You are on page 1of 769

‫هوٌتً مصر‬

‫نكبة توطٌن الهكسوس‬

‫(النكبة المصرٌة)‬

‫(جٔ)‬

‫من عرش حور إلى قرون الشٌطان‬

‫إفتكار البنداري‬

‫(نفرتاري أحمس)‬

‫ٔ‬
‫اسم الكتاب‪ :‬نكبة توطٌن الهكسوس (النكبة المصرٌة) جٔ‬

‫اسم المإلؾ‪ :‬إفتكار البنداري‬

‫رقم اإلٌداع بدار الكتب‪ٕٓٔ9/ٖٔ٘ٔ9 :‬‬

‫تصمٌم الؽبلؾ‪ :‬ولٌد عبد الرحمن‬

‫حقوق الملكٌة الفكرٌة فً الطبع أو النشر أو النسخ محفوظة كاملة للناشرة‪/‬الكاتبة‬


‫لماذا هذا الكتاب؟‬

‫فً ٕٔٔٓ‪ٌ ،‬وم الزلزلة العظٌم‪..‬‬

‫لٌس فقط فٌما اجتاح بلدنا من فوضى هبت بزبٌرها المزعج المخٌؾ كالرٌح الهوجاء السموم من‬
‫االتجاهات األربعة‪ ،‬كالؽول الجابع ٌكاد ٌكتسح فً طرٌقه كل شًء‪ ،‬مسلحا بالنٌران وأصوات الرصاص‬
‫والعصابات‪ ،‬تنتهك حرمات كل شًء‪ ،‬لكن أٌضا فٌما اجتاح نفوسنا وعقولنا من اهتزازات أوشكت أن‬
‫تقتلعنا من الجذور‪ ..‬الجذور رأس مالنا الحقٌقً كمصرٌٌن‪.‬‬

‫ففً خضم المٌدان الهاٌج بؤحسن أنواع البشر وأسوأها‪ ،‬وتحت األضواء الساطعة‪ ،‬علت أصوات تتصارع‬
‫كالذباب البلهثة على فرٌسة مكبلة‪ ،‬هذا ٌرفع شعار "مصر إسبلمٌة"‪ ،‬وذاك "مصر عربٌة"‪ ،‬وذاك "مصر‬
‫مدنٌة لٌبرالٌة"‪ ،‬وهذا "مصر علمانٌة"‪ ،‬وآخر "مصر أم الدنٌا لكل المذاهب واألجناس"‪ ..‬عددهم قلٌل‬
‫وصوتهم كالهدٌر‪ ..‬فً الظل‪ ،‬فً البٌوت واألرٌاؾ والحواري‪ ،‬العدد األضخم من الناس‪ ،‬الؽالبٌة‪ ،‬تتردد‬
‫فً صدورهم كلمة واحدة فقط "مصر"‪ ،‬ال قبلها شًء‪ ،‬وال بعدها شًء‪ ،‬لكن ال ٌعرفون كٌؾ ٌوصلونها‪،‬‬
‫صوتهم مكلوم مكتوم‪ٌ ،‬تركون المتعلمٌن الذٌن صرفوا علٌهم دماء قلوبهم ٌتحدثون عن مصر كٌفما شاءوا‪..‬‬
‫ٌتخٌلون أنهم األدرى واألعلم‪.‬‬

‫أنا من المتعلمٌن‪ ،‬لكنً فبلحة تربٌة فبلحٌن‪ ،‬ربونً على أنها مصر‪ ،‬مصر وفقط‪ ،‬لم أسمع فً قرٌتً‬
‫كلمات مصر اإلسبلمٌة ومصر المدنٌة ومصر اللٌبرالٌة ومصر العلمانٌة وؼٌرها‪ ،‬فتكلمت فً المٌدان‬
‫وسط المتعلمٌن بكبلم الفبلحٌن‪ ،‬قلت إنها مصر وبس‪ ،‬مصر المصرٌة‪ ..‬فضحك بعضهم‪ ،‬وسخروا‪.‬‬

‫إنهم ٌهزون كل شًء هزا‪ ،‬قالوا إن "ثورة ٌناٌر ٕٔٔٓ هً أفضل الثورات فً تارٌخ مصر"‪ ،‬ومنهم من‬
‫قال‪" :‬هً الثورة الوحٌدة فً تارٌخ مصر"‪ ..‬لم ٌذكروا ثورات ٔ‪ ٔ88‬و ‪ ٔ9ٔ9‬و ٕ٘‪ ٔ9‬إال بالشتاٌم‪،‬‬
‫وتزٌد الشتاٌم لثورتً ٔ‪ ٔ88‬وٕ٘‪ ٔ9‬ألن قادهما جٌش الفبلحٌن‪ ،‬قالوا إنها ثورات عسكر وانقبلبات‪،‬‬
‫لكنهم ٌمدحون محمد علً وإسماعٌل وفاروق والممالٌك ونابلٌون واإلسكندر والمعز لدٌن هللا وهارون‬
‫الرشٌد ووصبلح الدٌن‪ ،‬ألم ٌكونوا عسكر؟ نعم عسكر‪ ،‬لكنهم عسكر أجانب‪ ،‬لٌسوا فبلحٌن‪ ...‬هل السر إذن‬
‫فً كراهٌة الفبلحٌن؟ ولماذا ٌكروهون الفبلحٌن؟‬

‫إنهم ٌكرهون ثوراتنا‪ ..‬لكنهم ٌمجدون ثورات فرنسا وإنجلترا وروسٌا التً قادتها تنظٌمات عالمٌة وفجرت‬
‫براكٌن الدم والمدابح والحروب األهلٌة واالحتبلالت على العالم‪ ..‬لماذا ٌكرهون ثورات الفبلحٌن إذن؟ هل‬
‫ألنهم ضد الحروب األهلٌة واالحتبلالت والتنظٌمات العالمٌة؟ أم ألنهم المصرٌون الحقٌقون؟‬

‫لم ٌكن مٌدان التحرٌر فً ٕٔٔٓ مجرد مٌدان ثورة تهتؾ لمصر‪ ..‬كان مٌدانا ٌضم مصرٌٌن حقٌقٌٌن‬

‫ٔ‬
‫ٌهتفون بحرٌتها‪ ،‬وٌضم أٌضا "مصرٌٌن" مزٌفٌن دعاة كل احتبلل قدٌم ٌتمنون أن ٌعود لٌحتل مصر ! إن‬
‫رواٌح الهكسوس تهب فً كل مكان‪ ،‬هكسوس الشرق والؽرب والجنوب والبحر‪ ،‬بل إن بعض "قادة‬
‫المٌدان" هكسوس حقا‪.‬‬

‫قبل زلزلة ٕٔٔٓ كنا كؤننا نسٌر على بحر ببل أمواج‪ ،‬ال حركة ال روح‪ ،‬كؤنه لوح زجاج مٌت‪ ،‬ال نعرؾ‬
‫إلى أٌن نسٌر‪ ،‬وإذا فجؤة تبلطمتنا األمواج العاتٌة‪ ،‬كل موجة كالجبل ترٌد أن تدفعنا بكل قوتها أمامها‪،‬‬
‫تفرقنا‪ ،‬كل مجموعة من المصرٌٌن سارت برؼبة منها أو رؼما عنها فً اتجاه‪ ..‬تقتلعنا من الجذور‪ ،‬تفرقنا‬
‫أشتاتا أشتاتا‪ ..‬وقابد كل موجة من الهكسوس‪ ،‬كالشٌطان ٌرانا وال نراه !‬

‫فً ٕٕٔٓ‪ ..‬البلد تشؽً بورش عمل ومناقشات حادة حول الدستور الجدٌد المقترح وضعه‪ ،‬الخناقات‬
‫منصوبة حوله بٌن جمٌع الناس‪ -‬خاصة المتعملٌن‪ -‬وسط محاوالت حزبٌة قبٌحة القتناص مصر لهذا‬
‫الحزب أو هذا التنظٌم‪ ،‬خصوصا مع تنمر تنظٌم اإلخوان المسلمٌن وجماعات السلفٌٌن‪ ،‬ومن ٌصفون‬
‫أنفسهم بـ"الثورٌٌن" من علمانٌٌن وشٌوعٌٌن ولٌبرالٌٌن وعروبٌٌن‪ ..‬الحٌرة تمزقنا‪ ،‬والبلد تختنق‪ ...‬ورواٌح‬
‫الهكسوس تسمم الهواء‪.‬‬

‫فً قاعة من قاعات كلٌة االقتصاد والعلوم السٌاسٌة بجامعة القاهرة العرٌقة‪ ،‬احتشد لفٌؾ من األساتذة‬
‫الخبراء فً القانون والدستور والعلوم السٌاسٌة مع عشرات من الجمهور‪ ،‬عرض فٌها األساتذة مشروعاتهم‬
‫المقترحة للدستور المنتظر‪ ،‬فرَّ قوا علٌنا نسخا ورقٌة من المقترحات لنقرأها ونقول رأٌنا كعٌنة من‬
‫الجمهور‪ ،‬فلما طلبت الكلمة قلت لصاحب المشروع الذي فً ٌدي‪:‬‬

‫‪ -‬أنا قرٌت مشروع الدستور‪ ،‬بس ما لقٌتش فٌه حاجة عن هوٌة مصر خالص‪ ،‬حاجة تمٌز مصر‪.‬‬

‫الدكتور‪ :‬حاجة عن هوٌة مصر وتمٌز مصر زي إٌه مثبل؟!‬

‫‪ٌ -‬عنً مثبل فً تعرٌؾ الدولة والنظام السٌاسً المكتوب فٌه زي دول تانٌة كتٌر‪ ،‬وفً النظام االقتصادي‬
‫ما لقتش حاجة تعرؾ نظام االقتصاد فً مصر وٌكون معبر عن هوٌتها‪.‬‬

‫الدكتور متملمبل باستٌاء‪ٌ :‬عنً عاٌزانا نكتب فً تعرٌؾ الدولة ومصر إٌه مثبل؟‬

‫قلت بعفوٌة طفولٌة‪ ..‬أو فبلحٌة‪:‬‬

‫‪ٌ -‬عنً الدستور ٌبٌن إن مصر مصرٌة‪.‬‬

‫الدكتور‪ :‬مصر مصرٌة؟! ٌعنً إٌه مصرٌة؟؟‬

‫ثم ضحك‪ ،‬وضحك آخرون معه‪ ،‬ضحك سخرٌة‪.‬‬

‫لم ٌؽضبنً ضحكهم وال سخرٌتهم‪ ،‬ففضبل عن أنهم أساتذتنا وكبراءنا‪ ،‬فؤٌضا هذه اإلجابة لو قلتها أمام كثٌر‬

‫ٕ‬
‫من المصرٌٌن‪ -‬أصحاب الشهادات العالٌة‪ -‬سٌضحكون ألنه مر علٌنا أجٌال وأجٌال‪ ،‬بل قرون‪ ،‬لم ٌكن من‬
‫حقنا أن نقول إن مصر مصرٌة‪ ،‬وال أن حق مصر أن ٌكون لها نظامها الخاص فً الحكم واالقتصاد‬
‫والثقافة وكل مجاالت الحٌاة كما كانت علٌه آلالؾ السنٌن وهً حرة‪.‬‬

‫ٌقولون فً مشارٌع الدستور مصر مدنٌة‪ /‬علمانٌة‪ ..‬هناك عشرات الدول تصؾ نفسها هكذا‪ ..‬فمن فٌهم‬
‫مصر؟‬

‫ٌقولون إن مصر إسبلمٌة‪ ،‬هناك ‪ ٘ٙ‬دولة تقول إنها إسبلمٌة‪ ...‬فمن فٌهم مصر؟‬

‫ٌقولون مصر عربٌة‪ ،‬هناك ٕٕ دولة تقول إنها عربٌة‪ ..‬فمن فٌهم مصر؟‬

‫ٌقولون مصر اقتصادها اشتراكً‪ ،‬أو ٌتبع السوق الحر‪ ،‬هناك عشرات الدول هكذا‪ ،‬فمن فٌهم مصر؟‬

‫هناك فً األرٌاؾ والحواري‪ ،‬بعٌدا عن الجامعات الفخمة‪ ،‬والشهادات الفخٌمة‪ ،‬والنظرٌات المنفوخة‪ ،‬إذا‬
‫قلت مصر مصرٌة سؤجد كثٌرا ممن ٌقول‪" :‬أٌوة طبعا بلدنا مصرٌة أومال أجنبٌة ٌعنً ٌا بنتً؟!"‪ ..‬هناك‬
‫حٌث ما زالت بقٌة طاهرة من الحزبٌة السٌاسٌة والدٌنٌة وعُقد الهوٌة المستوردة‪.‬‬

‫ٌقول توفٌق الحكٌم فً لقاء مع التلفزٌون المصري وفً كتابه "مصر بٌن عهدٌن" إنه حٌن ذهب سعد‬
‫زؼلول مع زمٌلٌه إلى المندوب البرٌطانً وٌنجت ٌطلبون تصرٌحا بالسفر لعرض قضٌة مصر على‬
‫مإتمر الصلح ببارٌس سؤلهم‪ :‬مصر من التً ستعرضون قضٌتها؟! فقالوا مصر بلدنا‪ ،‬قال‪ :‬ال نعرؾ بلدا‬
‫مستقلة اسمها مصر‪ ،‬بل بلد إما تابعة لحكم العثمانٌٌن أو لثقافة العرب‪ ،‬اسمها القطر المصري ولٌس مصر‪،‬‬
‫وكانت النتٌجة‪ٌ -‬قول الحكٌم‪ -‬أن المصرٌٌن قرروا أن ٌمؤلوا كل مكان فً مصر باسم مصر‪ ،‬وطعم مصر‪،‬‬
‫وهوٌة مصر‪ ،‬فخرجت مشارٌع بنك مصر كلها تحمل اسم مصر‪ ،‬والمسارح والرواٌات واألشعار تتحدث‬
‫عن مصر الخالصة‪ ،‬ال عثمانٌة وال عربٌة وال أوروبٌة‪.‬‬

‫وفً ندوة فً بٌت السناري‪ -‬التابع لمكتبة اإلسكندرٌة‪ -‬وجدت مع زمٌل كتاب عن تارٌخ مصر من الفتح‬
‫العربً وحتى العثمانً‪ ،‬الكبلم فٌه عن سٌاسة العرب فً مصر والطولونٌٌن واإلخشٌدٌٌن والعبٌدٌٌن‬
‫(الفاطمٌٌن) والممالٌك‪ ،‬لم أجد فٌه مصر السعٌدة بحكم هإالء التً ٌصورونها لنا فً التعلٌم والمسلسبلت‪،‬‬
‫لم أجد إال مصر مؽصوبة ٌتٌمة منهوبة تدوسها أقدام كل األجناس األجنبٌة‪ ،‬عرب وعجم‪ ،‬مسلمون أو‬
‫مسٌحٌون أو وٌهود‪.‬‬

‫قلت أكٌد هذا الكتاب كتبه مستشرقون أعداء لئلسبلم وللعرب‪ ،‬نظرت فً المراجع وجدتها من أبمة الكتب‬
‫القدٌمة‪ ،‬ابن عبد الحكم‪ ،‬الكندي‪ ،‬الطبري‪ ،‬المقرٌزي‪ ،‬ابن تؽري بردي‪ ،‬ابن إٌاس‪ ،‬إلخ‪ ،‬عرب مسلمون ال‬
‫ٌفترون على العرب وال اإلسبلم‪ ،‬قررت اشتري هذه المراجع التارٌخٌة القدٌمة أو اقرأها من على‬
‫اإلنترنت‪ ...‬وتؤكدت أن مصر حٌنها لم تكن مصر تلك التً ٌعلمونها لنا فً المدارس والمسلسبلت الدٌنٌة‬
‫حتى ٌقنعونا بؤن "مصر عربٌة"‪ ،‬وأسعد عصورها عصور "الخبلفة اإلسبلمٌة" حٌن هبطت علٌها هجرات‬

‫ٖ‬
‫أجنبٌة بوجه ؼٌر وجه مصر‪ٌ ،‬ا ترى كم عصر من العصور تعلمناه بمعلومات كاذبة‪ ،‬معلومات ترٌد أن‬
‫تقول لنا إن مصر‪ ..‬لٌست مصرٌة‪.‬‬

‫إن معظم كتبنا ومسلسبلتنا وأفبلمنا تقول لنا إن أعظم عصور مصر وهً ٌحكمها األجانب‪ ،‬نادر أن تقول‬
‫إن أعظم عصورها حٌن حكمها أوالدها‪ ،‬فبلحوها‪ ..‬هل هذا ٌستقٌم مع بلد تصؾ نفسها بؤنها "بلد حرة"؟‬

‫ٌقال إن ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘‪ ٔ9‬زورت التارٌخ‪ ،‬وأن حكم األجانب قبلها كان "فل الفل"‪ ،‬إذن فلنعود إلى‬
‫الكتب والصحؾ الصادرة قبل ٕ٘‪ ٔ9‬لنعرؾ الحقٌقة‪ ،‬عدت وقرأت وعرفت‪ ،‬لكن الحقٌقة ناقصة‪ ،‬إنه‬
‫لنعرؾ حقٌقة ٖٕ ٌولٌو ٌلزم أن نقرأ المكتوب أٌام محمد علً واإلنجلٌز‪ ،‬ولنعرؾ حقٌقة ذلك ٌلزم أن نقرأ‬
‫المكتوب أٌام العثمانٌٌن والممالٌك‪ ،‬ولمعرفة حقٌقة أٌامهم ٌلزم أن نعرؾ ما كان علٌه الحال قبلهم أٌام‬
‫األٌوبٌٌن‪ ،‬ولنعرؾ حقٌقة هإالء وهل كانوا خٌرا أم شر على مصر ٌلزم أن نعرؾ حال مصر قبلهم أٌام‬
‫العبٌدٌٌن (الفاطمٌٌن)‪ ،‬وهكذا‪ ،‬فٌلزم أن نقرأ ما كان قبلهم أٌام العرب ثم الرومان والٌونان والفرس إلخ‪..‬‬
‫حتى نؤتً إلى األرض الثابتة‪ ،‬األصل‪ ،‬فً أزمنة الحكم المصري الخالص‪ ،‬نجلس وسط المصرٌٌن‬
‫الحقٌقٌٌن‪ ،‬قبل أن تشوبهم الشوابب‪ٌ ،‬وم أن كان ال صوت فوق صوت الفبلح‪ ،‬نسمع منهم هل كان حال‬
‫مصر أفضل أم ما كان علٌه فً عصور األجانب (الهكسوس من كل جنس)؟‬

‫الشوارع ملٌبة بالكتب‪ ،‬األرصفة‪ ،‬المكتبات المجانٌة فً المدارس والجامعات وقصور الثقافة‪ ،‬المكتبات‬
‫العامة‪ ،‬سور األزبكٌة‪ ،‬لٌس أكثر وال أرخص من الكتب فً مصر‪ ،‬اإلنترنت مكتبة عظمى‪ ،‬بببلش تقرٌبا‪،‬‬
‫من ٌرٌد أن ٌعرؾ حقٌقته وتارٌخه فلٌؽرؾ ولٌقرأ‪ ،‬لكن ماذا نقرأ وكٌؾ نقرأ فً هذا المحٌط الخضم‪ ،‬إن‬
‫الحدث الواحد حوله ألؾ كتاب ٌكذب بعضهم بعضا‪ ،‬وأحٌانا ٌصدق بعضهم بعضها‪...‬‬

‫أٌن تارٌخ مصر‪ ..‬بل أٌن مصر! عاٌزة أشوؾ بلدي‪ ،‬هذه الروح الدافٌة التً تسكننا‪ ،‬عاٌزة أشوفها من ؼٌر‬
‫أي سحب وضباب‪.‬‬

‫بالتؤكٌد توجد الحقٌقة والمصرٌون الحقٌقٌون الذٌن ٌخبروننا بها بٌن هذه الكتب‪ ،‬ولكن كٌؾ نجدهم‪.‬‬

‫دلَّنً زمٌل على كلٌة اآلثار‪ ،‬أن أدرس فٌها‪ ،‬إن من ٌرٌد أن ٌقرأ التارٌخ حقا ٌجب أن ٌكون عنده الحس‬
‫العلمً الختٌار الكتاب‪ٌ ،‬عرؾ من كتبه‪ ،‬كٌؾ كتبه‪ ،‬ما دقه مصادره‪ ،‬فً كلٌة اآلثار بداٌة من ٖٕٔٓ‪،‬‬
‫وعلى إٌدٌن أساتذتها العظام‪ ،‬ولعدة سنوات‪ ،‬علمونً وأهدونً هذا الحس العلمً فً االختٌار‪.‬‬

‫أهم ملحوظة فً هذا المشوار الشاق‪ ،‬أنه كلما عاد المصري فً قراءة كتب التارٌخ للوراء‪ -‬المكتوبة على‬
‫ٌد المعاصرٌن لكل فترة‪ -‬أكثر ما ٌسمعه ٌصدر من الكتب هو صوت المستوطنٌن األجانب‪ ،‬هإالء القادمٌن‬
‫من الٌونان‪ ،‬أو جزٌرة العرب‪ ،‬أو الشام‪ ،‬أو المؽرب‪ ،‬أو القوقاز‪ ،‬أو ببلد الروم‪ ،‬أو األتراك‪ ،‬هإالء ٌمؤلون‬
‫كتب التارٌخ القدٌم بصخبهم ومعاركهم وأطماعهم وآرابهم‪ٌ ،‬صفهم المإرخون مثل المقرٌزي والجبرتً‬
‫بؤنهم "المصرٌٌن"‪ ،‬مع أنهم فً نفس الوقت ٌشهدون بؤنهم لٌسوا مصرٌٌن‪ٌ ،‬قولوا فبلن القادم من الشام‪،‬‬
‫وفبلن المجلوب من ببلد الؽز (الترك)‪ ،‬وفبلن القادم من المؽرب‪ ،‬إلخ‪.‬‬

‫ٗ‬
‫أٌن المصرٌون الحقٌقٌون ؼٌر الوافدٌن إذن؟ انقرضوا؟ أم هم هإالء الذٌن ٌوصفون فً هذه الكتب العتٌقة‬
‫بتعالً بكلمة "الفبلحٌن" و"المحلٌٌن"‪ ،‬الكم المهمل فً األرٌاؾ الواسعة‪ ،‬الكل ٌتصارع لحلب عروقهم إلى‬
‫آخر نقطة دم‪ ،‬لٌس لهم كلمة وصوت فً كتب التارٌخ فً معظم عصور االحتبلالت‪ ،‬كل هذه القرون‬
‫صوتهم مكتوم‪ ،‬وؼٌرهم من كل األجناس ٌتحدثون باسمهم !‬

‫قبل االحتبلالت‪ ..‬منقوش السإال والجواب‪ ،‬حٌن كانت مصر كشمس رع‪ ،‬ظاهرة صافٌة‪ ،‬ببل ضباب‪ ،‬من‬
‫هنا‪ ،‬من أزمنة التارٌخ المصري القدٌم قبل االحتبلالت‪ ،‬جاٌز أن نعثر على بذور الحقٌقة‪ ،‬من هنا نسٌر مع‬
‫موكب التارٌخ عصر وراء عصر‪ ،‬نسٌر وراء الفبلح نفسه‪ ،‬كٌؾ كان‪ ،‬وكٌؾ أصبح‪ ،‬وماذا حصل له فً‬
‫االحتبلالت‪ ،‬كٌؾ جاءت االحتبلالت أساسا‪ ،‬خنع لها‪ ،‬أم ُؼصب علٌها‪ ،‬أم قاومها‪ ،‬كٌؾ ؼار صوته‬
‫وصورته فً جوؾ ظلمات التارٌخ حتى ظنناه انقرض رؼم أنه باقً لحما ودما‪ٌ ..‬عرق وٌكدح وٌقدم‬
‫اإلنجازات‪ ،‬وٌكتبونها على ؼٌر اسمه !‬

‫حٌن ٌسٌر القارئ بمهل مع كتب التارٌخ‪ -‬المكتوبة فً كل عصر‪ٌ -‬ستكشؾ‪ ،‬وإن كان بصعوبة‪ ،‬إجابات‬
‫على أسبلة حٌرتنا كمصرٌٌن‪:‬‬

‫‪ -‬كٌؾ سقطت مصر العظمى وتسلمها احتبلل بٌن قدمٌه لٌسلمها ألقدام احتبلل آخر مبات السنٌن؟‬

‫‪ -‬أٌن ذهب المصرٌون؟ المصرٌون الحقٌقٌون أحفاد مٌنا ومنتوحتب وأحمس؟ هل هاجروا من بلدهم كما‬
‫ٌدعً البعض؟ هل أبادتهم نهابٌا سٌوؾ المحتلٌن؟ هل تكاثر علٌهم المستوطنون األجانب فذابوا فٌهم فلم ٌعد‬
‫فً مصر مصرٌون أصبلء؟ أم ما زالوا ملتصقٌن بؤرضهم كطمً النهر؟‬

‫‪ -‬من إذن ٌستحق أن ٌُقال علٌهم مصرٌون الٌوم؟‬

‫‪ -‬هل حقٌقً أن مصر بوتقة للهجرات األجنبٌة‪ ،‬أما الحقٌقة أن هذه الهجرات محرقة المصرٌٌن؟ أشنع‬
‫محرقة عانى منها بشر لمبات السنٌن المتواصلة‪.‬‬

‫‪ -‬من حقا َّأثر فً اآلخر‪ ،‬هل تمصرت الهجرات األجنبٌة أم صبؽت كل هجرة مصر بصبؽتها حتى صارت‬
‫كمن ٌرتدى قناعا قبٌحا مرقعا من كل األشكال واأللوان؟‬

‫‪ -‬هل حقٌقً تارٌخ مصر "طبقات" كطبقات "التورتة"‪ ،‬فرعونً وٌونانً ورومانً وعربً وعثمانلً‬
‫وإنجلٌزي إلخ كما ٌقال؟ أم أنها مجرد "أقنعة" ألصقها المستوطنون المحتلون ؼصبا على وجه مصر‬
‫الصبوح لتخفٌه وٌبررون وجودهم وفرض ثقافتهم على مصر؟‬

‫‪ -‬لماذا كلما زادت "الطبقات" المصطنعة (األقنعة) فوق وجه مصر كلما زادت الجرابم‪ ،‬المظالم‪ ،‬الشرور‪،‬‬
‫العادات القبٌحة‪ ،‬الحزبٌة‪ ،‬القلق‪ ،‬وتباعد المصرٌون عن بعضهم‪ ،‬وتباعد المصرٌون عن مصر‪ ،‬وتكبروا‬
‫على كلمة الفبلح؟‬

‫٘‬
‫‪ -‬لماذا ٌمجد معظم المصرٌٌن المتعلمٌن محتلٌهم؟ ٌسخرون أنفسهم لكتابة كتب تمجد المحتلٌن من كل لون‬
‫وتقدمهم كؤصحاب "فضل" على مصر!‬

‫‪ -‬لماذا فً مصر ما زال أحفاد المحتلٌن والمستوطنٌن ٌفتخرون بؤصول أجنبٌة ألجدادهم؟ لماذا بكل جرأة‬
‫ٌقؾ شخص ٌقول أنا مصري من أصل ٌونانً‪ ،‬أو مصري من أصل قبلً عربً‪ ،‬أو مصري من أصل‬
‫أرمنً‪ ،‬أو مصري من أصل تركً؟ ولماذا بعضنا ٌقبل هذا منهم وٌشجعهم؟‬

‫‪ -‬ما تؤثٌر كل هذا على ما تكابده مصر من سقطات كلما نهضت؟ ومن أزمة هوٌة‪ ،‬من سإال‪" :‬من نحن؟"‪.‬‬

‫‪ -‬أٌن ذهبت لؽة المصرٌٌن المقدسة؟ إحدى أقدم وأزهى لؽات األرض؟ لماذا فقد المصرٌون لؽتهم فً حٌن‬
‫لم ٌفقد الترك والفرس والهنود واألوروبٌون لؽاتهم؟ وهل فقدناها تماما أم ما زال فٌها الرمق؟‬

‫‪ -‬ما هً أساسا أسباب نهضة مصر فً أي زمن وما هً أسباب سقوطها واحتبللها؟‬

‫‪ -‬هل حقا مصر "مقبرة الؽزاة"‪ ،‬أم الحقٌقة أن مصر "جنة الؽزاة"؟ أكثر الدول التً ٌجٌد الؽزاة احتبلالها‬
‫عبر التسلسل واللسان المعسول‪ ،‬وال ٌجد فٌها الؽزاة عقابا حقٌقٌا على ما اقترفوه من جرابم‪ -‬عدا مرات‬
‫نادرة‪ -‬بل ٌجدون أحٌانا التكرٌم والتمجٌد‪ ،‬حتى أن كثٌرا من شوارع ومدن مصر مسماة بؤسامً الؽزاة!‬

‫‪ -‬من قاوم الؽزاة حقا؟ من سالت دماءهم فٌضانا كفٌضان النٌل وهم ٌثورون ضد استٌطان األجانب؟ وما أن‬
‫ٌثوروا حتى ٌظهر على الساحة من ٌ َّدعون أنهم مصرٌون وٌقتلون ثوراتهم‪.‬‬

‫‪ -‬كٌؾ تحول مصرٌون متعلمون من روح واحدة إلى أحزاب وشٌع وتنظٌمات تكره بلدها وتعبد األجنبً؟‬

‫‪ -‬كٌؾ تحولنا من أننا نعرؾ أن مهمتنا المقدسة هً حماٌة مصر أرضا وهوٌة‪ ،‬وبنابها بؤٌدي وعقول‬
‫وأموال المصرٌٌن إلى الظن بؤن تملٌك األجانب لؤلرض وتقدٌم شرؾ الجنسٌة المصرٌة لهم باسم استثمار‬
‫أو منح‪ ،‬وخلط األجناس بالمصرٌٌن هو الطرٌق لتنمٌة مصر؟‬

‫من ٌتحدث باسمنا وٌقول هذا الكبلم؟ هل نحن المصرٌون حقا؟ أم المستمصرون المجنسون وبواقً‬
‫االحتبلل؟ أم أرواح شرٌرة بداخلنا صنعها التارٌخ المزور‪ ،‬تسكن أجسادنا وتنطق باسمنا‪ ،‬بعد أن نجح‬
‫المحتلون فً تصفٌة المصرٌٌن من مصرٌتهم وذاكرتهم‪ ،‬وإن بقٌت عروقهم تحمل دماء مٌنا وأحمس‪.‬‬

‫‪ -‬من ٌحكم مصر حقا؟ ‪ ....‬هل المصرٌون الحقٌقٌون أم ظبلل وأفكار وهوٌات االحتبلل‪ ،‬وبواقً دماء‬
‫احتبللٌة لم تتطهر من أصول دخٌلة؟‬

‫هذا وؼٌره ٌحاول الكتاب استكشافه‪ ،‬وٌستطٌع المصري وهو ٌسٌر فً موكب التارٌخ مع كتبه القدٌمة أن‬
‫ٌلمسه‪ ،‬وٌجد إجابات له‪ ،‬شرط أن ٌقرأ بعٌن فبلح‪ ،‬وٌشعر بقلب فبلح‪ ،‬وٌقٌم األحداث بعقل الفبلح‪ ،‬ذاك‬
‫الذي ال ٌإمن له بؤصل أو هوٌة إال أرض مصر ولونها‪ ..‬فبل تختلط أمامه األوراق‪ ،‬ال تختلط األجناس‪ ،‬وال‬

‫‪ٙ‬‬
‫ٌتوه وسط الثقافات الدخٌلة‪ ،‬وال ٌتمزق أو ٌضل بسبب الخطوط والفواصل الوهمٌة التً اختلقها بعض كتاب‬
‫التارٌخ فً القرن ‪ ٔ9‬لتمزٌق تارٌخ المصرٌٌن بتقسٌمه إلى (فرعونً‪ ،‬قبطً‪ٌ ،‬ونانً‪ ،‬رومانً‪ ،‬عربً‪،‬‬
‫فاطمً‪ ،‬أٌوبً‪ ،‬مملوكً‪ ،‬عثمانً‪ ،‬حدٌث) ٌستطٌع أن ٌلتقط صوت جده الفبلح وسط ضجٌج كل أصوات‬
‫التارٌخ التً زحمت ببلده فً الماضً‪ ،‬مهما انخفض صوت جده‪ ،‬سٌصل قلبه بقلبه‪ ،‬ودمه بدمه‪ ،‬وأرضه‬
‫بؤرضه‪ ،‬ومصرٌته بمصرٌته‪.‬‬

‫ٌراه وهو وحده الثابت فً هذه األرض‪ ،‬هو وحده الحقٌقة‪ ،‬الكل ٌتؽٌر‪ ،‬المحتلون والجالٌات األجنبٌة‬
‫واللؽات واألدٌان‪ ،‬الثابت الوحٌد طوال هذه اآلالؾ من السنٌن هو الفبلح المصري "كٌمتً" وأرضه (وهما‬
‫وحدة واحدة ال تتجزأ)‪ ،‬المؽروسة فٌها قدمه المشققة من طول الزرع فً طٌنها‪ ،‬القابضة ٌداه الخشنتان من‬
‫الشقا على الفؤس وهو ٌزرع‪ ،‬والقابضة على آداة الحرفة وهو ٌصنع‪ ،‬وعلى الطوبة وهً ٌبنً‪ ،‬الباسمة‬
‫شفتاه رؼم كل شًء‪ ،‬المرفوعة عٌناه إلى السماء أمبل وعشما فً النجاة‪.‬‬

‫لكن هذا عمل شاق طوٌل‪ ،‬سار فٌه الكثٌر والكثٌر من أساتذتنا مثل الدكاترة سلٌم حسن‪ ،‬عبد العزٌز صالح‪،‬‬
‫سٌدة كاشؾ‪ ،‬آمال الروبً‪ ،‬زبٌدة عطا‪ ،‬علً بركات‪ ،‬عاصم الدسوقً‪ ،‬رءوؾ عباس‪ ،‬سامً عزٌز‪ ،‬عبد‬
‫الرحٌم عبد الرحمن عبد الرحٌم‪ ،‬وآالؾ ؼٌرهم‪ ،‬وأنجزوا‪ ،‬فً كل المجاالت‪ ،‬وهم ٌتتبعون حال الفبلح فً‬
‫الهوٌة واللؽة والدٌن واألخبلق والمبلبس واآلداب واألؼانً واألكبلت والثورات وعبلقته باألجناس‬
‫والثقافات الوافدة‪ ،‬وعدد السكان‪ ،‬حاله فً الزراعة والصناعة والتعلٌم‪ ،‬من أول الزمان وحتى اآلن‪ ،‬دخلوا‬
‫إلى األرشٌفات العتٌقة ومخازن البردٌات والوثابق المخفٌة تحت ركام التراب‪ ،‬واستخرجوا منها فً رسابل‬
‫الماجستٌر والدكتوراة المعلومات المكنوزة المخفٌة أو المهملة عن المصرٌٌن الحقٌقٌٌن‪ ،‬وكٌؾ كان حالهم‬
‫فً كل عصر‪ ،‬فقط ٌحتاجون الٌوم الذي تفوق فٌه الدولة لمصرٌتها‪ ،‬وتلملم مجهود هإالء األساتذة‬
‫الفبلحٌن‪ ،‬وتنشًء المكتبات المخصوصة التً ٌتوجه إلٌها المصري لٌعرؾ من هو المصري الحقٌقً‪،‬‬
‫وكٌؾ كان‪ ،‬وكٌؾ أصبح‪ ،‬فً كل المجاالت‪ ،‬بتارٌخ كتبه المصرٌون الحقٌقٌون‪.‬‬

‫مهمتً أنً كنت عازمة‪ -‬بمشٌبة هللا‪ -‬على أن استؽل دراستً اإلعبلمٌة واألثرٌة فً أن ألملم بعض مجهود‬
‫هإالء األساتذة فً هذا الكتاب‪ ،‬لٌجد المصري الخطوط العرٌضة لمسٌرة أجداده فً كل هذه المجاالت بعٌدا‬
‫عن الؽشاوة التً دفع كثٌر من هإالء األساتذة من أعمارهم لتزول وتشرق شمس مصر مرة أخرى‪ ،‬لكن‬
‫وجدت أنه بالتؤكٌد ال ٌحوٌها كتاب‪ ،‬بل سلسلة كتب‪ ،‬كل كتاب ٌخص مجال من هذه المجاالت‪ ،‬وتحمل‬
‫السلسلة اسم "هوٌتً مصر"‪.‬‬

‫أما من أٌن أبدأ‪ ،‬فإن حال مصر اآلن هً من فرضت البداٌة‪ ،‬فمنذ ٕٔٔٓ ومصر فً عملٌة تؽٌٌر لدمها‬
‫وجلدها وروحها‪ ،‬طوفان من األجناس ٌُقذفون على مصر باسم الجبٌن وعمالة وتجار‪ ،‬مبلٌٌن دخلوا فً‬
‫وقت قصٌر‪ ،‬وفً وقت قصٌر أٌضا سٌطروا على مناطق واسعة من األرض واالقتصاد والثقافة‪ ،‬وما أن‬
‫استقروا حتى تدفقت ورابهم قوانٌن تسهٌل تملٌك وتجنٌس وتوطٌن األجانب! طوفان من أجناس متصارعة‬
‫عرقٌا وطابفٌا وقبلٌا‪ ،‬تخربت ببلدهم لحزبٌتهم وطابفٌتهم‪ ،‬فمن له مصلحة فً أن ٌحدفهم بؤسباب الخراب‬
‫إلى مصر؟‬
‫‪7‬‬
‫إن قصة تسلٌم مصر للهكسوس من جدٌد بدأت ٗ‪ ،ٔ99‬بقوانٌن صنعت مراكز قوى أجنبٌة تحكم البلد باسم‬
‫مستثمرٌن ومجنسٌن ومستشارٌن وبٌوت الخبرة األجنبٌة‪ ،‬ثم جاءوا الٌوم طوفانا من البشر‪ ،‬بالمبلٌٌن‪ ،‬باسم‬
‫الجبٌن ومستثمرٌن‪ ،‬لسانهم حلو ووعودهم براقة‪ ،‬بل وٌفرضون لونهم وهوٌتهم وأسمابهم على كل شارع‬
‫ومكان ٌسٌطرون علٌه‪ ،‬وٌمحون كل ما ٌخص مصر‪ ،‬قدموا لمصر بؤعداد لم تشهدها مصر لؤلجانب فً‬
‫تارٌخها‪ ،‬إن من ٌتابع رصد وتحالٌل أساتذتنا فً تحلٌل فترات سقوط وصعود مصر لٌوقن كل الٌقٌن أن ما‬
‫تمر به مصر الٌوم هو الطرٌق إلى النهاٌة‪ ،‬نهاٌة مصر بكاملها‪ ،‬فقد تجمع فً سماء مصر وأرضها كافة‬
‫أسباب احتبلل مصر وسقوطها بل وإبادتها‪.‬‬

‫ٌشٌر الحكٌم "إٌبو ور" للمستوطنٌن األجانب فً بردٌته كؤحد أسباب انتشار الفوضى فً نهاٌة ااألسرة‬
‫‪ ٙ‬قبل سقوطها‪" :‬انظر! ال صانع ٌعمل‪ ،‬والعدو ٌحرم الببلد حرفها(ٔ)" فبعد أن كثر المستوطنون‪"" :‬تخربت‬
‫األقالٌم‪ ،‬وتوافدت قبابل قواسة ؼرٌبة إلى مصر‪ ،‬ومنذ أن وصلوا لم ٌستقر المصرٌون فً أي مكان (‪)...‬‬
‫وأصبح األجانب مصرٌٌن فً كل مكان‪ ...‬وأولبك الذٌن كانوا مصرٌٌن أصبحوا أؼرابا وأهملوا جانبا(ٕ)"‪.‬‬

‫وٌتتبع نٌكوال جرٌمال جذور االحتبلل الهكسوسً فً نهاٌة الدولة الوسطى قبل سقوطها فٌرصد أن تدفق‬
‫العمالة اآلسٌوٌة هو بداٌة حركة هجرة متصلة وسلمٌة‪ ،‬ولكنها ثابتة ودإوبة‪ ،‬أدت إلى استقرار بعض‬
‫الشعوب على الحدود الشمالٌة الشرقٌة لمصر‪ ،‬جاءت بعد أن طردتها من مواطنها األصلٌة هجرات جدٌدة‬
‫هاجمت الشام‪ ،‬حتى إذا آن األوان نزع المهاجرون إلى االتحاد لٌحتلوا المناطق التً تقع تحت إٌدٌهم‪،‬‬
‫وعادت اآللٌات التً كانت وراء سقوط الدولة القدٌمة إلى الظهور‪ ،‬وتتمثل فً إضعاؾ الدولة وما ترتب‬
‫علٌه من انفراط عقد وحدة الببلد(ٖ)‪.‬‬

‫وٌرصد فرانسٌس فٌفر فً كتابه عن أسباب سقوط الدولة الحدٌثة بعد األسرة ٕٓ فً ٌد المستوطنٌن األجانب‪:‬‬
‫"شقٌة هً أرض مصر‪ ،‬كم تعرضت لؤلطماع طوال العقدٌن الماضٌٌن! أطماع الوزراء‪ ،‬أطماع كبار الكهنة‬
‫والنساخ‪ ،‬بل أطما ع األعٌان األجانب أٌضا‪ ،‬لقد فتحت ؼزوات الفراعنة فً القرون األخٌرة باب الببلط الملكً‬
‫أمام هإالء األجانب‪ .‬فً البداٌة كانوا سفرا ء لببلدهم‪ ،‬ثم أصبحوا مستشارٌن بارعٌن لدى الفراعنة‪ ،‬وأخذوا‬
‫ٌإسسون سبلالت قوٌة من األعٌان تحٌط بؤصحاب العرش"(ٗ)‪.‬‬

‫وبتعبٌر د‪ .‬عبد العزٌز صالح فإنه على الرؼم من هذا التساهل النسبً فً توطٌن األجانب ٌعتبر مكرمة‬
‫للخلق المصري‪ ،‬إال أنه جرَّ على مصر بعد ذلك شرورا كثٌرة كانت فً ؼنى عنها لو أنها استؤصلت شؤفة‬
‫أعدابها من جذورها(٘)"؛ ألن "الخطر كل الخطر كان ٌتمثل فً أال ٌخلو إخبلص هإالء النزالء لها من‬
‫شوابب‪ ،‬وأن ٌتمصروا بمظهرهم ولٌس فً مخبرهم‪ ،‬وأن ٌظل بعضهم على استعداد للتنكر لها متى سنحت‬

‫(ٔ)‬
‫‪ -‬موسوعة مصر القدٌمة‪ ،‬سلٌم حسن‪ ،‬الجزء ‪ ،ٔ7‬الهٌبة العامة للكتاب‪ ،‬مشروع مكتبة األسرة‪ ،ٕٓٓٓ ،‬ص ‪ٕ97‬‬
‫(ٕ)‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم (الجزء األول مصر والعراق)‪ ،‬د‪ .‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬مكتبة األنجلو‪ ،‬طٕ منقحة‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ97ٖ ،‬ص ٓ‪ٖٙ‬‬
‫(ٖ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬نٌكوال جرٌمال‪ ،‬ترجمة ماهر جوٌجاتً‪ ،‬دار الفكر لدراسات والنشر والتوزٌع‪ ،‬طٕ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪ٕٖ7‬‬
‫(ٗ)‬
‫‪ -‬الفرعون األخٌر رمسٌس الثالث‪ :‬أو زوال حضارة عرٌقة‪ ،‬فرانسٌس فٌفر‪ ،‬ترجمة فاطمة البهلول‪ ،‬دار الحصاد‪ ،‬ص ٔٔ‬
‫(٘)‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم (الجزء األول مصر والعراق)‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٖ8‬‬

‫‪8‬‬
‫لهم فرصة أو ألمت بها نكبة‪ ،‬وما كان أكثر احتماالت النكبات علٌها فً ذلك الزمان(‪.")ٙ‬‬

‫منذ ٕٔٔٓ كؤنهم فً سباق محموم‪ ،‬لتفرٌػ مصر مما بقً من مصرٌتها‪ ،‬ومن حقوق أوالدها فٌها‪ ،‬ومن‬
‫التعرٌؾ الحقٌقً لكلمة مصري‪ ،‬نشطت الكتابات عن أصول المصرٌٌن‪ ،‬ومن أصحاب الحق فً مصر‬
‫أساسا‪ ،‬وادعت أن لكل األجناس "حق" فً مصر‪ -‬عدا المصرٌٌن الحقٌقٌٌن أنفسهم‪ -‬تزاحمت األعمال‬
‫األدبٌة والفنٌة لتحقٌر كل ما هو مصري أصلً (فبلح)‪ ،‬وبتمجٌد كل ما هو أجنبً ودخٌل‪ ،‬وصل الٌوم‬
‫المجنسون ومزدوجو الجنسٌة بسرعة البرق إلى أعلى المناصب فً مصر (قادة الثقافة والفكر ومنصب‬
‫المحافظ على سبٌل المثال)‪ ،‬تشجٌع المصرٌٌن على الهجرة وخفض الموالٌد مقابل تشجٌع األجانب على‬
‫القدوم لمصر وتجنٌسهم‪ ،‬تحمٌل الفبلحٌن مسبولٌة كافة المصابب والنكبات التً تعرضت لها مصر وتبربة‬
‫األجانب والمحتلٌن‪ ،‬وعلو الصوت أكثر وأكثر بؤن مصر حٌن ٌحكمها أجنبً أفضل من مصر حٌن ٌحكمها‬
‫المصري الفبلح‪ٌ ،‬ا ترى ما هو سبب هذه الحمى؟‬

‫ولذا كانت البداٌة بهذا الكتاب‪ ...‬رصد مؤخوذ من كتب أساتذتنا‪ ،‬ومن كتب وشهادات المإرخٌن القدامى‬
‫والمعاصرٌن لكل فترة حرٌة أو احتبلل‪ ،‬ألسباب صعود أو سقوط مصر‪ ،‬وكٌؾ كان حال مصر حقا وهً‬
‫حرة‪ ،‬وكٌؾ كان حالها تحت االحتبلل‪ ،‬وكٌؾ كان حال مصر حقا وهً مصرٌة خالصة‪ ،‬وكٌؾ حال‬
‫مصر وهً "لخبطٌطة" مشوهة من ثقافة "كل األجناس"‪.‬‬

‫وعلى هذا ٌبدأ الكتاب بما رآه األجداد أنها األصول والمبلمح الحقٌقٌة لمصر‪ ،‬وعقٌدتها (ماعت)‪ ،‬بل وسبب‬
‫خلق مصر من األساس‪ ،‬ووظٌفتها فً هذه الحٌاة‪ ،‬وشروط تحقٌق هذه الوظٌفة‪ ،‬وعهدها مع اإلله‪ ،‬والعقاب‬
‫المنتظر ألوالدها حٌن تخلو عن هذا العهد‪ ،‬ثم أسباب احتبللها‪ ،‬ودور الهجرات األجنبٌة فً جلب‬
‫االحتبلالت‪ ،‬ونتابج كل فترة احتبلل واستٌطان أجنبً تعرضت لها مصر‪ ،‬ومبلمح االحتبلل االستٌطانً‬
‫الجدٌد الذي وضعه قدمه األولى بالفعل فً مصر مإخرا‪ ،‬وهو مقسم إلى جزبٌن‪:‬‬

‫الجزء األول‪ :‬مصر وأحوالها مع الهكسوس منذ األزل وحتى ٕ٘‪.ٔ9‬‬

‫الجزء الثانً‪ :‬مصر وأحوالها مع الهكسوس منذ ٕ٘‪ ٔ9‬وحتى ‪ٕٓٔ9‬‬

‫علَّها وعسى تكون صرخة تنضم لصرخات من سبقونا‪ ،‬توقظنا‪ ،‬قبل أن ُتباد مصر إلى األبد‪.‬‬

‫وحتى ال ٌؤتً ٌوم نقول ما ردده جدنا "إٌبو ور" بعد فوات اآلوان عاضا أصابع الندم وهو ٌرى مصر فً‬
‫نهاٌة األسرة ‪ ٙ‬تسقط أمام عٌنٌه‪ ،‬والدم ٌمؤل كل مكان‪ ،‬على ٌد من فرضوا فً مركزٌة وسٌادة الدولة‪،‬‬
‫وعلى ٌد األجانب الذٌن استوطنوا فً مصر وقت ؼفلتها‪:‬‬

‫"لٌتنً رفعت صوتً فً ذلك الوقت حتى كنت أنقذ نفسً من األلم الذي أنا فٌه اآلن‪ ،‬فالوٌل لً‪ ،‬ألن‬

‫(‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕٓٗ‬

‫‪9‬‬
‫البإس ع َّم فً هذا الزمان"(‪.)9‬‬

‫وقبل القراءة‪ ...‬ال تتفاجا‬

‫هذا الكتاب‪:‬‬

‫ال ٌجامل أحدا‪ ،‬ال ٌجامل أي جنسٌة أجنبٌة‪ ،‬ال ٌجامل أي أصحاب دٌن‪ ،‬ال ٌبرر ألي مذهب ٌتخذه أصحابه‬
‫وسٌلة للسٌطرة وسرقة أوطان ؼٌرهم‪ ،‬ال ٌتحسب ألي لوم إال إذا كان ٌختص بدقة المعلومات‪ ،‬ال ٌبرر ألي‬
‫عصر أو شخص داس على رقبة الفبلح لٌخفً صوت مصر الحقٌقً ٌوما ما‪.‬‬

‫هذا الكتاب‪:‬‬

‫ال ٌصؾ أي أجنبً حكم مصر إال بؤنه "احتبلل" و"اؼتصاب" لمصر‪ ،‬أٌا كانت لؽته أو دٌنه أو عرقه‪،‬‬
‫فالهكسوسً احتبلل‪ ،‬والكوشً واآلشوري احتبلل‪ ،‬والفارسً احتبلل‪ ،‬والٌونانً والرومانً احتبلل‪،‬‬
‫والعربً احتبلل‪ ،‬والعبٌدي (الفاطمً) واألٌوبً والمملوكً والعثمانلً احتبلل‪ ،‬والفرنسً واإلنجلٌزي‬
‫واإلسرابٌلً احتبلل‪ ،‬سوا كان دٌن هإالء ؼٌر معروؾ أو إسبلمً أو مسٌحً أو ٌهودي‪ ،‬فكل من هو‬
‫أجنبً وقدم لمصر لٌؤخذ حكمها أو مناصبها وثروتها وهوٌتها وٌتكبر على الفبلح وداس علٌه‪ ،‬وأصر على‬
‫أن ٌحتفظ بؤصله األجنبً وٌتفاخر به هو احتبلل خبٌث‪.‬‬

‫هذا الكتاب‪:‬‬

‫حٌن ٌنطق كلمة مصري فً الكتاب فهً تكون فً موضوعٌن‪ ،‬إما على لسان المصدر والمرجع الذي ٌنقل‬
‫عنه‪ ،‬وهنا التزام بؤمانة النقل وٌكون معنى مصري على حسب ما ٌقصد المرجع‪ ،‬كؤن ٌصؾ مثبل الجبرتً‬
‫الممالٌك بؤنهم مصرٌٌن أو مصرلٌة‪ ،‬رؼم أنهم طبعا لٌسوا مصرٌٌن‪.‬‬

‫والموضع الثانً هو على لسان صاحبة الكتاب‪ ،‬وهً لن تعنً إال الفبلح المصري الذي ال ٌعرؾ له أصبل‬
‫إال أنه ابن مصر‪ ،‬ذلك الباقً ٌحمل دم وعروق أجداده من آالؾ السنٌن‪ ،‬أو ذاك الذي قدم فً عصر من‬
‫العصور إلى مصر فً صحبة احتبلل أو ؼٌره‪ ،‬لكن نفض عن نفسه كل أصل أجنبً وكل ؼبار وافد‪ ،‬ولم‬
‫ٌرض لنفسه أن ٌعٌش إال مصرٌا خالصا‪ ،‬فبلحا‪ ،‬ال ٌعتز بؤي نسب أجنبً ٌخص بلد ما أو قبٌلة أو أي‬ ‫َ‬
‫عرق أجنبً‪ ،‬وال ٌعٌن أي احتبلل‪ ،‬بل وٌقضً عمره لنصرة مصرٌة مصر‪ ،‬ونصرة بانٌها الفبلح‪ ،‬ورفعه‬
‫فوق رقبة محتلٌه‪ ،‬هاتفا "مصر للمصرٌٌن"‪ ...‬المصرٌٌن الحقٌقٌٌن‪.‬‬

‫وأما المقصود فً الكتاب بالهكسوس‪ -‬ومعناها األجانب فً اللؽة المصرٌة‪ -‬فهو كل ما هو أجنبً ال ٌناسب‬
‫هوٌة مصر‪ ،‬سواء األجناس أو النظرٌات واألفكار والعادات والتقالٌد األجنبٌة‪ ،‬مهما تم تزوٌقها وتلمٌعها‬
‫لتخفً ببرٌقها الزاٌؾ وجه مصر المشرق الحلو األصٌل‪ ..‬أعذب وجه على األرض‪.‬‬

‫(‪)7‬‬
‫‪ -‬الحكم واألمثال والنصابح عند المصرٌٌن القدماء‪ ،‬محرم كمال‪ ،‬األلؾ كتاب الثانً‪ ،‬ط ٕ‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬صٔٔ‬

‫ٓٔ‬
‫لمن هذا الكتاب؟‬

‫ٔٔ‬
‫إلى ال َفبلحة المصرٌة األولى التً وقعت علٌها عٌناي‪ ..‬وأرضعتنً ال ِفبلحة حتى آخر عمرها‪ ...‬أمً‬

‫إلى الفبلح األول الذي أطعمنً بعرقه ودمه روح أرض مصر‪ ،‬وسقانً رٌحتها العطرة‪ ...‬خالً‬

‫إلى الفبلح المصري القراري فً كل زمان‪ ..‬ورٌث حور وحامً ماعت‬

‫لك أنت‪ ....‬لٌس إال‬

‫وحدك من ستسمعنً‪ ..‬وحدك من ستفهمنً‪ ..‬وحدك من تستحق أن ٌُبذل لك كل العمر والتعب‬

‫ٌا أعظم المخلوقات‪.‬‬

‫ٌا أثبت من حمل رسالة هللا فً أرضه‪.‬‬

‫ٕٔ‬
‫مصر لٌست دولة تارٌخٌة‬
‫(‪)8‬‬
‫مصر جاءت أوال ثم جاء التارٌخ‬

‫(‪ -)8‬مقولة منسوبة لألدٌب نجٌب محفوظ لم تستطع الكاتبة الوصول لمصدر ٌإكد نسبتها له‪ ،‬ولكن أٌا كان قابلها فهً حقٌقة‬

‫ٖٔ‬
‫الفصل األول‪ :‬أزمنة الحكم المصري الحر القدٌم‬
‫(من األزل‪ ٔٓٙ9 -‬ق‪.‬م)‬

‫مصر ‪ x‬الهكسوس‬

‫إزفت‬ ‫‪x‬‬ ‫ماعت‬


‫المشهد ٔ‪ :‬فوق التل األزلً‬

‫فً البدء كانت الكلمة‪ ..‬وجاءت مصر‬

‫(المٌالد)‬

‫فً لٌلة لٌست ككل اللٌالً‪ ،‬ال ٌعرؾ تارٌخها إال اإلله الواحد‪ ،‬والكون ظلمة وعدم‪ ،‬بزؼت من تحت مٌاه‬
‫المحٌط األزلً "نون"‪ ،‬الكامنة فٌه أسرار حٌاة كل شًء‪ ،‬ربوة هرمٌة "التل األزلً"‪ ،‬وبكلمة ألقاها اإلله‬
‫من فوقه‪ ،‬أمر بخلق كل شًء‪ ،‬ومن روحه خلق الهواء والنور "شو"‪ ،‬والرطوبة والندى "تفنوت"‪ ،‬ومن‬
‫اختبلط "شو" و"تفنوت" تخلَّقت األرض "جب"‪ ،‬والسماء "نوت"‪ ،‬وكانا ملتصقان‪ ،‬فؤمر اإلله أن ٌرفع‬
‫"شو" السماء عن األرض‪ ،‬وٌمؤل ما بٌنهما بالنور والهواء‪ ،‬فتنفست الحٌاة‪ ،‬وتخلَّق عن التصاق "جب"‬
‫(مذكر)‪ ،‬و"نوت" (مإنث) ٗ كابنات "أوزٌر" (أوزٌرٌس)‪ ،‬و"إٌسة" (إٌزٌس)‪ ،‬و"سٌت"‪ ،‬و"نبت حت"‬
‫(نفتٌس)‪ ،‬وما فٌهم من خٌر وشر‪ ،‬أرسل لهم اإلله رسوله "تحوت" بؤلواح الحكمة واألخبلق وصفات الحق‬
‫"ماعت"‪ ،‬وصفات الباطل "إزفت"؛ لٌهتدوا بها فً مشوار الحٌاة الطوٌل لنصرة الحق المبٌن‪ ،‬وكتب‬
‫"تحوت" أول سطر فً هذه المعركة الباقٌة بقاء "التل األزلً"‪ ،‬معركة الحق والباطل(ٔ)‪.‬‬

‫هذه أقدم وأشهر فكرة حوتها كتب وجدران األجداد المصرٌٌن عن قصة الخلق‪ ،‬وهدؾ الخلق‪ ،‬وبداٌة‬
‫(كٌمة) مصر‪ ،‬وهدؾ مصر‪ ،‬وقصة مصر‪ ،‬وقضٌة مصر‪ ...‬والفبلح‪.‬‬

‫علَّم أوزٌر المصرٌٌن الذٌن خلقهم اإلله من الصلصال‪ ،‬وقٌل من دموعه‪ ،‬الزراعة والحكم الرشٌد‪،‬‬
‫تزوج أوزٌر الشهٌر بؤلقاب األسمر واألخضر (لون طمً مصر وزرعها) من إٌسة‪ ،‬وسٌت من نبت حت‪،‬‬
‫ودار صراع حول عرش مصر‪ ،‬سٌت قتل أوزٌر‪ ،‬ألقاه فً النٌل‪ ،‬اختببت إٌسة فً أحراش الوجه البحري‬
‫لتربً ابنها حور بعٌدا عن جواسٌس سٌت‪ ،‬احتضنها الفقراء‪ ،‬عملت فً ورشة نسٌج لتربٌه‪ ،‬علمته بإرشاد‬
‫من تحوت الحكمة وأصول الحق "ماعت"‪ ،‬ومسبولٌته فً استعادة عرش أبٌه‪ ،‬وأصول القتال والمبارزة‪،‬‬
‫عاد لعمه ٌسترد عرش أبٌه‪ ،‬أحاط به األهالً ٌقوون قلبه‪ ،‬وبعد مبارزة مرٌرة لجؤ للمحكمة‪ ،‬فحكمت‬

‫(ٔ)‬
‫‪ -‬للمزٌد عن مذاهب الخلق فً العقٌدة المصرٌة انظر‪ :‬فلسفات نشؤة الوجود فً مصر القدٌمة‪ ،‬د‪ .‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬مجلة "المجلة" (الهٌبة‬
‫المصرٌة العامة للتؤلٌؾ والنشر)‪ ،‬س ٖ‪ ،‬ع ‪ ،ٕٙ‬القاهرة‪ ،ٔ9٘9 ،‬ص ٖٖ‪ ،ٗٙ -‬وتستخدم الباحثة األسماء األصلٌة للمقدسات والشخصٌات‬
‫المصرٌة كما تعلمنا فً كلٌة اآلثار ألن االحتالل الٌونانً شوهها بتسمٌتها حسب نطقه‪ ،‬مثل تحوٌله أوزٌر إلى أوزٌرٌس‪.‬‬

‫٘ٔ‬
‫محكمة قضاة مصر وحكمابها ٌرأسهم "رع"‪ ،‬بؤن عرش مصر حق لـ حور‪ ،‬فحكم مصر بـ"ماعت"(ٕ)‪ ،‬ترك‬
‫وصاٌاه ألبناءها‪ ،‬وعرشها وحكمتها وعهدها والصولجان أمانة ٌحفظونها من الؽزاة والمعتدٌن‪ ،‬وؼدر‬
‫السنٌن‪.‬‬

‫على ٌمٌن الصورة إٌسة ونبت حت ٌقفان وراء أوزٌر بلونه األخضر الزرعً وأمامه حور برأس صقر ٌقدم له أحد الخاضعٌن للحساب فً محكمة‬
‫اآلخرة وخلفه تحوت برأس أبو منجل ٌسجل أعمال الناس (بردٌة فً المتحؾ البرٌطانً)‬

‫ش ِرخ العرش‪ ،‬وسقط الصولجان فً ٌد أشرار أرادوا فصل الوجه البحري‪ ،‬أو ؼزاة من‬ ‫ؼفل األبناء‪ُ ،‬‬
‫الصحاري الموحشة‪ ،‬تركت لنا اآلثار بقاٌا مقمعة (سبلح قدٌم)‪ ،‬مقمعة الملك العقرب تحكً نقوشها أنه‬
‫قهرهم لٌعٌد الطمؤنٌنة لمصر‪ ،‬والسبلمة للعرش‪ ،‬وأمسك الملك العقرب بالفؤس‪ ،‬أمامه الفبلحون ٌقدمون له‬
‫الحبوب لٌزرعها‪ ..‬هكذا أقدم الصور والنقوش ألصحاب عرش مصر‪ ،‬قدمته فبلحا مقاتبل‪ ،‬زارعا مناضبل‪،‬‬
‫الملك الفبلح‪ ،‬والفبلح الملك‪ ،‬األمٌن على عمار أرضها‪ ،‬وطهارة عرشها من األجانب واألشرار‪ ،‬والحافظ‬
‫للعهد‪ ،‬عهد نصرة "ماعت"‪.‬‬

‫العقرب ٌقؾ شامخا ممسكا بالفؤس لٌفتتح مشروع زراعً وأمامه فبلح ثانً ٌقدم له سلة الحبوب (محفوظة فً متحؾ األشمولٌن البرٌطانً)‬

‫(ٕ)‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى القدٌم (الجزء األول مصر والعراق)‪ ،‬د‪ .‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬مكتبة األنجلو‪ ،‬طٕ‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ99ٖ ،‬ص ‪ٖٖٖ -ٖٕٙ‬‬

‫‪ٔٙ‬‬
‫عاد شعب الفبلحٌن لٌؽفل عن رسالته‪ ،‬فسقط‪ ،‬من التل األزلً‪ ،‬بزغ الملك الفبلح مٌنا‪ ،‬قاد شعب‬
‫الفبلحٌن لطرد الؽزاة واألشرار‪ ،‬وعمَّر بالزرع الدٌار‪ ،‬وتؤلألت العروسة‪ ،‬عاد شعب الفبلحٌن لٌؽفل عن‬
‫رسالته‪ ،‬فسقط‪ ،‬اختطؾ أهل الصحاري العروسة‪ ،‬حتى بزغ من التل األزلً الملك الفبلح من جدٌد‪،‬‬
‫فٌنتصر‪ ،‬وٌتكرر السقوط‪ ،‬والصعود‪ ،‬والسقوط‪ ،‬والصعود‪ ،‬حتى جاء السقوط األكبر‪ ،‬األعنؾ واألقبح‪،‬‬
‫الذي ما زال مستمرا‪...‬‬

‫هل ٌعود الملك الفبلح وشعب الفبلحٌن وحدانٌة مصر الٌوم؟ كٌؾ والفبلحون المتعلمون ٌتكبرون على‬
‫كلمة الفبلحٌن‪ ،‬كٌؾ وهم باتوا ٌقتلون مصر وروحها "ماعت"‪ ،‬وٌجلبون الهكسوس بؤٌدٌهم‪ ،‬وٌتبنون‬
‫روحهم "إزفت"‪ ..‬وٌسلمون التل األزلً‪ -‬بؤٌدٌهم‪ -‬لكل األجناس‪ٌ ،‬سلمونه للمسٌخ الدجال!‬

‫كارٌكاتٌر أوروبً ٌصور روتشٌلد (راعً االحتبلالت وتوطٌن األجانب وتقسٌم الببلد والوكٌل العصري للمسٌخ الدجال) ٌقدم مشروبا مؽرٌا لتماسٌح‬
‫النٌل‪ ،‬كناٌة عن تقدٌمه قروضه المشبومة لمصر فً القرن ‪ ٔ9‬لٌستكمل احتبللها وٌبٌد شخصٌة الفبلحٌن بتوطٌن الجالٌات األجنبٌة وثقافاتها بشكل‬
‫منظم حتى الٌوم (مصدر الصورة موقع عابلة روتشٌلد (ٖ) ‪)www.rothschildarchive.org‬‬

‫(ٖ)‪Exhibition - Rothschilds in Caricature, 8: Feeding time -‬‬


‫‪https://www.rothschildarchive.org/exhibitions/rothschild_in_caricature/feeding_time‬‬

‫‪ٔ7‬‬
‫المشهد ٕ‪ :‬فجر مصر قبل مٌنا‬

‫(التكوٌن)‬

‫تعود معظم المصرٌٌن أن ٌإرخوا ألنفسهم بداٌة من حكم أحد أبرز األجداد المإسسٌن للدولة المصرٌة‪،‬‬
‫وهو نعرمر (مٌنا)‪ ،‬ولكن آثارنا تنطق بؤنه لم ٌكن المإسس األول‪ ،‬فالتؤسٌس ٌعود لزمن طوٌل قبل هذا‬
‫الرجل العظٌم‪ ،‬وما كان عصره إال إعادة األمر لنصابه‪ ،‬وهو ما بات ٌعرفه العالم باسم "الدولة" و"الحكومة‬
‫المركزٌة"‪ ..‬أعظم االختراعات التً قدمتها مصر للعالم‪.‬‬

‫وبحسب دراسات جرت على حجر "بالرمو" الذي سجل علٌه األجداد تؤرٌخا لحكام مصر حتى األسرة‬
‫٘‪ ،‬فإن مصر شهدت وحدة تامة قبل مٌنا‪ ،‬وربما كانت عاصمتها مدٌنة أون (عٌن شمس)‪ ،‬واتفقت على‬
‫معبود ربٌسً لها هو حور (حورس)(ٗ)‪ ،‬ولكن تعرضت لفوضى وؼزو احتل أجزاء من الوجه البحري‪،‬‬
‫فجاء مٌنا لٌعٌد األمر إلى أصله‪.‬‬

‫وعلى هذا ٌقسم علماء اآلثار مراحل تارٌخ مصر القدٌم إلى ما ٌلً‪:‬‬

‫ٔ‪ -‬عصور ما قبل التؤرٌخ (العصور الحجرٌة)‪ ،‬وترجع لعشرات آالؾ من السنٌن‪.‬‬

‫ٕ‪ -‬فجر التؤرٌخ المصري‪ ،‬وٌسمى عصور ما قبل األسرات‪ ،‬وشهد مراحل متقدمة للتكوٌن والنضج‬
‫وتحوٌل مصر لمجتمع متماسك مستقر متعاون‪.‬‬

‫(ٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر الفرعونٌة‪ ،‬أحمد فخري‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪" ،‬مكتبة األسرة" القاهرة‪ ،ٕٕٓٔ ،‬ص ٔٗ‪ ،‬و"فجر الضمٌر" جٌمس‬
‫هنري برٌستٌد‪ ،‬ترجمة سلٌم حسن‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٓٔٔ ،‬ص ‪ٖ7‬‬

‫‪ٔ8‬‬
‫ٖ‪ -‬بداٌة العصور التارٌخٌة (أي بداٌة التؤرٌخ بالكتابة)‪ ،‬وتشمل األسرتٌن األولى والثانٌة (من ٖٓ٘ٔ‬
‫ق‪.‬م – ٓٓ‪ ٕ9‬ق‪.‬م)‬

‫ٗ‪ -‬عصور الدولة القدٌمة (األسرة ٖ‪ ٙ -‬من ٓٓ‪ ٕٕٓٓ -ٕ9‬ق‪.‬م)‬

‫٘‪ -‬عصر البلمركزٌة األولى (الزفتة األولى(٘)) األسرات ‪ ٔٓ-9‬من ٕٕٓٓ‪ ٔ99ٔ-‬ق‪.‬م ‪.‬‬

‫‪ -ٙ‬عصور الدولة الوسطى األسرتان ٔٔ‪ ٕٔ-‬من ٔ‪ ٖٖٔٙ-ٔ99‬ق‪.‬م‪.‬‬

‫‪ -9‬عصر البلمركزٌة الثانٌة (الزفتة الثانٌة) األسرات ٖٔ وٗٔ و‪ ،ٔ9‬فٌما كانت األسرتان ٘ٔ و‪ٔٙ‬‬
‫هكسوسٌة‪ ،‬من ٖٖ‪ ٕٔ٘٘ -ٔٙ‬ق‪.‬م‪.‬‬

‫‪ -8‬عصور الدولة الحدٌثة األسرات ‪ ٕٓ-ٔ8‬من ٕ٘٘ٔ‪ ٔٓ9ٙ -‬أو ٘ٗ‪ 9‬ق‪.‬م‪.‬‬

‫‪ -9‬عصر البلمركزٌة الثالثة ولٌل االحتبلالت الطوٌل (الزفتة الثالثة) من األسرة ٕٔ‪ -‬ثورة ٖٕ ٌولٌو‬
‫ٕ٘‪ ٔ9‬من ‪ ٔٓٙ9‬ق‪.‬م‪ ٔ9ٕ٘ -‬بعد المٌبلد(‪.)ٙ‬‬

‫▲▲▲العصور الحجرٌة ما قبل التؤرٌخ (طفولة مصر)‬

‫وتسمى بالعصور الحجرٌة ألن نشاط المصري فٌها‪ -‬وكل البشر المعاصرٌن له‪ -‬اعتمد على الحجر فً‬
‫صناعة آوانً الطعام والسبلح والصٌد‪ ،‬وشهدت فً نهاٌتها العصر النحاسً نسبة الكتشاؾ النحاس‪ ،‬وشهد‬
‫معظم العالم حٌنها "نمطا واحدا" فً العٌشة‪ ،‬حتى تعلم اإلنسان فً آواخرها الزراعة؛ فنقلت البشر من حٌاة‬
‫"جمع الطعام" إلى حٌاة "إنتاج الطعام"(‪ )9‬وبدأ بها تمٌز بٌبة حضارٌة عن بٌبة أخرى‪ ،‬وظهر إبداع وحكمة‬
‫هللا فً اختبلؾ الشعوب والحضارات‪ ،‬وأال ٌكون العالم نمطا واحدا‪.‬‬

‫ففً آخر مرحلة من مراحل هذه العصور وهً (العصر الحجري الحدٌث) بدأ فجر الحضارة المصرٌة‬
‫أو مرحلة التكوٌن‪ ،‬لٌس التكوٌن البشري فهو موجود فً كل الدنٌا منذ نزول آدم لؤلرض‪ ،‬ولكن التكوٌن‬
‫الحضاري الممٌز لمصر‪ ،‬بمعنى بروز مبلمح الحضارة المصرٌة بالشكل الذي نمت وظهرت واستمرت‬
‫علٌه بالشكل المعروؾ لها‪ ،‬وتمٌزت به بٌن حضارات العالم أجمع‪.‬‬

‫▲▲▲ عصور ما قبل األسرات (صبا مصر)‬

‫‪ -‬لفظ الزفتة مؤخوذ من الكلمة المصرٌة القدٌمة "إزفت"‪ ،‬وتعنً الشر والفوضى‪Alan Gardiner, Egyptian grammar, ٖ edition, :‬‬
‫(٘)‬

‫٘٘٘ ‪Griffith institute Ashmolean museum, Oxford, page‬‬


‫وهً عدو المصرٌٌن األول ألنها عكس النظام والخٌر "ماعت"‪ ،‬وكلمة زفت التً ننطقها كمصرٌٌن حالٌا موروثة منها‪.‬‬
‫(‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬أرقام الفترات من ٔ‪ 8 -‬مؤخوذة من "تارٌخ مصر القدٌمة"‪ ،‬نٌكوال جرٌمال‪ ،‬ترجمة ماهر جوٌجاتً‪ ،‬دار الفكر لدراسات والنشر والتوزٌع‪،‬‬
‫طٕ‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ99ٖ ،‬ص ‪ ،٘ٔٔ -ٗ97‬أما رقم ‪ 9‬فاجتهاد شخصً‪ ،‬فالعلماء ٌصفون الفترات حتى االحتالل الٌونانً بؤنها أٌضا أنها عصور‬
‫"حكم مصري "‪ ،‬وهذا ٌحتاج إعادة نظر‪ ،‬فهً فترات حكم مصر فٌها حكام أجانب ؼزاة مباشرة من الخارج كالكوشً واآلشوري والفارسً أو‬
‫أجانب احتلوا مصر من الداخل وقت ضعؾ الدولة المصرٌة كاالحتالل الهجٌن من تحالؾ قبابل شعوب البحر وقبابل قادمة من وراء الحدود الؽربٌة‪.‬‬
‫(‪ -)7‬مختار السوٌ فً فً مقدمة ترجمته لكتاب "الحضارة المصرٌة من عصور ما قبل التارٌخ حتى نهاٌة الدولة القدٌمة"‪ ،‬سٌرٌل ألدرٌد‪ ،‬الدار‬
‫المصرٌة اللبنانٌة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬طٕ‪ ،ٔ99ٕ ،‬ص ٕٗ‪.‬‬

‫‪ٔ9‬‬
‫وٌمتد آلالؾ السنٌن‪ ،‬ؼٌر متفق على عددها‪ ،‬ما بٌن ألفٌن ‪ ٕٔ -‬ألؾ سنة أو أكثر فً العصور قبل حكم‬
‫"مٌنا"‪ ،‬وفٌها الجذور الواضحة التً قامت علٌها حضارة مصر فً العصور البلحقة‪ ،‬فٌما ٌخص أسالٌب‬
‫الزراعة‪ ،‬العقٌدة واألخبلق وموقع مصر من معركة الخٌر والشر (ماعت)‪ ،‬الحكم المركزي‪ ،‬روح التعاون‬
‫والتآخري‪ ،‬البناء بالطوب اللبن ومعمار المنازل والمعابد‪ ،‬تصمٌم المبلبس‪ ،‬المبلحة وبناء السفن‪ ،‬وصنعة‬
‫النسٌج‪ ،‬ونحت التماثٌل‪ ،‬والرسم‪ ،‬وعبلقة مصر التجارٌة بجٌرانها‪ ،‬ومعاركها مع الؽزاة‪ ،‬تكوٌن الرموز‬
‫المصرٌة الخالدة مثل حور (حورس) ومٌن‪ ،‬ونخبت إلخ‪ ،‬وألعاب شهٌرة مثل الضامة والسٌجة والنحلة‪ ،‬أما‬
‫التطور األكبر فهو ظهور الكتابة‪.‬‬

‫وٌطلق العلماء على عصور ذلك الزمان أسامً‪ :‬حضارة جرزة‪ ،‬حضارة عمرة‪ ،‬بؤسوان وقنا‪ ،‬حضارة‬
‫البداري بؤسٌوط‪ ،‬حضارة مرمدة بنً سبلمة جنوب ؼرب الدلتا‪ ،‬حضارة نقادة بقنا‪ ،‬حضارة الفٌوم‪،‬‬
‫حضارة المعادي وحلوان‪ ،‬حضارة نبتا باالٌا جنوب ؼرب أسوان‪ ،‬إلخ‪ ،‬وهً تقع فً نهاٌة العصر الحجري‬
‫الحدٌث(‪ ، )8‬وهً لٌست حضارات منفصلة‪ ،‬ولكن أطلقوها على تجمعات وقرى وجدوا بقاٌاها متناثرة فً‬
‫أنحاء مصر‪ ،‬فً الوجهٌن القبلً والبحري‪ ،‬فمٌزوا كل تجمع باسم لسهولة التعرؾ علٌه وعلى خصابصه‪،‬‬
‫والزمن الذي ٌنتمً إلٌه‪.‬‬

‫وٌدل امتداد تلك التجمعات على طول الوادي على أن مصر كلها كانت زاخرة بهذا النمط من الحٌاة‬
‫المستقرة‪ ،‬وللقرى على طول النٌل خصابص مشتركة دلت على "وحدة الجنس والبٌبة‪ ،‬ووحدة المطالب‬
‫المحدودة والكمالٌات المحدودة أٌضا"‪ ،‬بحسب تعبٌر الراحل الدكتور عبد العزٌز صالح‪.‬‬

‫فمنذ الوهلة األولى تترك الحضارة المصرٌة انطباعا بؤنها كل متجانس‪ ،‬اكتسبت بفضل امتدادها الزمنً‬
‫ؼٌر المؤلوؾ مكانة خاصة فً تارٌخ البشرٌة(‪.)9‬‬

‫وفً ذلك الزمان البعٌد حددت مصر أٌضا من هم أعدابها‪ ،‬ومصادر الخطر القادم لها من الخارج‪ ،‬وهذا‬
‫بناء على المعارك المرسومة على اآلثار المتروكة من ذلك الزمن‪ ،‬وٌمكن اختصار كلمة "أعداء مصر"‪،‬‬
‫لٌس فً جنس دون جنس‪ ،‬بل فً عبارة موجزة‪" :‬كل من طمع واعتدى"‪.‬‬

‫وٌقع معظمنا فً خطؤ تارٌخً أننا نتصور أن الؽزوات الخارجٌة لم تذق مصر مرارة علقمها وحنظلها إال‬
‫فً الفترة ما بٌن الدولتٌن الوسطى والحدٌثة‪ ،‬أي وقت االحتبلل الهكسوسً األشهر‪ ،‬ولكن نظرة آلثارنا‬
‫تثبت أن مصر لم ٌمر علٌها أي وقت دون أن تكون هدفا ومطمعا للشعوب والقباٌل المحٌطة بها‪ ،‬من كل‬
‫األجناس‪ ،‬كؤنها متحزمة بحلقة نار‪ ،‬حتى فً أبعد العصور عمقا فً جوؾ التارٌخ‪.‬‬

‫ت من الشرق فقط‪ -‬كما ٌتوهم أٌضا الكثٌر م َّنا‪ -‬ولكن التهدٌدات‬


‫وكثٌر من تلك المعارك القدٌمة لم ٌؤ ِ‬
‫ومحاوالت الؽزو كانت مستمرة من الحدود الؽربٌة والجنوبٌة كذلك‪ ،‬حتى أط َّل الخطر برأسه األسود من‬

‫(‪ -)8‬مزٌد من التفاصٌل عن عصور زمن التكوٌن‪ ،‬انظر "الشرق األدنى القدٌم (الجزء األول مصر والعراق)"‪ ،‬ص ‪ ،ٙ7 -ٖ8‬ومصر الفرعونٌة‪،‬‬
‫أحمد فخري‪ ،‬ص ‪ٗ٘-ٕ7‬‬
‫(‪)9‬‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬نٌكوال جرٌمال‪ ،‬مصدر سابق‪ ،،‬ص ٕٗ‬

‫ٕٓ‬
‫الحدود الشمالٌة (البحرٌة) أٌضا فً األسرة ٕٓ‪.‬‬

‫ونختار منها هنا مثالٌن لنعرؾ تارٌخ ومصدر التهدٌدات التً تحٌط بمصر حتى اآلن‪:‬‬

‫❶ معركة سكٌن جبل العركً‬

‫معركة مسجلة على سكٌنة عثر علٌها علماء اآلثار فً منطقة جبل العركً فً نجع حمادي بمحافظة قنا‪،‬‬
‫فتسمت على اسمه‪ ،‬وحالٌا موجودة بمتحؾ اللوفر‪ ،‬وترجع لفترة حضارة جرزة‪.‬‬

‫صور الفنان على أحد وجهً مقبضها معركة جرت على البر‪ ،‬كما جرت فً مراكب على الماء بٌن‬
‫فرٌقٌن اتخذ أحدهما هٌبة المصرٌٌن واتخذ ثانٌهما هٌبة اللٌبٌٌن وكانت الؽلبة للمصرٌٌن(ٓٔ)‪.‬‬

‫وفً رأي عبد العزٌز صالح فالمعركة جرت عند السواحل المصرٌة الشمالٌة الؽربٌة القرٌبة من الحدود‬
‫اللٌبٌة‪ ،‬وإن صح ذلك فإنها ستكون أقدم معركة بحرٌة فً تارٌخ مصر‪ ،‬وأقدم من معركة الدلتا البحرٌة التً‬
‫ستقع بعد ذلك بؤكثر من ٕٓٓٓ سنة بٌن رمسٌس الثالث وقبابل شعوب البحر فً األسرة ٕٓ‪ ،‬وانتهت كذلك‬
‫بانتصار مصر‪.‬‬

‫النقوش على سكٌن العركً تظهر مصرٌٌن بشعور قصٌرة وأعدابهم بشعور طوٌلة وٌتضح فٌها أن المعركة برٌة ونهرٌة أو بحرٌة مما ٌددل على‬
‫شدتها وضخامتها (متحؾ اللوفر)‬

‫❷ معركة صالٌة العقبان‬

‫صبلٌة "العقبان" الموجود جزء منها فً المتحؾ البرٌطانً والجزء الثانً فً متحؾ أشمولٌان تصور‬
‫محاربٌن ٌبدو من مبلمحهم أنهم لٌبٌون‪ ،‬فهم ملتحون وشعرهم طوٌل‪ ،‬وٌسٌر أسٌران أوثقت أذرعهم خلؾ‬

‫(ٓٔ)‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع ص ٖ‪ٙ‬‬

‫ٕٔ‬
‫ظهرٌهما(ٔٔ)‪.‬‬

‫ومعنى كلمة لٌبٌبن هنا قبابل قادمة من ناحٌة ما عُرؾ الحقا باسم لٌبٌا‪ ،‬ولٌس بالضرورة شعب مقٌم‬
‫فٌها‪ ،‬فتلك المنطقة كانت ممرا للقبابل الؽازٌة لمصر والقادمة من ببلد شتى‪.‬‬

‫وفً الصبلٌة أسد بجوار ثور‪ ،‬وهما من رموز الحكم المصري‪ ،‬وٌعاون الحاكم فً مهمته أنثى العقاب‬
‫"نخبة" وهً التً ستظهر فً العصور المصرٌة البلحقة تفرد جناحٌها فوق رأس حاكم مصر خبلل‬
‫معاركه تعبٌرا عن حماٌته‪ ،‬وهً رمز الوجه القبلً(ٕٔ)؛ ما ٌعنً أن أهالً الوجه القبلً كان لهم دور فً‬
‫طرد الؽزاة من الوجه البحري وقتها‪ ،‬وهذا ٌإشر لوحدانٌة الدولة المصرٌة منذ ما قبل مٌنا‪.‬‬

‫❸ مقمعة العقرب‬

‫وجدها العلماء فً معبد نخن بؤسوان‪ ،‬تجسد أقدم النقوش للملك الفبلح وهو ٌزرع األرض‪ ،‬ممسكا‬
‫بالفؤس ٌشق األرض فً افتتاح مشروع للزراعة‪ ،‬وأمامه رجل دٌن ومزارعٌن ٌقدمون له السنابل والبذور‪،‬‬
‫وفً جانب آخر من المقمعة ٌرفع الناس راٌات‪ ،‬معلق فً بعضها أقواس الحرب ونبات البردي‪ ،‬فسرها‬
‫العلماء بؤنها تعبر عن انتصار العقرب على أهل األقواس الذٌن احتلوا الوجه البحري‪ ،‬ألن األقواس ترمز‬
‫فً الفكر المصري لقباٌل الؽزاة‪ ،‬والبردي ٌدل على الوجه البحري(ٖٔ)‪.‬‬

‫ونظر األجداد إلى حكامهم فً فترة ما قبل األسرات نظرة امتنان وتقدٌس‪ ،‬وصفوهم بـ"أتباع حور"‪،‬‬
‫وأٌضا "المبجلون" كما جاء فً بردٌة "تورٌن"‪ ،‬و"أنصاؾ آلهة" كما جاء فً تارٌخ مانٌتون(ٗٔ)؛ ظنا منهم‬
‫أنهم لم ٌكونوا بشرا تقلٌدٌٌن مثل الحكام التالٌٌن فً عصور األسرات‪.‬‬

‫▲▲▲ جذور هوٌة مصر (النخاع)‬

‫قبل الؽوص فً تارٌخ مصر‪ ،‬ورإٌة مبلمح الشخصٌة المصرٌة‪ٌ ،‬صح إلقاء نظرة على الفرق بٌن‬
‫هوٌة مصر وهوٌات الببلد المجاورة لها فً ذلك الزمان؛ ما ٌسهل إعادة استكشاؾ هوٌة مصر فً العصر‬
‫الحاضر‪ ،‬بعد أن حاصر مصر خبلل االحتبلالت الهكسوسٌة من كل جنس شبكة من الهوٌات الوافدة‪،‬‬
‫تتصارع على اختطافها كما تتصارع الوحوش على فرٌستها الثمٌنة الؽافلة‪.‬‬

‫والهوٌة ألي بلد هً تفاصٌل كثٌرة تتراص جنب بعضها لتظهر الصورة الكاملة لهذه البلد‪ ،‬تفاصٌل‬
‫تخص أخبلق شعبها‪ ،‬نظرة هذا الشعب لعبلقته ببعضه‪ ،‬ولعبلقته بؤرضه‪ ،‬المناخ‪ ،‬التكوٌن الجؽرافً‪ ،‬األكل‬
‫واللبس والحلً وما ٌتعلق بهما من معانً‪ ،‬الشكل الجسمانً‪ ،‬األنشطة االقتصادٌة الماهر فٌها‪ ،‬اللؽة‪،‬‬
‫عبلقته باهلل والدٌن وأسلوبه فً ممارسته‪ ،‬هدفه من الحٌاة‪ ،‬موقفه من الحرب والسبلم ومن بقٌة الشعوب‪،‬‬

‫(ٔٔ)‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬نٌكوال جرٌمال‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٗ8‬‬
‫(ٕٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫(ٖٔ)‬
‫‪ -‬حضارة مصر القدٌمة وآثارها‪ -‬الجزء األول‪ ،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬مكتبة األنجلو‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٓٓٙ ،‬ص ٘‪ٕٙ9 -ٕٙ‬‬
‫(ٗٔ)‬
‫‪" -‬مصر الفرعونٌة"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ٘‬

‫ٕٕ‬
‫موقفه فً األزمات‪ ،‬محاصٌله‪ ،‬ألعابه‪ ،‬وانعكاس كل هذا على عمارته وسلوكٌاته وفنونه وعلومه وحروبه‬
‫وأعٌاده ومزاجه‪ ،‬حتى ألوانه المفضلة‪ ،‬وكل شًء‪.‬‬

‫لذا ال ٌُفهم "هوٌة" أمة بمجرد جانب واحد من حٌاتها‪ ،‬لكن كل هذه األمور سوا العمٌقة أو ما ٌبدو منها‬
‫سطحٌا؛ ألن كلها إفراز بعض‪ ،‬وانعكاس على بعض‪ ،‬وعند اكتمال الصورة ٌصح هنا اإلشارة إلٌها لٌقال‬
‫"هذه مصر"‪ ،‬ونفس األمر الكتمال صورة أي أمة أخرى فتصبح هً هوٌتها‪.‬‬

‫ونستعٌن فً ذلك بتحلٌل للدكتور عبد العزٌز صالح أورده فً كتابٌه اللذٌن باتا مرجعا رابدا لدارسً‬
‫المصرٌات‪" :‬حضارة الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق"‪ ،‬و"حضارة مصر القدٌمة وآثارها" عن‬
‫الفروق بٌن هوٌة مصر وكل من العراق والشام والجزٌرة العربٌة‪.‬‬

‫وبداٌة قال‪" :‬رسمت لمصر طرٌقها الحضاري القدٌم عوامل عدة‪ ،‬كان منها موقعها المتمٌز‪ ،‬وضخامة‬
‫نصٌبها من نهر النٌل‪ ،‬وخصوبة أرضها‪ ،‬ووفرة أعداد سكانها‪ ،‬مع َجلدهم‪ ،‬ووحدة لؽتهم‪ ،‬وندرة الفوارق‬
‫الجنسٌة بٌنهم‪ ،‬وسهولة االتصال بٌن جماعاتهم سهولة نسبٌة‪ ،‬وقدم إدراكهم لوحدة وطنهم‪ ،‬واستقرار نظم‬
‫الحكم بٌنهم‪ ،‬ثم توفر عدد كبٌر من المواد األولٌة فً أرضهم‪ ،‬مع حصانة حدودهم حصانة طبٌعٌة نسبٌة‬
‫على الرؼم من شدة اتساعها وامتدادها"(٘ٔ)‪.‬‬

‫"ولسنا نعنً بتعداد كل هذه العوامل أنها حققت "المثالٌة" فً تارٌخ مصر وحضارتها‪ ،‬ولكننا نعنً أنها‬
‫كانت من المقومات األولٌة لتكٌٌؾ التربة التً نشؤ فٌها تارٌخ مصر‪ ،‬وأنها كانت من العوامل المساعدة‬
‫على إظهار الجوانب الطٌبة فٌه‪ ،‬بؽٌر أن ننفً قٌام عوامل أخرى مضادة لها من داخل مصر ومن‬
‫خارجها"(‪.)ٔٙ‬‬

‫❶ (عٌلة واحدة)‬

‫وفً حدٌث صالح عن تؤثٌر النٌل وجرٌانه فً خط واحد من أول حدود مصر إلى نهاٌتها طوال قال إن‬
‫خاصٌة االمتداد الرأسً الطوٌل لنهر النٌل من الجنوب إلى الشمال أدت إلى توزٌع مواطن العمران على‬
‫جانبٌه الطوٌلٌن توزٌعها رأسٌا أكثر منه أفقٌا‪ ،‬وهً ظاهرة أدت إلى تكاثؾ السكان‪ ،‬وسهولة االتصال‬
‫بٌنهم؛ ما أوحى لمفكرٌهم بعمل أول وحدة سٌاسٌة كبٌرة مستقرة معروفة فً تارٌخ البشرٌة كلها(‪.)ٔ9‬‬

‫ولكن هذا لم ٌكن كافٌا‪ ،‬فالنٌل ٌجري بنفس الطرٌقة فً بلدان عدة ولم ٌخلق شعبا واحدا مثل المصرٌٌن‬
‫وال دولة مبكرة‪ ،‬فهناك عوامل أخرى مزجت المصرٌٌن ببعضهم وبؤرضهم‪.‬‬

‫حولها المصرٌون‬
‫ٌقول عنها صالح إن محنة المصاعب التً خلقها جموح فٌضان النٌل ومشقة الزراعة َّ‬
‫إلى منحة لخلق الدولة المتعاونة‪" :‬والواقع أن أمور النٌل والزراعة لم تكن هٌنة دابما فً أوبل عصور‬

‫(٘ٔ)‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٔ‬
‫(‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬مرجع سابق‬
‫(‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ‬

‫ٖٕ‬
‫التحضر المصري القدٌم‪ ،‬وإنما تخللتها مصاعب وظواهر ظلت تتطلب من أهلها كثٌرا من الصبر والجهد‬
‫المتصل‪ ،‬وإن ٌكن جهدا منتجا فً حد ذاته؛ ففٌضانات النهر كانت‪ ،‬على الرؼم من جودها وانتظام‬
‫مواسمها‪ ،‬تستدعً من أهلها الٌقظة الجماعٌة لمواجهتها‪ ،‬وتستدعً منهم التعاون لتقلٌل خطرها(‪.)ٔ8‬‬

‫وتسبب تراص القرى بجوار بعضها إلى كثرة التزاوج بٌن أبنابها‪ ،‬فلم ٌظهر ما ٌدل على الطبقٌة المانعة‬
‫أو العصبٌات(‪ ،)ٔ9‬وأدت فترات الشعور بالخطر من محاوالت القباٌل فً الببلد المجاورة لؽزو مصر إلى‬
‫التوحد أكثر؛ ألن طمع بدو الصحراوٌٌن الشرقٌة والؽربٌة فً خصوبة أراضها كان دافعا ألهلها على‬
‫التعاون لدرء شرهم‪ ،‬وحافزا لهم على التجمع فً وحدات سٌاسٌة مبكرة متكاتفة(ٕٓ)‪.‬‬

‫وٌتفق معه سٌرٌل ألدرٌد بقوله إن هذا العمل البارع الذي قام به الفبلحون األوابل بتحوٌل القوة التدمٌرٌة‬
‫لمٌاه الفٌضان إلى قوة إنتاجٌة جعلهم ٌعتادون على نمط أو نظام معٌن للحٌاة‪ ،‬ونشؤت بالضرورة منشآت أو‬
‫سلطات سٌاسٌة لتدٌر هذه المشروعات الواسعة النطاق لمنفعة الجمٌع‪ ،‬وتشرؾ على استمرارها بالنجاح‬
‫والنمو المطلوب للجماعة كلها(ٕٔ)‪.‬‬

‫كما كان للمناخ تؤثٌره على نسج هوٌة مصر مقارنة بؽٌرها؛ ألن البٌبة المناخٌة فً مصر‪ ،‬كانت وال‬
‫تزال‪ ،‬ذات تؤثٌر على وجدان أهلها؛ فهً إذا قورنت ببٌبات أخرى تعتبر بٌبة مؤمونة العواقب‪ ،‬هٌنة الحدة‪،‬‬
‫قلٌلة التقلب‪ ،‬لٌس فٌها صراع الظواهر الطبٌعٌة أو مظاهر الرهبة والصخب العنٌؾ الذي ٌوجه الناس إلى‬
‫اعتٌاد الصخب والعنؾ‪ ،‬أو ٌطبعهم بطابع التمرد والقلق وتقلب األهواء والمشاعر والعادات(ٕٕ)‪.‬‬

‫ولهذا لم ٌكن من الؽرٌب أن ٌترتب على ما ألفه المصرٌون من ؼلبه الخٌر على الشر فً أحوال نٌلهم‬
‫ووادٌهم وصحراواتهم ومناخهم بعض األثر فً صبػ حضارتهم بصبؽة االستقرار واالتصال‪ ،‬وصبػ‬
‫حٌاتهم السٌاسٌة بطابع الهدوء واالستمرار‪ ،‬ثم اإلٌحاء إلٌهم بنوع من الشعور التلقابً بالكفاٌة‪ ،‬كفاٌة الجهد‬
‫المنتج فً األرض‪ ،‬وكفاٌة الموارد النسبٌة بها‪ ،‬فضبل عن كفاٌة الحضارة فً بلدهم بوجه عام دون حاجة‬
‫إلى مدد خارجً كبٌر(ٖٕ)‪.‬‬

‫حتى األرباب لم ٌكونوا متنافرٌن‪ ،‬واتجه المصرٌون الفتراض روابط الزٌجة واألبوة والبنوة بٌن‬
‫أربابهم‪ ،‬وترتب على ذلك أن اإلله األكبر للدولة لم ٌكن ربٌسا آللهة متنافرٌن‪ ،‬وإنما متقاربٌن‪ ،‬ألؼلبهم‬
‫صلة بمن سواه‪ ،‬وألؼلبهم نصٌب من صفات اآلخرٌن‪ ،‬ولكل منهم نصٌب من رعاٌة الدولة وملوكها(ٕٗ)‪.‬‬

‫وأكمل هللا تعالى على مصر هذه النعمة الحقا بؤن المسٌحٌة واإلسبلم لٌسا متنافرٌن األصل‪ ،‬ولٌسا‬

‫(‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫(‪)ٔ9‬‬
‫‪-‬انظر نفس المرجع‪ ،‬ص ‪٘9‬‬
‫(ٕٓ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪٘ٙ‬‬
‫(ٕٔ)‬
‫‪ -‬انظر "الحضارة المصرٌة من عصور ما قبل التارٌخ حتى نهاٌة الدولة القدٌمة"‪ ،‬سٌرٌل ألدرٌد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٗٙ‬‬
‫(ٕٕ)‬
‫‪ -‬حضارة مصر القدٌمة وآثارها‪ ،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٗ‬
‫(ٖٕ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫(ٕٗ)‬
‫‪-‬انظر‪ :‬القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم‪ ،‬نجبلء فتحً شهاب‪ ،‬رسالة دكتوراة‪ ،‬كلٌة اآلثار جامعة القاهرة‬
‫ٕٕٔٓ‪ ،‬ص ٖٗ‪ٗٗ-‬‬

‫ٕٗ‬
‫متنافرٌن مع الدٌن المصري القدٌم فً معظم األمور‪ ،‬فكلهم متفقون على وجود إله خالق علوي‪ ،‬له كل‬
‫صفات الرحمة والقوة والقدسٌة والعلم والكمال والطهارة‪ ،‬وعلى أن التقوى خٌر زاد‪ ،‬واآلخرة هً الحٌاة‬
‫الخالدة‪ ،‬وعلى أن قٌمة اإلنسان أن ٌكون بجانب الخٌر ضد الشر‪.‬‬

‫❷ (أمة فً ذاتها)‬

‫وفً رسالة للدكتوراة فرٌدة بجامعة القاهرة‪ ،‬عن القومٌة والشعور الوطنً فً التارٌخ المصري القدٌم‪،‬‬
‫بعنوان "القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم‪ ،‬خلصت د‪ .‬نجبلء فتحً‬
‫إلى أن مما جعل من مصر أول أمة فً التارٌخ‪ ،‬وأمة قابمة بذاتها ما ٌلً‪:‬‬

‫التجانس البٌبً والجنسً‪ ،‬اللؽة‪ ،‬الدٌن الذي ٌحث المصري على حب وحماٌة مصر‪ ،‬وٌعطً للحاكم‬
‫الشرعٌة فً العرش بقدر عمله على حماٌة مصر‪ ،‬واالتصال الجؽرافً على طول الوادي(ٕ٘)‪.‬‬

‫بل إنه على أساس إحساسهم بالتضامن وااللتحام ببعضهم‪ ،‬حرص األجداد فً التخطٌط العمرانً لمدنهم‬
‫على أن تكون متصلة ببعضها‪ ،‬ؼٌر مبعثرة وال متناثرة‪ ،‬حتى تلك التً تقام بعٌدا عن وادي النٌل‪ ،‬للحفاظ‬
‫على إحساس الحاجة لبعض‪ ،‬والوصل الروحً والوجدانً والتواصل الذي انطبع فً نفوس المصرٌٌن إزاء‬
‫وطنهم وبعضهم‪ ،‬وداوموا على الوصل بسٌناء والواحات عبر األنشطة االقتصادٌة والحمبلت الحربٌة‬
‫إلبعاد القباٌل الؽازٌة عنها‪.‬‬

‫ونضٌؾ لهذه العوامل فً تكوٌن "وحدانٌة المصرٌٌن"‪ ،‬هو "االتصال الروحً" التارٌخً على مدار‬
‫األجٌال فً وجدان وجٌنات المصرٌٌن‪ ،‬سوا بٌن أبناء الجٌل الواحد أو بٌن الجٌل وما سبقه من أجٌال‪ ،‬فلم‬
‫ٌشهد تارٌخ المصرٌٌن فترة فراغ فً مصر من المصرٌٌن األصلٌٌن‪ ،‬فلم ٌُهاجروا هجرات عظمى‪ ،‬ولم‬
‫ٌُخلوا بلدهم ٌوما‪ ،‬بل امتدد تٌار الدم المصري فً العروق ٌوصل جٌل بجٌل‪ ،‬رؼم الهجرات الوافدة‬
‫والمذابح التً تعرضوا لها كما سنرى‪.‬‬

‫وٌقول عبد العزٌز صالح إن المصرٌٌن نسبوا أنفسهم إلى بلدهم فقط (ال لقبابل وال طوابؾ وال مذاهب‬
‫وال أعراق مختلفة)‪ ،‬فقالوا إنهم "كٌمتٌو" أي أهل كٌمة‪ ،‬وردد أدباإهم أن شعبهم هو شعب الشمس‪،‬‬
‫والشعب النبٌل‪ ،‬وشعب السماء‪ ،‬وشعب اإلله‪ ،‬وادعوا أنهم صور من ربهم األكبر تشكلوا من لحمه‪ ،‬وخلقوا‬
‫من عٌنٌه‪ ،‬ونزلوا من دموعه(‪.)ٕٙ‬‬

‫وأنه اعتبر المصرٌون أنفسهم "أمة قابمة بذاتها"‪ ،‬ولم ٌعترفوا صراحة بفترات االختبلط الجنسً القدٌم‬
‫إال فً مرات قلٌلة‪ ،‬وهو اختبلط لم ٌبرأ من مثله شعب قدٌم على اإلطبلق‪ ،‬واعتادوا على أن ٌطلقوا على‬
‫أنفسهم اسم "رمث"‪ ،‬بمعنى الناس‪ ،‬و"رمثن كٌمة" بمعنى أهل مصر‪ ،‬و"رمثن باتا" بمعنى ناس‬

‫(ٕ٘)‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٔ9‬‬
‫(‪)ٕٙ‬‬
‫‪ -‬حضارة مصر القدٌمة وآثارها‪ ،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔ8‬‬

‫ٕ٘‬
‫األرض(‪.)ٕ9‬‬

‫وعلى هذا صار المصرٌون من أقدم‪ -‬إن لم ٌكونوا أقدم‪ -‬الشعوب شعورا بؤنهم عابلة واحدة‪ ،‬فاستخدموا‬
‫كلمة "أخً" فً مخاطبة بعضهم‪ ،‬وفً نص "نجاة البحار"‪ ،‬والمعروؾ أٌضا باسم "البحار الؽرٌق" جاء‪:‬‬
‫"عندما تبلػ (أرض) الوطن‪ ،‬وتكون هناك بٌن إخوتك"(‪ ،)ٕ8‬وٌخاطب سنفرو العلماء والحكماء حوله بكلمتً‬
‫ٌا "أخً"‪ ،‬وٌا "صدٌقً"‪ ،‬أو "صاحبً" رؼم مقامه المبجل كحاكم ؼٌر عادي(‪ ،)ٕ9‬وٌخاطب الزوج‬
‫والزوجة بعضهما بكلمتً أخوٌا وأختً‪ -‬كما هو الحال حتى الٌوم‪ -‬حتى ظن علماء أجانب خطؤ أن زواج‬
‫اإلخوة شابع بٌن كل المصرٌٌن‪.‬‬

‫وعن إحساس تواصل األجٌال كؤنها خط واحد أو نهر واحد‪ ،‬نرى مثبل رمسٌس الثانً ٌتحدث عن‬
‫الحكام الذٌن سبقوه بقوله "آبابً" و"أجدادي"‪ ،‬حتى ممن هم لٌسوا من أسرته الحاكمة‪ ،‬بل ٌقصد حكام‬
‫مصر عموما‪ ،‬فكل جٌل ٌنظر على أنه موجة مولدة من الموجات المدٌدة السابقة فً نهر األجٌال الماضٌة‪،‬‬
‫وجذورها ممدودة ببل نهاٌة فً عمق األرض‪.‬‬

‫عامل آخر‪ -‬من أهم وأبقى العوامل‪ -‬وهو وحدة القٌم بٌن المصرٌٌن‪ ،‬وهً لٌست أي قٌم‪ ،‬بل تكاد تكون‬
‫فً بعضها خاصة بمصر‪ ،‬أو هً أول من أخرجها للعالم‪ ،‬وأشد من حافظ علٌها‪ ،‬فهً التً جعلت الدٌن‬
‫والوطن عند المصرٌٌن عملة واحدة‪ ،‬ورسمت حدود أعذب عبلقة بٌن المصري وربه ووطنه وحكومته‬
‫ونفسه وكافة المخلوقات والكون والشعوب األخرى‪ ،‬ولخصها األجداد فً اسم "ماعت"‪ ،‬هً الحبل السُري‬
‫الذي ربط وجمَّع أرواح المصرٌٌن ووحدانٌتهم الوطنٌة "جٌل ورا جٌل" مثلما ربط النٌل وجمَّع وحدانٌتهم‬
‫البشرٌة على ضفتٌه العطرتٌن‪ ،‬هً القٌم واألصول التً أوصت بها السماء المصرٌٌن من قدٌم األزل‪ ،‬حٌن‬
‫تربع اإلله فوق التل األزلً‪ ،‬وعلى أساسها صنعوا حضارتهم ودولتهم الواحدة‪ ،‬قبل أي عوامل خاصة‬
‫بالجؽرافٌا واللؽة‪ ،‬وسنعرض لهذه القٌم الخالدة فً مكان خاص بها فً صفحات تالٌة‪ ،‬وٌمكن تلخٌصها‬
‫مإقتا هنا فً عبارة واحدة "مصر فً األرض وهللا فً السماء" والمعنى‪ :‬عمار مصر بالخٌر فً األرض‬
‫هو الطرٌق إلى رضا اإلله‪.‬‬

‫❸ (تاسوع وحدانٌة الهوٌة المصرٌة)‬

‫فإذن عوامل تكوٌن وخلود األمة المصرٌة كـ"أمة فً ذاتها"‪ ،‬و"األمة الواحدة"‪ ،‬تشع فً هذا التاسوع‪:‬‬

‫ٔ‪ -‬وحدة قٌم "ماعت"‬

‫ٕ‪ -‬التواصل الروحً "األخوة"‬

‫ٖ‪ -‬التواصل التارٌخً‬

‫(‪)ٕ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫(‪)ٕ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪99‬‬
‫(‪)ٕ9‬‬
‫‪ -‬راجع قصة سنفرو والحكماء فً‪ :‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖٖٙ‬‬

‫‪ٕٙ‬‬
‫ٗ‪ -‬االتصال الجؽرافً‬

‫٘‪ -‬التجانس البٌبً‬

‫‪ -ٙ‬التجانس الجنسً‬

‫‪ -9‬وحدانٌة االنتماء لمصر (ال لقبٌلة أو طابفة أو عرق دخٌل وال ألي بلد آخر‪ ،‬وال لمذهب عالمً(ٖٓ))‬

‫‪ -8‬وحدة اللؽة‬

‫‪ -9‬الدٌن (وإن كان الدٌن ال ٌختلؾ عن ماعت‪ ،‬بل هً عماده)‬

‫وأي عامل دخٌل ٌؽزو مصر أو ٌتسلل إلٌها لنزع فقرة من فقرات هذا العمود الفقري لمصر ٌلزم‬
‫التعامل معه كعدو ٌسعى لخلخلة مصر تمهٌدا الؼتٌالها وتفرٌؽها وتحوٌلها إلى مكسورة الظهر‪ ،‬سهلة لكل‬
‫األجناس والتنظٌمات والتقسٌمات كما حدث فعبل فً أوقات ؼفلة المصرٌٌن أمام الهكسوس من كل جنس‪.‬‬

‫❹ (مصر‪ ..‬المقدسة المعشوقة)‬

‫وعلى أساس اإلحساس الجماعً بهذا التجانس‪ ،‬والتناؼم‪ ،‬والتآلؾ بٌنهم من ناحٌة‪ ،‬وبٌنهم وبٌن بٌبتهم‬
‫الوسطٌة العذبة من ناحٌة أخرى‪ ،‬تخلقت فً دمابهم حرارة المحبة واإلخوة واالنتماء ألرضهم‪.‬‬

‫وبتعبٌر صالح‪ ،‬ردد األجداد اسم كٌمة فً نصوصهم بروح التكرٌم‪ ،‬ومنهم من افتحر فً نصوصه بؤنه‬
‫"من ثمرة كٌمة"‪ ،‬ومن أدباإهم من افتخر فً مقدمة كتبه بؤنها "ثمرة كاتب من كٌمة"(ٖٔ)‪.‬‬

‫وآمن حكامنا بؤن شرعٌة تولٌهم حكم مصر‪ ،‬بل شرعٌة حٌاتهم نفسها‪ ،‬هً فً الحفاظ على علو شؤن‬
‫مصر‪ ،‬فها هو تحوتمس األول فً نقش على لوحة العرابة المدفونة "أبٌدوس" بمحافظة سوهاج أعدها‬
‫لتسجٌل حروبه وانتصاراته فً السودان وآسٌا على القباٌل التً تهدد مصر بالؽزو ٌقول‪" :‬عملت على أن‬
‫تصبح كٌمة فوق رأس كل أرض بؤهلها"(ٕٖ)‪.‬‬

‫وألن المحن أشد ما تظهر حقٌقة عبلقة الشعب ببعضه وببلده‪ ،‬فمن قبله قال جده أحمس ٌصؾ تبلحم‬
‫المصرٌٌن مع جٌشهم فً حرب التحرٌر لطرد الهكسوس خبلل المعارك النهرٌة‪ ،‬وكٌؾ كان الناس على‬
‫الضفتٌن الشرقٌة والؽربٌة للنٌل ٌتطوعون بكل شًء‪" :‬لقد هبطت النٌل بقوتً لطرد اآلسٌوٌٌن بؤمر آمون‬
‫ذي الرأي السدٌد‪ ،‬كان الشرق والؽرب ٌحضرون الدهن والنبٌذ‪ ،‬والجٌش ٌزود باإلمدادات من كل‬

‫(ٖٓ)‪ -‬المذاهب العالمٌة التً تربً أصحابها على والوالء لبالد أجنبٌة ولمشروعات إمبراطورٌة تجعل الوالء لهذا المذهب والبلد الراعٌة له‪ -‬ولو‬
‫أجنبٌة‪ -‬فوق الوالء للوطن‪ ،‬وتحارب الحدود الجؽرافٌة بٌن البالد وتحارب الحكومات الوطنٌة‪ ،‬مثل‪ :‬المانوٌة‪ ،‬الشٌعة‪ ،‬الشٌوعٌة‪ ،‬اللٌبرالٌة‬
‫الرأسمالٌة‪ ،‬ال ماسونٌة‪ ،‬الصهٌونٌة‪ ،‬اإلخوان المسلمٌن‪ ،‬مذهب المواطن العالمً "العولمة"‪ ،‬القومٌة العربٌة‪ ،‬طرق الصوفٌة الدولٌة‪ ،‬وؼٌرها كثٌر‬
‫مما تبدعه فً كل جٌل قرٌحة الشٌطان والتنظٌمات الساعٌة لحكم العالم وتكوٌن ما ٌسمى بـ"الحكومة العالمٌة"‪.‬‬
‫(ٖٔ)‬
‫‪ -‬حضارة مصر القدٌمة وآثارها‪ -‬الجزء األول‪ ،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬مكتبة األنجلو‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٓٓٙ ،‬ص‪7‬‬
‫(ٕٖ)‬
‫‪ -‬القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم‪ ،‬رسالة دكتوراة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪79‬‬

‫‪ٕ7‬‬
‫مكان"(ٖٖ)‪.‬‬

‫ومن بعده جاء فً نقوش أبو سمبل لوصؾ رمسٌس الثانً‪" :‬عظٌم المعجزات الذي ٌضع مصر فً فرح"(ٖٗ)‪.‬‬

‫وعلى هذا فهم وضعوا ما وصفته الدكتورة نجبلء فتحً‪ ،‬بؤنه "أقدم نشٌد وطنً"‪ ،‬وتركه األجداد منقوشا‬
‫على جدران األهرام‪ ،‬أي نصوص األهرام‪ٌ ،‬هتفون فٌه‪:‬‬

‫تحٌة لكِ ٌا عٌن حور‬

‫ٌا من زٌنك كامال بٌدٌه‬

‫إنه هو الذي زٌنك‬

‫إنه هو الذي شٌدك‬

‫إنه هو الذي أسسك‬

‫و"عٌن حور" هو اسم من أسماء مصر‪ ،‬أي عٌن اإلله المقدسة‪ ،‬تكرٌما لمكانتها‪ ،‬وٌبدأ النشٌد بالسبلم‬
‫على حور (حورس) الذي زٌن مصر بكلتا ٌدٌه(ٖ٘)‪.‬‬

‫وٌتضح فٌه أن األجداد لم ٌعشقوا مصر لمجرد خٌراتها المادٌة‪ ،‬ولكن ألنها صنعة اإلله ونعمته‪ ،‬تحمل‬
‫رسالة اإلله لؤلرض‪ ،‬وفً أعماقهم ٌإمنون بؤنها صُنع ٌد مقدسة‪ ،‬وأن محبتها من محبة اإلله‪ ،‬ومحبتها هً‬
‫قربان لئلله‪ ،‬فلم ٌعرفوا ما ٌُشاع اآلن عن أن الدٌن والوطن مختلفان ومتخاصمان‪ ،‬بل ٌوقنون بؤنهما‬
‫متكامبلن كوجهً العملة‪ٌ ،‬عكس كبل منهما اآلخر‪ ،‬وٌحمٌه‪ ،‬وٌحوله لما ٌنفع الناس‪.‬‬

‫ولذا لم ٌعتد المصرٌون فً األزمنة القدٌمة إلى هجر مصر أو التآمر علٌها فً الحروب واألزمات‬
‫لمجرد أنها فً خطر أو جؾَّ ضرعها‪ -‬إال قلة نادرة ‪ -‬بل معظمهم ٌرون أن حماٌتها ومساعدتها على القٌام‬
‫من عثراتها واجب مقدس لتكمل رسالتها المقدسة فً معركة الخٌر والشر‪.‬‬

‫▲▲▲ فرق الهوٌة بٌن مصر وجٌرانها‬

‫ولتوضٌح الفروق بٌن طبابع وهوٌات الشعوب قارن صالح أٌضا بٌن تؤثٌر التضارٌس والمناخ والبٌبة‬
‫عموما على سبٌل المثال على تكوٌن هوٌة كل من مصر والعراق والشام والجزٌرة العربٌة‪.‬‬

‫فمثبل عن تؤثٌر فٌضان النٌل على مصر وفٌضان دجلة والفرات على العراق قال إن شدة انحدار دجلة‬

‫(ٖٖ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٖٙ‬‬
‫(ٖٗ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪97‬‬
‫(ٖ٘)‬
‫‪ -‬القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ٘ٔ‬
‫وحور من أبرز المقدسات المصرٌة‪ ،‬وهو ابن أوزٌر "أوزٌرٌس" الذي خ َّلص مصر من الشر والعدوان ممثلٌن فً عدوه مؽتصب عرش مصر‬
‫"ست" وقاد أقدم معركة معروفة فً مصر ضد االشر‪.‬‬

‫‪ٕ8‬‬
‫والفرات جعلت المبلحة فٌهما ؼٌر مؤمونة العواقب‪ ،‬عكس التدرج ؼٌر المحسوس فً انسٌاب النٌل من‬
‫قبلً لبحري‪ ،‬وعدم انتظام مواسم فٌضانات دجلة والفرات‪ ،‬وشدة اندفاعها‪ ،‬جعلها تظهر فً األدب العراقً‬
‫بصفة "زوبعة الفٌضان"؛ "للتعبٌر عن أمر كاسح مدمر"‪ ،‬خاصة وأنه "عادة ما تشتد هذه الفٌضانات فً‬
‫ؼٌر فترات الحاجة الملحة إلٌها‪ ،‬بحٌث قد تعنؾ خبلل مواسم الحصاد(‪.)ٖٙ‬‬

‫وهذا األمر‪ ،‬إضافة للتمدد العرٌض ألراضً ما بٌن النهرٌن‪ ،‬وحولهما وحول فروعها‪ ،‬أدى لصعوبة‬
‫وجود وحدة سٌاسٌة وحضارٌة واحدة‪ ،‬بل تمٌز تارٌخ العراق القدٌم بقٌام وحدات سٌاسٌة مستقلة عن‬
‫بعضها‪ ،‬بنظام الدوٌبلت‪ ،‬خالٌة من مشاعر الترابط بٌن أهلها‪ ،‬وتؽلب صراعات المطامع والهوٌات على‬
‫العبلقات بٌنهم‪ ،‬ولم تشهد وحدة سٌاسٌة إال فً عصور متؤخرة‪ ،‬مع استمرار الحروب الداخلٌة بٌن البابلٌٌن‬
‫واآلشورٌٌن(‪ ،)ٖ9‬ؼذتها هجرات أجنبٌة إلٌهم لم تنقطع‪.‬‬

‫ولذا لم ٌكن ؼرٌبا أن ٌنعكس هذا على أن تنطبع الحٌاة فً العراق وقتها بمشاعر الحدة والتوتر‪ ،‬كما‬
‫اصطبؽت بهذا كثٌر من فنونهم وأساطٌرهم التً آثرت المٌل إلى إشاعة الرهبة‪ ،‬واالهتمام بالخلود فً الدنٌا‬
‫أكثر من اآلخرة‪ ،‬على خبلؾ المصرٌٌن القدماء الذٌن اهتموا أكثر باآلخرة‪ ،‬وما تمٌزت به فنون مصر من‬
‫عذوبة ومبلمح هادبة مطمبنة فً معظم األحوال(‪.)ٖ8‬‬

‫وبخصوص هوٌة ببلد الشام أشار صالح إلى أن االختبلؾ الحاد بٌن تضارٌسها‪ ،‬وخاصة الحواجز‬
‫الجبلٌة بٌن أراضٌها التً تعرقل تواصل سكانها‪ ،‬فً مقابل سهولة وصول األجانب ألراضٌها من الخارج‪،‬‬
‫تسبب أٌضا فً صعوبة ظهور وحدة سٌاسٌة وروحٌة فً الشام التً تشكل تارٌخها السٌاسً من إمارات‬
‫متناحرة أو متنافسة‪ ،‬مع استسهال السكان الهجرة الجماعٌة إلى بلدان أخرى‪.‬‬

‫و ترتب على تنوع تضارٌسها كثرة التباٌن بٌن مٌول أهلها‪ ،‬أهل الجبال‪ ،‬وأهل السواحل‪ ،‬وأهل السهول‬
‫والودٌان‪ ،‬وأهل الصحاري‪ ،‬وصعوبة اتحادهم فً وحدة قومٌة صرٌحة‪ ،‬ولم ٌلتبم شملها فً وحدة سٌاسٌة‬
‫كبٌرة طوال عصورها القدٌمة(‪.)ٖ9‬‬

‫وعن سبب استسهال كثٌر من أهل الشام للهجرة‪ ،‬فٌعود ذلك لطبٌعة تكوٌنهم‪ ،‬فهم من قبابل وجماعات‬
‫جاءته بالؽزو أو السرسبة حٌن رأته أخصب وأهنؤ عٌشا من مناطقها القدٌمة فً الجزٌرة العربٌة أو فً‬
‫داخل آسٌا‪ ،‬ثم تؽادره إذا ما حلت به كوارث ورأت مناطق أخرى أطٌب فً العٌش(ٓٗ)‪.‬‬

‫وكان لقبابل الجزٌرة العربٌة دورها فً حركة الهجرة واالستٌطان وتؽٌٌر تركٌبة السكان فً العراق‬
‫والشام الواقعتٌن شمالها‪ ،‬وما ترتب على ذلك من زٌادة الصراعات القبلٌة والعرقٌة‪ ،‬حٌن تترك مناطق‬
‫الجفاؾ والخطر فً الجزٌرة وتتجه إلى هناك بؤسلوب التسلل البطًء‪ ،‬وكل هجرة تعتمد على الهجرة التً‬

‫(‪)ٖٙ‬‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬عبد العزٌز صالح ‪ ،‬ص ٘‬
‫(‪)ٖ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‬
‫(‪)ٖ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪9‬‬
‫(‪)ٖ9‬‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‬
‫(ٓٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق ص ‪8‬‬

‫‪ٕ9‬‬
‫سبقتها فً تهٌبة الحال لها(ٔٗ)‪.‬‬

‫وبعد التمكٌن حٌن ٌتعرؾ المهاجرون على مواطن الضعؾ فً حدود دوٌبلت الهبلل الخصٌب‪،‬‬
‫ٌتربصون بها الدوابر‪ ،‬حتى إذا تفككت وحدتها وضعفت قوتها وخفت قبضتها عن حماٌة ذمارها‪ ،‬ألسباب‬
‫داخلٌة أو ألسباب خارجٌة‪ ،‬تسربوا إلٌها أسرا وعشابر وشاركوا أهلها معاٌشهم‪ ،‬أو اندفعوا إلٌها قبابل‬
‫وجٌوشا إذا توافرت لهم الزعامات القوٌة‪ ،‬ثم تؽلبوا على أهلها وسٌطروا على أرضهم وحكمهم(ٕٗ)‪ ،‬وعلى‬
‫هذا ظهرت لهم هناك دوٌبلت وممالك مثل الؽساسنة والحٌرة واألنباط‪.‬‬

‫و نفس األسلوب اتبعته هجرات من مناطق أخرى‪ ،‬فظهر فً العراق والشام ما ٌسمى باألكدٌٌن‬
‫والبابلٌٌن واآلرامٌٌن واألمورٌٌن والخابٌرو والعابٌرو والكلدانٌٌن واآلشورٌٌن والمٌتانٌٌن والعبرانٌٌن‪،‬‬
‫ظلت ممالك وإمارات فً صراع وشقاق معظم تارٌخها؛ فكل واحدة تكبرت عن الذوبان مع السكان‪.‬‬

‫أما عن اختبلؾ هوٌة مصر مع الجزٌرة العربٌة‪ ،‬فإنه كان التساع مساحة الجزٌرة واختبلؾ مناخها من‬
‫منطقة ألخرى‪ ،‬وتفرق موارد مٌاهها حسب المناطق المطٌرة أو الجافة‪ ،‬وقلة سكانها مقارنة بمساحتها‪ ،‬أن‬
‫كان السكان فٌها متفرقٌن فً مسافات بعٌدة‪ ،‬فتكونت القباٌل وعصبٌاتها‪ ،‬وكثرت المنازعات بٌنها رؼم‬
‫وحدة الجنس واللؽة(ٖٗ)‪ ،‬ولم تسنح لهم فرصة التوحد إال برابطة اإلسبلم‪ ،‬وبعد معارك عدة‪ ،‬وسرعان ما‬
‫انفكت عراهم بعد سنٌن قلٌلة مجددا لقبابل وإمارات ومذاهب وممالك متحاربة فً صراعات الحكم‬
‫(العباسٌة واألموٌة والبوٌهٌة والحمدانٌة والقرامطة واألندلس واألدارسة والشٌعة والسنة إلخ)‪.‬‬

‫وبالمثل‪ٌ ،‬مكن أن نجد تشابهات أو اختبلفات بٌن ظروؾ تلك الببلد وبٌن ببلد الٌونان أو الكوشٌٌن‬
‫(السودان وما ورابها)‪ ،‬أو المناطق الواقعة بعد الحدود الؽربٌة المصرٌة فً ذلك الحٌن‪.‬‬

‫ولذا ظهرت مصر طوال التارٌخ بمظهر البعٌد عن التآمر على الؽٌر؛ لعدم اعتٌادها على وجود سكان‬
‫متنافرٌن متآمرٌن على بعضهم ومتنافسٌن‪ ،‬فؽاب منها الطمع أٌضا فٌما خارج حدودها‪ ،‬ولرضاها بما فٌها‪،‬‬
‫ولقلة الصراعات بٌن أهلها‪ ،‬والحترامهم وعشقهم ألرضهم‪ ،‬ولم تتعدَ حدودها للخارج إال دفاعا عن النفس‬
‫وكٌل العقاب لمن سبق واعتدى علٌها‪ -‬كما حدث فً زحفها لببلد الشام فً الشرق بعد أن جاء منها‬
‫الهكسوس الحتبلل مصر‪ ،‬ولببلد كوش فً الجنوب بعد أن ؼزوا مصر من الجنوب وتحالفوا مع الهكسوس‬
‫ضدها‪ ،‬فً حٌن مالت معظم األمم إلى التآمر والؽزو واالحتبلل بسبب وبدون سبب‪ ،‬وكثرت ؼزواتهم‬
‫ومطامعهم فً مصر‪ ،‬سواء بالسبلح أو بالتسلل‪.‬‬

‫هذه الطلة السرٌعة على عوامل تكوٌن الهوٌة المصرٌة والفروق بٌنها وبٌن هوٌات ببلد أخرى مهمة‬
‫لفهم سبب ما اعترى حضارة مصر من سقطات ووقوعها تحت األسر واالحتبلل لمبات السنٌن فٌما بعد؛‬
‫لؽفلتها عن هذه الفروق خبلل تعاملها مع الشعوب األخرى‪ ،‬وقبولها استٌطان بعضهم فٌها‪ ،‬فٌإدي تنافر‬

‫(ٔٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع ص ٕٔ‪ ،ٖٔ-‬و"تارٌخ شبه الجزٌرة العربٌة فً عصورها القدٌمة"‪ ،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬مكتبة األنجلو‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٔٓ ،‬‬
‫(ٕٗ)‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬ص ٖٔ‬
‫(ٖٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ ،ٔٔ-9‬وتارٌخ شبه الجزٌرة العربٌة فً عصورها القدٌمة‪ ،‬مرجع سابق‪.‬‬

‫ٖٓ‬
‫الطباع والطموحات إلى خرابها‪ ،‬فمع االحترام لكل الهوٌات والشعوب‪ -‬ولكل شعب مزاٌاه وعٌوبه‪ -‬فإن كل‬
‫هوٌة أولى بؤرضها التً نبتت فٌها وكونتها‪ ،‬ال أن تفرضها على ؼٌرها كما سعت الشعوب الؽازٌة لؽرس‬
‫هوٌاتها فً مصر التً فتحت لهم أبوابها كما ٌفتح الرجل الؽافل بٌته اآلمن للرٌح السموم‪.‬‬

‫▲▲▲ أكبر عٌوب مصر‬

‫كما ال ٌوجد إنسان مبرأ من العٌوب‪ ،‬فكذلك ال ٌوجد بلد مهما بلؽت حضارتها مبرأة منها‪ ،‬ولمصر نقاط‬
‫ضعؾ أحسن األعادي استؽبللها‪ ،‬منها‪ :‬ضعؾ الذاكرة‪ ،‬االطمبنان للشعوب ببل حذر‪ ،‬نسٌان الثؤر ممن‬
‫ظلمها‪ ،‬الببلدة فً التعامل مع دروس التارٌخ‪ ،‬وكلها عوامل تتصل بكلمة واحدة‪ ..‬التارٌخ‪.‬‬

‫ولو انعقدت األبحاث والمإتمرات المخلصة لتبحث عن إجابة سإال واحد وهو‪:‬‬

‫ما الذي جعل مصر‪ ،‬وهً أعظم الحضارات وصاحبة الشعب الواحد األكثر حبا ألرضه‪ ،‬تقع فً ٌد‬
‫االحتبلالت مبات السنوات‪ ،‬وتتقلب بٌن أٌدي وأقدام شعوب األرض من كل ملة وجنس‪ ،‬بما فٌهم العبٌد‬
‫والمرتزقة والجواري؟‬

‫قد ال تبعد اإلجابات عن عبارة‪" ..‬الببلدة فً التعامل مع دروس التارٌخ"‪.‬‬

‫ٌقول أ‪ .‬ب كلوت‪ ،‬المشرؾ على تؤسٌس القصر العٌنً فً القرن ‪ ،ٔ9‬فٌما سرده من صفات حسنة وسٌبة‬
‫عن المصرٌٌن فً كتابه "لمحة عامة إلى مصر"‪" :‬فتراهم لهذا السبب ال ٌهتمون من شبونهم إال بما ٌتعلق‬
‫منها بحاضرهم‪ ،‬ؼٌر ملتفتٌن إلى مستقبلهم‪ ،‬وهم ٌشبهون لصوص نابلً ال ٌحركون ساكنا إال إذا عضهم‬
‫الجوع بنابه‪ ،‬فالنظر إلى المستقبل ال ٌمتد عندهم إلى أبعد من الؽد"(ٗٗ)‪ ،‬ببل وال أبعد من الٌوم‪ ،‬فبل ٌلتفت‬
‫إلى إلى الوراء لٌدرس تارٌخه كما ٌجب‪ ،‬وٌنتظر الضربة من العدو قبل أن ٌتحرك إلزاحته‪.‬‬

‫فحالة الطمؤنٌنة واالستقرار التً تنعَّم بها المصري بعرقه وقٌمه‪ ،‬وإحساسه بقوته مقابل ؼٌره من‬
‫الشعوب‪ ،‬جعله ٌركن إلى السبلم إلى درجة ال ٌفكر جٌدا فٌما تدبره له هذه الشعوب‪.‬‬

‫وعدم طمع المصري فً ؼٌره من شعوب‪ ،‬وعدم تآمره علٌهم‪ ،‬وافتقاده لمهارات التآمر‪ ،‬جعله ٌفتقد‬
‫التنبإ المبكر بمإامراتهم علٌه‪ ،‬وال ٌهتم بتتبع أسالٌبهم الجدٌدة فً التسلل إلٌه‪ ،‬بل وال ٌعرؾ عدوه إال إذا‬
‫رفع فً وجهه السبلح‪ ،‬وجاءه ؼازٌا بالجٌوش والعصابات المكشرة عن أنٌابها فً عدوان صرٌح‪ ،‬وٌرى‬
‫بعٌنٌه دمه ٌقطر من سٌؾ عدوه عبلمة تؤكٌد العدوان‪ ،‬ولكن إذا جاءت إلٌه األعادي فً صورة هجرات ببل‬
‫سبلح‪ ،‬تتسلل إلى ببلده "سلمٌا" باللسان الحلو أو بطلب نجدته‪ ،‬أو فً توب تاجر أو الجا أو صدٌق‪ ،‬فإنه‬
‫ٌكون حسن الظن وسرٌع التصدٌق‪ٌ ،‬فتح لهم حدود ببلده بٌدٌه مرحبا مهلبل‪ ،‬وربما شاكرا لهم أنهم اختاروا‬
‫بلده بالذات لٌؤتوها ‪ ،‬وال ٌفٌق من ؼفلته إال بعد أن ٌكون "وقع فً الخٌة"‪ ،‬والسٌؾ انؽرز فً جانبٌه‪ ،‬فٌندم‬
‫ٌوم ال ٌنفع المصري الندم‪.‬‬

‫(ٗٗ)‬
‫‪ -‬لمحة إلى مصر‪ ،‬كلوت بك‪ ،‬ترجمة محمد مسعود‪ ،‬دار الكتب والوثابق القومٌة‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٓٔٔ ،‬ص ‪ٕ9ٓ -ٕ89‬‬

‫ٖٔ‬
‫▲▲▲ الوصٌة الحارسة (العهد)‬

‫إن اآلباء المإسسٌن‪ ،‬أو ربما السماء‪ ،‬وضعوا لمصر الدواء لنقاط ضعفها السابقة‪ ،‬ومن هذا الدواء‬
‫الوصٌة التً سجلتها نصوص األهرام‪ -‬وهً قلب قضٌة هذا الكتاب‪ -‬بؤال تفتح بواباتها (حدودها) لؤلجانب‬
‫الطامعٌن فٌها‪ ،‬والذٌن ٌحاولون ؼزوها‪ ،‬سواء من الشرق أو الؽرب أو الشمال أو الجنوب‪ ،‬فاإلله أسس هذه‬
‫الحدود لحماٌتها‪ ،‬ولعلمه بؤنها مطمع الجمٌع‪ ..‬وفً هذا إشارة لوجود حدود لمصر منذ أقدم العصور‪،‬‬
‫والمصرٌون ملزمون بتحصٌنها مادٌا ومعنوٌا‪.‬‬

‫فجاء فً نصوص األهرام ضمن "النشٌد الوطنً" السابق اإلشارة إلٌه‪:‬‬

‫"إن البوابات التً فوقك كبوابات حامٌة‪ ....‬إنها سوؾ ال تفتح للؽربٌٌن‪ ،‬إنها سوؾ ال تفتح للشرقٌٌن‪،‬‬
‫إنها سوؾ ال تفتح للجنوبٌٌن‪ ،‬إنها سوؾ ال تفتح للشمالٌٌن‪ ،‬إنها سوؾ ال تفتح لهإالء الذٌن فً وسط‬
‫األرض‪ ،‬إنها سوؾ تفتح لحورس"(٘ٗ)‪.‬‬

‫وفً ترجمة أخرى وكاملة لهذه الوصٌة‪ ،‬أو هذا العهد‪ ،‬قام بها هنري برٌستد فً كتابه "تطور الفكر والدٌن‬
‫فً مصر القدٌمة"‪ٌ ،‬قول النص‪:‬‬

‫التحٌة لك ٌا عٌن حور (مصر)‬

‫التً زانها بكلتا ذراعٌه‬

‫إنه ال ٌسمح لكِ (ٌا مصر) أن تصؽً إلى أهل الؽرب‬

‫إنه ال ٌسمح لكِ أن تصؽً إلى أهل الشرق‬

‫إنه ال ٌسمح لكِ أن تصؽً إلى أهل الجنوب‬

‫إنه ال ٌسمح لكِ أن تصؽً إلى أهل الشمال‬

‫إنه ال ٌسمح لكِ أن تصؽً إلى القاطنٌن بوسط األرض‬

‫ولكن تصؽٌن إلى حورس‬

‫إنه هو الذي زانك‬

‫إنه هو الذي شٌدك‬

‫إنه هو الذي أسسك‬

‫إنك تفعلٌن ألجله كل شًء ٌقوله لكِ‬

‫(٘ٗ)‬
‫‪ -‬القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ٘ٔ‪ٕٔٙ -‬‬

‫ٕٖ‬
‫إن األبواب الموجودة علٌكِ تستوي ثابتة مثل "إنموتؾ"‬

‫إنها ال تنفتح لسكان الؽرب‬

‫إنها ال تنفتح لسكان الشرق‬

‫إنها ال تنفتح لسكان الشمال‬

‫إنها ال تنفتح لسكان الجنوب‬

‫إنها ال تنفتح للقاطنٌن وسط األرض‬

‫إنها تنفتح لحورس‬

‫إنه هو الذي صنعها‬

‫إنه هو الذي أقامها‬

‫إنه هو الذي نجاها من كل سوء أوقعه "ست" علٌها‬

‫إنه هو الذي أقام دعابمك‬

‫فؤمر اإلله مصر أن تكون األصول التً وضعها لها (ماعت) هً مرجعٌتها‪ ،‬وال تسلم نفسها للشعوب‬
‫الكابنة وراء الحدود وثقافاتهم‪ ،‬فهو األدرى بما ٌصلح لها؛ ألنه هو من أسسها ووضع قواعدها(‪.)ٗٙ‬‬

‫عٌن حور "وجات" وعن ٌمٌنها "نخبة" رمز الوجه القبلً وعن شمالها "واجٌت" رمز الوجه البحري (مقتنٌات توت عنخ آمون بالمتحؾ المصري)‬
‫قبلدة معبرة عن مصر التً سماها األجداد "عٌن حور" وألجلها انتصر حور على الشر‬

‫وهذه هً الوصٌة الصارمة الحارسة الخالدة بعدم استقبال وتوطٌن هجرات أو ثقافات أجنبٌة التً لمَّا‬

‫(‪)ٗٙ‬‬
‫‪ -‬تطور الفكر والدٌن فً مصر القدٌمة‪ ،‬جٌمس هنري برٌستٌد‪ ،‬ترجمة زكً سوس‪ ،‬دار الكرنك للنشر والتوزٌع‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ9ٙٔ ،‬ص ٓٗ‪،ٗ٘ -‬‬
‫وكلمة "إنموتؾ" المذكورة فً "األبواب الموجودة علٌكِ تستوي ثابتة مثل إنموتؾ" تعنً "عمود أمه" (نفس المرجع)‬

‫ٖٖ‬
‫خالفها األجداد فً بعض العصور‪ ،‬كان عقاب هللا لمصر شدٌدا ومرعبا‪ ،‬بالخراب واالحتبلل‪.‬‬

