You are on page 1of 302

‫تــوياـــــم د مـــــاي‬

‫مقةةدمة لفلةةسفةة‬

‫ﭼةةةيل دولةةةوز‬

‫سةةان‬
‫ترجمة أحمد ح ّ‬

‫‪1‬‬
‫كلمة ظهر الغالف‬

‫مقةدمةةةةة لفلسفة‬
‫ﭼةةةيل دولةةةةوز‬
‫يقدم هذا الكتاب مدخال ً سهل القراءة ويستحوذ على‬
‫االهتمام لعمل واحد ٍ من أهم مفكري القرن العشرين‬
‫وأشدهم استعصاءً‪ .‬حاولت الكتب األخرى شرح دولوز بوجهٍ‬
‫سؤال محوري في قلب‬ ‫ٍ‬ ‫ما تود ماي فينظّم كتابه حول‬‫عام‪ .‬أ ّ‬
‫فلسفة دولوز‪ :‬كيف يمكن أن يحيا المرء؟ ثم يمضي‬
‫المؤلف ليوضح كيف يقدّم دولوز رؤية للكون باعتباره شيئا ً‬
‫حيّا ً يزوّدنا بطرق إلدارة حياتنا ربما لم نكن لنحلم بها‪ .‬ومن‬
‫خالل هذه المقاربة تتم تغطية المدى الكامل لفلسفةة دولوز‪.‬‬

‫جلي لفلسفةٍ بالغة التقنية‪ ،‬ستلقى مقدمة تود‬


‫ّ‬ ‫بتقديم تقرير‬
‫ماي جمهورا واسعا بين من ينتمون إلى الفلسفة‪ ،‬والعلم‬
‫السياسي‪ ،‬والدراسات الثقافية‪ ،‬والدراسات الفرنسية‪.‬‬

‫تود ماي هو أستاذ الفلسفة في قسم الفلسفة والديانة في‬


‫جامعة كليمسون بجنوب كاليفورنيا‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫هذه ترجمة كاملة لكتاب‬
Gilles Deleuze, an Introduction
‫بقلم‬
Todd May
‫الصادر عن‬
Cambridge University Press, 2005

3
‫اإلهداء‬
‫إلى كونستانتين بونداس ‪Constantin Boundas‬‬
‫امتنانا لصبره وسخائه‬

‫‪4‬‬
‫فهرتايوتحملا س المحتويات‬

‫إعترالضفلاب ف بالفضل‬

‫كي؟ءرملا ايحي نأ نكمي ف يمك؟ءرملا ايحي نأ ن أ؟ءرملا ايحي ن يحيا المرء؟‬ ‫‪1‬‬
‫سبينوزاسدقملا ثولاثلا ‪:‬هشتينو ‪ ،‬وبرجسو؟ءرملا ايحي نسدقملا ثولاثلا ‪:‬هشتينو ‪ ،‬ونيتشسدقملا ثولاثلا ‪:‬ه‪ :‬الثالوسدقملا ث المقدتايوتحملا س‬ ‫‪2‬‬
‫الفكرسدقملا ثولاثلا ‪:‬هشتينو ‪ ،‬والعلمسدقملا ثولاثلا ‪:‬هشتينو ‪ ،‬واللغة‬ ‫‪3‬‬
‫سياسة االختاللضفلاب ف‬ ‫‪4‬‬
‫حيوات‬ ‫‪5‬‬

‫المزيد م؟ءرملا ايحي نأ ن القراءات‬


‫المراجع‬

‫‪5‬‬
‫إعتراف بالفضل‬

‫أود أن أشكر جاري جوتينج ‪ ، Gary Gutting‬الذي‬


‫مهّد الطريق لهذا الكتاب‪ .‬أما تيرينس مور ‪Terence‬‬
‫‪ ، Moore‬وستيفانية آشارد ‪، Stephanie Achard‬‬
‫وسالي نيكولز ‪ ، Sally Nicholls‬في مطبعة جامعة‬
‫كيمبريدج‪،‬ة فكان العمل معهم متعة‪ .‬وقد قدّم ثالثة‬
‫مراجعين مجهولين في المطبعةة اقتراحاتة مهمة‪:‬‬
‫وأرجو أال ّ أكون قد خنت جهودهم في مراجعاتي‪.‬‬
‫وبعض الصفحات عن العلم في الفصل الثالث هي‬
‫مراجعات لمقال‪" ،‬دولوز‪ ،‬واالختالف‪ ،‬والعلم‪ "،‬الذي‬
‫ظهر في مجلد من تحريرة جاري جوتينج‪ ،‬هو الفلسفة‬
‫القارية والعلم ‪Continental Philosophy and‬‬
‫‪ ، Science‬الذي نشرته دار بازيل بالكويل ‪Basil‬‬
‫‪6‬‬
‫‪ Blackwell‬عام ‪ .2004‬وأنا أقدر سماحهم بتعديل‬
‫وإعادة طبع تلك الصفحات‪.‬‬

‫‪1‬‬

‫كيف يمكن أن يحيا المرء؟‬

‫‪I‬‬
‫كيف يمكن أن يحيا المرء؟‬

‫ل غريب‪ ،‬بمعنى من المعاني؛ سؤا ٌ‬


‫ل ال نسأله‬ ‫إنه لسؤا ٌ‬
‫ألنفسنا كثيرا‪ .‬إننا ننهض في الصباح‪ ،‬نغسل أسناننا‪ ،‬نزحف‬
‫‪7‬‬
‫لندخل مالبسنا‪ ،‬ثم نحرق أيامنا كأن من المستحيلة أن نحيا‬
‫بأية طريقةٍ أخرى‪ ،‬كأن هذه الحياة بالتحديد هي الوحيدة‬
‫التي يمكن أن نحياها‪ .‬كأن الكون قد تم تشييده بحيث‬
‫يتطلّب أن تتفتح حيواتنا بهذه الطريقة وليس بأية طريقة‬
‫غيرها‪.‬‬

‫ة‬
‫بالطبع ليس هذا ما نقوله ألنفسنا‪ .‬فحكاياتنا ممتلئ ٌة‬
‫واتجاهات من‬
‫ٍ‬ ‫سات‬ ‫طرق ومما ّ‬
‫ٍ‬ ‫دوما بالخيارات‪ ،‬بمفترقات‬
‫سرديات حيواتنا‪ ،‬حين نرويها ألنفسنا أو‬‫ُ‬ ‫صنعنا نحن‪.‬‬
‫أنواع معينةة من المستقبل واحتضان‬ ‫ٍ‬ ‫ة بةنبذ‬
‫مشبَّع ٌة‬‫لآلخرين‪ُ ،‬‬
‫ل واحد ٍ منا بشكل فريد ألن ك َّ‬
‫ل‬ ‫أخرى‪ ،‬بتشييد عالم ٍ يخص ك َّ‬
‫واحد ٍ منا قد اختاره‪ .‬لكن هل هكذا نحيا؟ هل هكذا تصبح‬
‫مخيِّبة لآلمال‬‫ة غالبا‪ ،‬القابلة للتنبؤ غالبا‪ ،‬ال ُ‬ ‫حيواتنا‪ ،‬الممتثل ُ‬
‫غالبا‪ ،‬ما هي عليه؟‬

‫كم منا يسألون أنفسهم‪ ،‬ليس مرة وإلى األبد بل‬


‫أوقات مختلفة‪ ،‬كيف يمكن أن يحيا‬ ‫ٍ‬ ‫باستمرار وفي‬
‫المرء؟ كم منا يحتضنونة ذلك السؤال‪ ،‬ليس في حكاياتنا‬
‫فحسب بل كذلك في أفعالنا‪ ،‬ومشروعاتنا‪ ،‬والتزاماتنا؟ كم‬
‫منا يفتحون الباب أمام إمكانية أننا‪ ،‬رغم أن هذا ما نحياه‪،‬‬
‫يمكن أن نحيا بطريقةٍ أخرى؟‬

‫‪II‬‬

‫ل واحد ٍ منا مؤهالًة لطرح هذا السؤال‪.‬‬


‫ربما لم يكن ك ُّ‬
‫ربما‪ ،‬بدال ً من ذلك‪ ،‬كان من نصيب الفلسفة‪ ،‬بوصفها دراس ً‬
‫ة‬
‫‪8‬‬
‫خاصة‪ ،‬أن تتناوله‪ .‬ما معنى الحياة؟ ما أغراضها؟ كيف يجب‬
‫ة‬
‫أن يحيا المرء؟ كيف يمكن أن يحيا المرء؟ هذه أسئل ٌ‬
‫يسألها الفالسفة؛ ويقدمون لنا نتائجهم‪ ،‬ويمكننا‪ ،‬إذا اخترنا‪،‬‬
‫أن نقرأها ونقيِّمها على أساس االستبصارات التي تنطوي‬
‫عليها‪.‬‬

‫نادرا ً ما يسأل الفالسفة هذه األسئلة‪ .‬نادرا ً ما يسألونها‬


‫في عملهم‪ ،‬ويبدو أنهم نادرا ً ما يفعلون خارجه‪.‬‬

‫تاريخي‪ .‬فقد شهد القرن‬


‫ٌ‬ ‫وجزءٌ من السبب في هذا‬
‫العشرون انقسام الفلسفةة الغربية إلى تقليدين متمايزين‪.‬‬
‫ة التحليلية‪،‬‬
‫احتضنتة بريطانيا والواليات المتحدة الفلسف َ‬
‫التي عالجت هذه األسئلة كأنها تقع خارج نطاق الفلسفة‪.‬‬
‫بالنسبةة لبعض من يعملون ضمن هذا التقليد‪ ،‬كان دور‬
‫الفلسفةة هو توضيح حدود ومدى المزاعم العلمية؛ وبالنسبة‬
‫آلخرين‪ ،‬كان هو فهم طبيعة وأداء اللغة‪ .‬وتم النظر إلى‬
‫فكرة أن الفلسفة يمكن أن تتصارع مع أسئلة عيشنا‬
‫باعتبارها نوعا ً من الخلط المفاهيمي‪ .‬على الفلسفة أن‬
‫تتأمل في معرفتنا وفي لغتنا؛ عليها أن تخبرنا كيف تعمالن‪،‬‬
‫أو كيف يجب أن تعمال‪ .‬وتوسيع مهام الفلسفة لتشمل تأمال ً‬
‫فيما يجب أن نكون أو يمكن أن نكون يعني إدخال‬
‫تخصص يسعى إلى‬‫ٍ‬ ‫اهتمامات خارجية‪ ،‬وحتى مشوَّشة‪ ،‬إلى‬
‫ٍ‬
‫تحقيق الصرامة والدقة قبل كل شيء‪.‬‬

‫وقد تغير الوضع التاريخي للفلسفة البريطانية‬


‫واألمريكية خالل األعوام الثالثين المنصرمة‪ .‬ومنذ نشر عمل‬
‫جون رولز ‪ John Rawls‬بعنوان نظرية للعدالة ‪A‬‬

‫‪9‬‬
‫‪ ، Theory of Justice‬أصبح أكثر قبوال ً تقريبا‪ ،‬تمشّ يا مع‬
‫فترات أسبق في الفلسفة‪ ،‬أن نكتب ونفكر في األسئلة‬ ‫ٍ‬
‫األوسع المتعلقة بحيواتنا‪ .‬ارتفع العبء‪ ،‬لكن لم تتم إزاحته‪.‬‬
‫عادات‬
‫ٍ‬ ‫ن من العمل التحليلي‬ ‫يقارب القر َ‬
‫ُ‬ ‫فقد غرس ما‬
‫فلسفيةٍ من الصعب كسرها‪ .‬وما زال من يكتبون عن‬
‫المسائل المعيارية يخاطرون بنيل السخرية ممن يمارسون‬
‫رعب اإلخفاق‬
‫ُ‬ ‫الفلسفةة "الصارمة"؛ وما زال يطاردهم‬
‫التحليلي‪ .‬وغالباً‪ ،‬بدال ً من كبح صرامة الفلسفة التحليليةة‬
‫لتالئم مهمة طرح هذه األسئلة األوسع‪ ،‬األكثر تشوشا‪ ،‬تجري‬
‫التضحيةة باألسئلة ذاتها أو تشويهها من أجل الحفاظ على‬
‫صرامة المنهج‪.‬‬

‫التقليد اآلخر في فلسفة القرن العشرين أصبح يُطلق‬


‫القاري‪ ،‬حيث أنه يُركّز خصوصا على‬ ‫ّ‬ ‫عليه اسم التقليد‬
‫األعمال المكتوبة في فرنسا‪ ،‬وألمانيا‪ ،‬وبدرجة أقل في‬
‫يمكن أن‬
‫ُ‬ ‫ضع أبدا ً سؤا ُ‬
‫ل كيف‬ ‫إيطاليا‪ .‬في هذا التقليد‪ ،‬لم ي َ ِ‬
‫ل أخرى‪.‬‬ ‫يحيا المرءُ‪ ،‬حتى لو حجبته في بعض األوقات مشاغ ُ‬
‫والمفكرون الكبار في هذا التقليد‪ ،‬من مارتين هايدجر مرورا‬
‫بةﭼان ة ﭘول سارتر وموريس ميرلوة ﭘونتي إلى ميشيلة‬
‫فوكوه ويورجين هابرماس‪ ،‬اليبتعدون أبدا ً عن األسئلة حول‬
‫طبيعة وإمكانات عيشنا‪ .‬لكن‪ ،‬هنا في الواليات المتحدة‪،‬‬
‫القاري بدراسة‬ ‫ّ‬ ‫حيث عادة ً ما يقوم الفالسفة ذوي التوجه‬
‫ل من‬ ‫ل إلى التخصص ي َ ُف ُّ‬ ‫أعمال هؤالء المفكرين‪ ،‬هناك مي ٌ‬
‫قوة األسئلة األوسع‪ .‬وربما ألن األكاديميا‪ ،‬في العديد من‬
‫التخصصاتة األخرى‪ ،‬تُقدِّر الفروقَ الصغيرة‪ ،‬واإلنجاز العيني‪،‬‬
‫والنتيجة التراكمية‪ ،‬فإن الكثيرين من الفالسفة ذوي التوجه‬
‫وقت أقل منشغلينة باألسئلة‬ ‫ٍ‬ ‫القاري يميلون إلى قضاء‬‫ّ‬
‫‪10‬‬
‫األكبر التي تبعث الحياة في عمل المفكر‪ .‬وبدال عن ذلك‬
‫ركن صغيرٍ ما من الفكر‪ ،‬في‬ ‫ٍ‬ ‫يصبحون منخرطينة في تفسير‬
‫تقييم دقة تقديم س لتفسيرة ص لبعض الجوانب الهامشية‬
‫مذنب بذلك مثل أيّ واحدٍ من زمالئي‬ ‫ٌ‬ ‫في عمل ع‪( .‬وأنا‬
‫إلى‬
‫ّ‬ ‫ب‬
‫مصوَّ ٌ‬
‫جه هنا ُ‬
‫الفالسفة‪ ،‬ومن ثم فإن أي إصبع اتهام ٍ يُو ّ‬
‫أيضا‪).‬‬

‫وفي هذا الكتاب‪ ،‬أود ُّ أن أقف ضد هذا النزوع وأقدم‬


‫تفسيرا ً لةﭼيل دولوز يظل‪ ،‬حتى حين يض ِفر تفاصيل فكره‪،‬‬
‫منتبها ً لة‪ ،‬ومتوجها ً صوب‪ ،‬السؤال الواحد الذي ال يبتعد أبدا ً‬
‫عن نصوصه‪ :‬كيف يمكن أن يحيا المرء؟ ورغم أن فكره بين‬
‫ة‪ ،‬وحتى غموضاً‪ ،‬فإنه‪،‬‬ ‫أكثرِ أفكارِ المفكرين المحدثين باطني ً‬
‫اشتباك مع ذلك‬
‫ٍ‬ ‫إذا نُظر إليه بصورةٍ صحيحة‪ ،‬ليس سوى‬
‫ة مرضاً‪ ،‬ال‬
‫ة واألصال َ‬
‫ل فضيل ً‬ ‫السؤال‪ .‬في عالم ٍ يعتبر االبتذا َ‬
‫يكف دولوز أبدا ً عن طرح سؤال ما اإلمكانات األخرى التي‬
‫تفتحها الحياة أمامنا‪ ،‬أو ‪ ،‬بتحديد ٍ أكثر‪ ،‬كيف يمكن أن نفكر‬
‫بطرق يمكن أن تفتح مناطق جديدة ً للعيش‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫في األشياء‬
‫يقدر عليه جسدٌ ما‪،‬كما يقول‬ ‫ُ‬ ‫"إننا حتى ال ندري ما‬
‫سبينوزا"‪.1‬‬

‫‪III‬‬

‫سؤال كيف يمكن أن يحيا المرء ليس هو دائما‬


‫ل الذي طرحه في الفلسفة أولئك المهمومون بكيف‬ ‫السؤا ُ‬
‫يمكن أن تمضي حيواتنا‪ .‬إنه سؤا ٌ‬
‫ل نشأ على مدار القرن‬
‫‪11‬‬
‫العشرين في اليقظة التي خلقها مفكرون من أمثال‬
‫فريدريش نيتشه وسارتر‪.‬‬

‫في الفلسفة العتيقة‪ ،‬كان السؤال هو‪ :‬كيف يجب أن‬


‫يحيا المرء؟ إنه سؤال سقراط‪ ،‬كما كتب الفيلسوف‬
‫برنارد ويليامز ‪" . Bernard Williams‬ليس سؤاال ً تافهاً‪،‬‬
‫كما قال سقراط‪ :‬فما نتحدث عنه هو كيف يجب أن يحيا‬
‫المرء‪ 2".‬وينطوي سؤال كيف يجب أن يحيا المرء على‬
‫طريقةٍ معينةة لمقاربة الحياة‪ .‬ينظر إلى الحياة على أن لها‬
‫ل يمكن مقاربته‬ ‫شكالً‪ :‬فالحياة ةة الحياة اإلنسانية ةة هي ك ٌّ‬
‫عن طريق السؤال عن كيف يجب أن تتفتّح‪ .‬ما هو المسار‬
‫الذي يجب أن تأخذه الحياة اإلنسانية؟ ما هي أفضل‬
‫المساعي لكائن إنساني وكيف يجب ترتيب تلك المساعي؟‬
‫ما هو الدور المناسب للكائنات اإلنسانية في الكون؟‬

‫وعلى مدار الفترة الحديثة‪ ،‬تم بالتدريج استبدال سؤال‬


‫بسؤال جديد‪ .‬وبحلول أواخر‬
‫ٍ‬ ‫كيف يجب أن يحيا المرء؟‬
‫القرن الثامن عشر‪ ،‬أخذ الفالسفة من أمثال إيمانويل كانط‬
‫وجيريمي بنتهام يتناولون سؤاال ً مختلفاً‪ .‬فلم يعد االهتمام‬
‫منصبّا ً على كيف يجب أن يحيا المرء‪ ،‬على الشكل الذي‬
‫يجب أن تأخذه حياة المرء‪ .‬اآلن أصبح السؤال هو كيف‬
‫يجب أن يفعل المرء؟‬

‫على السطح‪ ،‬قد يبدو أن سؤال كيف يجب أن يفعل‬


‫المرء هو نفسه سؤال كيف يجب أن يحيا المرء‪ .‬فالمرء‬
‫يحيا من خالل أفعاله‪ ،‬أليس كذلك؟ وإذا كان األمر كذلك‪،‬‬
‫صلة أفعاله‪.‬‬
‫فإن شكل حياة المرء لن يكون أكثر من مح ّ‬
‫‪12‬‬
‫ليس هذان سؤاالن مختلفان‪ ،‬بل إنهما شكالن مختلفان‬
‫لنفس السؤال‪.‬‬

‫المظاهر هنا خادعة‪ .‬ثمة اختالفان بارزان بين السؤال‬


‫الذي يسأله القدماء والسؤال الذي يسأله المحدثون يلويان‬
‫اإلجابات على هذين السؤالين في اتجاهات مختلفة‪ .‬أوالً‪،‬‬
‫بالنسبةة للقدماء‪ ،‬يتم طرح سؤال كيف يجب أن يحيا المرء‬
‫ض وجود نظام كوني [كوزمولوجي]يجب‬ ‫سياق يفتر ُ‬
‫ٍ‬ ‫داخل‬
‫أن تتسق معه الحياة الصالحة‪ .‬فالحياة اإلنسانية ال توجد‬
‫منقطعة الصلة بالمجموع الكوني [الكوزمولوجي] التي هي‬
‫دور تلعبه يجب أن يلتقي مع‪ ،‬أو‬ ‫ٌ‬ ‫جزءٌ ال يتجزأ ضمنه‪ .‬ولها‬
‫مل على األقل‪ ،‬حركة باقي الكون‪ .‬بالنسبة ألفالطون‪،‬‬ ‫يك ّ‬
‫يتمثل هذا الدور في السعي إلى الخير؛ أما بالنسبةة ألرسطو‬
‫ة إنسانية نوعية‪ .‬وال يشك‬ ‫فإنه مسألة أن يحيا المرء غائي ً‬
‫أيهما‪ ،‬كما ال يشك اآلخرون‪ ،‬مثل الرواقيين أو األبيقوريين‪،‬‬
‫في أن للكون نظاما خاصا به‪ ،‬توازنا و شكال ً عاما يجب أن‬
‫تعكسه أو تتمشى معه حيوات الكائنات االنسانية‪.‬‬

‫سياق ينبُذ‬
‫ٍ‬ ‫أما الفلسفة الحديثة فتكتُب ضمن‬
‫جهة لنظام ٍ كوزمولوجي‪ .‬وال يعني هذا أنه ال‬ ‫مو ِّ‬
‫االفتراضات ال ُ‬
‫ة في تشكيل الكون‪.‬‬ ‫ه أو أن اإلله ليست له فاعلي ٌ‬ ‫يوجد إل ٌ‬
‫فآثار عمل الرب تظل بارزة ً في كل مكان‪ .‬إن ما تغيَّر هو‬
‫دور الكائن اإلنساني‪ .‬فلم تعد الحياة اإلنسانية تجد مغزاها‬
‫في نظام ٍ أكبر تُعد ُّ هي جزءا ً منه‪ .‬بل يجري الحكم على‬
‫ل أمام الرب أو أمام القانون‬ ‫الحياة بمزاياها الذاتية‪ .‬وتُسأ َ ُ‬
‫األخالقي‪ ،‬وليس أمام أي نظام ٍ يمكن أن تكون جزءا ً ال‬
‫يتجزأ منه‪ .‬يقف الرجال والنساء وحيدين أمام أفعالهم وأمام‬

‫‪13‬‬
‫القاضي الذي تُقدَّم إليه تلك األفعال‪ .‬وليس ثمة مجموعٌ‬
‫أكبر (أو على األقل ال مجموع أكبر من مجتمع المرء)‬
‫يتطلّب مشاركة المرء‪.‬‬

‫وقد عُرف هذا التغيرة بأنه صعود ُ النزعةة الفردية أو‬


‫كذلك صعود الذات في الفلسفة الحديثة‪.‬‬

‫والتغيُّر الثاني ال ينفصل عن األول‪ .‬ويمكن أن نُطلق‬


‫م وجدت‬ ‫عليه بزوغ الفلسفة الديموقراطية‪ .‬فحيثما وُجد نظا ٌ‬
‫ة في النظام العتيق‪ .‬فليس لكل‬ ‫تراتبية‪ ،‬وهناك تراتبي ٌ‬
‫مكان في النظام الكوزمولوجي فحسب؛ بل له‬ ‫ٌ‬ ‫مخلوق‬
‫كذلك منزلة‪ .‬وتتضمن تلك المنزلة سيطرةً على‬
‫المخلوقات التي تقع أدناه وخضوعا ً لتلك التي فوقه‪ .‬على‬
‫العبيد أن يخضعوا لسادتهم‪ ،‬والنساء ألزواجهن‪ .‬في هذا‬
‫ة متميّزة‬‫النظام‪ ،‬يكون للبشر‪ ،‬خصوصا ً الذكور األحرار‪ ،‬منزل ٌ‬
‫في النظام الكوزمولوجي‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬عليهم بدورهم أن‬
‫يخضعوا للمجموع األكبر للكون نفسه ولتلك العناصر في‬
‫الكون التي تقع فوقهم‪( .‬ويمكن اعتبار الخير لدى أفالطون‬
‫أحد تلك العناصر‪).‬‬

‫إن الحقبة الحديثة‪ ،‬بقطعها حبال مراسيها في نظام ٍ‬


‫سها أيضا من مراتبيات السيطرة‬ ‫تحرر نف َ‬
‫ّ‬ ‫كوزمولوجي‪،‬‬
‫صلة في صلب ذلك النظام‪ .‬تُزيح جانبا ً‬ ‫والخضوع المتأ ّ‬
‫أعلى وأدنى كوزمولوجي‪ .‬النزعة الفردية ليست‬ ‫ً‬ ‫افتراض‬
‫صل في صلب دورٍ‬ ‫مجرد مسألة انفصال المرء التام عن التأ ّ‬ ‫ّ‬
‫ه التام عن المنزلة التي‬ ‫كوزمولوجي؛ بل هي أيضا انفصال ُ‬
‫يُضفيها على المرء شَ غلُه لذلك الدور‪ .‬مع هذا االنفصال‬

‫‪14‬‬
‫التام‪ ،‬يمكننا أن نلمح االنفتاح صوب الديموقراطية‬
‫والمساواة في المواطنة التي مازلنا نكافح باتجاهها اليوم‪.‬‬

‫الحقبة الحديثة‪ ،‬بسحب والئها لنظام ٍ كوزمولوجي‬


‫ل انشغاال ً‬‫وبالتسوية بين منزلة الكائنات البشرية‪ ،‬تصبح أق َّ‬
‫بالشكلة الكلّي لحياة المرء‪ .‬ال يهم ما يبدو عليه مجموع‬
‫حياةٍ ما؛ ما يهم هو ما إذا كان المرء يفعل [يتصرف]ة‬
‫بالطريقة الصحيحة‪ ،‬ما إذا كان يفي بالتزاماته‪ .‬لم أعد‬
‫ملزما ً بالبحث عن مكاني الصحيح في نظام األشياء‪ .‬وبدال‬
‫من ذلك يجب أن أسأل ما هي أفعالي الصحيحة‪ ،‬تلك التي‪،‬‬
‫بصفتي عضوا في المجتمع وفردا ً أمام الله‪ ،‬يُطلب مني‬
‫أداؤها‪.‬‬

‫ة عن حياتي ككل‪ .‬وفي الحقيقة‪،‬‬ ‫أفعالي‪ ،‬إذن‪ ،‬مختلف ٌ‬


‫في الحقبة الحديثة تضاءل االهتمام بحياة المرء ككل‪ .‬وقد‬
‫ككل‬
‫ٍ‬ ‫الوهن في االهتمام بالحياة‬
‫َ‬ ‫ض الفالسفة هذا‬‫اعتبر بع ُ‬
‫خسارةً فلسفية‪ .‬فسؤال كيف يجب أن يفعل المرء؟‬
‫يفصل تماما ً أفعال المرء عن ذاته بطريقةٍ تسبب االستالب‪.‬‬
‫أخالقياتنا تخفقُ في التكاملة في حيواتنا؛ وتوجد هناك في‬
‫ص‬
‫ةة عن بقية وجودنا‪ .‬وإذا اضطر شخ ٌ‬ ‫الخارج‪ ،‬منفصل ً‬
‫للسؤال عن كيف يفعل دون أن يرى في نفس الوقت أن‬
‫ة بحياة المرء الخاصة‪ ،‬تصبح‬‫إجابة ذلك السؤال مرتبط ٌ‬
‫متصدِّعة‪ .‬ويقترح هؤالء الفالسفة أن‬ ‫عالقته باألخالقيات ُ‬
‫نعود إلى السؤال العتيق‪ ،‬أن نسمح له بتجديد سطوتهِ علينا‬
‫ح من جديد ٍ أن تخاطبنا الفلسفةة في الفضاء الذي‬ ‫بحيث نتي ُ‬
‫نحيا فيه‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫ة آخرون عن انبثاق السؤال الحديث‬ ‫ويدافع فالسف ٌ‬
‫باعتباره تقدّما على السؤال العتيق‪ .‬إذ أن تضييق بؤرة‬
‫توسيع لمجال‬
‫ٍ‬ ‫السؤال من الحيوات إلى الفعلة يتناظر مع‬
‫الحرية في اختيار الحياة التي يود ُّ المرء إبداعها‪ .‬فال يجب‬
‫ة لمسار حياة المرء؛ ال يجب أن تُحدِّد‬ ‫شرع الفلسف ُ‬‫أن ت ُ ِّ‬
‫الشكلة الذي يجب أن تأخذه‪ ،‬أو حتى ما إذا كان يجب أن‬
‫تأخذ الحياة شكال ً متماسكا‪ .‬وإذا كان لصعود النزعةة الفردية‬
‫وأفول التفاوت أن يكون لهما معنى بالنسبة لحيواتنا‪ ،‬فهو‬
‫أن بإمكاننا اآلن أن نحدِّد (ضمن الحدود التي تضعها إجابة‬
‫مسار واتجاه‬
‫َ‬ ‫السؤال كيف يجب أن يفعل المرء؟)‬
‫لكل منا أن يجيب على االلتزامات المطروحة‬ ‫ٍ‬ ‫حيواتنا‪ .‬البد‬
‫أمامه أو أمامها؛ وفيما وراء ذلك‪ ،‬ليس من شأن الفلسفةة‬
‫شرع ما يجب أن نكونه أو نُصبح عليه‪ .‬فهذا شأننا‬ ‫أن ت ُ ِّ‬
‫الخاص‪.‬‬

‫الحديث‬
‫ُ‬ ‫القارية للفلسفة‪ ،‬أفسح السؤال‬
‫ّ‬ ‫في التقاليد‬
‫لسؤال ثالث‪ ،‬ما زلنا نصارع معه حتى اليوم‪ .‬نجد‬ ‫ٍ‬ ‫المجا َ‬
‫ل‬
‫جذوره متناثرة ً على طول القرن التاسع عشر‪ ،‬لكنها ال تجد‬
‫غذاءً في أي مكان بقدر ما تجد في فكر نيتشه‪ .‬بالنسبة‬
‫الحدث المحوري ألواخر القرن التاسع عشر‬ ‫ُ‬ ‫لنيتشه‪ ،‬يتمثل‬
‫في موت الرب‪ .‬ومهما كانت الطريقة التي يمكن أن يكون‬
‫قد حدث بها هذا الموت (يقدّم نيتشه تقارير مختلفة عند‬
‫مختلف نقاط عمله)‪ ،‬فإن المعنى الضمني عميقٌ بالنسبة‬
‫فيلسوف‬
‫ٍة‬ ‫للحياة اإلنسانية‪ .‬فمن طرحوا قبل نيتشه‪ ،‬على‬
‫تقريبا‪ ،‬سؤال كيف يجب أن يفعل المرء‪ ،‬وجدوا أن اإلجابة‬
‫تعال‪ ، transcendent‬على الرب‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫م‬
‫كائن ُ‬
‫ٍ‬ ‫مرتكزة ٌ على‬
‫رب خارج هذا العالم يضمن لنا التزاماتنا داخله‪ .‬موت‬ ‫ٌ‬ ‫فثمة‬

‫‪16‬‬
‫الهوتي معين؛ بل هو‬
‫ٍ‬ ‫أفول وجود ٍ‬
‫ِ‬ ‫الرب‪ ،‬إذن‪ ،‬ليس مجرد‬
‫م على أساسه‬ ‫تالشي التعالي ‪ transcendence‬الذي تقو ُ‬
‫م كوزمولوجي نُرسي‬ ‫اخالقنا‪ .‬مع نيتشه‪ ،‬لم يعد ثمة نظا ٌ‬
‫ة من‬
‫عليه معنى حيواتنا‪ ،‬وفضال عن ذلك لم تعد ثمة منظوم ٌ‬
‫جه أفعالنا‪ .‬أصبحنا نفتقر إلى الوسائل التي‬
‫المعايير تو ِّ‬
‫اعتمدنا عليها إلجابة سؤال كيف يجب أن نفعل‪.‬‬

‫يمكننا أن نحاول اكتشاف موارد أخرى تقدّم إرشادا‬


‫في تناول سؤال كيف يجب أن نفعل‪ ،‬موارد ترتكز على‬
‫ض‬
‫متعال‪ .‬وقد أخذ هذا المسار بع ُ‬
‫ٍ‬ ‫عالمنا ذاته بدل عالم ٍ‬
‫الفالسفة‪ ،‬أغلبهم ينتمون إلى التقاليد التحليلية‪ .‬لكن نيتشه‬
‫ال يفعل‪ .‬فهو غير مهتم بسؤال كيف يجب أن نفعل؛‬
‫فالسؤال‪ ،‬بالنسبة له‪ ،‬مجرد بقيةٍ من حقبة ما قبل موت‬
‫ة من الحنين‪.‬‬‫ة عفا عليها الزمن‪ ،‬نُتف ٌ‬‫الرب‪ .‬إنه صيغ ٌ‬

‫موت الرب سؤاال ً جديداً‪ ،‬يتخلّص من االهتمام‬


‫ُ‬ ‫يقدم لنا‬
‫بكل من األدوار الكونية وااللتزامات الفردية‪ :‬كيف يمكن‬ ‫ٍ‬
‫أن يحيا المرء؟‬

‫في يديّ نيتشه‪ ،‬يصبح هذا السؤال الجديد تحدِّياً‪ ،‬قفّازا ً‬


‫يتحدّى به من تكون حيواتهم بالغة الضيق‪ .‬فما أورثنا إياه‬
‫سؤالي كيف يجب أن يحيا المرء‬ ‫ّ‬ ‫التاري ُ‬
‫خ الطويل لطرح‬
‫ة حزينة لم تعد‬ ‫كائنات ضئيل ٌ‬
‫ٌ‬ ‫وكيف يجب أن يفعل المرء هي‬
‫قادرةً على أن تطرح أمامنا مهاما ً جديرة بنا‪ .‬أصبحنا‬
‫مخلوقات ذات إيماءة تافهة وشكوى تئن‪ .‬نعاقب أنفسنا‬ ‫ٍ‬
‫بتعال (الرب‪ ،‬الخير) ال يمكننا أبدا ً تحقيقه ووظيفتهة‬‫ٍ‬
‫سنا ال بما‬ ‫عرف أنف َ‬ ‫الوحيدة هي تدعيم هذا العقاب ذاته‪ .‬إننا ن ُ ِّ‬
‫‪17‬‬
‫يمكن أن نُبدعه بل بما يمكن أن نمنعه من اإلبداع؛ نحن‬
‫نمثل إنكارنا ة الذاتي‪ .‬وفي الوقت ذاته‪ ،‬يمضي ما يمكن أن‬
‫نكون قادرين عليهة دون إجابةٍ بل كذلك دون طرح السؤال‬
‫عنه‪ .‬ومن يملكون طيش أن يسألوا سرعان ما يجري‬
‫إسكاتهم أو إزاحتهم إلى هوامش المجتمع‪.‬‬

‫إن موت الرب وما استتبعه من تالشي التعالي هو ما‬


‫يُعيد طرح السؤال بالنسبةة لنا‪ ،‬ويُتيح لنا توسيع حيواتنا إلى‬
‫مدىً أبعد من الحدود التي وضعها لنا تاريخنا‪ .‬يمكننا أن‬
‫نسأل من جديد عما يمكن أن نفعل بأنفسنا في هذا العالم‪،‬‬
‫ف عن إنكار أحالمنا‬ ‫العالم الذي نسكنه‪ .‬يمكننا أن نك ّ‬
‫ونحرر أنفسنا بدال ً‬
‫ّ‬ ‫تعال يحاكمنا‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ومشروعاتنا األكبر باسم‬
‫من ذلك من أجل أنبل ما في طبيعتنا‪.‬‬

‫القاري على مدار‬


‫ّ‬ ‫يمكن النظر إلى قدرٍ كبير من الفكر‬
‫موت الرب‪.‬‬
‫َ‬ ‫ة إلعالن نيتشه‬ ‫القرن العشرين باعتباره استجاب ً‬
‫تعال يُقيم‬
‫ٍ‬ ‫م علينا‬
‫إذا كان الرب قد مات‪ ،‬إذا لم يعد يحك ُ‬
‫أودنا ويُضائلُنا في آن‪ ،‬فكيف إذن يمكن أو يجب أن نشق‬
‫طريقنا في العالم؟ كيف يجب أن نفكر في أنفسنا؟ كيف‬
‫يجب أن نصيغ كينونتناة وما يمكن أن نصيره؟‬

‫مفتتحاً‪ ،‬على‬ ‫يتلقّف ﭼان ة بول سارتر هذه األسئلة‪ُ ،‬‬


‫ة الوجودية التي تشكّل‬ ‫األقل في صيغتها المعاصرة‪ ،‬النزع َ‬
‫اإلرث المباشر لموت الرب‪" :‬إذا لم يوجد الرب‪ ،‬فإننا ال نجد ُ‬ ‫َ‬
‫قيما ً وال وصايا نلجأ إليها وتضفي المشروعية على سلوكنا‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬في مجال القيم المضيء‪ ،‬النجد عذرا ً خلفنا‪ ،‬وال‬
‫رب‪ .‬ليس‬‫ٌ‬ ‫مبررا ً أمامنا‪ .‬إننا وحيدون‪ ،‬بال أعذار‪ 3 ".‬ليس ثمة‬

‫‪18‬‬
‫قاض متسام ٍ ألفعالنا‪ .‬إننا وحيدون أكثر مما كان يمكن‬
‫ٍ‬ ‫ثمة‬
‫ة الفردية للسؤال الحديث‪ .‬إننا نواجه‬ ‫أن تتخيل النزع ُ‬
‫قرارات سيتخذها كل واحدٍ منا دون معيارٍ‬
‫ٌ‬ ‫مستقبالًة ستخلقه‬
‫يرشدنا‪.‬‬

‫لحظات‪ ،‬عن‬
‫ٍ‬ ‫إنكار أن سارتر يتراجع‪ ،‬في‬
‫ُ‬ ‫وال يمكن‬
‫التضميناتة المترتبة على فكره ذاته‪ .‬ففي نفس الصفحات‬
‫ن االختيار اإلنساني بال‬
‫وار الحرية اإلنسانية‪ ،‬كو َ‬
‫يعلن د ُ َ‬
‫أساس‪ ،‬ويحاول إعادة إدخال سؤال كيف يجب أن يفعل‬
‫ة تقليدية حديثة‪ .‬لكن سبق‬ ‫المرءُ وحتى أن يمنحه إجاب ً‬
‫ة من الكيس‪ .‬لم يعد ثمة‬ ‫ف العذل؛ وخرجت القط ُ‬ ‫السي ُ‬
‫ل عن كيف يجب أن يحيا المرء‪ ،‬أو كيف يجب أن يفعل‪.‬‬ ‫سؤا ٌ‬
‫ليس ثمة سوى سؤال كيف يمكن أن يحيا المرء‪.‬‬

‫‪IV‬‬

‫ل صعب‪ ،‬وسؤال مخيف‪ .‬ثمة الكثير فينا مما‬ ‫إنه سؤا ٌ‬


‫يتمرد ضد مواجهته‪ ،‬وإدخاله داخل حيواتنا وإبداع أنفسنا‬
‫على ضوء الحرية التي يقدِّمها‪ .‬من األسهل أن نغسل‬
‫أسناننا‪ ،‬ونزحف لندخل مالبسنا‪ ،‬ثم نحرق أيامنا من أن‬
‫نسأل عما يمكن أن نصيره‪ .‬وكما بدأ سارتر نفسه يدرك‬
‫في أعوامه األخيرة‪ ،‬هناك أيضا الكثيرة خارج تحفُّظنا مما‬
‫يناضل ضد أن نسأل السؤال‪ .‬فبنية المجتمع‪ ،‬وثقل التاريخ‪،‬‬
‫وميراث لغتنا تتآمر جميعا لتُبعد السؤال عنا‪ ،‬وتُبعدنا عنه‪.‬‬
‫مبني في‬
‫ٌّ‬ ‫جبننا الفردي؛ بل إنه‬
‫ة ُ‬‫امتثالنا ليس فقط نتيج َ‬
‫قلب العالم الذي نسكنه‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫وقد صاغ عدة فالسفةٍ فرنسيين محدثين آراءهم‬
‫الفلسفيةة في الظل الذي يمدّه االمتثال‪ .‬وسعوا إلى تحريرنا‬
‫من قبضة البنياتة والقوى التي تُنتج وتعيد إنتاج االمتثال‪.‬‬
‫وقد كشف هؤالء الفالسفة هذه البنيات في تفكيرنا وقدّموا‬
‫ة حميمة بين‬ ‫طرقا ً لإلفالت منها‪ .‬وأدركوا أن ثمة رابط ً‬
‫الطرق التي نفكّر بها في أنفسنا وفي عالمنا وبين الطرق‬
‫التي نُشيّد بها حيواتنا‪ ،‬وسعوا إلى مخاطبة ذلك التفكيرة حتى‬
‫يَبْلُغونا في عيشنا‪ .‬وفي عملهم ذاك غذ ّوا سؤال كيف يمكن‬
‫أن يحيا المرء‪ ،‬مفسحينة مجاال ً لطرح السؤال وللعيش الذي‬
‫سيرافقه‪.‬‬

‫ودولوز بين هؤالء الفالسفة‪ ،‬لكنه ليس الوحيد يأية‬


‫حال‪ .‬وقد اتخذ اثنان آخران‪ ،‬هما ميشيل فوكوه وﭼاك‬
‫ديريدا‪ ،‬مقاربات مختلفة للتحدي وقدّما مسارات مختلفةة‬
‫لمعالجة سؤال كيف يمكن أن يحيا المرء‪ .‬وحتى نرى‬
‫خصوصية المسار الفلسفي لدولوز ذاته‪ ،‬يمكن وضعه في‬
‫مقابل مساري فوكوه وديريدا‪.‬‬

‫تأخذ أعمال فوكوه بعضا ً من القيود التي تبدو طبيعي ً‬


‫ة‬
‫ة‬
‫وحتمية لنا لتُظهر أنها‪ ،‬على نقيض المظاهر‪ ،‬تاريخي ٌ‬
‫ة على التغيير‪.‬‬ ‫ومشروطة‪ .‬ثمة جوانب من عالمنا تبدو منيع ً‬
‫والبد أن نمتثل للحدود التي تفرضها أمامنا ونُنظّم عالمنا‬
‫بشكل أعمق‪ ،‬ويُقيِّد‬‫ٍ‬ ‫وفي ذهننا تلك الحدود‪ .‬ويصدُقُ هذا‬
‫ة علينا من‬ ‫بشكل أعمق‪ ،‬حين ال تكون تلك الحدود مفروض ً‬ ‫ٍ‬
‫ه داخل ذات‬ ‫الخارج فقط كعقبات لكنها بدال ً من ذلك منسوج ٌ‬
‫نسيج الوجود اإلنساني‪ .‬ومحاولة تجاوز تلك الحدود‪ ،‬سعيا‬

‫‪20‬‬
‫بشكل مختلف‪ ،‬ستكون عبثا‪ .‬وبعيدا عن كونه‬ ‫ٍ‬ ‫وراء العيش‬
‫مختلف‬
‫ٍ‬ ‫بشكل‬
‫ٍ‬ ‫عالمة على التحرر‪ ،‬سيكون مشروع العيش‬
‫عرضا ً من أعراض االنحراف ‪ .abnormality‬بالنسبة‬ ‫َ‬
‫لفوكوه‪ ،‬تكشف لنا الدراسة التاريخية أن الكثيرة من هذه‬
‫الحدود "الداخلية" ال تنشأ من تأسيس وجودنا بل من‬
‫سياسة عالقاتنا‪ .‬وليست ال طبيعية وال دون مهرب‪ .‬يكتب‬
‫قول أن األشياء ما كان يمكن أن‬‫ِ‬ ‫ل يتمثل في‬ ‫"ثمة تفاؤ ٌ‬
‫تكون أفضل‪ .‬وتفاؤلي سيتمثل في القول بأن الكثير من‬
‫األشياء يمكن أن تتغير‪ ،‬مع ما هي عليه من الهشاشة‪،‬‬
‫ة بذاتها‪ ،‬كونها مسألة‬
‫ة أكثر مما هي بديهي ٌ‬‫وكونها تعسفي ًة‬
‫ظروف تاريخية معقدة‪ ،‬لكنها مؤقته‪ ،‬أكثر مما هي قيود ٌ‬ ‫ٍ‬
‫‪4‬‬
‫أنثروبولوجية حتمية‪".‬‬

‫ربما سيبدو منقوشا ً في نظام األشياء‪ ،‬مثالً‪ ،‬أن هناك‬


‫مسارا ً سوّيا ً تأخذه الجنسانية ‪ ، sexuality‬وأن المسارات‬
‫مثلية‬
‫األخرى حيودات عن ذلك المعيار‪ .‬وقد اعتُبِرت ال ِ‬
‫الجنسية‪ ،‬والثنائية الجنسية‪ ،‬وتعدد الشركاء الجنسيين‬
‫‪ ،promiscuity‬وحتى المبادرة الجنسية األنثوية في فترات‬
‫أعراض‬
‫ٍ‬ ‫مختلفة ةة بما فيها فترتنا ةة غير طبيعية‪ ،‬بمثابة‬
‫لحيودٍ يتطلّب على األقل تدخال ً وربما عقابا‪ .‬إذ أن معاملةة‬
‫المثلية الجنسيةة على أنها مشروعٌ للمتعة بدل كونها تعبيرا‬
‫عن االنحراف سيعني تجاهل انتهاك الجنسانية اإلنسانية‬
‫ثلي‬
‫م ِّ‬ ‫السوية الذي تؤسسه‪ .‬وفضال عن ذلك‪ ،‬فإن معاملة ِ‬
‫مثلي الجنسية‪ ،‬النظر إليه أو‬ ‫ّ‬ ‫الجنسيةة باعتباره شيئا بخالف‬
‫جه الجنسي‪،‬‬ ‫إليها على أنه‪/‬ةا يتحدّد بشيء آخر بخالف التو ّ‬
‫يعني عدم اإلمساك بالعنصرة المحوري لوجوده أو وجودها‪.‬‬
‫ة‬
‫ف يبتلع بقي َ‬ ‫إذا كانت المثلية الجنسية منحرفة‪ ،‬فإنها انحرا ٌ‬

‫‪21‬‬
‫وجود المرء؛ وكل إيماءة‪ ،‬كل عاطفة يمكن اختزالها إلى‬
‫الحقيقة الجوهريةة للمثلية الجنسية‪ .‬لذا يبدو التدخل من‬
‫شكل منحرف‬
‫ٍ‬ ‫األهمية بمكان‪ .‬فموضع الرهان ليس مجرد‬
‫شكل منحرف من الحياة‪.‬‬‫ٍ‬ ‫من النشاط؛ بل‬

‫ة طبيعيا أو حتميا إلى ما هو‬ ‫لكن هل تنقسم الجنساني ُ‬


‫طبيعي وما هو شاذ؟ أليس هذا التقسيم باألحرى تقسيما‬ ‫ٌ‬
‫تاريخيا‪ ،‬يخدم مصالح بعينها ويُنكر أخرى؟ يجادل فوكوه بأنه‬
‫كثير من المؤرخين أن مفهوم المثلية‬ ‫ٌة‬ ‫كذلك‪ .‬وقد بيّن‬
‫م حديث‪ ،‬ال ينشأ من‬ ‫الجنسية‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬هو مفهو ٌ‬
‫االكتشافة العلمي بقدر ما ينشأ من التصنيف السيكولوجي‪.‬‬
‫ن المحوري الذي‬ ‫اإلقرار بأن المكا َ‬
‫ُ‬ ‫وما يضيفه فوكوه هو‬
‫ن تحدَّد‬‫تحتله الجنسانية ذاتها في الثقافة الغربية هو مكا ٌ‬
‫ذهني محايد‬‫ٍ‬ ‫بحث‬
‫ٍ‬ ‫تاريخياً‪ .‬وال تُستمد ُّ أهميتها من عملية‬
‫ممارسات بعيدة المدى من‬ ‫ٍ‬ ‫بقدر ما تُستمد ُّ من تحوّالت في‬
‫قبيل الدراسات الكاثوليكية العقائدية والسكانية‪ ،‬وهي‬
‫ة للكائنات‬ ‫سس ٌ‬ ‫النظر إلى الرغبة على أنها مؤ ِّ‬ ‫َ‬ ‫تحوالت تحف ُز‬
‫النمط المحوري للرغبة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫اإلنسانية وإلى الجنسانية باعتبارها‬
‫كل من االمتثال الجنسي‪،‬‬ ‫ونتيجة هذه التحوالت هي حفز ٍ‬
‫ومن خالله‪ ،‬االمتثال االجتماعي العام الذي يلتقي مع‬
‫المتطلبات االقتصادية للرأسمالية‪ ،‬والمتطلبات السياسية‬
‫للديموقراطية الليبرالية‪ ،‬والمتطلبات اإلبستمولوجيةة‬
‫[المعرفية] للعلوم االجتماعية مثل السيكولوجيا‪.‬‬

‫وما يصدُقُ على الجنسانية يصدُقُ أيضا ً على غيرها من‬


‫القيود التي تقدّمها لنا العلوم اإلنسانية‪" .‬كل تحليالتي ضد‬
‫سفية‬
‫فكرة الضرورات الكلية في الوجود اإلنساني‪ .‬تُظهر تع ّ‬

‫‪22‬‬
‫المؤسسات وتُظهر ما هو فضاءُ الحرية الذي ما زال يمكننا‬
‫م التحوالت التي ما زال يمكن عملها‪ 5".‬بعيدا ً‬ ‫التمتع به وك ّ‬
‫عن أن نتحدَّد بواسطة "قيودٍ أنثروبولوجية" غير قابلة‬
‫للحركة‪ ،‬تتم صياغتنا بدال من ذلك بواسطة قوى تاريخية‬
‫وسياسية يمكن تعديلها‪ ،‬وتغييرها‪ ،‬وربما حتى اإلطاحة بها‪.‬‬
‫المشكلة ةة المشكلة الفلسفيةةة هي أننا نُخفق في‬
‫التعرفة على الطابع التاريخي لهذه القيود‪ ،‬ومن ثم نخفق‬ ‫ّ‬
‫في التعرفة على الحرية أمامنا‪ .‬إننا عاجزون عن أن نسأل‬
‫أنفسنا‪ ،‬سوى في أضيق األشكال‪ ،‬كيف يمكن أن يحيا‬
‫المرء‪.‬‬

‫ة فوكوه لسؤال كيف يمكن أن يحيا‬ ‫إذا كانت مقارب ُ‬


‫ة ﭼاك ديريدا بأنها‬‫ة‪ ،‬يمكن أن نسمي مقارب َ‬ ‫المرء تاريخي ً‬
‫ة‪ .‬يشارك ديريدا فوكوه في‬ ‫أقرب إلى أن تكون لغوي ً‬‫ُ‬
‫منا‪ .‬مثل فوكوه‪ ،‬يعتقد‬ ‫انشغاله بالقيود التي فرضها علينا عال ُ‬
‫بأن تلك القيود تنشأ أوليّا في التصنيفاتة التي بواسطتها‬
‫نصيغ المفاهيم عن أنفسنا وعن عالمنا‪ .‬لكن ديريدا‪ ،‬على‬
‫خالف فوكوه‪ ،‬يرى أن هذه القيود تكمن في بنية اللغة‪.‬‬
‫قمعُنا ليس في ميراثنا التاريخي فحسب‪ ،‬بل في كلماتنا‬
‫ذاتها‪ .‬في كل مرةٍ نتحدث‪ ،‬نرتكز على قيودٍ تطارد لغتنا‬
‫وتمنعنا من الوصول إلى مواجهة سؤال كيف يمكن أن يحيا‬
‫المرء‪ .‬ولهذا السبب‪ ،‬ستنطوي وسائل مواجهة تلك القيود‬
‫ليس فقط على اإلقرار بميراثنا التاريخي والتغلبة عليه‪ ،‬بل‬
‫الفروق الدقيقة للغة ذاتها‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫على مقاربةٍ هشة وتعتمد على‬

‫يشير ديريدا إلى أن مشروع الفلسفة يتمثل إلى حدٍ‬


‫أسس للفكر‪ .‬وهذه األسس تعمل عن‬
‫ٍ‬ ‫كبير في محاولة بناء‬

‫‪23‬‬
‫لموضوعات ومفاهيم فلسفيةة معينةة على‬ ‫ٍ‬ ‫طريق منح االمتياز‬
‫حساب أخرى‪ .‬يجري منح االمتياز للحضور على حساب‬
‫الغياب‪ ،‬وللهوية على حساب االختالف‪ ،‬وللذكورة على‬
‫ح ْرفي على حساب ما هو استعاري‪،‬‬ ‫حساب األنوثة‪ ،‬ولما هو َ‬
‫وللمباديء على حساب الحساسية‪ .‬لكن‪ ،‬في كل حالة لمنح‬
‫أكثر تعقيدا عما قد تبدو‪ .‬ليس‬ ‫َ‬ ‫األمور لتصبح‬
‫ُ‬ ‫االمتياز‪ ،‬تتحول‬
‫األمر فحسب أن من الظلم تمييز أحد األطراف على‬
‫مل له (رغم أن في هذا ظلماً)‪ .‬لكن المشكلة‪،‬‬ ‫حساب المك ِّ‬
‫الطرف الذي يجري تمييزه‪ ،‬يتأسس‬ ‫َ‬ ‫بشكل أعمق‪ ،‬هي أن‬ ‫ٍ‬
‫مل‪ ،‬جزئيا‪ .‬في األنساق الفلسفية التي‬ ‫مك ِّ‬
‫بواسطة ال ُ‬
‫تتمحور حول مفهوم الحضور‪ ،‬ال يمكن إدراك ذلك الحضور‬
‫إال ّ على أساس الغياب الذي يستبعده‪ .‬والغياب ال يظهر‬
‫داخلي‬
‫ٌ‬ ‫كآخرٍ‪ ،‬خارج الحضور‪ ،‬الذي يتم فهمه في مقابله‪ .‬إنه‬
‫بالنسبةة للحضور‪ .‬وإذا كان لنا أن نضع األمر على صورة‬
‫الحضور الخالص ال يمكن فهمه إال ّ‬
‫َ‬ ‫تضادٍ‪ ،‬ألمكننا القول بأن‬
‫سسه جزئيا‪.‬‬ ‫غياب يسكُنه ويؤ ِّ‬
‫ٍ‬ ‫على أساس‬

‫ملة تذوب في بعضها‬ ‫مك ِّ‬


‫وال يعني هذا أن األطراف ال ُ‬
‫كل منها‪ .‬بل تعمل‬
‫ة ثالثة تستغرقُة مالمح ٍ‬ ‫البعض‪ ،‬وتصبح فئ ً‬
‫في عالقةٍ دينامية من التميّز واالحتواء المتبادل حيث ال‬
‫يمكن للخط الذي يفصل بينها ال أن يُرسم بوضوح وال أن‬
‫يُمحي تماما‪.‬‬

‫هذه الدينامية‪ ،‬أو كما يسميها ديريدا أحيانا‪ ،‬هذا‬


‫ف داخل‬‫ل منها ينزِ ُ‬‫ملة ةة وك ٌ‬ ‫مك ِّ‬
‫"االقتصاد" للمصطلحات ال ُ‬
‫اآلخر دون أن يتمكن أحدها من تثبيتة حدود معانيها ةة له‬
‫خرب مشروع َ النزعة‬ ‫على األقل نتيجتان‪ .‬أوالً‪ ،‬أنه ي ُ ِّ‬
‫‪24‬‬
‫أساس نهائي وال يمكن‬ ‫ٍ‬ ‫التأسيسية الفلسفية‪ ،‬مشروعَ بناء‬
‫غير قادرٍ على تثبيت معنى‬ ‫َ‬ ‫تجاوزه للفكر‪ .‬فلو كان المرء‬
‫المصطلحات الفلسفيةة التي يستخدمها‪ ،‬لو كانت تلك‬
‫المصطلحات تتخللها باستمرار المصطلحات التي تحاول هي‬
‫ة‪ ،‬وغير قادرة‬ ‫مي ً‬
‫مسا ّ‬ ‫س ذاتها َ‬ ‫استبعادها‪ ،‬فسوف تكون األس ُ‬
‫على الصمود في النهاية‪ .‬كما لو أن البنية ذاتها ستن ِ ُّز إلى‬
‫يقر ديريدا‪ ،‬أن مشروع الفلسفةة هو‬ ‫ّ‬ ‫األساس‪ .‬والسبب‪ ،‬كما‬
‫ة وسيطها الكلمات‪ .‬وبسبب‬ ‫مشروع ٌ لغوي؛ الفلسفة ممارس ٌ‬
‫ملة‪ ،‬فيما يجادل‪ ،‬لن يُمكن أبدا‬ ‫مك ِّ‬
‫إقتصاد المصطلحات ال ُ‬
‫تثبيت تلك الكلمات بطريقةٍ صلبة بما يكفي لتقديم نمط‬ ‫ُ‬
‫األساس الذي تبحث عنه الفلسفة‪.‬‬

‫وال يعني هذا أن االستبعادات ةة استبعادات الغياب‪،‬‬


‫والمؤنّث‪ ،‬واالختالف‪ ،‬واالستعارة ةة قد تم التغلبة عليها‪ .‬كما‬
‫ال يعني أن عمليات منح االمتياز ةة للحضور‪ ،‬وللمذكر‪،‬‬
‫ش البد‬‫م‪ ،‬تهمي ٌ‬ ‫ح ْرفي ةة عادلة‪ .‬ما زال ثمة ظل ٌ‬
‫وللهوية‪ ،‬ولل َ‬
‫من معالجته‪ .‬مازالت الفلسفة‪ ،‬وكذلك التفكير اليومي‪،‬‬
‫تعمل بواسطة عمليات منح االمتياز تلك‪ .‬وهي تواصل إمالء‬
‫مقاربتنا ألنفسنا وللعالم‪ .‬لكن التغلب على هذا الظلم ال‬
‫يعني مجرد عكس االمتياز الذي تمتعت به هذه المصطلحات‬
‫أو بدال من ذلك محاولة جعلها متساوية في االمتياز‪ .‬إذ أن‬
‫ة األعمق التي يجدها‬ ‫كال من المقاربتين ستكرر المشكل َ‬
‫ديريدا في الفلسفة التقليدية‪ .‬فهما محاولتان لتثبيتة‬
‫المصطلحات مرة وإلى األبد بدال ً من اإلقرار بسيولتها‪ .‬وبدال‬
‫من ذلك يجب أن نتيح لسيولة المصطلحات أن تظ ّ‬
‫ل‬
‫تكبت بل تتيح التعبيرة‬
‫ُ‬ ‫بطرق ال‬
‫ٍ‬ ‫تتفاعل‪ ،‬وأن نُفاوض لغتنا‬
‫لالقتصاد الكامن فيها‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫إذا كان طابع اللغة أن تعمل باقتصادٍ للمصطلحات‬
‫ملة‪ ،‬وإذا كانت محاولة إنكار ذلك االقتصاد بتثبيت‬
‫مك ِّ‬
‫ال ُ‬
‫معاني المصطلحات غير مجدية وظالمة‪ ،‬فإن مقاربة اللغة‬
‫التي يجب اتخاذها هي أن نفكر ونتكلم ونكتب بصورة‬
‫مختلفة‪ .‬هذا أوليا مشروعٌ فلسفي‪ ،‬لكن مثل قدرٍ كبير من‬
‫لتغمر الثقافة األوسع‪.‬‬
‫َ‬ ‫الفلسفة‪ ،‬ستنساب تأثيراتُه‬

‫ما مغزى مقاربة ديريدا للفلسفة ولغتها بالنسبةة لسؤال‬


‫ج أسس التصنيفاتة‬ ‫كيف يمكن أن يحيا المرء؟ عن طريق ر ّ‬
‫التي ندرك من خاللها أنفسنا وعالمنا‪ ،‬يفتح ديريدا طرقا‬
‫جديدة للتفكير في أنفسنا‪ ،‬طرقا لم تعد تتمشى مع‬
‫التصنيفات التي ورثناها‪ .‬وال تتمشى‪ ،‬في الحقيقة‪ ،‬مع فكرة‬
‫التصنيفات‪ .‬فمثال‪ ،‬حين ال نعود نمنح االمتياز للمذكّر على‬
‫المؤنّث‪ ،‬حين نرى أن هذين التصنيفين ينزفان الواحد في‬
‫اآلخر‪ ،‬ال تعود تُقلقنا "ماهية" المذكر أو المؤنث‪ .‬نصبح‬
‫أحرارا في االستعارة من مجاالت بدت محظورةً علينا ذات‬
‫حين‪ .‬وأكثر من ذلك‪ ،‬ال نعود مقيّدين بجعل تلك االستعارات‬
‫معطى سلفا ً لما يجب أن تبدو عليه‬ ‫نموذج ُ‬
‫ٍ‬ ‫تتمشى مع‬
‫حيواتنا وعالمنا‪ ،‬حيث أن التصنيفات التي يمكن أن ندرك‬
‫في نطاقها حيواتنا وعالمنا هي ذاتها سائلة‪.‬‬

‫ظ سؤال‬ ‫بالضبط مثلما يسعى فوكوه إلى إعادة إيقا ِ‬


‫كيف يمكن أن يحيا المرء بإظهار أن ما تبدو قيودا ً ضرورية‬
‫ة تاريخيا في الحقيقة‪ ،‬يسعى ديريدا‬ ‫على وجودنا مشروط ٌ‬
‫تصنيفات‬
‫ٍ‬ ‫إلى إعادة إيقاظ السؤال بإظهار أن ما تبدو‬
‫متضافرة‪ .‬تحت‬ ‫ةو ُ‬‫صارمة للخبرة هي في الحقيقة سائل ٌ‬

‫‪26‬‬
‫ة أعمق‪ .‬فكالهما يرفض‬
‫هذين المشروعين ثمة رابط ٌ‬
‫مشروعا معينا للفلسفة التقليدية يندرج تحت عنوان‬
‫األنطولوجيا ‪. ontology‬‬

‫معان مختلفة عديدة في‬ ‫ٍ‬ ‫لمصطلح األنطولوجيا‬


‫ة ما هو‬‫الفلسفة‪ .‬ففي التقاليد التحليلية‪ ،‬يعني "دراس َ‬
‫معين ما‪ .‬ما هي‬
‫ٍ‬ ‫موجود‪ "،‬سواء بوجه عام أو في مجال‬
‫المكونات النهائية للكون؟ هل كل ما يوجد هو مادةٌ فيزيائية‬
‫في نهاية المطاف أم أن األشياء من قبيل األعداد أو األفكار‬
‫ة‪ ،‬ما‬
‫أو المنظومات توجد أيضا؟ أو‪ ،‬على مستوى أكثر نوعي ً‬
‫هي مكونات السيكولوجيا‪ :‬هل هي العقل‪ ،‬والسلوك‪،‬‬
‫واألجساد في تفاعل؟ هل يمكننا اختزال التقارير‬
‫السيكولوجية عن الوجود اإلنساني إلى تقارير فيزيائية‬
‫خالصة؟ هذه بين األسئلة التي تتمعن فيها األنطولوجيا في‬
‫القاري‪ ،‬فقد أصبحت‬
‫ّ‬ ‫الفكر التحليلي‪ .‬أما في الفكر‬
‫األنطولوجيا تعني "دراسة الوجود (أو الوجود)‪".‬وهذه‬
‫المقاربة تأخذ إشارتها من عمل مارتين هايدجر‪ ،‬الذي يجادل‬
‫بأنه عبر مسار الفلسفة الغربية‪ ،‬الممتد إلى الوراء حتى‬
‫أفالطون‪ ،‬تم نسيان "سؤال الوجود" والبد من استعادته‪.‬‬
‫ما هو الوجود؟ ما معنى الوجود؟ ماذا يعني لشيء أن‬
‫حركة لألنطولوجيا بين‬‫م ِّ‬‫يوجد؟ هذه هي األسئلة ال ُ‬
‫القاريين‪.‬‬
‫ّ‬ ‫المفكرين‬

‫يمكن أن يكون ثمة التقاءٌ بين المقاربتين التحليلية‬


‫والقارية لألنطولوجيا‪ .‬فكلتاهما تسأل عن طبيعةة ما هو‬
‫ّ‬
‫موجود‪ .‬لكن انعطافتيهما بشأن هذا التساؤل مختلفتان‪.‬‬
‫الفالسفة التحليليونة مهتمون بالموجودات التي يتأسس منها‬

‫‪27‬‬
‫الكون‪ .‬ويسعون إلى تقرير طبيعة ووجود تلك الموجودات‬
‫القاريون فعادة ما‬
‫ّ‬ ‫وعالقاتها ببعضها البعض‪ .‬أما الفالسفة‬
‫يرون سؤاال ً للوجود ال يمكن تناوله من خالل الموجودات‬
‫سسة‪ .‬وعلى خطى هايدجر‪ ،‬يرون في محاولة اختزال‬ ‫المؤ ِّ‬
‫سؤال الوجود إلى سؤال الموجودات ع ََرضا ً لعصرٍ لديه‬
‫م من‬‫استعداد ٌ مفرط لقبول المصطلحات التي يدرك العل ُ‬
‫م‪.‬‬
‫خاللها العال َ‬

‫من جانبهما‪ ،‬يرفض ك ٌ‬


‫ل من ديريدا وفوكوه األنطولوجيا‬
‫بالمعنى األول‪ ،‬التحليلي‪.‬‬

‫أي تقريرٍ‬‫يرفض فوكوه أيّ أنطولوجيا للوجود اإلنساني‪ّ ،‬‬


‫عن الطبيعةة النهائية للكائن اإلنساني‪ .‬وحين يقول أن كل‬
‫تحليالته ضد فكرة الضرورات في الوجود اإلنساني‪ ،‬فإنه‬
‫يرفض أن ينخرط في أنطولوجيا لما هو إنساني‪ .‬فما يبدو‬
‫أمور تاريخية تتهادى‬
‫ٌ‬ ‫أمور أنطولوجية هي في الحقيقة‬ ‫ٌ‬ ‫أنه‬
‫أثواب أنطولوجية‪ .‬يجري تعليمنا أن هناك معايير‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫في‬
‫وميول‪ ،‬وتوجهات معينة تمتلكها الكائنات اإلنسانية‪ ،‬بفضل‬
‫كونها إنسانية‪ .‬ثمة حيوات جنسية‪ ،‬وسيكولوجية‪ ،‬وإدراكية‪،‬‬
‫وعاطفية نوعية تتميز بأنها إنسانية‪ .‬واإلخفاق في العيش‬
‫ة يعني اإلخفاق‬ ‫طبقا لهذه الحيوات التي تتميز بأنها إنساني ٌ‬
‫في أن يكون المرء إنسانيا تماماً‪ .‬يعني أن يكون منحرفاً‪.‬‬
‫س حكايات فوكوه هو أن ما يُعتبر متميزا باإلنسانية‪،‬‬ ‫ودر ُ‬
‫مشحون سياسياً‪ .‬ال حاجة‬
‫ٍ‬ ‫تاريخ‬
‫ٍ‬ ‫ومن ثم سوياً‪ ،‬هو نتا ُ‬
‫ج‬
‫ك لمعايير الوجود‬ ‫للنظر إلى االنحراف على أنه انتها ٌ‬
‫اإلنساني‪ .‬إذ يمكنه أيضا أن يكون رفضا ً لالمتثالة للمتطلبات‬
‫معطاة‪.‬‬ ‫"األنطولوجية" للحظةٍ تاريخيةٍ ُ‬
‫‪28‬‬
‫أما رفض ديريدا لألنطولوجيا فيحدث ال على مستوى‬
‫أنطولوجيات إنسانية نوعية بل على مستوى المصطلحات‬ ‫ٍ‬
‫ل المشروع َ‬ ‫أي أنطولوجيا‪ .‬وما يُبط ُ‬
‫المستخدمة لتثبيت ّ‬
‫األنطولوجي في نظره يتعلق باللغة التي ستصاغ بها أي‬
‫واف‬
‫ٍ‬ ‫ة إلعطاء تقريرٍ‬ ‫أنطولوجيا‪ .‬فأي أنطولوجيا هي محاول ٌ‬
‫عما هو موجود‪ ،‬الكتشافة طبيعةٍة جوهريةٍ ما في قاع‬
‫من ْ ِفذَةً بالطريقة‬ ‫األشياء‪ .‬لكن إذا كانت المصطلحات اللغوية ُ‬
‫المصطلحات التي تُصاغ بها‬
‫ِ‬ ‫التي يعتقدها ديريدا‪ ،‬فإن ذات‬
‫المصطلحات التي تحاول هي أن‬ ‫ُ‬ ‫تلك الطبيعةة ستطاردها‬
‫طريق إلى تقريرٍ عن طبيعة جوهرية لن‬ ‫ٍ‬ ‫تستبعدها‪ .‬ما من‬
‫كجانب ال يمكن فصله‪ .‬ومشروع‬ ‫ٍ‬ ‫يتخلله ما هو غير جوهري‬
‫بناء أنطولوجيا تفصل ما هو موجود ٌ عما ليس موجودا ً‬
‫مقضي عليها باقتصاد المصطلحات التي تستخدمها‪.‬‬ ‫ٌّ‬

‫أما كون فوكوه أو ديريدا يرفض األنطولوجيا بالمعنى‬


‫ل أكثر صعوبة‪ .‬ففوكوه غير مهتم ٍ إلى‬ ‫الثاني‪ ،‬القاري‪ ،‬فسؤا ٌ‬
‫حد كبير بسؤال الوجود‪ .‬وبالمقابل‪ ،‬ينظر ديريدا إلى نفسه‬
‫على أنه يواصل الكثير من مشاغل هايدجر‪ 6.‬إال ّ أن ما‬
‫سيرفضانه بالتأكيد‪ ،‬هو أيُّ مقاربةٍ لسؤال الوجود بواسطة‬
‫لكل من‬‫ٍ‬ ‫أي تقريرٍ يقول‪ ،‬في النهاية‪ ،‬ما هو موجود‪ .‬بالنسبة‬
‫فوكوه وديريدا فإن أية مقاربةٍ لسؤال الوجود تجري‬
‫بواسطة تقريرٍ عن طبيعةٍ أو ماهية خالصة‪ ،‬غير قابلة‬
‫ألسباب تاريخية أو لغوية‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ة خاطئة‪،‬‬‫للتغير‪ ،‬هي مقارب ٌ‬
‫سؤال الوجود‬
‫ِ‬ ‫ة‬‫ضارة‪ .‬مخاطب ُ‬
‫ّ‬ ‫خاطئة‪ ،‬بل وأسوأ من خاطئة‪:‬‬
‫سيجبر السلو َ‬
‫ك‬ ‫ُ‬ ‫بواسطة تقريرٍ عما هو موجود ٌ سيبدو أنه‬

‫‪29‬‬
‫امتثال ضيق‪ .‬سيخفقُ في إبقاء سؤال كيف‬
‫ٍ‬ ‫اإلنساني على‬
‫يمكن أن يحيا المرء حياً‪.‬‬

‫هذه هي النقطة التي يتباعدان عندها عن دولوز‪ ،‬الذي‬


‫يقارب سؤال كيف يمكن أن يحيا المرء ال بالتخلّي عن‬
‫األنطولوجيا‪ ،‬بل باحتضانها‪.‬‬

‫‪V‬‬

‫ح‬
‫عمل يطر ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ة في األنطولوجيا‪ .‬ك ُّ‬
‫ل‬ ‫منغمس ٌة‬
‫أعمال دولوز ُ‬
‫ة جديدة ً من الكيانات األساسية أو يُعيد تشغيلة‬‫مجموع ً‬
‫سياق جديد‪ .‬قراءة‬
‫ٍ‬ ‫أعمال سابقة ليُدخلها في‬
‫ٍ‬ ‫كيانات من‬
‫ٍ‬
‫دولوز تعني الدخول في عالم ٍ من الموجودات المتكاثرة‬
‫الموجودات وأشكال الحياة‬
‫ُ‬ ‫وأشكال الحياة الجديدة‪ .‬هذه‬
‫تكمن في‬
‫ُ‬ ‫ليست جزءا ً من خبرتنا اليومية‪ .‬لكنها رغم ذلك‬
‫نسيج وجودنا‪.‬‬

‫ك أحبولة إدعاءات‬ ‫بينما يسعى فوكوه وديريدا إلى ف ِّ‬


‫ة لما هو موجود‪ ،‬يبتهج دولوز‬ ‫األنطولوجيا باعتبارها دراس ً‬
‫باإلبداع والتحليل األنطولوجيين‪ .‬وبينما يجد فوكوه وديريدا‬
‫في األنطولوجيا تهديدا ً للسؤال عن كيف يمكن أن يحيا‬
‫ذات الطريق الذي يجب‬ ‫َ‬ ‫المرء‪ ،‬يجد دولوز في األنطولوجيا‬
‫أن يسلكه المرء كي يسأل عن ذلك بصورةٍ مالئمة‪ .‬وبينما‬
‫يقدّم فوكوه وديريدا بدائل للمشروع األنطولوجي للفلسفةة‬
‫حدِّه األقصى‪ ،‬وهو‬ ‫التقليدية‪ ،‬يقود دولوز ذلك المشروع إلى َ‬
‫ح‬
‫حد ٌ يجد عنده أن سؤال كيف يمكن أن يحيا المرء مطرو ٌ‬
‫إجابات مدهشة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫من جديد وجاه ٌز لتقديم‬
‫‪30‬‬
‫ة ما هو موجود ٌ ال‬ ‫بمعانقة األنطولوجيا باعتبارها دراس َ‬
‫يمضي دولوز ضد التيار المناهض لألنطولوجيا لقدرٍ كبيرة من‬
‫فلسفة القرن العشرين فحسب‪ .‬إذ يمضي عملُه عكس تيّار‬
‫من قاربوا سؤال كيف يمكن أن يحيا المرء‪ .‬فبالنسبةة‬
‫خ الحياة في هذا‬ ‫لسابقي دولوز ومعاصريه‪ ،‬يتطلّب نف ُ‬
‫السؤال التخلي عما اعتُبِر ضروريا ً من الناحية األنطولوجية‪،‬‬
‫ة‬
‫ل جذري ً‬ ‫ة أق ّ‬
‫كيانات تُقيِّدنا لنطرح أسئل ً‬
‫ٍ‬ ‫وإلغاء البحث عن‬
‫من سؤال كيف يمكن أن يحيا المرء‪ .‬بالنسبة لنيتشه ينفتح‬
‫سؤال كيف يمكن أن يحيا المرء بموت الرب‪ ،‬أي‪ ،‬بفقدان‬
‫مقيِّد‪ .‬وبالنسبةة لسارتر تنطوي الوجودية‬ ‫تعال أنطولوجي ُ‬ ‫ٍ‬ ‫أي‬
‫على اإلقرار بأن ال شيء يجعلنا نُصبح ما نحن عليه‪ ،‬بأننا‬
‫أحرار في إبداع أنفسنا دون طبيعةٍ أنطولوجية جوهرية‬ ‫ٌ‬
‫المسار المحتوم لحيواتنا‪ .‬وبالنسبة لفوكوه البد‬ ‫َ‬ ‫تُملي علينا‬
‫ة‬
‫من اإلقرار بأن الهويات التي يقدّمها لنا تاريخنا مشروط ٌ‬
‫متطلبات‬
‫ٍ‬ ‫ظواهر عابرة وليست‬‫ُ‬ ‫وليست ضرورية‪،‬‬
‫أنطولوجية‪ .‬عندها فقط سنكون قادرين على طرح سؤال‬
‫كيف يمكن أن يحيا المرء دون أن نُقيِّد اإلجابة بالفعل إلى‬
‫أثير عالمنا‪ .‬وأخيرا‪ ،‬بالنسبة لديريدا‪،‬‬ ‫َ‬ ‫االمتثالة الذي يشكل‬
‫فإن األنطولوجيات الجامدة للفلسفة التقليدية تحجب سيولة‬
‫قول ما هو‬‫ِ‬ ‫ذات مشروع‬ ‫َ‬ ‫خرب‬‫مصطلحاتها‪ ،‬وهي سيولة ت ُ ِّ‬
‫موجود ٌ وما ليس موجودا‪ .‬والبد من كشف النقاب عن تلك‬
‫السيولةة إذا كان لنا أن نعيد فتح السؤال عن كيف يمكن أن‬
‫يحيا المرء‪.‬‬

‫سيبدو أن المرءَ إذا كان يأمل في مواجهة سؤال كيف‬


‫منهَكاً‪ ،‬فإن‬
‫يمكن أن يحيا المرء بطريقةٍ ال تدعم امتثاال ً ُ‬
‫‪31‬‬
‫ة ما هو موجود‬
‫األنطولوجيا ةة على األقل بقدر ما هي دراس ُ‬
‫ةة هي المشكلةة بدل أن تكون الحل‪.‬‬

‫هل هذا هو المصير الحتمي لألنطولوجيا؟ هل يجب أن‬


‫تختفي من مجال التأمل الفلسفي إذا كانت مهمتنا هي‬
‫ما إلى‬
‫طرح سؤال كيف يمكن أن يحيا المرء دون أن نرتد ّ إ ّ‬
‫هموم ٍ بشأن كيف يجب أن يفعل المرء أو كيف يجب أن‬
‫يحيا المرء أو إلى نزعةٍ إمتثالية ال تطرح تساؤالت؟‬

‫ينكر دولوز هذا في عمله‪ .‬ينكره بخلق أنطولوجيا‪ ،‬أو‬


‫باألحرى سلسلةٍ من األنطولوجيات‪ ،‬تتحدّى افتراضين‬
‫كامنين في رفض مقاربةٍ أنطولوجيةٍ للسؤال‪ .‬االفتراض‬
‫األول هو أن األنطولوجيا تتضمن اكتشافا ً وليس خلقاً‪ .‬فما‬
‫افترضه المفكرون اآلخرون الذين سيطر عليهم سؤال كيف‬
‫ة‬
‫يمكن أن يحيا المرء هو أن األنطولوجيا هي محاول ٌ‬
‫الكتشاف طبيعةة الكيانات األساسية للكون‪ .‬لماذا يجب أن‬
‫ة‪،‬‬
‫اكتشاف‪ ،‬متعارض ٌ‬
‫ٍ‬ ‫ة‬
‫يرى المرء األنطولوجيا على أنها مسأل ُ‬
‫ح أن الفالسفة الذين ينخرطون‬ ‫رغم ذلك‪ ،‬مع الخلق؟ صحي ٌ‬
‫في األنطولوجيا ينظرون إلى أنفسهم بكاملهم تقريبا على‬
‫أنهم يحاولون أن يستخلصوا الطابعَ الجوهري لما هو‬
‫موجودٌ‪ .‬فهم يفترضون أن دراسة ما هو موجود ٌ تتمثل في‬
‫توضيح طبيعة ما هو موجود بأدق صورة‪ .‬وهذا االفتراض‬
‫على وجه الدقة هو ما أزعج من يطرحون سؤال كيف يمكن‬
‫أن يحيا المرء‪ .‬فذلك التوضيح يبدو دوما أنه اختزا ٌ‬
‫ل‬
‫ن‬
‫لإلمكانات‪ ،‬تضييقٌ للمنظور ينتهي بأن يُفقر الكون‪ .‬كو ٌ‬
‫ركب فقط من كيانات فيزيائية في عالقات مع بعضها تقبل‬ ‫ٌ‬ ‫م‬
‫ُ‬
‫ة تتميّز بمعايير ضيقةٍ‬‫التنبؤة بدرجةٍ أو بأخرى‪ ،‬وإنساني ٌ‬

‫‪32‬‬
‫ل من الكيانات محدَّدة الحدود عن بعضها‬ ‫للسلوك‪ ،‬ومجا ٌ‬
‫سع سؤال كيف‬
‫م تُقيِّد بدل أن تُو ِّ‬
‫على نحوٍ جامد‪ :‬تلك عوال ُ‬
‫يمكن أن يحيا المرء‪.‬‬

‫هل هكذا يجب أن تُصنَع األنطولوجيا؟ هل نحن‬


‫مستَبعدون من مقاربة األنطولوجيا بطريقةٍ أخرى؟ لنفترض‬ ‫ُ‬
‫أننا نظرنا إلى دراسة ما هو موجود باعتبارها خلقا ً ال‬
‫اكتشافاً‪ ،‬أو‪ ،‬باألحرى‪ ،‬باعتبارها مشروعا ً ال تعود تسري فيه‬
‫التفرقة بين الخلق وبين االكتشاف‪ .‬لنفترض أن األنطولوجيا‬
‫ليست مشروعا للسعي اللتقاط ما هو موجود بأدق الطرق‪.‬‬
‫لنفترض بدال من ذلك أن األنطولوجيا تسعى إلقامة أُطُرٍ‪ ،‬ال‬
‫تكون مجرد مسائل اختالق ‪ ، fiction‬وفي نفس الوقت ال‬
‫تكون مجرد مسائل توضيح‪ .‬أليس ممكنا ً قلب العالقة‬
‫التقليدية‪ ،‬بحيث ال يعود سؤال كيف يمكن أن يحيا المرء‬
‫قائما على أساس سؤال ما هو موجود ٌ بل العكس؟ بعبارةٍ‬
‫أخرى‪ ،‬أال يستطيعة المرء خلق أنطولوجيا يكون هدفها هو‬
‫آفاق جديدة؟ لقد‬ ‫ٍ‬ ‫فتح سؤال كيف يمكن أن يحيا المرء على‬
‫بيّن نيتشه‪ ،‬وسارتر‪ ،‬وفوكوه‪ ،‬وديريدا التقييدات التي تنشأ‬
‫جب على سؤال كيف يمكن أن يحيا المرء أن يُجيب‬ ‫حين يتو ّ‬
‫على األنطولوجيا‪ .‬أما دولوز فيقترح أن من الممكن التحرك‬
‫في االتجاه المعاكس‪ ،‬وخلق أنطولوجيا تجيب على سؤال‬
‫كيف يمكن أن يحيا المرء بدل أن تفرض حدوده‪.‬‬

‫مثل هذه األنطولوجيا لن تقلب فحسب العالقة‬


‫التقليدية بين الخلق وبين االكتشاف‪ .‬بل ستقلب أيضا‬
‫العالقة التقليدية بين الهوية وبين االختالف‪ .‬وهذا هو‬

‫‪33‬‬
‫االفتراض الثاني بصدد األنطولوجيا الذي يتحدّاه دولوز‪ .‬وهو‬
‫مضفور مع األول‪.‬‬
‫ٌ‬

‫إذا كانت األنطولوجيا مشروعا ً لمجرد االكتشاف‪،‬‬


‫ة طبيعةِ أو ماهيةة ما هو موجود‪ .‬هو‬ ‫فالقصد منها هو صياغ ُ‬
‫أن تُقدّم لنا هوية ما هو موجود‪ .‬والهوية تتطلّب استقرارا‬
‫ة‪ ،‬البد أن تكون له‬‫مفهوميا‪ .‬فحتى تكون لشيءٍ هوي ٌ‬
‫خصائص يمكن تحديد هويتها عبر الزمن‪ .‬وليست هذه‬
‫الخصائص بحاجة إلى أن تكون مستقرة‪ .‬فاالستقرار ال‬
‫تحتاج إلى امتالكه سوى المفاهيم التي تحدد هوية تلك‬
‫أنواع معينةة من عدم‬
‫ٍ‬ ‫الخصائص‪ .‬ويمكن تحديد هوية‬
‫االستقرار‪ ،‬ويمكن أن تكون جزءا ً من هوية ما هو موجود‪.‬‬
‫صواب في رؤيته للتطور اإلنساني‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وإذا كان فرويد على‬
‫فإن التوترات بين عالقات المرء الحاضرة وبين عالقاته‬
‫األبوية السابقة هي من طبيعةة الكائن اإلنساني‪ .‬وما من‬
‫ة للتفتح اإلنساني؛‬ ‫طريقة بعينها لحل هذه التوترات جوهري ٌ‬
‫ة بأحبولة تلك التوترات‬ ‫مشتبك ٌ‬ ‫إال ّ أن هوية الكائنات اإلنسانية ُ‬
‫وأوجه عدم االستقرار التي تنشأ منها‪ .‬ويمكن تحديد طابع‬
‫كلمات‬
‫ٍ‬ ‫التوترات ذاتها‪ .‬ويمكن اإلمساك بذلك الطابع في‬
‫تملك استقرارا ً مفهوميا‪ ،‬كلمات من قبيل عقدة أوديب و‬
‫الطرح‪.‬‬

‫ف من‬
‫دون استقرارٍ مفهومي ال يمكن أن يوجد اكتشا ٌ‬
‫النوع الذي سعت إليه األنطولوجيا دوماً‪ .‬وما لم نستطع‬
‫كلمات تحدد هويته فعال‪ ،‬فإن‬
‫ٍ‬ ‫صياغة ما هو موجود ٌ في‬
‫اكتشافاتنا تنسرب من قبضتنا المفهومية‪ .‬ونبقى مع‬
‫مجال يتحدّى‬
‫ٍ‬ ‫التشوُّشة الكامل [الكاوس] ‪ ،chaos‬مع‬

‫‪34‬‬
‫فهمنا‪ ،‬يقاوم محاولتنا ألن نقول ما هو موجود ٌ وألن نقول‬
‫ة هنا‪ ،‬ألن ما هو موجود ٌ ال يمكن‬
‫ما هو عليه‪ .‬ال توجد هوي ٌ‬
‫تحديد هويته بطريقةٍ تتيح لنا االنخراط في األنطولوجيا‪.‬‬

‫بطرقهم المختلفة‪ ،‬يجادل نيتشه وسارتر وفوكوه‬


‫هويات أنطولوجية يمكن اكتشافها‪ ،‬ألن‬
‫ٍ‬ ‫وديريدا بأن ما من‬
‫هويات‬
‫ٌ‬ ‫ة مستقرة ليس كذلك‪ .‬وقد أصبحت‬ ‫ما يبدو أنه هوي ٌ‬
‫ة في آرائنا الفلسفية ليس ألنها تعكس الطرق‬ ‫سب ً‬
‫بعينها متر ِّ‬
‫التي عليها األشياء فعال بل ألن تاريخنا أو مخاوفنا أو لغتنا قد‬
‫وضعتها هناك‪ .‬األنطولوجيا‪ ،‬أبعد من أن تكون ارتباطا مع ما‬
‫هو موجود‪ ،‬تُنكر الطابع المتحوِّل للواقع أو الخاصية‬
‫مية للغتنا‪ .‬حيث أنها مشروعٌ لالكتشاف‪ ،‬تتطلب‬ ‫المسا ِّ‬
‫ة؛ وألنها تفعل ذلك فإنها إخفاقٌ فلسفي‪.‬‬ ‫األنطولوجيا هوي ً‬

‫طبقا ً لدولوز‪ ،‬فإن أخفاق األنطولوجيا في اكتشاف‬


‫كيانات يمكن تحديد هويتها ال يُصدر حكما ً بنهاية األنطولوجيا‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بة"موت الفلسفة" كما يود ُّ بعض الكتّاب‪ .‬فهذا اإلخفاق‪ ،‬في‬
‫الحقيقة‪ ،‬هو بداية األنطولوجيا‪ .‬إذ يمكننا االنخراط في‬
‫األنطولوجيا‪ ،‬في نوع األنطولوجيا الوحيد الذي يستحق العناء‬
‫ةة األنطولوجيا التي تستجيب لسؤال كيف يمكن أن يحيا‬
‫كمشروع للهوية‪ .‬نبدأ‬
‫ٍ‬ ‫ف عن النظر إليها‬‫المرء ةة حين نك ّ‬
‫األنطولوجيا حين نتخلّى عن البحث عن االستقرار‬
‫المفهومي ونبدأ في النظر إلى ما هو موجود ٌ على أساس‬
‫االختالف وليس على أساس الهوية‪" :‬االختالف وراء كل‬
‫‪7‬‬
‫شيء‪ ،‬لكن وراء االختالف ليس ثمة شيء‪".‬‬

‫‪35‬‬
‫ف يعني على الفور‬‫النظر إلى الوجود على أنه اختال ٌ‬
‫رفض التفلسف على أساس الهويات ونبذ مشروع‬
‫األنطولوجيا بوصفها اكتشافاً‪ .‬لكنه‪ ،‬رغم ذلك‪ ،‬ال يعني‬
‫اللجوء إلى االختالق[القص]‪ . fiction‬التخلّي عن االكتشافة‬
‫ليس إعالنا ً بأن الفلسفة قد تخلّت عن مجالها لكتابة‬
‫الرواية‪ .‬لسنا بحاجة إلى طرح مفهومينة مستقرينة ةة هما‬
‫االكتشافة والخلق ةة واستنتاج أن الفلسفة بما أنها ليست‬
‫مجرد األول فإنها ليست أكثر من الثاني‪ .‬فمثلما يكون كتّاب‬
‫ص مقيدين بالشخصيات التي يخلقونها‪ ،‬وبالمواقف التي‬ ‫الق ّ‬
‫تجد تلك الشخصيات نفسها فيها‪ ،‬وبتدفّق السرد ذاته‪ ،‬فإن‬
‫بطرق مختلفة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫مقيَّدةٌ‪ ،‬لكن‬
‫الفلسفةة ُ‬

‫ماهي الفلسفة؟ة إنها "فن تشكيل‪ ،‬واختراع‪ ،‬وتلفيق‬


‫المفاهيم‪ 8".‬المفهوم ليس اختالقا ‪ ، fiction‬لكنه ليس‬
‫اكتشافا كذلك‪ .‬المفهوم هو طريقة لمخاطبة االختالف‬
‫ة لصياغة‬ ‫نخبرها‪ .‬إنه طريق ٌ‬
‫ُ‬ ‫الكامن تحت الهويات التي‬
‫الواقع االفتراضي الخفي الذي ينبثق منه الواقع الذي نخبره‬
‫فعال‪ .‬في يدي دولوز‪ ،‬ال تسعى الفلسفة إلى تقديم إطارٍ‬
‫متماسك من داخله يمكننا أن نرى أنفسنا وعالمنا ككل‪ .‬إنها‬
‫ال تضع كل شيءٍ في مكانه‪ .‬ال تخبرنا من نحن أو ما يجب‬
‫أن نفعله‪ .‬الفلسفةة ال تُسويّ األشياء‪ .‬بل تُوقع فيها‬
‫بالتحرك أسفل‬ ‫ّ‬ ‫االضطراب‪ .‬الفلسفة تُوقِع االضطراب‬
‫ج تلك‬ ‫العالم المستقرة للهويات إلى عالم ٍ من االختالف يُنت ِ ُ‬
‫الهويات ويُبيِّن في نفس اآلن أنها ال تزيد كثيرا عن ال َزبَد‬
‫المصاحب لما هو موجود‪ .‬وهي تفعل ذلك بخلق المفاهيم‪.‬‬
‫فالمفاهيم تصل إلى أسفل الهويات التي يقدّمها لنا عالمنا‬

‫‪36‬‬
‫كي تلمس عالم االختالف الذي يؤسس تلك الهويات وكذلك‬
‫يُوقِع فيها االضطراب‪.‬‬

‫ما من مفهوم ٍ يقف وحده‪ .‬فهو يتصل بمفاهيم أخرى‪،‬‬


‫ويتواجد معها على "مستوى محايثة"‪plane of‬‬
‫جع صداها‬ ‫‪ immanence‬يتيح للمفاهيم المختلفة أن يتر ّ‬
‫معا بحشد ٍ من الطرق‪" .‬المستوى هو الذي يُحقق الوصالت‬
‫ارتباطات متزايدة باستمرار‪ ،‬والمفاهيم هي‬
‫ٍ‬ ‫المفاهيمية مع‬
‫متجدِّدٍ‬
‫التي تحقق أن يكون المستوى مأهوال على منحنى ُ‬
‫متغيّر دائماً‪ 9".‬المفاهيم ومستوى المحايثة‪ ،‬سوياً‪ ،‬يمنحان‬ ‫و ُ‬
‫صوتا لالختالف الذي هو وراء كل شيءٍ وليس وراءَه شيءٌ‪.‬‬

‫كيف يكون هذا ممكناً؟ كيف يمكن أن يلتقط ‪capture‬‬


‫ة لكنه بدال من ذلك يكمن أسفلها‬ ‫م شيئا ليس هوي ً‬
‫مفهو ٌ‬
‫وداخلها؟ رغم أننا بدأنا لتوّنا مقاربة االختالف الذي يتحدث‬
‫ة‪.‬‬
‫عنه دولوز‪ ،‬يمكننا بالفعلة إدراك أنه ال يمكن منحه هوي ً‬
‫االختالف ال يمكن تحديد هويته‪ .‬ما العالقة بين مفهوم ٍ أو‬
‫منظور فلسفي يتركّب من مفاهيم ٍ على مستوى وبين‬
‫االختالف الذي يصوغه؟ في األنطولوجيا التقليدية‪ ،‬فإن‬
‫المفاهيم تحدّد هوية ما هو موجود‪ .‬فماذا يمكن لمفهوم ٍ‬
‫أن يفعل مع ما ال يمكن تحديد هويته؟ة‬

‫سه ‪palpate‬‬ ‫ج ُّ‬


‫المفاهيم ال تحدِّد هويه االختالف‪ ،‬بل ت ِ‬
‫سون‬
‫‪ .‬حين يسعى األطباء لفهم آفةٍ ال يرونها‪ ،‬فإنهم يج ُّ‬
‫س‬
‫لمس يمكن أن ينبثق فيها ح ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫الجسد‪ .‬يخلقون منطقة‬
‫اآلفة دون أن يخبَروها مباشرةً‪ .‬يستخدمون أصابعهم لخلق‬
‫س‬
‫فهم ٍ حيث يكون تحديد الهوية المباشر مستحيال‪ .‬هذا الح ّ‬
‫‪37‬‬
‫أو الفهم ليس وجدانيا‪ .‬وليس تأثيراً‪( .‬بالنسبةة لدولوز‪ ،‬الفن‬
‫هو مجال التأثيرات؛ والفلسفةة هي مجال المفاهيم‪ ).‬يمكننا‬
‫س "يمنح صوتا" لآلفة‪ .‬يتيح لآلفة أن تتكلم‪:‬‬ ‫القول أن الج ّ‬
‫بصوت لن‬
‫ٍ‬ ‫ليس بكلماتها الخاصة‪ ،‬إذ ليس لديها كلمات‪ ،‬بل‬
‫يجري على األقل الخلط بينه وبين شيءٍ غيرها‪.‬‬

‫س ليس نشاطا ً فلسفيا تقليديا‪ .‬فهو ال يسعى إلى‬ ‫الج ّ‬


‫الجلب ضمن نطاق سيطرتنا الذهنية‪.‬‬ ‫َ‬ ‫الفهم‪ ،‬إذا عنينا بالفهم‬
‫األنطولوجيا التقليدية ستحب أن تُقارن مفاهيمها بما هو‬
‫ة لما هو موجود بواسطة مفاهيم‬ ‫موجود‪ ،‬أن ترسم خريط ً‬
‫سبة تتطلب الصدق‪ ،‬واالستقرار‬ ‫مناسبةٍ له‪ .‬والمنا َ‬
‫ف هو ما‬ ‫المفهومي‪ ،‬وفي النهاية الهوية‪ .‬لكن إذا كان االختال ُ‬
‫مشوِّق ‪ interesting‬والبارز‬ ‫نبحث عنه ال الهوية‪ ،‬وال ُ‬
‫س ال‬
‫‪ remarkable‬ال الصادق ‪ ،true‬فإن ما نتطلبه هو الج ُّ‬
‫الفهم‪.‬‬

‫س شيئا ال يمكن إدراكه مباشرةً‪،‬‬


‫إذا كان الطبيب يج ّ‬
‫س شيئا‬ ‫س شيئا ً ال يمكن فهمه مباشرةً‪ .‬تج ّ‬‫فإن الفلسفةة تج ّ‬
‫يفلت من قبضتنا النظرية‪ ،‬شيئا يفلت ةة كما سنرى بعد‬
‫لحظة ةة من معرفتنا‪.‬‬

‫س االختالف‪ ،‬وبذلك تمنحه صوتا‪ .‬إنه‬


‫المفاهيم تج ّ‬
‫ف ومزعج‪ .‬ليس صوت مغني الةﭘوپ أو‬ ‫صوت غريب‪ ،‬مخي ٌ‬‫ٌ‬
‫شرع وال األستاذ‪ .‬صوت‬
‫م ِّ‬‫مذيع األخبار‪ .‬وال هو صوت ال ُ‬
‫مكان ناءٍ وحميم في آن واحد‪ ،‬منّا‬
‫ٍ‬ ‫االختالف ينبعث من‬
‫وليس منا في نفس الوقت‪ .‬وخلق المفاهيم‪ ،‬الذي هو في‬
‫نظر دولوز الجهد الوحيد ذو المغزى الذي يمكن للفلسفة‬

‫‪38‬‬
‫صوت لهذا االختالف‬ ‫ٍ‬ ‫س ومنح‬‫أن تنخرط فيه‪ ،‬يسعى إلى ج ّ‬
‫الذي يعطِّل كل مشروعات تحديد الهوية‪ .‬الفلسفةة هي‬
‫ما هو موجود‪ .‬لكن ما هو موجود ٌ ال‬ ‫أنطولوجيا؛ وتتحدث ع ّ‬
‫يمكن تحديد هويته‪ .‬أو باألحرى‪ ،‬ما يمكن تحديد هويته هو‬
‫تفعيل وحيد ‪ ،actualization‬لما هو‬ ‫ٍة‬ ‫مجرد تبدٍ وحيد‪،‬‬
‫مجرد تمييز‬ ‫ّ‬ ‫ف ليس‬ ‫موجود‪ .‬ما هو موجود هو اختالف‪ :‬اختال ٌ‬
‫ضع االختالف للهوية) أو نفي‬ ‫بين هويتين (تميي ٌز سيُخ ِ‬
‫(نفي سيفكر في االختالف بشكل سلبي فقط)‪ .‬ما‬ ‫ٌ‬ ‫إحداهما‬
‫ص يشكِّل التربة‬ ‫ف خال ٌ‬‫ف في ذاته‪ ،‬اختال ٌ‬ ‫هو موجود ٌ هو إختال ٌ‬
‫لكل الهويات‪ ،‬وكل التمييزات‪ ،‬وكل صور النفي‪ .‬مهمة‬
‫الفلسفةة هي خلق مفاهيم ٍ لالختالف‪.‬‬

‫عادةً ما يستخدم دولوز كلمة فكر ‪thought‬‬


‫‪10‬‬
‫لإلشارة إلى الفلسفة التي تأخذ مهمتها على محمل الجد‪.‬‬
‫وهو يميِّز الفكر عن المعرفة ‪ . knowledge‬المعرفة هي‬
‫تمييز وفهم الهويات‪ .‬فحين نعرف شيئا نملك سيطرةً‬
‫إدراكية على هويته‪ .‬وقد اعتبر معظم الفالسفة أن مشروع‬
‫الفلسفةة هو مشروع المعرفة‪ .‬وقد فعل الفالسفة في‬
‫التقاليد التحليليةة ذلك بالتأكيد‪ .‬وفي صياغة نموذج عملهم‬
‫على غرار نموذج العلوم أو الرياضيات‪ ،‬سعوا إلى اكتساب‬
‫مساحات ال ترتبط تقليديا بمجاالتهم‪ ،‬مثال في‬
‫ٍ‬ ‫المعرفة في‬
‫طبيعة المعرفة أو اللغة‪( .‬رغم أن ثمة‪ ،‬كما يجادل دولوز‪،‬‬
‫ل من الرياضيات والعلم لمن يرونهما‬ ‫مفاجآت تخبئها ك ٌ‬
‫مجالين نموذجيين للمعرفة‪ .‬وسوف نرى في الفصل الثالث‬
‫من هذا الكتاب أنهما يجري فيهما مما يسميه دولوز الفكر‬
‫ة وبذلك‬ ‫الفكر هوي ً‬
‫ُ‬ ‫أكثر مما نُدرك عادةً‪ ).‬وبالمقابل‪ ،‬ال يحدّد‬
‫ف إلى‬ ‫ة‪ .‬فهو يتحرك أبعد مما هو معرو ٌ‬ ‫ال يمنحنا معرف ً‬

‫‪39‬‬
‫االختالف تحته‪ ،‬ووراءه‪ ،‬وداخله‪ .‬وحيث أن االختالف يسبق‬
‫س اختالفا ً يكمن أبعد من‬
‫الفكر‪ ،‬ال يمكن للفكر سوى أن يج ّ‬
‫متناوله‪ .‬ثمة دائما المزيد ُ للتفكيرة فيه‪ .‬وثمة دائما المزيد‬
‫من الفلسفةة للقيام بها‪.‬‬

