحيص فتقع يف قبول الكذ ونقله‪ .‬ومن األسبا املقتضية للكذ يف‬

‫‪22‬‬
‫األخبار أيضاً الثقة بالناقلني ومتحيص ذلك يرجع إىل التعديل والتجريح‪ .‬ومنها‬
‫الذهول عن املقاصد فكثري من الناقلني ال يعرف القصد مبا عاين أو مسع‪ ،‬وينقل‬
‫اخلرب على ما يف ظنه وختمينه فيقع يف الكذ ‪.‬‬
‫ومنها توهم الصدق وهو كثري وإمنا جييء يف األكثر من جهة الثقة بالناقلني ومنها‬
‫اجلهل بتطبيق األحوال على الوقالع ألجل ما يداخلها من التلبيس والتصنع فينقلها‬
‫املخرب كما رآها وهي بالتصنع على غري احلق يف نفسه‪ .‬ومنها تقر الناس يف‬
‫األكثر ألصحا التجلة واملراتب بالثناء واملدو وحتسني األحوال وإشاعة الذكر‬
‫بذلك فيستفيض اإلخبار هبا على غري حقيقة فالنفوس مولعة حبب الثناء والناس‬
‫متطلعون إىل الدنيا وأسباهبا من جاه أو ثروة‪ ،‬وليسوا يف األكثر براغبني يف الفصالل‬
‫وال متنافسني يف أهلها‪ .‬ومن األسبا املقتضية له أيضاً وهي سابقة على يع ما‬
‫تقدم اجلهل بطبالع األحوال يف العمران‪ ،‬ف ن كل حادث من احلوادث ذاتاً كان أو‬
‫فعالً ال بد له من طبيعة ختصه يف ذاته وفيما يعرض له من أحواله‪ ،‬ف ذا كان السامع‬
‫عارفاً بطبالع احلوادث واألحوال يف الوجود ومقتضياهتا أعانه ذلك يف متحيص اخلرب‬
‫على متييي الصدق من الكذ ‪ .‬وهذا أبلغ يف التمحيص من كل وجه يعرض وكثرياً‬
‫ما يعرض للسامعني قبول األخبار املستحيلة وينقلوهنا وتتثرعنهم‪"06.‬‬
‫ويالحظ أن ابن خلدون يرادف بني التاريخ وعلم االجتماع‪ ،‬حىت يصعب الفصل‬
‫بينهما‪ ،‬فموضوعهما واحد هو التجمع اإلنسا ‪ ،‬ودراسة العمران البشري‪ ،‬وتبيان‬
‫أحوال هذا العمران يف توحشه وتأنسه‪ ،‬يف بداوته وحتضره‪ ،‬ورصد طبيعة هذا‬
‫االنتقال من حالة إىل أخرى‪ ،‬أو من طبع إىل آخر‪ .‬وهذا ما يقوم به علم التاريخ‪.‬‬
‫ومن مث‪ ،‬فالتاريخ هو دراسة تطور اجملتمعات من حالة إىل آخرى‪.‬وهبذا‪ ،‬يكون ابن‬
‫خلدون من أصحا النظرية التطورية يف علم االجتماع‪ ،‬مادام اهلدف منه هو‬

‫‪ -06‬ابن خلدون‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.23:‬‬

‫‪23‬‬
‫استكشاف عمليات التطور اليت تتعرض هلا القبالل والدول واألمم والبوادي‬
‫واحلواضر‪...‬‬
‫ومن جهة أخرى‪ ،‬يعلن ابن خلدون عن تأسيس علم جديد م يكن عند الشعو‬
‫السابقة‪ ،‬سواء أكانت أعجمية أم عربية‪ ،‬وهذا العلم هو علم االجتماع أوعلم‬
‫العمران البشري الذي يدرس اجملتمع اإلنسا يف تآلفه وتوحشه‪ ،‬يف تفرقه وجتمعه‪،‬‬
‫يف انعياله وتضامنه‪ ،‬يف أنانيته وتعاونه‪ ،‬يف سلمه وحربه‪ ،‬يف بداوته وحضارته‪ ،‬يف‬
‫جفاله ومتدنه‪ ،‬يف جمده واضمحالله‪ .‬ومن مث‪ ،‬يهتم هذا العلم بأحوال اجملتمعات‬
‫البشرية وطبالعها وأعراضها وعلومها ومعارفها وفنوهنا وعاداهتا وأعرافها وتقاليدها‬
‫وصنالعها وبداوهتا ومتدهنا احلضاري‪ .‬ومن مث‪ ،‬يعىن هذا العلم برصد ماهو ثابت أو‬
‫متغري يف هذه اجملتمعات البشرية‪ ،‬باستخدام العقل والتأمل واحلكمة والفلسفة‬
‫والتجربة واخلربة واملعايشة‪ ،‬واستقراء الواقع التارخيي كليا أو جيليا‪ .‬واهلدف من ذلك‬
‫كله هو استخالص القوانني واألعراض اليت ختضع هلا الدول واألمم والقبالل‬
‫واحلواضر والتجمعات اإلنسانية‪ .‬وبتعبري أرسطي‪ ،‬التمييي بني اجلواهر املعقولة الثابتة‬
‫يف املاهيات‪ ،‬والعوارض الشكلية اليت تتغري يف اليمان واملكان‪ .‬ويف هذا يقول ابن‬
‫خلدون‪":‬و إذا كان ذلك‪ ،‬فالقانون يف متييي احلق من الباطل يف األخبار باإلمكان‬
‫واالستحالة أن ننظر يف االجتماع البشري الذي هو العمران‪ ،‬ومنيي ما يلحقه من‬
‫األحوال لذاته ومبقتضى طبعه وما يكون عارضاً ال يعتد به وما ال ميكن أن يعرض‬
‫له‪ ،‬وإذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانوناً يف متييي احلق من الباطل يف األخبار‬
‫والصدق من الكذ بوجه برها ال مدخل للشك فيه وحينئذ ف ذا مسعنا عن شيء‬
‫من األحوال الواقعة يف العمران علمنا ما حنكم بقبوله مما حنكم بتيييفه وكان ذلك‬
‫لنا معياراً صحيحاً يتحرى به املترخون طريق الصدق والصوا فيما ينقلونه وهذا‬
‫هو غرض هذا الكتاب األول من تأليفنا وكأن هذا علم مستقل بنفسه فإنه ذو‬
‫موضوع وهو العمران البشري واالجتماع اإلنساني‪ ،‬يقول وذو مسائل وهي‬

‫‪24‬‬
‫بيان ما يلحقه من العوارض واألحوال لذاته واحدة بعد أخرى وهذا شأن كل‬
‫علم من العلوم وضعياً كان أو عقلياً‪.‬‬
‫و اعلم أن الكالم يف هذا الغرض مستحدث الصنعة‪ ،‬غريب النيعة‪ ،‬عييي الفالدة‬
‫أعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص وليس من علم اخلطابة إمنا هو األقوال املقنعة‬
‫النافعة يف استمالة اجلمهور إىل رأي أو صدهم عنه وال هو أيضاً من علم السياسة‬
‫املدنية إذ السياسة املدنية هي تدبري املنيل أو املدينة مبا جيب مبقتضى األخالق‬
‫واحلكمة ليحمل اجلمهور على منهاج يكون فيه حفظ النوع وبقاؤه فقد خالف‬
‫موضوعه موضوع هذين الفنني اللذين رمبا يشبهانه وكأنه علم مستنبط النشأة‬
‫ولعمري م أقف على الكالم يف منحاه ألحد من اخلليقة ما أدري ألغفلتهم عن‬
‫ذلك وليس الظن هبم أو لعلهم كتبوا يف هذا الغرض واستوفوه وم يصل إلينا‪.‬‬
‫فالعلوم كثرية واحلكماء يف أمم النوع االنسا متعددون وما م يصل إلينا من العلوم‬
‫أكثر مما وصل‪ .‬فأين علوم الفرس اليت أمر عمر رضى اج عنه مبحوها عند الفتح‪،‬‬
‫وأين علوم الكلدانيني والسريانيني وأهل بابل وما ظهر عليهم من آثارها ونتالجها‪،‬‬
‫وأين علوم القبط ومن قبلهم وإمنا وصل إلينا علوم أمة واحدة وهم يونان خاصة‬
‫لكلف املأمون ب خراجها من لغتهم واقتداره على ذلك بكثرة املم ني وبذل األموال‬
‫فيها وم نقف على شيء من علوم غريهم وإذا كانت كل حقيقة متعلقة طبيعية‬
‫يصلح أن نبحث عما يعرض هلا من العوارض لذاهتا وجب أن يكون باعتبار كل‬
‫مفهوم وحقيقة علم من العلوم خيصه لكن احلكماء لعلهم إمنا الحظوا يف ذلك‬
‫العناية بالثمرات وهذا إمنا مثرته يف األخبار فقط كما رأيت وإن كانت مسالله يف‬
‫ذاهتا ويف اختصاصها شريفة لكن مثرته تصحيح األخبار‪"07.‬‬
‫ويعين هذا أن ابن خلدون قد أعلن عن ريادته لعلم جديد هو علم االجتماع‪،‬‬
‫وتأسيسه لعلم العمران البشري‪ ،‬وم يكن هذا العلم موجودا عند الشعو األخرى‪،‬‬

‫‪ -07‬ابن خلدون ‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.80-81:‬‬

‫‪25‬‬
‫سواء أكانت أعجمية أم عربية‪ ،‬على الرغم من تطورها العلمي واألديب والفين‬
‫والثقايف‪ ،‬كما هو حال اليونان والفرس والروم ‪ -‬مثال‪ .-‬وهبذا‪ ،‬يكون ابن خلدون‬
‫أول من وضع لبنات هذا العلم‪ ،‬وأرسى دعالمه املنهجية عن وعي وبصرية وخربة‪،‬‬
‫ووضع ميادينه‪ ،‬إذ حتدث عن املورفولوجيا االجتماعية‪ ،‬وعلم االجتماع القروي‪،‬‬
‫وعلم االجتماع احلضري‪ ،‬وعلم االجتماع السياسي‪ ،‬وعلم االجتماع االقتصادي‪،‬‬
‫وعلم االجتماع املعريف‪ ،‬وغريها من اجملاالت واملواضيع اهلامة اليت تيخر هبا مقدمته‬
‫املوسوعية‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬وقد قسم ابن خلدون علم االجتماع أو علم العمران البشري إىل أبوا ستة‬
‫هي‪:‬‬
‫‪ ‬البا األول يف العمران البشري على اجلملة وأصنافه وقسطه من األرض؛‬
‫‪ ‬البا الثا يف العمران البدوي‪ ،‬وذكر القبالل واألمم الوحشية؛‬
‫‪ ‬البا الثالث يف الدول واخلالفة وامللك وذكر املراتب السلطانية؛‬
‫‪ ‬البا الرابع يف العمران احلضري والبلدان واألمصار؛‬
‫‪ ‬البا اخلامس يف الصنالع واملعاش والكسب ووجوهه؛‬
‫‪‬البا السادس يف العلوم واكتساهبا وتعلمها‪.‬‬
‫ويقول ابن خلدون‪ " :‬وقد قدمت العمران البدوي ألنه سابق على يعها كما نبني‬
‫لك بعد وكذا تقدمي امللك على البلدان واألمصار‪ .‬وأما تقدمي املعاش‪ ،‬فألن املعاش‬
‫ضروري طبيعي وتعلم العلم كمايل أو حاجي والطبيعي أقدم من الكمايل وجعلت‬
‫الصنالع مع الكسب ألهنا منه ببعض الوجوه ومن حيث العمران كما نبني لك بعد‬
‫واج املوفق للصوا واملعني عليه‪" 03.‬‬
‫ويعين هذا كله أن علم االجتماع عند ابن خلدون هو الذي يدرس أحوال اجملتمع‬
‫اإلنسا ‪ ،‬يف توحشه وأنسه‪ ،‬ويف حاليت السلم واحلر ‪ ،‬ويف حاليت العصبة والتفرق‪،‬‬

‫‪ -03‬ابن خلدون‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.88:‬‬

‫‪26‬‬
‫ويف حاليت االنتصار واهليمية‪ ،‬ويف حاليت البداوة والتحضر‪ ،‬برصد طبالع الناس يف‬
‫عالقتهم مبجتمعاهتم‪ ،‬وذكر فنوهنم وعلومهم ومعارفهم وصنالعهم وأرزاقهم‪ ،‬وتبيان‬
‫الطريقة اليت هبا ينتقل احلكم من القبيلة إىل السلطنة أو اململكة‪ .‬وهبذا‪ ،‬يكون ابن‬
‫خلدون مولعا بدراسة البيئة املناخية واجلغرافية‪ ،‬واملورفولوجيا السكانية‪ ،‬ومتسسا‬
‫حقيقيا لعلمي االجتماع البدوي واحلضري‪.‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬فعلم االجتماع عند ابن خلدون هو الذي يدرس التجمع البشري أو‬
‫اإلنسا ‪ ،‬ويتحقق هذا التجمع بالتعاون والتضامن والتآزر‪ .‬مبعىن أن اإلنسان مد‬
‫بطبعه‪ .‬ويعين هذا أنه غري قادر‪ ،‬مبفرده‪ ،‬على تدبري حياته الدنيوية الطبيعية‪ ،‬وضمان‬
‫عيشه‪ ،‬أو الدفاع عن نفسه‪ ،‬فالبد من التعاون مع ااخرين‪ ،‬واالندماج يف اجملتمع‬
‫ملدافعة العدو‪ ،‬ومواجهة الظروف‪ ،‬باستخدام الفكر واليد والتكتل مع ااخرين‪.‬‬
‫أضف إىل ذلك أن االجتماع اإلنسا هو ضمان للجنس والنوع‪ ،‬وأساس لبقاله‬
‫واحلفاظ عليه‪ ،‬وإال اندثر الكالن البشري أمام قوة احليوان املفمس وبطشه الشديد‪.‬‬
‫عالوة على ذلك‪ ،‬يتقوى الوجود البشري باحلكم والنبوة والسلطة والسياسة وقوة‬
‫العصبية والشكيمة‪ .‬ويف هذا‪ ،‬يقول ابن خلدون‪":‬إن االجتماع اإلنسا ضروري‬
‫ويعرب احلكماء عن هذا بقوهلم اإلنسان مد بالطبع‪ .‬أي‪ :‬ال بد له من االجتماع‬
‫الذي هو املدينة يف اصطالحهم وهو معىن العمران وبيانه أن اج سبحانه خلق‬
‫اإلنسان وركبه على صورة ال يصح حياهتا وبقاؤها إال بالغذاء وهداه إىل التماسه‬
‫بفطرته ومبا ركب فيه من القدرة على حتصيله إال أن قدرة الواحد من البشر قاصرة‬
‫عن حتصيل حاجته من ذلك الغذاء غري موفية له مبادة حياته منه ولو فرضنا منه أقل‬
‫ما ميكن فرصة وهو قوت يوم من احلنطة ‪ -‬مثالً‪ -‬فال حيصل إال بعالج كثري من‬
‫الطحن والعجن والطبخ‪ ،‬وكل واحد من هذه األعمال الثالثة حيتاج إىل مواعني‬
‫وآالت ال تتم إال بصناعات متعددة من حداد وجنار وفاخوري وهب أنه يأكله‬
‫حباً من غري عالج‪ ،‬فهو أيضاً حيتاج يف حتصيله أيضاً حباً إىل أعمال أخرى أكثر‬

‫‪27‬‬
‫من هذه من اليراعة واحلصاد والدراس الذي خيرج احلب من غالف السنبل‪ ،‬وحيتاج‬
‫كل واحد من هذه آالت متعددة وصنالع كثرية أكثر من األوىل بكثري ويستحيل أن‬
‫تفي بذلك كله أو ببعضه قدرة الواحد فال بد من اجتماع القدر الكثرية من أبناء‬
‫جنسه ليحصل القوت له وهلم فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من احلاجة ألكثر‬
‫منهم ب ضعاف وكذلك حيتاج كل واحد منهم أيضاً يف الدفاع عن نفسه إىل‬
‫االستعانة بأبناء جنسه ألن اج سبحانه ملا ركب الطباع يف احليوانات كلها وقسم‬
‫القدر بينها جعل حظوظ كثري من احليوانات العجم من القدرة أكمل من حظ‬
‫اإلنسان فقدرة الفرس ‪ -‬مثالً‪ -‬أعظم بكثري من قدرة اإلنسان وكذا قدرة احلمار‬
‫والثور وقدرة األسد والفيل أضعاف من قدرته‪ .‬وملا كان العدوان طبيعياً يف احليوان‬
‫جعل لكل واحد منها عضواً خيتص مبدافعته ما يصل إليه من عادية غريه وجعل‬
‫لإلنسان عوضاً من ذلك كله الفكر واليد فاليد مهيئة للصنالع خبدمة الفكر‬
‫والصنالع حتصل له ااالت اليت تنو له عن اجلوارو املعدة يف سالر احليوانات‬
‫للدفاع مثل الرماو اليت تنو عن القرون الناطحة والسيوف النالبة عن املخالب‬
‫اجلارحة والماس النالبة عن البشرات اجلاسية إىل غري ذلك وغريه مما ذكره جالينوس‬
‫يف كتا منافع األعضاء فالواحد من البشر ال تقاوم قدرته قدرة واحد من‬
‫احليوانات العجم سيما املفمسة فهو عاجي عن مدافعتها وحده باجلملة وال تفي‬
‫قدرته أيضاً باستعمال ااالت املعدة هلا فال بد يف ذلك كله من التعاون عليه بأبناء‬
‫جنسه وما م يكن هذا التعاون فال حيصل له قوت وال غذاء‪ ،‬وال تتم حياته ملا‬
‫ركبه اج تعاىل عليه من احلاجة إىل الغذاء يف حياته وال حيصل له أيضاً دفاع عن‬
‫نفسه لفقدان السالو فيكون فريسة للحيوانات ويعاجله اهلالت عن مدى حياته‬
‫ويبطل نوع البشر وإذا كان التعاون حصل له القوت للغذاء والسالو للمدافعة‬
‫ومتت حكمة اج يف بقاله وحفظ نوعه ف ذن هذا االجتماع ضروري للنوع اإلنسا‬

‫‪28‬‬
‫وإال م يكمل وجودهم وما أراده اج من اعتمار العام هبم واستخالفه إياهم وهذا‬
‫‪08‬‬
‫هو معىن العمران الذي جعلناه موضوعاً هلذا العلم‪".‬‬
‫ومن جهة أخرى‪ ،‬قدم ابن خلدون جغرافيا اجتماعية‪ ،‬فقد قسم املعمور إىل مساء‪،‬‬
‫وأرض‪ ،‬وجبال‪ ،‬وأهنار‪ ،‬وحبار‪ ،‬وحبريات‪ ،‬وتالل‪ ،‬وهضا ‪ ،‬وسهول‪...‬وبعد ذلك‪،‬‬
‫قسم هذا املعمور إىل نطاقات مناخية وهوالية وبيئية لتحديد أثر املنا يف العمران‬
‫البشري إجيابا وسلبا‪ .‬وقد ربط العمران باملناطق املعتدلة واملنا املعتدل‪ .‬ويعين هذا‬
‫أن التجمع البشري مرتبط باألراضي اخلصبة‪ ،‬واملياه اجلارية‪ ،‬واعتدال املنا ‪ .‬ويف‬
‫هذا‪ ،‬يقول ابن خلدون‪ ":‬قد بينا أن املعمور من هذا املنكشف من األرض إمنا هو‬
‫وسطه إلفراط احلر يف اجلنو منه والربد يف الشمال‪ .‬وملا كان اجلانبان من الشمال‬
‫واجلنو متضادين من احلر والربد وجب أن تندرج الكيفية من كليهما إىل الوسط‬
‫فيكون معتدالً فاإلقليم الرابع أعدل العمران والذي حافاته من الثالث واخلامس‬
‫أقر إىل االعتدال والذي يليهما والثا والسادس بعيدان من االعتدال واألول‬
‫والسابع أبعد بكثري فلهذا كانت العلوم والصنالع واملبا واملالبس واألقوات والفواكه‬
‫بل واحليوانات و يع ما يتكون يف هذه األقاليم الثالثة املتوسطة خمصوصة باالعتدال‬
‫وسكاهنا من البشر أعدل أجساماً وألواناً وأخالقاً وأدياناً حىت النبتات ف منا توجد يف‬
‫األكثر فيها وم نقف على خرب بعثة يف األقاليم اجلنوبية وال الشمالية وذلك أن‬
‫األنبياء والرسل إمنا خيتص هبم أكمل النوع يف خلقهم وأخالقهم قال تعاىل‪ ":‬كنتم‬
‫خري أمة أخرجت للناس"‪ ،‬وذلك ليتم القبول مبا يأتيهم به األنبياء من عند اج وأهل‬
‫هذه األقاليم أكمل لوجود االعتدال هلم فتجده على غاية من التوسط يف مساكنهم‬
‫ومالبسهم وأقواهتم وصنالعهم يتخذون البيوت املنجدة باحلجارة املنمقة بالصناعة‬
‫ويتناغون يف استجادة ااالت واملواعني ويذهبون يف ذلك إىل الغاية وتوجد لديهم‬
‫املعادن الطبيعية من الذهب والفضة واحلديد والنحاس والرصاص والقصدير‬

‫‪ -08‬ابن خلدون‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.81-82:‬‬

‫‪29‬‬
‫ويتصرفون يف معامالهتم بالنقدين العيييين ويبعدون عن االحنراف يف عامة أحواهلم‬
‫وهتالء أهل املغر والشام واحلجاز واليمن والعراقني واهلند والسند والصني وكذلك‬
‫األندلس ومن قر منها من الفرجنة واجلاللقة والروم واليونانيني ومن كان مع هتالء‬
‫أو قريباً منهم يف هذه األقاليم املعتدلة وهلذا كان العراق والشام أعدل هذه كلها‬
‫ألهنا وسط من يع اجلهات‪ .‬وأما األقاليم البعيدة من االعتدال مثل األول والثا‬
‫والسادس والسابع‪ ،‬فأهلها أبعد من االعتدال يف يع أحواهلم فبناؤهم بالطني‬
‫والقصب وأقواهتم من الذرة والعشب ومالبسهم من أوراق الشجر خيصفوهنا عليهم‬
‫أو اجللود وأكثرهم عرايا من اللباس وفواكه بالدهم وأدمها غريبة التكوين ماللة إىل‬
‫االحنراف ومعامالهتم بغري احلجرين الشريفني من حناس أو حديد أو جلود يقدروهنا‬
‫للمعامالت وأخالقهم مع ذلك قريبة من خلق احليوانات العجم حىت لينقل عن‬
‫الكثري من السودان أهل اإلقليم األول أهنم يسكنون الكهوف والغياض ويأكلون‬
‫العشب وأهنم متوحشون غري مستأنسني يأكل بعضهم بعضاً وكذا الصقالبة والسبب‬
‫يف ذلك أهنم لبعدهم عن االعتدال يقر عرض أميجتهم وأخالقهم من عرض‬
‫احليوانات العجم ويبعدون عن اإلنسانية مبقدار ذلك وكذلك أحواهلم يف الديانة‬
‫أيضاً فال يعرفون نبتًة وال يدينون بشريعة إال من قر منهم من جوانب االعتدال‬
‫وهو يف األقل النادر مثل احلبشة اجملاورين لليمن الدالنني بالنصرانية فيما قبل‬
‫اإلسالم وما بعده هلذا العهد ومثل أهل مايل وكوكو والتكرور اجملاورين ألرض املغر‬
‫الدالنني باإلسالم هلذا العهد يقال أهنم دانوا به يف املالة السابعة ومثل من دان‬
‫بالنصرانية من أمم الصقالبة واإلفرجنة والمت من الشمال ومن سوى هتالء من أهل‬
‫تلك األقاليم املنحرفة جنوباً ومشاالً فالدين جمهول عندهم والعلم مفقود بينهم و يع‬
‫أحواهلم بعيدة من أحوال األناسي قريبة من أحوال البهالم وخيلق ما ال تعلمون وال‬
‫يعمض على هذا القول بوجود اليمن وحضرموت واألحقاف وبالد احلجاز واليمامة‬
‫وما يليها من جييرة العر يف اإلقليم األول والثا فأن جييرة العر كلها أحاطت‬

‫‪31‬‬
‫هبا البحار من اجلهات الثالث كما ذكرنا فكان لرطوبتها أثر يف رطوبة هوالها‬
‫فنقص ذلك من اليبس واالحنراف الذي يقتضيه احلر وصار فيها بعض االعتدال‬
‫‪21‬‬
‫بسبب رطوبة البحر‪" .‬‬
‫وقد بني ابن خلدون تأثري املنا واهلواء يف أخالق البشر‪ ،‬فهنات من تكون أخالقه‬
‫أخالق طيش وفرو وطر وزهو وكسل ومخول مثل ساكنة املناطق احلارة من‬
‫السودان‪ .‬وهنات من تكون نفسيته منقبضة حيينة كما يف املناطق اليت تغلب عليها‬
‫الربودة‪ .‬ويف هذا‪ ،‬يقول ابن خلدون‪ ":‬قد رأينا خلق السودان على العموم اخلفة‬
‫والطيش وكثرة الطر فتجدهم مولعني بالرقص على كل توقيع موصوفني باحلمق يف‬
‫كل قطر والسبب الصحيح يف ذلك أنه تقرر يف موضعه من احلكمة أن طبيعة الفرو‬
‫والسرور هي انتشار الروو احليوا وتفشيه وطبيعة احلين بالعكس وهو انقباضه‬
‫وتكاثفه‪ .‬وتقرر أن احلرارة مفشية للهواء والبخار خملخلة له زالدة يف كميته وهلذا جيد‬
‫املنتشي من الفرو والسرور ماال يعرب عنه وذلك مبا يداخل خبار الروو يف القلب من‬
‫احلرارة العيييية اليت تبعثها سورة اخلمر يف الروو من مياجه فيتفشى الروو وجتيء‬
‫طبيعة الفرو وكذلك جند املتنعمني باحلمامات إذا تنفسوا يف هوالها واتصلت حرارة‬
‫اهلواء يف أرواحهم فتسخنت لذلك حدث هلم فرو ورمبا انبعث الكثري منهم بالغناء‬
‫الناشئ عن السرور‪ .‬وملا كان السودان ساكنني يف اإلقليم احلار واستوىل احلر على‬
‫أميجتهم ويف أصل تكوينهم كان يف أرواحهم من احلرارة على نسبة أبداهنم‬
‫وإقليمهم فتكون أرواحهم بالقياس إىل أرواو أهل اإلقليم الرابع أشد حراً فتكون‬
‫أكثر تفشياً فتكون أسرع فرحاً وسروراً وأكثر انبساطاً وجييء الطيش على أثر هذه‬
‫وكذلك يلحق هبم قليال أهل البالد البحرية ملا كان هواؤها متضاعف احلرارة مبا‬
‫ينعكس عليه من أضواء بسيط البحر وأشعته كانت حصتهم من توابع احلرارة يف‬
‫الفرو واخلفة موجودة أكثر من بالد التلول واجلبال الباردة وقد جند يسرياً من ذلك‬

‫‪ -21‬ابن خلدون‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.68-67:‬‬

‫‪31‬‬
‫يف أهل البالد اجلييرية من اإلقليم الثالث لتوفر احلرارة فيها ويف هوالها ألهنا عريقة يف‬
‫اجلنو عن األرياف والتلول واعترب ذلك أيضا بأهل مصر ف هنا مثل عرض البالد‬
‫اجلييرية أو قريباً منها كيف غلب الفرو عليهم واخلفة والغفلة عن العواقب حىت أهنم‬
‫ال يدخرون أقوات سنتهم وال شهرهم وعامةً مأكلهم من أسواقهم‪ .‬وملا كانت فاس‬
‫من بالد املغر بالعكس منها يف التوغل يف التلول الباردة كيف ترى أهلها مطرقني‬
‫إطراق احلين وكيف أفرطوا يف نظر العواقب حىت أن الرجل منهم ليدخر قوت سنتني‬
‫من حبو احلنطة ويباكر األسواق لشراء قوته ليومه خمافة أن يرزأ شيئاً من مدخره‬
‫وتتبع ذلك يف األقاليم والبلدان جتد يف األخالق أثراً من كيفيات اهلواء واج اخلالق‬
‫العليم وقد تعرض املسعودي للبحث عن السبب يف خفة السودان وطيشهم وكثرة‬
‫الطر فيهم وحاول تعليله فلم يأت بشيء أكثر من أنه نقل عن جالينوس‬
‫ويعقو بن إسحاق الكندي أن ذلك لضعف أدمغتهم وما نشأ عنه من ضعف‬
‫عقوهلم وهذا كالم ال حمصل له وال برهان فيه واج يهدي من يشاء إىل صراط‬
‫‪20‬‬
‫مستقيم‪".‬‬
‫وأكثر من هذا فقد بني ابن خلدون أن طبيعة العمران‪ ،‬من خصوبة وجفاف وجوع‪،‬‬
‫يتثر يف طباع الناس وأحواهلم وأجسادهم وأبداهنم‪ .‬فأهل البوادي والصحارى‬
‫والقفار اجلافة يتعودون على اجلوع والصرب والتكيف مع الطبيعة‪ ،‬وتكون أجسامهم‬
‫قوية وخشنة وصلبة‪ ،‬ومييلون إىل العبادة والتقشف‪ ،‬وحتدي الظروف املناخية‬
‫والطبيعية واملعيشية بقوة وصالبة وشجاعة‪ .‬يف حني‪ ،‬يعيش سكان املدن واألراضي‬
‫اخلصبة يف حببوحة العيش‪ ،‬ونعيم احلياة‪ ،‬وبريقها الالمع‪ ،‬ويتلذذون مبا طا من‬
‫الطعام والشرا والنساء‪ ،‬ومييلون إىل المف واللهو واجملون‪ ،‬ويكونون أكثر عرضة‬
‫للهالت من أصحا البوادي والنجود القاحلة‪ .‬ويف هذا‪ ،‬يقول ابن خلدون‪ ":‬اعلم‬
‫أن هذه األقاليم املعتدلة ليس كلها يوجد هبا اخلصب وال كل سكاهنا يف رغد من‬

‫‪ -20‬ابن خلدون‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.71:‬‬

‫‪32‬‬
‫العيش بل فيها ما يوجد ألهله خصب العيش من احلبو واألدم واحلنطة والفواكه‪.‬‬
‫ليكاء املنابت واعتدال الطينة ووفور العمران وفيها األرض احلرة الم ال تنبت زرعاً‬
‫وال عشباً باجلملة فسكاهنا يف شظف من العيش مثل أهل احلجاز وجنو اليمن‬
‫ومثل امللثمني من صنبهاجة الساكنني بصحراء املغر وأطراف الرمال فيما بني‬
‫الرببر والسودان‪ ،‬ف ن هتالء يفقدون احلبو واألدم لةً وإمنا أغذيتهم وأقواهتم‬
‫األلبان واللحوم ومثل العر أيضاً اجلاللني يف القفار ف هنم وإن كانوا يأخذون‬
‫احلبو واألدم من التلول إال أن ذلك يف األحايني وحتت ربقة من حاميتها وعلى‬
‫اإلقالل لقلة وجدهم فال يتوصلون منه إىل سد اخللة أو دوهنا فضالً عن الرغد‬
‫واخلصب وجتدهم يقتصرون يف غالب أحواهلم على األلبان وتعوضهم من احلنطة‬
‫أحسن معاض وجتد مع ذلك هتالء الفاقدين للحبو واألدم من أهل القفار‬
‫أحسن حاالً يف جسومهم وأخالقهم من أهل التلول املنغمسني يف العيش فألواهنم‬
‫أصفى وأبداهنم أنقى وأشكاهلم أ وأحسن وأخالقهم أبعد من االحنراف وأذهاهنم‬
‫أثقب يف املعارف واإلدراكات هذا أمر تشهد له التجربة يف كل جيل منهم فكثري ما‬
‫بني العر والرببر فيما وصفناه وبني امللثمني وأهل التلول يعرف ذلك من خربه‬
‫والسبب يف ذلك واج أعلم أن كثرة األغذية وكثرة األخالط الفاسدة العفنة‬
‫ورطوباهتا تولد يف اجلسم فضالت رديئةً تنشأ عنها بعد افظارها يف غري نسبة ويتبع‬
‫ذلك انكساف األلوان وقبح األشكال من كثرة اللحم كما قلناه وتغطي الرطوبات‬
‫على األذهان واألفكار مبا يصعد إىل الدماغ من أخبرهتا الردية فتجيء البالدة والغفلة‬
‫واالحنراف عن االعتدال باجلملة واعترب ذلك يف حيوان القفر ومواطن اجلد من‬
‫الغيال والنعام واملها واليرافة واحلمر الوحشية والبقر مع أمثاهلا من حيوان التلول‬
‫واألرياف واملراعي اخلصبة كيف جتد بينها بوناً بعيداً يف صفاء أدميها وحسن رونقها‬
‫وأشكاهلا وتناسب أعضالها وحدة مداركها فالغيال أخو املعي واليرافة أخو البعري‬
‫واحلمار والبقر أخو احلمار والبقر والبون بينها ما رأيت وما ذات إال ألجل أن‬

‫‪33‬‬
‫اخلصب يف التلول فعل يف أبدان هذه من الفضالت الردية واألخالط الفاسدة ما‬
‫ظهر عليها أثره واجلوع حليوان القفر حسن يف خلقها وأشكاهلا ما شاء واعترب ذلك‬
‫يف اادميني أيضاً ف نا جند أهل األقاليم املخصبة العيش الكثرية اليرع والضرع واألدم‬
‫والفواكه يتصف أهلها غالباً بالبالدة يف أذهاهنم واخلشونة يف أجسامهم وهذا شان‬
‫الرببر املنغمسني يف األدم واحلنطة مع املتقشفني يف عيشهم املقتصرين على الشعري‬
‫أو الذرة مثل املصامدة منهم وأهل غمارة والسوس فتجد هتالء أحسن حاالً يف‬
‫عقوهلم وجسومهم وكذا أهل بالد املغر على اجلملة املنغمسني يف األدم والرب مع‬
‫أهل األندلس املفقود بأرضهم السمن محلةً وغالب عيشهم الذرة فتجد ألهل‬
‫األندلس من ذكاء العقول وخفة األجسام وقبول التعليم ماال يوجد لغريهم وكذا‬
‫أهل الضواحي من املغر باجلملة مع أهل احلضر واألمصار فأن األمصار وإن كانوا‬
‫مكثرين مثلهم من األدم وخمصبني يف العيش إال أن استعماهلم إياها بعد العالج‬
‫بالطبخ والتلطيف مبا خيلطون معها فيذهب لذلك غلظها ويرق قوامها وعامة‬
‫مآكلهم حلوم الضأن والدجاج وال يغبطون السمن من بني األدم لتفاهته فتقل‬
‫الرطوبات لذلك يف أغذيتهم وخيف ما تتديه إىل أجسامهم من الفضالت الردية‬
‫فلذلك جتد جسوم أهل األمصار ألطف من جسوم البادية املخشنني يف العيش‬
‫وكذلك جتد املعودين باجلوع من أهل البادية ال فضالت يف جسومهم غليظةً وال‬
‫لطيفةً‪ .‬واعلم أن أثر هذا اخلصب يف البدن وأحواله يظهر حىت يف حال الدين‬
‫والعبادة فنجد املتقشفني من أهل البادية أو احلاضرة ممن يأخذ نفسه باجلوع‬
‫والتجايف عن املالذ أحسن ديناً وإقباالً على العبادة من أهل المف واخلصب بل جند‬
‫أهل الدين قليلني يف املدن واألمصار ملا يعمها من القساوة والغفلة املتصلة باإلكثار‬
‫من اللحمان واألدم ولبا الرب وخيتص وجود العباد واليهاد لذلك باملتقشفني يف‬
‫‪22‬‬
‫غذالهم من أهل البوادي‪"...‬‬

‫‪ -22‬ابن خلدون‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.72-70:‬‬

‫‪34‬‬
‫ويرى ابن خلدون أن أهل البدو يعيشون على شضف العيش وعسره‪ ،‬ويهتمون‬
‫بالفالحة واليراعة والرعي‪ .‬لكن كلما توسعت ممتلكاهتم وأرزاقهم‪ ،‬وانتقلوا من‬
‫احلاجي إىل الكمايل‪ ،‬وحتسنت أحواهلم ومعاشهم‪ ،‬مالوا إىل بناء القصور واملنازل‬
‫والدور الفخمة‪ ،‬ومالت حياهتم أيضا إىل المف واجملد واللهو والبذ ‪ ،‬وأصبحوا‬
‫بدورهم عرضة النقضاض األعداء‪ ،‬عندما تضيع وحدهتم‪ ،‬وتضيع عصبيتهم‪،‬‬
‫وتفشل رحيهم‪ ،‬وينحرفون عن دينهم‪ .‬ويف هذا‪ ،‬يقول ابن خلدون‪ ":‬إعلم أن‬
‫اختالف األجيال يف أحواهلم إمنا هو باختالف حنلتهم يف املعاش ف ن اجتماعهم‬
‫إمنا هو للتعاون على حتصيله واالبتداء مبا هو ضروري منعه ونشيطه قبل احلاجي‬
‫والكمايل فمنهم من يستعمل الفلح من الغراسة واليراعة ومنهم من ينتحل القيام‬
‫على احليوان من الغنم والبقر واملعي والنحل والدود لنتاجها واستخراج فضالهتا‬
‫وهتالء القالمون على الفلح واحليوان تدعوهم الضرورة وال بد إىل البدو ألنه متسع‬
‫ملا ال يتسع له احلواضر من امليارع والفدن واملسارو للحيوان وغري ذلك فكان‬
‫اختصاص هتالء بالبدو أمراً ضروريا هلم وكان حينئذ اجتماعهم وتعاوهنم يف‬
‫حاجاهتم ومعاشهم وعمراهنم من القوت والكن والدفء إمنا هو باملقدار الذي‬
‫حيفظ احلياة وحيصل بلغة العيش من غري مييد عليه للعجي عما وراء ذلك مث إذا‬
‫اتسعت أحوال هتالء املنتحلني للمعاش وحصل هلم ما فوق احلاجة من الغىن والرفه‬
‫دعاهم ذلك إىل السكون والدعة وتعاونوا يف اليالد على الضرورة واستكثروا من‬
‫األقوات واملالبس والتأنق فيها وتوسعة البيوت واختطاط املدن واألمصار للتحضر مث‬
‫تييد أحوال الرفه والدعة فتجيء عوالد المف البالغة مبالغها يف التأنق يف عالج‬
‫القوت واستجادة املطابخ والتقاء املالبس الفاخرة يف أنواعها من احلرير والديباج‬
‫وغري ذلك ومعاالة البيوت والصروو وإحكام وضعها يف تنجيدها واالنتهاء يف‬
‫الصنالع يف اخلروج من القوة إىل الفعل إىل غايتها فيتخذون القصور واملنازل وجيرون‬
‫فيها املياه ويعالون يف صرحها ويبالغون يف تنجيدها وخيتلفون يف استجادة ما‬

‫‪35‬‬
‫يتخذونه ملعاشهم من ملبوس أو فراش أو آنية أو ماعون وهتالء هم احلصر ومعناه‬
‫احلاضرون أهل األمصار والبلدان ومن هتالء من ينتحل معاشه الصنالع ومنهم من‬
‫ينتحل التجارة وتكون مكاسبهم أمنى وأرفه من أهل البدو ألن أحواهلم زالدة على‬
‫الضروري ومعاشهم على نسبة وجدهم فقد تبني أن أجيال البدو واحلضر طبيعية ال‬
‫‪28‬‬
‫بد منها كما قلناه‪".‬‬
‫ويعين هذا أن البداوة أسبق من احلضارة‪ ،‬وأن البدوي هو أصل احلضري‪ ،‬وأن البادية‬
‫هي أصل املدينة واحلاضرة‪ .‬أي‪ :‬إن البوادي هي اليت حتولت إىل املدن واحلواضر‬
‫واألمصار بفعل التوسع والتمدن والمف‪ ،‬واالنتقال من الضروري إىل احلاجي‬
‫والكمايل‪.‬ويف هذا النطاق‪ ،‬يقول ابن خلدون " قد ذكرنا أن البدو هم املقتصرون‬
‫على الضروري يف أحواهلم العاجيون عما فوقه وأن احلضر املعتنون حباجات المف‬
‫والكمال يف أحواهلم وعوالدهم وال شك أن الضروري أقدم من احلاجي والكمايل‬
‫وسابق عليه وألن الضروري أصل والكمايل فرع ناشىء عنه فالبدو أصل املدن‬
‫واحلضر‪ ،‬وسابق عليهما ألن أول مطالب اإلنسان الضروري وال ينتهي إىل الكمال‬
‫والمف إال إذا كان الضروري حاصالً فخشونة البداوة قبل رقة احلضارة وهلذا جند‬
‫التمدن غاية للبدوي جيري إليها وينتهي بسعيه إىل مقمحه منها ومىت حصل على‬
‫الرياش الذي حيصل له به أحوال المف وعوالده عاج إىل الدعة وأمكن نفسه إىل‬
‫قياد املدينة وهكذا شأن القبالل املتبدية كلهم واحلضري ال يتشوف إىل أحوال‬
‫البادية إال لضرورة تدعوه إليها أو لتقصري عن أحوال أهل مدينته ومما يشهد لنا أن‬
‫البدو أصل للحضر ومتقدم عليه أنا إذا فتشنا أهل مصر من األمصار وجدنا أولية‬
‫أكثرهم من أهل البدو الذين بناحية ذلك املصر وعدلوا إىل الدعة والمف الذي يف‬
‫احلضر وذلك يدل على أن أحوال احلضارة ناشئة عن أحوال البداوة وأهنا أصل هلا‬
‫فتفهمه‪ .‬مث إن كل واحد من البدو واحلضر متفاوت األحوال من جنسه فر حي‬

‫‪ -28‬ابن خلدون‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.83:‬‬

‫‪36‬‬
‫أعظم من حي وقبيلة أعظم من قبيلة ومصر أوسع من مصر ومدينة أكثر عمراناً من‬
‫مدينة فقد تبني أن وجود البدو متقدم على وجود املدن واألمصار وأصل هلا مبا أن‬
‫وجود املدن واألمصار من عوالد المف والدعة اليت هي متأخرة عن عوالد الضروري‬
‫‪22‬‬
‫املعاشية واج أعلم‪".‬‬
‫عالوة على ذلك يتميي أهل البادية عن أهل املدر مبجموعة من الصفات والشيم‪،‬‬
‫مثل‪ :‬اخلري‪ ،‬والصرب‪ ،‬والوفاء‪ ،‬واإلباء‪ ،‬والكرم‪ ،‬والشجاعة‪ ،‬وكثرة العبادة‪ ...‬ويف هذا‪،‬‬
‫يقول ابن خلدون‪ ":‬والسبب يف ذلك أن أهل احلضر ألقوا جنوهبم على مهاد الراحة‬
‫والدعة وانغمسوا يف النعيم والمف ووكلوا أمرهم يف املدافعة عن أمواهلم وأنفسهم إىل‬
‫واليهم واحلاكم الذي يسوسهم واحلامية اليت تولت حراستهم واستناموا إىل األسوار‬
‫اليت حتوطهم واحلرز الذي حيول دوهنم فال هتيجهم هيعة وال ينفر هلم صيد فهم‬
‫غازون آمنون‪ ،‬قد ألقوا السالو وتوالت على ذلك منهم األجيال وتنيلوا منيلة‬
‫النساء والولدان الذين هم عيال على أيب مثواهم حىت صار ذلك خلقاً يتنيل منيلة‬
‫الطبيعة وأهل البدو لتفردهم عن التجمع وتوحشهم يف الضواحي وبعدهم عن‬
‫احلامية وانتباذهم عن األسوار واألبوا قالمون باملدافعة عن أنفسهم ال يكلوهنا إىل‬
‫سواهم وال يثقون فيها بغريهم فهم دالماً حيملون السالو ويتلفتون عن كل جانب‬
‫يف الطرق ويتجافون عن اهلجوع إال غراراً يف اجملالس وعلى الرحال وفوق األقتا‬
‫ويتوجسون للنبات واهليعات ويتفردون يف القفر والبيداء فدلني بيأسهم واثقني‬
‫بأنفسهم قد صار هلم البأس خلقاً والشجاعة سجنةً يرجعون إليه مىت دعاهم داع أو‬
‫استنفرهم صار وأهل احلضر مهما خالطوهم يف البادية أو صاحبوهم يف السفر‬
‫عيال عليهم ال ميلكون منهم شيئاً من أمر أنفسهم وذلك مشاهد بالعيان حىت يف‬
‫معرفة النواحي واجلهات وموارد املياه ومشاريع السبل وسبب ذلك ما شرحناه وأصله‬
‫أن اإلنسان ابن عوالده ومألوفه ال ابن طبيعته ومياجه فالذي ألفه يف األحوال حىت‬

‫‪ -22‬ابن خلدون‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.88 :‬‬

‫‪37‬‬
‫صار خلقاً وملكة وعادة تنيل منيلة الطبيعة واجلبلة واعترب ذلك يف اادميني جتده‬
‫‪21‬‬
‫كثرياً صحيحاً واج خيلق ما يشاء‪".‬‬
‫أما على صعيد احلكم والسياسة‪ ،‬فالميكن تأسيس الدولة إال بالقوة واالحتاد‬
‫والعصبية القبلية ومراعة النسب‪ ،‬والتشبث بالعقيدة‪ .‬وكلما تقوت العصبية بالعقيدة‬
‫كانت أكثر قوة وهيمنة وشكيمة‪ .‬واليتحقق هذا إال لسكان البادية الذين يعيشون‬
‫على شضف العيش‪ ،‬وبتس احلياة‪ ،‬ووعورة الطبيعة‪ ،‬فتتقوى أبداهنم‪ ،‬وتتحد‬
‫كلمتهم‪ ،‬فيغريون على أهل املدن‪ ،‬فينتيعون منهم حكمهم وملكهم وسلطتهم‪.‬مث‪،‬‬
‫تتهاوى عصبيتهم‪ ،‬وتتفرق مع اليمان‪ ،‬مث مييلون بدورهم إىل حياة البذ واجملد‬
‫والرفاهية‪ ،‬فتضمحلل مملكتهم لتكون من نصيب متوحشي الوبر وفرسانه‪ .‬وهكذا‪،‬‬
‫دواليك‪ .‬ويعين هذا أن الدولة تسري مبراحل معينة مثل مراحل اإلنسان‪ .‬فهنات‬
‫مرحلة النشأة والطفولة‪ ،‬ومرحلة الشبا والقوة واجملد واالزدهار‪ ،‬ومرحلة الشيخوخة‬
‫واالهنيار واالضمحالل‪ ،‬فمرحلة املوت واالندثار‪ .‬وهذه نظرية تارخيية وسوسيولوجية‬
‫يف جمال العمران البشري‪ ،‬استنبطها ابن خلدون من تاريخ الدول اإلسالمية يف‬
‫العصر الوسيط‪ .‬وهي مبثابة قوانني اجتماعية وتارخيية تتحكم يف تطور الدول‬
‫ودوراهنا‪ .‬ويف هذا‪ ،‬يقول ابن خلدون‪":‬اعلم أن كل حي أو بطن من القبالل وإن‬
‫كانوا عصابة واحدة لنسبهم العام ففيهم أيضاً عصبيات أخرى ألنسا خاصة هي‬
‫أشد التحاماً من النسب العام هلم مثل عشري واحد أو أهل بيت واحد أو اخوة بين‬
‫أ واحد ال مثل بين املم األقربني أو األبعدين فهتالء أقعد بنسبهم املخصوص‬
‫ويشاركون من سواهم من العصالب يف النسب العام والنعرة تقع من أهل نسبهم‬
‫املخصوص ومن أهل النسب العام إال أهنا يف النسب اخلاص أشد لقر اللحمة‬
‫والرلاسة فيهم إمنا تكون يف نصا واحد منهم وال تكون يف الكل وملا كانت‬
‫الرلاسة إمنا تكون بالغلب وجب أن تكون عصبية ذلك النصا أقوى من سالر‬

‫‪ -21‬ابن خلدون‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.010 :‬‬

‫‪38‬‬
‫العصالب ليقع الغلب هبا وتتم الرلاسة ألهلها ف ذا وجب ذلك تعني أن الرلاسة‬
‫عليهم ال تيال يف ذلك النصا املخصوص بأهل الغلب عليهم إذ لو خرجت‬
‫عنهم وصارت يف العصالب األخرى النازلة عن عصابتهم يف الغلب ملا تفت هلم‬
‫الرلاسة فال تيال يف ذلك النصا متناقلة من فرع منهم إىل فرع وال تنتقل إال إىل‬
‫األقوى من فروعه ملا قلناه من سر الغلب ألن االجتماع والعصبية مبثابة املياج‬
‫للمتكون واملياج يف املتكون ال يصلح إذا تكافأت العناصر فال بد من غلبة أحدها‬
‫وإال م يتم التكوين فهذا هو سر اشماط الغلب يف العصبية ومنه تعني استمرار‬
‫‪26‬‬
‫الرلاسة يف النصا املخصوص هبا كما قررناه‪".‬‬
‫وعليه‪ ،‬الميكن حتصيل امللك إال بالقوة والعصبية والنبوة والعقيدة‪ ،‬وسيطرة البدو‬
‫على سلطان ملوت احلضر‪ .‬ويف هذا الصدد‪ ،‬يقول ابن خلدون‪ ":‬اعلم أنه ملا كانت‬
‫البداوة سبباً يف الشجاعة كما قلناه يف املقدمة الثالثة ال جرم كان هذا اجليل‬
‫الوحشي أشد شجاعة من اجليل ااخر فهم أقدر على التغلب وانتياع ما يف أيدي‬
‫سواهم من األمم بل اجليل الواحد ختتلف أحواله يف ذلك باختالف األعصار‬
‫فكلما نيلوا األرياف وتفنقوا النعيم وألفوا عوالد اخلصب يف املعاش والنعيم‪ ،‬نقص‬
‫من شجاعتهم مبقدار ما نقص من توحشهم وبداوهتم واعترب ذلك يف احليوانات‬
‫العجم بدواجن الظباء والبقر الوحشية واحلفر إذا زال توحشها مبخالطة اادميني‬
‫وأخصب عيشها كيف خيتلف حاهلا يف االنتهاض والشدة حىت يف مشيتها وحسن‬
‫أدميها وكذلك اادمي املتوحش إذا أنس وألف وسببه أن تكون السجايا والطبا إمنا‬
‫هو عن املألوفات والعوالد وإذا كان الغلب لألمم إمنا يكون باإلقدام والبسالة فمن‬
‫كان من هذه األجيال أعرق يف البداوة وأكثر توحشاً كان أقر إىل التغلب على‬
‫سواه إذا تقاربا يف العدد وتكافآ يف القوة العصبية وانظر يف ذلك شأن مضر مع من‬
‫قبلهم من محري وكهالن السابقني إىل امللك والنعيم ومع ربيعة املتوطنني أرياف‬

‫‪ -26‬ابن خلدون‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.016:‬‬

‫‪39‬‬
‫العراق ونعيمه ملا بقي مضر يف بداوهتم وتقدمهم ااخرون إىل خصب العيش‬
‫وغضارة النعيم كيف أرهفت البداوة حدهم يف التغلب فغلبوهم على ما يف أيديهم‬
‫وانتيعوه منهم وهذا حال بين طيء وبين عامر بن صعصعة وبين سليم بن منصور‬
‫ومن بعدهم ملا تأخروا يف باديتهم عن سالر قبالل مضر واليمن وم يتلبسوا بشيء‬
‫من دنياهم كيف أمسكت حال البداوة عليهم قوة عصبيتهم وم ختلفها مذاهب‬
‫المف حىت صاروا أغلب على األمر منهم وكذا كل حي من العر يلي نعيماً‬
‫وعيشاً خصباً دون احلي ااخر ف ن احلي املتبدي‪ ،‬يكون أغلب له وأقدر عليه إذا‬
‫‪27‬‬
‫تكافآ يف القوة والعدد سنة اج يف خلقه‪".‬‬
‫وبناء على ماسبق‪ ،‬يرى ابن خلدون أن املغلو دالما متأثر بالغالب يف عاداته‬
‫وتقاليده وأزياله وأعرافه وقوانينه‪ .‬ويف هذا‪ ،‬يقول ابن خلدون‪ ":‬والسبب يف ذلك أن‬
‫النفس أبداً تعتقد الكمال يف من غلبها وانقادت إليه إما لنظره بالكمال مبا وقر‬
‫عندها من تعظيمه أوملا تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إمنا هو لكمال‬
‫الغالب ف ذا غالطت بذلك واتصل هلا اعتقاداً فانتحلت يع مذاهب الغالب‬
‫وتشبهت به وذلك هو االقتداء أو ملا تراه واج أعلم من أن غلب الغالب هلا ليس‬
‫بعصبية وال قوة بأس م إمنا هو مبا انتحلته من العوالد واملذاهب تغالط أيضاً بذلك‬
‫عن الغلب وهذا راجع لألول ولذلك ترى املغلو يتشبه أبداً بالغالب يف ملبسه‬
‫ومركبه وسالحه يف اختاذها وأشكاهلا بل ويف سالر أحواله وانظر ذلك يف األبناء مع‬
‫آبالهم كيف جتدهم متشبهني هبم دالماً وما ذلك إال العتقادهم الكمال فيهم‬
‫وانظر إىل كل قطر من األقطار كيف يغلب على أهله زي احلامية وجند السلطان يف‬
‫األكثر ألهنم الغالبون هلم حىت أنه إذا كانت أمة جتاور أخرى وهلا الغلب عليها‬
‫فيسري إليهم من هذا التشبه واالقتداء حظ كبري كما هو يف األندلس هلذا العهد‬
‫مع أمم اجلاللقة ف نك جتدهم يتشبهون هبم يف مالبسهم وشاراهتم والكثري من‬

‫‪ -27‬ابن خلدون‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.002-000:‬‬

‫‪41‬‬
‫عوالدهم وأحواهلم حىت يف رسم التماثيل يف اجلدان واملصانع والبيوت حىت لقد‬
‫يستشعر من ذلك الناظر بعني احلكمة أنه من عالمات االستيالء واألمر ج‪ .‬وتأمل‬
‫يف هذا سر قوهلم العامة على دين امللك ف نه من بابه إذ امللك غالب ملن حتت يده‬
‫والرعية مقتدون به العتقاد الكمال فيه اعتقاد األبناء بآبالهم واملتعلمني مبعلميهم‬
‫واج العليم احلكيم وبه سبحانه وتعاىل التوفيق‪".23‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فقد ركي ابن خلدون‪ ،‬يف مقدمته‪ ،‬على العمران البشري‪ ،‬والسيما العمران‬
‫العريب اإلسالمي يف العصر الوسيط‪ ،‬حيث قسمه إىل عمران بدوي وعمران‬
‫حضري‪.‬ومن مث‪ ،‬فالتاريخ هو عبارة عن حركة انتقالية من البداوة إىل احلضارة عرب‬
‫الدولة‪ .‬ومن هنا‪ ،‬فالدولة تعيش جمموعة من األطوار من نشأهتا إىل موهتا وفنالها‬
‫واضمحالهلا‪ ،‬وقد التتعدى الدولة يف حياهتا مالة وعشرين سنة أو ثالثة أجيال‬
‫متعاقبة‪ .‬ويتخذ هذا املسار طابعا هرميا دوريا‪ ،‬وليس خطا مستقيما‪.‬‬
‫أضف إىل ذلك أن الدولة تنتهي مع مرحلة البذ والمف واجملون واالحنالل‬
‫األخالقي‪ ،‬وخاصة عندما تغري قبيلة ما على أطراف الدولة يف مرحلة التضعضع‬
‫والسقوط واالضمحالل‪ ،‬فتنتصر على تلك الدولة‪ ،‬مث تتسس ملكها وسلطاهنا‪،‬‬
‫وختضع للمراحل نفسها اليت مرت هبا الدولة السابقة إىل أن تنهيم أمام قبيلة أخرى‪،‬‬
‫وهكذا دواليك‪ .‬ومن هنا‪ ،‬تتقوى الدولة بقوة العصبية والشوكة‪ ،‬والتمسك بالدين‬
‫والعقيدة والنسب والوالء‪ .‬ويتم هذا التحول من طور البداوة إىل طور احلضارة أو‬
‫من خشونة البداوة إىل رقة احلضارة مبقتضى طبع العمران أو الدورة العصبية‪ .‬ومن‬
‫مث‪ ،‬فهذا غري خاضع لقوانني التفسري العلي أو السبيب‪.‬‬

‫‪ -23‬ابن خلدون‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.003:‬‬

‫‪41‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬التصور المنهجي‬
‫يستند ابن خلدون إىل منهجية جديدة يف دراسة التاريخ والظواهر اجملتمعية‪ ،‬تقوم‪،‬‬
‫باألساس‪ ،‬على استخدام العقل يف فحص املرويات واألخبار واملنقوالت‪،‬‬
‫وإخضاعها للتأمل الفلسفي والتجريب الواقعي‪ ،‬والميث جيدا يف قبول الروايات‪،‬‬
‫واستعمال النقل كلما كان األمر مليما لذلك‪.‬ومن مث‪ ،‬فمنهجية ابن خلدون‬
‫استقرالية هتدف إىل استنباط القوانني اليت تتحكم يف جمرى التاريخ وتطور‬
‫اجملتمعات‪ ،‬مثل‪ :‬قوانني العمران البشري( النشأة‪ ،‬واجملد‪ ،‬واالضمحالل‪ ،‬واملوت)‪.‬‬
‫ومعناها أن الدولة تنشأ مثل اإلنسان‪ ،‬وكلما وصلت الدولة مبلغ القوة واجملد‪ ،‬ف ن‬
‫م حتافظ على ذلك بقوة العصبية والنسب والوالء والعقيدة‪ ،‬ومالت إىل حياة المف‬
‫والرفاهية واجملون واخلنوع والتقاعس عن العمل واجلهاد‪ ،‬إال وكان مصري هذه الدولة‬
‫االضمحالل والفناء واملوت‪ ،‬وهذه سنة احلياة جتري على اإلنسان‪ ،‬كما جتري على‬
‫حياة الدول واملمالك‪.‬‬
‫أضف إىل ذلك فقد طبق ابن خلدون مناهج علوم الطبيعية والفييياء واحليوان‬
‫والنبات على الظواهر اجملتمعية‪ ،‬هبدف كشف القوانني والعوارض اليت ختضع هلا‬
‫وقالع التجمع اإلنسا ‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬فقد وظف ابن خلدون جمموعة من‬
‫االيات واملقاييس العلمية‪ ،‬مثل‪ :‬مقياس التفسري أو التعليل الذي يقوم على ربط‬
‫الظواهر اجملتمعية بعللها وأسباهبا‪ ،‬ومقياس التحقيق واجلرو والتعديل يف نقل األخبار‬
‫ومتحيصها وغربلتها وفحصها‪ ،‬ومقياس اجلرب التارخيي‪ ،‬ومقياس التشابه‪ ،‬ومقياس‬
‫التباين‪ ،28‬ومقياس املقارنة واملوازنة‪ ،‬ومقياس املالحظة احلسية أو الواقعية أو‬
‫التجريبية‪ ،‬ومقياس التقنني والتقعيد للظواهر االجتماعية‪ ،‬ومقياس التأمل العقال ‪،‬‬

‫‪ -28‬طه حسني‪ :‬نفسه‪ ،‬صص‪.16-11:‬‬

‫‪42‬‬
‫ومقياس االستدالل والتجريب‪ ،‬ومقياس االستقراء‪ ،‬ومقياس التعميم‪ ،‬ومقياس‬
‫التمثيل‪ ،‬ومقياس االستنتاج‪ ،‬ومقياس النقل‪ ،‬ومقياس احلتمية االجتماعية‪ ،‬ومقياس‬
‫االتيان‪ ،‬ومقياس العمق‪ ،‬ومقياس القياس‪ ،‬ومقياس التطور‪ ،‬ومقياس التغري والتبدل‪،‬‬
‫ومقياس املعايشة‪ ،‬ومقياس التاريخ‪ ،‬ومقياس النظر‪ ،‬ومقياس املشاهدة واملعاينة‪،‬‬
‫ومقياس طبالع العمران‪ ،‬ومقياس التثبت‪...‬‬
‫ويف هذا الصدد‪ ،‬يقول علي عبد الواحد وايف‪ ":‬اعتمد ابن خلدون يف حبوثه على‬
‫مالحظة ظواهر االجتماع يف الشعو اليت أتيح له االحتكات هبا واحلياة بني أهلها‪،‬‬
‫وعلى تعقب هذه الظواهر يف تاريخ هذه الشعو نفسها يف العصور السابقة‬
‫لعصره‪ ،‬وتعقب أشباهها ونظالرها يف تاريخ شعو أخرى م يتح له االحتكات هبا‬
‫وال احلياة بني أهلها‪ ،‬واملوازنة بني هذه الظواهر يعا‪ ،‬والتأمل يف خمتلف شتوهنا‬
‫للوقوف على طبالعها وعناصرها الذاتية وصفاهتا العرضية‪ ،‬وماتتديه من وظالف يف‬
‫حياة األفراد واجلماعات‪ ،‬والعالقات اليت تربطها بعضها ببعض والعالقات اليت‬
‫تربطها مباعداها من الظواهر الكونية‪ ،‬وعوامل تطورها واختالفها باختالف األمم‬
‫والعصور‪ ،‬مث االنتهاء من هذه األمور يعا إىل استخالص ما ختضع له هذه‬
‫الظواهر يف خمتلف شتوهنا من قوانني‪.‬‬
‫فهو يف حبثه للظواهر االجتماعية جيتاز مرحلتني‪ :‬تتمثل أوالمها يف مالحظات حسية‬
‫وتارخيية لظواهر االجتماع‪ ،‬أو بعبارة أخرى تتمثل يف ع املواد األولية ملوضوع حبثه‬
‫من املشاهدات ومن بطون التاريخ؛ وتتمثل األخرى يف عمليات عقلية جيريها على‬
‫هذه املواد األولية‪ ،‬ويصل بفضلها إىل الغرض الذي قصد إليه من هذا العلم‪ ،‬وهو‬
‫الكشف عما حيكم الظواهر االجتماعية من قوانني‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫هذا هو قوام منهجه يف حبثه‪ .‬وهو قوام املنهج الذي الييال إىل الوقت احلاضر عمدة‬
‫‪81‬‬
‫الباحثني يف علم االجتماع‪".‬‬
‫ويعين هذا أن ابن خلدون يعتمد على املنهج التجرييب الوضعي االستقرالي الذي‬
‫يسري عليه دوركامي يف أحباثه السوسيولوجية‪ ،‬متتبعا اخلطوات التالية‪:‬‬
‫‪ ‬التشكيك يف ااراء السابقة أو الشالعة بفحصها ونقدها وحتقيقها والتثبت‬
‫منها؛‬
‫‪ ‬مالحظة الظواهر اجملتمعية أو اجملتمعات اليت رآها وزارها وعايشها مالحظة‬
‫علمية دقيقة قالمة على اخلربة والواقعية واالستقراء والتأمل العقلي؛‬
‫‪ ‬صوغ الفرضيات والقضايا االجتماعية الكربى يف شكل عناوين فرعية للربهنة‬
‫عليها منطقا واستدالال؛‬
‫‪ ‬تفسري الفرضيات والقضايا الكربى بشرحها وتوضيحها واالستدالل عليها متثيال‬
‫ومقارنة وموازنة وتعليال وتثبتا ومشاهبة وتباينا؛‬
‫‪ ‬استنتاج القوانني والعوارض وتعميمها يف شكل نظريات جمردة عامة مستقاة من‬
‫الواقع التجرييب املالحظ واملرصود بالرؤية واخلربة واملعايشة؛‬
‫‪ ‬تتبع الظواهر اجملتمعية يف خمتلف مراحلها التارخيية املتعاقبة‪ ،‬وتفسري آثارها‬
‫بعللها وأسباهبا وحتمياهتا؛‬
‫‪ ‬استعمال منهجية املقارنة واملماثلة واملوازنة واملقايسة إلجياد أوجه التشابه‬
‫واالختالف بني الشعو اليت احتك هبا أو اليت م حيتك هبا؛‬
‫‪ ‬ربط املتغريات املستقلة والتابعة بعللها وأسباهبا بغية استخالص القوانني‪،‬‬
‫وتعميمها يف شكل نظريات وعوارض (قوانني)‪.‬‬

‫‪ -81‬علي عبد الواحد وايف‪ :‬علم االجتماع‪ ،‬هنضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص‪-30 :‬‬
‫‪.32‬‬

‫‪44‬‬
‫‪ ‬االنطالق من اجلربية أو احلتمية التارخيية يف قراءة اجملتمعات البشرية‪ ،‬وخاصة‬
‫أثناء انتقاهلا من حالة البداوة إىل حالة احلضارة؛‬
‫‪ ‬التأرجح بني االستنباط واالستقراء يف حتصيل النتالج أو تثبيتها والربهنة عليها‪.‬‬
‫لكن حممد عابد اجلابري يرى‪ ،‬عكس ذلك‪ ،‬أن ابن خلدون م يكن جتريبيا‪ ،‬بل‬
‫كان فكره أصوليا أرسطيا على غرار طريقة املتأخرين الذين كانوا مييجون طريقة‬
‫الفقهاء واملتكلمني باملنطق األرسطي واملفاهيم األرسطية‪ .‬ويف هذا‪ ،‬يقول حممد‬
‫عابد اجلابري يف كتابه (نحن والتراث)‪ ":‬م يكن صاحب املقدمة ذا منهج جترييب‬
‫باملعىن احلديث للكلمة‪ ،‬إن املنهج التجرييب إمنا قام على أنقاض املفاهيم األرسطية‬
‫وكل القوالب القدمية اليت حل حملها مفاهيم جديدة متاما انطالقا من جاليلو‪.‬‬
‫صحيح أن ابن خلدون قد اعتمد االستقراء‪ ،‬ولكن ال الستخالص النتالج‪ ،‬بل‬
‫لتأييد النتالج اليت يضعها أوال‪ :‬هنات مالحظات جيلية يصوغها ابن خلدون يف‬
‫صورة حكم عام يضعه أوال‪ ،‬والغالب ما يكون ذلك عنوانا لفصل‪ ،‬مث تأيت بعد‬
‫ذلك استقراءات جيلية أخرى حتاول أن تربهن على صحة ذلك احلكم العام‪.‬إن‬
‫األمر يتعلق إذأً بالقياس األصويل (قياس الغالب على الشاهد‪ ،‬قياس اجليء على‬
‫اجليء) الذي كان الطريقة االستداللية السالدة يف خمتلف العلوم العربية اإلسالمية‪.‬‬
‫والشيء اجلديد عند ابن خلدون هو صياغته هلذا القياس يف صورة براهني هندسية‬
‫أضفت عليه طابعا استنباطيا شكليا‪.‬ذلك ما جعل منهج ابن خلدون يبدو يف‬
‫الظاهر جتريبيا استقراليا وهندسيا استنباطيا ولكن دون أن يفي بشروط أي منهما‪.‬‬
‫هذا املنهج االستقرالي التارخيي‪ -‬االستنباطي التجرييب قد أدخل كثريا من التشويش‬
‫وغري قليل من الغموض على اخلطا اخللدو ‪ ،‬وجعله اليعطي ما فيه مباشرة بل‬
‫يقدم نفسه للتأويل منذ الوهلة األوىل‪.‬ومن هنا كانت آراء ابن خلدون هي دوما‬
‫تأويالت حيتملها النص اخللدو ويقبلها حىت ولو كانت متباينة متناقضة‪.‬إن اجلانب‬
‫االستقرالي التجرييب يف منهج ابن خلدون قد أفقد الصياغة االستنباطية اليت‬

‫‪45‬‬
‫اعتمدها متاسكها وفكك جانب الشمول والعموم فيها‪ ،‬مثلما أن الصياغة اهلندسية‬
‫يف نفس املنهج قد عملت هي األخرى على جتميد احلياة يف اجلانب االستقرالي فيه‬
‫وحتميله مااليطيق‪"80.‬‬
‫لكن الباحث املصري أمحد اخلشا ينفي عنه ذلك الطابع األرسطي بقوله‪ ":‬على‬
‫أن أهم ما ميكن أن نسجله كنيعة جتديدية يف الفكر اإلسالمي هو احملاولة املستمة‬
‫البن خلدون لتخليص الفكر اإلسالمي من سيطرة املنطق الصوري الشكلي‬
‫األرسطي الذي كان يعتمد على الطلبات واملاهيات ومايعرف بقوانني العقل‬
‫األساسية‪.‬ومما جيمل عنه أيضا أنه م خيرج عن اإلطار الواقعي فيما يتعلق بالفطريات‬
‫اليت عاجلها دون أن يتورط يف اجتاهات جتريبية إال بالقدر الذي كانت تعكسه‬
‫‪82‬‬
‫التجربة االجتماعية اليت كان يعيشها يف املرحلة احلضارية اليت عاصرت آراءه‪".‬‬
‫وعليه‪ ،‬فقد استند فكر ابن خلدون‪ ،‬على مستوى املنهج العلمي‪ ،‬إىل جمموعة من‬
‫املصادر اليت ميكن حصرها يف‪ :‬القرآن الكرمي‪ ،‬والسنة النبوية الشريفة‪ ،‬والتأمل‬
‫العقال ‪ ،‬واخلربات التجريبية‪ ،‬واملعايشة الصادقة‪ ،‬وعلم الكالم والفلسفة‪ ،‬والفقه‬
‫واألصول‪ ،‬واملنطق‪ ،‬والتاريخ‪...‬‬
‫أما فيما خيص منهجية عرض حبوثه وأفكاره‪ ،‬فيعتمد ابن خلدون على طريقة علمية‬
‫تبدأ بتقسيم الكتا إىل أبوا كربى‪ ،‬وتفريع كل با إىل عناوين فرعية يف شكل‬
‫قوانني وفرضيات ومسلمات ونتالج توصل إليها الباحث مبحض التجربة والتأمل‬
‫الفلسفي واالختبار العقال ‪ .‬وبعد ذلك‪ ،‬ينتقل ابن خلدون إىل الشرو والتوضيح‬
‫واالستدالل املنطقي والتارخيي والواقعي‪ ،‬بغية تثبيت فرضيته أو استنتاجه الذي‬

‫‪ -80‬حممد عابد اجلابري‪ :‬نحن والتراث‪ ،‬املركي الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة اخلامسة ‪0836‬م‪،‬‬
‫ص‪.821-808:‬‬
‫‪ -82‬أمحد اخلشا ‪ :‬التفكير االجتماعي‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬طبعة ‪0830‬م‪،‬‬
‫ص‪.880:‬‬

‫‪46‬‬
‫وضعه يف العنوان‪ .‬كما يبدو ذلك جليا يف هذا النص‪" :‬الفصل السابع عشر يف‬
‫أطوار الدولة واختالف أحواهلا وخلق أهلها باختالف األطوار‪.‬‬
‫اعلم أن الدولة تنتقل يف أطوار خمتلفة وحاالت متجددة ويكتسب القالمون هبا يف‬
‫كل طور خلقاً من أحوال ذلك الطور ال يكون مثله يف الطور ااخر ألن اخللق‬
‫تابع بالطبع ملياج احلال الذي هو فيه وحاالت الدولة وأطوارها ال تعدو يف الغالب‬
‫مخسة أطوار‪ .‬الطور األول طور الظفر بالبغية وغلب املدافع واملمانع واالستيالء على‬
‫امللك وانتياعه من أيدي الدولة يف هذا الطور أسوة قومه يف اكتسا اجملد وجباية‬
‫املال واملدافعة عن احلوزة واحلماية ال ينفرد دوهنم بشيء ألن ذلك هو مقتضى‬
‫العصبية اليت وقع هبا الغلب وهي م تيل بعد حباهلا‪ .‬الطور الثا طور االستبداد‬
‫على قومه واالنفراد دوهنم بامللك وكبحهم عن التطاول للمسامهة واملشاركة ويكون‬
‫صاحب الدولة يف هذا الطور معنياً باصطناع الرجال واختاذ املواىل والصنالع‬
‫واالستكثار من ذلك جلدع املوت أهل عصبيته وعشريته املقامسني له يف نسبة‬
‫الضاربني يف امللك مبثل سهمه فهو يدافعهم عن األمر ويصدهم عن موارده ويردهم‬
‫على أعقاهبم‪ ،‬أن خيلصوا إليه حىت يقر األمر يف نصابه ويفرد أهل بيته مبا يبين من‬
‫جمده فيعاىن من مدافعتهم ومغالبتهم مثل ما عاناه األولون يف طلب األمر أو أشد‬
‫ألن األولني دافعوا األجانب فكان ظهراؤهم على مدافعتهم أهل العصبية بأ عهم‬
‫وهذا يدافع األقار ال يظاهره على مدافعتهم إال األقل من األباعد فريكب صعباً‬
‫من األمر‪ .‬الطور الثالث طور الفراغ والدعة لتحصيل مثرات امللك مما تنيع طباع‬
‫البشر إليه من حتصيل املال وختليد ااثار وبعد الصيت فيستفرغ وسعه يف اجلباية‬
‫وضبط الدخل واخلرج وإحصاء النفقات والقصد فيها وتشييد املبا احلافلة واملصانع‬
‫العظيمة واألمصار املتسعة واهلياكل املرتفعة وإجازة الوفود من أشراف األمم ووجوه‬
‫القبالل وبث املعروف يف أهله هذا مع التوسعة على صنالعه وحاشيته يف أحواهلم‬
‫باملال واجلاه واعماض جنوده وإدرار أرزاقهم وإنصافهم يف أعطياهتم لكل هالل حىت‬

‫‪47‬‬
‫يظهر أثر ذلك عليهم يف مالبسهم وشكثهم وشاراهتم يوم اليينة فيباهي هبم الدول‬
‫املساملة ويرهب الدول احملاربة وهذا الطور آخر أطوار االستبداد من أصحا الدولة‬
‫ألهنم يف هذه األطوار كلها مستقلون بآرالهم بانون لعيهم موضحون الطرق ملن‬
‫بعدهم‪ .‬طور القنوع واملساملة ويكون صاحب الدولة يف هذا قانعاً مبا بىن أولوه سلماً‬
‫ألنظاره من امللوت وأقتاله مقلداً للماضني من سلفه فيتبع آثارهم حذو النعل بالنعل‬
‫ويقتفي طرقهم بأحسن مناهج االقتداء ويرى أن يف اخلروج عن تقليدهم فساد أمره‬
‫وأهنم أبصر مبا بنوا من جمده‪ .‬الطور اخلامس طور اإلسراف والتبذير ويكون صاحب‬
‫الدولة يف هذا الطور متلفاً ملا ع أولوه يف سبيل الشهوات واملالذ والكرم على‬
‫بطانته ويف جمالسه واصطناع أخدان السوء وخضراء الدمن وتقليدهم عظيمات‬
‫األمور اليت ال يستقلون حبملها وال يعرفون ما يأتون منها يذرون منها مستفسداً‬
‫لكبار األولياء من قومه وصنالع سلفه حىت يضطغنوا عليه ويتخاذلوا عن نصرته‬
‫مضيعاً من جنده مبا أنفق من أعطياهتم يف شهواته وحجب عنهم وجه مباشرته‬
‫وتفقده فيكون خمرباً ملا كان سلفه يتسسون وهادماً ملا كانوا يبنون ويف هذا الطور‬
‫حتصل يف الدولة طبيعة اهلرم ويستويل عليها املرض امليمن الذي ال تكاد ختلص منه‬
‫وال يكون هلا معه برء إىل أن تنقرض كما نبينه يف األحوال اليت نسردها واج خري‬
‫‪88‬‬
‫الوارثني‪".‬‬
‫ويف هذا السياق أيضا‪ ،‬يقول علي عبد الواحد وايف‪ ":‬وأما طريقة عرضه يف املقدمة‬
‫ملا انتهت إليه حبوثه فتشبه من وجوه كثرية الطريقة اليت يسري عليها احملدثون من‬
‫علماء اهلندسة يف عرض نظرياهتم‪.‬فهو يعنون كل فقرة يف حبثه بقانون أو فكرة من‬
‫القوانني أو األفكار اليت انتهى إليها كما يفعل علماء اهلندسة احملدثون‪ ،‬إذ جيعلون‬
‫نص النظرية نفسها عنوانا للفصل‪ ،‬مث يأخذ يف بيان احلقالق اليت استخلص منها‬
‫هذا القانون أو هذه الفكرة‪ ،‬أي يأخذ يف االستدالل عليها‪ ،‬كما يفعل علماء‬

‫‪ -88‬ابن خلدون‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.020-021 :‬‬

‫‪48‬‬
‫اهلندسة احملدثون يف االستدالل عن نظرياهتم‪ .‬واليقتصر يف هذا االستدالل على‬
‫ماشهده أو اطلع عليه يف بطون التاريخ من ظواهر اجتماعية تدل على صحة‬
‫القانون الذي هو بصدده‪ ،‬بل يلجأ كذلك أحيانا إىل االستدالل املنطقي اخلالص‬
‫إن كان يف املوضوع بعض عناصر يقتنع هبا اإلنسان عن طريق الدليل العقلي وإىل‬
‫التعليل حبقالق العلوم الطبيعية أو علم النفس إن كان يف املوضوع بعض عناصر‬
‫يقتنع هبا اإلنسان عن طريق هذه احلقالق‪...‬‬
‫واليظهر ابتكار ابن خلدون والتتحقق أغراضه من دراساته يف علم العمران إال يف‬
‫البحوث األصلية من مقدمته‪.‬أما حبوثها االستطرادية أو التمهيدية‪ ،‬فيقتصر فيها‬
‫عمل ابن خلدون على جمرد نقل احلقالق و عها وتلخيصها وتسجيل ااراء وترجيح‬
‫‪82‬‬
‫بعضها على بعض‪...‬وما إىل ذلك‪".‬‬
‫هذا‪ ،‬ويستعمل ابن خلدون مصطلحات اجتماعية متميية خاصة به‪ ،‬مثل‪ :‬الصراع‪،‬‬
‫والتعاون‪ ،‬والتكيف‪ ،‬والبدو‪ ،‬واحلضر‪ ،‬والعمران‪ ،‬والعوارض الذاتية‪ ،‬وعلم العمران‬
‫البشري‪ ،‬وعلم السياسة املدنية‪ ،‬واالجتماع اإلنسا ‪ ،‬واألمم الوحشية‪ ،‬والعصبية‪،‬‬
‫واملراتب السلطانية‪ ،‬والدول العامة‪ ،‬وامللك‪ ،‬واخلالفة‪ ،‬واملعاش‪ ،‬والصنالع‪،‬‬
‫والكسب‪ ،‬والطبالع‪ ،‬واألحوال‪ ،‬والتوحش‪ ،‬والتأنس‪ ،‬والتغلبات‪...‬‬
‫بيد أن هذه املصطلحات غري كافية عند البعض لقيام علم اجتماع خلدو‬
‫حقيقي‪ .‬ويف هذا‪ ،‬يقول منصف وناس‪ ":‬ولكن ابن خلدون م ينشىء منظومة‬
‫مفاهيمية خاصة به‪ ،‬تستجيب للحاجات النظرية للعلم اجلديد‪ ،‬وقاعدة‬
‫إبستمولوجية لعلم االجتماع اجلديد؛ ولعل ذلك ما قد يعترب جمال جدل نظري‬
‫كبري‪.‬‬
‫ومع كل هذا‪ ،‬ف ن املصطلح اخللدو ميكن أن يساعد على استقراء التاريخ‬
‫السياسي وخصوصيات التشكيالت االجتماعية املغربية‪ ،‬باعتبار أن املقدمة تراكم‬

‫‪ -82‬علي عبد الواحد وايف‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.38-30:‬‬

‫‪49‬‬
‫معريف ميكن أن يساعد على تصحيح مفاهيم بقيت غامضة ومتوترة مثل مفهوم‬
‫الدولة والعصبية واألمة‪ ،‬احتارت جتاهها النظريات املعاصرة؛ كما أن اجملتمعات‬
‫املغربية احلالية حتتاج إىل ربط جديل بني املاضي واحلاضر‪ ،‬ألن جيءا من سلبيات‬
‫احلاضر ناتج عن ثغرات املاضي‪.‬‬
‫وهلذا‪ ،‬ميكن أن يكون العمل اخللدو منطلقا الستكناه املاضي‪ ،‬واستثمارا علميا‬
‫‪81‬‬
‫حلل مكامن الغموض يف املاضي‪ ،‬وعمال ذا جدوى معاصرة!"‬
‫وخالصة القول‪ ،‬لقد استعمل ابن خلدون منهجا جتريبيا قالما على االفماض‪،‬‬
‫واالستدالل‪ ،‬واالختبار‪ ،‬والفحص‪ ،‬والتثبت من الروايات املنقولة‪ ،‬مث االستنتاج‪ ،‬مث‬
‫استخالص القوانني والنظريات العامة‪ .‬والينطلق ابن خلدون من أخيلته واألخبار‬
‫املوجودة‪ ،‬بل يستعمل تأمالته الفلسفية‪ ،‬ويستقري التاريخ‪ ،‬ويوظف جتاربه وخرباته‬
‫يف احلياة‪ ،‬هبدف بناء نظرياته وأحكامه العامة‪ .‬ويعين هذا أن ابن خلدون كان‬
‫مرتبطا ببيئته التارخيية واجلغرافية‪ ،‬ومنفتحا على الظروف السياسية اليت كان يعرفها‬
‫املغر الكبري إبان العصر الوسيط‪ .‬بيد أن استقراءه التجرييب ليس استقراء كليا أو‬
‫شامال‪ ،‬بل كان استقراء ناقصا؛ ألنه م يشمل باقي التجار السياسية األخرى‬
‫كتاريخ العجم ‪ -‬مثال‪.-‬‬
‫ومن جهة أخرى‪ ،‬وظف ابن خلدون الطريقة االستنباطية باالنتقال من الكل والعام‬
‫إىل اجليء واخلاص‪ ،‬أو االنتقال من العناوين االفماضية الكلية إىل الشروو‬
‫والتفسريات اجليلية‪ ،‬بغية التثبت واالستدالل وإقناع الغري بصحة الفرضية أو صحة‬

‫‪ -81‬املنصف وناس‪ ( :‬املنظومة االصطالحية اخللدونية‪ :‬مقاربة نظرية للمصطلح عند ابن خلدون)‪،‬‬
‫الفكر االجتماعي الخلدوني ‪ ،‬المنهج والمفاهيم واألزمة المعرفية‪ ،‬سلسلة كتب املستقبل العريب‪،‬‬
‫مركي دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل ‪2112‬م‪ ،‬ص‪.73 :‬‬

‫‪51‬‬
‫الرأي املعروض‪ ،‬بناء على الوقالع والتجار واألحداث التارخيية والظواهر اجملتمعية‬
‫املختلفة‪.‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬تنبين منهجية ابن خلدون على جمموعة من املراحل واخلطوات اإلجرالية‪،‬‬
‫مثل‪ :‬عملية حتديد املوضوع‪ ،‬وعملية التحقيق(اجلرو والتعديل)‪ ،‬وعملية املعايشة‪،‬‬
‫وعملية املالحظة‪ ،‬وعملية االفماض‪ ،‬وعملية االستدالل واالستقراء واالستنباط‪،‬‬
‫وعملية التأريخ‪ ،‬وعملية املقارنة واملوازنة‪ ،‬وعملية الوصف والتحليل‪ ،‬وعملية‬
‫التصنيف‪ ،‬وعملية التقومي‪ ،‬وعملية االستنتاج‪ ،‬وعملية التقنني والتقعيد‪ ،‬وعملية‬
‫التعميم‪...‬‬
‫هذا‪ ،‬وقد اعتمد ابن خلدون على ترسانة من املفاهيم واملصطلحات االجتماعية‪،‬‬
‫متأرجحا‪ ،‬يف حتليله االجتماعي‪ ،‬بني النقل والعقل‪ ،‬بني التأمل والتجربة‪ ،‬بني الوحي‬
‫والواقع امليدا ‪ ،‬بني االستقراء واالستنباط‪ ،‬بني التاريخ والعمران البشري‪...‬‬

‫المبحث الثالث‪ :‬هل ابن خلدون عالم اجتماع؟‬

‫هنات ستال مهم مازال يترق الباحثني والدارسني للفكر اخللدو ‪ .‬وهذا الستال‬
‫نصوغه على النحو التايل‪ :‬هل ابن خلدون هو املتسس احلقيقي لعلم االجتماع أم‬
‫أنه جمرد فيلسوف للتاريخ أو أنه صاحب فلسفة اجتماعية؟‬
‫هنات فئة من الباحثني تثبت أن ابن خلدون عام اجتماع كعلي عبد الواحد وايف يف‬
‫كتابه (علم االجتماع)‪ ،‬حيث يقول الباحث‪ ":‬اجتهت حبوث ابن خلدون يف‬
‫مقدمته إىل دراسة الظواهر االجتماعية للكشف عن طبيعتها وما ختضع له من‬
‫قوانني‪.‬فقد هدته مشاهداته وتأمالته لشتون االجتماع اإلنسا إىل أن الظواهر‬

‫‪51‬‬
‫االجتماعية التشذ عن بقية ظواهر الكون‪ ،‬وأهنا حمكومة يف خمتلف نواحيها بقوانني‬
‫طبيعية تشبه القوانني اليت حتكم ماعداها من ظواهر الكون‪ ،‬كظواهر الفلك والطبيعة‬
‫والكيمياء واحليوان والنبات‪.‬‬
‫ومن مث رأى أنه من الواجب أن تدرس هذه الظواهر دراسة وضعية كما تدرس‬
‫ظاهرات العلوم األخرى للوقوف على طبيعتها وماحيكمها من قوانني‪.‬وعلى هذا‬
‫البحث وقف دراسته يف املقدمة‪.‬‬
‫فمن حبوث ابن خلدون يف (املقدمة) يتألف إذن علم مستقل‪.‬وقد مساه ابن خلدون‬
‫علم العمران البشري أو االجتماع اإلنسا وهو العلم الذي نسميه السوسيولوجيا‬
‫أو علم االجتماع‪ ،‬ألن قوام هذا العلم هو دراسة الظواهر االجتماعية للكشف عن‬
‫القوانني اليت ختضع هلا‪...‬‬
‫واحلقيقة أننا م نعثر إىل اان على حبث سابق لبحوث ابن خلدون قد تناول ظواهر‬
‫االجتماع يف جمموعها‪ ،‬وعلى أهنا شعبة مستقلة‪ ،‬ودرسها كما تدرس العلوم الطبيعية‬
‫والرياضية ظواهرها‪ ،‬أي للكشف عن طبيعتها وما ختضع له من قوانني‪"86 .‬‬
‫وهنات أيضا موقف حممد سعيد فرو الذي يعد ابن خلدون رالد علم االجتماع يف‬
‫كتابه (ما‪ ...‬علم االجتماع؟)‪":‬إن فضل ابن خلدون املفكر اإلسالمي على علم‬
‫االجتماع كبري إال أن كتابات املفكرين الغربيني كثريا ما تتجاهل فضله وجمهوداته يف‬
‫تأكيد دراسة العمران البشري وقد نالت كتاباته أمهيتها ألهنا كانت نتيجة جتاربه‬
‫ومشاهداته ومالحظاته وم تكن أبدا من وحي خيال‪".87‬‬
‫ويعمف جمموعة من األجانب بريادة ابن خلدون لعلم االجتماع‪ ،‬مثل‪ :‬لودفيج‬
‫لوفيتش(‪ ":)Gumplowicz‬لقد أردنا أن ندلل على أنه قبل أوجيست‬

‫‪ -86‬علي عبد الواحد وايف‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.68-67:‬‬


‫‪ -87‬حممد سعيد فرو‪ :‬ما‪...‬علم االجتماع؟‪ ،‬منشأة املعارف باإلسكندرية‪ ،‬مصر‪ ،‬الطبعة األوىل سنة‬
‫‪2102‬م‪ ،‬ص‪.078:‬‬

‫‪52‬‬
‫كونت‪ ،‬بل قبل فيكو الذي أراد اإليطاليون أن جيعلوا منه أول عام أورويب يف علم‬
‫االجتماع‪ ،‬جاء مسلم تقي فدرس الظواهر االجتماعية بعقل متين‪ ،‬وأتى يف هذا‬
‫‪83‬‬
‫املوضوع بآراء عميقة‪ .‬وماكتبه هو ما نسميه اليوم علم االجتماع‪".‬‬
‫وقال العالمة كولوزيو (‪ )S.Colisio‬يف جملة( العالم اإلسالمي) اليت تصدر‬
‫باللغة الفرنسية‪ ":‬إن مبدأ احلتمية االجتماعية (أي اجلربية يف ظواهر االجتماع‪ ،‬وهو‬
‫املبدأ الذي يقوم عليه االجتماع) يعود الفضل يف تقريره إىل ابن خلدون قبل رجال‬
‫‪88‬‬
‫الفلسفة الوضعية (‪( )Positivisme‬يقصد أوجيست كونت ومدرسته)"‪.‬‬
‫ويقول كذلك العام األمريكي فارد (‪ )Vard‬يف كتابه (علم االجتماع النظري)‪":‬‬
‫كانوا يظنون أن أول من قال وبشر مببدإ احلتمية يف احلياة االجتماعية هو‬
‫مونتيسكيو )‪(Montesquieu‬أو فيكو)‪ ،(Vico‬مع أن ابن خلدون قال‬
‫بذلك وأثبت خضوع الظواهر االجتماعية لقوانني ثابتة قبل هتالء مبدة طويلة‪ .‬فقد‬
‫‪21‬‬
‫قال بذلك يف القرن الرابع عشر‪".‬‬
‫ومنهم كذلك العالمة مشيث (‪ )M.Schmidt‬الذي يقول يف كتابه (ابن‬
‫والفيلسوف)‬ ‫والمؤرخ‬ ‫االجتماع‬ ‫عالم‬ ‫خدلون‪:‬‬
‫سنة ‪0881‬م‪ ":‬إن ابن خلدون قد تقدم يف علم االجتماع إىل حدود م يصل إليها‬
‫كونت نفسه يف النصف األول من القرن التاسع عشر‪ ،‬وإن املفكرين الذين وضعوا‬
‫أسس علم االجتماع من جديد لو كانوا قد اطلعوا على مقدمة ابن خلدون‪،‬‬
‫فاستعانوا باحلقالق اليت قد اكتشفها واملناهج اليت أحدثها يف الدراسة ذلك العبقري‬

‫‪ -83‬علي عبد الواحد وايف‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.88:‬‬


‫‪ -88‬علي عبد الواحد وايف‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.88:‬‬
‫‪ -21‬علي عبد الواحد وايف‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.88:‬‬

‫‪53‬‬
‫العريب قبلهم مبدة طويلة الستطاعوا أن يتقدموا هبذا العلم اجلديد بسرعة أعظم مما‬
‫‪20‬‬
‫تقدموا به‪".‬‬
‫ومن جهة أخرى‪ ،‬هنات طالفة من الباحثني تنكر على ابن خلدون أن يكون عام‬
‫اجتماع‪ ،‬بل هو جمرد متر أو فيلسوف التاريخ أو لديه جمرد فلسفة اجتماعية كما‬
‫‪45‬‬
‫يقول طه حسني يف كتابه (فلسفة ابن خلدون االجتماية)‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬فابن خلدون عام اجتماع عن جدارة واستحقاق‪ ،‬وقد سبق أوجست كونت‬
‫وسان سيمون ودوركامي إىل تأسيس هذا العلم اجلديد‪ ،‬ويعمف ابن خلدون نفسه‬
‫أنه م جيد هذا العلم عند أية أمة من األمم السابقة لعهده‪ ،‬وأنه كان السباق إىل‬
‫تسخري هذا العلم الذي يعىن بالتجمع اإلنسا أو البشري‪ .‬وأكثر من هذا فقد‬
‫وضع ميادينه‪ ،‬ورتب أغراضه‪ ،‬وحدد مواضيعه‪ ،‬وبني منهجية التعامل مع الظواهر‬
‫اجملتمعية بشكل علمي دقيق‪.‬‬

‫المبحث الرابع‪ :‬قراءات في التراث الخلدوني‬

‫مثة جمموعة من القراءات املتنوعة واملختلفة واملتعارضة اليت انصبت حول الماث‬
‫اخللدو ؛ إذ ميكن احلديث عن قراءة استشراقية‪ ،‬وقراءة استعمارية ( كولونيالية)‪،‬‬
‫وقراءة عنصرية‪ ،‬وقراءة أمازيغية‪ ،‬وقراءة سلفية‪ ،‬وقراءة علمانية‪ ،‬وقراءة فلسفية‪،‬‬

‫‪ -20‬علي عبد الواحد وايف‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.82-80:‬‬


‫‪ -22‬طه حسني‪ :‬فلسفة ابن خلدون االجتماعية‪ ،‬تحليل ونقد‪ ،‬تر ة‪ :‬حممد عبد اج عنان‪ ،‬دار‬
‫املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬طبعة ‪2116‬م‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫وقراءة مادية جدلية‪ ،‬وقراءة تارخيانية‪ ،‬وقراءة إيديولوجية مقارنة‪ ،‬وقراءة عربية ‪-‬‬
‫‪28‬‬
‫أوروبية‪ ،‬وقراءة قومية‪...‬‬
‫هذا‪ ،‬وقد صنف الباحثون والدارسون العر واألجانب العالمة ابن خلدون‬
‫تصنيفات تأويلية عديدة إىل درجة التشويه والتيييف واالدعاء‪ .‬لذلك‪ ،‬وجدنا وجوها‬
‫وصورا متعددة البن خلدون‪ .‬فهنات ابن خلدون املادي املاركسي (سفيتالنا باتسييفا‬
‫‪ ،22‬وإيف الكوست‪ ،21‬وأمحد ماضي‪ ،26‬ومهدي عامل‪ ،)...27‬وابن خلدون‬
‫العلما (ساطع احلصري‪ ،)...23‬وابن خلدون احملافظ الرجعي(علي عبد الرزاق‬
‫جليب‪ 28‬وعبد الباسط عبد املعطي‪ ،)...11‬وابن خلدون العنصري والقومي (ظاهر‬