‫ولمس هذا مإرخون قدامى‪ ،‬تؤملوا فً أسباب سقوط مصر المدوي قبل مٌبلد المسٌح‪ ،‬ونقل عنهم أ‪ .‬ب‪،‬‬
‫كلوت‪" :‬لو أن مصر استطاعت أن تقً نفسها شر االتصال باألجانب‪ ،‬أو لو كانت طبٌعة وجه أرضها‬
‫وشكل سطحها من الوجهة الحربٌة بحٌث ٌصدان عنها الؽارات األجنبٌة‪ ،‬لما بقً شك فً قدرتها على‬
‫صٌانة وجودها وإطالة أمد حٌاتها بما كان مسنونا لها من األنظمة العالٌة والقوانٌن الحكٌمة لتدبٌر مرافقها‬
‫ومصالحها من كل نوع‪ ،‬ولكن مصر ال تملك من وسابط الدفاع الطبٌعٌة عن كٌانها ما ٌكترث به أو ٌُعتمد‬
‫علٌه (‪ )...‬فهً بهذا الوصؾ فرٌسة سهلة ولقمة سابؽة جذبت إلٌها من جمٌع النواحً عظماء الفاتحٌن‬
‫الذٌن طالما طمحت أنظارهم إلى خٌراتها الزراعٌة وموقعها الجمٌل بٌن ٖ من قارات العالم"‪ ،‬و"لقد أدرك‬
‫واضعو قوانٌنها القدٌمة هذه الحقٌقة من بادئ األمر‪ ،‬وحسبوا لعواقبها الحساب؛ فحرَّ موا على األمة‬
‫المصرٌة باسم الدٌن كل اتصال باألجانب أو اختبلط بهم؛ خشٌة أن ٌستفز هذا االختبلط هإالء إلى محاولة‬
‫الوقوؾ على أسرارها والعلم بمواطن ضعفها؛ فٌنشطوا إلى فتحها وامتبلكها‪ ،‬وطالما لبث فرٌق الكهنوت‬
‫عزٌز الجانب رهٌب المقام بكثرة عدده وامتداد نفوذه‪ ،‬واستقرار صولته‪ ،‬فإنه كان ٌحول دون كل اتصال‬
‫باألجانب؛ فؤمنت الببلد شرهم ووقت نفسها عاقبة أطماعهم‪ ،‬ولكن ملوك األسرة السادسة والعشرٌن رأوا أن‬
‫ٌلقوا عن عاتقهم نٌر النفوذ الكهنتً وٌستبدوا باألمر؛ فمهدوا السبل لذلك اإلتصال الذي كانت عاقبته شرا‬
‫وباال على مصر؛ إذ بلػ بؤحدهم وهو الملك أبسامٌتك األول أن اتخذ لنفسه جندا من اإلؼرٌق والكارٌٌٌن‬
‫والٌونانٌٌن المجمكٌن(‪ .")ٗ9‬واألسرة ‪ ٕٙ‬من قبٌلة أجنبٌة مستوطنة ولٌست أسرة مصرٌة‪.‬‬

‫وسنختبر دقة هذا التشخٌص فٌما سنقابله من أحداث‪ ،‬بٌن أمجاد تحلق بها مصر‪ ،‬وأصفاد تؤسرها‪.‬‬

‫ولو أن االتصال باألجانب اقتصر على تبادل التجارة والعلوم لما كان فٌه ضرر‪ ،‬أما وقد ص َّم حكام‬
‫مصر وبعض مثقفٌها آذانهم عن صوت األجداد‪ ،‬وفتحوا البلد الستٌطان هجرات تسللت فً أي ثوب‪ ،‬أو‬
‫استقدموا األجانب للتوظٌؾ محل المصرٌٌن‪ ،‬واعتمدوا هوٌات أجنبٌة محل المصرٌة؛ فزلزلت هنا األرض‬
‫الطٌبة زلزالها‪.‬‬

‫▲▲▲ العقٌدة المصرٌة القتالٌة واألقواس التسعة‬

‫إذا وزعت ورق الٌوم (فً سنة ‪ )ٕٓٔ9‬على المصرٌٌن‪ -‬خاصة المتعلمٌن‪ -‬وطلبت منهم اإلجابة على‬
‫سإال واحد مكتوب فٌها وهو‪ :‬من هم أعداء مصر؟ أو من عدو مصر فً نظرك‪ ،‬ماذا ستكون اإلجابة؟‬

‫لن تكون إجابة‪ ..‬بل إجابات‪ ،‬بل آالؾ اإلجابات‪ٌ ،‬ختلؾ فٌها تقٌٌم "العدو" باختبلؾ انتماء المصري‬
‫المعاصر نفسه‪ ،‬فهل انتماءه لمصر وحدها ال قبلها شًء وال بعدها شً أم ٌنتمً لشًء آخر خارج الحدود‪،‬‬
‫وتختلؾ اإلجابات باختبلؾ التٌار الدٌنً أو السٌاسً الذي قد ٌكون منتمً إلٌه (لٌبرالً‪ ،‬شٌوعً‪،‬‬
‫اشتراكً‪ ،‬عروبً‪" ،‬إخوان مسلمٌن"‪ ،‬جماعات دٌنٌة سلفٌة‪ ،‬عولمً‪ ،‬إلخ)‪ ،‬ونوعٌة التعلٌم (حكومً‪/‬‬

‫(‪)ٗ7‬‬
‫‪ -‬لمحة إلى مصر‪ ،‬كلوت بك‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٕ‪ٕٗ -‬‬

‫ٖٗ‬
‫أجنبً)‪ ،‬وهل هو مصري خالص الدم أم "خبلسً"‪ ٗ8‬الدم‪ ،‬أي هجٌن من أبوٌن أحدهما ؼٌر مصري‪ ،‬أو‬
‫"خبلسً" الجنسٌة‪ ،‬أي ٌحمل جنسٌة أخرى أو أكثر بجانب الجنسٌة المصرٌة وأعطى ٌمٌن الوالء لدول‬
‫أخرى ؼٌر مصر‪ ،‬أو "خبلسً" الهوٌة‪ ،‬أي من هإالء الذٌن لهم أجداد قدموا إلى مصر فً عصر سابق‬
‫ولكنهم لم ٌتخلصوا من االنتماء للبلد التً قدم منها هإالء األجداد األباعد وما زالوا ٌحتفظون بالوالء لها‬
‫بجانب أو قبل الوالء لمصر (مثل بواقً قبابل عربٌة أو بعض بواقً الٌونان واألرمن والترك إلخ)‪ ،‬أو‬
‫"خبلسً" الزواج‪ ،‬أي متزوج أو متزوجة من أجانب وأوالدهم حملوا جنسٌة بلد األجنبً‪ ،‬إلخ‪.‬‬

‫ما هذا كله؟! إن هذا كله لم ٌكن موجودا فً معظم تارٌخ مصر بٌن المصرٌٌن‪ ،‬بل لم ٌكن بٌنهم أساسا كلمة‬
‫"اختبلؾ االنتماء" فٌما ٌخص تحدٌد من هو العدو‪ ،‬ألنه لم ٌكن بٌنهم أساسا "اختبلؾ انتماء" حول مصر؛‬
‫ألنه أساسا لم ٌكن هناك انتماء دٌنً أو سٌاسً أو فً الدم أو التعلٌم إلخ بعٌدا عن مصر‪ ،‬بل كله متمحور‬
‫حول مصر (كٌمة)‪ ،‬ألن المصرٌٌن كانوا مصرٌٌن (كٌمتٌو) وفقط‪ ،‬ال توصٌؾ آخر ٌخترقهم‪.‬‬

‫ومن الشواهد على هذا فً تارٌخ مصر الطوٌل القدٌم هو ما عرفناه وقتها باسم "األقواس التسعة"‪ ،‬وهً‬
‫االسم الدال على أعداء مصر‪ ،‬وجاء من أن كل عدو من أعداء مصر جسده الفنان المصري فً شكل قوس‪،‬‬
‫باعتبار أن األعداء فً أقدم الزمن كانوا ٌؽٌرون على مصر وٌهاجمونها من وراء الحدود برمً السهام‪،‬‬
‫واألقواس التسعة تعبر عن األقوام التً اعتبرها األجداد أنهم أعداء مصر‪ ،‬وهً لٌست بالضرورة ‪9‬‬
‫بالتمام‪ ،‬بل ٌضاؾ إلٌها إذا استجد أعداء ‪ ،‬والثابت أنها تتوزع ما بٌن أقوام وقبابل تؤتً من الحدود الجنوبٌة‬
‫(الكوشٌون أي أقوام السودان والحبش وما جاورهم من زنوج)‪ ،‬وأقوام وقبابل تؤتً من الحدود الؽربٌة (مثل‬
‫التحنو والتمحو واللٌبو)‪ ،‬وأقوام وقبابل تؤتً من الحدود الشرقٌة (مثل الشاسو والعامو) وهم فً الشام‬
‫وشمال الجزٌرة العربٌة‪ ،‬وظل األعداء ٌهاجمون مصر من هذه الحدود الثبلثة طوال تارٌخ مصر القدٌم‪،‬‬
‫حتى هبَّت أمواج البحر األبٌض المتوسط بؤقوام وقبابل تهدؾ لؽزو مصر من الحدود الشمالٌة فً األسرة‬
‫ٕٓ (تسموا بقبابل شعوب البحر ألنهم قادمون من جزر البحر األبٌض وما وراءها كاألناضول)‪ ،‬وبذلك‬
‫استحكمت دابرة العداء حول مصر من الحدود األربعة‪.‬‬

‫‪ -ٗ8‬كلمة خالسً ٌقال‪ :‬ولد خِالسً‪ُ :‬ولد بٌن أبوٌن أبٌض وأسود‪ ،‬ودجاج خالسً تو َّلد بٌن دجاج هندي وفارسً (المعجم الوسٌط) أي الخلٌط أو‬
‫الهجٌن‪ ،‬هذا المعنى الحرفً لؽوٌا‪ ،‬ومنه معنى عام وهو ذلك الذي تتعدد فً صدره وعروقه االنتماءات الختالط الدم واألنساب أو اختالط الثقافات‬
‫والوالءات‪ ،‬وفً اللؽة المصرٌة الدارجة ٌطلق على هذا النوع كلمة "بزرمٌط"‪.‬‬

‫ٖ٘‬
‫أمثلة من النقوش المصرٌة لؤلقوام المدرجٌن تحت مسمى أعداء (األقواس التسعة) وهم الكوشٌٌن ؼزاة الجنوب والقبابل الؽازٌة من الؽرب والؽازٌة‬
‫من الشرق (الصور الستة األولى وهً فً المتحؾ المصري) ثم انضم لهم القبابل القادمة من البحر شماال (الصورة األخٌرة على ٌمٌن الناظر وهً‬
‫من معبد هابو)‬

‫وثبت تصنٌؾ المصرٌٌن لهإالء األعداء بؤنهم أعداء منذ أقدم معارك نعرؾ أنهم خاضوها ضد الؽزاة (مثل‬
‫المعارك المنقوشة على سكٌن جبل العركً قبل عصر مٌنا) وحتى سقوط مصر فً االحتبلالت المتوالٌة‬
‫التً لم تنت ِه إال فً ٕ٘‪ ،ٔ9‬فلماذا ظل الثبات المصري على تصنٌؾ األعداء مهما تؽٌر الحكام واألجٌال؟‬

‫ظل هذا التصنٌؾ ثابت ألن االنتماء المصري ظل ثابتا طول تلك األزمنة قبل االحتبلالت‪ ،‬وهو أنه لمصر‬
‫وحدها‪ ،‬ال ٌشاركه فٌها أي بلد أو شعب آخر‪ ،‬وعلى هذا فإن العدو لٌس هو الذي ٌنتمً إلى جنس معٌن‪ ،‬أو‬
‫دٌن معٌن‪ ،‬أو لؽة معٌنة‪ ،‬ولكن العدو فً عقٌدة مصر وجٌشها وشعبها عموما هو "من طمع واعتدى"‪ ،‬أٌا‬
‫كان لونه أو جنسه أو دٌنه أو لؽته أو بلده‪ ،‬وجار كان أم بعٌد‪ ،‬مدام قد "طمع أواعتدى"‬

‫رسم األجداد الشعوب المعتدٌة على الصنادل و رسموها على مسند القدمٌن عند الجلوس على الكرسً الستمرار تذكر األعداء‪ ،‬وربما من هنا جاءت‬
‫الكلمة التً نقولها "فبلن تحت جزمتً" (الصندل من مقبرة حوي باألقصر‪ ،‬والكرسً والمسند من مجموعة توت عنخ آمون بالمتحؾ المصري)‬

‫وعلى هذا سنرى فً الصفحات القادمة خبلل تتبع المعارك المصرٌة أن طوال أزمنة الحكم المصري القدٌم‬
‫ظل الجٌش ٌحارب على الحدود الثبلثة‪ ،‬ثم على الحدود األربعة‪ ،‬وفً نفس الوقت لم تكن العبلقة مع‬
‫الجٌران أو األباعد عبلقة حرب دابمة‪ ،‬فهم من القدٌم ساروا على درب "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها"‪ ،‬فإن‬
‫اقتصرت الشعوب األخرى فً عبلقتها مع مصر على التجارة والعبلقات السٌاسٌة الطبٌعٌة كانت مصر نعم‬

‫‪ٖٙ‬‬
‫الصدٌق لهإالء‪ ،‬وإن لم ٌكونوا هم نعم الصدٌق لها دابما‪ ،‬وإنما ٌستؽلون اطمبنانها إلى ما ٌظهرونه من‬
‫سبلم وصداقة لبلستعداد لبلنقضاض على مصر وهً فً حاالت استرخاء من جدٌد‪ ..‬وما أبشعه حٌنها من‬
‫هجوم‪ ،‬خاصة حٌن ٌؤتٌها من الداخل‪ ،‬على أٌدي من فتحت لهم أبوابها لبلستٌطان تجارا والجبٌن‬
‫ومهاجرٌن وأزواج وزوجات حتى تكتلوا وتمكنوا‪ ،‬ثم انقضوا‪ ،‬كما حصل فً نهاٌات األسرة ‪ ٙ‬واألسرة‬
‫ٖٔ واألسرة ٕٓ‪.‬‬

‫أما إذا عدنا لبلندهاش حول لماذا إذن "انكسر" هذا الثابت المصري‪ ،‬وتحول المصرٌون‪ -‬خاصة المتعلمٌن‪،‬‬
‫وبما فٌهم الرإساء والوزراء ورجال الجٌش والداخلٌة والتعلٌم واإلعبلم واالقتصاد واألزهر والكنٌسة‬
‫ونواب البرلمان‪ -‬إلى انتماءات‪ ،‬كؤنهم هم أنفسهم تحولوا إلى قبابل وأقوام ولٌسوا شعب واحد‪ ،‬وهذه هً‬
‫النكبة الكبرى فً مسٌرتهم‪ ،‬فهذا هو ما ٌحاول هذا الكتاب اإلجابة علٌه‪ ..‬قبل أن تذوق مصر من جراء هذه‬
‫النكبة ما لم تذقه فً احتبلالتها السابقة جمٌعا‪ ...‬اإلبادة التامة لمصر شعبا ودولة‪.‬‬

‫‪ٖ7‬‬
‫كٌؾ أبنً قواعد المجد وحـدي‬ ‫وقــؾ الخلــق ٌنظـرون جمٌعــا‬

‫كفــونً الكـــــالم عنـد التحــــدي‬ ‫وبناة األهرام فً سالؾ الدهـر‬

‫ودراتــــــه فرابـــــــــــد عقـــــــــدي‬ ‫أنا تاج العالء فً مفــرق الشرق‬


‫(ٔ)‬
‫من له مثـل أولٌاتـــً ومجـــدي‬ ‫إن مجــدي فً األولٌات عرٌــق‬

‫(ٔ)‬
‫‪ -‬حافظ إبراهٌم األعمال الكاملة‪ ،‬قصٌدة مصر تتحدث عن نفسها‪ ،‬مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٕٕٔ‬
‫المشهد ٖ‪ :‬الوالدة الجدٌدة‬

‫(الدولة القدٌمة)‬

‫▲▲▲ العصر العتٌق (التحرٌر واستعادة المركزٌة)‬

‫العصر العتٌق صفة ٌطلقها علماء اآلثار على األسرتٌن ٔ وٕ من األسرات الحاكمة‪ ،‬وفٌه ترسخت أكثر‬
‫دعابم نظام الحكم المركزي ونظام الدولة المصرٌة كامل األركان‪ ،‬أرضا وشعبا وحكومة وعقٌدة وحضارة‪،‬‬
‫ونضجت‪ ،‬وبدت فٌه متؤلألة كالعروسة أو كالبدر فً السماء الظلماء‪.‬‬

‫وتبدأ األسرة األولى بمإسسها العظٌم نعرمر الشهٌر بـ"مٌنا" وهو لقب ٌعنً الثابت والخالد؛ ما ٌدل على‬
‫اعتزاز األجداد به وبدوره فً تارٌخهم‪.‬‬

‫وٌُستدل على هذا بكتابة اسمه فً سجبلت األجداد الخالدٌن المكتوبة فً عصور الحقة له‪ ،‬مثل "قابمة‬
‫أبٌدوس" فً عهد سٌتً األول وقابمة "بردٌة تورٌن" فً عهد رمسٌس الثانً‪ ،‬وهما جاءا بعده بمبات‬
‫السنٌن‪ ،‬وتحتوى على أسماء الحكام الذٌن سبقوه‪ ،‬ووضعوه فٌها فً موضع مكرم‪.‬‬

‫ومن أشهر آثار عصر مٌنا صبلٌته الشهٌرة التً تزٌن المتحؾ المصري‪ ،‬وأهمٌتها أنها أول تجسٌد‬
‫لحاكم مصر وهو ٌرتدي تاج الوجهٌن القبلً والبحري‪ ،‬وأهمٌتها فٌما ٌخص موضوع الكتاب أنها تكشؾ‬
‫معارك تبدو ضخمة بٌن مصر وؼزاة هددوا أرض مصر ووحدانٌتها بعد أن تسربوا إلٌها واستوطنوها‪.‬‬

‫وقد ال تنحصر الصبلٌة فً معارك بٌن وجه قبلً ووجه بحري فً سبٌل التوحٌد كما ٌقول البعض‪ ،‬فقد‬
‫وصؾ سٌرٌل ألدرٌد الشخصٌن المهزومٌن فً أسفل الوجه األول للصبلٌة بؤنهما اثنٌن من اآلسٌوٌٌن‪،‬‬
‫والشخص الذي ٌطؤ الثور ذراعه الٌمنى بؤنه "ربما كان من اللٌبٌٌن"(ٔ)‪ ،‬وفً هذا إشارة إلى أن هإالء‬
‫لٌسوا من المصرٌٌن سكان الوجه البحري‪ ،‬ولكن ؼزاة متسللٌن من الشرق والؽرب‪ ،‬بدلٌل شكلهم المختلؾ‬
‫واللحٌة ؼٌر المصرٌة‪.‬‬

‫كما رأى أن اللوحة (الصبلٌة) تمثل انتصار التجسٌد الحً لحاكم مصر على قوى الشر والعدوان‪،‬‬
‫وسواء ظهر الحاكم فً صورة رجل أو صقر أو ثور فإنا نراه ٌقوم بإخضاع الؽزاة من اآلسٌوٌٌن أو‬
‫اللٌبٌٌن المجاورٌن لمصر‪ ،‬ونشر الدكتور على رضوان‪ ،‬العمٌد األسبق لكلٌة اآلثار بجامعة القاهرة‪ ،‬آراء‬
‫بؤن منظر دك الحصن هو "بسط النفوذ على جماعات البدو عند حدود مصر الشمالٌة الشرقٌة"(ٕ)‪.‬‬

‫(ٔ)‬
‫‪ -‬الفن المصري االقدٌم‪ :‬سٌرٌل ألدرٌد‪ ،‬ترجمة أحمد زهٌر‪ ،‬وزارة الثقافة‪ ،‬هٌبة اآلثار المصرٌة‪ ،‬ص ٘٘‬
‫(ٕ)‬
‫‪ -‬تارٌخ الفن فً العالم القدٌم‪ ،‬علً رضوان‪ ،‬دار شركة الحرٌري‪ ،‬طٕ‪ ،ٕٓٓٗ ،‬ص ‪ٗٙ‬‬
‫صبلٌة نعارمر وجه وظهر (المتحؾ المصري)‬

‫وأشهر حكام العصر بعد مٌنا‪ :‬حور عحا‪ ،‬جر‪ ،‬دن‪ ،‬عجٌب‪ ،‬واجً‪ ،‬قاعا‪ ،‬خع سخموي‪.‬‬

‫▲▲▲ معارك العصر العتٌق مع الهكسوس وعالقاته الخارجٌة‬

‫االستقرار والبناء الضخم للدولة لم ٌسلم‪ -‬كالعادة‪ -‬من تهدٌدات أعدابها فً الشرق والؽرب‪ ،‬بل كان‬
‫ٌخطؾ برٌقه ألباب وأنظار المحٌطٌن بمصر‪ ،‬فٌضعون الخطة تلو األخرى للسٌطرة على هذا البلد المهٌب‪،‬‬
‫أو على األقل الحصول على بعض خٌراته واالستمتاع ببعض ما ٌستمتع به‪.‬‬

‫فتبدأ القباٌل بالتسلل إلى حواؾ الدلتا الشرقٌة والؽربٌة على حٌن ؼفلة من أهلها‪ ،‬واشتبكت معهم القوات‬
‫المصرٌة فً عدة معارك زمن الملكٌن "بر إبسن" و"خع سخم" فً نهاٌة األسرة األولى‪.‬‬

‫وحدث فً عهد الملك "نً نثر" السابق لعهد "بر إبسن" أن هاجمت قبابل قادمة من لٌبٌا الوجه البحري‬
‫واحتلوه عنوة‪ ،‬وانفصلوا به عن الوجه القبلً‪ ،‬فلما أعقبه "بر إبسن" لم ٌحكم ؼٌر الوجه القبلً‪ ،‬ولكنه‬
‫اعتزم الكفاح‪ ،‬وتسمى باسم "سخم إب"‪ ،‬أي الجسور‪ ،‬وتلقب بلقب ٌعطً معنى "الذي خرج للحق" أو‬
‫"انبعث النظام"‪ ،‬ولكنه لم ٌنته فً كفاحه إلى شًء(ٖ)‪.‬‬

‫فخلفه "خع سخم" الذي هاجم أراضً الدلتا وقاتل الؽزاة المسٌطرٌن علٌها قتاال عنٌفا حتى انتصر علٌهم‬
‫فً نهاٌة عهده(ٗ)‪ ،‬وهكذا ٌتضح أنه فً أقدم العصور كان ٌؤتً من الؽرب أكثر الؽزاة لمصر‪ ،‬وتسلبل‪ ،‬ثم‬
‫بعد التمكٌن ٌرفعون السبلح‪.‬‬

‫وسجلت بطاقة من عهد "دن" من األسرة األولى‪ ،‬أخبار نصره على أهل الشرق ألول مرة‪ ،‬كما قال‬

‫(ٖ)‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم (الجزء األول مصر والعراق)‪ ،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬مكتبة األنجلو‪ ،‬طٕ منقحة‪ ،‬ص ‪99‬‬
‫(ٗ)‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‬

‫ٓٗ‬
‫كاتبها‪ ،‬و سجلت بطاقات من عهد ولده "عنجإب" نشاطا مماثبل ضد قوم أطلقت علٌهم اسم "اإلونتٌو" ربما‬
‫بمعنى "أصحاب العمد‪ ،‬وٌؽلب على الظن أنهم من األقوام الشرقٌٌن الذٌن أشارت إلٌهم بطاقة أبٌه‪ ،‬أي من‬
‫بدو الصحراء الشرقٌة وبدو سٌنا‪ ،‬وربما ما ورابها أٌضا(٘)‪ .‬وما ورابها ٌعنً الشام وشمال الجزٌرة العربٌة‬
‫التً تفد منها القباٌل لسٌناء‪.‬‬

‫وذهب الباحثون ‪ De Rouge, R.Weill, and Y. yadin‬إلى أن مصر لها حصون وعملٌات‬
‫دفاعٌة فً المناطق األسٌوٌة منذ عهد نعرمر (مٌنا)‪ ،‬وأٌام خلفابه "جر" و"دن"‪ ،‬واستدلوا على نشاطها‬
‫هناك من صورة حصن نقشت على صبلٌة مٌنا‪ ،‬ومن ذكر حصن ٌدعى "باب عن" وآخر ٌدعى "ونة" فً‬
‫جنوب فلسطٌن على آثار العصر نفسه(‪.)ٙ‬‬

‫وأشار علً رضوان إلى منطقة "عٌن بصور"‪ ،‬جنوب فلسطٌن‪ ،‬وفٌها وجد علماء آثار مبنً من الطوب‬
‫اللبن فٌه أكثر من ٓ‪ 9‬قطعة علٌها أختام لحكام مصر فً األسرة األولً‪ ,‬اعتبارا من الملك "جر"‪ ،‬مع‬
‫كمٌات من الفخار المصري‪ ،‬وتشٌر االختام إلً أن موظفٌن مصرٌٌن لهم إقامة متواصلة فً المبنً الذي‬
‫وصفه العالم األمرٌكً آالن شومان بؤنه نقطة مراقبة حدود مصرٌة للتفتٌش(‪ ،)9‬وهو ما ٌإشر لحدود مصر‬
‫فً ذلك العصر عند رفح‪.‬‬

‫وانقضى عصر بداٌة األسرات بعد امتداده ٓٓ٘ سنة حافلة بالبناء والمعارك‪ ،‬بعد انتقال الحكم من‬
‫أسرته الثانٌة إلى فرع حاكم جدٌد ٌتصل بها برابطة الدم والنسب‪ ،‬مكونا األسرة الثالثة‪.‬‬

‫وظلت سٌرة حكامه عطرة خالدة‪ ،‬تتناقلها األجٌال فً معظم التارٌخ المصري القدٌم‪ ،‬فكانوا فً حكاٌاتهم‬
‫ٌردون إلٌه أصول بعض معارفهم وعلومهم القدٌمة‪ ،‬فتضمنت بردٌة طبٌة من الدولة الحدٌثة فصبل ردته‬
‫إلى عهد الملك "دن"(‪ ،)8‬وذكر المإرخ مانٌتون (فً القرن الثانً قبل المٌبلد) أن الملك "جر"‪ ،‬ألؾ كتابا‬
‫فً التشرٌح‪ ،‬وذكر المإرخ دٌودور الصقلً (فً القرن األول قبل المٌبلد) أن الكهان أخبروه بؤن مٌنا أول‬
‫من علم الناس أسلوب الحٌاة المهذبة وطقوس العبادة‪ ،‬وأرشدهم إلى فوابد البشنٌن ]زهرة اللوتس[ وكٌؾ‬
‫ٌصنعون الخبز منه(‪.)9‬‬

‫(٘)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪89‬‬
‫(‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع ص ‪88‬‬
‫(‪)9‬‬
‫‪" -‬ســـــٌناء تراب وتراث مصر مــــنذ األزل ٔ"‪ ،‬علً رضوان‪ ،‬صحٌفة األهرام‪ ،‬العدد ٖ٘ٓٗٗ‪ ،‬تارٌخ ‪ٕٓٓ8- ٖ -ٕٙ‬‬
‫(‪)8‬‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ ،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪89‬‬
‫(‪)9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬

‫ٔٗ‬
‫بعض أبرز وجوه المصرٌٌن حاكمٌن ومحكومٌن حتى األسرة ‪ ،ٙ‬وٌظهر فٌهم الكمال الفنً فً إظهار التجانس والتناؼم وإخراج المشاعر من نظرات‬
‫تؤمل أو سعادة أأو كبرٌاء أو أسى أو تحدي‪ ،‬وهً نفس وشوش وتعبٌرات معظم المصرٌٌن حتى اآلن‬

‫▲▲▲ بناة األىراـ (وىج المركزية والمصرية)‬

‫األسرة الثالثة أسسها "نب كا"‪ ،‬أي سٌد الروح أو روح السٌد‪ ،‬قفزة مدهشة فً تارٌخ مصر الحضاري‪،‬‬
‫ففٌها انتقلت من بناء أبنٌة اآلخرة (المعابد والمقابر) من الطوب اللبن إلى البناء بالحجر‪ ،‬بكل ما ٌتضمنه من‬
‫دالالت على التطور فً علوم الهندسة والفلك وشق الطرق بٌن المحاجر والعمران والنحت وحسن إدارة‬
‫أعداد كبٌرة من العمال الذي كانت تتطلبه هذه األبنٌة والصناعات والفنون المرتبطة بها‪.‬‬

‫واستهلت هذه األسرة العرٌقة بناء األهرام حتى عُرفت الدولة القدٌمة بؤنها "عصر بناة األهرام"‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫هرم زوسر‪ ،‬هرما سنفرو‪ ،‬أهرام خوفو وخفرع ومنكاورع‪ ،‬هرم ونٌس‪ ،‬هرم تٌتً‪ ،‬هرم بٌبً األول‪.‬‬

‫وتؤلأل هذا العصر بنجوم عمالقة الفن والطب والهندسة والعمارة والسٌاسة واإلدارة واألدب والحكمة‪،‬‬
‫مثل الطبٌب والمهندس إٌمحوتب وزٌر "زوسر" والمشرؾ على بناء هرمه الشهٌر‪ ،‬وحسً رع طبٌب‬
‫األسنان‪ ،‬وحم إٌونو المشرؾ على بناء هرم خوفو‪ ،‬وبتاح حتب أحد أشهر الحكماء المعلمٌن(ٓٔ)‪ ،‬إضافة إلى‬
‫حكامه األشهر مثل زوسر وخوفو وخفرع ومنكاورع وونٌس وتٌتً وجد كا رع إسٌسً‪.‬‬

‫ومن أشهر إنجازات الدولة القدٌمة بجانب ما سبق‪ ،‬انتشار الكتابة‪ ،‬والنحت على جدران األبنٌة مثل‬
‫األهرام والمقابر بعد أن كانت خالٌة منها فً السابق؛ ما ٌدل على تقدم فنون الكتابة والنقش‪ ،‬وتنظٌم القضاء‬

‫(ٓٔ)‬
‫‪ -‬مزٌد عن أحداث وإنجازات الدولة القدٌمة انظر "مصر الفرعونٌة"‪ ،‬أحمد فخري‪ ،‬الهٌبة العامة للكتاب‪ ،‬مشروع "مكتبة األسرة" القاهرة‪،‬‬
‫ٕٕٔٓ‪ ،‬من ص ٖ‪ٕٖٔ -9‬‬

‫ٕٗ‬
‫والمحاكم‪ ،‬ونضج التقوٌم الشمسً الذي قسم السنة إلى ٘‪ٌ ٖٙ‬وما تتكون من ٕٔ شهرا ‪ +‬شهر ٌتكون من ٘‬
‫أٌام مخصصة لبلحتفال بموالد حور (حورس) وإٌسه (إٌزٌس) وأوزٌر (أوزٌرٌس) وست ونبت حت‬
‫(نفتٌس)‪ ،‬وكل شهر ٖٓ ٌوما‪ ،‬والشهر مقسم إلى ٖ أسابٌع‪ ،‬كل أسبوع ٓٔ أٌام‪.‬‬

‫وتطورت الكتابة من اقتصارها على الخط المقدس "الهٌروؼلٌفً" المنحوت على الجدران إلى خط‬
‫المعامبلت الٌومٌة "الهٌراطٌقً" بعد زٌادة عدد السكان والمعامبلت الٌومٌة‪ ،‬وهو اختصار عبلمات الخط‬
‫الهٌروؼلٌفً لتكون أبسط وٌسهل كتابتها‪ ،‬والفرق بٌنهما ٌشبه الفرق بٌن الخط الكوفً المخصص للكتابة‬
‫المنمقة على جدران المساجد وخط الرقعة الخاص بالمعامبلت الٌومٌة‪.‬‬

‫وأخرج المصرٌون أشكاال بدٌعة من األثاث والحلً والمبلبس‪ ،‬وارتقوا أكثر فً نحت التماثٌل من كل‬
‫صنوؾ األحجار وأشقها فً القطع والنحت‪ ،‬ونطقت مبلمح وجهها بالمشاعر‪ ،‬من فرح وحزن وهموم‬
‫وشموخ وتؤمل ونشاط وصرامة ووداعة‪ ،‬ال ٌنقصها إال دبٌب الروح لتنطق‪ ،‬مثل تماثٌل نفرت وزوجها رع‬
‫حتب من األسرة ٗ‪ ،‬وتمثال الكاتب الشهٌر من األسرة ٘ بالمتحؾ المصري‪ ،‬بخبلؾ اللوحات المرسومة‪،‬‬
‫كؤنها لوحات معاصرة ناطقة ومتحركة مثل لوحة أوز مٌدوم ورحبلت الصٌد‪.‬‬

‫وفً كل هذه األعمال اتسم الخٌال المصري باالعتدال والجد‪ ،‬واعتمد على المنطق فً كل تعبٌراته الخبلقة(ٔٔ)‪.‬‬

‫ولم ٌكن الهرم فً مصر مجرد بناء هو األضخم فً الدنٌا حٌنها‪ ،‬ولكنه الرمز الذي ٌجسد التل األزلً‪،‬‬
‫أصل الحٌاة السلٌمة‪ ،‬وكل ما حوته حضارة مصر من روح دٌنٌة راقٌة وعلوم هندسٌة وفلكٌة ومعمارٌة‬
‫وكفاءة إدارٌة وقوة أمنٌة وحربٌة‪ ،‬علت مصر بها القمة‪ ،‬كما أن هرمها رمز للمركزٌة المصرٌة التً تحكم‬
‫العابلة وتحكم الدولة وتصون وحدانٌة مصر أرضا وروحا وشعبا فً سبٌكة واحدة‪ ،‬ولوالها ما خرجت هذه‬
‫الحضارة بهذه الصورة الفرٌدة‪.‬‬

‫وفً هذا ٌقول هنري برٌستٌد‪ٌ" :‬جب علٌنا أال ننظر للهرم من وجهة ضخامة بنابه‪ ،‬بل علٌنا أٌضا أن‬
‫نتخذه مثبل ظاهرا النتقال القطر من الوحشٌة إلى النظام والمدنٌة‪ ،‬ولوجود حكومة مركزٌة قوٌة تسوس‬
‫الببلد فً نظام دقٌق تحت إدارة شخص واحد(ٕٔ)"‪ .‬وإن كان الشخص الواحد رمز المركزٌة لكن سلطاته‬
‫مجسدة فً الحكومة ككل‪.‬‬

‫(ٔٔ)‬
‫‪ -‬الحضارة المصرٌة من عصور ما قبل التارٌخ حتى نهاٌة الدولة القدٌمة‪ :‬سٌرٌل ألدرٌد‪ ،‬مترجم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٙ9‬‬
‫(ٕٔ)‬
‫‪ -‬الشرطة واألمن الداخلً فً مصر القدٌمة‪ ،‬بهاء الدٌن إبراهٌم‪ ،‬هٌبة اآلثار المصرٌة‪ ،‬مشروع المابة كتاب‪ ،‬ص ٖٕ‬

‫ٖٗ‬
‫الهرم‪ ..‬رمز االنتقال من الفوضى والوحشٌة إلى النظام والحضارة‬
‫▲▲▲ معارك بناة األهرام مع الهكسوس وعالقاتهم الخارجٌة‬

‫رؼم المحاوالت الدابمة من القباٌل والشعوب المحٌطة لؽزو مصر‪ ،‬إال أن الدولة المصرٌة لم تقطع‬
‫وزع أرزاقه‪ ،‬وجعل فً كل بلد‬ ‫عبلقاتها نهابٌا بهم‪ ،‬فاهلل كتب على الشعوب التعارؾ والتبادل التجاري حٌن َّ‬
‫ما لٌس فً اآلخر من المنتجات‪ ،‬فن َّشطت الدولة القدٌمة عبلقاتها الخارجٌة لتصدٌر البضاٌع المصرٌة‬
‫الفرٌدة واستٌراد بضاٌع أجنبٌة‪ ،‬ولم ٌكن فً هذا ضٌر طالما كانت الدولة تقوم بذلك دون إسراؾ فً‬
‫االستٌراد‪ ،‬ودون أن تؽفل عن مطامع الببلد المحٌطة‪ ،‬ودون أن تفتح حدودها لتوطٌن قبابل وشعوب هذه الببلد‬
‫وعواٌدهم المعادٌة لـ"ماعت"‪ ،‬وهو ما حرصت علٌه مصر معظم عصر الدولة القدٌمة‪ ،‬حافظة العهد‪ ،‬ثم ؼفلت‬
‫عنه فً الـ ٓٓٔ سنة األخٌرة منها‪ ،‬فكان السقوط القاسً والمدوي فً األسرة ‪.ٙ‬‬

‫ففً عهد سنفرو‪ ،‬ظهر تقدم واضح فً المبلحة والتجارة الخارجٌة‪ ،‬خاصة مع فٌنٌقٌا (لبنان)‪ ،‬وظهر فً‬
‫حولٌات سنفرو فً قاٌمة "بالرمو"(ٖٔ) ورود ٓٗ سفٌنة منها محملة بؤخشاب(ٗٔ) األرز‪.‬‬

‫وظهر اسم ابنه خوفو على آثار معبد فً جبٌل بلبنان ما ٌشٌر لوجود عبلقات مصرٌة لبنانٌة‪ ،‬وظهرت‬
‫واحدة من أقدم رحبلت مصر إلى ببلد بونت فً أفرٌقٌا فً األسرة ٘ أٌام ساحورع(٘ٔ)‪.‬‬

‫أما عن المعارك مع الؽزاة‪ ،‬فكانت مفتوحة على كل الجبهات‪ ،‬فسجلت حولٌات سنفرو نشاطا حربٌا على‬
‫الحدود الشرقٌة والجنوبٌة والؽربٌة‪ ،‬لتؤدٌب العصاة‪ ،‬ورد القباٌل الؽزاة‪ ،‬فسجل المصرٌون على صخور‬
‫سٌناء فً وادي المؽارة نقوشا لسنفرو ٌضرب بمقمعته رأس زعماء القباٌل الؽازٌة‪ ،‬ووصفته األجٌال التالٌة‬
‫بؤنه أعظم حماة سٌناء‪ ،‬واسمها القدٌم "تا مفكات"‪ ،‬أي أرض الفٌروز‪ ،‬نفس االسم الذي نصفه به الٌوم‪،‬‬

‫(ٖٔ)‬
‫‪ -‬حجر بالرمو منقوش فً عصر األسرة ٘‪ٌ ،‬شمل قاٌمة بؤسامً حكام مصر منذ ما قبل األسرات وحتى األسرة الخامسة‪ ،‬ونبذة عن إنجازاتهم‪،‬‬
‫وفٌه إشارة لملوك ٌرتدون التاج المزدوج قبل مٌنا‪ ،‬وضاعت معظم أجزابه‪ ،‬واألجزاء الباقٌة موزعة على متاحؾ القاهرة ولندن وبالرمو فً صقلٌة‪.‬‬
‫انظر "مصر الفرعونٌة"‪ ،‬أحمد فخري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ٘‬
‫(ٗٔ)‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔٓٔ‬
‫(٘ٔ)‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‪ ،‬ص ٘ٓٔ و ٕ٘ٔ‬

‫ٗٗ‬
‫وظلت نقاط حراسة على الحدود الشرقٌة تحمل اسم سنفرو لمبات السنٌن(‪.)ٔٙ‬‬

‫وفً األسرة ٘ استمرت حمبلت القوات المصرٌة فً جبهة الشرق لصد ؼزو القباٌل لسٌناء‪ ،‬وفً عهد‬
‫ساحورع بالذات حصل نشاط حربً ضد فرٌق من عصاة القباٌل فً جبهة الحدود الؽربٌة‪ ،‬وصورت‬
‫جدران معبده زعماء هذه القباٌل وزوجاتهم وأوالدهم فً هٌبة المستسلمٌن لسطوته(‪.)ٔ9‬‬

‫ومن أشهر وأكبر معارك مصر لصد الؽزاة فً ذلك الزمان الحمبلت الحربٌة اللً قادها إلى أرض‬
‫كنعان القابد الشهٌر "ونً" فً أول األسرة ‪ ،ٙ‬وسببها أنه توافد على كنعان أٌام الملك ببً األول‪ ،‬أو قبله‪،‬‬
‫هجرات متقطعة سماها المصرٌون باسم "عامو حري شوشع"‪ ،‬بمعنى بدو الرمال‪ٌ ،‬حتمل أنها فرع من‬
‫الهجرات األمورٌة بالشام‪ ،‬هددت طرق التجارة‪ ،‬وحاولت أن تثٌر االضطرابات وتعبر الحدود لمصر‪ ،‬فعهد‬
‫"ببً" إلى "ونً" بحماٌة تجارة مصر وحدودها(‪.)ٔ8‬‬

‫وبالفعل‪ ،‬خرج "ونً" فً ٘ حمبلت‪ ٗ ،‬عن طرٌق البر والخامسة عن طرٌق البر والبحر‪ ،‬فحصر‬
‫العدو بٌن فكً كماشة‪ ،‬وتكللت حمبلته كلها بالنجاح بحسب ما سجله عنها(‪ ،)ٔ9‬والنجاح األعظم لرجال هذه‬
‫الفترة هو تنبههم لمخاطر الهجرات والؽزاة قبل أن ٌتعدوا الحدود إلى داخل مصر‪.‬‬

‫وكلمة "عامو" أطلقها األجداد على جماعات تسكن الشام‪ ،‬وٌترجمها البعض إلى "اآلسٌوٌٌن"‪،‬‬
‫والهجرات األمورٌة هً نفس الهجرات التً تراكمت واستوطنت الشام‪ ،‬وزحفت مع جماعات أخرى إلى‬
‫مصر بطرٌق السرسبة والدحلبة فً وقت الحق‪ ،‬وعرفناهم باسم الهكسوس‪.‬‬

‫ومن آداب الجندٌة المصرٌة اللً خلَّدها "ونً" فً تسجٌل الحمبلت‪ ،‬وهً نابعة من القٌم المصرٌة‬
‫"ماعت"‪ ،‬وتظهر الفارق بٌن جٌش وظٌفته حماٌة بلده وبٌن شعوب وقباٌل ؼازٌة تعٌش بالسطو على ببلد‬
‫ؼٌرها أنه "نظم مسٌرة الجنود على خٌر وجه‪ ،‬وترتب على حكمته فً رسم خطته أنه لم ٌحدث أن تنازع‬
‫جندي مع زمٌله‪ ،‬أو اؼتصب جندي كسرة خبز من عابر سبٌل‪ ،‬أو اؼتصب نعله‪ ،‬ولم ٌحدث أن نهب أحد‬
‫جنوده خرقة من قرٌة‪ ،‬أو سلب عنزة من عشٌرة‪ ،‬حتى جاوز بجٌشه مناطق الحدود الشمالٌة الشرقٌة‪ ،‬أو‬
‫جاوز الجزٌرة الشمالٌة وبوابة إٌمحوتب‪ ،‬وساقة حور نب ماعت (أحد ألقاب سنفرو)(ٕٓ)‪.‬‬

‫وبعد رجوع "ونً" بالجٌش ونجاح حمبلته كتب فً تقرٌره للملك "ببً" عن نتابجها ما ٌشبه القصٌدة‪،‬‬
‫تبدأ فً كل سطر بكلمة "عاد الجٌش سالما‪ ،‬فٌنشد فرحا‪" :‬عاد الجٌش سالما‪ ،...‬بعد أن فعل كذا وكذا‪...‬عاد‬
‫الجٌش سالما بعد أن دمر أرض أهل الرمال‪ ،...‬عاد سالما بعد أن أسقط حصونهم"(ٕٔ)‪.‬‬

‫(‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬للمزٌد عن األنشطة االقتصادٌة والحربٌة فً سٌناء‪ ،‬وأسماءها المصرٌة وآثارها منذ أقدم العصور المصرٌة وحتى نهاٌة الدولة الحدٌثة انظر‪:‬‬
‫مواقع اآلثار المصرٌة القدٌمة‪ -‬الجزء األول"‪ ،‬عبد الحلٌم نور الدٌن‪ ،‬ط ‪ ،8‬الخلٌج العربً للطباعة والنشر‪ ،‬ص ٔ‪ٗ8ٗ -ٗ9‬‬
‫(‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٔ8‬‬
‫(‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖٗٔ‬
‫(‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫(ٕٓ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖٗٔ‪ٖٔ٘ -‬‬
‫(ٕٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖ٘ٔ‬

‫٘ٗ‬
‫لكن ٌبدو أن سكرة هذه االنتصارات وتلك القوة ألقت بساتر أسود من الؽفلة على أعٌن الحاكم ورجال‬
‫السكرة والتراخً بعد كل انتصار‪ ،‬والتوهم‬
‫الدولة وقٌادات الجٌش‪ ..‬وهذا عٌب آخر من "عٌوب مصر"‪َ ..‬‬
‫بؤنه خبلص "األمن بقى مستتب"‪ ،‬و"كله تحت السٌطرة"‪.‬‬

‫فاألحداث التالٌة تكشؾ أنهم نسوا كٌؾ تسلل األجانب فً العصر العتٌق (األسرتان ٔ وٕ) من الحدود‬
‫الؽربٌة والشرقٌة‪ ،‬واستوطنوا حواؾ سٌناء والدلتا‪ ،‬وتسللوا إلى الداخل‪ ،‬واحتلوا مساحات من الوجه‬
‫البحري بعد التؤكد من دبٌب الضعؾ والتراخً فً مصر حٌن تطمبن للؽد ولما حولها‪.‬‬

‫واطمبن المصرٌون إلى بعض القباٌل القادمة من نواحً لٌبٌا ؼربا وكوش جنوبا الذٌن سمحوا لهم‪ -‬وفق ما‬
‫ورد فً تقرٌر "ونً"‪ -‬باالشتراك فً معارك الجٌش بكنعان(ٕٕ)‪ ،‬لسبب ؼٌر واضح‪ ،‬حتى أصبح هإالء من أشد‬
‫معاول الخراب التً أسقطت هٌلمان الدولة القدٌمة بعد أن عرفوا أسرار الببلد ودروبها واختراق مإسساتها‪.‬‬

‫وربما كان هإالء الؽرباء ممن تسللوا فً عهود سابقة فً أطراؾ المحافظات مثل أسوان وؼرب الدلتا‬
‫والواحات ألسباب تخص هروبهم من الحروب والمجاعات فً ببلدهم فدخلوا مصر بصفة "الجبٌن"‪ ،‬أو‬
‫كتجار أو كطالبً رزق وعمل‪ ،‬أو كحراس ألبواب الحدود لكونهم أدرى بشعاب الصحاري ومداخل الحدود‬
‫لخلفٌتهم ال َقبلٌة‪ ،‬وادعوا أنهم تمصروا‪ ،‬فاطمبنت لهم الدولة‪ ،‬فكانت الطامة الكبرى‪ ..‬وانشرخ الهٌلمان‪.‬‬

‫(ٕٕ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٖ٘ٔ‬

‫‪ٗٙ‬‬
‫"لٌتنً رفعت صوتً فً ذلك الوقت حتى كنت أنقذ نفسً من األلم الذي أنا فٌه اآلن‪ ،‬فالوٌل لً‪ ،‬ألن‬
‫البإس ع َّم فً هذا الزمان"(ٔ)‬

‫(ٔ)‪ -‬الحكٌم "إٌبو ور" الب ًما نفسه على سكوته وهو ٌرى األجانب ٌستوطنون بالده والفساد ٌعم دون أن ٌحذر شبعه‪ ،‬انظر‪ :‬الحكم واألمثال‬
‫والنصابح عند المصرٌٌن القدماء‪ ،‬محرم كمال‪ ،‬األلؾ كتاب الثانً‪ ،‬ط ٕ‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ998 ،‬صٔٔ‬
‫المشهد ٗ‪ :‬سقوط الدولة المركزٌة (الزفتة األولى)‬
‫ٕٕٓٓ‪ ٔ99ٔ-‬ق‪.‬م‬

‫العقاب الشنٌع‬

‫▲▲▲ "ماعت" و"إزفت"‬

‫سمَّى أجدادنا الحق والنظام واألصول الصحٌحة لحٌاتهم ومبادبهم وشرٌعتهم بكلمة "ماعت"‪ ،‬والتً‬
‫باتباعها تعٌش مصر حٌاة سلٌمة مطمبنة هنٌة‪ ،‬وقالوا إنهم من أنزلها إلى مصر هو رع‪.‬‬

‫وٌصفها علماء المصرٌات األجانب بؤنها (النظام‪ ،‬والحق‪ ،‬والصدق‪ ،‬والعدالة‪ ،‬وحفظ التوازن الكونً‬
‫والبٌبً)(ٔ)‪ ،‬فٌما اختصرها علماء مصرٌون بتعبٌر مصري بلٌػ هو "األصول"‪ ،‬و"دستور المصرٌٌن"‪.‬‬

‫أي األصول التً تؤسست علٌها مصر فٌما ٌخص عبلقتها باإلله خالقها وبالدولة‪ ،‬وتناسبها فً نظام‬
‫الحكم المركزي واالقتصاد والعمارة والعادات والتقالٌد والعبلقات األسرٌة واألخبلق وعبلقة المصرٌٌن‬
‫ببلدهم وببعضهم وباألجانب وبالكون كله‪ ،‬بل وترسم هدؾ المصرٌٌن من الحٌاة نفسها‪.‬‬

‫ٌقول أحد أعمدة علم المصرٌات فً العالم د‪.‬علً رضوان(ٕ) إن "ماعت" بالنسبة للمصرٌٌن هً‬
‫"ناموس الحٌاة"‪ ،‬أي قانونها ودستورها‪ ،‬الذي وضعه "رع" لٌكون فٌه خٌر البشر والكون‪ ،‬وببساطة هً‬
‫"اتباع السلوك السلٌم‪ ،‬والنهج القوٌم‪ ،‬والخلق الكرٌم"‪.‬‬

‫وتحدثت نصوص األهرام ((٘‪ Pyr.ٔ99‬عن فضل إشاعة "ماعت" فً الكون‪ ،‬فنسمعها تقول‪" :‬إن السماء‬
‫تكون فً سبلم‪ ،‬واألرض تكون فً سرور‪ ،‬ذلك أنه قد أُشٌع أن الملك سوؾ ٌضع "الماعت" لتحل محل‬
‫(الباطل)"(ٖ)‪ ،‬وفً نص إصبلحات توت عنخ آمون ورد‪" :‬لقد أزاح الفوضى عن األرضٌن (الوجهٌن القبلً‬
‫والبحري) حتى تكون ماعت هً الباقٌة(ٗ)"‪ ،‬فهدؾ حٌاة المصرٌٌن هو إقامة "ماعت"‪.‬‬

‫وألنها األصول الؽٌر قابلة للتؽٌٌر مهما تبدلت األحوال والعصور‪ ،‬قال عنها الحكٌم "بتاح حتب"‪" :‬إنها‬
‫ال تتؽٌر وال تتبدل منذ زمن الذي أوجدها"‪ ،‬أي منذ الزمن الذي كان ٌحكم فٌه رع األرض مباشرة قبل أن‬
‫ٌخلق البشر لٌكونوا خلفاء له فً حكمها‪ ،‬وأوصاهم بتنفٌذ شرٌعته فً األرض "ماعت"‪.‬‬

‫وجاء فً نصوص األهرام ٘‪ Pyr, ٕٙ‬عن الحاكم الصالح أنه "الذي ٌضع الماعت فً مكان الباطل"‪،‬‬
‫أي بدل الباطل(٘)‪.‬‬

‫(ٔ)‬
‫‪ -‬المزٌد عن "ماعت" طالع كتاب ماعت فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة‪ ،‬أ َّنا مانسٌنً‪ ،‬مرجع سابق‬
‫(ٕ)‬
‫‪ -‬انظر تقدٌم علً رضوان لكتاب "الماعت‪ ..‬فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔ‪ٔ٘-‬‬
‫(ٖ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫(ٗ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫(٘)‬
‫‪-‬نفس المرجع‬
‫وٌنبه بتاح حتب إلى أن‪" :‬الذي ٌفعل الماعت فذلك الذي ٌكون بعٌدا عن الضبلل"‪ ،‬وفً موضع آخر‬
‫ٌحذر من أنه "ٌحل العقاب دابما بالذي ٌتخطى قواعدها"‪ ،‬أي ٌتعدى حدود الماعت(‪.)ٙ‬‬

‫وسجَّ ل الفبلح الفصٌح فً شكواه الثالثة إلى المسبول الحكومً‪" :‬إن صبلح األرض (مصر) ٌنحصر فً‬
‫تطبٌق الماعت"(‪ ،)9‬أي الحق واألصول‪.‬‬

‫ومجلس ماعت (محكمة األرباب) هو الذي قضى بحق حور (حورس) فً عرش مصر خلفا ألبٌه‬
‫أوزٌر(‪ )8‬بعد أن سٌطر علٌه "سٌت" فً أقدم قصة مصرٌة تحكً انتصار الحق على الباطل‪.‬‬

‫ولشرٌعة "ماعت" أكبر األثر فً تشكٌل شخصٌة المصرٌٌن ونفسٌتهم‪ ،‬فانعكست على أعمالهم‪ ،‬بل‬
‫وعلى وجوههم‪ ،‬سواء الحقٌقٌة أو التماثٌل‪ ،‬فتحب النظر فٌها‪ ،‬ألنها تشعرك بالسماحة والسكٌنة والطمؤنٌنة‬
‫والحٌوٌة واألمل‪ ،‬وترى فٌها حبلوة مهما كان حظ مبلمحها من الجمال‪.‬‬

‫وفً مقابل "ماعت" توجد الفوضى‪ ،‬وهً تطفو بضٌاع الحق واألصول‪ ،‬وتشتت الفكر‪ ،‬وانهٌار األخبلق‬
‫والحكومة المركزٌة التً تحفظ وحدانٌة مصر ومبادبها‪ ،‬وبفتح الحدود أمام الهجرات األجنبٌة القادمة‬
‫بهوٌات ومطامع وأرواح معاكسة لـ ماعت‪ ،‬وسمى األجداد هذه الفوضى بـ "إزفت"‪ ،‬وهً الكلمة التً ما‬
‫زلنا نستخدمها حتى الٌوم‪ ،‬بنطقها "زفت" أو "زفتة"‪ ،‬وتعنى الباطل والخراب والضٌاع والمذلة‪ ،‬وهً الشر‬
‫الذي من أهداؾ حٌاة المصرٌٌن محاربته تقربا إلى اإلله‪.‬‬

‫ولم ٌترك لنا األجداد كتابا جامعا لقوانٌن ومبادئ "ماعت"‪ ،‬أو ربما تركوا ولكن لم ٌعثر علٌه العلماء‪،‬‬
‫لكنهم تركوا مقتطفات تدل علٌها‪ ،‬من نصابح وتعالٌم الحكماء فً التربٌة والسلوكٌات والمعامبلت مع اإلله‬
‫والناس والحٌوانات والنباتات والبٌبة والتجارة‪ ،‬أو فً نظام حكم مصر نسبوها لـ"ماعت"‪ ،‬وتعالٌم وأوامر‬
‫الحكام للوزراء عن الطرٌقة األحسن لمعاملة الناس‪ ،‬وعن دور الحاكم فً األرض ونسبوها لـ"ماعت"‬
‫وتقالٌد مصر فً التعامل مع الشعوب األخرى خبلل أحداث التارٌخ فً السلم أو حٌن ؼزوا مصر‪ ،‬والتً‬
‫استقوها أٌضا من "ماعت"‪.‬‬

‫▲▲▲ (دستور المصرٌٌن)‬

‫أبرز مبادئ "ماعت" (األصول) لعمار مصر‪:‬‬

‫ٔ‪ -‬األخبلق الطٌبة وتقوى الٌوم اآلخر‬

‫ٕ‪ -‬حٌاة المصرٌٌن مع بعضهم قابمة على اإلخوة والتعاون‬

‫(‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫(‪)9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫(‪)8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬

‫‪ٗ9‬‬
‫ٖ‪ -‬هدؾ حٌاة المصري نصرة اإلله الخالق على الشٌطان‬

‫ٗ‪ -‬وظٌفة الحاكم تطبٌق "ماعت" باعتباره خلٌفة لئلله (صانع ماعت) فً حكم مصر‬

‫٘‪ -‬الحكم المركزي للدولة‬

‫‪ -ٙ‬النظام الهرمً فً عبلقات األسرة‪ ،‬وإدارة الحكم‬

‫‪ -9‬منع ظهور مراكز قوى اقتصادٌة أو اجتماعٌة تناطح الحكومة‬

‫‪ -8‬السبلح حصري بٌد الدولة‬

‫‪ -9‬مصر فوق الجمٌع‬

‫ٓٔ‪ -‬مصر أمة بذاتها‪ ،‬حصرٌة ألهلها‬

‫ٔٔ‪ -‬الٌقظة الدابمة لبوابات حور (الحدود) وطرد المتسللٌن أوال بؤول‬

‫ٕٔ‪ -‬االعتماد على البٌبة المصرٌة فً تدبٌر احتٌاجات الببلد‬

‫ٖٔ‪ -‬منع استٌراد هوٌة من الخارج فً الفن والثقافة واالقتصاد والدٌن والحكم وحتى المظهر‬

‫ٗٔ‪ -‬العبلقات مع الببلد األخرى فً حدود التعاون لتبادل التجارة والخبرات بما ٌحفظ مصلحة مصر‪ ،‬ال‬
‫اندماج وال انصهار‬

‫٘ٔ‪ -‬نسالم من ٌسالمنا‪ ،‬نعادي من ٌعادٌنا‬

‫‪ -ٔٙ‬إحٌاء ذكرى وحكمة األجداد ورموز مصر‬

‫العدَ ل والوسطٌة فً كل أمر‬


‫‪َ -ٔ9‬‬

‫▼▼▼ دستور الشٌطان لمصر‬

‫أبرز أسلحة "إزفت" (الفوضى والهرم المقلوب) إلسقاط مصر‪:‬‬

‫ٔ‪ -‬ضٌاع األخبلق وانتشار اإللحاد‬

‫ٕ‪ -‬حٌاة المصرٌٌن مع بعضهم تقوم على التناحر والتنافس‬

‫ٖ‪ -‬هدؾ الحٌاة نصرة الشٌطان على اإلله الخالق‬

‫ٓ٘‬
‫ٗ‪ -‬الحاكم سلطته شكلٌة وال وصاٌة للدولة فً حفظ مبادئ وهوٌة المصرٌٌن‬

‫٘‪ -‬الدولة البلمركزٌة‬

‫‪ -ٙ‬العشوابٌة وزوال الحدود فً العبلقات األسرٌة وفً نظام الحكم‬

‫‪ -9‬ظهور مراكز قوى اقتصادٌة واجتماعٌة تناطح الدولة فً الحكم والقرار‬

‫‪ -8‬السبلح مشاع للجمٌع‬

‫‪ -9‬تشتت الوالءات لتٌارات ومذاهب وجماعات بعٌدا عن مصر‬

‫ٓٔ‪ -‬مصر مشاع لكل الشعوب (تدوٌل مصر(‪))9‬‬

‫ٔٔ‪ -‬التراخً فً حماٌة بوابات حور (الحدود) من تسلل األجانب‪ ،‬وقبول توطٌنهم‬

‫ٕٔ‪ -‬اإلسراؾ فً استٌراد البضابع‬

‫ٖٔ‪ -‬استٌراد الهوٌات األجنبٌة ونظم الحٌاة والحكم المعلبة‬

‫ٗٔ‪ -‬العبلقات مع العالم تتعدى حدود التعاون‪ ،‬إلى االندماج واالنصهار‬

‫٘ٔ‪ -‬نعادي من ٌسالمنا‪ ،‬نسالم من ٌعادٌنا‪ ،‬ونكافبه‬

‫‪ -ٔٙ‬تحقٌر األجداد وترك رموز مصر إلى الرموز األجنبٌة‬

‫‪ -ٔ9‬التطرؾ فً كل أمر‬

‫هذه النقاط لم ترد نصا هكذا فً بردٌة واحدة‪ ،‬ولكنها خبلصة ٌستشفها الباحثون فً النصوص المتعلقة‬
‫بـ ماعت‪ ،‬و وصٌة حور (وصٌة العهد) السابق اإلشارة إلٌها‪ ،‬واألوامر والنواهً فً وصاٌا الحكماء‬
‫واألجداد‪ ،‬وفً الخطوات التً اتخذها األجداد وأدت لصعودهم‪ ،‬وأٌضا التً اتخذوها وأدت لسقوطهم‪ ،‬كذلك‬
‫من الدساتٌر ووثابق العمل السرٌة والمعلنة للتنظٌمات الدولٌة السرٌة التً ظهرت فً القرون األخٌرة‬
‫وأعلنت بوضوح خططها ووسابلها لنشر الفوضى "إزفت" والحروب فً العالم‪ ،‬وكان لمصر من شرورها‬
‫وخططها نصٌب كبٌر كما سٌتضح فً فصول الحقة(ٓٔ)‪.‬‬

‫(‪)9‬‬
‫‪ -‬كلمة "تدوٌل مصر" هدؾ حقٌقً ألعادي مصر فً القدٌم والحدٌث‪ ،‬ووردت على لسانهم صرٌحة‪ ،‬ومنهم وزٌر المستعمرات البرٌطانً ألفرد‬
‫ملنر وقت ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬حٌن دعا لتحوٌل مصر إلى مصب وموطن للجالٌات األجنبٌة‪ ،‬وتصطبػ كل مدٌنة فٌها بصبؽة أجنبٌة وٌكون لألجانب‬
‫السٌطرة‪ ،‬وسنتابع هذا عند الحدٌث عن توطٌن الهجرات فً مصر خصوصا من االستٌطان اإلؼرٌقً‪ ،‬مرورا باالحتالل اإلنجلٌزي‪ ،‬وصوال لقوانٌن‬
‫التجنٌس والتوطٌن الحالٌة‪.‬‬
‫(ٓٔ)‬
‫‪ -‬لمراجعة هذا انظر كؤمثلة‪ :‬ماعت فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ماعت مصر الفرعونٌة وفكرة العدالة االجتماعٌة‪ٌ ،‬ان‬
‫آسمان‪ ،‬فجر الضمٌر‪ ،‬جٌمس هنري برٌستٌد‪ ،‬ترجمة سلٌم حسن‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،ٕٓٔٔ ،‬تارٌخ الشرق األدنى‪ -‬مصر والعراق‪،‬‬

‫ٔ٘‬
‫▲▲▲ "كتالوج مصر"‬

‫تدور هذه األٌام‪ ،‬خاصة بعد ثورة ٖٕٔٓ‪ ،‬عبارة تقول إن من عبقرٌة مصر أن شعبها "مالوش كتالوج"‪،‬‬
‫أي ال ٌتوقع أحد كٌؾ سٌتصرؾ فً المصاعب التً تواجهه‪.‬‬

‫وللحق‪ ،‬وللتارٌخ‪ ..‬هذه عبارة خاطبة تماما‪ ،‬بل مضللة‪ -‬ولو عن ؼٌر قصد‪ -‬فالشعب "اللً مالوش‬
‫كتالوج" هو شعب "مالوش أصول راسخة وال هوٌة"‪ ،‬فبل مٌراث تارٌخً أودستور أخبلقً وفكري ٌسٌر‬
‫علٌه‪ ،‬وشعب ؼٌر متجانس؛ لذا ٌصعب علٌه وعلى ؼٌره التنبإ بردود فعله‪ ،‬وشعب كهذا عند األزمات‬
‫والمخاطر ٌتشتت وال ٌصمد‪ ،‬وٌنهار كبٌت من الرمل مع خبطة أول موجة‪.‬‬

‫أما شعب مصر‪ ،‬أقدم وأرسخ أهل األرض كشعب واحد له هوٌة ورسالة‪ ،‬فإنه ابن أصول وطبع وهوٌة‬
‫واضحة كشمس رع(ٔٔ)‪ ،‬والشعوب األخرى تعرفه‪ ،‬أما من ال ٌتوقع ردود فعله فً بعض المواقؾ‪ ،‬فهذا‬
‫جهل منه بطبٌعته وتارٌخه‪ ،‬أو ظن أن الخطط التً وضعت لتدمٌر وإفساد المصرٌٌن فً العصور األخٌرة‬
‫أتت ثمارها ودمرته تماما‪.‬‬

‫فللمصرٌٌن ""كتالوج"‪ ،‬بل ولهم "كتالوج للصعود والعمار"‪ ،‬واضح جدا هو‪ ،‬ماعت‪ ،‬وآن األوان أن‬
‫ٌنتبهوا له‪ ،‬فحٌنما ٌتبعونه ٌنجون من كل مكٌدة وتوهان‪ ،‬ولهم "كتالوج للسقوط والدمار" واضح جدا‪ ،‬هو‬
‫إزفت‪ ،‬حٌنما ٌتبعونه ٌسقطون أشنع سقطة‪.‬‬

‫وسجَّ ل هذا لنا بتاح حتب فً األسرة ٘‪:‬‬

‫"إن الذي ٌفعل الماعت فذلك الذي ٌكون بعٌدا عن الضبلل"‪ٌ" ،‬حل العقاب دابما بالذي ٌتخطى‬
‫قواعدها"(ٕٔ)‪.‬‬

‫وهنا‪ ..‬نبدأ أمثلتنا الشاهدة على ذلك من تارٌخنا القدٌم وحتى اآلن‪ ،‬التً ألجلها ٌخرج هذا الكتاب‪ ،‬وفٌها‬
‫نختبر صحة أو خطؤ ما ورد فً المبادئ الـ ‪ ٔ9‬من "دستور عمار مصر"‪ ،‬و"دستور سقوط مصر"‪ ،‬أي‬
‫"أصول حٌاة المصرٌٌن"‪ ،‬و"دستور الشٌطان"‪.‬‬

‫▲▲▲ السقوط الكبٌر‬

‫فٌما ٌخص مكانة "ماعت" و"إزفت" فً العصر العتٌق والدولة القدٌمة‪ ،‬فإنه على مدار ألؾ سنة (منذ‬
‫مٌنا حتى األسرة ‪ )ٙ‬اتبعت مصر كما رأٌنا وصفة عمارها وهً "ماعت"؛ فقام بها نظام قومً ثابت‬

‫عبد العزٌز صالح‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬مصر الفرعونٌة‪ ،‬أحمد فخري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬الوعً السٌاسً عند قدماء المصرٌٌن‪ ،‬فاٌز أنور عبد المطلب‪،‬‬
‫الهٌبة العامة للكتاب‪ ،‬سلسلة تارٌخ المصرٌٌن‪ ،‬أحجار على رقعة الشطرنج ولٌم جاي كار‪ ،‬ترجمة سعٌد جزابرلً‪ ،‬دار النفابس‪ ،‬الماسونٌة‬
‫والماسون فً مصر ‪ ، ٔ9ٙٗ -ٔ798‬وابل إبراهٌم الدسوقً‪ ،‬دار الكتب والوثابق القومٌة‪ ،‬الشٌطان أمٌر العالم‪ ،‬ولٌم جاي كار‪ ،‬ترجمة عماد‬
‫إبراهٌم‪ ،‬األهل ٌة للنشر والتوزٌع‪ ،‬بروتوكوالت حكماء صهٌون‪ ،‬فكتور ماسدون‪ ،‬الحرٌة للنشر والتوزٌع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الفكر الفلسفً فً مصر القدٌمة‪،‬‬
‫د‪ .‬مصطفى النشار‪ ،‬الدار المصرٌة السعودٌة للنشر والتوزٌع‪ ،‬طٔ‪.‬‬
‫(ٔٔ)‬
‫‪ -‬شمس رع مقصود بها فً ثقافة األجداد أي "الشمس فً عز الضهر"‪ٌ ،‬عنً فً أقوى مراحلها وأكثرها ضٌا ًء وإشعاعا‬
‫(ٕٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تقدٌم علً رضوان لكتاب "الماعت‪ ..‬فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔ‪ٔ٘-‬‬

‫ٕ٘‬
‫األركان‪ٌ ،‬مثله وٌحافظ علٌه الحاكم بصفته ناببا عن هللا فً تطبٌق "ماعت" على األرض(ٖٔ)‪ ،‬وأثمرت‬
‫أعظم اإلنجازات التً ما زالت تبهر الدنٌا حتى الٌوم‪.‬‬

‫لكن‪ ..‬نهاٌة األسرة ‪ ٙ‬سقطت مصر فً واحدة من أشنع "الزفتات" فً تارٌخها‪ .‬فكٌؾ تركت نفسها‬
‫لتسقط هكذا؟‬

‫❶ طاعون الالمركزٌة‬

‫بدأ انهٌار مصر تدرٌجٌا فً األسرة ‪( ٙ‬التً استمرت ٓ‪ ٕٙ‬عاما) باتباع حكامها وبعض مثقفٌها‪ -‬ببل‬
‫وعً‪ -‬وصفة الفوضى "إزفت"؛ فنهشتها الطواعٌن بكل وحشٌة وقسوة‪.‬‬

‫ففً ذلك العصر كثرت عطاٌا الحكام من األراضً لكبار رجال الدولة‪ ،‬وبمرور الوقت تضخمت‬
‫الثروات فً أٌدٌهم‪ ،‬وتكونت عاببلت ذات سطوة‪ ،‬وفً نهاٌة األسرة اهتزت هٌبة الحاكم وقوة الحكومة‬
‫المركزٌة مع مطامع مراكز القوة الصاعدة‪ -‬الموظفٌن الكبار والعاببلت الثرٌة‪ -‬فً االستحواذ على نصٌب‬
‫من السلطة(ٗٔ)‪ ،‬وصار لهم فعبل فً محافظاتهم سلطة وكلمة قوٌة فً اإلدارة تساوت مع سلطة حاكم الدولة‪،‬‬
‫بل وزادت علٌها فً النهاٌة‪ ،‬وبالتدرٌج بسطوا نفوذهم على معابدها وضراٌبها‪.‬‬

‫ومع الزمن‪ ،‬اعتبر بعض المحافظٌن أن المحافظات ( ُتسمى فً كتاب علماء اآلثار أقالٌم) حكرا خاصا‬
‫على عاببلتهم فً مناصبها وإدارتها ومالها‪ ،‬حتى فً أمور القضاء‪ ،‬ووصلوا لدرجة تورٌث المنصب‬
‫ألوالدهم بعد أن كان منصب المحافظ بالتعٌٌن من جانب الحكومة‪ ،‬وامتنعوا عن إرسال الضراٌب وعابدات‬
‫الموارد للخزٌنة العامة بالعاصمة منؾ‪ ،‬وعن إرسال الشباب للتجنٌد‪ ،‬فانهار أعظم ما تم بناء مصر على‬
‫أساسه‪ ،‬وهو الدولة المركزٌة الحازمة ونظامها الهرمً(٘ٔ)‪.‬‬

‫وانعكس هذا على موظفً الدولة األصؽر‪ ،‬ففً رسالة رد بها قابد صؽٌر على وزٌر عصره‪ ،‬رفض‬
‫طلبا له بؤن ٌذهب مع فرقة من الجند ٌعملون فً طرة إلى العاصمة لتوزٌع الكساوي علٌهم فً احتفال‬
‫خاص‪ ،‬وقال القابد للوزٌر إن هذا األمر ٌتطلب التضحٌة بـ ‪ ٙ‬أٌام هو أحوج إلٌها ألداء ما أوكل إلٌه من‬
‫المهام‪ ،‬أما توزٌع المبلبس على الجند فٌمكن أن ٌتم فً ٌوم واحد إن أرسلها الوزٌر إلى الجند فً مكانهم‬
‫مع رجال البرٌد(‪.)ٔٙ‬‬

‫و ؼٌر الواضح ما الذي دفع الحكام إلى الصمت أمام توسٌع صبلحٌات المحافظٌن وكبار األؼنٌاء فً إدارة‬
‫الدولة‪ ،‬إال ما تكشفه آثار قلٌلة عن دخول العٌلة الحاكمة فً عبلقات نسب معهم وتزاوج السلطة والمال‪ ،‬فمثبل‬

‫(ٖٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬موسوعة مصر القدٌمة‪ ،‬سلٌم حسن‪ ،‬ج ‪ ،ٔ7‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬ص ٖ‪ٕ9‬‬
‫(ٗٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬فجر الضمٌر‪ ،‬جٌمس هنري برٌستٌد‪ ،‬ترجمة سلٌم حسن‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬ص ٖ٘ٔ‬
‫(٘ٔ)‬
‫‪ -‬خالل فوضى ٌناٌر ٕٔٔٓ ظهرت دعوات النتخاب المحافظٌن بدال من التعٌٌن وتوسٌع صالحٌاتهم بحجة الدٌمقراطٌة‪ ،‬فٌما كانت أحزاب‬
‫أسسها رجال أعمال خصٌصا لالنتخابات وتنظٌم اإلخوان الدولً وعابالت معٌنة تتحفز القتناص منصب المحافظ‪ ،‬ولو حدثت فعال انتخابات‬
‫للمحافظٌن لصارت محافظات مصر خالل ٓٔ سنوات مقسمة إقطاع للحزب الفالنً‪ ،‬وإقطاع لرجل األعمال العالنً‪ ،‬وأخرى لعابلة التالنً‪ ،‬وتلك‬
‫لإلخوان‪ ،‬إلخ‪ ،‬وتؤخذ المحافظات صبؽات دٌنٌة وحزبٌة متصارعة‪ ،‬وتنفلت عرى مصر تماما‪.‬‬
‫(‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓٗٔ‬

‫ٖ٘‬
‫ورث ببً الثانً فً نهاٌة األسرة ‪ ٙ‬الحكم عن أبٌه ببً األول وهو طفل ابن ‪ ٙ‬سنٌن‪ ،‬فصار الوصً علٌه‬
‫أمه وخاله‪ ،‬وكان خاله من أسرة لها سلطة فً الوجه القبلً‪ ،‬وأتاح صؽر سن ببً الثانً له إدارة شبون‬
‫الدولة ككل‪.‬‬

‫وش َّكل ضعؾ شخصٌة ببً الثانً عامبل إضافٌا لطمعهم فً مزٌد من السلطة‪ ،‬وإلى جانب ذلك طال‬
‫حكم ببً الثانً إلى فترة مهولة‪ 9ٓ ،‬سنة (مات وعمره حوالً ‪ 9ٙ‬سنة)‪ ،‬فلم تتوفر فرصة لظهور حاكم‬
‫قوي ٌزٌل آثار أخطاء سابقٌه قبل أن تستفحل(‪.)ٔ9‬‬

‫فلت الزمام من ٌد الحكومة المركزٌة‪ ،‬حتى عجزت عن أن تفرض علً المحافظٌن تطهٌر قنوات الري‬
‫وصٌانتها لضمان توزٌع مٌاه الفٌضان وإدارة الزراعة بما ٌحمً الببلد من فترات الجفاؾ(‪.)ٔ8‬‬

‫❷ طاعون توطٌن األجانب‬

‫واستفحل األمر باستعانة محافظٌن باألجانب الذٌن تسللوا واستوطنوا مصر فً عمل فرق قتالٌة تشتؽل‬
‫لصالحهم‪ ،‬فعاثوا فً األرض فسادا فً األرض دون خشٌة من الحكومة(‪ ،)ٔ9‬وٌبدو أنهم من نسل األجانب‬
‫المستمصرٌن زورا أٌام قابد الجٌش "ونً" فً األسرة ٘‪ ،‬واستقدموا آخرٌن من خلؾ الحدود‪ ،‬واكتشفت‬
‫الحكومة متؤخرا أن أعناقهم ما زالت تشرأب لحكم مصر نفسها‪.‬‬

‫وإضافة لهإالء‪ ،‬تضخم الخطر األجنبً فً مصر بالهجرات األمورٌة(ٕٓ) التً كسر "ونً" شوكتها فً‬
‫فلسطٌن فً عهد "ببً األول"‪ ،‬فقد تجرأت على حدود مصر من جدٌد‪ ،‬وهددوا طرق تجارتها مع الشام‪ ،‬ثم‬
‫تسربت إلى أراضً الدلتا لتستقر فٌها‪ ،‬وعجزت الحكومة المفككة عن تؤدٌبهم وإلزامهم حدود الطاعة(ٕٔ)‪.‬‬

‫وترتب على هذه األوضاع انتشار الفساد‪ ،‬وقلة محاكمة الفاسدٌن‪ ،‬واإلهمال فً رعاٌة مشارٌع الري‪،‬‬
‫فانتشر السخط بٌن الناس‪ ،‬وزاد السخط أكثر بتجرإ األجانب المستوطنٌن على المصرٌٌن بعد أن تعلموا‬
‫حرفهم وأسرارهم‪ ،‬ولم ٌردعهم شًء عن نشر الجرابم والنهب‪ ،‬وساعدهم فً ذلك تسلح من التحق منهم‬
‫بالجٌش والخدمات األمنٌة‪ ،‬وقدوم ؼزوات جدٌدة من الشرق استؽلت الحدود المهملة‪.‬‬

‫عبرت عن هذه األحوال بردٌة مشهورة باسم بردٌة الحكٌم "إٌبو ور" أي إٌبو العظٌم(ٕٕ)‪ ،‬وهو رجل‬
‫ٌبدو من حدٌثه المتسم بالفجٌعة فً البردٌة أنه كان معاصرا لؤلحداث‪ ،‬وذا مقام رفٌع‪ ،‬وبعد أن سرد صورا‬

‫(‪)ٔ7‬‬
‫‪ -‬استمر حكم ببً الثانً ٓ‪ 9‬سنة‪ ،‬ألنه حكم‪ ،‬اسمٌا‪ ،‬فً عمر السادسة‪ ،‬وعاش حتى عمر الـ ‪ 9ٙ‬عاما‪ ،‬وهو أطول حكام مصر فً تارٌخها‬
‫عمرا وحكما بعد رمسٌس الثانً الذي حكم ٓ‪ ٙ‬عاما‪ ،‬واالثنان من االستثناءات النادرة فً هذا األمر فً تارٌخ مصر كله‪.‬‬
‫(‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬نٌكوال جرٌمال‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔ79‬‬
‫(‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق ص ٕٗٔ‬
‫(ٕٓ)‬
‫‪ -‬الهجرات األمورٌة صارت من المكونات األساسٌة لسكان الشام فً ذلك الزمان‪ ،‬ولم تفقد طموحها فً ؼزو مصر رؼم الخساٌر التً تكبدتها‬
‫على ٌد الجٌش المصري‪ ،‬فهم ال ٌنسون هدفهم‪ ،‬ولكنهم فً نفس الوقت ال ٌصلون إلٌه إال إذا ؼفلت مصر عن خطرهم وآمنت لهم وهم ٌتسللون‬
‫إلٌها على دفعات فً ستار تاجر أو عامل أو الجا إلخ‪.‬‬
‫(ٕٔ)‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪،‬ص ٕٗٔ‬
‫(ٕٕ)‬
‫‪ -‬البردٌة مشهورة كذلك باسم بردٌة "لٌدن"‪ ،‬نسبة إلى متحؾ لٌدن الهولندي المحفوظة به اآلن‪ ،‬وممزق منها األجزاء التً تحتوي اسم الملك فً‬
‫ذلك العصر ونهاٌة األحداث‪.‬‬

‫ٗ٘‬
‫باكٌة لها‪ ،‬وجه اللوم الشدٌد للحاكم فً ذلك الوقت‪ ،‬محمبل إٌاه نصٌبا كبٌرا من المسبولٌة‪ ،‬ألنه كان ٌرى‬
‫األمور تستفحل واألجانب ٌتزاٌدون فً الببلد‪ ،‬وال ٌحرك ساكنا‪.‬‬

‫فعن سٌطرة األجانب على الحرؾ والصناعات فً الببلد بعد أن تعلموها واحتكروها وقللوا فرصة أهلها‬
‫فً العمل قال "إٌبو ور"‪" :‬انظر! ال صانع ٌعمل‪ ،‬والعدو ٌحرم الببلد حرفها(ٖٕ)"‪ ،‬و"أصبح األجانب‬
‫مصرٌٌن فً كل مكان"؛ أي تجرأوا على أن ٌضعوا أنفسهم موضع المصرٌٌن فً هذا االنقبلب العام (ٕٗ)‪.‬‬

‫وألن األجانب معتادون على حمل السبلح فً ببلدهم نقلوا هذا األمر لمصر‪ ،‬فانتشر السبلح فً‬
‫الشوارع‪ ،‬وفً هذا ٌشكو "إٌبو ور"‪(" :‬والببلد) مؤلى بالعصابات‪ ،‬وٌذهب الرجل لٌحرث ومعه درعه‪...‬‬
‫حقا فإن الوجه قد شحب‪ ،‬وحامل القوس أصبح مستعدا‪ ،‬والمجرمون فً كل مكان‪ ،‬وال ٌوجد رجل من‬
‫رجال األمس‪ ...‬حقا إن الناهبٌن فً كل مكان(ٕ٘)"‪.‬‬

‫وحامل القوس صفة أطلقها المصرٌون بشكل عام على القباٌل التً تهاجم الحدود من حٌن آلخر‪ ،‬ألنها‬
‫تهاجم المصرٌٌن من على بعد برمً األقواس لتتجنب مواجهتهم فً فترات قوتهم‪.‬‬

‫وٌواصل "إٌبو ور"‪" :‬حقا فإن المواطنٌن قد ألقً بهم على أحجار الطواحٌن‪ .‬وهإالء الذٌن كانوا‬
‫ٌرتدون الكتان الجمٌل أصبحوا ٌُضربون(‪" ،")ٕٙ‬لقد أصبح بناءو (األهرام) عماال فً الحقول(‪ ،")ٕ9‬بعد أن‬
‫توقفت حركة بناء المشارٌع العظٌمة‪.‬‬

‫وإذا ما سقطت الدولة الحاكمة‪ ،‬وانتشرت عادات األجانب‪ ،‬وانفتحت شهٌتهم للنهب‪ ،‬وصار صوت‬
‫الفاسد هو األعلى‪ٌ ،‬حل ؼضب اإلله‪ ،‬وتؽوص "ماعت" فً الظبلم‪ ،‬فتذبل األخبلق‪ ،‬وٌجد الشٌطان فرصته‬
‫لتحرٌك النفوس الضعٌفة‪ .‬وفً ذلك حكى "إٌبو ور"‪" :‬حقا لقد‪ ...‬عمت الوقاحة (فً كل الببلد) عند كل‬
‫الناس‪ .‬والرجل ٌقتل أخاه من أمه‪ .‬فما العمل فً ذلك؟(‪.")ٕ8‬‬

‫بل وصل األمر للتجرإ على مإسسات الدولة‪ ،‬بما فٌها المحاكم (مقر ماعت) ذات القدسٌة فً النفوس‪.‬‬

‫وٌصؾ "إٌبو ور" هذا المشهد الذي ندهش لتكراره فً تارٌخ مصر كثٌرا فً زمن االحتبلالت وحتى‬
‫فوضى ٕٔٔٓ‪" :‬لقد سلبت كتابات قاعة المحاكمة الفاخرة‪ ،‬وأصبح المكان السري مكشوفا (‪ )...‬وفً الحق‬
‫لقد فتحت اإلدارات العامة‪ ،‬ونهبت قوابمها‪ ،‬وصار العبٌد أصحاب العبٌد‪ ،‬وفً الحق لقد ذبح الموظفون‬
‫وسُلبت قوابمهم‪ ،‬فتعسا لً بسبب البإس فً مثل هذا الزمن! (‪.")ٕ9()...‬‬

‫(ٖٕ)‬
‫‪ -‬موسوعة مصر القدٌمة‪ ،‬سلٌم حسن‪ ،‬الجزء ‪ ،ٔ9‬الهٌبة العامة للكتاب‪ ،‬مشروع مكتبة األسرة‪ ،ٕٓٓٓ ،‬ص ‪ٕ99‬‬
‫(ٕٗ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕٖٓ‬
‫(ٕ٘)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖٖٓ‬
‫(‪)ٕٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٖٓٙ‬‬
‫(‪)ٕ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖ٘ٓ‬
‫(‪)ٕ8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع ص ‪ٖٓ7‬‬
‫(‪)ٕ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع ص ‪ٖٓ8‬‬

‫٘٘‬
‫وٌستمر فً وصفه بحسب ترجمة د‪ .‬سلٌم حسن‪" :‬ألقٌت قوانٌن دار القضاء فً العراء‪ ،‬ووطبت باألقدام‬
‫فً الشوارع‪ ،‬ومزقها الؽوؼاء فً األزقة‪ ،‬وأخذ العوام ٌروحون وٌجٌبون فً دور (القضاء الكبٌرة)‪ ،‬و ُنفِى‬
‫القضاة فً األرض‪ ،‬واحترقت البوابات واألعمدة واألسوار(ٖٓ)"‪.‬‬

‫ووفق سلٌم حسن فً سفره الضخم "موسوعة مصر القدٌمة" فإن هذا السلوك ٌعبر عن منتهى سقوط‬
‫الدولة وقتها‪ ،‬فقد "كانت هذه فعلة شنعاء فً نظر النظام المصري؛ إذ كان سحب الكتابات والوثابق من‬
‫المصالح العامة لبلستشهاد بها أو لئلطبلع علٌها من األمور المنظمة تنظٌما دقٌقا(ٖٔ)"‪.‬‬

‫ووصل األمر لمنتهاه‪ ،‬وربما الهدؾ من كل هذه الفوضى‪ ،‬فٌقول "إٌبو ور"‪" :‬لقد تجاسر بعض الخوارج‬
‫فحرموا الببلد ال َملَكٌة (الحكم المركزي)(ٕٖ)‪ ..‬انظر! إن سر األرض (مصر) الذي ال ٌعرؾ أحد حدوده قد‬
‫أفشً‪ ،‬وأصبح مقر الملك رأسا على عقب‪ ..‬انظر! إن مصر قد أصبحت تصب الماء ]لؽٌرها[(ٖٖ)"‪.‬‬

‫و"تصب الماء لؽٌرها" أي أن مصر تبدل حالها من أنه بعد أن كان الجمٌع ٌخدمها‪ ،‬باتت تخدم ؼٌرها‬
‫من األجانب‪.‬‬

‫وٌكمل الحكٌم مندهشا ملتاعا‪" :‬واألجانب الذٌن كانو ٌخشونها والذٌن عرؾ الشعب (تفاهتهم) أصبحوا‬
‫ٌقولون لن تستطٌع مصر أن تؤتً شٌبا‪ ،‬فالرمال (المحٌطة بها) هً كل حماٌتها!(ٖٗ)"‪.‬‬

‫وظهر عجز الدولة عن كبح جماح الجنود األجانب فً جٌشها بحٌث "أصبحت خٌرات مصر نهبا‬
‫مشاعا" لكل من نزلها من ؼٌر أهلها‪ ،‬بحسب عبد العزٌز صالح مترجما بدوره قول "إٌبور ور" عن هذا‪:‬‬
‫"إن الجنود الذٌن جندناهم من أجل صالحنا أصبحوا ضمن األسٌوٌٌن‪ ،‬أال بعدا للخراب الذي حدث (فً‬
‫مصر)‪ ،‬فقد جعل األسٌوٌٌن ٌعرفون أحوال الببلد(ٖ٘)"‪.‬‬

‫وربما المعنى أن المجندٌن من اللٌبٌٌن والكوشٌٌن انضموا للمستوطنٌن وللؽزاة القادمٌن من الشام فً‬
‫تحالؾ ضد مصر لنشر الفتن والسٌطرة علٌها بعد أن عرفوا أسرارها لطول إقامتهم‪.‬‬

‫وعجزت الدولة عن صد هجرات جدٌدة للبدو استؽلت األمر؛ فتجاوزوا حدودها‪ ،‬وتسربوا إلى أراضً‬
‫الدلتا‪ ،‬وشاركوا المصرٌٌن معاٌشهم‪ ،‬واعتبروا أنفسهم من أصحاب الببلد وخاصة أهلها(‪.)ٖٙ‬‬

‫(ٖٓ)‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔ‪ٖٙ‬‬
‫(ٖٔ)‬
‫‪ -‬موسوعة مصر القدٌمة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬هامش ص ‪ٕ97‬‬
‫(ٕٖ)‬
‫‪ -‬الملكٌة هنا المقصود بها الدولة وأركانها‪ ،‬ولٌس المقصود نوع الحكم ملكً وجمهوري كما فً العصر الحدٌث‪ ،‬وسر األرض مقصود به‬
‫أسرار مصر وأسرار الحكم والوثابق الهامة‪.‬‬
‫‪ -‬تكرر هذا األمر عدة مرات فً عصور الحقة خالل االحتالالت‪ ،‬كما تكرر فً أحداث ٌناٌر ٕٔٔٓ حٌن تجرأ البعض على اقتحام مإسسات الدولة‬
‫مثل مقرات أمن الدولة والمحاكم وأقسام الشرطة بحجة السخط على الحكومة‪ ،‬وإن كان اختٌار تلك األماكن والجرأة علٌها ؼٌر بعٌد عنه تخطٌط‬
‫أجنبً تورط فٌه بعض المتظاهرٌن الؽافلٌن‪ ،‬مثلما ٌبدو أن حدث فً األسرة ‪.ٙ‬‬
‫(ٖٖ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٖٓ9‬‬
‫(ٖٗ)‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖ٘9‬‬
‫(ٖ٘)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٓ‪ٖٙ‬‬
‫(‪)ٖٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬

‫‪٘ٙ‬‬
‫وٌواصل الحكٌم فً واأللم ٌحز فً نفسه شارحا كٌؾ استؽلت القباٌل والجماعات التً تراقبنا وتترصد‬
‫أحوالنا وراء الحدود‪ ،‬كٌؾ استؽلت هذه الفوضى لتضرب ضربتها‪" :‬تخربت األقالٌم‪ ،‬وتوافدت قبابل قواسة‬
‫ؼرٌبة إلى مصر‪ ،‬ومنذ أن وصلوا لم ٌستقر المصرٌون فً أي مكان (‪ )...‬وأصبح األجانب مصرٌٌن فً‬
‫كل مكان‪ ...‬وأولبك الذٌن كانوا مصرٌٌن أصبحوا أؼرابا وأهملوا جانبا"‪.‬‬

‫فصار المصرٌون أؼرابا فً أوطانهم‪ٌ ،‬عاملون كؤنهم من درجة أقل من األجانب‪ ،‬وانطبق علٌهم حقا‬
‫المثل المصري‪" :‬البٌت بٌت أبونا‪ ،‬والؽرب بٌطردونا"‪ ،‬وكان من الطبٌعً أن ٌعز األمن فً البلد‪:‬‬
‫سار بلٌل فٌنهبون ما ٌحمله‬
‫ٍ‬ ‫"(ٌقولون) الطرق محروسة‪ ،‬ولكن القوم ٌختببون على األشجار حتى ٌؤتً‬
‫وٌسلبونه ما علٌه‪ ،‬وٌشوهون وجهه بالعصا‪ ،‬وربما قتلوه ظلما(‪.")ٖ9‬‬

‫وتؤثر الوجه البحري بشدة باضطراب األمن لقرب طرفٌه من الؽزاة اآلسٌوٌٌن فً الشرق والقادمٌن من‬
‫لٌبٌا فً الؽرب‪ ،‬وٌصؾ "إٌبو ور" حاله‪" :‬أصبحت أراضً األحراش (أي الوجه البحري) كلها ؼٌر‬
‫مستورة‪ ،‬وامتؤل قلب الوجه البحري بالطرق المطروقة‪ ،‬ولكن ما الذي ٌستطٌع اإلنسان أن ٌفعله؟‪."..‬‬

‫وتخاصم المحافظون مع بعضهم‪ ،‬واستؤثر بعضهم بثروات محافظاتهم‪ ،‬ومنعوا عن خزابن الحكومة‬
‫المركزٌة ضراٌب أؼلب مناطق الصعٌد‪ ،‬وعلقت بردٌة "إٌبو ور" على هذا‪" :‬الحق أن أسوان وجرجا فً‬
‫أرض الصعٌد لم تعودا تإدٌان الضرابب نتٌجة لشٌوع الفتن‪َّ ،‬‬
‫فعز الؽبلل‪ ،..‬ومنتجات المصانع‪ ،‬فكٌؾ ٌسٌر‬
‫بٌت المال إذن بؽٌر موارده؟‪َ ....‬قلَّت سفن الصعٌد‪ ،‬وتخربت المدن‪ ،‬وأصبح الصعٌد خرابا ٌبابا(‪.")ٖ8‬‬

‫وعلى هذا‪" :‬أصبحت العاصمة (منؾ) فً خوؾ من العوز‪ ،‬والناس ٌؤكلون الحشابش وٌتبلعون بالماء"‪،‬‬
‫بحسب تعبٌره‪ ،‬إضافة إلى توقؾ سبل التجارة مع ؼرب آسٌا بعد أن هددتها الهجرات األمورٌة‪ ،‬فٌكمل‪" :‬ما‬
‫عاد أحد ٌبحر الٌوم نحو جبٌل‪ ،‬فما الذي سوؾ نفعله إذن بخصوص أخشاب األرز (التً اعتدنا أن نصنع‬
‫منها) توابٌتنا‪ ،‬والزٌوت التً ٌحنط الكبراء بها‪ ،‬و(ترد من) هناك‪ ،‬ومما ٌجاور كفتٌو ]تكرٌت[‪ .‬ما عاد‬
‫ٌؤتً من ذلك شًء حتى أصبح مجًء أهل الواحات بمنتجاتهم (البسٌطة) شٌبا ذا بال"(‪.)ٖ9‬‬

‫َّ‬
‫"عز االبتسام‬ ‫وشاع الهرج والمرج خبلل فترة االنقبلب على الدولة‪ ،‬ووصفه "إٌبو ور" بكلمات بلٌؽة‪:‬‬
‫عز الصخب فً سنوات الصخب (حتى بدا كؤنه) ال‬ ‫وما عاد أحد ٌبتسم‪ ،‬وأصبح الحزن ٌسود الببلد‪ ،...‬وما َّ‬
‫نهاٌة للصخب"‪ ،‬وكنتٌجة‪" :‬قست القلوب‪ ،‬وؼزا الوباء األرض‪( ،‬وسرى) الدم فً كل مكان‪ ،‬وأصبح‬
‫مجرى النهر قبرا‪ ،‬وؼدا مكان التطهر فٌه بلون الدم‪ ،‬وإذا قصده الناس لٌرتووا منه عافوا جثث البشر‬
‫وظلوا على ظمبهم إلى الماء(ٓٗ)"‪.‬‬

‫وٌصؾ علماء هذا الوصؾ بالمبالؽة‪ ،‬لكن من سٌتابع ما سٌحصل للمصرٌٌن من مذابح ومجاعات‬

‫(‪)ٖ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫(‪)ٖ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‬
‫(‪)ٖ9‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٓ‪ٖٙ‬‬
‫(ٓٗ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٔ‪ٖٙ‬‬

‫‪٘7‬‬
‫وؼوص األعادي والمستوطنٌن األجانب فً دمابهم وأعراضهم خبلل عصور احتبلالت التالٌة‪ ،‬لن ٌشعر‬
‫أن ما وصفه الجد "إٌبو ور" كان مبالؽة‪.‬‬

‫وصور حٌرة الناس فً هذه الفوضى بؤنهم كانوا رجاال ثبلثة‪ :‬رجبل ٌعلم ما حدث وٌوافق علٌه‪ ،‬ورجبل‬
‫َّ‬
‫ٌجهل تماما‪ ،‬وثالثا علم بما حدث ولكنه ال ٌدري إن كان خٌرا أم شرا‪ ،‬وكره بعض الناس دنٌاهم وآثروا‬
‫االنتحار‪ ،‬سواء لضٌاع حقوقهم القدٌمة‪ ،‬أو ألسفهم عما أصاب المعابد والمقابر‪ ،‬أو ألسفهم عما أصاب‬
‫بلدهم من اضطراب لم ٌعرفوا عبلجه‪.‬‬

‫وٌقول‪" :‬وفارق النبل الدنٌا‪ ,‬وأصبحت ربات البٌوت ٌقلن أنً لنا ما نؤكله‪ ,‬وذبلت أجسادهن فً األعمال‪,‬‬
‫وتحطمت قلوبهن من ذل السإال(ٔٗ)"‪.‬‬

‫ووصل األمر النتهاك حرمة الموتى والتجرإ على األهرام‪ ،‬وهو من أشد الفواجع التً قال عنها "إٌبو‬
‫ور" متعجبا‪" :‬فقد وقعت أحداث لم نسمع عنها منذ ظلمات الماضً السحٌق‪ .‬إذ قامت الؽوؼاء بخلع الملك!‬
‫أجل إن الذي دفن بصفته "الصقر" قد انتزعوه من تابوته! لقد نهبت حجرة الدفن وسلب ما بها! ووصل بنا‬
‫األمر إلى الحد الذي قامت زمرة من األفراد‪ -‬تجهل كل شًء عن أمور الحكم‪ -‬بتقوٌض النظام الملكً‬
‫]الدولة المركزٌة[ فً الببلد(ٕٗ)"‪.‬‬

‫وفً إشارة إلى أن سرقة األهرامات وسرقة أجساد الملوك من توابٌتها تم منذ ذلك الوقت قال "إٌبو ور"‬
‫‪" :‬ومخبؤه ]أي تابوت الملك[ األهرام قد أصبح خلوا"(ٖٗ)‪.‬‬

‫وانتهكت المقدسات؛ فلم ٌقؾ المهاجمون عند حد حرمان الببلد من حاكمها‪ ،‬وهو الضامن األوحد‬
‫الستتباب النظام‪ ،‬بل دمروا جسد الحاكم المتوفى فحرموا بذلك األجٌال السابقة من حٌاة اآلخرة؛ فكان الظن‬
‫أن سبلمة الجسد تساعد الروح فً التعرؾ على صاحبها‪.‬‬

‫وبتعبٌر سلٌم حسن‪ ،‬لقد قوضوا بفعلتهم الشنعاء هذه بنٌة الهرم الكونً؛ فتصدع وتداعى‪ ،‬وأصبحت‬
‫لتنقض علٌها كلما‬
‫ِ‬ ‫مصر "عالما مقلوبا رأس على عقب"‪ ،‬فوقعت فرٌسة الفوضى الواقفة لها بالمرصاد‬
‫تقاعس الملك عن واجباته أو اختفى(ٗٗ)‪.‬‬

‫والمقصود بالملك هنا لٌس الحاكم فً حد ذاته وحده‪ ،‬وإنما الحكومة المركزٌة ككل ونظامها (ماعت)‪.‬‬

‫وموجها اللوم بقوة للحاكم الموجود وقتها‪ ،‬ولكنه ببل حول وال قوة‪ ،‬قال له "إٌبو ور"‪" :‬إن القٌادة والفطنة‬
‫والصدق معك‪ ,‬ؼٌر أن ما تبثه فً طول الببلد هو الفوضى وؼوؼاء الذٌن ٌتخاصمون (‪ )...‬فاألكاذٌب تتلً‬

‫(ٔٗ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٔ‪ٖٕٙ -ٖٙ‬‬
‫(ٕٗ)‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬نٌكوال جرٌمال‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔ98‬‬
‫(ٖٗ)‬
‫‪ -‬موسوعة مصر القدٌمة‪ ،‬سلٌم حسن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖٓ9‬‬
‫(ٗٗ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬

‫‪٘8‬‬
‫علٌك‪ ،‬والببلد قش ملتهب(٘ٗ)"‪.‬‬

‫أما رد الحاكم علٌه فجاء كصوت ٌابس ٌقول إنه حاول حماٌة شعبه بالوقوؾ فً وجه الؽزاة واألجانب‬
‫ا لذٌن كانوا ٌهاجمون الببلد‪ ،‬فجاوبه "إٌبو ور" بؤن هذا لم ٌكن كافٌا‪ ،‬وإنه ٌعلم حسن نٌته ولكن ذلك ال‬
‫ٌكفً‪" :‬إنك جعلت الناس ٌعٌشون بسبب ما فعلته ] من محاوالت صد الفساد واإلهمال واألجانب فً وقت‬
‫متؤخر[ ولكنك تؽطً وجوههم خوفا من الؽد"(‪ ،)ٗٙ‬إشارة فٌما ٌبدو إلى أن الحاكم لم ٌكن من الشجاعة‬
‫والبصٌرة أن ٌواجه نذر الخطر من البداٌة وٌكاشؾ شعبه بها‪.‬‬

‫وكما وجه الكاتب اللوم للحاكم ألنه تهاون وهو ٌتابع هٌبة وحدود الدولة تتهاوى‪ ،‬وجه اللوم لنفسه وبقٌة‬
‫الناس الذٌن لم ٌتحركوا أو ٌطلقوا تحذٌراتهم بقوة من البداٌة‪ ،‬فقال‪" :‬لٌتنً رفعت صوتً فً ذلك الوقت‬
‫حتى كنت أنقذ نفسً من األلم الذي أنا فٌه اآلن‪ .‬فالوٌل لً؛ ألن البإس ع َّم فً هذا الزمان(‪.")ٗ9‬‬

‫وفً إشارة إلى أن هذه الفوضى لم تكن تلقابٌة‪ ،‬وإنما كان وراءها تدبٌر محكم قال "إٌبو ور"‪" :‬وانقلبت‬
‫العاصمة فً ساعة"‪" ،‬وقلبوا أوضاع العاصمة رأسا على عقب‪ ،‬واقتحموا دواوٌنها ومزقوا وثابقها(‪.")ٗ8‬‬

‫وتزخر كتب علماء اآلثار التً تتناول هذه البردٌة بالقول إن سبب هذه الفوضى الجامحة وؼٌر المعتادة‬
‫فً مصر هو انتشار المجاعات والفساد وسوء الحكم‪ ،‬أي ألسباب داخلٌة محضة‪ ،‬ولذا سموها بـ"أول ثورة‬
‫اجتماعٌة أو شعبٌة فً التارٌخ"‪.‬‬

‫ؼٌر أن األمر ٌحتاج إلعادة نظر‪ ،‬وأن ٌبتعد المفسرون عن تؤثرهم بالنظرٌات االشتراكٌة الماركسٌة فً‬
‫تفسٌر الثورات‪ ،‬والتً تحصرها فً فساد وتسلط الحاكم والفقر؛ فالمجاعات والفساد سبب صحٌح‪ ،‬لكن‬
‫ظهرا فً مصر فً عدة عصور ولم ٌقدم الشعب على تخرٌب ببلده‪ ،‬بما فٌه االعتداء على حرمة األموات‬
‫والمحاكم والمعابد ومإسسات الدولة وبهذا الؽِل‪ ،‬أو انتشار أعمال القتل والدم بهذه الؽزارة‪.‬‬

‫والنظر للعبلقة بٌن هذه الفوضى وبٌن ظهور مراكز قوى فاسدة تناطح الدولة‪ ،‬وانفتاح الببلد على‬
‫األجانب بشكل واسع‪ ،‬وقٌامهم بنشر الفتن فً كل مكان‪ ،‬خاصة مع اختبلؾ التقالٌد بٌن األجانب المعتادٌن‬
‫على العنؾ والتسلط على ؼٌرهم وبٌن الشعب المصري المسالم الؽافل عن التآمر قد ٌوضح الصورة أكثر‬
‫لنخرج بتفسٌر أصح‪ ،‬وٌناسب الظروؾ المصرٌة‪.‬‬

‫وفً ذلك ٌقول صالح‪" :‬وتجمعت عٌوب النظام القدٌم مع سوءات المهاجرٌن واضطراب الثابرٌن‬
‫والموتورٌن(‪.")ٗ9‬‬

‫وٌرفض عالم المصرٌات نٌكوال جرٌمال أن تكون هذه الفوضى الدامٌة ثورة شعبٌة‪ ،‬فٌقول‪" :‬وٌرى‬
‫(٘ٗ)‬
‫‪ -‬موسوعة مصر القدٌمة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ٘ٔ‬
‫(‪)ٗٙ‬‬
‫‪ -‬الفكر الفلسفً فً مصر القدٌمة‪ ،‬د‪ .‬مصطفى النشار‪ ،‬الدار المصرٌة السعودٌة للنشر والتوزٌع‪ ،‬طٔ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٔ‪.9‬‬
‫(‪)ٗ9‬‬
‫‪ -‬موسوعة مصر القدٌمة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕ99‬‬
‫(‪)ٗ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٗٔ‬
‫(‪)ٗ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٔ‪ٖٙ‬‬

‫‪٘9‬‬
‫تفض إلى شكل‬‫البعض أن األزمة التً اجتاحت مصر هً ثورة اجتماعٌة‪ ،‬وهو أمر مستبعد؛ نظرا ألنها لم ِ‬
‫جدٌد من الحكومات‪ ،‬بل استمر النظام القدٌم‪ ،‬وهو نفس ما حدث بعد كل "عصر انتقالً"‪ ،‬فما ٌروٌه "إٌبو‬
‫ور" من أحداث إنما ٌشبه هبة أكثر شرابح المجتمع حرمانا‪ ،‬والتً لم تتحرك بسبب ما تعانٌه من ظلم‬
‫اجتماعً‪ ،‬وهو أمر بعٌد كل البعد عن روح النظام السٌاسً السابد‪ ،‬إنما حدث نتٌجة تؤثٌرات خارجٌة وفدت‬
‫على مصر لتجد تربة صالحة فً بلد أصابه الوهن واإلنهاك(ٓ٘)"‪.‬‬

‫أي أن وجود عدد كبٌر من األجانب‪ ،‬ومن قبابل ومناطق اعتادت حمل السبلح والفوضى ورفض‬
‫الخضوع للدولة ولـ ماعت‪ ،‬واعتادت الطمع فً مصر‪ ،‬وتؽلؽلت فً مإسسات الدولة بما فٌها الجٌش‪،‬‬
‫ووجود رؼبة عندها لهدم مصر‪ -‬لمجرد الهدم‪ٌ -‬لزم أن ٌوضع فً الحسبان جٌدا عند تفسٌر وقوع مصر فً‬
‫فوضى بهذا الحجم المخٌؾ‪.‬‬

‫ورؼم سوءات هذه الفوضى الشاملة‪ ،‬إال أن صالح رأى أنه أٌضا المصرٌون استؽلوها فً مراجعة‬
‫أمورهم‪ ،‬فؤخرجوا من المر شرابا حلوا‪ ،‬فقال "إنها استثارت نوعا من الوعً القومً لدى المفكرٌن الذٌن‬
‫وعز علٌهم أنهم لم ٌنشطوا عند ظهور بوادر‬ ‫َّ‬ ‫عز علٌهم عجزهم عن دفع الببلء عن وطنهم قبل وقوعه‪،‬‬ ‫َّ‬
‫الخطر ولم ٌتبلفوها‪ ،‬وصعب علٌهم أن تنتهك حرمات الببلد وتبتذل مقدساتها الدٌنٌة والتقلٌدٌة تحت‬
‫أبصارهم وأسماعهم‪ ،‬سواء بؤٌدي المهاجرٌن أم بؤٌدي المواطنٌن الموتورٌن(ٔ٘)"‪.‬‬

‫وألن عقٌدة مصر تإمن بؤن ماعت قد تختفً ولكنها ال تموت‪ ،‬وبؤن الخٌر ٌنتصر على الشر حتما فً‬
‫النهاٌة‪ ،‬ففً آخر البردٌة تكلم "إٌبو ور" عن األمل فً أنه سٌظهر فً مصر حاكم منقذ (الفبلح المقاتل)‬
‫وصفه بؤنه‪" :‬من ٌعمل لل بناء‪ ،‬وال ٌفرق بٌن جرئ وهٌاب‪ ،‬وصوره "رجبل ٌستطٌع أن ٌحٌل اللهب بردا‬
‫وسبلما‪ ،‬وٌمكن أن ٌعتبره قومه راعٌا للناس أجمعٌن‪ ،‬لٌس فً قلبه ضؽٌنة‪ ،‬وإذا تفرقت رعٌته قضى ٌومه‬
‫ٌجمعها(ٕ٘)"‪.‬‬

‫وهذه الصفات هً التً ٌحلم بها المصرٌون فً حاكمهم كلما حلت بهم الفوضى أو االحتبلالت‪ ،‬ألنها‬
‫تعبر عن وظٌفة الحاكم المصري والحكومة بؤجمعها التً كلفها بها هللا منذ ظهور الدولة فً مصر‪ ،‬فالحاكم‬
‫هو الراعً القوي الصالح‪ ،‬المكلؾ بحماٌة وحدانٌة الدولة وإقامة "ماعت"‪.‬‬

‫وتصدق اآلثار على كثٌر مما قالته‪ ،‬ففً األسرات ‪ 9‬و‪ 8‬و‪ 9‬تبدو مصر كمن ؼرق فً ظبلم دامس‪،‬‬
‫آثارها قلٌلة‪ ،‬ومستوى الكثٌر منها لٌس بجودة ما قبلها أو بعدها‪ ،‬وال ٌوجد ما ٌدل على مشارٌع كبرى أو‬
‫تجارة خارجٌة نشطة؛ ما دل على ؼٌاب الحكم المركزي‪ ،‬وانتشار النزاعات‪ ،‬وؼٌاب ماعت‪ ،‬حتى قال‬
‫المإرخ مانٌتون فً كتابه عن تارٌخ مصر الذي وضعه أٌام االحتبلل الٌونانً إنه تعاقب على مصر فً‬
‫األسرة السابعة ٓ‪ 9‬ملكا فً ٓ‪ٌ 9‬وما! وإن كان الرقم مبالؽا ولكنه تعبٌر مجازي عن الخلخلة‪.‬‬

‫(ٓ٘)‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬نٌكوال جرٌمال‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔ99 -ٔ98‬‬
‫(ٔ٘)‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪-‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٗٔ‬
‫(ٕ٘)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖٗٔ‬

‫ٓ‪ٙ‬‬
‫❸ أٌن الجٌش؟‬

‫وٌثور سإال‪ ..‬أٌن كان الجٌش فً ذلك الوقت؟‬

‫اإلجابة المحتملة أن الجٌش وقتها لم ٌكن جٌشا نظامٌا بالشكل الذي ظهر علٌه فً األسرة ‪ ٔ9‬أو‪،ٔ8‬‬
‫وإنما ٌتؤلؾ من ضباط وجنود ٌتدربون كاحتٌاط تستدعٌهم الحكومة من المحافظات كلما حل بالبلد خطر‬
‫وعزمت على شن حمبلت حربٌة على الحدود لصد ؼزوات قباٌل الشرق والؽرب والجنوب‪.‬‬

‫وحٌن تزاٌد نفوذ المحافظٌن وكبار العاببلت بالتدرٌج فً وقت كانت الحكومة المركزٌة تذبل‪ ،‬امتنع‬
‫محافظون عن إرسال الشباب للتجنٌد والتدرٌب‪ ،‬واحتفظوا بهم كقوة مسلحة أو حراسة خاصة بهم فً داخل‬
‫المحافظة‪ ،‬بل وبعضهم فضَّل األجانب المستوطنٌن علٌهم فً ذلك‪ ،‬فتفكك الجٌش بشكل ؼٌر مباشر‪ ،‬وفقد‬
‫قدرته على االلتبام والتوحد السرٌع عند اندالع الخطر‪.‬‬

‫"وكون كل حاكم ]حاكم إقلٌم أي محافظ[ من أولبك الحكام جٌشا محلٌا‬


‫َّ‬ ‫وإلى ذلك ٌشٌر صالح بقوله‪:‬‬
‫وأسطوال محلٌا بما ٌناسب إمكانٌات إقلٌمه ]محافظته["‪ ،‬وضرب مثبل على هذا بمحتوٌات مقبرة "مسحتً"‬
‫محافظ أسٌوط التً تضم ماكٌتات لفرقة جنود تابعة للمحافظة(ٖ٘)‪ ،‬وموجودة بالمتحؾ المصري‪.‬‬

‫وشكلت هذه الطرٌقة فً استخدام الجنود بشكل محلً خطرا جدٌدا على وحدة الببلد؛ ألن وجودهم تحت‬
‫إمرة المحافظٌن مباشرة شجع هإالء المحافظٌن على التنافس المسلح فٌما بٌنهم‪ ،‬ودفع أقوٌاءهم إلى الطمع‬
‫فً السٌطرة على المحافظات األخرى(ٗ٘)‪.‬‬

‫كما تجلى انهٌار الجٌش فً احتبلل الؽزاة للوجه البحري مجددا بعد سقوط الدولة المركزٌة‪ ،‬وفً ذلك‬
‫قال نٌكوال جرٌمال‪" :‬واألدهى من ذلك أن البدو "الساكنٌن فوق الرمال" الذٌن حاربهم "أونً" فً زمن‬
‫سابق أخذوا ٌجتاحون الدلتا عند نهاٌة األسرة الثامنة(٘٘)"‪.‬‬

‫وبتتبع األسباب والنتابج التً رمت مصر مقٌدة األؼبلل بٌن نار وأنٌاب الفوضى "إزفت" نهاٌة األسرة‬
‫‪ ٙ‬كما نقلتها لنا البردٌات واآلثار‪ ..‬كم منها ٌنطبق علٌه ما ورد فً البنود الـ ‪ ٔ9‬لدستور خراب مصر؟‬

‫والبلفت أنه فً تحذٌرات "إٌبو ور" ردد عبارة "واألجداد قد تنبؤوا(‪ ،")٘ٙ‬فهل ٌقصد وصٌة األجداد‬
‫واألرباب المإسسٌن بعدم التفرٌط فً "ماعت" وبعدم الؽفلة عن الحدود وانتشار األجانب فً الببلد؟‬

‫(ٖ٘)‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‪ ،‬ص ٘ٗٔ‬
‫(ٗ٘)‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‬
‫(٘٘)‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬نٌكوال جرٌمال‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔ8ٓ-ٔ99‬‬
‫(‪)٘ٙ‬‬
‫‪ -‬موسوعة مصر القدٌة‪ ،‬سلٌم حسن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٖٓ‬

‫ٔ‪ٙ‬‬
‫"إن البوابات ]الحدود[ التً فوقك كبوابات حامٌة‪ ....‬إنها سوؾ ال تفتح للؽربٌٌن‪ ،‬إنها سوؾ ال تفتح‬
‫للشرقٌٌن‪ ،‬إنها سوؾ ال تفتح للجنوبٌٌن‪ ،‬إنها سوؾ ال تفتح للشمالٌٌن‪ ،‬إنها سوؾ ال تفتح لهإالء الذٌن‬
‫فً وسط األرض‪ ،‬إنها سوؾ تفتح لحورس(‪.")٘7‬‬

‫فاستحقت األجٌال التً لم تلتزم بها عقاب اإلله الذي حذر منه بتاح حتب فً األسرة ٘‪:‬‬

‫"إن الذي ٌفعل الماعت فذلك الذي ٌكون بعٌدا عن الضالل"‪ٌ" ،‬حل العقاب دابما بالذي ٌتخطى‬
‫قواعدها"(‪.)٘8‬‬

‫(‪)٘9‬‬
‫‪ -‬وصٌة نصوص األهرام‪ ،‬القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ٘ٔ‪ٕٔٙ -‬‬
‫(‪)٘8‬‬
‫‪ -‬انظر تقدٌم علً رضوان لكتاب "الماعت‪ ..‬فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔ‪ٔ٘-‬‬

‫ٕ‪ٙ‬‬
‫نحن ؼرقى وإذا المـــوت أمــــم‬ ‫قد ؼفونا وانتبهنا فإذا‬

‫ضعؾ فهجـــــم‬
‫ُ‬ ‫ؼر فٌنا الدهــر‬
‫َّ‬ ‫ثم كانت فترة مقدورة‬

‫زلزلت ركن اللٌــــالً فانهــــــدم‬ ‫فتماسكنا فكانت قـوة‬

‫من هوى نظر اللــه إلٌه فالتـؤم‬ ‫كان فً األنفس جـــرح‬

‫تحت ظل اللــه ال ظـــل األمـم‬ ‫فنشدنا العٌش حرا طلقا‬

‫آفة الشعب إذا الشعب انقسم‬ ‫آفة المرء إذا المرء ونى‬

‫أَو ٌَ ُع ُّق النٌل َ فً رعً الذمم‬


‫(ٔ)‬
‫لٌس منا َمن ٌَنً أَو ٌنثنً‬

‫(ٔ)‬
‫‪ -‬حافظ إبراهٌم األعمال الكاملة‪ ،‬قصٌدة قد ؼفونا‪ ،‬مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٓ‪ٔ9‬‬
‫المشهد ٘‪ :‬الوالدة الجدٌدة (الدولة الوسطى)‬
‫(ٔ‪ ٖٖٔٙ-ٔ99‬ق‪.‬م)‬

‫(شروق ماعت)‬

‫▲▲▲ معركة التحرٌر‬

‫المتتبع لسٌر زعماء مصر فً التارٌخ القدٌم‪ٌ ،‬جد أن من ترك بصمته فً عمارها وصبلحها ٌبدأ عهده‬
‫ٌتفقد الحدود المصرٌة بإرسال حمبلت تفتٌشٌة تطرد من تسلل إلى داخلها‪ -‬أو ٌطرد احتبلل قابم‪ -‬وٌتفقد‬
‫حالة الحكم ما إن كان خالصا للدولة أم تناطحه مراكز قوى ٌلزم ردعها‪ ،‬وٌتفقد حالة األرض لٌقٌم مشارٌع‬
‫الري والزراعة وٌواصل مشارٌع سلفه‪ ،‬وٌتفقد القوانٌن وأحوال الناس لٌعلم إن كانت "ماعت" فً مكانها أم‬
‫محجوبة لٌعٌدها إلى عرشها وتتؤلأل بها مصر تحت شمس رع‪.‬‬

‫واستمرت الفوضى التً تفجرت فً األسرة ‪ ٙ‬وسرعة تعاقب الحكام وأدعٌاء الشرعٌة ٓ٘ٔ سنة‪ ،‬حتى‬
‫وصل الحال إلى أن مصر فً األسرة ٓٔ حوالً سنة ٖٕٓٔ ق‪.‬م أصبح ٌحكمها عابلتان‪.‬‬

‫العابلة األولى عابلة األناتفة‪ ،‬نسبة إلى مإسسها "إنتؾ"‪ ،‬وتحكم الوجه القبلً حتى طٌبة‪ ،‬ثم العابلة‬
‫اإلهناسٌة‪ ،‬نسبة إلى تمركزها فً أهناسٌا ببنً سوٌؾ‪ ،‬وحكمت المحافظات من بعد طٌبة وحتى منؾ فً‬
‫الجٌزة‪ ،‬فٌما الوجه البحري ٌرعى فٌه األجانب رعً الخنازٌر‪ ،‬القباٌل اآلسٌوٌة فً شرقه‪ ،‬والقباٌل القادمة‬
‫من نواحً لٌبٌا فً ؼربه‪.‬‬

‫وكبل من العابلتٌن ٌسعٌان إلعادة توحٌد الحكم فً الببلد تحت حكومة مركزٌة واحدة كما كانت فً‬
‫العصور السالفة‪ ،‬ودخبل فً معارك واجه فٌها المصرٌون بعضهم فً مشاهد مإلمة‪.‬‬

‫وفً فترة وبام اعترؾ "إنتؾ األول" فً طٌبة بشرعٌة "خٌتً األول" من العابلة األهناسٌة كحاكم لكل‬
‫مصر‪ ،‬ثم تصارع خلفاإهما على الحكم‪ ،‬ونشبت بٌنهما معارك مركزها فً مدٌنة "ثنً" قرب أبٌدوس فً‬
‫سوهاج‪ ،‬وهً المدٌنة التً تفصل بٌن منطقة نفوذ كل منهما(ٕ)‪.‬‬

‫ومن مآثر البٌت األهناسً أنه رؼم التنافس مع البٌت الطٌبً إال أنه سعى لتحرٌر الوجه البحري من‬

‫(ٕ)‬
‫‪ -‬للمزٌد عن هذه الفترة انظر رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬رمضان عبده علً‪ ،‬وزارة اآلثار‪ ،‬المجلس األعلى لآلثار‪ ،‬مشروع المابة‬
‫كتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الجزء الثانً ص ٕٖٓ‪ٖٓ8 -‬‬

‫ٗ‪ٙ‬‬
‫األجانب‪ ،‬وأعاد فتح طرق التجارة مع فٌنٌقٌا الستٌراد خشب األرز‪.‬‬

‫فقد سعى اآلسٌوٌون المتسللون لبلنخراط داخل الشعب المصري‪ ،‬حتى اتبعوا عاداته وتسموا أحٌانا‬
‫بؤسمابه‪ ،‬مع احتفاظهم فٌما بٌنهم بعاداتهم وتقالٌدهم وأسماءهم وأسرارهم‪ ،‬لٌضمنوا أال تقوم مقاومة ضدهم‬
‫تحرمهم مما سٌطروا علٌه من أرض وثروة‪ ،‬ولكن ظل المصرٌون خارج الوجه البحري‪ ،‬وربما فٌه‪،‬‬
‫ٌنكرون على البدو المتمصرٌن سٌادتهم‪ ،‬فاستؽل خٌتً هذه الروح‪ ،‬ونجح مع جٌشه فً إبعاد بعض‬
‫األمورٌٌن وكسر شوكة بعضهم اآلخر(ٖ)‪.‬‬

‫ووردت سٌاسة خٌتً الثالث (أو الرابع) فً ردع األجانب عن مصر فً تعالٌم مشهورة ألقاها على ابنه‬
‫وولً عهده مري كارع وحفظها المصرٌون ألجٌال قادمة‪ ،‬معروفة باسم "تعالٌم خٌتً"‪ ،‬وٌوجد نسخ منها‬
‫فً متاحؾ موسكو وكوبنهاجن واألرمتٌاج‪ ،‬وتشمل إلى جانب سٌاسته ضد األجانب الؽزاة والمتسللٌن‪،‬‬
‫سٌاسته فً الحكم‪.‬‬

‫ومما ورد فٌها وٌظهر روح وتفاصٌل "ماعت" فً الحكم واإلدارة واألخبلق‪" :‬استخدم اللباقة فً‬
‫كلماتك‪ ،‬إذا كنت ترٌد أن تصل إلى أؼراضك‪ ،‬إنه بالنسبة للملك اللسان مثل السٌؾ‪ ،‬والكلمة أكثر قوة من‬
‫كل األسلحة‪ ،‬ال أحد ٌستطٌع أن ٌخدع خطٌب ماهر‪ ،‬ومن هو متكبر فهو ٌسعى للنهاٌة‪ ،‬وال تكن قاسٌا‪،‬‬
‫وقو حدودك‪ ،‬ألنه من األفضل أن‬‫وتحكم فً نفسك فهذا شًء حسن‪ ،‬وشٌد لنفسك أثرا خالدا بحب رعاٌاك‪ِ ،‬‬
‫تكون مستعدا لؤلحداث المقبلة(ٗ)"‪.‬‬

‫وقال عن خطر األجانب‪" :‬هإالء األجانب كانوا بمثابة حابط مؽلق‪ ،‬ولكننً فتحته‪ ...‬وعملت على أن‬
‫ٌعاقبهم الوجه البحري‪ ،‬وسلبت ممتلكاتهم‪ ،‬واستولٌت على قطٌعهم‪ ،‬حتى أصاب اآلسٌوٌٌن التقزز من‬
‫مصر‪ ،‬وبناء علٌه ال تشؽل بالك بهذا‪ ،‬إن اآلسٌوٌٌن من اآلن فصاعدا مثل التمساح على الشاطا (الببلد)‪،‬‬
‫فً مقدوره أن ٌبتلع رجبل بمفرده‪ ،‬ولكن ال ٌستٌطع أن ٌستولً على أرض بها مدن عدٌدة(٘)"‪ ،‬وعلى هذا‬
‫األساس تحدث البنه عن أهمٌة إنشاء مدن محصنة شمال شرق مصر‪ ،‬وتعمٌرها بخٌر الرجال‪ٌ ،‬سكنونها‬
‫وٌزرعون ما حولها‪ ،‬وٌتحصنون بها حٌن الشدة‪ ،‬وٌصدون منها ؼارات القباٌل الؽازٌة‪.‬‬

‫فقال له‪" :‬ال تتهٌب العدو فهو ال ٌؽٌر إال على الموطن المنعزل‪ ،‬وال ٌجرإ على مهاجمة مدٌنة عامرة‬
‫بالسكان (‪ )...‬أقم الحصون فً كل المناطق الشمالٌة‪ ،‬والحظ أن سمعة الرجل فٌما ٌفعله لٌست بالشًء‬
‫الهٌن‪ ،‬والبلد العامرة بالسكان لن ٌمسها سوء‪ ،‬فابن مدنا(‪.")ٙ‬‬

‫ولكن هذا ال ٌكفً دون تعود المصرٌٌن على التحفز للخطر طول الوقت‪ ،‬واالستعداد له قبل أن ٌقع‪ ،‬فالوقاٌة‬

‫(ٖ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔٗ8‬‬
‫(ٗ)‬
‫‪ -‬رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٔٔ‪ٖٕٔ -‬‬
‫(٘)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖٖٔ‬
‫(‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔٗ9‬‬

‫٘‪ٙ‬‬
‫خٌر من العبلج‪ ،‬وعلى هذا حث ابنه على "بث الروح الحربٌة فً الببلد والعناٌة بمجندٌها الشبان(‪.")9‬‬

‫هون علٌه شؤن أعدابه البدو وضعؾ حٌلتهم فً عبارات تدل على معرفته بعاداتهم وأحوال المناطق‬ ‫و َّ‬
‫التً ٌعتصمون بها وتتوافد هجراتهم منها قاببل‪" :‬هذا هو شؤن البرابرة‪ ،‬فالعدو اللعٌن موطنه وعر‪ ،‬وماإه‬
‫آسن‪ ،‬حزون بكثرة ؼاٌاته‪ ،‬سٌبة طرقاته بما ٌكتنفها من المرتفعات‪ ،‬ولذلك لم ٌستقر فً مكان واحد‪،‬‬
‫واستمر دابم الترحال‪ ،‬وظل ٌشاؼب منذ عهد (اإلله) حور‪ ،‬فبل هو ٌَؽلب وال هو ٌُؽلب(‪.")8‬‬

‫ما ٌعنً أن ٌنتبه المصرٌون إلى أنهم فً رباط دابم‪ ،‬ال تسكرهم نشوة نصر‪ ،‬وال ٌؽرهم حالة قوة‪،‬‬
‫فعدوهم "دٌب مسعور"‪ٌ ،‬حوم ببل هوادة حول الحدود األربعة‪ٌ ،‬نتصب ٌراقبنا فً لهفة للحظة ؼفلة‪ ،‬فٌقفز‬
‫ؼارسا أنٌابه تقطر بالدماء فً رقابنا‪ ،‬كالشٌطان ال ٌٌؤس وال ٌنتهً‪ ،‬السطو طبعه‪ ،‬وهو كثٌر الحٌل‪.‬‬

‫وتوفً خٌتً‪ ،‬ثم توفً ابنه مري كارع‪ ،‬وتعاقب حكام ضعاؾ على األسرة ٓٔ‪ ،‬فاستؽلت أسرة األناتفة‬
‫الحال إلحكام سٌطرتها على أهناسٌا وإعادة مصر إلى الحكم القوي الواحد‪ ،‬وأسسوا األسرة ٔٔ‪.‬‬

‫▲▲▲ عودة الروح‬

‫تمكن المصرٌون فً عصر منتوحتب الثانً من تحقٌق حلم الببلد فً الرجوع ألصلها تحت ظل حكم‬
‫واحد بعد سنوات طوٌلة من المعارك أفنى فٌها منتوحتب شبابه‪ ،‬فسٌطر على أهناسٌا‪ ،‬وطارد المتمردٌن‬
‫إلى الصحراء‪ ،‬ثم التفت إلى الدلتا الستكمال تحرٌرها من الؽزاة‪ ،‬فهدأت روح الببلد بعد طول شقاء‪ ،‬وكؤنه‬
‫هو المخلص الذي اشتاقت إلٌه بردٌة "إٌبو ور"‪.‬‬

‫وأعاد المناصب القدٌمة مثل الوزٌر (أي ربٌس الوزراء) وحامل األختام‪ ،‬وثبَّت المخلصٌن فً‬
‫مناصبهم‪ ،‬وأزاح المتمردٌن‪ ،‬وخفؾ سلطات المحافظٌن‪ ،‬فاختفى لقب "حاكم اإلقلٌم العظٌم" وؼٌره من‬
‫األلقاب الضخمة التً انتحلها المحافظون ألنفسهم خبلل عصر البلمركزٌة األولى(‪.)9‬‬

‫ومع إعادته للمركزٌة المقدسة أحٌا روح الٌقظة فً تتبع العدو التً أخذت بها الدولة القدٌمة فً أوقات‬
‫صحوها‪ ،‬فقاد حملة فً الصحراء الؽربٌة ضد قبابل الـ"تمحو" والـ"تحنو"‪ ،‬وفً سٌناء ضد بدو الـ "منتٌو"‪،‬‬
‫وأمَّن حدود الببلد ضد تسلل اآلسٌوٌٌن‪ ،‬وطاردهم حتى نهر اللٌطانً داخل الشام‪ ،‬وحاول استعادة ما كان‬
‫لمصر من نفوذ فً النوبة عند نهاٌة األسرة السادسة(ٓٔ)"‪.‬‬

‫وإذا كان منتوحتب الثانً محاربا عظٌما‪ ،‬فقد كان أٌضا بنا ًء عظٌما(ٔٔ)‪ ،‬فشحذ همة شعبه لترمٌم آثار‬
‫مبان ضخمة جدٌدة مثل معبده العظٌم فً الدٌر‬ ‫ٍ‬ ‫األجداد فً إلفنتٌن ودندرة والكاب وأبٌدوس‪ ،‬وإقامة‬

‫(‪)9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ٔٗ8 ،‬‬
‫(‪)8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٔٗ9‬‬
‫(‪)9‬‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٔ٘ٙ‬‬
‫(ٓٔ)‬
‫‪ -‬انظر تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬نٌكوال جرٌمال‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٕٓ‬
‫(ٔٔ)‬
‫‪ -‬انظر تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬نٌكوال جرٌمال‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔٓ‬

‫‪ٙٙ‬‬
‫البحري‪ ،‬الذي أقامت حتشبسوت بعد ذلك بمبات السنٌن معبدها على شاكلته‪ ،‬وضم معبد منتوحوتب مقبرة‬
‫لجنوده الذٌن استشهدوا خبلل معارك تطهٌر الببلد‪ ،‬ودفنهم فً معبده إلى جواره تكرٌما لهم‪.‬‬

‫واتخذ لنفسه فً السنة ‪ ٖ9‬من حكمه‪ -‬بعد أن أتم التحرٌر وعودة المركزٌة المقدسة وتطهٌر الحدود‪ -‬لقب‬
‫"سما تاوي"‪ ،‬أي موحد الوجهٌن‪ ،‬واتخذ من طٌبة‪ ،‬واسمها "واسط" باللؽة المصرٌة‪ ،‬عاصمة‪.‬‬

‫وعن عودة هٌبة مصر بعودة هٌبة حاكمها ودور هذا فً ردع األجانب قال قابد بالجٌش وهو ٌسجل‬
‫النصر على الؽزاة اآلسٌوٌٌن‪" :‬كان الخوؾ منه ]أي من حاكم مصر[ هو الذي جعلهم ٌخشوننً‪ ،‬وكانت‬
‫سطوته هً التً جعلتهم ٌرهبوننً‪ ،‬كما أن حب (األرباب) له هو الذي جعل األرضٌن ]مصر[‬
‫تعشقانه(ٕٔ)"‪.‬‬

‫ونلمس فً هذه الكلمات البسٌطة النظرة المصرٌة للدٌن والوطن‪ ،‬أنهما عملة واحدة‪ ،‬فرضا اإلله عن‬
‫حاكم مصر هو الذي جعل مصر وأهلها ٌحبون الحاكم‪ ،‬والحاكم نفسه اكتسب حب اإلله بؤن أعاد الحرٌة‬
‫الطمؤنٌنة لمصر‪ ،‬وأعادها مرهوبة الجانب من جٌرانها‪ ..‬فـ "عمار مصر‪ ..‬الطرٌق إلى اإلله"‪.‬‬

‫وسجل قابد آخر على صخور أبٌسكو قرب الشبلل األول (فً أسوان) أنه كان ضمن حملة قادها منتوحتب‬
‫الثانً بنفسه للحدود الجنوبٌة‪ ،‬وشن حملة لفرض هٌبة مصر فً نفوس أهل "جاتً" بالشام(ٖٔ)‪.‬‬

‫وفً نفس الوقت‪ ،‬ازدهرت من جدٌد حركة العلم والفن واألدب مع رفرفة روح الناس بالفرحة لما عادت‬
‫مصر ألصلها كما حفظها وجدانهم‪ ،‬فتجدد األمل وانتعش اإلحساس بالثقة واالطمبنان والقوة‪ ،‬وبلػ األدب‬
‫المصري فً الدولة الوسطى مبلؽا عظٌما تعلمته األجٌال التالٌة فً المدارس حتى عصر الدولة الحدٌثة‪،‬‬
‫ومن أشهر نصوصه قصة المبلح الناجً‪ ،‬وقصة سنوهً التً تتحدث عن أهمٌة الوطن‪ ،‬وخطٌبة تركه‪،‬‬
‫وخطٌبة العٌش الطوٌل فً ببلد أجنبٌة‪ ،‬كما حصل تقدم كبٌر فً علوم اللؽة‪ ،‬حتى تسمى عصر الدولة‬
‫الوسطى بؤنه العصر الذهبً للؽة المصرٌة واتقان الخط الهٌراطٌقً‪.‬‬

‫(‪ -)12‬الشرؽ األدنى القديـ‪ -‬مصر والعراؽ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪156‬‬
‫(‪ -)13‬انظر نفس المرجع ص ‪159‬‬

‫‪ٙ7‬‬
‫تمثال منتوحتب الثانً منحوت على شكل أوزٌري وتلون الجسد باللون األسود رمز البلنتقال للعالم اآلخر فً شكل مومٌاء أوزٌر (المتحؾ المصري)‬

‫توفً الفبلح المقاتل منتوحتب الثانً حوالً ٕٓٔٓ ق‪.‬م بعد ٔ٘ من الحكم المضنً‪ ،‬طواها فً الكفاح‬
‫والبناء؛ فحفظت له األجٌال البلحقة ذكراه العطرة‪ ،‬وكرموه كتكرٌم مٌنا وزوسر وأحمس‪ ،‬وخبلل‬
‫االحتفاالت بذكرى األجداد حملوا تمثاله على األعناق بشكل ممٌز كمٌنا وأحمس‪ ،‬اعترافا بدور الثبلثة فً‬
‫تحم ل المشاق الرهٌبة إلعادة الببلد إلى طبٌعتها األولى‪ ،‬بعد أن تسلموا الحكم وهً فً حالة احتبلل أو‬
‫تشتت‪ ،‬وإعادة "ماعت" (الحق واألصول) إلى نصابها‪.‬‬

‫▲▲▲ وصفة عمار مصر‬

‫اتبع منتوحتب وجٌله "وصفة عمار مصر" الرباعٌة إلنقاذها وإحٌابها‪ ،‬وهً خبلصة دستور المصرٌٌن‬
‫"ماعت"‪:‬‬

‫ٔ‪ -‬جمع شمل الببلد تحت حكم مركزي قوي مهاب رادع‬

‫ٕ‪ -‬منع أي مراكز قوى تناطح الدولة‬

‫ٖ‪ -‬تطهٌر الببلد وحدودها من المتسللٌن والمستوطنٌن األجانب‬

‫ٗ‪-‬السٌر على األصول المصرٌة "ماعت" فً كل نواحً الحكم والحٌاة‬

‫وخلفه ابنه منتوحتب الثالث‪ ،‬ورؼم أنه كان كبٌر السن‪ ،‬ولم ٌستمر حكمه أكثر من ٕٔ عاما‪ ،‬لكنه أكمل‬
‫مشروعات والده فً تنمٌة الببلد‪ ،‬وأقام التحصٌنات لحماٌة حدودها‪ ،‬وبعث حملة لتنشٌط التجارة مع ببلد‬