‫هل يعني هذا أن الفلسفة‪ ،‬حين يتم القيام بها على نحوٍ‬
‫مناسب باعتبارها فكرا ً ال معرف ً‬
‫ة‪ ،‬تقدم لنا اختالقات‬ ‫ٍ‬
‫‪ fictions‬؟ هل تشغل المعرفة نفسها باالكتشاف‪ ،‬بينما‬
‫يشغل الفكر (بالمعنى الدولوزي) نفسه بالخلق؟ ألم نعد‬
‫إلى التمييز الذي كنا نحاول لتوّنا محوه بين ما يمكن العثور‬
‫عليه وما يتم اختالقه؟‬

‫ف‬‫لن نفعل ذلك إال ّ إذا توجب علينا اإليمان بأن االختال َ‬
‫مجبرين على اإليمان بذلك‪.‬‬ ‫هو اختالقٌ‪ . fiction‬لكننا لسنا ُ‬
‫فاالختالف ليس خلقا ً أكثر من كونه اكتشافاً‪ .‬مفاهيمة‬
‫مختَلَقة‪ .‬ال‬
‫االختالف ليست مثل الشخوص القصصيةة ال ُ‬
‫تطالبنا بتعليق اإليمان‪ .‬لكنها ال تطالبنا كذلك بأن نؤمن‪.‬‬
‫الموافقة أو اإلنكار ليسا االستجابات التي تبحث عنها‬
‫المفاهيم‪" .‬الفلسفة ال تتمثل في المعرفة وال تستَلهم‬
‫المشوق‪ ،‬أوالبارز‪ ،‬أو الهام‬ ‫ِّ‬ ‫الصدق‪ .‬بل إن مقوالت مثل‬
‫هي التي تحدد النجاح أو الفشل‪ 11".‬ال يكمن مصير المفاهيم‬
‫الفلسفيةة والمواقف الفلسفية في صدق أو زيف مزاعمها‬
‫بل في آفاق التفكير والعيش التي تفتحها لنا‪ .‬إذا كانت‬
‫المعرفة تسعى إلى إجابة سؤال‪" ،‬ماذا يمكن أن نعرف مما‬
‫لم نكن نعرفه من قبل؟" فإن الفلسفة يُحركها تساؤل‬
‫مختلف‪" :‬كيف يمكن أن نرى ما لم نره من قبل؟"‬

‫‪40‬‬
‫"كيف" ليست مجرد ماذا‪ ،‬حيث أن ما نراه وكيف نراه‪،‬‬
‫في الفلسفة‪ ،‬ال ينفصالن‪ .‬المفاهيم الفلسفية واآلراء‬
‫الفلسفيةة التي تنبني عليها ال تقدّم لنا مجرد شيء نراه ةة‬
‫ة لرؤيته‪ .‬هذه الطريقة لممارسة‬ ‫االختالف ةة بل كذلك طريق ً‬
‫الفلسفةة ليست مهتمة بما إذا كان ما نراه موجودا ً حقاً‪ :‬هل‬
‫ف‪ ،‬حقاً؟ كذلك ال تفترض‪ ،‬مثل االختالق‬ ‫هناك اختال ٌ‬
‫‪ ، fiction‬أنه ال يوجد شيء من قبيل االختالف‪ ،‬حقاً‪ ،‬لكن‬
‫أننا لو اختلقناه ألمكنناة خلق عوالم جديدة ومشوِّقة‪.‬‬
‫الفلسفةة ال يُلهمها الصدق‪ ،‬لكن كذلك ال يُلهمها االختالق‪.‬‬
‫ة لرؤية هذا العالم الذي‬ ‫وبدال ً من ذلك‪ ،‬تخلق الفلسفةة طريق ً‬
‫ش الحقائقَ المقدَّمة لنا‪ ،‬وتفتح طرقا ً جديدة‬‫نحيا فيه تُشوِّ ُ‬
‫لرؤية وإدراك هذا العالم‪ ،‬بدل أن تكون صادقة أو زائفة‪،‬‬
‫مشوِّقة‪ ،‬أو بارزة‪ ،‬أو هامة‪" .‬التفكير"‪ ،‬كما يكتب‬ ‫تكون ُ‬
‫دولوز عن نيتشه‪" ،‬سيعني إذن اكتشاف‪ ،‬ابتكار‪،‬‬
‫‪12‬‬
‫إمكانات جديدة للحياة‪".‬‬
‫ٍ‬

‫يالحظ دولوز في أحد كتبه أنه "في كل مرة يطرح‬


‫على‪ ،‬أود ُّ أن أقول‪’:‬حسنا‪ ،‬حسنا‪ ،‬دعنا‬ ‫ص ما اعتراضا ً‬
‫شخ ٌ‬
‫َّ‬
‫جه‬‫ننتقل إلى شيء آخر‪ 13" ‘.‬وليس هذا ألنه ال يريد أن يُوا َ‬
‫بأيه أوجه قصور قد تكون في عمله؛ بل ألن الفلسفة‪ ،‬كما‬
‫يمارسها‪ ،‬ال تتعلّق بالجدال‪ .‬ال تتعلّق بالبحث عن الصدق‬
‫تحت األراء المتنافرة‪ .‬الفلسفة تتعلق باألنطولوجيا‪،‬‬
‫واألنطولوجيا تتعلق بمفاهيم االختالف‪ ،‬ومفاهيم االختالف ال‬
‫تسعى إلى النطق بالصدق؛ بل تخلق منظورا ً لما هو‬
‫موجود‪ .‬وما يحفز هذا المنظور هو سؤال كيف يمكن أن‬
‫يحيا المرء‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫يعلّمنا فوكوه وديريدا أننا لو كنا نفكر في حيواتنا فقط‬
‫على أساس ما يظهر لنا‪ ،‬ولو كنا نعتقد أن ما يظهر لنا‬
‫يستنفد إمكاناتنا‪ ،‬فإننا بالفعل مغروسون في االمتثال‪،‬‬
‫بالفعل ملتزمونة به‪ .‬واستجابتهما هي القول بأننا يجب أن‬
‫نتوقّف عن التفكيرة على أساس األنطولوجيا‪ ،‬على األقل‬
‫بالمعنى التحليلي‪ ،‬ألن األنطولوجيا تعلِّمنا أن ما يظهر لنا‬
‫وحتمي‪ .‬وال يمكن أن تكون األشياء على خالف ذلك‪.‬‬‫ٌّ‬ ‫طبيعي‬
‫ٌّ‬
‫ويتفق دولوز مع تشخيصهما‪ ،‬لكن ليس مع عالجهما‪ .‬إذا كان‬
‫السؤال هو كيف يمكن أن يحيا المرء‪ ،‬فطريقة مقاربته‬
‫تكون بأنطولوجيا أخرى‪ ،‬تقدم إمكانات لم نحلم بها من‬
‫قبل‪ ،‬وتُربتها أثرى بكثير من تلك النباتات التي أنبتتها حتى‬
‫اآلن‪.‬‬

‫‪VI‬‬

‫يٌقارب دولوز سؤال كيف يمكن أن يحيا المرء باعتباره‬


‫سؤال عن كيف يمكن لنا نحن‬ ‫ٍ‬ ‫سؤاال ً مركباً‪ .‬فليس مجرد‬
‫الكائنات اإلنسانية أن نمضي في خلق حياتنا‪ ،‬ماذا يمكن أن‬
‫نقرر أن نصنع من أنفسنا‪ .‬فقد ال نود ّ التفكيرة في السؤال‬
‫بهذه الطريقة على اإلطالق‪ .‬ثمة طرقٌ متنوعة لتفسير ما‬
‫نقصده بسؤال كيف يمكن أن يحيا المرء‪ .‬وكونه سؤاال ً‬
‫يتناول خلق الحيوات اإلنسانية هو مجرد واحدٍ من تلك‬
‫م بتفسيرين آخرين على األقل‪.‬‬ ‫التفسيرات‪ .‬ودولوز مهت ٌ‬

‫يمكن تفسير السؤال كذلك على أنه يطلب تأمال ً فيما‬


‫قد تدور حوله الحياة‪ ،‬في كيف يحدث العيش‪ .‬كيف يمكن‬
‫‪42‬‬
‫أن يحيا المرء؟ قد يعني شيئا من قبيل‪" ،‬فيم يتمثل‬
‫العيش؟" وما يجري السؤال عنه هنا ليس تقريرا عن‬
‫إمكاناتنا المستقبلية بقدر كونه منظورا لما يعنيه العيش‪.‬‬
‫ة عما يتمثل‬ ‫وبالتأكيد‪ ،‬ليست إمكاناتنا المستقبليةة منفصل ً‬
‫فيه عيشنا‪ .‬ما يٌقلق المفكرين الذين ناقشناهم هو على وجه‬
‫ة لما يتمثل فيه العيش تُضيِّق بال‬ ‫الدقة أن نظرة ضيق ً‬
‫ضرورة إدراكنا إلمكاناتنا المستقبلية‪ .‬األمران مرتبطان‪.‬‬
‫جه‬‫لكنهما ليسا نفس السؤال‪ .‬وفي مقاربة األنطولوجيا‪ ،‬يو ِّ‬
‫دولوز اهتمامه إلى سؤال ما يتمثّل فيه العيش أكثر بكثير‬
‫جهه إلى السؤال عن إمكاناتنا المستقبلية‪ .‬إمكاناتنا‬ ‫مما يو ّ‬
‫مه في كل مكان‪ .‬لكنه يتناولها بتقديم‬ ‫المستقبلية هي ما ته ّ‬
‫أنطولوجيا مناسبةٍ لها‪ .‬يخبرنا بما يتمثل فيه العيش حتى‬
‫لكل منا أن يسأل نفسه بصورةٍ أفضل عن إمكاناتنا‬ ‫ٍ‬ ‫يمكن‬
‫المستقبلية‪.‬‬

‫السؤال عما يتمثّل فيه العيش‪ ،‬كمسألة أنطولوجية‪،‬‬


‫ليس نفس الشيء كالسؤال عنه كمسألة بيولوجية‪ .‬فلن‬
‫تأتي اإلجابة على أساس الكربون؛ بل على أساس‬
‫االختالف‪ .‬بالنسبة لدولوز‪ ،‬يتمثّل العيش في االختالف‬
‫وتفعيلهة ‪ . actualization‬واالختالف ليس شيئاً‪ ،‬إنه‬
‫سيرورة‪ .‬إنه ينبسط [يتفتّح] ‪ unfolds‬ةة أو باألحرى‪ ،‬إنه‬
‫حي‪ .‬ليس بالخاليا أو‬
‫ٌّ‬ ‫طي)‪ .‬إنه‬
‫ٍّ‬ ‫(وطي‪ ،‬وإعادة‬
‫ٌّ‬ ‫س ٌ‬
‫ط‬ ‫بَ ْ‬
‫بالتنفُّس‪ ،‬بل بالحيوية ‪ . vitality‬والسؤال عما يتمثل فيه‬
‫العيش يعني السؤال عن هذه الحيوية في قلب األشياء‪.‬‬

‫ة أخرى لتفسير السؤال [كيف يمكن أن يحيا‬ ‫طريق ٌ‬


‫المرء؟‪How might one live :‬ةملكب لغشنت ال ]?] ال تنشغل بكلمة‬

‫‪43‬‬
‫العيش ‪ living‬بقدر ما تنشغل بكلمة المرء [الكائن‬
‫‪ .]one‬حتى اآلن اعتبرنا أن كلمة المرء‪/‬الكائن تعني‬
‫شخصاً‪ .‬لسنا بحاجة إلى ذلك‪ .‬إذا كان العيش هو مسألة‬
‫ط [تفتُّح] لالختالف الحيوي‪ ،‬فإن الكائن الذي يحيا يمكن‬ ‫بس ٍ‬
‫أن يكون أقل أو أكثر أو خالف الشخص‪ .‬يمكن أن يكون‬
‫ة أو‬
‫ة‪ .‬يمكن أن يكون مجموع ً‬ ‫فماً‪ ،‬إيماءةً‪ ،‬أسلوباً‪ ،‬عالق ً‬
‫ة‪ .‬إرساءُ مفهوم العيش في الناس يعني ارتكاب خطأ‬ ‫حقب ً‬
‫النزعةِة اإلنسانية‪ ،‬خطأ ِ االعتقاد بأن المنظور المناسب لفهم‬
‫العالم يتمحور حول وجهة نظر الذات اإلنسانية‪ .‬يحاول‬
‫دولوز أن ينتزعنا بعيدا عن النزعة اإلنسانية بالتركيزة على‬
‫كائن ال‬
‫ٍ‬ ‫اختالف ال يحتاج أن يكون اختالفا إنسانيا وعلى‬
‫ٍ‬
‫يحتاج أن يكون شخصاً‪ .‬يمكنني أن أكون الكائن الذي يحيا‪،‬‬
‫لكن يمكن كذلك أن تكون يدي أو عالقتي بزوجتي أو‬
‫الطريقة التي يُبحر بها جسدي خالل غرفةٍ مزدحمة‪.‬‬

‫سبب لمنح االمتياز لحياة الذات فوق غيرها من‬ ‫ٍ‬ ‫ما من‬
‫سبب لرفضها‪ .‬إنها منظور واحد ٌ‬
‫ٍ‬ ‫الحيوات‪ .‬كذلك ما من‬
‫ة واحدةٌ لإلمساك به مفهومياً‪ .‬وثمة‬‫لالختالف‪ ،‬طريق ٌ‬
‫منظورات وطرق أخرى‪ ،‬ليست أكثر وال أقل مالءمة‪ .‬أو أن‬ ‫ٌ‬
‫مالءمتها تعتمد على كيف تُضيف إلى العيش‪ .‬كان الخطأ‬
‫ة وحيدة‪ ،‬وأنها‬‫طوال الوقت هو االعتقاد بأن ثمة طريق ً‬
‫الطريقة اإلنسانية‪.‬‬

‫سؤال كيف يمكن أن يحيا المرء‪/‬الكائن‪ ،‬إذن‪ ،‬ليس‬


‫لكائن إنساني أن يمضي في‬
‫ٍ‬ ‫مجرد سؤال عن كيف يمكن‬
‫خلق مستقبله أو مستقبلها‪ .‬إنه ذلك‪ ،‬أيضا‪ .‬لكنه ليس ذلك‬
‫فحسب‪ .‬باعتباره سؤال أنطولوجيا‪ ،‬فإنه يخص خلق مفاهيم‬

‫‪44‬‬
‫مستويات مختلفة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫اختالف تُتيح لنا أن ندرس العيش على‬
‫ٍ‬
‫ة من أوجه الفهم‬ ‫وبين هذه المستويات قد نجد تنويع ً‬
‫ة من‬
‫ألنفسنا‪ ،‬وهذه التنويعةة من أوجه الفهم قد تفتح تنويع ً‬
‫المستقبَالتة لنحياها‪ .‬هذا التعدد والتشتتة للمفاهيم‬
‫ة أمام فلسفة دولوز‪ .‬إنه المقصود‪.‬‬ ‫والمنظورات ليس صعوب ً‬

‫ربما صاغ الفيلسوف جون رايشمان ‪John Rajchman‬‬


‫حديث من االبتذال الذي‬ ‫ٍ‬ ‫األمر على أفضل نحو‪" :‬في عالم ٍ‬
‫يثير الخُبَال‪ ،‬والروتين‪ ،‬والكليشيه‪ ،‬واالستنساخ الميكانيكي‬
‫أو النزعة اآللية‪ ،‬تكمن المشكلة في استخالص صورةٍ‬
‫الهوت‬
‫ٍ‬ ‫فريدة‪ ،‬طريقةٍ حيوية‪ ،‬متعددة‪ ،‬للتفكيرة والقول‪ ،‬ال‬
‫بديل‪14".‬سنعود إلى هذا في الفصل الخامس‪ .‬لكن يمكننا‬
‫ة‬
‫بالفعل أن نلمح أن أنطولوجيا دولوز ال تعطينا وصف ً‬
‫للعيش‪ .‬في مقاربة سؤال كيف يمكن أن يحيا المرء‪ ،‬ال‬
‫ة بسيطة‪:‬ة عيشوا هكذا‪ .‬إذا كانت‬ ‫يقدم لنا دولوز صيغ ً‬
‫ةة باالختالف‪ ،‬فالبد أن ينشغلة المستقبل‬ ‫منشغل ً‬‫أنطولوجياه ُ‬
‫بالتجريب‪ .‬يمكننا أن نكتشف إمكاناتنا ةة إمكاناتي‪ ،‬لكن أيضا‬
‫إمكانات يدي‪ ،‬وعالقاتي‪ ،‬والمجموعات التي أشارك فيها‪،‬‬
‫وأسلوب حركةٍ فنية ةة باختبار االختالف‪ ،‬برؤية ما هي‬
‫الطي التي يكون‬ ‫ّ‬ ‫الطيّات الجديدة‪ ،‬واالنبساطات‪ ،‬وإعادات‬
‫من فوق شريحة‪،‬‬ ‫قادرا عليها‪" .‬هكذا يجب عمل األمر‪ :‬إك ُ‬
‫ج ّرب مع الفرص التي تُقدّمها‪ ،‬أعثُر على مكان متميّز‬ ‫َ‬
‫ط‬
‫حركات محتملة لنزع التوطين‪ ،‬وخطو ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫فوقها‪ ،‬أعثر على‬
‫جرب‬‫فيض هنا وهناك‪ّ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ممكنة للهروب‪ ،‬إخبَرها‪ ،‬أنتِج وصالت‬
‫ة نتفة[‪،]segment by segment‬‬ ‫كثافات نتف ً‬
‫ٍ‬ ‫متّصالت‬
‫إحصل على قطعة صغيرة من األرض الجديدة في كل‬
‫‪15‬‬
‫وقت‪".‬‬

‫‪45‬‬
‫لسنا بحاجة إلى االمتثال‪ .‬وفي الحقيقة‪ ،‬إذا كان‬
‫ومتع‬
‫ٍ‬ ‫مشوِّقة‪ ،‬قادرةً على مشاعر جديدة‪،‬‬ ‫لحيواتنا أن تكون ُ‬
‫جديدة‪ ،‬وأفكارٍ وخبرات جديدة‪ ،‬البد اال ّ نمتثل‪ .‬يقدم لنا‬
‫ة جذريا ً لمقاربة العيش‪ ،‬وهي طريق ٌ‬
‫ة‬ ‫ة مختلف ً‬
‫دولوز طريق ً‬
‫جذ ّابة‪ ،‬طالما كنا على استعداد ألن نسأل من جديد عما‬
‫يعنيه أن نكون نحن وما يعنيه أن نحيا‪ .‬طالما كنا على‬
‫إجابات بل طرقا ً‬
‫ٍ‬ ‫استعداد لقبول أن األنطولوجيا ال تقدم‬
‫لمقاربة سؤال العيش‪ .‬طالما لجأنا إلى عمله ال لنحسم‬
‫ة ‪ settle‬قديمة أو حسابات قديمة بل لنصبح غير‬ ‫أسئل ً‬
‫مستقرين ‪ . unsettled‬باختصار‪ ،‬طالما كنا على استعداد‬
‫لممارسة الفلسفة‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫هوامش‬
1 Deleuze, Expressionism in Philosophy:
Spinoza, p. 226.
2 Williams, Ethics and the Limits of
Philosophy, p. 1.
3 Sartre, “Existentialism,” p. 23.
4 Foucoult, “Practicing Criticism,” p. 156.
5 Foucoult, “Truth, Power, Self: An Interview
with Michel Foucault,” p. 11.
‫بطرق عديدة مواصل ٌة لتدمير‬
ٍ ‫ التفكيك هو‬6
‫ هايدجر للفلسفة‬Destruktion
‫ يمكن قراءته‬differance ‫واإلخف(ت)فالفف‬،‫التقليدية‬
‫على أنه مقاربة الختالف هايدجر األونطي ة أونطولوجي‬
. onti-ontological
7 Deleuze, Difference and Repetition, p. 57.
8 Deleuze and Guattari, What Is
Philosophy?, p. 2.
9 Deleuze and Guattari, What Is
Philosophy?, p. 37

47
‫ صفحاته عن التفكيرة في كتابه‬،‫ على سبيل المثال‬،‫ أنظر‬10
.19 ‫ ة‬116 ‫ الصفحات‬،‫فوكوه‬
11 Deleuze and Guattari, What Is
Philosophy?, p. 82.
12 Deleuze Nietzsche and Philosophy, p.
101.
13 Deleuze and Parnet, Dialogues, p. 1.
14 Rajchman, The Deleuze Connections, p.
125.
15 Deleuze and Guattari, A Thousand
Plateaus, p. 161.

‫ نيتشه‬،‫ برجسون‬،‫سبينوزا‬
‫الثالوث المقدّس‬
48
‫‪I‬‬

‫يكتب دولوز وجاتاري ‪ Guattari‬أن‪" ،‬سبينوزا هو مسيح‬


‫الفالسفة‪ ،‬وأعظم الفالسفة هم بالكاد حواريون يبتعدون أو‬
‫يقتربون من لغزه‪ 1".‬وإذا كان سبينوزا ‪ Spinoza‬هو المسيح‬
‫بين فالسفة دولوز‪ ،‬فإن برجسون ‪ Bergson‬هو األب‪ ،‬ونيتشهة‬
‫القدُس‪ .‬سبينوزا يقدم لنا المحايثة‬ ‫ُ‬ ‫‪Nietzsche‬الروح‬
‫سد لحماً‪ .‬ويقدّم لنا برجسون‬‫‪ ،immanence‬االختالف وقد تج َّ‬
‫زمنية الديمومة ‪ ، duration‬التي بدونها ال يمكن أن تولد‬
‫ما روح نيتشه‪ ،‬روح التوكيد الفعّال والمبدع لالختالف‬‫المحايثة‪ .‬أ ّ‬
‫شكل من أشكال الهوية‪ ،‬فيتخلّل المشروع‬ ‫ٍ‬ ‫دون استبقائه في‬
‫بكامله‪.‬‬

‫كتب عن هيوم‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫يكتب دولوز عن مفكّرين آخرين‪ .‬فهناك‬
‫وكانط‪ ،‬وﭘروست‪ ،‬و زاخر ة مازوخ ‪، Sacher- Masoch‬‬
‫وكافكا‪ ،‬وفوكوه‪ ،‬وليبنيتز‪ .‬وهناك التجاءات إلى لوكريتيوسة‬
‫‪ ، Lucretius‬وسكوتوس [دونس سكوت]‪ ، Scotus‬وهايدجر‪،‬‬
‫وإشارات إلى ملةﭬيل‪ ،‬وهنرى ميللر‪ ،‬وميشيلة تورنييه ‪Michel‬‬
‫‪ ، Tournier‬وﭘيير كلوسوفسكي ‪، Pierre Klossowski‬‬
‫وﭼويس‪ ،‬وإحاالت علمية إلى مونوه ‪ Monod‬وﭘريجوﭼين‬
‫‪ . Prigogine‬لكن في النهاية‪ ،‬هناك ثالثة يرتفعون فوق‬
‫اآلخرين‪ .‬وهم من يقدمون الحافز واإلطار لألنطولوجيات التي‬
‫يقيمها دولوز على مسار كتاباته العديدة‪ .‬المحايثة‪ ،‬الديمومة‪،‬‬

‫‪49‬‬
‫محدِّدات‬
‫التوكيد‪:‬ة سبينوزا‪ ،‬برجسون‪ ،‬نيتشه‪ .‬هذه هي ُ‬
‫أنطولوجيا لالختالف‪.‬‬

‫‪II‬‬
‫المحايثة هي أول متطلبات أنطولوجيا لالختالف‪ .‬فال يمكن‬
‫للفلسفة أن تسمح بالتعالي ‪ transcendence‬دون أن تسقط‬
‫في مفاهيم ٍ غير دقيقة‪ ،‬مفاهيم ِ الهوية‪ ،‬مفاهيم تقودنا في نهاية‬
‫ة بة ‪ ...‬األوهام ونأخذ‬ ‫المطاف إلى االمتثال‪" .‬البد أن نضع قائم ً‬
‫ة‬
‫مقاسها‪ ،‬مثلما وضع نيتشه‪ ،‬مقتفيا أثر سبينوزا‪ ،‬قائم ً‬
‫ة‪ .‬وقبل كل‬ ‫بةة‘األخطاء األربعة الكبرى‪ ’.‬لكن القائمة النهائي ٌ‬
‫شيء هناك وهم التعالي ‪ ،transcendence‬الذي‪ ،‬ربما‪،‬‬
‫‪2‬‬
‫يأتي قبل كل األوهام األخرى‪".‬‬

‫مد العيش‪ ،‬يجعله يتجلَّط ويفقد تدفُّقه؛ يسعى‬ ‫التعالي يُج ِّ‬
‫ل فكرٍ وإخضاعه‬‫إلى اإلمساك باالختالف الحيوي الذي يتجاوز ك َّ‬
‫لحكم منظورٍ منفرد‪ ،‬منظورٍ يقف خارج االختالف ويجمعُه في‬
‫ة مح ّ‬
‫ل‬ ‫ل المعرف َ‬‫ح ُّ‬
‫تصنيفات يمكن التعامل معها‪ .‬التعالي ي ُ ِ‬
‫ٍ‬
‫الفكر‪.‬‬

‫ما يتعالى يقف خارج أو فوق‪ .‬إنه أبعد‪ .‬ومثاله األولي هو‬
‫رب التقاليد اليهودية ةة المسيحية‪ .‬الرب يتعالى‪ .‬إنه يتعالى‬
‫على العالم‪ ،‬لكنه أيضا يتعالى على الخبرة اإلنسانية‪ .‬إنه أبعد‬
‫من أي شيء يمكننا أن نتصوره عنه‪( .‬هذا التعالي‪ ،‬فيما يبدو‪ ،‬ال‬
‫الرب من إعطاء رسائل خاصةٍ لممثليه المختارين‬ ‫َ‬ ‫يستبعد‬
‫‪50‬‬
‫ة سياسة‪ ).‬في‬‫ة اخرى ةة مسأل ُ‬‫بشأن ما يريده‪ ،‬لكن هذه مسأل ٌ‬
‫خ تسوده موتيفة التعالي‪ ،‬يشكل تعالي‬ ‫تاريخ الفلسفة‪ ،‬وهو تاري ٌ‬
‫ل ميراث‪ .‬لكنه ليس الوحيد‪.‬‬ ‫الرب أطو َ‬

‫قبل أن يوجد الرب ُوجدت الصور األفالطونية‬


‫‪ . Platonic Forms‬تقف الصور ‪ Forms‬خارج الخبرة‬
‫اإلنسانية؛ فهي تتعالى فوق ‪ transcend‬العالم‪ ،‬ليس العالم‬
‫الذي نَخب َ ُره فحسب‪ ،‬بل العالم ذاته‪( .‬ويتضح أن االختالف‬
‫يتعالى فوق العالم الذي نخبَره لكنه ال يتعالى فوق العالم‬
‫متعال فوق معرفتنا‪ ،‬لكن ليس فوق ما يمنح‬
‫ٍ‬ ‫ذاته‪ .‬إنه‬
‫المعرفة‪ ).‬ودور الفيلسوفة أن يسعى إلى فهم الصور‪.‬‬
‫الفيلسوف يسعى إلى المشاركة اإلدراكية فيها‪ ،‬راغبا ً في أن‬
‫يمسك ذهنيا بطبيعتهاة وأن يصوغ العالم‪ ،‬في نهاية المطاف‪،‬‬
‫على غرارها‪ .‬والمهمة األخيرة تنتمي إلى الملك الفيلسوف‪ :‬أن‬
‫يُطبِّق دروس التعالي على هذا العالم‪ .‬الفالسفة مطلوبون‬
‫تعال يجب فهمه وتعلُّمه‬
‫ٍ‬ ‫مجتمع عادل ألن ثمة‬
‫ٍ‬ ‫كحكام من أجل‬
‫منهم‪ .‬هذا هو درس المجاز التمثيلي للكهف في محاورة‬
‫أفالطون الجمهورية‪.‬‬

‫م الرب المتعالي‬ ‫قبل أن يصبح دور الفيلسوف هو فه ُ‬


‫م الصور المتعالية‬ ‫وعالقتنا بذلك الرب‪ ،‬إذن‪ ،‬فإنه فه ُ‬
‫ومشاركتنا فيها‪ .‬وبعد الرب هناك الذاتية اإلنسانية‪.‬‬

‫ل فورا محل الرب‪ .‬فتضارب مشاعر‬ ‫ح ُّ‬


‫الذاتية البشرية ال ت ِ‬
‫ديكارت بين سلطة الكوﭼيتو وسلطة الرب يعكس الميالد‬
‫ك ديكارت في كل شيء يمكن‬ ‫الصعبة للذات اإلنسانية‪ .‬يش ُّ‬
‫الشك فيه‪ ،‬وال يترك سليما سوى الذات اإلنسانية التي تشك‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫لكن الذات مازالت غير قادرةٍ على بناء عالمٍ؛ فتلك اللحظة‬
‫تنتظر وصول بيركلي ‪ Berkeley‬ثم كانط‪ .‬بالنسبة لديكارت‬
‫ة المساعدة‪ ،‬مساعدة ً ال يمكن أن يقدمها‬ ‫تتطلّب الذات اإلنساني ُ‬
‫ست بذور الرب داخل الذاتية التي اقتصر‬ ‫سوى الرب‪ .‬هكذا غُرِ َ‬
‫عليها ديكارت بدافع الشك‪ ،‬لكن وجود الرب يتعالى أيضا ً فوق‬
‫الذات اإلنسانية أوالً‪:‬‬
‫ُ‬ ‫الذاتية‪ .‬إﭘةيستةمولوجيا ً [معرفيا]‪ ،‬تأتي‬
‫الذات في أعقاب‬
‫ُ‬ ‫قر المعرفة‪ .‬لكن‪ ،‬أنطولوجياً‪ ،‬تأتي‬ ‫مست َ ُّ‬
‫إنها ُ‬
‫يضمن خبرة َ الذات‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ح كما‬
‫الرب‪ ،‬حيث أن الرب يمن ُ‬

‫كل من‬‫تعال مزدوج‪ ،‬للذاتية عن العالم وللرب عن ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫هذا‬


‫الذات والعالم‪ .‬التعالي األول يمنح الميالد لمشكلةة العقل ةة‬
‫الجسد‪ :‬فإذا كان العقل يعلو على الجسد‪ ،‬ماذا تكون عالقتهما‬
‫إذن؟ أما التعالي الثاني فيواصل تقاليد العصرين العتيق‬
‫والوسيط لتعالي الرب‪.‬‬

‫ومع الزمن‪ ،‬يحل التعالي األول محل الثاني‪ .‬تعلو الذات‬


‫ة إياه شكالً‪.‬‬ ‫ة إياه ومانح ً‬
‫س ً‬
‫س َ‬
‫اإلنسانية على العالم المادي‪ ،‬مؤ ِّ‬
‫مستَعبَدةً لذاتية إنسانيةٍ‬ ‫ومن كانط حتى سارتر‪ ،‬تظل الفلسفةة ُ‬
‫تتخلّى عن الرب ليس باإلطاحة بالتعالي بل باغتصاب مكان‬
‫الرب فيه تدريجيا‪ .‬ليست أولوية الذات اإلنسانية تحوُّال ً إلى‬
‫المحايثة‪ ،‬ليست انغماسا ً في العالم‪ ،‬بل تعاليا ً تجري مواصلته‬
‫بطرق أخرى‪.‬‬
‫ٍ‬

‫إن فلسفة التعالي‪ ،‬سواء كان تعالي الصور أو الرب أو‬


‫الذات اإلنسانية‪ ،‬يتطلّب التزامين ويطارده سؤا ٌ‬
‫ل وحيد‪ .‬االلتزام‬
‫األول هو لوجود جوهرين أنطولوجيين‪ ،‬لنمطين من الوجود‪ .‬إذا‬
‫كان الرب يتعالى فوق العالم‪ ،‬فال يمكن جعله من نفس جوهر‬

‫‪52‬‬
‫العالم‪ .‬جوهر العالم متناهٍ‪ ،‬متغير‪ ،‬ومحدود ذهنياة حتى في‬
‫أحسن حاالته‪ .‬أما الرب فالمتناهٍ‪ ،‬ال يتغير‪ ،‬وكلّي المعرفة‪ .‬ولو‬
‫كان األمر بخالف ذلك‪ ،‬فلن يكون ثمة معنى لفكرة تعالي‬
‫الرب‪ .‬ربما كان الرب في مكان آخر في الفضاء والزمن‪ ،‬لكنه‬
‫لن يكون في الما وراء‪.‬‬

‫م‬
‫م ماديٌ وعال ٌ‬ ‫ونفس األمر مع الذاتية اإلنسانية‪ .‬فهناك عال ٌ‬
‫عقلي‪ .‬العالم المادي فيزيائي‪ ،‬محدود ٌ فضائيا‪ ،‬وخامل‪ .‬أما‬
‫ة من‬‫ة (رغم أنه أكثر محدودي ً‬ ‫العالم العقلي فأقل محدودي ً‬
‫سس للعالم المادي‪ .‬وال يعني هذا أن‬ ‫الرب)‪ ،‬ونشط‪ ،‬ومؤ ِّ‬
‫من‬ ‫م المادي فعلياً‪ .‬فالتأسيس ال يتض ّ‬ ‫العالم العقلي يخلق العال َ‬
‫الخلق‪ .‬فاألمر ليس كأن ثمة جوهرا ً عقليا ً فقط ثم‪ ،‬بمعجزةٍ ما‪،‬‬
‫تم خلق الجوهر المادي منه‪ .‬ما تم خلقه ليس المادة بل‬
‫العالم‪ .‬الماهو للعالم المادي‪ ،‬طابعه‪ ،‬يتأسس بواسطة العالم‬
‫ب‬‫مرك َّ ٍ‬‫العقلي‪ ،‬منسوجا من الخيوط الخاملة للعالم المادي إلى ُ‬
‫ذي معنى‪ .‬وحده العقل يمكنه أن يصنع عالماً‪ .‬وبدونه ثمة‬
‫صمت ببساطة‪.‬‬
‫ٌ‬

‫التعالي يتطلب وجود جوهرين أنطولوجيينة على األقل‪ .‬هذا‬


‫هو التزامه األول‪ .‬كما يتطلّب أن يكون أحد هذين الجوهرين‬
‫أرقي من اآلخر‪ .‬أرقى في القوة‪ ،‬وكذلك أرقى في القيمة‪.‬‬
‫الصور ‪ ،‬والرب‪ ،‬والذات اإلنسانية كلها أرقى من العوالم التي‬
‫ة الحقيقية للنسخ المبتذلة‬ ‫الصور الطبيع َة‬
‫ُ‬ ‫تعلو فوقها‪ .‬وتؤسس‬
‫الموجودة في العالم‪ .‬يكتب دولوز عن فكر أفالطون أن‬
‫"األساس [الصور] هو ما يمتلك شيئا بطريقةٍ أولية؛ ويتنازل‬
‫عنه لتجري المشاركة فيه‪ ،‬مانحا إياه للخطيب‪ ،‬الذي ال يمتلك‬
‫‪3‬‬
‫إال ّ بصورةٍ ثانوية وبقدر ما استطاع تخطي اختبار األساس‪".‬‬

‫‪53‬‬
‫الرب كلّي القدرة‪ ،‬كلّي المعرفة‪ ،‬وكلُّه خير‪ .‬ولن تكون ثمة‬
‫ة للشر ما لم يكن الرب أرقي من العالم الذي يخلقه هو‬ ‫مشكل ٌ‬
‫ويحفظه‪.‬‬

‫مقدَّمة‬‫والذات اإلنسانية تخلق عالما ً من المادة الخاملة ال ُ‬


‫ُ‬
‫نور‪ ،‬فلن يكون نورا ً‬‫ٌ‬ ‫نور"‪ ،‬فكان‬‫ٌ‬ ‫إليها‪ .‬إذا قال الرب‪" ،‬ليكن‬
‫دون الذات اإلنسانية‪ .‬سيكون هناك فحسب‪ ،‬دون اسم ٍ أو‬
‫ة سوى اإلبقاء على عالم ِ حيوانيةٍ أبكم‪.‬‬ ‫شكل‪ ،‬ال يؤدي وظيف ً‬

‫ح‬
‫في كل حالةٍ ةة الصور‪ ،‬الرب‪ ،‬الذات اإلنسانية ةة تُمن ُ‬
‫سسه‪ .‬والقوة األرقى‬ ‫ة أعلى مما تؤ ِّ‬ ‫سسة قيم ً‬ ‫القوةُ المؤ ِّ‬
‫احتالل أجنبية‪ ،‬تستعمر العالم الذي تعلو فوقه‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ليست قوة َ‬
‫مرغوب فيه‪ ،‬يُفسد ُ نقاءً أصلياً‪ .‬على العكس‬ ‫ٍ‬ ‫ليست غازياً‪ ،‬غير‬
‫م الذي يجري التعالي عنه يبلغ‬ ‫تماما‪ .‬القوة المتعالية تجعل العال َ‬
‫حررة ً إياه من سجن عدم قدرته‪ ،‬من سجن‬ ‫م ِّ‬ ‫االزدهار التام‪ُ ،‬‬
‫مل‪ .‬إنه يُقدِّم مغزى لجوهرٍ لن‬ ‫سد؛ إنه يُك ِّ‬‫عجزه‪ .‬التعالي ال يُف ِ‬
‫جرح في الفضاء والزمن‪ .‬ولهذا السببة‬ ‫ٍ‬ ‫يكون بخالف ذلك سوى‬
‫واجب أخالقي أن نسعى إلى الصور أو أن نتبع الرب‪ ،‬وهو‬ ‫ٌ‬ ‫فإنه‬
‫شكل للوجود‬
‫ٍ‬ ‫السبب في أن الذاتية اإلنسانية هي أسمى‬
‫(المتناهي)‪.‬‬

‫منطق‬
‫ٍ‬ ‫ج كمسألة‬‫ج عن االلتزام بالتعالي‪ .‬وال ينت ُ ُ‬
‫كل هذا ينت ُ‬
‫خالص‪ .‬ليس من التناقض القول بأن الجوهر المتعالي من‬
‫نفس نمط الجوهرة الذي يجري التعالي عنه‪ ،‬أو أنه ليس أرقى‪.‬‬
‫ج ذلك‪ ،‬باألحرى‪ ،‬من مسألة دور التعالي في تاريخ‬ ‫بل ينت ُ‬
‫الفلسفة‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫م ببساطة‪ .‬إذا كان هناك جوهران من‬ ‫االلتزام األول مفهو ٌ‬
‫نفس النمط فإنهما إما سيتفاعالن ويصبحان جوهرا ً واحدا أو لن‬
‫يتفاعال وسيشكالن بدال من ذلك كونين منفصلين‪ .‬لكن بالنسبة‬
‫كون واحد يجب شرحه‪ :‬هو كوننا‪.‬‬‫ٍ‬ ‫للفلسفة لم يكن هناك سوى‬
‫فلو كان هناك إذن جوهران‪ ،‬يتعالى أحدهما عن اآلخر‪ ،‬فالبد أن‬
‫يكونا مختلفينة في خاصيتهما‪ .‬لكنهما‪ ،‬رغم اختالفهما في‬
‫الخاصية‪ ،‬البد أن يتفاعال‪ .‬فلو لم يتفاعال‪ ،‬سيكون هناك من‬
‫جديد كونان مختلفان‪ .‬وسيكون الكونان من جوهرين مختلفين‬
‫وليس نفس الجوهر‪ .‬لكنهما رغم ذلك سيكونان كونين‪.‬‬

‫كون ن ُ ِق ُّر بأنه كوننا‪ ،‬البد من‬


‫ٍ‬ ‫تعال‪ ،‬إذن‪ ،‬في‬
‫ٍ‬ ‫حتى يوجد‬
‫وجود جوهرين متفاعلين‪.‬‬

‫وبالنسبة لاللتزام الثاني‪ ،‬ليس شرطا منطقيا أن يمنح‬


‫ل بين الجوهرينة امتيازا ً ألحدهما‪ ،‬سواء في القوة أو في‬ ‫التفاع ُة‬
‫القيمة‪ .‬إذ يمكن أن نتخيل تعاليا ً يكون فيه الجوهران متكافئين‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬كان مغزى التعالي دوما هو الوصول إلى ما وراء هذا‬
‫العالم‪ .‬فلماذا نصل إلى ما ورائه إذا لم يكن ما يجب إدراكه‬
‫أرقى ال في القوة وال في القيمة عما هو هنا بالفعل؟ وقد فهم‬
‫نيتشه هذا على أنه التيار التحتي التقشّ في لكثيرٍ من التاريخ‬
‫اإلنساني‪ ،‬خصوصا التاريخ الديني‪" .‬الفكرة موضع البحث في‬
‫هذا الصراع هي القيمة التي ينسبها الكهنةة المتقشفونة‬
‫لحياتنا‪ :‬فهم يضعون في مقابل هذه الحياة (مع ما ينتمي لها‪،‬‬
‫‘الطبيعة’‪ ،‬و‘العالم’‪ ،‬ومجمل مجال الصيرورة والعابر) شكال‬
‫مختلفا تماما من الوجود‪ ،‬تُعارضه وتستبعده‪ ،‬ما لم تستدر ضد‬

‫‪55‬‬
‫ذاتها‪ ،‬ما لم تُنكر ذاتها‪ 4".‬ما يتعالى يجب أن يكون أرقى مما‬
‫يوجد أمامنا‪ ،‬وإال ّ فلن يكون ثمة معنى لسعيناة إليه‪.‬‬

‫يصدق هذا على الذاتية اإلنسانية كما يصدق على الرب أو‬
‫صور ‪ .‬وفي التقاليد اليهودية ة المسيحية‪ ،‬ترتبط الذاتية‬‫ال ّ‬
‫بالروح‪ ،‬التي تُقاوم إغواء الجسد‪ .‬وحتى حين تأخذ الذات‬
‫كذات‬
‫ٍ‬ ‫البشرية نفسها بعيدا عن مراسيها في الدين‪ ،‬فإنها‬
‫سسة تستولي على السلطات التي كانت ترتبط‬ ‫نشيطة ومؤ ِّ‬
‫بالرب من قبل‪.‬‬

‫بهذه االعتبارات األخيرة يمكننا البدء في أن نلمح دور‬


‫التعالي‪ .‬دوره أن يتيح تفسير الكون بحيث يمنح االمتياز لجوهرٍ‬
‫على حساب آخر‪ ،‬أن يحافظ على تفوق خصائص معينةة ويلطِّخ‬
‫أخرى‪ .‬ما يجب إدراكه على أنه أرقى ليس من هذا العالم‪:‬‬
‫الالمتناهي‪ ،‬والالفيزيقي‪ ،‬والالمحدود‪ ،‬ووحدة الهوية ة الذاتية‪.‬‬
‫لكن ما له أهمية أكبر بالنسبة لفكر دولوز هو ما يجري تلطيخه‪:‬‬
‫ة إلى الكاوس‪ :‬التشوش‬ ‫الفيزيقي‪ ،‬الكاوسي ‪[ chaotic‬نسب ً‬
‫التام]‪ ،‬ما يقاوم الهوية‪ .‬وحده ُ ما يخضع للمشاركة في هوية‬
‫صور ‪ ،‬أو ما يتبع اإلمالءات الضيقةة للرب‪ ،‬أو ما يمتثل‬
‫ال ّ‬
‫للتصنيفاتة المفهوميةة للفكرة اإلنساني هو ما يُسمح له بدخول‬
‫حلبة ما هو مقبول‪ .‬أما الفيزيقية‪ ،‬والكاوس [التشوش التام]‪،‬‬
‫واالختالف التي ال يمكن إدراجها ضمن تصنيفات الهوية‪ :‬كل‬
‫هذه يجب أن تُنكر ذاتها إذا كان لها أن تسعى إلى االعتراف بها‬
‫في الصحبة المتميزة للجوهر األرقى‪.‬‬

‫إن التزامات التعالي‪ ،‬بجوهرين وبتمييز جوهرٍ منهما‪ ،‬تقودنا‬


‫إلى األسئلة التي ال بد أن تواجهها كل فلسفات التعالي‪ .‬كيف‬

‫‪56‬‬
‫يجري التفاعل بين الجوهرين؟ إذا كان هناك جوهران من‬
‫نمطين مختلفين‪،‬ة فما هي وسيلة االتصال بينهما؟‬

‫ل ليس له إجابة بديهية‪ .‬ومن اعتبروا أن العقل مختلف‬ ‫إنه سؤا ٌ‬


‫اكتشاف وسيلة تفاعل‬
‫ِ‬ ‫عن الجسد االنساني واجهوا تحدي‬
‫االثنين‪ .‬كانت إجابة ديكارت أنهما يتفاعالن في الغدة‬
‫الصنوبرية‪ 5.‬لكن هذه ليست إجابة‪ .‬إنها مجرد جغرافيا‪ .‬تخبرنا‬
‫أين يجري التفاعل‪ .‬إال ّ أن ما نحتاج إلى معرفتهة هو كيف يحدث‪.‬‬

‫‪III‬‬

‫كيف تحدث مشاركة الجواهر الفيزيقية في الصور؟ كيف‬


‫يرتبط الرب بمخلوقاته؟ كيف تخلق األفكار الذهنية حركات في‬
‫الجسم؟‬

‫يحب أن يجادل‪ .‬ال يحب أن‬ ‫ّ‬ ‫ال يأبه دولوز بهذه األسئلة‪ .‬ال‬
‫فيلسوف ما‪ .‬بل يفضل أن‬ ‫ٍة‬ ‫يعزف على نقاط الضعف في عمل‬
‫ص ما اعتراضا ً‬ ‫يُغيِّرة الموضوع‪" .‬في كل مرة يطرح شخ ٌ‬
‫علي‪ ،‬أودّ أن أقول‪’ :‬حسنا‪ ،‬حسنا‪ ،‬دعنا ننتقل إلى‬ ‫َّ‬
‫ل وجود ِ‬‫ن‪ ،‬ال يُقلقه احتما ُ‬ ‫ش أفالطو َ‬‫ء آخر‪ "‘.‬فحين يناق ُ‬ ‫شي ٍ‬
‫صور‪ .‬وبدال من ذلك‪ ،‬يبهره‬ ‫صعوبةٍ في تفسير المشاركة في ال ّ‬
‫ة لتقويض‬ ‫شيءٌ آخر‪ :‬أن أفالطون هو نفسه من يقدّم طريق ً‬
‫التعالي‪ .‬اهتمام أفالطون هو التمييز بين النسخ الحقيقيةة لصورة‬
‫معطاةٍ وبين تلك المزعومة‪ ،‬األشباه ‪ .simulacra‬يود أن‬ ‫ُ‬
‫يكتشف تلك النسخ الجديرة بالمشاركة‪ ،‬تلك التي تملك شبها‬
‫‪57‬‬
‫فعليا بصورتها الخاصة‪ ،‬ومن ثم يجب أن يميّزها عن تلك‬
‫النسخ التي تزعم فحسب أنها تشبهها لكنها مختلفةة عنها فعليا‪.‬‬
‫يجب أن يميز المشاركين الحقيقيينة عن المزعومينة الزائفين‪.‬‬
‫ومع مفهوم الشبيهة ‪ simulacrum‬يبدأ أفالطون هو نفسه في‬
‫اإلشارة إلى طريق الخروج من التعالي األفالطوني‪" .‬يكتشف‬
‫أفالطون‪ ،‬في ومضة لحظةٍ‪ ،‬أن الشبيه ليس مجرد نسخةٍ‬
‫زائفة‪ ،‬بل أنه يطرح للتساؤل نفس مقوالت النسخة‬
‫والنموذج ‪ . ...‬ألم يكن أفالطون نفسه هو من أشار إلى اتجاه‬
‫‪6‬‬
‫قلب األفالطونية؟"‬

‫كذلك ال ينشغل دولوز بالصعوبات المفهوميةة للعالقة بين‬


‫الرب ومخلوقاته أو بين العقل والجسم‪ .‬لكن سبينوزا يفعل‪.‬‬
‫فحججه الكبرى في مستهلة الجزء األول من األخالق تهدف‬
‫إلى شجب الزعم بإمكان وجود أكثر من جوهر‪ ،‬حتى يمكنه أن‬
‫يستنتج في القضية رقم ‪" :14‬ال يمكن أن يوجد‪ ،‬أو أن‬
‫جوهر آخر سوى الرب‪ 7".‬وحججه الكبرى في‬ ‫ٌ‬ ‫يُدرك‪،‬‬
‫مستهل الجزء الثاني من األخالق تهدف إلى شجب التمييز‬
‫األنطولوجي بين العقل والجسم‪ ،‬حتى يمكنه أن يستنتج في‬
‫القضية رقم ‪" :7‬نظام وارتباط األفكار هو نفسه نظام‬
‫مفكِّر‬
‫وارتباط األشياء‪"،‬مع التعليق عليها‪" ،‬الجوهرة ال ُ‬
‫والجوهر الممتد ّ هما نفس الجوهر الواحد‪ ،‬مفهوما ً تارة ً تحت‬
‫هذه الصفة‪ ،‬وتارة تحت تلك‪ 8".‬وما يهم دولوز ليس ما ينتقده‬
‫سبينوزا بل نموذج المحايثة الذي يقيمه بدال منه‪ .‬ليس ما يبهر‬
‫صل صعوبات التعالي‪ .‬بل أن سبينوزا قد‬ ‫دولوز أن سبينوزا قد ف ّ‬
‫غيَّر الموضوع بنجاح‪ ،‬وانتقل إلى شيءٍ آخر‪ .‬وقد فعل ذلك‬
‫باستخدام مفهوم ٍ يتيح للفكر التخلي عن التعالي‪ :‬هو مفهوم‬
‫التعبير‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫في عصر سبينوزا كانت مفاهيم الجوهر ‪، substance‬‬
‫والصفات ‪ ، attributes‬واألحوال ‪ modes‬هي المتاع ُ القياسي‬
‫للفلسفة‪ .‬الصفات هي خصائص أو ماهيات الجوهر‪ ،‬واألحوال‬
‫هي تبدّيها العيني في الواقع‪ .‬فصفة الجوهر العقلي هو أنه‬
‫يفكّر؛ والحال هو فكرةٌ محددة‪ .‬وصفة الجوهر الفيزيائي هي‬
‫ة‬
‫أنه ممتدٌّ‪ .‬وجسدي أحد أحواله‪ .‬وصفات الرب هي كلي ُ‬
‫ة القدرة‪ ،‬إلخ‪ :.‬وليست له أحوال‪ .‬والعالقة بين‬
‫المعرفة‪ ،‬وكلي ُ‬
‫الجوهرة وبين الحال‪ ،‬وخصوصا الجوهرة اإللهي للرب‪ ،‬هي عالقة‬
‫خلق ‪ creation‬أو انبعاث ‪. emanation‬‬

‫في الخلق‪ ،‬يُمارس الرب قدرته الكلية كي يصنع شيئا لم‬


‫يكن موجودا من قبل‪ .‬بهذه الطريقة يجري عادةً تفسير قصة‬
‫سفر التكوين لخلق الكون الفيزيائي‪ .‬لم يكن ثمة شيءٌ سوى‬ ‫ِ‬
‫ن إلى الوجود‪ .‬الطريقة المألوفة‬‫الرب الكو َ‬
‫ُ‬ ‫الرب‪ ،‬حتى أخرج‬
‫للتفكيرة في العالقة بين ما يوجد وبين الرب تجري على أساس‬
‫الخلق‪ .‬واالنبعاث مثل الخلق في بقاء تمايزٍ بين الخالق وبين‬
‫المخلوق‪ .‬والفرق أن ما هو مخلوقٌ يأتي من جوهر الخالق‪،‬‬
‫كنت فنانا ً قادرا ليس فقط على تشكيل المادة‬
‫ُ‬ ‫ينبعث منه‪ .‬فلو‬
‫ُ‬
‫أمامي بل أيضا على إرادة جعل المادة ذاتها تظهر‪ ،‬فسوف‬
‫منتزعا من لحمي‬ ‫ن منخرطا في الخلق‪ .‬أما لو كان فنّي ُ‬ ‫أكو ُ‬
‫بدال من ذلك‪ ،‬فسوف أكون منخرطا في االنبعاث‪.‬‬

‫ة‬
‫يشير دولوز إلى أن االنبعاث‪ ،‬على خالف الخلق‪ ،‬له عالق ٌ‬
‫ل من‬‫بالتعبير‪:‬ة "إنهما يُنتجان بينما يظالن في ذاتهما‪ 9".‬ك ٌ‬
‫االنبعاث والتعبيرة يري أن الجوهر من نمط واحد‪ ،‬ألن ما يظهر‬
‫في الخلق من نفس مادة الخالق‪ .‬لكن التماثل ينتهي هنا‪ .‬ففي‬

‫‪59‬‬
‫االنبعاث‪ ،‬يكون ما يتم خلقه مختلفا عن الخالق‪ .‬وفضال عن‬
‫ذلك‪ ،‬يظل الخالق متميِّزا بالنسبة لخلقه‪" .‬على هذا النحو يقوم‬
‫طرف هو‬
‫ٍ‬ ‫لكون صار مراتبيا ‪ ...‬فكل‬
‫ٍ‬ ‫االنبعاث بدور المبدأ‬
‫طرف أرقي يسبقه‪ ،‬ويتحدد بدرجة المسافة التي تفصله‬ ‫ٍ‬ ‫صورة ُ‬
‫‪10‬‬
‫عن العلة األولى أو المبدأ األول‪".‬‬

‫ي فلسفةٍ‬
‫م ّ‬
‫االنبعاث‪ ،‬مثل الخلق‪ ،‬يحافظ على التزا َ‬
‫للتعالي‪ :‬وجود جوهرين وتفوُّق أحد هذين الجوهرين‪" :‬تيمتا‬
‫الخلق أو االنبعاث ال يمكنهما العمل دون حدٍ أدنى من التعالي‪،‬‬
‫يمنع ‘التعبيرية’ من التقدم إلى آخر الشوط إلى المحايثة التي‬
‫منها‪ 11".‬واالختالف بين "التعبيرية" في المقطع المذكور‬ ‫تتض ّ‬
‫وبين التعبيرية كما يقصدها دولوز يكمن في االنعطاف صوب‬
‫المحايثة‪.‬‬

‫ل من الخلق واالنبعاث‬ ‫ليس من قبيل الصدفة أن يحتفظ ك ٌ‬


‫بالتزام ٍ بالتعالي‪ .‬فثمة ضرورة ٌ دينية لدفع األنطولوجيا إلى‬
‫أحضان التعالي‪ .‬بدون التعالي‪ ،‬كيف لنا أن نتخيل الرب؟ بأي‬
‫معنى يكون الرب أرقى من مخلوقات هذا العالم‪ ،‬إذا لم يكن‬
‫بكونه فيما وراءها؟ ال يستطيع الرب أن يُجبرنا‪ ،‬ال يستطيع‬
‫ل على حدود عالمنا‪ .‬مثلما‬ ‫أن يأمرنا بالتفاني‪ ،‬ما لم يتعا َ‬
‫ة تفوّقها بكونها فيما وراء‬
‫الصور هال َ‬
‫ُ‬ ‫بالنسبةة ألفالطون تكتسب‬
‫عالم الظالل الذي نسكنه‪ ،‬بالنسبة للتقاليد اليهودية ة المسيحيةة‬
‫يجد الرب بهاءه في تعاليه على محدّدات كوننا‪ .‬سبينوزا‬
‫هرطيق‪ ،‬لكن هرطقته ال تكمن في وحدة الوجود بل في إنكار‬
‫التعالي وفي بناء أنطولوجيا للمحايثة‪ .‬لهذا السبب جرى صلب‬
‫مسيح الفالسفة‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫ما هي أنطولوجيا المحايثة؟ أول متطلباتها هو أحادية معنى‬
‫[تواطؤ] ‪ univocity‬الوجود‪" :‬المحايثة التعبيرية ال يمكن‬
‫ل ألحادية المعنى‪،‬‬‫الحفاظ عليها ما لم يصاحبها مفهوم شام ٌ‬
‫توكيد ٌ شامل للوجود األحادي المعنى‪ 12".‬جوهر الوجود واحد ٌ ال‬
‫طبقات مختلفة‬
‫ٍ‬ ‫جواهر مختلفة‪،‬‬
‫َ‬ ‫ينقسم‪ .‬وما من تمييزات لجعله‬
‫مستويات مختلفةة‬
‫ٍ‬ ‫من الجوهر‪ ،‬أنماطا ً مختلفة من الجوهر‪ ،‬أو‬
‫من الجوهر‪ .‬مصطلح "الوجود" (أو "الوجود") يقال بمعنى‬
‫واحد ٍ ووحيد لكل شيء يقال عنه‪ .‬دون إحادية المعنى‪ ،‬سيعود‬
‫التعالي حتما ليطارد إقامة أية أنطولوجيا‪.‬‬

‫ل لمطاردة األنطولوجيا بواسطة التعالي‪.‬‬ ‫االنبعاث هو مثا ٌ‬


‫يبدأ المرءُ بجوهرٍ واحد‪ ،‬هو الرب‪ .‬وهو أحادي المعنى‪ .‬ما من‬
‫تمايزات بين جوهره‪ .‬ويمكن للمرء تخيّل أن باستطاعتهة‬ ‫ٍ‬
‫ة‪.‬‬
‫االنبعاث ومع ذلك البقاءَ أحادي المعنى‪ .‬سيكون هذا تعبيري ً‬ ‫َ‬
‫لكن‪ ،‬في تقاليد العصور الوسطى التي ينشأ فيها مفهوم‬
‫االنبعاث‪ ،‬ليس هذا ما يحدث‪ .‬فمن أجل الحفاظ على تعالي‬
‫ف‬
‫الرب مختل ٌ‬ ‫ُ‬ ‫االنبعاث التميي َز الثنائي إلى الجوهر‪:‬‬
‫ُ‬ ‫خل‬‫الرب‪ ،‬يُد ِ‬
‫المخلوق من الخالق‪ ،‬البد‬
‫ِ‬ ‫قرب‬
‫ُ‬ ‫عما ينبعث‪ ،‬وأسمى‪ .‬ومهما بلغ‬
‫من بقاء فجوةٍ أنطولوجية بينهما‪ ،‬مسافةٍ تُتيح تفوّق الخالق‬
‫بسبب تعاليه‪.‬‬

‫وفقط من خالل إنكار تلك الفجوة األنطولوجية‪ ،‬من خالل‬


‫االلتزام الصارم بأحادية معنى الوجود‪ ،‬يمكن خلق أنطولوجيا‬
‫للمحايثة‪" .‬مغزى االسبينوزية يبدو لي أنه هذا‪ :‬أنها تؤكد‬
‫خضوع لسببيةٍة انبعاثية أو‬
‫ٍ‬ ‫حرر التعبير من أي‬
‫المحايثة كمبدأ وت ُ ّ‬
‫نموذجية ‪ . ...‬وال يمكن الحصول على هذه النتيجة إال ّ ضمن‬
‫‪13‬‬
‫منظورٍ ألحادية المعنى‪".‬‬

‫‪61‬‬
‫م اليهودي ة المسيحي‬ ‫ة معنى الوجود المفهو َ‬ ‫تهدّد أحادي ُ‬
‫أخبار‬
‫ٌ‬ ‫للرب باإلصرار على المساواة بين كل الموجودات‪ .‬وهذه‬
‫متعال البد أن نتبع‬
‫ٍ‬ ‫رب‬
‫ٌ‬ ‫طيبة‪،‬بالنسبة لدولوز‪ .،‬إذ لو لم يعد ثمة‬
‫إمالءاته أو نسعى ألن نتشبه بجوهره في حيواتنا الخاصة‪ ،‬لو لم‬
‫متعال يمكن أن يطالبنا باإليمان أو السلوك‪،‬‬ ‫ٍة‬ ‫يعد ثمة آخر‬
‫فسوف ينفتح الباب أمام أنطولوجيا لالختالف‪ .‬مهما كانت‬
‫ة على أساس‬ ‫عالقتنا بالرب االسبينوزي‪ ،‬فلن تكون متمفصل ًة‬
‫االتباع ‪ following‬أو اإلخضاع ‪ subordinating‬أو‬
‫ة يجب‬ ‫التشبّه ‪ . resembling‬فهذه المفاهيم تتضمن هوي ً‬
‫اختالف يمكن أن‬
‫ٍ‬ ‫أن تعود إليها أفعالنا‪ ،‬وأفكارنا‪ ،‬ومعتقداتنا بدل‬
‫ويجرها إلى مدى أبعد من أنفسها‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫يجعلها تتفاعل‪،‬‬

‫ة معنى الوجود تقود ُ هي ذاتها إلى لغزها‬ ‫لكن أحادي َ‬


‫ل الوجود واحدا‪ ،‬ولم تكن ثمة تمييزات‬ ‫الفلسفي‪ .‬فلو كان ك ُّ‬
‫بين مستويات أو أنماط أو طبقات الوجود‪ ،‬فكيف لنا أن نفهم‬
‫التمييزات بين الجوهر‪ ،‬والصفة‪ ،‬والحال؟ لو كان الوجود أحادي‬
‫المعنى‪ ،‬فما الذي يحدد االختالف بين صفةٍ ما وبين الجوهر‬
‫ة له‪ ،‬بين الحال وبين الصفة التي يٌعيِّنها‬
‫التي هي صف ٌ‬
‫‪ modifies‬؟‬

‫هذا اللغز يُهدِّد بأن يُبطل االنفتاح على االختالف الذي كان‬
‫المقصود من إنكار التعالي أن يقدّمه لنا‪ .‬فلو كان كل الوجود‬
‫تمييزات يجب وضعها بين أنماط‬
‫ٌ‬ ‫أحاديَ المعنى‪ ،‬لو لم تكن ثمة‬
‫الوجود‪ .‬إذا أنكرنا ال مجرد تراتب الجواهر بل كذلك التمييزات‬
‫ة‬
‫الداخلية بين أنماط الجوهر‪ ،‬فيبدو أننا ستتبقى لدينا هوي ٌ‬
‫ة ال تمنحنا االختالف بل تنكر إمكانية‬‫ة في ذاتها‪ ،‬هوي ٌ‬
‫من ٌ‬
‫متض َّ‬
‫ُ‬
‫‪62‬‬
‫االختالف ذاتها‪ .‬فهل تؤدي بنا أحادية معنى الوجود إلى هذه‬
‫النقطة؟‬

‫م يُتيح االختالفات بين‬


‫المطلوب لحل هذا اللغز هو مفهو ٌ‬
‫كل منها دون التراجع إلى‬‫الصفات واألحوال وفيما بين ٍ‬
‫أنطولوجيا للتعالي‪ .‬المطلوب هو مفهوم التعبير‬
‫‪ . expression‬الجوهر يعبّر عن نفسه في صفات‪ ،‬يكون‬
‫الفكر واالمتداد هما الصفتان الوحيدتان المتاحتان منها للوعي‬
‫اإلنساني‪ .‬والصفات‪ ،‬بدورها‪ ،‬تعبّر عن نفسها في األحوال التي‬
‫هي تعبيرات أو تعيينات ‪ modifications‬تلك الصفات‪.‬‬

‫يكتب دولوز‪،‬‬

‫صور دينامية وفعالة‪ .‬وهنا لدينا‬


‫ٌ‬ ‫الصفات هي بالنسبة السبينوزا‬
‫على الفور ما يبدو أساسيا‪ :‬الصفات ‪ attributes‬ال تعود منسوبة‬
‫ملِية" ‪ attributive‬بمعنى معين‪... .‬‬ ‫ح ْ‬
‫‪ ، attributed‬بل إنها " َ‬
‫فطالما أدركنا الصفة على أنها شيءٌ منسوب‪ ،‬فإننا بذلك ندرك‬
‫جوهرا من نفس النوع أو الجنس ‪ genus‬؛ ومثل هذا الجوهر ‪...‬‬
‫متعال ‪ ...‬ومن جهة أخرى‪ ،‬فإننا‬
‫ٍ‬ ‫لرب‬
‫ٍ‬ ‫يعتمد على النية الحسنة‬
‫ملية" فإننا ندركها باعتبارها‬ ‫ح ْ‬
‫فور أن نطرح الصفة باعتبارها " َ‬
‫تنسب ماهيتها إلى شيء يظل متطابقا لكل الصفات‪ ،‬أي‪ ،‬إلى‬
‫‪14‬‬
‫جوهرٍ موجود بالضرورة‪.‬‬

‫"صور دينامية وفعالة" تنسب ماهياتها إلى جوهر‪.‬‬


‫ٌ‬ ‫الصفات‬
‫إنها تعبيرات فعالة عن الجوهر‪ .‬إذا كان الجوهر (أو‪ ،‬كما يقول‬
‫سبينوزا‪" ،‬الرب‪ ،‬أو الجوهر") معبِّرا‪ ،‬فإنه يعبّر عن نفسه في‬
‫الصفات‪ ،‬التي ليست عندئذ أشياء تنبعث من الجوهر‪ ،‬بل إنها‬

‫‪63‬‬
‫جوهر يعبّر عن نفسه‪" .‬ماذا تنسب [الصفات]‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫بدال من ذلك‬
‫ة‬
‫ة المتناهية‪ ،‬أي‪ ،‬خاصي ً‬
‫تنسب ماهي ًة‬
‫ُ‬ ‫ل صفة‬ ‫عن ماذا تعبّر؟ ك ُّ‬
‫المحدودة‪ 15".‬والفكر هو خاصية المحدودة‪ .‬واالمتداد هو خاصية‬
‫المحدودة‪ .‬بالنسبةة السبينوزا‪ ،‬هناك عدد المتناهٍ من الخصائص‬
‫الالمحدودة‪ ،‬لكن البشر ال يمكنهم أن يعرفوا سوى هذين‬
‫االثنين‪ .‬وكل خاصية المحدودة هي ماهية جوهر‪ ،‬يجد التعبير‬
‫ب‪ ،‬أو تعبّر عن‪ ،‬ماهية‪.‬‬‫س ُ‬ ‫عنه من خالل كل صفة‪ .‬الصفات تن ِ‬
‫والجوهر يعبّر عن نفسه من خالل صفاته‪.‬‬

‫ليست هذه صورة استاتيكيةة لجوهرٍة يقف خلف منظومةٍ‬


‫جلَبها إلى الوجود‪ .‬فتلك ستكون صورةً‬ ‫من الصفات التي َ‬
‫للصفات كما يجري خلقها أو انبعاثها من جوهرٍ‪ .‬وهذه هي‬
‫الصورة التي ربما كانت في ذهن أغلبنا‪ ،‬حيث أنها الصورة التي‬
‫سادت التقاليد الفلسفية والدينية‪ .‬وبالنسبة لدولوز‪ ،‬هناك‬
‫اختالفان بين هذه الصورة لعالقة الجوهر والصفات وبين صورة‬
‫ج في الصفات التي تعبر عنه‪.‬‬ ‫سبينوزا‪ .‬أوالً‪ ،‬الجوهر منسو ٌ‬
‫ةة عنه‪ .‬الوجود أحادي المعنى‪ .‬ثانيا‪،‬‬ ‫فليست الصفات منفصل ً‬
‫ح الميالد َ ألشياءٍ أخرى‪ .‬إنه بدرجة‬ ‫الجوهرة ليس مثل شيء يمن ُ‬
‫ٌ‬
‫مربوط‬ ‫ة زمنية‪ .‬إنه‬
‫أكبر مثل سيرورة تعبير‪ .‬الجوهر له خاصي ٌ‬
‫بالزمن‪ .‬وسيتطلّب فهم هذه الخاصية الزمنية للجوهر إدخال‬
‫فكر برجسون‪ .‬لكننا يجب بالفعل أن نبعد أنفسنا عن إغواء‬
‫موضوع أو شيء إذا كان لنا أن ندرك‬ ‫ٍ‬ ‫النظر إلى الجوهر بمثابة‬
‫سبينوزا الذي يضعه دولوز أمامنا‪.‬‬

‫والصفات‪ ،‬بدورها‪ ،‬تعبّر عن نفسها في األحوال ‪. modes‬‬


‫وعادةً ما يتكلم دولوز عن األحوال باعتبارها أشياء جزئية‪،‬‬
‫وليس مخطئا في هذا‪ .‬إال ّ أن هذه الطريقة في الكالم قد تخفي‬

‫‪64‬‬
‫الخاصية الزمنية لتلك األشياء‪ .‬وإذا فكرنا في األحوال باعتبارها‬
‫تعيينات ‪ modifications‬أو حتى تعديالت ‪modulations‬‬
‫للصفات‪ ،‬فربما كنا أقرب إلى إيقاع فكر سبينوزا‪ .‬وليس‬
‫ف‪inflection‬‬ ‫منتِجه‪ .‬فهو تصري ٌ‬
‫التعديل نتاجا منفصال عن ُ‬
‫منتِج‪ .‬في كل مرة يتم فيها عزف قطعةٍ موسيقية‪،‬‬ ‫نوعي لل ُ‬
‫ٌ‬
‫تكون تعديال لنوتة المؤلف الموسيقي‪.‬‬

‫ة‬
‫تعديالت للصفات‪ ،‬فليست إذن منفصل ً‬‫ٍ‬ ‫إذا كانت األحوال‬
‫عن الجوهرة أكثر من تلك الصفات‪ .‬يظل الوجود أحادي المعنى‪،‬‬
‫رغم أنه يجد التعبير عنه في الصفات أوال ً ثم في األحوال‪.‬‬
‫والفرق بين الصفات وبين األحوال هو أن األحوال ال تقبل‬
‫اإلدراك إال ّ من خالل الصفات التي تعبّر عنها‪ ،‬بينما ال تتطلب‬
‫أحوال نوعية كي يتم إدراكها‪" .‬الصفات على‬ ‫ٍ‬ ‫الصفات أية‬
‫س‬
‫تؤس ُ‬
‫ّ‬ ‫ة للرب‪ ،‬الذي‬ ‫صور مألوف ٌ‬
‫ٌ‬ ‫هذا النحو هي‬
‫منها‬ ‫ماهيتَه‪ ،‬ولألحوال أو المخلوقات التي تتض ّ‬
‫ماهياتيا ً ‪. ...‬األحوال ال يتم فهمها إال ّ تحت هذه الصور‪ ،‬بينما‬
‫تعبير‬
‫ٌ‬ ‫الرب‪ ،‬على الجهة األخرى‪ ،‬قابل للتحويل إليها‪ 16".‬اإلنسان‬
‫تعبير عن تلك الصفات وعن‬ ‫ٌ‬ ‫عن الفكر واالمتداد‪ ،‬وهو بذلك‬
‫الجوهر‪ .‬إال ّ أن الرب ال يتطلب اإلنسان‪ .‬وال تتطلّبه صفتا الفكر‬
‫بطرق أخرى‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫أو االمتداد‪ .‬إذ كان يمكن أن تعبّرا عن نفسيهما‬
‫وعادةً ما تفعالن‪.‬‬

‫ٌ‬
‫بسيط بعض الشيء‪ ،‬لكنه قد يقترب من‬ ‫نظير للتعبير‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫هنا‬
‫طي الورق إلى‬
‫ُّ‬ ‫المقصود‪ .‬األوريجامي ‪ origami‬الياباني هو‬
‫أشكال مختلفةٍ يمكن التعرفة عليها‪:‬ة بجع‪ ،‬سالحف‪ ،‬أناس‪،‬‬
‫ٍ‬
‫أشجار‪ .‬في األوريجامي‪ ،‬ال يوجد قطعٌ للورق‪ .‬وال تدخل فيه‬
‫ل شيءٍ كتعبيرٍ عن تلك القطعة‬‫عناصر خارجية‪ .‬يجري ك ُّ‬

‫‪65‬‬
‫المعينة من الورق‪ .‬الورق وحده يجري طيّه وبسطه إلى‬
‫ترتيبات جديدة‪ ،‬وتلك الترتيبات هي أحوال الورق‪ ،‬الذي هو‬
‫جوهر األوريجامي‪ .‬امتداد الورق سيكون صفته‪ .‬وإذا استطعنا‬
‫طي وبسط نفسه‪ ،‬نكون قد اقتربنا‬ ‫ّ‬ ‫قادر على‬
‫ٌ‬ ‫تخيّل أن الورق‬
‫شكل‬
‫ٍ‬ ‫من مفهوم التعبير‪ .‬وفضال عن ذلك‪ ،‬البد أن نرى كل‬
‫منت َ ٍج نهائي‪ ،‬إذا أردنا أن ندرك الخاصية‬
‫كجزءٍ من سيرورة‪ ،‬ال ك ُ‬
‫الزمنيةة للجوهر‪.‬‬

‫يستحضر دولوز مفاهيم العصر الوسيط للشرح‬


‫من ‪ ، involvement‬والتعقيد‬ ‫‪ ، explication‬والتض ُّ‬
‫‪ complication‬من أجل استيعاب مفهوم التعبير‪.‬ة "الشرح هو‬
‫ضمنا ً ‪ . ...‬والتعبيرة هو من جهةٍ‬
‫من هو االقتضاء ِ‬ ‫التطور‪ ،‬والتض ُّ‬
‫بسط لما يعبِّر عن نفسه‪ ،‬الواحد الذي يتبدّى في‬ ‫ٌ‬ ‫ح‪،‬‬
‫شر ٌ‬
‫الكثير ‪ ...‬والتعبيرة الكثير عنه‪ ،‬من جهةٍ أخرى‪ ،‬يتضمن‬
‫منا فيما يُعبّر عنه‪ ،‬مطبوعا فيما‬ ‫متض ّ‬ ‫الوحدة‪ .‬الواحد يظل ُ‬
‫‪17‬‬
‫يبسطه‪ ،‬محايثا فيما يُبديه‪".‬‬

‫الطي‪ .‬مثل‬
‫ّ‬ ‫الطي‪ ،‬والبسط‪ ،‬وإعادة‬
‫ّ‬
‫م يعتمد عليه دولوز بعدها‬ ‫األوريجامي الياباني‪ .‬إنه مفهو ٌ‬
‫بعشرين عاما حين يكتب كتابه عن ليبنيتز‪ .‬لكن بالفعل‪ ،‬في‬
‫كتابه عن سبينوزا‪ ،‬يوجد تواطؤ بين سبينوزا وبين ليبنيتزة بصدد‬
‫مفهوم التعبير‪" .‬إلى المدى الذي يمكن للمرء الحديث به عن‬
‫مناهضة الديكارتية لدى ليبنيتزة وسبينوزا‪ ،‬تجد مناهضة‬
‫‪18‬‬
‫الديكارتية تلك أساسها في فكرة التعبير‪".‬ة‬

‫الطي‪ .‬الجوهر ينطوي‪ ،‬وينبسط‪،‬‬


‫ّ‬ ‫الطي‪ ،‬والبسط‪ ،‬وإعادة‬
‫ّ‬
‫وينطوي من جديد في صفاته وفي أحواله‪ ،‬التي يظل محايثا‬

‫‪66‬‬
‫طي وبسط نفسه‪ ،‬ضمن تلك‬ ‫ّ‬ ‫جوهر يظل‪ ،‬في‬
‫ٌ‬ ‫لها‪ .‬إنه دائما‬
‫الطيات‪ .‬الوجود أحادي المعنى‪ :‬ليس ثمة تمييز بين شرائح‪ ،‬أو‬
‫ة فقط‪.‬‬ ‫تعال‪ ،‬بل محايث ٌ‬
‫ٍ‬ ‫مستويات‪ ،‬أو أنماط الوجود‪ .‬ليس ثمة‬

‫م التعقيد‪ .‬فهو يحافظ على وحدة‬ ‫ويكم ُ‬


‫ل الصورة َ مفهو ُ‬
‫الواحد الذي يبسط نفسه‪" .‬يُطوِّر داماسيوس ‪Damascius‬‬
‫وصف هذا الجانب من الوجود ةة الذي يجري فيه جمع‪،‬‬
‫وتركيز‪ ،‬وانضواء ‪ comprised‬الكثير في الواحد‪ ،‬لكن‬
‫الذي فيه أيضا يشرح الواحد نفسه في الكثير ةة‬
‫باستفاضة‪. ...‬كل األشياء حاضرة بالنسبةة للرب‪،‬الذي يُعقِّدها‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫والرب حاضر بالنسبة لكل األشياء‪ ،‬التي تشرحه وتتضمنه‪".‬‬
‫الواحد يعبّر عن نفسه في الكثير‪ ،‬لكنه ال يصبح ضائعا ً أو‬
‫مبعثرا في الكثير‪ .‬إنه داخلها؛ وهي داخله‪ .‬ويمكننا أن نقرأ‬
‫دولوز على أنه ال يقول شيئا خالف ذلك في االختالف‬
‫والتكرار حين يتحدث بصوته الخاص (ال من خالل سبينوزا وال‬
‫أي من الشخصيات األخرى التي هي موضوع أعماله المبكرة)‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫"الوجود يقال بمعنى واحد ٍ ووحيد لكل ما يقال عنه‪ ،‬لكن ما‬
‫‪20‬‬
‫يقال عنه يختلف‪ :‬إنه يقال عن االختالف ذاته‪".‬‬

‫فكر سبينوزا هو أول فكر محايثةٍ مكتمل التطور‪ .‬وتقترن‬


‫ة مفاهيم لتُطوّر هذا الفكر‪ :‬أحادية معنى الوجود‪ ،‬والمحايثة‪،‬‬
‫ثالث ُ‬
‫والتعبير‪ .‬هذا ما يجعل سبينوزا مسيح الفالسفة‪ .‬لم يعد يُطلَب‬
‫ضع أنفسنا لموجود أو موجود يتحكّم فيما سنكونه‪.‬‬ ‫منا أن نُخ ِ‬
‫سخ أو الطاعة هي النمط المناسب‬ ‫لم تعد المشابهة أو الن ْ‬
‫لكائن إنساني‪ .‬لم يعد ثمة ما وراءٍ يقف تفوّقه‬
‫ٍ‬ ‫للعيش بالنسبة‬
‫كحكم ٍ ضد عالمنا‪ .‬هناك وجود ٌ واحد ٌ فحسب؛ وهو يوجد ضمن‬

‫‪67‬‬
‫كل األشكال التي يتبدّى فيها؛ وتلك األشكال تتطور وتتضمنه‬
‫بينما هو‪ ،‬بدوره‪ ،‬يعقّدها‪ .‬هذه هي األخبار الطيبة التي يجلبها لنا‪.‬‬

‫‪IV‬‬

‫سؤال كيف يمكن أن يحيا المرء‪/‬الكائن ‪ ،‬حين يسأله‬


‫دولوز‪ ،‬يُقدّم نفسه بتفسيرين‪ .‬أحد التفسيرين‪ ،‬التفسير‬
‫العملي‪ ،‬يخص إمكانات العيش التي يمكن أن ينخرط فيها‬
‫المرء‪/‬الكائن‪ .‬والكائن الذي يمكن أن ينخرط في طرائق‬
‫العيش تلك ليس بشريا دائما؛ ليس "نوعا ً طبيعياً"‪ ،‬كأن الكون‬
‫أنواع‬
‫ٍ‬ ‫سمه إلى‬ ‫قد جاء بمنظومة من التعليمات تخبرنا كيف نق ّ‬
‫بعينها‪ ،‬كأنما ليس ثمة حشد ٌ من الطرق لتقسيم‪ ،‬لفَردَنة‬
‫[إلسباغ الفردية علي]‪ ، individuating‬جوهر الكون‪ .‬يبدأ في‬
‫الظهور السبب في أن دولوز يقاوم الفردنة إلى كائنات إنسانية‬
‫ة طبيعية‪،‬‬ ‫بشكل نوعي (أو إلى أي شيءٍ آخر) باعتبارها تصنيف ًة‬
‫ة إنسانية"‪.‬‬
‫في أنه يقاوم ما أصبح يُطلق عليه "نزع ً‬

‫بطرق‬
‫ٍ‬ ‫جوهر واحد ٌ فقط‪ ،‬ويمكنه أن يُعدِّل نفسه‬‫ٌ‬ ‫هناك‬
‫مستنسخات أو نماذج‬ ‫عديدة‪ .‬هذه الطرق ليست نُسخا ً أو ُ‬
‫طي للجوهر‪ .‬وقد‬‫ّ‬ ‫ألصل ما؛ إنها طيًات‪ ،‬وانبساطات‪ ،‬وإعادات‬ ‫ٍ‬
‫ة عما هي عليه‪ .‬وقد‬ ‫تصبح تلك الطيات واالنبساطات مختلف ً‬
‫علّمنا داروين أنها يمكن أن تكون مختلفة‪ .‬إننا حتى ال ندري ما‬
‫يقد ِ ُر عليه جسد ٌ ما‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫فتقرير أية أشياءٍ هي الطيّات هو‬
‫ُ‬ ‫لكن ثمة أمرا ً أعمق‪.‬‬
‫حكمٍ؛ والكون ال يعلّمنا هذا‪ .‬هناك فقط‬ ‫ملَكة ال ُ‬
‫ص َ‬
‫مسألة تخ ُّ‬
‫سم‬‫ة ما إذا كان يجب أن يُق ّ‬‫السيرورة الجارية للجوهر‪ .‬ومسأل ُ‬
‫ة ليس‬ ‫عالقات مادية هي مسأل ٌ‬
‫ٍ‬ ‫إلى بشرٍ أو طاقة أو ليبيدو أو‬
‫ة وحيدة لحلّها‪ .‬التفكير على‬ ‫ة وحيدة ألنه ال توجد طريق ٌ‬ ‫لها إجاب ٌ‬
‫أساس أحادية المعنى‪ ،‬والمحايثة‪ ،‬والتعبير يعني رفض تقسيم‬
‫أفق تفكيرٍ يعانق كال ً من سيولته‬
‫ِ‬ ‫أنواع طبيعية وفتح‬
‫ٍ‬ ‫الوجود إلى‬
‫الزمنيةة ومقاومته للتصنيفة الجامد‪.‬‬

‫التفسيرة الثاني لسؤال كيف يمكن أن يحيا المرء‪/‬الكائن هو‬


‫تفسير أنطولوجي‪ .‬إنه سؤال عن كيف يمكن أن يمضي‬ ‫ٌ‬
‫العيش‪ ،‬ماذا يمكن أن يعني أن يكون المرء‪/‬الكائن حيا‪ .‬لقد‬
‫ض الحياة ال إلى‬‫تجلب نب َ‬
‫ُ‬ ‫م‬
‫خلق سبينوزا كما يراه دولوز مفاهي َ‬
‫الكائنات العضوية فحسب بل إلى الكون برمته‪ .‬بالتخلي عن‬
‫التعالي لصالح المحايثة وبتحويل المحايثة إلى جوهرٍ تعبيري‪،‬‬
‫ينفخ سبينوزا الحياة في الكون‪" .‬الكينونة هي أن يُعبّر الكائن‬
‫عن نفسه‪ ،‬أو أن يُعبّر عن شيء آخر‪ ،‬أو أن يجري‬
‫مكان‬
‫ٍ‬ ‫التعبير عنه‪ 21".‬ثمة حياةٌ في كل مكان‪ ،‬ألن في كل‬
‫طي للجوهرة الوحيد الموجود‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ثمة طيّات‪ ،‬وانبساطات‪ ،‬وإعادات‬
‫وفي الحقيقة ليس الجوهر سوى تلك الطيات‪ ،‬واالنبساطات‪،‬‬
‫الطي‪ .‬كيف يمكن أن يحيا المرء‪/‬الكائن؟ كيف يمكن‬ ‫ّ‬ ‫وإعادات‬
‫أن يمضي العيش؟ ربما كان العيش يتخلّل الكون‪ .‬ربما كانت‬
‫ة تقييد فكرةِ العيش في نطاق المادةِ العضوية الوظيفية‬ ‫محاول ُ‬
‫ة التقييد‪ .‬ربما‪ ،‬بدال من نبذ األنطولوجيا من أجل شيءٍ‬ ‫مفرط َ‬
‫ة أو أكثر تفكيكا‪ ،‬يمكننا أن نبدأ في بناء وترتيب‬ ‫أكثر إمبيريقي ً‬
‫المفاهيم بطريقةٍ تجد الحياة في كل مكان‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫التعبير هو طريقُ‬
‫َ‬ ‫لكن إذا كانت الحياة ُ في كل مكان‪ ،‬فذلك ألن‬
‫الكون‪ ،‬ألن جوهر الكون ليس شيئا ً بقدر ما هو سيرورةٌ‪ .‬فكيف‬
‫تعمل هذه السيرورة؟ كيف يجري التعبير؟ة طبقا ألية مباديءٍ‬
‫تنطوي المحايثة‪ ،‬وتنبسط‪ ،‬وتنطوي من جديد؟ هل يمكن‬
‫لألنطولوجيا أن تخلق مفاهيمة يمكنها أن تقدم بصيصا ً من‬
‫خاصية تعبيرة الوجود؟‬

‫ة حول الزمن‪ .‬هي أسئلة حول‬ ‫هذه‪ ،‬في النهاية‪ ،‬أسئل ٌ‬


‫طبيعة الزمن‪ .‬تسأل عن الخاصية الزمنيةة للتعبير‪ .‬وهنا يكتشف‬
‫األب‪.‬‬
‫َ‬ ‫اإلبن‬
‫ُ‬

‫‪V‬‬

‫إذا كان سبينوزا هو مسيح الفالسفة بالنسبة لدولوز‪ ،‬فإن‬


‫برجسون هو األب‪ .‬سبينوزا يُعلن الخبر الطيب‪ :‬المحايثة‪ .‬لكن‬
‫ة‪ temporality‬تمنحه ميالدا‬ ‫الخبر الطيب يتطلّب زمني ً‬
‫فلسفيا‪ .‬مفهوم المحايثة‪ ،‬إذا كان له أال ّ يرتد ّ إلى رتابةٍ ال معنى‬
‫لها‪ ،‬ال بد أن يلجأ إلى مفهوم ٍ آخر‪ ،‬هو مفهوم التعبير‬
‫م زمني‪ .‬التعبير‬ ‫‪ . expression‬وقد رأينا هذا‪ .‬لكن التعبير مفهو ٌ‬
‫يحدث زمنيا؛ وبالنسبة لدولوز‪ ،‬فإن التعبيرة ال ينفصل عن‬
‫الزمنيةة إلى حد ّ أننا يمكن أن نفكر في التعبير والزمنية على‬
‫أنهما نفس الشيء‪ ،‬منظورا إليه من زاويتين مختلفتين‪ .‬ما‬
‫يخلقه سبينوزا بمفهومه عن التعبيرة وما يخلقه برجسون‬

‫‪70‬‬
‫ملتَئم في منظور دولوز‬
‫ج ُ‬
‫بمفهومه عن الزمنيةة هما نسي ٌ‬
‫الفلسفي‪.‬‬

‫إذا كان األمر كذلك‪ ،‬فإن الزمنيةة كما يدركها برجسون البد‬
‫ة على فهمنا المألوف للزمن مثلما يكون مفهوم‬ ‫أن تكون غريب ً‬
‫سبينوزا عن الجوهر غريبا ً على فهمنا المألوف للرب‪ .‬وهي‬
‫كذلك بالفعل‪.‬‬

‫ل‬ ‫ٌّ‬
‫خط‪ ،‬قاب ٌ‬ ‫نحن معتادون على النظرة القياسية للزمن‪ .‬إنه‬
‫ممتد ٌّ إلى ما النهاية‪.‬‬
‫لالنقسام إلى ما النهاية و ُ‬

‫حقَب‪ ،‬وسنوات‪ ،‬وأشهر‪ ،‬وأيام‪،‬‬ ‫الزمن يقبل االنقسام إلى ِ‬


‫ة لالنقسام‪ ،‬وما تقبل تلك‬
‫وثوان‪ .‬وتلك الثواني قابل ٌ‬
‫ٍ‬ ‫وساعات‪،‬‬
‫الثواني االنقسام إليه يقبل االنقسام بدوره‪ .‬ويمكن لالنقسام‬
‫أن يستمر دون نهاية‪ ،‬لحظات داخل لحظات‪ .‬واآلن الذي نفكر‬
‫ة ببساطة‪ .‬ال يمكن الوصول‬ ‫ة مثالي ٌ‬‫أنه اللحظة الراهنة هو نقط ٌ‬
‫إليها أبدا‪ ،‬ألننا مهما قطّعنا لحظة اآلن إلى شرائح دقيقة‪،‬‬
‫يمكننا دائما تقطيعها إلى شرائح أدق‪ .‬وفي الحقيقة‪ ،‬ال يوجد‬
‫اآلن؛ هذه مجرد طريقة للكالم‪.‬‬

‫ممتد ٌّ إلى ما النهاية‪ .‬فمهما غُصنا أبعد في‬


‫الزمن أيضا ُ‬
‫الماضي‪ ،‬يمكننا دائما تصوّر لحظةٍ قبل ذلك‪ .‬ربما لم يكن ثمة‬
‫شيءٌ آخر قبل المادة التي شكلت مصدر االنفجار الكبير‬
‫‪ Big Bang‬؛ لكن كان ثمة الزمن‪ .‬كانت هناك اللحظة قبل‬
‫االنفجار الكبير‪ ،‬واللحظة قبل أن تأتي المادة التي انفجرت‬
‫حقَب‬
‫إلى الوجود‪ ،‬واللحظة قبل ذلك‪ .‬الثواني‪ ،‬واأليام‪ ،‬وال ِ‬
‫انبسطت‪ ،‬حتى لو لم يكن فيها شيء ينبسط‪ ،‬شيء بخالف‬

‫‪71‬‬
‫السكون‪ .‬وما ينطبق على الماضي ينطبق كذلك على‬
‫المستقبل‪ .‬فمهما انطلقنا بعيدا في المستقبل‪ ،‬يمكننا دائما‬
‫تصوّر لحظة بعد ذلك‪ :‬السكون عند النهاية األخرى للزمن‪ .‬أو‬
‫باألحرى‪ ،‬حيث أن الزمن ليس له نهاية‪ ،‬السكون عند النهاية‬
‫األخرى لما يحدث في الزمن‪.‬‬

‫يسمي برجسون هذا المفهوم للزمن مفهوما "فضائي‬


‫خط يمتد‬‫ٌ‬ ‫[فراغي] الطابع ‪ ." spatialized‬فله خاصية االمتداد‪:‬‬
‫من نقطةٍ نائية إلى ما النهاية إلى نقطةٍ أخرى بعيدة إلى ما‬
‫ة‬
‫متحفِّظ ٌ‬ ‫ٌ‬
‫نقاط مثالية‪ُ ،‬‬ ‫النهاية‪ .‬واللحظات التي تشغله‪ ،‬بينما هي‬
‫ل واحدةٍ من األخرى‪ .‬إنها مثل األشياء في الفضاء؛ مهما‬ ‫ك ُّ‬
‫اقتربت من بعضها البعض‪ ،‬فإنها ال تتراكب أبداً‪ .‬ال يمكن أن‬
‫يوجد شيئان‪ ،‬أو توجد لحظتان‪ ،‬في نفس الفضاء والزمن‪.‬‬
‫الزمن أيضا فضائي [فراغي] الطابع ألنه يجري تصوُّره كحاوية‪.‬‬
‫خارجي بالنسبةة لتلك‬
‫ٌ‬ ‫األشياء تحدث في الزمن‪ .‬والزمن‬
‫األشياء التي تحدث؛ إنه يحدّدها‪ ،‬كل شيءٍ بلحظته الخاصة‪،‬‬
‫لكن األشياء ال تمتصه‪ .‬في الحقيقة‪ ،‬قبل أن يحدث أيّ شيء‬
‫(لو كان ثمة مثل هذا القبل)‪ ،‬كان هناك الزمن‪ .‬وبعد أن يفرغ‬
‫ل شيءٍ من الحدوث‪ ،‬سيكون ما يزال هناك الزمن‪.‬‬ ‫ك ُّ‬

‫متعال عما يحدث‪.‬‬


‫ٍة‬ ‫يمكننا القول أن الزمن بهذه الطريقة‬

‫هذا المفهوم للزمن ليس الوحيد‪ .‬فهناك غيره‪ .‬بين‬


‫الشعوبة األقل تطوّرا تكنولوجيا‪ ،‬غالبا ما تكون ثمة نظرة ٌ‬
‫سه مثل فصول السنين‪ .‬لكن‬ ‫دائرية للزمن؛ فالتاريخ يُعيد نف َ‬
‫بالنسبةة ألولئك المنخرطينة في الحياة الحديثة‪ ،‬تكون النظرة‬
‫الخطَّية هي الفهم األكثر شيوعا للزمن‪ .‬فهي مفيدةٌ لنا‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫وتساعد على ترتيب حيواتنا اليومية طبقا ً لتشكيلة المهام التي‬
‫ة في الكتابة اليوم وكل يوم في نفس‬ ‫تواجهنا‪ :‬سأقضي ساع ً‬
‫الموعد حتى أفرغ من هذا الكتاب‪ ،‬ثم سأمضي ألواجه‬
‫سق العمل بين الناس المنخرطين‬ ‫مسئولياتي األخرى‪ .‬وهي تن ّ‬
‫ف كل واحد ٍ‬ ‫في نشاطات متعارضة‪ :‬فعند الساعة العاشرة سيك ّ‬
‫منا عن مهمته التخصصية ونتقابل معا في قاعة المؤتمرات‪.‬‬
‫لحيوات عادة ما يُنظر إليها باعتبارها‬
‫ٍ‬ ‫كما تمنح الشكل السردي‬
‫كنت‬
‫ُ‬ ‫مشروعات مجتمعية‪:‬ة في البداية‬
‫ٍ‬ ‫فردية أكثر من كونها‬
‫طب‪ ،‬ثم مقيما في ‪...‬‬
‫ٍ‬ ‫طالب‬

‫وخالل مسار القرن العشرين تم تحدّي هذا المفهوم‬


‫للزمن‪ .‬أوال بواسطة الفيلسوف إدموند هوسرل ‪Edmund‬‬
‫‪ ،Husserl‬ثم مارتين هايدجر وجان ة بول سارتر‪ ،‬تم استبدال‬
‫ة‬‫مفهوم الزمن الخطي‪ ،‬الفضائي الطابع‪ ،‬برؤيةٍ أكثر وجودي ً‬
‫ة توجد خارج انبساط الحياة اإلنسانية‪.‬‬ ‫للزمن‪ .‬الزمن ليس حاوي ً‬
‫ش أوال ً وبعدها فقط يتم إعطاؤه شكال ً خطّياً‪.‬‬
‫بل إنه شيءٌ يُعا ُ‬
‫مبني على األول‪ ،‬وليس العكس‪.‬‬‫ٌ‬ ‫الثاني‬

‫ن متساوٍ طبقا لكل‬ ‫معاش ليس هناك وز ٌ‬ ‫في الزمن ال ُ‬


‫لحظة‪ ،‬مثلما في التصوّر الخطّي‪ .‬فالماضي‪ ،‬والحاضر‪،‬‬
‫أدوار متميزة يلعبونها‪ ،‬المستقبلة هو البعد‬‫ٌ‬ ‫والمستقبل لهم‬
‫السائد منها‪ .‬نحن الكائنات اإلنسانية نتميَّز بمشروعاتنا‪ ،‬باالتجاه‬
‫الذي نتجه إليه‪ ،‬بالخطط التي تظل أمامنا‪ .‬نحن ننظر إلى‬
‫األمام‪ .‬المستقبل‪ ،‬إذن‪ ،‬هو الذي يحمل معه األبعاد األخرى‬
‫ب ذيله‪ .‬وال يعني هذا أن الماضي ليس‬ ‫مذن ّ ٌ‬
‫للزمن‪ ،‬مثلما يحمل ُ‬
‫ة بكيفية عيش المستقبل‪ .‬فله عالقة‪ .‬فعادةً ما يُنظر‬ ‫له عالق ٌ‬
‫جه الذي منحنا إياه الماضي‪.‬‬ ‫إلى المستقبل بواسطة التو ّ‬

‫‪73‬‬
‫سب‬ ‫وخبراتنا ال تسقط ببساطة حين تنتهي؛ بل تلتحم بنا‪ ،‬وتتر ّ‬
‫بطرق أخرى‪ .‬تصبح‬ ‫ٍ‬ ‫بطرق معينةة وليس‬
‫ٍ‬ ‫جهنا‬
‫إلى كثافةٍ تو ّ‬
‫ة أمامنا بناءً على ماضينا؛ وال تنفتح‬ ‫ستقبالت بعينها مفتوح ً‬
‫ٌة‬ ‫م‬
‫ُ‬
‫أساليب شخصية بعينها أساليبنا؛ وليس غيرها‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫أخرى‪ .‬تصبح‬
‫جها إياه‪.‬‬
‫مو ِّ‬
‫ملوِّنا و ُ‬
‫يجري اكتساح الماضي إلى المستقبل‪ُ ،‬‬
‫المستقبلة هو حيث يتم استئناف الماضي‪ ،‬حين تكون تأثيراته‪.‬‬

‫وهناك من يحمل لهم الماضي وزنا ً أكثر مما يمكن أن‬


‫مل المستقبل‪ ،‬من ال يمكنهم التحرك أبعد من ماضيهم‪.‬‬ ‫يتح ّ‬
‫بالنسبةة لهم يكون المستقبلة مجرد مواجهةٍ مستمرة مع‬
‫معاش ال يكف عن‬ ‫زمن ُ‬
‫ٍ‬ ‫مرض نفسي‪،‬‬‫ٍ‬ ‫ماضيهم‪ .‬وهذه عالمة‬
‫توجيه نفسه صوب المستقبلة لكنه يُشوِّه ذلك المستقبلة كي‬
‫يجعله تكرارا للماضي‪ .‬المشروعات الفاشلة ما زالت موضع‬
‫انخراط‪ ،‬وما زالت الجروح القديمة تواصل النزيف‪ .‬إال ّ أن‬
‫ه يتحرك صوب‬ ‫ج ٌ‬
‫المرض النفسي ال يمنح ميزة ً للماضي‪ .‬إنه تو ُّ‬
‫المستقبل‪ ،‬مثلما يجري مع من ليست لديهم مثل تلك‬
‫األمراض‪ .‬الفرق بين المرض والسواء هو أن المستقبلة بالنسبة‬
‫للمرض يتم إثقاله بمشروعات غير متحققة وغير قابلة للتحقق‬
‫غالبا تنشأ عن الخبرة الماضية وتواصل التشديد على إلحاح‬
‫أهدافها‪.‬‬

‫والحاضر هو حيث يلتقي المستقبلة والماضي‪ ،‬مكان‬


‫امتزاجهما‪ .‬ويمنح التصوّر الخطّي للزمن امتيازا ً معينا ً للحاضر‪.‬‬
‫فهو النقطة الوحيدة في الزمن التي توجد فعال عند لحظةٍ‬
‫معينة‪ ،‬حتى لو كانت ديمومتها ‪ duration‬أصغر من أن يمكن‬
‫إدراكها‪ .‬الحاضر هو نموذج الوحدة المناسبة للزمن‪ .‬إنه اللحظة‬
‫(المثالية) المرتبطة بتلك اللحظات التي لم تعد قائمة وبتلك‬

‫‪74‬‬
‫حن بعد لتشكّل الخط الذي هو الزمن‪ .‬وبالنسبة‬ ‫التي لم ت ِ‬
‫الحاضر خاويا ما لم‬
‫ُ‬ ‫للنظرة الوجودية للزمن المعاش‪ ،‬سيكون‬
‫يكن دفعُ المستقبل وثِقل الماضي اللذين يمنحانه طابعه‪.‬‬
‫الحاضر ال يحدّد طابعَ المستقبلة والماضي‪ .‬بل يتحدّد بهما‪.‬‬

‫ال التصوّر الخطّي وال التصور الوجودي للزمن قادران على‬


‫توليد المحايثة األنطولوجية التي قدّمها لنا سبينوزا‪ .‬فالتصور‬
‫الخطّي ال يمكنه أن يلتقط سيرورة التعبير‪ .‬في التعبير‪ ،‬يظل‬
‫معبِّر ضمن نطاق تعبيراته‪ .‬ال ينفصل عنها‪ .‬ليس األمر‬ ‫الجوهرة ال ُ‬
‫كما لو أن هناك شيءٌ ما في لحظة وشيءٌ آخر في لحظة‬
‫أخرى‪ .‬طيّات الجوهر ليست شيئا بخالف الجوهر؛ إنها الجوهرة‬
‫ذاته‪ ،‬في سيرورة طيّه‪( ،‬وبسطه‪ ،‬وإعادة طيّه)‪ .‬والتصور‬
‫الخطّي للزمن أعمى إزاء هذا‪ ،‬ألنه يتجاهل االرتباط الداخلي‬
‫للحظات التي تُكوِّنه‪ .‬إنه أقرب شبها بنماذج الخلق‪ ،‬واالنبعاث‪،‬‬
‫التي ينبثق فيها شيءٌ من شيءٍ آخر‪ .‬بإضفاء الطابع الفضائي‬
‫[الفراغي] على الزمن‪ ،‬بوضع لحظاته بجوار بعضها البعض بدال‬
‫من وضعها داخلها‪ ،‬ال يستطيع التصوّر الخطّي للزمن إدراك‬
‫التعبير‪ ،‬ومن ثم يفقد كل صالحية لمفهوم المحايثة لدى‬
‫سبينوزا‪.‬‬