‫‪ -28‬حممد أمحد اليعيب‪( :‬حول اإلرث السوسيولوجي البن خلدون‪ :‬مدخل عام)‪ ،‬الفكر االجتماعي‬
‫الخلدوني ‪ ،‬المنهج والمفاهيم واألزمة المعرفية‪ ،‬سلسلة كتب املستقبل العريب‪ ،‬مركي دراسات الوحدة‬
‫العربية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل ‪2112‬م‪ ،‬ص‪.83-00 :‬‬
‫‪ -22‬سفيتالنا باتسييفا‪ :‬العمران البشري في مقدمة ابن خلدون‪ ،‬تر ة‪ :‬رضوان إبراهيم‪ ،‬الدار العربية‬
‫للكتا ‪ ،‬تونس‪/‬طرابلس طبعة ‪0873‬م‪.‬‬
‫‪ -42‬إيف الكوست‪ :‬العالمة ابن خلدون‪ ،‬تر ة‪ :‬ميشال سليمان‪ ،‬دار ابن خلدون‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫الطبعة األوىل سنة ‪0832‬م‪.‬‬
‫‪ -26‬أمحد ماضي‪( :‬ابن خلدون واملادية التارخيية)‪ ،‬مجلة دراسات تاريخية‪ ،‬العدد‪ 8‬ديسمرب‪0831‬م‪،‬‬
‫ص‪.63-61:‬‬
‫‪ -27‬مهدي عامل‪ :‬في علمية الفكر الخلدوني‪ ،‬دار الفارايب‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬طبعة ‪0831‬م‪،‬‬
‫ص‪.78:‬‬
‫‪ -23‬ساطع احلصري‪ :‬دراسات عن مقدمة ابن خلدون‪ ،‬مكتبة اخلاجني‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬الطبعة الثالثة‬
‫‪0867‬م‪.‬‬
‫‪ -28‬علي عبد الرزاق جليب‪ :‬قضايا علم االجتماع المعاصر‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬طبعة‬
‫‪0832‬م‪.‬‬
‫‪ -11‬نقال عن حممد حممد أمييان‪ :‬منهج البحث االجتماعي بين الوضعية والمعيارية‪ ،‬منشورات‬
‫املعهد العاملي للفكر اإلسالمي‪ ،‬فريجينيا‪ ،‬الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬الطبعة األوىل سنة ‪0880‬م‪،‬‬
‫ص‪.282:‬‬

‫‪55‬‬
‫احلمريي‪ ،)10‬وابن خلدون املوضوعي املتوازن(وسيلة خيار‪ ،)...12‬وابن خلدون‬
‫الواقعي(ناصيف نصار‪ ،)...18‬وابن خلدون الفقيه األصويل (حممد حممد‬
‫أمييان‪ ،)...‬وابن خلدون الغييب اخلرايف‪ ،‬وابن خلدون العقال (حممد عابد‬
‫اجلابري‪...)12‬‬
‫وهكذا‪ ،‬جند الباحث اجليالري حممد أمحد اليعيب يقر ابن خلدون من التيار‬
‫املاركسي املادي بقوله‪":‬إن بعضا من أقوال ابن خلدون تنطوي بالفعل على بذور‬
‫املفهوم املادي للتاريخ‪ .‬ولكن مثل هذه األقوال الميكن وال ينبغي فصلها عن سياقها‬
‫املعريف العام‪.‬ومن زاوية هذا السياق‪ ،‬ف نه الميكن توأمة وال حىت مقارنة ابن خلدون‬
‫مباركس أو العكس‪.‬ذلك أنه لكل منهما إشكاليته النظرية والسياسية اخلاصة‪،‬‬
‫املرتبطة أساسا ببيئته التارخيية اإلقطاعية أو حسب البعض أسلو اإلنتاج‬
‫ااسيوي‪ -‬بالنسبة البن خلدون‪ ،‬والرأمسالية بالنسبة ملاركس‪.‬ولكننا نمت البا‬
‫مفتوحا أمام إمكانية أن يعد ابن خلدون سلفا بعيدا هليجل وماركس فيما يتعلق‬
‫باملادية اجلدلية‪.‬وحتضر الرسالة اليت بعث هبا مكسيم غوركي إىل املفكر الروسي‬
‫ف‪.‬أ‪.‬أنوتشني (‪ )0802‬واليت يقول فيها‪ ":‬إنك تنبئنا بأن ابن خلدون يف القرن‬
‫الرابع عشر كان أول من أظهر دور العوامل االقتصادية وعالقات اإلنتاج‪.‬إن هذا‬
‫النبأ قد أحدث وقع خرب مثري‪ ،‬واهتم به صديق الطرفني (يقصد لينني) اهتماما‬
‫‪11‬‬
‫خاصا‪".‬‬

‫‪ -10‬ظاهر احلمريي‪ :‬نظرة في مقدمة ابن خلدون‪ ،‬طبعة ‪0886‬م‪.‬‬


‫‪ -12‬وسيلة خيار‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.081-028:‬‬
‫‪ -18‬ناصيف نصار‪ :‬الفكر الواقعي عند ابن خلدون تفسير تحليلي وجدلي لفكر ابن خلدون في‬
‫بنيته ومعناه‪ ،‬دار الطليعة ‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل سنة ‪0830‬م‪ ،‬صص‪.283-287:‬‬
‫‪ -12‬حممد عابد اجلابري‪ :‬فكر ابن خلدون‪ :‬العصبية والدولة معالم نظرية خلدونية في التاريخ‬
‫اإلسالمي‪ ،‬دار النشر املغربية‪ ،‬الدار البيضاء ‪ ،‬املغر ‪ ،‬الطبعة الرابعة ‪0832‬م‪.‬‬
‫‪ -11‬حممد أمحد اليعيب‪( :‬حول اإلرث السوسيولوجي البن خلدون‪ :‬مدخل عام)‪ ،‬ص‪.88-82 :‬‬

‫‪56‬‬
‫وهذا الرأي نفسه جنده عند أمحد ماضي‪ ":‬وإن كنت أتردد يف اعتبار ابن خلدون‬
‫شبه رالد للمادية التارخيية إال أنين ال أتردد يف القول بأنه وضع مقدمات االنتقال‬
‫إليها‪ ،‬واليساور أدىن شك يف أن املقدمة متثل مدخال عربيا لفهم املادية التارخيية‬
‫وما أستخلصه من ذلك هو أن التفكري التارخيي ليس مقتصرا على شعب دون آخر‬
‫والعقل دون آخر‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬خنلص إىل أن مفكرنا العريب لعب دورا يف وضع مقدمات معينة متثل‬
‫مدخال عربيا إىل املادية التارخيية‪ ،...‬ومهما قيل يف ابن خلدون فالبد بناء على أدلة‬
‫قوية اليرقى إليها الشك أنه يعترب رالدا لالجتاه املادي يف علم االجتماع‬
‫‪16‬‬
‫ومقدماته‪".‬‬
‫أما الباحث املصري أمحد اخلشا ‪ ،‬فيقربه من املفكرين اجلدليني املاديني‪ .‬ويف هذا‪،‬‬
‫يقول الباحث‪ ":‬وهنات مالحظة وهو أن ابن خدلون أشاد بفكرة الصراع وغريها‬
‫أساسا اجتماعيا وضروريا لنشأة القانون ونشأة الضوابط االجتماعية وهو يف هذا‬
‫اجملال قد قدم الكثري إىل االجتاهات اجلدلية‪ ،‬دون أن يفصل القول بطريقة منهجية‬
‫‪17‬‬
‫ميكن معها تكوين بناء فكري متكامل ميثل االجتاهات اجلدلية املعاصرة‪".‬‬
‫يف حني أدرجه عبد القادر عرايب ضمن التيار العقال ‪":‬حقا‪ ،‬لقد كان ابن خلدون‬
‫فيلسوفا‪ ،‬ورالدا من رواد العقالنية‪ ،‬ومما عضد هذه النيعة اعتماده الشديد على‬
‫املطابقة بني الفكر العقال والعمران‪ ،‬ويف هذا الصدد يرى بعض املفسرين أن علم‬
‫العمران إذاً مدخل منهجي ملعرفة التاريخ على حقيقته‪".13‬‬

‫‪ -16‬أمحد ماضي‪( :‬ابن خلدون واملادية التارخيية)‪ ،‬مجلة دراسات تاريخية‪ ،‬عدد‪ ،8‬صفر ‪-0210‬‬
‫دجنرب‪0831‬م‪ ،‬ص‪.63-61:‬‬
‫‪ -17‬أمحد اخلشا ‪ :‬التفكير االجتماعي‪ ،‬ص‪.880:‬‬
‫‪ -13‬عبد القادر عرايب‪( :‬قراءة سوسيولوجية يف منهجية ابن خلدون)‪ ،‬الفكر االجتماعي الخلدوني ‪،‬‬
‫المنهج والمفاهيم واألزمة المعرفية‪ ،‬سلسلة كتب املستقبل العريب‪ ،‬مركي دراسات الوحدة العربية‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل ‪2112‬م‪ ،‬ص‪.66 :‬‬

‫‪57‬‬
‫ويعتربه عبد الباسط عبد املعطي من املفكرين احملافظني املهادنني للسلطة‪ .‬ويف هذا‪،‬‬
‫يقول‪ ":‬وحصاد هذه ااراء واألقوال يوضح أنه كان يف حبثه ساعيا إىل تدعيم النظام‬
‫القالم وتربيره‪ ،‬متيدا الفوارق بني الناس‪ ،‬ألمور ليست بأيديهم‪ ،‬ومطالبا الناس‬
‫بالطاعة " الناس على دين ملوكهم" ومربزا ألمهية القهر واحلكم الفردي والطغيان‪.‬‬
‫ولوال وقوعه يف هذا املأزق لكان علم االجتماع لديه أكثر اكتماال علميا‬
‫واجتماعيا‪ ،‬ألنه وإن كان قد أقر التغري يف االجتماع اإلنسا ‪ ،‬فقد رفض كل تغري‬
‫مقصود تاركا إياه فقط لتلقالية وقوعه‪ ،‬وإلرادة امللوت واحلكام‪.‬وهذا يعين ضمنا‬
‫احملافظة على ماهو قالم وبالتايل تكريس التخلف‪.‬زد على هذا إشارته إىل خضوع‬
‫اجملتمع لقوانني طبيعية تعين يف مضموهنا االجتماعي أن البشر مهما حاولوا فلن‬
‫‪18‬‬
‫يغريوا شيئا‪ ،‬ويف ذلك إهدار فاعلية اإلرادة اإلنسانية عرب التاريخ‪".‬‬
‫ويدرجه ساطع احلصري ضمن الفكر العلما ‪ ":‬إن ابن خلدون يفصل الدين عن‬
‫شتون االجتماع‪ ،‬ويعمض بشدة على الذين يقولون‪ :‬إن احلياة االجتماعية التقوم‬
‫‪61‬‬
‫إال بالدين وأن السياسة التنهض إال بالشرع‪"...‬‬
‫وتعتربه وسيلة خيار مفكرا موضوعيا متوازنا‪ ":‬هلذا أقول م يكن فكر ابن خلدون‬
‫راديكاليا على طريقة ماركس‪ ،‬والحمافظا على طريقة كونت ودوركامي وفيرب‪ ،‬وغريهم‬
‫من علماء االجتماع احملافظني‪ .‬لقد كان فكرا موضوعيا إىل حد كبري‪ ،‬اتصف بالدقة‬
‫واحلياد‪ ،‬واالحتكام إىل الواقع وتقدمي األدلة والرباهني العقلية‪ ،‬وإن كان م خيل من‬
‫‪60‬‬
‫متثرات إيديولوجية دينية طبعت منطلقاته‪ ،‬وتركت بصماهتا على آراله وحتليالته‪".‬‬

‫‪ -18‬عبد الباسط عبد املعطي‪ :‬اتجاهات نظرية في علم االجتماع‪ ،‬عام املعرفة‪ ،‬الكويت‪ ،‬العدد‪،22:‬‬
‫ص‪.13:‬‬
‫‪ -61‬ساطع احلصري‪ :‬دراسات في مقدمة ابن خلدون‪ ،‬مكتبة اخلاجني‪ ،‬الطبعة الثالثة سنة ‪0867‬م‪،‬‬
‫ص‪.280-281:‬‬
‫‪ -60‬وسيلة خيار‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.081-028:‬‬

‫‪58‬‬
‫وهنات من يعتربه فقيها أصوليا كمحمد حممد أمييان‪ ":‬إن ابن خلدون م ينفرد‬
‫بنظريته وحتليالته الواقعية‪ ،‬وأسلوبه القالم على االستقراء والتجربة واملالحظة م يكن‬
‫فيه مبتكرا‪ ،‬وهو يف ذلك متبع وليس مبتدعا‪.‬وأبعد من ذلك أن ابن خلدون يعترب‬
‫نفسه خلفا لطبقة األصوليني والفقهاء الذين أعرضوا عن املناهج الصورية‪ ،‬وركيوا‬
‫‪62‬‬
‫اهتماماهتم على الواقعات احلسية املرتبطة حبياة الناس ومعاشهم وعوالدهم‪".‬‬
‫ومن جهة أخرى‪ ،‬اختلف الباحثون كذلك حول موضوع مقدمة ابن خلدون‪" ،‬‬
‫فطه حسني يذهب إىل أن الدولة هي موضوع املقدمة‪ ،‬أما الوردي‪ ،68‬فريى أن‬
‫الصراع بني البداوة واحلضارة هو حمور النظرية اخللدونية‪ .‬يف حني‪ ،‬يتكد عبد الرمحن‬
‫بدوي‪ 62‬أن املقدمة مييج من السياسة والعمران والتاريخ‪...‬‬
‫يف املقدمة وضع ابن خلدون دورية العمران البشري‪ ،‬وسلك فيها مسلكا جديدا‪،‬‬
‫حيث إنه يعنون البحث مث يشرع بشرحه واستقراء القوانني‪"61.‬‬
‫ويذهب التونسي حممود الذوادي إىل أن موضوع املقدمة هو الطبيعة البشرية ‪ .66‬يف‬
‫حني‪ ،‬يرى حممد عييي احلبايب أن موضوع املقدمة هو العصبية القبلية‪...67‬‬

‫‪ -62‬حممد حممد أمييان‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.216:‬‬


‫‪ -68‬علي الوردي‪ :‬منطق ابن خلدون في ضوء حضارته وشخصيته‪ ،‬الدار التونسية للنشر‪ ،‬تونس‪،‬‬
‫الطبعة األوىل سنة ‪0877‬م‪ ،‬ص‪.278:‬‬
‫‪ -62‬عبد الرمحن بدوي‪ :‬مؤلفات ابن خلدون‪ ،‬اجمللس األعلى للثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬الطبعة األوىل‬
‫سنة ‪2116‬م‪ ،‬ص‪.62:‬‬
‫‪ -61‬عبد القادر عرايب‪( :‬قراءة سوسيولوجية يف منهجية ابن خلدون)‪،‬ص‪.71:‬‬
‫‪ -66‬حممود الذوادي‪( :‬أضواء على مفهوم الطبيعة البشرية يف الفكر اخللدو )‪ ،‬الفكر االجتماعي‬
‫الخلدوني ‪ ،‬المنهج والمفاهيم واألزمة المعرفية‪ ،‬سلسلة كتب املستقبل العريب‪ ،‬مركي دراسات الوحدة‬
‫العربية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل ‪2112‬م‪ ،‬ص‪.88:‬‬
‫‪ -67‬حممد عييي احلبايب‪( :‬الدينامية احملركة للتاريخ عند ابن خلدون)‪ ،‬تر ة‪ :‬فاطمة اجلامعي احلبايب‪،‬‬
‫الفكر االجتماعي الخلدوني ‪ ،‬المنهج والمفاهيم واألزمة المعرفية‪ ،‬سلسلة كتب املستقبل العريب‪،‬‬
‫مركي دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل ‪2112‬م‪ ،‬ص‪.87-31 :‬‬

‫‪59‬‬
‫وميكن القول أيضا بأن موضوع املقدمة هو التجمع البشري أو اإلنسا بدراسته‬
‫وتبيان أحواله وطبالعه‪ ،‬يف خمتلف جتلياته السياسية‪ ،‬واالجتماعية‪ ،‬واالقتصادية‪،‬‬
‫والفكرية‪ ،‬والدينية‪ ،‬واحلضارية‪ ،‬والثقافية‪ ،‬والعلمية‪...‬‬
‫ويف األخري‪ ،‬أقول‪ :‬إن ابن خلدون كان مفكرا حداثيا سبق أبناء عصره بفكره‬
‫التنويري القالم على العقالنية‪ ،‬والتجريب‪ ،‬والتأمل االستداليل املنطقي‪ ،‬وفلسفة‬
‫التاريخ‪ ،‬وعلمنة العمران البشري‪ ،‬والتأرجح بني االستنباط واالستقراء‪ ،‬واالستعانة‬
‫باملنظور العقدي والديين والفقهي واألصويل يف التعامل مع الظواهر فهما وتفسريا‬
‫وتأويال‪.‬‬
‫وما أشد حاجتنا إىل الفكر اخللدو لتجاوز مثبطات الواقع العريب اإلسالمي‪،‬‬
‫ب عادة قراءة جمتمعنا قراءة جديدة ومعاصرة‪ ،‬يف ضوء املفاهيم السوسيولوجية‬
‫اخللدونية‪ ،‬مع استيعا تاريخ املاضي لبناء حاضرنا ومستقبلنا‪ ،‬بتمثل إجيابيات روو‬
‫الفلسفة اخللدونية‪ ،‬وترت سلبياهتا وعوالقها اإلبستمولوجية واإليديولوجية!‬

‫المبحث الخامس‪ :‬نقد وتقويم‬


‫يعد ابن خلدون متسس علم االجتماع والعمران البشري‪ ،‬وقد سبق إىل وضع‬
‫لبنات علم االجتماع القروي‪ ،‬وعلم االجتماع احلضري‪ .‬كما وضع أسس الدميغرافيا‬
‫واجلغرافيا السكانية‪ ،‬وربط أحوال الناس باملنا وطبيعة اجلو‪ ،‬بل كانت له آراء‬
‫وجيهة يف علم االجتماع السياسي‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬فقد ركي ابن خلدون‪ ،‬يف‬
‫البا الرابع املخصص لنشأة املدن واألمصار ومواطن التجمع اإلنسا ‪ ،‬على شعبة‬
‫مساها إميل دوركامي باملورفولوجيا االجتماعية (‪)La morphologie sociale‬‬
‫أو علم البنية االجتماعية " وظن هو وأعضاء مدرسته أهنم أول من عىن بدراسة‬

‫‪61‬‬
‫مساللها‪ ،‬وأول من فطن إىل خواصها االجتماعية‪ ،‬وأول من أدخلها يف مسالل علم‬
‫االجتماع‪ ،‬وم يدروا أنه قد سبقهم إىل ذلك ابن خلدون بأكثر من مخسة قرون‪،‬‬
‫‪63‬‬
‫وأنه قد وقف على هذه الشعبة زهاء بابني كاملني يف مقدمته‪".‬‬
‫وال ننسى أن نقول بأن ابن خلدون قد استفاد من الكتابات االجتماعية السابقة‪،‬‬
‫كما يبدو ذلك واضحا عند الفارايب‪ ،‬والبريو ‪ ،‬وإخوان الصفا‪ ،‬وابن سينا‪ ،‬وابن‬
‫طفيل‪ ،‬وابن رشد‪ ،‬والغيايل‪ ،‬والبريو ‪ ،‬وأيب بكر الرازي‪ ،‬وابن أيب الربيع صاحب‬
‫كتا ( سلوك المالك في تدبيرالممالك)‪ ،‬وغريهم‪...‬‬
‫ويكفيه فخرا أنه أرسى دعالم علم االجتماع تصورا وتطبيقا‪ ،‬ونظر للعمران البشري‪،‬‬
‫وفرع علم االجتماع إىل أغراض ومواضيع وميادين وجماالت‪ ،‬واستجلى منهجية‬
‫اجتماعية يف التعامل مع الظواهر اجملتمعية‪ ،‬واستفاد أيضا من علم التاريخ لبناء‬
‫نظريته يف علم االجتماع والعمران البشري‪...‬كما ساهم يف تفسري نشأة الدولة‬
‫بالمكيي على العصبية والعقيدة‪ ،‬وحدد أطوار الدولة وعمرها اليمين والسياسي‪،‬‬
‫وفصل كثريا يف طبيعة العالقة اليت ينبغي أن جتمع بني الراعي والرعية‪...‬‬
‫هذا‪ ،‬ومن " األفكار األساسية اليت تعد من خصالص الفكر اخللدو هو نظريته‬
‫السياسية‪ ،‬وكيفية تغري أشكال السلطة وممارساهتا وآثار ذلك على مسرية اجملتمع‬
‫وعملية تطورها‪ ،‬من خالل طبيعة العالقة السالدة بني احلاكم‬
‫والشعب(الرعية)‪.‬وكيف يتحول النظام السياسي من املشاركة والتعاون بني لة‬
‫الناس‪ ،‬إىل انفراد أحدهم باحلكم والرأي والسلطة‪ ،‬رابطا كل ذلك بعمليات التحول‬
‫اليت تصيب اجملتمع خالل أطواره املختلفة‪".68‬‬

‫‪ -63‬علي عبد الواحد وايف‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.78:‬‬


‫‪ -68‬كلثم علي الغامن وآخران‪ :‬موجز تاريخ الفكر االجتماعي‪ ،‬سلسلة علم االجتماع‪ ،‬الكتا الثا ‪،‬‬
‫األهايل للتوزيع‪ ،‬دمشق‪ ،‬سورية‪ ،‬الطبعة األوىل سنة ‪2110‬م‪ ،‬ص‪.033:‬‬

‫‪61‬‬
‫عالوة على ذلك‪ ،‬فقد تناول ابن خلدون معظم الظواهر االجتماعية اليت ترتكي‬
‫عليها السوسيولوجيا‪ ،‬والسيما الظواهر السياسية‪ ،‬واالقتصادية‪ ،‬واالجتماعية‪،‬‬
‫والتارخيية‪ ،‬والدينية‪ ،‬والثقافية‪ ،‬والعلمية‪ ،‬والمبوية‪ .‬ويعين هذا أن كتا املقدمة‬
‫يتضمن جمموعة من فروع علم االجتماع العام‪ ،‬مثل‪ :‬قواعد املنهج يف علم‬
‫االجتماع‪ ،‬وعلم التنبت البشري(اإليكولوجيا)‪ ،‬وعلم االجتماع الريفي‪ ،‬وعلم‬
‫االجتماع السياسي‪ ،‬وعلم االجتماع احلضري‪ ،‬وعلم االجتماع االقتصادي‪ ،‬وعلم‬
‫اجتماع املعرفة ‪.71‬‬
‫ومن هنا‪ " ،‬تعترب مقدمة ابن خلدون حبق عمال موسوعيا قدم لنا فيه صورة بانورامية‬
‫كاملة للحياة الثقافية والسياسية واالجتماعية واالقتصادية يف اجملتمع العريب‪-‬‬
‫اإلسالمي الوسيط‪ .‬وهذا ما جعل العديد من العلماء يعمفون صراحة بقيمة كتابات‬
‫ابن خلدون وتأثريها يف حتليل قضايا سوسيولوجية مهمة التيال تشكل اهتمامات‬
‫العديد من علماء االجتماع والتاريخ والسياسة واالقتصاد واألنموبولوجيا وغريهم‪،‬‬
‫إىل املدى الذي أصبح هنات اعماف عاملي اان بدور ابن خلدون يف الدعوة إىل‬
‫إنشاء علم االجتماع‪".70‬‬
‫وعلى الرغم من أمهية مقدمة ابن خلدون يف إرساء علم االجتماع‪ ،‬ف هنا م تمت أثرا‬
‫يف الباحثني الالحقني الذين عادوا إىل الفلسفة االجتماعية أو فلسفة التاريخ‪ ،‬كما‬
‫يتضح ذلك جليا عند مكيافيلي‪ ،‬وفيكو‪ ،‬وكانط‪ ،‬وهيجل‪ ،‬وكارل ماركس‪ .‬وم‬
‫ينطلق السوسيولوجيون الغربيون( سان سيمون‪ ،‬وأوغست كونت‪ ،‬ودوركامي‪،‬‬
‫وسبنسر‪ )...‬من نظريات ابن خلدون لتوسيعها وتعميقها وشرحها وتفسريها‪ ،‬بل‬

‫‪ -71‬حسن الساعايت‪ :‬علم االجتماع الخلدوني‪ ،‬قواعد المنهج‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫طبعة ‪0872‬م‪ ،‬ص‪ 68:‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ -70‬وسيلة خيار‪ :‬اإليديولوجيا وعلم االجتماع‪ ،‬ص‪.028:‬‬

‫‪62‬‬
‫الحظنا قطيعة معرفية مع كتابات ابن خدلون‪ ،‬كأنه غري موجود يف تاريخ اإلنسانية‪.‬‬
‫يف حني‪ ،‬كان هو املتسس احلقيقي لعلم االجتماع‪.‬‬
‫بيد أن أهم انتقاد يوجه إىل ابن خلدون هو تركييه املبالغ فيه على العصبية باعتبارها‬
‫أساس الدولة‪ ،‬إذا كان هذا ميكن تطبيقه على بعض دول العصور الوسطى‪ ،‬فمن‬
‫الصعب تعميمها على باقي الدول األخرى‪ ،‬وخاصة األجنبية منها‪ .‬إضافة إىل أمهية‬
‫املعتقد الديين الذي م تأخذ به كثري من الدول املتقدمة اليت سارت أشواطا كثرية يف‬
‫جمال التنمية‪ .‬كما أنه أغفل أمهية التجارة اخلارجية يف بناء الدول وتدعيمها سياسيا‬
‫واقتصاديا‪ ،‬وهذا العامل ليس أقل أمهية من العصبية‪ .‬ومثة دولتان عاصرمها ابن‬
‫خلدون قامتا على العصبية وم تقوما على العقيدة‪ ،‬مثل‪ :‬دولة املرينيني بفاس‪ ،‬ودولة‬
‫بين عبد الواد بتلمسان‪...‬‬
‫ومن أهم مايتخذ على ابن خلدون كذلك " أن كثريا من القوانني واألفكار اليت‬
‫انتهى إليها يف شتون السياسة وقيام الدول التكاد تصدق إال على األمم اليت‬
‫الحظها‪ ،‬وهي شعو العر والرببر والشعو اليت تشبهها يف التكوين وشتون‬
‫االجتماع‪ ،‬بل التصدق على هذه األمم نفسها إال يف مرحلة خاصة من مراحل‬
‫تارخيها‪.‬وهي املرحلة اليت شاهدها أو انتهى إليه علمها‪.‬‬
‫فاخلطأ الذي وقع فيه ابن خلدون يف شتون السياسة وقيام الدولة يرجع إىل نقص‬
‫كبري يف استقراء الظواهر‪.‬فهو م يستقرىء هذه الظواهر إال عند أمم معينة ويف‬
‫عصور خاصة‪ ،‬وانتهى من هذا االستقراء الناقص إىل أفكار وقوانني ظن أهنا عامة‬
‫تصدق يف كل جمتمع ويف كل زمان‪.‬‬
‫وإليك مثاال آراءه يف العصبية وروو القبيلة وتوقف امللك عليهما‪ ،‬وآراءه يف عالقة‬
‫الدين بقوة الدولة وسعتها‪...‬وآراءه يف أعمار الدولة‪ ،‬وأن عمر الدولة اليعدو يف‬
‫الغالب عمر ثالثة أجيال أي مالة وعشرين سنة‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫ف ن هذه احلقالق وأشباهها التصدق إال على طالفة من الدول العربية والرببرية يف‬
‫مرحلة من مراحل تارخيها‪.‬وليست قوانني عامة كما تبادر إىل ذهنه‪.‬فقد تكونت من‬
‫بعد ابن خلدون‪ ،‬بل من قبله كذلك‪ ،‬دول كبرية واسعة امللك قوية البنيان طويلة‬
‫األمد بدون أن يكون للعصبية وال للدين دخل يف نشأهتا واليف بقالها‪.‬وتكونت من‬
‫بعده‪ ،‬بل من قبله كذلك‪ ،‬دول كثرية م تسر يف األدوار اليت ظن أن املرور هبا ضربة‬
‫الز جلميع الدول‪ ،‬وعاشت أضعاف املدة اليت ذكر أن الدولة التتجاوزها يف‬
‫الغالب‪.‬‬
‫صحيح أن االستقراء الكامل متعذر‪...‬ولكن جيب أن تكون الظاهرات املدروسة‬
‫ممثلة ملاعداها حىت يستطاع استخالص قانون عام‪ .‬وهذا ما م يفعله ابن خلدون‪،‬‬
‫‪72‬‬
‫فقد درس ظاهرات المتثل إال أوضاعا خاصة من شتون االجتماع اإلنسا ‪".‬‬
‫وقد بالغ ابن خلدون كثريا حينما ربط أحوال اجملتمع اإلنسا بالتغريات املناخية‬
‫والبيئة اجلغرافية‪.‬مبعىن أن ملاهو بيئي وجغرايف ومناخي أثرا كبريا يف طبالع التجمع‬
‫اإلنسا وأحواله إجيابا وسلبا‪ .‬و" إىل مثل هذا‪ ،‬بل إىل أبعد منه‪ ،‬ذهب اعة يف‬
‫العصور احلديثة على رأسهم مونتيسكيو (‪0711-0638‬م) يف كتابه الشهري(روح‬
‫القوانين‪ .)L’esprit des lois /‬فقد بالغ يف آثار البيئة اجلغرافية يف أحوال‬
‫العمران والتقاليد والعادات‪ ،‬ومستوى احلضارة‪ ،‬وشكل احلكومة‪ ،‬ونظم السياسة‬
‫واالقتصاد واحلر واألخالق‪ ،‬ومبلغ تكاتف السكان وختلخلهم‪ ،‬ومدى ما ينعم به‬
‫الشعب من حرية واستقالل أو يعانيه من تبعية وخضوع‪ ،‬ونسب إىل هذه البيئة‬
‫الفضل يف نشأة النيعات الدميقراطية يف التشريع ورسوخها يف نفوس األفراد‪ ،‬كما‬
‫محلها الوزر يف إشاعة نظام الطبقات ونظم االستعباد والتبعية مبختلف مظاهرها‪،‬‬
‫سواء يف ذلك استعباد الشعو بعضها البعض (الرق السياسي)‪ ،‬واستعباد األفراد‬
‫بعضهم لبعض (الرق املد )‪ ،‬واستعباد الرجال لنسالهم (الرق العاللي)‪.‬‬

‫‪ -72‬علي عبد الواحد وايف‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.37-36:‬‬

‫‪64‬‬
‫ويعتنق هذا املذهب يف العصور احلالية كثر من الباحثني يف علم اجلغرافيا البشرية‪،‬‬
‫ومنهم العالمة برون (‪ )Jean Brunhes‬يف كتابه (الجغرافيا اإلنسانية)‪" 78.‬‬
‫وعلى الرغم من هذه االنتقادات الوجيهة‪ ،‬يبقى ابن خلدون علما بارزا يف الثقافة‬
‫اإلنسانية‪ ،‬وخاصة يف الكتابات السوسيولوجية‪ ،‬فقلما جتد كتابا يف علم االجتماع‬
‫اليشري إىل ابن خلدون باعتباره متسسا لعلم االجتماع أو فيلسوفا اجتماعيا‪ .‬بل مثة‬
‫كتابات أخرى التشري إليه إطالقا‪ ،‬وذلك من با اجلهل أو الغفلة أو النسيان أو‬
‫احلقد أو التعصب للسوسيولوجيا الغربية‪.‬‬
‫ومن يتأمل أبوا املقدمة‪ ،‬فسيندهش ملا حتمله أبواهبا وصفحاهتا وعناوينها من‬
‫قضايا اجتماعية باهرة‪ ،‬يف خمتلف امليادين واجملاالت والنظم‪ ،‬ف ن دل ذلك على‬
‫شيء‪ ،‬ف منا يدل على أن ابن خلدون هو املتسس الفعلي واحلقيقي لعلم االجتماع‬
‫بالمنازع‪.‬‬
‫وخالصة القول‪ ،‬يتبني لنا‪ ،‬مما سبق ذكره‪ ،‬أن ابن خلدون هو املتسس احلقيقي لعلم‬
‫االجتماع‪ .‬وأكثر من هذا‪ ،‬فقد كان مفكرا وعاملا وفيلسوفا موضوعيا متينا‪ ،‬ورجال‬
‫عقالنيا يتعامل مع الظواهر اجملتمعية املختلفة واملتنوعة‪ ،‬يف ضوء رؤية ميدوجة جتمع‬
‫بني فقه النص (الوحي) وفقه الواقع(اجملتمع)‪ .‬ومن جهة أخرى‪ ،‬فقد كان رجال‬
‫حداثيا سبق أبناء عصره إىل كثري من احلقالق العلمية اليت م تكتشف إال يف القرن‬
‫التاسع عشر امليالدي‪.‬‬
‫وعلى الرغم من االنتقادات املوجهة إىل فكر ابن خلدون‪ ،‬سواء أكانت ذاتية أم‬
‫موضوعية‪ ،‬فحداثته التنويرية مازالت راسخة ضمن مشروع هنضوي كبري يسمى عند‬
‫حممد عابد اجلابري بالنظرية أو الفلسفة اخللدونية‪ .‬ويف هذا الصدد‪ ،‬يقول اجلابري‪":‬‬
‫إننا نقصد باخللدونية هنا ماكان صاحلا يف فكر ابن خلدون ألن حييا حياة جديدة‬
‫ومتجددة‪ ،‬ومن مثة ف ن ما نعنيه مباتبقى من اخللدونية هو العناصر اليت تنتمي إىل‬

‫‪ -78‬علي عبد الواحد وايف‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.33:‬‬

‫‪65‬‬
‫اخللدونية هبذا املعىن واليت مازالت حتتفظ‪ -‬بشكل أو بآخر‪ -‬ب مكانية احلياة معنا‬
‫حنن أبناء الوطن العريب يف القرن العشرين‪.‬‬
‫‪...‬وبالفعل فنحن ننطلق هنا من أن إشكالية ابن خلدون مازالت معاصرة لنا‪ ،‬أي‬
‫قابلة ألن ندمج يف إشكاليتنا الراهنة‪ ،‬وقابلة ألن تتفاعل معها وتساهم يف توضيحها‬
‫‪72‬‬
‫وتوفري الشروط الضرورية لتجاوزها‪".‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬يرى اجلابري أن اخللدونية توجه إىل املاضي‪ ،‬وما يهمنا حنن هو تغيري‬
‫مسارها حنو املستقبل‪ ،‬بأخذ إجيابياهتا‪ ،‬وترت سلبياهتا وعوالقها‪ .‬ويف هذا‪ ،‬يقول‬
‫اجلابري‪ ":‬اخللدونية مشروع نظري وواقع حضاري‪.‬إهنا يف آن واحد نظرية يف التاريخ‬
‫العريب وجيء من هذا التاريخ نفسه‪ .‬وعلى الرغم من أننا أكدنا ونتكد‪ ،‬أن ما‬
‫يستهوينا ويبهرنا يف اخللدونية هو أهنا تتحدث إلينا عما م نستطع حنن الكالم فيه‬
‫بعد‪ ،‬فال بد من التأكيد من جهة أخرى على أنه الميكن أن حنققها نظريا إال إذا‬
‫ألغيناها واقعيا‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬لنحصل على اخللدونية كنظرية مستقبلية ختطط‬
‫لنهضتنا‪.‬وهذا ما لن يتم لنا إال إذا حتررنا من عوالقها اإلبستمولوجية وجعلناها ترى‬
‫يف حاضرنا حنن ما م تكن تراه يف حاضرها هي‪.‬إنه البعد االقتصادي يف الصراعات‬
‫االجتماعية يف الوطن العريب الذي جيب رصده وراء النيعات الطالفية والتحركات‬
‫العشالرية‪ ،‬يف املاضي واحلاضر‪ .‬إن إبراز هذا البعد معناه كسر عوالق التطور يف‬
‫جمتمعنا وحترير عقولنا من سيطرة الالمعقول‪ .‬إن دعوة املستقبل بل رسالته تطلب‬
‫منا حترير واقعنا من السالسل والقيود الفكرية واجملتمعية اليت جعلت اخللدونية تبقى‬
‫بدون مستقبل وهتددنا حنن كذلك بنفس املصري‪.‬‬
‫‪71‬‬
‫إن ما تبقى من اخللدونية هو ما جيب أن ننجيه وليس ما أجنيته‪".‬‬

‫‪ -72‬حممد عابد اجلباري‪ :‬نحن والتراث‪ ،‬ص‪.801:‬‬


‫‪ -71‬حممد عابد اجلابري‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.881-828:‬‬

‫‪66‬‬
‫وعليه‪ ،‬فمازال ابن خلدون‪ ،‬إىل يومنا هذا‪ ،‬صورة مضيئة ومتوهجة يف تاريخ الفكر‬
‫العريب‪ .‬وبالتايل‪ ،‬م تكن فلسفته التارخيية‪ ،‬والتصوراته االجتماعية‪ ،‬جيءا من ماض‬
‫عريب ‪ -‬إسالمي قد انتهى‪ ،‬بل مازال ابن خلدون يعيش معنا يف احلاضر بأفكاره‬
‫االجتماعية النرية‪ ،‬ومازال حيا معنا بتصوراته النظرية واملنهجية والتطبيقية املتجددة‪،‬‬
‫ومازال العمران اخللدو حاضرا ببداوته وحضارته يف واقعنا العريب املعاصر‪.‬وأكثر من‬
‫هذا فكتابات ابن خلدون مازالت حتمل رسالل مستقبلية ضمنية وغري مباشرة‪ ،‬حتثنا‬
‫على االجتهاد واإلبداع واالبتكار واإلضافة والتطوير‪ .‬وبالتايل‪ ،‬تنصحنا رسالل‬
‫املقدمة بالوحدة املتينة‪ ،‬والعروة الوثقى‪ ،‬واالندماج يف التجمع اإلنسا على أساس‬
‫التعاون والعمل والتضامن والتكامل‪ .‬وكذلك‪ ،‬تدعونا إىل احلفاظ على الدولة‬
‫بالتشبث بالدين والعقيدة واالعتصام حببل اج‪ ،‬مع نبذ التفرقة والفنت واحلرو‬
‫البينية الواهية‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫سان سيمون والفيزيولوجيا االجتماعية‬

‫يعـد سـان سـيمون(‪ 76)Saint - Simon‬مـن أبـرز رواد السوسـيولوجيا الوضـعية‪،‬‬


‫مــادام يــتمن بــالعلم‪ ،‬والعلمانيــة‪ ،‬والتق ــدم‪ ،‬واالزدهــار‪ ،‬وإخضــاع اإلنســان للتجريــب‬
‫الوضـعي‪ .‬يقــول ســان ســيمون‪ ":‬إن أكـرب وأشــرف وســيلة لــدفع العلـم حنــو التقــدم هــو‬
‫جعــل العــام يف إطــار التجربــة‪ ،‬والنقصــد العــام الكبــري وإمنــا هــذا العــام الصــغري يعــين‬
‫اإلنسان الذي نستطيع إخضاعه للتجربة‪".77‬‬
‫ومــن جهــة أخــرى‪ ،‬دعــا إىل تطبيــق املــنهج الفيييولــوجي علــى علــم االجتمــاع‪ ،‬ومســاه‬
‫بالفيييولوجي ـ ــا االجتماعي ـ ــة‪ ،‬إذ يق ـ ــول‪ ":‬تنظ ـ ــر الفيييولوجي ـ ــا االجتماعي ـ ــة إىل األفـ ـ ـراد‬
‫كعناصر يف اهليئة االجتماعية اليت تعىن بدراسة وظالفه العضوية بالطريقة نفسها الـيت‬

‫‪ - 76‬ولد سان سيمون يف باريس سنة ‪ ،0761‬وتويف سنة ‪0321‬م‪ .‬وقد كان عسكريا‪ ،‬واقتصاديا‪،‬‬
‫وفيلسوفا‪.‬‬
‫‪77‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪Pièrre‬‬ ‫‪Ansart:Saint-Simon,Collection‬‬ ‫‪SUP‬‬
‫‪pholosophes,1édition,PUF,Paris1969,p :73.‬‬

‫‪68‬‬
‫ت ــدرس هب ــا الفيييولوجي ــا اخلاص ــة وظ ــالف األفراد‪(...‬وجي ــب أن نس ــمجع إىل ذاكرتن ــا‬
‫الطري ــق ال ــذي س ــلكه التفك ــري اإلنس ــا ؛ اجت ــه من ــذ ه ــذا الق ــرن إىل االعتم ــاد عل ــى‬
‫املالحظــة‪ ،‬فأصــبح الفلــك والطبيعــة والكيميــاء مــن علــوم املالحظــة)‪ ،‬نســتخلص مــن‬
‫هــذا بالضــرورة أن الفيييولوجيــا العامــة الــيت ميثــل علــم اإلنســان اجلــيء الرليســي منهــا‪،‬‬
‫سوف تعاجل باملنهج املتبع يف العلوم الطبيعية األخرى‪ ،‬وأهنا سـوف تـدخل يف التعلـيم‬
‫العــام عنــدما تصـبح وضــعية‪...‬لكن مــا العقبــة الــيت تعــمض‪ -‬حــىت اليــوم‪ -‬قيــام معرفــة‬
‫فيييولوجيــة للمجتمعــات اإلنســانية؟ (إن تلــك العقبــة تتجلــى يف الص ـراع الــذي وجــد‬
‫دالما‪...‬بني الطبقات االجتماعية‪...‬إال أنه قد آن األوان إلنشاء علم لإلنسـان‪ ،‬وأن‬
‫‪73‬‬
‫نقطة البداية يف إنشاء هذا العلم هي الفيييولوجيا االجتماعية‪".‬‬
‫وهكـذا‪ ،‬فقـد تنبـه سـان سـيمون إىل تأســيس علـم جديـد يـدرس اإلنسـان يف اجملتمــع‪،‬‬
‫هو علم االجتماع أو ما يسمى عند سان سيمون بالفيييولوجيا االجتماعية‪ .‬وتسعى‬
‫هــذه السوســيولوجيا إىل دراســة الظ ـواهر اجملتمعيــة‪ ،‬مثــل‪ :‬العلــوم الطبيعيــة‪ ،‬باالعتمــاد‬
‫عل ــى املالحظ ــة العلمي ــة‪ ،‬ودراس ــة الوظ ــالف العض ــوية ال ــيت تتديه ــا ه ــذه الفيييولوجي ــا‬
‫االجتماعية‪.‬‬
‫ويف سياق آخر‪ ،‬يقول سان سيمون‪ ":‬إن القدرة العلمية الوضعية هي نفس ما جيـب‬
‫أن حيــل حمــل الســلطة الروحيــة‪ ،‬ففــي العصــر الــذي كانــت فيــه كــل معارفنــا الشخصــية‬
‫حدســية وميتفايييقيــة بصــفة أساســية كــان مــن الطبيعــي أن تكــون إدارة اجملتمــع فيمــا‬
‫خي ـ ــص ش ـ ــتونه الروحي ـ ــة يف ي ـ ــد الس ـ ــلطة الالهوتي ـ ــة‪ ،‬م ـ ــادام الالهوتي ـ ــون آن ـ ــذات ه ـ ــم‬
‫امليتــافيييقيني املوســوعيني الوحيــدين‪.‬وباملقابل عنــدما تصــبح كــل أج ـياء معارفنــا قالمــة‬

‫‪ -‬سان سيمون‪ :‬مذكرات عن علم اإلنسان‪ ،‬مأخوذ بتصرف من سان سيمون‪ ،‬سلسلة نوابغ‬ ‫‪73‬‬

‫الفكر الغريب‪ ،‬طلعت عيسى ‪ ،‬ص‪.10-11:‬‬

‫‪69‬‬
‫على أساس املالحظة‪ ،‬فـ ن إدارة الشـتون الروحيـة جيـب أن تسـتند إىل القـدرة العلميـة‬
‫‪78‬‬
‫باعتبارها طبعا متفوقة على الالهوتية وامليتافيييقية‪".‬‬
‫هــذا‪ ،‬ويعــد ســان ســيمون أول مــن قــدم تصــورات علميــة حــول الظ ـواهر اجملتمعيــة يف‬
‫بدايـ ـ ـ ـ ــة القـ ـ ـ ـ ــرن التاسـ ـ ـ ـ ــع عشـ ـ ـ ـ ــر املـ ـ ـ ـ ــيالدي‪ ،‬ومساهـ ـ ـ ـ ــا بالفيييولوجيـ ـ ـ ـ ــا االجتماعيـ ـ ـ ـ ــة‬
‫(‪ .)physiologie sociale‬وق ــد كان ــت تع ــىن بدراس ــة ال ــذوات اجملتمعي ــة يف‬
‫عالقـ ــة بتنظيماهتـ ــا‪ .‬وبعـ ــد ذلـ ــك‪ ،‬طـ ــور أوجسـ ــت كونـ ــت تصـ ــورات سـ ــان سـ ــيمون‪،‬‬
‫وعمقهــا يف إطــار تصــور علمــي ووضــعي‪ .‬ويعــين هــذا أن ســان ســيمون‪ ،‬يف احلقيقــة‪،‬‬
‫هو املتسس األول لعلم االجتماع يف مفهومه الغريب‪ .‬بينما يعد ابـن خلـدون متسـس‬
‫علم االجتماع أو علم العمران يف الثقافة العربية بالمنازع‪.‬‬
‫ويعده جان ديفينيـو (‪ )Jean Duvignaud‬املتسـس احلقيقـي لعلـم االجتمـاع‪":‬‬
‫إن س ــان س ــيمون املعاص ــر لروبيسـ ــبيري وس ــان غوس ــت ‪ 31‬واألرس ــتقراطي‪ ،‬واملراق ــب‬
‫الشــغوف لثــورة يعــيش بفضــلها‪ ،‬يتمتــع بــالتفكري الصــحيح كعــام اجتمــاع‪ ،‬وعلينــا أن‬
‫‪30‬‬
‫نعمف‪ ،‬أن الفضل يعود إليه‪ ،‬وليس إىل كونت كما نفعل دالما‪ ،‬هبذا الصدد‪".‬‬
‫وال ــدليل عل ــى منظ ــوره االجتم ــاعي ه ــذه القول ــة ال ــيت تش ــري إىل اجلربي ــة االجتماعي ــة‪،‬‬
‫وتبيان دورها يف توجيه األفراد‪ ":‬من إحدى التجار األكثر أمهية الـيت أقيمـت حـول‬
‫اإلنســان‪ ،‬هــي وضــعه يف عالقــات اجتماعيــة جديــدة‪ ،‬وعرضــه علــى كافــة الطبقــات‪،‬‬
‫ووضــعه يف أكــرب عــدد ممكــن مــن الظ ـروف االجتماعيــة‪ ،‬وخلــق عاللــق م تكــن قــد‬
‫وجدت بالنسبة له أو لآلخرين"‪.32‬‬
‫‪79‬‬
‫‪- Pierre Ansart:Saint-Simon ,p:22.‬‬
‫‪ - 31‬سان غوست(‪0782-0767‬م) رجل سياسي فرنسي‪ ،‬وهو من أهم منظري احلكومة الثورية‪،‬‬
‫وتوىل عدة مناصب سياسية فيها‪ ،‬أعدم مع روبسبيري من قبل الثورة نفسها‪.‬‬
‫‪ - 30‬جان ديفينيو‪ :‬مدخل إلى علم االجتماع‪ ،‬تر ة‪ :‬فاروق احلميد‪ ،‬دار الفرقد‪ ،‬دمشق‪ ،‬سورية‪،‬‬
‫الطبعة األوىل سنة ‪2100‬م‪ ،‬ص‪.08:‬‬
‫‪ - 32‬نقال عن جان ديفينيو‪ :‬مدخل إلى علم االجتماع‪ ،‬ص‪.20:‬‬

‫‪71‬‬
‫ويعــين هــذا أن مثــة اختالفــا حقيقيــا حــول املتســس احلقيقــي لعلــم االجتمــاع‪ ،‬فهنــات‬
‫أكثــر مــن ســت شخصــيات يف هــذا اجملــال‪ :‬ابــن خلــدون‪ ،‬وســان ســيمون‪ ،‬وأوجســت‬
‫كونــت‪ ،‬وأليكســيس دو توكفيــل (‪ ،38)Alexis de Tocqueville‬وإميــل‬
‫دوركامي‪ ،‬وأدولف كوتليه(‪...32)Adolphe Quetele‬‬
‫وعليــه‪ ،‬يعــد ســان ســيمون مــن رواد السوســيولوجيا الوضــعية؛ عنــدما ثــار علــى الفكــر‬
‫الالهــويت‪ ،‬ومتســك بــالعلم يف دراســة علــم االجتمــاع علــى غ ـرار العلــوم الطبيعيــة‪ .‬ويف‬
‫هذا‪ ،‬يقول حممد حممد أمييان‪ ":‬إن الوضعية هبذا املعىن احملدد جتد بـذورها عنـد سـان‬
‫سيمون‪ ،‬ورمبا أمكن القول بأن الفكر الوضعي مع سان سيمون كان على درجـة مـن‬
‫الوضــوو حبيــث الجنــد اختالفــا يف التحليــل وأســلو التفكــري بينــه وبــني كونــت‪ ،‬وإن‬
‫ك ــان ه ــذا األخ ــري ق ــد وس ــع دال ــرة الوض ــعية وجع ــل منه ــا نظري ــة متكامل ــة ذات بع ــد‬
‫فلســفي تســتوعب كــل ال ـماث اإلنســا يف ماضــيه وحاضــره‪ ،‬وجعــل منهــا منطلقــا يف‬
‫التحليــل ميتــد إىل كــل أطـراف العلــوم الطبيعيــة منهــا واالجتماعيــة واإلنســانية‪ .‬وتكمــن‬
‫العقــدة الــيت وجهــت الوضــعية يف هــذه املعادلــة البســيطة‪ :‬أن التفكــري الــديين ســاد يف‬
‫اجملتمعــات ماقبــل العلميــة‪ ،‬أمــا وقــد بلــغ اجملتمــع مرحلــة الوضــعية‪ ،‬فالمــربر لالحتفــاظ‬
‫بالتجريدات والرباهني امليتافيييقية‪...‬‬
‫فالتحول من التفكري الالهويت إىل التفكري العلمي الوضعي حسب سان سيمون هو‬
‫أمر واقعي يتفق مع السري العام لتقدم العقل اإلنسا ‪.‬ولكن سان سيمون اليقف‬
‫عند هذا احلد يف تربير قيام التفكري الوضعي‪ ،‬بل يذهب إىل أبعد من ذلك‪ ،‬فهذا‬
‫التحول ليس ظاهرة تارخيية فحسب يعرب عن املراحل اليت قطعها العقل اإلنسا ‪،‬‬
‫بل إن الثورة العقلية تعترب حتوال يستجيب للثورة املعاصرة‪ .‬فهي ضرورة من ضروريات‬

‫‪ - 38‬توكفيل عام اجتماع فرنسي ولد سنة ‪ ،0311‬وتويف سنة ‪0318‬م‪ .‬عرف بكتاباته االجتماعية‪،‬‬
‫مثل‪ :‬النظام القدمي والثورة‪ ،‬والدميقراطية يف الواليات املتحدة األمريكية‪.‬‬
‫‪ - 32‬أدولف كوتليه سوسيولوجي بلجيكي ‪ ،‬ولد سنة ‪ ،0786‬وتويف سنة ‪0372‬م‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫هذا العصر‪ .‬وقد وضع سان سيمون بذرة املذهب االجتماعي كما بلوره كونت‪،‬‬
‫فعلم اإلنسان حسب كونت سيكون موضوعه األساسي هو إعادة النظر يف التاريخ‬
‫من الوجهة الوضعية‪ ...‬والنظر يف التنظيم االجتماعي من وجهة علمية هو قبل كل‬
‫شيء فهمه يف سريورته وإدراج كل عنصر من عناصره يف التتابع اليمين‪ .‬وعلى هذا‬
‫األساس‪ ،‬ف ن وظيفة علم اإلنسان ستكون متعارضة متاما مع الوظالف القدمية اليت‬
‫تتديها املعرفة الالهوتية أو الفلسفية‪ .‬فهذا العلم لن يكون أبدا من وظيفته اضطهاد‬
‫‪31‬‬
‫الفكر وإبعاده عن املشاكل الواقعية‪".‬‬
‫وهكذا‪ ،‬يرسي سان سيمون علم االجتماع على املبدإ العلمي املوضوعي والتجرييب‪،‬‬
‫مع استلهام العلوم الطبيعية‪ ،‬وجتاوز الفكر الالهويت الكنسي‪.‬‬

‫وخالصة القول‪ ،‬يعد سان سيمون من رواد علم االجتماع الغريب إىل جانب‬
‫أوغست كونت وإميل دوركامي‪ ،‬فقد أرسى السوسيولوجيا على دعالم الفيييولوجيا‪.‬‬
‫وتبىن املنهج الوضعي يف دراسة املتغريات اجملتمعية‪ ،‬باستعمال تقنيات املالحظة‬
‫والوصف والتجريب واملقارنة‪ ،‬واالستعانة بالعلوم الطبيعية يف دراسة ظواهر اجملتمع‬
‫وبناه ووقالعه ونظمه‪ ،‬يف خمتلف جتلياهتا املادية واملعنوية‪.‬‬

‫‪ - 31‬حممد حممد أمييان‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.22-28:‬‬

‫‪72‬‬
‫أوجست كونت والتفسير الوضعي‬

‫يعــد أوجســت كونــت(‪ 36)Auguste Comte‬مــن أهــم السوســيولوجيني الــذين‬


‫تبنـوا مــنهج التفســري يف دراســة الظـواهر السوســيولوجية‪ ،‬وفــق أربعــة إجـراءات أساســية‬
‫ه ــي‪ :‬املالحظ ــة‪ ،‬والتجرب ــة‪ ،‬واملقارن ــة‪ ،‬وامل ــنهج الت ــارخيي‪ ،‬مس ــتلهما آلي ــات الكيمي ــاء‬
‫والفيييولوجيـ ــا‪ .‬ويف هـ ــذا الصـ ــدد‪ ،‬يقـ ــول نقـ ــوال تيماشـ ــيف‪ ،‬يف كتابـ ــه(نظرية ةةة عل ة ةةم‬
‫االجتمةةاع‪ :‬يبيعتهةةا وتطورهةةا)‪":‬أنكــر كونــت ‪ -‬بغــض النظــر‪ -‬عــن تعليمــه الرياضــي‬
‫الراقي‪ -‬إمكان التطابق بني املنهج الوضعي واستخدام الرياضيات واإلحصاء‪.‬‬

‫‪ - 36‬ولد السوسيولوجي الفرنسي أوجست كونت سنة ‪ ، 0783‬وتويف سنة‪0317‬م‪ ،‬ويعد متسس‬
‫الوضعية العلمية‪ ،‬وأحد متسسي علم االجتماع‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫أمــا دعــوى أن املعاجلــة الرياضــية للعلــوم االجتماعيــة الزمــة حــىت ميكــن اعتبارهــا علومــا‬
‫وضــعية‪ ،‬فتمتــد جــذورها إىل علمــاء الطبيعــة‪.‬وتنبعث مــن تعصــب مــتداه أنــه اليوجــد‬
‫يقــني خــارج نطــاق الرياضــيات‪ .‬وقــد كــان هــذا التعصــب طبيعيــا ومنطقيــا يف الوقــت‬
‫الذي كان فيه كل مـاهو وضـعي ينتمـي إىل جمـال الرياضـيات التطبيقيـة‪ ،‬كمـا أن هـذه‬
‫املي ــادين الوض ــعية يع ــا م تك ــن تنط ــوي عل ــى م ــاهو غ ــامض وختمي ــين‪ ،‬لك ــن ه ــذا‬
‫التعصــب أصــبح غــري منطقــي وال مــربر لــه منــذ ظهــور العلمــني الوضــعيني العظيمــني‪:‬‬
‫الكيمي ــاء والفيييولوجي ــا‪ ،‬حي ــث اليلع ــب التحلي ــل الرياض ــي فيهم ــا أي دور‪ ،‬واليق ــال‬
‫يقينا وضبطا عن العلوم األخرى‪..‬‬
‫فكيــف نســتقي املعرفــة الوضــعية‪-‬إذاً‪ -‬يف رأي كونــت؟ ذكــر كونــت أربعــة إج ـراءات‬
‫ه ـ ــي‪ :‬املالحظ ـ ــة‪ ،‬والتجرب ـ ــة‪ ،‬واملقارن ـ ــة‪ ،‬وامل ـ ــنهج الت ـ ــارخيي‪ ،‬متك ـ ــدا أن املالحظ ـ ــة أو‬
‫اســتخدام احلـواس الفييياليــة ميكــن تنفيــذها بنجــاو إذا وجهــت عــن طريــق نظريــة‪ ،‬ويف‬
‫جم ــال أس ــاليب املالحظ ــة م يظه ــر إال أق ــل تق ــدير لالس ــتبطان‪...،‬وقد ك ــان كون ــت‬
‫مـدركا أن التجربـة فعليـا وواقعيـا تكـاد تكـون مسـتحيلة يف دراسـة اجملتمع‪...‬كمـا أكـد‬
‫إمكانية عقد املقارنات اليت تعيش معا زمنـا بعينـه‪ ،‬وبـني الطبقـات االجتماعيـة داخـل‬
‫اجملتمع الواحد‪.‬‬
‫أما املنهج التـارخيي‪ ،‬ف نـه عنـد كونـت‪ ،‬البحـث عـن القـوانني العامـة للتغـري املسـتمر يف‬
‫الفكــر اإلنســا ‪ ،‬وهــي نظــرة تعكــس الــدور املهــيمن لألفكــار‪ ،‬كمــا تبــدى ذلــك يف‬
‫قوانني املراحل الثالث‪ ،‬واليشمت منهج كونت التارخيي إال يف القليـل مـن نواحيـه مـع‬
‫املن ــاهج ال ــيت يس ــتخدمها املترخ ــون ال ــذين يتك ــدون العالق ــات الس ــببية ب ــني الوق ــالع‬
‫‪37‬‬
‫امللموسة‪ ،‬ويقيمون قوانني عامة كيفما اتفق‪"...‬‬

‫‪ -‬نقوال تيماشيف‪ :‬نظرية علم االجتماع‪ :‬يبيعتها وتطورها‪ ،‬تر ة‪ :‬حممود عودة وزمالله‪ ،‬دار‬ ‫‪37‬‬

‫املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬الطبعة اخلامسة ‪0873 ،‬م‪ ،‬صص‪.12-10:‬‬

‫‪74‬‬
‫ومـ ــن جهـ ــة أخـ ــرى‪ ،‬يعـ ــد كونـ ــت مـ ــن رواد الوضـ ــعية (‪ )Positivisme‬الـ ــذين‬
‫أسسوا علم االجتماع علـى أسـس علميـة جتريبيـة‪ ،‬اعتمـادا علـى املالحظـة‪ ،‬والتجربـة‪،‬‬
‫واملقارنــة‪ ،‬والتــاريخ‪ .‬ويعــرف كــذلك بوضــع قــانون املراحــل الــثالث الــذي يتمثــل فيمــا‬
‫يلي‪:‬‬
‫‪ ‬قةةانون المرحلةةة الدينيةةة أو الالهوتيةةة‪ :‬كــان اإلنســان‪ ،‬يف هــذه املرحلــة‪ ،‬يفكــر‬
‫بطريقة خيالية‪ ،‬وإحيالية‪ ،‬وأسطورية‪ ،‬وخرافية‪ ،‬وسحرية‪ ،‬وغيبية‪ ،‬ودينية؛ وكـان يفسـر‬
‫ظ ـواهر الطبيعــة وفــق قــوى خفيــة مصــدرها األرواو‪ ،‬والشــياطني‪ ،‬والعفاريــت‪ ،‬وااهلــة‪.‬‬
‫وم يك ــن هن ــات أدىن اعـ ـماف باحلتمي ــة التجريبي ــة أو العلمي ــة‪ ،‬فالق ــانون الوحي ــد ه ــو‬
‫الصدفة فقط‪.‬‬
‫‪‬المرحلة الميتافيزيقية‪ :‬انتقل اإلنسان‪ ،‬يف هـذه املرحلـة‪ ،‬مـن امليتـوس واخليـال إىل‬
‫اللوغــوس والفكــر اجملــرد‪ .‬وبــدأ يهتــدي بالتأمــل الفلســفي‪ ،‬واســتخدام العقــل واملنطــق‪،‬‬
‫واالسـ ــتدالل الربهـ ــا ‪ ،‬واحلجـ ــاج اجلـ ــديل‪ .‬وتواكـ ــب هـ ــذه املرحلـ ــة الفكـ ــر الفلسـ ــفي‬
‫امليت ــافيييقي م ــن مرحل ــة الفلس ــفة اليوناني ــة ح ــىت الق ــرن التاس ــع عش ــر؛ ق ــرن التجري ــب‬
‫واالختبــار والوضــعية‪ .‬وكــان الفالســفة يرجعــون الطبيعــة إىل أصــول ومبــادىء كامنــة يف‬
‫تلك الظواهر‪ ،‬كتفسري ظاهرة النمو يف النبات إىل قـوة النمـاء‪ ،‬وظـاهرة االحـماق ب لـه‬
‫النار‪...‬‬
‫‪‬المرحلة ةةة الوضة ةةعية‪ :‬يف هـ ــذه املرحلـ ــة‪ ،‬جتـ ــاوز العقـ ــل اإلنسـ ــا مرحلـ ــة اخليـ ــال‬
‫والتجريد‪ ،‬وبلغ درجة كبرية من الوعي العلمي‪ ،‬والنضج التجرييب‪ .‬إذ أصبح التجريب‬
‫أو التفســري مــنهج البحــث العلمــي احلقيقــي‪ ،‬مث االرتكــان إىل املعرفــة احلســية العيانيــة‪،‬‬
‫وتكرار االختبارات التجريبية‪ ،‬وربط املتغـريات املسـتقلة بـاملتغريات التابعـة ربطـا سـببيا‪،‬‬
‫يف ض ــوء مب ــدإ احلتمي ــة أو اجلربي ــة العلمي ــة‪ .‬وتع ــد ه ــذه املرحل ــة أفض ــل مرحل ــة عن ــد‬
‫أوجست كونت‪ ،‬وهي هناية تاريخ البشرية‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫وتوافــق كــل مرحلــة مــن هــذه املراحــل تطــور اإلنســان مــن الطفولــة حــىت الرجولــة؛ إذ‬
‫تتوافــق املرحلــة الالهوتيــة مــع مرحلــة النشــأة والطفولــة؛ وتتماثــل مرحلــة امليتافيييقــا مــع‬
‫مرحل ــة الش ــبا واملراهق ــة؛ وتتط ــابق مرحل ــة الوض ــعية م ــع مرحل ــة النض ــج والرجول ــة‬
‫واالكتمال‪.‬‬
‫وتبق ـ ــى ه ـ ــذه الص ـ ــريورة التارخيي ـ ــة ص ـ ــريورة نس ـ ــبية وإيديولوجي ـ ــة؛ ألن ي ـ ــع املراح ـ ــل‬
‫واجملتمعـات اإلنســانية قــد أخـذت هبــذه األمنــاط التفكرييــة الثالثـة حــىت لــدى الشــعو‬
‫القدميــة‪ .‬وإذا أخــذنا الفكــر العــريب يف العصــر الوســيط‪ ،‬فنجــد اهتمامــا كب ـريا بــالفكر‬
‫الوض ــعي التجـ ـرييب‪ .‬ويف الوق ــت نفس ــه‪ ،‬ك ــان الفك ــر الاله ــويت وامليت ــافيييقي س ــالدين‬
‫ومتجاورين يف اجملتمع جنبا إىل جنب‪ .‬مث‪ ،‬الميكن للفكر أن يتوقف يف حلظة معينـة‪،‬‬
‫كتوقف التـاريخ عنـد فوكويامـا‪ ،‬أو توقـف اجملتمـع البشـري عنـد كـارل مـاركس بوصـوله‬
‫إىل املرحلــة الشــيوعية‪ .‬ومــن جهــة أخــرى‪ ،‬فقــد ســامهت الوضــعية العقالنيــة يف ظهــور‬
‫فلسـ ــفات غـ ــري وضـ ــعية وغـ ــري عقالنيـ ــة‪ ،‬مثـ ــل‪ :‬الس ـ ـريالية‪ ،‬والفرويديـ ــة‪ ،‬والوجوديـ ــة‪،‬‬
‫والتأويلية‪ ،‬والذاتية‪...‬‬
‫ه ـ ـ ـ ـ ـ ــذا‪ ،‬وق ـ ـ ـ ـ ـ ــد أس ـ ـ ـ ـ ـ ــس كون ـ ـ ـ ـ ـ ــت الفييي ـ ـ ـ ـ ـ ــاء االجتماعي ـ ـ ـ ـ ـ ــة‪ ،‬مث اس ـ ـ ـ ـ ـ ــتبدهلا بعل ـ ـ ـ ـ ـ ــم‬
‫االجتم ــاع(‪.)Sociologie‬وبع ــد ذل ــك‪ ،‬أص ــبح ه ــذا املص ــطلح ش ــالعا يف الثقاف ــة‬
‫الغربي ــة‪ ،‬مث متثلت ــه الثقاف ــات الكوني ــة األخ ــرى‪ .‬ويف ه ــذا‪ ،‬يق ــول كون ــت‪ ":‬ل ــدينا اان‬
‫فييياء مساويـة‪ ،‬وفيييـاء أرضـية ميكانيكيـة أو كيماويـة‪ ،‬وفيييـاء نباتيـة‪ ،‬وفيييـاء حيوانيـة‪،‬‬
‫ومازلنــا يف حاجــة إىل نــوع آخــر وأخــري مــن الفيييــاء وهــو الفيييــاء االجتماعيــة‪ ،‬ذلــك‬
‫العلــم الــذي يتخــذ مــن الظـواهر االجتماعيــة موضــوعا للدراســة باعتبــار هــذه الظـواهر‬
‫من روو الظواهر العلمية والطبيعية والكيميالية والفسيولوجية نفسـها مـن حيـث كوهنـا‬
‫موضوعا للقوانني الثابتة‪."33‬‬

‫‪-‬أمحد اخلشا ‪ :‬التفكير االجتماعي‪ :‬دراسة تكاملية للنظرية االجتماعية‪ ،‬دار النهضة العربية‪،‬‬ ‫‪33‬‬

‫بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬طبعة ‪0830‬م‪ ،‬ص‪.121:‬‬

‫‪76‬‬
‫وق ــد قس ــم أوجس ــت كون ــت عل ــم االجتم ــاع إىل قس ــمني‪ :‬قس ــم س ــتاتيكي ي ــدرس‬
‫الظ ـواهر اجملتمعيــة يف حالتهــا الســاكنة والثابتــة والنســبية‪ ،‬كدراســة الــنظم االجتماعيــة‬
‫اجليلي ـ ـ ـ ــة (النظ ـ ـ ـ ــام األس ـ ـ ـ ــري‪ ،‬والنظ ـ ـ ـ ــام المب ـ ـ ـ ــوي‪ ،‬والنظ ـ ـ ـ ــام السياس ـ ـ ـ ــي‪ ،‬والنظ ـ ـ ـ ــام‬
‫االقتص ــادي‪ ،)...‬ب ــالمكيي عل ــى العالق ــات المابطي ــة والس ــببية ب ــني املتغ ـريات؛ وقس ــم‬
‫دينــاميكي‪ ،‬يــدرس التغــري وحركــة اجملتمــع عــرب الصــريورة اليمنيــة أو التصــور الــدياكرو‬
‫والتارخيي‪.‬‬
‫عالوة علـى ذلـك‪ ،‬فقـد صـنف كونـت العلـوم إىل سـت جمموعـات‪ :‬أوهلـا الرياضـيات‪،‬‬
‫مث الفل ـ ـ ــك‪ ،‬والفييي ـ ـ ــاء‪ ،‬والكيمي ـ ـ ــاء‪ ،‬وعل ـ ـ ــم احلي ـ ـ ــاة‪ ،‬وعل ـ ـ ــم االجتم ـ ـ ــاع أو الفييي ـ ـ ــاء‬
‫االجتماعيــة‪ .‬وبالتــايل‪ ،‬فالرياضــيات مفتــاو العلــوم يعــا‪ .‬أمــا علــم االجتمــاع‪ ،‬فهــو‬
‫آخره ــا وتاجه ــا يع ــا‪ ،‬و" تل ــك حقيق ــة‪ ،‬إذ إن الرياض ــيات ه ــي أول العل ــوم‪ ،‬فق ــد‬
‫توص ــل إليه ــا اليون ــانيون‪ ،‬مث تاله ــا عل ــم الفل ــك ال ــذي ظه ــر عل ــى ي ــد ك ــوبنرت وكبل ــر‬
‫وغ ـ ـ ـ ــاليلو‪ ،‬مث الفييي ـ ـ ـ ــاء ال ـ ـ ـ ــيت ظه ـ ـ ـ ــرت يف الق ـ ـ ـ ــرن الس ـ ـ ـ ــابع عش ـ ـ ـ ــر عن ـ ـ ـ ــد الفوازيي ـ ـ ـ ــه‬
‫(‪ ،)Lavoisier‬مث علــم األحيــاء يف القــرن التاســع عشــر عنــد بيشــات (‪)Bichat‬‬
‫‪38‬‬
‫وغريه‪ ،‬وأخريا علم االجتماع يف القرن التاسع عشر على يدي أوغست كونت‪".‬‬
‫ويالحــظ أن أوجســت كونــت قــد صــنف العلــوم مــن اجملرد(الرياضــيات) إىل احملســوس‬
‫العيا (علم االجتماع)‪ .‬ووسع النظريـة الوضـعية لتشـمل العلـوم الطبيعيـة واإلنسـانية‪.‬‬
‫ويف هــذا‪ ،‬يقــول حممــد حممــد أمييــان‪ ":‬مــد الــروو الوضــعية إىل كــل جمــاالت التفكــري‪:‬‬
‫الطبيعيـة واإلنسـانية‪ ،‬وليســت هـذه الصـعوبات مــن النـوع الـذي يصــعب التغلـب عليــه‬
‫يف نظــر الوضــعية‪ ،‬فقــد خضــعت العلــوم الطبيعــة للنظــام الوضــعي‪ ،‬وحققــت يف ذلــك‬
‫جناح ــا ب ــاهرا بع ــد أن أخرجه ــا م ــن أس ــر الت ــأمالت الالهوتي ــة واألوه ــام امليتافيييقي ــة‪،‬‬
‫وتبقــى اخلطــوة األخــرية أن ميــد هــذا النظــام لــيعم جمــال اإلنســانيات‪ ،‬وتلــك هــي مهمــة‬

‫‪ - 38‬زيدان عبد الباقي‪ :‬التفكير االجتماعي‪ :‬نشأته وتطوره‪ ،‬دار الفكر العريب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬طبعة‬
‫‪0830‬م‪ ،‬ص‪.803-807:‬‬

‫‪77‬‬
‫كونــت‪ :‬حتريــر الــدين واألخــالق واالجتماع‪...‬لتصــبح يف أول مــرة يف تارخيهــا علومــا‬
‫يقينيـ ــة ختض ــع للمالحظـ ــة والتجرب ــة وكشـ ــف الق ـ ـوانني الـ ــيت ختضـ ــع هل ــا يف صـ ــريورهتا‬
‫وتطورهـا متاما‪.‬كمـا الكشـف عـن القـوانني الــيت ختضـع هلـا العلـوم الطبيعيـة‪ ،‬وبــذلك‬
‫ســيتحقق االنســجام العقلــي‪ ،‬بعــد أن يصــبح التفكــري اإلنســا موحــدا اليقتصــر علــى‬
‫‪81‬‬
‫جانب دون آخر‪".‬‬
‫وعليه‪ ،‬فقد جاءت وضعية أوجست كونت حـال للفوضـى الـيت كانـت تعيشـها فرنسـا‬
‫إبان انتصار الثورة الفرنسية علـى اإلقطـاع‪ ،‬فنـتج عـن ذلـك جمموعـة مـن االضـطرابات‬
‫السياسـ ــية واالقتصـ ــادية واالجتماعيـ ــة‪ ،‬وعـ ــرف اجملتمـ ــع انقسـ ــاما وتفككـ ــا وتصـ ــدعا‬
‫وفوضــى عارمــة‪ .‬لــذلك‪ ،‬حــاول كونــت أن يوفــق بــني النظــام والتقــدم‪ ،‬أو بــني رغبــات‬
‫اجملموعة احملافظة‪ ،‬ورغبات البورجوازية اليت كانت تناصر الثورة‪ .‬لذا‪ ،‬جاءت الوضـعية‬
‫للــدفاع عــن النظــام والتقــدم‪ ،‬وتوظيــف العلــم لتحقيــق أمــن اجملتمــع وســالمته‪ .‬لكنــه م‬
‫يوظف الفكر العلمي باعتباره نظرية لتحقيق ذلك‪ ،‬بل استخدمه سـالحا إيـديولوجيا‬
‫ل ــيس إال‪ .‬ويف ه ــذا‪ ،‬تق ــول وس ــيلة خـ ـيار‪ ":‬وعل ــى ال ــرغم م ــن إمي ــان كون ــت ب ــاملنهج‬
‫الوضــعي‪ ،‬إال أنــه م يلتــيم أساســياته‪ ،‬بــل حولــه إىل ســالو إيــديولوجي‪ ،‬فقــد حــاول‬
‫إقص ــاء اجلم ــاهري ع ــن إدارة اجملتم ــع وتنظيم ــه‪ ،‬وع ــن رس ــم السياس ــة العلي ــا ل ــه‪ ،‬عل ــى‬
‫أســاس أن هــذه الوظيفــة هــي وظيفــة علمــاء االجتمــاع وخـرباء التنظــيم؛ فهــذه الصــفوة‬
‫هي السلطة النهالية القادرة على رسم الطريق الصحيح لتحسني حالة أبناء الطبقات‬
‫الــدنيا‪ ،‬وذهــب إىل أنــه لــيس مــن حــق اجلمــاهري التســاؤل عــن أشــياء تعلــو قــدراهتم‬
‫‪80‬‬
‫ومتهالهتم"‪.‬‬
‫وهكــذا‪ ،‬يتبــني لنــا أن وضــعية كونــت‪ ،‬علــى الــرغم مــن طابعهــا العلمــي‪ ،‬فهــي حتيــي‬
‫واضح إىل ماهو حمافظ وساكن وثابت‪ ،‬مع رفض التغيـري باسـم الثـورة‪ ،‬بيـد أهنـا تقبـل‬

‫‪ - 81‬حممد حممد أمييان‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.27:‬‬


‫‪ - 80‬وسيلة خيار‪ :‬اإليديولوجيا وعلم االجتماع‪ ،‬ص‪.082-088:‬‬

‫‪78‬‬
‫اإلص ــالو‪ .‬ويف ه ــذا الس ــياق‪ ،‬يق ــول نبي ــل الس ــمالوطي‪ ":‬الوض ــعية يف الوق ــت ذات ــه‬
‫فلسفة إجيابية كما يدل على ذلك امسهـا(‪ .)Positivisme‬واإلجيـا هنـا يعـين‬
‫قبــول األوضــاع الراهنــة‪ ،‬والوقــوف منهــا موقــف الرضــا والتأييــد‪ ،‬والعمــل علــى الــدفاع‬
‫عنه ــا ضـ ــد أي اجتـ ــاه‪ .‬أي‪ :‬إىل تغيريهـ ــا تغي ـ ـريا جـ ــذريا‪ ،‬فالوضـ ــعية م تكـ ــن تعـ ــارض‬
‫اإلصالو‪ ،‬بل التغيري‪ ،‬ولكن ذلك كله كان جيب أن يتم يف إطار ماهو قالم وما هـو‬
‫موج ــود‪ ،‬حماول ــة كس ــر ه ــذا اإلط ــار والث ــورة علي ــه كان ــت خمالف ــة متام ــا ل ــروو الفلس ــفة‬
‫‪82‬‬
‫الوضعية‪".‬‬
‫ويع ــين ه ــذا أن سوس ــيولوجيا أوجس ــت كون ــت ه ــي سوس ــيولوجيا توفيقي ــة جتم ــع ب ــني‬
‫الفوضى والنظام من جهة‪ ،‬وبني احملافظة والتقدم من جهة أخرى‪.‬‬

‫وخالصةةة القةةول‪ ،‬فلقــد اهتمــت الوضــعية‪ ،‬عنــد أوجســت كونــت‪ ،‬بدراســة الظ ـواهر‬
‫النســبية غــري املطلقــة‪ ،‬بــالتوقف عنــد العالقــات الثابتــة بــني الوقــالع والظـواهر‪ ،‬يف إطــار‬
‫ترابطها السبيب‪ ،‬بغية استخالص قوانينها وقواعدها النظرية والتطبيقية‪ .‬ومن مث‪ ،‬ميكن‬
‫القــول بــأن أوجســت كونــت يعــد مــن أهــم متسســي علــم االجتمــاع الوضــعي‪ ،‬ومــن‬
‫الس ــباقني إىل األخ ــذ مب ــنهج التفس ــري يف دراس ــة الظـ ـواهر اجملتمعي ــة‪ ،‬بتمث ــل منهجي ــة‬
‫الفييي ــاء والبيولوجي ــا والفيييولوجي ــا والكيمي ــاء يف التع ــاطي م ــع الظ ـ ـواهر املادي ــة‪ ،‬م ــع‬
‫االعتمــاد علــى جمموعــة مــن اخلط ـوات العلميــة‪ ،‬مثــل‪ :‬املالحظــة‪ ،‬والتجربــة‪ ،‬واملقارنــة‪،‬‬
‫والتاريخ‪.‬‬

‫‪ -‬نبيل السمالوطي‪ :‬اإليديولوجيا وأزمة علم االجتماع المعاصر‪ :‬دراسة تحليلية للمشكالت‬ ‫‪82‬‬

‫النظرية والمنهجية‪،‬اهليئة املصرية العامة للكتا ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬طبعة ‪0871‬م‪ ،‬ص‪.021:‬‬

‫‪79‬‬
‫إميل دوركايم المؤسس الفعلي لعلم االجتماع‬

‫يعــد إميــل دوركــامي (‪ 88)Emile Durkheim‬مــن متسســي علــم االجتمــاع يف‬


‫الثقافــة الغربيــة‪ .‬ومــن مث‪ ،‬فهــو الــذي دعــا إىل اســتقاللية هــذا العلــم عــن بــاقي العلــوم‬
‫واملع ــارف األخ ــرى‪ .‬كم ــا يظه ــر ذل ــك جلي ــا يف كتاب ــه (قواع ةةد الم ةةنهج ف ةةي عل ةةم‬
‫االجتمةةاع)‪ .‬ومــن مث‪ ،‬فقــد أرســى دوركــامي علــم االجتمــاع علــى جمموعــة مــن القواعــد‪،‬‬
‫مثل‪ :‬مالحظة الظواهر اجملتمعية علـى أسـاس أهنـا أشـياء أو موضـوعات ماديـة‪ ،‬ميكـن‬
‫إخض ــاعها للمالحظ ــة اخلارجي ــة‪ .‬ويف ه ــذا النط ــاق‪ ،‬يق ــول دروك ــامي‪ " :‬إن الظ ـ ـواهر‬
‫االجتماعي ــة تش ــكل أش ــياء‪ ،‬وجي ــب أن ت ــدرس كأش ــياء‪..‬ألن ك ــل م ــا يعط ــي لن ــا أو‬
‫يفــرض نفســه علــى املالحظــة يعتــرب يف عــداد األشــياء‪...‬وإذاً‪ ،‬جيــب عينــا أن نــدرس‬
‫الظ ـواهر االجتماعيــة يف ذاهتــا‪ ،‬يف انفصــال تــام عــن األف ـراد ال ـواعني الــذين يتمثلوهنــا‬

‫‪ - 88‬إميل دوركامي سوسيولوجي فرنسي ‪ ،‬ولد سنة ‪ ،0313‬وتويف سنة ‪0807‬م‪ ،‬وهو متسس علم‬
‫االجتماع‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫فكريا‪ ،‬ينبغي أن ندرسـها مـن اخلـارج كأشـياء منفصـلة عنـا‪...‬إن هـذه القاعـدة تنطبـق‬
‫‪82‬‬
‫على الواقع االجتماعي برمته وبدون استثناء‪".‬‬
‫والقاع ــدة الثاني ــة أن يتح ــرر ع ــام االجتم ــاع بص ــفة مط ــردة م ــن ك ــل فك ــرة س ــابقة‪،‬‬
‫مبمارس ـ ـ ـ ــة الشـ ـ ـ ــك املنهج ـ ـ ـ ــي قص ـ ـ ـ ــد الوص ـ ـ ـ ــول إىل اليق ـ ـ ـ ــني كم ـ ـ ـ ــا ق ـ ـ ـ ــال ديك ـ ـ ـ ــارت‬
‫(‪ .)Descartes‬والقاعــدة الثالثــة دراســة الوقــالع اجملتمعيــة الــيت تشــمت يف خ ـواص‬
‫معينــة دراســة علميــة موضــوعية‪ ،‬مبالحظتهــا‪ ،‬وتصــنيفها‪ ،‬وتفســريها‪ .‬وتتمثــل القاعــدة‬
‫الرابعة يف دراسة الظواهر اجملتمعية اليت تتميي بالتكرار‪ ،‬واالطراد‪ ،‬والعمومية‪ ،‬واجلربيـة‪،‬‬
‫واإللـيام‪ ...‬مبالحظتهــا خارجيــا‪ ،‬بعيــدا عــن العوامــل الفرديــة والســيكولوجية‪ .‬والقاعــدة‬
‫اخلامســة هــي التفريــق بــني الظ ـواهر اجملتمعيــة الســليمة وبــني الظ ـواهر اجملتمعيــة املعتلــة‪.‬‬
‫والقاعدة السادسة هي تصنيف اجملتمعات من حيث البنية والوظيفة‪.‬‬
‫هــذا‪ ،‬وقــد تبــىن دوركــامي مــنهج التفســري يف دراســة الظـواهر اجملتمعيــة‪ ،‬بالتشــديد علــى‬
‫العالقة السببية بني الظواهر املرصودة‪ .‬ويف هذا‪ ،‬يقول دوركامي‪ " :‬فكل ما يطالـب بـه‬
‫ه ــذا العل ــم ه ــو أن يع ــمف الن ــاس ب ــأن ق ــانون الس ــببية يص ــدق أيض ــا عل ــى الظـ ـواهر‬
‫االجتماعيــة‪.‬ولكن علــم االجتمــاع اليقــرر هــذا القــانون علــى أنــه ضــرورة منطقيــة؛ بــل‬
‫يقرره فقط على أنه فرض جترييب أدى إليه استقراء مشروع‪.‬ف نه ملا ثبـت صـدق قـانون‬
‫الســببية يف ن ـواحي الطبيعــة األخــرى‪ ،‬وامتــد ســلطانه شــيئا فشــيئا مــن العــام الطبيعــي‬
‫الكيميــالي إىل العــام البيولــوجي‪ ،‬ومــن هــذا العــام األخــري إىل العــام النفســي حــق لنــا‬
‫التس ــليم بأن ــه يص ــدق أيض ــا عل ــى الع ــام االجتم ــاعي‪ .‬وميكنن ــا م ــن اان أن نض ــيف‬
‫احلقيقة ااتية وهي‪ :‬أن البحوث اليت تقوم على أساس هـذا املبـدأ متيـل بنـا إىل تأكيـد‬
‫صحته‪...‬‬

‫‪94‬‬
‫‪- E.Durkheim:Les règles de la méthode sociologique, éd‬‬
‫‪Flammarion, Paris, 1988, p:103-104.‬‬

‫‪81‬‬
‫إن طريقتنا طريقة موضوعية‪.‬وذلك ألهنا تقوم بأسرها علـى أسـاس الفكـرة القاللـة بـأن‬
‫الظواهر االجتماعية أشياء‪ ،‬وجيب أن تعاجل علـى أهنـا أشـياء‪ ،‬والشـك يف أن مـذهب‬
‫كل من سبنسر وأوجست كونت يقوم على أساس هذه الفكرة نفسها‪ .‬وإن وجدت‬
‫‪81‬‬
‫لديهما على صورة خمتلفة بعض الشيء‪".‬‬
‫إذاً‪ ،‬يقــوم املــنهج التفســريي‪ ،‬يف علــم االجتمــاع‪ ،‬علــى إبعــاد الذاتيــة‪ ،‬والــتخلص مــن‬
‫النيعة التأملية يف البحـث‪ ،‬واسـتعمال التجريـب‪ ،‬وتكـرار االختبـارات‪ ،‬واالحتكـام إىل‬
‫اجلربية االجتماعيـة الـيت تسـتند إىل احلتميـة‪ ،‬والعموميـة‪ ،‬والضـغط اخلـارجي‪ ،‬والعقـا‬
‫اجملتمعــي‪ ،‬واالبتعــاد عــن التصــورات املســبقة‪ ،‬والــتخلص مــن األفكــار الشــالعة بنقــدها‬
‫وغربلتهــا علميــا وموضــوعيا‪ .‬ويف هــذا‪ ،‬يقــول دوركــامي‪":‬إن القاعــدة الــيت ننطلــق منهــا‬
‫التفمض أي تصور ميتافيييقي‪ ،‬والتتتضمن أي نظر تأملي يف كنه املوجـودات‪.‬إن مـا‬
‫تطلبه هو أن يضع عام االجتمـاع نفسـه يف وضـع فكـري شـبيه بالوضـع الـذي يكـون‬
‫علي ـ ــه الفييي ـ ــاليون والكيمي ـ ــاليون والفيييولوجي ـ ــون‪ ،‬حينم ـ ــا ينخرط ـ ــون يف استكش ـ ــاف‬
‫منطقــة جمهولــة عــن ميــداهنم العلمــي‪.‬فعلــى عــام االجتمــاع‪ ،‬بــدوره‪ ،‬وهــو حيــاول النفــاذ‬
‫إىل اجملتم ــع أن يع ــي بأن ــه ينف ــذ إىل ع ــام جمهول‪.‬وعلي ــه‪ ،‬أن يش ــعر بأن ــه‪ ،‬أيض ــا‪ ،‬إزاء‬
‫‪86‬‬
‫وقالع غري منتظرة مثلما كالن عليه وقالع احلياة‪ ،‬قبل أن تتشكل البيولوجيا كعلم‪".‬‬
‫يق ــوم التص ــور الوض ــعي عن ــد دورك ــامي عل ــى ال ــتخلص م ــن اخلط ــا الت ــأملي ال ــذايت‬
‫والفلســفي‪ ،‬وتبــين منــاهج العلــوم الطبيعيــة املبنيــة علــى التجريــب‪ ،‬واملالحظــة اخلارجيــة‬
‫الدقيقة‪ ،‬واملقارنة العلمية (التجربـة غـري املباشـرة)‪ ،‬أو االرتكـان إىل اخلطـوات املنهجيـة‬
‫التالي ــة‪ :‬التعري ــف مبوض ــوع الدراس ــة‪ ،‬ومالحظ ــة الظـ ـواهر ب ع ــادة بناله ــا بن ــاء علمي ــا‪،‬‬

‫‪ - 81‬إميل دوركامي‪ :‬قواعد المنهج في علم االجتماع‪ ،‬ص‪.278-276:‬‬


‫‪96‬‬
‫‪- E.Durkheim:Les règles de la méthode sociologique,‬‬
‫‪p:79.‬‬

‫‪82‬‬
‫وتنظ ــيم الوق ــالع يف ض ــوء استكش ــاف العالق ــات ال ــيت ت ــتحكم يف املتغ ـريات املس ــتقلة‬
‫والتابعة‪ ،‬وااللتيام باخلاصية العلمية للفرضية السوسيولوجية‪.‬‬
‫وعلي ـ ــه‪ ،‬يعتم ـ ــد املوق ـ ــف الوض ـ ــعي عل ـ ــى منهجي ـ ــة اس ـ ــتقرالية جتريبي ـ ــة‪ ،‬وينطلـ ــق م ـ ــن‬
‫مشــكالت اجتماعيــة‪ ،‬وفرضــيات علميــة‪ ،‬واالســتعانة بالتجريــب التكـراري والمابطــي‪،‬‬
‫واس ــتثمار اإلحص ــاء الرياض ــي‪ ،‬واس ــتخالص الق ـ ـوانني والنظري ــات‪ .‬ويف ه ــذا‪ ،‬يق ــول‬
‫السوس ــيولوجي الفرنس ــي كل ــود بابيي ــه (‪ ":)Jean Claude Babier‬إن‬
‫السوسيولوجيا هـي علـم‪ ،‬وذلـك بالتحديـد‪ ،‬ألن مـن ميارسـون البحـث السوسـيولوجي‬
‫يسـ ــعون إىل القيـ ــام بـ ــه بـ ــروو علميـ ــة‪...‬فالسوسـ ــيولوجيا تسـ ــعى إىل حتديـ ــد الثوابـ ــت‬
‫والقواع ــد ال ــيت تتمفص ــل ض ــمن نظري ــات أو أبني ــة نظري ــة‪ .‬وذل ــك م ــن أج ــل كش ــف‬
‫الظـ ـ ـواهر االجتماعي ـ ــة ايل تق ـ ــدم نفس ـ ــها لعلم ـ ــاء االجتم ـ ــاع وملعاصـ ـ ـريهم‪ ،‬بوص ـ ــفها‬
‫مشكالت اجتماعية‪.‬‬
‫فاملظهر األول للعمل االجتماعي هو‪ ،‬إذاً‪ ،‬تعيني املشكلة أو املشكالت االجتماعيـة‬
‫ال ــيت يتع ــني دراستها‪...‬وتفس ــري الظـ ـواهر االجتماعي ــة ي ــتم باالعتم ــاد عل ــى نظري ــات‬
‫تشــكل أنســاقا وأبنيــة تقــوم علــى قضــايا منظمــة بشــكل عقلــي‪ .‬تقابــل تلــك األبنيــة‬
‫بوقالع جتريبيـة‪ ،‬وتتطـور تبعـا ملقابلتهـا بوقـالع ومعطيـات اختباريـة أو جتريبيـة‪.‬كما تقـوم‬
‫تلــك النظريــات علــى مســلمات‪ ،‬أي علــى لــة مــن القضــايا األساســية غــري مــربهن‬
‫عليهــا‪ ،‬تعتــرب مبثابــة قضــايا بديهية‪...‬وحتــدد هــذه املســلمات‪ ،‬بــدورها‪ ،‬منوذجــا نظريــا‪.‬‬
‫أي‪ :‬إطارا تصوريا شامال‪...‬‬
‫والسوسيولوجيا تقوم على ثالث مسلمات‪ ،‬وتعتمد منوذجني نظريني أساسيني‪:‬‬
‫املسلمة األوىل‪ :‬يشكل اإلنسان نوعا وحيدا أو ثابتا اليتغري يف اليمان‪...‬‬
‫املسلمة الثانية‪ :‬يشكل جمموع الوقالع االجتماعية (اجملـال االجتمـاعي) جمـاال خارجيـا‬
‫بالنظر إىل الفرد‪...‬‬

‫‪83‬‬
‫املسلمة الثالثة‪ :‬ينطوي تنظـيم الوقـالع االجتماعيـة علـى معـىن جيـري كشـفه عـن طريـق‬
‫‪87‬‬
‫تطبيق مناهج الفكر العلمي‪"...‬‬
‫وينطلق إميل دوركامي‪ ،‬يف كتابه (االنتحار)‪ ،83‬من نتيجة أساسية‪ ،‬وهي أن االنتحـار‬
‫ليست ظـاهرة نفسـية أو عضـوية‪ ،‬بـل هـي ظـاهرة جمتمعيـة‪ ،‬مرتبطـة بتقسـيم العمـل يف‬
‫اجملتمــع الرأمســايل الصــناعي‪ .‬وبالتــايل‪ ،‬يتحــدد معــدل االنتحــار حبســب درجــة انــدماج‬
‫األفراد يف اجلماعة‪ ،‬والعالقة بينهما عالقة علية أو سببية‪.‬‬
‫أمــا فيمــا خيــص اهتمامــه باجلوانــب الدينيــة‪ ،‬فقــد رفــض التفســري الفــردي واالجتمــاعي‬
‫للظاهرة الدينيـة‪ ،‬فاعتربهـا ظـاهرة اجتماعيـة‪ ،‬ميكـن دراسـتها دراسـة علميـة موضـوعية‪،‬‬
‫كمــا يبــدو ذلــك جليــا يف كتابــه ( الصةةور األوليةةة للحيةةاة الدينيةةة) الــذي ظهــر ســنة‬
‫‪0802‬م‪ .88‬وقــد توصــل يف كتابــه إىل أن التــدين ظــاهرة اعيــة؛ ألن فكــرة املقــدس‬
‫موجودة يف يع العقالد واألديان‪ .‬ومن مث‪ ،‬فاملقدس نتاج احلياة اجلماعيـة‪ .‬وبالتـايل‪،‬‬
‫فالدين هو اجملتمع نفسه‪ .‬ويعين هذا أن اجملتمع هو الذي يولد طبيعـة التفكـري الـديين‬
‫لــدى الفــرد‪ .‬ومــن مث‪ ،‬ي ـمادف الــدين مــع اجملتمــع‪ .‬ومــن مث‪ ،‬فاألشــكال الدينيــة هــي‬
‫تعبري عن األشـكال اجملتمعيـة‪ .‬عـالوة علـى ذلـك‪ ،‬فالـدين هـو جمموعـة مـن املعتقـدات‬
‫واملمارســات املرتبطــة باملقــدس‪ ،‬وتتميــي بطابعهــا الروحــا اجملــرد‪.‬ومن هنــا‪ ،‬فقــد قــام‬
‫دوركـ ــامي بدراسـ ــات إثنولوجيـ ــة ختـ ــص قبالـ ــل بداليـ ــة بأس ـ ـماليا‪ ،‬وقبالـ ــل اهلنـ ــود احلمـ ــر‬

‫‪97‬‬
‫‪- Jean Claude Babier: Initiation à la sociologie, éd.Erasme,‬‬
‫‪France, 1990, pp:14-17.‬‬
‫‪98‬‬
‫‪-Émile Durkheim : Le Suicide : Étude de sociologie, Paris,‬‬
‫‪Presses universitaires de France, coll. « Quadrige » (no 19), 1981,‬‬
‫‪463 p.‬‬
‫‪99‬‬
‫‪- Durkheim, Émile. Les formes élémentaires de la vie‬‬
‫‪religieuse, Presses Universitaires de France, 5e édition, 2003. p.‬‬
‫‪604.‬‬

