You are on page 1of 40

‫من وحي قلم الرافعي‬

‫أيهـا البحـر ‪..‬‬

‫مى‬ ‫ن فصل ً جديدا ً ُيس َ‬ ‫ت أنت أيها البحُر للزم ِ‬ ‫ف‪ ،‬جَعل َ‬ ‫م الصي ُ‬ ‫إذا احت َد َ َ‬
‫"الربيعَ المائي "‪.‬‬
‫ت‬ ‫ض الساعا ِ‬ ‫ن بع ُ‬ ‫ت في الزم ِ‬ ‫ح الحدائق‪ ،‬فَتنب ُ ُ‬ ‫مك أروا ُ‬ ‫ل إلى أيا ِ‬ ‫ق ُ‬‫وتنت ِ‬
‫ره‪.‬‬
‫ج على شج ِ‬ ‫حلوُ الناض ُ‬ ‫الشهيةِ كأنها الثمُر ال ُ‬
‫ن الربيِع الخضر‪،‬‬ ‫ن ُيوحيهِ لو ُ‬ ‫س ما كا َ‬ ‫ك الزرقُ إلى النفو ِ‬ ‫وُيوحي لون ُ َ‬
‫ِإل أَته أرق وألطف‪.‬‬
‫ض الربيع‪ ،‬أنوثة‬ ‫ن في أر ِ‬ ‫ل ما يَرو َ‬ ‫ك مث َ‬ ‫ويرى الشعراُء في ساحل ِ َ‬
‫ي ل النبات‪.‬‬ ‫ظاهرة‪ ،‬غيَر أنها تل ِد ُ المعان َ‬
‫ؤه‪...‬‬‫ن الهواَء يتأ َ‬ ‫ه في الربيع‪ :‬أ ّ‬ ‫دك ما ُيحسون َ ُ‬ ‫س العشاقُ عن َ‬ ‫ح ّ‬ ‫وي ُ ِ‬
‫****‬
‫ذه الرض‪ ،‬وعند َ "الربيِع‬ ‫ك في الدم ِ البشري سّر ه ِ‬ ‫حر ُ‬ ‫في الربيع‪ ،‬يت ّ‬
‫ك في الدم ِ سُز هذهِ السحب‪.‬‬ ‫المائي " يتحز ُ‬
‫ن منهما سكر‬ ‫ن الخمرِ في هواِء الربيِع وهواِء البحر‪ ،‬يكو ُ‬ ‫م َ‬‫ن ِ‬ ‫نوعا ِ‬
‫ن للعالم ِ‬ ‫ح بابا ِ‬ ‫ق ينفت ُ‬ ‫ن الخضرِ والزر ِ‬ ‫ن الطَرب‪ .‬وبالربيَعي ِ‬ ‫م َ‬ ‫واحد ٌ ِ‬
‫ة‬
‫ح النساني ُ‬ ‫ه الرو ُ‬ ‫ي الذي تدخل ُ ُ‬ ‫ل الرض ّ‬ ‫السحري العجيب‪ :‬عالم ِ الجما ِ‬
‫ب المحب في شعاِع ابتسامةٍ ومعناها‪.‬‬ ‫ل القل ُ‬‫كما يدخ ُ‬

‫***‬
‫س في سحابةِ ل في‬ ‫س المرء‪ ،‬وكأنه جال ٌ‬ ‫في "الربيع المائي"‪ ،‬يجل ُ‬
‫الرض‪.‬‬
‫قماش‪ ،‬ويجد ُ الهواَء قد‬ ‫ن ال ُ‬
‫م َ‬
‫لل ِ‬ ‫ن الظ ّ‬ ‫س ثيابا ً ِ‬
‫م َ‬ ‫ه لب ْ‬‫ويشعُر كأن ُ‬
‫ن هواَء التراب‪.‬‬ ‫تنزه َ عن أن يكو َ‬
‫ن‬
‫م َ‬
‫ت ِ‬‫زع ْ‬
‫ض المعاني الرضيةِ انت ُ ِ‬ ‫ن بع َ‬ ‫سهِ الشياء‪ ،‬كأ ّ‬ ‫ف على نف ِ‬ ‫خ ّ‬‫وت َ ِ‬
‫المادة‪.‬‬
‫ه معاني الطبيعةِ في‬ ‫ن هو ِإل تنب ُ‬ ‫ك الحقيقة‪ :‬أن السروَر إ ِ ْ‬ ‫وهنا ُيدر ُ‬
‫القلب‪.‬‬
‫س لها هناك في "دنيا الرزق "‪.‬‬ ‫س هنا معًنى جديد لي َ‬ ‫وللشم ِ‬
‫س هنا على الجسم‪ ،‬أما هناك فكأنما تطل ُعُ وَتغُر ُ‬
‫ب‬ ‫رق الشم ُ‬ ‫ُتش ِ‬
‫م فيها‪.‬‬‫ل الجس ُ‬ ‫ل التي يعم ُ‬ ‫على العما ِ‬
‫ت التاجرِ ل‬‫ف ل الموظف‪ ،‬وعلى حانو ِ‬ ‫ن الموظ ِ‬ ‫تطلعُ هناك على ديوا ِ‬
‫ذ‪ ،‬ودارِ المرأة‪.‬‬ ‫ل‪ ،‬ومدرسةِ التلمي ِ‬ ‫التاجر‪ ،‬وعلى مصن َِع العام ِ‬
‫ن في‬ ‫س‪ -‬وا أسفاه‪ -‬يكونو َ‬ ‫ن النا َ‬
‫س هناك ِبالنور‪ ،‬ولك ّ‬ ‫تطل ُعُ الشم ُ‬
‫م المظلمة‪...‬‬ ‫ساعاِته ُ‬
‫ن الجديد َ في الطبيعةِ هو الجديد ُ في‬ ‫تأ ّ‬ ‫س هنا جديدة‪ُ ،‬تثب ِ ُ‬
‫الشم ُ‬
‫س به‪.‬‬‫كيفيةِ شعورِ النف ِ‬

‫***‬
‫ن البحر‪.‬‬ ‫م َ‬ ‫ج ِ‬
‫ل وخر َ‬ ‫ه اغتس َ‬ ‫ْ‬
‫حسن‪ ،‬كان ُ‬ ‫ن ال ُ‬
‫م َ‬
‫والقمُر زاهٍ رفاف ِ‬
‫ه‬
‫ل الليل‪ ،‬فحصَرت ْ ُ‬ ‫ه ليس قمرًا‪ ،‬بل هو فجٌر طل َعَ في أوائ ِ‬ ‫أو كأت ُ‬
‫السماُء في مكاِنه ليستمَر الليل‪.‬‬
‫مها‪.‬‬ ‫ح لحل ِ‬ ‫ظ الروا َ‬ ‫مها‪ ،‬ولكنه ُيوقِ ُ‬ ‫ن من أحل ِ‬ ‫فجٌر ل ُيوقِ ُ‬
‫ظ العيو َ‬
‫ة كأنها‬ ‫م َ‬
‫مسَتبهِ َ‬ ‫ه إ َِل ُ‬ ‫وُيلقي من سحرِهِ على النجوم ِ فل تظهُر حول َ ُ‬
‫أحلئم معلقة‪.‬‬
‫ه‬
‫س الشاعرة‪ ،‬كطريقةِ الوج ِ‬ ‫ج النف ِ‬ ‫ة في إبها ِ‬ ‫للقمرِ هنا طريق ْ‬
‫ل مرة‪.‬‬ ‫ن تقبل ُ ُ‬
‫ه أو َ‬ ‫ق حي َ‬ ‫المعشو ِ‬

‫****‬
‫ه المتنقل‪:‬‬ ‫ش ُ‬ ‫و"للربيِع المائي" طيوُره ُ المغزدة ُ وَفرا ُ‬
‫ش فأطفال يتواثبون‪.‬‬ ‫فرا ُ‬ ‫ن‪ ،‬وأما ال َ‬‫حك َ‬
‫ضا َ‬
‫افا الطيوُر فنساغ ي َت َ َ‬
‫نو‬‫ح ُ‬‫ج ت ََتشا َ‬‫ن الموا َ‬ ‫يأ ّ‬ ‫ل إل ّ‬ ‫خي َ‬
‫ن في البحر‪ُ ،‬‬ ‫نساٌء إذا َانَغمس َ‬
‫تتخاصم على بعضهن‪...‬‬
‫واَء قب َ‬
‫ل‬ ‫ةح ّ‬‫س َ‬ ‫جل ْ َ‬
‫ل ِ‬ ‫ست على الرم ِ‬ ‫ة قد جل َ‬ ‫ت منُهن زهراَء فاتن ً‬ ‫رأي ُ‬
‫ل معنى الغََرق إلى‬ ‫ل البحر‪ :‬يا إلهي! قد ِ َانتق َ‬ ‫َاختراِع الثياب‪ ،‬فقا َ‬
‫الشاطىء‪...‬‬
‫ل هذه‪...‬‬ ‫موجةِ الرم ِ‬ ‫من غ َرِقَ في َ‬ ‫ِإن الغريقَ َ‬

‫*****‬
‫َ‬ ‫والطفا ُ‬
‫م الحياةُ‬
‫ن كأّنما أتسَعت لهُ ُ‬
‫ضجو َ‬‫ن وي ِ‬‫خو َ‬
‫ن ويصر ُ‬
‫ل يلعبو َ‬
‫والدنيا‪.‬‬
‫ح ُ‬
‫كم‬ ‫ح بهم‪ :‬وَي ْ َ‬ ‫ن الذار‪ ،‬فصا َ‬ ‫ل إليهم أئهم أقلقوا البحَر كما ُيقلقو َ‬ ‫خي َ‬‫و ُ‬
‫ه!‬ ‫رجل ِ ِ‬ ‫ت طفل منهم قد جاَء فَوَك ََز البحَر ب ِ‬ ‫ك التراب‪ !...‬ورأي ُ‬ ‫يا أسما َ‬
‫ك البحُر وقال‪َ :‬انظروا يا بني آدم!!‬ ‫ح َ‬ ‫فض ِ‬
‫ن أعبأ بهذا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫على اللهِ أن َيغب َأ بالمغرورِ منكم إذا ك َ َ‬
‫يأ ْ‬ ‫فَر ِبه؟ أع َل ّ‬ ‫أ َ‬
‫ل‬
‫الطف ِ‬
‫ل ِإئه ركَلني برجِله‪...‬؟‬ ‫كيل يقو َ‬
‫ل الرض‪.‬‬ ‫َ‬
‫ض له ِ‬ ‫الر‬ ‫َ‬ ‫غ‬‫فرا‬ ‫ت‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬‫تث‬
‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ِ‬ ‫ه‬‫َأيها البحر‪ ،‬قد ملتك قوة ُ الل ّ‬
‫ِ‬
‫ن‬ ‫ِ‬ ‫النسا‬ ‫لهذا‬ ‫سلطان‬ ‫ك ول حدود‪ ،‬وليس عليك‬ ‫س فيك ممال ِ ُ‬ ‫لي َ‬
‫المغرور‪.‬‬
‫ل من هؤلِء وهؤلِء‬ ‫ك تحم ُ‬ ‫ن العظيمة‪ ،‬كائ َ‬ ‫ف ِ‬
‫س وِبالس ُ‬ ‫ش ِبالنا ِ‬‫وتجي ُ‬
‫ن فيك‬ ‫م ل ُيقني النسا َ‬ ‫ي مهما ع َظ ُ َ‬ ‫قشا تَرمي به‪ .‬والختراع ُ النسان ُ‬
‫عن إيماِنه‪.‬‬
‫ة‬
‫عظم ِ‬ ‫مةِ والَهول‪ ،‬ردا على َ‬ ‫ض بالعظ َ‬ ‫ة أرباِع الر ِ‬ ‫وأنت تمل ُ ثلث َ‬
‫ن وأصغََره!‬ ‫م النسا َ‬ ‫ن وهول ِهِ في الربِع الباقي‪ ،‬ما أعظ َ‬ ‫النسا ِ‬

‫***‬
‫ف ظاهر عن ظاهر‪.‬‬ ‫س ماؤك فيتساَوون حتى ل يختل َ‬ ‫ينزل في النا ِ‬
‫ف‬
‫ض حتى ل يختل َ‬ ‫ضهم إلى بع ِ‬ ‫ن بع ُ‬ ‫ح ُ‬‫ن في ِ‬
‫ف ِ‬
‫ن ظهَرك في الس ُ‬‫ويركبو َ‬
‫ن الك َُرةِ الرضية‬ ‫باطن عن باطن‪ُ .‬تشعُرهم جميعا ً انهم خرجوا ِ‬
‫م َ‬
‫طلة‪.‬‬
‫مها البا ِ‬ ‫من أحكا ِ‬ ‫و ِ‬
‫سها كانها‬
‫م نف َ‬ ‫م النجو َ‬ ‫وُتفقُرهم إلى الحب والصداقةِ فقرا َ ُيريه ُ‬
‫أصدقاء‪ ،‬إذ عرفوها في الرض‪.‬‬
‫جةِ كما أنت أنت في جهنم‪.‬‬ ‫يا سحَر الخوف‪ ،‬أنت أنت في الل ّ‬

‫***‬
‫ت عليه وُثر َ‬
‫ت‬ ‫دز َ‬‫ت من تحِته‪ ،‬وهَ َ‬ ‫جق َ‬ ‫حد ُ أيها البحر‪ ،‬فَر َ‬ ‫مل ِ‬‫وإذا ركَبك ال ُ‬
‫هما على‬ ‫ن ستنطبقُ إحدا ُ‬ ‫سماءي ِ‬ ‫ه بين‬‫ِبه‪ ،‬وأْريَتة رأيَ العين كأن ُ‬
‫ك تهّزه ُ وتهز‬ ‫ُ‬
‫ن عليه ‪ -‬ترك َْته ي ََتطأط َأ وي ََتواضع‪ ،‬كائ َ‬ ‫الخرى فَُتق َ‬
‫طرت كل ما في عقله فيلجأ ُ‬ ‫فل ِ‬
‫ِ ِ‬ ‫جها‪ .‬وأ َ َ‬ ‫ه وُتدحُر ُ‬
‫ج ُ‬
‫دحرِ ُ‬‫أفكاَره معَا‪ ،‬وت ُ َ‬
‫طفل‪.‬‬ ‫ل ِ‬ ‫إلى اللهِ بعق ِ‬
‫ه‬
‫ل العقل‪ ،‬ولكن ُ‬ ‫م َ‬ ‫سع َ‬‫ن اللهِ لي َ‬ ‫ن الحقيقة‪ :‬أن نسيا َ‬ ‫ت له ع ِ‬ ‫وكشف َ‬
‫ل السلمة‪.‬‬ ‫ن وطو ِ‬ ‫ل الَغفلةِ والم ِ‬ ‫عم ُ‬

‫***‬
‫ج هذا‬‫ة في أموا ِ‬ ‫ة ِبالسفين ِ‬ ‫ن في الحيا ِ‬ ‫ه النسا َ‬ ‫أل ما أشب َ َ‬
‫البحر!‬
‫س ذلك‬‫ت ‪ ،‬فلي َ‬ ‫و َانخفضت‪ ،‬أو مادَ ْ‬ ‫ة‪ ،‬أ ِ‬
‫ت السفين ُ‬ ‫ع ِ‬ ‫ن أرتف َ‬ ‫إ ِ‬
‫َ‬
‫دها‪ ،‬بل مما حولها‪.‬‬ ‫منها وح َ‬
‫ن ما حوَلها‬ ‫ك من قانو ِ‬ ‫ة أن تمل ِ َ‬ ‫ه السفين ُ‬ ‫ع هذ ِ‬
‫ولن تستطي َ‬
‫ن‪ ،‬والهتداءُ إلى‬ ‫ت‪ ،‬والتواز ُ‬ ‫و الثبا ُ‬‫ن قانوَنها ه َ‬ ‫شيئَا‪ ،‬ولك ّ‬
‫دها‪ ،‬ونجاُتها في قانوِنها‪.‬‬ ‫قص ِ‬
‫فل َْيجتهذ‬
‫مها‪ ،‬ولكق َ‬ ‫ن على الدنيا وأحكا ِ‬ ‫ن النسا ُ‬ ‫فل َيعت ِب َ ّ‬
‫سه‪.‬‬ ‫م نف َ‬ ‫أن يحك َ‬

‫في الربيع الزرق‬

‫س‬‫ن البحرِ والسماء‪ ،‬يكاد ُ الجال ُ‬ ‫ض على حاشيةِ الزرَقي ِ‬ ‫ل الر َ‬ ‫ما أجم َ‬
‫سه مرسومأ في صورةٍ إلهية‪.‬‬ ‫ن نف َ‬‫هنا يظ ّ‬
‫***‬
‫مِلىَء‬ ‫ل أن البحَر قد ُ‬ ‫ت إلى هذا البحرِ العظيم بعيَني طفل يتخي ّ ُ‬ ‫نظر ُ‬
‫َ‬
‫بالمس‪ ،‬وأن السماَء كاَنتا إناًء له‪ ،‬فاتكفأ الناُء فأندفَقَ البحر‪،‬‬
‫ن‬
‫م َ‬‫ل الطفلي الصغيرِ فكأنما نالني َرشاش ِ‬ ‫ت مع هذا الخيا ِ‬ ‫ح ُ‬ ‫وَتسَر ْ‬
‫الناِء‪....‬‬
‫ة‬
‫س قريب َ‬‫ت النف ُ‬ ‫ل في الطبيعةِ ِإل إذا كان َ ِ‬ ‫ة الجما ِ‬ ‫إننا لن ُندر َ‬
‫ك َروع َ‬
‫ذياِنها‪.‬‬‫ة‪ ،‬وَلعِبها‪ ،‬وهَ َ‬‫ح الطفول ِ‬ ‫َ‬
‫من طفولِتها‪ ،‬ومَر ِ‬
‫ت تن ُ‬
‫ظر إليها‬ ‫مما هي‪ ،‬كما لوكن ْ َ‬ ‫م ِ‬‫تبدو لك السماُء على البحر ِأعظ َ‬
‫ن الرض‪.‬‬ ‫م َ‬‫ن سماٍء أخرى ل ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫***‬

‫ت‬‫ت ِبالصحراء‪ ،‬أو حل َل ْ ُ‬ ‫ت إلى البحر‪ ،‬أو نزل ُ‬ ‫جئ ْ ُ‬


‫تف ِ‬ ‫إذا أنا سافْر ُ‬
‫ه‬
‫شعُر بمثل ِ ِ‬ ‫تأ َ‬‫ل وَهْل َةِ من دهشةِ السرورِ ِبما كن ْ ُ‬ ‫ت أو َ‬ ‫ِبالجبل‪ ،‬شعَْر ُ‬
‫ت ِإلي‪.‬‬ ‫صحراَء أوِ البحَر قد سافََرت هي وجاَء ْ‬ ‫ل أوِ ال ّ‬ ‫لو أن الجب َ‬
‫س عليهِ من‬ ‫ل‪ ،‬إذ ْ ُتلقي النف ُ‬ ‫ن كل شيٍء جمي ً‬ ‫س يكو ُ‬ ‫ل النف ِ‬ ‫في جما ِ‬
‫َ‬
‫س ل في‬ ‫سعَةِ النف ِ‬ ‫ب الداُر الصغيرة ُ قصرا ً لئها في َ‬ ‫ألواِنها‪ ،‬فتنقل ِ ُ‬
‫ة كعذوبةِ الماِء على الظمأ‪،‬‬ ‫عذوب َ‬ ‫ف ِلنورِ النهارِ ُ‬ ‫مساحِتها هي‪ ،‬وَتعرِ ُ‬
‫ن في السماوات‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ويظهر اللي ُ َ‬
‫م للحورِ الِعي ِ‬ ‫ض جواهَر أقي َ‬ ‫ل كأئه معر ُ‬ ‫ُ‬
‫ة في الهواء‪.‬‬ ‫ه جنة سابح ْ‬ ‫ويبدو الفجُر بألوان ِهِ وأنوارِهِ ونسمات ِهِ كأن ُ‬
‫ت الخليقة‪َ ،‬وي‬ ‫ل ضرورة َ من ضرورا ِ‬ ‫س ترى الجما َ‬ ‫ل النف ِ‬ ‫في جما ِ‬
‫ب المبتسم‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫س للقل ِ‬ ‫م أل َيعب َ َ‬ ‫ه أمَر العال َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫كأ ّ‬

‫***‬

‫ي‬
‫ن الطبيع ّ‬‫م التي ينطلقُ فيها النسا ُ‬ ‫ف هي اليا ُ‬
‫صي ِ‬ ‫م الم ِ‬‫أيا ُ‬
‫ت والبحاِر‬
‫س في النسان‪ ،‬فيرتذ إلى دهرِهِ الول‪ ،‬دهرِ الغابا ِ‬ ‫المحبو ُ‬
‫والجبال‪.‬‬
‫كن فيها معًنى‪.‬‬ ‫ل هذا المعنى‪ ،‬لم ي ُ‬‫ف بمث ِ‬
‫م المصي ِ‬ ‫إن لم ت ُ‬
‫كن أيا ُ‬

‫***‬

‫ح‬
‫كد ِ‬ ‫ت َاللذة ُ في الراحةِ ول الفراغ‪ ،‬ولكنها في التع ِ‬
‫ب وال َ‬ ‫لَيس ِ‬
‫ل أياما ً إلى راحةٍ وفراغ‪.‬‬
‫ن تتحو ُ‬
‫والمشقةِ حي َ‬

‫***‬

‫س من شعوٍر‬
‫ت النف ُ‬ ‫قل ِ‬ ‫م فائدة ُ َالنتقا ِ‬
‫ل من بلد ِ إلى بلد ِإل إذا انت َ‬ ‫ل تت ُ‬
‫ك الُهم فأنت مقيم لم ت ََبرح‪.‬‬ ‫إلى شعور‪ ،‬فإذا سافََر مع َ‬

‫***‬

‫ف ُ‬
‫ل بها‬ ‫ث ل ُيح َ‬
‫ن حي ُ‬
‫ن انها إ ِّنما تكو ُ‬
‫ت للنسا ِ‬
‫ف ُتثب ِ ُ‬
‫الحياة ُ في المصي ِ‬
‫كثيرًا‪.‬‬

‫***‬

‫ح‬
‫ن وأعماِله‪ ،‬فهو في ُرو ِ‬ ‫ن آثارِ النسا ِ‬
‫ه بي َ‬
‫ن أن ُ‬
‫مد ُ ِ‬
‫يشعُر المرُء في ال ُ‬
‫ل‬
‫ن الجما ِ‬
‫ه بي َ‬
‫حس أن ّ ُ‬
‫ح والنزاع‪ ،‬أما في الطبيعةِ في ُ ِ‬ ‫الَعناِء وال َ‬
‫كذ ِ‬
‫ح اللذةِ والسرورِ والجلل‪.‬‬ ‫ب اللهية‪ ،‬فهو هنا في ُرو ِ‬ ‫والعجائ ِ‬