‫‪ٙ8‬‬
‫بونت فً شرق أفرٌقٌا عادت محملة بالخٌرات(ٗٔ)‪.‬‬

‫وبوفاته ساد الؽموض الفترة التالٌة له‪ ،‬ولم تظهر وثابق تكشؾ أحوال الببلد‪ ،‬إال أن المعروؾ أنه تسلم‬
‫الحكم منتوحتب الرابع‪ ،‬ومنه انتقل ألسرة جدٌدة فً ظروؾ ؼامضة‪ ،‬هً األسرة ٕٔ صانعة المجد‬
‫العرٌض‪ ،‬أسسها أمنمحات األول‪ ،‬وكان قبل الحكم قابدا فً الجٌش ثم ربٌسا للوزراء‪.‬‬

‫وبخبراته الحربٌة‪ ،‬واصل أمنمحات مشوار منتوحتب الثانً بتقوٌة تحصٌن حدود مصر‪ ،‬فقاد بنفسه‬
‫حملة للحدود الشرقٌة‪ ،‬ودعَّم التحصٌنات التً بناها أسبلفه‪ ،‬وشٌد حصونا على الحدود بٌن مصر وفلسطٌن‬
‫اشتهرت فٌما بعد باسم "أسوار األمٌر"‪ ،‬وفً فترة متؤخرة باسم "جدار الوالً"‪.‬‬

‫وفً الداخل‪ ،‬ر َّكز على إعادة تنظٌم الجهاز اإلداري‪ ،‬واستهل حكمه بنقل العاصمة من طٌبة إلى مدٌنة‬
‫جدٌدة اسسها باسم "إثت تاوي"‪ ،‬اللشت حالٌا‪ ،‬قرب الفٌوم‪ ،‬وأرجع نظام التجنٌد العسكري(٘ٔ)‪ ،‬وأرسل حملة‬
‫بقٌادة ابنه سنوسرت لمطاردة المتمردٌن والخصوم الذٌن لجؤوا إلى القباٌل فً الحدود الؽربٌة‪.‬‬

‫واتبع أمنمحات األول سٌاسة منتوحتب الثانً فً أنه ثبَّت المحافظٌن المتوافقٌن مع سٌاسته مثل حاكم‬
‫إقلٌم الوعل فً الصعٌد‪ ،‬وأبعد من كانوا على خبلؾ مثل محافظً آبو فً أسوان والقوصٌة فً أسٌوط‪،‬‬
‫وهو ما ٌعنً زوال تورٌث هذه المناصب‪ ،‬وعودة هٌبة العاصمة على الجمٌع‪.‬‬

‫وحتى بالنسبة لمن عٌَّنهم من المحافظٌن حرص على أن ٌشعروا بؤن ٌده ]الدولة[ هً الٌد العلٌا‪ ،‬فتدخل بنفسه‬
‫فً تحدٌد حدود المحافظات‪ ،‬ورسم سٌاستها‪ ،‬وتعٌٌن موارد الري فٌها‪ ،‬وتحدٌد سلطاتهم(‪.)ٔٙ‬‬

‫وبعد مشوار طوٌل استمر ٖٓ سنة فً البناء والحرب انتهت حٌاة أمنمحات باؼتٌاله ألسباب ؼامضة‬
‫ومختلؾ علٌها عند علماء اآلثار‪ ،‬وهو من االؼتٌاالت النادرة التً تعرض لها الحكام المصرٌون فً‬
‫التارٌخ القدٌم‪ ،‬فٌما كانت االؼتٌاالت منهجا منظما فً العاببلت الحاكمة فً ببلد أخرى معاصرة لمصر فً‬
‫ذلك الزمان أو الحقة كببلد النهرٌن والٌونان والرومان والعرب واألتراك إلخ‪.‬‬

‫وتسلم سنوسرت األول الحكم بعده فً سبلم‪ ،‬دون شقاق أو صراع مع أحد على الحكم‪ ،‬واتصؾ عهده‬
‫الذي استمر ٖٗ عاما بؤنه عهد أمن وسبلم‪ ،‬اتبع سٌاسة أبٌه فً حب التشٌٌد والبناء‪ ،‬واهتم اهتماما خاصا‬
‫بتعمٌر واستصبلح األراضً الزراعٌة فً الفٌوم التً حوّ لها إلى جنة واسعة‪ ،‬وفً ذات الوقت شن حمبلت‬
‫لصد مخاطر القباٌل المؽٌرة على مصر من شمال السودان‪ ،‬فوصل بقواته للشبلل الثالث فً ببلد كوش‬
‫(السودان الحالً وما ورابه)‪.‬‬

‫وهنا‪ ..‬أط َّل بوجهه الكاحل خطر آخر بقرونه الحادة وروحه الوحشٌة من الحدود الجنوبٌة‪ ،‬فبعد أن‬
‫كانت الحدود الشرقٌة والحدود الؽربٌة صاحبة النصٌب األكبر فً اهتمام الحكام السابقٌن‪ ،‬وجَّ ه سنوسرت‬

‫(ٗٔ)‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬نٌكوال جرٌمال‪ ،‬ص ٖٕٓ‬
‫(٘ٔ)‬
‫‪ -‬للمزٌد عن أمنمحات األول انظر نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕٓٙ‬‬
‫(‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬ص ‪ٔٙٙ‬‬

‫‪ٙ9‬‬
‫األول اهتماما خاصا بالحدود الجنوبٌة لزٌادة مطامع القباٌل الكوشٌة فً مصر‪.‬‬

‫فؤرسل لها حمبلت حربٌة‪ ،‬ودعَّم الحصون ضد هجرات زنجٌة دفعت أمامها جماعات سودانٌة (؟) إلى‬
‫منطقة النوبة؛ فؤشاعت االضطرابات فٌها‪ ،‬وأطلقت النصوص المصرٌة اسم "كاش" منذ ذلك الحٌن على‬
‫منطقة النوبة العلٌا (واقعة ضمن شمال السودان حالٌا) التً تمتد من الشبلل الثانً وقد حُرِّ ؾ هذا االسم فٌما‬
‫بعد إلى كوش‪ ،‬وذلك فً مقابل االستمرار على تسمٌة منطقة النوبة السفلى ] المشهورة باسم النوبة‬
‫المصرٌة [ التً تمتد فٌما بٌن الشبلل األول والشبلل الثانً باسم "واوات"(‪.)ٔ9‬‬

‫وفرض األمن والنظام فً الواحات بالصحراء الؽربٌة‪ ،‬وفً سٌناء لتؤمٌن مناطق العمال فً المحاجر‬
‫وطرق التجارة مع ببلد الشام(‪.)ٔ8‬‬

‫سارت األمور فً البناء والتشٌٌد والسلم على حالها الطٌب فً عهد خلفابه أمنمحات الثانً وسنوسرت‬
‫الثانً الذي استكمل تعمٌر الفٌوم وتوسٌع استصبلح األراضً بها التً كانت تؽطٌها المستنقعات والبرك فً‬
‫عهد الدولة القدٌمة‪ ،‬بل وأنشؤ فٌها سدا عظٌما إلمداد مصر بالمٌاه فً أوقات الجفاؾ‪ ،‬اشتهر باسم "سد‬
‫البلهون" جعل من الفٌوم سلة ؼذاء لمصر‪.‬‬

‫بعض أبرز وجوه المصرٌٌن حاكمٌن ومحكومٌن من األسرتٌن ٔٔ و ٕٔ وفن التعبٌر فٌها استكمال لما كان علٌه فً عصور النهضة األولى (الدولة‬
‫القدٌمة)‪ ،‬وهً نفس وجوه معظم المصرٌٌن الٌوم‬

‫وتمٌز فن النحت بخصابص تعكس التجدٌد فً اإلبداع المصري‪ ،‬فابتعد لحد ما عن المثالٌة الشدٌدة فً‬
‫تصوٌر وجه الحاكم الممٌزة للدولة القدٌمة‪ ،‬فؤطلق الفنان لٌده العنان لتهدٌنا مبلمح أكثر واقعٌة وإنسانٌة‪،‬‬

‫(‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٔ9ٙ‬‬
‫(‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔٔ‪ٕٕٔ-‬‬

‫ٓ‪7‬‬
‫فنرى فً وجه سنوسرت الثالث مثبل مبلمح مجهدة‪ ،‬ولكن حازمة‪ ،‬كؤنما تعكس إصرار صاحبها على‬
‫استكمال مهمته مهما كلفه األمر‪ ،‬ولم ٌرفض أن تظهر التجاعٌد فً وجهه‪ ،‬ما أسس لظهور المدرسة‬
‫الواقعٌة فً الفن‪ ،‬وظهر مٌل فنانٌنا إلظهار خضوع الحكام‪ -‬مثل بقٌة الناس‪ -‬لؤلرباب(‪.)ٔ9‬‬

‫وٌعتبر سنوسرت الثالث من أقوى الحكام وأكثرهم تؤثٌرا فً نفوس الناس وقتها‪ ،‬حتى أن الفنانٌن عكسوا‬
‫قوة بؤسه وشكٌمته وحبه للبناء والحرب فً المبلمح اللً نحتوا بها تماثٌله‪ ،‬وٌحسها المتؤمل لتمثاله الشامخ‬
‫فً المتحؾ المصري بالقاهرة‪ ،‬حتى أنه ٌردد التعبٌر المصري إنه "شاٌل الهم"‪.‬‬

‫وأحسن سنوسرت الثالث االستفادة من ثمار تعب وكفاح أسبلفه بؤن واصل تحقٌق األهداؾ التً‬
‫خططوا لها على مراحل‪ ،‬ولم ٌتٌسر لهم تحقٌقها دفعة واحدة‪.‬‬

‫وألنه ممن احترموا "ماعت" استكمل سنوسرت الثالث عمل أجداده فً القضاء المبرم على النفوذ الباقً‬
‫لبعض المحافظٌن ومراكز القوى‪ ،‬فإن كان أسبلفه على مدى ٓٓٔ سنة نجحوا فً تروٌض العاببلت‬
‫الكبٌرة التً استؤثرت بالحكم والثروة خبلل عصور الفوضى‪ ،‬لكنهم لم ٌصلوا للقضاء التام على نفوذها‪،‬‬
‫تركة عصر الفوضى األولى كانت ثقٌلة؛ فظل بعضها محتفظ بتورٌث المنصب ألوالده‪ ،‬فؤنهى سنوسرت‬
‫(ٕٓ)‬
‫الثالث بعد أن قوٌت شوكة تورٌث منصب المحافظ‪ ،‬وقلل ثرواتهم‪ ،‬بل وألؽى منصب حاكم اإلقلٌم نهابٌا‬
‫كفترة انتقالٌة لتخلٌص المحافظات من التحالفات الموروثة‪.‬‬

‫وعوضا عن ذلك استحدث تنظٌما إدارٌا تولى فٌه الوزٌر ]ربٌس الوزراء[ اإلشراؾ الكامل المباشر‬
‫على المحافظات عبر ٖ وزارات‪ :‬وزارة للوجه القبلً وأخرى للوجه البحري وثالثة لـ "رأس الجنوب‪،‬‬
‫وتشمل إلفنتٌن والنوبة بؤسوان‪ ،‬وأتى هذا بنتابج طٌبة؛ إذ فقد كبار العاببلت سلطانهم؛ وبالتالً برزت الناس‬
‫من ذوي الحالة المتوسطة‪ ،‬األمر الذي ٌمكن تتبعه فً زٌادة النذور المرسلة لـ أوزٌر فً معبد أبٌدوس(ٕٔ)‪.‬‬

‫وفً الوقت نفسه أ َّشعت لسنوسرت الثالث شخصٌة حربٌة عنٌدة قوٌة اإلرادة حتى أنه أعلن "تبرأه من‬
‫كل ولد له ال ٌنهج منهاجه فً الحرب وحماٌة حدود ببلده وتوسٌعها(ٕٕ)"‪.‬‬

‫فقد واجهت مصر فً عهده حركات مرٌبة قرب حدودها الشمالٌة والجنوبٌة معا‪ ،‬فاضطر الرجل إلى‬
‫التوؼل الحربً فً دول الجوار لتؤمٌن الحدود وطرق التجارة وبث االحترام فً نفوس الجٌران‪ ،‬وقاد أؼلب‬
‫حمبلته بنفسه إلى أواسط فلسطٌن‪ ،‬وله معركة فٌها قرب سكٌم أو سشم الحالٌة(ٖٕ)‪.‬‬

‫وعودة تجرإ قبابل الشرق والجنوب على مصر مجددا سببها سٌاسة السبلم التً اتبعها قبله أمنمحات‬
‫الثانً وسنوسرت الثانً وهما منشؽبلن بالبناء فً الداخل‪ ،‬وهبوط روح التحفز والمراقبة الشدٌدة للحدود‪.‬‬

‫(‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر المتحؾ المصري‪ ،‬محمد صالح علً وهوورٌج سوروزٌان‪ ،‬المجلس األعلى لآلثار‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٖ٘‬
‫(ٕٓ)‬
‫‪ -‬انظر تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬جرٌمال‪ ،‬ص ٕ٘ٔ‪ٕٔٙ -‬‬
‫(ٕٔ)‬
‫‪ -‬للمزٌد عن هذا اإلصبلح انظر المرجع السابق‪ ،‬ص ٕ٘ٔ‪ٕٔٙ -‬‬
‫(ٕٕ)‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬ص ٗ‪ٔ9‬‬
‫(ٖٕ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع ص ٓ‪ٔ8‬‬

‫ٔ‪7‬‬
‫فقد ظلت هجرات الزنوج والسودانٌٌن التً ظهرت أٌام سنوسرت األول تهدد النوبة‪ ،‬فحاربهم‬
‫سنوسرت الثالث ٗ مرات‪ ،‬ومهد لحروبه معهم بشق فتحة واسعة بٌن صخور الشبلل األول‪ -‬رؼم‬
‫صبلبتها‪ -‬بلػ عرضها ٕٓ ذراعا‪ ،‬وبلػ طولها ٓ٘ٔ ذراعا وعمقها ٘ٔ ذراعا لتٌسر انتقال الجٌش‬
‫واألسطول‪ ،‬وزاد الجنود الحصون فوق المرتفعات على ضفتً النٌل وفوق الجزر من أسوان حتى وادي‬
‫حلفا(ٕٗ)‪.‬‬

‫وترك سنوسرت الثالث‪ ،‬الذي حكم ‪ ٖٙ‬سنة‪ ،‬فً معبد حصن سمنة قرب وادي حلفا ]عند الشبلل الثانً‬
‫بالسودان حالٌا[ نصبٌن من الجرانٌت لتحدٌد حدود مصر الجنوبٌة‪ ،‬وأمر أال ٌتعداها زنجً قط عن طرٌق‬
‫البر أو النٌل‪ ،‬إال من ابتؽى التجارة فً سوق إٌقن الكبٌر بؤسوان‪ ،‬أو وفد فً مهمة‪ ،‬فؤولبك ٌعاملون‬
‫بالحسنى‪ ،‬ولكن بؽٌر أن تتعدى سفنهم شمالً سمنة(ٕ٘)‪.‬‬

‫وتدل أنشطة حكام مصر الحربٌة المتواصلة هذه فً النوبة وسٌناء حتى رفح وفً الصحراء الؽربٌة‬
‫حتى مرسى مطروح لطرد الؽزاة‪ ،‬وإقامة حصون وقبلع فً هذه األطراؾ لمنع عودتهم على أنه لمصر‬
‫حدودها المعروفة طوال ذلك التارٌخ‪ ،‬ولم تختلؾ كثٌرا عما هً اآلن‪ ،‬وفً هذا رد واضح على من ٌدعً‬
‫أن فكرة الحدود "بدعة حدٌثة"‪ ،‬أو بدعة وضعها "االستعمار األوروبً"‪ ،‬وأن الببلد مشاع للجمٌع‪.‬‬

‫وحظً سنوسرت بنصٌب كبٌر من تمجٌد شعبه‪ ،‬واحتفظت األجٌال بذكراه‪ ،‬فظلت بعض حصون النوبة‬
‫تسمى باسمه‪ ،‬وذكره تحوتمس الثالث‪ ،‬المحارب العظٌم‪ ،‬بالخٌر بعد نحو ٗ قرون من وفاته‪ ،‬وشٌد له نصبا‬
‫باسمه‪ ،‬وعندما وفد المإرخون اإلؼرٌق والرومان بعده بمبات السنٌن سمعوا عنه حكاٌات شٌقة(‪.)ٕٙ‬‬

‫وتسلم األمانة ابنه أمنمحات الثالث‪ ،‬وحكم ٘ٗ عاما‪ ،‬عاشها جٌله فً استكمال مشارٌع آبابه وأجداده‪،‬‬
‫فبنى هرمٌن فً دهشور وهوارة بالجٌزة والفٌوم‪ ،‬و َّدعم الحصون عند سمنة على الحدود مع كوش‬
‫كثؾ التواجد البشري فً سٌناء‪،‬‬‫(السودان) وحصون سٌناء‪ ،‬وإلى جانب استكمال مشارٌع الري فً الفٌوم َّ‬
‫فبعد أن كانت معسكرات العمال فً المحاجر ومناجم الفٌروز والنحاس موسمٌة جعلها دابمة تضم منازل‬
‫وآبار وجبانات‪ ،‬وأجرى توسعات فً معبد حتحور "سٌدة الفٌروز" بسرابٌط الخادم وسط سٌناء(‪.)ٕ9‬‬

‫وهكذا صارت مصر "ماعت" مجسدة على األرض‪ ..‬فً أكمل صورة ٌتمناها البشر من العز واألمن‪،‬‬
‫فً عالم ٌموج وقتها وٌتزلزل بالحروب األهلٌة والعرقٌة والمذابح الشنٌعة فً الشام وببلد النهرٌن (العراق)‬
‫وعٌبلم (داخل إٌران الٌوم)‪ ،‬وؼٌرها لتوالً استٌطان الهجرات الكثٌفة فً أراضٌهم وعدم نضج عقٌدة‬
‫الدولة الوطن والحكم المركزي عندهم حتى ذلك الوقت‪.‬‬

‫وبمراجعة األسباب والنتابج التً حرر بها الزعماء فً األسرتٌن ٔٔ ؤٕ مصر من نار الفوضى الدامٌة‬

‫(ٕٗ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫(ٕ٘)‬
‫‪ -‬نفس المرجع ٓ‪ٔ8ٔ-ٔ8‬‬
‫(‪)ٕٙ‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٔ‪ٔ8‬‬
‫(‪)ٕ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٔ8 -ٕٔ9‬‬

‫ٕ‪7‬‬
‫كما نقلتها لنا البردٌات واآلثار‪ ..‬كم منها ٌنطبق علٌه ما ورد فً البنود الـ ‪ ٔ9‬لدستور عمار مصر؟‬

‫"إن السماء تكون فً سالم‪ ،‬واألرض تكون فً سرور‪ ،‬ذلك أنه قد أُشٌع أن الملك سوؾ ٌضع "الماعت" لتحل‬
‫محل (الباطل)"(‪.)ٕ8‬‬

‫(نصوص األهرام ٘‪)Pyr.ٔ99‬‬

‫"إنه قد محا الظلم ألنه أحب العدل (ماعت) كثٌرا"‬

‫(نقش ٌصؾ أمنمحات األول بعد ٖ أجٌال من وفاته(‪))ٕ9‬‬

‫"إنها ]ماعت[ ال تتؽٌر وال تتبدل منذ زمن الذي أوجدها"‬

‫(الحكٌم بتاح حتب)‬

‫إنه "الذي ٌضع الماعت فً مكان الباطل"(ٖٓ)‪ ،‬أي بدل الباطل‬

‫(نصوص األهرام ٘‪ Pyr, ٕٙ‬عن صفة الحاكم الصالح)‬


‫(ٖٔ)‬
‫"إن صالح األرض (مصر) ٌنحصر فً تطبٌق الماعت"‬

‫(الفبلح الفصٌح فً شكواه الثالثة)‬

‫(‪)ٕ8‬‬
‫‪ -‬راجع تقدٌم علً رضوان لكتاب "الماعت‪ ..‬فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔ‪ٔ٘-‬‬
‫(‪)ٕ9‬‬
‫‪ -‬موسوعة مصر القدٌمة‪ ،‬سلٌم حسن‪ ،‬ج ‪ ،ٔ9‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٕٖ‬
‫(ٖٓ)‬
‫‪ -‬فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔ‪ٔ٘-‬‬
‫(ٖٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬

‫ٖ‪7‬‬
‫تانً تانً تانً‬

‫حنروح للحٌرة تـانً‬

‫ونضٌع ونجري ورا األمــــانً‬

‫وٌؽٌب القمر ونعٌش الســـهر‬

‫وأهــات األلم فً لٌالً النــدم‬

‫بتصحً الطرٌق خطاوٌنا وأنٌن السنٌن‬

‫والسما بتبكً علٌـنا والنــــاي الحــــــزٌن‬


‫(ٔ)‬
‫حتى نجوم لٌالٌـــنا والقـــمر ؼاٌبٌـــــــــن‬

‫(ٔ)‬
‫‪ -‬أؼنٌة موعود‪ ،‬كلمات محمد حمزة‪ ،‬ألحان بلٌػ حمدي‪ ،‬ؼناء عبد الحلٌم حافظ‬
‫المشهد ‪ :ٙ‬سقوط الدولة المركزٌة (الزفتة الثانٌة)‬
‫ٖٖ‪ ٕٔ٘٘ -ٔٙ‬ق‪.‬م‬

‫مصر تدفع الجزٌة‬

‫▼▼▼ ونسٌت مصر‪! ..‬‬

‫فً فٌلم "العتبة الخضرا" سؤل الرجل الطٌب مبروك التاجر الماكر ٌوسؾ‪" :‬إنت إزاي بتكسب الفلوس دي‬
‫كلها؟"‪ ،‬فقاله‪ ":‬ببص على السوق محتاج إٌه وأوفره‪ ،‬ولو لقتوش محتاج أخلٌه محتاج(ٕ)"‪.‬‬

‫مبروك ٌمثل مصر فً سبلمة نٌتها مع اآلخرٌن‪ ،‬هذه الطٌبة التً تظن أن الجمٌع مثلها طٌبون‪ -‬مداموا‬
‫ال ٌرفعون فً وجهها السبلح‪ -‬فتصدق ما ٌقولونه لها‪ ،‬فٌبٌعون لها الوهم والفخ (العتبة الخضرا)‪ ،‬وٌوسؾ‬
‫هو أعادي مصر الداٌمٌن الذٌن إذا فشلوا فً اختراقها بالسبلح اخترعوا لها الحجج لتقبلهم فً أرضها‪،‬‬
‫وأؼروها ببضاٌع ال تحتاجها فً األساس‪ ،‬ولكن بسحر لسان تاجر محترؾ "تزوٌق البضاعة" ٌوهمونها‬
‫أنها تحتاجها‪ ،‬فتفتح لهم أبوابها على مصراعٌها‪.‬‬

‫وداٌ ما‪ ..‬تبدأ مإشرات االنهٌار فً مصر فً اللحظة التً تصل فٌها شدة لمعان القوة المصرٌة إلى‬
‫أشدها‪ ،‬وتخطؾ أبصار جٌرانها‪ ،‬ولكنها‪ ،‬وٌاللعجب‪ ،‬تخطؾ كذلك أبصار المصرٌٌن عن رإٌة أعادٌهم‬
‫ومكاٌدهم أحٌانا‪ ،‬وعن حماٌة بلدهم من "رباعً السقوط"‪.‬‬

‫▼▼▼ وصفة خراب مصر‬

‫لم ٌقصد حاكم مصري خالص المصرٌة اتباعها مطلقا‪ ،‬ولكن بعضهم اتبعوها عن ؼفلة وإهمال‪ ،‬والؽفلة‬
‫نتٌجتها أشنع من الخٌانة‪.‬‬

‫و(وصفة خراب مصر) هً "رباعً السقوط" المعاكس تماما لـ"رباعً العمار" (وصفة عمارة مصر)‬
‫وهذا الرباعً المعاكس هو خبلصة البنود الـ ‪ ٔ9‬لدستور الشٌطان "إزفت"‪:‬‬

‫(ٕ)‬
‫‪ -‬فٌلم العتبة الخضرا‪ ،‬تؤلٌؾ جلٌل البنداري‪ ،‬إخراج فطٌن عبد الوهاب‪ ،‬تمثٌل‪ :‬إسماعٌل ٌس وأحمد مظهر وصباح‬

‫٘‪7‬‬
‫ٔ‪ -‬البلمركزٌة فً الحكم وضعؾ قبضة الدولة‬

‫ٕ‪ -‬ظهور مراكز قوى سٌاسٌة واقتصادٌة وفنٌة ودٌنٌة تناطح الدولة‬

‫ٖ‪ -‬إهمال الحدود وفتح أبواب مصر لهجرات أجنبٌة وتوطٌنها‬

‫ٗ‪ -‬السٌر على دساتٌر ووصفات أجنبٌة فً الحكم والحٌاة مخالفة لـ ماعت‬

‫ففً أٌام سنوسرت الثالث‪ ،‬وبفضل قضابه هو وأسبلفه أعمارهم فً حماٌة مصر من الؽزوات‪ ،‬وفً‬
‫فبلحة أرضها وعمارتها‪ ،‬وتفتٌت مراكز القوى الشاذة‪ ،‬وصلت مصر ألعلى سماء المجد‪ ،‬وباتت كالشمس‬
‫المتؤلألة بٌن جٌرانها‪ ،‬توقظ بداخل الطامعٌن حنٌن العودة إلى ؼزوها من جدٌد‪.‬‬

‫وألن مصر وقتها حصنت الحدود‪ ،‬وباتت قادرة على ردع من ٌرفع فً وجهها السبلح‪ ،‬فكان التسلل‬
‫بإلقاء السبلح‪ -‬مإقتا‪ -‬والدخول فً ثوب التجارة وطلب العمل فً المهن الشاقة واللسان الحلو لقبول لجوبهم‬
‫لمصر هربا من الهجرات األمورٌة التً تمزق الشام هو سبلح االختراق‪.‬‬

‫وألن مصر وقتها عامرة بالمشارٌع القومٌة الكبٌرة‪ ،‬وباإلنتاج الوفٌر‪ ،‬وبحركة التجارة مع أفرٌقٌا‬
‫والشام‪ ،‬فقد استوعبت هإالء‪ ،‬ووجدوا من أشفق على أحوالهم‪ ،‬ومن تؽرٌه بضاٌعهم وصناعاتهم الؽرٌبة‬
‫الطرٌفة القادمٌن بها؛ ألنهم كانوا تجارا شاطرٌن‪ ،‬رؼم عدم حاجة المصرٌٌن لها أساسا‪ ،‬لكن ذاكرة‬
‫المصرٌٌن "تصفر فٌها الرٌح"‪.‬‬

‫وأعطى المسبولون فرص عمل لمن طلبها‪ ،‬خاصة فً الوظابؾ الشاقة والصؽٌرة‪ ،‬ولم ٌنتبهوا إلى أنهم‬
‫خبلل سنوات سٌتكتلون وٌحصلون على وظابؾ أكبر وأكبر‪ ،‬وٌنشرون الفتن واألزمات مجددا‪ ،‬حتى‬
‫ٌحكمها ذلك الؽرٌب الذي جاء متوسبل الرزق واألمان‪.‬‬

‫واحتفظت نصوص من عهد الدولة الوسطى بؤسماء كنعانٌة كثٌرة عمل أصحابها فً مناجم ومحاجر‬
‫سٌناء‪ ،‬وأتباعا وإماء فً المعابد والبٌوت المصرٌة(ٖ)‪ ،‬وبعض األٌدي العاملة األجنبٌة جاءت ومعها تقنٌات‬
‫جدٌدة‪ ،‬وبدأت عملٌة تسلل بطٌبة مهدت الطرٌق أمام السٌطرة اآلسٌوٌة إذا حانت الفرصة(ٗ)‪.‬‬

‫كما ارتدى التسلل ثوب التجارة‪ ،‬وتظهر لنا مقبرة "خنوم حتب الثانً" فً بنً حسن بالمنٌا نقوشا‬
‫لجماعة أجنبٌة ٌتزعمهم شخص ذكرته باسم "إبشٌا" قادمة للمنٌا‪ ،‬وفٌها رجال ونساء وأطفال‪ ،‬تحمل هداٌا‬
‫للمحافظ أو بضاٌع للتجارة‪ ،‬ؼٌر أن وجود نساء وأطفال ٌعنً أنهم جاءوا بنٌة االستٌطان‪.‬‬

‫(ٖ)‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔ99‬‬
‫(ٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬نٌكوال جرٌمال‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٕٔ‪ٕٔٗ -‬‬

‫‪7ٙ‬‬
‫رسم لمنظر منقوش فً مقبرة خنوم حتب الثانً بالمنٌا فٌه مصري (المرتدي نقبة بٌضاء على ٌمٌن الناظر) ٌقود شوام بعاببلتهم لتقدٌمهم إلى مسبول‬
‫البلدة فور قدومهم لمصر‪ ،‬وٌعتقد علماء مصرٌات أنهم تجار أو مهاجرٌن أو الجبٌن شكلوا مقدمة الؽزو الهكسوسً االستٌطانً‬

‫وكان أمنمحات الثالث‪ ،‬ابن سنوسرت الثالث‪ ،‬شخصٌة هادبة مالت إلى حٌاة السلم مثل جدٌه أمنمحات‬
‫الثانً وسنوسرت الثانً‪ ،‬واستحب مشارٌع العمران(٘)‪ ،‬ففٌما ٌبدو اطمبن إلى أن مصر فرضت هٌبتها‬
‫بشكل "نهابً" على جٌرانها من كرمة فً السودان جنوبا وحتى ببٌلوس فً لبنان‪ ،‬وأن الحصون التً‬
‫أقامها أسبلفه واستكملها هو عند أسوان وسٌناء كافٌة لردعهم‪ ،‬فحدث ارتخاء وتسلل األجانب‪ ،‬واستهان‬
‫بؤمر الدخبلء بوهم أنهم فبة قلٌلة‪ ،‬وأن "كله تحت السٌطرة"‪ ،‬و"مٌن ٌقدر على مصر؟"‪.‬‬

‫وٌبدو أن من أسباب ؼفلة مصر أٌضا عن هدؾ هذا التسلل هو المدٌح الهاٌل الذي ؼمرها به‬
‫المهاجرون‪ ،‬وما ٌتضمنه من تبجٌل لمصر وتعداد لفضابلها علٌهم‪ ،‬وتقلٌدهم لها فً ثقافتها وصناعاتها‪،‬‬
‫إضافة إلى إؼراءها بؤنواع جدٌدة من بضاٌع الفضة واألحجار الكرٌمة والزٌوت ومواد التجمٌل‪ ،‬سال لها‬
‫لعاب مصرٌٌن كثرت فً أٌدٌهم الثروات بعد عودة مصر إلى مركزٌتها‪.‬‬

‫وكذلك العبلقات التجارٌة الحسنة التً كانت بٌن مصر وبعض إمارات الشام التً جعلت حركة الذهاب‬
‫واإلٌاب بٌن البلدٌن تبدو "طبٌعٌة"‪ ،‬واطمبن المصرٌون ألهلها‪.‬‬

‫وفً ذلك ٌقول جرٌمال‪" :‬وفً ؼضون ذلك كانت مصر المثل الذي سار أهل مدٌنة "بٌبلوس" ]جبٌل‬
‫على ساحل لبنان[ على هدٌه‪ ،‬فتلقب زعماإها باأللقاب المصرٌة‪ ،‬واستخدموا عبلماتها الهٌروؼلٌفٌة‬

‫(٘)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬ص ٗ‪ٔ9‬‬

‫‪77‬‬
‫والمنتجات التً صُنعت على ضفاؾ نهر النٌل(‪.")ٙ‬‬

‫ولم ترفض مصر من ناحٌتها أن تفتح مجاالت العمل أمام الراؼبٌن فٌه من شٌوخ جنوب سورٌا‬
‫تؤب أن تفتح أمام الراؼبٌن منهم فً‬
‫ورجالهم فً عملٌات استؽبلل الفٌروز فً شبه جزٌرة سٌناء‪ ،‬ولم َ‬
‫االستقرار فٌها باب الوظابؾ فً عاصمتها ذاتها"(‪ ،!)9‬بحسب عبد العزٌز صالح‪.‬‬

‫وكما ٌقول جرٌمال‪" :‬واستقبلت مصر فً عهده ]أمنمحات الثالث[ جمعا ؼفٌرا من العمالة الشرقٌة من‬
‫فبلحٌن وجنود وحرفٌٌن وفدوا إلى مصر‪ ،‬وقد شدهم إشعاعها الحضاري وفرص العمل المتوفرة نتٌجة‬
‫مشارٌع التنمٌة فً طول الببلد وعرضها على حد سواء(‪.")8‬‬

‫واتسعت صبلت مصر التجارٌة والثقافٌة بالشام‪ ،‬السٌما المٌنابٌن التجارٌٌن جبٌل وأوجارٌت‪ ،‬وعثر فً‬
‫مقابر أمراء هذٌن المٌنابٌن على آثار مصرٌة وصلتهم على هٌبة الهداٌا من أمنمحات الثالث وخلفه‬
‫أمنمحات الرابع(‪ ،)9‬واستؽل الصناع فً الشام البضابع المصرٌة فقلدوها(ٓٔ)‪.‬‬

‫وهكذا‪ ،‬اطمؤنت مصر لمن ظنتهم "أصدقابها" لدرجة الدخول فً معارؾ شخصٌة على مستوى‬
‫العاببلت الحاكمة‪ ،‬فتبادل أمٌرات مصرٌات وأمٌرات شامٌات الهداٌا‪ ،‬ومنها تمثال على هٌبة أبو الهول‬
‫لؤلمٌرة "إتا" بنت أمنمحات الثانً عُثر علٌه فً قطنة شمالً حمص بسورٌا‪ ،‬وتمثال ٌجسد "خنمة نفرة‬
‫حجة"‪ ،‬أخت سنوسرت الثانً‪ ،‬كما وصل الود لدرجة أن مصرٌات تسموا بؤسامً معبودات شامٌات كربة‬
‫جٌبل(ٔٔ) فً انحراؾ ؼرٌب وقتها عن االعتزاز المعلوم بالدٌن المصري‪.‬‬

‫ولم تلتفت الحكومة إلى اإلنذارات التً ترِّ ن فً اآلذان عن نواٌا جماعات شامٌة نحو مصر‪ ،‬مثل مشاكل‬
‫الحدود التً تنشب بٌن الحامٌات المصرٌة وبدو الصحاري الفلسطٌنٌة من حٌن إلى آخر‪.‬‬

‫ومن تؤثٌر انفتاح أمنمحات الثالث الؽٌر محسوب مع الجٌران أن سرت روح االرتخاء فً خلفابه‪،‬‬
‫أمنمحات الرابع‪ ،‬وحور أوت إب‪ ،‬ونفرو سوبك‪ ،‬وٌبدو أنهم كانوا من الحكام الضعاؾ قلٌلً الوعً‪ ،‬فٌما‬
‫كان بالتزامن ٌقوي المهاجرون شوكتهم فً الداخل(ٕٔ)‪.‬‬

‫وانتهت األسرة ٕٔ مع حكم الملكة نفرو سوبك القصٌر حوالً ٘‪ ٔ98‬ق‪ .‬م‪ ،‬وانتقل الحكم لؤلسرة ٖٔ‪،‬‬
‫واستمر فً معظم عصر األسرة ٖٔ االستقرار النسبً‪ ،‬والفضل األول فً ذلك لتقالٌد العمل العرٌق‬

‫(‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬ص ٕٗٔ‬
‫(‪)9‬‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬ص ٕ‪ٔ8‬‬
‫(‪)8‬‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬ص ‪ٕٔ8‬‬
‫(‪)9‬‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬ص ٔ‪ٔ8‬‬
‫(ٓٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٔ98‬‬
‫(ٔٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‬
‫(ٕٔ)‬
‫‪ٌ -‬شبه ما جرى فً عهد أمنمحات الثالث من ارتخاء وقلة وعً ما حدث فً عهد الربٌس حسنً مبارك‪ ،‬فبعد عقود من الحروب والكفاح خلدت‬
‫مصر إلى السلم‪ ،‬وتراخت ٌداها عن الحدود‪ ،‬وظنت أنها طوت عهود الحروب‪ ،‬وقابلت استعطاؾ فلسطٌنٌٌن لها فً الشرق وسودانٌٌن لها فً‬
‫الجنوب بؤذرع مفت وحة‪ ،‬فتركت فلسطٌنٌٌن ٌتسللون إلى البالد بعدة أشكال‪ ،‬منها األنفاق‪ ،‬والسودانٌٌن تتكاثر أعدادهم باسم الجبٌن‪ ،‬إضافة لتسلل‬
‫جماعات من لٌبٌا‪ ،‬وظهرت مخاطر األنفاق وتوطٌن األجانب بعد عام ٕٔٔٓ فً ضرب االقتصاد واألعمال اإلرهابٌة‪ ،‬خاصة أن مصر ؼفلت كذلك‬
‫عن تسلل أعدابها لها فكرٌا بالتنظٌمات والتٌارات الفكرٌة التً خربت هوٌة ونفوس كثٌر من أبنابها‪ ،‬وجعلتهم "ضد الوطن"‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫بمإسسات الحكومة والجهاز اإلداري(ٖٔ)‪ ،‬بتعبٌر جرٌمال‪.‬‬

‫لكن مع خفوت روح التحدى والحرب واستشعار الخطر‪ ،‬دبَّ الضعؾ فً األوصال نهاٌة األسرة ٖٔ‪،‬‬
‫وظهرت معالمه بقٌام األسرة ٗٔ فً سخا بكفر الشٌخ بالوجه البحري لمنافسة األسرة ٖٔ‪ ،‬فتشتت الحكم‬
‫المركزي من جدٌد‪ ،‬وانشرخ قلب مصر‪ ،‬وتفرَّ قت السلطات‪ ،‬وتمزق الجٌش بٌنهم‪ ،‬وتعاقب الحكام بشكل‬
‫سرٌع مهزوزٌن‪ ،‬وحكم معظمهم لفترات صؽٌرة‪ ،‬وأطلَّت فوضى جدٌدة بوجهها األؼبر فً تارٌخ‬
‫مصر(ٗٔ)‪.‬‬

‫▼▼▼ الؽزو‪ ..‬هكسوس الشرق والجنوب‬

‫تحت عنوان "الؽزو" ٌتتبع جرٌمال جذور االحتبلل الهكسوسً فٌحكً أن تدفق العمالة اآلسٌوٌة هو‬
‫بداٌة حركة هجرة متصلة وسلمٌة‪ ،‬ولكنها ثابتة ودإوبة‪ ،‬أدت إلى استقرار بعض الشعوب على الحدود‬
‫الشمالٌة الشرقٌة لمصر‪ ،‬جاءت بعد أن طردتها من مواطنها هجرات جدٌدة هاجمت الشام‪ ،‬حتى إذا آن‬
‫األوان نزع المهاجرون إلى االتحاد لٌحتلوا المناطق التً تقع تحت إٌدٌهم‪ ،‬وعادت اآللٌات التً كانت وراء‬
‫سقوط الدولة القدٌمة إلى الظهور‪ ،‬وتتمثل فً إضعاؾ الدولة وما ترتب علٌه من انفراط عقد وحدة الببلد‪.‬‬
‫وأخذت مصر الحقٌقٌة تتحصن فً جنوب الببلد(٘ٔ)‪.‬‬

‫وتشٌر عبارة أن "مصر الحقٌقٌة" أخذت "تتحصن فً جنوب الببلد"‪ ،‬إلى أن المهاجرٌن (الذٌن سماهم‬
‫المصرٌون بعد ذلك بالهكسوس) مارسوا انتهاكات وفظاٌع ضد المصرٌٌن‪ ،‬وطردوا بعضهم من أراضٌهم‬
‫بالوجه البحري‪ ،‬فذهب بعضهم إلى الوجه القبلً الذي لم ٌصله االحتبلل االستٌطانً‪.‬‬

‫وصؾ آخر ٌورده ترٌفور براٌس للهكسوس بؤنهم "هجرات شعوب كنعان"‪ ،‬وأنهم خبلل الدولة الوسطى‬
‫"استقرت بشكل نهابً فً دلتا مصر وبؤعداد كبٌرة ال حصر لها‪ ،‬وبالفعل اعتبر بعض الباحثٌن أن أولبك‬
‫المهاجرٌن كانوا سببا فً انهٌار السٌطرة السٌاسٌة التً وصلت بالحكم إلى انهٌاره‪ ،‬وربما كانوا بالفعل‬
‫عنصرا هاما من العناصر التً أدت إلى انهٌار اإلمبراطورٌة المصرٌة بعد حكم أسر المملكة‬
‫المتوسطة"(‪.)ٔٙ‬‬

‫واستولى الهكسوس على الحكم فً شمال شرق مصر بالتدرٌج وعلى مراحل‪ ،‬فؤوال وطدوا أقدامهم فً‬
‫فرعشة وتل الصحابة عند مخرج وادي الطمٌبلت‪ ،‬وفً بوباستس وإنشاص وفً تل الٌهودٌة على مسافة‬
‫ٕٓ كم شمال مدٌنة هلٌوبولٌس (أون بالمصري القدٌم وعٌن شمس حالٌا)(‪.)ٔ9‬‬

‫واستؽرق هذا الزحؾ حوالً ٓ٘ سنة‪ -‬أي ببطء شدٌد لم ٌلحظه المصرٌون‪ -‬لٌنتهً سنة ٘‪ ٔٙ9‬ق‪ .‬م‬

‫(ٖٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬جرٌمال‪ ،‬ص ‪ٕٖ9 -ٕٖ8‬‬
‫(ٗٔ)‬
‫‪ -‬للمزٌد انظر‪ :‬رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬رمضان عبده علً‪ ،‬جٕ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ٘ٗ‪ٗ9ٖ -‬‬
‫(٘ٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬جرٌمال‪ ،‬ص ‪ٕٖ9‬‬
‫(‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬رسابل عظماء الملوك فً الشرق األدنى القدٌم‪ ،‬ترٌفور براٌس‪ ،‬ترجمة رفعت السٌد علً‪ ،‬دار العلوم للنشر والتوزٌع‪ ،‬طٔ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪ٖٙ‬‬
‫(‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬ص ٕٕٗ‬

‫‪79‬‬
‫فً عهد الملك رقم ٖٖ أو ٖٗ فً قابمة ملوك األسرة ٖٔ(‪.)ٔ8‬‬

‫وتضم بردٌة بروكلٌن (‪ )Pap.Brooklyn ٖ٘.ٔٗٗٙ‬التً تتناول أول عهد الملك سوبك حتب‬
‫الثالث فً األسرة ٖٔ‪ -‬وهً خاصة بمسابل الخدم فً الوجه القبلً‪ ،‬قاٌمة لـ ٘ٗ آسٌوٌا من الرجال والنساء‬
‫والولدان ألحقوا بخدمة موظؾ واحد فً الوجه القبلً‪ ،‬وٌعلق وٌلٌام هاٌس على البردٌة بعد أن درسها‬
‫وتؤملها‪" :‬و إذا ما تصورنا أن مثل هذا العدد سٌوجد عند األؼنٌاء من المصرٌٌن فً ذلك الوقت فً مصر‬
‫العلٌا‪ ،‬فعند ذلك سٌصبح عدد اآلسٌوٌٌن كبٌرا أكثر مما ٌتصوره اإلنسان‪ ،‬وساء لعبت هذه المجموعات من‬
‫العبٌد أم لم ٌلعبوا فً التعجٌل أو تمهٌد الطرٌق الحتبلل الهكسوسن فهذا أمر صعب قبوله‪ ،‬إال أنه كان‬
‫للتزاوج وما شاكل هذا أثره فً إضعاؾ مقاومة المصرٌٌن للهكسوس الذٌن سٌندفعون بعد فترة إلى‬
‫الببلد"(‪ ،)ٔ9‬فً إشارة فٌما ٌبدو لصنع الهكسوس روابط عاطفٌة وعبلقات مصلحة مع بعض المصرٌٌن‪،‬‬
‫فالبتؤكٌد ؼرس هإالء فً منازل وأماكن عمل األؼنٌاء وأصحاب النفوذ‪ ،‬وبهذه الكثرة‪ ،‬وفً مجتمع ٌقدم‬
‫حسن النٌة مع الؽرٌب على الشك‪ ،‬بالتؤكٌد لن ٌمر مرور الكرام‪.‬‬

‫وواضح أن الخطر حاوط المصرٌٌن من كل اتجاه‪ ،‬فتخلخلت الحدود الؽربٌة والجنوبٌة أٌضا على وقع‬
‫دبٌب الضعؾ فً مإسسات الدولة المركزٌة‪ ،‬حتى لجؤ الناس إلى ما أسماه علماء اآلثار بـ"نصوص‬
‫اللعنة"‪ ،‬وهً نصوص ألدعٌة ٌطلب الناس من رجال الدٌن كتابتها على تماثٌل صؽٌرة من الطٌن‪ ،‬تمثل الشٌوخ‬
‫اللٌبٌٌن وحكام كوش وحكام مدن الشام‪ ،‬ذكروا منها بٌبلوس (الجبٌل)‪ ،‬أورشلٌم (القدس)‪ ،‬عسقلون (عسقبلن)‪،‬‬
‫ٌافا‪ ،‬كوشو‪ ،‬العناكٌم‪ ،‬حبرون (الخلٌل)‪ ،‬عشتاروت‪ ،‬أكر (عكا)‪ ،‬شاروهٌن (ؼزة)‪ ،‬وؼٌرها‪ ،‬على أمل أن تصب‬
‫األرباب لعناتها علٌهم‪ ،‬ثم ٌكسرونها أو ٌلقونها فً النار‪ ،‬وهو ما ٌوضح أنهم بدأوا ٌتجرعون مرارة استٌطان‬
‫هجرات تابعة لهإالء(ٕٓ)‪.‬‬

‫كما ٌكشؾ عن ضعؾ مإسسات الدولة التً لم ٌعد األهالً ٌرون فٌها القدرة على ردع تجرإ األجانب‬
‫علٌهم فً الببلد(ٕٔ) فلجؤوا ألسالٌب بدابٌة لتفرٌػ ما فً صدورهم من ؼٌظ أو فزع وخوؾ من المجهول‪.‬‬

‫ونصوص اللعنة باقً منها حالٌا أن الناس من باب المرح أو الدعابة ٌقصون الورق على شكل عروسة‬
‫أو ٌشكلون عروسة من عجٌن أو طٌن‪ ،‬وٌخرمونها بشوكة أو عود وهم ٌصبون اللعنات على العزول‬
‫والخصوم مثل‪" :‬رقٌتك واسترقٌتك من عٌن فبلنة وشوكة فً عٌن فبلن" الذي تمثله العروسة‪ ،‬وعقب ذلك‬
‫ٌحرق الشخص الورقة أو ٌكسر عروسة الطٌن على أمل كسر الشر‪.‬‬

‫وألن أعداء مصر داٌما ٌتحالفون ضدها فً وقت ضعفها‪ ،‬فقد تحالؾ الهكسوس القادمون من الشرق مع‬
‫الكوشٌٌن فً السودان وببلد الزنج المهاجمٌن لها من الجنوب‪ ،‬وانحصر المصرٌون بٌن فكً الكماشة‪،‬‬
‫وهذا بخبلؾ تجرإ القباٌل الهاجمة علٌهم من الؽرب‪ ،‬وعشعشة األجانب بالداخل‪.‬‬

‫(‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع ص ٕٔٗ‬
‫(‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬مجموعة الملوك المسماة "سوبك حتب" فً األسرة ٖٔ‪ ،‬د‪ .‬أحمد محمود صابون‪ ،‬دار المعرفة الجامعٌة‪ ،‬اإلسكندرٌة‪ ،‬ص ٖٔ‪ٖٕ -‬‬
‫(ٕٓ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬ج ٖ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٔ -8‬‬
‫(ٕٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعرق‪ ،‬ص ٘‪ٔ8‬‬

‫ٓ‪8‬‬
‫ووصؾ المإرخ المصري مانٌتون ؼزو الهكسوس لمصر خبلل كبلمه عن ملك سماه توتٌماٌوس‪" :‬وفً‬
‫عهده كٌؾ ال أدرى عصؾ بنا ؼضب الرب‪ ،‬ووفد ؼزاة من الشرق مجهولو األصل إلى أرضنا دون‬
‫توقع‪ ،‬وكلهم أمل فً النصر‪ ،‬فهاجموها عنوة واستولوا علٌها بسهولة‪ ،‬وتؽلبوا على حكامها‪ ،‬وحرقوا مدننا‬
‫فً وحشٌة‪ ،‬وس ووا معابد األرباب باألرض‪ ،‬وعاملوا المواطنٌن بخشونة وفظاظة‪ ،‬وذبحوا بعضهم‪،‬‬
‫واسترقوا نساء بعض آخر وأطفالهم(ٕٕ)"‪.‬‬

‫ت فجؤة كما قال مانٌتون الذي كتب تارٌخه بعد ٓٓ‪ٔٙ‬‬ ‫لكن واضح من تسلسل األحداث أن الؽزو لم ٌؤ ِ‬
‫سنة من األحداث‪ ،‬فالؽزو العسكري هو آخر خطوة بعد أن تمكنت جماعاتهم المتسللة فً الداخل‪ ،‬وؼزل‬
‫عبلقات قوٌة مع عاببلت مصرٌة‪ ،‬وتحصنوا عبرها بالنفوذ‪ ،‬وعلموا األسرار‪ ،‬فلما تؤكدوا من ضعؾ‬
‫مإسسات الدولة‪ ،‬وإهمالها لـ ماعت‪ ،‬بذروا الشقاق والنزاع فً مصر‪ ،‬فطابت لهم الثمرة‪ ،‬ولم تعد تحتاج إال‬
‫طوبة ترمى علٌها لتسقطها‪ ،‬فاستدعوا بنً جلدتهم المسلحٌن من الشام لٌضربوا الضربة األخٌرة‪.‬‬

‫وكلمة "هكسوس" عند المصرٌٌن ال تعنً شعبا بعٌنه‪ ،‬ولكن تعنً القباٌل الرعوٌة األجنبٌة‪ ،‬وهً تسمٌة‬
‫تشبه كما نقول اآلن "الفرنجة" على الؽرب‪ ،‬وال نقصد بها برٌطانٌا فقط أو فرنسا فقط‪ ،‬بل كل القادمٌن من‬
‫أوروبا‪ ،‬أو نطلق كلمة العرب على كل دول الخلٌج ولٌس دولة بعٌنها‪.‬‬

‫وفً رأي الدكتور صالح(ٖٕ) فالهكسوس خلٌط من هجرات آرٌة ؼزت الشام مع جماعات أمورٌة من‬
‫سكان سهول الشام‪ ،‬وتحالفوا سوٌا‪ ،‬واتجهوا للجنوب ناحٌة الحدود المصرٌة‪ ،‬وتسربوا منها إلى الداخل‬
‫ببطء‪ ،‬وكوَّ ن المهاجرون نفوذا لهم بالداخل‪ ،‬فتشجعوا على ؼزوها بالضربة القاضٌة بمساعدة المهاجرٌن‬
‫القدامى الذٌن عرفوا أسرار الببلد ووثقوا عبلقتهم بؤهلها‪.‬‬

‫وٌبدو أنهم شنوا حربا نفسٌة على المصرٌٌن أٌضا بنشر قصص األهوال التً تقوم بها الهجرات الجدٌدة‬
‫فً الشام باألسلحة الجدٌدة التً ال ٌملك المصرٌون مثلها‪ ،‬وذلك لتخوٌؾ الناس‪ ،‬وكسر روحهم المعنوٌة‪،‬‬
‫خاصة وهم ٌعلمون أال جٌش مركزي أو حكومة قوٌة تقوي ظهرهم(ٕٗ)‪ ،‬وهو ما ٌشبه الحرب النفسٌة التً‬
‫ُتروى أو ُتصور عن جرابم اإلرهابٌٌن والدواعش فً العصر الحالً‪.‬‬

‫ومن أنواع األسلحة الجدٌدة التً فاجا الؽزاة بها المصرٌٌن العربات الحربٌة‪ ،‬واألقواس المركبة‬
‫الكبٌرة المصنوعة من (طبقات) الخشب ومن القرون ومن أوتار شدٌدة‪ ،‬وكانت ترمً بشدة وإلى مدى أبعد‬
‫من مرمى األقواس المصرٌة القدٌمة(ٕ٘)‪.‬‬

‫ولما استولى الهكسوس على سٌناء ومعظم الدلتا‪ ،‬تجرأوا على منؾ العظٌمة‪ ،‬ونهبوا كنوزها‪ ،‬وفضوا‬
‫أسرارها‪ ..‬نفس الكاس الذي ذاقته فً أهوال زلزال السقوط نهاٌة األسرة ‪ ..ٙ‬نفس الكاس!‬

‫(ٕٕ)‬
‫‪ -‬المرجع السابق ص ‪ٔ8ٙ‬‬
‫(ٖٕ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٔ88‬‬
‫(ٕٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‬
‫(ٕ٘)‬
‫‪ -‬نفس المرجع ص ‪ٔ89‬‬

‫ٔ‪8‬‬
‫وأول حاكم منهم اسمه سالٌتس‪ ،‬وظهرت بٌن أسامً ملوكهم أسامً آسٌوٌة مثل خٌان وٌعقوب‪ ،‬وخوفا‬
‫من هجمات المصرٌٌن أنشؤوا عاصمة لهم أقصى شرق الوجه البحري‪ ،‬محصنة تحصٌنا شدٌدا فً مدٌنة‬
‫"حت وعرة"‪ ،‬سماها الٌونان بعد ذلك أفارٌس أو أوراٌس‪ ،‬لتكون قرٌبة من مواطنهم فً الشام‪ ،‬فٌسهل‬
‫وصول مدد إلٌهم إذا ما هاجمهم المصرٌون لطردهم ذات ٌوم(‪.)ٕٙ‬‬

‫وفً نفس الوقت حاولوا التشبه بالمصرٌٌن فً األسماء والملبس وبعض أشكال العمارة والعادات‪،‬‬
‫لٌكسروا حدة كراهٌة المصرٌٌن لهم‪ ،‬وقدسوا المعبود "ست"‪ ،‬وإن احتفظوا بالكثٌر أٌضا من أسمابهم‬
‫وعاداهم ودٌنهم‪ ،‬وجعلوا من أنفسهم الطبقة األعلى فً مناطق سٌطرتهم التً بقً فٌها مصرٌون(‪.)ٕ9‬‬

‫ولم ٌنعدم اختبلطهم بالمصرٌٌن‪ ،‬ولكن انعزالهم فً جزء من الببلد‪ ،‬وكونهم قوم ؼزاة جعل هذا‬
‫االختبلط على نطاق ضٌق رؼم احتمال بقابهم فً مصر ‪ ٔٓ8‬سنة بحسب بردٌة "تورٌن"(‪ ،)ٕ8‬وظلت‬
‫صدور المصرٌٌن تموج بالؽضب منهم وتحٌن الفرص لطردهم‪.‬‬

‫أما نفوذ المصرٌٌن فً وقت احتبلل الهكسوس فتراجع نحو الوجه القبلً من بعد المنٌا‪ ،‬مع بقاء‬
‫وكون الهكسوس األسرتٌن‬‫مصرٌٌن أٌضا فً ؼرب الدلتا تمسكوا بؤراضٌهم وكونوا ما عُرؾ باألسرة ٗٔ‪َّ ،‬‬
‫٘ٔ و‪ ،ٔٙ‬فٌما كوَّ ن المصرٌون فً الوجه القبلً األسرة ‪ ،ٔ9‬وٌدفعون الجزٌة للهكسوس فً الؽالب بحسب‬
‫د‪ .‬سلٌم حسن(‪.)ٕ9‬‬

‫▲▲▲ هزٌمة الحصار الشٌطانً‬

‫ولنا أن نتخٌل الضٌقة والحصار الشدٌد الذي كابده األجداد خبلل تجهٌزهم حرب التحرٌر ضد‬
‫الهكسوس‪ ،‬ورؼم هذا استطاعوا الفكاك منه وهزٌمة الهكسوس بكل حلفابهم‪.‬‬

‫فقد سٌطر الهكسوس على معظم ثروات مصر‪ ،‬مناجم سٌناء‪ ،‬األراضً الخصبة الواسعة وأحراش البردي فً‬
‫الوجه البحري‪ ،‬وأراضً مصر ومناجمها الحجرٌة حتى المنٌا‪ ،‬وتحكموا فً طرق التجارة بٌن مصر والشام‪،‬‬
‫وهدد حلفاإهم الكوشٌون جنوب أسوان ومناجمها ومحاجرها‪ ،‬وطرق التجارة مع أفرٌقٌا‪ ،‬فبات المصرٌون ال‬
‫ٌسٌطرون على أرضهم سوا المساحة ما بٌن المنٌا وأسوان‪ ،‬وهً األقل فً الثروات من األماكن التً‬
‫ٌسٌطر علٌها الهكسوس والكوشٌون‪ ،‬فلم ٌعد فً ٌد المصرٌٌن من ثروة البلد سوا مساحة من األرض‬
‫الزراعٌة‪ ،‬إضافة لبعض الصناعات‪.‬‬

‫وفً هذه الظروؾ‪ ،‬تولى أمر المصرٌٌن فً الوجه القبلً أسرة من طٌبة هً األسرة ‪ ،ٔ9‬أسسها رع‬

‫(‪)ٕٙ‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٔ9ٓ -ٔ89‬‬
‫(‪)ٕ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٓ‪ٔ9‬‬
‫(‪)ٕ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‬
‫(‪)ٕ9‬‬
‫‪ -‬موسوعة مصر القدٌمة‪ ،‬سلٌم حسن‪ ،‬جٗ‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب (مكتبة األسرة)‪ ،‬ص ٗ٘ٔ‬

‫ٕ‪8‬‬
‫حتب‪ ،‬قررت رؼم الحصار الخانق إعداد األهالً للقتال(ٖٓ)‪.‬‬

‫▲▲▲ حرب التحرٌر الخالدة‬

‫جرى إعادة تنظٌم وتسلٌح الجٌش فً سرٌة تامة‪ ،‬وفً نفس الوقت ركزت األسرة ‪ ٔ9‬على إحٌاء الروح‬
‫والثقة والعزة فً النفوس‪ ،‬واعتزاز المصرٌٌن بتارٌخ ببلدهم أٌام األجداد‪ ،‬لٌشتاقوا إلى رإٌتها حرة من‬
‫جدٌد‪ ،‬فحافظ جٌلها على التراث المعماري واألدبً الذي تركته الدولة القدٌمة والوسطى‪ ،‬واهتموا بتدرٌس‬
‫األدب المصري والحكمة الموروثة والتعالٌم والوصاٌا‪ ،‬مثل تعالٌم "بتاح حتب" و"كاجمنً"‪ ،‬واهتموا‬
‫بترمٌم وتجدٌد المعابد والمنشآت التً شٌدها أسبلفها كترمٌم معبد "مٌن" فً أسوان وأوزٌر (أوزٌرٌس) فً‬
‫مبان جدٌدة فً الكرنك وأبٌدوس(ٖٔ)‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫سوهاج‪ ،‬ورؼم قلة الموارد شٌدت‬

‫ولٌس معروفا على وجه الٌقٌن متى بدأ الكفاح المسلح ضد الهكسوس‪ ،‬لكن ظهرت مبلبس القتال‬
‫وأدوات حربٌة كؤقواس وسهام مدفونة مع إنتؾ السابع‪ ،‬أحد أجداد أحمس‪ ،‬فً مقبرته(ٕٖ)‪ ،‬ؼٌر معروؾ هل‬
‫استعملها فً معارك ضدهم‪ ،‬أما كانت داللة على إعبلنه الحرب علٌهم وتجهٌز الببلد لذلك(ٖٖ)‪.‬‬

‫وتبدأ األدلة القاطعة على الكفاح المسلح بعهد "تا عا" الثانً (سكننرع) والد أحمس فً بردٌة دراسٌة‬
‫لتلمٌذ مصري اسمه "بنتاإور" فً عهد مرنبتاح ابن رمسٌس الثانً (بعد طرد الهكسوس بـ ٖٓٓ سنة)‬
‫تتناول قصة تحرٌر مصر‪ ،‬كتب أن أرض مصر كانت تبن تحت وطؤة الوباء‪ ،‬وأنه لم ٌكن فٌها سٌد ٌعتبر‬
‫ملك زمانه‪ ،‬فبٌنما حكم الملك سكننرع فً مدٌنة طٌبة (الجنوبٌة) حل الوباء فً مدٌنة العامو (الهكسوس)‪،‬‬
‫وبمعنى آخر استقر الملك إٌبً (ملك الهكسوس) فً حة وعرة"(ٖٗ)‪.‬‬

‫وٌظهر تقزز المصرٌٌن من الهكسوس فً أنهم استمروا حتى مبات السنٌن بعد طردهم فً وصفهم‬
‫بـ"الوباء"‪ ،‬وفً مواضع أخرى وصفوهم بـ"الهمج" و"الطاعون"‪ ،‬وٌبدو أن ملك الهكسوس "إٌبً" حاول‬
‫استعراض قوته واستفزاز سكننرع وإذالله بإهانة دٌنه‪ ،‬فجمع "إٌبً" كتبته وحكماءه كما روت البردٌة‪ ،‬وشاورهم‬
‫فً األمر‪ ،‬فؤوحوا إلٌه بحٌلة ماكرة عقبوا علٌها بقولهم "ولسوؾ نرى إذن قدرة ربه الذي ٌحتمً به‪ ،‬وهو الذي‬
‫ال ٌعتمد على إله ؼٌر آمون رع ملك األرباب(ٖ٘)"‪.‬‬

‫(ٖٓ)‬
‫‪ -‬تكرر هذا التحدي الرهٌب الخاص بـ"الحصار" أمام المصرٌٌن عدة مرات فً العصر الحدٌث‪ ،‬منها وقوفهم عزل من السالح ومن ثروة بلدهم‬
‫فً وجه أكبر إمبراطورٌة مسلحة فً العالم‪ ،‬برٌطانٌا‪ ،‬خالل ثورة ‪ ،ٔ9ٔ9‬وإقامة المشروعات العظمى وتؤمٌم قناة السوٌس بعد عام ٕ٘‪ ٔ9‬رؼم‬
‫الحصار الؽربً وقلة الموارد‪ ،‬وخوض حرب االستنزاؾ وإعادة بناء الجٌش واالنتصار فً حرب ‪ ٙ‬أكتوبر ٖ‪ ٔ97‬رؼم أن مصر مخنوقة اقتصادٌا‪،‬‬
‫فقناة السوٌس مؽلقة‪ ،‬والسٌاحة متوقفة‪ ،‬والبترول وخٌرات سٌناء فً ٌد إسرابٌل‪.‬‬
‫(ٖٔ)‬
‫‪ -‬انظر اإلنجازات التنموٌة لألسرة ‪ ٔ7‬فً تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬نٌكوال جرٌمال‪ ،‬ص ٕٗٗ‪ٕٗٙ -‬‬
‫(ٕٖ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕٗٙ‬‬
‫(ٖٖ)‬
‫‪ -‬الالفت أن جرٌمال رؼم حدٌثه عن الحروب بٌن مصر والهكسوس إال أنه استؽل أن الهكسوس قلدوا مظاهر حضارٌة مصرٌة فً األدب والدٌن‬
‫والعلوم‪ ،‬وتعلم المصرٌٌن أسلحة جدٌدة كالعربات الحربٌة من الهكسوس‪ ،‬ووجود بعض االختالط بسبب الجوار‪ ،‬ووجود فترة ارتخاء أو سالم فً‬
‫العالقا ت لٌقول إنهم بشكل عام عاشوا فً سالم‪ ،‬ولم ٌكن بٌنهم كراهٌة‪ ،‬وزاد بؤن اعتبر أن للهكسوس "فضل" حضاري على المصرٌٌن‪ ،‬وعجز‬
‫عن أن ٌفسر لماذا إذن حاربهم المصرٌون وطردوهم شر طردة‪ ،‬وهذا أسلوب مكرر فً كتابات بعض علماء المصرٌات األجانب؛ لشٌوع أحادٌث‬
‫عن وجود عالقة بٌن الٌهود والهكسوس‪ .‬انظر جرٌمال‪ ،‬ص ٕٕٗ‪ٕٗ8 -‬‬
‫(ٖٗ)‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬ص ٔ‪ٔ9‬‬
‫(ٖ٘)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬

‫ٖ‪8‬‬
‫واتبع "إٌبً" مشورتهم فؤوفد رسوال إلى سكننرع ٌقول له‪" :‬أسكتوا أفراس الماء فً البحٌرة الشرقٌة‬
‫بطٌبة؛ فضجٌجها ٌحرمنً النوم فً نهاري ولٌلً‪ ،‬وأصواتها تطن فً مسامع مدٌنتً(‪.")ٖٙ‬‬

‫وأضافت البردٌة أن سكننرع عامل الرسول كما تنبؽً معاملة الرسل‪ ،‬فؤكرمه وهاداه‪ ،‬ثم جمع كبار‬
‫رجال الدولة لٌشاورهم فً األمر‪ ..‬وهنا انتهى درس البردٌة قبل أن تتضح بقٌة األحداث‪ ،‬ولكنه ن َّم عن أن‬
‫المصرٌٌن ظلوا ٌطوون صدورهم على كره الهكسوس وذكرٌات احتبللهم‪ ،‬وأنه لم ٌكن فً وسع ملك‬
‫الهكسوس أن ٌعتبر نفسه ملكا على مصر كلها‪ ،‬وأنه ضاق بنشاط أهل طٌبة وقلق من النتابج التً ٌمكن أن‬
‫تترتب علٌه(‪.)ٖ9‬‬

‫وإذا كانت بقٌة األحداث لم تتضح فً البردٌة‪ ،‬فقد تحدثت عنها رأس سكننرع التً توجتها ٘ جراح‬
‫عمٌقة من ضربات سٌؾ ومقمعة وبضعة سهام‪ ،‬ودل كل جرح منها على بداٌة الجهاد المسلح فً عهد‬
‫صاحبه واستبساله واستماتته فً الظفر بمآربه(‪ ،)ٖ8‬وهو ٌرقد اآلن فً قاعة الجثامٌن (المومٌاوات)‬
‫بالمتحؾ المصري‪ ،‬وٌبدو على حالته أن تحنٌطها تم على عجل فً ظروؾ طوارئ‪.‬‬

‫واستلم ابنه كامس راٌة الكفاح بعد استشهاده‪ ،‬ودل على ذلك ٖ لوحات من الحجر فً معبد الكرنك‪ ،‬نصبها‬
‫المصرٌون فً عهد كامس‪ ،‬ودرس تارٌخً كتبه تلمٌذ على لوحة خشبٌة صؽٌرة‪ ،‬معروفة باسم لوحة كارنرفون‪.‬‬

‫صور الدرس المراحل األولى للجهاد أٌام كامس‪ ،‬فوصفه بؤنه حاكم فاضل‪ ،‬وأن رع شاء أن ٌجعله‬
‫حاكما فعلٌا ووهبه الجرأة فً الحق‪ ،‬وأنه ضاق بؤحوال الببلد فقال فً مجلس ببلطه‪" :‬كٌؾ أقدر نفوذي هذا‬
‫إذا كان هناك حاكم فً حة وعرة وحاكم آخر فً كاش؟ وال زلت شرٌكا لهكسوسً وزنجً‪ ،‬وكل منا‬
‫ٌسٌطر على رقعة من هذه الببلد؟ وإنً ال أكاد أبلػ منؾ‪ ،‬وقد سٌطر (العدو) على منطقة األشمونٌن‬
‫(بالمنٌا حالٌا)‪ ،‬وما عاد أحد ٌؤمن السلب والنهب والعبودٌة للبدو األسٌوٌٌن(‪.")ٖ9‬‬

‫ولم ٌجد فً البداٌة من المسبولٌن حوله حماسة كافٌة للقتال واستكمال مشوار سكننرع‪ ،‬فقد خشوا أن‬
‫ٌنتهً إلى أن ٌحتل الهكسوس ما تبقى من أرض مصر‪ ،‬فحاول كامس أن ٌستفزهم للحرب‪ ،‬وقال‪" :‬ولسوؾ‬
‫أقاتل (العدو) وأبقر بطنه‪ ،‬وإن ؼاٌتً أن أحرر مصر وأستبٌح دماء العامو"‪.‬‬

‫وانطلق كامس بالجٌش‪ ،‬وصدق ظنه فً سواد شعبه‪ ،‬فهرع إلٌه أهل الشرق والؽرب (ضفتا النٌل شرقا‬
‫وؼربا)‪ ،‬كما قال‪ ،‬وأمدوا الجٌش أٌنما حل بالمإنة والزاد‪ ،‬ووصؾ مسٌرته مع جٌشه فقال‪" :‬أبحرت فً‬
‫عزم ألجلً الهكسوس وفقا ألمر آمون ذي الرأي الرشٌد‪ ،‬وجٌشً أمامً مستبسل كؤنه شعلة من نار(ٓٗ)‪.‬‬

‫بدأ بمدن مصر الوسطى فطهرها من الهكسوس‪ ،‬وعاقب الخانعٌن لهم فً نفروسً (بالمنٌا)‪ ،‬منهم نابب‬

‫(‪)ٖٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫(‪)ٖ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٔ‪ٔ9ٕ -ٔ9‬‬
‫(‪)ٖ8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫(‪)ٖ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫(ٓٗ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬

‫ٗ‪8‬‬
‫للهكسوس فٌها ٌسمى تٌتً بن ببًٌ‪ ،‬من المصرٌٌن الندرة الذٌن اندمجوا مع الهكسوس‪ ،‬فصب الجٌش نار‬
‫ؼضبه علٌه‪ ،‬وقال عنه كامس‪" :‬وقد أرسلت فرقة من المجاو على حٌن قضٌت ٌومً فً محاولة فرض‬
‫الحصار على تٌتً بن بٌبً فً منطقة نفروسً ألننً لم أكن أرؼب فً أن أتركه ٌفر‪ ،‬لقد تحدٌت‬
‫اآلسٌوٌٌن‪ ،‬وبهذه المناسبة قضٌت اللٌلة فوق سطح سفٌنتً‪ ،‬وقلبً ٌملإه الفرح‪ ،‬وفً الصباح انقضضت‬
‫علٌه مثل الصقر‪ ،‬وقضٌت علٌه فً اللحظة التً كان ٌنظؾ فٌها أسنانه (أي عند قٌامه من النوم)‪ ،‬وهدمت‬
‫جدرانه وقضٌت على أفراد قواته‪ ،‬وأرؼمت زوجته على أن تقذؾ بنفسها من أعلى شاطا النهر‪ ،‬وكان‬
‫جنودي مثل الذباب التً تنقض على الفرٌسة(ٔٗ)"‪.‬‬

‫وبعدها ٌمم وجه شطر الجنوب لٌتخلص من أحد ضلعً الكماشة التً تحاصره‪ ،‬وهو الكوشٌٌن حلفاء‬
‫الهكسوس‪ ،‬وتتحدث عن ذلك نصوص فً الكرنك ٌظهر فٌها أنه شن حملة مفاجبة على كوش‪ ،‬وأجبر‬
‫والٌها الجدٌد على أن ٌوقؾ صداقته للهكسوس‪ ،‬ثم اندار إلى الشمال لقطع اإلمدادات التً تصل الهكسوس‬
‫عن طرٌق فروع النٌل(ٕٗ)‪.‬‬

‫وٌبدو أن عنصر المفاجبة لعب دورا كبٌرا فً االنتصارات التً حققها كامس‪ ،‬مع تراخً الهكسوس بعد‬
‫أن ظنوا أنهم صاروا حقا "سٌد" مصر ببل منازع‪.‬‬

‫كما جرى الهجوم فً وقت توهم فٌه الهكسوس وجود فترة سبلم بٌنهم وبٌن المصرٌٌن‪ ،‬وكان الجٌش‬
‫أعد أسطوال حربٌا نهرٌا قوٌا لهذه المعركة‪ ،‬وحامبلت نهرٌة للعجبلت الحربٌة‪ ،‬وأدخل تحسٌنات ؼٌر‬
‫متوقعة على صناعتها‪ ،‬جهلها حتى الهكسوس الذٌن ٌُنسب إلٌهم اختراعها(ٖٗ)‪.‬‬

‫وهنا انقسم الهكسوس على أنفسهم‪ ،‬وخرج بعضهم عن طاعة ملكهم‪ ،‬وأحرز كامس نصرا فً بعض‬
‫المعارك النهرٌة‪ ،‬ووصؾ دخوله إحدى المدن فً أسلوب لطٌؾ قال فٌه (أو قال على لسانه أحد أدباء‬
‫عصره)‪" :‬لمحت نساء العدو فوق دٌاره ٌتطلعن من النوافذ إلى الشاطا‪ ،‬وحٌن سمعن صوتً لم ٌستطعن‬
‫حراكا‪ ،‬ومددن أنوفهن من خبلل (شقوق) الجدران كؤفراخ القطا فً جحورها حٌن كانت أنادي‪ :‬هذا أوان‬
‫الهجوم‪ ،‬ها أنذا ولسوؾ أنتصر"(ٗٗ)‪.‬‬

‫وكؤنه فً هذه المعارك وبهذه الروح والكلمات ٌجسد ما ردده حفٌده بعد آالؾ السنٌن‪ ،‬الفبلح محمود‬
‫حسن إسماعٌل‪ ،‬بالروح الموصولة‪ ،‬أمام هكسوس العدوان الثبلثً على مصر ‪ ٔ9٘ٙ‬فً رابعته "أنا النٌل‬
‫مقبرة للؽزاة"‪:‬‬

‫تصب الهالك على المعتدٌن‬ ‫ٌد هللا فً ٌدنا أجمعٌـن‬

‫أسودا كواسر تحمً العـرٌن‬ ‫فشقوا إلٌهم جحٌم الفناء‬

‫(ٔٗ)‬
‫‪ -‬رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬رمضان عبده علً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓٗ‪ٗٔ -‬‬
‫(ٕٗ)‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ‪ٔ9‬‬
‫(ٖٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓٗ‪ٕٗ-‬‬
‫(ٗٗ)‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٗ‬

‫٘‪8‬‬
‫على كل عا ٍد تشب العدم‬ ‫ٌد هللا فً ٌد مصر قسم‬

‫العلم‬
‫وترفع للشمس نور َ‬ ‫تدك الطؽاة وتحمً الحٌاة‬

‫ونزحؾ للنصر زحؾ ال َقدر‬ ‫سنمضً لهم فً لهٌب الشرر‬

‫لظى الموت ٌخرج من كل صدر‬ ‫ومن كل بٌت ومن كل شبر‬


‫(٘ٗ)‬
‫لنحمً ترابك ٌا أرض مصــر‬ ‫على كل باغ ٌسوق الحِمام‬

‫ففً إطار الحرب المعنوٌة توعد كامس الهكسوس بقوله‪" :‬لقد خابت آمالك أٌها الخاسًء الذي اعتاد على‬
‫أن ٌقول أنا السٌد وال مثٌل لً‪ .‬أما (عاصمتك) فسوؾ أمحوها ولن أجعل أحدا ٌعثر لها على أثر‪ ،‬وسوؾ‬
‫أدمر قرى (شعبك)‪ ،‬وأحرق دٌارهم حتى تصبح تبلال حمراء إلى األبد‪ ،‬جزاء وفاقا على ما ألحقوه بمصر‬
‫من دمار‪ ،‬وسوؾ ٌسمع الناس (عوٌل) الهكسوس حٌن ٌفارقون مصر سٌدتهم (مرؼمٌن)(‪.")ٗٙ‬‬

‫وٌمكن مقارنة قول الهكسوسً "أنا السٌد وال مثٌل لً" بعد التمكٌن بما متوقع أنه كان ٌقوله الهكسوس خبلل‬
‫هجرتهم لمصر بالدحلبة وهم ٌتوددون بخبث للمصرٌٌن بحلو العبارات وبالمدٌح فً مصر وأهلها كً ٌحصلوا‬
‫على ثقتهم‪.‬‬

‫وحاول ملك الهكسوس أن ٌوقع كامس مرة أخرى بٌن فكً الكماشة‪ ،‬فؤرسل إلى حاكم كوش عند الحدود‬
‫الجنوبٌة‪ -‬وكان ٌلقبه بـ "ولدي"‪ -‬وٌحرضه على كامس‪ ،‬وٌشجعه على مهاجمته من الجنوب حتى ٌنحصر‬
‫بٌنهما‪ ،‬وحٌنبذ ٌؽلبانه وٌقتسمان مصر معا‪ ،‬كما قال(‪.)ٗ9‬‬

‫وقذؾ الهكسوسً برسله على طرٌق الواحات لٌكونوا بمؤمن من عٌون كامس (المخابرات)‪ ،‬ولكن‬
‫العٌون علمت بؤمرهم‪ ،‬فؤرسل كامس سرٌة من الجٌش ترصدت الرسل واستولت على الرسالة‪ ،‬ثم أطلقتهم‬
‫لٌنقلوا إلى ملكهم خٌبة أمله‪ ،‬وخشى أن ٌعٌد الحلٌفان الكرَّ ة‪ ،‬فوضع بعض وحداته فً مصر الوسطى‬
‫والواحات‪ ،‬ورحل هو إلى واسط (طٌبة)‪ ،‬وكان ٌوم عودته إلٌها ٌوما مشهودا‪ ،‬وصفه كاتبه قاببل‪" :‬طابت‬
‫رحلة الحاكم إلى الجنوب‪ ،‬وجنوده أمامه لم ٌنقصوا‪ ،‬ولم ٌخسر أحدهم رفٌقه‪ ،‬ولم تشتك قلوب (المدنٌٌن)‬
‫منهم‪ ،...‬وأصبح إقلٌم طٌبة كؤنه فً عٌد الفٌضان‪ ،‬وهرع النسوة والرجال ٌتطلعون إلى األمٌر‪ ،‬وأسرعت‬
‫كل زوجة إلى زوجها تعانقه‪ ،‬وقد خلت الوجوه من آثار الدموع(‪.")ٗ8‬‬

‫وتوفً القابد العظٌم كامس فً ظروؾ ؼٌر معروفة قبل أن ٌدخل معركته الفاصلة ضد الهكسوس‪،‬‬
‫فخلفه أخوه أحمس‪ ،‬وأتم عمله وعمل أبٌه‪ ،‬وانتفع باشتداد عزابم مواطنٌه‪ ،‬فاستفزهم ولبوا نداءه الستكمال‬

‫(٘ٗ)‬
‫‪ -‬أؼنٌة‪ :‬أنا النٌل مقبرة للؽزاة‪ ،‬تؤلٌؾ محمود حسن إسماعٌل‪ ،‬ألحان رٌاض السنباطً‪ ،‬ؼناء نجاح سبلم‬
‫(‪)ٗٙ‬‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٗ‬
‫(‪)ٗ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‬
‫(‪)ٗ8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬

‫‪8ٙ‬‬
‫الجهاد واالنتقام‪ ،‬وخرجوا معه لمهاجمة الهكسوس فً عقر عاصمتهم (حة وعرة)(‪ )ٗ9‬وعمره ما بٌن ‪-ٔٙ‬‬
‫‪ ٔ8‬سنة‪ ،‬مستندا على عزم وخبرات قواد الجٌش الكبار الذٌن عاصروا أبٌه وأخٌه مثل أحمس بن إبانا‬
‫وأحمس بن نخبت‪ ،‬وكذلك جدته تً تً شٌري‪ ،‬وأمه إٌاح حتب‪.‬‬

‫وقال أحمس بن إبانا وهو ٌتحدث عن دوره فً الحرب قابدا للسفن النهرٌة إنه اشترك مع أحمس فً‬
‫محاصرة عاصمة الهكسوس‪ ،‬وإن المعارك دارت حولها وإلى الجنوب منها فً البر وعلى الماء عدة‬
‫مرات(ٓ٘)‪ ،‬وعندما جبل الهكسوس عن مصر لم ٌٌؤسوا من الرجوع لها مرة أخرى‪ ،‬فجمعوا فلولهم فً‬
‫معقلهم القدٌم‪ ،‬شاروهٌن (فً ؼزة)‪ ،‬وتحصنوا بها‪ ،‬فؤدرك أحمس أنه لن ٌؤمن على حدوده ما داموا قرٌبٌن‪،‬‬
‫فلحقهم بالجٌش وفرض الحصار حولهم نحو ٖ سنوات حتى اضطروا للجبلء عنها‪.‬‬

‫وهكذا لفظت مصر الهكسوس أؼرابا كما دخلوها‪ ،‬على الرؼم من طول إقامتهم فٌها(ٔ٘)‪ ،‬وتط َّهر جوفها‬
‫من سمومهم‪.‬‬

‫ولٌؤمن عدم عودتهم‪ ،‬قاد أحمس حمبلته فً جوؾ الشام لتعقب الهكسوس فً سنوات حكمه الـٕ٘‪،‬‬
‫وخرج فً العام ٕٕ على رأس حملة قادته إلى شواطا الفرات لٌصبح أول حاكم مصري ٌصل إلى‬
‫هناك(ٕ٘)‪.‬‬

‫وإلى جانب أسماء العظام من المقاتلٌن فً حرب التحرٌر مثل سكننرع وأحمس وكامس وأحمس ابن‬
‫أبانا وأحمس ابن نخبت إلخ احتفظ التارٌخ بؤسماء عظٌمات من أبطال الحرب جسدنَّ دور الست المصرٌة‬
‫األصٌل فً حفظ مصر وقت المحن‪ ،‬وسلما وحربا‪ ،‬بحماٌة القوة المعنوٌة‪ ،‬واقتدٌنَّ فٌه ببطوالت كفاح إٌسة‬
‫"إٌزٌس" لنصرة ابنها حور "حورس" ضد أهل الشر "سٌت"‪ ،‬وهنَّ ‪ :‬تتً شٌري (أم سكننرع وجدة كامس‬
‫وأحمس)‪ ،‬و إٌاح حوتب (زوجة سكننرع وأم كامس وأحمس) و أحمس نفرتاي (زوجة أحمس)(ٖ٘)‪.‬‬

‫وصفت نصوص أحمس جدته تٌتً شٌري بؤلقاب كؤلقاب إٌسة أٌضا‪ ،‬ومنها العالمة أو العارفة‪ ،‬وقال عن‬
‫إٌاح حتب إنها "ربة األرض‪ ،‬وسٌدة الحاونبو‪ ،‬رفٌعة السمعة فً كل قطر أجنبً‪ .‬التً دبرت سٌاسة‬
‫القوم‪ ،...‬القدٌرة الجلٌلة التً أحكمت شبون مصر‪ ،‬وجمعت (صفوؾ جٌشها)‪ ،‬ورعت أهلها‪ ،‬وأعادت‬
‫الفارٌن‪ ،‬ولمت (شتات) المهاجرٌن ] ربما ٌقصد المشردٌن المصرٌٌن من األراضً التً احتلها‬
‫الهكسوس[‪ ،‬وهدأت (قلق) الصعٌد‪ ،‬وأرهبت عصاته‪ ،‬الملكة إٌاح حوتب لها الحٌاة"(ٗ٘)‪.‬‬

‫وهكذا‪ ..‬تجرعت مصر مرة أخرى مرار وذل سٌطرة األجانب علٌها‪ ،‬ومرار وذل تفكك عرى حكمها‬
‫المركزي المقدس‪ ،‬وتشتت جٌشها‪ ،‬ونسٌان تارٌخ األجداد فً اإلنجازات والخطاٌا‪ ،‬واالطمبنان األعمى‬

‫(‪)ٗ9‬‬
‫‪ -‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ‪ٔ9‬‬
‫(ٓ٘)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٗ‪ٔ9‬‬
‫(ٔ٘)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫(ٕ٘)‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬نٌكوال جرٌمال‪ ،‬ص ٕٕ٘‬
‫(ٖ٘)‬
‫‪ -‬اسم أحمس من األسامً التً تسمى بها البنات واألوالد‪ ،‬ومثله اسم "تً"‪ ،‬وكما نسمً حالٌا مثبل‪ :‬رضا‪ ،‬عطٌة‪ ،‬إٌمان على األوالد والبنات‪.‬‬
‫(ٗ٘)‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬ص ٗ‪ٔ9٘ -ٔ9‬‬

‫‪87‬‬
‫لؽٌرها من شعوب وتوطٌنهم فً عروقها‪ ،‬تجرعت هذا ‪ ٔٓ8‬سنة تحت حكم الهكسوس الهمج‪.‬‬

‫صحٌح أنها خرجت من هذه المحنة بعود صلب‪ ،‬وأثبتت قدرتها على تجاوز أشنع المحن‪ ،‬وشمخت‬
‫بانتصارها على تحالؾ األشرار والشٌطان‪ ،‬ولكن‪ ...‬ألٌس كان من األحسن أن توفر طوفان من الدم نزفته‬
‫حٌن ؼزاها الهمج وأشاعوا فً أهلها أوالد األصول القتل واألسر‪ ،‬وطوفان آخر من الدم لتحرٌر نفسها؟‬

‫وألٌس األلٌق بها وبقدسٌتها لو وفرت على نفسها المذلة والهوان والخراب تحت حكم الطاعون الذي‬
‫تكبر وتجبر علٌها عشرات السنٌن‪ ،‬وأفرغ أحقاده فٌها‪ ،‬وهً الشرٌفة ست الحضارات؟‬

‫ألٌس األولى بها وبذكابها أنه بعد المحنة العظمى التً طحنت عظامها العزٌزة بعد سقوط األسرة ‪ ٙ‬أن‬
‫تعتنق مبدأ "الوقاٌة خٌر من العبلج"‪ ،‬والذي هو خبلصة كافة تعالٌم ووصاٌا "ماعت"؟‬

‫ونظرة لؤلسباب والنتابج التً رمت مصر مقٌدة األؼبلل بٌن نار وأنٌاب الفوضى "إزفت" نهاٌة األسرة‬
‫ٖٔ كما نقلتها لنا البردٌات واآلثار‪ ..‬كم منها ٌنطبق علٌه ما ورد فً البنود الـ ‪ ٔ9‬لدستور خراب مصر؟‬
‫دستور الشٌطان‪ ،‬ونسٌانها العهد الخالد الذي أوصاها به من صنعها‪:‬‬

‫إن األبواب ]الحدود[ الموجودة علٌكِ ]ٌا مصر[ تستوي ثابتة مثل "إنموتؾ"‬

‫إنها ال تنفتح لسكان الؽرب‬

‫إنها ال تنفتح لسكان الشرق‬

‫إنها ال تنفتح لسكان الشمال‬

‫إنها ال تنفتح لسكان الجنوب‬

‫إنها ال تنفتح للقاطنٌن وسط األرض‬

‫إنها تنفتح لحورس‬

‫إنه هو الذي صنعها‬

‫إنه هو الذي أقامها‬

‫إنه هو الذي نجاها من كل سوء أوقعه "ست" علٌها‬


‫(٘٘)‬
‫إنه هو الذي أقام دعابمك‬

‫(٘٘)‬
‫‪ -‬تطور الفكر والدٌن فً مصر القدٌمة‪ ،‬جٌمس هنري برٌستٌد‪ ،‬ترجمة زكً سوس‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓٗ‪ٗ٘ -‬‬

‫‪88‬‬
‫فاستحقت األجٌال التً لم تلتزم بالوصٌة العهد عقاب اإلله الذي حذر منه بتاح حتب‪:‬‬

‫"إن الذي ٌفعل الماعت فذلك الذي ٌكون بعٌدا عن الضالل"‪ٌ" ،‬حل العقاب دابما بالذي ٌتخطى‬
‫قواعدها"(‪.)٘ٙ‬‬

‫(‪)٘ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تقدٌم علً رضوان لكتاب "الماعت‪ ..‬فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔ‪ٔ٘-‬‬

‫‪89‬‬
‫ومصر عارفة وشاٌفة وبتصبر‪..‬‬

‫لكنها فً خطفة زمن تعبر‪..‬‬

‫وتسترد االسم والعناوٌن‪)ٔ(..‬‬

‫(ٔ)‬
‫‪ -‬قصٌدة ضحكة المساجٌن‪ ،‬تؤلٌؾ‪ :‬عبد الرحمن األبنودي‬
‫المشهد ‪ :7‬الوالدة الجدٌدة (الدولة الحدٌثة)‬

‫ٕ٘٘ٔ‪ ٔٓ9ٙ -‬أو ٘ٗ‪9‬ق‪.‬م‬

‫(شروق ماعت)‬

‫▲▲▲ عودة الروح‬

‫عادت الروح لمصر من جدٌد‪ ،‬وهدأ قلقها‪ ،‬وعادت طٌورها الؽاضبة لتستقر بؤمان على ؼصون أشجارها‪،‬‬
‫وزهور السشن (اللوتس) تضحك وهً تتفتح لطلوع الشمس‪ ،‬فقد زاح الطاعون عن أرض مصر الطاهرة‪،‬‬
‫ورجعت ماعت من ؼربتها‪ ،‬وفرد الصقر حور جناحٌه على األرض المقدسة بكاملها‪ ،‬ببل نقصان‪ ،‬واستعد‬
‫المصرٌون لكتابة صفحة جدٌدة لمجدهم فً بناء الحضارة بؤقبلم تحوت(ٕ) بعد أن كتبوها فً هدم وقلع الشر‪.‬‬

‫فمع تطهٌر الجٌش لمصر من الهكسوس أعادت بقٌة المإسسات التنظٌم اإلداري للدولة وبنابها على‬
‫األسس واألصول المصرٌة المعروفة‪ ،‬وإصبلح ما أفسده الهكسوس فً الوجه البحري وشمال الوجه‬
‫القبلً‪ ،‬وصارت واسط (طٌبة) التً تخرج منها األوامر لتنفٌذ كل هذا أشهر عواصم العالم وأكثرها رهبة‬
‫وهٌلمان‪ ،‬أما منؾ‪ ،‬أول عاصمة فً عصر مٌنا‪ ،‬فرجع إلٌها بهاإها بعد شفاءها من الطاعون‪ ،‬واختارها‬
‫حكام األسرة ‪ ٔ8‬لتكون مقر القٌادة المركزٌة للجٌش‪ ،‬ومقر ولً العهد ٌتدرب فٌها على شبون الحكم‬
‫والحرب‪ ،‬فهً تتوسط الببلد‪ ،‬وقرٌبة من الحمبلت المستمرة إلى ببلد الشام‪.‬‬

‫ومع انتعاش الثقة من جدٌد فً ربوع مصر تمتعت العلوم والفنون واآلداب والفكر الدٌنً بمرحلة جدٌدة‬
‫من االزدهار والتطوٌر‪ ،‬من معالمها عماٌر األسرة ‪ ٔ8‬الفخمة الضخمة من معابد فً الكرنك وؼرب طٌبة‪،‬‬
‫والمقابر المحفورة فً بطن صخور وادي الملوك‪ ،‬وهً تعتبر أهراما فً بدعها الهندسٌة والفنٌة وحجم‬
‫الجهد المبذول فٌها (وهذا تعبٌر مجازي لشدة إعجازها)‪ ،‬وظهور اختراع الساعة المابٌة المنسوب إلى رجل‬
‫اسمه "أمنمحات" فً عهد أمنحتب األول ابن أحمس‪ ،‬وظهور بردٌة "إبرٌس" المصدر الربٌسً لمعارفنا‬
‫حول الطب المصري القدٌم(ٖ)‪.‬‬

‫(ٕ)‬
‫‪ -‬تحوت‪ /‬جحوتً ٌرمز فً حضارة مصر للرسول بٌن السماء وأهل مصر ‪ ،‬حافظ الحكمة وكاتبها فً السجالت األزلٌة‪ ،‬وله دوره فً مساعدة‬
‫إٌسة على إخفاء وتربٌة حور ‪ ،‬وٌعد أحد المعلمٌن األوابل للمصرٌٌن‪ ،‬صوره الفنان على شكل جسد إنسان برأس طابر أبو منجل‪ٌ ،‬مسك بٌده‬
‫أقالما وأوراق‪ٌ ،‬كتب وٌسجل؛ ولذا فً محكمة اآلخرة هو الذي ٌنشر كتاب كل شخص لٌظهر هل هو من الصالحٌن أو الظالمٌن‪ ،‬للمزٌد انظر‪:‬‬
‫معجم المعبودات والرموز فً مصر القدٌمة‪ ،‬مانفرد لوكر‪ ،‬ترجمة صالح الدٌن رمضان‪ ،‬مكتبة مدبولً‪ ،‬طٔ‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٓٓٓ ،‬ص ٖ‪8ٗ -8‬‬
‫(ٖ)‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬نٌكوال جرٌمال‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ٖ‪ٕٙ‬‬

‫ٔ‪9‬‬
‫جنود الجٌش خبلل احتفال فً األسرة ‪ٌ ٔ8‬مسكون ؼصن نبات مع سبلح حربً تجسٌدا لمعنى الفبلح المقاتل‪ٌ ،‬د تزرع وتبنً وٌد تحمل السبلح‬
‫(المتحؾ المصري فً برلٌن)‬

‫وتوفً أحمس وعمره فً األربعٌن‪ ،‬بعد نحو ٕ٘ عاما قضاها فً الكفاح والبناء لم ٌركن فٌها لمباهج‬
‫الحكم‪ ،‬وخلفه ابنه أمنحتب األول لٌواصل سٌاسة أبٌه فً البناء‪ ،‬وكذلك فً الحروب الخارجٌة لتؤمٌن‬
‫الحدود‪ ،‬فكان محاربا ال ٌُشق له ؼبار‪ ،‬فؤكمل الحمبلت فً الشام والسودان لقطع أي فرصة تجمٌع‬
‫الهكسوس لصفوفهم من جدٌد‪.‬‬

‫وحكم بعد أمنحوتب األول أخوه تحوتمس األول وواصل حمبلته‪ ،‬وكان ٌقول إن ساعة الحرب أشهى‬
‫عنده من ٌوم هنٌا‪ ،‬وإنه ٌتشوق للقتال وٌنشرح كلما بلؽه نبؤ تحرك األعداء(ٗ)‪.‬‬

‫وفً عهد هذه األسرة المجٌدة استكمل المصرٌون بناء أول جٌش نظامً كامل فً التارٌخ بصورة‬
‫تناسب أن ٌكون جٌشا هجومٌا‪ ،‬ولٌس دفاعٌا فقط‪ ،‬فقد آمنوا‪ -‬وإن كان متؤخرا‪ -‬أن ما ٌلٌق بمصر هو مبدأ‬
‫"الهجوم خٌر وسٌلة للدفاع"‪ ،‬ولٌس شرطا أن ٌكون الهجوم اعتداءا على الؽٌر ببل سبب‪ ،‬ولكن أن ٌظل‬
‫الجٌش ومن ورابه بقٌة الشعب فً حالة تحفز وترقب لدرء الخطر وهو ٌلوح من بعٌد‪ ،‬قبل أن ٌصل‬
‫للحدود‪ ..‬وما أكثر األخطار المتربصة بـمصر وأدومها‪.‬‬

‫فبات للجٌش العظٌم معسكراته ومقاره الدابمة‪ ،‬وقسمه القادة إلى ألوٌة وأجنحة تعمل تحت قٌادة‬
‫مركزٌة‪ ،‬وشكلوا أول "هٌبة أركان حرب"‪ ،‬وهو النظام الذي عملت به جٌوش العالم بعد ذلك ولآلن(٘)‪.‬‬

‫واستؽل تحوتمس األول القوة الدافعة فً نفسه والروح الحربٌة المعبؤة فً شعبه‪ ،‬فم َّد سلطان مصر إلى‬
‫قرب الشبلل الرابع (شمال الخرطوم بالسودان)‪ ،‬ودفعه ظهور دولة مٌتانً(‪ )ٙ‬فً منطقة تقع اآلن بٌن سورٌا‬
‫والعراق‪ ،‬وتهدٌدها لنفوذ مصر فً شمال الشام إلى التوؼل أكثر فً الشرق‪ ،‬حتى نهر الفرات‪ ،‬ونصب على‬
‫شاطبه الشرقً نصبا حدد به حدود سٌطرة مصر فً عهده‪ ،‬فامتدت على حد تعبٌر النصوص من قرن األرض‬

‫(ٗ)‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ٕ٘ٓ‬
‫(٘)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المإسسة العسكرٌة المصرٌة فً عصر اإلمبراطورٌة ٓ‪ ٔ٘9‬ق‪.‬م‪ ،ٔٓ98 -‬أحمد قدري‪ ،‬ترجمة مختار السوٌفً‪ ،‬محمد العزب موسى‪،‬‬
‫الهٌبة العامة للكتاب‪ ،ٕٓٔٗ ،‬ص ٖٔ و‪ٔ9‬‬
‫(‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬تكونت مٌتانً من مهاجرٌن حطوا على تلك المنطقة خالل الهجرات األمورٌة والهندو أوروبٌة‪ ،‬وزالت بعد وقت قصٌر‬

‫ٕ‪9‬‬
‫فً الجنوب (أي الشبلل الرابع) إلى أطراؾ المٌاه المعكوسة فً الشمال(‪.)9‬‬

‫والمٌاه المعكوسة أطلقها المصرٌون على الفرات ألنه ٌجري من الشمال للجنوب على عكس النٌل الذي‬
‫ٌجري من الجنوب للشمال‪ ،‬وتندروا على ذلك بقولهم إنها المٌاه "اللً بتخلً الطالع نازل"(‪.)8‬‬

‫وظل الرجل فخورا بما أداه لـمصر‪ ،‬ومن قوله بٌن كهنة أوزٌر فً أبٌدوس‪" :‬أطلقت حدود تامري(‪( )9‬‬
‫مصر) إلى ما تحٌط الشمس به‪ ،‬وعوضت أهلها بعد خوؾ قوة (وأمنا)‪ ،‬وأقصٌت الشر عنها‪ ،‬وجعلتها فوق‬
‫رأس الدنٌا كلها‪ ،‬وجعلت الجمٌع أتباعا لها(ٓٔ)"‪.‬‬

‫وكلمة "أطلقت حدود تا مري إلى ما تحٌط الشمس به" هو أقدم التعابٌر التً تعبر عن اتساع سٌطرة أي‬
‫دولة‪ ،‬و استخدمت برٌطانٌا شبٌهه فٌما بعد فً كلمة "اإلمبراطورٌة التً ال تؽٌب عنها الشمس"‪ ،‬ولكن مع‬
‫تسع إلى السٌطرة على هذه الببلد‬
‫الفارق‪ ،‬أن توسعات مصر خارج حدودها إلى هذا الحد اضطرارٌة؛ فـمصر لم َ‬
‫إال بعد أن أرسلت تلك الببلد إلٌها جحافل الؽزاة مرات تلو المرات‪ ،‬حتى بعد أن أكرمت مصر‪ -‬فً وقت ؼفلة‪-‬‬
‫ضٌافتهم وآوتهم‪ ،‬فانقلبوا ضدها وأهانوا أهلها وجعلوا أعزتها أذلة‪.‬‬

‫أما برٌطانٌا ومعظم اإلمبراطورٌات األخرى‪ ،‬فاستهدفت توسعاتها بلدانا لم ٌصلها منها أي شر‪ ،‬فهاجمت‬
‫الببلد اآلمنة؛ طمعا فً ثرواتها ومواقعها‪ ،‬أو لتنفٌذ رؼبات شٌطانٌة للتنظٌمات الخفٌة التً تحكمها لنشر‬
‫الدم والخراب (إزفت) فً العالم‪.‬‬

‫وفً ذلك ٌقول عبد العزٌز صالح‪" :‬خرج أولو الرأي المصرٌون من محنة الهكسوس وقد ؼلب على‬
‫تفكٌرهم أنه ال أمان الستقبللهم من ؼدر أعدابهم إال إذا واصلوا االهتمام بجٌشهم وزادوا قوته الحربٌة‪ ،‬وأنه‬
‫ال أمان القتصادهم من اعتداءات الهكسوس إال إذا أبعدوهم عن مسالك تجارتهم الخارجٌة جهد ما‬
‫ٌستطٌعون‪ ،‬وأحاطوهم بؤنصارهم جهد ما ٌستطٌعون‪ ،‬وأنه ال أمان لمستقبل بلدهم من ؼزو هجرات شعوبٌة‬
‫جدٌدة ؼرٌبة إال إذا سٌطروا بؤنفسهم على مداخل الهجرات فً شمال الشام وأطراؾ العراق(ٔٔ)"‪.‬‬

‫وشجع خلفاء أحمس على استمرار هذه السٌاسة ظهور دولة مٌتانً ثم ظهور دولة أخرى مجاورة‬
‫تكونت من هجرات أٌضا استوطنت األناضول‪ ،‬وتسمت بؤرض الحٌثٌٌن‪ ،‬أو "خاتً"‪ ،‬وسعً البلدان إلى‬
‫التوسع باستمالة اإلمارات الشامٌة الخاضعة لـمصر لٌتمردوا علٌها‪ ،‬وٌتحالفوا ضدها(ٕٔ)‪.‬‬

‫ظهر خطر الدولتٌن الناشبتٌن فً عهد حتشبسوت‪ ،‬حفٌدة أحمس‪ ،‬ولكن حتشبسوت التً حكمت ٕٓ عاما‬

‫(‪)9‬‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٓٙ‬‬
‫(‪)8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫(‪)9‬‬ ‫(‪)9‬‬
‫‪ -‬و"تا مري" معناها أرض الفٌضان أو األرض المرتفعة أصل كلمة "دمٌرة" التً ٌطلقها زراعنا على األرض المؽمورة بطمً الفٌضان‪.‬‬
‫(ٓٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫(ٔٔ)‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٗٓ‬
‫(ٕٔ)‬
‫‪ -‬هذا التحالؾ بٌن إمارات شامٌة مع قوى خارجٌة ضد مصر سٌتكرر باستمرار حتى نصل للعصر الحاضر حٌن تحالفت بعض بالد وجماعات‬
‫الشام مع تركٌا تارة‪ ،‬ومع إٌران تارة‪ ،‬ومع روسٌا تارة‪ ،‬ومع دول عربٌة تارة‪ ،‬ضد مصر‪ ،‬ومن أسباب هذا أن الشام من القدٌم مكونة من أعراق‬
‫وقبابل ومذاهب مختلفة عن بعضها‪ ،‬ومتصارعة فٌما بٌنها‪ ،‬ولم تعرؾ معنى للدولة الوطنٌة لتتجانس تحت ظلها‪ ،‬وتستقوي بقوى خارجٌة على‬
‫بعضها؛ ما ٌسهل للبالد األخرى أن تستمٌل هذه وتلك بدوافع سٌاسٌة أو مالٌة أو دٌنٌة‪.‬‬

‫ٖ‪9‬‬
‫صرفت معظم جهدها لتنمٌة مصر فً الداخل وتوسعة التجارة‪ ،‬خاصة مع أفرٌقٌا‪ ،‬ورحلتها الشهٌرة لببلد‬
‫بونت‪ ،‬ولم تبذل مجهودا حربٌا بما ٌكفً‪ ،‬فتجرأت الجماعات المعادٌة على الحامٌات المصرٌة فً ببلد‬
‫الشام‪ ،‬وعندما خلفها تحوتمس الثالث فً الحكم‪ ،‬لم ٌكد ٌفرغ من تتوٌجه حتى هرع كالسهم إلى تنظٌم‬
‫الحمبلت الحربٌة لردع هذا الخطر الجدٌد‪.‬‬

‫واستجاب لتحرٌضات مٌتانً ضد مصر بعض أمراء الشام وشٌوخ بدوها‪ ،‬السٌما وأنه كانت ال تزال‬
‫تعٌش بٌنهم بقٌة من ذراري الهكسوس الذٌن طردهم المصرٌون(ٖٔ)‪.‬‬

‫وتزعم التحالؾ الجدٌد أمٌر قادش (حمص بسورٌا)‪ ،‬فاتجه بحلفابه وخٌلهم ورجلهم‪ ،‬على حد تعبٌر النصوص‬
‫المصرٌة‪ ،‬إلى شمال فلسطٌن‪ ،‬وسٌطر على مدٌنة مجدو (بلدة تل المتسلم بشمال فلسطٌن)‪ ،‬وجعلها مركزا‬
‫ألطماعه‪ ،‬ومد نفوذه حتى شاروهٌن معقل الهكسوس القدٌم‪ ،‬وبذلك اقترب من مصر(ٗٔ)‪.‬‬

‫وانتهت معركة مجدو بانتصار مصر المحكم على تحالؾ األمراء السورٌٌن والمٌتانٌٌن‪ ،‬وكان سبلحها‬
‫عنصر المفاجبة والمباؼته‪ ،‬وخطة تحوتمس الثالث الشهٌرة فً اختٌار أضٌق طرٌق إلى مكان تمركز‬
‫القوات المعادٌة‪ ،‬والذي لم ٌدر ببالها أن ٌقدم جٌش على العبور منه‪ ،‬ألنه طرٌق ال ٌكفً إال لمرور رجل‬
‫واحد‪ ،‬أو فرس واحدة‪ ،‬وعلى جانبٌه مرتفعات لو وقؾ فوقها العدو لقضى على الجٌش العابر بسهامه فً‬
‫لمح البصر‪ ،‬وشجع تحوتمس قواته بؤنه تقدمهم فً السٌر(٘ٔ)‪.‬‬

‫ومن عوامل النجاح أٌضا خطة تسٌٌر األسطول المصري بالتنسٌق مع الجٌش البري‪ ،‬والتطوٌرات‬
‫الجدٌدة على سبلح المركبات الحربٌة لتكون أكثر قدرة على المناورة وأكثر خفة فً الحركة إلرباك‬
‫صفوؾ العدو‪ ،‬وؼٌر ذلك من أشكال الخطط والتسلٌح المبتكرة‪.‬‬

‫وتقول موسوعة كمبرٌدج عن الجٌش المصري وقتها‪" :‬كان جٌشا وطنٌا هابل الحجم‪ٌ ،‬تؤلؾ معظمه من‬
‫جنود محترفٌن‪ ،‬سواء من الجنود العاملٌن فً الخدمة العسكرٌة أو جنود االحتٌاط‪ ،‬وٌقوم على قٌادته ضباط‬
‫محترفون مدربون على أعلى مستوى‪ ،‬وٌإدون وظابفهم وواجباتهم الحربٌة فً إدارة الفرق واألسلحة‬
‫المنوطة بهم قٌادتها بشكل منظم ومنسق ودقٌق‪ ،‬كما لو كانوا حلقات مترابطة فً سلسلة القٌادة العامة(‪.")ٔٙ‬‬

‫وفرَّ ملك مٌتانً الذي وصفته حولٌات تحوتمس بـ "الخاسًء" لبلد بعٌد‪ ،‬وعبرت السفن المصرٌة نهر‬
‫الفرات‪ ،‬وهً المرة األولى التً ٌتم فٌها نقل السفن الحربٌة عن طرٌق البر لمسافة حوالً ٕٓ٘ مٌبل‪،‬‬
‫وعلى ضفاؾ الفرات أقام نصبٌن سجل علٌهما أخبار نصره‪ ،‬وعٌَّن بهما حدود فتوحاته‪ ،‬وعبر تحوتمس‬
‫حٌنذاك عن اتساع حدود دولته بعبارة قرٌبة من عبارة جده تحوتمس األول‪ ،‬قال فٌها إنه‪" :‬جعل حدوده من‬

‫(ٖٔ)‬
‫‪ -‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٓ8‬‬
‫(ٗٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫(٘ٔ)‬
‫‪ -‬المزٌد عن الخطة النصر فً مجدو انظر‪ :‬المإسسة العسكرٌة المصرٌة فً عصر اإلمبراطورٌة‪ ،‬أحمد قدري‪ ،‬ص ٗٔ‪ ،ٔ9 -‬رإى جدٌدة فً‬
‫تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬رمضان عبده علً‪ ،‬جٖ‪ ،‬ص ‪ ،ٔ٘٘ -ٔٗ9‬الشرق األدنى القدٌم‪ ،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬ص ‪ٕٖٔ -ٕٓ8‬‬
‫(‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬المإسسة العسكرٌة المصرٌة فً عصر اإلمبراطورٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔ9‬‬

‫ٗ‪9‬‬
‫بداٌة األرض إلى أقاصً آسٌا (الؽربٌة)(‪.")ٔ9‬‬

‫وبعد إعادة تثبٌت وجود مصر فً الشام وهزٌمة القوى الجدٌدة‪ ،‬لم ٌركن تحوتمس الثالث إلى السلم‬
‫وحٌاة الرفاهٌة‪ ،‬رؼم أنه صار أقوى وأؼنى حاكم فً الدنٌا‪ ،‬فخرج للشام ‪ 8‬مرات أخرى بقصد االستطبلع‬
‫وتوطٌد األمن(‪ ،)ٔ8‬فكان بذلك أٌضا من أوفى من طبقوا ماعت بؤنه لم ٌؽفل عن مطاردة العدو وتحصٌن‬
‫الحدود حتى فً عز انتصاره واستقرار الببلد‪.‬‬

‫وفً نفس الوقت و َّفى الزعٌم المصري الخالد بدوره كخلٌفة لئلله فً تطبٌق ماعت على أرض مصر‪،‬‬
‫فحكم أهلها بالعدل والرحمة واالحترام واإلخوة بٌن المصرٌٌن‪ ،‬بحسب ما تظهره النصوص‪.‬‬

‫فمن ناحٌته وقع ربٌس الوزارة تحت مراقبة شدٌدة وتوجٌه من الحاكم‪ ،‬وٌظهر ذلك فً خطابات التكلٌؾ‬
‫التً ٌوجهها له الحاكم خبلل مراسم تولٌه منصبه فً قاعة مجلس الحكم‪ ،‬وفٌها ٌؤمره باتباع األسالٌب‬
‫السلٌمة فً الحكم وإدارة الرعٌة‪ ،‬الموروثة من سلفهم الصالح‪.‬‬

‫ومن هذه التكالٌؾ نسخة منقوشة على جدران مقبرة "رخ مً رع"‪ ،‬الوزٌر (ربٌس الوزارة) فً عهد‬
‫تحوتمس الثالث‪ ،‬فً األقصر‪ٌ ،‬ظهر فٌها أصداء تعالٌم خٌتً البنه مري كا رع‪ ،‬وحدٌث "إٌبو ور"‪،‬‬
‫و"الفبلح الفصٌح" وؼٌرهم ممن رددوا تعالٌم ماعت عن سمات الحاكم باعتباره الراعً الصالح‪.‬‬

‫ٌقول له تحوتمس‪" :‬تؤمل (خد بالك) ‪ ،‬إن منصب الوزٌر لٌس حلوا قط‪ ،‬بل إنه مر المذاق كالصبر (‪)...‬‬
‫تؤمل إن القصد منه أال ٌجعل لنفسه وال لموظفً إدارته اعتبارا ما‪ ،‬وأال ٌتخذ من الشعب عبٌدا‪ ،‬تؤمل إذا‬
‫حضرك شاك من الوجه القبلً أو الوجه البحري مستعدا للمحاكمة‪ ...‬ألجل سماع قضٌته فواجبك أن ترى‬
‫كل إجراء الزم لذلك قد اتخذ حسب القانون‪ ،‬وأن ٌكون كل تصرؾ ٌتفق مع العرؾ الجاري"‪.‬‬

‫""تؤمل (خد بالك)‪ ،‬عندما ٌكلؾ حاكم بسماع قضاٌا علٌك أن تجعلها علنٌة‪ ،‬وبذلك تجعل الماء والهواء‬
‫ٌنقبلن كل ما عساه أن ٌفعل‪ ،‬تؤمل فإنه بذلك لن ٌبقى سلوكه خافٌا‪ ،‬وعلى ذلك إذا أتى أي أمر (ؼٌر‬
‫مرض) ٌبلم علٌه فٌجب أال ٌنصب ثانٌة بؤمر من ربٌسه‪ ،‬بل ٌجب أن ٌعلم الناس فعلته التً فعلها بواسطة‬
‫القاضً الذي حاكمه"‪.‬‬

‫وفً نفس الوقت دعاه ألن ٌكون وسطا فً تطبٌق العدل‪ ،‬فبل ٌتجنى على أقربابه خوفا من أن ٌتهمه‬
‫الناس بالتحٌز لهم‪ ،‬وضرب له مثبل عندما ظلم أحد الوزراء قرٌبه خوفا من كبلم الناس‪ ،‬واعتبرها "مبالؽة‬
‫منه (أي الوزٌر) فً تنفٌذ العدالة‪ ،‬فالمحاباة بؽٌضة عند هللا‪ ،‬وهذا تعلٌم ٌجب أن تسٌر على سنته"‪.‬‬

‫"ٌجب أن تراعً من تعرفه كما تراعً من ال تعرفه‪ ،‬وكذلك الفرد الذي ٌلتجا إلٌك كالفرد البعٌد عنك‪،‬‬
‫فإذا سار حاكم على حسب هذه الطرٌقة فإنه سٌصٌب النجاح فً هذه اإلدارة"‪.‬‬

‫(‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع ساق‪ ،‬ص ‪ٕٖٔ -ٕٓ8‬‬
‫(‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕٕٔ‬

‫٘‪9‬‬
‫وفً لمسة حانٌة راقٌة على أصحاب الشكاوى قال له‪" :‬ال تتخط مدعٌا (شاكٌا) قبل أن تسمع شكاٌته‬
‫(‪ )...‬وإذا رفضت شكاٌته فعلٌك أن تجعله ٌسمع السبب الذي من أجله رفضت شكاٌته‪ ،‬تؤمل! (خد بالك)‬
‫ٌقال إن المدعً (الشاكً) ٌفضل سماع أقواله عن أن ٌفصل فً القضٌة التً حضر من أجلها"‪.‬‬

‫وفً نفس الوقت طلب منه أن ٌحفظ هٌبة منصب الوزٌر‪ ،‬فقال‪"" :‬ال تؽضبن على رجال ظلما‪ ،‬بل‬
‫اؼضب على من ٌستحق الؽضب علٌه‪ ،‬ابعث الرهبة فً نفسك حتى ٌخشاك الناس‪ ،‬ألن ذلك الموظؾ الذٌن‬
‫تخشاه الناس هو الموظؾ الحقٌقً"‪.‬‬

‫ولكن هذه الرهبة ٌجب أن ٌكون مصدرها قوته فً الحق ولٌس "الشخط والنتر"‪" :‬تؤمل (خد بالك)‪ ،‬إن‬
‫شهرة الموظؾ تنحصر فً أن ٌقول ما هو حق‪ ،‬تؤمل‪ ،‬إن الرجل إذا بعث الخوؾ منه مرات عدة أكثر مما‬
‫ٌجب فقد ٌدعو ذلك إلى اتهام الناس له بعدم االستقامة"‪.‬‬

‫وبذلك ٌلتزم الوزٌر بدوره فً مٌزان صبلح البلد‪ " :‬تؤمل (خد بالك) إن عمله (الوزٌر) ٌنحصر فً‬
‫القٌام بؤداء اإلشراؾ الدقٌق ألنه كاتب "ماعت" (‪ )....‬فبل تتبعن هواك فً أمور قد عرفت مبادبها‬
‫القوٌمة(‪،")ٔ9‬وبعد انتهاء مراسم التنصٌب‪ٌ ،‬خرج الوزٌر فً موكب رسمً ٌتقدمه حرس الشرؾ‪.‬‬

‫ولهذا‪ ،‬لم ٌمنع كون تحوتمس الثالث محاربا فً معظم حٌاته‪ ،‬وحازما فً حكمه‪ ،‬من أن ٌصفه "رخ مً‬
‫رع" بؤنه "كان أبا وأما للناس أجمعٌن(ٕٓ)"‪.‬‬

‫(‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬النص وارد فً موسوعة مصر القدٌمة‪ ،‬سلٌم حسن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬الجزء الرابع‪ ،‬ص ‪ ،٘9ٔ -٘ٙ9‬وللمزٌد انظر‪ :‬الخطاب السٌاسً فً مصر‬
‫القدٌمة‪ ،‬مصطفى النشار‪ ،‬دار قباء للطباعة والنشر‪ ،‬ط ٔ‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ998 ،‬ص ٗ‪99 -ٙ‬‬
‫(ٕٓ)‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔ98‬‬

‫‪9ٙ‬‬
‫تحوتمس الثالث بمبلمح الطمؤنٌنة والرضا والشموخ التً طبعت عصره تتوٌجا لكفاح األجٌال السابقة ضد الهكسوس وفً تعمٌر مصر (تمثال فً‬
‫متحؾ األقصر)‬

‫وبعد ‪ ٕ8‬سنة من الحكم الرشٌد خلؾ تحوتمس الثالث ابنه أمنوحتب الثانً‪ ،‬وكان مثل أبٌه محاربا وبنا ًء‬
‫عظٌما‪ ،‬ثم تحوتمس الرابع (ابن أمنحوتب الثانً)‪ ،‬وسار على درب أجداده أٌضا فً الٌقظة والعمل‬
‫الدإوب‪ ،‬حتى جاء ابنه أمنوحتب الثالث لٌبدأ معه عصر ارتخاء جدٌد لمصر‪ ،‬وهً فً قمة مجدها وؼناها‪-‬‬
‫كعادتها القدٌمة‪ -‬فٌتبعه عصر جدٌد من القلق والفوضى‪ ،‬تحوي فً جوفها السإال الحٌران‪ ...‬لماذا تعٌد‬
‫مصر خطاٌاها وتذبح نفسها بٌدها قبل أن ٌذبحها أعادٌها؟‬

‫وٌتجدد السإال أٌضا‪ :‬بمراجعة األسباب والنتابج التً حررت بها األسرتان ‪ ٔ9‬و‪ ٔ8‬مصر من لهٌب نار‬
‫الفوضى المتوحشة كما نقلتها لنا البردٌات واآلثار‪ ..‬كم منها ٌنطبق علٌه ما ورد فً البنود الـ ‪ ٔ9‬لدستور‬
‫المصرٌٌن؟‬

‫"إن السماء تكون فً سالم‪ ،‬واألرض تكون فً سرور‪ ،‬ذلك أنه قد أُشٌع أن الملك سوؾ ٌضع "الماعت"‬
‫لتحل محل (الباطل)"‪.‬‬

‫(نصوص األهرام ٘‪)Pyr.ٔ99‬‬

‫"لقد أزاح الفوضى عن األرضٌن (الوجهٌن القبلً والبحري) حتى تكون ماعت هً الباقٌة"‪.‬‬

‫(نص إصبلحات توت عنخ آمون)‬

‫"إنها ال تتؽٌر وال تتبدل منذ زمن الذي أوجدها"‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫(الحكٌم بتاح حتب)‬

‫إنه "الذي ٌضع الماعت فً مكان الباطل"‪ ،‬أي بدل الباطل‪.‬‬

‫(نصوص األهرام ٘‪ Pyr, ٕٙ‬عن صفة الحاكم الصالح)‬

‫"إن صالح األرض (مصر) ٌنحصر فً تطبٌق الماعت"(ٕٔ)‪.‬‬

‫(الفبلح الفصٌح فً شكواه الثالثة إلى المسبول)‬

‫مبلمح المصرٌٌن حكاما ومحكومٌن فً زمن الوالدة الثالثة تملإها الطمؤنٌنة والثقة والجد‪ ،‬وهً نفس مبلمح وروح معظم المصرٌٌن للٌوم‬

‫▼▼▼ونسٌت مصر‪ ٗ ..‬أفـخـاخ‬

‫بعد ‪ ٕ8‬سنة من الحكم الرشٌد خلؾ تحوتمس الثالث ابنه أمنوحتب الثانً‪ ،‬وكان مثل أبٌه محاربا وبنا ًء‬
‫عظٌما‪ ،‬ثم تحوتمس الرابع (ابن أمنحوتب الثانً)‪ ،‬وسار على درب أجداده فً الٌقظة والعمل الدإوب‪،‬‬
‫حتى جاء ابنه أمنوحتب الثالث لٌبدأ فً نهاٌة حكمه عصر ارتخاء جدٌد لمصر‪ ،‬وهً فً قمة مجدها‬
‫وؼناها‪ -‬كعادتها القدٌمة‪ -‬فٌتبعه عصر من القلق والفوضى‪ ،‬تحوي فً جوفها السإال الحٌران‪ ...‬لماذا تعٌد‬
‫مصر خطاٌاها وتذبح نفسها بٌدها قبل أن ٌذبحها أعادٌها؟!‬

‫فخبلل مرحلة القوة والتوسع ؼٌر المسبوقٌن‪ ،‬وبعد هزٌمة التحالؾ المٌتانً‪ -‬الشامً فً حرب مجدو توالت‬
‫مشاهد حكام الببلد المجاورة كآشور وبابل وقبرص ومٌتانً والشام ٌبعثون إلى مصر الرسل تخطب ودها‪،‬‬
‫ورؼم الٌقظة الكبٌرة لتحوتمس الثالث‪ ،‬إال أنه وقع فً فخ جدٌد من أفخاخ األعداء المنصوبة لمصر‪ ،‬وهو‬
‫الزواج من األجنبٌات لتوثٌق هذا "الود"‪ ،‬ولم ٌكن زواج األجانب باألمر المعتاد أو المحبب قبل هذا التارٌخ‬

‫(ٕٔ)‬
‫‪ -‬تقدٌم علً رضوان لكتاب "الماعت‪ ..‬فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔ‪ٔ٘-‬‬

‫‪98‬‬
‫فً مصر‪ ،‬ووردت عنه أمثلة نادرة أو ؼٌر مإكدة‪.‬‬

‫وتوسع خلفاإه فً هذا الزواج‪ ،‬إضافة لوقوعهم فً ٖ أفخاخ أخرى منها أفخاخ قدٌمة لم نتعلم منها‬
‫الدرس‪ ،‬هً‪ :‬توطٌن أسرى الحرب والعبٌد والجالٌات األجنبٌة‪ ،‬وفتح الباب واسعا لتوظٌؾ أبناء الببلد‬
‫المفتوحة‪ ،‬توظٌؾ األجانب فً الجٌش المصري‪.‬‬

‫فكانت أخبث ٗ أفخاخ سقطت فٌها مصر‪ ،‬فعلت فٌها ما لم تستطع جٌوش الدنٌا وقتها أن تفعله‪.‬‬

‫❶ فخ الزواج باألجانب‬

‫بداٌة من عصر تحوتمس الثالث‪ ،‬بدأ زواج حكام مصر بؤمٌرات آسٌوٌات؛ ظنا منهم على ما ٌبدو أن‬
‫هذا ٌضمن والء ببلدهم لمصر بعبلقة النسب فٌما ٌعرؾ اآلن بالزواج الدبلوماسً‪ ،‬فتزوج ٖ أمٌرات‬
‫سورٌات‪ ،‬وبعده تزوج أبناإه وأحفاده من ممالك مٌتانً والحٌثٌٌن وبابل‪ ،‬هذا بخبلؾ أعداد كبٌرة من‬
‫الجواري والرقٌق الواصلة لمصر من الشام وكوش‪ ،‬ومنها ما ٌرسله حكام الببلد األجنبٌة إلى حكام مصر‬
‫على سبٌل "الهدٌة" والتودد(ٕٕ)‪ ،‬والزوجة األجنبٌة تؤتً وفً ذٌلها "زوفة" من أهلها وخدمها لٌإنسوا ؼربتها‪،‬‬
‫فٌسكنون قصور الحكام‪ ،‬وٌشؽلون وظابؾ ممٌزة جعلتهم مطلعٌن على أحوال البلد‪ ،‬وبالتدرٌج متحكمٌن فٌها‪،‬‬
‫ولو من وراء ستار‪.‬‬

‫ٌقول براٌس فً كتابه "رسابل عظماء الملوك فً الشرق األدنى" الخاص بتحلٌل الرسابل المتبادلة بٌن حكام‬
‫مصر وبابل وآشور ومٌتانً والحٌثٌٌن‪ ،‬وما تضمنته من أحادٌث عن الزواج الدبلوماسً بٌن عاببلتهم‪" :‬اُسُتؽلت‬
‫أمٌرات كثٌرات كؤدوات دبلوماسٌة بإرسالهن إلى ببلد أجنبٌة كؤفضل وسٌلة مبلبمة لتحقٌق مصالح ممالك‬
‫آبابهن"‪ ،‬و"كانت العروس الملكٌة تؤتً إلى موطنها الجدٌد تصحبها مجموعة من الخدم من موطنها األصلً"‪،‬‬
‫ضاربا المثل بؤنه "جاءت األمٌرة المٌتانٌة كٌلوحٌبا إلى مصر وبرفقتها ‪ ٖٔ9‬امرأة من خدمتها"(ٖٕ)‪.‬‬

‫ودخل زواج الحكام والمسبولٌن المصرٌٌن بؤجنبٌات فً طور "ال ُح َّمى"‪ -‬كناٌة عن كثرته‪ -‬بعد نجاح‬
‫المفاوضات العسٌرة بٌن مصر ومٌتانً لتقسٌم مناطق النفوذ فً الشام أٌام تحوتمس الرابع بؤن ٌكون لمصر حتى‬
‫حمص والبلذقٌة بسورٌا‪ ،‬ولمٌتانً ما بعدها شماال؛ فتزوج تحوتمس الرابع من ابنة الملك المٌتانً آرتاتاما‪،‬‬
‫وتزوج ابنه أمنحوتب الثالث باألمٌرة تادوحٌبا ابنة المٌتانً توشراتا وبابنة ملك بابل كاداشمان إنلٌل األول‪،‬‬
‫وتزوج إخناتون ورمسٌس الثانً من مٌتان وبابل والحٌثٌٌن(ٕٗ)‪.‬‬

‫لم ٌنتبه حكام مصر لخطٌة الزواج بؤجنبٌات على مستقبل الببلد‪ ،‬إال أنهم اتخذوا خطوة إٌجابٌة برفضهم‬
‫تزوٌج أمٌرات مصرٌات لؤلجانب‪ ،‬فبوصؾ براٌس‪"" :‬كان طرٌق الزواج والمصاهرات مع ملوك مصر ذات‬
‫اتجاه واحد"‪ ،‬بمعنى أن الحاكم المصري كان "راؼبا على الدوام فً استقبال زوجات أجنبٌات ذوات حسب رفٌع‪،‬‬

‫(ٕٕ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى القدٌم‪،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ٘ٔ‪ٕٔٙ -‬‬
‫(ٖٕ)‬
‫‪ -‬رسابل عظماء الملوك فً الشرق األدنى القدٌم‪ ،‬ترٌفور براٌس‪ ،‬ترجمة رفعت السٌد علً‪ ،‬دار العلوم للنشر والتوزٌع‪ ،،‬ص ٘‪ٔ8‬‬
‫(ٕٗ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٔ8٘ ،ٔٙ9 ،ٔٙٔ ،ٙ9 -ٙٙ‬‬

‫‪99‬‬
‫إال أن أٌَّا من فراعنة مصر لم ٌوافق أبدا على إرسال أمٌرات مصرٌات لٌكنَّ زوجات لملوك أجانب‪ ،‬كان ذلك‬
‫تقلٌدا راسخا ال استثناء له"‪.‬‬

‫وحٌن جسَّ الملك البابلً كاداشمان‪-‬إنلٌل النبض لٌكون أول حاكم أجنبً ٌتزوج بؤمٌرة مصرٌة‪ ،‬متشجعا بؤن‬
‫أخته متزوجة من أمنحوتب الثالث‪ ،‬جاءه الرد الحاسم من أمنحوتب‪" :‬لم ٌحدث من بداٌة الزمن أن أُعطٌت ابنة‬
‫ملك مصري كزوجة ألي ملك أجنبً"‪ ،‬والسبب عند براٌس‪ٌ" :‬عود إلى كبرٌاء الفراعنة واعتدادهم بؤنفسهم‪ ،‬وفً‬
‫المحافظة على صورة الفراعنة الراسخة كؤهم وأعظم ملوك المنطقة"‪ ،‬وقبولهم تزوٌج بناتهم باألجانب ٌقلل من‬
‫درجتهم‪ ،‬و"ٌبدو أن الملوك األجانب قد تفهموا ذلك وقبلوه"(ٕ٘) فواضح أنهم وازنوا األمر ورأوا أن مكاسبهم من‬
‫العبلقة بمصر‪ ،‬وترسٌخ قدم بها على ٌد بناتهم وحاشٌاتهم‪ ،‬سٌعوضهم‪.‬‬

‫والطٌب فً رفض المصرٌٌن تزوٌج أمٌراتهم لؤلجانب هو أال تكون الست المصرٌة وسٌلة لنقل العرش إلى‬
‫أجنبً إذا ما توفً حاكم مصر ولم ٌترك ورٌثا ذكرا للعرش من أبنابه‪ ،‬فتتخذ البلد األجنبً الفرصة لتدعً حق‬
‫األمٌرة المصرٌة وزوجها وأوالدها فً عرش مصر(‪" )ٕٙ‬بالقانون"‪.‬‬

‫كما أن األمٌرات المصرٌات‪ -‬مثلهن مثل معظم المصرٌٌن‪ -‬ال ٌجٌدنَّ مهارات التسلط والسٌطرة والتجسس‬
‫والمإامرات والتكتل فً الببلد التً ٌنتقلون إلٌها للزواج أو العمل‪ ،‬أو تسخٌر ثروة البلد التً هنَّ فٌها لبلدهنَّ‬
‫األصلً‪ ،‬فلن ٌكنَّ وسٌلة لوضع قدم مصر فً الدولة التً ٌتزوجنَّ فٌها‪ ،‬أي أنها زٌجة تؤتً بالخسارة على مصر‬
‫من كل النواحً‪.‬‬

‫❷ فخ توطٌن أسرى الحرب والعبٌد‬

‫ضمن الهداٌا التً ٌتبادلها الحكام فً ذلك العصر هً العبٌد‪ ،‬وأحٌانا ٌكونوا ضمن جهاز العروسة األجنبٌة‪،‬‬
‫وبعض الببلد‪ ،‬ومنها الحٌثٌون‪ ،‬برعوا فً استؽبلل العبٌد كوسٌلة لبلختراق‪ ،‬أو برعوا فً التخلص من العبٌد‬
‫المشاؼبٌن تحت اسم "هداٌا" لببلد ؼٌرهم‪ ،‬فٌكونوا تخلصوا من شؽبهم وفً نفس الوقت تبقى "بجمٌلة وبمعروؾ"‬
‫على الملك األجنبً‪ ،‬وٌؤخذون مقابلها هدٌة أخرى ثمٌنة‪.‬‬

‫ومثال لذلك إرسال بودحٌبا زوجة ملك الحٌثٌٌن عبٌدها القوقاز ضمن جهاز ابنتها إلى رمسٌس الثانً‪ ،‬وكان‬
‫القوقازٌون ٌشتهرون بؤنهم خطرون وعدوانٌون‪ ،‬حتى وهم أسرى‪ ،‬بحسب وصؾ براٌس‪ ،‬الذي توقع أن "ال‬
‫ٌوجد شك أن بودحٌبا كانت سعٌدة بانتهاز تلك الفرصة للتخلص من أولبك األسرى القوقازٌٌن بإرسالهم إلى‬
‫مصر كعبٌد"‪ ،‬وأعلن رمسٌس أنه ٌرحب بإرسالهم إلى مصر‪ ،‬ولكنه نصح الملكة بؤن تشدد الحراسة علٌهم‪ ،‬حتى‬

‫(ٕ٘)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٔ8ٔ -ٔ99‬‬
‫(‪)ٕٙ‬‬
‫‪ -‬مواد قانون الجنسٌة المصرٌة الحالً‪ ،‬فٌما ٌخص تجنٌس األجانب‪ ،‬كتجنٌس أوالد المصرٌة‪ ،‬والزوجة األجنبٌة‪ ،‬وتجنٌس المقٌم األجنبً بعد‬
‫ٓٔ سنٌن‪ ،‬وتجنٌس المستثمر األجنبً مقابل ودٌعة إلخ‪ ،‬هو بمثابة بوابة لنقل عرش مصر إلى األجانب "بالقانون" أٌضا‪ ،‬بل هو أسرع طرٌق‬
‫مخت صر لهذا‪ ،‬خاصة وأن معظم الوظابؾ فً مصر وتملٌك األراضً والترشح النتخابات المحلٌات والبرلمان ال تطلب فً المتقدم لها "فٌما ٌخص‬
‫الجنسٌة إال أن ٌكون مصرٌا وبالكثٌر "من أبوٌن مصرٌٌن"‪ ،‬دون االشتراط أن ٌكونوا ؼٌر مجنسٌن‪ ،‬وحتى الربٌس ال ٌُشترط أن ٌكون جداه‬
‫مباشرة ؼٌر مجنسٌن‪ ،‬أو أن تكون زوجته من أبوٌن ؼٌر مجنسٌن‪ ،‬أي فً النهاٌة ٌسهل على األجنبً بعد جٌل أو جٌلٌن على األكثر أن ٌصلوا إلى‬
‫أرفع مناصب الدولة‪ ..‬بالقانون‪ ..‬بورقة ابتدعها األجانب باسم "التجنٌس"‪ ،‬ستدفع مصر ثمنها ؼالٌا‪.‬‬

‫ٓٓٔ‬
‫وهم ما زالوا فً الحبس الحٌثً حتى ال ٌشكلون أي خطر على المرتحلٌن فً حفلة العرس(‪.)ٕ9‬‬

‫ولٌس مفهوما لماذ ا قبل رمسٌس الثانً هإالء العبٌد رؼم علمه بؤنهم خطرٌن ومشاؼبٌن؟ إال إن كان ثقة زابدة‬
‫فً النفس بؤنه "كله تحت السٌطرة"‪ ،‬وهو ما ستظهر مشاكله فً دور األجانب المشاؼبٌن فً تحطٌم عظام األسرة‬
‫‪ ٔ9‬التً كونها جد ووالد رمسٌس الثانً وإسقاطها‪ ،‬وتحطٌم عظام مصر نفسها فٌما بعد‪.‬‬

‫واستخدم الحكام بداٌة من األسرة ‪ ٔ8‬وحتى األسرة ٕٓ األسرى المجلوبٌن من الببلد المفتوحة‪ ،‬أو‬
‫المستسلمٌن‪ ،‬فً بعض المهن‪ ،‬ولٌتهم ما فعلت‪ ،‬ولٌتهم بحثوا عن وسٌلة للتخلص منهم كما فعل الحٌثٌون‬
‫بدال من تراكمهم فً مصر التً وجدوا فٌها فرصا أرقى بكثٌر من الببلد األخرى‪ ،‬ورؼم هذا لم ٌرحموها‬
‫حٌن تكتلوا علٌها كما سنرى‪ ،‬فتباهى بعض حكام مصر بكثرة ما لدٌهم من أسرى حرب‪ -‬كدلٌل على القوة‬
‫واالنتصارات‪ -‬ولم ٌدر بخلدهم أن هإالء أنفسهم سٌحولون المصرٌٌن كلهم‪ ،‬بل مصر نفسها‪ ،‬إلى أسرى‬
‫حرب لدٌهم عما قرٌب‪.‬‬

‫❸ فخ توظٌؾ أبناء البالد المفتوحة والجالٌات األجنبٌة‬

‫فتحت مصر الباب لتوظٌؾ أجانب من أبناء الببلد المفتوحة والمقٌمٌن فً مصر فً أعمال الترجمة‬
‫واإلدارات الحكومٌة المتصلة بإدارة تلك الببلد على أساس دراٌتهم بشبون ببلدهم‪ ،‬كما سنرى فً حكاٌة‬
‫السوري "إرسو" وكٌؾ استؽل وظٌفته فً السٌطرة على القصر‪.‬‬