‫‪84‬‬
‫بأمريكــا‪ .‬ومــن مث‪ ،‬توصــل إىل مــاهو مشــمت يف ســلوكياهتم الدينيــة‪ ،‬والــذي يتمثــل يف‬
‫املقدس أو الطاقة العقالدية اليت تسمى باملانا‪ .‬ويعين هذا كله أن املعبود واملقدس هو‬
‫اجملتمــع‪ .‬ويف هــذا‪ ،‬يقــول حممــد حممــد أمييــان‪ ":‬لقــد رفــض دوركــامي االنطــالق مــن كــل‬
‫فك ــرة مس ــبقة يف دراس ــة الظ ــاهرة الديني ــة‪.‬فالوض ــعية العلمي ــة تقتض ــي تطبي ــق القواع ــد‬
‫املنهجيــة الصــارمة‪.‬ولذلك‪ ،‬فهــو اليــرى ســبيال إىل الدراســة املوضــوعية للظــاهرة الدينيــة‬
‫إال بالتعرف على أشكاهلا األولية وكيفية نشأهتا عند الشعو البدالية‪ ،‬وهي الدراسـة‬
‫اليت سجلها يف كتابه الضخم عن الصور األولية للحياة الدينية‪.‬‬
‫لقــد اجتــه دوركــامي إىل العشــالر األس ـمالية باعتبارهــا شــعوبا بداليــة متثــل صــورة اجملتمــع‬
‫البــدالي الــذي الي ـيال حيــتفظ باملظــاهر الدينيــة األوىل‪ ،‬وقــد اعتقــد دوركــامي أنــه وجــد‬
‫الصورة األوىل للنظام الديين يف عبـادة الطـوطم‪ ،‬وهـو رمـي تتخـذه اجلماعـة أو العشـرية‬
‫لنفسها‪ ،‬وهلذا فحينما تتجه العشرية بالعبادة حنـو الطـوطم‪ ،‬فهـي تتجـه يف الواقـع عـن‬
‫طريقــه إىل العشــرية نفســها أي عبــادة نفســها‪ ،‬فــاجملتمع هــو املعبــود‪ ،‬والعاطفــة الدينيــة‬
‫جمرد صورة جمسدة من العاطفة االجتماعية‪ .‬أي‪ :‬جمرد صورة تأليه للجماعة‪.‬‬
‫لقد قدم دوركامي أدلة على صحة استدالالته‪ ،‬ولسنا يف حاجة إىل ذكـر هـذه األدلـة‪،‬‬
‫ولكــن نــذكر فقــط أن الثابــت هــو أن النظــام الطــوطمي لــيس نظامــا دينيــا كمــا أكــد‬
‫ذلــك عــام االجتمــاع الــديين روجــي باســتيد‪ ،‬ولكــن ذلــك م مينــع دوركــامي مــن تشــييد‬
‫نظريتــه العلميــة يف دراســة الظــاهرة الدينيــة‪ ،‬وم مينعــه مــن أن يقــرر أن اج هــو اجملتمــع‬
‫نفسه‪ ،‬وله كل خصالص األلوهية‪.‬فهو الذي جيرنا إىل خارج أنفسنا‪ ،‬ويليمنا بـالتوافق‬
‫م ــع مص ــاحل أخ ــرى غ ــري مص ــاحلنا‪ ،‬وه ــو ال ــذي علمن ــا كي ــف نس ــيطر عل ــى ش ــهواتنا‬
‫وغرالينا‪ ،‬وأن نضع هلا القوانني‪ ،‬وهـو الـذي علمنـا أن نتضـايق وأن منتنـع وأن نضـحي‬
‫‪011‬‬
‫وأن خنضع غاياتنا لغايات أكثر مسوا‪".‬‬

‫‪ - 011‬حممد حممد أمييان‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.68-62:‬‬

‫‪85‬‬
‫وقد تأثر موس (‪ )Mauss‬ب ميل دوركامي يف دراسة الظواهر الدينية‪ ،‬باالعتماد علـى‬
‫املقــم السوســيوجلي يف" دراســة م يكملهــا خصصــها لدراســة ظــاهرة الصــالة‪ ،‬وقــد‬
‫عم ــد إىل الدراس ــة الوراثي ــة أو التطوري ــة ال ــيت تق ــوم عل ــى تتب ــع الظ ــاهرة يف تسلس ــلها‬
‫‪010‬‬
‫التارخيي‪ ،‬وذلك كطريق وحيد للوقوف على حقيقتها وأصوهلا وكيفية تطورها‪".‬‬
‫أم ــا ع ــن اخللفي ــات اإليديولوجي ــة لوض ــعية دورك ــامي‪ ،‬فتتمث ــل يف احلف ــاظ عل ــى الواق ــع‬
‫الوضعي العلما ‪ ،‬وحماربـة الالهـوت باسـم العلـم والتجريـب والعقـل‪ .‬ويف هـذا‪ ،‬يقـول‬
‫حممد حممد أمييان‪ ":‬أما دوركامي‪ ،‬ف ن عملـه سـينطلق مـن حيـث انتهـى أسـتاذه‪ ،‬فهـو‬
‫دخــل يف ص ـراع حــاد مــع النظــام الــديين‪ ،‬ولكنــه كــان ص ـراعا عمليــا أكثــر منــه نظريــا‪،‬‬
‫وركــي علــى تر ــة املبــادىء النظريــة الوضــعية إىل خطــة عمليــة أو مشــروع تربــوي شــامل‬
‫ينتهــي بــه إىل علمنــة اجملتمــع فــردا و اعــة وســلوكا‪.‬وهو حيتمــي يف كــل ذلــك بالعلميــة‬
‫والتطبيــق الصــارم للق ـوانني االجتماعيــة الــيت التقبــل الــنقض‪ .‬فمــا كــان يقــرره دوركــامي‬
‫ل ــيس جم ــرد إحساس ــات للق ـوانني االجتماعي ــة ال ــيت التقب ــل ال ــنقض‪ .‬فم ــا ك ــان يق ــرره‬
‫دوركــامي لــيس جمــرد إحساســات أو خ ـواطر‪ ،‬وإمنــا هــي إثباتــات علميــة هلــا مــن اليقــني‬
‫بقــدر مــا للعلــوم الطبيعيــة وهــي حجــة طاملــا تلــبس هبــا دوركــامي لتمريــر نتــالج حبوثــه‪،‬‬
‫وجعلها جتد سبيلها إىل عقول املواطنني دون مقاومة‪ .‬ونظـرا هلـذا الـدور اخلطـري الـذي‬
‫قــام بــه دوركــامي يف تثبيــت النظــام الوضــعي‪ ،‬جنــد املــترخني لعلــم االجتمــاع يقــررون أن‬
‫عمــل دوركــامي يعتــرب يف احلقيقــة أكــرب جمهــود مــذهيب عمــل علــى حتريــر علــم االجتمــاع‬
‫من الالهوت والفلسفة والسياسة‪ .‬وإنه أراد يف هناية األمر أن يقلـب األدوار وجتـد يف‬
‫علم االجتماع التفسري الوحيد لعلم الالهوت والفلسفة‪.‬‬
‫وقــد اســتطاع دوركــامي أن يقلــب األدوار فعــال فقــد أصــبح علــم االجتمــاع معــه يقــوم‬
‫‪012‬‬
‫بدور التوجيه العلما لكل املتسسات اليت كانت خاضعة للتوجيه الديين‪".‬‬

‫‪ - 010‬حممد حممد امييان‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.33:‬‬


‫‪ - 012‬حممد حممد أمييان‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.23:‬‬

‫‪86‬‬
‫ويعــين هــذا أن إميــل دوركــامي كــان ينطلــق مــن فلســفة وضــعية علمانيــة جتريبيــة‪ ،‬تفصــل‬
‫ال ــدين عـ ـن الدول ــة‪ ،‬كم ــا تفص ــله ع ــن العل ــم‪ .‬أي‪ :‬م يك ــن دورك ــامي ي ــويل ال ــدين أو‬
‫األخالق أو القيم أية أمهية يف دراسة اجملتمع وظواهره املختلفة‪.‬‬
‫وخالصــة القــول‪ ،‬يتضــح لنــا‪ ،‬ممــا ســبق قولــه‪ ،‬أن إميــل دوركــامي هــو املتســس احلقيقــي‬
‫لعلــم االجتمــاع يف منظــوره التجـرييب والوضــعي‪ ،‬مــادام هــذا العلــم مبنيــا علــى جمموعــة‬
‫من اخلطوات العلميـة املقننـة الصـارمة‪ .‬ويكفيـه فخـرا أن حـدد هلـذا العلـم جمموعـة مـن‬
‫القواعــد والشــروط املنهجيــة‪ ،‬ليتب ـوأ هــذا العلــم املســتقل مكانتــه الاللقــة بــه بــني بــاقي‬
‫العلوم واملعارف األخرى‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫هربرت سبنسر والمماثلة العضوية‬

‫ارتبط هربرت سبنسر (‪ 018)Herbert Spencer‬بالنظرية العضوية‪ .‬وتعد هذه‬


‫النظرية من أهم النظريات السوسيولوجية يف تاريخ الفكر الغريب‪ .‬وهتدف هذه‬
‫النظرية إىل وضع مماثلة نظرية ومنهجية بني اجملتمع والكالن العضوي‪.‬وقد تأثر‬
‫سبنسر يف ذلك برواد الفكر البيولوجي‪ ،‬أمثال‪ :‬داروين‪ ،‬والمارت‪ ،‬وبرونوتيري‪،‬‬
‫ومندل‪ ...‬ويعين هذا أن هربرت سبنسر ينظر إىل اجملتمع نظرة بيولوجية تطورية أو‬
‫عضوية‪.‬‬
‫إذاً‪ ،‬ما النظرية العضوية؟ وما سياقها التارخيي؟ وما تصورها النظري واملنهجي؟ وما‬
‫أهم االنتقادات املوجهة إليها؟ هذا ما سوف نتوقف عنده يف موضوعنا هذا‪.‬‬

‫‪ - 018‬هربرت سبنسر فيلسوف بريطا ‪ ،‬ولد سنة ‪0321‬م‪ ،‬وتويف سنة ‪0818‬م‪ .‬ويعد من أهم‬
‫متسسي علم االجتماع‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫المطلب األول‪ :‬مفهوم النظرية العضوية‬
‫يقصد بالنظرية العضوية تلك النظرية السوسيولوجية أو االجتماعية اليت تعقد مماثلة‬
‫بني اجملتمع والكالن احلي‪ .‬مبعىن أن اجملتمع يتطور كتطور الكالن احلي أو الكالن‬
‫العضوي‪ .‬أي‪ :‬تتعرض اجملتمعات اإلنسانية لثالث مراحل أساسية هي‪ :‬النشوء‪،‬‬
‫واالرتقاء‪ ،‬واالحنالل‪ ،‬أو لظاهرة الوالدة والتكيف والفناء‪.‬عالوة على ذلك‪ ،‬فهذه‬
‫النظرية العضوية بيولوجية يف مرجعيتها اإلحالية والنظرية‪ ،‬تأثرت‪ ،‬بشكل كبري‪،‬‬
‫بأفكار شارلي داروين‪ .‬وهكذا‪ ،‬يولد اجملتمع اإلنسا ويتدرج يف تطوره ورقيه حىت‬
‫يصيبه الفناء واليوال‪ .‬ويعين هذا أن تطور اجملتمعات البشرية خاضع للحتمية‬
‫البيولوجية أو احلتمية التطورية العضوية‪ .‬ويف هذا‪ ،‬تقول وسيلة خيار‪":‬يعد هربرت‬
‫سبنسر أبرز أنصار النظرية العضوية يف علم االجتماع اليت حتاول األخذ بفكرة‬
‫املماثلة العضوية بني اجملتمع والكالن العضوي‪.‬كذلك يعد هذا املفكر أبرز رواد‬
‫االجتاه الدراويين يف علم االجتماع‪ ،‬وهو االجتاه الذي يتكد أن تطور اجملتمع‬
‫اإلنسا يسري عرب جمموعة من املراحل احلتمية اليت الميكن إرادة البشر تغيريها؛‬
‫فالتطور االجتماعي عند أنصار هذا االجتاه حمكوم بقوى طبيعية تتجاوز إرادة‬
‫‪012‬‬
‫اإلنسان‪".‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬فنظرية سبنسر هي نظرية عضوية وبيولوجية وارتقالية بامتياز‪ ،‬تقار‬
‫السوسيولوجيا اجملتمعية انطالقا من املقم البيولوجي االرتقالي والنشولي‪ .‬وبتعبري‬
‫آخر‪ ،‬فهذه النظرية نظرية تطورية تارخيية قالمة على ثنالية التجانس والالجتانس‪،‬‬
‫وثنالية البساطة والمكيب‪ ،‬وثنالية التماثل والتباين‪ ،‬وثناية التباين والتكامل‪ .‬ومن‬

‫‪ - 012‬وسيلة خيار‪ :‬اإليديولوجيا وعلم االجتماع‪ ،‬جدلية االنفصال واالتصال‪ ،‬ص‪.083:‬‬

‫‪89‬‬
‫هنا‪ ،‬فقد أقام سبنسر"تصوره لعلم االجتماع على مبدإ املماثلة بني احلياة البيولوجية‬
‫واحلياة االجتماعية‪ ،‬حيث يقرر أن يف احلياة ميال إىل التفرد‪ ،‬والتفرد هو غاية كل‬
‫ارتقاء‪ ،‬وكل ارتقاء إمنا ينطوي على االنتقال من التماثل إىل التباين‪ ،‬أو من‬
‫املتجانس إىل الالمتجانس‪ ،‬ويقرر كذلك أن التخصص هو غاية كل تطور وارتقاء‬
‫يف املوجودات؛ وينتقل سبنسر هبذه احلقالق من ميدان احلياة البيولوجية إىل ميدان‬
‫احلياة االجتماعية‪ ،‬فيحاول تطبيقها على هذه احلياة مشبها إياها باحلياة البيولوجية‪،‬‬
‫وبعد أن يشرو كيفية نشأة احلياة االجتماعية وتطورها ووضوو وظالفها‪ ،‬وازدياد‬
‫‪011‬‬
‫ظاهرة التفرد والتخصص حىت وصلت يف العصر احلاضر إىل أدق مظاهرها‪".‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬يتبني لنا أن هربرت سبنسر يدرس اجملتمع اإلنسا ‪ ،‬يف تطوره املرحلي أو‬
‫املتدرج‪ ،‬يف ضوء املقاربة البيولوجية أو العضوية الداروينية‪ ،‬ب قامة مماثلة منهجية بني‬
‫سريورة اجملتمع والكالن احلي يف مناله ونشوله وارتقاله‪.‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬سياق العضوية‬


‫ظهرت النظرية السوسيولوجية العضوية يف القرن التاسع عشر امليالدي‪ ،‬مع ازدهار‬
‫العلوم الطبيعية‪ ،‬وخاصة البيولوجيا اليت تدرس الكالنات العضوية احلية‪ .‬وقد حتقق‬
‫هذا التطور العلمي مع البيولوجي داروين‪ ،‬والمارت‪ ،‬وماندل وغريهم‪...‬وتأثرت‬
‫السوسيولوجيا بدورها بأفكار هذه النظرية العضوية البيولوجية‪ ،‬واستعملت مفاهيمها‬
‫النظرية واملنهجية والتطبيقية يف وصف اجملتمعات وتصنيفها ومقارنتها‪ .‬وأكثر من‬
‫هذا‪ ،‬فقد كانت النظرية نتيجة لتطلعات إجنلما يف اهليمنة والسيطرة على الشعو‬
‫األخرى لصرف منتوجاهتا الفالضة‪ ،‬فكان الصراع هو ديدهنا‪.‬لذا‪ ،‬كان البد من‬

‫‪ - 011‬وسيلة خيار‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.088-083:‬‬

‫‪91‬‬
‫نظرية سوسيولوجية تتيد هذا املشروع الرأمسايل اإلمربيايل‪ ،‬وتربر الرغبة العارمة إىل‬
‫احلرو التوسعية‪ ،‬فكان‪ ،‬نتيجة ذلك‪ ،‬أن ظهرت النظرية العضوية اليت تتمن‬
‫بالصراع والتطور والبقاء‪.‬أي‪ " :‬كانت طبيعة املنا السياسي والفكري واالقتصادي‬
‫الذي كان سالدا يف إجنلما آنذات حباجة إىل نظرية اجتماعية تقدم الدعم‬
‫اإليديولوجي الذي ميجد الصراع داخليا واحلر خارجيا من أجل البقاء والتقدم؛‬
‫فجاء سبنسر‪ ،‬وهو املعروف بتشبعه للمذهب الدراويين‪ ،‬ليتكد أمهية وطبيعة وحتمية‬
‫فكرة القوة والصراع كأساس للعالقات االجتماعية سواء بني األفراد أو اجلماعات‪،‬‬
‫وبأشكال خمتلفة‪ .‬ونظرا إىل طبيعة وحتمية هذه الظواهر‪ ،‬تعد كل حماولة للوقوف يف‬
‫‪016‬‬
‫وجهها حماولة فاشلة وغري علمية وضارة ألهنا ختالف قوانني الطبيعة‪".‬‬
‫ويعين هذا أن النظرية الوضعية هي اليت كانت متد إجنلما بالطاقة احليوية القالمة على‬
‫القوة والصراع والسيطرة من أجل البقاء واالستمرار يف احلياة‪.‬‬

‫المطلب الثالث‪ :‬التصور النظري والمنهجي‬


‫يعــرف هربــرت سبنســر بفلســفة التطــور‪ ،‬كمــا يــدل علــى ذلــك كتابــه (التطةةور‪ :‬قانونةةه‬
‫وأسةةبابه) الــذي نشــره ســنة ‪0317‬م‪ .‬وقــد أثبــت أن التطــور هــو انتقــال متــدرج مــن‬
‫البســيط حنــو املركــب واملخــتلط‪ ،‬ومــن الالتســاق إىل االتســاق‪ .‬وبالتــايل‪ ،‬تتجــه ظــاهرة‬
‫التطــور حنــو االخــتالف والتنظــيم املتــدرج‪ .‬وقــد دافــع سبنســر عــن التطوريــة الداروينيــة‪،‬‬
‫وسـبق شـارل دارويـن(‪ )Charles Darwin‬إىل مفهـومي التطـور والبقـاء لألقـوى‬
‫واألصلح‪ .‬وقد أسس السوسيولوجيا التطورية أو الداروينية أو السوسـيولوجيا العضـوية‬

‫‪ - 016‬مسري أيو ‪ :‬تأثيرات اإليديولوجيا في علم االجتماع‪ ،‬معهد اإلمناء العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬طبعة‬
‫‪ ،0838‬ص‪.073:‬‬

‫‪91‬‬
‫الوظيفية‪ .‬وقد شبه اجملتمع بالكالن العضوي‪ ،‬كل عضـو يقـوم بوظيفـة معينـة يف إطـار‬
‫النسـ ــق الكلـ ــي‪ .‬وتـ ــأثر يف ذلـ ــك مببـ ــادىء الطبيع ـ ــة‪ ،‬وقـ ــد اسـ ــتعمل مـ ــنهج التفسـ ــري‬
‫الستكشــاف قـوانني التطــور لــدى اجملتمعــات اإلنســانية حتلــيال وتصــنيفا ومقارنــة‪ .‬وقــد‬
‫اســتعان سبنســر بالتــاريخ لرصــد تطــور اجملتمعــات‪ ،‬فقــد وجــد أن اجملتمعــات البداليــة‬
‫كانـ ــت تتميـ ــي بسـ ــمات البسـ ــاطة والصـ ــفاء‪.‬يف حـ ــني‪ ،‬تتميـ ــي اجملتمعـ ــات احلضـ ــارية‬
‫بسمات التخصص والتعقيد والمكيب واالختالف‪.‬‬
‫ه ـ ــذا‪ ،‬وق ـ ــد ق ـ ــدم هرب ـ ــرت سبنس ـ ــر دراس ـ ــات ع ـ ــدة يف جم ـ ــال السوس ـ ــيولوجيا‪ ،‬مث ـ ــل‪:‬‬
‫(السة ةةتاتيك االجتمة ةةاعي) (‪0311‬م)‪ ،‬و(السوسة ةةيولوجيا الوصة ةةفية) (‪0378‬م)‪،‬‬
‫و(مبادىء السوسيولوجيا) (‪0386-0376‬م)‪ ،‬و(مدخل إلى العلم االجتماعي)‬
‫(‪0332‬م)‪...‬‬
‫هــذا‪ ،‬وم يكــن هــدف املفكــر اإلجنليــيي هربــرت سبنســر تصــحيح اجملتمــع أو حتســني‬
‫أحواله‪ ،‬بل املهم هو فهم هذا اجملتمع على حنـو أفضـل‪ ،‬وتفسـري تطـور اجملتمـع وتغـريه‬
‫مــن حالــة إىل أخــرى‪ ،‬باالعتمــاد علــى املــنهج البيولــوجي التطــوري الــذي بلــوره شــارلي‬
‫داروين يف كتابه (أصل األنواع)‪.‬‬
‫وعليـه‪ ،‬فقـد متثـل سبنسـر منهجيـة دارويـن التطوريـة والعضـوية يف تفسـري التغـريات الـيت‬
‫حتدث يف اجملتمع‪ ،‬وتفسري الكيفية اليت تتغري هبا اجملتمعات‪ ،‬وتتطور عرب مرور اليمن‪.‬‬
‫وم ـ ــن مث‪ ،‬أس ـ ــس السوس ـ ــيولوجيا الدارويني ـ ــة‪ .‬وق ـ ــد طب ـ ــق منهجي ـ ــة التط ـ ــور يف كتاب ـ ــه‬
‫(مبةةادىء علةةم االجتمةةاع)‪ ،‬قصــد تفســري انتقــال اجملتمــع مــن بنيتــه البســيطة إىل بنيتــه‬
‫املركب ــة‪ .‬ويف ه ــذا‪ ،‬يق ــول سبنس ــر‪ ":‬لق ــد رأين ــا أن التط ــور االجتم ــاعي يب ــدأ ب ــبعض‬
‫الطوالــف الصــغرية بســيطة المكيــب‪ ،‬وأنــه يــيداد بســبب احتــاد بعــض هــذه الطوالــف يف‬
‫طوالــف أخــرى أكــرب منهــا‪ ،‬وأن هــذه الطوالــف األخــرية تتحــد فيمــا بينهــا بعــد بلوغهــا‬
‫درجـة كافيــة مـن المكيــي لكـي تكــون طوالــف أخـرى أكــرب منها‪.‬وحينئـذ فمــن الواجــب‬

‫‪92‬‬
‫أن نـ ـ ــدأ يف تصـ ـ ــنيفنا للمجتمعـ ـ ــات بـ ـ ــالنوع األول منهـ ـ ــا‪ ،‬أي‪ :‬بأبسـ ـ ــط اجملتمعـ ـ ــات‬
‫‪017‬‬
‫تركيبا‪".‬‬
‫ويعـين هــا أن التطــور االجتمــاعي عنــد سبنســر يســري علــى القواعــد نفســها الــيت تســري‬
‫عليهــا الكالنــات البيولوجيــة‪.‬ومن مث‪ ،‬فقــد نشــأ اجملتمــع باالنتقــال مــن حالــة التجــانس‬
‫إىل حالــة الالجتانس‪.‬فبعــد أن كانــت األســرة بنيــة بســيطة ومتجانســة يف أداء وظالفهــا‬
‫وأدوارهــا‪ ،‬تعقــدت فيمــا بعــد بتعــدد خصالص ـها وتبــاين وظالفهــا وأدوارهــا ومهامهــا‪.‬‬
‫ويعــين هــذا أن هناكــا انتقــاال مــن البنيــة البســيطة إىل البنيــة املعقــدة واملركبــة‪ ،‬أو انتقــاال‬
‫مــن التج ــانس إىل التب ــاين وتع ــدد االختصاصــات‪ .‬وللتوض ــيح أكث ــر‪" ،‬كان ــت احلي ــاة‬
‫البدالي ــة األوىل تق ــوم عل ــى التج ــانس‪ ،‬فاألس ــرة كان ــت وح ــدة متجانس ــة تق ــوم بك ــل‬
‫الوظــالف والتعــرف التخصــص‪ ،‬ومــع منوهــا وتطورهــا واتســاعها ظهــر فيهــا التخصــص‬
‫والتباين أو مـا يعـرب عنـه بالالجتانس‪.‬فـاجملتمع ينشـأ يف صـورة بسـيطة مث يأخـذ حجمـه‬
‫يف النم ــو‪ ،‬وع ــدد أفـ ـراده يف التك ــاثر‪ ،‬وه ــذا النم ــو يتبع ــه متي ــي يف األعض ــاء واهليئ ــات‬
‫وتعقــد يف المكيــب‪ .‬وفكــرة التطــور عنــد سبنســر هلــا إحيــاء دارويــين أصــيل‪ .‬فــاجملتمع يف‬
‫نظــره كــالفرد يعتــوره التطــور‪ ،‬وخيضــع لقوانينــه الــيت التــرحم وهــي‪ :‬النشةةوء‪ ،‬واالرتقةةاء‪،‬‬
‫ثم االنحالل‪ .‬فالوحدة السياسـية تنمـو مـن األسـرة والقبيلـة‪ ،‬فاملدينـة والدولـة مث هيئـة‬
‫األمم‪.‬وك ــذلك سـ ــالر ال ــنظم االقتصـ ــادية وغريهـ ــا فهن ــات نظـ ــم تولـ ــد وأخـ ــرى تفـ ــىن‪،‬‬
‫ف ــاجملتمع خيض ــع للقـ ـوانني نفس ــها ال ــيت خيض ــع هل ــا الك ــالن احل ــي يف نش ــأته وارتقال ــه‬
‫واحناللــه‪ ،‬ومهمــة عل ــم االجتمــاع هــي حماول ــة معرفــة نشــأة اجملتم ــع وتركيبــه وعناص ــره‬
‫وهيئاتــه ومراحــل منــوه‪...‬والنظم االجتماعيــة بــدورها ختضــع للمبــدإ نفســه يف تطورهــا‬
‫وارتقالهــا مــن حالــة التجـانس إىل حالــة الالجتــانس‪ .‬أي‪ :‬مرحلــة التبــاين والتخصــص‪،‬‬
‫وهي يف عملية تطورها هـذا ختضـع لنـوعني مـن العوامـل‪ :‬النـوع األول‪ :‬عوامـل داخليـة‬

‫‪ - 017‬نقال عن إميل دوركامي‪ :‬قواعد المنهج في علم االجتماع‪ ،‬تر ة ‪ :‬حممود قاسم والسيد حممد‬
‫بدوي‪ ،‬دار املعرفة اجلامعية‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،‬مصر‪ ،‬طبعة ‪0833‬م‪ ،‬ص‪.073:‬‬

‫‪93‬‬
‫وه ــي ال ــيت تتمث ــل يف الناحي ــة الفردي ــة‪ ،‬ف ــاألفراد هل ــم دور خ ــاص يف تش ــكيل ظـ ـواهر‬
‫اجملتم ــع وف ــق خواص ــهم وتك ــوينهم العقل ــي والع ــاطفي‪.‬والنوع الث ــا ‪ :‬عوام ــل خارجي ــة‬
‫تتمثــل يف البيئــة‪ ،‬وهــي ظــروف اجملتمــع الطبيعيــة واملناخيــة واجلغرافيــة الــيت تــتثر علــى‬
‫األفـراد‪ ،‬وبالتــايل علــى الظـواهر االجتماعيــة الــيت التعــدو أن تكــون جمــرد نتيجــة ألوجــه‬
‫نشــاط األف ـراد يف هــذه البيئــة‪.‬فالفرد هــو العامــل احلاســم يف إنشــاء الظ ـواره وتطورهــا‪،‬‬
‫‪013‬‬
‫وإن كان خيضع يف ذلك لطبيعة الظروف البيئية اليت يعيشها وتشكل طبيعته‪".‬‬
‫وعليـه‪ ،‬يرتكـي الفكـر العضـوي عنـد سبنسـر علـى جمموعـة مـن الثناليـات‪ ،‬مثـل‪ :‬ثناليـة‬
‫البساطة والمكيب‪ ،‬وثنالية الالمتجانس واملتجانس‪ ،‬وثناليـة التبـاين والتكامـل‪ ،‬وثناليـة‬
‫املتماثــل واملتبــاين‪ ،‬وثناليــة الــوالدة والفنــاء‪ ،‬وثناليــة التعــدد والتخصــص‪.‬ومن مث‪ ،‬فغايــة‬
‫علم االجتماع عنـد سبنسـر هـو "حماولـة ملعرفـة نشـأة اجملتمـع وتركيبـه وعناصـره وهيئاتـه‬
‫ومراحل منوه وتطوره‪ ،‬وما إىل ذلك من املظاهر اليت ختلقها العوامل الطبيعية والنفسـية‬
‫واحليوية‪ ،‬وهي عوامل تعمل متضـافرة يف عمليـة تطوريـة موحـدة؛ فـالتطور االجتمـاعي‬
‫يف نظره ليس إال عملية تطورية عضوية يسميها التطور فوق العضوي"‪.018‬‬
‫ويعين هـذا أن سبنسـر ينظـر إىل اجملتمـع نظـرة بيولوجيـة‪ .‬وبالتـايل‪" ،‬ينظـر إىل اإلنسـان‬
‫علــى أنــه خليــة يف جســم اجملتمــع‪ ،‬ومــا دام اجملتمــع يتكــون مــن جمموعــة مــن اخلاليــا‬
‫اإلنسانية؛ فالمانع ‪ -‬حبسب رأيه ‪ -‬مـن النظـر إىل علـم االجتمـاع علـى أنـه نـوع مـن‬
‫البيولوجي ــا يف ص ــورة مك ــربة‪ .‬واليس ــتطيع الع ــام االجتم ــاعي ‪ -‬يف نظ ــره‪ -‬أن يق ــوم‬
‫بدراســة حقيقيــة عــن اجملتمــع إال إذا مهــد لتلــك الدراســة مبعرفــة الق ـوانني العامــة لعلــم‬
‫احلياة‪.‬كما أنه اليغفل ما لعلم النفس من فالـدة بالنسـبة إىل العـام االجتمـاعي‪ ،‬ألن‬

‫‪ - 013‬حممد حممد أمييان‪ :‬منهج البحث االجتماعي بين الوضعية والمعيارية‪ ،‬ص‪.001-018:‬‬
‫‪ - 018‬صالو مصطفى الفوال‪ :‬علم االجتماع بين النظرية والتطبيق‪ ،‬دار الفكر العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫طبعة ‪0886‬م‪ ،‬ص‪.02:‬‬

‫‪94‬‬
‫القــوى الــيت تســري اجملتمــع ترجــع يف األصــل‪ -‬حســب اعتقــاده‪ -‬إىل بواعــث شخصــية‬
‫‪001‬‬
‫جيب الوصول إىل معرفتها‪".‬‬
‫وعليه‪ ،‬تنبين السوسيولوجيا العضوية عند سبنسر علـى فكـرة الصـراع التطـوري‪ ،‬ولـيس‬
‫علــى الصـراع اجلــديل كمــا عنــد كــارل مــاركس وأجنلــي؛ وتقســيم اجملتمعــات إىل بســيطة‬
‫ومركب ــة‪ ،‬وحربي ــة وص ــناعية؛ مث الق ــول مبب ــدأ البق ــاء لألق ــوى واألص ــلح؛ ومب ــدأ احلري ــة‬
‫الفردي ـ ــة؛ ورب ـ ــط الق ـ ــيم األخالقي ـ ــة بالل ـ ــذة واملنفع ـ ــة؛ والمكي ـ ــي عل ـ ــى حتمي ـ ــة التط ـ ــور‬
‫االجتمــاعي املســتمر عــرب اليمــان‪ .‬و" لــذلك‪ ،‬فقــد كــان سبنســر‪ ،‬علــى النقــيض مــن‬
‫كونت‪ ،‬يبتغي من علم االجتماع أن يوضح ضـرورة عـدم تـدخل النـاس يف العمليـات‬
‫الطبيعي ــة ال ــيت جت ــري يف اجملتم ــع؛ فالطبيع ــة م ــن تلق ــاء نفس ــها متي ــل إىل ال ــتخلص م ــن‬
‫الطاحل‪ ،‬وحتتضن األصلح وتبتغيه‪.‬وهذا التوجه يعـين يف احملصـلة‪ ،‬الـدفاع عـن األوضـاع‬
‫الراهنــة آنــذات‪ ،‬ودعــوة مكشــوفة لتثبيتهــا‪ ،‬وتربي ـرا لفظــالع املــد االســتعماري ومآســيه‪،‬‬
‫وتربيـرا ملحوظــا أيضــا للمنافســة االقتصــادية الصــارمة يف إطــار النظــام الرأمســايل العريــق‬
‫‪000‬‬
‫الذي كان يسود إجنلما‪".‬‬
‫وأخريا‪ ،‬وليس آخرا‪ ،‬يعد هربرت سبنسر من رواد علم االجتماع الـذين أخـذوا مبـنهج‬
‫التفس ــري التط ــوري يف دراس ــة الظـ ـواهر اجملتمعي ــة‪ ،‬مبقارن ــة اجملتمع ــات البداليـ ـة القدمي ــة‬
‫باجملتمعات احلديثة على مستوى املكونات والسمات‪.‬‬

‫‪ - 001‬وسيلة خيار‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.088:‬‬


‫‪ - 000‬مسري أيو ‪ :‬تأثيرات اإليديولوجيا في علم االجتماع‪ ،‬ص‪.078-073:‬‬

‫‪95‬‬
‫المطلب الرابع‪ :‬نقد وتقويم‬
‫على الرغم من إجيابيات النظرية العضوية كما طرحها هربرت سبنسر‪ ،‬ف ن هذا‬
‫التطور الذي يدعو إليه هو تطور بيولوجي عضوي المياثل التطور اجلديل عند كارل‬
‫ماركس القالم على املادية التارخيية‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فتطور اجملتمع عند سبنسر قالم على‬
‫الصراع والتنافر والالجتانس‪ .‬ولكن ميكن أن يقوم على التعايش والتفاهم والتعاون‪،‬‬
‫إذا كان حيتكم إىل املعايري األخالقية والدينية‪ .‬كما تذهب انتقادات أخرى إىل أن "‬
‫احلضارة اإلنسانية الميكن تفسريها يف ضوء مفاهيم احلر والصراع‪ ،‬وإمنا ميكن‬
‫تفسريها يف ضوء التعاون والعمل واإلجناز اإلنسا املنتج‪ .‬كما تذهب إىل أن‬
‫سبنسر قد أخطأ يف تصوره أن وصول البشرية إىل املرحلة الصناعية سوف يضع حدا‬
‫حلالة الصراع واحلر اليت ظل اإلنسان يعانيها على مدى تارخيه على هذا الكوكب‪.‬‬
‫وفاته بأن أبشع احلرو يف التاريخ هي اليت أشعلتها أكثر الدول تقدما يف الصناعة‬
‫‪002‬‬
‫والعلم والتكنولوجيا‪".‬‬
‫وعليــه‪ ،‬تغلــب علــى نظريــة سبنســر إيديولوجيــة الصـراع واحلــر والتطــور‪ ،‬والــدفاع عــن‬
‫الرأمساليــة الليرباليــة اإلجنليييــة‪ ،‬ومتجيــد احلريــة‪ ،‬ومبــدإ الفرديــة‪ ،‬ومبــدأ العمــل‪ ،‬وتثبيــت‬
‫قانون البقاء لألقوى واألصلح‪.‬‬

‫وخالصة القول‪ ،‬يتبني لنا‪ ،‬مما سبق ذكره‪ ،‬أن النظرية العضوية نظرية بيولوجية تشبه‬
‫اجملتمع بالكالن احلي‪ ،‬يف تطوره ونشوله وارتقاله‪.‬ومن مث‪ ،‬فاإلنسان عبارة عن خلية‬
‫عضوية يف جسم اجملتمع‪ ،‬يتطور بتطور هذا اجلسم ومناله‪ .‬وخيضع التطور للنشوء‬

‫‪ -‬نبيل السمالوطي‪ :‬اإليديولوجيا وأزمة علم االجتماع المعاصر‪ :‬دراسة تحليلية للمشكالت‬ ‫‪002‬‬

‫النظرية والمنهجية‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتا ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬طبعة ‪0871‬م‪ ،‬ص‪.023:‬‬

‫‪96‬‬
‫واالرتقاء واالحنالل‪ .‬ومن مث‪ ،‬فالنظرية العضوية عند هربرت سبنسر نظرية ارتقالية‬
‫ونشولية صراعية تتمن مبجموعة من الثناليات‪ ،‬مثل‪ :‬ثنالية البساطة والمكيب‪،‬‬
‫وثنالية التماثل والتباين‪ ،‬وثناية املتجانس والالمتجانس‪ ،‬وثنالية التباين والتكامل‪...‬‬

‫‪97‬‬
‫كارل ماركس والمادية التاريخية‬

‫تعد النظرية املاركسية أو املادية التارخيية من أهم النظريات السوسيولوجية الكربى إىل‬
‫جانب النظرية الوضعية‪ ،‬والنظرية الوظيفية البنالية‪ ،‬والنظرية اإلسالمية‪ ،‬والنظرية‬
‫التفاعلية الرميية‪ ،‬والنظرية اإلثنومنهجية‪ ،‬والنظرية املاركسية اجلديدة‪ ،‬ونظريات ما‬
‫بعد احلداثة‪...‬إال أن النظرية املاركسية أو النظرية املادية التارخيية قالمة على مبدإ‬
‫الصراع اجلديل‪ ،‬واملادية التارخيية‪ ،‬وترجيح كفة ماهو مادي واقتصادي على ماهو‬
‫فكري وثقايف‪.‬ومن مث‪ ،‬تتخذ هذه النظرية توجها ماديا واقتصاديا حمضا‪.‬‬
‫إذاً‪ ،‬ما النظرية املاركسية؟ وما سياقها التارخيي؟ وما أهم مقوماهتا النظرية والفلسفية‬
‫واملنهجية؟ وما أهم أمثلتها السوسيولوجية؟ وما أهم االنتقادات املوجهة إىل هذه‬
‫النظرية؟ هذا ماسوف نستعرضه يف املطالب التالية‪:‬‬

‫‪98‬‬
‫المطلب األول‪ :‬مفهوم النظرية الماركسية‬

‫ترتبط النظرية املاركسية باملفكر األملا كارل ماركس (‪0338-0303‬م)‪ ،‬وهو‬


‫فيلسوف ومتر واقتصادي وثوري وعام اجتماع‪ .‬وقد سامهت أفكاره يف تطوير‬
‫علم االجتماع‪ ،‬وانتشار املاركسية يف اجملاالت السياسية واالقتصادية واجملتمعية‪ .‬وقد‬
‫عرف باملادية التارخيية والفلسفة اجلدلية‪ ،‬ونقذه اللذيع للرأمسالية والبورجوازية على‬
‫حد سواء‪ ،‬ودفاعه عن الطبقة الربوليتارية يف وجه الطبقة املالكة لوسالل اإلنتاج‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬انضم إىل اجلمعية العاملية للعمال‪ .‬وعرف كذلك بطابعه الثوري ضمن‬
‫الطبقة العمالية‪ .‬وكان يقول بتغيري العام بدل تفسريه‪ .‬وقد تركت أفكاره بصمات‬
‫واضحة على جمموعة من الكتابات اليت تندرج ضمن املاركسية‪ ،‬سواء أكانت‬
‫كالسيكية أم معاصرة‪.‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬سياقها التاريخي‬


‫ظهرت املاركسية يف سياق تارخيي متيي بالصراع النضايل واجلديل بني البورجوازية‬
‫مالكة وسالل اإلنتاج‪ ،‬والطبقة العمالية صاحبة القوة اإلنتاجية‪ ،‬وكان ذلك يف القرن‬
‫التاسع عشر امليالدي‪ ،‬عصر الثورة الصناعية والعمالية‪ .‬وكان سبب هذا الصراع هو‬
‫الظلم الذي كانت تعانيه الطبقة الربوليتارية؛ من جراء عسف الطبقة البورجوازية‬
‫وبطشها وجتربها وتعنتها‪ ،‬إىل جانب ماكانت متارسه من استغالل واستيال‬
‫ومعاملة سيئة يف حق هتالء العمال‪ ،‬وطردهم من أعماهلم ووظالفهم ومناصبهم‪.‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬جاءت املاركسية للتعبري عن مهوم الطبقة العمالية وحمنها وإحنها‪ ،‬وجتسيد‬
‫آماهلا وطموحاهتا وتطلعاهتا‪.‬ومن هنا‪ " ،‬ميكننا القول‪ :‬إن االشماكية‪ ،‬نقصد العلمية‬

‫‪99‬‬
‫منها (الشيوعية)‪ ،‬قد مثلت ايديولوجية الطبقة العاملة يف نضاهلا ضد الظلم‬
‫واالستغالل الطبقي الذي ميي النظام الرأمسايل‪ ،‬فقد رافقت والدهتا حركة الطبقة‬
‫العاملة يف أوروبا (أملانيا‪ ،‬وفرنسا‪ ،‬وإجنلما‪ ،‬وبلجيكا‪ ،)...،‬وكانت متثل التعبري‬
‫السياسي والنظري عن تلك احلركة‪ ،‬واحلاملة ألهدافها السياسية واالقتصادية‬
‫واالجتماعية‪ ،‬حيث شارت متسسا هذه اإليديولوجيا بقوة يف نضاالت الطبقة‬
‫العاملة‪ ،‬سواء من خالل تأسيس اجلمعية األممية للعمال‪ ،‬أم من خالل عصبة‬
‫الشيوعيني يف أملانيا‪.‬‬
‫لثد دخلت االشماكية العلمية منذ والدهتا يف صراع ضد الليربالية باعتبارها‬
‫إيديولوجية النظام الرأمسايل‪ ،‬اليت تسوغ مشروعيته‪ ،‬وتربر تناقضاته واستغالله البشع‬
‫للعمال‪.‬ويف الوقت الذي اختذت فيه الليربالية طابعا حمافظا‪ ،‬اختذت االشماكية‬
‫العلمية طابعا نقديا راديكاليا‪ ،‬استهدف بالدرجة األوىل الكشف عن مساوىء‬
‫النظام الرأمسايل‪ ،‬والدعوة إىل جتاوزه عن طريق التغيري اجلذري‪ ،‬حبيث تتحقق يف‬
‫األخري العدالة االجتماعية‪ ،‬وتسمو القيم اإلنسانية‪"008.‬‬
‫وميكن التمييي بني ماقبل املاركسية اليت كانت عبارة عن تصورات ميتافيييقية‬
‫وتأمالت مثالية ساذجة وحاملة‪ ،‬ومرحلة املاركسية العلمية مع كارل ماركس وأجنلي‪،‬‬
‫وقد متييت هذه النظرية بطابعها العلمي واليقيين‪ ،‬بل إهنا قادرة على االستشراف‬
‫والتنبت‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فقد كانت املاركسية نظرية سوسيولوجية ثورية وراديكالية التتمن‬
‫بتفسري العام أو احملافظة عليه‪ ،‬بل كانت تدعو إىل تغيريه جذريا‪ ،‬يف إطار منظور‬
‫مادي تارخيي وجديل‪ ،‬يتمن بالعمل واملمارسة والرباكسيس‪ ،‬مع السعي اجلاد إىل‬
‫القضاء على الليربالية والفكر البورجوازي الفردي‪ .‬وأكثر من هذا‪ ،‬فقد وضعت‬
‫املاركسية تطورا تارخييا للبشرية اليت قطعت أطوارا عدة هي‪ :‬املرحلة املعاشية‪ ،‬واملرحلة‬
‫العبودية‪ ،‬واملرحلة اإلقطاعية‪ ،‬واملرحلة البورجوازية‪ ،‬واملرحلة االشماكية‪ .‬وبعد ذلك‪،‬‬

‫‪ - 008‬وسيلة خيار‪ :‬اإليديولوجيا وعلم االجتماع‪ ،‬ص‪.81-38:‬‬

‫‪111‬‬
‫تنتقل اإلنسانية إىل املرحلة الشيوعية بعد القضاء على امللكية اخلاصة‪ ،‬وإزالة الدولة‪،‬‬
‫والقضاء على الطبقات االجتماعية‪ ،‬وإشاعة األموال والنساء‪.‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬فاملاركسية فلسفة عمالية بروليتارية راديكالية وثورية‪ ،‬مهها الوحيد هو‬
‫الصراع اجلديل املستمر‪ ،‬والقضاء على البورجوازية الليربالية‪ ،‬وجتاوز ماهو نظري‬
‫وديين وروحي إىل ماهو مادي واقتصادي وجمتمعي‪ ،‬واإلميان بالتغيري اجلذري اجلديل‪.‬‬

‫المطلب الثالث‪ :‬التصور النظري‬

‫إذا كانت الليربالية تقوم على أسس مخسة هي‪ :‬الفرد‪ ،‬والعقل‪ ،‬واحلرية‪ ،‬والتسامح‪،‬‬
‫والعدالة‪ ،‬ف ن االشماكية العلمية‪ ،‬مع كارل ماركس وإجنلي‪ ،‬قد جتاوت االشماكية‬
‫الطوباوية بأحالمها املثالية املوغلة يف التجريد‪ ،‬كما يبدو ذلك جليا عند سان‬
‫سيمون(‪ ،)Saint -Simon‬وشارل فورييه (‪ ،)Charles Fourier‬وإتيان‬
‫كابيه (‪.)Etienne Cabet‬‬
‫ومن مث‪ ،‬ترتكي االشماكية العلمية على جمموعة من املبادىء واملقومات األساسية‪،‬‬
‫كنقد اجملتمع القالم؛ والدعوة إىل جمتمع جديد أفضل؛ والدعوة إىل الثورة ونشرها‬
‫عامليا؛ وإلغاء امللكية اخلاصة؛ وحتقيق املساواة بني األفراد؛ وتدخل الدولة يف تنظيم‬
‫احلياة االقتصادية؛ وسيطرة الربوليتاريا (العمال والفالحون) على مقاليد األمور‬
‫واحلكم؛ وتقييد حرية األفراد يف التملك والكسب والتصرف؛ والتوسع يف اخلدمات‬
‫االجتماعية والصحية‪002‬؛ واالنتقال من جمتمع اشماكي إىل جمتمع شيوعي بدون‬
‫طبقات أو دولة‪ ،‬يشيع فيه املال وامللكية اخلاصة والنساء‪ .‬ويف هذا‪ ،‬يقول‬

‫‪ - 002‬وسيلة خيار‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.81-33:‬‬

‫‪111‬‬
‫لينني‪":‬فما بقيت الدولة الوجود للحرية وعندما توجد احلرية تنعدم الدولة‪...‬إن‬
‫األساس االقتصادي الضمحالل الدولة اضمحالال تاما هو تطور الشيوعية تطورا‬
‫كبريا‪ ،‬ييول معه التضاد بني العمل الفكري والعمل اجلسدي‪ ،‬عندلذ ميكن للدولة‬
‫أن تضمحل متاما عندما يعتاد الناس متاما مراعاة القواعد األساسية للحياة يف‬
‫اجملتمع‪ ،‬وعندما يصبح عملهم لدرجة جتعلهم يعملون طوعا حسب طاقتهم‪"001.‬‬
‫ويضيف‪ ":‬حنن لسنا خبياليني‪ ،‬وحنن الننكر ضرورة قمع مثل هذه املخالفات‪ ،‬ولكن‬
‫هذا ال حيتاج إىل ماكينة خاصة للقمع؛ إىل جهاز خاص للقمع؛ فالشعب املسلح‬
‫نفسه يقوم به ببساطة كما تقوم اعة من الناس املتمدنني حىت يف اجملتمع الراهن‬
‫بتفريق متشاجرين‪ ،‬أو احليلولة دون االعتداء على امرأة‪ .‬وثانيا‪ ،‬حنن نعلم أن السبب‬
‫االجتماعي األساسي للمخالفات اليت تتجلى يف اإلخالل بقواعد احلياة يف اجملتمع‬
‫هو استثمار اجلماهري وبتسها‪ ،‬عندما ييول هذا السبب الرليسي‪ ،‬تأخذ املخالفات‬
‫الحمالة يف االضمحالل‪ .‬حنن النعلم بأية سرعة وبأي تدرج‪ ،‬ولكننا نعلم أهنا‬
‫ستضمحل حتما‪ ،‬ومع هذا االضمحالل تضمحل الدولة أيضا‪"006.‬‬
‫بيد أننا يف حاجة ماسة‪ ،‬اليوم‪ ،‬إىل التمسك بتالبيب الدولة وتقويتها متسساتيا‪،‬‬
‫وخاصة مع كثرة االضطرابات والفنت والقالقل واحلرو والصراعات بني العشالر‬
‫والقبالل والطوالف واإلثنيات والدول‪ ...‬لذا‪ ،‬فتصور ماركس أو لينني بانتهاء الدولة‬
‫مع الشيوعية جمرد خيال طوباوي حام‪ ،‬ال أساس له من الصحة املنطقية أو الواقعية‬
‫أو السياسية‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬ينبين التصور السوسيولوجي‪ ،‬عند ماركس وأجنلي معا‪ ،‬على املنظور املادي‬
‫التارخيي واجلديل‪ ،‬ب قامة جمتمع اشماكي تسيطر فيه الطبقة الربوليتارية على وسالل‬

‫‪ - 001‬فتح الرمحن أمحد حممد اجلعلي‪ :‬اإليمان باهلل والجدل الشيوعي‪ ،‬ديوان املطبوعات اجلامعية‪،‬‬
‫اجليالر؛ الدار السعودية للنشر والتوزيع‪ ،‬الرياض‪ ،‬السعودية‪ ،‬طبعة ‪0832‬م‪ ،‬ص‪.82:‬‬
‫‪ - 006‬فتح الرمحن أمحد حممد اجلعلي‪ :‬اإليمان باهلل والجدل الشيوعي‪ ،‬ص‪.88:‬‬

‫‪112‬‬
‫اإلنتاج‪ ،‬ريثما يتحقق االنتقال إىل اجملتمع الشيوعي الذي تنعدم فيه الدولة‬
‫والطبقات‪ ،‬وتشيع فيه األموال والنساء‪ .‬وينبين هذا التصور املاركسي على مراحل‬
‫تارخيية متعاقبة هي‪ :‬مرحلة انتصار االشماكية يف االحتاد السوفيايت؛ ومرحلة التكوين‬
‫االشماكي العاملي؛ ومرحلة الشيوعية‪ ،‬وحتول الدول الرأمسالية إىل دول اشماكية‪ ،‬مث‬
‫االنتقال إىل دول شيوعية‪.‬‬
‫بيد أن هذه املراحل والتصورات املاركسية عبارة عن أحالم يوطوبية مبفهوم كارل‬
‫ماهنامي(‪ )Karl Mannheim‬لليوطوبيا اليت تعين عدم تطابق احلالة العقلية مع‬
‫الواقع‪ .‬وهذا ما جعل بوتومور يقول‪ ":‬إن الذي يتعذر غفرانه هو أن ماركس قد‬
‫عمد إىل التضحية بالعلم الوضعي على مذبح امليتافيييقا‪ ،‬وإنه م يبد يف البحث إال‬
‫ذلك الدليل الذي يتيد الرؤية للعام والتاريخ يبدعها خيال شعري وفلسفي اليرقى‬
‫إليه شك بعدلذ‪.‬وباختصار‪ ،‬إنه ماركسي فج‪ ،‬وكان املبشر والداعي إىل‬
‫عقيدته‪"007.‬‬
‫ويعين هذا أن املاركسية عبارة عن فكر ميتافيييقي الميت بصلة إىل الواقع العلمي‬
‫والوضعي‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فالسوسيولوجيا املاركسية عبارة عن سوسيولوجيا ثورية راديكالية‬
‫انتقادية وتقويضية‪ ،‬اليهما سوى خوض الصراع اجلديل لتقويض الفكر الليربايل‬
‫البورجوازي‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فقد " ارتدى اإلسهام العلمي ملاركس وأجنلي ثوبا إيديولوجيا راديكاليا‪ ،‬ألنه‬
‫م يقف عند حدود الكشف عن الطابع االستغاليل للنظام الرأمسايل من خالل‬
‫التفسري العلمي املوضوعي‪ ،‬ولكنه جتاوزه إىل الدعوة إىل إقامة جمتمع بديل يقوم على‬
‫رؤية ايديولوجية اشماكية‪ .‬ومن هنا‪ ،‬صنفت أعمال ماركس وإجنلي ومن حنا حنومها‬
‫ضمن ما يسمى بعلم االجتماع الراديكايل‪ ،‬وكان من الطبيعي أن يدخل هذا‬

‫‪ - 007‬بوتومور‪ :‬علم االجتماع منظور اجتماعي نقدي‪ ،‬تر ة‪ :‬عادل خمتار اهلواري‪ ،‬نشر وتوزيع الشركة‬
‫العامة للتجهيي والتوزيع‪ ،‬فاس‪ ،‬املغر ‪ ،‬ص‪.31:‬‬

‫‪113‬‬
‫األخري يف صراع إيديولوجي مع علم االجتماع اليربايل‪ ،‬على غرار الصراع‬
‫‪003‬‬
‫اإليديولوجي القالم بني الليربالية واالشماكية‪".‬‬
‫وأكثر من هذا‪ ،‬يغيب الطابع العلمي يف السوسيولوجيا املاركسية‪ ،‬وتتحول إىل‬
‫عقيدة إيديولوجية ضحلة تعيق التقدم والتطور واالزدهار‪ .‬ويف هذا‪ ،‬يقول حممد‬
‫حممد أمييان‪ ":‬إن هذه الدعوة العقالدية اليت متييت هبا النظرية املاركسية م تكن‬
‫خاصة هبا‪ ،‬فهي خاصية من خصالص املنهج الوضعي على العموم‪ ،‬وهي نفسها‬
‫اليت وجهت الوضعية يف حبوثها‪.‬وهذه الدعوة العقالدية‪ ،‬نظرا ملا تنطوي عليه من‬
‫ضحالة فكرية تقف يف وجه التفكري العلمي الصحيح‪ ،‬وتعرقل مسريته حنو النمو‪،‬‬
‫وتنتهي به إىل كثري من الضالل املنهجي‪ ،‬ويتحول العلم معها إىل االعتقاد يف العلم‬
‫يتحول معه هذا األخري إىل عقالدية ميتافيييقية هلا طابع فلسفي ينأى بالفكر‬
‫العلمي عن بلوغ أهدافه‪ ،‬ويتيه يف مثاليات يتمن هبا الباحث املتعصب ملذهبه‪،‬‬
‫‪008‬‬
‫ويظل حبيسا للنيعات الذاتية وااراء الشخصية واالفماضات القبلية‪."....‬‬
‫وهكذا‪ ،‬ميكن القول‪ :‬إن سوسيولوجيا ماركس هي سوسيولوجيا ثورية راديكالية‪،‬‬
‫تنقد الواقع الكالن‪ ،‬بتغيريه حنو األحسن‪ ،‬باستشراف واقع ممكن أفضل‪ ،‬يسود فيه‬
‫الوعي الواقعي احلقيقي‪ ،‬وهو وعي الطبقات العمالية املبين على تغيري الظروف‬
‫املستلبة‪ ،‬بالسيطرة على وسالل اإلنتاج‪ ،‬وخلق أساليب إنتاجية جديدة‪.‬‬

‫‪ - 003‬وسيلة خيار‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.81:‬‬


‫‪ - 008‬حممد حممد أمييان‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.012-018:‬‬

‫‪114‬‬
‫المطلب الرابع‪ :‬التصور المنهجي‬

‫تستند النظرية املاركسية إىل املادية اجلدلية القالمة على فكرة الصراع الكمي‬
‫والكيفي‪ ،‬واإلميان باجلدل الثالثي‪ :‬األطروحة‪ ،‬ونقيض األطروحة‪ ،‬والمكيب‪،‬‬
‫واالعتماد على املادية التارخيية يف تفسري تطور اجملتمعات البشرية‪ .‬وقد تأثر ماركس‬
‫تأثرا كبريا بأفكار هيجل(‪.)Hegel‬إال أن مثالية هيجل املطلقة م تعجب كارل‬
‫ماركس‪ ،‬مادامت تتمن بأمهية الفكر يف تغيري الواقعي بشكل ديالكتيكي‪ .‬يف حني‪،‬‬
‫قلب ماركس هذه املعادلة اجلدلية املثالية ليصبح الواقع املادي هو أساس الفكر‪ ،‬له‬
‫األسبقية والتأسيس والتوجيه‪ .‬ويف هذا‪ ،‬يقول ماركس يف كتابه (رأس المال)‪":‬إن‬
‫منهجي الديالكتيكي الخيتلف عن املنهج اجلديل اهليجيلي من حيث األساس‬
‫وحسب‪ ،‬بل إنه الضد املقابل له مباشرة‪ .‬فالبنسبة هليجل‪ :‬إن عملية تطور الفكر‬
‫ومنوه‪ ،‬هذه العملية اليت يشخصها ويعتربها مستقلة‪ ،‬ويطلق عليها اسم الفكرة‪ ،‬هي‬
‫يف نظره خالقة الواقع‪.‬فما الواقع يف نظره إال املظهر اخلارجي للفكر‪ .‬أما بالنسبة يل‪،‬‬
‫‪021‬‬
‫ف ن عام األفكار ليس إال العام املادي منقوال إىل الذهن البشري ومم ا فيه‪".‬‬
‫ومن مث‪ ،‬فالديالكتيك عند هيجل" يسري على رأسه‪ .‬وتكفي إعادته على قدميه‬
‫لكي نرى له هيئة معقولة متاما‪"020.‬‬
‫وكان كارل ماركس قد كتب رسالة إىل أحد أصدقاله يقول فيها‪ ":‬إن منهجي يف‬
‫التحليل ليس هو منهج هيجل‪ ،‬ألنين مادي‪ ،‬وهيجل مثايل‪ .‬إن ديالكتيك هيجل‬

‫‪ - 021‬حممد عابد اجلابري‪ :‬من دروس الفلسفة والفكر اإلسالمي‪ ،‬دار النشر املغربية‪ ،‬الدار البيضاء‪،‬‬
‫املغر ‪ ،‬الطبعة األوىل سنة ‪2101‬م‪ ،‬ص‪.80:‬‬
‫‪ - 020‬حممد عابد اجلابري‪ :‬من دروس الفلسفة والفكر اإلسالمي‪،‬ص‪.80:‬‬

‫‪115‬‬
‫هو الشكل األساسي لكل ديالكتيك‪ ،‬ولكن بعد أن يتعرى من صورته‬
‫الصوفية‪.‬وهذا بعينه ما مييي منهجي‪"022.‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬تتجاوز مادية كارل ماركس اجلدلية املاديات السابقة كاملادية األرسطية؛‬
‫واملادية الذرية مع دميقريطيس؛ واملادية التجريبية اإلجنلييية مع جون لوت‪ ،‬ودافيد‬
‫هيوم‪ ،‬واستيوارت ميل؛ واملادية امليكانيكية مع فيوربا ‪ .‬وهنا‪ ،‬تعطى األسبقية ملا هو‬
‫مادي واقتصادي على ماهو فكري وإيديولوجي‪ .‬كما أن البنية التحتية ذات الطبيعة‬
‫املادية هي اليت تتحكم يف البنية الفوقية القالمة على الفكر والدين والتصوف‬
‫واألد والفن واإليديولوجيا‪ ...‬ويف هذا‪ ،‬يقول ماركس‪ ":‬ليس وعي الناس هو‬
‫الذي حيدد وجودهم‪ ،‬بل على العكس من ذلك‪ ،‬إن وجودهم االجتماعي هو‬
‫الذي حيدد وعيهم"‪.028‬‬
‫ويعين هذا أن ما هو اقتصادي ومادي وجمتمعي هو الذي حيدد فكر الناس ووعيهم‬
‫ووجودهم‪ .‬واليعين هذا أن الفكر سليب‪ ،‬الدور له يف تغيري اجملتمع أو التأثري فيه‪ ،‬بل‬
‫يتمن بفعاليته وخصوبته‪ ،‬وتأثريه يف اجملتمع املادي احملسوس‪ .‬ويف هذا‪ ،‬يقول‬
‫ماركس‪ ":‬إن العيب الرليس للمادية السابقة كلها‪ ،‬مبا فيها مادية فيوربا ‪ ،‬هو أن‬
‫الشيء‪ ،‬الواقع‪ ،‬العام احملسوس‪ ،‬الينظر إليه فيها إال على شكل موضوع تأمل‬
‫وليس كفاعلية إنسانية مشخصة‪ ،‬ليس كممارسة‪ ،‬وليس ذاتيا‪...‬إن املذهب املادي‬
‫القالل إن الناس هم نتاج الظروف والمبية‪ ،‬وأن الناس الذين تغريوا هم بالتايل نتاج‬
‫ظروف أخرى وتربية تغريت‪ ،‬أن هذا املذهب املادي ينسى أن الناس هم بالضبط‬
‫الذين يغريون الظروف‪ ،‬وأن املريب نفسه هو يف حاجة إىل أن يرىب‪".022‬‬

‫‪ - 022‬حممد عابد اجلابري‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.80:‬‬


‫‪ - 028‬حممد عابد اجلابري‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.80:‬‬
‫‪ - 022‬حممد عابد اجلابري‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.82:‬‬

‫‪116‬‬
‫وعليه‪ ،‬فثمة عالقة جدلية أو عالقة تأثر وتأثري بني الفكر والواقع‪ ،‬بني الوعي‬
‫واملادة‪ ،‬بني البىن الفوقية والبىن التحتية‪.‬‬
‫أضف إىل ذلك أن املادة عند ماركس ليست ساكنة‪ ،‬بل متحركة وديناميكية‪ ،‬ويف‬
‫حركة دالمة‪.‬وهذه احلركات أنواع‪ :‬حركة ميكانيكية (يف املكان)‪ ،‬وحركة فيييالية (‬
‫داخل املادة نفسها)‪ ،‬وحركة كيماوية (تفاعالت)‪ ،‬وحركة بيولوجية (حركة‬
‫األعضاء)‪ ،‬وحركة اجتماعية (العالقات االجتماعية وتطور اجملتمع والتاريخ)‪...‬وتنتج‬
‫هذه احلركات عن التناقضات اجلدلية الداخلية واخلارجية‪ ،‬والتناقضات الكمية‬
‫والكيفية‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬فقد تبىن ماركس املادية التارخيية ذات األساس اجلديل‪ .‬وهي نظرية وفلسفة‬
‫ومنهجية وممارسة علمية وعملية‪ .‬ومن مث‪ ،‬ترفض املاركسية اجلدلية ميكانيكية‬
‫فيوربا ‪ ،‬ومثالية هيجل‪ ،‬والفلسفة الوضعية اليت تبوئ العلم مكانة كربى‪ .‬يف حني‪،‬‬
‫ترى العام قالما على الصراع اجلديل‪ ،‬أساسه التناقضات الداخلية واخلارجية‪،‬‬
‫والتناقضات الكمية والكيفية‪ .‬ويعين هذا إذا كانت الوضعية تقول بالنظام والتوازن‬
‫والتكامل‪ ،‬ف ن جدلية ماركس تقول بالصراع والتناقض الديالكتيكي‪ .‬ومن مث‪،‬‬
‫فاحلقالق ليست مطلقة أو هنالية‪ ،‬بل هي حتليل ملموس ملوقف ملموس‪ .‬عالوة‬
‫على ذلك‪ ،‬فاملاركسية‪ ،‬إىل جانب كوهنا فلسفة ومنهجية‪ ،‬فهي عمل وممارسة‪ ،‬أو‬
‫كما يقول لينني دليل للعمل‪.‬وهبذا‪ ،‬يكون الباركسيس أو العمل أو املمارسة أفضل‬
‫بكثري من النظريات اجملردة‪ .‬إذاً‪ ،‬فالعملي أكثر أمهية من النظري‪ .‬ويتكد ماوتسي‬
‫تونغ هذه الفكرة بقوله‪ ":‬إن ممارسة اإلنسان هي وحدها مقياس احلقيقة‪ .‬ألن املعرفة‬
‫اإلنسانية التثبت صحتها إال حني يتوصل اإلنسان إىل النتالج املقدرة سلفا بواسطة‬
‫عملية املمارسة‪ ،‬إن عملية املعرفة تبدأ باملمارسة وتبلغ املستوى النظري بواسطة‬
‫املمارسة‪ ،‬ومن مثة ينبغي هلا أن ترجع إىل املمارسة‪...‬إن مشكلة معرفة ما إذا كانت‬
‫النظرية صحيحة‪ ،‬متفقة مع احلقالق املوضوعية‪ ،‬الحتل متاما إال ب عادة توجيه املعرفة‬

‫‪117‬‬
‫العقلية إىل املمارسة االجتماعية‪ ،‬وتطبيق النظرية على املمارسة للتحقق مما إذا كانت‬
‫تستطيع أن حتقق النتالج املرتقبة‪"021...‬‬
‫ومن جهة أخرى‪ ،‬أهم شيء يف املادية التارخيية هو منهجها الدياليكتيكي الذي‬
‫يتحكم يف املمارسة بالتعديل والتصحيح والتغيري‪ .‬ومن مث‪ ،‬فقوانني الديالكتيك‬
‫املادي ‪ -‬حسب فردريك أجنلي(‪ -026)Friedrich Engels‬ثالثة هي‪:‬‬
‫‪‬قانون وحدة المتناقضات وصراعها‪ .‬مبعىن أن املتناقضات اجلدلية توجد داخل‬
‫الشيء الواحد‪ ،‬وأنه الميكن الفصل بني الشيء وتناقضه‪ ،‬أو الفصل بني األطراف‬
‫املتناقضة عن بعضها البعض‪ .‬كما أن أشياء العام تتكون من املواد اجلامدة واحلية‪.‬‬
‫وعلى الرغم من تنافر الضدين وتناقضهما فهما متالزمان جدليا‪ ،‬وهذا التناقض أو‬
‫الصراع هو أساس التطور والنمو‪ .‬ويقول لينني‪ ":‬إن النمو هو صراع األضداد"‪ .‬ومن‬
‫مث‪ ،‬فهنات نوعان من التناقضات‪ :‬تناقضات داخلية تقع داخل الشيء الواحد‪،‬‬
‫وتناقضات خارجية مبثابة صراع الشيء مع حميطه اخلارجي‪ .‬لذلك‪ ،‬فالتناقضات‬
‫الداخلية أهم من اخلارجية‪.‬ويف هذا‪ ،‬يقول ماوتسي تونغ‪":‬يعترب الديالكتيك املادي‬
‫الداخلية هي أساس‬ ‫اخلارجية هي شرط التبدل‪ ،‬واألسبا‬ ‫أن األسبا‬
‫الداخلية‪.‬فالبيضة‬ ‫اخلارجية إمنا تفعل فعلها عن طريق األسبا‬ ‫التبدل‪.‬واألسبا‬
‫تتبدل يف درجة حرارة ماللمة فتصري كتكوتا‪ ،‬ولكن احلرارة التستطيع أن حتول‬
‫احلجر إىل كتكوت‪ ،‬ألن أساس التبدل يف األول خيتلف عنه يف الثا ‪".027‬‬

‫‪ - 021‬حممد عابد اجلابري‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.82:‬‬


‫‪ - 026‬فردريك إنجلز (‪0282-0251‬م) فيلسوف أملا ورجل صناعة ‪ ،‬وضع أسس املاركسية مع‬
‫صديقه كارل ماركس‪ .‬نشر كتابه (حالة الطبقة العاملة في إنجلترا) ‪ ،‬وأصدر مع ماركس بياهنما‬
‫املعروف ببيان احلي الشيوعي‪.‬‬
‫‪ - 027‬حممد عابد اجلابري‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.81:‬‬

‫‪118‬‬
‫كما متيي املادية اجلدلية بني التناقضات الداخلية واخلارجية‪ ،‬متيي أيضا بني التناقض‬
‫األساسية والتناقضات الثانوية‪.‬فالتناقض األساس هو الذي يقوم بالدور احلاسم‬
‫واملتثر يف الصراع‪ .‬يف حني‪ ،‬يعد دور التناقض الثانوي مكمال وهامشيا‪ .‬ويف هذا‬
‫الصدد‪ ،‬يقول ماوتسي تونغ‪ ":‬مثة تناقضات عديدة يف عملية تطور شيء معقد‪.‬‬
‫ومنها تناقض هو بالضرورة التناقض الرليسي الذي حيدد وجوده وتطوره‪ ،‬وجود‬
‫التناقضات األخرى أو يتثر فيها‪"023.‬‬
‫ويعين هذا أن التناقض الرليسي (أ) قد يكون له دور كبري يف فمة زمنية معينة إىل‬
‫جانب التناقضات الثانوية ( ) و(ج)‪ .‬لكن مع تغري الظروف التارخيية والتطورية‬
‫والنمالية‪ ،‬قد يصبح تناقض( ) أكثر أمهية من تناقض (أ)‪.‬‬
‫ومن ناحية أخرى‪ ،‬قد ينتج عن التناقضات صراع من نوع صراع األضداد‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫صراع البورجوازية مع العمال ينتج عنه صراع الطبقات‪ .‬وقد الينتج عن تلك‬
‫التناقضات أي صراع‪ ،‬مثل‪ :‬التناقضات داخل الطبقة العمالية نفسها اليت ختتفي‬
‫باملمارسة الثورية‪ ،‬وعملية النقد الذايت‪.‬‬
‫‪ ‬قانون تحول الكم إلى كيف‪ :‬ويعين هذا أن التحوالت الكمية قد تنتج عنها‬
‫حتوالت كيفية‪ ،‬مثل‪ :‬غليان املاء يف درجة معينة على مستوى الكم‪ ،‬ينتج عنه حتول‬
‫كيفي باالنتقال من املاء إىل البخار‪ .‬وقد حيدث التحول الكيفي إما بشكل مباغت‬
‫ومفاجىء‪ ،‬وإما بشكل طفرة أو قفية يف شكل دفعة واحدة أو دفعات متعاقبة‪،‬‬
‫وإما بشكل تدرجيي‪ .‬ومن مث‪ ،‬فداللة قانون حتول الكم إىل الكيف يعين" أن التيايد‬
‫التدرجيي يف التغريات اليت ختلق الكم‪ ،‬واليت تكون أول األمر ضعيفة غري مشاهدة‪،‬‬
‫تتدي عندما تصل درجة معينة‪ ،‬إىل تغريات كيفية جذرية ختتفي معها الكيفية‬
‫القدمية لتحل حملها كيفية جديدة‪ ،‬ينتج عنها بدورها تغريات كمية‪"028.‬‬

‫‪ - 023‬حممد عابد اجلابري‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.81:‬‬


‫‪ - 028‬حممد عابد اجلابري‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.86:‬‬

‫‪119‬‬
‫ويعين هذا كله أن الماكم الكمي ينتج عنه حتول كيفي بصيغ متعددة وخمتلفة‬
‫ومتنوعة‪ .‬ويقول ماركس‪ ":‬إنه يف مرحلة ما من مراحل التطور‪ ،‬يتدي التغري البسيط‬
‫يف الكم الذي بلغ درجة معينة‪ ،‬إىل اختالفات يف الكيفية‪" 081.‬‬
‫‪ ‬قانون نفي النفي‪ :‬يقصد بنفي النفي نقيض األطروحة ونفيها‪ .‬مبعىن أن الشيء‬
‫له أطروحة (‪ ،)Thèse‬ونقيض(‪ ،)Antithèse‬وتركيب)‪.)Synthèse‬‬
‫فظهور الشيء اجلديد من القدمي يعترب نفيا للقدمي‪ .‬ولكن هذا اجلديد بدوره يصبح‬
‫قدميا‪ ،‬فيأيت جديد آخر ليصبح نفيا للنفي‪ .‬والبد من االحتفاظ‪ ،‬أثناء عملية نفي‬
‫النفي‪ ،‬باجلوانب اإلجيابية يف املنفي‪ ،‬وتفادي سلبياته؛ ألن عملية نفي النفي تساعد‬
‫على النمو والتقدم واالزدهار‪ ،‬وإال أدى ذلك إىل التكرار والوقوف عند حدود دالرة‬
‫مغلقة‪ .‬ومن هنا‪ ،‬فالتاريخ‪ ،‬يف املنظور اجلديل‪ ،‬يسري يف خط مستقيم بشكل‬
‫تصاعدي من األدىن إىل األعلى‪ ،‬يف إطار تطور جديل ديالكتيكي‪ ،‬يتصارع فيه‬
‫القدمي واجلديد‪ ،‬ويتم هذا التقدم التارخيي يف شكل حركة لولبية‪ ،‬ولكن تظهر من‬
‫حني ألخرى بعض احلوادث اليت تتخذ طابعا تكراريا‪ ،‬فنقول‪ :‬إن التاريخ يعيد‬
‫نفسه‪ :‬لكن هذا اليتثر يف مسار التاريخ وتقدمه وتطوره إىل األمام‪.‬‬
‫وقد صاغ ستالني أربعة قوانني يف كتابه ( المادية الجدلية والمادية التاريخية) عام‬
‫‪0883‬م‪ ،‬حيث أضاف قانونا رابعا على الوجه التايل‪:‬‬
‫‪ ‬قانون المابط العام بني الظواهر؛‬
‫‪‬قانون احلركة والتطور يف الطبيعة واجملتمع؛‬
‫‪‬قانون التحول من الكم إىل الكيف؛‬
‫‪‬قانون صراع املتناقضات‪.‬‬
‫بيد أن املفكرين اإليديولوجيني يف االحتاد السوفيايت عادوا‪ ،‬بعد وفاة ستالني‪ ،‬إىل‬
‫قوانني إجنلي الثالثة‪.‬‬

‫‪ - 081‬حممد عابد اجلابري‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.86:‬‬

‫‪111‬‬
‫وخالصة القول‪ ،‬يتبني لنا‪ ،‬مما سبق ذكره‪ ،‬أن السوسيولوجيا املاركسية مرتبطة‬
‫بكارل ماركس من جهة‪ ،‬وأجنلي من جهة أخرى‪ .‬وتتمن السوسيولوجيا املاركسية‬
‫بأمهية العمل وأسبقيته على الفكر النظري‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فاملمارسة العملية أو‬
‫الرباكسيسية أساس تطور اجملتمعات‪ .‬كما أن األساس املادي واالقتصادي واجملتمعي‬
‫أهم من البىن الفوقية‪ .‬ومن مث‪ ،‬تنبين السوسيولوجيا املاركسية على املنهج اجلديل‬
‫القالم على القوانني الثالثة‪ ،‬ووحدة صراع املتناقضات‪ ،‬وقانون الكم والكيف‪،‬‬
‫وقانون نفي النفي‪.‬‬
‫وما يالحظ على هذه السوسيولوجيا أهنا رؤية ثورية تقويضية وراديكالية أساسها‬
‫التغيري اجلديل انطالقا من املادية التارخيية‪ ،‬لكن يغلب عليها الطابع امليتافيييقي‪،‬‬
‫والرؤية الشعرية احلاملة‪ ،‬والطوباوية اخليالية‪ ،‬وانفصال النظرية عن الواقع‪ ،‬وفشل‬
‫التنبتات املاركسية يف حتقيق غاياهتا ومراميها وأهدافها البعيدة‪ .‬والدليل على ذلك أن‬
‫حتولت الدول االشماكية إىل دول رأمسالية أو دول اقتصاد السوق بدال من حتوهلا‬
‫إىل دول شيوعية‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫ماكس فيبر وسوسيولوجيا الفهم‬

‫يعترب كارل إميل ماكسيميليان‪ ،‬املعروف باسم ماكس فيرب (‪،080)MaxWeber‬‬


‫مــن أهــم الفالســفة األملــان‪ ،‬ومــن أهــم علمــاء القــانون واالجتمــاع واإلدارة واالقتصــاد‬
‫السياس ــي‪ .‬ويع ــد أيض ــا م ــن أه ــم رواد السوس ــيولوجيا املعاص ــرة‪ ،‬وم ــن األوال ــل ال ــذين‬
‫انتقدوا احلداثة‪ .‬وقد انساق كثريا وراء السياسة بالتحليل والتنظري والتقعيد‪ ،‬وكـان مـن‬
‫بني احملررين لدستور هورية ڤيمار سنة ‪0808‬م‪.‬‬
‫ويعد ماكس فيرب أيضا من أهم السوسيولوجيني األملان الذين أرسوا دعالم‬
‫السوسيولوجيا التأويلية‪ ،‬بتجاوز التفسري العلمي حنو التأويل الذايت واإلنسا ‪.‬‬
‫وبتعبري آخر‪ ،‬لقد أخرج فيرب علم االجتماع من إسار التفسري حنو الفهم والتأويل‪،‬‬
‫بالمكيي على الفعل اجملتمعي بدل البنية اجملتمعية‪ ،‬والتمييي بني العلوم الوضعية‬

‫‪080‬‬
‫‪ -‬ولد ماكس فيرب بأملانيا سنة ‪ ،0362‬وتويف سنة ‪0821‬م‪ ،‬درس الفلسفة‪ ،‬والتاريخ‪ ،‬والقانون‬
‫واالقتصاد‪ .‬ومن أهم كتبه( األخالق البروتستاتية وروح الرأسمالية)(‪0811-0812‬م)‪ ،‬و(االقتصاد‬
‫والمجتمع) (‪0822‬م)‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫القالمة على التفسري السبيب والعلي‪ ،‬والعلوم اإلنسانية والروحية املبنية على فهم‬
‫الذات وتأويل جتارهبا داخل العام املرصود‪ .‬ومن جهة أخرى‪ ،‬يعترب ماكس فيرب من‬
‫متسسي اإلدارة الليربالية احلديثة يف ضوء املنظور العقال اهلادف‪.‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬الميكن فهم التصور النظري واملنهجي والتطبيقي لدى ماكس فيرب إال‬
‫باستعراض جمموعة من القضايا األساسية اليت تعرض هلا يف كتبه ومتلفاته العديدة‬
‫على الوجه التايل‪:‬‬

‫المبحث األول‪ :‬األجواء الثقافية التي عاش فيها ماكس فيبر‬


‫عــاش مــاكس فيــرب يف وســط ثقــايف منــتعش أميــا انتعــاش‪ ،‬وميدهــر علميــا وفكريــا وأدبيــا‬
‫‪ )Karl‬وفك ـ ـ ــر‬ ‫وفني ـ ـ ــا‪ ،‬ك ـ ـ ــان يه ـ ـ ــيمن في ـ ـ ــه فك ـ ـ ــر ك ـ ـ ــارل م ـ ـ ــاركس(‪Marx‬‬
‫نيتشــه(‪ .)F.Neitzsche‬فقــد كــان مــاركس رجــل اقتصــاد يــدعو إىل تغيــري العــام‬
‫بــدل تفســريه كمــا هــو الشــأن ســابقا عنــد الفالســفة‪ ،‬وكــان يعطــي األولويــة للعوامــل‬
‫املادية يف هذا التغيـري‪ ،‬وخاصـة قـوى اإلنتـاج‪ .‬ومـن مث‪ ،‬فقـد نعـى الفلسـفة امليتافيييقيـة‬
‫القدمية اليت كانت تعىن بتفسري العام دون االهتمام بتغيريه؛ مما دفع ماركس إىل محـل‬
‫مشعل التغيري اجلـذري‪ ،‬وإعـالن الثـورة الربوليتاريـة علـى أسـياد امللكيـة اخلاصـة‪ ،‬وقلـب‬
‫النظام الرأمسايل الربجوازي‪ ،‬والثورة كذلك علـى األديـان الـيت تسـتلب اإلنسـان وختـدره‬
‫وتكلس ــه‪ .‬وق ــد ك ــان نيتش ــه أيض ــا ي ــدعو إىل تغي ــري الق ــيم ومنظوماهتــا الس ــالدة‪ ،‬وه ــو‬
‫املعروف بفلسفة املطرقة أو فلسفة العبث والنفي‪.‬‬
‫أمــا مــاكس فيــرب‪ ،‬فقــد كــان معارضــا هلــذين الفيلســوفني األملــانيني املتميـيين‪ ،‬إذ اكتفــى‬
‫بفهـم العـام وتأويلـه علـى حـد سـواء‪ ،‬متجـاوزا بـذلك عمليـيت التفسـري والتغيـري‪ .‬مبعـىن‬
‫أن فيــرب كــان يــدافع عــن فلســفة التأويــل‪ .‬يف حــني‪ ،‬كــان مــاركس يــدافع عــن فلســفة‬
‫التغيري‪ .‬وإذا كـان مـاركس قـد جتـاوز احلقيقـة إىل البحـث عـن العدالـة‪ ،‬فـ ن فيـرب مـازال‬

‫‪113‬‬
‫متعلقــا بتلــك احلقيقــة‪ ،‬حمــاوال فهمهــا وتأويلهــا ورصــدها عــرب املعايشــة‪ .‬وقــد احنــاز فيــرب‬
‫إىل مــنهج العقالنيــة‪ ،‬ورفــض املنــاهج القالمــة علــى فكــرة التطــور أو اجلــدل أو التفســري‬
‫املادي‪ ،‬واستبدل البنية التحتية بالبنية الفوقيـة‪ ،‬وجعـل الثقافـة هـي األسـاس يف حتريـك‬
‫التــاريخ واجملتمــع والسياســة واالقتصــاد‪ .‬كمــا قــال بتعدديــة األســبا ‪ ،‬وم يقــل بســبب‬
‫واحد كما فعـل مـاركس حينمـا ركـي علـى السـبب املـادي‪ .‬و"مـن حيـث قصـر مـاركس‬
‫يف السياســة‪ ،‬أبــدع فيــرب‪ ،‬لقــد جعــل منهــا حقــال للبحــث العلمــي‪ ،‬حبــث فيــه قضــايا‬
‫السـ ــيطرة واهليمنـ ــة والطاعـ ــة والشـ ــرعية واملشـ ــروعية والكرييمـ ــا والسـ ــلطة والبريوقراطيـ ــة‬
‫والدولــة والنفــوذ واحلــق والقــانون‪ ،‬وحــاول أن مييــي فيــه بــني السياســي الــذي يعــيش مــن‬
‫السياســة وذات الــذي يعــيش هلــا‪ ،‬إخل‪ .‬لقــد جتســد اهتمامــه العملــي هبــذا احلقــل مــن‬
‫النشــاط البشــري يف انتســابات متتاليــة إىل األح ـيا الــيت كانــت قالمــة يف أيامــه‪ ،‬أمــا‬
‫االنس ــحابات املتتالي ــة منه ــا فق ــد أظهرت ــه أكث ــر م ــيال إىل املمارس ــة النظري ــة من ــه إىل‬
‫املمارســة السياســية املباشــرة وأكثــر جناحــا يف األوىل منــه يف الثانيــة‪ ،‬فهــو م يكــن جمــرد‬
‫عام اجتماع يهتم بالسياسة‪ ،‬بل هو ‪ -‬حسبما يقـول النقـاد‪ -‬متسـس علـم اجتمـاع‬
‫‪082‬‬
‫السياسة‪".‬‬
‫وقــد انصــب اهتمــام مــاكس فيــرب علــى علــم االجتمــاع والقــانون والسياســة واالقتصــاد‬
‫والتاريخ‪ .‬ويعين هذا أن العلوم اإلنسانية عند ماكس فيرب متداخلـة ومتشـابكة بدرجـة‬
‫كبرية؛ إذ يستحيل الفصل بينها إال من با املنهجية ليس إال‪.‬‬
‫ومثــة عوامــل وقــيم أخــرى حتكمــت يف مشــروعه النظــري والعلمــي‪ ،‬منهــا" أن التحيــي‬
‫القــومي كــان أحــد أبــرز هــذه القــيم عنــده‪ ،‬فقــد كــان يــتمن بالقوميــة األملانيــة‪ ،‬وكــان‬
‫ي ــتمن بض ــرورة تقوي ــة الدول ــة األملاني ــة‪ .‬يف ه ــذا الس ــياق وعن ــدما يش ــري غول ــدنر إىل‬
‫الظروف احمليطة بدعوة فيرب إىل علم االجتمـاع املتحـرر مـن القـيم‪ ،‬ف نـه اليـربز حـرص‬

‫‪ -‬حممد علي مقلد‪( :‬مقدمة املمجم) ‪ ،‬ماكس فيبر ‪ ،‬لورن فلوري‪ ،‬دار الكتا اجلديد املتحدة‪،‬‬ ‫‪082‬‬

‫بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل سنة ‪2113‬م‪ ،‬ص‪.08-02:‬‬

‫‪114‬‬
‫هــذا األخــري علــى اســتقاللية اجلامعــة والعلــم مــن األهـواء فحســب‪ ،‬بــل إنــه يتكــد علــى‬
‫ســبب مهــم آخــر يتمثــل يف الــدفاع عــن الدولــة ومتازرهتــا مــن خــالل منــع العلمــاء مــن‬
‫التدخل يف السياسة‪ ،‬من التطاحن الفئوي وتصـادم القـيم‪ ،‬ومـن انتقـاد الدولـة‪ ،‬إذ إن‬
‫ذلك يساهم يف إضعاف الدولة الوطنية‪.‬‬
‫لقد كان فيـرب يـرى أنـه التوجـد بـني الطبقـات األملانيـة القالمـة‪ ،‬سـواء طبقـة النـبالء أو‬
‫الطبقــة البورجوازيــة‪،‬أو طبقــة العمــال‪ ،‬مــن تســتطيع حتقيــق الرســالة القوميــة‪ ،‬وهلــذا‪ ،‬فقــد‬
‫أخــذ علــى عاتقــه مســتولية تعلــيم األملــان وإذكــاء الــروو القوميــة بيــنهم‪ ،‬وحماولــة تغيــري‬
‫قي ـ ــاداهتم ملواجه ـ ــة خطـ ـ ــر العمـ ـ ــالق الروسـ ـ ــي ال ـ ــذي ك ـ ــان‪ ،‬طـ ـ ــول حياتـ ـ ــه‪ ،‬خيشـ ـ ــاه‬
‫‪088‬‬
‫ويكرهه‪".‬‬
‫وهذا ما جعل ماكس فيرب يرحب باحلر العاملية األوىل‪ ،‬ويدافع عـن أملانيـا يف حقهـا‬
‫املشروع يف احتالل الدول واستعمارها؛ ألن هذا العمل عظيم ومقدس ومشروع‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬فظروف ماكس فيرب هي " ظروف أوروبا بني النصف الثا من القرن التاسـع‬
‫عشــر ومطلــع القــرن العش ـرين‪ ،‬حيــث وضــح صــعود الرأمساليــة‪ ،‬وبــدأت أملانيــا طريقهــا‬
‫كي تكون جمتمعا رأمساليا صناعيا‪ .‬كانـت فـمة هـدوء وإجنـاز داخلـي منـا فيهـا التفكـري‬
‫العلمــي‪ ،‬وتراكمــات رأس املــال‪ ،‬والتطــور التكنولــوجي‪ ،‬وســيطرت أوروبــا علــى العــام‬
‫الثالث يف أفريقيا وآسيا من خالل االستعمار وأعمال القرصنة‪".082‬‬
‫ويبــدو‪ ،‬مــن هــذا كلــه‪ ،‬أنــه مــن املســتحيل فصــل فكــر مــاكس فيــرب عــن ظــروف القــرن‬
‫التاسع عشر امليالدي ومطلع القرن العشرين يف أوروبا الغربية‪.‬‬

‫‪ - 088‬وسيلة خيار‪ :‬األيديولوجيا وعلم االجتماع‪ ،‬منتدى املعارف‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل سنة‬
‫‪2108‬م‪ ،‬ص‪.012:‬‬
‫‪ - 082‬عبد الباسط عبد املعطي‪ :‬اتجاهات نظرية في علم االجتماع‪ ،‬عام املعرفة‪ ،‬الكويت‪ ،‬العدد‪،22‬‬
‫‪0830‬م‪ ،‬ص‪.80:‬‬

‫‪115‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬تعريف السوسيولوجيا‬
‫يعد ما كس فيرب من أهم السوسيولوجيني األملان الذين أخذوا مبنهج الفهم‪ .‬وهدف‬
‫السوسيولوجيا عند ماكس فيرب هو فهم الفعل االجتماعي وتأويله‪ ،‬مع تفسري هذا‬
‫الفعل املرصود سببيا بربطه بااثار والنتالج‪ .‬ويقصد بالفعل سلوت الفرد أو اإلنسان‬
‫داخل اجملتمع‪ ،‬مهما كان ذلك السلوت ظاهرا أو مضمرا‪ ،‬صادرا عن إرادة حرة أو‬
‫كان نتاجا ألمر خارجي‪ .081‬ومن مث‪ ،‬يتخذ هذا الفعل ‪ -‬أثناء التواصل والتفاعل‬
‫‪ -‬معىن ذاتيا لدى ااخر أو ااخرين‪ ،‬مادام هذا الفعل االجتماعي مرتبطا بالذات‬
‫واملقصدية‪ .‬أي‪ :‬اإلجابة عن ستال جوهري أال وهو‪ :‬كيف يرى الناس سلوكهم‬
‫ويفسرونه؟ مبعىن أن " الفعل اإلنسا عند فيرب هو السلوت الذي حيمل داللة ومعىن‬
‫وهدفا‪ .‬وأما الفعل اجملتمعي‪ ،‬فهو السوت الذي يسلك جتاه ااخرين من خالل‬
‫‪086‬‬
‫مايراه‪ ،‬يف سلوت ااخرين‪ ،‬من داللة ومعىن وهدف‪".‬‬
‫وإذا كان إميل دوركامي يدرس الظواهر اجملتمعية على أهنا أشياء موضوعية‪ ،‬ف ن‬
‫ماكس فيرب يدرس الفعل أو السلوت االجتماعي الذي يتحقق بالتفاعل بني الذوات‬
‫واألغيار‪ .‬ويتخذ هذا الفعل معىن ذاتيا وغرضيا‪ .‬ومن هنا‪ ،‬فقد انتقل ماكس فيرب‬
‫بعلم االجتماع من عام األشياء املوضوعية إىل األفعال اإلنسانية‪.‬أي‪ :‬انتقل من‬
‫املوضوع إىل الذات‪ ،‬أو من الشيء إىل اإلنسان‪ .‬كما جتاوز املقاربة الوضعية حنو‬
‫املقاربة اهلريمونيطيقية اليت تقوم على الفهم والتأويل الذايت اإلنسا ‪ .‬وهبذا‪ ،‬قد‬
‫أحدث قطيعة إبستمولوجية‪ ،‬ضمن مسار علم االجتماع‪ ،‬بتأسيس املدرسة التأويلية‬

‫‪135‬‬
‫‪- Catherine Colliot-Thélène: la sociologie de Max Weber,‬‬
‫‪La découverte, Paris, France, 2006, p:50.‬‬
‫‪ - 086‬عبد اج إبراهيم‪ :‬االتجاهات والمدارس في علم االجتماع‪ ،‬املركي الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫الدار البيضاء‪ ،‬املغر ‪ ،‬الطبعة الثانية ‪2101‬م‪ ،‬ص‪.86:‬‬

‫‪116‬‬
‫‪la‬‬ ‫‪sociologie‬‬ ‫(‬ ‫الفهم‬ ‫سوسيولوجيا‬‫أو اهلريمونيطيقية أو‬
‫‪.)compréhensive‬‬
‫ويعين هذا ‪ -‬حسب نيقوال تيماشيف‪ " -‬أن فيرب كان يأمل لعلم االجتماع أن‬
‫حيتفظ مبييات العلوم الروحية‪ .‬فضال عن مييات العلوم الطبيعية‪ .‬وهذه املييات‪ -‬كما‬
‫يذهب فيرب‪ -‬تكمن يف حتقيق ضر من الفهم‪ ،‬يرتكي على احلقيقة اليت متداها أن‬
‫الكائنات البشرية تكون على وعي مباشر وإدراك تام ببناء األفعال اإلنسانية‪.‬‬
‫ففي دراسات الجماعات االجتماعية‪ -‬مثال‪ -‬نستطيع أن نفهم األفعال‬
‫والمقاصد الذاتية للفاعلين الذين يمثلون أعضاء الجماعات‪.‬‬
‫أما يف العلوم الطبيعية‪ ،‬ف ننا النستطيع أن نفهم ‪ -‬هبذه الطريقة‪ -‬حركات الذرات‪،‬‬
‫وكل ما نستطيع أن نفعله هو أن نالحظ فقط أو نستنتج االنتظام القالم بني هذه‬
‫احلركات‪ .‬ولقد عرب روبرت ماكفر (‪ )Maciver‬عن التعارض القالم بني العلوم‬
‫االجتماعية والعلوم الطبيعية بشكل أكثر وضوحا حينما قال‪ :‬إن الوقالع االجتماعية‬
‫هي يف هناية األمر وقالع مدركة‪ .‬فحينما نعرف أسبا سقوط حكومة من‬
‫احلكومات‪ ،‬أو حتديد سعر من األسعار‪ ،‬أو أسبا حدوث إضرا من‬
‫اإلضرابات‪ ،‬أو اخنفاض معدل املواليد يف جمتمع من اجملتمعات‪ ،‬ف ن معرفتنا هذه‬
‫ستكون خمتلفة‪ -‬يف جانب هام وحيوي‪ -‬عن معرفتنا ألسبا سقوط األمطار‪ ،‬أو‬
‫احتفاظ القمر دالما باملسافة اليت تفصله عن األرض‪ ،‬أو ظروف جتمد السوالل‪ ،‬أو‬
‫إفادة النباتات من النيموجني‪ ،‬فالوقالع اليت من النوع الثا ميكن معرفتها فقط من‬
‫اخلارج‪ ،‬أما الوقالع اليت من النوع األول‪ ،‬فيمكن معرفتها‪ -‬إىل حد ما‪ -‬من‬
‫‪087‬‬
‫الداخل‪".‬‬

‫‪ -‬نقوال تيماشيف‪ :‬نظرية علم االجتماع‪ :‬يبيعتها وتطورها‪ ،‬تر ة‪ :‬حممود عودة وآخرون‪ ،‬دار‬ ‫‪087‬‬

‫املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬الطبعة الثامنة ‪ ،0838‬ص‪.260:‬‬

‫‪117‬‬
‫وبناء على ما سبق‪ ،‬يعرف ماكس فيرب السوسيولوجيا‪ ،‬يف كتابه(االقتصاد‬
‫والمجتمع) قالال‪ " :‬علم االجتماع هو العلم الذي يعىن بفهم النشاط االجتماعي‬
‫وتأويله‪ ،‬وتفسري حدثه ونتيجته سببيا‪".083‬‬
‫إذاً‪ ،‬يدرس علم االجتماع الفعل أو العمل أو النشاط االجتماعي‪ .‬يف حني‪ ،‬يدرس‬
‫عند دوركامي الظواهر اجملتمعية‪ .‬فهنا‪ ،‬حيضر البعد اإلنسا الذايت مقابل البعد‬
‫االجتماعي املوضوعي الشيئي‪ .‬أي‪ :‬حضور الذات يف مقابل املوضوع‪ .‬ويرى فيليب‬
‫كابان(‪ )Philipe Cabin‬وجان فرانسوا دورتيه( ‪Jean-François‬‬
‫‪ )Dortier‬أن السوسيولوجيا عند فيرب" هي علم خبصوص الفعل االجتماعي‪.‬‬
‫وهو يرفض احلتمية اليت ميتدحها ماركس ودوركامي اللذان حيبسان اإلنسان ضمن‬
‫نسيج من الضغوط االجتماعية غري الواعية‪ ،‬ويعتقد فيرب أن هذه الضغوط وهذه‬
‫احلتميات التعدو كوهنا نسبية‪ .‬ليس املقصود قوانني مطلقة‪ ،‬إمنا توجهات تمت على‬
‫الدوام مكانا للصدفة وللقرار الفردي‪ .‬وهو يعترب أن اجملتمع نتاج لفعل األفراد الذين‬
‫يتصرفون تبعا للقيم والدوافع وللحسابات العقالنية‪.‬إن توضيح االجتماعي يعين ‪-‬‬
‫إذاً‪ -‬التنبه إىل الطريقة اليت يوجه حبسبها الناس فعلهم‪.‬هذا النهج هو هنج‬
‫السوسيولوجيا التفهمية‪ .‬يقول فيرب‪ ":‬إن ما ندعوه سوسيولوجيا هو علم مهمته‬
‫‪088‬‬
‫الفهم‪ ،‬عن طريق تأويل النشاط االجتماعي‪".‬‬
‫ويعين هذا أن اجملتمع يتكون من جمموعة من األشخاص الذين يقومون بسلوكيات‬
‫أو أفعال أو أعمال‪ ،‬وهذه األفعال هي جوهر علم االجتماع‪ .‬ويعين هذا أن مقاربة‬
‫ماكس فيرب مقاربة فردية‪ ،‬تدرس سلوت الفرد داخل اجملتمع‪ ،‬يف إطاره التواصلي‬
‫والتفاعلي‪.‬ويعين هذا أن اإلنسان كالن واع‪ ،‬يتصرف عن وعي وهدف‪ ،‬ولسلوكه‬