‫***‬

‫ت والشجر‪،‬‬ ‫ه للنب ِ‬ ‫ت في أيام الطبيعةِ فََاجعل ِفكَرك خاليا ً وفَّرغ ُ‬ ‫إذا كن َ‬


‫در‪ ،‬والطيرِ والحيوان‪ ،‬والزهرِ والُعشب‪ ،‬والماِء‬ ‫م َ‬
‫جرِ وال َ‬
‫والح َ‬
‫ه ويقول‪:‬‬‫م باب َ ُ‬ ‫َ‬
‫ح العال ُ‬ ‫سماء‪ ،‬ونورِ النهار‪ ،‬وظلم ِ الليل‪ ،‬حينئذ ٍ َيفت ُ‬ ‫وال ّ‬
‫ادخل‪...‬‬

‫***‬

‫ت ذلك حيَنما‬‫ظمةِ الجمال‪ ،‬عرف ُ‬ ‫ف الجمال صورة أخرى من ع َ َ‬ ‫ُلط ُ‬


‫ة‬
‫م َ‬
‫عظ َ‬‫ل ِإلي أن لها َ‬‫خي َ‬
‫ن الماء تلمعُ في غصن‪ ،‬ف ُ‬
‫ت قطرة ً م َ‬
‫صز ُ‬‫أب َ‬
‫صغَُر فُعلقَ على ورقة‪.‬‬
‫البحرِ لو َ‬

‫***‬

‫ل في‬
‫شعُر الجما ِ‬
‫ن يفوُر ِ‬ ‫ت الجسد ِ الروحانيةِ حي َ‬ ‫ن لحظا ِ‬ ‫م َ‬
‫في لحظةٍ ِ‬
‫طرة‪ ،‬متأنقة‪،‬‬
‫غصِنها زاهيةِ ع َ ِ‬‫ت النظَر إلى وردةٍ في ُ‬ ‫طف ُ‬ ‫الدم‪ ،‬أ َ‬
‫ت يا فلنة‪....‬‬‫ت أي ُِتها المرأة‪ ،‬أن ِ‬ ‫ت أقو ُ‬
‫ل لها‪ :‬أن ِ‬ ‫متأتَثة‪ ،‬ف ِ‬
‫كذ ُ‬

‫***‬

‫ة‬
‫ض المكنةِ كأنها أمكن ٌ‬ ‫ض بع َ‬
‫ن يرى في الر ِ‬ ‫س عجيبأ أن كل إنسا ِ‬
‫ألي َ‬
‫ل الجنةِ منذ ُ َاد َ‬
‫م‬ ‫للروح خاصة‪ ،‬فهل يدل هذا على شيٍء ِإل أن خيا َ‬
‫س النسانية؟‬
‫ل يعمل في النف ِ‬ ‫وحواء‪ ،‬ل يزا ُ‬

‫***‬
‫خَزف‪ ،‬والحياة ُ في‬‫ن ال َ‬‫م َ‬
‫كوب ِ‬‫شرب الماِء في ُ‬ ‫الحياة في المدينةِ ك ُ‬
‫ي‬
‫ع‪ ،‬ذاك يحتو ً‬ ‫ن الَبلورِ الساط َ‬‫م َ‬
‫ب ِ‬ ‫شرب الماِء في ُ‬
‫كو ٍ‬ ‫الطبيعةِ ك َ ُ‬
‫الماَء وهذا يحتويه ُويبدي جماَله ِللعين‪.‬‬

‫***‬

‫دها على‬ ‫ة الفهم ِ ِللحياةِ ُتفس ُ‬‫وا أسفاه‪ ،‬هذه هي الحقيقة‪ِ :‬إن ِدق َ‬
‫حسب‬‫مهِ ل ِل ْ ُ‬
‫ل الصغيَر في فه ِ‬ ‫ب‪ ،‬وِإن العق َ‬ ‫ح ّ‬
‫صاحِبها كدقةِ الفهم ِ لل ُ‬
‫ل في التذاذ ِ بهما‪ .‬وا أسفاه‪ ،‬هذه هي‬ ‫َ‬ ‫والحياة‪ ،‬هو العقل الكام ُ‬
‫الحقيقة!‬

‫***‬

‫م سرورٍ ونسيان‪،‬‬ ‫في هذه اليام ِ الطبيعيةِ التي يجعُلها المصي ُ‬


‫ف أيا َ‬
‫دعابة‪....‬‬
‫لو ُ‬
‫ة هَْز ٍ‬ ‫ن أنه يستطيعُ أن يقو َ‬
‫ل للدنيا كلم َ‬ ‫يشعُر كل إنسا ِ‬

‫***‬

‫ق الفكَر العاشقَ لم يَر أشياءَ الطبيعةِ ِإل في أسماِئها‬ ‫ن لم ُيرز ِ‬


‫م ْ‬‫َ‬
‫ل إذا لم يعشق رأى النساءَ‬ ‫قها ومعانيها‪ ،‬كالرج ِ‬
‫شَياِتها‪ ،‬دون حقائ ِ‬‫و ِ‬
‫ن‬‫من عَرف‪ ،‬وأصبح َ‬ ‫شقَ رأى فيهن نساًء غيَر َ‬ ‫كلهن سواء‪ ،‬فإذا ع َ ِ‬
‫ل الذي في قلِبه‪.‬‬ ‫ت الجما ِ‬
‫ده أِدلة على صفا ِ‬ ‫عن َ‬

‫***‬

‫ه بما تَلذهُ‬
‫ف فقائم ّ‬‫ه الحياة‪ ،‬أما دنيا المصي ِ‬
‫ج ُ‬
‫ق بما تحتا ُ‬
‫م دنيا الرز ِ‬
‫تقو ُ‬
‫ه هناك جو‬ ‫س ُ‬ ‫ة ويجع ُ‬
‫ل الجو نف َ‬ ‫الحياة‪ ،‬وهذا هو الذي يغيُر الطبيع َ‬
‫ظرفاَء وظريفات‪....‬‬ ‫مائدةِ ُ‬

‫***‬

‫ر‬ ‫ض ال ّ‬
‫شع ِ‬ ‫ف بعد َ انقضاِئها عمل ً كبيرًا‪ ،‬هو إدخا ُ‬
‫ل بع ِ‬ ‫م المصي ِ‬ ‫تعم ُ‬
‫ل أيا ُ‬
‫ق الحياة‪.‬‬‫في حقائ ِ‬
‫س‬ ‫هذه السماُء فوَقنا في كل مكان‪ ،‬غيَر أن العجي َ‬
‫ب أن أكثَر النا ِ‬
‫ف لَيزوا أشياَء منها السماء‪..‬‬
‫ن إلى المصاي ِ‬
‫يرحلو َ‬

‫***‬

‫ت حقائقَ السرورِ تزيد ُ‬


‫س الواسعةِ رأي َ‬
‫م بالنف ِ‬ ‫ت العال َ َ‬
‫إذا استقبل َ‬
‫ت‬
‫ت أن دنياك ِإن ضاق ْ‬ ‫وتَتسع‪ ،‬وحقائقَ الهموم ِ تصغُُر وَتضيق‪ ،‬وأدرك َ‬
‫فأنت الضيقُ ل هي‪.‬‬

‫***‬

‫ل ك َْيت‪،‬‬
‫ب إلى عملي‪ ،‬وفي العاشرة أعم ُ‬ ‫في الساعةِ التاسعةِ أذه ُ‬
‫قد ُ‬
‫ف تف ِ‬‫كيت‪ ،‬وهنا في المصي ِ‬ ‫تو َ‬ ‫ل َ‬
‫كي َ‬ ‫ة عشرة َ أعم ُ‬ ‫وفي الحادي َ‬
‫م فيها‪،‬‬ ‫ة التي كانت تضُعها اليا ُ‬ ‫ة وأخواُتها معانَيها الزمين َ‬ ‫التاسع ُ‬
‫س الحرة‪ .‬هذه هي‬ ‫ي التي تضُعها فيها النف ُ‬ ‫ل منها المعان َ‬ ‫وَتستبد ِ ُ‬
‫ة ل يقدُر عليها‬ ‫ة التي ُتصن َعُ بها السعادة ُ أحيانًا‪ ،‬وهي طريق ٌ‬ ‫الطريق ُ‬
‫أحذ في الدنيا كصغارِ الطفال‪.‬‬

‫***‬

‫مهِ‬
‫وه ِ‬‫ن السرورِ وت َ َ‬ ‫ى مكان على حالةٍ متشابهة م َ‬ ‫سف ِ‬ ‫إذا تلَقى النا ُ‬
‫ن الحياةِ‬ ‫مَعدا بطبيعتهِ الجميلةِ ِلنسيا ِ‬
‫ن ُ‬ ‫ن هذا المكا ُ‬ ‫والفكرةِ فيه‪ ،‬وكا َ‬
‫حها‪ ،‬أما الموضوعُ‬ ‫مسَر ُ‬
‫ة وممثلوها و َ‬ ‫هها‪ -‬فتلك هي الرواي ُ‬ ‫مكارِ ِ‬
‫و َ‬
‫ن المدنيةِ ومدنيةِ النسان‪.‬‬ ‫ة من إنسا ِ‬ ‫فالسخري ُ‬

‫***‬

‫ت مدة في‬ ‫ي في الرائي‪ .‬مرض ُ‬ ‫ما أصد َقَ ما قالوه‪ :‬إن المرئ ّ‬
‫ن كل يوم إلى‬‫س التي كاَنت تتزي ُ‬
‫ة الَعرو ُ‬ ‫المصيف‪ ،‬فانقَلب ِ‬
‫ت الطبيع ُ‬
‫ب كل يوم إلى الطبيب‬ ‫طبيعةٍ عجوزِ تذه ُ‬