‫كما ال يفعل التصور الوجودي للزمن هذا‪ .‬فبالنسبة‬


‫لهوسرل‪ ،‬وهايدجر‪ ،‬وسارتر‪ ،‬فإن أبعاد الزمن‪ ،‬بينما تظل‬
‫ج‬
‫ة عن بعضها البعض‪ .‬الماضي منسو ٌ‬ ‫متميّزةً‪ ،‬ال توجد منفصل ً‬
‫في المستقبل؛ والمستقبل يحمل الماضي معه؛ والحاضر هو‬
‫اللحظة التي يتحقق فيها كالهما‪ .‬ال يوجد بعد ٌ للزمن بالطريقة‬
‫التي يوجد بها دون أن يتضمن البعدين اآلخرين‪ .‬ويمكن أن‬
‫التعبير مالذ َه في التصور الوجودي للزمن‪.‬‬
‫ُ‬ ‫يتخيل المرء أن يجد‬

‫‪75‬‬
‫فما يبدأ في الماضي يُعبِّرة عن نفسه في المستقبل بواسطة‬
‫كرره‬
‫الحاضر؛ يصبح المستقبلة تعبيرا عن الماضي‪ ،‬تعبيرا ال ي ُ ِّ‬
‫فحسب‪ ،‬لكنه يبسطه‪ ،‬أو يطويه‪ ،‬أو يعيد طيّه‪.‬‬

‫ال تكمن الصعوبة بشأن التصوّر الوجودي للزمن في‬


‫مفهوم التعبير‪ .‬بل تكمن في موضع آخر‪ .‬فالمقاربة الوجودية‬
‫ة بصورةٍ ذاتية‪.‬‬‫تُشدِّد على الطابع البشري للزمن‪ .‬إنها موجه ٌ‬
‫وما يمنح المستقبل امتيازه كبعدٍ للزمن هو أننا نحن البشر‬
‫نتميّز بمشروعاتنا‪ ،‬باألهداف والطموحات التي نضعها أمام‬
‫أنفسنا‪ .‬إننا نحن من نتحدّد بمستقبالتنا‪ .‬وتعريف الزمن بهذه‬
‫الطريقة يعني وضعه في خدمة الكائنات البشرية‪.‬‬

‫التصور الوجودي للزمن يُنكر كثرة "الكائن" في سؤال‬


‫مد الكائن في نموذج‬ ‫كيف يمكن أن يحيا المرء‪/‬الكائن‪ .‬فهو يُج ِّ‬
‫مدهشا‪ .‬فالوجودية هي‬ ‫إنساني النزعة‪ .‬وال يجب أن يكون هذا ُ‬
‫ة إنسانية النزعة‪ 22.‬وليستة كذلك عن طريق الخطأ بل‬ ‫فلسف ٌ‬
‫ة على هذا األساس‪ .‬أما فلسفة دولوز فليست‬ ‫مم ٌ‬
‫مص َّ‬ ‫إنها ُ‬
‫إنسانية النزعة‪ .‬وال تسعى إلى خلق أنطولوجيا تتمحور حول‬
‫جه اإلنساني تجاه العالم‪ .‬وال يعني‬ ‫التصورات اإلنسانية أو التو ّ‬
‫هذا أن البشر ال يظهرون في أنطولوجياه‪ .‬كما ال يعني أننا‪،‬‬
‫كبشر‪ ،‬ال نظهر في مقاربته للزمنية‪ .‬ما يعنيه أننا ال يمكننا أن‬
‫ة‬
‫نحتل مكان الصدارة في تلك المقاربة‪ .‬ال بد أن نتصور الزمني َ‬
‫ة‬
‫ش اإلنساني للزمن وال تُخضعُ له الزمني َ‬ ‫ُ‬
‫تلتقط العي َ‬ ‫بطريقةٍ‬
‫متها‪" .‬فقط إلى المدى الذي يتم به إدراك الحركة على أنها‬ ‫بر ّ‬
‫ف عن أن‬ ‫تنتمي إلى األشياء بقدر ما تنتمي إلى الوعي فإنها تك ّ‬
‫ة‬
‫ة بالديمومة السيكولوجية‪ ،‬التي ستزيح نقط َ‬ ‫تكون مختلط ً‬

‫‪76‬‬
‫تطبيقها‪ ،‬ومن ثم تتطل ّ ُ‬
‫ب بالضرورة أن تُشارك األشياءُ مباشرة ً‬
‫‪23‬‬
‫في الديمومة ذاتها‪".‬‬

‫هنري برجسون هو من يقدّم المقاربة التي يحتاجها دولوز‪.‬‬


‫أفق‬
‫ٍ‬ ‫فبالنسبة لبرجسون‪ ،‬ينفتح البعد ُ البشري للزمن على‬
‫أفق ال يُنكر وال يُميِّز البعد اإلنساني‪ .‬وفضال عن ذلك‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫أرحب‪،‬‬
‫ة لفهم‬‫سع هذا التصور للزمن مفهوم المحايثة؛ يُقدّم طريق َ‬ ‫يو ِ‬
‫التعبير زمنيا ً في المقام األول‬
‫ُة‬ ‫كيف يجري التعبير‪ .‬إذا كان‬
‫وليس فضائيا‪ ،‬فالبد إذن من تصوّر الزمنية ذاتها زمنيا ً وليس‬
‫فضائيا‪ .‬ومفهوم الديمومة (‪ duration )durée‬يتيح لنا‬
‫أن نفعل ذلك‪.‬‬

‫‪VI‬‬

‫لنبدأ بالذاكرة السيكولوجية‪ .‬أتذكّر شيئا ً حدث لي‪ .‬حبيبتي‬


‫جرني ذات ليلةٍ في بلدةٍ جامعيةة بعيدة عن بلدتي في أوائل‬ ‫ته ُ‬
‫خريف عامي األول بعيدا ً عن موطني‪ .‬جدّتي ألمي وجدّتي لزوج‬
‫سنوات من الكراهية‪ ،‬تقفان اللتقاط صورة لهما معا‬
‫ٍ‬ ‫أمي‪ ،‬بعد‬
‫في حفل زفاف أمي الثالث‪ .‬أركب زالجة تجرها الكالب في‬
‫القطب الشمالي‪ .‬الثلج ناعم ومكسوٌّ بطبقة رفيعة من الجليد‪.‬‬
‫ما من أصوات سوى أصوات الكالب وهي تُطلق ضبابا من‬
‫الرقائق بينما تجري‪ .‬وأنا أفكر مع نفسي أن الحياة طيبة‪ ،‬ألول‬
‫مرة منذ أعوام ٍ طويلة‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫استرجاعات ألشياءٍ حدثت‪ .‬ال تحدث اآلن‬
‫ٌ‬ ‫ذكريات‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫هذه‬
‫لكنها حدثت في الماضي‪ .‬وها هي الطريقة التي يرى بها‬
‫الماضي الذي وقعت فيه هذه األشياء‪.‬‬
‫َ‬ ‫ي للزمن‬ ‫التصور الخط ّ ُ‬
‫ُ‬
‫ليس موجودا‪ .‬لم يعد قائما‪ .‬أو باألحرى‪ ،‬يوجد ال في الواقع بل‬
‫فقط كذكرى في الحاضر‪ ،‬لو جرى تذك ُّ ُره حقا‪ .‬ليس هناك‬
‫ماض‪ .‬هناك فقط سلسلة من لحظات الحاضر تتحوّل إلى‬ ‫ٍ‬
‫ل منها إلى حاضرٍ آخر‪ .‬لكن كيف يتحوّل كل‬ ‫ماض‪ ،‬تستسلم ك ٌّ‬ ‫ٍ‬
‫ماض؟ ما الصلة بين ما هو قائم وبين ما لم يعد‬ ‫ٍ‬ ‫حاضرٍ إلى‬
‫قائما؟ الحاضر هو شيءٌ موجود؛ والماضي هو الشيء‪ .‬كيف‬
‫يصبح هذا الشيءُ الشيءَ؟ كيف ينقضي الحاضر؟‬

‫الماضي والحاضر ال يشيران إلى لحظتين متتابعتين‪،‬ة بل إلى‬


‫عنصرين يتواجدانة معا؛ أحدهما هو الحاضر‪ ،‬الذي ال يكف عن‬
‫الحدوث‪ ،‬واآلخر هو الماضي الذي ال يكف عن الوجود لكن من‬
‫خالله تحدث كل الحواضر[جمع حاضر] ‪ . ...‬الماضي ال يتبع‬
‫ض مسبقا بواسطته باعتباره‬ ‫الحاضر‪ ،‬بل على العكس يُفت َ َر ُ‬
‫‪24‬‬
‫الشرط الخالص الذي بدونه لن يحدث‪.‬‬

‫الحاضر يَعبُر‪ .‬بهذا اإلقرار‪ ،‬نكون بالفعل أبعد من مدى‬


‫التصوّر الخطّي للزمن‪ .‬إذ بالنسبةة للمفهوم الخطّي‪ ،‬ال يوجد‬
‫سوى اآلن‪ ،‬واآلن هو مجرد نقطةٍ مثالية‪ .‬ال يمكن أن يكون لها‬
‫سمكُها الحقيقي ألنها تقبل االنقسام إلى ما النهاية؛ كل لحظة‬ ‫ُ‬
‫صغر نحتِنا‬‫لحظات أخرى‪ .‬ومهما بلغ من ِ‬
‫ٍ‬ ‫يمكن تقسيمها إلى‬
‫ة بشكل أكثر‬ ‫للحظات الزمن‪ ،‬يمكننا دائما أن نتخيلها منحوت ً‬
‫نحت هذه اللحظات؟ يعني أن ما يجري‬ ‫ُ‬ ‫رهافة‪ .‬وماذا يعني‬
‫تقطيعه إلى شرائح ينفصل عما يتبقى‪ ،‬أن لحظة الزمن‬
‫المتالشية إلى ما النهاية تنفصل عن الماضي بكون الماضي "لم‬
‫ة مثالية‬‫يعد‪ " no longer،‬لم يعد قائما حقا‪ .‬هناك فقط نقط ٌ‬
‫‪78‬‬
‫محاطة بعَدَم الماضي وعَدَم المستقبل‪.‬ة الحاضر ال يعبُر‪ .‬ال‬
‫يمكنه أن يعبر‪ ،‬ألن ثمة فجوة ً بين النقطة المثالية التي هي‬
‫ويقر هوسرل بهذه النقطة‪ .‬فيكتب‬ ‫ّ‬ ‫اآلن وبين بقية ما لم يعد‪.‬‬
‫حاضر معاش‪ ،‬البد له أن يحتوي على‬ ‫ٌ‬ ‫أنه لكي يكون ثمة‬
‫"احتجاز ‪ " retention‬للماضي المباشر و"توقُّع ‪"protention‬‬
‫للمستقبل المباشر‪ ،‬وإال ّ فسوف يتالشى إلى عدَم نقطته‬
‫ك يمتد إلى الوراء إلى‬ ‫سم ٌ‬
‫الحي" له ُ‬
‫ّ‬ ‫المثالية‪" 25.‬الحاضر‬
‫الماضي المباشر وإلى األمام إلى المستقبل المباشر‪.‬‬

‫ماض يعب ُ ُر‬


‫ٍ‬ ‫الحاضر يعبُر‪ .‬كي يحدث هذا‪ ،‬البد أن يوجد‬
‫الحاضر إليه‪ .‬والبد أن يوجد الماضي بصورة مؤكدة مثل‬
‫الحاضر‪ .‬وال يوجد بنفس طريقة الحاضر‪ .‬ويتصوّره برجسون‬
‫ة‪،virtuality‬‬ ‫على أنه يوجد بطريقة مختلفةٍ تماما؛ إنه افتراضي ٌ‬
‫في تضادٍ مع فعلية ‪ actuality‬الحاضر‪( .‬وسنناقش بعد قليل‬
‫الفرق بين االفتراضية والفعلية‪ ).‬لكنه يجب أن يوجد‪ .‬وإالّ‪ ،‬لما‬
‫أمكن للحاضر أن يعبر‪ .‬بل سيختفي‪ .‬وحتى ذلك سيكون من‬
‫صغر‪.‬‬ ‫الصعبة تصوّره‪ ،‬حيث أن ما سيختفي سيكون متناهي ال ِ‬
‫وبدال من ذلك‪ ،‬نقول أن الحاضر يعبُر إلى الماضي‪ ،‬الذي يوجد‬
‫الشرط الخالص لقدرة الحاضر على العبور‪.‬‬‫ُ‬ ‫والذي هو‬

‫ما زلنا في مجال السيكولوجيا‪ .‬وتصوّر هوسرل الوجودي‬


‫ح يعتمد على‬ ‫كتصحيح للتصوّر الخطّي‪ ،‬لكنه تصحي ٌ‬
‫ٍة‬ ‫للزمن يفيد‬
‫لوعي إنساني‪ .‬وبالمقابل‪ ،‬ال يؤمن برجسون‬ ‫ٍ‬ ‫الزمن المعاش‬
‫ة فحسب‪ .‬فهي أنطولوجية‪ .‬بالتأكيد‪،‬‬ ‫بأن الذاكرة سيكولوجي ٌ‬
‫هناك ذاكرةٌ سيكولوجية‪ .‬لكن الذاكرة السيكولوجيةة تشير إلى‬
‫ط أنطولوجي أوسع يتضمنها‪ .‬بالنسبة‬ ‫شيءٍ أكبر منها‪ ،‬إلى شر ٍ‬
‫للذاكرة السيكولوجيةة يحدث الماضي في الحاضر‪ ،‬في االحتجاز‬

‫‪79‬‬
‫سم ٌ‬
‫ك ال يمكن‬ ‫الحي‪ ،‬له ُ‬
‫ّ‬ ‫وفي الذاكرة‪ .‬وهذا الحاضر‪ ،‬الحاضر‬
‫حاضر رغم ذلك‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫أن يدركه التصور الخطّي للزمن‪ .‬لكنه‬

‫ة بالماضي نفسه‪ ،‬وليس‬ ‫أما الذاكرة األنطولوجية فمهموم ٌ‬


‫بمجرد وجوده في الحاضر‪" .‬إذا تكلمنا بالتحديد‪ ،‬فإن ما هو‬
‫سيكولوجي هو الحاضر‪ .‬الحاضر وحده ‘سيكولوجي’؛ لكن‬
‫ٌ‬
‫الماضي أنطولوجيا خالصة؛ االسترجاع الخالص ليس له سوى‬
‫‪26‬‬
‫داللة أنطولوجية‪".‬‬

‫مفهوم هوسرل لالحتجاز (مثله مثل مفهومهة لالسترجاع‪،‬‬


‫الحي" للتصور‬
‫ّ‬ ‫فعل التذكُّر) سيكولوجي‪ .‬ينتمي إلى "الحاضر‬
‫الوجودي للزمن‪ .‬لكن مفهوم برجسون للماضي ليس‬
‫سيكولوجيا؛ إنه المنبع األنطولوجي الذي تنبع منه الذاكرة‬
‫السيكولوجية‪.‬‬

‫راسب سيكولوجي في الحاضر‪ .‬ولو‬ ‫ٍ‬ ‫الماضي ليس مجرد‬


‫كان‪ ،‬لكان هناك ماضيات عديدة‪ ،‬بعدد الناس‪ ،‬وربما بعدد ما‬
‫توجد حاالت سيكولوجيةة للناس‪ .‬بالنسبة لبرجسون‪ ،‬هناك‬
‫ل ذاكرةٍ سيكولوجية‪.‬‬ ‫ماض وحيد تشارك فيه ك ُّ‬
‫ٍ‬ ‫ماض واحد‪،‬‬
‫ٍ‬
‫م كيف يحدث التعبير‪ ،‬والبدءَ في‬ ‫م هذا الماضي يعني فه َ‬
‫وفه ُ‬
‫فهم مفهوم االختالف الذي يطالبنا نيتشه بأن نؤكده‪.‬‬

‫الماضي ال يوجد بنفس الطريقة التي يوجد بها الحاضر‪.‬‬


‫فالحاضر يوجد في الفعليّة ‪ . actuality‬ونخبَره مباشرةً‪.‬‬
‫وكما يمكن أن يقول الوجوديون‪ ،‬باستطاعتنا الوصول‬
‫الفينومينولوجي [الظاهراتي] إليه‪ .‬أما الماضي (ال الماضي‬
‫السيكولوجي لألفراد بل الماضي األنطولوجي) فيوجد‬

‫‪80‬‬
‫افتراضيا ً ‪ . virtually‬الماضي االفتراضي موجودٌ؛ ليس‬
‫الشيء‪ .‬ليس ماضي التصور الخطّي للزمن‪ .‬ليس لحظ ً‬
‫ة‪ ،‬أو‬
‫شيئاً‪ .‬لكنه موجودٌ‪ ،‬بطريقةٍ مختلفة عن طريقة وجود الحاضر‪.‬‬

‫فكّر في المعلومات الجينية‪ .‬جيناتنا تخزن المعلوماتة عنا‪.‬‬


‫وهي تساهم بتلك المعلومات في سيرورة نموّنا‪ .‬لكن‬
‫المعلومات ذاتها ليست في الجينات بأية طريقة فعلية‪ .‬وال‬
‫شخص ما تحت الميكروسكوب لنجدها‬ ‫ٍ‬ ‫يمكن النظر إلى جينات‬
‫ة للرؤية‪ .‬بينما تنبسط‬
‫ةة هناك على الشريحة‪ ،‬متاح ً‬‫مستلقي ً‬
‫ُ‬
‫[تتفتح] الجينات‪ ،‬تصبح المعلومات ظاهرةً في العالم الفعلي؛‬
‫يصبح الشخص ما صاغته المعلوماتة ليكون‪ .‬لكن المعلومات‬
‫ذاتها‪ ،‬رغم أنها موجودة‪ ،‬ال توجد في فعليةٍ‪ .‬بل توجد افتراضيا‬
‫‪27‬‬
‫في بنية الجينات‪.‬‬

‫يمكننا التفكيرة في االفتراضية بتلك الطريقة‪ ،‬كشيءٍ يوجد‬


‫لكن ليس في فعليةٍ‪ .‬كما يقول دولوز‪ ،‬فإن االفتراضي يُفعِّل‬
‫‪ actualizes‬نفسه (المعلوماتة الجينية تتفتح كشخص)‪ ،‬لكنه‬
‫ليس فعليا ‪. actual‬‬

‫عادة ما يحذ ّر دولوز من خطأ ٍ يمكن ارتكابه في التفكيرة في‬


‫االفتراضي‪ .‬فالتفرقة بين االفتراضي ‪ virtual‬وبين الفعلي‬
‫‪ actual‬ليست نفس التفرقة بين الممكن ‪ possible‬وبين‬
‫الواقعي ‪ . real‬هناك اختالفان‪ .‬أوالً‪ ،‬الممكن غير موجود‪ ،‬بينما‬
‫واقعي بقدر كونه‬
‫ٌ‬ ‫االفتراضي موجود‪ .‬إنه واقعي‪" .‬االفتراضي‬
‫افتراضيا‪ 28".‬الممكن هو ما يمكن أن يصبح أو يمكن أن يكون‬
‫فواقعي‬
‫ٌ‬ ‫قد أصبح واقعيا‪ ،‬لكنه لم يفعل بعد‪ .‬أما االفتراضي‬
‫فعال‪ .‬وال يحتاج إلى إضافة أي شيءٍ إليه ليصبح واقعيا‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫الممكن هو مرآةٌ للواقعي‪ ،‬بينما‬
‫َ‬ ‫االختالف الثاني أن‬
‫ن مثل‬‫مبَني َ ٌة‬
‫الفعلي مرآويا‪ .‬الممكن ُ‬
‫َّ‬ ‫س‬
‫االفتراضي ال يعك ُ‬
‫ُ‬
‫الواقعي‪ ،‬وال ينقصه سوى خاصية الوجود الفعلي‪ .‬فإمكانية‬
‫إنهائي لكتابة هذا الفصل اليوم تماثل بالضبط إنهائي له اليوم‪،‬‬
‫باستثناء أنها لن تحدث في الواقع‪ .‬الممكن صورةٌ للواقعي‪،‬‬
‫مبني مثله تماما فيما عدا خاصية الواقعي في الوجود العيني‪.‬‬ ‫ٌّ‬
‫أو‪ ،‬إذا نظرنا من االتجاه اآلخر‪ ،‬فإن الواقعي هو صورة‬
‫الممكن‪ ،‬مع إضافة أنه صورةٌ واقعية‪.‬‬

‫وغياب الواقع ال يعني أن الممكن أدنى من الواقعي‪ .‬فربما‬


‫كان الممكن أرقى‪ ،‬وكان الواقعي يُخفق في بلوغ المعايير التي‬
‫يضعها‪ .‬فإمكانية إنهائي لكتابة هذا الفصل اليوم ليست أدنى‬
‫من عدم إنهائي له واقعيا‪ .‬لكن سواء أرقى‪ ،‬أو أدنى‪ ،‬أو ال هذا‬
‫وال ذاك‪ ،‬فإن الممكن والواقعي يعكسان مرآويا أحدهما اآلخر‪.‬‬

‫االفتراضي فليس صورة ً للفعلي‪ ،‬أو ألي شيءٍ آخر‪.‬‬


‫ُّ‬ ‫أما‬
‫الفعلي ناقصا خاصية الفعلية‪.‬‬‫ُّ‬ ‫ليس مثل صورةٍ‪ .‬ليس هو‬
‫ن بطريقةٍ مختلفة‪ .‬فكر‬ ‫مبَني َ ٌ‬
‫الماضي ليس مثل الحاضر‪ .‬فهو ُ‬
‫في عالقة الجوهر بالصفات واألحوال‪ .‬الصفات واألحوال تبسط‬
‫كنسخ يقدم لها‬
‫ٍ‬ ‫(وتطوي‪ ،‬وتعيد طي) الجوهر‪ ،‬لكن ليس‬
‫الجوهرة النموذج األصلي‪ .‬ورغم أن الجوهرة يُفعِّل نفسه في‬
‫الصفات واألحوال‪ ،‬فإن طريقة وجوده كافتراضي ليست‬
‫كأحوال فعلية‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ببساطة صورةً مرآوية لطريقة وجوده‬

‫يستخدم دولوز التفرقة بين مصطلحاتة افتراضي‪ /‬فعلي‬


‫وممكن‪ /‬واقعي كي يُبعد نفسه عن طرق التفكيرة األفالطونية‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫بالنسبةة ألفالطون‪ ،‬الصور هي األصل‪ ،‬واألشياء الموجودة‬
‫نسخٌ‪ .‬واألشياء الموجودة تكون تحقُّقات أصدق للصور كلما‬
‫شاركت فيها أكثر‪ ،‬أي‪ ،‬كلما اقتربت أكثر من مشابهة تلك‬
‫الصور‪ .‬وأفكار النموذج والنسخة والمشابهة تحمل في طياتها‬
‫التعالي‪ .‬فالنموذج هو المتعالي األرقى‪ ،‬والنسخة هي الموجود‬
‫األدنى‪ .‬النسخة تكتسب قيمتها فحسب بمشابهتها للنموذج‪.‬‬
‫وهذا تلطي ٌ‬
‫خ لألشياء الموجودة‪ ،‬الخاصية الثانية للتعالي‪ .‬ويرفض‬
‫دولوز تلطيخ الوجود‪ ،‬ويرفض معه كال من التمييزين بين‬
‫النموذج وبين النسخة من ناحية وبين الممكن وبين الواقعي‬
‫من جهة ثانية‪ .‬فكل من التمييزين‪ ،‬باعتماده على مفهوم‬
‫المشابهة‪ ،‬يقارن ما هو موجود بشيء خارجه يتم بواسطته‬
‫الحكم على الوجود‪.‬‬

‫االفتراضي ليس ال شبحا ً للفعلي وال متعاليا ً يحلّق فوقه‪.‬‬


‫إنه جزءٌ من الواقعي‪ ،‬مثلما هي الفعلية‪ .‬ال أكثر وال أقل‪ .‬لكنه‬
‫ليس واقعيا بنفس طريقة الفعلي‪ .‬كيف تساعدنا هذه التفرقة‬
‫على فهم الماضي األنطولوجي وعالقته بالحاضر؟ القول بأن‬
‫سرا تماما‪ .‬ماذا‬‫مف ِّ‬
‫الحاضر يُفعِّل الماضي صحيح‪ ،‬لكنه ليس ُ‬
‫يشبه الماضي؟ وماذا يشبه الحاضر؟ كيف يرتبط اإلثنان؟‬

‫ط مقلوبة لوصف الماضي‪.‬‬ ‫يستخدم برجسون صورة مخرو ٍ‬


‫تتقاطع قمة المخروط مع المستوى الذي يمثّل الحاضر‪" .‬لو‬
‫لت بمخروط ق أ ب‪ ،‬مجمل االسترجاعات المتراكمة في‬ ‫مث ّ ُ‬
‫ذاكرتي‪ ،‬فإن القاعدة أ ب‪ ،‬الواقعة في الماضي‪ ،‬تظل بال‬
‫حراك‪ ،‬بينما تتحرك القمة ق‪ ،‬التي تشير في كل لحظة إلى‬
‫حاضري‪ ،‬إلى األمام بال توقّف‪ ،‬وبال توقّف أيضا تلمس المستوى‬
‫المتحرك م لتمثيلي الفعلي للكون‪ 29".‬الصورة هنا هي صورة‬

‫‪83‬‬
‫ذاكرةٍ سيكولوجية‪:‬ة ذاكرتي أنا‪ ،‬تمثيلي أنا الفعلي‪ .‬لكن‪،‬‬
‫بالنسبةة لدولوز‪ ،‬فإن برجسون على أرضية الماضي‬
‫ماضي أنا فقط هو ما يوجد مثل‬
‫َّ‬ ‫األنطولوجي بالفعل‪ .‬فليس‬
‫ماضي هو‬
‫َّ‬ ‫ط في عالقة مع حاضري؛ إنه الففماضي‪.‬‬ ‫مخرو ٍ‬
‫منظور خاص للماضي األنطولوجي الذي يُشارك فيه‪.‬‬
‫ٌ‬

‫لماذا صورة مخروط؟ المخروط ثالثي األبعاد‪ .‬وقاعدته‬


‫تمتد بعيدا عن قمته في اندفاع متّسع‪ .‬ما عالقة هذه الجوانب‬
‫طبقات مختلفة‬
‫ٌ‬ ‫ط مع الماضي األنطولوجي؟ هناك‬ ‫من مخرو ٍ‬
‫درجات مختلفة من‬
‫ٍ‬ ‫من الماضي‪ ،‬وهذه الطبقات توجد باعتبارها‬
‫"االنكماش" أو "التمدد"‪.‬‬

‫الماضي أ ب يتواجد مع الحاضر ق‪ ،‬لكنه يتواجدة بأن يُدرج في‬


‫نفسه كل القطاعات أ‘ ب‘‪ ،‬أ‘‘ ب‘‘‪ ،‬إلخ‪ ،.‬التي تقيس درجات‬
‫قرب أو مسافةٍ مثاليةٍ خالصةٍ من ق‪ .‬كل واحد من هذه‬
‫ٍ‬
‫القطاعات افتراضي‪ ،‬ينتمي إلى الماضي الموجود في ذاته‪.‬‬
‫وكل واحدٍ من هذه القطاعات أو كل واحدٍ من هذه المستويات‬
‫اليتضمن عناصر معينة من الماضي‪ ،‬بل يتضمن دائما مجمل‬
‫الماضي‪ .‬يتضمن هذا المجمل على مستوى متمدد أو منكمشة‬
‫‪30‬‬
‫بدرجة أو بأخرى‪.‬‬

‫ما هو االنكماش ‪ contraction‬والتمدد ‪( expansion‬أو‬


‫االسترخاء ‪ ، relaxation‬كما يعبر عنه دولوز أحيانا)؟ ال يمكن‬
‫ماض أبعد‪ ،‬أبعد عن الحاضر‪ .‬الماضي األبعد‬
‫ٍ‬ ‫أن يكون مسألة‬
‫ليس أكثر تمددا من الماضي القريب‪ ،‬حتى لو كانت أكبر درجة‬
‫من االنكماش تحدث مع الحاضر‪" .‬مجمل الماضي" يوجد عند‬
‫زمن واحد فقط‪ ،‬الزمن الذي‬‫ٌ‬ ‫قطاع أو مستوى‪ .‬هناك‬
‫ٍ‬ ‫كل‬
‫يتضمن كال ّ من الحاضر والماضي‪ ،‬دائما معا‪ ،‬دائما "في نفس‬

‫‪84‬‬
‫الوقت‪ ".‬هذا ما يسعى إليه برجسون في بنائه لمفهوم‬
‫الديمومة‪.‬‬

‫ة أوثق مع‬ ‫ش األكثر عالق ً‬


‫بالنسبةة لبرجسون‪ ،‬يعني االنكما ُ‬
‫ل إلى بعثرة أنفسنا‬ ‫انخراط الشخص السلوكي في العالم‪" .‬نمي ُ‬
‫سية والحركية‬ ‫على أ ب بقدر ما نفصل أنفسنا عن حالتنا الح ّ‬
‫لنحيا في حياة األحالم؛ ونميل إلى تركيز أنفسنا في ق بقدر ما‬
‫نربط أنفسنا بشكل أوثق بالواقع الحاضر‪ ،‬مستجيبين بردود‬
‫سي‪ 31".‬ويقدم دولوز مثاال ً لالنكماش‬ ‫أفعال حركية للتحفيز الح ّ‬
‫سي‪" :‬ما هو‪ ،‬بالضبط‪ ،‬اإلحساس؟ إنه‬ ‫في مناقشته لإلدراك الح ّ‬
‫‪32‬‬
‫مستَقبِل‪".‬‬‫سطح ُ‬
‫ٍ‬ ‫عملية تقليص تريليونات الذبذبات على‬
‫ماض يتم فيه جعل عناصر الماضي‬ ‫ٍ‬ ‫الماضي األشد تقلصا هو‬
‫معين في العالم‪.‬‬
‫ٍة‬ ‫شخص‬
‫ٍ‬ ‫برمته أقرب إلى انخراط‬

‫لكن ما يتم تقليصه هو دائما مجمل الماضي‪ ،‬وليس مجرد‬


‫الماضي األقرب‪ .‬يبدأ مارسيل بروست في التقاط هذه الفكرة‬
‫في مقطع من البحث عن الزمن المفقود‪:‬‬

‫‪ . . .‬االختالفات التي توجد بين كل واحدٍ من انطباعاتنا الواقعية ةة‬


‫ضح لماذا ال يمكن لتصويرٍ متجانس للحياة أن يحمل‬ ‫اختالفات تو ِّ‬
‫مدةً من السبب التالي‪ :‬أن‬ ‫مست َّ‬
‫كثير شبهٍ بالواقع ةة ربما كانت ُ‬
‫ل الكلمات التي قلناها‪ ،‬أتفه األفعال التي قمنا بها في أي حقبةٍ‬ ‫أق ّ‬
‫ٌ‬
‫ارتباط‬ ‫ة بانعكاس أشياءٍ ليس لها‬ ‫ملوَّن ً‬ ‫مطَوَّق ً‬
‫ة‪ ،‬و ُ‬ ‫من حياتنا كانت ُ‬
‫منطقي بها وفيما بعد فصلَها عنها ذهنُنا الذي لم يجد فيها فائدةً‬ ‫ٌ‬
‫ألغراضه العقالنية الخاصة‪ ،‬أشياءٍ‪ ،‬في قلبها‪ ،‬رغم ذلك‪ ،‬ةة هنا‬
‫س القرمزية للغروب على الجدار المكسوِّ باألزهار لمطعم ٍ‬ ‫االنعكا ُ‬
‫ة البذخ‪ ،‬وهناك‬‫ة في النساء‪ ،‬متع ُ‬ ‫س بالجوع‪ ،‬الرغب ُ‬ ‫ريفي‪ ،‬إحسا ٌ‬
‫ل من‬‫جم ٌ‬
‫ة فيها ُ‬‫مغلَّف ٌ‬
‫الحلزونات الزرقاء للبحر الصباحي‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬

‫‪85‬‬
‫الموسيقى شبه بازغةٍ مثل أكتاف حوريات الماء ةة يظل أبسط‬
‫ألف إناء‪ ،‬ك ٌ‬
‫ل منها مملوءٌ‬ ‫ِ‬ ‫مسوَّرا ً كأنما داخل‬
‫فعل أو إيماءة ُ‬
‫ٍ‬
‫لون‪ ،‬ورائحة‪ ،‬وحرارةٍ مختلفةٍ تماما عن بعضها‬ ‫ٍ‬ ‫بأشياءٍ ذات‬
‫ة على طول مجمل‬ ‫منظّم ً‬‫ة‪ ،‬فضال عن ذلك‪ ،‬بكونها ُ‬ ‫البعض‪ ،‬آني ٌ‬
‫مدى أعوامنا‪ ،‬التي لم نكف خاللها عن التغيُّر ولو في أحالمنا و‬
‫أفكارنا‪ ،‬فإنها تقع على أشد االرتفاعات المعنوية تنوعا وتمنحنا‬
‫س بأجواءٍ استثنائية التنوع‪.‬‬‫اإلحسا َ‬

‫ماضي أنا هو ما يوجد داخلي؛‬ ‫ّ‬ ‫وهناك المزيد‪ .‬فليس مجمل‬


‫ماضي الخاص‪ ،‬أحاسيسي‪ ،‬ورغباتي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بل مجمل الماضي ذاته‪.‬‬
‫متَعي‪ ،‬ال تنشأ خارج السياق التاريخي الذي أحيا‬ ‫وذكرياتي‪ ،‬و ُ‬
‫ميراث زرعه في داخلي التاريخ‪ .‬ميراث‬ ‫ٍ‬ ‫فيه‪ .‬إنها تنشأ داخل‬
‫حر‬‫ربما أُغيّره لكن ال يمكنني أن أهرب منه‪ .‬أن نحيا يعني أن نُب ِ‬
‫معطى تاريخيا ليس من صنع‬ ‫سياق ُ‬
‫ٍ‬ ‫في العالم مغموسين في‬
‫ك في‪ ،‬وفي‬ ‫مشار ٌ‬‫المرء نفسه‪ .‬وهكذا فإن ماضي الخاص ُ‬
‫منظور لة‪ ،‬الماضي ذاته‪ .‬الماضي يوجد بداخلي‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫نفس الوقت‬
‫ُ‬
‫أنخرط فيها مع العالم‪.‬‬ ‫ويظهر في كل لحظةٍ‬

‫وفي هذا االنخراط يجري تفعيل ‪actualization‬‬


‫االفتراضي‪ .‬فأي شخص‪ ،‬من خالل الفعل أو الذاكرة أو اإلدراك‪،‬‬
‫ل التعلُّم‬
‫يجلب الماضي ليرتبط باللحظة الراهنة‪ .‬وقد يجلب فع ٌ‬ ‫ُ‬
‫حل للغزٍ؛ وقد تستحضر ذاكرةٌ‪ ،‬ضمن‬ ‫ٍ‬ ‫السابقَ ليرتبط باكتشافة‬
‫ة ماضية يجري تذكير المرء بها؛‬ ‫نطاق السياق الراهن‪ ،‬لحظ ً‬
‫ك ما يواجه المرء ضمن نطاق أفق الماضي الذي‬ ‫ويري اإلدرا ُ‬
‫عاشه المرء من خالل ميراث تاريخ المرء‪ .‬وفي كل هذه‬
‫الحاالت‪ ،‬يختلط الماضي والحاضر‪ :‬الماضي ينبسط[يتفتح]‪،‬‬
‫والحاضر يخلِق ويبتَكر‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫ثالث ُة أشياء يجب أن تبقى في الذهن‪ ،‬دوما‪ .‬ليس هناك‬
‫عل الماضي‪ .‬الماضي بكامله هو ما يتم‬ ‫حاضر ال يُف ِّ‬
‫ٌ‬
‫تفعيله في كل لحظة‪ .‬الماضي الذي يجري تفعيله‬
‫شخص هو‬
‫ٍ‬ ‫موجود‪ .‬تفعيلة ‪ actualization‬الماضي من جانب‬
‫ة السيكولوجية‪ .‬والماضي االفتراضي الذي يتم تفعيله هو‬ ‫اللحظ ُ‬
‫الوعي‬
‫ٍ‬ ‫ف‬‫اللحظة األنطولوجية‪" .‬بهذه الطريقة يتم تعري ُ‬
‫سيكولوجي‪ ،‬مختلف عن الالوعي األنطولوجي‪ .‬واألخير يناظر‬
‫استحضارا خالصا‪ ،‬إفتراضيا‪ ،‬عديم العاطفة‪ ،‬خامال‪ ،‬في ذاته‪.‬‬
‫‪34‬‬
‫ويمثل األول حركة االستحضار في سياق التفعيل ذاته‪".‬‬

‫لكن اللحظة السيكولوجية واللحظة األنطولوجية‪ ،‬مع‬


‫تميُّزهما‪ ،‬ال ينفصالن‪ .‬التفعيل ليس سيكولوجيا فحسب؛ فهو‬
‫نفس‬
‫ٍ‬ ‫ف‪ coiled‬في كل‬ ‫ملت ٌ‬‫أنطولوجي أيضا‪ .‬واالفتراضي ُ‬
‫ش في‬‫معا ٌ‬‫ماء‪ ،‬كتلة‪ .‬بل هو ُ‬
‫إنسانية‪ .‬الماضي ليس صخرة ً ص َّ‬
‫التفعيل‪ ،‬تماما مثلما ينبثق التفعيلة من مجال االفتراضي‪.‬‬

‫يأخذ في الظهور الطابعُ الزمني لجوهرة سبينوزا‪ .‬الجوهر‬


‫االفتراضي الموجود دوما في كل أحواله‪ .‬التفعيل‬
‫ُ‬ ‫ة‪ ،‬إنه‬
‫ديموم ٌ‬
‫الطي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫هو "إضفاء طابع الحال"‪ modalizing‬على االفتراضي‪،‬‬
‫الطي لالفتراضي إلى أحوال‪ .‬وهذا التفعيل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫والبسط‪ ،‬وإعادة‬
‫هذا "اإلضفاء لطابع الحال"‪ ،‬ليس تحويال لشيءٍ إلى آخر‪ .‬ليس‬
‫خلقا أو انبعاثا‪ .‬إنه سيرورةٌ يعبّر فيها الجوهر عن نفسه في‬
‫سياق طيّه‪ ،‬وبسطه‪ ،‬وإعادة طيّه‪.‬‬

‫سه ماضي برجسون األنطولوجي‪،‬‬ ‫هل جوهر سبينوزا هو نف ُ‬


‫ة دقّة تاريخية‪،‬‬
‫ة مسأل َ‬
‫هو نفسه الديمومة؟ إذا كانت المسأل ُ‬
‫مسألة أمانة للمواقف الفلسفية المضبوطة‪ ،‬فاإلجابة هي‪ ،‬ال‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫لسبب وجيه‪ .‬فقد‬‫ٍ‬ ‫ودولوز نفسه يقاوم إجراء المقارنة‪ ،‬وذلك‬
‫فيلسوف مفاهيمه الخاصة ليحل مشكالتهة الخاصة‪.‬‬‫ٍة‬ ‫خلق كل‬
‫ومشكلة الرب بالنسبة لسبينوزا ليست نفس مشكلةة الزمن‬
‫ة دقّةٍ‬
‫بالنسبةة لبرجسون‪ .‬وفضال عن ذلك‪ ،‬فليست مسأل َ‬
‫تاريخية‪ .‬بل مسألة بناء مفاهيم‪ ،‬باستخدام ما منحنا إياه‬
‫سبينوزا وبرجسون من أجل خلق أنطولوجيا يمكنها معالجة‬
‫سؤال كيف يمكن أن يحيا المرء‪ .‬يرى دولوز أن محايثة سبينوزا‬
‫وديمومة برجسون يمكن جلبهما سويا في بناء فلسفةٍ تتيح لنا‬
‫ة مما كنا نفعل‪ .‬هذا ما يسعى‬ ‫رؤية العيش بصورةٍ أكثر حيوي ً‬
‫إليه دولوز‪.‬‬

‫إذا كان الماضي‪ ،‬إذا كانت الديمومة‪ ،‬موجودةً دائما‬


‫افتراضيا‪ ،‬وإذا كانت تُفعِّلة نفسها في الحاضر‪ ،‬فما هو الماضي‬
‫إذن؟ ما هي طبيعته وطابعه؟ ليس الماضي ما قد حدث‬
‫ببساطة‪ .‬فذلك سيكون الماضي منظورا من خالل عدسة‬
‫التصور الخطّي للزمن؛ الماضي باعتباره ما جرى من قبل‪،‬‬
‫الماضي باعتباره ما لم يعد‪ .‬يعطينا بروست إشارةً إلى طبيعة‬
‫ة"‬‫مطَوَّق ٌ‬‫الماضي في المقطع الوارد أعاله‪ .‬انطباعات ماضينا " ُ‬
‫ٌ‬
‫ارتباط منطقي بها"‪ .‬إيماءاتنا‬ ‫ة بة ‪. . .‬أشياء ليس لها‬
‫ملوَّن ٌ‬
‫و" ُ‬
‫مسوَّرةٌ" في آنيةٍ تكون فيها العناصر المحيطة‬ ‫وأفعالنا " ُ‬
‫ة تماما عن بعضها البعض‪ ".‬ما يُميِّز الديمومة ليس‬ ‫"مختلف ً‬
‫االرتباط المنطقي؛ وال هو العالقة بين العناصر المتشابهة‪ ،‬وال‬
‫هو التماهي أو التقليد أو المشابهة‪ .‬االختالف هو ما يميِّز‬
‫يختلف مع نفسه‪".‬‬
‫ُ‬ ‫الديمومة‪" :‬الديمومة هي ما‬

‫نوع من‬
‫ٍ‬ ‫بنوع معينة من االختالف‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫الماضي‪ ،‬الديمومة‪ ،‬يتميّز‬
‫االختالف ال يمكن إدراجه تحت تصنيفات الهوية ‪ . identity‬ها‬

‫‪88‬‬
‫ح المكواة‬
‫ف يمكن إدراجه تحت تصنيفات الهوية‪ .‬فلو ُ‬ ‫هو اختال ٌ‬
‫والحذاء مختلفان‪ .‬وهما مختلفان ألن هناك شيءٌ اسمه لوح‬
‫المكواة (هوية) وحذاء (هوية أخرى)‪ ،‬وهاتان الهويتان ليستا‬
‫متماثلتين إحداهما مع األخرى‪ .‬إنهما مختلفتان‪ .‬واالختالف هنا‬
‫يعني شيئا من قبيل "غير متماثل"‪. not identical‬‬

‫بالنسبةة لبعض الفالسفة‪ ،‬ج‪ .‬ڤ‪ .‬ف‪ .‬هيجل ‪G. W. F.‬‬


‫‪ Hegel‬مثال‪ ،‬يظهر االختالف في شكل تضادٍ‪ .‬هذا هو االختالف‬
‫كما يُرى من خالل الديالتيك‪ .‬فاإلدراك الحسي الذي يظهر لي‬
‫مباشرةً‪ ،‬دون أن يتم إدخاله في تصنيفات لغوية‪ ،‬يتعارض مع‬
‫ط لغوي ("إنه كرسي" أو‬ ‫س ٌ‬‫اإلدراك الحسي الذي جرى له تو ُّ‬
‫ط‪ ،‬أضدادٌ‪ .‬ويقول‬ ‫س ٌ‬
‫المباشر وما جرى له تو ُّ‬
‫ُ‬ ‫"إنه أحمر")‪.‬‬
‫نفي لآلخر‪ .‬وفي سياق الديالكتيك‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫هيجل أحيانا أن كال منهما‬
‫ط إلى‬‫س ٌ‬
‫سيكون هذان الضدان بحاجة إلى أن يجري لهما تو ُّ‬
‫وحدةٍ أعلى تُصفّي تضادهما‪ .‬سيكون الطابع المباشر لإلدراك‬
‫سطه اللغوي بحاجة إلى المصالحة‪ ،‬والتغلب على‬ ‫الحسي وتو ُّ‬
‫ل أكثر تعقيدا من االختالف‪ ،‬لكنه مازال‬ ‫تضادهما‪ 37.‬هذا شك ٌ‬
‫يندرج تحت تصنيفات الهوية‪ .‬هوية المباشر تتضاد مع هوية ما‬
‫سط‪ ،‬رغم أن كال منهما سيتم إدراجه في النهاية‪.‬‬ ‫يجري له التو ُّ‬
‫لكن سيتم إدراجهما في هوية أرقي تلتقط كليهما‪ .‬االختالف هنا‬
‫مستعبَدا ً للهوية‪.‬‬ ‫ما زال ُ‬

‫أما االختالف الذي يناقشه بروست فليس اختالفا بين‬


‫الهويات‪ .‬اإليماءات واألفعال التي يشير إليها ال تحتفظ بطابعها‬
‫ة مع نفسها حين تُصبح جزءا من الماضي‪ .‬بل‬ ‫بوصفها متطابق ً‬
‫بطرق مختلفة‪ .‬ما من إيماءة‪ ،‬وال فعل‪ ،‬يمكنها‬
‫ٍ‬ ‫تذوب وتتعدل‬
‫أن تحتفظ بطابعها الخاص‪ ،‬يمكنها‪ ،‬إذا شئنا‪ ،‬أن تكون ما هي‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫اإليماءة الخاصة تفقد طابعها النوعي حين تُغيِّر ما يحيط بها أو‬
‫تصبح في اتصال مع أجزاء أخرى من الماضي‪ .‬الماضي إذن‬
‫مركَّبا من عناصر متطابقة مع نفسها‪ ،‬ومن ثم فالماضي‬ ‫ليس ُ‬
‫ة بعينها‪ .‬وإحدى طرق صياغة هذه النقطة أن‬ ‫ذاته ليس له هوي ٌ‬
‫نقول أنه يختلف مع نفسه‪.‬‬

‫وال يعتقد دولوز أن كل االختالف على هذا النحو‪ .‬فهناك‬


‫ف عن الحذاء‪ .‬وهناك‬ ‫اختالفات بين هويات‪ :‬لوح المكواة مختل ٌ‬
‫ٌ‬
‫نفي من النوع الذي يناقشه هيجل‪ .‬تلك‬
‫ٍ‬ ‫ه‬
‫تضادات وأوج ُ‬
‫ٌ‬
‫االختالفات موجودة؛ لكنها ال توجد في الديمومة‪ .‬بل توجد في‬
‫الحاضر‪ .‬وهي اختالفات فضائية [فراغية] وليست زمنية‪ .‬وأحيانا‬
‫يستعمل دولوز مصطلح "كثرة ‪ " multiplicity‬لالختالف‪.‬‬
‫فيكتب أن هناك‬

‫نمطان من الكثرة‪ .‬واحد ٌ يمثله الفضاء ‪ . . .‬هو كثرةٌ للخارجية‪،‬‬


‫مي‪ ،‬لالختالف في‬ ‫للتزامن‪ ،‬للتعارض‪ ،‬للنظام‪ ،‬للتمايز الك ّ‬
‫الدرجة؛ هي كثرةٌ عددية‪ ،‬غير متصلة وفعليةف‪ .‬ويظهر النمط‬
‫ة للتتابع‪،‬‬
‫اآلخر من الكثرة في الديمومة الخالصة‪ :‬إنها كثرةٌ داخلي ٌ‬
‫لالندماج‪ ،‬للتنظيم‪ ،‬للتنافر‪ ،‬للتفرقة الكيفية‪ ،‬أو لالختالف في‬
‫النوع؛ إنها كثرةٌ افتراضية ومتصلة ال يمكن اختزالها إلى‬
‫‪38‬‬
‫أعداد‪".‬‬

‫المشكلة هي أن "الناس رأوا فقط اختالفات في الدرجة‬


‫‪39‬‬
‫اختالفات في النوع‪".‬‬
‫ٌ‬ ‫حيث توجد‬

‫الديمومة هي كثرةٌ افتراضية‪ ،‬مجا ٌ‬


‫ل لالختالف ال تكون فيه‬
‫سسةٍ مسبقا بل فيه االختالف‬ ‫هويات مؤ َّ‬
‫ٍ‬ ‫االختالفات بين‬
‫"يختلف مع نفسه"‪ .‬هذه الكثرة االفتراضية‪ ،‬هذا المجال‬
‫‪90‬‬
‫واقعي بقدر واقعية مجال الهويات‬
‫ٌ‬ ‫لالختالف الزمني‬
‫واالختالفات الفضائية التي تواجهنا بها الخبرة اليومية‪ .‬من‬
‫مجال الديمومة ينشأ الحاضر‪ ،‬بينما تُفعِّل افتراضيته نفسها إلى‬
‫ة‪:‬‬
‫سمات فضائية نوعية‪ .‬وهكذا فإن "الثورة البرجسونية واضح ٌ‬
‫نحن ال نتحرك من الحاضر إلى الماضي‪ ،‬من اإلدراك الحسي‬
‫إلى االسترجاع‪ ،‬بل من الماضي إلى الحاضر‪ ،‬من االسترجاع‬
‫‪40‬‬
‫إلى اإلدراك الحسي‪".‬‬

‫وأكثر من ذلك‪ ،‬فالديمومة ال تتيح فقط نشوء الحاضر؛ بل‬


‫إنها أيضا من الحاضر‪ .‬ال يجب أن يضيع درس سبينوزا‪ .‬ال‬
‫ة الديمومة نفسها في‬ ‫تتطلّب المحايث ُ‬
‫ة أن تُفعِّل افتراضي ُ‬
‫الحاضر فحسب‪ ،‬بل إنها من ذات الحاضر الذي تُفعِّله‪ .‬الحاضر‬
‫ةة مجال الفضاء‪ ،‬والهويات‪ ،‬واالختالفات بين تلك الهويات‬
‫(االختالفات في الدرجة) ةة ال ينبثق أو يفصل نفسه عن ماضي‬
‫الديمومة‪.‬‬

‫‪VII‬‬

‫ة هامة‪ :‬الحاضر لديه‬ ‫محايثة الديمومة للحاضر لها نتيج ٌ‬


‫ة للتحول أكثر مما يبدو‪ .‬لم هذا؟ الحاضر "يقدِّم"‬ ‫دوما ً إمكاني ٌ‬
‫نفسه لنا باعتباره مجال الهويات واالختالفات في الدرجات‪ .‬في‬
‫الحاضر الفضائي [الفراغي]‪ ،‬يبدو أن لألشياء هويات ثابتة‬
‫بدرجةٍ أو بأخرى‪ .‬لوح المكواة ليس أكثر من لوح المكواة‪،‬‬
‫والحذاء ليس أكثر من حذاء‪ .‬لكن إذا كان االختالف محايثا‬
‫بمجال من االختالف يكمن‬
‫ٍ‬ ‫ة‬
‫مشبَّع ٌ‬
‫للحاضر‪ ،‬فإن كل لحظةٍ ُ‬
‫‪91‬‬
‫معطاة‪ .‬هناك دائما‬‫ملتفَّا داخلها‪ ،‬متيحا ً احتمال تمزيق أية هويةٍ ُ‬
‫ُ‬
‫ض خلف ما نخب َ ُره مباشرةً‪ .‬هذا‬
‫أكثر مما يُقدّم نفسه‪ ،‬فائ ٌ‬
‫ة أخرى‪" ،‬شيئا ً آخر"‪ ،‬بل افتراضية‬ ‫ة ثابت ً‬
‫الفائض ليس هوي ً‬
‫االختالف بال هوية وبكل سعةِ اإلحتمال ‪. potential‬‬

‫يكون إدراك ذلك أسهل لو فكرنا زمنيا وليس فضائيا‪ ،‬وهذا‬


‫هو السبب في أن برجسون بهذه األهمية لدي دولوز‪ .‬بالتفكير‬
‫فضائيا‪ ،‬نسأل أنفسنا‪ :‬كيف يمكن للوح المكواة أن يكون أي‬
‫ة فكرة أن هناك شيئا أكثر‬ ‫شيءٍ أكثر من لوح مكواة؟ تبدو عبثي ً‬
‫أفق صوفي أو هالة‬‫ٍ‬ ‫حوله أو بداخله‪ .‬سيكون األمر مثل طرح‬
‫حول أو داخل األشياء المادية يجعلها تكون على نحوٍ ما أكثر‬
‫مما هي‪ 41.‬لكن لو فكرنا زمنيا تكون فكرة االختالف االفتراضي‬
‫أكثر معقولية‪ .‬فالحاضر أكثر من مجرد اآلن المثالي‪ ،‬المنقطع‬
‫ل للحضور‬ ‫عن الماضي والمستقبل‪ .‬إنه‪ ،‬باألحرى‪ ،‬مجا ٌ‬
‫والختالفات في‬
‫ٍ‬ ‫الفضائي [الفراغي]‪ ،‬لهويات ثابتة نسبيا‬
‫بماض يُسهم في تلك الهويات وكذلك يساعد‬ ‫ٍ‬ ‫مشبّعةٍة‬‫الدرجة‪ُ ،‬‬
‫تعبيرات غير تلك التي تبدو‬
‫ٍ‬ ‫بطرق تتيح‬
‫ٍ‬ ‫في هدمها‪ ،‬في زعزعتها‬
‫معطاةٍ من الخبرة‪.‬‬ ‫عند لحظة ُ‬

‫ة استخدام سبينوزا لمفهوم الجوهر‪ .‬لو‬ ‫ف حكم َ‬


‫هنا نكتش ُ‬
‫كان دولوز على صواب في القول بأن سبينوزا يميل بقوةٍ‬
‫ل عن أحواله‪،‬‬ ‫مفرطةٍ أحيانا باتجاه فكرة أن الجوهر مستق ٌ‬ ‫ُ‬
‫قر من جهةٍ أخرى بأن الجوهر ال يقبل االختزال‬‫فالبد أن ن ُ ّ‬
‫ببساطة إلى أحواله‪ .‬هناك دوما شيء أكثر بصدد األحوال من‬
‫األحوال ذاتها؛ هناك الجوهر المحايث لها‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫وهناك دوما أكثر بصدد الحاضر مما يكشف لنا الحاضر‪.‬‬
‫هناك مجال االختالف االفتراضي المحايث له‪ .‬العالم هو‪ ،‬وليس‬
‫هو‪ ،‬كما يبدو‪ .‬لو فكّرنا فضائيا‪ ،‬فالعالم هو كما يبدو‪ ،‬تستغرقه‬
‫هوياته ويتميز باالختالفات في الدرجة‪ .‬ولو فكّرنا زمنيا مع‬
‫ن‬
‫برجسون‪ ،‬فالعالم دوما أكثر مما يبدو‪ ،‬دوما مشحو ٌ‬
‫بطرق جديدة وغير‬
‫ٍ‬ ‫باالختالفات التي يمكنها تفعيل نفسها‬
‫معهودة‪.‬‬

‫تبدأ األنطولوجيا في الكشف عن نفسها باعتبارها أكثر من‬


‫ل لما قال الفالسفة أنه موجود‪ .‬يمكنها أن تقدّم أكثر من‬ ‫ج ٍّ‬
‫س ِ‬
‫ِ‬
‫طبيعي أو حتمي‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫شاحب لما يُقدِّم نفسه لنا على أنه‬
‫ٍ‬ ‫تدعيم ٍ‬
‫األنطولوجيا ليست مجرد استرضاءٍ لالمتثال‪ .‬ذلك ألن‬
‫ة لما هو موجود‪ ،‬لو‬ ‫األنطولوجيا‪ ،‬بالنسبةة لدولوز‪ ،‬ليست دراس ً‬
‫ة لما هو موجود ٌ‬ ‫كنا نعني بذلك دراسة هويات األشياء‪ .‬إنها دراس ٌ‬
‫أراض‬
‫ٍ‬ ‫ة تخلق مفاهيم قد تنفتح على‬ ‫ولما يزعزعه‪ .‬إنها دراس ٌ‬
‫تضاريس ما زال عليناة أن نرتادها‪ .‬البداوة‪ ،‬التجول‬
‫ٍ‬ ‫جديدة‪ ،‬على‬
‫بين تلك األراضي‪ ،‬تلعب دورا بارزا في فكر دولوز الالحق‪.‬‬
‫وبذورها تكمن هنا‪ .‬فوكوه وديريدا على صواب في القول بأن‬
‫معظم األنطولوجيات تقود إلى االمتثال‪ ،‬الى توكيدٍ أعمى لما‬
‫يُقال لنا أنه موجود ٌ بالفعل‪ .‬لكن هذا ليس ألن قدر األنطولوجيا‬
‫أن تفعل ذلك‪ .‬بل ألن األنطولوجيا قد سادها‪ ،‬طوال مسار‬
‫تاريخها الطويل‪ ،‬التعالي والفضائية‪ .‬وبقراءته السبينوزا‬
‫م تتحدّي هذه‬ ‫وبرجسون سويا‪ ،‬يتملَّك دولوز ويخلق مفاهي َ‬
‫السيادة‪ .‬ليس التعالي والفضائية المصطلحين المناسبين‬
‫للتفكيرة األنطولوجي؛ بل المحايثة والزمنية‪ .‬المحايثة والزمنيةة‬
‫يزحزحان األنطولوجيا‪ ،‬والفلسفة عموماً‪ ،‬من المهمة الحزينة‪،‬‬
‫الذاوية‪ ،‬للتصديق على األمر الواقع‪ ،‬التي ليست بحاجةٍ إلى‬

‫‪93‬‬
‫الفلسفةة في المقام األول‪ ،‬إلى خلق مفاهيمٍة تنظر إلى األمر‬
‫ترتيبات عديدة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ة أنطولوجية واحدةٌ بين‬
‫الواقع على أنه ترتيب ٌ‬

‫إننا حتى ال ندري ما يَقد ِ ُر عليه جسد ٌ ما‪.‬‬

‫‪VIII‬‬

‫ة‬
‫ة هو نتيج ُ‬
‫هويات تبدو ثابت ً‬
‫ٍ‬ ‫االختالف داخل‬
‫ِ‬ ‫ف‪coiling‬‬
‫التفا ُ‬
‫محايثةِ الديمومةِ للحاضر‪ .‬الماضي ال يقتفي أثر الحاضر‪ ،‬بل إنه‬
‫وثيق الصلة به‪ .‬ونحن ال نتحرك من الحاضر إلى الماضي بل‬
‫من الماضي إلى الحاضر‪.‬‬

‫لكن ماذا عن المستقبل؟ة ما دور المستقبلة في‬


‫جه الزمني التي يشيِّدها دولوز؟ لقد رأينا‬
‫األنطولوجيا ذات التو ّ‬
‫العالقة الحميمة للماضي بالحاضر‪ ،‬وللحاضر بالماضي‪ .‬أليس‬
‫ل هنا؟ كيف نتصوره؟‬ ‫ثمة مستقب ٌة‬

‫هذا السؤال ال يمكن إجابته دون اللجوء إلى العضو الثالث‬


‫في الثالوث‪ :‬الروح ال ُقدُس‪ ،‬نيتشه‪.‬‬

‫‪IX‬‬

‫‪94‬‬
‫تطارد الروح النيتشوية قدرا كبيرا ً من فلسفة القرن‬
‫القارية وحدها‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫العشرين‪ ،‬بوحهٍ خاص‪ ،‬لكن ليس في التقاليد‬
‫ك وشيطان في آن‪ .‬إنه الفيلسوفة الذي يسبق‬ ‫ونيتشه مال ٌ‬
‫عصره بكثير‪ ،‬ويشير إلى الطريق صوب فلسفة المستقبل؛ وهو‬
‫خطر النزعة العدميةة والنسبيةة التي يجب أن يتجنّبها أي‬
‫ُ‬
‫ل الراية لقدرٍ كبير من الفلسفة‬ ‫فيلسوف حقيقي‪ .‬هو حام ُ‬
‫الفرنسية ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ وهو الدليل على أن‬
‫مفلِسة‪ .‬ما من فلسفةٍ ال تعمل في ظله‪ ،‬سواء‬ ‫هذه الفلسفة ُ‬
‫لتتلفّع بظلمته أو لتهرب منها إلى النور‪.‬‬

‫ودولوز ليس استثناءً‪ .‬إذ تمكن قراءته على أنه حواريٌ‬


‫امتدادات‬
‫ٌ‬ ‫ح لنيتشه‪ .‬ويمكن تفسير مفاهيمه على أنها‬ ‫صري ٌ‬
‫لمفاهيم نيتشه‪ ،‬من المحايثة إلى االختالف إلى البداوة‪ .‬وأحيانا‬
‫ما تبدو مناهضة دولوز لالمتثال‪ ،‬حتى بالنسبة لدولوز نفسه‪،‬‬
‫ة مع مناهضةة نيتشه لالمتثال‪" .‬ماركس وفرويد‪ "،‬كما‬ ‫متجانس ً‬
‫يكتب دولوز‪" ،‬ربما‪ ،‬يمثالن فجر ثقافتنا‪ ،‬لكن نيتشه شيءٌ‬
‫‪42‬‬
‫ف تماماً‪ :‬إنه فجر الثقافة المضادة‪".‬‬
‫مختل ٌ‬

‫جال‪ .‬إذ‬
‫متع ِّ‬
‫إختزال فكر دولوز إلى فكر نيتشه سيكون ُ‬
‫خذ بطريقةٍ معيّنة‪،‬‬ ‫يمكن تفسير نيتشه بطرق متعددة‪ .‬إذا أ ُ ِ‬
‫خذ بطريقةٍ‬ ‫يصبح كُوَّة ً يمكن إدخال فكر دولوز فيها‪ .‬وإذا أ ُ ِ‬
‫أخرى‪ ،‬يبدو اإلثنان أكثر تباعداً‪ .‬إذا كانت لدى نيتشه الموارد‬
‫فحقيقي بنفس القدر أن‬ ‫ٌ‬ ‫التي تفتح آفاقا ً جديدة لدولوز‪،‬‬
‫استخدام دولوز للمفاهيم النيتشوية يمكن أن يجعل نيتشه يبدو‬
‫قراءةً طازجة‪ .‬أما األشد تشويقا بشأن تأثير نيتشه على دولوز‬
‫فليس سؤال ما إذا كان يجب النظر إلى فكر دولوز باعتباره‬
‫متميّزا عن فكر نيتشه‪ ،‬أو ما إذا كانت مفاهيم دولوز إعادات‬

‫‪95‬‬
‫ح نيتشه عملَه‪ .‬نيتشه هو‬ ‫تدوين‪ ،‬بل الطريقة التي تتخل ّ ُ‬
‫ل بها رو ُ‬
‫الروح القدس لدولوز‪ .‬اإلثنان أخوان في الروح‪ ،‬حتى حيث ال‬
‫يكونان فيلسوفين لهما نفس المفاهيم‪ .‬إنهما رفيقا سفرٍ‪ ،‬رفيقا‬
‫تفسير دولوز الخاص ةة أو تملُّكه ةة‬
‫ُ‬ ‫يقلب‬
‫ُ‬ ‫بداوةٍ‪ ،‬حتى حيث‬
‫التفسيرات التي أصبحنا نربطها به‪.‬‬
‫ِة‬ ‫لمفهوم ٍ نيتشوي‬

‫مثلما هي الحال مع العود األبدي ‪. eternal return‬‬

‫كان العود ُ األبدي على الدوام واحدا ً من أشدّالمفاهيم‬


‫النيتشوية إلغازاً‪ .‬ويعتبره الفالسفة من أكثرها استغالقا ً على‬
‫الفهم‪ .‬وال يرجع هذا إلى صعوبة معناه‪ ،‬أو هكذا بدا‪ ،‬بل إلى أن‬
‫مراوغ‪ .‬وبقدر ما يمضي معناه‪،‬‬ ‫دوره في فلسفة نيتشه الكلية ُ‬
‫جرى اعتبار أن العود األبدي هو إعادة تدوير نفس األشياء على‬
‫جه حيوانات‬ ‫مدار الزمن‪ .‬وفي هكذا تكلّم زرادشت‪ ،‬تُو ّ‬
‫م ما تُعلِّم‪:‬‬‫زرادشت التوبيخ إليه بالكالم التالي‪" .‬أنظر‪ ،‬إننا نعل ُ‬
‫أن كل األشياء تعود ُ أبديا‪ ،‬ونحن أنفسنا أيضا؛ وأننا قد وُجدنا‬
‫بالفعل عددا ً أبديا من المرات‪ ،‬وكل األشياء معنا ‪ . . .‬أنا آتي‬
‫من جديدٍ‪ ،‬مع هذه الشمس‪ ،‬مع هذه األرض‪ ،‬مع هذا النسر‪ ،‬مع‬
‫هذه األفعى ةة ال إلى حياةٍ جديدة أو حياةٍ أفضل أو حياةٍ‬
‫مماثلة‪ :‬أنا أعود أبديا إلى نفس هذه الحياة ذاتها ‪ 43". . .‬إنه‬
‫ح لزرادشت أن يعلم أن كل شيء‪ ،‬حتى أصغر وأتفه نقاط‬ ‫لجر ٌ‬
‫الضعف البشرية‪ ،‬ستتكرر أبديا‪ .‬الشيء‪ ،‬وال حتى أشد َّ الناس‬
‫إثارة لالمتعاض أو أشدهم تفاهة‪ ،‬سيتخلفون عن دورة العود‪.‬‬

‫بالنسبةة لدولوز‪ ،‬ليس العود األبدي كما قد يبدو‪ .‬ليس العود‬


‫األبدي لنفس الشيء‪" :‬طبقا لنيتشهة ليس العود ُ األبدي بأي‬
‫معنى تفكيرا ً في المتطابق الهوية ‪ identical‬بل باألحرى‬
‫ً‬
‫‪96‬‬
‫بشكل‬
‫ٍ‬ ‫مختلف‬ ‫تفكيرا في التخليق ‪ ، synthesis‬تفكيرا في ال ُ‬
‫مطلق ‪ . . .‬ليس ‘نفس الشيء’ أو ‘الواحد’ هو ما يأتي من‬
‫سه الواحد الذي يجب‬ ‫جديد ٍ في العود األبدي بل أن العود َ هو نف ُ‬
‫أن ينتمي إلى التنوّعة وإلى ما يختلف‪ 44".‬العود األبدي ليس‬
‫تكرار االختالف‪ ،‬االختالف ذاته‪.‬‬
‫ُ‬ ‫نفس الشيء؛ إنه‬
‫ِ‬ ‫تكرار‬
‫َ‬
‫سه على أنه العود ُ األبدي؛ وفي العود‬‫ل نف َ‬‫سيكشف المستقب ُ‬
‫سيوجد توكيد ُ االختالف الذي هو روح دولوز النيتشوية‪.‬‬

‫وتعريف دولوز للعود األبدي غامض‪ " .‬العودُ هو وجودُ‬


‫ما يصير‪ .‬العود هو وجود ُ الصيرورةِ ذاتها‪ ،‬الوجود ُ الذي يتم‬
‫‪45‬‬
‫توكيده في الصيرورة‪".‬‬

‫في الفلسفة التقليدية‪ ،‬يوضع الوجود ُ في تضاد مع‬


‫الصيرورة‪ .‬الوجود هو ما يبقى‪ ،‬ما تكون له األولوية‪ ،‬ما يظل‬
‫ثابت ال يتغيّر‪ .‬الرب‬
‫ٌ‬ ‫مستقراً‪ .‬الوجود هو المصدر واألساس‪،‬‬
‫وجود؛ الطبيعةة وجود؛ الجوهر وجود‪ ،‬بالنسبة ألولئك الفالسفة‬
‫الذين يقاومون النظرة االسبينوزية‪ .‬وعلى الجهة األخرى‪،‬‬
‫فالصيرورة سريعة الزوال‪ ،‬متغيّرة‪ ،‬غير مستقرة‪ ،‬ومن ثم أقل‬
‫م عابر‪.‬‬
‫واقعي‪ ،‬والصيرورة وه ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ة من الوجود‪ .‬الوجود‬‫جوهري ً‬

‫ماذا لو كانت األشياءُ عكس ما تبدو؟ ماذا لو لم يكن ثمة‬


‫باق‪ ،‬بل صيرورةٌ فحسب؟ ماذا لو كان الشيء الوحيد‬ ‫ٍ‬ ‫وجود ٌ‬
‫الواقعي هو الصيرورة‪ ،‬الطابع المتغير والسائل لما هو موجود؟‬
‫يعتقد نيتشه أن هذه هي الحالة‪" .‬لو كان للعالم هدف‪ ،‬البد أن‬
‫ة نهائية غير‬
‫يكون قد تم بلوغه‪ .‬لو كان ثمة بالنسبة له حال ٌ‬
‫مقصودةٍ ما‪ ،‬فالبد لهذه أيضا أن يكون قد تم بلوغها‪ .‬لو كان‬
‫قادرا ً على التوقّف‪ ،‬وأن يصير ثابتا‪ ،‬على ‘الوجود’‪ ،‬لو كان خالل‬

‫‪97‬‬
‫كل مسار صيرورته يملك ولو للحظةٍ هذه القدرة على‬
‫‘الوجود’‪ ،‬لكانت كل صيرورة قد وصلت منذ زمن طويل إلى‬
‫‪46‬‬
‫نهايتها ‪". . .‬‬

‫ويتفق دولوز مع هذا‪" .‬ألنه ما من وجودٍ وراء الصيرورة‪ ،‬ال‬


‫شيء وراء الكثرة؛ وليست الكثرة وال الصيرورة مظاهرا ً أو‬
‫أوهاما ‪ . . .‬الكثرة هي التبدّي الذي ال ينفصل‪ ،‬التحوّل األساسي‬
‫والعرض الثابت للوحدة‪ .‬الكثرة هي توكيد الوحدة؛ والصيرورة‬ ‫َ‬
‫‪47‬‬
‫هي توكيد الوجود‪".‬‬

‫نحن مستعدّون بالفعلة لهذا التفكير‪ .‬فقد مهّد له الطريق‬


‫سبينوزا وبرجسون‪ .‬الجوهر ال يقف خلف أو خارج أحواله؛ وإذا‬
‫كانت األحوال تتغير وتتطور‪ ،‬فذلك ألن الجوهر ذاته ينطوي‪،‬‬
‫ة ثابتة تقف‬‫وينبسط‪ ،‬وينطوي من جديد‪ .‬الجوهرة ليس هوي ً‬
‫خلف األحوال‪ .‬الجوهر صيرورة‪ .‬والديمومة ليست هوية‪ .‬إنها‬
‫اختالف‪ ،‬اختالف قد يُفعِّل نفسه في هويات نوعية‪ ،‬لكنه يظل‬
‫اختالفا حتى داخل تلك الهويات‪ .‬ليس ثمة وجود ٌ هنا‪ ،‬على األقل‬
‫ليس بالمعنى التقليدي‪ .‬أو‪ ،‬حتى نصيغ المسألة بطريقةٍ أخرى‪،‬‬
‫طي‬
‫ُّ‬ ‫ثابت‪ ،‬فإنه الصيرورة ذاتها‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫لو كان ثمة وجودٌ‪ ،‬لو كان ثمة‬
‫ة‪ ،‬األمر‬ ‫وبسط الجوهر‪ ،‬تفعي ُ‬
‫ل الديمومة‪ .‬لو كنا نتذوق المفارق َ‬
‫الذي يفعله دولوز‪ ،‬لقلنا أن الوجود َ الوحيد هو وجود ُ الصيرورة‪.‬‬

‫ف‪ .‬ليس كثرةً هي عديدٌ في‬ ‫ولقلنا أن الوجود َ كثرةٌ‪ ،‬إختال ٌ‬


‫مقابل واحد‪ .‬الواحد ةة الديمومة‪ ،‬الجوهرة ةة هو الكثرة ذاتها‪.‬‬
‫والكثرة‪ ،‬االختالف‪ ،‬ليست متعالية؛ بل محايثة‪ .‬الكثرة هي توكيد‬
‫الوحدة‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫والعود ُ هو وجود الصيرورة‪ .‬ليس ثمة سوى صيرورة‪ ،‬وتلك‬
‫الصيرورة هي العود األبدي‪ .‬ماذا يعود ُ إذن؟ ما الذي يتكرر‬
‫أبديا‪ ،‬ويعود دوما ليواجهنا‪ ،‬وال يتخلّف أبداً؟ إذا كان الماضي‬
‫يُفعِّلة نفسه في الحاضر‪ ،‬إذا كنا نتحرك من الماضي إلى‬
‫الحاضر وليس من الحاضر إلى الماضي‪ ،‬وإذا كان الماضي‬
‫الذي يُفعِّل نفسه في الحاضر هو االختالف‪ ،‬إذن فإن ما يتكرر‬
‫أبديا ً هو االختالف ذاته‪ .‬ما يواجهنا دوما هو االختالف‪،‬‬
‫االختالف في النوع‪ ،‬االختالف الذي ما زال عليه أن يتخثّر إلى‬
‫هويات‪.‬‬

‫م‪ ،‬ولو أنه صعب‪ .‬مع سبينوزا‪ ،‬يقول‬ ‫وتعليلة دولوز هنا صار ٌ‬
‫مستقرة‬
‫ّ‬ ‫تعال‪ .‬ما من هويةٍ‬
‫ٍ‬ ‫محايث‪ ،‬أنه ما من‬
‫ٌ‬ ‫أن ك َّ‬
‫ل وجود ٍ‬
‫خارج عالمنا ةة ال رب‪ ،‬وال قوانين تاريخ‪ ،‬وال هدف ةة تُملي‬
‫طابَعه‪ .‬وال يعني هذا أن ال شيء يوجد خارج خبرتنا‪ .‬فما ليس‬
‫خارج عالمنا قد يكون رغم ذلك خارج خبرتنا‪( .‬وطالما علّمنا‬
‫العلم ذلك‪ ).‬لكن‪ ،‬سواء كان داخل أو خارج خبرتنا‪ ،‬فما من‬
‫وجودٍ ليس من عالمنا‪.‬‬

‫زمني في طابعه‪ ،‬أنه‬


‫ٌ‬ ‫الجوهر‬
‫َ‬ ‫ومع برجسون‪ ،‬يبيّن دولوز أن‬
‫وبسط في الزمن يكون فيه ما ينطوي‪ ،‬وينبسط‪ ،‬وينطوي‬ ‫ٌ‬ ‫طي‬
‫ٌّ‬
‫من جديد ماضيا ً ال يضيع أبدا‪ .‬وفضال عن ذلك‪ ،‬فذلك الماضي‬
‫هويات مستقرة‪ ،‬بل مجرد‬‫ٍ‬ ‫ف ذاته‪ .‬ليس ثمة‬‫هو االختال ُ‬
‫مستويات من االختالفات المتقلِّصة التي يمكن أن تُفعِّلة نفسها‬
‫ٍ‬
‫في الحاضر‪.‬‬

‫ما هو المستقبل‪ ،‬إذن؟ ما ذلك الذي يتمدَّد ُ أمامنا؟ إنه‬


‫ف الذي لم يتم تفعيله‪ .‬لقد علمنا بالفعل أن الماضي لو‬ ‫االختال ُ‬

‫‪99‬‬
‫يمر‪ .‬واآلن يقال لنا أن‬
‫ّ‬ ‫لم يوجد‪ ،‬لما أمكن للحاضر ذاته أن‬
‫المارة ما كان يمكنها أبدا ً أن تمر لو لم تكن بالفعل‬
‫ّ‬ ‫"اللحظة‬
‫ماضيا وقادما ةة في نفس وقت كونها حاضرا‪ 48".‬الديمومة‬
‫وحدةٌ‪ ،‬لكنها ليست مجرد َ وحدةِ الماضي والحاضر‪ ،‬كما قد يبدو‬
‫مع برجسون‪ .‬إنها وحدةٌ للماضي‪ ،‬والحاضر‪ ،‬والمستقبل‪.‬‬
‫اآلخرين‪ .‬المستقبل‪،‬‬
‫َ‬ ‫ج في‬ ‫وبوصفها وحدةً‪ ،‬فإن كل بعدٍ منسو ٌة‬
‫اآلخرين‪.‬‬
‫َ‬ ‫ل في‬ ‫والحاضر‪ ،‬والماضي منخرطون‪ ،‬ك ٌ‬

‫ف في‬‫المستقبلة له طابع الماضي‪ .‬ومثلما الماضي اختال ٌ‬


‫النوع‪ ،‬كثرةٌ خالصة‪ ،‬فكذلك هو المستقبل‪ .‬إنه يأتي ليقابلنا دون‬
‫معطاةٍ سلفاً‪ ،‬دون أية ثوابت مستقرة‪ .‬وال يعني هذا‬ ‫هويات ُ‬
‫ٍ‬ ‫أية‬
‫أن المستقبلة فارغٌ‪ .‬بل يعني أن المستقبل هو ع َود االختالف‬
‫االفتراضي الذي يميِّز الماضي كما يتصوره برجسون‪ .‬ما يعود‬
‫ليس الهويات التي جرى تفعيلُها في الحاضر‪ .‬ما يعود هو‬
‫ة الكامنة خلف وداخل تلك الهويات‪.‬‬ ‫االفتراضي ُ‬

‫سس الوجود َ بقدر‬ ‫ليس الوجود ُ ما يعود ُ بل أن العود َ ذاته هو ما يؤ ِّ‬


‫يمر‪ .‬ليس ما يعود ُ شيئا ً ما بل أن العود َ‬
‫ّ‬ ‫ما يتأكد ُ بالصيرورة وبما‬
‫ذاته هو الشيءُ الذي يتأكد ُ بالتنوع أو الكثرة‪ .‬وبعبارةٍ أخرى‪ ،‬فإن‬
‫ة‬
‫ة ما يعود بل‪ ،‬على النقيض‪ ،‬حقيق َ‬ ‫ف طبيع َ‬
‫ة في العود ال تص ُ‬ ‫الهوي َ‬
‫‪49‬‬
‫ف‪.‬‬
‫العودِ لما يختل ُ‬

‫المستقبلة ليس فارغاً؛بل هو في الحقيقة ممتليء إلى حد‬


‫الفيض‪.‬‬

‫ل له طابعُ الماضي ال يعني‪ ،‬إذن‪،‬‬ ‫القول بأن المستقب َة‬


‫استحضار الكليشيه البالي القائل بأن التاريخ يكرر نفسه‪ .‬فلو‬
‫َ‬
‫س العود األبدي‪ ،‬لما كان لديه ما يُعلّمنا إياه‪ .‬كل‬
‫كان هذا در َ‬
‫‪100‬‬
‫شيء يعود‪ ،‬حقاً؛ كل شيء يتكرر‪ .‬لكن ما يتكرر ال يفعل ذلك‬
‫مفعَّلَة بل على هيئةة االختالف االفتراضي الذي‬
‫على هيئة هويات ُ‬
‫سس تلك الهويات‪ .‬الشمس‪ ،‬واألرض‪ ،‬والنسر‪ ،‬واألفعى‬ ‫يؤ ِّ‬
‫تعود‪ .‬وتعود حتى أتفه وأحقر المشاعر‪ .‬لكنها ال تعود بوصفها‬
‫الشمس‪ ،‬واألرض‪ ،‬والنسر‪ ،‬واألفعى‪ ،‬وأتفه وأحقر المشاعر‪ .‬بل‬
‫سسها جميعا‪ .‬العود األبدي هو‬‫تعود بوصفها االفتراضية التي تؤ ِّ‬
‫إفتراضي‪ ،‬كثرةٌ‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ف‬
‫وجود الصيرورة‪ ،‬ووجود الصيرورة هو اختال ٌ‬

‫ل؛ والمستقبلة عود ٌ أبدي‪.‬‬ ‫ة؛ والحاضر تفعي ٌ‬ ‫الماضي ديموم ٌ‬


‫س لهم‪ ،‬نجد االختالف‪ .‬االختالف في‬ ‫س ٌ‬
‫لكن داخل كل هؤالء‪ ،‬مؤ ِّ‬
‫سس الحاضر‪.‬‬ ‫مفعَّ ُة‬
‫ل يؤ ِّ‬ ‫سس الديمومة‪ .‬واالختالف ال ُ‬ ‫النوع يؤ ِّ‬
‫‪50‬‬
‫سس المستقبل‪.‬‬ ‫وعود االختالف يؤ ِّ‬

‫توكيد ُ العود ِ األبدي‪ ،‬معانقتُه‪ ،‬هي أشقُّ مهام زرادشت‪ .‬ألن‬


‫التوكيدة ال يعني أن نقول نعم ألشياء هذا العالم‪ ،‬أن نريدها أن‬
‫تعود كما هي تماما‪ ،‬كل شيء في مكانه‪ .‬بل إنه توكيد ُ‬
‫مستقبل ال يتّسم باستمرارية‬
‫ٍة‬ ‫االختالف ذاته‪ .‬إنه العيش بمعانقة‬
‫ِ‬
‫باختالف ال يمكن أبدا اإلمسا ُ‬
‫ك‬ ‫ٍ‬ ‫الحاضر‪ ،‬وال بتكرار تفعيالته‪ ،‬بل‬
‫به تماما‪ .‬المستقبلة خارج سيطرة المرء‪ ،‬تصوّريا وسلوكيا‪.‬‬
‫جب أن يكون هناك‪،‬‬ ‫هنالك أكثر مما يجب‪ :‬ال شيء مما يتو ّ‬
‫والكثير من األشياء التي يمكن أن تكون‪.‬‬

‫ة النرد في الجزء الثالث من كتاب نيتشه‬ ‫يناقش دولوز رمي َ‬


‫هكذا تكلّم زرادشت‪ .‬يقول‪" ،‬اللعبةة لها لحظتان هما لحظتا‬
‫رمية النرد ةة النرد الذي يتم رميه والنرد الذي يرتد ّ ‪ . . . .‬النرد‬
‫صدفة‪ ،‬والتوليفة التي يشكلها‬ ‫الذي يتم رميه مرةً هو توكيد ال ُ‬
‫‪51".‬‬
‫عند السقوط هي توكيد الضرورة‬

‫‪101‬‬
‫إننا نواجه المستقبل‪ ،‬الذي هو العود األبدي‪ ،‬عود االختالف‪.‬‬
‫ليس ثمة شيءٌ نوعي يجب أن يوجد في المستقبل‪ ،‬بل الكثير‬
‫ف افتراضي لم يُفعِّل‬ ‫مما يمكن أن يوجد‪ .‬المستقبلة هو اختال ٌ‬
‫نفسه بعد في حاضرٍ بعينه‪" .‬أي شيء يمكن أن يحدث‪ "،‬ليس‬
‫ببساطة بالمعنى الشائع القائل أننا ال يمكننا التنبؤة بالمستقبل‪،‬‬
‫وبشكل أعمق بمعنى أن المستقبل ذاته هو كثرة ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫بل كذلك‬
‫‪52‬‬
‫خالصة‪ .‬تلك هي رمية النرد‪ .‬إنها الصدفة‪.‬‬

‫سه في حاضرٍ‪ ،‬كما يفعل الماضي‪.‬‬ ‫ثم يُفعِّل المستقب ُ‬


‫ل نف َ‬
‫يتبلور العود ُ في هويات‪ .‬الزمنية الخالصة تصبح فضائية أيضا‪.‬‬
‫بموقف معين نشأ عن الكثرة التي عادت‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ه‬
‫نُواج ُ‬

‫تلك هي التوليفة‪ ،‬النرد الذي يرتد‪ .‬إنها الضرورة‪ .‬إنها‬


‫الضرورة ال ألن األشياء يجب أن تحدث بتلك الطريقة‪ .‬فقد‬
‫تعال‬
‫ٍ‬ ‫كان يمكن أال ّ تحدث األشياء بتلك الطريقة‪ .‬ليس ثمة‬
‫جه الحاضر‪ ،‬مانحا شكال ً لمستقبلة معينة يجب أن يحدث بهذه‬ ‫يُو ِّ‬
‫الطريقة وليس بغيرها‪ .‬وفكرة أن هذا المستقبل المعيّن وليس‬
‫غيره سيصبح الحاضر هي بالضبط نوع التفكير الذي يرفضه‬
‫دولوز‪ .‬فبها ثالثة أخطاء‪ .‬أوال‪ ،‬تتضمن أن المستقبل يتأسس‬
‫هويات معينة‪ ،‬بدل كونه كثرةً افتراضية من النوع الذي‬ ‫ٍ‬ ‫بواسطة‬
‫يتصوره برجسون‪ .‬ثانيا‪ ،‬تتضمن أن ذلك المستقبلة يوجد بوصفه‬
‫ة قبل أن يصبح واقعا‪ ،‬بينما يضع دولوز اإلمكانية في‬ ‫إمكاني ً‬
‫مقابل االفتراضية‪ .‬ثالثا‪ ،‬تتضمن التوجيه‪ ،‬الذي يبدو أنه يتطلب‬
‫ٌ‬
‫وبسط‪ ،‬وإعادة‬ ‫طي‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫التعالي بدل المحايثة‪ .‬في المحايثة‪ ،‬ثمة‬
‫جهة‪ ،‬ال يد ٌ خفية‪.‬‬
‫مو ِّ‬
‫طي‪ .‬لكن ليس ثمة قوة ٌ ُ‬
‫ّ‬

‫‪102‬‬
‫ويشير مصطلح الضرورة إلى أن كيفية تفعيلة المستقبل‬
‫شخص بعينه أو مجموعة‬ ‫ٍ‬ ‫هي إلى حد ٍ كبير خارج سيطرة أي‬
‫ش في الواقع‪ .‬البد‬‫أشخاص‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬فإنه يظهر؛ إنه منقو ٌ‬
‫أن نحياه‪ .‬بالتأكيد‪ ،‬يمكن للناس أن يؤثروا في المستقبل؛‬
‫متلقّين سلبيين لحيواتنا‪ .‬لكننا ال نحدِّد ُ شكلها‪ .‬إننا‬
‫فلسنا ُ‬
‫منخرطون في زمنيةٍ تسبقنا‪ ،‬وربما تؤسس حاضرا لم نحلم به‬
‫لكن ال يمكننا الهرب منه‪.‬‬

‫ح طبيبا كي أطوّر دواءً للسرطان‪.‬‬ ‫س الطب وأصب ُ‬‫أدر ُ‬


‫ص آخر قبل أن أفعل‪ .‬ربما كنت حتى على‬ ‫فيكتشفه شخ ٌ‬
‫المسار الخطأ‪ ،‬ليس ألني لم أكن دقيقا بل ألن كل الدالئل‬
‫كانت تقودني إلى هناك‪ .‬لن أكتشف دواء السرطان‪ .‬هكذا‬
‫تفتّحت األشياء‪ .‬كان يمكن أال ّ تحدث بتلك الطريقة‪ .‬كان يمكن‬
‫ص الذي اكتشف الدواء‪ ،‬أو أن يكون‬ ‫أن تصدم سيارة ٌ الشخ َ‬
‫على المسار الخاطيء مثلما كنت‪ ،‬أو أن يكون قد أساء قراءة‬
‫بعض النتائج المعملية‪ .‬لكن لم يحدث شيءٌ من هذه األشياء‪،‬‬
‫واآلن تجلّطت كثرة المستقبلة إلى حاضرٍ بعينه‪.‬‬

‫ة ضد احتالل‬‫في عام ‪ 1987‬بدأ الفلسطينيون انتفاض ً‬


‫أرضهم من جانب إسرائيل؛ وفي عام ‪ 1990‬سقط جدار‬
‫برلين؛ وفي عام ‪ 1991‬أعلنت الواليات المتحدة الحرب على‬
‫العراق‪ .‬غيّرت هذه األحداث طبيعة النضال الفلسطيني من‬
‫أجل الحرية‪ .‬أصبحت جزءا ً من ضرورة كون المرء فلسطينيا‪.‬‬
‫هل كان يجب أن يسقط جدار برلين في ذلك الوقت؟ هل كان‬
‫يجب أن تعلن الواليات المتحدة الحرب حينئذ‪ ،‬أو على اإلطالق؟‬
‫هل هذه األحداث محفورة ٌ في قوانين التاريخ؟ ال‪ ،‬قبل أن‬
‫تحدث‪ ،‬ال تكون بحاجة إلى أن تحدث؛ ال شيء يجعلها تحدث‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫لكن وقوعها يجعلها ضرورة‪ ،‬واقعا لم تمكن السيطرة عليه‬
‫لكن ال يمكن تفاديه اآلن‪.‬‬

‫مرمي‬
‫ٌّ‬ ‫مرمي فعال‪ .‬هذا هو العود األبدي‪ .‬النرد‬
‫ٌّ‬ ‫النرد‬
‫فعالعلى الدوام‪ ،‬في كل لحظة‪ ،‬في كل نأمة‪ .‬المستقبلة دوما‬
‫مل‬ ‫مح َّ‬
‫معنا‪ ،‬هنا واآلن‪ ،‬شأنه شأن الماضي‪ .‬زوج النرد‪ ،‬ال ُ‬
‫مرمي فعال‪ .‬يرتد ّ النرد‪ .‬فيُظهر‬
‫ٌّ‬ ‫بالكثرة التي هي الديمومة‪،‬‬
‫ة ‪ .‬ها هي لديك‪ .‬تلك هي األرقام‪ .‬هذه رميتك‪ .‬يمكنك أن‬ ‫توليف ً‬
‫تحصل على رميةٍ أخرى‪ ،‬لكنها لن تمحو التوليفة التي تواجهك‪.‬‬
‫دوما ستكون تلك التوليفة قد حدثت‪ ،‬ودوما ستكون جزءا من‬
‫مجموع نقاطك‪ .‬الماضي دائما جزءٌ من كل حاضر‪.‬‬

‫كيف يمكن أن يكون المرء العبا ً جيدا في هذه اللعبة؟ة ماذا‬


‫يميّز الالعبين الجيدين عن السيئين؟ة "الالعب السيء يعتمد‬
‫رميات للنرد‪ ،‬على عدد كبير من الرميات‪ .‬بهذه‬
‫ٍ‬ ‫على عدة‬
‫الطريقة يستفيد من السببية ومن اإلمكان إلنتاج توليفةٍ يراها‬
‫ة‪ .‬إنه يطرح توليفته ذاتها كغايةٍ يجب الحصول عليها‪،‬‬ ‫مرغوب ً‬
‫مخبوءةٍ خلف السببية‪ 53".‬الالعبون السيئونة يُنكرون الصدفة‪.‬‬
‫يبحثون عن توليفة بعينها‪ ،‬ويأملون أن رمية الزهرة ستقدمها‬
‫لهم‪ .‬سبعات‪ ،‬وليس أعين ثعبان‪ .‬هناك هوية‪ ،‬هوية أو هويات‬
‫بعينها‪ ،‬ينتظرونها‪ .‬وسوف يخيب أملهم لو لم تأت تلك الهوية‪.‬‬
‫إنهم يعملون ضمن نطاق اإلمكان‪ ،‬وليس االفتراضية‪ .‬يحسبون‬
‫منظومة من االحتماالت على أساس توليفات ممكنة‪ .‬ربما لو‬
‫رموا النرد مرة أخرى ‪. . .‬‬

‫ل عليه‬‫"لكن‪ ،‬بهذه الطريقة‪ ،‬فإن كل ما سيمكن الحصو ُ‬


‫على اإلطالق سيكون بدرجةٍ أو أخرى أعدادا ً نسبية محتملة‪ .‬أن‬

‫‪104‬‬
‫ة لنأملها أكثر مما له‬
‫الكون ليس له هدف‪ ،‬أنه ليس له غاي ٌ‬
‫‪54‬‬
‫أسباب لنعرفها ةة هذا هو اليقين الضرورى لنلعب جيدا‪".‬‬
‫ٌ‬
‫مستقبل بعينه‪ ،‬وال يطلبون‬
‫ٍة‬ ‫الالعبونة الجيدون ال يعتمدون على‬
‫أن يرموا النرد مرة أخرى‪ .‬الالعبون الجيدون يؤكدون كال من‬
‫الصدفة والضرورة‪ .‬ال يلعبون من أجل توليفة بعينها‪ ،‬بل وهم‬
‫عارفون بأن التوليفات النهائية‪ ،‬وليست في متناولهم‪.‬‬

‫وال يجب أن نفكر أن الالعبين الجيدين سلبيون‪" .‬مهما‬


‫حدث؛ ال يهم‪ .‬دحرج النرد‪ ".‬ليس هذا موقف الالعبين الجيدين‪.‬‬
‫الالعبونة الجيدون يلعبون‪ ،‬ويلعبون بانغماس‪ .‬لكنهم ال ينتظرون‬
‫شيئا من الكون‪ .‬الكون ال يدين لهم بشيء‪ .‬ليس متجها إلى‬
‫دور فيه‪ .‬الكون يعطي ما يعطيه‪.‬‬‫ٌ‬ ‫مكان بعينه وليس لهم‬
‫ٍ‬
‫كرسون‬ ‫الالعبونة الجيدون ال يعرفون ماذا سيعطي‪ ،‬لكنهم ي ُ ِّ‬
‫أنفسهم للعبة‪ ،‬في كل رمية‪ .‬ال يقيسون التوليفة التي ترتد ضد‬
‫توليفات أخرى‪ ،‬ضد التوليفةة التي رغبوا أن ترتد‪ ،‬تلك التي كان‬
‫ٍ‬
‫يجب أن ترتد‪ .‬إنهم يرمون ويلعبون إلى أقصى حدودهم‪ .‬دون‬
‫ضغينة وال إحساس بالذنب بشأن رمي النرد أو التوليفة التي‬
‫ترتد‪.‬‬

‫التوكيد ال يعني تولي المسئولية عن‪ ،‬تولّي عبء ما هو‬


‫موجود‪ ،‬بل إطالق سراح‪ ،‬تحرير ما يحيا‪ .‬التوكيد هو نزع‬
‫العبء‪ :‬أال ّ نُثقل الحياة بثقل القيم األسمى‪ ،‬بل أن نخلق قيما‬
‫جديدة هي قيم الحياة‪ ،‬القيم التي تجعل الحياة خفيفة ونشيطة‪.‬‬
‫ثمة خلقٌ‪ ،‬بالمعنى المحدد‪ ،‬فقط بقدر ما نستطيع استخدام‬
‫اإلفراط لنبتكر أشكاال جديدة للحياة وليس لنعزل الحياة عما‬
‫‪55‬‬
‫يمكن لها أن تفعله‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫التوكيدة يعني التجريب‪ ،‬بال أية ضمانات بشأن نتائج تجريبنا‪.‬‬
‫ث بالفعلي‪ .‬يعني أن‬ ‫ف االفتراضي‪ ،‬ال التشب ّ َة‬
‫يعني استكشا َ‬
‫ل كيف يمكن أن يحيا المرء‪.‬‬ ‫ل بحياةِ المرءِ سؤا َ‬
‫نسأ َ‬

‫‪X‬‬

‫يُميِّز نيتشه بين القوي الفعَّالة ‪ active‬وقوى رد الفعل‬


‫‪ . reactive‬ويُفهم منه أحيانا أنه يُميّز بين الناس الفعّالين وبين‬
‫أناس رد الفعل‪ .‬لكن هذا خطأ‪ .‬فليس األمر أن بعض الناس‬
‫عات من‬
‫ٌ‬ ‫م‬
‫فعالون‪ ،‬وأن آخرين يقومون برد الفعل‪ .‬فالناس تج ّ‬
‫القوى‪ ،‬بعضها فعّال‪ ،‬وبعضها رد فعل‪ .‬وفي شخص معين‪ ،‬أو‬
‫نوع معين أو فترة‬
‫ٍ‬ ‫مجتمع معين‪ ،‬أو حتى‬‫ٍ‬ ‫في جماعة معينة‪ ،‬أو‬
‫تاريخية معينة‪ ،‬ليس مؤكدا أي قوى سوف تسود‪ ،‬القوى الفعالة‬
‫أم قوى رد الفعل‪ .‬تذكروا أن دولوز حين يسأل كيف يمكن أن‬
‫يحيا المرء‪/‬الكائن‪،‬ال يكون المرء‪/‬الكائن شخصا بالضرورة‪ .‬كيف‬
‫يمكن أن تحيا جماعة؟ كيف يمكن أن تحيا قوة؟ كيف يمكن أن‬
‫تحيا حقبة؟‬

‫"كل قوةٍ تمضي إلى أقصى حدود قدرتها هي ‪ . . .‬فعّالة‪".‬‬


‫‪ 56‬القوة الفعالة تمضي إلى أقصى حدود ما يمكنها عمله‪ .‬تفعل‬
‫مبدعة‪،‬‬ ‫كل ما في وسعها حتى مدي استطاعتها‪ .‬القوى الفعالة ُ‬
‫ألنها تسعى إلى ممارسة نفسها‪ ،‬لعمل كل ما يمكن عمله‬
‫بنفسها‪ .‬وما يتم إبداعه ال يرجع فقط إلى القوة الفعالة‪ .‬بل‬
‫يتعلق أيضا بالسياق الذي تعبّر فيه تلك القوة عن نفسها وعن‬
‫قدرتها الخاصة على بلوغ حدودها‪ .‬والكون ال يتعاون بالضرورة‬
‫‪106‬‬
‫صرف في اتجاهات‬
‫مع القوى الفعالة‪ ،‬مما يعني أن إبداعها قد ي ُ َّ‬
‫مر بكامله‪ .‬كل إبداعية هي‬ ‫غير متوقعة‪ ،‬أو حتى أن يُد َّ‬
‫تجريب‪.‬المرء يرمي النرد‪ ،‬لكنه ال يعلم ما سيرتد‪.‬‬
‫ٌ‬

‫مرة‪ .‬لكن هذا ال يرجع‬ ‫مد ِّ‬


‫كذلك قد تكون القوى الفعالة ُ‬
‫إلى أنها تسعى إلى التدمير‪ .‬ففي اإلبداع‪ ،‬قد تكون هناك‬
‫عقبات في طريق القوى الفعالة‪ ،‬عوائق أمام مضيّها إلى‬ ‫ٌ‬
‫مرها القوى الفعالة‪،‬‬
‫أقصى حدود ما يمكنها عمله‪ .‬وهذه قد تد ّ‬
‫المضي إلى‬
‫ّ‬ ‫ليس بدافع الكراهية أو الحقد بل بدافع بهجة‬
‫أقصى الحدود التي تنخرط فيها القوى الفعالة‪ .‬ما يهدد القوى‬
‫الفعالة ليست القوى الفعالة األخرى‪ ،‬التي يمكنها في أفضل‬
‫مر قوة ً فعالة‪ .‬ما يهدد القوى الفعالة‬
‫األحوال أن تنافس أو تُد ِّ‬
‫هو قوى رد الفعل‪.‬‬

‫قوى رد الفعل "تتقدم بطريقةٍ مختلفةٍ تماما ةة إنها تُوقِع‬


‫ما يمكنها أن‬ ‫التحلّل؛ إنها تفصل القوةَ الفعالة ع ّ‬
‫تفعله؛ تنتزع جزءا ً من قوتها أو كل قوتها تقريبا‪ 57".‬إذا كانت‬
‫القوى الفعالة تمضي إلى أقصى حدود قدرتها‪ ،‬تُبدع من خالل‬
‫تعبيرها ة الذاتي‪ ،‬فإن قوى رد الفعل تعمل بفصل القوى‬
‫الفعالة عن قدرتها الخاصة‪ .‬قوى رد الفعل ال تتغلب على القوى‬
‫مرها‪ .‬ال تبدع؛ بل تخنق إبداعية القوى الفعالة‪.‬‬ ‫الفعالة؛ بل تد ّ‬

‫لنفكر في الكنائس والمثلية الجنسية‪ .‬المثلية الجنسية‪،‬‬


‫مثل الغيرية الجنسية‪ ،‬هي قوة‪ .‬تسعي للتعبير عن نفسها‪.‬‬
‫بوصفها قوةً فعالة‪ ،‬قد تسعى المثلية الجنسيةة إلى المضي إلى‬
‫أقصى حدودها‪ :‬إلى أن تجد أشكاال جديدة للتعبير الجنسي‪ ،‬أن‬
‫تعبِّر عن نفسها مع آخرين كثيرين (أو على العكس أن تعبر عن‬

‫‪107‬‬
‫ة موجةِ‬
‫نفسها بصورةٍ أعمق مع آخرٍ وحيد)‪ ،‬أن تمتطي قم َ‬
‫ة جنسية معينةة فعالة‪ ،‬فإنها‬
‫قدرتها الخاصة‪ .‬وإذا كانت قوة ٌ مثلي ٌ‬
‫ال تسأل نفسها عما تفعله غيرها من القوى المثلية الجنسية؛ ال‬
‫تتساءل ما هو "المناسب" للمثلية الجنسية؛ ال تشعر بالذنب وال‬
‫بالندم وال بالشك‪ .‬فليس لكل ذلك من معنى‪.‬‬