‫‪138‬‬
‫‪-Max weber: Économie et société, Poquet, 1995, p. 28.‬‬
‫‪ -‬فيليب كابان وجان فرانسوا دورتيه‪ :‬علم االجتماع‪ ،‬تر ة‪ :‬إياس حسن‪ ،‬دار الفرقد‪ ،‬دمشق‪،‬‬ ‫‪088‬‬

‫سورية‪ ،‬الطبعة األوىل ‪2101‬م‪ ،‬ص‪.23-27:‬‬

‫‪118‬‬
‫معىن وقصد‪ ،‬على عكس األشياء اليت ميكن إخضاعها للدراسة العلمية‪ .‬هنا‪،‬‬
‫ضرورة فهم العام يف ضوء أفعال الفرد‪ ،‬وفهم مقاصدها وأهدافها ونواياها ودالالهتا‪.‬‬
‫ويستوجب فهم العام دراسة سلوت األفراد داخل اجملتمع‪ ،‬ورصد دالالت األفعال‬
‫ومعانيها ومقصدياهتا‪ .‬ويقم هذا من البعد التواصلي التفاعلي‪.‬‬
‫إذاً‪ ،‬فالعلوم الوضعية علوم تفسريية خارجية‪ .‬يف حني‪ ،‬إن العلوم اإلنسانية‪ ،‬مبا فيها‬
‫علم االجتماع‪ ،‬علوم روحية تفهمية‪ ،‬وعلوم تأويلية داخلية‪.‬‬
‫ويعين هذا أن علم االجتماع هو دراسة التفاعل االجتماعي بني األفراد داخل‬
‫اجملتمع‪ ،‬وكيف يعطي الناس فهما ذاتيا للعام‪ ،‬وكيف يوجهون سلوكهم يف إطار هذا‬
‫النوع من الفهم‪ .‬أي‪ :‬فهم نوايا هذا الفعل االجتماعي وأسبابه‪ .‬ويعين هذا أن‬
‫منهجه قالم على الفهم بدل التفسري السبيب أو العلي‪ ،‬كما جند ذلك عند‬
‫الوضعيني الذين ينتمون إىل املدرسة الدوركاميية‪ .‬ويعين هذا حضور الذات املتولة يف‬
‫الفعل االجتماعي‪ .‬والميكن فهم هذا الفعل السلوكي إال يف سياق تارخيي معني‪.‬‬
‫والميكن فهم هذا السلوت االجتماعي إال ضمن ثقافة معينة مرتبطة مبجموعة من‬
‫القيم املتعارف عليها‪.‬‬
‫أضف إىل ذلك أن اهلدف من علم االجتماع ليس هو بناء النظريات اجملردة كما‬
‫كان يفعل الوضعيون أو التفسرييون الدروكامييون‪ ،‬بل هو علم تارخيي بامتياز‪ .‬ويف‬
‫هذا‪ ،‬يقول لورن فلوري (‪ ":)Laurent Fleury‬وهلذا كان على هذا الطموو‬
‫النظري أن يتفادى االكتفاء بصياغة قوانني جمردة كتلك اليت كانت تدعو إليها‬
‫املدرسة احلدية (‪ )L’école marginale‬النمساوية‪ ،‬وبالتحديد كارل منجر‬
‫(‪ .0820-0321)Carl Menger‬على علم االجتماع أن يبقى علما تارخييا‪،‬‬
‫إذ ليس غرض العلوم االجتماعية أبدا صياغة قوانني مشولية‪ ،‬فهذا وهم كان ينكره‬
‫على الوضعيني الذين يريدون بلوغ حقيقة الواقع زاعمني تأسيس علوم الثقافة على‬
‫منط علوم الطبيعة يف معمعة ما كان يسمى طرو املناهج الذي يضع علوم الطبيعة‬

‫‪119‬‬
‫يف مواجهة علوم الثقافة‪ ،‬كان موقع ماكس فيرب واضحا إىل جانب أنصار علوم‬
‫الثقافة‪ ،‬معرفا علم االجتماع كعلم تارخيي‪"021.‬‬
‫وعليه‪ ،‬تعىن السوسيولوجيا الفيبريية بدراسة أفعال األفراد يف عالقة ببنية اجملتمع‪،‬‬
‫ضمن نظرية التفاعل االجتماعي أو نظرية التأثري والتأثر‪.‬‬

‫المبحث الثالث‪ :‬موضوع السوسيولوجيا‬


‫يهتم ماكس فيرب بدراسة الفعل الفردي اجملتمعي ضـمن سـياقه التـأويلي‪ .‬مبعـىن دراسـة‬
‫الفعل االجتماعي اهلادف‪ .‬ومن مث‪ ،‬اليكون الفعل فعال اجتماعيا إال إذا كـان حيمـل‬
‫يف ذاته معىن أو هدفا ما‪ ،‬وكان له تأثري يف سلوت ااخر الذي يعيش معه يف اجملتمـع‬
‫نفسه‪ .‬أي‪ :‬هنات عالقة تأثر وتأثري يف إطار التفاعل االجتماعي‪ .‬وبتعبري آخر‪ ،‬يتثر‬
‫الفــرد يف جمتمعــه بأفعالــه وســلوكياته وأعمالــه‪ .‬ويف الوقــت نفســه‪ ،‬يتــأثر بــذلك اجملتمـع‬
‫عل ــى الص ــعيد الق ــانو واملتسس ــايت‪ .‬وم ــن هن ــا‪ ،‬فامل ــادة األولي ــة " يف عل ــم االجتم ــاع‬
‫التفهمي هي فعل الفرد‪ ،‬وهـي فعـل يكـون اجتماعيـا مبقـدار مـا يكـون متعلقـا بسـلوت‬
‫ااخ ــر وموجه ــا بالقي ــاس إلي ــه يف تنفي ــذه‪.‬وحبكم الدالل ــة الذاتي ــة ال ــيت ينيطه ــا األف ـراد‬
‫بأفعــاهلم‪ ،‬ف ـ ن الفعــل الفــردي يأخــذ باالعتبــار ســلوت ااخ ـرين ويتــأثر بــه‪ .‬إن نظريــة‬
‫الفعــل االجتمــاعي مشــدودة بأواصــر القــرىب ‪ -‬إذاً ‪ -‬إىل نظريــة ســريورة التــأثر والتــأثري‬
‫(بـ درات معــىن أن يكتســب فعــل األفـراد امللتــيمني داللــة ومعــىن قياســا علــى ااخـرين)‪:‬‬
‫إنه فعل الفرد موجها حنو ااخر بنية تعديل سلوكه‪.‬‬
‫إهنا أيضـا نظريـة التجاهـل‪ .‬ففـي مقابـل صـورة الفـرد العـارف ألنـه فـرد عقـال (منـوذج‬
‫الفاعل اإلسماتيجي)‪ ،‬يطور فيرب تصـورا قريبـا مبـدليا مـن تصـور دوركـامي (اسـتنادا إليـه‬

‫‪ - 021‬لورن فلوري‪ :‬ماكس فيبر‪ ،‬ص‪.21-22:‬‬

‫‪121‬‬
‫يتثر الواقع االجتماعي علينا من دون أن ندري)‪ ،‬حيث الميلك ااملرء دوما أن يكون‬
‫على وعي واضـح مبقاصـده‪.‬إن فيـرب اليطلـق حكمـا‪ ،‬وهـو يفهـم معـىن أن جيهـل الفـرد‬
‫قواعــد احلــق واملتسســات‪ :‬الفعــل هــو أن تكــون يف وضــع فريــد م تكــن ترغبــه‪ ،‬داخــل‬
‫وضع اجتماعي ليس يف إمكانك أن تـتملص منه‪.‬وهكـذا‪ ،‬يعـمض فيـرب‪ ،‬مـن غـري أن‬
‫يقــول بصـراحة‪ ،‬نظريــة يف التطبيــع االجتمــاعي تتــيح فهــم علــم اجتمــاع الفعــل‪ ،‬علمــه‬
‫‪020‬‬
‫هو‪ ،‬باعتباره علم فاعل جممعن وعلم فعل ممأسس‪".‬‬
‫وعليــه‪ ،‬يتحــدد موضــوع السوســيولوجيا عنــد مــاكس فيــرب يف دراســة األفعــال الفرديــة‬
‫ضــمن نســق اجتمــاعي معــني‪ ،‬بــالمكيي علــى عالقــات التــأثري والتــأثر‪ ،‬ودراســة خمتلــف‬
‫أمناط التفاعل االجتماعي يف عالقة ببنية اجملتمع‪.‬‬
‫ويعــين هــذا أن مــاكس فيــرب قــد جتــاوز الدراســة اخلارجيــة للظ ـواهر اجملتمعيــة إىل متثــل‬
‫املقاربــة الســيكولوجية الداخليــة للفاعــل الفــرد‪ .‬ويف هــذا‪ ،‬تقــول وســيلة خـيار‪ ":‬إن مــن‬
‫ي ــدرس عل ــم االجتم ــاع عن ــد في ــرب يس ــتطيع أن يق ــف عل ــى تي ــارات عدي ــدة جتمع ــت‬
‫وانصهرت‪،‬فأمثرت نسـقا فكريـا متكـامال؛ فلقـد أدخـل فيـرب العنصـر السـيكولوجي‪ ،‬إذ‬
‫يعتقد أن علم االجتمـاع‪ ،‬كعلـم‪ ،‬يتعـني أن يبحـث عـن تفسـري سـبيب للفعـل اإلنسـا‬
‫قادر على معرفة غاياته ومقاصده‪ ،‬والتفسري السبيب حيقق لعلـم االجتمـاع صـفة العلـم‬
‫اليت كافح من أجلها أوغست كونت وإميـل دوركـامي‪ ،‬ولكـن دراسـة السـلوت اإلنسـا‬
‫علــى هــذا النحــو‪ ،‬تــربز بعــدا آخــر يف إســهام فيــرب‪ ،‬هــو بعــد الفهــم الــذي يقــوم علــى‬
‫التعــاطف مــع ااخ ـرين‪ ،‬وســرب أغ ـوارهم للتأكــد مــن حقيقــة هــذا الســلوت بــدال مــن‬
‫االكتفــاء مبظــاهره اخلارجيــة فقــط‪ ،‬ومــن هنــا بــرزت نيعــة جديــدة تــدعو إىل االهتمــام‬
‫بدراسة الظواهر االجتماعية من الداخل أيضا‪ ،‬مثلما ندرسها من اخلارج كما لـو أهنـا‬
‫‪022‬‬
‫أشياء‪".‬‬

‫‪ - 020‬لورن فلوري‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.27:‬‬


‫‪ - 022‬وسيلة خيار‪ :‬اإليديولوجيا وعلم االجتماع جدلية االنفصال واالتصال‪ ،‬ص‪.012-010:‬‬

‫‪121‬‬
‫وبناء على ما سبق‪ ،‬يدرس مـاكس فيـرب الفعـل الفـردي مـن الناحيـة اخلارجيـة يف ضـوء‬
‫املقاربــة التفســريية‪ .‬ومــن جهــة أخــرى‪ ،‬يــدرس هــذا الفعــل مــن الــداخل يف ضــوء مــنهج‬
‫الفهم‪.‬‬

‫المبحث الرابع‪ :‬التصور المنهجي‬


‫أعلن ماكس فيرب‪ ،‬يف كتابه ( االقتصاد والمجتمع)‪ ،043‬عن منهجه‬
‫السوسيولوجي بقوله‪ ":‬نسمي علم االجتماع‪...‬العلم الذي يأخذ على عاتقه تفهم‬
‫النشاط االجتماعي بالتأويل‪ ،‬بتأويله مث بتفسري مساره ومفاعيله تفسريا سببيا‪".022‬‬
‫ونفهم من هذه القولة أن مثة ثالث خطوات منهجية هي‪ :‬الفهم‪ ،‬والتأويل‪،‬‬
‫والتفسري‪ .‬ويعين املبدأ املنهجي األول فهم فعل الفرد يف إطار نظرية التأثري والتأثر أو‬
‫يف إطار نظرية التفاعل االجتماعي‪.‬أي‪ :‬فهم املعا اليت يتخذها الفعل الفردي‬
‫داخل اجملتمع املعطى‪ .‬وينسجم هذا املبدأ مع العلوم اإلنسانية أو علوم الثقافة‬
‫والروو‪ .‬ومبا أن اإلنسان فاعل فردي ميلك وعيا‪ ،‬ويصدر فعله عن معىن أو مقصدية‬
‫ما‪ ،‬فمن الصعب دراسته دراسة علمية سببية وعلية موضوعية؛ألن ذلك يتنا مع‬
‫مبدإ الذاتية يف العلوم اإلنسانية‪ .‬وأكثر من هذا‪ ،‬فاإلنسان فرد واع وعاقل وحساس‬
‫الميكن مقاربته يف ضوء علوم التفسري؛ ألن النتالج ستكون‪ -‬بالريب ‪ -‬نسبية ليس‬
‫إال‪ ،‬مهما حاولنا أن نتمثل العلمية واحلياد والنياهة املوضوعية يف ذلك‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫‪- Max Weber : Économie et Société (posthume 1921),‬‬
‫‪traduction du tome 1 par Julien Freund, Plon, 1971 ; édition de‬‬
‫‪poche, Pocket, 1995 et 2003 (sous-titre : Les Catégories de la‬‬
‫‪sociologie).‬‬
‫‪ - 022‬لورن فلوري‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.28:‬‬

‫‪122‬‬
‫ويعين املبدأ املنهجي الثا متثل التأويل يف إدرات حقيقة الواقع أو العام املوضوعي‪.‬‬
‫ويعين هذا أن فهم فعل الفاعل الفردي الميكن أن يتحقق إال مبعرفة األحكام‬
‫املسبقة‪ ،‬وحتديد السياق اجملتمعي‪ ،‬واالنطالق من املعرفة اخللفية‪ ،‬والبحث عن يع‬
‫املصادر اليت تساعدنا على فهم ذلك الفعل‪ ،‬واستجالء املعىن الذي يصدر عنه‪.‬‬
‫وميكن االستعانة كذلك باألفكار املسبقة‪ ،‬على الرغم من تعارض ذلك مع العلم‪،‬‬
‫على أساس أهنا مصادر أولية تسعفنا يف تفهم الفعل وتأويله‪ .‬ومن هنا‪ ،‬يتطلب‬
‫الفهم ثقافة شخصية من جهة أوىل‪ ،‬ومعايشة حقيقية للفاعل من جهة ثانية‪،‬‬
‫ومشاركته يف بناء عوامله املوضوعية والواقعية من جهة ثالثة‪ .‬لذا‪ ،‬البد من التغلغل‬
‫إىل عام الفرد لفهم املعىن الذي يلصقه على عامله من أجل فهمه جيدا‪ ،‬وتأويل‬
‫فعله وسلوكه حسب الظروف الظاهرة واحليثيات اليت يوجد فيها هذا الفعل‪،‬‬
‫والبحث عن العالقة التفاعلية املوجودة بني الذات واملوضوع‪ .‬وخيضع هذا التعامل‬
‫كله ملبدأين أساسيني مها‪ :‬املوضوعية العلمية واحلياد األخالقي‪ ،‬بعدم إصدار أحكام‬
‫القيمة‪ ،‬واالبتعاد‪ -‬قدر اإلمكان‪ -‬عن االعتقادات وااراء الشخصية‪.‬‬
‫أما املبدأ املنهجي الثالث‪ ،‬فيقوم على التفسري السبيب والعلي كربط الفعل ببنية‬
‫اجملتمع‪ ،‬أو تفسري الظواهر اجملتمعية تفسريا ترابطيا وسببيا‪ .‬وقد متثل فيرب النموذج‬
‫املثال منهجا تفسرييا لفهم الظاهرة اجملتمعية على أساس علي وسبيب‪ .‬ويعين هذا أن‬
‫النموذج املثال هو بناء علمي جمرد لوصف الظواهر وتفسريها بغية احلصول على‬
‫احلقيقة‪ .‬وهو مبثابة بناء منطقي عقال بنيوي وكيفي جلرد العناصر املهيمنة والثانوية‬
‫املتعلقة بظاهرة جمتمعية ما‪ .‬وبتعبري آخر‪ ،‬يساعدنا النموذج املثال على تفسري‬
‫الواقع‪ .‬ومن مث‪ ،‬فالنموذج املثال خطوة علمية وإبستمولوجية مهمة للجمع بني‬
‫الذات واملوضوع‪ .‬وبذلك‪ ،‬ييسر لنا هذا النموذج السبيل لتفسري الظواهر تفسريا‬
‫عليا أو سببيا‪ ،‬ليس على أساس سبب واحد كماعند كارل ماركس‪ ،‬بل على أساس‬
‫األسبا املتعددة‪ .‬ويقوم هذا النموذج التفسريي على املقارنة‪ ،‬وتبيان أوجه التشابه‬

‫‪123‬‬
‫واالختالف بني الظواهر‪ ،‬مث تبيان عالقة التأثري والتأثر‪ .‬ومن هنا‪ ،‬فقد فسر ماكس‬
‫فيرب ظهور الروو الرأمسالية بتأثرها بدور األخالق الربوتستانتية‪ .‬واليعين هذا أن‬
‫السبب الديين (البنية الفوقية) هو العامل الوحيد لتفسري ظهور الرأمسالية الليربالية‪،‬‬
‫بل هنات أسبا أخرى من بينها العوامل االقتصادية نفسها (البنية التحتية)‪.‬‬
‫وقد طبق ماكس فيرب هذه املقاربة التفسريية كذلك يف معرفة سبب ارتباط احلداثة‬
‫بالغر ‪ .‬فتوصل إىل أن السبب يف ذلك يعود إىل العقلنة والشرعية ومتثل البريوقراطية‬
‫اإلدارية‪ " .‬وبالرغم من اعتقاده بفكرة اخلصوصية الغربية‪ ،‬فهو تفادى الوقوع يف فخ‬
‫املركيية اإلثنية‪ ،‬فراو يف الواقع يدرس هذه احلضارات حبياد‪ ،‬مستعرضا الرباط الذي‬
‫جيمع بني سلوت األفراد وبني البىن االقتصادية واالجتماعية واملتسسات‬
‫السياسية‪.‬وهو اعتمد موقعا مضادا للتطورية‪ ،‬وذلك برفضه فكرة التطور وفكرة‬
‫القوانني اجلدلية يف تاريخ مشويل خطي وإليامي؛ وكان يشدد على ترابط الظروف‬
‫وتشابك العوامل والتيامن احملتمل‪ .‬هذه التعددية السببية تييل كل التباس أو تواطت‪،‬‬
‫ألن العوامل الثقافية والبنية االجتماعية حاضرة كفرضيات تفسريية لتطور اجملتمع‬
‫والصريورة اإلنسانية‪ .‬كما أن فيرب نأى بنفسه عن أية حتمية متفاديا التفسري‬
‫الروحا حلركة اجملتمع وكذلك التفسري املادي‪ :‬ألن وجود املصاحل املادية ومنطق‬
‫‪021‬‬
‫األفكار‪ ،‬كليهما‪ ،‬يف نظره‪ ،‬ما يصنع السلوت احليايت ومينحه شكله ومعناه‪".‬‬
‫وهبذا‪ ،‬يكون ماكس فيرب قد وفق بني ثالث منهجيات‪ :‬الفهم‪ ،‬والتفسري‪ ،‬والتأويل‪.‬‬
‫ويعين هذا أن فيرب يأخذ بالتعددية املنهجية لدراسة الظواهر اجملتمعية‪.‬ومن هنا‪ ،‬فقد‬
‫" استمر فيرب يمافع دفاعا عن تعدد املقاربات املمكنة للظاهرة الواحدة أو للنشاط‬
‫االجتماعي الواحد‪ ،‬مبا يف ذلك احلياة الثقافية‪ ،‬قبليا‪ ،‬ليست أية مقاربة أفضل من‬
‫سواها من املقاربات‪ ،‬وهي التكون كذلك إال يف قدرهتا على التأويل التفسريي‬

‫‪ - 021‬لورن فلوري‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.87:‬‬

‫‪124‬‬
‫ألكرب عدد ممكن من الوقالع‪ .‬بأي حال‪ ،‬الميكن تعميمها لنجعل منها تفسريا‬
‫‪026‬‬
‫مشوليا‪ ،‬ألهنا التصلح إال يف حدود افماضاهتا املسبقة وسياقها التارخيي‪".‬‬
‫ولكن فيرب يعطي األولوية للفهم يف دراسة الظواهر اجملتمعية‪ ،‬على أساس أن الفهم‬
‫هو الذي يساعدنا على تقدمي تفسري أفضل‪ ،‬واحلصول على تأويل أفضل‪ .‬لذا‪،‬‬
‫ارتبط منهجيا مببدإ الفهم‪.‬إذاً‪ ،‬ما ذا يعين الفهم عند ماكس فيرب؟‬
‫ظهر منهج الفهم عند ماكس فيرب‪ ،‬بعد أن بلوره فلهلم ديلثاي( ‪Wilhelm‬‬
‫‪ .)Dilthey‬ويتسم هذا التوجه املنهجي بالطابع الداليل والتفهمي والتأويلي‪،‬‬
‫والمكيي على الذات بدل املوضوع‪.‬أي‪ :‬دراسة الفرد يف عالقته بأعضاء اجلماعة اليت‬
‫ينتسب إليها أو عالقاته مع اجملتمع يف كليته‪ ،‬بالتوقف عند خمتلف الدالالت‬
‫واملعا واملقاصد والغايات والنوايا اليت يعرب عنها هذا الفعل اإلنسا والسلوكي‪ ،‬يف‬
‫عالقته بأفعال ااخرين‪ ،‬ضمن الكينونية اجملتمعية نفسها‪ .‬ومن مث‪ ،‬يندرج تصور‬
‫ماكس فيرب ضمن النظرة التفاعلية إىل اجملتمع‪ ،‬فاألفراد يتثرون يف اجملتمع بأفعاهلم‬
‫الواعية واهلادفة‪ ،‬واجملتمع بدوره يتثر يف األفراد‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬تسعى املقاربة التفهمية مع ماكس فيرب إىل فهم الظاهرة اجملتمعية‪،‬‬
‫باستخالص دالالت أفعال األفراد‪ ،‬واستكشاف معانيها ومقاصدها وغاياهتا‬
‫ونواياها‪ .‬ويف هذا السياق‪ ،‬يقول يري بريشيي (‪ " :)Pierre Bréchier‬إن فهم‬
‫الفعل اإلنسا ‪ ،‬حسب فيرب‪ ،‬ليس مسعى سيكولوجيا‪ ،‬بل هو السعي إىل فهم‬
‫السيرورة المنطقية التي تقود الفاعل االجتماعي إلى اتخاذ قرار ما في ظرف‬
‫خاص‪.‬إذ يتعني إعادة تشكيل المنطق العقلي للفاعل‪ ،‬كما ينبغي‪ ،‬أيضا‪ ،‬فهم‬

‫‪ - 026‬لورن فلوري‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.81:‬‬

‫‪125‬‬
‫اجلانب الالعقلي يف سلوكه‪ ،‬تبعا لألهداف اليت يتوخاها والوسالط اليت يتوسلها‪،‬‬
‫من أجل التوصل إىل فهم تفسريي للفعل‪"027.‬‬
‫وللتوضيح أكثر‪ ،‬إذا كان علم االجتماع عند إميل دوركامي يعتمد على املقاربة‬
‫الوضعية اليت تتعامل مع الظواهر االجتماعية تعامال علميا موضوعيا‪ ،‬على أساس‬
‫أن الظواهر االجتماعية مثل األشياء املادية‪ ،‬ينبغي دراستها كالعلوم الطبيعية‪ ،‬بعد‬
‫التخلص ‪ -‬أوال‪ -‬من األفكار املسبقة‪ ،‬وبناء الفرضيات العلمية‪ ،‬واللجوء إىل‬
‫التجريب‪ ،‬ومتثل اإلحصاء يف حتليل الظاهرة االجتماعية وتفسريها‪ ،‬بغية إصدار‬
‫القوانني والنظريات وتعميمها؛ ف ن ماكس فيرب يعتمد منهجا تأويليا أو هريمونيطيقيا‬
‫يستند إىل الفهم ( دراسة املعىن الداخلي)‪ ،‬والتأويل ( إدخال الذات واملرجع على‬
‫مستوى القراءة)‪ .‬ويعين هذا أن الفعل االجتماعي أو الفعل اإلنسا مرتبط بثقافة‬
‫جمتمعية معينة‪ .‬ومن مث‪ ،‬الميكن دراسة الثقافة أو اإلنسان من خالل املنهج‬
‫الوضعي‪ ،‬بل البد من متثل مدرسة الفهم أو اهلريمونيطيقا يف ذلك‪ .‬أضف إىل ذلك‬
‫أن الظاهرة اإلنسانية مرتبطة مبجموعة من األسبا ‪ ،‬وليس بسبب واحد‪.‬لذا‪،‬‬
‫يصعب تطبيق املنهج الوضعي على الظاهرة االجتماعية اليت حيضر فيها اإلنسان‬
‫باعتباره فاعال ومنفعال‪ ،‬وكالنا واعيا ومتغريا‪.‬‬
‫ويستند منهج الفهم إىل ركييتني أساسيتني مها‪ :‬املثال ونسق املعا ‪ .‬فاملثال إجراء‬
‫عملي ينظر إىل الظاهرة اجملتمعية نظرة كلية‪ ،‬باستخدام احلدس واإلدرات املباشر‪.‬‬
‫ويف املقابل‪ ،‬ينظر منهج التفسري إىل الظواهر يف طابعها الذري‪ ،‬بتفتيتها إىل أجياء‬
‫وعناصر‪ .‬كما أن املثال منوذج عقلي ومنطقي ومثايل صاحل لوصف الوقالع الواقعية‬
‫املعطاة‪ ،‬بالمكيي على مكوناهتا ومساهتا وعناصرها‪ ،‬وإبراز خصالصها املشمكة واملميية‬
‫واملمابطة فيما بينها‪ .‬كما جيسد املثال الواقع املرصود‪ ،‬وخيتيله يف منوذج فكري واضح‬

‫‪147‬‬
‫‪- Pierre Bréchier: Les grands courants de la sociologie,‬‬
‫‪PUF, 2000, pp:80.‬‬

‫‪126‬‬
‫ومتسق ومنسجم‪ .‬ومن مث‪ ،‬فهدف الفهم هو البحث عن معىن العناصر املكونة‬
‫للواقع اجملتمعي‪ ،‬واستكشاف دالالهتا الرميية بتأويلها وإدراكها إدراكا مباشرا‪.‬ويعين‬
‫هذا أن الفهم يدرت الظواهر اجملتمعية إدراكا سليما‪ ،‬وحيس هبا إحساسا مباشرا‪،‬‬
‫ويدركها دون معاجلات جتريبية أو تفسريية أو إحصالية‪ ،‬ودون أي استدالل أو‬
‫استنتاج مباشر‪ .‬وهي تظهر للعقل ظهورا بديهيا‪ ،‬كما لو كانت يقينا اليضيف إليه‬
‫االستدالل شيئا‪.023‬‬
‫أما يف ما خيص الركيية الثانية‪ ،‬فيمكن القول بأن الفعل االجتماعي يتضمن نسقا‬
‫رمييا‪ ،‬حيمل يف طياته دالالت ثاوية وملتصقة‪ ،‬ندركها بالفهم والتأويل اعتمادا على‬
‫جتاربنا وحضورنا الذايت يف هذا العام‪ .‬ومن مث‪ ،‬يكون اهلدف األساس هو الوصول‬
‫إىل وحدة املعىن أو الفكرة اليت تتحكم يف هذا الفعل‪ ،‬واستجالء خمتلف النوايا‬
‫واملقاصد واألهداف اليت كانت تتحكم يف نشأة هذا الفعل أو السلوت اجملتمعي‪.‬‬
‫وميكن القول أيضا بأن منهجية ماكس فيرب تتعارض مع منهجية ماركس؛ ألن‬
‫املنهجية الفيبريية منهجية هريمينوطيقية تعتمد على الفهم والتأويل‪ ،‬واالهتمام‬
‫بالفاعل الفردي (امليتودولوجيا الفردية)‪.‬يف حني‪ ،‬تعترب سوسيولوجية ماركس بنالية‬
‫تركي على الفاعل اجلماعي‪ ،‬وتعطي للعوامل املادية أمهية كبرية‪ ،‬على أساس أن البنية‬
‫التحتية (البنية االقتصادية ) هي اليت تتحكم يف البنية الفوقية واإليديولوجية( الفن‪،‬‬
‫والدين‪ ،‬والسياسة)‪ .‬أما ماكس فيرب‪ ،‬فريجع ماهو مادي إىل ماهو ديين وفوقي‪ ،‬كما‬
‫وضح ذلك جليا يف كتابه ( األخالق البروتستانتية وروح الرأسمالية)‪ ،028‬حيث‬

‫‪ - 023‬عبد اج إبراهيم‪ :‬االتجاهات والمدارس في علم االجتماع‪ ،‬ص‪.88-83:‬‬


‫‪149‬‬
‫‪-Max Weber: L'Éthique protestante et l'esprit du‬‬
‫‪capitalisme (1904-1905), traduction par Jacques Chavy, Plon,‬‬
‫‪1964 ; nouvelles traductions par Isabelle Kalinowski, Flammarion‬‬
‫‪2000; Jean-Pierre Grossein, Gallimard 2003.‬‬

‫‪127‬‬
‫بني أن القيم الربوتستانتية الكالفانية هي اليت سامهت يف بروز الرأمسالية العقالنية‪.‬‬
‫أما ماركس فقد ركي على العوامل املادية واالقتصادية يف ظهور هذه الرأمسالية‪.011‬‬
‫وإذا كان ماركس قد ثار على الدين‪ ،‬ف ن ماكس فيرب قد دافع عن فلسفة األديان‪،‬‬
‫وخاصة الربوتستانتية‪ ،‬دعامة العقالنية والبريوقراطية والرأمسالية واحلداثة الغربية‪ .‬ومن‬
‫مث‪ ،‬تدعو الربوتستانتية إىل ابتغاء الكسب املثمر‪ ،‬وتنمية الرأمسال‪ ،‬وفق دوافع‬
‫سيكولوجية ومبادىء أخالقية‪ ،‬مثل‪ :‬احلرص‪ ،‬والشح‪ ،‬واالستثمار‪ ،‬وعدم التبذير‪،‬‬
‫وحب العمل‪ ،‬والسيما أن املذهب الربوتستايت الذي ظهر مع مارتن لوثر ميجد‬
‫العمل باعتباره غاية للحياة وفريضة من اج‪ ".‬إن من اليعمل لن يأكل" كما قال‬
‫القديس بولس‪ .‬ولذلك‪ ،‬جيتهد الربوتستانيت يف العمل كي التلحقه لعنة اج‪ .‬وكما‬
‫متتاز األخالق الربوتستانتية بتمجيدها للعمل‪ ،‬متتاز أيضا بدعوهتا إىل التقشف‬
‫واالستثمار واالدخار‪.‬وتلك هي األسس الرليسية اليت قامت عليها الرأمسالية‬
‫احلديثة‪...‬‬
‫وخالصة القول‪ :‬يرى فيرب أن املذهب الربوتستانيت‪ ،‬والسيما مذهب‬
‫كالفني(‪ ،)Calvin‬قد خلق ما يسمى " بأخالق املهنة" املعتمدة على نيعة‬
‫صوفية جتتهد يف ع النقود واستثمارها يف املشروعات التجارية والصناعية‪ ،‬بروو‬
‫‪010‬‬
‫مطمئنة‪ ،‬تعترب النجاو يف الدنيا دليال على رضا من اج ورضوان‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬إذا كان إميل دوركامي يدرس الظواهر االجتماعية دراسة علمية وضعية‪ ،‬على‬
‫أساس أن هذه الظواهر تشبه األشياء‪.‬لذا‪ ،‬البد من دراستها يف ضوء علوم الطبيعة‪،‬‬
‫ف ن ماكس فيرب الذي تأثر كثريا باملقاربة اهلريمونيطيقية‪ ،‬كان مييي بني علوم الطبيعة‬

‫‪150‬‬
‫‪- Catherine Colliot-Thélène: la sociologie de Max Weber,‬‬
‫‪p:5.‬‬
‫‪ -‬حممد عابد اجلابري وآخران‪ :‬دروس الفلسفة‪ ،‬دار النشر املغربية‪ ،‬الدارالبيضاء‪ ،‬املغر ‪ ،‬طبعة‬ ‫‪010‬‬

‫‪0870‬م‪ ،‬ص‪.826:‬‬

‫‪128‬‬
‫وعلوم الثقافة‪ .‬ومادام علم االجتماع يدرس الفعل االجتماعي عند األفراد‬
‫واجلماعات‪ ،‬فهو أقر إىل علم الثقافة منه إىل علم الطبيعة‪ .‬يف حني‪ ،‬ميكن دراسة‬
‫االقتصاد السياسي دراسة علمية‪ ،‬باالستفادة من علوم الطبيعة‪ .‬وهذا إن دل على‬
‫شيء‪ ،‬ف منا يدل على االختالف املنهجي يف دراسة العلوم اإلنسانية‪ ،‬بالتشديد‬
‫على التساؤل التايل‪ :‬هل ميكن دراسة علوم الروو دراسة وضعية أم أهنا علوم‬
‫مستقلة بذاهتا؟‬
‫ويف هذا الصدد‪ ،‬يقول السوسيولوجي الفرنسي جوليان فروند(‪0838-0820‬م)‪":‬‬
‫يشكل النياع املنهجي الذي قسم اجلامعيني األملان يف أواخر القرن التاسع عشر‬
‫خلفية التأمل اإلبستمولوجي ملاكس فيرب‪...‬موضوع خالف يتعلق بوضع العلوم‬
‫اإلنسانية‪ :‬هل ينبغي إخضاعها لعلوم الطبيعة‪ ،‬كما يريد أنصار الوضعية‪ ،‬أم‬
‫بالعكس تأكيد استقالليتها؟ بالطبع‪ ،‬سرعان ماحتول هذا اجلدال إىل مناقشة حول‬
‫تصنيف العلوم‪ ،‬ويف هذا اخلصوص انتهى أنصار استقاللية العلوم اإلنسانية بدورهم‬
‫إىل التعارض‪.‬فقد اعترب البعض‪ ،‬منهم ديلثي (‪ ،)Dilthey‬أن مربر هذا التصنيف‬
‫هو اختالف املوضوع‪ ،‬على أساس التمييي بني عام الطبيعة وعام الفكر أو التاريخ‪.‬‬
‫فالواقع يقسم إىل قطاعات مستقلة يوجه كل منها فئة خاصة من العلوم‪ .‬يف حني‪،‬‬
‫إن البعض ااخر‪ ،‬ومنهم ويندلبند (‪ )Windelband‬وريكريت (‪،)Rickert‬‬
‫يرفض جتيلة الواقع الذي يبقى واحدا هو ذاته دوما‪ ،‬ويقمو هتالء أساسا منطقيا‬
‫لدراسة الواقع‪ ،‬حيث يسعى العام إما إىل معرفة العالقات العامة أو القوانني‪ ،‬وإما‬
‫إىل معرفة الظاهرة خبصوصيتها؛ وهكذا يكون هنات منهجان رليسيان‪ ،‬واحد ميكن‬
‫تسميته بالعام‪ ،‬وااخر باخلاص‪..‬مهما يكن التمييي بني العام واخلاص‪ ،‬فمن اخلطأ‬
‫القول‪ :‬إن علوم الطبيعة تستخدم عمليا املنهج الطبيعي أو املنهج العام فقط‪ ،‬وأن‬
‫علوم الثقافة تستخدم املنهج التارخيي أو اخلاص فقط‪ .‬اليتمتع أي من هذين‬
‫املنهجني بامتياز أو تفوق بالنسبة إىل ااخر‪.‬وينكر فيرب‪ ،‬امللتيم بروو اإلبستمولوجيا‬

‫‪129‬‬
‫الكانطية‪ ،‬أن يكون بوسع املعرفة أن تكون صورة للواقع أو نسخة كاملة عنه‪ ،‬سواء‬
‫مبعىن املدلول‪ ،‬أو مبعىن املفهوم‪ .‬فالواقع المتناه واليفىن‪ .‬وبناء عليه‪ ،‬فاملشكلة‬
‫األساسية لنظرية املعرفة هي مشكلة العالقات بني القانون والتاريخ‪ ،‬بني املفهوم‬
‫والواقع‪.‬وأيا يكن املنهج املعتمد‪ ،‬ف ن كل واحد يقوم بعملية انتقاء من التنوع‬
‫‪012‬‬
‫الالحمدود للواقع التجرييب‪".‬‬
‫وقد أثبت راميون أرون (‪ )R. Aron‬أن منهج ماكس فيرب السوسيولوجي يرتكي‬
‫‪018‬‬
‫على ثالثة مقومات أساسية هي‪ :‬الفهم‪ ،‬والتاريخ‪ ،‬والثقافة‪.‬‬
‫ومن جهة أخرى‪ ،‬يرى حممود عودة‪ ،‬يف كتابه(أسس علم االجتماع)‪" ،‬ومن اجلدير‬
‫بالذكر أن رالد علم االجتماع األملا ماكس فيرب قد تأثر إىل أبعد حد هبذا التصور‬
‫مما دفعه إىل أن يطور أسلوبا للبحث االجتماعي عرف بأسلو الفهم التعاطفي‬
‫بوصفه الوسيلة األساسية لتفهم ودراسة أمناط الفعل االجتماعي املختلفة‪ ،‬لكن‬
‫ذلك م يدفع فيرب إىل اإلقالع عن املنهج العلمي مببادله األساسية كالتالزم يف‬
‫الوقوع والتالزم يف التغري وبصفة خاصة حينما كان يصدر دراسة العالقة بني‬
‫الرأمسالية احلديثة واملذهب الربوتستانيت‪ -‬وهذا قد يدعونا إىل القول بأنه إما أن‬
‫ماكس فيرب قد حاول التوفيق بني املنهج العلمي بوصفه قامسا مشمكا بني العلوم‬
‫يعا وبني أسلو الفهم بوصفه أداة فعالة لفهم الظاهرة اإلنسانية‪ ،‬أو أن هنات‬
‫علمي اجتماع عند ماكس فيرب وليس علما واحدا‪ ،‬لكن األقر إىل املنطق أن‬

‫‪ - 012‬جوليان فروند‪ :‬سوسيولوجيا ماكس فيبر‪ ،‬تر ة‪ :‬جورج أبوصاحل‪ ،‬مركي اإلمناء القومي‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬بدون تاريخ‪ ،‬ص‪.22-20:‬‬
‫‪153‬‬
‫‪-R. Aron, Les étapes de la pensée sociologique, collection‬‬
‫‪Tel, Gallimard, 1967, p. 504.‬‬

‫‪131‬‬
‫الفهم التعاطفي للظاهرة اإلنسانية ميكن أن يضيف إليها وأن يكمل معرفتنا هبا أو‬
‫‪012‬‬
‫دراستنا املوضوعية هلا‪".‬‬
‫وخالصة القول‪ ،‬يعتمد ماكس فيرب على منهج الفهم يف دراسة السلوت‬
‫االجتماعي‪ ،‬ورصد أشكال اهليمنة والسلطة‪ ،‬ويعين هذا أنه من متسسي مدرسة‬
‫الفهم يف علم االجتماع‪ .‬ويعين هذا أن منهجية ماكس فيرب هتدف إىل فهم معىن‬
‫التفاعالت السلوكية لألفراد داخل اجملتمع‪.‬أي‪ :‬يدرس علم االجتماع العمل‬
‫االجتماعي (‪ )Action social‬الذي يقصد به جمموعة من الوسالل اليت يستند‬
‫إليها اجملتمع للحفاظ على اتساقه وانسجامه‪ ،‬وخاصة الوسالل القانونية والتنظيمية‬
‫أو األعمال اليت تدفع األفراد واجلماعات اليت تعيش نوعا من اهلشاشة إىل العيش‬
‫الكرمي‪ ،‬واالنصهار يف وحدة اجملتمع‪.‬‬
‫وقد تبلور هذا املنهج القالم على دراسة التفاعالت القالمة بني األفراد يف كتابه(‬
‫األخالق البروتستانتية وروح الرأسمالية) الذي نشره يف شكل مقالني‬
‫سنيت‪0812‬و‪0811‬م‪ ،‬حيث درس فيهما أثر العوامل الدينية يف ظهور العقالنية‪،‬‬
‫وكيف ساهم اإلصالو الربوتستانيت يف نشأة االقتصاد الرأمسايل املادي‪ .‬ومن مث‪،‬‬
‫فقد ركي ماكس فيرب على العقالنية‪ ،‬واعتربها مظهرا من مظاهر احلضارة الغربية‪ ،‬وقد‬
‫جاءت مرافقة لنشوء الرأمسالية (االقتصاد العقال ) والبريوقراطية (اإلدارة العقالنية)‪.‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬فالدين الربوتستانيت‪ ،‬باعتباره فعال إجيابيا‪ ،‬هو احملرت احلقيقي للعقالنية‬
‫واحلداثة واالقتصاد الرأمسايل‪ ،‬وقد أهلته لقيادة حداثة كونية وتقدمي نظرة عقالنية‬
‫لرؤية العام؛ وهذا ما جعل ماكس فيرب من متسسي علم اجتماع األديان‪.‬‬
‫وعلى العموم‪ ،‬يتميي املنهج الفيبريي بالتعدد لوجود ثالثة أسس أو خطوات تطبيقية‬
‫هي‪ :‬الفهم‪ ،‬والتأويل‪ ،‬والتفسري‪.‬بيد أن الفهم هو املعترب يف دراسة الظواهر اجملتمعية‪،‬‬
‫وهو الذي يتحكم يف التأويل والتفسري معا لتقدمي حتليل جيد وأفضل وماللم‪.‬‬

‫‪ - 012‬حممود عودة‪ :‬أسس علم االجتماع‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص‪.66:‬‬

‫‪131‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬النمط المثالي أساس الفهم‬

‫يعد النمط املثايل(‪ - )L’idéal-type‬عند ماكس فيرب‪ -‬مفهوما جمردا‪،‬‬


‫أومقولة وصفية عامة تساعدنا على فهم جمموعة من الظواهر وتفسريها والتنظري هلا‪،‬‬
‫وليس من الضروري أن تكون خصالص هذا النمط متوفرة دالما‪ ،‬وبشكل جيد‪ ،‬يف‬
‫الظواهر املالحظة واملدركة‪ .‬ومن مث‪ ،‬فهدف النمط املثال هو تكوين منوذج للظاهرة‬
‫االجتماعية أو منظور هادف هلا‪ .‬وبعد ذلك‪ ،‬استعمل املفهوم من قبل منظري‬
‫املنظمات االجتماعية لإلشارة إىل الدراسات التجريبية املتعلقة بالبريوقراطية‪ .‬والحييلنا‬
‫مفهوم املثايل على اجلودة واإلتقان واحلكم اإلجيايب‪ ،‬بل هو دليل لبناء الفرضيات‪،‬‬
‫ومنوذج لفهم الظواهر املدركة يف الواقع‪ ،‬أو تعبري عن الفكر املنظم‪ .‬مبعىن أن النمط‬
‫املثايل هو نتاج لعملية تركيبية جملموعة من السمات واملواصفات لظاهرة جمتمعية ما‪،‬‬
‫تكون جمردة وعامة‪ ،‬وتصنيفها ضمن منوذج فكري وعقلي ومنطقي متسق‪.‬‬
‫وللتمثيل‪ ،‬حينما ندرس البريوقراطية‪ ،‬ف ننا ندرسها يف جماالت متعددة‪ ،‬ويف أمكنة‬
‫خمتلفة‪ ،‬لكننا نتحدث عنها بطريقة مثالية عامة‪ ،‬بالمكيي على خصالصها ومميياهتا‬
‫اجملردة واملشمكة يف عمومها‪ ،‬لقولبتها ضمن منوذج مفهومي ووصفي ما‪ .‬أضف إىل‬
‫ذلك أن النمط املثايل هو نتيجة جملموعة من املقارنات والعمليات الوصفية لظاهرة‬
‫جمتمعية ما‪ .‬ومن هنا‪ ،‬فاملثايل العالقة له بالقيمة‪ ،‬بل يرتبط مبنظومة من اخلصالص‬
‫واألوصاف والسمات املشمكة الناجتة عن حمالظة ظاهرة ما‪ .‬وبتعبري آخر‪ ،‬يعين‬
‫النمط املثايل جتريد أو حتويل الظاهرة اجملتمعية املدركة واملالحظة إىل منوذج ذهين جمرد‬
‫يف شكل خصالص ومكونات ومسات مشمكة جمردة وعامة‪.‬أي‪ :‬االنتقال من‬

‫‪132‬‬
‫احملسوس إىل اجملرد املثايل‪ .‬فحينما يرصد املالحظ ظاهرة مدركة ما ومعيولة‪ ،‬ف نه‬
‫خيتيهلا يف جمموعة من املكونات واخلصالص والسمات العامة واجملردة لبناء منطها‬
‫املثايل واملفهومي‪.‬‬
‫إذاً‪ ،‬فاألمناط السلوكية‪ ،‬كالسلوت العقلي‪ ،‬والسلوت الالعقلي‪ ،‬والسلوت القيمي‬
‫العقلي‪ ،‬والسلوت العاطفي‪ ،‬مبثابة " مناذج أو أفكار عقلية مثالية‪ :‬هي مثالية مبعىن‬
‫أهنا ليست صادرة من احلياة االجتماعية الواقعية‪ ،‬المبعىن أهنا صادرة من ماهيات‬
‫جمردة ت" مثل" أفالطون مثال‪.‬إهنا مناذج مثالية لكوهنا مشتقة أساسا من احلقيقة‬
‫التارخيية‪ ،‬تلك احلقيقة املعقدة جدا‪ ،‬واليت تعترب هذه التصنيفات السلوكية جمرد‬
‫تبسيط هلا‪ .‬ومن هنا‪ ،‬يدرس علم االجتماع عند فيرب تلك األمناط االجتماعية‬
‫املثالية اليت حتدد طبيعة تصورات اإلنسان وإدراكاته ومواقفه السلوكية يف اجملتمع‪.‬وإذا‬
‫كانت هذه األمناط كامنة حقا يف بنيات اجملتمع‪ ،‬فهي مع ذلك‪ ،‬مبثابة أمناط قياسية‬
‫حتدد السلوت‪ ،‬وتوجه العقل‪.‬‬
‫وعلى رأس هذه األمناط احملددة للسلوت املوجهة للفعل‪ ،‬توجد القيم األخالقية‬
‫والدينية‪ ،‬مث العرف والعادات والقانون‪ ،‬باإلضافة إىل أمناط أخرى ذات طبيعة‬
‫سيكولوجية كاحلب والكراهية واحلقد‪...‬ومهما كان األمر‪ ،‬وسواء كان العنصر‬
‫املوجه للسلوت هو هذا النمط أو ذات‪ ،‬ف ن الفعل االجتماعي احلقيقي عند فيرب هو‬
‫السلوت اهلادف املرتبط بغاية معينة‪.‬أما السلوت الذي الهدف له‪ ،‬فهو سلوت‬
‫‪011‬‬
‫العقلي‪ ،‬سلوت آيل القيمة له من الناحية التارخيية‪".‬‬
‫إذاً‪ ،‬فالنمط املثايل أداة تصورية وإجرالية أساسية‪ ،‬أو هو مبثابة منهاج أو مقياس أو‬
‫منوذج تركييب‪ ،‬يستخدم لوصف الوقالع اجملتمعية وتقييمها‪ .‬وقد ذكر ماكس فيرب‬
‫خصالص متعددة للبريوقراطية كنمط مثايل‪،‬ويف تقدميه للنموذج البريوقراطي م يصف‬
‫تنظيما بعينه‪ ،‬وم يستخدم مفهوم النمط املثايل مبعىن التقومي اإلجيايب‪ ،‬فقد كان‬

‫‪ - 011‬حممد عابد اجلابري وآخران‪ :‬دروس الفلسفة‪ ،‬ص‪.826:‬‬

‫‪133‬‬
‫هدفه هو قياس درجة البريوقراطية يف التنظيم الواقعي‪ .016‬ويستخدم مصطلح النمط‬
‫املثايل أيضا لدراسة الدين‪ ،‬واألسرة‪ ،‬والسلطة‪ ،‬والنظم االقتصادية‪ .‬ويعين هذا أن‬
‫النمط املثايل هو أداة للفهم وإدرات الظواهر اجملتمعية إدراكا مباشرا وبدهيا وواضحا‪.‬‬
‫ويرى أنتو غيدني(‪ )Giddens‬أن " األمناط املثالية هي مناذج مفهومية وحتليلية‬
‫ميكن استخدامها لفهم العام‪ .‬وقلما توجد هذه النماذج يف العام الواقعي‪.‬ورمبا‬
‫التوجد على اإلطالق‪ .‬ويف أغلب احلاالت تتضح جوانب أو مالمح قليلة منها يف‬
‫الواقع‪ .‬غري أن هذه النماذج االفماضية قد تكون مفيدة جدا‪ ،‬عندما حناول فهم‬
‫األوضاع الفعلية يف العام مبقارنتها بواحد من هذه األمناط املثالية‪.‬ويف هذا السياق‪،‬‬
‫تكون األمناط املثالية مبثابة نقطة مرجعية ثابتة‪.‬وجتدر اإلشارة هنا إىل أن النمط‬
‫املثايل م يكن يعين بالنسبة إىل فيرب أن هذا التصور قد وصل حدود الكمال أو‬
‫حقق اهلدف املنشود‪.‬وما كان يعنيه فيرب أن النموذج ميثل صورة صافية لظاهرة ما‪،‬‬
‫‪017‬‬
‫وقد استخدم فيرب هذه النماذج املثالية يف حتليله ألشكال البريوقراطية والسوق‪".‬‬
‫وللتمثيل بشكل أبسط‪ ،‬فشخصية " البخيل" يف مسرحية موليري شخصية‬
‫كاريكاتورية‪ ،‬مع أن احتمال أن نلتقيها يف الواقع قليل‪ ،‬لكنها متثل النمط األصيل‬
‫للبخل‪.‬هذه الشخصية منط مثال للبخالء‪ .‬فالنمط املثال هو تشييد فكري اليعكس‬
‫الواقع التجرييب املرصود‪ ،‬بل يسمح بتحليل مكوناته وخصالصه‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬يتم حتصيل النمط املثايل عند ماكس فيرب بالربط بني عدد من الظواهر‪،‬‬
‫بتصنيفها وتنظيمها وترتيبها ضمن منوذج فكري منسجم ومتسق‪.‬‬

‫‪ - 016‬انظر‪ :‬جمموعة من املتلفني السوسيولوجيني‪ :‬قراءة معاصرة في نظريات علم االجتماع‪ ،‬تر ة‪:‬‬
‫مصطفى خلف عبد اجلواد‪ ،‬مطبوعات مركي البحوث والراسات االجتماعية‪ ،‬كلية اادا ‪ ،‬جامعة‬
‫القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬طبعة ‪2112‬م‪ ،‬ص‪.228:‬‬
‫‪-‬أنتو غديني‪ :‬علم االجتماع‪ ،‬تر ة‪ :‬فايي الصياغ‪ ،‬منشورات املنظمة العربية للم ة‪ ،‬بريوت‪،‬‬ ‫‪017‬‬

‫لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل سنة ‪2111‬م‪ ،‬ص‪.70:‬‬

‫‪134‬‬
‫وعليه‪ ،‬يعد النموذج املثايل مبثابة قالب للتوصيف والتجريد والتقعيد والتصنيف‬
‫والنمذجة‪ ،‬وحتويل الواقع إىل قوانني وبناءات هلا قيمة كشفية كبرية جدا‪ .‬أي‪ :‬يقوم‬
‫النموذج املثال على ربط النظرية بالواقع بغية حتديد األشكال واملفاهيم اجملردة‪،‬‬
‫وصوال إىل تصنيف نوعي‪ ،‬وتبيان للمكونات اجلوهرية‪ ،‬وحتديد للسمات الثانوية‪،‬‬
‫وتصنيف لألمناط‪ .‬ومن هنا‪ ،‬ف ن"النظام املنطقي للمفاهيم من جانب‪ ،‬والمتيب‬
‫التجرييب ملا هو خاضع للتصور يف إطار اليمان واملكان‪ ،‬إىل جانب المابط السبيب‬
‫من جانب آخر‪ ،‬كل ذلك سيبدو ممابطا إىل درجة أن حماولة اإلساءة إىل الواقع‪،‬‬
‫لتتكد فيه القابلية الفعلية للبناء‪ ،‬ستبدو حماولة الميكن مقاومتها‪"013.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬يتبىن ماكس فيرب النموذج املثايل لتوصيف الظواهر اجملتمعية جتريدا وتقعيدا‬
‫وتصنيفا‪ ،‬فاملاركسية ‪ -‬مثال‪ -‬هي النموذج املثايل للتطور‪ ،‬والغر هو النموذج‬
‫املثايل للحداثة والعقالنية والشرعية‪...‬‬

‫المبحث السادس‪ :‬أنماط الفعل االجتماعي‬


‫يستخدم النمط املثايل عند ماكس فيرب يف فهم الفعل االجتماعي وحتمياته‪ ،‬وحيمل‬
‫هذا الفعل معىن ما‪ ،‬مادام موجها حنو الغري‪ .‬ومن مث‪ ،‬فهذه األفعال أنواع وأمناط‪.‬‬
‫فهنات أفعال غري واعية أو أقل وعيا‪ ،‬وأفعال اجتماعية‪ ،‬وأفعال أكثر وعيا‪ ،‬وأفعال‬
‫أكثر اجتماعية على الشكل التايل‪:‬‬
‫‪‬الفعل التقليدي‪ :‬ينبين هذا الفعل على العادات والقيم واألعراف والتقاليد؛‬
‫فاألنشطة اليومية‪ ،‬مثل‪ :‬األكل بشوكة أو املصافحة باأليدي تتأتى من الفعل‬
‫التقليدي‪.‬‬

‫‪ -‬كاترين كوليو تيلني‪ :‬ماكس فيبر والتاريخ‪ ،‬تر ة‪ :‬جورج كتورة‪ ،‬املتسسة اجلامعية للدراسات‬ ‫‪013‬‬

‫والنشر والتوزيع‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل سنة ‪0882‬م‪ ،‬ص‪.008:‬‬

‫‪135‬‬
‫‪ ‬الفعل الوجداني أو العايفي‪ :‬هو ذلك الفعل الذي توجهه العواطف‪ .‬ومن‬
‫مث‪ ،‬فهو فعل غري عقال ‪ .‬مثل‪ :‬عقا األم البنها بطريقة عاطفية وانفعالية‪.‬‬
‫‪ ‬الفعل األخالقي العقالني‪ :‬هو فعل يتجه صو القيم‪ ،‬له درجة عالية من‬
‫الوعي‪ ،‬ويرتبط هبدف ما ضمن نظام القيم‪ ،‬مثل‪ :‬ربان السفينة الذي يغرق مع‬
‫سفينته‪ ،‬حني استحالة إنقاذها (فعل التضحية)‪.‬‬
‫‪ ‬الفعل العقالني الهادف‪ :‬يرتبط هذا الفعل بالتخطيط والمشيد العقال‬
‫والتدبري اجليد‪.‬أي‪ :‬خيطط قبل التنفيذ‪ ،‬ويقارن بني الوسالل املتاحة قبل العمل‬
‫للوصول إىل أهدافه املرجوة‪ ،‬وحيلل النتالج املتوقعة الناجتة عن هذا الفعل املرتقب‪.‬‬
‫مثل‪ :‬اإلسماتيجية العسكرية أو االقتصادية أو اإلدارية‪.‬‬
‫ويعين هذا أن فعل الفرد إما تقليدي‪ ،‬وإما عاطفي‪ ،‬وإما عقال ‪ .‬فاملستهلك يكون‬
‫عقالنيا حينما خيتار منتوجا لشراله حسب دخله املادي‪ ،‬ووفق األجرة اليت حيصل‬
‫عليها(فعل عقال )؛ وقد يكون مدفوعا بعاداته االستهالكية التقليدية الختيار‬
‫منتوج ما(فعل تقليدي)؛ أو عن طريق رغباته اليت التقاوم (فعل وجدا )‪ .‬وهكذا‪،‬‬
‫تتواشج األمناط الثالثة يف النشاط الواحد للفرد (نشاط املستهلك)‪.‬‬
‫و" هذه األمناط األربعة من السلوت ترتبط ارتباطا وظيفيا بأمناط العالقات‬
‫االجتماعية‪ :‬فالسلوت العقلي بنوعيه‪ ،‬هو الفعل االجتماعي الذي يسود اجملتمع‬
‫عامة‪.‬أما السلوت العاطفي‪ ،‬فهو خاص باجلماعة‪ .‬يف حني‪ ،‬إن السلوت الالعقلي‬
‫خيص اإلنسانية عاء‪ ،‬وقوامه لة من العادات والتقاليد اليت قد تتحول إىل سلطة‬
‫اجتماعية قاهرة‪".018‬‬

‫‪ - 018‬حممد عابد اجلابري وآخران‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.221:‬‬

‫‪136‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬فسوسيولوجيا الفهم هي اليت تنكب على رصد هذه األفعال يف اجملتمع‬
‫املدروس‪ ،‬بتصنيفها وتنميطها والبحث عن دالالهتا الظاهرة واخلفية‪ ،‬مع متجيد‬
‫الفعل العقال اهلادف والبناء‪.‬‬

‫المبحث السابع‪ :‬السوسيولوجيا السياسية‬


‫يع ـ ــد م ـ ــاكس في ـ ــرب متس ـ ــس عل ـ ــم اجتم ـ ــاع السياس ـ ــة‪.‬ومن مث‪ ،‬تع ـ ــين السوس ـ ــيولوجيا‬
‫السياس ــية إم ــا عل ــم الدول ــة أو عل ــم الس ــلطة‪.‬بي ــد أن عل ــم االجتم ــاع السياس ــي عن ــد‬
‫ماكس فيرب يقصد بـه علـم السـلطة واحلكومـة والواليـة والقيـادة يف كـل اجملتمعـات ويف‬
‫كل اجملموعات البشرية‪ ،‬وليس فقط يف اجملتمع القومي‪ .061‬لذا‪ ،‬تنبين السوسـيولوجيا‬
‫السياسية عند ماكس فيرب على جمموعة من التصورات النظرية اليت ميكن حتديـدها يف‬
‫األفكار التالية‪:‬‬

‫المطلب األول‪ :‬العنف المشروع أو المبرر‬


‫يقصد بالسياسة عند ماكس فيرب الدولة أو التجمع السياسـي أو تلـك التـأثريات الـيت‬
‫متارسها الدولة يف األفراد أو ما ميارس ضدها من تـأثري‪ .‬ومـن مث‪ ،‬يـرى فيـرب أن الدولـة‬
‫تتميي بالقوة والعنف ومتارس ما يسمى مبشروعية العنف‪ .‬ويعين هذا أن الفرد ليس له‬
‫احلق يف ممارسة العنف مهما كانت قيمته االجتماعيـة‪ ،‬ومكانتـه الوظيفيـة يف اجملتمـع‪.‬‬
‫فالدولــة هــي املتسســة الوحيــدة الــيت هلــا احلــق يف ممارســة العنــف والقــوة باســم القــانون‬

‫‪ -‬موريس دوفرجيه‪ :‬علم اجتماع السياسة‪ ،‬تر ة‪ :‬سليم حداد‪ ،‬املتسسة اجلامعية للدراسات‬ ‫‪061‬‬

‫والنشر والتوزيع‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة الثانية ‪2110‬م‪ ،‬ص‪.20:‬‬

‫‪137‬‬
‫والتش ـريع والدس ــتور‪ .‬ويك ــون العن ــف امل ــربر ‪ -‬هن ــا‪ -‬بالس ــجن‪ ،‬أو املراقب ــة أو معاقب ــة‬
‫اجمل ــرم‪ ،‬وإص ــدار الل ـوالح القانوني ــة ال ــيت جت ــرم الفع ــل اإلجرام ــي ال ــذي ق ــام ب ــه الفاع ــل‬
‫االجتماعي‪ .‬ويف هذا السياق‪ ،‬يقول ماكس فيرب‪ ":‬نعين بكلمة سياسة إدارة التجمع‬
‫السياسي الذي نسميه اليوم " دولة"‪ ،‬أو التأثري الذي ميارس على هذه اإلدارة‪.‬‬
‫ولكـن مــاهو التجمـع السياســي مـن وجهــة نظــر عـام االجتمــاع؟ ومـا الدولــة؟ الميكــن‬
‫تعريــف الدولــة بــدورها مــن الناحيــة السوســيولوجية مبحتــوى مــا تقــوم بــه‪ ،‬إذ التوجــد‬
‫تقريبــا أيــة مهمــة م يقــم هبــا يف يــوم مــن األيــام جتمــع سياســي مــا؛ ومــن جهــة أخــرى‬
‫التوجــد أيضــا مهمــات ميكــن أن نقــول عنهــا بأهنــا كانــت يف وقــت مــا ختــص‪ ،‬علــى‬
‫األقــل بصــفة حصـرية‪ ،‬التجمعــات السياســية الــيت نســميها اليــوم دوال أو الــيت شــكلت‬
‫تارخييــا أصــول الدولــة احلديثة‪.‬هــذه األخــرية الميكــن تعريفهــا سوســيولوجيا إال بالوســيلة‬
‫املميــية اخلاصــة هبــا‪ ،‬وأيضــا بكــل جتمــع سياســي آخــر‪ ،‬أال وهــو العنــف الفيييالي‪.‬قــال‬
‫تروتس ــكي يوم ــا يف بريس ــت‪ -‬ليتوفس ــك‪ ":‬ك ــل دول ــة تنب ــين عل ــى القوة"‪.‬وه ــذا أكي ــد‬
‫فعال‪..‬إن العنف ليس بطبيعة احلال إال الوسيلة الوحيـدة للدولـة‪ ،‬بـدون شـك‪ ،‬ولكنـه‬
‫وس ــيلتها اخلاص ــة‪.‬ويف أيامن ــا ه ــذه تعت ــرب العالق ــة ب ــني الدول ــة والعن ــف عالق ــة محيم ــة‬
‫ج ــدا‪.‬كانت التجمع ــات السياس ــية مبختل ــف أنواعه ــا ه ــذه تعت ــرب العن ــف الفييي ــالي‬
‫الوس ــيلة العادي ــة للس ــلطة‪ ،‬وعل ــى العك ــس م ــن ذل ــك جي ــب تص ــور الدول ــة املعاص ــرة‬
‫كجماعــة إنســانية يف حــدود جمــال جغ ـرايف حمــدد تطالــب بنجــاو وملصــلحتها اخلاصــة‬
‫باحتكــار العنــف الفيييــالي املشــروع‪.‬وما هــو بالفعــل خــاص بعصـرنا هــو أنــه اليســمح‬
‫للتجمعات األخـرى أو لألفـراد بـاحلق يف اللجـوء إىل العنـف إال عنـدما تسـمح بـذلك‬
‫‪060‬‬
‫الدولة‪ :‬إذ تصبح هذه األخرية املصدر الوحيد للحق يف العنف‪".‬‬

‫‪161‬‬
‫‪-Max Weber:Le savant et le politique, Plon 10/18, 1979,‬‬
‫‪pp:99-101.‬‬

‫‪138‬‬
‫واليقتصــر العنــف علــى الــدول الديكتاتوريــة واملســتبدة فحســب‪ ،‬بــل متارســها الدولــة‬
‫الدميقراطية أيضا‪ ،‬لكـن يف نطـاق قـانو وشـرعي ودسـتوري؛ إذ ختـول الدولـة ملتسسـة‬
‫األمن أن تتدخل حلماية مرافق التجمع السياسي‪.‬‬
‫يف حني‪ ،‬ترى جاكلني روس(‪ )J.Russ‬أنـه الينبغـي للدولـة أن متـارس العنـف مهمـا‬
‫كــان شــرعيا أو غــري شــرعي‪ ،‬بــل ينبغــي أن تكــون الدولــة متسســة لضــمان احلريــات‬
‫والقـ ـوانني واحلق ــوق‪ ،‬م ــع اإلقـ ـرار بفص ــل الس ــلط‪ ،‬واحـ ـمام حق ــوق اإلنس ــان‪ ،‬ونش ــر‬
‫العدالـة‪ .‬ويف هــذا النطــاق‪ ،‬تقـول جــاكلني روس‪ " :‬إن دولــة احلـق التتمثــل يف الصــورة‬
‫القانوني ــة اجمل ــردة فحس ــب‪،‬بل تتمث ــل فيم ــا يتجس ــد بق ــوة يف جمتمعاتن ــا‪،‬ألن الق ــرن‬
‫العشـرين يبلــور جناحهــا ويعــرب عنــه‪..‬إن دولــة احلــق تــتدي إىل ممارســة معقلنــة لســلطة‬
‫الدولة‪،‬ممارســة تتشــبث بالقــانون‪ ،‬وبــاحمام احلريــات‪ ،‬كمــا تــتدي إىل تنظــيم سياســي‬
‫مت ـوازن ينفــتح علــى جمــال احلريــات العامــة‪.‬لكن مــاهي دولــة احلق؟إهنادولــة فيهــا حــق‬
‫وفيهــا قــانون خيضــعان معــا إىل مبــدأ اح ـمام الشــخص‪ ،‬وهــي صــيغة قانونيــة تضــمن‬
‫احلريـات الفرديـة‪ ،‬وتتمسـك بالكرامـة اإلنسـانية‪ ،‬وذلـك ضـد كـل أنـواع العنـف والقـوة‬
‫والتخويــف‪ ....‬إن ســلطة دولــة احل ـق تتخــذ مالمــح ثالثــة‪ :‬القــانون‪ ،‬واحلق‪،‬وفصــل‬
‫السلط‪،‬وتضمن يعها احمام الشخص‪ ،‬وتسهر على تأسيس هذا االحمام‪"062 .‬‬
‫وعليه‪ ،‬فهنـات تصـوران متناقضـان‪ :‬تصـور مـاكس فيـرب الـذي يـدافع عـن عنـف الدولـة‬
‫املــربر واملشــروع‪ ،‬وتصــور جــاكلني روس الــذي يــرفض اســتعمال العنــف مهمــا كانــت‬
‫طبيعته ومصدره‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫‪-Jacqueline Russ:Les théories du pouvoir, Librairie‬‬
‫‪Générale française, Coll.Poche, 1944, pp:90-94.‬‬

‫‪139‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬أشكال السلطة والهيمنة‬

‫من املعروف أن الدولة متارس ضد مواطنيها العنف املشروع املربر‪ .‬لـذا‪ ،‬خيضـع النـاس‬
‫لتلــك الدولــة وفــق أســبا داخليــة ثالثــة تــربر تلــك الســيطرة أوتلــك اهليمنــة السياســية‬
‫اليت تفرضها الدولة على مواطنيها‪:‬‬
‫‪ ‬السبب األول هو نفوذ الماضي‪ ،‬وحييلنا هذا علـى العـادات والتقاليـد واألعـراف‬
‫والطقوس املقدسة اليت جتعل الشيخ أو السيد اإلقطاعي يسيطر على السـلطة‪ .‬وهنـا‪،‬‬
‫نتحدث عن السلطة التقليدية‪.‬‬
‫‪ ‬السةةبب الث ةةاني ه ةةو السةةحر الشخصةةي واإلله ةةام الخةةارق‪.‬وحييلنــا هــذا علــى‬
‫الــيعيم البطــل أو النــيب أو القالــد امللهــم أو الــيعيم النقــايب الكبــري أو القيــادي احلــييب‬
‫املتميي واحملنك‪.‬وهنا‪ ،‬نتحدث عن السلطة الكاريزمية‪.‬‬
‫‪ ‬والسبب الثالث هو االحتكام إلى الشرعية‪ .‬وحييلنـا هـذا علـى السـلطة الشـرعية‬
‫العقالنيـ ــة الـ ــيت تقـ ــوم علـ ــى األسـ ــس التاليـ ــة‪ :‬الليرباليـ ــة‪ ،‬واالنتخـ ــا ‪ ،‬واالسـ ــتحقاق‪،‬‬
‫والعقالنية‪ ،‬والشرعية‪ ،‬والبريوقراطية‪ ،‬واحمام األدوار والوظالف‪ ،‬كمـا يظهـر ذلـك بينـا‬
‫يف اجملتمعات احلديثة‪.‬‬
‫االحتكام إلى الشرعية‬ ‫االحتكام إلى قدرات‬ ‫االحتكام إلى الماضي‬
‫الشخصية الخارقة‬
‫السلطة الشرعية‬ ‫السلطة الكاريزمية‬ ‫السلطة التقليدية‬
‫العقالنية‬

‫‪141‬‬
‫واان‪ ،‬نـورد قولـة مـاكس فيـرب الـيت يوضـح فيهـا هـذه األفكـار‪" :‬إن الدولـة‪ ،‬مثـل كـل‬
‫التجمعــات السياســية الــيت ســبقتها تارخيي ـاً‪ ،‬تكمــن يف عالقــة ســيادة االنســان علــى‬
‫االنســان‪ ،‬مبنيــة علــى وســيلة العنــف املشــروع ‪ -‬أي العنــف املعتــرب شــرعياً ‪ ،-‬اذ ال‬
‫ميكن " للدولة " أن توجـد إال بشـرط خضـوع الرجـال املسـودين للسـلطة الـيت يطالـب‬
‫هبـا األسـياد‪ ،‬وعنـدها تطـرو األسـئلة التاليـة نفسـها علـى بسـاط البحـث‪:‬ألي شـروط‬
‫خيضعون؟وملاذا؟ وعلى أية تربيرات داخلية‪ ،‬أو وسالل خارجية تستند هذه السيطرة؟‬
‫مب ــدلياً‪ ،‬هن ــات ثالث ــة أس ــبا داخلي ــة ت ــربر الس ــيطرة‪ ،‬وم ــن مث هن ــات ثالث ــة أس ــس‬
‫للشــرعية‪ ،‬أوالً‪ :‬نفــوذ " األمــس األزيل "‪ .‬أي‪ :‬نفــوذ التقاليــد املقدســة بصــالحيتها‬
‫العريقـة‪ ،‬وبعـادة احمامهـا املتجـذرة يف االنسـان‪ .‬هـذه هـي " السـلطة التقليديـة " الـيت‬
‫كــان البطريــك " الشــيخ " أو الســيد االقطــاعي ميارســاهنا فيمــا مضــى‪ .‬وبالدرج ــة‬
‫الثانيــة‪ :‬النفــوذ املبــين علــى الســحر الشخصــي والفــالق لفــرد مــا‪ ،‬نفــوذ حيظــى بثقــتهم‬
‫بشخصه نظرا ملا يتفرد به مـن صـفات خارقـة كالبطولـة أو مبيـيات أخـرى مثاليـة جتعـل‬
‫منــه زعيمـاً‪ .‬هــذه هــي الســلطة الكارزميــة الــيت كــان النــيب ميارســها‪ ،‬أو ميارســها ‪ -‬يف‬
‫اجمل ـال السياســي ‪ -‬الــيعيم احلــييب املنتخــب أو الــدمياغوجي الكبــري أو زعــيم حــي‬
‫سياسي‪ .‬هنـات أخـرياً السـلطة الثالثـة الـيت تفـرض نفسـها بفضـل " الشـرعية "‪ ،‬بفضـل‬
‫االميــان بصــالحية وضــع شــرعي وكفــاءة اجيابيــة مبنيــة علــى قواعــد عقالنيــة قالمــة‪.‬‬
‫وبتعــابري أخــرى‪ :‬الســلطة املبنيــة علــى الطاعــة الــيت تــتدي الواجبــات املطابقــة للوضــع‬
‫القالم‪.‬‬
‫هذه هي السلطة كما ميارسـها " خـادم " الدولةاحلديثـة‪ ،‬وكـذلك كـل الـذين ميسـكون‬
‫بيمام السلطة إىل جانبه"‪.068‬‬

‫‪ - 068‬ماكس فيرب‪ :‬رجل العلم ورجل السياسة‪ ،‬تر ة‪ :‬نادر ذكرى‪ ،‬عن الفلسفة احلديثة‪ ،‬لعبد السالم‬
‫بنعبد العايل وحممد سبيال‪ ،‬دار األمان‪ ،‬الرباط‪ ،‬املغر ‪ ،‬الطبعة األوىل سنة ‪0880‬م‪ ،‬ص‪.278:‬‬

‫‪141‬‬
‫ويعين هذا كله أن أمناط األفعال حتيلنا إىل منط آخر من أشكال السلطة واهليمنة‬
‫السياسية اليت تتمثل يف األنواع التالية‪:‬‬
‫‪ ‬الهيمنة التقليدية‪ :‬تنبين على شرعية احلاكم التقليدي الذي حيمم العادات‬
‫واألعراف والتقاليد أثناء ممارسة سلطته السياسية‪ ،‬مثل‪ :‬السلطة األبوية يف اجملتمعات‬
‫األبيسية‪ ،‬وسلطة األسياد يف اجملتمع اإلقطاعي‪.‬‬
‫‪ ‬الهيمنة الكاريزمية‪ :‬تنبين على هيبة الشخص احلاكم وصورته وصفاته‬
‫اخلارقة(نابليون واملسيح‪ -‬مثال‪.)-‬‬
‫‪ ‬الهيمنة الشرعية القانونية‪ :‬تتمثل يف مدى احمام احلاكم لسلطة القوانني‪،‬‬
‫ووصوله إىل احلكم عن جدارة واستحقاق‪ ،‬مثل‪ :‬السلطة يف التنظيمات السياسية‬
‫الغربية احلديثة واملعاصرة‪.‬‬
‫طبعا‪ ،‬يدافع ماكس فيرب عن الفعل العقال اهلادف‪ ،‬واهليمنة الشرعية القانونية‪،‬‬
‫ومها أساس الليربالية البريوقراطية العاقلة والراشدة‪ .‬ويف هذا الصدد‪ ،‬يقول ماكس‬
‫فيرب‪ ":‬يتطلع كل علم إىل احلقيقة‪.‬واحلقيقة اليت يتطلع إليها العلم تكون إما عقالنية‬
‫ورياضية ومنطقية‪ ،‬وإما العقالنية شعورية‪.‬واحلقيقة العقالنية‪ ،‬يف النشاط والفعل‪،‬‬
‫هي‪ ،‬قبل كل شيء‪ ،‬فكرية وواضحة ومتام الوضوو(‪ .)2= 2+2‬وأما احلقيقة‬
‫الالعقالنية والشعورية‪ ،‬يف النشاط والفعل‪ ،‬فهي‪ ،‬قبل كل شيء‪ ،‬وجدانية‪...‬‬
‫إن الطريقة العلمية الفعالة لفهم العقالنية السلوت الشعورية‪ ،‬تقوم على‬
‫اعتبارالالعقالنية جمرد احنراف عن عقالنية السلوت اخلالصة‪.‬إن بناء العقالنية‬
‫اخلالصة ميثل منطا (‪ )Type‬يوضع بتصرف عام االجتماع‪ ،‬هبدف فهم حقيقة‬

‫‪142‬‬
‫النشاط والفعل اجملتمعي الذي تفعل فيه العقالنيات من كل األنواع‬
‫واألشكال‪"062.‬‬
‫وعليه‪ ،‬يرتبط الفعل العقال بالشرعية القانونية والنظام البريوقراطي‪ .‬وهذه هي‬
‫األسس احلقيقية لليربالية الرأمسالية املتقدمة وامليدهرة حسب ماكس فيرب‪.‬‬

‫المبحث الثامن‪ :‬ماكس فيبر وسوسيولوجيا اإلدارة‬


‫يعد ماكس فيرب من متسسي علم اإلدارة احلديثة‪ ،‬وقد حتدث كثريا عن جمموعة من‬
‫املفاهيم اإلدارية والتنظيمية‪ ،‬مثل‪ :‬السلطة‪ ،‬والشرعية‪ ،‬والبريوقراطية‪ ،‬واهلرمية اإلدارية‪،‬‬
‫ومبدإ الكفاءة‪...‬ومن مث‪ ،‬فقد أدىل بتصورات مهمة حول التنظيم واملنظمات‪.‬‬
‫وبذلك‪ " ،‬قدم فيرب أول تفسري منهجي لنشأة املنظمات احلديثة‪ .‬فهو يعتربها سبيال‬
‫لتنسيق أنشطة البشر وما ينتجونه من سلع بأسلو مستقر ومستمر عرب اليمان‬
‫واملكان‪.‬وأكد فيرب أن منو املنظمات يعتمد على السيطرة على املعلومات‪ ،‬وشدد‬
‫على األمهية املركيية للكتابة يف هذه العملية‪ :‬فاملنظمة‪ ،‬يف رأيه‪ ،‬حتتاج إىل تدوين‬
‫القواعد والقوانني اليت تستهدي هبا ألداء عملها‪ ،‬مثلما حتتاج إىل ملفات ختتيل فيها‬
‫ذاكرهتا‪.‬ورأى فيرب أن املنظمات تتميي بطبيعتها بنظام تراتيب ومراتيب يف الوقت نفسه‬
‫‪061‬‬
‫مع تركي السلطة يف مستوياته العليا‪".‬‬

‫‪164‬‬
‫‪- Max Weber: Economie et société, introduction de‬‬
‫‪Hinnerk Bruhns, traduction par Catherine Colliot-Thélène et‬‬
‫‪Françoise Laroche, La Découverte, 1998, p:6.‬‬
‫‪ - 061‬أنتو غدني‪ :‬علم االجتماع‪ ،‬ص‪.213:‬‬

‫‪143‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬البد من التوقف عند مفهوم إداري مهم‪ ،‬بالشرو والتوضيح والتحليل‪،‬‬
‫وهو مفهوم البريوقراطية‪ .‬إذاً‪ ،‬ما معىن البريوقراطية؟ وإىل أي مدى تعد أساس‬
‫احلداثة العقالنية؟ وما سلبياهتا؟‬
‫تعــين كلمــة البريوقراطيــة املكتــب أو املــوظفني اجلالســني إىل مكــاتبهم لتأديــة خــدمات‬
‫عامة‪ .‬ولقد ظهرت البريوقراطية يف القرن السابع عشر لتدل على املكاتب احلكومية‪،‬‬
‫وقد استعمل املصطلح من قبل الكاتب الفرنسي ديغورنيةه سـنة ‪0721‬م الـذي ـع‬
‫بــني مقطعــني مهــا‪ :‬بــريو الــذي يعــين املكتــب‪ ،‬وكراتيــا الــذي يعــين احلكــم‪ .‬وبعــد ذلــك‪،‬‬
‫أطلقــت البريوقراطيــة علــى كــل مرافــق الدولــة مــن مــدارس‪ ،‬ومستشــفيات‪ ،‬وجامعــات‪،‬‬
‫ومتسس ـ ــات رمسي ـ ــة‪...‬كما ت ـ ــدل كلم ـ ــة البريوقراطي ـ ــة عل ـ ــى الق ـ ــوة والس ـ ــلطة والنف ـ ــوذ‬
‫والس ــيادة‪ .‬وق ــد ظه ــرت البريوقراطي ــة لتنظ ــيم العم ــل وتس ــهيله وال ــتحكم فيه ــا برجم ــة‬
‫وختطيط ـ ــا وت ـ ــدبريا وتوجيه ـ ــا وقي ـ ــادة وإشـ ـ ـرافا وتقومي ـ ــا‪ .‬والبريوقراطي ـ ــة نت ـ ــاج للرأمسالي ـ ــة‬
‫والعقالنية واحلداثة الغربية‪ ،‬ونتاج لتقسيم العمل وتنظيمه إداريا‪.‬‬
‫وميكن احلديث عن مواقف ثالثة إزاء البريوقراطية‪:‬‬
‫‪ ‬موقف سلبي‪ :‬مفاده أن البريوقراطية تنظيم إداري روتيين ومعقـد وبطـيء يف أداء‬
‫اخلدمات العامة؛ مما دفع بليات إىل القول بـأن البريوقراطيـة هـي" السـلطة الكـربى الـيت‬
‫ميارسها األقيام"‪066‬؛‬
‫‪ ‬موقف إيجةابي‪ :‬ينظـر إىل البريوقراطيـة نظريـة متميـية‪ ،‬علـى أسـاس أهنـا طريقـة يف‬
‫تنظيم العمل وتدبريه وفق خطة عقالنيـة هادفـة‪.‬ومـن مث‪ ،‬فهـي منـوذج للحـرص والدقـة‬
‫والكفاءة والفعالية اإلدارية‪ ،‬مادام هنات احتكـام إىل التعليمـات واألوامـر واإلجـراءات‬
‫التنظيمية الصارمة‪067‬؛‬

‫‪- 066‬أنتو غيدني‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.218:‬‬


‫‪ - 067‬أنتو غيدني‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.218:‬‬

‫‪144‬‬
‫‪ ‬موق ةةف وس ةةط واعتةةةدال‪ :‬وميثل ــه م ــاكس في ــرب‪ ،‬إذ ذك ــر إجيابي ــات البريوقراطي ــة‬
‫وس ــلبياهتا يف الوق ــت نفس ــه‪ .‬ويتخ ــوف أن حتي ــد البريوقراطي ــة ع ــن أه ــدافها احلقيقي ــة‪،‬‬
‫فتصبح أسلوبا ملمارسة القوة والتسلط والرقابة‪.‬‬
‫و اليــوم‪ ،‬ينظــر كثــري مــن النــاس إىل البريوقراطيــة نظــرة ســلبية؛ ألهنــا حتيــل علــى الــبطء‬
‫والـروتني والفسـاد اإلداري‪ ،‬وتعقيــد اإلجـراءات الشـكلية واملســاطر اإلداريـة‪ .‬يف حــني‪،‬‬
‫يعتربها ماكس فيرب أساس العقالنية والتقدم واالزدهـار الرأمسـايل احلـديث‪ .‬ويعـين هـذا‬
‫أن ماكس فيرب يدافع عن البريوقراطية الـيت تقـوم علـى الشـرعية‪ ،‬والعقالنيـة‪ ،‬واحلداثـة‪،‬‬
‫والكفاءة املهنية واحلرفية والعلمية‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬فقد وضـع فيـرب منوذجـا " حيـدد مفهومـا مثاليـا للبريقراطيـة يتفـق مـع التوجهـات‬
‫ال ــيت كان ــت س ــالدة يف عص ــره‪ ،‬وق ــد أص ــبح ه ــذا النظ ــام م ــن أكث ــر األنظم ــة اإلداري ــة‬
‫الشالعة بعد الثورة الصناعية‪ ،‬فكان البد من وجـود نظـام إداري يسـتطيع التعامـل مـع‬
‫التوسـ ــع اهلالـ ــل يف اإلنتـ ــاج الصـ ــناعي‪ ،‬ومـ ــا جنـ ــم عنـ ــه مـ ــن تضـ ــخيم يف املتسسـ ــات‬
‫االقتصادية والصناعية واالجتماعية‪ ،‬ومارافق ذلك من تعقيد يف احلياة البشرية‪ ،‬وتبني‬
‫أنه من الصعوبة مبكان أن يستطيع شخص واحـد القيـام بأعمـال متعـددة ومعقـدة يف‬
‫آن واحد‪ ،‬وهذا كان من املربرات اليت دفعت فيرب إىل البحث عن تنظيم إداري قـادر‬
‫علـ ــى ضـ ــبط ومراقبـ ــة املهمـ ــات الصـ ــناعية املختلفـ ــة‪ ،‬فقـ ــام بتحديـ ــد املهـ ــام واألدوار‬
‫والص ــالحيات لك ــل ش ــخص ض ــمن نظ ــام هرم ــي‪ ،‬حبي ــث يك ــون الف ــرد ض ــمن ه ــذا‬
‫التنظــيم تابعــا ل ـرليس واحــد‪ ،‬ويتبعــه يف الوقــت نفســه جمموعــة مــن املرؤوســني‪ ،‬وحــدد‬
‫فيـ ــرب مهـ ــام وصـ ــالحيات وأدوار املرؤوسـ ــني بدقـ ــة ضـ ــمن ل ـ ـوالح وإج ـ ـراءات وقواعـ ــد‬
‫مكتوبـ ــة‪ ،‬وبـ ــذلك تـ ــتحكم يف سـ ــلوت اجلماع ــة البريوقراطيـ ــة جمموعـ ــة ض ـ ـوابط مقننـ ــة‬
‫‪063‬‬
‫جامدة‪".‬‬

‫‪ - 063‬إبراهيم بن عبد العييي الدعيلج‪ :‬اإلدارة حقائق تتجدد‪ ،‬مكة املكرمة‪ ،‬اململكة العربية السعودية‪،‬‬
‫الطبعة األوىل سنة ‪2102‬م‪ ،‬ص‪.32:‬‬

‫‪145‬‬
‫ومن مث‪ ،‬تقوم البريوقراطية على العالقـات السـلطوية‪ ،‬واحـمام جمموعـة مـن اإلجـراءات‬
‫والقواعـد الرمسيـة والتنظيميـة الـيت تــتحكم يف العمـل‪ ،‬ومراعـاة السـلم اإلداري‪ ،‬واألخــذ‬
‫بالماتبي ــة اإلداري ــة اهلرمي ــة (اهلريارش ــية) م ــن ال ـ ـرليس إىل امل ــرؤوس‪ ،‬أو م ــن القمـ ــة إىل‬
‫القاعــدة (البنيــة الطويلــة أو الســطحية)‪ ،‬أو مــن املركــي إىل غــري املركــي‪ ،‬واالحتكــام إىل‬
‫اخل ــربة والكف ــاءة واالس ــتحقاق‪ ،‬دون اللج ــوء إىل العالق ــات اإلنس ــانية والشخص ــية‪.‬‬
‫أضــف إىل ذلــك األخــذ باملســتويات اإلداريــة (العليــا‪ ،‬والوســطى‪ ،‬والــدنيا)‪ ،‬واح ـمام‬
‫التسلس ــل اإلداري‪ ،‬وه ــذا كل ــه م ــن أج ــل خدم ــة املص ــلحة العام ــة‪ ،‬وجتوي ــد املن ــتج‪،‬‬
‫وحتســني األداء وتنظيمــه كمــا وكيفــا‪ .‬ويعــين هــذا أن البريوقراطيــة وجــدت مــن أجــل"‬
‫تسـ ـريع العم ــل وتقلي ــل األخط ــاء والدق ــة يف اإلجن ــاز واحملافظ ــة عل ــى حق ــوق املوظ ــف‬
‫والصــاحل العــام‪ ،‬وليســت بــالعكس‪ ،‬كمــا أصــبح حيــدث يف أكثــر األحيــان علــى أرض‬
‫الواقــع‪ ،‬حبيــث إننــا نالحــظ إف ـرازات ســلبية‪ ،‬إســاءات للبريوقراطيــة‪ ،‬واألهــم مــن ذلــك‬
‫أهن ــا أث ــرت عل ــى الن ــاس يف ض ــوء التعقي ــد ال ــذي يلقون ــه‪ .‬وإن رب ــط التعقي ــد بالقط ــاع‬
‫احلكــومي بشــكل أكــرب مــن القطــاع اخلــاص صــحيح‪ ،‬هــذا واقــع ألن القطــاع اخلــاص‬
‫حيــرص فيــه صــاحب املتسســة اخلاصــة علــى عملــه‪ ،‬ألنــه حيقــق هــدفا رحبيــا وأحيانــا‬
‫س ـريعا‪ ،‬وهــو حــارس دالــم وقــالم علــى عملــه وموظفيــه بــاحلوافي وباحلســم إذا احتــاج‬
‫لـ ـذلك‪ ،‬ولك ــن احل ــارس اإلداري يف القط ــاع احلك ــومي لدي ــه أولوي ــات ختتل ــف بع ــض‬
‫الشــيء‪ ،‬والرقابــة كــذلك ختتلــف بســبب اتســاع القطــاع احلكــومي وحجمــه ومقيــاس‬
‫اإلنتاج وربطه باحلوافي‪ ،‬وكما أن التقومي بشكل خمطط وواضح شبه غالـب يف قطاعنـا‬
‫‪068‬‬
‫احلكومي‪".‬‬
‫وعليــه‪ ،‬يعــد مــاكس فيــرب رالــد األســلو البريوقراطــي‪ ،‬حيــث ربطــه بالســلطة العقالنيــة‬
‫الشرعية املنظمة من جهة‪ ،‬واهلريارشية اهلرمية من القمة إىل القاعدة من جهـة أخـرى؛‬
‫ملا هلا مـن فوالـد عمليـة يف رفـع اإلنتـاج واملردوديـة الكميـة والكيفيـة‪ ،‬وحتقيـق الفاعليـة‪،‬‬

‫‪ - 068‬إبراهيم بن عبد العييي الدعيلج‪ :‬اإلدارة حقائق تتجدد‪،‬ص‪.36:‬‬

‫‪146‬‬
‫واح ـمام الل ـوالح القانوني ــة والتنظيمي ــة غ ــري اخلاض ــعة مل ـياج ال ـرليس أو امل ــدبر اإلداري‪،‬‬
‫عالوة على وحدة األمر‪ ،‬ونطاق اإلشراف‪ ،‬ومبدأ التدرج اهلرمي‪...‬‬
‫واليعين هذا أن البريوقراطية مفهوم حديث العهد‪ ،‬بل عرفته الشعو القدمية‬
‫كذلك‪ .‬ويف هذا الصدد‪ ،‬يقول أنتو جيدني‪ ":‬يعتقد فيرب أن بعض أنواع التنظيم‬
‫البريوقراطي قد نشأت وتطورت يف احلضارات التقليدية القدمية‪ .‬فاملستول‬
‫البريوقراطي يف الصني القدمية هو الذي كان يتوىل مستولية إدارة شتون احلكومة‪،‬‬
‫غري أن البريوقراطية م تتطور وتكتمل إال يف العصور احلديثة باعتبارها تشكل احملور‬
‫الرليسي لمشيد وعقلنة اجملتمع‪.‬وقد ترت هذا المشيد وتلك العقلنة آثارمها يف يع‬
‫جوانب احلياة مبا فيها العلوم والمبية واحلكم‪.‬وبدال من أن يعتمد الناس على‬
‫املعتقدات والعادات التقليدية اليت درجوا عليها‪ ،‬فقد بدأ الناس يف العصور احلديثة‬
‫يتخذون قرارات عقالنية تستهدف حتقيق أهداف وأغراض واضحة‪ ،‬وراحوا خيتارون‬
‫السبل األكثر كفاءة للوصول إىل نتالج حمددة ألنشطتهم‪.‬‬
‫م يكن مثة مناص‪ ،‬يف نظر فيرب‪ ،‬من انتشار البريوقراطية يف اجملتمعات احلديثة‪،‬‬
‫فالسلطة البريوقراطية هي األسلو الوحيد للتعامل مع املتطلبات اإلدارية واألنساق‬
‫االجتماعية‪.‬ومع تيايد التعقد يف املهمات والواجبات غدا من الضروري تطوير أنظمة‬
‫الضبط والسيطرة واإلدارة ملعاجلتها‪.‬من هنا‪ ،‬فقد نشأت البريوقراطية باعتبارها‬
‫االستجابة األرشد واألكفأ لتلبية هذه االحتياجات‪.‬غري أن فيرب نبه إىل كثري من‬
‫جوانب القصور واإلعاقة اليت حيملها التنظيم البريوقراطي‪".071‬‬
‫ولتحديد البريوقراطية بشكل دقيق‪ ،‬التجأ ماكس فيرب إىل رسم منوذج مثايل حيدد‬
‫مواصفات البريوقراطية األساسية واجلوهرية‪ ،‬ويستجلي مساهتا ومكوناهتا الشكلية يف‬
‫النقط التالية‪:‬‬

‫‪ - 071‬أنطو غيدني‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.201-218:‬‬

‫‪147‬‬
‫‪ ‬توزيع السلطة في شكل تراتبية هرمية ومراتب واضحة‪ .‬ويعين هذا أن اإلدارة‬
‫عبارة عن شجرة مبجموعة من الفروع واملكاتب والرتب‪ .‬ومن مث‪ ،‬فهنات سلطة عليا‬
‫تقوم مبهمة إصدار القرارات واألوامر من القمة العليا إىل القاعدة الدنيا‪ .‬وتكون‬
‫تلك األوامر عبارة عن مهام وأداءات ينبغي تنفيذها من قبل الذين يوجدون يف‬
‫الرتب الدنيا أو املكاتب الفرعية‪ .‬وبتعبري آخر‪ ،‬هنات سلطة مركيية تصدر األحكام‬
‫والقرارات‪ ،‬وتوزع األعمال واملهام على املرؤوسني لتنفيذها بشكل تراتيب وهرمي‪.‬‬
‫‪ ‬خضوع اإلدارة البيروقرايية للقوانين المكتوبة والتعليمات على جميع‬
‫المستويات واألصعدة‪ .‬مبعىن أن اإلدارة تلتيم وتتقيد مبجموعة من التشريعات‬
‫والقوانني الداخلية أو اخلارجية على مستوى التدبري والتسيري والقيادة واإلشراف؛ مما‬
‫جيعل هذه اإلدارة تشتغل برتابة وروتني وبطء‪ .‬ويستليم هذا نوعا من املرونة يف‬
‫التسيري والقيادة وإصدار القرارات املناسبة‪.‬‬
‫‪ ‬يعمل الموظفون في إيار البيروقرايية بدوام كامل‪ ،‬مع تقاض أجر‬
‫وتعويضات عن العمل‪ .‬ويعين هذا أن املوظف مرتبط بأوقات عمل حمددة‬
‫قانويا‪.‬مث‪ ،‬حيصل على أجر مقابل ذلك العمل‪ .‬ويتحدد األجر أو التعويضات‬
‫حسب األقدمية أو الكفاءة واالستحقاق‪.‬‬
‫‪ ‬الفصل التام بين عمل المسؤول وحياته خارجيا‪ .‬ويعين هذا أن املستول‬
‫البريوقراطي يفصل بني العمل وحياته الشخصية‪ ،‬فال ينبغي أن خيلط بينهما‪.‬‬
‫‪ ‬إن الموظفين في التنظيمات البيروقرايية اليملكون الموارد المادية‬
‫والمالية المتاحة‪ ،‬بل يجدونها عند الدولة أو عند مالكي وسائل اإلنتاج‪ .‬ويعين‬
‫هذا أن" منو البريقراطية‪ ،‬على ما يرى فيرب‪ ،‬تفصل بني العاملني من جهة والسيطرة‬
‫على وسالل اإلنتاج‪ .‬ففي اجملتمعات التقليدية‪ ،‬يسيطر امليارعون والصناع يف العادة‬
‫على عمليات اإلنتاج وميتلكون األدوات اليت يستخدموهنا‪.‬أما يف التنظيمات‬