‫الطفولتـان ‪...‬‬
‫رف‬ ‫متَرف يكاد ُ ينعصُر ِلينًا‪ ،‬وتراه ُ ي َ ِ‬ ‫ن فلن باشا طفل ُ‬
‫َ‬ ‫)عصمت( اب ُ‬
‫ل ظل‬ ‫ن الَرقةِ مث َ‬ ‫م َ‬‫حه ِ ِ‬ ‫ل العز‪ ،‬كأن لرو ِ‬ ‫َرفيفا َ مما نشأ في ظل ِ‬
‫ن‬
‫صبيا ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫الشجرةِ حول الشجرة‪ .‬وهو بين ِلداتهِ )أصدقائه( م َ‬
‫ملوِدها )غصنها( الريان )الطري(‪ ،‬لها منظُر‬ ‫شوكةِ الخضراِء في أ ُ‬ ‫كال َ‬
‫س‬
‫ن َتيب َ‬ ‫ة إ َِل أ ْ‬ ‫ب أنها شوك ٌ‬ ‫مجسةِ لينة ناعمةٍ تك َذ ّ ُ‬ ‫ة‪ ،‬على ِ‬ ‫الشوك ِ‬
‫وت َت َوَّقح‪.‬‬
‫ل عنه ابُنه قال‪ :‬إنه مديُر‬ ‫سئ َ‬‫وأبوه ُ "فلن " مديٌر لمديريةِ كذا‪ ،‬إذا ُ‬
‫غرورِ النعمةِ يأبى ِإل‬ ‫المديرية‪ .‬ل يكاد ُ يعدو هذا التركيب‪ ،‬كأنه من ُ‬
‫ة وََقاحا ً‬ ‫ة بذيئ ً‬ ‫ن النعم ُ‬ ‫ل أباه مديرا ً مَرتين‪ ...‬وكثيرا ً ما تكو ُ‬ ‫أن يجع َ‬
‫ة الدب في أولد ِ الغنياء‪ ،‬وكثيرا ً ما يكون الِغنى في أهلهِ ِغنى‬ ‫سّيئ َ‬
‫ت ل غير!‬ ‫ن السيئا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫ر‬
‫ح النس ِ‬ ‫جنا ِ‬ ‫ه على َ‬ ‫وفي رأي )عصمت( أن أباه من ع ُُلو المنزلةِ كأن ُ‬
‫س فهم‬ ‫ن النا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫حهِ إلى النجم‪ ،‬أما آباُء الطفا ِ‬ ‫مسب َ ِ‬ ‫الطائرِ في َ‬
‫ب والَبعوض!‬ ‫ط المنزلةِ على أجنحةِ الذبا ِ‬ ‫سقو ِ‬ ‫عَنده ُ من ُ‬
‫ي‬
‫جْند ٌ‬ ‫ح منها إل وراَءه ُ ُ‬ ‫ن المديرِ إلى مدرست ِهِ ول َيتَروَ ُ‬ ‫ول يغدو اب ُ‬
‫ن‬‫ن المدير‪ ،‬أي اب َ‬ ‫ن اب َ‬ ‫يمشي على أثرِهِ في الَغدوةِ والروحةِ إذ ْ كا َ‬
‫منَبهةِ له عند َ‬ ‫ن هذا الجنديُ وراَء الطفل كال َ‬ ‫القوّةِ الحاكمة‪ ،‬فيكو ُ‬
‫جمَعاَء أن‬ ‫ت الساب ِل َةِ )المارة( َ‬ ‫ة بلغا ِ‬ ‫ه العسكري ُ‬ ‫ح شارت ُ ُ‬ ‫ص ُ‬ ‫الناس‪ُ ،‬تف ِ‬
‫ي أو‬ ‫ي‪ ،‬أو الطليان ُ‬ ‫ن المدير‪ .‬فإذا رآه العربي أو اليونان ُ‬ ‫هذا هو اب ُ‬
‫ة‬
‫ل اللسنةِ المتناِفر ِ‬ ‫ن من أه ِ‬ ‫من كا َ‬ ‫ي‪ ،‬أو النجليزي أو كائن َ‬ ‫الفرنس ُ‬
‫ن ‪ -‬فهموا جميعا ً من لغةِ هذه‬ ‫ن منها عن لسا ٍ‬ ‫م لسا ْ‬ ‫التي ل َيفهَ ُ‬
‫ة‬
‫ه كالماد ِ‬ ‫ن الجندي الذي َيتبعُ ُ‬ ‫هم َ‬ ‫ن المدير‪ ،‬وان ُ‬ ‫الشارةِ أن هذا هو اب ُ‬
‫ح‪!...‬‬ ‫ن وراَءها الشر ِ‬ ‫ن القانو ِ‬ ‫م َ‬
‫م وُِلد لم‬ ‫ه يو َ‬ ‫ف الصبياني‪ .‬لو أن ُ‬ ‫ن المديرِ هذا الشر ُ‬ ‫ب لب ِ‬ ‫ولقد كان يج ُ‬
‫ة‬
‫ن كامل ِ‬ ‫ن عشرِ سني َ‬ ‫ل الناس‪ ،‬بل وُل ِد َ اب َ‬ ‫ن ساعِته كأطفا ِ‬ ‫يوْلد اب َ‬
‫معجزة! وإل‬ ‫صدعت )جائت( به ُ‬ ‫ة أنه كبير قد ِ آن َ‬ ‫لتشَهد له الطبيع ْ‬
‫ه وَينصاعُ‬ ‫م ُ‬ ‫فكيف يمشي الجنديُ من جنود ِ الدولةِ وراَء طفل ويخد ُ‬
‫ة‬
‫هزيمةِ قد فَر في معرك ِ‬ ‫طريد َ َ‬ ‫مره )يطيعه(‪ ،‬وهذا الجنديُ لو كان َ‬ ‫ل ِ‬
‫دها عليه‬ ‫ده فى هزيمت ِهِ وتخلي ُ‬ ‫ن معارك الوطن‪ ،‬وأريد َ تخلي ُ‬ ‫م َ‬
‫ل هذا‬ ‫صوَر إل جندي ّا ً في شارت ِهِ العسكريةِ منقادا ً لمث ِ‬ ‫بالتصوير‪ -‬لما ُ‬
‫فاَية عسكرية!"‪.‬‬ ‫ل الصغيرِ كالخادم‪ ،‬في صورةٍ ُيكَتب تحتها‪" :‬ن ُ َ‬ ‫الطف ِ‬
‫***‬
‫ل واحد‪ :‬هو أن‬ ‫ليس لهذا المنظرِ الكثيرِ حدوُثه في مصَر ِإل تأوي ٌ‬
‫من‬ ‫جًلت هذه‪ ،‬و ِ‬ ‫صُغرت تلك و َ‬ ‫ن َ‬ ‫ت فوقَ المعاني‪ِ ،‬وا ْ‬ ‫ن الشخصيا ِ‬ ‫مكا َ‬
‫ل كلها‪،‬‬ ‫صه فوقَ الفضائ ِ‬ ‫ل ذو المنصب‪ ،‬فُيرَفع شخ ُ‬ ‫ب الرج ُ‬ ‫هنا يكذ ُ‬
‫ن ك َذ ُِبه هو الصدق‪ ،‬فل ُينك َُر عليه ك َذ ُِبه أ ْ‬
‫ي‬ ‫ب فيكو َ‬ ‫فيكُبر عن أن يكذ َ‬
‫ب القوةِ صدق‬ ‫ن يتقَرر في المةِ أن ك َذ ِ َ‬ ‫ج من ذلك أ ْ‬ ‫صدُقه‪ !...‬ويخر ُ‬ ‫ِ‬
‫بالقوة!‬
‫ل فيهِ الحق‪ .‬ومتى‬ ‫س غيُرها من كل ما ُيخذ َ ُ‬ ‫وعلى هذ ِهِ القاعدةِ ُيقا ُ‬
‫ه‬
‫قت )بدأت( هذ ِ ِ‬ ‫ت فوقَ المعاني الساميةِ ط َفِ َ‬ ‫ت الشخصيا ُ‬ ‫كان ِ‬
‫هة على أن تنزل‪ ،‬فل‬ ‫مكَر َ‬ ‫ة أن تعلو‪ُ ،‬‬ ‫جها محاِول ً‬ ‫مو َ‬ ‫ج َ‬ ‫المعاني تمو ُ‬
‫ل بالشيِء على‬ ‫قب ِ ُ‬ ‫م على طريقة‪ ،‬وت ُ ْ‬ ‫م على جهةٍ ول تنتظ ُ‬ ‫تستقي ُ‬
‫موضِعه‪ ،‬ثم ت َك ُُر ك ََرها فُتدب ُِر ب ِهِ إلى غيرِ موضِعه‪ ،‬فتضل كل طبق ِ‬
‫ة‬
‫ل طبقاِتها‬ ‫ة على هذه الحالةِ في ك ً‬ ‫ن الم ُ‬ ‫كبرائها‪ ،‬ول تكو ُ‬ ‫ن المةِ ب ُ‬ ‫م َ‬
‫لمةِ للستعباد ِ متى أب َت ُل َِيت‬ ‫ةا ْ‬ ‫ِإل صغارا َ فوَقهم كباُرهم‪ ،‬وتلك هي تهيئ ُ‬
‫ق‬ ‫ُ‬
‫ة النفا ِ‬ ‫بالذي هو أكبُر من كباِرها‪ ،‬ومن تلك َتنشأ في المةِ طبيع ُ‬
‫ة‬
‫ن الذل ِ‬ ‫ة الحياةِ بي َ‬ ‫م به أْلف ُ‬ ‫يحتمي بهِ الصغَُر من الك َِبر‪ ،‬وتنتظ ُ‬
‫والصولة )الغلبة و القهر(!‬
‫***‬
‫ن المدرسة‪ ،‬فخرج‬ ‫م َ‬ ‫ح ِ‬ ‫ت يوم عن موعد ِ الروا ِ‬ ‫ف الجنديُ ذا َ‬ ‫وتخل َ َ‬
‫ده‪ ،‬فبدا له أن يتسك ّعَْ )يتجول على غير هدى( في‬ ‫)عصمت( فلم يج ْ‬
‫ن المدير‪ ،‬وحن حنيَنه‬ ‫م ل اب ُ‬ ‫ن آد َ‬ ‫ق المدينةِ ِلينطلقَ فيه اب ُ‬ ‫ض طر ِ‬ ‫بع ِ‬
‫ت الطرقُ في خيال ِهِ الصغيرِ زينَتها‬ ‫س ِ‬ ‫إلى المغامرةِ في الطبيعة‪ ،‬ولب َ‬
‫وشون وَيتعاَبثون ويتشاحنون‬ ‫ن وَيته َ‬ ‫ل الزقةِ يلعبو َ‬ ‫ة بأطفا ِ‬ ‫الشعري َ‬
‫ن كل‬ ‫ت بكل م ْ‬ ‫ت واحد ِ مس ْ‬ ‫)يتشاجرون(‪ ،‬وهم شَتى وكأنهم أبناُء بي ٍ‬
‫دها‪.‬‬ ‫ن في اللهو ِإل إلى الطفولةِ وح َ‬ ‫م ‪ ،‬إذ ل ينتسبو َ‬ ‫ح ٌ‬ ‫َر ِ‬
‫ة‬
‫ك الصور ِ‬ ‫ب على وجهِهِ من تل َ‬ ‫وانساقَ )عصمت( وراَء خياِله‪ ،‬وهَر َ‬
‫ة‬
‫ل في الِزق ِ‬ ‫ن المدير‪ ،‬وت َغَل ْغَ َ‬ ‫التي يمشي فيها الجندي وراَء اب ِ‬
‫ق‬ ‫ه منها وما ل يعرُفه‪ِ ،‬إذ كان يسيُر في طر ٍ‬ ‫)توغل( ل ُيبالي ما يعرفُ ُ‬
‫ن النوم‪.‬‬ ‫م بها في مدينةٍ من مد ِ‬ ‫جديدةٍ على عينهِ كأَنما َيحل ُ ُ‬
‫ل قد ِ َاستجمعوا لشأِنه ُ‬
‫م‬ ‫ن الطفا ِ‬ ‫م َ‬ ‫كبك َب َةٍ )جماعة( ِ‬ ‫وأنتهى إلى َ‬
‫م‪،‬‬ ‫ن ُيقد ِ َ‬ ‫ف ُيصغي إليهم متهّيبا َ أ ْ‬ ‫ة ووق َ‬ ‫ي‪ ،‬فان َْتبذ َ )انزوى( ناحي ً‬ ‫الصبيان ّ‬
‫م الخَر‬ ‫ث منهم يعل ُ‬ ‫معَ فِإذا خبي ٌ‬ ‫ل بسمِعه ونظرِهِ كالجبان‪ ،‬وتس ّ‬ ‫فا َّتص َ‬
‫ب ْايَنما‬ ‫دى أو اعت ُد ِيَ عليه‪ ،‬فيقول له‪ :‬اضر ْ‬ ‫ب إذا اعت َ‬ ‫كيف يضر ُ‬
‫مَراق البطن‪ ،‬قال‬ ‫حلقوم‪ ،‬من َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫سه‪ ،‬من وجِهه‪ ،‬م َ‬ ‫ضَربت‪ ،‬من رأ ِ‬
‫ل إني أنا عّلمُتك‪!...‬‬ ‫ق ْ‬ ‫الخر‪ :‬وإذا مات؟ فقال الخبيث‪ :‬فإذا مات فل ت ُ‬
‫ه‬
‫ة من رؤيت َ ِ‬ ‫م السرق َ‬ ‫ت لك‪ :‬إنه تعل ّ َ‬ ‫ما قل ُ‬ ‫وسمع طفل ً يقول لصاحبه‪ :‬أ َ‬
‫ص‬
‫ه صاحُبه‪ :‬وهل قال له أولئك اللصو ُ‬ ‫ص في السيمإ؟ فأجاب َ ُ‬ ‫اللصو َ‬
‫الذين في السّيما كن لصا واعمل مثَلنا؟‬
‫وقام منهم شيطان فقال‪ :‬يا أولد َ البلد‪ ،‬أنا المدير! تعاَلوا وقوُلوا‬
‫ب إلى المدارس‪،‬‬ ‫ن الذها َ‬ ‫لي‪" :‬يا سعادة َ الباشا‪ِ ،‬إن أولدنا ُيريدو َ‬
‫ل الولد ُ في‬ ‫ن ندفعَ لهم المصروفات‪ " ..‬فقا َ‬ ‫ولكنا ل نستطيعُ أ ْ‬
‫ب إلى‬ ‫ن الذها َ‬ ‫دنا ُيريدو َ‬ ‫صوب واحد‪" :‬يا سعادة َ الباشا‪ِ ،‬إن أول َ‬
‫م المصروفات " فرد عليهم‬ ‫المدارس‪ ،‬ولكنا ل نستطيعُ أن ندفَعَ له ُ‬
‫ش وثيابا َ نظيفة‪ ،‬وأنا أدف ُ‬
‫ع‬ ‫ة وطرابي َ‬ ‫)سعادته(‪ :‬اشتروا لولِدكم أحذي َ‬
‫م المصروفات‪.‬‬ ‫له ُ‬
‫فنظَر إليه خبيث منهم وقال‪ :‬يا سعادة َ المدير‪ ،‬وأنت فِلماذا لم‬
‫يشترِ لك أبوك حذاء؟‬
‫َ‬
‫ل صغير‪ :‬أنا ابُنك يا سعادة َ المدير‪ ،‬فأرسْلني إلى المدرسةِ‬ ‫وقال طف ْ‬
‫قط‪!...‬‬ ‫ت الظهر ف َ‬ ‫وق َ‬
‫***‬
‫سها‪ ،‬كالورقةِ الخضراِء‬ ‫سه تعتز بإحسا ِ‬ ‫وكان )عصمت( يسمعُ ونف ُ‬
‫طل الندى‪ ،‬وأخذ َ قلُبه يتفتح في شعاِع الكلم ِ كالزهرةِ في‬ ‫عليها َ‬
‫ن‬‫ة مكا َ‬ ‫م الطبيع ُ‬ ‫م له ُ‬ ‫ل حين ُتقد ُ‬ ‫سك َِر بما يسك َُر بهِ الطفا ُ‬ ‫الشمس‪ ،‬و َ‬
‫ب السكرِ والّنشوة‪،‬‬ ‫س فيها إل أسبا ُ‬ ‫مَعدا مهّيا‪ ،‬كالحانةِ لي َ‬ ‫اللهوِ ُ‬
‫مل‪..ْ.‬‬ ‫مه َ‬ ‫ل فيها ُ‬ ‫ن فيها منسي‪ ،‬وأن العق َ‬ ‫م لذتها أن الزم َ‬ ‫وتما ُ‬
‫ل‬ ‫ة حين ينطلقُ فيها جماعة الطفا ِ‬ ‫ن هذه الطبيع َ‬ ‫ن المديرِ أ ّ‬ ‫وأحس اب ُ‬
‫ن لها‪ ،‬وهي‬ ‫جدرا َ‬ ‫ة التي ل ُ‬ ‫سجّيتِهم وسجي ِّتها ‪ -‬إنما هي المدرس ُ‬ ‫على َ‬
‫ه من أدق أعصابهِ فت َُبدد ُ قواه ُ ثم‬ ‫ة تتناوَل ُ ُ‬ ‫ل تربي ً‬ ‫ة الوجود ِ للطف ِ‬ ‫تربي ُ‬
‫َ‬
‫م وأزيد ُ‬ ‫ه منها ثم تملؤ ُه ُ بما هو أت ّ‬ ‫فرِغ ُ ُ‬ ‫تجمُعها له أقوى ما كانت‪ ،‬وت ُ ْ‬
‫ق هذا النشاط‪،‬‬ ‫ث لتحقي ِ‬ ‫ه كيف ينبعِ ُ‬ ‫م ُ‬‫طه‪ ،‬وُتعل ّ ُ‬ ‫ه نموَ نشا ِ‬ ‫سب ُ‬
‫ك تك ِ‬ ‫وبذل َ‬
‫خطاه‬ ‫ل ُ‬ ‫ن ُيبدع ُ له‪ ،‬وتجع ُ‬ ‫م ْ‬ ‫سه ول ينتظَر َ‬ ‫فَتهديهِ إلى أن ُيبدع َ بنف ِ‬
‫دائما َ وراَء أشياَء جديدة‪ ،‬فُتسدد ُه ُ من هذا كلهِ إلى سر البداع‬
‫ه‬
‫فس ِ‬ ‫ضرةِ ن ِ‬ ‫م نَ ْ‬ ‫عل َ‬ ‫م في هذه الحياة‪ِ ،‬‬ ‫م العظ َ‬ ‫والبتكار‪ ،‬وُتلقيه الِعل َ‬
‫ل المتفائل‪،‬‬ ‫ق المتهل ّ ِ‬ ‫َ‬
‫ج المتطل ِ‬ ‫حها‪ ،‬وتطبُعه على المزا ِ‬ ‫وسروِرها ومَر ِ‬
‫ن في النهر‪ ،‬تفوُر الحياة ُ فيهِ وتفوُر‬ ‫ضا ِ‬ ‫في َ َ‬ ‫دفقُ به على دنياه كال َ‬ ‫وَتت َ‬
‫ف للواحد ِ منهم شك َ‬
‫ل‬ ‫ن‪ ،‬تعر ُ‬ ‫س الخامدي َ‬ ‫ل المدار ِ‬ ‫به‪ ،‬ل كأطفا ِ‬
‫ن في الحياةِ ول‬ ‫ن المسكي ُ‬ ‫مه‪ ،‬فيكو ُ‬ ‫س له وجود ُه ُ ول عال َ ُ‬ ‫الطفل ولي َ‬
‫َ‬
‫ل كامل!‬ ‫م رج ِ‬ ‫دها‪ ،‬ثم تراه ُ طفل صغيرًا‪ ،‬وقد جمعوا له همو َ‬ ‫يج ُ‬
‫حت إلى قلِبه بأسراِرها‪،‬‬ ‫ض دبيَبها في )عصمت(‪ ،‬وأو َ‬ ‫ح الر ِ‬ ‫ودبت رو ُ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫ن هؤلِء الغماَر )الجاهلين الغرار( الغبياَء ِ‬ ‫ك من شعورهِ أ ّ‬ ‫فأدر َ‬
‫م السعداُء بطفولتِهم‪ ،‬وأنه هو وأمثاُله‬ ‫أولد ِ الفقراِء والمساكين‪ ،‬ه ُ‬
‫ن في الطفولة‪ ،‬وأن ذلك الجندي الذي يمشي‬ ‫كي ُ‬ ‫م الفقراُء والمسا ِ‬ ‫ه ُ‬
‫ن العلوم‪ ،‬إ ِذ ْ كانت‬ ‫ب خيٌر م َ‬ ‫مه إنما هو سجن‪ ،‬وأن اللعا َ‬ ‫وراَءه لتعظي ِ‬
‫ملَزَقة به قب َ‬
‫ل‬ ‫ة ُ‬ ‫م فُرجول ٌ‬ ‫ل في وقِتها‪ ،‬أما العلو ُ‬ ‫ة الطف ِ‬ ‫فِلي َ‬ ‫هي ط ِ ْ‬
‫س‬‫م أسا َ‬ ‫ة وتهد ُ‬ ‫ل فيهِ الطفول َ‬ ‫ه‪ ،‬فتقت ُ‬ ‫ع ِ‬ ‫ه عن طبا ِ‬ ‫ُ‬
‫وقِتها ُتوقُره وتحوُل ُ‬
‫ل‬ ‫ُ‬
‫ن في الو ِ‬ ‫ن ذلك ل إلى هذه ول إلى هذه‪ ،‬ويكو ُ‬ ‫الرجولة‪ ،‬فينشأ بي َ‬
‫ل‪.‬‬‫لخرِ رجل ً طف َ‬ ‫ن في ا َ‬ ‫طفل َ رجل‪ ،‬ثم يكو ُ‬
‫ن هي بيَته‬ ‫ب أن تكو َ‬ ‫ل يج ُ‬ ‫ة الطف ِ‬ ‫مع أن مدرس َ‬ ‫مما رأى وس َ‬ ‫وأحس ِ‬
‫ك‬ ‫خه الطبيعي‪ ،‬ويتحر َ‬ ‫صرا َ‬ ‫خ فيه ُ‬ ‫ج أن يصر َ‬ ‫الواسعَ الذي ل يتحر ُ‬
‫صي‬ ‫ن فيه مدرسون ول ط ََلبة‪ ،‬ول حاملو الع ِ‬ ‫حركَته الطبيعية‪ ،‬ول يكو َ‬
‫ن فيه البوة ُ الواسعة‪،‬‬ ‫ن تكو َ‬ ‫ت الواسِع أ ْ‬ ‫ن الضباط‪ ،‬بل حق البي ِ‬ ‫م َ‬
‫م في نشأت ِهِ من‬ ‫ل المتعل ُ‬ ‫ح ِللمئات‪ ،‬فيمُر الطف ُ‬ ‫س ُ‬ ‫والخوة ُ التي َتنف ِ‬
‫ج في التوسِع شيئا َ فشيئأ‪ ،‬م َ‬
‫ن‬ ‫ل إلى منزل‪ ،‬على تدري ٍ‬ ‫ل إلى منز ِ‬ ‫منز ٍ‬
‫البيت‪ ،‬إلى المدرسة‪ ،‬إلى العالم‪.‬‬
‫***‬
‫شب‬ ‫ه تَ ِ‬ ‫م بهذه الحلم ِ الفلسفية‪ ،‬وطفولت ُ ُ‬ ‫وكان )عصمت( يحل ُ‬
‫ل كأنها‬ ‫ت الطفا ِ‬ ‫ت حركا ُ‬ ‫ك‪ ،‬وكان َ ْ‬ ‫جل‪ ،‬وَرخاوُته تشتد وتتماس ُ‬ ‫وتستر ِ‬
‫ن يشهد ُ‬ ‫ل في السيما حي َ‬ ‫خِله‪ ،‬فهو منهم كالطف ِ‬ ‫ه من دا ِ‬ ‫ُتحرك ُ ُ‬
‫ل‬‫ح‪ ،‬ويتوُثب فيهِ الطف ُ‬ ‫المتلكمين والمتصارعين‪َ ،‬يستطيُره الفر ُ‬
‫ع‬
‫ده‪ ،‬وتجتم ُ‬ ‫جل ُ‬ ‫ف ِ‬ ‫كش ُ‬ ‫ضلُته‪ ،‬ويت َ‬ ‫صع َ‬ ‫فواِنه‪ ،‬وتتقل ُ‬ ‫عن ُ‬ ‫حهِ و ُ‬ ‫ي بمَر ِ‬ ‫الطبيع ّ‬
‫كوُره‬ ‫م الخَر في ُ َ‬ ‫ن وَيلك ُ‬ ‫قوُته‪ ،‬حتى كأنه سُيظاهُر أحد َ الخصمي ِ‬
‫ب الحديدي بضربِته اللينةِ الحريرية‪!..‬‬ ‫ة الضر ِ‬ ‫ض معرك َ‬ ‫ف ُ‬ ‫عه‪ ،‬وي ُ‬ ‫ويصر ُ‬
‫ن اقتحم‪،‬‬ ‫بأ ِ‬ ‫م أن تخشن‪ ،‬وما كذ َ‬ ‫ث صاحُبنا الغريُر الناع ُ‬ ‫فما لب َ‬
‫هم وعبُثهم‪ ،‬إقبا َ‬
‫ل‬ ‫ل ولهو ُ‬ ‫حه الشارع ُ والطفا ُ‬ ‫ل على رو ِ‬ ‫وكأنما أقب َ‬
‫ج عنه القفص‪،‬‬ ‫ق في مسمارٍ إذا انفر َ‬ ‫ّ‬
‫س المعل ِ‬ ‫الجوّ على الطيرِ الحبي ِ‬
‫ة الحياةِ فطاَر بها‪،‬‬ ‫ب وثب َ‬ ‫ص إذا وث َ‬ ‫قَني ِ‬ ‫ش ال َ‬ ‫ل الغابةِ على الوح ِ‬ ‫واقبا َ‬
‫ص )رفع رأسه و تحرك‬ ‫ل الفلةِ على الظِبي السيرِ إذا ناوَ َ‬ ‫وإقبا َ‬
‫حبلة‪.‬‬ ‫ن ال ِ‬ ‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫للجري( فأفل َ َ‬
‫ن المدير‪.‬‬ ‫م )انضم( في الجماعةِ وقال لهم‪ :‬أنا اب ُ‬ ‫وتقدم فادغ َ َ‬
‫فرت )بدت(‬ ‫س َ‬ ‫فنظروا إليه جميعًا‪ ،‬ثم نظَر بعضُهم إلى بعض‪ ،‬و َ‬
‫أفكاُرهم الصغيرة ُ َبين أعيِنهم‪ ،‬وقال منهم قائل‪ :‬إن حذاَءه وثياَبه‬
‫ن أباه ُ المدير‪.‬‬ ‫شه كلها تقول إ ِ ّ‬ ‫وطربو َ‬
‫ه امرأة ُ المدير‪....‬‬ ‫م ُ‬‫فقال آخر‪ :‬ووجُهه يقول ِإن أ َ‬
‫جعُلص!‬ ‫ست كأمك يابعطيطي ول كأم ُ‬ ‫فقال الثالث‪ :‬لي َ‬
‫ك أمك‬ ‫كماِته حينئذ ِ ل تتر ُ‬ ‫جعلص‪ ،‬فإن ل َ َ‬ ‫قال الرابع‪ :‬يا ويلك لو سمع ُ‬
‫ن القفا!‬ ‫م َ‬ ‫ف وجَهك ِ‬ ‫تعر ُ‬
‫عه‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ت لرَِيكم كيف أصارِ ُ‬ ‫ص هذا؟ فليأ ِ‬ ‫جعل ُ‬ ‫قال الخامس‪ :‬ومن ُ‬
‫ل ِرجَله برجلي‪ ،‬فأدفُعه‪ ،‬فيتخاذل‪،‬‬ ‫صُره بين يدي‪ ،‬فأعتق ُ‬ ‫فأجتذُبه فأع ِ‬
‫ض بمسار!‬ ‫فأعُر ُ‬
‫خّر على وجِهه‪ ،‬فاأسمره في الر ِ‬ ‫كه‪ ،‬في ِ‬
‫ص لو‬ ‫جعل ُ‬ ‫ف ما يفعُله ُ‬ ‫ف بأدق الوص ِ‬ ‫فقال السادس‪ :‬هاها! إنك تص ُ‬
‫ه‪!...‬‬ ‫تناوَلك في يد ِ‬
‫جعلص!‬ ‫جعلص‪ُ ،‬‬ ‫جعلص‪ُ ،‬‬ ‫ح السابع‪ :‬ويَلكم! هاهو ذا‪ُ .‬‬ ‫فصا َ‬
‫ه‬
‫ق الجاف تحت الشجرِ ضَربت ُ‬ ‫ور ِ‬ ‫شمال َ كال َ‬ ‫ن يمينا ً و ِ‬ ‫طاَير الباقو َ‬ ‫فت َ‬
‫ح العاصف‪.‬‬ ‫الري ُ‬
‫سهم وتراجعوا‪ .‬وقال‬ ‫ه الصبي من وراِئهم‪ ،‬فثابوا إلى أنف ِ‬ ‫وقهق َ‬
‫ص ورائي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫مسَتطي ُ‬
‫ت أريد ُ أن يعدوَ جعل ُ‬ ‫ل منهم‪ :‬أما إني كن ُ‬ ‫ال ُ‬
‫ذه كما فعل‬ ‫مُعه في نفسي‪ ،‬ثم أرتد ُ عليه فآخ ُ‬ ‫ُ‬
‫فأستطرِد ُ إليه قليل أط ِ‬
‫"ماشيست الجبار" في ذلك المنظرِ الذي شاهدناه‪.‬‬
‫ق‬
‫شا ِ‬ ‫ة الع َ‬ ‫ن جميعًا‪ !...‬ثم أحاطوا )بعصمت( إحاط َ‬ ‫ه الصبيا ُ‬ ‫وقهق َ‬
‫ص‬ ‫ب المخصو َ‬ ‫ن المقر َ‬ ‫ل منهم أن يكو َ‬ ‫لك ّ‬ ‫بمعشوقة جميلة‪ ،‬يحاو ُ‬
‫ن‬ ‫ب‪ ،‬ولكن من أجل ان اب َ‬ ‫ن المدير فحس ُ‬ ‫ه اب ُ‬ ‫ل أن ُ‬‫بالحظوة‪ ،‬ل من أج ِ‬
‫ل لما‬ ‫ش معَ ابن زبا ِ‬ ‫ت القرو ُ‬ ‫ن معه القروش‪ ...‬فلو وجد َ ِ‬ ‫المديرِ تكو ُ‬
‫شه فيعود َ‬ ‫فد َ قرو ُ‬ ‫منعه نسُبه أن يكون أميَر الساعةِ بينهم إلى أن تن َ‬
‫ابن زبال‪!...‬‬
‫ص به‪ ،‬فلو جاَء المديُر‬ ‫وتنافسوا في )عصمت( وملعبِته والختصا ِ‬
‫ب مع آباِئهم ويركُبهم ويركبونه‪ ،‬وهم بين نجارِ وحداد‪ ،‬وبناءِ‬ ‫سه يلع ُ‬ ‫نف ُ‬
‫سب َةِ الضئيلة‪-‬‬ ‫مك ِ‬ ‫وحمال‪ ،‬وحوذي وطباخ‪ ،‬وأمثاِلهم من ذوي المهنةِ ال ُ‬
‫لباِء‬ ‫ل في ابن المدير‪ْ ،‬اكبَر من مطامِع ا َ‬ ‫لكاَنت مطامعُ هؤلء الطفا ِ‬
‫في المدير‪.‬‬
‫ملحاة )جدال(‪،‬‬ ‫ة بيَنهم مجراها‪ ،‬فَانقلبت إلى ُ‬ ‫ت المنافس ُ‬ ‫وجر ِ‬
‫دفًا‪ .‬للجميِع‬ ‫ن المدير هَ َ‬ ‫جعت هذه الملحاة ُ إلى مشاحنة‪ ،‬وعاد اب ُ‬ ‫ور َ‬
‫ن عليه‪ ،‬إذ ل يقصد ُ أحد منهم أحدا ً بالغي ِ‬
‫ظ‬ ‫ن عنه وكأنما يعتدو َ‬ ‫ُيدافعو َ‬
‫ن أنكأ له وأشد عليه!‬ ‫َ‬ ‫إل َتعمد َ غي َ‬
‫ظ حبيِبه‪ ،‬ليكو َ‬
‫دهم هذا‬ ‫م الطوائل‪ ،‬وأفس َ‬ ‫ضهم على بعض‪ ،‬ونشأت بينه ُ‬ ‫وتظاهَروا بع ُ‬
‫مها! فقدِ‬ ‫ك الطفولةِ وإلها َ‬ ‫ب إدرا َ‬ ‫ل بينهم‪ .‬وياما أعج َ‬ ‫ي المتمث ُ‬ ‫الغن ُ‬
‫فوسهم على رأي واحد‪ ،‬فتحولوا جميعا ً إلى سفاهةٍ واحد ِ‬
‫ة‬ ‫اجتمَعت ن ُ‬
‫ب َفقمَره )خسره في‬ ‫دهم في اللع ِ‬ ‫خاطره أح ُ‬ ‫ن المدير‪ ،‬ف َ‬ ‫َ‬
‫أحاطت ِباب ِ‬
‫ن المدير‬ ‫المقامرة(‪ ،‬فأبى ِإل أن يعلوَ ظهَره ويركَبه‪ ،‬وأبى عليه اب ُ‬
‫سطوةِ أبيه‪ ،‬فلم يكذ يعتل‬ ‫وداَفعه‪ ،‬يرى ذلك َثلما ً في شرفِهِ ونسِبه و َ‬
‫ؤهم‪،‬‬ ‫بهذه العلةِ ويذك ُُر أباه ليعرَفهم آباَءهم‪ ...‬هاجت حَتى كبريا ُ‬
‫حقد َ‬ ‫ي ِ‬ ‫ضع الغب ّ‬ ‫سهم‪ ،‬وبذلك و َ‬ ‫ن رؤو ِ‬ ‫صت شياطي ُ‬ ‫وثاَرت دفائُنهم‪ ،‬ورق َ‬
‫ل الكبرى في‬ ‫ة المسائ ِ‬ ‫سخريةِ الِغنى‪ ،‬فألقى بينهم مسأل َ‬ ‫الفقرِ بإزاِء ُ‬
‫حها للحل‪!....‬‬ ‫هذا العالم‪ ،‬وطَر َ‬
‫دهم‪ ،‬ثم هزأ‬ ‫خَر منه أح ُ‬ ‫شوا )تهيئوا للمبارزة( للصولةِ عليه‪ ،‬فس ِ‬ ‫وَتنف ُ‬
‫ش عليه‬ ‫مه الرابعُ بمنكِبه‪ ،‬وأفح َ‬ ‫ث لساَنه‪ ،‬وصد َ‬ ‫ج الثال ُ‬ ‫بهِ الخر‪ ،‬وأخر َ‬
‫كزه ُ السادس‪ ،‬وحثا السابعُ في وجِهه التراب!‬ ‫الخامس‪ ،‬ول َ‬
‫ن‬
‫جدرا ٍ‬ ‫ن أن يفر من بيِنهم فكأنما أحاطوه بسبعةِ ُ‬ ‫وجهِد َ المسكي ُ‬
‫خذُته‬ ‫ب الّله‪ ...‬ثم أ َ‬ ‫ف بيَنهم ما كت َ‬ ‫مه‪ ،‬ووق َ‬ ‫مه وإحجا ُ‬ ‫ل إقدا ُ‬ ‫فبط َ َ‬
‫ض‪ ،‬فتجاذُبوه ُيمرغوَنه في التراب!‬ ‫دل على الر ِ‬ ‫أيديهم فانج َ‬
‫ح‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وهم كذلك إذ ِ انقلب كبيُرهم على وجِهه‪َ ،‬وأنكفأ الذي يليه‪ ،‬وأزي َ‬
‫جعُلص‪ ،‬جعلص! !‬ ‫ع‪ ،‬فنظروا فصاحوا جميعَا‪ُ " :‬‬ ‫م الراب ُ‬ ‫الثالث‪ ،‬ول ُط ِ َ‬
‫ب من ثياِبه وهو‬ ‫ل الترا ُ‬ ‫خ ُ‬ ‫هربًا‪ .‬وقام )عصمت( َينت َ ِ‬ ‫وتواثبوا يشتدون َ‬
‫فهم‬ ‫ف ينظُر هذا الذي كش َ‬ ‫يبكي بدمِعه‪ ،‬وثياُبه تبكي بتراِبها‪ !...‬ووق َ‬
‫ن الغضب‪ ،‬وقد‬ ‫م َ‬‫ن ِ‬ ‫فا ْ‬‫ج َ‬ ‫ص وعليه َر َ‬ ‫جعل ُ‬ ‫صولُته‪ ،‬فإذا ُ‬ ‫دتهم َ‬ ‫عنه وشر َ‬
‫ه‬
‫معارك ِ ِ‬ ‫ن "ماشيست" في َ‬ ‫ض وجُهه‪ ،‬كما يكو ُ‬ ‫قل َ‬ ‫مت شفُته‪ ،‬وت َ َ‬ ‫َتبرط َ‬
‫ن الضعفاء‪.‬‬ ‫دفعُ ع ِ‬ ‫حين ي َ‬
‫ك في‬ ‫محَتن ٌ‬ ‫وهو طفل في العاشرةِ من لدات )عصمت(‪ ،‬غير أنه ُ‬
‫ضه على بعض‬ ‫ب بع ُ‬ ‫جبلةِ متراك ِ ْ‬ ‫ل شديد ُ ال ِ‬ ‫عب ٌ‬
‫ظ َ‬ ‫سن رجل صغير‪ ،‬غلي ْ‬
‫ل‬‫صر َيهم أن يطو َ‬ ‫متقا ِ‬ ‫ي ُ‬ ‫جن ّ‬ ‫)مفتول العضلت مكتنز اللحم(‪ ،‬كأّنه ِ‬
‫ل يشكو له‬ ‫ه‪ ،‬وأقب َ‬ ‫س به )عصمت(‪ ،‬واطمأن إلى قوت ِ‬ ‫منه المارد‪ ،‬فأن ِ َ‬
‫ويبكي!‬
‫مك؟‬ ‫قال جعلص‪ :‬ما اس ُ‬
‫قال‪ :‬أنا ابن المدير‪!...‬‬
‫جْلدا ً )قويا صبورا(‪،‬‬ ‫ن المدير‪ .‬تعلم أن تكون َ‬ ‫ك يا أب َ‬ ‫قال جعلص‪ :‬ل تب ِ‬
‫ذل ول عار‪ ،‬ولكن الدموع َ هي تجعُله ذل وعارًا‪،‬‬ ‫ب ليس ب ُ‬ ‫فِإن الضر َ‬
‫ل حياِتنا‬ ‫ش طو َ‬ ‫ن المديرِ نعي ُ‬ ‫ل أنثى‪ .‬نحن يا اب َ‬ ‫ل الرج َ‬ ‫ِإن الدموع َ َلتجع ُ‬
‫س‪ ،‬هذا من هذا‪ ،‬ولكنك غني يا‬ ‫ب النا ِ‬ ‫ب الفقرِ أو ضر ِ‬ ‫إما في ضر ِ‬
‫ه ينكسُر‬ ‫خ ‪ ،‬ولكن ُ‬ ‫منتف ٌ‬ ‫م ُ‬ ‫فينو( ضخ ٌ‬ ‫ف )ال ِ‬ ‫ت كالرغي ِ‬ ‫ن المدير‪ ،‬فأن َ‬ ‫اب َ‬
‫ل القطن!‬ ‫حشوُه ُ مث ُ‬ ‫بلمسة‪ ،‬و َ‬
‫ة أن‬ ‫ن المديرِ إذا لم تعلمك المدرس ُ‬ ‫م في المدرسةِ يا اب َ‬ ‫ماذا تتعل ُ‬
‫ف كيف‬ ‫ف إذا لم تكن تعر ُ‬ ‫من يريد ُ أكَله‪ ،‬وماذا تعر ُ‬ ‫ل َ‬ ‫ن رجل ً يأك ُ‬ ‫تكو َ‬
‫ن‬ ‫م الخير‪ ،‬فتكو َ‬ ‫م الشر‪ ،‬وكيف تصبُر للخيرِ يو َ‬ ‫تصبُر على الشر يو َ‬
‫ن في خير؟‬ ‫ً‬
‫دائما على الحالتي ِ‬
‫قال عصمت‪ :‬آهِ لو كان معي العسكري!‬
‫ك؟ لو ضربوا عنزا ً لما قالت‪ :‬آه لو كان معي‬ ‫قال‪ :‬جعلص‪ :‬ويح َ‬
‫العسكري!‬
‫قال عصمت‪ :‬فمن أين لك هذه القوة؟‬
‫ل بيدي )أخدم نفسي بنفسي( فْانا أشتد ّ‬ ‫م ُ‬‫قال جعلص‪ :‬من أني أعت ِ‬
‫ت طعامي‪ ،‬أما‬ ‫ت أكل ُ‬ ‫وإذا جع ُ‬
‫مك‪ ،‬ثم من أني ليس لي‬ ‫ت أكلك طعا ُ‬ ‫َ‬ ‫أنت فتسترخي‪ ،‬فإذا جع َ‬
‫عسكري‪!..‬‬
‫ت مثَلنا في المدرسة؟‬ ‫من أنك لس َ‬ ‫قال عصمت‪ :‬بل القوة ُ َ‬
‫ق‬
‫ن المدرسةِ كأنك طفل من وََر ٍ‬ ‫قال جعلص‪ :‬نعم‪ ،‬فأنت يا اب َ‬
‫ن‬
‫طباشير! أنت يا اب َ‬ ‫مك من َ‬ ‫ت ل من لحم‪ ،‬وكأن عظا َ‬ ‫وكراسا ٍ‬
‫ه‬
‫م ِإل الل ُ‬ ‫ة‪ ،‬ول يعل ُ‬ ‫ن سن ً‬ ‫ن بعد َ عشري َ‬ ‫ت الذي سيكو ُ‬ ‫المدرسةِ هو أن َ‬
‫ن "أنا"‬ ‫ن الن‪ ،‬وعلي أن أكو َ‬ ‫ن الحياة‪ ،‬فأنا م َ‬ ‫كيف يكون‪ ،‬وأما أنا اب ُ‬
‫من الن!‬
‫ت‪...‬‬‫أن َ‬
‫***‬
‫ن يطيُر‬ ‫وهنا أدركهما العسكريُ المسخُر لبن المدير‪ ،‬وكان كالمجنو ِ‬
‫حبا فيه‪ ،‬ولكن خوفا ً‬ ‫ث عن )عصمت(‪ ،‬ل ُ‬ ‫ق يبح ُ‬ ‫على وجهِهِ في الطر ِ‬
‫فَر على أثواب ِهِ حتى رنت صفعُته على‬ ‫من أبيه‪ ،‬فما كاد يرى هذا العَ َ‬
‫جعلص‪.‬‬ ‫ن ُ‬ ‫وجهِ المسكي ِ‬
‫ره‪ ،‬وانطلق‬ ‫فصّعر هذا خد َه ُ )مال بخده تكبرا(‪ ،‬ورشقَ عصمت بنظ ِ‬
‫ظليم )ذكر النعام(!‬ ‫عدوَ ال ّ‬ ‫يعدو َ‬
‫ن الفقير‪ ،‬وكان الباكي منها‬ ‫ة على وجهِ اب ِ‬ ‫ت الصفع ُ‬ ‫يا للعدالة! كان ِ‬
‫ن الغني‪!..‬‬ ‫اب َ‬
‫***‬
‫ب في‬ ‫ل الحر ِ‬ ‫م البطولة‪ ،‬فليس ِغنى ب َط َ ِ‬ ‫وأنتم أئها الفقراء‪ ،‬حسُبك ُ‬
‫خه‪.‬‬‫مه وتاري ِ‬ ‫ت في جس ِ‬ ‫ح والمشقا ِ‬ ‫ل والنعيم‪ ،‬ولكن بالجرا ِ‬ ‫الما ِ‬