‫كل الكنائس تقريبا‪ ،‬كل األديان تقريبا‪ ،‬تسعى لفصل القوة‬


‫المثلية الجنسيةة عما يمكنها أن تفعله‪ .‬تسعى إلى أن تُنكرها‪،‬‬
‫وترفضها‪ ،‬وتهدِّدها‪ ،‬وتُشفق عليها‪ .‬العالقة الالهوتية بالمثلية‬
‫بالمضي إلى أقصى حدود ما يمكنها أن تفعله؛‬‫ّ‬ ‫الجنسيةة ال تعمل‬
‫فليس هناك ما تسعى إلى عمله أو إلى التعبيرة عنه‪ .‬إنها تتقدم‬
‫بطريقةٍ مختلفةٍ تماما‪ .‬تعمل بواسطة الكبت‪ .‬إجعل القوة‬
‫خل الذنب والعقاب‪ .‬أعلِن التهديد‬ ‫المثلية الجنسيةة منبوذةً‪ .‬أد ِ‬
‫الذي تطرحه المثلية الجنسيةة لكل شيءٍ حولها‪ .‬إنها عالقة‬
‫طفيلية على المثلية الجنسية‪ .‬وبدونها‪ ،‬لن يكون ثمة مبرر‬
‫جانب بأكمله من المذهب الالهوتي‪.‬‬‫ٍ‬ ‫لوجود‬

‫ألسباب عديدة‪ .‬وربما لم‬


‫ٍ‬ ‫سسي‬ ‫الدين المؤ َّ‬
‫َ‬ ‫انتقد نيتشه‬
‫يكن من بينها ما هو أعمق وأشد ّ حدةً من اإلقرار بأن الدين‬
‫المؤسسي يقوم أوليا على رد الفعل‪ .‬إذ ال يعمل بالسماح‬
‫بالمضي إلى أقصى الحدود بل بفصلها عما يمكن أن‬ ‫ّ‬ ‫للقوى‬
‫تفعله‪ ،‬باستنفار قوى رد الفعل ضد القوى الفعالة‪ ،‬سعيا ً إلى‬
‫ة‪ ،‬وضعيفة‪ ،‬وأخيرا جعلها‬ ‫مذنب ً‬
‫جعل تلك القوى الفعالة بال حول‪ُ ،‬‬
‫عرفون‬ ‫سك ّ ٍ‬
‫ان ي ُ ّ‬ ‫سسي هو تاريخ ُ‬ ‫رد َّ فعل‪ .‬تاريخ الدين المؤ َّ‬
‫أنفسهم بما ليسوا عليه‪ ،‬ال يجدون العزاء فيما يمكنهم عمله بل‬
‫‪58‬‬
‫شرير‪ ،‬إذن أنا صالح‪".‬‬ ‫ّ‬ ‫في عدم كونهم شيئا آخر‪" .‬أنت‬
‫ة‪ ،‬وتُعد ُّ القوى الفعالة بين‬
‫يتهادى الضعف باعتباره فضيل ً‬

‫‪108‬‬
‫األعداء‪" .‬المرضى يمثلون الخطر األعظم على األصحاء؛ ليس‬
‫األقوى بل األضعف من يُنذرون بالكارثة لألقوياء‪ .‬هل نُقدِّر‬
‫‪59‬‬
‫هذا؟"‬

‫حقب ةة هذه توليفات‬ ‫الناس‪ ،‬المجتمعات‪ ،‬الكائنات الحية‪ ،‬ال ِ‬


‫من القوى الفعالة وقوى رد الفعل‪( .‬يعتقد نيتشه أن قوى رد‬
‫مكوَّنون من‬ ‫الفعل هي التي تسود في فترتنا التاريخية‪ ).‬نحن ُ‬
‫قوى تسعى للمضي إلى أقصى حدود ما يمكنها أن تفعله‪،‬‬
‫وقوى تسعى إلى فصل تلك القوى عما يمكنها أن تفعله‪ .‬القوى‬
‫الفعالة تؤكّد اختالفها‪ .‬ال ترى نفسها من خالل عيون اآلخرين‪،‬‬
‫بل تمضي بدال من ذلك إلى أقصى حدود اختالفها الخاص‪ .‬ال‬
‫تُقارِن؛ بل تخلق‪ .‬وقوى رد الفعلة تكون ما هي عليهة فقط من‬
‫خالل نفيها للقوى الفعالة‪ .‬وهويتها ال تأتي من توكيد اختالفها‪،‬‬
‫من التعبير عن إراداتها الخاصة‪ ،‬بل من نفي اختالفات القوى‬
‫الفعالة‪.‬‬

‫العبو النرد الجيدون يؤكدون القوى الفعالة‪ .‬ال يخشونها‪.‬‬


‫إنهم يعلمون أن النرد قد يُخفق في المضي إلى غاية حدودهم‪،‬‬
‫وأنهم حتى إذا نجحوا‪ ،‬فإن تأثيراتهم ال تزال غير معروفة‪ .‬وهذا‬
‫ال يضايقهم‪ .‬إنهم يؤكدون كال ً من الصدفة والضرورة‪ ،‬االختال َ‬
‫ف‬
‫ماض ومستقبل‪ ،‬وتفعيلة االختالف‪ .‬الالعبونة الجيدون‬‫ٍ‬ ‫الذي هو‬
‫ال يسعون إلى تقييد أو تدمير إبداعية القوى الفعالة‪ .‬إنهم‬
‫يتركون ذلك لالعبينة السيئين‪ ،‬الالعبينة الذين يجب بالنسبة لهم‬
‫مرتبا ً لجعل تلك‬ ‫ة مقدّما وك ُّ‬
‫ل شيءٍ ُ‬ ‫ج معروف ً‬
‫أن تكون النتائ ُ‬
‫النتائج تحت السيطرة‪ .‬بالنسبة لالعبين الجيدين هم أنفسهم‪،‬‬
‫فإنهم واعون أنهم ال يدرون حتى ما يقدر عليه جسد ٌ ما؛ لكنهم‬
‫مستعدّون الكتشافة ذلك‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫‪XI‬‬

‫هذا كله هو شأن العوْد األبدي‪ .‬العود األبدي هو عود ُ‬


‫االختالف‪ .‬هو تكرار االختالف الخالص الذي يُبيّن برجسون أنه‬
‫طبيعة الديمومة‪ .‬والالعبون الجيدون يؤكدون العود األبدي‪.‬‬
‫يؤكدون عود االختالف دون هوية‪ ،‬يؤكدون االختالفات التي ال‬
‫أشكال جامدة بل‬
‫ٍ‬ ‫هويات متعلّقاة باستمرار‬
‫ٍ‬ ‫يكون تفعيلها إلى‬
‫تجريبا في عالم ٍ من الموارد اإلبداعية التي ال تنضب‪ .‬توكيد‬
‫اإلقرار بعالم ٍ من االختالف االفتراضي يكمن‬‫َ‬ ‫العود األبدي يعني‬
‫تحرير قوى اإلبداعية الفعالة‪،‬‬
‫َ‬ ‫خلف خصوصيات حاضرنا‪ ،‬يعني‬
‫اإلقرار بأن‬
‫َ‬ ‫ض فصل تلك القوى عما يمكنها أن تفعله‪ .‬يعني‬ ‫رف َ‬
‫ضمانات لما سيكون‪ ،‬وفضال عن ذلك أن‬ ‫ٍ‬ ‫المستقبلة ال يقدّم لنا‬
‫سجن أجسادنا‪ ،‬خنقَ‬ ‫َ‬ ‫السعي إلى الضمانات يعني تقييد َ طاقاتنا‪،‬‬
‫ل ما فينا خوفا ً من أن‬‫ة ما قد يكون أفض َ‬ ‫إمكاناتنا الخالقة‪ ،‬خيان َ‬
‫يكون بدال من ذلك أسوأ َ ما فينا‪.‬‬

‫تجريب‪ .‬وتوكيد‬
‫ٌ‬ ‫ل إبداعيةٍ هي‬‫العود األبدي يعلِّمنا أن ك َّ‬
‫ح أنفسنا للتجريب الذي يقدمه المستقب ُ‬
‫ل لنا‬ ‫إبداعيتنا يعني فت َ‬
‫بدال ً من التشبّث بالهوية الوهمية التي يضعها الحاضر أمامنا‪ .‬لو‬
‫كنا قادرين على اإلبداعية‪ ،‬فذلك ألننا لسنا مهدَّدين باحتمال‬
‫أرض ال تُقدّم ضمانات‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫درب حتى نهاية حدوده عبر‬ ‫ٍ‬ ‫شق‬
‫باستثناء أننا ال يمكننا أن نستنفد مواردها‪ .‬الكثيرون‪ ،‬وربما‬
‫الغالبيةة في نظر دولوز ونيتشه‪ ،‬ال يمكنهم أن يرتفعوا إلى‬
‫‪110‬‬
‫مستوى هذه المهمة‪ .‬لكنهما ال يكتبان من أجلهم‪ ،‬بل من أجل‬
‫األقلية التي تستطيع (األقلية من الناس‪ ،‬األقلية من القوى‪،‬‬
‫حقَب)‪.‬‬
‫األقلية من ال ِ‬

‫يكتب دولوز عن مفهوم نيتشه عن إرادة القوة‪ ،‬في مقابل‬


‫التصورات األسبق لإلرادة‪" :‬ضد هذا التكبيل لإلرادة يعلن‬
‫يحرر؛ ضد معاناة القوة يعلن نيتشه أن‬ ‫ِّ‬ ‫نيتشه أن فعل اإلرادة‬
‫اإلرادة بهيجة‪ .‬ضد صورة إرادةٍ تحلم بأن تُنسب إليها قي ٌ‬
‫م‬
‫‪60‬‬
‫راسخة يعلن نيتشه أن فعل اإلرادة يعني خلق قيم ٍ جديدة‪".‬‬
‫ة‬
‫التحرر‪ ،‬البهجة‪ ،‬الخلق‪ .‬هذا ما يعادله توكيد ُ االختالف‪ ،‬معانق ُ‬
‫العود األبدي‪ .‬ال حزن‪ ،‬وال ضغينة‪ ،‬وال وخزات ضمير‪ ،‬وال إنكار‬
‫ذات‪ ،‬بل نقيض ذلك‪" .‬تعليم نيتشه العملي هو أن االختالف‬
‫ة‬
‫موضوعات مناسب ٌ‬
‫ٌ‬ ‫سعيدٌ‪ ،‬أن الكثرة‪ ،‬والصيرورة‪ ،‬والصدفة‬
‫للبهجة في ذاتها وأن البهجة وحدها تعود‪ 61".‬ويسأل دولوز‪ ،‬كما‬
‫فعل نيتشه من قبله‪ ،‬هل نحن قادرون على هذا؟ أو‪ ،‬إذا وضعنا‬
‫السؤال بطريقةٍ أخرى‪ ،‬هل لدينا القوة لنسأل كيف يمكن أن‬
‫يحيا المرء؟‬

‫‪XII‬‬

‫سبينوزا‪ ،‬برجسون‪ ،‬نيتشه‪ :‬المسيح‪ ،‬األب‪ ،‬الروح القدس‪.‬‬


‫م الثالثة التي تُشكّل الحامل الثالثي‬
‫ثالثتهم يخلقون المفاهي َ‬
‫الذي تقف عليه فلسفة دولوز الخاصة‪ :‬المحايثة‪ ،‬والديمومة‪،‬‬
‫وتوكيد االختالف‪.‬‬
‫‪111‬‬
‫جوهر واحد‪ ،‬وجود ٌ منفرد‪ .‬وال يحكمه أو‬
‫ٌ‬ ‫م واحد‪،‬‬‫هناك عال ٌ‬
‫تعال‪" .‬إن فكرة‬
‫ٍ‬ ‫م أو وجودٌ خارجه‪ .‬ليس هناك‬ ‫يحكم عليه عال ٌ‬
‫فائق للحس بكل أشكالها (الرب‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫عالم ٍ آخر‪ ،‬فكرة عالم ٍ‬
‫الماهية‪ ،‬الخير‪ ،‬الصدق)‪ ،‬فكرة القيم األرقى من الحياة‪ ،‬ليست‬
‫مثاال واحدا ً بين أمثلة عديدة بل العنصر التأسيسي لكل اختالق‬
‫‪fiction."62‬‬

‫حاضر أمامنا‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫وال يعني هذا أنه ال وجود سوى لما هو‬
‫سط‬ ‫سه‪ ،‬ويب ِ‬ ‫فهناك أكثر مما يُصادف العين‪ .‬الوجود يطوي نف َ‬
‫سه‪ ،‬إلى األشكال النوعيةة التي تؤسس‬ ‫طي نف ِ‬
‫َّ‬ ‫نفسه‪ ،‬ويُعيد‬
‫سه لنا‪،‬‬ ‫عالم خبرتنا‪ .‬الوجود‪ ،‬أو الجوهر‪ ،‬يكمن فيما يقدّم نف َ‬
‫لكنه دوما أكثر من أيّ تقديم‪ .‬وكي نفهم هذا يجب أن نفكّر‬
‫زمنيا وليس فضائيا‪ .‬فالتفكير الفضائي يمكن أن يعطينا فقط‬
‫فنومنولوجيا عالمنا‪ ،‬بنية المظاهر‪ .‬أما التفكيرة الزمني فيمكنه‬
‫اختراق هذا العالم ليُظهر لنا ما قد تكون هذه المظاهر‬
‫ة‪.‬‬
‫ةة منه‪ ،‬وكيف يمكن أن تصبح مختلف ً‬‫مصنوع ً‬

‫سمكا ً للديمومة‪ ،‬ماضيا ً ليس مجرد‬


‫يكشف التفكيرة الزمني ُ‬
‫ص من البقاء‬‫غياب للحظةٍ حاضرة لكنه بدال من ذلك نوع ٌ خا ٌ‬
‫ٍ‬
‫في الحاضر‪ .‬الماضي والحاضر يتضمنان بعضهما‪ .‬بدون الحاضر‬
‫لن يكون ثمة شيءٌ ليمر‪ .‬وبدون الوجود المستمر للماضي لن‬
‫زمن واحد ٌ فقط‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫الحاضر‪ .‬هناك‬
‫ُ‬ ‫يمر‬

‫ل‬‫ة‪ .‬الماضي هو مجا ٌ‬ ‫ة‪ .‬والماضي افتراضي ٌ‬


‫الحاضر فِعلي ٌ‬
‫م َفعَّلَةٍ‪.‬‬
‫لالختالفات االفتراضية التي توجد في الحاضر بصورةٍ ُ‬
‫والتفعيلة ال يُف ِقر افتراضية االختالف‪ ،‬كثرةَ الديمومة‪ .‬التفعيل ال‬

‫‪112‬‬
‫مد الوجود‪ .‬بل إنه يمنحه أشكاال نوعية‪ ،‬إحواال نوعية‪ ،‬تُعبّر‬ ‫يُج ِّ‬
‫الحاضر دوما يتضمن أكثر مما‬
‫ُ‬ ‫عن الوجود دون أن تستنفده‪.‬‬
‫ل بماضيه‪ ،‬الذي هو أيضا مستقبله‪.‬‬ ‫مث َق ٌ‬
‫يبدو‪ .‬إنه ُ‬

‫الحاضر‬
‫َ‬ ‫ّب‬
‫الماضي‪ ،‬الديمومة‪ ،‬الكثرة االفتراضية‪ ،‬ال يتعق ُ‬
‫ببساطة‪ .‬إنه يأتي ليقابله‪ .‬الماضي يتكرر‪ .‬إنه التكرار األبدي‬
‫لالختالف‪ .‬والديمومة‪ ،‬التي تكمن في الحاضر‪ ،‬هي المستقبل‬
‫الحاضر ال يكون أبدا مجرد َ األشكال التي يُقدِّمها لنا‪ .‬إنه‬
‫ُ‬ ‫أيضا‪.‬‬
‫دائما أكثر مما يبدو‪ .‬وال يفقد ُ الكثرةَ التي تؤسسه‪ .‬ونتيجة‬
‫ُ‬
‫أنماط اختالف؛‬ ‫أشكال مستقرة بل‬
‫ٍ‬ ‫ة‬
‫الحاضر مسأل َ‬
‫ُ‬ ‫لذلك‪ ،‬ليس‬
‫بطرق‬
‫ٍ‬ ‫لقد فعَّل الحاضر نفسه بطريقةٍ ويمكن أن يُفعِّل نفسه‬
‫يقدر عليه جسد ٌ ما‪ .‬المستقبل‪،‬‬‫ُ‬ ‫أخرى‪ .‬إننا حتى ال ندري ما‬
‫إذن‪ ،‬ليس مجرد استمرارٍ لألشكال المستقرة للحاضر‪ ،‬حيث أن‬
‫الحاضر ليس مجرد منظومة من األشكال المستقرة‪.‬‬
‫م لمقابلتنا وكذلك‬ ‫ف لم يجرِ تفعيله‪ ،‬قاد ٌ‬‫المستقبلة هو اختال ٌ‬
‫موجود ٌ معنا فعال‪.‬‬

‫يمكننا أن نسمح ألنفسنا باالقتراب من هذا االختالف‪،‬‬


‫بتوكيده‪ ،‬بمعانقة الصدفةِ التي يمثلها والضرورةِ التي ستقدِّمها‬
‫يقدر عليه جسد ٌ ما‪ ،‬عن كيف‬
‫ُ‬ ‫لنا تفعيالتُه‪ .‬يمكننا السؤال عما‬
‫يمكن أن يحيا المرء‪ .‬يمكننا أن نسأل عن ذلك ليس فقط‬
‫كنتاجات لحقبةٍ أو‬
‫ٍ‬ ‫كجماعات في الفعل‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ككائنات إنسانية‪ ،‬بل‬
‫ٍ‬
‫بيئة تاريخية‪ ،‬كقوى تتفاعل مع غيرها من القوى في عالقات‬
‫ط متبادل‪.‬‬
‫تضامن‪ ،‬وسيطرة‪ ،‬وإفرا ٍ‬
‫ٍ‬

‫لو سألنا‪ ،‬لو سمحنا للسؤال بأن يُدوِّي‪ ،‬فنحن إذن‬


‫سنا‪ .‬نُتيح لما فينا أو ما نكونُه أو‬
‫س ُ‬
‫منفتحون على إبداعيةِ ما يؤ ِّ‬

‫‪113‬‬
‫ل جزءا ً منه أن يسعي إلى أقصى حدوده‪ ،‬أن يعبِّر عن‬ ‫ما نُشك ِّ ُ‬
‫م اآلن أو بما حدث من‬ ‫نفسه‪ .‬ال نُقارن أنفسنا بما يبدو أنه قائ ٌ‬
‫ب مع ما يمكن أن يكون‪ .‬ولو رفضنا‪ ،‬بدال عن‬ ‫نجر ُ‬
‫ِّ‬ ‫قبل؛ بل‬
‫ذلك‪ ،‬السؤال‪ ،‬لو رفضنا أن نسأل كيف يمكن أن يحيا المرء‪،‬‬
‫والكائنات‬
‫ِ‬ ‫نبحث عن الراحة في القيم الراسخة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فسوف‬
‫المتعالية‪ ،‬القضاةِ من كل األنواع الذين سينتزعونة منا قوتنا‬
‫مود‪ .‬لن نسعى إلى اكتشاف ما‬ ‫ويعيدونها إلينا على شكل هُ ُ‬
‫نقدر عليه بل سنسعى بدال من ذلك إلى فصل أنفسنا عما‬
‫يمكن أن نكون قادرين عليه‪.‬‬

‫وفي التيار الرئيسي للفلسفة‪ ،‬كان مشروعُ األنطولوجيا‬


‫ما يمكن أن‬ ‫الفصل ألنفسنا ع َّ‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫االنخراط في هذا‬ ‫يعني دوما‬
‫ص‬
‫نكون قادرين عليه‪ .‬وعند الهوامش فقط وُجدت شخو ٌ‬
‫ة مختلفة‪ .‬ومن بينها سبينوزا‪ ،‬وبرجسون‪ ،‬ونيتشه‪،‬‬ ‫قدّمت رؤي ً‬
‫الذين يقدمون لنا مفاهيمة يمكننا أن نبني منها أنطولوجيا‬
‫منهَكا ً بل تشير إلى الطريق صوب تصوُّرٍ‬ ‫جديدة‪ ،‬ال تدعم امتثاال ً ُ‬
‫ة للعالم وللعيش فيه‪.‬‬ ‫أكثر انفتاحا‪ ،‬وحيوي ً‬

‫كل مما هو‬‫وبالنسبة لدولوز‪ ،‬يعني تصوّ ُر العيش تصوُّ َر ٍ‬


‫م تقريرٍ عما يعنيه أن‬‫موجود ٌ وما يمكن أن يوجد‪ .‬يعني تقدي َ‬
‫يكون شيءٌ ما حيّا ً وانفتاحا على طرق العيش‪ .‬واألمران‬
‫أكثر مما‬
‫ُ‬ ‫مضفوران في أي أنطولوجيا جديرةٍ باسمها‪ .‬العالم‬
‫يمكننا أن نُدرك‪ .‬إنه ثريٌ باالختالف‪ .‬وفي هذا األكثر‪ ،‬في هذا‬
‫االختالف‪ ،‬في التأسيس األنطولوجي للعالم‪ ،‬تكمن اإلجابات‬
‫على سؤال كيف يمكن أن يحيا المرء‪ .‬أو باألحرى‪ ،‬حيث أن‬
‫ملقاةً هناك جاهزة ً‬ ‫اإلجابات لم تتشكل بعد‪ ،‬حيث أنها ليست ُ‬

‫‪114‬‬
‫وتنتظر عناقنا‪ ،‬يمكننا القول أنه بطرحنا سؤال كيف يمكن أن‬
‫يحيا المرء‪ ،‬ليس بكلماتنا فقط بل بحيواتنا‪ ،‬تتشكلة اإلجابات‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫‪, p.‬ةملكب لغشنت ال ]?‪1 Deleuze and Guattari, What Is Philosophy‬‬


‫‪60‬‬
‫‪, p.‬ةملكب لغشنت ال ]?‪2 Deleuze and Guattari, What Is Philosophy‬‬
‫‪49‬‬
‫‪3 Deleuze, The Logic of Sense, p. 255‬‬
‫‪115‬‬
4 Nietzsche, On the Genealogy of Morals, p. 96.
5 See further, Descartes, The Passions of the Soul
6 Deleuze, The Logic of Sense, p. 256.
7 Spinoza, The Ethics and Selected Letters, p. 39
8 Spinoza, The Ethics and Selected Letters, pp.
66–7.
9 Deleuze, Expressionism in Philosophy: Spinoza,
p. 171
10 Deleuze, Expressionism in Philosophy:
Spinoza, p. 173.
11 Deleuze, Expressionism in Philosophy:
Spinoza, p. 180.
12 Deleuze, Expressionism in Philosophy:
Spinoza, p. 178
13 Deleuze, Expressionism in Philosophy:
Spinoza, p. 180
14 Deleuze, Expressionism in Philosophy:
Spinoza, p. 45.
15 Deleuze, Expressionism in Philosophy:
Spinoza, p. 45
16 Deleuze, Expressionism in Philosophy:
Spinoza, p. 47
17 Deleuze, Expressionism in Philosophy:
Spinoza, p. 16.
18 Deleuze, Expressionism in Philosophy:
Spinoza, p. 17

116
19 Deleuze, Expressionism in Philosophy:
Spinoza, p. 175.
20 Deleuze, Difference and Repetition, p. 36.
‫ "يبدو جوهر‬:‫ورغم أن دولوز يباعد نفسه قليال عن سبينوزا هنا‬
‫ بينما األحوال معتمدة على‬،‫سبينوزا مستقال عن األحوال‬
‫ الجوهر يجب أن‬.‫ لكن كأنما على شيء بخالف نفسها‬،‫الجوهر‬
.40 ‫" ص‬.‫يقال عن األحوال وعن األحوال فقط‬
21 Deleuze, Expressionism in Philosophy:
Spinoza, p. 253
‫ لهذا السبب تصل فلسفة هايدجر المتأخرة إلى رفض‬22
.‫العناصر الوجودية ألعماله األولى‬
23 Deleuze, Bergsonism, p. 48
24 Deleuze, Bergsonism, p. 59.
25 Husserl, The Phenomenology of Internal Time-
Consciousness
26 Deleuze, Bergsonism, p. 56
‫ حيث أن‬،‫ هناك المزيد ليقال عن الجينات واالفتراضية‬27
‫ والفصل القادم يناقش‬.‫الوضع أعقد مما توحي به هذه الفقرة‬
.‫الجينات بتفصيل أكبر‬

28 Deleuze, Difference and Repetition, p. 208


29 Bergson, Matter and Memory, p. 152.
30 Deleuze, Bergonism, p. 60.
31 Bergson, Matter and Memory, pp. 162–3
32 Deleuze, Bergsonism, p. 74.
33 Proust, Remembrance of Things Past: The Past
Recaptured, p. 132.

117
‫قارن هذا المقطع بمقطع من دولوز في كتابه عن بروست‪:‬‬
‫"ربما كانت هذه ماهية الزمن‪ :‬الوجود النهائي ألجزاء‪ ،‬ذات‬
‫وأشكال مختلفة‪ ،‬ال يمكن مواءمتها‪ ،‬ال تتطور بنفس‬
‫ٍ‬ ‫أحجام ٍ‬
‫اإليقاع‪ ،‬وال يجرفها تيار األسلوب بنفس السرعة‪".‬‬
‫‪Proust and Signs, p. 101‬‬
‫‪34 Deleuze, Bergsonism, p. 71.‬‬
‫خ الفلسفة على الدوام‬ ‫‪ 35‬في المحاورات‪ ،‬يكتب ‪" ،‬كان تاري ُ‬
‫ل [وسيط] ‪ l’agent‬السلطة في الفلسفة‪ ،‬وكذلك في‬ ‫فاع َ‬
‫الفكر‪ .‬ولعب دور القامع‪ :‬كيف تريد أن تفكر دون أن تكون قد‬
‫قرأت أفالطون‪ ،‬وديكارت‪ ،‬وكانط‪ ،‬وهايدجر‪ ،‬وكتاب فالن أو‬
‫ترهيب ضخمة تصنع األخصائيين في‬‫ٍة‬ ‫عالن عنهم؟ مدرسة‬
‫الفكر‪ ،‬لكنها كذلك تجعل من يبقون خارجا يمتثلون أفضل لذلك‬
‫التخصص الذي يسخرون منه‪ ".‬ص ‪.13‬‬
‫‪36 Deleuze, “La conception de la diff´erence chez‬‬
‫‪Bergson,” p. 88 )my translation‬‬
‫‪ 37‬هذا التغلب قصة طويلة ومعقدة في فكر هيجل‪،‬‬
‫والمصالحة قصة رهيفة‪ .‬وال يريد دولوز أن ينكر هذا‪ ،‬بل يريد‬
‫باألحرى نقد الشروط التي تُروى فيها تلك القصة‪.‬‬
‫‪38 Deleuze, Bergsonism, p. 38‬‬
‫‪39 Deleuze, Bergsonism, p. 23.‬‬
‫‪40 Deleuze, Bergsonism, p. 63‬‬
‫‪ 41‬فعليا‪ ،‬ليس األمر عبثيا إلى هذا الحد‪ ،‬حتى من وجهة نظر‬
‫العلم‪ .‬وقد حاولت أن ألتقط هذه النقطة في تناول دولوز للعلم‬
‫في مقالي "دولوز‪ ،‬والعلم‪ ،‬واالختالف‪".‬‬
‫‪42 Deleuze, “Nomad Thought,” p. 142‬‬
‫‪43 Nietzsche, Thus Spoke Zarathustra, pp. 332–3.‬‬
‫‪44 Deleuze, Nietzsche and Philosophy, p. 46.‬‬

‫‪118‬‬
45 Deleuze, Nietzsche and Philosophy, p. 24.
46 Nietzsche, The Will to Power, p. 546
47 Deleuze, Nietzsche and Philosophy, pp. 23–4
48 Deleuze, Nietzsche and Philosophy, p. 48.
49 Deleuze, Nietzsche and Philosophy, p. 48
‫ خصوصا بالنسبة‬، ‫صل كونستانتين بونداس هذه الفكرة‬ ّ ‫ يف‬50
‫ في‬،‫للمستقبل‬
“Deleuze-Bergson: An Ontology of the Virtual.”
51 Deleuze, Nietzsche and Philosophy, p. 25–6
‫ سيتوجب علينا أن‬،‫ إذا كان للتناظر أن يصبح أكثر صرامة‬52
‫نتخيل زهري النرد دون أية أرقام معينةة منقوشة على‬
.‫سطوحهما‬
53 Deleuze, Nietzsche and Philosophy, p. 26–7.
Deleuze, Nietzsche and Philosophy, p. 27 54
Deleuze, Nietzsche and Philosophy, p. 185 55
56 Deleuze, Nietzsche and Philosophy, p. 59.
Deleuze, Nietzsche and Philosophy, p. 5757
58 Deleuze, Nietzsche and Philosophy, p. 119.
.Deleuze, On the Genealogy of Morals, p. 100 59
60 Deleuze, Nietzsche and Philosophy, p. 85.
61 Deleuze, Nietzsche and Philosophy, p. 190.
.Deleuze, Nietzsche and Philosophy, p. 147 62

3
119
‫الفكر‪ ،‬والعلم‪ ،‬واللغة‬

‫‪I‬‬

‫كيف نفكر في عالمنا وكيف نحيا فيه هما أمران‬


‫مضفوران‪ .‬أنطولوجيانا والتزاماتنا العملية منسوجتان معا‪ .‬وهذا‬
‫يصدق ليس على الفالسفة فقط‪ .‬بل يصدق على الجميع‪ .‬إن‬
‫عالما يتكون من أشياء معينة ذات حدودٍ صارمة تتفاعل مع‬
‫أشياء معينة أخرى (بحدودها الصارمة) طبقا لقوانين طبيعية‬
‫أنواع محددة من العيش‪ .‬فمثال‪ ،‬إذا‬
‫ٍ‬ ‫معينة سوف يدعونا إلى‬
‫كانت أشياء معينة ما هي عليه وال شيء آخر‪ ،‬فلن نضيِّع وقتنا‬
‫في تخيُّل ما يمكن أن تكون أو تصبح بخالف ذلك‪ .‬سوف نقنع‬
‫باإلمكانات التي تقدمها لنا فِعليتها‪ .‬سيكون علينا أن نكتشف‬
‫القوانين الطبيعيةة التي تربط هذه األشياء المعينةة ببعضها‬
‫البعض حتى ال نحاول عبثا أن نكسرها‪ .‬سنقنع بهذه القوانين‬
‫مثلما نقنع بهويات األشياء التي تحكمها هذه القوانين‪.‬‬

‫أما إذا تخلينا عن هذه الطريقة للتفكير في عالمنا‪ ،‬فقد‬


‫تظهر لنا طرقٌ بديلة للعيش‪ .‬إذا لم يكن لألشياء حدود هويةٍ‬
‫ة لالختزال إلى‬
‫صارمة وإذا لم تكن العالقات فيما بينها قابل ً‬
‫قوانين طبيعية‪ ،‬فلن يعود بمقدورنا التأكد مما يقدر عليه جسد ٌ‬
‫ما‪ .‬فربما يدور في عالمنا أكثر مما يُقدَّم لنا‪ .‬ال ندرى‪ .‬الطريقة‬
‫جرب‪.‬‬‫الوحيدة لنكتشف هي أن ن ُ ِّ‬
‫‪120‬‬
‫المحايثة‪ ،‬والديمومة‪ ،‬وتوكيد االختالف‪ .‬هذه مفاهيم من‬
‫خاللها يصبح العالم غريبا عليناة من جديد‪ ،‬من خاللها تصبح‬
‫ة‪ .‬التفكيرة بهذه‬
‫مية وهوياتها مائع ً‬
‫الحدود بين األشياء مسا ِّ‬
‫الطريقة يتطلب أنطولوجيا جديدة‪ .‬لكنه يتطلب أكثر من ذلك‪.‬‬
‫يتطلب أن نرى طريقتنا القديمة في التفكيرة كما هي‪ ،‬أن نفهم‬
‫مي دولوز هذه الطريقة القديمة في‬ ‫شكلها وتصميمها‪ .‬ويس ّ‬
‫التفكيرة باسم "الصورة الدوجمائية للفكر‪".‬‬

‫فور أن نفهم الصورةَ الدوجمائية للفكر‪ ،‬سنتمكن بصورةٍ‬


‫أفضل من إدراك نمط التفكيرة الذي يقدمه لنا دولوز‪ ،‬نمط‬
‫جديد من التفكير‪ ،‬بمفاهيم جديدة تفتح طرقا جديدة للعيش‪.‬‬
‫هذا النمط الجديد من التفكير سيتصور العالم بطريقةٍ مختلفةة‬
‫جدَّته‪ .‬هناك ممن‬ ‫عن الصورة الدوجمائية‪ .‬لكن‪ ،‬يجب أال تضلّلنا ِ‬
‫بطرق ليست غريبة‬ ‫ٍ‬ ‫يعملون في العلوم من يتصورون العالم‬
‫م‬‫عن الطريقة التي يتصوره بها دولوز‪ .‬قد ال يحقِّق العل ُ‬
‫أنطولوجيا دولوز؛ فالفلسفة‪ ،‬في نهاية المطاف ليست نفس‬
‫ة‬
‫الشيء كالعلم‪ .‬الفلسفة تخلق المفاهيم‪ .‬وليست معني ً‬
‫بالصدق بل بالبارز ‪ ، remarkable‬والمشوِّق ‪، interesting‬‬
‫م واكتشافات في العلم قد‬ ‫والهام ‪ . important‬لكن ثمة مفاهي ٌ‬
‫ٌ‬
‫نمط‬ ‫تساعد في توضيح األنطولوجيا التي يبنيها دولوز‪ .‬يلتقي‬
‫ونمط جديد من الفلسفةة على تصورٍ جديد‬ ‫ٌ‬ ‫جديد من العلم‬
‫ة‬
‫للعالم وللكون الذي نحيا فيه‪ :‬عالم وكون قد يكونان أكثر حيوي ً‬
‫مما اعتقدنا‪.‬‬

‫منا وفكرنا مبنيان في اللغة‪ .‬وهذا ال يعني أنهما مجرد‬


‫عل ُ‬
‫ِ‬
‫ة بنا‪ .‬لسنا‬
‫أداتين للغة‪ ،‬أو أنه ال يوجد خارج اللغة شيء له عالق ٌ‬

‫‪121‬‬
‫وحيدين مع لغتنا‪ .‬والبد أن المنظور الذي يبنيه دولوز قد جعل‬
‫ذلك واضحا بالفعل‪ .‬العالم يحتوي على أكثر مما يمكن أن‬
‫تكشفه كلماتنا لنا‪ ،‬ال أقل‪ .‬لكن إذا لم تكن لغتنا هي كل ما‬
‫هناك‪ ،‬إذا لم يكن العالم منسوجا من كلماتنا ببساطة‪ ،‬فليست‬
‫لغتنا بدورها بعيدة ً عنا‪ .‬حتى نفهم تصوراتنا للعالم‪ ،‬يجب أن‬
‫نفهم أفعال اللغة التي تُصاغ بها تلك التصورات‪ .‬والتأمل في‬
‫الفكر والعلم‪ ،‬حتى يكون كامال‪ ،‬يتطلب أيضا تأمال في اللغة‪.‬‬

‫الفكر‪ ،‬والعلم‪ ،‬واللغة‪ .‬إذا كانت المحايثة‪ ،‬والديمومة‪،‬‬


‫وتوكيد االختالف هي المفاهيم التي نحتاجها لنتصور العالم من‬
‫جديد‪ ،‬فإن الفكر‪ ،‬والعلم‪ ،‬واللغة هي وسائط ذلك التصور‬
‫الجديد‪ .‬البد أن نتخلى عن الصورة الدوجمائية للفكر من أجل‬
‫ط جديد من الفكر؛ البد أن نرى ذلك الفكر بصورةٍ أوضح‪،‬‬ ‫نم ٍ‬
‫بطرق سيساعدنا فيها العلم؛ والبد أن نعيد النظر في اللغة‬
‫ٍ‬
‫التي يظهر بها كل ذلك النمط الجديد من الفكر‪.‬‬

‫‪II‬‬

‫ة قَلّةٍ من‬
‫ما هي الصورة الدوجمائية للفكر؟ ليست ملكي َ‬
‫الفالسفة‪ ،‬مخفيّة في مكاتبهم‪ ،‬وحيدةً مع أفكارهم‪ .‬كما أنها‬
‫ليست مبحثا يمكن أن يوجد في مكتبةٍ يكسوها الغبار‪ ،‬برنامجا‬
‫نوع من المؤامرة الفكرية‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫مر عبر األجيال في‬
‫سريا ّ‬
‫ّ‬ ‫ملغِزا أو‬
‫ُ‬
‫صنا‪ .‬إنها قالبنا لتصوُّر العالم‪.‬‬
‫الصورة الدوجمائية للفكر تخ ّ‬

‫‪122‬‬
‫ربما كان العنصرة األكثر محورية لهذا القالب هو التمثيل‬
‫‪ . representation‬وهو يعمل كما يلي‪ .‬العالم هناك في‬
‫وساكن‪ .‬ينتظر فكرنا‪ ،‬حتى يتم إدراكه‪ .‬فكرنا‬
‫ٌ‬ ‫مستقر‬
‫ٌة‬ ‫الخارج‪،‬‬
‫مرآويا ً ما هناك‪ ،‬في‬
‫يمثّله‪ .‬هذا ما يفعله الفكر‪ .‬إنه يعكس ِ‬
‫تمثيل‬
‫ٍ‬ ‫استقراره وسكونه‪ ،‬في أفكارنا‪ .‬الفكر ليس أكثر من‬
‫للعالم‪ :‬إعادة – تقديم ‪ re-presentation‬في ذهننا لما‬
‫قدَّم ‪ presented‬لنا مرةً‪ ،‬بالفعل‪ ،‬هناك في الخارج‪.‬‬ ‫يٌ َ‬

‫ة بسيطة‪ ،‬وقسرية‪ .‬وفي الفكر العتيق‪ ،‬كان ثمة‬ ‫هذه حكاي ٌ‬


‫ة‪ .‬مثال‪ ،‬كيف‬ ‫مشكالت يجب التغلّبة عليها لجعل الحكاية مقبول ً‬
‫ٌ‬
‫يمكن لشيء بضخامة بقرةٍ أن يتسع له عقلي؟ اآلن نعتقد أن‬
‫مثل تلك المشكالت سخيفة‪ .‬وال يرجع ذلك إلى أننا قد تغلّبنا‬
‫على التمثيل بوصفه طريقة تفكيرنا في فكرنا‪ .‬بل يرجع‪،‬‬
‫باألحرى‪ ،‬إلى أننا قد تمكّنا من تهذيب القالب ليتناول مشكالتة‬
‫محتملة مثل هذه‪ .‬وليس األمر أن بقرةً تظهر فعليا في فكرنا‪.‬‬
‫مرر تلك الصورة خالل األعصاب‬ ‫بل إن أعيننا تعالج الصورة‪ :‬ت ُ ِّ‬
‫البصرية إلى الدماغ‪ ،‬الذي يخزن الصورة ويربطها بالصور‬
‫األخرى من نفس النوع‪ ،‬تلك التي تندرج في فئة "بقرة"‪.‬‬

‫هذه ليست الطريقة الوحيدة لحكي الحكاية‪ ،‬لكن الطرق‬


‫األخرى تشبهها‪ ،‬وتشترك في شيءٍ يسهُل إغفاله‪ .‬عند كل‬
‫نقطةٍ هناك استقرار‪ .‬صورة البقرة‪ ،‬تمريرها وتخزينها‪ ،‬الفئة‬
‫التي تندرج فيها‪ :‬كل هذا يحافظ على تكامل الحدود الصارمة‪،‬‬
‫التخوم المحددة بوضوح‪" .‬التمثيل‪ "،‬كما يقول دولوز‪" ،‬يُخفق‬
‫في التقاط عالم االختالف المؤكَّد‪ .‬التمثيل له مرك ٌز واحد ٌ فقط‪،‬‬
‫منظور فريد ومتراجع‪ ،‬وبالتالي له عمقٌ زائف‪ .‬إنه يتوسط كل‬ ‫ٌ‬
‫‪1‬‬
‫يحرك أي شيء‪".‬‬ ‫ِّ‬ ‫فرة وال‬
‫شيء‪ ،‬لكنه ال يستن ِ‬

‫‪123‬‬
‫التمثيل يتوسط كل شيء‪ ،‬لكنه ال يستنفرة وال يحرك أي‬
‫شيء‪ .‬ونحن ننتظر فكرا يستنفرة ويحرك‪ .‬وسيحاول دولوز أن‬
‫يقدم لنا ذلك‪ .‬أما اآلن فيجب أن نفهم كيف تتوسط الصورةُ‬
‫تحرك‪ .‬فهي تفعل ذلك من خالل‬ ‫ِّ‬ ‫الدوجمائية للفكر دون أن‬
‫استقرار التقديم ‪ presentation‬والتمثيل ‪. representation‬‬

‫عند كل نقطةٍ‪ ،‬يكون ما هو موجود ٌ هو ما هناك‪ ،‬وليس‬


‫هناك شيءٌ آخر‪ .‬البقرة هي بقرة ٌ وال شيء آخر‪ .‬وصورتها هي‬
‫صورة تلك البقرة وال شيء آخر‪ .‬والفئة هي فئة "بقرة" وال‬
‫شيء آخر‪ .‬وعند كل نقطة‪ ،‬فإن ما يتم تمريره هو ما هناك وال‬
‫شيء آخر‪ .‬هكذا يعمل التمثيل‪ .‬وإذا لم يعمل بهذه الطريقة‪،‬‬
‫فلن يكون إعادة – تقديم ‪ . re-presentation‬لن يُقدِّم من‬
‫جديد في الفكر واللغة ما هو موجود ٌ هناك في العالم‪.‬‬

‫تحالف مع الصدق‪ ،‬أو على األقل مع تصوُّرٍ‬


‫ٍ‬ ‫والتمثيل في‬
‫معين للصدق‪ .‬كانت هناك عدة تصورات للصدق عبر تاريخ‬
‫الفلسفة‪ .‬وأهمها‪ ،‬ذلك الذي غرس جذوره أعمق ما يكون في‬
‫تربة فكرنا‪ ،‬هو رؤية الصدق باعتباره التناظر‬
‫‪ .correspondence‬في هذه الرؤية‪ ،‬تكون القضية صادقة إذا‬
‫كانت تُناظر حالة األمور التي تزعمها‪ .‬تكون القضية "البقرة في‬
‫ة إذا‪ ،‬وفقط إذا‪ ،‬كانت البقرة المشار إليها حقا‬
‫المرج" صادق ً‬
‫في المرج المشار إليه‪ .‬وهذا يبدو صوابا بشكل بديهي‪ .‬ففي‬
‫نهاية المطاف‪ ،‬كيف يمكن للقضيةة "البقرة في المرج" أن‬
‫تكون صادقة إذا لم تكن البقرة المذكورة في المرج المذكور‬
‫(ودعونا ال نبدأ حتى في اعتبار إمكانية أال ّ تكون هناك بقرة‪ ،‬أو‬

‫‪124‬‬
‫أال ّ تكون البقرة في المرج بقرةً حقا بل نموذجا لبقرة ليس فيه‬
‫حياة)؟‬

‫صواب بشكل بديهي‪ ،‬قد ال يكون كذلك إال ّ‬


‫ٌ‬ ‫إال ّ أن ما هو‬
‫محدِّدات صورةٍ معينةة للفكر‪:‬ة هي الصورة الدوجمائية‪.‬‬‫ضمن ُ‬
‫فبدون هذه الصورة‪ ،‬ال يكون لنظرية التناظر موطيء قدم‪ .‬وما‬
‫تتطلّبه هذه الرؤية للصدق هي كل تكامالت التمثيل‪:‬ة تكامالت‬
‫األبقار والصور والممرات العصبيةة ومقوالت اللغة‪ .‬ال يمكن أن‬
‫تناظر بين عنصرين (لغة القضية وعالم البقرة) دون أن‬
‫ٌ‬ ‫يوجد‬
‫استقرار يتيح ألحدهما أن يعكس اآلخر‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫لكل منهما‬
‫ٍ‬ ‫يكون‬

‫لكن‪ ،‬لنبحث إمكانية أن يكون ما هو هناك في الخارج في‬


‫المرج ليس مجرد بقرة‪ ،‬بل أكثر من بقرة‪ .‬لنبحث إمكانية أن‬
‫أكثر من أبقار‪ .‬وعلى الوجه اآلخر للعملة‪ ،‬ربما أن‬‫َ‬ ‫األبقار‬
‫ُ‬ ‫تكون‬
‫أكثر من منظومةٍة من المقوالت المستقرة‬ ‫َ‬ ‫الفكر واللغة‬
‫ُ‬ ‫يكون‬
‫لها وظائف مالئمة لإلبحار خاللها (الضمائر‪،‬وأدوات الربط‪ ،‬إلى‬
‫ة مقولةٍ‬
‫ة داخليا‪ ،‬بحيث ال تكون أي ُ‬
‫آخره)‪ .‬ربما تنزف اللغ ُ‬
‫مستقرة ً بقدر ما تبدو‪ ،‬أو‪ ،‬باألحرى‪ ،‬أال ّ تلتقط فكرة "مقولة" ما‬
‫ش كامل]‬ ‫يجري في اللغة‪ .‬ربما كان هناك كاوس ‪[ chaos‬تشو ٌ‬
‫استقرار الصورة‬
‫َ‬ ‫ف‬
‫داخلي في كل من العالم واللغة ينس ُ‬
‫الدوجمائية للفكر‪.‬‬

‫ل وال صدق‪ ،‬ال صدق‬ ‫في تلك الحالة‪ ،‬لن يكون هناك تمثي ٌ‬
‫بشكل أدق‪ ،‬سيكون هناك تمثي ٌ‬
‫ل‬ ‫ٍ‬ ‫بوصفه تناظرا على األقل‪ .‬أو‪،‬‬
‫وصدق‪ ،‬لكن سيكون هناك أكثر‪ ،‬أكثر بكثير‪ ،‬سيُعمينا عنه‬
‫االلتزام بالتمثيل وبالصدق‪ .‬وسوف يتطلب إدراك هذا "األكثر"‬
‫شيئا آخر غير الصورة الدوجمائية للفكر‪ .‬سيتطلب صورة ً‬

‫‪125‬‬
‫أخرى‪ ،‬فكرا ً آخر‪ .‬أو‪ ،‬باألحرى‪ ،‬سيتطلب فكرا ال يعود ُ يتطل ّ ُ‬
‫ب‬
‫صورا‪ :‬فكرا لالختالف‪.‬‬

‫يقول دولوز أن الصورة الدوجمائية للفكر‪ ،‬الفكر بوصفه‬


‫تمثيال‪ ،‬تعمل بما يسميه الحس المشترك ‪common sense‬‬
‫و الحس السليم ‪: good sense‬‬

‫الحكم له على وجه الدقة وظيفتان أساسيتان‪ ،‬اثنتان فقط‪:‬‬


‫التوزيع‪ ،‬الذي يضمنه بواسطة تجزئة المفاهيم؛ والتصنيف‬
‫المراتبي الذي يضمنه بواسطة قياس الموضوعات‪ .‬وتناظر‬
‫ة الحكم المعروفة باسم الحس المشترك؛ وتناظر‬ ‫األولى ملك ُ‬
‫ة المعروفة باسم الحس السليم (أو الحس األول)‪.‬‬ ‫الثانية الملك ُ‬
‫وتؤسس كلتاهما المقياس العادل أو "العدالة" كقيمةٍ للحكم‪ .‬بهذا‬
‫‪2‬‬
‫م نموذجا لها‪.‬‬
‫مقوالت الحك َ‬
‫ٍ‬ ‫المعنى‪ ،‬تأخذ ك ُّ‬
‫ل فلسفةِ‬

‫ال يختار دولوز مصطلحي الحس المشترك والحس‬


‫السليم تعسفيا‪ .‬فلهما صدى بالنسبة لنا‪ .‬الحس المشترك‪:‬ة‬
‫إبحار طري ِقه في الحياة بحدٍ‬
‫َ‬ ‫هذا ما يملكه ك ُّ‬
‫ل من يستطيعة‬
‫أدنى من النجاح‪ .‬امتالك الحس المشترك يعني القدرة على‬
‫التعرفة على ما هو بديهي‪( .‬وسوف نعود إلى فكرة التعرفة‬
‫بعد قليل‪ ).‬أما الحس السليم‪:‬ة فهو ما يملكه كل من لديه‬
‫س سليمة‪ .‬امتالك الحس السليم يعني معرفة المرء‬ ‫حدو ٌ‬
‫لطري ِقه حول ما يوجد هناك‪ .‬هذه ليست المعاني التي يعطيها‬
‫دولوز للمصطلحين؛ لكنه على وعي بالتضميناتة التي تملكها‪.‬‬

‫يجد دولوز الحس المشترك والحس السليم في كل‬


‫فلسفات المقوالت ‪ ، philosophies of categories‬كل‬
‫فلسفات التمثيل‪ .‬يجده عند أفالطون وعند أرسطو‪ ،‬عند كانط‬
‫‪126‬‬
‫وعند هيجل‪ .‬لكن الحس المشترك والحس السليمة ال يجب‬
‫اكتشافهما بين الفالسفة فحسب‪ .‬بل هما ميراثنا وفكرنا‪.‬‬
‫الصورة الدوجمائية للفكر‪ ،‬التي هي فكرنففا‪،‬تحكم بواسطة‬
‫الحس المشترك والحس السليم‪.‬‬

‫الحس المشترك‪ ،‬بالمعنى التقني الذي يعزوه دولوز إليه‪،‬‬


‫الملكات العقلية المختلفة في الحكم على‬
‫ِ‬ ‫م‬
‫يضمن تناغ َ‬
‫الموضوع‪" .‬تلك البقرة التي أراها‪ ،‬وأفكّر فيها‪ ،‬وأقولها‪ :‬هي‬
‫متها نفس البقرة‪ .‬ما هو هناك في الخارج هو الشيء الذي‬ ‫بر ّ‬
‫في ذهني‪ ،‬وهو نفس الشيء في مختلف النشاطات (اإلدراكية‪،‬‬
‫سق‪ .‬يؤكد‬ ‫التصورية‪ ،‬اللغوية) في ذهني‪ ".‬الحس المشترك يُن ِّ‬
‫لي أن هناك مضاهاة ً فيما بين ما بداخلي وما هو خارجي‪ ،‬وفيما‬
‫قارب ما هو‬ ‫بين مختلف الملكات داخلي التي بواسطتها أ ُ‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫خارجي ‪" .‬الحس المشترك [يتم] تعريفه ذاتيا بالهوية‬
‫ذات تتيح الوحدة واألرضية لكل الملكات‪ ،‬و‬ ‫ٍ‬ ‫المفت َ َرضة لة‬
‫موضوع يكون قد قام بدور بؤرةٍ لكل‬
‫ٍ‬ ‫موضوعيا بهوية أي‬
‫الملكات‪ 3".‬ذلك هو التوزيع الذي يتحدث عنه دولوز‪ :‬نشاطات‬
‫مختلفة‪ ،‬لكن نفس الموضوع ونفس الذات (أنا) التي تواجه‬
‫الموضوع‪.‬‬

‫لكن التنسيقة بذاته فارغٌ‪ .‬يجب أن يوجد بعض المضمون‬


‫حتى يتم تنسيقه‪ .‬يجب أن توجد بقرة ٌ أو مرج يجري تنسيقه‬
‫بين الداخل والخارج وبين الملكات في الداخل‪ .‬ويجب أن تكون‬
‫سقها أنا معينة‪ ،‬وليست أنا عامة أو كلية‪ .‬هذا هو‬
‫األنا التي تن ّ‬
‫س‬
‫الدور الذي يلعبه الحس السليم‪" .‬من ثم يجب أن يشير الح ُّ‬
‫مثال آخر‪ ،‬دينامي‪ ،‬قادر على‬
‫ٍ‬ ‫المشترك إلى ما وراء ذاته صوب‬
‫تحديد الموضوع الالمتحدد باعتباره هذا أو ذاك‪ ،‬وعلى فردنة‬

‫‪127‬‬
‫[إضفاء الفردية على]‪ individualizing‬الذات المتموقعة في‬
‫هذا المجموع من الموضوعات‪ .‬هذا المثال اآلخر هو الحس‬
‫‪4‬‬
‫السليم‪".‬‬

‫موضوع مقياسه؛ يقدِّم المقوالت‬


‫ٍ‬ ‫س السليمة يمنح ك َّ‬
‫ل‬ ‫الح ُّ‬
‫سقها الحس المشترك‪ .‬ويضمن الحس المشترك أن‬ ‫التي ين ِّ‬
‫تلك المقوالت ال تتسرب‪ ،‬أن مضاهاتها تجري بصورة مناسبة‪،‬‬
‫إحداها مع األخرى‪ .‬يلتقي الحس السليم والحس المشترك في‬
‫إمداد الفكر باالستقرار‪ .‬الحس السليم يقوم بالتمييز بين‬
‫الموضوعات؛ يجد أن موضوعا ليس مثل آخر‪ .‬لكنه ال يفعل‬
‫ذلك بإدخال ‪ engaging‬االختالف الذي يؤكده نيتشه‪ .‬بل يفعل‬
‫مقوالت‪ categories‬مستقرة لكل منهما‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ذلك بواسطة خلق‬
‫ة‬
‫بهذه الطريقة‪ ،‬يتم إخضاع االختالف للهوية‪ .‬األشياء مختلف ٌ‬
‫ة على وجه الدقة‬ ‫ألنها تندرج في مقوالت مختلفة‪ .‬إنها مختلف ٌ‬
‫في عدم كونها متطابقة أو نفس الشيء‪ .‬على أساس‬
‫هوية المقوالت يتم التعرف على االختالف‪ .‬وبذلك يتم الحفاظ‬
‫على استقرار المقوالت‪ .‬ويتم ضمان تكامالت الصورة‬
‫الدوجمائية للفكر‪.‬‬

‫الحس المشترك يدعم ذلك االستقرار‪ .‬هناك ملكات‬


‫ف عنّي‪ .‬لكن هناك‬‫ة في داخلي‪ ،‬وما يوجد خارجي مختل ٌ‬ ‫مختلف ٌ‬
‫تنسيق بين هذه االختالفات‪ ،‬التي تُنتج الهوية في النهاية‪ .‬ليست‬
‫ذات عمل هذه‬ ‫ُ‬ ‫ة هي‬
‫ة تنبثق من االختالفات‪ ،‬بل هوي ٌ‬ ‫هوي ً‬
‫االختالفات‪ .‬ال شيء يُفلت من المقوالت أو تنسيقها‪ .‬ال شيء‬
‫يتسرب‪ .‬ال شيء يتبقى‪ .‬كل شيء في موضعه‪.‬‬ ‫ّ‬

‫‪128‬‬
‫يقدّم لنا تنسيقُ الحس المشترك والحس السليم نموذجا‬
‫تعرفا ‪ . recognition‬الحكم يعني التعرف‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫للحكم بوصفه‬
‫لماذا؟ الحكم يعني أخذ مادةِ خبرتنا ومالءَمتها في المقوالت‬
‫التي نمتلكها بالفعل‪ .‬يعني تطبيق مقولةٍ ستضمن تنسيق‬
‫سي‪ ،‬والتصور‪ ،‬واللغة‪،‬‬ ‫الخبرة بين مختلف الملكات (اإلدراك الح ّ‬
‫ف‬
‫تعر ٍ‬
‫ُّ‬ ‫وما إلى ذلك)‪ .‬حين نُصدِر حكما‪ ،‬يكون دائما من خالل‬
‫على ما هو موجود‪ ،‬ومالءمةٍ لما هو موجود في المقوالت‬
‫التمثيليةة التي نمتلكها بالفعل‪.‬‬

‫ط واحد‪ .‬فالحكم‪ ،‬في‬


‫وال يعني هذا أن الحكم دائما من نم ٍ‬
‫وجهة نظر دولوز (باالستعارة من أرسطو)‪ ،‬يمكن أن يكون من‬
‫ط مختلفة‪ :‬الهوية‪ ،‬أو التماثل‪ ،‬أو التعارض‪ ،‬أو‬
‫أربعة أنما ٍ‬
‫التشابه‪.‬‬

‫الهوية ‪ : Identity‬س تساوي ص؛ س هي نفس الشيء‬


‫مثل ص‪.‬‬
‫التماثل ‪ : Analogy‬س تشترك في خاصية مع ص‪.‬‬
‫التعارض ‪ : Opposition‬س تتعارض مع ص أو س ليست‬
‫ص‪.‬‬
‫التشابه ‪ : Resemblance‬س تشبه ص‪.‬‬

‫بأي من هذه األحكام يتطلب أن يكون لدينا بالفعل‬


‫ٍ‬ ‫القيام‬
‫س أو ص متاحة لنا‪ .‬ويتطلب ليس فقط أن تكونا متاحتين لنا‪،‬‬
‫بل كذلك أن تكون الة س والة ص هما ذات المقوالت التي‬
‫يحدث من خاللها الحكم‪ .‬إنهما أساس الحكم‪ .‬وهذا‪ ،‬بدوره‪،‬‬
‫يتطلب أن يكون هناك استقرار للحكم يتيح لة س أن تظل س‬
‫في كل الظروف‪ ،‬ولة ص أن تظل ص‪ .‬الحس المشترك‬

‫‪129‬‬
‫والحس السليم يقدمان هذا االستقرار‪ .‬والهوية‪ ،‬والتناظر‪،‬‬
‫س‬
‫والتعارض‪ ،‬والتشابه هي عمليات حكم ٍ أقام بنيته الح ُ‬
‫س السليم‪ .‬وهي عناصر الصورة التمثيليةة أو‬ ‫المشترك والح ُ‬
‫الدوجمائية للفكر‪ .‬وهي الوسائل التي بواسطتها نتصور عالمنا‪،‬‬
‫الوسائل التي بواسطتها نتعرف عليه‪.‬‬

‫تعرف‪ ).‬يبدو مثل بقرة‪( .‬تشابه‪،‬‬


‫ُّ‬ ‫ما ذاك؟(سؤال‬
‫تدعمه تصنيفات الحس السليم‪ ).‬أتذكّر كيف تبدو األبقار‪.‬‬
‫ثورا بالتاكيد؛ فالثيران لها قرون‪.‬‬
‫ً‬ ‫(حس مشترك‪ ).‬ليس‬
‫(تعارض‪ ).‬إال ّ أن له حوافر مثل الثور‪( .‬تناظر‪ ).‬لكنه‬
‫بقرة‪ .‬في الحقيقة هي نفس البقرة التي رأيتها في‬
‫ذلك المرج باألمس‪( .‬هوية‪).‬‬

‫الصورة الدوجمائية للفكر‪:‬ة أثير تصوُّرنا للعالم‪ .‬لكن ما‬


‫ةة هنا؟ نحن نفكر في العالم‬ ‫الخطأ فيها؟ هل ثمة مشكل ٌ‬
‫بالمقوالت التي تقدمها لنا لغتنا‪ ،‬نمثله باالستقرار الذي تقدمه‬
‫لنا ونحمل ذلك االستقرار خالل كل العملية من اإلدراك الحسي‬
‫إلى التصور‪ .‬ماذا يمكن أن يكون خطأ في هذا؟‬

‫ك الفلسفة دون وسيلةٍ لتحقيق‬ ‫ثمة مشكلة‪" .‬تُتر ُ‬


‫مشروعها للقطيعةة مع الدوكسا ‪ doxa‬داقتعالا[االعتقاد‬
‫اليقيني]"‪5 5‬الدوكسا هي االعتقاد‪ .‬هي ما يعرفه الجميع‪ ،‬أو‬
‫ما يجب أن يعرفه الجميع‪ .‬هي الحس المشترك والحس‬
‫ة لهذين المصطلحينة‬ ‫بكل من بالمعنى األكثر يومي ً‬‫ٍ‬ ‫السليم‪،‬‬
‫ة الذي يبنيه دولوز‪ .‬الصورة الدوجمائية‬ ‫وبالمعنى األكثر تقني ً‬
‫للفكر قد تتيح للفلسفة أن تتحدّى دوكسا بعينها‪ .‬لكنها ما‬

‫‪130‬‬
‫زالت تعمل ضمن نطاق بنية الدوكسا‪ .‬ال تترك أبدا حلبة‬
‫نطاق مألوف لنا بالفعل‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫االعتقاد الشائع؛ إنها دائما ضمن‬

‫هنا ثمة امتثا ٌ‬


‫ل عميق للفكر‪.‬‬

‫يلقى التعليقَ عليه كما يجب‪،‬‬


‫َ‬ ‫األمر المدهش‪ ،‬رغم أنه ال‬
‫أن النظريات األخالقية ‪ ethical‬في الفلسفة غالبا ما تدعم‬
‫االعتقاد العُرفي ‪[ moral‬الخاص بقواعد السلوك] الشائع‪،‬‬
‫مهما ابتعدت رحالتها النظرية عن الخبرة الدنيوية‪ .‬فكانط‪ ،‬مثال‪،‬‬
‫يأخذ األخالق في رحلةٍ إلى العقلة الكلي‪ .‬يُعاود فحص طبيعة‬
‫حريتنا‪ ،‬ويسبر أغوار ذاتيتنا‪ ،‬ويسأل عن دور الرب‪ .‬ورغم ذلك‪،‬‬
‫فإن الكثيرة من التوصيات األخالقية التي تنبثق من رحلته غير‬
‫خالفية‪ ،‬وحتى مبتذلة‪ .‬فالمنع العُرفي للكذب‪ ،‬والمحظورات‬
‫ضد االنتحار وغش الجار‪ ،‬بينما تقوم على أساس فكرٍ ذهب إلى‬
‫‪6‬‬
‫صنا‪.‬‬
‫أماكن بعيدة‪ ،‬ال تدعونا إلى مغامرات غريبة تخ ّ‬

‫هذه دوكسا‪ ،‬كما سيقول دولوز‪ ،‬دوكسا خالصة‪ .‬فهو‬


‫يسأل "ما هو الفكر الذي ال يؤذي أحداً‪ ،‬ال المفكرين وال أي‬
‫بأعراس وحشية‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ة على االحتفاء‬
‫التعرف عالم ٌ‬
‫ُّ‬ ‫شخص آخر؟‬
‫يقوم فيها الفكر بة‘إعادة اكتشاف’ الدولة‪ ،‬بإعادة اكتشاف‬
‫‘الكنيسة’ وإعادة اكتشاف كل القيم الراهنة التي قدّمها‬
‫بارك‬
‫ٍ‬ ‫م‬
‫لموضوع أبدي غير محدَّد ُ‬
‫ٍ‬ ‫برهافة في الشكل الخالص‬
‫أبديا‪ 7".‬ليست المشكلة مع كانط‪ ،‬وال نوعيا مع أي فيلسوف‬
‫آخر‪ .‬المشكلة مع بنية الفكر التي تكمن تحت فلسفاتهم‪ ،‬مع‬
‫الصورة الدوجمائية للفكر ذاتها‪ .‬إذا كان لنا أن نُرخي السالسل‬
‫التي قيدت فكرنا‪ ،‬وفكر أغلب تاريخ الفلسفة‪ ،‬فالبد أن نتعلم‬
‫التفكيرة بشكل مختلف‪ ،‬التخلّي عن الفكر التمثيلي من أجل‬

‫‪131‬‬
‫أراض غير‬
‫ٍ‬ ‫شيءٍ آخر‪ .‬البد أن نبحر في زوارق غير مألوفةٍ إلى‬
‫مطروقة‪.‬‬

‫وقد تم عمل هذا من قبل‪ .‬فعله سبينوزا‪ ،‬كما فعله نيتشه‬


‫وبرجسون‪ .‬كما يالحظ دولوز‪:‬‬

‫صيحات منعزلة ومفعمة بالعاطفة‪ .‬كيف يمكن‬‫ٌ‬ ‫هنا وهناك ترتفع‬


‫ة وهي تنكر ما "يعرفه الجميع‪". . .‬؟ ومفعمة‬ ‫أال ّ تكون منعزل ً‬
‫بالعاطفة‪ ،‬ألنها تنكر ما يقال أن أحدا ال يمكن أن ينكره؟ ذلك‬
‫االحتجاج ال يجري باسم تحيُّزات ارستوقراطية؛ ليس مسألة قول‬
‫ة ومعرفة ما يعنيه التفكير‪.‬ة بل على النقيض‪ ،‬هو‬‫ما يفكر فيه القل ّ ُ‬
‫مسألة شخص ةة ولو كان شخصا واحدا ةة لديه التواضع الضروري‬
‫‪8‬‬
‫ال يتمكن من معرفة ما يعرفه الجميع‪.‬‬

‫بالنسبةة لفوكوه وديريدا‪ ،‬فإن عدم التمكن من معرفة ما‬


‫يعرفه الجميع يتطلب التخلي عن األنطولوجيا‪ .‬األنطولوجيا هي‬
‫التعرف‪ ،‬محتوى فكرنا التمثيلي‪ .‬وفقط‬ ‫ُّ‬ ‫التي تمنحنا مقوالت‬
‫ص التاريخ المشروط‬ ‫بالتخلي عن األنطولوجيا‪ ،‬إما بإعادة ق ّ‬
‫لمفاهيمها األشد حصانة من الهجوم أو بإظهار اعتماد تلك‬
‫المفاهيم على ما يُقصد ُ منها إنكاره‪ ،‬يمكننا نسيان ما يعرفه‬
‫الجميع‪ .‬والشروع في مغامرات غريبة‪ ،‬أن نُخلِّف وراءنا سؤال‬
‫كيف يجب أن يحيا المرء أو ما يجب أن يفعله‪ ،‬لنعانق بدال من‬
‫ل هذه األشياء يتطلب‬ ‫ذلك سؤال كيف يمكن أن يحيا المرء‪ ،‬فِع ُ‬
‫أن نجنح ال عن هذه األنطولوجيا أو تلك‪ ،‬بل عن األنطولوجيا‬
‫برمتها‪ .‬ال يمكننا أن نتجاوز الصورة الدوجمائية للفكر ما لم نكن‬
‫مستعدين لنبذ األنطولوجيا التي تدعمها‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫ال يوافق دولوز‪ .‬فاألنطولوجيا ذاتها تخبّيء لنا مغامرات‬
‫بشكل مختلف في كيفية‬‫ٍ‬ ‫التفكير‬
‫َ‬ ‫غريبة‪ ،‬لو استطعنا فقط‬
‫تصورها‪ .‬لو كففنا عن البحث عن الصادق‪ ،‬وكففنا عن أن‬
‫نطلب من العالم أن يتيح لنا التعرف عليه‪ ،‬لو كففنا عن معرفة‬
‫ما يعرفه الجميع‪ ،‬يمكننا أن نشرع في فكرٍ جديد‪ ،‬فكر‬
‫أنطولوجي وكذلك أجنبي‪ ،‬تجربة في األنطولوجيا‪ ،‬بدل ممارسةٍ‬
‫للدوجمائية‪" .‬الفلسفة ال تتكون من المعرفة وال تستلهم‬
‫المشوق‪ ،‬أو البارز‪ ،‬أو الهام‬
‫ِّ‬ ‫الصدق‪ .‬بل إن مقوالت مثل‬
‫هي التي تحدِّد نجاحها أو فشلها‪ .‬وال يمكن لهذا أن يحدث قبل‬
‫‪9‬‬
‫أن تتم إقامته‪".‬‬

‫‪III‬‬

‫إمكان أن ينطوي عالمنا على أكثر‬


‫ِ‬ ‫ننظر في‬
‫ُ‬ ‫لنفترض أننا‬
‫ه حسيا‪ ،‬وأكثر مما يمكننا تصوّره‪ .‬لنفترض أن‬ ‫مما يمكننا إدراك ُ‬
‫ض عن مقوالت التمثيل التي تفرضها عليه الصورة‬ ‫العالم يفي ُ‬
‫الدوجمائية للفكر‪ .‬وال يعني هذا القول بأن مقوالتنا المعينةة‬
‫مقوالت أخرى‪ ،‬أفضل‪ .‬يجب‬ ‫ٌ‬ ‫ينقصها شيء يمكن أن تمنحنا إياه‬
‫أن يمضي خيالنا إلى أبعد من ذلك‪ .‬نحن بحاجة إلى فحص‬
‫إمكانية أن العالم (أو‪ ،‬حيث أن مفهوم العالم بالغ الضيق‪،‬‬
‫األشياءَ أو الوجود أو ما هو موجود) تتجاوز أية مقوالت قد‬
‫نسعى إلى استخدامها اللتقاطه‪ .‬سنرى في القسم التالي‪ ،‬حين‬
‫نناقش العِلم‪ ،‬أن لدينا بعض السبب لالعتقاد بأن هذه اإلمكانية‬
‫ة في الواقع‪ 10.‬لكن لنفحص اإلمكانية في الوقت الراهن‪.‬‬ ‫حقيقي ٌ‬
‫‪133‬‬
‫إحدى الطرق للتفكيرة في هذا ستكون القو َ‬
‫ل بأن الوجود‬
‫ف‪ ،‬أن تحت الهويات التي تقدمها لنا الصورة‬‫هو اختال ٌ‬
‫ل من االختالف الخالص‪ ،‬ال يقبل‬ ‫الدوجمائية للفكر يكمن مجا ٌ‬
‫االختزال إلى أي هوية‪" :‬االختالف خلف كل شيء‪ ،‬لكن ال شيء‬
‫‪11‬‬
‫خلف االختالف‪".‬‬

‫ماذا يمكن أن يعني هذا؟ يجب أن نكون حذرين هنا‪ .‬قد‬


‫يبدو أن دولوز يتحرك مرة أخرى إلى الفكر التمثيلي‪ .‬ربما يبدو‬
‫ة هي ما يلتقط‬ ‫كأنه يستبدلة فقط مفهوما بآخر‪ .‬ليست الهوي ُ‬
‫ف ذلك‪ .‬وقراءته على هذا النحو‬ ‫ة األشياء؛ بل يفعل االختال ُ‬ ‫كينون َ‬
‫ستعني إبقاء فكره دائرا ضمن نطاق الصورة الدوجمائية‪.‬‬
‫ف ال يُشبه‬
‫بالنسبةة لدولوز‪ ،‬فإن القول بأن الوجود هو اختال ٌ‬
‫ل بأن الوجود هو هوية (أو هويات)‪ ،‬وليس لمجرد‬ ‫مطلقا القو َ‬
‫أن يقول أنه شيء آخر حقا‪ .‬المصطلح "اختالف" ليس‬
‫مما اللتقاط طبيعة الوجود أو ماهية ما هو‬ ‫مصطلحا ً آخر ُ‬
‫مص َّ‬
‫ح يستخدمه لإلشارة إلى ما يُفلت من مثل‬ ‫موجود‪ .‬إنه مصطل ٌ‬
‫ذلك االلتقاط‪.‬‬

‫لكي نقتفي أثر فكر دولوز هنا يجب أن نسأل عما يسعى‬
‫سه ‪ palpate‬مصطلح "االختالف"‪ ،‬ال عما يسعى إلى‬ ‫ج ِّ‬
‫إلى َ‬
‫ة‬
‫تمثيله‪ .‬وحتى عندئذ فإننا في مياهٍ خطرة‪ ،‬ألننا لو قدمنا إجاب ً‬
‫على هذه الةةماذا باصطالحات تمثيلية‪ ،‬نكون قد عدنا إلى‬
‫س ما ال يمكنه‬
‫الصورة الدوجمائية‪ .‬مصطلح "االختالف" يج ّ‬
‫إدراكه؛ يوميء إلى ما ال يمكنه اإلمساك به‪ .‬إننا نخبَر التفعيالتة‬
‫الفعليةة ‪ actualities‬التي يواجهنا بها االختالف‪ ،‬لكننا يجب أن‬
‫نفكر في االختالف الذي ينتجها‪ .‬قد نقول أن االختالف هو‬

‫‪134‬‬
‫ض األشياءُ ذاتها‪ ،‬عدم قابليتها على الزج بها في‬
‫ة أن تفي َ‬ ‫خاصي ُ‬
‫مقوالت التمثيل‪ .‬لكننا‪ ،‬رغم ذلك‪ ،‬لو قلنا هذا‪ ،‬يجب أن نكون‬
‫حذرين‪ .‬فليس ثمة استراتيجية للمقاومة بين األشياء‪ .‬الوجود ال‬
‫آخر‬
‫ٌ‬ ‫يضايقه تمثيله‪ .‬بل إن الوجود هو دوما أكثر من‪ ،‬ومن ثم‬
‫غير‪ ،‬ما يطرحه التمثيل عنه‪ .‬العالم (أو ما هناك) هو في‬
‫ك لمقوالت أي فكرٍ تمثيلي؛ إنه إساءةٌ إلى‬‫خاصيته ذاتها انتها ٌ‬
‫كل من الحس السليم والحس المشترك‪ .‬فهذان األخيران‬
‫يلتقطان مجرد سطح األشياء‪ .‬وبعملهما ذلك‪ ،‬فإنهما يخونان ما‬
‫قد نقول أنه هناك ويدعمان االمتثال القاتل للةدوكسا‪.‬‬

‫خلف الهويات التي تقدمها لنا الصورة الدوجمائية للفكر‪،‬‬


‫يكون االختالف هو ما هناك‪ .‬هذا االختالف قد يكون افتراضيا‪،‬‬
‫ف في قلب األشياء‪ .‬إنه من‬ ‫لكنه ليس متعاليا‪ .‬إنه هناك‪ ،‬ملت ٌّ‬
‫ذات طبيعتها‪ .‬حين يقول دولوز أن االختالف خلف كل شيء‬
‫يجب أال ّ نفهم أنه يعني أن االختالف ما وراء كل شيء‪ .‬إنه‬
‫بمعنى واحد ٍ‬
‫ً‬ ‫خلف األشياء‪ ،‬لكنه مازال داخلها‪" .‬الوجود يقا ُ‬
‫ل‬
‫ووحيد لكل شيءٍ يُقال عنه‪ ،‬لكن ما يقال عنه يختلف‪ :‬يقال عن‬
‫االختالف ذاته‪ 12".‬هذا‪ ،‬بالطبع‪ ،‬هو درس محايثة سبينوزا‪.‬‬

‫إحدى طرق مقاربة فكر االختالف ستكون‪ ،‬كما يفعل‬


‫دولوز‪ ،‬بالتفكيرة في الوجود كمشكلة‪ ،‬وبالسعي إلى فكرٍ‬
‫إشكالي يمكنه أن يتتبعة تضاريسه‪ .‬إننا عادة ً ما نفكر في‬
‫المشكالت بطريقة سيئة؛ أو نفكر في مشكالتة سيئة أو غير‬
‫مثيرة لالهتمام‪ .‬فحين نفكر في المشكالت‪ ،‬نميل إلى التفكير‬
‫فيها على أساس الحلول‪ .‬المشكالت‪ ،‬فيما يبدو لنا‪ ،‬تبحث عن‬
‫حلول فحسب‪،‬بل إن كل مشكلةٍ تبحث عن‬ ‫ٍ‬ ‫حلول‪ .‬ال تبحث عن‬
‫حل فريد‪ ،‬أو على األقل عن منظومةٍة صغيرة من الحلول‪ .‬األمر‬ ‫ٍ‬
‫‪135‬‬
‫نقص أو خطأ خاص سوف يملؤه أو‬ ‫ٍ‬ ‫كأن أي مشكلةة هي مجرد‬
‫يصححه الحل‪ .‬هكذا علمونا أن نفكر في المشكالتة في‬
‫المدرسة‪ .‬ولهذا يكون في المدارس اختبارات كثيرة‪.‬‬
‫فاالختبارات تطرح المشكالت لترى إن كنت تعرف الحل‪ .‬الحل‬
‫هو ما يهم‪ ،‬وليس المشكلة‪" .‬نُساقُ إلى االعتقاد بأن‬
‫المشكالت تُعطى جاهزة‪ ،‬وأنها تختفي في االستجابات أو‬
‫الحل ‪ . . .‬نُساقُ إلى االعتقاد بأن نشاط التفكير ‪ . . .‬يبدأ فقط‬
‫‪13‬‬
‫بالبحث عن حلول‪".‬‬

‫وها هي بعض األمثلة على هذه الطريقة للتفكير في‬


‫المشكالت‪:‬ة‬

‫ما مقدار إثنين زائد إثنين؟‬ ‫‪.1‬‬


‫طريق من هنا إلى متجر البقالة؟‬
‫ٍ‬ ‫ما أسرع‬ ‫‪.2‬‬
‫ماذا كان الخطأ الحاسم الذي ارتكبه نابوليون في روسيا‬ ‫‪.3‬‬
‫وكلّفه الحرب هناك؟‬
‫من كانوا أكثر مؤدي الةﭼاز شعبية خالل العقد الفائت؟‬ ‫‪.4‬‬

‫مشكالت يتحدد طابعها‬


‫ٌ‬ ‫مشكالت تبحث عن حلول‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫هذه‬
‫ج من‬
‫بحقيقة أن هناك حلوال معينةة تبحث عنها‪ .‬هنا زو ٌ‬
‫المشكالت التي قد تبدو مثل األربع األولى‪ ،‬لكنها ليست كذلك‪،‬‬
‫أو على األقل ليست بحاجة إلى أن تكون‪:‬‬

‫‪ .1‬كيف ظهر طائر الدودو ‪ dodo bird‬على الكوكب؟ة‬


‫‪ .2‬هل فلسفة نيتشه ذات صلةٍ بنا اليوم؟‬

‫‪136‬‬
‫يمكننا‪ ،‬بالطبع‪ ،‬أن نقارب هاتين المشكلتين بالطريقة التي‬
‫نقارب بها المشكالتة األربع األولى‪ .‬يمكننا إجابة السؤال األول‬
‫باإلشارة إلى التحوالت الةﭼينية التي شهدها طائر الدودو‬
‫ولماذا‪ ،‬في ذلك الوقت‪ ،‬كانت تلك التحوالت الةﭼينية متكيِّفة مع‬
‫البيئة‪ .‬لكننا لسنا بحاجة إلى مقاربة األمور بهذه الطريقة‪ .‬فبدال‬
‫مشكالت تبحث عن حلول معينة‪ ،‬يمكننا‬
‫ٍ‬ ‫من رؤيتها باعتبارها‬
‫ل ممكنة‬‫رؤيتها على أنها تفتح مجاالت للنقاش‪ ،‬تكون فيها حلو ٌ‬
‫ل منها شيئا‪ ،‬لكن ليس كل شيء‪ ،‬تضعه‬ ‫كثيرة‪ ،‬يلتقط ك ٌ‬
‫المشكلة أمامنا‪.‬‬

‫لنأخذ مثال طائر الدودو‪ .‬بدال ً من إرجاع نشوئه إلى تحوالت‬


‫وفجوات بيئية معينة‪ ،‬يمكننا النظر إلى البيئة بصورةٍ كلِّيةٍ أكثر‪.‬‬
‫يمكننا القول بأن البيئة ذاتها مشكلة‪ ،‬تقبل حلوال كثيرة‪ .‬وكان‬
‫طائر الدودو حال ً لتلك المشكلة‪ ،‬رغم أنه ربما ليس الحل‬
‫الوحيد‪ .‬فربما كان أحد الحلول األخرى تغيُّرا ً في النبات‪ ،‬أو‬
‫نوع آخر لكنه تغذى على نواتج‬ ‫ٍ‬ ‫صنفا آخر من الحيوان تحوّل من‬
‫مماثلة‪ .‬أو ربما نظرنا إلى األمر بطريقة مختلفة‪ ،‬من وجهة‬
‫نظر التعدادات‪ .‬فعالقة نوع الطير الذي يأتي منه طائر الدودو‬
‫بالفجوة البيئية التي احتلها ذلك النوع كانت مشكلة‪ .‬وتالءم‬
‫تعداد ذلك النوع في تلك الفجوة بطريقةٍ معينة‪ .‬وربما كانت‬
‫تحول جيني‪،‬‬‫ٍ‬ ‫ٌ‬
‫أنماط أخرى من التالؤم‪ .‬من خالل حادثة‬ ‫هناك‬
‫قدّم طائر الدودو حال ً آخر لمشكلة كيف يتالءم ذلك التعداد في‬
‫تلك الفجوة‪ .‬وكان حال ً حدث إلى جانب الحل الذي شكله النوع‬
‫األصلي أو بدال ً منه‪ ،‬اعتمادا على الظروف البيئية‪.‬‬

‫إذا نظرنا إلى األمور بهذه الطريقة‪ ،‬فإننا ال نعود ننظر إلى‬
‫المشكالت على أساس الحلول‪ .‬تصبح المشكالت مجاال ً مفتوحا‬

‫‪137‬‬
‫ة من الحلول‪ .‬المشكالت وليستة‬ ‫يمكن أن تحدث فيه تنويع ٌ‬
‫الحلول هي األولية‪ .‬والتفكير في الوجود باعتباره اختالفا هو‬
‫ل على تفكيرٍ إشكالي ال تمثيلي‪" .‬الوجود (ما يسميه‬ ‫مثا ٌ‬
‫أفالطون الفكرة) ‘يناظر’ ماهية المشكلةة أو السؤال بوصفه‬
‫كذلك‪ .‬األمر كأن ثمة ‘فتحة’‪‘ ،‬فجوة’‪‘ ،‬طيّة’ أنطولوجية تربط‬
‫الوجود والسؤال ببعضهما البعض‪ .‬وفي هذه الرابطة‪ ،‬يكون‬
‫‪14‬‬
‫الوجود هو االختالف ذاته‪".‬‬

‫ة إشكالية ال‬ ‫أخذ ُ الوجود على أنه اختال ٌ‬


‫ف هو مقارب ٌ‬
‫دوجمائية لألنطولوجيا‪ .‬لنضع هذه المقاربة في مقابل المقاربة‬
‫كيانات مستقرة‬
‫ٌ‬ ‫الدوجمائية‪ .‬بالنسبة للنزعة الدوجمائية‪ ،‬هناك‬
‫مقوالت مستقرة‪ .‬هناك‪ ،‬كما رأينا‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫يمكن تمثيلها من خالل‬
‫استقرار عند كل مرحلة‪ .‬وال يعني هذا أن يتوجب وجود إجابة‬ ‫ٌ‬
‫واحدة فحسب على كل مشكلةة أو طريقة وحيدة فحسب‬
‫تتآلف بها الكيانات أو األفكار‪ .‬لكن في كل حالة‪ ،‬يتم بناء‬
‫االجابات أو التوليفات من عناصر منفصلة‪ ،‬تُشكِّلة بدورها أشياء‬
‫أو أفكار منفصلةة حيت تتآلف‪ .‬والعناصر محدودةٌ بة"ما يعرفه‬
‫الجميع‪ "،‬وبذلك لن تمتد توليفاتها كثيرا إلى ما وراء "ما يعرفه‬
‫الجميع‪ "،‬إذا امتدت على اإلطالق‪.‬‬

‫حل يُحدِّد المشكلة‪ .‬وحتى نرى‬


‫ٍ‬ ‫بالنسبةة لدولوز‪ ،‬هذه حالة‬
‫السبب‪ ،‬لنتذكر عالقة االفتراضي ‪ virtual‬بالفعلي ‪. actual‬‬
‫ة مختلفة‪ .‬الحلول‬‫االفتراضي ليس مثل الفعلي؛ فله خاصي ٌ‬
‫ل فعلي‬‫فعلية؛ والمشكالت افتراضية‪ .‬طائر الدودو هو ح ٌ‬
‫لمشكلةة بيئةٍ معينة‪ .‬الحلول تقدّم نفسها باعتبارها هويات‬
‫مستقرة بينما المشكالتة (على األقل الجديرة باالهتمام) تقدّم‬
‫نفسها باعتبارها "مجاالت مفتوحة" أو "فجوات" أو "طيّات‬

‫‪138‬‬
‫ل شك ٌ‬
‫ل معين‬ ‫أنطولوجية‪ ".‬المشكالتة ال تُستنفد‪ ،‬بينما الحلو ُ‬
‫‪15‬‬
‫من االستنفاد‪.‬‬

‫بالنسبةة للصورة الدوجمائية للفكر‪ ،‬يتحدد الوجود على‬


‫هويات مستقرة ال‬
‫ٍ‬ ‫أساس الفعليةة وليس االفتراضية‪ .‬إنه مسألة‬
‫اختالف‪ .‬التفكير أنطولوجيا ً على أساس الهويات المستقرة‬
‫يعني قراءة الحلول في المشكالت‪ ،‬مقاربة المشكالت على‬
‫أساس الحلول‪ .‬وبالنسبةة لدولوز‪ ،‬ليس الوجود مسألة الهويات‬
‫المستقرة التي يمنحنا إياها الفكر التمثيلي‪ .‬فالهويات تأتي فيما‬
‫بعد‪ ،‬باعتبارها حلوال معينةة للمشكالتة التي يضعها الوجود ُ‬
‫أمامنا‪ ،‬باعتبارها المشكلةة التي يكونها الوجود‪ .‬والخلط بين تلك‬
‫الهويات وبين الوجود يعني الخلط بين الفعلي وبين االفتراضي‪.‬‬
‫يعني الخلط بين الحلول وبين المشكالت‪ .‬الصورة الدوجمائية‬
‫للفكر تمنح األولوية للهويات‪ ،‬للفعلي وللحلول‪ .‬ترى االختالف‬
‫على أساس الهويات والفعلي والحلول‪.‬‬

‫لو كانت هذه مصطلحات األنطولوجيا‪ ،‬فال عجب أن يتخلى‬


‫فوكوه وديريدا عن مشروع األنطولوجيا‪ .‬أما المسار اآلخر‪،‬‬
‫المسار الذي يتخذه دولوز‪ ،‬فهو وضع األنطولوجيا على درب‬
‫آخر‪ ،‬درب الوجود بوصفه اختالفا‪.‬‬

‫هذا ما يعتقد دولوز أن أي فلسفة جيدة يجب أن تفعله‪.‬‬


‫في كتابه األول‪ ،‬عن الفيلسوفة ديفيد هيوم‪ ،‬يكتب أن‪:‬‬

‫النظرية الفلسفية هي سؤا ٌ‬


‫ل متطوِّ ٌر بإتقان‪ ،‬والشيء آخر؛ بذاتها‬
‫ل لمشكلةٍ‪ ،‬بل التطوير‪ ،‬حتى النهاية‬ ‫وفي ذاتها‪ ،‬ليست الح َ‬
‫صاغ ‪ . . .‬في الفلسفة‪،‬‬
‫م َ‬
‫لسؤال ُ‬
‫ٍ‬ ‫ذاتها‪ ،‬للتضمينات الضرورية‬

‫‪139‬‬
‫السؤال شيئا ً واحدا؛ أو‪ ،‬إذا شئت‪ ،‬ليس هناك‬
‫ِ‬ ‫يكون السؤا ُ‬
‫ل ونقد ُ‬
‫‪16‬‬
‫انتقادات للمشكالت‪.‬ة‬
‫ٌ‬ ‫نقد ٌ للحلول‪ ،‬هناك فقط‬

‫هذا هو السببة في أن مسألة الصدق ال تهم دولوز‪ ،‬في أن‬


‫ما يهم هو البارز‪ ،‬والمشوّق‪ ،‬والهام‪ .‬وهذا هو السبب في أن‬
‫األنطولوجيا‪ ،‬في يدي دولوز‪ ،‬ليست مسألة إخبارنا بما هو‬
‫موجود بل أخذنا في مغامرات غريبة‪ ،‬جعلنا بعيدين عن متناول‬
‫أنفسنا‪ .‬وأخيرا‪ ،‬هذا هو السبب في أن الفلسفة هي مشروع‬
‫للتمكن من عدم معرفة ما يعرفه الجميع‪.‬‬

‫يعرف المعلِّمون بالفعل أن األخطاء أو أشكال الزيف نادرا ً ما‬


‫توجد في الواجبات المنزلية (باستثناء تلك التدريبات التي يجب‬
‫فيها إنتاج نتيجةٍ ثابتة‪ ،‬أو يجب فيها ترجمة أطروحات واحدةً‬
‫واحدة)‪ .‬باألحرى‪ ،‬فإن ما يوجد بتواترٍ أكبر ةة وأسوأ ةة هي‬
‫ابتذاالت‬
‫ٌ‬ ‫تشويق أو أهمية‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫مالحظات دون‬
‫ٌ‬ ‫عبارات بال معنى‪،‬‬
‫ٌ‬
‫مقات ‪ . . .‬ويجب على الفلسفة أن‬ ‫مأخوذةٌ خطأ على أنها تع ُّ‬
‫‪17‬‬
‫تستخلص النتائج المنبثقة عن ذلك‪.‬‬

‫‪IV‬‬

‫ليست الفلسفة وحدها ما يمكنها أن تفكر في‬


‫االختالف‪ .‬فالعلم يمكنه أن يفعل ذلك أيضا‪ .‬وهناك علماءٌ‬
‫يقدم عملُهم سياقا للتفكيرة في الوجود على أنه اختالف‪،‬‬
‫ة من‬ ‫ل إشكالي أو منظوم ٌ‬ ‫للتفكيرة في العالم على أنه مجا ٌ‬
‫المجاالت اإلشكالية تكون فيها الكيانات الفعليةة البيولوجية‬
‫‪140‬‬
‫أو الكيميائية حلوال معينة‪ .‬وكما ناقشنا من قبل‪ ،‬قد ال‬
‫يكون التفكيرة في الوجود باعتباره اختالفا شكال من الفكر‬
‫ة‬
‫متباعدا عن الصورة الدوجمائية فحسب‪ ،‬بل كذلك مقارب ً‬
‫م‬
‫ة لما هو موجود ٌ ولكيفية وجود األشياء مما تُقد ِّ ُ‬
‫أكثر دق ً‬
‫الصورة ُ الدوجمائية‪ .‬من الممكن أن العالم في الحقيقة‬
‫ض عن المقوالت التي نستخدمها لمحاولة اإلمساك به‪،‬‬ ‫يفي ُ‬
‫مقوالت هدفها هو اإلمساك به‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ض عن أي‬ ‫وربما يفي ُ‬

‫وتقدم عدّةُ مجاالت في العلم‪ ،‬خصوصا في البيولوجيا‬


‫ة مجاالت العلم‬ ‫ة على هذا‪ .‬لم تعد مقارب ُ‬‫والكيمياء‪ ،‬أمثل ً‬
‫هذه مشروعا ً للبحث عن القوانين التي تحكم الهويات‬
‫المستقرة‪ ،‬وفق الطريقة التي تعلّمنا جميعا ً في المدرسة‬
‫الثانوية أن العلم يجب مقاربته بها‪ ،‬الطريقة التي قارب بها‬
‫نيوتن القصور الذاتي الذي يحكم األجسام المتحركة‬
‫والمستقرة أو قارب بها جاليليو دراسة األجسام الساقطة‪.‬‬
‫ة فهم ِ أنساق‬‫وبدال من ذلك‪ ،‬يُنظَر إلى العلم باعتباره مسأل َ‬
‫االختالف في عالقة دينامية‪.‬‬

‫لقد ابتعد البيولوجيون كثيرا ً عن النظر إلى الحياة‬


‫كائنات حية باتجاه نظرةٍ لألنساق البيولوجيةة‬
‫ٍ‬ ‫كمسألة‬
‫ة‬‫الكائن الحي بالضرورة الوحدةَ األولي َ‬
‫ُ‬ ‫واإليكولوجية‪ .‬ليس‬
‫للدراسة البيولوجية؛ بل هي‪ ،‬بدال من ذلك‪ ،‬الحياةُ أو البيئة‪.‬‬
‫وقد عبر عن ذلك ﭼيلبير سيموندون ‪Gilbert‬‬
‫‪ ، Simondon‬أحد أكثر من أثّروا من المفكرين في كتاب‬
‫دولوز االختالف والتكرار‪ ،‬بالطريقة التالية‪:‬‬

‫ة‬
‫م الفردِ على أن له واقعٌ نسبي‪ ،‬يحتل فقط مرحل ً‬
‫يجب فه ُ‬
‫ة تحمل من‬
‫معينة من مجمل الوجودِ موضعَ البحث ةة مرحل ً‬
‫‪141‬‬
‫ة‪ ،‬حتى‬ ‫ثم تضمينات حالةٍ قبل ة فرديةٍ أسبق‪ ،‬ال توجد منعزل ً‬
‫بعد الف َْردَنة [اكتساب الطابع الفردي] ‪، individuation‬‬
‫حيث أن الفردنة ال تستنفد ُ في الفعل المنفرد لتبدِّيها‪ ،‬ك َّ‬
‫ل‬
‫‪18‬‬
‫اإلمكانات الكامنة في الحالة قبل ة الفردية‪.‬‬

‫الحالة قبل ة الفردية‪ ،‬حالة الوجود البيولوجي‪ ،‬ال‬


‫معطى‪ .‬هناك دائما أكثر مما يقابل‬ ‫ة أي فرد ٍ ُ‬
‫تستنفدُها ِفعلي ُة‬
‫العين‪.‬‬

‫فكرة سيموندون عن حالةٍ قبل ة فردية ت ُ ِق ُّر بداللة‬


‫كمجال لالختالف‪ ،‬أو‪ ،‬كما يسميه دولوز أحيانا‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫االفتراضي‬
‫مجال للكثافات ‪" . intensities‬التعبير ‘اختالف الكثافة’‬
‫ل حاصل‪ "،‬فيما يقول دولوز‪" .‬الكثافة هي شكل‬ ‫هو تحصي ُ‬
‫سبب المحسوس‪ 19".‬قد نفكر‬ ‫َ‬ ‫االختالف بقدر ما يكون هذا‬
‫في الكثافات ‪ intensities‬في مقابل"االمتدادات"‬
‫‪ . extensities‬االمتدادات توجد في المجال الفعلي‪ ،‬بينما‬
‫توجد الكثافات في المجال االفتراضي‪ .‬الكثافات هي‬
‫عالقات اختالف ينشأ عنها العالم الممتد‪ ،‬العالم الفعلي‪،‬‬
‫ة مباشرة لإلدراك الحسي في العالم‬ ‫لكنها ليست متاح ً‬
‫الفعلي‪" .‬الكثافة هي اختالف‪ ،‬لكن هذا االختالف يميل إلى‬
‫‪20‬‬
‫إنكار أو إلغاء نفسه في االمتداد وتحت النوعية‪".‬‬

‫ماذا يرى دولوز أن سيموندون يقترحه؟ الفرد‬


‫ل‪ actualization‬لحالةٍ إفتراضيةٍ‬‫البيولوجي هو تفعي ٌ‬
‫ل ال يستنفد إمكان االفتراضي بل يحيله إلى‬‫كثيفة‪ ،‬تفعي ٌ‬
‫تفعيل نوعي‪ .‬يصف دولوز إسهام سيموندون‪:‬‬ ‫ٍ‬

‫‪142‬‬
‫حل مشكلةٍ‪ ،‬أو ةة ما يُعد ُّ نفس‬ ‫ِ‬ ‫فعل‬
‫ِ‬ ‫ة مثل‬ ‫تنبثق الفردن ُ‬
‫إمكان وإقامة اتصال بين‬ ‫ٍ‬ ‫الشيء ةة مثل تفعيل‬
‫ل الذي بواسطته تحدّد ُ‬ ‫متنافراتة ‪ . . . .‬الفردنة هي الفع ُ‬
‫ة‪ ،‬وفق خطوط التخالف‬ ‫مفعَّل ً‬‫عالقات تفاضلية لتُصبح ُ‬
‫ٍ‬ ‫ة‬
‫الكثاف ُ‬
‫‪ differenciation‬وضمن الخصائص واالمتدادات التي‬
‫‪21‬‬
‫تخلقها‪.‬‬

‫الختالف افتراضي‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫كائن بيولوجي هي تفعي ٌ‬
‫ل‬ ‫ٍ‬ ‫فردنة‬
‫ل لمشكلة‪ .‬وقد رأينا أن هذا ال يلغي المشكلة؛ فالمجال‬‫ح ٌ‬
‫ل ضمن نطاق‬ ‫األنطولوجي يبقي‪ .‬الفرد البيولوجي هو ح ٌّ‬
‫المشكلة‪.‬‬

‫وهناك أمثلة على هذا‪ .‬لنفكر في الةﭼين ال بوصفه‬


‫ة من نتف المعلوماتة المنفصلة بل بوصفه جزءا ً‬ ‫منظوم ً‬
‫من مجال افتراضي للكثافات التي يجري تفعيلها إلى‬
‫كائنات عينية نوعية‪ .‬الجين ليس نسقا مغلقا من‬
‫المعلومات المعطاة سلفا ً ينبثق مباشرةً في خصائص‬
‫تفاعل دائم‬
‫ٍ‬ ‫فردية‪ .‬وبدال من ذلك‪ ،‬فإن الشفرة الجينية في‬
‫مع مجال من المتغيراتة تولِّد في تفاعلها الكثيف كائنا ً حيا ً‬
‫م البيئي باري كومونر ‪Barry‬‬ ‫بعينه‪ .‬وقد جادل العال ُ‬
‫‪ Commoner‬بأن اإلخفاق في اإلقرار بهذه النقطة هو ما‬
‫يؤدي إلى مخاطر الهندسة الوراثية‪ ،‬حيث أن الهندسة‬
‫الوراثية كما تتم ممارستها تفترض أن إدخال جين إلى‬
‫جسم غريب سينتج عنه تمرير معلوماتة ذلك الجين دون‬
‫تبديل أو بقيةٍ‪ .‬وقد ثبت أن ذلك االفتراض زائف إمبيريقيا‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بنتائج قاتلة‪ ،‬وأنه إذا تمت ممارسته على نطاق واسع‪،‬‬
‫العبور الجيني‪،‬‬
‫َ‬ ‫يمكن أن يكون كارثيا‪ 22.‬يجب أن نتصور‬
‫إذن‪ ،‬ليس باعتباره تأبيد َ األفراد بواسطة شفرة جينية‬
‫‪143‬‬
‫مغلقة‪ ،‬بل باعتباره تفتُّح افتراضيةٍ جينية من بين نواتجها‬
‫فردنة الكيانات العضوية‪ ،‬خلق األفراد البيولوجيين‪ .‬أو‪ ،‬كما‬
‫يصيغ سيموندون هذه النقطة‪" ،‬الوجود ال يتضمن فحسب‬
‫ما هو متطابقٌ مع ذاته‪ ،‬بنتيجةِ أن الوجود َ بوصفه وجودا ً ةة‬
‫سابقا ً على أي فردنة ةة يمكن إدراكه على أنه شيءٌ أكثر‬
‫من وحدةٍ وأكثر من هوية‪ "،‬مضيفا أن "هذا المنهج يفترض‬
‫‪23‬‬
‫ة ذات طبيعةٍ أنطولوجية‪".‬‬ ‫سلفا فرضي ً‬

‫والجملة األخيرة هي التي توحي بشيءٍ لم يعد‬


‫بيولوجياً‪ ،‬بل فلسفياً‪ .‬المطلوب أنطولوجيا جديدة‪ ،‬ال تعود‬
‫مستَعبدة ً للصورة الدوجمائية للفكر‪ .‬طريقة جديدة لتصور‬ ‫ُ‬
‫الوجود‪ ،‬ال على أساس الهويات بل على أساس االختالف‬
‫أو الكثرات‪،‬كما يعبّر أحيانا‪.‬‬

‫ط يجب أن نتحدث عن كثرة؟ هناك‬ ‫متى وتحت أي شرو ٍ‬


‫ثالثة شروط ‪ )1( . . .‬يجب اال ّ يكون لعناصر الكثرة ال شك ٌ‬
‫ل‬
‫محسوس وال داللة مفهومية ‪ . . . .‬إنها ليست حتى موجودةٌ‬
‫احتمال أو افتراضية‪ .‬بهذا‬
‫ٍ‬ ‫فعليا‪ ،‬بل إنها ال تنفصل عن‬
‫ة سابقة‪ )2( . . . .‬هذه العناصر يجب‬ ‫المعني ال تتضمن هوي ً‬
‫تحديدها فعليا‪ ،‬لكن تبادليا‪ ،‬بالعالقات التبادلية التي ال تسمح‬
‫ط‬
‫استقالل مهما كان‪ )3( . . . .‬يجب تفعيل ارتبا ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ببقاء أي‬
‫ة تفاضلية‪ ،‬في عالقات فضائية ة زمنية‬ ‫مثالي متعدد‪،‬ة عالق ٍ‬
‫متنوعة‪ ،‬في نفس الوقت الذي يتم فيه التجسيد الفعلي‬
‫‪24‬‬
‫لعناصرها في تنويعة من الحدود واألشكال‪.‬‬