‫‪148‬‬
‫البريوقراطية‪ ،‬ف ن املواطنني الميتلكون املكاتب اليت يعملون فيها والما يستخدمونه‬
‫‪070‬‬
‫من معدات وجتهييات‪".‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬فالبريوقراطية أساس احلداثة املقتدمة‪ ،‬وأساس الدولة املنظمة الراشدة اليت‬
‫تتمن بالعقالنية‪ .‬وقد " كان فيرب يعتقد أن اقما املنظمة من النموذج املثال‬
‫للبريوقراطية جيعلها أكثر كفاءة يف مساعيها للوصول إىل األهداف اليت قامت من‬
‫أجلها أساسا‪.‬كما أنه كان يرى أن البريوقراطية تتفوق من الوجهة الفنية والتقنية‬
‫على أشكال التنظيم األخرى كافة‪ .‬وكثريا ما أشار إىل البريوقراطية بوصفها باملاكنة‬
‫املتقدمة؛ فالبريوقراطية هي اليت ترتقي باملهارات إىل حدودها القصوى‪ ،‬وتشدد على‬
‫‪072‬‬
‫الدقة والسرعة يف إجناز املهمات احملددة‪".‬‬
‫بيد أن النظرية البريوقراطية قد حتد من الطاقات اإلبداعية املوجودة لدى املوظفني‪،‬‬
‫وجتعلهم مثل روبوتات آلية‪ ،‬تتحكم فيهم عالقات ميكانيكية من األعلى حنو‬
‫األسفل‪ .‬كما أن العالقات اليت جتمع بني أعضاء التنظيم هي عالقات رمسية وإدارية‬
‫أكثر مما هي عالقات إنسانية‪ .‬ويعين هذا أن أسلو البريقراطية اليراعي اجلوانب‬
‫النفسية واإلنسانية لدى املوظف‪ .‬كما تغيب روو املبادرة يف هذا التصور اإلداري‪،‬‬
‫فمن األفضل تطبيق املقاربة التشاركية‪ ،‬وحتفيي املوظف ماديا ومعنويا‪ ،‬مث ترقيته على‬
‫أساس املبادرة والقدرات الكفالية‪ ،‬ومراعاة العالقات اإلنسانية اليت تتحكم يف العمل‬
‫اإلداري‪ .‬وميكن‪ ،‬أن ينتج عن تعدد املكاتب واللجان اإلدارية تعقيد يف املساطر‬
‫اإلدارية‪ ،‬وتباطت يف تنفيذها‪ .‬يف حني‪ ،‬تطالب اإلدارة باملرونة واليسر ملنافسة‬
‫اإلدارات األخرى‪ ،‬والسيما اإلدارة ذات التوجه اخلصوصي‪ .‬ويف هذا الصدد‪ ،‬يقول‬
‫أنتو غيدني‪ ":‬إن فيرب يف حتليله للبريوقراطية قد أوىل اهتمامه الرليسي للعالقات‬
‫الرمسية اليت حتددها القواعد واألنظمة الداخلية يف املتسسة‪ ،‬غري أنه م يتحدث عن‬

‫‪ - 070‬أنوتو غيدني ‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.200-201:‬‬


‫‪ - 072‬أنتو غيدني‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.200:‬‬

‫‪149‬‬
‫الروابط الشخصية والعالقات اليت تدور يف نطاق ضيق بني اجلماعات يف يع‬
‫املنظمات‪.‬وتبني لنا من دراسات موسعة األساليب غري الرمسية ألنشطة املنظمات‬
‫تتيح جماال واسعا للمرونة وتفسح الفرصة لتحقيق غايات املتسسة بطرالق أخرى‪.‬‬
‫ويف مقدمة الدراسات املرجعية اليت تناولت العالقات غري الرمسية تلك اليت أجراها‬
‫بيم بلو (‪ )Blau1963‬يف إحدى الدوالر احلكومية املختصة بتقصي املخالفات‬
‫واالنتهاكات لقوانني ضريبة الدخل‪ .‬ففي هذه الدالرة‪ ،‬كان على املوظفني والعاملني‬
‫أن يناقشوا مثل هذه املخالفات أو األمر مع رؤسالهم واملشرفني عليهم ويتجنبوا‬
‫استشارة زماللهم الذين مياثلوهنم يف املرتبة الوظيفية‪ .‬غري أن هتالء كانوا يتحاشون‬
‫الرجوع إىل رؤسالهم يف مثل هذه القضايا خشية أن يفسر ذلك باعتباره دليال على‬
‫عدم كفاءهتم‪ ،‬ويقلل بالتايل من فرص ترقيتهم إىل مرتبة أعلى‪ .‬ومن هنا‪ ،‬فقد درجوا‬
‫على التشاور بني بعضهم البعض وخمالفة التعليمات الرمسية هبذا الصدد‪ .‬وم يقتصر‬
‫تصرفهم هذا على متكينهم من تقدمي حلول عملية ملموسة ومباشرة لتلك القضايا‪،‬‬
‫بل إنه خفف من املخاوف اليت كانت تنتاهبم من جراء العمل بصورة منفردة ومبعيل‬
‫عن ااخرين‪.‬وكان من نتالج ذلك أن نشأت وتعيزت فيما بينهم منظومة متماسكة‬
‫من الوالءات على املستوى األويل للجماعات البشرية العاملة يف املرتبة الوظيفية‬
‫نفسها‪ ،‬ورمبا كانت األساليب اليت انتهجها هتالء يف معاجلة القضايا واملشكالت‬
‫اليت واجهوها أكثر كفاءة وأسرع إجنازا‪.‬فقد استطاعت اجملموعة أن تنمي بني‬
‫أعضالها سلسلة من اإلجراءات غري الرمسية تتفوق على القواعد الرمسية للمنظمة يف‬
‫‪078‬‬
‫إذكاء روو املبادرة واإلحساس باملستولية بني العاملني‪".‬‬
‫ومن جهة أخرى‪ ،‬يرى روبرت مريتون أن البريوقراطية أسلو إداري رتيب ومعيق‬
‫للتطور واملنافسة والتقدم يف العمل‪ ،‬على أساس أن هذا األسلو يلحق الضرر‬
‫باملتسسة عاجال أو اجال‪ .‬ويف هذا‪ ،‬يقول أنتويت غيدني‪ ":‬ووضع عام االجتماع‬

‫‪ - 078‬أنتو غيدني‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.202-200:‬‬

‫‪151‬‬
‫األمريكي روبرت مريتون (‪ )Robert Merton1957‬دراسة موسعة عن‬
‫النموذج املثال الذي طرحه فيرب عن املنظمة البريوقراطية‪ .‬وبني هذا الباحث‪ ،‬وهو‬
‫من كبار الباحثني يف املدرسة الوظيفية‪ ،‬أن البريوقراطية تنطوي على كثري من جوانب‬
‫القصور والعناصر اليت قد تفضي إىل إحلاق الضرر حىت يف نشاط املتسسة‬
‫نفسها‪.‬ومن مآخذ مريتون على البريوقراطية أن موظفيها البريوقراطيني يدربون على‬
‫االلتيام املتشدد بالقواعد واإلجراءات املكتوبة اليت التمت هلم جماال للمرونة يف‬
‫إصدار األحكام واختاذ القرارات‪ ،‬أو السعي إىل حلول وإجابات مبتكرة ملعاجلة‬
‫القضايا واملشكالت‪ .‬وقد يتدي ذلك إىل تصلب ما يسمى الطقوس البريوقراطية‬
‫اليت تعلو فيها القواعد والقوانني على كل ماعداها من األمور واحللول احملتملة‪ .‬كما‬
‫أن االلتيام املتيمت هبذه القواعد رمبا خيفي أو يبدد األهداف الفعلية للمنظمة‬
‫ويصبح غاية حبد ذاته‪ ،‬وحيجب عن البصر الصورة الكلية ألنشطة املتسسة‪ .‬وتوقع‬
‫روبرت مريتون نشوء حالة من التوتر والتناقض بني املتسسات البريوقراطية‪ ،‬والسيما‬
‫احلكومية والعامة منها من جهة و اهريها العريضة من جهة أخرى‪ ،‬ألن انشغال‬
‫املستوليسن البريوقراطيني بأداء مهماهتم وفق الروتني اليومي الذي درجوا عليه قد‬
‫‪072‬‬
‫خيلق فجوة بينهم وبني مصاحل الناس واهتماماهتم واحتياجاهتم الفعلية‪".‬‬
‫ويرى مشيل فوكو أن البريوقراطية تعين السيطرة على اليمان واملكان‪ ،‬وأداة ملراقبة‬
‫األجساد والتنصت عليها مبختلف الوسالل واألجهية‪ .‬واليتعلق هذا بدول املستبدة‬
‫فحسب‪ ،‬بل يتعدى ذلك إىل الدول الدميقراطية ككندا مثال‪ .‬ويرى فوكو أن اإلدارة‬
‫رمي للقوة والسلطة والماتبية االجتماعية‪ ".‬فاملكاتب والرتب اليت وصفها فيرب بصورة‬
‫جمردة تتخذ هنا أشكاال معمارية‪ ،‬بل إن املبا اليت تضم الشركات الكربى تنظم‬
‫بصورة عامة تنظيما عموديا تكون فيه الطوابق العلوية خمصصة لذوي السلطة والقوة‬
‫األعلى يف املنظمة‪ .‬وكلما اقم مكتب املوظف من قمة املبىن‪ ،‬ازدادت داللل‬

‫‪ - 072‬أنتو غيدني‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.202-208:‬‬

‫‪151‬‬
‫اقمابه من عملها‪ ،‬والسيما يف احلاالت اليت يعتمد فيها النسق التنظيمي على‬
‫العالقات غري الرمسية‪ .‬إن القر الفيييقي ييسر التفاعل والتواصل ين اجلماعات‬
‫األولية بينما يتدي البعد املادي إىل استقطا اجملموعات ووضع خطوط فاصلة بني‬
‫" هم" و" حنن"‪ ،‬كما يتدي إىل التباعد بني دوالر املتسسة وأقسامها‪ .‬التستطيع‬
‫املنظمات أن تعمل بكفاءة إذا كانت أنشطة العاملني فيها متداخلة على حنو‬
‫عشوالي‪ .‬ففي الشركات التجارية‪ ،‬كما أوضح فيرب‪ ،‬تتوقع من الناس أن يعملوا‬
‫ساعات منتظمة‪ ،‬كما ينبغي التنسيق بني األشطة‪ ،‬من الوجهتني اليمانية واملكانية‪،‬‬
‫وذلك ما يتحقق إىل حد بعيد عن طريق التقسيم املادي ألماكن العمل من جهة‪،‬‬
‫وتنظيم اجلداول اليمنية ألداء املهمات‪ .‬ومن شأن ذلك‪ ،‬كا يرى فوكو‪ ،‬توزيع‬
‫األجسام؛ أي الناس بطريقة جتتمع فيها الكفاءة والفعالية‪ ،‬وبغري هذه المتيبات‬
‫تدخل األنشطة اإلنسانية حالة من الفوضى املطبقة‪ .‬إن ترتيبات الغرف والقاعات‬
‫والفضاءات املفتوحة يف املبىن الذي تشغله املنظمة تعطينا متشرات أساسية عن‬
‫األسلو الذي يعمل به نظام السلطة والقوة‪" 071.‬‬
‫وإذا كان األسلو البريوقراطي يتسم باالستخدام السيء ملعيار التخصص؛‬
‫واالستخدام السيء لإلجراءات الروتينية؛ واالستخدام اخلاطىء للتسلسل الرلاسي؛‬
‫واالستخدام احلريف لألنظمة وااللتيام اجلامد باللوالح والتعليمات‪ ،‬ف ن البريوقراطية‬
‫الفيبريية تتميي مبجموعة من املواصفات واملقومات األساسية وهي‪ :‬العقالنية‪،‬‬
‫والعمل اهلادف‪ ،‬والتخصص‪ ،‬والماتبية‪ ،‬والتسلسل اإلداري‪ ،‬واملراقبة‪ ،‬والكفاءة‪،‬‬
‫والتحفيي‪ ،‬وتنظيم العمل‪ ،‬واتباع الرمسيات‪ ،‬والتأثري القانو ‪ ،‬ووحدة السلطة والقرار‬
‫‪076‬‬
‫(وحدة األمر)‪ ،‬والسلطة املركيية‪ ،‬ونطاق اإلشراف‪ ،‬ومبدأ المدج اهلرمي‪..‬‬

‫‪ - 071‬أنتو غيدني‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.206:‬‬


‫‪ - 076‬إبراهيم بن عبد العييي الدعيلج‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.80-33:‬‬

‫‪152‬‬
‫وعليه‪ ،‬يعد ماكس فيرب من أهم ممثلي املدرسة الكالسيكية يف جمال التدبري‪ ،‬وخاصة‬
‫ذلك االجتاه الذي ركي على السلطة يف جمال اإلدارة واالقتصاد‪ ،‬وتبيان أشكال‬
‫تنظيمها‪ ،‬إىل جانب ميشيل كروزيري)‪ .(Michel Crozier‬بيد أن ماكس فيرب‬
‫متيي بتقسيم السلطة إىل أنواع ثالثة‪ :‬السلطة الكارييمية اليت تعود إىل شخصية‬
‫املستول ااسرة اليت جتعل ااخرين يلتيمون بأوامرها اقتناعا وإعجابا؛ والسلطة‬
‫التقليدية القالمة على األعراف والتقاليد والوراثة؛ والسلطة الوظيفية‬
‫الرمسية(البريوقراطية)‪.‬‬

‫المبحث التاسع‪ :‬سوسيولوجيا األديان‬


‫يعــد مــاكس فيــرب مــن الســباقني إىل تأســيس سوســيولوجيا األديــان‪ ،‬إذ اهــتم بدراســة‬
‫الربوتســتانتية والكاثوليكيــة واليهوديــة والكونفوشيوســية والفارســية واهلندوســية والطاويــة‬
‫واإلسالم‪ ،‬فقـد رأى أن الـدين الربوتسـتانيت‪ ،‬باعتبـاره بنيـة فوقيـة‪ ،‬هـو الـذي سـاهم يف‬
‫ظه ـ ــور النظ ـ ــام الرأمس ـ ــايل يف أوروب ـ ــا الغربي ـ ــة؛ ألن الربوتس ـ ــتانتية‪ ،‬والس ـ ــيما م ـ ــذهب‬
‫كالفني(‪ ،)Calvin‬تدعو إىل العمـل واملبـادرة والتنـافس واالكتسـا املثمـر‪ ،‬وتنميـة‬
‫الرأمسال‪ ،‬واإلقبـال علـى احليـاة بكـل مباهجهـا ومتعهـا‪ ،‬و ـع الثـروات لتحقيـق الغـىن‪،‬‬
‫وف ــق دواف ــع س ــيكولوجية ومب ــادىء أخالقي ــة‪ ،‬مث ــل‪ :‬احل ــرص‪ ،‬والش ــح‪ ،‬واالس ــتثمار‪،‬‬
‫واالقتصــاد‪ ،‬واالدخــار‪ ،‬وحــب العمــل‪...‬إن مــن اليعمــل لــن يأكــل كمــا قــال القــديس‬
‫بولــوس‪.‬يف حــني‪ ،‬تبعــد الكاثوليكيــة اإلنســان عــن الــدنيا‪ ،‬وحتثـه علــى اليهــد والرهبانيــة‬
‫واالعتكاف الديين‪ ،‬بعيدا عن مشاغل احليـاة ومشـاكلها املاديـة‪ .‬ومـن هنـا‪ ،‬فقـد كـان‬
‫اإلصالو الـديين الـذي قـاده مـارتن لـوثر مـن العوامـل الرليسـية الـيت شـجعت علـى منـو‬
‫العقليـة الليرباليـة الرأمساليـة‪ ،‬وتشـكل البريوقراطيـة العقالنيـة علـى املسـتوى االقتصــادي‪،‬‬
‫ويتضح هذا جليا يف كتابه (األخالق الربوتستانتية وروو الرأمساية)‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫أما فيما خيص الديانات الشرقية‪ ،‬وخاصـة اإلسـالم‪ ،‬فقـد اعتربهـا ديانـات العقالنيـة‪،‬‬
‫تســودها أفكــار خرافيــة وســحرية معاديــة للعقــل واللوغــوس واملنطق‪.‬ولــذلك‪ ،‬م تتطــور‬
‫األوضــاع االقتصــادية يف البلــدان الــيت تنتشــر فيه ـا هــذه الــديانات؛ نظ ـرا الفتقادهــا ‪-‬‬
‫كما ييعم فيرب‪ -‬إىل العقالنية يف التخطيط والتدبري والتنظيم والتفكري‪.‬‬
‫ويــرى حممــد عابــد اجلــابري أن نظــرة مــاكس فيــرب نظــرة متهافتــة مــن نـواو عــدة‪ ،‬حيــث‬
‫يقــول‪ ":‬إن ادعــاءه اخلــاص بكــون املســيحية‪ ،‬مبــا فيهــا مــن بروتســتاتية وكالفينيــة‪ ،‬أكثــر‬
‫عقالنية من اإلسالم ادعاء الأساس له‪.‬فاإلسـالم بشـهادة كثـري مـن املستشـرقني أكثـر‬
‫عقالنيــة مــن املســيحية مبختلــف مذاهبها‪.‬وهــذا مــا أكــده األســتاذ ماكســيم رودنســون‬
‫(‪ )Maxim Rodinson‬يف كتابـه القــيم (اإلسةةالم والرأسةةمالية) الــذي أثبــت‬
‫فيــه أن الــدين اإلســالمي‪ ،‬سـواء كعقيــدة أو تطبيــق‪ ،‬م يكــن املــانع مــن قيــام الرأمساليــة‬
‫يف الــبالد اإلســالمية‪ ،‬ولــذلك فـ ن أســبا قيــام الرأمساليــة يف أوروبــا‪ ،‬وعــدم قيامهــا يف‬
‫الــبالد العربيــة اإلســالمية‪ ،‬ظــاهرة جيــب أن يبحــث عــن عواملهــا يف مقتضــيات الوضــع‬
‫االجتماعي العام‪ ،‬تلك املقتضيات اليت تلح عليها املاركسية إحلاحا خاصا‪"077.‬‬
‫ويضيف الباحث‪ ":‬وأما القول بأن الربوتستانتية وأخالقها هـي الـيت كانـت العامـل يف‬
‫قيام الرأمسالية يف أوروبا الغربية‪ ،‬فهذا افماض قابل للمناقشة إىل حـد كبـري‪.‬ميكن مـثال‬
‫أن نتس ـ ــاءل‪ :‬ه ـ ــل كان ـ ــت الرأمسالي ـ ــة نتيج ـ ــة للربتس ـ ــتانتية كم ـ ــا ادع ـ ــى في ـ ــرب‪ ،‬أم أن‬
‫الربوتس ــتانتية نفس ــها ه ــي نتيج ــة حت ــوالت اجتماعي ــة واقتص ــادية كان ــت ه ــي بداي ــة‬
‫الرأمساليــة؟ وبعيــارة أخــرى‪ :‬هــل كانــت الرأمساليــة نتيجــة للربوتســتانتية‪ ،‬أم ســببا هلــا‪ ،‬أم‬
‫حدثا مساوقا هلا ترجع أسبابه إىل عوامل أخرى؟ لقد الحـظ إجنلـي يف مقدمـة الطبعـة‬
‫اإلجنليييــة لكتابــه (االش ـماكية الطوباويــة واالش ـماكية العلميــة) املترخــة بعــام ‪،0382‬‬
‫الحــظ أن العقيــدة الكالفينيــة كانــت تســتجيب حلاجيــات البورجوازيــة األكثــر تقــدما‬

‫‪ - 077‬حممد عابد اجلابري‪ :‬من دروس الفلسفة والفكر اإلسالمي‪ ،‬دار النشر املغربية‪ ،‬الدار البيضاء‪،‬‬
‫املغر ‪ ،‬الطبعة األوىل سنة ‪2101‬م‪ ،‬ص‪.017:‬‬

‫‪154‬‬
‫آنئذ‪.‬وما نظريتها يف القضاء والقدر إال تعبـري ديـين للحقيقـة الواقعيـة التاليـة‪ ،‬وهـي أنـه‬
‫يف عام املنافسة التجارية‪ ،‬يتوقـف جنـاو اإلنسـان أو إخفاقـه‪ ،‬ال علـى حذقـه وفطنتـه‪،‬‬
‫بل على الظروف املستقلة اليت ختضع ملراقبته‪.‬فالعقيدة الكالفينية هبذا االعتبار ليست‬
‫عــامال يف قيــام الرأمساليــة‪ ،‬بــل هــي نفســها‪ ،‬مــن نتــاج الظــروف املوضــوعية االجتماعيــة‬
‫واالقتصادية‪ ،‬ظروف نشأة الرأمسالية ذاهتا‪"073.‬‬
‫وبناء على ماسبق‪ ،‬يتضح لنا أن ماكس فيرب درس جمموعة من العقالد واألديان‪،‬‬
‫مثل‪ :‬املسيحية يف كتابه ( األخالق البروتستانية وروح الرأسمالية)‪ ،‬واليهودية يف‬
‫كتابه (اليهودية القديمة)‪ ،078‬واهلندوسية والبوذية يف كتابه (الهندوسية‬
‫(الكونفوشوسية‬ ‫كتابه‬ ‫يف‬ ‫والطاوية‬ ‫والكونفشيوسية‬ ‫والبوذية)‪،031‬‬
‫والطاوية)‪...030‬وهبذا‪ ،‬يكون ماكس فيرب قد أسس‪ -‬فعال‪ -‬سوسيولوجيا األديان‬
‫نظرية وتطبيقا‪.‬‬
‫وترتكي سوسيولوجيا األديان ‪032‬عند ماكس فيرب على ثالثة تصورات جوهرية هي‪:‬‬
‫أثر األفكار الدينية على األنشطة االقتصادية؛ والعالقات املوجودة بني الماتبية‬

‫‪ - 073‬حممد عابد اجلابري‪ :‬من دروس الفلسفة والفكر اإلسالمي‪ ،‬ص‪.017:‬‬


‫‪179‬‬
‫‪- Max weber : Le Judaïsme antique (1917-1918), traduction‬‬
‫‪par Freddy Raphaël, Plon, 1970.‬‬
‫‪180‬‬
‫‪- Max weber : Hindouisme et Bouddhisme (1916),‬‬
‫‪traduction par Isabelle Kalinowski et Roland Lardinois,‬‬
‫‪Flammarion, 2003.‬‬
‫‪181‬‬
‫‪- Max weber : Confucianisme et Taoïsme (1916),‬‬
‫‪traduction par Catherine Colliot-Thélène et Jean-Pierre‬‬
‫‪Grossein, Gallimard, 2000.‬‬
‫‪182‬‬
‫‪- Max weber : Sociologie des religions (choix de textes et‬‬
‫‪traduction par Jean-Pierre Grossein), Gallimard, 1996.‬‬

‫‪155‬‬
‫االجتماعية واألفكار الدينية؛ واخلصالص املميية للحضارة الغربية‪ .‬كما أن اهلدف‬
‫األساس من دراساته هو معرفة التطور الذي أصا الثقافة الغربية والشرقية‪ .‬وقد‬
‫توصل فيرب إىل أن األفكار املسيحية كان هلا تأثري إجيايب يف تطور االقتصاد الرأمسايل‬
‫يف أوروبا الغربية والواليات املتحدة األمريكية‪ .‬لكن ليست العوامل الروحية والدينية‬
‫هي األسبا الوحيدة يف تطور االقتصاد‪ ،‬بل مثة عوامل أخرى‪ ،‬مثل‪ :‬العقالنية‪،‬‬
‫والبحث العلمي‪ ،‬وتقدم الرياضيات‪ ،‬وتقدم التعليم اجلامعي‪ ،‬ومتثل الشرعية‬
‫السياسية والقانونية واحلقوقية‪ ،‬واألخذ بروو املقاولة أو املتسسة‪ .‬واهلدف من هذا‬
‫كله هو فهم احلضارة الغربية الليربالية‪ ،‬ورصد سحر عاملها‪.‬‬

‫المبحث العاشر‪ :‬تلقي أفكار ماكس فيبر‬


‫لق ــد ت ــأخر الفرنس ــيون س ــنوات ع ــدة يف االس ــتفادة م ــن أفك ــار م ــاكس في ــرب مقارن ــة‬
‫بنظرالهم يف الواليات املتحدة األمركية؛ ويرجع السبب يف ذلـك إىل هيمنـة املدرسـتني‬
‫السوس ـ ــيولوجتني‪ :‬الدوركاميي ـ ــة واملاركس ـ ــية‪ .‬وإذا ك ـ ــان األمريك ـ ــي ت ـ ــالكوت بارس ـ ــون‬
‫(‪ ،)Talcott Parsons‬زعــيم البناليــة الوظيفيــة‪ ،‬قــد عــرف مبــاكس فيــرب‪ ،‬وتــرجم‬
‫متلفاتــه إىل اللغــة اإلجنليييــة؛ فـ ن الفرنســي راميــون أرون (‪)Raymond Aron‬‬
‫هو أول من اكتشـف مـاكس فيـرب سـنة ‪0886‬م‪ ،‬يف كتابـه(السوسةيولوجيا األلمانيةة‬
‫المعاصرة)‪.023‬‬
‫ومـ ــن ذلـ ــك الوقـ ــت‪ ،‬ظـ ــل تـ ــأثري مـ ــاكس فيـ ــرب واضـ ــحا يف السوسـ ــيولوجيا الفرنسـ ــية‪،‬‬
‫والسيما يف راميون بودون (‪ ،)Raymond Boudon‬وبيري بورديو ( ‪Pierre‬‬
‫‪ ،)Bourdieu‬ولوســيان كولــدمان(‪ ،)Lucien Goldmann‬بعــد التعريــف‬
‫‪183‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪Raymond‬‬ ‫‪Aron,‬‬ ‫‪La‬‬ ‫‪Sociologie‬‬ ‫‪allemande‬‬
‫‪contemporaine, PUF, 2007..‬‬

‫‪156‬‬
‫بنظريات ــه وأفك ــاره وتص ــوراته السوسوسـ ــيولوجية والسياسـ ــية واالقتص ــادية والفلس ــفية‪،‬‬
‫وتر ة أعماله إىل اللغة الفرنسية ابتداء من سنوات الستني من القرن املاضي‪.‬‬

‫المبحث الحادي عشر‪ :‬تقويم أفكار ماكس فيبر‬


‫أول مالحظة على ماكس فيرب هو دفاعه عن البورجوازية األملانية بدل الدفاع عن‬
‫الطبقات العمالية املسحوقة واملستغلة يف القرن التاسع عشر‪.‬أضف إىل ذلك أن علم‬
‫االجتماع قد حتول مع فيرب إىل مبحث سيكولوجي يعىن بدراسة الفرد من الداخل‬
‫بدل دراسة اجملتمع دراسة علمية جتريبية موضوعية‪ .‬ومن جهة أخرى‪ ،‬يتميي منوذجه‬
‫املثايل بالغموض وعدم الدقة لعدم وجود مناذج تطبيقية لتوضيح هذا الرباديغم‬
‫بشكل واضح وجلي‪ .‬كما كان ماكس فيرب بورجوازيا يف فكره‪ ،‬يدافع عن أملانيا‬
‫قومية وإمربيالية توسعية على حسا القيم واملبادىء اإلنسانية العليا‪ .‬عالوة على‬
‫ذلك‪ ،‬فقد ربط احلداثة بالغر ‪ ،‬وم يتوقف عند احلداثة العربية اإلسالمية يف‬
‫العصور الوسطى‪ .‬ويف هذا السياق‪ ،‬يقول عبد الباسط عبد املعطي‪ ":‬ومما يتخذ‬
‫على فيرب مغاالته يف التشديد على اجلوانب الذاتية يف احلياة االجتماعية‪.‬أي‪ :‬مرامي‬
‫األفراد ودوافعهم‪ ،‬األمر الذي اقم به من حافة التفسريات السيكولوجية‬
‫للظاهرات االجتماعية‪ .‬فقد أكد على فهم األفراد ومصاحلهم ومشاعرهم‪ ،‬وحىت يف‬
‫متيييه بني أمناط السلطة ركي على دور اليعيم امللهم‪ .‬وقد جعله هذا يفرط يف مسالل‬
‫النسبية الثقافية والقيمية‪ .‬وبالتايل‪ ،‬وضع حتديدات ة أمام إمكانية التوصل إىل‬
‫قوانني علمية موضوعية يسري اجملتمع اإلنسا يف ضولها‪.‬فقد أشار يف مقاله املوسوم‬
‫(املوضوعية يف العلوم االجتماعية ) إىل أنه ليس هنات حتليل علمي مطلق‬
‫للثقافة‪ ،‬وإذا شئنا الدقة ليس هنات ظاهرات اجتماعية مستقلة عن وجهات نظر‬
‫ذات جانب واحد‪ .‬ومع أمهية هذه النقطة‪ ،‬ف ن املبالغة فيها أفضت إىل آراء فردية‬
‫ودراسات فردية أثرت يف خطوط سري علم االجتماع بعد ذلك حيث حتولت‬

‫‪157‬‬
‫الدراسات إىل محالت قيمية نسبية خنقت البحث العلمي املوضوعي يف علم‬
‫االجتماع‪.‬‬
‫وتتجمع خيوط فكر فيرب‪ -‬يف نسيجها اجلوهري‪ -‬حول قيم الفردية والذاتية ليكون‬
‫بذلك مربرا ومساندا للعمل الفردي‪ ،‬وللمشروع الرأمسايل‪ ،‬األمر الذي يدل على‬
‫وقوفه فكرا وموقفا وسلوكا جبانب املصاحل الرأمسالية متغافال عن الطقات االجتماعية‬
‫‪032‬‬
‫العريضة من عمال وفالحني وموظفني‪...‬إخل‪".‬‬
‫وما يالحظ أيضا على ماكس فيرب هو دفاعه املبالغ فيه عن احلضارة الغربية‬
‫باعتبارها احلضارة السامية واملتفوقة مقارنة باحلضارات األخرى‪ .‬وهذا نوع من‬
‫االدعاء اليالف؛ ألن احلضارات تتعاقب على مستوى احلداثة والتقدم واالزدهار‪.‬‬
‫وقد رأينا جمموعة من احلضارات املتقدمة سابقا‪ ،‬مثل‪ :‬احلضارة البابلية‪ ،‬واحلضارة‬
‫الفرعونية‪ ،‬واحلضارة العربية ‪ -‬اإلسالمية‪...‬ونتحدث ‪ -‬اليوم‪ -‬عن احلضارة اليابانية‬
‫واحلضارة الصينية وغريها من احلضارات املتقدمة‪ .‬ويف هذا الصدد‪ ،‬يقول حممد‬
‫أمييان‪ " :‬لقد أكد ماكس فيرب‪ -‬وهو واحد من أبرز من قام بالدعوة إىل ضرورة‬
‫احلياد األخالقي وجتنب النظرة املعيارية‪ -‬أكد على تفرد احلضارة الغربية والنمط‬
‫الثقايف الغريب‪.‬فهو يعتقد أن العلم م ينم إال يف الغر ‪ ،‬والغر وحده هو الذي‬
‫أقام نظاما سياسيا مقننا‪ ،‬وليس هنات إطالقا مايعادل البريوقراطية األوروبية املكونة‬
‫من متخصصني ومشرعني وفنيني‪ ،‬وليس هنات اقتصاد منظم كماهو يف صورته‬
‫الرأمسالية‪ ،‬وحىت السلوت والديانات تتمتع بنفس التفوق‪.‬لقد انتهى ماكس فيرب‪-‬‬
‫كما يقول جوليان فروند‪ -‬إىل التساؤل عما إذا كانت هذه األصالة راجعة إىل‬
‫صفات وراثية نظرا ملا نصادفه يف الغر ويف الغر وحده ودون انقطاع من تعقيل‬
‫أمنوذجي إىل حد بعيد‪ ،‬لقد عكف فيرب وبكثري من االهتمام والفضول على العام‬
‫الغريب يف أصالته‪ ،‬حىت إنه‪ -‬يقول جوليان فروند‪ -‬خيلف فينا االنطباع بأن‬

‫‪ - 032‬عبد الباسط عبد املعطي‪ :‬اتجاهات نظرية في علم االجتماع‪ ،‬ص‪.86:‬‬

‫‪158‬‬
‫الدراسات اليت خصصها للهندوكية والصني والثقافات األخرى م تكن إال برهانا‬
‫‪031‬‬
‫ضعيفا غايته إبراز أصالة احلضارة الغربية إبرازا أحسن وأقوى‪".‬‬
‫وعلي ـ ــه‪ ،‬فلق ـ ــد اه ـ ــتم م ـ ــاكس في ـ ــرب بدراس ـ ــة احلداث ـ ــة ال ـ ــيت تع ـ ــين العقالني ـ ــة والتنظ ـ ــيم‬
‫البريوقراطي‪ ،‬ومتثل القـيم الربتسـتانتية‪ ،‬وانتهـاج الرأمساليـة املاديـة‪ ،‬وهـي خاصـية مرتبطـة‬
‫بالع ـ ـ ــام الغ ـ ـ ــريب‪ ،‬وق ـ ـ ــد ج ـ ـ ــاءت رد فع ـ ـ ــل عل ـ ـ ــى اخلراف ـ ـ ــة واألس ـ ـ ــطورة والتفسـ ـ ـ ـريات‬
‫امليتافيييقيــة‪.‬بيــد أن احلداثــة الــيت يــدافع عنهــا فيــرب هــي احلداثــة الغربيــة‪ ،‬ولكنــه يغــض‬
‫الط ــرف عــن احلداث ــة اإلس ــالمية القالم ــة عل ــى الق ــرآن والق ــيم املثل ــى املتعالي ــة عم ــاهو‬
‫مــادي‪ ،‬كحداثــة الــوحي‪ ،‬وحداثــة صــدر اإلســالم‪ ،‬وحداثــة الدولــة العباســية‪ .‬ومــن مث‪،‬‬
‫ف ن احلضارة اإلسالمية تتشكل من جمموعة من احلداثات‪.036‬‬

‫وخالص ةةة الق ةةول‪ ،‬يتب ــني لن ــا أن م ــاكس في ــرب رال ــد عل ــم االجتم ــاع التفهم ــي‪ ،‬ورال ــد‬
‫السوس ــيولوجيا السياس ــية‪ ،‬ومتس ــس السوس ــيولوجيا اإلداري ــة‪ ،‬وسوس ــيولوجيا األدي ــان‬
‫والفنــون‪...‬ومن مث‪ ،‬يتميــي مــاكس فيــرب بتعــدد االختصاصــات والعلــوم واملعــارف‪ ،‬فهــو‬
‫رجل فلسفة‪ ،‬وتاريخ‪ ،‬واقتصاد‪ ،‬وسياسة‪ ،‬وإدارة‪ ،‬ودين‪ ،‬وفن‪...‬‬
‫وقــد أثبــت أن عل ــم االجتمــاع ه ــو ال ــذي ي ــدرس الفعــل الف ــردي أو س ــلوت اإلنس ــان‬
‫الــذي يضــفي عليــه الفاعــل معــىن ذاتيــا‪ ،‬س ـواء أكــان صــرحيا أم ضــمنيا‪ .‬وهــذا الفعــل‬
‫أنواع كثرية‪ .‬ومن مث‪ ،‬فوحدة اجملتمع هو الفرد الفاعل‪.‬‬
‫وتســتند سوســيولوجيا مــاكس فيــرب إىل جمموعــة مــن التصــورات واألفكــار والنظريــات‪،‬‬
‫كـاجلمع بـني اخلطـوات املنهجيـة الـثالث‪ :‬الفهـم‪ ،‬والتفسـري‪ ،‬والتأويـل‪ ،‬ومتثـل النمـوذج‬

‫‪ - 031‬حممد حممد أمييان‪ :‬منهج البحث االجتماعي بين الوضعية والمعيارية‪ ،‬منشورات املعهد العاملي‬
‫للفكر اإلسالمي‪ ،‬الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬الطبعة األوىل سنة ‪0880‬م‪ ،‬ص‪.883:‬‬
‫‪ - 036‬انظر‪ :‬يل محداوي‪ :‬اإلسالم بين الحداثة ومابعد الحداثة‪ ،‬دار التنوير ‪،‬اجليالر‪ ،‬الطبعة األوىل‬
‫سنة ‪2102‬م‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫املثــايل يف دراســة الظـواهر اجملتمعيــة‪ ،‬علــى أســاس أنــه منــوذج أو قالــب أو بـراديغم جمــرد‬
‫قــالم علــى جمموعــة مــن املفــاهيم لوصــف الظــاهرة اجملتمعيــة املعطــاة‪ ،‬برصــد املكونــات‬
‫اجلوهرية والبارزة والسمات الثانوية‪...‬‬
‫ومــن جهــة أخــرى‪ ،‬فقــد ميــي مــاكس فيــرب بــني الســلوت العقلــي والســلوت الالعقلــي‪.‬‬
‫فــاألول يهــدف إىل حتقيــق هــدف معــني اعتمــادا علــى وســالل حمــددة بدقــة وعقالنيــة‪.‬‬
‫أمـ ــا السـ ــلوت الث ـ ـا ‪ ،‬فهـ ــو سـ ــلوت عفـ ــوي وعش ـ ـوالي‪ ،‬ينقصـ ــه التخطـ ــيط العقـ ــال ‪،‬‬
‫واملقصدية اهلادفة‪ .‬ومن مث‪ ،‬يسري وفق العادات والتقاليد واألعراف‪.‬‬
‫وم يقتص ـ ـ ــر عم ـ ـ ــل في ـ ـ ــرب عل ـ ـ ــى م ـ ـ ــاهو اجتم ـ ـ ــاعي‪ ،‬ب ـ ـ ــل اه ـ ـ ــتم باجلوان ـ ـ ــب اإلداري ـ ـ ــة‬
‫(البريوقراطيــة)‪ ،‬واجلوانــب السياســية ( العنــف املشــروع‪ ،‬وأشــكال اهليمنــة السياســية)‪،‬‬
‫واجلوانـ ــب الدينيـ ــة (ربـ ــط االقتصـ ــاد الرأمسـ ــايل بالعوامـ ــل الروحيـ ــة)‪ ،‬واالهتمـ ــام بـ ــالفن‬
‫املوســيقي علــى ســبيل اخلصــوص‪ .‬واهــتم كــذلك بسوســيولوجيا الشــغل وسوســيولوجيا‬
‫المبية‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫جورج زيمل والسوسيولوجيا التفاعلية‬

‫يعد جورج زميل من أهم السوسيولوجيني األملان(‪ 037 )Georg Simmel‬إىل‬


‫جانب ماكس فيرب‪ ،‬ونوربرت إلياس‪ ،‬وكارل ماركس‪ ،‬وغريهم‪...‬وقد عرف‬
‫بالسوسيولوجيا التفاعلية من جهة‪ ،‬وبسوسيولوجيا األشكال من جهة أخرى‪.‬‬
‫وقد اهتم زميل مبواضيع اجتماعية مثرية والفتة لالنتباه‪ ،‬مثل‪ :‬النقود‪ ،‬واملوضة‪ ،‬واملرأة‪،‬‬
‫والطالفة‪ ،‬واملظاهر‪ ،‬والفن‪ ،‬واملدينة‪ ،‬والغريب‪ ،‬والفقراء‪ ،‬والفرد‪ ،‬واجملتمع‪ ،‬والتفاعل‪،‬‬
‫والرابط االجتماعي‪ ،‬والتنشئة االجتماعية‪...‬ويعد كتابه (فلسفة النقود) الذي نشره‬
‫سنة ‪0811‬م من أهم الكتب السوسيولوجية املتميية يف تاريخ علم االجتماع‬
‫احلديث واملعاصر‪.‬‬
‫وق ــد أث ــر ي ــورغ زمي ــل يف مثقف ــي عص ــره ومثقف ــي عصـ ـرنا ه ــذا‪ ،‬أمث ــال‪ :‬م ــاكس في ــرب‬
‫(‪ ،)Max Weber‬وكــارل ماهنــامي (‪ ،)Karl Mannheim‬وألفــرد شــوتي‬
‫(‪ ،)Alfred Schütz‬ورامي ــون آرون (‪ ،)Raymond Aron‬وإرفين ــغ‬

‫‪ - 037‬ولد السوسيولوجي األملا زميل سنة ‪0313‬م‪ ،‬وتويف سنة ‪0803‬م‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫غوفمــان (‪ ،)Erving Goffman‬وهـوارد بيكــر (‪،)Howard Becker‬‬
‫وأنسـليم شـموس(‪ ،)Anselm Strauss‬وإسـحق يوسـف(‪،)Isaac Joseph‬‬
‫وباتري ــك واتيـ ــري(‪ ،)Patrick Watier‬وراميـ ــون بـ ــودون( ‪Raymond‬‬
‫‪ ،)Boudon‬وغيوم إرنر(‪ ،)Guillaume Erner‬وجورج لوكـاش( ‪Georg‬‬
‫‪ ،)Lukacs‬وسـيغموند بومـان (‪...)Zygmunt Bauman‬وأهـم تـأثري ليميـل‬
‫هو املسامهة يف بلورة مدرسة شيكاغو السوسيولوجية‪.‬‬
‫و م يع ــرف زمي ــل يف فرنس ــا إال يف س ــنوات الثم ــانني م ــن الق ــرن املاض ــي م ــع رامي ــون‬
‫بــودون(‪ ،)Raymond Boudon‬وباتريــك واتيــري(‪،)Patrick Watier‬‬
‫وآالن دون ــول (‪ ،)Alain Deneault‬وميش ــيل مافيس ــويل ( ‪Michel‬‬
‫‪ ،)Maffesoli‬وفرنسوا ليجي (‪ ،)François Léger‬وليليان دوروش غورسيل‬
‫(‪...) Lilyane Deroche-Gurcel‬‬
‫وقد انتشرت كتاباته بسرعة يف الواليات املتحدة األمريكية " عرب سلسـلة مـن املـوالني‬
‫ذوي ص ــالت جب ــامعيت ش ــيكاغو وكولومبي ــا‪ ،‬م ــنهم ألبي ــون مس ــول‪ ،‬وروب ــرت إ‪.‬ب ــارت‪،‬‬
‫ولويس ويرث‪ ،‬وإيفرييت هاغس‪ ،‬وروبرت مريتون‪ ،‬ولويس كوزر‪"033..‬‬
‫ومن أهم متلفات جورج زميل (االختالف االجتماعي) ‪038‬و (فلسةفة النقةود)‪،081‬‬
‫و(السوسة ة ةةيولوجيا واإلبسة ة ةةتمولوجيا)‪ ،080‬و(الفقة ة ةةراء)‪ ،085‬و(علة ة ةةم االجتمة ة ةةاع‬

‫‪ -‬جون سكوت‪ :‬خمسون عالما اجتماعيا أساسيا‪ ،‬تر ة‪ :‬رشا ال‪ ،‬الشبكة العربية لألحباث‬ ‫‪033‬‬

‫والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة الثانية ‪0808‬م‪ ،‬ص‪.083:‬‬


‫‪189‬‬
‫‪-Georg Simmel: Über sociale Differenzierung (1890).‬‬
‫‪190‬‬
‫‪- Georg Simmel: Philosophie de l'argent, traduit par Sabine‬‬
‫‪Cornille et Philippe Ivernel P.U.F., Paris, 1987.‬‬
‫‪191‬‬
‫‪- Georg Simmel: Sociologie et épistémologie, P.U.F.,‬‬
‫‪1981, 1989.‬‬
‫‪192‬‬
‫‪- Georg Simmel : Les Pauvres, P.U.F. 1998.‬‬

‫‪162‬‬
‫وأشةةكال التفاعةةل)‪ ،083‬و(السةةر والمجتمعةةات السةةرية)‪ ،084‬و(عل ةم االجتمةةاع‬
‫وتجرب ة ة ة ةةة الع ة ة ة ةةالم االجتم ة ة ة ةةاعي)‪،082‬و(المظ ة ة ة ةةاهر)‪ ،086‬و(عل ة ة ة ةةم االجتم ة ة ة ةةاع‬
‫الجم ة ة ة ةةالي)‪ ،087‬و(الفقي ة ة ة ةةر)‪ ،082‬و(س ة ة ة ةةيكولوجيا النس ة ة ة ةةاء)‪ ،088‬و(فلس ة ة ة ةةفة‬
‫الموضة ةةة)‪،511‬و(فلسة ةةفة المغة ةةامرة)‪ ،510‬و(مشة ةةكل علة ةةم االجتمة ةةاع ونصة ةةوص‬
‫أخرى)‪ ،212‬وغريها من املتلفات املتميية‪...‬‬
‫إذاً‪ ،‬ما التصور النظري السوسيولوجي لدى جـورج زميـل؟ ومـا أهـم خصـالص منهجـه‬
‫االجتم ــاعي؟ وم ــا أه ــم االنتق ــادات املوجه ــة إلي ــه؟ ه ــذا م ــا س ــوف نتوق ــف عن ــده يف‬
‫املطالب التالية‪:‬‬

‫‪193‬‬
‫‪- Georg Simmel: Sociologie, étude sur les formes de la‬‬
‫‪socialisation, P.U.F., 1999.‬‬
‫‪194‬‬
‫‪- Georg Simmel : Secret et sociétés secrètes, Circé, 1991.‬‬
‫‪195‬‬
‫‪-Georg Simmel : La Sociologie et l’Expérience du monde‬‬
‫‪social, Méridiens Klincksieck, 1986.‬‬
‫‪196‬‬
‫‪- Georg Simmel : La Parure, MSH, 1998.‬‬
‫‪197‬‬
‫‪-Georg Simmel: Esthétique sociologique, MSH, 2007.‬‬
‫‪198‬‬
‫‪- Georg Simmel : Le Pauvre, Allia, 2009.‬‬
‫‪199‬‬
‫‪- Georg Simmel: Psychologie des femmes, Payot, 2013.‬‬
‫‪200‬‬
‫‪- Georg Simmel : Philosophie de la mode, Allia, 2013.‬‬
‫‪201‬‬
‫‪- Georg Simmel: Philosophie de l'aventure, L'Arche, 2002.‬‬
‫‪202‬‬
‫‪-Georg Simmel : Le Problème de la sociologie et autres‬‬
‫‪textes, éditions du Sandre, 2006.‬‬

‫‪163‬‬
‫المطلب األول‪ :‬التصور النظري‬
‫الميكــن فهــم أفكــار جــورج زميــل وتصــوراته النظريــة واملنهجيــة إال بــالمكيي علــى بعــض‬
‫املواضيع املهمة يف نسقه املعريف على الوجه التايل‪:‬‬

‫الفرع األول‪ :‬مفهوم السوسيولوجيا وموضوعها‬

‫تدرس السوسيولوجيا عند زميل الوسالل املستخدمة للعيش املشمت‪ .‬ويصف لنـا زميـل‬
‫ذل ــك بدق ــة يف كتاب ــه ( عل ةةم االجتم ةةاع‪ ) Soziologie /‬ال ــذي ص ــدر س ــنة‬
‫‪0813‬م‪.‬وم ــن مث‪ ،‬فموض ــوع عل ــم االجتم ــاع ه ــو دراس ــة أفع ــال األفـ ـراد يف ش ــكلها‬
‫التفاعلي أو التواصلي أو التباديل‪.‬ومثال ذلك عندما حييي شـخص زميلـه يف الشـارع‪،‬‬
‫ي ــرد علي ــه ااخ ــر بالتحي ــة بش ــكل تن ــاويب‪.‬ويعين ه ــذا أن هن ــات تفاع ــل متب ــادل ب ــني‬
‫الط ــرفني‪ ،‬ض ــمن س ــياق اجتم ــاعي معني‪.‬وعنص ــر التفاع ــل أو التب ــادل مه ــم يف فك ــر‬
‫زميل‪.‬وبالتايل‪ ،‬تتوقف السوسيولوجيا عند خمتلـف الـروابط والعالقـات االجتماعيـة الـيت‬
‫تربط األفـراد‪ ،‬ضـمن سـياق تفـاعلي معـني‪ .‬أي‪ :‬تعـىن السوسـيولوجيا بدراسـة التفاعـل‬
‫االجتمــاعي أو التــآلف أو التــآنس االجتمــاعي الــذي يتخــذ طابعــا ديناميكيــا‪ .‬ويعــين‬
‫ه ــذا أيض ــا مالحظ ــة أفع ــال األفـ ـراد املتفاعل ــة‪ ،‬ووص ــفها بدق ــة ملعرف ــة ال ــدالالت ال ــيت‬
‫حتملها اجتماعيا‪ ،‬وتأويلها يف سياق جمتمعي معني‪.‬‬
‫وبتعبــري آخــر‪ ،‬اليــدرس علــم االجتمــاع الفــرد يف حــد ذاتــه كمــا عنــد مــاكس فيــرب‪ ،‬أو‬
‫يــدرس اجملتمــع كمــا عنــد دوركــامي‪ ،‬بــل يــدرس العالقــة التفاعليــة املوجــودة بــني الفــرد‬
‫واجملتمع‪ ،‬سواء أكانت تلك العالقة التفاعليـة متماسـكة أم مبعثـرة‪ ،‬إجيابيـة أم سـلبية‪.‬‬
‫مبعىن آخر‪ ،‬يدرس علم االجتماع ذلك التأثري الذي ميارس الفرد علـى ااخـر‪ ،‬ضـمن‬

‫‪164‬‬
‫وضعية اجتماعية معينة‪ .‬وبالتايل‪ ،‬حيوي هذا التفاعل املضـمون والشـكل معـا‪ .‬وهبـذا‪،‬‬
‫يكــون زميــل هــو املتســس احلقيقــي للمدرســة التفاعليــة الــيت نشــطت كث ـريا مــع مدرســة‬
‫شيكاغو األمريكية‪.‬‬
‫وعليــه‪ ،‬فقــد تــأثر جــورج زميــل كث ـريا بفلســفة الفهــم والتأويليــة األملانيــة‪ .‬وتــأثر كــذلك‬
‫بالوضــعية كمــا عنــد أوغســت كونــت ودوركــامي‪ .‬ومــن مث‪ ،‬فهــو يعــرف علــم االجتمــاع‬
‫بأنه ذلك العلم الذي يدرس التفاعـل بـني األفـراد داخـل احليـاة اجملتمعيـة‪ .‬أي‪ :‬دراسـة‬
‫الــروابط وخمتلــف التفــاعالت والعالقــات التواصــلية املوجــودة بــني األف ـراد ضــمن بنيــة‬
‫اجملتمع‪ ،‬وفهم معىن تلك التفاعالت وتأويلها‪ .‬ويف هـذا‪ ،‬يقـول زميـل‪ ":‬يتبـادل األفـراد‬
‫النظـ ـرات‪ ،‬يغ ــارون م ــن بعض ــهم‪ ،‬ي ــأكلون س ــوية‪ ،‬يتب ــادلون الرس ــالل‪ ،‬يش ــعرون جت ــاه‬
‫بعض ـ ــهم بالكراهي ـ ــة أو احملب ـ ــة‪ ،‬يعمف ـ ــون باجلمي ـ ــل‪...‬إخل‪ ،‬آالف األفع ـ ــال‪ ،‬املتقت ـ ــة أو‬
‫الدالمــة‪ ،‬الواعي ــة أو الالواعي ــة‪ ،‬الســطحية الس ـريعة أو الغني ــة بنتالجه ــا‪...‬إخل‪ ،‬تربطنــا‬
‫الواحــد بــااخر‪ ،‬وهــي الــيت ترعــى صــالبة احليــاة اجملتمعيــة ومرونتهــا وتنوعهــا ووحــدهتا‬
‫ومتاسكها‪.‬إن التنظيمات اجملتمعية الكربى‪ ،‬واألنساق اجملتمعية الكـربى الـيت تتضـمنها‬
‫فكــرة اجملتمــع ليســت أكثــر مــن أســاليب وطرالــق ووســالل للحفــاظ‪ ،‬يف أطــر جمتمعيــة‬
‫‪218‬‬
‫باقية ومستقلة‪ ،‬على األفعال املباشرة اليت تربط األفراد بعضهم ببعض‪".‬‬
‫ويالحظ أن زميل ينطلق من تعريف مـاكس فيـرب للسوسـيولوجيا‪ ،‬بـالمكيي علـى الفعـل‬
‫الســلوكي لألف ـراد داخــل اجملتمــع‪ ،‬وفهــم دالالت األفعــال التواصــلية‪ ،‬وإدرات معانيهــا‬
‫ومقاصــدها وغاياهتــا ونواياهــا‪ .‬مبعــىن أن زميــل ركــي‪ ،‬يف كتابــه(علةةم االجتمةةاع) الــذي‬
‫أصدره سـنة ‪0813‬م ‪ ،212‬علـى الفعـل املتبـادل أو األفعـال املتبادلـة بـني جمموعـة مـن‬

‫‪203‬‬
‫‪-M.Giacobbi,J.P.Roux :Initiation à la sociologie, Hatier,‬‬
‫‪Paris,1996,p:254.‬‬
‫‪204‬‬
‫‪- Simmel: Sociologie, étude sur les formes de la‬‬
‫‪socialisation, P.U.F., 1999.‬‬

‫‪165‬‬
‫األفراد بشكل تناويب‪ .‬ومن هنا‪ ،‬ينبغي علـى السوسـيولوجي أن يالحـظ تلـك الـروابط‬
‫والعالقـ ــات ال ـ ــيت تك ـ ـون ب ـ ــني األف ـ ـراد‪ ،‬وخاص ـ ــة تل ـ ــك ال ـ ــيت تن ـ ــدرج ضـ ــمن التفاع ـ ــل‬
‫االجتماعي احلي أو املشاركة اجملتمعية‪.‬‬
‫وبشــكل أوضــح‪ " ،‬قــدم زميــل‪ ،‬يف ســبيل حتليــل هــذه العالقــات‪ ،‬تصــورا رليســيا‪ ،‬هــو‬
‫الفعل المتبادل‪.‬وببساطة هو يعين بالفعل املتبادل التـأثري الـذي ميارسـه كـل فـرد علـى‬
‫الغري‪.‬وه ــو فع ــل موج ــه مبجموع ــة م ــن ال ــدوافع املختلف ــة (الغرال ــي اجلنس ــية‪ ،‬واملص ــاحل‬
‫العملي ـ ـ ــة‪ ،‬واملعتق ـ ـ ــد ال ـ ـ ــديين‪ ،‬ومتطلب ـ ـ ــات النج ـ ـ ــاة والع ـ ـ ــدوان‪ ،‬واملتع ـ ـ ــة يف اللع ـ ـ ــب‪،‬‬
‫والعمل‪ .)...‬وإن والكلية‪ -‬املتحركة دوما‪ -‬هلـذه األفعـال هـي الـيت تسـاهم يف توحيـد‬
‫كل األفراد يف جمتمع مبجمله‪.‬‬
‫لكــن موضــوع حتليــل زميــل لــيس الفــرد‪ ،‬ولــيس اجملتمــع مبامهــا عليــه‪ ،‬كــل اهتمامــه يمكــي‬
‫على التفاعل اخلالق بني هـذين القطبـني الطـرفيني‪.‬إن إنتـاج اجملتمـع‪ ،‬هبـذا املعـىن‪ ،‬هـو‬
‫املنب ــت املتس ــس للرب ــاط االجتم ــاعي‪ .‬وعل ــى العك ــس م ــن دورك ــامي‪ ،‬ينح ــاز زمي ــل إىل‬
‫صــريورة اجملتمــع‪ ،‬ولــيس إىل الضــغط الــذي ميارســه هــذا اجملتمع‪.‬وهلــذا الســبب ســيتكلم‬
‫‪211‬‬
‫بأرحيية عن التنشئة االجتماعية أكثر من حديثه عن اجملتمع‪".‬‬
‫وعليه‪ ،‬فعلم االجتماع عند جورج زميل هو الذي يدرس التفاعل االجتماعي املتبادل‬
‫بني األفـراد‪ ،‬داخـل سـياق جمتمعـي معـني‪ .‬ويعـين هـذا أن زميـل يوفـق بـني تيـارين‪ :‬تيـار‬
‫فيــرب الــذي يعــىن بــالفرد‪ ،‬وتيــار دوركــامي الــذي يهــتم بــاجملتمع‪ .‬ومــن مث‪ ،‬فقــد ركــي زميــل‬
‫على العالقة التفاعليـة املوجـودة بـني الفـرد واجملتمـع‪ ،‬تلـك العالقـة الـيت تتخـذ مضـمونا‬
‫وشكال‪ ،‬وتنتج عنها تأثريات متبادلة بني األفراد‪ ،‬سواء أكانت إجيابية أم سلبية‪.‬‬

‫‪ - 211‬فليب كابان وفرانسوا دوتريو‪ :‬علم االجتماع‪ ،‬تر ة‪ :‬إياس حسن‪ ،‬دار الفرقد‪ ،‬دمشق‪ ،‬سورية‪،‬‬
‫الطبعة األوىل سنة ‪2101‬م‪،‬ص‪.72:‬‬

‫‪166‬‬
‫الفرع الثاني‪ :‬مضمون التفاعل االجتماعي وشكله‬
‫مييي جورج زميل بني مضمون التفاعل االجتماعي وشكله‪ .‬ومن هنا‪ ،‬يتمثـل مضـمون‬
‫التفاعل يف خمتلف الدوافع واحلوافي والضغوطات العضـوية والنفسـية الـيت تـدفع األفـراد‬
‫وحتــركهم‪ ،‬بشــكل مــن األشــكال‪ ،‬للتفاعــل فيمــا بيــنهم‪ ،‬داخــل ســياق جمتمعــي معــني‪.‬‬
‫ويتخــذ هــذا املضــمون التفــاعلي شــكال معينــا‪.‬ومــن هنــا‪ ،‬فالواقعيــة االجتماعيــة الناجتــة‬
‫عــن التفاعــل االجتمــاعي الميكــن الفصــل فيهــا بــني مضــمون التفاعــل وشــكله‪ .‬ومــن‬
‫هنــا‪ ،‬إذا كــان مضــمون التفاعــل هــو احلــافي‪ ،‬أو املنفعــة‪ ،‬أو املصــلحة‪ ،‬أو الغايــة‪ ،‬أو‬
‫السبب‪ ،...‬ف ن الشكل هو صيغة التفاعل وطريقته وهيئته األدالية واإلجنازية‪.‬‬
‫وإذا كــان إمي ـل دوركــامي يــدعو إىل دراســة اجملتمــع دراســة تشــييئية علميــة وجتريبيــة‪ ،‬يف‬
‫ضــوء مرتكـيات املدرســة الوضــعية الكالســيكية‪ ،‬فـ ن جــورج زميــل‪ ،‬علــى غـرار املدرســة‬
‫التفاعليـ ــة‪ ،‬يـ ــدعو إىل دراسـ ــة العالقـ ــات التفاعليـ ــة بـ ــني الفـ ــرد واجملتمـ ــع؛ ألن الفـ ــرد‪،‬‬
‫باعتبــاره فــاعال ذاتيــا‪ ،‬لــه أمهيــة كــربى يف الت ـأثري يف اجملتمــع إىل درجــة تغيــريه‪ ،‬وإعــادة‬
‫بناله من جديد‪ .‬كما للمجتمع تأثريه اجلربي يف الفرد‪.‬‬
‫وإذا أخــذنا مثــال" السةةكن" لدراســته وفــق مقــم زميــل مضــمونا وشــكال‪ ،‬فـ ن هــذه‬
‫الكلمــة حتمــل مضــامني التفاعــل االجتمــاعي؛ إذ حتيلنــا الكلمــة علــى ضــرورة الســكن‬
‫واالســتقرار واالتقــاء مــن أخطــار الطبيعــة والشــارع‪ .‬كمــا حتيلنــا الكلمــة علــى التفاعــل‬
‫االجتمــاعي والعــيش املشــمت بــني اجلـريان واألقــار واألصــدقاء والنــاس بصــفة عامــة‪.‬‬
‫مبع ــىن أن الف ــرد الميك ــن أن يتواص ــل ويتفاع ــل م ــع ااخـ ـرين‪ ،‬ض ــمن س ــياق جمتمع ــي‬
‫معني‪ ،‬إال باالسـتقرار يف املكـان‪.‬أي‪ :‬باحلصـول علـى املنـيل واختيـاره مسـكنا للحيـاة‪.‬‬
‫ومــن هنــا‪ ،‬يتخــذ هــذا املضــمون التفــاعلي شــكال معينــا هــو الــذي حيــدد طبيعــة هــذا‬
‫التفاعــل االجتمــاعي‪ ،‬حســب فهــم ااخـرين‪ ،‬ومنظــورهم إىل الســكن‪ ،‬وتغيــري دالالتــه‬
‫مــن فــرد إىل آخــر‪ .‬ومــن هنــا‪ ،‬ميكــن ختصــيص موضــوع الســكن لدراســته وفــق نظريــة‬

‫‪167‬‬
‫التفاعــل االجتمــاعي‪ .‬وعلــى الــرغم مــن ذلــك يبقــى مفهــوم الشــكل ‪ -‬هنــا‪ -‬غامضــا‬
‫ومعقدا ومبهما‪.‬‬
‫وهنــات م ــن يفس ــر مص ــطلح الش ــكل‪ ،‬لــدى ج ــورج زميــل‪ ،‬مبفهوم ــه املنهج ــي‪ ،‬ولــيس‬
‫بـ ـ ــاملفهوم األنطولـ ـ ــوجي‪ .‬ويعـ ـ ــين هـ ـ ــذا أن الشـ ـ ــكل أداة منهجيـ ـ ــة لوصـ ـ ــف التفاعـ ـ ــل‬
‫االجتماعي ومالحظته وتأويلـه‪ ،‬أو هـو مبثابـة النمـوذج أو الـرباديغم أو النمـوذج املثـال‬
‫عنــد مــاكس فيــرب لدراســة التفاعــل االجتمــاعي كمــا يــرى راميــون بــودون‪ .‬ومــن هنــا‪،‬‬
‫يتخ ــذ مفه ــوم الش ــكل طابع ــا جم ــردا أو كلي ــة واقعي ــة يت ــداخل فيه ــا مض ــمون التفاع ــل‬
‫االجتماعي وشكله‪.‬‬

‫الفرع الثالث‪ :‬سوسيولوجيا األشكال‬

‫يعد جورج زميل من أهم الباحثني االجتماعيني الـذين أسسـوا سوسـيولوجيا األشـكال‬
‫يف أثنــاء متييــيه بــني مضــمون الفعــل وشــكله‪ .‬ومــن مث‪ ،‬مييــي زميــل بــني مضــمون الفعــل‬
‫اجملتمعــي (الــدوافع الــيت توجــه الفعــل البشــري) وشــكله (املوضــة ‪ -‬مــثال‪ .)-‬ويقصــد‬
‫بشكل الفعل ما ينتج عـن األفعـال االجتماعيـة يف أثنـاء عمليـات التفاعـل أو التبـادل‬
‫اجملتمعي‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬فثمة أربعة أمناط من األشكال االجتماعية عند زميل‪:216‬‬
‫‪ ‬األش ة ةةكال المتص ة ةةفة بالديموم ة ةةة‪ :‬العالل ـ ــة‪ ،‬والدول ـ ــة‪ ،‬والكنيس ـ ــة‪ ،‬واملنش ـ ــآت‪،‬‬
‫واألحيا السياسية‪ ،..‬وتسمى هذه األشكال باملتسسات‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫‪- J.Freund :Philosophie et sociologie, Cabay,1984.‬‬

‫‪168‬‬
‫‪ ‬األشكال التي هي تصميمات مبنية مسبقا‪ ،‬وتتفةرع عنهةا المنظمةات التابعةة‬
‫لهة ةةا‪ :‬الماتبيـ ــة‪ ،‬والتنـ ــافس‪ ،‬والص ـ ـراع‪ ،‬واملغـ ــامرة‪ ،‬واإلقصـ ــاء‪ ،‬وامل ـ ـرياث‪ ،‬والتقليـ ــد‪،...‬‬
‫وتسمى باألشكال التكوينية‪.‬‬
‫‪ ‬األشكال التي تكون اإليار العام الذي تحدث ضمنه التنشةةة االجتماعيةة‪:‬‬
‫السياسة‪ ،‬واالقتصاد‪ ،‬والقانون‪ ،‬والتعليم‪ ،‬والدين‪...‬وتسمى بأشكال التوافق‪.‬‬
‫‪ ‬األشةةكال العةةابرة التةةي تؤسةةس للطقةةوس اليوميةة‪ :‬العــادات‪ ،‬والطعــام املشــمت‪،‬‬
‫‪217‬‬
‫والنيهات املشمكة‪ ،‬والتهذيب‪ ،‬والكياسة‪...‬‬
‫وللتمثيــل‪ ،‬يتوقــف زميــل عنــد شــكل اجتمــاعي مثالــه (الموضةةة) لدراســته‪.‬لذا‪ ،‬يعتربهــا‬
‫تعب ـريا عــن النيعــة الليرباليــة الفرديــة‪ ،‬و" دون أن تتوقــف مــع ذلــك عــن فضــح الف ـوارق‬
‫الطبقي ـ ــة‪ ،‬تكش ـ ــف رمب ـ ــا بش ـ ــكل أفض ـ ــل‪ ،‬م ـ ــن أي ش ـ ـ ـكل آخ ـ ــر‪ ،‬ج ـ ــوهر دينامي ـ ــة‬
‫االجتماعي‪.‬تسمح املوضة يف الواقع بالتفرد (احلاجة إىل التميي)‪ ،‬دون االنفصال عـن‬
‫اع ــات االنتم ــاء (احلاج ــة إىل التماس ــك)‪ .‬فه ــي ش ــكل للحي ــاة‪ ،‬م ــن ب ــني أش ــكال‬
‫أخرى كثرية؛ يسـمح بـأن جيتمـع يف فعـل موحـد امليـل إىل املسـاواة االجتماعيـة‪ ،‬وامليـل‬
‫إىل التمايي الفردي‪ .‬أي‪ :‬إىل التنوع‪.‬‬
‫أخريا تعيش املوضة من هذه املفارقة اخلاصة حبداثتها‪ ،‬إهنـا شـكل دالـم‪ .‬يف حـني‪ ،‬إن‬
‫سبب وجودها هو التبدل املستمر‪ .‬ومن دون ثورة مستمرة يف األفكـار واألذواق‪ ،‬لـن‬
‫‪213‬‬
‫تكون املوضة سوى شكل اجتماعي عابر‪".‬‬
‫وهكــذا‪ ،‬فاألشــكال هــي منتجــات لإلنســان وللتفــاعالت ال ـيت تربطهــا مــع بعضــها"‬
‫فهــي متيــل أيضــا ألن تصــبح موضــوعات أو أغراضــا (‪ )Objets‬جتــد بنفســها قـوانني‬
‫تطورها اخلاصة هبا‪.‬إن عمليـة التجريـد هـذه جتعـل األشـكال االجتماعيـة تعمـل مبنطـق‬
‫استقالل ذايت لدرجة جتعلها غريبة عن األشخاص الذين أوجدوها‪.‬كذلك يشري زميل‬

‫‪ - 217‬فليب كابان وفرانسوا دوتريو‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.78-72:‬‬


‫‪ - 213‬فليب كابان وفرانسوا دوتريو‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪78:‬‬

‫‪169‬‬
‫إىل أن ــه‪ ،‬مبج ــرد م ــا تنش ــأ ‪ -‬ح ــىت مبس ــاعدة حساس ــيتنا الفردي ــة املب ــالغ فيه ــا‪ -‬فـ ـ ن‬
‫األغراض القانونية والفنية االعتيادية‪...‬تفلت منا لدرجة أننا م نعـد أبـدا أسـيادا علـى‬
‫التأثريات اليت قد حترض عليها هذه األغراض‪.‬ومع ذلك‪ ،‬تظل األشـكال االجتماعيـة‬
‫عناصر حمايثة حلياتنا اليومية من با أهنا تشارت يف إدارة العالقات بني األفراد‪.‬وهذه‬
‫هــي حــال النقــود‪ ،‬فهــي كــأداة ضــرورية للتبــادل التجــاري‪ ،‬تســهل النمــو االقتصــادي‪،‬‬
‫لكنها يف الوقت ذاته‪ ،‬تسجن األفراد ضـمن عالقـات اجتماعيـة ضـعيفة‪ .‬ويف الواقـع‪،‬‬
‫مــع تكــاثر هــذا الــنمط مــن التفاعــل االقتصــادي‪ ،‬يــتقلص الربــاط االجتمــاعي بشــكل‬
‫متياي ـ ــد‪ ،‬ليص ـ ــبح جم ـ ــرد عالق ـ ــات ش ـ ــخص‪ /‬نق ـ ــود‪ /‬ش ـ ــخص‪ ،‬خاض ـ ــعة للحس ـ ــا‬
‫ولإلس ـ ـ ـماتيجيات‪.‬هذا املي ـ ــل الثابـ ـ ــت لتشـ ـ ــييء الرب ـ ــاط االجتمـ ـ ــاعي يقـ ـ ــع يف قل ـ ــب‬
‫اإلسماتيجية الثقافية للحداثة‪.‬‬
‫لكــن إذا مــا كــان مثــة إس ـماتيجية‪ ،‬فهــذا قبــل كــل شــيء‪ ،‬ألن النــاس اليســتطيعون أن‬
‫يقللـوا مــن األشــكال االجتماعيــة‪ .‬ويف الواقــع‪ ،‬إذا نظرنــا إىل الفــن أو التقنيــة أو العلــم‬
‫أو األخالق‪.‬فكل هذه األشكال عناصر ضرورية إلنتاج ثقافة معينة‪.‬فهي تقدم إطـارا‬
‫للــروابط االجتماعية‪.‬وحتســن الغــىن الفــردي واجلمــاعي‪...‬وعلى الــرغم مــن أهنــا تصــبح‬
‫شيئا فشيئا غريبة عنا‪.‬فهي األساس احلمـيم‪ ،‬لـيس فقـط حلياتنـا الشخصـية (إذا فكرنـا‬
‫بدور العاللة)‪ ،‬بل كذلك لكامل احلياة يف اجملتمع‪.‬فمن جهة أوىل‪ ،‬إن األشكال هـي‬
‫الوسيلة الضرورية لتثمني الذاتية‪ .‬ومن جهة أخرى‪ ،‬يعمـل هـذا التـدريب اخلشـن علـى‬
‫جل ـ ــم ك ـ ــل تلقالي ـ ــة فعلي ـ ــة جملتمعن ـ ــا الف ـ ــردي‪.‬تلكم هـ ـ ــي املفارق ـ ــة املركيي ـ ــة جملتمعاتن ـ ــا‬
‫‪218‬‬
‫احلديثة‪".‬‬
‫وعليــه‪ ،‬تبقــى سوســيولوجيا األشــكال عنــد زميــل غامضــة ومعقــدة وملتبســة‪ ،‬حتتــاج إىل‬
‫توضيح دقيق‪ ،‬وتطبيق إجرالي عملي أكثر بساطة وكفاية ومرونة‪.‬‬

‫‪ - 218‬فليب كابان وفرانسوا دوتريو‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.72-78:‬‬

‫‪171‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬التصور المنهجي‬

‫يتبىن زميل املقاربة التفاعلية يف دراسة الظواهر اجملتمعية‪.‬مبعىن أنه يستعمل املنهجية‬
‫الكيفية‪ .‬يف حني‪ ،‬يستعمل ماكس فيرب املنهج التفهمي‪ ،‬بينما يستخدم دوركامي‬
‫املنهج التفسريي الوضعي والكمي‪ .‬ويعين هذا كله أن زميل قد ركي على الفرد يف‬
‫عالقته التفاعلية مع األفراد ااخرين‪ ،‬ضمن سياق تفاعلي جمتمعي قالم على الفعل‬
‫ورد الفعل‪ .‬أي‪ :‬درس زميل العالقة التفاعلية القالمة بني الفرد واجملتمع‪ ،‬أو درس‬
‫خمتلف التفاعالت املتبادلة بني األفراد‪ ،‬مثل‪ :‬الصراع‪ ،‬والتنافس‪ ،‬والتعاون‪،‬‬
‫والتضامن‪ ،‬والغرية‪ ،‬واألهواء‪ ،‬والعواطف‪ ،‬واجلمعيات‪ ،‬وتبادل الرسالل‪...‬ويعين هذا‬
‫ضرورة االهتمام بالتفاعالت اليت تفرزها احلياة اليومية العادية بأشكاهلا االجتماعية‪.‬‬
‫كما أن هذه املقاربة التفاعلية ذات طبيعة سياقية مرتبطة بالفعل املتبادل يف نطاقه‬
‫اليما واملكا ‪.‬‬
‫وهبذا‪ ،‬تعتمد املقاربة التفاعلية عند زميل على جتربة األفراد يف العام أو الواقع اليومي‪،‬‬
‫والمكيي باخلصوص على التفاعل املتبادل‪ ،‬ودراسة الفاعل تبعا للواقع الطبيعي الذي‬
‫يعيش فيه‪.‬أي‪ :‬دراسة "وجهة نظر الفاعلني االجتماعيني باحلسبان‪ ،‬إذ إن هتالء‬
‫يبنون عاملهم االجتماعي من خالل املعا اليت خيصون هبا األشياء واألفراد والرموز‬
‫‪201‬‬
‫اليت حتيط هبم‪".‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬كان زميل هو املمهد لظهور التفاعلية الرميية أو مدرسة شيكاغو األمريكية‬
‫مع جورج هربرت ميد وألبيون مسول وغريمها‪ .‬وبذلك‪ ،‬أصبح علم االجتماع علما‬
‫ميدانيا‪ ،‬يهتم بدراسة املدينة‪ ،‬وحل مشاكلها االجتماعية‪ ،‬واالجتاه إىل علم اجتماع‬

‫‪ -‬آالن كولون‪ :‬مدرسة شيكاغو‪ ،‬تر ة‪ :‬مروان بطش‪ ،‬املتسسة اجلامعية للدراسات والنشر‪،‬‬ ‫‪201‬‬

‫بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل ‪2102‬م‪ ،‬ص‪.21:‬‬

‫‪171‬‬
‫غري نظري‪ ،‬بل قالم على العمل امليدا ‪ .‬والدليل على تأثر مدرسة شيكاغو بيميل‬
‫ما أورده آالن كولون يف كتابه (مدرسة شيكاغو)‪ ":‬لقد لعب ألبيون‬
‫سمول(‪0826-0312‬م) دورا كبريا يف تأسيس علم االجتماع‪ ،‬ال يف شيكاغو‬
‫فحسب‪ ،‬بل ويف جممل الواليات املتحدة‪.‬ولسوف يدرس مسول‪ ،‬بعد أن بدأ بدراسة‬
‫الهوتية‪ ،‬يف برلني‪ -‬حيث التقى جورج زيمل الذي كان طالبا آنئذ قبل أن يمت‬
‫بصماته على علم االجتماع األملا واألورويب‪ -‬مث يف ليبييغ حيث درس بني األعوام‬
‫‪0378‬و‪0330‬م التاريخ والفلسفة والسوسيولوجيا األملانية‪ .‬مث عاد مسول إىل‬
‫الواليات املتحدة‪ ،‬وحصل على شهادة الدكتوراه يف التاريخ من جامعة جون‪-‬‬
‫هوبكني يف العام ‪0338‬م‪ ،‬مث أصبح مدرسا ملادة التاريخ يف معهد كوليب حيث ظل‬
‫يدرس املادة حىت العام ‪0332‬م‪.‬‬
‫هنات شرع مسول يدرس مادة علم االجتماع‪ ،‬وخباصة علم االجتماع األملا ‪.‬فألف‬
‫يف العام ‪ ،0381‬كتابا قرأه كل طلبة علم االجتماع يف الواليات املتحدة طوال‬
‫عشرين سنة‪ ،‬وقد استعار عنوانه كل من روبريت بارت وأرنست بورجيس يف‬
‫عام‪ 0820‬لكتا هلما حول علم االجتماع‪ ،‬ولكن بعد أن بدال‪ ،‬وعلى حنو له‬
‫داللته العميقة‪ ،‬كلمة جمتمع بكلمة علم االجتماع‪ ،‬وهكذا وباالنتقال من اجليل‬
‫األول لعلماء علم االجتماع يف شيكاغو إىل اجليل الثا ‪ ،‬ننتقل من مشروع املعرفة‬
‫العلمية للمجتمع إىل البناء العلمي للنظرية اليت ستتيح‪ ،‬كما كان معتقدا‪ ،‬دراسة‬
‫هذا اجملتمع‪.‬‬
‫م تدم كتابات آلبيون مسول بعد وفاته‪ ،‬كما أن عروضه النظرية‪ -‬وخباصة تصنيفه‬
‫للحوافي البشرية يف ستة أنواع هي‪ :‬الصحة‪ ،‬والرخاء املادي‪ ،‬واملخالطة االجتماعية‪،‬‬
‫واملعرفة‪ ،‬واجلمال‪ ،‬واإلنصاف‪ -‬م تمت هلا آثارا عميقة يف علم االجتماع‪.‬فهو م‬
‫يعد يقرأ اليوم كعام اجتماع إال من قبل بعض البحاثة الذين يهتمون بتاريخ تطور‬
‫علم االجتماع األمريكي‪ .‬بيد أنه ينبغي اإلشارة إىل أنه كان حيث طالبه على القيام‬

‫‪172‬‬
‫ببحث ميدا نشط‪ ،‬ومبراقبة مباشرة ال أن ينصرفوا إىل التأمالت النظرية و"هو‬
‫‪200‬‬
‫غارقون يف مقاعدهم"‪".‬‬
‫ومن جهة أخرى‪ ،‬ميكن احلديث عن نوعني من علم االجتماع على صعيد املنهج‪:‬‬
‫علم اجتماع كمي يعتمد على آليات العلوم الطبيعية والرياضيات واإلحصاء‬
‫الكمي‪ ،‬ويتصف بالنفعية كما عند دوركامي ‪ -‬مثال‪-‬؛ ومنهج كيفي أو نوعي‬
‫وإنسا يقوم على املعرفة العملية املباشرة‪ ،‬وميثله علم االجتماع امليدا ‪ ،‬وميارسه‬
‫ماكس فيرب وزميل والنظرية التفاعلية الرميية األمريكية مبدرسة شيكاغو‪.‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬تستند املقاربة التفاعلية إىل جمموعة من الوسالل املنهجية الكيفية‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫استخدام الوثالق الشخصية‪ ،‬والسري الذاتية‪ ،‬والرسالل اخلاصة؛ واالستعانة‬
‫بقصاصات الصحف‪ ،‬واملذكرات‪ ،‬واليوميات‪ ،‬والكتابات الشخصية أو الغريية‪،‬‬
‫واملقابالت املباشرة‪ ،‬والتحقيقات‪ ،‬والروايات أو الشهادات اليت أدىل هبا أولئك‬
‫األفراد الذين هم موضوع البحث‪ ،‬ودراسة احلاالت أو القضايا املعينة؛ واالستعانة‬
‫مببدإ املعايشة أو املالحظة املشاركة‪ ،‬والعمل التوثيقي‪ ،‬والدراسة امليدانية‪...‬‬
‫إذاً‪ ،‬هتدف التفاعلية التبادلية إىل " فهم ما يفعله األفراد‪ ،‬وذلك بالوصول‪ ،‬من‬
‫داخلهم‪ ،‬إىل عاملهم اخلاص‪ ،‬وسيكون املقصود أوال وصف العوام اخلاصة لألفراد‬
‫‪202‬‬
‫الذين نريد فهم ممارساهتم االجتماعية وحتليلها‪".‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬فالتفاعلية التبادلية منهجية تفهمية بامتياز‪ ،‬حتاول فهم العالقات التفاعلية‬
‫الفالمة بني األفراد‪ ،‬يف حضن اجملتمع‪ ،‬بفهمها وتأويلها داخليا وإنسانيا‪ .‬وهبذا‪،‬‬
‫يقم زميل من ماكس فيرب وفلهلم ديلثي وباقي علماء االجتماع الذين متثلوا‬
‫منهجية الفهم والتأويل‪ .‬ومن هنا‪ ،‬فقد متثل زميل املقاربة التفاعلية من جهة‪،‬‬
‫واملنهجية الكيفية من جهة أخرى‪.‬‬

‫‪ - 200‬آالن كولون‪ :‬مدرسة شيكاغو‪ ،‬صص‪.02-08:‬‬


‫‪ - 202‬آالن كولون‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.027:‬‬

‫‪173‬‬
‫عالوة على ذلك‪ ،‬فقد استعان زميل بالفلسفة وعلم النفس والتاريخ يف دراسة‬
‫الظواهر اجملتمعية‪ ،‬والسيما أن زميل أعد أطروحة جامعية حول فلسفة كانط‪.‬كما‬
‫كان زميل من املسامهني يف بلورة علم النفس االجتماعي‪ .‬ويعين هذا كله أن هنات‬
‫انتقاء منهجي‪ ،‬واجلمع بني جمموعة من املقاربات يف فهم الظواهر اجملتمعية‬
‫وتفسريها وتأويلها‪ ،‬وخاصة الفلسفة وعلم النفس‪.‬‬

‫المطلب الثالث‪ :‬االنتقادات‬

‫بادىء ذي بدء‪ ،‬علينا أن نعمف بأمهية جورج زميل يف جمال الفلسفة بصفة عامة‪،‬‬
‫وعلم االجتماع بصفة خاصة‪ .‬ومن مث‪ ،‬يعد زميل من رواد مدرسة الفهم اليت وضع‬
‫أسسها فلهلم ديلثي وماكس فيرب‪ .‬كما يعد من علماء االجتماع البارزين الذين‬
‫اهتموا بسوسيولوجيا األشكال‪ .‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬يعد األ اجملهول للسوسيولوجيا‬
‫التفاعلية‪ ،‬قبل أن تنسب إىل مدرسة شيكاغو األمريكية‪.‬‬
‫أضف إىل ذلك اهتمامه الكبري بظواهر اجتماعية مثرية وحمرية وشاذة يف تلك الفمة‬
‫بالذات‪ ،‬فقارهبا زميل من وجهات خمتلفة‪ :‬سوسيولوجية‪ ،‬وفلسفية‪ ،‬واقتصادية‪،‬‬
‫وسيكولوجية‪ ،‬مثل‪ :‬املدينة‪ ،‬واملظاهر‪ ،‬واملوضة‪ ،‬والفن‪ ،‬واجلمال‪ ،‬والفقر‪ ،‬والنقود‪،‬‬
‫والدين‪ ،‬واملغامرة‪ ،‬والنساء‪ ،‬و الية الوجه‪ ،‬واألطالل‪ ،‬والثقافة‪...‬‬
‫ويكفيه فخرا أنه تأثر مبجموعة من املفكرين والفالسفة البارزين‪ ،‬أمثال‪ :‬ماكس‬
‫فيرب‪ ،‬وسوزان جورج‪ ،‬وأوغست رودان‪ ،‬وهنري برغسون‪...‬كما دفعه عصره‪ ،‬ذو‬
‫الطابع الليربايل والفردي واألدايت‪ ،‬إىل االهتمام بسوسيولوجيا الفرد يف تفاعله مع‬
‫ااخرين‪ ،‬ضمن سياق جمتمعي معني‪.‬‬

‫‪174‬‬
‫وما مييي زميل أيضا عن دوركامي وماكس فيرب هو االهتمام بالتفاعل االجتماعي الذي‬
‫جيمع بني جمموعة من الذوات اليت تتفاعل فيما بينها‪ ،‬ضمن سياقات اجتماعية‬
‫خمتلفة‪ .‬ويف هذا‪ ،‬يقول فليب كابان وفرانسوا دوتريو‪ ":‬يف نص صغري يعود إىل عام‬
‫‪ 0818‬وظل شهريا‪ ،‬هو (الجسر والباب)‪ ،‬قدم حتليال إحياليا للحيثية‬
‫االجتماعية‪.‬فهو يرى أن احلياة االجتماعية حركة التتوقف العالقات بني األفراد من‬
‫خالهلا عن تعديل بعضها البعض‪.‬وهذه العالقات‪ ،‬على شاكلة اجلسر الذي يربط‪،‬‬
‫والبا الذي يفصل‪ ،‬هي عالمات مليول متضاربة حنو التماسك والتبعثر‪ .‬وبشكل‬
‫أوضح‪ ،‬قدم زميل‪ ،‬يف سبيل حتليل هذه العالقات‪ ،‬تصورا رليسيا هو الفعل‬
‫المتبادل‪ .‬وببساطة هو يعين بالفعل املتبادل التأثري الذي ميارسه كل فرد على‬
‫الغري‪.‬وهو فعل موجه مبجموعة من الدوافع املختلفة (الغرالي اجلنسية‪ ،‬واملصاحل‬
‫العملية‪ ،‬واملعتقد الديين‪ ،‬ومتطلبات النجاة أو العدوان‪ ،‬واملتعة يف اللعب‪،‬‬
‫والعمل‪ ،)...‬وإن الكلية‪ -‬املتحركة دوما‪ -‬هلذه األفعال هي اليت تساهم يف توحيد‬
‫كل األفراد يف جمتمع مبجمله‪.‬‬
‫لكن موضوع حتليل زميل ليس الفرد وليس اجملتمع مبامها عليه‪ :‬كل اهتمامه يمكي‬
‫على التفاعل اخلالق بني هذين القطبني الطرفيني‪.‬إن إنتاج اجملتمع‪ ،‬هبذا املعىن‪ ،‬هو‬
‫املنبت املتسس للرباط االجتماعي‪.‬وعلى العكس من دوركامي‪ ،‬ينحاز زميل إىل‬
‫صريورة اجملتمع‪ ،‬وليس إىل الضغط الذي ميارسه هذا اجملتمع‪.‬وهلذا السبب سيتكلم‬
‫بأرحيية عن التنشئة االجتماعية أكثر مما عن اجملتمع‪.‬‬
‫ومع ذلك اليتجاهل زميل أيضا وجود بنيات ثقيلة تدفع إىل إعادة اإلنتاج‬
‫االجتماعي‪.‬وهو ببساطة ينسب هلا كيانا يقارن مع هذه األحداث امليكرواجتماعية‬
‫يف احلياة اليومية‪ ،‬مع هذه التفاعالت املتعددة والعابرة (األلفة االجتماعية) اليت‬
‫‪208‬‬
‫تشكل أيضا جوهر العالقات اإلنسانية‪".‬‬

‫‪ - 208‬فليب كابان وفرانسوا دوتريو‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.72-70:‬‬

‫‪175‬‬
‫ومن جهة أخرى‪ ،‬يالحظ على جورج زميل أنه م يوضح املقصود من شكل التفاعل‬
‫االجتماعي بشكل جيد‪ ،‬فمازال املفهوم غامضا ومعقدا وملتبسا؛ وهذا ما جعل‬
‫إميل دوركامي يصف فكر زميل بالتعقيد والغموض واإلهبام‪ .‬وجند هذه املالحظة‬
‫نفسها عند جون سكوت يف قوله‪ ":‬فكثريا ما يوصف زميل باالجتماعي‬
‫الشكلي‪.‬ومن دون أي خماوف بشأن غموض مفهومه األساس عن األشكال‬
‫االجتماعية‪ ،‬فقد أظهرت التحليالت املتعاقبة أن هذا املفهوم ضابط غري منتظم‬
‫لظواهر متنوعة تعرف بالعالقات االجتماعية‪ ،‬والعمليات االجتماعية‪ ،‬واألشكال‬
‫‪202‬‬
‫االجتماعية‪".‬‬
‫وعلى الرغم من هذه االنتقادات املشروعة‪ ،‬يبقى جورج زميل متسسا لعلم االجتماع‬
‫احلديث من جهة أوىل‪ ،‬وصاحب السوسيولوجيا التفاعلية من جهة ثانية‪ ،‬ومتسس‬
‫سوسيولوجيا األشكال من جهة ثالثة‪.‬‬

‫وخالصة القول‪ ،‬يعد جورج زميل من املتسسني احلقيقيني لعلم االجتماع احلديث‬
‫إىل جانب إميل دوركامي وماكس فيرب‪ .‬ويعترب أيضا األ اجملهول للسوسيولوجيا‬
‫التفاعلية‪ ،‬واملتسس الفعلي لسوسيولوجيا األشكال‪ ،‬ومن أبرز علماء االجتماع‬
‫الذين اهتموا بظواهر جمتمعية مثرية‪ ،‬مثل‪ :‬الفقر‪ ،‬واملوضة‪ ،‬والنقود‪ ،‬واجلمال‪،‬‬
‫والدين‪ ،‬والثقافة‪ ،‬واملدينة‪ ،‬والغريب‪...‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬فعلم االجتماع‪ ،‬عند جورج زميل‪ ،‬هو دراسة التفاعل االجتماعي‬
‫وأشكاله‪ ،‬مثل‪ :‬التبادل‪ ،‬والصراع‪ ،‬واالستعالء‪ ،‬واخلضوع‪ ،‬والسرية‪ ،‬والشرف‪...‬‬
‫أي‪ :‬يدرس احلياة اليومية أو التفاعالت امليدانية‪ ،‬مثل‪ :‬تبادل الرسالل‪ ،‬أو العالقات‬

‫‪ - 202‬جون سكوت‪ :‬خمسون عالما اجتماعيا أساسيا‪،‬ص‪.088:‬‬

‫‪176‬‬
‫املتشحة بالغرية‪ ،‬أو العرفان باجلميل‪ ...‬وهبذا‪ ،‬يكون زميل قد أسس علم اجتماع‬
‫احلياة اليومية‪.‬‬
‫ومن منظور آخر‪ ،‬التقتصر السوسيولوجيا على دراسة الفرد فقط‪ ،‬أو دراسة اجملتمع‪،‬‬
‫بل تدرس ‪ -‬حسب زميل‪ -‬العالقة التفاعلية املوجودة بني الفرد واجملتمع‪.‬‬
‫ومن جهة أخرى‪ ،‬فقد ميي زميل بني مضمون الفعل وشكله‪ ،‬وإذا كان املضمون‬
‫عبارة عن الدوافع واحلوافي واملنافع أو املصاحل اليت تدفع الفرد إىل ممارسة فعل ما‪،‬‬
‫ضمن سياق اجتماعي معني‪ ،‬ف ن شكل الفعل هو النموذج املنهجي اخلاص الذي‬
‫يتخذه هذا املضمون‬

‫‪177‬‬
‫فيلفريدو باريتو‬

‫وسوسيولوجيا التوازن المجتمعي‬

‫يعد فيلفريدو باريتو (‪0828-0323( )Vilfredo Pareto‬م) من أهم‬


‫السوسيولوجيني واالقتصاديني اإليطاليني‪ .‬ولد يف باريس من أم فرنسية‪ ،‬وأ‬
‫إيطايل‪ .‬وهو من طبقة اجتماعية متوسطة‪ .‬تابع دراساته العليا يف شعبة اهلندسة‪،‬‬
‫وقد كان متفوقا يف الرياضيات والفييياء‪ ،‬وأهنى دراساته العليا بتأليف أطروحة‬
‫جامعية يف موضوع (المبادىء األساسية لتوازن األشياء الصلبة)‪ .‬وقد دفعه هذا‬
‫االهتمام إىل البحث يف مبدإ التوازن يف االقتصاد وعلم االجتماع معا‪ .‬وقد اشتغل‬
‫مهندسا يف شركة السكك احلديدية‪.‬مث ختلى عن ذلك من أجل احلصول على‬
‫العضوية يف عية فلورنسا اإليطالية لالقتصاد السياسي‪ .‬وبعد ذلك‪ ،‬صار أستاذا‬
‫جامعيا يف فلورانسا ولوزان بسويسرا‪ .‬وقد كان باريتو مفكرا ثوريا راديكاليا‪ ،‬وناقدا‬
‫سياسيا جريئا؛ إذ صب جام غضبه على االشماكيني‪ ،‬والعسكريني‪ ،‬واحملافظني‬
‫احلكوميني على حد سواء‪.‬‬

‫‪178‬‬
‫ وقد كتب باريتو جمموعة من املقاالت السياسية ضد احلكومة؛ مما جعله عرضة‬،‫هذا‬
‫ملضايقات السلطة اليت كانت تتدخل ملنعه من ممارسة التدريس اجلامعي بني حني‬
.‫وآخر‬
‫ (محاضرات‬:‫ مثل‬،‫أضف إىل ذلك فقد كان لباريتو جمموعة من املتلفات املهمة‬
‫ و( مقرر االقتصاد‬،206)‫ و(األنظمة االشتراكية‬،201)‫في االقتصاد السياسي‬
‫ و(مختصر علم‬،502)‫ و(كتابات حول منحنى توزيع الثروة‬،507)‫السياسي‬
...‫ وغريها من الكتب واملتلفات القيمة‬،508)‫االجتماع‬
‫ ما مقومات التفكري االجتماعي عند فيلفريدو باريتو؟ وما ممييات منهجه‬،ً‫إذا‬
‫السوسيولوجي؟ وما أهم االنتقادات املوجهة إليه؟ هذا ما سوف نتوقف عنده يف‬
:‫املطالب التالية‬

215
-Vilfredo Pareto :Cours d'économie politique, Lausanne,
F. Rouge, 1896–97 (2 volumes).
216
-Vilfredo Pareto : Les systèmes socialistes. Cours professé à
l'Université de Lausanne, Paris, V. Giard & E. Brière,
"Bibliothèque Internationale d'Économie Politique", 1902-03 (2
volumes).
217
- Vilfredo Pareto : Manuel d'économie politique. Traduit
sur l'édition italienne par Alfred Bonnet (revue par l'auteur), Paris,
V. Giard & E. Brière, 1909.
- Vilfredo Pareto : Écrits sur la courbe de la répartition de
218

la richesse, Genève, Librairie Droz, 1965 (réunis et présentés par


Giovanni Busino).
- Vilfredo Pareto : Traité de sociologie générale : édition
219

française par Pierre Boven, revue par l'auteur. Préface de


Raymond Aron, Genève, Librairie Droz, 1968.