‫اليمامتان ‪..‬‬
‫مصر‪،‬‬ ‫قبط في ِ‬ ‫س( عظيم ال ِ‬ ‫قوْقِ َ‬‫م َ‬
‫جاء في تاريخ الواقدي "أن )ال ُ‬
‫زّوج بنَته )أرمانوسة( من )قسطنطين بن ه َِرْقل( وجهزها بأموالها‬
‫سارَِية بفلسطين;‬ ‫ي عليها في مدينة قَي ْ َ‬ ‫شما لتسيَر إليه‪ ،‬حتى ي َْبن َ‬ ‫ح َ‬‫َ‬
‫ت بها‪ ...‬وجاء‬ ‫س )مدينة بمحافظة الشرقية( وأقام ْ‬ ‫ْ‬
‫فخرجت إلى ب ُلب َي ْ َ‬
‫من بها‪،‬‬ ‫ل َ‬‫صارا ً شديدًا‪ ،‬وقات َ‬ ‫ح َ‬ ‫مرو بن العاص إلى بلبيس فحاصرها ِ‬ ‫عَ ْ‬
‫من بقي إلى المقوقس‪،‬‬ ‫ف فارس‪ ،‬وانهزم َ‬ ‫وقتل منهم ُزهاء أل ِ‬
‫ل ما للقبط في بلبيس‪.‬‬ ‫خذ َ ك ُ‬ ‫ُ‬
‫ة وجميع ماَلها‪ ،‬وأ ِ‬ ‫وأخذت أرمانوس ُ‬
‫ة المقوقس‪ ،‬فسير إليه ابنَته مكَزمة في جميع‬ ‫عمْرو ملطف َ‬ ‫ب َ‬ ‫فأح ّ‬
‫َ‬
‫سّر بقدومها‪...‬‬ ‫ن أبي العاص السْهمي(; ف ُ‬ ‫مالها‪) ،‬مع قَْيس ب ِ‬