‫ل على الكثرة‪.‬‬ ‫وحالة سيموندون قبل ة الفردية مثا ٌ‬


‫فعناصرها غير قابلة لإلدراك على أساس الهوية؛ غير قابلة‬
‫للتمثيل‪ .‬إنها‪ ،‬كما يشير باري كومونر‪ ،‬تتحدد تبادليا‪ .‬وتنبثق‬
‫في أفراد بعينها‪.‬‬
‫‪144‬‬
‫المثال اآلخر هو مثال البيضة‪ .‬يكتب دولوز أن‪،‬‬

‫فردنة االختالف يجب أن تُفهَم أوال ً ضمن مجال فردنته ةة‬


‫ليس بوصفها متأخرة‪ ،‬بل بوصفها في البيضة بمعنى معين‪.‬‬
‫نتعرف على‬ ‫ّ‬ ‫ومنذ عمل تشايلد ‪ Child‬ووايس ‪، Weiss‬‬
‫ل ضمن البيضة‪ .‬لكن‪ ،‬هنا أيضا‪ ،‬ال‬ ‫مستويات تماث ُ ٍ‬
‫ِ‬ ‫محاور أو‬
‫يكمن العنصر اإليجابي في عناصر التماثل المعطى بقدر ما‬
‫ة من التنوّع‬ ‫يكمن في تلك الغائبة‪ .‬الكثافة التي تشكل موج ً‬
‫عبر كل البروتوبالزمة توزع اختالفها على طول المحاور ومن‬
‫ل أصيل‪،‬‬ ‫قطب إلى آخر ‪ . . . .‬الفرد في البيضة هو سلي ٌ‬
‫يمضي من األعلى إلى األدنى ويؤكد االختالفاتة التي تُشكّله‬
‫‪25‬‬
‫والتي يقع فيها‪.‬‬

‫ل للكثافات التفاضلية ‪، differential‬‬‫البيضةة مجا ٌ‬


‫ل قبل ة فردي من داخله ينشأ فردٌ‪ .‬ال يجب أن نفكر‬ ‫مجا ٌ‬
‫ة في‬
‫البيضةككائن بيولوجي في جرثومة‪ .‬فهي مختلف ٌة‬
‫ٍ‬ ‫في‬
‫ف في‬ ‫النوع عن الفرد الذي ينبثق عنها (االفتراضي مختل ٌ‬
‫النوع عن الفعلي)؛ وبسبب هذا‪ ،‬ثمة شيءٌ يفيض عن‬
‫الفرد البيولوجي‪.‬‬

‫يالحظ الفيلسوف كيث آنسيل ﭘيرسون ‪Keith Ansell‬‬


‫‪ Pearson‬أن استخدام دولوز لسيموندون يتضمن أن‬
‫"السيرورة ذاتها هي التي يجب النظر إليها على أنها أولية‪.‬‬
‫ملة على أنه‬‫ويعني هذا أن التولّد األنطولوجي لم يعد يُعا َ‬
‫يتناول تولّد الفرد بل باألحرى يشير إلى صيرورة الكائن‪".‬‬
‫‪ 26‬وبرجسون وسبينوزا هما المحك هنا‪ .‬فمفهوم الديمومة‬
‫لبرجسون يقدم اإلطار لفهم سيرورة تفتُّح ‪unfolding‬‬

‫‪145‬‬
‫ل االفتراضي‪ .‬ويكشف مفهوم‬ ‫االختالف باعتباره تفعي َ‬
‫أحادية معنى الوجود السبينوزا هذه السيرورة باعتبارها‬
‫تفتُّحا محايثا‪ ،‬تعبيراً‪ ،‬بدل كونها خلقا ً متعاليا أو انبثاقا‪.‬‬

‫ممه إلى تفتّح‬


‫وبدوره‪ ،‬يأخذ دولوز إطار سيموندون ويع ّ‬
‫‪ unfolding‬العالم ذاته‪ ،‬ماضيا فيما وراء البيولوجي إلى‬
‫األنطولوجي‪ .‬يكتب‪:‬ة‬

‫ة ‪ . . . .‬نعتقد أن االختالف في الكثافة‪ ،‬كما هو‬ ‫العالم بيض ٌ‬


‫ن في البيضة‪ ،‬يُعبِّر أوال عن العالقات التفاضلية أو‬ ‫م ٌ‬
‫متض َّ‬
‫المادة االفتراضية التي يجب تنظيمها‪ .‬هذا المجال الكثيف‬
‫سد في‬‫للفردنة يحدِّد العالقات التي يعبِّر عنها حتى تتج ّ‬
‫أنواع‬
‫ٍ‬ ‫ديناميات فضائية ة زمنية (إضفاءٌ للطابع الدرامي)‪ ،‬في‬
‫ف نوعي)‪ ،‬وفي أجزاء عضوية‬ ‫تناظر هذه العالقات (تخال ٌ‬‫ُ‬
‫‪27‬‬
‫ف عضوي)‪.‬‬ ‫مميِّزة في هذه العالقات (تخال ٌ‬ ‫َ‬
‫النقاط ال ُ‬ ‫تُناظر‬

‫‪V‬‬
‫سيموندون ليس وحده من ينظر إلى البيولوجيا على‬
‫أساس االختالف األنطولوجي‪ .‬فحين يبدأ دولوز تعاونه مع‬
‫فيليكس جاتاري‪ ،‬يشير إلى عمل عالم الكيمياء الحيوية‬
‫ﭼاك مونوه ‪ . Jacques Monod‬ويتبنى كتاب الضد ف‬
‫أوديب ‪ ، Anti-Oedipus‬المنشور عام ‪ ،1972‬بعد‬
‫‪28‬‬
‫عامين من كتاب مونوه األساسي الصدفة والضرورة‪،‬‬
‫معالجة مونوه لإلنزيمات البيولوجية على أن لها خصائص‬
‫"إدراكية"‪ ،‬تتيح توليف عناصر متنافرة في أشكال حياةٍ‬

‫‪146‬‬
‫جديدة‪ .‬ويمفصل مونوه تلك الفكرة بطريقة تلتقي مع‬
‫عمل سيموندون األسبق حول الفردنة البيولوجية‪.‬‬

‫تعود شهرة الصدفة والضرورة أساسا ً إلى‬


‫ج الصدفة البيولوجية‬ ‫استنتاجه أن الكائنات البشرية نتا ُ‬
‫شكل من الضرورة التطورية‪ .‬لكن ليس استنتاج‬ ‫ٍ‬ ‫وليس أي‬
‫يثير اهتمام دولوز وجاتاري‪ .‬بل‬ ‫ُ‬ ‫بشكل حصري هو ما‬
‫ٍ‬ ‫مونوه‬
‫ه على أساسه‪.‬‬ ‫ج ُ‬
‫ل الكيميائي الذي يقيم استنتا َ‬ ‫كذلك التحلي ُ‬
‫إنزيمات بعينها‪ ،‬وخصوصا نوعا من اإلنزيمات‬ ‫ٍ‬ ‫يحلّل مونوه‬
‫يُعرفة باسم اإلنزيمات "األلوستيرية"‪ ، allosteric‬التي ال‬
‫تقوم فقط بوظيفة ربط المواد الكيميائية الخاضعة لخميرة‬
‫معينة [الصبستريت] ‪ ،substrates‬بل يمكنها أيضا ضبط‬
‫مركبات أخرى‪ .‬يقول‬ ‫وظائفها الخاصة على أساس وجود ُ‬
‫ة اإلضافية‬ ‫مونوه أن اإلنزيمات األلوستيرية "لها الخاصي ُ‬
‫للتعرف بشكل انتقائي على واحد ٍ أو أكثر من المركباتة‬ ‫ّ‬
‫ل ةة‬ ‫معد ِّ ٌ‬‫األخرى ‪ ،‬التي ‪ . . .‬يكون الرتباطها بالبروتين تأثير ُ‬
‫أي‪ ،‬حسب الحالة‪ ،‬تأثير تشديد أو كبت نشاطها‬
‫بالنسبة للصبستريت‪ 29".‬يسمي مونوه هذه الخاصية‬
‫باسم الخاصية "اإلدراكية"‪ .‬وتعني أن هناك سيرورة ُ تنظيم ٍ‬
‫نسق منظم ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ة ذاتي عند المستوى الجزيئي ال تتطلب تدخُّل‬
‫س بالفعل إلى حد ٍ كبير‪ .‬اإلنزيم األلوستيري يتعرف‬ ‫س ٍ‬ ‫مؤ َّ‬
‫على ظروفه البيئية‪ ،‬ويستجيب لها‪.‬‬

‫ج عن مجموعةٍ من‬‫أنساق بيولوجية معقّدة يَنت ُ‬


‫ٍ‬ ‫نشوء‬
‫التفاعالتة الجزيئية التي ال تتطلب أكثر من الفرصة‬
‫امتزاجات بالصدفة حتى تتطور إلى‬
‫ٌ‬ ‫المناسبة التي تتيحها‬
‫تلك األنساق‪" .‬النظام‪ ،‬والتفاضل البنيوي‪ ،‬واكتساب‬

‫‪147‬‬
‫ط عشوائي‬
‫ة من خلي ٍ‬‫الوظائف ةة كل هذه األمور تبدو خارج ً‬
‫من الجزيئات الخالية فرديا من أي نشاط‪ ،‬من أي قدرة‬
‫وظيفية كامنة بخالف التعرفة على الشركاء الذين ستبني‬
‫‪30‬‬
‫معهم البنية‪".‬‬

‫مع هذه المقاربة للبيولوجيا الجزيئية‪ ،‬سيكون صعود ُ‬


‫ة صدفةٍ أكثر من كونها ضرورة‪.‬‬ ‫الكائنات البشرية مسأل َ‬
‫ة من الصدفة والضرورة‪ .‬االلتقاءُ‬ ‫سيكون‪ ،‬باألحرى‪ ،‬توليف ً‬
‫إلنزيمات معينةة في ظروف معينةة يُسهِّل تشكُّل‬
‫ٍ‬ ‫بالصدفة‬
‫ط نوعية من المركبات البيولوجيةة تنشأ عنها أشكا ُ‬
‫ل‬ ‫أنما ٍ‬
‫حياةٍ معينة‪ .‬أما ما إذا كانت أشكا ُ‬
‫ل الحياة تلك سيُعاد‬
‫فأمر يعتمد على قدرة تلك المركبات على االزدهار‬ ‫ٌ‬ ‫إنتاجها‬
‫معطاة‪ .‬أما أن تنتهي أشكال الحياة تلك إلى حياةٍ‬ ‫في بيئةٍ ُ‬
‫فأمر عشوائي‪ .‬هذا ما يهم مونوه‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫بشرية‬

‫لكن درسا ً مختلفا يهم دولوز وجاتاري أكثر‪ .‬اإلنزيمات‬


‫األلوستيرية وغيرها من أنماط اإلنزيمات تحتوي على‬
‫القدرة على كل أنواع التوليفات عند المستوى قبل ة‬
‫ج‬
‫الفردي‪ .‬وفضال عن ذلك فإن هذه التوليفات‪ ،‬ألنها نتا ُ‬
‫الصدفة‪ ،‬كان يمكن أن تكون ويمكن أن تُصبح بخالف ذلك‪.‬‬
‫ل افتراضي من الكثافات‪ ،‬مجال‬ ‫المستوى الجزيئي هو مجا ٌ‬
‫لالختالف يُفعِّل نفسه إلى ترتيبات بيولوجية نوعية‪ .‬وكما‬
‫يصيغ مونوه المسألة‪" ،‬مع البروتين الكُريَّاتي ‪globular‬‬
‫[من كريات] يكون لدينا بالفعل‪ ،‬عند المستوى الجزيئي‪،‬‬
‫ة بخصائصها الوظيفية‪ ،‬لكن ليس‪ ،‬كما نرى‬ ‫ة حقيقية ةة آل ٌ‬
‫آل ٌ‬
‫اآلن‪ ،‬ببنيتها األساسية‪ ،‬حيث ال يمكن أن نتبيّن شيئا سوى‬
‫تفاعل التوليفاتة العمياء‪ . . . .‬ويمكن لسيرورةٍ عمياء‬

‫‪148‬‬
‫تماما أن تؤدي‪ ،‬بالتعريف‪ ،‬إلى أي شيء؛ يمكن حتى أن‬
‫‪31‬‬
‫تؤدي إلى الرؤية ذاتها‪".‬‬

‫عند مستويات مختلفة من التعقيد البيولوجي ةة‬


‫سيموندون عند مستوى الجين وبيئته‪ ،‬ومونوه عند مستوى‬
‫التفاعلة قبل ة الجيني الجزيئي المؤدّي إلى الجين ةة يقدِّم‬
‫لمجال قبل ة‬
‫ٍ‬ ‫ل من هذين العالمين البيولوجيين صورة ً‬ ‫ك ٌ‬
‫أشكال فردية نوعية لكنه أيضا ليس‬ ‫ٍ‬ ‫فردي معقّد يتيح تولُّد‬
‫ٍ‬
‫مقيدا وال قابال لالختزال إلى تلك األشكال‪ .‬إنهما يطرحان‬ ‫ُ‬
‫مجاال لالختالف يتجاوز أية أشكال بيولوجيةٍ نوعية أو أفراد‬
‫بينما يُتيح نشوءها‪ .‬وفضال عن ذلك‪ ،‬حيث أن ذلك المجال‬
‫محايث للمجال الفيزيائي‪ ،‬فإنه ال يتطلب أية حركة باتجاه‬ ‫ٌ‬
‫التعالي حتى يتم إدراكه‪ .‬إنه مجال لالختالف المحايث‪،‬‬
‫ة أو فجوة‬ ‫اختالفات بعينها بينما يظ ُّ‬
‫ل طي ً‬ ‫ٍ‬ ‫يُفعِّلة نفسه إلى‬
‫حلول مختلفة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ة تُفعِّل نفسها في‬
‫أنطولوجية‪ .‬إنه مشكل ٌة‬

‫‪VI‬‬

‫ة أخرى من األمثلة‪ ،‬ربما كانت المنظومة‬‫منظوم ٌ‬


‫األشد إدهاشا‪ .‬في التعاون المتأخر بين دولوز وجاتاري‪،‬‬
‫ة‬
‫تكتسب كتابات إيليا ﭘريجوﭼين ‪ Ilya Prigogine‬أهمي ً‬
‫متزايدة‪ .‬يجادل ﭘريجوﭼين‪ ،‬الذي ظهر كتابه ‪La‬‬
‫‪( nouvelle alliance‬الذي ألفه بالتعاون مع إيزابيل‬
‫ستنجرز ‪ Isabelle Stengers‬وترجم جزئيا بعنوان‬
‫ترتيب‬
‫ٍ‬ ‫‪ )Order Out of Chaos‬عام ‪ ،1979‬دفاعا عن‬
‫‪149‬‬
‫منظومات وعالقات ال‬
‫ٍ‬ ‫ة ذاتي للمركبات الكيميائية إلى‬
‫يمكن قراءتها من الحالة األسبق للتشوش الكيميائي‪.‬‬
‫حتمي النزعة وقابال‬
‫َ‬ ‫"االصطناعي قد يكون‬
‫ُ‬ ‫يكتب‬
‫لالنعكاس‪ .‬أما الطبيعي فيحتوي على عناصر أساسية‬
‫للعشوائية والالانعكاسية‪ .‬وهذا يؤدي إلى رؤية جديدة‬
‫الجوهر السلبي الموصوف‬
‫ُ‬ ‫للمادة ال تعود فيها المادة ُ هي‬
‫ط‬ ‫ُ‬
‫ترتبط بنشا ٍ‬ ‫في رؤية العالم الميكانيكيةِة النزعة بل‬
‫‪32‬‬
‫تلقائي‪".‬‬

‫ظروف‬
‫ٍ‬ ‫يقدم ﭘريجوﭼين مثال الساعة الكيميائية‪ .‬في‬
‫ط‬
‫تبتعد عن اإلتزان (مثال‪ ،‬ظروف الحرارة الكثيفةة أو نم ٍ‬
‫آخر من الطاقة)‪ ،‬قد تحدث سيرورةٌ يصفانها بالصورة‬
‫التالية‪:‬‬

‫"أحمر" و"أزرق‪".‬‬
‫ٌ‬ ‫لنفترض أن لدينا نوعان من الجزيئات‪،‬‬
‫بسبب الحركة العشوائية للجزيئات‪،‬ة يمكن أن نتوقع أن‬
‫جزيئات حمراء أكثر‪ ،‬لنقل‪ ،‬في‬ ‫ٌ‬ ‫يكون لدينا في لحظةٍ معينة‬
‫الجزء األيسر من اإلناء‪ .‬وبعدها بقليل يمكن أن تظهر‬
‫جزيئات زرقاء أكثر‪ ،‬وهكذا‪.‬ة سيبدو اإلناءُ لنا على أنه‬
‫بومضات عارضة غير منتظمة من األحمر أو‬ ‫ٍ‬ ‫"بنفسجي"‪،‬‬
‫يحدث مع الساعة الكيميائية؛ هنا‬ ‫ُ‬ ‫األزرق‪ .‬لكن هذا ليس ما‬
‫يكون النسقُ أزرقَ بكامله‪ ،‬ثم فجأة يُغيِّر لونه إلى األحمر‪،‬‬
‫ثم مرةً أخرى إلى األزرق‪ .‬وألن كل هذه التغيرات تحدثة‬
‫على فترات زمنية منتظمة‪ ،‬تكون لدينا سيرورة متماسكة‪.‬‬
‫‪33‬‬

‫نوع ما‬
‫ٍ‬ ‫متوقع‪ .‬فليس إدخا ُ‬
‫ل آليةِ تنظيم ٍ من‬ ‫ٍ‬ ‫غير‬
‫ُ‬ ‫هذا‬
‫جلب شيءٍ‬
‫ُ‬ ‫ة الكيميائية تظهر‪ .‬ال يتم‬
‫ل الساع َ‬ ‫هو ما يجع ُ‬
‫من الخارج‪ .‬إنها قدرةٌ كامنة للكيماويات ذاتها على التنظيم‬
‫‪150‬‬
‫ة الذاتي هي ما تنشأ عنها هذه الظاهرة‪ .‬يبدو األمر كما لو‬
‫ة‬
‫من ٌ‬
‫متض ّ‬‫كان ثمة إمكانات افتراضية لالتصال أو التنسيق ُ‬
‫في الكيماويات ذاتها‪ ،‬أو على األقل في تجمعاتها‪ ،‬يتم‬
‫ط تبتعد عن االتزان‪.‬‬
‫تفعيلها تحت شرو ٍ‬

‫يناقش ﭘريجوﭼين مثاال آخر يشير إلى التنظيم ة الذاتي‬


‫للمادة‪" :‬التشعباتة ‪ ." bifurcations‬التشعباتة هي‬
‫ط بعيدة عن االتزان‪ ،‬سوف‬ ‫مواقف‪ ،‬مرة أخرى تحت شرو ٍ‬
‫"يختار" فيها نسقٌ كيميائي بين بنيتينة ممكنتينة أو أكثر‪،‬‬
‫ة‬
‫لكن البنيةة التي يختارها ال يمكن التنبؤ بها مقدّما‪ .‬أما أي ُ‬
‫قانون طبيعي‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ج فهي مجرد مسألةِ احتماليةٍ‪ ،‬ال‬ ‫بنيةٍ ستنت ُ‬
‫س إلى شروطها‬ ‫ل العك َ‬ ‫ومن ثم‪ ،‬فالبنية الناتجة ال تقب ُ‬
‫حدث إلى ما كان‬ ‫َ‬ ‫األولية‪ .‬ال يمكن أن نقرأ إلى الوراء مما‬
‫يحدث شيءٌ آخر‪.‬‬‫َ‬ ‫سيحدث‪ .‬فقد كان يمكن أن‬ ‫ُ‬

‫التشعب على وشك‬


‫ُ‬ ‫وثمة ما هو أكثر‪ .‬فحين يكون‬
‫الحدوث‪ ،‬يمكن أن يكون للتغيرات الصغيرة في الشروط‬
‫تأثيرات كبيرة على ناتج التشعب‪ .‬وهذا‬
‫ٌ‬ ‫البيئيةة المحيطة‬
‫ل عنصرا جديدا للصدفة في فهم الكيمياء‪" .‬سيرورات‬ ‫يُدخ ُ‬
‫تناظر‬
‫ُ‬ ‫التنظيم ة الذاتي في الشروط البعيدة عن االتزان‬
‫تفاعال مرهفا بين الصدفة وبين الضرورة‪ ،‬بين التموجات‬
‫وبين القوانين الحتمية‪ .‬نتوقع أنه قرب التشعب‪ ،‬ستلعب‬
‫التموجات أو العناصر العشوائية دورا هاما‪ ،‬بينما فيما بين‬
‫ُ‬
‫‪34‬‬
‫الجوانب الحتمية سائدةً‪".‬‬
‫ُ‬ ‫التشعبات تصبح‬

‫تفاعل رهيف بين الصدفة وبين الضرورة‪.‬‬ ‫ٌ‬


‫يجده مونوه‪ .‬ويجده ﭘريجوﭼين‪ .‬إنه رمية النرد عند نيتشه؛‬

‫‪151‬‬
‫النرد الذي يتم رميه والنرد الذي يرتد‪ .‬وفي مجال العلم‪،‬‬
‫فإن مونوه وﭘريجوﭼين بين الالعبينة األفضل‪ .‬فهما يفهمان‬
‫أنه ما من وجودٍ‪ ،‬بل صيرورةٌ فقط‪ .‬أو‪ ،‬كما يعبّر دولوز‪ ،‬أن‬
‫الوجود َ الوحيد هو وجود ُ الصيرورة‪.‬‬

‫ة فحسب‪ .‬بل‬ ‫س هنا ليس أن الكيمياء عشوائي ٌ‬‫والدر ُ‬


‫أن ثمة سيرورة ُ تنظيم ٍ ة ذاتي ضمن المجال الكيميائي ال‬
‫يمكن اختزالها إلى قوانين صارمة بسبب قدرة الكيماويات‬
‫على االتحاد مع‪ ،‬ورد الفعل لة‪ ،‬عناصر كيميائية متنافرة أو‬
‫ط فيزيائية بطرق جديدة وغير قابلة للتنبؤ‪ .‬وبعبارة‬ ‫شرو ٍ‬
‫ل افتراضي من االختالف يمكن أن تظهر‬ ‫أخرى‪ ،‬ثمة مجا ٌ‬
‫تفعيالت لعناصر مختلفة‪ .‬وعند مستوى‬
‫ٌ‬ ‫انطالقا منه‬
‫االفتراضي‪ ،‬مستوى االختالف الخالص‪ ،‬ليس هناك استبعاد ٌ‬
‫لماذا سيتحد مع ماذا أو ماذا سينتج‪ .‬فالتوليفاتة المتنافرة‬
‫ذات إمكانات االفتراضي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫والنواتج غير المتوقعة هي‬

‫يستنتج ﭘريجوﭼين وسترنجرز أن "الالف اتزان يجلب‬


‫‘’النظام من الكاوس’"‪ 35‬ويجب أن نحذ َر من تفسيرة‬
‫تلك الكلمات بطريقةٍ خاصة‪ .‬فال يعني هذا أننا حين ننتقل‬
‫من وضع كاوس إلى وضع نظام‪ ،‬سنُخلِّف الكاوس وراءنا‪.‬‬
‫مثل هذا الفهم سيكون بمثابة العودة إلى نظرةٍ انبعاثيةٍ أو‬
‫أشكال‬
‫ٍ‬ ‫خَلقيةٍ للسببية‪ .‬إذا كانت المادة تعبر عن نفسها في‬
‫خاصة منظّمة أو ذاتية ة التنظيم‪ ،‬فليس ذلك ألننا خلّفنا‬
‫الكاوس أو االختالف وراءنا‪ .‬المادة المنظَّمة أو الذاتية ة‬
‫التنظيم تجلب الكاوس الخاص بها معها‪ ،‬ليس بوصفه‬
‫م َفعَّال بل بوصفه افتراضيا‪ .‬تحتفظ المادة بقدرتها على‬
‫ُ‬
‫التوليفاتة المتنافرة والتفعيالت الجديدة عند كل نقطة‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫ة ومنظمة‪.‬‬ ‫محايث للمادة بوصفها عشوائي ً‬
‫ٌ‬ ‫االفتراضي‬
‫الكاوس يُنتِج النظام‪ ،‬لكنه ال يخضع لففلنظام؛ االختالف ال‬
‫يخضع للهوية‪.‬‬

‫المقاربات العلمية الحديثة تقدم لنا محايثة سبينوزا‪،‬‬


‫وديمومة برجسون‪ ،‬وتوكيد نيتشه لالختالف‪ .‬تقدم لنا مجاال‬
‫افتراضيا لالختالف الخالص‪ ،‬مجاال إشكاليا ال تتغلب فيه‬
‫ط‬
‫ل على المشكالت بل تُفعِّلها ببساطة تحت شرو ٍ‬ ‫الحلو ُ‬
‫نوعية‪ .‬هذه النقاشات ال يمكن التقاطها بواسطة الصورة‬
‫الدوجمائية للفكر‪ .‬المادة والحياة ال يمكن تمثيلهما؛‬
‫ض عن الهويات المستقرة التي سيسعى‬ ‫فديناميتهما تفي ُ‬
‫التمثيل إلى تقييدها بها‪ .‬مهما كان ما نرى‪ ،‬مهما كان ما‬
‫نقول‪ ،‬فهناك أكثرةة دوما ً أكثر‪.‬‬

‫‪VII‬‬

‫كيف يمكن للغتنا أن تقول هذا الة"أكثر"؟ أو‪ ،‬إن لم‬


‫تقله‪ ،‬أال ّ تنتهكه عندما تتحدث؟ يبدو كأنها قد فعلت ذلك‬
‫بالفعل‪ .‬عبر كل هذه الصفحات الكثيرة‪ ،‬خاطبنا اختالفا‬
‫كل من الفلسفةة‬‫ل‪ ،‬اختالفا ينشأ في ٍ‬ ‫خالصا يُقاوم التمثي َ‬
‫سه لكن ال يمكن إدراجه تحت مقوالت‬ ‫ج ُّ‬
‫والعلم ويمكن َ‬
‫الصورة الدوجمائية للفكر‪ .‬وقد تتبَّعنا بناءَ دولوز ألنطولوجيا‬
‫لهذا االختالف‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫وقد فعلنا هذا كله في اللغة‪ .‬فهكذا تُصنعُ الفلسفة‪،‬‬
‫في نهاية المطاف‪ .‬تُصنعُ في اللغة‪ .‬كيف يمكن أن تُصنع‬
‫بخالف ذلك؟‬

‫األمر أن‬
‫ُ‬ ‫ةة هنا يجب مواجهتها‪ .‬أال يكون‬
‫لكن ثمة مشكل ٌ‬
‫ة بطريقةٍ ال فكاك منها؟ أال يكون األمر‬ ‫اللغة ذاتها تمثيلي ٌة‬
‫مقدَّم‬
‫تمثيل العالم ال ُ‬
‫ِ‬ ‫أن كلماتنا ال يمكنها أن تفعل سوى‬
‫لنا؟ إذا كان األمر كذلك‪ ،‬فإن نفس الوسيط إليديولوجيا‬
‫دولوز يخدع ُه بينما يكتب‪ ،‬ويخدعُنا بينما نقرأه‪.‬‬

‫ة‪ .‬تقدمنا‬‫ة شفاف ٌ‬‫لقد تقدمنا طوال الوقت كأن اللغ َ‬


‫كأن الكلمات تمحو ذاتها وتتركنا مع األفكار التي كان‬
‫المقصود ُ من هذه الكلمات أن تُعبّر عنها ال أكثر وال أقل‪.‬‬
‫لقد ناقشنا دولوز كأن الكلمات تفعل بالضبط ما نُريدُها أن‬
‫تفعله‪ .‬ليس األمر أننا لم نتعرف على حدود اللغة‪ .‬فالملمح‬
‫المحوري ألنطولوجيا دولوز‪ ،‬في نهاية المطاف‪ ،‬هو أن‬
‫سه لكن ال يمكن إدراجه تحت مقوالت‬ ‫االختالف يمكن ج ُّ‬
‫عبارات‬
‫ٍ‬ ‫ض أن‬ ‫التمثيل‪ .‬لكن ما فعلناه‪ ،‬للغرابة‪ ،‬هو افترا ُ‬
‫جسه لكن ال يمكن إدراجه‬ ‫ُّ‬ ‫من قبيل االختالف يمكن‬
‫ة‪ .‬ها هنا تكمن‬ ‫تحت مقوالت التمثيل هي نفسها شفاف ٌ‬
‫المشكلة‪ .‬إذ بقبول عمل اللغة بطريقةٍ غير نقدية‪ ،‬نكون‬
‫قد سمحنا للصورة الدوجمائية للفكر بأن تنس ّ‬
‫ل عائدة ً إلى‬
‫الفلسفة‪:‬ة ليس من خالل ما حاولنا التفكيرة فيه‪ ،‬بل من‬
‫خالل الوسيط الذي من خالله نحاول التفكيرة فيه‪.‬‬

‫يسعى دولوز إلى التغلب على الصورة الدوجمائية‬


‫للفكر حتى يبني أنطولوجيا لالختالف‪ .‬واألمر المحوري‬

‫‪154‬‬
‫ط‬
‫للصورة الدوجمائية للفكر هو االلتزام باللغة كوسي ٍ‬
‫تظهر إلدراكنا الحسي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الهويات المستقرة للعالم‬
‫ُ‬ ‫تمثيلي‪.‬‬
‫الذي بدوره يحمل صور تلك الهويات المستقرة إلى مخّنا‪،‬‬
‫الذي بدوره أيضا يمثِّل تلك الصور في المقوالت المستقرة‬
‫ٌ‬
‫وسيط‬ ‫ٌ‬
‫وسيط يمثل العالم‪ .‬وهي‬ ‫للغة‪ .‬اللغة‪ ،‬إذن‪ ،‬هي‬
‫شفاف ةة يعكس العالم كما هو‪ ،‬ودون بقيةٍ‪.‬‬

‫ة للوجود‬
‫وبرفض الصورة الدوجمائية‪ ،‬قدّم دولوز رؤي ً‬
‫ل لفرضها عليه‪.‬‬‫ض عن المقوالت التي يسعى التمثي ُ‬ ‫تفي ُ‬
‫ل أن يلتقط؛ يظل‬ ‫العالم دائما أكثر مما يستطيع التمثي ُ‬
‫م ال تروِّضه الصورةُ الدوجمائية للفكر‪.‬‬‫العال ُ‬

‫تصور العالم‬
‫َ‬ ‫لكن ماذا عن اللغة ذاتها؟ إذا كنا سنرفض‬
‫الذي تقدمه لنا الصورةُ الدوجمائية للفكر‪ ،‬فهل سنرفض‬
‫أيضا صورة َ اللغة باعتبارها تسعى إلى تمثيل ذلك العالم؟‬
‫العالم‪ ،‬الوجود‪ ،‬يفيض عن المقوالت التمثيلية‪ .‬فهل تفيض‬
‫ة ذاتها أيضا عن تلك المقوالت؟‬ ‫اللغ ُ‬

‫سيبدو أنها البد أن تفعل‪ ،‬إذا كان لفكر دولوز أن‬


‫ضعنا‪ .‬ألن اللغة إذا فشلت في أن تفيض عن تلك‬ ‫يُخ ِ‬
‫المقوالت‪ ،‬فسوف يقع فكره ذاته في أحبولة الصورة‬
‫ُ‬
‫وسيط‬ ‫الدوجمائية للفكر‪ .‬ففي نهاية المطاف‪ ،‬إذا كان‬
‫بإخالص األفكار التي يريد ُ نقلها‪ ،‬فسوف‬
‫ٍ‬ ‫س‬
‫فكره يعك ُ‬
‫نكون قد عدنا إلى االستقرار الذي يسعى إلى التغلب‬
‫عليه‪ ،‬ال على مستوى العالم الذي يصفه بل على مستوى‬
‫اللغة التي يستخدمها لوصفه‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫وال يكفي القول بأننا نتجنب هذه المشكلة بالحديث‬
‫س االختالف بدال ً من تمثيله‪ .‬ألن المشكلة‪ ،‬مرة‬
‫عن ج ّ‬
‫س االختالف بدال ً‬
‫أخرى‪ ،‬تكمن في الكلمات التي تج ّ‬
‫من تمثيله‪ .‬ماذا نفعل حين نقول هذه الكلمات‪ ،‬أو حين‬
‫كلمات على اإلطالق؟‬
‫ٍ‬ ‫نقول أي‬

‫ل مكان الرؤية‬ ‫التحدي الذي يواجهه دولوز هو أن يُح َّ‬


‫ة تُتيح لها أن تفيض عن مقوالت التمثيل‪.‬‬ ‫التمثيليةة للغة رؤي ً‬
‫ة للغة‬‫إنه بحاجةٍ إلى أن يبني‪ ،‬بالتوازي مع أنطولوجياه‪ ،‬رؤي ً‬
‫تناسب تلك األنطولوجيا‪ .‬ومثلما يجد اختالفا في الوجود‬
‫َ‬
‫االلتقاط بواسطة المقوالت المستقرة للصورة‬ ‫يقاوم‬
‫الدوجمائية للفكر‪ ،‬البد أن يجد في اللغة التي يخبرنا بها‬
‫عن هذا االختالف شيئا ً يمكنه‪ ،‬بصورةٍ مماثلة‪ ،‬أن يقاوم‬
‫تلك المقوالت المستقرة‪ .‬يجب أن يجعل لغة أنطولوجياه‬
‫جع صدى نفس الطاقة غير القابلة لالستعادة التي‬ ‫تُر ِّ‬
‫اكتشفها في األنطولوجيا ذاتها‪ .‬باختصار‪ ،‬يجب أن يقدم لنا‬
‫ما يسميه منطق المعنى ‪. logic of sense‬‬

‫ة دورةً أخرى‪ ،‬ويلويها‬ ‫(قد يُغوي المرءَ أن يمد ّ المشكل َ‬


‫ة للغة تتمشى مع‬ ‫مرة أخرى‪ .‬إذا كان دولوز يقدّم رؤي ً‬
‫األنطولوجيا التي خلقها‪ ،‬فماذا عن اللغة التي يقدّم لنا بها‬
‫رؤيته للغة؟ هل يجب أن ننظر إلى لغة تلك الرؤيةِ للغة‬
‫باعتبارها هي ذاتها تمثيال دقيقا لكيفيةة عمل اللغة؟ ولو‬
‫فعلنا‪ ،‬أال نَسقُط في نفس المشكلة‪ ،‬هذه المرة على‬
‫مستوى "اللغة عن اللغة"؟ وبالتبادل‪ ،‬لو سلّمنا بأن اللغة‬
‫ة دولوز‬ ‫ذاتها تفيض عن مقوالتها التمثيلية‪ ،‬فهل تهدم رؤي ُ‬
‫للغةِ ذاتَها؟ في نهاية المطاف‪ ،‬لو لم نستطع تمثيل كيف‬

‫‪156‬‬
‫ة رؤيته للغة أيضا عما يريد قوله؟‬ ‫تعمل اللغة‪ ،‬أال تفيض لغ ُ‬
‫هل ثمة مأزقٌ هنا؟ ال‪ ،‬ال يوجد‪ .‬يمكن لدولوز أن يُسلّم بأن‬
‫ض عن مقوالتها التمثيلية دون أن يهدم‬ ‫رؤيته للغة تفي ُ‬
‫ة لكيف تعمل اللغة‪ .‬هذه الرؤية‬ ‫نفسه‪ .‬فهو يقدم لنا رؤي ً‬
‫ض عن مقوالتها التمثيلية‪ .‬هناك‬ ‫ة على أنها تفي ُ‬ ‫ترى اللغ َ‬
‫أكثر مما يمكن أن يلتقطَه التمثيل‪ .‬ولو كان ذلك كذلك‪،‬‬
‫ض عن محتواها التمثيلي‪.‬‬ ‫فإن لغة تقريره هو عن اللغة تفي ُ‬
‫ف اللغة إلى نهاية الشوط‪ ،‬مرتفعا ً من اللغة‬ ‫ويمضي ارتجا ُ‬
‫إلى تقريره عن اللغة‪ ،‬وأبعد‪ ،‬إذا شئنا‪ ،‬إلى تقريرٍ عن‬
‫سبب ألن يرفض دولوز هذه‬ ‫ٌ‬ ‫التقرير عن اللغة‪ .‬ليس ثمة‬
‫ة رؤيته للغة حدودَها الخاصة؟‬ ‫النتيجةة لفكره‪ .‬هل تنسف لغ ُ‬
‫بالطبع‪ ،‬ولم ال؟)‬

‫‪VIII‬‬

‫ة التقليدية للغة باعتبارها تمثيال ً وأوج َ‬


‫ه‬ ‫رأينا الرؤي َ‬
‫ة‬
‫االستقرار التي تتطلبها تلك الرؤية‪ .‬ويقدم دولوز لقط ً‬
‫أعقد قليال للرؤية التقليدية‪ .‬فهي‪ ،‬بالنسبة له‪ ،‬تنطوي على‬
‫ثالثة أبعاد‪ :‬اإلشارة ‪ ، denotation‬والتبدّي‬
‫‪ ، manifestation‬والداللة ‪ . signification‬ويعمل‬
‫مطلب لغوي‪" ،‬قضية" كما يسميه‪ ،‬في هذه األبعاد الثالثة‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫يتضح أن هذه األبعاد الثالثة تتطلب رابعا‪.‬‬
‫‪36‬‬
‫خارجي لألمور‪".‬‬
‫ٍ‬ ‫بوضع‬
‫ٍ‬ ‫اإلشارة "هي عالقة القضية‬
‫إنها القضية وهي تستدير خارج نفسها وتشير صوب ما‬
‫‪157‬‬
‫تناظر هي‬
‫ٌ‬ ‫تتحدث عنه في العالم‪ .‬ورؤية الصدق على أنه‬
‫مسألة إشارة‪ .‬فحين أقول "البقرة في المرج‪ "،‬تشير هذه‬
‫القضية إلى البقرة‪ ،‬هناك‪ ،‬في ذلك المرج بعينه‪.‬‬

‫أما التبدي فة"يخص عالقة القضيةة بالشخص الذي‬


‫يتحدث ويعبر عن نفسه‪ 37".‬وفي التبدي‪ ،‬تشير القضية‬
‫أيضا خارج ذاتها‪ ،‬لكن في اتجاهٍ آخر هذه المرة‪ .‬حيث‬
‫تشير اإلشارة "إلى األمام" باتجاه العالم الذي تتحدث عنه‬
‫القضية‪ ،‬يشير التبدي "إلى الوراء" صوب مصدر القضية‪،‬‬
‫صوب الشخص الذي يتفوه بالقضية‪.‬‬

‫مع اإلشارة والتبدي‪ ،‬تكون لدينا ثالثة عناصر متقاطعة‬


‫في اللغة‪:‬ة قضية‪ ،‬ومتحدث‪ ،‬ووضع لألمور‪ .‬وهذه العناصر‬
‫الثالثة تنطوي على بعضها بشكل متبادل‪ .‬وتشكّل معا‬
‫م التمثيلي للغة‪ .‬لكننا لو وقفنا عند اإلشارة والتبدي‪،‬‬
‫العال َ‬
‫فسوف يفوتنا الكثيرة مما يجري داخل نطاق اللغة ذاتها‬
‫وفي عالقة اللغة بالمتحدث والعالم‪ .‬نحتاج إلى مفهوم ٍ‬
‫ثالث‪ :‬هو الداللة‪.‬‬

‫من القضايا‪ ،‬بما ينتج عن قضية أو‬ ‫والداللة تتعلق بتض ُّ‬
‫مجموعةٍ من القضايا‪ .‬وعادةً ما ال تشير إلى خارج اللغة‪،‬‬
‫بل تظل ضمن نطاق المجال داخل ة اللغوي‪ .‬ويمكن أن‬
‫يحدث هذا بطرق متنوعة‪ .‬ويوضح دولوز الداللة بمثال‬
‫برهنة منطقيةة ليبينة إحدى هذه الطرق‪ .‬إذا كانت قضيتان‬
‫صادقتين‪ ،‬فيمكن أن تنتج عنهما ثالثة‪ .‬وها هو المثال‬
‫الكالسيكي‪ )1 :‬كل البشر فانون؛ ‪ )2‬سقراط بشر؛ ‪)3‬‬
‫فان‪ .‬في هذا المثال ال نحتاج إلى معرفة أي‬‫ٍ‬ ‫إذن‪ ،‬سقراط‬

‫‪158‬‬
‫شيءٍ سواء عن اإلشارة أو التبدي‪ .‬ال يهم من هو سقراط‬
‫ة‬
‫أو من يتكلم القضايا الثالث‪ .‬ولو كان سقراط شخصي ً‬
‫مختلقة وولّد هذه العبارات الثالث برنامج كومبيوتر‪ ،‬فإن‬
‫الداللة ستظل هي نفسها‪ .‬صدق القضيتين األوليين ينتج‬
‫عنه صدق الثالثة‪.‬‬

‫البرهناتة المنطقية ليستة النوع الوحيد للداللة‪ .‬وها‬


‫ل آخر‪ ،‬مازال داخل نطاق المجال داخل ة اللغوي‪.‬‬ ‫هو مثا ٌ‬
‫هناك ما يُطلق عليه اسم االستدالل المادي‪ ،‬االستدالل‬
‫المباشر لقضيةٍ من أخرى‪ .‬فمن القضية "الكرسي بنّي"‬
‫يمكنني االستدالل المباشر لقضية أخرى‪" ،‬الكرسي‬
‫ملوَّن"‪ .‬هنا ال توجد برهنة منطقية‪ .‬ليس ارتباط قضيتين‬ ‫ُ‬
‫ة‪ ،‬بل قضية منفردة تُنتج أخرى‪ .‬لكن‪ ،‬مثل‬ ‫هو ما يُنتج ثالث ً‬
‫البرهنة المنطقية‪ ،‬فإن هذا اإلنتاج داخل ة لغوي‪ .‬فنحن ال‬
‫نستنبط كون الكرسي ملونا من كونه بنيّا ً بالنظر إلى‬
‫الكرسي أو بفهم من الذي يتحدث عن الكرسي‪ .‬االستدالل‬
‫يمضي من قضية لغويةٍ مباشرة ً إلى أخرى‪.‬‬

‫ورغم أن قدرا كبيرا من الداللة يتعلق باالستدالل‬


‫داخل ة اللغوي‪ ،‬فيمكن وجود تضمينات لقضية ال تكون‬
‫داخل ة لغوية‪ .‬يستخدم دولوز مثال الوعد‪ .‬يقول أن "توكيد‬
‫النتيجةة تمثّله لحظة الوفاء بالوعد‪ 38".‬بأي طريقةٍ يكون‬
‫الوفاء بالوعد مثل استدالل منطقي أو مادي؟ بأي طريقة‬
‫قطعت لك وعدا‪،‬‬‫ُ‬ ‫يكون الوفاء بالوعد مثل "النتيجة"؟ إذا‬
‫فإن تضمين ذلك العرض هو أنني سأفي بهذا الوعد‪ .‬الوفاء‬
‫عد ُ أن أقابلك‬ ‫بالوعد‪ ،‬بهذا المعنى‪ ،‬هو الة" إذن" للوعد‪ .‬أ ِ‬
‫م بالتواجد‬
‫مل َز ٌ‬‫لتناول القهوة في الساعة الرابعة‪ ،‬إذن‪ ،‬أنا ُ‬
‫‪159‬‬
‫في الموعد الذي قلت أنني سأتواجد فيه‪ .‬قد يتضح أنني‬
‫مكان آخر‪ .‬ربما في الثالثة والنصف أسمع‬
‫ٍ‬ ‫أود أن أكون في‬
‫برنامج إذاعي أود االستماع إليه ويبدأ في الرابعة‪ .‬وقد‬
‫ٍ‬ ‫عن‬
‫من وعدي أنني سأقابلك بدل أن أستمع إلى البرنامج‬ ‫تض ّ‬
‫اإلذاعي‪.‬‬

‫قارن ذلك مع االستدالل المنطقي‪ .‬أنا ملتزم باالعتقاد‬


‫بأن كل البشر فانون وبأن سقراط بشر‪ .‬من هنا‪ ،‬ال يهم ما‬
‫فان‪ .‬قد‬
‫ٍ‬ ‫م باالعتقاد بأن سقراط‬
‫أود أن أعتقده؛ فأنا ملتز ٌ‬
‫فان‪ ،‬مثلما قد أتجاهل اجتماعي معك‬ ‫سقراط‬ ‫أن‬ ‫نكر‬‫أُ‬
‫ٍ‬
‫حتى أستمع إلى البرنامج اإلذاعي‪ .‬لكنني في كلتا الحالتين‬
‫م به بفضل اللغة التي‬ ‫أرفض شيئا أنا ملتز ٌ‬
‫استخدمتها‪ .‬وفي كلتا الحالتين تكون للقضايا تضمينات‪:‬‬
‫فهي تد ُ ُّ‬
‫ل‪.‬‬

‫اإلشارة‪ ،‬والتبدي‪ ،‬والداللة تقع ضمن نطاق مجال‬


‫التمثيل‪ .‬وإذا كانت هي كل ما هناك بالنسبةة للغة‪ ،‬فلن‬
‫نفلت من الصورة الدوجمائية للغة‪ .‬لنتذكر المثال األسبق‬
‫للبقرة في المرج‪ .‬اإلشارة ستربط القضية بالعالم بطريقة‬
‫مستقرة‪ .‬وستمثل الكلمات "البقرة في المرج" البقرة‬
‫الموجودة هناك في المرج‪ .‬أما التبدي فسوف يشير إلى‬
‫شخص‬
‫ٍ‬ ‫متحدث مستقرة ينطق الكلمات‪ ،‬إلى‬
‫ٍ‬ ‫الوراء باتجاه‬
‫عالج صورة البقرة ويمكنه التعبير عن تلك الصورة في‬
‫كلمات‪ .‬أما الداللة فسوف تأخذنا بعيدا عن الموقف‬
‫المباشر الذي يتضمن البقرة‪ ،‬والكلمات‪ ،‬والمتحدث‪ ،‬لكن‬
‫دون فقدان أي استقرار‪ .‬أحد تضمينات الكلمات التي تم‬
‫النطق بها هو أن هناك حيوانا ثدييا في المرج‪ .‬ثمة استدال ٌ‬
‫ل‬

‫‪160‬‬
‫ل كما هو‪.‬‬‫هنا‪ ،‬لكن ال نقص في االستقرار‪ .‬يظل التمثي ُ‬
‫الحركة من أحد أجزاء اللغة إلى اآلخر مستقرة ٌ قدر‬
‫استقرار الحركة من اللغة إلى العالم ومن اللغة إلى‬
‫المتحدث‪.‬‬

‫ل يسود فيه متفوِّقا ً الحس السليم والحس‬ ‫هذا مجا ٌ‬


‫ة فيما بينها‬
‫سق ٌة‬
‫من ّ‬
‫هويات لغوية مستقرة ُ‬
‫ٌ‬ ‫المشترك‪ .‬هناك‬
‫بكل من المتحدث والعالم‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫وفي عالقتها‬

‫ويقود هذا إلى سؤال‪" :‬هل هذا هو كل ما هناك‬


‫بالنسبةة للغة؟" بالنسبةة لدولوز‪ ،‬هناك أكثر‪ .‬فبمحاذاة‬
‫األبعاد الثالثة لإلشارة‪ ،‬والتبدي‪ ،‬والداللة‪ ،‬هناك آخر‪.‬‬
‫"المعنى هو البعد الرابع للقضية‪ .‬اكتشفه الرواقيون مع‬
‫معبَّر عنه للقضية‪ ،‬هو كيا ٌ‬
‫ن ال‬ ‫الحدَث‪ :‬المعنى‪ ،‬ال ُ‬
‫جسماني‪ ،‬معقّد‪ ،‬ال يقبل االختزال‪ ،‬عند سطح األشياء‪،‬‬
‫ث خالص يكمن أو يوجد في القضية‪ 39".‬والبد أن نسأل‬ ‫حد َ ٌ‬
‫َ‬
‫ما هو هذا المعنى‪.‬‬

‫‪IX‬‬

‫رأينا مفهوم التعبير من قبل‪ .‬فجوهر سبينوزا يتم‬


‫التعبير عنه في الصفات واألحوال‪ .‬وبالمثل‪ ،‬يتم التعبيرة عن‬
‫المعنى في القضايا‪ .‬لكن ما هو هذا المعنى؟‬

‫‪161‬‬
‫المعنى هو ما يحدث عند النقطة التي تلتقي عندها‬
‫اللغة والعالم‪ .‬إنه ما يقع‪ ،‬الحدث الذي ينشأ حين تتالمس‬
‫ة بعينها مع العالم‪ .‬هذا يشبه اإلشارة‪ ،‬لكنه ليس‬ ‫قضي ٌ‬
‫ة‬ ‫ُ‬
‫حيل قضي ٌ‬ ‫اإلشارة‪ .‬لنأخذ هذا في االعتبار‪ .‬في اإلشارة‪ ،‬ت ُ‬
‫إلى العالم الذي تناقشه‪ .‬وإذالجأنا إلى نظرية التناظر‪ ،‬فإن‬
‫ناظر العالم‪ .‬لكن ماذا نعني بكلمتي‬‫ُ‬ ‫القضية الصادقة ت ُ‬
‫ناظر؟ ال يمكننا اإلجابة على هذا السؤال بالعودة‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫حيل وت ُ‬ ‫تُ‬
‫إلى اإلشارة‪ ،‬حيث أن السؤال بدأ هناك‪ .‬كما لن يعيننا‬
‫ة من الذي يتحدث‪ ،‬وال‬ ‫التبدي وال الداللة‪ .‬فليست المسأل ُ‬
‫تضمينات قضيةٍ‪ .‬إنها مسألة العالقة بين القضية وبين‬
‫ُ‬
‫العالم‪.‬‬

‫إذا لم نستطع إجابة هذا السؤال عبر هذه األبعاد‬


‫الثالثة‪ ،‬فربما كان هناك رابع‪ .‬هذا هو بعد المعنى‪".‬إنه‬
‫فلت‬
‫ُ‬ ‫بالضبط الحد ّ بين القضية وبين األشياء‪ 40".‬هذا الحد ُّ ي ُ‬
‫من أن تلتقطه أبعاد اللغة الثالثة التي تُشكّل بنيته‬
‫التمثيلية‪ .‬إال ّ أن هذه المراوغة ال يجب أن تؤدي بنا إلى‬
‫إغفاله‪ .‬فهو بعد ٌ افتراضي للغة ال تكمن واقعيته فيما تقدمه‬
‫لنا الكلمات وال العالم بل فيما يحدث عندما يلتقيان‪.‬‬

‫ل إلى مصرف‪ .‬يشهر مسدسا ً ويقول‪" :‬هذا‬ ‫يدخل رج ٌ‬


‫سطوٌ مسلح‪ ".‬تشير كلماته إلى أن المصرف تجري‬
‫ل‪ ،‬بين أشياء أخرى‪ ،‬على أن الرجل‬ ‫سرقته‪ .‬تُبدي نيته‪ .‬تد ّ‬
‫ممسك بالمسدس ليس حارسا‪ .‬لكن الكلمات تفعل شيئا‬ ‫ال ُ‬
‫آخر أيضا‪ .‬تتقاطع مع الموقف كي تخلق شيئا لم يكن هناك‬
‫من قبل‪ ،‬شيئا ال يمكن التقاطه في النظرة التقليدية للغة‪،‬‬
‫شيئا يفيض عنها‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫عب َّ ُر عنه للقضيةة‬
‫م َ‬
‫يقول دولوز أن المعنى هو ال ُ‬
‫ة وضع األمور‪ 41.‬يمكننا أن نسال ماذا يفعل حين‬ ‫صف ُ‬
‫و ِ‬
‫يستخدم هذه المصطلحات؛ لكن يجب أن يظل في أذهاننا‬
‫س‪.‬‬‫ج ُّ‬
‫أن دولوز ال يمثل هنا‪ .‬إنه ي ِ‬

‫في قراءته لسبينوزا‪ ،‬يشدّد دولوز على أن الجوهر‬


‫ص‬
‫حين يتم التعبيرة عنه في الصفات واألحوال‪ ،‬فإنه يُمت َ ُّ‬
‫ة أو حاالً‪ ،‬بل أنه يكمن‬‫فيها‪ .‬وال يعني هذا أنه يصبح صف ً‬
‫فيها ‪ . inheres‬ال يوجد خارجها‪ .‬ليس متعاليا‪ .‬وتقدم لنا‬
‫ة على الكمون ‪ . inherence‬تكوين‬ ‫مناقشة العلم أمثل ً‬
‫‪ constitution‬المادة يسمح لها‪ ،‬تحت شروط بعيدةٍ عن‬
‫االتزان‪ ،‬بإظهار خصائص ساعةٍ كيميائية أو تشعُّب‪ .‬هذا‬
‫جانب من المادة يكمن فيها ويمكن‪ ،‬تحت‬ ‫ٌ‬ ‫التكوين هو‬
‫ط معينة‪ ،‬التعبيرة عنه‪ .‬لكن ال يمكن اشتقاقه من‬ ‫شرو ٍ‬
‫دراسة هوية المادة‪ .‬إنه جانب تفاضلي للمادة‪ .‬وهكذا‬
‫األمر مع المعنى‪ .‬يتم التعبيرة عن المعنى في قضايا؛ يكمن‬
‫فيها‪ .‬لكن ال يمكن اختزاله إلى خصائص القضية التي تعبِّر‬
‫عنه‪ .‬فهو مختلف في النوع عن القضية التي يكمن فيها‪.‬‬
‫حدث يحدث في القضية لكنه ليس القضية ذاتها‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫إنه‬
‫الكلمات "هذا سطوٌ مسلّح" تفعل أكثر مما يمكن أن‬
‫يخبرنا به أي تحليل لتلك القضية‪.‬‬

‫الجانب اآلخر من المعنى يواجه العالم؛ إنه صفة‬


‫األشياء أو أوضاع األمور ةة "رغم أن المعنى ال يوجد خارج‬
‫ة أوضاع األمور‬
‫القضية التي تعبر عنه‪ ،‬فإنه رغم ذلك صف ُ‬
‫ة القضية‪ .‬الحدث يحيا في اللغة‪ ،‬لكنه يحدث‬ ‫وليس صف َ‬

‫‪163‬‬
‫ل "هذا سطوٌ مسلّح‪ "،‬فيحدث شيءٌ‬
‫يعلن رج ٌ‬ ‫‪42‬‬
‫لألشياء‪".‬‬
‫للعالم‪.‬‬

‫حدث لألشياء؟ بالنسبةة لدولوز‪ ،‬يحدث‬


‫ٌ‬ ‫كيف يحدث‬
‫بواسطة األفعال‪ ،‬خصوصا األفعال في صيغة المصدر‪.‬‬
‫ة‪ ،‬خليطا من األشياء‪،‬‬
‫"‘أخضر’ ‘‪ ’Green‬تحدّد خاصي ً‬
‫خليطا من الشجرة والهواء الذي يتواجد فيه الكلوروفيل‬
‫مع كل أجزاء ورقة الشجر‪ .‬أما ‘يخضر’ ‘‪ ،’To green‬على‬
‫ة تقال عن‬ ‫ة في الشيء‪ ،‬بل صف ٌ‬ ‫العكس‪ ،‬فليست خاصي ً‬
‫‪43‬‬
‫الشيء‪".‬‬

‫يخضر ال تعني حدوث شيء في العالم يغيّره من‬ ‫ّ‬


‫يخضر ال تحشر نفسها‬ ‫ّ‬ ‫تال‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫وضع سابق لألمور إلى وضع‬
‫في النظام السببي لألشياء‪ .‬بذلك المعنى‪ ،‬تظل ضمن‬
‫نطاق القضية‪ .‬لكن بمعنى آخر‪ ،‬فإنها تحدث لألشياء‪.‬‬
‫تحدث لها عن طريق صيرورتها شيئا من خالل القضية‪.‬‬
‫يخضر‪ ،‬فإن جانبا من العالم ينفتح بطريقةٍ‬ ‫ّ‬ ‫حين تحدث‬
‫ب إليه شيءٌ يتجاوز النظام السببي لألشياء‪.‬‬ ‫س ُ‬
‫جديدة‪ ،‬يُن َ‬
‫وتعبر عن ذلك كلير كولبروك ‪ ، Claire Colebrook‬في‬
‫تعليقها على تحليل دولوز للمعنى‪ ،‬بالطريقة التالية‪:‬‬
‫أشرت إلى‬‫ُ‬ ‫ل الجسماني‪ :‬سواءً‬ ‫لتحو ٍ‬
‫ُّ‬ ‫"المعنى هو قوةٌ‬
‫ندوب’‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ح’‪ ،‬أو ‘به‬
‫الجسد الممزق (الفعلي) على أنه ‘مجرو ٌ‬
‫عاقب’ فسوف يغير ذلك ما هو عليه في وجوده‬ ‫ٌ‬ ‫م‬
‫أو ‘ ُ‬
‫حدث‪ ،‬يُنتج خطوطا‬ ‫ٌ‬ ‫الالجسماني أو االفتراضي‪ .‬المعنى‬
‫‪44‬‬
‫جديدة للصيرورة‪".‬‬

‫‪164‬‬
‫أال يقول دولوز شيئا بالغ البساطة هنا؟ أال يقول أننا‬
‫حين نستخدم كلمة "أخضر" نجعل العالم يبدو بطريقةٍ‬
‫معينة للناس الذين يستمعون إلينا؟ حين أقول "ورقة‬
‫ة لشيءٍ في‬ ‫أنسب ببساطة خاصي ً‬
‫ُ‬ ‫الشجر خضراء"‪ ،‬أال‬
‫كلمات تشير إلى العالم؟‬
‫ٍ‬ ‫مبديا نفسي في‬‫العالم‪ُ ،‬‬

‫هذا الجانب من أخضر هو ما يتحدث عنه دولوز حين‬


‫ة‪ .‬ال ينكر أن هذا يحدث‪ .‬يحدث‬ ‫يقول أن أخضر تحدّد خاصي ً‬
‫صر على أن شيئا آخر‬ ‫في النظام التمثيلي لألشياء‪ .‬لكنه ي ُ ّ‬
‫يحدث أيضا‪ ،‬شيئا يفلت من ذلك النظام التمثيلي لكنه‬
‫واقعي بنفس قدر واقعية ذلك النظام‪" .‬الفعل له قطبان‪:‬‬ ‫ٌ‬
‫بوضع لألمور يمكن اإلشارة إليه‬‫ٍ‬ ‫الحاضر الذي يُبيّن عالقته‬
‫لزمن فيزيائي يتميز بالتتابع؛ والمصدر‪ ،‬الذي يبين‬ ‫ٍ‬ ‫بالنظر‬
‫عالقته بالمعنى أو الحدث بالنظر إلى الزمن الداخلي الذي‬
‫يخضر‪ ،‬يكون سطوا مسلحا‪ ،‬يعني توجيه األجساد‬ ‫ّ‬
‫‪45‬‬
‫يُغلِّفه‪".‬‬
‫ط جديدة لالشتباك بين األشياء‪،‬‬ ‫بطرق معينة‪ ،‬خلقَ خطو ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ل من المرء‬ ‫قطعَ مسارٍ خالل العالم‪ ،‬مسارٍ يتأثر فيه ك ٌ‬
‫نطاق‬
‫ِ‬ ‫والعالم‪ .‬ليستة مسألة تمثيل بل حدثا يحدث ضمن‬
‫وكذلك من خالل اللغة‪ ،‬عند نقطة تقاطعها مع العالم‪.‬‬

‫سم‬
‫قد يبدو هذا مثل برجسون‪ .‬ويجب أن يبدو‪ .‬فقد ق َّ‬
‫برجسون بدوره الزمن إلى نمطين‪ ،‬زمن تتابع اللحظات‬
‫والزمن الداخلي للة ‪ durée‬أو الديمومة‪ .‬الديمومة‬
‫افتراضية؛ تكمن في زمن التتابع كما تجعله ينشأ‪ .‬والمصدر‬
‫يخضر ‪ to green‬ال تُحوِّل‬
‫ّ‬ ‫يفعل نفس الشيء تقريبا‪.‬‬
‫جزءا من العالم إلى أخضر‪ .‬كما أنها ال تشير إلى الخضرة‬
‫ة‬
‫ة مفروض ً‬ ‫الموجودة فعال لجزءٍ من العالم‪ .‬ليست ال لغ ً‬

‫‪165‬‬
‫ة تعكس أو تمثل الطريقة التي عليها‬ ‫على العالم وال لغ ً‬
‫العالم فعال‪ .‬إنها بدال من ذلك نقطة التقاءٍ للغة وللعالم‬
‫(لكن من جانب اللغة‪ ،‬من جانب القضية)‪ ،‬النقطة التي‬
‫يخضر تشير إلى ٍ‬
‫كل من‬ ‫ّ‬ ‫عندها يحدث شيءٌ لكليهما‪.‬‬
‫ث اللغةِ بخضرة‪ .‬إنها‬‫صيرورة جزءٍ من العالم أخضر وتحد ُّ ُ‬
‫انبثاقهما المشترك‪ .‬الحدث يحيا في اللغة‪ ،‬لكنه‬
‫يحدث لألشياء‪.‬‬

‫ل التناظر‪.‬‬‫المعنى هو المفهوم الذي يُحلّه دولوز مح َ‬


‫ض وجود تالؤم بين كلماتنا وبين العالم‬
‫في التمثيل‪ ،‬يُفتر ُ‬
‫الذي تمثله‪ .‬وتكمن الصعوبةة في القول بماهية هذا التالؤم‪.‬‬
‫أي‬
‫وكما رأينا‪ ،‬فإن التالؤم‪ ،‬التناظر‪ ،‬ال يمكن تفسيره في ٍ‬
‫من األبعاد الثالثة للغة التمثيلية‪ .‬التناظر هو ما يُفترض أنه‬
‫يوضح اإلشارة‪ ،‬وال يمكن توضيحها بواسطة التبدي وال‬
‫الداللة‪ .‬واقتراح دولوز هو أن ما يحدث بين القضايا وبين‬
‫األشياء إما أنه ليس حقا أو على األقل ليس فقط نوعا من‬
‫نوع‬
‫ٍ‬ ‫ض عن أي‬ ‫التالؤم أو التناظر‪ .‬ما يحدث هو شيءٌ يفي ُ‬
‫كل من العالم والقضايا دون‬ ‫من التناظر‪ ،‬شيءٌ يُشير إلى ٍ‬
‫أي من هويات التمثيل أو الصورة‬ ‫أن يقبل االختزال إلى ٍ‬
‫الدوجمائية للعالم‪.‬‬

‫لهذا السبب‪ ،‬يقول دولوز أن المعنى ينطوي على‬


‫مفارقة ‪ . paradoxical‬ويجب أن نفهم مصطلح ينطوي‬
‫‪46‬‬
‫على مفارقة ‪ paradoxical‬بطريقتين على األقل‪.‬‬
‫أوالً‪ ،‬أن المفارقة تتضاد مع الدوكسا ‪ .doxa‬لنتذكرة أن‬
‫الدوكسا هي االعتقاد الشائع‪ .‬إنها ما يعرفه الجميع‪.‬‬
‫"المفارقة تتعارض مع الدوكسا‪ ،‬في ٍ‬
‫كل من جانبي‬

‫‪166‬‬
‫‪47‬‬
‫الدوكسا‪ ،‬أي‪ ،‬الحس السليمة والحس المشترك‪".‬‬
‫وحيث تمنحنا الدوكسا كيانات مستقرة خارجا ً في العالم‬
‫ملكات متميزة لكنها متالقية‪ ،‬تشير المفارقة إلى‬‫ٍ‬ ‫تُناظر‬
‫الطابع غير المستقر لعالقة اللغة والعالم‪ .‬ما يحدث بين‬
‫حدث معقدٍ‬
‫ٍ‬ ‫ب بل‬‫مرت َّ ٍ‬
‫اللغة والعالم ليس مجرد تالؤم ٍ ُ‬
‫باألحرى‪ ،‬حدث يجري شحذه فيما بعد إلى شيءٍ ناعم‬
‫بواسطة الصورة الدوجمائية للفكر‪.‬‬

‫ثانيا‪ ،‬تشير المفارقة في اتجاهين في نفس الوقت‪ .‬إذ‬


‫تشير باتجاه القضية التي تحيا فيها وكذلك باتجاه العالم‬
‫ة له‪ .‬لكن هذه اإلشارة في اتجاهين في نفس‬ ‫التي هي صف ٌ‬
‫الوقت ليست مثل سهم مزدوج يمكن أن يشير في نفس‬
‫الوقت إلى الشرق وإلى الغرب‪ .‬فالشرق والغرب كالهما‬
‫اتجاهات في الفضاء‪ .‬هما من نفس النوع‪ ،‬من نفس الفئة‪.‬‬
‫واإلشارة إلى الشرق هي مجرد نقيض اإلشارة إلى الغرب‪.‬‬

‫لكن اللغة والعالم ليسا متماثلين هكذا‪ .‬وحده التمثيل‪،‬‬


‫الذي يود أن يمتلك مفهوما للتناظر‪ ،‬هو الذي يريد أن يعثر‬
‫على لحظة التماثل بين االثنين‪ .‬المفارقة تشير في‬
‫اتجاهين في نفس الوقت‪ ،‬لكن األشياء التي تشير إليها‬
‫م المعنى‪،‬‬ ‫ذات طبيعةٍة متباعدة‪ .‬ال يمكن أن يأخذ المرءُ سه َ‬
‫ويزيحه من القضية‪ ،‬ويضعه في العالم‪ ،‬ثم يشير مرة‬
‫أخرى تجاه اللغة‪ .‬المفارقة تتضمن الجمع بين عناصر‬
‫تقارب ال يختزل عنصرا إلى اآلخر كما ال يبقيها‬
‫ٍ‬ ‫متنافرةٍ في‬
‫بعيدةً عن بعضها‪ .‬هذا الالتماثل بين اللغة والعالم يشير‬
‫باتجاه شيءٍ أعمق من المعنى‪ ،‬شيءٍ يسميه دولوز الال‬
‫معنى ‪. nonsense‬‬

‫‪167‬‬
‫‪X‬‬

‫سه دولوز بمفهوم الالمعنى يجب أوال ً‬ ‫لندرك ما يج ّ‬


‫أن نفهم شيئا عن النظرية البنيوية للغة التي طوّرها‬
‫اللغوي السويسري فردينان دو سوسير ‪Ferdinand de‬‬
‫‪ . Saussure‬والكتاب المأخوذ عن محاضرات سوسير‪،‬‬
‫والمترجم إلى اإلنجليزية بعنوان محاضرات في علم‬
‫اللغة العام ‪، Course in General Linguistics‬‬
‫‪48‬‬

‫نص لغوي أثر على الفلسفةة الفرنسية في‬ ‫ٍ‬ ‫أكثر‬


‫ُ‬ ‫هو بال شك‬
‫القرن العشرين‪ .‬وتدين ك ٌ‬
‫ل من البنيوية األنثروبولوجية‬
‫لكلود ليةﭭةي ة شتراوس‪ ،‬والتحليلة النفسي لةﭼاك الكان‪،‬‬
‫وماركسية لوي ألتوسير‪ ،‬وتفكيك ديريدا بديون عميقة‬
‫لسوسير‪ .‬وفي كتاب منطق المعنى‪ ،‬ال يناقش دولوز‬
‫لغويات سوسير بعمق‪ 49.‬ورغم ذلك‪ ،‬فإن لغويات سوسير‬
‫حاضرة ٌ في الخلفية‪ ،‬مثلما هي بالنسبة لكل مفكر فرنسي‬
‫من جيل دولوز‪.‬‬

‫كل من معناها‬
‫يرى سوسير أن بنية اللغة‪ ،‬في ٍ‬
‫اختالفات ال عناصر‪" :‬في اللغة هناك‬
‫ٍ‬ ‫وصوتياتها‪ ،‬هي مسألة‬
‫أطراف إيجابية‪ 50".‬وتقدم‬
‫ٍ‬ ‫اختالفات فقط دون‬
‫ٌ‬
‫ة‪ .‬لنفترض أنني أريد أن‬
‫الصوتيات المثال األشد استقام ً‬
‫‪168‬‬
‫ميه‬‫أنطق الصوت المناظر للحرف ب‪ .‬ويمكننا أن نس ّ‬
‫علي أن أصدره‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ٌ‬
‫مضبوط‬ ‫صوت‬
‫ٌ‬ ‫الصوت ف ب‪ .‬ليس هناك‬
‫فما يمنح الخاصية الصوتية للصوتة ة ب ليس الصوت‬
‫نفسه بل اختالفه عن األصوات المحيطة المماثلة‪ ،‬مثال‬
‫أصوات ة د وأصوات ة ت‪ .‬التضاد بين األصوات وليس‬
‫األصوات ذاتها هو ما يمنح الوحدات الصوتية [الفونيمات]‬
‫مكانها الصوتي الخاص في اللغة‪.‬‬

‫ولو كانت األطراف اإليجابية ةة األصوات ذاتها ةة وليس‬


‫االختالفات فيما بينها هي ما يمنح األصوات مكانها الصوتي‪،‬‬
‫لما كنا استطعنا أبدا أن نفهم الناس ذوي اللهجات‬
‫المختلفة أو طرق التحدث المختلفة‪ .‬وهذا ألن الناس ذوي‬
‫اللهجات المختلفة يتحدثون األصوات بطرق مختلفة‪.‬‬
‫(وغالبا ما يصدق هذا بوجه خاص على الحروف المتحركة‪).‬‬
‫ل شخص األصوات باختالف‬ ‫وفي الحقيقة‪ ،‬يتحدث ك ُ‬
‫مناظر‪ ،‬مثال‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫صوت مضبوط‬
‫ٍ‬ ‫طفيف‪ .‬ولذا لو كان البد من‬
‫للصوت ة ب‪ ،‬لما فهمه أحد ٌ تقريبا‪ .‬وبدال من ذلك‪ ،‬يمكن‬
‫لمجال من األصوات المختلفة أن يندرج تحت فئة الصوت ة‬ ‫ٍ‬
‫ب‪ .‬وما يحد ُّ هذا المجال هو مجال الحروف األخرى التي‬
‫تتضاد معه‪ ،‬مثل أصوات ة ت وأصوات ة د‪.‬‬

‫هذا النسق التفاضلي ينطبق أيضا على معاني‬


‫الكلمات‪ .‬فمعنى كلمة ‪ tree‬شجرة ليس مفهوما نوعيا‬
‫أي شجرةٍ بعينها هناك خارجا‪ ،‬بل دور الكلمة‬
‫في ذهني وال َ‬
‫في اللغة‪ ،‬خصوصا في تضاد مع كلمات أخرى مثل ‪bush‬‬
‫شجيرة‪ shrub ،‬جنَبَة‪ plant ،‬نبتة‪ ،‬إلى آخره‪ .‬ولو لم‬
‫توجد كلمات مثل هذه في اإلنجليزية [العربية]‪ ،‬لكان‬

‫‪169‬‬
‫دور مختلف لتلعبه‪ .‬وهكذا‪ ،‬كما يقول‬
‫ٌ‬ ‫لكلمة شجرة‬
‫سوسير‪ ،‬فإن معنى أي كلمةٍ في لغةٍ يتحدد بدورها في تلك‬
‫اللغة‪ ،‬ودورها يتحدد باالختالفات بينها وبين الكلمات‬
‫األخرى‪.‬‬

‫مركّب‬ ‫ة بالعالم‪ ،‬سيكون لدينا وضع ُ‬ ‫واآلن لو ربطنا اللغ َ‬


‫يتضمن مجموعتين (أو ما يسميه دولوز سلسلتين‬
‫‪ ) series‬من االختالفات‪ .‬من جهة‪ ،‬فإن الوجود هو‬
‫اختالف افتراضي يقع تحت‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫اختالف‪ .‬العالم ينشأ من تفعيلة‬
‫ويسكن‪ ،‬ذلك التفعيل‪ .‬وقد علّمنا هذا عل ُ‬
‫م مونوه‬
‫وﭘريجوﭼين‪ ،‬وكذلك تأمالت برجسون ونيتشه‪ .‬ومن جهة‬
‫كنسق‬
‫ٍ‬ ‫ثانية‪ ،‬فإن اللغة هي نسقٌ من االختالفات‪ .‬توجد ال‬
‫ل منها له هويته‪ .‬بل تتحدد‬ ‫من العناصر اإليجابية‪ ،‬ك ٌ‬
‫سها لكن ال‬ ‫ج ُّ‬
‫باالختالفات التي‪ ،‬مثل اختالف الوجود‪ ،‬يمكن َ‬
‫يمكن إدراجها تحت مقوالت تمثيلية‪ .‬التحدث‪ ،‬إذن‪ ،‬يعني‬
‫جعل سلسلتين من االختالفات تتالمسان‪:‬ة الوجود واللغة‪.‬‬

‫بالنسبةة لدولوز‪ ،‬فإن هذا التالمس بين سلسلتينة من‬


‫أنواع معينةة من عناصر المفارقة‬
‫ٍ‬ ‫االختالفات يتضمن وجود‬
‫آن واحد‪.‬‬
‫ألي منهما في ٍ‬
‫ٍ‬ ‫التي تنتمي لكلتا االثنتين وال تنتمي‬
‫"تتقارب السلسلتان المتنافرتان باتجاه عنصرة مفارقةٍ‪ ،‬هو‬
‫مفاض ُ‬
‫ل" بينهما‪ . . . .‬هذا العنصر ال ينتمي إلى أي‬ ‫"ال ُ‬
‫آن‬
‫سلسلة؛ أو باألحرى‪ ،‬ينتمي إلى كلتا السلسلتينة في ٍ‬
‫واحد وال يكف أبدا ً عن الدوران بينهما‪ 51".‬عنصرة المفارقة‬
‫آن من اللغة وليس من اللغة‪،‬‬ ‫هذا‪ ،‬العنصر الذي هو في ٍ‬
‫من العالم وليس من العالم‪ ،‬هو الالمعنى‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫دور الالمعنى أن "يَعبُرة السالس َ‬
‫ل المتنافرة‪ ،‬أن يجعلها‬
‫فرعها وأن يُدخل في كل‬ ‫ترن وتتالقى‪ ،‬لكن أيضا أن ي ُ ِّ‬
‫واحدةٍ منها انقطاعات متعددة‪ .‬إنه كلمة = س وشيء =‬
‫س‪ 52".‬ولرؤية ما هو هذا الدور‪ ،‬غالبا ما يلجأ دولوز إلى‬
‫لويس كارول ‪ . Lewis Carroll‬وهنا تبادل للحديث بين‬
‫آليس وبين الفارس األحمر من من خالل المرآة‬
‫‪: Through the Looking Glass‬‬

‫"اسم األغنية يُدعى ‘عيون هادوكس‪" ’.‬‬


‫"آه‪ ،‬هذا هو اسم األغنية‪ ،‬أليس كذلك؟" قالت آليس‪،‬‬
‫ة الشعور باالهتمام‪.‬‬‫محاول ً‬
‫"ال‪ ،‬أنت ال تفهمين‪ "،‬قال الفارس‪ ،‬وبدا متضايقا بعض‬
‫الشيء‪" .‬هذا ما يُدعى اسم األغنية‪ .‬األسم هو حقا‬
‫‘’الرجل العجوز‪ ،‬العجوز’‪".‬‬
‫"إذن كان يجب أن أقول‪" ،‬هكذا تُدعى األغنية؟" صححت‬
‫آليس نفسها‪.‬‬
‫"ال‪ ،‬ما كان يجب أن تقولي‪ :‬هذا شيءٌ آخر تماما! األغنيةف‬
‫تُدعى ‘ طُ ُرقٌ ووسائل’‪ :‬لكن هذا ما تُدعى فقط‪ ،‬كما‬
‫تعلمين!"‬
‫"حسنا‪ ،‬ما هي األغنية‪ ،‬إذن؟" قالت آليس‪ ،‬التي كانت قد‬
‫‪53‬‬
‫تحيّرت تماما عند هذا الحد‪".‬‬

‫هنا‪ ،‬بالطبع‪ ،‬يغني الفارس األحمر األغنية‪ .‬ألن هذا ما‬


‫تكونه األغنية‪.‬‬
‫في هذا التبادل للحديث‪ ،‬تمضي الحركة مما يُدعى‬
‫م األغنية‪ ،‬إلى ما تُدعى‬ ‫اسم األغنية إلى ما يكون اس ُ‬
‫األغنية ذاتها‪ ،‬إلى ما تكونه األغنية‪ .‬وفي هذه اإلزاحة‪ ،‬تبدأ‬
‫ل من اللغة‬ ‫فكرة االسم في القيام بواجب ة مزدوج‪ .‬إنها ك ٌ‬
‫والعالم‪ ،‬بمعنى أنها ما يقوم باإلحالة وما يُحا ُ‬
‫ل إليه‪ 54.‬إنها‬
‫‪171‬‬
‫ل من اللغة وموضوع اللغة‪ .‬وفي هذه الحالة‪ ،‬بالطبع‪،‬‬ ‫ك ٌ‬
‫ة‬ ‫فإن ما يقوم باإلحالة وما يُحا ُ‬
‫ل إليه هما االثنان قطع ٌ‬
‫م‪ .‬وهنا ينشأ الالمعنى‪ .‬فالالمعنى هو‬ ‫واحدة من اللغة‪ ،‬إس ٌ‬
‫عنصر مفارقةٍ يقوم‪ ،‬في هذه الحالة‪" ،‬بتفريع" السلسلةة‬ ‫ُ‬
‫مما يُدعى اسم األغنية إلى اسم األغنية‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫تنشر كتابات لويس كارول هذه األشكال من الالمعنى‪.‬‬


‫وهذا االنتشار‪ ،‬بالنسبةة لدولوز‪ ،‬ليس مجرد لعبة يمكن لعبها‬
‫على هوامش اللغة‪ .‬بل تشير إلى شيءٍ جوهري بصدد‬
‫اللغة ذاتها‪ .‬فالالمعنى هو ما يتيح للغة وللعالم أن يجتمعا‪.‬‬
‫فقط ألنه يمكن وجود عناصر المفارقة هذه التي تجمع‬
‫اللغة والعالم معا كما تجعلهما منفصلين يمكن وجود معنى‬
‫لغوي على اإلطالق‪ .‬وبدون هذه المفارقة‪ ،‬لن يوجد سوى‬
‫الال ة تواصل بين هاتين السلسلتين‪ ،‬لن يوجد سوى صمت‬
‫بينهما‪.‬‬

‫مجال االختالف الذي هو العالم ومجال االختالف الذي‬


‫هو اللغة يجمع بينهما ويبقيهما منفصلينة الالمعنى‪ ،‬وهو‬
‫مي دولوز عنصرة‬‫عنصر مفارقةٍ "يَعبُر"هما‪ .‬وأحيانا ما يُس ّ‬
‫المفارقة هذا‪ ،‬هذا الالمعنى‪ ،‬باسم "المربع الفارغ"‪ .‬وفضال‬
‫عن ذلك‪ ،‬فعلى أساس الالمعنى فقط يمكن أن ينشأ‬
‫المعنى‪.‬‬

‫المؤلفون الذين تُشير إليهم الممارسة الحديثة على أنهم‬


‫ة جوهرية مشتركة سوى‬ ‫"بنيويون" قد ال تكون بينهم نقط ٌ‬
‫هذه‪ :‬المعنى‪ ،‬منظورا إليه ال على أنه تبدٍ على اإلطالق بل‬
‫ج عن دوران المربع‬ ‫سطح وتأثير موقع‪ ،‬وينت ُ‬
‫ٍ‬ ‫تأثير‬
‫ُ‬ ‫على أنه‬
‫الفارغ في السالسل البنيوية ‪ . . .‬بهذه الطريقة تُبيّن البنيوية‬
‫‪172‬‬
‫أن المعنى ينتج بواسطة الالمعنى وإزاحته الدائمة‪ ،‬وأنه يولد‬
‫من المواقع المتتالية للعناصر التي ليست في ذاتها "دالة‪".‬‬
‫‪55‬‬

‫ما هي‪ ،‬إذن‪ ،‬العالقة بين المعنى والالمعنى؟ة المعنى‬


‫ة‬‫هو عنصرة المفارقة الذي يكمن في القضية لكنه صف ُ‬
‫األشياء‪ ،‬والالمعنى هو عنصر المفارقة الذي يدور بين اللغة‬
‫واألشياء ويجمع بينهما‪ .‬المعنى هو "بالضبط التخوم بين‬
‫القضايا وبين األشياء‪ ".‬لكن أليس هذا هو الالمعنى؟ وإذا‬
‫كان األمر كذلك‪ ،‬ما االختالف بينهما؟‬

‫المعنى ينتج بواسطة الالمعنى‪ .‬وإلدراك هذه الفكرة‪،‬‬


‫نحتاج إلى أن يظل في أذهاننا أن الالمعنى ليس شيئا‪.‬‬
‫عنصر ليس‬
‫ٌة‬ ‫ولو كان عنصرا‪ ،‬كما يدعوه دولوز أحيانا‪ ،‬فإنه‬
‫شيئا معينا بل مفارقة‪ .‬وما يمنح طابع الالمعنى للمقطع‬
‫عن األسماء من من خالل المرآة أن األسماء من‪،‬‬
‫وكذلك ليست من‪ ،‬سلسلة اللغة‪ .‬إنها دالة وكذلك مدلولة‪.‬‬
‫ومن حركة هذه المفارقة ينشأ المعنى‪ ،‬ال كشيءٍ ينبثق عن‬
‫شيء آخر‪ ،‬بل كتأثير للحركة ذاتها‪" .‬باختصار‪ ،‬فإن المعنى‬
‫تأثير‪ .‬وليس تأثيرا بالمعنى السببي فقط؛ فهو‬ ‫ٌ‬ ‫هو دائما‬
‫تأثير بمعنى ‘تأثير بصري’ أو ‘تأثير صوتي’‪ ،‬أو‪،‬‬‫ٌ‬ ‫أيضا‬
‫‪56‬‬
‫موقع‪ ،‬وتأثير لغةٍ‪".‬‬
‫ٍ‬ ‫سطح‪ ،‬تأثير‬
‫ٍ‬ ‫باألحرى‪ ،‬تأثير‬

‫ألن هناك المعنى‪ ،‬ألن شيئا يمكن أن يجمع بين‬


‫السلسلةة التي هي الوجود (أو العالم) والسلسلةة التي هي‬
‫اللغة ويدور بينهما وخاللهما‪ ،‬يمكن أن يوجد المعنى‪.‬‬
‫المعنى هو تأثير لالمعنى‪ :‬يتسبب فيه هذا الجمع معا وينشأ‬
‫صوتي أو تأثيرٍ بصري ألنه ال‬
‫ٍ‬ ‫على سطحه‪ .‬إنه مثل تأثير‬
‫ج عن الالمعنى بأي معنى سببي تقليدي‪ .‬ليس مثل‬ ‫ينت ُ‬
‫‪173‬‬
‫ج حين تصطدم كرة ٌ بكرة‪ .‬المعني‬ ‫الصوت الذي ينت ُ‬
‫الجسماني؛ ليس مغروسا في النظام السببي لألشياء‬
‫المادية‪ .‬التأثيرات الضوئية والتأثيرات الصوتية تحدث حين‬
‫تنبثق طريقة معينةة للرؤية أو للسمع من ترتيبة ضوئية أو‬
‫صوتية‪ .‬وما تسمى أوهاما بصرية تشبه هذا‪ .‬إرسم منظومة‬
‫معينة على الورق وسوف ترى العيون شيئا أكثر مما هو‬
‫مرسوم‪ .‬وال يتعلق هذا فقط بالخطوط على الورق‪ ،‬وال‬
‫بالعيون‪ ،‬بل بما يحدث بينهما‪ ،‬بما يمكن أن يسميه دولوز‬
‫المعنى معينا يدور في تفاعلهما‪.‬‬
‫ً‬

‫واألمر كذلك مع المعنى‪ .‬الالمعنى يدور بين وداخل‬


‫اختالفات اللغة والعالم‪ .‬وفي هذا الدوران‪ ،‬تقدم اللغة‬
‫ة"‪. proposed‬‬ ‫مقتَرح ً‬
‫والعالم طرقا معينة ألن تكون " ُ‬
‫و"القضية"‪ ، proposition‬التي هي ما له معنى‪ ،‬هي‬
‫تأثير لذلك الدوران وكذلك‬
‫ٌ‬ ‫مقت َ َرحين‪ .‬إنها‬
‫طريقة ألن يكونا ُ‬
‫ح ضمن اللغة للعالم‪.‬‬ ‫اقترا ٌ‬

‫‪XI‬‬

‫أقول‪" ،‬ورقة الشجر خضراء‪ ".‬هذه قضية‪ .‬ثمة معنى‬


‫ض ُّر ‪ to green‬لورقة‬ ‫لهذه القضية‪ .‬يكمن في الة تخ َ‬
‫منسوب للعالم‪.‬‬
‫ٌة‬ ‫الشجر‪ .‬الة تخضر يكمن في القضية‪ ،‬لكنه‬
‫الة يخضر ليس إشارةً‪ ،‬وال تبديا‪ ،‬وال داللة‪ .‬إنه ما تنشأ عنه‬
‫اإلشارة في "ورقة الشجر خضراء"؛ يظل افتراضيا في‬
‫تلك اإلشارة؛ لكن ال يمكن اإلشارة إليه هو ذاته‪.‬‬
‫‪174‬‬
‫كيف يمكن أن يوجد المعنى؟ كيف يمكن أن يكون‬
‫لقضيةٍ معنى؟ يمكن أن يكون لها معنى ألن سلسلة‬
‫االختالفات التي هي العالم وسلسلة االختالفات التي هي‬
‫اللغة يمكن الجمع بينهما بواسطة عنصرة مفارقةٍ يجعلهما‬
‫تتقاربان وتتباعدان في آن‪ .‬يحدث المعنى على أساس هذا‬
‫التقارب والتباعد‪ .‬والمعنى‪ ،‬بدوره‪ ،‬يحفز كلماتنا فيما وراء‬
‫ةة وفي داخل ةة إشارتها‪ ،‬وتبديها‪ ،‬وداللتها‪ ،‬جاعال شيئا‬
‫يحدث لنا وللعالم‪ .‬مثلما أن العالم ليس خامال‪ ،‬ليس مجرد‬
‫مسألة هويات‪ ،‬فإن اللغة أيضا ليست خاملة‪ ،‬ليست مجرد‬
‫مسألة تمثيل‪.‬‬

‫اللغة دائما أكثر من كونها لغة‪ .‬أو باألحرى‪ ،‬اللغة دائما‬


‫ة في‬‫أكثر من تمثيل‪ .‬إنها تفيض إلى العالم‪ .‬إنها منسوج ٌ‬
‫العالم كي تستطيع القيام بوظيفة التمثيل‪ .‬وهذا النسج‬
‫يتطلب مفارقات‪ ،‬مفارقات للمعنى والالمعنى تفلت من‬
‫قبضة اللغة‪" .‬اللغة هي التي تثبِّت الحدود (اللحظة التي‬
‫يبدأ فيها اإلفراط‪ ،‬مثال)‪ ،‬لكن اللغة أيضا هي التي تتجاوز‬
‫الحدود وتعيدها إلى التكافؤ الالنهائي لصيرورةٍ المحدودة‪".‬‬
‫‪57‬‬

‫س ما‬
‫توكيد اللغة‪ ،‬إذن‪ ،‬يعني توكيد الصيرورة‪ .‬يعني ج َّ‬
‫يتجاوز التمثيل في اللغة‪ .‬يعني التعرف على عناصر‬
‫المفارقة التي هي خاصيتها االفتراضية‪ ،‬والتي توجد دوما‬
‫في أي فعل تمثيل‪ .‬مهما رأينا‪ ،‬ومهما قلنا‪ ،‬ثمة ما هو أكثر‪،‬‬
‫دائما أكثر‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫‪XII‬‬

‫ي العالقات الذي يؤسس‬ ‫أن نتعلم يعني أن ندخُل إلى كل ّ ِ‬


‫الفكرة‪ ،‬وإلى تفرداتها المناظِرة‪ .‬ففكرةة البحر‪ ،‬مثال‪ ،‬كما‬
‫بيّن ليبنيتز‪ ،‬هي نسقٌ من االرتباطات أو العالقات التفاضلية‬
‫وتفردات تُناظر درجات التغير بين تلك العالقات‬‫ُّ‬ ‫جزئيات‬
‫ٍة‬ ‫بين‬
‫سد مجمل النسق في الحركة الواقعية لألمواج‪ .‬أن‬ ‫ةة ويتج ّ‬
‫نتعلّم السباحة يعني أن نزاوج النقاط المختلفة ألجسامنا مع‬
‫المتفردةة للفكرة الموضوعية كي نشكِّل مجاال ً‬
‫ِّ‬ ‫النقاط‬
‫‪58‬‬
‫إشكاليا‪.‬‬

‫م يتكون التعلُّم؟ة ها هي نظرةٌ تقليدية‪ :‬التعلم هو‬


‫م ّ‬
‫ص آخر‪ .‬يبدو هذا‬‫مسألة استظهار شيءٍ يعرفه شخ ٌ‬
‫تبسيطيا‪ ،‬لو صغنا األمر على هذا النحو‪ .‬لكن من منا لم‬
‫يحضر المدرسة الثانوية والكليةة ولم يتم إخضاعه لهذه‬
‫النظرة للتعلم؟ة معلِّم‪ ،‬أو أستاذ‪ ،‬يقف أمام الفصل‪ ،‬وفي‬
‫يده الطباشير أو اللوحات الشفافة‪ .‬هناك أشياءٌ تحتاج‬
‫إلى تعلّمها‪ ،‬بنودٌ تحتاج إلى معرفتها‪ .‬وقبل أن تنتهي فترة‬
‫الفصل‪ ،‬سيتم نقل هذه األشياء من مالحظات محاضرة‬
‫المعلم‪ ،‬أو من اللوحات الشفافة لألستاذ‪ ،‬إلى كراستك‪.‬‬
‫ومن هناك سيتم نقل هذه األشياء إلى مخّك‪ .‬وحين تكون‬
‫ة‪ ،‬سيقال أنك قد تعلّمت ما على‬ ‫عمليات النقل هذه ناجح ً‬
‫المعلم‪ ،‬أو األستاذ‪ ،‬أن يعلّمه لك‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫ج هزيل للتعلم‪ .‬وهو أيضا أكثر النماذج شيوعا‪.‬‬‫إنه نموذ ٌ‬
‫ج يعمل على أساس بعض االفتراضات السطحية‬ ‫إنه نموذ ٌ‬
‫وافتراض أعمق قليال‪ .‬افتراضاته السطحية هي‪ ،‬أوالً‪ ،‬أن‬
‫ٍ‬
‫موضوع وأنت ال‬
‫ٍ‬ ‫المعلم يعرف ما يجب معرفته بصدد‬
‫تعرف‪ .‬ثانياً‪ ،‬هناك افتراض أن طريقة تعلّمك لما يعرفه‬
‫جل في الذاكرة ما عليه‬‫المعلم هي أن تستمع للمعلم وتس ّ‬
‫أو عليها أن يقوله‪ .‬وأخيرا‪ ،‬على جانب المعلم‪ ،‬هناك‬
‫افتراض أن المعلم‪ ،‬بالتحدث أو باستخدام وسائل أخرى‬
‫تحل محل التحدث‪ ،‬يمكنه أن ينقل إلى الطالب ما يجب‬
‫معرفته‪.‬‬

‫أما االفتراض األعمق قليال فيتعلق بالصورة الدوجمائية‬


‫ه يأتي في رزم ٍ‬ ‫للفكر‪ .‬إنه افتراض أن ما يجب تعلّم ُ‬
‫منفصلة من الهويات‪ .‬هناك أشياءٌ معين ٌة‬
‫ة نحتاج إلى‬
‫ة ببعضها البعض أو‬ ‫معرفتها‪ .‬وهذه األشياء قد تكون مرتبط ً‬
‫ال تكون‪ .‬وفي كلتا الحالتين‪ ،‬فإنها مستقلةة بما يكفي عن‬
‫بعضها البعض لعزل كل واحدٍ في جملة‪ ،‬أو فقرة‪ ،‬أو فصل‪.‬‬
‫هذه األشياء يجري عندئذ تمثيلها بالعبارات التي يتحدثها‬
‫المعلم أو األستاذ‪ ،‬ثم تصل إلى أذنك أو إلى ورقتك‪ .‬وإذا‬
‫ألي‬
‫ٍ‬ ‫تحوير‪ ،‬وال ضرر‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫كان التعلّم ناجحاً‪ ،‬فلن يكون هناك‬
‫من هذه األشياء عبر الطريق‪ .‬ستحافظ هوياتها على‬
‫تكاملها‪ .‬وإذا قمت بعملِك ستتمكن من تكرار أو التالعب‬
‫بهذه الهويات حين يحين وقت االمتحان‪.‬‬

‫وهناك رؤية أخرى للتعلُّم ال تبدأ بافتراض أن ما يجب‬


‫تعلّمه له خاصية هوية أو مجموعة من الهويات‪ .‬بل تبدأ بدال‬
‫من ذلك من افتراض أن ما يجب تعلّمه له خاصية االختالف‬

‫‪177‬‬
‫وليس الهوية‪ .‬وإذا لم يكن لما يجب تعلُّمه خاصية الهوية‪،‬‬
‫فليس التعلّم ذاته مشروعا لنقل الهويات من العارف إلى‬
‫من يسعى إلى المعرفة‪ .‬إنه بدال من ذلك مشروعٌ‬
‫للتجريب‪.‬‬

‫السبّاحون ال يتعلمون حقائق عن الماء وعن أجسادهم‬


‫ثم يطبّقونها على الحالة السانحة‪ .‬الماء وأجسادهم حشود ٌ‬
‫من االختالفات‪ .‬ولكي يُبحروا بأجسادهم خالل الماء‬
‫سيحتاجون إلى اكتساب مهارة‪ :‬أن "يزاوجوا" أجسادهم‬
‫بالماء بحيث يبقون على السطح‪ .‬هذه المهارة ال تتطلب‬
‫استظهارا‪ .‬بل تتطلب انغماسا‪ ،‬عثورا على طريق المرء‬
‫صال من خالل جسد المرء إلى فهم ما‬ ‫خالل األشياء‪ ،‬تو ُّ‬
‫ة واحدة لعمل هذا‪ ،‬وقد‬ ‫يقدر عليه في الماء‪ .‬ال توجد طريق ٌ‬
‫أنواع مختلفة من النجاح‪ .‬وهناك‬‫ٍ‬ ‫تقود الطرقُ المختلفةة إلى‬
‫فشل أيضا؛ قد يكون الماء مكوّنا من اختالفات‪،‬‬‫ٍ‬ ‫حاالت‬
‫لكن ليس كل مسار خالل تلك االختالفات سيُبقي المرءَ‬
‫طافيا‪.‬‬

‫دربون أنفسهم على الماء‪ .‬يستشعرون‬ ‫السبّاحون ي ُ ِّ‬


‫الماء‪ ،‬يستشعرون كيف يتحرك وما اإلمكانيات التي يقدمها‬
‫لهم‪ .‬يستشعرون أجسادهم في الماء‪ .‬ويزاوجون هذا‬
‫ل إشكالي‪ ،‬بمعنى كلمة‬ ‫بذاك‪ .‬الثنائي جسد‪/‬ماء هو مجا ٌ‬
‫مشكلة الذي رأيناه آنفا‪ .‬والطرق الخاصة للسباحة هي‬
‫ل مشكلة‬ ‫ل ضمن نطاق ذلك المجال اإلشكالي‪ .‬ال تح ُّ‬ ‫حلو ٌ‬
‫ة سباحةٍ واحدة‪ .‬هناك بدال من‬ ‫السباحة‪ .‬ألنه ال توجد مشكل ُ‬
‫ل إشكالي للجسد‪/‬الماء‪ ،‬تكون الطرق الخاصة‬ ‫ذلك مجا ٌ‬
‫للسباحة حلوال له‪ .‬إنها تجارب في مزاوجة هذا المجال‬

‫‪178‬‬
‫كبير منه تحت مستوى التفكيرة‬ ‫ٌة‬ ‫قدر‬
‫ٌ‬ ‫اإلشكالي‪ ،‬يحدث‬
‫الواعي‪ ،‬أسفل الهويات التي يقدِّمها لنا التمثيل‪:‬ة " ‘التعلم’‬
‫يجري دائما في‪ ،‬ومن خالل‪ ،‬الالوعي‪ ،‬وبذلك يُقيم تواطؤا‬
‫‪59‬‬
‫عميقا بين الطبيعةة وبين العقل‪".‬‬

‫م يتشكل تعلُّم كيف نُفكِّر؟ على خالف تعلّم كيف‬ ‫م ّ‬


‫نسبح‪ ،‬فإنه يتطلب أوال ً التخلي عن العادات السيئة‪ .‬وهذه‬
‫العادات هي تلك التي تُقطِّرها في داخلنا جميعا الصورة‬
‫الدوجمائية للفكر ورؤيتها التمثيلية للغة وللعالم‪ .‬البد أن‬
‫نكتشف هذه الصورة وهذه الرؤية؛ البد أن نرى األدوار‬
‫التي تلعبانها في منعنا من التفكيرة حقا‪.‬‬

‫لكن هذا ليس كل شيء‪ .‬هذه هي المهمة السلبيةة‬


‫فحسب‪ ،‬تمهيد ُ األرض‪ .‬بمحاذاة هذا التخلي يجب أيضا أن‬
‫نجرب في طرق التفكير‪ .‬يجب أن نزاوج بين فكرنا‬ ‫ِّ‬
‫وعالمنا‪ ،‬بين فكرنا ولغتنا‪.‬‬

‫هناك من مضوا قبلنا‪ ،‬من سبحوا في هذا الماء من‬


‫قبل‪ :‬ومن بينهم سبينوزا‪ ،‬وبرجسون‪ ،‬ونيتشه‪ .‬قد‬
‫يساعدون على تسهيل خوضنا للماء‪ ،‬ويعلمونا بعض‬
‫الضربات‪ ،‬حتى ال نغرق قبل أن نبدأ‪ .‬يمكننا أن نتدرب على‬
‫أيديهم‪ .‬لكننا‪ ،‬عاجال ً أم آجالً‪ ،‬البد أن نندفع منطلقين من‬
‫الشاطيء ونُزاوج بين األشياء بأنفسنا‪ .‬وهذا ما يفعله‬
‫دولوز في االختالف والتكرار وفي منطق المعنى‪.‬‬
‫لكننا يجب جميعا أن نفعل هذا بأنفسنا‪ ،‬كل واحد منا‪.‬‬
‫يمكننا أن نتدرب على يد دولوز إذا شئنا‪ ،‬كما يفعل هو مع‬
‫أولئك الذين يأتون قبله‪ .‬لكنه ال يمكن أن يسبح بدلنا‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫هناك خطآن يمكن أن نرتكبهما في بحث إمكان تعلُّم‬
‫كيف نفكر‪ .‬الخطأ األول سيكون أن نفترض أن التفكير‪،‬‬
‫واع بصورةٍ خالصة‪ ،‬أن التفكيرة‬ ‫ٌ‬
‫نشاط‬ ‫بخالف السباحة‪ ،‬هو‬
‫ٍ‬
‫تالعب بالفكر‪ .‬هذا الخطأ هو ميراثنا من الصورة‬ ‫ٌ‬
‫سس طريقنا إلى التفكير تقريبا‬ ‫الدوجمائية للفكر‪ .‬إننا نتح َّ‬
‫بنفس الطريقة التي نتحسس بها طريقنا إلى السباحة‪.‬‬
‫ة بدرجة‬ ‫واع على األقل‪ ،‬وهو تجرب ٌ‬
‫ٍ‬ ‫الواع بقدر ما هو‬
‫ٍ‬ ‫التفكيرة‬
‫ال تقل عن ذلك‪ .‬ذلك أحد األشياء التي أعنيها باقتراح أن‬
‫س موضوعه‪ .‬الخطأ الثاني سيكون أن نفترض‬ ‫دولوز يج ُّ‬
‫أن كال ً منا البد أن يواجه هذه المهمة وحيداً‪ .‬إننا في‬
‫الحقيقة يمكن أن نواجهها في مجموعات‪ ،‬مزاوجين أنفسنا‬
‫مع بعضنا البعض وكذلك مع العالم‪ .‬التفكيرة ليس بحاجة‬
‫إلى أن يكون نشاطا منفردا‪ ،‬وال يجري بالتأكيد في عالم ٍ ال‬
‫نتشارك فيه مع اآلخرين‪ .‬الخطوة التالية‪ ،‬إذن‪ ،‬ستكون أن‬
‫نبحث مكاننا بين اآلخرين في العالم‪ ،‬أن نفكّر بشأنه‪ ،‬أو‬
‫معه‪ ،‬أو فيه‪.‬‬

‫وهذه الخطوة ستؤدي بنا إلى السياسة‪.‬‬

‫‪180‬‬
‫الهوامش‬

‫‪1‬‬ ‫‪Deleuze, Difference and Repetition, p.‬‬


‫‪55–6.‬‬
‫‪2 Deleuze, Difference and Repetition, p.‬‬
‫‪33.‬‬
‫‪3 Deleuze, Difference and Repetition, p.‬‬
‫‪226.‬‬
‫‪4 Deleuze, Difference and Repetition, p.‬‬
‫‪226.‬‬
‫‪5 Deleuze, Difference and Repetition, p.‬‬
‫‪134.‬‬
‫مغامرات أغرب مما قد‬
‫ٍ‬ ‫قادر على‬
‫ٌ‬ ‫‪ 6‬يعتقد دولوز أن كانط‬
‫تدفعنا إلى االعتقاد به توصياته األخالقية‪ .‬وفي كتابه النحيل‬
‫عن كانط‪ ،‬يستخدم النقد الثالث ليفتح مجاال من الكاوس‬
‫لن يربطه المرء في العادة مع الفكر الكانطي‪ .‬راجع‪:‬‬

‫‪181‬‬
‫‪Deleuze, Kant’s Critical Philosophy: The‬‬
‫‪Doctrine of theFaculties.‬‬
‫‪7 Deleuze, Difference and Repetition,‬‬
‫‪pp. 135–6.‬‬
‫‪8 Deleuze, Difference and Repetition, p.‬‬
‫‪130‬‬
‫‪9 Deleuze and Guattari, What Is‬‬
‫‪Philosophy?, p. 82.‬‬
‫‪ 10‬رغم أننا يجب أن نتذكر دوما أن ما يبحث عنه دولوز‬
‫ليس الصدق‪ .‬العلم‪ ،‬إذن‪ ،‬قد يوضح فكره‪ ،‬لكن العلم ال‬
‫يمكنه أن يقدم ال تأكيدا وال عدم تأكيد‪.‬‬
‫‪11 Deleuze, Difference and Repetition, p.‬‬
‫‪57.‬‬
‫‪12 Deleuze, Difference and Repetition, p.‬‬
‫‪36.‬‬
‫‪13 Deleuze, Difference and Repetition, p.‬‬
‫‪158.‬‬
‫‪14 Deleuze, Difference and Repetition, p.‬‬
‫‪64.‬‬
‫‪ 15‬ال يعني هذا أن الحلول ال تحمل داخلها مشكالت‬
‫معينة‪ .‬االفتراضي يظل داخل الفعلي‪" .‬أي مشكلةة ال توجد‪،‬‬
‫منفصلة عن حلولها‪ .‬لكنها‪ ،‬بعيدا عن أن تختفي في هذا‬
‫صر وتستمر في هذه الحلول‪".‬‬ ‫التراكب‪ ،‬فإنها ت ُ ِّ‬
‫‪Deleuze, Difference and Repetition, p.‬‬
‫‪163.‬‬
‫مي شيئا حالً‪ ،‬فإننا نراه على أساس فعليته‬ ‫لكننا بقدر مانس ّ‬
‫وليس افتراضيته‪ .‬طائر الدودو قد يكون أكثر من مجرد‬

‫‪182‬‬
ٌ ‫ وبكونه كذلك فإنه ح‬،‫ لكنه أيضا طائر دودو‬،‫طائر دودو‬
‫ل‬
.‫ فإنه طريقة لمخاطبة مشكلةة معينة‬،‫ بكونه كذلك‬.‫معين‬

16 Deleuze, Empiricism and Subjectivity,


p. 106.
17 Deleuze, Difference and Repetition, p.
153.
18 Simondon, “The Genesis of the
Individual,” p. 300. This text is
theintroduction toSimondon’s
L’individu et sa gen`ese physico-
biologique, Paris: Presses Universitaires
de
France, 1964.
19 Deleuze, Difference and Repetition, p.
221.
20 Deleuze, Difference and Repetition, p.
222.
21 Deleuze, Difference and Repetition, p.
246.
22 Barry Commoner, “Unraveling the
DNA Myth,” pp. 39–47.
23 Simondon, “The Genesis of the
Individual,” p. 312.
24 Deleuze, Difference and Repetition, p.
183.