‫وطبٌعً أن انفتحت أبواب مصر واسعا أمام بضابع الببلد المفتوحة وتجارها‪ ،‬فانتشروا فٌها‪ ،‬وأؼراهم‬
‫الثراء السرٌع فً استٌطانها وسط ؼفلة من أهلها الذٌن نسوا كٌؾ بدأ االحتبلل الهكسوسً باالستٌطان باسم‬
‫تاجر والجا وعامل‪ ،‬وقبله توؼل األجانب بنفس األسلوب لٌساهموا فً إسقاط الدولة القدٌمة‪.‬‬

‫❹ فخ تشؽٌل األجانب فً الجٌش المصري‬

‫وهو ما سنتابعه بالتفاصٌل والوقابع فً الحدٌث تحت عنوانً "النار تصل الجٌش والمعبد"‪ ،‬و"تصفٌة‬
‫الجٌش المصري" فً الصفحات التالٌة‪ ،‬وهو عنوان قاسً‪ ،‬ولكنه ما حصل‪ ،‬وبدأ تشؽٌل أسرى الحرب‬
‫والمستوطنٌن األجانب فً مهام صؽٌرة جدا فً أعمال معاونة‪ ،‬لم تب ُد أنها تشكل خطرا‪ ،‬ثم تطور األمر‬
‫بمرور السنٌن إلى تجنٌد‪ ،‬ثم ترقٌة إلى ضباط‪ ،‬ثم قٌادات‪ ،‬ثم دخول الضباط والقٌادات فً مصاهرات مع‬
‫العاببلت المصرٌة النافذة‪ ،‬ثم االنفراد بقٌادة الجٌش نفسه‪ ..‬ثم تولً أجنبً (ادعى التمصر كذبا) وظٌفة‬
‫القابد األعلى للقوات المسلحة المصرٌة‪.‬‬

‫▼▼▼ الؽنى الفاحش مفسدة لمصر‬

‫فً عصور الدولة الحدٌثة وصلت مصر إلى مرحلة من الؽنى الفاحش لم تصلها طوال تارٌخها‪.‬‬

‫(‪)ٕ9‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٕ‪ٔ9‬‬

‫ٔٓٔ‬
‫فإلى جانب اإلنتاج الداخلً مع دوران عجلة البناء من معابد ومقابر وتنشٌط المحاجر والمناجم‪ ،‬وتطوٌر‬
‫مشارٌع الري وازدهار كافة الصناعات‪ ،‬تدفق على مصر ثروات من الببلد المفتوحة كالجزٌة والهداٌا‪،‬‬
‫ونسمع ر َّنات هذا الثراء على لسان الملوك األجانب فً رسابلهم لحكام مصر‪ ،‬فٌقول حاكم "مٌتانً" بعد‬
‫الصلح معه وزواج أمنحوتب الثالث من ابنته‪" :‬أخً‪ ،‬أرجو أن تهدٌنً ذهبا كثٌرا ال ٌُحصى‪ ،‬وإنً على ثقة‬
‫من أن أخً سوؾ ٌحقق ذلك وٌهدٌنً ذهبا أكثر من الذهب الذي حصل والدي علٌه‪ ،‬ألٌس الذهب فً بلد‬
‫أخً كتراب األرض؟ بارك األرباب فٌه حتى ٌصبح الذهب فً أرض أخً أضعاؾ ما هو علٌه اآلن‪،‬‬
‫وعسى ما أطلبه ال ٌضاٌق أخً وال ٌضٌق به قلبه‪ ،... ،‬وسوؾ أرد ألخً فضله عشرة أمثال مما‬
‫ٌشتهٌه"(‪ ،)ٕ8‬أي حصل على الصلح‪ ،‬وصلة النسب مع حاكم مصر‪ ،‬والثروة‪ ،‬ومساعدة مصر لهم وقت‬
‫اللزوم‪ ،‬فً المقابل أخذت مصر منهم اللسان الحلو وهداٌا والؽرق فً جمال بناتهم‪.‬‬

‫وإن كان حكام مصر بداٌة من أحمس وحتى تحوتمس الرابع (‪ 8‬حكام) قاوموا إؼراء هذه الثروات‪،‬‬
‫وواصلوا كفاحهم فً الداخل والخارج لحماٌة البلد‪ ،‬إال أن أمنحوتب الثالث‪ ،‬ابن تحوتمس الرابع‪ ،‬وبعد أن‬
‫بدأ عهده بحمبلت تفتٌشٌة فً الببلد المفتوحة‪ ،‬إال أنه فً الجزء األخٌر من عهده مال إلى حٌاة السلم والدعة‬
‫والخمول وحفبلت القصر الصاخبة‪ ،‬خاصة بعد الصلح مع مٌتانً‪ ،‬وتبدى ذلك فً تماثٌله التً اتسم بعضها‬
‫بالسمنة مقارنة بتماثٌل أسبلفه الممشوقة‪ ،‬إضافة لكثرة الوصل مع األجنبٌات البلواتً مؤلن القصور‪ ،‬وٌبدو‬
‫قدمن منها رؼم مطامعها‪ ،‬فعمٌت األبصار عن‬ ‫َ‬ ‫أنهنَّ كسرنَّ حدة العداء فً الصدور المصرٌة للببلد التً‬
‫مإامراتها‪.‬‬

‫وانتقلت نٌران الثراء الفاحش من قصور الحكم إلى المعابد‪ ،‬وحسب تعبٌر هنري برٌستٌد فإن "ثروة‬
‫العاهلٌة ]الدولة[ أفسدت أخبلق الكهنة"(‪.)ٕ9‬‬

‫ولم ٌكن من بؤس على أثرٌاء مصر فً أن ٌستمتعوا بما أفاءته علٌهم جهود أسبلفهم من نعمة ونعٌم‪،‬‬
‫ولكن الضرر أوشك أن ٌقع بهم حٌن استمرأوا النعمة واستناموا إلى النعٌم(ٖٓ)‪ ،‬بحسب تعبٌر عبد العزٌز‬
‫صالح‪ ،‬فتراخت قبضتهم ظنا منهم أن الدنٌا دانت لهم‪ ،‬و"كله تحت السٌطرة"‪ ،‬وآن لهم أن ٌرٌحوا أنفسهم‪،‬‬
‫واستسهلوا إسناد بعض األعمال للموظفٌن األجانب ترفعًا عنها‪.‬‬

‫أدى هذا إلى تبدل االستقرار الخارجً فً نهاٌة عهد أمنحوتب الثالث شٌبا فشٌبا‪ ،‬فبدأت القوة الحٌثٌة‬
‫الفتٌة تعبث بالحدود السورٌة والمٌتانٌة‪ ،‬وتؽري ضعاؾ النفوس من اإلقلٌمٌن بالعمل لصالحها(ٖٔ)‪.‬‬

‫وعندما خ َّفت اإلدارة المصرٌة وقلَّت حمبلتها الحربٌة أؼار بعض أمراء الشام على جٌرانهم‪ ،‬وهددت‬
‫قبابل الخابٌرو والعابٌرو البدوٌة األمن وسبل التجارة‪ ،‬فتوالت صرخات االستؽاثة من األمراء الشوام‬
‫الموالٌن ألمنحوتب‪ ،‬فوجدت االستجابة مرة‪ ،‬ولكنها وجدت اإلهمال مرات‪.‬‬

‫(‪)ٕ8‬‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ ،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٔٙ‬‬
‫(‪)ٕ9‬‬
‫‪ -‬فجر الضمٌر‪ ،‬جٌمس هنري برٌستٌد‪ ،‬ترجمة سلٌم حسن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘ٗ‬
‫(ٖٓ)‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٔٙ‬‬
‫(ٖٔ)‬
‫‪ -‬انظر الشرق األدنى القدٌم‪،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٔ9‬‬

‫ٕٓٔ‬
‫فلم ٌق ِّدر أمنحوتب خطورة هذه األحوال تقدٌرها الصحٌح‪ ،‬واستمر ٌظن فً نفسه السٌادة‪ ،‬واستمر‬
‫ٌستمتع برسابل المدٌح القادمة من أمراء بابل والمٌتان وبعض أمراء آسٌا الصؽرى التً أخمدت شعلة‬
‫الحذر فً الصدور‪ ،‬وشرّ ما أعماه عن تبٌن حقٌقة األوضاع هو جماعة من أمراء كنعان ومن الخابٌرو‬
‫العابٌرو‪ ،‬مهروا فً النفاق‪ ،‬واستمروا ٌضللونه وٌضللون ولده إخناتون من بعده‪ ،‬وٌسرفون فً إظهار الود‬
‫والطاعة لـمصر‪ ،‬وٌسرفون فً الوقت نفسه فً إضمار الحقد لها(ٕٖ)‪.‬‬

‫وصورت هذه البلبلة مجموعة رسابل محفوظة بدٌوان رسابل أمنحوتب الثالث وإخناتون"‪ ،‬و ُتسمى فً‬
‫علم اآلثار برسابل تل العمارنة‪ ،‬موزعة اآلن على المتحؾ المصري ومتاحؾ أجنبٌة‪ ،‬وتتضمن المراسبلت‬
‫المتبادلة بٌن أمنحوتب الثالث وإخناتون وبٌن ملوك الشرق وحكام الشام فً عهدٌهما‪.‬‬

‫وٌُفهم من رسابل العمارنة أنه كان من بٌن حكام اإلمارات الفٌنٌقٌة (اللبنانٌة) حاكم لؤلمورٌٌن اسمه "رٌب‬
‫أدي" ظل موالٌا لـمصر حتى آخر حٌاته مع حكام إمارات فٌنٌقٌة أخرى كبٌروت وصور وصٌدا وعكا‪ ،‬وفً‬
‫المقابل ظهر حاكم اسمه "عبدو عشرتا" سٌطر على جزء من حوض العاصً‪ ،‬ومد نفوذه بالقوة على‬
‫حساب جٌرانه؛ فاحتل عرقة وقطنة وحماة وأرواد‪ ،‬ونافق المصرٌٌن والحٌثٌٌن فً وقت واحد‪ٌ ،‬وهم كل‬
‫طرؾ أنه تبعه وٌعمل لحسابه‪.‬‬

‫وبعث "رٌب أدى" بشكاوى إلى مصر عن مطامع وخبث "عبدو عشرتا"‪ ،‬وترجى أمنحتب أن ٌنجده‪،‬‬
‫وفً الوقت نفسه كان "عبدو عشرتا" ٌبعث رسابل لمصر ٌنكر فٌها كل ما ٌتهمه به حلفاء مصر‪ ،‬وٌإكد أنه‬
‫خاضع كامل الخضوع لمصر‪ ،‬لدرجة أنه ٌقول فً رسابله ألمنحوتب الثالث‪" :‬إلى الملك شمسً وموالي‪،‬‬
‫ٌقول عبدو عشرتا عبدك وتراب قدمٌك‪ :‬أجثو عند قدمً موالي الملك سبعا‪ ،‬وسبعا‪ ،‬فؤنا خادم الملك وجرو‬
‫بٌته (الجرو هو الكلب الصؽٌر)‪ ،‬وأحرس أرض أمور أو كلها من أجل موالي وسٌدي(ٖٖ)"‪.‬‬

‫وفً نهاٌة المطاؾ أرسل أمنحوتب الثالث حملة تؤدٌبٌة قبضت على عبدو عشرتا‪ ،‬وقتلته‪ ،‬لكن سار‬
‫أبناإه‪ ،‬وخاصة عزٌرو‪ ،‬على نفس مسلكه‪.‬‬

‫وكتب "رٌب أدي" متحسرا على تراجع الهٌبة المصرٌة هناك‪"" :‬كان حكام كنعان إذا رأوا جندٌا مصرٌا‬
‫ولوا األدبار‪ ،‬أما اآلن فإن أبناء عبدو عشرتا ٌستخفون بالمصرٌٌن وٌهددوننً بؤسلحة فتاكة"‪ ،‬وؼدا الرجل‬
‫فً عاصمته جبٌل حسٌرا محصورا كعصفور فً قفص‪.‬‬

‫وفً رسالة ثانٌة قال ألمنحوتب‪"" :‬قدٌما كان للملك عندنا قلعة وحامٌة‪ ،‬وكان الملك ٌكفل تموٌنها من‬
‫إٌارٌموتا‪ ،‬ولكن عزٌرو ٌهاجمنا اآلن مرارا دون خوؾ‪ ،‬ولم ٌبق لً حاشٌة أو مإنة بعد أن أصبحت قراي‬
‫اآلن فً حوزة عزٌرو‪ ،‬وهو ٌظهر لً الرؼبة فً أن أنضم إلٌه‪ ،‬ولكن لماذا أنضم إلٌه؟ إنهم أجراء أبناء‬

‫(ٕٖ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‬
‫(ٖٖ)‬
‫‪ -‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٔ9‬‬

‫ٖٓٔ‬
‫عبدو عشرتا هإالء ٌبؽون مصالحهم وٌخلفون مدن موالي الملك طعاما للنٌران"(ٖٗ)‪.‬‬

‫"وكتب حاكم مدٌنة تونٌب ٌردد نفس الشكوى‪ ،‬وٌذكر أمنحوتب الثالث بسٌاسة جده تحوتمس الثالث فً‬
‫استمرار تفقد األحوال فً الشام لتثبٌت النفوذ المصري بها‪" :‬موالي ملك مصر‪ ،‬نحن أهل تونٌب أتباعك‪،‬‬
‫ندعو لك بالحٌاة ونقبل قدمٌك‪ ،‬إن أ َمتك مدٌنة تونٌب تقول من ذا الذي كان ٌستٌطع أن ٌنهب توتٌب دون أن‬
‫ٌنتقم لها منخبرٌا (تحوتمس الثالث) وٌفعل بالناهب ما فعل بها"‪.‬‬

‫"ولٌسؤل موالنا شٌوخ رجاله (كبار السن الذٌن عاصروا تحوتمس) لٌعرؾ إذا ما كنا نقول الحقٌقة أم‬
‫ؼٌرها‪ .‬إذا لم ٌدركنا مشاة ملك مصر وعرباته قبل فوات الفرصة فإن عزٌرو سٌصنع معنا ما صنعه فً‬
‫مدٌنة نً‪ ،‬وحٌنبذ لن نبكً وحدنا بل سٌبكً معنا أٌضا ملك مصر مما ٌرتكبه عزٌرو من أعمال ألنه‬
‫سٌرفع ٌده حٌنذاك ضد موالنا(ٖ٘)"‪.‬‬

‫وفً إشارة للتجاهل التام من أمنحوتب لهذه النداءات قالت رسابل تونٌب‪" :‬إن مدٌنتك تونٌب تبكً‪،‬‬
‫ودموعها تجري‪ ،‬وال ناصر لنا‪ ،‬أرسلنا ٕٓ رسالة إلى موالنا ملك مصر ولم نتلق ردا منه"(‪.)ٖٙ‬‬

‫ومضى عزٌرو فً طرٌقه‪ ،‬واستولى على أالزا (شمال طرابلس) وأرداتا (قرب زؼرتا بشمال لبنان)‬
‫وحرق أوجارٌت (راس شمرا بالبلذقٌة السورٌة) ودمر سمٌرا‪ ،‬وظل ٌرسل خطاباته المخادعة إلى إخناتون‬
‫ٌظهر والءه فٌها‪ ،‬وٌ َّدعً أنه إنما ٌستولى على المدن لٌحمٌها من الحٌثٌٌن‪ ،‬وأنه ٌخرب بعضها حتى ال‬
‫ٌستفٌدوا منها‪ ،‬وبلؽت به الثقة فً القدرة على خداع إخناتون أن ٌراسل الملك بؤمله فً أن ٌرى وجه مواله‬
‫البهً‪ ،‬وذهب إلٌه بالفعل ورجع آمنا من عنده؛ وٌقول دونالدرٌد فورد إنه ذهب لمصر باستدعاء من‬
‫إخناتون لمحاكمته‪ ،‬وظل طوٌبل‪ ،‬لكنه عاد سلٌما؛ لٌوطد تحالفه مع الحٌثٌٌن ضد المدن السورٌة المعادٌة له‬
‫وضد مصر(‪.)ٖ9‬‬

‫وبتحرٌض الحٌثٌٌن(‪ )ٖ8‬ظهر شخص مثل عبدو عشرتا اسمه "ال بآٌو" حاكم مدٌنة سشم الذي تعاون هو‬
‫وأوالده مع قباٌل العابٌرو‪ ،‬وبلؽت الصفاقة به فً نفاقه إلخناتون‪ -‬وبمعنى أدق محاولة تؽٌٌبه عن الحقٌقة‪-‬‬
‫أن قال له فً رسالة‪" :‬وهل إذا طلب الملك إمرأتً أستطٌع أن أمنعها؟ وإذا كتب إلًَّ أن إضرب قلبك‬
‫بخنجر ومت‪ ،‬فهل أخالؾ أمر موالي؟"‪ ،‬وعندما لقى "ال بآٌو" حتفه خلفه فً الشر والنفاق ولداه(‪.)ٖ9‬‬

‫فلماذا ٌا ترى هذا الصمت من الحكومة المصرٌة وقتها‪ ،‬ومٌلها لتصدٌق الكاذب المنافق عن الصادق؟‬

‫(ٖٗ)‬
‫‪ -‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ ،ٕٔ8 -ٕٔ9‬وأخناتون ذلك الفرعون المارق‪ ،‬دونالدرٌد فورد‪ ،‬ترجمة بٌومً قندٌل‪ ،‬دار الوفاء لدنٌا الطباعة والنشر‪،‬‬
‫اإلسكندرٌة‪ ،‬ص ٖٕٔ‬
‫(ٖ٘)‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٔ9‬‬
‫(‪)ٖٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫(‪)ٖ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ ،ٕٔ8‬وأخناتون ذلك الفرعون المارق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٗٔ‪ٕٔٙ -‬‬
‫(‪)ٖ8‬‬
‫‪ -‬منطقة الحٌثٌٌن هً التً قامت علٌها تركٌا فً القرون األخٌرة‪ ،‬ونفس الدور الحٌثً فً تسلٌط حكام وقبابل شامٌة ضد مصر هو نفس ما‬
‫تفعله تركٌا فً تسلٌط جماعات فً سورٌا وفلسطٌن ضد مصر اآلن‪ ،‬وهذه المنطقة ترمً على مصر الشر دابما‪ ،‬فهً نفس األرض التً قامت‬
‫علٌها أٌضا بٌزنطة (الجزء الشرقً لإلمبراطورٌة الرومانٌة التً احتلت مصر)‬
‫(‪)ٖ9‬‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٔ9 -ٕٔ8‬‬

‫ٗٓٔ‬
‫ٌتؤمل دونالدرٌد فورد‪ ،‬ثم ٌجٌب‪ٌ" :‬ذهب رأًٌ إى أن عزٌرو كان واحدا من القبلبل الذٌن سبروا ؼور‬
‫أخناتون بشكل كامل‪ ،‬فلقد وزن بصفته شٌخ قبٌلة ال ٌنقصه ال الدهاء وال سعة الحٌلة‪ ،‬أي المكافا لـ‬
‫"بلطج ً"‪ ،‬أو "قبضاي" الشوارع الخلفٌة للمدن حالٌا‪ ،‬الحدود التً تفرضها التربٌة الراقٌة وحٌاة الدعة على‬
‫حاكم تختلؾ ثقافته بوجه عام عن ثقافته هو‪ .‬ولقد كان فً طوع أخناتون أن ٌوظؾ عناصر وحشٌة‪ ،‬وإن‬
‫كانت فعالة فً السٌاسة‪ ،‬ؼٌر أنه لم ٌشؤ أن ٌكٌؾ نفسه مع التنظٌم الضروري البلزم إلطبلق حملة تتمتع‬
‫بالكفاءة والقدرة‪ ،‬وكان فً وسع أخناتون أن ٌوجه تهمة شنٌعة‪ ،‬إال أن خاطره كان ٌطٌب بسهولة‬
‫وٌسر"(ٓٗ)‪.‬‬

‫هذا التحلٌل ال ٌنطبق فقط على عزٌرو‪ ،‬بل على كل أعداء مصر والطامعٌن فٌها‪ ،‬وال على إخناتون‬
‫فقط‪ ،‬بل معظم المصرٌٌن فً أوقات ترك الحٌطة ونسٌان التارٌخ‪ ،‬فؤمثال عزٌرو على مر التارٌخ ٌعرفون‬
‫أن المصرٌٌن فً هذه األوقات ٌركنون إلى السلم‪ ،‬وتإثر فٌهم الكلمة الحلوة والوعود المؽموسة فً المدٌح‬
‫أو الخضوع‪ ،‬ولٌس المشكلة أن هذا ٌإدي لخسارة مناطق نفوذ خارجٌة‪ ،‬فهً فً النهاٌة لٌست أراضٌنا‪،‬‬
‫ولكن تإدي لتمكٌن العدو من أرض مصر نفسها حٌن ٌتؽلؽل بنفس األسالٌب داخل أروقة الحكم‪ ،‬كما‬
‫سٌحدث فً السنٌن المقبلة‪.‬‬

‫وتزٌد فرص التمكٌن األجنبً من مصر حٌن ٌسكر أهلها فً الؽنى الفاحش‪ ،‬فتثقل األقدام عن الحركة‪،‬‬
‫وٌتراخى العقل عن التفكٌر فً مإامرات الؽٌر‪ ،‬وتؽرٌهم قوتهم باالطمبنان للمنافقٌن‪ ،‬وٌنفر بعضهم من‬
‫الكفاح‪ ،‬وألن مصر دولة "وسطٌة"‪ ،‬وعّدَ لها فً وسطٌتها‪ ،‬فإن الؽنى الفاحش ال ٌجلب لها إال الشر‪ ،‬وألهلها‬
‫الكسل‪ ،‬ولؤلجانب الفرص‪.‬‬

‫▼▼▼ الثعابٌن فً القصر‬

‫لسوء الحظ تزامنت هذه الظروؾ مع انشؽال إخناتون بفكره الدٌنً الجدٌد‪ ،‬وخبلفه مع رجال الدٌن‬
‫وظهور نزاع داخلً‪ ،‬وبحسب رأي عبد العزٌز صالح فإن إخناتون وقع فً خطؤ أنه بحسب دعوته الدٌنٌة‬
‫التً تقول إن كل الشعوب متساوٌة فإن اإلخاء والمساواة بٌنها سٌكون هو الكفٌل بإنهاء الحروب‬
‫والصراعات‪ ،‬ولكن خاب ظنه(ٔٗ) كما خاب ظن كل من سعى بعده لدمج الشعوب أو تحوٌل العالم إلى أمة‬
‫واحدة بحسن أو بسوء نٌة‪ ،‬كاإلسكندر وكنٌسة روما والخبلفة اإلسبلمٌة والدولة الشٌوعٌة العالمٌة‬
‫والعولمة‪ ،‬فهً فكرة عكس حكمة هللا فً خلقه‪" ،‬لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء هللا لجعلكم أمة‬
‫واحدة ولكن لٌبلوكم فً ما آتاكم فاستبقوا الخٌرات" (المابدة‪ ،‬اآلٌة ‪)ٗ8‬‬

‫قوبلت أفكار إخناتون بالمقاومة الشدٌدة من علماء الدٌن بمعابد آمون الذٌن رأوا فٌها أفكارا متؤثرة‬
‫باالندماج واالختبلط باألجانب مع االنفتاح اإلمبراطوري علٌهم‪ ،‬وأصروا على النزعة القومٌة التً تدعو‬

‫(ٓٗ)‬
‫‪ -‬أخناتون ذلك الفرعون المارق‪ ،‬دونالدرٌد فورد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٔٙ‬‬
‫(ٔٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٔ9‬‬

‫٘ٓٔ‬
‫المصرٌٌن إلى الحذر من األفكار األجنبٌة(ٕٗ)‪ .‬ربما خشوا أن تكون أفكار المساواة شعارات صدرها له من‬
‫ٌرٌدونه أن ٌساوي بٌن المصرٌٌن واألجانب‪ ،‬فتنكسر مقاومة المصري لكل ما هو أجنبً‪ ،‬وتنفتح حدود‬
‫ببلده للقادمٌن ببل حدود‪.‬‬

‫وزاد من ؼفلة إخناتون عن الخطر أنه أحاطت به حاشٌة طمؤنته إلى بؤس جٌشه "األمن مستتب"‪ ،‬وأحاط‬
‫به أجانب من أبناء المناطق المفتوحة أو المتحالفة مع مصر‪ ،‬خدعوه وأعموا عٌنٌه عن حقٌقة مجرٌات‬
‫األمور فً الخارج ‪ ،‬منهم رجل ٌدعى توتو تضخم نفوذه حتى راسله أحد المنافقٌن ذات مرة قاببل له‪" :‬ال‬
‫استطٌع أن انحرؾ عن كلمات سٌدي وربً وشمسً‪ ،‬وال أحٌد عن كلمات سٌدي توتو‪ ،...‬فؤنا أخشى‬
‫موالي الملك وأخاؾ توتو‪.")ٖٗ(...‬‬

‫هذه الرسالة إشارة إلى أن أبناء الببلد المفتوحة أخذوا مناصب حساسة داخل القصر الحاكم‪ ،‬حتى أنهم‬
‫كانوا مسبولٌن عن تسلم الرسابل بٌن حاكم مصر وأمراء البلدان المجاورة‪ ،‬فمتوقع أنهم من سٌتحكمون فٌما‬
‫ٌصل إلٌه منها بحسب طبٌعة عبلقتهم بمن ٌرسلها وأهدافه‪ ،‬كما شارك بعضهم فً مإامرات سممت جو‬
‫البلد‪ ،‬منها مإامرة سجلتها جدران مقبرة "ماحو" ربٌس الشرطة‪ ،‬دبرها اثنان من األجانب وواحد مصري‪،‬‬
‫وٌتوقع د‪ .‬عبد المنعم أبو بكر أن هدفها كان اؼتٌال إخناتون(ٗٗ)‪.‬‬

‫توفً إخناتون بعد ٗٔ سنة من الحكم‪ ،‬وخلفه حكام لم ٌعمروا فً الحكم ألسباب الوفاة السرٌعة مثل‬
‫سمنخ كا رع وتوت عنخ آمون‪ ،‬أو لكبر السن مثل آي‪ ،‬فازدادت األمور تدهورا‪ ،‬وضعفت قبضة الدولة‬
‫المركزٌة‪ ،‬فانتشر الفساد والرشوة فً كل مكان‪ ،‬وابتزاز المزارعٌن والتجار باإلتاوات‪.‬‬

‫ل م ٌترك "آي" ولٌا للعهد‪ ،‬فتولى حكم الببلد حور محب‪ ،‬القابد السابق للجٌش بعد أن تزوج من "موت‬
‫نجمة" ابنة "آي"‪ ،‬ولم ٌكن حور محب من أبناء العٌلة الحاكمة‪.‬‬

‫▲▲▲ الوقاٌة من إزفت‬

‫استحق حور محب لقب المنقذ‪ ،‬وفً ذلك ٌشبه أمنمحات األول فً الدولة الوسطى‪ ،‬فكبلهما جاء فً‬
‫مرحلة ؼامضة مرتبكة‪ ،‬البلد تفتقد فٌها للحكم القوي‪ ،‬وتنجرؾ شٌبا فشٌبا بعٌدا عن ماعت إلى فوضى‬
‫"زفتة" جدٌدة تلقً بها إلى بٌر الخراب واالحتبلل‪ ،‬وكبلهما ال ٌنتمً للعٌلة الحاكمة التً سبقته‪ ،‬كما أن‬
‫كبلهما كان قابدا للجٌش وربٌسا للوزرا‪ ،‬وكما انكتب لمصر على ٌد أمنمحات النجدة فانتشلها من حافة البٌر‬
‫إلى البراح‪ ،‬فعل ذات األمر حور محب‪ ،‬فكانا ممن نفذا مبدأ "الوقاٌة خٌر من العبلج"‪.‬‬

‫بدأ القابد الجدٌد بؤن ه َّدأ التوتر الداخلً وأعاد الحٌاة الدٌنٌة إلى ما كانت علٌه قبل إخناتون‪ ،‬وحذؾ سٌرة‬
‫إخناتون ومن جاءوا بعده من السجبلت الحكومٌة‪ ،‬وكؤن الحكم توقؾ عند أمنحوتب الثالث‪ ،‬ولٌس للحكام‬

‫(ٕٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬رمضان عبده علً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬الجزء ٖ‪ ،‬ص ٘‪ٕ9‬‬
‫(ٖٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٔ9‬‬
‫(ٗٗ)‬
‫‪ -‬إخناتون‪ ،‬د‪ .‬عبد المنعم أبو بكر‪ ،‬دار القلم (وزارة الثقافة)‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ9ٙٔ ،‬ص ‪99‬‬

‫‪ٔٓٙ‬‬
‫من إخناتون وحتى آي (أي أتباع آتون) شرعٌة‪.‬‬

‫ولحظ مصر‪ ،‬كان به حسم وصرامة ومحبة عالٌة للكفاح ومواجهة الفاسدٌن‪ ،‬فجاب أرجاء مصر ٌتفقد‬
‫أحوالها بعد القلقلة التً هزتها؛ فوضع أجراءات مشددة لمكافحة االنفبلت‪ ،‬بدأت بالتفتٌش على الموظفٌن‪،‬‬
‫وحذر القضاة من االتصال بالناس‪ ،‬أو قبول أي هداٌا‪ ،‬وعاقب بالموت من ٌخالؾ ذلك‪ ،‬ووضع فً مناصب‬
‫القضاة أشخاصا محمودي السٌرة‪ ،‬لدٌهم القدرة الكافٌة على فهم مشاكل الناس وحلها‪ ،‬أما العقوبات فجعلها‬
‫رادعة بالنسبة لبلعتداء على السفن الخاصة بنقل محاصٌل الضراٌب وحماٌة أصحاب السفن من عدوان‬
‫قطاع الطرق‪ ،‬ومعاقبة من ٌتؤخر فً تورٌد الضراٌب المستحقة لدور العبادة‪ ،‬ومعاقبة الموظفٌن الذي‬
‫ٌعملون بتجارة الرق‪ ،‬ومنع االستٌبلء على جلود الحٌوانات من المزارعٌن(٘ٗ)‪ ،‬وتعهد فً قوانٌنه "أن ٌحمً‬
‫دافعً الضراٌب وعمال المزارع‪ ،‬ففرض على المعتدٌن والمرتشٌن عقوبات كالجلد بالسٌاط وجدع األنؾ‬
‫والنفً إلى ثارو على الحدود الشمالٌة الشرقٌة‪ ،‬والتزم بالحزم مع رجال الجٌش أٌضا‪ ،‬فعمل على المساواة‬
‫بٌنهم وبٌن ؼٌرهم فً الردع والعقاب‪ ،‬خاصة بعد أن انجرؾ بعضهم للفساد فً وقت االضطرابات‬
‫واالنفبلت(‪.)ٗٙ‬‬

‫وإلى جانب هذه اإلصبلحات الداخلٌة كان لحور محب دور عظٌم فً حماٌة الحدود المصرٌة ]أبواب‬
‫حور[ ‪ ،‬بإعادة تنظٌم أمور الجٌش ومراتب رجاله‪ ،‬كما أشار فً مراسٌمه إلى أنه وضع بروتوكوال ٌخص‬
‫سراي الحكم‪ ،‬وٌحدد مراتب الموظفٌن وأٌهم ٌتقدم على اآلخر(‪.)ٗ9‬‬

‫توفً حور محب بعد ‪ ٕ8‬سنة من الحكم‪ ،‬طواها جٌله فً إعادة األمور إلى نصابها فٌما ٌخص استعادة‬
‫الهٌبة المصرٌة فً الداخل والخارج‪ ،‬وتطبٌق "ماعت" بقدر ما تٌسر له‪ ،‬وإن لم ٌتضح موقفه من األجانب‬
‫الذٌن كانوا ٌملبون قصور الحكم وكبار رجال الدولة‪ ،‬وهل أبقى علٌهم أم أبعدهم‪.‬‬

‫وترك البلد مطمبنة‪ ،‬عاهدا بالحكم إلى قابد الجٌش رمسٌس األول ٘‪ ٕٔ9‬ق‪.‬م(‪ ،)ٗ8‬وبه بدأت األسرة‬
‫‪ ،ٔ9‬وهكذا انتهت األسرة ‪ ٔ8‬بملك عظٌم هو حور محب كما بدأت بملك عظٌم هو أحمس(‪.)ٗ9‬‬

‫▼▼▼ البناء بٌد والهدم بالٌد األخرى‬

‫األسرة ‪ ٔ9‬من أعظم وأشهر األسرات الحاكمة المصرٌة‪ ،‬خاصة نصفها األول‪ ،‬لكنها مثلت أكبر مثال‬
‫للتناقض واالزدواجٌة فً الحكم على األمور فً مصر‪ ،‬وهو ما سنعانً منه حتى اآلن‪.‬‬

‫فهذه األسرة سعت لبناء مصر وحماٌتها بشكل مبهر‪ ،‬ؼامر حكامها بؤرواحهم فً قٌادة الحروب إلى‬
‫عمق الشام وإلى الحدود الؽربٌة لصد الخطر عنها‪ ،‬وبنوا المشارٌع الفخمة‪ ،‬وفً نفس الوقت ٌحشون مصر‬

‫(٘ٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬الجزء ٖ‪ ،‬ص ٖٖٓ‪ٖٖٔ -‬‬
‫(‪)ٗٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٕٓ‬
‫(‪)ٗ9‬‬
‫‪ -‬مصر الفرعونٌة‪ ،‬أحمد فخري‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬مشروع مكتبة األسرة‪ ،ٕٕٓٔ ،‬ص ‪ٕٙٙ‬‬
‫(‪)ٗ8‬‬
‫‪ -‬بحسب التقدٌر التارٌخً الوارد فً كتاب تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬نٌكوال جرٌمال‪ ،‬ص ٗٓ٘‬
‫(‪)ٗ9‬‬
‫‪ -‬مصر الفرعونٌة‪ ،‬أحمد فخري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٙٙ‬‬

‫‪ٔٓ7‬‬
‫بؤسباب سقوطها المدوي الذي ستشهده نهاٌة األسرة ٕٓ‪ ،‬وهو التوسع ؼٌر المسبوق فً الزواج بؤجنبٌات‪،‬‬
‫وتوطٌن أعداد ضخمة من األجانب‪ ،‬واالنفتاح الكبٌر على األعداء مثل الحٌثٌٌن بعد معاهدة السبلم‪،‬‬
‫واألخطر االستعانة بجنسٌات عدٌدة فً الجٌش والمعابد‪ ،‬بل وفً قٌادة الجٌش‪.‬‬

‫تولى رمسٌس األول وهو كبٌر السن‪ ،‬فلم ٌحكم سوى عامٌن‪ ،‬وأورث الحكم البنه سٌتً األول‪ ،‬القابد‬
‫الحربً العظٌم‪ ،‬قابد قوات الحدود الشمالٌة الشرقٌة فً حصن ثارو بسٌناء‪ ،‬وهً الوظٌفة التً ٌتوالها‬
‫أمهر القادة؛ نظرا لعظم التهدٌدات التً تواجه مصر حٌنها من جهة الشرق‪ ،‬خاصة مع صعود قوة‬
‫الحٌثٌٌن‪ ،‬وتعاظم خطر هجرات جدٌدة وفدت على الشام‪ ،‬هً هجرات قبابل شعوب البحر‪ ..‬التً ستكون‬
‫طامة مصر الكبرى على ٌدٌها بعد نحو ٕٓ٘ سنة‪.‬‬

‫ولما ارتقى سٌتً العرش سار على خطى حور محب فً تشدٌد العقوبات على الفاسدٌن‪ ،‬وتوعد فً‬
‫مراسٌمه من ٌسلب راعٌا وٌتسبب فً هبلك الماشٌة بضربه ٕٓٓ عصا‪ ،‬وتؽرٌمه أضعافا مضاعفة عن‬
‫الماشٌة المفقودة‪ ،‬ووعظ خلفاءه فقال‪" :‬إن من عطل مصالح ؼٌره لقى جزاءه بالمثل‪ ،‬والمؽتصب سوؾ‬
‫ٌؽتصب‪ "...‬ثم خوفهم عذاب اآلخرة قاببل‪" :‬سٌكون (المردة) حمرا مثل لهب الجحٌم‪ ،‬وسوؾ ٌشوون لحوم‬
‫من الٌستمعون إلى قولً(ٓ٘)"‪.‬‬

‫ومن اآلثار التً تدل على التقدم العلمً فً عصر سٌتً خرٌطة مرسومة على بردٌة لمناطق مناجم وادي‬
‫الحمامات فً الشرقٌة وطرق الوصول إلٌها‪ ،‬وتعتبر أول أو ثانً خرٌطة من نوعها عرفت حتى اآلن من العالم‬
‫القدٌم‪ ،‬والخرٌطة األولى ٌقول أثرٌون إنها خرٌطة "نفر العراقٌة"‪ ،‬وإن كانت أقرب للتخطٌط منها للخرٌطة(ٔ٘)‪،‬‬
‫كما عُثر من عهده على أقدم خرٌطة حربٌة جؽرافٌة مصورة‪ ،‬نقشها المنهدسون فً الكرنك وصورت‬
‫المحطات والحصون المنتشرة على الحدود الشرقٌة حتى بداٌة فلسطٌن(ٕ٘)‪.‬‬

‫ومن األحادٌث الطرٌفة اللً سجلتها نصوص سٌتً األول وتكشؾ جانبا من عبلقاته مع الرعٌة أن‬
‫سٌتً أراد أن ٌتحقق من أحوال الصحراء ومسالك المناجم‪ ،‬وكان ٌظن أنه تتوفر فٌها مجار مابٌة كافٌة‪،‬‬
‫ولكنه بعد أن سار فٌها ولمس قسوتها راجع نفسه فقال‪" :‬ما أتعس الطرٌق الذي ٌعوزه الماء‪ ،‬وكٌؾ ٌكون‬
‫حال المسافرٌن فٌه إذا أرادوا أن ٌتقوا جفاؾ حلوقهم؟ ومواطنهم بعٌدة والصحراء مدٌدة؟ فٌالتعاسة من‬
‫ٌظمؤ فً البرٌة‪ ،"...‬هلم إلى عقلً حتى أفكر فً راحتهم وأكفل لهم ما ٌصون حٌاتهم وٌجعلهم ٌترحمون‬
‫علً فً السنٌن المقبلة‪ ،‬وأمر رجاله بؤن ٌحفروا ببرا فٌه(ٖ٘)‪.‬‬

‫وفٌما ٌخص المعارك والعبلقات الخارجٌة‪ ،‬تزامن مع وصول سٌتً األول للحكم انهٌار دولة مٌتانً‬
‫على ٌد الحٌثٌٌن فتفرؼوا لتحرٌض من واالهم من أمراء الشام على المصرٌٌن‪.‬‬

‫(ٓ٘)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٕٔ‪ٕٕٕ -‬‬
‫(ٔ٘)‬
‫‪ -‬انظر المرجع السابق‪ ،‬ص ٕٕٕ والهوامش‬
‫(ٕ٘)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫(ٖ٘)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕٕٕ‪ٕٕٖ -‬‬

‫‪ٔٓ8‬‬
‫وعاد العابٌرو‪ -‬وصفهم دونالدرٌد فورد بؤنهم "ٌشبهون الؽجر فً صعلكتهم"(ٗ٘)‪ -‬إلثارة الشؽب مستؽلٌن‬
‫فرصة انتقال الحكم فً مصر‪ ،‬ونزعوا وجه نفاقهم القدٌم‪ ،‬وأظهروا وجههم الحقٌقً‪ ،‬فدفعوا ببدو الصحراء‬
‫من الشاسو إلى الحدود المصرٌة‪ ،‬واستولوا على الحصون والحامٌات المصرٌة جنوب فلسطٌن‪ ،‬وٌقال إنه‬
‫واتتهم الجرأة على ذلك بتحرٌض من "مواتلً" ملك الحٌثٌٌن‪ ،‬فخرج إلٌهم سٌتً األول على رأس جٌش‬
‫كبٌر سلك طرٌق حور "حورس" الحربً فً شمال سٌناء‪ -‬أطول طرٌق حربً‪ ،‬وٌمتد من ؼرب سٌناء إلى‬
‫رفح‪ -‬وكسر شوكتهم‪ ،‬وأعاد الحامٌات‪ ،‬وتؽلؽل فً فلسطٌن‪ ،‬وحاول السكان الوقوؾ ضد المصرٌٌن لكن‬
‫تعرضوا لهزٌمة قبل استكمال لملمة تحالفهم(٘٘)‪.‬‬

‫كما التقى الجٌش المصري فً معركة مع الحٌثٌٌن فً قادش انتهت إلى معاهدة بٌن الجانبٌن‪ ،‬وهً‬
‫معركة ستتجدد فً نفس المكان فً عصر رمسٌس الثانً‪.‬‬

‫وفً ؼضون ذلك هبت هجرات قادمة من آسٌا وجزر شرق البحر المتوسط‪ ،‬كالرٌح السموم المحملة‬
‫بالعقارب والثعابٌن‪ ،‬سماها األجداد فً وثابقهم بـ"شعوب البحر"‪ٌ ،‬عمل أفرادها مرتزقة لمن ٌجزل لهم‬
‫عز علٌها أن تصل لمصر عبر‬ ‫العطاء‪ ،‬ثم تحول هدفها الجتٌاح الحٌثٌٌن والشام وصوال إلى مصر‪ ،‬ولما َّ‬
‫السواحل الشمالٌة‪ ،‬أبحرت إلى السواحل اللٌبٌة‪ ،‬ونزلت هناك‪ ،‬تمهٌدا لؽزو مصر من الؽرب(‪.)٘ٙ‬‬

‫واختارت بداٌة أسلوب التسلل والسرسبة إلى مصر بحثا عن أماكن استقرار‪ ،‬خاصة وأن أراضً‬
‫الواحات فً الصحراء الؽربٌة معروفة حٌنها بوفرة مراعٌها وأنعامها‪ ،‬وٌبدو أنه كان ضمن هذه الجماعات‬
‫قبابل التحنو والمشواش‪ ،‬ونجح سٌتً األول فً محاصرتها بسهولة‪ ،‬ولكنه لم ٌقض على الخطر كله‪ ،‬فبقٌت‬
‫جذوره‪ ،‬وسوؾ ٌسبب هذا المتاعب لخلفابه(‪ ،")٘9‬فً إشارة فٌما ٌبدو لبقاء بعضها فً الصحراء المصرٌة‬
‫قرب الدلتا ٌتحٌنون الفرصة للتسلل واالنقضاض‪.‬‬

‫وحكم سٌتً ٘ٔ سنة‪ ،‬وخلفه ابنه صاحب الشهرة التً هزت الدنٌا كلها فً عهده وحتى اآلن‪ ،‬رمسٌس الثانً‪،‬‬
‫أعاد الحٌثٌون فً عهده الكرَّ ة بتحرٌض إمارات الشام ضد مصر‪ ،‬وعلى رأس الحٌثٌٌن ملك ٌسمى موتاللً‬
‫لم ٌقل عن رمسٌس طموحا ورؼبة فً إثبات جبروت دولته‪ ،‬فاستعد للحرب‪ ،‬وش َّكل تحالفا ضد مصر‬
‫ٌنتمً إلى ما ال ٌقل عن ٕٓ طابفة وجنسٌة(‪.)٘8‬‬

‫وبهذه المناسبة‪ٌ ،‬بلحظ أنه فً معظم الحروب التً واجهتها مصر قدٌما وحدٌثا كان أعدابها لٌسوا عدوا‬
‫واحدا‪ ،‬بل تحالفا من إمارات وطواٌؾ‪ ،‬فلم ٌكن لمصر عدو واحد فقط فً أي عصر‪.‬‬

‫ودخلت مصر مع الحٌثٌٌن فً معارك استمرت ‪ ٔ8‬سنة‪ ،‬فازت مصر ببعضها وفاز الحٌثٌون ببعضها اآلخر‪،‬‬
‫انتهت باتفاقٌة سبلم بعد أن تٌقن الجانبان أنه لن ٌقضً على خصمه القضاء المبرم‪ ،‬كما لجؤ إلٌها الحٌثٌون وهم‬

‫(ٗ٘)‬
‫‪ -‬أخناتون ذلك الفرعون المارق‪ ،‬دونالدرٌد فورد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٕٔ‬
‫(٘٘)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬رمضان عبده علً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬الجزء ٖ‪ ،‬ص ٘ٔ‬
‫(‪)٘ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬ص ‪ٕٕ8‬‬
‫(‪)٘9‬‬
‫‪ -‬انظر رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬الجزء الثالث‪ ،‬ص ‪ٔ9‬‬
‫(‪)٘8‬‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق ص ‪ٕٕ9‬‬

‫‪ٔٓ9‬‬
‫ٌراقبون صعود نجم خطر جدٌد قرٌب منهم هو آشور فً العراق‪ ،‬وخطر هجمات شعوب البحر اآلرٌة التً تهدد‬
‫الحٌثٌٌن ومصر على السواء‪ ،‬إضافة إلى الصراعات الداخلٌة بٌن الحٌثٌٌن على العرش بعد وفاة موتاللً عدو‬
‫رمسٌس اللدود‪ ،‬حتى أن خلٌفته خاتوسٌلً طلب من مصر مإازته ضد خصومه داخل ببلده(‪.)٘9‬‬

‫ومن ضمن شروط المعاهدة عدم االعتداء على حدود الدولة األخرى فً الشام‪ ،‬وأن تتعهد كل دولة بنجدة‬
‫األخرى بجٌشها لو تعرضت العتداء مسلح‪ ،‬وأال تؤوي الخوارج من األخرى "المتمردٌن والبلجبٌن السٌاسٌٌن"‪،‬‬
‫وٌُبلحظ أن الحٌثٌٌن أكثر من استفاد من هذه المعاهدة‪ ،‬فهم بالفعل طلبوا من مصر فً األزمات النجدة‬
‫والقمح‪ ،‬خصوصا وقت تعرضهم لصراعات أو هجمات الهجرات الجدٌدة‪ ،‬فٌما لم تطلب منهم مصر دعما‬
‫ٌذكر‪ ،‬وهكذا حال مصر فً معظم المعاهدات قدٌما وحدٌثا‪ ،‬الطرؾ اآلخر ٌستفٌد أكثر منها لتجرإه فً‬
‫المطالب منها لٌؤخذ بالسلم ما لم ٌؤخذه بالحرب‪ ،‬فٌما تتساهل هً معه‪ ،‬وهو ما ٌحتاج لدراسة‪.‬‬

‫ووصل األمر أن تزوج رمسٌس الثانً من ابنه ملك الحٌثٌٌن‪ ،‬وأكرمها ومنحها اسما مصرٌا هو‬
‫"ماعت‪ -‬نفرو رع"‪ ،‬وألقاب الملكات المصرٌات الرسمٌات‪ ،‬وعلى حد النصوص المصرٌة أصبح الملكان‬
‫"قلبا واحدا كؤخوٌن‪ ،‬ولم تعد هناك حفٌظة فً قلب أحدهما على اآلخر(ٓ‪.")ٙ‬‬

‫وفً إطار سرعة نسٌان مصر لماضً أعدابها معها وما ٌضمرونه لها‪ ،‬تورط رمسٌس فً االنفتاح‬
‫الشدٌد على سورٌا بإؼراق الببلد بالسورٌٌن‪ ،‬متوهما والبهم التام له بعد إحكام سٌطرته على ببلدهم‪،‬‬
‫وأدخل فً ببلطه عددا من األمراء والموظفٌن السورٌٌن الذٌن سٌإدي تؤثٌرهم إلى طبع الببلد بالطابع‬
‫الشرقً‪ ،‬فق د سمى رمسٌس ابنته الكبرى والمفضلة عنده "بنت عنات"‪ ،‬وعنات معبودة بالشام‪ ،‬ولهذا األمر مؽزاه‬
‫الخطٌر عندما نعلم أن هذه االبنة كان ٌمكن أن ترث ]تورث؟[ العرش‪ ،‬وفً السنوت األخٌرة من حكمه أصبح‬
‫رمسٌس الثانً آسٌوٌا حقٌقٌا فً بعض عاداته‪ ،‬وبٌن نسابه الكثٌر من األمٌرات الشرقٌات(ٔ‪ )ٙ‬بحسب وصؾ‬
‫أستاذ المصرٌات الدكتور رمضان عبده علً‪.‬‬

‫▼▼▼ النار تصل الجٌش والمعبد‬

‫وصلت ثقة رمسٌس الثانً باآلسٌوٌٌن بعد عبلقات النسب إلى أن ولَّى شخصا منهم اسمه "أورحٌا" قٌادة‬
‫القوات بالجٌش‪ ،‬بل وأقحمه فً تولً أمور وجدان المصرٌٌن داخل المعبد بؤن تولى منصب المشرؾ على‬
‫معبد الرمسٌوم بطٌبة وربٌس العمال‪ ،‬وتحدث بردٌة ‪ Ansatasi I‬عن ضم أجانب إلى الجٌش المصري‬
‫فً عهد سٌتً الثانً(ٕ‪.)ٙ‬‬

‫وتوؼل إلى معبد الكرنك عابلة آسٌوٌة اسمها "دٌدٌا" أسسها شخص اسمه "بشً بعل"‪ ،‬مرجح أنه أحد‬
‫أبناء المهاجرٌن األجانب أو أنه ولد فً مصر‪ ،‬وتوالت أجٌال عابلته وتضخمت حتى وصلت إلى جٌل‬

‫(‪)٘9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مرجع سابق‪ٕٖٕ ،‬‬
‫(ٓ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬مرجع سابق ص ٖٖٕ‪ ،‬ورإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬الجزء الرابع‪ ،‬ص ‪ٖ9‬‬
‫(ٔ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬رمضان عبده علً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬الجزء الرابع‪ ،‬ص ‪ٗٓ-ٖ9‬‬
‫(ٕ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬الوعً السٌاسً عند قدماء المصرٌٌن‪ ،‬فاٌز أنور عبد المطلب‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬سلسلة تارٌخ المصرٌٌن‪ ،‬ص ٖٗٔ‬

‫ٓٔٔ‬
‫"دٌدٌا" الذي صار فً واسط (طٌبة) ربٌسا للرسامٌن فً الكرنك‪ ،‬وحملت لوحته المحفوظة فً متحؾ‬
‫اللوفر ببارٌس نصا حوى أسماء أجنبٌة أصولها من الشام مثل عابلة "قاها" المكونة من أخٌه "با"‪ ،‬وابنه‬
‫"خورو"‪ ،‬وأمه "تانٌهسً" وؼٌرهم(ٖ‪.)ٙ‬‬

‫وبدأ هذا التساهل صؽٌرا‪ ،‬بؤن بدأ سٌتً األول‪ ،‬والد رمسٌس الثانً‪ ،‬فً إلحاق أسرى الحرب من‬
‫سورٌا بالعمل فً حراسة المعابد(ٗ‪ ،)ٙ‬ولم ٌدر بخلد أحد وقتها أن أحدا من بنً جنسهم سٌصل إلى أن ٌكون‬
‫مشرفا على المعبد نفسه‪ ،‬بل وقابدا للجٌش المصري فً ٌوم من األٌام‪.‬‬

‫وقبل هذا التارٌخ تسلل األجانب إلى المعابد بؤسلوب ناعم‪ ،‬بمعنى أنه بعد أن كان المصرٌون ٌحتقرون‬
‫المعبودات اآلسٌوٌة بسبب مرارة تجربتهم مع الهكسوس‪ ،‬وحطموها باعتبارها "طاعون" فإن كثرة‬
‫االختبلط باألجانب بعد فتوحات األسرة ‪ ٔ8‬أفسحت المجال لآلسٌوٌٌن أن ٌسوقوا دعاٌة إٌجابٌة لمعبوداتهم‪،‬‬
‫خاصة فً مجال قدرتها الحربٌة‪ ،‬مثل عنات وعشتارت‪ -‬بالرؼم من أنهم فً معظم الحروب كانوا‬
‫مهزومٌن ولم تنفعهم هذه القدرة‪ -‬وحصدوا ثمار هذه الدعاٌة بؤن أقنعوا المصرٌٌن بإدخال هذه المعبودات‬
‫للمعابد المصرٌة التً كانت محرمة على أي عبادة أجنبٌة (٘‪ ،)ٙ‬وبالتالً كان من السهل أن ٌقنعوهم بإدخال‬
‫أجانب لتولً األمور فً المعابد بحجة أنهم أدرى بشبون هذه المعبودات‪ ،‬أو لخدمة الجالٌة اآلسٌوٌة‬
‫المتؽلؽلة فً مصر‪ ،‬فظهرت معابد آسٌوٌة فً منؾ وطٌبة الؽربٌة‪.‬‬

‫وٌصؾ علماء مصرٌات هذا األمر باإلٌجابً وأنه ٌدل على "تسامح" المصرٌٌن‪ ،‬ولكن مستقبل األحداث‬
‫سٌكشؾ أنه لم ٌكن "تسامحا"‪ ،‬بل تفرٌطا منكرا‪ ،‬فالتسامح الحق أن المصرٌٌن ٌتركون دٌانة شعوب الببلد‬
‫المفتوحة وشؤنها فً تلك الببلد‪ ،‬أما نقلها إلى مصر وبنفوذ أصحابها بهذه الطرٌقة‪ ،‬رؼم الخبرات السابقة‬
‫بعداوتهم لمصر ومطامعهم فٌها‪ ،‬فهو تفرٌط ؼٌر مقنع مع أي مبرر‪.‬‬

‫وٌرى آخرون مثل "إ‪ .‬ماٌر"‪ ،‬أن مركز اآللهة اآلسٌوٌٌن تعزز وتدعم فً مصر بسبب المقاومة‬
‫المستمرة لآلسٌوٌٌن ضد الحكم المصري الذي تسبب لآلسٌوٌٌن فً خسارة نفوذهم فً الشام(‪ ،)ٙٙ‬وؼٌر‬
‫واضح المعنى تماما من كبلم ماٌر‪ ،‬ولكن ربما قصد أنه فٌما كانت تلحق باآلسٌوٌٌن هذه الخسابر للنفوذ فً‬
‫ببلدهم فإنهم تسللوا لمصر تحت عدة أسماء ودعموا وجودهم بنفوذ ثقافً ودٌنً لٌعوضوا ما فقدوه وٌكسبوا‬
‫مكانه نفوذا فً مصر الحصٌنة نفسها‪ ،‬وهذا فً حد ذاته انتصار كبٌر لهم على المصرٌٌن سٌدفع األجداد‬
‫ونحن حتى الٌوم ثمنه ؼالٌا‪.‬‬

‫(ٖ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖٗٔ‪ٔٗٗ -‬‬
‫(ٗ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖٗٔ‬
‫(٘‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المإسسة العسكرٌة المصرٌة فً عصر اإلمبراطورٌة ٓ‪ ٔٓ89 -ٔ٘9‬ق‪.‬م‪ ،‬أحمد قدري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٔ‪ٖٖ -‬‬
‫(‪)ٙٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖٖ‬

‫ٔٔٔ‬
‫أشكال الوجود األجنبً فً الدولة الحدٌثة‪ :‬الصؾ األعلى األجانب المعتدون تحت سبلح الجٌش المصري‪ ،‬والصؾ األوسط األجانب المعتدون من‬
‫الكوشٌٌن واآلسٌوٌٌن وقبابل شعوب البحر ٌقودهم جنود مصرٌون بعد أسرهم‪ ،‬والصؾ الثالث أبناء الببلد المفتوحة فً كوش وآسٌا ٌؤتون إلى مصر‬
‫لتقدٌم الهداٌا والجزٌة‪ ،‬وبعضهم عمل فً الجٌش والوظابؾ الحكومٌة بعد التظاهر بالوالء واستوطن مصر فكانت الطامة الكبرى التً قلبت اآلٌة‬
‫وجعلت المصرٌٌن ٌقعون تحت سبلح وأسر كافة هذه الشعوب األجنبٌة وٌدفعون لها الجزٌة‬

‫▼▼▼ طاعون قبابل شعوب البحر "نا خاسوت با ٌَّم"‬

‫ومع حروب مصر فً الشرق اقترب خطر آخر من الؽرب وهو هجرات شعوب البحر اآلرٌة(‪ )ٙ9‬التً‬
‫لمع خطرها بداٌة من عهد سٌتً األول (والد رمسٌس الثانً)‪ ،‬واستعد لها الجٌش فً عهد رمسٌس بتقوٌة‬
‫الحصون على الحدود الؽربٌة‪ ،‬ومنها حصن الؽرٌبات قرب برج العرب‪ ،‬وحصن آخر عند العلمٌن‪،‬‬
‫وحصن زاوٌة أم الرخم على مسافة ٕ٘ كم من ؼرب مرسى مطروح(‪.)ٙ8‬‬

‫ومكان هذه الحصون ٌإشر إلى حدود مصر الؽربٌة وأنها امتدت لما بعد مرسى مطروح‪ ،‬كما تشٌر‬
‫الحصون فً سٌنا وعند رفح منذ عصر مٌنا إلى حدود مصر الشرقٌة‪ ،‬والحصون المقامة فً سمنة عند‬
‫الشبلل الثانً أٌام سنوسرت الثالث وؼٌره إلى حدود مصر الجنوبٌة‪ -‬كما سبق الذكر‪ -‬وهو ما ٌإكد مجددا‬
‫أن مصر دولة ذات حدود منذ القدم‪ ،‬لم تختلؾ كثٌرا عما هً علٌه اآلن‪ ،‬تحصنها وتحمٌها طوال عصور‬

‫(‪)ٙ9‬‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬ص ٖٕٗ‬
‫(‪)ٙ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر واألجانب فً األلفٌة األولى قبل المٌبلد‪ ،‬جونتر فٌتمان‪ ،‬ترجمة بعد الجواد مجاهد‪ ،‬المركز القومً للترجمة‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٓٓ9 ،‬ص‬
‫ٖٓ‪ ،‬وحضارة مصر الفرعونٌة‪ ،‬أحمد فخري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓ‪ٕ8‬‬

‫ٕٔٔ‬
‫حرٌتها‪ ،‬وتبذل الدم الستردادها وقت احتبللها‪ ،‬ولم تكن الحدود فكرة مستجدة كما ٌزعم محترفو تزوٌر‬
‫التارٌخ فً التنظٌمات العالمٌة اآلن‪.‬‬

‫فً أثناء هذا‪ ،‬توفً رمسٌس الثانً وهو فً الثمانٌن بعد أن حكم ‪ ٙ9‬عاما‪ ،‬وهو رقم قٌاسً‪ ،‬فً حٌن‬
‫كان معظم حكام مصر‪ -‬عدا "ببً الثانً" الذي توفً فً التسعٌن‪ٌ -‬توفون فً الستٌنات أو الخمسٌنات أو‬
‫األربعٌنات أو الثبلثٌنات‪ ،‬وأحٌانا العشرٌنات(‪.)ٙ9‬‬

‫وبعد رمسٌس حكم ابنه مرنبتاح متحمبل عبء صد الهجرات الؽربٌة التً تزعمتها شٌخ قبٌلة رٌبو‬
‫(تحولت إلى لٌبٌو ثم لوبٌا وتسمت لٌبٌا الحقا على اسمهم)‪ ،‬وضم إلٌه أعدادا من ٘ جماعات آرٌة مهاجرة‬
‫من جزر البحر المتوسط‪ ،‬وهً‪ :‬اإلقوش والتورشا والروكً (اللوكً) والشرادنة والشكرش (الشكلش)‪،‬‬
‫اندفعوا بنسابهم وأوالدهم وقطعانهم القلٌلة‪ ،‬وطمعوا فً أن ٌعبروا البراري إلى الدلتا لٌستقروا فً أرضها‬
‫الخصبة(ٓ‪.)9‬‬

‫وٌبدو أن االنشؽال فً حروب الجبهة الشرقٌة أتاح الفرصة الختراق الحصون الؽربٌة‪ ،‬فوصل‬
‫المهاجرون حتى فرع النٌل الكانوبً ؼرب الدلتا بؤعداد كثٌرة‪ ،‬فؤعد لهم مرنبتاح ما استطاع من قوة‪ ،‬وذكر‬
‫فً نصوصه أنه استنصر ربه بتاح فؤوحى إلٌه والنصر وقال له‪" :‬إثبت وانزع الشك من قلبك(ٔ‪.")9‬‬

‫وألن هذه المعركة من المعارك القلٌلة التً دارت رحاها داخل مصر منذ طرد الهكسوس‪ ،‬ذاع نبؤ‬
‫النصر برنة عظٌمة فً أرجاء البلد‪ ،‬ووصؾ أحد الشعراء مرنبتاح المنتصر بؤنه "شمس بددت الؽٌوم التً‬
‫رانت على مصر‪ ،‬وأنه جعل تامري (مصر) ترى أشعة الكوكب‪ ،‬وأنه كمن أزاح جببل من النحاس من فوق‬
‫أكتاؾ الناس‪ ،‬ووهب نسمة الحٌاة لشعب كاد ٌختنق(ٕ‪.")9‬‬

‫ووصؾ هزٌمة المعتدٌن على لسان شٌوخهم بقوله‪" :‬وشٌخا ٌقول لولده "وانكبتاه على لٌبٌا‪ ،‬حرم أهلها‬
‫المعٌشة الطٌبة (فً مصر)‪ ،‬وما عادوا ٌجرأون على السعً بٌن المزارع‪ ،‬وتوقؾ سعٌهم فً ٌوم واحد‪..‬‬
‫وجثا شٌوخ (المهاجرٌن) ٌقولون سبلما سبلما(ٖ‪.")9‬‬

‫وعنهم قال جونتر فٌتمان فً كتابه "مصر واألجانب فً األلفٌة األولى قبل المٌبلد"‪" :‬وانضمت الجماعات‬
‫المعروفة باسم "شعوب البحر" إلى اللٌبٌٌن‪ ،‬وبالتؤكٌد لم ٌكن من قبٌل المصادفة أن النوبٌٌن ]ٌقصد الكوشٌٌن من‬
‫السودانٌٌن والزنج حالٌا [ أٌضا كانوا قد بدأوا ٌتقدمون من الجنوب نحو الببلد فً الوقت ذاته‪ ،‬ومن المإكد أٌضا‬
‫أن ذلك لم ٌكن سوى اتفاق مدبر على النحو الذي عرفناه من قبل فً لوحة كاموزا ]كامس[(ٗ‪.)9‬‬

‫(‪)ٙ9‬‬
‫‪ -‬راجع أعمار الحكام على البطاقات التعرٌفٌة لجثامٌنهم فً قاعة المومٌاوات بالمتحؾ المصري بالقاهرة‪.‬‬
‫(ٓ‪)9‬‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٕٙ‬‬
‫‪ -٘9‬انظر‪ :‬مصر القدٌمة‪ ،‬نٌكوال جرٌمال مصرـ ص ٖٔ٘‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٕٙ‬‬
‫(ٔ‪)9‬‬

‫(ٕ‪)9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫(ٖ‪)9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫(ٗ‪)9‬‬
‫‪ -‬مصر واألجانب فً األلفٌة األولى قبل المٌبلد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕ9‬‬

‫ٖٔٔ‬
‫وٌقصد اللوحة التً تحدثت عن التحالؾ بٌن الكوشٌٌن والهكسوس ضد مصر لمحاصرتها بؤسلوب‬
‫الكماشة‪ ،‬فتكرر األمر بعد ٖٓٓ سنة بتحالفهم مع القادمٌن من لٌبٌا‪ ،‬وهو ما ٌذكرنا بؤسلوب التحالفات‬
‫المكررة ألعداء مصر فً كافة االتجاهات ضدها‪ ...‬والتارٌخ دواٌر‪.‬‬

‫كما قال نٌكوال جرٌمال فً هذا أٌضا نقبل عن النصوص المصرٌة إن مرنبتاح "سحق تمردا فً كوش‪،‬‬
‫وٌبدو أن اللٌبٌٌن القاطنٌن فً "مرمارٌكا" (طبرق حالٌا) كانوا وراء هذا التمرد‪ ،‬فقد بدأت لٌبٌا تلعب دورا‬
‫متزاٌد التؤثٌر على األحداث الجارٌة فً البحر المتوسط(٘‪.")9‬‬

‫لكن لم ٌساعد ذلك اللٌبٌٌن فً شًء‪ ،‬فقد حقق المصرٌون النصر بعد ‪ ٙ‬ساعات من القتال فً شمال‬
‫ؼرب الدلتا‪ ،‬وفر زعٌم المهاجرٌن تحت جنح الظبلم حافً القدمٌن‪ )9ٙ(،‬بتعبٌر النصوص‪.‬‬

‫ؼٌر أن "الؽفلة المصرٌة اللً بتجٌب الكافٌة" و"التسامح الساذج" المعتاد من مصر ظهر فً هذا‬
‫الموقؾ أٌضا رؼم ما عانته البلد من هذه القباٌل‪ ،‬فرؼم وضوح مطامعها استخدم المصرٌون بعض‬
‫المهاجرٌن القدماء من المشاوش والقحق فً الجٌش‪ ،‬وخاصة إسناد مهمة مراقبة المهاجرٌن الجدد فً‬
‫الصحراء الؽربٌة؛ ظنا منهم أن القدماء ومن رموا السبلح وأعلنوا الطاعة قد تمصروا‪ ،‬أو نفضوا عن‬
‫أنفسهم البداوة القدٌمة‪ ،‬وأنهم بخبرتهم بدروب الصحراء والطرق أقدر على مراقبة الهجرات الجدٌدة عند‬
‫الحدود‪ ،‬فٌما سٌتضح فٌما بعد أنهم سٌكونون عونا للهجرات الجدٌدة على احتبلل مصر من الداخل(‪.)99‬‬

‫وفً ذات الوقت هرع إلى مصر أبناء الببلد التً خربتها جحافل شعوب البحر فً الشرق كالحٌثٌٌن والشوام‬
‫باسم الجبٌن ٌبحثون عن األمن وفرص العمل‪ ،‬وتوؼلوا فً مإسسات الدولة كالسوس فً العظام‪.‬‬

‫وبعد حكم ٔٔ سنة توفى مرنبتاح‪ ،‬فٌما الكثٌر من الملفات الداخلٌة والخارجٌة مفتوحة‪ ،‬وتحتاج إلى حسم‬
‫وتنظٌم‪ ،‬ولسوء حظ مصر خلَفه حكام ضعاؾ شهد عهدهم اضطرابات سٌاسٌة داخلٌة‪ ،‬ظهر أثرها فً‬
‫قصر مدد حكمهم‪ ،‬بحٌث كانت أطول مدة هً ‪ 9‬سنوات البنه سٌتً الثانً‪ -‬الذي تورط فً ضم مزٌد من‬
‫األجانب إلى الجٌش‪ -‬فٌما تولى سً بتاح الحكم ألقل من سنة واحدة‪.‬‬

‫ولم ٌكشؾ التارٌخ الكثٌر عن ؼموض هذه الفترة التً استمرت ٘ٔ عاما‪ ،‬هً ما تبقى من عمر األسرة‬
‫‪ ،ٔ9‬وأهدرت هذه السنوات القصٌرة الكثٌر من جهود الحكام األقوٌاء السابقٌن(‪.)98‬‬

‫وكالعادة‪ ،‬انعكس الضعؾ الحكومً على انهٌار القانون واألخبلق (ماعت)‪ ،‬وظهر فً استؽبلل أصحاب‬
‫النفوس الضعٌفة الحال النتهاك الحقوق ونشر الفساد‪ ،‬فؤظهرت بردٌات من ذلك العصر شكاوى العمال فً‬
‫بلدة دٌر المدٌنة باألقصر من انتشار الرشوة والنهب والتسلط والقتل والرشوة‪ ،‬فؤشارت بردٌات العهد لعامل‬
‫(٘‪)9‬‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٓ٘‬
‫*والشًء بالشًء ٌُذكر‪ ،‬وألن التارٌخ السًء ٌتكرر عند الؽفلة‪ ،‬فال ٌخفى التحالؾ بٌن جماعات إرهابٌة فً ؼزة ولٌبٌا والسودان الستهداؾ حدود‬
‫مصر بتهرٌب السالح والمخدرات واإلرهابٌٌن‪ ،‬خاصة بعد سنة ٕٔٔٓ‪.‬‬
‫(‪)9ٙ‬‬
‫‪ -‬األجانب فً مصر فً األلفٌة األولى قبل المٌبلد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕ9‬‬
‫(‪)99‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٕ9‬‬
‫(‪)98‬‬
‫‪ -‬راجع قابمة سنوات حكم الملوك فً كتاب "تارٌخ مصر القدٌمة"‪ ،‬جرٌمال‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٗٓ٘‬

‫ٗٔٔ‬
‫ٌتهم أحد رإسابه بالسلب والرشوة والشروع فً القتل‪ ،‬واتهم وزٌر الصعٌد بقبول الرشوة‪ ،،‬وتجرأ البعض‬
‫على شتم الحاكم(‪.)99‬‬

‫▼▼▼ اؼتصاب عابلة "إرسو" السورٌة للحكم‬

‫وعودة إلى الخطر الشرقً مجسدا فً ثمرة االستٌطان السوري فً مصر خبلل عهد حكام سابقٌن‪ ،‬ففً‬
‫نهاٌة األسرة ‪ ٔ9‬ارتقى إلى الحكم األمٌر رمسٌس سً بتاح‪ ،‬ابن سٌتً الثانً‪ ،‬وكان طفبل‪ ،‬تولت الوصاٌة‬
‫علٌه زوجة أبٌه الملكة تاوسرت‪ ،‬واشترك معها فً الوصاٌة رجل ٌدعى "باي"‪ ،‬وهو من سورٌا‪ ،‬وظٌفته‬
‫حامل األختام والكاتب الملكً‪ ،‬وهً وظابؾ حساسة تتعلق بؤسرار الببلد‪.‬‬

‫ولم ٌذكر المصرٌون هذا الشخص وتاوسرت بالخٌر‪ ،‬فٌبدو أنه مارس الخدٌعة ألرملة الملك المتوفً التً‬
‫عٌنته مشرفا على الخزانة (وزارة المالٌة)‪ ،‬و أن مكانته فً الببلط بلؽت مستوى جعله ٌشبه نفسه بحكام مصر‪،‬‬
‫حتى أنه استطاع أن ٌجهز لنفسه مقبرة فً وادي الملوك‪ ،‬وٌستهزأ بدٌن مصر‪ ،‬وهو ذات الشخص الذي تشٌر‬
‫إلٌه بردٌة "هارٌس" باسم "إرسو"‪ ،‬وبعبارات تنسب إلٌه أسباب الفوضى التً سادت وقتها(ٓ‪.)8‬‬

‫ومما جاء فً البردٌة‪" :‬سادت مصر االضطرابات‪ ،‬وأصبح كل شخص ٌضع قانونه الخاص‪ ،‬وعلى‬
‫امتداد عدة سنوات لم تعرؾ مصر حكومة قبل أن تنتقل إلى عصر "اآلخرٌن"‪ ،‬وتحكم األعٌان وعمد القرى‬
‫فً الببلد‪ ،‬وذبح اإلنسان زمٌله ورفٌقه‪ ،‬ؼنٌا كان أم فقٌرا‪ ،‬وسٌطرت على مصر خبلل السنوات الفارؼة‬
‫عابلة ؼرٌبة‪ ،‬كان "إرسو" السوري واحد من أفرادها‪ ،‬واعتبر نفسه من األعٌان‪ ،‬وبصفته اإلدارٌة سٌطر‬
‫"إرسو" على الببلد بؤسرها‪ ،‬وتآمر هو وأعوانه للسطو على الناس! وعوملت اآللهة كما لو كانت من البشر‪،‬‬
‫فلم تقدم لها القرابٌن فً معابدها(ٔ‪.")8‬‬

‫ت‬
‫وبلوغ عابلة ذلك السوري هذا المبلػ وتؤثٌره على الملكة "تاوسرت" وفً تولٌة الحاكم الجدٌد لم تؤ ِ‬
‫دفعة واحدة بالتؤكٌد‪ ،‬فٌبدو أنه سبقها عشرات السنوات منذ أتت تلك العابلة بصحبة إحدى الزوجات‬
‫األجنبٌات أو كموظفٌن فً إدارات الببلد المفتوحة أو الجبٌن أو تجار‪ ،‬وتدرجوا فً الوظابؾ وكٌد المكابد‬
‫حتى وصلوا إلى هذه المكانة‪ ،‬وأظهروا التمصر ربما‪ ،‬وساهموا فً نشر المعابد اآلسٌوٌة فً مصر‪ ،‬حتى‬
‫تمكنوا‪ ،‬واستؽلوا كل فرصة لنشر الفتن والفوضى "إزفت" التً ال ٌصل األجانب فً مصر إلى المناصب‬
‫والثروات إال فً ظلها‪.‬‬

‫وقال عنهم فرانسٌس فٌفر فً كتابه الذي ٌروي قصة سقوط مصر فً األسرة ٕٓ على ٌد المستوطنٌن‬
‫األجانب " الفرعون األخٌر رمسٌس الثالث‪ :‬أو زوال حضارة عرٌقة"‪" :‬شقٌة هً أرض مصر‪ ،‬كم‬
‫تعرضت لؤلطماع طوال العقدٌن الماضٌٌن! أطماع الوزراء‪ ،‬أطماع كبار الكهنة والنساخ‪ ،‬بل أطمع األعٌان‬
‫األجانب أٌضا‪ ،‬لقد فتحت ؼزوات الفراعنة فً القرون األخٌرة باب الببلط الملكً أمام هإالء األجانب‪ .‬فً‬

‫(‪)99‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٕ9‬‬
‫(ٓ‪)8‬‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ٘٘‬
‫(ٔ‪)8‬‬
‫‪ -‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ٘٘‬

‫٘ٔٔ‬
‫البداٌة كانوا سفراء لببلدهم‪ ،‬ثم أصبحوا مستشارٌن بارعٌن لدى الفراعنة‪ ،‬وأخذوا ٌإسسون سبلالت قوٌة‬
‫من األعٌان تحٌط بؤصحاب العرش"(ٕ‪.)8‬‬

‫وصل بهم شعور السطوة لسب دٌن مصر والتكبر على أهلها رؼم ما أظهر الحكام مما ٌوصؾ‬
‫بـ"التسامح" فً تركهم ٌعبدون معبوداتهم اآلسٌوٌة فً مصر‪ ،‬وكما قال "إٌبو ور" فً بردٌته عن الفوضى‬
‫التً نشرها األجانب نهاٌة األسرة ‪ ٙ‬قبل ألؾ سنة‪" :‬وأصبح األجانب مصرٌٌن فً كل مكان وأولبك الذٌن‬
‫كانوا مصرٌٌن أصبحوا أؼرابا وأهملوا جانبا(ٖ‪" ،")8‬انظر! إن مصر أصبحت تصب الماء ]لؽٌرها[(ٗ‪.")8‬‬

‫ولنا أن نتخٌل كٌؾ هبطت مصر من القمة أٌام مرنبتاح إلى القاع فً عهد خلفابه خبلل ٘ٔ سنة فقط‪،‬‬
‫وذلك ألن أعمدتها منذ احتضنت األجانب وأفكارهم ومعبوداتهم نهاٌة األسرة ‪ٌ ٔ8‬رعى فٌها السوس دون‬
‫أن ٌشعر شعبها‪ ،‬وحٌن حانت الفرصة للسوس لقنص السلطة وهدم أركانها‪ ،‬فعلوا ذلك بسهولة فً سنٌن‬
‫معدودة‪ ،‬أعادت للمصرٌٌن الذكرٌات المرٌرة ألجواء سقوط األسرة ‪ ..ٙ‬وتارٌخ الؽفبلنٌن دواٌر‪.‬‬

‫▼▲▼ انتصارات فاخرة وخطاٌا ؼادرة‬

‫اختتمت األسرة ‪ ٔ9‬حكمها بتولً "تاوسرت" الحكم لمدة عامٌن فقط‪ ،‬ثم انطوت صفحة األسرة فً‬
‫ظروؾ ؼٌر واضحة‪ ،‬إال أن انتقال الحكم إلى األسرة ٕٓ جاء سلمٌا وهادبا‪ ،‬وأسسها "ست نخت"‪ ،‬وهو‬
‫رجل كبٌر فً السن لم ٌعمر ؼٌر سنتٌن‪ ،‬خلفه ابنه رمسٌس الثالث الذي ٌصفه علماء اآلثار بؤنه آخر حكام‬
‫مصر العظام فً تارٌخنا القدٌم‪.‬‬

‫قدمت األسرة الجدٌدة نفسها على أنها "اللً هتعدل الماٌلة"‪ ،‬وتجدد حٌاة مصر‪ ،‬وقالت بردٌة "هارٌس"‬
‫بعد أن سردت جراٌم عٌلة "إرسو" السورٌة فً اؼتصاب السلطة‪" :‬وعندما شاءت اآللهة أن ٌظهروا‬
‫رحمتهم وٌصححوا األوضاع فً مصر وٌعٌدوها إلى سٌرتها األولى‪ ،‬نصبوا ولدهم الذي خرج من صلبهم‬
‫"ست نخت" حاكما على الببلد كلها‪ ،‬وجعلوه على عرشهم الكبٌر‪ ،‬فتجلى على هٌبة خبري ست الؽضوب‪،‬‬
‫وأعاد السبلم إلى األرض القلقة‪ ،‬وفتك بالؽادرٌن فٌها‪ ،‬وط َّهر عرش مصر العظٌم"(٘‪.)8‬‬

‫وخرج من صلبهم على ما ٌبدو المقصود لٌس المعنى الحرفً‪ ،‬بل أنه حاكم مصري شرعً ولٌس‬
‫مؽتصبا أو دخٌبل‪ ..‬فبموجب عهد "ماعت" والوصٌة الحارسة مصر ال ٌحكمها إال المصرٌون‪ ،‬من ترابها‬
‫وصلبها‪.‬‬

‫ؼٌر أن تطهٌر الداخل لم ٌكن التحدي الوحٌد‪ ،‬فخبلل فترة االنفبلت نهاٌة األسرة ‪ ٔ9‬عادت قبابل‬
‫شعوب البحر للتسلل بحرٌة إلى ؼرب الدلتا واالستٌطان‪ ،‬فنهبوا مدنا هناك وفق الفصل التارٌخً لبردٌة‬

‫(ٕ‪)8‬‬
‫‪ -‬الفرعون األخٌر رمسٌس الثالث‪ :‬أو زوال حضارة عرٌقة‪ ،‬فرانسٌس فٌفر‪ ،‬ترجمة فاطمة البهلول‪ ،‬دار الحصاد‪ ،‬ص ٔٔ‬
‫(ٖ‪)8‬‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓ‪ٖٙ‬‬
‫(ٗ‪)8‬‬
‫‪ -‬موسوعة مصر القدٌمة‪ ،‬سلٌم حسن‪ ،‬الجزء ‪ ،ٔ9‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪ٖٓ9‬‬
‫(٘‪)8‬‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٕ٘‬

‫‪ٔٔٙ‬‬
‫هارٌس ‪ P.Harris‬حتى تبلطمت خبلل عهد رمسٌس الثالث موجات جدٌدة من المهاجرٌن‪ ،‬تدعمها‬
‫جماعات من جزر بحر إٌجة(‪.)8ٙ‬‬

‫وأخذ رمسٌس الثالث نصٌبا كبٌرا من شجاعة وهمة رمسٌس الثانً الذى تسمى باسمه تٌمنا به‪ ،‬فوقع‬
‫على كتفٌه عبء حماٌة مصر من مصٌر دولة الحٌثٌٌن التً سقطت ركاما تحت أقدام هجرات شعوب‬
‫تبق ولم تذر فً روسٌا‬
‫البحر‪ ،‬وهً هجرات شرسة عاتٌة تشبه فً عصور تالٌة هجمات التتار التً لم ِ‬
‫وفارس والعراق والشام‪ ،‬ولم تنكسر إال على باب مصر‪.‬‬

‫فخاضت مصر فً عهده ٖ حروب ضخمة لصد هذه الهجرات‪ ،‬األولى عند الحدود الشرقٌة لمنعهم من‬
‫اجتٌاح مصر من ناحٌة فلسطٌن وهزمتهم مصر‪ ،‬فانتقلوا عبر البحر الذي ٌجٌدون القتال على أمواجه‬
‫لمهاجمة مصر من الشمال عند سواحل الدلتا‪ ،‬فهزمتهم مصر‪ ،‬فتحركوا إلى الؽرب ونزلوا على السواحل‬
‫اللٌبٌة وتحالفوا مع قبابل قدٌمة سبقتهم بالهجرة إلى هناك‪ ،‬واجتاحوا الحدود المصرٌة‪ ،‬فهزمتهم مصر‪.‬‬

‫ووصفت النصوص المصرٌة تحركات هإالء المهاجرٌن وخٌبة مسعاهم وص ًفا شٌقا على لسان رمسٌس‬
‫الثالث‪ ،‬فقال‪" :‬تآمرت شعوب أجنبٌة فً جزرها‪ ،‬وسرٌعا زالت ببلد وشردت الحرب أهلها‪ ،‬ولم تستطع بلد‬
‫أن تثبت أمام أسلحتهم‪ ،‬ابتداء من خاتً ]الحٌثٌٌن[ وقدي وقرقمٌش وأرزاوا إلى إرس "أالسٌا" فً آن واحد‬
‫]أي من آسٌا الصؽرى وشمال سورٌا وشواطا الفرات إلى قبرص فً عرض البحر[ ‪ ،‬واجتمع عسكرهم‬
‫فً بقعة واحدة (بؤرض) آمور ]الشام[‪ ،‬فشردوا أهلها‪ ،‬وأصبحت أرضها كؤنها لم تكن‪ ،‬ثم تقدموا نحو‬
‫مصر‪ ،‬ولكن النار كانت على استعداد للقابهم‪ ،‬وتؤلؾ حلفهم ]تحالفهم[ من برستً "البلستً"(‪ )89‬والثكر‬
‫والشكرش والدانٌٌن "أو الدانونٌٌن"‪ ،‬والوشاوش‪ ،‬واتحدوا جمٌعًا ووضعوا أٌدٌهم على الببلد فً مدار‬
‫األرض كلها‪ ،‬واستبشروا ومؤلتهم الثقة بؤنفسهم وقالوا‪ :‬سوؾ تنجح مشارٌعنا(‪.")88‬‬

‫"ولكن عقل اإلله كان واعًٌا وعلى استعداد ألن ٌقتنصهم كالطٌور‪ ،...‬وهكذا نظمت حدودي فً "جاهً" ]بلدة‬
‫جنوب الشام[ ‪ ،‬وأعددت أمامهم األمراء وقادة الحامٌات والمارٌانو‪ ،‬وأمرت بتحصٌن مصبات األنهار لتكون‬
‫كالسد الكبٌر‪ ،‬وزودتها بسفن وزوارق ناقبلت للجنود امتؤلت جمٌعها من مقدماتها إلى مإخراتها بمحاربٌن مهرة‬
‫مسلحٌن‪ .‬وتؤلفت قوات المشاة من خٌرة شباب مصر‪ ،‬وكانوا أشبه باألسود الزابرة على قمم الجبال‪ .‬وتؤلفت فرق‬
‫الفرسان من عدابٌن مهرة وقادة قادرٌن‪ ،‬ومن كل فارس عربة متٌن‪ ،‬وهزت الخٌول أعطافها واستعدت لسحق‬
‫الشعوب األجنبٌة تحت حوافرها‪ ،‬وكنت "مونتو" المقتدر‪ ،‬أقؾ على رأسهم‪ ،‬لٌشهدوا بؤنفسهم ما تفعله ٌداي‪ ..‬أما‬
‫من ب لػ حدودي‪ ،‬فلم تبق منهم باقٌة‪ ،‬وانمحت قلوبهم وأرواحهم إلى األبد(‪.")89‬‬

‫وبعد هزٌمتهم فً فلسطٌن تحدثت النصوص عن هزٌمتهم فً معركة البحر المتوسط عند السواحل المصرٌة‪،‬‬

‫(‪)8ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬األجانب فً مصر فً األلفٌة األولى قبل المٌبلد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕ8 -ٕ9‬‬
‫(‪)87‬‬
‫‪ -‬البلستً قبابل استقرت فً كنعان بعد هزٌمتها من مصر وعكست علٌها اسمها فصار "فلسطٌن"‪ ،‬خاصة بعد تردد االسم فً التوراة (الشرق‬
‫األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ ،) ٕٖ8‬ولو كانت مصر فً قوتها األولى لطاردتهم إلى شمال الشام كما فعلت مع الهكسوس‬
‫(‪)88‬‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٖٙ‬‬
‫(‪)89‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕٖ9‬‬

‫‪ٔٔ7‬‬
‫والمعروفة تارٌخٌا باسم "معركة الدلتا البحرٌة"‪ ،‬أول معركة بحرٌة فً تارٌخ مصر منذ آالؾ السنٌن(ٓ‪ ،)9‬إن لم‬
‫تكن األولى فً تارٌخها‪ ،‬وحكت النصوص‪" :‬وأما من أتوا "بجموعهم معا عن طرٌق البحر‪ ،‬فقد واجهتهم‬
‫نار حامٌة على مصبات األنهار‪ ،‬وأحاط بهم على البر سد من الحراب‪ ،‬واستدرجوا إلى الداخل‪،‬‬
‫وحوصروا‪ ،‬وألقوا على وجوههم على الشاطا‪ ،‬ثم قتلوا ومزقوا إربًا من القدم حتى الرأس‪ ،‬وؼرقت سفنهم‬
‫وأمتعتهم فً البحر(ٔ‪.")9‬‬

‫نقوش معركة الدلتا البحرٌة رسٌس الثالث والجنود على ٌمٌن الناظر وقباٌل العدو على الشمال تنقلب مراكبهم فً البحر (معبد هابو)‬

‫فؤٌن ذهبت وتفرقت فلول تلك القباٌل والجماعات بعد هزٌمتها شرقا وشماال‪ ،‬وانهٌارها عند أقدام مصر‬
‫بعد أن فعلت األفاعٌل ببلدان أخرى قبل أن تصل إلى مصر؟‬

‫تشتت فً جزر البحر وسواحله‪ ،‬واحتفظت بعض هذه الجزر والسواحل بؤسمابها‪ ،‬وهكذا ٌتجه رأي إلى‬
‫الربط بٌن الشرادنة وبٌن السرادنة "سردٌنٌا"‪ ،‬وبٌن الشكلش "شكرش" والصقلٌٌن‪ ،‬والربط بٌن الثكر وبٌن‬
‫الصقلٌٌن أٌضًا أو الطروادٌٌن(ٕ‪ ،)9‬كما سبق واستقرت "بلستً" فً كنعان وأعطوها اسم فلسطٌن‪ ،‬ونزلت‬
‫قبابل أخرى إلى السواحل اللٌبٌة‪ ،‬وهً التً تهمنا هنا‪.‬‬

‫فلم ٌحمدوا لرمسٌس الثالث أنه سمح لهم بالمعٌشة قرب مصر بعدما أعلنوا السلم والطاعة‪ ،‬وعادوا‬
‫للؽدر‪ ،‬فظهرت بٌنهم جماعات جدٌدة ذكرتها المصادر المصرٌة بؤسماء قرٌبة من األسباط والقاٌقاش‬
‫والشاٌتٌت والهاسا والباقان‪ ،‬واستجاب لهم عدد من بنً جلدتهم الذٌن سبق وأن استوطنوا ؼرب الدلتا‪،‬‬
‫وعاونوهم‪ ،‬فاشتدت القوات المصرٌة علٌهم‪ ،‬وأحبطت مشارٌعهم‪ ،‬وكسرت شرتهم(ٖ‪.)9‬‬

‫(ٓ‪)9‬‬
‫‪ -‬إن صح أن المعركة بٌن المصرٌٌن والقباٌل القادمة من الؽرب فً نقوش سكٌن جبل العركً التً ترجع إلى ما قبل األسرات جرت عند‬
‫السواحل المصرٌة الشمالٌة أٌضا‪.‬‬
‫(ٔ‪)9‬‬
‫‪ -‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٖ9-ٕٖٙ‬‬
‫(ٕ‪)9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕٖ9‬‬
‫(ٖ‪)9‬‬
‫‪ -‬انظر مرجع سابق ص ‪ٕٖ8‬‬

‫‪ٔٔ8‬‬
‫ً‬
‫تسلبل سلمًٌا بطٌ ًبا‪،‬‬ ‫وبذلك انتهت محاوالتهم لدخول مصر عن طرٌق العنؾ‪ ،‬وبدأوا ٌتسللون إلٌها‬
‫فتسامح رمسٌس الثالث معهم باسم مصر‪ ،‬كما تسامح مع أسراهم الذٌن بدأهم بالشدة ثم عاد علٌهم بالعفو‪،‬‬
‫واكتفى بإحكام الرقابة علٌهم‪ ،‬فقال حٌن ؼضبته علٌهم‪" :‬اعتقلت قادتهم فً حصون تحمل اسمً‪ ،‬وولٌت‬
‫علٌهم ضباطا ورإساء قبابل‪ ،‬واعتبرتهم عبٌدا مدموؼٌن باسمً‪ ،‬وعومل نساإهم وأطفالهم نفس المعاملة‪،‬‬
‫ووهبت قطعانهم إلى دار آمون"‪ ،‬ثم قال بعد أن خؾ ؼضبه‪" :‬وضعتهم فً الحصون‪ ،‬ودمؽتهم باسمً‪ ،‬وكانت‬
‫جماعاتهم الحربٌة تقدر بمبات األلوؾ‪ ،‬وخصصت لهم مخصصات من الكساء والزاد‪ ،‬تصرؾ من الخزانة‬
‫وشون الؽبلل كل عام(ٗ‪.")9‬‬

‫وأضافت بردٌة من أواخر عصر رمسٌس الثالث أن الشرادنة استقروا فً مدنهم التً خصصها لهم‪،‬‬
‫وأقام بعضهم فً حصونه‪ ،‬وآخرون وسط المزارع التً سمح لهم بها‪ ..‬فتفشت المستوطنات األجنبٌة‪.‬‬

‫أما الطامة الكبرى فإدخال بعضهم فً سلك التجنٌد وزرعهم بداخل الوجه القبلً بعد أن كان بعٌدا عن ٌد‬
‫الهجرات لحد كبٌر‪ ،‬فؤضافت بردٌة أخرى كتبها صاحبها بعد عهده أن رمسٌس الثالث أنشؤ للمجندٌن منهم‬
‫محلَّة فً الوجه القبلً لٌعٌشوا فٌها‪ ،‬وبتعبٌر عبد العزٌز صالح فإنه على الرؼم من أن هذا التساهل النسبً‬
‫ٌعتبر مكرمة للخلق المصري فً جملته‪ ،‬إال أنه جرَّ على مصر بعد ذلك شرورا كثٌرة كانت فً ؼنى عنها‬
‫لو أنها استؤصلت شؤفة أعدابها من جذورها(٘‪.)9‬‬

‫واألدق فإن هذا لم ٌكن بـ"مكرمة للخلق المصري"‪ ،‬بل ؼفلة ترفضها ماعت‪ ،‬وضعؾ للذاكرة‪ ،‬وتهاون‬
‫ٌتناقض مع ما عاناه المصرٌون طوال التارٌخ من توطٌن األجانب‪ ،‬وخاصة بؤعداد كبٌرة مجتمعة أو دخلت‬
‫على دفعات صؽٌرة ؼٌر محسوسة‪ ،‬وفتح مإسسات الدولة لهم‪.‬‬

‫وهنا ن َّب ه صالح إلى أن األصح كان االستمرار فً قتال هإالء الدخبلء حتى ٌجلوا عن مصر كلها‪،‬‬
‫وٌعودوا من حٌث أتوا‪ ،‬وال ٌتسامح معهم رمسٌس الثالث أو ٌنخدع بعد أن رموا السبلح وتوسلوا له أن‬
‫ٌعٌشوا خدما فً مصر‪ ،‬واستجابوا لرؼبته فً الحدٌث باللؽة المصرٌة‪ ،‬وتوهم فً سكرة انتصاراته الثبلثٌة‬
‫العظٌمة أن قوة الجٌش وقتها وإحكام الرقابة علٌهم واإلجراءات التً اتخذها لتمصٌرهم كافٌة لتؽٌٌرهم أو‬
‫لردعهم عن أي ؼدر جدٌد‪.‬‬

‫وبحسب جرٌمال‪ ،‬فقد تكاثروا وأنجبوا الذرٌة التً جددت اآللٌات التً مهدتت للؽزوات التً شهدتها‬
‫مصر فً أواخر الدولة الوسطى (الهكسوس)‪ ،‬وتحالؾ المستوطنون القدماء مع المستوطنٌن الجدد من‬
‫أسرى الحرب‪ ،‬وتركزوا فً مناطق محددة "مستوطنات"‪ ،‬ثم استولوا على السلطة عندما ؼرقت الدولة فً‬
‫بحار الفوضى(‪.)9ٙ‬‬

‫وتحركت الرمال تحت أقدام المصرٌٌن لما سمح رمسٌس الثالث لهم وآلخرٌن كاآلسٌوٌٌن والكوشٌٌن‬

‫(ٗ‪)9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫(٘‪)9‬‬
‫‪ -‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٖ8‬‬
‫(‪)9ٙ‬‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬نٌكوال جرٌمال‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖ٘8 -ٖ٘9‬‬

‫‪ٔٔ9‬‬
‫بالخدمة تحت قٌادة الجٌش المصري‪ ،‬ظنا منه أنهم سٌكونون عونا له فً صد هجمات المناطق التً أتوا‬
‫منها لخبرتهم بها‪ ،‬ولم ٌكتؾِ بهإالء القادمٌن من الؽرب‪ ،‬بل فتح أبواب مصر من الشرق أمام البلجبٌن‬
‫الفارٌن من أمام الهجرات التً دمرت ببلدهم‪ ،‬فتتحدث نقوش جدران معبد هابو بمدٌنة واسط (طٌبة(‪))99‬‬
‫عن كٌؾ أن هإالء أتوا لبلحتماء بمصر‪ٌ ،‬توددون ألهلها بالكلمات المعسولة لقبولهم‪ ،‬فٌقول‪" :‬إن ربٌس‬
‫شتتوا وأخضعوا‪ ،‬وكل من بقً‬ ‫آمور ]الشام[ أصبح رمادا وبذرته ال وجود لها‪ ،‬وكل قومه أخذوا أسرى و ُ‬
‫على قٌد الحٌاة فً ببلده كان ٌؤتً بالثناء لٌرى شمس مصر العظٌمة تطلع علٌه‪ ،‬وٌقولون‪" :‬الرفعة لـ رع‪،‬‬
‫إن أرضنا قد دمرت‪ ،‬ولكننا نحن فً أرض الحٌاة (مصر) حٌث بُدد الظبلم(‪.")98‬‬

‫انخدع رمسٌس بابتهالهم لـ رع‪ ،‬وهو ٌتباهى بؤن أرض مصر ظلت هً الوحٌدة الباقٌة صامدة ومستقرة‬
‫وكاملة بعد أن مزقت هجرات شعوب البحر البلدان األخرى‪ ،‬وتباهى بؤن من كانوا أعداء مصر باألمس‬
‫باتوا ٌمدحونها وٌمدحون دٌنها‪ ،‬وٌعترفون بفضلها بعد أن وجدوا فٌها األمان‪.‬‬

‫فقد أسكر النصر رمسٌس والحكومة جمٌعا‪ ،‬وخدرت أعصابه نفس األسطوانة الملعونة من المدابح‬
‫وأؼانً المهاجرٌن لمصر والمصرٌٌن‪ ،‬ومظهر الخضوع‪ ،‬وظن أنهم استكانوا لما رأوه من شدته من‬
‫ناحٌة‪ ،‬وما أتاحه لهم من فرص من ناحٌة‪ ،‬ونسً أن مصر قبل عهده وعهد والده "ست نخت" مباشرة‬
‫تحولت إلى قِدر ٌؽلً بالماء الفاسد‪ٌ ،‬سلق وٌهري عظام المصرٌٌن‪ ،‬لما تمكنت عاببلت أجنبٌة مثل عٌلة‬
‫"إرسو" من رقبتها وح َّقروا معابدها‪ ،‬وكانوا قبل التمكٌن أٌضا ٌمدحون مصر ودٌنها وحكامها‪.‬‬

‫ورفع رمسٌس الثالث بعض األجانب إلى مناصب القٌادة‪ ،‬وكان ٌعلن لهم قراراته إلى جانب ؼٌرهم من‬
‫القا دة وكبار الموظفٌن المصرٌٌن‪ ،‬واعتقد أن األمان الذي ٌوفره لهم كفٌل ببث اإلخبلص فً قلوبهم‪ ،‬بتعبٌر‬
‫ً‬
‫أعدادا‬ ‫عبد العزٌز صالح‪ ،‬وزاد نصٌب القصور الحكام وكبار رجال الدولة من الزٌجات األجنبٌات‪ ،‬وتقبلت‬
‫أكثر من الجواري‪ ،‬سواء بفعل ظروؾ الحرب وكثرة سباٌاها‪ ،‬أو ح ًّبا فً مبلحة الشمالٌات ودؾء‬
‫أعدادا من الحشم األجانب عملوا خدما وسقاه ووصفاء(‪.)99‬‬
‫ً‬ ‫الجنوبٌات‪ ،‬وتقبلت القصور إلى جانب الجواري‬

‫وزاد رمسٌس الثالث فعٌن بعض أولبك األجانب فً وظابؾ الببلط والقضاء‪ ،‬أما المعابد فنصٌبها من‬
‫األرقاء واألسرى األجانب والمتمصرٌن أضخم‪ ،‬بحٌث ذكرت النصوص أنه خصص ‪ ٕٙٓ9‬من أسراه‬
‫ألمبلك آمون‪ ،‬وٖ‪ ٕٓ9‬ألمبلك رع‪ ،‬وٕ٘ٓ ألمبلك بتاح‪ ،‬لكً ٌعملوا بؤسماء هذه المعابد فً المزارع‬
‫والمحاجر والمناجم‪ ،‬بل وفً شبون العبادة نفسها‪.‬‬

‫نفس المقدمات التً سبقت االنهٌار الكبٌر فً نهاٌة األسرتٌن ‪ ٙ‬بالدولة القدٌمة ؤٖ بالدولة الوسطى‬
‫واألسرة ‪ ٔ9‬بالدولة الحدٌثة‪ ،‬فهل ننتظر نتاٌج ؼٌر النتاٌج؟‬

‫(‪)97‬‬
‫‪ -‬االسم ما زال حٌا واحتفظت به بلدة بجوار األقصر‪ ،‬ونسمعه فً أؼنٌة "األقصر بلدنا" تشدو‪" :‬مش برضو منها؟ أنً من واسطة"‪ ،‬كلمات‬
‫فتحً قورة‪ ،‬ألحان علً إسماعٌل‪ ،‬ؼناء محمد العزبً‬
‫(‪)98‬‬
‫‪ -‬القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم‪ ،‬نجبلء فتحً شهاب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓٓٔ‬
‫(‪)99‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٗٓ -ٕٖ9‬‬

‫ٕٓٔ‬
‫وفً رأي صالح‪" :‬لم ٌكن من بؤس فٌما جرت علٌه مصر من فتح قصورها ودواوٌنها ومعابدها ألبناء‬
‫جٌرانها وألسراها وللمرتزقة المسالمٌن طالما ظلت قوٌة ٌقظة وطالما ظلت ٌدها هً الٌد العلٌا‪ ،‬ولكن‬
‫الخطر كل الخطر كان ٌتمثل فً أال ٌخلو إخبلص هإالء النزالء لها من شوابب‪ ،‬وأن ٌتمصروا بمظهرهم‬
‫ولٌس فً مخبرهم‪ ،‬وأن ٌظل بعضهم على استعداد للتنكر لها متى سنحت لهم فرصة أو ألمت بها نكبة‪ ،‬وما‬
‫كان أكثر احتماالت النكبات علٌها فً ذلك الزمان(ٓٓٔ)"‪.‬‬

‫وتسبب السماح لؤلجانب بالعمل فً شبون الدٌن بالمعابد المصرٌة‪ ،‬وهً ركن ركٌن من أركان الهوٌة‬
‫والدولة المصرٌة‪ ،‬فً تحوٌر وتحرٌؾ دٌن مصر‪ ،‬فانتشرت الخرافات‪ ،‬واإلفراط فً تقدٌس الحٌوانات‪،‬‬
‫وذلك إما عن جهل من هإالء األؼراب بجوهر الدٌن المصري‪ ،‬أو عن عمد لتخرٌبه كوسٌلة من وسابل‬
‫إسقاط الدولة المصرٌة فً أٌدٌهم(ٔٓٔ)‪ ،‬أو لتحوٌل النذور بالطٌور المحنطة إلى وسٌلة لجنً أرباح خٌالٌة‪.‬‬

‫▼▼▼ اؼتٌال رمسٌس الثالث‬

‫وصلت تدابٌر المستوطنٌن األجانب إلى المشاركة فً مإامرة الؼتٌال رمسٌس الثالث‪ ،‬رؼم أنه ساعد‬
‫فً تؤمٌنهم من التشرد ورفعهم إلى مراتب علٌا‪.‬‬

‫المإامرة تورط فٌها مع األجانب زوجة لرمسٌس دب النفور بٌنها وبٌنه إلى حد أن تجاهل الفنانون‬
‫تسجٌل اسمها مع بعض صورها فً معبده‪ ،‬وأحست هً برؼبته فً إقصاء ولدها بنتاورة عن والٌة العهد‪،‬‬
‫فتآمرت مع بعض سقاة الببلط ونسابه وحرسه وخدمه من المصرٌٌن ومن النزالء المتمصرٌن(ٕٓٔ)‪.‬‬

‫ولكن المإامرة انكشؾ أمرها‪ ،‬وتولى التحقٌق فٌها بؤمر رمسٌس الثالث وهو على فراش الموت ٗٔ‬
‫قاضًٌا‪ ،‬كان من بٌنهم‪ ،‬وللعجب‪ ٗ ،‬تدل أسماإهم على أنهم لم ٌكونوا مصرًٌ األصل‪.‬‬

‫وقبل أن ٌنتهً التحقٌق استطاع بعض أقارب المتهمٌن أن ٌرشوا ٖ من القضاة وضابطٌن‪ ،‬ولكن انكشؾ‬
‫أمرهم وتحول القضاة الثبلثة والضابطان إلى متهمٌن‪ ،‬وحكمت المحكمة على األمٌر بنتاورة وٖ من‬
‫شركابه باإلعدام‪ ،‬وتركت لهم أن ٌقتلوا أنفسهم بؤنفسهم‪ ،‬وحكمت على متهمٌن آخرٌن بالجلد والسجن‪،‬‬
‫وآخرٌن بجدع األنؾ وصلم األذنٌن‪.‬‬

‫أما ما أصاب رمسٌس الثالث من هذه المإامرة‪ ،‬واسم الحاكم الذي تمت المحاكمة فً عهده‪ ،‬إن كان هو نفسه‬
‫أم ولده رمسٌس الرابع‪ ،‬فموضع جدل(ٖٓٔ)‪ ،‬إال أنه فً عام ٕٕٔٓ نشر فرٌق بحثً مصري أن جثة رمسٌس‬

‫(ٓٓٔ)‬
‫‪ -‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٓٗ‬
‫(ٔٓٔ)‬
‫‪ -‬تكرر هذا فً فترات أخرى ‪ ،‬أي تحكم األجانب فً الفكر الدٌنً المصري فً عصور الحقة‪ ،‬ومنها نشر خرافات الطرق الصوفٌة فً كل قرٌة‪،‬‬
‫وقدوم شخصٌات من الشام وؼٌرها‪ ،‬كمحب الدٌن الخطٌب ورشٌد رضا‪ ،‬إلى مصر‪ ،‬وسٌطرتها على مساجد وجمعٌات لتصنع فكر تنظٌم اإلخوان‬
‫المسلمٌن والتنظٌمات السلفٌة‪ ،‬أو كما حد ث فً نشاط اإلرسالٌات األوروبٌة التً استهدفت خلخلة الكنٌسة المصرٌة‪.‬‬
‫(ٕٓٔ)‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬ص ٕٓٗ‬
‫(ٖٓٔ)‬
‫‪ -‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٓٗ‪ٕٗٔ -‬‬

‫ٕٔٔ‬
‫الثالث بها جرح قطعً فً الرقبة ناجم عن ذبح بالسكٌن؛ ما ٌعنً احتمال وفاته مذبوحا(ٗٓٔ)‪.‬‬

‫▼▼▼ دوٌالت جوة الدولة‬

‫فً األسرة ‪ ٙ‬بالدولة القدٌمة‪ ،‬كان من عوامل لؾ الحبل حول رقبة الدولة المصرٌة‪ -‬إلى جانب توطٌن‬
‫األجانب‪ -‬ترك الحبل على الؽارب لكٌانات وشخصٌات مثل كبار األؼنٌاء وعاببلت هٌمنت على مناصب مثل‬
‫منصب المحافظ حتى تضخمت مادٌا‪ ،‬وصاهرت السلطة‪ ،‬فتحولت إلى "مراكز قوى" لها صبلحٌات واسعة‬
‫تناطح بها العاصمة ومإسسات الدولة‪.‬‬

‫وفً األسرة ٕٓ تكرر‪ -‬إلى جانب توطٌن األجانب أٌضا‪ -‬ظهور كٌانات تركتها الدولة تتضخم مادٌا‬
‫حتى صارت ذات نفوذ اقتصادي وسٌاسً‪ ،‬ودوٌبلت بداخل الدولة‪ ،‬وهذه المرة كانت المعابد‪.‬‬

‫فلسبب ؼٌر واضح حرص رمسٌس الثالث على مد المعابد بهبات وثروات ضخمة رؼم أنها بالفعل‬
‫تمتلك ثروات هابلة‪ ،‬واستمر فً مدها بالثروات مع تكبد الدولة أعباء شدٌدة لكثرة الحروب مع شعوب‬
‫البحر‪ ،‬وبلػ دخل المعابد حٌنذاك ٓٓٔ ألؾ مكٌال من الؽبلل‪ ،‬واستؤثرت بخٌرات ‪ ٔٙ9‬مدٌنة وقرٌة فً‬
‫مصر وخارجها‪ ،‬وامتلكت أكثر من ‪ 88‬سفٌنة‪ ،‬ونحو ٓ٘ ترسانة لصناعة السفن وإصبلحها‪ ،‬وتراوحت‬
‫مساحة مزارعها بٌن ٕٔ و٘ٔ‪ %‬أو ما هو أكثر من أراضً مصر الزراعٌة(٘ٓٔ)‪ ،‬ولنتخٌل أن هذا جاء فً‬
‫الوقت الذي ٌزحؾ مستوطنون أجانب إلى المعابد والسٌطرة علٌها بكنوزها ونفوذها وأسرارها‪.‬‬

‫وكان على المعابد أن تساهم بنصٌب فً مشروعات الدولة‪ ،‬ولكنه لم ٌصلها كامبل من المعابد الكبٌرة‬
‫نتٌجة لمؽالطات رجالها وامتداد نفوذ كبارهم كاألخطبوط إلى أؼلب إدارات الحكومة ومرافقها‪ ،‬وانتشر‬
‫الفساد‪ ،‬وتؤخر صرؾ مرتبات العمال‪ ،‬فحصل ما أسماه علماء أثار بؤول إضراب عمالً فً التارٌخ‪ ،‬وكان‬
‫فً مدٌنة الحرفٌٌن "دٌر المدٌنة" بواسط (طٌبة)‪.‬‬

‫ودٌر المدٌنة بلدة أنشؤتها الحكومة فً األسرة ‪ ٔ8‬فً البر الؽربً لتضم الحرفٌٌن القابمٌن على تشٌٌد‬
‫المعابد والمقابر فً وادي الملوك ووادي الملكات‪ ،‬وتحتضن خٌرة الرسامٌن والنجارٌن والبناءٌن والنقاشٌن‬
‫والمهندسٌن والمصمٌٌن‪ ،‬بصحبة أسرهم‪ ،‬وظلت عامرة وزاخرة بؤبدع المواهب طوال ازدهار العمران من‬
‫األسرات ‪ ،ٕٓ -ٔ8‬حتى أصابها ما أصاب مصر كلها بعد أن ؼفلت عن األصول "ماعت"‪ ،‬وأرخت الحبل‬
‫لفسدة الداخل ولؤلجانب‪.‬‬

‫ولم تكن اإلضرابات التً ألمت بدٌر المدٌنة بعٌدة كذلك عن ٌد األجانب‪ ،‬خاصة وأنه تسرب للعمل بها‬
‫أجناس مثل السورٌٌن واللٌبٌٌن‪ ،‬وإن ظل المصرٌون لهم الؽلبة(‪.)ٔٓٙ‬‬

‫(ٗٓٔ)‬
‫‪ -‬تقرٌر بعنوان "بعد دراسة استؽرقت عامٌن‪ ..‬العلماء ٌثبتون أن الملك رمسٌس الثالث قتله متآمرون وذبحوه بسكٌن حاد"‪ ،‬أ ش أ‪ ،‬بوابة األهرام‪،‬‬
‫‪ٕٕٓٔ -ٕٔ -ٔ9‬‬
‫(٘ٓٔ)‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬ص ٕٔٗ‬
‫(‪)ٔٓٙ‬‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖ99‬‬

‫ٕٕٔ‬
‫وقال علماء آثار إن بعض األجانب فً أوقات الفوضى كانوا ٌترصدون فً الطرٌق للعمال المصرٌٌن‬
‫وهم فً طرٌقهم إلى العمل‪ ،‬وٌرهبونهم وٌهددونهم لٌتركوا العمل‪ ،‬وٌؤخذ األجانب مكانهم‪ ،‬مستؽلٌن‬
‫االنفبلت األمنً‪ ،‬ووجود أجانب ٌستقوون بوجودهم داخل أجهزة األمن والجٌش‪ ،‬وتشكلت عصابات من‬
‫اللٌبٌٌن والمشاوش تهدد العاملٌن فً المقابر الملكٌة‪ ،‬فنقل جون وٌلسون فً كتابه "اللٌبٌون ونهاٌة‬
‫اإلمبراطورٌة المصرٌة" عن تقارٌر عمال دٌر المدنٌة أن العمال اضطروا إلى إٌقاؾ العمل بسب األجانب‬
‫من الرٌبو (اللٌبو)(‪ ،)ٔٓ9‬وٌمكن بسهولة معرفة تؤثٌر وجود هإالء األجانب وسط العمال العارفٌن بؤسرار‬
‫بناء المقابر وطرق حماٌتها وؼلقها على مصٌرها‪.‬‬

‫▼▼▼ نهاٌة أزمنة الحكم العظٌم‬

‫وهنا تتجمد الدماء فً عروق الدنٌا‪...‬‬

‫وٌنفلت من بٌن إٌدٌنا الزمان‬

‫كؤنه سحبة قوس فً أوتار كمان‬

‫وتنفرط األٌام بعود كهرمان‬

‫ٌفرفط النور‪ ..‬والحنان‪ ..‬واألمان‬


‫(‪)ٔٓ8‬‬
‫وٌنفلت من بٌن إٌدٌنا الزمان‬

‫جاءت وفاة رمسٌس الثالث لٌست كؤي وفاة لحاكم مصري قبله‪ ،‬لٌس لمجرد أنه تعرض لبلؼتٌال وفً‬
‫مإامرة اشترك فٌها أجانب‪ ،‬ولكن ألن وفاته نذٌر شوم لبداٌة عصور سواد وطمس‪ ،‬لم تشهد مصر قبلها‪،‬‬
‫اختفى فٌه جٌشها العظٌم فً جوؾ األرض بعد تصفٌته‪ ،‬وتولى أمر مإسساتها قباٌل أجنبٌة شلَّت ٌدٌها‬
‫وقدمٌها‪ ،‬وأردتها أسٌرة حرب تحت أقدام أوباش األرض‪ ،‬الذٌن آوتهم وأكرمتهم بتؤمٌنهم فً أراضٌها‪،‬‬
‫وظلت تصطلً بنٌران األسر لمبات السنٌن القادمة‪ ،‬وتخرَّ ب دٌنها‪ ،‬وانحلت عرى لؽتها‪ ،‬واختفت مبلمحها‬
‫التارٌخٌة تحت أقنعة فرضها علٌها الؽزاة فرضا حتى الٌوم‪.‬‬

‫فهذه المرة األجانب لم ٌستوطنوا فً منطقة واحدة فً جهة واحدة من البلد‪ ،‬مثلما استوطن مثبل‬
‫الهكسوس فً أماكن منفصلة عن المصرٌٌن‪ ،‬بل استوطنوا فً كل األنحاء‪ ،‬فتكتلوا فً الوجه البحري وفً‬
‫منؾ وا ألقصر وبنً سوٌؾ وؼٌرهم‪ ،‬فً شرق البلد وؼربها‪ ،‬قبلٌها وبحرٌها‪ ،‬لفوا البلد كشبكة خٌوط‬
‫العنكبوت‪ ،‬فؤصبح بعد حٌن من السهل شل عروقها كلها فً آن واحد‪ ،‬وال ٌجد المصرٌون مساحة واسعة‬

‫(‪)ٔٓ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الوعً السٌاسً عند قدماء المصرٌٌن‪ ،‬فاٌز أنور عبد المطلب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ ،ٔ9ٙ‬وللمزٌد عن اضطرابات دٌر المدٌنة ووصولها‬
‫لدرجة عصٌان أوامر الحكومة‪ :‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬جرٌمال‪ ،‬ص ‪ ،ٖ99 -ٖٙٙ‬والشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬ص ٕٕٗ‪ٕٖٗ -‬‬
‫(‪)ٔٓ8‬‬
‫‪ -‬أؼنٌة تتر المسلسل التلفزٌونً "أرابٌسك"‪ ،‬كلمات سٌد حجاب‪ ،‬ألحان عمار الشرٌعً‪ ،‬ؼناء حسن فإاد‬

‫ٖٕٔ‬
‫تخلو من األجانب فٌتمترسوا فٌها لٌعٌدوا تنظٌم صفوفهم وٌهبوا لقتال المحتلٌن كما فعلوا وتكتلوا فً الوجه‬
‫القبلً وجهزوا أنفسهم ثم هبوا لطرد الهكسوس من الوجه البحري‪.‬‬

‫كما أتاح لهم تعاقب الحكام الضعاؾ لمدة طوٌلة التوؼل أكثر وأكثر فً مإسسات الدولة‪ -‬التً دخلوها‬
‫بموافقات وقرارات حكومٌة بعد تمصرهم الكاذب‪ -‬واالستٌبلء على مناصب ووظاٌؾ المصرٌٌن‪ ،‬حتى‬
‫تحٌ ن اللحظة الستؽبلل إمكانٌات هذه المإسسات بالتحالؾ مع بقٌة المستوطنٌن المنتشرٌن فً أنحاء البلد‬
‫لضرب الضربة القاتلة باحتبلل مصر احتبلال كامبل‪.‬‬

‫فقد تعاقب على العرش بعد رمسٌس الثالث ‪ 8‬حكام‪ ،‬تسموا جمٌعا باسمه‪ ،‬ابتدا ًء من رمسٌس الرابع حتى‬
‫رمسٌس ٔٔ‪ ،‬ولذا اشتهر زمنهم باسم عصر الرعامسة‪ ،‬وحكموا ما بٌن ٘‪ 8ٓ -9‬سنة(‪)ٔٓ9‬؛ ولضعفهم من‬
‫ناحٌة‪ ،‬وانتشار سوس األجانب فً عظام ونخاع الدولة من ناحٌة‪ ،‬وتضخم مراكز القوى كالمعابد وؼٌرها من‬
‫ناحٌة أخرى‪ ،‬ساء توزٌع ثروة الببلد‪ ،‬وخفت هٌبة القانون‪ ،‬وانتشرت الفتن‪ ،‬واشتدت الضابقة بالناس أكثر فؤكثر‪،‬‬
‫وحدثت مجاعة طوٌلة فً أواخر األسرة أطلق الناس على أحد أعوامها اسم "عام الضباع"‪.‬‬

‫فارتفعت أسعار الؽبلل وبقٌة األقوات إلى ٖ أمثالها‪ ،‬وتكررت إضرابات العمال فً ؼرب واسط‬
‫(طٌبة)‪ ،‬وبلػ من ضٌق العمال وجرأتهم أن طلب وزٌر ذات مرة رجاال منهم لٌحملوا متاعا لرمسٌس‬
‫التاسع‪ ،‬فرفضوا‪ ،‬ورد أحدهم على رسول الوزٌر بقوله‪" :‬دع الوزٌر نفسه ٌحمل المتاع(ٓٔٔ)"‪ ،‬كما وصل‬
‫الفساد األخبلقى إلى درجة التعدي على حرمات األموات والمقابر‪ -‬كما حدث فً "الزفتة" األولى بعد‬
‫األسرة ‪ -ٙ‬وانتشار سرقات آثارهم‪.‬‬

‫لم ٌكن من سبٌل لتؽٌٌر هذه األوضاع إال عن طرٌق ثورة‪ -‬وفق عبد العزٌز صالح‪ -‬ولم تكن إمكانٌات‬
‫الجماهٌر حٌنذاك تسمح بثورة عامة‪] ،‬خاصة والجٌش عروقه فً أٌادي أجنبٌة ومشتت[ فحدث انقبلب‬
‫محدود ]مدنً[ من أحد مراكز القوى المتضخمة‪ ،‬قامت به جماعة من كبار رجال معبد آمون بزعامة كبٌر‬
‫لهم اسمه أمنحوتب توارثت أسرته رٌاسة المناصب الكبٌرة فً المعبد منذ عهد رمسٌس الرابع‪ ،‬وكان‬
‫توارث هذه المناصب الكبٌرة لعدة أجٌال فً المعبد ؼٌر معتاد فً فترات القوة‪ ،‬ود َّل على أن األمور‬
‫صارت بؤٌدٌهم ولٌس بٌد حكومة البلد المركزٌة‪.‬‬

‫وآل المنصب إلٌه فً عهد رمسٌس التاسع‪ ،‬ووصل نفوذده لدرجة أن فنانً عصره رسموه فً معبد‬
‫مساو لحجم الحاكم وفً مواجهته‪ ،‬على عكس ما قضت به التقالٌد من رسم الحاكم دابما بحجم‬
‫ٍ‬ ‫الكرنك بحجم‬
‫أكبر دلٌبل على مكانته الفرٌدة‪ ،‬وازدادت سلطة أمنحوتب فً عهد رمسٌس ٔٔ‪ ،‬فتضخم عدد أتباعه‪ ،‬كما‬
‫تضخم التذمر فً الوقت نفسه ضد طموحه وضد الثروات التً تكدست بٌن ٌدي أسرته(ٔٔٔ)‪.‬‬

‫وهنا ٌلمع دور المستوطنٌن األجانب من جدٌد‪ ،‬فظهروا كؤداة استقواء وتؤجٌج فً الصراع الذي نشب‬

‫(‪)ٔٓ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٕٗ‬
‫(ٓٔٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕٕٗ‪ٕٖٗ -‬‬
‫(ٔٔٔ)‬
‫‪ -‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٕٗ‬

‫ٕٗٔ‬
‫بٌن أمنحوتب فً طٌبة وبٌن بانحسً نابب الملك فً كوش‪ ،‬حٌث استعان كل منهم بؤجانب مستوطنٌن فً‬
‫المعارك ضد اآلخر‪ ،‬وجاء هذا على حساب زعزعة أمن أهل البلد‪ ،‬وزاد النار نارا‪.‬‬

‫فج َّند األول أرقاء المعابد ]األجانب والمتمصرٌن[ لمصلحته‪ ،‬واستعان الثانً بجنود نوبٌٌن ]كوشٌٌن؟[‬
‫ولٌبٌٌن مرتزقة‪ ،‬وتعددت الخساٌر بٌن هذا وذاك على حساب األهالً‪ ،‬وانتهت باختفاء الطرفٌن وفشلهما‪،‬‬
‫ولم تخلص الجماهٌر لهذا أو ذاك ألن أ ًٌّا منهما لم ٌقم بحركته لمصلحتها(ٕٔٔ)‪.‬‬

‫ولٌس من الواضح أٌن كان الجٌش فً خضم هذه الصراعات والفوضى‪ ،‬إال أنه فٌما ٌبدو أصابه العطن‬
‫والتفكك بكثرة المجندٌن والضباط األجانب الذٌن توهم الحكام أنهم تمصروا‪ ،‬كما تؤثر بتشتت الوالءات‪،‬‬
‫وبالدخول فً معارك داخلٌة لٌست لصالح الببلد‪ ،‬بل وٌقودها أجانب‪ ،‬وأخٌرا تؤثر بضعؾ الدولة والسماح‬
‫بتجنٌد شبان بعٌدا عن سلطة الجٌش فً حراسات خاصة للمعابد ولمنشآت الشخصٌات التً تضخمت‬
‫ثرواتها ومزارعها على حساب الدولة‪.‬‬

‫ففً النصوص المعروفة باسم خطابات الرعامسة المتؤخرة ‪ٌ late Ramesside Letters‬رد‬
‫الحدٌث عن صرؾ مخصصات الؽبلل ألناس من قباٌل المشاوش أٌام رمسٌس ٔٔ‪ ،‬و طلب أحد قادة‬
‫القباٌل المستوطنة‪ ،‬واسمه باي عنخ‪ ،‬مساعدة المشاوش له فً حملة عسكرٌة ضد بانحسً‪ ،‬بل لم ٌستطع‬
‫رمسٌس ٔٔ فٌما ٌبدو االستؽناء عن تعاون تلك القبابل معه(ٖٔٔ)‪ ،‬أي أن القباٌل المستوطنة صارت تستقوي‬
‫ببعضها فً المعارك ضد الدولة وتناطحها‪ ،‬أي لم ٌعد لمن بقً من المصرٌٌن داخل الجٌش النفوذ‪ ،‬وهذا‬
‫من مإشرات تصفٌة الجٌش المصري بعد مبات السنٌن من حمله لقب أقوى جٌوش األرض‪.‬‬

‫وتولى رباسة الكهنة بعد ذلك حرٌحور‪ ،‬فجرى على سبٌل سلفه فً التمهٌد لبسط نفوذه‪ ،‬ولم ٌكن من‬
‫أسرة كبٌرة مثله‪ ،‬ولكن كان له ماضٌه فً الجٌش والوظاٌؾ إلى جانب معارفه الدٌنٌة‪ ،‬ثم جمع إلى كل ذلك‬
‫منصب نابب الملك فً النوبة‪ ،‬واتخذ لقب وزٌر طٌبة لبعض الوقت على أقل تقدٌر‪ ،‬ولم ٌكن معتادا فً‬
‫عصور الحكم المصري الرشٌد أن ٌتولى رجال الدٌن كل هذه المناصب؛ فمصر لم تكن من قبل دولة دٌنٌة‬
‫بالمفهوم الحالً الذي ٌحكم فٌه تنظٌم دٌنً أو مإسسة دٌنٌة الدولة (كإٌران) بل رجال الدٌن مختصٌن‬
‫بوظاٌؾ المعابد‪ ،‬فكانت دولة متدٌنة تحركها قٌم الدٌن ال دولة دٌنٌة بالمعنى السٌاسً الحالً‪.‬‬

‫وتمادى حرٌحور فً نفوذه باسم الدٌن أكثر فؤكثر‪ ،‬حتى انتحل ألقابا وشارات تشبه ألقاب الحاكم‬
‫وشاراته‪ ،‬ورضً رمسٌس ٔٔ المؽلوب على أمره باألمر الواقع‪ ،‬واعتبر الكهنة ذلك نصرً ا لهم وبشٌرً ا‬
‫بعصر جدٌد تبجحوا وسموه عصر النهضة‪ -‬بتعبٌر عبد العزٌز صالح‪ -‬وأرخوا به وثابقهم‪ ،‬واعتبر‬
‫حرٌحور نفسه كما لو كان ملك طٌبة‪ ،‬وإن ظل رمسٌس ٔٔ على العرش حتى العام ‪ ٕ9‬أو ‪ ٕ9‬من‬
‫حكمه(ٗٔٔ)‪ ،‬وكلمة "النهضة" أو "تجدٌد الوالدة" (وحم مسوت باللؽة المصري) صفة ٌطلقها المصرٌون‬

‫(ٕٔٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٖٕٗ‪ٕٗٗ -‬‬
‫(ٖٔٔ)‬
‫‪ -‬األجانب فً مصر فً األلفٌة األولى قبل المٌبلد‪ ،‬جونتر فٌتمان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٖ‬
‫(ٗٔٔ)‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٗٗ‬

‫ٕ٘ٔ‬
‫على عودة الروح لمصر بعد تعرضها ألزمات خانقة أو فقد حرٌتها‪ ،‬مثلما حدث بعد القضاء على الزفتة‬
‫(الفوضى) األولى وهكسوس الشرق‪.‬‬

‫وٌعتقد علماء آثار مثل جونتر فٌتمان أن حرٌحور ٌنحدر من المإكد أٌضا من سبللة أجنبٌة‪ ،‬تتبع‬
‫المستوطنٌن القادمٌن من وراء الحدود الؽربٌة(٘ٔٔ)‪.‬‬

‫وفً نفس الوقت ظهر فً الوجه البحري نفوذ لشخص آخر هو نٌسوبانب جدة‪ ،‬واشتهر فً كتب‬
‫التارٌخ باسم سمندس‪ ،‬مجهول األصل‪ ،‬وعقد مع كبٌر الكهنة فً طٌبة‪ -‬المطعون فً أصله وشرعٌته مثله‪-‬‬
‫مهادنات تسمح بتقاسم السلطة بٌنهم‪ ،‬خاصة بعد ما استؽل سمندس ثؽرة فً نظام الحكم المصري‪ ،‬وهً أن‬
‫ٌُسمح بتولً العرش لزوج بنت الملك‪ ،‬فتزوج سمندس من تانت آمون بنت رمسٌس ٔٔ لٌكتسب "شرعٌة"‬
‫الحكم‪.‬‬

‫هذه األوضاع الكبٌبة وضٌاع هٌبة حاكم مصر تطاٌرت أخبارها سرٌعا للببلد المحٌطة‪ ،‬وتش َّفت فً‬
‫مصر‪ ،‬وأظهرت بجرأة وسرعة شماتتها فٌها مثلما ٌظهر فً قصة القابد "ون آمون" حٌن سافر بؤمر‬
‫حرٌحور إلى الشام الستٌراد خشب األرز فً عهد رمسٌس ٔٔ‪ ،‬وذكرت البردٌة اهتمامه بذكر حرٌحور‬
‫وسمندس‪ ،‬فٌما أشار إلى رمسٌس ٔٔ إشارة عابرة ما ٌدل على تضاإل نفوذه أمامهما‪ ،‬ولذا لم ٌكن ؼرٌبا‬
‫أن ٌصبح رمسٌس ٔٔ هو آخر حاكم مصري ال دخٌل وال هجٌن وال مطعون فً أصله‪ ،‬وٌفسح المجال‬
‫بضعفه لطابور االحتبلل الثقٌل‪.‬‬

‫وجاء فً البردٌة التً روت قصة ون آمون بكل صراحة أن أمثال ون آمون من الرسل كانوا فً‬
‫عصور الحكم المصري السابقة ٌجدون الترحاب حٌثما حلوا‪ ،‬أما هو فقد وجد الصدود حٌثما نزل‪ ،‬فؤمراء‬
‫الشام ٌعلمون بؤن شوكة الحكم انكسرت فً مصر‪َّ ،‬‬
‫فعز علٌه أن ٌجد بٌن الطوابؾ الجدٌدة فً الشام األمن‬
‫القدٌم الذي كفله المصرٌون والسورٌون فً أٌام استقرارهم ومجدهم‪ ،‬فسُرق منه متاعه من ذهب وفضة‪،‬‬
‫وعجز حاكم "الثكر" عن أن ٌعٌده إلٌه‪ ،‬وتكبر علٌه أمٌر جبٌل‪ ،‬واشترط علٌه (‪ )...‬أن ٌدفع أثمان أخشابه‬
‫على الرؼم مما عرفه عن نهب متاعه‪ ،‬وعلى الرؼم من الصبلت الودٌة بٌن مصر القدٌمة وبٌن جبٌل وبقاء‬
‫بعض شراٌٌن التجارة بٌنهما مفتوحة‪ ،‬وعلى الرؼم من اعتراؾ أمٌر جبٌل أمامه بفضل مصر القدٌم فً‬
‫إفاضة الحضارة على بلده‪ ،‬وكان فً كل هذا ما ٌختلؾ تماما عن الفكرة التً خرج بها ون آمون من مصر‬
‫وورثها عن أسبلفه من اعتبار البحر بحر ربه آمون والجبل جبله والبلد بلده‪ ،‬وبعد عدة مخاطرات خرج‬
‫الرجل بؤخشابه من جبٌل‪ ،‬وعندما عاد إلى مصر كان أمٌنا فً تسجٌل ما مر به‪ ،‬وتحدث بما رآه وسمعه‬
‫بكل ما فٌه من مرارة وأسى على سمعة وطنه(‪.)ٔٔٙ‬‬

‫وكٌؾ ال تفٌض المرارة‪ ،‬وكٌؾ ال نتجرعها مع ون آمون حتى الٌوم؟‪ ..‬فقد نسى أبناء مصر للمرة‬
‫الثالثة‪ ،‬وبسرعة مستفزة‪ ،‬عهد من أسسوها بعد أن دلوها على سكة السبلمة‪ ،‬وبصروها بسكة الندامة‪:‬‬

‫(٘ٔٔ)‬
‫‪ -‬األجانب فً مصر فً األلفٌة األولى قبل المٌبلد‪ ،‬مرجع ساق‪ ،‬ص ‪ٗٙ‬‬
‫(‪)ٔٔٙ‬‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ٕٗ٘ ،‬‬

‫‪ٕٔٙ‬‬
‫"إن البوابات ]الحدود[ التً فوقك كبوابات حامٌة‪ ....‬إنها سوؾ ال تفتح للؽربٌٌن‪ ،‬إنها سوؾ ال تفتح‬
‫للشرقٌٌن‪ ،‬إنها سوؾ ال تفتح للجنوبٌٌن‪ ،‬إنها سوؾ ال تفتح للشمالٌٌن‪ ،‬إنها سوؾ ال تفتح لهإالء الذٌن‬
‫فً وسط األرض‪ ،‬إنها سوؾ تفتح لحورس(‪.")ٔٔ9‬‬

‫فاستحقت األجٌال التً فرَّ طت فٌها عقاب اإلله الذي حذر منه بتاح حتب‪:‬‬

‫"إن الذي ٌفعل الماعت فذلك الذي ٌكون بعٌدا عن الضالل"‪ٌ" ،‬حل العقاب دابما بالذي ٌتخطى قواعدها"‪.‬‬

‫(‪)ٔٔ9‬‬
‫‪ -‬الوصٌة الواردة فً نصوص األهرام‪ ،‬القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم‪ ،‬ص ٕ٘ٔ‪ٕٔٙ -‬‬

‫‪ٕٔ7‬‬
‫الفصل الثانً‪ :‬الهكسوس ٌشعلون نٌران ٖ آ الؾ سنة احتالل‬
‫‪ ٔٓٙ9‬ق‪.‬م‪ -‬ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘‪ ٔ9‬ب‪.‬م‬

‫مصر أسٌرة حرب‬

‫‪ٕٔ8‬‬
‫الشر شرق وؼرب داخل لحوشنا‬

‫حوشو لرٌح شاردة تقشقش عشوشنا‬

‫حوشو شرارة تطٌش تشقق عروشنا‬

‫وتؽشنا المراٌات تشوش وشوشنا‬

‫وتهٌل تراب على الهالة والهٌلمان‬


‫(‪)ٔٔ8‬‬
‫وٌنفلت من بٌن إٌدٌنا الزمان‬

‫وٌنفلت من بٌن إٌدٌنا الزمان‪ ..‬واألمان‪.‬‬

‫(‪)ٔٔ8‬‬
‫‪ -‬أؼنٌة مقدمة مسلسل أرابٌسك‪ ،‬كلمات سٌد حجاب‪ ،‬ألحان عمار الشرٌعً‪ ،‬ؼناء حسن فإاد‬

‫‪ٕٔ9‬‬
‫المشهد ‪ :8‬الزفتة الثالثة‬

‫(وسقط الصولجان والهٌلمان)‬

‫على أساس ما سبق ٌمكن أن ٌقال إن آخر حاكم مصري خالص بشكل مإكد فً تارٌخنا القدٌم كان‬
‫رمسٌس ٔٔ‪ ،‬وما تبله من حكام إما مجهولو النسب مثل سمندس مإسس األسرة ٕٔ‪ ،‬أو من أسرى الحرب‬
‫والمستوطنٌن ومدعً التمصٌر مثل شاشنق مإسس األسرة ٕٕ‪.‬‬

‫وعلى هذه الحال الحرجة التً لم تخطر على بال انتهت أٌام األسرة ٕٓ بعد أن ولٌت أمور مصر ‪ٔٔ9‬‬
‫سنة‪ ،‬مختتمة عصور الرعامسة وذكراهم الخالدة‪ ،‬بحلوها ومرها‪.‬‬

‫وتجمدت ما ٌمكن أن ت وصؾ بؤزمنة الحكم المصري الخالص المدٌد‪ ،‬أزمنة مصر الحرة التً بدأت بحكم‬
‫أوزٌر وحور ثم أتباع حور فً زمن ال ٌُعرؾ بداٌته فً جوؾ التارٌخ‪ ،‬تبلهم حكام تركت اآلثار نقوشا تدل‬
‫على وجودهم‪ ،‬ولم تترك كتابة ألسمابهم النعدام أو ندرة الكتابة أٌامهم‪ ،‬حتى نصل إلى عصر مٌنا الذي‬
‫عرفنا اسمه لظهوره بعد الكتابة‪ ،‬وتبعه المبات من زعماءنا حتى نصل إلى رمسٌس ٔٔ‪ ،‬منهم من كانوا أمناء‬
‫على وصاٌا وصولجان حور‪ ،‬حفظوا مصر ألهلها حرة مطمبنة‪ ،‬وهم األكثر‪ ،‬ومنهم من لم ٌكونوا على قدر‬
‫المسبولٌة‪ ،‬وهم األقل‪ ،‬لكن ؼفلتهم وؼفلة بقٌة المصرٌٌن المعاصرٌن لهم كانت القاضٌة؛ لٌسقط الصولجان أخٌرا‬
‫من ٌد حور نهاٌة األسرة ٕٓ‪ ،‬سقوطا له ر َّنة مدوٌة‪ ،‬كصرخة ذبٌح‪ ،‬لو سمعها الكون لشققت جباله وشلَّت كابناته‬
‫من فزعها وألمها‪،‬؛ ولتبدأ عصور مهجنة واحتبلالت فً ذٌل بعضها‪ ،‬حتى تعود مصر وصولجانها إلى أهلها فً‬
‫ثورة ٕ٘‪ ،ٔ9‬أي بعد ٖٓٓٓ سنة‪..‬من كان ٌتصور أن تقبع مصر العظٌمة‪ ،‬الدولة األكمل‪ ،‬نبٌة الببلد‪ ،‬أسٌرة‬
‫بسجون الشٌطان ٖٓٓٓ سنة !‬

‫لٌس عن جبن فً أهلها‪ ،‬وال ضعؾ وال فقر فً أرضها‪ ،‬ولكن لؽفلة حراسها عن قٌمة بلدهم‪ ،‬ووصٌة‬
‫األجداد‪ ..‬عن كفرهم بؤعظم النعم‪ ،‬نعمة الطرٌق القوٌم الواضح (ماعت) المحدد لهم سلفا‪ ،‬وبعد أن اختبرهم‬
‫هللا فذاقوا عدة مرات حبلوة السٌر فٌه‪ ،‬ومرارة التخلً عنه‪.‬‬