‫***‬
‫مغزى‬ ‫َ‬
‫معِنيا إل بأخبار ال َ‬ ‫هذا ما أثبَته الواقدي في روايته‪ ،‬ولم يكن َ‬
‫صه‬ ‫ق ُ‬ ‫فتوح‪ ،‬فكان يقتصر عليها في الرواية; أما ما أغفله فهو ما ن َ ُ‬ ‫وال ُ‬
‫نحن‪:‬‬
‫ت جمال يوناني‬ ‫مى )مارَية(‪ ،‬ذا ُ‬ ‫س َ‬‫موَّلدة ت ُ َ‬ ‫ة وصيفة ُ‬ ‫كانت لرمانوس َ‬
‫حْته بسحرها‪ ،‬فزاد جماُلها على أن يكون مصريًا‪،‬‬ ‫س َ‬ ‫م َ‬‫مته مصُر و َ‬ ‫أت َ‬
‫ل منهما‪ ،‬ولمصَر طبيعة‬ ‫كوَنه; فهو أجم ُ‬ ‫ل اليوناني أن ي ُ‬ ‫ص الجما ُ‬ ‫ق َ‬ ‫ون َ َ‬
‫شعث‬ ‫مل شيئا ً في جمال نسائها أو ت ُ َ‬ ‫خاصة في الحسن; فهي قد ُته ِ‬
‫جهد َ محاسنها الرائعة; ولكن متى نشا ً فيها جمال‬ ‫منه‪ ،‬وقد ل توفيه ُ‬
‫يْنزع ُ إلى أصل أجنبي أفرغت فيه سحَرها إفراغَا‪ ،‬وأبت إل أن تكون‬
‫ه آيَتها في المقابلةِ بينه في طاب َِعه المصري‪،‬‬ ‫ة عليه‪ ،‬وجعلت ُ‬ ‫الغالب َ‬
‫وبين أصله في طبيعة أرضه كائنة ما كانت; تغاُر على سحرها أن‬
‫يكون إل العلى‪.‬‬
‫س‬
‫ة الدين والعقل‪ ،‬اتخذها المقوق ُ‬ ‫ة قوي َ‬ ‫ة هذه مسيحي ً‬ ‫وكانت ماري ُ‬
‫ة لبنته‪ ،‬وهو كان واليا ً وب َط ْرِي َْركا ً على مصر من قِب َ ِ‬
‫ل‬ ‫كنيسة حي َ‬
‫ي جاء في‬ ‫ح السلم ّ‬ ‫صْنع الّله أن الفت َ‬ ‫ه َِرْقل; وكان من عجائب ُ‬
‫فل القبطي‪ ،‬فلم تكن‬ ‫ق ْ‬‫ح ال ُ‬ ‫مفتا َ‬
‫ب هذا الرجل ِ‬ ‫ه قل َ‬ ‫عهده‪ ،‬فجعل الل ُ‬
‫ع‪ُ ،‬تقاتل شيئا ً من قتال غيرِ كبير‪ ،‬أما‬ ‫مقدار ما ُتدف َ‬ ‫أبواُبهم ُتدافِعُ إل ب ِ‬
‫ن إل للتحطيم‪،‬‬ ‫ة ل ت ُذ ْ ِ‬
‫ع ُ‬ ‫ة حصين ً‬ ‫ت مسَتغِلق ً‬ ‫ة فبقي ْ‬ ‫ب الرومي ُ‬ ‫البوا ُ‬
‫ة التي‬ ‫ف رومي يقاتلون المعجزة َ السلمي َ‬ ‫ووراءها نحوُ مائة أل ِ‬
‫ل ما جاءت في أربعة آلف رجل‪ ،‬ثم لم‬ ‫جاءتهم من بلد العرب أوّ َ‬
‫خَر ما زادوا على اثني عشر ألفًا‪ .‬كان الروم مائة ألف‬ ‫يزيدوا آ ِ‬
‫مقاتل بأسلحتهم‪ -‬ولم تكن المدافع معروفة‪ -‬ولكن ُروح السلم‬ ‫ُ‬
‫دفع بقنابلها‪ ،‬ل يقاِتلون‬ ‫م ْ‬‫ف ِ‬ ‫ي كأنه اثنا عشر أل َ‬ ‫جعلت الجيش العرب ّ‬
‫م مادة‬ ‫وة الروح الدينية التي جعلها السل ُ‬ ‫وة النسان‪ ،‬بل بق ّ‬ ‫بق ّ‬
‫ميت!‬ ‫ف الدينا ِ‬ ‫ت قبل أن ُيعر َ‬ ‫مي َ‬ ‫شبه الدينا ِ‬ ‫منفجرة َ ت ُ ْ‬
‫ت مارية جَزعا َ شديدًا; إذ‬ ‫زع ْ‬ ‫ج ِ‬ ‫شه على ُبلبيس َ‬ ‫ولما نزل عمرو بجي ِ‬
‫ب‬ ‫ب قوم جياع ي َْنفضُهم الجد ْ ُ‬ ‫ولء العر َ‬ ‫كان الروم قد أرجفوا أن ه ّ‬
‫جراد‬ ‫ل على العين في الريح العاصف; وأنهم َ‬ ‫ض الرما ِ‬ ‫على البلد َنف َ‬
‫ُ‬
‫إنساني ل يغزو إل ل ِب َطِنه; وأنهم ِغلظ الكباد كالبل التي يمتطونها;‬ ‫ْ‬
‫سف; وأنهم ل عهد َ لهم‬ ‫خ ْ‬ ‫طن على َ‬ ‫وأن النساء عندهم كالدواب ي ُْرت َب َ ْ‬
‫مَرو بن‬ ‫دهم ع َ ْ‬ ‫خفت أمانُتهم; وأن قائ َ‬ ‫قلت مطامُعهم و َ‬ ‫ول وفاء‪ ،‬ث َ ُ‬
‫ح الجزار ول طبيعُته;‬ ‫عه رو ُ‬ ‫العاص كان جزارا ً في الجاهلية‪ ،‬فما ت َد َ ُ‬
‫ة‬
‫شذاِذهم‪ ،‬ل أربع ِ‬ ‫سو ُ‬ ‫بأربعة آلف سالخ من أخلط النا ِ‬ ‫وقد جاء‬
‫م الجيش!‬ ‫َ‬
‫ألف مقاتل من جيش له نظا ُ‬
‫ة‬
‫ت شاعرة َ قد درست هي وأرمانوس ُ‬ ‫مها‪ ،‬وكان ْ‬ ‫ة أوها َ‬ ‫ت ماري ُ‬ ‫هم ْ‬ ‫وتو ّ‬
‫ل‬‫شعُِرها ك ّ‬ ‫ب متوقد ي ُ ْ‬ ‫ن وفلسفَتهم‪ ،‬وكان لها خيال مشبو ٌ‬ ‫ب يونا َ‬ ‫أد َ‬
‫عاطفة أكبَر مما هي‪ ،‬ويضاعف الشياء في نفسها‪ ،‬وينزع ُ إلى‬
‫ن خاصة‪ ،‬ويجعل من بعض‬ ‫وئثة‪ ،‬فيبالغُ في تهويل الحز ِ‬ ‫طبيعته الم ّ‬
‫اللفاظ وَُقودا َ على الدم‪...‬‬
‫ب‬‫ب مارية وأفزعتها الوساس‪ ،‬فجعلت ت َن ْد ُ ُ‬ ‫طيَر قل ُ‬ ‫ست ُ ِ‬ ‫ومن ذلك ا ْ‬
‫سها‪ ،‬وصنعت في ذلك شعرا َ هذه ترجمُته‪:‬‬ ‫نف َ‬
‫مسكينة!‬ ‫ف جزار أيُتها الشاة ُ ال ِ‬ ‫ة آل ِ‬ ‫جاءك أربع ُ‬
‫م الذبح قبل أن ُتذَبحي!‬ ‫ك أل َ‬ ‫ل شعرة من ِ‬ ‫ستذوق ك ّ‬
‫ة آلف خاطف أيتها العذراء المسكينة!‬ ‫جاءك أربع ُ‬
‫ميتة قبل الموت!‬ ‫ستموتين أربعة َالف ِ‬
‫سكينا َ يرد ّ عني الجزارين!‬ ‫مد َ في صدري ِ‬ ‫وني يا إلهي‪ ،‬لغ ِ‬ ‫قَ ّ‬
‫جها العربي‪!..‬‬ ‫ت قبل أن يتزو َ‬ ‫يا إلهي‪ ،‬قَوّ هذه العذراَء‪ ،‬لتتزّوج المو َ‬
‫***‬
‫جع;‬ ‫ة في صوت حزين يتو ّ‬ ‫شعَرها على أرمانوس َ‬ ‫وذهبت تتلو ِ‬
‫دى‬ ‫ت أن أبي قد أه َ‬ ‫ت واهمة يا مارية; أنسي ِ‬ ‫ت هذه وقالت‪ :‬أن ِ‬ ‫فضحك ْ‬
‫صنا( –مارية القبطية و كانت من "أنصنا" بالوجه‬ ‫ت )أن ْ ِ‬ ‫إلى نبيهم بن َ‬
‫ضها القلب; لقد‬ ‫القبلي‪ ،-‬فكانت عنده في مملكة بعضها السماء وبع ُ‬
‫ة‬
‫ف له عن حقيقة هذا الدين وحقيق ِ‬ ‫ث بها لتكش َ‬ ‫أخبرني أبي أنه ب َعَ َ‬
‫ولء المسلمين هم‬ ‫ه أن ه ّ‬ ‫سيسا َ ي ُعِْلم ُ‬ ‫ت إليه د َ ِ‬ ‫هذا النبي; وأنها أنفذ ْ‬
‫ل الجديد الذي سيضع في العالم تمييَزه بين الحق والباطل‪،‬‬ ‫العق ُ‬
‫وأن نبيهم أطهُر من السحابة في سمائها‪ ،‬وأنهم جميعا َ ينبعثون من‬
‫سُلوا‬ ‫حدود دينهم وفضائِله‪ ،‬ل من حدود أنفسهم ِ وشهواِتها; وإذا َ‬ ‫ُ‬
‫سلوه بقانون‪ ،‬وإذا أغمدوه أغمدوه بقانون‪ .‬وقالت عن‬ ‫ّ‬ ‫ف َ‬ ‫السي َ‬
‫ف‬ ‫ب من أن تخا َ‬ ‫فتها من أبيها أقر ُ‬ ‫ف المرأة ُ على ع ّ‬ ‫النساء‪ :‬لن تخا َ‬
‫ً‬
‫عليها من أصحاب هذا النبي; فإنهم جميعا في واجبات القلب‬
‫ي في الرجل منهم‪ -‬يكون‬ ‫وواجبات العقل‪ ،‬ويكاد الضميُر السلم ُ‬
‫ب صاحَبه إذا ً هم بمخالفته‪.‬‬ ‫حامل ً سلحا ً َيضرِ ُ‬
‫مْلك;‬ ‫ب ال ُ‬‫وقال أبي‪ :‬إنهم ل ُيغي ُِرون على المم‪ ،‬ول يحاربونها حر َ‬
‫ة‬‫دم في الدنيا حامل ً‬ ‫ة الحركة للشريعة الجديدة‪ ،‬تتق َ‬ ‫وإنما تلك طبيع ُ‬
‫ة في ظاهرها وباطنها‪ ،‬فمن وراء أسلحِتهم‬ ‫ح والخلق‪ ،‬قوي ً‬ ‫السل َ‬
‫ت أخلق!‬ ‫سها ذا َ‬ ‫أخلُقهم; وبذلك تكون أسلحتهم نف ُ‬
‫ن سيندفعُ بأخلِقه في العال َم ِ اندفاع َ الُعصارة‬ ‫وقال أبي‪ :‬إن هذا الدي َ‬
‫ل في طبيعة; فليس َيمضي‬ ‫الحيةِ في الشجرةِ الجرداء; طبيعة تعم ُ‬
‫ظللها; وهو بذلك فوق‬ ‫ي ِ‬ ‫ضر الدنيا وترم َ‬ ‫غيُر بعيد حتى َتخ َ‬
‫ق ما ي ُعَد ّ كطلء‬ ‫شبه في عملها الظاهر ال ُ َ‬ ‫السياسات التي ت ُ ْ‬
‫ملف ِ‬
‫ن بين عمل وعمل‪ ،‬وإن‬ ‫شَتا َ‬ ‫الشجرة الميتةِ الجرداء بلون أخضر‪َ ...‬‬
‫كان لون يشبه لونَا‪...‬‬
‫ضي َْر‬‫ة واطمأنت باطمئنان أرمانوسة‪ ،‬وقالت‪ :‬فل َ‬ ‫ت ماري ُ‬ ‫ح ْ‬
‫فاستْروَ َ‬
‫ضُر به؟‬ ‫ست َ ِ‬‫علينا إذا فتحوا البلد‪ ،‬ول يكون ما ن َ ْ‬
‫حب لنفسنا;‬ ‫قالت أرمانوسة‪ :‬ل ضيَر يا مارية‪ ،‬ول يكون إل ما ن ُ ِ‬
‫ولء الُعلوج من الروم‪ ،‬يفهمون متاع َ الدنيا‬ ‫فالمسلمون ليسوا كه ّ‬
‫قساةُ‬ ‫حرص عليه‪ ،‬والحاجة إلى حلله وحرامه‪ ،‬فهم ال ُ‬ ‫بفكرة ال ِ‬
‫مستكِلبون كالبهائم; ولكنهم يفهمون متاع َ الدنيا بفكرة‬ ‫ظ ال ُ‬‫الِغل ُ‬
‫الستغناء عنه والتمييز بين حلله وحرامه‪ ،‬فهم النسانيون الّرحماء‬
‫المتعففون‪.‬‬
‫ة‪ ،‬إن هذا لعجيب! فقد مات سقراط‬ ‫قالت مارية‪ :‬وأبيك يا أرمانوس ُ‬
‫سطو وغيُرهم من الفلسفة والحكماء‪ ،‬وما استطاعوا‬ ‫ن وأرِ ْ‬ ‫وأفلطو ُ‬
‫رجوا‬ ‫ب التي كتبوها‪ !...‬فلم يخ ِ‬ ‫ؤدبوا بحكمتهم وفلسفتهم إل الكت َ‬ ‫أن ي ّ‬
‫ت من أمر‬ ‫ت أن ِ‬‫ف ِ‬ ‫ة النسانية‪ ،‬فضل عن أمة كما وص ْ‬ ‫ة تام َ‬ ‫للدنيا جماع َ‬
‫ة وهم يقولون‬ ‫ج هذه الم َ‬ ‫المسلمين; فكيف استطاع نبّيهم أن ُيخرِ َ‬
‫ة من كبار الفلسفةِ والحكماء وأهل‬ ‫خُر الحقيق ُ‬ ‫س َ‬ ‫إنه كان أمّيا; أفت ْ‬
‫عهم يعملون ع ََبثا َ أو كالعبث‪ ،‬ثم تستسلم‬ ‫السياسة والتدبير; فتد ُ‬
‫للرجل المي الذي لم يكُتب ولم يقرا ً ولم يدُرس ولم يتعلم؟‬
‫مها وحساب أفلكها‪،‬‬ ‫قالت أرمانوسة‪ :‬إن العلماء بهيئةِ السماء وأجرا ِ‬
‫شقون الفجر وُيطلعون الشمس; وأنا أرى أنه ل‬ ‫ليسوا هم الذين ي َ ُ‬
‫ن عمُلها في الحياة إيجاد َ الفكار‬ ‫طرتها يكو ُ‬ ‫بد من أمة طبيعية بف َ‬
‫ح وعمَله‬ ‫ت المسي َ‬ ‫العمليةِ الصحيحةِ التي يسير بها العالم‪ ،‬وقد درس ُ‬
‫جد هذه المة‪ ،‬غير ّانه أوجدها‬ ‫ة عمره يحاول أن يو ِ‬ ‫طيل َ‬
‫وزمَنه‪ ،‬فكان ِ‬
‫ُ‬
‫مصغرة في نفسه وحوارييه‪ ،‬وكان عمله كالبدء في تحقيق الشيء‬ ‫ُ‬
‫ت معنى المكان فيه‪.‬‬ ‫سُبه أن ُيثب ِ َ‬ ‫ح ْ‬ ‫العسير; َ‬
‫ه الحقيقة إلى نفسها;‬ ‫وظهوُر الحقيقة من هذا الرجل المي هو تنبي ُ‬
‫ب يا مارية‪،‬‬ ‫وبرهانها القاطعُ أنها بذلك في مظهرها اللهي‪ .‬والعجي ُ‬
‫مه وناكروه وأجمعوا على خلِفه‪ ،‬فكان في‬ ‫أن هذا النبي قد خذله قو ُ‬
‫ح انتهى عند ذلك; أما هذا فقد ثبت‬ ‫ذلك كالمسيح‪ ،‬غير أن المسي َ‬
‫ت الواقع حين يقع; ل يرتد ّ ول يتغير; وهاجَر من بلده‪ ،‬فكان ذلك‬ ‫ثبا َ‬
‫ت‬‫طا الحقيقةِ التي أعلنت أنها سَتمشي في الدنيا‪ ،‬وقد أخذ ْ‬ ‫خ َ‬ ‫ْاول ُ‬
‫ة المسيح قد جاءت للدنيا كّلها لها‬ ‫مئذ تمشي‪ .‬ولو كانت حقيق ُ‬ ‫من يو ِ‬
‫ث أن المسيح لم‬ ‫ت به كذلك‪ ،‬فهذا فرق آخر بينهما‪ .‬والفرقُ الثال ُ‬ ‫جر ْ‬
‫ت من‬ ‫ن فعلم ُ‬ ‫يأت إل بعبادة واحدة هي عبادة ُ القلب‪ ،‬أما هذا الدي ُ‬
‫شد ُ بعضها بعضًا‪ :‬إحداها للعضاء‪ ،‬والثاني ُ‬
‫ة‬ ‫ث عبادات ي ُ‬ ‫أبي أنه ثل ُ‬
‫دها الضبط;‬ ‫ة للنفس; فعبادة ُ العضاء طهارُتها واعتيا ُ‬ ‫للقلب‪ ،‬والثالث ُ‬
‫س طهارُتها وبذُلها‬ ‫ب طهارُته وحّبه الخير; وعبادة ُ النف ِ‬ ‫وعبادة ُ القل ِ‬
‫في سبيل النسانية‪ .‬وعند أبي أنهم بهذه الخيرة سيملكون الدنيا;‬
‫دهما‪.‬‬ ‫ت أوسعُ الجانبين وأسع ُ‬ ‫فلن ُتقهَر أمة عقيدُتها أن المو َ‬
‫سر إِلهي يدل على نفسه; فمن طبيعة‬ ‫قالت مارية‪ :‬إن هذا والله ل ِ‬
‫ت إل في أحوال‬ ‫سه غيَر مباليةٍ الحياة َ والمو َ‬ ‫ث نف ُ‬ ‫النسان أل تنبع َ‬
‫قليلة‪ ،‬تكون طبيعة النسان فيها عمياء‪ :‬كالغضب العمى‪ ،‬والحب‬
‫ت‬ ‫ة كما قل ِ‬ ‫ة السلمي ُ‬ ‫العمى‪ ،‬والتكب ّرِ العمى; فإذا كانت هذه الف ُ‬
‫منبعثة هذا النبعاث‪ ،‬ليس فيها إل الشعوُر بذاتيتها العالية‪ -‬فما بعد‬
‫ن هو شعوُر النسان بسموّ ذاتيِته‪ ،‬وهذه هي‬ ‫ذلك دليل على أن الدي َ‬
‫ت في الفلسفة والحكمة‪.‬‬ ‫ة النهايا ِ‬ ‫نهاي ُ‬
‫ك تتهيئين أن تكوني‬ ‫ل على أن ِ‬ ‫قالت أرمانوسة‪ :‬وما بعد ذلك دلي ْ‬
‫مسلمة يا مارية!‬
‫سِبه‪،‬‬ ‫ح َ‬‫ك فيه ب َ‬ ‫ت كلما َ جاريت ُ ِ‬ ‫حك ََتا معا َ وقالت مارية‪ :‬إنما ألقي ِ‬ ‫فاسَتض َ‬
‫فأنا وأنت فكرتان ل مسلمتان‪.‬‬
‫***‬
‫دوا إلى المقوقس في‬ ‫م عن ُبلبيس‪ ،‬وارت ّ‬ ‫قال الراوي‪ :‬وانهزم الرو ُ‬
‫حصار‪ -‬وهي نحو‬ ‫ة مدة َ ال ِ‬ ‫ة في ماري َ‬ ‫ي أرمانوس َ‬ ‫متف(‪ ،‬وكان وح ُ‬ ‫) َ‬
‫م بما في‬ ‫ن فكرا َ وتمدد فيه; فقد مر ذلك الكل ُ‬ ‫الشهر‪ -‬كأنه فكر سك َ َ‬
‫ع‬
‫عقلها من حقائق النظر في الدب والفلسفة‪ ،‬فصنع ما يصن ُ‬
‫ة ُتجادلها وتدفعها إلى التسليم‬ ‫خي ِل َ ً‬
‫ف بكتاب ينقحه‪ ،‬وأنشا ً لها أ ْ‬ ‫ول ُ‬ ‫الم ّ‬
‫كد‪.‬‬‫وكد لنه موّ ّ‬ ‫بالصحيح لنه صحيح‪ ،‬والم ّ‬
‫ومن طبيعة الكلم إذا أثر في النفس‪ ،‬أن ينتظم في مثل الحقائق‬
‫م أرمانوسة في عقل مارية‬ ‫قى للحفظ; فكان كل ُ‬ ‫الصغيرة التي ُتل َ‬
‫ة‬
‫ملة‪ ،‬ما من ذلك بد‪ .‬ل تكون خدم ُ‬ ‫ح بدء وللبدء َتك ِ‬ ‫هكذا‪" :‬المسي ُ‬
‫ة التي تبذل كل‬ ‫وها‪ .‬الم ُ‬ ‫النسانية إل بذات عالية ل تبالي غيَر سم ّ‬
‫جْبنا ً وحرصا ً ل تأخذ شيًا‪ ،‬والتي تبذل‬ ‫ك بالحياة ُ‬ ‫شيء وتستمس ُ‬
‫حها فقط تأخذ كل شيء"‪.‬‬ ‫أروا َ‬
‫ل اليوناني;‬ ‫ة وأمثالها ُتعزب هذا العق َ‬ ‫ُ‬ ‫ت هذه الحقائقُ السلمي ُ‬ ‫وجعل ْ‬
‫ة إلى أبيها‪ ،‬وانتهى ذلك‬ ‫ه أرمانوس َ‬ ‫فلما أراد عمرو بن العاص توجي َ‬
‫ك في شرفها وعقلها أن‬ ‫ل بمن كانت مثل َ ِ‬ ‫م ُ‬‫ة قالت لها‪ :‬ل َيج ُ‬ ‫إلى ماري َ‬
‫ه حيث ُيساُر بها; والرأي أن تبدئي هذا القائد َ‬ ‫ج ُ‬
‫خيذة‪ ،‬ت َت َوَ ً‬ ‫تكون كال ِ‬
‫ك; فأرسلي إليه فأعلميه أنك راجعة إلى أبيك‪ ،‬واسأليه‬ ‫قبل أن يبدأ ِ‬
‫ض رجاله; فتكوني المرة َ حتى في السر‪ ،‬وتصنعي‬ ‫حَبك بع َ‬ ‫ص ِ‬ ‫أن ي ُ ْ‬
‫ت الملوك!‪.‬‬ ‫صن ْعَ بنا ِ‬ ‫ُ‬
‫دهائك;‬ ‫كو َ‬ ‫ك في لسان ِ‬ ‫ً‬
‫قالت أرمانوسة‪ :‬فل أجد لذلك خيرا من ِ‬
‫خذي معك‬ ‫طا(‪ ،‬و ُ‬ ‫ب )ش َ‬ ‫فاذهبي إليه من قَِبلي‪ ،‬وسَيصحُبك الراه ُ‬
‫كوكبة من فرساننا‪.‬‬
‫***‬
‫ك فقال‪:‬‬ ‫ت إليه رسال َت َ ِ‬ ‫ص على سيدتها‪ :‬لقد أدي ُ‬ ‫ة وهي تق ُ‬ ‫قالت ماري ُ‬
‫كيف ظنها بنا؟‬
‫مه‪ ،‬وديُنه‪ .‬فقال‪:‬‬ ‫ل رجل كريم يأمره اثنان‪ :‬كر ُ‬ ‫قلت‪ :‬ظّنها بفع ِ‬
‫ط خيرا َ فإن لهم فيكم‬ ‫صوا بالقب ِ‬ ‫ست َوْ ُ‬ ‫أبلغيها أن نبينا "ص" قال‪" :‬ا ْ‬
‫صْهرا َ وِذمة"‪ .‬وأعلميها أننا لسنا على غارة ُنغي ُِرها‪ ،‬بل على نفوس‬ ‫ِ‬
‫صفيهِ لي يا مارية‪.‬‬ ‫ُنغي ُّرها‪ .‬قالت‪ :‬فَ ِ‬
‫قالت‪ :‬كان آتيا ً في جماعة من فرساِنه على خيولهم الِعراب‪ ،‬كأنها‬
‫ن من جنس آخر; فلما صار بحيث أتبي ُّنه أّوما ً‬ ‫ن تحمل شياطي َ‬ ‫شياطي ُ‬
‫ت‪ ،‬فإذ هو على فَرس‬ ‫ن( موله‪ -‬فنظر ُ‬ ‫ن‪ -‬وهو )َوردا ُ‬ ‫ما ُ‬
‫ج َ‬ ‫إليه التر ُ‬
‫سوَد ِ ول للحمر‪،‬‬ ‫م )أحمر ضارب للسواد( لم يخُلص لل ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫مْيت أ َ‬ ‫كُ َ‬
‫رف له ذ ُّوابة أعلى ناصيته كط ُّرةِ المرأة‪ ،‬ذّيال‬ ‫ش ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ل العنق ُ‬ ‫طوي ِ‬
‫مطّهم‪...‬‬ ‫م كأنه يريد أن يتكلم‪ُ ،‬‬ ‫ح ُ‬‫م ِ‬‫ح ْ‬ ‫يتبختر بفارسه وي ُ َ‬
‫ه‪...‬‬
‫ة جواد ِ‬ ‫ك صف َ‬ ‫فقطت أرمانوسة عليها وقالت‪ :‬ما سْالت ِ‬
‫حه‪...‬‬ ‫قالت مارية‪ :‬أما سل ُ‬
‫صفيه كيف رأيتهِ )هو(!‬ ‫سلحه‪ِ ،‬‬ ‫قالت‪ :‬ول ِ‬
‫ة‬‫ة قوة وصلبة‪ ،‬وافَر الهامةِ علم َ‬ ‫قالت‪ :‬رأيُته قصيَر القامةِ علم َ‬
‫ج العينين‪...‬‬ ‫عقل وإرادة‪ ،‬أدع َ‬
‫ت أرمانوسة وقالت‪ :‬علمة ماذا؟‪...‬‬ ‫فضحك ْ‬
‫ت‬‫شرِقُ وجُهه كأن فيه للء الذهب على الضوء‪ ،‬أّيدا ً اجتمع ْ‬ ‫ج يُ ْ‬ ‫‪ ...‬أبل َ‬
‫ب‬
‫ة كت ِ َ‬ ‫فيه القوّة ُ حتى لتكاد عيناه تأمران بنظرهما أمرأ‪ ...‬داهي ً‬
‫ى يأخذ من يراه; وكلما‬ ‫دهاّوه على جبهته العريضة يجعل فيها معن ً‬ ‫َ‬
‫سُره إل تكرُر النظر‬ ‫ت وجَهه ل ُيف ّ‬ ‫س في وجِهه رأي ُ‬ ‫ت أن أتفَر َ‬ ‫حاول ُ‬
‫إليه‪..‬‬
‫ي أرمانوسة‪.! .‬‬ ‫َ‬
‫ت وجنتاها‪ ،‬فكان ذلك حديثا بينها وبين عين َ ْ‬ ‫وتضَرج ْ‬
‫وقالت هذه‪ :‬كذلك كل لذة ل يفسرها للنفس إل تكراُرها‪...‬‬
‫ت‬
‫فت‪ ،‬وإني ما مل ُ‬ ‫ص ْ‬ ‫طرِفها وقالت‪ :‬هو والّله ما وَ َ‬ ‫ة من َ‬ ‫فغضت ماري ُ‬
‫ت أنكر أنه إنسان لما اعتراني من هيبته‪...‬‬ ‫عيني منه‪ ،‬وقد كد ُ‬
‫عينيه الدعجاوين‪...‬؟‬ ‫هيبته أم َ‬ ‫قالت أرمانوسة‪ :‬من َ‬
‫***‬
‫ت المقوقس إلى أبيها في صحبة )َقيس(‪ ،‬فلما كانوا في‬ ‫ت بن ُ‬ ‫ورجع ْ‬
‫صلي بمن معه والفتاتان‬ ‫ظهر‪ ،‬فنزل قيس ي ُ َ‬ ‫جَبت ال ّ‬ ‫الطريق وَ َ‬
‫ب مارية‪ ،‬وسألت‬ ‫تنظران; فلما صاحوا‪" :‬الله أكبر‪ " !...‬ارتعش قل ُ‬
‫ب )شطا(‪ :‬ماذا يقولون; قال‪ :‬إن هذه كلمة يدخلون بها‬ ‫الراه َ‬
‫ة في وقت ليس منه‬ ‫ن أنهم الساع َ‬ ‫طبون بها الزم َ‬ ‫صلَتهم‪ ،‬كأنما يخا ِ‬
‫ول من دنياهم‪ ،‬وكأنهم يعلنون أنهم بين يدي من هو أكبر من‬
‫ت‬ ‫شَهوا ِ‬ ‫الوجود; فإذ أعلنوا انصراَفهم عن الوقت ونزاع الوقت و َ‬
‫حون الدنيا من‬ ‫م ُ‬ ‫الوقت‪ ،‬فذلك هو دخوُلهم في الصلة; كأنهم ي َ ْ‬
‫عهم‬ ‫وها من أنفسهم هو أرتفا ُ‬ ‫ح ُ‬ ‫م ْ‬‫ض ساعة; و َ‬ ‫ة أو بع َ‬ ‫النفس ساع ً‬
‫حرا َ‬ ‫س ْ‬‫حَرتهم ِ‬ ‫س َ‬
‫ن هذه الكلمة قد َ‬ ‫بأنفسهم عليها; انظري‪ ،‬أل ت ََري ْ َ‬
‫فهم ل يلتفتون في صلتهم إلى شيء; وقد شملتهم السكينة‪،‬‬
‫شعوا خشوع أعظم الفلسفةِ في‬ ‫من كانوا‪ ،‬وخ َ‬ ‫غير َ‬ ‫جعوا َ‬ ‫وَر َ‬
‫مِلهم؟‪.‬‬ ‫تأ ُ‬
‫ب‬ ‫ل هذه الفطرة َ الفلسفية! لقد ت َعَِبت الكت ُ‬ ‫قالت مارية‪ :‬ما أجم َ‬
‫ة في سكينةِ الّله عليهم فما‬ ‫ل الدنيا يستقّرون ساع َ‬ ‫ل أه َ‬ ‫لتجع َ‬
‫ور‬ ‫مصلين بالزخارف والبخ َ‬ ‫ولت على ال ُ‬ ‫ت‪ ،‬وجاءت الكنيسة فهَ ّ‬ ‫أفلح ْ‬
‫ي إلى نفوسهم ضربا َ من الشعور بسكينة‬ ‫ح َ‬‫والتماثيل واللوان‪ ،‬لُتو ِ‬
‫ديني‪ ،‬وهي بذلك تحتال في نقلهم من‬ ‫س المعنى ال ّ‬ ‫الجمال وتقدي ِ‬
‫جَز‬ ‫وها; فكانت كساقي الخمر; إن لم ُيعطك الخمَر ع َ َ‬ ‫وهم إلى ج ّ‬ ‫ج ّ‬
‫ل معه كنيسة‬ ‫شوة‪ .‬ومن ذا الذي يستطيع أن يحم َ‬ ‫عن إعطائك الن ْ‬
‫على جواد أو حمار؟‬
‫ة كالحديقة; هي حديقة في مكانها‪،‬‬ ‫قالت أرمانوسة‪ :‬نعم إن الكنيس َ‬
‫ن الربعة‪،‬‬ ‫ة هي الجدرا ُ‬ ‫وقلما ُتوحي شيا َ إل في موضعها; فالكنيس ُ‬
‫ولء فمعبدهم بين جهات الرض الربع‪.‬‬ ‫أما ه ّ‬
‫ت عليهم الدنيا‬ ‫ح ْ‬ ‫ولء المسلمين متى فُت ِ َ‬ ‫قال الراهب شطا‪ :‬ولكن ه ّ‬
‫وافتتنوا بها وانغمسوا فيها ‪ -‬فستكون هذه الصلة ُ بعينها ليس فيها‬
‫صلة يومئذ‪.‬‬
‫واد كثيرون‬ ‫قالت مارية‪ :‬وهل ُتفَتح عليهم الدنيا‪ ،‬وهل لهم قُ ّ‬
‫مرو‪..‬؟‬ ‫كعَ ْ‬
‫قال‪ :‬كيف ل ُتفتح الدنيا على قوم ل ُيحاربون المم بل يحاربون ما‬
‫فيها من الظلم والكفر والرذيلة‪ ،‬وهم خارجون من الصحراء بطبيعة‬
‫فس‬ ‫داخلها إل أن ُ‬ ‫وج في المد المرتفع; ليس في َ‬ ‫قوية كطبيعة الم ْ‬
‫ة إلى الخارج عنها; ثم يقاتلون بهذه الطبيعة أمما َ ليس في‬ ‫مندفع ٌ‬
‫ب إلى الداخل‪!...‬‬ ‫س المستعد ّة ُ أن تهر َ‬ ‫الداخل منها إل النفو ُ‬
‫عمرو‪....‬‬ ‫قالت مارية‪ :‬والّله لكأننا ثلث ََتنا على ِدين َ‬
‫ة كان عندها‬ ‫ذى ماري َ‬ ‫حل‪ ،‬فلما حا َ‬ ‫وانفتل قيس من الصلة‪ ،‬وأقبل يتر َ‬
‫حلم‬ ‫كأنما سافر ورجع; وكانت ما تزال في أحلم قلبها; وكانت من ال ُ‬
‫عمرو وما يتصل بعمرو‪ .‬وفي هذه‬ ‫خذ َ يتلشى إل من َ‬ ‫في عاَلم أ َ‬
‫ب عن‬ ‫ن بحقائقه‪ :‬فيغي ُ‬ ‫الحياةِ أحوال! "ثلث " يغيب فيها الكو ُ‬
‫ة رابعة يتلشى فيها الكون‬ ‫السكران‪ ،‬والمخبول‪ ،‬والنائم; وفيها حال ٌ‬
‫إل من حقيقة واحدة تتمثل في إنسان محبوب‪.‬‬
‫ه‪ :‬ما أَرُبهم من هذه الحرب‪ ،‬وهل‬ ‫سل ْ ُ‬‫وقالت مارية للراهب شطا‪َ :‬‬
‫ن القائد ُ الذي يفتح بلدا ً حاكما َ على هذا‬ ‫في سياستهم أن يكو َ‬
‫البلد‪...‬؟‬
‫ك أن تعلمي أن انرجل المسلم ليس إل رجل ً عامل ً‬ ‫سب ُ ِ‬ ‫ح ْ‬‫قال قيس‪َ :‬‬
‫في تحقيهت كلمةِ الّله‪،‬أما حظ نفسهِ فهو في غير هذه الدنيا‪.‬‬
‫ح فهو في الكثر الحاكم‬ ‫مه هكذا‪ :‬أما الفات ُ‬ ‫ب كل َ‬ ‫م الراه ُ‬ ‫ج َ‬
‫وتر َ‬
‫ب‬‫ة تريد أن َتضر َ‬ ‫ح ُ‬‫مصل ِ َ‬‫ب فهي عندنا الفكرة ُ وأما ال ُ‬ ‫المقيم‪ ،‬الحر ُ‬
‫ظ النفس شيا ً يكون من الدنيا; وبهذا‬ ‫في الرض وتعمل‪ ،‬وليس ح ّ‬
‫س أكبر من غرائزها‪ ،‬وتنقلب معها الدنيا بُرعونتها‬ ‫تكون النف ُ‬
‫طه‬‫شَهواتها كالطفل بين يديْ رجل‪ ،‬فيهما قوة ُ ضب ِ‬ ‫وحماقاتها و َ‬
‫ب أعمالنا في الدنيا‪ ،‬لنعكس‬ ‫فه‪ .‬ولو كان في عقيدتنا أن ثوا َ‬ ‫وتصري ِ‬
‫المر‪.‬‬
‫م‬
‫قلة التي معة والرو ُ‬ ‫ه‪ :‬كيف يصنعُ )عمرو( بهذه ال ِ‬ ‫سل ْ ُ‬
‫قالت مارية‪ :‬ف َ‬
‫من عسى أن يستبدلوه منه;‬ ‫دهم; فإذا أخفقَ )عمرو( ف َ‬ ‫صى ع َد َ ُ‬‫ل ُيح َ‬
‫واِدهم‪ ،‬أو فيهم أكبُر منه؟‬ ‫وهل هو أكبُر قُ ّ‬
‫ق الخيل على‬ ‫حا ِ‬ ‫طر وأسرع في ل ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫س قيس ت َ‬ ‫قال الراوي‪ :‬ولكن فََر َ‬
‫سنا في هذا‪...‬‬ ‫ذمة كأنه يقول‪ :‬ل َ ْ‬ ‫المق َ‬
‫***‬
‫صِعدين إلى‬ ‫م ْ‬ ‫م ُ‬ ‫قبط‪ ،‬وولى الرو ُ‬ ‫صْلحا ً بين عمرو وال ِ‬ ‫ت مصُر ُ‬ ‫وُفتح ْ‬
‫ف‬
‫ة في ذلك تستقرىء أخباَر الفاتح تطو ُ‬ ‫السكندرية‪ ،‬وكانت ماري ُ‬
‫منها على أطلل من شخص بعيد; وكان عمرو من نفسها كالمملكة‬
‫ب‬‫ح َ‬ ‫ش َ‬‫ذها; وجعلت تذوي و َ‬ ‫ه أن يأخ َ‬ ‫حب ُ‬
‫ك إل ُ‬ ‫الحصينة من فاتح ل يمل ُ‬
‫مأى;‬ ‫لوُنها وبدأت تنظر النظرة َ التائهة‪ :‬وبان عليها أثر الروح الظ ْ‬
‫ة المعاني; إذ‬ ‫دت مجروح َ‬ ‫وه الذي ُيحرق الدم; وَب َ َ‬ ‫س بج ّ‬ ‫وحاطها اليأ ُ‬
‫ل في نفسها الشعوران العَد ُّوان‪ :‬شعوُر أنها عاشقة‪،‬‬ ‫كان يتقات ُ‬
‫وشعوُر أنها يائسة!‬
‫سهَِرتا‬ ‫ت لها أرمانوسة‪ ،‬وكانت هي أيضا َ تتعلق فًتى روماني َّا‪ ،‬ف َ‬ ‫ورقّ ْ‬
‫ة من قبلها إلى عمرو كي‬ ‫ة ُتديران الرأي في رسالة تحملها ماري ُ‬ ‫ليل َ‬
‫ة نفسها‪ ...‬واستقّر المُر‬ ‫ت بّلغت بعينيها رسال َ‬ ‫ل إليه‪ ،‬فإذا وصل ْ‬ ‫تص َ‬
‫ة القبطية وخبرها ونسلها وما يتعل َقُ بها‬ ‫ة عن ماري َ‬ ‫أن تكون المسأل ُ‬
‫ل من امرأة عن امرأة‪ .‬فلما‬ ‫وا ُ‬ ‫مما يطول الخباُر به إذا كان الس ّ‬
‫حتا وقعَ إليها أن عمرا ً قد سار إلى السكندرية لقتال الروم‪،‬‬ ‫أصب َ َ‬
‫ة قد‬ ‫ض أصابوا يمام ً‬ ‫قو ّ َ‬‫سطاطه أن ي ُ َ‬ ‫ف ْ‬‫وشاع الخبر أنه لما أمر ب ُ‬
‫ت في جوارنا‪ ،‬أِقروا ً‬ ‫م ْ‬‫حّر َ‬ ‫باضت في أعله‪ ،‬فأخبروه فتال‪" :‬قد ت َ َ‬
‫خها"‪ .‬فأقَّروه!‬ ‫ط حتى تطيَر فَِرا ُ‬ ‫الفسطا َ‬