183
‫‪25 Deleuze, Difference and Repetition, p.‬‬
‫‪250.‬‬
‫‪26 Pearson, Germinal Life: The‬‬
‫‪Difference and Repetition of Deleuze, p.‬‬
‫‪90.‬‬
‫‪27 Deleuze, Difference and Repetition, p.‬‬
‫‪251.‬‬
‫‪28 Monod, Chance and Necessity: An‬‬
‫‪Essay on the Natural Philosophy of‬‬
‫‪Modern Biology.‬‬
‫‪29 Monod, Chance and Necessity, p. 63.‬‬
‫‪30 Monod, Chance and Necessity, p. 86.‬‬
‫‪31 Monod, Chance and Necessity, p. 98.‬‬
‫‪32 Prigogine and Stengers, Order Out of‬‬
‫‪Chaos: Man’s New Dialogue with Nature,‬‬
‫‪p. 9.‬‬
‫في هذه الرؤية للمادة‪ ،‬يبدي المؤلفان بعض التعاطف مع‬
‫برجسون حين يكتبان أن "الديمومة‪‘ ،‬الزمن المعاش’‬
‫لدى برجسون‪ ،‬تُحيل إلى األبعاد األساسية للصيرورة‪ ،‬الال‬
‫إنعكاسية التي كان آينشتين مستعدا للتسليم بها فقط عند‬
‫المستوى الفينومنولوجي‪ ".‬ص ‪ .294‬وفي الطبعة‬
‫ملة‬‫الفرنسية األصلية لهذا الكتاب توجد عدة إشارات مك ِّ‬
‫إلى دولوز واستعارات من عمله ال تظهر في الطبعة‬
‫اإلنجليزية‪ .‬فمثال‪ ،‬المقطع التالي يورد نيتشه والفلسفة‬
‫لكنه يمكن أن يُعد َّ تلخيصا لةة االختالف والتكرار‪:‬‬
‫"العلم‪ ،‬الذي يصف تحوالت الطاقة تحت عالمة التكافؤ‪،‬‬
‫قر‪ ،‬رغم ذلك‪ ،‬بأن االختالف وحده يمكنه أن‬ ‫يجب أن ي ُ ّ‬
‫‪184‬‬
‫ وتحوّل‬.‫ ستكون بدورها اختالفات هي ذاتها‬،‫يُنتج تأثيرات‬
".‫الطاقة ليس سوى تدمير اختالف وخلق آخر‬
La Nouvelle Alliance: M´etamorphose de
la science, p. 127 )my
translation(.
33 Prigogine and Stengers, Order Out of
Chaos, pp. 147–8.
34 Prigogine and Stengers, Order Out of
Chaos, p. 176.
35 Prigogine and Stengers, Order Out of
Chaos, p. 286.
36 Deleuze, The Logic of Sense, p. 12.
37 Deleuze, The Logic of Sense, p. 13.
38 Deleuze, The Logic of Sense, p. 14.
39 Deleuze, The Logic of Sense, p. 19.
40 Deleuze,The Logic of Sense, p. 22.
41 Deleuze, The Logic of Sense, pp. 21–
2.
42 Deleuze, The Logic of Sense, p. 24.
43 Deleuze,The Logic of Sense, p. 21.
44 Colebrook, Gilles Deleuze, p. 60.
45 Deleuze, The Logic of Sense, p. 184.
‫ يناقشها دولوز‬.‫ مفارقات أخرى‬،‫ في الحقيقة‬،‫ هناك‬46
:‫في‬
The Logic of Sense,especially pp. 28–35
and pp. 74–81.

185
‫‪47 Deleuze, The Logic of Sense, p. 75.‬‬
‫‪ 48‬ألقيت المحاضرات المستمد منها هذا الكتاب فيما‬
‫بين عامي ‪ 1906‬و ‪.1911‬‬
‫‪ 49‬في تعاونه الالحق مع جاتاري‪ ،‬عادة ما يستعيرة دولوز‬
‫مفاهيم من عمل البنيوي هيلمسليف‪ ،‬تلميذ سوسير‪.‬‬
‫‪50 Saussure, Course in General‬‬
‫‪Linguistics, p. 120.‬‬
‫‪51 Deleuze,The Logic of Sense, pp. 50–1.‬‬
‫‪52 Deleuze, The Logic of Sense, p. 66.‬‬
‫‪53 Carroll,The Annotated Alice, p. 306.‬‬
‫‪ 54‬ثمة تعقيد ٌ هنا‪ .‬بالنسبة لسوسير‪ ،‬فإن التمييز بين‬
‫الدال وبين المدلول هو تميي ٌز بين اللغة التي تقوم باإلحالة‬
‫وبين المفهوم الذي تحيل إليه‪ .‬المدلول هو مفهو ٌ‬
‫م‪،‬‬
‫وليس العالم ذاته‪ .‬وال يتبع دولوز دائما هذا االستخدام‪،‬‬
‫جع الصدى من خالل‬ ‫حيث أن السلسلةة المتنافرة التي تُر َّ‬
‫الالمعنى‪ ،‬بالنسبة له‪ ،‬يمكنها بنفس السهولة أن تكون‬
‫العالم واللغة مثلما تكون المفاهيم واللغة‪.‬‬
‫‪.‬‬
‫‪55 Deleuze, The Logic of Sense, p. 71.‬‬
‫‪56 Deleuze, The Logic of Sense, p. 70.‬‬
‫‪57 Deleuze, The Logic of Sense, pp. 2–3.‬‬
‫‪559 Deleuze, Difference and Repetition,‬‬
‫‪p. 16‬‬
‫‪5.8 Deleuze, Difference and Repetition,‬‬
‫‪p. 165.‬‬

‫‪186‬‬
‫‪4‬‬

‫سياسة االختالف‬

‫‪I‬‬

‫‪187‬‬
‫ة لرؤية العالم‪ :‬العالم ليس مكونا ً من‬ ‫ها هي طريق ٌ‬
‫هويّات تُشكّل وتعيد تشكيلة ذاتِها‪ ،‬بل من حشودٍ‪swarms‬‬
‫أشكال نوعية من الهوية‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫من االختالف ت ُ َفعِّلة نفسها في‬
‫وهذه الحشود ليست خارج العالم؛ ليست خالِقين متعالين‪.‬‬
‫ة بقدر الهويات المتشكّلةة منها‪.‬‬
‫إنها من العالم‪ ،‬مادي ٌ‬
‫وتواصل الوجود حتى داخل الهويات التي تُشكّلها‪ ،‬ليس‬
‫كهويات بل كاختالف‪ .‬ومن مكانها داخل الهويات‪ ،‬تؤكد هذه‬ ‫ٍ‬
‫الحشود من االختالف أن المستقبلة سيكون مفتوحا على‬
‫وعالقات جديدة فيما بينها‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫جدَّة‪ ،‬على هويات جديدة‬ ‫ال ِ‬

‫رأينا هذا العالم في فكر سبينوزا‪ ،‬وبرجسون‪ ،‬ونيتشه‪.‬‬


‫سبينوزا يضع أساس التفكير في محايثة االختالف‪ .‬االختالف‬
‫تعبير محايث‪ .‬ويقدم برجسون‬ ‫ٌ‬ ‫ليس خلقا ً متعاليا؛ بل‬
‫الدعامة الزمنية لهذا التعبير‪ .‬الزمن ليس مسارا خطيا من‬
‫ل لالفتراضي‪ .‬ويعلن‬ ‫الوحدات اللحظية المنفصلة بل تفعي ٌ‬
‫نيتشه االختالف وعوده األبدي‪ .‬يشير إلى الطريق باتجاه‬
‫توكيد لعب الصدفة‪ ،‬معانقة رمية النرد‪ .‬ال يأسف على‬
‫انفتاح المستقبل‪ ،‬اليسعى عاجزا صوب أمان ما يعتقد أنه‬
‫يعرفه‪.‬‬

‫ورأينا هذا العالم في العلم وفي اللغة‪ .‬إنه الكاوس‬


‫ضمن نطاق الفيزياء والبيولوجيا‪ .‬إنه في الطريقة التي‬
‫تفيض بها اللغة عن نفسها‪ ،‬ودائما تفعل أكثر مما يمكنها‬
‫متحركين إلى ما وراء‬
‫ّ‬ ‫قوله‪ .‬كما بدأنا نفكر في هذا العالم‪،‬‬
‫الصورة الدوجمائية للفكر التي ورثناها باتجاه فكر جديد‪،‬‬
‫س ما ال يمكنه أن يدركه ويوميء إلى ما ال‬ ‫أشد رشاقة‪ ،‬يج ّ‬
‫يمكنه أن يمسك به‪.‬‬

‫‪188‬‬
‫م تعسفيةٍ تامة؟ أال يمكننا أن نقول‬
‫فهل هذا العالم عال ُ‬
‫شيئا عن المستقبلة على أساس ما هو قائم أو ما كان؟‬
‫ممكن بنفس القدر عند كل‬ ‫ٌ‬ ‫هل كل شيء وأي شيء‬
‫لحظة؟‬

‫ل بأننا ال نعرف ما الممكن عند كل لحظة أدقُ‬ ‫هل القو ُ‬


‫ل شيءٍ ممكن‪ .‬القول بأن كل شيء‬ ‫من القول بأن ك َّ‬
‫ممكن سيعني إنكار أن العالم يتكون من االختالف‪ .‬سيشبه‬
‫القول بأن العالم المتمايز ‪ . undifferentiated‬لو‬
‫كان كل شيء ممكنا بنفس القدر في كل لحظة‪ ،‬سيكون‬
‫ذلك ألن كل شيء موجود ٌ دوما‪ ،‬يتنافس على التعبير‪،‬‬
‫طوال الوقت‪ .‬وليس هذا ما يقوله دولوز‪ .‬العالم يتركب‬
‫من مجاالت اختالف‪ ،‬من مجاالت إشكالية‪ ،‬ال مجاالت عدم‬
‫تمايز‪ .‬والقول بأن العالم أكثر مما نخبر ال يعني القول بأن‬
‫العالم كل شيء‪ ،‬في كل وقت‪ .‬القول‪ ،‬مع مونوه‪ ،‬بأن‬
‫"سيرورة ً عمياء تماما يمكنها بالتعريف أن تؤدي إلى أي‬
‫شيء؛ يمكنها حتى أن تؤدي إلى الرؤية ذاتها‪ "،‬ال يعني‬
‫ة في كل كائن بيولوجي في كل‬ ‫القول بأن الرؤية ممكن ٌ‬
‫لحظة‪.‬‬

‫مقيَّد ٌ‬ ‫رغم أن المستقبلة تفعي ٌ‬


‫ل لالختالف‪ ،‬فهذا التفعيل ُ‬
‫ببنيةِ افتراضيةٍ بعينها‪( .‬وقد ناقشنا هذا في الفصل الثالث‪).‬‬
‫اختالف خاصة‪ ،‬ال‬
‫ٍ‬ ‫العمليات الكيميائية تتركب من عالقات‬
‫من كل اختالفات الوجود مرةً واحدة‪ .‬وفضال عن ذلك‪ ،‬يبين‬
‫لنا عمل ﭘريجوﭼين أن االختالفات التي تسكن األشكال‬
‫المادية ال يمكنها أن تُظهر نفسها إال ّ تحت شرو ٍ‬
‫ط معينة‪.‬‬

‫‪189‬‬
‫ط قريبةٍ‬
‫فالساعة الكيميائية ال يمكن أن تحدث في شرو ٍ‬
‫ط بعيدةٍ عنه‪ .‬العالقات‬
‫من االتزان‪ ،‬بل فقط في شرو ٍ‬
‫التفاضلية التي تحدّد العمليات الكيميائية تشمل كال من‬
‫الشروط الكيميائية والفيزيائية‪.‬‬

‫نفس الشيء يصدق على اللغة‪ .‬فاللغة المعيّنة ال‬


‫يمكنها التعبيرة عن كل أشكال المعنى الممكنة‪( .‬لهذا يمكن‬
‫ة الصعوبة‪ ).‬يمكنها فقط التعبير عما‬ ‫أن تكون الترجمة بالغ َ‬
‫تسمح به العالقات التفاضلية في تلك اللغة‪ ،‬في تمفصلها‬
‫ضد‪ ،‬وعبر العالم‪.‬‬

‫يمكننا أن نصيغ هذه النقطة بالطريقة التالية‪ :‬التاريخ‬


‫طي وبسط‬ ‫ُّ‬ ‫ت الصلة ‪ irrelevant‬التاريخ هو‬
‫منب ّ ّ‬
‫ليس ُ‬
‫الحشود الخاصة لالختالف في عالقات خاصة‪ .‬إنه الخاصية‬
‫االفتراضية للماضي بينما يسكن الحاضر‪ .‬وإنكار صلة‬
‫التاريخ ال يعني ببساطة إنكار الهويات التي عادةً ما تعتمد‬
‫عليها الدراسة التاريخية؛ بل يعني‪ ،‬بنفس القدر‪ ،‬إنكار‬
‫مجال االختالف الذي يسكن حاضرنا‪.‬‬

‫ء يمكن أن يحدث‪،‬‬ ‫ربما‪ ،‬بدل القول بأن أي شي ٍ‬


‫سيكون من األدق القول بأن أي شيء يمكن أن‬
‫فر الشروط المناسبة‪ .‬لكن‪ ،‬حيث أننا ال‬ ‫يحدث‪ ،‬مع تو ّ‬
‫نعرف ما يقدر عليه جسد ٌ ما‪ ،‬سيكون من األفضل القول‪،‬‬
‫ال أن أي شيء يمكن أن يحدث‪ ،‬بل أن الكثير يمكن أن‬
‫إمكانيات العالم تتجاوزنا‪ .‬ونحن‬
‫ُ‬ ‫يحدث مما ال نعرفه‪.‬‬
‫مقيّدون في االنفتاح عليها‪ ،‬ليس فقط بحدود خيالنا ورحابة‬

‫‪190‬‬
‫جهلنا لكن ةة وهذا ما يقصد دولوز أن يداويه ةة بذات‬
‫الطريقة التي نفكر بها في هذه اإلمكانيات‪.‬‬

‫هل يعني هذا أن التنبؤة بال جدوى؟ ال‪ .‬يمكن دائما التنبؤة‬
‫ط قريبة من االتزان‪ .‬ويمكننا‬‫بالعمليات الكيميائية في شرو ٍ‬
‫التنبؤة بالمستقبل بدرجةٍ من الدقة‪ ،‬تكون أكبر إذا جرى‬
‫التنبؤة بواسطة االحتماالت بدل القوانين العلمية‪.‬‬
‫م اختالف‪ ،‬ال عالم عدم تمايز‪ .‬وإذا كان علينا أن‬ ‫العالم عال ُ‬
‫نحيا مثل العب نيتشه السيء‪ ،‬فسوف نسعى إلى اختزال‬
‫العالم إلى قابليته للتنبؤ‪ ،‬إلى أخذ االحتماالت على رمية‬
‫النرد‪ .‬وبفعلنا ذلك‪ ،‬سنكون دائما في حالة افتقار‪ ،‬لكن لن‬
‫نكون دائما مخطئين‪.‬‬

‫لكن التفكير في إمكانيات العالم بطريقة طازجة‪ ،‬أن‬


‫نأخذ في االعتبار االختالفات التي ننغرس فيها نحن‬
‫والعالم‪ ،‬يتطلب أنطولوجيا جديدة‪ .‬وهكذا‪ ،‬ضد التيار الذي‬
‫شقه سارتر وديريدا وفوكوه‪ ،‬يرسم دولوز خطوط‬
‫أنطولوجيا جديدة‪ ،‬طريقة جديدة لتصوّر الوجود‪ ،‬أو العالم‪،‬‬
‫أو ما هناك‪ .‬يقبل تحدّي حدود فكرنا لكي يقيم فكرا جديدا‪.‬‬
‫بدل التخلي عن أسئلة الوجود التي أساء طرحها العديد‬
‫من أسالفنا الفلسفيين‪ ،‬يختار أن يطرحها من جديد‪ ،‬لكن‬
‫أن يطرحها بطريقةٍ مختلفة‪ .‬الوجود ليس لغزا يجب حلّه‬
‫ة يجب االنخراط فيها‪ .‬يجب االنخراط فيها‬ ‫بل مشكل ً‬
‫بارتياح بين المشكالتة بقدر ما يفعل‬
‫ٍ‬ ‫بواسطة فكرٍ يتحرك‬
‫بين الحلول‪ ،‬بسالسةٍ بين االختالفات بقدر ما يفعل بين‬
‫الهويات‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫مهمة مثل هذا الفكر ال يجب تولّيها على انفراد‪ .‬ليس‬
‫هدف أنطولوجيا دولوز هو الفيلسوف المنعزلة في مكتبهة‬
‫الذي يفهم العالم بوصفه اختالفا‪ .‬العالم كما يتصوره دولوز‬
‫م حيوي‪ .‬وهذا يصدُق حتى على مجاالت‬ ‫حي‪ ،‬عال ٌ‬
‫ّ‬ ‫م‬
‫هو عال ٌ‬
‫العالم الخاملة‪ .‬لكنه ليس عالما حيّا فحسب‪ ،‬بل عالما‬
‫للحياة فيه‪ .‬والمهمة ليست مجرد أن نفكر في العالم‬
‫بطريقة مختلفة‪ ،‬بل أن نحياه بطريقة مختلفة‪ .‬وكما قلنا‬
‫في البداية‪ ،‬فإن دليل دولوز للعيش هو دلي ٌ‬
‫ل لتصوّر العالم‬
‫ل لطرح سؤال كيف يمكن أن يحيا‬ ‫حي وكذلك دلي ٌ‬ ‫ٌّ‬ ‫على أنه‬
‫المرء‪.‬‬

‫مفكّرا‬
‫والمرء ال يحيا وحيدا‪ .‬المرء يحيا بين آخرين‪ُ :‬‬
‫مناضال بينهم‪ .‬واتخاذ‬
‫متحدثا معهم و ُ‬‫تصرفا بينهم‪ُ ،‬‬
‫ِّ‬ ‫م‬‫بينهم‪ُ ،‬‬
‫فكر دولوز للخطوة التالية يعني بالنسبة له البدء في‬
‫التفكيرة ال في العالم فحسب بل في البين آخرين التي‬
‫يجري فيها الفكر‪ .‬التحدي الذي يواجه فكر االختالف ليس‬
‫فقط التفكير في االختالف الحيوي الذي هو تفتُّح الوجود‬
‫بل كذلك التفكيرة في العالم السياسي الذي يجري فيه هذا‬
‫الفكر‪.‬‬

‫رغم أن أعمال دولوز المبكرة توميء باتجاه السياسة‪،‬‬


‫فإن فكر االختالف لم يتحوّل من أنطولوجيا عامة إلى‬
‫أنطولوجيا سياسية إال ّ حين بدأ التعاون مع فيليكس‬
‫جاتاري‪ .‬وفي مسار دولوز الفكري الخاص‪ ،‬فإن السياسة‬
‫تحركت لتحتل مكان الصدارة في فكره بعد أحداث مايو‬
‫‪1‬‬
‫عام ‪ 1968‬في فرنسا‪.‬‬

‫‪192‬‬
‫‪II‬‬

‫لنبدأ بالنظرية السياسية الليبرالية التقليدية‪.‬‬


‫(المصطلح ليبرالية هنا ال يتضاد مع مصطلح محافِظة‪ .‬بل‬
‫ملَكية‪ .‬فك ٌ‬
‫ل من الليبراليين‬ ‫مسيطرة‪ ،‬بمعنى ال َ‬ ‫يتضاد مع ُ‬
‫والمحافظين المعاصرين في الواليات المتحدة يجدون‬
‫جذورهم في النظرية السياسية الليبرالية‪ ).‬النظرية‬
‫الليبراليةة هي ميراثنا السياسي‪ .‬إنها األثير الذي تجري فيه‬
‫مناقشة السجاالت حول دور الدولة‪ ،‬والحق في اإلجهاض‪،‬‬
‫وااللتزام تجاه المهاجرين‪ ،‬وإصالح دولة الرفاه‪ ،‬وأغلب‬
‫مى المجال "العام"‪ .‬النظرية‬ ‫السجاالت األخرى فيما يُس ّ‬
‫الليبراليةة تُرخِّص للمصطلحات وتضع حدود تلك السجاالت‪.‬‬
‫وبالنسبة ألغلبنا‪ ،‬يبدو إطار النظرية الليبرالية طبيعيا بحيث‬
‫ال يمكن اإلفالت منه‪ .‬كيف بخالف ذلك يمكننا أن نناقش‬
‫أمور السياسة؟‬

‫ونقطة انطالق السياسة الليبرالية هي الفرد‪ .‬بينما تبدأ‬


‫النظرية السياسية األسبق بالعاهل‪:‬ة الملك‪ ،‬األمير‪ ،‬رأس‬
‫معطى في النظرية‬ ‫الدولة على أية حال‪ .‬العاهلة هو ال ُ‬
‫السياسية المبكرة؛ إنه النقطة التي يدور حولها التنظير‪.‬‬
‫وتعكس النظرية الليبرالية أطراف هذه العالقة‪ .‬بالنسبة‬
‫للنظرية الليبرالية‪ ،‬تكون نقطة االنطالق هي الفرد الذي‬
‫يجب حكمه‪ ،‬ال الحاكم‪ .‬والفهم المناسب لما هو سياسي‬

‫‪193‬‬
‫سسة‬
‫يبدأ باألفراد‪ ،‬وعالقتهم أحدهم باآلخر‪ ،‬ال بدولة متأ ِّ‬
‫بالفعل وبامتيازاتها الملَكية‪.‬‬

‫السؤال التأسيسي للنظرية الليبرالية هو‪" :‬لماذا‬


‫يوافق فرد ٌ على أن يُحكَم في المقام األول؟" هذا هو‬
‫كرسو التقاليد الليبرالية‪ ،‬المفكرون‬‫م ِّ‬ ‫السؤال الذي طرحه ُ‬
‫من أمثال توماس هوبز ‪ ، Thomas Hobbes‬وﭼون لوك‬
‫‪ ،JohnLocke‬وتوماس ﭼيفرسون ‪. Thomas Jefferson‬‬
‫وما زال هو سؤال النظرية السياسية المعاصرة‪ .‬ولم يغيّر‬
‫ﭼون رولز ‪ John Rawls‬وروبرت نوزيك ‪Robert Nozick‬‬
‫محدِّدات فكرنا‬ ‫السؤال‪ .‬فهما‪ ،‬وغيرهما ممن تتتبع كتاباتهم ُ‬
‫السياسي‪ ،‬يظلون مقيدين بنفس نقطة االنطالق‪ .‬هناك‬
‫ل منها له مصالحه‪ ،‬وأهدافه‪،‬‬ ‫كائنات بشرية فردية‪ ،‬ك ٌّ‬
‫وخصائصه الخاصة‪ .‬فلماذا وتحت أي شروط يجب على‬
‫هؤالء األفراد أن يتجمعوا معا ويسمحوا ألنفسهم بأن‬
‫يُحكَموا؟‬

‫تؤسس اإلجابات المتنوعة على هذا السؤال جوهر‬


‫التقاليد السياسية الليبرالية‪ .‬وهذا التنوعة هو نتاج‬
‫االفتراضات المختلفة عن احتياجات األفراد‪ ،‬واستعدادهم‬
‫للتعاون مع بعضهم البعض‪ ،‬وحافزهم لاللتزام بالقواعد‬
‫التي وافقوا عليها‪ ،‬ومخاطر تدعيم السلطة السياسية‪،‬‬
‫سرين‪،‬‬ ‫مع ِ‬‫واحتمال وعمق النزاعات بين الميسورين وال ُ‬
‫ومدى الحرية الفردية التي هي حقٌ لألفراد بالميالد‪.‬‬

‫الناس الذين يسمون أنفسهم ليبراليين في أمريكا‬


‫افتراضات معينة‪ ،‬أو‬
‫ٍ‬ ‫(بالمعنى اليومي للمصطلح) يفترضون‬

‫‪194‬‬
‫يجادلون من أجل مواقف معينة‪ ،‬فيما يخص هذه األمور‪.‬‬
‫أما من يسمون أنفسهم محافظين فيرتبون افتراضاتهم‬
‫بطريقة مختلفة‪ .‬الليبراليون‪ ،‬مثال‪ ،‬يميلون إلى إعطاء ثِقَل‬
‫أكبر الحتياجات األفراد‪ ،‬ولالعتماد على استعداد الناس‬
‫للتعاون مع بعضهم البعض‪ ،‬ولالستعداد أكثر للحد من‬
‫حريات فردية معينة من أجل الصالح العام‪ .‬أما‬
‫ٍ‬
‫المحافظون فمن األرجح أن يتخوفوا من مخاطر تدعيم‬
‫السلطة السياسية‪ ،‬ويتحمسوا أكثر للحريات الفردية‪،‬‬
‫ويقلقوا بدرجة أقل إزاء النزاعات بين الموسرين‬
‫والمعوزين‪ .‬وما تتفق عليه كلتا الجماعتين هو أن هذه‬
‫ة في‬ ‫جه ٌ‬
‫األمور هي المناسبة للنقاش‪ ،‬وأن مناقشتها مو ّ‬
‫نهاية المطاف إلى سؤال لماذا يجب أن يسمح األفراد ُ‬
‫ألنفسهم بأن يُحكَموا‪.‬‬

‫ماذا تفعل الحكومة‪ ،‬إذن؟ ما دورها؟ إنها‪ ،‬على نحوٍ أو‬


‫آخر‪ ،‬تُمثِّل األفراد ومصالحهم‪ .‬وإذا كان لحكومةٍ أن تكون‬
‫شرعية‪ ،‬فالبد من تمثيل مصالح كل فرد في المجال العام‬
‫الذي تحتله الحكومة‪ .‬ال يمكن أن يُطلب مني الموافقة‬
‫على أن أُحكَم إال ّ إذا كانت بنية الحكم تعتبر مهمتها وهدفها‬
‫تحقيق مصالحي‪ .‬وال يعني هذا أن الحكومة يجب أن تحاول‬
‫تحقيق كل مصالحي‪ .‬فالناس لهم مصالح مختلفةة‬
‫ومتضاربة؛ وال يمكن تحقيقها جميعا‪ .‬لكن‪ ،‬لكي تكون‬
‫الحكومةة شرعية يجب أن تعترفة بتلك المصالح وأن تحاول‬
‫ترتيب الجوانب التعاونية لحيواتنا بحيث تلبّي أهمها‪ ،‬وتتيح‬
‫لنا السعي إليها بأفضل ما نستطيع‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫هذا ما أصبح يُعرف باسم العقد االجتماعي‪ .‬كل فرد‪،‬‬
‫متخذا قراره بنفسه‪ ،‬يوافق على التجمع معا تحت حكومة‬
‫مشتركة‪ ،‬ويوافق على أن يُطيع هذه الحكومة‪ ،‬طالما كانت‬
‫الحكومةة التي يوافق الفرد على طاعتها هي التي تمثل‬
‫أهم مصالحه‪.‬‬

‫والحكومة التي ال تبدأ من مصالح المحكومين‪ ،‬وال‬


‫تمثل تلك المصالح‪ ،‬تكون قد فقدت تفويضها للحكم‪ .‬وال‬
‫يجب أن يكون هذا أمرا خطيرا‪ .‬فلو كانت المشكلةة تكمن‬
‫محدَّدين في جهاز الحكم‪ ،‬فيمكن‬ ‫في المشاركين ال ُ‬
‫إستبعادهمة بواسطة األفراد الذين يحكمهم هؤالء‪ .‬وفي‬
‫الحالة القياسية‪ ،‬يتم التصويتة على إخراجهم من مناصبهم‪.‬‬
‫وبالمقابل‪ ،‬لو كانت المشكلة أعمق‪ ،‬لو لم تكن الحكومة‬
‫ةة بحيث تمثل مصالح المحكومين‪ ،‬يكون أولئك األفراد‬ ‫مبنيَن ً‬ ‫ُ‬
‫ة‪.‬‬
‫على حق في تشكيل بنيةٍ حكومية جديدة‪ ،‬أكثر تمثيلي ً‬
‫والشعار المبكر للثورة األمريكية‪" ،‬ال ضرائب بدون تمثيل‪"،‬‬
‫مرينة أن أعضاء‬ ‫مثال على هذا‪ .‬لم تكن شكوى المستع َ‬
‫البرلمان المحددين لم يضعوا مصالحهم في االعتبار حين‬
‫قرروا السياسة الضريبية؛ فقد كانت الحكومةة البريطانية‬
‫مرين من جعل مصالحهم‬ ‫أي من المستع َ‬ ‫ة لمنع ٍ‬‫مبَنيَن ًة‬ ‫ُ‬
‫ممثَّلة‪ .‬وكانت مواجهة تلك المشكلة تتطلب شكال جديدا‬ ‫ُ‬
‫ة‪.‬‬
‫للحكم‪ ،‬أكثر تمثيلي ً‬

‫تؤسس هذه الصورة للسياسة اإلطار الذي نناقش‬


‫ضمنه األمور السياسية‪ .‬إنها عنصرة فكرنا السياسي‪ .‬وتمثل‬
‫بال شك تقدما عن نظرية العاهل السياسية‪ .‬فمن األفضل‬
‫رؤية األشياء من وجه نظر المحكومين بدل وجهة نظر‬

‫‪196‬‬
‫الحاكم‪ .‬لكن ال شك أيضا أن النظرية السياسية الليبرالية‬
‫هي شكل من أشكال الصورة الدوجمائية للفكر‪ .‬إنها‬
‫بالضبط الصورة الدوجمائية وقد تمت ترجمتها إلى‬
‫مصطلحات سياسية‪.‬‬

‫بالنسبةة للصورة الدوجمائية للفكر‪ ،‬هناك بالفعل‬


‫ة‪ ،‬لكل منها خصائصها‪ ،‬ويجب تمثيلها‬ ‫سس ٌ‬ ‫هويات مؤ َّ‬
‫بالفكر‪ .‬وبالنسبةة للنظرية السياسية الليبرالية‪ ،‬هناك‬
‫سسون‪ ،‬لكل منهم مصالحه (رغم أن هذه‬ ‫بالفعل أفراد ٌ مؤَ َّ‬
‫ة‬
‫مختارة وليست مربوط ً‬ ‫نظر إليها عادة ً على أنها ُ‬
‫المصالح ي ُ ُ‬
‫بالفرد فعال)‪ ،‬التي يجب أن تمثلها الحكومة‪ .‬بالنسبة‬
‫للصورة الدوجمائية للفكر‪ ،‬فإن التمثيل هو الرابط من‬
‫العالم إلى الفكر‪ .‬وبالنسبة للنظرية السياسية الليبرالية‪،‬‬
‫فإن التمثيل هو الرابط من الفرد إلى الحكومة‪ .‬بالنسبة‬
‫للصورة الدوجمائية للفكر‪ ،‬يتشكل الصدق في التناظر بين‬
‫الفكر وبين الهويات التي يمثلها‪ .‬وبالنسبة للنظرية‬
‫السياسية الليبرالية‪ ،‬تتشكل المشروعية أو العدالة في‬
‫التناظر بين الحكومةة وبين األفراد الذين تمثلهم‪.‬‬

‫هويات وتمثيل‪:‬ة هذه مادة الصورة الدوجمائية للفكر‪.‬‬


‫وتجد انعكاسها المرآوي بدقة في النظرية السياسية‬
‫الليبرالية‪ .‬وال عجب أن االستقرار هو االنشغال الدائم‬
‫للنقاش السياسي‪ .‬ال عجب أن الخطر على السياسة عادة ً‬
‫ما يُطلق عليه اسم الفوضى ‪ ، anarchy‬بما يعني‬
‫الكاوس ‪ ، chaos‬بما يعني عدم االستقرار والقالقل‪.‬‬
‫السياسة هي مسألة استقرار‪ ،‬مسألة تمثيل مستقر‬

‫‪197‬‬
‫معطاة بواسطة حكومة تأخذ في االعتبار‬ ‫لمصالح فرديةٍ ُ‬
‫وتوازن بين تلك المصالح في المجال العام‪.‬‬

‫ة كثيرة تم طرحها على النظرية السياسية‬ ‫ثمة أسئل ٌ‬


‫الليبرالية‪ ،‬خصوصا في السنوات األخيرة‪ .‬هل مما له معنى‬
‫أن نتصور أن األفراد يختارون مصالحهم النوعية؛ أال يساهم‬
‫المجتمع الذي يتربى فيه المرء ويحيا فيه في طابع تلك‬
‫المصالح؟ في المجتمعات الكثيرة السكّان‪ ،‬كيف يمكن‬
‫محدِّدات‬
‫للحكومة أن تمثل مصالح األفراد؛ ما هي ال ُ‬
‫المناسبة اإلقليمية أو الجغرافية للحكومات؟ة كيف يجب أن‬
‫نتصور التمثيل؛ إلى أي درجة يكون الممثل المنتخب ملزما‬
‫بالتحدث باسم من يمثلهم حين تتباعد آراؤهم في موضوع‬
‫بعينه عن آرائه؟ معظم هذه األسئلة تشترك في عناصر‬
‫مهمة مع النظرية السياسية الليبرالية‪ .‬إنها محاوالت‬
‫لتعديل وليس إللغاء إطار الفكر الليبرالي‪.‬‬

‫والسؤال بالنسبة لدولوز‪ ،‬السؤال السياسي‪ ،‬هو ما إذا‬


‫كنا نستطيع التفكيرة بخالف ذلك‪ .‬هل السياسة بالضرورة‬
‫رهينة الصورة الدوجمائية للفكر‪ ،‬أم يمكننا التفكيرة في‬
‫السياسة بطريقة مختلفة؟ة هل يمكننا أن نحيا معا بطريقة‬
‫مختلفة؟ هل هناك ما هو أكثر بخصوص حيواتنا السياسية‬
‫مما توضحه الصورة الدوجمائية التي تحتضنها التقاليد‬
‫الليبرالية؟ة‬

‫‪III‬‬

‫‪198‬‬
‫إحدى الطرق لمقاربة سياسة دولوز وجاتاري هي أن‬
‫ة جديدة‪ .‬ال‬‫ننظر إليها باعتبارها تُقدم أنطولوجيا سياسي ً‬
‫يمكن لدولوز أن يقبل األنطولوجيا الدوجمائية التي تقدمها‬
‫النظرية السياسية التقليدية‪ .‬فأن نبدأ فكرنا السياسي‬
‫بالكائنات البشرية الفردية‪ ،‬التي يأتي كل واحد منها‬
‫بمصالحه الخاصة (المختارة)‪ ،‬يعني بالفعل أن نخسر‬
‫معطى بالفعل‬ ‫اللعبة‪ .‬إذ يعني أن نُسلِّم باستقرار ما هو ُ‬
‫ويُشكل أساس الصورة الدوجمائية للفكر‪.‬‬

‫ة مجرد َ أن مصالح األفراد وثيقة‬‫ليست المشكل ُ‬


‫ح ‪ ،‬كما أوضح‬ ‫االرتباط بالمجتمع الذين يحيون فيه‪ .‬فصحي ٌ‬
‫دعاة المجتمع المحلي[التشاركية]‪، 2communitarians‬‬
‫أن عزل النظرية السياسية الليبرالية لألفراد عن‬
‫مجتمعاتهم غالبا ما يرسم صورةً مشوّهةة لمصالح الناس‪.‬‬
‫واألفراد خاضعون لمحيطهم االجتماعي إلى درجةٍ أكبر‬
‫بكثير مما تجعلنا النظرية الليبراليةة نعتقد‪ .‬لكن المشكلةة‬
‫التي يراها دولوز أعمق‪ .‬إذ تكمن في ذات مفهوم الفرد‪.‬‬

‫الكائنات البشرية الفردية‬


‫ِ‬ ‫لماذا يجب أن نفترض أن‬
‫الوحدات األنطولوجية المناسبة للنظرية السياسية؟‬
‫ُ‬ ‫هي‬
‫هل يمكن البدء بوحدةٍ أخرى؟ أو باألحرى‪ ،‬هل يمكن البدء‬
‫بمفهوم ٍ ليس متحيّزا تجاه أي وحدةٍ بعينها للتحليلة‬
‫السياسي‪ ،‬سواء كانت الفرد‪ ،‬أو المجتمع‪ ،‬أو الدولة‪ ،‬أو‬
‫الجماعة اإلثنية‪ ،‬أو غيرها؟ هل يمكن تصوّر السياسة على‬
‫ة‪ ،‬يمكنها إتاحة التغيير‬
‫أساس أنطولوجيا أكثر سيول ً‬

‫‪199‬‬
‫والتجريب السياسيين على تنويعة من المستويات‪ ،‬بدل‬
‫منح االمتياز لمستوى أو آخر؟‬

‫في العمل المشترك الذي يقوم به دولوز وجاتاري‬


‫ة من‬ ‫ة من أماكن االنطالق‪ ،‬تنويع ً‬‫معا‪ ،‬يقدمان تنويع ً‬
‫مستويات‬
‫ٍ‬ ‫المفاهيم الرشيقة بما يكفي إلدخالها عند‬
‫سياسيةٍ مختلفة‪ .‬وأحد المفاهيم التي يعتمدان عليها أكثر‬
‫ما يمكن هو مفهوم اآللة ‪ " . machine‬إنها [ما يسميه‬
‫آالت واقعية‪ ،‬ال‬
‫ٌ‬ ‫آآلت في كل مكان ةة‬
‫ٌ‬ ‫فرويد باسم الهو ‪] id‬‬
‫آآلت أخرى‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫آآلت تديرها‬
‫ٌ‬ ‫آآلت تُدير آآلت أخرى‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫مجازية‪:‬‬
‫بكل التعشيقات ‪ couplings‬والتوصيالتة [الوصالت]‬
‫ل يدويون‪:‬‬ ‫‪ connections‬الضرورية ‪ . . . .‬إننا جميعا عما ٌ‬
‫م يمكن موضعته عند‬ ‫‪3‬‬
‫ل مع آآلته الصغيرة‪ ".‬اآللة مفهو ٌ‬ ‫ك ٌ‬
‫مستوى الفرد‪ ،‬والمجتمع‪ ،‬والدولة‪ ،‬وما قبل ة الفرد‪ ،‬وبين‬
‫الجماعات وبين الناس‪ ،‬وعبر هذه المجاالت المتنوعة‪ .‬إنه‬
‫م يقدّم حراكا أنطولوجيا‪ ،‬وبذلك يمكن أن يلتقط ما‬ ‫مفهو ٌ‬
‫يفيض عن الصورة الدوجمائية للفكر السياسي‪.‬‬

‫وتقدم كلير كولبروك تضادا موحيا‪ .‬تكتب أن‪:‬‬

‫في ضد فف أوديب و ألف مسطّح يستخدمة دولوز وجاتاري‬


‫مصطلحات اآلالت‪ ،‬والتجميعات‪ ،‬والتوصيالت‪،‬ة واإلنتاجات‪. . .‬‬
‫ة‬
‫مقيَّد ٌ له هوي ٌ‬‫ل ُ‬‫‪ .‬الكيان العضوي ‪ organism‬هو ك ٌ‬
‫ة‬‫مغلقة لها وظيف ٌ‬ ‫ة ُ‬‫وغاية‪ .‬أما اآللية ‪ mechanism‬فهي آل ٌ‬
‫نوعية‪ .‬إال ّ أن اآللة ‪ machine‬ليست أكثر من توصيالتها؛‬
‫ة بواسطة أي شيء‪ ،‬وليست من أجل أي‬ ‫ليست مصنوع ً‬
‫‪4‬‬
‫شيء‪ ،‬وليست لها هوية مغلقة‪".‬‬

‫‪200‬‬
‫ل واحد ٍ‬‫ل ذاتي ة التنظيم‪ .‬يدعم ك ُّ‬
‫الكيان العضوي هو ك ٌ‬
‫ة تلك‬
‫من أجزائه األجزاءَ األخرى‪ ،‬والكل هو هارموني ُ‬
‫األجزاء‪ .‬ونحن عادة ً ما نتصورالكيانات البيولوجيةة ككيانات‬
‫عضوية بهذا المعنى‪ ،‬وتأتي الدهشة التي نشعر بها تجاهها‬
‫من توازن عناصرهاة الحيّة‪ .‬لكن‪ ،‬لو كان البيولوجيونة أمثال‬
‫سيموندون ومونوه على صواب‪ ،‬لما وجدت أشياء من‬
‫قبيل الكيانات العضوية‪ ،‬على األقل بهذا المعنى‪ .‬وليست‬
‫المسألة أنه ال يوجد توازن بين مختلف األجزاء العضوية‪.‬‬
‫فعادة ما يوجد‪ .‬المسألة أن هناك دائما فيما يخص األجزاء‬
‫أكثر يمكنه التعبيرة عن نفسه في‬
‫ٌ‬ ‫أكثر من توازنها‪،‬‬
‫اتجاهات أخرى‪ ،‬بتوازنات أخرى‪ ،‬أو دون توازن على‬
‫اإلطالق‪.‬‬

‫هذا ال يعني فقط أنه يمكن وجود توازن مختلف بين‬


‫نفس األجزاء‪ .‬فهو يعني‪ ،‬أوالً‪ ،‬أنه يمكن وجود فردٍ مختلف‪.‬‬
‫وقد رأينا حجة باري كومونر ‪ Barry Commoner‬القائلة‬
‫ل بيولوجية‬ ‫بأن الهندسة الجينية يمكن أن تَنتُج عنها أشكا ٌ‬
‫شديدة االختالف عن األشكال التي يمكن أن يتنبأ بها‬
‫المهندسون‪ .‬وأبعد من ذلك‪ ،‬يمكن وجود عالقات مختلفة‬
‫ن بيولوجي‬ ‫مع أجزاء مختلفة من البيئة‪ .‬قد يتفاعل كيا ٌ‬
‫مختلف مع جوانب أو عناصر مختلفة من البيئة‪ .‬قد يأكل‬
‫أشياء مختلفة؛ وقد يُعشِّ ش في أماكن مختلفة؛ وقد يحفر‬
‫أجزاء مختلفة من األرض؛ وقد يمهّد دروبا مختلفة؛ وأخيرا‪،‬‬
‫قد تلتهمه كيانات بيولوجية مختلفة‪.‬‬

‫إحدى الطرق اللتقاط هذه النقطة ستكون بالقول بأننا‬


‫كيانات‬
‫ٍ‬ ‫يجب أن نفكر في الكيانات البيولوجية ال باعتبارها‬

‫‪201‬‬
‫آآلت متحركةة يمكن أن‬
‫ٍ‬ ‫عضوية تعول ة ذاتها بل باعتبارها‬
‫تتصل بالبيئة بتنويعةٍ من الطرق‪ ،‬اعتمادا على كيفيةة تفعيلة‬
‫تلك اآلالت‪.‬‬

‫كيانات عضوية‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫اآلالت‪machines‬‬‫ُ‬ ‫إذا لم تكن‬
‫آالت‬
‫ٌ‬ ‫فليست كذلك آليات ‪ . mechanisms‬اآلليات هي‬
‫آالت مأخوذة عند نقطة بعينها‬ ‫ٌ‬ ‫مدة‪ .‬إنها‬
‫في حالتها المتج ّ‬
‫لتوصيالت بعينها‪ .‬اآلليات‬
‫ٍ‬ ‫في الزمن‪ ،‬في الصالبة البادية‬
‫آآلت مرئية‬
‫ٌ‬ ‫ة من وجهة نظر اللحظة الراهنة‪،‬‬ ‫آآلت مرئي ٌ‬
‫ٌ‬ ‫هي‬
‫فضائيا بمعنى برجسون‪ .‬اآلليات هي تفعيلة اآلالت‪ .‬إدراكنا‬
‫الحسي قد يصادف اآلليات؛ لكن فكرنا يجب أن يخترق‬
‫تلك اآلليات كي يكتشف اآلالت داخلها‪.‬‬

‫وتقدم كولبروك هذا المثال‪" .‬فكِّر في الدراجة‪ ،‬التي‬


‫ة ‘غاية’ أو قصد‪ .‬إنها تعمل فقط حين يتم‬ ‫ليس لها بداه ً‬
‫توصيلها بة‘آلة’ أخرى مثل الجسد البشري‪ . . . .‬لكن يمكننا‬
‫آآلت مختلفة‪ .‬تصبح الدراجة‬
‫ٍ‬ ‫تخيّل توصيالت مختلفةة تُنتج‬
‫عمال فنيا حين توضع في قاعة عرض؛ ويصبح الجسد‬
‫البشري ‘فنانا’ حيت يتم توصيله بريشة رسم‪ 5".‬هنا ثمة‬
‫سبع آآلت‪ :‬الدراجة‪ ،‬الجسد البشري‪ ،‬قاعة العرض‪ ،‬ريشة‬
‫الرسم‪ ،‬الدراجة ة الجسد‪ ،‬الدراجة ة قاعة العرض‪ ،‬الجسد‬
‫ة ريشة الرسم‪ .‬لنأخذ اثنتين منها‪ .‬الدراجة تتركب من‬
‫سلسلة من التوصيالت بين أجزائها (كل منها‪ ،‬بدورها‪،‬‬
‫تتركب من سلسلة من التوصيالتة بين أجزائها الجزيئية)‪.‬‬
‫وتوصيالتها هي التي تخلق اآللة التي هي الدراجة‪ .‬والدراجة‬
‫ة أخرى‪ ،‬تتشكلة من منظومة أخرى من‬ ‫ة الجسد آل ٌ‬

‫‪202‬‬
‫التوصيالتة ‪ :‬القدم ة على ة البدّال‪ ،‬اليد ة على ة المقود‪،‬‬
‫المؤخرة ة على ة المقعد‪.‬‬

‫متوثِّباً‪.‬‬
‫م اآللة ُ‬
‫لو فكرنا بهذه الطريقة‪ ،‬ألصبح مفهو ُ‬
‫فهو ينطبق ال على الدراجات فحسب‪ ،‬بل كذلك على أجزاء‬
‫الدراجات ذاتها أجزاءً‬
‫ُ‬ ‫الدراجات وعلى األشياء التي تكوِّن‬
‫منها‪ .‬ليس ثمة وحدة تحليل متميّزة‪ .‬وسوف نمضي لنطبق‬
‫هذا المفهوم على السياسة‪ .‬لكن حتى اآلن‪ ،‬قبل أن نفعل‬
‫ذلك‪ ،‬يمكننا أن نرى إحدى فضائله‪ .‬فاعتماد النظرية‬
‫السياسية الليبراليةة على مفهوم الفرد باعتباره محور‬
‫التحليلة السياسي يجبرها على مقاربة السياسة بطريقة‬
‫ميكانيكيةة النزعة ‪ mechanistically‬أو عضوية‪ .‬وعالقة‬
‫األفراد بالمجتمع هي عالقة منظومة نوعية من التوصيالت‬
‫ل ذاتي ة التنظيم‪ .‬أما التفكيرة آآلتيا ً‪machinically‬‬‫أو ك ِّ‬
‫اعتبار عالقة األفراد بالمجتمع مستوىً واحدا فقط‬ ‫ُ‬ ‫فيعني‬
‫من التوصيالتة التي يمكن مناقشتها‪ .‬إذ يمكن أن يناقش‬
‫المرء أيضا توصيالت قبل ة فردية وتوصيالت فوق ة فردية‪.‬‬

‫وفضال عن ذلك‪ ،‬يمكن النظر إلى هذه التوصيالت في‬


‫سيولتها‪ .‬األفراد‪ ،‬في التقاليد الليبرالية‪ ،‬هم [كيانات]‬
‫معطاة ٌ ة سلفا‪ .‬يأتون بمصالحم (المختارة)‪ ،‬مرتدين إياها‬ ‫ُ‬
‫مثل شطري الساندوتش‪" .‬أنا بوب‪ .‬ومصالحي هي ‪:‬‬
‫ممارسة التزلج على اللوح‪ ،‬وتناول الطعام الصيني‪،‬‬
‫وقراءة روايات السيبر بانك ‪ ". cyberpunk‬لكن األفراد‬
‫لهم مصالح متغيرة تنشأ عن توصيالتهم المتغيرة ببيئاتهم‬
‫المتغيرة‪ .‬والتفكير اآلآلتي يعترف بهذه التغيرات‪ .‬اآلالت‬

‫‪203‬‬
‫ليست آليات‪ ،‬فهي تتطور‪ ،‬وتتحور‪ ،‬وتتصل من جديد بآآلت‬
‫مختلفة‪ ،‬هي نفسها في تطور وتحور‪.‬‬

‫منتِجة‪ .‬خالقة‪ .‬ويشدد‬ ‫ة ثالثة‪ .‬التوصيالتة اآلالتية ُ‬‫نقط ٌ‬


‫دولوز وجاتاري على هذه النقطة في ضد فف أوديب كتضاد ٍ‬
‫مع التفكير التحليلي ة النفسي‪ .‬بالنسبة للتحليل النفسي‪،‬‬
‫يجري تصور الرغبة على أساس النقص‪ .‬أنا أرغب ما أريده‬
‫لكن ال أملكه‪ .‬لكننا إذا فكرنا في الرغبة آآلتياً‪ ،‬فإنها تفقد‬
‫طابع النقص‪ .‬الرغبة خالقٌ للتوصيالت‪ ،‬وليستة نقصا يجب‬
‫ملؤه‪ .‬أن ترغب يعني أن تتصل باآلخرين‪ :‬جنسيا‪ ،‬سياسيا‪،‬‬
‫ة‬
‫رياضيا‪ ،‬غذائيا‪ ،‬مهنيا‪" .‬الثدي هو آلة تنتج الحليب‪ ،‬والفم آل ٌ‬
‫ة معه‪ .‬وفم المريض باألنوركسيا [العزوف المرضي‬ ‫معشّ ق ٌ‬
‫عن الطعام] يتذبذب بين عدة وظائف‪ :‬فمالكه غير متأكد ٍ‬
‫ة ة تحدّث‪ ،‬أو‬ ‫ة شرجية‪ ،‬أو آل َ‬ ‫ة ة أكل‪ ،‬أو آل ً‬
‫مما إذا كان آل َ‬
‫ة تنفّس (نوبات الربو)‪ 6".‬اآلالت ال تمأل فجوات النقص؛‬ ‫آل َ‬
‫بل تتصل‪ ،‬ومن خالل التوصيل تخلق‪.‬‬

‫ة بالنظرية‬‫لنقد دولوز وجاتاري للتحليل النفسي صل ٌ‬


‫السياسية الليبرالية‪ .‬فالنظرية الليبرالية تفكر في األفراد‬
‫على أساس ما ينقصهم سياسيا‪ .‬ليس األمر أن األفراد‬
‫نقص داخلية من النوع الذي‬ ‫ٍ‬ ‫يتأسسون بواسطة أية جوانب‬
‫م مفقودة‬ ‫يزعمه التحليلة النفسي‪ .‬ليس ثمة صورة ُ أ ٍّ‬
‫ل؛ وقد اختار‬ ‫تطاردها رغبة المرء إلى األبد‪ .‬الفرد هو ك ٌّ‬
‫الفرد مصالحه الخاصة‪ .‬ال شيء ينقص بذلك المعنى‪ .‬لكن‬
‫األفراد غير قادرين على تحقيق مصالحهم بأنفسهم‪ .‬ثمة‬
‫ص‪ ،‬ليس داخلهم‪ ،‬بل بين مصالحهم وبين البيئةة التي‬ ‫نق ٌ‬
‫م على الفور الموارد َ‬ ‫ة ال تقد ُ‬
‫يسعون إليها فيها‪ .‬فالبيئ ُة‬

‫‪204‬‬
‫ص بهذا المعنى‪،‬‬
‫لتحقيق مصالحهم‪ .‬ولو لم يكن هناك نق ٌ‬
‫لما كان هناك تحفي ٌز للموافقة على أن يُحكموا‪.‬‬

‫اإلجابة على سؤال لماذا سيسمح األفراد ُ ألنفسهم أن‬


‫يُحكَموا تخص دائما عدم قدرتهم على تحقيق مصالحهم‬
‫بأنفسهم‪ .‬وقد يرجع عدم القدرة هذا إلى الندرة‪ ،‬أو إلى‬
‫المنافسة من جانب اآلخرين‪ ،‬أو إلى تعقيد المصالح ذاتها‪.‬‬
‫لسبب أو آخر‪ ،‬يحتاج األفراد إلى اآلخرين حتى يُشبعوا‬
‫ٍ‬ ‫لكن‬
‫رغباتهم أو يحققوا مصالحهم‪ .‬فكرة النقص محورية في‬
‫النظرية السياسية الليبرالية‪.‬وتحفز العقد االجتماعي‪ .‬إنها‬
‫ما يربط مصائر األفراد بمصائر أفرادٍ آخرين‪.‬‬

‫ال تعمل اآلالت انطالقا من النقص‪ .‬وال تسعى لتحقيق‬


‫االحتياجات‪ .‬وبدال من ذلك تنتج التوصيالت‪ .‬وفضال عن‬
‫معطاة ة سلفا؛ اآلالت‬‫ذلك‪ ،‬ليست التوصيالت التي تنتجها ُ‬
‫بطرق غير متوَقَّعة وجديدة‬
‫ٍ‬ ‫ة‬
‫ليست آليات‪ .‬اآلالت منتج ٌ‬
‫غالبا‪.‬‬

‫مفهوم اآللة كما يستخدمه دولوز وجاتاري يشبه‬


‫مفهوم االختالف الذي طوّره دولوز قبل تعاونه مع جاتاري‪.‬‬
‫إذا كان الفرد هو المفهوم السياسي المحوري للصورة‬
‫الدوجمائية للفكر‪ ،‬فإن اآللة يمكن أن تمثل مفهوما سياسيا‬
‫محوريا لشكل الفكر الجديد الذي يطوّره دولوز‪ .‬فهي‬
‫تجلب إلى السياسة ثالث خصائص ألنطولوجيا دولوز‬
‫العامة‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫أوالً‪ ،‬تحتفظ اآلالت بمفهوم دولوز لالختالف باعتباره‬
‫إيجابيا وليس سلبيا‪ .‬لنتذكّر نقده للمفاهيم التقليدية‬
‫لالختالف‪ .‬االختالف خاضعٌ للهوية؛ االختالف هو ما ليس‬
‫متطابق الهوية‪ .‬هذا هو االختالف منظورا إليه باعتباره‬
‫نقصا‪ :‬االختالف هو نقص الهوية‪ ،‬هو الحرمان من التماثل‪.‬‬
‫لكن االختالف ليس بحاجةٍ إلى صبّه في دور النقص أو‬
‫السلبية‪ .‬وجاذبية مفهوم االختالف بالنسبة لدولوز هي أن‬
‫المرء إذا استطاع تصوّره إيجابيا ال سلبيا‪ ،‬فإنه يُظهِر أن‬
‫ثمة فيما يخص العالم أكثر مما يُطالع العين‪ .‬بهذه الطريقة‬
‫ة‬
‫تعمل اآلالت‪ .‬في تمايزها عن اآلليات‪ ،‬فإن اآلالت منتج ٌ‬
‫متحركة للتوصيالت‪ .‬ال تقبل االختزال إلى أية منظومةٍ‬
‫وحيدة للتوصيالت‪ ،‬وال إلى أية هوية معينة‪ .‬وحتى حين‬
‫ة بطريقة معينة فإنها قادرة ٌ على توصيالت‬ ‫صل ً‬
‫تكون مو ّ‬
‫أخرى ووظائف أخرى‪ .‬ويمكننا أن نسمي هذا الطابعَ‬
‫النيتشوي لآلالت‪.‬‬

‫كيف تكون قادرة ً على هذا الحراك؟ السببة أن اآلالت‬


‫ة في‬ ‫ال تقبل االختزال إلى توصيالتها الفعلية‪ .‬ثمة افتراضي ٌ‬
‫اآلالت تكمن في أية منظومة من التوصيالتة الفعلية وتتيح‬
‫بطرق أخرى عادة ما تكون مبتكرة‪ .‬الدراجات‬ ‫ٍ‬ ‫لها التوصيل‬
‫ومصادر لقطع الغيار‪ ،‬وبنود ٌ في‬
‫ٌ‬ ‫ل نقل‪ ،‬وأعما ٌ‬
‫ل فنية‪،‬‬ ‫وسائ ُ‬
‫اقتصاد تبادل‪ ،‬وموضوعات لفانتازيا الطفولة ةة وكلها تعتمد‬
‫آآلت أخري يتم توصيلها بها‪ .‬ويمكننا أن نسمي‬ ‫ٍ‬ ‫على أية‬
‫هذا الطابعَ البرجسوني لآلالت‪.‬‬

‫وأخيراً‪ ،‬فإن الخاصية االفتراضية لآلالت‪ ،‬حركيتها‬


‫كآآلت وحركية مفهوم اآللة‪،‬ال تأتي من طابعها المتعالي‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫فليست اآلالت قادرةً على تلك الحركية ألنها تقف خارج‬
‫توصيالتها‪ .‬فليس ثمة شيء من قبيل آلةٍ خارج توصيالتها‪.‬‬
‫فمن داخل توصيالتها‪ ،‬وربما أحيانا من خاللها‪ ،‬تكون اآلالت‬
‫توصيالت أخرى‪ .‬إذ يمكن لجذر شجرةٍ أن‬
‫ٍ‬ ‫قادرةً على إنتاج‬
‫يتصل من خالل التربة بأساس منزل‪ ،‬حيث يُنتج فَلقا ً يُتيح‬
‫لحيوانات الخُلد أن تنقب من خالله‪ .‬ويسمي دولوز‬
‫وجاتاري التحليل الفصامي الذي يطوّرانه في ضد فف‬
‫أوديب طبا ً نفسيا ماديا‪ ،‬في تضادٍ مع الطب النفسي‬
‫المتعالي للتحليلة النفسي‪ .‬الطب النفسي المادي ال يرى‬
‫أن شخصا متعالياة (أوديب‪ ،‬على سبيل المثال) ينظم‬
‫التوصيالتة التي يتم عملها‪ .‬فالتوصيالت تنشأ من داخل‬
‫ة من الخارج‪ .‬ويمكننا أن نسمي‬ ‫المادة؛ وليستة مفروض ً‬
‫هذا الطابعَ السبينوزي لآلالت‪.‬‬

‫عرف التشكيالتة االجتماعية بواسطة‬ ‫"إننا ن ُ ِّ‬


‫سيرورات آآلتية ال بواسطة أنماط إنتاج (فهذه على‬ ‫ٍ‬
‫‪7‬‬
‫العكس تعتمد على السيرورات)‪ ".‬في تضاد مع فرويد‪،‬‬
‫ض أنماطا ً‬ ‫منظِّم لة"اآلالت ة الراغبة" يفرِ ُ‬
‫عنصر ُ‬
‫ٌ‬ ‫ليس هناك‬
‫نوعية للتوصيالتة من الخارج أو من أعلى‪ .‬وفي تضاد مع‬
‫عرف األنماط االقتصادية لإلنتاج التوصيالتة‬ ‫ماركس‪ ،‬ال ت ُ ِّ‬
‫عرفها‬
‫اآلالتية‪ .‬بل‪ ،‬بالعكس‪ :‬فاألنماط االقتصادية لإلنتاج ي ُ ِّ‬
‫م يمكن تطويره‬ ‫طابع توصيالتها اآلالتية‪ .‬اآللة هي مفهو ٌ‬
‫ليُشكِّل أنطولوجيا سياسية دولوزية تتجنب الصورة‬
‫الدوجمائية للفكر التي تُبَنيِنة النظرية السياسية الليبرالية‪.‬‬

‫‪IV‬‬
‫‪207‬‬
‫يعني احتضان مفهوم اآللة أن ننتقل من التركيز على‬
‫الماكرو ة سياسي [السياسي الكلّي أو ال ُ‬
‫مكبَّر] إلى‬
‫الميكرو ة سياسي [السياسي المتناهي الصغر]‪ ،‬من‬
‫الموالري إلى الجزيئي‪ .‬والتمييز بين هذين الزوجين من‬
‫المصطلحات هو واحد ٌ من أكثر األمور التي أُسيء فهمها‬
‫في فكر دولوز‪ .‬وفقط حين نبدأ في إدراك مفهوم اآللة‬
‫يمكننا أن نبدأ في فهم الدور المقصود أن تلعبه هذه‬
‫المصطلحات‪.‬‬

‫ويمضي سوء فهم الماكرو ة سياسي والميكرو ة‬


‫سياسي‪ ،‬أو الموالري والجزيئي‪ ،‬على النحو التالي‪ .‬يخص‬
‫الماكرو ة سياسي الكيانات السياسية الضخمة أو‬
‫المؤسسات أو القوى التاريخية‪ .‬والليبراليون الذين يركزون‬
‫على الدولة والماركسيون الذين يركزون على االقتصاد هم‬
‫منظّرون ماكرو ة سياسيون‪ .‬وهم يُغفلونة العناصر الصغيرة‬
‫التي تكوّن حيواتنا السياسية‪ .‬وينبهرون بالمخطط الضخم‬
‫لألشياء‪ .‬لكن‪ ،‬حتى نفهم كيف ننبني وكيف تعمل السلطة‪،‬‬
‫يجب أن نستدير من المقياس الضخم إلى المقياس‬
‫األصغر‪ .‬البد أن نركّز على األشياء الصغيرة‪ .‬البد أن‬
‫نستبدل التلسكوبة بالميكروسكوب‪ .‬عندها فقط سنرى‬
‫السلطة السياسية وهي تعمل‪.‬‬

‫هذا مخطط جيد إلدراك فكر فوكوه‪ .‬فهو يحلل‬


‫السلطة عند ما يسميه عادة ً "أنابيبها الشَّ عرية"‬

‫‪208‬‬
‫‪ .capillaries‬وهذه ال تتعلق كثيرا بمفهوم الميكرو ة‬
‫سياسة لدى دولوز وجاتاري‪.‬‬

‫عرف الجزيئي‪ ،‬أو الميكرو ة‬ ‫يكتب دولوز وجاتاري‪" ،‬ي ُ َّ‬


‫صغَر عناصره بل بطبيعة‬ ‫اقتصاد‪ ،‬أو الميكرو ة سياسة‪ ،‬ال ب ِ‬
‫مي في مقابل الخط الموالري‬ ‫‘كتلته’ ةة الدفق الك ّ‬
‫صغَر بل‬ ‫القطاعي ‪ molar segmented line."8‬ليس ال ِ‬
‫عرف الجزيئي والميكرو ة سياسة‪ .‬الدفق‬ ‫شيء آخر هو ما ي ُ ِّ‬
‫مي في مقابل الخط الموالري القطاعي‪ .‬ما هو الدفق‬ ‫الك ّ‬
‫مي؟ هو ما صادفناه في مناقشة العلم‪ .‬الدفق الكمي‬ ‫الك ّ‬
‫ل افتراضي يُفعِّلة نفسه‪ .‬إنه سيرورة آآلتية‪.‬‬ ‫هو مجا ٌ‬
‫مي‪.‬‬ ‫مي‪ .‬البيضةة هي دفق ك ّ‬ ‫المعلومات الجينيةة هي دفقٌ ك ّ‬
‫عرضها لشروط‬ ‫ة نفهمها حين ن ُ ِّ‬ ‫مي‪ ،‬حقيق ٌ‬ ‫المادة هي دفق ك ّ‬
‫بعيدة عن االتزان‪ .‬في الفيزياء‪ ،‬تحاول نظرية الكم أن‬
‫ة عادةً للصدفة وعدم قابلية‬ ‫عرض ً‬ ‫م َّ‬‫تفهم المادة باعتبارها ُ‬
‫التنبؤ‪ .‬ومعركة آينشتين مع نظرية الكم تتعلق بهذا‬
‫بالضبط‪ .‬قال‪"،‬الرب ال يلعب النرد مع الكون"‪ .‬أوه‪ ،‬لكن‬
‫الرب يفعل‪ ،‬هكذا أجاب دعاة نظرية الكم‪ ،‬ومعهم نيتشه‬
‫ودولوز‪ .‬هناك فيما يتعلق بالكون أكثر مما يُطالع العين‪،‬‬
‫منظِّر النسبية‪.‬‬ ‫حتى عين ُ‬

‫معطاة ٌ ذات‬‫الخطوط الموالرية القطاعية‪ :‬هويات ُ‬


‫حدود ٍ قابلة للتعرف‪ .‬والدفقات الكمية‪ :‬هويات سائلة تنشأ‬
‫عشوائي وغير قابل‬
‫ٍ‬ ‫طي‪ ،‬وبسط‪ ،‬وإعادة طي للمادة‪،‬‬‫ٍ‬ ‫من‬
‫للتنبؤ عادةً‪ .‬الميكرو ة سياسة ليست مسألة الصغير؛ة بل‬
‫مية‪ .‬مسألة آآلت‪.‬‬‫مسألة دفقات ك ّ‬

‫‪209‬‬
‫معطاة لفكرنا‬ ‫التفكيرة آآلتيا ً يعني اإلقرار بأن الهويات ال ُ‬
‫ة وقابلية للتغيرة مما جعلونا نعتقد‪.‬‬
‫السياسي أكثر سيول ً‬
‫يعني البحث ال عن الطبيعة األبدية للكيانات السياسية‬
‫التقليدية‪:‬ة األمة‪ ،‬الدولة‪ ،‬الشعب‪ ،‬االقتصاد‪ .‬بل البحث بدال‬
‫ما‬
‫ما يفلت منها‪ .‬ال يعني هذا أن يبحث المرء ع ّ‬ ‫من ذلك ع ّ‬
‫يقع خارجها؛ بل يعني أن يبحث المرء عما يفلت منها و‬
‫خارج‪ .‬فما يفلت هو‬
‫ٍ‬ ‫متعال أو‬
‫ٍ‬ ‫داخلها‪ .‬ال نعود نبحث عن‬
‫من نفس نوع ما يفلت منه‪ .‬ليس ثمة سوى محايثة‪ .‬وما‬
‫مجال آخر؛ إنه‬
‫ٍ‬ ‫يسميه دولوز خط هروب ليس قفزةً إلى‬
‫مجال ما يهرب منه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫نطاق‬
‫ِ‬ ‫ج داخل‬ ‫إنتا ٌ‬

‫الفكر السياسي الذي يجري تصوره على أساس‬


‫تفكير‬
‫ٌ‬ ‫كاف ألنه‬
‫ٍ‬ ‫غير‬
‫ُ‬ ‫كاف‪ .‬وهو‬
‫ٍ‬ ‫غير‬
‫ُ‬ ‫الدولة أو االقتصاد‬
‫ماكرو ة سياسي‪ .‬لكنه ليس تفكيرا ماكرو ة سياسيا ألن‬
‫الدولة واالقتصاد كبيران ال صغيران‪ .‬إنهما كبيران‪ .‬لكن‬
‫جه‬
‫عدم الكفاية يكمن في موضع آخر‪ .‬األمر أن الفكر المتو ّ‬
‫حولهما يميل إلى أن يكون جامدا‪ .‬يفتقر إلى اللدونة التي‬
‫تتيح لنا البدء في التعرفة على السيرورات اآلالتية‪ .‬يناقش‬
‫دولوز وجاتاري الدولة واالقتصاد‪ .‬يناقشانهما بإسهاب‪.‬‬
‫لكنهما يفعالن ذلك فيما بعد‪ ،‬بعد أن يكونا قد أقاما أولوية‬
‫اآلآلتي‪ ،‬أي الميكرو ة سياسي‪.‬‬

‫أليس ثمة ماكرو ة سياسة؟ أال توجد هويات مستقرة‬


‫ترتبط بحيواتنا السياسية؟ توجد‪" :‬كل شيء سياسي‪ ،‬لكن‬
‫كل سياسة هي في نفس الوقت ماكرو ف سياسة‬
‫وميكرو ف سياسة‪ 9".‬لكننا يجب أن نحاذر هنا‪ .‬ليس هناك‬
‫مجاالن‪ ،‬الموالري والجزيئي‪ ،‬يتقاطعان أو يتعاونان ليشكال‬

‫‪210‬‬
‫خلقا سياسيا‪ .‬وال يوجد حتى مستويان منفصالن‪ .‬هناك كل‬
‫من ماكرو ة سياسة وميكرو ة سياسة‪ ،‬لكن الميكرو ة‬
‫سياسة تأتي أوال‪ .‬إنها أولية‪ .‬لنأخذ‪ ،‬مثال‪ ،‬مفهوم الطبقة‬
‫االجتماعية‪:‬‬

‫الطبقات االجتماعية ذاتها تتضمن "جماهير" ليس لها نفس‬


‫نوع الحركة‪ ،‬أو التوزيع‪ ،‬أو األهداف وال تشن نفس النوع من‬
‫الصراع‪ .‬والمحاوالت لتمييز الجمهور عن الطبقة تميل فعليا‬
‫ة جزيئية تعمل طبقا‬ ‫إلى هذا الحد‪ :‬مقولة الجمهور هي مقول ٌ‬
‫ط من االنقسام القطاعي ال يقبل االختزال إلى‬ ‫لنم ٍ‬
‫االنقسامية القطاعية الموالرية للطبقة‪ .‬إال ّ أن الطبقات في‬
‫ة من الجماهير؛ إنها تُبلورها‪ .‬والجماهير تفيض‬‫مصاغ ٌ‬‫الحقيقة ُ‬
‫‪10‬‬
‫أو تتسرب باستمرار من الطبقات‪.‬‬

‫هل توجد طبقات؟ هل توجد دول؟ هل يوجد جنسان‬


‫وأنماط إنتاج وجماعات إثنية وأراض قومية؟ نعم‪ ،‬توجد‪.‬‬
‫لكننا يجب أن نفكر فيها على أنها اتزانات نسبية‪ ،‬على أنها‬
‫نتاجات لسيرورات آآلتية تشيّدها من خالل تشكيل‬
‫توصيالت وفي نفس الوقت تفيض عنها من الداخل‪.‬‬
‫الماكرو ة سياسة توجد بالفعل‪ ،‬ويجب أن ندرس‬
‫سيروراتها لو كنا سنفهم العالم الذي نُسيِّر فيه حيواتنا مع‬
‫اآلخرين‪ .‬لكن يجب أن يظل في أذهاننا دوما أن السياسة‬
‫بينما هي في نفس الوقت ماكرو ة سياسة وميكرو ة‬
‫سياسة‪ ،‬فإن الميكرو ة سياسة هي األولية‪.‬‬

‫‪V‬‬
‫‪211‬‬
‫أمامنا العديد من المصطلحات السياسية‪ :‬التوطينة‬
‫‪ territorialization‬ونزع التوطينة‬
‫‪ ، deterritorialization‬الدولة والرأسمالية‪ ،‬األنواع‬
‫المختلفة من الخطوط (الموالرية‪ ،‬الجزيئية‪ ،‬خطوط‬
‫الهروب)‪ ،‬جماعات الذات ‪ subject groups‬الجماعات‬
‫الخاضعة ‪ . subjugated groups‬وقبل االستدارة إليها‪،‬‬
‫يجب أن نتوقف للتزود بالزاد‪ .‬يجب لمقوالت اآللة‬
‫والماكرو ة والميكرو ة سياسي أن تجد مكانها في طيات‬
‫فكر دولوز‪.‬‬

‫السؤال الذي نسأله هو سؤال كيف يمكن أن يحيا‬


‫م‬
‫المرء‪/‬الكائن‪ .‬وقد تم تقسيمه إلى سؤالين متصلين‪ :‬م ّ‬
‫يمكن أن يتكون العيش؟ وكيف يمكن أن نشرع في‬
‫العيش؟‬

‫بالنسبةة للسؤال األول‪ ،‬رأينا أن العيش قد يكون شيئا‬


‫ال يقتصر على المادة العضوية‪ .‬العالم يحيا‪ .‬الوجود يحيا‪.‬‬
‫إنه يحيا ال بواسطة السيرورات العضوية بل بتفتُّح‬
‫أشكال فعلية‪ ،‬بأن يحقق من داخل االختالف‬ ‫ٍ‬ ‫افتراضيته إلى‬
‫ط بعينها‪ .‬وتلك الهويات ال تجرف‬ ‫هويات بعينها تحت شرو ٍ‬
‫ٍ‬
‫نفسها بعيدا عن االختالف؛ بل يتخللها االختالف‪ .‬لكن الهوية‬
‫م َفعَّ ٌ‬
‫ل‪.‬‬ ‫ف ُ‬
‫ليست اختالفا خالصا؛ إنها اختال ٌ‬

‫فكر سياسي يستجيب‬ ‫ٌ‬ ‫الميكرو ة سياسة هي‬


‫لالختالف‪ .‬لقد تكلّس الفكر السياسي التقليدي‪ .‬ال يمكنه‬
‫سوى التأمل في الهويات التي يراها أبدية‪ :‬الدولة‪ ،‬األمة‪،‬‬
‫‪212‬‬
‫االقتصاد‪ ،‬العسكريين‪ ،‬ووراءهم جميعا‪ ،‬الفرد‪ .‬لكن لنفترض‬
‫أن هذه الهويات تأتي فيما بعد‪ .‬لنفترض أنها ليستة البنود‬
‫م‬
‫األولية للسياسة‪ .‬لنفترض أن العالم هو في الحقيقة عال ُ‬
‫تفعيالت‬
‫ٍ‬ ‫اختالف‪ .‬حينها سيكون الفرد‪ ،‬والدولة‪ ،‬واالقتصاد‬
‫الختالف ليس بحاجة إلى تفعيله بهذه الطرق‬
‫ٍ‬ ‫معينة‬
‫بطرق‬
‫ٍ‬ ‫المعينة‪ ،‬أو يمكن تفعيله بهذه الطرق لكن كذلك‬
‫كثيرةٍ مختلفة‪.‬‬

‫تحت هذا النقد يكمن نقد ٌ آخر‪ .‬قد يمكن تصور عالمنا‬
‫السياسي على أساس هذه الهويات‪ .‬وحتى لو لم تكن‬
‫مجال من االختالفات‬
‫ٍ‬ ‫ة على‬‫أولية‪ ،‬حتى برغم كونها مبني ً‬
‫المرنة‪ ،‬فقد ال يكون ثمة شيءٌ غير مترابط في استخدام‬
‫هذه الهويات لفهم وتعديل عالقاتنا ببعضنا البعض‪ .‬الفكر‬
‫ة مستحيلةة للتفكير في‬‫الليبرالي التقليدي ليس طريق ً‬
‫السياسة‪ .‬ليس مخطئا أو متناقضا ة ذاتيا بالكامل‪ .‬فالماكرو‬
‫ة سياسة تلتقط‪ ،‬ولو بصورة غير كافية‪ ،‬بعض جوانب‬
‫خبرتنا السياسية‪ .‬لكن لو أحللنا الميكرو ة سياسة محل‬
‫الماكرو ة سياسة ‪ ،‬لو بدأنا في التفكير آآلتيا‪ ،‬فسوف نبدأ‬
‫في أن نرى أكثر مما تطرحه الماكرو ة سياسة أمام‬
‫أنظارنا‪ .‬اآلالت تنتج توصيالت ليس فقط بالدولة واالقتصاد‪.‬‬
‫اآلآلت تنتج كل أنواع التوصيالت‪ ،‬توصيالت لن نبدأ في‬
‫رؤيتها إال ّ إذا استدرنا بعيدا عن الفكر السياسي التقليدي‪.‬‬

‫لنأخذ حركة مناهضةة العولمة‪ .‬إذانظرنا إليها من خالل‬


‫عدسة النظرية السياسية التقليدية‪ ،‬فقد نرى شيئا كالتالي‪.‬‬
‫تأثيرات معينةة للرأسمالية‬
‫ٍ‬ ‫مع األفراد معا ليقاوموا‬
‫تج ّ‬
‫الكوكبية على حيواتهم وعلى حيوات اآلخرين‪ .‬فالتلوث‪،‬‬

‫‪213‬‬
‫واالستغالل‪ ،‬وتدمير الموارد الطبيعية‪ ،‬وفساد الحكوماتة‬
‫جميعها تأثيرات للرأسمالية الكوكبية‪ .‬وبالتظاهر‪ ،‬وتوزيع‬
‫العرائض‪ ،‬ورفع الوعي بالموضوع‪ ،‬تأمل حركة مناهضة‬
‫العولمة في تخفيف أو ربما إنهاء تلك التأثيرات‪ ،‬ربما بإنهاء‬
‫الرأسمالية كما تطوّرت عبر األربعين أو الخمسين سنة‬
‫الماضية‪.‬‬

‫هذه ليست نظرة خاطئة‪ .‬ثمة شيءٌ صائب في النظر‬


‫إلى الحركة بهذه الطريقة‪ .‬فهناك‪ ،‬بالفعل‪ ،‬أفراد يتجمعون‬
‫معا على النحو الذي يصوّره الوصف‪ .‬المشكلة ليست أن‬
‫كاف‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫التقرير زائف بل أنه غير‬

‫الطبقة األولى التي تخفق هذه النظرة في رؤيتها هي‬


‫بطرق تخترق التصنيفاتة السياسية‬ ‫ٍ‬ ‫أن الناس يرتبطون‬
‫التقليدية‪ .‬فمثال‪ ،‬يفكر المزارعون العضويون ونشطاء‬
‫مناهضة العولمة في‪ ،‬ويمارسون طرقا مختلفة للتعاملة‬
‫مع‪ ،‬األرض ومقاربات مختلفة لألكل‪ .‬وفي هذا السياق‪،‬‬
‫تكون النزعة النباتية نشاطا سياسيا‪ .‬ومثال آخر‪ ،‬تفكر‬
‫مجموعات النشطاء في الديناميات الداخلية للمجموعات‪.‬‬
‫بطرق‬
‫ٍ‬ ‫يسألون كيف يجب أن يرتبطوا ببعضهم البعض‬
‫تتجنب السيطرة أو تكرار أوجه االضطهاد التقليدية‬
‫(للنساء‪ ،‬والزنوج‪ ،‬إلى آخره)‪ .‬وبدل إعادة إنتاج بنية‬
‫المجموعة التقليدية للزعماء (البيض‪ ،‬الذكور‪ ،‬عادةً) الذين‬
‫يضعون جدول األعمال واألتباع الذين ينفّذونها‪ ،‬يسعون‬
‫تعبيرات متنوعة أو جديدة‪ ،‬وآليات اتخاذ قرار‬
‫ٍ‬ ‫إلتاحة‬
‫توافقية‪ ،‬والمزيد من المشاركة الفعالة‪.‬‬

‫‪214‬‬
‫إذا نظرنا إلى حركة مناهضة العولمة بصرامة من‬
‫وجهة نظر األفراد الذين يشكلون منظمات من أجل‬
‫التدخل بالطرق السياسية القياسية‪ ،‬لما أمسكنا بهذه‬
‫الطرق للتواصل‪ .‬لكن التفكيرة اآلالتي يتيح لنا رؤيتها‪.‬‬

‫ويستخدم دولوز مثاال مختلفا عن الفكر السياسي‬


‫التقليدي‪ .‬وهو مثال قديم‪ ،‬لكن قِدَمه هو ذاته شهادة على‬
‫الحيوية التي يريد أن يحققها الفكر السياسي‪.‬‬

‫تخيّل أنه تم بين الغرب والشرق إدخال قطاعيةٍ‬


‫مرتّبة في‬
‫‪ segmentarity‬معينة‪ ،‬متعارضة في آلةٍ ثنائية‪ُ ،‬‬
‫مجردة كتخطيط لنظام‬ ‫َّ‬ ‫مشفّرة بواسطة آلةٍ‬ ‫أجهزة دولة‪ُ ،‬‬
‫عالمي‪ .‬عندها ستحدث القلقلة من الشمال إلى‬
‫فلسطيني في مكان آخر‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫كورسيكي هنا‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫الجنوب‪. . . .‬‬
‫تمرد قَبَلي‪ ،‬حركة نسوية‪ ،‬إيكولوجي أخضر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫خاطف طائرة‪،‬‬
‫ص ينتفض إلى‬ ‫منشق روسي ةة سيكون هناك دوما شخ ٌ‬
‫‪11‬‬
‫الجنوب‪.‬‬

‫هةةةذه التوصةةةيالتة المختلفةةةة‪ ،‬الةةةتي يمكن تسةةةميتها‬


‫توصيالت "مستعرضة"ة ةة ألنهةةا تخةةترق الهويةةات السياسةةية‬
‫التقليدية ةة غير مرئية بالنسبةة للنظرية السياسية الليبرالية‪.‬‬
‫والتفكةةيرة اآلالتي يةةتيح لنةةا رؤيتهةةا‪ .‬هةةل هةةذه التوصةةيالتة‬
‫المستعرضةةة سياسةةية؟ إنهةةا تتضةةمن طرقةةا للعيش معةةا؛‬
‫ة‪ .‬فلماذا ال تكون سياسية‪.‬‬ ‫تتضمن سلط ً‬

‫هذه هي الطبقة األولى من السياسة التي يتجاهلها‬


‫ة أخرى‪ ،‬أو‬ ‫التفكيرة الليبرالي التقليدي‪ .‬لكن هناك طبق ٌ‬
‫مجموعة من الطبقات‪ ،‬سوف يتيح لنا التفكير اآلالتي‬

‫‪215‬‬
‫الوصول إليها‪ .‬ألننا حتى في الطبقة األولى‪ ،‬نتعامل مع‬
‫أفراد في عالقةٍ ببعضهمة البعض‪ .‬وال نحتاج إلى أن نُقارب‪،‬‬
‫مثال‪ ،‬حركة مناهضة العولمة على أنها مسألة أفراد‪ .‬إذ‬
‫يمكننا النظر إليها من منظورات أخرى ستتيح لنا رؤية‬
‫أشياء مختلفة‪.‬‬

‫وها هو أحد تلك المنظورات‪ .‬حركة مناهضةة العولمة‬


‫هي حركة أرض‪ .‬حركة جزء من األرض يسعى إلى تجديد‬
‫بطرق نوعية ولترميم أو حماية أجزاء أخرى من‬
‫ٍ‬ ‫نفسه‬
‫أنساق ة‬
‫ٍ‬ ‫األرض‪ .‬ويمكننا القول أن األرض تتكون من‬
‫إيكولوجية ‪ . ecosystems‬هذه األنساق ة اإليكولوجية قد‬
‫أنواع متنوعة من التوازن؛ قد تكون عضوية‬
‫ٍ‬ ‫تكون في‬
‫بالمعنى الذي تستخدمه كلير بروك للمصطلح‪ .‬لكنها حتى‬
‫حين تكون متوازنة‪ ،‬تكون ثمة أوجه عدم توازن تسكنها‪.‬‬
‫ص من عدم التوازن‬ ‫وحركة مناهضة العولمة هي نمط خا ٌ‬
‫يخترق أنساقا ة إيكولوجية ويحاول أن يحمي أو يرمم‬
‫أنماطا خاصة من التوازن فيما بينها أو في داخلها‪ .‬وحتى‬
‫نستبق بعض المصطلحات الدولوزية‪ ،‬فإن حركة مناهضة‬
‫العولمة هي نزع ة توطين ‪ deterritorialization‬سيتيح‬
‫نمطا جديدا من إعادة ة التوطينة ‪.reterritorialization‬‬

‫النظر إلى األشياء بهذه الطريقة أن نراه؟‬


‫ُ‬ ‫ماذا يتيح لنا‬
‫ة سياسية؟ هناك على‬ ‫ولماذا يجب أن تكون األرض مقول ً‬
‫األقل استبصاران نكسبهما من تقديم تقرير يركّز على‬
‫األرض بدل األفراد‪ .‬أوال‪ ،‬أنه يتيح لنا أن نرى السياسة‬
‫ة سياسية‪.‬‬‫ة بيئية‪ ،‬مثلما أن البيئة مسأل ٌ‬‫باعتبارها مسأل ً‬
‫النزعةة البيئية ليست مجرد حركةٍ لألفراد في عالقة مع‬

‫‪216‬‬
‫األرض‪ .‬إنها ذلك‪ ،‬لكنها ليست ذلك فقط‪ .‬فحيث أن األفراد‬
‫هم أنفسهم جزءٌ من األنساق ة اإليكولوجية‪ ،‬فإن النزعة‬
‫البيئيةة ليستة مجرد حركة عن األنساق ة اإليكولوجيةة بل‬
‫أيضا حركة داخل هذه األنساق‪ .‬وإدخال األرض باعتبارها‬
‫مقولة سياسية يتيح لنا فهم هذا‪.‬‬

‫ثانيا‪ ،‬يخفّف التحولة من األفراد إلى األرض من قبضة‬


‫المقوالت السياسية التقليدية على فكرنا‪ .‬إذ أن إجبارنا‬
‫صلة ما هو سياسي بواسطة مقوالت‬ ‫مف َ‬
‫ألنفسنا على َ‬
‫مختلفة يقلّل من حس الطبيعية المرتبط بتلك المقوالت‬
‫ة ليكتسبة أو يستعيد‬‫التي تكلّست‪ .‬يتيح لفكرنا فرص ً‬
‫الليونة‪ .‬وإذا كنا سنفكر في السياسة بواسطة االختالف‪،‬‬
‫فسوف نحتاج إلى تلك الليونة‪.‬‬

‫ل مقولة األرض محل مقولة‬ ‫ح ُّ‬‫وال يعني هذا أننا سن ُ ِ‬


‫ما ‪/‬‬‫األفراد في فهم حركة مناهضةة العولمة‪ .‬ليس األمر إ ّ‬
‫أو‪ .‬بل هو ‪ ،‬كما يردد دولوز في كتاباته المتأخرة‪ ،‬و‪ . . .‬و‪. .‬‬
‫‪ .‬و‪ .‬ال نقول‪" ،‬ال‪ ،‬ليس األمر عن األفراد‪ ،‬بل عن األرض‪".‬‬
‫بل نقول‪" ،‬نعم‪ ،‬إنه عن األفراد‪ ،‬لكنه ليس عنهم بأكثر مما‬
‫هو عن األرض‪ ".‬المهمة ليستة استبدال منظومةة واحدة‬
‫من المقوالت بمنظومة أخرى‪ .‬بل أن نكون قادرين على‬
‫خلق والتحرك فيما بين مختلف منظومات المقوالت‪،‬‬
‫يقر بأننا‬
‫ّ‬ ‫وحتى على المرور بينها‪ .‬الفكر السياسي لالختالف‬
‫أكثر لنقوله‪.‬‬
‫ُ‬ ‫مهما استخدمنا من مقوالت‪ ،‬فثمة دائما ما هو‬
‫نحن بحاجة إلى أن نكون مستعدينة لتغييرة المنظورات حتى‬
‫نقول أكثر‪ ،‬حتى نرى أكثر‪.‬‬

‫‪217‬‬
‫حتى اآلن‪ ،‬كنا ننظر في القراءة األولى لسؤال كيف‬
‫يمكن أن يحيا المرء‪" :‬مم يمكن أن يتكون العيش معا؟"‬
‫وتتيح لنا مقاربة دولوز وجاتاري السياسية اآلالتية أن نفتح‬
‫هذا السؤال من زوايا مختلفة‪ ،‬أن نرى التوصيالتة المختلفةة‬
‫مستويات مختلفة‪ .‬وبدال من التسليم بأن‬
‫ٍ‬ ‫التي تُصنع عند‬
‫نقص بعينها‬
‫ٍ‬ ‫هناك أفراد بعينهم لهم إحتياجات أو جوانب‬
‫يسعى االنخراط في السياسة لملئها‪ ،‬يمكن أن يتمثل‬
‫العيش السياسي في خلق توصيالت فيما بين وداخل‬
‫م َفعَّلَة لالختالف‪ :‬األفراد‪ ،‬األرض‪،‬‬
‫مختلف المستويات ال ُ‬
‫الجنوب ‪ .‬مقاربة السؤال على هذا النحو تفتح دروبا جديدة‬
‫المضي بصدد‬
‫ُّ‬ ‫لمقاربة السؤال الثاني‪" :‬كيف يمكننا‬
‫العيش؟"‬

‫ولدى اإلبحار في هذا السؤال الثاني‪ ،‬ال نريد تقديم‬


‫إجابات‪ .‬ال نريد أن نقول‪ ،‬يجب أن يحيا المرء بالطريقة‬
‫ة عامة‪ .‬فقد انتهينا من كل‬‫الفالنية‪" .‬ليست هناك وصف ٌ‬
‫المفاهيم العولمية‪ 12".‬ليس سؤال كيف يجب أن نحيا؛ بل‬
‫سؤال كيف يمكن أن نحيا‪ .‬ومنظورا إليه من وجهة نظر‬
‫دولوز وجاتاري‪ ،‬يمكن أن يكون السؤال شيئا من قبيل‪:‬‬
‫"ما التوصيالت التي يمكن أن نشكلها؟" أو‪" ،‬ما التفعيالتة‬
‫التي يمكننا التجريب معها؟" وإذا سألنا السؤال بهذه‬
‫الطريقة‪ ،‬فإننا بحاجة إلى أن يظل في أذهاننا أن الة "نحن"‬
‫معطاةً‪ .‬إذ يمكنها أن تكون‬‫في السؤال ليست نحن ُ‬
‫جماعة‪ .‬ويمكنها أن تكون فردا‪ .‬يمكنها أن تكون نسقا ة‬
‫إيكولوجيا أو جزءا ً قبل ة فردي أو مقطعا ة عرضيا داخل‬
‫بيئةٍ أو شريحةٍ جغرافية‪ .‬وما يجعلها "نحن" ليس استقرار‬
‫هويةٍ ما‪ .‬بل المشاركة في تشكيل توصيالت‪.‬‬

‫‪218‬‬
‫عيش معا؟ هل‬
‫ٍ‬ ‫هل ستكون هذه المشاركة مسألة‬
‫لكل من السؤالين‪ .‬السياسة تجربة‬
‫ٍ‬ ‫ة؟ نعم‬
‫ستتضمن سلط ً‬
‫في التوصيالتة اآلالتية؛ وليست توزيعا للسلع لمن تنقصهم‪.‬‬
‫والسؤال كيف يمكن أن نمضي بصدد العيش ال يعني تكرار‬
‫السؤال الكئيبة عن من يحتاج ماذا‪ .‬بل يعني بدال من ذلك‬
‫أن نختبر مجال االختالف الذي نكونه حتى نخلق ترتيبات‬
‫جديدة وأفضل (فيما نأمل) للعيش‪ ،‬بأوسع معاني كلمة‬
‫العيش‪.‬‬

‫‪VI‬‬

‫هناك صورة أخري يستخدمها دولوز وجاتاري لتصوير‬


‫خصائص التفكير اآلالتي‪ :‬هي الريزوماتية ‪. rhizomatics‬‬
‫فهما يقيمان تضادا بين الريزومة وبين الشجرة‪ .‬للشجرة‬
‫جذور بعينها تغرس نفسها في التربة في مكان بعينه وتنشأ‬‫ٌ‬
‫عنها األغصان ثم األوراق بطريقةٍ بعينها‪ .‬إنها نسقُ اشتقاق‪:‬‬
‫ة هنا‬
‫أوال الجذور‪ ،‬ثم الجذع‪ ،‬ثم األوراق‪ .‬الجذور مغروس ٌ‬
‫ة بالجذع‪ ،‬واألوراق‬
‫وليس في مكان آخر‪ .‬واألغصان مربوط ٌ‬
‫باألغصان‪.‬‬

‫الريزومات ال تعمل بهذه الطريقة‪ .‬فنبات كودزو‬


‫‪ Kudzu‬ريزومة‪ .‬ويمكنه أن يُنبت جذورا من أية نقطة‪،‬‬
‫وأوراقا وفروعا من أية نقطة‪ .‬ليس له بداية‪ :‬ال جذور‪.‬‬
‫‪219‬‬
‫ليس له وسط‪ :‬ال جذع‪ .‬وليس له نهاية‪ :‬ال أوراق‪ .‬إنه دائما‬
‫في المنتصف‪ ،‬دائما في سيرورة‪ .‬ليس هناك شك ٌ‬
‫ل بعينه‬
‫ُ‬
‫يرتبط به‪ .‬ويمكنه االتصال‬ ‫موطن بعينه‬
‫ٌ‬ ‫عليه أن يأخذه وال‬
‫من أي جزءٍ منه بشجرة‪ ،‬باألرض‪ ،‬بسياج‪ ،‬بنباتات أخري‪،‬‬
‫بنفسه‪.‬‬

‫ف فحسب‪.‬‬ ‫ف‪ ،‬تحال ٌ‬


‫الشجرة بُنوّةٌ‪ ،‬لكن الريزومة تحال ٌ‬
‫الشجرة تفرض الفعل "يكون ‪ ،" to be‬لكن نسيج الريزومة‬
‫هو حرف العطف‪" ،‬و‪ . . .‬و‪ . . .‬و‪ " . . .‬وحرف العطف هذا‬
‫يحمل قوةً كافية له ّز واجتثاثة جذر الفعل "يكون"‪ .‬إلى أين‬
‫أنت ذاهب؟ من أين أنت قادم؟إلى أين تتجه؟ هذه كلها‬
‫أسئلة عديمة الفائدة تماما ‪ . . . .‬ما بين األشياء ال يُحدّد‬
‫ة لتحديد موقعها تمضي من شيء إلى اآلخر وتعود‬ ‫ة قابل ً‬
‫عالق ً‬
‫عرضية تجتاح طريقا ً و اآلخر‪،‬‬‫ة َ‬ ‫ة‪ ،‬بل اتجاها ً عموديا‪ ،‬حرك ً‬ ‫ثاني ً‬
‫‪13‬‬
‫جدوال دون بدايةٍ أو نهاية‪" . . .‬‬

‫ن‬
‫مبَني َ ٌ‬
‫الفكر السياسي التقليدي شجري‪ :‬فكره ُ‬
‫كشجرة‪ .‬أوال هناك الفرد‪ ،‬ثم الدولة‪ ،‬ثم القوانين التي‬
‫ة على احتياجات الفرد‪ .‬أما التفكيرة اآلالتي‬ ‫تجيب ثاني ً‬
‫فريزومي‪ .‬يتيح توصيالت متعددة من تنويعةٍ من‬
‫متجذ ّرة ً في مفهوم ٍ منفرد أو في‬ ‫المنظورات ليست ُ‬
‫مجموعةٍ صغيرة من المفاهيم‪ .‬فكرنا السياسي يجب أن‬
‫يكون مثل كودزو‪ .‬بهذه الطريقة وحدها يمكنه أن يرى أبعد‬
‫من الشجرة المنفردة التي قيّدنا إليها الفكر الليبرالي‬
‫التقليدي‪ .‬بهذه الطريقة وحدها يمكن للعيش معا أن يكون‬
‫تدريبا على الخلق ال أن يحتاج إلى االختزال‪.‬‬

‫‪220‬‬
‫‪VII‬‬

‫أليس لدي دولوز وجاتاري‪ ،‬إذن‪ ،‬شيءٌ يقوالنه عن‬


‫المقوالت السياسية التقليدية؟ أليس ثمة أفرادٌ‪ ،‬وال‬
‫مقوالت اقتصادية‪ ،‬وال دولة في سياستهما؟ هل يمكن‬
‫تقاطع بين الفكر السياسي الذي يقدمانه لنا وبين‬
‫ٍ‬ ‫وجود أي‬
‫طرقنا األخرى لتصوّر السياسة‪ ،‬أم أن علينا أن نبدأ من‬
‫جديد؟ هل السياسة‪ ،‬في نظرهما‪ ،‬شيءٌ آخر بخالف ما‬
‫تعلّمناه دائما؟‬

‫يتحدث دولوز وجاتاري عن األفراد‪ ،‬وعن الدولة‪ ،‬وعن‬


‫جها آآلتيا‪.‬‬
‫الرأسمالية‪ .‬لكن فهم هذا الحديث يتطلب تو ّ‬
‫وحين نكون قد طوّرنا هذا التوجه‪ ،‬حينها فقط نكون في‬
‫وضع نبدأ فيه التفكير في المزيد من المقوالت السياسية‬
‫التقليدية‪.‬‬