‫لم ٌكن للمصرٌٌن أي عذر فً كفر النعمة‪ ،‬فاهلل أعطاهم من اإلٌمان والعقٌدة والقوة والذكاء والثروة‬
‫والسكان ما ٌكفٌهم لبناء بلدهم وحماٌتها‪ ،‬ومعظم أزمنة الحكم المصري شالها على أكتافهم أبناء األرض‬
‫الطٌبة‪ ،‬ولما جاءها الؽرٌب ٌتسلل أو ٌتوسل كان هو الذي فً حاجة لها‪ ،‬وحتى لو احتاجته فً أي أمر لم‬

‫ٖٓٔ‬
‫ٌكن هناك أي مبرر أن ٌكون ثمن تعاونه أن ٌستوطن‪ ،‬وٌؤخذ األرض‪ ،‬وٌنحشر فً مإسسات البلد‪ ،‬وٌملك‬
‫اقتصادها‪ ،‬وٌتؽلؽل فً بٌوتها‪ ،‬وٌشوشر على دٌنها‪ ،‬وٌبدل عاداتها‪ ،‬وٌبلبل لؽتها‪ ،‬وٌؽٌر نظام حكمها؛ ولذا‬
‫لما سلمنا بعض مناصب البلد وأسرارها لؤلجانب فً األسرتٌن ‪ ٔ9‬وٕٓ بعد ما بذله رجالها األبطال من‬
‫أعمارهم ودمابهم لتحرٌرها من األجانب فٌما سبق لم ٌكن لنا أبدا عذر‪ ..‬فكان الخراب واالحتبلل الطوٌل‪،‬‬
‫الطوٌل جدا‪.‬‬

‫الخبلصة‪ ،‬أنه من اآلن تمثل الوضع مع نهاٌة األسرة ٕٓ بحسب ما ٌصفه جونتر فٌتمان كما ٌلً‪ :‬تؽلؽل‬
‫المستوطنون األجانب فً الدلتا والمنطقة الممتدة حتى أهناسٌا ببنً سوٌؾ بصورة كثٌفة دون رقابة‪ ،‬بل‬
‫وصلوا إلى الوجه القبلً الذي لم ٌسكنه إال مصرٌون‪ ،‬فاخترقوا شتى التحصٌنات حتى وصلوا إلى قلبه‪،‬‬
‫إلى واسطة (طٌبة)‪ٌ ،‬شٌعون فٌها االضطراب والفتن‪ ،‬وتسببوا فً انهٌار الدولة الحدٌثة‪ ،‬وتولوا مقالٌد‬
‫السلطة لٌبدأ "عصر مظلم"‪ ،‬وتعد الـ ٓ٘ٔ سنة األولى من ذلك الزمن من أكثر الفترات ؼموضا(‪.)ٔٔ9‬‬

‫▼▼▼ االحتالل الخاسوت ٌَّمً (هكسوس البحر)‬

‫اختلؾ علماء اآلثار فً تسمٌة فترة االحتبلل التً أطبقت بظبلمها وثقلها على صدر مصر بعد الدولة‬
‫الحدٌثة‪ ،‬فبعضهم مثل جونتر فٌتمان ٌصفها بالؽزو اللٌبً‪ ،‬نسبة إلى أن المحتلٌن تدفقوا من وراء السواحل‬
‫والحدود الؽربٌة من ناحٌة لٌبٌا‪.‬‬

‫وآخرون مثل عبد العزٌز صالح ٌصفونها باالحتبلل الهجٌن‪ ،‬ألن المحتلٌن ال ٌنتمون لشعب واحد‬
‫وأرض واحدة‪ ،‬بل تحالؾ من شتات قباٌل تجمعت من آسٌا وجزر البحر المتوسط وحطت على ساحل لٌبٌا‪،‬‬
‫وضموا لتحالفهم قباٌل هناك‪ ،‬فجمعهم الطمع فً ؼزو مصر‪ ،‬وؼلبت علٌهم سمات المشاوش القادمٌن من‬
‫جزر البحر أكثر من سمة الرٌبو أو اللٌبو‪ ،‬حتى أن شاشنق الذي حكم بداٌة من األسرة ٕٕ احتفظ بلقبه فً‬
‫النصوص المصرٌة‪ ،‬ربٌس "ما الكبٌر" أي ربٌس المشاوش ولٌس ربٌس الرٌبو‪ ،‬وكذلك كان أبوه وجده‪،‬‬
‫وحمل تاؾ نخت رأس األسرة ٕٗ نفس اللقب(ٕٓٔ)‪.‬‬

‫وإذا كانت المإلفات الحدٌثة اعتادت تسمٌة هذه األسر وأعوانها باسم األسر اللٌبٌة فإنما جرت فً ذلك‬
‫على التقلٌد اإلؼرٌقً القدٌم الذي أطلق اسم لٌبٌا على كل أراضً شمال إفرٌقٌا الواقعة ؼرب دلتا النٌل‪،‬‬
‫دون أن ٌقصره على حدود دولة لٌبٌا بمعناها المعروؾ فً العصر الحدٌث‪ ،‬وذلك مثلما أطلقوا لفظ أراضً‬
‫آرابٌا أي األراضً العربٌة على كل المناطق الصحراوٌة الواقعة شرق النٌل والممتدة بٌن شرق إفرٌقٌا‬
‫وؼرب آسٌا‪ ،‬دون قصره على شبه الجزٌرة العربٌة بمدلوها المؤلوؾ(ٕٔٔ)‪ ،‬بحسب شرح صالح‪.‬‬

‫وٌمكن فك هذا االختبلؾ باشتقاق اسم لهذا االحتبلل الخبٌث من لؽة األجداد واالسم الذي أطلقوه على‬
‫هذه القبٌ بل‪ ،‬وكما سبق القول‪ ،‬سماها األجداد حٌن حاربوها أٌام رمسٌس الثالث باسم شعوب البحر "نا‬

‫(‪)ٔٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬األجانب فً مصر فً األلفٌة األولى قبل المٌبلد‪ ،‬جونتر فٌتمان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٖ‬
‫(ٕٓٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬طبعة سنة ٓ‪ ،ٔ98‬ص ‪ٕ9ٙ‬‬
‫(ٕٔٔ)‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕ99‬‬

‫ٖٔٔ‬
‫خاسوت إن با ٌَّم‪ ،‬و"نا" أداة تعرٌؾ للجمع‪ ،‬و"خاسوت" أي الشعوب األجنبٌة‪ ،‬وهو نفس االسم الذي‬
‫وصفوا به هكسوس الدولة الوسطى‪ ،‬و"إن" ٌعنً تبع‪ ،‬و"با" أداة تعرٌؾ للمفرد المذكر‪ ،‬و"ٌَّم" أي البحر‪،‬‬
‫وهً نفس كلمة الٌَّم التً انتقلت للعربٌة بمعنى البحر والبحٌرة‪.‬‬

‫وعلى هذا فمثلما تسمت قباٌل "حقا خاسوت" متعددة األعراق باالحتبلل الهكسوسً‪ٌ ،‬مكن تسمٌة‬
‫االحتبلل الجدٌد متعدد األعراق أٌضا بضم كلمة شعوب أجنبٌة "خاسوت" والبحر"ٌَّم" سوٌا فتكون االحتبلل‬
‫الخاسوت ٌَمً‪ ،‬أو اختصارا االحتبلل الخاسوتً‪.‬‬

‫االحتجاج بالكارٌكاتٌر‬

‫وإن كان بعض المصرٌٌن خبلل األسرتٌن ‪ ٔ9‬وٕٓ خدعوا أنفسهم بتمصر األسرى والمتسللٌن‬
‫وطاعتهم الظاهرة‪ ،‬إال أن األؼلبٌة ٌبدو أنها لم تطمبن لهم‪ ،‬وال لتؽلؽل نفوذهم فً البلد‪ ،‬وظلت تعتبرهم‬
‫دخبلء أؼرابا‪ ،‬وتصفهم باألجانب‪ ،‬وصور الفنانون ذلك بصورة طرٌفة‪ ،‬ولكن حزٌنة‪.‬‬

‫ففً رسم كارٌكاتٌري صوَّ ر الفنان كتٌبة من الفبران تهاجم حصن القطط‪ ،‬فٌما ٌبدو أنه ٌعبر بالفبران‬
‫عن الدخبلء‪ ،‬وبالقطط عن المصرٌٌن‪ ،‬وكٌؾ انقلب الوضع فصار الدخبلء فً موضع القوة والهجوم بعد‬
‫أن اطمبنوا لؽفلة المصرٌٌن‪.‬‬

‫وفً رسم آخر صور الفنان فؤرا ؼنٌا‪ٌ ،‬جلس على كرسً ٌرتشؾ مشروبا بمصاصة طوٌلة‪ ،‬وتسرح‬
‫شعره قطة مصرٌة؛ ما ٌإشر لحٌاة الرؼد التً بدأ ٌحٌا فٌها األجانب بعد أن كانوا أسرى وخدما‪ ،‬حتى‬
‫صاروا هم األؼنٌاء والمصرٌون خدمهم‪ .‬وربما من مثل هذه االنقبلبات جاء المثل المصري الشهٌر "إن‬
‫ؼاب القط إلعب ٌا فار"‪.‬‬

‫وكرر ذلك فً رسم فؤرة تجلس على كرسً‪ ،‬فٌما تقدم قطة كؤس شراب إلٌها‪ ،‬وقطة تسرح شعرها‪ ،‬وقطة‬
‫تحمل ابن الفؤرة‪ ،‬وقطة تقدم لها الهداٌا‪ ،‬فً إشارة أٌضا النقبلب األوضاع بٌن المصرٌٌن (القطط) واألجانب‬
‫(الفبران)‪ ،‬وفً سخرٌة الذعة من الدخبلء رسم فؤرة تجلس على مقعد فخم‪ ،‬لكن بطرٌقة ؼٌر البقة‪ ،‬وقط‬
‫ٌقدم لها ؼصنا لتؤكله كما ٌقدمه لبقرة أو أي حٌوان‪ ،‬فً إشارة إلى أنه ٌعاملها على أنها مجرد حٌوانة مهما‬
‫عبل شؤنها فً ببلده(ٕٕٔ)‪.‬‬

‫وفً ذات الوقت وجه الفنان نقده الشدٌد ألبناء بلده الذٌن ساعدوا فً تمكن األجانب من البلد‪ ،‬وؼرقوا فً‬
‫الفساد‪ ،‬حتى أنه صورهم على شكل قطط تؤكل األوز المكلفة برعاٌتها وحماٌتها(ٖٕٔ)‪.‬‬

‫هذه الرسومات‪ -‬من أقدم الرسوم الكارٌكاتٌرٌة فً العالم‪ -‬أبدعها العاملون فً دٌر المدٌنة على قطع من‬

‫(ٕٕٔ)‬
‫‪ -‬للمزٌد من هذه الرسوم وشروحها انظر‪ :‬الفكاهة والكارٌكاتٌر فً الفن المصري القدٌم‪ ،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬مجلة "المجلة"‪ ،‬العدد رقم ‪،88‬‬
‫بتارٌخ ٔ‪ ،ٔ9ٙٗ -ٗ -‬القاهرة‪ ،‬ص ٖٗ‪ٕٗ -‬‬
‫(ٖٕٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪8‬‬

‫ٕٖٔ‬
‫الفخار "أوستراكا"‪ ،‬والبردي‪ ،‬وقلٌل منها على جدران المقابر‪ ،‬وموزعة حالٌا بٌن المتحؾ المصري‬
‫ومتاحؾ أخرى‪ ،‬ربما كانوا المتضاٌقٌن من اختراق األجانب للحرؾ المصرٌة فً دٌر المدٌنة وؼٌرها‪.‬‬

‫ؼفل الحراس عن الوصٌة والتارٌخ واألرض‪ ،‬فتحول القط لفؤر والفؤر لقط‪ ،‬والعبد لسٌد والسٌد لعبد‪ ،‬والحق باطل والباطل حق‪ ،‬وانقلب الزمان (نماذج‬
‫لرسوم الكارٌكاتٌر الواردة فً دراسة "الفكاهة والكارٌكاتٌر فً الفن المصري القدٌم" د‪ .‬عبد العزٌز صالح)‬

‫▼▼▼الجٌش المصري فً االحتالل الخاسوتٌمً (التصفٌة‪-‬جلب المرتزقة)‬

‫أما عن مصٌر الجٌش المصري وسط هذا العك‪ ،‬وكٌفٌة تفرٌؽه من الداخل‪ ،‬فٌمكن تشبٌه ما حدث‬
‫للمصرٌٌن بداخله بمثل ما ٌحدث عند تصفٌة الدقٌق من خروم صؽٌرة فً "شوال الدقٌق"‪ ،‬فٌتسرب منها‬
‫بشكل بطًء ؼٌر محسوس‪ ،‬ولكن مع الوقت ٌصبح الشوال فارؼا منها تماما‪.‬‬

‫فكما تبٌن أنه بداٌة من عصر األسرة ‪ ٔ9‬تم قبول إدخال األجانب إلى صفوؾ الجٌش المصري من‬
‫أسرى الحرب وأبناء الببلد المفتوحة وؼٌرهم‪ ،‬ووصلوا إلى رتب قٌادٌة‪ ،‬وال ٌُستبعد أن هإالء القادة‬
‫الدخبلء كانوا ٌسنون القوانٌن وٌصدرون القرارات التً تدٌر عملٌة إحبلل وتبدٌل مستمرة للضباط والجنود‬
‫المصرٌٌن‪ ،‬إلحبلل مقاتلٌن وافدٌن محلهم‪ ،‬حتى أصبح للوافدٌن بالجٌش نصٌبا موفورا‪.‬‬

‫واعتبر هنري برٌستٌد أن استعانة المصرٌٌن بؤجانب فً الجٌش من أكبر أسباب سقوط الدولة المصرٌة‬
‫بعد تمكنهم من مفاصلها واستقوابهم علٌها بؤقاربهم فً مواطنهم األصلٌة‪ ،‬ودفعت مصر بتهاونها هذا معهم‬
‫أفدح ثمن‪ ،‬فؤصبحت بتعبٌره "مؽنما للؽزاة األجانب ٌستؽلون أهلها‪ ،‬وٌنقلون القمح لٌطعموا به شعوب البحر‬
‫األبٌض المتوسط"(ٕٗٔ)‪ ،‬وظلت تتقلب كاألسٌرة الجرٌحة بٌن أقدام كافة مرتزقة األرض‪ ،‬كلما قامت وثارت‬
‫لتحرر نفسها وتطرد أعدابها ما تكاد تقؾ وتلمس قدماها األرض حتى تسقط من جدٌد‪ ..‬فعمودها الفقري‬
‫(الجٌش) مكسور‪ ،‬بل منزوع‪.‬‬

‫وحدث فً أواخر العصر‪ -‬بحسب عبد العزٌز صالح‪ -‬أن تكونت فً المجتمع طبقة من المحاربٌن أؼلب‬

‫(ٕٗٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬قصة الحضارة‪ ،‬هنري برٌستٌد‪ ،‬ترجمة أحمد فخري‪ ،‬المركز القومً للترجمة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪ٔٗ9 -ٔٗٙ‬‬

‫ٖٖٔ‬
‫أفرادها من المستوطنٌن األجانب‪ ،‬ذكرتهم المصادر اإلؼرٌقٌة باسم "ماخٌموي"‪ ،‬وأصبحت العسكرٌة معهم‬
‫ولدا عن والد‪ ،‬وٌحصلون عن طرٌقها على إقطاعٌات زراعٌة‬‫هدفا ٌرنو إلٌه أفراد األسر‪ ،‬وٌتوارثونها ً‬
‫صؽٌرة مناسبة‪ ،‬فظهرت بذلك طبقة متماسكة منطوٌة على نفسها من العسكرٌٌن األجانب‪ ،‬احتكروا‬
‫المناصب الحربٌة واألراضً‪.‬‬

‫وربما اتخذ مثل هذا التقلٌد سبٌله إلى صفوؾ رجال الدٌن وأسرهم أٌضً ا‪ ،‬ومن هنا تناقل المإرخون‬
‫اإلؼرٌق فكرتهم الخاطبة منذ القرن التاسع ق‪ .‬م عن قٌام الحٌاة االجتماعٌة فً مصر على أساس الطبقات‬
‫المهنٌة(ٕ٘ٔ) ‪ ،‬فٌما كان األمر دخٌبل على المصرٌٌن على ٌد هذه القباٌل األجنبٌة‪ ،‬ألنه فً أزمنة الحكم‬
‫المصري الخالص فإن رؼم توارث البعض حرفة آبابهم لكن هذه الحرؾ مفتوحة أمام الجمٌع لدخولها أٌضا‬
‫والترقً فٌها‪.‬‬

‫ومن أسباب ظهور الطبقات المهنٌة المنفصلة واإلقطاعات اختبلؾ هذه القباٌل عن بعضها‪ ،‬فكؤنها‬
‫قسمت المهن والمناصب واألراضً بٌن بعضها البعض لترضً أو تتقً شر بعضها البعض‪ ،‬إضافة ألنهم‬
‫كؤي احتبلل لمصر سعوا الحتكار كل شًء وترك القلٌل للمصرٌٌن لٌكونوا أصحاب التمٌز والهٌمنة‪.‬‬

‫وبذلك صار الجٌش فً مصر مصرٌا باالسم‪ ،‬ولكنه فً الحقٌقة جٌشا أجنبٌا مكونه األساسً من‬
‫الؽرباء‪ ،‬وسٌحوله أحفاد هإالء الؽرباء فً األسرة ‪ ٕٙ‬إلى جٌش مرتزقة من اإلؼرٌق والكارٌٌن والٌهود‬
‫وؼٌرهم‪ ،‬وذلك بعد فقد الثقة بٌن القباٌل وبعضها لكثرة صراعاتهم ضد بعضهم‪ ،‬فلجؤت تلك األسرة لزٌادة‬
‫المرتزقة لتفادي خطر انقبلب منافسٌها علٌها‪.‬‬

‫♦♦♦ السكان ومن هو المصري فً االحتالل الخاسوت ٌَمً‬

‫فً تقدٌر عالم اللؽة المصرٌة فٌتمان فإن أول حلقة فً لٌل االحتبلالت الطوٌلة المعبؤة برابحة الموت‪،‬‬
‫وهً حلقة االحتبلل الخاسوتٌمً‪ ،‬بدأت فعلٌا فً نهاٌة األسرة ٕٓ وأول األسرة ٕٔ‪ ،‬ولٌس بتولً شاشنق‬
‫الحكم فً األسرة ٕٕ كما ٌعتقد علماء آخرون‪ ،‬وأن األسرة ٕٓ ٌصعب أن ٌقال إنها مصرٌة‪.‬‬

‫أي ٌرى أن تولً األجانب حكم مصر بدأ باألسرة ٕٔ التً تزعمها سمندس مجهول األصل‪ ،‬وشاركه‬
‫فً الحكم فً الوجه القبلً كبٌر معبد آمون حرٌحور الذي قال فٌتمان إنه من أصول لٌبٌة‪ ،‬وٌضٌؾ‪" :‬علٌنا‬
‫أن نستنتج من ذلك أن اللٌبٌٌن كانوا قد ؼزوا الببلد فعبل فً ذلك الوقت ولٌس بعده‪ ،‬أي ]لٌس[ فً عهد‬
‫شاشنق األول مثبل‪ ،‬كما أ ُعتقد دابما حتى قبل وقت قصٌر‪ ،‬وذلك لوجود انفصام تام فً نواح عدٌدة فٌما بٌن‬
‫الفترة المتؤخرة لعصر الدولة الحدٌثة واألسرة ٕٔ‪ ،‬ولٌس فٌما بٌن األسرة ٕٔ وٕٕ فقط(‪.")ٕٔٙ‬‬

‫وعن نواحً االختبلؾ بٌن هوٌة وطبٌعة الحكم المصري والحكام المصرٌٌن الحقٌقٌٌن حتى األسرة ٕٓ‬
‫وما ظهر فجؤة من شكل للحكم بداٌة من األسرة ٕٔ‪ٌ ،‬قول فٌتمان نقبل عن أبحاث خاصة به ودراسات‬

‫(ٕ٘ٔ)‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ‪ٕٙ‬‬
‫(‪)ٕٔٙ‬‬
‫‪ -‬األجانب فً مصر فً األلفٌة األولى قبل المٌبلد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٖ‬

‫ٖٗٔ‬
‫لعلماء آخرٌن مثل أ‪.‬لٌهً‪ ،‬وٌوٌوت‪ ،‬وكارل ٌانسن‪ -‬فٌنكلن‪ ،‬إنها تتعلق بالعقٌدة الدٌنٌة‪ ،‬وطرق الدفن‪،‬‬
‫والجمع بٌن أكثر من وظٌفة هامة فً ٌد واحدة (مثل وظاٌؾ الجٌش والمعابد والحكم السٌاسً)‪ ،‬ظهور‬
‫تؽٌٌرات على اللؽة المصرٌة جعلتها أقل جماال وفصاحة‪ ،‬والرضا فجؤة بتقسٌم الببلد لعدة مقاطعات ٌحكمها‬
‫عدة ملوك ] بتقسٌم متعمد[ كؤنه نظام اختٌاري للحكم فً مخالفة صرٌحة لؤلٌدٌولوجٌة الملكٌة المصرٌة‬
‫التً لم تشهد هذا التعدد للحكام إال مرؼمة فً وقت فوضى واحتبلل‪ ،‬واستشهد أٌضا فٌتمان بتفرد كهنة‬
‫آمون بحكم الصعٌد مع مطلع األسرة ٕٔ فجؤة فً حٌن كانت سلطة الملك اسمٌة‪ ،‬وهذه أول مرة ٌقوم بها‬
‫رجال الدٌن بحكم الببلد وتنصٌب أنفسهم محل حاكم مصر بهذه الفجاجة‪.‬‬

‫وخلص إلى ما وصفها بالنتٌجة الثورٌة وهً أنه "لم ٌبدأ عصر اللٌبٌٌن بشوشنق األول‪ ،‬الملك األول‬
‫لؤلسرة ٕٕ"‪ ،‬وأن األرجح "لقد ح َّل اللٌبٌون محل حكم الرعامسة!(‪.)ٕٔ9‬‬

‫كما "رأى أن قباٌل شعوب البحر لم ٌتمصروا حقا‪ ،‬حتى وإن أظهروا التمصر فً الشكل واللؽة‪ ،‬واستدل‬
‫على ذلك بالتؽٌٌر الذي أدخلوه على العقابد الدٌنٌة‪ ،‬واحتفاظهم بؤسماء أجنبٌة وافدة مثل شاشنق والنمرود‬
‫وأوسركون‪ ،‬واحتفاظهم بتصوٌر أنفسهم والرٌشة على رأسهم‪ ،‬وهو الزي الممٌز للقباٌل التً تهاجم مصر‬
‫من الؽرب منذ أزمنة قدٌمة‪ ،‬واستحباب كبارهم‪ ،‬مثل شاشنق‪ ،‬بؤن ٌتسموا بلقب "زعٌم الما" ٌعنً "زعٌم‬
‫المشاوش"‪ ،‬وهو توجه قبلً عشابري دخٌل على مصر‪ ،‬فلم ٌكن لحاكم مصر لقبا ٌخص قبٌلة أو طابفة وال‬
‫عرق دخٌل‪ ،‬بل هو مصري وفقط‪.‬‬

‫بل وتجرأ أوسركون الثانً‪ ،‬من الملوك الخاسوتٌمٌٌن فً األسرة ٕٕ‪ ،‬وهو ٌناجً آمون بقوله‪]" :‬أنت‬
‫سوؾ[ ُتشكل نسلً‪ ،‬النطفة التً تخرج من أعضابً ]حكاما[ كبارا لمصر‪ ،‬وأمراء‪ ،‬وكهانا أ ُ َول آلمون رع‬
‫ملك اآللهة‪ ،‬وزعما ًء كباراً للما‪ ،‬و]زعما ُء كبارا[ لؤلجانب‪ ،‬وكهانا (لئلله) حارسافٌس"‪ ،‬أي حرص على أن‬
‫ٌدعو لزعماء الـ"ما"‪ ،‬أي قباٌل الماشوش لٌخرج منهم مزٌد من الزعماء؛ ما ٌدل على تمسكه بقبلٌته وأصله‬
‫األجنبً‪ ،‬واضعا إٌاهم فوق المصرٌٌن‪.‬‬

‫وعلى هذا ٌحسن فٌتمان الوصؾ حٌن ٌقول‪" :‬فقد تبنى اللٌبٌون ظاهرٌا األٌدٌولوجٌة الملكٌة الفرعوٌنة‪،‬‬
‫لكن إذا ما خدشنا السطح‪ ،‬إن جاز هذا التعبٌر‪ ،‬فإن تركٌبات السلطة ؼٌر المصرٌة تظهر تحته بوضوح‪،‬‬
‫ودالبل ذلك أن الطبقة الحاكمة نفسها لم تكن قد تمصَّرت كثٌرا"(‪.)ٕٔ8‬‬

‫وعلى هذا لم ٌبدو من "تمصرهم" الظاهري إال المبلبس المصرٌة (مع احتفاظهم بوضع رٌشة زعماء‬
‫قباٌلهم فوق رءوسهم) وبعض ألقاب الحكم‪ ،‬والسماح باستمرار الدٌن المصري فً المعابد‪ ،‬فٌما لم ٌستبعد‬
‫أنهم كانوا ٌمارسون دٌنهم الخاص "فً الخفاء"‪ ،‬وٌتحدثون مع بعضهم بلؽتهم "شفوٌا"‪ ،‬وٌستخدمون اللؽة‬
‫المصرٌة فقط فً الكتابة(‪ ،)ٕٔ9‬مع المٌل لتبسٌطها بما أخ َّل بها‪.‬‬

‫(‪)ٕٔ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٗٓ -ٖ9‬‬
‫(‪)ٕٔ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٖ9 -ٖٙ‬‬
‫(‪)ٕٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕٗ -ٖ8‬‬

‫ٖ٘ٔ‬
‫وتحصن ؼزاة الداخل فً الوجه البحري؛ ربما لقربه من الحدود الؽربٌة ومن بقً منهم خلفها لسهولة‬
‫التواصل؛ واتخذوا تانٌس (صان الحجر بمحافظة الشرقٌة) عاصمة‪ ،‬فٌما ق َّل عددهم بالوجه القبلً(ٖٓٔ)‪.‬‬

‫أما أخطر األمور‪ ،‬فهو خطة الدخبلء لتفرٌػ الجٌش من ضباطه وجنوده المصرٌٌن‪ ،‬والتوسع فً‬
‫السٌطرة على المعابد‪ ،‬إضافة لبلستٌبلء على األراضً الزراعٌة التً قسموها بٌن قباٌلهم على شكل‬
‫إقطاعٌات‪ ،‬فٌما تؤججت الصراعات القبلٌة بٌن المستوطنٌن‪ ،‬واكتوى بنٌرانها المصرٌون‪ ،‬خاصة وأن‬
‫معاركهم تجري فً القرى والمدن كما سنرى‪.‬‬

‫وبزواج سمندس من ابنة رمسٌس ٔٔ أخذ صك "الشرعٌة" الشكلٌة الذي منحه لقب ملك مصر فً‬
‫ظرؾ ؼامض‪ ،‬وبدأ عصر ما عرفت باسم األسرة ٕٔ‪.‬‬

‫وبذلك‪ ،‬كانت الست المصرٌة‪-‬بدون قصد‪ -‬حٌن قبلت الزواج بهذا الشخص بوابة من بوابات احتبلل ببلدها‪،‬‬
‫بعد أن ظلت فً العصور السابقة حصنا حصٌنا لحماٌتها‪ ،‬بداٌة من إٌسة وتتً شٌري وإٌاح حتب وؼٌرهن‪،‬‬
‫فؤحسن األؼراب استؽبلل ثؽرة فً قوانٌن الحكم المصرٌة بجواز اعتبلء العرش لزوج ابنة الحاكم‪ ،‬وبالتؤكٌد حٌن‬
‫وضع األجداد هذه المادة لم ٌدر بخلدهم أن ابنة الحاكم ٌمكن أن ٌتزوجها أجنبً‪ ،‬ولو كان مستوطنا مستمصرا‪،‬‬
‫ورأٌنا كٌؾ رفض أمنحوتب الثالث تزوٌج ابنته لملك بابل حتى ال ٌخالؾ فً هذا أصول الماعت‪.‬‬

‫وظل سمندس فً الوجه البحري على مهادنته لؽرٌمه حرٌحور المسٌطر على مقالٌد األمور فً واسط‬
‫(طٌبة)‪ ،‬ووثق هذه المهادنة بالمصاهرة‪ ،‬وصارت مصر وكؤنها دولة ذات عاصمتٌن‪ ،‬واستمرت هذه‬
‫األسرة من ٖٓٔ‪ ٔٗٓ-‬سنة‪ ،‬تتنقل ما بٌن حكام مجهولً األصل‪ ،‬سعوا للتؽلب على الناس بتخدٌرهم باسم‬
‫الدٌن‪ ،‬خاصة وأن حرٌحور جمع بٌن منصب الحاكم وكبٌر رجال الدٌن فً معبد آمون‪.‬‬

‫وفً نفس الوقت استمرت الفتن‪ ،‬فعصر األسرة ٕٔ "لم ٌخ ُل من خصومات بٌن حكامها‪ ،‬وانقسامات‬
‫طابفٌة‪ ،‬ومإامرات المستوطنٌن فً أماكن قرب الحدود الؽربٌة‪ ،‬وهذه سوؾ تصبح فٌما بعد شر البلٌة(ٖٔٔ)‪.‬‬

‫والبلفت أنه رؼم الضعؾ الشدٌد الذي أصٌبت به مصر وقتها إال أن المصرٌٌن ظلوا فً قدرتهم على‬
‫اإلنتاج واإلبهار‪ -‬وإن كانت نفوسهم مكسورة‪ -‬واستدل عبد العزٌز صالح على هذا بؤن النبً سلٌمان طلب‬
‫معونة مصر فً معاركه مع منافسٌه فً كنعان‪ ،‬وفق ما ذكرته التوراة‪ ،‬ولكن ال ٌوجد مصدر ؼٌرها حول‬
‫هذا األمر‪ ،‬وهذا ٌعنً أن مصر حتى فً عهود ضعفها كانت أقوى مرات من ملك سلٌمان الذي تحدثت به‬
‫األمثال(ٕٖٔ) ‪ ،‬وأن القوة التً وضعها هللا فً سواعد وقلب وعقل أبناء مصر أقوى وأبقى مما شٌده عفارٌت‬
‫الجن الذٌن استعان بهم سلٌمان فً بناء ملكه‪ ،‬والدلٌل زوال كل آثار ملك سلٌمان فٌما بقٌت آثار المصرٌٌن‬
‫شامخة رؼم كل ما تعرضت له من فوضى وخراب واحتبلالت همجٌة‪.‬‬

‫(ٖٓٔ)‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‪ ،‬ص ٓٗ‬
‫(ٖٔٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬مكتبة األنجلو‪ ،‬طٕ‪ ،ٔ99ٖ ،‬ص ‪ٕٗ9‬‬
‫(ٕٖٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕٗ8‬‬

‫‪ٖٔٙ‬‬
‫فكلمة أن "المصري معجزة فً حد ذاته"‪ ،‬أو بالتعبٌر الشاٌع أن "المصري أقوى من العفرٌت"‪ ..‬لٌس‬
‫فٌها أي مبالؽة‪ ..‬ولكن إن وعى لقٌمة نفسه والطاقة التً بداخله وبنعمة بلده‪.‬‬

‫أٌـن ومـن وكٌـــــؾ إذن ؟!‬ ‫وكل ُ تساءل فى لهفـة‬

‫أدورة أرض بؽٌر فضاء؟!‬ ‫أمعجزة ما لها أنبٌــاء‬

‫ٌرؾ علٌها حنان اإللــــه‬ ‫تلمح بٌن الجموع وجوهًا‬

‫وفٌها التقاة ؛ وفٌها الهداه‬ ‫ففٌها المفكر والعبقرى‬

‫وال أرتضى بالخلود بدٌال(ٖٖٔ)‬ ‫أنا الشعب ال أعرؾ المستحٌال‬

‫وإن كانت األسرة ٕٔ اختلؾ علماء حول أصلها‪ ،‬وما إن كانت مصرٌة أم من االستٌطان االحتبللً‪ ،‬إال‬
‫أن األسرة ٕٕ متفق بٌنهم على أن مإسسها هو شاشنق‪ ،‬أحد أفراد القباٌل األجنبٌة‪ ،‬وٌإرخون به لبداٌة ما‬
‫ٌسمونه بـ"العصر المتؤخر"‪ ،‬وكما تزوج سمندس من ابنة رمسٌس ٔٔ لٌؤخذ شرعٌة لبلحتبلل "بالقانون"‪،‬‬
‫صاهر شاشنق ابنة آخر حكام األسرة ٕٔ لٌؤخذ ذات "الشرعٌة"‪.‬‬

‫ولوصول شاشنق ابن المشاوش إلى هذه المكانة الرفٌعة وقدرته على احتبلل مصر من الداخل قصة‬
‫تروٌها اآلثار‪ ،‬وتقدمها كنموذج للفرق بٌن قصر نظر المصرٌٌن الذٌن ٌنظرون تحت أقدامهم‪ ،‬وبٌن طول‬
‫نظر األجانب الذٌن ٌضعون خطط للتمكٌن ٌصبرون على تحقٌقها ولو بعد ٕٓٓ سنة‪.‬‬

‫فالبنسبة لقبٌلة المشاوش استوطن كبٌرها "بٌواوا" فً أهناسٌا ببنً سوٌؾ‪ ،‬وتسرب أوالده وأحفاده‬
‫للعمل فً معبد "حرٌشؾ"‪ ،‬وفً نهاٌة األسرة ٕٔ‪ ،‬أي بعد عشرات السنٌن‪ ،‬صار شاشنق كبٌر القبٌلة‪،‬‬
‫وظهر النفوذ الذي بلؽوه فً أن والده نمرود صار له قبر فً أبٌدوس (مقر أوزٌر)‪ ،‬وهً أقدس األماكن‬
‫عند المصرٌٌن‪ ،‬ومكان الحج‪ ،‬وحصل اعتداء على القبر‪ ،‬فشكا شاشنق إلى حاكم تانٌس الذي أرضاه بؤن‬
‫أذن له بوضع تمثال لوالده فً معبد أوزٌر نفسه‪ ،‬وبلػ من ثرابه أن أوقؾ على مقصورة تمثال والده ٓٓٔ‬
‫أرورة زراعٌة وحدٌقة كبٌرة‪ ،‬وعٌَّن لها ٕ٘ من األرقاء لحراستها(ٖٗٔ)‪ ،‬هذا الذي دخلت عابلته لمصر‬
‫كسٌرة ال تملك سوى ما على جسدها‪.‬‬

‫ومن النفوذ الدٌنً واالقتصادي طمع فً قنص النفوذ السٌاسً‪ ،‬فصاهر أسرة بسوسٌنس‪ ،‬آخر حكام‬
‫األسرة ٕٔ‪ ،‬وكفل لنفسه ولولده "أوسركون" وراثة عرش لم ٌكن ٌحلم به‪ -‬بتعبٌر صالح‪ -‬عرش مصر‪،‬‬
‫وجعل عاصمته فً بوباسطة شرق الدلتا(ٖ٘ٔ)‪ ،‬وظل محتفظا بلقبه فً النصوص المصرٌة‪ ،‬ربٌس "ما‬
‫الكبٌر" أي ربٌس المشاوش‪ ،‬ومع ذلك ادعت نصوص بعض خلفابه قرابتهم للرعامسة‪ ،‬وتلقب أؼلبهم‬

‫(ٖٖٔ)‬
‫‪ -‬قصٌدة "على باب مصر"‪ ،‬كلمات كامل الشناوي‪ ،‬ألحان محمد عبد الوهاب‪ ،‬ؼناء أم كلثوم‬
‫(ٖٗٔ)‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬ص ٔ‪ٕٙ‬‬
‫(ٖ٘ٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬

‫‪ٖٔ7‬‬
‫بؤلقاب الرعامسة‪ ،‬مثل وسر ماعت رع‪ ،‬وستبن رع‪ ،‬وستبن آمون‪ ،‬ربما للحد من كراهٌة المصرٌٌن لهم‪.‬‬

‫وأصبحت أهناسٌا التً استوطنها أجداده إقطاعا لفرع من أسرته احتكرت أمورها واتسعت بحدودها‪،‬‬
‫وتردد الوجه القبلً فً التسلٌم بسلطان الحاكم الجدٌد مدة طوٌلة‪ ،‬ثم سلم باألمر الواقع(‪ ،)ٖٔٙ‬ودأبت حولٌات‬
‫معابد طٌبة على اإلشارة إلى شاشنق باسم "كبٌر زعماء المشاوش" إبرازا لرفضها االعتراؾ بسلطانه(‪.)ٖٔ9‬‬

‫وشبههم صالح بممالٌك العصور الوسطى‪ ،‬لٌس فقط فٌما ٌخص أصولهم األجنبٌة‪ ،‬ولكن فً تفرق‬
‫كلمتهم وتشتتهم وصراعهم الدامً الدابم على السلطة خبلل األسرات ٕٕ و ٖٕ وٕٗ(‪.)ٖٔ8‬‬

‫وٌتفق كل من جرٌمال وجاردنر وإد‪.‬ماٌر فً أن األسرة ‪ ٕ٘٘ -ٙ9ٕ( ٕٙ‬ق‪ .‬م) التً أسسها بسماتٌك بعد‬
‫انتهاء االحتبلل األشوري هً أٌضا أسرة أجنبٌة‪ ،‬وامتداد للحكام األجانب من األسرتٌن الـ ٖٕ وٕٗ‬
‫(‪)ٖٔ9‬‬
‫تسع إلعادة المصرٌٌن إلى حكم الببلد والجٌش؛ ولذا وجب إعادة النظر فً وصؾ‬ ‫األجنبٌتٌن ‪ ،‬ولم َ‬
‫البعض لها بؤنها "مصرٌة"‪.‬‬

‫▼▼▼ نتابج االستٌطان واالحتالل الخاسوتٌمً‬

‫❶ ‪ -‬السقوط فً االحتالالت األلفٌة‬

‫بقفز الخاسوتٌمٌٌن على عرش حور دخلت مصر فً كهؾ االحتبلالت األلفٌة‪ ،‬أي هذه االحتبلالت التً‬
‫دامت ٖ آالؾ سنة حتى التحرٌر فً سنة ٕ٘‪ ،ٔ9‬بل ومنها ما وصل وحده إلى نحو ٓٓٓٔ سنة هو‬
‫االحتبلل األوروبً (الٌونانً‪ -‬الرومانً)‪ ،‬وهً مُدد لم تشهدها مصر فً تارٌخها المدٌد من قبل‪ ،‬فؤطول‬
‫احتبلل سجله الت ارٌخ من قبل هو االحتبلل الهكسوسً‪ ،‬واستمر وفق ما ٌُفهم من بردٌة تورٌن ‪ ٔٓ8‬سنة‪،‬‬
‫وفرض نفسه على مناطق من مصر ولٌس كلها‪ ،‬أما االحتبلل الخاسوتٌمً فهو أول احتبلل لمصر بؤكملها‪.‬‬

‫❷‪ -‬احتكار األجانب للمناصب والثروة‬

‫وابتدع المحتلون الخاسوتٌون نظام حكم جدٌد على المصرٌٌن‪ٌ ،‬ضمن حصر الوظاٌؾ الكبرى فً‬
‫السٌاسة والدٌن والجٌش واالقتصاد بٌدهم‪ ،‬وإبعاد المصرٌٌن‪.‬‬

‫فرسموا سٌاسة بعٌدة المدى إزاء واسط (طٌبة) صاحبة المجد الفرٌد‪ ،‬ال سٌما بعد أن اصطدموا بها فً‬
‫بداٌة عصرهم‪ ،‬فعمل أؼلبهم على أن ٌعٌن أحد أوالده كبٌرً ا لكهنة معبد آمون لٌكفل ألسرته السلطة‬
‫السٌاسٌة والسلطة الروحٌة معً ا‪ ،‬ولٌكون له نصٌب األسد من ثروات معابد آمون الطابلة؛ وذلك إلى جانب‬

‫(‪)ٖٔٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫(‪)ٖٔ9‬‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬جرٌمال‪ ،‬ص ‪ٗٔ9‬‬
‫(‪)ٖٔ8‬‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬طبعة عام ٖ‪ ،ٔ99‬ص ٔ‪ٕٕٙ -ٕٙ‬‬
‫(‪)ٖٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر الفراعنة‪ ،‬آالن جاردنر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ ،ٖ88‬و مقدمة أحمد بدوي لكتاب "هٌردوت ٌتحدث عن مصر"‪ ،‬ترجمة محمد صقر‬
‫خفاجة‪ ،‬المركز القومً للترجمة‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٓٓ9 ،‬ص ٖٗ‪ ،ٗ٘ -‬وأورد بدوي آراء ‪ 9‬علماء ٌقولون إنها أسرة لٌبٌة‪ ،‬وٗ ٌقولون إنها أثٌوبٌة‬
‫(كوشٌة؟)‪ ،‬وٗ ٌقولون إنها مصرٌة‪.‬‬

‫‪ٖٔ8‬‬
‫أخذ نصٌب من السلطة الحربٌة أٌضا بؤن ٌؤخذ لقب قابد الجٌش(ٓٗٔ)‪.‬‬

‫وتسلحوا بسبلح المصاهرة‪ ،‬فتزوجوا من أمراء وكبار القباٌل‪ ،‬وربما قلٌل من المصرٌٌن األؼنٌاء‬
‫الراضٌن بهم‪ ،‬فكونوا طبقة منعزلة‪ ،‬تحتكر الثروة والسلطة بما فٌها الجٌش والمعبد(ٔٗٔ)‪ ،‬وتراكمت حقوق‬
‫االنتفاع حتى بٌن أٌدي نساء القبٌلة‪ ،‬إضافة إلى ما ٌمتلكه ذووهم‪ ،‬حتى قارب إجمالً ما ٌمتلكونه ثلث‬
‫أراضً مصر العلٌا(ٕٗٔ)‪.‬‬

‫❸‪ -‬بداٌة مشروع "تدوٌل مصر"‬

‫هذه الكلمة "تدوٌل مصر"‪ -‬ال قدر هللا‪ -‬ستصحبنا بداٌة من هذه الصفحة فً الكبلم عن دور كل احتبلل‬
‫تقرٌبا لتحقٌقها‪ ،‬بل وستتواصل بعد التحرٌر حتى سنة وضع هذا الكتاب ‪ ٕٓٔ9‬التً تشهد أعلى وأسخن‬
‫مرحلة من مراحل مساعً الهكسوس للتدوٌل حتى الٌوم‪.‬‬

‫فالمرتزقة متعددي األجناس‪ ،‬االستثمارات األجنبٌة‪ ،‬الربا‪ ،‬الوكاالت التجارٌة الدولٌة‪ ،‬االستٌطان‬
‫اإلؼرٌقً والٌهودي والكاري ومن كل جنس‪ ،‬تعدد الثقافات واللؽات الدخٌلة‪ ،‬نزح ثروة مصر للخارج‪،‬‬
‫عناوٌن ممٌزة لؤلسرة الـ ‪ ٕٙ‬وما بعدها‪ ،‬وبها دخلت مصر بما ٌمكن تسمٌته بلؽة الٌوم عصر "العولمة"‪،‬‬
‫و"التدوٌل"‪ ،‬فقادتها فً الحكم‪ ،‬والقادة والضباط فً الجٌش‪ ،‬وكبار كهنة معابدها المتحكمٌن فً دٌنها‪ ،‬ومن‬
‫ٌملكون اقتصادها هم "من كل األجناس"‪ ،‬وأقل جنس له نصٌب فً كل هذا هو المصرٌون أنفسهم‪ ،‬وأحٌانا‬
‫ال ٌُترك لهم نصٌب إطبلقا‪.‬‬

‫وعن انتشار تجارة المرتزقة متعددي الجنسٌات وتؤثٌرها على األحداث فً مصر ٌقول جرٌمال إنه‬
‫أضٌؾ إلى "اللٌبٌٌن والنوبٌٌن ]الكوشٌٌن؟[ فً الجٌش اإلؼرٌق والكارٌٌن الذٌن أخذوا ٌعرضون مهاراتهم‬
‫العسكرٌة فً سوق الشرق األدنى الذي تمزقه الحروب الداخلٌة‪ ،‬وٌزخر بالفرص التً ال تعوض‪ ،‬وبكل من‬
‫قذفت بهم الف توحات اآلشورٌة إلى عرض الطرٌق من فٌنقٌٌن وسورٌٌن‪ ،‬بل والٌهود الذٌن أسسوا فً إلفنتٌن‬
‫]أسوان[ مستعمرة ذات شؤن‪ ،‬ولكن ضباط "الما" ]المشاوش[ المحٌطٌن بالملك ظلوا ٌحتلون المناصب‬
‫القٌادٌة"‪.‬‬

‫وأنه "باالعتماد على هذه القوات الجدٌدة أمكن إزاحة القوات القدٌمة ذات األصول اللٌبٌة ]الخاسوتٌَّمٌة[‬
‫التً ال ه َّم لها سوى اقتسام السلطة‪ ،‬كما استطاع بسماتٌك أن ٌحط من شؤن دوابر الشمال اللٌبٌة بفتحه الباب‬
‫أمام إنشاء مستعمرات لئلؼرٌق والكارٌٌن الذٌن كانوا خٌر معٌن له فً بسط نفوذه على مصر (‪ )...‬ووصل‬
‫التجار اإلؼرٌق لبلستٌطان فً مصر فً ذٌل المرتزقة من أبناء جلدتهم(ٖٗٔ)" وفق تعبٌره الدقٌق‪.‬‬

‫واستعان بسماتٌك أٌضا بمرتزقة كارٌٌن من لٌدٌا الواقعة فً تركٌا حالٌا (ببلد الحٌثٌٌن سابقا)‪ ،‬بعد أن‬

‫(ٓٗٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔ‪ٕٕٙ -ٕٙ‬‬
‫(ٔٗٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‬
‫(ٕٗٔ)‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬جرٌمال‪ ،‬ص ‪ٗٓ9‬‬
‫(ٖٗٔ)‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬جرٌمال‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٗ٘9 -ٗ٘8‬‬

‫‪ٖٔ9‬‬
‫عقد تحالفا مع ملكها جٌجس‪ ،‬وللكارٌٌن وقتها أهمٌة كبٌرة مثل اإلؼرٌق فً مهنتً التجارة والمرتزقة‪ ،‬حتى‬
‫أن الشعراء الٌونانٌٌن استخدموا كلمة "كاري" كمرادؾ لكلمة جندي مرتزق‪ ،‬بحسب جونتر فٌتمان‪.‬‬

‫وبقً الكارٌون‪ -‬مثلهم مثل الٌونانٌٌن والٌهود والفٌنٌقٌٌن‪ -‬حتى االحتبلل الرومانً‪ ،‬أي مبات السنٌن‪،‬‬
‫ورؼم ذلك لم ٌتمصروا إال فً عادات دٌنٌة شكلٌة‪ ،‬وظلوا محتفظٌن بلؽاتهم وعاداتهم ومبلبسهم‪ ،‬وتكتل كل‬
‫جنس فً مستوطنات ظهرت كبقع حمراء دموٌة وتقٌحات فوق الجسد المصري الصافً؛ وهو ما ٌدل على‬
‫االنفصال التام بٌن هإالء المستوطنٌن وبٌن المصرٌٌن طوال مبات السنٌن‪ ،‬وأن العبلقة بٌنهم كانت كـ‬
‫"المٌة والزٌت"‪ ،‬إال فً حاالت اختبلط قلٌلة فً التجارة أو لتجاور المساكن أحٌانا(ٗٗٔ)‪.‬‬

‫وهكذا صارت مصر‪ -‬ألول مرة‪" -‬ملقؾ" للمرتزقة والعصابات اإلجرامٌة والتجار الطامعٌن من كل‬
‫جنس فً استؽبلل هذه األوضاع الكتساب الثروة السهلة والتمتع بإحساس التسٌد على أهل البلد‪ ،‬ونزح ما‬
‫تبقى من ثرواتها التً باتت تخرج إلى خارج حدودها باسم االستثمار األجنبً‪ -‬على ٌد هإالء التجار‪-‬‬
‫وألول مرة أٌضا‪ ،‬واستمر هذا حتى قٌام ثورة ٕ٘‪ ..ٔ9‬ومإقتا‪.‬‬

‫ومن ٌطل على هذا من شرفة التارٌخ اآلن ٌقفز إلى عقله فورا بٌت الشعر البدٌع(٘ٗٔ)‪:‬‬

‫جنس‬
‫ِ‬ ‫حالل للطٌر من كل‬ ‫أحرام على بالبله الدوح‬

‫خبٌث من المذاهب رجس‬ ‫كل دار أحق باألهل إال فً‬

‫♦♦♦ أصل كلمة عسكر‬

‫ٌعتقد الدكتور عبد الجواد مجاهد‪ ،‬أستاذ التارٌخ واللؽة الدٌموطٌقٌة بجامعة بنً سوٌؾ‪ ،‬خبلل ترجمته‬
‫لكتاب فٌتمان "األجانب فً مصر فً األلفٌة األولى قبل المٌبلد"‪ ،‬وتعلٌقا على ربط اإلؼرٌق كلمة "كاري"‬
‫بكلمة المرتزق‪ ،‬أن كلمة "عسكر" أٌضا مرتبطة بكلمة "كاري"‪ ،‬وٌستند فً تحلٌله اللؽوي إلى أن "عسكر"‬
‫كلمة دخٌلة على اللؽة العربٌة واللؽات السامٌة عموما‪ ،‬و ترجع إلى كلمة "أرسكر" أو "أرسكور"‪ ،‬أحد‬
‫األسماء الكارٌة‪ ،‬خاصة مع شٌوع كلمة كاري كمرادؾ للجندي المرتزق فً الزمن القدٌم‪ ،‬وهً الكلمة التً‬
‫رجح كذلك أنه جاء منها اسم فارسكور فً دمٌاط‪ ،‬خاصة وأن هذه المنطقة أشار هٌرودوت إلى أن بسماتٌك‬
‫أقام مستوطنة للكارٌٌن فٌها(‪.)ٔٗٙ‬‬

‫وربما ورثت القباٌ ل التركٌة منهم كلمة "عسكر"‪ ،‬خاصة أن حرفة المرتزقة هً مهنتها أٌضا منذ كانت فً‬
‫بطون جبال وسط آسٌا وحتى ؼزوها األناضول "تركٌا حالٌا"‪ -‬نفس موطن الكارٌٌن‪ -‬وظلت كلمة عسكر ملتصقة‬
‫بالمرتزقة الترك ثم جٌشهم العثمانلً الذي ٌطلق على نفسه كلمة "عسكر" حرفٌا حتى الٌوم‪ ،‬فٌما استخدمت اللؽة‬

‫(ٗٗٔ)‬
‫‪ -‬مزٌد عن صنوؾ المستوطنات األجنبٌة فً مصر فً ذلك العصر انظر‪ :‬األجانب فً مصر فً األلفٌة األولى قبل المٌبلد‪ ،‬جونتر فٌتمان‪ ،‬مرجع‬
‫مرجع سابق‬
‫(٘ٗٔ)‬
‫‪ -‬قصٌدة ؼربة وحنٌن "السٌنٌة"‪ ،‬للشاعر أحمد شوقً‬
‫(‪)ٔٗٙ‬‬
‫‪ -‬انظر تعلٌق عبد الجواد مجاهد فً هوامش "األجانب فً مصر فً األلفٌة األولى قبل المٌبلد"‪ ،‬ص ٕٓٔ‬

‫ٓٗٔ‬
‫العربٌة كلمة "الجند"‪ ،‬و"األجناد" ‪ ،‬أما الكلمة المصرٌة القدٌمة للجٌش فهً "مشع"(‪ ،)ٔٗ9‬وعلى هذا ٌصح حذؾ‬
‫كلمة "عسكر وعسكرٌة" من قاموس الجٌش المصري ألنها ال تلٌق به‪ ،‬وأن ٌعتمد كلمة تلٌق‪.‬‬

‫❹‪ -‬ظهور الوكاالت األجنبٌة "الشركات متعددة الجنسٌات"‬

‫وإن كان االستٌطان اإلؼرٌقً أصبح ظاهرة فً األسرة ‪ ٕٙ‬بالمرتزقة‪ ،‬إال أنه كان له بذرة مُرَّ ة هً التً‬
‫فتحت باب مصر للمرتزقة‪ ،‬وهً أن اإلؼرٌق‪ ،‬وخاصة من أهل "مبلطٌة" انتشروا فً الدلتا من أٌام القرن الثامن‬
‫ق‪ .‬م‪ ،‬أي قبل األسرة ‪ ٕٙ‬بقلٌل‪ ،‬حٌن أخذوا ٌمدون أنوفهم إلى مصر للؽرؾ من خٌراتها الوفٌرة خبلل الهجرات‬
‫اإلؼرٌقٌة التً وزعت نفسها على ببلد حوض البحر المتوسط‪ ،‬ونزلوا على المدن الواقعة على ساحل البحر قرب‬
‫أبو قٌر‪ ،‬وتمددوا بالتجارة إلى ساٌس فً محافظة الؽربٌة حتى اتخذوا فٌها سوقا(‪ )ٔٗ8‬أؼروا فٌه بعض أهل الؽنى‬
‫ببضاٌعهم الؽرٌبة وأسالٌبهم فً جنً الربح السرٌع‪ ،‬ومن السلع التً روجوا لها فٌما ٌبدو المرتزقة من قومهم؛‬
‫كما كان َّ‬
‫الجبلبون ٌجلبون الممالٌك فً عصور الحقة‪ ،‬مع ما لهذا من أهمٌة فً إشعار هإالء المهاجرٌن بالقوة‬
‫حٌن ٌصبح قومهم أصحاب السبلح فً مصر‪.‬‬

‫وٌبدو أن التجار اإلؼرٌق وقتها لم ٌلفتوا النظر لخطرهم بقلة عددهم ولرضاهم بالقلٌل‪ ،‬فؤخذوا فرصة االنتشار‬
‫حتى اؼتنوا بالكثٌر وتبادلوا المنافع مع الحكام‪ ،‬وتسلموا مقالٌد الحرب واالقتصاد‪ ،‬بتعبٌر عبد العزٌز صالح(‪،)ٔٗ9‬‬
‫وشجع التجار من كل األجناس فً مصر شراهة االستهبلك لسلع ؼٌر ضرورٌة ٌستوردها محتلوها فً مقابل‬
‫تصدٌر السلع الحٌوٌة للشعب‪ ،‬وأسسوا وكاالت أجنبٌة إلدارة التجارة عبر المدن والموانً الساحلٌة‪ ،‬وهً الشكل‬
‫األول لما ٌُعرؾ حالٌا باسم الشركات المتعددة الجنسٌات‪ ،‬والمناطق التجارٌة والصناعٌة األجنبٌة‪.‬‬

‫وبحسب جرٌمال‪ ،‬قامت العبلقات الدبلوماسٌة بٌن مصر والٌونان‪ -‬عبر المرتزقة والتجار اإلؼرٌق‪-‬‬
‫على أسس اقتصادٌة راسخة‪ ،‬فصدرت مصر الؽبلل وورق البردي وأدخلت إلٌها الٌونان أولى الوكاالت‬
‫التجارٌة الدولٌة مع قدوم الملٌتٌٌن الذٌن استقروا عند مصب الفرع البولبٌتً للنٌل(ٓ٘ٔ)‪.‬‬

‫وحٌن تنؽرس أقدام هذا النوع من الشركات والتجارة فً بلد فإن المال هو سٌدها ومحركها‪ ،‬ال ٌهمها ما‬
‫تحتاجه حقا البلد من سلع‪ ،‬وال ٌوجد عندها قٌمة اسمها "الصالح العام"‪ ،‬أو "صالح الشعب"‪ ،‬التً ال تهتم بها‬
‫إال الحكومات الوطنٌة؛ ولذا ففً ذلك الزمن كانت المرة األولى التً ٌتم فٌها تصدٌر البردي بكثافة رؼم أنه‬
‫سلعة اس تراتٌجٌة فً مصر‪ ،‬وهً الوحٌدة التً تنتجه فً العالم؛ ما أدى إلى ارتفاع أسعاره‪ ،‬وصعوبة‬
‫وصوله إلى أٌدي المصرٌٌن‪ ،‬وهذا بعد أن تم تصدٌر القمح بكثافة إلى الٌونان الستٌراد كمٌات ضخمة من‬
‫الفضة وتحوٌلها لعملة‪.‬‬

‫‪Alan Gardiner, Egyptian grammar, ٖ edition, Griffith institute Ashmolean museum, Oxford, ٕٓ9 -‬‬
‫(‪)ٔٗ9‬‬

‫(‪)ٔٗ8‬‬
‫‪ -‬انظر مقدمة أحمد بدوي لكتاب "هٌردوت ٌتحدث عن مصر"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬هامش ص ٕٗ‬
‫(‪)ٔٗ9‬‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔ‪ٕ8‬‬
‫(ٓ٘ٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬جرٌمال‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٗ٘9‬‬
‫*** هذه الوكاالت ستستمر فً التحكم فً الصادر والوارد فً السوق ا لمصري وملك للمحتلٌن حتى تتمصر ألول مرة فً التارٌخ سنة ‪ ٔ9٘7‬بقرار‬
‫من ثورة ٖٕ ٌولٌو بعد ثبوت إضرارها باالقتصاد المصري واحترافها تهرٌب األموال كما سنرى فً الجزء الثانً‪.‬‬

‫ٔٗٔ‬
‫فاالستعانة بالمرتزقة بهذه األعداد تحمٌل شدٌد على المٌزانٌة وعلى الشعب المصري‪ ،‬ألن أجورهم‬
‫باهظة‪ ،‬ونظام العملة انتشر فً العالم‪ ،‬والمرتزقة ٌؤخذون مرتباتهم بالعملة‪ ،‬فص َّدرت الحكومة القمح إلى‬
‫الٌونان لتؤخذ محله الفضة وتقدمها عملة للمرتزقة(ٔ٘ٔ)‪ ،‬وهكذا انتفعت الٌونان بؤن تخلصت من المشاؼبٌن‬
‫والمتصارعٌن فٌها باستٌطانهم فً مصر‪ ،‬وبإرسال آخرٌن كمرتزقة‪ ،‬وبالحصول على القمح المصري‬
‫مقابل تصدٌر الفضة لتتحول إلى عملة ٌقبضها المرتزقة الٌونان فً مصر‪ ...‬داٌرة مؽلقة المنافع للٌونان‪.‬‬

‫رؼم ذلك فضَّل بسماتٌك واألسرة الصاوٌة عموما (نسبة إلى اتخاذها مدٌنة صا الحجر "ساٌس" عاصمة‬
‫لها) االستعانة بهإالء المرتزقة عن أن ٌستعٌنوا بالمصرٌٌن؛ خوفا من أن ٌطردوهم فً ٌوم من األٌام نظرا‬
‫ألصولهم األجنبٌة التً ظلوا ٌرعونها‪ ،‬وظل المصرٌون ٌذكرونها لهم‪.‬‬

‫وكما أقام الجنود المرتزقة فً دمٌاط وفً منؾ‪ ،‬خصص حكام مصر مدٌنة نقراطٌس (نقراش حالٌا‬
‫بالبحٌرة) شمال ؼرب الدلتا مركزا إلقامة التجار اإلؼرٌق‪ ،‬أي صار فً مصر مستوطنات تجارٌة مؽلقة‬
‫على المستوطنٌن األجانب‪ ،‬بعدما صار فٌها مستوطنات للمقاتلٌن المرتزقة‪.‬‬

‫❺‪ -‬انتشار الربا فً مصر ألول مرة‬

‫وإلى جانب هذا النوع الجدٌد من التجارة‪ ،‬أدخل المستوطنون األجانب إلى مصر‪ ،‬ألول مرة‪ ،‬نظام الربا‪ ،‬بما‬
‫ٌعكسه من معانً انعدام الرحمة والتكافل بٌن الناس‪ ،‬وبما فٌه من دوامة استنزاؾ تعصر الناس عصرا‪.‬‬

‫وبدا أن الربا وصل لمصر مع ما وصلها من استٌطان إؼرٌقً وٌهودي وؼزو فارسً بشكل خاص‪ ،‬وذلك أن‬
‫ب نوك الربا والرهونات ظهرت فً ببلد النهرٌن (العراق)‪ ،‬قبل ظهورها فً مصر‪ ،‬واتخذ الٌهود فً بابل حٌن‬
‫لجؤوا بعد األسر البابلً من نظام إقراض المزارعٌن والمبلك أسرع وسٌلة للتربح‪ ،‬بل وللسٌطرة على االقتصاد‬
‫البابلً‪ ،‬وقٌل إن إفقار المبلك والمزارعٌن وجمع الفضة واألموال فً ٌد المستوطنٌن الٌهود متفق علٌه مع‬
‫الفرس اإلخمٌنٌٌن لبلنتقام الٌهودي من بابل من ناحٌة‪ ،‬وإلضعافها لصالح سقوطها فً الؽزو الفارسً من ناحٌة‪،‬‬
‫وبدأت الفوابد البنكٌة فً عهد الملك نبوخذ نصر الثانً بنسبة ٓٔ‪ ،%ٕٓ -‬وبعد التمكٌن وصلت إلى ٓ‪،%9‬‬
‫وظهرت الرهونات التً ٌستحوذ بها الٌهود ع لى األراضً والعقارات فً حال عجز صاحب الرهن عن السداد‪،‬‬
‫وعقب احتبلل الفرس لبابل اشتركوا مع الٌهود فً نظام البنوك الربوٌة الستنزاؾ الشعوب التً ٌحتلونها‪،‬‬
‫واشتهر منها بنك بٌت عابلة أجٌبً وبنك عابلة موراشو(ٕ٘ٔ)‪.‬‬

‫وانتقلت هذه المعامبلت مع الٌهود واإلؼرٌق إلى مصر‪ ،‬وانتعشت بعد الؽزو الفارسً حتى الرومانً‪ ،‬وٌمكن‬
‫التؤرٌخ بها‪ -‬إضافة للجزٌة والضراٌب الضخمة واحتكار المحتلٌن والمستوطنٌن تملك األرض‪ -‬لئلفقار الجذري‬
‫للمصرٌٌن الذي سٌصل إلى أقصى مداه فً القرن ‪ ،ٔ9‬حتى أنك حٌن تنظر إلى المصرٌٌن الحقٌقٌٌن وقتها تظنهم‬
‫جمٌعهم أقل من العبٌد فً ملبسهم ومسكنهم ومؤكلهم واستؽبلل المستوطنٌن لهم فً السُخرة التً تفترسهم افتراسا‪.‬‬

‫(ٔ٘ٔ)‪ -‬انظر‪ :‬مصر من اإلسكندر األكبر حتى الفتح العربً‪ ،‬مصطفى عبادي‪ ،‬مكتبة األنجلو المصرٌة‪ ،‬ص ‪ٖٔ -9‬‬

‫(ٕ٘ٔ)‪ -‬مختصر تارٌخ العراق‪ ،‬علً شحٌبلت وعبد العزٌز إلٌاس الحمدانً‪ ،‬ج٘‪ ،‬طٔ‪ ،‬دار الكتب العلمٌة‪ ،‬بٌروت‪ ،ٕٕٓٔ ،‬ص ‪8ٖ -99‬‬

‫ٕٗٔ‬
‫❻‪ -‬تصفٌة الدٌانة المصرٌة‬

‫وعن استمرار التؤثٌر المخرب لؤلؼراب على دٌن مصر فقد بالؽوا فً االهتمام بقشوره وتقدٌس‬
‫الحٌوانات‪ ،‬فاؼتالوا روحه‪ ،‬وتركوه فً شكل الخرافات التً تندر بها الرحالة والمإرخون الحقا‪.‬‬

‫ً‬
‫مفرطا بالدٌن‬ ‫وفً ذلك ٌقول صالح‪" :‬كعادة الحكام ذوي األصل الخلٌط‪ ،‬أظهر ملوك العصر اهتمامًا‬
‫ومعابده‪ ،‬بل وبسخافات لم ٌكن لها من قبل ؼٌر ظبلل خفٌفة‪ ،‬ومنها شدة اهتمامهم بعجول المعبود حاب‬
‫"أبٌس" ودفنها فٌما عرؾ باسم سٌرابٌوم سقارة‪ ،‬وسمحوا بتشٌٌد مبان جدٌدة فً المعابد إلله الدولة آمون‬
‫شؤنهم شؤن سابقٌهم‪ ،‬ولو أنها لم تبلػ فً روابها وفخامتها ما بلؽته معابد الدولة الحدٌثة(ٖ٘ٔ)"‪.‬‬

‫وبحسب أستاذ المصرٌات آالن جاردنر فإن تفشً عبادة الحٌوانات وقتها خلق ظاهرة أخرى هً أنه‬
‫"كانت األقالٌم المتجاورة تحارب بعضها بعضا دفاعا عن حٌوانها المفضل المرموق"(ٗ٘ٔ)‪ ،‬وهو ما ٌمكن‬
‫وصفه بتفشً الفتن الطابفٌة والدٌنٌة بتشجٌع من الكهنة األجانب بشكل لم تعتده مصر‪.‬‬

‫كما لفت إلى أن حكام وكهنة األسرة ٕٕ توارثوا‪ -‬حتى من قبل أن ٌسقط عرش مصر فً أٌدٌهم‪ -‬بعض‬
‫المعابد ومهنة الكهانة بؤعلى مراتبها فً أهناسٌا ؼرب بنً سوٌؾ وفً مدٌنة بالوجه القبلً‪ ،‬ومنهم عٌلة‬
‫شاشنق‪ ،‬مستشهدا بنصوص تحمل أسماء أشخاص أجانب مثل حاربسون ونمرات (نمرود) وبكن بتاح‬
‫ٌحملون فٌها ا أللقاب الكهنوتٌة‪ ،‬وبعضهم ٌحمل بجانبها ألقاب "ربٌس الجٌش كله"‪ ،‬و"الربٌس األكبر‬
‫لؤلجانب" توارثوها من عدة أجٌال سابقة‪ ،‬هذا بخبلؾ تولً أسرة شاشنق وؼٌرها بعد أخذهم عرش مصر‬
‫منصب ربٌس كهنة آمون فً معابد الكرنك نفسها‪ -‬أعلى سلطة دٌنٌة فً الببلد‪ -‬متوقعا أن هإالء هم ذرٌة‬
‫أسرى الحرب والقباٌل التً استوطنت الببلد فً زمنً مرنتباح ورمسٌس الثالث(٘٘ٔ)‪.‬‬

‫وال ٌخفى ما ٌمكن أن تكون هذه األٌادي البربرٌة الجاهلة بالدٌن المصري قد خرَّ بته فٌه عن قصد أو‬
‫ؼٌر قصد‪ ،‬وما أفرؼته فٌه من عقابدها القبلٌة وروحها القاسٌة‪ ،‬وتوظٌفها إٌاه لخدمة مصالحها‪ ،‬ومحاربة‬
‫أي مقاومة مصرٌة‪.‬‬

‫كذلك خلط الملوك األجانب بٌن منصبهم السٌاسً وبٌن المنصب الدٌنً بؤن أصبح أحٌانا الملك هو أٌضا‬
‫ربٌس كهنة آمون‪ ،‬وهذه مخالفة صرٌحة لنظام الحكم فً مصر‪ ،‬وفً نفس الوقت كثرت‪ -‬بحسب جاردنر‪-‬‬
‫ظاهرة اللجوء إلى المعبد الستشارة "الوحً" فً األمور الدنٌوٌة للناس والحكومة‪ ،‬وتعٌٌن كبار الموظفٌن‪،‬‬
‫والفصل بٌن المتخاصمٌن ]كؤنه ال ٌوجد دولة من أساسه[ وذلك بؤن ٌسؤل الكاهن األكبر تمثال اإلله ثم‬
‫ٌؤخذ "الوحً" منه وٌجٌب بها السابلٌن(‪ ،)ٔ٘ٙ‬وهً وسٌلة سهلة التخاذ قرارات سٌاسٌة حساسة تعجز أمامها‬
‫المعارضة الشعبٌة‪.‬‬

‫(ٖ٘ٔ)‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ‪ٕٙ‬‬
‫(ٗ٘ٔ)‬
‫‪ -‬مصر الفراعنة‪ ،‬آالن جاردنر‪ ،‬ترجمة نجٌب مٌخابٌل إبراهٌم‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،ٔ99ٖ ،‬ص ‪ٖ88‬‬
‫(٘٘ٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖ٘٘‪ٖ٘9 -‬‬
‫(‪)ٔ٘ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖٖ٘‬

‫ٖٗٔ‬
‫وعلى حس هذا التفشً لفكرة "الوحً" و"التنبوءات"‪ ،‬ربما قام معبد آ ّمون الشهٌرة فً واحة سٌوة‪ ،‬التً‬
‫ٌرى فٌتمان وآخرون أنه كان تحت سٌطرة قباٌل أجنبٌة جاءت من خلؾ الحدود الؽربٌة‪ ،‬وأصبح له سمعة‬
‫عالمٌة‪ ،‬حتى زاره فٌما بعد اإلسكندر األكبر لٌدله "الوحً" على من هو أبٌه(‪ ..)ٔ٘9‬وما أوسعه من مصدر‬
‫رزق للقابمٌن علٌه‪ ،‬فكان ٌُدار بعقلٌة العرَّ افٌن ال أصحاب دٌن راسخ‪.‬‬

‫وسعت األسرة ٕٕ إلى القٌام بؤعمال تدعم حكمها وملكها وما تؤمله من "شرعٌة" عند أهالً الببلد‪،‬‬
‫فجردت حمبلت عسكرٌة إلى فلسطٌن‪ ،‬وتوددت إلى آمون بمشروعات إنشابٌة فً معابد الكرنك‪ ،‬وأحٌت‬
‫الروابط التجارٌة مع جبٌل باعتبارها المنفذ التقلٌدي لتجارة مصر(‪.)ٔ٘8‬‬

‫ورؼم ذلك‪ ،‬حصلت انتفاضات فً واسط (طٌبة) ضد حكم شاشنق فً األسرة ٕٕ كما قامت ضد األسرة‬
‫ٕٔ‪ ،‬ولكن جاء رد فعل حكام األسرة ٕٕ على ثورات طٌبة أعنؾ‪ ،‬فخبلل الثورات التً اشتعلت فً عهدي‬
‫"وسركون" الكاهن األكبر وشاشنق الثالث اشتدوا فً إخمادها حتى ألقوا بعض زعمابها فً النار(‪.)ٔ٘9‬‬

‫▼▼▼االحتالل الكوشً (‪ ٙ٘ٙ -7ٗ7‬ق‪ .‬م)‬

‫(تارٌخ مصر مع كوش)‬

‫هذا االحتبلل تصفه كتب علماء المصرٌات أحٌانا باالحتبلل الكوشً وأحٌانا باالحتبلل األثٌوبً وأحٌانا‬
‫بالنوبً‪ ،‬وهو خلط واضح ال ٌراعً الفروق بٌن هذه المسمٌات والمناطق التً تحملها قدٌما وحالٌا‪.‬‬

‫وكلمة كوش تشٌر فً النصوص المصرٌة إلى ما بعد الشبلل الثانً (بعد ودادي حلفا) باتجاه الجنوب‪،‬‬
‫إلى ما وراء ذلك من ببلد الزنج‪ ،‬وال تضم النوبة التً نعرفها فً مصر التً أسماها األجداد "واوات"‬
‫و"تاستً"‪ ،‬بحسب عبد العزٌز صالح‪ ،‬وعبد المنعم أبو بكر‪ ،‬ولم ٌظهر اسم "النوبة" إال بعد االحتبلل‬
‫البطلمً‪ ،‬وبمفهوم مختلؾ ٌخلط بٌن ما ٌخص مصر وما ٌخص كوش(ٓ‪.)ٔٙ‬‬

‫وفً أزمنة الحكم المصري الخالصة مرت العبلقات بٌن كوش وبٌن مصر بفترات من نار وأخرى من‬
‫سبلم‪ ،‬وأبعد إشارات إلٌها هً محاوالت الؽزو الدابمة من القباٌل الكوشٌة للحدود المصرٌة الجنوبٌة‪ ،‬وهو‬
‫ما جعل حكام األسرة ٕٔ مثبل ٌجردون إلٌها الحمبلت لتؤدٌبها وردعها‪ ،‬حتى أقاموا حصون سمنة عند‬
‫الشبلل الثانً‪ ،‬وحرَّ موا على الكوشٌٌن دخول مصر إال للتجارة فً سوق أسوان ثم العودة لببلدهم‪.‬‬

‫كذلك تاجرت مصر مع ببلد أفرٌقٌا الشرقٌة‪ ،‬خصوصا "بونت" بداٌة من الدولة القدٌمة كما هو معروؾ‬
‫عن الرحبلت التجارٌة أٌام الملك ساحو رع وصورها على جدران معبده فً أبو صٌر فً األسرة ٘‪ ،‬ثم‬

‫(‪)ٔ٘9‬‬
‫‪ -‬مصر واألجانب فً األلفٌة األولى قبل المٌبلد‪ ،‬فٌتمان‪ ،‬مرجع سابق‪ٗٙ -ٗ٘ ،‬‬
‫(‪)ٔ٘8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬جرٌمال‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٗٔ9 -ٗٔ8‬‬
‫(‪)ٔ٘9‬‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬د‪ .‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ‪ ، ٕٙ‬وببلد النوبة‪ :‬تارٌخها وآثارها‪ ،‬د‪ .‬عبد المنعم أبو بكر‪،‬‬
‫المجلة‪ ،‬سٖ‪ ،‬ع‪ ،ٕ8‬الهٌبة المصرٌة العامة للتؤلٌؾ والنشر‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ9٘9 ،‬ص ٕٗ‬
‫(ٓ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬ص ‪ٔ9ٙ‬‬

‫ٗٗٔ‬
‫صورتها حتشبسوت على معبدها "الدٌر البحري" باألقصر فً األسرة ‪ ،ٔ8‬وإن كانت معظم الرحبلت إلى‬
‫هناك تتم عبر البحر األحمر(ٔ‪ ،)ٔٙ‬ولٌس التوؼل برا داخل أفرٌقٌا لتجنب هجمات قباٌلها‪.‬‬

‫وحٌن وصلت عداوة كوش منتهاها بتحالفها مع الهكسوس ضد مصر فً محنة االحتبلل ؼزتها مصر‬
‫وحكمتها حوالً ٓٓ٘ سنة بداٌة من عصر األسرة ‪ ،ٔ8‬فتشربت كوش من ثقافة مصر حتى فً العبادة والعمارة‬
‫والمبلبس‪ ،‬وأقامت مصر هناك معابد آلمون‪ ،‬منها معبد الصلب أٌام أمنحتب الثالث‪.‬‬

‫وحٌن اشتد الصراع على النفوذ بٌن أمراء الحكام الخاسوتٌٌن فً األسرة ٕٗ وتوزعت مصر بٌنهم إلى‬
‫مناطق نفوذ وإمارات (ٗ إمارات) على رأس كل منها حاكم مستقل‪ ،‬ال جٌش واحد وال حكومة واحدة وال قلب‬
‫واحد‪ ،‬فتعطلت وسابل الري‪ ،‬وانعدم األمن فً الطرق حتى أصبح الناس ال ٌؤمنون على حٌاتهم حٌن ٌنتقلون من‬
‫مدٌنة إلى مدٌنة(ٕ‪ ،)ٔٙ‬فتجرأت كوش على احتبلل مصر واجتاحها حكام نباتا‪ -‬عاصمة كوش‪ -‬معتبرٌن أنهم‬
‫"أحق" بمصر من الؽزاة الخلٌط القادمٌن من ثقافات وبٌبات بعٌدة‪ ،‬ألنهم‪ -‬أي الكوشٌٌن‪ -‬كانوا تحت الحكم‬
‫المصري واألقرب لثقافته‪ ،‬وألنهم ٌقدسون آمون‪ ،‬وقاد "بً عنخً" الكوشً الؽزو فً القرن ‪ 8‬ق‪ .‬م‪.‬‬

‫وانتصر "بً عنخً" على خصومه‪ ،‬وأعلن نفسه ملكا لمصر‪ ،‬وأسس األسرة ٕ٘‪ ،‬وألسباب ؼامضة‬
‫أبقى على أمراء الحكم الخاسوتٌَّمً السابق فً أماكنهم‪ ،‬فاستمرت األسرة ٕٗ بالتزامن مع األسرة ٕ٘‪،‬‬
‫وبذلك صارت مصر محتلة احتبلال مركبا ألول مرة‪.‬‬

‫ورؼم استمرار االحتبلل الكوشً ٓ‪ 9‬سنة‪ ،‬إال أنه لم ٌترك أثرا أو نتاٌج ُتذكر‪ ،‬وظل الحاكم الكوشً فً‬
‫عاصمته نباتا‪ ،‬وترك األمور للمحتلٌن السابقٌن له ٌحكمون باسمه‪ ،‬وانعكس التؤثٌر األكبر لثقافة مصر على‬
‫الكوشٌٌن‪ ،‬خصوصا فً الرسوم والنقوش‪ ،‬ورسم حكامهم متزٌٌن بالزي والتاج المصري‪ ،‬وبناءهم أهرام‬
‫حضارة مروي فً شمال السودان على نمط مقابر كبار رجال الدولة المصرٌة الهرمٌة الصؽٌرة المبنٌة فً‬
‫األسرة ‪ ٔ8‬فً واسط (طٌبة)(ٖ‪.)ٔٙ‬‬

‫وفً ذات الوقت كان نجم آشور ٌصعد فً ببلد النهرٌن‪ ،‬ووصلت بفتوحاتها إلى فلسطٌن‪ ،‬واستنجدت‬
‫فلسطٌن بحكام األسرة ٕٗ واألسرة ٕ٘ الذٌن قدموا لها المدد‪ ،‬وفتحوا أبواب مصر لبلجبٌن الفلسطٌنٌٌن‬
‫الفارٌن من الؽزو اآلشوري‪ ،‬وساعدوا حاكم ؼزة البلجا فً مصر ضد آشور‪ ،‬وذلك دون أن ٌقدر هإالء‬
‫الحكام العواقب‪ ،‬أو ٌلتفتوا إلى عنفوان آشور(ٗ‪ )ٔٙ‬بتعبٌر صالح‪.‬‬

‫▼▼▼ االحتالل اآلشوري‬

‫ورأى حكام آشور أن مصر بذلك صارت خطرا علٌهم بدعم حكامها ألمراء الشام ضدهم‪ ،‬فقادوا حمبلت‬

‫(ٔ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ ٕٔ9‬و‪ٕٓ9‬‬
‫(ٕ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬هٌردوت ٌتحدث عن مصر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬مقدمة أحمد بدوي‪ ،‬هامش ص ‪ٖ9‬‬
‫(ٖ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬للمزٌد أنظر‪ :‬األهرامات المصرٌة‪ ،‬أحمد فخري‪ ،‬مكتبة األنجلو‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ9ٖٙ ،‬ص ‪ٖ٘ٓ -ٖٗٙ‬‬
‫(ٗ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٙ8 -ٕٙ9‬‬

‫٘ٗٔ‬
‫لؽزو مصر فً زمن الحكام اآلشورٌٌن سرجون وسنحرٌب وأسرحدون‪ ،‬فشلت كلها عدا ؼزوة أسرحدون‬
‫ٔ‪ ٙ9‬ق‪.‬م‪ ،‬خاصة بعد أن أنقذته من عطش الصحاري جماعة من البدو حملوا له الماء فوق الجمال وعملوا‬
‫أدالء لجٌشه داخل سٌناء‪ ،‬وعبر فٌها على طرٌق حور (حورس) الحربً العظٌم إلى داخل الوادي‪ ،‬هذا‬
‫الطرٌق الذي ظ َّل طوال عصور الحرٌة طرٌقا باتجاه واحد‪ ،‬من مصر إلى الشرق‪ ،‬تسٌر علٌه حمبلت‬
‫مصر لردع خصومها فً الشام‪ ،‬وحٌن سقط الصولجان من ٌد مصر وانزوت ماعت ؼاضبة من إهمالها‬
‫تحول الطرٌق إلى مسار عكسً‪ ،‬من الشرق إلى مصر‪ ،‬فانتهكته جٌوش آشور الحتبلل مصر ثم جٌوش‬
‫الفرس فالٌونان فالعرب واألٌوبٌٌن والعثمانلٌة‪.‬‬

‫وهزم جٌش آشور قوات طهرقا الكوشً‪ ،‬ونهب منؾ‪ ،‬وأسر ولً العهد وعددا من أفراد البٌت الكوشً‪،‬‬
‫وهنا انضمت قباٌل خاسوتٌمٌة إلى آشور ضد طهرقا للتخلص من الكوشٌٌن‪ ،‬ولكن اندارت آشور ضد‬
‫هإالء الحكام بعد أن تحسست أنهم عادوا للتحالؾ مع طهرقا‪ ،‬وٌتفاوضون معه ضدها‪ ،‬فقتلتهم جمٌعا‪ ،‬عدا‬
‫أمٌر واحد اسمه نكاو حاكم ساٌس (فً محافظة الؽربٌة)‪ ،‬والذي سٌإسس األسرة ‪.)ٔٙ٘(ٕٙ‬‬

‫(تارٌخ آشور مع مصر)‬

‫تقع آشور فً شمال العراق الحالٌة‪ ،‬وذكرتها النصوص المصرٌة ألول مرة فً عهد تحوتمس الثالث‬
‫باسم "إسور"‪ ،‬بؤن أمٌرها أهدى إلٌه كمٌة من البلزورد الحر وأحجارا كرٌمة(‪ )ٔٙٙ‬ضمن المتقربٌن من‬
‫مصر باعتبارها الدولة األقوى فً العالم القدٌم وقتها‪ ،‬ثم ظهرت حٌن أرادت أن تحظى بصفة مملكة عظٌمة‬
‫بٌن الدول فً الزمن المعاصر إلخناتون‪ ،‬وتطلع ملكها آشور‪ -‬أوبالٌط حوله لٌتواصل دبلوماسٌا مع الدول‬
‫الكبرى المحٌطة لٌعترفوا بؤن بلده أصبحت كٌان دولً معترؾ به‪ ،‬فكتب إلى إخناتون ٌقول‪" :‬بالرؼم من‬
‫أنه لم ٌسبق ألحد من أسبلفً الكتابة إلى ملك مصر‪ ،‬ها أنذا أكتب إلٌك الٌوم‪ ،‬وأرسل إلٌك رسولً لزٌارتك‬
‫وزٌارة بلدك‪ ،‬وأبعث إلٌك أٌضا كهدٌة عربة رابعة وجوادٌن وشجرة نخٌل من البلزورد النقً"‪.‬‬

‫ولم ٌطلب أن ترد له مصر الهداٌا بهداٌا أخرى كما هً عادة الحكام العظام مع بعضهم فً ذلك الوقت؛‬
‫ما ٌعنً إحساسه بؤنه أقل من أن ٌطلب من حاكم مصر أن ٌرد له الهدٌة‪ ،‬وأن رسالته هً جس نبض‬
‫لموقؾ مصر منه‪ ،‬بحسب تحلٌل ترٌفور براٌس فً عرضه للرسابل المتبادلة بٌنهما‪.‬‬

‫تبادل إخناتون معه المراسبلت‪ ،‬ولما اعترؾ به ملكا هاما‪ ،‬تجرأ ملك آشور وصار ٌتحدث مع أحد خلفاء‬
‫إخناتون‪ ،‬ومرجح أنه توت عنخ آمون‪ ،‬الند بالند‪ ،‬مستؽبل ربما التراجع الذي ضرب مصر بعد أزمة دعوة‬
‫إخناتون؛ فٌقول‪ٌ" :‬مكن ألي أمرئ فً بلدكم أن ٌلتقط الذهب كما ٌلتقط التراب‪ ،‬وتحصلون علٌه بكل‬
‫سهولة‪ ،‬لماذا تشح فً وهبه؟‪ ،‬أنا أشٌد اآلن قصرا جدٌدا‪ ،‬أرسل إلً بقدر ما تستطٌع من ذهب حتى ٌصبح‬

‫(٘‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔ٘ٗ‪ ،ٕٗ٘ -‬والشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬ص ٔ‪ٕ9‬‬
‫(‪)ٔٙٙ‬‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٗ9ٙ‬‬

‫‪ٔٗٙ‬‬
‫(‪)ٔٙ9‬‬
‫القصر البقا"‪.‬‬

‫وبالتزامن مع اختفاء الجٌش المصري ومجًء االحتبلل الخاسوتٌمً والكوشً‪ ،‬فردت آشور قلوعها‬
‫الحتبلل ما حولها‪ ،‬وتحقق لها احتبلل الشام ثم مصر بعد جوالت مع مصر وقتها من الهزٌمة والنصر‪.‬‬

‫وآشور من االحتبلالت القلٌلة التً لم ترسل جالٌة كبٌرة لتعٌنها فً احتبلل مصر‪ ،‬لكنها اعتمدت أكثر‬
‫على المستو طنٌن األجانب السابقٌن لها‪ ،‬ولهذا ربما لم تتمكن قبضتها طوٌبل من مصر‪ ،‬وكانت من أقصر‬
‫االحتبلالت‪ ،‬ولم تترك تقٌحات ثقافٌة وبشرٌة تدل على وجودها طوٌبل‪.‬‬

‫▼▼▼ نتابج االحتالل اآلشوري‬

‫❶‪ -‬حكم مصر من خارجها ألول مرة‬

‫باالحتبلل اآلشوري حُ كِمت مصر ألول مرة من خارج حدودها‪ ،‬فالهكسوس وقباٌل شعوب البحر‬
‫حكموها من الداخل؛ ولهذا تبعاته‪ ،‬منها أن حجم النهب المنظم والضرابب سٌكون أفظع عشرات المرات‬
‫لنقل أكبر حجم من ثروة البلد للخارج‪ ،‬وهذه أٌضا أول مرة ٌجري نقل ثروة مصر للخارج‪ ،‬إال إذا كان‬
‫المحتل الهكسوسً ٌرسل منها نصٌبا للقباٌل التابعة له فً الشام والمحتل الخاسوتٌمً ٌرسل منها إلى القباٌل‬
‫التابعة له عند الحدود الؽربٌة‪.‬‬

‫❷‪ -‬إحراق واسط (طٌبة)‪ ..‬وانتهاك قدسٌة معابدها ألول مرة‬

‫وأفظع ما فعلته آشور فً مصر‪ ،‬هو ما لم ٌجرإ احتبلل فٌما سبق على فعله‪ ،‬أن ملكها آشور بانٌبال أرسل‬
‫جٌوشا جدٌدة سنة ٗ‪ ٙٙ‬ق‪.‬م إلخماد الثورة المشتعلة ضد االحتبلل اآلشوري‪ ،‬واجتاحوا واسط (طٌبة)‪ ،‬العاصمة‬
‫المطهرة والمقدسة التً ظلت مصانة من أي هجمات أجنبٌة على معابدها‪ ،‬فسلبها الؽزاة‪ ،‬ونهبوها وأشعلوا‬
‫النٌران فٌها‪ ،‬وعاثوا فسادا‪ ،‬وسطوا على الكنوز التً تراكمت وحفظها الناس فً المعابد على امتداد قرون طوٌلة‬
‫بدافع من الورع والتقوى(‪ ،)ٔٙ8‬وهذا هو أسلوب آشور المشهور مع الجمٌع‪.‬‬

‫وٌعد نهب طٌبة "نذٌر بانتهاء عالم بؤسره‪ ،‬فقد انهارت أسطورة حرمة معابد مصر تحت ضربات معاول‬
‫عالم شرقً همجً شرع ٌبث الرعب والخوؾ فً قلوب سابر الشعوب الساكنة فً المنطقة الممتدة من آسٌا‬
‫الصؽرى حتى ضفاؾ نهر النٌل"(‪ ،)ٔٙ9‬بتعبٌر جرٌمال‪.‬‬

‫وصار لسقوط (واسط) طٌبة على هذا النحو دوٌه فً العالم كله‪.‬‬

‫وعبَّر النبً الٌهودي ناحوم عن هول صدمة العالم بسقوط طٌبة حٌن قال وهو ٌنذر نٌنوى عاصمة آشور‬

‫(‪)ٔٙ9‬‬
‫‪ -‬رسابل عظماء الملوك فً الشرق األدنى القدٌم‪ ،‬ترٌفور براٌس‪ ،‬ترجمة رفعت السٌد علً‪ ،‬دار العلوم للنشر والتوزٌع‪ ،‬طٔ‪ ،‬القاهرة‪،ٕٓٓٙ ،‬‬
‫ص ‪ٖٔ8 -ٖٔ9‬‬
‫(‪)ٔٙ8‬‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬مرجع سابق‪ٗ٘9 ،‬‬
‫(‪)ٔٙ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٘٘ٗ‪ٗ٘ٙ -‬‬

‫‪ٔٗ7‬‬
‫بؤنها لن تكون أعز من "نو آمون"‪ ،‬أي طٌبة‪ ،‬المستقرة بٌن األنهار‪ ،‬تحمٌها المٌاه‪ ،‬البحر حصنها‪ ،‬وٌسورها‬
‫البحر‪ ،‬وٌدافع عنها المصرٌون الذٌن ال حصر لهم والكوشٌون والقوط واللٌبٌون‪ ،‬ومع ذلك دمرت وسبٌت‪،‬‬
‫وسحق أطفالها عند منعطفات الشوارع‪ ،‬وألقوا القرعة على أشرافها وقٌد عظماإها باألؼبلل(ٓ‪.)ٔ9‬‬

‫❸‪ -‬نهب ونقل آثار مصر للخارج ألول مرة‬

‫روت المتون اآلشورٌة على لسان ملكها آشوربانٌبال فً حملته على مصر‪" :‬ؼنمت من طٌبة ؼنابم تجل‬
‫عن الحصر‪ ،‬ونزعت مسلتٌن ضخمتٌن من قواعدهما‪ ،‬وكانا مؽشٌتٌن بالبرونز المذهب‪ ،‬وتبلػ زنة كل‬
‫منهما ٕٓٓ٘ تالنت‪ ،‬وأمرت بنقلهما إلى آشور"‪ ،‬وتحدث متن آخر عن أنه سجل انتصاراته وانتصارات‬
‫ً‬
‫تمثاال من تماثٌل الملوك المصرٌٌن‪ ،‬وربما أمر بنقل بعضها أٌضً ا إلى آشور(ٔ‪ ،)ٔ9‬وهذا أول‬ ‫أبٌه على ٘٘‬
‫حدٌث عن نهب ونقل مسبلت مصر وتماثٌل حكامها إلى الخارج‪.‬‬

‫❹‪ -‬تؽٌٌر أسامً المدن المصرٌة ألول مرة‬

‫واستهزا ًء بالدٌن المصري وهوٌة ؼٌرهم من الحضارات ؼٌَّر اآلشورٌون أسماء مدن مصرٌة إلى أسماء‬
‫معبودات آشورٌة مثل‪ :‬آشور‪ ،‬وسٌن‪ ،‬ومردوك‪ ،‬وعشتار‪ ،‬وصوروا طهرقا الملك الكوشً على مصر حٌنها‬
‫جاثًٌا أمام ملك آشور مخزومًا من أنفه بحبل ٌرجو عفوه على نصب أقاموها فً أنحاء دولتهم‪ ،‬مع أن طهرقا لم‬
‫ٌقع فً قبضة ملك آشور إطبل ًقا ولم ٌهادنه(ٕ‪.)ٔ9‬‬

‫❺‪ -‬تهجٌر المصرٌٌن من بالدهم ؼص ًبا ألول مرة‬

‫ولم ٌكتؾ ملك آشور بما ؼنمه من كنوز مصر "مما ال مثٌل له فً آشور ومما أبدعت صناعته" على حد قوله‬
‫هو نفسه‪ ،‬وإنما طمع فً أن ٌجعل مهارة المصرٌٌن طوع ٌمٌنه فً آشور نفسها‪ ،‬فؤمر بترحٌل جماعات من‬
‫األطباء والبٌطرٌٌن والصاؼة والكتبة والموسٌقٌٌن‪ ،‬بل ومن صانعً النعال وصانعً الجعة (البوظا المصرٌة)‬
‫والخبازٌن ومن لؾ لفهم إلى عاصمته‪ ،‬وكؤنما وجد فً مهارتهم ً‬
‫كنزا ال تقل قٌمته عن كنوز القصر الملكً‪ ،‬أو‬
‫رأى فً إبعادهم عن مصر حرما ًنا لها من أدوات حضارتها التً تمٌزت بها على عالمها القدٌم(ٖ‪.)ٔ9‬‬

‫وهذه أول مرة ٌتم فٌها نهب المعٌن الحضاري لمصر ممثبل فً فنانٌها وصناعها إلى خارج الببلد وتخرٌب‬
‫صناعات مصر‪ ،‬وهو ما سٌتكرر فٌما بعد فً االحتبلالت الفارسٌة والعربٌة والعثمانلٌة‪.‬‬

‫❻‪ -‬تدوٌر المذابح ونشر بحر الدماء فً أنحاء مصر‬

‫أمام هذا كله تفجرت ثورات مصرٌة ضد االحتبلل اآلشوري‪ ،‬وقع عبء مواجهتها على الملك اآلشوري‬

‫(ٓ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬طبعة ٖ‪ ،ٔ99‬ص ٖ‪ ،ٕ9ٗ -ٕ9‬و طبعة ٓ‪ ،ٔ98‬ص ٗ‪ٕ9‬‬
‫(ٔ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٗ‪ٕ9‬‬
‫(ٕ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔ‪ٕ9ٕ -ٕ9‬‬
‫(ٖ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‬

‫‪ٔٗ8‬‬
‫الجدٌد آشوربانٌبال‪ ،‬فعبر عن ؼٌظه بقوله‪" :‬وصل رسول سرٌع إلى نٌنوى وأبلؽنً النبؤ فؽضبت ج ًّدا لهذه‬
‫األحداث واشتعلت نفسً ورفعت كفً إلى آشور وإشتار (عشتار)"‪.‬‬

‫عددا من أمراء الفرات والشام وفلسطٌن على مصاحبته بقواتهم‪ ،‬وكانوا كما قال‬‫فخرج بجٌشه‪ ،‬وأجبر ً‬
‫ٕٕ مل ًكا‪ ،‬استعان بخبرتهم المبلحٌة وهاجم مصر من البر والبحر‪ ،‬وتبلقى بقواته مع جٌوش طهرقا فً‬
‫معركة وصفتها نصوص آشور بؤنها معركة مكشوفة رهٌبة‪ ،‬أحرز ملكهم النصر فٌها(ٗ‪.)ٔ9‬‬

‫لكن بعد فترة عادت الثورة من جدٌد‪ ،‬فؤعمل الجٌش اآلشوري السٌؾ فً المدن المصرٌة‪ ،‬ولم ٌستثنوا‬
‫ً‬
‫واحدا من حكام تانٌس والمدن التً تعاهدت على الثورة‪ ،‬فشنقوهم على السراٌا‪ ،‬وسلخوا جلودهم وؼطوا‬
‫بها أسوار المدن‪ ،‬وأرسلوا زعماء الثورة إلى نٌنوى حٌث أهلكوا جمٌعً ا(٘‪ )ٔ9‬وهو ما ٌدل على بشاعة ال‬
‫ٌحد ها وصؾ من أسالٌب التعامل والحرب الوحشٌة التً اشتهرت بها آشور كؤحد أسلحتها إلرهاب‬
‫الخصوم‪.‬‬

‫وعند وفاة "نكاو"‪ ،‬اعترؾ اآلشورٌون بابنه بسماتٌك األول‪ ،‬وعهدوا إلٌه بإدارة البلد التً ٌجهلون لؽتها‬
‫وعاداتها وتقالٌدها‪ ،‬وتفصل بٌنها وبٌن آشور مساحات شاسعة‪ ،‬شرٌطة أن ٌحول دون حدوث ثورة ضدهم‪،‬‬
‫واستؽل بسماتٌك هذه الفرصة فً التؽلب على خصومه من أبناء القباٌل الخاسوتٌمٌة المنافسة له فً أترٌب‬
‫وأون (عٌن شمس) وفً ؼرب الدلتا وأهناسٌا وؼٌرهم‪ ،‬حتى سٌطر على طٌبة ذاتها‪ ،‬وهكذا جمع شتات‬
‫الحكم السٌاسً والعسكري فً ٌد حاكم واحد ألول مرة منذ فترة طوٌل بعد طول انقسامات(‪.)ٔ9ٙ‬‬

‫كما ساعده انشؽال آشور فً صراعها مع عٌبلم (فً إٌران)(‪ )ٔ99‬فً أن ٌستعٌن بالمرتزقة من اإلؼرٌق‪،‬‬
‫وكانت تجارة المرتزقة فً ذلك العصر رابجة لكثرة الحروب‪ ،‬واإلؼرٌق ٌتربعون على عرشها‪ ،‬فؤؼرق‬
‫الجٌش بهم‪ ،‬واستبعد الكثٌر من خصومه‪ ،‬فصار الجٌش فً معظمه من المرتزقة ألول مرة‪ ،‬إلى جانب‬
‫بعض أبناء القباٌل التً احتكرته طوٌبل بعد أن أبعدت معظم المصرٌٌن‪.‬‬

‫❼‪ -‬تؽٌر مفهوم النهضة المصرٌة "وحم مسوت"‬

‫طال عهد بسماتٌك أكثر من ٓٗ سنة‪ ،‬وبعد التحرر من اآلشورٌٌن‪ ،‬استعاد وحدة الببلد‪ -‬فً اإلدارة‪ -‬ألول‬
‫مرة منذ عهد األسرة ٕٔ‪ ،‬وللحفاظ على هذه الوحدة‪ ،‬ومع انتماء القباٌل الخاسوتٌة التً هو منها ألعراق‬
‫مختلفة‪ ،‬وكذلك المرتزقة الذٌن استعان بهم‪ ،‬لم ٌجد ؼٌر الحضارة المصرٌة لٌجعل منها مظلة تدعم تلك‬
‫الوحدة‪ ،‬وتقدمه فً ثوب هٌبة حكام مصر األصلٌٌن‪.‬‬

‫وكان المعتاد فً عصور الحرٌة المصرٌة أنه حٌن تقوم مصر من محنة‪ ،‬مثل "إزفت" األولى نهاٌة‬

‫(ٗ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ‪ٕ9‬‬
‫(٘‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‪ ،‬ص ٕ‪ٕ9ٖ -ٕ9‬‬
‫(‪)ٔ9ٙ‬‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬جرٌمال‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٗ٘8‬‬
‫(‪)ٔ77‬‬
‫‪ -‬منذ ذلك الزمان لم ٌنقطع الصراع بٌن المنطقتٌن اللتٌن ُعرفتا فٌما بعد باسم إٌران والعراق حتى اآلن‪ ،‬ودابما كان له انعكاساته على مصر‬
‫بالسلب أو اإلٌجاب‪ ،‬على حسب وعً حكامها بخلفٌات الصراع الدولً‪.‬‬

‫‪ٔٗ9‬‬
‫الدولة القدٌمة أو "إزفت" الثانٌة باالحتبلل الهكسوسً نهاٌة الدولة الوسطى أن تتمخض عن هذه المحنة‬
‫تجدٌد للوالدة "وحم مسوت" لدورة حضارٌة مصرٌة جدٌدة تعلن للعالم أن مصر ما زالت تعطً وتقود‪،‬‬
‫وتشمل هذه الوالدة إحٌاء جذور الدورات الحضارٌة السابقة وأصول حضارة مصر من ناحٌة‪ ،‬ومن ناحٌة‬
‫ثانٌة تتدفق عروق المصرٌٌن بالثقة بعد هزٌمتهم للشر بإنجازات جدٌدة وأفكار إبداعٌة تظهر فً إضافة‬
‫ألوان جدٌدة مصرٌة للعمارة والفنون واألدب واللؽة والفكر الدٌنً والزراعة والصناعة وحتى فً موضة‬
‫المبلبس والزٌنة واألثاث‪ ،‬إلخ‪.‬‬

‫أما فً عهد األسرة ‪ ٕٙ‬بعد عبور محنة االحتبلل اآلشوري فكانت "النهضة" مجرد ردة للقدٌم‪ ،‬كؤنها‬
‫صدى صوت له‪ ،‬مرآة ٌنعكس فٌها شبح الماضً العرٌق‪ ،‬فانتشر إحٌاء الفنون القدٌمة بؤسلوب التقلٌد‬
‫الجامد‪ ،‬خاصة فً النحت والنقش‪ ،‬واإلشادة بالقومٌة المصرٌة واالهتمام باللؽة(‪ )ٔ98‬على طرٌقة تقلٌد‬
‫المصرٌٌن فً الدولة القدٌمة الوسطى باعتبارها تعكس "صفاء األصول األولى" ونقاءها قبل تؽلؽل‬
‫التؤثٌرات اآلسٌوٌة التً حملتها لمصر رٌاح اإلمبراطورٌة فً الدولة الحدٌثة(‪.)ٔ99‬‬

‫ولكنها محاولة ببل عصب وببل روح‪ ،‬فالحرٌة لم تعد لمصر كاملة‪ ،‬والثقة منقوصة‪ ،‬والمصري ما زال‬
‫محبطا ٌتجرع مرارة استبعاده من مإسسات بلده وإدارتها ورإٌته أراضٌها تتوزع على المرتزقة‪ ،‬بل ما‬
‫انزاح اآلشورٌون والكوشٌون حتى ؼرقت الببلد فً ٌد المستوطنٌن اإلؼرٌق؛ فانعكس الضٌق من سٌطرة‬
‫األجانب القدامى والجدد على األعمال الفنٌة‪ ،‬فبدت‪ -‬رؼم جودة التقلٌد‪ -‬كؤنها "مجرد أداء واجب"‪ ،‬خالٌة من‬
‫اإلبداع والتجدٌد والحٌوٌة الذٌن كانوا ٌصاحبون الفن المصري مع كل فترة نهوض‪ ،‬فٌما ٌفسر باحثون‬
‫عملٌة "نسخ الفن القدٌم حرفٌا" بؤنها إحساس ؼرٌزي من الفنانٌن بالتشبث بكل كٌانهم بمبلمح القومٌة‬
‫المصرٌة والهوٌة التً بدأت تنفلت من أٌدٌهم وٌهددها التشوٌه األجنبً لكثرة اإلؼرٌق والٌهود والكارٌٌن‬
‫والسورٌٌن‪ -‬إضافة للحاكمٌن األجانب‪ -‬بمبلبسهم وأسامٌهم ومبلمحهم وعاداتهم وفظاظتهم ولؽاتهم الؽرٌبة‬
‫على مصر‪.‬‬

‫وأمثلة على هذا نقل مناظر حملة القرابٌن من المقابر المصرٌة القدٌمة إلى المقابر الجدٌدة‪ ،‬وفقرات من‬
‫نص وص األهرام‪ ،‬ونحت التماثٌل على نظام تماثٌل الكتبة المصرٌة القدٌمة‪ ،‬ونقشوا مبلبس األشخاص على‬
‫(ٓ‪)ٔ8‬‬
‫الجدران بنفس موضتها القدٌمة حرفٌا‪.‬‬

‫أما لؽة الحٌاة الٌومٌة فؤصابها التؽٌٌر؛ فظهر ما وصؾ بالخط الشعبً "الدٌموطٌقً" وهو اختصار‬
‫للخط الهٌراطٌقً‪ ،‬لٌتناسب مع سرعة إٌقاع الحٌاة وكثرة المعامبلت(ٔ‪ )ٔ8‬التً تسبب فٌها كثرة الحركة‬
‫التجارٌة األجنبٌة فً البلد‪ ،‬وأفسد هذا الخط جمال الخط المصري ورونقه‪ ،‬وإن كان فٌه مٌزة وهً أن‬
‫الكتابة تتم كما ُتنطق الكلمات تماما‪ ،‬بعد أن اعتادت الكتابة المصرٌة على إسقاط الضم والفتح والكسر‪.‬‬

‫(‪)ٔ98‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬ص ‪ٕ99‬‬
‫(‪)ٔ99‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬جرٌمال‪ ،‬ص ‪ٗٙٓ -ٗ٘9‬‬
‫(ٓ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ‪ٕ8ٗ -ٕ8‬‬
‫(ٔ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬اللؽة المصرٌة القدٌمة‪ ،‬عبد الحلٌم نور الدٌن‪ ،‬دار األقصى للطباعة والنشر‪ ،‬ط ‪ ،9‬القاهرة‪ ،ٕٕٓٔ ،‬ص ‪ٖ9‬‬

‫ٓ٘ٔ‬
‫❽‪ -‬تربٌة العقارب السود (الٌهود واإلؼرٌق)‬

‫بعد ما توفى بسماتٌك خلفه ابنه نٌكاو الثانً الذي واصل حمبلت أبٌه فً الشام ‪ ٙٓ8‬ق‪.‬م‪ ،‬خاصة مع‬
‫تصاعد خطر بابل التً سطع نجمها بعد أن أجهزت على آشور بالتعاون مع عدوهم المشترك المٌذانٌٌن‬
‫(فً إٌران حالٌا)‪ ،‬وولت بابل وجهها شطر الشام‪.‬‬

‫وواجه نٌكاو الثانً الملك البابلً نبوخذ نصر فً فلسطٌن‪ ،‬وانتصر علٌه نٌكاو حتى سٌطر على أورشٌلم‬
‫(القدس) وبات خطرا ٌهدد بابل‪ ،‬وفً جولة أخرى انهزم نٌكاو‪ ،‬وسٌطر نبوخذ نصر على أورشلٌم واقتاد‬
‫كثٌر من الٌهود إلى ببلده فٌما عُرؾ بالسبً البابلً‪ ،‬وفرَّ بعض الٌهود وأهل الشام إلى مصر من وجه‬
‫البابلٌٌن كبلجبٌن(ٕ‪ ،)ٔ8‬وهو ما سٌظهر خطره حٌن ٌؽدرون بمصر وٌعاونون الفرس على احتبللها‪.‬‬

‫تجمدت الحروب الخارجٌة لؤلسرة ‪ ٕٙ‬عند هذه النقطة‪ ،‬وصرفت جهدها للشؤن الداخلً‪ ،‬وأبرز‬
‫مشروعاتها أٌام نٌكاو الثانً محاولة ربط النٌل بالبحر األحمر بقناة مابٌة لتشجٌع التجارة البحرٌة بعد زٌادة‬
‫التجار األجانب‪ ،‬وروى هٌرودوت أن المشروع توقؾ بعد أن استهلك آال ًفا من الرجال خوفا من أن ٌسهل‬
‫الؽزو األجنبً‪ -‬كما سٌستهلك آالفا أخرى فً المستقبل إلعادة حفرها فً ظل االحتبلل الفارسً‪ ،‬ثم العربً‬
‫(خلٌج أمٌر المإمنٌن)‪ ،‬ثم حفر قناة أخرى أٌام االحتبلل العلوي (قناة السوٌس)‪ -‬وأوفد بعثة بحرٌة للدوران‬
‫حول إفرٌقٌا واستكشافها‪ ،‬بدأت رحلتها من البحر األحمر‪ ،‬وروى هٌرودوت أنها تمت فً ٖ سنوات‪ ،‬ولما‬
‫عادت روى رجالها أنهم فً دورانهم حول األرض (أي إفرٌقٌا) ظلت الشمس على ٌمٌنهم‪ ،‬على عكس ما‬
‫خرجوا به‪ ،‬وهً مبلحظة شك هٌرودوت فً حدوثها‪ ،‬مع أنها دلٌل صدقهم(ٖ‪.)ٔ8‬‬

‫وعند هذه النقطة من التارٌخ بدأ ٌظهر الٌهود فً تارٌخ مصر بؤدلة أثرٌة الجبٌن ومرتزقة كؽٌرهم من‬
‫جالٌات أجنبٌة فً وقت متؤخر من الزمان هو القرن السابع قبل المٌبلد‪ ،‬بعد انقضاء أزمنة الحكم المصري‬
‫الخالص‪ ،‬أي لم ٌظهر دلٌل أثري فً مصر حتى اآلن عما ٌخص قصة وجودهم مع موسى‪ ،‬وال زمن‬
‫حدوثها‪ ،‬وال ما ٌُروى عن قصص تعذٌب فرعون موسى لهم وهروبهم إلى فلسطٌن‪ ،‬وال من هو فرعون‬
‫موسى من األساس‪.‬‬

‫كانت األسرة ‪ ٕٙ‬تدخلت عسكرٌا لعدم سقوط أورشلٌم (القدس) فً ٌد بابل‪ ،‬وهنا انقسم سكانها إلى‬
‫فرٌقٌن‪ ،‬فرٌق حمد لمصر صنٌعها وتزعمهم صدقٌا‪ ،‬وفرٌق تزعمه نبً الٌهود إرمٌا لم تلق منه مصر‬
‫جزاء وال شكورً ا‪ ،‬وكان إرمٌا ٌكن الحقد لمصر‪ ،‬ورؼم ذلك لجؤ إلٌها بعد أن دمرت بابل أورشلٌم‪ ،‬ولم‬
‫ٌحمد لمصر قبولها له الجبا‪ ،‬بل صاح متنببا بسقوط مصر فً احتبلل جدٌد‪ ،‬قاببل‪" :‬هكذا قال الرب‪ ،‬لسوؾ‬
‫أوقع الفرعون هوفرا بٌن ٌدي أعدابه الذٌن ٌطلبون حٌاته"(ٗ‪ ،)ٔ8‬وسنتابع بعد قلٌل ؼدر الٌهود بمصر‪.‬‬

‫وفً عهد واح إب رع "إبرٌس" تسبب اإلؼرٌق فً انقسامات داخل الجٌش وحرب داخلٌة‪ ،‬وذلك أن قباٌل فً‬

‫(ٕ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕ8ٔ -ٕ99‬‬
‫(ٖ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬انظر تفاصٌل الرحلة فً نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕ99‬‬
‫(ٗ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓ‪ٕ8‬‬

‫ٔ٘ٔ‬
‫لٌبٌا استعانت به ضد جماعات الدورٌٌن اإلؼرٌق الذٌن استوطنوا برقة‪ ،‬وزاحموا أهلها فٌها‪ ،‬ونصبوا أنفسهم‬
‫سادة علٌها بعد التمكٌن‪ ،‬وربما لوجود عبلقات قبلٌة ما بٌن هذه القباٌل وبٌن حكام األسرة ‪ ٕٙ‬ذوي األصول‬
‫األجن بٌة أعانهم إبرٌس بقوات تذكر المصادر أنهم مصرٌٌن‪ ،‬ولكن األرجح أنهم من المتمصرٌن من أبناء قباٌل‬
‫الخاسوتٌَّمٌة‪ ،‬أو خلٌط منهم ومن مصرٌٌن‪ -‬ولم ٌرسل قوات من المرتزقة اإلؼرٌق حتى ال ٌمٌلوا إلى بنً‬
‫جلدتهم المستوطنٌن هناك‪.‬‬

‫ولكن قوات واح إب رع وقعت فً كمٌن‪ ،‬و ُقتل معظم أفرادها‪ ،‬فعاد البقٌة ؼاضبٌن ٌتهمونه بؤنه دبر‬
‫هذه الحملة للتخلص منهم فً الجٌش حتى ٌزداد انفرادا بمصر‪ ،‬وأنه أسرؾ فً احتضان اإلؼرٌق على‬
‫حسابهم‪ ،‬وكان لكل من االتهامٌن نصٌب من الصحة فٌما ٌبدو(٘‪.)ٔ8‬‬

‫وندب واح إب رع قابد جٌشه أحمس للتفاوض مع الثوار‪ ،‬ولكنهم اجتذبوه إلى صفوفهم وعهدوا إلٌه‬
‫بزعامتهم‪ ،‬فهاجم بهم واح إب رع وأسره‪ ،‬وٌبدو أنه أجبره على إشراكه فً الحكم معه‪ ،‬ثم تجدد القتال‬
‫بٌنهما ومات واح إب رع مقتوال‪.‬‬

‫وأحمس هذا المذكور فً كتب التارٌخ باسم أحمس الثانً‪ ،‬وسماه اإلؼرٌق "أمازٌس"‪ ،‬وؼٌر معلوم على‬
‫وجه الٌقٌن ما إن كان من بواقً االحتبلل ال َقبلً أم مصري‪ ،‬وإن كان مٌله كما سنرى لبلستزادة من‬
‫اإلؼرٌق بدال من تمصٌر الجٌش قد ٌنبا بؤصله‪.‬‬

‫وفً نفس الوقت ازداد ضٌق وتبرم المصرٌٌن أهالً الببلد من زٌادة عدد اإلؼرٌق وبقٌة الجنسٌات‬
‫المرتزقة؛ ما ٌقلل من فرص إمكانٌة تحرٌرها من السطوة األجنبٌة قرٌبا‪ ،‬وشاركهم فً هذا التبرم القباٌل‬
‫الخاسوتٌّمٌة نفسها التً رأت أن حبل القٌادة والسلطة والثروة ٌنفلت من أٌدٌها لصالح الوافدٌن الجدد‪.‬‬

‫وٌصؾ هٌردوت الحال بؤن حزازات اإلؼرٌق مع المصرٌٌن أصبحت مشكلة عوٌصة‪ ،‬وردها إلى‬
‫اختبلؾ العقابد بٌن الطرفٌن‪ ،‬وروى أنه بلػ من أمرها أن المصرٌٌن كانوا ٌؤنفون أحٌا ًنا من تقبٌل إؼرٌقً‬
‫أو استعمال أدواته الخاصة(‪.)ٔ8ٙ‬‬

‫وتؤثرت الروح الوطنٌة فً كبرٌابها‪ ،‬وحدثت اضطرابات هامة من جانب المصرٌٌن أو المستمصرٌن‬
‫ضد التجارا إلؼرٌق المتفرقٌن فً الدلتا‪ ،‬وأول عمل قام به أحمس الثانً لتجنب تدهور الموقؾ وإرضاء‬
‫الشعور الوطنً أن طلب من اإلؼرٌق أن ٌستقروا فً أراضً محدودة لكً ال ٌدخلوا فً صراع مفتوح مع‬
‫المصرٌٌن‪ ،‬واختار لهذا المكان نقراطٌس )نقراش أو كوم جعٌؾ بالبحٌرة)‪ ،‬وسمح للتجار اإلؼرٌق ببناء‬
‫مدٌنة خاصة لهم فٌها‪ ،‬أصبحت مركزا لعبلقاتهم التجارٌة مع مصر‪ ،‬فكانت البضابع تؤتً من البحر‬
‫المتوسط إلٌها عن طرٌق البحر(‪ ،)ٔ89‬وقامت هذه المدٌنة بالدور الذي قامت به اإلسكندرٌة بعد ذلك بـ ٕٓٓ‬
‫عام‪ ،‬وأنشؤ فٌها اإلؼرٌق معابد ٌونانٌة لتؤكٌد هوٌتهم‪ ،‬مثل معابد هٌرا وأبوللو وأفرودٌتى‪.‬‬

‫(٘‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس الرجع‪ ،‬ص ٔ‪ٕ8‬‬
‫(‪)ٔ8ٙ‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٔ‪ٕ8‬‬
‫(‪)ٔ89‬‬
‫‪ -‬انظر رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬رمضان عبده علً‪ ،‬الجزء الرابع‪ ،‬ص ٖٖٖ‬

‫ٕ٘ٔ‬
‫وإن كانت خطوة أحمس الثانً فً تخصٌص مستوطنات لئلؼرٌق فً منؾ ونقراش ساهمت فً‬
‫استمرار الفصل بٌنهم وبٌن أهالً الببلد‪ ،‬إال أنها جاءت على ؼٌر صالح الببلد فً المستقبل؛ حٌث كرَّ س‬
‫هذا قوتهم‪ ،‬واتخذوها معاقل لهم ساعدتهم فً السٌطرة على اقتصاد الببلد‪ ،‬والتعاون مع اإلسكندر األكبر‬
‫الحتبللها بعد ٕٓٓ عام‪ ،‬فً تكرار لتجربة استٌطان الهكسوس وشعوب البحر‪.‬‬

‫وحافظ أحمس الثانً على عبلقات الود والصداقة مع اإلؼرٌق‪ ،‬وفً نفس الوقت حرص على المحافظة‬
‫على مصالح الشعب‪ -‬أو هكذا توهم‪ -‬وكان محبا لئلؼرٌق لدرجة أن هٌرودوت لقبه‪ -‬بالمحب لئلؼرٌق‪-‬‬
‫وأرسل الهداٌا إلى ببلد اإلؼرٌق‪ ،‬منها تمثال للمعبودة نٌت مؽطى بالذهب مع صورة مرسومة(‪)ٔ88‬؛ فكال‬
‫له المإرخون اإلؼرٌق المدٌح‪ ،‬ألنه لم ٌستجب لمطالب المصرٌٌن بإبعاد اإلؼرٌق تماما‪ ،‬وإنما فصل بٌن‬
‫الجانبٌن بسبلم‪ ،‬واعتبروه أكثر الملوك الصاوٌٌن حنكة وحصافة‪ ،‬وخلعوا علٌه ألقابا إؼرٌقٌة(‪ ،)ٔ89‬كعادة‬
‫الجالٌات األجنبٌة فً وصؾ الحاكم حٌن ٌطلق لها العنان بالمنفتح والمتسامح‪ ،‬ومن ٌضٌق علٌهم لحفظ‬
‫مصالح وحقوق شعبه بؤنه متسلط وعنصري‪.‬‬

‫وٌُرجع هٌردوت إلى هذا الحاكم بعض المآثر‪ ،‬منها وضع القانون الذي بات ٌعرؾ باسم "من أٌن لك‬
‫هذا"‪ ،‬حٌث كان ٌفرض على كل شخص أن ٌبٌن سنوٌا مورد عٌشه‪ ،‬ومن لم ٌفعل ذلك‪ ،‬ولم ٌثبت أنه ٌعٌش‬
‫عٌشة مشروعة كان عقابه المحاكمة‪ ،‬ونقل سولون اإلثٌنً هذا القانون من مصر ووضعه لئلٌثٌٌن‪ ،‬كما قال‬
‫إنه أول من وضع ضرٌبة الدخل(ٓ‪.)ٔ9‬‬

‫ولكن سٌخٌب ظن أحمس الثانً فً اإلؼرٌق الذٌن أسرفوا فً مدحه وتخدٌره بنشاطهم االقتصادي فً‬
‫البلد‪ ،‬فهإالء سٌكونون مع الٌهود آداة عون للؽزو الفارسً لمصر فور وفاته‪ ،‬ثم أداة للؽزو الٌونانً‪.‬‬

‫▼▼▼ االحتالل الفارسً األول‬

‫(تارٌخ مصر مع بالد فارس)‬

‫لم ٌكن لببلد فارس فٌما مضى‪ ،‬ومنذ كانت تسمى بـ"عٌبلم" عبلقات مع مصر‪ ،‬واقتصرت معظم‬
‫حروب العٌبلمٌٌن مع جٌرانهم من ببلد النهرٌن‪.‬‬

‫وتؽٌرت دفة األحداث فً مصر والعالم بمٌبلد الدولة الفارسٌة (اإلخمٌنٌة) فً ذلك العصر‪ ،‬وهً دولة أراد‬
‫زعماإها أن ٌثبتوا بعقلٌتهم القبلٌة الجبلٌة أنهم ٌتفوقون على أسبلفهم ذوي المٌراث الحضاري الطوٌل من‬
‫عٌبلمٌٌن وم اذٌٌن‪ ،‬وصمموا على بسط نفوذهم فً االتجاهات األربعة‪ ،‬مستؽلٌن فتوتهم وشٌخوخة جٌرانهم(ٔ‪.)ٔ9‬‬

‫فخرجوا بحمبلت مسعورة‪ ،‬ولكنها قوٌة منظمة‪ ،‬تحت قٌادة ملكهم قورش‪ٌ ،‬دقون األرض د ًّقا عنٌ ًفا حتى‬

‫(‪)ٔ88‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖٖٔ‪ٖٖٕ -‬‬
‫(‪)ٔ89‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬ص ٕ‪ٕ8‬‬
‫(ٓ‪)ٔ9‬‬
‫‪-‬انظر‪ :‬رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٖٖ‪ٖٖ9 -‬‬
‫(ٔ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬ص ٘‪ٕ8‬‬

‫ٖ٘ٔ‬
‫بلؽوا آسٌا الصؽرى‪ ،‬واكتسحوا دولة لٌدٌا التً كانت شٌ ًبا عظٌمًا‪ ،‬وطووا بابل ذات التراث المجٌد‪،‬‬
‫وأدركوا من ث َّم سهولة إخضاع العالم المحٌط بهم الذي مزقته المنافسات والحروب المتصلة لحكومة عالمٌة‬
‫واحدة‪ ،‬هً حكومتهم بطبٌعة الحال(ٕ‪ ،)ٔ9‬وهو الحلم الذي تعٌش علٌه فارس (إٌران) حتى اآلن‪.‬‬

‫سعى أحمس الثانً لصد خطرها بالتحالؾ مع قبرص‪ ،‬ولكن توفً سنة ٕ٘٘ ق‪.‬م بعد أن حكم ٗٗ سنة‪،‬‬
‫ولم ٌكد ٌمر ‪ ٙ‬شهور على وفاته حتى اجتاح الفرس مصر‪ ،‬ووضعت فٌنٌقٌا أسطولها الكبٌر تحت طاعتهم‪،‬‬
‫وتخلت قبرص عن التعاون مع مصر‪ ،‬وبقٌت مصر وحٌدة أمام هذا االجتٌاح الجدٌد(ٖ‪ ،)ٔ9‬ملؽمة بالداخل‬
‫بمستوطنٌن أجانب فً مدنها ومرتزقة فً الجٌش‪.‬‬

‫وهنا بدأ مشوار الخٌانة اإلؼرٌقٌة والٌهودٌة لمصر‪ ،‬فقد كان قابد الجٌش من اإلؼرٌق ٌدعى فانٌس‪،‬‬
‫خانها وهرب إلى قمبٌز‪ ،‬ملك الفرس وابن قورش‪ ،‬وقاد له جٌشه إلى مصرـ مستؽبل معرفة اإلؼرٌق‬
‫بدروب الصحراء والمداخل لعملهم فً الجٌش بمصر‪.‬‬

‫أما الٌهود الذٌن دخلوها الجبٌن فً عهد األسرة ‪ ٕٙ‬فارٌن من االجتٌاح البابلً‪ ،‬وسمح لهم حكامها‬
‫بالعمل كتجار وبالتجنٌد فً الجٌش‪ ،‬فكان والبهم مطلق للفرس‪ ،‬فالٌهود ٌعتبرون قورش مسٌحهم المنتظر بعد‬
‫أن فك أسر الٌهود المنفٌٌن فً بابل وما حولها‪ ،‬وأعادهم إلى أورشلٌم‪ ،‬وسمح لهم بتعمٌرها من جدٌد‪ ،‬ولهذا كانوا‬
‫على استعداد ألن ٌذللوا الصعاب فً سبٌله(ٗ‪.)ٔ9‬‬

‫فلسبب ؼامض ٌخص العبلقة بٌن الٌهود والفرس‪ ،‬صان الٌهود الجمٌل لقورش ولم ٌصونوه لمصر التً آوتهم‬
‫من نٌر االستعباد فً بابل ولٌس مجرد فك أسرهم‪ ،‬بل وظلت نبوءات أنبٌاء الٌهود أو أحبارهم تتوعد مصر‬
‫بالمستقبل المظلم وبكل شر مستطٌر(٘‪!)ٔ9‬‬

‫أما البدو "السابرون على الرمال"‪ ،‬كما سماهم المصرٌون‪ ،‬أي القباٌل التً تستؽل فترات الضعؾ أو االحتبلل‬
‫فً مصر لبلستٌطان عند الحدود الشرقٌة‪ ،‬فقد أرشدوا الفرس فً سٌناء(‪ ،)ٔ9ٙ‬ومع تحالؾ كل هإالء ضدها‬
‫قاومت مصر جهد االستطاعة‪ ،‬وخاضت بقٌادة حاكمها التعس بسماتٌك الثالث‪ ،‬بوصؾ عبد العزٌز صالح‪،‬‬
‫آخر ملوك األسرة ‪ ،ٕٙ‬معركة عنٌفة ضد الفرس فً "بلوزٌوم" (الفرما‪ /‬بورسعٌد) عام ٕ٘٘ ق‪ .‬م‪ ،‬ورأى‬
‫هٌرودوت آثار المعركة بعد ٘‪ 9‬سنة؛ فشهد بضراوة ما حدث فٌها‪.‬‬

‫ولم ٌثبت جٌش بسماتٌك الثالث طوٌبل أمام الطوفان الفارسً‪ ،‬خاصة بعد خٌانة قابده اإلؼرٌقً‪،‬‬
‫وانضمام العدٌد من اإلؼرٌق إلى صفوؾ الجٌش "المنتصر" كعادة المرتزقة‪ ،‬فتراجع إلى منؾ‪ ،‬ولكنها‬
‫سقطت‪ ،‬وأخذ الفرس بسماتٌك الثالث أسٌرا‪ ،‬ثم أطلقوا سراحه‪ ،‬فسعى للمقاومة من جدٌد‪ ،‬ولما كشؾ‬

‫(ٕ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫***هذا الحلم لم ٌفارق بالد فارس حتى اآلن‪ ،‬مهما تؽٌر اسمها أو دٌنها أو مذه بها‪ ،‬وسٌرد إشارة تفصٌلٌة لوسابل استهدافها لمصر فً الوقت‬
‫الحالً لتحقٌق هذا الهدؾ‪.‬‬
‫(ٖ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٘‪ٕ8‬‬
‫(ٗ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫(٘‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ولكن فً طبعة عام ٓ‪ ،ٔ98‬ص ٖٗٔ‬
‫(‪)ٔ9ٙ‬‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬جرٌمال‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٗ‪ٗ9‬‬

‫ٗ٘ٔ‬
‫الفرس أمره قٌل انتحر‪ ،‬ورؼم المقاومة فإنها لم تعؾ هذه األسرة من مسبولٌة إؼراق البلد بالمرتزقة‪.‬‬

‫وبتعبٌر صالح‪" :‬خضعت مصر للفرس كما خضع ؼٌرها من أمم الشرق‪ ،‬وإن لم ٌعفها هذا من وزر‬
‫كبٌر بعد أن فتحت أبوابها للمرتزقة من هنا وهناك‪ ،‬وجعلتهم دعامة جٌشها"(‪.)ٔ99‬‬

‫واستعمل الفرس وجنودهم متعدًٌ األجناس الشدة مع مصر والتخرٌب‪ ،‬حتى مع المعابد المقدسة‬
‫المحصنة‪ ،‬مثلما فعلت آشور‪ ،‬وبلػ من تقدٌر قمبٌز لضخامة البلد أن أقام فً مصر أكثر من ٖ سنوات‪،‬‬
‫صحبه فً بداٌتها ما ٌتؤتى عادة من الؽزاة من تخرٌب ونهب ومصادرات وؼرامات‪ ،‬وأنقص مخصصات‬
‫المعابد إلى النصؾ‪ ،‬وعسكر فٌها جنود االحتبلل من كل ملة انتهاكا لمقدساتها(‪.)ٔ98‬‬

‫ورؼم ذلك لم تكن إقامة قمبٌز هنٌبة كلها‪ ،‬فقد فشلت حملته لهدم معبد الوحً "معبد آمّون" فً سٌوة‪ ،‬وقٌل إن‬
‫عاصفة رملٌة دفنت الجٌش الذي أرسله إلى هذه المهمة فً الصحراء‪ ،‬وخبلل احتفاالت مولد العجل حاب‬
‫(أسماه الٌونان أبٌس)‪ ،‬بما فٌها من مظاهر فرح‪ ،‬ظن قمبٌز أنها فرحة الشماته فٌه‪ ،‬فقتل الكثٌر من كبار‬
‫السكان‪ ،‬وطعن حاب بخنجره‪ ،‬وأمر بإخراج جثة أحمس الثانً "أمازٌس"‪ ،‬وأهانها‪ ،‬وأحرقها‪.‬‬

‫وخبلل هذه األحداث‪ ،‬جاءته أخبار مإامرة فً ببلده لبلستٌبلء على العرش‪ ،‬وكان من عادة الفرس عمل‬
‫انقبلبات عابلٌة والصراع الدموي على الحكم‪ ،‬كعادة بابل وآشور أٌضا ثم البطالمة فٌما بعد‪ ،‬فقرر العودة‬
‫لفارس‪ ،‬وفً الطرٌق وخز نفسه بسبلحه فً فخذه فً موضع مماثل للموضع الذي طعن فٌه العجل‪ ،‬فتسمم‬
‫الجرح وتوفً‪ ،‬واعتبر المصرٌون هذا "انتقاما إلهٌا(‪.)ٔ99‬‬

‫وخلفه فً الحكم دارا األول‪ ،‬كان أقل منه ظلما‪ ،‬سعى لتهدبة األوضاع فً مصر لمنع الثورات‪ ،‬وأزال‬
‫القوانٌن الفارسٌة التً أقرها قمبٌز‪ ،‬وأعاد القوانٌن المصرٌة التً سادت فً عهد أحمس الثانً‪ ،‬وأبدى‬
‫االحترام لحابً "أبٌس"‪ ،‬وأمر بإقامة معبد آلمون فً الواحات على أطبلل معبد قدٌم‪.‬‬

‫▼▼▼نتابج االحتالل الفارسً‬

‫❶‪ -‬نزح ثروات مصر إلى الخارج‬

‫اعتبر الفرس مصر "والٌة" أو "سترابا" باللفظ الفارسً‪ ،‬فهً ثانً مرة ُتحكم مصر من الخارج بعد‬
‫االحتبلل اآلشوري‪ ،‬ورأوها أؼنى "الوالٌات"؛ فطلب دارا األول إعادة حفر القناة السابق حفرها أٌام نٌكاو‬
‫لربط النٌل بالبحر األحمر وتٌسٌر نقل السفن للجزٌة المؤخوذة من مصر لتصب خٌراتها عند فارس‪ ،‬وبلؽت‬
‫ً‬
‫رطبل بٌن‬ ‫ٕٗ سفٌنة سنوٌا‪ ،‬تحمل ما ٌبلػ ألؾ تالنت من الفضة‪ ،‬وقدر هٌرودوت التالنت المصري بـ ‪٘ٙ‬‬

‫(‪)ٔ99‬‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬طبعة عام ٖ‪ ،ٔ99‬ص ٘‪ٕ8‬‬
‫(‪)ٔ98‬‬
‫‪ -‬األجانب فً مصر فً األلفٌة األولى قبل المٌبلد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕ8ٙ‬‬
‫(‪)ٔ99‬‬
‫‪ -‬انظر مرجع سابق ص ‪ ،ٕ8ٙ‬وتارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬جرٌمال‪ ،‬ص ٗ‪ٗ98 -ٗ9‬‬

‫٘٘ٔ‬
‫جزٌة ونفقات احتبلل‪ ،‬واستؽلوا من معادن مصر ما ٌعادل هذا المقدار(ٕٓٓ)‪.‬‬

‫كما استنزؾ الفرس ثروات مصر لتموٌل حروبهم مع الٌونان‪ ،‬فمثبل فرض أكسركسٌس األول على‬
‫مصر إعداد ٕٓٓ سفٌنة استؽلها فً قتاله ضد اإلؼرٌق(ٕٔٓ)‪.‬‬

‫❷‪ -‬استمرار تعلٌه شؤن المستوطنٌن األجانب على المصرٌٌن‬

‫وكؽٌرهم من المحتلٌن قرَّ ب الفرس الجالٌات األجنبٌة والمستوطنٌن لٌكونوا عونا طٌعا لهم ضد أهالً‬
‫الببلد‪ ،‬فكان ٌعاون السترابا (الوالً) الفارسً عدد من كبار الموظفٌن والجباة الفرس والبابلٌٌن والسورٌٌن‬
‫والٌهود‪ٌ ،‬عملون لصالحه‪ ،‬إلى جانب قلة من كبار المصرٌٌن أو المستمصرٌن من بقاٌا القباٌل الخاسوتٌة‬
‫صاحبة النفوذ السابق(ٕٕٓ)‪.‬‬

‫وتزاٌد تواجد الٌهود فً معسكرات أسوان على الحدود الجنوبٌة خبلل االحتبلل الفارسً‪ ،‬فكانوا أكثر‬
‫المخلصٌن له‪ ،‬وعٌو ًنا له على المصرٌٌن‪ ،‬ووفق ما ورد فً خطاب باآلرمٌة‪ ،‬لؽة الٌهود حٌنها‪ ،‬عثر علٌه‬
‫فً أرشٌؾ جالٌة "ٌدانٌا" الٌهودٌة فً بؤسوان‪ٌ ،‬ظهر مدى االحتقان بٌن المصرٌٌن والٌهود بسبب خٌانتهم‪،‬‬
‫وأٌضا بسبب االختبلؾ فً الدٌن الذي كان الٌهود ٌتكبرون به على ؼٌرهم‪.‬‬

‫وتضمن الخطاب التماسا أرسلته الجالٌة الٌهودٌة إلى حاكم أورشلٌم الفارسً "باجواس" تطلب منه‬
‫مساعدتهم باعتبارهم "أصدقابه" فً إعادة بناء معبد ٌاهو الٌهودي الذي دمره كهنة خنوم(ٖٕٓ) المصرٌٌن‪،‬‬
‫خاصة وأن هذا المعبد لم ٌمسه قمبٌز بسوء‪ ،‬فٌما أساء إلى المعابد المصرٌة(ٕٗٓ)‪.‬‬

‫وفً تقدٌر العالم األثري الدكتور أحمد بدوي فإنه "ظاهر أن احتبلل الفرس أرض مصر قد أرضى‬
‫اإلؼرٌق الذٌن كانوا ٌقٌمون فٌها‪ ،‬ولٌس أدل على ذلك من انضمام بعضهم إلى صفوؾ الؽزاة‪ ،‬وقد زاد من‬
‫نشاطهم فً الببلد ٌومبذ‪ ،‬وتتابعت هجرة قومهم إلٌها‪ ،‬كما ازدهرت تجارتهم فً نوكراتٌس"‪ ،‬وذلك رؼم ما‬
‫هو معروؾ من عداوة بٌن الفرس والٌونان‪.‬‬

‫وعلق بدوي على هذا التناقض بؤنه‪" :‬ولٌس بخاؾ كذلك أن اإلؼرٌق الذٌن كانوا ٌقٌمون فً مصر‪-‬‬
‫سواء منهم من كان ٌرتزق من العمل فً الجٌش ومن كان ٌعمل فً التجارة‪ -‬إنما كانوا ٌإثرون الفرس‬
‫على المصرٌٌن طمعا فً الكسب الوفٌر‪ ،‬والعٌش الرخٌص‪ ،‬وذلك شؤن الؽرٌب المرتزق فً كل زمان‬
‫ومكان؛ فهو واجد‪ -‬على الدوام‪ -‬فً ظل االستعمار فسادا ٌستطٌع أن ٌُفٌد منه فً سهولة وٌسر"(ٕ٘ٓ)‪.‬‬

‫(ٕٓٓ)‬
‫‪ -‬انظر الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬ص ‪ ،ٕ89 -ٕ8ٙ‬ومصر الفراعنة‪ ،‬جاردنر‪ ،‬ص ‪ٖ98‬‬
‫(ٕٔٓ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕ88‬‬
‫(ٕٕٓ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬ص ‪ٕ89‬‬
‫(ٖٕٓ)‬
‫‪ -‬خنوم‪/‬ؼنم هو رمز "إلهً" مقدس ٌتصوره المصرٌون فً شكل كبش مهمته تشكٌل البشر الموالٌد على عجلة الفخرانً‪ ،‬وله دور فً دفع‬
‫مٌاه النٌل من الجنوب إلى مصر عند أسوان‪ ،‬انظر معجم المعبودات والرموز فً مصر القدٌمة‪ ،‬مانفرٌد لوكر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٔ9‬‬
‫(ٕٗٓ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬األجانب فً مصر فً األلفٌة األولى قبل المٌبلد‪ ،‬مرجع سابق‪ٕٔ9 -ٕٔ8 ،‬‬
‫(ٕ٘ٓ)‬
‫‪ -‬انظر هٌردوت ٌتحدث عن مصر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬مقدمة أحمد بدوي‪ ،‬ص ‪ٕ9‬‬