‫***‬
‫فظت عنها‬ ‫ح ِ‬‫ة نحبها‪ ،‬و َ‬ ‫ض غيُر طويل حتى قضت ماري ُ‬ ‫ولم يم ِ‬
‫ة هذا الشعر الذي أسمته‪ :‬نشيد اليمامة‪.‬‬ ‫أرمانوس ُ‬
‫ضها‪.‬‬
‫حضن ب َي ْ َ‬ ‫ط المير يمامة جاثمة ت َ ْ‬ ‫على ُفسطا ِ‬
‫تركها الميُر َتصنعُ الحياة‪ ،‬وذهب هو َيصنعُ الموت!‬
‫مها‪.‬‬ ‫س أحل َ‬ ‫هي كأسعد امرأة; ت ََرى وتلم ُ‬
‫ض حقائق صغيرة كهذا البيض‪.‬‬ ‫خُرها بع ُ‬‫إن سعادة َ المرأة أوُلها وآ ِ‬
‫ضها‪.‬‬‫ة تحضن بي َ‬ ‫ة جاثم ٌ‬‫على فسطاط المير يمام ْ‬
‫كنزي‪.‬‬ ‫ت عن هذا البيض لقالت‪ :‬هذا َ‬ ‫سئ ِل َ ْ‬
‫لو ُ‬
‫قر‪.‬‬‫ملكها من الحياةِ ولم تفت ِ‬ ‫كت ِ‬‫مل َ َ‬
‫هي كأهنأ امرأة‪َ ،‬‬
‫جل ً واحدا ً أحبه!‬ ‫ُ‬
‫هر ُ‬‫هل أكلف الوجود َ شيا ً كثيرا َ إذا كلفت ُ ُ‬
‫***‬
‫ضها‪.‬‬‫على فسطاط المير يمامة جاثمة تحضن بي َ‬
‫ض‪.‬‬ ‫ُ‬
‫س والقمُر والنجوم‪ ،‬كلها أصغُر في عينها من هذا البي ِ‬ ‫الشم ُ‬
‫ة مرتين‪ :‬في الحب‪ ،‬والولدة‪.‬‬ ‫هي كأرق امرأة; عرفت الرقّ َ‬
‫ُ‬
‫ت أن أكون كهذه اليمامة!‬ ‫هل أكلف الوجود شيا ً كثيرا ً إذا أرد ُ‬
‫***‬
‫ضها‪.‬‬ ‫على فسطاط المير يمامة جاثمة تحضن بي َ‬
‫تقول اليمامة‪ :‬إن الوجود َ يحب أن ُيرى بلونين في عين النثى;‬
‫جلها‪ ،‬ومرة حبيبا ً صغيرا َ في أولدها‪.‬‬ ‫مرة ً حبيبا ً كبيرا ً في َر ُ‬
‫ل شيء خاضغ لقانونه; والنثى ل تريد أن تخضع إل لقانونها‪.‬‬ ‫ك ّ‬
‫***‬
‫َ‬
‫ك فسطاطه!‬ ‫كل ِ‬ ‫أيُتها اليمامة‪ ،‬لم تعرفي الميَر وتر َ‬
‫ف في ناحية‪ ،‬وظلم مضاعف في ناحية‬ ‫هكذا الحظ‪ :‬عدل مضاع ٌ‬
‫أخرى‪.‬‬
‫ن ليس عندكم لغات وأديان‪ ،‬عندكم‬ ‫ه أيُتها اليمامة‪ ،‬أ ْ‬ ‫احمدي الل َ‬
‫ة و الحياة‬ ‫فقط‪ :‬الحب والطبيع ُ‬

‫أحلم في الشـارع‬
‫م البارد‪،‬‬‫ن الرخا َ‬ ‫ه يفترشا ِ‬ ‫م وأخت ُ ُ‬‫م الغل ُ‬ ‫ك( نا َ‬
‫على عتب َةِ )البن ِ‬
‫وا رخامّيا في برِده وصلبت ِهِ على جسميِهما‪.‬‬ ‫نج ّ‬ ‫ويلتحفا ِ‬
‫ؤه )ركب‬ ‫ت أعضا ُ‬ ‫كب في َثوب ِهِ كأنه جسم قُط ّعَ وُرك ِ‬
‫م ْ‬ ‫مت َك َب ْ ِ‬
‫ل ُ‬ ‫الطف ُ‬
‫س‬
‫ي الرأ ُ‬ ‫ت بثوب‪ ،‬وُرم َ‬ ‫سجي َ ْ‬‫ضها على بعض‪ ،‬و ُ‬ ‫بعضها فوق بعض( بع ُ‬
‫ده‪.‬‬‫ل على خ ّ‬ ‫من فوِقها فما َ‬
‫طط لمرأة‪ ،‬بدأها المصوُر ثم‬ ‫خ َ‬ ‫م َ‬
‫م ُ‬‫ن الُهزال َرس ٌ‬ ‫م َ‬‫والفتاة ُ كأنها ِ‬
‫ل على‬ ‫ب الذبو ُ‬ ‫ن ما يكت ُ‬ ‫ب الفقُر عليها للعي ِ‬ ‫أغفَلها إذ ْ لم ُتعجبه‪ .‬كت َ َ‬
‫شا‪ ...‬نائمة في صورةِ ميتة‪ ،‬أو كميتةِ في‬ ‫الزهرة‪ :‬أنها صارت قَ ً‬
‫ه أخيها‬
‫ب ضوُء القمرِ على وجِهها‪ ،‬وبقي وج ُ‬ ‫صورة نائمة‪ ،‬وقد ِ انسك َ‬
‫َ‬
‫ف‬
‫دها‪ِ ،‬إذ عر َ‬‫ح إليها وح َ‬ ‫جه المصبا َ‬ ‫في الظل‪ ،‬كأن في السماِء مَلكا ً و ّ‬
‫ل همها‬‫ن في وجِهها هي ك ّ‬ ‫م‪ ،‬وأ ّ‬‫ةه ّ‬ ‫ل ليس ِفي وجهه علم ُ‬ ‫أن الطف َ‬
‫م أخيها‪.‬‬ ‫وه ّ‬
‫م‬
‫ل الهمو َ‬ ‫ب يحم ُ‬ ‫خل ِقَ لها قل ْ‬‫د‪ُ -‬‬ ‫قت لت َل ِ َ‬
‫خل َ‬
‫ل أنها أنثى قد ُ‬ ‫من أج ِ‬
‫دها ويربيها‪.‬‬ ‫ويل ُ‬
‫م دائما ً ِفي الحياةِ آلما ً فيها معنى‬ ‫ُ‬
‫دت للمومة‪ ،‬تتأل ُ‬ ‫ل أنها أع ّ‬ ‫من أج ِ‬
‫انفجارِ الدم‪.‬‬
‫د‪ ،‬يزيد ُ هذا الوجود ُ دائما ً في‬ ‫ل أنها هي التي َتزيد ُ الوجو َ‬ ‫من أج ِ‬
‫أحزانها‪.‬‬
‫حها‪ ،‬فكيف بها‬ ‫َ‬
‫وإذا كانت بطبيعِتها ُتقاسي اللم ل ُيطاقُ حين تلد ُ فََر َ‬
‫في الحزن‪!...‬‬

‫م مطمئنا ً إلى هذا الوجودِ‬ ‫ل إلى صدرِ أخِته‪ ،‬وقد نا َ‬ ‫س الطف ِ‬ ‫وكان رأ ُ‬
‫ج من‬ ‫ل إذا خر َ‬‫م الطف ُ‬ ‫ل مثِله‪ ،‬ما دا َ‬ ‫النسوي‪ ،‬الذي ل ب ُد َ منه لكل طف ِ‬
‫ج إلى الدنيا وإلى صدِرها معا‪ً.‬‬ ‫ن أمهِ خر َ‬ ‫بط ِ‬
‫سَلة على أخيها كي َد ِ الم على طفِلها‪ .‬يا ِإلهي!‬ ‫مر َ‬ ‫دها ُ‬ ‫مت هي وي ُ‬ ‫ونا َ‬
‫دها مستيقظة!‬ ‫ت وي ُ‬ ‫م ْ‬ ‫نا َ‬
‫ت ِبالسعداِء‬ ‫قي ْ‬
‫ش ِ‬ ‫ن؟ أم كلهما تمثال للنسانيةِ التي َ‬ ‫أهما طفل ِ‬
‫فت سعادُتها به؟‬ ‫ه من رحمِته أل تجد َ شقيا مثَلها أل تضاع َ‬ ‫ضها الل َ ُ‬ ‫فعو َ‬
‫ن في الجسم ِ الخر‪،‬‬ ‫ب أحد ِ الحبيبي ِ‬ ‫ن كيف َيسري قل ُ‬ ‫ن يصورا ِ‬ ‫تمثال ِ‬
‫رها وغناها‪ ،‬ول‬ ‫ل الدنيا إليه بفق ِ‬ ‫ل له وجودا ً فوقَ الدنيا‪ ،‬ل تص ُ‬ ‫فيجع ُ‬
‫ي‬
‫سعادِتها وشقاِئها‪ ،‬لنه وجود ُ الحب ل وجود ُ العمر‪ ،‬وجود سحر ّ‬
‫ر‬
‫ل والتراب‪ ،‬والمي ِ‬ ‫ن الما ِ‬ ‫ليس فيه معًنى للكلمات‪ ،‬فل فرقَ بي َ‬
‫س الدم‪ ،‬وإذ ِ المعنى ليس في أشياءِ‬ ‫ة هناك إحسا ُ‬ ‫صعلوك‪ ،‬إذ ِ اللغ ُ‬ ‫وال ُ‬
‫المادةِ ولكن في أشياِء الرادة‪.‬‬
‫ل معَنى وللتراب‬ ‫ن بعده للما ِ‬ ‫ظ معَ الموت‪ ،‬فيكو َ‬ ‫وهل تحيا اللفا ُ‬
‫معَنى‪...‬؟‬
‫ه‬
‫ت في نقل ِ‬ ‫ه المو ُ‬ ‫ل شبيها َ بما يفعل ُ ُ‬ ‫هي كذلك في الحب الذي يفع ُ‬
‫ن وراَء الدنيا‪ ،‬والخَر وراء‬ ‫َ‬
‫خر‪ ،‬ب َي ْد َ أن أحد َ العالمي ِ‬ ‫حياة َ إلى عالم آ َ‬ ‫ال َ‬
‫النفس‪.‬‬

‫م الطف ُ‬
‫ل المسكين‪ ،‬ومن شعورِهِ ِبهذه‬ ‫ت الممدودةِ ينا ُ‬
‫ت يد ِ الخ ِ‬
‫تح َ‬
‫ل الدنيا على قلِبه‪.‬‬ ‫اليد‪ ،‬خف ثق ُ‬
‫م يجد ُ في أخِته عاَلم َقلِبه الصغي ِ‬
‫ر‬ ‫م كّله‪ ،‬ما دا َ‬ ‫ذه العال َ ُ‬ ‫ل أن ن َب َ َ‬ ‫لم يبا ِ‬
‫ض‬
‫مه الغَ َ‬ ‫معَ لح َ‬‫ج َ‬
‫عشهِ المعلق‪ ،‬وقد َ‬ ‫ه فرخ من ِفراخ الطيرِ في ُ‬ ‫وكأن ُ‬
‫فسه‬ ‫َ‬
‫ن ضي ّقَ في ن ِ‬ ‫ح أمه‪ ،‬فأحس أهنأ السعادةِ حي َ‬ ‫جنا ِ‬
‫ت َ‬ ‫الحمَر تح َ‬
‫من‬ ‫ن الريش‪ .‬وكذلك َيسعد ُ كل َ‬ ‫م َ‬‫ن العظيم‪ ،‬وجعَله ُوجودا ً ِ‬ ‫الكو َ‬
‫ة في نشأة‬ ‫ل الطفول ُ‬ ‫ق وتبديِلها‪ ،‬وفي هذا تفع ُ‬ ‫ك قوة َ تغييرِ الحقائ ِ‬ ‫يمل ُ‬
‫ت الفلسفةِ الُعليا في جملةِ أعماِر‬ ‫ضه معجزا ُ‬ ‫ل بع َ‬ ‫رها ما ل تفع ُ‬ ‫عم ِ‬
‫الفلسفة‪.‬‬
‫جّنوا ِبالذهب‪ ،‬ول الذين فُِتنوا بالسلطة‪ ،‬ول الذين‬ ‫وما صنعَ الذين ُ‬
‫هََلكوا بالحب‪ ،‬ول الذين تحطموا ِبالشهوات‪ِ -‬إل أنهم حاولوا عبثا أن‬
‫َ‬
‫ت‬‫ب والشهوا ِ‬ ‫ة اللهِ لُتعطيهم في الذهب والسلطةِ والح ً‬ ‫شوا رحم َ‬ ‫َير ُ‬
‫ت ذراِع‬ ‫ب َتح َ‬ ‫م في أشعةِ الكواك ِ‬ ‫ن النائ َ‬ ‫ل المسكي َ‬ ‫ما َناوََلته هذا الطف َ‬
‫حه الرضي‪.‬‬ ‫ب ُرو ِ‬ ‫كوك ِ‬
‫ة‬
‫ل ملك ِهِ أن يشتريَ الطريق َ‬ ‫ك لن يستطيعَ بك ً‬ ‫م الملو ِ‬ ‫أل ِإن أعظ َ‬
‫ة قلب هذا الطفل‪.‬‬ ‫ض بها الساع َ‬ ‫ة التي َينب ُ‬ ‫الهنيئ َ‬