‫هناك طرقٌ كثيرة لمقاربة هذا الفكر‪ .‬والطريقة التي‬


‫سنعتمد عليها هنا ترد أساسا خالل الفصل األخير من كتاب‬
‫محاورات‪ ،‬الذي ألفه دولوز بالمشاركة مع كلير بارنيت‬
‫‪ Claire Parnet‬ونُشر عام ‪ ،1977‬فيما بين نشر مجلدي‬
‫دولوز وجاتاري عن الرأسمالية والفصام ‪ :‬ضد ف‬
‫أوديب وألف مسطّح‪ .‬الفكر السياسي الذي جرى‬
‫تطويره في محاورات يتفق مع فكر المجلدين الرئيسيين‪،‬‬
‫لكن مناقشته المستفيضةة للسياسة أقرب مناال‪.‬‬
‫‪221‬‬
‫مكوَّنون من خطوط‪" .‬سواءٌ كنا أفرادا أم‬ ‫نحن ُ‬
‫ط وهذه الخطوط بالغة‬ ‫جماعات‪ ،‬فإننا مصنوعونة من خطو ٍ‬
‫التنوعة في طبيعتها‪ .‬النوع األول من الخطوط الذي يشكلنا‬
‫طاعي‪ segmentary‬ةة أو قطاعية ‪segmentarity‬‬ ‫ٌّ‬ ‫ِق‬
‫جامدة ‪ . . .‬األسرة ةة المهنة؛ العمل ةة اإلجازة؛ األسرة ةة‬
‫ثم المدرسة ةة ثم الجيش ةة ثم المصنع ةة ثم االعتزال‪".‬‬
‫ة في طبيعتها‪.‬‬ ‫‪14‬والخطوط القطاعية هي ذاتها متنوع ٌ‬
‫فأنواعٌ من الخطوط متزامنة‪:‬ة األسرة ةة المهنة‪ .‬وأنواعٌ‬
‫أخرى متتابعة‪ :‬المدرسة ة الجيش ة المصنع‪ .‬والسبب في‬
‫مقوالت‬
‫ٍ‬ ‫ط واحد أنها تتكون من‬ ‫أن هذه الخطوط من نم ٍ‬
‫نتعرف عليها‪ ،‬مقوالت قد تشكل عناصر نظريةٍ سياسية‬
‫تقليدية‪ .‬الخطوط القطاعية هي الخطوط التي تعمل بها‬
‫النظرية التقليدية‪ .‬وكما رأينا من قبل‪ ،‬ال ينكر دولوز‬
‫وجودها‪ .‬إنها خطوط قطاعية‪ ،‬وهي ذات صلةٍ سياسياً‪ .‬ما‬
‫ينكره دولوز هو حقها الحصري في تحديد فكرنا السياسي‪.‬‬

‫ربما ال يستريح المرء للجوء دولوز إلى الخطوط‬


‫القطاعية‪ .‬وإذا أخذنا في االعتبار مناقشة اللغة في الفصل‬
‫الثالث‪ ،‬هل من المناسب أن نرى خطوطا قطاعية تعمل‬
‫ض عن‬‫في أي مكان؟ وإذا كانت المقوالت اللغوية تفي ُ‬
‫نفسها على الدوام‪ ،‬فكيف يمكن وجود خطوط قطاعيةٍ‬
‫جامدة؟ كيف يمكن أن تكون جامدة؟ أال تفيض عن نفسها‬
‫بدورها؟‬

‫إنها تفعل‪ .‬خطوط القطاعية الجامدة ليست جامدةً‬


‫بمعنى أن شيئا ال يمكن أن يعبرها‪ .‬وسنرى خالل لحظة أن‬

‫‪222‬‬
‫هذه الخطوط تتكون من خطوط هروب طبيعتها أن تفيض‪.‬‬
‫وما يجعل هذه الخطوط جامدة ً ليس ما تحتويه بل ما‬
‫س أنها تحتويه‪ .‬تقدم خطوط القطاعية الجامدة‬ ‫يعتقد النا ُ‬
‫ة بالصورة الدوجمائية‬‫مشبَّع ٌ‬
‫نفسها باعتبارها جامدة‪ .‬وهي ُ‬
‫"إسترخ‪ ،‬فلست في العمل اآلن‪ ،‬أنت في إجازة‪"،‬‬
‫ِ‬ ‫للفكر‪.‬‬
‫أو "هل تظن أنك مازلت في إجازة؟ ركِّز؛ فأنت اآلن في‬
‫العمل‪".‬‬

‫وليس األمر أن هذه الخطوط ليستة واقعية‪ .‬فنحن‬


‫مكوّنون من خطوط قطاعيةٍ جامدة‪ ،‬مثلما هناك أبقار‬
‫ج في العالم‪ .‬لكن تلك الخطوط‪ ،‬مثل األبقار‬‫ومرو ٌ‬
‫والمروج‪ ،‬هي أكثر مما قد تبدو‪.‬‬

‫والصعوبة‪ ،‬أمام الفكر والفعلة السياسيين‪ ،‬هي‬


‫اإلمساك بهذا األكثر‪ .‬وإال ّ فإن اختالق ‪ fiction‬أنه ال توجد‬
‫طرق أخرى للعيش‪.‬‬‫ٍ‬ ‫ط قطاعية يمنعنا من رؤية‬ ‫سوى خطو ٍ‬
‫ط قطاعية تصبح نبوءة ً تحقق‬‫فكرة أنه ال توجد سوى خطو ٍ‬
‫سها سياسيا‪.‬‬
‫نف َ‬

‫يسمي دولوز خطوط القطاعية الجامدة بأنها‬


‫موالرية ‪ . molar‬وتلك الخطوط األخرى يسميها‬
‫جزيئية ‪: molecular‬‬

‫ة بكثير‪،‬كأنها جزيئية ‪. . . .‬‬ ‫ُ‬


‫خطوط قطاعيةٍ أشد ليون ً‬ ‫لدينا‬
‫وبدل كونها خطوطا موالرية ذات قطاعات‪ ،‬فإنها تدفقات‬
‫م]‪ .‬يتم عبور عتبة‪ ،‬ال‬ ‫مات [جمع ك ّ‬ ‫بعتبات من الك ّ‬
‫ٍ‬ ‫جزيئية‬
‫تنطبق بالضرورة مع قطاع من الخطوط األكثر‬
‫منظورية‪ .‬أشياء كثيرة تحدث على هذا النوع الثاني من‬
‫‪223‬‬
‫الخطوط ةة صيرورات‪ ،‬صيرورات ة متناهية الصغر‪ ،‬ال تملك‬
‫‪15‬‬
‫حتى نفس إيقاع "تاريخة"ةنا‪.‬‬

‫يبدو هذا مثل التمييز بين الماكرو ة سياسة وبين‬


‫الميكرو ة سياسة الذي رأيناه بالفعل‪ .‬إنه كذلك فعال‪ ،‬لكن‬
‫ثمة أكثر‪ .‬فبالمرور من الموالري إلى الجزيئي‪ ،‬نكون قد‬
‫عبرنا من الماكرو ة سياسة إلى الميكرو ة سياسة‪ .‬لكن ما‬
‫زال هناك نوع ٌ ثالث من الخطوط سنناقشه وسيكون أيضا‬
‫خطا ميكرو ة سياسيا‪ .‬وقبل التحول إلى النوع الثالث من‬
‫الخطوط‪ ،‬نحتاج إلى فهم ما هو الخط الجزيئي‪.‬‬

‫وقد رأينا بالفعل مثاال عليه‪ .‬فالفلسطيني‪،‬‬


‫والكورسيكي‪ ،‬ونصير البيئة الخضراء الذين ينهضون من‬
‫الجنوب هم شخوص جزيئية‪ .‬وهم يخترقون تقسيمات‬
‫البنيةة السياسية القديمة إلى شرق وغرب‪ .‬ليسوا ممثلين‬
‫ال للديموقراطية والرأسمالية وال النتصار اإلشتراكية‪.‬‬
‫ة عنا‪ .‬ففي نهاية‬ ‫بمعنى من المعاني ليست سياستهم أجنبي ً‬
‫المطاف‪ ،‬فإن ما يريده الفلسطينيونة يتضمن أشياء من‬
‫قبيل االستقاللة الذاتي ودولةٍ منفصلة‪ .‬إال ّ أن نشاطهم‬
‫ومطالبهم ال تتالءم بدقة مع الرؤية السياسية للشرق‬
‫والغرب‪ .‬وهذا هو السبب‪ ،‬خالل الحرب الباردة‪ ،‬في أنها‬
‫غالبا ما تم تجاهلها أو تهميشها‪( .‬وليس من قبيل المصادفة‬
‫سهم يهود َ العالم‬
‫مون أنف َ‬ ‫أن الفلسطينيينة غالبا ما كانوا يُس ُّ‬
‫المعاصر‪ .‬فقد كانوا اآلخر بالنسبةة لمن تكمن مقوالتهم‬
‫ومشاغلهم في موضع آخر‪).‬‬

‫الخطوط الجزيئية ليس لها نفس إيقاع "تاريخة"ةنا‪.‬‬


‫"تاريخة"ةنا‪ :‬التاريخ الذي نحكيه ألنفسنا‪ ،‬التاريخ الذي‬
‫‪224‬‬
‫تعلمنا أن نحكيه ألنفسنا‪" .‬تاريخة"ةنا هو قصة أسمائنا‪،‬‬
‫خ‬‫عائالتنا‪ ،‬وظائفنا‪ ،‬أمتنا‪ .‬والخطوط الجزيئية لها تاري ٌ‬
‫مختلف‪ ،‬تاريخ يمر داخل وعبر التاريخ الرسمي‪" .‬المهنة‬
‫هي قطاع ٌ جامد‪ ،‬لكن أيضا ما يحدث تحته‪ ،‬االرتباطات‪،‬‬
‫مواطن الجذب والنفور‪ ،‬التي ال تتطابق مع القطاعات‪،‬‬
‫سرية لكنها ترتبط رغم ذلك‬ ‫ّ‬ ‫أشكال الجنون التي هي‬
‫‪16‬‬
‫بالسلطات العامة‪".‬‬

‫رأينا من قبل أن الخطوط الجزيئية‪ ،‬تلك التي يرسمها‬


‫ة لبعض المقوالت‬
‫الفلسطينية أو الكورسيكي‪ ،‬مازالت مدين ً‬
‫التقليدية‪:‬ة الفرد والدولة‪ .‬وتحت هذه الخطوط‪ ،‬هناك‬
‫ة أخرى من الخطوط‪ :‬خطوط الهروب‪ .‬خطوط‬ ‫منظوم ٌ‬
‫الهروب لها دوران تلعبهما في فكر دولوز وجاتاري‪ .‬فهي‬
‫تحدد كال من الخطوط الموالرية واألنماط األخري للخطوط‬
‫الجزيئية‪ ،‬كما تقدم مغامرات سياسية أخرى ةة ومخاطر‬
‫سياسية أخرى‪.‬‬

‫"من وجهة نظر الميكرو ة سياسة‪ ،‬يتحدد أي مجتمع‬


‫بخطوط هروبه‪ ،‬التي هي جزيئية‪ 17".‬فما هو خط الهروب‪،‬‬
‫ذلك الخط الجزيئي الذي يحدّد مجتمعا ما؟ إنه النوع‬
‫الثالث من الخطوط‪" ،‬الذي هو أغرب‪ :‬كأنما اجتاحنا شيءٌ‬
‫بعيدا عبر قطاعاتنا‪ ،‬لكن كذلك عبر عتباتنا‪ ،‬صوب وجهةٍ‬
‫‪18‬‬
‫غير معروفة‪ ،‬غير قابلة للتنبؤ‪ ،‬غير موجودة ة سلفا‪".‬‬

‫ة‬
‫نعرف ماذا يشبه خط الهروب‪ .‬يشبه فرارا‪ ،‬حرك ً‬
‫هرب من السجن يأخذ‬‫ٍ‬ ‫بعيدا ً عن شيء‪ .‬محكو ٌ‬
‫م عليه في‬

‫‪225‬‬
‫يفر منه‪ .‬هذا هو‬
‫ُّ‬ ‫خط هروب‪ .‬ثمة سجن؛ والمحكوم عليه‬
‫خط الهروب‪ .‬أو هكذا يبدو‪.‬‬

‫ة تماما‪ .‬ثمة في خط‬ ‫هذه الفكرة ليست خاطئ ً‬


‫الهروب شيءٌ من المحكوم عليه‪ ،‬وشيءٌ من السجن‬
‫تغيب عنها أهم نقطة‪ .‬أن أي مجتمع‬
‫ُ‬ ‫للفرار منه‪ .‬لكن‬
‫يتحدَّد بخطوط هروبه‪ .‬وخطوط الهروب ال تفر من أي‬
‫ة‪ .‬تحدد‬
‫شيء‪ ،‬أو ال تفعل ذلك فحسب‪ .‬فهي أيضا تأسيسي ٌ‬
‫مجتمعات بأسرها‪ .‬كيف يمكن أن تفعل؟‬

‫نحن مستعدون بالفعلة لهذا الفكر‪ .‬أنطولوجيا دولوز‬


‫ط هروب‪ .‬خطوط الهروب هي‬ ‫هي أنطولوجيا خطو ِ‬
‫تحت وداخل الهويات‬ ‫َ‬ ‫ف الخالص الذي يكمن‬‫االختال ُ‬
‫سسة جزئيا‬ ‫سسة للخطوط القطاعية والهويات المتأ ِّ‬ ‫المتأ ِّ‬
‫ة ةة أو‬‫سس ً‬‫للخطوط الجزيئية‪ .‬ليست هي ذاتها متأ ِّ‬
‫مسجونة ةة في هويات نوعية‪ .‬لكنها تقدم المادة التي سيتم‬
‫تفعيلها إلى تلك الهويات‪.‬‬

‫عل ‪ actualize‬حين‬ ‫ال يستخدم دولوز المصطلح ي ُ َ‬


‫ف ِّ‬
‫يكتب مع جاتاري‪ .‬وبدال من ذلك يقيم تمييزا بين التوطين‬
‫‪ territorialization‬وبين نزع التوطين‬
‫‪ .deterritorialization‬الخط الذي جرى عليه‬
‫أسره وسجنه في‬ ‫ُ‬ ‫خط له موطن نوعي‪ .‬تم‬ ‫ٌ‬ ‫التوطينة هو‬
‫سر‬
‫سر‪ .‬األ ْ‬
‫هوية بعينها‪ .‬وبالتأكيد‪ ،‬يمكن وجود ميزات لأل ْ‬
‫ة ضرورية لألشياء‪ .‬الموطن بحاجة‬ ‫ليس كله سيئا؛ إنه لحظ ٌ‬
‫إلى تحديد حدوده‪ :‬العبارات بحاجة إلى أن تُقال‪ ،‬الهويات‬
‫بحاجة إلى أن تتأسس‪ ،‬الناس يجب أن يحيوا في مكان ما‪.‬‬

‫‪226‬‬
‫وإال ّ لن يوجد سوى الكاوس‪ ،‬الشيء سوى االختالف‬
‫الخالص‪ .‬التوطين ليس العدو الذي يجب التغلب عليه‪ .‬أو‬
‫ح نحن عاجزين‬ ‫باألحرى‪ ،‬أنه يصبح العدو فقط حين نصب ُ‬
‫عن رؤية نزع التوطين‪.‬‬

‫موَاطن‪ .‬إنه‬ ‫نزع التوطينة هو الكاوس تحت وداخل ال َ‬


‫موطِن وال تغيَّر‬‫خطوط الهروب التي بدونها لن يكون ثمة َ‬
‫في الموطن‪ .‬خطوط الهروب هي الحركة المحايثة لنزع‬
‫التوطينة التي تسمح في آن واحد بوجود موطن وتقلقل‬
‫الطابع الموطني ألي موطن‪.‬‬

‫يمكن التعرف بسرعة على ماركسي حين يقول أن مجتمعا‬


‫ما يناقض نفسه‪ ،‬يتحدّد بتناقضاته‪ ،‬وخصوصا بتناقضاته‬
‫مجتمع ما‪ ،‬كل‬
‫ٍ‬ ‫الطبقية‪ .‬ومن األفضل أن نقول أنه‪ ،‬في‬
‫شيء يهرب وأن المجتمع يتحدد بخطوط هروبه التي تؤثر‬
‫على الجماهير من كل األنواع (هنا مرةً أخرى‪ ،‬يكون‬
‫"الجمهور" مقولة جزيئية)‪ .‬أي مجتمع يتحدد أوال بنقاط نزع‬
‫‪19‬‬
‫توطينه‪ ،‬بتدفقات نزع توطينه‪.‬‬

‫نحتاج إلى الوضوح هنا‪ .‬أولوية خطوط الهروب ليست‬


‫ة‪ .‬فليس هناك أوال خطوط هروب منزوعة التوطينة‬ ‫زمني ً‬
‫وبعدها مواطن مستقرة‪ .‬هناك االثنان دائما‪" :‬البدو ال‬
‫مقيمين؛ بل باألحرى‪ ،‬فإن البداوة حركة‪،‬‬ ‫يسبقون ال ُ‬
‫ف يجعل‬‫صيرورة تؤثر على المقيمين‪ ،‬مثلما أن اإلقامة توقُّ ٌ‬
‫البدو يستقرون‪ 20".‬أولوية خطوط الهروب مادية‪ .‬كل‬
‫المادة‪ ،‬سواء موطنيةة أو منزوعة التوطين‪ ،‬تتأسس‬
‫ف خالص‪.‬‬ ‫بواسطة خطوط الهروب‪ .‬الوجود هو اختال ٌ‬
‫م َفعَّلة‪ ،‬دوما مواطن‪ .‬لكن هذه‬‫وهناك دوما هويات ُ‬
‫‪227‬‬
‫توطين ليس‬
‫ٍ‬ ‫المواطن متجذ ِّرة في نزع التوطين‪ ،‬نزع‬
‫خامال‪ .‬فهو يقدم الموارد لمحو وإعادة رسم التخوم‪ ،‬للفرار‬
‫ط معينة‪ ،‬النطمار‬
‫موطن بعينه إلى آخر‪ ،‬وتحت شرو ٍ‬
‫ٍ‬ ‫من‬
‫‪ imploding‬الموطن ذاته‪.‬‬

‫أولوية خطوط الهروب هي التي تمنح الطابع اآلالتي‬


‫لفكر دولوز السياسي‪ .‬وهذه الخطوط خالّقة‪ .‬تخلق‬
‫ل المواطن‪ .‬هي عنصر الخطوط‬ ‫مواطن وتخلق داخ َ‬
‫َ‬
‫القطاعية والخطوط الجزيئية‪ .‬وليست كيانات عضوية أو‬
‫آليات‪ ،‬بل أن الكيانات العضوية واآلليات تحتويها‪ .‬ويمكن‬
‫كيانات عضوية أخرى وآليات أخرى منها‪ .‬ومنظورا إليها‬ ‫ٍ‬ ‫بناء‬
‫من منظورٍ آخر‪ ،‬هي مادة ُ عيشنا معا‪ ،‬مادةٌ تُشكِّلة وتُعيد‬
‫أن واحد‬
‫تشكيل نفسها في عيشنا‪ .‬إنها مادةٌ هي في ٍ‬
‫ل‬‫ض‪ ،‬والفرد‪ ،‬والجماعة‪ ،‬والجماهير التي تتدفق داخ َ‬ ‫األر ُ‬
‫األرض‪ ،‬والفرد‪ ،‬والجماعة‪ .‬مع الخطوط الجزيئية‬ ‫ِ‬ ‫وعبر‬
‫َ‬
‫والقطاعية‪ ،‬فإن خطوط الهروب هي مادة ُ وجودنا والبؤرة‬
‫المناسبة للفكر السياسي‪" .‬على أية حال‪ ،‬فإن الخطوط‬
‫ٌ‬
‫خطوط‬ ‫ة في بعضها البعض‪ .‬لدينا‬ ‫الثالثة محايثة‪ ،‬متداخل ٌ‬
‫قدر ما في اليد‪ .‬نحن معقَّدون بطريقة مختلفة‬ ‫َ‬ ‫متشابكة‬
‫عن اليد‪ .‬وما نسميه بأسماء مختلفة ةة التحليل الفصامي‪،‬‬
‫الميكرو ة سياسة‪ ،‬البراجماتيات‪ ،‬الدياجرامية‪ ،‬الريزوميات‪،‬‬
‫رسم الخرائط ةة ليس له هدف آخر سوى دراسة هذه‬
‫‪21‬‬
‫الخطوط‪ ،‬في الجماعات أو في األفراد‪".‬‬

‫في أجمة هذه الخطوط‪ ،‬في تشابكها‪ ،‬نكتشف الدولة‬


‫والرأسمالية‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫‪VIII‬‬

‫رأينا طابع الدولة بالنسبة للفكرة الليبرالي التقليدي‪.‬‬


‫احتكار‬
‫ٌ‬ ‫حكَم بين األفراد‪ ،‬الوسيط الحتياجاتهم‪ .‬ولها‬ ‫إنها ال َ‬
‫ة‬
‫لموارد السلطة الكبرى في المجتمع‪ ،‬حتى تمنع منظوم ً‬
‫من المصالح من السيطرة على أخرى واضطهادها‪ .‬لكن‬
‫تلك السلطة يجب في النهاية أن تستجيب لكثرة‬
‫حكِّم النقص‪.‬‬‫م َ‬
‫االحتياجات الفردية‪ .‬الدولة هي ُ‬

‫سط‪ ،‬بل‬ ‫بالنسبةة لدولوز وجاتاري‪ ،‬فإن الدولة ال تتو َّ‬


‫إتساق بيني‬
‫ٍ‬ ‫تخلق أصداءً‪" .‬الدولة ‪ . . .‬هي ظاهرة‬
‫جع الصدى‬ ‫‪ .intraconsistency‬تجعل النقاط ت ُ َر ِّ‬
‫معا‪ ،‬نقاطا ليست بالضرورة أقطابا مدينية بالفعل بل نقاط‬
‫خصوصيات جغرافية‪ ،‬وإثنية‪ ،‬ولغوية‪،‬‬‫ٍ‬ ‫نظام ٍ بالغة التنوع‪،‬‬
‫وأخالقية‪ ،‬واقتصادية‪ ،‬وتكنولوجية‪22".‬خلق الصدى يعني‪،‬‬
‫في المقام األول‪ ،‬االعتماد على شيءٍ أسبق‪ .‬ليس للدولة‬
‫ة‪.‬‬
‫صها؛ ليست لها أسبابها الخاصة‪ .‬الدولة طفيلي ٌ‬ ‫م يخ ّ‬ ‫نظا ٌ‬

‫ة على‬ ‫ة على ماذا؟ على الخطوط‪ .‬طفيلي ٌة‬ ‫طفيلي ٌ‬


‫خطوط الهروب‪ ،‬واألنماط األخرى من الخطوط الجزيئية‪،‬‬
‫والخطوط الموالرية‪ .‬لكن من بين الثالثة‪ ،‬فإنها تستمد‬
‫غذائها باألخص من الخطوط الموالرية‪ .‬يرى الفكر التقليدي‬
‫ة تستجيب ةة أو على األقل يجب أن تستجيب ةة‬ ‫دول ً‬
‫جع صدى‬ ‫ة ت ُ َر ِّ‬‫الحتياجات األفراد‪ .‬ويرى دولوز وجاتاري دول ً‬
‫الخطوط الموالرية‪ .‬فكيف يحدث هذا؟‬
‫‪229‬‬
‫بخالف الخطوط الجزيئية وباألخص خطوط الهروب‪،‬‬
‫فإن للخطوط الموالرية نُظُما وهويات خاصة‪ .‬وهذه النُظُم‬
‫والهويات ليست هي نفسها في كل األوقات واألماكن‪.‬‬
‫م يمر من اإلبن‬‫لمجتمع ما‪ ،‬قد يكون هناك نظا ٌ‬
‫ٍ‬ ‫فبالنسبة‬
‫إلى المحارب إلى المزارع‪ ،‬بينما قد يمر في نظام آخر من‬
‫الخريج إلى المهني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اإلبن إلى طفل المدرسة إلى‬
‫(وبالطبع قد يوجد هذان الخطان في نفس المجتمع‪ ).‬لكن‬
‫وهويات بين الخطوط الموالرية‬
‫ٌ‬ ‫ثمة أكثر‪ .‬ليس هناك نُظ ُ ٌ‬
‫م‬
‫مجتمع فحسب‪ ،‬بل هناك أيضا ما يسميه دولوز‬ ‫ٍ‬ ‫في‬
‫المجردة ‪. abstract machines‬‬ ‫َّ‬ ‫وجاتاري اآلالت‬
‫سبان إلى فوكوه فضل تحليل اآلالت المجردة‬ ‫وعادة ما ين ِ‬
‫للسلطة‪ .‬وربما كان أشهر تحليالته آللةٍ مجردة هو تحليله‬
‫لإلنضباط‪.‬‬

‫االنضباط ليس من خلق الدولة‪ ،‬رغم أن الدولة‬


‫نمط من السلطة ينشأ‬ ‫ٌ‬ ‫ستفعل الكثير باالنضباط‪ .‬االنضباط‬
‫كل‬
‫ممارسات متنوعة‪ .‬يجمع بين عناصر من ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫على أساس‬
‫كال ً يتخلّل بدوره المجتمعات الغربية في‬‫منها ليشكّلة ّ‬
‫القرنين التاسع عشر والعشرين‪ .‬وتتميز هذه السلطة‬
‫ّل فيه‪ ،‬بتمييزٍ بين ما‬‫بمالحظة دقيقة لسلوك األجساد‪ ،‬وتدخ ٍ‬
‫هو سويٌّ وما هو منحرف بالنسبةة إلى الرغبة والسلوك‬
‫اإلنسانيين‪ ،‬وبمراقبة دائمة لألفراد‪ .‬بالنسبة لفوكوه‪ ،‬يمثل‬
‫السجن المكان الذي اجتمعت فيه هذه الخصائص معا ألول‬
‫مرة‪ .‬وقد هاجرت من انغالق السجن‪ ،‬رغم ذلك‪ ،‬لتتخلل‬
‫ل أركان المجتمع‪ .‬ليس األمر أن كل سلطة تقب ُ‬
‫ل‬ ‫ك َّ‬
‫ل إلى سلطةٍ إنضباطية؛ بل أنه ال يوجد أي جزء من‬ ‫االختزا َ‬

‫‪230‬‬
‫ن ضدها‪" .‬هل هذا هو القانون الجديد‬ ‫ص ٌ‬
‫مح َّ‬
‫المجتمع ُ‬
‫للمجتمع الحديث؟" يسأل فوكوه عن فكرة السوِيّ التي‬
‫هي في قلب االنضباط‪" .‬لنقل باألحرى أنها‪ ،‬منذ القرن‬
‫الثامن عشر‪ ،‬قد التحقت بالقوى األخرى ةة القانون‪،‬‬
‫‪23‬‬
‫ة قيودا ً جديدةً عليها‪".‬‬
‫والكلمة‪ ،‬والنص ةة فارض ً‬

‫مجردة‪ .‬فهو‬
‫ّ‬ ‫ة‬
‫يمكن أن نفكر في االنضباط على أنه آل ٌ‬
‫كواقع متعين يمكن اإلشارة إليه أو عزله عن‬‫ٍ‬ ‫ال يوجد‬
‫مختلف األشكال التي يأخذها‪ .‬وبدال من ذلك‪ ،‬يجمع بين‬
‫ممارسات متنوعة تحت نظام ٍ معيّن للسلطة‪ .‬يمكن للمرء‬
‫ٍ‬
‫أن يقول‪ ،‬مع دولوز وجاتاري‪ ،‬أن االنضباط‪ ،‬مثل غيره من‬
‫فرطا ‪overcodes‬‬ ‫م ِ‬
‫فر تشفيرا ُ‬ ‫ش ِّ‬
‫اآلالت المجردة‪ ،‬ي ُ َ‬
‫الخطوط الموالرية للمجتمع‪.‬‬

‫ما هو التشفيرة المفرط؟ هو أخذ عناصر متنوعة‬


‫للسلطة لجمعها معا في ترتيبةٍ معينة يتم تطبيقها حينئذ‬
‫عبر قطاعات واسعة من المجتمع‪ .‬نشأ االنضباط من خالل‬
‫استعارة تنويعةٍ من آليات السلطة الصغيرة‪ .‬كانت هناك‬
‫وممارسات تسجيل‬
‫ُ‬ ‫الجداو ُ‬
‫ل الزمنية الدقيقة لألديرة‪،‬‬
‫السلوك واألعراض في المستشفيات‪ ،‬وانغالقُ نسق‬
‫وتجارب االنضباط العسكري في‬
‫ُ‬ ‫السجون الناشيء‪،‬‬
‫الجيش البروسي‪ .‬وقد اجتمعت هذه العناصر معا في‬
‫ه حينها على المستشفيات‪،‬‬ ‫شكل بعينه للسلطة أعيد تطبيق ُ‬
‫ٍ‬
‫والسجون‪ ،‬والعسكريين‪ ،‬وعلى المدارس والمصانع أيضا‪.‬‬
‫م صارم من التدخالت‬ ‫وفي كل هذه المؤسسات انبثق نظا ٌ‬
‫فضاءات‬
‫ٍ‬ ‫الدقيقة في الحركة الجسدية وتسجيلها في‬

‫‪231‬‬
‫صلة‪.‬‬
‫مف ّ‬
‫مغلقة على أساس جداول زمنيةٍ نوعية‪ ،‬و ُ‬
‫االنضباط يُشفّر تشفيرا مفرطا هذه الممارسات المختلفة‪.‬‬

‫تدخل الدولة عند نقطة التشفير المفرط‪ .‬تدعم‬


‫التشفيرة المفرط وتساعد على نشره إلى كل اركان‬
‫مجردة من ترجيع صدى تنويعةٍ من‬ ‫ّ‬ ‫المجتمع‪ .‬إذا تم بناء آلةٍ‬
‫ة على تطوير والحفاظ‬ ‫الخطوط الموالرية‪ ،‬تساعد الدول ُ‬
‫م دولة لكن‬ ‫على تلك اآللة المجردة‪" .‬ليست هناك علو ُ‬
‫مجردة لها عالقات اعتماد ة متبادل مع الدولة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫آآلت‬
‫ٌ‬ ‫هناك‬
‫ولهذا‪ ،‬على خط القطاعية الجامدة [أي‪ ،‬الموالرية]‪ ،‬يجب‬
‫فرق المرءُ بين أدوات السلطة ‪devices of‬‬ ‫أن ي ُ ّ‬
‫‪ power‬التي تُشفِّر القطاعات المختلفة‪ ،‬واآللة‬
‫المجردة ‪ abstract machine‬التي تُشفّرهاة تشفيرا‬
‫مفرطا وتنظم عالقاتها‪ ،‬وجهاز الدولة ‪apparatus of‬‬
‫‪ the State‬الذي يُحقّق هذه اآللة‪ 24".‬الدولة ال تخلق‬
‫اآلالت المجردة؛ بل تحقِّقها‪ .‬خلقُ شيءِ‪ ،‬على األقل بهذا‬
‫المعنى‪ ،‬يعني جلبه إلى الوجود‪ .‬وبالمقابل‪ ،‬فإن تحقيق‬
‫كل واحدٍ لما يوجد فعال على نحو‬ ‫شيء يعني التجميع في ٍ‬
‫أشد تبعثرا‪.‬‬

‫المجتمعات كيانات معقّدة‪ ،‬تتخلّلها مختلف الخطوط‬


‫المتقاطعة الموالرية‪ ،‬والجزيئية‪ ،‬وخطوط الهروب‪ .‬كيف‬
‫يمكن آللةٍ مجردة أن تمسك بممارسات مختلفة في‬
‫المجتمع وتحافظ على نفسها بدون قوةٍ أكبر تحفظها في‬
‫ة‬
‫مكانها؟ الدولة هي هذه القوة األكبر‪" .‬الدولة ليست نقط ً‬
‫رنين لها‬
‫ٍ‬ ‫تأخذ على عاتقها كل النقاط األخرى‪ ،‬بل حجرةُ‬
‫جميعا‪ 25".‬في االنضباط‪ ،‬تقدم الدولة الموارد لضمان أن‬

‫‪232‬‬
‫ينتشر االنضباط خالل مختلف القطاعات االجتماعية ويُحكم‬
‫قبضته عليها‪ .‬وهي تقدم التمويل للسجون الضخمة‪،‬‬
‫والتنظيم للعسكريين‪ ،‬والقاعدة المعلوماتية للكثير من‬
‫المستشفيات‪ ،‬والبنية ألنساق المدارس‪ .‬بدون الدولة‪،‬‬
‫يصعب تخيُّل كيف يمكن آللةٍ مجردة أن تُحكم قبضتها على‬
‫تنويعة الممارسات التي تقوم بها‪ .‬يصعب تخيّل كيف يمكن‬
‫لشيءٍ من قبيل آلةٍ مجردة أن يُقام في وسط عالقات‬
‫الهوية واالختالف المعقدة التي يعتقد دولوز وجاتاري أنها‬
‫الترتيبات المادية ألي مجتمع‪ .‬الدولة‪ ،‬رغم أنها طفيلية‪ ،‬هي‬
‫لمجتمع يتوقع أن يحفظ النظام من خالل‬
‫ٍ‬ ‫ح ضروري‬ ‫ملم ٌ‬
‫فرض التجانس عبر سطحه‪.‬‬

‫نحن بعيدون هنا عن الدولة الليبرالية التي تتوسط في‬


‫احتياجات األفراد‪ .‬الدولة‪ ،‬في عيون دولوز وجاتاري‪ ،‬ال‬
‫تتوسط‪ .‬ال تستخدم احتكارها لوسائل القوة كي تمنع‬
‫ة من المصالح الفردية من السيطرة على أخرى‪.‬‬ ‫منظوم ً‬
‫ة بطبيعتها‪ .‬إنها قوة ٌ من‬‫وبدال من ذلك فإن الدولة قمعي ٌ‬
‫قر النظرية الليبراليةة التقليدية‪ ،‬تملك‬
‫أجل االمتثال‪ .‬كما ت ُ ّ‬
‫الدولة موارد هائلة‪ .‬لكن تلك الموارد ليست في خدمة‬
‫التحرر؛ إنها في خدمة تحقيق سلطة اآلالت‬ ‫ُّ‬ ‫سط أو‬ ‫التو ُّ‬
‫المجردة وقمعها وتجانسها‪ .‬الدولة تحقق االنضباط‪ .‬تخلق‬
‫الشروط التي في ظلها يمكن لآلالت المجردة أن تدعم‬
‫هوية الخطوط الموالرية وتُخضعها لنفس أنواع الروتينات‪.‬‬
‫ة غريبة‬‫الدولة طفيلية‪ ،‬وقوية‪ ،‬وقمعية‪ .‬ولها عالق ٌ‬
‫بالرأسمالية‪.‬‬

‫‪233‬‬
‫‪IX‬‬

‫ربما فكر المرءُ أن الرأسمالية هى نوعٌ آخر من اآللة‬


‫المجردة تتحقَّق سلطتها في غرفة رنين الدولة‪ .‬ففي نهاية‬
‫المطاف‪ ،‬أال تجمع الرأسمالية بين تنويعةٍ من الممارسات‬
‫تحت عنوان السوق‪ ،‬التي تقوم عندئذ بالتشفيرة المفرط‬
‫ة؟ أليستة‬‫لتلك الممارسات بحيث يُصبح كل شيء سلع ً‬
‫ة االستعارةِ من تنويعةٍ من‬
‫ة رأس المال سلط َ‬ ‫سلط ُ‬
‫الممارسات االقتصادية وإخضاعها لتجانس السوق؟ أليس‬
‫ن أداءِ الرأسمالية السلس‪ ،‬بحماية‬‫دور الدولةِ هو ضما ُ‬
‫ُ‬
‫توسعها وتصفية أو تهميش أولئك الذين قد يقفون في‬
‫طريقها؟‬

‫ة‬
‫بالنسبةة لكثيرة من الماركسيين‪ ،‬هذه هي طبيع ُة‬
‫ة مجردة لالستغالل‪.‬‬ ‫الرأسمالية ودور الدولة‪ .‬الرأسمالية آل ٌ‬
‫حقّة لكدحهم‪ .‬والدولة‬ ‫مست َ َ‬
‫تسرق من العمال الثمرةَ ال ُ‬
‫تخدم هذا االستغالل‪ .‬تدعم اآلليات التي هدفها النهائي هو‬
‫التشفير المفرط الذي‬‫ُة‬ ‫سيطرة نظام ٍ اقتصادي رأسمالي‪.‬‬
‫تحققه الدولة في خدمة التشفيرِ المفرط الذي تخلقه‬
‫أنساق‬
‫ِ‬ ‫الرأسمالية‪ .‬السوق تسود؛ وتدعمها أنساقٌ مثل‬
‫االنضباط من أجل تعظيم اإلنتاجية وتقليل المقاومة‪.‬‬

‫ة عن‬‫بالنسبةة لدولوز وجاتاري‪ ،‬تفتقر هذه القص ُ‬


‫الرأسمالية وعالقتها بالدولة إلى الظالل الدقيقة‪ .‬وعالقتهما‬
‫ة المشاعر‪ ،‬مثل ماركس ذاته‪ .‬فهما‬ ‫بالرأسمالية متضارب ُ‬
‫‪234‬‬
‫ل إزاحة العديد من أوجه القمع‬ ‫ينسبان إلى الرأسمالية فض َ‬
‫مميِّزة لتاريخنا‬ ‫الماضية‪ ،‬فض َ‬
‫ل اإلطاحة بآليات التجانس ال ُ‬
‫ضارها‬
‫ة م َّ‬ ‫المبكر‪ .‬ومن جهة أخرى‪ ،‬تخلق الرأسمالي ُ‬
‫الخاصة‪ .‬هذه المضار يجب فهمها واإلطاحة بها‪ .‬دولوز‬
‫وجاتاري ليسا ماركسيينة بسيطين؛ لكنهما ليسا مدافعين‬
‫عن الرأسمالية‪.‬‬

‫ة‬
‫لنفكر في أنواع االضطهاد التي ساعدت الرأسمالي ُ‬
‫مقيَّدين بالسلطات العمومية‪ ،‬أو‬ ‫في التغلبة عليها‪ .‬لم نعد ُ‬
‫سطِنا االجتماعي‪ ،‬أو حتى بعائالتنا بالطريقة التي كُنَّاها‪.‬‬ ‫بو َ‬
‫ك ال يحكموننا باسم سلطةٍ أعلى تفرض عليناة‬ ‫والملو ُ‬
‫س‪ ،‬أو المسجد ُ هم‬ ‫ة‪ ،‬أو الكني ُ‬
‫الخضوع‪ .‬ولم تعد الكنيس ُ‬
‫تروس في‬ ‫ٍ‬ ‫محكِّمون لحيواتنا األخالقية‪ .‬لم نعد مجرد‬ ‫ال ُ‬
‫ط اجتماعي أضخم يتطلب طاعتنا دون تساؤل‪ .‬وكما‬ ‫مخط ٍ‬
‫يعبر دولوز وجاتاري‪ ،‬فإن "الشفرات" القديمة التي حكمتنا‬
‫قد اكتسحتها الرأسمالية‪ .‬وحلت محلها "بديهية"‬
‫‪. axiomatic‬‬

‫ة‬
‫والفرق بين بديهيةٍ وبين الشفرات التي حلت البديهي ُ‬
‫محلها يصفه دولوز وجاتاري كما يلي‪:‬‬

‫وعالقات وظيفيةٍ خالصة‬


‫ٍ‬ ‫ل مباشرةً مع عناصر‬ ‫البديهية تتعام ُ‬
‫غير محددة‪،‬ة وتتحقّق فوريا في مجاالت عالية التنوع‬‫ُ‬ ‫طبيعتُها‬
‫ة‬
‫في وقت واحد؛ أما الشفرات‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬فهي نسبي ٌ‬
‫عالقات نوعية بين عناصر‬
‫ٍ‬ ‫لتلك المجاالت وتُعبِّر عن‬
‫مشروطةٍ ال يمكن إدراجها في وحدةٍ شكلية أرقى (تشفير‬
‫‪26‬‬
‫مفرط) إال ّ بالتعالي وعلى نحوٍ غير مباشر‪.‬‬

‫‪235‬‬
‫ة تُنظم عالقات‬‫الشفرات هي مباديءُ وقواعد عيني ٌة‬
‫بأناس محددين آخرين‪ .‬أما البديهية فهى‬
‫ٍ‬ ‫أناس محددين‬
‫ٍ‬
‫أكثر تجريدا‪ .‬فهي تُنظّم‪ ،‬لكن ليس من خالل قواعد محددة‬
‫عالقات محددة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫وال بواسطة‬

‫فلنأخذ في االعتبار هذا التحول التاريخي‪ .‬ذات حين‪،‬‬


‫مقيَّدين باألرض وبالسيد الذي يعملون عنده‪.‬‬ ‫كان الفالحون ُ‬
‫ة محددة من االلتزامات تجاه ذلك‬ ‫كانت لديهم منظوم ٌ‬
‫السيد‪ ،‬وهي التزامات ال يدينون بها تجاه أي سيدٍ آخر‪ .‬لم‬
‫يكن باستطاعتهم أن يجمعوا أشياءهم وينتقلوا إلى أرض‬
‫سيد ٍ آخر‪ ،‬وال يرجع السببة ببساطة إلى عدم تمكنهم من‬
‫االنتقال أو من شراء أرض‪ .‬فلم تكن فكرةُ التمكّن من‬
‫االنتقال أو شراء األرض موجودة ً في عالم الفالحين‪ .‬كان‬
‫مقيَّدا داخل منظومةٍ من االلتزامات تجاه‬‫المرء يحيا ُ‬
‫األرض والسيد يمكن تنظيمها أو تشفيرها تشفيرا مفرطا‬
‫عن بعد بواسطة الدولة‪ ،‬لكن فقط بالتعالي وليس‬
‫المحايثة‪ :‬فقط بفرض قوةٍ خارج العالقة المحددة وليس‬
‫كجزءٍ منها‪.‬‬

‫أما الكادحون المعاصرون في اقتصادٍ رأسمالي فهم‬


‫ُ‬
‫رباط التزام ٍ تجاه‬ ‫وضع بالغ االختالف‪ .‬ليس ثمة‬ ‫في‬
‫ٍ‬
‫ة لالنتقال‪ .‬يمكن للكادحين أن ينتقلوا‬
‫مستَخدِم‪ ،‬وال عقوب ٌ‬
‫ال ُ‬
‫كما يشاؤون طالما تمكنوا من ذلك‪ .‬ويمكنهم شراءُ األرض‬
‫أو المعدات‪ ،‬واستثمار رأس المال‪ ،‬وبدء أعمالهم الخاصة‪.‬‬
‫مجتمع‬
‫ٍ‬ ‫م لعالقاتهم مع آخرين محددين في‬ ‫وليس ثمة تنظي ٌ‬
‫ما‪.‬‬

‫‪236‬‬
‫أحرار‪ .‬فهم أبعد ما يكونون عن‬
‫ٌ‬ ‫وال يعني هذا أنهم‬
‫التشفير المفرط الذي تحققه‬
‫َة‬ ‫ذلك‪ .‬وحتى لو استثنينا اآلن‬
‫الدولة‪ ،‬فإن الرأسمالية لها طرقها الخاصة لتنظيم السلوك‬
‫والتفاعل‪ .‬وأبرز هذه الطرق تتعلق بسيادة القيمة التبادلية‪.‬‬
‫إن تمييز ماركس الشهير بين القيمة االستعمالية والقيمة‬
‫التبادلية هو تميي ٌز بين ما يمكن أن يُستخدم فيه شيء وما‬
‫ل به‪ .‬وفي الرأسمالية تسيطر القيمة‬ ‫يمكن أن يُستبد َة‬
‫التبادلية ال القيمة االستعمالية‪ .‬أي شيء يساوي ما يمكن‬
‫ة‬
‫أن يُستَبدَل به‪ .‬وهذه األشياء ال يجب أن تكون أشياءَ مادي ً‬
‫بالضرورة‪ :‬فيمكن أن تكون أفكارا‪ ،‬أو عمال‪ ،‬أو احتراما ة‬
‫للذات‪.‬‬

‫القيمة التبادلية تعمل كبديهيةٍ وليس كشفرة‪ .‬تُنظِّم ال‬


‫أناس وأشياء بل‬
‫ٍ‬ ‫أناس محددين أو بين‬
‫ٍ‬ ‫بوضع قواعد بين‬
‫بوضع الطريقة التي يمكن أن تُحكَم بها كل التبادالت‪.‬‬
‫منتَج؛‬‫يمكنني أن أبيع عملي لك؛ ويمكنك أن تستثمره في ُ‬
‫منتَج آلخرين؛ ويمكنهم أن يستخدموا‬ ‫ويمكنك بيع ذلك ال ُ‬
‫منتَج في أعمالهم إلى المدى الذي يُتيح لهم خلق‬ ‫ذلك ال ُ‬
‫وات مع آخرين‪ .‬في هذه‬ ‫ٍ‬ ‫م‬
‫تبادل ُ‬
‫ٍ‬ ‫شيءٍ يُمكِّنهم من‬
‫السلسلة‪ ،‬ال يهم من أنا ومن أنت‪ .‬يمكنني ان أكون عامال‬
‫أو استشاريا أو طبيبا أو محاميا‪ .‬منصبي ال يهم‪ .‬البديهية‬
‫م وظيفي للعالقات بين مختلف الناس واألشياء‪.‬‬ ‫منظ ِّ ٌ‬‫هي ُ‬
‫يمكنها أن تعمل عبر تنويعةٍ من المجاالت وال تحترم (أو‬
‫تُقيِّد) الناس بوظائف معينةة أو مناصب معينة‪.‬‬

‫ومن وجهة نظر دولوز وجاتاري‪ ،‬ليس هذا شيئا سيئا‬


‫لطرق‬
‫ٍ‬ ‫تماما‪ .‬فالرأسمالية تنزع التوطين‪ ،‬فتمهد األرض‬

‫‪237‬‬
‫عرفان ليس‬
‫جديدة إلبداع الحيوات‪" :‬الرأسمالية وقطيعتها ت ُ َّ‬
‫فقط بالتدفقات المنزوعة التشفير‪،‬ة بل بنزع التشفير‬
‫معمم للتدفقات‪ ،‬بنزع التوطينة الجديد الشامل‪ ،‬باقتران‬ ‫ال ُ‬
‫التدفقات المنزوعة التوطين‪ 27".‬بنزع توطين التوطّناتة‬
‫السابقة‪ ،‬يتم تحرير خطوط الهروب لترحل إلى مواطن‬
‫هروب أخرى‪ ،‬وتنخرط في‬ ‫ٍ‬ ‫جديدة‪ ،‬وتتقاطع مع خطوط‬
‫تجارب جديدة‪.‬‬

‫ولسوء الحظ‪ ،‬ليس هذا ما يحدث في الرأسمالية‪.‬‬


‫ة بديناميةٍ لنزع التوطين‪ ،‬رغم نزعها‬ ‫فرغم أنها مهووس ٌ‬
‫لتشفير التدفقات التي تعمل بها‪ ،‬فلدى الرأسمالية طرقٌ‬
‫ضها‬‫لضمان أن تخدم تلك التدفقات المنزوعة التشفيرة أغرا َ‬
‫هروب‬
‫َ‬ ‫سر ‪ capture‬تخنق‬ ‫آليات لأل ْ‬
‫ٌ‬ ‫الخاصة‪ .‬لديها‬
‫الخطوط الجزيئية‪.‬‬

‫م االنضباط‬ ‫وأحدي هذه الطرق لخنق الهروب هي نظا ُ‬


‫ة أخرى‪ ،‬طبقا لدولوز‬ ‫الذي يصفه فوكوه‪ .‬وهناك طريق ٌ‬
‫ة‬
‫وجاتاري‪ ،‬هي عقدة أوديب‪ .‬أوديب‪ ،‬مثل االنضباط‪ ،‬هو آل ٌ‬
‫سر ‪ capture‬خطوط‬ ‫مجردةٌ تعمل تحت الرأسمالية لتأ ِ‬
‫طرق جديدة للعيش‪ .‬كتب دولوز‬ ‫ٍ‬ ‫الهروب وتمنعها من خلق‬
‫وجاتاري أنتي ف أوديب داقتعالا[ضد ف أوديب] في زمن‬
‫صعود ِ التحليل النفسي في فرنسا‪ .‬وفي رأيهما أن فكرة‬
‫ة تُركّز على‬
‫الدراما العائلية التي يتضمنها أوديب هي آلي ٌ‬
‫طرق‬
‫ٍ‬ ‫الرغبة‪ .‬والرغبة هي خط هروب‪ .‬قادرة على خلق‬
‫جديدة للعيش‪ .‬لكن إذا أمكن تحويل طاقتها ضد نفسها ةة‬
‫ة في ذاتها ةة فسوف تصبح‬ ‫إذا أمكن جعلُها تصبح مشتبك ًة‬

‫‪238‬‬
‫ة‪ .‬وسوف توضع بدال من ذلك في خدمة‬ ‫إبداعيتُها مكبوت ً‬
‫النظام السائد‪ ،‬في هذه الحالة بديهية الرأسمالية‪.‬‬

‫الجذب‬
‫ِ‬ ‫ة بطريقة‬‫هذا ما يفعله أوديب‪ .‬إنه يدير الرغب َ‬
‫المركزي صوب العائلة بدل السماح لها بأن تتحرك بطريقة‬
‫لتجرب توصيالت جديدة‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫الطرد المركزي‪،‬‬

‫ط الهروب‪ .‬بدل أن يفتحها على‬ ‫مع ِّقد ُ خطو ِ‬


‫أوديب هو ُ‬
‫تجاربها الخاصة‪ ،‬يقول أوديب أن رغباتك‪ ،‬خطوط هروبك‪،‬‬
‫اعتقدت أنك‬
‫َ‬ ‫ة في الواقع صوب عائلتك أنت‪ .‬مهما‬ ‫جه ٌ‬
‫مو َّ‬
‫ُ‬
‫أسر‬
‫ُ‬ ‫مك أو أبوك‪ .‬يتم‬
‫ترغب‪ ،‬فإن ما تريده حقا هو أ ّ‬
‫خطوط الهروب‪ ،‬وإعاقتها عن استغالل نزع التوطينة الذي‬
‫يتيحه نشوء الرأسمالية‪ .‬وبهذه الطريقة‪ ،‬يمكن وضع‬
‫خطوط الهروب في خدمة الرأسمالية بدل تحريرها لتُفتِّش‬
‫ُ‬
‫الخطوط الموالرية العائلية محل‬ ‫عن اتجاهات أخرى‪ .‬تحل‬
‫ط الهروب‪.‬‬ ‫الشفرات السياسية األقدم كوسيلةٍ ألسر خطو ِ‬
‫وتحافظ الرأسمالية على هيمنتها على المغامرات غير‬
‫المؤكدة التي يمكن أن تتلو نزع التوطينة الذي ساعدت‬
‫على حفزه‪.‬‬

‫بالنسبةة للكثيرينة منا‪ ،‬قد تبدو فكرةُ أوديب كآليةٍ‬


‫ة أو عفا عليها الزمن‪ .‬فقد تدهورت عبر‬ ‫لألسر أقليمي ً‬
‫السنينة حظوظ التحليلة النفسي‪ ،‬التي لم تكن أبدا مرتفعة‬
‫في الواليات المتحدة أو بريطانيا‪ .‬ومع حلول وقت نشر‬
‫ُ‬
‫والفصام‪،‬‬ ‫دولوز وجاتاري للمجلد الثاني من الرأسمالية‬
‫بعد ثماني سنوات من أنتي ف أوديب داقتعالا[ضد فف أوديب]‪،‬‬
‫ة بارزة في فكرهما‪ .‬ورغم استمرار‬ ‫لم يعد أوديب شخصي ً‬

‫‪239‬‬
‫االعتراف باآللة المجردة لالنضباط كآليةٍ قوية تربط‬
‫خطوط الهروب‪ ،‬ال يحدث الشيءُ نفسه مع أوديب‪ .‬اآلن‬ ‫َ‬
‫ة مباشرةً‪ .‬ال تتطلب‬ ‫تكون البديهية الرأسمالية استغاللي ً‬
‫وسيطا‪.‬‬

‫ة الرئيسية التي تعذ ّب ممثلي االقتصاد‬ ‫التدفقات األربع ُ‬


‫العالمي‪ ،‬أو البديهية‪ ،‬هي تدفُّق المادة ة الطاقة‪ ،‬وتدفق‬
‫ضري‪ .‬ويبدو الوضع ال‬ ‫ح َ‬
‫السكان‪ ،‬وتدفق الفيضان‪ ،‬والتدفق ال َ‬
‫ف أبدا عن خلق كل‬ ‫سبيل إلى الخالص منه ألن البديهية ال تك ُّ‬
‫هذه المشكالت‪،‬ة بينما بدهياتها في نفس الوقت‪ ،‬حتى‬
‫ة‪ ،‬تمنع عنها وسائل حلها (مثال‪،‬ة الدورة والتوزيع الذي‬‫مضاعف ً‬
‫ُ‬
‫‪29‬‬
‫قد يجعل من الممكن إطعام العالم)‪.‬‬

‫ما من أوديب هنا‪ .‬البديهية الرأسمالية تخلق صعوباتها‬


‫الخاصة‪ ،‬وتنخرط في قمعها الخاص‪ .‬بإخضاع كل التدفقات‬
‫لنظام القيمة التبادلية‪ ،‬تعيد ُ الرأسمالية توطين خطوط‬
‫حررتها من الشفرات األسبق‪ .‬تربطها‬ ‫الهروب التي ّ‬
‫ببديهية تُبقيها داخل مدار الرأسمالية دون أن تتطلب تدخُّل‬
‫قوةٍ خارجية‪ .‬في هذا الوضع‪ ،‬لم يعد أوديب مطلوبا‪.‬‬

‫دور تلعبه هنا؟ نعم‪ ،‬رغم أن دورها أكثر‬‫ٌ‬ ‫هل للدولة‬


‫ة مما كان في أنظمة سابقة‪" .‬ما يُميِّز وضعَنا‬ ‫محدودي ً‬
‫‪30‬‬
‫الجانب‪ ،‬من الدولة‪".‬‬
‫ِ‬ ‫يتجاو ُز‪ ،‬وفي نفس الوقت على هذا‬
‫آالت مجردة أخرى تعمل‬ ‫ٌ‬ ‫لكن‪ ،‬حتى بدون أوديب‪ ،‬هناك‬
‫ُ‬
‫الحفاظ‬ ‫(مثال‪ ،‬االنضباط) تتطلب ترجيع صدى الدولة ليتم‬
‫مجتمع ما باعتبار‬
‫ٍ‬ ‫عليها‪ .‬وفضال عن ذلك‪ ،‬فإن التفكير في‬
‫ل لالختزال إلى ترتيباته االقتصادية يعني إنكار تعقيد‬ ‫أنه قاب ٌ‬
‫تكوينه‪ .‬فليستة كل الخطوط الموالرية في خدمة االقتصاد‪.‬‬
‫‪240‬‬
‫هروب‬
‫ٍ‬ ‫ة من خطوط‬
‫والخطوط الموالرية هي ذاتها مكون ٌ‬
‫أكثر من الخطوط الموالرية التي تؤسسها‪.‬‬

‫ة الدول على‬ ‫ربما كنا نحيا في عالم ٍ تتراخي فيه قبض ُ‬


‫المجتمعات التي يُقال أنها تحكمها‪ .‬ربما ال يتطلب تطور‬
‫الرأسمالية دعم الدولة إلى الدرجة التي كان يتطلبها في‬
‫القرن التاسع عشر وأغلب القرن العشرين‪ .‬وال يعني هذا‬
‫أن الدول ستذبل‪ .‬سيكون هناك دائما خطوط هروب‪،‬‬
‫تضغط ضد عمليات التوطين للحظتها‪ .‬ستكون هناك دائما‬
‫آآلت مجردة تسعى إلى أسر‪ ،‬أو تعقيد‪ ،‬أو تقليص خطوط‬ ‫ٌ‬
‫الهروب تلك‪ .‬وستكون هناك حاجة دائما إلى تحقيق‬
‫جع‬
‫والحفاظ على تلك اآلالت المجردة بجعل عناصرهاة تر ّ‬
‫الصدى عبر الترتيبات االجتماعية‪ .‬ليست الدول على حافة‬
‫االختفاء‪ ،‬سواء كانت في خدمة الرأسمالية أم ال‪.‬‬

‫القصة التي يرويها الكثيرة من الماركسيين عن عالقة‬


‫الرأسمالية بالدولة‪ ،‬القصة التي أوردناها قبل بضع‬
‫ة تماما‪ .‬فالدولة تُشفّر المجتمع‬‫صفحات‪ ،‬ليس خاطئ ً‬
‫تشفيرا مفرطا في خدمة الرأسمالية‪ .‬لكن القصة ليست‬
‫ة تماما‪ ،‬كذلك‪ .‬فالتقرير الذي يركز فقط على خدمة‬ ‫صائب ً‬
‫كل من‬ ‫الدولة لرأسماليةٍ استغالليةٍة خالصة يغيب عنه تعقيد ُ ٍ‬
‫الدولة والرأسمالية‪ .‬الدولة ليست فقط في خدمة‬
‫الرأسمالية؛ وتشفيرها المفرط يمس جوانب من حيواتنا ال‬
‫ة‬
‫ل إلى االقتصاد‪ .‬والرأسمالية ليست استغاللي ً‬ ‫ل االختزا َ‬‫تقب ُ‬
‫تحررنا أيضا من‬
‫ّ‬ ‫خالصة‪ .‬والبديهية التي تربطنا بالسوق‬
‫قمع الشفرات االجتماعية التقليدية‪ .‬السؤال الذي يواجهنا‬

‫‪241‬‬
‫اآلن‪ ،‬السؤال السياسي‪ ،‬هو كيف نحشد ُ نزع َ التوطين الذي‬
‫طرق جديدة للعيش معا‪.‬‬‫ٍ‬ ‫تُطلقه الرأسمالية في خدمة‬

‫‪X‬‬

‫ة لبديهية الرأسمالية‬
‫نتصور المقاوم َ‬
‫َ‬ ‫كيف يمكن أن‬
‫وترجيع صدى الدولة للتشفيرة المفرط؟ كيف يمكننا البدءُ‬
‫في التفكيرة في استنفار خطوط الهروب حتى نخلق‬
‫ترتيبات اجتماعية بديلة؟ في ختام الفصل الثالث‪ ،‬رأينا أن‬
‫ٍ‬
‫التفكيرة بشكل مختلف ليس نشاطا انفراديا‪ .‬من الصعب‪،‬‬
‫إن لم يكن من المستحيل‪ ،‬أن يقوم المرءُ به على عاتقه‪.‬‬
‫أما أن يحيا المرء على عاتقه بطريقةٍ مختلفةة فما زال‬
‫أصعب‪ .‬قدم لنا دولوز أنطولوجيا تستجيب لالختالف‪ .‬ونقل‬
‫دولوز وجاتاري تلك األنطولوجيا إلى مجال السياسة‪.‬‬
‫فكيف يمكن أن نستخدم هذه األنطولوجيا وهذه السياسة‬
‫في مشروع العيش معا؟ كيف يمكننا أن نطلق خطوط‬
‫هروبنا‪ ،‬أن نستعيدة اآلالت الملتفة داخل الكيانات العضوية‬
‫واآلليات؟‬

‫في أنتي ف أوديب داقتعالا[ضد فف أوديب] يُميِّز دولوز وجاتاري‬


‫بين مجموعات ف الذات ‪ subject groups‬وبين‬
‫المجموعات الخاضعة ‪. subjected groups‬‬
‫ل منهما استثمارا للرغبة‪ .‬لكن كال منهما تتضمن‬ ‫تتضمن ك ٌ‬
‫استثمارات بالغة االختالف‪.‬‬
‫‪242‬‬
‫جماعي‪ ،‬وكل فانتازيا هي فانتازيا جماعية وهي‬ ‫ٌ‬ ‫كل استثمارٍ‬
‫ف من الواقع‪ .‬لكن نوعي االستثمار‬ ‫بهذا المعنى موق ٌ‬
‫مختلفان جذريا‪ ،‬حسبما أن األول يرتكز على البنياتة‬
‫ضع الجزيئات‪ ،‬والثاني على النقيض يرتكز‬ ‫الموالرية التي تُخ ِ‬
‫مبنيَنة‪.‬‬
‫ضع ظواهر الحشد ال ُ‬ ‫على الكثرات الجزيئية التي تُخ ِ‬
‫ة خاضعة ‪. . . .‬تكبت رغبة األفراد‬ ‫األول استثمار مجموع ٍ‬
‫ذات في‬ ‫ٍ‬ ‫ةف‬‫اجتماعيا ونفسيا؛ والثاني‪ ،‬استثمار مجموع ِ‬
‫ة كظاهرةٍ جزيئية‪. . .‬‬ ‫ل الرغب َ‬‫الكثرات المستعرضة التي تنق ُ‬
‫‪31‬‬

‫ذات‪ .‬المجموعات‬ ‫ٍ‬ ‫ومجموعات‬


‫ُ‬ ‫مجموعات خاضعة‬
‫ٌ‬
‫ط موالرية‪،‬‬
‫الخاضعة تُفكر وتتصرف على أساس خطو ٍ‬
‫وآآلت وكيانات عضوية‪ .‬وعالمها يتكون فقط من تفعيالت‪،‬‬
‫وليس مطلقا من افتراضيات يمكن أن تتفعَّل‪ .‬وليس من‬
‫ة في السياسة‪.‬‬ ‫مجموعات خاضعة منخرط ً‬
‫ٍ‬ ‫الصعبة أن نجد‬
‫أدِر التلفزيون‪ .‬فالرؤوس المتكلمة ستقدم حديث‬
‫المجموعات الخاضعة لكل من يرحب باالستماع‪ .‬هناك‬
‫دائما نحن و هم‪ .‬التفرقة مرسومة بوضوح‪ .‬هناك أشياء‬
‫يمكةننا أن نصنعها لهم‪ ،‬أو على األقل يمكةننا أن نساعد‬
‫أنفسنا‪ ،‬لكةننا يجب أن نكون واقعيين‪ .‬يمكننا الجدال في‬
‫ص‬
‫الخيارات‪ ،‬لكن حين يتم اختيار أحدها‪ ،‬يجب أن نترا َّ‬
‫يكن أمهات؛‬‫ّ‬ ‫دور يلعبه‪ .‬األمهات يجب أن‬
‫ٌ‬ ‫خلفه‪ .‬لكل واحد ٍ‬
‫والعمال يجب أن يساهموا عن طريق عملهم؛ واألطفال‬
‫يجب أن ينصتوا آلبائهم‪.‬‬

‫تمييزات واضحة‬
‫ٌ‬ ‫هذا هو فكر المجموعات الخاضعة‪:‬ة‬
‫بأهداف مفهومةٍة فعال‪ .‬إنه نزوعُ رد ِ‬
‫ٍ‬ ‫بين الخطوط الموالرية‬

‫‪243‬‬
‫فعل نيتشوي خالص‪ .‬لكن لنتذكر ما قاله دولوز عن‬ ‫ٍ‬
‫شخص ما ةة ولو كان واحدا فقط ةة‬
‫ٍ‬ ‫الفلسفة‪" .‬إنها مسألة‬
‫لديه التواضع الضروري لئال يتمكن من معرفة ما يعرفه‬
‫مجموعات الذات‪ .‬ومع مجموعات الذات‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الجميع‪ ".‬هنا تبدأ‬
‫ال يكون واحدا ً فحسب‪ .‬يخبرنا دولوز وجاتاري أن كل‬
‫جماعي‪ .‬ال نكون وحيدين أبدا‪ ،‬ال في خطوطنا‬
‫ٌ‬ ‫استثمارٍ‬
‫الموالرية وال في خطوطنا الجزيئية‪ .‬إنها مسألة البعض‬
‫بيةننا ال يتمكنون من معرفة ما يعرفه بقيتُنا‪ .‬مجموعات‬
‫ة‪ .‬مثل سقراط‪ ،‬تكمن حكمتُها في معرفة أنهم‬ ‫الذات جاهل ٌ‬
‫تقدر عليهم‬
‫ُ‬ ‫ال يعرفون‪ .‬واألهم‪ ،‬أنهم ال يعرفون بعد ما‬
‫أجسادُهم الجماعية‪.‬‬

‫أن تكون جاهال ال يعني أن تكون راكدا‪ .‬وال يعني أن‬


‫تكون مشلوال‪ .‬أن تكون جاهال بهذه الطريقة يعني بدال من‬
‫ذلك أن تكون باحثا عن إمكانات جديدة‪ ،‬عن تشكيالتة‬
‫لتوصيالت جديدة‪ .‬يعني أن‬
‫ٍ‬ ‫جديدة‪ .‬يعني أن تكون خالقا‬
‫م كي ترى‬ ‫ل الحس َ‬‫تتحرك بين ما لم يُحسم بعد وما ال يقب ُ‬
‫ة لكل هذه القضايا‬ ‫ماذا يمكن أن يُخلَق‪" .‬كل صراع هو دال ّ ٌ‬
‫تعارض مع‬
‫ٍ‬ ‫غير القابلة للحسم ويقيم وصالت ثورية في‬
‫تصريفات ما هو بديهي ‪conjugations of the‬‬ ‫ِ‬
‫‪ axiomatic ."32‬اآلالت تتصل ببعضها؛ ال تتصرف‬
‫توصيالت جديدة مع‬
‫ٍ‬ ‫‪ conjugate‬داخل بديهية‪ ،‬بل تخلق‬
‫تتمكن‬
‫ْ‬ ‫لحظات جديدة من االفتراضي‪ .‬ال‬ ‫ٍ‬ ‫آآلت أخرى‪ .‬تُفعِّل‬
‫ن لدي َ‬
‫ك‬ ‫من معرفة ما يعرفه اآلخرون جميعا وسوف تكو ُ‬
‫فرصة لخلق شيءٍ مشوِّق‪ .‬ودائما في مجموعة‪،‬ال تكن‬
‫ة‪ .‬ال يجب‬ ‫منفردا أبدا‪ .‬ال يجب أن تكون المجموعات خانق ً‬

‫‪244‬‬
‫مجموعات خاضعة‪ .‬أعثر على آخرين مستعدين‬
‫ٍ‬ ‫أن تكون‬
‫ذات‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ة‬
‫أن يلمسوا االفتراضي وسيكون لديك مجموع ُ‬

‫عادة ً ما يتحدث دولوز عن البدو واألقليات‪ .‬ويقيم‬


‫تضادا بين البدو وبين المقيمين‪ .‬وقد رأينا أن هناك دائما‬
‫كل من البدو والمقيمين‪ .‬ويُلقي دولوز بثقله مع البدو‪ ،‬مع‬
‫مغامرات غريبة‪ ،‬حتى حين‬
‫ٍ‬ ‫أولئك الذين يرسلُهم قلقُهم في‬
‫مكان واحد‪ ،‬كما يحدث مع‬ ‫ٍ‬ ‫تحدث تلك المغامرات في‬‫ُ‬
‫الكُتّاب والفالسفة‪ .‬البدو ال يعرفون‪ .‬إنهم يبحثون‪ .‬يبحثون‬
‫العثور عليه‪ .‬ليس‬
‫ُ‬ ‫ال ليجدوا شيئا‪ ،‬ألنه ليس ثمة شيءٌ يجب‬
‫تعال يُريحهم‪ .‬ال يسعون إلى االكتشاف بل إلى‬ ‫ٍ‬ ‫ثمة‬
‫التوصيل‪ .‬مما يعني القول بأنهم يسعون للخلق‪ .‬إنهم‬
‫سون االفتراضي في عملهم كي يكتشفوا ما يمكن أن‬ ‫يج ُّ‬
‫يكون موصوال ً به‪ .‬إنهم يعانقون العود َ األبدي‪ ،‬ألنه سيقدم‬
‫لهم دائما شيئا ال يعرفونه‪ .‬ليسوا خائفين من رمي النرد‪،‬‬
‫وليسوا متخوفين من النرد الذي يرتد‪.‬‬

‫واألقليات هم مغامرون بدويون‪ .‬فأن تكون أقلية يعني‬


‫مغفَلَة في الجسد‬ ‫أن تسعى إلى التوصيل بالحركات ال ُ‬
‫الوصالت يمكن أن تكون سياسية بالمعنى‬ ‫ُ‬ ‫االجتماعي‪ .‬هذه‬
‫التقليدي‪ ،‬لكنها ليستة بحاجة ألن تكون‪ .‬يمكن أن تكون‬
‫فنية‪ ،‬أو مطبخية‪ ،‬أو مهنية‪ ،‬أو لغوية‪ ،‬أو علمية‪ ،‬أو أبوية‪ ،‬أو‬
‫كاتب‬
‫ٍ‬ ‫كتاب عن‬
‫ٌ‬ ‫أدبية‪ .‬وكتاب دولوز وجاتاري عن كافكا هو‬
‫يسعى ألن يكون أقلّياتيا‪ ،‬جزئيا من خالل استخدام تنويعةٍ‬
‫ة منزوعة‬ ‫ة براغ هي لغ ٌ‬ ‫خاصة من اللغة األلمانية‪" .‬ألماني ُ‬
‫ة الستخدامات غريبة وأقلياتية‪ ( .‬ويمكن‬ ‫التوطين‪ ،‬مالئم ٌ‬

‫‪245‬‬
‫مقارنة هذا في سياق آخر بما يستطيع السود في أمريكا‬
‫‪33‬‬
‫اليوم عمله باللغة اإلنجليزية‪").‬‬

‫ة بعينها‪ ،‬وال‬‫أن تصير أقلياتيا يعني أال ّ تحتضن هوي ً‬


‫عالقة له بكم عدد من في المجموعة بالمقارنة بالعدد في‬
‫األغلبية‪ .‬الصيرورة ُ ة إمرأة ً هي الصيرورة ُ أقلياتياً‪ ،‬حتى لو‬
‫كان هناك نساءٌ أكثر من الرجال‪ .‬أن تصير أقلياتيا يعني أن‬
‫تُصارع أعنَّة هويةِ األغلبية كي تستقصي إمكانات جديدة‪،‬‬
‫مقيَّدة ً بالخطوط الموالرية‬ ‫طرقا جديدة للصيرورة لم تعد ُ‬
‫السائدة وآآلتها المجردة‪ .‬يعني أن تستقصي االفتراضي‬
‫ُ‬
‫الخطوط الموالرية لألغلبية‪.‬‬ ‫ب رؤيتَه‬
‫الذي عادةً ما تُضب ِّ ُة‬
‫ة األغلبية‪،‬‬
‫يعني القطيعة مع الهوية‪ ،‬التي هي دوما هوي ُ‬
‫اختالف لم يتم تفعيلُه بعد‪ .‬وكما يقول دولوز‬ ‫ٍ‬ ‫لصالح‬
‫وجاتاري عن كافكا‪ ،‬فإن "أدبا أقلياتيا ال يأتي من لغةٍ‬
‫ة داخل لغة أغلبياتية‪".‬‬ ‫أقلياتية؛ بل هو باألحرى ما تبنيه أقلي ٌ‬
‫‪34‬‬

‫اإليبونيكس ‪[ Ebonics‬اإلنجليزية األفريقية األمريكيةة‬


‫ة مختلفة‪ .‬إنها اإلنجليزية‪ ،‬وقد تم‬ ‫الدارجة ةة م] ليست لغ ً‬
‫للتعرفة كي تعبر عن خبرات‬‫ُّ‬ ‫ليّها إلى أشكال غير قابلةٍ‬
‫ة في اللغة‪ ،‬تُحدث‬‫ة أخرى بل تجرب ٌ‬ ‫مختلفة‪ .‬ليست لغ ً‬
‫قطيعةة عن اللغة األغلبياتية اإلنجليزية كي تقول أشياءَ‬
‫إيقاعات جديدة أو تنطقُ أصواتا جديدة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫جديدة أو تخلق‬
‫وفور أن تُطوّر اإليبونيكس شفراتها وقواعدها الخاصة‪،‬‬
‫ة أغلبياتية‪ ،‬حتى لو تكلمها األمريكيون ة األفارقة‬‫تصبح لغ ً‬
‫فقط‪ .‬وكما يقول جون رايشمان ‪، John Rajchman‬‬

‫‪246‬‬
‫اللغات األقلياتية مثل اإلنجليزية السوداء تطرح هذه‬
‫المشكلة ةة البد أن يبتكر المرءُ طرقا ليكون في داره ال في‬
‫موطن بل في هذه األرض‪ ،‬التي‪ ،‬بعيدا عن أن تُجذ َِّرها في‬ ‫ٍ‬
‫حر ُرها من تلك الحدود فتصبح‬ ‫مكان‪ ،‬في هوية‪ ،‬في ذاكرةٍ‪ ،‬ت ُ ِّ‬ ‫ٍ‬
‫ة التوطين‪ ،‬مثلة خيمةٍ ينصبُها البدو ‪. . . .‬لم‬ ‫ة ومنزوع َ‬ ‫خفيف ً‬
‫تعد المشكلة هي مشكلة "الشعب"‪ ،‬بل مشكلة "شعب"‪،‬‬
‫شعب غير محدد‪ ،‬مازال "دون خصائص"‪ ،‬مازال يجب‬ ‫ٍ‬
‫‪35‬‬
‫اختراعه‪. . .‬‬

‫البداوة واألقليات ليست فحسب نشاطات أفرادٍ‬


‫بعينهم يجتمعون معا‪ .‬قد تكون ذلك‪ ،‬لكن ليس عليها أن‬
‫تكون‪ .‬البداوة والصيرورة ُ ة أقلياتيا ً يمكن أن تحدث عبر‬
‫مجموعات أو حتى على مستوى قبل ة فردي‪ .‬فسلوك‬ ‫ٍ‬
‫مواد كيميائية معينة عند شروط بعيدة عن االتزان هو‬
‫مغفَل من المجال‬ ‫لجانب ُ‬
‫ٍ‬ ‫صيرورة ٌ ة أقلياتيا‪ ،‬تفعي ٌ‬
‫ل‬
‫االفتراضي‪ .‬ونشوء حركة مناهضة العولمة هو صيرورةٌ ة‬
‫ة من‬ ‫أقلياتيا لعديد من المجموعات المختلفة التي لها تنويع ٌ‬
‫األهداف واألغراض الخاصة؛ والتقاؤها على موضوعات‬
‫االستغالل‪ ،‬وتناول الطعام‪ ،‬واتخاذ القرارات الجماعي يُعد ُّ‬
‫صيرورة ً ة أقلياتيا للعمليات السياسية التقليدية (ومثل كل‬
‫صيرورةٍ ة أقلياتيا‪ ،‬في خطرٍ دائم ألن تتطور إلى شفرةٍ‬
‫جديدة تعلن كيف يجب أن تكون األشياء)‪.‬‬

‫ليس من بين المصطلحات التي يُدخلها دولوز وجاتاري‬


‫م جدو َ‬
‫ل‬ ‫ح يقد ِّ ُ‬
‫ةة مجموعات الذات‪ ،‬البدو‪ ،‬األقليات ةة مصطل ٌ‬
‫ة عامة [روشتة]‪.‬‬ ‫سياسي محدد‪ " .‬ليس هناك وصف ٌ‬
‫ٍ‬ ‫أعمال‬
‫ٍ‬
‫لقد فرغنا من كل المفاهيم التعميمية‪ ".‬وإذا سألتهما‪" ،‬ماذا‬

‫‪247‬‬
‫يجب أن نفعل اآلن؟" لن يقدّما إجابة‪ .‬أو‪ ،‬إذا قدموها‪،‬‬
‫ستكون من قبيل‪:‬‬

‫ج ِّرب مع‬ ‫من فوق شريحةٍ‪َ ،‬‬ ‫هكذا يجب أن يُصنع األمر‪ :‬إك ُ‬
‫ُ‬
‫مكان متميزٍة فوقها‪ ،‬أعثُر‬ ‫الفُرص التي تقدِّمها‪ ،‬أُعثُر على‬
‫ٍ‬
‫هروب‬
‫ٍ‬ ‫توطين محتملة‪ ،‬على خطوط‬ ‫ٍ‬ ‫على حركات نزع‬
‫جرب متصالت‬ ‫فيض هنا وهناك‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬ ‫ج ِّربها‪ ،‬أَنتِج وصالت‬
‫ممكنةٍ‪َ ،‬‬
‫صل على قطعةٍ صغيرة من‬ ‫كثافات قطاعا وراء قطاع‪ ،‬اح ُ‬
‫ص ِّرف‪،‬‬‫األرض الجديدةة في كل األوقات ‪ . . . .‬إتصل‪َ ،‬‬
‫بياني" كامل‪ ،‬في مقابل البرامج الذاتية التي‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫"خط‬ ‫استمر‪:‬‬
‫‪36‬‬
‫ما زالت دالة‪.‬‬

‫ة على السؤال عما يجب فعله أم مجرد َ‬ ‫هل هذه إجاب ٌ‬


‫نداءٍ إلى السالح؟ إنها كال األمرين‪ .‬وما يشير دولوز‬
‫ة بل طرقا لتصوُّر‬ ‫ج سياسي ً‬ ‫وجاتاري إليه هنا ليس برام َ‬
‫والتصرف بشأن خبرتنا‪ .‬نحن نفهم هذه المصطلحات‪ :‬نزع‬ ‫ُّ‬
‫صالت الكثافات‪ .‬وما نحتاجه‬ ‫التوطين‪ ،‬خطوط الهروب‪ ،‬مت َّ َ‬
‫ة‬
‫اآلن هو أن نفكر ونفعل بواسطتها‪ .‬وال يتطلب هذا طليع ً‬
‫لتخبرنا أين تكمن مصالحنا‪ .‬هذا يرفض عكَّاز الطليعة‪.‬‬
‫ويضع المسئولية في أيدينا نحن‪ ،‬طالما فهمنا كلمة نحن‬
‫موضوعات قبل ة‬
‫ٍ‬ ‫على أنها تُحيل ال إلى أفراد ٍ وال إلى‬
‫منظمات وال‬
‫ٍ‬ ‫جماعات وال إلى دول وال إلى‬‫ٍ‬ ‫فردية وال إلى‬
‫ل هذه األمور‪ ،‬ك ٍّ‬
‫ل‬ ‫إلى اصطفافات مستعرضة بل إلى ك ِّ‬
‫منها عند مستواه المناسب وفي سياقه المناسب‪.‬‬

‫والنقطة األخيرة‪ ،‬وربما كانت األهم‪ ،‬هي أن السياسة‬


‫ة وليست استنباطا‪ .‬إذا لم نكن قد عرفنا هذا من‬ ‫تجرب ٌ‬
‫قبل‪ ،‬فإن تاريخ القرن العشرين كان يجب أن يعلِّمنا إياه‪.‬‬

‫‪248‬‬
‫ضها من‬ ‫صيغٌ‪ ،‬وال قواعد‪ ،‬وال برامج يمكن فر ُ‬ ‫ليس ثمة ِ‬
‫االنتهاك‬
‫ِ‬ ‫بخالف ذلك يعني الدعوةَ إلى‬ ‫ِ‬ ‫والتفكير‬
‫ُ‬ ‫أعلى‪.‬‬
‫ة‬
‫آن واحد نبيل ٌ‬
‫ت عادةً أنها في ٍ‬ ‫مثل عليا تُثب ِ ُ‬
‫ٍ‬ ‫والذبح باسم‬
‫ة على أية حال‪.‬‬ ‫ة وفارغة‪ ،‬لكنها فارغ ٌ‬ ‫وفارغة‪ ،‬أو وضيع ٌ‬
‫ٌ‬
‫يعلمنا دولوز وجاتاري الكثير عما هو خطأ في عالمنا‬
‫السياسي‪ .‬ويقدمان لنا طرقا لتصوُّرِ أنفسنا ووجودنا معا‬
‫تُتيح لنا أن نبدأ في تجريب البدائل‪ .‬لكن ما من وصفة‬
‫تحليالت وتجارب في عالم ٍ ال‬ ‫ٌ‬ ‫داقتعالا[روشتة] عامة‪ .‬هناك فقط‬
‫وأكثر مما يمكننا أن‬
‫َ‬ ‫يقدم لنا أية ضمانات‪ ،‬ألنه دوما آخَر‬
‫نتخيل‪ .‬إننا نرمي النرد‪ ،‬وال نعلم بشكل مؤكدٍ ما الذي‬
‫ألعاب غير مؤكدة‪. . . .‬‬ ‫ٍ‬ ‫ل شيء يجري لعِبُه في‬ ‫سيرتدُّ‪" .‬ك ُّ‬
‫ل سيءٌ ألنه‪ ،‬طالما يُسأَل‪،‬‬ ‫وسؤال مستقبلة الثورة هو سؤا ٌ‬
‫س كثيرون ال يصيرون ثوريين‪ ،‬وهذا بالضبط هو‬ ‫فهناك أنا ٌ‬
‫السبب في طرحه‪ ،‬لمنع سؤال الصيرورة ة الثورية للناس‪،‬‬ ‫ُ‬
‫‪37‬‬
‫عند كل مستوى‪ ،‬وفي كل مكان‪".‬‬

‫ط‬
‫ألعاب غير مؤكدة‪ .‬كل خ ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫كل شيءٍ يجري لعِبُه في‬
‫له مخاط ِ ُره الخاصة‪ .‬ومخاطر الخطوط الموالرية بديهية‪.‬‬
‫َ‬
‫الخطوط‬ ‫صلها دولوز‪ ،‬وجاتاري‪ ،‬وفوكوه‪ .‬لكن‬ ‫وقد ف ّ‬
‫مخاطرهاة أيضا‪" .‬ال يكفي بلوغ ُ أو تتبُّع خ ٍ‬
‫ط‬ ‫ُ‬ ‫الجزيئية لها‬
‫موالري‪ . . . .‬فالخطوط اللينة هي ذاتها التي تُنتج أو‬
‫عبورها بسرعةٍ‬
‫ُ‬ ‫ة يجري‬
‫مخاطرها الخاصة‪ ،‬عتب ٌ‬
‫َ‬ ‫ف‬
‫تُصاد ُ‬
‫مفرطة‪ ،‬كثافة تصبح خطيرة ً ألنها ال يمكن أن تُحتمل ‪. . .‬‬
‫ثقب أسود لن يتمكن من انتزاع نفسه‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬
‫خط لين يندفع إلى‬
‫منه‪ ".‬يمكن للخطوط الجزيئية أن تتشكَّلة إلى ُر ٍ‬
‫كن‪.‬‬ ‫‪38‬‬

‫وربما كان هذا ما فعله دُعاة سياسة الهوية في الواليات‬


‫المتحدة خالل أعوام الثمانينات من القرن العشرين‪ .‬ففي‬

‫‪249‬‬
‫هويات سياسية خاصة (المثلية‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫صلة‬
‫مف َ‬
‫سعيهم إلى َ‬
‫الزنوجة) يردُّون منها على اضطهاداتهم‪ ،‬انتهى بهم األمر‬
‫إلى عزل المجموعات الواحدة عن األخرى‪ ،‬وإقامة جيتو‬
‫للسياسة التقدمية بدل استنفارها‪.‬‬

‫والمخاطر المرتبطة بخطوط الهروب هي "ربما‬


‫أسوأها جميعا‪ .‬فليس األمر فحسب أن خطوط الهروب‪،‬‬
‫ضها‪،‬‬
‫تخاطر بأن يتم اعترا ُ‬
‫ُ‬ ‫األشد ميال في انحدارها‪،‬‬
‫ثقوب سوداء‪ .‬فأمامها‬‫ٍ‬ ‫وجرها إلى‬
‫ّ‬ ‫مها إلى قطاعات‪،‬‬ ‫وتقسي ُ‬
‫خطر آخر خاص‪ :‬أن تتحول إلى خطوط إلغاءٍ‪ ،‬خطوط‬ ‫ٌ‬
‫ة لهذا الخطر‬ ‫‪39‬‬
‫دمار‪ ،‬لآلخرين ولنفسها‪ ".‬ويورد دولوز أمثل ً‬
‫في األدب‪ :‬من بينها ف‪ .‬سكوت فيتزجيرالد وفيرجينيا‬
‫ف إلى أين يؤدي‪ .‬يمكن‬ ‫هروب ولن تعر َ‬
‫ٍ‬ ‫َّ‬
‫خط‬ ‫وولف‪ .‬إتبعَ‬
‫المكان على اإلطالق‪ .‬يمكن‬
‫ٍ‬ ‫أن يؤدي إلى أي مكان أو إلى‬
‫أن يؤدي إلى محوهِ هو ذاته‪.‬‬

‫مهمتنا في السياسة ليست أن نتبع البرنامج‪ .‬ليست‬


‫أن نضع مسوّدة للثورة أو أن نعلن أنها قد حدثت بالفعل‪.‬‬
‫روع الفرد وال أن نخلق المجتمع‬ ‫ِ‬ ‫ليست أن نهدّيءَ من‬
‫الالطبقي‪ .‬وال تكمن في الشعار "إلى الجزيئي‪ ،‬إلى‬
‫نجيب من جديد‪،‬‬
‫َ‬ ‫خطوط الهروب‪ ".‬مهمتنا أن نسأل وأن‬
‫يمكن‬
‫ُ‬ ‫ل كيف‬‫م أبدا‪ ،‬سؤا َ‬
‫مرةً أخرى دائما ألن األمر ال يُختت ُ‬
‫ل نسألُه ونجيبُه ليس فقط بكلماتنا‬ ‫أن يحيا المرء‪ .‬إنه سؤا ٌ‬
‫تجريب ال‬
‫ٍ‬ ‫أو بأفكارنا بل بحيواتنا الفردية والجماعية‪ ،‬في‬
‫مقضي عليه بل دائما في عملية الصيرورة‪.‬‬ ‫ٌّ‬ ‫ن وال‬
‫هو مضمو ٌ‬

‫‪250‬‬
‫الهوامش‬

‫‪ 1‬في مايو ويونيو من عام ‪ ،1968‬خرج الناس من‬


‫مشارب حياة بالغة االختالف ةة طلبة‪ ،‬وعمال‪ ،‬ونساء ةة‬
‫إلى شوارع باريس‪ ،‬وبنوا المتاريس‪ ،‬وتحدّوا الشرطة‪،‬‬
‫وكادوا أن يفرضوا تنحي الرئيس حينها‪ ،‬شارل ديجول‪.‬‬
‫وقد تمت إعادته إلى السلطة بمساعدة الحزب‬
‫الشيوعي الفرنسي‪ ،‬الذي حمل ضغينةة واقع أن‬
‫االنتفاضة لم تكن بقيادته وال تحت سيطرته‪ .‬وغداة ما‬
‫أصبح يطلق عليه "مايو ‪ "،68‬بدأ المثقفون الفرنسيونة‬
‫في التنظير لسياسة تقدمية خارج التقاليد الماركسية‪.‬‬
‫‪2 For example, Michael Sandel in his‬‬
‫‪bookLiberalism and the Limits of Justice.‬‬
‫‪3 Deleuze and Guattari, Anti-Oedipus:‬‬
‫‪Capitalism and Schizophrenia, p. 1.‬‬
‫‪4Colebrook, Gilles Deleuze, p. 56.‬‬
‫‪5Colebrook, Gilles Deleuze, p. 56.‬‬
‫‪6Deleuze and Guattari, Anti-Oedipus, p. 1.‬‬
‫‪7Deleuze and Guattari, A Thousand Plateaus,‬‬
‫‪p. 435.‬‬
‫‪8Deleuze and Guattari,A Thousand‬‬
‫‪Plateaus,p. 217.‬‬
‫‪9Deleuze and Guattari, A Thousand Plateaus,‬‬
‫‪p. 213.‬‬
‫‪251‬‬
10Deleuze and Guattari, A Thousand
Plateaus, p. 213.
11Deleuze and Parnet, Dialogues, p. 131.
12Deleuze and Parnet,Dialogues, p. 144.
13 Deleuze and Guattari, A Thousand
Plateaus, p. 25.
14 Deleuze and Parnet, Dialogues, p. 124.
15 Deleuze and Parnet, Dialogues, p. 124.
16 Deleuze and Parnet, Dialogues, p. 125.
17 Deleuze and Guattari, A Thousand Plateaus, p.
216.
18 Deleuze and Parnet, Dialogues, p. 125.
19 Deleuze and Parnet, Dialogues, p. 135.
20Deleuze and GuattariA Thousand Plateaus,, p.
430.
21 Deleuze and Parnet, Dialogues, p. 125.
22 Deleuze and Guattari, A Thousand Plateaus, p.
433.
23 Foucault, Discipline and Punish, p. 184.
24 Deleuze and Parnet, Dialogues, p. 130.
ٌ
،‫نمط واحد فقط من اآللة المجردة‬ ‫كنا نتحدث هنا وكأن هناك‬
‫ وفي‬.‫النمط الذي يشفر الخطوط الموالرية تشفيرا مفرطا‬
‫ يطرح دولوز وجاتاري نمطا آخر من اآللة‬،‫الف مسطح‬
‫ تعمل بفك الشفرة ونزع‬،‫ "آلة مجردة للتحول‬،‫المجردة‬
‫ هذا النمط الثاني من اآللة المجردة يعتمد‬.223 ‫" ص‬.‫التوطين‬
‫ والصراع بين هاتين اآللتين هو الصراع‬.‫على خطوط الهروب‬

252
‫بين الهويات الموالرية المشفرة بإفراط وبين خطوط الهروب‬
.‫التي تؤسس وكذلك تهرب من تلك الهويات‬

25 Deleuze and Guattari,A Thousand Plateaus, p.


224.
26 Deleuze and Guattari,A Thousand Plateaus,p.
454.
27 Deleuze and Guattari, Anti-Oedipus, p. 224.
‫ يبدأ دولوز في التساؤل عما إذا كان‬،‫ قرب نهاية حياته‬28
‫ ويقترح أننا قد انتقلنا من‬.‫االنضباط ال يزال فعاال ً كآلةٍ مجردة‬
‫ يتميز ال باحتجاز وتنظيم‬،‫مجتمع انضباط إلى مجتمع سيطرة‬
‫األجساد بل بةة "أشكال فائقة السرعةة من السيطرة الحرة‬
‫الطفو تحل محل االنضباطات القديمة التي تعمل داخل‬
".‫الجداول الزمنية لألنساق المغلقة‬
“Postscript onSocieties of Control,” p. 178.
29 Deleuze and Guattari, A Thousand Plateaus, p.
468.
30Deleuze and Parnet, Dialogues, p. 146.
31 Deleuze and Guattari, Anti-Oedipus, p. 280.
32 Deleuze and Guattari,A Thousand Plateaus, p.
473.
33 Deleuze and Guattari, Kafka: Toward a Minor
Literature, p. 17.
34 Deleuze and Guattari, Kafka, p. 16.
35 Rajchman, The Deleuze Connections, pp. 95–
6.

253
36 Deleuze and Guattari, A Thousand Plateaus,
p. 161.
37 Deleuze and Parnet, Dialogues, p. 147.
38 Deleuze and Parnet, Dialogues, p. 138.
39 Deleuze and Parnet, Dialogues, p. 140.