‫‪ٔ٘ٙ‬‬
‫وٌإٌد رأي بدوي ما تكرر خبلل التارٌخ من تعاون المستوطنٌن األجانب مع الؽازي الجدٌد حتى وإن‬
‫كان عدوا لببلدهم القادمٌن منها‪ ،‬مدام سٌعطٌهم مزاٌا ومداموا سٌساعدونه على التمكٌن فً البلد المقٌمٌن‬
‫فٌها‪ ،‬فسنرى أن الٌهود تبادلوا المنافع مع الؽزاة العرب فً مصر رؼم أن العرب طردوا الٌهود من‬
‫الجزٌرة العربٌة‪ ،‬وشوام تعاونوا مع الؽزاة العثمانلٌة فً مصر رؼم أنهم تركوا الشام إلى مصر هربا من‬
‫الظلم العثمانلً لهم فً ببلدهم‪ ،‬وهكذا حٌاة االحتبلل العسكري فً الجالٌات األجنبٌة‪ ،‬وحٌاة الجالٌات‬
‫األجنبٌة فً االحتبلل العسكري‪.‬‬

‫وفً نفس الوقت وجدنا أن اإلؼرٌق فً بعض الفترات التً اشتدت فٌه الثورات داخل مصر ضد الفرس‬
‫ٌتعاونون مع هذه الثورات أحٌانا‪ ،‬لسبب وحٌد‪ ،‬هو حٌن ٌكون فً إضعاؾ الفرس مصلحة لمدٌنة ٌونانٌة‬
‫ٌتبعها بعض الٌونانٌٌن كؤثٌنا(‪ ،)ٕٓٙ‬ونقل صبحً وحٌدة عن مإرخٌن تفسٌرات أن الٌونان طول تارٌخهم‬
‫فرق ومدن متصارعة‪ ،‬لٌسوا على قلب رجل واحد‪ ،‬فمنهم من ٌحارب الفرس‪ ،‬ومنهم من ٌستقوي بالفرس‬
‫على بقٌة المدن الٌونانٌة؛ ولذا ٌختلفون فً مواقفهم(‪.)ٕٓ9‬‬

‫❸‪ -‬تهجٌر المواهب المصرٌة للخارج ؼصبا‬

‫وكرر أكسركسٌس األول ما فعله اآلشورٌون بنهب المعٌن الحضاري لمصر بنقل المتخصصٌن‬
‫الماهرٌن منها إلى ببلده لٌساهموا فً بناء نهضتها‪ ،‬فاشتط فً االنتقام واالستؽبلل‪ -‬كعادة الفرس‪ -‬وهجَّ ر‬
‫عددا كبٌرً ا من أهل الحرؾ إلى فارس‪ ،‬وشدد الحامٌات هنا وهناك‪ ،‬واستعان فٌها بالٌهود‪ ،‬ثم عٌن أخاه‬ ‫ً‬
‫والًٌا على مصر(‪.)ٕٓ8‬‬

‫▲▲▲ الثورات ضد المحتل الفارسً‬

‫ولم ٌمنع تودد "دارا" ألهالً الببلد فً بعض األمور من أن ٌكرهوا االحتبلل وٌسعوا لزواله‪ ،‬وردد‬
‫المصرٌون فً لعناتهم على االحتبلل الفارسً كلمات‪" :‬لٌكن حور ضدهم"‪" ،‬لتثر عٌن حور (مصر)‬
‫علٌهم"‪ ،‬مما ٌدل على حدة الشعور الوطنً ضد الؽزاة‪ ،‬وعبرت مسرحٌة "عودة ست" بعد الؽزو الفارسً‬
‫عن شكل من أشكل الؽلٌان فً العروق‪ ،‬ففً تلك المسرحٌة جسد "ست" دور الشر وؼازي أجنبً لم ٌكتؾ‬
‫بنصٌبه من األراضً الذي أقرته له األرباب فً ببلده‪ ،‬فؽزا مصر واحتل عٌن حور (مصر) عنوة‪ ،‬ولم‬
‫ٌكن "ست" إال ملك الفرس‪ ،‬وعبرت المسرحٌة عن رؼبتهم فً طرده ألن وجوده ؼٌر شرعً(‪.)ٕٓ9‬‬

‫وبالفعل‪ ،‬قامت ثورة تحدث عنها المإرخ دٌودور الصقلً أن األهالً اشتعل ؼضبهم وهم ٌراقبون السفن‬
‫الفارسٌة تنقل خٌرات الببلد إلى الخارج‪ ،‬حتى أن نصوص محاجر وادي الحمامات بالصحراء الشرقٌة‬
‫ذكرت أن األحجار التً ُتقطع هناك تستخدم لصالح الفرس‪ ،‬وزاد األمر فداحة الضراٌب‪ ،‬فشبت الثورة‪،‬‬

‫(‪)ٕٓٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕ8‬‬
‫(‪)ٕٓ9‬‬
‫‪ -‬فً أصول المسؤلة المصرٌة‪ ،‬صبحً وحٌدة‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،ٕٓٔ٘ ،‬ص ٘ٔ‪ٔ8 -‬‬
‫(‪)ٕٓ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕ88‬‬
‫(‪)ٕٓ9‬‬
‫‪ -‬القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓٗ‪ ،ٗٔ -‬ص ٔٗ‬

‫‪ٔ٘7‬‬
‫وأشارت أخبار إلى استٌبلء الثابرٌن على شحنة سفٌنة فارسٌة محملة بالؽبلل‪.‬‬

‫وتوفً "دارا" قبل إخماد الثورة‪ ،‬وخلفه ابنه أكسركسٌس األول الذي أخمدها بعنؾ‪ ،‬وزاد على ذلك أن‬
‫أكثر من الضراٌب‪ ،‬وزاد من نهب الثروات الستؽبللها فً حروبه ضد خصمته اللدودة‪ ،‬الٌونان(ٕٓٔ)‪.‬‬

‫ورؼم هذا العنؾ فً االنتقام‪ ،‬تجددت نار الثورة فً مصر‪ ،‬مستؽلة القبلقل التً نشبت فً فارس خبلل‬
‫انتقال العرش إلى "أرتكسركسٌس" ثم "دارا" الثانً سنة ٕٗٗ ق‪.‬م‪ ،‬وتزعم الثورة "أمٌرتاٌوس"‪ ،‬سلٌل‬
‫ملوك األسرة الصاوٌة‪ ،‬وبعد سنوات من الصراع‪ ،‬توج نفسه حاكما لمصر فً نفس عام وفاة "دارا الثانً"‬
‫لٌإسس األسرة ‪ ،ٕ8‬انتهت بوفاته‪ ،‬وأعقبته األسرتان ‪ ٕ9‬وٖٓ‪ ،‬وشهدت مصر خبلل األسر الثبلثة استقبلال‬
‫عن الفرس‪ ،‬قبل أن ٌعودوا إلٌها فً ٖٖٗ ق‪.‬م(ٕٔٔ)‪.‬‬

‫و اإلؼرٌق هذه المرة تحالفوا مع "أمٌرتاٌوس" ضد الفرس؛ لٌس إخبلصا لمصر‪ ،‬ولكن بسبب الصراع الدابر‬
‫بٌن فارس وأثٌنا للسٌطرة على جزر البحر المتوسط‪ ،‬ونظرا لحاجة أثٌنا إلى قمح مصر‪.‬‬

‫ومن المبلحظ أنه ظهرت أسماء أجنبٌة بشكل واضح فً أسماء ملوك األسرتٌن ‪ ٕ9‬وٖٓ؛ فاسم مإسس‬
‫األولى ناٌؾ عاورود‪ ،‬واشتهر باسم "نفرٌتس األول"‪ ،‬وثالث أو رابع ملوكها ٌدعى هجر أو هكر‪ ،‬واشتهر‬
‫باسم "آخورٌس"‪ ،‬ثم آخر ملوكها ناٌؾ عاورود الثانً "نفرٌتس الثانً"‪ ،‬وهإالء وملوك األسرة ٖٓ من‬
‫شرق الدلتا وؼربها‪ ،‬حٌث المستوطنات القبلٌة األجنبٌة قدٌمها وجدٌدها(ٕٕٔ)‪.‬‬

‫▼▼▼ خذالن دولً لم ولن ٌنتهً‬

‫اعتادت مصر على الخذالن والؽدر من جٌرانها فً الجنوب والؽرب والشرق‪ ،‬خاصة فً أوقات ؼفلتها‪،‬‬
‫وبعد أن اتسعت عبلقاتها بشكل ؼٌر محسوب بدأت تذوق خذالن الشمال‪ ،‬أي المدن الٌونانٌة كؤثٌنا‬
‫وإسبرطة‪ ،‬وكقبرص‪.‬‬
‫فقد تحالفت األسرة ‪ ٕ9‬فً مصر مع أسبرطة ضد محاوالت الفرس للعودة إلى حوض البحر المتوسط‪،‬‬
‫وأمدتها مصر بتجهٌز ٓٓٔ سفٌنة مقاتلة وبالؽبلل‪ ،‬ولكن بعد سنوات تصالحت إسبرطة مع الفرس‪ ،‬وفكت‬
‫تحالفها مع مصر‪ ،‬وتنكرت لها(ٖٕٔ)‪ ..‬وبقٌت مصر وحدها‪.‬‬

‫ورؼم هذا التنكر المستمر من األحبلؾ لمصر‪ ،‬تحالفت ذات األسرة فً عهد هكر مع أثٌنا ومع ملك‬
‫قبرص‪ ،‬وأعانت األخٌر بـ ٓ٘ سفٌنة وبالؽبلل لمكافحة الفرس‪ ،‬وواجه جٌش هكر الفرس فً معركة جدٌدة‬
‫ؼٌر واضحة المعالم‪ ،‬ثم تركت قبرص مصر واستسلمت للفرس‪ ،‬وبقٌت مصر وحدها‪.‬‬

‫وخبلل األسرة ٖٓ انقلبت أثٌنا تماما ضد مصر‪ ،‬حتى أنها استدعت قابدها خابرٌاس الذي كان ٌقود‬

‫(ٕٓٔ)‬
‫‪ -‬رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬رمضان عبده علً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬الجزء الرابع‪ ،‬ص ‪ٖٙ8 -ٖٙ9‬‬
‫(ٕٔٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬جرٌمال‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٗ99‬‬
‫(ٕٕٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬رمضان عبده علً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘‪ٖ99 -ٖ9‬‬
‫(ٖٕٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔ‪ٕ9‬‬

‫‪ٔ٘8‬‬
‫الجٌش فً مصر‪ ،‬فؽادرها فً وقت خرج على رأس ٕٓ ألؾ من المرتزقة اإلؼرٌق لٌعاونوا الفرس‬
‫ضدها‪ ،‬وذلك بعد اتفاق بٌن أثٌنا وفارس‪ ،‬وهكذا توالى تخاذل األحبلؾ(ٕٗٔ)‪.‬‬

‫حشدت فارس جٌوشا من المرتزقة واألعوان‪ ،‬واخترقوا الشام وصوال لمصر‪ ،‬ولكن لحسن الحظ‬
‫وصلوها فً وقت قرب الفٌضان‪ ،‬فداهمتهم مٌاهه وكؤن موجاته جنودا مجندة لحماٌة مصر‪ ،‬فتراجعوا‪.‬‬

‫وفً عهد "جد حر" ابن "نختانبو" فً األسرة ٖٓ قاد جٌشا إلبعاد الفرس عن الشام‪ ،‬فٌبعد خطرهم عن مصر‪،‬‬
‫ولسبب ؼٌر مفهوم استعان بالقابد اإلثٌنً خابرٌاس الذي سبق وأن خان مصر وانضم للفرس!‬

‫وأٌضا فاوض أجٌسٌبلوس ملك إسبرطه العجوز‪ -‬التً سبقت وتخلت عن مصر‪ -‬لٌستعٌن بخبرته؛ فانضم إلٌه‬
‫بؤلؾ من رجاله‪ ،‬وجند "جد حر" ٓ‪ 8‬أل ًفا من المصرٌٌن أو المستصمرٌن والخاسوتٌَّمٌن والمرتزقة‪ ،‬وأعد ما بٌن‬
‫ٕٓٓ‪ ٖٓٓ-‬سفٌنة وصله بعضها من آسٌا الصؽرى‪ ،‬وتؤهب للخروج لضرب جٌوش الفرس خارج مصر‪.‬‬

‫لكن األمور لم تكن هٌنة‪ ،‬فقد تنافس القابد األثٌنً والملك اإلسبرطً على القٌادة العلٌا‪ ،‬وحل "جد حر"‬
‫المشكلة بؤن تولى هو القٌادة العلٌا‪ ،‬وعهد بقٌادة المرتزقة إلى أجٌسٌبلوس اإلسبرطً العجوز الذي بلػ الثمانٌن‪،‬‬
‫وظن أنه سوؾ ٌؤتً برجاله األلؾ العجب العجاب‪ ،‬كما عهد بقٌادة األسطول إلى خابرٌاس األثٌنً المؽرور‪،‬‬
‫ولكنه لم ٌستطع أن ٌستل الحقد من قلب أحدهما تجاه اآلخر أو تجاهه هو(ٕ٘ٔ)‪.‬‬

‫ولتموٌن جٌشه الضخم‪ ،‬وإلرضاء المرتزقة الذٌن أبوا أن ٌتسلموا أجورً ا عٌنٌة‪ ،‬بل طلبوها نقدا‪ ،‬رأي‬
‫أنه ال بؤس من فرض تضحٌات اقتصادٌة على المصرٌٌن طٌلة فترة الحرب‪ ،‬وذلك بمشورة خابرٌاس‬
‫األثٌنً‪ ،‬فؤمر بمصادرة المعادن الثمٌنة فً مصر‪ ،‬وحض رجال المعابد على التبرع بجانب من أمبلكهم‬
‫الخاصة‪ ،‬واالكتفاء بإنفاق عشر المخصصات المرصودة للمعابد وتحوٌل بقٌتها لخزابن الدولة حتى تنتهً‬
‫الحرب‪ ،‬وحض كل مواطن على التبرع بجانب من مدخراته‪ ،‬وفرض نسبة ضرٌبٌة معٌنة على عملٌة البٌع‬
‫والشراء‪ ،‬مع تعمٌم ضرٌبة العشر على األرباح ومصادر الدخل‪.‬‬

‫وعندما خرج "جد حر" بالجٌش إلى الشام لضرب الفرس أتاه األذى من مؤمنه‪ ،‬ففً مصر انقلب علٌه‬
‫أخوه وناببه على عرشه‪ ،‬واستعان بتذمر رجال الدٌن والمتضررٌن من الضراٌب الجدٌدة التً رأوها‬
‫تنصرؾ إلى المرتزقة األجانب أكثر مما تصل إلى مواطنٌهم(‪.)ٕٔٙ‬‬

‫شٌخا استدعى ولده من جٌش عمه لٌقود االنقبلب ً‬


‫بدال عنه‪ ،‬وفً الشام أحدثت أخبار‬ ‫ً‬ ‫ولما كان هذا األخ‬
‫االنقبلب انشقا ًقا فً صفوؾ الجٌش‪ ،‬واختار المرتزقة مصلحتهم الخاصة‪ ،‬فانسحب خابرٌاس األثٌنً بجنوده‪،‬‬
‫وانضم أجٌسٌبلوس اإلسبرطً بجماعته إلى ابن األخ المطالب بالعرش‪ ،‬وعاد معه إلى مصر لٌتلقى جزاء تؤٌٌده‬

‫(ٕٗٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٔ‪ٕ9ٕ -ٕ9‬‬
‫(ٕ٘ٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٔ‪ٕ9ٕ -ٕ9‬‬
‫(‪)ٕٔٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖ‪9‬‬

‫‪ٔ٘9‬‬
‫له‪ ،‬وهنا لجؤ "جد حر" كسٌرا إلى صٌدا‪ ،‬وروي منافسوه أنه طلب حق اللجوء السٌاسً بعد ذلك من الفرس(‪.)ٕٔ9‬‬

‫وتولى العرش "نخت حر حب" الذي اشتهر باسم نختانبو الثانً‪ ،‬وقامت ضده ثورة قادها أشخاص من‬
‫سبللة األسرة ‪ ،ٕ9‬وأخمدها باالستعانة باإلؼرٌق‪ ،‬وحكم ‪ ٔ8‬عاما‪ ،‬تودد فٌها إلى المعابد بؤن أمر بإقامة‬
‫منشآت لتطوٌرها‪ ،‬مثل معبد بتاح‪-‬سوكر‪-‬أوزٌر فً أبو صٌر الملق‪ ،‬ومسبلت صؽٌرة فً األشمونٌن‪،‬‬
‫ومقاصٌر‪ ،‬متمتعا بمناخ استقرار ساهم فٌه انشؽال الفرس بالصراع العنٌؾ على السلطة فً ببلدهم‪.‬‬

‫ؼٌر أنه فً عهد الملك الفارسً أرتاكسركسٌس الثالث وجَّ ه وجهه شطر مصر لؽزوها من جدٌد سنة‬
‫ٖٔٗ ق‪.‬م‪ ،‬ولكن هزمه جٌش نختانبو الثانً‪ ،‬ثم عاود الكرة عن طرٌق البر والبحر‪ ،‬وبمعدات وأسلحة‬
‫هابلة بمقٌاس ذلك العصر‪ ،‬ومنها ٖٓٓ سفٌنة مكونة من عدة طوابق لتحمل أكبر عدد من المقاتلٌن فً‬
‫البحر‪ ،‬وضم جٌشه ٖٓٓ ألؾ مقاتل‪ ،‬فً حٌن كان جٌش نختانبو الثانً ال ٌضم أكثر من ٓٓٔ ألؾ‪ ،‬والتقى‬
‫الجٌشان عند "بلوزٌوم" (الفرما)‪ ،‬وكان الفوز للجٌش الفارسً‪ ،‬وعندما رأى المرتزقة فً جٌش نتختانبو‬
‫ذلك‪ ،‬ؼٌروا مواقعهم‪ ،‬وانضموا لصفوؾ الجٌش الفارسً‪ ،‬فٌما تراجع نختانبو إلى الوجه القبلً‪ ،‬وآزره‬
‫(‪)ٕٔ8‬‬
‫األهالً هناك سنتٌن‪ ،‬ثم اختفى أثره والمعلومات حول مصٌره‪.‬‬

‫▼▼▼ االحتالل الفارسً الثانً‬

‫وعادت مصر تحت االحتبلل الفارسً ٖٖٗ ق‪.‬م‪ -‬بعد ٓ‪ ٙ‬سنة من االحتبلل األول‪ -‬وصار نختانبو‬
‫الثانً ٌوصؾ عند المإرخٌن بؤنه "آخر الحكام الوطنٌٌن"‪ ،‬وإن كان فً صفة "الوطنٌٌن" شك الحتمال‬
‫كونه من القباٌل "الخاسوتٌمٌة" أو ؼٌرها وسط تضارب حول أصول حكام األسرات األخٌرة‪ ،‬ولكنه على‬
‫كل حال كان آخر من حكم وحارب تحت راٌة مصرٌة ولو اسمًا‪ ،‬ثم توالت على الببلد بعد ذلك الحكم‬
‫واالحتبلالت تحت راٌة فارسٌة وٌونانٌة ورومانٌة وعربٌة وعثمانلٌة إلخ‪.‬‬

‫▼▼▼ نتابج االحتالل الفارسً الثانً‬

‫جاء الؽزو الفارسً الثانً أصعب بكثٌر من األول‪ ،‬كاشفا ؼبل ٌفوق الوصؾ‪ ،‬فتعرضت الببلد للسلب‬
‫والنهب‪ ،‬وهدمت دور العبادة‪ ،‬وانتهكت حرمتها‪ ،‬ونهبت تماثٌل معبوداتها‪ ،‬ونقلت إلى فارس‪ ،‬وطعن‬
‫أرتاكسركسٌس الثالث العجل أبٌس المقدس‪ ،‬وللسخرٌة من المصرٌٌن وضع مكانه حمارا‪ ،‬وذبح كبش‬
‫مندس المقدس‪ ،‬ونفى بعض األمراء المصرٌٌن ]أو المستمصرٌن[ إلى فارس(‪.)ٕٔ9‬‬

‫وهنا وصفت بردٌة "األٌام" الدٌموطٌة كٌؾ فقدت بٌوت المصرٌٌن رجالها‪ ،‬وسكنها الماذٌون‪ ،‬أي "الفرس"‪.‬‬

‫كما لم ٌُتوج الملوك الفارسٌون داخل مصر على الطرٌقة المصرٌة مثلما فعل أسبلفهم‪ ،‬وتفجرت الثورات فً‬

‫(‪)ٕٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٕ‪ٕ9ٖ -ٕ9‬‬
‫(‪)ٕٔ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓ‪ٖ9ٕ -ٖ9‬‬
‫(‪)ٕٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٕ‪ٖ9‬‬

‫ٓ‪ٔٙ‬‬
‫أنحاء مصر ضدهم‪ ،‬وتزعمها أمٌر من سبللة الحكام السابقٌن فً سنة ‪ ٖٖٙ‬ق‪.‬م‪ ،‬اشتهر باسم خباباش‪ ،‬أعلن‬
‫نفسه ملكا‪ ،‬لم ٌنجح فً أن ٌحكم الببلد حكما حقٌقٌا‪ ،‬ولكن ظل قابدا للمقاومة عدة سنوات(ٕٕٓ)‪ ،‬وفً تلك األثناء‬
‫كانت تدور دابرة المعارك بٌن اإلسكندر المقدونً وبٌن الفرس‪ ،‬فً نهاٌتها أسقط اإلسكندر إمبراطورٌة‬
‫الفرس بجٌوشه الكاسحة‪ ،‬فاستسلم له السترابا الفارسً وانسلت أقدامهم من مصر‪ ،‬وزحفت جٌوش اإلسكندر‬
‫إلٌها‪ ،‬وكان المستوطنون من اإلؼرٌق وبقٌة الجالٌات األجنبٌة أكبر عون له‪ ،‬هٌؤوا له األجواء الستقباله‬
‫استقباال حارا‪ ،‬ولم ٌعد اإلؼرٌق بحاجة للعمل كمرتزقة فً صفوؾ الجٌش بمصر‪ ،‬فالمعتدي الجدٌد‪ -‬خاصة‬
‫أٌام البطالمة‪ -‬جعل الجٌش جٌشهم‪.‬‬

‫▼▼▼ ترحٌب المستوطنٌن بؽزوة اإلسكندر لمصر‬

‫وٌصؾ عبد العزٌز صالح أثر العٌشة الطوٌلة لئلؼرٌق والجالٌات األجنبٌة فً مصر فً تمكٌن اإلسكندر من‬
‫احتبللها‪ ،‬خاصة بعد استسبلم الوالً الفارسً قاببل‪" :‬وعندما دخلها اإلسكندر فً خرٌؾ ٕٖٖ ق‪ .‬م فً ثوب‬
‫منقذها من الفرس‪ ،‬لم ٌكن أعوانه أؼرابًا عنها‪ ،‬فطالما عمل بعضهم مرتزقة فً جٌشها‪ ،‬وطالما شاركها بعضهم‬
‫فً معاداة الفرس‪ ،‬وعلى نحو ما عمل إؼرٌق نقراطٌس وسطاء فً التجارة بٌنها وبٌن ببلد الٌونان عملوا كذلك‬
‫وسطاء بٌنها وبٌن اإلسكندر‪ ،‬ولكن فات مصر أن إؼرٌق الٌوم ؼٌر إؼرٌق األمس‪ ،‬وأنهم أتوها ٌومبذ (أي بؽزو‬
‫اإلسكندر) ٌعملون لحسابهم الخاص‪ ،‬مستعمرٌن ولٌسوا مؤجورٌن‪ ،‬سادة ولٌسوا مرتزقة(ٕٕٔ)‪.‬‬

‫وهذا ٌنفً تماما ما أشاعته بعض كتب التارٌخ عن أن المصرٌٌن "رحبوا" باإلسكندر األكبر‪ ،‬لـ"ٌنقذهم" من‬
‫الفرس‪ ،‬فمن رحب باإلسكندر هم المستوطنون اإلؼرٌق واألجانب والمرتزقة‪ ،‬ومن مهد له الطرٌق هإالء الذٌن‬
‫وصفوا بكلمة مصرٌٌن زورا لوجودهم فً مصر‪ ،‬أما المصرٌون الحقٌقٌون فكٌؾ ٌرحبون باحتبلل جدٌد‪ ،‬وبؤن‬
‫ٌحتلهم من عمل فً ببلدهم مرتزقة‪ ،‬وتفننوا فً نهبهم؟‬

‫وإلى جانب اعتماده على المرتزقة واألجانب المستوطنٌن‪ ،‬لجؤ اإلسكندر لتوطٌد قدمه إلى سٌاسة محنكة‪،‬‬
‫وهً مهادنة المصرٌٌن باحترام تقالٌدهم ودٌنهم‪ ،‬وعدم اللجوء إلى العنؾ معهم‪ ،‬لٌقبلوا األمر الواقع‪ ،‬حتى‬
‫أنه اختار أن ٌتم تتوٌجه حاكما لمصر فً معابد منؾ على الطرٌقة المصرٌة‪ ،‬ثم زار معبد الوحً الخاص‬
‫بآ َّمون فً سٌوة‪ ،‬وتم إعبلنه هناك ابنا آل ّمون‪ ،‬كنوع من إعطابه "الشرعٌة" الدٌنٌة لحكم مصر‪ ،‬بل ونسج‬
‫البعض قصصا لربط اإلسكندر بالدماء المصرٌة‪ ،‬بؤنه من نسل نختانبو الذي اختفى أثره بعد أن ترك الببلد‪.‬‬

‫▼▼▼ نزول الستارة على أنبل حضارة‬

‫وعند هذه اللحظة‪ ،‬بدأ نزول الستارة على أعظم الحضارات‪ ،‬وأنبلها‪ ،‬وأكثرها سلما وإنتاجا وخصوبة‪،‬‬
‫وأكثرها عذوبة وحرٌة وحبا للدٌن‪ ،‬وأشدها احتراما لئلنسان واألوطان‪.‬‬

‫(ٕٕٓ)‬
‫‪ -‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ‪ ،ٖ9ٗ -ٖ9‬و ‪ٖ9ٙ‬‬
‫(ٕٕٔ)‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬ص ‪ٕ99‬‬

‫ٔ‪ٔٙ‬‬
‫فقد انزوى االهتمام باللؽة المصرٌة‪ -‬معٌن حضارتنا‪ -‬شٌبا فشٌبا لصالح الٌونانٌة التً أصبحت اللؽة الرسمٌة‬
‫للببلد‪ ،‬وتداخلت أرباب أخرى قادمة من الٌونان مع أرباب مصرٌة فتشوه تارٌخها وأشكالها وهوٌتها وتخرج لنا‬
‫مسخا ٌسمى بسٌرابٌس‪ ،‬ونسب مإرخون الكثٌر من علوم مصر إلى الٌونان بعد أن انكبوا على ترجمتها للٌونانٌة‬
‫لما استولوا على مكتبات المعابد والوثابق السرٌة‪ ،‬وبالتدرٌج نسى الناس أصولها المصرٌة‪.‬‬

‫فتراجعت ذاكرة المصرٌٌن ووعٌهم بحضارتهم وعظمابهم وحروبهم‪ ،‬حتى وصلنا إلى درجة أن ٌسٌر‬
‫المصري جنب معابده وتماثٌل وبردٌات أجداده فبل ٌفقه المكتوب علٌها‪ ،‬وال ٌدرى لمن هذه التماثٌل‪ ،‬بل ال‬
‫ٌعرؾ أجداده أنفسهم‪ ،‬وامتؤل دٌنه بخرافات أدخلها الؽرباء‪ ،‬وؼاصت الذاكرة والذكرٌات شٌبا فشٌبا‪ ..‬تحت‬
‫األرض‪ ،‬مع الجٌش ونظام الحكم المقدس والحرٌة والمجد وماعت‪ ،‬تحت األرض‪ ....‬وآه ٌا مصر‪.‬‬

‫وإذن‪ ..‬عودة لؤلسباب والنتابج التً رمت مصر مقٌدة األؼبلل فً نار الفوضى الثالثة "إزفت" نهاٌة‬
‫األسرة ٕٓ كما نقلتها البردٌات واآلثار‪ ..‬كم منها ورد فً البنود الـ ‪ ٔ9‬لدستور الشٌطان لتخرٌب مصر؟‬

‫"إن األبواب الموجودة علٌكِ تستوي ثابتة مثل "إنموتؾ" إنها ال تنفتح لسكان الؽرب‪ ،‬إنها ال تنفتح‬
‫لسكان الشرق‪ ،‬إنها ال تنفتح لسكان الشمال‪ ،‬إنها ال تنفتح لسكان الجنوب‪ ،‬إنها ال تنفتح للقاطنٌن وسط‬
‫األرض‪ ،‬إنها تنفتح لحورس‪ ،‬إنه هو الذي صنعها‪ ،‬إنه هو الذي أقامها‪ ،‬إنه هو الذي نجاها من كل سوء‬
‫أوقعه "ست" علٌها‪ ،‬إنه هو الذي أقام دعابمك(ٕٕٕ)"‪.‬‬

‫فاستحقت األجٌال التً فرَّ طت فٌها عقاب اإلله الذي حذر منه بتاح حتب‪:‬‬

‫"إن الذي ٌفعل الماعت فذلك الذي ٌكون بعٌدا عن الضالل"‪ٌ" ،‬حل العقاب دابما بالذي ٌتخطى‬
‫(ٖٕٕ)‬
‫قواعدها"‬

‫(ٕٕٕ)‬
‫‪ -‬تطور الفكر والدٌن فً مصر القدٌمة‪ ،‬جٌمس هنري برٌستٌد‪ ،‬ترجمة زكً سوس‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓٗ‪ٗ٘ -‬‬
‫(ٖٕٕ)‬
‫‪ -‬انظر تقدٌم علً رضوان لكتاب "الماعت‪ ..‬فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔ‪ٔ٘-‬‬

‫ٕ‪ٔٙ‬‬
‫هزمناهم لٌس حٌن ؼزوناهم‬

‫(ٔ)‬
‫ولكن حٌن أنسٌناهم تارٌخهم وحضارتهم‬

‫(ٔ)‬
‫‪ -‬عبارة منسوبة للشاعر الٌونانً سٌمونٌدس عند سقوط إسبرطة‪ ،‬لم تستطع الكاتبة التحقق من صحة نسبها إلٌه‪ ،‬ولكن بؽض النظر عن قابلها‬
‫فإنها حقٌقة‪ ،‬وأكثر ما تنطبق علٌه هو ما فعلته االحتالالت فً مصر‪ ..‬إسقاط تارٌخها من ذاكرة المصرٌٌن‪.‬‬
‫المشهد ‪ :9‬االحتالل اإلؼرٌقً (النكبة الثانٌة)‬

‫ٕٖٖ ق‪.‬م‪ ٖٓ -‬بعد المٌالد‬

‫مصر تلبس القناع‬

‫(تارٌخ العالقة بٌن مصر والٌونان)‬

‫ٌمكن الرجوع إلى جذور هذه العبلقة فً الصفحات السابقة‪ ،‬وظهر من التتبع التارٌخً أن االستٌطان بدأ فً‬
‫القرن ‪ 8‬ق‪.‬م بتجار إؼرٌق اختاروا مصر ضمن موجات هجرة من مدن الٌونان لكثرة صراعاتهم الداخلٌة‪،‬‬
‫وهربا من الخراب الذي تركته فً مناطقهم هجمات قباٌل شعوب البحر(ٕ)‪ ،‬فلم ٌلفتوا النظر بقلة عددهم‬
‫ومهارتهم فً البٌع والشراء لخطرهم‪ ،‬ومدو حبال الود مع البٌوت الؽنٌة والحكام‪ ،‬واستقبلت األسرة ‪ٕٙ‬‬
‫مجموعات أخرى كمحاربٌن مرتزقة‪ ،‬وتضخم عددهم خبلل ٖٓٓ سنة حتى صاروا أصحاب مستوطنات‬
‫عسكرٌة وتجارٌة‪ ،‬وانتهى األمر بمعاونتهم للفرس مرة على احتبلل مصر‪ ،‬ثم مجًء اإلسكندر‪.‬‬

‫▼▼▼ الجٌش فً االحتالل الٌونانً (إؼرٌق‪ -‬مرتزقة)‬

‫فً نظام الحكم الذي وضعه اإلسكندر ثم بطلمٌوس األول لمصر كان جٌش البطالمة ٌتكون من‬
‫المقدونٌٌن واإلؼرٌق والمرتزقة‪ ،‬وبعد تدخل روما بحجة حماٌة العرش البطلمً فً آخر عصور البطالمة‪،‬‬
‫انضم الرومان والعبٌد وؼٌرهم لهذا الجٌش الدخٌل‪.‬‬

‫وبنظرة على وصؾ ٌولٌوس قٌصر لمكونات الجٌش نهاٌة االحتبلل البطلمً ٌتكشؾ الخطؤ المخجل‬
‫الذي ٌ قع فٌه مإرخون حٌن ٌصفون ذلك الجٌش بؤنه "جٌش مصري"‪ ،‬فلم ٌكن فٌه من المصرٌة سوى‬
‫األموال التً تتدفق من عرق المصرٌٌن بالؽصب لئلنفاق على جٌش معظم أفراده من األجانب والمرتزقة‬
‫والعبٌد‪ ،‬وقابده األعلى أجنبً‪ ،‬وٌخوض معارك لٌس للمصرٌٌن فٌها أي مصلحة‪.‬‬

‫ٌقول‪" :‬إن جٌش إخٌبلس ]قابد جٌش الٌونانٌٌن[ لم ٌكن بالدرجة التً ٌستهان بها من ناحٌة الحجم ونوع‬
‫رجاله وخبرتهم فً الحرب‪ ،‬فقد كان لدٌه ٕٓ ألفا تحت السبلح ٌتؤلفون من جنود جابٌنٌوس الذي استمرأوا‬
‫حٌاة االنطبلق فً اإلسكندرٌة‪ ،‬قد نسوا النظام الرومانً ومعنى انتسابهم لشعب روما‪ ،‬واتخذوا ألنفسهم‬

‫(ٕ)‬
‫‪ٌ -‬قول فرانسٌس فٌفر إن هجمات قباٌل شعوب البحر ؼزت جزر البحر المتوسط‪ ،‬ومنها جزر الٌونان‪ ،‬مطلقة فٌها النٌران والسٌوؾ‪ :‬انظر‪:‬‬
‫"الفرعون األخٌر رمسٌس الثالث أو زوال حضارة عرٌقة"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ .٘ٓ -ٗ8‬ولجؤ الٌونانٌون لبلحتماء بمصر‪ ،‬لكن لم ٌحفظوا صنٌعها‪،‬‬
‫بل احت لوها تكرارا لما فعلته قباٌل شعوب البحر فً اؼتصاب البلدان‪ ،‬وإن كان وسٌلتهم التجارة واالستٌطان والمرتزقة‪.‬‬

‫ٗ‪ٔٙ‬‬
‫زوجات وأنجب كثٌر منهم أطفاال‪ .‬أضؾ إلى هإالء أعدادا من اللصوص وقطاع الطرق فً سورٌا‬
‫وكٌلٌكٌا والمناطق المجاورة‪ ،‬وقد انضم إلٌهم كثٌرون من المجرمٌن والمنفٌٌن؛ فكل من ٌفر من عبٌدنا كان‬
‫له ملجؤ مؤمون وحٌاة مطمبنة فً اإلسكندرٌة ما داموا ٌسجلون أنفسهم فً عداد الجنود"‪.‬‬

‫وٌتابع‪" :‬هإالء الجنود كانوا ٌطالبون بقتل أصدقاء الملوك‪ ،‬وٌنهبون أمبلك األثرٌاء‪ ،‬وٌحاصرون قصر‬
‫الملك من أجل المطالبة بزٌادة رواتبهم‪ ،‬وٌطردون بعض الملوك من العرش وٌعٌنون آخرٌن‪ ،‬جرٌا فً‬
‫الواقع على عادة قدٌمة لجٌش اإلسكندرٌة‪ ،‬وكان هناك إلى جانب هإالء ألفان من الفرسان‪ ،‬هإالء الجنود‬
‫كانوا قد شاخوا فً حروب اإلسكندرٌة المتعددة عندما أعادوا بطلمٌوس الوالد إلى عرشه‪ ،‬وعندما قتلوا‬
‫ابنً بٌبولوس‪ ،‬وأثناء حروبهم ضد المصرٌٌن‪ ،‬هكذا كانت خبرتهم الحربٌة(ٖ)"‪.‬‬

‫وٌتضح من قول ٌولٌوس قٌصر عن حروب الجٌش البطلمً أن مهمته األساسٌة بعد الحروب الخارجٌة‬
‫كانت شنه حروبا على المصرٌٌن وعمل مإامرات ضد الحكام والفتن للحصول على أكبر مكاسب‪ ،‬فما كان‬
‫جٌشا مصرٌا‪ ،‬بل وال أي جٌش بالمعنى الكرٌم للكلمة‪.‬‬

‫ولم ٌنضم مصرٌون حقٌقٌون إلى الجٌش إال فً حاالت نادرة‪ ،‬أشهرها احتٌاج اإلؼرٌق لهم فً موقعة‬
‫رفح كما سنراها عند الحدٌث عن الثورات المصرٌة ضد البطالمة‪.‬‬

‫♦♦♦ السكان وتعرٌؾ المصري فً االحتالل الٌونانً‬

‫(مصر بٌن هوٌتٌن)‬

‫فً زمن االحتبلل الخاسوتٌمً ظلت مصر‪ -‬ولو ظاهرٌا‪ -‬مجتمعا له هوٌة واحدة‪ ،‬ألن قبابل االحتبلل‬
‫الخاسوٌتمً لحد كبٌر تزٌوا بالزي المصري وتحدثوا بالمصرٌة وعبدوا المعبودات المصرٌة‪ ،‬خاصة وأنه‬
‫لم ٌكن لهم امتداد حضاري خارج مصر‪ ،‬أما بعد احتبلل اإلؼرٌق لمصر‪ ،‬فصارت كؤن بها هوٌتان‪ ،‬أو‬
‫مجتمعان منفصبلن تمام االنفصال فً الثقافة لؽة ودٌنا‪ ،‬وفً المهن‪ ،‬وفً أماكن اإلقامة‪ ،‬وفً الزي‬
‫واألخبلق والعادات‪.‬‬

‫األولى هوٌة الشعب األصلً ابن البلد‪ ،‬األؼلبٌة الكاسحة‪ ،‬ومعظمهم ٌقطن الرٌؾ؛ أي معظم مساحة‬
‫مصر‪ ،‬وعددا من المدن البعٌدة عن العاصمة‪ٌ ،‬حترفون الزراعة واألشؽال الٌدوٌة والفنون والصناعات‬
‫والعمارة وبعض التجارة والعمل فً المعابد‪ ،‬وٌملكون نسبة قلٌلة من ثروة البلد‪ ،‬وٌعرفون بمبلمحهم ولؽتهم‬
‫ومبلبسهم وأخبلقهم وعاداتهم وأعٌادهم‪ ،‬وبؤنهم "رٌفٌون"‪ ،‬وبفضل هإالء‪ -‬فقط‪ -‬بقً لمصر بعضا من‬
‫هوٌتها حتى الٌوم‪.‬‬

‫والثانٌة هوٌة المجتمع البرَّ انً الدخٌل‪ ،‬ومكون من خلطة أعراق وطواٌؾ ودٌانات‪ ،‬ال ٌجمعهم إال الوالء‬

‫(ٖ)‬
‫‪ -‬مصر من اإلسكندر األكبر حتى الفتح العربً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٓٔ‪ ،‬والمقصود بقوله "جرٌا على عادة قدٌمة لجٌش اإلسكندرٌة" هً أن‬
‫الجٌش البطلمً كان دابم االنق البات وعمل اضطرابات لتولٌة حاكم أو تنزٌل آخر أو إجباره على تنفٌذ مطالبه‬

‫٘‪ٔٙ‬‬
‫للمال ولبلحتبلل وثقافة اإلؼرٌق‪ ،‬خلٌط من الٌونانٌٌن والكارٌٌن واآلرمٌٌن والٌهود والفٌنقٌٌن‪ ،‬بؤزٌابهم‬
‫ولؽاتهم وأدٌانهم وأشكالهم المختلفة تماما عن المصرٌٌن‪ ،‬وكانوا قلة فً العدد بالنسبة للسكان األصلٌٌن‪،‬‬
‫وٌقطنون المدن وقلٌل من فقراءهم فً األرٌاؾ‪ ،‬وٌحترفون مهن الجٌش‪ ،‬والسٌاسة‪ ،‬والتعلٌم‪ ،‬والوظابؾ‬
‫اإلدارٌة الحكومٌة‪ ،‬والتجارة‪ ،‬والصناعة‪ ،‬وبعضهم عمل فً المعابد‪ ،‬وٌتملكون معظم ثروة البلد‪.‬‬

‫وبٌن هذا وذاك‪ ،‬كان قلٌل من المصرٌٌن ٌستطٌعون الولوج إلى المجتمع األجنبً ألؼراض الدراسة‬
‫والتعلٌم أو العمل‪ ،‬وحٌنها ٌتطبعون بالطابع اإلؼرٌقً فً المبلبس والثقافة‪ ،‬وأحٌانا األسامً‪ ،‬مثلما ٌظهر‬
‫علٌه بٌتوزٌرس‪ ،‬كاهن تحوت‪ ،‬فً مقبرته بتونة الجبل بالمنٌا‪ ،‬والذي تسمى باسم ٌونانً بجانب اسمه‬
‫المصري "بادي أوزٌر"‪ ،‬ومثل المإرخ مانٌتون الذي كتب التارٌخ المصري بالٌونانٌة‪.‬‬

‫وال ٌوجد إحصاء رسمً لتعداد المصرٌٌن وتعداد كل جالٌة‪ ،‬ولكن أرقام إجمالٌة فً كتابات المإرخٌن‬
‫والرحالة‪ ،‬منهم جزٌفوس الذي عاش بداٌة العصر الرومانً‪ ،‬أي قرٌب من االحتبلل الٌونانً‪ ،‬وقال إن‬
‫سكان مصر ‪ 9‬ملٌون ونصؾ الملٌون عدا سكان اإلسكندرٌة الذٌن كان لهم سجل خاص‪ ،‬ألن الٌونانٌٌن‬
‫اعتبروا اإلسكندرٌة مدٌنة منفصلة عن مصر‪ ،‬وجعلوا سكانها من األجانب‪ ،‬ولها امتٌازات خاصة‪.‬‬

‫ووضع الدكتور مصطفى عبادي أستاذ التارٌخ الٌونانً‪ -‬الرومانً ثقته فً هذه األرقام؛ نظرا ألن‬
‫اإلدارة الٌونانٌة والرومانٌة كانت تحتفظ بإحصاءات دقٌقة لعدد السكان‪ ،‬كما كانت تسجل الموالٌد والوفٌات‬
‫بانتظام الرتباط هذا بالضراٌب‪.‬‬

‫وعن سكان اإلسكندرٌة قال دٌودور الصقلً إن عددهم من األحرار فً الفترة األخٌرة من الحكم‬
‫البطلمً هو ٖٓٓ ألؾ شخص‪ ،‬وعلى هذا األساس اقتراح عبادي أن متوسط سكان عدد مصر حوالً ‪8‬‬
‫ملٌون فً العصر الٌونانً وبداٌة الرومانً‪ ،‬أؼلبٌتهم من المصرٌٌن(ٗ)‪.‬‬

‫ودلت إدارة الٌونان لؤلجناس المختلفة فً مصر صراحة على التمٌٌز الواضح لصالح األجانب‪ ،‬سواء‬
‫من اإلؼرٌق أو المتؤؼرقٌن (الجالٌات األجنبٌة الدابرة فً فلكهم) على حساب المصرٌٌن(٘)‪.‬‬

‫ٌعكس هذا الوضع الممتاز لئلسكندرٌٌن لؽة الوثابق الرسمٌة الخاصة بالضراٌب وقوابم أصحاب‬
‫األمبلك‪ ،‬فنجد هذه الوثابق فً بداٌة العصر الرومانً تقسم المبلك إلى فبتٌن هما "اإلسكندرٌٌن"‬
‫و"المحلٌٌن"‪ ،‬وهذه المقابلة بٌن اإلسكندرٌٌن وسابر السكان فً وثابق الضراٌب تبٌن قوة اإلسكندرٌٌن‬
‫كطبقة اقتصادٌة؛ فبسبب تحكمهم فً وسابل الثراء عن طرٌق التجارة العالمٌة أصبحوا أثرى طبقة فً‬
‫مصر‪ ،‬وأكبر متملكٌن لؤلراضً(‪.)ٙ‬‬

‫وٌوصؾ اإلؼرٌق والجالٌات األجنبٌة بحسب المدن التً ٌسكنونها أو األعراق التابعٌن لها‪ ،‬فٌُقال‬

‫(ٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً‪ ،‬مصطفى عبادي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓٔٔ‬
‫(٘)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٔٔٓ -ٔٓ9‬‬
‫(‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕٓ9‬‬

‫‪ٔٙٙ‬‬
‫هٌلٌنٌٌن أو متروبولٌٌن أو سكندرٌٌن‪ ،‬أما بقٌة السكان من مصرٌٌن وؼٌرهم فٌوصفون حسب حرفهم‪،‬‬
‫وربما على هذا األساس تم تصنٌؾ المصرٌٌن بؤنهم المزارعٌن أو الفبلحٌن؛ نظرا لتركزهم فً األرٌاؾ‬
‫وارتباطهم بالزرع‪ ،‬حتى وإن كانوا ٌعملون بمهن ؼٌر فبلحة األرض‪ ،‬كما ٌطلق علٌهم وصؾ "المحلٌٌن"‪.‬‬

‫وهم ٌمؤلون الرٌؾ على امتداده الواسع‪ ،‬وال ٌختلطون بالمستوطنٌن إال فً أمور محددة‪ ،‬فقد اهتمت‬
‫الحكومة الٌونانٌة بحفظ العنصر اإلؼرٌقً نقٌا دون أن ٌختلط ببقٌة السكان فٌفنى فٌهم بمرور الزمن‪،‬‬
‫وجعلوه العنصر "الممتاز" فً المجتمع‪ ،‬وسنوا له قوانٌن تجعلهم هم فقط من ٌحصلون على حق المواطنة‬
‫فً اإلسكندرٌة‪ ،‬ومنعت الزواج بالمصرٌٌن(‪.)9‬‬

‫ولبقٌة األعراق األجنبٌة تجمعات خاصة‪ ،‬فهناك مثبل "بولٌتٌوما" للمقدونٌٌن‪ ،‬وأخرى للٌهود‪ ،‬وثالثة‬
‫للكرٌتٌٌن وهكذا‪ ،‬والبولٌتٌوما نظام ٌتشابه مع الجٌتوهات الٌهودٌة فً أوروبا‪ ،‬وإن كان فً مصر ؼرضه‬
‫تعلٌة شؤن سكانها األجانب ولٌس تحقٌر شؤنهم كما كانت تفعل أوروبا مع ٌهود العصور الوسطى‪.‬‬

‫أما الٌهود فً مصر وقتها فكان لهم كؽٌرهم من األجانب وضع ممٌز‪ ،‬وتؤؼرقوا فً كل شًء‪ -‬ما عدا‬
‫دٌنهم وعاداتهم ومعابدهم(‪ ،)8‬ألن هذه الرابطة هً الوحٌدة التً تجمع بٌنهم وتلم شتاتهم فً أي مكان هم فٌه‬
‫بدٌبل عن الرابطة الوطنٌة التً ٌفتقدونها‪ ،‬وصار لهم حًٌا خاصا داخل اإلسكندرٌة هو حً "دلتا"‪ ،‬وهم رقم‬
‫ٕ بعد اإلؼرٌق فً العدد والنفوذ بالمدٌنة(‪.)9‬‬

‫أما المصرٌون الحقٌقون‪ ،‬أصحاب البلد‪ ،‬فرؼم أنهم بطبٌعة الحال األؼلبٌة الساحقة وعماد المجتمع‪ ،‬إال‬
‫أنه فً كل المجاالت كان الٌونانً هو الربٌس والمصري هو المرءوس‪ ،‬باستثناء مجال المعابد(ٓٔ)‪.‬‬

‫وفرَّ قت القوانٌن أٌضا بٌن السكان‪ ،‬فالقانون المصري القدٌم للمصرٌٌن‪ ،‬وصدر قانون خاص بالٌونانٌٌن‬
‫واألجانب‪ ،‬وقانون ثالث خاص بالمدن الثبلثة المخصصة للٌونانٌٌن (اإلسكندرٌة‪ ،‬بطلمٌة‪ ،‬نقراش‬
‫"نقراطٌس") ولكل نوع من القوانٌن محاكم خاصة وقضاة(ٔٔ)‪.‬‬

‫أما أصحاب الحظوة الكبرى فهم سكان اإلسكندرٌة (اإلؼرٌق والمتؤؼرقٌن)‪ ،‬فإضافة إلى أن لهم مواطنة‬
‫خاصة بهم‪ ،‬وبالرؼم من أنهم األكثر ؼنى تمتعوا بإعفاءات ضرٌبٌة واسعة(ٕٔ)‪ ،‬وجاء تخصٌص مواطنة‬
‫لسكان اإلسكندرٌة جناٌة مرٌعة لبلحتبلل الٌونانً‪ ،‬فصل بها المدٌنة فصبل تاما عن مصر لٌحفظوا‬
‫لئلؼرٌق وضعا فوق بقٌة سكان البلد‪ ،‬وما زال ٌونانٌون‪ -‬حتى الٌوم‪ٌ -‬عتبرون اإلسكندرٌة مدٌنة خاصة بهم‬
‫وٌحلمون بعودة احتبللها كما سنرى الحقا‪.‬‬

‫وتمنح مواطنة اإلسكندرٌة أصحابها معاملة ممٌزة فً الحقوق السٌاسٌة والضراٌب‪ ،‬وفً االحتبلل‬
‫(‪)9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٔٔٔ‬
‫(‪)8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖٔٔ‬
‫(‪)9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٔٔٔ‪ٔٔٗ -‬‬
‫(ٓٔ)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٗٔٔ‪ٔٔ٘ -‬‬
‫(ٔٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕٔٔ‪ ،‬وٌشبه هذا نظام المحاكم القنصلٌة واالمتٌازات األجنبٌة فً عصر أسرة محمد علً‪.‬‬
‫(ٕٔ)‬
‫‪ -‬انظر المرجع السابق‪ ،‬ص ٕ٘ٔ‪ٖٔ٘ -‬‬

‫‪ٔٙ7‬‬
‫الرومانً‪ ،‬أصبح الحصول على المواطنة اإلسكندرٌة جواز المرور للحصول على المواطنة الرومانٌة‪،‬‬
‫وهذا بطبٌعة الحال قاصر‪ -‬فً معظم األحٌان‪ -‬على اإلؼرٌق و المتؤؼرقٌن‪ ،‬ألن اإلقامة الداٌمة فً‬
‫اإلسكندرٌة لم تكن بالسهولة لكل السكان‪ ،‬بل ولٌس كل من أقام فٌها ٌكون سكندرٌا‪ ،‬فكثٌر من الٌهود لم‬
‫ٌحصلوا على المواطنة السكندرٌة رؼم عٌشهم فٌها‪ ،‬كما كانت مواطنة اإلسكندرٌة فً االحتبلل الرومانً‬
‫تعفً أصحابها من دفع ضرٌبة الرأس (الجزٌة)‪.‬‬

‫▼▼▼ نتابج االستٌطان واالحتالل اإلؼرٌقً‬

‫❶‪ -‬مصر تلبس القناع‪ ..‬ألول مرة‬

‫إن كان االحتبلل االستٌطانً الذي أوصل تحالؾ القباٌل نهاٌة األسرة ٕٓ إلى عرش مصر هو النكبة‬
‫األولى التً أضاعت حرٌة مصر وجٌشها ورمتها فً ببر االحتبلالت الطوٌلة‪ ،‬فإن االحتبلل اإلؼرٌقً‬
‫والرومانً هو النكبة الثانٌة التً بدأت مشوار مسح هوٌة مصر أو تؽرٌبها عن أهلها‪ ....‬كٌؾ؟‬

‫ألنه رؼم ما عاناه المصرٌون فً عهد االحتبلل ال َقبلً الخاسوتٌمً من استبعاد أبنابهم عن المناصب‬
‫القٌادٌة‪ ،‬واحتكار الدخبلء للثروة‪ ،‬وضٌاع أرواح المصرٌٌن فً أتون الحروب الداخلٌة خبلل الصراع‬
‫ال َقبلً على السلطة‪ ،‬وتحوٌل بلدهم إلى مهبط للمرتزقة والعصابات‪ ،‬إال أنه بقً الحكام األجانب ملتزمٌن‬
‫بالمعالم الربٌسٌة للحضارة المصرٌة‪ ،‬وإن شابها التشوٌه من ثقافتهم الدخٌلة‪.‬‬

‫فالمستوطنون األجانب وقتها لم ٌكونوا شعبا موحدا‪ ،‬بل "أقوام مختلطة متعددة اللؽات" على حد وصؾ‬
‫فرانسٌس فٌفر(ٖٔ) أتت من مناطق وثقافات مختلفة‪ ،‬وعندما تمكنوا من احتبلل مصر لم ٌكونوا ٌملكون‬
‫حضارة أو دٌنا أو لؽة واحدة ٌنافسون بهم ما وجدوه فً مصر‪ ،‬فاضطروا للتستر بالحضارة المصرٌة‬
‫كضرورة من ضرورات البقاء والسٌطرة‪ ..‬فظل وجه مصر مصرٌا‪.‬‬

‫أما المحتلون الجدد‪ ،‬اإلؼرٌق‪ ،‬فإنهم من مدن متجاورة‪ ،‬ولؽة واحدة‪ ،‬وورابهم ثقل ثقافً فً الٌونان‬
‫وخبرة عسكرٌة قتالٌة عرٌضة وجٌوش مرتزقة حاشدة‪ ،‬وورابهم قوة اقتصادٌة عالمٌة‪ ،‬كونوها من‬
‫سٌطرتهم على التجارة الدولٌة‪ ،‬كما ؼلبتهم نشوة أنهم صاروا قوة عالمٌة بفضل انتصارات اإلسكندر الذي‬
‫تبنى الثقافة الهٌلٌنة؛ ففرضوا ثقافتهم البرَّ انً على العاصمة الجدٌدة وهً اإلسكندرٌة‪ -‬حتى فً اسمها‪-‬‬
‫وفرضوا ذات الثقافة على المدن التً ٌكثر فٌها الجالٌات األجنبٌة مثل منؾ والفٌوم‪.‬‬

‫وحتى المعابد المصرٌة التً تركوا المصرٌٌن ٌعٌدون بنابها أو ٌرمموها انحصر أكثرها فً الوجه‬
‫القبلً‪ ،‬مثل إدفو وكوم إمبو ودندرة فً أسوان واألقصر‪ ،‬ولم ٌُلحظ اهتمام مماثل للمعابد المصرٌة فً منؾ‬
‫وأون والفٌوم؛ فصارت المدن طابعها أجنبً (إؼرٌقً) ولٌس مصرٌا‪ -‬ألول مرة فً تارٌخها‪ -‬تتركز فٌها‬
‫التجارة والثروة ومعاهد العلم‪ ،‬حتى أن القادم من الخارج وٌتجول فً العاصمة والمدن المتؤؼرقة ال ٌسمع‬

‫"الفرعون األخٌر رمسٌس الثالث أو زوال حضارة عرٌقة"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓ٘‬

‫‪ٔٙ8‬‬
‫الحدٌث فً الؽالب إال باللؽة الٌونانٌة‪ ،‬وال ٌرى إال مبلبس ٌونانٌة‪ ،‬لمعبودات ٌونانٌة‪ -‬إضافة لـ إٌسة التً‬
‫صارت معبودة عالمٌة‪ -‬والمبلمح ٌونانٌة وخلٌط من جالٌات أخرى‪ ،‬كؤنها بلد آخر‪ ،‬وإذا لم ٌخطؾ رجله‬
‫وٌتجول فً الرٌؾ الواسع وٌرى مبلٌٌن المصرٌٌن لظن نفسه فً بلد لم ٌحمل ٌوما اسم كٌمة (مصر)‪.‬‬

‫وٌرصد نفتالً لوٌس أن اإلؼرٌق تبنوا عبادة مقدسات مصرٌة أثرت فٌهم بقوة‪ ،‬واحتفلوا بؤعٌاد مصرٌة‬
‫كرأس السنة المصرٌة إال أنهم أعطوها أسماء معبوداتهم اإلؼرٌقٌة أؼلب الوقت‪ ،‬فمثبل إٌسة سموها دٌمتٌر‬
‫وهٌرا‪ ،‬وأوزٌر سموه أبولو وبلوتو‪ ،‬وإٌسة وحتحور بؤفرودٌت‪ ،‬وأن الٌونان ظلت‪ -‬بتعبٌره‪" -‬األم الروحٌة"‬
‫لئلؼرٌق‪ ،‬ولم ٌبنوا معابدهم إال على الطراز الٌونانً مع بعض التؤثر المصري الستخدامهم مواد بناء‬
‫وأسالٌب محلٌة‪ ،‬وأقاموا أعٌادهم بما ٌتواكب مع ما ٌجري فً ببلد الٌونان‪ ،‬وتبرع أحد مستوطنً البهنسا‬
‫بمبلػ كبٌر لتقام احتفاالت للشبٌبة على نمط التً تجري فً أنتٌنوبولٌس (مدٌنة مخصصة لئلؼرٌق بالمنٌا)‪،‬‬
‫وفً سنة ‪ ٕٙ8‬م (أٌام االحتبلل الرومانً) وجدت قابمة بؤسماء إؼرٌق وإؼرٌق رومان من مستوطنً‬
‫نقراطٌس (نقراش) فً احتفاالت تضمنت أشعار ومبارٌات ورقصات أؼرٌقٌة تحت رعاٌة اإللهٌن‬
‫هٌراكٌلٌس ودٌونٌسٌوس‪ ،‬وفً رسالة من أورٌلٌوس أجاثوس مدٌر معهد التربٌة ٌوجه دعوة لشخصٌات‬
‫لحضور ما سماه بـ"االحتفال بعٌد أجدادنا" بمناسبة ذكرى اإلله كرونوس" فً الفٌوم؛ٗٔأي رؼم استٌطانهم‬
‫فً مصر ألكثر من ٓٓ‪ ٙ‬سنة ظلوا إؼرٌق الروح واألسامً واللؽة واالنتماء‪ ،‬وفً نفس الوقت ٌدعون أن‬
‫مصر ملك لهم‪.‬‬

‫وبذلك صارت مصر كإنسانة وضِ ع على وجهها ؼصبا قناعا أجنبٌا حجب مبلمحها الحقٌقٌة‪ ،‬واس ُتبعد‬
‫بقٌة جسدها خلؾ التراب والرمال فً األرٌاؾ كً ال ٌُرى منها إال ذلك الوجه االصطناعً‪ ،‬ومنذ ذلك‬
‫الوقت‪ -‬وحتى أول القرن ٕٓ‪ -‬ومصر فً الرٌؾ الواسع كؤنها بلد‪ ،‬وفً المدن بجالٌاتها األجنبٌة وبرابرتها‬
‫الؽزاة كؤنها بلد آخر‪ ..‬وتارٌخ ذلك العصر ال ٌسجل من النجوم إال ما فعله الحاكم الٌونانً‪ ،‬والشاعر‬
‫الٌونانً‪ ،‬والفٌلسوق الٌونانً أو ُتقال أحٌانا السكندري‪ -‬ولم ٌسمح ببروز مصرٌٌن إال نادرا مثل مانٌتون‬
‫لتخصصه فً تارٌخ مصر‪ -‬حتى شاع ذلك الظن الساذج بؤن المصرٌٌن (أو كما ٌُقال الفراعنة) اختفوا فجؤة‬
‫بحلول االحتبلل الٌونانً‪ ،‬كما شاع ذلك التقسٌم الساذج أٌضا للتارٌخ المصري بؤنها مصر الفرعونٌة‪ ،‬ثم‬
‫مصر الٌونانٌة‪ ،‬ثم مصر الرومانٌة‪ ،‬ثم مصر العربٌة‪ ،‬وهكذا‪ ...‬كؤن ال شعب أصٌل فٌها بالمبلٌٌن من نبع‬
‫أرضها‪ ،‬من عرقه ٌعٌش وٌزدهر الٌونانً والرومانً والعربً إلخ‪ ..‬كؤن ال شعب‪.‬‬

‫ٗٔ‪ -‬انظر‪ :‬الحٌاة فً مصر فً عهد الرومان‪ ،‬نفتالً لوٌس‪ ،‬ص ٗ‪ٔٔ٘ -9‬‬

‫‪ٔٙ9‬‬
‫الوجه األصلً لمصر‪ ..‬مصرٌون حكاما ومحكومٌن (المصدر‪ :‬تجمٌعة قوش وتماثٌل من المعابد والمقابر المصرٌة)‬

‫القناع األول الذي ألصق على وجه مصر ؼصبا‪ ،‬الوجه الٌونانً الرومانً (المصدر‪ :‬تجمٌعة تماثٌل ونقوش لرومان وٌونانٌٌن من المعابد والمقابر‬
‫وصور مرسومة لؤلزٌاء الخاصة بهما من اإلنترنت‪ -‬الصؾ األعلى ٌمثل الٌونانٌن واألسفل ٌمثل الرومان والجالٌات المعاصرة لهم)‬

‫❷‪ -‬تؽٌٌر اسم ومدلول مصر والمصرٌٌن‬

‫قلد الٌونانٌون اآلشورٌٌن فً تؽٌٌر أسماء المدن المصرٌة العرٌقة‪ ،‬وإن توسعوا‪ ،‬فمثبل أون (عٌن‬
‫شمس) صارت "هٌلٌوبولٌس"‪ ،‬ومنؾ صارت "ممفٌس"‪ ،‬وآبو أو سونو (أسوان) صارت "إلفنتٌن"‪ ،‬وفٌوم‬
‫صارت "كروكودٌلوبولٌس"‪ ،‬وواسط (األقصر) صارت "دٌوس بولٌس"‪ ،‬أو "طٌبة" إلخ(٘ٔ)‪.‬‬

‫أما الجدٌد فهو تؽٌٌر اسم كٌمة (مصر) لتكون "إٌجٌبتٌوس"‪ ،‬وترتب على هذا تؽٌٌر وصؾ المصرٌٌن‬
‫من "كٌمتٌو"‪ ،‬إلى "جٌبتٌون"‪ ،‬أو "جٌبتٌوس" باللفظ الٌونانً(‪ ،)ٔٙ‬وهً التً جاءت منها كلمة "قبط"‪،‬‬

‫(٘ٔ)‬
‫‪ -‬حكام األقالٌم فً مصر الفرعونٌة‪ ،‬حسن محمد محًٌ الدٌن السعدي‪ ،‬دار المعرفة الجامعٌة‪ ،‬اإلسكندرٌة‪ ،ٔ99ٔ ،‬ص ٖ٘٘‪ٖٕٙ -‬‬
‫(‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬لتتبع ظهور لفظ قبط انظر‪ :‬تراث األدب القبطً‪ ،‬ش نودة ماهر وٌوحنا نسٌم ٌوسؾ‪ ،‬مإسسة القدٌس مرقس لدراسات التارٌخ القبطً‪ ،‬ص ٗ٘‪-‬‬
‫٘٘‬

‫ٓ‪ٔ7‬‬
‫وشملت لٌس فقط المصرٌٌن الحقٌقٌٌن‪ ،‬بل والمستوطنٌن األجانب من ؼٌر سكان اإلسكندرٌة والمدن‬
‫المخصصة لئلؼرٌق‪ ،‬فحدث التباس فً فهم مدلول كلمة "قبطً"‪ ،‬ودور المصرٌٌن فً بعض األحداث‬
‫واألفكار التً ُتنسب إلى "القبط"‪ ،‬دون تحدٌد المقصود بها المصرٌٌن الحقٌقٌٌن أم المستوطنٌن األجانب‪ ،‬أم‬
‫االثنٌن كما سنرى‪.‬‬

‫وؼٌروا أسماء المقدسات فمثبل إٌسة صارت "إٌزٌس"‪ ،‬وحور صار "حورس"‪ ،‬وأوزٌر صار‬
‫"أوزورٌس"‪ ،‬ونبت حت صارت "نفتٌس"‪ ،‬وتحوت صار "هرمس"‪ ،‬وتبدلت أسامً الحكام فؤمنحوتب‬
‫صار "أمونوفٌس"‪ ،‬وأحمس صار "أمازٌس"‪ ،‬وهكذا‪ ،‬وهذه المسمٌات هً التً شاعت فً كتب التارٌخ‬
‫فٌما بعد‪ ،‬بل وعلى ألسنة المتعلمٌن من المصرٌٌن حٌن كتب أحدهم تارٌخ مصر وهو مانٌتون‪ ،‬ثم بدأ‬
‫مشوار اختفاء أسامً هذه المقدسات المتجذرة فً عروق المصرٌٌن بعد إؼبلق المعابد المصرٌة أٌام‬
‫الرومان‪ ،‬وانتسبت العلوم المصرٌة لؽٌر أصحابها‪ ،‬فصارت عٌون الحكمة المصرٌة تشتهر بؤسماء‬
‫أفبلطون وفٌثاؼورث وأرسطو مثبل ال باسم المصرٌٌن(‪.)ٔ9‬‬

‫وٌجدر المبلحظة هنا‪ ،‬أنه رؼم اعتماد المسمٌات اإلؼرٌقٌة هذه رسمٌا‪ ،‬إال أنها ظلت محصورة على‬
‫ألسنة األجانب والورق الرسمً‪ ،‬فٌما المصرٌون‪ -‬وخاصة األمٌٌن وفً األرٌاؾ‪ -‬ظلوا محافظٌن على‬
‫األسامً المصرٌة النقٌة فً كل شًء‪ ،‬وٌنطقون اسم بلدهم (كٌمة وأحٌانا خٌمً)‪.‬‬

‫❸‪ -‬تحقٌر مكانة المصرٌٌن‪ ..‬الحرب النفسٌة الطوٌلة‬

‫واألفدح‪ ،‬هو محاولة تؽٌٌر سمعة المصري ذات الرنٌن التارٌخً الساحر؛ فؤلول مرة ٌعتبر أن ٌوصؾ‬
‫شخص بؤنه مصري تقلٌبل من شؤنه‪ ،‬و ُترمى هذه الكلمة بؤحط الصفات مثل "بربري" و"منحط"؛ فكتب‬
‫إؼرٌقً ٌعٌش فً البهنسا ألسرته‪" :‬ربما تظنون أو تتوقعون أننً قد أصحبت بربرٌا أو مصرٌا ؼٌر‬
‫متحضر"‪ ،‬نافٌا عن نفسه أن ٌكون قلَّد المصرٌٌن فً عٌشتهم القروٌة(‪ ،)ٔ8‬بعد أن كان بعض اإلؼرٌق‪ -‬مثل‬
‫هٌردوت‪ٌ -‬قولون إنهم نقلوا الكثٌر من علومهم وآلهتهم عن معبودات مصر‪ ،‬وٌروي هٌرودوت أٌضا حٌن‬
‫زار مصر خبلل االحتبلل الفارسً أن المصرٌٌن كانوا ٌؤنفون من تقبٌل المستوطنٌن الٌونانٌٌن فً شفاههم‪،‬‬
‫وال ٌستعملون آوانً األكل الٌونانٌة‪ ،‬بل ال ٌذوقون لحم ثور طاهر إذا قُطع بسكٌن ٌونانٌة(‪ ،)ٔ9‬وأبدى عجبه‬
‫من إسراؾ المتدٌنٌن المصرٌٌن فً نظافتهم(ٕٓ)‪.‬‬

‫فصاروا بعد تمكنهم من رقبة المصرٌٌن ٌلبسون كلمة إؼرٌقً بؤعظم الصفات‪ ،‬وباتت كلمة "متعلم"‬
‫مقترنة بمن ٌرتدي الزي الٌونانً‪ ،‬وٌتكلم بلسان الٌونان‪ ،‬وٌعٌش عٌشة الٌونان‪ ،‬وٌكون اسمه من أسامً‬
‫الٌونان‪ ،‬وأصدروا قوانٌن تمٌز الٌونانً عن المصري فً كافة المعامبلت‪.‬‬

‫(‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬متون هرمس الحكمة الفرعونٌة المفقودة‪ ،‬تٌموثً فرٌك وبٌتر ؼاندي‪ ،‬ترجمة عمر الفاروق عمر‪ ،‬المجلس األعلى للثقافة‪ ،‬ص ‪ٕٙ‬‬
‫(‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الحٌاة فً مصر فً العصر الرومانً‪ ،‬نفتالً بولٌس‪ ،‬ترجمة آمال الروبً‪ ،‬مراجعة محمد حمدي إبراهٌم‪ ،‬دار عٌن للدراسات والبحوث‬
‫اإلنسانٌة واالجتماعٌة‪ ،‬ط ٔ‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ999 ،‬ص ٘ٗ‬
‫(‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬هٌردوت ٌتحدث عن مصر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٖٔو ٖٗٔ‪ ،‬و‪ٕٔ٘ -ٔٗ9‬‬
‫(ٕٓ)‬
‫‪ -‬تارٌخ الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔ‪ٕ8‬‬

‫ٔ‪ٔ7‬‬
‫ورؼم اضطرار الٌونانٌٌن لبلستعانة بالكثٌر من علوم ودٌانة الحضارة المصرٌة فً حٌاتهم ومعابدهم‬
‫ومنازلهم لشدة ما تبهرهم‪ ،‬لكن اعتمدوا "تحقٌر المصرٌٌن" سٌاسة ثابتة‪ ،‬لٌس ألن المصرٌٌن ٌستحقون‬
‫االحتقار‪ ،‬ولكن لٌشعروهم باالحتقار؛ فٌشعروهم بؤنهم مختلفٌن عن األجداد القدامى صانعً هذه الحضارة‬
‫وتصبح مشاعا‪ ،‬ولٌشعروهم بؤنهم لٌسوا أهبل إلدارة بلدهم‪ ...‬فٌرضوا باحتبللهم‪ ،‬أو ٌنكسروا‪ ..‬ولٌشعروهم‬
‫بؤنهم لٌسوا أهبل الستكمال بناء الحضارة‪ ،‬فٌتركوا الساحة لهم‪ ...‬وال تقوم للمصرٌٌن قابمة أخرى‪.‬‬

‫ٌقول عباس العقاد فً استعراضه لوساٌل كافة المحتلٌن للحط من مكانة المصرٌٌن‪" :‬فالٌونان فً العالم‬
‫القدٌم كانوا ٌنقمون على المصرٌٌن الترفع والشمم واعتبارهم اإلؼرٌق جمٌعا فً الحضٌض األدنى من‬
‫مراتب الشعوب‪ ،‬وكانوا ٌشعرون بنفور المصرٌٌن منهم ألنهم أعانوا الفراعنة الؽاصبٌن ]الخاسوتٌمٌٌن[‬
‫علٌهم‪ ،‬ودخلوا زرافات زرافات فً الجٌوش المرتزقة التً كان أولبك الفراعنة ٌستعٌنون بها على حراسة‬
‫عروشهم وإخضاع رعاٌاهم‪ ،‬وكان الٌونان ٌزعمون بطبٌعة الحال أن الفراعنة ٌتخذون الجٌوش المرتزقة‬
‫من األجانب ومن الٌونان خاصة ألن أبناء الببلد ال ٌصلحون للحرب وال ٌصبرون على مضانك الجندٌة"‪،‬‬
‫ور َّد العقاد بؤن هإالء الحكام استكثروا من المرتزقة الٌونان وأبعدوا المصرٌٌن عن الجٌش؛ خوفا من‬
‫الثورات المصرٌة ضدهم(ٕٔ)‪.‬‬

‫وتجاهل الٌونانٌون أن المصرٌٌن هم الجٌش الوحٌد الذي ص َّد قباٌل شعوب البحر فً حٌن أن الٌونانٌٌن‬
‫رؼم تمرسهم فً عمل المرتزقة فشلوا فً صدهم‪ ،‬بعد فشلهم فً إقامة دولة موحدة لهم‪ ،‬وهرب بعضهم‬
‫لٌتنعم بمصر وعرق فبلحٌها‪.‬‬

‫ومن أجلى مظاهر الشموخ المصري فً ذلك الوقت أن المعابد المصرٌة لم ٌُقام فٌها تماثٌل للحكام‬
‫الٌونانٌٌن وال الرومان‪ ،‬وفٌما ٌخص النقش فلم ٌُمثل فٌها على الجدران حاكم أجنبً إال بمبلبس ومبلمح‬
‫مصرٌة (رؼم أن أكثرهم لم ٌرتدوا المبلبس المصرٌة أصبل)‪ ،‬ولم ٌُنصب فٌها ظل للمعبودات الٌونانٌة‬
‫كالمسخ سرابٌس‪ ،‬ولم ٌُنقش على جدرانها حرؾ واحد من لؽة أجنبٌة‪.‬‬

‫❹‪ -‬عصر رجال األعمال الدولٌٌن‬

‫بعد أن استتب األمر لئلسكندر بتتوٌجه حاكما لمصر‪ ،‬بدأ خطوات إحكام قبضة اإلؼرٌق على مفاصل‬
‫الدولة‪ ،‬فؤلؽى التنظٌم اإلداري الذي كان فً مصر قبله‪ ،‬وقسم مصر إدارٌا إلى ٗ مناطق أو ٗ أقالٌم‪ ،‬وهً‬
‫الوجهان القبلً والبحري ومنطقة الصحراء الشرقٌة ومنطقة الصحراء الؽربٌة‪ ،‬وأوكل بإدارة الوجهٌن‬
‫القبلً والبحري لمصرٌٌن‪ ،‬ومن ؼٌر الواضح إن كانا فعبل مصرٌٌن أم من المستوطنٌن المستمصرٌن‪،‬‬
‫وهما بتٌزٌس ودوالسبٌس‪ ،‬فكل ما هو لٌس إؼرٌقً كانوا ٌسمونه "مصرٌا"‪ ،‬وأوكل بإدارة الصحراوٌن‬
‫إلؼرٌق‪ ،‬وهما أبولونٌوس كلٌومنٌس النقراطٌسً‪ ،‬كما أوكل مهام قٌادة الجٌش لئلؼرٌق‪.‬‬

‫ووفق الدكتور مصطفى عبادي صار لكلٌومنٌس النقراطٌسً‪ -‬أحد كبار المستوطنٌن اإلؼرٌق القدامى‪-‬‬

‫(ٕٔ)‬
‫‪ -‬سعد زؼلول‪ ،‬سٌرة وتحٌة‪ ،‬عباس محمود العقاد‪ ،‬الهٌبة العامة للكتاب‪ ،ٕٓٔ9 ،‬ص ‪8-9‬‬

‫ٕ‪ٔ7‬‬
‫الحظوة األكبر فً المناصب‪ ،‬فتولى أٌضا اإلشراؾ على الخزانة (وزارة المالٌة) وواإلشراؾ على بناء‬
‫اإلسكندرٌة فً موضع ال ٌفصله عن الٌونان سوى البحر(ٕٕ)‪ ،‬وما ٌهمنا أكثر فً كلٌومنٌوس أنه به ترسخ‬
‫فً مصر عصر ٌمكن أن ٌوصؾ بعصر "رجال األعمال الدولٌٌن" والتجار المحتكرٌن والوسطاء‬
‫والسماسرة‪ ،‬وهً المهن الؽرٌبة على الثقافة المصرٌة والتً سبق أن رأٌنا كٌؾ ؼرسها فً الببلد‬
‫المستوطنون اإلؼرٌق والٌهود فً األسرة ‪ ،ٕٙ‬وهً األسس التً خلقت ما ٌُعرؾ حالٌا بالشركات المتعددة‬
‫الجنسٌات والبنوك العالمٌة وصوال لمنظمة التجارة العالمٌة‪.‬‬

‫والمتتبع ألعمال كلٌومنٌس ٌبلحظ أنه انتهج سٌاسة مقصودة الحتكار تجارة القمح عن طرٌق السٌطرة‬
‫على السوق المصرٌة بؤن ٌصبح هو المصدر الوحٌد للقمح‪ ،‬وعن هذا السبٌل استطاع التحكم فً تجارة‬
‫القمح العالمٌة‪ ،‬وتحدٌد أسعاره فً الخارج على نحو ٌحقق له الربح الوفٌر(ٖٕ)‪.‬‬

‫ولٌصل إلى مرحلة االحتكار واالنفراد هذه قضى على سابر المنافسٌن المحلٌٌن له‪ ،‬مثل رجال المعابد‬
‫وكبار المزارعٌن والمصدرٌن‪ ،‬مثلما تفعل حتى الٌوم الشركات العالمٌة فً مصر‪.‬‬

‫وبدأ برجال المعابد‪ ،‬فاستعمل الحٌلة إلرهابهم واستنزافهم بالتدرٌجً حتى ال ٌفاجبهم فٌثوروا؛ إذ جمعهم‬
‫وأعلنهم أن المعابد تتكلؾ المال الكثٌر‪ ،‬ولذلك ٌجب القضاء على بعضها‪ ،‬فخافوا على معابدهم واتفقوا على‬
‫جمع مبلػ كبٌر من أمبلكهم الخاصة أو من أموال المعابد وقدموها لكلٌومنس(ٕٗ)‪ ،‬وهذه الجولة األولى‪،‬‬
‫بعدها اتجه إلى المزارعٌن‪ ،‬فتخلص من منافستهم بؤن اتفق معهم على أن ٌبٌعوا له جمٌع محصولهم من‬
‫القمح بالسعر الذي كانوا ٌصدرون به‪ -‬أي ٌصبح وسٌطا بٌنهم وبٌن الخارج رؼم أنهم لم ٌكونوا بحاجة‬
‫لذلك من قبل‪ -‬وبذلك احتكر تجارة القمح‪ ،‬وأصبح المصدر الوحٌد لها‪.‬‬

‫أما عن تحكمه فً األسواق العالمٌة فعبر شبكة متقنة من السماسرة والوكبلء بثهم فً موانا البحر‬
‫األبٌض المتوسط‪ٌ ،‬خبرونه أوال بؤول عن أسعار القمح‪ ،‬وحٌنما ٌشح فً سوق وٌرتفع سعره ٌنتهز الفرصة‬
‫وٌرسل إلى ذلك السوق شحنات القمح ٌبٌعها بالسعر الذي ٌفرضه هو‪ ،‬حتى ٌقال أنه باع الكٌل من القمح فً‬
‫بعض األزمات بمبلػ ٕٖ دراخمة‪ ،‬بٌنما السعر العادي بٌن ٘‪ ٔٓ-‬دراخمات فقط(ٕ٘)‪.‬‬

‫وبذلك تكون محاولة كلٌومنٌس إنشاء تجارة احتكارٌة دولٌة هً األولى فً التارٌخ(‪ ،)ٕٙ‬وأصبح للقمح‬
‫المصري أهمٌة اس تراتٌجٌة كما صار للقطن فٌما بعد‪ ،‬وذلك على حساب ؼذاء المصرٌٌن‪ ،‬فلنا أن نتخٌل كم‬
‫نقص نصٌب كل مصري من ؼذاء القمح لٌستؽله المحتكرون فً بٌعه بؤرباح باهظة فً الخارج‪.‬‬

‫وكثٌرا ما تكونت فً اإلسكندرٌة شركات دولٌة من تجار ذوي جنسٌات مختلفة للقٌام بتجارة عالمٌة‪،‬‬
‫ٌوضح هذه الظاهرة عقد تجاري بحري الستٌراد التوابل من شرق أفرٌقٌا عن طرٌق البحر األحمر‪،‬‬

‫(ٕٕ)‬
‫‪ -‬مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً‪ ،‬مصطفى العبادي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٕ‬
‫(ٖٕ)‬
‫‪ -‬انظر مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٕ‪ٕٗ -‬‬
‫(ٕٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬وهذا نفس األسلوب الذي سٌتبعه محمد علً أٌضا فً تنفٌذه لسٌاسة االحتكار فً القرن ‪ٔ9‬‬
‫(ٕ٘)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕٗ‪ٕ٘ -‬‬
‫(‪)ٕٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬

‫ٖ‪ٔ7‬‬
‫فؤطراؾ العقد ٌنتمون إلى أكثر من ‪ 9‬جنسٌات مختلفة(‪.)ٕ9‬‬

‫❺‪ -‬إهالك مال المصرٌٌن فً حروب ؼٌرهم‬

‫توفً اإلسكندر األكبر خبلل فتوحاته فً الخارج؛ فارتبكت اإلمبراطورٌة ألنه لم ٌضع نظاما لوراثة‬
‫العرش‪ ،‬وانتهى الخبلؾ بٌن قادته إلى أن قتل زوجته روكسانا ورضٌعها‪ ،‬وتقاسم الببلد المفتوحة‪ ،‬فتولى‬
‫بردٌكاس أمر آسٌا‪ ،‬والٌونان توالها أنتٌباتروس‪ ،‬أما مصر فتوالها بطلمٌوس بن الجوس؛ باعتبارها والٌة‬
‫"سترابا" تابعة لئلمبراطورٌة‪ ،‬لكنه لم ٌكتؾ بؤن ٌكون مجرد "والً" فاستؽل صراع القادة فً آسٌا والٌونان‬
‫على الحكم واؼتٌال بردٌكاس على أٌدي ضباطه‪ ،‬واستقل بمصر‪ ،‬وبدأ العصر المعروؾ باالحتبلل‬
‫البطلمً‪ ،‬نسبة ألن حكامه تسموا ببطلمٌوس‪ ،‬بداٌة من هذا وحتى بطلمٌوس الخامس عشر(‪.)ٕ8‬‬

‫وأهلك ثروات مصرٌة ضخمة فً صراعاته مع خصومه حكام سورٌا والٌونان الذٌن استكثروا علٌه‬
‫حكم مصر‪ ،‬كما أهلك البطالمة أموال المصرٌٌن على أفراح ؼٌرهم‪ ،‬وعلى سبٌل المثال فإن بطلمٌوس‬
‫الثانً المشهور بالبذخ والمجون وسط المحظٌات جمع حوله كل أسباب الفخامة والنعٌم‪ ،‬ومنها أنه بعدما‬
‫زوجه من ابنته برنٌقة‪ ،‬وحسب تقالٌد العصر كانت المرأة أو‬ ‫أوقؾ الحرب مع أنتٌوخس ملك سورٌا‪َّ ،‬‬
‫والدها من ٌقدمون المهر‪ ،‬وٌبدو أن مهر برنٌقة كان من الضخامة بحٌث لقبت بحاملة المهر(‪.)ٕ9‬‬

‫❻‪ -‬تضخم االحتالل الجالٌاتً (االستٌطانً)‬

‫وفٌما ٌخص سٌاسته الداخلٌة اعتمد بطلمٌوس نظام الحكم المركزي القوي‪ ،‬النظام المصري األصٌل فً‬
‫الحكم‪ ،‬ودار فً ذهنه سإال‪" :‬هل سٌحكم مصر بواسطة المصرٌٌن أم المقدونٌٌن واإلؼرٌق؟"‪.‬‬

‫واإلجابة كانت سرٌعة فقرر "االعتماد على المقدونٌٌن واإلؼرٌق‪ -‬رؼم تنافرهم وتنافسهم‪ -‬فً جٌشه‬
‫وحكومته‪ ،‬وفتح باب مصر لهجرات إؼرٌقٌة جدٌدة؛ ومنح ضباط جٌشه وموظفً الدولة قطعا من األرض‬
‫ٌستثمرونها وقت السلم(ٖٓ)‪ ،‬وهذا األمر من بوادر ظهور نظام "الوسٌة" الذي ترسخ فً العصر الرومانً‪،‬‬
‫وربما كان له جذور فً السابق‪ ،‬وفٌه ٌستقطع الحاكم قطعا من األرض للوافدٌن كمكافبات على خدماتهم‬
‫للحكومة‪ ،‬وبمرور الوقت صاروا ٌتوارثونها‪ ،‬حتى وصلت إلى وراثة قرى بؤكملها‪.‬‬

‫❼‪ -‬تحرٌم مدن على المصرٌٌن‬

‫قبل االحتبلل الٌونانً عاش الٌونانٌون وؼٌرهم من مرتزقة وتجار فً مستوطنات خاصة بهم‪ ،‬مثل‬
‫نقراش ومستوطنات أخرى فً دمٌاط‪ ،‬وأخرى فً منؾ‪.‬‬

‫(‪)ٕ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕٗٔ‬
‫(‪)ٕ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕ9‬‬
‫(‪)ٕ9‬‬
‫‪ -‬انظر مصر من اإلسكندر األكبر وحتى الفتح العربً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٙ -٘9‬‬
‫(ٖٓ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ ،ٗ8 -ٗٙ‬و*المقدونٌٌن والٌونان عرقان متصارعان‪ ،‬وٌحتقر المقدونٌون كل ٌونانً‪ ،‬حتى أن الٌونان فً بالدهم لم‬
‫ٌفرحوا بانتصارات اإلسكندر المقدونً‪ ،‬وساعدت إسبرطة الفرس ضده (فٌما ساعده ٌونانٌون فً مصر)‪ ،‬ولم ٌعتز الٌونان باإلسكندر إال فً عصر‬
‫الحق بعد شهرته العرٌقة وربطها بال ثقافة الهلٌنٌة‪ .‬انظر‪ :‬فً أصول المسؤلة المصرٌة‪ ،‬صبحً وحٌدة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔ7‬‬

‫ٗ‪ٔ7‬‬
‫وهذا النظام وافق طبٌعة معٌشتهم فً ببلدهم األصلٌة بالٌونان‪ ،‬القابمة على نظام المدٌنة الدولة‪ ،‬فالٌونان‬
‫لم تكن دولة واحدة مثل مصر‪ ،‬بل كل مدٌنة ٌونانٌة دوٌلة بذاتها‪ ،‬وأهلها ٌدٌرون شبونهم بشكل منفصل لعدم‬
‫تجانسهم ولكثرة صراعاتهم واستعبادهم وإذاللهم لبعضهم‪.‬‬

‫وبعد االحتبلل اتخذوا بدال من المستوطنات الصؽٌرة مد ًنا كبٌرة‪ ،‬وهً اإلسكندرٌة التً اختاروا لها‬
‫موقع قرٌة راكوتة‪ ،‬ومدٌنة المنشاة فً سوهاج (بطلمٌة)‪ ،‬وحولوا نقراش (نقراطٌس) إلى مدٌنة‪ ،‬وأداروهم‬
‫بنظام المدن الٌونانٌة‪ ،‬وقسموا كل مدٌنة ألحٌاء وقباٌل كعادتهم‪ ،‬وصارت حكرا علٌهم وعلى المتؤؼرقٌن‪،‬‬
‫ومحرمة على المصرٌٌن أصحاب البلد‪ ،‬عدا وجود مصرٌٌن فً قرٌة راكوتة التً صارت ضمن‬
‫اإلسكندرٌة‪ ،‬ولكن محرومون من الحقوق السٌاسٌة والمدنٌة كؤنهم أجانب عن المدٌنة(ٖٔ)‪.‬‬

‫وانطبق علٌهم وعلى المصرٌٌن فً كل المحافظات قول محمود حسن إسماعٌل ٌصؾ حال المصرٌٌن‬
‫أٌام االحتبلل اإلنجلٌزي(ٕٖ)‪:‬‬

‫و ُنرى فً ظلها كالؽرباء‬ ‫كٌؾ من جناتها ٌجنً ال ُمنى‬

‫وبذلك ٌكون الٌونانٌون توؼلوا ألول مرة فً الوجه القبلً بإنشاء المنشاة‪ ،‬تماشٌا مع انتشار حامٌاتهم‬
‫العسكرٌة‪ ،‬وتبعا النتشار ما تملكوه من أراضً فً أنحاء مصر‪ ،‬وللحد من نفوذ مدٌنة واسط "طٌبة"‪.‬‬

‫وإضافة للمدن الثبلثة‪ ،‬أنشؤوا نظاما اسمه "نومات" والمفردة "نوموس"‪ ،‬وهً عاصمة المدٌنة‪ ،‬بحٌث‬
‫اختاروا مدنا مصرٌة‪ ،‬وحولوا قلبها إلى مدٌنة مؽلقة على اإلؼرٌق‪ ،‬لٌكونوا قرٌبٌن من األراضً التً‬
‫سٌطروا علٌها(ٖٖ)‪ ،‬وش َّكلت هذه المدن بقعا واضحة االختبلؾ فوق الجسد المصري المتنافر معها‪ ،‬كؤنها‬
‫جزر تسبح فً فوق صفحة مٌاه المحٌط المصري األخضر بحسب أحد التعابٌر‪.‬‬

‫❽‪ -‬إزاحة اللؽة المصرٌة عن عرشها‪ ..‬ألول مرة (الخنجر األول)‬

‫عندما احتل البطالمة مصر‪ ،‬اتخذوا إجراءات أزاحت اللؽة المصرٌة عن عرشها كلؽة رسمٌة للببلد‬
‫ألول مرة فً تارٌخها‪ ،‬فؤعلنوا الٌونانٌة لؽة رسمٌة للمعامبلت‪ ،‬وهً لؽة العلم فً المعاهد‪.‬‬

‫وساهم الفرق بٌن اللؽتٌن‪ ،‬وقلة المصرٌٌن العالمٌن بالٌونانٌة فً الفصل الطوٌل بٌن معظم المصرٌٌن‬
‫واألجانب طوال االحتبللٌن الٌونانً والرومانً‪ ،‬أما المصرٌٌن الذٌن تعلموا الٌونانٌة فهم من ٌُلحقون‬
‫بؤعمال حكومٌة‪ ،‬أو ٌعملون فً خدمات بالمزارع والتجارة‪ ،‬أو المجموعة النادرة التً شقت لها طرٌقا فً‬
‫فً اإلسكندرٌة لما بدأ االحتبلل الٌونانً ٌشٌخ‪.‬‬

‫ولكن ظلت على كل حال اللؽة المصرٌة هً لؽة المصرٌٌن فً حٌاتهم‪ ،‬وفً نفس الوقت‪ ،‬فرؼم اعتبار‬

‫(ٖٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تارٌخ مصر فً عصري البطالمة والرومان‪،‬أبو الٌسر فرج‪،‬العٌن للدراسات والبحوث اإلنسانٌة واالجتماعٌة‪ ،‬طٕ‪،‬ص ‪ٔٔٓ -99‬‬
‫(ٕٖ)‬
‫‪ -‬قصٌدة دعاء الشرق‪ ،‬كلمات‪ :‬محمود حسن إسماعٌل‪ ،‬ؼناء وألحان محمد عبد الوهاب‬
‫(ٖٖ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً‪ ،‬ص ‪ ،ٗ9‬الحٌاة فً مصر فً العصر الرومانً‪ ،‬نافتالً لوٌس‪ ،‬ص ٖٓ‪ٖٔ -‬‬

‫٘‪ٔ7‬‬
‫الٌونانٌة هً اللؽة الرسمٌة‪ ،‬إال أن الحكومة تصدر المراسٌم الهامة باللؽتٌن المصرٌة والٌونانٌة مثلما رأٌنا‬
‫على حجر رشٌد الذي ٌعود لذلك الزمن‪.‬‬

‫وببل شك أن األمٌة (فٌما ٌخص الجهل بكتابة وقراءة اللؽة المصرٌة) زادت فً االحتبلل الٌونانً‪ ،‬ففٌما‬
‫سبق كان المصرٌون أو حتى المستمصرٌن الناطقٌن باللؽة المصرٌة هم من ٌتولون الوظابؾ الحكومٌة‬
‫التً تتطلب القراءة والكتابة باللؽة المصرٌة‪ ،‬أما فً االحتبلل الٌونانً حل اإلؼرٌق محل المصرٌٌن فً‬
‫معظم الوظابؾ‪ ،‬وحتى المصري الذي ٌحصل على وظٌفة ٌضطر للكتابة بالٌونانٌة‪.‬‬

‫وفٌما ٌخص الثقافة عموما‪ ،‬تحولت دولة االحتبلل البطلمً لمركز إشعاع بفضل مكتبة اإلسكندرٌة التً‬
‫جمعت لها أكبر وأندر عدد من الكتب فً العالم‪ ،‬وأصبحت اإلسكندرٌة محط أنظار كل طالب علم على‬
‫مستوى رفٌع‪ ،‬بعد أن كانت تحظى بهذه المكانة منؾ وطٌبة وأون فً أزمنة الحكم المصري‪.‬‬

‫ولكن على ما فً مكتبة اإلسكندرٌة من شهرة فً تطوٌر العلوم‪ ،‬إال أنها كانت نكبة ثقافٌة من ناحٌة‬
‫أخرى بالنسبة لحضارة مصر‪ ،‬ألنه ٌُعتقد أن اإلؼرٌق جمعوا وثابق وكتب مصرٌة هامة مما تحتفظ بها‬
‫المعابد والمنشىآت الرسمٌة من أنحاء مصر‪ ،‬وضموها إلى مكتبة اإلسكندرٌة الستكشاؾ أسرار مصر‪،‬‬
‫ولترجمتها ونقلها إلى الٌونانٌة‪ ،‬فؤبعدوها عن ٌد المصرٌٌن فً المدن البعٌدة عن اإلسكندرٌة‪ ،‬وق َّل انتفاع‬
‫المصرٌٌن بها‪ ،‬وقلَّت قدرتهم على تطوٌرها‪ ،‬فٌما كانت مشاعا ألجناس األرض باألسكندرٌة‪.‬‬

‫وهذه الثروة الكبٌرة احترقت فً حرٌق مكتبة اإلسكندرٌة فً عصر كلٌوباترا‪ ،‬وهو ما ضٌعَّ األصول‬
‫المصرٌة فً الكثٌر من العلوم والفنون التً تم نسبتها لحضارات أخرى بعد ذلك‪ ،‬وبهذا ٌصح القول إن‬
‫مكتبة اإلسكندرٌة لم تكن مكسبا حقٌقٌا إال لئلؼرٌق واألجانب‪.‬‬

‫❾‪ -‬اختراع دٌن جدٌد‪ ..‬المسخ سرابٌس‬

‫إن كان االحتبلل ال َقبلً الدخٌل نشر الخرافات فً الدٌن المصري مثل المبالؽة فً تقدٌس الحٌوانات‬
‫والشكلٌات وخرافة اللجوء للوحً فً كل األمور داخل المعابد‪ ،‬واالحتبللٌن اآلشوري والفارسً دمروا‬
‫ونهبوا المعابد‪ ،‬فإن االحتبلل الٌونانً تسبب فً تكدٌس ما ٌوصؾ بتعدد األدٌان والمذاهب المتعارضة التً‬
‫جلبها المستوطنون معهم‪ ،‬وخلط الدٌن البسٌط العذب بفلسفات معقدة متشاحنة‪.‬‬

‫فالمشهد الدٌنً فً مصر أصبح على هذا الشكل‪ :‬المصرٌون لهم دٌنهم الراسخ فً جذور األرض‪ ،‬ثم‬
‫المقدونٌون واإلؼرٌق والسورٌون والفٌنٌقٌون والفرس والٌهود وقباٌل وفدت من الشرق والؽرب وؼٌرهم‪،‬‬
‫ولكل جماعة من هإالء أدٌانه وأربابه ولؽاته(ٖٗ)‪ ،‬وإن التقوا سوٌا بالحدٌث بالٌونانٌة‪.‬‬

‫وكثرة األعراق والمذاهب هذة أوقدت معارك ومشاحنات من حٌن آلخر‪ ،‬فاحتاج المحتل الجدٌد لنوع من‬
‫الوحدة الدٌنٌة تشمل بالذات المصرٌٌن باعتبارهم األكثر عددا واإلؼرٌق باعتبارهم األكثر نفوذا‪ ،‬حتى تساند‬

‫(ٖٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر من اإلسكندر األكبر حتى الفتح العربً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓ٘‬

‫‪ٔ7ٙ‬‬
‫هذه الوحدة الدٌنٌة الوحدة السٌاسٌة للدولة‪ ،‬فاخترع بطلمٌوس األول ربا جدٌدا أسماه "سرابٌس" مكون من‬
‫الدمج بٌن المعبود المصري أوزٌر أبٌس‪ ،‬وبٌن صفات معبودات ٌونانٌة مثل اسكلبٌوس‪ ،‬ودٌونٌسٌوس‬
‫وهلٌوس وزٌوس(ٖ٘)‪ ،‬وهكذا انتقل األمر من مجرد تشوٌه للعقٌدة إلى إعادة تدوٌر واختراع لتخرج عقٌدة‬
‫لٌست لها عبلقة بروح مصر‪.‬‬

‫سرابٌس بذقن كثٌفة وشعر طوٌل ومبلمح قاسٌة وجثة ضخمة ومبلبس إؼرٌقٌة‪ ،‬لٌس فٌه من المصرٌٌن شًء‪ ،‬فتركزت عبادته فً معابد اإلؼرٌق‪،‬‬
‫وظل المصرٌون على دٌنهم القدٌم (المتحؾ القومً فً اإلسكندرٌة)‬

‫وأدخل الٌونانٌون أٌضا فً مصر بدعة جدٌدة هً "عبادة الملوك" فً حٌاتهم وبعد مماتهم‪ ،‬فإن كان‬
‫المصري مشهورا بتبجٌل حكامه وتقدٌس ذكراهم بعد مماتهم‪ ،‬خصوصا من قدموا أعماال جلٌلة مثل زوسر‬
‫ومٌنا وتحوتمس‪ ،‬إال أنه لم ٌخصص عبادة لهم إال زٌارة أضرحتهم بعد وفاتهم وتقدٌم القرابٌن بنفس روح‬
‫تبجٌل األولٌاء والقدٌسٌن فً المسٌحٌة واإلسبلم فٌما بعد‪ ،‬وبروح شعبٌة خالصة‪ ،‬ولكن البطالمة وضعوا‬
‫عبادة الملوك‪ ،‬أحٌاء وأموات وبمرسوم من الدولة(‪.)ٖٙ‬‬

‫ورؼم ذلك تدل اآلثار فً المعابد وأنحاء مصر على أن البدع الٌونانٌة الجدٌدة انتشرت بشكل محدود‪،‬‬
‫فظل معظم المصرٌٌن مرتبطٌن برموزهم وأربابهم المعروفٌن من القدم‪ ،‬ولم تنتشر المعابد الٌونانٌة‬
‫وأربابها "المكلكعٌن" خارج المدن التً ٌحتكرها الٌونانٌون‪ ،‬بل وتفوق ما تسمى وقتها بعبادة إٌزٌس‬
‫المصرٌة على المعبودات اإلؼرٌقٌة حتى وصلت إلى أن ٌكون لها معابد رسمٌة فً روما ؼربا‪ ،‬فؤصبحت‬
‫صاحبة أول دٌانة منتشرة عالمٌا خارج حدود بلدها(‪.)ٖ9‬‬

‫وفً نفس الوقت‪ ،‬حرص البطالمة على عدم تؤجٌج الؽضب المصري ألقصاه بإعاده بناء أو ترمٌم ما‬
‫تهدم من بعض المعابد المصرٌة فً زمن الحروب واإلهمال؛ وهذه المعابد هً من أبقت لنا على الشكل‬
‫الكامل للمعابد المصرٌة فً العصور السابقة لها‪ ،‬وصارت درة المعابد‪ ،‬ومنها معابد دندرة وفٌلة وإدفو‪.‬‬

‫(ٖ٘)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٓ٘ ‪ٕ٘-‬‬
‫(‪)ٖٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ٘‬
‫(‪)ٖ9‬‬
‫‪ -‬مصر من اإلسكندر األكبر حتى الفتح العربً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ٘‬

‫‪ٔ77‬‬
‫❿‪ -‬توزٌع أرض مصر على األجانب‬

‫تابعنا كٌؾ جرى توزٌع جانب من أرض مصر إلى ما ٌشبه اإلقطاعٌات على كبار عاببلت االحتبلل‬
‫الخاسوتٌمً القبلً‪ ،‬ثم كمستوطنات للمرتزقة والمستوطنٌن األجانب‪.‬‬

‫وحٌن هبط االحتبلل الٌونانً وضع نظاما للملكٌة قسم األرض المصرٌة إلى ‪ ٙ‬أنواع‪ ،‬األول ٌسمى‬
‫أرض الملك وهً معظم أراضً مصر وٌزرعها أعداد ضخمة من المزارعٌن ٌطلق علٌهم اسم "فبلحو أو‬
‫مزارعو الملك"‪ ،‬وأحٌانا تإجر للمزارعٌن نظٌر إٌجار عٌنً ٌإخذ من محصول األرض(‪.)ٖ8‬‬

‫وألن شروط عقد اإلٌجار مجحفة بالمزارعٌن فكثٌرا ما عجزوا عن سداد اإلٌجار‪ ،‬ولجؤوا إلى الفرار‬
‫من األرض‪ ،‬ومنهم من لجؤ للمعابد ووهب نفسه لخدمتها‪ ،‬وفً هذه الحالة ال تستٌطع سلطة الدولة أن تناله‬
‫بسوء‪ ،‬احتراما لحق المعابد فً الحماٌة(‪ ،)ٖ9‬وربما كان اللجوء للمعابد ووهب النفس لخدمة اإلله هو ما‬
‫أفرز نظام الرهبنة أٌام االضطهاد الرومانً‪.‬‬

‫النوع الثانً هً األوقاؾ‪ ،‬فمنذ القدم وللمعابد المصرٌة أوقاؾ من األراضً‪ ،‬مثلما أصبح للكنابس‬
‫والمساجد فٌما بعد‪ ،‬وسعى الٌونانٌون لسلبها مثلما فعل كلٌومٌنٌس‪ ،‬ووضعوها تحت سلطة الدولة مباشرة‪،‬‬
‫ثم عاد بعضها إلٌها نتٌجة للثورات المصرٌة‪.‬‬

‫النوع الثالث أراضً ُخصصت كإقطاعات خاصة لموظفً الحكومة اإلؼرٌق أو المتؤؼرقٌن‪ ،‬وهً‬
‫أراضً بور‪ ،‬تمنح لهم كمكافبة إن استزرعوها‪ ،‬وٌبقى عابدها هو راتبهم طوال فترة وظٌفتهم‪ ،‬ثم تعود‬
‫ملكٌتها للحكومة(ٓٗ)‪ ،‬والنوع الرابع أراضً مخصصة كإقطاعات عسكرٌة تمنحها الدولة البطلمٌة لئلؼرٌق‬
‫واألجانب الذٌن خدموا فً الجٌش البطلمً طوال فترة حٌاتهم‪ ،‬ثم تعود للدولة بعد وفاتهم‪ ،‬ولكن فً نهاٌة‬
‫القرن الثانً ق‪.‬م صارت ملكٌة خاصة ومسموح بتورٌثها‪.‬‬

‫وسمَّى البطالمة المنتفعٌن بهذه اإلقطاعات من اإلؼرٌق واألجانب ب"المستوطنٌن"‪ ،‬وبعد معركة رفح‬
‫والثورة المصرٌة (سٌؤتً ذكرهما بعد قلٌل) وإدخال مصرٌٌن فً الجٌش البطلمً بدأوا ٌحصلون على‬
‫إقطاعات من تلك األراضً‪ ،‬ولكنها أصؽر من مساحة األراضً التً ٌؤخذها اإلؼرٌق وبقٌة األجانب‪،‬‬
‫بحسب مصطفى العبادي(ٔٗ)‪.‬‬

‫النوع الخامس من الملكٌات هو الملكٌة الشخصٌة‪ ،‬وكانت محدودة جدا بالنسبة لمساحة أراضً الدولة‪،‬‬
‫وتتكون إما من اإلقطاعات العسكرٌة بعد أن صارت ُتورث‪ ،‬أو من أراضً زراعٌة مستصلحة تملكها‬
‫أصحابها بعد استصبلحها‪ ،‬أما النوع السادس واألخٌر من ملكٌة األراضً فهً أراضً المدن الثبلثة‬

‫(‪)ٖ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕ٘‬
‫(‪)ٖ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖٓٔ‬
‫(ٓٗ)‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‪ ،‬ص ٖٓٔ‪ٖٖٔ -‬‬
‫(ٔٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر من اإلسكندر األكبر حتى الفتح العربً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٖٔ‬

‫‪ٔ78‬‬
‫المخصصة للٌونانٌٌن(ٕٗ)‪.‬‬

‫ومن هذا ٌتضح أن معظم األراضً المصرٌة فً عهد االحتبلل الٌونانً كانت موزعة على الحكومة‬
‫البطلمٌة واإلؼرٌق والوافدٌن األجانب‪.‬‬

‫❶❶‪ -‬عٌش المصرٌٌن فً دولة تحكمها الدماء واالنقالبات‬

‫على قدر ما كانت دولة البطالمة مركزا لئلشعاع العلمً‪ ،‬على قدر ما كانت مركزا لنزؾ الدم والبؽضاء‬
‫والحروب لكثرة المعارك واالؼتٌاالت واالنقبلبات بٌن البطالمة فً الصراع على العرش‪ ،‬أو لكثرة ثورات‬
‫المصرٌٌن ضدهم‪.‬‬

‫فبعد وفاة بطلمٌوس األول تولى ابنه الشاب بطلمٌوس الثانً‪ ،‬وامتؤل قصر الحكم بالمإامرات العابلٌة‪،‬‬
‫فكانت إرسٌنوي الثانٌة‪ ،‬زوجة بطلمٌوس الثانً‪ ،‬تكٌد ضد أختها كً ال تنافسها فً إدارة شبون الببلد‪،‬‬
‫وكان أخٌه ماجاس الذي ٌحكم َبرقة ٌتآمر لٌستقل بها بعٌدا عن سلطانه‪ ،‬ولكنه تصالح معه قبل وفاته‪ ،‬ولما‬
‫مات بطلمٌوس الرابع ترك ولٌا للعهد عمره ٘ سنوات تحت وصاٌة أمه أرسٌنوي الثالثة‪ ،‬فقتل القابد‬
‫العسكري سوسٌبٌوس الملكة لٌكون هو الوصً على ولً العهد‪ ،‬وزٌَّؾ وصٌة للملك قرأها على الناس‪ ،‬قال‬
‫فٌها إن الملك عهد إلٌه بالوصاٌة‪.‬‬

‫وكعادتهم‪ ،‬اشترى والء القوات بالمال‪ ،‬وعٌَّن أصدقاء فً المناصب الربٌسٌة‪ ،‬وردا على ذلك أعلن‬
‫أتلٌب ولمٌس قابد حامٌة بلوزٌوم (الفرما) ثورة ضده فً اإلسكندرٌة‪ ،‬قتل خبللها سوسٌبٌوس وأخته وأمه‪،‬‬
‫وصار أتلٌبولمٌس وصٌا على الملك الطفل‪ ،‬واستؽل أنتٌوخس ملك سورٌا وفٌلٌب الخامس ملك مقدونٌا هذه‬
‫الصراعات للتوسع على حساب اإلمبراطورٌة البطلمٌة‪ ،‬فدخل أنتٌوخس حربا مع الجٌش البطلمً انتهت‬
‫باستٌبلبه على سورٌا الجنوبٌة (فلسطٌن ولبنان)‪.‬‬

‫وبعد موت مفاجا لبلطمٌوس الخامس‪ -‬مسموما فٌما ٌبدو‪ -‬كان ولً العهد بطلمٌوس السادس طفبل‪ ،‬فكثر‬
‫أوصٌاء العرش والنزاعات‪ ،‬وانقسم والء القوات بٌن األوصٌاء‪ ،‬ووقعت حروب أهلٌة (بٌن البطالمة‬
‫وبعضهم)‪ ،‬وصارت الدولة صٌدا ثمٌنا سهبل للتمربصٌن فً الخارج‪ ،‬وخاصة روما(ٖٗ)‪.‬‬

‫دخل البطالمة معارك مع أنتٌوخس السلوقً ملك سورٌا (السلوقٌون من بقاٌا جٌش اإلسكندر مثل‬
‫البطالمة) الستعادة السٌطرة على جنوب الشام انتهت بؽزوه مصر‪ ،‬ووقع بطلمٌوس السادس أسٌرا خبلل‬
‫محاولته الهرب‪ ،‬وولى اإلؼرٌق الثابرون فً اإلسكندرٌة بطلمٌوس السابع العرش‪ ،‬وتوسط وفد من المدن‬
‫الٌونانٌة بٌن البطالمة والسلوقٌٌن حتى أقنعوا أنتٌوخس باالنسحاب من مصر‪ ،‬وحصل اتفاق بٌن بطلمٌوس‬
‫السادس وبطلمٌوس التامن على أن ٌكون الحكم شركة بٌنهم‪.‬‬

‫(ٕٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖ٘ٔ‪ٖٔٙ -‬‬
‫(ٖٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً‪ ،‬مصطفى العبادي‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ٘‪8‬‬

‫‪ٔ79‬‬
‫لكن أنتٌوخس عاد الكرة وهاجم مصر حتى حاصر اإلسكندرٌة‪ ،‬وهنا‪ ..‬لم تقؾ روما مكتوفة األٌدي‪،‬‬
‫فهً على علم بحقٌقة الموقؾ‪ ،‬وتحرص على أال تتؽلب دولة على دولة؛ فسارعت بإرسال مندوب عنها إلى‬
‫معسكر أنتٌوخس قرب اإلسكندرٌة ٌطالبه باالنسحاب من مصر "فً الحال"(ٗٗ)‪ ،‬وبلػ من سلطان روما أن‬
‫ردت على تردد أنتٌوخس فً االنسحاب بؤن مندوبها "الٌناس" رسم حوله دابرة بعصاة‪ ،‬وطلب منه أن ٌرد‬
‫على طلب روما باالنسحاب قبل أن ٌؽادر الدابرة‪ ،‬و ُبهت الملك من عنؾ هذا التصرؾ‪ ،‬لكنه بعد تردد‬
‫قصٌر أجاب بؤنه سٌفعل كل ما ٌطلبه منه الرومان(٘ٗ)‪.‬‬

‫وقُتل بطلمٌوس السادس خبلل حرب جدٌدة مع السلوقٌٌن فً الشام‪ ،‬تاركا ولً عهد صؽٌر هو‬
‫بطلمٌوس السابع الذي قتله عمه بطلمٌوس الثامن لٌخلو له الحكم منفردا‪ ،‬وتزوج أمه كلٌوباترا الثانٌة‪،‬‬
‫واؼتصب ابنتها كلٌوباترا الثالثة ثم تزوجها(‪ ،)ٗٙ‬وصار هذا الملك المارق معتمدا بشكل كبٌر على روما‪،‬‬
‫حتى أنه عُثر على نقش فً برقة ٌتعهد فٌه لروما بؤن تإول مملكته إلٌها إذا توفً بؽٌر ورٌث للحكم(‪.)ٗ9‬‬

‫▲▲▲ ثورات مصر ضد االحتالل الٌونانً‬

‫وسط كل هذا "العك" فً الحكم‪ ،‬تؤجج أكثر إحساس المصرٌٌن بالنفور من اإلؼرٌق والحرقة من تكبرهم‬
‫على أهل البلد‪ ،‬وظهر فً األدب الشعبً نبوءات تبشر بٌوم الخبلص وطرد األؼراب من مصر‪ ،‬فاشتعلت‬
‫ثورات متتابعة‪ ،‬كشفت كتب مإرخً الٌونان والرومان عن ٘ منها على األقل‪ ،‬أشدها ثورة ‪ ٕٔ9‬ق‪.‬م(‪.)ٗ8‬‬

‫ووقعت الثورة بعد حادث لم ٌخطر للمصرٌٌن على بال‪ ،‬ففً وسط مستنقع المإامرات الذي ٌسبح فٌه‬
‫القصر البلطمً انتهز أنتٌوخس الثالث ملك سورٌا الوضع لٌستعٌد سورٌا الجنوبٌة من مصر‪ ،‬واستعان‬
‫سوسٌبٌوس قابد الجٌش البطلمً بالٌونان والمرتزقة‪ ،‬ولكنهم لم ٌإدوا الؽرض‪ ،‬فقام بخطوة ؼٌر مسبوقة‬
‫منذ سنوات طوٌلة‪ ،‬وهً تجنٌد المصرٌٌن فً صفوؾ الجٌش النظامً‪.‬‬

‫فقد اضطر لتجنٌد ٕٓ ألؾ من المصرٌٌن الفبلحٌن ودربهم ضباط مقدونٌون وإؼرٌق على أسالٌب‬
‫الحرب المقدونٌة(‪ ،)ٗ9‬وقبل هذا كان البطالمة ٌخشون المصرٌٌن بوجه عام‪ ،‬وال ٌجازفون بتجنٌدهم فً‬
‫الجٌش العامل بوجه خاص(ٓ٘)‪ ،‬بتعبٌر الدكتور سلٌم حسن‪ ،‬وٌؽطون هذا باتهامهم بالجبن‪.‬‬

‫وربما سبب اضطرار بطلمٌوس الرابع لتجنٌد مصرٌٌن فً تلك الحرب هو ضمانه أنهم حتى فً حالة‬
‫الهزٌمة لن ٌنتقلوا إلى صفوؾ عدوه فً سورٌا‪ ،‬ذلك أنه فً إحدى المواجهات السابقة انتصر أنتٌوخس‪،‬‬
‫واستولى على شمال فلسطٌن وقضى على حامٌتٌن تتبعان البطالمة‪ ،‬ما أدى النشقاقات فً صفوؾ الجنود‬

‫(ٗٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪89‬‬
‫(٘ٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الحٌاة فً مصر فً العصر الرومانً‪ ،‬نافتالً لوٌس‪ ،‬مرجع سابق‪ ،ٔ999 ،‬ص ٗٔ‬
‫(‪)ٗٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً‪ ،‬مصطفى العبادي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪89 -88‬‬
‫(‪)ٗ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الحٌاة فً مصر فً العصر الرومانً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٗٔ‪ٔ٘ -‬‬
‫(‪)ٗ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تارٌخ مصر فً عصري البطالمة والرومان‪ ،‬أبو الٌسر فرج‪ ،‬عٌن للدراسات والبحوث اإلنسانٌة واالجتماعٌة‪ ،‬طٕ‪ ،‬ص ٓٓٔ‬
‫(‪)ٗ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً‪ ،‬مصطفى العبادي‪ ،‬ص ٖ‪9‬‬
‫(ٓ٘)‬
‫‪ -‬موسوعة مصر القدٌمة‪ ،‬سلٌم حسن‪ ،‬الجزء ٗٔ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٕٗ‬

‫ٓ‪ٔ8‬‬
‫المرتزقة فً الجٌش البطلمً‪ ،‬وانضم رجال بطلمٌوس‪ ،‬ومنهم سٌراس وهٌبولوكس إلى معسكر أنتٌوخس‬
‫المعادي‪ ،‬وقادوه ضد الجٌش البطلمً(ٔ٘)‪ -‬كعادة المرتزقة "أبجنً تجدنً"‪ -‬وهو ما سٌتكرر مع محمد علً‬
‫فٌما بعد الذي اضطر لتجنٌد المصرٌٌن فً القرن ‪ ٔ9‬بعدما خذله المرتزقة فً عدة معارك‪.‬‬

‫وفً موقعة رفح(ٕ٘) واجه الجٌش البطلمً‪ -‬بما فٌه الفرقة المصرٌة‪ -‬الجٌش السلوقً سنة ‪ ٕٔ9‬ق‪.‬م‪،‬‬
‫والمٌزان فً البداٌة لصالح ملك سورٌا‪ ،‬وبعد قتال عنٌؾ التحم فٌه المشاة من الجانبٌن‪ ،‬وأمام عجب‬
‫ٌمض على تجنٌدهم عام ونصؾ جدارتهم فً المعركة الخطٌرة رؼم بُعد‬ ‫ِ‬ ‫الجمٌع‪ ،‬أثبت الفبلحون الذٌن لم‬
‫عهدهم بالقتال‪ ،‬ولم تنته المعركة إال وكان لهإالء الجنود الفضل األكبر فً كسبها‪ ،‬وهكذا احتفظت مصر‬
‫بسٌادتها على سورٌا الجنوبٌة‪ ،‬بما فٌها فٌنٌقٌا وفلسطٌن(ٖ٘)‪ ،‬مثلما م َّكن الفبلحون أٌضا محمد علً من فتح‬
‫عكا والسٌطرة على الشام‪.‬‬

‫♣♣♣ ثورة ‪ ٕٔ7‬ق‪.‬م الكبرى‬

‫المعركة لم تكن فاصلة فقط للٌونانٌٌن‪ ،‬بل األهم‪ ،‬فاصلة للمصرٌٌن‪ ،‬فمن هذه اللحظة تعبؤوا بعزتهم‬
‫القومٌة وعادت ثقتهم فً أنفسهم كجنود مقاتلٌن منتصرٌن بعد أن ظلوا مؽلوبٌن على أمرهم مهملٌن تحت‬
‫حكم البطالمة الذٌن وصفوا المصرٌٌن بؤنهم "شعب منحط" وال ٌصلح لقتال‪ ،‬فهذا النصر أظهر لهم أنهم‬
‫أصلب عودا وأشدا بؤسا مما كان ٌظنه فٌهم المحتلون‪ ،‬ورأوا بؤنفسهم اإلؼرٌق ٌولون األدبار‪ ،‬فً حٌن أنهم‬
‫كانوا ٌقفون هم فً وجه كل هجوم جبار ٌصوبه لهم العدو(ٗ٘)‪.‬‬

‫وأذن الجو بلحظة المواجهة‪...‬أخذت الثورة الكبرى ٌُسمع دبٌبها فً طول الببلد وعرضها‪ ،‬وانتهز رجال‬ ‫َّ‬
‫الدٌن الفرصة‪ ،‬وأعلنوا تحدٌهم للبطالمة‪ ،‬ولم ٌنتبه بطلمٌوس الرابع للحركة الوطنٌة التً تتفشى‪ ،‬فٌما أخذ‬
‫المصرٌون ٌتحدثون عن ضعؾ هذا التسلط األجنبً الذي لم ٌعرؾ قٌمتهم إال فً األزمات حٌن ٌعجز عن‬
‫حلها‪ ،‬وأنه لم ٌعد فً طاقتهم احتمال تلقً األوامر من البطالمة‪ ،‬وبدأوا ٌبحثون عن حاكم من بنً جلدتهم‪،‬‬
‫ففطن الملك رؼم انؽماسه فً الشهوات إلى أن تجنٌد المصرٌٌن كان عمبل عظٌما أنقذ الببلد من الخطر‪ ،‬إال‬
‫أنه خطر على البطالمة(٘٘)‪.‬‬

‫واندلعت نار ثورة عامة بٌن األهالً أوال فً الدلتا ثم فً الصعٌد(‪ ،)٘ٙ‬ولؤلسؾ‪ ،‬ورد القلٌل جدا من‬
‫أخبارها‪ ،‬ال تروي الظمؤ‪ ،‬والواضح أنها استمرت سنوات طوٌلة بعد وفاة بطلمٌوس الرابع‪ ،‬وٌدل على هذا‬
‫ما ورد على حجر رشٌد الذي تم نقشه بعد ٕٕ سنة من اندالع الثورة‪ ،‬وفٌه إشارة لقٌام بطلمٌوس الخامس‬
‫بمعاقبة زعماء الثورة المصرٌة‪.‬‬

‫(ٔ٘)‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‪ ،‬ص ٕ٘ٗ‪ٕٗٙ -‬‬
‫(ٕ٘)‬
‫‪ -‬رفح كلمة مصرٌة‪ ،‬أصلها ربح‪ ،‬تتكون من مقطعٌن‪ ،‬األول "را" بمعنى فم أو بداٌة‪ ،‬و"بح" بمعنى النهاٌة أو الوصول‪ ،‬والمعنى فم النهاٌة‪،‬‬
‫أي نهاٌة الحدود المصرٌة‪ ،‬ومع الوقت انقلبت الباء إلى فاء كعادة المصرٌٌن‪ ،‬مثلما حولوا كلمة "بتاح" إلى "فتاح‪ ،‬و"بٌوم" إلى "فٌوم"‪ ,‬انظر‬
‫مقالة ســـــٌناء تراب وتراث مصر مــــنذ األزل‪ ،ٔ -‬علً رضوان‪ ،‬صحٌفة األهرام‪ ،‬العدد ٖ٘ٓٗٗ‪ٕٓٓ8- ٖ -ٕٙ ،‬‬
‫(ٖ٘)‬
‫‪ -‬مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً‪ ،‬مصطفى العبادي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٗ‪9‬‬
‫(ٗ٘)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬موسوعة مصر القدٌمة‪ ،‬الجزء ٗٔ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٖٗ‬
‫(٘٘)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٖٖٗ‪ٖٗٗ -‬‬
‫(‪)٘ٙ‬‬
‫‪ -‬مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘‪9‬‬

‫ٔ‪ٔ8‬‬
‫كما وردت إشارات فً كتب المإرخٌن عن اشتداد القوات البطلمٌة فً قتل المصرٌٌن‪ ،‬وأورد‬
‫"بولٌبٌوس" عبارة مختصرة أن الجانبٌن‪ ،‬المصري والبطلمً‪ ،‬استخدما "القسوة والطؽٌان(‪.")٘9‬‬

‫وإشارة لقوة تلك الثورة ورد أن فٌلٌب ملك مقدونٌا‪ ،‬وأنتٌوخس ملك سورٌا‪ ،‬قدما مساعدة لبطلمٌوس‬
‫الرابع لقمع الثورة بحجة "حماٌة السلطة الشرعٌة فً الببلد المصرٌة من عبث الثوار"‪ -‬رؼم العداء‬
‫المستحكم بٌن مقدونٌا وسورٌا ومصر‪ -‬وأٌضا بحجة "المحافظة على التجارة الدولٌة" التً كانت مصر‬
‫مركزا هاما لها‪ ،‬وكانت حجج لتدخل الدولتٌن فً الشبون المصرٌة من هذا الباب(‪ )٘8‬وهً نفس حجج‬
‫االحتبلل البرٌطانً بعد ٕٓٓٓ سنة لقمع ثورة ٔ‪ ٔ88‬التً قادها أحمد عرابً‪.‬‬

‫وقال المإرخ بولٌبٌوس إن الثورة "كانت طوٌلة األمد‪ ،‬وخاصة فً طٌبة‪ ،‬بل واستطاع األهالً إعبلن‬
‫استقبللهم عن اإلسكندرٌة حتى عام ٘‪ ٔ8‬ق‪.‬م فً حكم الملك بطلمٌوس الخامس(‪.)٘9‬‬

‫أي ٌمكن تقدٌر أن الثورة ظلت مشتعلة ٕٖ سنة‪ ،‬وهً فترة ضخمة إذا ما تذكرنا أن المصرٌٌن كانوا‬
‫ؼٌر مدربٌن على القتال‪ -‬عدا من شاركوا فً معركة رفح‪ ،‬وهإالء كبروا فً السن مع طول أمد الثورة‪-‬‬
‫وأنهم ال ٌملكون ثروات كبٌرة وأسلحة حدٌثة تعٌنهم ضد البطالمة المحتكرٌن لثروة مصر وسبلحها‪.‬‬

‫واضطر المصرٌون إلى التسلٌم فً ‪ ٔ99‬ق‪.‬م بسبب الفٌضان المرتفع الذي أضعؾ مركزهم وأعان‬
‫العدو على إحكام الحصار علٌهم‪ ،‬ومع ذلك عاملهم الجٌش البطلمً معاملة وحشٌة ونفذ فٌهم اإلعدام‪ ،‬فجدد‬
‫هذا الؽضب فً النفوس وتجددت الثورة حتى قضى علٌها جٌش البطالمة سنة ٘‪ ٔ8‬ق‪.‬م(ٓ‪.)ٙ‬‬

‫ومما ٌدل على عمق جذور هذه الثورة فً نفوس األهالً ما ورد فً بردٌة دٌموطٌقٌة ترجع إلى ذلك‬
‫العصر‪ ،‬تحتوي على نبوءة ٌدعً كاتبها أنها ترجع إلى عصر ملك سماه تاخوش (‪ ٖٙٓ -ٖٙٙ‬ق‪.‬م) من‬
‫ملوك األسرة ٖٓ‪ ،‬وتتحدث عما تعرضت له مصر من احتبلالت بعده من الفرس ثم اإلؼرٌق‪ ،‬وفً نهاٌتها‬
‫تقدم بشرى للمصرٌٌن بؤن ٌوم الخبلص قرٌب‪ ،‬وأنه سٌظهر واحد من أبناء إهناسٌا ٌحرر مصر وٌطرد‬
‫األجانب واإلٌونٌٌن‪ ،‬أي اإلؼرٌق‪.‬‬

‫وفً رأي مصطفى عبادي فإن النبوءة قد تكون دعاٌة نشرها زعماء الثورة لتحفٌز المصرٌٌن وتعببتهم‬
‫باألمل(ٔ‪ ،)ٙ‬ولكن فً كل األحوال فالثورة والوثٌقة دلٌل على أن المصرٌٌن عاشوا ٌنظرون لحكم البطالمة‬
‫على أنه اؼتصاب لحكم ببلدهم‪ ،‬حتى وإن كانوا ٌحكمون من داخل الببلد‪ ،‬وأن البطالمة لم ٌتمصروا‪.‬‬

‫ورؼم قمع الثورة فً النهاٌة‪ ،‬إال أنها حققت مكاسب‪ ،‬منها اضطرار البطالمة اتخاذ إجراءات للتودد‬
‫للمصرٌٌن‪ ،‬مثل اصطناع التمصٌر بؤن أعلنوا أن تتوٌج الملك سٌعود لٌكون فً منؾ حسب التقالٌد‬
‫(‪)٘9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬موسوعة مصر القدٌمة‪ ،‬الجزء ٗٔ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ٘ٗ‬
‫(‪)٘8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ ، ،ٖٗٙ‬وٌدل هذا على ثبات السٌاسة العالمٌة منذ ذلك الوقت‪ ،‬وخاصة أنه لو نجحت ثورة الشعب المصري ضد‬
‫المحتلٌن الستقوت بها شعوب أخرى لتثور على محتلٌها ومحتكري التجارة الدولٌة والمحاصٌل‪.‬‬
‫(‪)٘9‬‬
‫‪ -‬مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً‪ ،‬مصطفى العبادي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘‪9‬‬
‫(ٓ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٖ‪8‬‬
‫(ٔ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‪ ،‬ص ٘‪9ٙ -9‬‬

‫ٕ‪ٔ8‬‬
‫المصرٌة ولٌس فً اإلسكندرٌة‪ ،‬وألؽى بطلمٌوس الخامس بعض الضراٌب وخفض أخرى‪ ،‬وتنازلت‬
‫حكومة االحتبلل عن بعض الدٌون المتؤخرة على المصرٌٌن‪ ،‬وصدر عفو شامل عن الجنود المصرٌٌن‬
‫المنضمٌن للثورة‪ ،‬كما نلحظ ظهور مصرٌٌن فً مناصب علٌا فً الدولة والجٌش‪ ،‬وتساهل القصر مع‬
‫رجال المعابد‪ ،‬فترك لهم امتٌازات كثٌرة(ٕ‪.)ٙ‬‬

‫♣♣♣ ثورة ٗ‪ ٔٙ‬ق‪.‬م‬

‫ورؼم ما سبق تكررت الثورات حتى نهاٌة االحتبلل البطلمً‪ ،‬منها ثورة ٗ‪ ٔٙ‬ق‪.‬م حٌن قادها شخص‬
‫ٌحمل اسمًا فً شقه الثانً ٌبدو مصرًٌا‪ ،‬هو دٌونٌسٌوس بٌتو سرابٌس‪ ،‬له منصب كبٌر فً القصر‪ ،‬ومن‬
‫ؼٌر المعروؾ هل هو مستمصر أم مصري فعبل من الذٌن حصلوا على مناصب فً الدولة بعد ثورة ‪ٕٔ9‬‬
‫ق‪ .‬م استؽل الخبلؾ بٌن األخوٌن بطلمٌوس السادس والثامن لٌوقع بٌنهما‪ ،‬وحرض سكان اإلسكندرٌة على‬
‫الثورة ضد بطلمٌوس السادس ومناصرة بطلمٌوس الثامن‪ ،‬لكن انكشفت حٌلته‪ ،‬واتفق الملكان ضد حركته‪،‬‬
‫ورؼم هذا انتقلت الثورة للوجه القبلً‪ ،‬فمضى إلٌها بطلمٌوس السادس بنفسه؛ ما ٌدل على شدتها‪ ،‬وقضى‬
‫علٌها(ٖ‪ ،)ٙ‬ثم ثار اإلؼرٌق علٌه فً اإلسكندرٌة ألسباب تخصهم‪ ،‬واستؽلها المصرٌون فً الوجه القبلً‬
‫لٌجددوا الثورة‪ ،‬وانتهى األمر بؤن بطلمٌوس الثامن بعد تؽلب على أخٌه أصدر قرارات للتودد للمصرٌٌن‬
‫واإلؼرٌق معا‪ ،‬سمتها كتب المإرخٌن بـ"وثابق العفو العام" عن الجرابم التً وقعت حتى صدور الوثٌقة فً‬
‫مارس ‪ ٔٔ8‬ق‪ .‬م باستثناء جرابم القتل وسرقة المعابد‪ ،‬وتنازل الحكومة عن معظم الضراٌب على‬
‫المزارعٌن‪ ،‬ومنح المزارعٌن الذٌن ٌستصلحون أراضً بور امتٌازات طوٌلة األجل‪ ،‬وتثبٌت ملكٌة بعض‬
‫المصرٌٌن على األرض التً أخذوها من إقطاعات الدولة العسكرٌة‪ ،‬وتثبٌت مالٌة المعابد‪ ،‬ووقؾ عملٌات‬
‫التعذٌب التً تتم ضد العمال والمزارعٌن خبلل نزع الضراٌب منهم‪.‬‬

‫ٌنمح؛ فتجددت الثورات الوطنٌة‪ ،‬وأهم‬


‫ِ‬ ‫ورؼم اإلصبلحات السابقة‪ ،‬واالهتمام بالمعابد‪ ،‬إال أن البؽض لم‬
‫مراكزها واسط (طٌبة)‪ ،‬حٌث استمرت الثورة ما ٌربو على ثبلث سنوات(ٗ‪ ،)ٙ‬وبذلك تكون الثورات‬
‫المصرٌة ضد االحتبلل الٌونانً امتدت من أٌام بطلمٌوس الثالث وحتى قرب سقوط البطالمة‪.‬‬

‫▲▲▲ سقوط دولة الدم واالنقالبات‬

‫توفً بطلمٌوس التاسع دون أن ٌترك ذكورا‪ ،‬فتدخلت روما الختٌار الملك الجدٌد‪ ،‬وهكذا بات ظل روما‬
‫ٌتسع على أرض مصر‪ ،‬خاصة بعد استٌبلءها على قبرص التً كانت تحت سٌطرة البطالمة‪.‬‬

‫وفً ‪ ٘8‬ق‪.‬م لجؤ بطلمٌوس الثانً عشر الملقب بالزمار إلى روما‪ -‬بعد أن ثار اإلؼرٌق ضده ألنه لم‬
‫ٌفعل شٌبا حٌال ضٌاع قبرص‪ -‬لٌحصل على تؤٌٌد القابد الرومانً بومبً فً صراعه مع خصومه على‬
‫العرش‪ ،‬وبالفعل تم إعادته لعرشه بالقوة العسكرٌة باالستعانة بالقابد الرومانً جابنٌوس‪ ،‬وعٌن الملك‬

‫(ٕ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر المرجع السابق‪ ،‬ص ٔ‪8ٕ -8‬‬
‫(ٖ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الحٌاة فً مصر فً العصر الرومانً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٗٔ‪ٔ٘ -‬‬
‫(ٗ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً‪ ،‬ص ٓ‪9٘ -9‬‬

‫ٖ‪ٔ8‬‬
‫رابٌرٌوس الرومانً وزٌرا للمالٌة بعد أن عجز الملك البطلمً عن تسدٌد دٌون اقترضها من الرومان‪،‬‬
‫وبذلك ٌكون قدم مملكته ضمانا لسداد دٌونه‪ ،‬بحسب نافتالً لوٌس(٘‪.)ٙ‬‬

‫وكحبلوة روح قبل موت الجسد‪ ،‬ق َّدم بطلمٌوس الثانً عشر مبلػ ٓٓٓ‪ ٙ‬تالنت (ٌعادل نصؾ دخل‬
‫مصر) رشوة إلى قابد روما ٌولٌوس قٌصر لٌتراجع عن ضم مصر لروما‪ ،‬فقبلذلك‪ -‬مإقتا‪ -‬وعقد معه‬
‫معاهدة على أنه "حلٌؾ وصدٌق الشعب الرومانً"(‪ ، )ٙٙ‬وجاء ماركوس أنطونٌوس على رأس قوات‬
‫رومانٌة إلى اإلسكندرٌة بحجة حماٌة عرش الملك (كما ستفعل الحقا فً صورة برٌطانٌا وترسل جٌش‬
‫احتبلل لئلسكندرٌة سنة ٕ‪ ٔ88‬بحجة حماٌة "شرعٌة" الخدٌوي توفٌق ضد الثورة المصرٌة)‪.‬‬

‫وهنا تستعد الستارة للنزول‪ ،‬فبوفاة بطلمٌوس الثانً عشر ٔ٘ ق‪.‬م تولت مكانه نذٌر الشوم على مصر‬
‫وعلى قومها اإلؼرٌق‪ ،‬ابنته كلٌوباترا السابعة‪ ،‬باالشتراك مع أخٌها بطلمٌوس الثالث عشر‪ ،‬ورؼم صؽر‬
‫سنها ناطح طموحها السحاب‪ ،‬وتطلعت لحكم روما‪ ،‬واستؽلت ذكابها وأنوثتها أبشع استؽبلل‪.‬‬

‫استعانت بٌولٌوس قٌصر ضد قومها الذٌن اتهموها بالتخطٌط إلبعاد أخٌها واالستفراد بالحكم‪ ،‬واستجاب‬
‫لها قٌصر‪ ،‬بل وجاء لؤلسكندرٌة ونصب نفسه حكما بٌن األخوٌن‪ ،‬فاستقبلته وطلب لقاءهما سوٌا‪ ،‬ولكن‬
‫عجزت عن الوصول إلٌه بسبب جٌش أخٌها هناك‪ ،‬فلجؤت لحٌلة بارعة تلفت بها نظر القٌصر إلى مفاتنها‬
‫العقلٌة واألنثوٌة‪ ،‬فتخفت واستقلت قاربا‪ ،‬وأبحرت لئلسكندرٌة‪ ،‬وطلبت من مرافقٌها أن ٌدخلوها إلى‬
‫القٌصر ملفوفة داخل سجادة‪ ،‬فلما بسطوا السجادة أمامه خرجت منها كلٌوباترا بكل دالل‪ ،‬وانتهى األمر بؤن‬
‫أقرها قٌصر ملكة على عرشها على أن ٌشاركها أخوها‪ ،‬لكن خصوم كلٌوباترا أعلنوا الحرب باسم الدولة‬
‫ضد الدخٌل األجنبً(‪.)ٙ9‬‬