‫ن وأنا مستيقن أن حول َِهما ملئكة تصعد ُ وملئكة‬ ‫ت أشهد ُ الطفلي ِ‬ ‫وقف ُ‬
‫ة‬
‫كسَر ِ‬ ‫ه معَ المن َ‬ ‫ت هذا موضع من مواضِع الرحمة‪ ،‬فِإن الل َ َ‬ ‫تنزل‪ ،‬وقل ْ ُ‬
‫مَلكا َ كريما َ‬ ‫فحاِتها‪ ،‬ولعل َ‬ ‫ض لَنفحةٍ من ن َ‬ ‫ن أتعر َ‬ ‫قلوُبهم‪ ،‬ولعلي أ ْ‬
‫وج نفسي إليها‪،‬‬ ‫ة ما أح َ‬ ‫حه َرف َ‬ ‫يقول‪ :‬وهذا بائس آخر‪ ،‬فَُيرفني بجَنا ِ‬
‫س‬
‫ة من ذلك النورِ المتللىِء فوقَ الشم ِ‬ ‫تجد ُ بها في الرض لمس ً‬
‫والقمر‪.‬‬
‫ن‪ -‬أسود َ‬ ‫ل من مرأى الغلمي ِ‬ ‫وظهَر لي بناُء )البنك( في ظلمةِ اللي ِ‬
‫ح له‬ ‫ه إلى الصبح‪ ،‬ثم ُيفت َ ُ‬ ‫ن ُيمسك ُ ُ‬ ‫ل على شيطا ِ‬ ‫ن أقف َ‬ ‫ه سج ٌ‬ ‫كالحًا‪ ،‬كأئ ُ‬
‫فر ِبالل َهِ وبالنساني ِ‬
‫ة‬ ‫م جبار ك َ‬ ‫مَعفرًا‪ ،‬أيْ مخربَا‪ ....‬أو هم جس ُ‬ ‫لينطلقَ ُ‬
‫ه من‬ ‫ه بناء‪ ،‬وأحاط َ ُ‬ ‫ه الل َ ُ‬ ‫سخ ُ‬ ‫سه فم َ‬ ‫ظ نف ِ‬ ‫فسه وحظو ِ‬ ‫ن إل بن ِ‬ ‫ولم يؤم ْ‬
‫ره‪..،‬‬ ‫مهِ وكف ِ‬ ‫هذا الظلم ِ السودِ بمعاني آثا ِ‬
‫وى )الجوع(‬ ‫ن على الط َ َ‬ ‫ن في أطمارِ باليةٍ يبيتا ِ‬ ‫ن جائعا ِ‬ ‫يا عجبًا! بطنا ِ‬
‫من الذي ل ََعن‬ ‫ة البنك! ت َُرى َ‬ ‫عتب َ‬
‫هما ِإل َ‬ ‫ن ِوساد ُ ُ‬ ‫والهم‪ ،‬ثم ل يكو ُ‬
‫ن‬
‫ن الفارغي ِ‬ ‫ن القلبي ِ‬ ‫)البنك( بهذهِ اللعنةِ الحية؟ ومن الذي وضعَ هذي ِ‬
‫ؤها‬ ‫ة يمل ُ‬ ‫ن حديدي ً‬ ‫ن ليس البنك خزائ َ‬ ‫ت للناس أ ْ‬ ‫موضَعهما ذلك ل ُِيثب َ‬
‫ؤها الحب‪...‬؟‬ ‫ن قلبية يمل ُ‬ ‫الذهب‪ ،‬ولكّنه خزائ ُ‬
‫شعرٍ معًا‪ ،‬فإذا الفكُر والشعُر‬ ‫ة فكرٍ ورؤَية ِ‬ ‫ن رؤي َ‬ ‫ت أرى الطفلي ِ‬ ‫ف ُ‬ ‫وق ْ‬
‫م واشتد َ‬ ‫ضهما اله ُ‬ ‫ت في نفسين م ّ‬ ‫مِهما‪ ،‬ودخل ُ‬ ‫ن أحل ِ‬ ‫ن بيني وبي َ‬ ‫دا ِ‬ ‫يمت َ‬
‫هما )أتعبهما(‬ ‫عليهما الفقر‪ ،‬وما من شيٍء في الحياةِ ِإل كد ّ ُ‬
‫ت نومتي الشعرية‪...‬‬ ‫هما‪ ،‬ونم ُ‬ ‫سَر ُ‬ ‫وعا َ‬
‫ف على باب )السيما(‬ ‫لخِته‪ :‬هلمي فلنذهب من هنا فنق َ‬ ‫ل ْ‬ ‫قال الطف ُ‬
‫ن لهم أب وأم‪.‬‬ ‫ما بنا‪ ،‬فَنرى أولد َ الغنياِء الذي َ‬ ‫جم ّ‬ ‫نتفر ُ‬
‫ح النعمة‪،‬‬ ‫ف فيهم ُرو ُ‬ ‫انظري ها هم أولِء ي َُرى عليهم أثُر الِغنى‪ ،‬وُتعَر ُ‬
‫س‬
‫عظامهم‪ ،‬أما نحن فنلب ُ‬ ‫ن لحما ً على ِ‬ ‫شِبعوا‪ ...‬إنهم يلبسو َ‬ ‫وقد َ‬
‫منا جلدا َ كجلد ِ الحذاء‪ِ ،‬إنهم أولد ُ أهليهم‪ ،‬أما نحن فأولد ُ‬ ‫على عظا ِ‬
‫ة‬
‫ي ياِبس‪ ،‬يعيشون في الحيا ِ‬ ‫طب إنسان ّ‬ ‫ح َ‬‫الرض‪ ،‬هم أطفال‪ ،‬ونحن َ‬
‫ت‪ ،‬لهم‬ ‫ن نمو َ‬ ‫ت الموت‪ ،‬إلى أ ْ‬ ‫كرا ُ‬ ‫شنا هو س َ‬ ‫ثم يموتون‪ ،‬أما نحن فعي ُ‬
‫عيش وموت‪ ،‬ولنا الموت مكررًا‪.‬‬
‫ن الَبزةِ )الزي(‪،‬‬ ‫س ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ل البيض السمين‪ ،‬ال َ‬ ‫َويلي على ذلك الطف ِ‬
‫ل لص قد سرق طعاما ً‬ ‫ق الشاردة‪ ،‬ذاك الذي يأكل الحلوى أك َ‬ ‫الني ِ‬
‫ذه‬ ‫َ‬
‫فأشرع َ َيحد ُِر في جوفه ما سرق‪ ،‬هو الغَِنى الذي جعله يبتلعُ به ِ‬
‫ب ما يأكل‪ ،‬أو له حلقٌ غيُر‬ ‫الشراهة )شدة الكل(‪ ،‬كأنما يشَر ُ‬
‫م معه‪ ،‬وإذا ارتفعنا عن‬ ‫حلوق‪ ،‬ونحن‪ -‬إذا أكلنا‪ -‬ن ََغص بالخِبز ل أد َ‬ ‫ال ُ‬
‫فنا َ أو فاسدا َ ل‬ ‫ن الطعام‪ ،‬وأصبناه ع َ ِ‬ ‫م َ‬‫ذه الحالةِ لم نجذ ِإل الَبشيعَ ِ‬ ‫ه ِ‬
‫م من ُقشوِر‬ ‫م ُ‬‫ق َ‬ ‫س ِإل ما َنت َ‬ ‫فضَنا فلي َ‬ ‫حلق‪ ،‬فإذا انخ َ‬ ‫سوغ ُ في ال َ‬ ‫يَ ُ‬
‫ت الخبز )ٌفتاته( كالدواب والكلب‪ِ ،‬وإن لم نجد‬ ‫حَتا ِ‬ ‫ض ومن ُ‬ ‫الر ِ‬
‫م قوم في دار أو ن ُُزل‪ ،‬فنراهم يأكلون‬ ‫َ‬
‫ن طعا َ‬ ‫م وقفَنا ن ََتحي ُ‬ ‫ومسنا الُعد ُ‬
‫ضربا ً‬ ‫مهم وإل أطعمونا َ‬ ‫ن نستطع َ‬ ‫ل معهم بأعيِننا‪ ،‬ول نطمعُ أ ْ‬ ‫فنأك ُ‬
‫ب ما كان‬ ‫ن قد جئناهم بألم واحد ِ فرُدونا بألمين‪ ،‬ونفقد ُ بالضر ِ‬ ‫فنكو ُ‬
‫ل والصبر‪.‬‬ ‫ن الحتما ِ‬ ‫قنا م َ‬ ‫م َ‬ ‫ك َر َ‬ ‫س ُ‬ ‫ُيم ِ‬
‫ورون شهوة ً كلما أكلوا‪ ،‬ليعودوا فيأكلوا‪ ،‬ونحن‬ ‫هؤلِء الطفال يتض َ‬
‫نتضوُر جوعا ً ول نأكل‪ِ ،‬لنعود َ فنجوع َ ول نأكل‪ ،‬وهم بين سمِع أهليهم‬
‫دت‬ ‫ج َ‬ ‫رهم‪ ،‬ما من أن ّةٍ إل وقَعت في قلب‪ ،‬وما من كلمةٍ إل و َ‬ ‫ص ِ‬ ‫وب َ‬
‫ن ضائعٌ ‪ ،‬ودموع ٌ غيُر‬ ‫رها‪ ،‬أني ْ‬ ‫إجابة‪ ،‬ونحن بين سمِع الشوارِع وبص ِ‬
‫مرحومة!‬
‫ت رجل ً عريضَا‪ ،‬أتدرين ماذا أصنع؟‬ ‫صر ُ‬ ‫تف ِ‬ ‫كبر ُ‬ ‫آه لو َ‬
‫‪ -‬ماذا تصنعُ يا أحمد؟‬
‫‪ -‬إنني أخنقُ بيدي كل هؤلِء الطفال!‬
‫ل امنا التي ماتت‪،‬‬ ‫م مث ُ‬ ‫سؤأة ٌ لك يا أحمد‪ ،‬كل طفل من هؤلِء له أ ٌ‬ ‫‪َ -‬‬
‫كلُتك )فقدتك بموتك( إذا‬ ‫ل بي لو ث َ ِ‬ ‫وله أخت مثلي‪ ،‬فما عسى ينز ُ‬
‫ل طويل عريض؟‬ ‫قك رج ٌ‬ ‫خن َ‬
‫ُ‬
‫قهم‪ ،‬بل سأرضيهم من نفسي‪ ،‬أنا أريد ُ أن أصيَر رجل ً مثل‬ ‫ُ‬ ‫‪ -‬ل‪ ،‬ل أخن ُ‬
‫ن‬‫ن السطوةِ ُتعل ُ‬ ‫م َ‬ ‫م على حال ِ‬ ‫)المدير( الذي رأيناه ُ في سيارت ِهِ اليو َ‬
‫ن ماذا أصنع؟‬ ‫ه المدير‪ ...‬أتدري َ‬ ‫أن ُ‬
‫‪ -‬ماذا تصنعُ يا أحمد؟‬
‫ت نعشا ً‬ ‫ت عند َ الظهرِ فانقلب َ ْ‬ ‫ف التي جاَء ْ‬ ‫ة السعا ِ‬ ‫ت عرب َ‬ ‫‪ -‬أرأي ِ‬
‫ُ‬
‫ى عليه في الطريق؟‬ ‫ل الهرِم ِ المحط َم ِ الذي أغم ِ‬ ‫)تابوتًا( للرج ِ‬
‫سمعُتهم يقولون‪ِ :‬إن المديَر هو الذي أمَر باتخاذ ِ هذهِ العربة‪ ،‬ولكنه‬
‫ب الدنيا‪،‬‬ ‫ه تجار ُ‬ ‫كم ُ‬ ‫ن الحياة مثَلنا‪ ،‬ولم ُتح ِ‬ ‫ل لم يتعلم م َ‬ ‫غف ٌ‬ ‫رجل ُ‬
‫رها ل ُيحييهِ المديُر ول غيُر المدير‪،‬‬ ‫فجاءة َ أو غي ِ‬ ‫ت بال ُ‬ ‫فالذي يمو ُ‬
‫ن الناس من يبتدرونه لَنجدِته وإسعاِفه‬ ‫ق يجد ُ م َ‬ ‫والذي يقعُ في الطري ِ‬
‫ة على أنها‬ ‫ق عربةٍ ينتظُر المصيب َ‬ ‫ب سوا ِ‬ ‫ب إنسانية رحيمة‪ ،‬ل بقل ِ‬ ‫بقلو ٍ‬
‫عيش‪.‬‬ ‫رزقٌ و َ‬
‫ب أن تحم َ‬
‫ل‬ ‫ن فيها أكل‪ ...‬ويج ُ‬ ‫ب أن يكو َ‬ ‫ف هذه يج ُ‬ ‫ت السعا ِ‬ ‫عربا ِ‬ ‫ِإن َ‬
‫ت والمدارس‪ِ ،‬وإن لم يكن‬ ‫ق والشوارِع إلى البيو ِ‬ ‫ن الطر ِ‬ ‫م َ‬ ‫أمثاَلنا ِ‬
‫مه وُتؤيه فلُتصَنع له أم‪.‬‬ ‫م ُتطع ُ‬ ‫لأ ٌ‬ ‫للطف ِ‬
‫كل شيٍء أراه ل أراه ِإل على الغَلط‪ ،‬كأن الدنيا منقلبة أو مدب َِرةٌ‬
‫مجاِريها‪ ،‬فهؤلِء‬ ‫ت الموَر في بلِدنا جارية على َ‬ ‫إدباَرها‪ ،‬وما قط رأي ُ‬
‫موا‬ ‫م ل ينبغي أن يكونوا ِإل من أولد ِ صالحي الفقراء‪ ،‬ليحك ُ‬ ‫الحكا ُ‬
‫حموا الموَر‬ ‫ن الِغنى والقسوة‪ ،‬وليتق ّ‬ ‫ن الفقرِ والرحمة‪ ،‬ل بقانو ِ‬ ‫بقانو ِ‬
‫ة‬
‫صلب ٍ‬ ‫ة بنفوس عظيمةٍ صريحةِ قد نبتت على ِ‬ ‫ة المشتبه َ‬ ‫العظيم َ‬
‫ث ِإل‬ ‫م في معركةِ الحواد ِ‬ ‫ن ورحمة‪ ،‬فإنه ل ينهز ُ‬ ‫وبأس‪ ،‬و ُ ُ‬
‫ق ودي ٍ‬ ‫خل ٍ‬
‫ل اللين‪ ،‬وبهؤلِء لم‬ ‫ن في أه ِ‬ ‫ل النعمة‪ ،‬وأخلقُ اللي ِ‬ ‫ح النعمةِ في أه ِ‬ ‫رو ُ‬
‫ل حادثةِ سياسية‪.‬‬ ‫ح الشرقُ من هزيمةٍ سياسية في ك ّ‬ ‫يبر ِ‬
‫شنا َ فيه‬ ‫خ ِ‬ ‫ن صلبا َ َ‬ ‫ه فِإن كا َ‬ ‫م ُ‬ ‫م الحاكم ِ ود ُ‬ ‫إن للحكم ِ لحما ً ودما ً هم لح ُ‬
‫م‬
‫ف الحك َ‬ ‫ن والَتر ُ‬ ‫ح السماِء فذاك‪ ،‬وِإل قََتل اللي ُ‬ ‫ض وُرو ُ‬ ‫ح الر ِ‬ ‫ُرو ُ‬
‫ن لهم هم ِإل‬ ‫م من أولد ِ الغنياِء ل يكو ُ‬ ‫م جميعَا‪ .‬وهؤلِء الحكا ُ‬ ‫والحاك َ‬
‫ة درجة فوقَ الِغنى‪ ،‬ومن‬ ‫سهم‪ ،‬إ ِذ ِ السلط ُ‬ ‫ن أنف ِ‬ ‫ن يرفعوا من شأ ِ‬ ‫أ ْ‬
‫م الذي‬ ‫خل ُقُ الظال ُ‬ ‫ف لتلك‪ ،‬فإذا جمعوهما كان منهما ال ُ‬ ‫نال هذهِ است ََر َ‬
‫دموا الخل ُ َ‬
‫ق‬ ‫ث عَ ِ‬ ‫وا‪ ،‬من حي ُ‬ ‫م العتداَء قوة ً وسطوة ً وعل ً‬ ‫يصوُر له ُ‬
‫دهم ِإذا‬ ‫جبنا ً ونذالة‪ِ .‬إن أح َ‬ ‫ذه القوة َ ضعفا ً و ُ‬ ‫م الذي يصوُر لهم ه ِ‬ ‫الرحي َ‬
‫ه الولى ِإل في المبدأ‬ ‫ط أراد َ أن يضرب‪ ،‬ثم لم تكن ضربت ُ ُ‬ ‫حكم وتسل َ‬
‫ن على ما‬ ‫ل الدبي للنسانية‪ .‬يحرصو َ‬ ‫الجتماعي للمة‪ ،‬أو في الص ِ‬
‫مهم‪ ،‬أي على السلطة‪ ،‬أي على الحكم‪ ،‬فيحمُلهم ذلك على‬ ‫ب ِهِ تما ُ‬
‫ن‬‫م َ‬ ‫سهم أسباَبه؟ ِ‬ ‫ص أخلَقه‪ ،‬وْان يجمعوا في أنف ِ‬ ‫أن يتكفلوا للحر ِ‬
‫ن‬
‫ك بعيد‪ ،‬فينشرو َ‬ ‫المداراةِ والمصاَنعةِ والمهاَونة‪ ،‬نازل ً فنازل ً إلى د ََر ِ‬
‫م القوة‪.‬‬ ‫ق بقوةِ القانون ما داموا هُ ُ‬ ‫أسوأ الخل ِ‬
‫‪ -‬وماذا تريد ُ أن يصَنع أولد ُ الغنياِء يا أحمد؟‬
‫ة‪ ،‬ليجدوا عمل َ‬ ‫ة والتجار َ‬ ‫ب أن يباشروا الصناع َ‬ ‫‪ -‬أما أولد ُ الغنياِء فيج ُ‬
‫ه واللهِ لول‬ ‫َ‬ ‫ن منه رزَقهم بايديهم ل بأيدي آباِئهم‪ ،‬فإن ّ ُ‬ ‫ْ‬ ‫شريفا ً ُيصيبو َ‬
‫ن أميرِ متبطل )عاطل عن‬ ‫ما كان فرقَ بين اب ِ‬ ‫يل َ‬ ‫العمى الجتماع ّ‬
‫ل في‬ ‫ن فقيرِ متبط ٍ‬ ‫ن القصورِ والضياع‪ ،‬واب ِ‬ ‫م َ‬ ‫ك أبيه ِ‬ ‫العمل( في أمل ِ‬
‫ن الزقةِ والشوارع‪.‬‬ ‫م َ‬ ‫س البلدي ِ‬ ‫ك المجل ِ‬ ‫أمل ِ‬
‫ه‬
‫ح السوقَ والشارع َ بأخلقِ ِ‬ ‫وابن الميرِ إذا كان نجارا َ أو حدادا ً أصل َ‬
‫ة‬
‫س منه المان َ‬ ‫م سواد ُ النا ِ‬ ‫مه‪ ،‬فيتعل ُ‬ ‫فه وكر ِ‬ ‫الطيبةِ اللينة‪ ،‬وتعف ِ‬
‫م فوقَ الضطرار‪ ،‬ول كذلك‬ ‫ب ول يسرقُ ما دا َ‬ ‫والصدق‪ ،‬إذ هو ل يكذ ُ‬
‫ن‬ ‫ن تاجرا ً أو صانعًا‪ ،‬فتكو َ‬ ‫ن يكو َ‬ ‫شأ ْ‬ ‫ن الفقيرِ الذي َيضطره ُ العي ُ‬ ‫اب ُ‬
‫ن في‬ ‫ة وهي الِغش‪ ،‬ويكو ُ‬ ‫حرفُته التجارة َ وهي السرقة‪ ،‬أو الصناع َ‬
‫ب وإثم ٍ ولصوصيةٍ ‪.‬‬ ‫دة ك َذ ِ ٍ‬ ‫عمرِهِ ما َ‬ ‫س أكثَر ُ‬ ‫النا ِ‬
‫ن ماذا أصنع؟‬ ‫ت مديرًا! أتدري َ‬ ‫صز ُ‬ ‫آهِ لو ِ‬
‫‪ -‬ماذا تصنعُ يا أحمد؟‬
‫دهم ِبالقوةِ إلى النسانية‪ ،‬وأحملهم عليها‬ ‫‪ -‬أعمد ُ إلى الغنياِء فأر ُ‬
‫ن والنعمة‪ ،‬ثم‬ ‫حم َ ُ‬
‫ف واللي ُ‬ ‫دها التَر ُ‬ ‫ح فيهم صفاِتها التي أفس َ‬ ‫ل‪ ،‬أصل ِ ُ‬
‫ت النسانيةِ بالفقراء‪ ،‬وأحمُلهم على‬ ‫ُ‬
‫ح ما أخل به الفقُر من صفا ِ‬ ‫أصل ِ ُ‬
‫ن‬
‫ن على أصل في الدم ِ إ ِ ْ‬ ‫وي هؤلِء وهؤلء‪ ،‬ويتقاربو َ‬ ‫ل‪ ،‬فيست ِ‬ ‫ذلك حم ً‬
‫ت إل من‬ ‫ط أمِتنا هذه لم يأ ِ‬ ‫لم يلده ُ آباؤهم ولد َه ُ القانون‪ .‬أل ِإن سقو َ‬
‫قطعَ ما بينهم‪ ،‬فهم أعداء‬ ‫ت النسانيةِ في أفراِدها‪ ،‬فت َ‬ ‫تعادي الصفا ِ‬
‫ل وطنهم‪.‬‬ ‫مهم أه َ‬ ‫في وطِنهم‪ ،‬وإن كان اس ُ‬
‫ة في المةِ كلها ودانى بعضًا‪ -‬صار‬ ‫ت النساني ُ‬ ‫ُ‬
‫مت الصفا ُ‬ ‫ومتى أحك ِ َ‬
‫لن‬ ‫ة واحدة ً كما هو الن‪ .‬القانون ا َ‬ ‫ن كل فرد ِ كلمتين‪ ،‬ل كلم ً‬ ‫قانو ُ‬
‫ك الفقراَء‬ ‫حقي وواجبي( وما أهل َ َ‬ ‫ن) َ‬ ‫ن يكو َ‬ ‫حقي( ونحن ُنريد ُ أ ْ‬ ‫) َ‬
‫ن‬
‫كام‪ِ -‬إل قانو ُ‬ ‫ن بالح ّ‬ ‫بالغنياء‪ ،‬ول الغنياَء ِبالفقراِء ول المحكومي َ‬
‫الكلمةِ الواحدة‪.‬‬

‫س أحمد‪ ،‬ول بمعدِته‬ ‫ت المديَر بما في نف ِ‬ ‫أنا أحمد ُ المدير‪ ....‬لس ُ‬


‫ل اجتماعي‬‫سهِ وأولِده‪ ....‬كل‪ ،‬أنا عم ٌ‬
‫وبطِنه‪ ،‬ول ِبما ُيريد ُ أحمد ُ لنف ِ‬
‫ه أخلَقهم‬ ‫ت يوج ُ‬ ‫خلقٌ ثاب ٌ‬ ‫ل‪ ،‬أنا ُ‬ ‫س بالعد ِ‬ ‫م أعمال النا ِ‬ ‫م يحك ُ‬ ‫منظ ٌ‬
‫ت الذي‬ ‫ل الخوةِ في هذا البي ِ‬ ‫م معَ الحياةِ الطفا ِ‬ ‫ِبالقوة‪ ،‬أنا الحياة ُ ال ُ‬
‫م أيضا َ ما‬ ‫ن عندي جهن ُ‬ ‫ة ولك ْ‬ ‫ة‪ ،‬عندي الجن ُ‬ ‫ُيسمى الوطن‪ ،‬أنا الرحم ُ‬
‫ت أحمد‪ ،‬لكني الصلح‪.‬‬ ‫س من يَعصي‪ ،‬أنا بكل ذلك لس َ‬ ‫م في النا ِ‬ ‫دا َ‬
‫س‬ ‫َ‬
‫ت مديرا ً أ ُ‬
‫ل وأتفقد ُ النا َ‬ ‫ق باللي ِ‬ ‫عس في الطري ِ‬ ‫صر ُ‬ ‫هأنذا قد ِ‬
‫ونوائَبهم‪.‬‬
‫مهما‬ ‫ك في حياةٍ كأهدا ِ‬ ‫عتبةِ البن ِ‬ ‫ل وأخُته على َ‬ ‫من ْارى؟ هذا طف ٌ‬
‫م يا بني‪ ،‬ل ت َُرع إنما‬ ‫دنيا تمزَقت عليهما‪ ،‬ق ْ‬ ‫)أثوابهما( المرقعة‪ ،‬في ُ‬
‫م اختك أمينة؟‬ ‫مك أحمد‪ ،‬واس ُ‬ ‫أنا كأبيك‪ ،‬تقول‪ :‬اس ُ‬
‫شعاِع النوم؟‬ ‫ت عيَنك ب ُ‬ ‫مض َ‬ ‫مض َ‬ ‫ن الجوع‪ ،‬ولكن َ‬ ‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫م َ‬ ‫تقول ِإنك ما ن ِ ْ‬
‫م دقّا ً‬ ‫يا ولديّ المسكينين‪ .‬بأي ذنب من ذنوِبكما دّقتكما اليا ُ‬
‫ن فلن باشا‪،‬‬ ‫ن اب ُ‬ ‫كو ُ‬ ‫ن الفضائل ي َ‬ ‫كما طحنًا‪ ،‬وبأيّ فضيلةٍ م َ‬ ‫وطحنت ُ‬
‫ن منه ويتأنقان )يلبسان‬ ‫ن يختارا ِ‬ ‫ش اللي ِ‬ ‫ت فلن باشا في هذا العي ِ‬ ‫وبن ُ‬
‫ن منهما فيعيشا؟‬ ‫النيق من الثياب( فيه‪ ،‬ما الذي نفعَ الوط َ‬
‫كها‬‫ظليمةِ فأنا أمل ِ ُ‬ ‫سك النتصاَر من هذه ال ّ‬ ‫ك لنف ِ‬ ‫ت يا بني ل تمل ِ ُ‬ ‫ِإن كن َ‬
‫ن اخذ َ‬‫َ‬ ‫ف ِإلى أ ْ‬ ‫ن تنتصر‪ ،‬وإّنما أنا الضعي ُ‬ ‫م ِإلى أ ْ‬ ‫لك‪ ،‬وِإنما أنا المظلو ُ‬
‫ك الحق‪.‬‬ ‫ل َ‬
‫ت فلن باشا‪.‬‬ ‫ن فلن باشا وبن َ‬ ‫ِإلى يا اب َ‬
‫مرحبًا(‪ ،‬ويا هذه‪ ،‬علي َ‬
‫ك‬ ‫فًيا ) ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫كن به َ‬ ‫ك أخاك أحمد َ ولت ُ‬ ‫يا هذا علي َ‬
‫أخَتك النسة أمينة‪....‬‬
‫قا ِبل واجب‪،‬‬ ‫ح َ‬‫ن النسانية‪ ،‬وتمُردا ً على الفضيلة‪ ،‬أ َ‬ ‫م َ‬‫فَرة ً ِ‬ ‫ن‪ ،‬أن َ ْ‬ ‫أتأبيا ِ‬
‫ن القدَر‬ ‫م َ‬ ‫ن سخرية ِ‬ ‫خلقُتما أبيضي ِ‬ ‫ن الكلمة الواحدة؟! ُ‬ ‫دائما َ قانو ُ‬
‫ج )شدة سواد اللون و الدمة(‬ ‫شةِ الزن ِ‬ ‫حبو َ‬ ‫س من أ ْ‬ ‫وأنتما في النف ِ‬
‫مناكيد ِ العبيد‪.‬‬ ‫و َ‬
‫ده‪....‬‬ ‫ورفع أحمد ُ ي َ‬
‫ة البنك‪ ،‬قد‬ ‫م على هذا الشارع‪ ،‬وإليه حراس ُ‬ ‫وكان الشرطي الذي يقو ُ‬
‫سَنهما )أتاهما و هما نائمين( ودخلته الّريبة‪ ،‬فانتهى إليهما في تلك‬ ‫ت َو َّ‬
‫َ‬
‫ل يد ُ سعادةِ المديرِ بالصفعة على وجهِ ابن‬ ‫اللحظة‪ ،‬وقبل أن تنز َ‬
‫ب قائما ً‬ ‫ي قد رك ََله برجِله‪ ،‬فوث َ َ‬ ‫ت الباشا كان هذا الشرط ُ‬ ‫الباشا وبن ِ‬
‫سوط‪.‬‬ ‫ب ال ّ‬ ‫ل من ألُهو ِ‬ ‫عدوَ الخي ِ‬ ‫ب أخَته وَانطلقا َ‬ ‫وأجتذ َ‬
‫حلم ِ بها‪..‬‬ ‫ن مسكينا ً َ‬ ‫ة كعادِتها‪ ..!..‬أ ّ‬ ‫ت الفضيل ُ‬ ‫وتمجدَ ِ‬
‫رها‬
‫ف إلى قب ِ‬
‫س ُتز ّ‬
‫عُرو ٌ‬
‫َ‬