179
‫المطلب األول‪ :‬التصور النظري‬
‫إذا كان ابن خلدون اليفصل بني التاريخ وعلم االجتماع‪ ،‬وإذا كان هربرت سبنسر‬
‫أيضا اليفصل علم االجتماع عن البيولوجيا‪ ،‬ف ن فيلفريدو باريتو اليفصل علم‬
‫االجتماع عن علم االقتصاد‪ .‬ويعين هذا أن باريتو من دعاة علم االقتصاد‬
‫االجتماعي‪ .‬ومن مث‪ ،‬فهو مييي بني األفعال املنطقية اليت يدرسها علم االقتصاد‪،‬‬
‫واألفعال غري املنطقية اليت يدرسها علم االجتماع‪ ،‬كما يتضح ذلك جليا يف كتابه‬
‫(مختصر علم االجتماع ) الذي صدر سنة ‪0806‬م‪.221‬‬
‫آراء فيلفريدو باريتو‪ -‬بشكل جيد‪ -‬إال بالتوقف عند الفروع‬ ‫والميكن استيعا‬
‫التالية‪:‬‬

‫الفرع األول‪ :‬مفهوم السوسيولوجيا‬

‫إذا كان باريتو قد درس االقتصاد دراسة علمية عميقة‪ ،‬وفق منهجية علمية جتريبية‬
‫وإحصالية‪ ،‬وتوصل إىل جمموعة من النظريات االقتصادية املتميية واملقمنة بامسه‪ ،‬ف ن‬
‫هذا العلم الميكن تفسريه إال يف حدود ضيقة‪ ،‬فالبد من االستعانة بالتفسري‬
‫االجتماعي لطابعه العام‪ .‬وهذا إن دل على شيء‪ ،‬ف منا يدل على مدى التداخل‬
‫املوجود بني علم االقتصاد وعلم االجتماع‪ ،‬فكل واحد يفسر ااخر؛ إذ مثة عالقة‬
‫وطيدة بني ما هو خاص مبا هو عام‪ .‬وهكذا‪ ،‬فعلم االقتصاد علم خاص‪ .‬يف حني‪،‬‬
‫يعد علم االجتماع علما عاما‪.‬‬

‫‪- Vilfredo Pareto :Trattato di sociologia generale, Firenze,‬‬


‫‪220‬‬

‫‪G. Barbéra, 1916.‬‬

‫‪181‬‬
‫ومن جهة أخرى‪ ،‬ميي باريتو‪ ،‬داخل ميدان علم االجتماع‪ ،‬بني علم جترييب منطقي‬
‫وغري التجرييب كما ينطبق ذلك‬ ‫يندرج ضمن خانة العلوم؛ والعلم غري املنطقي‬
‫على بعض املفاهيم االجتماعية‪ ،‬مثل‪ :‬احلرية‪ ،‬واملساواة‪ ،‬والتضامن‪ ،‬والدميقراطية‪،‬‬
‫والتفاهم‪ ،‬والتسامح‪ ...‬وهذه املفاهيم العالقة هلا بالعلم البتة‪ ،‬فهي مصطلحات‬
‫جمردة حمضة‪ ،‬وذات طبيعة الهوتية وأخالقية وميتافيييقة‪ .‬ويف هذا‪ ،‬يقول الباحث‬
‫املصري أمحد اخلشا ‪ " :‬وكان باريتو ينظر إىل اجملتمع ككل ممابط بني أجياله‬
‫وظواهره معتمدا على املنهج العلمي يف تطبيقاته على الظواهر االجتماعية‪ ،‬واضعا‬
‫نصب عينيه أن هدف العلوم يعا التواصل إىل معرفة العام‪ ،‬عن طريق عمليات‬
‫التعميم والتجريد اليت جتري على احلقالق املستمرة من احلس أو التجربة؛ واهلدف‬
‫األعلى هو السيطرة على جتربة املستقبل كلما أمكن ذلك‪ ،‬وأبعد من ذلك التنبت يف‬
‫حاالت معينة األمر الذي يهيء للفرد واجلماعة أن تدير أمورها حبيث تستطيع‬
‫جماهبة الواقع‪.‬‬
‫كما أنه نظر إىل علم االجتماع كعلم منطقي جترييب‪ ،‬فذهب إىل التمييي بني العلم‬
‫املنطقي التجرييب‪ ،‬والعلم غري املنطقي أوغري التجرييب يف حتليله لتاريخ اجملتمع‪ ،‬فالعلم‬
‫البد أن يكون منطقيا جتريبيا مبعىن أنه يعتمد على املالحظة والتجريب فحسب‪،‬‬
‫فكل تقومي أو تقدير أو إطالق‪ ،‬اليدخل يف دالرة العلم‪ ،‬وكل فكرة الختضع هلذا‬
‫املنهج تعترب غري علمية مثل الدميقراطية واحلرية واملساواة والتضامن‪.‬هذه األفكار اليت‬
‫ييخر هبا الفكر االجتماعي املعاصر (وكثري من آراء سبنسر وكونت حنو التقدم) غري‬
‫علمية‪ .‬بل هي من املنبع نفسه الذي صدرت عنه كل النظريات اخلرافية اليت‬
‫انتقدوها‪"220.‬‬

‫‪ -‬أمحد اخلشا ‪ :‬التفكير االجتماعي‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬طبعة ‪0830‬م‪،‬‬ ‫‪220‬‬

‫ص‪.221:‬‬

‫‪181‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬فباريتو عام اجتماع وضعي جديد‪ ،‬يدعو إىل دراسة الظواهر اجملتمعية يف‬
‫ضوء الرياضيات والفييياء والكيمياء والعلوم الطبيعية‪ ،‬واالستفادة من املناهج املنطقية‬
‫والتجريبية‪ .‬ويعين هذا أنه حياول أن "يعلمن" علم االجتماع‪ ،‬ويرسيه على دعالم‬
‫التجريب املادي واحلسي‪.‬أي‪ :‬أسس باريتو سوسيولوجيا جتريبية منطقية مثل‬
‫أوجست كونت وإميل دوركامي‪.‬‬
‫أما عن موضوع السوسيولوجيا‪ ،‬فهو الفعل اإلنسا أو التصرف الفردي داخل‬
‫السياق اجملتمعي‪ ،‬بالتمييي بني األفعال املنطقية اهلادفة واألفعال غري املنطقية‪ .‬ويعين‬
‫هذا أن الفعل تصرف اجتماعي موجه إىل حتقيق هدف معني‪ .‬ومن مث‪ ،‬فهو حيمل‪،‬‬
‫يف طياته‪ ،‬دالالت اجتماعية معينة‪ ،‬ضمن سياقات جمتمعية معقدة ومركبة ومتعددة‪.‬‬
‫ويرتبط هذا الفعل احلركي بدوافع وحمفيات هلا عالقة تامة ووثيقة بأهداف معينة‪.‬‬
‫لذا‪ ،‬فالوحدة األساسية للبحث السوسيولوجي عند باريتو هي الفعل االجتماعي‪.‬‬
‫ويقم هذا املفهوم من تصورات ماكس فيرب(‪ ،)Max Weber‬ويورغ‬
‫‪222‬‬
‫زميل(‪ ،)Simmel‬وفلهلم ديلثي(‪...)Dilthey‬‬
‫ومن مث‪ ،‬فهدف الباحث هو المكيي على األفعال االجتماعية فهما وتأويال‪ ،‬بالتمييي‬
‫بني األفعال اخلارجية (السلوكية)‪ ،‬واألفعال الداخلية الشعورية ( الداخلية أو‬
‫الواعية)؛ والتمييي أيضا بني أفعال السبب وأفعال اهلدف؛والتمييي كذلك بني أفعال‬
‫التبادل والتفاعل والتواصل والعالقات‪ .‬مبعىن المكيي على األفعال من جهة‪،‬‬

‫‪222‬‬
‫‪- Passeron J.C, « Weber et Pareto : La rencontre de la‬‬
‫‪rationalité dans l’analyse sociologique » in : L.A. Gerard-Varet,‬‬
‫‪J.-C. Passeron (sous la direction de), Le modèle et l’enquête. Les‬‬
‫‪usages du principe de rationalité dans les sciences sociales, Paris,‬‬
‫‪Ed. De l’E.H.E.S.S..0881‬‬

‫‪182‬‬
‫والعالقات التفاعلية من جهة أخرى‪ .‬ومن هنا‪ ،‬يهتم باريتو بوصف الفعل‬
‫االجتماعي وفهمه وتأويله وفق سياقات اجتماعية معينة‪.‬‬
‫وعليه‪ " ،‬لقد نظر باريتو إىل علم االجتماع كعلم جترييب‪ ،‬فذهب إىل التمييي بني‬
‫العلم املنطقي التجرييب‪ ،‬والعلم غري املنطقي وغري التجرييب يف حتليله لتاريخ العلم‪،‬‬
‫فالعلم البد أن يكون منطقيا جتريبيا‪ .‬مبعىن أنه يعتمد على املالحظة والتجريب‬
‫فحسب‪ ،‬فكل تقومي أو تقدير أو إطالق اليدخل يف دالرة العلم‪ ،‬وكل فكرة‬
‫الختضع هلذا املنهج تعترب غري علمية‪ ،‬مثل‪ :‬الدميقراطية واحلرية واملساواة‬
‫والتضامن‪.‬هذه األفكار اليت ييخر هبا الفكر االجتماعي املعاصر غري علمية‪ ،‬بل هي‬
‫من املنبع نفسه الذي صدرت عنه كل النظريات اخلرافية اليت انتقدها‪.‬‬
‫وياريتو يف سعيه إىل حتديد هوية علم االجتماع‪ ،‬والتمييي بينه وبني غريه من العلوم‪،‬‬
‫رفض رفضا باتا كل ااراء اليت تدرس الظواهر االجتماعية من خالل تركييها على‬
‫جانب واحد فقط‪ ،‬أو تلك اليت تتكد تبعية خمتلف الظواهر إىل ظاهرة كلية‬
‫وحيدة‪.‬وجاء رفض باريتو من منطق أن خمتلف الظواهر االجتماعية إمنا تتساند‬
‫تساندا وظيفيا‪ ،‬حبيث تقوم كل ظاهرة بأدوارها متأثرة ومتثرة يف غريها من الظواهر‬
‫االجتماعية‪.‬هذا وقد استغل باريتو خلفتيه االقتصادية عندما أوضح أن الظواهر‬
‫االقتصادية تتأثر بالعديد من الظواهر والعوامل غري االجتماعية‪.‬ومن هذه النقطة‬
‫أكد باريتو أنه على علم االجتماع أن يهتم بدراسة اخلصالص العامة للظواهر‬
‫االجتماعية‪ ،‬على العكس من بعض العلوم‪ -‬كالتاريخ مثال‪ -‬اليت تدرس الظواهر‬
‫‪228‬‬
‫باعتبارها ظواهر منفصلة وغري متكررة من حيث اليمان واملكان‪".‬‬
‫عالوة على ذلك‪ ،‬يرى باريتو أن اهلدف من التفكري االجتماعي هو جمرد الكشف‬
‫عن احلقالق العلمية من أجل املعرفة لذاهتا‪ ،‬وليس الستخدامها لغرض أو هدف‬

‫‪ -‬وسيلة خيار‪ :‬اإليدولوجيا وعلم االجتماع‪ ،‬جدلية االنفصال واالتصال‪ ،‬منتدى املعارف‪،‬‬ ‫‪228‬‬

‫بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل سنة ‪2108‬م‪ ،‬صص‪.027-026:‬‬

‫‪183‬‬
‫حمدد أو معني‪ .‬مبعىن أن العام االجتماعي عليه أن يمفع عن النواحي العملية‬
‫والتطبيقية يف احلياة‪ ،‬ويكون هدفه هو العلم فقط‪ .‬ويعين هذا أن العلم يكون لذاته‪،‬‬
‫واليوظف ألغراض برا اتية أو خلدمة اجملتمع أو الستخدامه يف مكون من مكوناته‪.‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬فالسوسيولوجيا تدرس كل ماهو خاضع للمالحظة والتجربة والتحليل‬
‫املنطقي االستقرالي‪ ،‬وإبعاد كل ماهو ميتافيييقي وأخالقي وخارجي الميت بصلة إىل‬
‫الظواهر التجريبية‪ .‬كما أن علم االجتماع هو ذلك العلم الذي يهدف إىل حتليل‬
‫شروط توازن األنساق االجتماعية حتليال علميا‪ ،‬بدراسة آليات التفاعل والتساند‬
‫والتآلف بني عناصر النسق االجتماعي‪ ،‬وكذلك بني مكوناته البنيوية املتظافرة‪ .‬مث‪،‬‬
‫المكيي على ثنالية العقل والفعل‪ ،‬بالتمييي بني الفعل املنطقي والفعل غري املنطقي‪.‬‬

‫الفرع الثاني‪ :‬الفعل المنطقي والالمنطقي‬

‫ينطلق باريتو من مسلمة فلسفية واجتماعية أساسية‪ ،‬وهي أن اإلنسان ليس كالنا‬
‫عقالنيا‪ ،‬بل هو كالن العقال ‪.‬مبعىن أن جل أفعاله غري عقالنية وغري منطقية‪،‬‬
‫وليس هنات ارتباط وثيق بني الغاية والوسيلة‪ ،‬وليس هنات أيضا تطابق بني الذات‬
‫واملوضوع‪ .‬ويعين هذا أن جل أفعال اإلنسان غري منطقية؛ ألهنا مرتبطة بالغرالي‬
‫والعواطف واملشاعر‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فهي أفعال تتحكم فيها الرواسب بشكل أساس‪.‬‬
‫أما الفعل العقال ‪ ،‬فهو مرتبط باملعرفة العلمية املنطقية التجريبية‪ ،‬ويرتبط فيه الذايت‬
‫باملوضوعي‪ ،‬وتنسجم فيه الوسيلة مع الغاية واهلدف كعمل املهندس ‪ -‬مثال‪ .-‬ومن‬
‫مث‪ ،‬يدافع باريتو عن السلوت العقال أو السلوت املوجود عند اإلنسان االقتصادي‪،‬‬
‫والذي يقوم على اخلربة‪ ،‬واالستدالل‪ ،‬والتجريب‪ ،‬واالستقراء املنطقي‪.‬‬
‫ويقسم باريتو األفعال اإلنسانية إىل قسمني‪ :‬أفعال منطقية وأفعال غري منطقية‪.‬‬
‫فاألفعال املنطقية هي األفعال اليت تكون أهدافها املوضوعية متماثلة مع أهدافها‬

‫‪184‬‬
‫الذاتية‪ ،‬كما يتجلى ذلك عند اإلنسان االقتصادي‪ .‬وبتعبري آخر‪ ،‬هي التعبري‬
‫احلقيقي املباشر للطبيعة اإلنسانية‪.‬أي‪ " :‬تكون األفعال منطقية إذا كانت النتالج‬
‫اليت يتنبأ هبا الفاعل مطابقة للنتالج اليت ميكن التنبت هبا يف ضوء معرفة أوسع‪ .‬ونظرة‬
‫‪222‬‬
‫أعم وأمشل‪".‬‬
‫أما األفعال غري املنطقية‪ ،‬فهي تلك األفعال اليت التتطابق أهدافها املوضوعية مع‬
‫أهدافها الذاتية‪ .‬مبعىن أن الناس يقومون مبجموعة من األفعال اليعرفون الغرض أو‬
‫اهلدف أو املقصدية منها‪.‬أي‪ :‬تكون الدوافع غامضة ومبهمة‪ .‬ويف هذا‪ ،‬يقول أمحد‬
‫اخلشا ‪ ":‬قام الناس والييالون يقومون بأعمال دون أن يفطنوا ألي سبب يقومون‬
‫هبا‪ ،‬فالدوافع احلقيقية للفعل غالبا ما تكون خمتلفة عن األغراض اليت حيصلون‬
‫عليها‪ ،‬وهم شاعرون‪ ،‬والناس يف سعيهم للوصول ألهداف شعورية‪ ،‬كثريا ما‬
‫حيصلون على أمور م تكن يف حسباهنم‪ :‬إما ألهنم م ينتهجوا السبيل القومي‪ ،‬أو‬
‫ألهنم م يتبصروا عواقب أعماهلم‪ ،‬وتبدو هلفة الناس على املنطق والتعقل يف‬
‫حماولتهم تربير أعماهلم وإعطالها صورة منطقية على الرغم من أهنا صادرة عن دوافع‬
‫غري شعورية غامضة‪.‬‬
‫وقد أظهر كثري من الباحثني العناصر غري اليقينية يف السلوت اإلنسا ‪ ،‬وخاصة‬
‫اخلرافات واألباطيل املخمعة لتصوير السلوت بصورة منطقية‪ ،‬على الرغم من أن‬
‫‪221‬‬
‫التحليل العلمي اليتيده‪".‬‬
‫ويعين هذا أن األفعال غري املنطقية هي تلك األفعال اليت التتدي إىل غرض ما‪،‬‬
‫سواء أكان ذاتيا أم موضوعيا؛ أو هي تلك األفعال اليت يعتقد صاحبها أهنا حتقق‬
‫غرضا ما‪ ،‬ولكنها ‪ -‬يف احلقيقة‪ -‬التوصل إىل شيء؛ أو هي تلك األفعال اليت‬
‫اليهدف إليها الفعل إراديا أو شعوريا‪ ،‬على الرغم من موضوعية هذا اهلدف‬

‫‪ - 222‬أمحد اخلشا ‪ :‬التفكير االجتماعي‪ ،‬ص‪.681:‬‬


‫‪ - 221‬أمحد اخلشا ‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.628:‬‬

‫‪185‬‬
‫ووجوده بشكل معني وحمدد؛ أو هي تلك األفعال اليت توصل الفاعل إىل غاية م‬
‫يكن يقصدها‪ ،‬سواء أكانت هذه الغاية حمبوبة أم منفرة‪ .‬ومعىن هذا كله "أن‬
‫األفعال تعترب غري منطقية إذا م تكن لدى الفاعل معرفة واضحة صرحية عن‬
‫األغراض اليت يتوخاها من الفعل‪ ،‬أو إذا م تكن موجهة إىل غرض حمدود‪ ،‬أو إذا م‬
‫‪226‬‬
‫تسر يف الطريق الصحيح املوصل إىل هذا الغرض‪".‬‬
‫وعليه‪ ،‬حيدد باريتو أربعة أنواع من األفعال غري املنطقية هي‪:‬‬
‫‪‬األفعال األنموبولوجية الطقسية الرميية؛‬
‫‪‬األفعال الدينية املقدسة؛‬
‫‪‬األفعال املتعلقة باألخطاء العلمية؛‬
‫‪ ‬األفعال املتعلقة بأوهام املثقفني والسياسيني‪.‬‬
‫ويذكرنا باريتو مباكس فيرب على مستوى تقسيم األفعال إىل أفعال منطقية هادفة‬
‫وأفعال غري هادفة‪ ،‬سواء أكانت عاطفية أم تقليدية أم أخالقية‪.‬‬

‫‪ - 226‬أمحد اخلشا ‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.681-628:‬‬

‫‪186‬‬
‫الفرع الثالث‪ :‬الرواسب والمشتقات‬
‫مييي باريتو بني األفعال املنطقية القالمة على التوجيه االستداليل واملنطقي والربها ‪،‬‬
‫واألفعال غري املنطقية القالمة على اإلثارة العاطفية والوجدانية‪.‬ويعين هذا أن معظم‬
‫األفعال اإلنسانية‪ ،‬ذات الطبيعة االجتماعية‪ ،‬هي أفعال غري منطقية خاضعة‬
‫للتحفيي العاطفي والوجدا ‪ ،‬وختضع أيضا للدوافع غري العقلية‪ .‬ويعود هذا إىل قوة‬
‫اإليديولوجيات واملعتقدات االجتماعية واخلرافات والشالعات واخليعبالت والمهات‬
‫اليت يتشرهبا الفرد منذ طفولته‪ .‬ومن مث‪ ،‬فهي خاضعة لألهواء والعواطف‬
‫واالنفعاالت الذاتية‪ .‬يف حني‪ ،‬ختضع األفعال املنطقية للعقل واملنطق واالستدالل‪.‬‬
‫وغالبا‪ ،‬ما جند األفعال غري املنطقية بكثرة يف جمال السياسية‪ .‬ويسمى هذا‬
‫بالرواسب (‪ )Résidus‬واملشتقات (‪ ،)dérivations‬مادامت تصدر عن عام‬
‫العواطف واألهواء الوجدانية واالنفعالية من جهة‪ ،‬وختضع ملنطق التربير من جهة‬
‫أخرى‪.‬‬
‫وتتحقق املشتقات مبختلف الوسالل اللفظية‪ ،‬أو عرب اخلطابات املستعملة من قبل‬
‫األفراد واجلماعات لتربير أفعاهلم‪ ،‬وجعلها أكثر عقالنية ومنطقية‪ ،‬وهذا ما يسمى‬
‫بالتربير السيكولوجي‪ .‬ويعين هذا أن املشتقات عبارة عن تربيرات منطقية ألفعال‬
‫عاطفية وانفعالية وهووية‪ ،‬يراد منها إقناع ااخرين مبنطقيتها ومعقوليتها‪ .‬وهي ليست‬
‫يف حاجة إىل هذا التربير املنطقي‪ .‬ويديل باريتو مبثال واضح يف هذا اجملال‪ ،‬فالثوريون‬
‫يتصارعون من أجل قلب نظام اجتماعي استبدادي‪ ،‬وتعويضه بنظام اجتماعي آخر‬
‫أكثر عدالة وحرية ومساواة ودميقراطية‪ .‬وبعد سيطرهتم على احلكم‪ ،‬ميارسون بدورهم‬
‫ذلك االستبداد‪ ،‬فيربرون أفعاهلم غري املنطقية وغري الشرعية بتعداد الظروف املسببة‪،‬‬
‫فريجعون ذلك إىل أعداء السياسة‪ ،‬وقالقل املعارضة‪ ،‬وظروف اإلرها ‪ ،‬واملتامرات‬
‫األجنبية‪ ،‬وهتديدات األقليات‪ ،‬والظروف غري املتوقعة‪...‬‬

‫‪187‬‬
‫أما الرواسب (‪ ،)Résidus‬فهى مبثابة تعبريات عن العواطف واملشاعر‪ .‬وهي‬
‫ميول نفسية ثابتة تتوسط العالقة بني العواطف والفعل‪ .‬وبتعبري آخر‪ ،‬الرواسب‬
‫جمموعة من الدوافع واحلوافي الغرييية غري املنطقية الىت تتثر يف سلوت الشخص‪،‬‬
‫عندما ال يستطيع التحكم فيها‪ .‬ومبا أن اجلماهري أو العامة التستطيع أن تتحكم يف‬
‫هذه الرواسب أو تضبطها‪ ،‬ف ن سلوكها كله يكون موجهاً مبثل هذه الرواسب‪ .‬يف‬
‫حني‪،‬الخيضع سلوت الصفوة أو النخبة ملثل هذه الرواسب؛ ألهنا تتمتع بقدرات‬
‫هاللة على التحكم يف تلك الرواسب وضبطها‪ ،‬والتصرف مبنأى عن تأثريها‪.‬‬
‫أما عن دور هذه الرواسب ووظالفها‪ ،‬فتتمثل يف حتقيق التوازن والتكامل والتساند‬
‫والتآلف بني خمتلف عناصر النسق اجملتمعي‪.‬‬
‫والرواسب أصناف ستة هي‪:‬‬
‫‪‬رواسب الربط والتوليف‪ ،‬ب قامة عالقات منطقية بني األفكار واألشياء‪.‬وحييل‬
‫هذا على الذكاء والقدرة على اإلبداع واالبتكار‪.‬ويرتبط هذا بتشكل احلضارات؛‬
‫بناؤه‬ ‫‪‬رواسب المحافظة على التجمعات واالرتبايات‪ ،‬باحلفاظ على ما‬
‫وتشكيله وتأسيسه بغية حتقيق التوازن‪ ،‬واحلفاظ على النظام العام؛‬
‫‪‬رواسب الحاجة إلى التعبير عن المشاعر‪ ،‬بطريقة فردية (الرومانسية)‪،‬‬
‫أوبطريقة اعية (الطقوس والعادات واألعراف)‪ ،‬وهذا كله من أجل حتقيق متاسك‬
‫اجملتمع وتوازنه؛‬
‫‪‬رواسب النزعة إلى االجتماع‪ ،‬تعرب عن ميل الفرد إىل اجلماعة بغية االندماج‬
‫فيها فكرا وشعورا وفعال‪ ،‬وكذلك من أجل حتقيق توازن اجملتمع ومتاسكه؛‬
‫‪‬رواسب التكامل الذاتي والشخصي‪ :‬ترتبط مبيل الفرد إىل احملافظة على الذات‬
‫الشخصية‪ ،‬وحتقيق تكامله الوجودي واهلويايت‪ ،‬والدفاع عن نفسه وشخصيته‬
‫ومروءته؛‬
‫‪‬رواسب الجنس‪ :‬ترتبط مبعايري السلوت اجلنسي وقواعده الثقافية‪.‬‬

‫‪188‬‬
‫ولكن ميكن جتميع هذه الرواسب كلها يف سلوكني اجتماعيني مهمني‪ :‬سلوت‬
‫احملافظة القالم على التقليد والثبات واملوافقة واحلفاظ على النظام؛ وسلوت التجديد‬
‫القالم على اإلبداع والتطوير وإعادة البناء‪.227‬‬
‫أما املشتقات‪ ،‬فلها عالقة وثيقة بالرواسب‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فاملشتقات ما هي إال تربيرات‬
‫عقلية للرواسب‪ .‬ومن مث‪ ،‬فوظيفتها هي إضفاء املعقولية والطابع املنطقي على‬
‫الرواسب أو األفعال غري املنطقية‪ .‬ومن مث‪ ،‬تسمى هذه التربيرات املنطقية‬
‫باملشتقات‪.‬‬
‫وتستند هذه املشتقات أو املربرات إىل جمموعة من الوسالل‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫‪ ‬صيغ األوامر والتأكيدات اليت تصدر من ااباء حنو أبنالهم‪ ،‬أو تكون هذه‬
‫الصيغ بذكر حقالق واقعية أو متخيلة لتربير الفعل؛‬
‫‪ ‬صيغ األوامر الصادرة عن أشخاص لهم سلطة معينة‪ ،‬باالعتماد على‬
‫مصادر حتمل يف طياهتا سلطة وهيبة وقوة لتربير األفعال غري املنطقية‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫االستعانة بالعادات والتقاليد واألعراف؛‬
‫‪‬التطابق مع المشاعر والمبادئ لتربير األفعال غري املنطقية‪ ،‬كأن تسر ااخرين‬
‫أو تواسيهم‪ ،‬أو حتقق مصاحلهم ومنافعهم‪ .‬كما تضم هذه الفئة العواطف واملصاحل‬
‫واملثاليات؛‬
‫‪‬براهين وحجج وأدلة لفظية‪ ،‬باستخدام الصور البالغية‪ ،‬واألمثال الشعبية‪...‬‬
‫وللتمثيل‪ " :‬يقول رجل السياسية‪ :‬حيقق نظامنا السياسي الدميقراطية واملصاحل العامة‬
‫لكل اجلماهري"‪.‬فهذه األدلة اللفظية غري واضحة‪.‬فماذا تعين الدميقراطية يف خطا‬
‫هذا الرجل السياسي؟ وماذا تعين اجلماهري؟ وما املقصود باملصاحل العامة؟ هذه‬
‫التعابري عبارة عن مشتقات ومربرات لرواسب غري منطقية‪.‬‬

‫‪ -‬إبراهيم عثمان وآخرون‪ :‬نظريات في علم االجتماع‪ ،‬الشركة العربية املتحدة للتسويق و‬ ‫‪227‬‬

‫التوريدات‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬طبعة ‪2101‬م‪ ،‬ص‪.008:‬‬

‫‪189‬‬
‫وهكذا‪ ،‬تقوم الرواسب بأدوارها املتعددة‪ ،‬يف الواقع االجتماعي‪ ،‬باالعتماد على‬
‫مشتقاهتا ومربراهتا وترشيدها املعياري‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬وتتحكم الرواسب يف النخب أثناء دوراهنا وتناوهبا حول السلطة خالل البناء‬
‫الطبقي‪ ،‬وتعمل من أجل التوازن والتساند والتآلف‪.‬عالوة على ذلك‪ ،‬خيضع توزيع‬
‫الرواسب للتغري حسب دوران النخب‪ ،‬أو حسب تغري مواقع احلكم بني فئة‬
‫الثعالب وفئة األسود‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬مييي باريتو بني الرواسب‪ ،‬واملشتقات‪ ،‬والعواطف الوجدانية‬
‫(‪ .)Sentiments‬فالعواطف هي مشاعر وأحاسيس التتخذ طابعا منطقيا‪،‬‬
‫وجماهلا هو علم النفس‪.‬أما الرواسب فهي اليت " تتخلل العواطف الوجدانية واألفعال‬
‫أو التعبريات‪ ،‬فهي مفاهيم سوسيولوجية حتليلية تشري إىل التفسريات املتنوعة‬
‫للعناصر الثابتة يف الظاهرة االجتماعية‪"223.‬‬
‫أما املشتقات‪ ،‬فتشري " إىل التفسريات املتنوعة للعناصر الثابتة اليت تضفي املشروعية‬
‫على النشاط غري العقال لتظهره يف صورة نشاط عقال ‪.‬‬
‫وبعد ذلك‪ ،‬يتكد باريتو أن األفعال االجتماعية‪ ،‬بالرغم من تنوعها واختالفها‪،‬‬
‫تصدر عن دوافع ثابتة‪ ،‬وأن اإلنسان مييل باستمرار إىل منح هذه األفعال تفسريات‬
‫وتربيرات معينة‪ ،‬تلك اليت أطلق عليها املشتقات‪ ،‬مبعىن أهنا مشتقة من العواطف‪،‬‬
‫غري أن باريتو م يوضح لنا متاما كيف حتدد الثوابت أو الرواسب أمناط السلوت‬
‫املختلفة على حنو حمدد‪."228.‬‬

‫‪ - 223‬حممد ياسر اخلواجة‪ :‬علم االجتماع االقتصادي بين النظرية والتطبيق‪ ،‬األهايل للطباعة والنشر‬
‫والتوزيع‪ ،‬دمشق‪ ،‬سورية‪ ،‬الطبعة األوىل سنة‪0883‬م‪ ،‬ص‪.62:‬‬
‫‪ - 228‬حممد ياسر اخلواجة‪ :‬علم االجتماع االقتصادي بين النظرية والتطبيق‪ ،‬ص‪.62:‬‬

‫‪191‬‬
‫وعليه‪ ،‬يرى أمحد خشا أن " الراسب ليس غريية‪ ،‬ولكنه وسيلة ختتفي وراءها هذه‬
‫الغريية أو الدافع األصلي‪.‬ومن مث كان الراسب غري منطقي ألنه يعمل على إخفاء‬
‫عمل الدافع األصلي‪ ،‬ويظهره بصورة غري صورته احلقيقية‪.‬‬
‫وعلى ذلك فاإلشباع املباشر لغريية ما أو النهوض إلرضاء دافع معني يعترب عمال‬
‫منطقيا‪ ،‬ويقرر باريتو أن العمل مبقتضى املصلحة أكثر من العمل مبقتضى الغرالي‬
‫والدوافع‪ ،‬ألنه يرى أن العمل مبقتضى الغرالي عمل غري اجتماعي‪ .‬أي‪ :‬إنه يصطدم‬
‫باألوضاع االجتماعية‪ ،‬أما املصاحل‪ ،‬فهي دوافع من طبقة أخرى أكثر صالحية‬
‫ومالءمة للمجتمع‪ ،‬ومن مث كان العمل مبقتضاها أكثر منطقية‪.‬‬
‫أما املصاحل فهي الدوافع اليت جتعل الفرد ينهض الكتسا أو حتصيل املنافع املادية‪،‬‬
‫سواء كانت نافعة حقا أم بسيطة‪ ،‬ويناظرها العمل أيضا على كسب االعتبار واملركي‬
‫‪281‬‬
‫االجتماعي‪".‬‬
‫ومن جهة أخرى‪ ،‬تنقسم أنظمة احلكم إىل قسمني‪ :‬أنظمة تستخدم اإلغراء‬
‫السياسي‪ ،‬وحتريك الرواسب‪ ،‬واحلديث بلغة املصاحل واملنافع؛ وأنظمة سياسية‬
‫تستخدم العنف للحد من وو الرواسب‪ ،‬واحلد من العواطف باستخدام‬
‫األسلحة‪ ،‬وقتل املتظاهرين‪ ،‬واعتقال املعارضني‪ .‬بينما التستخدم النخبة العنف إال‬
‫حبد معني‪ ،‬فهي تستخدم اإليديولوجيا‪ ،‬بدغدغة عواطف اجلماهري‪ ،‬وضبط‬
‫الرواسب‪ ،‬وتوجيه عواطف اجلماهري توجيها إجيابيا‪ ،‬قصد حتقيق توازن النسق‬
‫اجملتمعي وتكامله وتسانده وظيفيا‪.‬‬

‫‪ - 281‬أمحد اخلشا ‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.681:‬‬

‫‪191‬‬
‫الفرع الرابع‪ :‬نظرية التوازن االجتماعي واالقتصادي‬

‫يرى باريتو أن اجملتمع بناء كلي مركب ومعقد من العالقات املتبادلة بني الناس‪ .‬ومن‬
‫مث‪ ،‬فهنات من حياول هدمه‪ ،‬وهنات من حياول بناءه لتحقيق نوع من التوازن‬
‫االجتماعي‪.‬كما أن لألفراد رغبات يريدون حتقيقها وإشباعها‪ .‬ويف الوقت نفسه‪،‬‬
‫هنات موانع وعراقيل متنع هتالء األفرد من حتقيقها‪ .‬وهذا خيلق نوعا من التوتر بني‬
‫الذات الراغبة يف حتقيق املوضوع ذي القيمة‪ ،‬وعدم القدرة على امتالت ذلك‬
‫املوضوع‪ .‬ومن هنا‪ ،‬حيدث الصراع االجتماعي الداخلي أو املوضوعي‪ .‬وهكذا‪،‬‬
‫فاجملتمع خاضع ملنطق الصراع من جهة‪ ،‬ومنطق التوازن والتوافق من جهة أخرى‪.‬‬
‫ويف هذا الصدد‪ ،‬يقول أمحد اخلشا ‪ ":‬وتعترب هذه النظرة (التوازن االجتماعي)‬
‫امتدادا اراله يف االقتصاد‪ ،‬فهنات دالما صراع بني رغباتنا اليت تريد أن تشبع‪ ،‬وبني‬
‫العقبات اليت تعمض سبل إشباعها‪ ،‬ولكن الصراع اليلبث أن يتحول إىل توافق أو‬
‫توازن بني رغباتنا وبني الظروف اخلارجية‪ ،‬واجملتمع جيري على نفس النظام‪ ،‬حتدث‬
‫فيه عملية توافق تتدي إىل التوازن االجتماعي؛ أما القوة اليت تعمل يف اجملتمع مناظرة‬
‫لرغبات الفرد‪ ،‬فهي ميل الناس إىل االلتجاء إىل األفعال غري املنطقية يف ميدان‬
‫القوى اليت تعمل مناظرة للعقبات اليت تنشأ يف وجه الفرد إلشباع رغباته‪ ،‬وهي ميل‬
‫الناس إلخفاء الطابع غري املنطقي يف أفعاهلم وحماوالهتم إظهاره بصورة منطقية‬
‫معقولة‪ ،‬واألفعال غري املنطقية ختتلف من زمان إىل زمان‪ ،‬ومن مكان إىل مكان‪ ،‬إال‬
‫أنه بالرغم من ذلك فثمة عنصر أساسي فيها اليتغري بتغري األزمنة واختالف‬
‫األمكنة‪ ،‬وهذا العنصر الثابت هو اجلدير بالدراسة‪ ،‬وهو أهم موضوع لعلم‬

‫‪192‬‬
‫االجتماع عند باريتو‪ ،‬وهو العامل األساسي الذي يتثر يف طبيعة النظام‬
‫‪280‬‬
‫االجتماعي‪".‬‬
‫وعليه‪ ،‬يتأثر النظام االجتماعي بعوامل داخلية وخارجية‪ ،‬وكذلك بتاريخ اجملتمع‬
‫نفسه الذي يندرج ضمن العوامل اخلارجية‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬فنظرية التوازن هي تلك النظرية اليت تتكد على أن األنساق االجتماعية‬
‫تستعيد توازهنا إذا ما طرأ عليها اختالل أو اضطرا ‪.‬‬

‫الفرع الرابع‪ :‬نظرية المنفعة االجتماعية‬

‫تعد نظرية املنفعة من أهم النظريات اليت ركي عليها باريتو يف نظريته السوسيولوجية‬
‫واالقتصادية‪ ،‬فقد حلل نظرية املنفعة االجتماعية " يف ضوء اهتمامه بدراسة الفعل‬
‫املنطقي أو غري املنطقي‪.‬ويقصد باألفعال املنطقية تلك األفعال اليت تتوجه حنو غاية‬
‫ميكن حتقيقها موضوعيا‪ ،‬ومن خالل استخدام أفضل للوسالل املتاحة موضوعيا‪.‬‬
‫ويكاد باريتو يقصر األفعال املنطقية الرشيدة على اجملاالت االقتصادية والعلمية‪ ،‬مث‬
‫يستبعد أية متعة منطقية على أي سلوت آخر‪ .‬أما األفعال غري املنطقية‪ ،‬فهي اليت‬
‫تفشل يف حتقيق هذين املعيارين (الوسالل والغايات)‪ ،‬مستخدما يف ذلك مفهومني‬
‫مها‪ :‬اإلشباع (‪ )Satisfaction‬واملنفعة (‪ )Utility‬وحتدد اإلشباعات‬
‫االقتصادية اليت حيصل عليها الفرد تبعا لماتبية لألولويات اليت يفضلها هو نفسه‪.‬‬
‫أما املنفعة فتشري إىل اإلشباع مبفهوم اجتماعي أوسع‪ ،‬وتفمض اإلشباعات انعدام‬
‫القابلية للمقارنة بني رغبات الفرد‪.‬‬

‫‪ - 280‬أمحد اخلشا ‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.627:‬‬

‫‪193‬‬
‫وبذلك يتبني ‪ -‬كما يقول جوزيف شومبيم‪ -‬أن باريتو مييي بني نوعني من حتقيق‬
‫احلد األقصى من املنفعة‪ :‬األول احلد األقصى من املنفعة لصاحل اجلماعة الذي يشري‬
‫إىل حتقيق احلد األقصى من املنفعة للجماعة أو اجملتمع ككل وليس لألفراد‪.‬‬
‫يف حني‪ ،‬إن النوع الثا وهو املنفعة ألجل املصاحل اخلاصة يشري إىل حتقيق حد‬
‫أعلى من اإلشباع اخلاص‪ ،‬وفسر باريتو عملية شراء السلع واقتنالها على أساس‬
‫الرجوع إىل عنصرين أساسيني ومها‪ :‬أوال‪ :‬عملية التفضيل من جانب الفرد وثانيا‪:‬‬
‫إىل املستوى الذايت للسلعة ذاهتا‪"282.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬الميكن احلديث عن نظرية املنفعة االجتماعية إال بدراسة الفعل املنطقي‬
‫وغري املنطقي‪ ،‬وتبيان أمهية السلوت غري املنطقي يف احلياة االجتماعية‪.‬‬

‫الفرع الخامس‪ :‬سوسيولوجيا النخبة‬

‫يعد فيلفريدو باريتو من أهم علماء االجتماع السياسي الذين اهتموا بدراسة النخبة‪،‬‬
‫يف إرتباط وثيق مبسألة اختالل اجملتمع وتوازنه‪ ،‬بل ميكن القول‪ :‬إنه أول من اهتم‬
‫مبفهوم النخبة يف اجملالني االجتماعي والسياسي‪.‬ويف هذا الصدد‪ ،‬يقول جون‬
‫سكوت‪ ":‬قدم باريتو الكثري من املسامهات اجلديرة بالذكر إىل علم االقتصاد وعلم‬
‫االجتماع السياسي‪.‬ويعتقد علماء االقتصاد بأنه ليربايل كالسيكي‪ ،‬وله ريادة يف‬
‫تطبيق نظرية االختيار العقال على اقتصاديات الرفاهية‪.‬وعلى العكس من ذلك‪،‬‬
‫فعلى الرغم من كونه متسس علم االجتماع السياسي‪ ،‬وباألخص نظرية النخبة‪،‬‬
‫فقد عرف عنه يف هذا اجملال‪ ،‬أنه ذلك املتعصب واملناهض للدميقراطية‪ ،‬ويبحث يف‬

‫‪ - 282‬حممد ياسر اخلواجة‪ :‬علم االجتماع االقتصادي بين النظرية والتطبيق‪ ،‬ص‪.68-62:‬‬

‫‪194‬‬
‫الالعقالنية يف السياسة‪ .‬ويف احلقيقة‪ ،‬ظل باريتو إىل حد ما خملصا ملثله القدمية‪،‬‬
‫‪288‬‬
‫ولكنه عيى عدم حتقيقها إىل فشل السياسات الدميقراطية‪".‬‬
‫ويعطي باريتو للنخبة تعريفني أحدمها واسع‪ ،‬والثا ضيق‪ .‬فالنخبة‪ -‬باملفهوم‬
‫الواسع‪ -‬هي تلك الفئة القليلة من اجملتمع اليت حققت جناجا يف أنشطتها املهنية‬
‫والوظيفية‪ ،‬فوصلت إىل أعلى مراتب اهلرم اجملتمعي‪ ،‬مثل‪ :‬رجل األعمال الناجح‪،‬‬
‫واجملرم الذكي‪ ،‬والصانع املاهر‪ ،‬واألستاذ البارع‪ ،‬والفنان املشهور‪ ...‬ويعين هذا أن‬
‫هذه النخب غري حاكمة‪ .‬أما باملفهوم الضيق‪ ،‬فالنخبة هي تلك الفئة أو األقلية‬
‫احلاكمة اليت متلك السلطة والنفوذ والقرار‪ ،‬ومتارس تأثريها يف باقي الطبقات‬
‫االجتماعية األخرى‪ ،‬قصد إقناعها بتوجهاهتا السياسية واإليديولوجية‪ .‬وقد تتكون‬
‫هذه النخب من الوزراء‪ ،‬وأمناء األحيا ‪ ،‬واملعارضني السياسيني‪ ،‬واملستولني‬
‫النقابيني‪ ،‬وكبار العسكر‪ ،‬ورجال املقاوالت الصناعية النافذين‪...‬‬
‫وعليه‪ ،‬فالنخبة هي تلك الفئة أو األقلية اليت متتلك صفات استثنالية‪ ،‬وتتمتع‬
‫بقدرات وكفاءات طبيعية أو مكتسبة هاللة جدا يف بعض اجملاالت أو يف بعض‬
‫األنشطة من أنشطة احلياة االجتماعية‪ .‬ويف هذا‪ ،‬يقول باريتو‪ ":‬لنفرض نعطي لكل‬
‫فرد‪ ،‬يف يع حقول النشاط اإلنسا ‪ ،‬عالمة تدل على مهاراته بالطريقة نفسها‬
‫تقريبا اليت تعطي فيها عالمات يف االمتحانات‪ .‬وعلى سبيل املثال‪ ،‬نعطي من يربز‬
‫يف مهنته عشرة‪.‬ونعطي من الينجح يف احلصول على زبون واحد عالمة واحدة‪،‬‬
‫بشكل نستطيع معه إعطاء صفر ملن يكون غبيا حقا‪ .‬ونعطي عشرة ملن عرف أن‬
‫يربح املاليني‪ ،‬سواء كان جديا أم سيئا‪.‬ومن يربح ألوف اللريات نعطيه ست‬
‫عالمات‪.‬ومن يتوصل إىل عدم املوت جوعا فقط نعطيه عالمة واحدة‪.‬ومن يعاجل‬
‫يف مأوى املعوزين نعطيه صفرا‪...‬وهكذا دواليك بالنسبة جلميع حقول النشاط‬

‫‪ -‬جون سكوت‪ :‬خمسون عالما اجتماعيا أساسيا‪ ،‬تر ة‪ :‬رشا ال‪ ،‬الشبكة العربية لألحباث‬ ‫‪288‬‬

‫والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة الثانية سنة ‪2108‬م‪ ،‬ص‪.18:‬‬

‫‪195‬‬
‫اإلنسا ‪....‬ولننشىء ‪ -‬إذاً‪ -‬طبقة من هتالء الذين ينالون أعلى العالمات يف‬
‫‪282‬‬
‫احلقل الذي يبذلون فيه نشاطهم‪ ،‬ولنعط هلذه الطبقة اسم النخبة"‪.‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬مييي باريتو بني الطبقة الشعبية العامة والنخبة اخلاصة‪ ،‬إذ تنجذ العامة‪،‬‬
‫على املستوى النفسي‪ ،‬إىل األفكار غري املنطقية وغري العقالنية؛ وهذا ما جيعل‬
‫النخبة املتميية بالدهاء والقوة واإليديولوجيا قادرة على استغالهلم للفوز بالسلطة‬
‫السياسية‪ ،‬والظفر هبا‪ .‬وبعد ذلك‪ ،‬مييي باريتو بني النخبة احلاكمة وغري احلاكمة‪.‬‬
‫ويف هذا‪ ،‬يقول‪ ":‬بالنسبة للدراسة اليت نقوم هبا‪ ،‬وهي دراسة التوازن االجتماعي‪،‬‬
‫من املستحسن أيضا تقسيم هذه الطبقة إىل اثنتني‪.‬نضع على حدة هتالء الذين‬
‫ميثلون‪ ،‬مباشرة أو غري مباشرة‪ ،‬دورا بارزا يف احلكومة؛ فهم يشكلون النخبة‬
‫احلكومية‪.‬والباقون يشكلون النخبة غري احلكومية‪...‬وتكون لدينا ‪ -‬إذاً‪ -‬فئتان من‬
‫السكان‪ ،‬األوىل‪ :‬وهي الفئة الدنيا‪ ،‬أو الطبقة الغريبة عن النخبة‪ ،‬ولن نبحث حاليا‬
‫التأثري الذي ميكن أن متارسه يف احلكومة؛ الثانية‪ :‬وهي الفئة العليا‪ ،‬أو النخبة اليت‬
‫تقسم إىل قسمني‪ :‬أ‪ -‬النخبة احلكومية؛ ‪-‬النخبة غري احلكومية‪"281.‬‬
‫ويعين هذا أن اجملتمع ينقسم إىل فئتني كبريتني‪ :‬الفئة الدنيا من اجلماهري الشعبية‬
‫وهي فئة الحتكم؛ والفئة العليا اليت تشكل ما يسمى بالنخبة‪ .‬وهي قسمان‪ :‬خنبة‬
‫حاكمة وخنبة غري حاكمة‪ .‬ويشري مصطلح النخبة احلاكمة أو احلكومية إىل ما‬
‫يسميه رايت ميلي (‪ 286)Wright Mills‬بنخبة السلطة‪ ،‬وموسكا (‪)Mosca‬‬
‫بالنخبة السياسية‪.‬‬

‫‪234‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪Vilfredo‬‬ ‫‪Pareto :‬‬ ‫‪Traité‬‬ ‫‪de‬‬ ‫‪sociologie‬‬
‫‪générale ,1919,p :1296 et suivant.‬‬
‫‪235‬‬
‫‪- Vilfredo Pareto : OP.cit,p :1304.‬‬
‫‪236‬‬
‫‪- C.Wright Mills : L’élite du Pouvoir, Éditions Agone, coll.‬‬
‫‪« L'ordre des choses », 2012.‬‬

‫‪196‬‬
‫وعليه‪ ،‬فقد رفض باريتو التصورات املاركسية اليت التتمن بوجود النخب السياسية أو‬
‫االقتصادية‪ ،‬بل تعطي األمهية القصوى للطبقة الدنيا‪ ،‬وتعتربها هي األحق بامتالت‬
‫السلطة‪ ،‬بعد القضاء على الطبقة البورجوازية‪ ،‬واالستيالء على وسالل اإلنتاج‪ .‬يف‬
‫حني‪ ،‬يرى باريتو أن النخبة هي البديل احلقيقي لضمان استقرار اجملتمع‪ ،‬وحتقيق‬
‫توازنه املتسسايت واالجتماعي واالقتصادي والنفسي‪ .‬فالعامة من الناس مندفعة‬
‫وجدانيا‪ ،‬تتمن باالفكار الومهية غري احلقيقية‪ .‬يف حني‪ ،‬تتميي النخبة بقدرات‬
‫ومتهالت فالقة يسمح هلا بالسيطرة على احلكم‪ ،‬وقيادة اجملتمع‪.‬‬
‫وهبذا‪ ،‬تكون النخبة هي البديل احلقيقي لألنظمة املاركسية أو االشماكية‪ .‬وبالتايل‪،‬‬
‫آمن باريتو بتداول النخبة على السلطة حتقيقا جملتمع الدميقراطية‪ ،‬ورغبة يف حتقيق‬
‫متاسك اجملتمع وتضامنه وتوازنه‪ .‬ومن مث‪ ،‬حلت النخبة حمل الصراع الطبقي‪ ،‬وحلت‬
‫كلمة اجلماهري حمل الربوليتاريا‪.‬‬
‫وعلى العموم‪ ،‬الميكن احلديث ‪ -‬إطالقا‪ -‬عن أي نظام سياسي بدون احلديث عن‬
‫القوة والسيطرة واالستغالل‪ ،‬حىت يف األنظمة االشماكية والشيوعية نفسها‪ .‬لذا‪ ،‬جند‬
‫خنبا مستغلة يف كل األنظمة السياسية واالقتصادية والعسكرية‪ ،‬تعمل جاهدة على‬
‫حتقيق مصاحلها ومنافعها اخلاصة‪ ،‬إىل جانب حتقيق املصاحل العامة‪ .‬ومن مث‪ ،‬ترتبط‬
‫امللكية اخلاصة بالقوة والنفوذ والسيطرة واهليمنة‪ .‬كما يتحقق ذلك للنخبة املنتقاة‬
‫سياسيا أو اقتصاديا أو إداريا أو ثقافيا أو دينيا‪ .‬ومن هنا‪ ،‬تبقى املفاهيم االشماكية‪،‬‬
‫مثل‪ :‬اإلرادة العامة‪ ،‬والصاحل العام‪ ،‬والسيادة الشعبية مفاهيم عاطفية وطوباوية‬
‫وخيالية أكثر من كوهنا مفاهيم عقالنية وواقعية ومنطقية‪.‬‬
‫وقد قسم باريتو النخب السياسية ‪ -‬على غرار تقسيم مكيافيلي‪ -‬إىل خنبة الثعالب‬
‫وخنبة األسود‪.‬فالنخبة األوىل تتكون من فئة الشيو ‪ ،‬وقد استولت على احلكم‬
‫بالدهاء واحليلة واخلديعة‪ .‬وتتكون النخبة الثانية من فئة الشبا اليت تنتمي إىل‬
‫الطبقة الدنيا من عموم اجملتمع‪ .‬وتدخل النخبتان معا يف صراع وضغط‪ ،‬فاليت تنتصر‬

‫‪197‬‬
‫تستويل على احلكم‪ ،‬وبعد فشلها واضمحالهلا تستويل النخبة املعارضة على احلكم‬
‫بشكل تناويب دوري‪.‬وهبذا‪ ،‬تتحقق الدميقراطية‪ ،‬ويتحقق التوازن االجتماعي‪ ،‬وحتافظ‬
‫الدولة على هيبتها واستمرارها وقوهتا‪ .‬وغالبا‪ ،‬ما تقوم احلرو واألزمات االقتصادية‬
‫يف تغيري النخب بشكل تناويب‪ ،‬بعد اشتداد الصراع واجلدل السياسي بني خنبة‬
‫األسود وخنبة الثعالب‪ .‬وهذا مايوضحه جون سكوت(‪ )John Scott‬هبذه‬
‫القولة‪" :‬وهذان االثنان من النخب السياسية استطاعا احلصول على السلطة عن‬
‫طريق االستفادة من دعم التالف من جمموعات اجتماعية واقتصادية غري متجانسة‬
‫تتمتع بصفات متوازية ومرتبطة مبضاربني وأصحا الدخل‪ .‬وأكد باريتو بأنه كان‬
‫هنات تداول دوري بني النخبة تتناسب مع الدورات االجتماعية‬
‫واالقتصادية‪.‬وبالتايل‪ ،‬يتودد الثعالب إىل املضاربني إما ضمنيا‪ ،‬أو مبساعدهتم بشكل‬
‫إجيايب يف سلب ذوي الدخل جبعلهم مدخرين من صغار الربجوازية أو من املسامهني‬
‫األساسيني‪ .‬ومن حيث املبدأ‪ ،‬يشكك الرخاء باألخالق املتوارثة وازدهار‬
‫املستهلك‪.‬ومع ذلك ميكن أن يقع كل من احلكومة والشعب يف ربقة الديون بسبب‬
‫اإلفراط يف االستهالت اعتمادا على الديون‪ .‬يف حني‪ ،‬إن ندرة رأس املال ونقص‬
‫االستثمارات املنتجة ميكن أن يتديا إىل حدوث حالة انكماش اقتصادي‪.‬ومن‬
‫املفمض أن تكون احلاجة إىل ضبط النفس والتوفري أمرا جليا‪ ،‬وأن حتتل حكومة‬
‫األسود الصدارة بدعم من ذوي أصحا الدخل‪.‬وعلى الرغم من ذلك‪ ،‬ففي‬
‫النهاية سيبدأ االقتصاد الدخول يف حالة ركود‪ ،‬ومن مث سيسأم الناس من نظام‬
‫األسود‪ ،‬وما ميهد إىل بروز الثعالب واملضاربني مرة أخرى‪ ،‬وتبدأ حينها دورة‬
‫‪287‬‬
‫جديدة‪".‬‬

‫‪ -‬جون سكوت‪ :‬علم االجتماع المفاهيم األساسية‪ ،‬تر ة‪ :‬حممد عثمان‪ ،‬الشبكة العربية‬ ‫‪287‬‬

‫لألحباث والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة الثانية سنة ‪2108‬م‪ ،‬ص‪.68-62:‬‬

‫‪198‬‬
‫ومن جهة أخرى‪ ،‬يقسم باريتو النخب ضمن مقم نفسي أو سيكولوجي‪ ،‬وأيضا‬
‫يف ضوء مفهوم الرواسب " اليت تتمثل يف العواطف واحلاالت العقلية املتصلة بالغرالي‬
‫البشرية‪ ،‬لتفسري سيطرة خنبة واختفاء أخرى وظهور خنبة أخرى‪.‬وقسمها إىل‬
‫جمموعتني‪:‬‬
‫المجموعة األولى‪ :‬تضم رواسب تعكس امليل إىل التأمل والتفكري‪.‬‬
‫المجموعة الثانية‪ :‬تضم رواسب تعكس امليل إىل البقاء واالستقرار وتعييي املراكي‬
‫اليت يتم الوصول إليها‪.‬‬
‫ويتثر توزيع الرواسب تأثريا كبريا يف اجملتمع‪ ،‬فقد تسود لدى األفراد رواسب النوع‬
‫األول‪ ،‬ويشكلون بذلك أهل املكر والذكاء الذين حيكمون عن طريق الرضا العام‬
‫واملساومة واحللول التوفيقية واخماع اإليديولوجيات‪.‬‬
‫وقد تسود لدى ااخرين رواسب النوع الثا ‪ ،‬فيشكلون بذلك أهل القوة واملواجهة‬
‫الفورية لألزمات‪ ،‬ويلجأون إىل استخدام وسالل العنف ملواجهة املعارضة‪ ،‬وفرض‬
‫النظام العام‪ .‬واملثل األعلى بالنسبة لباريتو هو توفر النوعني من الرواسب لدى خنبة‬
‫معينة‪.‬‬
‫وقد اعتمد هذا املفهوم أيضا لتصنيف النظم السياسية‪ ،‬وذهب إىل تصنيفها إىل‬
‫نظم حتكمها خنب تسود عندها رواسب النوع األول‪ ،‬ونظم تسود عندها رواسب‬
‫‪283‬‬
‫النوع الثا ‪".‬‬
‫وعليه‪ ،‬يتكد باريتو وجود تطابق بني النخبة االقتصادية والسياسية داخل أي جمتمع‪،‬‬
‫ولكن يرفض أن تكون السيطرة السياسية نتاجا للسيطرة االقتصادية‪ ،‬بل تعود إىل‬
‫خصالص النخبة وعواطفها ومتهالهتا‪ .‬ومن مث‪ ،‬فتاريخ الدول واحلكومات هو تاريخ‬
‫النخبة والصفوة اليت تتناو بشكل دوري‪.‬أي‪ :‬إن احلكومة " طبقة من اخلاصة أو‬

‫‪ - 283‬حممد الرضوا ‪ :‬مدخل إلى علم السياسة‪ ،‬سلسلة بدالل قانونية وسياسية رقم ‪ ،8‬الطبعة األوىل‬
‫سنة ‪2102‬م‪ ،‬ص‪.82-88:‬‬

‫‪199‬‬
‫الصفوة‪ ،‬وليس التاريخ يف هناية األمر سوى دورة الصفوة‪.‬وهو هنا حياول دحض‬
‫تلك الفكرة املاركسية الذاهبة إىل أن استيالء اجلماهري على احلكم عن طريق الثورة‬
‫سوف يسهم يف وضع حد لالستغالل والصراع الطبقي واالقتصادي؛ فباريتو يتمن‬
‫إميانا كامال بالالمساواة االجتماعية‪ ،‬ويرى أنه لن يكون هنات نظام تتحقق يف ظله‬
‫املساواة الكاملة بني الناس‪ ،‬ألهنم بطبيعتهم غري متساوين‪.‬وهذا يتفق مع رأيه‬
‫الذاهب إىل أن الدميقراطية هراء وفكرهتا عواء أذاعه الضعفاء‪ .‬وهكذا م يكن غريبا‬
‫‪288‬‬
‫أن يعد باريتو ماركس الربجوازية وابن الفاشية كما وصفه كتا الغر ‪".‬‬
‫واليعين هذا كله أن الصفوة أو الطبقة اليت يدافع عنها باريتو هي الطبقة العمالية‪،‬‬
‫بل هي النخبة البورجوازية القادرة على حتقيق توازن اجملتمع ومتاسكه ورفاهيته بطريقة‬
‫تناوبية دورية‪ .‬ويف هذا‪ ،‬تقول الباحثة اجليالرية وسيلة خيار‪ ":‬وتنتمي الصفوة‪،‬‬
‫بالضرورة‪ ،‬إىل الطبقة البورجوازية؛ ألهنا هي الطبقة الوحيدة املتوازنة بطبيعتها‪ ،‬أي‬
‫اليت حتتفظ بأكرب قدر من االلتيام اخللقي ومراعة السلوت‪ ،‬مبعىن أن باريتو قد حكم‬
‫على الطبقة الدنيا يف اجملتمع بأن تظل دنيا دالما‪ ،‬وبأن كل جمتمع البد أن تكون‬
‫فيه صفوة حاكمة تضمن توازنه‪ ،‬ولذلك فليس مثة مكان جلماهري الشعب يف‬
‫احلكم‪.‬‬
‫ولكن الصفوة األرستقراطية التستمر يف احلكم طويال‪ ،‬ألن كل صفوة يف حاجة إىل‬
‫تقوية ذاهتا يف مواجهة الطبقات الدنيا املتطلعة إىل التسلط‪.‬ويذهب باريتو إىل أن‬
‫الصفوة قابلة لالنحالل‪.‬ويظهر ذلك االحنالل يف شكل منو االجتاهات اإلنسانية‬
‫بشكل مرضي‪ ،‬يف الوقت الذي تظهر صفوة جديدة‪ ،‬وتكون يف أقصى درجات‬
‫القوة واحليوية‪.‬متكدا أن أية صفوة التستخدم العنف والقسوة يف سبيل الدفاع عن‬

‫‪ -‬نبيل السمالوطي‪ :‬اإليديولوجيا وأزمة علم االجتماع المعاصر‪ :‬دراسة تحليلية للمشكالت‬ ‫‪288‬‬

‫النظرية والمنهجية‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتا ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة األوىل سنة ‪0871‬م‪ ،‬ص‪.078:‬‬

‫‪211‬‬
‫نفسها وحكمها‪ ،‬تعرض نفسها لالهنيار السريع‪ ،‬حبيث المتلك يف النهاية سوى‬
‫‪221‬‬
‫إفساو اجملال لصفوة أخرى‪".‬‬
‫وعليه‪ ،‬يرى باريتو أن اجملتمع يتكون من طبقتني‪ :‬طبقة دنيا حمرومة ومستغلة‬
‫ومهيمنة عليها‪ ،‬وهي الطبقة الكادحة‪ ،‬وطبقة عليا هي النخبة أو الصفوة اليت‬
‫تسيطر على مقاليد احلكم ودواليب الدولة‪ .‬وتنقسم بدورها إىل قسمني‪ :‬خنبة‬
‫حاكمة (‪ )l'élite gouvernementale‬وخنبة غري حاكمة ( ‪l'élite‬‬
‫‪ .)non-gouvernementale‬ومن هنا‪ ،‬فالنخبة هي اليت متلك القوة‪،‬‬
‫واملال‪ ،‬والنفوذ‪ ،‬والذكاء مبفهومه الواسع‪ ،‬واملتهالت العلمية والثقافية‪ ،‬والكياسة‪،‬‬
‫وحسن التصرف‪...‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬يتحدد اجملتمع بطبيعة خنبتها السياسية احلاكمة‪ .‬ومن مث‪ ،‬فالنخبة هي اليت‬
‫تسري الطبقة الدنيا إما بالقوة‪ ،‬وإما باحليلة والدهاء‪ .‬ويعين هذا أن مثة خنبتني‪ :‬خنبة‬
‫األسود‪ ،‬وخنبة الثعالب‪ .‬وختضع النخبة ملنطق التناو الدوري‪.‬‬
‫وإذا كان كارل ماركس يتمن بالصراع الطبقي واالجتماعي بني الربوليتاريني‬
‫والبورجوازيني‪ ،‬فهنات داخل اجملتمع االشماكي صراع طبقي واجتماعي بني املثقفني‬
‫وغري املثقفني‪ ،‬بني الفالحني والعمال‪.‬أما على صعيد النخبة‪ ،‬فيمكن احلديث ‪-‬‬
‫حسب باريتو‪ -‬عن صراع بني النخبة احلاكمة وغري احلاكمة‪ ،‬بني خنبة احملافظني‬
‫وخنبة اجملددين‪ ،‬والنخبة احلاكمة والنخبة الدنيا إخل‪...‬وهذا الصراع يكون من أجل‬
‫احلياة والعيش والبقاء‪ ،‬وحتقيق املصاحل واملنافع‪ ،‬سواء أكانت خاصة أم عامة‪.‬‬
‫أضف إىل ذلك أن النخب الثورية اليت تقود الثورة ضد النخب القدمية‪ ،‬مدعية أهنا‬
‫على حق وصوا ‪ ،‬وأهنا تبحث عن سعادة الشعب ورفاهيته‪ ،‬سرعان ما تفشل يف‬
‫حتقيق العدالة واإلنصاف واملساواة واحلرية‪ ،‬فتتدي بنخبتها األرستقراطية إىل املقربة‪.‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬فالتاريخ احلقيقي عند باريتو هو تاريخ موت النخب احلاكمة‬

‫‪ - 221‬وسيلة خيار‪ :‬اإليدولوجيا وعلم االجتماع‪ ،‬جدلية االنفصال واالتصال‪ ،‬ص‪.011-028:‬‬

‫‪211‬‬
‫واألرستقراطيات ووالدهتا من جديد‪ .‬لذا‪ ،‬قال باريتو قولته املشهورة " التاريخ مقربة‬
‫‪L'histoire‬‬ ‫‪est‬‬ ‫‪un‬‬
‫األرستقراطيات( ‪cimetière‬‬
‫‪ .)d'aristocraties‬ويعين هذا أن تاريخ اجملتمعات هو تاريخ تعاقب النخب‬
‫واألقليات واصطفالها؛ تلك النخب اليت تتصارع مع النخب املضادة واملعارضة‪.‬‬
‫وعندما تصل إىل احلكم‪ ،‬تشرع يف حتقيق مصاحلها‪ ،‬مث تسقط لتحل حملها خنب‬
‫أخرى‪ ،‬وهكذا دواليك‪ ...‬و" من هذا املنطلق‪ ،‬ف ن باريتو ينتقد احتكار السلطة‬
‫من طرف خنبة أرستقراطية قالمة على عنصري‪ :‬الوالدة والثروة‪ ،‬وليس على عنصري‬
‫الذكاء والقوة‪.‬وبالتايل‪ ،‬فهي التسمح بالتحاق أفراد جدد هبا من خارج بنيتها‪ ،‬وهو‬
‫ما يتدي إىل اندالع الثورة ضدها (‪0738‬م)‪.‬وهلذا كتب باريتو قالال‪ ":‬التاريخ‬
‫‪220‬‬
‫مقربة األرستقراطيات"‪".‬‬
‫ويقرر باريتو أن أي جمتمع اليتمن بالتغيري أو احلركية االجتماعية وتناو النخب‬
‫وتداوهلا على السلطة سيكون مصريه االهنيار واملوت والفناء‪.‬ومن جهة أخرى‪،‬‬
‫الحظ باريتو أن اخلبة قد تضم أفرادا اليستحقون أن ينتموا إليها‪ .‬ويوجد كذلك يف‬
‫الطبقات الدنيا أفراد يستحقون أن ينتموا إىل النخبة‪ .‬وهكذا‪ ،‬تدخل النخبة‬
‫احلاكمة (الشيو الثعالب) يف صراع مع خنبة شبا األسود اليت تنتمي إىل الطبقة‬
‫الدنيا‪ ،‬فيحدث صراع القوى والضغوط‪ ،‬يكون اهلدف منه هو سحق النخبة‬
‫املنافسة‪ .‬وعندما تنتصر خنبة األسود‪ -‬مثال‪.-‬تسيطر على احلكم‪ .‬وعندما تفشل‬
‫تتوىل النخبة املقابلة‪ ،‬وهكذا دواليك‪...‬‬

‫‪ -‬عبد الرمحن شحشي‪( :‬النخبة مقاربة يف املفهوم)‪ ،‬نخب مغاربية‪ :‬الخلفيات‪ ،‬المسارت‬ ‫‪220‬‬

‫والتأثير‪ ،‬أعمال املنتدى املغاريب الثا ‪ ،‬مطبعة سوماكرام‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬املغر ‪ ،‬الطبعة األوىل سنة‬
‫‪2102‬م‪ ،‬ص‪.27:‬‬

‫‪212‬‬
‫وإذا كانت النخبة احلاكة قوية جدا‪ ،‬فمن األفضل هلا أن تدمج‪ ،‬ضمن حركية‬
‫التغيري االجتماعي‪ ،‬أسود الطبقة الدنيا من أجل احلفاظ على االستقرار والتوازن‬
‫االجتماعي‪ ،‬كما حتقق ذلك بنجاو يف املتسسات الربيطانية‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬ميكن القول بأن تناو النخب السياسية ودوراهنا حول السلطة واحلكم من‬
‫أهم عوامل حتقيق التوازن االجتماعي وانسجامه‪ ،‬ومن أهم مظاهر دمقرطة اجملتمع‬
‫وحتريكه بشكل إجيايب‪ .‬ويف هذا‪ ،‬يقول موريس دوفرجيه‪ ":‬تعترب فكرة دوران النخب‬
‫النقطة املركيية يف نظرية النخب‪.‬ومبا أن االنتماء إىل النخبة قالم على الصفات‬
‫الفردية‪ ،‬فهو ليس وراثيا من الناحية املبدلية‪ ،‬باعتبار أن األوالد التكون لديهم‬
‫بالضرورة صفات أهلهم‪ .‬يتم ‪ -‬إذاً ‪ -‬استبدال مستمر للنخب القدمية بالنخب‬
‫اجلديدة اليت تأيت من الفئات الدنيا من السكان‪ .‬يقول باريتو‪ ":‬إن ذلك هو دوران‬
‫األفراد بني جمموعتني‪ ،‬والنخبة وسالر السكان‪".‬‬
‫وهو يعترب أنه" يتم تعهد الطبقة احلاكمة‪ ،‬ليس فقط يف العدد‪ ،‬ولكن‪ ،‬وهذا ماهو‬
‫أهم‪ ،‬بالنوعية‪ ،‬بواسطة العالالت اليت تأيت من الطبقات الدنيا‪.‬وهكذا‪ ،‬تضعف‬
‫بقايا الطبقة الثانية رويدا رويدا يف الفئة العليا إىل أن تأيت موجة صاعدة من الفئة‬
‫الدنيا لتعيييها من وقت اخر‪".‬‬
‫إن الدوران الفردي للنخب هو عامل أساسي يف التوازن االجتماعي‪.‬وإذا م حيصل‬
‫ذلك بصورة منتظمة وكافية‪ ،‬يعمل اجملتمع بشكل شيء وتنمو فيه حالة ثورية‪،‬‬
‫ستستبدل الدوران الفردي بالدوران اجلماعي للنخب‪ ".‬إن تأخرا بسيطا يف هذه‬
‫الدورة ميكن أن يتدي إىل زيادة مهمة يف عدد العناصر املنحطة اليت حتتويها‬
‫الطبقات اليت ماتيال متلك السلطة‪ ،‬ومن جهة أخرى إىل زيادة عدد العناصر ذات‬
‫الصفة العالية اليت حتتويها الطبقات اخلاضعة‪.‬ويف هذه احلال‪ ،‬يصبح التوازن‬

‫‪213‬‬
‫االجتماعي غري مستقر وأقل صدمة‪...‬تدمره‪.‬ويأيت اجتياو أو تأيت ثورة لتقلب كل‬
‫‪222‬‬
‫شيء‪ ،‬فتحمل إىل السلطة خنبة جديدة‪ ،‬وتقيم توازنا جديدا‪".‬‬
‫وقد أجريت دراسات عدة حول دوران النخب يف كثري من البلدان من أجل التثبت‬
‫من صحة نظرية باريتو‪ ".‬فمنذ عام ‪0802‬م درست إحدى تلميذات باريتو ماري‬
‫كوالبنسكا(‪ )marie Kolabinska‬دوران النخب يف اجملتمع الفرنسي قبل‬
‫عام‪ ،0738‬لكن عملها يفتقد إىل الدقة‪ .‬ويف فمة أقر إلينا‪ ،‬تضاعفت األحباث‬
‫حول احلركية االجتماعية‪ ،‬إال أهنا ال تتكد بشكل صار نظريات دوران النخب‪.‬وقد‬
‫بني وليام ميلر (‪ )W.Miller‬أن املترخني األمريكيني ضخموا نسبة رجال‬
‫األعمال الكبار املنحدرين من الفئات الدنيا للسكان‪.‬‬
‫وأثبت رايت ميلي (‪ )C.Wright Mills‬أن الوضع م يتغري بصورة حمسوسة يف‬
‫احلقبة التالية‪ ،‬فهو يرى‪ ،‬يف عام ‪ ،0811‬أن ‪%17‬من كبار أصحا العمل يف‬
‫الواليات املتحدة كانوا أبناء لرجال أعمال‪ ،‬مقابل ‪ %02‬هم أبناء ألشخاص‬
‫يتعاطون املهن احلرة‪ ،‬و‪%01‬هم أبناء ميرارعني‪.‬وتبني يف بريطانيا أن ‪ 11‬إىل‬
‫‪ %61‬من مدراء املشاريع العامة هلم روابط عاللية مع أوساط األعمال‪.‬كما تبني‪،‬‬
‫يف هذا البلد نفسه‪ ،‬أن نطاق التوظيف للفئات العليا من املوظفني توسع قليال بني‬
‫عامي‪0828‬و‪ ،0811‬ولكنه ضيق االنفتاو أمام العمال املتهلني أو نصف املتهلني‬
‫الذي ميثلون ‪ %81‬من السكان‪.‬وعلى عكس ذلك‪ ،‬فهو يتضمن ‪ %81‬من أبناء‬
‫‪228‬‬
‫مالكي األراضي وأعضاء املهن احلرة الذين اليسكلون سوى ‪ %8‬من السكان‪".‬‬
‫ويضيف موريس دوفرجيه‪ ":‬وتبني الدراسات املقارنة اليت قام هبا س‪.‬م‪.‬ميلر‬
‫(‪ )S.M.Miller‬عام ‪ 0861‬يف أربعة عشر بلدا أن احلركية االجتماعية شديدة‬

‫‪ - 222‬موريس دوفرجيه‪ :‬علم اجتماع السياسة‪ ،‬تر ة‪ :‬سليم حداد‪ ،‬املتسسة اجلامعية للدراسات‬
‫والنشر والتوزيع‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة الثانية ‪2110‬م ‪ ،‬ص‪.068:‬‬
‫‪ - 228‬موريس دوفرجيه‪ :‬علم اجتماع السياسة‪ ،‬ص‪.061-062:‬‬

‫‪214‬‬
‫بصورة عامة بني الفئات الدنيا واملتوسطة‪ ،‬وبالتحديد بني املهن اليدوية واملهن غري‬
‫اليدوية (موظفون‪ ،‬إخل)‪ .‬يتم ذلك يف االجتاهني‪ ،‬مع حاالت تفاوت كبرية‪ ،‬فعلى‬
‫سبيل املثال‪ ،‬يف فرنسا مثة حركية صاعدة قوية وحركية تنازلية ضعيفة بالنسبة‬
‫للواليات املتحدة‪.‬واحلركية أضعف بكثري بني الطبقات الوسطى والنخبة باملعىن الذي‬
‫يقصده باريتو‪ ،‬مع فوارق حمسوسة حسب البلدان (فهي ضعيفة يف فرنسا‪ ،‬على‬
‫سبيل املثال)‪.‬وأخريا‪ ،‬الجند يف أي من البلدان األربعة عشر اليت أجريت عليها‬
‫الدراسة‪ ،‬حركة ملموسة للفئات اليدوية من السكان باجتاه الفئات العليا‪.‬فاألحباث‬
‫‪222‬‬
‫السوسيولوجية التدعم ‪ -‬إذاً ‪ -‬نظرية دوران النخب‪ ،‬إال بصورة ضعيفة جدا‪".‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬يتبني لنا أن نظرية دوران النخب عند باريتو قد يصعب حتقيقها أو األخذ‬
‫هبا إىل حد كبري؛ ألن خنبة الطبقات الدنيا يصعب عليها أن تصل إىل مقاليد‬
‫احلكم‪ ،‬ويسهل عليها بسرعة أن تنيل منها؛ ألن الصعود إىل مرتبة النخبة حيتاج إىل‬
‫جمهود كبري ومشقة عويصة‪ .‬يف حني‪ ،‬يصل إليها احملظوظون اقتصاديا ووراثيا‬
‫بسهولة‪ .‬ويف هذا‪ ،‬يقول موريس دوفرجيه‪ ":‬إن األفراد املوهوبني بشكل خاص من‬
‫الطبقات الدنيا‪ .‬ميكن اخلروج منها لقاء جهد كبري جدا‪ ،‬لكنهم اليستطيعون‬
‫الصعود عاليا جدا يف السلم االجتماعي‪ ،‬فالصعود حنو القمة حيتاج بصورة عامة إىل‬
‫عدة أجيال‪ ،‬ويبقى استثناليا إىل حد كبري‪ ،‬واهلبوط من الطبقات العليا حنو الطبقات‬
‫الدنيا ليس مستحيال هو كذلك‪ ،‬لكنه كذلك أكثر ندرة وأكثر حصرا‪.‬ميكننا أن‬
‫جند بعض آثار قانون األجيال الثالثة الذي ملح إليه ابن خلدون‪ ،‬يرتفع إنسان بقوة‬
‫قبضته؛ فيستفيد ابنه من الوضع دون حتسينه أبدا؛ أما حفيده الذي ترىب يف حال‬
‫من اليسر‪ ،‬فيعود ليهبط درجات السلم‪.‬إن تاريخ بعض السالالت الصناعية أو‬

‫‪ - 222‬موريس دوفرجيه‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.061:‬‬

‫‪215‬‬
‫التجارية يقم من هذه الصورة‪ ،‬فضال عن ذلك يكون السقوط أكثر بطئا ويبقى‬
‫‪221‬‬
‫حمدودا بصورة عامة‪".‬‬
‫وهكذا‪ ،‬يتبني لنا أن باريتو قد ساهم بنظريته حول النخب يف تطوير العمل‬
‫السياسي‪ ،‬والتفكري يف حركية اجملتمعات‪ ،‬والبحث عن آليات حتقيق توازن‬
‫اجملتمعات وانتظامها‪ ،‬بالتشديد على دوران النخب وتناوهبا حول السلطة‪.‬‬
‫وإذا كان باريتو وموسكا ورايت يقولون بوحدة النخبة‪ ،‬ف ن روبري دال وراميون آرون‬
‫يقوالن بتعدد النخب‪.‬مبعىن أن اجملتمع يتكون من عدد كبري من النخب املختلفة‬
‫واملتنوعة واملندجمة واملتنافسة أحيانا أو املتضامنة أحيانا‪ .226‬يف حني‪ ،‬يقول‬
‫املاركسيون اجلدد (بوالنتياس ‪ -‬مثال‪ )-‬بوجود طبقة اقتصادية هي اليت حتكم بطريقة‬
‫مباشرة أو غري مباشرة‪ ،‬مادام االقتصاد يتحكم يف السياسة‪.‬ويعين هذا أن خنبة الظل‬
‫أو النخبة االقتصادية هي اليت تستحوذ على مراكي اهليمنة والقرار‪ ،‬وهي اليت تسري‬
‫باقي النخب األخرى‪ ،‬على الرغم من تعددها واختالف سحناهتا وقسماهتا‬
‫السياسية واالجتماعية‪.‬‬

‫‪ - 221‬موريس دوفرجيه‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.061:‬‬


‫‪ - 226‬عبد الرمحن شحشي‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.28:‬‬

‫‪216‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬التصور المنهجي‬

‫يعد فيلفريدو باريتو من أقطا الوضعية اجلديدة يف النظرية االجتماعية‪ ،‬ولعل "‬
‫أمهية آراله ترجع إىل حماولته أن يقيم منهجا للبحث‪ ،‬جيري على أسس رياضية‪ ،‬وإىل‬
‫عكوفه على احلقالق التارخيية املتشعبة واستخراجه لألصول وللقواعد اليت ميكن أن‬
‫نفسر هبا هذه احلقالق‪"227.‬‬
‫ويعين هذا أن باريتو قد استعان بالرياضيات والفييياء واإلحصاء والعلوم الطبيعية يف‬
‫دراسة الظواهر اجملتمعية والسياسية واالقتصادية‪ ،‬هبدف بناء نظريات علمية جمردة‬
‫وجمردة واصفة ملاهو واقعي وجترييب‪.‬عالوة على ذلك‪ ،‬يعىن كثريا بالتجربة احلسية‪،‬‬
‫والتجريب االختباري‪ ،‬والتنظري الواصف للظواهر‪ .‬لذا‪ ،‬مييي بني احلقيقة واملنفعة أو‬
‫بني القيمة العلمية لنظرية ما وقيمتها االجتماعية أو الواقعية‪ " ،‬بل إن هنات من‬
‫النظريات العلمية ما يهدد العالقات االجتماعية بأشد اخلطر وهلذا يفرق بني احلقيقة‬
‫واملنفعة‪.‬‬
‫ويرفض باريتو كل النظريات واملناهج اليت تدرس الظواهر االجتماعية من جانب‬
‫واحد‪ ،‬واليت حتاول أن جتعل من ظاهرة معينة األصل يف كل الظواهر‪ ،‬وقرر أن‬
‫الظواهر االجتماعية متساندة تساندا وظيفيا‪ ،‬فكل ظاهرة تتدي دورا معينا يتثر يف‬
‫الدور الذي تقوم به األخرى‪ ،‬ومن جمموعة هذه الوظالف واألدوار خترج الصورة‬
‫املتكاملة اليت يكون عليها النظام االجتماعي‪.‬‬

‫‪ - 227‬أمحد اخلشا ‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.622:‬‬

‫‪217‬‬
‫ويرى أن تعقد الظواهر يرجع إىل تدخل وظالفها‪ ،‬واعتماد بعضها على البعض‬
‫‪223‬‬
‫ااخر‪".‬‬
‫وعليه‪ ،‬يرتكي املنهج السوسيولوجي عند فيلفريدو باريتو على اخلطوات اإلجرالية‬
‫التالية‪:‬‬
‫‪ ‬التمييي بني ماهو علمي وغري علمي‪ ،‬باستخدام املالحظة والتجربة والتجريب؛‬
‫‪ ‬مقاربة الظواهر االجتماعية مقاربة كلية ومشولية ووظيفية‪ ،‬على أساس أن هذه‬
‫الظواهر متساندة وظيفيا؛‬
‫‪ ‬البحث عن العناصر والقضايا واملسالل املشمكة بني الناس يف خمتلف األزمنة‬
‫واألمكنة‪ ،‬وخاصة يف األمور املرصودة باملالحظة احلسية‪ ،‬واستعمال منهج املقارنة‬
‫العامة؛‬
‫‪ ‬استعمال املناهج الرياضية واإلحصالية الكمية لتحصيل احلقالق العلمية اليقينية‬
‫‪228‬‬
‫بدل استخدام املناهج الكيفية‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬يتنىب باريتو‪ ،‬يف دراسته للظواهر االجتماعية‪ ،‬منهجا علميا استقراليا‬
‫لتحصيل النتالج والتثبت منها منطقيا وبرهانيا‪.‬‬

‫المطلب الثالث‪ :‬تعليق وتقويم‬


‫لباريتو نقط إجيابية يف جمايل علم االجتماع واالقتصاد‪ .‬ويكفيه فخرا أنه من‬
‫املتسسني الفعليني للسوسيولوجيا االقتصادية‪ ،‬وعلم االجتماع السياسي‪،‬‬
‫وسوسيولوجيا النخبة‪ ،‬وقد زاوج بني الطرو الفيبريي بدراسة الفعل اهلادف وغري‬

‫‪ - 223‬أمحد اخلشا ‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.626:‬‬


‫‪ - 228‬أمحد اخلشا ‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.626:‬‬

‫‪218‬‬
‫اهلادف‪ ،‬واستعمال املنهج التجرييب االستقرالي يف دراسة الظواهر االجتماعية من‬
‫جهة‪ ،‬واألفعال املنطقية وغري املنطقية من جهة أخرى‪.‬‬
‫ويتبني لنا أن" إسهامات باريتو متعددة ومتنوعة يف جمال علم االقتصاد واالجتماع‬
‫بشكل عام‪ ،‬فلقد كشف عن العديد من القضايا االقتصادية واالجتماعية‪ ،‬فحلل‬
‫نظرية التوازن اليت تتكد على أن األنساق االجتماعية تستعيد توازهنا إذا ما طرأ عليها‬
‫اختالل‪ ،‬ونظرية املنفعة االجتماعية يف ضوء دراسته للفعل املنطقي وغري املنطقي‪،‬‬
‫وتأكيده على أمهية السلوت غري املنطقي يف احلياة االجتماعية‪ ،‬ونظرية اإلنتاج‬
‫وحتليله للعالقة بني علميات اإلنتاج واالستهالت‪ ،‬والتوزيع وحتليله لالجتاهات حنو‬
‫امللكية والطابع الدوري للتغري االجتماعي‪ .‬كل هذه القضايا ميكن اعتبارها صياغات‬
‫جديدة ورالدة تتمشى عموما مع الظروف االجتماعية الواقعية‪ ،‬لكن معاجلته‬
‫للرواسب واملشتقات كانت تتميي بالغموض الشديد‪ ،‬حيث إنه م يوضح لنا متاما‬
‫‪211‬‬
‫كيف حتدد الرواسب أمناط السلوت املختلفة على حنو حمدد‪".‬‬
‫وعلى الرغم من النقط اإلجيابية واملهمة يف الفكر االجتماعي واالقتصادي عند‬
‫باريتو‪ ،‬ف ن مثة انتقادات وجهت إليه‪ ،‬مثل‪ :‬والله للفاشي موسوليين‪ ،‬ودفاعه عن‬
‫سياسته االستعمارية‪ .‬ويف هذا النطاق‪ ،‬يقول زايتلني‪ ":‬إننا النعرف يف الواقع األثر‬
‫املباشر الذي تركه باريتو يف موسوليين‪ ،‬كما النعرف ما إذا كانت هنات صالت‬
‫شخصية بينهما عندما كان هذا األخري الجئا يف لوسان؛ فقبل اليحف على روما‬
‫كان باريتو ذا اجتاه حمافظ أو عدالي اجتاه احلركة الفاشية‪ ،‬ولكن ما أن استوىل‬
‫الدكتاتور اإليطايل على السلطة والقوة السياسية‪ ،‬حىت منحه باريتو تأييده الكامل‪،‬‬
‫حىت إنه عني يف ‪ 28‬آذار‪ /‬مارس سنة ‪ ،0828‬عضوا يف الربملان‪ ،‬وبرر قبوله هلذا‬

‫‪ - 211‬حممد ياسر اخلواجة‪ :‬تفسه‪ ،‬ص‪.62:‬‬

‫‪219‬‬
‫املنصب أن النظام الفاشي هو أقدر النظم يف نظره على جتنيب إيطاليا جمموعة من‬
‫‪210‬‬
‫الشرور‪".‬‬
‫كما حار باريتو األنظمة االشماكية واملاركسية‪ .‬ويف الوقت نفسه‪ ،‬دافع عن‬
‫الرأمسالية الليربالية واقتصاد السوق‪ .‬فضال عن ميله إىل الوضعية اجلديدة‪ ،‬ومتسكه‬
‫بالنيعة احملافظة اليت هتدف إىل حتقيق توازن اجملتمع ومتاسكه‪ .‬ويف هذا‪ ،‬السياق‬
‫تقول وسيلة خيار‪ ":‬لقد أكد باريتو والءه للعلم وللمنهج العلمي‪ ،‬وأن أهدافه‬
‫علمية خالصة‪ ،‬ولكن الفحص أو االستعراض العام لنظريته يكشف عن انطالقه من‬
‫جمموعة من األفكار القبلية اليت اليقرها العلم؛ فباريتو الذي اشتهر بنظريته عن خنبة‬
‫اجملتمع أو صفوة اجملتمع‪ ،‬م يفعل سوى أنه صاغ نظرية اجتماعية‪ ،‬زاخرة باجتاهاته‬
‫احملافظة‪ .‬يظهر عداء باريتو لالجتاهات التحررية واالشماكية واملاركسية خاصة‬
‫بشكل واضح يف كتابه (المذاهب االشتراكية)‪.‬وقد ذهب يف عداله هلا إىل أبعد مما‬
‫ذهب إليه دوركامي‪ ،‬من خالل تركييه على العوامل غري املنطقية وغري العقلية عند‬
‫‪212‬‬
‫اإلنسان‪".‬‬
‫ويندهش املرء كثريا لتحول باريتو من رجل يدافع عن الطبقات الربوليتارية‬
‫والكادحة‪ ،‬ويقف ضد األنظمة الديكتاتورية والفاشية واالستعمارية‪ ،‬سرعان ما‬
‫حتول إىل مدافع عنها ومناصر هلا‪ .‬ويف هذا‪ ،‬تقول وسيلة خيار‪ ":‬والغريب أن‬
‫باريتو‪ ،‬كان يتمن يف شبابه بالتحررية أو الليربالية يف جمال االقتصاد‪ ،‬وبالنيعة‬
‫اإلنسانية يف الفلسفة‪ ،‬وكان يعارض االستعمار‪ ،‬ويشايع املبادىء الدميقراطية‪،‬‬
‫ويناصر الطبقات الكادحة‪ ،‬ويهاجم الربجوازية املتسلطة‪ ،‬ولكنه بعد ذلك‪،‬‬
‫وألسبا غامضة‪ ،‬حتول إىل أشد أعداء األفكار اإلنسانية‪ ،‬واعتربها تصدر عن‬

‫‪ - 210‬نبيل السمالوطي‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.076:‬‬


‫‪ - 212‬وسيلة خيار‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.023:‬‬

‫‪211‬‬
‫الضعفاء‪ ،‬كما هاجم الفكر الدميقراطي‪ ،‬وناصر احلكم التسلطي‪ ،‬ودافع عن القهر‬
‫‪218‬‬
‫واإلرها والدكتاتورية والفاشية‪".‬‬
‫وهكذا‪ ،‬يتضح لنا أن فيلفريدو باريتو حمافظ يف اجتاهه السوسيولوجي‪ ،‬يدافع عن‬
‫املقاربة السيكولوجية يف دراسة الفعل اإلنسا ‪ ،‬وخاصة أثناء دراسته للرواسب‬
‫واملشتقات‪ ،‬ويتمن بدور النخبة أو الصفوة يف تدبري الدولة وتسيريها‪ ،‬مادامت‬
‫متتلك متهالت استثنالية‪ ،‬تتهلها للقيام بأدوارها اإلسماتيجية يف خدمة املصلحة‬
‫العامة‪ ،‬وحتقيق التوازن االجتماعي‪.‬‬

‫وخالصة القول‪ ،‬يعد فيلفريدو باريتو من أهم علماء االجتماع الذين ربطوا‬
‫السوسيولوجيا باالقتصاد والسياسة والتاريخ‪ ،‬وقد تأثر كثريا بنظرية ماكس فيرب حينما‬
‫ربط السوسيولوجيا‪ ،‬على مستوى املوضوع‪ ،‬بالفعل االجتماعي‪ .‬ويف الوقت نفسه‪،‬‬
‫كان سوسيولوجيا وضعيا جديدا على صعيد املنهج‪ ،‬فقد تسلح باملنهج التجرييب‬
‫املنطقي والرياضي والفيييالي لدراسة الظواهر اجملتمعية‪ ،‬وإخضاعها للفرضيات‪،‬‬
‫واملالحظة احلسية‪ ،‬والتجريب العلمي‪ ،‬بغية حتصيل احلقالق العلمية لذاهتا‪.‬‬
‫بيد أن نظريات باريتو املختلفة كانت نتاجا لظروفه الذاتية واملوضوعية‪ .‬مبعىن أن‬
‫باريتو" تأثر مبجموعة من العوامل وهو يصوغ نظريته السوسيولوجية‪ ،‬ويف مقدمتها‬
‫جتربته الشخصية اليت من أبرز حمطاهتا‪ ،‬نضاله املرير من أجل احلصول على منصب‬
‫األستاذية يف إحدى جامعات إيطاليا‪ ،‬من دون جدوى‪ ،‬وكذا الظروف السياسية‬
‫يف جمتمعه‪ ،‬وتطلعاته السياسية والعملية‪ ،‬والماث الفكري السابق‪ .‬وقد أدت هذه‬
‫العوامل به جمتمعة إىل إخراج نظرية فكرية التتفق على اإلطالق مع املنطقية‬
‫التجريبية اليت دافع عنها‪"212.‬‬

‫‪ - 218‬وسيلة خيار‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.011:‬‬


‫‪ - 212‬وسيلة خيار‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.010:‬‬

‫‪211‬‬
‫ويف األخري‪ ،‬يكفي باريتو فخرا أن كان من أهم املنظرين للنخبة أو الصفوة‪ .‬ويعد‬
‫كذلك من أهم األعمدة واألركان يف جمال العلوم السياسة وعلم االجتماع‬
‫السياسي‪.‬‬

‫‪212‬‬
‫نوربيرت إلياس السوسيولوجي المنسي‬

‫يعــد نــوربرت إليــاس(‪ )Norbert Elias‬مــن أهــم السوســيولوجيني األملــان‪ ،‬وم ـن‬
‫كتاهبـا املتميـيين األفـذاذ‪ .‬ولـد سـنة ‪0387‬م يف بريسـلو (‪ )Breslau‬بأملانيـا‪ ،‬وتــويف‬
‫س ــنة ‪0881‬م بأمس ــمدام هبولن ــدة‪ .‬ويتمي ــي ‪ -‬سوس ــيولوجيا‪ -‬بكتاب ــه الق ــيم (ح ةةول‬
‫سةةيرورة الحضةةارة)‪ ،‬وقــد ظهــر يف فرنســا يف جملــدين حتــت عن ـوان (حضةةارة القةةيم‪،‬‬
‫وديناميكي ةةة الغ ةةرب)‪ ،211‬وأض ــيف إلي ــه جمل ــد ثال ــث وه ــو (مجتم ةةع ال ةةبالط)‪ .‬ول ــه‬

‫‪255‬‬
‫‪-Norbert Elias: Sur le processus de civilisation, traduit‬‬
‫‪partiellement (manquent les pages 1 à 122) et publié en deux‬‬
‫‪parties :‬‬

‫‪‬‬ ‫‪La Civilisation des mœurs, Calmann-Levy, 1973, puis‬‬


‫)‪Pocket, 2002 (traduction de Pierre Kamnitzer‬‬

‫‪213‬‬
‫ وجمتمــع‬،217‫ ومــا السوســيولوجيا؟‬،216‫ السوســيولوجيا والتــاريخ‬:‫ مثــل‬،‫متلفــات أخــرى‬
‫ وراء فرويــد‬،261‫ سوســيولوجيا العبقــري‬:‫ ومــوزارت‬،218‫ والرياضــة واحلضــارة‬،213‫األفـراد‬
...262‫ مدخل إىل سوسيولوجيا املعرفة‬:‫ وااللتيام واحلياد‬،260

 La Dynamique de l’Occident, Calmann-Lévy, 1975,


puis Pocket, 2003 (traduction de Pierre Kamnitzer).