‫وقعت بٌن الجٌشٌن البطلمً والرومانً معارك عرفت باسم "حرب اإلسكندرٌة" كانت فٌها كلٌوباترا‬
‫وأخوها تحت حماٌة الرومانً ٌولٌوس قٌصر‪ ،‬وحصل وقتها أن بعض سفن قٌصر احترقت‪ ،‬وامتدت النار‬
‫لمكتبة اإلسكندرٌة القرٌبة من البحر فً واحدة من أفجع كوارث التارٌخ لما تحوٌه من وثابق وأصول الكتب‬
‫المصرٌة القدٌمة النادرة‪ ،‬وانتصر قٌصر فً الحرب‪ ،‬وكافؤ نفسه برحلة نٌلٌة طوٌلة مع كلٌوباترا إلى الوجه‬
‫القبلً‪ ،‬قضى معها هناك الشتاء‪ ،‬وأنجبا ولدا سماه سكان اإلسكندرٌة اإلؼرٌق قٌصرون من باب السخرٌة‬
‫لعدم رضاهم عن هذه العبلقة ؼٌر الشرعٌة بٌن ملكتهم وخصمهم الرومانً‪ ،‬خاصة وأنها كانت متزوجة‬
‫من أخٌها األصؽر بطلمٌوس الرابع عشر بعد ؼرق أخٌها بطلمٌوس الثالث عشر فً النٌل‪.‬‬

‫وفً ‪ ٗٙ‬ق‪.‬م سافرت مع ابنها وأخٌها إلى روما‪ -‬التً طالما حلمت بحكمها‪ -‬ولكن مجلس السناتو دبر‬
‫مإامرة وقتل قٌصر ٗٗ ق‪.‬م‪ ،‬ودخلت روما فً حرب أهلٌة‪ ،‬فهربت متخفٌة إلى مصر‪ ،‬وتوفً أخٌها قتٌبل‪،‬‬

‫(٘‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الحٌاة فً مصر فً العصر الٌونانً‪ ،‬نافتالً لوٌس‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔٙ‬‬
‫* نفس الوسٌلة التً استخدمتها البنوك الحاكمة ألوروبا إلؼراق وإنهاك مصر بالدٌون أٌام سعٌد وإسماعٌل ثم احتاللها فً القرن ‪ٔ9‬‬
‫(‪)ٙٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪99‬‬
‫(‪)ٙ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٔٓٔ‬

‫ٗ‪ٔ8‬‬
‫وتم إعبلن ابنها قٌصرون شرٌكا لها فً الحكم باسم بطلمٌوس الخامس عشر(‪.)ٙ8‬‬

‫وسرعان ما بحثت عن مؽامرة جدٌدة‪ ،‬بطلها ماركوس أنطونٌوس من قادة الرومان‪ ،‬وخبلل لقاءهما‬
‫لتحدٌد شكل العبلقة بٌن مصر وروما‪ ،‬وقع فً ؼرامها‪ ،‬وأنجب منها ولدٌن وبنت‪ ،‬ووزع الوالٌات الشرقٌة‬
‫على أوالدها‪ ،‬وأعلن كلٌوباترا ملكة علٌها‪ ،‬فتحقق لها حلمها القدٌم‪ ،‬فؤطلق القابد الرومانً أوكتافٌوس حملة‬
‫على أنطونٌوس بؤنه أعطى حقوق الرومان المرأة أجنبٌة‪ ،‬وأعلن ضده حربا باسم "إنقاذ اإلمبراطورٌة"‪،‬‬
‫دارت معركتها الفاصلة فً أكتٌوم ؼرب الٌونان ٖٔ ق‪.‬م‪ ،‬وانتهت بهزٌمة أنطونٌوس‪ ،‬واستٌبلء روما على‬
‫مصر ٖٓ ق‪ .‬م‪ ،‬وتلقى أنطونٌوس وكلٌوباترا النبؤ باالنتحار(‪.)ٙ9‬‬

‫▼▼▼ كلٌوباترا اإلؼرٌقٌة‪ ..‬لٌست منا ولسنا منها‬

‫وكشخصٌة شاذة‪ ،‬أخذت كلٌوباترا شهرة عرٌضة فً العالم بالرؼم من أنها لم تقم بؤي إنجاز سٌاسً أو‬
‫وسخرت إمكانٌات مصر لمؽامراتها الشخصٌة‪ ،‬وسقطت من جبلل الملكة‬ ‫َّ‬ ‫عسكري أو حتى أخبلقً‪،‬‬
‫بالدخول فً عبلقات مخزٌة مع رجال أجانب طامعٌن فً البلد‪ ،‬ولم تملك شٌبا الفتا سوى الحٌلة والدالل‬
‫والحدٌث الساحر‪.‬‬

‫وأكثر من شعر بهذا الفبلح المصري‪ ..‬فكل هذه المؽامرات والرحبلت والحروب والمإامرات دفع ثمنها‬
‫هإالء األشراؾ الكادحٌن فً الرٌؾ الواسع‪ ،‬ومنهم من كانوا على طول ضفتً النٌل تنحنً ظهورهم فً‬
‫زرع األرض وهم ٌراقبون بمرارة الملكة تتماٌل فً دالل بٌن ٌدي الطامع الجدٌد فً البلد (ٌولٌوس قٌصر‬
‫ثم أنطونٌو) فً المراكب المارة بجوار الؽٌطان خبلل رحبلتهم النٌلٌة‪ٌ ،‬نفقون على لهوهم من عرق هإالء‬
‫المزارعٌن‪ ،‬ألهداؾ ومطامع ال تخص المصرٌٌن فً شًء‪.‬‬

‫وألمه سٌكون أشد إذا ما علم أن مصرٌٌن من أحفاده‪ -‬حالٌا‪ٌ -‬مجدون كلٌوباترا اإلؼرٌقٌة‪ ،‬وٌعتبرونها‬
‫سخرن حٌاتهن لحماٌة مصر من األعداء‪،‬‬ ‫"ملكة مصرٌة" ٌساوونها بـ إٌسة وإٌاح حتب وتتً شري اللواتً َّ‬
‫وحفظ حرٌتها‪ ،‬وضربن أعذب األمثلة فً األخبلق الطٌبة‪ ،‬ال فً تقدٌم أجسادهن هداٌا وإؼراءات لؤلعداء‪،‬‬
‫بل واالستقواء بهإالء األعداء ضد أهلهن‪ ،‬مثل كلٌوباترا‪.‬‬

‫وربما ٌعود ذلك إلى األفبلم والدعاٌة التً جمَّلت بها هولٌوود وجه كلٌوباترا‪ ،‬وحرصها على أن تقدمها‬
‫وسط جو مصري ساحر‪ ،‬فمسَّ هذا ورم عقدة الخواجة المتضخم فً صدور بعض المتعلمٌن المصرٌٌن‪،‬‬
‫حتى جعلوا من أنفسهم بوق دعاٌة وتبرٌر لكٌلوباترا ومساخرها وجراٌمها فً حق مصر‪.‬‬

‫وٌشهد التارٌخ بؤن كلٌوباترا إؼرٌقٌة حتى النخاع‪ ،‬دما وروحا ولؽة واسما وشكبل ونسبا‪ ،‬ولم ٌختلط الدم‬
‫تسع للتمصٌر أو االختبلط بالمصرٌٌن‪ ،‬وال ٌشٌر شًء إلى عبلقتها‬ ‫َ‬ ‫المصري بنقطة فً عروقها‪ ،‬ولم‬
‫بمصر سوى ما ٌُثار عن معرفتها باللؽة المصرٌة‪ ،‬وٌحسبون ذلك إنجازا رؼم أنها مولودة بمصر‪ ،‬إضافة‬

‫(‪)ٙ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٗٓٔ‬
‫(‪)ٙ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٘ٓٔ‪ٔٓٙ -‬‬

‫٘‪ٔ8‬‬
‫إلى نقوش تصورها فً ثٌاب ملكة مصرٌة‪ ،‬وهً نقوش قلٌلة تخص تقالٌد المعابد‪ ،‬فٌما معظم نقوشها‬
‫وتماثٌلها فً ثٌاب ٌونانٌة‪.‬‬

‫رأس لكلٌوباترا الحقٌقٌة بهٌبتها اإلؼرٌقٌة الشابعة فً الفن البطلمً وبجانبها نقش بثٌاب مصرٌة فً معبد دندرة؛ حٌث تحظر المعابد المصرٌة نقش‬
‫المظاهر األجنبٌة على جدرانها (األولى فً متحؾ ألتٌس بؤلمانٌا والثانٌة فً معبد دندرة)‬

‫وحول تمجٌد بعض المتعلمٌن المصرٌٌن للؽزاة‪ ،‬استشهد الدكتور كمال فرٌد إسحق أستاذ اللؽة القبطٌة‬
‫بؤبٌات أحمد شوقً فً مسرحٌة "مصرع كلٌوباترة"(ٓ‪:)9‬‬

‫حابً‪:‬‬

‫اسمع الشعب دٌون كٌؾ ٌوحون إلٌــه‬

‫مأل الجو هتافـــــــــا بحٌا َت ًْ قاتلٌــــــه‬

‫أ َّثر البهتـان فٌه وانطلى الزور علٌــــه‬

‫ٌاله من ببؽــــاء عقله فً أذنٌــــــــــــه‬

‫دٌون‪:‬‬

‫الرم ٌَّة تحتفً بالرامـً‬


‫أن َّ‬ ‫َ‬
‫سمعت وراعنً‬ ‫ُ‬
‫سمعت كما‬ ‫حابً‪،‬‬

‫وأصار عرشهم فراش ؼــــرام‬ ‫هتفوا بمن شرب الطال فً تاجهم‬

‫ولو استطاع مشى على األهرام‬ ‫ومشى على تارٌخهم مستهزبا‬

‫(ٓ‪)9‬‬
‫‪ -‬مصرع كلٌوباترة‪ ،‬أحمد شوقً‪ ،‬مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٓٔ ـ وتارٌخ اللؽة القبطٌة‪ ،‬كمال فرٌد إسحق‪ ،‬مإسسة بٌتر‬
‫للطباعة والتورٌدات‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪ٔ8‬‬

‫‪ٔ8ٙ‬‬
‫مصر صورة للسماوات وٌسكن الكون كله هنا فً قدس معبدها‬

‫لكن اإلله سوؾ ٌهجرها‪ ،‬وٌعود إلى السماء‪ ،‬وٌرتحل من هذا البلد الذي كان مقرا للروحانٌة‪ ،‬ستصبح‬
‫مصر مهجورة موحشة‪ ،‬محرومة من وجود اإلله‪ٌ ،‬حتلها الدخالء الذٌن سٌتنكرون لتقالٌدنا المقدسة‪.‬‬

‫إن هذا البلد الزاخر بالمعابد واألضرحة سٌضحى ملٌبا بالجثث والمآتم‬

‫والنٌل المقدس سوؾ تخضبه الدماء‪ ،‬وستفٌض مٌاهه محملة بالقٌح‬

‫آه ٌا مصر!(ٔ)‬

‫(ٔ)‬
‫‪ -‬متون هرمس الحكمة الفرعونٌة المفقودة‪ ،‬تٌموثً فرٌك وبٌتر ؼاندي‪ ،‬ترجمة عمر الفاروق عمر‪ ،‬ص ٖ٘‪ٖٙ -‬‬
‫* نص م نسوب إلى تحوت الذي أسماه الٌونان هرمس‪ٌ ،‬رجع للقرنٌن الثانً والثالث المٌالدي‪ ،‬وعثر علٌه فً القرن ٘ٔ‪ٌ ،‬ضم نبوءات وتوصٌات‬
‫بالتمسك بماعت‪ ،‬وفٌه أٌضا روحانٌات العالقة بٌن اإلنسان واإلله‪ ،‬وٌحذر من عواقب من ٌضل عن هذا على مستقبل مصر‪.‬‬
‫المشهد ٓٔ‪ :‬االحتالل الرومانً‬

‫ٖٓ ق‪.‬م‪ٙٗٓ -‬م‬

‫(سقوط القالع)‬

‫إن كان اقتحام االحتبلل الرومانً لمصر جرى بشكل تقلٌدي عبر سبلح الدٌون ثم الؽزو العسكري‬
‫واللعب على ضعؾ وتفكك البطالمة‪ ،‬إال أن طول أمده الؽٌر تقلٌدي كاتما أنفاس مصر لمدة ٓٓ‪ 9‬سنة‪-‬‬
‫وهو أطول احتبلل عسكري لمصر‪ -‬ارتكز على الجالٌات األجنبٌة المتكتلة فً المدن الكبرى والمستوطنات‬
‫والجٌش‪ ،‬والتً ؼٌَّرت من موقع والبها بسرعة البرق من الجانب الٌونانً إلى الجانب الرومانً‪ ،‬مرحبة‬
‫مهللة‪ ،‬ومعاونة له فً تبصٌره بؤسرار الببلد وإدارتها‪.‬‬

‫حولها لمؽلوبة بعد أن كانت هً الؽالبة‪،‬‬


‫ولم ٌشذ عن هذا سوا الجالٌة الٌونانٌة التً رأت فٌه منافسا َّ‬
‫فطوت أحقادها فً صدرها‪ ،‬تتحٌن الفرصة من حٌن آلخر لنفخ النار فً وجه منافسها‪ ،‬أما الٌهود فظلوا‬
‫مهللٌن حتى وصلوا لمرحلة ٌطالبون بنفس امتٌازات الٌونانٌٌن؛ فحصل الصدام‪.‬‬

‫أما بالنسبة لتؤثٌر االحتبلل الجدٌد على مصر نفسها فجاء كنزول الصاعقة على رأس المصرٌٌن‪ ،‬وكؤننا‬
‫نراهم وسط حقولهم وأمام بٌوتهم متجمعٌن ٌضربون كفا بكؾ فً ذهول األٌتام‪" :‬ما خصلناش من الٌونان‪،‬‬
‫قوم ٌنزل علٌنا احتبلل تانً ٌاخد فوق اللً كان بٌاخده الٌونان جزٌة وضراٌب لروما!"‪.‬‬

‫فحكم مصر من عاصمة خارجٌة من جدٌد حمَّلها جزٌة وأعباء إضافٌة منها جزٌة االحتبلل التقلٌدٌة‬
‫(ضرٌبة الرأس)‪ ،‬وفرض ضرٌبة نوعٌة من القمح والؽبلل تشحن إلٌها كل سنة؛ أي أن جزءا كبٌرا من‬
‫دخل المصرٌٌن وإنتاجهم الزراعً كان ٌذهب إلى روما دون مقابل‪.‬‬

‫ولهذا احتفل أؼسطس ]أوكتافٌوس[ بفتح مصر‪ ،‬وأصدر عملة تذكارٌة حاملة لصورة التمساح‪ ،‬رمز‬
‫مصر‪ ،‬وعلٌها كلمة "فتح مصر" لٌزؾ النبؤ للرومان وٌبشرهم أنه َّ‬
‫سخر لبطونهم قمح مصر(ٕ)‪.‬‬

‫▼▼▼ الجٌش فً االحتالل الرومانً (رومان‪ -‬إؼرٌق‪ -‬مرتزقة)‬

‫ألهمٌة مصر لروما‪ ،‬واشتهارها بجنوح سكانها إلى الثورة‪ ،‬نشر أؼسطس حامٌات عسكرٌة ضخمة فً‬

‫(ٕ)‬
‫‪ -‬مصر من اإلسكندر األكبر حتى الفتح العربً‪ ،‬مصطفى العبادي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ٘ٔ‬
‫*** أوكتافٌوس حمل لقب أؼسطس‪ ،‬ومعناه المبجل والمقدس‬

‫‪ٔ88‬‬
‫أنحاء البلد من اإلسكندرٌة ألسوان‪ ،‬لتصبح أكبر حامٌة رومانٌة موجودة فً أرجاء اإلمبراطورٌة‪.‬‬

‫وعنها قال المإرخ إسترابون إن "هذه الحامٌة تكونت من ٖ فرق‪ ،‬و‪ 9‬سراٌا‪ ،‬وٖ وحدات من الفرسان‪،‬‬
‫وقوة الحامٌة ٓٓ‪ ٕٕ,8‬جندي فً عصر أؼسطس(ٖ)‪ ،‬والعدد ٌقل جدا فً أوقات السلم‪.‬‬

‫و الجٌش أبرز مبلمح الوجود الرومانً فً مصر‪ ،‬بزٌهم الرومانً الممٌز‪ ،‬وتكون من فرقتٌن مؽلقتٌن‬
‫تماما على حاملً المواطنة الرومانٌة‪ ،‬مدة الجندٌة فٌها ٕ٘ سنة‪ ،‬وقوة ثالثة اسمها القوات المساعدة ٌُسمح‬
‫بالعمل فٌها لمواطنً المدن المخصصة لئلؼرٌق والمتؤؼرقٌن‪ ،‬كما عمل فٌه عرب األنباط‪ ،‬ومدة العمل فٌها‬
‫‪ ٕ9‬عاما‪ ،‬ومن ٌنهً خدمته فً األخٌرة نهاٌة "مشرفة" ٌحصل على الجنسٌة الرومانٌة‪.‬‬

‫وظلت أبواب الجٌش موصدة أمام ؼٌر هإالء حتى القرن الثانً المٌبلدي‪ ،‬حتى انضم إلٌها جنود من‬
‫سكان عواصم المدن‪ ،‬ترجع جذورهم إلى اإلؼرٌق الذٌن استوطنوا مصر أثناء العصر البطلمً(ٗ)‪ ،‬وبحسب‬
‫آمال الروبً انضم مصرٌون للجٌش وحصلوا على الجنسٌة الرومانٌة بعد انتهاء الخدمة(٘)‪ ،‬إال أن السإال‬
‫مطروح ما إن كانوا مصرٌٌن حقٌقٌٌن‪ ،‬أم ممن صنفهم الرومان مصرٌون من اإلؼرٌق والمستوطنٌن‬
‫األجانب القاطنٌن خارج اإلسكندرٌة والمدن المخصصة لفبات معٌنة من اإلؼرٌق‪.‬‬

‫♣♣♣ السكان وتعرٌؾ المصري فً االحتالل الرومانً‬

‫(تمٌٌع معنى المصرٌٌن‪ ..‬وتعمٌق الطبقٌة)‬

‫تعرض الدكتورة آمال الروبً ونفتالً لوٌس نقبل عن أوراق البردي واألوستراكا "الشقافات" مبلمح‬
‫للحٌاة أٌام الرومان‪ ،‬فٌقوال إن الرومان صنفوا سكان مصر لـ"طبقات وضعوها فوق بعضها البعض"‪،‬‬
‫وفصلوا بٌنها بقوانٌن صارمة تمنع االنتقال من طبقة ألخرى إال باستثناء من اإلمبراطور‪ ،‬فمع أنهم صنفوا‬
‫السكان اسمٌا إلى رومان ومصرٌٌن‪ ،‬إال أن كلمة مصرٌٌن لم تعنً عندهم طبقة واحدة وجنسا واحدا‪ ،‬بل‬
‫أدخلوا فٌها السكندرٌٌن (اإلؼرٌق) وجعلوهم الطبقة الثانٌة بعد الرومان‪ ،‬والٌهود واإلؼرٌق سكان المدن‬
‫التً ٌحتكرونها بخبلؾ اإلسكندرٌة للطبقة الثالثة‪ ،‬ثم القاعدة العرٌضة ذات األؼلبٌة الكاسحة وتضم‬
‫المصرٌٌن الحقٌقٌٌن (الفبلحٌن) إضافة لعدد متناثر من فقراء األجانب‪ ،‬وهذه هً الطبقة الرابعة‪.‬‬

‫وٌضٌفا أنه حتى داخل هذه الطبقة الرابعة الفقٌرة فلؤلجانب الفقراء وضع أعلى من المصرٌٌن‬
‫الحقٌقٌٌن‪ ،‬فللجمٌع امتٌازات فً الوظاٌؾ والثروة وإعفاءات الضراٌب عدا هإالء القروٌٌن "فبل ٌتمتعون‬
‫بؤي مٌزة"‪ ،‬وهم ملزمون بتقدٌم ضرٌبة الرأس (الجزٌة)‪ -‬بداٌة من سن ٗٔ سنة‪ -‬وؼٌرها من ضراٌب‬
‫كاملة‪ ،‬وأعمال السخرة وشق الترع والقنوات‪ ،‬وإعاشة الجنود الرومان حٌن ٌنزلون للقرى‪ ،‬وفرض قانون‬
‫التنظٌمات الذي وضعه أؼسطس عقوبات على من ٌتزوج بمصرٌٌن وإن كان عبدا معتوقا(‪.)ٙ‬‬

‫(ٖ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖ٘ٔ‪ ،‬وٕ‪ٔٙ‬‬
‫(ٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الحٌاة فً مصر فً العصر الرومانً‪ ،‬نوفتالً لوٌس‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٕ‪ٕٖ -‬‬
‫(٘)‬
‫‪ -‬مظاهر الحٌاة فً مصر فً العصر الرومانً اجتماعٌا واقتصادٌا وإدارٌا‪ ،‬آمال الروبً‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬ص ‪ٔٙ‬‬
‫(‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نوفتالً لوٌس‪ ،‬ص ٕٔ‪ ،ٗٓ -‬وآمال الروبً‪ ،‬ص ‪ ،ٖٓ -9‬مرجعان سابقان‬

‫‪ٔ89‬‬
‫وبتعبٌر آمال الروبً عن حال المصرٌٌن الوطنٌٌن (الخلَّص)‪" :‬كانت هذه الطبقة الوطنٌة أكثر الطبقات‬
‫حجما‪ ،‬وأوسعها انتشارا‪ ،‬وأقلها حقوقا‪ ،‬وأكثرها فقرا"‪ ،‬والحظ لوٌس أنه "حقٌقة أن المطحونٌن والفقراء فً‬
‫جمٌع أنحاء اإلمبراطورٌة الرومانٌة لم ٌكونوا فً وضع ٌحسدون علٌه‪ ،‬ولكن من الواضح أن الشعب‬
‫المصري ٌعتبر االستثناء الوحٌد من بٌنها الذي عومل بمثل هذه المعاملة القاسٌة"‪ ،‬وبعد تفكر عمٌق فً‬
‫السبب‪ ،‬توقع أن ٌكون "لكبح جماحهم لمنعهم من الثورة"‪ ،‬وتحمٌلهم للمصرٌٌن وزر مطامع كلٌوباترا فً‬
‫حكم روما(‪.)9‬‬

‫وبتصنٌفه السكان إلى مصرٌٌن ورمان ٌكون االحتبلل الرومانً زاد من تمٌٌع المحتلٌن لكلمة‬
‫"المصرٌٌن" بتحوٌلها لعباءة ٌُدخل فٌها الجالٌات األجنبٌة الخلٌطة لمجرد أنهم ٌسكنون مصر‪ ،‬وهو ما‬
‫سٌكون له تؤثٌره الخطٌر والسًء فً تسجٌل التارٌخ مستقببل‪ ،‬بالخلط بٌن أفعال وثقافات األجانب وبٌن‬
‫المصرٌٌن‪ ،‬فٌما ظل المصرٌون الحقٌقٌون فً األرٌاؾ ٌعلنون عن هوٌتهم واختبلفهم الحاد عن األجانب‬
‫لؽ َّة ومبلبس وأخبلق ومبلمح وتقالٌد ومهن وسكن‪ ،‬وانتشرت بقوة حٌنها كلمة "قبط" للتعبٌر عن تعرٌؾ‬
‫المصري بالمعنى الرومانً‪.‬‬

‫وإن ح َّل الرومان محل الٌونان فً قمة الطبقات‪ ،‬إال أنه وفقا آلمال الروبً فإنهم "لم ٌشكلوا جالٌة‬
‫رومانٌة"‪ ،‬لقلة عددهم‪ ،‬وتركزوا فً عمل الجنود وكبار الموظفٌن ورجال األعمال‪.‬‬

‫وعن تعداد السكان‪ ،‬فكما سبق الحدٌث‪ ،‬فإن جوزٌفوس فً بداٌة االحتبلل الرومانً ق َّدر أن عدد سكان‬
‫مصر‪ -‬باستثناء االسكندرٌة‪ -‬كان ٘‪ 9,‬ملٌون نسمة‪ ،‬وبتقدٌر أنه كان باإلسكندرٌة نصؾ ملٌون من السكان‪،‬‬
‫ٌصبح المجموع ‪ 8‬مبلٌٌن نسمة قرٌبا‪.‬‬

‫وهذا ٌعنً أن معظم الرقم من المصرٌٌن‪ ،‬خاصة وأن معظم اإلؼرٌق وبقٌة األجانب الٌهود والسورٌٌن‬
‫والفٌنٌقٌٌن واللٌبٌٌن وؼٌرهم هم كانوا ٌتركزون فً اإلسكندرٌة‪ ،‬وتتوزع بقٌتهم على المدن المحتكرة‬
‫إؼرٌقٌا والبولٌتومٌات والنومات‪ ،‬ونسبة أقل تنتشر فً مدن أخرى كمنؾ والمنٌا وأسوان والفٌوم(‪ ،)8‬وٌتوقع‬
‫زٌادة العدد عدة مبلٌٌن أخرى نهاٌة االحتبلل الرومانً كما ٌتضح فً مقدار الجزٌة التً حصَّلها العرب‬
‫عند فتحهم لمصر‪.‬‬

‫وصنؾ السكان أنفسهم تصنٌفات أخرى بخبلؾ التصنٌؾ الرومانً‪ ،‬فتكشؾ مثبل بردٌة من البهنسا‬
‫تتحدث أن اجتماع لسكان المدٌنة اشترك فٌه موظفو المدٌنة وشعبها والمواطنون الرومان واإلسكندرٌون‬
‫المستقرون بها‪ ،‬فهً هنا صنفت السكان إلى مواطنٌن رومان وسكندرٌٌن وشعب المدٌنة(‪.)9‬‬

‫وظهر التمٌٌز بٌن السكان أٌضا فً الوثابق الرسمٌة الخاصة بتقسٌم أصحاب األراضً إلى فبتٌن هما‬
‫"فبة الرومان واإلسكندرٌٌن" و"فبة المحلٌٌن(ٓٔ)"‪.‬‬

‫(‪)9‬‬
‫‪ -‬آمال الروبً‪ ،‬ص ٕ٘‪ ،‬نوفتالً لوٌس‪ ،‬ص ‪ٗٓ -ٖ9‬‬
‫(‪)8‬‬
‫‪ -‬معلومات أكثر عن السكان انظر‪ :‬مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔٓ‪ٕٕٓ -‬‬
‫(‪)9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً‪ ،‬ص ‪ٕٓ8‬‬
‫(ٓٔ)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٕٓٔ‬

‫ٓ‪ٔ9‬‬
‫والمواطنون الرومان هم من حمل الجنسٌة الرومانٌة وإن كان من أعراق أخرى‪ ،‬فالرومان منحوا‬
‫جنسٌتهم لؤلجانب لٌدٌروا بعض األمور باسمهم لقلة عدد الرومان فً مصر‪ ،‬ولٌكونوا عونا لهم بعد‬
‫حصولهم على امتٌازات جدٌدة‪ ،‬فٌما ٌشبه نظام االمتٌازات األجنبٌة فً عهد االحتبلل اإلنجلٌزي الحقا‪،‬‬
‫فهذه الببلد أسالٌبها فً االستحواذ على ؼٌرها ال تتؽٌر كثٌرا‪ ،‬ولكن من ال ٌتتبعها فً التارٌخ هو من ٌفاجا‬
‫بها وٌقع دابما فً فخها‪.‬‬

‫أما عن نسبة تمصٌر الجالٌات األجنبٌة فً ذلك العصر‪ ،‬فٌعتقد باحثون أنه حصل تمصٌر لنسبة قلٌلة من‬
‫اإلؼرٌق الذٌن تزوجوا بمصرٌٌن‪ ،‬مع اإلشارة إلى أن الٌهود وجالٌات أخرى من ؼٌر حاملً المواطنة الرومانٌة‬
‫أو السكندرٌة كانوا "مصرٌٌن" (جٌبتٌوس‪ /‬قبط) من وجهة نظر األوراق الرسمٌة‪ ،‬فٌصعب معرفة أي مصرٌٌن‬
‫تزاوجوا أكثر مع اإلؼرٌق الذٌن حرصوا كل الحرص على التعالً على المصرٌٌن األصلٌٌن(ٔٔ)‪.‬‬

‫وفً سنة ٕٕٔ م أصدر اإلمبراطور كاراكاال منشوره الشهٌر بمنح الجنسٌة الرومانٌة لجمٌع سكان‬
‫اإلمبراطورٌة "فٌما عدا المستسلمٌن"‪ ،‬ولم ٌتفق الباحثون حول معنى هذه العبارة‪ ،‬وهل المقصود بها‬
‫الشعوب األصلٌة للببلد المفتوحة باعتبارهم "مؽلوبٌن" بحكم الفتح وٌدفعون الجزٌة كاملة أم ماذا‪ ،‬ولكن فً‬
‫كل األحوال بحسب ما استشفه نوفتالً لوٌس من أوراق البردي فإن "األمر بالنسبة للمصرٌٌن لم ٌحدث‬
‫تؽٌٌرا جوهرٌا‪ ،‬والوضع فً المدن والقرى كان على النحو التالً‪ :‬بقدر ما ٌكون هناك تؽٌٌر‪ ،‬بقدر ما ٌظل‬
‫الوضع على ما هو علٌه (بالنسبة لهم)"(ٕٔ)‪.‬‬

‫حرة؟‬
‫♣♣♣ ماذا لو دخلت المسٌحٌة مصر وهً َّ‬

‫لٌس معروفا على وجه الدقة متى دخلت المسٌحٌة مصر‪ ،‬إال من رواٌة تتحدث عن أن مار مرقص دخل‬
‫اإلسكندرٌة سنة ٘‪ ٙ‬م مبشرا سرا‪ ،‬وقابله إسكافً ٌهودي آمن به‪ ،‬ووجدت المسٌحٌة "سكتها" بسبب احتدام‬
‫الصراعات الدٌنٌة والفلسفٌة متعددة الثقافات المعقدة فً اإلسكندرٌة‪ ،‬والتً خلّفت أرواحا حابرة ممزقة‬
‫تسؤل "أٌن الحقٌقة؟"(ٖٔ)‪ ،‬مع التشوٌه الذي طرأ على الدٌن المصري منذ عصر االحتبلل الخاسوتٌمً‬
‫وانتشار الخرافات‪ ،‬فجاءت المسٌحٌة من خارج دابرة الصراع هذه بروح بسٌطة هادبة تدعو للسكٌنة‬
‫واالرتباط بالسماء فقط‪ ،‬مع مٌلها للفقراء ومحاربتها للطبقٌة‪ ،‬فتعلق بها البعض كؤنها طوق النجاة‪ ،‬أما من‬
‫تمسك بالدٌن المصري القدٌم فؤُجبر على تركه أو نسٌانه بإؼبلق المعابد‪.‬‬

‫وٌبدو أن اإلؼرٌق استقبلوا المسٌحٌة قبل المصرٌٌن‪ ،‬ألن التبشٌر بدأ باللؽة الٌونانٌة‪ ،‬وتركز أوال فً‬
‫المدن المحتشدة باإلؼرٌق والمتؤؼرقٌن‪ ،‬ولقت رواجا أسرع بٌنهم ألن عقابد الٌونان لٌست قدٌمة كالعقٌدة‬
‫المصرٌة‪ ،‬وصفات آلهتهم المتصارعٌن مع بعضهم والمتآمرٌن ضد بعضهم وانتشار االنحرافات واإلباحٌة‬
‫الجنسٌة بٌنهم ال تشجع على التمسك بهم كثٌرا أمام دٌانة كالمسٌحٌة‪ ،‬إضافة ألن اإلؼرٌق وجدوا فٌها‬
‫"تمٌزا" ٌجعلهم فوق أعدابهم الرومان دٌنٌا‪ ،‬خاصة وأن المسٌحٌة تحارب تؤلٌه اإلمبراطور‪ ،‬وهً العبادة‬

‫(ٔٔ)‬
‫‪ -‬انظر المزٌد‪ :‬مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً‪ ،‬ص ٖٕٕ‬
‫(ٕٔ)‬
‫‪ -‬الحٌاة فً مصر فً العصر الرومانً‪ ،‬نفتالً لوٌس‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔٗ‬
‫(ٖٔ)‬
‫‪-‬انظر حضارة مصر فً العصر القبطً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪99‬‬

‫ٔ‪ٔ9‬‬
‫التً ارتكزت علٌها اإلمبراطورٌة الرومانٌة فً فرض نفوذها جنبا لجنب مع سٌؾ جٌشها؛ ولذا نجد أن‬
‫كثٌرا من القدٌسٌن وآباء الكنٌسة األوابل هم من اإلؼرٌق والسكندرٌٌن‪.‬‬

‫وتعرض المسٌحٌون فً مصر لسلسلة اضطهادات شنٌعة‪ ،‬راح ضحٌتها عدد كبٌر ما بٌن حرق وفقؤ‬
‫عٌنٌن وقطع الرإوس إلخ‪ ،‬ولكنها لٌست اضطهادات متصلة‪ ،‬فٌسودها فترات سبلم وتهاون بحسب سٌاسة‬
‫كل إمبراطور‪.‬‬

‫وعصر اإلمبراطور دقلدٌانوس (‪ ٕ٘ٔ -ٕٗ9‬م) هو األشهر فً االضطهاد رؼم صؽر مدته‪ ،‬ومن ذلك‬
‫أنه أمر باختبار لكل األهالً أمام الموظفٌن‪ ،‬وكل فرد ٌعلن تمسكه بدٌنه القدٌم وٌقدم التضحٌة لئلله ٌؤخذ‬
‫شهادة منهم بؤنه نجح فً االختبار‪ ،‬أما من ٌرفض التمسك بالدٌن القدٌم فٌتم قتله"(ٗٔ)‪.‬‬

‫وبعد فترة حدثت انقسامات بٌن المسٌحٌٌن أنفسهم بٌن كنٌسة اإلسكندرٌة وبٌن كنابس روما‬
‫والقسطنطٌنٌة وأنطاكٌة حول السٌد المسٌح هل هو إله أم بشر‪ ،‬وهل هو طبٌعة إلهٌة واحدة أم طبٌعتٌن‬
‫بشرٌة وإلهٌة‪ ،‬وهً خبلفات لم تكن فً جعبة المبشرٌن األوابل‪ ،‬ولكنها تخلَّقت من الطبٌعة المتصارعة‬
‫والمعقدة والطابفٌة بٌن اإلؼرٌق والرومان‪ ،‬وبٌن اإلؼرٌق والٌهود وبقٌة الجالٌات األجنبٌة‪ ،‬وصراعاتهم‬
‫السٌاسٌة الدفٌنة القدٌمة حول النفوذ فً مصر‪ ،‬فعكسوا هذا على تفسٌراتهم للمسٌحٌة‪ ،‬ففرؼوا الدعوة‬
‫المسٌحٌة من صفابها‪ ،‬وانشطر المسٌحٌون إلى مذاهب وأحزاب‪ ،‬وظهر نوع آخر من االضطهاد‪ ،‬هو‬
‫االضطهاد المسٌحً‪ -‬المسٌحً على حسب المذهب‪ ،‬دفع ثمنه عدد آخر قتبل وتشرٌدا فً معارك بٌن أتباع‬
‫الكنابس األربعة‪ ،‬وانتهى األمر بؤن دان معظم المسٌحٌٌن فً مصر من مصرٌٌن وإؼرٌق بمذهب‬
‫األرثوذكس‪ ،‬فٌما دان الرومان بالمذهب الملكانً (الكاثولٌكً)٘ٔ‪.‬‬

‫وعلى ضوء انتشار المظالم الدٌنٌة‪ -‬إلى جانب االقتصادٌة‪ -‬انتشرت الرهبنة فً صحارى مصر‪ ،‬ورؼم‬
‫قسوتها‪ ،‬لكنها لعبت دورا فً علو نجم زعماء مصرٌٌن فً سماء البلد بعد طول ؼٌاب‪ ،‬فظهرت زعامات‬
‫روحٌة مثل القدٌسٌن آمون‪ ،‬ومٌنا‪ ،‬وأنطونٌو (أنطونٌوس)‪ ،‬وشنودة(‪.)ٔٙ‬‬

‫وفً عصر اإلمبراطور قسطنطٌن اعترؾ بالمسٌحٌة دٌنا من أدٌان اإلمبراطورٌة(‪ ،)ٔ9‬أما المصرٌون‬
‫الذٌن بقوا على دٌنهم القدٌم‪ ،‬فقوبلوا باضطهاد واسع‪ ،‬سواء من جانب الدولة الرومانٌة بعد اعترافها‬
‫بالمسٌحٌة أو من بعض المسٌحٌٌن‪ ،‬فوصفوهم بالوثنٌٌن والخابنٌن(‪ ،)ٔ8‬وخاصة بعد إصدار اإلمبراطور‬
‫تٌودٌوس أمرا سنة ٘‪ ٖ9‬بؤن المسٌحٌة هً الدٌن الوحٌد للدولة‪ ،‬وبإؼبلق المعابد ومحو الدٌانة‬
‫المصرٌة(‪ ،)ٔ9‬ولنا أن نتخٌل األسالٌب العنٌفة التً اتبعوها فً إرؼام رجال الدٌن على ؼلق المعابد وإرؼام‬
‫الناس على عدم الذهاب إلٌها‪ ،‬وبحسب كتاب "تارٌخ الكنٌسة القبطٌة" للقس منسً ٌوحنا فإنه رؼم ؼلق‬

‫(ٗٔ)‬
‫‪ -‬للمزٌد عن انتشار المسٌحٌة انظر‪ :‬مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً‪ ،‬مصطفى العبادي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔ99‬‬
‫٘ٔ‪ -‬للمزٌد حول دور الصراعات العرقٌة والطابفٌة القدٌمة والتنافس للسٌطرة على مصر فً شطر المسٌحٌة إلى مذاهب انظر‪" :‬الفكر المصري فً‬
‫العصر المسٌحً"‪ ،‬رأفت عبد الحمٌد‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٓٓ ،‬‬
‫(‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬للمزٌد‪ ،‬من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً‪ ،‬مصطفى العبادي‪ ،‬ص ٖٕٖ‪ٖٖ٘ -‬‬
‫(‪)ٔ9‬‬
‫‪-‬تارٌخ الكنٌسة القبطٌة‪ ،‬منسً ٌوحنا‪ ،‬مكتبة المحبة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٔ‪ٔ8‬‬
‫(‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تارٌخ مصر فً عهد البطالمة والرومان‪ ،‬محمد إبراهٌم السعدنً‪ ،‬مكتبة األنجلو‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪ٔ98‬‬
‫(‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬تارٌخ الكنٌسة القبطٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘ٗٔ و٘‪ٔ8‬‬

‫ٕ‪ٔ9‬‬
‫بعدم وجود‬ ‫ٌنمح إال بمرور السنٌن‬
‫(ٕٓ)‬
‫ِ‬ ‫المعابد لكن بقً كثٌر من الناس فً الصعٌد على الدٌن المصري ولم‬
‫قابم علٌه ٌرعاه من معابد وأوقاؾ ورجال دٌن‪.‬‬

‫وهنا وقفة‪ ..‬ماذا لو دخلت المسٌحٌة إلى مصر وهً تحت حكم مصري حر خالص‪ ،‬وهً عبارة عن‬
‫مصرٌٌن (كٌمتٌو) فقط‪ ،‬ال أعراق وافدة وال طوابؾ وثقافات متنافرة ومتنافسة ومتقاتلة؟‬

‫ٌحتاج هذا بحث مستقل‪ ،‬أكبر من إمكانٌات وتخٌل الباحثة‪ ،‬ولكن ٌستحق التطرق له‪ ،‬قد ٌرى البعض أنه‬
‫ت باختبلؾ جوهري عن الدٌن‬ ‫لو حصل هذا ما كانت المسٌحٌة لتجد لها موطؤ قدم فً مصر؛ ألنها لم تؤ ِ‬
‫المصري القدٌم‪ -‬خاصة قبل تشوٌهه‪ -‬فهما متشابهان فً بساطة الفكرة وفً المثل العلٌا واألخبلق‬
‫والمعامبلت واإلٌمان بالبعث واآلخرة والجنة والنار‪ ،‬ورفض العدوان وكراهٌة الصراعات والدماء‪ ،‬وفً‬
‫عقٌدة أن الحٌاة هً معركة خٌر وشر بٌن اإلنسان والشٌطان‪ ،‬وقصة مرٌم والمسٌح وقدسٌة االستشهاد ال‬
‫تختلؾ فً جوهرها عن قصة إٌسة وأوزٌر وحور‪ ،‬فٌما االختبلؾ بٌن الدٌن المصري والمسٌحٌة فً أمور‬
‫عقابدٌة قلٌلة‪ ،‬منها عدم إٌمان المسٌحٌة بتجسٌد اإلله والقدٌسٌن فً تماثٌل مثبل‪.‬‬

‫والبعض سٌرى العكس‪ ،‬وهً أنه ألن المسٌحٌة ال تختلؾ فً جوهرها كثٌرا عن الدٌن المصري فإنها‬
‫ستجد قبوال وترحٌبا وتسامحا‪ ،‬وٌُترك فً هدوء من ٌتبع الدٌن القدٌم أو المسٌحٌة ٌتعبد كما ٌحلو له‪ ،‬خاصة‬
‫إذا احترم أتباعها أٌضا الدٌن المصري ولم ٌسعوا الضطهاده أو إؼبلق معابده أو تفضٌل األجانب‬
‫المسٌحٌٌن على المصرٌٌن الباقٌن على الدٌن القدٌم‪.‬‬

‫وأٌا ما كان‪ ،‬فإن األكٌد هو أنه لو دخلت المسٌحٌة ومصر حرة للقٌت مصٌرا أهدأ مما لقٌه أتباعها‬
‫ومصر تحت االحتبلل متعدد األعراق والثقافات‪ ،‬ولظهرت فً ثوب أقل تعقٌدا‪ ،‬وؼٌر متشبع بهذا القدر من‬
‫الدماء‪ . .‬وقٌاسا على هذا هو أن المرة المعروفة للصراع الدٌنً داخل مصر‪ ،‬وهً فترة حكم إخناتون‪ ،‬فإن‬
‫الفتن والصدام فٌها ال ٌُذكر مقارنة بما حصل بٌن أتباع المسٌحٌة وخصومها‪ ،‬أو بٌن أتباع المذاهب‬
‫المسٌحٌة المختلفة‪ ،‬فلم تتحول مصر إلى حرب أهلٌة‪ ،‬ولم ُتنصب فٌها المذابح والمحارق الجماعٌة كتلك‬
‫التً حصلت وقت دخول المسٌحٌة أٌام الرومان‪.‬‬

‫أمر آخر‪ ،‬وهو أن دخول المسٌحٌة والبلد فٌها أعراق أجنبٌة متصدرة المشهد وكارهة لبعضها‪ ،‬وفً‬
‫نفس الوقت كارهة للمصرٌٌن الحقٌقٌٌن وتفوقهم الحضاري‪ ،‬ووجود عدد كبٌر من اإلؼرٌق والمتؤؼرقٌن‬
‫المندرجٌن تحت اسم سكندرٌٌن أو قبط بٌن المصرٌٌن المسٌحٌٌن‪ ،‬مع ما هو معلوم من الطابع القبلً المؽلق‬
‫لئلؼرٌق (هم مجموعات‪ ،‬كل مجموعة منسوبة لمدٌنة إؼرٌقٌة ومتنافسة مع بقٌة المجموعات والمدن) هذا‬
‫الطابع المؽلق والحذر عكسوه على ممارستهم للمسٌحٌة‪ ،‬فحولوا أتباعها إلى مجموعة تجنح إلى االنؽبلق‬
‫على نفسها‪ ،‬تشعر أن لها صفات ومزاٌا تجعلها شٌبا مختلفا عما حولها‪ ،‬وهو تفكٌر معاكس للتفكٌر‬
‫المصري الوحدانً‪ ،‬الذي ٌنظر للمصرٌٌن على أنهم شًء واحد‪ ،‬ولم ٌتعود حٌاة المجموعات المنؽلقة أو‬
‫لها عالم آخر بخبلؾ بقٌة المصرٌٌن‪.‬‬

‫(ٕٓ)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٘‪ٔ8‬‬

‫ٖ‪ٔ9‬‬
‫وانجرؾ مصرٌون تحولوا للمسٌحٌة إلى الطبع اإلؼرٌقً المنؽلق‪ ،‬وشجعهم على هذا ما لقوه من‬
‫اضطهاد أو محاولة استبعاد من الرومان لهم بسبب دٌنهم‪ ،‬وأن آباء وقدٌسً كنٌسة اإلسكندرٌة األوابل من‬
‫الخلَّص القادمٌن حدٌثا لئلسكندرٌة أو اإلؼرٌق المستوطنٌن المندرجٌن تحت‬‫الٌهود السابقٌن واإلؼرٌق ُ‬
‫مسمى سكندرٌٌن أو قبط‪ ،‬ولهم حق الطاعة األول حٌنها‪ ،‬فانعكس هذا لٌس فقط على أن ٌصبح انتماء‬
‫هإالء‪ -‬خاصة أٌام االحتبلالت‪ -‬للكنسٌة تحت اسم "شعب الكنٌسة" أكثر من أن ٌكون انتماء لـ"شعب‬
‫مصر"‪ ،‬وأن ٌتعلم بعضهم أن اإلؼرٌقً أو أي شخص من دٌنه أقرب إلٌه من أخٌه المصري مدام المصري‬
‫على دٌن آخر‪ ،‬ولكن أٌضا انعكس على اللؽة المصرٌة التً تحول اسمها للقبطٌة بعد محو حروفها وكتابتها‬
‫بالحروؾ الٌونانٌة لتسهٌل التبشٌر بها‪ ،‬وفً وقت الحق قصر صفة قبطً على المسٌحٌٌن‪ -‬مصرٌٌن أو‬
‫إؼرٌق مستوطنٌن‪ -‬واهتمام المصرٌٌن المسٌحٌٌن فً كتبهم التارٌخٌة القلٌلة على حفظ أخبار الكنٌسة‬
‫وأتباعها أكثر من تتبع وحفظ أخبار المصرٌٌن ككل‪ ،‬وزاد هذا الجنوح لبلنؽبلق مع دخول العرب والترك‬
‫واستؽبللهم لئلسبلم أداة للتعالً على ؼٌرهم أٌضا‪.‬‬

‫ومثال على الفرق بٌن أن تدخل المسٌحٌة أو اإلسبلم إلى بلد ٌحكمه أهله وبلد ٌحكمه محتلون ٌظهر مثبل‬
‫فً الببلد المستقلة فً ظل اإلمبراطورٌة الرومانٌة‪ ،‬كروما نفسها وبقٌة أوروبا وببلد الٌونان والحبشة‬
‫وبعض أجزاء الجزٌرة العربٌة‪ ،‬فإن المسٌحٌة حٌن دخلتهم وهم ٌحكمون أنفسهم لم ٌبدلوا لؽتهم‪ ،‬وال‬
‫حروفها‪ ،‬وال أسماءهم‪ ،‬وال مبلبسهم‪ ،‬ولم ٌحتقروا أجدادهم وحكامهم السابقٌن‪ ،‬بل ظلوا ٌعتزون برومانٌتهم‬
‫أو ببلتٌنٌتهم أو بإؼرٌقٌتهم أو بحبشٌتهم أو بعروبتهم واعتزازهم بؤنفسهم‪.‬‬

‫كذلك متوقع أن الشدة التً فً الؽالب عومل بها المصرٌون الباقون على الدٌن المصري القدٌم‪ ،‬وؼلق‬
‫معابدهم بالقوة‪ ،‬ما كانت لتحدث لو أن المسٌحٌٌن كانوا مصرٌٌن فقط‪ ،‬بل بالتؤكٌد أن المسٌحٌٌن‬
‫المستوطنٌن اإلؼرٌق والمتؤؼرقٌن لهم الٌد العلٌا فً هذه الشدة والعنؾ لما ٌحملونه من كراهٌة أو تعالً‬
‫على المصرٌٌن‪ ،‬وكؤنهم "ما صدقوا ومسكوا علٌهم فرصة"‪ ،‬خاصة مع ما حملته التوارة (العهد القدٌم عند‬
‫المسٌحٌٌن) من صفات تذم مصر والمصرٌٌن‪ ،‬فلٌس من السهل تصور أن مصرٌٌن ٌصفون إخواتهم‬
‫المصرٌٌن بؤنهم "الوثنٌٌن الخابنٌن" كما وصفتهم المراجع المسٌحٌة القدٌمة‪ ،‬بل هً كلمة تخرج من‬
‫أشخاص لم ٌشتركوا ٌوما مع المصرٌٌن فً دٌنهم المعروؾ بؤنه أبعد ما ٌكون عن الخٌانة‪.‬‬

‫ورؼم كل ما سبق‪ ،‬فإن المصرٌٌن وضعوا بصمتهم المصرٌة القوٌة على المسٌحٌة أٌضا‪ ،‬فرؼم معاداة‬
‫المسٌحٌٌن اإلؼرٌق للدٌن المصري القدٌم واستهداؾ معابده‪ ،‬إال أنهم أخذوا فً عاداتهم وأعٌادهم وعمارة‬
‫الكنابس الكثٌر من حضارة الدٌن المصري‪ ،‬حتى أنه ظل ٌُطلق على المسٌح كلمة أوزٌر لفترة طوٌلة‪،‬‬
‫واستخدام عبلمة عنخ (الشهٌرة خطؤ بمفتاح الحٌاة) كؤول شكل من أشكال الصلٌب لزمن طوٌل‪ ،‬واحتفلوا‬
‫بقٌامة المسٌح كما كانوا ٌحتفلون ببعث وقٌامة وزٌر‪ ،‬وحولوا سٌت عدو حور إلى التنٌن الذي قتله ماري‬
‫جرجرس كما ٌظهر فً أٌقونته‪ ،‬وانتشرت كذلك صورة العذراء وهً تحمل رضٌعها المسٌح كتماثٌل إٌسة‬
‫وهً تحمل رضٌعها حورٕٔ‪ ،‬وبناء برج الكنٌسة على نظام المسلة‪ ،‬واستخدمت مذبح القرابٌن والبخور كما‬

‫ٕٔ‪ -‬راجع فً هذا‪ :‬فراعنة من؟ علم اآلثار والمتاحؾ والهوٌة القومٌة المصرٌة من حملة نابلٌون حتى الحرب العالمٌة األولى‪ ،‬دونالد مالكوم رٌد‪،‬‬
‫ترجمة عبد الرءوؾ عباس حامد‪ ،‬المجلس األعلى للثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٓٓ٘ ،‬ص ‪ٗ9‬‬

‫ٗ‪ٔ9‬‬
‫كانت فً المعبد المصري‪ ،‬وأسبػ المصرٌون تبجٌلهم لـ إٌسة على مرٌم أم المسٌح‪ ،‬وعكسوا احتفاالتهم‬
‫المصرٌة على احتفاالتهم بؤعٌاد مسٌحٌة حلت محلها وربطتها بالنٌل كعٌد الشهٌد وعٌد الؽطاس‪ ،‬واحتفظ‬
‫المسٌحٌون األمٌون فً الرٌؾ ببساطة الطبع المصري وعذوبته‪.‬‬

‫كما أن كنٌسة مصر هً الكنٌسة الوحٌدة فً العالم التً لٌس لها مشارٌع إمبراطورٌة عدوانٌة مقارنة‬
‫بكنابس روما والقسطنطٌنٌة ثم روسٌا وإنجلترا وأمرٌكا فٌما بعد‪.‬‬

‫▼▼▼ نتابج االحتالل الرومانً‬

‫❶‪ -‬نشؤة عقدة الخواجة‬

‫مع كثرة الجنسٌات الوافدة كان ضبط السلم االجتماعً والطبقً عبر األسماء واأللقاب أمرا بالػ األهمٌة‬
‫من الناحٌة المالٌة‪ ،‬ألنه ٌتعلق بدفع الضراٌب‪ ،‬وما ٌتم تكلٌفه به أو إعفابه من خدمات عامة‪ ،‬كما أنه ٌحدد‬
‫إلى أي طبقة ٌنتمً‪ ،‬فً نظام كررته االحتبلالت التالٌة‪ ،‬خاصة مع اختراع ألقاب خاصة ألبناء الطبقة‬
‫الحاكمة‪ ،‬مثل التؤكٌد على اسم القبٌلة أٌام العرب‪ ،‬وألقاب "باشا" و"بك" أٌام العثمانلٌة‪.‬‬

‫فوضع الرومان قواعد دقٌقة لمراعاة كتابة االسم واللقب والوضع االجتماعً حتى ال ٌحصل خلط‬
‫وفوضى‪ ،‬وخصصت اإلدارة الرومانٌة لذلك مكتبا خاصا(ٕٕ)‪ ،‬وفٌما ٌتعلق بؤسماء األفراد ظهر مٌل بٌن‬
‫مصرٌٌن "مثقفٌن" التخاذ أسماء إؼرٌقٌة كسبٌل لـ"الترقً" االجتماعً‪ ،‬خاصة من اختلط منهم بالٌونان أو‬
‫الرومان فً عمل أو تجارة‪.‬‬

‫وال ٌسمح لهم بهذا إال إذا قدم طلبا خاصا لتؽٌٌر اسمه‪ ،‬ولعل األسماء المختلطة التً ترد فً الوثابق‬
‫" مصرٌة وٌونانٌة" تبٌن أن أصحابها اكتسبوا أسماء ٌونانٌة مإخرا‪ ،‬فاستخدموا أسماءهم المصرٌة القدٌمة‬
‫إلى جانب أسمابهم الٌونانٌة الجدٌدة للداللة على شخصٌاتهم(ٖٕ)‪ ،‬وهذا التنازل من بعض المثقفٌن باكتساب‬
‫أسماء أجنبٌة منذ االحتبلل الٌونانً هو أول الخٌط الذي كرَّ ت معه حلقات ضٌاع جانب من الهوٌة المصرٌة‬
‫وتهاون أهلها نحوها‪.‬‬

‫❷‪ -‬محو حروؾ اللؽة المصرٌة‪ ..‬الخنجران الثانً والثالث‬

‫ظلت اللؽة المصرٌة هً لؽة الحٌاة للمصرٌٌن‪ ،‬واللؽة الٌونانٌة هً لؽة المخاطبات واألعمال فً‬
‫دواوٌن الحكم والتعلٌم والمعامبلت الرسمٌة‪ ،‬ولؽة الخطاب بٌن خلٌط األجانب‪.‬‬

‫وهبَّ القرن الثالث المٌبلدي بفاجعة جدٌدة للؽة المصرٌة‪ -‬بعد فاجعة إعبلن أن الٌونانٌة هً اللؽة‬
‫الرسمٌة لمصر أٌام البطالمة‪ -‬وهً إلؽاء استخدام العبلمات أو الحروؾ المصرٌة (الهٌروؼلٌفٌة‬
‫والهٌراطٌقٌة والدٌموطٌقٌة) فً كتابة اللؽة المصرٌة‪ ،‬لتحل محلها الحروؾ الٌونانٌة مع ‪ 9‬حروؾ فقط‬

‫(ٕٕ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مظاهر الحٌاة فً مصر فً العصر الرومانً اجتماعٌا واقتصادٌا وإدارٌا‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪ٕ9 -ٕ8‬‬
‫*** وٌشبه هذا فً وقت الحق إضافة لقب " الشرٌؾ" على من ٌنسبون أنفسهم للساللة النبوٌة‪ ،‬أو تخصٌص ألقاب الباشا والبٌك وصاحب السعادة‬
‫إلخ خالل حكم أسرة محمد علً‪ ،‬وهو تقسٌم طبقً دخٌل وصارخ‪.‬‬
‫(ٖٕ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‬

‫٘‪ٔ9‬‬
‫مصرٌة ال ٌوجد مثلها فً الٌونانٌة؛ ما أفرز ما تسمى بالخط القبطً‪ ،‬وهو كتابة اللؽة المصرٌة بحروؾ‬
‫ٌونانٌة(ٕٗ)‪ ،‬مثل كتابة الفرانكو آراب حالٌا التً تكتب اللؽة العربٌة بحروؾ إنجلٌزٌة‪.‬‬

‫ووفق القس شنودة ماهر‪ ،‬فإن أقدم محاولة لكتابة اللؽة بهذه الطرٌقة ظهرت فً بردٌة هاٌدلبرج ٗٔٗ‬
‫ترجع إلى القرن ٖ ق‪.‬م‪ ،‬أي فً بداٌة االحتبلل اإلؼرٌقً‪ ،‬كتبها رجل ٌونانً‪ ،‬وتشمل مفردات مصرٌة‬
‫بحروؾ ٌونانٌة‪ ،‬وتفشى األمر فً االحتبلل الرومانً بعد تبنٌه المسٌحٌة دٌنا للببلد‪ ،‬فقررت الكنٌسة على‬
‫ٌد بابا الكنٌسة دٌمترٌوس السكندري فً القرن الثاث المٌبلدي كجزء من برنامجها التبشٌري مع بداء‬
‫ترجمة اإلنجٌل من الٌونانٌة إلى المصرٌة‪ ،‬ف ُنقل بالحروؾ الٌونانٌة مع االحتفاظ باللفظ المصري(ٕ٘)‪،‬‬
‫وٌظهر فٌه االستسهال ألن المترجمٌن فً الؽالب سكندرٌٌن وقبط من ؼٌر المصرٌٌن الحقٌقٌٌن‪ ،‬فؤرادوا‬
‫التبشٌر بالمسٌحٌة فً األرٌاؾ وسط المصرٌٌن الذٌن ال ٌعرفون الٌونانٌة‪ ،‬وفً نفس الوقت كتابة اإلنجٌل‬
‫بالحروؾ الٌونانٌة لصعوبة الحروؾ المصرٌة على المترجمٌن‪.‬‬

‫وبحسب جرجس فٌلوناإس عوض فً مجلة "الكرمة"‪ -‬صوت الكنٌسة المصرٌة‪ -‬فإن من أخذ على‬
‫عاتقه هذا التحوٌل هم بانتٌونس الصقلً وأكلٌمندس اإلسكندري وأورٌجانس ]ؼٌر مصرٌٌن فمثبل بانتٌونس‬
‫اختلؾ حوله ما بٌن صقلً وسكندري‪ ،‬وأكلٌمندس متفق أنه قدم حٌنها من أثٌنا[ وبرر هذا بؤن الحروؾ‬
‫الٌونانٌة فً األصل مؤخوذة من األبجدٌة الفٌنٌقٌة المؤخوذة بدورها من العبلمات المصرٌة‪ ،‬فكؤنها‬
‫"بضاعتكم ردت إلٌكم"(‪ ،)ٕٙ‬وهو مبرر ٌحمل ضعفه بداخله‪ ،‬فإن كان الٌونانٌون أنفسهم أخذوا األبجدٌة من‬
‫الفٌنٌقٌٌن فإنهم ؼٌروا فٌها لتكون ٌونانٌة‪ ،‬والفٌنٌقٌون ؼٌروا فً العبلمات المصرٌة لتكون فٌنٌقٌة‪ ،‬وكل‬
‫منهم أخذ أبجدٌة ؼٌره ألنه لم ٌكن عنده أبجدٌة عتٌقة وكاملة‪ ،‬أما مصر فلدٌها أبجدٌتها‪ ،‬وال ٌلٌق بها أن‬
‫تهبط لمستوى المتقلً ألبجدٌات صارت عبلمة ممٌزة لببلد ؼٌرها‪.‬‬

‫وتسربت كلمات ٌونانٌة للؽة المصرٌة كما ٌظهر فً الترجمات المنقولة من الٌونانٌة للقبطٌة‪ ،‬وٌظهر‬
‫فٌها استسهال المترجم بدال من أن ٌجد لها مقابل فً اللؽة المصرٌة‪.‬‬

‫وهذه أكبر لطمة لثقافة مصر بعد لطمة‪ -‬بل طعنة‪ -‬فتح مإسسات الدولة لؤلجانب وتشؽٌلهم فٌها فً نهاٌة‬
‫الدولة الحدٌثة؛ فإن محو الحروؾ المصرٌة ولزق حروؾ ٌونانٌة محلها هو ستارة ثقٌلة نزلت بٌن‬
‫المصرٌٌن ولؽتهم وحضارتهم‪ ،‬وعمَّت عٌونهم عن حقٌقتهم وقٌمتهم‪ ،‬فكانت نكبة أشد من نكبة إعبلن‬
‫المحتل أن الٌونانٌة هً لؽة الدولة‪ ،‬ألن الٌونانٌة فً النهاٌة كانت محبوسة بٌن األجانب والموظفٌن‪.‬‬

‫ولٌس مقبوال أن ٌُبرر لهذا بصعوبة الكتابة بالهٌراطٌقً والدٌموطٌقً؛ فالخط الدٌموطٌقً كان منتشرا‬
‫وصالحا للكتابة بالفعل‪ ،‬وحتى إن كان به صعوبة فسهل تبسٌطه من وحً الحروؾ المصرٌة نفسها‪ ،‬كما‬
‫فعل األجداد بتبسٌط الخط الهٌروؼلٌفً إلى الهٌراطٌقً‪ ،‬أما محو الخطوط المصرٌة جمٌعها واللهث وراء‬
‫خط أجنبً‪ ،‬وفوق هذا هو خط االحتبلل‪ ،‬فإنما هو تفرٌط ال ٌقل عن التفرٌط فً األرض؛ وبعض العزاء‬

‫(ٕٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬اللؽة المصرٌة القدٌمة‪ ،‬عبد الحلٌم نور الدٌن‪ ،‬دار األقصى للطباعة والنشر‪ ،‬ط ‪ ،9‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ ،ٗٗ -ٖ8‬ومصر من اإلسكندر‬
‫األكبر إلى الفتح العربً‪ ،‬ص ‪ٔٔٙ‬‬
‫(ٕ٘)‬
‫‪ -‬انظر تتبع ظهور الخط القبطً فً‪ :‬تراث األدب القبطً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔٔ‪ٔٙ -‬‬
‫(‪ -)26‬المغة المصرية لغة البالد األصمية‪ ،‬جرجس فيموناؤس عوض‪ ،‬مقال بمجمة الكرمة‪ ،‬العدد ‪ ،7‬س ‪ ،9‬بتاريخ ‪ ،1923 -7 -1‬ص ‪363‬‬

‫‪ٔ9ٙ‬‬
‫ٌكون فً أن بداٌة التفرٌط لم تكن مصرٌة خالصة‪ ،‬بل خرج من مستوطنٌن أجانب رأوا الحروؾ الٌونانٌة‬
‫أسهل لهم من تعلم الحروؾ المصرٌة‪ ،‬وبعضهم صدره معبؤ بالكراهة للحضارة المصرٌة التً وصفوها‬
‫بالوثٌنة بعد تشبع بعض القلوب بما فً التوارة من تحقٌر للمصرٌٌن وحضارتهم‪ ،‬فلم ٌؤبه المترجمون‬
‫للتوراة واإلنجٌل بحفظ خطوط اللؽة التً تحفظ وصل المصرٌٌن بها‪.‬‬

‫تطورات الخط المصري وصوال إلى محوه لٌحل محله خط أجنبً تسمى بالقبطً (كتاب اللؽة المصرٌة القدٌمة عبد الحلٌم نور الدٌن)‬

‫ومن هنا جاء انفراط عقد اللؽة المصرٌة من ٌد المصرٌٌن‪ ،‬بل والحضارة المصرٌة ككل‪ ،‬ألنه باختفاء‬
‫العبلمات (الحروؾ) المصرٌة من بٌن أصابعهم انتشر الجهل بهذه العبلمات‪ ،‬وبالتالً الجهل بما تركه‬
‫األجداد من بردٌات ونقوش على المعابد والمقابر‪ ،‬بل صارت بالنسبة لنا "طبلسم"! حتى أسامً زعماءنا‬
‫ومدننا وحوادث تارٌخنا ال نعرؾ قراءتها‪ ،‬فانضوت الحضارة المصرٌة على نفسها كسٌرة حزٌنة‪ ،‬وحلت‬
‫الؽربة والوحشة فً نفوس المصرٌٌن‪.‬‬

‫ومتوقع أن هذا طال نطق اللؽة أٌضا‪ ،‬فالمستوطنٌن الذٌن ٌكتبونها بالحروؾ الٌونانٌة ٌكتبونها بنطقهم‬
‫هم لها‪ ،‬ولٌس بالنطق المصري السلٌم‪ ،‬ووجود اللؽة بخط أجنبً‪ ،‬ساهم فً اختبلق الفصل فً تارٌخ مصر‬
‫ما بٌن مصري (الشهٌر خطؤ باسم فرعونً) وقبطً‪ ،‬وظهور ما تسمى بالحضارة القبطٌة لها مبلمح‬
‫بعضها ٌتفق مع الحضارة المصرٌة وبعضها مختلؾ تماما نظرا لتداخل مستوطنٌن أجانب مع مصرٌٌن فً‬

‫‪ٔ97‬‬
‫بوتقة المسٌحٌة‪ ،‬وتسمً كل هإالء بـ"القبطً"‪ ،‬وٌتجسد هذا الخلٌط على سبٌل المثال فً الفنون التً تسمت‬
‫بالقبطٌة‪ ،‬وفٌها ٌظهر األشخاص "القبط" بلحٌة آسٌوٌة‪ ،‬ومبلبس ٌونانٌة أو رومانٌة‪ ،‬ومبلمح أقرب‬
‫للٌونانٌة والرومانٌة من المبلمح المصرٌة‪ ،‬وتؽٌر مدرسة الفن وخطوطها‪ ،‬وذلك إما تؤثرا بمبلمح القدٌسٌن‬
‫أو تماشٌا مع مبلمح وثقافة القابمٌن على هذه األعمال والحكام‪.‬‬

‫وم َّد فً روح العبلمات المصرٌة بعض الشًء أنه كان واجبا على رجال الدٌن تعلمها‪ ،‬ألنه محرم‬
‫الكتابة فً المعابد والنقش على جدرانها إال باللؽة المقدسة "مدت نتر"‪ ،‬وبعبلماتها المصرٌة الخالصة‪،‬‬
‫فظلت داخل المعابد حتى ؼلق المعابد ؼصبا بقرار اإلمبراطور تٌودٌوس سنة ٘‪ ٖ9‬وطرد رجال الدٌن‬
‫المتحصنٌن خبلل االضطرابات التً نشبت بعد اعتراؾ اإلمبراطورٌة الرومانٌة بالمسٌحٌة‪ ،‬وقتلوا أو‬
‫كتموا معهم أعرق العلوم والمعارؾ والمهارات‪.‬‬

‫وآخر نقش وصلنا بالخط الهٌروؼلٌفً تم نقشه على جدران معبد فٌلة بؤسوان سنة ٗ‪ ٖ9‬م‪ ،‬بٌنما آخر‬
‫نص بالدٌموطٌقً فً البردٌات وصلنا ٌرجع لسنة ٓ‪ٗ9‬م(‪ )ٕ9‬أي قبل االحتبلل العربً بـ ٓ٘ٔ عاما فقط‪،‬‬
‫وهذا الؽلق التعسفً للمعابد ٌعد الخنجر الثالث للؽة المصرٌة الختفاء من ٌهتم باإلبقاء على عبلماتها‬
‫األصٌلة مفهومة ألبنابها‪ ،‬وؼاضت أسرارها حتى تلَّقؾ شامبلٌون بعضا منها بعد ٓٓٗٔ سنة‪.‬‬

‫هذا ما حصل للؽة المصرٌة المكتوبة‪ ،‬أما اللؽة المنطوقة فظل المصرٌون ٌتحدثون بها لمبات السنٌن‪.‬‬

‫ولم تعدم اللؽة المصرٌة أبنابها الؽٌورٌن علٌها‪ ،‬فمع اشتداد اضطهاد الرومان للمصرٌٌن ؼلت العروق‬
‫بالرؼبة فً االستقبلل والتمسك بالقومٌة المصرٌة‪ ،‬فظهرت محاوالت إلنقاذ اللؽة المصرٌة للتمٌز عن‬
‫المحتلٌن قادها األنبا شنودة فً القرن ٗ المٌبلدي تضمنت تنقٌة اللؽة من األلفاظ الٌونانٌة وتنقٌة األدب‬
‫المصري من ثقافة الٌونان‪ ،‬وكان أدٌبا فصٌحا رفض الكتابة أو الكبلم إال باللؽة المصرٌة رؼم إجادته‬
‫للٌونانٌة‪ ،‬وحٌن أسس نظامه فً الرهبنة أصر أن تقبل األدٌرة المصرٌٌن فقط‪ ،‬بٌنما كانت أدٌرة األنبا‬
‫باخ ومٌوس تقبل رهبانا من جنسٌات أخرى‪ ،‬ولم تكن فقط للرهبنة بل سخرها شنودة لمهاجمة كبار المبلك‬
‫والحكام األجانب الظالمٌن ألنه تبنى قضاٌا مصرٌة صمٌمة(‪ ،)ٕ8‬وإن لم ٌتم إعادة الخط المصري إلى اللؽة‬
‫المصرٌة‪ ،‬وهً جرٌمة ٌُبلم علٌها المثقفون المصرٌون حٌنها أكثر مما ٌُبلم علٌها المستوطنون األجانب‬
‫الذٌن أبعدوا هذا الخط عن عرشه‪.‬‬

‫❸‪ -‬اضطهاد الدٌن المصري‪ ..‬ؼلق المعابد‬

‫انحسر انتشار المعابد المصرٌة زمن االحتبلل الٌونانً لقلة اهتمام حكومة االحتبلل ببناء معابد جدٌدة‪،‬‬
‫مكتفٌة بالسماح بإعادة بناء أو ترمٌم معابد شاخت أو تهدمت‪ ،‬خاصة مع انحسار مٌزانٌة األوقاؾ‬
‫المخصصة لئلنفاق على المعابد باالستٌبلء علٌها من حٌن آلخر كما تابعنا‪ ،‬وظل المصرٌون ٌمارسون‬
‫دٌنهم حسبما تٌسر لهم‪.‬‬

‫(‪)ٕ9‬‬
‫‪ -‬تراث األدب القبطً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓٔ‪ٔٔ -‬‬
‫(‪)ٕ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬حضارة مصر فً العصر القبطً‪ ،‬مراد كامل‪ ،‬دار العالم العربً‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪ ٕ9‬ؤٕٓ ؤٖٕ‪ٕٔٗ -‬‬

‫‪ٔ98‬‬
‫ومع دخول المسٌحٌة وتعرضها لبلضطهاد‪ ،‬فإنه بالتزامن‪ -‬وهو ما ٌؽفل ذكره الكثٌرون‪ -‬تعرض‬
‫المصرٌون الذٌن بقوا على دٌنهم القدٌم الضطهاد واسع أٌضا‪ ،‬سواء من جانب الدولة الرومانٌة بعد‬
‫اعترافها بالمسٌحٌة أو من بعض المسٌحٌٌن الذٌن وصفوا أصحاب الدٌن القدٌم بالوثنٌٌن؛ وبعد قرار‬
‫اإلمبراطور تٌودٌوس بمحو الدٌانة المصرٌة وؼلق معابدها سنة ٘‪ٖ9‬م جرى معاقبة من ٌستمر فً‬
‫ممارسة العبادات "الوثنٌة" بتهمة الخٌانة‪ ،‬ومن ث َّم ع َّم الدٌن المسٌحً(‪.)ٕ9‬‬

‫❹‪ -‬مصر تفقد ذاكرتها‬

‫ولم ٌكن إؼبلق المعابد وتحرٌم العبادة فٌها وقتل أو طرد من بقً من رجال الدٌن المصري مجرد تحرٌم‬
‫دٌن قدٌم إلزاحة مكان لدٌن جدٌد‪ ،‬بل إزاحة حضارة بكاملها؛ فكون المعابد المصرٌة هً قواعد حفظ‬
‫العلوم والفنون ومعقل حماٌة الهوٌة المصرٌة‪ ،‬فبؽلقها سقطت أزامٌل وقواعد النحت والرسم من أٌدي‬
‫الفنانٌن المصرٌٌن لٌصمت الفن المصري األصٌل مبات السنٌن‪ ،‬وتتوقؾ حركة العمارة المصرٌة بمبلمحها‬
‫الممٌزة فً المنشآت الكبرى‪ ،‬وٌختفً العلماء حُ َّفاظ الهوٌة المصرٌة الخالصة حكمة ولؽة وزًٌا وعمارة‬
‫وفنون وعلوما‪ ،‬فٌختفً ورابهم شٌبا فشٌبا وجه مصر البهً النقً الواضح المبلمح‪ ،‬وٌحل محله شٌبا فشٌبا‬
‫وجه‪ -‬أو قناع‪ -‬معتم مشوه‪ ...‬حتى حٌن‪.‬‬

‫شاهت وشوشنا‪ ..‬توهنا بٌن شٌن وزٌن‬

‫ولسه ٌاما وٌاما ح نشوؾ كمان‬


‫(ٖٓ)‬
‫وٌنفلت من بٌن إٌدٌنا الزمان‬

‫وربما لو دخلت المسٌحٌة فً ظل حكم مصري‪ ،‬واستقبلها مصرٌون فً بداٌتها‪ ،‬مبرأٌن من الكراهٌة‬
‫التً حملها المبشرون والمستوطنون األجانب للحضارة المصرٌة ألنها رمز التفوق المصري أو بتؤثٌر من‬
‫قصص الٌهود فً التوراة‪ ،‬العتنقوها بدون حاجة إللؽاء العمارة والزي والفنون وحروؾ اللؽة وؼٌرها من‬
‫معالم الهوٌة المصرٌة‪ -‬كما حافظت ببلد أخرى على هوٌتها رؼم اعتناقها المسٌحٌة‪ -‬والستؽنوا فقط عن‬
‫الرموز الدٌنٌة المختلفة بٌن الدٌنٌن‪ ،‬ولظهر االمتزاج بٌن روح ماعت والدٌن الجدٌد كؤعذب ما ٌكون‪.‬‬

‫وبعد زمن من ؼلق المعابد فكؤن من ٌمر أمام المعابد الخاوٌة الصامتة بعد أن كانت تمؤل مصر بهجة فً‬
‫أعٌادها‪ ،‬تدوي بؤصوات ابتهاالت وأناشٌد رجالها‪ ،‬وحركة الفنانٌن والنحاتٌن ال تكؾ فٌها عن البناء‬
‫والترمٌم وتلوٌن الجدران‪ ،‬والداخل والخارج من طلبة العلم فً العمارة والهندسة والطب والحكمة واللؽة‬
‫واألدب‪ ،‬تحوطهم رواٌح البخور العطرة‪ ،‬واألشجار وزهور اللوتس والبردي تزٌن كل حتة داخل وحول‬
‫"بٌت الحٌاة"‪ ..‬كؤن من ٌمر أمامها وهً تكتم آالمها ٌخفق قلبه‪:‬‬

‫والعصافٌر تهجر األوكارا‬ ‫بعد حٌن ٌبدل الحب دارا‬

‫(‪)ٕ9‬‬
‫‪ -‬انظر تفاصٌل فً‪ :‬تارٌخ مصر فً عصري البطالمة والرومان‪ ،‬محمد إبراهٌم السعدنً‪ ،‬مكتبة األنجلو‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪ ،ٔ98‬وتارٌخ الكنٌسة‬
‫القبطٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘ٗٔ و٘‪ٔ8‬‬
‫(ٖٓ)‬
‫‪ -‬أؼنٌة مقدمة مسلسل أرابٌسك‪ ،‬كلمات سٌد حجاب‪ ،‬ألحان عمار الشرٌعً‪ ،‬ؼناء حسن فإاد‬

‫‪ٔ99‬‬
‫(ٖٔ)‬
‫سترانا كما نراها قفـــارا‬ ‫ودٌــار كانت قدٌما دٌــارا‬
‫ُ‬

‫فكانت أصدق تعبٌر لما جاء فٌما اشتهر بـ"متون هرمس"‪:‬‬

‫آه ٌا مصر!‬

‫لن ٌبقى من دٌنك شًء سوى لؽو فارغ‬

‫ولن ٌلقى تصدٌقا حتى من أبنابك أن ِ‬


‫ت نفسك‬

‫لن ٌبقى شًء ٌ ُروى عن حكمتك‬

‫إال على شواهد القبور القدٌمة‬

‫س َتضحى مصر أرملة‬

‫فكل صوت مقدس سٌجبر على الصمت‬

‫وتفضل الظلمة على النور‬


‫(ٕٖ)‬
‫ولن ترتفع عٌن إلى السماء‬

‫❺‪ -‬توزٌع أرض مصر على األجانب‬

‫( تفشً الخصخصة والوسٌة واإلقطاع)‬

‫رجحت كفة ملكٌة األراضً فً االحتبلل الٌونانً لصالح الملكٌة العامة الحكومٌة عن ملكٌة األفراد‪،‬‬
‫وملكٌة اإلؼرٌق عن بقٌة السكان‪ ،‬أما االحتبلل الرومانً فشجع الملكٌة الخاصة الواسعة "الرأسمالٌة"‬
‫واالستثمار فً األراضً‪ ،‬وباع جز ًء كبٌرا من أراضً الدولة للمستثمرٌن األجانب المقٌمٌن أو الوافدٌن‬
‫الجدد‪ ،‬وهو النظام الذي عُرؾ فٌما بعد فً العالم باسم نظام الخصخصة‪.‬‬

‫فً هذا التوقٌت انتشر أكثر نظام "الوسٌة"‪ ،‬وهً كلمة رومانٌة‪ ،‬األوسٌة ‪ Ousia‬تبٌعها الحكومة أو‬
‫تمنحها لؤلؼنٌاء من الرومان واإلؼرٌق لٌستثمروا أموالهم فً الزراعة‪ ،‬باعتبارها المصدر األول للثروة‬
‫والؽذاء فً اإلمبراطورٌة‪ ،‬ومن هنا بدأت تتشكل الرأسمالٌة الخاصة الزراعٌة‪ ،‬حتى وصل أن الملكٌات‬
‫الخاصة وصلت ألكثر من نصؾ أمبلك الدولة(ٖٖ)‪.‬‬

‫ومن قواٌم أسماء أصحاب الوسٌات ٌتضح أن كلهم من أصحاب السلطان‪ ،‬إما األباطرة أنفسهم‪ ،‬أو عٌلة‬
‫اإلمبراطور‪ ،‬أو أصفٌابه‪ ،‬أو وزرابه‪ ،‬أو زعماء المجتمع السكندري من اإلؼرٌق والجالٌات األجنبٌة‪ ،‬أو‬

‫(ٖٔ)‬
‫‪ -‬قصٌدة "هذه لٌلتً"‪ ،‬كلمات جورج جرداق‪ ،‬ألحان محمد عبد الوهاب‪ ،‬ؼناء أم كلثوم‬
‫(ٕٖ)‬
‫‪ -‬متون هرمس الحكمة الفرعونٌة المفقودة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ٘‪ٖٙ -‬‬
‫(ٖٖ)‬
‫‪ -‬مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٕٗ‪ٕ٘٘ -‬‬

‫ٕٓٓ‬
‫المحررٌن من عبٌد اإلمبراطور‪ ،‬ولكبر مساحتها تعتبر الوسٌات وحدات اقتصادٌة فً الرٌؾ‪ ،‬وؼالبا‬
‫ٌدٌرها وكبلء عن أصحابها الذٌن ٌقٌمون عادة فً اإلسكندرٌة أو روما‪.‬‬

‫وللنظام الرأسمالً وشٌوعه عٌوب طالت األسعار ووفرة االنتاج‪ ،‬ألن المستثمر وصاحب الوسٌة فضَّل‬
‫توجٌه الزراعة بما ٌخدم مصالحه ولٌس الصالح العام‪ ،‬ومن ذلك ما تحدث عنه المإرخ سترابون بقوله‪:‬‬
‫"هناك فبة ممن ٌرٌدون زٌادة دخولهم‪ ...‬ولذا ال ٌسمحون بنمو البردي فً مواضع كثٌرة؛ مما ٌإدي إلى‬
‫ندرته التً ٌنتج عنها ارتفاع أسعاره‪ ،‬وبذلك تزداد دخولهم‪ ،‬بٌنما هم ٌسٌبون إلى الصالح العام(ٖٗ)"‪.‬‬

‫وأمام تضخم الملكٌات الخاصة لئلقطاعٌٌن وتدخلهم فً شبون الحكم ضعفت السلطة المركزٌة‪ ،‬بحٌث‬
‫أصبح لمبلك الوسٌات قوة طاؼٌة فً المدن التً تحوي أمبلكهم‪ ،‬ومعظم أراضً مصر ملكٌة خاصة‬
‫لمجموعة من األفراد األجانب‪ ،‬وهو ما أدى لقٌام اإلمبراطور أحٌانا‪ ،‬بمصادرة وسٌات‪.‬‬

‫وبمرور السنٌن‪ ،‬وبعد بدء تحلل الدولة‪ ،‬ظهرت إقطاعٌات مثل إقطاعٌات أوروبا فً العصور الوسطى‪،‬‬
‫بحٌث أن فرد واحد ٌمكنه أن ٌملك قرى ومدن بحالها‪ ،‬وهذا المالك هو صاحب األمر والنهً فٌها ولٌس‬
‫الحكومة‪ ،‬وهو القابم على حفظ النظام واألمن وإدارة االقتصاد وجباٌة الضراٌب‪ ،‬بل وصل األمر إلى‬
‫تكوٌن جماعات مسلحة "ملٌشٌات" خاصة به‪ ،‬وسجون تابعة له‪ ،‬ونشبت الخبلفات والمنافسات بٌن كبار‬
‫المبلك‪ ،‬مستقوٌٌن بالقوة المسلحة التً فً ٌد كل منهم‪ ،‬وأصبح عدد القرى الحرة‪ ،‬أي التً بقٌت على نظام‬
‫صؽار المبلك وتدفع الضراٌب للحكومة مباشرة قلٌلة العدد‪ ،‬إضافة إلى قرى تابعة ألمبلك كنٌسة‬
‫اإلسكندرٌة التً تضخمت بالمنح واألوقاؾ من الحكام واألفراد(ٖ٘) بعد اعتماد المسٌحٌة دٌنا رسمٌا‪.‬‬

‫وزاد من قوة اإلقطاعٌٌن أن اإلمبراطور جستنٌان فً عام ‪ٖ٘8‬م‪ -‬بعد بدء انفبلت األمور من ٌد‬
‫الحكومة المركزٌة‪ -‬قسم مصر إلى ٘ أقسام‪ ،‬وأعطى حاكم كل قسم السلطة المدنٌة والعسكرٌة فٌه لٌمكنه‬
‫من السٌطرة وفرض النظام به‪ ،‬وتسمى كل حاكم باسم "دوق"‪ ،‬وهذه األقسام هً اإلسكندرٌة‪ ،‬شرق الدلتا‪،‬‬
‫ؼرب الدلتا‪ ،‬مصر الوسطى‪ ،‬مصر العلٌا‪ ،‬وتعامل كل دوق مع كل قسم كؤنه دوٌلة خاصة به‪ ،‬خاصة وأن‬
‫اإلمبراطور فً السنوات األخٌرة لبلحتبلل لم ٌهتم إال بؤن ٌجبً له "الدوق" الجزٌة والضراٌب من‬
‫المزارعٌن‪ ،‬سواء بطرٌقة عادلة أم ال(‪ ،)ٖٙ‬ما سٌكون له أكبر األثر فً سقوط اإلمبراطورٌة‪.‬‬

‫وبحسب الدكتورة زبٌدة عطا فً كتابها القٌم "الفبلح المصري بٌن العصر القبطً والعصر اإلسبلمً"‬
‫فإنه فً بداٌة القرن الرابع سمحت اإلمبراطورٌة بتملك األراضً للفبلحٌن‪ ،‬فاستطاع بعض المصرٌٌن أن‬
‫ٌكونوا من مبلك األرض‪ ،‬وظهر فٌهم أؼنٌاء‪ ،‬مثل عابلة القدٌس أنطونٌو الذي وهب أمبلكه البالؽة ٖٓٓ‬
‫فدان للكنٌسة قبل انخراطه فً الرهبنة وعابلة أبٌون (‪.)ٖ9‬‬

‫أما من أصبحوا من صؽار المبلك فؤثقل ظهرهم كثرة الضراٌب التً ُتفرض علٌهم أكثر مما ُتفرض‬
‫على األؼنٌاء‪ ،‬والوسابل القاسٌة فً جمعها‪ ،‬ووجدوا أال فابدة تجنى من امتبلك أراضٌهم‪ ،‬فلجؤوا لحٌلة‬

‫(ٖٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٖٕٗ‪ٕ٘٘ -‬‬
‫(ٖ٘)‬
‫‪ -‬انظر المرجع السابق‪ ،‬ص ٕٕٖ‪ٖٕٗ -‬‬
‫(‪)ٖٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٖٔ9 -ٖٔٙ‬‬
‫(‪)ٖ9‬‬
‫‪ -‬الفبلح المصري بٌن العصر القبطً والعصر اإلسبلمً‪ ،‬زبٌدة عطا‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،ٔ99ٔ ،‬ص ٓ٘‪٘٘ -‬‬

‫ٕٔٓ‬
‫مإلمة تنجٌهم من مسبولٌة دفع الضراٌب‪ ،‬وهً طلب حماٌة أحد كبار المبلك من أصحاب النفوذ‪ ،‬على‬
‫أساس أن ٌتنازل له المالك الصؽٌر عن أرضه‪ ،‬وٌتولى المالك الكبٌر دفع الضراٌب للدولة‪ ،‬وهكذا تحول‬
‫من مالك حر إلى تابع ٌستؤجر من سٌده األرض التً كان ٌمتلكها‪ ،‬وعرؾ هذا النظام باسم "نظام‬
‫الحماٌة"(‪ ،)ٖ8‬وسعت حكومة االحتبلل إللؽابه ببل جدوى‪.‬‬

‫وظهرت الرأسمالٌة الخاصة بشدة فً التجارة أٌضا مع كثرة نقل البضاٌع من الهند وجزٌرة العرب‬
‫وأفرٌقٌا من البحر األحمر إلى البحر األبٌض‪ ،‬أو "البحر المصري" كما كان ٌُسمى وقتها‪ ،‬وبعض أنواع‬
‫التجارة عبارة عن مواد خام كالتوابل ُتصنع فً مصر‪ ،‬وٌُعاد تصدٌرها عن طرٌق اإلسكندرٌة‪ ،‬فؤصبحت‬
‫مصر بشكل أكبر مهبطا أساسٌا للتجار والسماسرة من كل ملة لعقد الصفقات‪ ،‬وحدث انتعاش تجاري واسع‪،‬‬
‫ازداد على حسه األجانب فً مصر ثراء بشكل فاحش‪.‬‬

‫وهذا الثراء الفاحش واحتكار أنواع من التجارة شجع الرأسمالٌٌن وأصحاب الوسٌات أن ٌحلموا بنفوذ‬
‫سٌاسً فً الحكم ٌحمً أموالهم‪ ،‬وٌسٌر قرارات الدولة لصالح تجارتهم‪ ،‬حتى أن بعضهم تمكن من شق‬
‫طرٌقه إلى أرقى المناصب فً القصر اإلمبراطوري‪ ،‬وفً المقابل استؽل آخرون نفوذه فً محاربة‬
‫اإلمبراطور نفسه‪ ،‬مثل "فٌرموس" الذي سلَّح جٌشا بؤسره من تجارة البردي والصمػ العربً لمساعدة‬
‫زنوبٌا ملكة تدمر السورٌة فً حربها ضد اإلمبراطور(‪.)ٖ9‬‬

‫ورؼم مظالم اإلقطاع الرومانً إال أن الدكتورة زبٌدة عطا بعد تفنٌدها العدٌد من البردٌات المحلٌة‬
‫والقرارات الصادرة عن األباطرة الرومان تلفت النظر إلى أن الفبلح المصري حاله أفضل من المزارعٌن‬
‫فً أوروبا نفسها القرٌبة من اإلمبراطور‪ ،‬وذلك أن الفبلح المصري لم ٌكن عبدا وال قنا كما كان‬
‫المزارعون فً اإلقطاعٌات األوروبٌة التً ٌُباع وٌُشترى المزارع مع األرض‪ ،‬وأن العبلقة بٌن الفبلح‬
‫ومتملك األرض المحتل فً مصر هً عبلقة إما مستؤجر منه األرض أو أجٌر‪ ،‬وفً كلتا الحالتٌن فله أن‬
‫ٌشكو المتملك إلى الحكومة إذا تجاوز فً حقه‪ ،‬ولٌس لمتملك األرض والٌة على مٌراثه أو أهل بٌته كما‬
‫كان لئلقطاعً األوروبً على العاملٌن فً أرضه‪ ،‬وبعض األباطرة مثل ثٌودسٌوس وجستٌان أصدروا‬
‫قرارات إلنصاؾ الفبلح التقاء ثورته‪ ،‬ولتشجٌعه على استمرار فبلحة األرض وعدم تركهآٗ‪ ،‬وهذا ٌُحسب‬
‫للفبلح المصري أن ثوراته وؼضبه حمته من أن ٌتحول إلى مصٌر الفبلح األوروبً كعبد‪.‬‬

‫إال أن الموظفٌن‪ ،‬لم ٌنفذوا قرارات هإالء األباطرة التً ظلت حبرا على ورق‪ ،‬واستعملوا أسالٌب السرقة‬
‫واالختبلس والشدة فً التعامل مع الفبلحٌن‪ ،‬خاصة وأن كبار الموظفٌن فً الحكومة أساسا هم متملكو‬
‫األرض‪ ،‬فهم القاضً والحكم‪ ،‬وعبر عن هذا جستنٌان بنبرة ٌؤس أو سخط على دور الموظفٌن فً‬
‫استنزاؾ أموال الزراعة فً مرسومه رقم ٖٔ‪" :‬إن أموال مصر تستنزؾ عند الجباٌة" وفً رده على‬
‫شكوى أحد سكان كوم أشقوة من عسؾ الموظفٌن جباة الضرابب قال إن الجباة أقوى من أوامرهٔٗ‪.‬‬

‫(‪)ٖ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر من اإلسكندر األكبر حتى الفتح العربً‪ ،‬ص ٕٖٔ‪ ،ٖٕٕ -‬وهذا سٌتكرر فً احتبلالت أخرى‪.‬‬
‫(‪)ٖ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ٕٙٙ -ٕ٘9 ،‬‬
‫ٓٗ‪ -‬انظر‪ :‬الفبلح المصري بٌن العصر القبطً والعصر اإلسبلمً‪ ،‬زبٌدة عطا‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،ٔ99ٔ ،‬ص ٓٔ‪9ٙ -‬‬
‫ٔٗ‪ -‬نفس المرجع‬

‫ٕٕٓ‬
‫❻‪ -‬نزح أموال المصرٌٌن جزٌة وضرابب‬

‫كما تابعنا فرض أؼسطس الجزٌة على السكان‪ -‬عدا الرومان واإلسكندرٌٌن‪ ،‬ولكن ال ُتفرض بنفس‬
‫القٌمة‪ ،‬فكان الفبلحٌن (المصرٌٌن) فً القرى ٌدفعون ٓٗ دراخمة‪ ،‬فً حٌن أن سكان عواصم النومات‬
‫(اإلؼرٌق والمتؤؼرقٌن) ٌدفعون ٕٔ دراخمة‪ ،‬ورؼم هذا الفرق فً القٌمة إال أن اإلؼرٌق فً النومات‬
‫ؼضبوا من أن ٌُفرض علٌهم ضرٌبة تساوٌهم بالمصرٌٌن(ٕٗ)‪ ،‬كون أن الجزٌة ُتفرض على "المؽلوب"‪.‬‬

‫وبخبلؾ ذلك فُرض على المصرٌٌن ضرٌبة القمح‪ ،‬وهً شحنات قمح ُترسل إلى روما ومعها أٌضا‬
‫الفول والزٌت والبصل والكتان‪ ،‬وضرٌبة البرسٌم‪ ،‬وهً قدر من البرسٌم إلطعام خٌول الجٌش‪ ،‬تحولت‬
‫الحقا لضرٌبة نقدٌة‪ ،‬وضرٌبة مسح األراضً‪ ،‬وضرٌبة التموٌن العسكري قمح وشعٌر إلطعام الجٌش‬
‫الرومانً‪ ،‬وضرٌبة الكروم وحٌوانات المنزل‪ ،‬وؼٌرها من ضراٌب وال ٌؤخذ الفبلح مقابلها أي خدمات‬
‫صحٌة أو تعلٌمٌة أو سكنٌة‪ ،‬بل ٌُجبر على السخرة لتقدٌم خدمات مجانٌة فً مشارٌع الحكومة(ٖٗ)‪.‬‬

‫وبعد وفاة أؼسطس خلفه تبٌرٌوس‪ ،‬فاستمر فً سٌاسته لزٌادة المساحة الزراعٌة فً مصر إلطعام‬
‫روما‪ ،‬وفً عهده بالػ الوالً فً جمع الجزٌة حتى زادت على المبلػ المقدر سنوٌا‪ ،‬فبلمه على ذلك‪ ،‬وقال‬
‫له كلمته المشهورة "إنما أرسلتك لتجز وبر األؼنام ال لتسلخها"(ٗٗ)‪.‬‬

‫فسلخها سٌإدي إلى قتلها‪ ،‬وٌتوقؾ إنتاجها‪ ،‬وتنحرم روما من سلة ؼذابها الشهٌة الثمٌنة‪.‬‬

‫وكثرت الشكاوى والمقاومة من المصرٌٌن إزاء هذا الظلم‪ ،‬ولقت التجبر فً مواجهتها حٌنا‪ ،‬ولقت‬
‫استجابة حٌنا‪ ،‬مثلما أصدر اإلمبراطور سٌودثٌوس فً قانونه سنة ٕٖٓ م أنه بالنسبة لدافعً الضراٌب‪:‬‬
‫"فلن ٌقاسً أي شخص من أٌد ؼٌر أمٌنة أو أحكام ظالمة‪ ،‬ولن ٌساق بسوط أو ٌجلد أو ٌتعرض لتعذٌب أو‬
‫اضطهاد"‪ ،‬لكن الموظفٌن لم ٌطبقوا القوانٌن فتحولت‪ -‬بتعبٌر زبٌدة عطا‪ -‬لنظرٌات مثالٌة(٘ٗ)‪.‬‬

‫❼‪ -‬نزح أموال المصرٌٌن للبنوك والقروض الخارجٌة‬

‫وباء وافد آخر ضرب مصر زمن االحتبلل الرومانً‪ ،‬وهو نظام البنوك واالقتراض من الخارج‪ ،‬وهو‬
‫تطور لنظام الربا الذي رأٌنا كٌؾ نشره الٌهود واإلؼرٌق فً مصر وؼٌرها قبل ٓٓٗ سنة‪ ،‬وهذه البنوك‬
‫كانت فً ٌد أفراد (قطاع خاص)؛ ما ٌعنً ضعؾ قبضة الحكومة على االقتصاد‪.‬‬

‫وعُثر على وثابق من القرن ‪ ٙ‬تعود ألشخاص تعاقدوا على اقتراض مال من ممولٌن وبنوك فً‬
‫القسطنطٌنة (بٌزنطة) ‪ ،‬وٌتفقون على أن ٌكون رد الدٌن فً اإلسكندرٌة؛ ما معناه أن البنوك كانت باالنتشار‬
‫والقوة أن لها فروعا ومكاتب فً أرجاء اإلمبراطورٌة‪ ،‬والقرض بفاٌدة ‪.%8‬‬

‫(ٕٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر من اإلسكندر األكبر حتى الفتح العربً‪ ،‬ص ٗ‪ٔٙ٘ -ٔٙ‬‬
‫(ٖٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مظاهر الحٌاة فً مصر فً العصر الرومانً اجتماعٌا واقتصادٌا وإدارٌا‪ ،‬آمال الروبً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ ٔٓ٘ -97‬والفالح المصري‬
‫بٌن العصر القبطً والعصر اإلسالمً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓ‪7ٔ -7‬‬
‫(ٗٗ)‬
‫‪ -‬مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔٙ8‬‬
‫(٘ٗ)‬
‫‪ -‬الفبلح المصري بٌن العصر القبطً والعصر اإلسبلمً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ‪ 9‬و ‪9ٙ‬‬

‫ٖٕٓ‬
‫وما ٌهمنا هنا‪ ،‬أن هذا النشاط تسبب فً أن هذا الربح السهل والسرٌع ساهم فً ترسٌخ قدم هإالء‬
‫الممولٌن المشبوهٌن فً مصر ألنهم استخدموا أرباح الفوابد فً شراء أمبلك مصرٌة‪ ،‬وٌمكن االستدالل‬
‫على هوٌة ومستوى أخبلق هإالء الممولٌن الكبار عبر وصؾ الكاتب سوفردنٌوس للمرابً أجابٌوس‬
‫الهلٌنً بؤنه "كان ٌخدم المخلوق ضد الخالق"(‪.)ٗٙ‬‬

‫❽‪ -‬إهالك ثروة المصرٌٌن فً حروب ال تخصهم‬

‫واصل الرومان ما بدأه الٌونان من حلب الضرع المصري لئلنفاق على حروبهم التوسعٌة‪ ،‬خاصة التً‬
‫تتعلق بمطامعهم فً السٌطرة التامة على طرٌق التجارة بٌن الهند ومصر‪ ،‬وهو صراع سٌتجدد بؤطراؾ‬
‫أخرى هً إنجلترا وفرنسا فً القرنٌن ‪ ٔ8‬و‪ ،ٔ9‬وعلى حساب مصر وحرٌتها ومالها أٌضا‪.‬‬

‫ففً أٌام أؼسطس لم ٌكتؾِ بنجاح الٌونان فً عمل مستوطنات فً الجزر والسواحل الممدودة بٌن مصر‬
‫والهند‪ ،‬وتوثٌقهم العبلقات التجارٌة مع المدن الٌمنٌة المطلة على البحر األحمر والمحٌط الهندي وخلٌج‬
‫عدن‪ ،‬بل طمع فً نزع التجارة من ٌد الٌمنٌٌن تماما‪ ،‬وأسال رٌقه لهذا الرحالة سترابون حٌن كتب هو‬
‫ورحالة إؼرٌق ورومان آخرون عن "ثراء ببلد العرب نتٌجة تحكم السبؤٌٌن والجرهابٌٌن فً تجارة المواد‬
‫العطرٌة‪ ،‬حتى صار الذهب والفضة واألحجار الكرٌمة ٌدخل عندهم فً صناعة األسرَّ ة والموابد الصؽٌرة‬
‫واألوانً والكبوس وأبواب وسقوؾ وجدران القصور الزاهٌة األلوان‪.‬‬

‫صور له أن هذه القباٌل تحصل على األرباح الباهظة وال ٌتركون‬ ‫َّ‬ ‫كما أوؼر سترابون صدره بؤن‬
‫للرومان مجاال للثراء‪ ،‬وهو بذلك قام بنفس الدور الذي قام به رحالة ومستشرقون أوروبٌون بعده بقرون‬
‫حٌن تخفوا فً زي سواح ورحالة لٌستكشفوا مصر وببلد الشرق وٌؽروا األوروبٌٌن بإعادة احتبللهم‪.‬‬

‫وهكذا صدر أمر أؼسطس إلى ناببه الرومانً على مصر آٌلٌوس جاللوس بمهمة إرهاب القباٌل الٌمنٌة‬
‫واحتبلل أرضهم بالقوة‪ ،‬فجهز جاللوس جٌشا من الٌهود والعرب األنباط حلفاء الرومان خرج سنة ٕٗ ق‪.‬م‬
‫بؤسطول كبٌر قٌل من ٖٓٔ سفٌنة من خلٌج السوٌس نحو الٌمن‪ ،‬وهبط على أرضها وحارب لفترة‪ ،‬ؼٌر أن‬
‫مهمته فشلت لطبٌعة جؽرافٌة الٌمن وانتشار األوببة وقلة المٌاه(‪.)ٗ9‬‬

‫❾‪ -‬السخرة واتساع داٌرة التشرد للمصرٌٌن‬

‫أما السخرة لصالح االحتبلل فمن أشد األمور وطؤة على صدور المصرٌٌن‪ ،‬كان على األهالً أن ٌقوموا‬
‫بؤعمال إجبارٌة مجانٌة لصالح المحتل كنوع من أنواع الضراٌب‪ ،‬تتدرج من تولً وظاٌؾ مختلفة فً‬
‫اإلدارة المحلٌة إجبارٌا وببل مقابل‪ ،‬وتسخٌر ما ٌمتلكه األفراد من دواب لنقل الؽبلل من القرى إلى‬
‫اإلسكندرٌة لتشحن فً السفن إلى روما‪ ،‬حتى تصل إلى القٌام بؤعمال ٌدوٌة شاقة مثل بناء السدود والجسور‬
‫وتقوٌة ضفاؾ النٌل وقت الفٌضان‪ ،‬وكرها دون أجر‪ ،‬رؼم ثراء الببلد وتحوٌل أموالها إلى الخارج‪،‬‬
‫وتتوزع على األفراد حسب منزلتهم المادٌة‪ ،‬فالعمل األسهل لؤلكثر ماال‪ ،‬والعمل األشقى لؤلكثر فقرا‪.‬‬

‫(‪)ٗٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً‪ ،‬مصطفى العبادي‪ ،‬مرجع سابق‪ٖٖٕ -ٖٕ9 ،‬‬
‫(‪)ٗ9‬‬
‫‪ -‬تارٌخ شبه الجزٌرة العربٌة فً عصورها القدٌمة‪ ،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٓٔ‪ٔٓٗ -‬‬

‫ٕٗٓ‬
‫وحٌن أهملت الترع والمصارؾ وتعاقبت الفتن والثورات ساءت الزراعة‪ ،‬ولم ٌقبل األهالً على العناٌة‬
‫بؤرضهم لعلمهم بعدم جدوى جهودهم‪ ،‬وأن ثمرة أعمالهم ستذهب إلى روما‪ ،‬فهجر بعضهم القرى‪ ،‬ولجؤوا‬
‫إلى المعابد أو تسللوا إلى المدن الكبرى بحثا عن عمل‪ ،‬فإذا عجزوا عن العمل فٌها لجؤوا إلى حٌاة‬
‫اللصوص وقطع الطرق‪ ،‬ومن أبى ذلك لجؤ إلى أحراش الدلتا ومستنقعاتها لٌحٌا حٌاة تشرد فطري(‪.)ٗ8‬‬

‫وفً محاولة لردع الفبلحٌن عن الهرب من دفع الضراٌب‪ ،‬أذاق جامعو الضراٌب أهل المزارعٌن‬
‫الفارٌن أسوأ أنواع العذاب لٌعرفوا منهم مكان مخبؤهم أو لٌؤخذوا منهم الضرٌبة‪ ،‬وٌنقل العبادي من بردٌة‬
‫عبارة عن خطاب كتبه صبً فً القرن الثانً علم باعتزام والده الفرار سرا‪ ،‬فكتب إلى أحد أقاربه ٌطلب‬
‫منه أن ٌحصل له من والده على مال ٌمكنه هو أٌضا من الفرار إلى اإلسكندرٌة خشٌة أن ٌنتقم موظفو‬
‫اإلدارة منه بعد اختفاء والده(‪.)ٗ9‬‬

‫وفً نفس الوقت قاوم البعض هذا الظلم بالمواجهة الجماعٌة بدل الهروب‪ ،‬ففً رسالة موجهة إلى‬
‫موظؾ عسكري لقبه سكان قرٌة أهموٌا نٌكوس بالحامً فً القرن الرابع رفضوا االستسبلم إلٌه بدال من‬
‫زمبلبهم الذٌن هربوا من أراضٌه‪" :‬نحن نرؼب أن ٌعلم سٌدنا نٌكوس أنه فً عهد والدك أو أجدادك لم نسلم‬
‫أنفسنا‪ ،‬وأننا نقدم ما ٌطلب منا سنوٌا‪ ،‬وال نسلم أنفسنا ألحد(ٓ٘)"‪.‬‬

‫وٌبدو أن من ٌستطٌع من المصرٌٌن السكن باإلسكندرٌة كانوا ؼالبا ٌستخدمون فً األعمال الشاقة التً‬
‫ٌتعالى علٌها األجانب‪ ،‬ففً ٕ٘ٔ م أصدر اإلمبراطور كاراكاال بٌانا بطرد المصرٌٌن من اإلسكندرٌة‪،‬‬
‫واستثنى من ذلك حرؾ كتجار الخنزٌر ورجال القوارب النٌلٌة وجالبً الحطب لوقود الحمامات‪ ،‬وٌبدو من‬
‫بٌان كاراكاال أن المصرٌٌن القادمٌن من القرى كانوا محتفظٌن بما ٌمٌزهم فً الملبس والعادات التً تدل‬
‫على هوٌتهم وعدم اندماجهم بالمحتلٌن‪ ،‬فقال إنه "من الٌسٌر التمٌٌز بٌن عمال النسٌج المصرٌٌن ]ؼٌر‬
‫واضح ٌقصد مصرٌٌن أصلٌٌن احتاجهم سكان اإلسكندرٌة فً صناعة النسٌج أم ٌقصد الجالٌات من ؼٌر‬
‫السكندرٌٌن الذٌن ٌسمٌهم الرومان مصرٌٌن[ وبٌن الفبلحٌن المصرٌٌن ]أهل الرٌؾ[ عن طرٌق لؽتهم‬
‫ومظهرهم وعاداتهم"(ٔ٘)‪.‬‬

‫وهكذا تشرد الكثٌر من المصرٌون فً ببلدهم‪ٌ ،‬عٌشون عٌشة المطارٌد والمنفٌٌن‪ ،‬فبل القرى تكفٌهم‪ ،‬وال‬
‫المدن تؤوٌهم‪ ،‬إال قلٌبل‪.‬‬

‫❿‪ -‬قبول وتمجٌد االحتالل باسم الدٌن‬

‫(قسطنطٌن المحتل قدٌسا؟)‬

‫من أسباب كراهٌة المصرٌٌن للهكسوس القدامى هو االختبلؾ فً العقٌدة‪ ،‬ورأٌنا أٌضا أنه فً زمن‬
‫االحتبلل الهكسوسً االستٌطانً الثانً‪ ،‬الخاسوتٌمً‪ ،‬أن المحتلٌن تخبوا تماما‪ -‬ولو فً الظاهر‪ -‬فً رداء‬

‫(‪)ٗ8‬‬
‫‪ -‬مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘‪ ٔ8ٙ -ٔ8‬ومظاهر الحٌاة فً مصر فً العصر الرومانً اجتماعٌا واقتصادٌا‬
‫وإدارٌا‪ ،‬آمال الروبً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓٔٔ‪ٔٔٔ -‬‬
‫(‪)ٗ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً‪ ،‬مصطفى العبادي‪ ،‬ص ٖٕٔ‬
‫(ٓ٘)‬
‫‪ -‬الفبلح المصري بٌن العصر القبطً والعصر اإلسبلمً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٗ‬
‫(ٔ٘)‬
‫‪ -‬مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٗٔ‪ٕٔ٘ -‬‬

‫ٕ٘ٓ‬
‫المتدٌنٌٌن المصرٌٌن‪ ،‬وقدسوا المعبودات المصرٌة لكسر حد نفور المصرٌٌن منهم‪ ،‬وربما ساهم هذا فً‬
‫إطالة أمد وجودهم‪ ،‬وذكر لنا هٌردوت أنه من أسباب نفور المصرٌٌن من التعامل مع الٌونانٌٌن‪ ،‬أو حتى‬
‫استعمال أدواتهم وآوانٌهم‪ ،‬هو اختبلؾ العادات والتقالٌد‪ ،‬وحٌن هبط االحتبلل الٌونانً العسكري حافظ على‬
‫بعض المعابد المصر ٌة مثل إدفو والكرنك‪ ،‬بل واخترع معبودا ٌمزج بٌن الدٌن المصري والدٌن الٌونانً‬
‫لٌخلق "دٌنا مشتركا"‪ ،‬هو سرابٌس‪.‬‬

‫وهذه كلها نبلحظ أنها محاوالت جاءت من المحتل نفسه للتقرب من المصرٌٌن‪ ،‬أو للتموٌه علٌهم‬
‫وتضلٌلهم وكسر حدة نفورهم منه حٌن ٌرونه ٌشاركهم فً دٌنهم‪.‬‬

‫ولكن أٌام الرومان ت َّكون قٌح فً الشخصٌة المصرٌة‪ ،‬وهو "تعظٌم"‪ ،‬و"تقدٌس" المحتل‪ ،‬وذلك أنه لما‬
‫جاءت المسٌحٌة كدٌن من الخارج‪ ،‬واتبع األباطرة الرومان سٌاسة اضطهاد المسٌحٌٌن‪ ،‬خالفهم اإلمبراطور‬
‫قسطنطٌن لما اعترؾ بالمسٌحٌة دٌنا ضمن أدٌان اإلمبراطورٌة‪ ،‬فهلل له مسٌحٌون‪ ،‬وأعلنوه "منقذا"‪ ،‬بل‬
‫و"قدٌسا" مع أمه هٌبلنة‪.‬‬

‫وعلى هذا سهل تصور خبلفات بٌن مصري مسٌحً وأخٌه المصري الذي ٌتبع الدٌن المصري إذا ما‬
‫َّ‬
‫عظم األول قسطنطٌن وشتمه الثانً‪ ،‬فؤحدهما ٌراه قدٌسا مخلِّصا‪ ،‬والثانً ٌراه محتبل مؽتصبا‪.‬‬

‫وقسطنطٌن وإن اعترؾ بالمسٌحٌة‪ ،‬إال أنه فً الحقٌقة لم ٌوقؾ تعذٌب المصرٌٌن على ٌد محتلٌهم‬
‫الرومان والجالٌات التابعة لهم الناهشة فً لحمهم‪ ،‬ولم ٌحقق رسالة المسٌحٌة فً تحرٌر البشر والكؾ عن‬
‫الحروب‪ ،‬فمثبل‪:‬‬

‫هل قسطنطٌن لؽى الجزٌة عن المصرٌٌن التً تضعهم فً مرتبة حقٌرة أمام الرومان؟ هل قسطنطٌن‬
‫لؽى الضراٌب الفجة التً كسرت ظهر المصرٌٌن وألؽى السخرة لصالح مشارٌع االحتبلل؟‬

‫هل قسطنطٌن ترك مصر للمصرٌٌن وسحب جٌش االحتبلل الرومانً من أرضها؟ هل قسطنطٌن كان‬
‫سٌصمت أمام أي ثورة ٌقوم بها المصرٌون‪ -‬مسٌحٌون أو ؼٌر مسٌحٌٌن‪ -‬ضد الرومان رافعٌن مبدأ "مصر‬
‫(ٕ٘)‬
‫للمصرٌٌن" ٌطالبون بخروج المحتل من أرضهم أم سٌقمعها بؤوحش األسالٌب؟‬

‫إذن فربما هذه أول مرة ٌتحول "المخلص" و "المنقذ" و"القدٌس" فً العقٌدة والشخصٌة المصرٌة من‬
‫البطل المصري الذي ٌحرر المصرٌٌن من المذلة لؤلجنبً‪ ،‬وٌبعد عنهم شٌطان االنقسامات والصراعات‬
‫مثل منتوحتب الثانً وأحمس إلى أن ٌكون هو "البطل األجنبً" الذي ٌواصل احتبللهم ومذلتهم‪ ،‬أو ٌناصر‬
‫بعض المصرٌٌن على البعض اآلخر‪ ،‬وٌحدث بٌنهم انشقاقات وصراعات‪.‬‬

‫كذلك تحول مفهوم "اإلخوة" بٌن المصرٌٌن (بعض من دخل منهم المسٌحٌة حٌنها)‪ ،‬من أنهم إخوة‬
‫األرض المصرٌة وقٌمها ورسالتها "ماعت"‪ ،‬إلى إخوة الدٌن فقط‪ ،‬ولو كان معتنق هذا الدٌن من بلد آخر‪،‬‬
‫(ٕ٘)‬
‫‪ -‬تعلو أصوات مصرٌة فً السنٌن األخٌرة تدعو لمراجعة تقدٌس قسطنطٌن‪ ،‬وتتشكك فً الرواٌات التً ترفعه لدرجة سامٌة‪ ،‬ؼٌر أن هذه‬
‫الدعوة سببها أمور مسٌحٌة أٌضا‪ ،‬مثل إساءته لبابا اإلسكندرٌة إثناسٌوس‪ ،‬ولم تطعن فً تقدٌس قسطنطٌن ألنه أجنبً احتل مصر واستباح‬
‫شعبها‪.‬‬
‫انظر‪ :‬الباحث رٌاض فارس لـ"روزالٌوسؾ"‪ :‬قسطنطٌن‪ ..‬ملك ال ٌستحق لقب القداسة‪ ،‬روزالٌوسؾ‪ٕٓٔ7 -ٕٔ-ٕ ،‬‬

‫‪ٕٓٙ‬‬
‫وال ٌخفى تؤثٌر المستوطنٌن اإلؼرٌق فً تشجٌع هذا التحول كونهم اعتبروا المسٌحٌة قضٌتهم الخاصة‪.‬‬

‫وهو تحول فً عقٌدة الشخصٌة المصرٌة لو ٌعلم المصرٌون عظٌم‪ ،‬بل هو البذرة التً انتفخت وفرَّ خت‬
‫فً مصر ما نكابده الٌوم من تنظٌمات إرهابٌة تتاجر بالدٌن‪ ،‬وتشعل الحروب األهلٌة باسمه‪ ،‬ومن تنظٌمات‬
‫سٌاسٌة (كالشٌوعٌة واللٌبرالٌة والعروبٌة والعولمٌة) التً ٌناصر فٌها المصري األجنبً على أخٌه مدام هذا‬
‫األجنبً شٌوعً أو لٌبرالً أو عروبً أو عولمً مثله‪.‬‬

‫▲▲▲ ثورات مصر ضد االحتالل الرومانً‬

‫رؼم حزمه اإلداري والعسكري‪ ،‬إال أن االحتبلل الرومانً واجه صعوبات كبٌرة فً احتبلل مصر‪،‬‬
‫تسبب فٌها المصرٌون بثوراتهم على مظالم االحتبلل‪ ،‬وكذلك اإلؼرٌق الذٌن رؼم احتفاظهم بالكثٌر من‬
‫االمتٌازات إال أنها شعروا بتراجع مكانتهم أمام الؽاصبٌن الجدد (الرومان)‪ ،‬وطول الوقت ٌتؽلب علٌهم‬
‫شعور أن الرومان اؼتصبوا مصر منهم‪ ،‬وكذلك شارك فٌها الٌهود الذٌن طمعوا فً أخذ امتٌازات أكبر‪.‬‬

‫♦♦♦ ثورة ‪ ٕ9‬ق‪.‬م‬

‫وأولها ثورة ‪ ٕ9‬ق‪ .‬م؛ فما كاد أؼسطس ٌخلع رجله من مصر وٌبدأ الموظفون ٌجمعون بشؽؾ‬
‫الضراٌب الجدٌدة‪ ،‬حتى اشتعلت نٌران أولى الثورات شرق الوجه البحري واإلسكندرٌة والوجه القبلً‪،‬‬
‫شارك فٌها مصرٌون وإؼرٌق‪ ،‬ولكل أسبابه‪ ،‬وفً الحال قام "كورنٌلٌوس جالوس"‪ ،‬أول والً رومانً على‬
‫مصر‪ ،‬بإخماد الثورة بعنؾ‪.‬‬

‫وفً عهد الوالً بتورنٌوس اكتمل مشروع البطالمة السابق فً إضعاؾ نفوذ المعابد المصرٌة‪ ،‬فصادر‬
‫كل أمبلك المعابد‪ ،‬وأصبحت تحت سٌطرة حكومة روما‪ ،‬ومن أهداؾ ذلك شل المعابد عن دعم الثورات‬
‫ألنها كانت القوة المنظمة المصرٌة الوحٌدة الباقٌة التً ٌستنجد بها األهالً(ٖ٘)‪.‬‬

‫وفً ٕ٘ٔ م ورؼم البطش الرومانً فً إخماد الثورة األولى‪ ،‬هبَّت ثورة جدٌدة للفبلحٌن‪ ،‬لٌنفضوا ؼبار‬
‫االحتبلل والضٌاع عن أنفسهم‪ ،‬وتم إخمادها خبلل سنة بتدخل من اإلمبراطور نفسه‪.‬‬

‫♦♦♦ ثورة ٕ‪ ٔ7‬م الكبرى‬

‫أما الثورة الكبرى فً ذلك العصر فهً ثورة ٕ‪ ٔ9‬م‪ ،‬فً عهد اإلمبراطور أورٌلٌوس‪ ،‬وفٌها استؽل‬
‫المصرٌون إرسال الجٌوش الرومانٌة للحرب فً الدانوب وأشعلوا ثورة عنٌفة تحت زعامة أحد رجال الدٌن‬
‫فً المعابد اسمه أزٌدور‪ ،‬مركزها شمال الوجه البحري‪.‬‬

‫وٌبدو أن الثورة كانت من القوة بحٌث أن القوات الرومانٌة الموجودة فً الببلد عجزت عن مواجهتها‬
‫حتى كادت اإلسكندرٌة ذاتها تسقط فً أٌدي الثوار‪ ،‬وإلنقاذ الموقؾ اضطرت روما إلى إرسال قوات من‬
‫سورٌا ٌقودها الحاكم هناك المسمى أفٌدٌوس كاسٌوس الذي علم أنه لن ٌؽلب الثابرٌن بقوة السبلح فً وقت‬

‫(ٖ٘)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘‪ٔٙ9 -ٔٙ‬‬

‫‪ٕٓ7‬‬
‫قصٌر‪ ،‬فلجؤ للمكٌدة بسٌاسة "فرق تسد" فاستمال بعضهم‪ ،‬ثم تعقب من تبقى فً شكل جماعات صؽٌرة حتى‬
‫قضى على الثورة(ٗ٘)‪.‬‬

‫♦♦♦ ثورة ٕ‪٘8‬م‬

‫وعادوا للثورة أٌام مورٌس الذي تولى سنة ٕ‪ ٘8‬قادها ٖ إخوة (مٌنا وٌعقوب وأباسخرٌوس) فً الوجه‬
‫البحري‪ ،‬اقتربت الثورة من اإلسكندرٌة‪ ،‬وسٌطرت على سفن قمح ذاهبة إلٌها‪ ،‬وانتهت بقطع رءوس‬
‫اإلخوة(٘٘)‪ ،‬وأشار إلٌها ٌوحنا النقٌوسً فً كتابه عن تارٌخ مصر‪.‬‬

‫وفً نهاٌة االحتبلل الرومانً وقع نوع آخر من االضطهاد على ٌد الوالً قٌرس "المقوقس" فً عصر‬
‫اإلمبراطور هرقل؛ فسعى المضطهدون للتخلص منه‪ ،‬واجتمع عدد منهم فً كنٌسة "دفاشٌر" قرب مرٌوط‬
‫واتفقوا على قتل المقوقس‪ ،‬لكن سمع بخطتهم ضابط رومانً اسمه أودوقٌانوس أرسل جنوده وقتلوهم قبل‬
‫تنفٌذ الخطة حسبما ذكر ٌوحنا النقٌوسً(‪ ،)٘ٙ‬فكانت ثورة لم ٌُكتب لها البداٌة‪.‬‬

‫▼▼▼ صراعات الطوابؾ واألعراق األجنبٌة‬

‫إلى جانب ثورات المصرٌٌن‪ ،‬اندلعت ثورات ومعارك منفصلة للٌهود واإلؼرٌق‪ ،‬ولكن ألسباب مختلفة‬
‫تتعلق بتنافسهم مع الرومان أو مع بعضهم على النفوذ واالمتٌازات كما ٌحدث دابما مع زرع أعراق‬
‫وطوابؾ متناقضة فً مكان واحد‪ ،‬ورؼم أنها قامت لمصالحهم ولٌس لمصالح المصرٌٌن إال أن المصرٌٌن‬
‫اكتووا بنٌرانها الستنزافها اقتصاد البلد وتعطٌل األشؽال والزراعة‪ ،‬وتؤثٌرها على أحوال األمن‪.‬‬

‫وتضخمت الجالٌة الٌهودٌة حتى أنها شؽلت حٌٌن أو أكتر من األحٌاء الخمسة لئلسكندرٌة‪ ،‬بعد ما كانت‬
‫تسكن حٌا واحدا هو "دلتا"(‪ ،)٘9‬وكان هدؾ الرومان استؽبلل الٌهود فً عمل توازن ٌحد من نفوذ‬
‫اإلؼرٌق‪ ،‬وعلى هذا‪ ،‬ففً سنة ‪ ٕ8‬م وقعت بٌن الٌهود واإلؼرٌق والجالٌات األجنبٌة فتنة اشتهرت باسم‬
‫"فتنة سنة ‪ ،" ٕ8‬سببها أن الٌهود شعروا بتعاظم قوتهم‪ ،‬وأقحموا أنفسهم فً مجالس كانت حكرا على‬
‫اإلؼرٌق‪ ،‬وادعوا أنهم مواطنٌن سكندرٌٌن مثل اإلؼرٌق بسبب االمتٌازات التً أؼدقها اإلمبراطور‬
‫الرومانً على الٌهود‪ ،‬وانتهى الصراع المسلح بٌن كل هإالء بمهاجمة معابد الٌهود‪ ،‬وقتل الوالً‬
‫الرومانً‪ ،‬فطالب اإلمبراطور الٌهود بالكؾ عن جلب ٌهود جدد من الشام أو من مدن مصرٌة أخرى إلى‬
‫اإلسكندرٌة‪ ،‬وأن ٌكتفوا بما كسبوه من امتٌازات‪.‬‬

‫وتكررت النزاعات سنة ٖ٘ م وانتهت بمحاكمة زعماء اإلسكندرٌة اإلؼرٌق وإعدامهم‪ ،‬وتسمٌتهم فً‬
‫األشعار اإلؼرٌقٌة بـ "شهداء" كافحوا لحماٌة اإلسكندرٌة من الخضوع للٌهود‪ ،‬وفً سنة ‪ ٙٙ‬م تجددت‬
‫الصراعات فً عهد اإلمبراطور "نٌرون" المعروؾ بجنونه وشراسته‪ ،‬فؤمر بإخمادها بالقوة بقوات من‬

‫(ٗ٘)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الحٌاة فً مصر فً العصر الرومانً‪ ،‬نفتالً لوٌس‪ ،‬ص ‪ ،ٕٖٔ -ٕٕ9‬ومصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً ص ‪ٔ89‬‬
‫(٘٘)‬
‫‪ -‬تارٌخ الكنٌسة القبطٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ ،ٕ8ٓ-ٕ98‬و تارٌخ مصر‪ٌ ،‬وحنا النقٌوسً "رإٌة قبطٌة للفتح اإلسبلمً"‪ ،‬ترجمة عمر صابر عبد‬
‫الجلٌل‪ ،‬عٌن للدراسات والبحوث اإلنسانٌة واالجتماعٌة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٕ‪ٔٙٙ -ٔٙ‬‬
‫(‪)٘ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تارٌخ مصر‪ٌ ،‬وحنا النقٌوسً‪ ،‬ص ٖٕٓ وفتح العرب لمصر‪ ،‬ألفرٌد بتلر‪ ،‬ترجمة محمد فرٌد بك أبو حدٌد‪ ،‬مكتبة مدبولً‪ ،‬سلسلة‬
‫صفحات من تارٌخ مصر‪ ،‬طٕ‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ99ٙ ،‬ص ٖٕٕ‬
‫(‪)٘9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر من االسكندر األكبر حتى الفتح العربً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٗ‪ ٔٙ‬وٕ٘ٔ‬

‫‪ٕٓ8‬‬
‫الجٌش الرومانً‪ ،‬وٌقال إنه قُتل فٌها ٓ٘ ألؾ شخص‪.‬‬

‫وفً ٗٔٔ م انتهز الٌهود فرصة انشؽال اإلمبراطور فً الحرب ضد البارثٌٌن وأشعلوا نار ثورة‬
‫جامحة فً مصر وبرقة‪ ،‬حتى سٌطروا على الببلد بعض الوقت‪ ،‬وعجزت الجٌوش الرومانٌة عن مواجهة‬
‫الموقؾ‪ ،‬واضطر الوالً إلى تجنٌد األهالً فً فرقة محلٌة فً كل نوموس إلخمادها(‪.)٘8‬‬

‫وهكذا أدت الصراعات بٌن األعراق والطوابؾ األجنبٌة إلى نشر الفوضى فً الببلد‪ ،‬واستنزاؾ مزٌد‬
‫من خٌراتها‪ ،‬ومقتل مزٌد من أبناءها‪ ،‬فً معارك ال تخصهم فً شًء‪.‬‬

‫▼▼▼ االحتالل الفارسً الثالث‬

‫وسط دوامة الصراعات واالؼتٌاالت التً ؼرق فٌها الرومان (البٌزنطٌٌن) تعرضت اإلمبراطورٌة‬
‫الجتٌاح فارسً سٌطر على الشام ثم مصر سنة ‪ ٙٔ8‬م‪ ،‬وذلك بعد ٓ٘‪ 9‬سنة من االحتبلل الفارسً الثانً‬
‫لمصر‪ ،‬وحكموا مصر ٓٔ سنوات قاسٌة‪.‬‬

‫وٌقول ألفرٌد بتلر عن دور "خلطة األجناس" باإلسكندرٌة فً تسلٌم مصر للفرس رؼم الحصون‬
‫الشهٌرة لئلسكندرٌة التً ظنت أنها "مانعتها"‪ ،‬أي ستحمٌها‪" :‬ولكن أ َّنى لها ذلك وقد َب ُعد عهدها باجتماع‬
‫الشمل وتوحٌد الكلمة‪ ،‬وصار أهلها أخبلطا مضطربة من قبط وروم وسورٌٌن وٌهود وجماعة من طبلب‬
‫العلم‪ ،‬وآخرٌن من البلجبٌن أتوا إلٌها من كل أنحاء الدولة‪ ،‬فكان القبط والسورٌون ٌكرهون الروم‪ ،‬وكان‬
‫الٌهود ٌمقتون أتباع المسٌح مقتا ال ٌسله من قلوبهم الخطر الداهم علٌهم جمٌعا‪ ،‬وكانوا جمٌعا ال ٌدركون أن‬
‫الواجب علٌهم أن ٌجتمعوا من كل جنس أو طبقة أو مذهب ٌربطهم رباط االشتراك فً الوطن‪ ،‬وهو‬
‫الوسٌلة ال وسٌلة ؼٌرها إلى ضم شملهم‪ ،‬ما كانوا لٌدركوا معنى لهذا بل كانوا ٌسخرون منه‪ ،‬فلم ٌكن عجٌبا‬
‫مع هذا أن نرى الخٌانة تعمل على وقوع المدٌنة فً ٌد أعدابها"(‪.)٘9‬‬

‫وكٌؾ ٌعرفون معنى الوطن وهم قادمون من ببلد ما عرفت ٌوما معنى الوطن‪ ،‬وكٌؾ ٌعرفون معنى‬
‫الوطن وما جاءوا لمصر إال للنهب والنفوذ والعمل كمرتزقة‪ ،‬وكٌؾ ٌعرفون معنى الوطن وكل جالٌة‬
‫محتفظة بؤصولها األجنبٌة فٌما مصر بالنسبة لهم لٌست إال "بقرة حاحا"‪ٌ ،‬حلبونها حتى ٌجؾ ضرعها‪.‬‬

‫وانتهى االحتبلل الفارسً بعد ٓٔ سنٌن بحرب قادها اإلمبراطور الرومانً هرقل‪ ،‬وطردهم من مصر‬
‫‪ ٕٙ9‬م‪ ،‬ولكن تكالب على هرقل عدو أشد من الفرس‪ ،‬وهو والٌه على مصر قٌرس "المقوقس"‪ ،‬فقد كان‬
‫فظا ؼلٌظ القلب‪ ،‬لم ٌستجب لوصاٌا هرقل فً تهدبة ما بٌن المذهبٌن األرثوذكسً والملكانً فً مصر‪،‬‬
‫وأشعل النار بٌنهما‪ ،‬واضطهد األرثوذكس‪ ،‬فؤهاج الناس على هرقل‪ ،‬وأضعؾ مركزه‪ ،‬بل وورط هرقل فً‬
‫قبول هذا االضطهاد‪ ،‬وبهذا السبب مجتمعا مع العوامل السابقة كاإلقطاع‪ ،‬وصعود مراكز القوى التً‬
‫ؼرست الضعؾ فً أوصال اإلمبراطورٌة‪ ،‬والثورات المتتابعة‪ ،‬وعودة الصراعات والدسابس على‬
‫العرش‪ ،‬وكثرة الخٌانة‪ ،‬تجهزت اإلمبراطورٌة العجوز للسقوط بمعاول أول قوة فتٌة تظهر على الساحة‬

‫(‪)٘8‬‬
‫‪ -‬لل مزٌد انظر‪ :‬مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً‪ ،‬مصطفى العبادي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔ8ٕ -ٔٙ9‬‬
‫(‪)٘9‬‬
‫‪ -‬فتح العرب لمصر‪ ،‬ألفرٌد بتلر‪،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٔٔ‬

‫‪ٕٓ9‬‬
‫الدولٌة(ٓ‪.)ٙ‬‬

‫ولم تساعد ثورات المصرٌٌن ضد الرومان فً أن ٌفوزوا ببلدهم حٌن انهارت اإلمبراطورٌة الرومانٌة‪،‬‬
‫فالقوة المنظمة الخاصة بهم (الجٌش) ما زالت ؼاببة فً جوؾ الزمن‪ ،‬والمعابد الكبرى أُؼلقت وصودرت‬
‫أوقافها واختفى زعماإها‪ ،‬والكنٌسة لم تتبنَّ مبدأ الثورة القومٌة‪ ،‬كما أن أتباعها من الٌونان الدخبلء بجانب‬
‫المصرٌٌن؛ فضاعت ثوراتهم ودماءهم فً الفراغ لتسقط مصر فً ٌد قوة مسلحة أجنبٌة جدٌدة (العرب)‪،‬‬
‫وإن بقً لهم شرؾ أنهم سجلوا بهذه الدماء أنهم رؼم كونهم ع َُّزل صرخوا فً وجه االحتبلل الرومانً‬
‫هزت أعماق التارٌخ تذكرهم بالخطٌبة الكبرى التً جلبت علٌهم كل هذا الببلء والعقاب‬ ‫صرخات مزلزلة‪ ،‬و َّ‬
‫الطوٌل‪ ،‬عقاب كفرهم بؤكبر نعم هللا علٌهم‪ ،‬نعمة مصر‪ ،‬ونعمة هوٌتهم الخاصة‪ ،‬ونعمة تعالٌم "ماعت"‪ ،‬ونعمة‬
‫جٌشهم الذي حشوه باألجانب‪ ،‬ونعمة وصاٌا وعهد األجداد فً حفظ بلدهم من الدخبلء‪:‬‬

‫"إن البوابات ]الحدود[ التً فوقك كبوابات حامٌة‪ ....‬إنها سوؾ ال تفتح للؽربٌٌن‪ ،‬إنها سوؾ ال تفتح‬
‫للشرقٌٌن‪ ،‬إنها سوؾ ال تفتح للجنوبٌٌن‪ ،‬إنها سوؾ ال تفتح للشمالٌٌن‪ ،‬إنها سوؾ ال تفتح لهإالء الذٌن‬
‫فً وسط األرض‪ ،‬إنها سوؾ تفتح لحورس(ٔ‪.")ٙ‬‬

‫(نصوص األهرام)‬

‫"إن الذي ٌفعل الماعت فذلك الذي ٌكون بعٌدا عن الضالل"‪ٌ" ،‬حل العقاب دابما بالذي ٌتخطى‬
‫قواعدها"(ٕ‪.)ٙ‬‬

‫(الحكٌم بتاح حتب األسرة ٘)‬

‫(ٓ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬للمزٌد انظر‪ :‬فتح العرب لمصر‪ ،‬ألفرٌد بتلر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔٙٔ -ٔٓ9‬‬
‫(ٔ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬نصوص األهرام‪ ،‬القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ٘ٔ‪ٕٔٙ -‬‬
‫(ٕ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر تقدٌم علً رضوان لكتاب "الماعت‪ ..‬فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔ‪ٔ٘-‬‬

‫ٕٓٔ‬
‫ولسة بحلم بٌوم‬

‫شمسه ما تعرؾ ؼٌوم‬

‫أطٌر كطٌر البراري‬

‫وأعدي بحر الهموم‬

‫أتارٌنً مشدود فً داٌرة‬

‫داٌرة دوار السواقً‬

‫أروي قلوب العطاشى‬


‫(ٔ)‬
‫وأبات ضلوعً شراقً‬

‫(ٔ)‬
‫‪ -‬أؼنٌة ولسة بحلم بٌوم‪ ،‬تؤلٌؾ عبد السبلم أمٌن‪ ،‬ألحان محمد الموجً‪ ،‬ؼناء محمد قندٌل‬
‫المشهد ٔٔ‪ :‬االحتالل العربً‬

‫ٓٗ‪ ٙ‬م‪ 9ٙ9 -‬م‬

‫(الدوامة ‪ /‬القناع الثانً)‬

‫(تارٌخ العرب مع مصر قبل الؽزو)‬

‫ضمت جزٌرة العرب عشرات من القباٌل بعضها ظل فً ترحال‪ ،‬وبعضها استقر فً ممالك مثل سبؤ‬
‫وحمٌر فً جنوبها خبلل النصؾ األول من األلؾ ق‪.‬م‪ ،‬وممالك فً شمالها كالؽساسنة والحٌرة واألنباط فً‬
‫النصؾ األول من األلؾ ب‪.‬م‪ ،‬وممالك أو قرى فً وسطها مثل كندة وقرٌش‪.‬‬

‫ودولٌا‪ ،‬ارتبطت مملكة الحٌرة التً قامت جنوب شرق العراق بالوالء للفرس الواقعة قرب حدودهم‪،‬‬
‫فٌما ارتبطت الؽساسنة الواقعة فً بادٌة الشام بالوالء للرومان لقربها من أماكن سٌطرتهم على الشام‪،‬‬
‫وكذلك مملكة األنباط القرٌبة من الحدود المصرٌة‪.‬‬

‫وبحسب بحث عبد العزٌز صالح حول تارٌخ جزٌرة العرب‪ ،‬فإن العرب لم ٌظهروا على الساحة‬
‫المصرٌة طوال أزمنة الحكم المصرٌة الخالصة‪ -‬أي حتى األسرة ٕٓ‪ -‬إال بشكل عابر‪ ،‬ولما توسعت‬
‫التجارة أٌام تحوتمس الثالث شملت العرب‪ ،‬فعثر األثرٌون على نص مصري قدٌم ٌسجل وصول وفد من‬
‫بحار "الجنبتٌون" (عشاٌر فً جنوب شبه الجزٌرة العربٌة) بمتاجرهم من البلدن والكندر والمر والبخور‬
‫إلى مصر فً العام ٕٖ من حكم تحوتمس (حوالً ‪ ٔٗ٘8‬ق‪ .‬م‪.).‬‬

‫وبعد هذا العهد ظلت المناظر المصرٌة تصور ضمن تجار الكندر والبلدن والبخور والمر الواردٌن إلٌها‬
‫ً‬
‫رجاال ذوي مبلمح‬ ‫عن طرٌق البحر األحمر‪ ،‬اعتبرتهم من وجهة نظرها أتباعًا ٌإدون الجزٌة إلى مصر‪،‬‬
‫سامٌة‪ٌ ،‬صلون إلى العاصمة المصرٌة تارة‪ ،‬وٌقفون عند سٌناء تارة‪ ،‬وعند بعض موانا البحر األحمر‬
‫تارة‪ ،‬وٌتبادلون المتاجر هنا وهناك مع المندوبٌن المصرٌٌن(ٕ)‪.‬‬