‫ما‪.‬‬
‫ة أزهارٍ ُتسمى أيا ً‬
‫كان عمُرها طاق َ‬

‫ة الناعمة‬
‫ت الورق ُ‬
‫م بعد َ اليوم‪ ،‬كما ت َن ْب ُ ُ‬
‫سق فيه اليو ُ‬ ‫ة أزهارٍ ي َن ْت َ ِ‬
‫كان عمُرها طاق َ‬
‫مثِلها‪.‬‬
‫في الزهرة إلى ورقة ناعمة ِ‬

‫صبا المرحة حتى في أحزانها وهمومها؛ إذ كان مجيئها من الزمن الذي‬‫أيام ال ّ‬


‫ص بشباب القلب‪ ،‬تبدو الشياء في مجاري أحكامها كالمسحورة؛ فإن كانت‬ ‫خ ّ‬‫ُ‬
‫حْين‪ ،‬وإن كانت محزنة جاءت بنصف الحزن‪.‬‬ ‫َ‬
‫مفرحة جاءت حاملة فَر َ‬

‫تلك اليام التي تعمل فيها الطبيعة لشباب الجسم بقوى مختلفة‪ :‬منها‬
‫الشمس والهواء والحركة‪ ،‬ومنها الفرح والنسيان والحلم!‬

‫وشبت العذراء وأفرغت في قالب النوثة الشمسي القمري‪ ،‬واكتسى وجهها‬


‫ديباجة من الزهر الغض‪ ،‬وأودعتها الطبيعة سرها النسائي الذي يجعل العذراء‬
‫فن جمالها لنها فن حياة‪ ،‬وجعلتها تمثال ً للظرف‪ :‬وما أعجب سحر الطبيعة‬
‫عندما تجمل العذراء بظرف كظرف الطفال الذين ستلدهم من بعد!‬
‫وأسبغت عليها معاني الرقة والحنان وجمال النفس‪ ،‬وما أكرم يد َ الطبيعة‬
‫مُهر العذراء من هذه الصفات مهرها النساني!‬‫عندما ت َ ْ‬

‫عقد له عليها في اليوم الثالث من شهر مارس في‬


‫خطبت العذراء لزوجها‪ ،‬و ُ‬
‫و ُ‬
‫الساعة الخامسة بعد الظهر‪.‬‬

‫وماتت عذراء بعد ثلث سنين‪ُ ،‬أنزلت إلى قبرها في اليوم الثالث من شهر‬
‫مارس في الساعة الخامسة بعد الظهر!‬

‫وكانت السنوات الثلث عمر قلب يقطعه المرض‪ ،‬ينتظرون به العرس‪،‬‬


‫مس)‪.(1‬‬
‫وينتظر بنفسه الّر ْ‬

‫يا عجائب القدر! أذاك لحن موسيقي لنين استمر ثلث سنوات‪ ،‬فجاء آخره‬
‫موزوًنا بأوله في ضبط ودقة؟‬

‫ما سيغير الدنيا‪ ،‬فردت الدنيا عليها يوم‬


‫أكانت تلك العذراء تحمل سّرا عظي ً‬
‫التهنئة والبتسام والزينة‪ ،‬فإذا هو يوم الولولة والدموع والكفن؟‬

‫ها لك أيها الزمن! من الذي يفهمك وأنت مدة أقدار؟‬


‫وا ً‬

‫واليوم الواحد على الدنيا هو أيام مختلفة بعدد أهل الدنيا جميًعا‪ ،‬وبهذا يعود‬
‫لكل مخلوق سر يومه‪ ،‬كما أن لكل مخلوق سر روحه‪ ،‬وليس إليه ل هذا ول‬
‫هذا‪.‬‬

‫وفي اليوم الزمني الواحد أربعمائة مليون يوم إنساني على الرض! ومع ذلك‬
‫ل النسان أربًعا وعشرين ساعة؛ يا ل َْلغباوة‪!..‬‬
‫صيه عق ُ‬
‫ح ِ‬
‫يُ ْ‬

‫وكل إنسان ل يتعلق من الحياة إل بالشعاع ُيضيء المكان المظلم في قلبه‪،‬‬


‫ه‬
‫والشمس بما طلعت عليه ل تستطيع أن تنير القلب الذي ل ُيضيئه إل وج ُ‬
‫محبوب‪.‬‬

‫س‪ ،‬وفي الحياة أشياءُ‬ ‫وفي الحياة أشياء مكذوبة ت ُك َّبر الدنيا وت ُ َ‬
‫صّغر النف َ‬
‫مد َْقع حين تكون‬
‫ب الرض كله فقر ُ‬ ‫ظم بالنفس وتصغر بالدنيا؛ وذ َهَ ُ‬ ‫حقيقية ت ُعَ ّ‬
‫المعاملة مع القلب‪.‬‬

‫أيتها الدنيا؛ هذا تحقيرك اللهي إذا أكبرك النسان!‬

‫مغْت َّرين بحياة ل بد أن تنتهي! فماذا يرتقبون إل أن‬


‫ويا عجًبا لهل السوء ال ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ض من أن يكون انتهاء النسان‬
‫م ُ‬‫ب وأغْ َ‬
‫ج ُ‬‫تنتهي؟ حياة عجيبة غامضة؛ وهل أعْ َ‬
‫إلى آخرها هو أول فكرة في حقيقتها؟‬

‫ة ولكن ي َْرقُُبها صدُر‬


‫فعندما تحين الدقائقُ المعدودة التي ل ت َْرقُُبها الساع ُ‬
‫مْلك الملوك جميًعا كالتراب ل َيشتري شيًئا ألبتة‪..‬‬ ‫ضر‪ ..‬عند ما يكون ُ‬‫حت َ َ‬
‫م ْ‬
‫ال ُ‬

‫ماذا يكون أيها المجرم بعدما تقترف الجناية‪ ،‬ويقوم عليك الدليل‪ ،‬وترى‬
‫حولك الجند والقضاة‪ ،‬وتقف أمامك الشريعة والعدل؟‬
‫أعمالنا في الحياة هي وحدها الحياة‪ ،‬ل أعمارنا‪ ،‬ول حظوظنا‪ .‬ول قيمة للمال‪،‬‬
‫من في‬‫سلب صاحبها المن والقرار! وال ِ‬ ‫أو الجاه‪ ،‬أو العافية‪ ،‬أو هي مًعا – إذا ُ‬
‫ة ل تزال تجري وراَءه‪ .‬والسعيد ُ في الخرة من‬‫من لم تكن وراَءه جريم ٌ‬ ‫الدنيا َ‬
‫ة تطارده وهو في السماوات‪.‬‬ ‫لم تكن له جريم ٌ‬

‫داد( ‪ :‬ما تتحرك من حركة إل‬ ‫كيف يمكن أن تخدع اللة صاحَبها وفيها )العَ ّ‬
‫ن رّبه وفيه القلب‪ :‬ما يعمل من‬
‫دها؟ وكيف يمكن أن يكذب النسا ُ‬ ‫أشعرته فَعَ ّ‬
‫ده؟‬‫عمل إل أشعره فع ّ‬

‫***‬

‫ورأيت العروس قبل موتها بأيام‬

‫ك له الحسرة والذكرى الليمة؟‬ ‫ت أنت الِغنى عندما ُيدبر عن إنسان ليتر َ‬ ‫أفرأي َ‬
‫ب‬‫أرأيت الحقائق الجميلة تذهب عن أهلها فل تترك لهم إل الحلم بها؟ ما أتع َ‬
‫ن حين تتحول الحياة عن جسمه إلى القامة في فكره!‬ ‫النسا َ‬

‫وما هي الهموم والمراض؟ هي القبر يستبطئ صاحبه أحياًنا؛ فينفض في‬


‫بعض أيامه شيًئا من ترابه…!‬

‫ت العروس قبل موتها بأيام‪ ،‬فََيال َل ّهِ من أسرار الموت ورهبته! فرغ جسمها‬
‫رأي ُ‬
‫كما فرغت عندها الشياء من معانيها! وتخلى هذا الجسم عن مكانه للروح‬
‫تظهر لهلها وتقف بينهم وِقفة الوداع!‬

‫وتحول الزمن إلى فكر المريضة؛ فلم تعد تعيش في نهار وليل‪ ،‬بل في فكر‬
‫مضيء أو فكر مظلم!‬

‫يا إلهي! ما هذا الجسم المتهدم المقبل على الخرة؛ أهو تمثال بطل تعبيره‬
‫أم تمثال بدأ تعبيره؟‬

‫لقد وثقت أنه الموت‪ ،‬فكان فكرها اللهي هو الذي يتكلم؛ وكان وجهها كوجه‬
‫العابد‪ :‬عليه طيف الصلة ونورها‪ .‬والروح النسانية متى عبرت ل تعبر إل‬
‫بالوجه‪.‬‬

‫ولها ابتسامة غريبة الجمال؛ إذ هي ابتسامة آلم أيقنت أنها موشكة أن تنتهي!‬
‫فا في يده الساعة‬‫جانه واق ً‬
‫س ّ‬
‫ابتسامة روح لها مثل فرح السجين قد رأى َ‬
‫يرقب الدقيقة والثانية ليقول له‪ :‬انطلق!‬
‫***‬

‫ت من الدنيا…! وتنسمت مني هواء الحياة‪.‬‬


‫دها فرأت كأنني آ ٍ‬
‫عو ُ‬
‫تأ ُ‬
‫ودخل ُ‬
‫كأنني حديقة ل شخص!‬

‫دا إل‬ ‫من غير المريض ال ْ ُ‬


‫مد َْنف‪ ،‬يعرف أن الدنيا كلمة ليس لها معنى أب ً‬ ‫و َ‬
‫مشفي على الموت‪ ،‬يعيش بقلوب الناس الذين‬ ‫من غير المريض ال ُ‬ ‫العافية؟ َ‬
‫حوله ل بقلبه؟‬

‫تلك حالة ل تنفع فيها الشمس ول الهواء ول الطبيعة الجميلة‪ ،‬ويقوم مقام‬
‫جميعها للمريض أهلها وأحباؤه!‬

‫وكان ذووها من رهبة القدر الداني كأنهم أسرى حرب ُأجلسوا تحت جدار‬
‫ضا مثل ضربات المعاول‪.‬‬
‫يريد أن ينقض! وكانت قلوبهم من فزعها تنبض نب ً‬

‫وباقتراب الحبيب المحتضر من المجهول‪ ،‬يصبح من يحبه في مجهول آخر‪،‬‬


‫فتختلط عليه الحياة بالموت‪ ،‬ويعود في مثل حيرة المجنون حين يمسك بيده‬
‫الظل المتحرك ليمنعه أن يذهب! وتعروه في ساعة واحدة كآبة عمر كامل‪،‬‬
‫تهيئ له جلل الحس الذي يشهد به جلل الموت!‬

‫***‬

‫وحانت ساعة ما ل يفهم‪ ،‬ساعة كل شيء‪ ،‬وهي ساعة اللشيء في العقل‬


‫النساني! فالتفتت العروس لبيها تقول‪" :‬ل تحزن يا أبي…" ولمها تقول‪" :‬ل‬
‫تحزني يا أمي…!"‬

‫ضا؛ تقول لها‪" :‬ل تبكي…!"‬‫وتبسمت للدموع كأنما تحاول أن تكلمها هي أي ً‬


‫وأشفقت على أحيائها وهي تموت‪ ،‬فاستجمعت روحها ليبقى وجهها حّيا من‬
‫أجلهم بضع دقائق! وقالت‪" :‬سأغادركم مبتسمة فعيشوا مبتسمين‪ ،‬سأترك‬
‫تذكاًرا بينكم تذكار عروس!…"‪.‬‬

‫ثم ذكرت الله وذكرتهم به‪ ،‬وقالت‪" :‬أشهد أن ل إله إل الله" وكررتها عشًرا!‬
‫وتملت روحها بالكلمة التي فيها نور السماوات والرض‪ ،‬ونطقت من حقيقة‬
‫قلبها بالسم العظم الذي يجعل النفس منيرة تتلل حتى وهي في أحزانها‪.‬‬

‫ثم استقبلت خالق الرحمة في الباء والمهات! وفي مثل إشارة وداع من‬
‫مسافر انبعث به القطار‪ ،‬ألقت إليهم تحية من ابتسامتها وأسلمت الروح!‬

‫ياَلعجائب القدر! َ‬
‫مشيًنا في جنازة العروس التي ُتزف إلى قبرها طاهرة‬
‫كالطفلة ولم يبارك لها أحد! فما جاوزنا الدار إل قليل ً حتى أبصرت على حائط‬
‫ما عن‬
‫ما بالخط الكبير الذي يصيح للعين؛ إعلًنا قدي ً‬
‫في الطريق إعلًنا قدي ً‬
‫)رواية( هذا هو اسمها‪" :‬مبروك…!"‪.‬‬

‫واخترقنا المدينة وأنا أنظر وأتقصى‪ ،‬فلم أَر هذا العلن مرة أخرى! واخترقنا‬
‫المدينة كلها‪ ،‬فلما انقطع العمران وأشرفنا على المقبرة‪ ،‬إذا آخر حائط عليه‬
‫العلن‪" :‬مبروك…!"‪.‬‬

‫ييييي يييييي‬
‫يي ييييي ييي‬
‫ييي يييييي ييييي يييييي ييي ييييي ييي ييي)يي ييي ييييي‬
‫ييييييي(‬
‫يييييي ييييي يييييي‪ ,‬ييييي يي يييييي ييييييي‪ ,‬يييييي‬
‫يييييي ييييييي_يي يي ييي ييي ييييييييي يييي يي ييييي‬
‫يي‬
‫يي ي‬‫يي ي‬
‫ييييي يييييي يي يييي ييي ييييي يييي ييي يييي ي‬
‫ييي يي يييي يييي ييييي ييي يييي ييييي‪,‬ييييييي يييي‬ ‫‪,‬ي ي‬
‫ييييي ييييييي‪,‬يي يي يييي يييييي ييي ييي يييي ييييييي‪,‬‬
‫ييي يييييي يييييييييي ييييي يييي ييييي يي يييييي‬
‫ييييييي يييي ييي يييييي يييييي ييي ييييي يييييي‪.........‬‬

‫ييييي ييييييي‬

‫ييي يييييي يييييي يي يييييي يييييييي ييييييي ييييييييي‬


‫ييييييييييي‪,‬يي يييي يي ييييييي ييي ييييييييي ييييي‬
‫ي ي‬
‫يييييييي يييييي يييييييييييي‪,‬ييييييييي يييييي يييييي‬
‫يييييي ييييي يي ييييييي يييييييي‪.‬‬

‫يييي ييييي ييييييي يييييي يي ييييييي يي ييي يييييي‪,‬‬


‫يييييييي يييي ييي يييييي ‪ ,‬يييييييي يي ييييي ييي‬
‫يييييي‪,‬يييييي يي ييييي يي يييييي يي ييييي ييييييي يي‬
‫ييييي يييييي‪ ,‬ييييييي ييييييي ييي ييييي‪ ,‬ييي يييييييي‬
‫ييي ييي يييي‬
‫ييييييي يييي ييييي يييي يييييي ييي ييي يي ي‬
‫يييي‪,‬يييي ييي ييييي‪ ,‬يي يييييي يييي يييي‬
‫يي‪,‬ييي يييي ي‬
‫ييي ي‬
‫ي‬
‫يي ييييي يي يي ييي يييي يي يييييي يي يييييي‪,‬ييي‬ ‫يييي ي‬
‫ي ي‬
‫يييي ييييي يي يي يييي يييي‪,‬ييييي يي يييييي ييييي يي‬
‫ييييي‪.‬‬
‫ييييي يييي ييي ييييييي يييييييي يييي يييي ييييي‬
‫يييييييي‪,‬يي يي ييي يي يي ييييي يي ييييييي ييي يي يييي‬
‫يي‪,‬ييييي يي ييييي يييي ‪ ,‬يييي ييي يييي يي يي ييي _يي‬
‫ييييييي يييي ييي يييي_يي ييييييي يييي يي يي يييييي ‪,‬ييي‬
‫ييييي يييي ييييي ييييييي يي ييييي ييييي ييييييييي‪,‬‬
‫ييييييي ييييي يييي ييي‪......‬‬

‫يييي ييييي‬

‫يييي‬
‫ييي يي ييييييي يي ييي ييي يييي يييييي ييي يييييييي ي‬
‫يييييي ييييييي‪,‬يييي ييييي يي ييييي )يييييي(ييييي‬
‫ييييييي‪,‬يييي ييي يييي يييي يييي يييييي يييييييي يي ييي‬
‫ييييييي‪ ,‬ييي ييييي ييي ييي ييييي يي ييي يي ييي ييييييي‬
‫يييي يييييي ييييييي يي ييي ييييي‪.‬‬
‫يييي يييييي يييييييي ييي يييي ييي ييييي ييي يييييي‬
‫ييييي‪,‬ييييي ييييي يييييي ييييي يييييي يييي‪ ,‬ييييي ييي‬
‫ييي ييي يييييي ييييي يييييي ييي‬
‫يييييي ييييي يييييي‪ ,‬ي ي‬
‫يييييي ييييييي ييييي يييييي يي يييي ييييي‪,‬ييييي يييي‬
‫ييييي ييييييي يييي‪ ,‬ييييي ييييييي ييييييي ييي ييييي‬
‫يي‪,‬ييييي يي ييي ييييييي يي يييي يييي ييييي‪ ,‬يييييي يي‬
‫يييييي يييييي يييييي ييييي ييييي ييييييي‪,‬يي ييييي يي‬
‫ييييي‬
‫ييي ييي ييييي يييييي ييييي ييييييي‪,‬يييييي ييي يييي‬
‫يييييي ييييي ييييي ييييييي‪,‬ييييييي يي ييييي ييييي يييي‬
‫ييييييي ييييييي‪,‬يييييي ييي ييي ييي ييييي يييي يييييي‬
‫يييييي‪.....‬‬
‫ييييي يييييي يي ييي ييييييي يييي يييي يييييي ييييييييي‬
‫يي ييييي يييييي يي يييي يييييي‬ ‫يي ي‬‫ييييي ييييي يي يييييي‪ ,‬ي‬
‫ييي يي ييييي يي يي ييييي‪..............‬‬

‫يييييي ييييي يييي يييييييي‬

‫ييييي يييي يي ييي ييي ييي يييي يي يييييي يييي يييييييي‬


‫يييييييي‪,‬يييييي يييي يييييي ييي ييييييي‬
‫ييييييي‪,‬ييييييي يي ييييي يييي ييييي يي ييي يي يييي‪,‬ييي‬
‫ييييي ييييييي ييي يييييي يي يييييي ييي ييييي ييي ييي يي‬
‫يييي ييي يي يييييي‪,‬ييي ييي ييييييي يييي يييييي يي ييي‬
‫يييييي ييييي ييي ييي ييي يييي ييييي يي يييي‪,‬ييييييي يي‬
‫يييييي ييي يي ييييييي‪,‬ييييي ييي يي ييييي يييي يييي يي‬
‫ييي ييي يييييي ييي يييييي يي يييييي ييييي يييي‬ ‫يييي ي‬ ‫يييي ي‬
‫ييييي ييييي يييي يييييي يييييي ييييي‪ ,‬ييييي يي ييي‬
‫ييييييي ييي ييي ييييييي ييي ييي يي ييي يييي يي ييي ييييي‬
‫يييي يي يييييي ييييييي ييي ييي يييييي يييييييي يييي ييي‬
‫ييييي‪.................‬‬

‫هذا الكتاب إهداء لكم من‬


‫منتدى حديث المطابع‬
‫موقع الساخر‬
‫‪www.alsakher.com‬‬

You might also like