256
- Norbert Elias: La Société de cour (texte intégral) et
Sociologie et histoire (inédit en français), Flammarion, 1985,
puis Calmann-Lévy, 1994 (préface de Roger Chartier, traduction
de Pierre Kamnitzer et Jeanne Etoré).
257
- Norbert Elias: Qu'est-ce que la sociologie ? Pandora,
1981, puis Pocket, 2003 (traduction de Yasmin Hoffman)
258
- Norbert Elias: La Société des individus, Fayard, 1991,
puis Pocket, 2004 (avant-propos de Roger Chartier).
259
- Norbert Elias: Sport et civilisation : la violence
maîtrisée (avec Eric Dunning), Fayard, 1994, puis Pocket, 1998
(avant-propos de Roger Chartier, traduction de Josette
Chicheportiche et Fabienne Duvigneau).
260
- Norbert Elias: Mozart : sociologie d'un génie, inachevé,
Seuil, 1991 (traduction de Jeanne Etoré et Bernard Lortholary).
261
- Norbert Elias: Au-delà de Freud : sociologie,
psychologie, psychanalyse, La Découverte, 2010 (présentation
de Marc Joly, postface de Bernard Lahire, traduction de Nicolas
Guilhot, Marc Joly et Valentine Meunier).
262
Engagement et distanciation :
- Norbert Elias:
contribution à la sociologie de la connaissance, Fayard,

214
‫إذاً‪ ،‬كيــف يتصــور نــوربرت إليــاس علــم االجتمــاع؟ ومــا أهــم تصــوراته السوســيولوجية؟‬
‫وما أهم مفاهيمها النظرية والتطبيقية؟ ومـا أهـم االنتقـادات املوجهـة إىل سوسـيولوجيا‬
‫نوربرت إلياس؟‬
‫هذه هي أهم التساؤالت اليت سنتوقف عندها بالتحليل والدراسة والتقومي‪.‬‬

‫المطلب األول‪ :‬مفهوم السوسيولوجيا‬

‫هتدف السوسيولوجيا‪،‬عند نوربرت إلياس‪ ،‬إىل دراسة األفراد واجملتمع على حد سواء‪،‬‬
‫إذ الميكن عيل طرف عن طرف آخر‪ .‬وبالتايل‪ ،‬تنكب السوسيولوجيا على دراسات‬
‫العالقــات املوج ــودة ب ــني األف ـراد داخ ــل اجملتم ــع‪ ،‬إذ الميك ــن دراس ــة الف ــرد مبع ــيل ع ــن‬
‫اجلماعة أو اجملتمع‪ .‬كمـا للمجتمـع وبنياتـه ومتسسـاته تـأثريا واضـحا يف هـتالء األفـراد‬
‫إىل حــد اجلربيــة واحلتميــة‪ .‬ويعــين هــذا أن إليــاس يوفــق بــني الفعــل وبنيــة اجملتمــع علــى‬
‫غ ـ ـ ـرار بيـ ـ ــري بورديـ ـ ــو(‪ ،)Bourdueu‬ولوسـ ـ ــيان كولـ ـ ــدمان(‪،)L.Goldmann‬‬
‫وجي ــديني(‪ ،)Giddens‬وغ ــريهم‪...‬أي‪ :‬جيم ــع ب ــني الفه ــم والتفس ــري‪ ،‬ب ــني ال ــذات‬
‫واملوضوع‪ ،‬بني احلتمية واحلرية‪ ،‬بني املنهجية الكلية لدوركامي واملنهجية الفردية ملـاكس‬
‫فيرب‪ .‬ويسمى هذا اجلمع باالنبناء السوسيولوجي‪.‬‬
‫ومــن جهــة أخــرى‪ ،‬تعــىن السوســيولوجيا بدراســة آدا الســلوت لــدى األف ـراد‪ ،‬وفهــم‬
‫أفعـاهلم وســلوكياهتم امللموسـة‪ ،‬ورصــد عالقـاهتم التفاعليــة التبادليـة‪ ،‬واســتجالء خمتلــف‬
‫التحــوالت الــيت تنتــا األف ـراد علــى مســتوى االنبنــاء اجملتمعــي‪ ،‬عــرب ســريورة احلضــارة‬

‫‪1993, puis Pocket, 1998 (avant-propos de Roger Chartier,‬‬


‫)‪traduction de Michèle Hulin‬‬

‫‪215‬‬
‫وتغريهــا مــن حالــة إىل أخــرى‪ ،‬يف ضــوء املعطيــات التارخييــة‪ ،‬واجملتمعيــة‪ ،‬والسياســية‪،‬‬
‫واالقتصادية‪ ،‬والنفسية‪ .‬والفرق بني السوسيولوجيا والسيكولوجيا عند نوربرت إلياس‪،‬‬
‫والســيما أن الباحــث يــدرس اجملــال العــاطفي والشــعوري واالنفعــايل والوجــدا لــدى‬
‫الكالن اإلنسا ‪ ،‬يف ضوء املقاربة السوسيولوجية‪.‬‬
‫ومــن هنــا‪ ،‬يتبــىن نــوربرت إليــاس السوســيولوجيا التفاعليــة الــيت ترصــد خمتلــف العالقــات‬
‫التفاعلية اليت حتدث بني األفراد فيمـا بيـنهم‪ ،‬يف عالقـة متاثليـة مـع بنيـات اجملتمـع عـرب‬
‫اهل ــابيتوس‪ .‬وهب ــذا‪ ،‬يك ــون ال ــدارس م ــن ال ــرواد األوال ــل ال ــذين أرسـ ـوا دع ــالم املدرس ــة‬
‫التفاعلية يف جمال السوسيولوجيا األملانية إىل جانب جورج زمييل(‪.)Simmel‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬المنهجية السوسيولوجية‬


‫يتبــىن نــوربرت إليــاس مقاربــة سوس ــيولوجية توفيقيــة جتم ــع بــني الفه ــم والتفســري‪ ،‬ب ــني‬
‫التصور الكلي عند إميل دوركامي والتصور الفردي عند ماكس فيرب‪ ،‬بني الفعل والبنيـة‬
‫اجملتمعي ـ ـ ـ ــة ع ـ ـ ـ ــرب عملي ـ ـ ـ ــة االنبن ـ ـ ـ ــاء واهل ـ ـ ـ ــابيتوس‪ .‬وم ـ ـ ـ ــن هن ـ ـ ـ ــا‪ ،‬فمقاربت ـ ـ ـ ــه انبنالي ـ ـ ـ ــة‬
‫بامتيــاز(‪ .)Configuration‬مبعــىن أن الواقــع االجتمــاعي يبــىن مــن قبــل األف ـراد‬
‫والفاعلني اجملتمعيني‪ ،‬بناء على خربات ماضية مستضمرة‪ ،‬أو خربات حاضرة تستمد‬
‫مـن احليـاة اليوميــة‪ ،‬أو تتكـون بواسـطة اهلــابيتوس‪ .‬وتشـتغل هـذه اخلـربات علـى أســاس‬
‫أهنــا جربيــات الشــعورية والواعيــة‪ .‬وعلــى الــرغم مــن ذلــك‪ ،‬يقــوم األف ـراد حبســاباهتم‪،‬‬
‫ويتخ ــذون قـ ـراراهتم‪ .‬أض ــف إىل ذلـ ـك‪ ،‬أن ه ــذه اخلـ ـربات ه ــي عب ــارة ع ــن ه ــابيتوس‬
‫جمتمعي‪ ،‬يتبلور يف شكل خطاطات وقيم وفضـالل وعوالـد يتشـرهبا الفـرد انطالقـا مـن‬
‫اجملتمع(األســرة‪ ،‬والشــارع‪ ،‬والقبيلــة‪ ،‬والــوطن‪ ،‬واألمــة‪ .)...‬مبعــىن أن القــيم تنتقــل عنــد‬
‫األف ـراد م ــن جي ــل إىل آخ ــر‪ ،‬فيتمثلوهن ــا عل ــى أس ــاس أهن ــا مع ــايري ومق ــاييس للتكي ــف‬
‫والتطب ــع م ــع اجملتمع‪.‬وتش ــكل ه ــذه املع ــايري والتص ـرفات والس ــلوكيات أدوات للمراقب ــة‬

‫‪216‬‬
‫الذاتيــة واحملاســبة الشخصــية‪ .‬وقــد اســتمدها األف ـراد مــن اجملتمــع ومــن حيــاهتم اليوميــة‬
‫على حد سواء‪ .‬وهذا إن دل على شيء‪ ،‬ف منا يـدل علـى أن اجملتمـع ميـارس تـأثريه يف‬
‫الفرد‪ .‬كما ميارس الفرد تأثريه يف اجملتمع باختياراته وقراراته وإبداعاته‪.‬‬
‫وبن ــاء عل ــى ماس ــبق‪ ،‬يفض ــل السوس ــيولوجي األمل ــا ن ــوربرت إلي ــاس مفه ــومي اللعب ــة‬
‫والالعب ــني ب ــدل الف ــرد والواق ــع االجتم ــاعي‪.‬أي‪ :‬يش ــبه الواق ــع اجملتمع ــي باللعب ــة‪ .‬أم ــا‬
‫الفاعلون‪ ،‬فيطلق عليه مصطلح الالعبـني‪ .‬مبعـىن أن الالعـب عنـدما حيـرت عنصـرا مـن‬
‫عناص ــر الش ــطرنج‪ ،‬ف ن ــه يول ــد ل ــدى الط ــرف ااخ ــر رد فع ــل‪ .‬وعن ــدما حي ــرت الط ــرف‬
‫املقابل عنصرا من عناصر اللعبة‪ ،‬يقوم ااخر برد فعل معاكس‪ ،‬وهكذا دواليك‪...‬‬
‫وإذا أخــذنا مثــال كــرة القــدم‪ ،‬فالميكــن فهــم تصــرفات الالعبــني وحركــاهتم وســلوكياهتم‬
‫إال يف ســياق اللعبــة‪ ،‬إذ تســتليم ك ـل حركــة رياضــية رد فعــل مــن الالعــب املنــافس أو‬
‫املقابل‪.‬‬
‫وقــد جتــاوز نــوربرت إليــاس بعــض املفــاهيم السوســيولوجية كمفهــومي املــاكرو وامليكــرو‪،‬‬
‫فما يبدو ماكرو قد يكون ميكرو‪ ،‬والعكس صحيح أيضا‪ ،‬قد تكون العالقـة الدوليـة‬
‫مــاكرو‪ .‬يف حــني‪ ،‬تكــون العالقــة الوطنيــة ميكــرو‪ .‬بيــد أن هــذه العالقــات الوطنيــة قــد‬
‫تك ــون م ــاكرو مقارن ــة ب ــالظواهر امليكروسوسـ ـولوجية األخ ــرى‪ .‬كم ــا ي ــرفض الباح ــث‬
‫املفاهيم التطورية والالهوتية جتاه التاريخ‪.‬‬
‫ع ــالوة عل ــى ه ــذا‪ ،‬تب ــىن السوس ــيولوجيا عن ــد ن ــوربرت إلي ــاس عل ــى الفه ــم والتفس ــري‬
‫معــا‪.‬أي‪ :‬فهــم تص ـرفات األف ـراد الســلوكية‪ ،‬والبحــث عــن معانيهــا ودالالهتــا ونواياهــا‬
‫ومقاص ــدها‪ ،‬ورص ــد خمتل ــف العالق ــات التفاعلي ــة التبادلي ــة ال ــيت تتحق ــق ع ــرب عملي ــة‬
‫التواصل بني الذوات الفاعلة داخل بنية اجملتمع‪ ،‬مع االستعانة بالتفسري السبيب ملعرفـة‬
‫آث ــار اجملتم ــع يف األفـ ـراد‪ .‬وم ــن مث‪ ،‬تق ــوم منهجيت ــه العلمي ــة عل ــى املالحظ ــة احلس ــية‪،‬‬
‫واالستعانة باالختبارات االجتماعية الكمية والكيفية‪ ،‬وربط التطبيق بالنظرية‪.‬‬

‫‪217‬‬
‫المطلب الثالث‪ :‬التصورات السوسيولوجية‬

‫الميك ـ ــن فه ـ ــم آراء ن ـ ــوربرت إلي ـ ــاس إال باس ـ ــتعراض مض ـ ــامني كتب ـ ــه السوس ـ ــيولوجية‪،‬‬
‫واستجالء قضاياها الظاهرة واملضمرة‪ ،‬على النحو التايل‪:‬‬

‫الفرع األول‪ :‬حول سيرورة الحضارة‬

‫ينقس ــم كتـ ــا (حة ةةول سة ةةيرورة الحضة ةةارة) لنـ ــوربرت إليـ ــاس‪ -‬الـ ــذي صـ ــدر سـ ــنة‬
‫‪0888‬م‪ -‬إىل أج ـياء ثالثــة هــي‪ :‬حضــارة آدا الســلوت‪ ،‬وديناميــة الغــر ‪ ،‬وجمتمــع‬
‫الــبالط‪ .‬ومــن مث‪ ،‬فهــو يعــىن بتطــور البنيــات النفســية والذهنيــة والوجدانيــة عنــد األفـراد‬
‫واجلماعــات‪ ،‬يف عالقــة متاثليــة مــع تطــور البنيــات السياســية واجملتمعيــة‪ .‬ومــن مث‪ ،‬فهــو‬
‫ينطلق‪ ،‬يف كتابه (حول سيرورة الحضارة)‪ ،‬من سوسـيولوجيا تارخييـة ونفسـية‪ .‬ومـن‬
‫مث‪ ،‬فه ـ ــو اليتن ـ ــاول مفه ـ ــوم احلض ـ ــارة بتص ـ ــورات أوزوال ـ ــد ش ـ ــبنغلر( ‪Oswald‬‬
‫‪ )Spangler‬أو أرنولــد تــوينيب(‪ ،)Arnold Toynbee‬بــل يــدرس احلضــارة‬
‫يف أوروبـ ــا الغربيـ ــة بـ ــدون إحيـ ــاءات إجيابيـ ــة أو قدحيـ ــة‪ .‬وبالتـ ــايل‪ ،‬فهـ ــو يعتمـ ــد علـ ــى‬
‫سوســيولوجيا عامــة جتعــل اإلنســانية إطــارا عامــا هلــا‪ .‬ومــن مث‪ ،‬فهــو جيعــل مــن احلضــارة‬
‫الغربية موضوعا للتفكيك السوسيولوجي‪.‬‬
‫إذاَ‪ ،‬يه ـ ـ ــتم الباح ـ ـ ــث حبض ـ ـ ــارة الق ـ ـ ــيم يف الغ ـ ـ ــر اعتم ـ ـ ــادا عل ـ ـ ــى الن ـ ـ ــبش الت ـ ـ ــارخيي‬
‫والسوس ـ ــيولوجي‪ ،‬برص ـ ــد آدا الس ـ ــلوت يف احلض ـ ـارة الغربي ـ ــة‪ ،‬ابت ـ ــداء م ـ ــن العص ـ ــور‬
‫الوســطى إىل غايــة القــرن العش ـرين‪.‬أي‪ :‬إىل صــدور هــذا الكتــا يف ثالثينيــات القــرن‬
‫املاضي‪ .‬ومن هنا‪ ،‬فهدف الكتا هو حتليـل احلضـارة الغربيـة‪ ،‬بـالمكيي علـى العوامـل‬

‫‪218‬‬
‫االجتماعيــة يف زمــان ومكــان معينــني‪ ،‬كدراســة الفــمة الفروســية‪ ،‬والفــمة البورجوازيــة‪،‬‬
‫والف ــمة األرس ــتقراطية‪ ،‬وفـ ـمات ك ــل م ــن‪ :‬جوت ــه‪ ،‬وهن ــري الراب ــع‪ ،‬وفري ــدريك الث ــا ‪،‬‬
‫وإيرامسوس‪....‬‬
‫وم ــن مث‪ ،‬يتتب ــع ن ــوربرت إلي ــاس آدا الس ــلوت يف أوروب ــا الغربي ــة م ــن ف ــمة زمني ــة إىل‬
‫آخرى‪ ،‬ومن مكان إىل آخر‪ ،‬معتمدا على السوسيولوجيا العامة‪ ،‬ومتثل املقارنة كـاليت‬
‫عقدها بني فرنسا وأملانيا على صعيد الثقافة واحلضارة‪ ،‬أو االعتماد على التاريخ بغية‬
‫تتبــع ه ــذه الق ــيم يف مراحلهــا اليمني ــة‪ ،‬واالســتعانة بعل ــم الــنفس لدراس ــة جمموعــة مــن‬
‫التصرفات اجلنسية واجلسدية والعاطفية واالنفعالية والوجدانية‪.‬‬
‫وم ــن مث‪ ،‬يتتب ــع الباح ــث س ــلوت الع ــري ال ــذي ك ــان معي ــارا س ــالدا يف أملاني ــا يف الق ــرن‬
‫الس ــادس عش ــر امل ــيالدي‪ ،‬إذ كان ــت الع ــالالت خي ــرجن عاري ــة يف ذهاهب ــا إىل احلم ــام‬
‫العمــومي‪ ،‬رجــاال ونســاء وأطفــاال‪ ،‬أو المكيــي علــى كيفيــة اســتخدام اجلســد وعرضــه‪،‬‬
‫والمكي ــي عل ــى آدا الطاول ــة ال ــيت كان ــت فيه ــا اادا يف غاي ــة املرون ــة والتس ــاهل‪،‬‬
‫وليســت متشــددة كمــا هــو احل ـال يف أيامنــا هــذه؛ إذ كــان الشــبا الخيفــون صــوت‬
‫ضـراطهم أثنــاء العطــس‪ ،‬وكــانوا اليســتخدمون أصــابعهم الثالثــة عنــدما يــأكلون قطعــة‬
‫حلــم مــن األطبــاق‪ ،‬بــل كانــت تلــك األطبــاق متســح بأكمــام مــن جيلــس قـرهبم‪ ...‬فقــد‬
‫أضحت هذه التصرفات ‪ -‬اليوم‪ -‬عرضـة للسـخرية واالسـتهياء‪.‬عالوة علـى ذلـك‪ ،‬م‬
‫تستعمل شوكة الطعام إال يف القـرن احلـادي عشـر مـن قبـل حـاكم فينيسـيا‪ ،‬وقـد أدان‬
‫رجال الدين هذا التصرف‪ ،‬بيـد أن هنـري الثالـث اسـتخدمها بشـكل عـاد يف بالطـه‪.‬‬
‫يف حني‪ ،‬كانت هذه الشوكة مدعاة للسخرية عند عموم الشعب‪.‬‬
‫وعليــه‪ " ،‬مبثــل هــذه األحــداث والوثــالق الظريفــة أدخــل نــوربريت إليــاس يف التحليــل‬
‫التــارخيي والسوســيولوجي للغــر مفهةةوم حضةةارة داب السةةلوك‪.‬ميكــن للفكــرة الــيت‬
‫ظهــرت يف ثالثــة جملــدات‪ ،‬أن ختتــيل بشــكل ســهل‪ :‬يوضــح إليــاس أن احلضــارة هــي‬
‫مســألة آدا الســلوت‪ ،‬وخاصــة تلــك املتعلقــة بالقواعــد الصــغرية والكبــرية الــيت تفــرض‬

‫‪219‬‬
‫نفســها علــى اســتخدام اجلســد وإشــباع احلاجــات والغرالــي والرغبــات البش ـرية‪.‬غري أن‬
‫هــذا البعــد األخالقــي عــرف تطــورا ملحوظــا يف أوروبــا بــدءا مــن عصــر النهضــة‪ ،‬كــان‬
‫اإلنس ــان القروس ــطي يع ــيش يف ن ــوع م ــن الرببري ــة الس ــاذجة إىل ح ــد م ــا‪ ،‬ويف حري ــة‬
‫حقيقي ــة خبص ــوص التعب ــري العني ــف ع ــن مش ــاعره ورغبات ــه‪ ،‬وإلش ــباع حاجات ــه األكث ــر‬
‫ماديــة‪ ،‬دومنـا انشــغال بنظــرة الغــري‪ .‬وبــدءا مــن القــرن الســادس عشــر‪ ،‬شــرع كــل ذلــك‬
‫(اللياقة‪ ،‬وآدا الطعام‪ ،‬وقواعد احليـاء‪ ،‬واحلشـمة) بالقوننـة عـن طريـق نـبالء الـبالط‪.‬‬
‫ويف القــرن الثــامن عشــر‪ ،‬اســتوىل البورجوازيــون علــى آدا الســلوت هــذه‪ .‬ويف القــرن‬
‫التاس ــع عش ــر‪ ،‬بلغ ــت احلرك ــة أوجه ــا وش ــاعت أيض ــا؛ كـ ـان العص ــر عص ــر األخ ــالق‬
‫الطهريــة الــيت تــدعى " النظافــة أو العنايــة الصــحية‪ .‬هــل مازلنــا فيهــا حــىت اان؟ هــذه‬
‫مس ــألة آخ ــرى‪.‬إذ ي ــرى إلي ــاس أن ه ــذه احلرك ــة غ ــري املكتمل ــة ترس ــم كام ــل الت ــاريخ‬
‫السياســي واالجتمــاعي والثقــايف للغــر ؛ بســبب أن تطــور آدا اجلســد هــذه نا ــة‬
‫‪268‬‬
‫عن تعميم منط لشخصية هي شخصية نبيل بالط‪".‬‬
‫ويالحــظ إليــاس أن ســلطة الدولــة هــي احملــرت احلقيقــي للحضــارة‪ ،‬فقــد حتــول احملــاربون‬
‫اإلقطــاعيون إىل نــبالء الــبالط‪ ،‬وشــكلوا مــا يســمى بالســلطة امللكيــة‪ .‬ومــن مث‪ ،‬فقــد‬
‫ف ــرض األم ــري أو املل ــك قواع ــد اللياق ــة عل ــى حاش ــيته واحمليط ــني ب ــه‪ ،‬مث ت ـرابط اجملتم ــع‬
‫عضــويا ووظيفي ـا‪ ،‬بعــد صــعود البورجوازيــة‪ ،‬وازديــاد تقســيم العمــل بــني أف ـراد اجملتمــع‬
‫الواحد‪ ،‬وكانت آدا السلوت خاضعة للمراقبـة الذاتيـة والضـبط الـداخلي‪ .‬ويف هـذا‪،‬‬
‫يقول فيليب كابان(‪ )Philipe Cabin‬وفرانسوا دورتييه ( ‪Jean-François‬‬
‫‪ ":)Dortier‬إن تطور آدا السلوت‪ -‬كما يوضـح إليـاس‪ -‬مـا كـان لـه أن حيـدث‬
‫دون تــدجني احملــاربني‪ ،‬وحتــويلهم إىل نــبالء يف الــبالط‪ :‬نشــاهد بالفعــل ب ــني الق ـرنني‬
‫الثــا عش ــر والثــامن عش ــر‪ ،‬يف فرنس ــا علــى األقــل‪ ،‬ص ــعود الس ــلطة امللكي ــة‪ ،‬وحت ــول‬

‫‪ -‬فيليب كابان وجان فرانسوا دورتيه‪ :‬علم االجتماع‪ ،‬تر ة‪ :‬إياس حسن‪ ،‬دار الفرقد‪ ،‬دمشق‪،‬‬ ‫‪268‬‬

‫سورية‪ ،‬الطبعة األوىل سنة ‪2101‬م‪ ،‬ص‪.032-030:‬‬

‫‪221‬‬
‫ـرض األم ــري أث ــره يف كام ــل حي ــاة‬
‫الطبق ــات اإلقطاعي ــة إىل ن ــبالء ال ــبالط‪ .‬وهن ــات ف ـ َ‬
‫احمليطــني بــه يف الــبالط" احلـب‪ ،‬واحلــر ‪ ،‬وآدا املالــدة‪ ،‬واللياقــة‪ ،‬وقواعــد النياعــات‪.‬‬
‫ويف الوقت ذاته‪ ،‬كان اجملتمع يغتين ويـيداد تعقيـدا‪ ،‬فأصـبح النـاس أكثـر اعتمـادا علـى‬
‫بعضــهم الــبعض‪ ،‬وارتبطـوا عضــويا عــن طريــق تقســيم العمــل‪.‬وم يعــودوا يقــدرون علــى‬
‫العــيش منفصــلني يف اعــات منغلقــة علــى نفســها‪.‬وهنا‪ ،‬كمــا يقــدر إليــاس‪ ،‬يكمــن‬
‫السببان الرليسيان لظهور أخالق متسسـة علـى السـيطرة املتيايـدة علـى الغرالـي البدنيـة‬
‫والوجدانيــة‪ ،‬يف الطبقتــني املهيمنتــني‪ ،‬النــبالء والبورجوازيــة‪ .‬م يعــد األمــر متعلقــا فقــط‬
‫بتطبيق قواعد اللياقة واحلياء والتحاشي‪ ،‬إمنا بالوصول إىل الضبط الذايت لكـل واحـد‪،‬‬
‫‪262‬‬
‫خاصة فيما يتعلق باالحتكاكات اجلسدية واجلنس والعنف‪".‬‬
‫وم ــن مث‪ ،‬فق ــد بلغ ــت آدا الس ــلوت يف الق ــرن التاس ــع عش ــر امل ــيالدي قم ــة الرق ــي‬
‫والتهذيب والتطهري األخالقي واحملاسبة الذاتية‪ ،‬إذ كان العري ممنوعا‪ ،‬وكان قليله يثري‬
‫الضحك والسخرية بني اجلميـع‪ ،‬وكـان احلـديث عـن اجلـنس مـع األطفـال عيبـا ورذيلـة‬
‫وعارا‪ .‬مبعىن أن القرن التاسع عشر هو قرن املمنوعـات واملقموعـات واملكبوتـات فيمـا‬
‫خي ـ ــص اجل ـ ــنس‪ ،‬والنظاف ـ ــة‪ ،‬واللياق ـ ــة‪ ،‬واس ـ ــتخدام العن ـ ــف‪ ،‬وم تك ـ ــن تل ـ ــك املع ـ ــايري‬
‫االنضباطية جمرد قوانني عامة‪ ،‬بل تعد أيضـا ثقافـة‪ .‬إنـه قـرن اسـتبطان التهـذيب‪ .‬وقـد‬
‫كتب إلياس " أن تطـور آدا السـلوت يف جانبـه احلـديث‪ ،‬يتصـف باسـتبطان متيايـد‬
‫للمع ــايري؛ مم ــا جيع ــل االي ــات االجتماعي ــة للمن ــع الض ــرورة هل ــا‪ .‬بالنس ــبة ل ــه‪ ،‬ليس ــت‬
‫احلضــارة فقــط مســألة لياقــة يف اجملــالس الرمسيــة؛ فهــو يعلــم جيــدا أن هنــات ممنوعــات‬
‫وطقوسا معقـدة قـد توجـد عنـد شـعو تعتـرب بدالية‪.‬فحركـة احلضـارة تسـري عـن طريـق‬
‫مبــادىء كونيــة‪ ،‬وتصــيب وعــي الفــرد بالــذات باختصــار‪ ،‬م يعــد األمــر متعلقــا فقــط‬

‫‪ - 262‬فيليب كابان وجان فرانسوا دورتيه‪ :‬علم االجتماع‪ ،‬ص‪.032 :‬‬

‫‪221‬‬
‫بقواعــد الســلوت‪ ،‬بــل مبشــاعر داخليــة إحساســا بالــذنب ونــدما‪ ،‬وتعيــد إنتــاج نفســها‬
‫‪261‬‬
‫بنفسها‪ ،‬وتشبه الكبت عند فرويد‪".‬‬
‫ولكــن املســتغر يف تصــور إليــاس أن عــري املـرأة علــى شــاطىء البحــر اليعــده انقالبــا‬
‫يف سريورة احلضارة‪ ،‬وعودة إىل انعدام احلشمة واحلياء والعفة‪ ،‬بل هو تعبري عن حريـة‬
‫املـ ـرأة‪ ،‬واس ــتمتاع حب ــق املس ــاواة يف الظ ــروف احلياتي ــة‪.‬أما بالنس ــبة لآلخ ــر‪ ،‬فعلي ــه أن‬
‫يضبط مشاعره وسلوكياته وتصرفاته‪.‬‬
‫ويالحــظ أن كتــا (حةةول سةةيرورة الحضةةارة) كــان ممنوعــا يف أملانيــا‪ ،‬ولكــن أعيــد‬
‫اكتشــافه يف فرنســا خــالل الســبعينيات مــن القــرن املاضــي‪ ،‬و" اســتقبل حبمــاس عــن‬
‫طريــق فرانس ـوا فــوره (‪ ،)Furet‬وأنــدري بــورغيري(‪ ،)Burguière‬وإمانويــل لــوروا‬
‫الديــوري(‪ .)Ladurie‬وهــو يعكــس جهــدهم اخلــالص كــي جيعلـوا مــن التــاريخ علمــا‬
‫للعقليات‪.‬وجيسد أيضا سوسيولوجيا تارخيية ذات هدف نظري رفيـع‪ ،‬ويدشـن شـكال‬
‫لت ـ ـ ـ ـ ـ ــاريخ آدا الس ـ ـ ـ ـ ـ ــلوت أص ـ ـ ـ ـ ـ ــبح منذل ـ ـ ـ ـ ـ ــذ مدرس ـ ـ ـ ـ ـ ــة (انظ ـ ـ ـ ـ ـ ــر م ـ ـ ـ ـ ـ ــثال ج ـ ـ ـ ـ ـ ــورج‬
‫فيغاريلو(‪.)Vigarello‬‬
‫أخريا‪ ،‬لقد رسم‪ ،‬مع احتفاظه مبسافة نقدية‪ ،‬لوحة للحضارة الغربية أقل نقدية بكثري‬
‫من التحليل النفسي واملاركسية وجتلياهتما‪"266.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬يالحظ أن الكاتـب يـدرس احلضـارة الغربيـة يف ضـوء املقاربـة السوسـيولوجية‪،‬‬
‫أو يــدرس مــا هــو إنســا ‪ ،‬ومــاهو انفعــايل‪ ،‬ومــا هــو وجــدا عــاطفي وســيكولوجي‪،‬‬
‫ضمن مقاربة سوسيولوجية‪ .‬ومن جهة أخرى‪ ،‬يدرس ماهو تارخيي وجمتمعي يف ضوء‬
‫مفهوم القمع أو الكبت‪ ،‬كما حتدث عنه سيغموند فرويد (‪ )freud‬يف جل كتاباته‬
‫السيكولوجية‪.‬‬

‫‪ - 261‬فيليب كابان وجان فرانسوا دورتيه‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.038:‬‬


‫‪ - 266‬فيليب كابان وجان فرانسوا دورتيه‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.038:‬‬

‫‪222‬‬
‫ع ـالوة عل ــى ذل ــك‪ ،‬يع ــىن ن ــوربرت إلي ــاس بسيوس ــيولوجيا اجلس ــد يف ش ــبقيته وماديت ــه‬
‫وشــهواته ونيواتــه وغرالــيه‪ ،‬بــالتوقف عنــد تقنياتــه علــى غ ـرار دراســات السوســيولوجي‬
‫مارس ــيل م ــوس(‪ ،)M.Mauss‬ورب ــط ه ــذا اجلس ــد بالعف ــة والع ــري‪ ،‬وعالق ــة ذل ــك‬
‫باهل ــابيتوس‪ ،‬واالنبن ــاء اجملتمع ــي‪ ،‬واملراقب ــة الذاتي ــة‪ ،‬واحملاس ــبة القيمي ــة‪ ،‬وتص ــوير طبيع ــة‬
‫اجملتمــع علــى مســتوى الثقافــة واحلضــارة‪ .‬ويعــين هــذا أن العواطــف واأله ـواء خاضــعة‬
‫للقيم والتقاليد والعادات واألعراف‪.‬‬
‫كمــا اهــتم نــوربرت إليــاس بسوســيولوجيا الرياضــة ب ش ـمات مــع تلميــذه إيريــك دانــني‬
‫(‪ ،)Dunning‬إذ أثبــت أن يــع اجملتمعــات‪ ،‬س ـواء القدميــة منهــا أم احلديثــة‪ ،‬قــد‬
‫عرفــت الرياضــة‪ ،‬وتتميــي الرياضــة مقارنــة باهلوايــات األخــرى بقلــة العنــف‪ ،‬علــى الــرغم‬
‫من االحتكات الصارم املوجود بني األجساد الرياضية داخل جمال اللعبة‪ .‬عـالوة علـى‬
‫احـمام القواعــد املكتوبــة وغــري املكتوبــة الــيت تــتحكم يف اللعبــة‪ .‬ومــن مث‪ ،‬فهــي هتــدف‬
‫إىل غــرس القــيم الوطنيــة والقوميــة‪ ،‬وحتقيــق الظفــر واالنتصــار‪ ،‬ومتثــل القواعــد‪ ،‬والســعي‬
‫اجلاد حنو االستمتاع باللعب‪.‬‬
‫ومــن مث‪ ،‬فقــد حلــل الباحثــان الظــاهرة الرياضــية يف بعــديها املــيدوج‪ :‬إذ يتعلــق البعــد‬
‫األول بالتطبيق اجلسدي‪ ،‬ويرتبط البعد الثا مبا هو فرجـوي‪ .‬وهنـا‪ ،‬يـتم المكيـي علـى‬
‫اجلسد باعتباره نتاج سريورة احلضارة‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬وقد انتقلت الرياضـة مـن األلعـا التقليديـة العنيفـة ( الرومـان) حنـو ألعـا حتـد‬
‫من العنف والعدوان‪ .‬بل ميكن القول‪:‬إن اهلـابيتوس الرياضـي اليقتصـر علـى اللعبـة يف‬
‫جماهلا الداخلي فحسب‪ ،‬بل ميتد هذا اهلابيتوس حىت خارج هـذا اجملـال علـى مسـتوى‬
‫السلوت والتصرف والتطبع االجتماعي‪.‬‬

‫‪223‬‬
‫الفرع الثاني‪ :‬ثنائية االلتزام والحياد‬

‫اســتعمل نــوربرت إليــاس‪ ،‬يف كتابــه (مةةدخل إلةةى سوسةةيولوجيا المعرفةةة)‪ ،‬مفهــومي‬
‫االلتـيام واحليــاد‪ ،‬وحييــل املفهومــان معــا علــى ثناليــة الذاتيــة واملوضــوعية‪ .‬ويعــين هــذا أن‬
‫الــدارس يبحــث عــن الطريقــة الــيت ينبغــي أن يتعامــل هبــا السوســيولوجي مــع الظ ـواهر‬
‫اجملتمعية‪ ،‬فهل سيبقى حمايدا أم يدخل ذاته يف البحث؟‬
‫وحييلنا هذا أيضا على إشكالية عويصة يف العلوم اإلنسانية‪ ،‬هل ميكن التعامل معها‬
‫على األساس الوضعي التفسريي؟ أم على األساس التفهمي الروحي؟ أم على أسـاس‬
‫اجلمع بني الفهم والتفسري على حد سواء؟‬
‫ويعين هـذا أن احليـاد يسـتليم املوضـوعية يف البحـث السوسـيولوجي‪.‬أما االلتـيام‪ ،‬فيعـين‬
‫إدخال الذات أثناء التعامل مع الظواهر اجملتمعية‪.‬‬
‫ويف احلقيقــة‪ ،‬يتضــمن كــل ســلوت جانبــا مــن املوضــوعية احلياديــة‪ ،‬وجانبــا مــن التــدخل‬
‫الــذايت (االلتـيام)‪.‬أي‪ :‬ميكــن دراســة الفــرد يف ضــوء املقاربــة السوســيوتارخيية‪ ،‬بغيــة فهــم‬
‫كيــف يتطــور ســلوكه أو فعلــه اجملتمعــي عــرب التــاريخ‪ ،‬ضــمن ســريورة احلضــارة‪ ،‬ورصــد‬
‫خمتلف العالقات التفاعلية بني األفراد يف عالقتهم مع حميطهم وبيئتهم‪.‬‬
‫ومــن مث‪ ،‬يوفــق نــوربرت إليــاس بــني الفهــم والتفســري‪ ،‬ويــرفض دراســة الظـواهر اجملتمعيــة‬
‫تفسريا علميـا ووضـعيا فحسـب‪ ،‬باالعتمـاد علـى التفسـري واملقارنـة والتكمـيم الرياضـي‬
‫أو اإلحصــالي؛ ألن ذلــك خيلــق نوعــا مــن احليــاد الومهي‪.‬لــذا‪ ،‬البــد مــن اجلمــع بــني‬
‫الذاتية واملوضوعية من جهة‪ ،‬أو بني الفهم والتفسري من جهة أخرى‪.‬‬

‫‪224‬‬
‫الفرع الثالث‪ :‬مفهوم الهابيتوس‬

‫لقد وظف نوربرت إلياس مصطلح اهلابيتوس(‪ )Habitus‬يف الثالثينيـات مـن القـرن‬
‫العشـ ـرين‪ ،‬قب ــل أن يس ــتعمله بي ــري بوردي ــو يف كتابات ــه السوس ــيولوجية املتنوع ــة‪ .‬ويع ــين‬
‫اهل ــابيتوس عن ــد الباح ــث تل ــك املعرف ــة اجملتمعي ــة املستض ــمرة أو املخين ــة ل ــدى األفـ ـراد‬
‫بشــكل غــري واع‪ ،‬وتتجــذر مــع مــرور الوقــت بفعــل األســرة أو املتسســة أو احلــي أو‬
‫الدولــة‪ .‬وبالتــايل‪ ،‬تــدل علــى هويــة الفــرد‪ .‬كمــا تــدل علــى هويــة اجلماعــة‪ .‬وحييــل هــذا‬
‫على ما يسمى بالتنشئة االجتماعية أو التطبع أو االندماج االجتمـاعي‪ ،‬سـواء أكـان‬
‫فرديــا أم اعيــا‪.‬أي‪ :‬تشــر األف ـراد جملموعــة مــن املعــايري والقــيم والعــادات اجملتمعيــة‪،‬‬
‫بفعل االحتكات والتطبع والتماثل مع البنيات املوضوعية‪ .‬ويتميـي اهلـابيتوس بالدميومـة‬
‫والتحــول والتطــور التــارخيي‪ ،‬وانتقالــه مــن جيــل إىل آخــر‪ .‬ومــن مث‪ ،‬فقــد ركــي الباحــث‪،‬‬
‫يف دراســته للحضــارة الغربيــة األوروبيــة‪ ،‬علــى اهلــابيتوس الــوطين واهلــابيتوس اهلويــايت‪.‬‬
‫ويعــين هــذا أن كــل دولــة هلــا هــابيتوس خــاص‪ ،‬يتخــذ بعــدا وطنيــا وهوياتيــا‪ ،‬كمــا عنــد‬
‫األملان ‪ -‬مثال‪.-‬‬

‫المطلب الرابع‪ :‬نقد وتعليق‬

‫خضعت آراء نـوربرت إليـاس النتقـادات عـدة مـن وجهـات علميـة خمتلفـة‪ .‬ففـي جمـال‬
‫التاريخ‪ ،‬انتقده الباحثون يف كونه أمهل فمة القـرن التاسـع عشـر املـيالدي‪ ،‬وم يتعـرض‬
‫هلا يف كتابه (حول سيرورة الحضارة) بشكل دقيق وواضح‪ .‬كما أن األنموبولـوجيني‬
‫ينتقدونه يف موضوع احلياء واحلشمة على أساس أن الباحث اعتمد على وثـالق قليلـة‬
‫غري مناسبة يف هذا اجملال؛ إذ ركي على املواخري فقط للحكـم علـى آدا السـلوت يف‬

‫‪225‬‬
‫فــمة زمنيــة مــا‪ .‬كمــا أن األوصــاف املتعلقــة بالســكن املــأخوذة مــن موســوعة ديــدرو‬
‫(‪ )Diderot‬وجمتم ــع ال ــبالط ه ــي أوص ــاف متعلق ــة بنم ــوذج مث ــايل أكث ــر مم ــا ه ــو‬
‫واقعي‪.‬‬
‫وعلى العموم‪ ،‬تتميي مفاهيمه السوسيولوجية بالغموض‪ ،‬وصعوبة الفهـم واالسـتيعا‬
‫من قبل القراء‪ ،‬والسيما مفهوم االنبناء واهلابيتوس‪...‬‬
‫وقد أثبت السوسيولوجي اإلجنلييي ستيفن مينل(‪ 267)Stephen Mennell‬أن‬
‫نظريــات نــوربرت إليــاس تصــلح لدراســة الــدول الغربيــة‪ ،‬ولكــن التصــلح لتحليــل نشــأة‬
‫دول أمريكا الشمالية‪ .‬وكذلك‪ ،‬التنطبق ‪ -‬يف رأيي‪ -‬علـى الـدول العربيـة الـيت قامـت‬
‫علــى اح ـمام القــيم األخالقيــة‪ ،‬وضــبط آدا التصــرف وفــق املــنهج اإلســالمي‪ ،‬بــل‬
‫يتميي اجملتمع العريب واإلسالمي بكونه جمتمعا حمافظا تسوده احلشمة والعفـة والتسـم‪.‬‬
‫وأكثر من هذا‪ ،‬الميكن أن نعترب عري املرأة على الشاطىء حضارة أو حرية أو ثقافـة‬
‫أو مس ــاواة‪ .‬وبالت ــايل‪ ،‬عل ــى ااخ ــر أن يض ــبط نفس ــه س ــلوكيا وغراليي ــا‪ .‬بينم ــا ه ــذا‬
‫الس ــلوت الش ــالن تعب ــري ع ــن م ــدى اإلس ــفاف احلض ــاري‪ ،‬واحنط ــاط الق ــيم‪ ،‬إذ يث ــري‬
‫االمشئ ـياز والفتنــة والغوايــة‪ ،‬ويســاعد علــى انتشــار البغــاء واإلباحيــة وتــردي احلضــارة‪.‬‬
‫ومــن مث‪ ،‬تــتدي اإلباحيــة والرذيلــة واملبالغــة يف الــمف إىل ســقوط الــدول واحنطاطهــا‪،‬‬
‫كما يقول ابن خلدون يف مقدمته لعلم العمران‪.‬‬
‫وم ــن جه ــة أخ ــرى‪ ،‬بق ــي الكت ـ ـا " م ــن جه ــة علم ــاء االجتم ــاع أكث ــر تش ــكيكا‪،‬‬
‫وظهرت االنتقادات باكرا‪.‬هـل ب مكاننـا أن جنهـل التهـذيب وليـد عصـر النهضـة‪ ،‬كمـا‬
‫لـو أنـه م يكــن لعصـور أخـرى وقــارات أخـرى فـمات مــن حضـارة متقدمـة؟ إذا كانــت‬
‫األم ــم األوروبي ــة وح ــدها متل ــك احلياء‪.‬فم ــا ح ــال ااخـ ـرين؟ جيته ــد إلي ــاس يف كت ــا‬
‫(دينامية الغرب) لتبيان أن ظهور جمتمع البالط هو أمر متكد يف كافة القـارات‪.‬لكن‬

‫‪267‬‬
‫‪- Quentin Deluermoz (sous la direction de): Norbert Elias et‬‬
‫‪le XXe siècle, Perrin, 2012.‬‬

‫‪226‬‬
‫أال توجد طرالق أخرى للوصول إىل احلضـارة مـن غـري اخلضـوع إىل سـلطة الدولـة؟ أال‬
‫تصــف قصــص اإلثنولــوجيني بالتحديــد وجــود جمتمعــات ذات طبــاع متمدنــة مهذبــة‬
‫‪263‬‬
‫بغيا سلطة الدولة؟ "‬
‫وهنــات مــن يشــكك يف أطروحــة العــري يف العصــر الوســيط كمــا أثبتهــا إليــاس‪ ،‬فقــد‬
‫اعت ـ ــرب امل ـ ــتر بي ـ ــم دي ـ ــور(‪ ،)Duerr‬يف كتاب ـ ــه ( الع ة ةةري والحي ة ةةاء)‪ " ،‬الالمب ـ ــاالة‬
‫القروسطية جتاه العري جمرد أسطورة‪ :‬فاحلـاالت الـيت يصـفها (احلمامـات‪ ،‬واحتفـاالت‬
‫الع ـراة‪ ،‬والتن ــيه يف اهل ـواء الطل ــق) كان ــت يف احلقيق ــة اس ــتثنالية‪ ،‬مغموس ـة باإليروس ــية‪،‬‬
‫وترجع إىل سلوكيات منحرفة‪ .‬يـدعم ديـور األطروحـة القاللـة بـأن احليـاء‪ ،‬ولـو تنوعـت‬
‫تبدياتــه‪ ،‬هــو شــعور كــو ‪ ،‬ومــا مــن جمتمــع مهمــا كــان مســتواه مــن الرببريــة ميتنــع عــن‬
‫وضع قواعد للعري‪...‬‬
‫وإن وضــع قواعــد الس ــتخدامات اجلســد (التغــوط‪ ،‬والض ـراط‪ ،‬والتجشــت‪ ،‬والبص ــاق‪،‬‬
‫إخل) م يكن أبدا غالبا عن وعي الشعو ‪ :‬فقبل هناية العصر الوسـيط‪ ،‬كانـت توجـد‬
‫نصــوص يهوديــة وعربيــة وأملانيــة وإنكليييــة تتنــاول االســتخدام املناســب للتغــوط (بعيــدا‬
‫ع ــن نظ ــر ومس ــع ااخـ ـرين‪ ،‬وم ــن املفض ــل ل ــيال بعي ــدا ع ــن أع ــني املاللك ــة)‪.‬إن ع ــادة‬
‫أصحا السمو‪ ،‬وهم يستقبلون حاشيتهم جالسني علـى كرسـي بيـت اخلـالء‪ ،‬والـيت‬
‫أقرهــا لــويس احلــادي عشــر‪ ،‬ســتكون اخماعــا حــديثا وتعب ـريا عــن الماتبيــة املتيايــدة يف‬
‫العالقات االجتماعية‪ .‬بالطبع م يكن من املقبول أبدا بالنسبة للتابع أن يستقبل مـن‬
‫هو أعلى منه بالطريقة ذاهتا‪...‬‬
‫باختصار‪ ،‬شكك ديور ومترخون آخرون بشكل واسـع أيضـا‪ ،‬لـيس بوجـود تنويعـات‬
‫مبستوى االحتشام املطلو بني جمتمـع وآخـر‪ ،‬بـل بـأن هـذا املسـتوى مـرتبط‪ ،‬كمـا يف‬
‫‪268‬‬
‫نظرية إلياس‪ ،‬بظهور طبقات احلاشية‪ ،‬وبالتايل ظهور الدولة احلديثة‪".‬‬

‫‪ - 263‬فيليب كابان وجان فرانسوا دورتيه‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.032:‬‬


‫‪ - 268‬فيليب كابان وجان فرانسوا دورتيه‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪..031-032:‬‬

‫‪227‬‬
‫ويتبــني لنــا‪ ،‬ممــا ســبق ذكــره‪ ،‬بــأن الثقافــة عنــد نــوربرت إليــاس‪ ،‬تتأســس ســيكولوجيا‪،‬‬
‫بــاملفهوم الفرويــدي‪ ،‬علــى قم ـع الغرالــي اجلنســية أو الشــهوانية أو الشــبقية‪ ،‬ويعــد هــذا‬
‫املعطــى قامســا مشــمكا بــني يــع احلضــارات‪ .‬بيــد أن حضــارة اإلســالم م ت ـ علــى‬
‫م ــاهو غرال ــيي وجنس ــي‪ ،‬ب ــل بني ــت عل ــى دت الوثني ــة العمي ــاء‪ ،‬وال ــدعوة إىل التوحي ــد‬
‫الرب ــا ‪ .‬كم ــا أن الثقاف ــة أساس ــها العل ــم واألخ ــالق مع ــا‪ ،‬م ــع حص ــرها يف عب ــادة اج‬
‫وحده‪.‬‬
‫ومــن منظــور آخــر‪ ،‬كيــف ميكــن اجلمــع بــني ام ـرأة تلــبس احلجــا اإلســالمي وام ـرأة‬
‫عاريــة‪ ،‬فهــل يعــين ذلــك أن العاريــة هــي الــيت متلــك حريتهــا احلقيقيــة‪ ،‬بينمــا األخــرى‬
‫المتلكهــا‪ .‬يف حــني‪ ،‬إن اإلســالم هــو الــذي يقــدر املـرأة أميــا تقــدير‪ ،‬ويعلــو هبــا مكانــة‬
‫ومسوا ورفعة‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬و" إن هذا املوقـف امللتـبس لنظريـة إليـاس ميكـن أن يتخـذ عليـه‪ :‬الفـرد البشـري‪،‬‬
‫بالشكل الذي يصفه به‪ ،‬مأسـور يف حلقـة مماثلـة حللقـة التحليـل النفسـي‪ .‬مهمـا فعـل‬
‫أو م يفعــل‪ ،‬ف ـ ن تصــرفه يعــرب عــن األمــر ذاتــه‪ ،‬وهــو أن الثقافــة تتأســس علــى جلــم‬
‫الغرالي‪.‬واحلال‪ ،‬إما أن هذا املعطى مشمت بني كافـة اجملتمعـات البشـرية‪.‬وبالتـايل‪ ،‬فـ ن‬
‫تنوعــه لــيس شــديد الداللــة‪ ،‬أو أن بعــض اجملتمعــات ترتقــي يف هــذا الطريــق أعلــى مــن‬
‫غريهــا بكثــري‪ .‬لكــن هــل علــى هــذا يعتمــد جناحهــا وقــدرهتا علــى التــأثري يف ااخ ـرين؟‬
‫باختصار‪ ،‬هل التهذيب شرط النطالق احلضارة الغربية أم هو جمرد أثر ثـانوي؟ تـمت‬
‫أعمال إلياس خلفها مسالل تكفي‪ ،‬بأمهيتها‪ ،‬ألن توصـف باألعمـال األكثـر حتريضـا‬
‫‪271‬‬
‫يف القرن العشرين‪".‬‬
‫أضف إىل ذلـك‪ ،‬فلـيس هنـات صـلة حقيقيـة بـني دقـة اادا وانعـدام العنـف واجلرميـة‬
‫يف اجملتم ــع‪ ،‬فق ــد وج ــدت ج ـرالم يف عص ـرنا املتق ــدم ه ــذا عل ــى ال ــرغم م ــن متث ــل ت ــام‬
‫ادا الســلوت‪ .‬ويف ه ـذا الســياق‪ ،‬يقــول نيكــوال جورنــه‪ ":‬إن ســريورة احلضــارة الــيت‬

‫‪ - 271‬فيليب كابان وجان فرانسوا دورتيه‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.031:‬‬

‫‪228‬‬
‫وص ـ ــفها ن ـ ــوربريت إلي ـ ــاس التظه ـ ــر فق ـ ــط م ـ ــن خ ـ ــالل آدا املال ـ ــدة وقواع ـ ــد احلي ـ ــاء‬
‫واألخــالق اجلنســية‪ ،‬فهــي تتنــاول بشــكل أكثــر مباشــرة أيضــا‪ ،‬تراجــع مســتوى العنــف‬
‫الذي تسمح به األخالق العامة‪.‬القضية واضحة بني الناس‪ ،‬إن ضبط احلق بالقتـال‪،‬‬
‫مث بالثــأر الشخصــي عــن طريــق الدولــة‪ ،‬هــو نتــاج التطــور يف املتسســات الــذي أصــبح‬
‫حك ـرا من ــذ الق ــرن الث ــامن عش ــر (راج ــع دينامي ــة الغر )‪.‬ومنئذل ــذ وض ــع االس ــتخدام‬
‫االجتمــاعي للعنــف اخلــاص حتــت نظــر الب ـوليس والعدالــة‪.‬ففي العصــر الوســيط‪ ،‬كــان‬
‫م ــن ع ــادة احمل ــاربني املتم ــدنني أن يب ــموا أعضـ ـاء م ــن ض ــحاياهم‪ ،‬وم ــن ع ــادة العـ ـوام‬
‫ال ــذها لالس ــتمتاع بع ــرض تنفي ــذ اإلع ــدامات‪ .‬وخ ــالل س ــريورة احلض ــارة ص ــارت‬
‫العوام ــل اخلارجي ــة حامس ــة‪ ،‬لكنه ــا انتقل ــت إىل آلي ــات نفس ــية حتك ــم حساس ــية ك ــل‬
‫واحد‪.‬‬
‫لك ــن م ــا ال ــذي يعني ــه م ــا أش ــار إلي ــه بع ــض علم ــاء االجتم ــاع م ــن تراج ــع األم ــن يف‬
‫اجملتمعات احلديثة واملتطورة؟ إن هذه املشكلة اليت ظهرت خالل الثمانينيـات‪ ،‬لقيـت‬
‫عدة أنواع من األجوبة‪.‬يقوم اجلوا األول على التشكيك يف أطروحة إلياس‪ :‬ما مـن‬
‫شيء يثبت وجود صلة ضرورية بني الدقة املتناهية يف اادا وتراجع مستوى العنـف‬
‫بــني األشــخاص‪ .‬اجلانبــان يتنوعــان بشــكل مســتقل عــن بعضــهما البعض‪.‬وعليــه‪ ،‬إن‬
‫زيادة يف االحنراف التعـين أن تقـدم احلضـارة وصـل إىل هنايتـه‪.‬واألخرى تـويل أمهيـة إىل‬
‫تقط ــع يف س ــريورة احلض ــارة عــن طريــق إض ــعاف من ــوذج الدول ــة ال ــذي يف ــمض أيض ــا‪،‬‬
‫بتع ــابري عام ــة‪ ،‬أن الدينامي ــة املتسس ــاتية ال ــيت وصـ ــفها إليـ ــاس رمب ــا ق ــد بلغـ ــت حـ ــدا‬
‫(هناية)‪.‬ومع ذلك يرى آخرون أن العنف كشكل للعالقة االجتماعية قد عهد به إىل‬
‫بعــض أمــاكن النفــي االجتمــاعي‪ ،‬وبقــي غريبــا بالكامــل عــن جممــل اجملتمــع الــذي م‬
‫‪270‬‬
‫يتوقف عن اخلضوع للبوليس‪".‬‬

‫‪ - 270‬فيليب كابان وجان فرانسوا دورتيه‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.037-036:‬‬

‫‪229‬‬
‫ويف منظــوري الشخصــي‪ ،‬إن كثــرة اجل ـرالم واالحنرافــات بــني األف ـراد يف اجملتمــع الغــريب‬
‫لــيس راجعــا إىل أفــول احلضــارة‪ ،‬وهنايــة الثقافــة‪ ،‬بــل يعــرب ذلــك عــن الف ـراغ الروحــا ‪،‬‬
‫وانقطاع سبيل التدين احلقيقي‪ ،‬وازدياد الشك يف املعتقدات الغربيـة وفلسـفاهتا املاديـة‬
‫واإلباحية اليت علبت اإلنسان وشيأته‪ ،‬وحولته إىل رقم من األرقام البنيويـة‪ ،‬أو جعلتـه‬
‫سلعة من السلع التجارية الرخيصة الثمن‪.‬‬

‫وخالص ةةة الق ةةول‪ ،‬يع ــد ن ــوربرت إلي ــاس م ــن السوس ــيولوجيني األمل ــانيني املنس ــيني يف‬
‫الثقافة الغربية بصفة عامة‪ ،‬والثقافة العربيـة املعاصـرة بصـفة خاصـة؛ والسـبب يف ذلـك‬
‫أن كتب ــه‪ ،‬ل ــيمن طوي ــل‪ ،‬حوص ــرت م ــن قب ــل املتسس ــات األكادميي ــة األملاني ــة‪ ،‬وم ــن‬
‫متسسات الطبع والنشر والتوزيع ذات التوجه السياسي النازي‪ .‬وم تمجم أعماله إىل‬
‫اللغ ــات األجنبي ــة‪ ،‬والس ــيما الفرنس ــية واإلجنلييي ــة‪ ،‬إال يف العق ــود األخ ــرية م ــن الق ــرن‬
‫العشرين‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬وتتميي أعماله بالتحريض‪ ،‬واجلدة‪ ،‬وجرأة الطرو‪ ،‬واالنطالق من السوسـيولوجيا‬
‫التارخيية‪ ،‬واالستعانة بالسـيكولوجيا الفرويديـة لتعميـق مفاهيمـه االجتماعيـة‪ ،‬والسـيما‬
‫مفاهيم‪ :‬االنبناء‪ ،‬واهلابيتوس‪ ،‬واحلياد وااللتيام‪...‬‬
‫وعليــه‪ ،‬فــأهم مــا تتســم بــه دراســاته السوســيولوجية الــيت جتمــع بــني الفهــم والتفســري‬
‫تركييهـ ــا علـ ــى سـ ــريورة احلضـ ــارة الغربيـ ــة‪ ،‬واالهتمـ ــام باجلسـ ــد‪ ،‬ودراسـ ــة سوسـ ــيولوجيا‬
‫الرياض ــة‪ .‬وم ــن مث‪ ،‬فه ــذه األعم ــال احلفري ــة اجل ــادة ت ــذكرنا‪ ،‬بش ــكل م ــن األش ــكال‪،‬‬
‫بأحباث الفيلسوف ميشيل فوكـو (‪ ،)Michel Foucault‬وأحبـاث املـتر فرنانـد‬
‫بروديل(‪ ،)Fernand Braudel‬وأحباث السوسيولوجي بيـري بورديـو ( ‪Pierre‬‬
‫‪ ،)Bourdieu‬على سبيل التمثيل واملقارنة والتخصيص‪...‬‬

‫‪231‬‬
‫المفاهيم السوسيولوجية عند بيير بورديو‬

‫أغـىن الباحـث الفرنسـي بيـري بورديـو(‪2112-0818( )Pierre Bourdieu‬م)‬


‫السوســيولوجيا املعاصــرة مبجموعــة مــن املصــطلحات واملفــاهيم اإلجراليــة الــيت الميكــن‬
‫جتاوزهــا أثنــاء ممارســة البحــث السوســيولوجي‪ ،‬أو مقاربــة الظ ـواهر اجملتمعيــة والثقافيــة‬
‫والمبويـ ــة نظريـ ــة وتطبيقـ ــا ورؤيـ ــة‪ ،‬مثـ ــل‪ :‬العنـ ــف الرمـ ــيي‪ ،‬وإعـ ــادة اإلنتـ ــاج‪ ،‬واحلقـ ــل‬
‫االجتم ــاعي‪ ،‬واهل ــابيتوس‪ ،‬والرأمس ــال الثق ــايف‪ ،‬والبنيوي ــة التكويني ــة‪ ،‬وامل ــدى احلي ــوي‪،‬‬
‫والتمايي‪ ،‬وسوق اخلريات االجتماعية‪...‬‬
‫ومــن جهــة أخــرى‪ ،‬يعــد بيــري بورديــو مــن أهــم ممثلــي املقاربــة الص ـراعية ذات التوجــه‬
‫املاركسـ ــي‪ ،‬وكـ ــذلك مـ ــن أهـ ــم رواد البنيويـ ــة التكوينيـ ــة ( ‪Structuralisme‬‬
‫‪ 272)constructiviste‬ال ـ ـ ــذين عـ ـ ـ ـوا ب ـ ـ ــني الفه ـ ـ ــم والتفس ـ ـ ــري‪ ،‬ب ـ ـ ــني الذاتي ـ ـ ــة‬

‫‪272‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪Pierre Bourdieu, Choses dites, Paris, Les Éditions de‬‬
‫‪Minuit, coll. « Le sens commun », 1987, 229 p.‬‬

‫‪231‬‬
‫واملوضوعية‪ ،‬بني املاكرو وامليكـرو‪ ،‬بـني احلتميـة والفاعليـة‪ ...‬عـالوة علـى ذلـك‪ ،‬تنبـين‬
‫نظريتــه السوســيولوجية علــى دراســة اجملتمــع باعتبــاره فضــاء للصـراع واملنافســة واهليمنــة‪،‬‬
‫م ـ ــع حتلي ـ ــل تراتبي ـ ــة خمتل ـ ــف الطبق ـ ــات االجتماعي ـ ــة‪ ،‬وتبي ـ ــان ال ـ ــدور ال ـ ــذي تق ـ ــوم ب ـ ــه‬
‫املمارس ــات الثقافي ــة داخ ــل الصـ ـراع ال ــذي حي ــدث ب ــني ه ــذه الطبق ــات االجتماعي ــة‬
‫بشكل واع أو غـري واع‪ ،‬مث اسـتجالء الكيفيـة الـيت تعيـد هبـا املدرسـة إنتـاج الالمسـاواة‬
‫اجملتمعية‪ ،‬وإعادة الطبقات االجتماعية نفسها‪.‬‬
‫إذاً‪ ،‬م ــا تص ــور بي ــري بوردي ــو للسوس ــيولوجيا؟ وم ــا املنهجي ــة ال ــيت متثله ــا يف مقاربات ــه‬
‫السوسيولوجية النظرية والتطبيقية؟ وما أهم املفـاهيم السوسـيولوجية الـيت اعتمـد عليهـا‬
‫يف بناء أحباثه اجملتمعية؟ وكيف يربط اهلابيتوس بني الفرد باجملتمع؟‬
‫تلكم هي أهم األسئلة اليت سوف حناول اإلجابة عنها يف موضوعنا هذا‪.‬‬

‫المبحث األول‪ :‬مفهوم السوسيولوجيا‬

‫يع ــد بي ــري بوردي ــو م ــن أه ــم السوس ــيولوجيني الفرنس ــيني امللت ــيمني يف منتص ــف الق ــرن‬
‫العش ـ ـرين‪ ،‬وه ــو م ــن طبق ــة اجتماعي ــة عمالي ــة عادي ــة‪ ،‬حيم ــل رؤي ــة ماركس ــية نقدي ــة‬
‫جديــدة‪ ،‬تعــري واقــع اهليمنــة والســلطة والتمركــي الطبقــي‪ .‬وقــد ألــف أكثــر مــن أربعــني‬
‫كتابــا‪ ،‬وأكثــر مــن مالــة مقــال‪ .‬وقــد انصــب اهتمامــه كثـريا علــى الطريقــة الــيت يعيــد هبــا‬
‫اجملتمــع إنتــاج الماتبيــة الطبقيــة نفســها‪ ،‬بــالمكيي علــى العوامــل الثقافيــة والرمييــة‪ ،‬بــدل‬
‫التشــديد علــى العوامــل االقتصــادية الــيت كانــت هلــا أمهيــة معتــربة يف املقاربــة املاركســية‬
‫الكالس ــيكية‪ .‬ويع ــين ه ــذا أن السوس ــيولوجيا عن ــد بوردي ــو ه ــي سوس ــيولوجيا علمي ــة‬
‫انتقادية‪ ،‬تسعى إىل تعرية واقع اهليمنة والقوة والنفوذ‪ ،‬وانتقاد اجملتمع الليـربايل املعاصـر‬
‫الـ ــذي يتمييبـ ــالظلم والالمسـ ــاواة وص ـ ـراع احلقـ ــول والطبقـ ــات االجتماعيـ ــة‪ .‬مبعـ ــىن أن‬

‫‪232‬‬
‫السوسيولوجيا هـي أداة فعالـة للنقـد اجلـذري‪ ،‬وكشـف املضـمر‪ ،‬واسـتنطاق املسـكوت‬
‫عنه‪ ،‬وفضح لعبة التنافس واهليمنة‪ ،‬كالعالقة المابطية املوجـودة ‪ -‬مـثال‪ -‬بـني النجـاو‬
‫املدرســي واألصــل االجتمــاعي والرأمســال الثقــايف الــذي ترثــه األســرة‪ ،‬بعــد أن كــان هــذا‬
‫النج ــاو مرتبط ــا بال ــذكاء ال ــوراثي‪ .‬ب ــل إن احلق ــل العلم ــي ه ــو أيض ــا جم ــال للتن ــافس‬
‫والس ــيطرة والس ــعي لتحق ــق األرب ــاو‪ ،‬واحلص ــول عل ــى اجلـ ـوالي املادي ــة واملالي ــة (ج ــالية‬
‫نوبل)‪ ،‬وحتقيق السبق العلمي‪ ،‬والظفر باجملد والشهرة‪.‬‬
‫وتتحق ــق علمي ــة السوس ــيولوجيا ب ــالمكيي عل ــى الفرض ــيات‪ ،‬واالنط ــالق م ــن املف ــاهيم‬
‫املوضــوعية‪ ،‬واســتعمال املنــاهج الكميــة والكيفيــة للتحقــق مــن النتــالج املتوصــلة إليهــا‪،‬‬
‫والتــأرجح بــني منهجيــيت الفهــم والتفســري معــا‪ .‬أمــا إذا اختــذت السوســيولوجيا طبيعــة‬
‫سياسية‪ ،‬فالميكن‪ -‬آنذات ‪ -‬احلديث عن سوسيولوجيا علمية‪.‬‬
‫عــالوة علــى ذلــك‪ ،‬يــرى بيــري بورديــو أن موضــوع السوســيولوجيا هــو دراســة حقــول‬
‫التنافس والصراع واهليمنة ليس على صعيد الطبقات فقط‪ ،‬بل حىت يف اجملـال العلمـي‬
‫نفســه‪ .‬ويعــين هــذا أن بيــري بورديــو ينطلــق مــن سوســيولوجيا نقديــة صـراعية أو مقاربــة‬
‫ص ـ ـ ـراعية‪ .‬ومـ ـ ــن ناحيـ ـ ــة أخـ ـ ــرى‪ ،‬يطـ ـ ــرو بورديـ ـ ــو ميتاسوسـ ـ ــيولوجيا أو سوسـ ـ ــيولوجيا‬
‫السوسيولوجيا‪ ،‬من خالل اإلشارة إىل ضرورة حياد عـام االجتمـاع عنـدما يبحـث يف‬
‫مش ــكلة جمتمعي ــة م ــا قوامه ــا التن ــافس والص ـ ـراع واهليمن ــة‪ ،‬ب ــأن يكـ ــون واعي ــا مبوقع ــه‬
‫االجتماعي واالقتصادي والثقايف‪ .‬ومن مث‪ ،‬فالسوسيولوجيا احلقيقية هي سوسيولوجيا‬
‫املضمر واملسكوت عنه‪.‬‬
‫هــذا‪ ،‬وقــد تــأثر بيــري بورديــو‪ ،‬يف تصــوراته النظريــة والتطبيقيــة‪ ،‬مبجموعــة مــن املفك ـرين‬
‫والعلمــاء الــرواد أمثــال‪ :‬مــاكس فيــرب(‪( )Max Weber‬البعــد الرمــيي)‪ ،‬وكــارل‬
‫مـاركس(‪( )Karl Marx‬الرأمســال)‪ ،‬وإميـل دوركــامي(‪)Émile Durkheim‬‬
‫(التفسـري السـبيب)‪ ،‬وكلـود ليفـي شـموس(‪ )Claude Lévi-Strauss‬ومارسـيل‬
‫م ــوس (‪( )Mauss‬البنيوي ــة)‪ ،‬وم ــوريس مريلوب ــونيت(‪Maurice Merleau-‬‬

‫‪233‬‬
‫‪ )Ponty‬وهوس ـ ـ ـ ــرل(‪( )Husserl‬الفينومينولوجي ـ ـ ـ ــا وفك ـ ـ ـ ــرة اجلس ـ ـ ـ ــد اخل ـ ـ ـ ــاص)‪،‬‬
‫وفيتجنش ـ ـ ــتاين (‪ ( )Wittgenstein‬الطبيع ـ ـ ــة)‪ ،‬وباس ـ ـ ــكال(‪( )Pascal‬قواع ـ ـ ــد‬
‫الفاعلني اجملتمعيني)‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬تتميي السوسيولوجيا عند بيري بورديو بالطـابع العلمـي املنطقـي‪ ،‬واالبتعـاد عمـا‬
‫ه ــو سياس ــي وإيـ ــديولوجي‪ ،‬ودراسـ ــة العنـ ــف الرم ــيي وفـ ــق مقارب ــا ت علميـ ــة دقيقـ ــة‬
‫وصــارمة‪ ،‬دون إدخــال مــاهو شخصــي وسياســي يف البحــث العلمــي‪ .‬ويعــين هــذا أن‬
‫بوردي ــو ي ــدعو إىل تأس ــيس سوس ــيولوجيا علمي ــة‪ .‬ويف ه ــذا الص ــدد‪ ،‬يق ــول‪ ":‬الميك ــن‬
‫لعل ــم االجتم ــاع أن يق ــوم إال إذا رف ــض الطل ــب االجتم ــاعي ال ــذي يل ــتمس وس ــالل‬
‫إلضــفاء املشــروعية وأدوات للتح ـريض‪ .‬وعــام االجتمــاع‪ ،‬لــيس لــه مهمــة يســخر هلــا‬
‫‪278‬‬
‫والغاية انتد من أجلها‪ ،‬اللهم تلك اليت يفرضها عليه منطق حبثه‪".‬‬
‫وم ــن مث‪ ،‬تع ــىن السوس ــيولوجيا بدراس ــة اهل ــابيتوس (‪ )Habitus‬ال ــذي يـ ـربط الفع ــل‬
‫ببنيــة اجملتمــع يف إطــار بنيويــة تكوينيــة‪ ،‬تعطــي األمهيــة الكــربى للفاعــل والبنيــة اجملتمعيــة‬
‫على حد سواء‪.‬‬
‫ه ـ ــذا‪ ،‬وق ـ ــد ك ـ ــرس بوردي ـ ــو ج ـ ــل جه ـ ــوده إلرس ـ ــاء سوس ـ ــيولوجيا النظ ـ ــام التعليم ـ ــي‪،‬‬
‫وسوسيولوجيا امليـدان الثقـايف أو سوسـيولوجيا املثقفـني‪ ،‬وفهـم العنـف الرمـيي‪ ،‬وحتليـل‬
‫الصراع اجملتمعي يف عالقته بعالقات القوى وااليات املتحكمة يف تطورها‪ ،‬وفق رؤيـة‬
‫علمية موضوعية‪ .‬ومفاد تصوره أن اللعبة االجتماعية‪ ،‬مهما كان احلقل واجملال الذي‬
‫مت ــارس في ــه‪ ،‬مرتبط ــة بآلي ــات بني ــة التن ــافس واهليمن ــة والصـ ـراع‪ .‬وق ــد أص ــبحت ه ــذه‬
‫االي ــات متج ــذرة ل ــدى األفـ ـراد ع ــن طري ــق التنش ــئة االجتماعي ــة‪ ،‬فينتجوهن ــا ب ــدورهم‬
‫بطريقة غري واعية كهابيتوس معياري‪ .‬ومن مث‪ ،‬تعد املدرسـة فضـاء إلعـادة إنتـاج هـذه‬
‫الالمســاواة الناجتــة عــن وجــود طبقــة مســيطرة‪ ،‬وطبقــة مســيطرة عليهــا‪ ،‬حيــث يســاهم‬

‫‪ - 278‬بيري بورديو‪ :‬الرمز والسلطة‪ ،‬تر ة‪ :‬عبد السالم بنعبد العايل‪ ،‬دار توبقال للنشر‪ ،‬الدار البيضاء‪،‬‬
‫املغر ‪ ،‬الطبعة األوىل سنة ‪0836‬م‪ ،‬ص‪.03:‬‬

‫‪234‬‬
‫النظام المبوي يف ممارسـة العنـف الرمـيي ضـد الفـاعلني اجملتمعيـني املـرتبطني باملدرسـة‪.‬‬
‫ويالح ــظ أن آلي ــات التن ــافس والس ــيطرة تنتق ــل م ــن جي ــل إىل آخ ــر‪ .‬وم ــن مث‪ ،‬ف ــنحن‬
‫النعرف جمتمعات بدون تراتبية طبقية أو جنسية أو نوعية‪ ،‬أو جمتمعات بدون سلطة‬
‫أو هيمنة‪ .‬لذلك‪ ،‬فهدف السوسـيولوجيا عنـد بورديـو هـو حتليـل آليـات السـيطرة الـيت‬
‫تتحكم يف البنيات املوضوعية للحقول اجملتمعيـة‪ .‬أمـا الفـاعلون اجملتمعيـون‪ ،‬فهـم جمـرد‬
‫منفــذين اليــة الســيطرة بطريقــة غــري واعية‪.‬لــذلك‪ ،‬اليشــكلون حقيقــة واقعيــة ميكــن أن‬
‫يستكشفها السوسـيولوجي‪ .‬ومـن مث‪ ،‬يعيـد هـتالء األفـراد اإلنتـاج الطبقـي نفسـه‪ ،‬عـرب‬
‫اهلــابيتوس الــذي يعــين جممــوع اإلس ـماتيجيات الــيت ميتلكهــا الفــرد ملواجهــة وضــعيات‬
‫مفاجئ ــة أو جدي ــدة‪ .‬ولك ــن كي ــف ميك ــن الق ــول‪ ،‬م ــع بوردي ــو‪ ،‬ب ــأن األفـ ـراد ينتج ــون‬
‫أشكاال خمتلفة من اهليمنة بطريقة غري واعية‪ .‬فهذا احلكم غري صحيح‪ ،‬والدليل علـى‬
‫ذلــك أن هــتالء يقومــون باحتجاجــات اجتماعيــة وسياســية تعــرب عــن مــوقفهم الـواعي‬
‫والرافض لكل أشكال السلطة واهليمنة‪.‬‬
‫وإذا أخذنا ‪ -‬على سبيل التمثيـل‪ -‬اهلـابيتوس الـذكوري‪ ،‬فـ ن النسـاء واعيـات بسـلطة‬
‫ال ــذكورة وهيمنتها‪.‬ل ــذلك‪ ،‬فق ــد ظه ــرت حرك ــات نس ــالية متع ــددة من ــذ بداي ــة الق ــرن‬
‫العشـرين يف شــكل احتجاجـات صــارخة‪ ،‬وقــد شـارت فيهــا الرجـال إىل جانــب النســاء‬
‫مدافعني عن حقوقهن‪ ،‬ورافضـني لكـل أشـكال اهليمنـة الذكوريـة‪ .‬ومـن ناحيـة أخـرى‪،‬‬
‫التقتصر اجملتمعات على إعادة اإلنتاج الطبقي نفسه فحسب‪ ،‬بل تسـعى إل التطـور‬
‫والتغيري والتقدم وحتقيق االزدهار‪ .‬فوضعية املرأة ‪ -‬اان‪ -‬قد تغريت بشـكل كبـري‪ ،‬إذ‬
‫متتعــت حبريــات أكثــر مقارنــة بالرجــل‪ .‬بــل ميكــن احلــديث‪ ،‬يف املســتقبل القريــب‪ ،‬عــن‬
‫هيمنــة األنوثــة الــيت اســتولت علــى خمتلــف االمتيــازات واملناصــب اإلداريــة واالقتصــادية‬
‫واالجتماعية‪ .‬يف حني‪ ،‬أصبح الرجل عرضة البطالة والتهميش واالنيواء واإلقصاء‪.‬‬

‫‪235‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬المنهجية السوسيولوجية‬

‫يتبىن بيري بورديو‪ ،‬يف أحباثه السوسـيولوجية‪ ،‬املقاربـة املاركسـية ذات األسـاس اجلـديل‪،‬‬
‫عل ــى أس ــاس أن التن ــافس والصـ ـراع وظيفت ــان أساس ــيتان للمجتم ــع‪ .‬وم ــن مث‪ ،‬يـ ـرتبط‬
‫بورديــو باملقاربــة الص ـراعية الــيت تســتند إىل التحلــيالت املاركســية‪ .‬لكــن هــذا الص ـراع‬
‫والتنافس يتشكالن‪ ،‬قبل كل شـيء‪ ،‬يف خمتلـف احلقـول والفضـاءات اجملتمعيـة الفرعيـة‬
‫األصــلية‪ ،‬قبــل أن يتحــددا علــى صــعيد اجملتمــع املاكروسوســيولوجي‪ .‬ومــن مث‪ ،‬تتميــي‬
‫هــذه احلقــول بوجــود تفــاوت طبقــي واجتمــاعي خــاص‪ ،‬ووجــود مســيطرين ومســيطرين‬
‫عليهم‪ .‬وبتعبري آخر‪ ،‬إذا كان اجملتمع ‪ -‬حسب املقاربة املاركسية‪ -‬قالما علـى صـراع‬
‫الطبقــات االجتماعيــة‪ ،‬فـ ن هــذا الصـراع‪ -‬حســب بيــري بورديــو‪ -‬يتشــكل أوال ضــمن‬
‫حقول وفضاءات جمتمعية فرعية‪ ،‬قبل أن يتحول إىل ظاهرة اجتماعية عامة‪.‬‬
‫ه ــذا‪ ،‬وق ــد بل ــور بب ــري بوردي ــو نظري ــة الفع ــل ال ــيت ت ـ ـرتبط مبفه ــوم اهل ــابيتوس‪.‬مبعىن أن‬
‫الف ــاعلني اجملتمعي ــني يط ــورون جمموع ــة م ــن اإلس ـماتيجيات ال ــيت يتمثلوهن ــا ع ــن طري ــق‬
‫التنش ـ ــئة االجتماعي ـ ــة‪ ،‬بطريق ـ ــة غ ـ ــري واعي ـ ــة‪ ،‬بغي ـ ــة التكي ـ ــف م ـ ــع ض ـ ــرورات الع ـ ــام‬
‫االجتمــاعي‪.‬أي‪ :‬إن اهلــابيتوس عبــارة عــن جمموعــة مــن املواقــف وامل ـوارد واملكتســبات‬
‫والقـ ــيم والعـ ــادات واألع ـ ـراف واخل ـ ـربات والتجـ ــار واملعـ ــايري الـ ــيت يكـ ــون الفـ ــرد قـ ــد‬
‫استضمرها عـن طريـق التنشـئة االجتماعيـة‪ ،‬بطريقـة الشـعورية‪ ،‬بغيـة اسـتدماجها أثنـاء‬
‫مواجهــة الوضــعيات الصــعبة واملعقــدة يف العــام االجتمــاعي‪ .‬وهبــذا‪ ،‬يكــون اهلــابيتوس‬
‫وس ــيطا ب ــني الفع ــل واجملتم ــع‪ ،‬أو مبثاب ــة األن ــا األعل ــى ال ــذي يتوس ــط ال ــذات أو األن ــا‬
‫واجملتمع باملفهوم السيكولوجي‪.‬‬
‫عالوة على ذلك‪ ،‬فاهلابيتوس هو مبثابـة األفعـال غـري الواعيـة الـيت يصـدر عنهـا األفـراد‬
‫اجملتمعي ــون أثن ــاء تك ــيفهم وت ــأقلمهم م ــع اجملتم ــع مماثل ــة واس ــتيعابا‪ ،‬كم ــا يق ــول ج ـان‬

‫‪236‬‬
‫بياجيــه (‪ )Jean Piaget‬يف منظــوره التكــويين‪ .‬وهبــذا‪ ،‬يوحــد اهلــابيتوس بــني الفــرد‬
‫واجملتمع‪ ،‬بني الفعل والبنية‪ ،‬والذات واملوضوع‪ ،‬والضرورة واحلرية‪...‬‬
‫وتأسيسا على ما سبق‪ ،‬يتبىن بيري بورديو البنيوية التكوينية( ‪« Structuralisme‬‬
‫» ‪constructiviste‬‬ ‫‪ou‬‬ ‫‪« constructivisme‬‬
‫‪)structuraliste‬علــى املســتوى السوســيولوجي‪ .272‬مبعــىن أنــه يوفــق بــني الفعــل‬
‫والبني ــة‪ ،‬أو جيم ــع ب ــني دور الفاع ــل اجملتمع ــي وبني ــة اجملتم ــع‪ .‬فك ــل واح ــد م ــن ه ــذين‬
‫العنص ـرين يــتثر يف ااخــر‪ .‬مبعــىن أن هنــات تفــاعال ومتــاثال بــني الفاعــل واجملتمــع‪ ،‬أو‬
‫تفاعال بني الفهم والتفسري‪ ،‬بني الضـرورة واحلريـة‪ .‬وهبـذا‪ ،‬يكـون قـد وفـق بـني التصـور‬
‫الــدوركاميي التفســريي‪ ،‬والتصــور اإلنســا الــذايت عنــد مــاكس فيــرب‪.‬أي‪ :‬الينكــر بيــري‬
‫بورديــو أمهيــة اجملتمــع يف التــأثري يف األف ـراد ســلبا أو إجيابــا؛ ألن مثــة ضــرورة أو حتميــة‬
‫جمتمعي ـ ــة مت ـ ــارس تأثريه ـ ــا عل ـ ــى الف ـ ــاعلني اجملتمعي ـ ــني‪ .‬ويف الوق ـ ــت نفس ـ ــه‪ ،‬يثب ـ ــت أن‬
‫لإلنســان دورا مهمــا يف تغيــري اجملتمــع وخلقــه وإبداعه‪.‬وهبــذا‪ ،‬يكــون بورديــو قــد تــأثر‬
‫بالبنيوي ــة ال ــيت تعت ــرب اإلنس ــان نت ــاج بني ــات وقواع ــد حتمي ــة‪ .‬ويف الوق ــت نفس ــه‪ ،‬ت ــأثر‬
‫مبــاكس فيــرب الــذي يعتــرب اإلنســان فــاعال وبانيــا للمجتمــع‪ .‬وبــذلك‪ ،‬يتجــاوز بورديــو‬
‫ثنالية الذاتية واملوضـوعية‪ ،‬وثناليـة امليكـرو واملـاكرو‪ ،‬وثتناليـة الفعـل والبنيـة‪ ،‬مـع حتكـيم‬
‫اهلابيتوس يف كل هذه الثناليات باعتباره عنصرا وسيطا وجامعا وموحدا‪.‬‬

‫‪274‬‬
‫‪- Pierre Bourdieu, Choses dites, Paris, Les Éditions de‬‬
‫‪Minuit, coll. « Le sens commun », 1987, 229 p.‬‬

‫‪237‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬المفاهيم السوسيولوجية‬

‫وظف بيري بورديو جمموعة من املفاهيم السوسيولوجية يف أحباثـه ودراسـاته وكتبـه‪ ،‬وقـد‬
‫كــان هلــا تــأثري يف كثــري مــن النظريــات واملــدارس السوســيولوجية املعاصــرة‪ ،‬علــى الــرغم‬
‫من تعقيدها وغموضها ‪ .271‬ومن بني هذه املفاهيم نذكر ما يلي‪:‬‬

‫المطلب األول‪ :‬إعادة اإلنتاج‬


‫لقـد تنـاول بيــري بورديـو مفهــوم إعـادة اإلنتـاج بالتحليــل والدراسـة والتقــومي‪ ،‬حينمـا ركــي‬
‫اهتمامـ ــه السوس ـ ــيولوجي عل ـ ــى النظـ ــام المب ـ ــوي الفرنس ـ ــي مـ ــع ص ـ ــديقه ج ـ ــان كل ـ ــود‬
‫باس ــرون(‪ ،)Jean-Claude Passeron‬يف كتاهبم ــا (إع ةةاة اإلنت ةةاج)‪ ،‬من ــذ‬
‫سنوات الستني مـن القـرن املاضـي‪ ،276‬إذ كانـت هـذه الفـمة مرحلـة التطـور واالزدهـار‬
‫العلمي واملنهجي لسوسيولوجيا المبية‪.‬‬
‫وميك ـ ــن الق ـ ــول ب ـ ــأن بي ـ ــري بوردي ـ ــو وكل ـ ــود باس ـ ــرون مه ـ ــا الل ـ ــذان أعطي ـ ــا والدة ثاني ـ ــة‬
‫لسوســيولوجية المبيــة‪ ،‬وقــد انطلقــا مــن فرضــية سوســيولوجية أساســية‪ ،‬تتمثــل يف كــون‬
‫املتعلم ـ ــني الميلك ـ ــون احلظ ـ ــوظ نفس ـ ــها يف حتقي ـ ــق النج ـ ــاو املدرس ـ ــي‪ .‬ويرج ـ ــع ه ـ ــذا‬
‫االخــتالف إىل الماتبيــة االجتماعيــة‪ ،‬والتفــاوت الطبقــي‪ ،‬ووجــود ف ـوارق فرديــة داخــل‬

‫‪275‬‬
‫‪- Bourdieu (Pierre), Questions de sociologie, édition‬‬
‫‪originale de Minuit, Paris, 1984, Cérès Productions Tunis, 1993.‬‬

‫‪276‬‬
‫‪-Pierre Bourdieu et Jean-Claude Passeron, Les héritiers : les‬‬
‫‪étudiants et la culture, Paris, Les Éditions de Minuit,‬‬
‫‪coll. « Grands documents » (no 18), 1964, 183 p.‬‬

‫‪238‬‬
‫الفصــل الدراســي نفســه‪ .‬ومــن مث‪ ،‬فقــد قــادت األحبــاث السوســيولوجية واإلحصــالية‬
‫بورديو وباسـرون إىل اسـتنتاج أساسـي هـو‪ :‬أن الثقافـة الـيت يتلقاهـا املـتعلم يف املدرسـة‬
‫الفرنســية الرأمساليــة ليســت ثقافــة موضــوعية أو نييهــة وحمايــدة‪ ،‬بــل هــي ثقافــة متدجلــة‬
‫تعرب عن ثقافـة اهليمنـة وثقافـة الطبقـة احلاكمـة‪ .‬ومـن مث‪ ،‬فليسـت التنشـئة االجتماعيـة‬
‫حتريـرا للمــتعلم‪ ،‬بــل إدماجــا لــه يف اجملتمــع يف إطــار ثقافــة التوافــق والتطبــع واالنضــباط‬
‫اجملتمعي‪.‬وبالتــايل‪ ،‬تعيــد لنــا املدرســة إنتــاج الطبقــات االجتماعيــة نفســها عــن طريــق‬
‫االصـ ــطفاء واالنتقـ ــاء واالنتخـ ــا ‪ .‬ومـ ــن مث‪ ،‬فهـ ــي مدرسـ ــة الالمسـ ــاواة االجتماعيـ ــة‬
‫بامتياز‪.‬‬
‫ويعــين هــذا كلــه أن سوســيولوجيا المبيــة النقديــة قــد عرفــت منحــى مهمــا يف ســنوات‬
‫الستني إىل غاية سنوات السـبعني مـن القـرن العشـرين‪ ،‬فقـد اختـذت بعـدا علميـا أكثـر‬
‫مما هو سياسي‪ ،‬بعد أن توسعت اهلوة بني النظرية والتطبيـق‪ ،‬أو بـني املتسسـة المبويـة‬
‫واجملتمـ ــع‪ ،‬والسـ ــيما بعـ ــد حتـ ــول املدرسـ ــة الرأمساليـ ــة إىل فضـ ــاء للمنافسـ ــة والتطـ ــاحن‬
‫والص ـراعات االجتماعيــة والطبقيــة‪ ،‬أو حتوهلــا إىل متسســة هريارشــية أو تراتبيــة طبقيــة‪،‬‬
‫تنعــدم فيهــا العدالــة االجتماعيــة احلقيقيــة‪ ،‬وتغيــب فيهــا املســاواة علــى مســتوى الفــرص‬
‫واحلظــوظ‪ ،‬حيــث يكــون الفشــل واإلخفــاق مــآل أبنــاء الطبقــات الشــعبية‪ .‬يف حــني‪،‬‬
‫يكــون النجــاو حليــف أبنــاء الطبقــات الغنيــة وأبنــاء الطبقــة احلاكمــة‪.‬أي‪ :‬أصــبحت‬
‫مدرسة فارقية بامتياز‪ ،‬أو مدرسة لالنتقاء واالصطفاء الطبقي والتميي االجتماعي‪.‬‬
‫وللتوضــيح أكثــر‪ ،‬ينطلــق بورديــو وباســرون مــن فكــرة أساســية هــي" أن املدرســة تعمــل‬
‫وفــق تقســيم اجملتمــع إىل طبقــات‪ .‬وهــي بــذلك تكــرس إعــادة اإلنتــاج واحملافظــة علــى‬
‫الوضــع القــالم الــذي أنتجها‪.‬وتبعــا هلــذا‪ ،‬فـ ن األطفــال‪ ،‬ومنــذ البدايــة‪ -‬قبــل ولــوجهم‬
‫املدرسة‪ -‬غري متساوين أمام املدرسة والثقافة‪ .‬أي‪ :‬غـري متسـاوين يف الرأمسـال الثقـايف‬
‫(أي ام ــتالت امله ــارات اللغوي ــة املاللم ــة ال ــيت تســهل عملي ــة التواص ــل المب ــوي)‪.‬ولكي‬
‫حت ــافظ املدرس ــة عل ــى وظيفته ــا‪ -‬إع ــادة اإلنت ــاج‪ -‬فه ــي تف ــرض معي ــارا ثقافي ــا ولغوي ــا‬

‫‪239‬‬
‫معينــا‪ ،‬وهــو أقــر إىل اللغــة والثقافــة الســاريتني يف األســر البورجوازيــة منــه يف األســر‬
‫والطبقات الشعبية‪.‬إن هذا اإليتوس(‪.)Ethos‬أي‪ :‬النظـام القيمـي املسـتبطن بعمـق‪،‬‬
‫والذي هو لصاحل الطبقات املسيطرة يتدي إىل خلق نوع من االسـتعداد أو األبيتـوس‬
‫لدى األفراد عن طريق العمـل المبـوي الـذي يسـعى أساسـا لتشـريب التعسـف الثقـايف‬
‫املفروض من قبل اجلماعة املسيطرة‪.‬‬
‫وهذا يعين أن طفل الفئة البورجوازية يعـيش اسـتمرارية وتكـامال بـني ثقافـة فئتـه وثقافـة‬
‫مدرسته‪ ،‬مما يسهل عليه عملية التوافق‪ ،‬إن م يكن مسبقا متوافقـا‪ .‬ومـن مثـة‪ ،‬يصـبح‬
‫وريثا للنظام املدرسي‪.‬‬
‫أمــا طفــل الطبقــة الــدنيا‪ ،‬فهــو يعــيش قطيعــة بــني ثقافــة فئتــه وثقافــة مدرســته‪.‬مما جيعــل‬
‫هــذه األخــرية غريبــة وبعيــدة عنــه‪.‬ولكي يتوافــق دراســيا معهــا‪ ،‬عليــه أن يــتخلص مــن‬
‫رواس ــب ثقافت ــه‪ ،‬وي ــتعلم طرال ــق جدي ــدة يف التفك ــري واللغ ــة والس ــلوت‪.‬أي‪ :‬أن مي ــر‪،‬‬
‫حس ــب تعب ــري برين ــو (‪ ،)Perrnoud‬أوال بعملي ــة االحن ــالل م ــن الثقاف ــة‪ ،‬مث ثاني ــا‬
‫بعملية املثاقفة‪.‬‬
‫وعلى العموم‪ ،‬فـ ن أطروحـة بورديـو وباسـرون توضـح أن األهـداف الضـمنية للمدرسـة‬
‫خت ــدم التكام ــل بينه ــا وب ــني الطبق ــة املس ــيطرة‪ ،‬مم ــا جيع ــل أبن ــاء ه ــذه األخ ــرية أطف ــاال‬
‫ن ــاجحني دراس ــيا‪ .‬يف ح ــني‪ ،‬إن انع ــدام التكام ــل ب ــني املدرس ــة والطبق ــة ال ــدنيا‪ ،‬تبع ــا‬
‫‪277‬‬
‫لألهداف نفسها‪ ،‬جيعل الفشل الدراسي حيصد ضحاياه ضمن أبنالها‪".‬‬
‫ويعين هذا أن الستال الذي ركيت عليه سوسيولوجيا المبية‪ ،‬يف سـنوات السـتني‪ ،‬هـو‬
‫س ـتال الالمســاواة املدرســية الــيت تعكــس الالمســاواة الطبقيــة واالجتماعيــة‪ ،‬وتعكــس‬
‫م ــدى اخ ــتالف أبن ــاء الطبق ــات العمالي ــة ع ــن أبن ــاء الطبق ــات احملظوط ــة‪ ،‬واخ ــتالف‬
‫املســتوى التعليمــي الطويــل الــذي يرتــاده أبنــاء الطبقــات احملظوظــة‪ ،‬والتعلــيم القصــري‬

‫‪ -‬خالد املري وآخرون‪ :‬أهمية سوسيولوجيا التربية‪ ،‬سلسلة التكوين المبوي‪ ،‬العدد‪ ،8‬مطبعة‬ ‫‪277‬‬

‫النجاو اجلديدة‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬املغر ‪ ،‬الطبعة الثانية سنة ‪0881‬م‪ ،‬ص‪.06-01:‬‬

‫‪241‬‬
‫الـذي يكــون مــن حــظ أبنـاء الطبقــات الــدنيا‪ ،‬والســيما أبنـاء الطبقــات العماليــة وأبنــاء‬
‫املهاجرين على حد سواء‪.‬لذا‪ ،‬يغلب النقد املاركسي اجلديد على هذه السوسيولوجيا‬
‫الس ــتينية‪ .‬وال ــدليل عل ــى ذل ــك الث ــورة العارم ــة ال ــيت اش ــتعل أواره ــا يف س ــنة ‪0863‬م؛‬
‫بســبب املدرســة الرأمساليــة الــيت كانــت ‪ -‬فعــال‪ -‬مدرســة طبقيــة بامتيــاز‪ .‬ومــن مث‪ ،‬فقــد‬
‫كان احلل يتمثل يف دمقرطة التعليم‪ ،‬وحتقيق املساواة االجتماعية الشاملة‪ ،‬واحلد مـن‬
‫الفوارق الطبقية واجملتمعية‪ ،‬ومنع ممارسة العنف الرميي ضـد املتعلمـني‪ ،‬وخلـق مدرسـة‬
‫موحدة حتقق النجاو جلميع املتعلمني بدون متييي أو انتقاء أو اصطفاء‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬ميكن اعتبار دراسات بورديو نقدا للدراسات الكالسيكية حـول سوسـيولوجيا‬
‫المبية‪ ،‬إذ اعتمدت على املقاربة املاركسية اجلديدة يف دراسة املدرسـة الفرنسـية بصـفة‬
‫خاص ــة‪ ،‬واملدرس ــة الرأمسالي ــة بص ــفة عام ــة‪ ،‬عل ــى أس ــاس أن املدرس ــة فض ــاء للتن ــافس‬
‫واهليمنة والصراع الطبقي واجملتمعي‪.‬‬
‫وم تقتصــر نظريــة إعــادة اإلنتــاج عنــد بيــري بورديــو علــى مــاهو تربــوي فقــط‪ ،‬بــل اهــتم‬
‫كــذلك بدراســة إعــادة إنتــاج اهليمنــة الذكوريــة يف اجملتمــع القبــاللي التقليــدي بــاجليالر‪،‬‬
‫يف كتابه القيم (اهليمنة الذكورية‪.273)La Domination masculine/‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬العنف الرمزي‬


‫مــن املعلــوم أن العنــف نوعــان‪ :‬عنــف فيييــالي يكــون ب حلــاق الضــرر بــااخرين جســديا‬
‫وماديـ ـ ـ ــا وعضـ ـ ـ ــويا‪ ،‬وعنـ ـ ـ ــف رمـ ـ ـ ــيي مهـ ـ ـ ــذ يكـ ـ ـ ــون بواسـ ـ ـ ــطة اللغ ـ ـ ـ ـة‪ ،‬واهليمنـ ـ ـ ــة‪،‬‬
‫واإليـ ــديولوجيات السـ ــالدة‪ ،‬واألفكـ ــار املتداولـ ــة‪ .‬ويكـ ــون أيضـ ــا عـ ــن طريـ ــق السـ ــب‪،‬‬
‫والقذف‪ ،‬والشتم‪ ،‬والدين‪ ،‬واإلعالم‪ ،‬والعنف الذهين‪ .‬لذا‪ ،‬يعرفه بيري بورديو بقوله‪":‬‬
‫‪278‬‬
‫‪- Pierre Bourdieu, La Domination masculine, Paris, Le‬‬
‫‪Seuil, 1998, coll. Liber, 134 p.‬‬