5
254
‫حيوات‬

‫‪I‬‬

‫كان ﭼون كولترين ‪ John Coltrane‬عازف‬


‫ساكسوفون لموسيقى الةﭼاز‪ .‬وُلِد في كارولينا الشمالية‬
‫عام ‪ 1926‬وتوفي في نيويورك عام ‪ .1967‬وفي المابين‪،‬‬
‫أنتج بعض الموسيقى األشد نفوذا في تاريخ الةﭼاز‪ .‬ويقف‬
‫كندٍ مع لويس آرمسترونج ‪ ، Louis Armstrong‬وديوك‬
‫إللينجتونة ‪ ، Duke Ellington‬وتشارلي ﭘاركر ‪Charlie‬‬
‫‪ ، Parker‬ومايلز ديةﭬيز ‪ ، Miles Davis‬وتيلونيوس مونك‬
‫‪ . Thelonious Monk‬وما من عازف ساكسوفون‬
‫لموسيقى الجاز يعزف اليوم ال يقف في ظله‪ .‬والسؤال‬
‫بالنسبةة للعديد من عازفي الساكسوفون هو ما إذا كان قد‬
‫ترك لهم أي بصيص ضوء‪.‬‬

‫‪255‬‬
‫لم يخُض كولترين نضال العديد من موسيقيي الجاز‬
‫لالعتراف بهم‪ .‬ورغم أنه وُضع في زمنه في البارات‬
‫سن بالغة الصغر من‬
‫ٍ‬ ‫ومالهي الموسيقى‪ ،‬فقد تمكن في‬
‫العزف مع الكثير من فرق قمة الجاز لعصره‪ ،‬بما فيها‬
‫فرق مايلز ديفيز وتيلونيوس مونك‪ .‬وقد بدأ يطوّر صوته‬
‫الخاص خالل تعاونه مع مايلز ومونك‪.‬‬

‫في بعض موسيقاه الحيّة المسجلة أواخر الخمسيناتة‬


‫[من القرن العشرين] يمكن أن نستمع إلى بدايات هذا‬
‫الصوت‪ .‬فقد أصبحت فترات عزفه المنفردة أطول‪ ،‬وأكثر‬
‫يجرب طرقا مختلفة لمقاربة أغنيةٍ ما‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بحثا‪ .‬بدا أنه كان‬
‫اآلن هذه الطريقة ثم تلك‪ ،‬عادةً خالل نفس العزف‬
‫المنفرد‪ .‬وذات مرة قال مايلز ديفيز أنه حين سأل كولترين‬
‫عن طول فترات عزفه المنفرد‪ ،‬قال كولترين أنه لم يكن‬
‫يعرف كيف يوقف العزف‪( .‬كانت إجابة ديفيز‪ ،‬فيما يقال‪،‬‬
‫فترات العزف‬
‫ُ‬ ‫"إنزع البوق من فمك‪ )".‬كذلك أصبحت‬
‫ط أسرع‪ .‬كان‬ ‫نغمات أكثر وأشوا ٍ‬
‫ٍ‬ ‫المنفرد أشد ّ كثافة‪ ،‬مع‬
‫االستماع إلى ديفيز وكولترين يعزفان معا يعني سماع‬
‫دراسة في التضادات‪ :‬فعزف ديفيز المقتصد كان يبحث‬
‫عن النغمة المنفردة الصحيحة لفضاءٍ موسيقي معين‪ ،‬بينما‬
‫مى "صفحات‬ ‫كان كولترينة يمأل الهواء بما أصبح يُس ّ‬
‫الصوت‪".‬‬

‫في عام ‪ 1960‬شكل كولترين فرقته الخاصة‪ .‬في‬


‫البداية لعبت الفرقة ضمن النطاق المعترف به للجاز في‬
‫ذلك الوقت‪ ،‬الهارد بوپ‪ .‬لكن خالل أوائل الستينات‪ ،‬بدأت‬
‫مؤثرات أخرى تجد طريقها إلى الموسيقى‪ .‬وصف كولترين‬
‫ٌ‬
‫‪256‬‬
‫ة روحية" عام ‪ ،1957‬وأظهرت موسيقاه‬ ‫كيف انتابته "يقظ ٌ‬
‫في أوائل الستينات آثارا ذات طبيعةة أكثر روحانية‪ .‬فبينما‬
‫ضمت مصادر متنوعةة من أغنيات العبيدة الروحية‬
‫والموسيقى الهندية الكالسيكية‪ ،‬انتقل كولترين من جاز‬
‫الهارد بوب إلى شيء أكثر بحثا وقلقا‪ .‬أصبحت فترات‬
‫منوِّمةٍ مغناطيسياة بالنسبة‬ ‫عزفه المنفرد أكثر طوال‪ ،‬و ُ‬
‫ل محل‬ ‫للكثير من مستمعيه‪ .‬وغالبا ما كان يُح ُّ‬
‫ن السوبرانو األكثر حدة‬ ‫الساكسوفون التينور الساكسوفو ُ‬
‫ِ‬
‫في درجة النغم‪ ،‬وهي آلة لعبها سيدني بيتشيتة ‪Sidney‬‬
‫‪ Bechet‬في العشرينات والثالثينات‪ ،‬لكنها نادرا ما‬
‫استخدمت منذ ذلك الحين‪ .‬وتُظهر شرائط الفيديو‬
‫مقيَّدا إلى‬
‫للحفالت الموسيقيةة في الستينات كولترين ُ‬
‫ة إثر موجةٍ من‬ ‫بوقه‪ ،‬وعيناه مغمضتان بإحكام‪ ،‬يعزف موج ً‬
‫النغمات بينما تدفع فرقته الموسيقى من الخلف‪ .‬بدا كأنه‬
‫أصبح درويشا‪ ،‬ضائعا في الصوت‪ ،‬منغمسا فيه‪ ،‬بدل أن‬
‫يخلقه‪.‬‬

‫إال ّ أن األمر لم يكن كذلك بالضبط‪ .‬فحتى حين كان‬


‫أشد انخراطا في الموسيقى‪ ،‬كان ما زال يسعى إلى أن‬
‫يدفعها إلى مدىً أبعد‪ ،‬أن يكتشف ما يمكنها أن تفعله‪ .‬وقد‬
‫استرجع عازف طبوله [درامر]‪ ،‬إلفين جونز ‪، Elvin Jones‬‬
‫ة وضع فيها كولترين ساكسوفونه جانبا وبدأ ينقر‬ ‫مناسب ً‬
‫أصوات تقع خارج‬
‫ٍ‬ ‫صدره أمام الميكروفون‪ ،‬محاوال خلق‬
‫نطاق بوقه‪.‬‬

‫جرب في‬ ‫وبحلول منتصف الستيناتة كان كولترين ي ُ ِّ‬


‫ة وجدها‬
‫"الجاز الحر" لذلك الوقت‪ ،‬عازفا موسيقى النغمي ً‬

‫‪257‬‬
‫ة المتابعة‪ .‬وجلب موسيقيين‬ ‫حتى أشد مستمعيه وفاءً صعب َ‬
‫جرب‬ ‫جددا‪ ،‬أناسا يعزفون على هوامش الجاز‪ ،‬حتى ي ُ ِّ‬
‫بنفسه مع تلك الهوامش‪ .‬ويظل أحد ألبوماته األخيرة‪،‬‬
‫"صعود"‪ ، Ascension‬بين أكثر مؤلفات الجاز تحدّيا‪.‬‬
‫مشتَّت‪ ،‬كثيف دون هدنة‪ .‬وبااللتزام بعنوان‬ ‫صوته متنافر‪ُ ،‬‬
‫األلبوم‪ ،‬فكأن كولترينة كان يسعى إلى إحداث صعود‬
‫روحاني من خالل القوة الخالصة لآلالت‪ ،‬كأن مجهودا آخر‪،‬‬
‫مجال آخر‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫واحدا فقط‪ ،‬سينقلها جميعا إلى‬

‫وقرب نهاية حياته‪ ،‬وصف من كانوا حول كولترين‬


‫نوبات إجهاده المتكررة‪ .‬كان يأخذ فترات استراحة من‬
‫بحث موسيقي أشد كثافة‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫العزف‪ ،‬لكن كال منها كان يتبعها‬
‫وقد توفي في سن الحادية واألربعين من علّة في الكبد‬
‫ربما فاقمتها كثافة انخراطه في الموسيقى‪.‬‬

‫كيف يمكننا أن نفهم مسار كولترين الموسيقي؟‬

‫تعال‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫م‬
‫هاهي طريقة‪ .‬كان كولترين يسعى إلى شيءٍ ُ‬
‫مستخدما الموسيقى لبلوغ حالة روحية أبعد من‬
‫الموسيقى‪ ،‬رافعا مستمعيهة معه إلى تلك الحالة‪ .‬ميزة هذه‬
‫الطريقة للفهم أنها تبدو متسقة مع بعض أوصاف كولترين‬
‫نفسه‪ ،‬ذات الصبغةة الدينية‪ ،‬لما كان يسعى إلى تحقيقه‪.‬‬
‫أما عيب هذه الطريقة للفهم فهو أنها تتجاهل‬
‫الموسيقى‪ .‬فالموسيقى‪ ،‬في هذا الوصف‪ ،‬هي وسيل ٌ‬
‫ة‬
‫ة ال‬
‫لغاية‪ .‬وحقيقة أنها كانت موسيقى وليست رسما أو كتاب ً‬
‫عالقة لها بالموضوع‪.‬‬

‫‪258‬‬
‫وقد سئل كولترين ذات مرة ماذا سيفعل إذا لم يعد‬
‫يستطيع عزف الموسيقى‪ .‬فأجاب أن الموسيقى هي كل‬
‫ما يعرف فعله‪.‬‬

‫وهاهي طريقة أخرى‪ ،‬أفضل‪ ،‬لوصف ما كان كولترين‬


‫ل افتراضي‬ ‫يفعله‪ .‬تبدأ بالموسيقى‪ .‬الموسيقى هي مجا ٌ‬
‫بطرق عديدة مختلفة‪ .‬إنها‬
‫ٍ‬ ‫لالختالفات التي يمكن تفعيلها‬
‫ل إفتراضي ثري‪ ،‬مجا ٌ‬
‫ل ال ينضب‪ ،‬لو اعتبرنا تاريخه‬ ‫مجا ٌ‬
‫مؤشرا‪ .‬ولسوء الحظ‪ ،‬فإن معظم الموسيقيين ال يلمسون‬
‫االفتراضي‪ .‬وال حتى يسعون لذلك‪ .‬وصناعة التسجيالت‬
‫وردا ً ألشد‬
‫م ِّ‬‫ليست باحثا ً عن افتراضية الموسيقى؛ بل ُ‬
‫هوياتها شيوعا وابتذاال‪ .‬ومعظم الموسيقيين‪ ،‬الساعين إلى‬
‫بيع األلبومات‪ ،‬قانعون بحصر رحالتهم الموسيقية في حدود‬
‫ذوق الجمهور السائد‪ .‬وحتى ما يُحسب على أنه انتهاكات‬
‫في الموسيقى المعاصرة ةة األنغام أو الحيل المسرحية أو‬
‫المالبس المستفزة ةة ال تعدو أن تكون دغدغات أكثر من‬
‫كونها تطورات موسيقية‪.‬‬

‫سياق موسيقي بعينه‪ .‬ولم‬


‫ٍ‬ ‫رفض كولترين قيود َ أي‬
‫يكن هذا ألنه كان يتمرد على هذه السياقات‪ .‬يصف بعض‬
‫الناس كثافة موسيقاه بأنها غاضبة‪ ،‬لكن معظم من‬
‫يستمعون إليها يعتقدون أنها نشوانية‪ .‬والقطعة السياسية‬
‫بوضوح التي ألفها‪" ،‬أالباما‪ "،‬والتي أبدعها غداة تفجير‬
‫كنيسة في برمينجهام قُتل فيه أربعة أطفال‪ ،‬هي ترنيمة‬
‫جنائزية أكثر من كونها احتجاجا‪ .‬لم يكن كولترين يقوم برد‬
‫فعل‪ ،‬بالمعنى النيتشوي‪ .‬ولم يكن يمتعض من صناعة‬
‫الموسيقى (التي كانت أكثر مساندةً للموسيقى البديلة‬

‫‪259‬‬
‫عندئذ)؛ كما لم يبد أنه يشعر بثقل عبء البنيات السائدة‬
‫لموسيقى زمنه‪.‬‬

‫بدل أن يتمرد كولترين‪ ،‬فإنه أبدع‪ .‬وكان الشكل‬


‫الخاص إلبداعه أن يرى ماذا يمكن أن يكون أكثر في‬
‫الموسيقى التي يعزفها‪ .‬لم يكن يؤلف أو يو ّزع أو يعبّر؛ بل‬
‫كان يبحث‪ .‬كان يرمي النرد‪ .‬كان عزفه قوةً فعّالة‪ ،‬تمضي‬
‫إلى أقصى حدود ما يمكن أن تفعله‪ .‬كان يستقصي ليرى‬
‫ما الذي يمكن أن تحتويه الموسيقى مما لم تُظهره من‬
‫قبل‪ .‬لم يعزف ليُظهر ما هو فعلي بل ليلمس ما هو‬
‫موسيقي جاز‪ ،‬كان الشكل الذي‬
‫ُ‬ ‫افتراضي‪ .‬وحيث أنه‬
‫يلمس به االفتراضي إرتجاليا إلى حد كبير‪ .‬فمثال‪ ،‬على‬
‫خالف شونبيرج ‪ ، Schoenberg‬الذي أبدع السلم‬
‫الموسيقي ذي اإلثنتى عشرة نغمة‪ ،‬كان استقصاء كولترين‬
‫في افتراضي الموسيقى يجري وهو يعزف ال وهو يؤلف‪.‬‬

‫إذا نظرنا إلى مسار كولترين باعتباره استقصا ًء‬


‫لالفتراضي ال خطوةً في التعالي‪ ،‬فإنه يكتسب معنى أكبر‪.‬‬
‫إذ يضع الموسيقى في مركز الحكاية‪ ،‬بدل النظر إليها‬
‫كوسيلة‪ .‬لكننا بحاجة إلى قول المزيد‪ .‬فحتى اآلن‪ ،‬مازال‬
‫شخص كولترين مفرط التميُّز عن الموسيقى‪ .‬ونحن بحاجة‬
‫إلى اإلقرار بأن كولترين كان ناقال للموسيقى بقدر ما كان‬
‫بحث ال عالقة‬ ‫ٍ‬ ‫سيدها‪ .‬ولهذا كانت عالقته بالموسيقى عالقة‬
‫تعبير‪ .‬كانت الموسيقى تعزف نفسها من خالله بقدر ما‬
‫ن‬‫كان يعزفها‪ .‬ففي لحظة االرتجال‪ ،‬يوجد في الحقيقة كيا ٌ‬
‫ة األعم‪،‬‬ ‫واحد‪ :‬كولترين ة موسيقى‪ .‬وكما يصيغ دولوز النقط َ‬
‫فإن "حياة الفرد تُفسح المجال لحياةٍ الشخصية لكنها‬

‫‪260‬‬
‫تحررا من مصادفات الحياة‬ ‫فريدة تُطلِق حدَثَا خالصا ُ‬
‫م ِّ‬
‫الداخلية والخارجية‪ ،‬من ذاتية وموضوعيةة ما يجري‪‘ :‬هومو‬
‫مصه‬ ‫تانتوم ‪[ ’ Homo tantum‬إنسانا دون صفات] يتق ّ‬
‫‪1‬‬
‫الجميع ويبلغ نوعا من الضراعة‪".‬‬

‫جا ٌز إرتجالي‪ ،‬يمكننا أن نرى هذا بوضوح‪ .‬كان كولترين‬


‫أشكال‬
‫ٍ‬ ‫ساعات يوميا‪ .‬كان يُفتِّش عن‬
‫ٍ‬ ‫يتدرب حتى ثماني‬
‫ط مختلفةة للمقامات‬‫مختلفة للموسيقى‪ ،‬عن أنما ٍ‬
‫الموسيقية‪ ،‬عن موسيقيينة مختلفينة يتحدث معهم‪ .‬وكانت‬
‫غاية هذا التدريب وهذا البحث ال أن يسيطر على‬
‫الموسيقى بل أن يتمكن‪ ،‬في لحظة العزف‪ ،‬من السماح‬
‫الفتراضي الموسيقى بأن ي ُ َفعِّلة نفسه من خالل‬
‫ساكسوفونه‪ .‬كانت الضراعة تكمن في الموسيقى‪ ،‬وليس‬
‫فيما وراءها‪.‬‬

‫‪II‬‬

‫عصر يوم الثامن من ديسمبر عام ‪ ،1987‬صدمت‬


‫ة إسرائيلية سيارة ً تحمل عماال فلسطينيين‪ ،‬لتقتل‬ ‫شاحن ٌ‬
‫ة منهم‪ .‬لم تكن تلك المرة َ األولى التي يَلقى فيها‬ ‫أربع ً‬
‫ل فلسطينيون حتفهم على يد االسرائيليين‪ .‬بل على‬ ‫عما ٌ‬
‫ل اإلسرائيليين للفلسطينيين يُدهش‬ ‫العكس‪ ،‬لم يكن قت ُ‬
‫أحدا‪ .‬لم يُكتَشف أبدا ما إذا كان هذا القتل المحدد عمدا ً أم‬
‫ال‪ .‬ولم يهم األمر كثيرا‪ ،‬باعتبار ما جرى بعده‪.‬‬

‫‪261‬‬
‫انطلقت المظاهرات على الفور تقريبا بعد القتل‪،‬‬
‫وبدأت في مخيم جباليا لالجئين المكتظ بالسكان في غزة‪،‬‬
‫ثم انتشرت في كل أرجاء األراضي المحتلة‪ .‬واجه الشبان‬
‫الفلسطينيون الذكور‪ ،‬المسلحون بالحجارة فقط‪ ،‬الدبابات‬
‫اإلسرائيلية‪ ،‬والمدافع الرشاشة‪ ،‬والغاز المسيل للدموع‪.‬‬
‫في البداية‪ ،‬بدا األمر نوعا من االنفجار المألوف بين‬
‫جرا للسخط‪ ،‬سرعان ما تعقبه‬ ‫مضطَهَدين‪ :‬تف ّ‬‫السكان ال ُ‬
‫عودة اليأس الهامد‪.‬‬

‫لكن‪ ،‬هذه المرة‪ ،‬لم يعد الهمود‪ .‬تواصلت المظاهرات؛‬


‫وتزايدت كثافتها‪ .‬وانبثقت قيادة ٌ سرية‪ ،‬القيادة القومية‬
‫الموحدة‪ ،‬أخذت تُصدر منشورات تدعو إلى التظاهرات‬
‫أوقات وأماكن محددة‪ .‬وكلما حاول‬
‫ٍ‬ ‫واإلضرابات في‬
‫اإلسرائيليون إخماد المقاومة‪ ،‬كلما صارت أشد إصرارا‪.‬‬
‫وسرعان ما اكتسبت الحركة اسما ‪ :‬االنتفاضة‪.‬‬

‫وبينما تواصلت التغطيةة اإلعالمية حول العالم لتُظهِر‬


‫جهٍ ضد شباب يلقون‬ ‫مو ّ‬
‫جيش متقدم تكنولوجيا ُ‬
‫ٍ‬ ‫صور‬
‫َ‬
‫الحجارة في نفس شوارعهم وقراهم‪ ،‬أصبحت إسرائيل‬
‫ة إلنهاء االنتفاضة‪ .‬وأعلن وزير الدفاع إسحق رابين‬ ‫مستميت ً‬
‫تطبيق‬
‫ِ‬ ‫إظهار‬
‫ُ‬ ‫سياسة "القوة‪ ،‬والسطوة‪ ،‬والضرب‪ ".‬وتم‬
‫تلك السياسة على التلفزيون‪ ،‬مما زاد من مقاومة‬
‫الفلسطينيينة وسخط العالم إزاء سلوك إسرائيل‪ .‬وبصورةٍ‬
‫ة‪ ،‬حاولت إسرائيل تقسيم المجتمع الفلسطيني‪.‬‬ ‫أقل علني ً‬
‫م عليها الحقا‪ ،‬شجع المسئولونة‬
‫وفي حركةٍ ستند ُ‬
‫قل‬
‫اإلسرائيليون صعود َ المجموعة اإلسالمية حماس كث ِ ٍة‬
‫معادل لمنظمة التحرير الفلسطينية‪ ،‬التي اعتقدت أنها‬ ‫ُ‬
‫‪262‬‬
‫وراء االنتفاضة‪ .‬ورغم أن حماس خلقت بعض االنقسام‬
‫إضرابات في أيام مختلفة‬
‫ٍ‬ ‫داخل الحركة‪ ،‬بالدعوة مثال إلى‬
‫ة االنتفاضة‪.‬‬
‫عن القيادة القومية الموحدة‪ ،‬لم تتضاءل طاق ُ‬

‫وبينما تتفتح االنتفاضة‪ ،‬فإنها اتخذت جوانب مختلفة‪.‬‬


‫فلم تكن مجرد َ مواجهةِ الجانب العسكري لالحتالل‪ ،‬بل‬
‫س‬
‫تطوير االعتماد ة على ة النفس‪ ،‬والكرامة القومية‪ ،‬وح ٍّ‬
‫بالمستقبل‪ .‬انتشرت مراكز الرعاية اليوميةة التي تعلّم‬
‫الفلسطينيينة تاريخهم وميراثهم الثقافي‪ ،‬األمر الذي تم‬
‫تجاهله في المدارس التي تشرف عليها إسرائيل‪ .‬وتم‬
‫عرض الرموز القومية‪ ،‬مثل العلم الفلسطينية المحظور‪،‬‬
‫على أعمدة التليفون ورسمه باإلسبراي على جدران‬
‫تعاونيات النساء الزراعية‪ ،‬لتزرع وتحصد‬
‫ُ‬ ‫المباني‪ .‬وتشكّلت‬
‫المحاصيل‪ .‬وانبثقت حدائقُ األفنية الخلفية الصغيرة‪،‬‬
‫بيت إلى بيت خالل‬ ‫ٍ‬ ‫لتقدم الطعام الذي يتم تمريره من‬
‫نوبات حظر التجول التي تفرضها إسرائيل وتمتد أسابيع‪.‬‬
‫وعقد األساتذة ُ دروسا في منازلهم سرا بعد أن أغلق‬
‫الجيش اإلسرائيلي الجامعات الفلسطينية‪.‬‬

‫ة أحدا ةة بمداها‪ ،‬وكثافتها‪،‬‬


‫وربما لم تُدهش االنتفاض ُ‬
‫وطولها ةة بقدر ما أدهشت الفلسطينيين أنفسهم‪ .‬وفي‬
‫شعب‬
‫ٌ‬ ‫الواليات المتحدة‪ ،‬يُنظر إلى الفلسطينيين على أنهم‬
‫صعب المراس ينجذب نحو اإلرهاب‪ .‬هذه الصورة ال‬ ‫ُ‬
‫تتمشى مع تاريخ الشعبة الفلسطيني‪ .‬بل على العكس‪.‬‬
‫افتقارهم هم أنفسهم إلى‬
‫ُ‬ ‫ج الفلسطينيينة‬
‫فعادة ما يُحر ُ‬
‫القوات‬
‫ُ‬ ‫اإلرادة السياسية‪ .‬ففي عام ‪ ،1948‬حين أخرجت‬
‫اإلسرائيلية ثالثة أرباع المليون منهم من أراضيهم‪ ،‬مضوا‬

‫‪263‬‬
‫بقليل من المقاومة باستثناء قلةٍ من‬
‫ٍ‬ ‫في هدوء‪،‬‬
‫المجموعات المسلحة غير المنتظمة‪ .‬ومن عام ‪1948‬‬
‫حتى ‪ 1967‬حكمهم األردن في الضفة الغربية ومصر في‬
‫قطاع غزة‪ .‬وبصرف النظر عن تشكيل منظمة التحرير‬
‫الفلسطينية عام ‪ 1964‬كان ثمة القليل من المبادرة‬
‫جهة صوب تحقيق دولةٍ فلسطينية‪ .‬وخالل‬ ‫السياسية المو َّ‬
‫السنوات العشرين األولى لالحتالل اإلسرائيلي للضفة‬
‫الغربية وقطاع غزة‪ ،‬من ‪ 1967‬إلى ‪ ،1987‬كانت‬
‫ة‪ .‬كانت هناك فترات هدوءٍ‬ ‫ة الفلسطينية متفرق ً‬ ‫المقاوم ُ‬
‫مظاهرات أو خطف طائرة أو هجوم‬
‫ٌ‬ ‫طويلة تُرقِّشها‬
‫إرهابي‪ .‬لم تكن ثمة حركة شعبية ذات قاعدة واسعة‪.‬‬

‫لم تنعدم الشكاوى‪ .‬فالفلسطينيون في مخيمات‬


‫الالجئين كانوا يتوقون إلى العودة إلى األرض التي انتزعتهاة‬
‫منهم إسرائيل عام ‪ .1948‬وشكا الفلسطينيونة الذين كان‬
‫موطنهم في الضفة الغربية بينما تجري مصادرةُ أراضيهم‬
‫ل عيشهم إلى‬‫من أجل المستوطنات اإلسرائيليةة وتحوي ُ‬
‫اعتقال‬
‫ٍ‬ ‫عمليات‬
‫ُ‬ ‫عمل يومي لدى إسرائيل‪ .‬وكان هناك‬ ‫ٍ‬
‫وإهانات يومية‪ ،‬وترحيل‪ ،‬وعقاب‬
‫ٌ‬ ‫م منازل‪،‬‬
‫تعسفي‪ ،‬وهد ُ‬
‫جماعي‪ ،‬وإرهاب إسرائيلي ضد كل من يحاول مقاومة‬
‫ة عارضة‪ .‬لكن حتى عام‬ ‫االحتالل‪ .‬وكان هناك مقاوم ٌ‬
‫ة‬
‫‪ ،1987‬بدت فكرة حركة مقاومةٍ شعبية جماهيرية غريب ً‬
‫على الثقافة الفلسطينيةة القائمة على األسرة والزراعة‪.‬‬

‫لم تكن االنتفاضة أمرا تلقائيا تماما‪ .‬فلم تنشأ‪ ،‬مكتملة‬


‫بنيات قائمة‬
‫ٌ‬ ‫التشكلة والتمفصل‪ ،‬من الالمكان‪ .‬بل كان ثمة‬
‫بالفعل لتستفيدة من عمليات قتل العمال الفلسطينيين‪.‬ة‬

‫‪264‬‬
‫ولعدة سنوات قبل االنتفاضة‪ ،‬ظل المنظّمون المحليون‬
‫يعملون في المدن والقرى لتجميع تنويعةٍ من المنظمات‬
‫السرية‪ :‬مجموعات مقاومة‪ ،‬ومجموعات عون ة ذاتي‪،‬‬
‫ومجموعات ثقافية تعليمية‪ .‬لكن حتى‬
‫ٍ‬ ‫ومجموعات طبية‪،‬‬
‫ٍ‬
‫المنخرطين في تطوير هذه المجموعات أدهشتهمة السرعة‬
‫التي تفتحت بها األحداث بعد الثامن من ديسمبر‪ .‬لم يكن‬
‫للطاقة واإلرادة‪ ،‬والتنسيق والمقاومة العفويين ما يشبهها‬
‫كثيرا في التاريخ الفلسطيني‪.‬‬

‫ماذا حدث إذن؟ ال يمكننا القول بأن القتل يوم الثامن‬


‫مألوف‪ ،‬أو فظيعا بوجهٍ خاص‪ .‬فلم‬
‫ٍ‬ ‫غير‬
‫َ‬ ‫من ديسمبر كان‬
‫يكن‪ .‬ولم يكن ثمة شيءٌ فيما حدث ذلك اليوم يميّزه عن‬
‫جل‬‫ل قد ع ّ‬ ‫كثيرٍ غيره‪ .‬سيكون من األدق القول بأن القت َ‬
‫حدوث حركةٍ كانت جاهزة ً للحدوث‪ ،‬أن هذه الحادثة‬
‫ست الخشب الجاف للغضب‬ ‫المحددة كانت شرارةً م ّ‬
‫الفلسطيني‪ .‬لكننا يجب أن نكون حذرين هنا‪ .‬فقد كان‬
‫اليأس بقدر الغضب هو االستجابة األكثر شيوعا لالحتالل‬
‫اإلسرائيلي‪ .‬فلماذا تغيّرت األمور بهذه السرعة؟ة‬

‫يجب أن نتذكر جانبين من دراسة ﭘريجوﭼين للتفاعالت‬


‫ط بعيدة عن االتزان‪ .‬أوال‪ ،‬أن المواد‬
‫الكيميائية في شرو ٍ‬
‫الكيميائية يمكن أن تُظهر سلوكا ال يبدو أن له تفسيرا‬
‫سببيا‪ ،‬الساعة الكيميائية مثال‪ .‬ثانيا‪ ،‬أن التغيراتة الصغيرة‬
‫تأثير حاسم على‬
‫ٌ‬ ‫في البيئة المحيطة يمكن أن يكون لها‬
‫طبيعة تغيرٍ كيميائي ما‪ .‬ولنتذكر أيضا الدرس الذي‬
‫استخلصه كل من دولوز وﭘريجوﭼين من هذه الدراسة‪ :‬أننا‬
‫يجب أن نفكر في المجال الكيميائي ال على أنه مجال‬

‫‪265‬‬
‫اختالفات يمكن‬
‫ٍ‬ ‫تفاعل سببي بل على أنه مجا ُ‬
‫ل‬ ‫ٍ‬ ‫هويات في‬
‫ٍ‬
‫تفعيلها بتنويعةٍ من الطرق‪.‬‬

‫ل بأن الفلسطينيينة كانوا‬‫لن يكون من الخطأ القو ُ‬


‫قادرين على االنتفاضة في ظل الشروط الصحيحة‪ .‬لكن‬
‫سيكون مضلال ً أن نقول أن االنتفاضة كانت تنتظر الحدوث‪،‬‬
‫وأن ‪ 8‬ديسمبر أتاح لها فقط أن تنبثق‪ .‬فوضع األمور على‬
‫ل فلسطيني ةة أو على األقل‬ ‫هذا النحو يفترض أن ك َّ‬
‫ة‬
‫وعي أو الوعي‪ ،‬لحظ ً‬ ‫ٍ‬ ‫الكثيرينة منهم ةة كانوا ينتظرون عن‬
‫يعبرون فيها عن مقاومتهم‪ .‬يفترض أن المقاومة كانت‬
‫ة‬
‫جل ًة‬
‫ترقد مكتملة التشكلة في صدر كل فلسطيني‪ ،‬متع ّ‬
‫ساعتها المقررة‪ .‬لم يكن األمر على هذا النحو‪ .‬ولو كان‬
‫كذلك‪ ،‬لما اندهش المنظمون الفلسطينيونة إزاء عمق‬
‫الغضب‪ ،‬واالمتعاض‪ ،‬والحس‬‫ُ‬ ‫وكثافة االنتفاضة‪ .‬كان‬
‫ة‬
‫بالظلم‪ ،‬والرغبة في المقاومة‪ :‬كانت كل هذه األمور طافي ً‬
‫بحرية‪ .‬ولم تلتحم‪ ،‬على األقل في عقول أغلب‬
‫الفلسطينيين‪ ،‬إلى تصميم ٍ معيّن‪ .‬وكان تفتُّح أحداث‬
‫ديسمبر عام ‪ 1987‬ويناير عام ‪ 1988‬هو ما رتّبها بطريقة‬
‫معينة‪ ،‬جعلتها على النحو الذي صارته‪.‬‬

‫قال الفيلسوفة لودﭬةيج ﭬيتجنشتينة ‪Ludwig‬‬


‫‪ Wittgenstein‬ذات مرة أننا بالتكلّم نكتشف ما الذي‬
‫نريد قوله‪ 2.‬وفي االنتفاضة‪ ،‬اكتشف الفلسطينيونة أثناء‬
‫الفعل قدرتَهم على المقاومة‪ .‬وما نسميه المقاومة فيما‬
‫ط أسبق‪ ،‬بل‬ ‫ة تكمن وليدة في شرو ٍ‬ ‫ة معين ً‬
‫بعد ليست هوي ً‬
‫ة معينة حين يتم تفعيله‪.‬‬
‫جانب من االفتراضي يكتسب هوي ً‬
‫ٌ‬
‫من الصواب أن نقول أن الفلسطينيينة قبل ‪ 8‬ديسمبر‬

‫‪266‬‬
‫كانوا ناضجين للمقاومة؛ ومن الخطأ أن نقول أن المقاومة‬
‫كانت موجودة ً بالفعل‪ ،‬تنتظر التعبير عنها‪ .‬القول األول هو‬
‫مسألة اختالف‪ ،‬أما األخير فمثال على الصورة الدوجمائية‬
‫للفكر‪.‬‬

‫يكتب ﭼون رايشمان أن "القول بأن كال منا له ‘حياةٌ’‬


‫والقول بأن كال منا له الوعي يعني بذلك الشيء نفسه‪.‬‬
‫يعني أن ثمة دوما شيءٌ خارج ‘تماهياتنا’ كذوات أو‬
‫ث‬‫أشخاص‪ ،‬التي نطرحها من خالل اللقاءات التي تُحدِ ُ‬
‫التعقيد‪ 3" . . .‬كان لالنتفاضة الفلسطينية األولى حياةٌ‪.‬‬
‫ث‬‫الوعي طرحته من خالل اللقاءات التي تُحدِ ُ‬
‫ٌ‬ ‫وكان لها‬
‫التعقيدة التي نشأت خالل األسابيع التي تلت ‪ 8‬ديسمبر عام‬
‫‪ .1987‬لم يفكر الفلسطينيون في أنفسهم باعتبارهم شعبا‬
‫مقاوما قبل ذلك الحين‪( .‬فقد فكروا في أنفسهم إلى حد‬
‫كبير باعتبارهم شعبا صامدا‪).‬وكانوا على حق‪ .‬فقبل‬
‫ديسمبر عام ‪ ،1987‬لم يكن الفلسطينيون‪ ،‬كشعب‪،‬‬
‫ة موجودة‪ ،‬تنتظر إطالقها‪ .‬كان‬ ‫مقاومين‪ .‬لم تكن المقاوم ُ‬
‫هناك شيءٌ‪ ،‬أو‪ ،‬باألحرى‪ ،‬كان هناك أشياء‪ .‬كان هناك‬
‫عناصر متعددة ةة اليأس‪ ،‬الكبرياء‪ ،‬الغضبة ةة لم تكن‬
‫ة‪ ،‬اعتمادا على تفتح‬ ‫ة لكنها يمكن أن تصبح مقاوم ً‬‫مقاوم ً‬
‫األحداث‪.‬‬

‫األمر على ذلك النحو‪ ،‬كأنما كانت‬‫َ‬ ‫وحتى لو وصفنا‬


‫عناصر معينةة تحتاج فقط إلى استنفارها لتصبح‬ ‫ُ‬ ‫هناك‬
‫ة‪ ،‬فإنه يكون مضلال‪ .‬فقبل أن أبدأ التحدث‪ ،‬ال أدري‬ ‫مقاوم ً‬
‫ف من الفكر‪ ،‬ترقد‬ ‫بالضبط ما أُريد ُ قولَه‪ .‬ليس ثمة نُت َ ٌ‬
‫مبعثرة ً في وعيي‪ ،‬وال تحتاح إال ّ إلى تجميعها معا بالصق‬

‫‪267‬‬
‫كلماتي‪ .‬وقبل تشكّل ساعة كيميائية‪ ،‬ال توجد إمكانيات‬
‫لتركّز كيميائي تكمن في انتظار مصدر طاقةٍ يُطلقها‪ .‬وقبل‬
‫نغمات‪ ،‬ال في‬
‫ٌ‬ ‫عزف منفرد‪ ،‬ال توجد‬
‫ٍ‬ ‫أن يبدأ كولترين في‬
‫إفتراضي يمكنه أن يعتمد عليه‬
‫ٌ‬ ‫رأسه وال في بوقه‪ .‬يوجد‬
‫كي يخلق نغمات‪ ،‬نغمات تتبع الواحدةُ األخرى في منظومة‬
‫متسقة لم توجد هي ذاتها قبل أن يبدأ العزف‪.‬‬

‫ووصف انبثاق االنتفاضة باعتباره استنفارا لعناصر‬


‫ة بعينها‪،‬‬ ‫ض أن كل واحد ٍ من تلك العناصر له هوي ٌ‬‫بعينها يفتر ُ‬
‫وال تحتاج إال ّ إلى ترتيبها بالترتيب المناسب لتحدث‬
‫االنتفاضة‪ .‬لكن العناصر تتغير‪ .‬ما كان غضبا يصبح إصرارا؛‬
‫وما كان يأسا يصبح أمال‪ .‬ثمة دوما مما يجري أكثر مما‬
‫يظهر للعيان‪ .‬كل شيء هو دوما أكثر من هويته‪ .‬ثمة‬ ‫ُ‬
‫كذوات وأشخاص‪ .‬كانت‬ ‫ٍ‬ ‫دوما شيءٌ خارج تماهينا‬
‫العالقات المتفتحة بين العناصر والتي هي أكثر من مجرد‬ ‫ُ‬
‫عناصر هي ما جعلت االنتفاضة األولى ما كانته‪ .‬كان تفعي ُ‬
‫ل‬
‫االفتراضي‪ ،‬تفتّح االختالف‪ ،‬هو ما خلق المقاومة الشعبيةة‬
‫التي استمرت حتى ‪.1993‬‬

‫س في هذه الحالة‪ .‬فالتفعيلة‬ ‫س آخر‪ ،‬أتع ُ‬‫وهنا أيضا در ٌ‬


‫م الهوية‪ .‬والعود ُ األبدي هو عود ُ االختالف‪ ،‬ال‬
‫يضمن دوا َ‬
‫ُ‬ ‫ال‬
‫الهوية‪ .‬فاالنتفاضة الفلسطينيةة الثانية‪ ،‬انتفاضة األقصى‬
‫التي بدأت في سبتمبر عام ‪ 2000،4‬لم تكن مثل األولى‪.‬‬
‫َب‬ ‫ُ‬
‫تنخرط فيها نُخ ٌ‬ ‫ة مقاومةٍ شعبية بل حركة‬ ‫لم تكن حرك َ‬
‫ة‪ .‬االنتفاضة الثانية‪ ،‬رغم‬ ‫عسكرية مع دعم ٍ شعبي أشد سلبي ً‬
‫أنها أكبر في مداها من المعارضة السابقة على عام‬
‫ة من جماعات المقاومة ال‬ ‫‪ ،1987‬تظل في أغلبها معارض ً‬

‫‪268‬‬
‫من السكان الفلسطينيينة أنفسهم‪ .‬وربما كانت هناك‬
‫أسباب عديدة لذلك‪ :‬اإلجهاد ُ من االنتفاضة األولى‪ ،‬نزعُ‬
‫ٌ‬
‫الملكيات المتواصل واألبعد من جانب إسرائيل‪ ،‬الفساد ُ‬
‫في النظام السياسي لياسر عرفات‪ ،‬ووجود ُ التسليحة‬
‫العسكرية في األراضي المحتلة الذي يقسم السكان بين‬
‫من يملكون األسلحة ومن ال يملكونها‪ .‬وعلى أية حال‪ ،‬فإن‬
‫ملتَفَّا داخل‬
‫الدرس بالنسبة لنا هو أن االفتراضي يظل ُ‬
‫ة‪ .‬وما من ترتيبةٍ‬ ‫الفعلي‪ .‬االختالف يعود‪ ،‬والهوية هشّ ٌ‬
‫الطي والتفتح‪ ،‬جيدةٍ أو سيئة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫خاصة‪ ،‬وال حالةٍ خاصة من‬
‫ة على االطالق‪ .‬قال البعض أن الحقيقة ستنجلي‪.‬‬ ‫مضمون ٌ‬
‫لكن الشيء سينجلي بالضرورة‪ :‬ال الحقيقة‪ ،‬وال الشر‪ ،‬وال‬
‫العدالة‪ .‬ال ضمانات‪ ،‬باستثناء أن المزيد سيأتي‪.‬‬

‫‪III‬‬

‫في خمسينات وستينات القرن العشرين‪ ،‬خضعت‬


‫ضري‪ .‬كان التجديد‬ ‫ح َ‬
‫ن األمريكية لنداء نفيرِ التجديد ال َ‬ ‫المد ُ‬
‫ضري سيتعاملة مع تدهور المدن‪ ،‬وتحلّلها‪ ،‬وآفاتها‪ .‬في‬ ‫ح َ‬
‫ال َ‬
‫مواجهة الفقر‪ ،‬والجريمة‪ ،‬واالحتقان المتزايدين‪ ،‬سيتصدّى‬
‫ضري للطبيعة المشوَّشة للبيئة الحضرية‬ ‫ح َ‬
‫التجديد ُ ال َ‬
‫بالتخطيط والتنظيم‪ .‬ستوجد طرقٌ وطرق سريعة جديدة‬
‫لتستوعبة المرور إلى داخل وخارج المراكز الحضرية‪.‬‬
‫مبان مرتفعة للفقراء يُبعدهمة عن‬
‫ٍ‬ ‫ن جديد في‬ ‫سيوجد إسكا ٌ‬
‫مساحات‬
‫ٌ‬ ‫مخاطر العيش في مستوى الشارع‪ .‬ستوجد‬
‫مختلفة للتسوّق‪ ،‬وللعيش‪ ،‬وللتسلية‪ ،‬وللعمل‪ .‬وسيكون‬
‫‪269‬‬
‫لكل مساحةٍ تسهيالتها ومواردها الخاصة‪ :‬مسكناة لكل‬
‫جانب من الحياة الحضرية‪ .‬ستفسح الفوضى الحضرية‬
‫المجال لحياةٍ مدينية منظّمة‪.‬‬

‫كان هذا كله فشال ذريعا‪.‬‬

‫فقد حلّت األموال من أجل الطرق السريعة محل‬


‫النقل العام وزادت من اختناق السيارات في مراكز‬
‫المدن‪ .‬كما زادت المباني المرتفعة لذوي الدخل المحدود‬
‫من تهميش المواطنين الفقراء وقسمت مجموعات‬
‫السكان األمريكيينة ة األفارقة عن البيض‪ ،‬وزادت بذلك من‬
‫تركيز الجيتو بدل تصفيته‪ .‬وزاد فص ُ‬
‫ل مساحات الحياة من‬
‫معدالت الجريمة بدل أن يُنقصها‪ ،‬وقضى على الحياة‬
‫ن المدينة عن بعضهم البعض‪ .‬اتضح‬‫ل سكا َ‬‫الحضرية‪ ،‬وعز َ‬
‫أن المدينة ال يجب أن تُصاغ على أساس نموذج الضاحية‪.‬‬

‫وقد علّمتنا هذا ﭼين ﭼيكوبس ‪ Jane Jacobs‬بالفعلة‬


‫عام ‪ 1961‬بكتابها موت وحياة المدن األمريكية‬
‫ة في‬ ‫الكبرى ‪ .‬يريد مخططو المدن أن تكون األشياءُ مرتّب ً‬
‫منظومات دقيقة التحديد‪ .‬المتاجر هنا‪ ،‬والمقار السكنيةة‬
‫ٍ‬
‫هناك‪ ،‬وتمر الطرق السريعة من خالل كل شيء لتضيف‬
‫أمور‬
‫ٌ‬ ‫ة الوصول‪ .‬لكن المدن ليست كذلك‪ .‬المدن هي‬ ‫سهول َ‬
‫تكامل‬
‫ٍ‬ ‫فصل منظّم بل بواسطة‬‫ٍ‬ ‫مرتبكة‪ .‬ال تعمل بواسطة‬
‫ة لعناصر متفاوتة‪ .‬ليس األمر عدم وجود نظام‬ ‫أكثر عفوي ً‬
‫في المدن‪ .‬بل أن النظام الحضري ينشأ عن التنوع‪ ،‬ال‬
‫العكس‪.‬‬

‫‪270‬‬
‫ن بكامله من حركةٍ وتغيُّر‪ ،‬ورغم أنه حياةٌ‪ ،‬ال‬ ‫مكوَّ ٌ‬
‫هذا النظام ُ‬
‫فن‪ ،‬يمكننا تشبيهه بالرقص ةة ال برقصة بسيطةٍ دقيقة يرفع‬
‫معقَّد‬‫فيها كل شخص قدمه في نفس الوقت‪ . . . .‬بل بباليه ُ‬
‫يدعم فيه الراقصون األفراد بعضهم بعضا ويُشكِّلون كال ً‬
‫سه أبدا من مكان‬ ‫يكرر نف َ‬
‫ِّ‬ ‫مديني جيدٍة ال‬
‫ٍ‬ ‫منظما‪ .‬باليه طوارٍ‬
‫بارتجاالت‬
‫ٍ‬ ‫مكان محددة يمتليء دائما‬
‫ٍ‬ ‫إلى آخر‪ ،‬وفي أي‬
‫‪5‬‬
‫جديدة‪.‬ة‬

‫لمذهب في‬
‫ٍ‬ ‫ة طبقا‬ ‫هاك ما يحدث إذا خطّطت مدين ً‬
‫التجديد الحضري‪ .‬ال يسير في المناطق السكنية أحد ٌ سواء‬
‫خالل النهار أو المساء‪ ،‬ألنه ما من مكان يمكن الذهاب‬
‫إليه‪ .‬يخرج الناس من بيوتهم في الصباح ليذهبوا إلى‬
‫العمل ويعودوا إليها بعد الظهر المتأخّر‪ .‬وإذا غادروا‬
‫منازلهم مرةً أخرى‪ ،‬يكون ذلك بالسيارة ليذهبوا إلى جزء‬
‫آخر من البلدة‪ .‬وتصبح المناطق التجارية مهجورةً بعد‬
‫الظالم‪ ،‬حيث ال سبب لوجود أحدٍ هناك إال ّ للعمل أو‬
‫التسوق‪ .‬واالعتماد على الطرق السريعة بدل النقل العام‬
‫يزيد من عزلة الناس‪ .‬فالناس يتنقلون في فقاعات‬
‫سياراتهم من المنزل إلى العمل إلى التسلية عائدين إلى‬
‫ة للشوارع المهجورة‪ ،‬ومعدالت‬ ‫المنزل‪ .‬وهذه وصف ٌ‬
‫الجريمة المرتفعة‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬للهروب من المدن إلى‬
‫الضواحي‪.‬‬

‫واألمر أسوأ في جيتوهات المباني المرتفعة‪ .‬فتركيز‬


‫صلة‬
‫مبان مرتفعة تُطوِّقها الطرقُ المو ِّ‬
‫ٍ‬ ‫السكان الفقراء في‬
‫ال يفيد سوى في زيادة عزلتهم عن بقية المدينة‪ .‬ويدعم‬
‫بقاء الناس في شققهم‪ .‬وبإبقاء الناس بعيدين عن بعضهم‪،‬‬
‫جع الجريمة‪.‬‬ ‫بتقليل الحياة المجتمعية‪ ،‬يُش ِّ‬
‫‪271‬‬
‫ال يكمن قلب المدينة في عدد الناس الذين يعيشون‬
‫فيها بل في نوعية حياة الشارع فيها‪ .‬هذا هو درس‬
‫العمران الحضري لةﭼينﭼيكوبس‪ .‬تسألنا‪ ،‬ضعوا في‬
‫الحسبان مجاورة ً بها عناصر سكنية‪ ،‬وتجارية‪ ،‬وعناصر‬
‫س في الشارع في كل‬ ‫تسلية مضفورة معا‪ .‬ثمة أنا ٌ‬
‫األوقات‪ .‬ففي الصباح‪ ،‬يتسوّق الناس ويذهبون إلى العمل‪.‬‬
‫وبعد الظهر‪ ،‬يتمشّ ون‪ ،‬ويتناولون الغداء‪ ،‬ويتسوقون‪ .‬وعند‬
‫األصيل‪ ،‬يصلون إلى منازلهم من العمل‪ .‬وبالليل‪ ،‬يخرجون‪.‬‬
‫س‬
‫في بيئة كتلك‪ ،‬ستنتعش األعمال‪ ،‬حيث أن هناك أنا ٌ‬
‫يمكنهم الوصول إليها مباشرة‪ .‬ستستجيبة المطاعم‬
‫لألذواق المحلية أو ستطوّرها‪ .‬وسيشعرة الناس بأنهم أكثر‬
‫ن في كل األوقات‪.‬‬ ‫أمنا‪ ،‬حيث ستكون في الشارع عيو ٌ‬
‫أناس من مشارب للحياة‬‫ٍ‬ ‫وفضال عن ذلك‪ ،‬سيتعرفون على‬
‫مختلفة عن مشاربهم‪ .‬وبدال من دورةٍ متدهورة من هجر‬
‫المجاورات والجريمة المتصاعدة‪ ،‬ستوجد دورةٌ من‬
‫التخصيبة المتبادل والحماية المتبادلة‪.‬‬

‫التخصيب المتبادل والحماية‬


‫ُة‬ ‫أما كيف سيحدث هذا‬
‫فأمر ال يمكن التنبؤ به‪ .‬وال يمكن تخطيطه‬‫ٌ‬ ‫المتبادلة‬
‫ار الذي أشتري منه هو من‬ ‫مسبقا‪ .‬هل سيكون الج ّز ُ‬
‫سيحذ ّرني أن أطفالي يتسكّعون من بعض األشخاص‬
‫أصحاب‬
‫ُ‬ ‫صاحب المغسلة؟ة هل سيضغط‬ ‫ُ‬ ‫الخطأ‪ ،‬أم سيكون‬
‫المطاعم على المدينة لتوفير إضاءة شوارع أفضل‪ ،‬أم‬
‫ف الذي يقاوم تطوير‬‫سيفعل السكان؟ كيف سيبدو التحال ُ‬
‫سوبر ماركت ضخم تابع لوول ة مارت‪ :‬هل سيكون متجر‬
‫مهدَّد بأن يُباع بأقل من قيمته‪ ،‬في‬‫الكتب المحلي‪ ،‬ال ُ‬
‫‪272‬‬
‫تحالف مع السكان الذين يريدون مقاومة مجهوليةة سلسلة‬ ‫ٍ‬
‫ة تلقائية من الناس الذين‬
‫متاجر ضخمة‪ ،‬أم ستظهر منظم ٌ‬
‫يجتمعون بينما ينظفون الشوارع في يوم األرض؟ إن‬
‫طي حياة الشارع ال يمكن‬
‫ّ‬ ‫طي‪ ،‬وبسط [تفتّح]‪ ،‬وإعادة‬
‫ّ‬
‫التنبؤة به‪ .‬ال يمكن إدارتُه بترخيص‪ .‬وال يمكن للمرء سوى‬
‫أن يساعد على حفز تنويعةٍ من العناصر ويراقب ما يحدث‬
‫بعدها‪ .‬المدن ليست مسألة وظيفةٍ؛ بل مسألة توصيل‬
‫‪ . connection‬إنها ريزومات‪ ،‬ال أشجار‪ .‬هذا وحده مؤكّد‪:‬‬
‫أن العالقات بين تنوّع جوانب الحياة الحضرية هو ما يخلق‬
‫شارع نابضة‪ ،‬ال تقسيمها إلى مناطق تجانس‪ .‬التنوعة‬‫ٍ‬ ‫حياة‬
‫يُغذ ّي المدن؛ والتجانس يخنقها‪.‬‬

‫ومثلما في حالة االنتفاضة الفلسطينيةة األولى‪ ،‬فإن‬


‫العناصر التي تخلق الحيوية الحضرية ليست هي ذاتها‬
‫ل عضوي تدعمه‬ ‫هويات‪ .‬فرغم وجود نظام‪ ،‬ال يوجد ك ٌّ‬
‫مرتَّبة بطريقةٍ معينة‪.‬ة توجد بدال من ذلك‬‫عناصر معينةة ُ‬
‫ُ‬
‫توصيالت موضعيةة تتشكل بتنويعةٍ من الطرق تُغيِّر العناصر‬
‫الموصولة‪.‬‬

‫مبان‪ ،‬أو شوارع‪ ،‬أو‬‫ٍ‬ ‫األشياء في المدينة ةة سواء كانت‬


‫حدائق‪ ،‬أو مناطق‪ ،‬أو معالم‪ ،‬أو أي شيءٍ آخر ةة يمكن أن‬
‫ة جذريا‪ ،‬اعتمادا على الظروف‬ ‫تأثيرات مختلف ٌ‬
‫ٌ‬ ‫يكون لها‬
‫المستقرات المدينية ةة‬
‫ّ‬ ‫والسياقات التي توجد فيها‪. . . .‬‬
‫صصة‬ ‫مبان نوعية و ُ‬
‫مخ َّ‬ ‫ٍ‬ ‫الموجودة أو المحتملة ةة هي‬
‫سيرورات نوعية متغيرة‬
‫ٍ‬ ‫ة على الدوام في‬ ‫منخرط ٌ‬
‫مثل نزع األحياء البائسة‪ ،‬وإحداث األحياء البائسة‪ ،‬وتوليد‬
‫‪6‬‬
‫التنوع‪ ،‬والتدميرة ة الذاتي للتنوع‪.‬‬

‫‪273‬‬
‫يجلب جوانب من الناس ومن الجوار لم‬ ‫ُ‬ ‫ما يتم خلقُه‬
‫يكن يمكن التنبؤ بها‪ ،‬ولم تكن موجودةً مقدّما‪ .‬التفاعلة‬
‫ة ذات آآلت‬
‫الدينامي الذي يميّز حياة الشارع ليس سيمفوني ً‬
‫موسيقيةٍ خاصة بل عملية كيميائية تُغيِّر فيها العناصر ذاتها‬
‫تكوينها بينما تتصل بعناصر أخرى‪.‬‬

‫ة الطابع‬ ‫ة وال ميكانيكي َة‬‫المدن ليستة عضوي ً‬


‫ة ‪ .machinic‬وليستة المسألة‬ ‫‪ . mechanistic‬إنها آآلتي ٌ‬
‫ل‪ .‬لكن‬ ‫م‪ ،‬تفعي ٌ‬ ‫أن ال نظام ينبثق‪ .‬إذ ينبثقُ بالفعل نظا ٌ‬
‫مرتَّبة طبقا‬‫انبثاقه ال عالقة له بعناصر ذاتية االستمرار ُ‬
‫مشكَّلة مرة ً وإلى‬ ‫لمنظومةة معطاةٍ سلفا أو من وصالت ُ‬
‫بطرق تخلِق‪ ،‬وفي‬‫ٍ‬ ‫األبد‪ .‬ينبثق من سياقات نوعية للتنوعة‬
‫نفس الوقت من خلق‪ ،‬عناصر ذلك التنوع‪.‬‬

‫ف البوق ألن المرأة التي تعمل في متجر‬ ‫قر ُر أن أعز َ‬ ‫ُ‬


‫أ ِّ‬
‫كنت أغازلها بصورةٍ عابرة‬
‫ُ‬ ‫االسطوانات المحلي والتي‬
‫شغّلت بعضا من موسيقى كليفورد براون على أجهزة‬
‫دخلت فيها‬
‫ُ‬ ‫الصوت في المتجر في المرات األخيرة التي‬
‫بوق كان‬
‫ٍ‬ ‫ف‬
‫المكان‪ .‬ال أبدأ العزف ألن في داخلي عاز ُ‬
‫ينتظر أن ينطلق‪ .‬بل ألن اتصالنا قد خلق شيئا لم يكن‬
‫ة في العزف على آلةٍ موسيقية‪.‬‬ ‫موجودا من قبل‪ :‬رغب ً‬
‫كنت سأستمر في العزف تعتمد إلى حدٍ‬ ‫ُ‬ ‫ومسألة ما إذا‬
‫كبير على الوصالت التي أُشكِّلُها بينما أبدأ‪( .‬قد تعتمد أيضا‬
‫على موهبتي في العزف؛ وقد ال تعتمد‪ ).‬هل هناك‬
‫مقون اهتمامي؟ هل هناك أناس محليون‬ ‫مدرسون سيع ِّ‬
‫يمكن أن يهتموا بأن نعزف سويا؟ هل سيوجد آخرون‬

‫‪274‬‬
‫حولي يدعمون تقدمي ةة مثال‪ ،‬هل ستبتسم لي المرأةُ أكثر‬
‫قليال أو بمكرٍ أكثر قليال حين تسمع أنني قد بدأت العزف؟‬

‫المدينة الناجحة تسمح للوحدة أن تنشأ من التنوع‪ ،‬ال‬


‫ف‬
‫من االنسجام‪ .‬المدينة التي تعمل هي استكشا ٌ‬
‫لالفتراضي‪ .‬وتخطيط المدينة الجيد يحفز ذلك‬
‫ُ‬
‫تخطيط مدينةٍ‬ ‫االستكشاف؛ وال يكبته‪ .‬من الممكن‪ ،‬بالطبع‪،‬‬
‫هويات مستقرة‪ .‬من الممكن خلقُ مدينةٍ‬
‫ٍ‬ ‫على أساس‬
‫شروط الصورة الدوجمائية للفكر‪ .‬فنحن نعرف ما‬ ‫َ‬ ‫تعكس‬
‫يحتاجه الناس‪ ،‬ونعرف كيف نُرتِّب مقار اإلقامة واألعمال‬
‫وأماكن التسلية بحيث تُلبّي تلك االحتياجات‪ ،‬ونعرف كيف‬
‫ُ‬
‫نقاط‬ ‫ننقلهم من مكان إلى آخر بأقصى كفاءة‪ .‬تلك هي‬
‫بدءِ الصورة الدوجمائية للفكرة كما تُطبَّقُ على التخطيط‬
‫الحضري‪ .‬وتلك هي الشروط التي بناء عليها ناقش مفكّرو‬
‫التجديد الحضري المدن‪ ،‬باعتبارها مدنا يتم تصورها على‬
‫ضواح‪ ،‬لكنها فقط أشد ُ ازدحاما ومن ثم أشد صعوبة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫أنها‬
‫والسؤال هو ما إذا كان يمكننا البدء في التفكير في المدن‬
‫ال على أساس احتياجات نعرفها بالفعل بل على أساس‬
‫تنوعات ال نعرف بعد ارتباطاتها‪.‬‬

‫الختالف‬
‫ٍ‬ ‫تفعيالت‬
‫ٍة‬ ‫ن باعتبارها‬
‫يجب أن ندرس المد َ‬
‫افتراضي‪ ،‬باعتبارها توصيالت آآلتية‪ ،‬ال باعتبارها تفاعل‬
‫كيانات كلية عضوية أو‬
‫ٍ‬ ‫هويات معينة‪ ،‬وال باعتبارها‬
‫ميكانيكيةة الطابع‪ .‬هذا هو درس عمل ﭼينﭼيكوبس‪ ،‬لكن‬
‫س لم نتعلمه بعد‪ .‬ورغم أن‬ ‫بكلمات غير كلماتها‪ .‬وهو در ٌ‬
‫فكرة الجغرافيات الحضرية "متعددة ة االستخدامات" بدأت‬
‫تنال اإلنصات (كأن الفكرة ليست من أكثر من أربعين‬

‫‪275‬‬
‫سنة)‪ ،‬فما زلنا نفكر في المدن على أساس المناطق‬
‫السكنية‪ ،‬والتجارية‪ ،‬ومناطق التسلية‪.‬ة وما زلنا نسمح‬
‫لمناطق وسط البلد أن تصبح موبوءة‪ ،‬وألحيائنا أن تصبح‬
‫ة عن من حولنا‪ .‬إننا‬ ‫كالجيتوهات‪ ،‬ولحيواتنا أن تصبح منعزل ًة‬
‫نعزل أنفسنا بدل أن نشكل توصيالت‪ .‬وال يمكننا سوى‬
‫التساؤل‪ ،‬مع انتشار التكنولوجياتة التي تزيد العزلة‬
‫(التلفزيون‪ ،‬اإلنترنت)‪ ،‬ما إذا كانت حياة الشارع ستواصل‬
‫ن‬
‫اإلفقار الذي خلقه فقدا ُ‬
‫ُ‬ ‫التدهور‪ ،‬أم‪ ،‬بالتبادل‪ ،‬ما إذا كان‬
‫االتصال هذا سيؤدي إلى رغبةٍ متجددة في عمران حضري‬
‫دولوزي بدل أن يكون استلهامه دوجمائيا‪ .‬هل سيجلب لنا‬
‫المستقبلة مدنا أم مجرد معاقل ضواحي أقل نجاحا؟‬

‫‪IV‬‬

‫للحب شبقه الخاص‪ .‬إنه شبقٌ يطرأ ال بالتمثيل‬


‫‪ ، representation‬وال بالتواصل ‪ ،communication‬بل‬
‫بالتجريب واالرتباط ‪ . connection‬ويطرأ ال بين األفراد‬
‫فقط بل كذلك بين أجزاء من األفراد‪ ،‬بين جوانب أو‬
‫أسطح من أجسادهم‪.‬‬

‫عادة ً ما نتحدث عن الحب كأنه مسألة مجرد أفرادٍ‬


‫وتواصل‪ .‬الحب يحدث بين شخصين‪ .‬يحدث حين يفهمان‬
‫‪276‬‬
‫أحدهما اآلخر‪ ،‬حين يبلغان شكال أعمق من التواصل‪ .‬الحب‬
‫هو ربط روحين تفهمان بعضهما‪.‬‬

‫هذا الكالم ليس خاطئا تماما‪ ،‬مثلما أن الحديث عن‬


‫االحتياجات الفردية في النقاش السياسي ليس خاطئا‬
‫تماما‪ .‬لكن تغيب عنه ُرقَعٌ كبيرة من حدث الحب‪ .‬وبين ما‬
‫يغيب عنه شبقُ الحب‪.‬‬
‫ُ‬

‫إذا فكرنا في الحب فقط على أساس التواصل أو‬


‫ُ‬
‫الحفاظ على العالقات‬ ‫التفاهم‪ ،‬ال يمكننا شرح لماذا يكون‬
‫مسافات بعيدة بالغَ الصعوبة‪ .‬مع ظهور التليفون‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫على‬
‫وتدعمه اآلن اإلنترنت‪ ،‬تم تبسيط التواصل مع شخص بعيد‪.‬‬
‫إذ يمكن دوما حدوث تواصل‪ ،‬وربما تفاهم‪ ،‬دون رؤيةِ‪،‬‬
‫وصوت المحبوب‪ .‬لماذا‪ ،‬إذن‪ ،‬يحتاج الناس إلى‬
‫ِ‬ ‫ورائحةِ‪،‬‬
‫الدخول في خبرة الحضور الجسدي لمن يحبونهم؟‬

‫قد يقول المرء أن ما ينقص هو الجنسانية ‪sexuality‬‬


‫‪ .‬حقيقي‪ .‬لكن ماذا نعني بالجنسانية هنا؟ هل هي مجرد‬
‫فعل اإليالج أو عواقب الذروة الجنسية؟ة لماذا حين‬
‫نستمني ال نخبَر نفس مستوى البهجة الذي نخبره حين‬
‫شخص نهتم به؟‬
‫ٍ‬ ‫نمارس الحب مع شخص‪ ،‬خصوصا مع‬
‫مجال يمكن أن‬
‫ٍ‬ ‫مجال أوسع‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫الجنسانية ذاتها مطمورةٌ في‬
‫نسميه الشبق ‪ .erotics‬وحين ندخل هذا المجال‬
‫األوسع‪ ،‬ال نعود في حلبة التواصل ةة أو باألحرى‪ ،‬ال نعود‬
‫فقط في تلك الحلبة‪ .‬كما ال نعود على مستوى األفراد‬
‫ببساطة‪ .‬وبدال من ذلك نكون على مستوى أجزاء الجسم‬
‫تحت ة الفردية‪.‬‬

‫‪277‬‬
‫عين في خصالت‬ ‫ٌ‬ ‫بطن‪ .‬تُحدِّق‬
‫ٍ‬ ‫ت يد ٌ على سطح‬‫تُرب ِّ ُ‬
‫شعرٍ تستقر على وسادة‪ .‬يلتقي فخذ ٌ باللحم الناعم إلليةٍ‪.‬‬
‫أمور‬
‫ُ‬ ‫ن تنهيدة رضي أو ارتياح أو لذة‪ .‬هذه ليست‬ ‫تسمع أذ ٌ‬
‫أي‬
‫أمور شبق‪ .‬اليد التي تُربِّت البطن ال تقول َّ‬ ‫ُ‬ ‫تواصل؛ إنها‬
‫شيء للبطن‪ ،‬وال للشخص الذي تنتمي إليه البطن‪ .‬إنها‬
‫ة‬
‫ة‪ ] connecting‬بالبطن‪ ،‬مستكشف ًة‬ ‫ترتبط [تقيم توصيل ً‬
‫إياها‪ .‬وخالل عملها ذلك تخلق أحاسيس‪ ،‬إذا تحدَّثنا بدقة‪ ،‬ال‬
‫ك لإلحساس‪،‬‬ ‫تخصني أو تخصك أو تخصنا‪ .‬ليس ثمة امتال ٌ‬
‫ذات له‪ .‬وإذا أردنا أن نعبّر عن ذلك على أساس‬ ‫ٌ‬ ‫وليس ثمة‬
‫األفراد‪ ،‬يمكن أن نقول أن كال منا هو موضوعُ‪object‬‬
‫اإلحساس ال ذاته ‪ . subject‬لكن كال منا ليس هو‬
‫الموضوعُ الوحيد‪ .‬فاليد‪ ،‬والبطن‪ :‬هما أيضا موضوعا‬
‫اإلحساس‪.‬‬

‫ذات التربيتة؟ة هل هو الفردُ‪ ،‬الشخص الذي‬ ‫ُ‬ ‫ومن هي‬


‫أحرك يدي هكذا‬ ‫ِّ‬ ‫رت أن‬ ‫قر ُ‬ ‫يُربِّت؟ ليس بالضرورة‪ .‬إذا ّ‬
‫ذات التربيتة‪ .‬لكن هل يجب‬ ‫ُ‬ ‫على بطنك‪ ،‬فإنني‪ ،‬أنا الفرد‪،‬‬
‫ةة على هذا النحو؟ هل يجب أن يكون‬ ‫أن تكون التربيت ُ‬
‫وعي؟ عادةً‪ ،‬خصوصا حين‬ ‫ٌ‬ ‫التربيت جهدا واعيا يتوصل إليه‬
‫ُ‬
‫ُ‬
‫يتعمق الحب‪ ،‬ال يكون كذلك‪ .‬أنا ال أربِّت بطنك‪ .‬يدي تُربِّتها‪.‬‬
‫تلقائيا‪ ،‬ودون قرار‪ .‬ثمة دوما شيءٌ خارج تماهينا‬
‫واع لألجساد ال يعتمد ال‬‫ٍ‬ ‫كذوات وأشخاص‪ .‬ثمة شبقٌ ال‬
‫على قرارات أفرادٍ بعينهم وال على المشروعات المتبادلة‬
‫التي استقروا عليها‪ .‬ليس ثمة أنا وأنت ببساطة‪ .‬كذلك‬
‫ةة المتجانسة لكلينا‪ .‬ثمة يد ٌ‬ ‫نحن هي التشكيل ُ‬ ‫ُ‬ ‫ليس ثمة‬
‫س ينشأ من توصيلها‪.‬‬ ‫وبطن وإحسا ٌ‬‫ٌ‬
‫‪278‬‬
‫يمكننا أن نرى دليال على هذا في احتدام العاطفة‬
‫الجنسية‪ .‬إذ نقول أن الناس يفقدون أنفسهم‪ .‬وهذه‬
‫طريقة جيدة ٌ لصياغة األمر‪ .‬ففي شبق اللحظة الجنسية‪،‬‬
‫ال يعود ثمة فردان‪ .‬وليس السبب في هذا أن هناك فرد‬
‫كائنات أقل هنا‪ ،‬بل‬
‫ٌ‬ ‫واحد ٌ هو اندماج االثنين‪ .‬ليس ثمة‬
‫وباطن أقدام ٍ‬
‫ُ‬ ‫ن‬‫ن وعيو ٌ‬‫أكثر‪ .‬ثمة أذرع ٌ وأعضاءٌ جنسية وآذا ٌ‬
‫ة من االستكشافات‬ ‫ف أصابع؛ ثمة سلسل ٌ‬ ‫وشعر وأطرا ُ‬
‫ُ‬
‫كل من‬
‫كقرارات بل على ٍ‬‫ٍ‬ ‫والتوصيالت واالختبارات تنشأ ال‬
‫الجانبين القريب والبعيد من القرارات ومن األفراد الذين‬
‫يتَّخذونها‪ .‬تنشأ حين يفقد األفراد ُ أنفسهم‪.‬‬

‫ال توجد "ذوات كثيرة" في الشبق الجنسي فحسب‪.‬‬


‫فاالستماع إلى تنهيدة الحبيبة‪ ،‬حين تأخذ دُشّ ا مثال‪ ،‬ال يعني‬
‫ص إلى لذة آخر‪ .‬بل يعني أن تصبح‬ ‫ببساطة أن يستمع شخ ٌ‬
‫لصوت‪ ،‬أن تُستثار بالضوضاء‪ .‬ولو كان هذا‬ ‫ن موضوعا‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬ ‫أذ ٌ‬
‫تواصال‪ ،‬فما هي المعلوماتة التي يتم توصيلها؟ ما‬
‫مضمونها؟ وإذا كان األمر يتعلق باألفراد فحسب‪ ،‬فأين أنا‬
‫مركَبة اإلحساس‪ ،‬أم مجرد تأثيره؟‬ ‫في هذا كله؟ هل أنا َ‬
‫هل يكون من األدق القول أنني في تلك اللحظة أنهض‬
‫ة بدل أن أخبَرها؟‬ ‫خارج استثارتي التي تشكّل هال ً‬

‫أمر بين أفراد‪ ،‬لكنه ليس هذا فحسب‪.‬‬


‫ٌ‬ ‫شبقُ الحب هو‬
‫أمر بين أجزاء الجسم‪ ،‬بين األسطح التي تتالمس‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫إنه أيضا‬
‫ج ذلك‬
‫واألفراد الذين تنتمي إليهم تلك األسطح هم نتا ُ‬
‫التالمس على األقل بقدر ما هم ذاته‪ .‬أجسادنا هي تفعي ٌ‬
‫ل‬
‫ف‬
‫الفتراضي يستكشفه شبقُ الحب‪ .‬الشبق يستكش ُ‬
‫ٍ‬
‫‪279‬‬
‫مستويات عديدة‪ :‬الفردي‪ ،‬ما قبل ة‬
‫ٍ‬ ‫االفتراضي على‬
‫الفردي‪ ،‬ما بين ة األفراد‪ ،‬ما بين ة األجزاء ة الفردية‪.‬‬

‫شبقي‪ ،‬ماذا‬
‫ٌ‬ ‫منا ماذا يجب أن نعتقد أنه‬ ‫لقد تم تعلي ُ‬
‫الصور جميعنا‪ :‬األجساد‬‫َ‬ ‫يجب أن يستثيرنا‪ .‬ونعرف‬
‫الممشوقة‪ ،‬المتماوجة للنساء‪ ،‬واألجساد الصلبة ذات‬
‫العضالتة للرجال‪ .‬النهود الكبيرة‪ ،‬والصدور الكبيرة‪.‬‬
‫السيقان الطويلة‪ ،‬وعضالت السيقان الطويلة‪ .‬لكن األمر ال‬
‫يجري عادة على هذا النحو‪ .‬فعادة ً ما يصبح شيءٌ آخر‬
‫ة‬
‫ة ضوءٍ على ركبة‪ .‬تصبح خشون ُ‬ ‫العين ومض ُ‬
‫َ‬ ‫تلفت‬
‫ُ‬ ‫شبقيا‪.‬‬
‫م أنوركسيةٍ [فاقدةٍ‬ ‫رقعةِ جلد ٍ مثيرةً إلصبع‪ .‬تأسرنا عظا ُ‬
‫ة أو فأفأة‪.‬‬ ‫م بدانة‪ .‬تستثيرنا لثغ ٌ‬ ‫مرضية للشهية]ة أو لح ُ‬
‫بمعلومات بل بدعوة‪ .‬أو‬
‫ٍة‬ ‫ينادي جزءٌ من جسد ٍ جزءا آخر‪ ،‬ال‬
‫وموضوعات‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫شبق بينهما تخلق ذواتا‬ ‫ٍ‬ ‫باألحرى‪ ،‬تطرأ عالقة‬
‫شبق ينشأ عبر وبين أسطح األجساد‪ .‬قد‬ ‫ٍ‬ ‫حدث‬
‫ُ‬ ‫ث‪،‬‬
‫ثمة حد َ ٌ‬
‫تكون مفاجأةً لنا أن نكتشف هذه األحاسيس‪ ،‬هذه‬
‫يقدر عليه‬
‫ُ‬ ‫االستثارات‪ .‬لكن ذلك ألننا مازلنا ال ندرى ما‬
‫جسد ٌ ما‪.‬‬

‫‪V‬‬

‫‪280‬‬
‫حيوات الحركات السياسية‪ .‬حيوات‬‫ُ‬ ‫الحيوات الفردية‪.‬‬
‫وحيوات أخرى كذلك‪ :‬حيوات‬
‫ٌ‬ ‫المدن‪ .‬الحيوات الشبقية‪.‬‬
‫المواد الكيميائية‪ ،‬والخاليا‪ ،‬والزمن‪ ،‬والبيئات‪ ،‬واللغات‪.‬‬
‫وكذلك المزيد من الحيوات التي لم نتحدث عنها‪ .‬لم يقم‬
‫دولوزي لحياة نسق طقس‪ ،‬رغم أن ذلك‬ ‫ٍ‬ ‫بتحليل‬
‫ٍ‬ ‫أحد ٌ‬
‫تفعيالت لالفتراضي‪ ،‬عمليات‬
‫ٌ‬ ‫ممكن‪ .‬كل هذه الحيوات هي‬
‫لهويات نوعية من حشود ٍ من االختالف‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫خلق‬
‫ٍ‬

‫لقد رأينا هنا‪ ،‬في حيوات كولترين‪ ،‬واالنتفاضة‬


‫ة على‬‫الفلسطينية األولى‪ ،‬والمدن‪ ،‬وشبق الحب‪ ،‬أمثل ً‬
‫العيش يمكن إعطاؤها قراءة دولوزية‪ .‬كما يمكن إعطاؤها‬
‫ة‪ .‬لكن تلك القراءات األخرى‬ ‫قراءات أخرى‪ ،‬أكثر تقليدي ً‬
‫سك بها مقاربة دولوز‪ .‬وعادة ً‬‫جوانب مما تدرسه تُم ِ‬
‫َ‬ ‫تتجاهل‬
‫ما يُفلت منها الشيءُ األهم‪ :‬الطابعُ الالواعي لعزف‬
‫كولترين المنفرد أو المستوى قبل ة الفردي لإلحساس‬
‫الشبقي‪.‬‬

‫لكنها ليست مجرد َ مسألةِ تقريرِ ما هناك‪ ،‬ما هو‬


‫موجود‪ .‬فسؤال كيف يمكن أن يحيا المرء له جانبان‪ .‬فهو‬
‫ش وكذلك عن كيف‬ ‫ل عن كيف يمكن أن يمضي العي ُ‬ ‫سؤا ٌ‬
‫يمكن أن يمضي المرءُ بصددِ العيش‪ .‬والحيوات التي أطللنا‬
‫عليها في هذا الفصل تخاطب السؤال األول‪ ،‬وليس الثاني‪.‬‬
‫تفعيل لالختالف‪ .‬لكننا‬
‫ٍة‬ ‫ة‬
‫وقد رأينا أن العيش قد يكون مسأل َ‬
‫نعلم كذلك أن التفعيالتة ال يجب بالضرورة أن تكون‬
‫ج المشوِّق‪ ،‬أو البارز‪ ،‬أو الهام‪.‬‬
‫ة‪ .‬قد ال تُنت ِ ُ‬
‫ة أو دال ً‬
‫إجباري ً‬
‫وهي ال تَفعَلة على األغلب‪ .‬فمعظم عازفي الساكسوفون‬
‫يسعون إلى تكرار الهويات التي تسلّموها‪ .‬واالنتفاضة‬

‫‪281‬‬
‫ة عنيفة وغير مبدعة غالبا‪،‬‬‫الفلسطينية الثانية هي مسأل ٌ‬
‫حتى لو كان االحتالل الذي تُناضل ضده مثيرا ً للغثيان‪.‬‬
‫والمدن عادة ً منقسمة‪ ،‬موبوءة؛ والجنسانية عادةً روتينية‪.‬‬

‫وال يجب أن نستنتج من هذا‪ ،‬فيما يجادل دولوز‪ ،‬أن‬


‫األمر أن‬
‫ُ‬ ‫ة للهوية‪ .‬ليس‬‫األنطولوجيا يجب أن تمنح األولوي َ‬
‫الهويات تأتي أوال‪ ،‬واالختالف فيما بعد‪ .‬بل أن االختالف‬
‫عادة ً ما يتم تجاهله‪ ،‬وال يتم استكشاف االفتراضي‪ .‬امتثال‬
‫حيواتنا ال يتعلّق بضرورة الهويات الجامدة بقدر ما يتعلّق‬
‫اختالف موجود ٍ‬
‫ٍ‬ ‫برفض التفكير‪ ،‬والفعل‪ ،‬والعيش وفق‬
‫باق دوما داخل العالم الذي يتم تقديمه لنا‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫دوما‪،‬‬

‫ة هو أن ‪æ‬‬
‫كال منها‬ ‫ة التي رأيناها هنا دال ً‬ ‫ل األمثل َ‬ ‫ما يجع ُ‬
‫ف فعال ماذا‬‫يتضمن تجريبا مستعدا لالعتراف بأنه ال يعر ُ‬ ‫ُ‬
‫جه بإصرارٍ صوب االفتراضي دون‬ ‫ل منها يتو ّ‬ ‫سيجد‪ .‬ك ٌّ‬
‫مون عمل كولترين‬ ‫ضمانات بالنجاح‪ .‬فالعديد من الناس يُس ّ‬
‫األخير ضوضاءً‪ .‬ومازال المحلّفون لم يفصلوا في أهمية‬
‫االنتفاضة األولى‪ .‬وتنوُّع المدن يمكن أن يؤدي إلى التناحر‬
‫كما يمكن أن يؤدي إلى الحيوية‪ .‬والشبق يمكن أن يصبح‬
‫مرا ة للذات‪ .‬ويورد‬ ‫مد ِّ‬
‫جذب مركزية‪ ،‬و ُ‬‫ٍ‬ ‫حواذيا‪ ،‬ذا قوةِ‬‫ُ‬
‫ة على أخطار االستكشاف‪" :‬كاليست وحلفه مع‬ ‫دولوز أمثل ً‬
‫االنتحار‪ ،‬هولدرلين وجنونه‪ ،‬فيتزجيرالد ودماره‪ ،‬فيرجينيا‬
‫ح بالضرورة‪.‬‬ ‫التجريب ال يعني النجا َ‬
‫ُ‬ ‫‪7‬‬
‫وولف واختفاؤها‪".‬‬
‫االنسحاب مما هو موجود‪ .‬وخط الهروب‬ ‫َ‬ ‫لكنه ال يعني أيضا‬
‫ل الواقع‪ .‬وال يَخلِق‬ ‫هروب داخ َ‬‫ٌ‬ ‫ليس هروبا من الواقع بل‬
‫جرب مع االختالف المحايث لعالمنا‪ .‬ثمة‬ ‫من العدم بل ي ُ ِّ‬
‫دوما شيءٌ أكثر‪ ،‬أكثر مما يمكننا أن نعرف‪ ،‬أكثر مما يمكننا‬

‫‪282‬‬
‫عيش‪ ،‬هو ما إذا كنا‬
‫ٍ‬ ‫أن نتصوّر‪ .‬والسؤال أمامنا‪ ،‬وهو سؤال‬
‫مستعدّين الستكشافه‪ ،‬أم راضين بدال من ذلك بالبقاء على‬
‫سطحه‪.‬‬

‫جب أنطولوجيا دولوز على سؤال كيف يمضي‬ ‫لم ت ُ ِ‬


‫المرءُ بصدد العيش‪ ،‬ليس بطريقةٍ مباشرة على األقل‪ .‬ال‬
‫ل مرجعي‪ .‬هذا ما يجب‬ ‫توجد تعليمات؛ ال يوجد دلي ٌ‬
‫ة‪ . . .‬وما فعله بدال من ذلك‬ ‫من فوق شريح ٍ‬ ‫عمله‪ :‬إك ُ‬
‫ة‬
‫هو تصوّر العالم بطريقةٍ تجعل من االمتثال ال الكتل َ‬
‫حطام إمكاناتنا‪ .‬في رأي‬ ‫تكسيرها بل ُ‬
‫ُ‬ ‫يجب‬
‫ُ‬ ‫الصخرية التي‬
‫ضح نفسه‪ .‬بل أن‬ ‫دولوز‪ ،‬ليس الحيود هو ما يجب أن يو ِ‬
‫االمتثالة هو ما يجب أن يجعلنا نرفع حاجبنا‪ .‬االختالف‬
‫حايث في حاضرنا وعائد ٌ إلينا من‬ ‫ٌ‬ ‫م‬
‫موجودٌ‪ ،‬دوما‪ .‬إنه ُ‬
‫جرب‪ ،‬ال لنرفض هذا العالم‪ ،‬بل‬ ‫مستقبلنا‪ .‬إننا نستكشف ون ُ ِّ‬
‫لنعانقه بصورةٍ أفضل‪.‬‬

‫وهكذا نعود إلى األنطولوجيا‪ .‬يرفض ديريدا وفوكوه‬


‫األنطولوجيا جزئيا بسبب االمتثال التي تحفزه‪ .‬وهما على‬
‫حق في رفض االمتثال‪ ،‬لكنهما ال يحتاجان إلى رفض‬
‫ف أعمقَ من الهوية‪ ،‬إذا كان‬ ‫األنطولوجيا‪ .‬إذا كان االختال ُ‬
‫ل ينطلق من االفتراضي‪ ،‬إذا كان التعدُّد محايثا‬ ‫التفعي ُ‬
‫لعالمنا‪ ،‬فإن األنطولوجيا الوحيدة التي يجب رفضها هي‬
‫التفكير في األنطولوجيا على‬
‫ُ‬ ‫أنطولوجيا الهوية‪ .‬وقد جرى‬
‫أنها أنطولوجيا للهوية منذ أفالطون‪ .‬لكنها ليست بحاجةٍ‬
‫ألن تكون كذلك‪ .‬األنطولوجيا يمكن أن تكون أنطولوجيا‬
‫لالختالف‪ .‬يمكنها أن تكون أنطولوجيا ال يكون فيها ما هو‬
‫س األشياء القديمة بل سيرورةً من اإلبداع‬ ‫موجود ٌ هي نف ُ‬
‫‪283‬‬
‫المتصل‪ ،‬أنطولوجيا ال تسعى إلى اختزال الوجود إلى ما‬
‫ل المعرفة بل تسعى بدال من ذلك إلى توسيع الفكر‬ ‫يقب ُ‬
‫ل المعرفة‪ .‬أنطولوجيا االختالف تتناغم‬ ‫س ما ال يقب ُ‬
‫كي يج َّ‬
‫ة‬
‫س المهام‪ ،‬مستخدم ً‬ ‫مع مشاغل ديريدا وفوكوه‪ .‬تُحقِّق نف َ‬
‫الوسائل العكسية‪ .‬بدال من التخلص من األنطولوجيا‪،‬‬
‫معنى جديدا‪.‬‬
‫ً‬ ‫يمنحها دولوز‬

‫يمكن أن‬
‫ُ‬ ‫ماذا يمكن أن تكون عالقة هذا بسؤال كيف‬
‫يحيا المرء‪ ،‬كيف يمكن أن يمضي المرءُ بصدد الحياة؟ لو‬
‫كنا نبحث عن وصفة [روشتة]‪ ،‬فإن اإلجابة هي‪ :‬الشيء‪.‬‬
‫فدولوز ال يجيب على السؤال العتيق عن كيف يجب أن‬
‫يحيا المرء‪ .‬ويتخلّى عن السؤال الحديث عن كيف يجب أن‬
‫يتصرف المرء‪ .‬ليس مهتما بوضع وصفة [روشتة] ال‬ ‫َّ‬
‫لحيواتنا وال لسلوكنا‪ .‬لكنه مهتم باألسئلة المعيارية‪ .‬مهت ٌ‬
‫م‬
‫بكيف نتصرف وكيف تمضي حيواتنا‪.‬‬

‫وسؤال كيف يمكن أن يمضي العيش هو دعوة ٌ وكذلك‬


‫ضعاف القلوب‪.‬‬ ‫استفزاز‪ .‬أنطولوجيا دولوز ليست ل ِ‬
‫التجريب بالمعنى الذي يقصده دولوز‪ ،‬أخذ ُ أنطولوجياه‬
‫ُ‬
‫على محمل الجد‪ ،‬ال يعني ملءَ الثغرات في معرفتنا‪ ،‬وال‬
‫البحث عما يمكن أن نفعله على أساس ما نستطيع عمله‪.‬‬
‫صنا‬
‫ف خطوط الهروب تلك التي تخ ّ‬ ‫التجريب يعني كش َ‬
‫ف االفتراضي دون‬ ‫وكذلك ليست من هويتنا‪ .‬يعني استكشا َ‬
‫س االختالف في فكر المرء‬ ‫أن نعلم ماذا سيُنتِج‪ .‬يعني ج َّ‬
‫رمي النرد بابتهاج دون حساب األرقام‬ ‫َ‬ ‫وفي عيشه‪ .‬يعني‬
‫بألياف وجود ِ المرء ةة‬
‫ِ‬ ‫التي سترتد‪ .‬التجريب يعني أن نسأ َ‬
‫ل‬
‫األلياف الفردية‪ ،‬واأللياف بين ة األشخاص‪ ،‬واأللياف قبل ة‬‫ِ‬

‫‪284‬‬
‫الفردية وفوق ة الفردية ةة السؤا َ‬
‫ل الوحيد الذي يعتبره‬
‫دولوز جديرا بحياة‪ :‬كيف يمكن أن تمضي حياةٌ‪ ،‬كيف يمكن‬
‫أن يحيا المرء؟‬

‫ل كيف يمكن أن يحيا‬ ‫ما يفهمه دولوز هو أن سؤا َ‬


‫المرء ليس مثل سؤالي الفلسفة العتيقة والحديثة‪ .‬وال‬
‫يمكن إجابته بواسطة القواعد أو الوصفات أو النماذج أو‬
‫ة سؤال كيف يمكن أن‬ ‫المثل العليا‪ .‬وإذا حاول المرءُ إجاب َ‬
‫يحيا المرءُ بتلك الطريقة‪ ،‬فسوف يرتد ُّ ليسقط في أحد‬
‫السؤالين السابقين‪ ،‬إما السؤال العتيق أو الحديث‪.‬‬
‫المطلوب ليس التعليمات بل الدعوة‪ ،‬ليس التوجيه بل‬
‫يقرها‬
‫ّ‬ ‫األمر في مصطلحات يمكن أن‬ ‫َ‬ ‫االنفتاح‪ .‬وحتى نصيغ‬
‫ل بل المشكالت‪ .‬وما‬ ‫دولوز‪ ،‬فإن ما نقتضيه ليس الحلو َ‬
‫وضعه دولوز أمامنا هو أنطولوجيا للمشكالت‪ ،‬أنطولوجيا‬
‫كحل لمسألةٍ فلسفية‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫تواجهنا ال كتفسيرٍة للعالم وال‬

‫أنطولوجيا دولوز ليست مكانا ً للراحة؛ ليست منطق ً‬


‫ة‬
‫ة تُتيح لنا التخلي عن بحثنا‪ .‬إنها‬‫لالسترخاء؛ ليست إجاب ً‬
‫العكس‪ .‬أنطولوجيا االختالف هي تحدٍّ‪ .‬إن االعتراف بأن‬
‫هناك أكثر مما تعلمناه‪ ،‬بأن ما يُقدَّم لنا هو مجرد البداية‬
‫ة األعظم لعيشنا‪ .‬لم ننته من‬ ‫لما هناك‪ ،‬يضع أمامنا المهم َ‬
‫العيش؛ وال ننتهي أبدا ً من العيش‪ .‬ومهما عشنا‪ ،‬فثمة دائما‬
‫يقدر عليه جسد ٌ ما‪ ،‬وال كيف يمكنه أن‬ ‫ُ‬ ‫أكثر‪ .‬ال ندري ما‬
‫مكان‬
‫ٍ‬ ‫وصلت) واليأس (ما من‬ ‫ُ‬ ‫يحيا‪ .‬وبديال الرضا (لقد‬
‫يمكن الذهاب إليه) هما جانبان من نفس الفكر‬ ‫ُ‬
‫م إلينا هو ك ُّ‬
‫ل ما هناك‪.‬‬ ‫الخاطيء‪ :‬أن ما يُقد َّ ُ‬

‫‪285‬‬
‫أكثر‪ ،‬دائما أكثر‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ثمة ما هو‬

‫الهوامش‬

‫‪1Deleuze, “Immanence: A Life,” p. 28.‬‬


‫‪‘ " 2‬كنت سأقول’‪ . . . .‬ةة تتذكر تفاصيل متعددة‪ .‬لكنها‬
‫حتى جميعها معا ً لم تكن تُظهر قصدك‪ .‬األمر كأن لقطة‬
‫قطت لمشهد‪ ،‬لكن ال يُرى منها سوى بضع‬ ‫سريعة قد الت ُ ِ‬
‫تفاصيل مبعثرة ‪ . . .‬واآلن كأننا نعرف بالتأكيد ما تمثله‬
‫الصورة بكاملها‪ .‬كأنني أستطيع قراءة الظالم‪ ".‬فتجنشتين‪،‬‬
‫أبحاث فلسفية ‪ ،‬ص‪.163 .‬‬ ‫ٌ‬

‫‪3Rajchman, The Deleuze Connections, p.‬‬


‫‪89.‬‬
‫حادث له توابعه‪ ،‬هو‬
‫ٍ‬ ‫‪ 4‬يأتي إسم "انتفاضة األقصى" من‬
‫زيارة آرييل شارون االستفزازية عن قصد لجبل المعبد‪/‬ة‬
‫الحرم الشريف‪ ،‬حيث يقع مسجد األقصى‪.‬‬
‫‪5Jacobs, The Death and Life of Great‬‬
‫‪American Cities, p. 50.‬‬
‫‪6Jacobs, The Death and Life of Great‬‬
‫‪American Cities, p. 440.‬‬
‫‪7Deleuze and Parnet, Dialogues, p. 140.‬‬

‫*******‬

‫‪286‬‬
‫مزيد ٌ من القراءات‬

‫فيما يلي‪ ،‬أُشير إلى بعض االتجاهات للقراء المهتمين‬


‫بالمزيد من القراءة حول دولوز‪ ،‬ومحاوريه‪ ،‬أو الموضوعات‬
‫م تفاصيل‬ ‫التي نشأت في مسار هذا الكتاب‪ .‬وأض ُّ‬
‫بيبليوجرافية لنصوص لم يرد ذكرها في الصفحات السابقة‪.‬‬
‫أما عن المعالجات العامة لفكر دولوز‪ ،‬فإن كتابيكلير‬
‫كولبروك ‪ ،Claire Colebrook Gilles Deleuze‬وجون‬
‫رايشمان ‪John Rajchman The Deleuze‬‬
‫‪ Connections‬هما كتابان ممتازان‪ .‬األول أكثر أدبي ً‬
‫ة‬
‫ة‬
‫جهه؛ والثاني أصعب‪ ،‬وربما يملك مقارب ً‬ ‫وسينمائية في تو ّ‬
‫بعض االنخراط مع كتابات دولوز‪.‬‬
‫ِ‬ ‫أفضل بعد‬

‫الفصل األول‬

‫‪287‬‬
‫بالنسبةة لسؤالي كيف يجب أن يحيا المرء؟ و كيف‬
‫يجب أن يتصرف المرء؟ فإن أفالطون وأرسطو هما‬
‫حالتان بديهيتان لألول‪ ،‬بينما كانط حالة نموذجية للثاني‪.‬‬
‫ويقدم كتابا الجمهورية ‪ Republic‬ألفالطون‬
‫واألخالق إلى نيقوماخوس ‪Nichomachean‬‬
‫‪ Ethics‬ألرسطو نظرات عامة عن كيف يُقارب كل‬
‫مفكر سؤال كيف يجب أن يحيا المرء‪ .‬وتوجد ترجمات‬
‫باقية لهذين العملين‪ .‬ويقدم كتابا كانط نقد العقل‬
‫العملي ‪Critique of Practical Reason)tr.‬‬
‫‪Lewis White Beck, Indianapolis: Bobbs-‬‬
‫(‪ Merrill,1956‬أو كتابه األصغر تأسيس ميتافيزيقا‬
‫األخالق ‪Groundwork of the Metaphysic of‬‬
‫& ‪Morals )tr. H. J. Paton, New York: Harper‬‬
‫(‪ Row, 1956‬أكثر المقاربات الصارمة التي قد يجدها‬
‫المرء للسؤال الثاني‪ .‬وبالنسبة لنيتشه‪ ،‬فإن النصين األشد‬
‫نفوذا على فكر دولوز ربما كانا هكذا تكلم زرادشت‬
‫‪Thus Spoke Zarathustra )included in The‬‬
‫‪Portable Nietzsche, ed. And tr. Walter‬‬
‫(‪ Kaufman, New York: Viking Press,1954‬وفي‬
‫جينالوجيا األخالق ‪On the Genealogy of‬‬
‫‪ . Morals‬وتجد نزعة سارتر اإلنسانية بيانها الموجز في‬
‫مقاله "الوجودية" في ‪Existentialism and‬‬
‫‪Human Emotions )New York: Philosophical‬‬
‫(‪ Library, 1957‬وتظهر معالجته التقنيةفي الوجود‬
‫والعدم‪ :‬مقال فينومنولوجي في األنطولوجيا‬
‫‪Being and Nothingness: A‬‬
‫‪Phenomenological Essay on Ontology )tr.‬‬

‫‪288‬‬
‫‪Hazel Barnes, New York:Philosophical Library,‬‬
‫(‪1956‬‬
‫أما أعمال فوكوه األولية في الجينالوجيا‪ ،‬التي يظهر فيها‬
‫رفض األنطولوجيا بأوضح صورة‪ ،‬فهي المراقبة‬
‫والعقاب ‪ Discipline and Punish‬والجزء األول‬
‫من تاريخ الجنسانية ‪The History of Sexuality‬‬
‫‪tr. Robert Hurley, New York: Vintage Books,‬‬
‫(‪ .1980‬وقد تمتع ديريدا بمهنة كتابة طويلة ومثمرة؛‬
‫وتفضيلي الخاص ينصب على أعماله المبكرة‪ ،‬مثال الكالم‬
‫والظواهر ومقاالت أخرى في نظرية العالمات‬
‫لدى هوسرل ‪Speech and Phenomena and‬‬
‫‪Other Essays on Husserl’s Theory of‬‬
‫‪Signsn )tr. David Allison, Evanston: North-‬‬
‫(‪ .western University Press, 1978‬والكتابة‬
‫واالختالف ‪Writing and Difference )tr. Alan‬‬
‫‪Bass, Chicago: University of Chicago Press,‬‬
‫(‪.1978‬‬

‫الفصل الثاني‬
‫عمل سبينوزا المحوري هو األخالق ‪ ، Ethics‬الذي توجد‬
‫له عدة ترجمات‪ .‬وغالبا ما يلجأ دولوز إلى عمل برجسون‬
‫المادة والذاكرة ‪Matter and Memory )tr. N.‬‬
‫‪M. Paul and W. S. Palmer, New York: Zone‬‬
‫(‪ ،Books, 1988‬ويشكلة أساس المعالجة التي تجري‬
‫مناقشتها هنا‪ .‬وأهم مناقشة وجودية‪/‬فينومنولوجيةة للزمن‬
‫‪289‬‬
‫هي كتاب هوسرل فينومنولوجيا وعي ف الزمن‬
‫الداخلي ‪The Phenomenology of Internal‬‬
‫‪Time-Consciousness )ed. Martin Heidegger,‬‬
‫‪tr. James S. Churchil, Bloomington: Hndiana‬‬
‫(‪ .University Press, 1964‬وقد أوردت بالفعلة كتاب‬
‫نيتشه‪ .‬ومن بين أعمال دولوز فإن‪ ،‬النزعة التعبيرية‬
‫في الفلسفة‪ :‬سبينوزا ‪Expressionism in‬‬
‫‪ ، Philosophy: Spinoza‬و سبينوزا‪ :‬الفلسفة‬
‫العملية ‪، Spinoza: Practical Philosophy‬‬
‫والبرجسونية ‪ ، Bergsonism‬ونيتشه والفلسفة‬
‫‪ Nietzsche and Philosophy‬هي المعالجات‬
‫المحورية لسبينوزا‪ ،‬وبرجسون‪ ،‬ونيتشه‪ ،‬بالترتيب‪.‬‬

‫الفصل الثالث‬
‫لسوء الحظ‪ ،‬تُرجم القليل جدا من عمل جيلبيرة سيموندون‬
‫إلى اإلنجليزية‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬تظهر مقدمة الفرد وتولّده‬
‫السيكو ف بيولوجي ‪l’individu et sa genèse‬‬
‫‪ physico_biologique‬في كتاب كريري وكوينتر‬
‫‪ .Craryand Kwinter’s Incoporations‬أما كتاب‬
‫مونوه الصدفة والضرورة ‪Chance and‬‬
‫‪ Necessity‬وكتاب بريجوجين وسترينجر النظام من‬
‫الكاوس ‪ Order Out of Chaos‬فهما نصان صعبان‪،‬‬
‫لكنهما هامان لفهم مقاربة دولوز للعلم‪ .‬وبالنظر إلى‬
‫اللغة‪ ،‬ربما كان كتاب سوسير منهج في اللغويات‬
‫العامة ‪ Course in General Linguistics‬النص‬
‫‪290‬‬
‫اللغوي المنفرد األشد تأثيرا للقرن العشرين‪ ،‬على األقل‬
‫بقدر ما يخص أوروبا‪ .‬ويزوّد كتابا لويس كارول‪ ،‬أليس‬
‫في بالد العجائب ‪ Alice in Wonderland‬ومن‬
‫خالل المرآة ‪Through the Looking Glass‬‬
‫دولوز بأمثلة عديدة على الالمعنى؛ وكتاب مارتين جاردنر‬
‫‪ Martin Gardner’s The Annotated Alice‬هو‬
‫دليل ممتاز خالل هذين النصين‪ .‬وتظهر مقاربة دولوز للعلم‬
‫في عدة مواضع من االختالف والتكرار ‪Difference‬‬
‫‪( and Repetition‬والكثير منها جرى ذكره في‬
‫الصفحات السالفة) وكذلك في تعاونه الالحق مع جاتاري‪،‬‬
‫مسطّح ‪ ، A Thousand Plateaus‬خصوصا‬ ‫ألف ُ‬
‫المسطّح رقم ‪ .3‬والصورة الدوجمائية للفكر هي موضوع‬
‫الفصل الثالث من االختالف والتكرار‪ .‬والنص المفتاح‬
‫لمقاربة دولوز المبكرة للغة هو منطق المعنى ‪The‬‬
‫‪ . Logic of Sense‬وبعدها‪ ،‬في تعاونه مع جاتاري‪،‬‬
‫ة مختلفةة عن‪ ،‬لكنها ال تتنافر مع‪ ،‬المقاربة‬
‫يُطوِّر مقارب ً‬
‫األولى التي تتم مناقشتها في الكتاب الحالي‪ .‬والمسطح‬
‫الرابع من األلف مسطح تناقش المقاربة األخيرة‬
‫بالتفصيل‪.‬‬

‫الفصل الرابع‬
‫هناك بيانات عديدة عن الليبرالية‪ ،‬لكن ربما يتجاوز اثنان‬
‫منها األعمال األخرى‪ :‬عمل جون ستيوارت ميل من القرن‬
‫التاسع عشر في الحرية ‪On Liberty‬‬
‫(‪ Indianapolis: Hackett, 1978‬وعمل جون روولز‬
‫‪291‬‬
‫نظرية للعدالة ‪A Theory of Justice‬‬
‫(‪. Cambridge: Harvard University Press, 1971‬‬
‫وبين األعمال االجتماعية يعتبرة كتاب مايكل ساندل‬
‫الليبرالية وحدود العدالة ‪Liberalism and the‬‬
‫‪ Limits of Justice‬مثاال ممتازا‪ .‬وبالطبع‪ ،‬لماركس‬
‫خ طويل ومعقّد‪ .‬وفيما يتعلق بكتابات‬‫والماركسية تار ٌ‬
‫ماركس‪ ،‬فإن العمل المبكر المخطوطات االقتصادية‬
‫والفلسفية ‪Economic and Philosophic‬‬
‫‪( Manuscripts‬الذي يمكن العثور عليه‪ ،‬بين أماكن‬
‫أخري‪ ،‬في الكتابات المبكرة ‪Early Writings, tr.‬‬
‫‪Rodney Livingstone and Gregor Benton, New‬‬
‫‪ )York: Random House, 1975‬والكتاب المتأخر‬
‫رأس المال‪ :‬المجلد األول ‪Capital: Volume‬‬
‫‪One )tr. Ben Fowkes, New York: Random‬‬
‫(‪ House, 1977‬هما عمالن ممثالن له‪ .‬وقد ذكرت من‬
‫قبل عمل فوكوه المراقبة والعقاب‪ .‬وقد تم إنجاز قدر‬
‫كبير من كتابات دولوز السياسية الصريحة بالتعاون مع‬
‫فيليكس جاتاري‪ :‬في األنتي أوديب داقتعالا[ضد فف أوديب]‬
‫‪( Anti-Oedipus‬خصوصا الفصل الرابع) وفي ألف‬
‫مسطّح ‪ A Thousand Plateaus‬خصوصا المسطح‬
‫أدب أقلياتي‬ ‫ٍ‬ ‫‪ ،)13 ،12 ،9‬وكذلك في كافكا‪ :‬نحو‬
‫‪ ، Kafka: Toward a Minor Literature‬وفيه‬
‫ة في‬‫مناقشة في الفصل الثالث لألقلية والصيرورة ة أقلي ً‬
‫األدب‪ .‬كما اعتمد نقاشي على الفصل الرابع من كتاب‬
‫دولوز محاورات ‪ Dialogues‬مع كلير بارنيت‪.‬‬

‫الفصل الخامس‬
‫‪292‬‬
‫كُتب الكثير عن جون كولترين‪ ،‬لكن من أجل نظرة شاملة‬
‫ضل الفيديو العالمطبقا‬ ‫على موسيقاه وأسلوبه‪ ،‬أف ّ‬
‫لجون كولترين ‪The World According to John‬‬
‫(‪ . Coltrane )New York: BMG Video, 1991‬وبين‬
‫فضائله أنه فيديو غائم ألداء "أشيائي المفضلة" يلتقط‬
‫بأفضل ما رأيتموسيقى كولترين التي تستقصي‪ .‬ويظل‬
‫كتاب جين جيكوبس موت وحياة المدن األمريكية‬
‫الكبرى ‪The Death and Life of Graet‬‬
‫‪ American Cities‬محك التفكير في طابع المدن‪.‬‬
‫كذلك أصبحت االنتفاضة الفلسطينية موضوع الكثير من‬
‫الدراسات‪ .‬وأحد الكتب التي تقدم نظرة شاملة مبكرة‬
‫لالنتفاضة األولى هو كتاب دون بيريتز اإلنتفاضة ‪Don‬‬
‫‪ . Peretz’s Intifada‬وبالنسبة للتطورات األحدث‪،‬‬
‫شاركت في تحرير كتاب مع منى حمزه هو‪ ،‬عملية الدرع‬ ‫ُ‬
‫الواقي ‪:‬شهادات على جرائم الحرب اإلسرائيلية‬
‫‪Operation Defensive Shield: Witnesses‬‬
‫‪to Israeli War Crimes )London: Pluto Press,‬‬
‫(‪ ، 2003‬يركز على غزو إسرائيل عام ‪ 2002‬لألراضي‬
‫الفلسطينية‪ ،‬لكنه يقدم أيضا معالجة أعم لألمور‪ .‬وبالنسبة‬
‫للشبق‪ ،‬ففي الصفحات األولى من األنتي أوديبداقتعالا[ضد فف‬
‫أوديب] ‪ Anti-Oedipus‬مناقشة ممتازة للتعشيقاتة‬
‫التي ليست من شخص لشخص‪ ،‬بل من جزء لجزء‪.‬‬

‫*********‬

‫‪293‬‬
References

Bergson, Henri.Matter and Memory, tr.


N. M. Paul andW. S. Palmer. New York:
Zone Books, 1988 )first published 1908(.
Boundas, Constantin. “Deleuze-Bergson:
An Ontology of the Virtual,” from
Deleuze: A Critical Reader, ed. Paul
Patton. Oxford: Basil Blackwell, 1996.
Carroll, Lewis. The Annotated Alice, with
notes by Martin Gardner. New York:
World Publishing, 1960.
Colebrook, Claire. Gilles Deleuze. New
York: Routledge, 2002.
Commoner, Barry. “Unraveling the DNA
Myth,” Harper’s, February 2002,
pp. 39–47.
Deleuze, Gilles. Bergsonism, tr. Hugh
Tomlinson and Barbara Habberjam.New
York: Zone Books, 1988 )first published
1966(.
———.“La conception de la diff´erence
chez Bergson,” Les ´etudes
bergsoniennes,
294
vol. 4, 1956, p. 88.
———.Difference and Repetition, tr. Paul
Patton. New York: Columbia University
Press, 1994 )first published 1968(.
———.Empiricism and Subjectivity, tr.
Constantin Boundas.NewYork: Columbia
University Press, 1991.
———. Expressionism in Philosophy:
Spinoza, tr. Martin Joughin. New York:
Zone
Press, 1990 )first published 1968(.
———. Foucault, tr. Sean Hand.
Minneapolis: University of Minnesota
Press,
1988 )first published 1986(.
———. “Immanence: A Life,” in Pure
Immanence: Essays on a Life, tr.
Anne Boyman. New York: Zone Press,
2001 )essay first published 1995(,
pp. 25–33.
———. Kant’s Critical Philosophy: The
Doctrine of the Faculties, tr. Hugh
Tomlinson. Minneapolis: University of
Minnesota Press, 1985 )first published
1963(.
———. The Logic of Sense, tr. Mark
Lester and Charles Stivale. New York:

295
Columbia University Press, 1990 )first
published 1969(.
———.Nietzsche and Philosophy, tr. Hugh
Tomlinson. New York: Columbia
University
Press, 1983 )first published 1962(.
———.“Nomad Thought,” tr. David
Allison. From The New Nietzsche:
Contemporary
Styles of Interpretation. New York: Dell,
1977 )essay first published 1973(,
pp. 142–9.
———. “Postscript on Societies of
Control,” in Negotiations 1972–1990, tr.
Martin Joughin. New York: Columbia
University Press, 1995.
———.Proust and Signs, tr. Richard
Howard. New York: George Braziller,
1972.
Deleuze, Gilles, and Guattari, Felix. Anti-
Oedipus: Capitalism and Schizophrenia,
tr. Robert Hurley, Mark Seem, and Helen
R. Lane. New York: Viking Press,
1977 )first published 1972(.
———. Kafka: Toward a Minor Literature,
tr. Dana Polan. Minneapolis: University

296
of Minnesota Press, 1986 )first published
1975(.
———. A Thousand Plateaus, tr. Brian
Massumi. Minneapolis: University of
Minnesota Press, 1987 )first published
1980(.
———. What Is Philosophy? tr. Hugh
Tomlinson and Graham Burchell. New
York: Columbia University Press, 1994
)first published 1991(.
Deleuze, Gilles, and Parnet, Claire.
Dialogues, tr. Hugh Tomlinson and
Barbara
Habberjam. New York: Columbia
University Press, 1987 )first published
1977(.
Descartes, Ren´e. Passions of the Soul,
tr. Stephen Voss. Indianapolis: Hackett,
1990.
Foucault, Michel. Discipline and Punish,
tr. Alan Sheridan. New York: Random
House, 1977 )first published 1975(.
———. “Practicing Criticism,” an
interview with Didier Eribon, tr. Alan
Sheridan. From Michel Foucault: Politics,
Philosophy, Culture, ed. Lawrence

297
Kritzman. New York: Routledge, 1988,
pp. 152–6.
———. “Truth, Power, Self: An Interview
with Michel Foucault,” from
Technologies
of the Self: A Seminar with Michel
Foucault. Amherst: University of
Massachusetts Press, 1988, pp. 9–15.
Husserl, Edmund. The Phenomenology of
Internal Time-Consciousness, ed. Martin
Heidegger, tr. James S. Churchill.
Bloomington: Indiana University Press,
1964.
Jacobs, Jane. The Death and Life of Great
American Cities. New York: Vintage,
1961.
May, Todd. “Deleuze, Difference, and
Science.” From Continental Philosophy
and Science, ed. Gary Gutting. Oxford:
Basil Blackwell, 2004.
Monod, Jacques. Chance and Necessity:
An Essay on the Natural Philosophy of
Modern
Biology, tr. Austryn Wainhouse. New
York: Knopf, 1971 )first published
1970(.

298
Nietzsche, Friederich. On the Genealogy
of Morals, tr. Douglas Smith. Oxford:
Oxford University Press, 1996 )first
published 1887(.
———. Thus Spoke Zarathustra. )First
published 1892.( From The Portable
Nietzsche,
tr. and ed. Walter Kaufmann. New York:
Viking Press, 1954.
———. The Will to Power, ed. Walter
Kaufmann, tr. Walter Kaufmann and R. J.
Hollingdale. New York: Random House,
.1967
Pearson, Keith Ansell. Germinal Life: The
Difference and Repetition of Deleuze.
NewYork: Routledge, 1999.
Prigogine, Ilya, and Stengers, Isabelle.La
Nouvelle Alliance: M´etamorphose de la
science. Paris: Gallimard, 1979.
———. Order Out of Chaos: Man’s New
Dialogue With Nature. Boulder and
London: New Science Library, 1984.
Proust, Marcel. Remembrance of Things
Past: The Past Recaptured, tr. Andreas
Mayor. New York: Random House, 1970
)first published 1927(.

299
Rajchman, John. The Deleuze
Connections. Cambridge: MIT Press,
2000.
Sandel, Michael. Liberalism and the
Limits of Justice. Cambridge: Cambridge
University Press, 1982.
Sartre, Jean-Paul.“Existentialism,” tr.
Bernard Frechtman. From Existentialism
and Human Emotions. New York:
Philosophical Library, 1957, pp. 9–51.
Saussure, Ferdinand de. Course in
General Linguistics, ed. Charles Bally
and
Albert Sechehaye, tr. Wade Baskin. New
York: McGraw-Hill, 1959.
Simondon, Gilbert. “The Genesis of the
Individual,” tr. Mark Cohen and
Sanford Kwinter. From Zone 6:
Incorporations, ed. S. Kwinter and J.
McCrary.
New York: Zone Books, 1992, pp. 297–
319.
Spinoza, Benedictus de. The Ethics and
Selected Letters, ed. Seymour Feldman,
tr. Samuel Shirley. Indianapolis:
Hackett, 1982 )first published 1677(.

300
Williams, Bernard. Ethics and the Limits
of Philosophy. Cambridge: Harvard
UniversityPress, 1985.
Wittgenstein, Ludwig. Philosophical
Investigations, tr. G. E. M. Anscombe.
New
.York: Macmillan, 1953

*********
*******

301
302

You might also like