‫‪241‬‬
‫العنــف الرمــيي هــو عبــارة عــن عنــف لطيــف وعــذ ‪ ،‬وغــري حمســوس‪ ،‬وهــو غــري مرلــي‬
‫بالنس ـ ــبة لض ـ ــحاياه أنفس ـ ــهم‪ ،‬وه ـ ــو عن ـ ــف مي ـ ــارس ع ـ ــرب الطرال ـ ــق والوس ـ ــالل الرميي ـ ــة‬
‫اخلالصة‪.‬أي‪ :‬عرب التواصل‪ ،‬وتلقني املعرفة‪ ،‬وعلى وجه اخلصوص عـرب عمليـة التعـرف‬
‫‪278‬‬
‫واالعماف‪ ،‬أو على احلدود القصوى للمشاعر واحلميميات‪".‬‬
‫وعلي ــه‪ ،‬ي ـرتبط العن ــف الرم ــيي بالس ــلطة واهليمن ــة واحلق ــل اجملتمع ــي‪ .‬مبع ــىن أن الدول ــة‬
‫متــارس‪ ،‬عــرب جمموعــة مــن املتسســات الرمسيــة والشــرعية ( اإلعــالم‪ ،‬والــدين‪ ،‬والمبيــة‪،‬‬
‫والفــن‪ ،‬والصــحافة‪ ،) ...‬عنفــا رمييــا ضــد األفـراد واجلماعــات‪ .‬ويعــين هــذا أن اجملتمــع‬
‫احلاكم واملسـيطر ميـارس عنفـا رمييـا (‪ )violence symbolique‬ضـد األفـراد‪.‬‬
‫وهذا العنف أكثر خطورة من العنف املادي اجلسدي‪ .‬ويف هذا‪ ،‬يقول بيـري بورديـو‪":‬‬
‫ميكــن أن حيقــق العنــف الرمــيي نتــالج أحســن قياســا إىل مــا حيققــه العنــف السياســي‬
‫والبوليسي‪...،‬إن أحـد أكـرب مظـاهر الـنقص يف املاركسـية هـو أهنـا م تفـرد مكانـا ملثـل‬
‫هـ ـ ــذه األشـ ـ ــكال اللطيفـ ـ ــة مـ ـ ــن العنـ ـ ــف الـ ـ ــيت هـ ـ ــي فاعلـ ـ ــة ومـ ـ ــتثرة حـ ـ ــىت يف اجملـ ـ ــال‬
‫االقتصادي‪...‬والعنف الرمـيي هـو ذلـك الشـكل مـن العنـف الـذي ميـارس علـى فاعـل‬
‫اجتمــاعي مــا مبوافقتــه وتواطئه‪.‬وهلــذه املســألة نتــالج كبــرية علــى النقــاش الفكــري الــدالر‬
‫حــول مــا إذا كانــت الســلطة تنبثــق مــن حتــت‪ ،‬وحــول مــا إذا كــان الشــخص اخلاضــع‬
‫للسـ ــيطرة يرغـ ــب يف هـ ــذه الوضـ ــعية املفروضـ ــة عليه‪.‬وبصـ ــيغة أخـ ــرى‪ ،‬ف ـ ـ ن الفـ ــاعلني‬
‫االجتم ــاعيني يعرف ــون اإلكراه ــات املس ــلطة عل ــيهم‪ ،‬وه ــم‪ -‬ح ــىت يف احل ــاالت ال ــيت‬
‫يكونــون فيهــا خاضــعني حلتميــات‪ -‬يســامهون يف إنتــاج املفعــول الــذي ميــارس علــيهم‬
‫نوعــا م ــن التحدي ــد واإلك ـراه‪ .‬ولعــل مفع ــول اهليمنــة إمن ــا ينبثــق مــن ه ــذه التفــاعالت‬
‫والتوازنات بني احملددات احلتمية وكيفيات إدراكها‪.‬‬
‫هنــات قــدر مــن اإلنكــار يف التعــرف علــى العنــف الــذي ميــارس علــى املــرء مــع عــدم‬
‫االعماف به كعنف‪...‬فانطالقا مـن كوننـا نولـد يف عـام اجتمـاعي‪ ،‬ف ننـا نتقبـل عـددا‬
‫‪279‬‬
‫‪-Pierre Bourdieu, La domination masculine, p:88.‬‬

‫‪242‬‬
‫م ــن الب ــديهيات واملس ــلمات ال ــيت تف ــرض نفس ــها علين ــا بتلقالي ــة وس ــهولة‪ ،‬وال تك ــاد‬
‫تتطلب تلقينا‪.‬ولذلك‪ ،‬ف ن حتليل كيفيات تقبلنـا التلقـالي لـآلراء واملعتقـدات املتداولـة‬
‫يف عاملن ــا االجتم ــاعي‪ ،‬ه ــو األس ــاس احلقيق ــي لنظري ــة واقعي ــة ح ــول الس ــيطرة وح ــول‬
‫السياســة‪.‬وذلك بســبب التوافــق املباشــر بــني البنيــات املوضــوعية والبنيــات الذهنيــة‪.‬إن‬
‫من بني كل أشكال اإلقناع الصـامت والسـري هـي تلـك الـيت تـتم بكـل بسـاطة بفعـل‬
‫‪231‬‬
‫النظام العادي لألشياء‪".‬‬
‫ويالحــظ أن العنــف الرمــيي أكثــر خطــورة مــن بــاقي أنـواع العنــف املــادي والســلطوي؛‬
‫ألنــه عنــف عــاد وبســيط والشــعوري‪ ،‬واليعــمف بــه ‪ -‬جمتمعيــا‪ -‬علــى أنــه عنــف‪ ،‬بــل‬
‫تع ــود علي ــه الن ــاس‪ ،‬وقبلـ ـوا ب ــه م ــاداموا خاض ــعني جملموع ــة م ــن احلتمي ــات واجلربي ــات‬
‫اجملتمعي ــة ال ــيت ت ــتحكم ف ــيهم‪ ،‬ويعمل ــون عل ــى تكريس ــها يف واق ــع حي ــاهتم‪ .‬وم ــن مث‪،‬‬
‫النــرى لــدى النــاس أي رفــض أو مقاومــة هلــذا العنــف املعنــوي والرمــيي‪ ،‬بــل يعتربونــه‬
‫فعال عاديا‪ ،‬علـى الـرغم مـن خطورتـه وآثـاره اخلطـرية نفسـيا وجمتمعيـا وثقافيـا وسياسـيا‬
‫واقتص ــاديا‪ .‬وأكث ــر م ــن ه ــذا م يش ــر ك ــارل م ــاركس إىل ه ــذا الن ــوع م ــن العن ــف‪ ،‬ب ــل‬
‫اكتفى بالعنف الطبقي‪ ،‬على الرغم من وجود هذا العنف على الصعيد االقتصادي‪.‬‬
‫أضــف إىل ذلــك‪ ،‬فقــد ركــي بيــري بورديــو علــى التلفييــون باعتبــاره أداة إعالميــة خطــرية‬
‫متــارس العنــف ضــد امل ـواطنني‪ ،‬إذ تقــدم هلــم مــا تشــتهيه الســلطة املهيمنــة الــيت تســتغل‬
‫وســالل اإلعــالم لتحقيــق مصــاحلها وأهــدافها وأرباحهــا‪ .‬ومــن مث‪ ،‬يتالعــب التلفييــون‬
‫بعقــول النــاس‪ ،‬وينشــر بيــنهم إيديولوجيــة الدولــة املهيمنــة‪ ،‬وأفكــار الطبقــة احلاكمــة‪.‬‬
‫وهــذا يهــدد ‪ -‬فعــال‪ -‬الثقافــة والفــن والدميقراطيــة احلقيقيــة‪ .230‬وينطبــق هــذا احلكــم‬

‫‪280‬‬
‫‪-Pierre Bourdieu et Loïc Wacquant, Réponses : pour une‬‬
‫‪anthropologie réflexive, Paris, Seuil, 1992,pp:141-143.‬‬
‫‪281‬‬
‫‪-Pierre Bourdieu, Sur la télévision suivi de L'emprise du‬‬
‫‪journalisme, Paris, Liber, coll. « Raisons d'agir », 1996, 95 p‬‬

‫‪243‬‬
‫نفســه علــى الصــحافة الــيت صــارت مــن الوســالل اخلطــرية الــيت تشــارت الفئــات احلاكمــة‬
‫يف ممارسة العنف الرميي ضد ااخرين‪.‬‬
‫ويف األخـ ــري‪ ،‬ينـ ــتج العن ـ ــف الرمـ ــيي عـ ــن اخـ ــتالف أمنـ ــاط الرأمسـ ــال لـ ــدى الفـ ــاعلني‬
‫اجملتمعي ـ ــني ب ـ ــاختالف م ـ ـواقعهم االجتماعي ـ ــة‪ ،‬ووج ـ ــود طبق ـ ــات اجتماعي ـ ــة مس ـ ــيطرة‬
‫ومســيطرة عليهــا‪ ،‬واخــتالف مصــاحل األف ـراد واجلماعــات مــن حقــل إىل آخــر‪ ،‬ووجــود‬
‫تفاوت اجتماعي وطبقي بني اجلماعات‪.‬‬

‫المطلب الثالث‪ :‬مفهوم التميز‬


‫ألف بيري بورديو سنة ‪ 0878‬كتابا حتت عنوان (التميي‪ :‬النقد االجتماعي للحكـم‪/‬‬
‫‪ ،)La Distinction. Critique sociale du jugement‬حيـث‬
‫يقــدم منظــورا سوســيولوجيا لــألذواق وأســاليب احليــاة‪ .‬ويعــد هــذا الكتــا مــن أفضــل‬
‫عش ــرة كت ــب عل ــم االجتم ــاع يف الق ــرن العشـ ـرين‪ ،‬حس ــب تص ــنيف اجلمعي ــة العاملي ــة‬
‫للسوسيولوجيا‪ .‬ويركي الكتا على األفراد اجملتمعيني الـذين يتصـارعون ضـمن حقـول‬
‫وفض ـ ــاءات جمتمعي ـ ــة خمتلف ـ ــة‪ ،‬ح ـ ــول مواق ـ ــع الس ـ ــيطرة واحلظ ـ ــوة والتمي ـ ــي االجتم ـ ــاعي‬
‫والطبقــي‪ ،‬مــن خــالل مــا ميلكونــه مــن رأمســال اقتصــادي وثقــايف‪ .‬إذ تبــدأ االختالفــات‬
‫من شكلها الضعيف حنو االختالفات اجلذرية‪ ،‬فاالختالفات الطبقيـة‪ .‬ومـن مث‪ ،‬يعـرب‬
‫الكتا عن الصراع بني األفراد داخل بنية اجملتمع من أجل االختالف والتميـي‪.‬ويعين‬
‫هذا لكي يكون اإلنسان معروفـا يف حقـل جمتمعـي مـا‪ ،‬فالبـد أن يتميـي عـن ااخـرين‬
‫إم ـ ــا ب ـ ــاالختالف ع ـ ــنهم‪ ،‬وإم ـ ــا باالنيي ـ ــاو ع ـ ــنهم ثقافي ـ ــا واقتص ـ ــاديا ولغوي ـ ــا ورميي ـ ــا‬
‫واجتماعي ــا‪ .‬مبع ــىن أن هن ــات ثنالي ــة التواف ــق والتمي ــي‪ .‬وم ــن مث‪ ،‬فاالهتم ــام باملوض ــة‪،‬‬

‫‪244‬‬
‫بشــكل هســتريي‪ ،‬دليــل علــى الرغبــة يف التميــي ثقافيــا واجتماعيــا ورمييــا‪ ،‬ودليــل علــى‬
‫فرادة األسلو الشخصي‪.232‬‬
‫وقد أثبت بورديو أن أمناط احلياة وأساليبها ختتلف حسب مواقـع النـاس االجتماعيـة‪.‬‬
‫أي‪ :‬إن أذواق النـاس تعكــس طبيعــة وضــعيتهم اجملتمعيــة‪ .‬ومــن مث‪ ،‬فاهلــابيتوس وســيط‬
‫بني تلك املمارسات واملواقع اجملتمعية‪.‬‬
‫وللتمثيل‪ ،‬فقد درس بورديو طبيعـة التغذيـة واملالبـس عنـد العمـال واألغنيـاء‪ .‬فالعمـال‬
‫يهتم ــون بك ــل م ــاهو ض ــروري وأساس ــي يف حي ــاهتم؛ بس ــبب ح ــاجتهم إىل الرأمس ــال‬
‫االقتصــادي‪ .‬وبالتــايل‪ ،‬فمالبســهم عماليــة خشــنة‪ ،‬وتغــذيتهم ذات طــابع مضــمو ‪،‬‬
‫تتسم بالكم من جهة‪ .‬وتكون دمسة من جهة أخرى‪ .‬كما أن ذوقهـم الفـين واجلمـايل‬
‫الخيرج عن الطابع الواقعي امللتيم‪.‬‬
‫يف ح ــني‪ ،‬يرك ــي األغني ــاء عل ــى الش ــكل‪ ،‬ويت ــأنقون يف مالبس ــهم وتغ ــذيتهم‪ ،‬ب ــالمكيي‬
‫الـ ـواعي عل ــى الن ــوع الكيف ــي‪ ،‬واليهمه ــم الك ــم يف ذل ــك‪ .‬ويهتم ــون ك ــذلك ‪ -‬فني ــا‬
‫و اليا‪ -‬مباهو جتريدي وسيميالي وختييلي‪.‬‬
‫ويع ــين ه ــذا أن األذواق وأس ــاليب احلي ــاة ختتل ــف م ــن طبق ــة اجتماعي ــة إىل أخ ــرى‪،‬‬
‫حسب طبيعة الرأمسال املوروث‪ ،‬وحسب احلقل الذي تنتمي إليه كل فئة اجتماعية‪.‬‬

‫‪282‬‬
‫‪- Pierre Bourdieu, La Distinction. Critique sociale du‬‬
‫‪jugement, Les Éditions de Minuit, 1979, 670 p.‬‬

‫‪245‬‬
‫المطلب الرابع‪ :‬مفهوم الهابيتوس‬

‫يتخــذ مصــطلح اهلــابتوس أو اابيتــوس (‪ )habitus‬دالالت فلســفية وسوســيولوجية‬


‫خمتلفـ ــة‪ .‬ويعـ ــين طريقـ ــة يف الوجـ ــود‪ ،‬أو املظهـ ــر العـ ــام‪ ،‬أو الـ ــيي‪ ،‬أو حالـ ــة ذهنيـ ــة أو‬
‫عقلي ــة‪.‬ويعين ه ــذا أن اهل ــابيتوس ثقاف ــة‪ ،‬وحض ــارة‪ ،‬ومن ــط م ــن أمن ــاط الوج ــود والع ــيش‬
‫واحلضور يف العام‪.‬‬
‫وقــد اســتعمل مصــطلح اهلــابيتوس أو اابيتــوس (‪ )Habitus‬قــدميا عنــد الفالســفة‬
‫اليونانيني مبفهوم (‪ ،)hexis‬وخاصة عند أفالطون وسـقراط‪ ،‬وأرسـطو؛ ومـن بعـدهم‬
‫هيغــل‪ ،‬وهوســرل‪ ،‬ومــاكس فيــرب‪ ،‬وإميــل دوركــامي‪ ...‬بيــد أن مصــطلح (‪ )hexis‬قــد‬
‫استبدل‪ ،‬إبان العصور الوسطى‪ ،‬مبصطلح اهلابيتوس(‪ )habitus‬للداللة على احلالة‬
‫أو الوضعية أو طريقة العيش‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬وقد أخذ بيري بورديو مصـطلح اهلـابيتوس مـن املفكـر السـكواللي طومـاس أكـني‬
‫(‪ )Thomas d'Aquin‬ال ــذي اس ــتعمل مص ــطلح ه ــابيتوس لم ــة املفه ــوم‬
‫األرســطي (اهليكســيس)‪ ،‬وقــد اســتلهمه أيضــا مــن إرفــني بانوفســكي ( ‪Erwin‬‬
‫‪ )Panofsky‬الــذي حتــدث عــن اليــات االجتــاه املدرســي يف العصــور الوســطى‪.‬‬
‫ومــن مث‪ ،‬فاهلــابيتوس هــو التطبيــع االجتمــاعي يف جمتمــع تقليــدي‪ ،‬أو هــو مبثابــة نظــام‬
‫من اإليتوس القيمي املتعايل‪ ،‬يسـتطيع الفـرد عـربه أن يتحـرت يف العـام اجملتمعـي‪ ،‬بغيـة‬
‫فهمــه بطريقتــه اخلاصــة‪ ،‬أو بطريقــة مشــمكة مــع الطبقــات االجتماعيــة األخــرى الــيت‬
‫يعيش معها‪.‬‬
‫وق ــد رك ــي بوردي ــو عل ــى بني ــة اهل ــابيتوس الداخلي ــة‪ ،‬ومكونات ــه‪ ،‬ووظيفت ــه‪ .‬فم ــن حي ــث‬
‫البنيـ ـ ــة‪ ،‬يتكـ ـ ــون اهلـ ـ ــابيتوس مـ ـ ــن جمموعـ ـ ــة مـ ـ ــن امليـ ـ ــول‪ ،‬والتصـ ـ ــورات‪ ،‬واملعتقـ ـ ــدات‪،‬‬

‫‪246‬‬
‫واإلدراك ــات‪ ،‬ورؤى الع ــام‪ ،‬ومب ــادىء التص ــنيف‪ .‬وم ــن مث‪ ،‬يس ــاعد اهل ــابيتوس ال ــذي‬
‫يكتسبه الفرد يف األسرة واملدرسة على متثل اجملتمع واستيعابه بشكل جيد‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬وتقوم التجمعات األولية (الطفولة واملراهقة)‪ ،‬والتجمعات الثانوية (سن الرشد‪،‬‬
‫بــدورهام يف بنــاء اهلــابيتوس‪ .‬ويســتطيع األف ـراد عــرب هــذا الرأمســال االجتمــاعي احملصــل‬
‫عليه‪ ،‬بفعل التنشـئة االجتماعيـة‪ ،‬أن خيلقـوا هـابيتوس الطبقـة ( ‪un habitus de‬‬
‫‪)classe‬؛ بس ـ ــبب تش ـ ــاركهم يف جمموع ـ ــة م ـ ــن األفع ـ ــال والتص ـ ــرفات والس ـ ــلوكيات‬
‫املشــمكة‪ .‬وبــذلك‪ ،‬يكــون اهلــابيتوس هــو مصــدر أفعــال األفـراد اجملتمعيــني‪ ،‬وهــو الــذي‬
‫ي ــتحكم يف توجه ــاهتم القيمي ــة واألخالقي ــة واملعياري ــة‪ .‬أي‪ :‬إن ــه مبثاب ــة األن ــا األعل ــى‬
‫الس ــيكولوجي لتج ــارهبم احلاض ــرة يف الع ــام‪ .‬وم ــن هن ــا‪ ،‬فاهل ــابيتوس ه ــو مباث ــة قال ــب‬
‫معي ــاري وأخالق ــي للشخص ــية الفردي ــة‪ ،‬ب ــل ه ــو مبثاب ــة ض ــرورة أو حتمي ــة ت ــتحكم يف‬
‫أفعال اإلنسان‪ ،‬فيما خيص هوايته‪ ،‬وثقافته‪ ،‬وتربيته‪ ،‬وعمله‪ ،‬وتغذيته‪ ،‬واستهالكه‪...‬‬
‫ويبــدو أن مصــطلح اهلــابيتوس مصــطلح غــامض ومعقــد‪ ،‬إذ يقصــد بــه بيــري بورديــو "‬
‫بع ـ ــض اخلص ـ ــال املمس ـ ــخة يف داخ ـ ــل عق ـ ــول البش ـ ــر وأجس ـ ــادهم"‪ .238‬وم ـ ــن هن ـ ــا‪،‬‬
‫فاهلابيتوس مبثابة جمموعـة مـن االسـتعدادات أو امللكـات الدالمـة الـيت يكـون الفـرد قـد‬
‫اكتس ــبها أو تطب ــع عليه ــا ع ــرب التنش ــئة االجتماعي ــة‪ .‬وبالت ــايل‪ ،‬فاالس ــتعدادات ه ــي‬
‫جمموع ــة م ــن املي ــول واالجتاه ــات واملواق ــف املتعلق ــة ب ــالتفكري واإلدرات واإلحس ــاس‪،‬‬
‫فيستبطنها األفراد حسب ظروفهم املوضوعية لوجودهم‪ ،‬وتوظـف هـذه االسـتعدادات‬
‫بطريق ـ ــة الشـ ــعورية‪ .‬وتتمثـ ــل ه ـ ــذه االسـ ــتعدادات املستضـ ــمرة يف القـ ــيم والتص ـ ـرفات‬
‫والسـ ــلوكيات واملكتسـ ــبات املعرفيـ ــة والذهنيـ ــة‪ .‬ويعـ ــين هـ ــذا أن اهلـ ــابيتوس عبـ ــارة عـ ــن‬
‫جمموع ــة م ــن الب ــىن املعرفي ــة واإلدراكي ــة املس ــتدجمة‪ ،‬وي ــتم إنتاجه ــا يف بيئ ــة اجتماعي ــة‬
‫حمددة‪ .‬ويعاد إنتاج هذه البيئة من خالل قدرة اهلابيتوس على التوليد‪.‬‬

‫‪ -‬جون سكوت‪ :‬علم االجتماع‪ :‬المفاهيم األساسية‪ ،‬تر ة حممد عثمان ‪ ،‬الشبكة العربية‬ ‫‪238‬‬

‫لألحباث والنشر ‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة الثانية ‪2108‬م‪ ،‬ص‪.22:‬‬

‫‪247‬‬
‫وعليــه‪ ،‬اليقتصــر اهلــابيتوس علــى توجهــات األف ـراد وتصــوراهتم وملكــاهتم الشخصــية‬
‫فحسب‪ ،‬بل يتجاوز ذلـك إىل االسـتعدادات اجلمعيـة‪ ،‬مثـل‪ :‬أمنـاط التفكـري واإلدرات‬
‫والتقدير واملمارسة‪ .‬ومن مث‪ ،‬يتثر اهلابيتوس يف األفعال اليوميـة‪ ،‬كالتـذوق‪ ،‬واملالبـس‪،‬‬
‫واألثــاث‪ ،‬والفــن‪ ،‬وعــادات االســتهالت‪ ،‬وأوقــات الفـراغ‪...‬ومن هنــا‪ ،‬فاهلــابيتوس نتــاج‬
‫ظروفه املوضوعية ذاهتا‪.232‬‬
‫وعليه‪ ،‬فاهلابيتوس مبثابة جمموعة متنوعة " من التوجهات املستمرة واملهارات وأشكال‬
‫من املعرفة الفنية اليت يلتقطها الناس ببساطة مـن معاشـرة أنـاس مـن ثقافـات وثقافـات‬
‫فرعيـ ــة معينـ ــة‪.‬وميكن أن ت ـ ـماوو هـ ــذه مـ ــن أشـ ــكال السـ ــلوت اجلسـ ــدي‪ ،‬واحلـ ــديث‪،‬‬
‫واإلميـ ــاءة‪ ،‬وامللـ ــبس واألخـ ــالق االجتماعيـ ــة‪ ،‬مـ ــن خـ ــالل جمـ ــاالت املهـ ــارات احملركـ ــة‬
‫والعملية إىل أنواع معينة من املعرفة والذاكرة املماكمة‪"231.‬‬
‫إذاً‪ ،‬يكتس ــب الف ــرد أو الفاع ــل ال ــذايت جمموع ــة م ــن امل ـ ـوارد ال ــيت جتعل ــه ق ــادرا عل ــى‬
‫إدماجها‪ ،‬حينما يتفاعل مع بنيـة اجملتمـع‪ ،‬بواسـطة عمليـة االسـتيعا اخلـارجي‪ .‬أي‪:‬‬
‫إن مثة جتانسا وتطابقـا ومتـاثال بـني البنيـة الذاتيـة والبنيـة اجملتمعيـة اللتـني يـتحكم فيهمـا‬
‫اهلــابيتوس‪ .‬ويف هــذا‪ ،‬يقــول جــون ســكوت‪ ":‬أكــد بورديــو التطــابق والتجــانس القريــب‬
‫بـ ـ ـ ـ ـ ـ ــني التنظ ـ ـ ـ ـ ـ ــيم االجتم ـ ـ ـ ـ ـ ــاعي وديناميكي ـ ـ ـ ـ ـ ــات الع ـ ـ ـ ـ ـ ــام اخلـ ـ ـ ـ ـ ـ ــارجي والمتيب ـ ـ ـ ـ ـ ــات‬
‫اجملس ــمة الداخلي ــة لألفراد‪.‬وي ــرى أن ه ــذا ي ــأيت ع ــن طري ــق م ــا يس ــميه باالس ــتيعا‬
‫اخلارجي‪.‬ولق ــد أخ ــذت أو اس ــتوعبت العوام ــل البش ـرية بالت ــدريج عل ــى م ــدار الس ــنني‬
‫أن ـواع األمــور الــيت حتتــاج إىل معرفتهــا عــن بيئتهــا اخلارجيــة االجتماعيــة واملاديــة حــىت‬
‫ميكنها املشاركة بنجاو يف جماالت معينة من ممارساهتا االجتماعية‪.‬‬

‫‪232‬‬
‫‪ -‬حسين إبراهيم عبد العظيم‪ ( :‬اجلسد والطبقة ورأس املال الثقايف‪ :‬قراءة يف سوسيولوجيا بيري‬
‫بورديو)‪،‬إضافات‪ ،‬اجمللة العربية لعلم االجتماع‪ ،‬العدد ‪ ، 01‬صيف ‪.2100‬‬
‫‪ - 231‬جون سكوت‪ :‬علم االجتماع‪ :‬المفاهيم األساسية‪ ،‬ص‪.22:‬‬

‫‪248‬‬
‫تمسخ هـذه املعرفـة الفنيـة حـىت تصـبح يف معظمهـا طبيعـة ثانيـة‪.‬إهنا تـوفر جمموعـة مـن‬
‫املـ ـوارد الكامن ــة يف الش ــكل ال ــذي يس ــميه بوردي ــو باملخطط ــات التوليدي ــة ال ــيت ميك ــن‬
‫االعتماد عليها كلما اقتضت الظروف‪"236 .‬‬
‫ومــن هنــا‪ ،‬لــيس اهلــابيتوس جمــرد متثــل أو إدمــاج عــاد وبســيط‪ ،‬ينبــين علــى ممارس ـات‬
‫تقليديــة أساســها التك ـرار والتنمــيط والتطبيــق اايل‪ ،‬بــل هــو إدمــاج إبــداعي يتجــاوز‬
‫املماثل ــة إىل االس ــتيعا ومواجه ــة وض ــعيات جدي ــدة‪ .‬كم ــا أن اهل ــابيتوس ه ــو مبثاب ــة‬
‫بنيــات خاضــعة لعامــل التكيــف والتــأقلم مــع العــام اجملتمعــي املوضــوعي‪ .‬ويف الوقــت‬
‫نفسه‪ ،‬هو مبثابة أفعال حمركة لبنية اجملتمع‪ ،‬أو مبثابة ممارسات جديدة هتدف إىل حـل‬
‫مشــكالت الواقــع املوضــوعي‪ ،‬وجتــاوز حتمياتــه اجلربيــة‪.‬أي‪ :‬يتضــمن اهلــابيتوس التطبــع‬
‫باجملتمع من جهة‪ ،‬والتحكم فيه بالفعل الفردي اإلبداعي من جهة أخرى‪.‬‬
‫ويعــين هــذا أن الفــرد يســتطيع أن يولــد جمموعــة مــن اخلطــط واإلس ـماتيجيات‪ ،‬حينمــا‬
‫يواجــه وضــعيات جمتمعيــة جديــدة‪ ،‬مثــل الــذي يســتعمل لغتــه األم‪ ،‬ف نــه يســتطيع مــن‬
‫خالل قواعد حمددة أن يولد ال المتناهية العدد‪ .‬ويعين هذا أن اهلابيتوس هو مولد‬
‫إبــداعي وتطبيقــي‪.‬أي‪ :‬إن الفــرد يســتعمل كــل إسـماتيجياته ومـوارده وخططــه‪ ،‬حينمــا‬
‫جيابه وضعيات جمتمعية جديدة‪ ،‬إما بطريقة واعيـة‪ ،‬وإمـا بطريقـة غـري واعيـة‪ .‬ومـن مث‪،‬‬
‫اليقف مكتوف األيـدي‪ ،‬بـل جيتهـد ويتصـرف وفـق القواعـد واملعـايري الـيت استضـمرها‬
‫سابقا‪ ،‬عن طريق التنشئة االجتماعية املستمرة أو اليت انتقلت إليه من ااخرين‪.‬‬
‫وإذا ك ــان إمي ــل دورك ــامي(‪ )E.Durkheim‬ي ــدرس الظ ـ ـواهر اجملتمعي ــة عل ــى أهن ــا‬
‫أشياء وموضوعات‪ ،‬من خالل المكيي على اجملتمع‪ ،‬فـ ن مـاكس فيـرب يـدرس الـذوات‬
‫الفاعل ــة ال ــيت ت ــتثر يف اجملتم ــع م ــن خ ــالل املع ــا واملقاص ــد ال ــيت تـ ـرتبط هب ــا أفع ــاهلم‬
‫السلوكية‪ .‬ويعين هـذا أن مثـة ثناليـة الذاتيـة واملوضـوعية‪ .‬بينمـا يـرفض بيـري بورديـو هـذه‬
‫الثناليــة‪ ،‬ويعتربهــا حالــة مصــطنعة ومشــوهة‪.‬لذا‪ ،‬حيــاول اجلمــع بينهمــا بتوليــد جمموعــة‬

‫‪ - 236‬جون سكوت‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪.22:‬‬

‫‪249‬‬
‫من املفاهيم السوسيولوجية‪ ،‬منها‪ :‬مصطلح اهلابيتوس‪ .‬ويعين هذا املفهوم الدمج بـني‬
‫البـ ــىن اجملتمعيـ ــة املوضـ ــوعية واألدوار الفرديـ ــة الذاتيـ ــة الـ ــيت حتمـ ــل معـ ــىن أو دالل ـ ــة أو‬
‫مقصدية ما‪ .‬ومن مث‪ ،‬فاهلـابيتوس هـو جمموعـة مـن االسـتعدادات وصـور السـلوت الـيت‬
‫يتمثله ــا األف ـراد أثن ــاء التفاع ــل م ــع اجملتم ــع‪ .‬ويعك ــس املفه ــوم خمتل ــف األوض ــاع ال ــيت‬
‫يشغلها الناس يف جمتمعهم‪.‬‬
‫ومــن مث‪ ،‬فاهلــابيتوس مبثابــة وســيط بــني البنيــة اجملتمعيــة واملمارســة الفرديــة‪.‬وأكثر مــن‬
‫هــذا‪ ،‬فاهلــابيتوس جمموعــة مــن االســتعدادات اجلســدية والذهنيــة الناجتــة عــن التنشــئة‬
‫االجتماعيــة للفــرد الــيت جتعــل منــه فــاعال اجتماعيــا داخــل حقــل أو جمــال اجتمــاعي‬
‫معني‪ .‬مبعىن أن اهلابيتوس يتجاوز التعارض املوجود بني الوعي والالوعي‪ ،‬فيوحـد بـني‬
‫الفعل اجملتمعي والبنية اجملتمعية‪ ،‬ويعرب عـن انفتـاو الـذات علـى اجملتمـع اخلـارجي‪ .‬ويف‬
‫الوقت نفسه‪ ،‬حييل على خضوع الذات للجربية أو املتثرات اجملتمعية اخلارجية‪.‬‬
‫فيما مضى‪ ،‬م يكن اهلابيتوس سـوى تـأقلم وتكيـف عـاديني وبسـيطني مـع األوضـاع‪،‬‬
‫بتوظيــف املكتســبات الســابقة بطريقــة آليــة‪ ،‬بــل ميكــن ‪ -‬اليــوم‪ -‬أن يتحقــق اهلــابيتوس‬
‫بطريقــة إبداعيــة خالقــة‪ ،‬ب جيــاد احللــول الناجعــة ملختلــف الوضــعيات املعقــدة والصــعبة‬
‫واملركبة‪ .‬ويعين هذا أن اهلابيتوس يسمح للفرد بتوليد جمموعة من املمارسـات اجلديـدة‬
‫الــيت تــتالءم مــع العــام اجملتمعــي الــذي يعــيش فيــه‪ .‬ومــن هنــا‪ ،‬فاهلــابيتوس مبثابــة حمــرت‬
‫قوي ودينامي‪ ،‬يتخذ طابعا تطبيقيا‪.‬‬
‫أضــف إىل ذلــك‪ ،‬فاهلــابيتوس نتــاج البنيــات اجلربيــة واألفعــال احلــرة علــى حــد س ـواء‪.‬‬
‫ومــن هنــا‪ ،‬لــيس اهلــابيتوس تطبعــا اجتماعيــا عاديــا‪ ،‬بــل هــو حمــرت ملمارســات جمتمعيــة‬
‫جدي ـ ــدة المتناهي ـ ــة الع ـ ــدد‪ .‬وتش ـ ــكل ه ـ ــذه األحك ـ ــام نس ـ ــقا أو نظام ـ ــا‪ .‬وبالت ـ ــايل‪،‬‬
‫فاهلــابيتوس مصــدر وحــدة األفكــار واألفعــال لــدى الفــرد‪ .‬واليقتصــر اهلــابيتوس علــى‬
‫ماهو فردي‪ ،‬بل يتعدى ذلك إىل اجلماعـات اجملتمعيـة الـيت تعـيش التطبعـات نفسـها‪.‬‬
‫ويعـ ــين هـ ــذا وجـ ــود أمنـ ــاط خمتلفـ ــة مـ ــن التفكـ ــري واإلحسـ ــاس والعمـ ــل‪ ،‬ضـ ــمن طبقـ ــة‬

‫‪251‬‬
‫اجتماعية واحدة ومتجانسة‪ .‬ومن خصالص اهلابيتوس أيضا دميومة أحكامه‪ ،‬وقابليـة‬
‫نقلها من فرد إىل آخر‪ ،‬ومن جيل إىل آخر‪ ،‬ومن اعة إىل أخرى‪.‬‬
‫وللتمثيل حبقل العمل‪ ،‬يرتبط هـابيتوس العمـال باملفيـد والضـروري‪ .‬ومـن مث‪ ،‬فلباسـهم‬
‫وظيفي‪ ،‬ويهتمون بـالفن امللتـيم الـواقعي‪ .‬ويكـون أكلهـم دمسـا ومشـبعا‪ .‬أي‪ :‬هلـم منـط‬
‫حيــاة مشــمكة تشــكل مــا يســمى باهلــابيتوس العمــايل‪.‬ويتميي هــذا اهلــابيتوس عــن بــاقي‬
‫اهلابيتوســات األخــرى مضــمونا وشــكال‪ .‬يف حــني‪ ،‬يقــوم هــابيتوس البورج ـوازي علــى‬
‫التجريد‪ ،‬وحب الفن اجلميل‪ ،‬والبحث عن اجلديد من املوضة‪.‬‬
‫وتكملــة ملــا ســبق‪ ،‬يعــين اهلــابيوس مبــدأ الفعــل لــدى األفـراد داخــل العــام اجملتمعــي‪ ،‬أو‬
‫ه ــو مبثاب ــة األن ــا األعل ــى ال ــذي يوج ــه س ــلوت األف ـراد داخ ــل احمل ــيط اجملتمع ــي بطريق ــة‬
‫الشـ ــعورية‪ ،‬أو هـ ــو نسـ ــق مـ ــن االسـ ــتعدادات وامللكـ ــات والقـ ــيم واألفكـ ــار واملواقـ ــف‬
‫واالجتاهات اليت تطبع عليها الفـرد يف اجملتمـع‪ ،‬بغيـة التمثـل هبـا أثنـاء مواجهـة املواقـف‬
‫والوضــعيات املختلفــة‪ .‬وأكثــر مــن هــذا‪ ،‬فهــو الــذي يوجــه ســلوت الفــرد أثنــاء مواجهــة‬
‫وضعية قدمية أو جديدة‪ .‬لذا‪ ،‬يعترب اهلـابيتوس منـتج السـوكيات والتصـرفات واألفكـار‬
‫والعواطف والقيم اليت ميتلكها الفرد أثنـاء التفاعـل مـع موقـف جممتعـي معـني‪.‬أي‪ :‬هـو‬
‫مباثــة موجــه ملــاهو فكــري وذهــين‪ ،‬ومــاهو وجــدا وقيمــي‪ ،‬ومــاهو فعلــي وســلوكي‪.‬أما‬
‫موقعــه فهــو الوســط بــني العالقــات اجملتمعيــة املوضــوعية والســلوكيات الفرديــة‪ ،‬أو هــو‬
‫حلق ــة وص ــل ب ــني بني ــة اجملتم ــع والفع ــل الف ــردي‪ ،‬أو ه ــو مبثاب ــة اس ــتبطان للمارس ــات‬
‫الفردي ــة والش ــروط املوض ــوعية‪ .‬وعل ــى العم ــوم‪ ،‬يتك ــون اهل ــابيتوس م ــن ش ــقوق ثنالي ــة‪:‬‬
‫فردي وجمتمعي‪ ،‬ذايت وموضوعي‪ ،‬وفاعل ومنفعل‪.‬‬
‫ويـ ـرتبط اهل ــابيتوس برأمس ــال مع ــني‪ ،‬كالرأمس ــال امل ــادي‪ ،‬أوالرأمس ــال الثق ــايف‪ ،‬أوالرأمس ــال‬
‫االجتمــاعي‪ ،‬أوالرأمســال الرمــيي‪ .‬ولــيس الصـراع الطبقــي هــو الوحيــد الــذي يــتحكم يف‬
‫الطبق ــات االجتماعي ــة‪ ،‬ب ــل يك ــون العن ــف الرم ــيي أيض ــا ع ــامال م ــن عوام ــل الصـ ـراع‬
‫وأشكاله‪.‬‬

‫‪251‬‬
‫ومن مث‪ ،‬فلكل طبقة اجتماعية هابيتوس خاص‪ ،‬ورأمسـال معـني‪ ،‬وحقـل معـني‪ ،‬مثـل‪:‬‬
‫طبق ــة العم ــال‪ ،‬وطبق ــة املثقف ــني‪ ،‬وطبق ــة الفق ـراء‪ ،‬وطبق ــة األغني ــاء‪ ...‬ويع ــين ه ــذا أن‬
‫اهلــابيتوس يـرتبط مــن جهــة بالفعــل وبنيــة اجملتمــع‪ .‬ومــن جهــة أخــرى‪ ،‬يقــمن بالرأمســال‬
‫والتميي اجلنسي أو الثقايف أو االقتصادي أو اجملتمعي‪...‬‬
‫ويف احلقيقــة‪ ،‬واعتمــادا علــى اهلــابيتوس‪ ،‬ميكــن تعيــني مظــاهر التميــي االجتمــاعي بــال‬
‫ح ــدود ح ــىت يف الس ــلوت الي ــومي للف ــرد يف‪ :‬الش ــارع‪ ،‬واملتسس ــة‪ ،‬والبي ــت‪ ،‬واملش ــي‪،‬‬
‫واجللــوس‪ ،‬والنــوم‪ ،‬والعمــل‪ ،‬والقــيم‪ ،‬واإلتيكيــت‪ ،‬واملســكن‪ ،‬ومنــط العــيش‪ ،‬والســفر‪،‬‬
‫وقضاء أوقات الفراغ‪ ،‬والتسوق‪ ،‬والدراسة‪ ،‬واهلوايات…إخل‬

‫‪252‬‬
‫المطلب الخامس‪ :‬مفهوم الحقل‬

‫يــرى بيــري بورديــو أن العــام اجملتمعــي‪ ،‬يف جمتمعاتنــا املعاصــرة‪ ،‬مقســم إىل جمموعــة مــن‬
‫احلقول(‪.)Champs‬مبعىن أن تقسـيم العمـل يف جمتمعنـا أوجـد جمموعـة مـن احلقـول‬
‫والفض ـ ــاءات اجملتمعي ـ ــة الفرعي ـ ــة‪ ،‬مث ـ ــل‪ :‬احلق ـ ــل الف ـ ــين‪ ،‬واحلق ـ ــل السياس ـ ــي‪ ،‬واحلق ـ ــل‬
‫االقتصادي‪ ،‬واحلقل الثقايف‪ ،‬واحلقل المبوي‪ ،‬واحلقل الرياضي‪ ،‬واحلقل الديين‪...‬‬
‫ويتميي كل حقل فضالي باستقاللية نسبية عن اجملتمع ككل‪ .‬وتتميي هذه الفضاءات‬
‫بالماتبي ــة الطبقي ــة واالجتماعي ــة‪ ،‬وباش ــتداد الصـ ـراع ال ــدينامي والتن ــافس الش ــديد ب ــني‬
‫األفـ ـراد ح ــول االمتي ــازات املادي ــة واملعنوي ــة‪ ،‬والصـ ـراع ح ــول مواق ــع الس ــلطة واهليمن ــة‪،‬‬
‫حســب طبيعــة الرأمســال الــذي ميلكــه كــل فــرد داخــل اجملتمــع‪ .‬ويكــون الص ـراع يف كــل‬
‫حقــل حــول مصــاحل مشــمكة أو مصــاحل خاصــة بكــل فــرد علــى حــدة‪ .‬وخيضــع احلقــل‬
‫جملموعة من القواعد‪ ،‬مثل‪ :‬الصراع احملتدم بـني اجليـل القـدمي واجليـل اجلديـد‪ .‬ومـن مث‪،‬‬
‫خيضع احلقل ملنطق التنافس والصراع واهليمنة والعيش املشمت‪.‬‬

‫المطلب السادس‪ :‬مفهوم الرأسمال‬

‫إذا كان كارل ماركس يرى أن أساس الصراع بني الطبقات االجتماعية‪ ،‬والسيما بـني‬
‫البورجوازيــة والربوليتاريــة قوامــه الرأمســال االقتصــادي‪ ،‬فبيــري بورديــو‪ ،‬علــى غـرار مــاكس‬
‫فيرب‪ ،‬يرى أن الصراع اليتخـذ دالمـا طابعـا اقتصـاديا‪ ،‬فقـد يكـون صـراعا ثقافيـا‪ .‬ومـن‬
‫مث‪ ،‬فثمة رأمساالن مهمان يف حتريك جمتمعاتنا املعاصرة مها‪ :‬الرأمسال الثقايف والرأمسـال‬
‫االقتصادي‪.‬‬

‫‪253‬‬
‫وبنــاء علــى مــا ســبق‪ ،‬فقــد حــدد بيــري بورديــو أربعــة أمنــاط خمتلفــة مــن الرأمســال الــذي‬
‫ميلكه الفاعل اجملتمعي‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫‪‬الرأسمال االقتصادي هو الذي يقـيس مـوارد الفـرد املاديـة واملاليـة‪ ،‬ويرصـد ثرواتـه‬
‫وممتلكاته‪ ،‬وحيدد دخله الشهري والسنوي‪.‬‬
‫‪‬الرأسةةمال الثقةةافي‪ :‬يقــيس م ـوارد الفــرد الثقافيــة‪ ،‬مثــل‪ :‬الــدبلومات والشــهادات‬
‫العلمي ــة واملهني ــة‪ ،‬واملنت ــوج الثق ــايف م ــن مق ــاالت وكت ــب ودراس ــات وأعم ــال إبداعي ــة‬
‫وثقافيــة وفنيــة‪ ،‬ومــا ميلكــه مــن مهــارات وكفــاءات ومواهــب وقــدرات معرفي ـة ومهنيــة‬
‫وحرفية يف جمال الثقافة‪.‬‬
‫‪ ‬الرأسةةمال االجتمةةاعي‪ :‬يقــيس مــا ميلكــه الفــرد مــن عالقــات اجتماعيــة ومعــارف‬
‫وصــداقات‪ ،‬تعــود إىل ذكالــه االجتمــاعي الــذي يســتثمره ل ـربط جمموعــة مــن صــال ت‬
‫الرحم والقرابة والصداقة واليمالة‪.‬‬
‫‪ ‬الرأسةةمال الرمةةزي‪ :‬ويتضــمن الرأمســال االقتصــادي‪ ،‬والرأمسـال الثقــايف‪ ،‬والرأمســال‬
‫االجتماعي‪ ،‬وهبذه األمناط يتميي الفرد جمتمعيا عن باقي األفراد ااخرين‪.‬‬
‫وق ـ ــد أض ـ ــاف بي ـ ــري بوردي ـ ــو رأمس ـ ــاال آخ ـ ــر يف كتاب ـ ــه (أس ـ ــئلة السوس ـ ــيولوجيا)‪ ،‬مس ـ ــاه‬
‫بالرأسةةمال اللغةةوي؛ ألن هبــذا الرأمســال تســتطيع اعــة مــا أن تفــرض نفســها وإنيتهــا‬
‫ووجودها‪ .‬وبالتايل‪ ،‬تستفيد مـن السـلطة ومـن امتيـازات ماديـة وماليـة وثقافيـة ورمييـة‪.‬‬
‫وأكثر من هذا‪ ،‬فمن ميتلك الرأمسال اللغوي األجنـيب يف الـدول العربيـة‪ ،‬ف نـه يسـتطيع‬
‫أن حيظى مبكانة ثقافية واقتصادية كربى يف اجملتمع‪ .‬ويف هذا السياق‪ ،‬يقول بورديو‪":‬‬
‫يعــين الرأمســال اللغــوي الــتحكم يف آليــات تشــكل األســعار اللغويــة‪ ،‬وكــذا القــدرة علــى‬
‫جعــل ق ـوانني تش ــكل األس ــعار تعم ــل لص ــاحل ص ــاحبه (أي الرأمســال)‪ ،‬والق ــدرة عل ــى‬
‫اسـتخالص فـالض القيمــة النـوعي‪ .‬إن أي عمليــة تفاعـل‪ ،‬وأي عمليــة تواصـل لغــوي‪،‬‬
‫ول ــو ب ــني شخص ــني أو ب ــني ص ــديقني أو ب ــني طف ــل وص ــديقته‪ ،‬واختص ــار‪ ،‬إن ك ــل‬

‫‪254‬‬
‫عمليات التواصل اللغوي هي أنواع من األسواق الصغرى الـيت تبقـى دومـا حتـت رمحـة‬
‫البنيات اإل الية‪"237.‬‬
‫ويعــين هــذا أن الرمســأل اللغــوي خاضــع بــدوره لقــيم اهليمنــة والتنــافس والص ـراع‪ ،‬ولــه‬
‫عالقة جدلية بباقي األمناط األخرى من الرأمسال الرميي‪.‬‬
‫بيــد أن بورديــو يغــض الطــرف عــن رأمســال آخــر أكثــر أمهيــة‪ ،‬يف جمتمعاتنــا اإلســالمية‪،‬‬
‫من األمناط اخلمسة املـذكورة وهـو الرأسةمال القيمةي أو الةديني‪ ،‬فهـو الرأمسـال املهـم‬
‫لإلنســان‪ ،‬إذا متلكــه اإلنســان ربــح الــدنيا وااخــرة‪ .‬وبالتــايل‪ ،‬فأحســن جتــارة ينبغــي أن‬
‫يســعى إليهــا الفــرد جاهــدا هــي التجــارة مــع اج يف جمــال العبــادة والتــدين واإلحســان‬
‫وفعل اخلري‪.‬‬
‫وعلي ـ ــه‪ ،‬يس ـ ــتطيع الف ـ ــرد هب ـ ــذه املـ ـ ـوارد الرأمسالي ـ ــة املختلف ـ ــة (االقتص ـ ــادية‪ ،‬والثقافي ـ ــة‪،‬‬
‫واالجتماعي ــة‪ ،‬والثقافي ــة‪ ،‬واللغوي ــة) أن حيق ــق أرباح ــا ومن ــافع جمتمعي ــة‪ ،‬والس ــيما أن‬
‫الرأمســالني‪ :‬االقتصــادي والثقــايف مهــا أكثــر أمهيــة يف جمتمعاتنــا املعاصــرة حســب بيــري‬
‫بورديو‪ .‬ومهـا اللـذان يشـكالن بنيـة اجملتمـع‪ ،‬ويتحكمـان يف أفعـال األفـراد‪ ،‬وجيعـل كـل‬
‫حقل جمايل فضاء للتنافس والصراع والتطاحن االجتماعي والطبقي‪.‬‬
‫وخالصة القول‪ ،‬يتبني لنا‪ ،‬ممـا سـبق ذكـره‪ ،‬بـأن بيـري بورديـو مـن أهـم السوسـيولوجيني‬
‫امللت ــيمني بالتص ــور املاركس ــي يف نق ــد السياس ــة الرأمسالي ــة‪ .‬وق ــد انش ــغل بتق ــدمي نظري ــة‬
‫سوســيولوجية للمجتمــع يف ضــوء املقاربــة الص ـراعية‪ .‬ومــن جهــة أخــرى‪ ،‬أعطــى أمهيــة‬
‫كــربى لدراســة الطبقــات اجملتمعيــة‪ ،‬وحتليــل الماتبيــة الطبقيــة واالجتماعيــة‪ ،‬واســتجالء‬
‫دور الثقافــة يف هــذا الص ـراع اجملتمعــي والطبقــي‪ ،‬مــع المكيــي علــى املدرســة باعتبارهــا‬
‫فضاء للتنافس والتطاحن والصراع والالمساواة االجتماعية والطبقية‪.‬‬
‫ومن مث‪ ،‬فقد اختذ بيري بورديو السوسيولوجيا أداة لنقد العام الليربايل اجلديـد‪ ،‬وفضـح‬
‫متسساته اإليديولوجية القالمة على اهليمنة والسيطرة وإخضاع ااخرين‪ ،‬على أساس‬
‫‪287‬‬
‫‪- Pierre Bourdieu: Question de sociologie,Minuit,1984.‬‬

‫‪255‬‬
‫أن متسسات الدولة الشـرعية‪ ،‬مثـل‪ :‬املدرسـة‪ ،‬واإلعـالم‪ ،‬والصـحافة‪ ،‬والـدين‪ ،‬متـارس‬
‫نوعا من العنف الرميي جتاه ااخرين‪.‬‬
‫عالوة على ذلك‪ ،‬فقد متثل بيري بورديو املنهجية البنيوية التكوينيـة‪ ،‬مـن خـالل اجلمـع‬
‫ب ــني الفع ــل وبني ــة اجملتم ــع‪ ،‬وجت ــاوز جمموع ــة م ــن الثنالي ــات ال ــيت أخض ــعت منهجي ــا‬
‫لله ــابيتوس‪ .‬وم ــن مث‪ ،‬فق ــد وظ ــف بي ــري بوردي ــو جمموع ــة م ــن املف ــاهيم واملص ــطلحات‬
‫السوس ــيولوجية‪ ،‬مازال ــت يف حاج ــة إىل س ــرب‪ ،‬وتوض ــيح‪ ،‬وتنق ــيح‪ ،‬وتأوي ــل‪ ،‬والس ــيما‬
‫اهل ـ ــابيتوس‪ ،‬واحلق ـ ــل‪ ،‬والعن ـ ــف الرم ـ ــيي‪ ،‬والتمي ـ ــي‪ ،‬وغريه ـ ــا م ـ ــن املف ـ ــاهيم اإلش ـ ــكالية‬
‫األخرى‪.‬‬

‫‪256‬‬
‫الخاتمة‬

‫وهكذا‪ ،‬نصل‪ ،‬يف خامتة هذا الكتا ‪ ،‬إىل أن هذا املصنف يتناول جمموعة من رواد‬
‫علم االجتماع العريب والغريب الذين سامهوا يف تأسيس علم االجتماع أو ما يسمى‬
‫أيضا بالسوسيولوجيا‪ ،‬مبختلف فروعه (ها)‪ ،‬مثل‪ :‬املورفولوجيا االجتماعية‪ ،‬وعلم‬
‫االجتماع اإلداري‪ ،‬وعلم االجتماع السياسي‪ ،‬وعلم االجتماع المبوي‪ ،‬وعلم‬
‫االجتماع السكا ‪ ،‬وعلم االجتماع االقتصادي‪ ،‬وعلم االجتماع الصناعي‪ ،‬وعلم‬
‫االجتماع اجلنالي‪ ،‬وعلم االجتماع القضالي‪ ،‬وعلم االجتماع القروي‪ ،‬وعلم‬
‫االجتماع احلضري‪ ،‬وعلم اجتماع األنظمة‪ ،‬وغريها من الفروع وامليادين الين سنفرد‬
‫هلا كتابا خاصا هبا‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فقد بدأنا بابن خلدون الذي يعد املتسس احلقيقي لعلم االجتماع‬
‫بالمنازع‪ .‬وبعد ذلك‪ ،‬انتقلنا إىل رواد التطورية والوضعية‪ ،‬مثل‪ :‬هربرت سبنسر‬
‫صاحب النظرية العضوية‪ ،‬وسان سيمون التطوري‪ ،‬مث أوجست كونت املعروف‬
‫باحلاالت الثالث‪ :‬احلالة األسطورية‪ ،‬واحلالة امليتافيييقية‪ ،‬واحلالة الوضعية‪ .‬وبعد‬
‫ذلك‪ ،‬تناولنا علم االجتماع عند إميل دوركامي املتسس الثا لعلم االجتماع بعد‬
‫ابن خلدون‪ ،‬وواضع منهجه التجرييب والعلمي‪.‬‬
‫وم نتوقف عند متسسي الوضعية العلمية فحسب‪ ،‬بل تناولنا كذلك كارل ماركس‬
‫باعتباره صاحب املنهج املادي التارخيي اجلديل من جهة‪ ،‬وتوقفنا عند ماكس فيرب‬
‫الذي أحدث قطيعة إبستمولوجية يف علم االجتماع‪ ،‬عندما انتقل من دراسة اجملتمع‬
‫إىل دراسة الفعل االجتماعي‪ .‬وهذا ما نراه‪ ،‬بشكل من األشكال‪ ،‬عند زميل يف‬
‫أحباثه السوسيولوجية عندما ركي على التفاعل االجتماعي‪.‬‬

‫‪257‬‬
‫أما بيري بورديو‪ ،‬فقد اهتم‪ ،‬يف كتاباته السوسيولوجية‪ ،‬بالالمساواة املدرسية اليت‬
‫كانت نتاجا لالمساواة الطبقية واالجتماعية‪ .‬كما أغىن السوسيولوجيا الغربية‬
‫مبفاهيم ومصطلحات عدة‪ ،‬مثل‪ :‬العنف الرميي‪ ،‬والرأمسال الثقايف‪ ،‬واهلابيتوس‪،‬‬
‫والتمايي‪ ،‬وغريها من املصطلحات اجلديدة‪.‬‬
‫أما نوربرت إلياس؛ السوسيولوجي املنسي‪ ،‬فأهم مـا تتسـم بـه دراسـاته االجتماعيـة ‪-‬‬
‫ال ــيت جتم ــع ب ــني الفه ــم والتفس ــري‪ -‬تركييه ــا الش ــديد عل ــى س ــريورة احلض ــارة الغربي ــة‪،‬‬
‫واالهتمـ ــام باجلسـ ــد‪ ،‬ودراسـ ــة سوسـ ــيولوجيا الرياضـ ــة‪ ،‬وغريهـ ــا مـ ــن املواضـ ــيع اجلريئـ ــة‬
‫واحملرية‪.‬‬

‫‪258‬‬
‫ثبت المصادر والمراجع‬

‫المصادر العامة‪:‬‬

‫‪-0‬ابن خلدون‪:‬تاريخ ابن خلدون‪ ،‬دار ابن حيم‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل‬
‫‪2118‬م‪.‬‬
‫‪-2‬ابن خلدون‪ :‬مقدمة ابن خلدون‪ ،‬دار ابن اهليثم‪ ،‬هورية مصر العربية‪ ،‬الطبعة‬
‫األوىل سنة ‪2111‬م‪.‬‬
‫‪ -8‬ابن خلدون‪ :‬التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا‪ ،‬دار الكتب العلمية‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل سنة ‪2118‬م‪.‬‬

‫المراجع باللغة العربية‪:‬‬

‫‪ -2‬إبراهيم بن عبد العييي الدعيلج‪ :‬اإلدارة حقائق تتجدد‪ ،‬مكة املكرمة‪ ،‬اململكة‬
‫العربية السعودية‪ ،‬الطبعة األوىل سنة ‪2102‬م‪.‬‬
‫‪ -1‬إبراهيم عثمان وآخرون‪ :‬نظريات في علم االجتماع‪ ،‬الشركة العربية املتحدة‬
‫للتسويق والتوريدات‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬طبعة ‪2101‬م‪.‬‬
‫‪ -6‬أمحد اخلشا ‪ :‬التفكير االجتماعي‪ :‬دراسة تكاملية للنظرية االجتماعية‪،‬‬
‫دار النهضة العربية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬طبعة ‪0830‬م‪.‬‬
‫‪ -7‬إيف الكوست‪ :‬العالمة ابن خلدون‪ ،‬تر ة‪ :‬ميشال سليمان‪ ،‬دار ابن‬
‫خلدون‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل سنة ‪0832‬م‪.‬‬

‫‪259‬‬
‫‪-3‬إميل دوركامي‪ :‬قواعد المنهج في علم االجتماع‪ ،‬تر ة‪ :‬حممود قاسم والسيد‬
‫حممد بدوي‪ ،‬دار املعرفة اجلامعية‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،‬مصر‪ ،‬طبعة ‪0833‬م‪.‬‬
‫‪ -8‬أنتو غديني‪ :‬علم االجتماع‪ ،‬تر ة‪ :‬فايي الصياغ‪ ،‬منشورات املنظمة العربية‬
‫للم ة‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل سنة ‪2111‬م‪.‬‬
‫‪ -01‬بوتومور‪ :‬علم االجتماع منظور اجتماعي نقدي‪ ،‬تر ة‪ :‬عادل خمتار‬
‫اهلواري‪ ،‬نشر وتوزيع الشركة العامة للتجهيي والتوزيع‪ ،‬فاس‪ ،‬املغر ‪.‬‬
‫‪-00‬بيري بورديو‪ :‬الرمز والسلطة‪ ،‬تر ة‪ :‬عبد السالم بنعبد العايل‪ ،‬دار توبقال‬
‫للنشر‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬املغر ‪ ،‬الطبعة األوىل سنة ‪0836‬م‪.‬‬
‫‪-02‬جان ديفينيو‪ :‬مدخل إلى علم االجتماع‪ ،‬تر ة‪ :‬فاروق احلميد‪ ،‬دار الفرقد‪،‬‬
‫دمشق‪ ،‬سورية‪ ،‬الطبعة األوىل سنة ‪2100‬م‪.‬‬
‫‪-08‬جون سكوت‪ :‬خمسون عالما اجتماعيا أساسيا‪ ،‬تر ة‪ :‬رشا ال‪ ،‬الشبكة‬
‫العربية لألحباث والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة الثانية ‪0808‬م‪.‬‬
‫‪ -02‬جون سكوت‪ :‬علم االجتماع المفاهيم األساسية‪ ،‬تر ة‪ :‬حممد عثمان‪،‬‬
‫الشبكة العربية لألحباث والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة الثانية سنة ‪2108‬م‪.‬‬
‫‪ -01‬يل محداوي‪ :‬اإلسالم بين الحداثة ومابعد الحداثة‪ ،‬دار التنوير‪،‬اجليالر‪،‬‬
‫الطبعة األوىل سنة ‪2102‬م‪.‬‬
‫‪ -06‬جوليان فروند‪ :‬سوسيولوجيا ماكس فيبر‪ ،‬تر ة‪ :‬جورج أبوصاحل‪ ،‬مركي‬
‫اإلمناء القومي‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬بدون تاريخ‪.‬‬
‫‪ -07‬حسن الساعايت‪ :‬علم االجتماع الخلدوني‪ ،‬قواعد المنهج‪ ،‬دار النهضة‬
‫العربية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬طبعة ‪0872‬م‪.‬‬
‫‪ -03‬خالد املري وآخرون‪ :‬أهمية سوسيولوجيا التربية‪ ،‬سلسلة التكوين المبوي‪،‬‬
‫العدد‪ ،8‬مطبعة النجاو اجلديدة‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬املغر ‪ ،‬الطبعة الثانية سنة‬
‫‪0881‬م‪.‬‬

‫‪261‬‬
‫‪ -08‬زيدان عبد الباقي‪ :‬التفكير االجتماعي‪ :‬نشأته وتطوره‪ ،‬دار الفكر العريب‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬طبعة ‪0830‬م‪.‬‬
‫‪ -21‬ساطع احلصري‪ :‬دراسات عن مقدمة ابن خلدون‪ ،‬مكتبة اخلاجني‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫مصر‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪0867‬م‪.‬‬
‫‪ -20‬سفيتالنا باتسييفا‪ :‬العمران البشري في مقدمة ابن خلدون‪ ،‬تر ة‪ :‬رضوان‬
‫إبراهيم‪ ،‬الدار العربية للكتا ‪ ،‬تونس‪/‬طرابلس طبعة ‪0873‬م‪.‬‬
‫‪ -22‬مسري أيو ‪ :‬تأثيرات اإليديولوجيا في علم االجتماع‪ ،‬معهد اإلمناء العريب‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬طبعة ‪0838‬م‪.‬‬
‫‪ -28‬صالو مصطفى الفوال‪ :‬علم االجتماع بين النظرية والتطبيق‪ ،‬دار الفكر‬
‫العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬طبعة ‪0886‬م‪.‬‬
‫‪ -22‬طه حسني‪ :‬فلسفة ابن خلدون االجتماعية‪ ،‬تحليل ونقد‪ ،‬تر ة‪ :‬حممد‬
‫عبد اج عنان‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬طبعة ‪2116‬م‪.‬‬
‫‪-21‬عبد الباسط عبد املعطي‪ :‬اتجاهات نظرية في علم االجتماع‪ ،‬عام املعرفة‪،‬‬
‫الكويت‪ ،‬العدد‪0830 ،22‬م‪.‬‬
‫‪-26‬عبد الرمحن بدوي‪ :‬مؤلفات ابن خلدون‪ ،‬اجمللس األعلى للثقافة‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫مصر‪ ،‬الطبعة األوىل سنة ‪2116‬م‪.‬‬
‫‪-27‬عبد اج إبراهيم‪ :‬االتجاهات والمدارس في علم االجتماع‪ ،‬املركي الثقايف‬
‫العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬املغر ‪ ،‬الطبعة الثانية ‪2101‬م‪.‬‬
‫‪ -23‬علي عبد الرزاق جليب‪ :‬قضايا علم االجتماع المعاصر‪ ،‬دار النهضة العربية‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬طبعة ‪0832‬م‪.‬‬
‫‪ -28‬علي عبد الواحد وايف‪ :‬علم االجتماع‪ ،‬هنضة مصر‪ ،‬القاهرة‪،‬مصر‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬
‫‪-81‬علي الوردي‪ :‬منطق ابن خلدون في ضوء حضارته وشخصيته‪ ،‬الدار‬
‫التونسية للنشر‪ ،‬تونس‪ ،‬الطبعة األوىل سنة ‪0877‬م‪.‬‬

‫‪261‬‬
‫‪ -80‬فتح الرمحن أمحد حممد اجلعلي‪ :‬اإليمان باهلل والجدل الشيوعي‪ ،‬ديوان‬
‫املطبوعات اجلامعية‪ ،‬اجليالر؛ الدار السعودية للنشر والتوزيع‪ ،‬الرياض‪ ،‬السعودية‪،‬‬
‫طبعة ‪0832‬م‪.‬‬
‫‪ -82‬فيليب كابان وجان فرانسوا دورتيه‪ :‬علم االجتماع‪ ،‬تر ة‪ :‬إياس حسن‪ ،‬دار‬
‫الفرقد‪ ،‬دمشق‪ ،‬سورية‪ ،‬الطبعة األوىل ‪2101‬م‪.‬‬
‫‪ -88‬كاترين كوليو تيلني‪ :‬ماكس فيبر والتاريخ‪ ،‬تر ة‪ :‬جورج كتورة‪ ،‬املتسسة‬
‫اجلامعية للدراسات والنشر والتوزيع‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل سنة ‪0882‬م‪.‬‬
‫‪ -82‬كلثم علي الغامن وآخران‪ :‬موجز تاريخ الفكر االجتماعي‪ ،‬سلسلة علم‬
‫الثا ‪ ،‬األهايل للتوزيع‪ ،‬دمشق‪ ،‬سورية‪ ،‬الطبعة األوىل سنة‬ ‫االجتماع‪ ،‬الكتا‬
‫‪2110‬م‪.‬‬
‫‪ -81‬ماكس فيرب‪ :‬رجل العلم ورجل السياسة‪ ،‬تر ة‪ :‬نادر ذكرى‪ ،‬عن الفلسفة‬
‫احلديثة‪ ،‬لعبد السالم بنعبد العايل وحممد سبيال‪ ،‬دار األمان‪ ،‬الرباط‪ ،‬املغر ‪،‬‬
‫الطبعة األوىل سنة ‪0880‬م‪.‬‬
‫‪ -86‬جمموعة من املتلفني السوسيولوجيني‪ :‬قراءة معاصرة في نظريات علم‬
‫االجتماع‪ ،‬تر ة‪ :‬مصطفى خلف عبد اجلواد‪ ،‬مطبوعات مركي البحوث والراسات‬
‫االجتماعية‪ ،‬كلية اادا ‪ ،‬جامعة القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬طبعة ‪2112‬م‪.‬‬
‫‪ -87‬حممد حامد يوسف‪ :‬علم االجتماع‪ :‬النشأة والمجاالت‪ ،‬املكتب العلمي‬
‫للنشر والتوزيع‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،‬مصر‪ ،‬طبعة ‪0881‬م‪.‬‬
‫‪ -83‬حممد الرضوا ‪ :‬مدخل إلى علم السياسة‪ ،‬سلسلة بدالل قانونية وسياسية‬
‫رقم ‪ ،8‬الطبعة األوىل سنة ‪2102‬م‪.‬‬
‫‪ -88‬حممد عابد اجلابري وآخران‪ :‬دروس الفلسفة‪ ،‬دار النشر املغربية‪،‬‬
‫الدارالبيضاء‪ ،‬املغر ‪ ،‬طبعة ‪0870‬م‪.‬‬

‫‪262‬‬
‫‪ -21‬حممد عابد اجلابري‪ :‬فكر ابن خلدون‪ :‬العصبية والدولة معالم نظرية‬
‫خلدونية في التاريخ اإلسالمي‪ ،‬دار النشر املغربية‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬املغر ‪ ،‬الطبعة‬
‫الرابعة ‪0832‬م‪.‬‬
‫‪ -20‬حممد عابد اجلباري‪ :‬نحن والتراث‪ ،‬املركي الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫الطبعة اخلامسة ‪0836‬م‪.‬‬
‫‪ -22‬حممد عابد اجلابري‪ :‬من دروس الفلسفة والفكر اإلسالمي‪ ،‬دار النشر‬
‫املغربية‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬املغر ‪ ،‬الطبعة األوىل سنة ‪2101‬م‪.‬‬
‫‪ -28‬حممد سعيد فرو‪ :‬ما‪...‬علم االجتماع؟‪ ،‬منشأة املعارف باإلسكندرية‪ ،‬مصر‪،‬‬
‫الطبعة األوىل سنة ‪2102‬م‪.‬‬
‫‪ -22‬حممد حممد أمييان‪ :‬منهج البحث االجتماعي بين الوضعية والمعيارية‪،‬‬
‫منشورات املعهد العاملي للفكر اإلسالمي‪ ،‬فريجينيا‪ ،‬الواليات املتحدة األمريكية‪،‬‬
‫الطبعة األوىل سنة ‪0880‬م‪.‬‬
‫‪ -21‬حممد ياسر اخلواجة‪ :‬علم االجتماع االقتصادي بين النظرية والتطبيق‪،‬‬
‫األهايل للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬دمشق‪ ،‬سورية‪ ،‬الطبعة األوىل سنة‪0883‬م‪.‬‬
‫‪ -26‬حممد ياسر اخلواجة وحسني الدريين‪ :‬المعجم الموجز في علم االجتماع‪،‬‬
‫مصر العربية للنشر والوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة األوىل سنة ‪2100‬م‪.‬‬
‫‪ -27‬حممود عودة‪ :‬أسس علم االجتماع‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫د‪.‬ت‪.‬‬
‫‪ -23‬مهدي عامل‪ :‬في علمية الفكر الخلدوني‪ ،‬دار الفارايب‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫طبعة ‪0831‬م‪.‬‬
‫‪ -28‬موريس دوفرجيه‪ :‬علم اجتماع السياسة‪ ،‬تر ة‪ :‬سليم حداد‪ ،‬املتسسة‬
‫اجلامعية للدراسات والنشر والتوزيع‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة الثانية ‪2110‬م‪.‬‬

‫‪263‬‬
‫‪ -11‬ناصيف نصار‪ :‬الفكر الواقعي عند ابن خلدون تفسير تحليلي وجدلي‬
‫لفكر ابن خلدون في بنيته ومعناه‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل سنة‬
‫‪0830‬م‪.‬‬
‫‪ -10‬نبيل السمالوطي‪ :‬اإليديولوجيا وأزمة علم االجتماع المعاصر‪ :‬دراسة‬
‫تحليلية للمشكالت النظرية والمنهجية‪،‬اهليئة املصرية العامة للكتا ‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫مصر‪ ،‬طبعة ‪0871‬م‪.‬‬
‫‪ -12‬نقوال تيماشيف‪ :‬نظرية علم االجتماع‪ :‬يبيعتها وتطورها‪ ،‬تر ة‪ :‬حممود‬
‫عودة وزمالله‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬الطبعة اخلامسة‪0873 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -18‬وسيلة خيار‪ :‬اإليدولوجيا وعلم االجتماع‪ ،‬جدلية االنفصال واالتصال‪،‬‬
‫منتدى املعارف‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل سنة ‪2108‬م‪.‬‬

‫المراجع األجنبية‪:‬‬

‫‪54- Catherine Colliot-Thélène: la sociologie de‬‬


‫‪Max Weber, La découverte, Paris, France, 2006.‬‬
‫‪55-C.Wright Mills: L’élite du Pouvoir, Éditions‬‬
‫‪Agone, coll. « L'ordre des choses », 2012.‬‬
‫‪56-Edgar Morin: Sociologie, Fayard, Le Seuil,‬‬
‫‪Points, Essais, 1984.‬‬
‫‪57-Émile Durkheim: Les Règles de la méthode‬‬
‫‪sociologique, Paris, Alcan.0381.‬‬

‫‪264‬‬
58-Émile Durkheim: Le Suicide: Étude de
sociologie, Paris, Presses universitaires de France,
coll. « Quadrige » (no 19), 1981.
59- Émile. Durkheim: Les formes élémentaires
de la vie religieuse, Presses Universitaires de
France, 5e édition, 2003.
60-Georg Simmel: Über sociale Differenzierung
(1890).
61-Georg Simmel: Philosophie de l'argent,
traduit par Sabine Cornille et Philippe Ivernel
P.U.F., Paris, 1987.
62-Georg Simmel: Sociologie et épistémologie,
P.U.F. 1981, 1989.
63- Georg Simmel: Les Pauvres, P.U.F. 1998.
64- Georg Simmel: Sociologie, étude sur les
formes de la socialisation, P.U.F., 1999.
65- Georg Simmel: Secret et sociétés secrètes,
Circé, 1991.
66-Georg Simmel: La Sociologie et l’Expérience
du monde social, Méridiens Klincksieck, 1986.
67-Georg Simmel: La Parure, MSH, 1998.

265
68-Georg Simmel: Esthétique sociologique,
MSH, 2007.
69- Georg Simmel: Le Pauvre, Allia, 2009.
70- Georg Simmel: Psychologie des femmes,
Payot, 2013.
71- Georg Simmel: Philosophie de la mode,
Allia, 2013.
72- Georg Simmel: Philosophie de l'aventure,
L'Arche, 2002.
73-Georg Simmel: Le Problème de la sociologie
et autres textes, éditions du Sandre, 2006.
74-Jacqueline Russ:Les théories du pouvoir,
Librairie Générale française, Coll.Poche, 1944.
75-Jean Claude Babier: Initiation à la sociologie,
éd.Erasme, France, 1990.
76-J.Freund:Philosophie et sociologie,
Cabay,1984.
77-M.Giacobbi, J.P.Roux:Initiation à la
sociologie, Hatier, Paris,1996.
78-Max Weber: L'Éthique protestante et l'esprit
du capitalisme (1904-1905), traduction par Jacques
Chavy, Plon, 1964 ; nouvelles traductions par

266
Isabelle Kalinowski, Flammarion 2000; Jean-Pierre
Grossein, Gallimard 2003.
79-Max weber: Le Judaïsme antique (1917-
1918), traduction par Freddy Raphaël, Plon, 1970.
80-Max weber: Sociologie des religions (choix de
textes et traduction par Jean-Pierre Grossein),
Gallimard, 1996.
81- Max Weber: Economie et société,
introduction de Hinnerk Bruhns, traduction par
Catherine Colliot-Thélène et Françoise Laroche, La
Découverte, 1998.
82-Max Weber:Le savant et le politique, Plon
10/18, 1979.
83-Max weber: Confucianisme et Taoïsme
(1916), traduction par Catherine Colliot-Thélène et
Jean-Pierre Grossein, Gallimard, 2000.
84-Max weber: Hindouisme et Bouddhisme
(1916), traduction par Isabelle Kalinowski et Roland
Lardinois, Flammarion, 2003.
85-Passeron J.C, « Weber et Pareto: La rencontre de
la rationalité dans l’analyse sociologique » in: L.A.
Gerard-Varet, J.-C. Passeron (sous la direction de),
Le modèle et l’enquête. Les usages du principe

267
de rationalité dans les sciences sociales, Paris,
Ed. De l’E.H.E.S.S. 1995.
86- Max weber: Sociologie des religions (choix
de textes et traduction par Jean-Pierre Grossein),
Gallimard, 1996.
87- Norbert Elias: La Société de cour (texte
intégral) et Sociologie et histoire (inédit en
français), Flammarion, 1985, puis Calmann-Lévy,
1994 (préface de Roger Chartier, traduction de
Pierre Kamnitzer et Jeanne Etoré).
88- Norbert Elias: Qu'est-ce que la sociologie ?
Pandora, 1981, puis Pocket, 2003 (traduction de
Yasmin Hoffman)
89- Norbert Elias: Sport et civilisation: la
violence maîtrisée (avec Eric Dunning), Fayard,
1994, puis Pocket, 1998 (avant-propos de Roger
Chartier, traduction de Josette Chicheportiche et
Fabienne Duvigneau).
90- Norbert Elias: Mozart: sociologie d'un
génie, inachevé, Seuil, 1991 (traduction de Jeanne
Etoré et Bernard Lortholary).
91- Norbert Elias: Au-delà de Freud: sociologie,
psychologie, psychanalyse, La Découverte, 2010

268
(présentation de Marc Joly, postface de Bernard
Lahire, traduction de Nicolas Guilhot, Marc Joly et
Valentine Meunier).
92- Norbert Elias: Engagement et distanciation:
contribution à la sociologie de la connaissance,
Fayard, 1993, puis Pocket, 1998 (avant-propos de
Roger Chartier, traduction de Michèle Hulin).
93-Quentin Deluermoz (sous la direction de):
Norbert Elias et le XXe siècle, Perrin, 2012.
Pièrre Ansart:Saint-Simon, Collection SUP
pholosophes, 1édition, PUF, Paris1969.
94- Pierre Bréchier: Les grands courants de la
sociologie, PUF, 2000.
95- Pierre Bourdieu, Choses dites, Paris, Les
Éditions de Minuit, coll. « Le sens commun »,
1987.
96- Bourdieu (Pierre), Questions de sociologie,
édition originale de Minuit, Paris, 1984, Cérès
Productions Tunis, 1993.
97-Pierre Bourdieu et Jean-Claude Passeron, Les
héritiers: les étudiants et la culture, Paris, Les
Éditions de Minuit, coll. « Grands documents »
(no 18), 1964.

269
93- Pierre Bourdieu, La Domination masculine,
Paris, Le Seuil, 1998, coll. Liber.
88-Pierre Bourdieu et Loïc Wacquant, Réponses:
pour une anthropologie réflexive, Paris, Seuil,
1992.
101-Pierre Bourdieu, Sur la télévision suivi de
L'emprise du journalisme, Paris, Liber,
coll. « Raisons d'agir », 1996.
100- Pierre Bourdieu, La Distinction. Critique
sociale du jugement, Les Éditions de Minuit,
1979.
102-Pierre Bourdieu: Question de sociologie,
Minuit, 1984.
108-R. Aron, Les étapes de la pensée
sociologique, collection Tel, Gallimard, 1967,
102- R. Aron, La Sociologie allemande
contemporaine, PUF, 2007.
101-Salvador Giner: Sociologia,
EdicionesPeninsula, Barcelona, Espaňa, 1979.
106-Vilfredo Pareto: Cours d'économie
politique, Lausanne, F. Rouge, 1896–97 (2
volumes).

271
107-Vilfredo Pareto: Les systèmes socialistes.
Cours professé à l'Université de Lausanne, Paris, V.
Giard & E. Brière, "Bibliothèque Internationale
d'Économie Politique", 1902-03 (2 volumes).
103-Vilfredo Pareto: Manuel d'économie
politique. Traduit sur l'édition italienne par Alfred
Bonnet (revue par l'auteur), Paris, V. Giard & E.
Brière, 1909.
118-Vilfredo Pareto: Écrits sur la courbe de la
répartition de la richesse, Genève, Librairie Droz,
1965 (réunis et présentés par Giovanni Busino).
111-Vilfredo Pareto: Traité de sociologie
générale: édition française par Pierre Boven, revue
par l'auteur. Préface de Raymond Aron, Genève,
Librairie Droz, 1968.
110-Vilfredo Pareto: Trattato di sociologia
generale, Firenze, G. Barbéra, 1916.

:‫المقاالت‬

،‫ مجلة دراسات تاريخية‬،)‫ (ابن خلدون واملادية التارخيية‬:‫ أمحد ماضي‬-002


.‫م‬0831‫ ديسمرب‬8‫العدد‬

271
‫‪ -008‬حسين إبراهيم عبد العظيم‪ ( :‬اجلسد والطبقة ورأس املال الثقايف‪ :‬قراءة يف‬
‫سوسيولوجيا بيري بورديو)‪،‬إضافات‪ ،‬اجمللة العربية لعلم االجتماع‪ ،‬العدد ‪ ،01‬صيف‬
‫‪.2100‬‬
‫‪ -002‬عبد الرمحن شحشي‪( :‬النخبة مقاربة يف املفهوم)‪ ،‬نخب مغاربية‪:‬‬
‫الخلفيات‪ ،‬المسارت والتأثير‪ ،‬أعمال املنتدى املغاريب الثا ‪ ،‬مطبعة سوماكرام‪،‬‬
‫الدار البيضاء‪ ،‬املغر ‪ ،‬الطبعة األوىل سنة ‪2102‬م‪.‬‬
‫‪ -001‬عبد القادر عرايب‪( :‬قراءة سوسيولوجية يف منهجية ابن خلدون)‪ ،‬الفكر‬
‫االجتماعي الخلدوني‪ ،‬المنهج والمفاهيم واألزمة المعرفية‪ ،‬سلسلة كتب‬
‫املستقبل العريب‪ ،‬مركي دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل‬
‫‪2112‬م‪.‬‬
‫‪ -006‬حممد أمحد اليعيب‪( :‬حول اإلرث السوسيولوجي البن خلدون‪ :‬مدخل‬
‫عام)‪ ،‬الفكر االجتماعي الخلدوني‪ ،‬المنهج والمفاهيم واألزمة المعرفية‪ ،‬سلسلة‬
‫كتب املستقبل العريب‪ ،‬مركي دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل‬
‫‪2112‬م‪.‬‬
‫‪ -007‬حممد عييي احلبايب‪( :‬الدينامية احملركة للتاريخ عند ابن خلدون)‪ ،‬تر ة‪:‬‬
‫فاطمة اجلامعي احلبايب‪ ،‬الفكر االجتماعي الخلدوني‪ ،‬المنهج والمفاهيم واألزمة‬
‫المعرفية‪ ،‬سلسلة كتب املستقبل العريب‪ ،‬مركي دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل ‪2112‬م‪.‬‬
‫‪ -003‬حممود الذوادي (أضواء على مفهوم الطبيعة البشرية يف الفكر اخللدو )‪،‬‬
‫الفكر االجتماعي الخلدوني‪ ،‬المنهج والمفاهيم واألزمة المعرفية‪ ،‬سلسلة كتب‬
‫املستقبل العريب‪ ،‬مركي دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل‬
‫‪2112‬م‪.‬‬

‫‪272‬‬
‫‪ -008‬املنصف وناس‪ ( :‬املنظومة االصطالحية اخللدونية‪ :‬مقاربة نظرية للمصطلح‬
‫عند ابن خلدون)‪ ،‬الفكر االجتماعي الخلدوني‪ ،‬المنهج والمفاهيم واألزمة‬
‫المعرفية‪ ،‬سلسلة كتب املستقبل العريب‪ ،‬مركي دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل ‪2112‬م‪.‬‬

‫‪273‬‬
‫السيرة الذاتية‪:‬‬

‫‪ -‬يل محداوي من مواليد مدينة الناظور (املغر )‪.‬‬


‫‪ -‬حاصل على دبلوم الدراسات العليا سنة ‪0886‬م‪.‬‬
‫‪ -‬حاصل على دكتوراه الدولة سنة ‪2110‬م‪.‬‬
‫‪ -‬حاصل على إجازتني‪:‬األوىل يف األد العريب‪ ،‬والثانية يف الشريعة والقانون‪.‬‬
‫‪ -‬أستاذ التعليم العايل باملركي اجلهوي ملهن المبية والتكوين بالناظور‪.‬‬
‫‪ -‬أستاذ األد العريب‪ ،‬ومناهج البحث المبوي‪ ،‬واإلحصاء المبـوي‪ ،‬وعلـوم المبيـة‪،‬‬
‫والمبية الفنية‪ ،‬واحلضارة األمازيغية‪ ،‬وديداكتيك التعليم األويل‪...‬‬
‫‪-‬أديب ومبدع وناقد وباحث‪ ،‬يشتغل ضمن رؤية أكادميية موسوعية‪.‬‬
‫‪ -‬حص ــل عل ــى ج ــالية متسس ــة املثق ــف الع ــريب (سيد ‪/‬أسـ ـماليا) لع ــام ‪2100‬م يف‬
‫النقد والدراسات األدبية‪.‬‬
‫‪ -‬حاصل على جالية ناجي النعمان األدبية سنة‪2102‬م‪.‬‬
‫‪ -‬رليس الرابطة العربية للقصة القصرية جدا‪.‬‬
‫‪ -‬رليس املهرجان العريب للقصة القصرية جدا‪.‬‬
‫‪ -‬رليس اهليئة العربية لنقاد القصة القصرية جدا‪.‬‬

‫‪274‬‬
‫‪ -‬رليس اهليئة العربية لنقاد الكتابة الشذرية ومبدعيها‪.‬‬
‫‪ -‬رليس عية اجلسور للبحث يف الثقافة والفنون‪.‬‬
‫‪ -‬رليس خمترب املسرو األمازيغي‪.‬‬
‫‪ -‬عضو اجلمعية العربية لنقاد املسرو‪.‬‬
‫‪-‬عضو رابطة األد اإلسالمي العاملية‪.‬‬
‫‪ -‬عضو احتاد كتا العر ‪.‬‬
‫‪-‬عضو احتاد كتا اإلنمنت العر ‪.‬‬
‫‪-‬عضو احتاد كتا املغر ‪.‬‬
‫‪ -‬من منظري فن القصة القصرية جدا وفن الكتابة الشذرية‪.‬‬
‫‪ -‬خبري يف البيداغوجيا والثقافة األمازيغية‪.‬‬
‫‪ -‬تر ت مقاالته إىل اللغة الفرنسية واللغة الكردية‪.‬‬
‫‪ -‬شــارت يف مهرجانــات عربيــة عــدة يف كــل مــن‪ :‬اجليالــر‪ ،‬وتــونس‪ ،‬ومصــر‪ ،‬واألردن‪،‬‬
‫والسعودية‪ ،‬والبحرين‪ ،‬والعراق‪ ،‬واإلمارات العربية املتحدة‪...،‬‬
‫‪ -‬مستشار يف جمموعة من الصحف واجملالت واجلرالد والدوريات الوطنية والعربية‪.‬‬
‫‪ -‬نشــر العديــد مــن املقــاالت الورقيــة احملكمــة وغــري احملكمــة‪ ،‬وعــددا ال حيصــى مــن‬
‫املقاالت الرقمية‪ .‬وله (‪ )002‬كتا ‪ ،‬وأكثر من ستني كتابا رقميا منشورا‪.‬‬
‫‪ -‬ومن أهم كتبه‪ :‬الشذرات بني النظرية والتطبيق‪ ،‬والقصـة القصـرية جـدا بـني التنظـري‬
‫والتطبيــق‪ ،‬والروايــة التارخييــة‪ ،‬تصــورات تربويــة جديــدة‪ ،‬واإلســالم بــني احلداثــة ومــا بعــد‬
‫احلداثــة‪ ،‬وجمــيءات التكــوين‪ ،‬ومــن ســيميوطيقا الــذات إىل ســيميوطيقا التــوتر‪ ،‬والمبيــة‬
‫الفنية‪ ،‬ومدخل إىل األد السعودي‪ ،‬واإلحصـاء المبـوي‪ ،‬ونظريـات النقـد األديب يف‬
‫مرحلــة مابعــد احلداثــة‪ ،‬ومقومــات القصــة القصــرية جــدا عنــد ــال الــدين اخلضــريي‪،‬‬
‫وأنـ ـواع املمث ــل يف التي ــارات املس ــرحية الغربي ــة والعربي ــة‪ ،‬ويف نظري ــة الرواي ــة‪ :‬مقارب ــات‬
‫جديدة‪ ،‬وأنطولوجيا القصة القصرية جدا باملغر ‪ ،‬والقصيدة الكونكريتية‪ ،‬ومن أجـل‬

‫‪275‬‬
‫تقني ــة جدي ــدة لنق ــد القص ــة القص ــرية ج ــدا‪ ،‬والس ــيميولوجيا ب ــني النظري ــة والتطبي ــق‪،‬‬
‫واإلخـراج املســرحي‪ ،‬ومــدخل إىل الســينوغرافيا املســرحية‪ ،‬واملســرو األمــازيغي‪ ،‬ومســرو‬
‫الش ــبا ب ــاملغر ‪ ،‬وامل ــدخل إىل اإلخ ـ ـراج املس ــرحي‪ ،‬ومس ــرو الطف ــل ب ــني الت ــأليف‬
‫واإلخ ـ ـراج‪ ،‬ومسـ ــرو األطفـ ــال بـ ــاملغر ‪ ،‬ونصـ ــوص مسـ ــرحية‪ ،‬ومـ ــدخل إىل السـ ــينما‬
‫املغربية‪ ،‬ومناهج النقد العريب‪ ،‬واجلديد يف المبية والتعلـيم‪ ،‬وببليوغرافيـا أد األطفـال‬
‫بــاملغر ‪ ،‬ومــدخل إىل الشــعر اإلســالمي‪ ،‬واملــدارس العتيقــة بــاملغر ‪ ،‬وأد األطفــال‬
‫بــاملغر ‪ ،‬والقصــة القصــرية جــدا باملغر ‪،‬والقصــة القصــرية جــدا عنــد الســعودي علــي‬
‫حسن البطران‪ ،‬وأعالم الثقافة األمازيغية‪...‬‬
‫‪ -‬عنـ ـ ـوان الباح ـ ــث‪ :‬ي ـ ــل مح ـ ــداوي‪ ،‬ص ـ ــندوق الربي ـ ــد‪ ،0788‬الن ـ ــاظور‪،62111‬‬
‫املغر ‪.‬‬
‫‪ -‬اهلاتف النقال‪1672812883:‬‬
‫‪ -‬اهلاتف املنييل‪1186888233:‬‬
‫‪ -‬اإلمييل‪Hamdaouidocteur@gmail.com:‬‬
‫‪Jamilhamdaoui@yahoo.fr‬‬

‫‪276‬‬
‫الغالف الخارجي‪:‬‬
‫يهدف كتابنا (أسس علم االجتماع ) إىل تعريف القراء والطلبة بعلم االجتماع‪،‬‬
‫وتبيان مكوناته املنهجية‪ ،‬واستكشاف عالقته بباقي املعارف والعلوم اإلنسانية‬
‫األخرى‪ ،‬ورصد املراحل التارخيية اليت مر هبا علم االجتماع‪ ،‬وحتديد خمتلف القضايا‬
‫اليت كان يطرحها‪ ،‬واستجالء املنهجية املعتمدة يف ذلك‪.‬‬
‫ومن جهة أخرى‪ ،‬فقد توقفنا عند جمموعة من األعالم الذين سامهوا يف إغناء علم‬
‫االجتماع‪ ،‬بالتوقف عند أطروحاهتم السوسيولوجية‪ ،‬وإبراز أهم املفاهيم‬
‫اإلبستمولوجية اليت اعتمدوا عليها يف التحليل والعرض والتقومي‪ ،‬مع تبيان خمتلف‬
‫املقاربات واملنهجيات اليت متثلوها يف دراسة الظواهر اجملتمعية‪ .‬لذلك‪ ،‬توقفنا عند‬
‫ابن خلدون‪ ،‬وسان سيمون‪ ،‬وهربرت سبنسر‪ ،‬وأوجست كونت‪ ،‬وإميل دوركامي‪،‬‬
‫وكارل ماركس‪ ،‬وماكس فيرب‪ ،‬وفيلفريدو باريتو‪ ،‬ونوربرت إلياس‪ ،‬وبيري بورديو‪...‬‬

‫‪277‬‬
‫احملتويات‬
‫اإلهداء‪8 ..................................................................‬‬
‫املقدمة ‪2 ..................................................................‬‬
‫مفهوم علم االجتماع ‪6 .....................................................‬‬
‫ابن خلدون املتسس األول لعلم االجتماع ‪07 .................................‬‬
‫املبحث األول‪ :‬التصور النظري ‪08 ...........................................‬‬
‫املبحث الثا ‪ :‬التصور املنهجي ‪22 ..........................................‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬هل ابن خلدون عام اجتماع؟ ‪10 ............................‬‬
‫املبحث الرابع‪ :‬قراءات يف الماث اخللدو ‪12 .................................‬‬
‫املبحث اخلامس‪ :‬نقد وتقومي ‪61 .............................................‬‬
‫سان سيمون والفيييولوجيا االجتماعية ‪63 .....................................‬‬
‫أوجست كونت والتفسري الوضعي ‪78 ........................................‬‬
‫إميل دوركامي املتسس الفعلي لعلم االجتماع ‪31 ...............................‬‬
‫هربرت سبنسر واملماثلة العضوية ‪33 ..........................................‬‬
‫املطلب األول‪ :‬مفهوم النظرية العضوية ‪38 ....................................‬‬
‫املطلب الثا ‪ :‬سياق العضوية ‪81 ............................................‬‬
‫املطلب الثالث‪ :‬التصور النظري واملنهجي‪80 ..................................‬‬
‫املطلب الرابع‪ :‬نقد وتقومي ‪86 ...............................................‬‬
‫كارل ماركس واملادية التارخيية ‪83 ............................................‬‬
‫املطلب األول‪ :‬مفهوم النظرية املاركسية ‪88 ....................................‬‬
‫املطلب الثا ‪ :‬سياقها التارخيي ‪88 ...........................................‬‬
‫املطلب الثالث‪ :‬التصور النظري ‪010 ........................................‬‬

‫‪278‬‬
‫املطلب الرابع‪ :‬التصور املنهجي ‪011 .........................................‬‬
‫ماكس فيرب وسوسيولوجيا الفهم ‪002 ........................................‬‬
‫املبحث األول‪ :‬األجواء الثقافية اليت عاش فيها ماكس فيرب ‪008 ................‬‬
‫املبحث الثا ‪ :‬تعريف السوسيولوجيا ‪006 ....................................‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬موضوع السوسيولوجيا ‪021 ..................................‬‬
‫املبحث الرابع‪ :‬التصور املنهجي ‪022 ........................................‬‬
‫املبحث اخلامس‪ :‬النمط املثايل أساس الفهم ‪082 .............................‬‬
‫املبحث السادس‪ :‬أمناط الفعل االجتماعي ‪081 ...............................‬‬
‫املبحث السابع‪ :‬السوسيولوجيا السياسية ‪087 ................................‬‬
‫املطلب األول‪ :‬العنف املشروع أو املربر ‪087 ..................................‬‬
‫املطلب الثا ‪ :‬أشكال السلطة واهليمنة ‪021 ..................................‬‬
‫املبحث الثامن‪ :‬ماكس فيرب وسوسيولوجيا اإلدارة ‪028 .........................‬‬
‫املبحث التاسع‪ :‬سوسيولوجيا األديان ‪018 ...................................‬‬
‫املبحث العاشر‪ :‬تلقي أفكار ماكس فيرب ‪016 ................................‬‬
‫املبحث احلادي عشر‪ :‬تقومي أفكار ماكس فيرب‪017 ...........................‬‬
‫جورج زميل والسوسيولوجيا التفاعلية ‪060 .....................................‬‬
‫املطلب األول‪ :‬التصور النظري ‪062 .........................................‬‬
‫املطلب الثا ‪ :‬التصور املنهجي‪070 .........................................‬‬
‫املطلب الثالث‪ :‬االنتقادات ‪072 ............................................‬‬
‫فيلفريدو باريتو ‪073 .......................................................‬‬
‫وسوسيولوجيا التوازن اجملتمعي ‪073 ..........................................‬‬
‫املطلب األول‪ :‬التصور النظري ‪031 .........................................‬‬
‫املطلب الثا ‪ :‬التصور املنهجي‪217 .........................................‬‬

‫‪279‬‬
‫املطلب الثالث‪ :‬تعليق وتقومي‪213 ...........................................‬‬
‫نوربريت إلياس السوسيولوجي املنسي ‪208 ....................................‬‬
‫املطلب األول‪ :‬مفهوم السوسيولوجيا ‪201 ....................................‬‬
‫املطلب الثا ‪ :‬املنهجية السوسيولوجية‪206 ...................................‬‬
‫املطلب الثالث‪ :‬التصورات السوسيولوجية ‪203 ................................‬‬
‫املطلب الرابع‪ :‬نقد وتعليق ‪221 .............................................‬‬
‫املفاهيم السوسيولوجية عند بيري بورديو ‪280 ..................................‬‬
‫املبحث األول‪ :‬مفهوم السوسيولوجيا ‪282 ....................................‬‬
‫املبحث الثا ‪ :‬املنهجية السوسيولوجية ‪286 ..................................‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬املفاهيم السوسيولوجية ‪283 .................................‬‬
‫املطلب الثا ‪ :‬العنف الرميي‪220 ...........................................‬‬
‫املطلب الثالث‪ :‬مفهوم التميي ‪222 ..........................................‬‬
‫املطلب الرابع‪ :‬مفهوم اهلابيتوس ‪226 ........................................‬‬
‫املطلب اخلامس‪ :‬مفهوم احلقل ‪218 .........................................‬‬
‫املطلب السادس‪ :‬مفهوم الرأمسال ‪218 .......................................‬‬
‫اخلامتة ‪217 ...............................................................‬‬
‫ثبت املصادر واملراجع ‪218 .................................................‬‬

‫‪281‬‬

You might also like