‫وأٌام االحتبلل الٌونانً والرومانً أخذوا فرصتهم فً االستقرار على الحواؾ‪ ،‬ثم التسلل إلى الداخل‬
‫واالستٌطان كبقٌة الجالٌات األجنبٌة التً جاءت فً ذٌل المحتلٌن فً ثوب تجار أو مرتزقة أو عمالة‪ ،‬ومن‬

‫(ٕ)‬
‫‪ -‬للمزٌد عن تارٌخ الجزٌرة العربٌة وقبابلها وممالكها وعبلقتها بالفرس والرومان وعبلقتها بمصر قبل ؼزو العرب لمصر انظر‪ :‬شبه الجزٌرة‬
‫العربٌة فً عصورها القدٌمة‪ ،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖ8 -ٖ9‬‬

‫ٕٕٔ‬
‫هإالء رجل عربً من تجار "معٌن" اسمه زٌد إٌل بن زٌد‪ُ ،‬دفن فً مصر‪ ،‬ووجد له تابوت فً منؾ‬
‫مكتوب علٌه بحروؾ المسند ما ٌُفهم منه أنه عمل فً خدمة معبد مصري لعله سٌرابٌوم منؾ‪ ،‬وأخذ فٌه‬
‫لقب الكاهن المطهر خبلل فوضى فتح مإسسات الدولة للجالٌات األجنبٌة‪ ،‬وتولى تورٌد المنتجات العربٌة‬
‫إلٌه مثل المر والذرٌرة (قصب الطٌب) على سفٌنة بحرٌة فً مقابل ما ٌصدره إلى بلده من المنسوجات‬
‫المصرٌة‪ ،‬وهذا النص ٌعود إلى االحتبلل البطلمً(ٖ)‪.‬‬

‫ومع أهمٌة القباٌل العربٌة أٌام االحتبلل الرومانً كوسٌط تجاري بٌن مناطق البخور والتوابل والعطور‬
‫فً الٌمن ومناطق تصرٌؾ هذه التجارة إلى اإلمبراطورٌة الرومانٌة فً مصر والشام‪ ،‬تحركت قوافلهم‬
‫قرب الحدود المصرٌة للتجارة‪ ،‬ساعدهم فً هذا حسن عبلقتهم بالرومان عبر مملكتً الؽساسنة واألنباط‬
‫الموالٌتٌن لهم‪ ،‬وتؽلؽلت بعض القباٌل إلى سٌناء ومحافظة الشرقٌة ومدن الوجه القبلً القرٌبة من البحر‬
‫األحمر‪ -‬مثل قنا‪ -‬حٌث موانا نقل التجارة من الهند والٌمن إلى مصر‪.‬‬

‫وبجانب التجارة عمل العرب على الحدود كؤدالء فً سٌناء للمارٌن بها‪ ،‬وصاروا عنصرا هاما فً‬
‫مساعدة الجٌوش العابرة لها‪ ،‬مثلما ساعدوا الفرس والرومان فً السٌر إلى وادي النٌل‪ ،‬وشارك بعضهم‬
‫كمحاربٌن فً جٌش الرومان فً ؼزواته بمصر كما فعل عرب مملكة األنباط المجاورة وقتها لمصر‪.‬‬

‫والعرب أقل جالٌة أثرا فً مصر قبل االحتبلل العربً‪ ،‬وأقلهم اختبلطا بالمصرٌٌن أٌضا‪ ،‬خاصة لتركز‬
‫معظم المستوطنٌن منهم على الحواؾ‪ ،‬ولم ٌكن لهم وجودا ٌُذكر فً اإلسكندرٌة كباقً الجالٌات‪ ،‬فلسٌناء‬
‫وموانً البحر األحمر األولوٌة عندهم لقربهم من مناطق نفوذهم التجاري وطرق القوافل‪ ،‬كما ارتبطت‬
‫صورتهم بالؽارات التً لم ٌكفوا عن شنها على مصر من الحدود الشرقٌة كلما لمسوا ثؽرة أو ضعفا‪.‬‬

‫حرة؟‬
‫♣♣♣ ماذا لو دخل اإلسالم مصر وهً َّ‬

‫تابعنا أنه بعد تفكك أوصال اإلمبراطورٌة البٌزنطٌة تحولت مصر لـ"ثمرة دان قطافها"‪ ،‬سهلة السقوط‬
‫أمام الذراع األشد فً حمل السٌؾ؛ فبدأ دبٌب حوافر خٌول الؽازي الجدٌد تعلو‪ ،‬وفً ‪ ٔ8‬هـ وبعد نجاح‬
‫العرب فً فتح الشام التً سلَّم بعض والتها مفاتٌح مدنها للعرب؛ ألنهم أساسا من قباٌل عربٌة استوطنت‬
‫الشام‪ ،‬انفتحت شهٌة جٌش العرب لمصر‪.‬‬

‫ٌقول الطبري(ٗ) (توفً ٖٓٔ ه) فً كتابه "تارٌخ الرسل والملوك" إن من اقترح فتح مصر أوال هو‬
‫عمر بن الخطاب وأمر عمرو بن العاص بذلك‪ ،‬فٌما ٌقول ابن عبد الحكم (توفً ‪ ٕ٘9‬ه) فً كتابه "فتح‬
‫مصر وأخبارها"‪ -‬وهو أول كتاب ٌضعه عربً عن أحداث فتح مصر‪ -‬إن من بادر إلى ذلك هو عمرو بن‬
‫العاص‪ ،‬وفً كبل الحالٌن تحمس عمرو بن العاص أشد التحمس لهذه المؽامرة‪ ،‬وحشد لها كل طاقاته كؤنها‬
‫مكسب عمره‪ ،‬فلماذا؟‬

‫(ٖ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖ‪8ٗ -8‬‬
‫(ٗ)‬
‫‪ -‬تارٌخ الرسل والملوك (تارٌخ ال طبري)‪ ،‬محمد بن جرٌر الطبري‪ ،‬تحقٌق محمد أبو الفضل إبراهٌم‪ ،‬الجزء الرابع‪ ،‬ط ٕ‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬ص ٗٓٔ‬

‫ٖٕٔ‬
‫سبق أن زار عمرو مصر كتاجر قبل البعثة النبوٌة‪ ،‬وعرؾ طرقها‪ ،‬ورأى كثرة أموالها‪ ،‬وخاصة فً‬
‫اإلسكندرٌة ذات العمد المرمرٌة والمبانً الشاهقة‪ ،‬والتجارة الوافرة ما أذهله‪ ،‬ونقل عنه ابن عبد الحكم‬
‫قوله‪" :‬ما رأٌت مثل مصر قط وكثرة ما فٌها من األموال"‪ ،‬وأنه "نظر إلى اإلسكندرٌة وعمارتها وجودة‬
‫بنابها وكثرة أهلها وما بها من األموال فازداد عجبا"(٘)‪.‬‬

‫وشوقا إلى هذا النعٌم‪ ،‬وثقة فً النفس بعد هزٌمة الروم فً الشام ألح عمرو على الخلٌفة عمر بؤمر‬
‫الؽزو الذي كان مترددا فٌه‪ ،‬وقال له عمرو وفق ما نقل ابن عبد الحكم‪" :‬إنك إن فتحتها كانت قوة للمسلمٌن‬
‫وعونا لهم‪ ،‬وهً أكثر األرض أمواال‪ ،‬وأعجزها عن القتال والحرب"‪ ،‬فتخوَّ ؾ عمر بن الخطاب على‬
‫المسلمٌن وكره ذلك‪ ،‬فلم ٌزل عمرو ٌعظم أمرها عنده حتى أقنعه"(‪.)ٙ‬‬

‫و أعجزها عن القتال والحرب لضعؾ حال الروم وقتها وتصارعهم‪ ،‬وافتقاد المصرٌٌن للجٌش الخاص‬
‫بهم‪ ،‬ولكراهتهم للروم‪ ،‬ولصراعات األعراق المتحكمة فً شبونها فً اإلسكندرٌة‪ ،‬وكلمة المسلمٌن وقتها‬
‫مرادؾ لـ"عرب الجزٌرة" ألنه لم ٌكن استجاب للبعثة النبوٌة بكثافة ؼٌرهم‪.‬‬

‫ومن األحادٌث المتبادلة بٌن عمر وعمرو عن الهدؾ من فتح مصر لم ٌرد أن الهدؾ نشر اإلسبلم كما‬
‫ٌقول البعض اآلن‪ ،‬كما لم ٌرد أن القبط أرسلوا لعمرو أن ٌؤتً لكً ٌنقذهم من الروم‪ ،‬فهدؾ الفتح العربً‬
‫اقتصادي توسعً بحت مثلهم مثل معظم اإلمبراطورٌات السابقة والبلحقة‪ ،‬ومن ٌقول بخبلؾ ذلك علٌه أن‬
‫ٌتحمل هو نتٌجة القول بؤن المسلمٌن ؼزوا الشعوب األخرى بالسٌؾ إلجبارها على اإلسبلم‪.‬‬

‫ولٌس فً كبلم عمرو بن العاص وال رسابله المتبادلة مع عمر بن الخطاب أي إشارة إلى أن العرب‬
‫دخلوا مصر لـ"تخلٌص وتحرٌر" أهلها من الرومان‪ ،‬فبل ٌوجد أي رابطة بٌن المصرٌٌن حٌنها وبٌن العرب‬
‫لٌضحوا بؤنفسهم لتحرٌر المصرٌٌن‪ ،‬بل إن عمر بعد مشاورات مع عثمان بن عفان أصابه القلق من فكرة‬
‫الفتح خوفا على سبلمة الجنود العرب من لقاء الروم‪ ،‬فؤرسل لعمرو وهو فً الطرٌق كتابا ٌؤمره بؤنه إن‬
‫وصله الكتاب قبل دخول مصر فلٌرجع‪ ،‬وفق نص الرسالة فً تؤرٌخ ابن عبد الحكم(‪ ،)9‬فسبلمة بنً جلدته‬
‫أهم عنده من المصرٌٌن‪ ،‬وهذا شعور طبٌعً‪.‬‬

‫وكٌؾ ٌؤتً العرب لـ"ٌحرروا" المصرٌٌن فً حٌن أنه حٌن ثار المصرٌون على ظلم بعض الوالة‬
‫العرب فٌما ٌخص الضرابب الباهظة وسوء المعاملة نكلوا بهم بؤسالٌب وحشٌة كما فعل الٌونان والرومان؟‬

‫وكٌؾ ٌضحً العرب وعمرو بن العاص بؤنفسهم فً مواجهات مع الرومان من أجل "تحرٌر" الشعوب‪،‬‬
‫وهم‪ -‬أي العرب‪ -‬من لم ٌتعلموا قبل اإلسبلم أن ٌضحوا بؤنفسهم ألجل بعضهم‪ ،‬وعاشوا قبابل متناحرة أو‬
‫متحفزة ضد بعضها‪ ،‬وبعد وفاة الرسول (ص) رفعوا السٌوؾ فً وجه بعضهم البعض‪ ،‬وأراقوا دم‬
‫بعضهم‪ ،‬من أجل كرسً الحكم فً معارك الجمل وصفٌن وفتنة عثمان وؼٌرها‪ ،‬وحارب عمرو بن العاص‬

‫(٘)‬
‫‪ -‬فتوح مصر وأخبارها‪ ،‬أبو القاسم بن عبد الحكم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ٘‪٘٘ -‬‬
‫(‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪٘ٙ‬‬
‫(‪)9‬‬
‫‪ -‬نص الكتاب من عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص ودوافعه‪ ،‬انظر فً المرجع السابق‪ ،‬ص ‪٘8 -٘ٙ‬‬

‫ٕٗٔ‬
‫ضد علً بن أبً طالب األقرب إلٌه دما ودٌنا من بقٌة الشعوب؟‬

‫أما هاالت التقدٌس والرواٌات حول أن هدؾ فتوحات العرب نشر اإلسبلم وتحرٌر الشعوب من‬
‫محتلٌها‪ ،‬واختبلق حساسٌة فً المعنى بٌن كلمات ؼزو وفتح واحتبلل فهً من صنع أجٌال جاءت بعد هذه‬
‫الفتوحات بمبات السنٌن لشرعنة تجدٌد هذه الفتوحات فً مشروعات إمبراطورٌة جدٌدة كما فعل العثمانٌون‬
‫والقومٌون العرب وتنظٌمات دٌنٌة عالمٌة‪ ،‬أو إلضفاء هالة تقدٌس تمنع انتقادها أو مراجعتها‪ ،‬تماما كالهالة‬
‫الموضوعة لئلمبراطور قسطنطٌن المحتل الرومانً أو للمشروع اإلمبراطوري لكنٌسة روما "الفاتٌكان"‬
‫الذي تؽطٌه برداء "السبلم"‪.‬‬

‫وفً صفحات الحقة سنتابع أن اإلسبلم انتشر فً مصر "بحكم األمر الواقع" ولٌس بدعوة منظمة من‬
‫المسلمٌن القادمٌن‪ ،‬أي بحكم التوقؾ عن التبشٌر المسٌحً‪ -‬كما صار مصرٌون مسٌحٌٌن بحكم األمر‬
‫الواقع بعد ؼلق المعابد المصرٌة‪ -‬مع نسٌان المصرٌٌن أصحاب الدٌن القدٌم ما بقً منه‪ ،‬وإن حافظوا على‬
‫طقوسه وروحه ببل وعً وعكسوها فً الدٌن الجدٌد فً انتقال سلس ؼٌر محسوس بٌن الدٌنٌن‪ ،‬وكؤنه لم‬
‫تتؽٌر فٌه إال األسامً‪ ،‬حتى صار للمسٌحٌة واإلسبلم طقوسا وأعٌادا خاصة بمصر تختلؾ عن بقٌة العالم‪،‬‬
‫بجانب انتشار المساجد مع القبابل التً استوطنت أطراؾ الرٌؾ لٌإدوا فٌها الصبلة‪ ،‬ولكون اإلسبلم كان‬
‫أحٌانا شرطا لمن ٌتولى وظابؾ هامة‪ ،‬أو تهربا من دفع الجزٌة‪.‬‬

‫وهنا وقفة أخرى‪ ..‬ماذا لو دخلت دعوة اإلسبلم إلى مصر وهً تحت حكم مصري حر خالص‪ ،‬عبارة‬
‫عن مصرٌٌن (كٌمتٌو) فقط‪ ،‬ال أعراق وافدة وال طوابؾ وثقافات متنافرة ومتنافسة ومتقاتلة؟‬

‫كما انعكست روح البؽضاء والتنافر بٌن األعراق األجنبٌة المستوطنة مصر على تشرٌخ الدعوة‬
‫للمسٌحٌة إلى مذاهب متصارعة‪ ،‬فإن العصبٌات القبلٌة والعرقٌة والطابفٌة التً جاء بها العرب ثم الفرس‬
‫والترك والشوام والمؽاربة إلى مصر انعكست فً تحوٌل دعوة اإلسبلم إلى مذاهب وطوابؾ‪ -‬كما سنتابع‪-‬‬
‫تتحكم فٌها الحمٌة القبلٌة والمذهبٌة وشهوة الحكم‪ ،‬فٌما كان الحال سٌكون أكثر هدوءا وتوحدا وأقل دموٌة‬
‫لو دخل اإلسبلم تحت ظل حكم مصري خالص‪ ،‬وهو ما ٌإكده الروح الدٌنٌة العذبة البسٌطة التً مارس بها‬
‫الفبلحون فً األرٌاؾ‪ -‬البعٌدون لحد ما عن صراعات ومذاهب العاصمة‪ -‬اإلسبلم‪ ،‬الخالٌة من الؽلظة‬
‫والجفوة والتعقٌد والشكلٌة التً جاء بها المسلمون الوافدون‪.‬‬

‫كذلك فإنه حٌن دخل اإلسبلم إلى دول تحكم نفسها بنفسها احتفظت بشخصٌتها‪ ،‬ومن فتحه العرب سارع‬
‫فً استرداد حرٌته‪ ،‬فمثبل رؼم أن العرب فتحوا فارس أٌام حكم كسرى فإنها بعد فترة من عدم التوازن‬
‫والمفاجبة والصمت‪ ،‬قامت لتحًٌ مجدها القدٌم‪ ،‬فها هو شاعرها الفردوسً ٌنسج ملحمة "الشاهنامة"‬
‫الشعرٌة وباللؽة الفارسٌة فً القرن الرابع الهجري‪ٌ ،‬تٌه فٌها تمجٌدا وتعظٌما بتارٌخ فارس القدٌم وملوكها‬
‫وبالساسانٌٌن‪ ،8‬واحتفظت فارس بلؽتها بإصرار أهلها على إنتاج اآلداب واألشعار وتسجٌل التارٌخ القومً‬

‫‪ -8‬انظر المزٌد‪ :‬فراعنة من؟ علم اآلثار والمتاحؾ والهوٌة القومٌة المصرٌة من حملة نابلٌون حتى الحرب العالمٌة األولى‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ٘‬

‫ٕ٘ٔ‬
‫بالفارسٌة‪ ،‬ومثل ذلك حصل فً معظم ببلد العالم التً دخلها اإلسبلم وأهلها ٌحكمونها فً أفرٌقٌا وأوروبا‬
‫وآسٌا؛ فاكتسبوا الدٌن الجدٌد لكنهم حافظوا على وجودهم الممٌز فً الحٌاة‪ ،‬ولؽتهم وثقافتهم واعتزازهم‬
‫بؤنفسهم‪ ،‬وصار لقبٌلة صؽٌرة فً بطن آسٌا أو بطن أفرٌقٌا مثبل من الحرٌة والشخصٌة الظاهرة ما لٌس‬
‫لمصر رؼم عظمتها وطول تارٌخها وكونها أول دولة تصنع شخصٌة ممٌزة متكاملة فً التارٌخ‪.‬‬

‫▼▼▼ الجٌش فً االحتالل العربً (عرب‪ /‬مرتزقة الفرس والترك)‬

‫أورد عمرو بن العاص فً خطبة بمسجده فً الفسطاط حدٌثا نبوٌا نقله عن عمر بن الخطاب‪" :‬إذا فتح‬
‫هللا علٌكم مصر فاتخذوا فٌها جندا كثٌفا فذلك الجند خٌر أجناد األرض"‪ ،‬فقال له أبو بكر‪" :‬ولم ٌا رسول‬
‫هللا؟" قال‪ :‬ألنهم وأزواجهم فً رباط إلى ٌوم القٌامة"(‪.)9‬‬

‫هذا الحدٌث لم ٌطبقه العرب‪ ،‬وساروا على عادة المحتلٌن فً استبعاد المصرٌٌن‪ ،‬سواء من أسلم منهم أو‬
‫بقً على دٌنه‪ ،‬من الجٌش خوفا من أن ٌستعٌدوا ببلدهم عن طرٌقه‪ ،‬إضافة إلى أن انضمامهم للجٌش‬
‫سٌساوٌهم فً ا لمزاٌا بالفاتحٌن‪ ،‬وٌطٌح بالجزٌة‪ ،‬وهو ما حرص العرب مثل ؼٌرهم على عدم تحقٌقه‪ ،‬فما‬
‫هً المٌزة التً ٌتماٌل بها المحتلون عجبا فً تلك العصور على من ٌحتلونهم أكثر من انفرادهم بالسٌؾ‬
‫البلمع وفرضهم الجزٌة وأعباء العمل الشاق علٌهم؟‬

‫ومن ذلك ما نقله المقرٌزي أن صاحب "إخنا" سؤل عمرو بن العاص‪ :‬أخبرنا ما على أحدنا من الجزٌة‬
‫فنصٌر له‪ ،‬فقال عمرو وهو ٌشٌر إلى ركن كنٌسة‪" :‬لو أعطٌتنً من األرض إلى السقؾ ما أخبرتك ما‬
‫علٌك‪ ،‬إنما أنتم خزانة لنا‪ :‬إن كثر علٌنا كثرنا علٌكم‪ ،‬وإن خفؾ عنا خفننا عنكم"(ٓٔ)‪.‬‬

‫وفً هذا تقول الدكتورة سٌدة كاشؾ‪" :‬بعد أن تم للعرب فتح مصر بقى بها جٌش احتبلل عربً‪ ،‬ولم‬
‫ٌشرك العرب المصرٌٌن فً هذا الجٌش‪ ،‬ولم ٌرد فً صلح بابلٌون أٌة إشارة تدل على السماح للمصرٌٌن‬
‫باالشتؽال بالجندٌة‪ ،‬وربما دعا العرب إلى انتهاج تلك السٌاسة خوفهم من أن ٌحًٌ المصرٌون روح القومٌة‬
‫المصرٌة على حسابهم‪ ،‬وأن ٌقوموا بطردهم من ببلدهم متى حانت لهم الفرصة‪ ،‬فرأوا أن ٌبعدوهم عن‬
‫األعمال الحربٌة وأال ٌتركوا لهم إال األعمال المدنٌة‪ ،‬وربما كان العرب ٌشكون فً كفاءة المصرٌٌن‬
‫الحربٌة؛ إذ كان المصرٌون زمن الفتح قد ؼمرتهم روح التواكل واالستسبلم‪ ،‬بٌنما كان العرب حٌنذاك شعبا‬
‫ٌتقد حماسة وشجاعة(ٔٔ)"‪ ،‬وهناك سبب آخر ٌوضع فً االعتبار وهو حاجتهم للمصرٌٌن كزراع وصناع‬
‫وحرفٌٌن وبناءٌن وموظفٌن‪.‬‬

‫ؼٌر أنه وجدت فرق ؼٌر نظامٌة تسمى "المطوعة" ربما اشترك فٌها مصرٌون(ٕٔ)‪ ،‬ولكن أفرادها‬
‫لٌسوا مقاتلٌن نظامٌٌن وال أصحاب سلطة أو نفوذ ٌُخشى منه‪ ،‬ولٌسوا ممن ٌخصص لهم مقادٌر منتظمة من‬

‫(‪)9‬‬
‫‪ -‬فتح مصر وأخبارها‪ ،‬أبو القاسم بن عبد الحكم‪ ،‬مرجع سابق ص ٓٗٔ‪ٔٗٔ -‬‬
‫(ٓٔ)‬
‫‪ -‬المواعظ واالعتبار بذكر الخطط واآلثار (الخطط المقرٌزٌة)‪ ،‬تقً الدٌن القرٌزي‪ ،‬جٔ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٕ٘‬
‫(ٔٔ)‬
‫‪ -‬مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة‪ ،‬ص ‪ٗ9‬‬
‫(ٕٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٔ9ٙ‬‬

‫‪ٕٔٙ‬‬
‫العطاٌا فً الدٌوان تساوٌهم بالعرب‪.‬‬

‫وكانت أسامً الجند العرب وأسرهم وأعدادهم وأحوالهم ومرتباتهم تدون فً دٌوان اسمه دٌوان الجند‪،‬‬
‫وٌتم تقسٌمهم فً الجٌش حسب قباٌلهم‪ ،‬مثلما ٌتم تسكٌنهم فً أحٌاء منفصلة فً الفسطاط وؼٌرها‪ ،‬على نمط‬
‫عٌشتهم فً الجزٌرة العربٌة(ٖٔ)‪.‬‬

‫والجٌش كان عربٌا حتى نهاٌة العصر األموي‪ ،‬وتبدل فً العصر العباسً لجٌش مرتزقة وعبٌد‬
‫ٓٓٔ‪ %‬بفرس ثم أتراك فً عصر المعتصم ابن هارون الرشٌد من جارٌته التركٌة "ماردة"‪ ،‬والذي أمر‬
‫والٌه على مصر كٌدر نصر بن عبد هللا بإسقاط العرب من الدٌوان وقطع أعطٌاتهم فً سنة ‪ ٕٔ8‬هـ‪،‬‬
‫وٌصؾ المقرٌزي هذه الحادثة بؤنه "انقرضت دولة العرب من مصر‪ ،‬وصار جندها العجم والموالً من‬
‫ولً األمٌر أبو العباس أحمد بن طولون مصر فاستكثر من العبٌد"‪ ،)ٔٗ(.‬وقال‬ ‫َ‬ ‫عهد المعتصم‪ ،‬إلى أن‬
‫السٌوطً إن المعتصم اشترى آالؾ األتراك من سمرقند وفرؼانة (آسٌا الوسطى)‪ ،‬وألبسهم الدٌباج‬
‫والذهب‪ ،‬فكانوا ٌطردون خٌلهم فً بؽداد وٌإذون الناس حتى ضاقت بهم البلد(٘ٔ)‪ ،‬وبذلك فالمعتصم أول‬
‫من أدخل فكرة الممالٌك األتراك فً الخبلفة اإلسبلمٌة‪ ،‬وفتح الباب لٌحكم مصر والشام العبٌد والجواري‪.‬‬

‫وهجا شاعر ٌُدعى دعٌل المعتصم بسبب تفضٌله األتراك على العرب بقصٌدة قبل أن ٌهرب منه فً‬
‫المؽرب قال فٌها(‪:)ٔٙ‬‬

‫فؤنت له أم وأنت له أب‬ ‫وه َّمك تركً علٌه مهانة‬

‫ورؼم استبعاد المصرٌٌن مسلمٌن ومسٌحٌٌن عن أعمال القتال إال أن العرب اضطروا لبلستعانة بهم فً‬
‫بناء الجٌش ذاته‪ ،‬وخاصة البحرٌة التً ٌجهلها العرب فٌما كانت مصر مشهورة بصناعة السفن التجارٌة‬
‫والحربٌة من آالؾ السنٌن‪.‬‬

‫ومع صناعة السفن اعتمد العرب على المصرٌٌن فً تشؽٌل األسطول والعمل كمبلحٌن وعمال(‪،)ٔ9‬‬
‫وصار للمصرٌٌن‪ -‬ومعظمهم خلٌط من المسٌحٌٌن والباقٌن على الدٌن القدٌم‪ -‬الفضل الكبٌر فً بناء وتجهٌز‬
‫السفن لمعارك ذات عبلمات فً التارٌخ مثل معركة ذات الصواري بٌن العرب والروم‪ ،‬ولكن هذا ال ٌُذكر‬
‫إال فً الكتب األكادٌمٌة‪ ،‬وٌتوه هذا الفضل فً اإلعبلم والمسلسبلت واألفبلم التً تقدم إنجازات الحضارة‬
‫فً ذلك الوقت على أنها عربٌة إسبلمٌة خالصة‪ ،‬وال ٌُذكر المصرٌون إال قلٌبل‪.‬‬

‫وفً عهد الخلٌفة العباسً المتوكل هاجم الروم سواحل مصر‪ ،‬ونهبوا دمٌاط‪ ،‬فاضطر الوالً إلى عمل‬
‫سفن كثٌرة لؤلسطول لحراسة السواحل‪ ،‬وأمر بتجنٌد المصرٌٌن للعمل بها‪ ،‬حتى من لٌس له خبرة بفنون‬
‫(ٖٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الخطط المقرٌزٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٗ‪ٕ9ٓ -ٕٙ‬‬
‫(ٗٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٔ‪ٕ9‬‬
‫(٘ٔ)‬
‫‪ -‬تارٌخ الخلفاء‪ ،‬جبلل الدٌن السٌوطً‪ ،‬دار ابن حزم‪ ،‬ط ٔ‪ ،‬بٌروت‪ ،‬ص ‪ٕٙٙ‬‬
‫(‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕٙٙ‬‬
‫(‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر المجتمع المصري فً مصر اإلسبلمٌة من الفتح العربً وحتى العصر العبٌدي‪ ،‬هوٌدا عبد العظٌم رمضان‪ ،‬الهٌبة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫ٗ‪ ،ٔ99‬ص ‪ٖٓ9‬‬

‫‪ٕٔ7‬‬
‫البحر‪ ،‬ورؼم عدم معرفتهم بفنون القتال‪ ،‬ولم ٌقدم لهم السبلح‪ ،‬إذ كان ٌرؼمهم على شرابه‪ ،‬كما كان ٌرؼم‬
‫المرضى والضعفاء على الخدمة فً األسطول‪ ،‬و ٌقترون علٌهم فً الطعام(‪.)ٔ8‬‬

‫كما وقع على عاتق المصرٌٌن بناء القبلع على مدن الشواطا وحفر القنوات الكبٌرة وتعمٌق القناة التً‬
‫تحمل المٌاه إلى اإلسكندرٌة‪ ،‬فوصلت إلٌها المٌاه والسفن‪ ،‬وزادت الزراعة وراجت التجارة‪ ،‬وفً ذلك ٌقول‬
‫ساوٌرس ابن المقفع فً "تارٌخ البطاركة"‪" :‬فلما كثر الصراخ إلى الرب‪ ،‬نظر إلٌهم‪ ،‬فعزل الخلٌفة أبو‬
‫جعفر المتوكل الوالً الشرٌر‪ ،‬وعٌن بدال منه ٌزٌد بن عبد هللا‪ ،‬فخفت حدة التجارب ضد األقباط(‪.")ٔ9‬‬

‫وبتعبٌر سٌدة كاشؾ‪ ،‬فإنه إذا كان الفضل لعظمة البحرٌة اإلسبلمٌة ٌرجع إلى الشعوب التً فتحوها‬
‫وتعلموا منها هذا الفن واستخدموها فً حاجاتهم البحرٌة فلنا أن نقول ؼٌر مبالؽٌن إن الفضل األكبر واألول‬
‫ٌرجع إلى مصر والمصرٌٌن(ٕٓ)‪.‬‬

‫♣♣♣ السكان وتعرٌؾ المصري فً االحتالل العربً (تبدل القناع)‬

‫سقط القناع الٌونانً الرومانً من على وجه مصر بؤسرع من هبِّة الرٌح؛ ما أثبت أن ألؾ سنة من‬
‫االحتبلل الثقافً والعسكري والعرقً لم ٌنعكس لونه إال على المدن القلٌلة التً استوطنها المحتلون‪ ،‬ومن‬
‫سار فً ركبهم من مصرٌٌن متعلمٌن‪ ،‬وما أن جاء احتبلل لٌطرد المحتل القدٌم حتى اختفت مبلمحه كما‬
‫اختفت األسامً الٌونانٌة للمدن المصرٌة من السجبلت وعادت لها أسامٌها المصرٌة التً ظل الفبلحون‬
‫المخلصون لثقافتهم ٌزٌنون بها ألسنتهم‪.‬‬

‫ولوال البقٌة الصؽٌرة من الٌونانٌٌن والرومان التً وافق العرب على بقابها للعمل فً الدواوٌن‪ -‬ودخلوا‬
‫ضمن أهل البلد منتحلٌن تسمٌة األقباط‪ -‬النمحى أي وجود ٌونانً‪ ،‬بل حتى ربما أعاد المصرٌون الحروؾ‬
‫المصرٌة إلى اللؽة المصرٌة وطردوا الحروؾ الٌونانٌة التً حولتها إلى مسخ‪.‬‬

‫وإن كان طرد المحتل القدٌم تم على ٌد مصرٌٌن لعاد وتجلَّى تمام التجلً وجه مصر الصبوح للعالم من‬
‫جدٌد‪ ،‬إال أنه سرعان ما ألصق علٌه قناع جدٌد هو القناع العربً فً المدن التً تركز فٌها‪.‬‬

‫وكما أخذ الرومان القمة محل الٌونان‪ ،‬أخذ العرب القمة محل الرومان‪ ،‬وجلبوا عناصر جدٌدة تعاونهم‬
‫فً فرض السٌطرة وعدم ترك أمور الدواوٌن بٌد المصرٌٌن وبقاٌا الرومان والٌونان وحدهم‪ ،‬فجلبوا قباٌل‬
‫جدٌدة لتستوطن داخل الببلد بعد أن كانت القباٌل تفضل سكن األطراؾ‪ ،‬وجلبوا الحقا الفرس والترك‬
‫لخبراتهم اإلدارٌة والقتالٌة‪.‬‬

‫(‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬تارٌخ البطاركة‪ ،‬ساوٌرس بن المقفع‪ ،‬تلخٌص وتعلٌق مٌخابٌل مكسً إسكندر‪ ،‬ج ٕ‪ ،‬مكتبة المحبة‪ ،‬ص ٖٓٔ‬
‫(‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٖٓٔ‬
‫(ٕٓ)‬
‫‪ -‬مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪٘9‬‬

‫‪ٕٔ8‬‬
‫القناع العربً تصدر بعد اإلؼرٌق والرومان ألنه عبؤ العاصمة وركزت كتب التارٌخ حٌنها على رصد أفعاله وأحواله ال أفعال وأحوال المصرٌٌن فً‬
‫األرٌاؾ (المصدر‪ :‬مشاهد من المسلسبلت التلفزٌونٌة التارٌخٌة ورسوم شابعة على اإلنترنت لعدم توفر رسوم ألشخاص معاصرة لنفس الفترة)‬

‫أما عن سكان مصر عموما عند بداٌة االحتبلل العربً فسنرى الحقا عند الحدٌث عن دفع الجزٌة أنه قد‬
‫ٌزٌد على ٕٔ‪ ٔ8 -‬ملٌونا إن صح ما ورد فً تؤرٌخ ابن عبد الحكم أن من أحصاهم عمرو بن العاص من‬
‫القبط المفروض علٌهم الجزٌة ما بٌن ‪ 8-ٙ‬ملٌون شخص‪ ،‬ومعفً منها الشٌوخ والنساء واألطفال‪ ،‬وهإالء‬
‫جملتهم تكون الضعؾ على األقل‪ ،‬وإن اعتبر آخرون أن الرقم فٌه مبالؽة‪.‬‬

‫وبقاٌا الروم والٌونان والٌهود وجنسٌات أخرى باإلسكندرٌة فالمتوسط نصؾ ملٌون؛ حٌث قال العرب‬
‫إنهم وجدوا فً اإلسكندرٌة ما بٌنٕٓٓ– ٓٓ‪ ٙ‬ألؾ شخص‪ ،‬ونقل المقرٌزي عن ابن لهٌعة أن عمرو بن‬
‫العاص جبى الجزٌة من اإلسكندرٌة ٓٓ‪ ٙ‬ألؾ دٌنار؛ ألنه وجد فٌها ٖٓٓ ألؾ من أهل الذمة فرض علٌهم‬
‫دٌنارٌن دٌنارٌن(ٕٔ)‪.‬‬

‫أما العرب فبدأ عددهم بـ ٕٔ ألفا هم الجنود الذٌن أتم بهم عمرو بن العاص فتح مصر‪ ،‬وبقً بعضهم‬
‫فٌها‪ ،‬واتجه آخرون لفتح شمال أفرٌقٌا‪ ،‬ثم توالى قدوم القباٌل‪ ،‬وٌقول ابن عبد الحكم إنه فً عهد معاوٌة بن‬
‫أبً سفٌان وصل الدٌوان إلى ٓٗ ألفا (ٕٕ)‪ ،‬وٌقصد ما ٌُحصى من عدد أفراد وعاببلت الجند والقباٌل‬
‫المتكفل الدٌوان (الحكومة) بمعٌشتهم‪ ،‬وهم كل الجالٌة العربٌة بمصر وقتها‪.‬‬

‫وسار العرب فً القرن األول سٌرة من سبقهم من وافدٌن باالبتعاد عن المصرٌٌن؛ خوفا من نتابج‬
‫االحتكاك بهم كونهم ؼرباء‪ ،‬والختبلؾ الثقافة واللؽة والدٌن والعادات‪ ،‬إضافة لسعٌهم إلى التمٌز باعتبارهم‬
‫القوة الحاكمة‪ ،‬والفسطاط ثم الجٌزة واإلسكندرٌة هً أول أماكن تقٌم فٌه القباٌل‪ ،‬ثم تفرقت بعد استقدام‬
‫الترك أٌام العباسٌٌن إلى الوجه البحري‪ ،‬وآخرون إلى الوجه القبلً‪ ،‬واختاروا العٌش فً أماكن خاصة‬
‫ؼٌروا أسامٌها لتحمل أسماء قبابلهم‪.‬‬

‫وعن تؤثٌر هذا األمر قال المقرٌزي فً كتابه "الخطط المقرٌزٌة"‪" :‬ولم ٌنتشر اإلسبلم فً قرى مصر‬
‫إال بعد المابة من تارٌخ الهجرة‪ ،‬عندما أنزل عبٌد هللا بن الحبحاب مولى سلول قٌسا بالحوؾ الشرقً‪ ،‬فلما‬

‫(ٕٔ)‬
‫‪ -‬المواعظ واالعتبار بذكر الخطط واآلثار (الخطط المقرٌزٌة)‪ ،‬تقً الدٌن القرٌزي‪ ،‬تحقٌق محمد زٌنهم‪ -‬مدٌحة الشرقاوي‪ ،‬مكتبة مدبولً‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪،‬ج ٔ‪ ،‬ص ٖٕٓ‬
‫(ٕٕ)‬
‫‪ -‬فتوح مصر وأخبارها‪ ،‬ابن عبد الحكم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٓٔ‬

‫‪ٕٔ9‬‬
‫كان بالمابة الثانٌة من سنً الهجرة كثر انتشار المسلمٌن ]العرب الوافدٌن[ بقرى مصر ونواحٌها(ٖٕ)"‪.‬‬

‫ولكل قبٌلة مخصصات مالٌة من خراج مصر‪ٌ ،‬ؽنٌها عن العمل فً الزراعة والصناعة‪ ،‬وٌصلها سواء‬
‫عملت فً الحرب أم لم تعمل‪ ،‬وهكذا ظل العرب لنحو ٕٓٓ عام تؤثٌرهم ضعٌؾ على المصرٌٌن فٌما‬
‫ٌخص انتشار اإلسبلم واللؽة العربٌة‪ ،‬وهذا مما ٌدل أٌضا على أن الفتح العربً لم ٌكن هدفه نشر اإلسبلم‪،‬‬
‫فقد مرت سنوات طوٌلة دون أن تختلط القباٌل بالمصرٌٌن اختبلطا كثٌفا أو مثمرا‪ ،‬ولم ٌرد أنها أرسلت‬
‫لؤلرٌاؾ قوافل لتعلٌمهم اإلسبلم‪ ،‬أو عن شخصٌات معٌنة أخذت على عاتقها السٌاحة فً أرض مصر‬
‫للتبشٌر بالدٌن الجدٌد‪.‬‬

‫واستمر امتٌاز منح العرب مخصصات مالٌة من الدٌوان حتى إحبلل الترك محل العرب فً الدٌوان‬
‫والجٌش زمن العباسٌٌن‪ ،‬وقرار المعتصم سنة ‪ ٕٔ8‬هـ بإسقاط العرب من الدٌوان؛ فانقطع عنهم المدد‪،‬‬
‫واتجهوا للتجارة والزراعة وتملك األراضً(ٕٗ)‪ ،‬وبعضها حصلوا علٌها كإقطاعات من الوالة‪ ،‬وبدأ حٌنها‬
‫تعامل أوسع مع االمصرٌٌن نتٌجة حاجتهم لهم فً الزراعة والصناعة والمعامبلت التجارٌة‪ ،‬إال أن الزواج‬
‫بٌنهم كان قلٌبل‪.‬‬

‫ومن اختار االختبلط بالمصرٌٌن بعد ٕٓٓ سنة فترى الدكتورة سٌدة كاشؾ أنه تخلً شٌبا فشٌبا عن‬
‫روح العصبٌة القبلٌة‪ ،‬مستشهدة بؤن بعضهم فً األسماء بات ٌنسب نفسه للمدٌنة ولٌس للقبٌلة‪ ،‬فنرى فً‬
‫معظم شواهد القبور التً اكتشفت حدٌثا فً مقابر أسوان والفسطاط أن اسم المٌت ٌتبع باسم قبٌلته فً خبلل‬
‫القرنٌن األولٌن للهجرة‪ ،‬ولكن فً خبلل القرن الثالث الهجري نجد أن اسم القبٌلة قد حل محله اسم الجهة أو‬
‫تنمح العصبٌة القبلٌة‬
‫ِ‬ ‫اإلقلٌم الذي ٌنتسب إلٌه المتوفً فٌكتب فبلن األدفوي أو المصري‪...‬إلخ(ٕ٘)‪ ،‬ولكن لم‬
‫لدى الكثٌرٌن؛ استنادا المتبلكهم قوة السبلح واعتبار أنفسهم "الفاتحٌن"‪.‬‬

‫ونقطة هامة أشارت إلٌها الراحلة سٌدة كاشؾ تظهر خطؤ تارٌخً فً تحدٌد معنى كلمة المصرٌٌن فً‬
‫أمهات الكتب التً تتحدث عن فترة الحكم العربً‪ ،‬وتصؾ العرب القادمٌن حٌنها لمصر بصفة المصرٌٌن‪،‬‬
‫فتنسب للمصرٌٌن الحقٌقٌٌن أعماال ومواقؾ لٌس لهم بها أي عبلقة‪ ،‬وإنما قام بها العرب الذٌن وصفتهم‬
‫الكتب بالمصرٌٌن لتحدٌد مكان إقامتهم ولٌس جنسهم وهوٌتهم‪ ،‬فحٌن تفرقت القبابل العربٌة مع الفتوحات‬
‫فً البلدان‪ ،‬جرى تسمٌة المهاجرٌن باسم البلد الذي ذهبوا إلٌه لتمٌٌزهم عن الباقٌن‪.‬‬

‫ومثبل‪ ،‬فإنه بتعبٌر سٌدة كاشؾ‪ٌ ،‬جدر بنا أن نشٌر إلى أن الذٌن اشتركوا فً الفتن والصراعات الخاصة‬
‫بكرسً الخبلفة لم ٌكونوا من المصرٌٌن‪ ،‬وإنما من الجند العرب الذٌن استقروا بمصر أو من األجناد‬
‫األخرى الذٌن أتوا إلٌها فً عهد الدولة العباسٌة‪ ،‬أما المصرٌون أنفسهم فلم ٌشتركوا فً تلك المنازعات‪،‬‬
‫اللهم إال إذا استثنٌنا معاونتهم إلى حد ما للعباسٌٌن حٌن أسقطوا الدولة األموٌة(‪ )ٕٙ‬عندما ثاروا ضد الوالة‬

‫(ٖٕ)‬
‫‪ -‬الخطط المقرٌزٌة‪ ،‬جٖ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ‪ٔ8‬‬
‫(ٕٗ)‬
‫‪ -‬مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة‪ ،‬سٌدة كاشؾ‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬القاهرة ص ‪ٖٔ8‬‬
‫(ٕ٘)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٖٔ9 -ٖٔ9‬‬
‫(‪)ٕٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة‪ ،‬سٌدة كاشؾ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٗ‪ٙ‬‬

‫ٕٕٓ‬
‫األموٌٌن الظالمٌن‪.‬‬

‫وقبل الؽزو العربً لم ُتستخدم كلمة مصر ومصرٌٌن فً البلد‪ ،‬فهما كلمتان شاعتا على ألسنة أهل‬
‫العراق والشام‪ ،‬واستخدم حكام آشور كلمة "مصري" و"مسري"‪ ،‬فً المراسبلت بٌنهم وبٌن حكام مصر فً‬
‫عصور سابقة‪ ،‬حٌن كان االسم األشهر لمصر هو "كٌمة"‪ ،‬كما وردت فً التوراة باسم "مصراٌم"‪،ٕ9‬‬
‫وؼالبا قصدوا بها ؼالبا ما بٌن منؾ واإلسكندرٌة بالذات‪ ،‬ولذا سارع العرب بإطبلق كلمة مصرٌٌن على‬
‫من سكن فٌهم مدن مصر‪ ،‬وكان بدء استٌطانهم فً هذه المساحة‪ ،‬واشتهرت بهذا االسم (مصر) الفسطاط‬
‫وما حولها بعد أن تحولت العاصمة إلى القاهرة‪ ،‬ثم ع َّم االسم الفسطاط والقاهرة معا‪.‬‬

‫أما أهل البلد فوصفهم العرب بـ "القبط" عموما‪ ،‬ولم ٌصؾ العرب أهل البلد بكلمة فبلح فً عصر‬
‫الوالة‪ ،‬فلم تكن منتشرة‪ ،‬ولكنهم استخدموا كلمة "نبطً"‪ ،‬وتعنً عندهم مزارع‪ ،‬وأطلقوها على من ٌفلح‬
‫األرض وٌستقر فٌها‪ ،‬وورد مثبل فً كتاب من قرة بن شرٌك إلى باسٌل صاحب (مسبول) كوم أشقوة قوله‪:‬‬
‫"من قرة بن شرٌك إلى بسٌل صاحب أشقوة (‪ )...‬أما بعد‪ ،‬فإن مرقس بن جرٌج أخبرنً أنه كان ٌسبل‬
‫نبطٌا من أهل كورتك ثلثة وعشرٌن دٌنرا وثلث دنبر‪ ،‬فٌزعم أن النبطً مات‪ ،‬وأنه أخذ ماله نبطً من أهل‬
‫قرٌته وؼلبه على حقه‪ ،ٕ8)...‬وربما لها عبلقة بكلمة "األنباط" التً تسمت بها دولة األنباط العربٌة (فً‬
‫األردن ) وكان بعض أهلها مستقرون ٌعملون فً الزراعة‪ ،‬واستخدموها فً وصؾ كلمة "الشعر النبطً"‬
‫أي الشعبً أو بلهجات عامٌة‪ ،‬وفً قرون الحقة حٌن انتشر استخدام كلمة فبلح استخدمها العرب‬
‫المستوطنٌن كؤنها " ُسباب" رؼم أنها تعنً صاحب البلد األصلً والذي ٌعٌش بعرقه وساعده فً أرضه‬
‫ولٌس من االستٌبلء على أراضً ؼٌره‪.‬‬

‫أما الفبلح المصري نفسه فً األرٌاؾ فماذا كان ٌسمً نفسه؟ ؼٌر واضح‪ ،‬فلم تهتم كتب المإرخٌن‬
‫المتٌسرة برصد هذا‪ ،‬فهل مثبل ظل ٌسمً نفسه بكلمة "خٌمتٌو" كما كان أجداده ٌسمون أنفسهم كٌمٌتو؟ ‪-‬‬
‫ألنه ظل ٌسمً مصر "خٌمً" من "كٌمً" رؼم نطق المستوطنٌن اإلؼرٌق لها بـ"إٌجٌبتٌوس"‪ -‬أم سمى‬
‫نفسه قبط كمن ٌعٌشون فً المدن؟ وإن كانت األخٌرة مستبعدة ألن أهل الرٌؾ حتى الٌوم لم ٌشٌع بٌنهم‬
‫استخدام كلمة أقباط‪ -‬سواء مسلمٌن أو مسٌحٌٌن‪ -‬خاصة فً الوجه القبلً‪ -‬وحتى وقت قرٌب لم ُتعرؾ كلمة‬
‫أقباط إال فً المدن‪.‬‬

‫▼▼▼ نتابج االستٌطان والفتح العربً‬

‫❶‪ -‬فتح الطرٌق للعرب فً ؼزو مصر‬

‫مثلما عاون المستوطنون الٌونان اإلسكندر حٌن ؼزا مصر وفتحوا له أبوابها‪ ،‬ساهم العرب الذٌن أقاموا فً‬

‫‪ -ٕ9‬للمزٌد عن استخدامات الحٌثٌٌن واآلشورٌٌن والٌهود السم مصر انظر‪ :‬رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬رمضان عبده علً‪ ،‬وزارة اآلثار‪،‬‬
‫جٔ‪ ،‬ص ٓ‪ٖ9ٖ -ٖ9‬‬
‫‪ -ٕ8‬انظر‪ :‬أوراق البردي العربٌة بدار الكتب المصرٌة‪ ،‬أدولؾ جروهمان‪ ،‬ترجمة حسن إبراهٌم حسن‪ ،‬جٖ‪ ،‬دار الكتب المصرٌة‪ ،‬ص ٖٓ‪ٖٔ -‬‬

‫ٕٕٔ‬
‫سٌناء وعلى األطراؾ الشرقٌة لمصر أٌام الٌونان والرومان فً فتح الطرٌق أمام جٌش عمرو بن العاص‬
‫لعلمهم بدروب صحارٌها ومداخل مصر‪.‬‬

‫فحٌن قاد عمرو الجٌش العربً‪ ،‬وبدأ الطلعة األولى بـ ٗ آالؾ مقاتل‪ ،‬أكثرهم من الٌمن‪ ،‬وخاصة قبٌلة‬
‫عك(‪ ،)ٕ9‬استقبلته فً سٌناء قباٌل مثل لخم‪ ،‬وأٌضا قباٌل ؼسان وجذام وعاملة(ٖٓ)‪ ،‬ولٌس متسبعدا أن القباٌل‬
‫التً استوطنت شرق قنا على البحر األحمر ساعدت فً تمكٌنه من الوجه القبلً‪.‬‬

‫❷ دفع الجزٌة والخراج لألجنبً‬

‫بعد حصار وقتال عدة أشهر‪ ،‬وافق المقوقس على عقد صلح مع عمرو ٌخص األقباط‪ٌ ،‬نص على فرض‬
‫جزٌة مقدارها ٕ دٌنار على كل قبطً‪ ،‬عدا الشٌخ الفانً والنساء واألطفال‪ ،‬وأن ٌكون على المصرٌٌن حق‬
‫ضٌافة العرب إن نزلوا على قراهم ٖ أٌام‪ ،‬وذك فً مقابل أن لهم أرضهم وأموالهم ال ٌُعرض لهم فً شًء‬
‫منها(ٖٔ)‪ ،‬وبعضها شروط شبٌهة بالنظام الرومانً الذي فرض الجزٌة على من بلػ الحلم وأعفى النساء‬
‫والشٌوخ واألطفال‪ ،‬وفرض ضرٌبة النزل‪ ،‬أي ضٌافة الجنود الرومان حٌثما حلوا‪.‬‬

‫وحصوا عدد القبط الصالحٌن للجزٌة حٌنها فكانوا أكثر من ‪ ٙ‬آالؾ ألؾ (‪ ٙ‬ملٌون)‪ ،‬علٌهم جزٌة ٕٔ‬
‫ألؾ ألؾ (ٕٔ ملٌون) بحسب رواٌة ابن عبد الحكم الذي نقل رواٌة أخرى أن عددهم كان ‪ 8‬ملٌون‬
‫شخص(ٕٖ)‪ ،‬ما ٌعنً أن الـ ‪ 8 -ٙ‬ملٌون كانوا الشباب‪ ،‬وهذا بخبلؾ الشٌوخ واألطفال والنساء؛ ما ٌعنً أن‬
‫عدد سكان مصر كان فوق ‪ ٔ8‬ملٌونا‪ ،‬معظمهم مصرٌون أقحاح‪.‬‬

‫أما عن الروم فانتهى أمرهم بعد سقوط اإلسكندرٌة فً ٌد العرب إلى رحٌل جنود الروم ومن أراد من‬
‫السكان الروم والجالٌات األجنبٌة من مصر‪ ،‬واإلبقاء على الٌهود فً اإلسكندرٌة‪ ،‬والحفاظ على الكنابس‪،‬‬
‫وفرض جزٌة على من ٌختار البقاء من الروم والٌهود(ٖٖ)‪ ،‬وٌبلحظ شرط الروم اإلبقاء على الٌهود بالذات‬
‫فً مصر‪ ،‬وكؤنهم اعتبروا الٌهود مشكلة‪ ،‬وال ٌرٌدون أن ٌنقلوا فتنهم ودسابسهم إلى روما وبٌزنطة‪ ،‬وآثروا‬
‫ابتبلء مصر بهم‪ ،‬خاصة بعد ما تبٌن من خٌانة الٌهود للروم ودعمهم لفارس خبلل االحتبلل الفارسً الثالث‬
‫لمصر‪.‬‬

‫واختلؾ الخلفاء والوالة فً أسالٌب جمع الجزٌة ما بٌن الشدة واللٌن‪ ،‬وما بٌن االلتزام بالمفروض على‬
‫المصرٌٌن وما بٌن المبالؽة والشطط إلى حد االستنزاؾ والتجوٌع‪ ،‬وفرض جزٌة على من توفى أو أسلم‪،‬‬

‫(‪)ٕ9‬‬
‫‪ -‬فتوح مصر وأخبارها‪،‬ابن عبد الحكم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪٘ٙ‬‬
‫* قبٌلة عك صاحبة التلبٌة الشهٌرة فً الحج قبل البعثة النبوٌة‪ ،‬حٌث كان ٌتقدم موكب حجها عبدان أسودان بلون الؽراب ٌصٌحان‪ :‬نحن ؼرابا‬
‫عك‪ ..‬فتقول عك بعدهما‪ :‬عك إلٌك عانٌة‪ ،‬عبادك الٌمانٌة‪ ،‬كٌما نحج الثانٌة‪" ،‬كتاب األصنام"‪ ،‬أبو المنذر هشام بن حمد بن السابب الكلبً‪ ،‬تحقٌق‬
‫أحمد زكً باشا‪ ،‬دار الكتب المصرٌة‪ ،‬طٖ‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ99٘ ،‬ص ‪ ،7‬فهل كانت هذه القبٌلة البسٌطة تظن أن تساهم ٌوما فً فتح دول كمصر؟‪ ..‬نعم‬
‫إن كانت مصر بشعب بال جٌش‪ ،‬بعدما ؼفل قبل ذلك وسلم جٌشه للمستوطنٌن األجانب‪.‬‬
‫(ٖٓ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬فتوح مصر وأخبارها‪ ،‬ص ‪ ،٘8‬وتارٌخ اللؽة العربٌة فً مصر‪ ،‬أحمد مختار عمر‪ ،‬عالم الكتب‪ ،‬ص ٕٔ‬
‫(ٖٔ)‬
‫‪ -‬فتوح مصر وأخبارها‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓ‪9‬‬
‫(ٕٖ)‬
‫‪ -‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓ‪9‬‬
‫(ٖٖ)‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر لٌوحنا النقٌوسً "رإٌة قبطٌة للفتح اإلسبلمً"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٕٔ‬

‫ٕٕٕ‬
‫وذلك بحسب تقدٌر كل خلٌفة ووالً ما إن كانت مصر فُتحت عنوة أو صلحا‪.‬‬

‫وكتب الخلٌفة عمر بن عبد العزٌز إلى الوالً حٌان بن شرٌح أن ٌجعل جزٌة موتى القبط على أحٌابهم‪،‬‬
‫وهذا فً رأي المقرٌزي ٌدل على أن عمر كان ٌرى أن أرض مصر فتحت عنوة‪ ،‬وأن الجزٌة إنما هً‬
‫على القرى ولٌست على رإوس الرجال‪ ،‬فمن مات من أهل القرى كانت تلك الجزٌة ثابتة علٌهم‪ ،‬وأن موت‬
‫من مات منهم ال ٌضع عنهم من الجزٌة شٌبا(ٖٗ)‪.‬‬

‫ونقل ابن عبد الحكم أن بن العاص قال‪" :‬لقد قعدت مقعدي هذا وما ألحد من قبط مصر علًَّ عهد وال‬
‫عقد إال أهل أنطابلس فإن لهم عهدا ٌوفى لهم به‪ ،‬إن شبت قتلت وإن شبت خمست وإن شبت بعت(ٖ٘)"‪.‬‬

‫وفً نفس الوقت كتب معاوٌة إلى وردان متولً الخراج ٌؤمره بزٌادة الجزٌة عل القبط فؤجابه أنه ال‬
‫ٌستطٌع ألن فٌه نقضا للعهد الذي لهم؛ ما ٌعنً أنها فتحت صلحا(‪.)ٖٙ‬‬

‫كما أورد الببلذري رواٌة عن أحد ولد الزبٌر أنه قال‪" :‬لقد أقمت فً مصر سبع سنوات وتزوجت فٌها‬
‫وكان الناس فٌها ٌفرض علٌهم من األموال ما ال طاقة لهم به‪ ،‬فآذاهم ذلك‪ ،‬مع أن عمرو بن العاص كان قد‬
‫عقد لهم عهدا جعل لهم‪ ،‬فهً شروطا معلومة"(‪ ،)ٖ9‬وقال ابن شهاب إن مصر أخذ بعضها عنوة وبعضها‬
‫صلحا‪ ،‬ولكن عمر جعل أهلها جمٌعا ذمة(‪.)ٖ8‬‬

‫وفً كل األحوال لم ٌمٌز العرب فً جمع الجزٌة بٌن القبط والروم والٌهود‪ ،‬فلم ٌنفذوا وصٌة الرسول‬
‫فً ذلك‪ ،‬فهم ٌنظرون للجمٌع على أنهم "المؽلوبٌن" أو من دٌن مختلؾ و"أهل ذمة" وسكان البلد المفتوحة‬
‫بالقوة‪ ،‬وٌجب أن ٌعاملوا معاملة المهزومٌن‪ ،‬حتى من أسلم من القبط لم ٌصلوا به لمكانة العربً المسلم إال‬
‫قلٌبل‪ ،‬وكانوا ٌسمون القبط المسلمٌن بالموالً‪ ،‬وعادة المحتل فً كل زمان ومكان أن ٌجعل أهل الببلد فً‬
‫مرتبة أقل منه لٌظل له مٌزة التفوق والسٌطرة‪.‬‬

‫وإلى جانب الجزٌة‪ ،‬واصل المصرٌون دفع الخراج للمحتل الجدٌد‪ ،‬والجزٌة هً ضرٌبة الرأس‪،‬‬
‫و ُتفرض على ؼٌر المسلمٌن‪ ،‬والخراج هو ضرٌبة األرض والعقارات وتفرض على الجمٌع عدا العرب‬
‫الحاكمٌن‪ ،‬وقٌمة الخراج مالٌة وعٌنٌة‪ ،‬تشمل المال وضرٌبة الطعام‪ ،‬وهً عبارة عن القمح والعسل‬
‫والزٌت إلخ من منتجات األرض والصناعات القابمة علٌها‪ ،‬وكان ٌُنفق منها على الجند العرب فً مصر‪،‬‬
‫والباقً ٌُرسل إلى مقر الخبلفة فً الخارج‪.‬‬

‫وانتقلت مٌزة اإلعفاء من الضراٌب والجزٌة من الرومان والسكندرٌٌن إلى العرب المقٌمٌن‪ ،‬فكانوا ال‬
‫ٌدفعون شٌبا‪ ،‬وفً المقابل ٌُخصص لهم فً الدٌوان (أي فً الحكومة) مرتبات ومخصصات ٌعٌشون منها‪،‬‬

‫(ٖٗ)‬
‫‪ -‬الخطط المقرٌزٌة‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٕٙ‬‬
‫(ٖ٘)‬
‫‪ -‬فتوح مصر وأخبارها‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪89‬‬
‫(‪)ٖٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪8ٙ‬‬
‫(‪)ٖ9‬‬
‫‪ -‬فتح العرب لمصر‪ ،‬بتلر‪ ،‬ص ‪ٖٗ9‬‬
‫(‪)ٖ8‬‬
‫‪ -‬فتوح مصر وأخبارها‪ ،‬ص ٓ‪9‬‬

‫ٖٕٕ‬
‫وذلك حتى قرار تطبٌق الخراج على العرب والمسلمٌن فً زمن الخلٌفة األموي هشام بن عبد الملك بعد أن‬
‫تزاٌد تملك العرب لؤلراضً الزراعٌة‪ ،‬ومع دخول مصرٌٌن فً اإلسبلم‪ ،‬وهما العامبلن اللذان أدٌا لنقص‬
‫الجزٌة والخراج فً البداٌة؛ فتم فرض الخراج على الجمٌع(‪ ،)ٖ9‬وبقٌت الجزٌة على ؼٌر المسلمٌن‪.‬‬

‫وٌقول ابن عبد الحكم إن عمرو بن العاص سار فً جمع الخراج على منوال ما كان ٌفعل الرومان(ٓٗ)‪.‬‬

‫وعهد العرب لؤلقباط والجباة السابقٌن بؤمورالجباٌة لمعرفتهم بؤحوال البلد‪ ،‬وذكر الواقدي أن عمرا عهد‬
‫إلى أهل القرى باختٌار جباتهم‪ ،‬ولم ٌختلؾ هإالء فً أسالٌبهم وطرقهم عما اعتادوه فً العصر البٌزنطً‬
‫من عسؾ وجور تجاه األهالً‪ ،‬مستؽلٌن أن الوالة المسلمٌن ٌهتمون بالحصول على أكبر قدر من الخراج‬
‫إلرضاء الخلٌفة وحتى ال ٌتهمهم بالتقصٌر فٌفقدوا مناصبهم‪ ،‬فسبق أن معاوٌة أراد أن ٌزٌد على المصرٌٌن‬
‫قٌراطا فً خراج أراضٌهم فلما رفض وردان عامل خراجه قاببل‪" :‬إن عهدكم ٌنص على أال ٌزاد علٌهم"‬
‫عزله معاوٌةٔٗ‪.‬‬

‫واختلفت الرواٌات حول مقدار الخراج الذي جناه العرب من مصر‪ ،‬ولكنه وصل فً أقصاه إلى ٗٔ‬
‫ملٌون دٌنار‪ ،‬وتظهر كتابات متبادلة بٌن عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص أن الخلٌفة عمر كان ؼٌر‬
‫راض عن مقدار الخراج المرسل إلٌه‪ ،‬وٌنتقد ابن العاص ألن أرض مصر كانت فً السابق تقدم خراجا‬
‫أكثر من ذلك‪ ،‬وفً المراسبلت التً نقلها المقرٌزي حدة واتهامات‪ ،‬حتى أن عمر ٌقول له‪" :‬ولم أقدمك إلى‬
‫مصر ألجعلها لك طعمة وال لقومك‪ ،‬ولكن وجهتك لما رجوت من توفٌرك الخراج وحسن سٌاستك‪ ،‬فإذا‬
‫أتاك كتابً هذا فاحمل الخراج فإنما هو فا المسلمٌن‪ ،‬وعندي من قد تعلم قوم محصورون‪ ،‬والسبلم"‪.‬‬

‫فرد عمرو‪ ":‬معاذ هللا من تلك الطعم ومن شر الشٌم واالجتراء على كل مؤثم‪ ،‬فامض عملك فإن هللا قد‬
‫نزهنً عن تلك الطعم الدنٌة‪ ،‬والرؼبة فٌها بعد كتابك الذي لم تستبق فٌه عرضا‪ ،‬ولم تكرم فٌه أخا"‪ ،‬وطلب‬
‫من الخلٌفة أن ٌصبر علٌه حتى تنضج الثمار‪ ،‬وٌحصد المصرٌون الؽبلل ثم ٌزٌد الخراج؛ حتى ال‬
‫ٌضطرهم إلى بٌع ممتلكاتهم(ٕٗ)‪.‬‬

‫وفً تارٌخ الطبري أن عمر بن الخطاب إذا المه أصحابه فً تشدده فً جباٌة الخراج ٌقول لهم‪" :‬إنما‬
‫أنا تاجر للمسلمٌن(ٖٗ)"‪.‬‬

‫ولكن أكثر من كان ٌستفٌد من هذا الخراج هم المسلمون العرب داخل مصر أو فً الجزٌرة العربٌة‬
‫ودمشق وبؽداد‪ ،‬ألن الخراج كان ٌجبى من السكان األصلٌٌن لٌُوزع على العرب الوافدٌن ثم ٌُحمل الباقً‬
‫إلى الحجاز وعواصم الخبلفة‪ ،‬ولم ٌكن لمنفعة المصرٌٌن مسلمٌن وؼٌر مسلمٌن‪ ،‬بل كان ٌُشدد وٌُزاد علٌهم‬

‫(‪)ٖ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬فتوح مصر وأخبارها‪ ،‬ص ٕٓٔ‪ ،‬و ملكٌة اإلراضً الزراعٌة فً القرن التاسع عشر (رسالة دكتوراة)‪ ،‬د‪ .‬حمدي الوكٌل‪ ،‬الهٌبة المصرٌة‬
‫العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٓٓ9 ،‬ص ٕ‪8ٖ -8‬‬
‫(ٓٗ)‬
‫‪ -‬فتوح مصر وأخبارها‪ ،‬ص ٔ٘ٔ‬
‫ٔٗ‪ -‬اانظر‪ :‬لفبلح المصري بٌن العصر القبطً والعصر اإلسبلمً‪ ،‬زبٌدة عطا‪ ،‬ص ٗ‪9٘ -9‬‬
‫(ٕٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الخطط المقرٌزٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬ص ‪ٕٕ9 -ٕٕ9‬‬
‫(ٖٗ)‬
‫‪ -‬تارٌخ الرسل والملوك (تارٌخ الطبري)‪ ،‬أبو جعفر محمد بن جرٌر الطبري‪ ،‬ج ٖ‪ ،‬مرجع سابق‪ٖٗ9 ،‬‬

‫ٕٕٗ‬
‫فً الضراٌب والمشقات لصالح ؼٌرهم باعتبارهم "المؽلوبٌن"‪.‬‬

‫وفً سنة ٕ٘هـ عٌَّن الخلٌفة عثمان بن عفان مسبوال خاصا لتحصٌل الخراج‪ ،‬هو عبد هللا بن سعد بن‬
‫أبً السرح؛ ما أثار ؼضب عمرو بن العاص الذي كان مسبوال عن اإلدارة والخراج معا‪ ،‬وقال له‪" :‬أنا ًإذا‬
‫كماسك البقرة بقرنٌها وآخر ٌحلبها"(ٗٗ)‪ ،‬ورفض عمرو وترك الوالٌة‪.‬‬

‫وتولى محله ابن أبً السرح الذي زاد الخراج إلى ٗٔ مٌون دٌنار فافتخر عثمان به وقال لعمرو‪ٌ" :‬ا أبا عبد‬
‫هللا درَّ ت اللقحة بؤكثر من درها األول"‪ ،‬فرد علٌه عمرو رد العالم ببواطن األمور‪" :‬أضررتم بولدها"‪ ،‬أي‬
‫أرهقت المصرٌٌن(٘ٗ)‪.‬‬

‫وروى ابن عبد الحكم أن عمرو بن العاص أنذر القبط من أخفى منهم كنزا اقتص منه بالقتل‪ ،‬فعلم أن‬
‫مصرٌا اسمه بطرس ٌكتنز ماال أخفاه عند أحد الرهبان‪ ،‬فاستخرج الكنز وقتل صاحبه(‪.)ٗٙ‬‬

‫وٌظهر أن من كان ٌدخل اإلسبلم ال ُترفع عنه الجزٌة فً زمن الخلٌفة األموي عبد الملك بن مروان‬
‫على أساس مشورة من الحجاج بن ٌوسؾ الثقفً والٌه فً الشام‪ ،‬وطبقها عبد العزٌز بن مروان خبلل‬
‫والٌته فً مصر‪ ،‬ورفض هذا األمر عمر بن عبد العزٌز‪ ،‬وأرسل إلى ابن شرٌح ٌعنفه على أخذ الجزٌة‬
‫ممن أسلم بحجة سد النقص فً بٌت المال‪ ،‬قاببل‪" :‬إنما محمد أرسل هادٌا ولٌس جابٌا"‪ ،‬ولكن فً نفس‬
‫الوقت وافق على أنه إذا توفً مسٌحً أو ٌهودي ٌتحمل أهله دفع الجزٌة التً كانت علٌه(‪.)ٗ9‬‬

‫أما أكثر من تفنن فً فرض الضراٌب فكان أحمد بن مدبر‪ ،‬والً خراج مصر‪ ،‬ووصفه المقرٌزي بؤنه‬
‫"من دهاة الناس وشٌاطٌن الكتاب"‪ ،‬وأنه "ابتدع فً مصر بدعا صارت مستمرة من بعده ال تنقض"‪ ،‬ومنها‬
‫ما فرضه على ملح النطرون وحجر علٌه بعد أن كان مباحا لجمٌع الناس‪ ،‬وقرر على الكؤل (المرعى) الذي‬
‫ماال سماه المراعً‪ ،‬وقرر على ما ٌطعم هللا من البحر ً‬
‫ماال وسماه المصاٌد‪ ،‬إلى ؼٌر‬ ‫ترعاه البهابم ً‬
‫ذلك(‪ ،")ٗ8‬وبتعبٌر سٌدة كاشؾ‪ ،‬فقد كانت سٌاسة الخلفاء بوجه عام ترمً الى استؽبلل مصر‪ ،‬وان اختلؾ‬
‫بعضهم عن البعض اآلخر من حٌث درجة االستؽبلل‪ ،‬إذ بٌنما نرى بعض الخلفاء أو والتهم ٌشتط فً جمع‬
‫الضراٌب نرى البعض االخر ٌرى أن من مصلحة الراعً أن ٌقص صوؾ ؼنمه ولٌس من مصلحته أن‬
‫ٌسلخها‪ ،‬وذلك كٌبل ٌجؾ معٌن الببلد وتتؤثر بذلك مالٌة الدولة(‪.)ٗ9‬‬

‫ولعل الخلٌفة األموي سلٌمان بن عبد الملك (‪99 -9ٙ‬هـ) ٌمثل النظرٌة األولى أبلػ تمثٌل حٌن ٌنقل عنه‬

‫(ٗٗ)‬
‫‪ -‬فتوح مصر وأخبارها‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔ78‬‬
‫*** تولى عمرو بن العاص الوالٌة مرتٌن‪ ،‬األولى عقب الفتح ثم تركها ؼاضبا لما نزع منه الخلٌفة عثمان مسبولٌة الخراج‪ ،‬والثانٌة لما أعان‬
‫معاوٌة بن أبً سفٌان فً الحرب ضد علً بن أبً طالب فكافبه بالوالٌة على مصر وبؤن تكون " ُطعمة" له‪ ،‬أي ٌسٌر فً إدارتها وأموالها كٌفما‬
‫شاء‪.‬‬
‫(٘ٗ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٔ‪ٔٙ‬‬
‫(‪)ٗٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪89‬‬
‫(‪)ٗ9‬‬
‫‪ -‬فتوح مصر وأخبارها‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٗ٘ٔ‬
‫(‪)ٗ8‬‬
‫‪ -‬الخطط المقرٌزٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬ص ٘٘ٔ‬
‫(‪)ٗ9‬‬
‫‪ -‬مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٓ‬

‫ٕٕ٘‬
‫أبو المحاسن فً كتابه "النجوم الزاهرة" أنه كتب إلى متولً خراج مصر أسامة بن زٌد التنوخً قاببل‪:‬‬
‫"احلب الدر حتى ٌنقطع‪ ،‬واحلب الدم حتى ٌنصرم"‪.‬‬

‫أما الخلٌفة األموي عبد الملك بن مروان (٘‪ 8ٙ -ٙ‬هـ) فٌمثل النظرٌة الثانٌة بتفضٌل عدم المبالؽة فً جمع‬
‫الضراٌب‪ ،‬فنقل الماوردي فً كتابه "األحكام السلطانٌة" أنه كتب إلى الحجاج بن ٌوسؾ عامله على العراق‪" :‬ال‬
‫تكن على درهمك المؤخوذ أحرص منك على درهمك المتروك‪ ،‬وابق لهم لحوما ٌعقدون بها شحوما"(ٓ٘)‪ ،‬وهذه‬
‫السٌاسة تذكرنا حرفٌا بما قاله اإلمبراطور الرومانً تبٌرٌوس حٌن بالػ والٌه على مصر فً نزع األموال من‬
‫المصرٌٌن‪ ،‬فبلمه وقال له‪" :‬إنما أرسلتك لتجز وبر األؼنام ال لتسلخها"‪.‬‬

‫وشدد قرة بن شرٌك فً كتاب إلى صاحب كورة أشقوة على أال ٌوجد أي مجال للشكوى أو االستٌاء منه‬
‫خبلل جمع الجزٌة‪ ،‬وٌذكره بؤنه مصمم على مكافؤة من ٌسٌر سٌرا حسنا ومعاقبة من "ٌتنكب طرٌق‬
‫العدل(ٔ٘)"‪ ،‬أي أن من ٌحٌد عنه‪.‬‬

‫وتحكً بردٌة من القرن الثالث الهجري محفوظة بدار الكتب ونشرها أودلؾ جروهمان فً كتابه‬
‫"البردٌات العربٌة" الشدة فً جباٌة األموال فً فترتها أنه‪" :‬إذا لم ٌإد كل فرد ما علٌه من األموال ٌُضرب‬
‫ٓٔ سٌاط‪ ،‬وٌؽرم فً صلب ماله دٌنارا"(ٕ٘)‪.‬‬

‫حول الفرس ثم الرومان مصر إلى مزرعة وسلة ؼذاء لببلدهم‪ ،‬فعل كذلك العرب‪ ،‬فبعد الفتح بقلٌل‬ ‫وكما َّ‬
‫أصاب الحجاز قحط عظٌم ومجاعة "عام الرمادة"‪ ،‬فؤرسل عمر بن الخطاب إلى عمرو ٌقول‪ :‬من عبد هللا‬
‫عمر أمٌر المإمنٌن إلى العاص بن العاص‪ :‬سبلم علٌك‪ ،‬أما بعد‪ ،‬فلعمري ٌا عمرو ما تبالً إذا شبعت أنت‬
‫ومن معك أن أهلك أنا ومن معً‪ ،‬فٌا ؼوثاه‪ ،‬ثم ٌا ؼوثاه!"‪ ،‬فرد علٌه عمرو بإرسال المدد‪" :‬لقد بعثت إلٌك‬
‫بعٌر أولها عندك وآخرها عندي"‪ ،‬وعادت تلك البعٌر محملة بالخٌرات(ٖ٘)‪.‬‬

‫ولكن عمر أراد أن ٌكون هذا الؽوث دابما ولٌس مإقتا‪ ، ،‬وٌنقل ابن عبد الحكم عن عمر قوله‪ٌ" :‬ا‬
‫عمرو إن هللا قد فتح على المسلمٌن مصر‪ ،‬وهً كثٌرة الخٌر والطعام‪ ،‬وقد ألقً فً روعً‪ -‬لما أحببت من‬
‫الرفق بؤهل الحرمٌن والتوسعة علٌهم‪ -‬أن أحفر خلٌجا من نٌلها حتى ٌسٌل فً البر‪ ،‬فهو أسهل لما نرٌد من‬
‫حمل الطعام إلى المدٌنة ومكة‪ ،‬فإن حمله على الظهر ٌبعد وال نبلػ معه ما نرٌد"‪ ،‬وسعت القباٌل فً مصر‬
‫إلفشال الفكرة خشٌة أن ٌإثر هذا المدد الدابم على ما تتنعم به فً مصر‪ ،‬ولكن بإلحاح عمر رضخوا له‪،‬‬
‫وأمرهم أن ٌنتهً الخلٌج قبل أن ٌؤتً الحول‪ ،‬فانصرؾ عمرو وجمع لذك من ال َفعلة ما بلػ منه ما أراد‪،‬‬
‫واستمر حمل هذه الخٌرات من مصر عبره حتى بعد عصر عمر بن عبد العزٌز(ٗ٘)‪.‬‬

‫وتدل كلمة ابن عبد الحكم ‪":‬وجمع لذلك من ال َفعلة ما بلػ منه ما أراد"‪ ،‬أن من حفره هم المصرٌون‪،‬‬

‫(ٓ٘)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٖٓ‬
‫(ٔ٘)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕٖ‬
‫(ٕ٘)‬
‫‪ -‬أحمد بن طولون‪ ،‬سٌدة كاشؾ‪ ،‬المإسسة المصرٌة العامة للتؤلٌؾ واألنباء والنشر‪ ،ٔ9ٙ٘ ،‬ص ‪ٔ99 -ٔ98‬‬
‫(ٖ٘)‬
‫‪ -‬فتوح مصر وأخبارها‪ ،‬ابن عبد الحكم‪ ،‬ص ٕٓٔ‪ٖٔٓ -‬‬
‫(ٗ٘)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٖٓٔ‪ٔٓٗ -‬‬

‫‪ٕٕٙ‬‬
‫فالعرب وقتها ال ٌعملون فً الزراعة والصناعة وال ٌعملون إال فً القتال والدٌوان‪ ،‬كما تإشر لظروؾ‬
‫العمل الشدٌدة التً عمل فٌها ال َفعلة لحفر القناة كل هذه المسافة (من النٌل إلى البحر) فً وقت قصٌر‪.‬‬

‫وسمٌت القناة الجدٌدة باسم خلٌج أمٌر المإمنٌن‪ ،‬وتمت فً سرعة قٌاسٌة‪ ،‬إذ كان ٌعمل فٌها عدد عظٌم‬
‫من أهل الببلد ٌساقون إلى ذلك كؤنهم أرقاء(٘٘) بتعبٌر ألفرٌد بتلر‪ ،‬وأشار ٌوحنا النقٌوسً المعاصر للفتح‬
‫إلى أن هذا تم بطرٌق ٌشبه االستعباد حتى لقد وصؾ العرب بكبلم ٌنطق مرارة‪" :‬وكان نٌرهم على أهل‬
‫مصر أشد وطؤة من نٌر فرعون على بنً إسرابٌل‪ ،‬ولقد انتقم هللا منه انتقاما عادال بؤن أؼرقه فً البحر‬
‫األحمر‪ ،‬وأرسل صنوؾ ببلبه على الناس والحٌوان‪ ،‬ونسؤل هللا إذا ما حل حسابه لهإالء المسلمٌن أن‬
‫ٌؤخذهم بما أخذ به فرعون من قبل(‪.")٘ٙ‬‬

‫ولكن‪ -‬فً رأي بتلر‪ -‬الظاهر أن هذه الشدة إنما جاءت عفوا فً وقت الفتح ولم تكن صفة ثابتة لحكومة‬
‫عمرو فً مصر(‪ ،)٘9‬إال أنه سٌتكرر أمثالها فً عصور والة آخرٌن بعده‪ ،‬فقد كان عمرو بما أتاه من قسوة‬
‫أو لٌن أكثر الوالة دهاء وكٌاسة فً اإلدارة‪.‬‬

‫وإجماال‪ ،‬لم ٌكن نظام الجزٌة والخراج ٌختلؾ كثٌرا عما كان علٌه زمن االحتبلل الرومانً‪ ،‬وإن ألؽى‬
‫العرب بعض الضراٌب التافهة التً فرضها الرومان فً بداٌة الفتح‪ ،‬بحسب سٌدة كاشؾ(‪ ،)٘8‬إال أنه عاد‬
‫بعض الوالة فً التفنن فً فرض الضراٌب وأسالٌب نزع الجزٌة‪.‬‬

‫وهكذا كما ٌقول المثل المصري الفصٌح كان الحال "ال على حامً وال على بارد"‪.‬‬

‫❸ طاعون اختالؾ المصرٌٌن فً الموقؾ من عدوهم‬

‫على مدى آالؾ السنٌن ثبتت عقٌدة المصرٌٌن على أنه حٌن ٌقتحم أبواب مصر ؼازي أجنبً‪ -‬أٌا كان‬
‫جنسه ودٌنه وؼرضه‪ -‬فإنهم ٌتحدون ضده بقلب واحد‪ ،‬وٌهوون على رأسه بٌد واحدة‪.‬‬

‫وتابعنا بذرة هذا طاعون اختبلؾ المواقؾ من المحتل فً تقدٌس بعض القبط لئلمبراطور قسطنطٌن‬
‫لمجرد أنه ناصر دٌنهم المسٌحً‪ ،‬أي تقدٌس المحتل باسم الدٌن‪ ،‬وهناك سبب آخر الختبلؾ المصرٌٌن‬
‫حول الؽازي الجدٌد‪ٌ ،‬مكن تسمٌته بـ"حكم العادة"‪ ،‬فطول أمد تعاقب المحتلٌن َّ‬
‫هز هذه العقٌدة المقدسة‬
‫(الموقؾ الواحد ضد المحتل)‪ ،‬وأحدث فً الجسد المصري أوراما خبٌثة لم تخطر ببالهم‪ ،‬وكؤن بعضهم من‬
‫كثرة ما رأى مواكب المحتلٌن بٌض وسود وصفر "راٌحة جاٌة" على مصر ببل انقطاع‪ ،‬سلَّم بؤنه ُكتب على‬
‫مصر أن ٌظل حكامها فً المستقبل أجانب‪ ،‬وأن جٌش مصر لن ٌعود‪ ،‬وصولجانها سٌظل فً األسر‪،‬‬
‫وصاروا بعد عدة احتبلالت ما بٌن موقؾ سلبً من المحتل الجدٌد أو ٌختلفون حوله‪ ،‬فالقابع على عرش‬
‫حور "حورس" مؽتصب أجنبً‪ ،‬والقادم لٌخطؾ منه العرش أٌضا أجنبً‪ ،‬فعلى أي أساس ٌحددون موقفهم‬

‫(٘٘)‬
‫‪ -‬فتح العرب لمصر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖٙ8‬‬
‫(‪)٘ٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬وتارٌخ مصر لٌوحنا النقٌوسً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٕٔ‬
‫(‪)٘9‬‬
‫‪ -‬فتح العرب لمصر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖٙ8‬‬
‫(‪)٘8‬‬
‫‪ -‬مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٗ‬

‫‪ٕٕ7‬‬
‫من هذا وذاك؟‬

‫وفً نفس الوقت‪ٌ ،‬لزم أن نكون حذرٌن ونحن نتحدث عن مواقؾ المصرٌٌن من العرب أو أي احتبلل‬
‫آخر‪ ،‬فمن هم المصرٌون وقتها؟ فتابعنا أن كلمة قبط منذ االحتبلل الرومانً تطلق على المصرٌٌن‬
‫الحقٌقٌٌن وعلى ؼٌرهم من جالٌات تسكن خارج اإلسكندرٌة والمدن المخصصة لئلؼرٌق‪ ،‬وهإالء األخارى‬
‫فً موقفهم من الفاتح الجدٌد ال تتحكم فٌهم إال مصالحهم الخاصة‪ ،‬وفً نفس الوقت هم أكثر المتصدرٌن‬
‫للمشهد ألنهم أصحاب المركز األبرز‪ -‬مقارنة بالمصرٌٌن الحقٌقٌٌن‪ -‬فً الدواوٌن والمدن؛ أي األسرع‬
‫اتصاال بالقادم الجدٌد‪.‬‬

‫ومن سٌر األحداث ٌمكن توقع أن السكان عموما كانوا إزاء الؽزو العربً على ٗ أحوال‪ :‬منهم من اتخذ‬
‫موقؾ الحٌاد والترقب‪ ،‬فالمتحاربان االثنان أجنبٌان‪ ،‬وكبلهما ٌحارب لقنص مصر لنفسه ولٌس ألهلها‪ ،‬وهم‬
‫من دٌن مختلؾ‪ ،‬ومنهم من انضم لجٌش الروم ضد العرب‪ ،‬ومنهم من حارب العرب ورفض التسلٌم لهم كما‬
‫حدث فً دمٌاط ونقٌوس وبلهٌب وسخا وسلطٌس ومصٌل بالوجه البحري(‪ ،)٘9‬وكذلك تانٌس وشطا‪ ،‬وهما‬
‫مدٌنتان شهٌرتان بالمنسوجات واألشعال الٌدوٌة‪ ،‬وسكانها من القبط(ٓ‪ ،)ٙ‬وقال ٌوحنا النقٌوسً إن الوجه البحري‬
‫لم ٌسقط فً ٌد عمرو إال بعد عام(ٔ‪.)ٙ‬‬

‫ومن السكان من انضم للعرب ضد الروم‪ ،‬ومنهم من أشهر إسبلمه‪ ،‬وٌقول ابن عبد الحكم إن األنبا‬
‫بنٌامٌن‪ ،‬بابا األقباط‪ ،‬بعد أن وصله نبؤ قدوم عمرو بن العاص كتب إلى القبط أن ٌساعدوه فصار بعضهم‬
‫أعوانا لعمرو(ٕ‪ )ٙ‬فً بناء الجسور واألسواق والطرق لٌتؽلب على الروم مثلما كانوا أعوانا للقادة الرومان‬
‫الذٌن كانوا ٌنقلبون على اإلمبراطور الرومانً إذا ما كان هذا اإلمبراطور ٌضطهد القبط‪.‬‬

‫وباسم الدٌن‪ ،‬أو االشتراك مع المحتل فً دٌن واحد‪ ،‬سٌإٌد البعض أٌضا المحتل وٌحاربون إخوتهم‪،‬‬
‫فٌقول ٌوحنا النقٌوسً عمن أعلنوا إسبلمهم وأسند لهم عمرو مناصب إنهم اشتدوا فً جمع األموال من‬
‫المسٌحٌٌن للعرب‪ ،‬وصار المسٌحٌون ٌسمونهم بـ"أعداء هللا"‪ ،‬ومنهم من حمل السبلح ضد إخوانهم‬
‫المصرٌٌن لصالح العرب(ٖ‪.)ٙ‬‬

‫والختبلؾ المواقؾ هذا فلٌس كل القبط دخلوا فً الصلح الذي كتبه عمرو عند فتح بابلٌون‪ ،‬فإن هذا‬
‫الصلح دخل فٌه فً البداٌة الموجودون فً الحصن وما حوله(ٗ‪ ،)ٙ‬وانضم البقٌة مرؼمٌن أو مختارٌن إلى‬
‫الصلح بعد إتمام الفتح واستقرار الوضع للعرب بعد سٌطرتهم على اإلسكندرٌة والوجهٌن البحري والقبلً‪.‬‬

‫فً المقابل اختلفت أٌضا معاملة الجٌش العربً للمصرٌٌن ما بٌن الشدة واللٌن‪ ،‬الشدة مع من قاومهم‬

‫(‪)٘9‬‬
‫‪ -‬فتوح مصر وأخبارها‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘‪8‬‬
‫(ٓ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬فتح العرب لمصر‪ ،‬ألفرد بتلر‪ ،‬ص ‪ٖ99‬‬
‫(ٔ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر لٌوحنا النقٌوسً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔ98‬‬
‫(ٕ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬فتوح مصر وأخبارها‪ ،‬ابن عبد الحكم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪٘8‬‬
‫(ٖ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر لٌوحنا النقٌوسً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٕٔ‪ٕٕٕ -‬‬
‫(ٗ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬فتح العرب لمصر‪ ،‬ألفرٌد بتلر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖٓ9 -ٖٓٙ‬‬

‫‪ٕٕ8‬‬
‫واللٌن مع من سكت عنهم أو عاونهم‪ ،‬وكذلك بحسب حاجة العرب للمال‪.‬‬

‫ومن ذلك أورد ٌوحنا النقٌوسً أنه لما طارد العرب الجنود الروم فً نقٌوس فً الوجه البحري دخلوها‬
‫فقتلوا كل من وجدوه فً الطرٌق من أهلها‪ ،‬ولم ٌدعوا رجبل وال امرأة وال طفبل"‪ ،‬ثم انتشروا فٌما حول‬
‫نقٌوس من الببلد فنهبوا فٌها وقتلوا كل من وجدوه بها‪ ،‬وأسروا األطفال والنساء واقتسموهم ؼنابم‪ ،‬ونهبوا‬
‫األسبلب‪ ،‬ورفضت دمٌاط التسلٌم لهم‪ ،‬فٌما أحرقوا مدٌنة "ذات النهرٌن" كما سماها ٌوحنا النقٌوسً بالوجه‬
‫البحري(٘‪.)ٙ‬‬

‫ولما استقر الحال لعمرو ٗٗ‪ ٙ‬م سعى بحنكته لوضع حد للتوتر بٌن المصرٌٌن والعرب‪ ،‬فخطب فً‬
‫مسجده خطبة أوصى فٌها العرب بالقبط قاببل‪" :‬واستوصوا بمن جاورتموه من القبط خٌرا"‪ ،‬مستشهدا‬
‫بحدٌث نبوي نقله عن عمر بن الخطاب أنه سمع الرسول ٌقول‪" :‬إن هللا سٌفتح علٌكم بعدي مصر‬
‫فاستوصوا بقبطها خٌرا فإن لكم منهم صهرا وذمة‪ ،‬كما أوصاهم باستمرار الٌقظة واالستعداد للحرب لكثرة‬
‫الطامعٌن فً مصر "معدن الزرع والمال والخٌر الواسع والبركة النامٌة(‪.")ٙٙ‬‬

‫❹ التباهً بتحول المصرٌات إلى جواري وهداٌا‬

‫ربما لم ٌحصل هذا فً عصر االحتبلل العربً نفسه‪ ،‬وإنما فً عصور تالٌة‪ ،‬ولكنه كان المفتاح لهذا‬
‫االنحراؾ أو القٌح الكبٌر الذي نشؤ فً شخصٌة بعض المصرٌٌن‪ ،‬وعللوه بالدٌن‪ ،‬وهو قبول المحتل‬
‫األجنبً مدام من ذات الدٌن‪.‬‬

‫فتحكً كتب المإرخٌن العرب‪ -‬ولم ٌرد فً القرآن‪ -‬أنه حٌن زار إبراهٌم مصر أهداه ملكها جارٌة‬
‫مصرٌة اسمها هاجر؛ إكراما له‪ ،‬ولما عاد إبراهٌم بهاجر إلى فلسطٌن تزوجها وأنجب منها إسماعٌل‪ ،‬وأنه‬
‫حٌن أرسل محمد صلى هللا علٌه وسلم إلى المقوقس ٌدعوه لئلسبلم أرسل له المقوقس جارٌتٌن قبطٌتٌن هما‬
‫مارٌة وسٌرٌن‪.‬‬

‫وإن كان األمر ٌحتاج إلى تدقٌق أو حذر فً تحدٌد ما إن كانت هاجر ومارٌة وسٌرٌن مصرٌات فعبل أم‬
‫من الجواري المجلوبٌن والمستوطنٌن األجانب‪ ،‬خاصة وأنه لم ٌرد فً اآلثار أو تارٌخ المصرٌٌن أن‬
‫حكامهم اعتادوا على إهداء بنات بلدهم إلى األجانب‪ ،‬أو قبولهم أن ٌتحولنَّ إلى جواري وهداٌا للضٌوؾ‬
‫األجانب‪َّ ،‬إال أن ٌكون حادثة إهداء هاجر ومارٌة وسٌرٌن كجواري جرت فً عصور االحتبلل‪ ،‬وبالفعل‬
‫مارٌة وسٌرٌن تم إ هدابهما كجارٌتٌن على ٌد االحتبلل الرومانً‪ ،‬وتدور تخمٌنات أن زٌارة إبراهٌم لمصر‬
‫جرت أٌام االحتبلل الهكسوسً‪ ،‬أي أن الملك كان هكسوسٌا؛ فتكون هاجر ممن أسرهم المحتل الهكسوسً‬
‫خبلل االجتٌاح‪ ،‬ولكن لم ٌرد أنه فً زمن االحتبلل الرومانً‪ -‬خاصة أواخره‪ -‬أن الرومان ٌؤسرون‬
‫وٌستعبدون المصرٌٌن كؤرقاء وجواري‪ ،‬إال أن ٌكون هذا تم خبلل ثورة من الثورات المصرٌة التً أخمدها‬

‫(٘‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر لٌوحنا النقٌوسً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ ،ٔ99 -ٔ98‬وٕ٘ٓ‪ٕٓٙ -‬‬
‫(‪)ٙٙ‬‬
‫‪ -‬فتح مصر وأخبارها‪ ،‬أبو القاسم بن عبد الحكم‪ ،‬مرجع سابق ص ٓٗٔ‪ٔٗٔ -‬‬

‫‪ٕٕ9‬‬
‫الرومان بكل العنؾ ووسابل اإلذالل‪.‬‬

‫وفً كل األحوال‪ ،‬فإنه إن كان مصرٌات وقعنَّ فً الذل واألسر وتحولنَّ رؼما عنهن إلى جواري على‬
‫ٌد االحتبلل؛ فما مبرر أحفادهنَّ من المصرٌٌن فً عصورنا أن ٌهللوا وٌفرحوا وٌتفاخروا بؤن بعض‬
‫جداتهن َّ تحولنَّ إلى جارٌات ٌهدٌهم المحتل لضٌوفه‪ ،‬وٌتنقلنَّ كالسلع من ٌد لٌد؟‬

‫وٌبرر بعض األحفاد هذا ألنفسهم‪ ،‬وٌمٌتون نخوتهم‪ ،‬بؤن هاجر ومارٌة وسٌرٌن وقعن كجواري فً ٌد‬
‫أنبٌاء‪ ،‬وأن هذا "شرؾ لهنَّ "‪.‬‬

‫والسإال‪ :‬هل األنبٌاء أنفسهم ٌقبلون أن تتحول أمهاتهم وزوجاتهم وبناتهم إلى جواري وهداٌا؟‬

‫بالتؤكٌد ال‪ ..‬فلماذا نقبل على المصرٌات أقل ما ٌلٌق بؤمهات وزوجات وبنات األنبٌاء‪ ،‬مع العلم أن‬
‫المصرٌات هم أبناء األرض التً حملت رسالة العدل والرحمة والعفة والحق وعدم العدوان قبل انتشار‬
‫األنبٌاء‪ ،‬فبل ٌلٌق بهن إال عٌشة المكرمات المُصانات عن كل فعل ٌجرح كبرٌابهن‪.‬‬

‫والسإال لمن ٌبررون القبول بؤن تتحول المصرٌات إلى جواري وهداٌا مادمنَّ سٌقعن فً ٌد أنبٌاء‬
‫وأصحاب األنبٌاء‪ :‬هل الدٌن جاء لٌحرر العبٌد أم لٌستعبد الناس؟‬

‫جاء الدٌن لٌحرر العبٌد‪ ،‬وٌحث الناس على حفظ كرامة بعضهم وحرٌة بعضهم‪ ،‬وربما ما َق ِبل أنبٌاء‬
‫كإبراهٌم ومحمد (ص) تلقً جواري وعبٌد إال ألنه كان "أمر واقع" فً عصرهم‪ ،‬ولدوا فوجدوه‪ ،‬ولكن‬
‫المصرٌٌن الذٌن تكبد أجدادهم طوفان العرق والدم لٌحموا مصر والمصرٌٌن أحرارا فً أرضهم‪ ،‬مصانٌن‬
‫فً عرضهم قبل نزول الرساالت السماوٌة المعروفة وبعدها‪ ،‬بؤي قلب ٌبررون لنخوتهم الفخر بؤن بعض‬
‫جداتهن تحولنَّ لجواري وهداٌا؟‬

‫وربما ٌعود نشر "الفخر" بهذه الحوادث إلى عصور الحقة حٌن تبنى بعض العرب أو المستعربٌن فً‬
‫الشام ما سٌُسمى بالقومٌة العربٌة فً أوابل القرن ٕٓ‪ ،‬ولٌقربوها للمصرٌٌن‪ ،‬ولٌقنعوهم زورا بؤنهم عرب‬
‫ضخموا من قصة هاجر‪ ،‬وأنها "أم العرب"‪ ،‬وأنه ألن هاجر "مصرٌة" إذن فالمصرٌٌن‬ ‫َّ‬ ‫ولٌسوا مصرٌٌن‪،‬‬
‫عرب‪ -‬رؼم أن المصرٌٌن كانوا موجودٌن بالمبلٌٌن قبل مٌبلد هاجر‪ ،‬وقبل معرفتهم بالعرب بآالؾ‬
‫السنٌن‪ -‬وأنه علٌهم أن ٌفتخروا لذلك بـ"العروبة"‪ ،‬وأن مارٌة المصرٌة تحولت هً أٌضا ألم عربً هو‬
‫إبراهٌم ابن الرسول (ص)‪ ،‬وساهم فً دعاٌة مماثلة تنظٌمات دٌنٌة‪ ،‬أي هً ضمن دعاٌة سٌاسٌة‬
‫ألٌدٌولوجٌات مستحدثة هً "القومٌة العربٌة" وؼٌرها‪ ،‬كما سنرى الحقا بالتفصٌل‪.‬‬

‫❺ الفسطاط‪ ..‬مدٌنة جدٌدة محرمة على المصرٌٌن‬

‫كما سار اإلؼرٌق فً تقسٌم اإلسكندرٌة والمدن التً خصصوها ألنفسهم على نمط معٌشتهم فً ببلدهم‪،‬‬
‫بتقسٌمها إلى أحٌاء على األساس القبلً والعرقً‪ ،‬واستبعاد المصرٌٌن منها إال للضرورة‪ ،‬فعل العرب ذلك‬
‫فً الفسطاط‪ -‬التً كانت مزارع وفضاء قبل بنابها‪ -‬وقسموها على نمط معٌشتهم فً جزٌرة العرب‪ ،‬خطط‬

‫ٖٕٓ‬
‫(أحٌاء)‪ ،‬كل حً مخصص لقبٌلة من القباٌل التً صاحبتهم فً الفتح‪.‬‬

‫كما بنى القبط مسجد عمرو بن العاص‪ ،‬والمنارة التً هً عنصر هندسً مؤخوذ من شكل برج الكنٌسة‪،‬‬
‫والمؤخوذ فً األؼلب بدوره من المسلة التً كانت توضع أمام المعابد المصرٌة‪ ،‬وٌبدو أن المنارة كانت فً‬
‫وقت الحق على بناء المسجد‪ ،‬وفً ذلك قال ابن عبد الحكم إن مسلمة بن مخلد األنصاري استعان بؤهل‬
‫مصر لبناء المنار للمساجد سنة ٖ٘ ه(‪)ٙ9‬ـ‬

‫وكل حً داخل الفسطاط له باب مؽلق على أصحابه‪ ،‬ال ٌدخله اآلخرون إال بإذنهم‪ ،‬وٌدٌر الحً شٌخ‬
‫القبٌلة‪ ،‬ولها مسلحوها الذٌن ٌحمونها‪ ،‬خاصة وأن القباٌل دخلت مصر بخصوماتها القبلٌة التً كانت فً‬
‫الجزٌرة العربٌة‪ ،‬وكان صعب علٌهم الخضوع لقانون واحد وقابد واحد‪ ،‬أو لحكم الدولة المركزٌة‪.‬‬

‫❻ زٌادة فرص المصرٌٌن داخل الدواوٌن‬

‫حافظ العرب على الدواوٌن الحكومٌة كما وجدوها فً مصر‪ ،‬وأبقوا على من ظل فً مصر من جالٌات‬
‫االحتبلل الرومانً فً أشؽالهم بها‪ ،‬واشتهروا كبقٌة السكان باسم األقباط‪ ،‬وأسندوا للمصرٌٌن المناصب‬
‫والوظابؾ التً خلت برحٌل أصحابها وذلك لعدم سابق معرفة العرب بالعمل الحكومً وأحوال مصر‪،‬‬
‫واحتفظوا هم بالمناصب العلٌا‪.‬‬

‫وبالتؤكٌد أن رحٌل أعداد كبٌرة من الرومان والٌونان بعد الؽزو العربً تسبب فً خلو أماكن استفاد منها‬
‫مصرٌون كانوا ال ٌجدون هذه الفرص بنفس الشكل فً ظل ازدحام الجالٌات األجنبٌة داخل الدواوٌن‪،‬‬
‫واستفاد العرب من خبرة المصرٌٌن والباقٌٌن من األجانب فً بناء البٌوت والقصور ومسجد عمرو بن‬
‫العاص‪ ،‬وفً الزراعة وإدارة الدواوٌن وؼٌرها من أمور الفنون والعمران‪.‬‬

‫وفً بعض الفترات‪ ،‬استطاع مصرٌون التدرج فً مناصب سٌاسٌة ومالٌة كبٌرة‪ ،‬ومنها ما جاء فً‬
‫كتاب ساوٌرس بن المقفع "تارٌخ البطاركة"‪ -‬الذي وضعه بعد بنحو ٗ قرون من الفتح‪ -‬عن أنه فً عهد‬
‫العباسٌٌن كان ضمن المرشحٌن لبطرٌركة اإلسكندرٌة رجل ؼنً مدٌر دٌوان الوالً اسمه إسحق السٌد ابن‬
‫أندونة(‪ ،)ٙ8‬كذلك فً عصر الوالة أمثلة كثٌرة لحكام المدن والكور من األقباط‪ ،‬وفً والٌة عبد العزٌز بن‬
‫مروان كان له كاتبان قبطٌان إلدارة الوجهٌن القبلً والبحري‪ ،‬وفً نهاٌة عهده كان والً الصعٌد قبطٌا‪،‬‬
‫بحسب سٌدة كاشؾ(‪.)ٙ9‬‬

‫ثم انقلب الحال فً عهد عمر بن عبد العزٌز (‪ ٔٓٔ -99‬هـ) لما سعى إلحبلل المسلمٌن محل المسٌحٌٌن‬
‫حتى فً الوظاٌؾ الصؽٌرة‪ ،‬واستبعد رإساء الكور (المحافظات) المسٌحٌٌن وأحل محلهم المسلمٌن‪ ،‬ولكن‬
‫ٌبدو أن تنفٌذ هذا القرار لم ٌستمر كثٌرا بعد وفاته؛ ألن المسٌحٌٌن ظلوا ٌشؽلون كثٌرا من مناصب الدولة‬

‫(‪)ٙ9‬‬
‫‪ -‬فتوح مصر وأخبارها‪ ،‬ابن عبد الحكم‪ ،‬ص ٖٔٔ‬
‫(‪)ٙ8‬‬
‫‪ -‬تارٌخ البطاركة‪ ،‬ساوٌرس بن المقفع‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ‪9‬‬
‫(‪)ٙ9‬‬
‫‪ -‬مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة‪ ،‬سٌدة كاشؾ‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٖٔٔ‬

‫ٖٕٔ‬
‫لخبرتهم فً العمل اإلداري وشبون مصر(ٓ‪ ،)9‬وطوال العصر األموي تولى مناصب رإساء المالٌة األقباط‪،‬‬
‫وفً بداٌة العصر العباسً حل محلهم رإساء للمالٌة من المسلمٌن‪.‬‬

‫❼ معاناة مصر من صراعات ودماء الخالفة‬

‫خبلل فترة حكم الوالة‪ ،‬تؤثرت مصر بعنؾ بالحروب والمعارك اللً دارت حول الحكم فً الجزٌرة‬
‫العربٌة والشام والعراق‪ ،‬مثلما حدث فً فتنة عثمان‪ ،‬ثم فتنة خلق القرآن‪ ،‬والصراع بٌن آل البٌت‬
‫واألموٌٌن‪ ،‬ثم بٌن األموٌٌن والعباسٌٌن‪ ،‬وبٌن آل البٌت والعباسٌٌن‪.‬‬

‫فهذه المعارك انتقل صداها إلى العرب القاطنٌن فً مصر‪ ،‬فكانوا ٌرسلون أفرادهم للمشاركة فٌها‪ ،‬أو‬
‫ٌؤتً إلٌهم خصومهم من الخارج لمحاربتهم ومطاردة الفارٌن إلى مصر‪ ،‬وٌسقط بٌن سنابك خٌلهم‬
‫مصرٌون ال ذنب لهم فٌها‪ ،‬بل وال ٌدرون حتى من هم المتحاربون‪ ،‬وعلى ماذا ٌتحارب هإالء‪.‬‬

‫وفً نفس التوقٌت بدأ ٌظهر مذهب الشٌعة على ٌد عبد هللا بن سبؤ‪ ،‬وهو بحسب ما ٌصفه مإرخون‬
‫"فارسً الثقافة ٌمنً النشؤة من أهل صنعاء" (وربما فارسً من الفرس الذٌن استنجد به الٌمنً سٌؾ بن‬
‫زي ٌزن لٌنصروه ضد الؽزاة ألحباش فانتهزوا الفرصة واستوطنوا الٌمن لٌسٌطروا علٌه‪ ،‬وأثار حنقهم‬
‫سٌطرة العرب على الٌمن وفارس)‪ ،‬كان ٌلؾ الببلد ٌدعو للثورة على عثمان بن عفان بحجة أنه "اؼتصب"‬
‫الخبلفة من علً بن أبً طالب‪ ،‬وادعى أن جزءا إلهٌا ح َّل فً علً‪ ،‬ولذا وجب طاعته واألبمة من صلبه‬
‫من بعده‪ ،‬وهنا بداٌة انقسام المسلمٌن إلى بدعة سنة وشٌعة التً حملت طوفان دم لم ٌنقطع حتى الٌوم‪،‬‬
‫وانكوت به مصر رؼم أنه لٌس لها شؤن فً أطماع وصراعات واختراعات هذا وذاك‪ ،‬بل إن المسلمٌن من‬
‫أهلها حتى ذلك الوقت ندرة ال ُتذكر‪.‬‬

‫ونجح ابن سبؤ فً تؤلٌب بعض القباٌل والجند العرب ضد عثمان ألسباب كانت مهٌؤة‪ ،‬أو تم تهٌؤتها‬
‫واستؽبللها للثورة الدموٌة(ٔ‪ ،)9‬ومنها ؼٌرة القباٌل من بنً أمٌة ألنهم فازوا بمعظم المناصب والثروات‪،‬‬
‫واستؽبلل أخطاء بعض الوالة وأقارب عثمان‪ ،‬مثل أخطاء أخٌه من أمه الولٌد بن عقبة الذي قٌل إنه كان‬
‫ٌصلً وهو سكران‪ ،‬واتسعت داٌرة الدم والقتال بٌن القباٌل بمقتل الحسٌن بن علً حفٌد الرسول (ص)‪،‬‬
‫وطمع عبد هللا بن الزبٌر فً أخذ الخبلفة لنفسه‪ ،‬مستؽبل ؼضب بعض المسلمٌن من زٌد‪ ،‬فؤلَّب ضده الشام‬
‫والعراق والحجاز والٌمن والقباٌل الوافدة فً مصر‪ ،‬وباٌعته بعضها خلٌفة‪ ،‬متحدٌن الوالة األموٌٌن فً‬
‫مصر وخاصة مروان بن الحكم(ٕ‪.)9‬‬

‫وقاد الخلٌفة مروان بن الحكم قبل وفاته مع ابنه عبد العزٌز بن مروان جٌشا جرارا إلى مصر لخلع‬
‫(ٓ‪)9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٔٔ9 -ٔٔ8‬‬
‫(ٔ‪)9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٘‪ٙ9 -ٙ‬‬
‫(ٕ‪)7‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الثورات الشعبٌة فً مصر اإلسالمٌة‪ ،‬حسٌن نصار‪ ،‬الهٌبة العامة لقصور الثقافة‪ ،‬طٕ‪ ،‬ص ٓٗ‪ٗٔ -‬‬
‫*** والخوارج فبة من الناس تخرج فً كل عصر عن الحاكم‪ ،‬تدعً أنه ظالم وأنها موكلة بتؽٌٌره إلقامة العدل‪ ،‬وبعد تؽٌٌر الحاكم تسعى لتبدٌله‬
‫بحاكم جدٌد بثورة جدٌدة‪ ،‬وهكذا‪ ،‬ال ٌستقرون على أحد‪ ،‬فمثال‪ ،‬شاركوا فً فتنة عثمان بن عفان ثم فً الثورة ضد علً بن أبً طالب بزعم الثؤر‬
‫لدم عثمان‪ ،‬وبعد قتل ع لً انضموا البنه الحسٌن لتحرٌضه على أخذ الخالفة لنفسه‪ ،‬وبعد قتله اتجهوا لتحرٌض بن الزبٌر‪ ،‬وهكذا‪ ..‬للمزٌد‪ :‬تارٌخ‬
‫الجمعٌات السرٌة والحركات الهدامة فً المشرق‪ ،‬محمد عبد هللا عنان‪ ،‬دار البنٌن للنشر والتوزٌع‪ ،‬ص ٘ٔ‬

‫ٕٖٕ‬
‫الوالً الذي عٌنه عبد هللا بن الزبٌر بدعم من بعض القباٌل‪ ،‬وبعد معارك طاحنة مع أنصار بن الزبٌر‬
‫الرافضٌن مباٌعة مروان‪ ،‬تم قتلهم‪ ،‬وعٌَّن ابنه عبد العزٌز بن مروان والٌا على مصر(ٖ‪.)9‬‬

‫وفً نهاٌة الخبلفة األموٌة ظهر نوع جدٌد وشدٌد من الصراع‪ ،‬هو الخبلؾ بٌن األموٌٌن وبنً العباس‬
‫بن عبد المطلب‪ ،‬أوالد عم علً بن أبً طالب‪ ،‬كان فٌه الطرؾ األخٌر ٌرى أنه األحق بالخبلفة من‬
‫األموٌٌن‪ ،‬لقرب صلته بالرسول وبآل البٌت‪ ،‬وكلها حجج دٌنٌة ألطماع سٌاسٌة‪.‬‬

‫ودار العباسٌون فً الببلد ٌنشرون التحرٌض والثورة ضد الحكم األموي‪ ،‬مستعٌنٌن فً ذلك بالضؽط‬
‫على النعرة القبلٌة تارة‪ ،‬وبالشٌعة والموالً من الفرس تارة‪ ،‬ففً مصر حرضوا القباٌل العربٌة الٌمنٌة‬
‫المناوبة لبنً أمٌة ضد القباٌل العربٌة المضرٌة (نسبة لبنً مضر) المإٌدة لهم‪ ،‬وبدأ الجند المنتمٌن للقباٌل‬
‫المناوبة لبنً أمٌة فً التمرد على الخلٌفة‪ ،‬وخاصة فً عهد الخلٌفة مروان بن محمد ‪ٕٔ9‬هـ‪.‬‬

‫وظهرت من جدٌد حركة الخوارج فً مصر لتهٌٌج القباٌل على بعضها البعض وعلى بنً أمٌة‪،‬‬
‫وٌطرطشون بسمومهم على المصرٌٌن الذٌن ال مصلحة لهم عند هذا وال ذاك‪.‬‬

‫ففً سنة ‪ ٔٔ9‬ه خرج وهٌب الٌحصبً من الخوارج الوافدٌن من الٌمن على الوالً الولٌد بن رفاعة‬
‫لسماحه للمسٌحٌٌن فً مصر ببناء كنٌسة‪ ،‬وأتى إلٌه لٌفتك به‪ ،‬فعاجله بن رفاعة وقتله‪ ،‬فصارت زوجة‬
‫وهٌب تطوؾ على المنازل لٌبل تحرض الناس على طلب دم زوجها‪ ،‬فخرجوا على الوالً‪ ،‬واقتتل الفرٌقان‬
‫فً جزٌرة الروضة بالمنٌل(ٗ‪ ،)9‬أما الخلٌفة مروان بن محمد‪ ،‬الشهٌر بمروان الحمار‪ ،‬فبعد هزٌمته على ٌد‬
‫العباسٌٌن بمعونة الفرس الخرسانٌٌن فً معركة "الزاب" بالعراق فرَّ لمصر ٌحتمً بها‪ ،‬لكن العباسٌون‬
‫تتبعوه وقتلوه فً أبو صٌر(٘‪.)9‬‬

‫ولنا أن نتخٌل أن كل هذه المعارك ورمح الخٌول وصلٌل السٌوؾ وهً تتعارك داخل القرى والمدن‬
‫المصرٌة التً ٌهرب إلٌها المتحاربون‪ ،‬مع ما ٌترتب على هذا من تخرٌب فً الزرع وفً البٌوت وسقوط‬
‫مصرٌٌن قتلى ببل ذنب‪.‬‬

‫وبهذا أسدل الستار على خبلفة بنً أمٌة داخل مصر‪ ،‬وبدأ فصل جدٌد من فصول الخبلفة وصراعاتها‬
‫وتعذٌب مصر بسببها‪ ،‬هً الخبلفة العباسٌة‪.‬‬

‫اندار العباسٌون لمصر‪ ،‬وقتلوا كثٌرا من أنصار بنً أمٌة‪ ،‬وأسروا آخرٌن‪ ،‬وصارت مصر بداٌة من‬
‫سنة ٕٖٔهـ‪ 9٘ٓ/‬م تابعة للخبلفة العباسٌة فً العراق‪ ،‬واختار الوالً العباسً على مصر‪ ،‬صالح بن علً‪،‬‬
‫إنشاء عاصمة جدٌدة سماها العسكر‪ ،‬شمال شرق الفسطاط‪ ،‬ألنهم جعلوها مقر عسكر الدولة العباسٌة‪،‬‬

‫(ٖ‪)9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪8ٔ -9ٙ‬‬
‫(ٗ‪)9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الثورات الشعبٌة فً مصر اإلسبلمٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓٗ‬
‫(٘‪)9‬‬
‫‪ -‬تارٌخ الخلفاء‪ ،‬جبلل الدٌن السٌوطً‪ ،‬دار ابن حزم‪ ،‬ط ٔ‪ ،‬بٌروت‪ ،ٕٖٓٓ ،‬ص ٖٕٓ‬

‫ٖٖٕ‬
‫ومعظمهم من الفرس ثم األتراك(‪.)9ٙ‬‬

‫وتوصؾ فترة الحكم العباسً لمصر بؤنها "محنة عظمى"‪ ،‬ألن الوالة العباسٌٌن اشتطوا فً جمع أكبر‬
‫كم من المال وإرساله للخلٌفة‪ ،‬ونشط الخوارج فً زرع القبلقل بالتحرٌض ضد المصرٌٌن ألنهم مسٌحٌون‪،‬‬
‫وؼرقت مصر فً مستنقع الفتن والمعارك بٌن المتصارعٌن على الحكم‪.‬‬

‫ومن هذه المعارك ما دار بٌن العباسٌٌن وقباٌل عربٌة ظلت على انتمابها للحكم األموي‪ ،‬وأشهرها‬
‫معركة قادها دحٌة بن مصعب بن األصبػ بن عبد العزٌز بن مروان حٌن أعلن الخروج على الخلٌفة‬
‫العباسً الثالث محمد المهدي‪ ،‬وكان مقٌما فً الوجه القبلً‪ ،‬وحشد القباٌل التً أقامت هناك حتى امتلكوا‬
‫زمام أمره‪ ،‬وكادوا أن ٌستقلوا به‪ ،‬وبعد جوالت من القتال نجح والً مصر الفضل بن صالح‪ ،‬فً عهد‬
‫الخلٌفة موسى الهادي‪ ،‬أن ٌؤسر دحٌة‪ ،‬وقطع رأسه‪ ،‬وصلبه‪ ،‬وأرسل الرأس إلى الخلٌفة(‪.)99‬‬

‫وفً عهد المتوكل الذي تولى الحكم سنةٕٖٕهـ أمر بإخراج العلوٌٌن (شٌعة) من مصر‪ ،‬فخرج كثٌر‬
‫منهم للعراق والمدٌنة المنورة‪ ،‬وعاش جزء آخر فً مصر متخفٌا‪ ،‬ولكنهم استمروا فً مإمراتهم سرا‪ ،‬وفً‬
‫القرن الثالث الهجري خرج علوي شٌعً اسمه ابن األرقط على الحكم العباسً‪ ،‬فطرده الوالً من مصر‪،‬‬
‫وبعده ظهر علوي فً الوجه القبلً اسمه "بؽا األكبر" (تركً)‪ ،‬لكنه هُزم وفر‪ ،‬وبعده ظهر "بؽا األصؽر"‬
‫فً منطقة بٌن اإلسكندرٌة وبرقة لكن أحمد بن طولون قتله‪ ،‬وفً إسنا بقنا ظهر علوي اسمه ابن الصوفً‪،‬‬
‫أرسل إلٌه بن طولون بجٌش حاربه‪ ،‬ففر إلى المدٌنة المنورة(‪.)98‬‬

‫ومن أشد الفتن أٌضا التً أصاب مصر شررها كانت فتنة األخوٌن األمٌن والمؤمون‪ ،‬وهً باختصار أن‬
‫الخلٌفة هارون الرشٌد أوصى بالخبلفة لؤلمٌن وبوالٌة العهد للمؤمون‪ ،‬لكن األمٌن لم ٌنفذ وصٌة أبٌه‪ ،‬وخلع‬
‫أخٌه من والٌة العهد‪ ،‬ومنحها البنه موسى‪ ،‬فانقسم الوالء فً األمصار بٌن األمٌن والمؤمون‪.‬‬

‫وفٌما ٌخص مصر‪ ،‬أرسل األمٌن للقباٌل العربٌة المقٌمة بها ٌطلب مناصرتها‪ ،‬وفً نفس الوقت أرسل‬
‫لها المؤمون ٌطلب مناصرتها‪ ،‬وانقسمت القباٌل كعادتها بٌن تؤٌٌد هذا وذاك‪ ،‬وانتقلت الحرب بٌن األخٌن إلى‬
‫مصر‪ ،‬وواجهت القباٌل بعضها بالسبلح‪ ،‬وكانت تخلع الوالة العباسٌٌن على أساس انتماءاتهم لؤلخٌن‪ ،‬وظل‬
‫الموقؾ ملتهبا حتى قتل المؤمون أخٌه الخلٌفة األمٌن سنة ‪ ٔ98‬هـ‪ ،‬لكن لم تنته الحرب بٌن أنصار االثنٌن‪،‬‬
‫فؤنصار األمٌن المقتول سعوا لبلستقبلل بحكم مصر كً ال ٌخضعوا للمؤمون‪ ،‬وبعضهم سٌطر لفترة على‬
‫الوجه البحري بقٌادة عبد العزٌز بن الوزٌر الجوري‪ ،‬والسٌطرة على الفسطاط والوجه القبلً بقٌادة السري‬
‫بن الحكم(‪.)99‬‬

‫وطالت نار معارك الطمع األسكندرٌة وعنها قال المقرٌزي‪" :‬فانتهبت النصارى باإلسكندرٌة وأ ُحرقت‬

‫(‪)7ٙ‬‬
‫‪ -‬راجع تفسٌر د‪ .‬عبد الجواد مجاهد ألصل كلمة عسكر وعالقتها بالمرتزقة الكا رٌٌن القادمٌن لمصر من آسٌا الصؽرى (تركٌا حالٌا) فً الجزء‬
‫الخاص بنتابج االحتالل الخاسوتٌمً بعد األسرة ٕٓ‬
‫(‪)99‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر فً عصر الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘‪89 -8‬‬
‫(‪)98‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٓ‪9ٔ -9‬‬
‫(‪)99‬‬
‫‪ -‬انظر مصر فً عصر الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓ‪9٘ -9‬‬

‫ٖٕٗ‬
‫لهم مواضع عدٌدة‪ ،‬وأ ُحرقت دٌارات وادي هبٌب ونهبت‪ ،‬فلم ٌبق بها من هربانها إال نفر قلٌل(ٓ‪.")8‬‬

‫وهكذا تحولت مصر فً العصر العباسً أٌضا إلى جمرة حمراء ومٌدان قتال وفوضى بٌن أحزاب‬
‫أجنبٌة فً كافة أرجابها ببل انقطاع‪ ،‬وكلها ألسباب قبلٌة وسٌاسٌة بحتة‪ ،‬تسترت بالدٌن ود َّنست راٌته‪ ،‬فً‬
‫صورة مكررة للصراعات بٌن الجالٌات واألعراق والطواٌؾ األجنبٌة أٌام الٌونان والرومان‪ ،‬ثم تمترست‬
‫فً معاركها ضد بعضها بالدٌن أٌضا بعد قدوم المسٌحٌة‪ ،‬وكل هذا فً تنافر تام مع طبٌعة الفبلحٌن‬
‫المصرٌٌن الذٌن لم ترصد اآلثار فً تارٌخهم الطوٌل القدٌم أمثال هذه الصراعات الدامٌة بٌن بعضهم إال‬
‫نادرا‪.‬‬

‫❽ تحقٌر المصرٌٌن‪ ..‬عمدا‬

‫ظهر أٌام االحتبلل الٌونانً والرومانً التمٌٌز بٌن المصرٌٌن ومحتلٌهم واضحا فً تقدٌرات الجزٌة‬
‫والضراٌب وأعمال السخرة‪ ،‬وأٌضا فً المبلمح واللؽة والعادات والمبلبس‪ ،‬فظلت مبلبس المصرٌٌن‪ -‬فً‬
‫األرٌاؾ‪ -‬تدل علٌهم‪ ،‬وال ٌرتدي مبلبس المحتلٌن إال القلٌل ممن ٌجدون فرصة فً العمل أو التعلٌم داخل‬
‫الحشد األجنبً بالمدن الكبرى‪.‬‬

‫وبدخول المسٌحٌة مٌَّز مصرٌون أنفسهم عن إخوتهم الذٌن لم ٌدخلوا المسٌحٌة بؤن اتخذ بعضهم شكل‬
‫"القدٌسٌن" فً المبلبس ذات الطابع القادم من ببلد الشام أو الٌونانً والرومانً وتربٌة اللحٌة الكثٌفة التً لم‬
‫تكن سمة للوجوه المصرٌة‪ ،‬بل سمة آسٌوٌة دخٌلة‪ -‬أو هكذا ظهرت صورهم فً األٌقونات والصورة التً‬
‫رُسمت لهم فً عصور الحقة‪.‬‬

‫أما فً االحتبلل العربً وحتى العثمانلً فشهد تفرٌق بٌن المصرٌٌن فً الملبس بالقانون اإلجباري‪،‬‬
‫وذلك أن بعض الوالة ألزموا المسٌحٌٌن منهم بلبس عمامة زرقاء وربط زنار فً الوسط ولون معٌن‬
‫للحذاء‪ ،‬وأول من بدأ هذا الخلٌفة عمر بن عبد العزٌز‪ ،‬فٌقول ابن عبد الحكم إنه كتب لعماله‪" :‬ال ٌمشً‬
‫نصرانً إال مفروق الناصٌة‪ ،‬وال ٌلبس قباء‪ ،‬وال ٌمشً إال بزنار من جلود‪ ،‬وال ٌلبس طٌلسانا وال سراوٌل‬
‫ذات خدمة‪ ،‬وال نعبل لها عذبة"(ٔ‪.)8‬‬

‫وقال القلقشندي إن من أشكال التمٌٌز منع ؼٌر المسلمٌن من إرسال الضفابر كما تفعل األشراؾ(ٕ‪،)8‬‬
‫فاعتبر أن المسلمٌن الوافدٌن من الجزٌرة العربٌة والشام والعراق وفارس والترك هم األشراؾ‪ ،‬وأوالد البلد‬
‫ؼٌر أشراؾ‪ ،‬برؼم أن الوافدٌن أخذوا البلد بقوة السبلح ال بقوة الشرؾ‪ ،‬وفً عهد الخلٌفة العباسً المتوكل‬
‫على هللا (ٕٖٕ‪ ٕٗ9 -‬هـ)‪ ،‬الذي وصفه ساوٌرس ابن المقفع بـ"الشرٌر" وقع اضطهاد منظم‪ ،‬فقد عٌَّن والٌا‬
‫اسمه عبد المسٌح بن اسحق مسبولٌة الخراج‪ ،‬وهو مسٌحً دخل فً اإلسبلم‪ ،‬وأمره بؤن ٌهدم الكناٌس‪،‬‬
‫وٌكسر الصلبان‪ ،‬وٌمنع الصبلة على المسٌحً المٌت‪ ،‬وبعدم دق األجراس‪ ،‬وأال ٌلبس المسٌحٌٌن والٌهود‬

‫(ٓ‪)8‬‬
‫‪ -‬الخطط المقرٌزٌة‪ ،‬ج ٖ‪ ،‬ص ‪9ٙ9‬‬
‫(ٔ‪)8‬‬
‫‪ -‬المجتمع المصري فً مصر اإلسبلمٌة من الفتح العربً وحتى العصر الفاطمً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ‪9ٖ -9‬‬
‫(ٕ‪)8‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٘‪9‬‬

‫ٖٕ٘‬
‫مبلبس بٌضاء لٌمكن تمٌٌزهم عن المسلمٌن‪ ،‬وأن توضع رسوم ساخرة على أبواب المسٌحٌٌن‪ ،‬وألزم‬
‫كثٌرٌن بدخول الدٌن اإلسبلمً‪ ،‬وأال ٌعمل بالحكومة إال المسلمٌن(ٖ‪.)8‬‬

‫وبحسب المقرٌزي‪ ،‬فإنه أٌضا أمر بؤن ٌلبسوا طٌلسانة عسلٌة (الطٌلسان ٌشبه طرحة أو شال ٌلقى على‬
‫الكتفٌن أو الرأس)‪ ،‬وٌلبسون الزنانٌر وحزام خاص بـ "أهل الذمة"‪ ،‬وٌلبسون دراعتٌن عسلٌتٌن (الدراعة‬
‫قمٌص مفتوح من األمام حتى مكان القلب ومزٌن بالزراٌر)‪ ،‬وأن ٌكون ركوبهم فقط الحمٌر والبؽال‪ ،‬وأن‬
‫ٌضعوا أمام بٌوتهم أعمدة خشب ورسوم شٌطانٌة للتفرٌق بٌنها وبٌن بٌوت المسلمٌن‪ ،‬وبؤال ٌتعلم أوالد‬
‫المصرٌٌن المسٌحٌٌن فً الكتاتٌب مع أوالد المسلمٌن‪ ،‬وأال ٌعلمهم معلم مسلم‪ ،‬وأال ٌرفعوا الصلٌب فً‬
‫احتفاالتهم الدٌنٌة‪ ،‬وأمر بتسوٌة قبورهم كً ال تتشابه مع قبور المسلمٌن‪ ،‬ومنع االحتفال بعٌد الشعانٌن‬
‫(رؼم أنه كان عٌدا ٌحتفل به المصرٌون جمٌعهم حتى من ٌدخل اإلسبلم)(ٗ‪.)8‬‬

‫وبوصؾ بن المقفع‪" :‬فترك اإلٌمان كثٌرون من فقراء اإلٌمان من شدة الضٌقات‪ ،‬ونسوا رحمة هللا‪ ،‬بٌنما‬
‫صرخ ؼٌرهم إلى الرب لٌنقذهم من هذا الكرب" فً إشارة إلى ترك الكثٌرٌن للمسٌحٌة على أثر ذلك‪.‬‬

‫وأرجع مإرخون ما ٌتعلق بالتضٌٌق فٌما ٌخص المبلبس إلى عهد عمر بن الخطاب‪ ،‬رؼم أن هذا لم ٌرد‬
‫فً القرآن ولم ٌؤمر به النبً (ص)‪ ،‬فٌنقل المقرٌزي أنه أمر بؤن تختم فً رقاب أهل الذمة بالرصاص‬
‫وٌظهروا مناطقهم وٌجزوا نواصٌهم‪ ،‬وأال ٌتشبهون بالمسلمٌن فً ملبوسهم(٘‪ ،)8‬وواضح أن والة توسعوا‬
‫بعسؾ فً هذا األمر‪ ،‬ووالة آخرون لم ٌلتزموا به فً كل األوقات‪.‬‬

‫واتسم العرب بالبساطة والتواضع فً بداٌة حكمهم إال أنه مع زٌادة الفتوحات وتدفق األموال وشعورهم‬
‫بؤنهم تفوقوا على البلدان ذات الحضارات القدٌمة وأن ببلدهم مهبط الدٌن الخاتم‪ ،‬تضخمت ذواتهم كالٌونان‬
‫والرومان وحدث تؽٌٌر واضح فً معاملتهم لؤلهالً‪ -‬كما ورد فً رصد سٌدة كاشؾ لتطور العبلقة‪ -‬حتى‬
‫نقل المقرٌزي عن معاوٌة بن أبً سفٌان قوله الكرٌه‪" :‬وجدت أهل مصر ثبلثة أصناؾ‪ ،‬فثلث ناس‪ ،‬وثلث‬
‫ٌشبه الناس‪ ،‬وثلث ال ناس‪ ،‬فؤما الثلث الذٌن هم الناس فالعرب‪ ،‬والثلث الذٌن ٌشبهون الناس فالموالً ]أي‬
‫ؼٌر العرب ممن دخلوا اإلسبلم[ ‪ ،‬والثلث الذٌن ال ناس فالمسالمة‪ٌ ،‬عنً القبط"‪ ،‬وتفننوا فً وصؾ‬
‫المصرٌٌن بالجبن والمكر‪ ،‬فنقل المقرٌزي أٌض عمن اسماه بـ"ابن العربٌة" عن أهل مصر‪" :‬عبٌد لمن‬
‫ؼلب‪ ،‬أكٌس الناس صؽارا‪ ،‬وأجهلهم كبارا"‪ ،‬وعن ابن عباس‪" :‬المكر عشرة أجزاء‪ ،‬تسعة منها فً القبط‪،‬‬
‫وواحد فً سابر الناس"‪ ،‬وعن كعب األحبار أن "خٌر نساء على وجه األرض نساء أهل البصرة‪ ،‬إال ما‬
‫ذكر النبً (ص) عن نساء قرٌش‪ ،‬وشر نساء على وجه األرض نساء أهل مصر"‪ ،‬وعن عبد هللا بن عمرو‪:‬‬
‫"ولما هبط إبلٌس وضع قدمه بالبصرة‪ ،‬وفرخ بمصر" (‪.)8ٙ‬‬

‫(ٖ‪)8‬‬
‫‪ -‬تارٌخ البطاركة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔٓٔ‬
‫(ٗ‪)8‬‬
‫‪ -‬انظر‪" :‬القول اإلبرٌزي للعبلمة المقرٌزي"‪ ،‬المعروؾ باسم تارٌخ األقباط لصاحبه مٌنا إسكندر‪ ،‬والجامع لكل ما ذكره المقرٌزي عن األقباط‪،‬‬
‫دار الفضٌلة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٕٓٔ‪ٖٔٓ -‬‬
‫(٘‪)8‬‬
‫‪ -‬الخطط المقرٌزٌة‪ ،‬جٔ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٕٕ‬
‫(‪)8ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة‪ ،‬ص ٗٔٔ‪ ،ٔٔ٘ -‬والخطط المقرٌزٌة‪ ،‬جٔ‪ ،‬ص ٓ٘ٔ‪ٔ٘ٔ -‬‬

‫‪ٕٖٙ‬‬
‫وحدث فً عهد هارون الرشٌد (ٓ‪ ٔ9ٖ -ٔ9‬ه) أن تحامل القاضً محمد بن مسروق الكندي على أهل‬
‫مصر؛ فؤمعنوا الطعن فٌه ودعوا علٌه فً المساجد‪ ،‬فوقؾ على باب المقصورة وصاح‪" :‬أٌن أصحاب‬
‫األكسٌة العسلٌة‪ ...‬؟"‪ ،‬وربما قصد بقوله "أصحاب األكسٌة العسلٌة" التحقٌر من شؤن المصرٌٌن المسلمٌن‬
‫الذٌن انحدروا من أهل الذمة ]أي كانوا مسٌحٌٌن وأسلموا[ والذٌن كانوا ٌتمٌزون عن المسلمٌن بلبس‬
‫المبلبس العسلٌة اللون(‪.)89‬‬

‫فبل كون المصرٌٌن أسلموا أم لم ٌسلموا ٌجعلهم متساوٌن فً نظر الفاتحٌن مع العرب الوافدٌن‪.‬‬

‫❾ تورم عقدة الخواجة‬

‫ٌقول المثل المصري الفصٌح‪" :‬كتر النواح ٌعلم البكا"‪ ،‬ونقط المطر مهما كانت صؽٌرة دوام هطولها‬
‫على الجبل ستترك فٌه عبلمات وندوب وتشوهات وحفر تكبر مع الزمن‪.‬‬

‫وتابعنا كٌؾ أن أسالٌب التحقٌر المتعمد التً اتبعها المحتلون السابقون ضد المصرٌٌن فً دٌنهم أو‬
‫حضارتهم أو لؽتهم أو مبلبسهم َّأثرت فً بعضهم‪ ،‬خاصة من ٌتعلم منهم وٌتطلع ألخذ نصٌب من الوظاٌؾ‬
‫أو المكانة التً ٌتمتع بها األجانب فً ببلده‪ ،‬فٌؽٌر من لسانه واسمه ومبلبسه لٌتماشى معهم‪ ،‬حتى فقدنا‬
‫خطوط اللؽة المصرٌة وكثٌر من أصول ثقافتنا‪ ،‬فٌما ٌجز بقٌة المصرٌٌن على هوٌتهم باألسنان‪ ،‬خاصة‬
‫ؼٌر المتعلمٌن الذٌن لم تلوثهم المطامع فً وظاٌؾ ولم تدفعهم لسلخ أنفسهم من أنفسهم وتحوٌلها إلى‬
‫"مسخة"‪.‬‬

‫وحٌن جاء العرب لم ٌختلفوا فً "الدق على راس المصرٌٌن"‪ ،‬وتقول سٌدة كاشؾ‪" :‬والواقع أن‬
‫العصبٌة الدٌنٌة تؽلبت على العرب بعد الفتح‪ ،‬وتؽلب علٌهم الشعور بعزتهم وتفوقهم على ؼٌرهم من‬
‫الشعوب بعد أن أنشؤوا إمبراطورٌتهم اإلسبلمٌة بحد السٌؾ‪ ،‬فرأوا أن ٌتمٌزوا عن ؼٌرهم فً اللباس‬
‫والزي والركوب وؼٌر ذلك مما ٌشعر فً الوسط االجتماعً بؤنهم هم السادة وؼٌرهم دونهم‪ ،‬ولذا نراهم‬
‫ٌعاملون أهل الذمة معاملة الطبقات الدنٌا‪ ،‬مهما كانت ثروتهم أو مراكزهم فً الدولة"‪.‬‬

‫وأثر هذه المعاملة الدونٌة أنها "مما حمل الكثٌر على الدخول فً الدٌن اإلسبلمً رؼبة فً التخلص من‬
‫تلك المضاٌقات"(‪ ،)88‬فدفعهم هذا الضؽط إلى تقلٌد "الخواجة الجدٌد" فً دٌنه وملبسه ولؽته كً ٌتخلص من‬
‫عقد الدونٌة المزٌفة‪ ،‬وزاد األمر حٌن اشترط بعض الخلفاء دخول العاملٌن فً الدواوٌن لئلسبلم إن أرادوا‬
‫الحفاظ على وظاٌفهم‪.‬‬

‫وواضح أنه إن كان مصرٌون متعلمون استسلموا بسهولة لتقلٌد العرب‪ ،‬فإنه ظل مصرٌون متعلمون‬
‫أٌضا ٌحتضنون قدر ما استطاعوا هوٌتهم‪ ،‬بوجل وفزع علٌها‪ ،‬خصوصا اللؽة‪ ،‬وٌظهر هذا فً ؼضب‬
‫ربٌس أحد األدٌرة وهو ٌقول محذرا فً إحدى عظاته‪" :‬ماذا أقول فً تلك األزمنة‪ ،‬وعِ َظم الكسل الذي‬

‫(‪)89‬‬
‫‪ -‬مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة‪ ،‬ص ‪ٔٔ9‬‬
‫(‪)88‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٔٔ8‬‬

‫‪ٕٖ7‬‬
‫بالهج َرة (المهاجرٌن) فً‬
‫َ‬ ‫ٌلحق بالنصارى‪ ،‬فإنهم فً ذلك الزمان ٌمٌلون كثٌرا عن االستقامة‪ ،‬وٌتشبهون‬
‫أعمالهم‪ ،‬وٌسموا أوالدهم بؤسمابهم‪ ،‬وٌتركوا أسماء المبلبكة واألنبٌاء والرسل والشهداء‪ ،‬تجد النصارى‬
‫ٌتركون لؽتهم الحلوة‪ ،‬وٌفتخرون باللؽة العربٌة وبؤسامٌهم‪ ،‬أقول لكم ٌا أوالدي‪ :‬الحقٌقة أن الذٌن ٌتركون‬
‫أسماء القدٌسٌن‪ ،‬وٌسمون أوالدهم باألسماء الؽرٌبة‪ ،‬الذي ٌفعل هذا ٌكون بعٌدا من بركة القدٌسٌن"(‪.)89‬‬

‫لكن خاب ظن الواعظ‪ ،‬فالكنٌسة نفسها انهارت مقاومتها أٌام االحتبللٌن الفاطمً والمملوكً وتبنت اللؽة‬
‫العربٌة بدال من اللؽة المصرٌة‪ ،‬فكانت من أكبر أسباب انزواء لؽة مصر‪.‬‬

‫وفً العموم‪ ،‬وجد مصرٌون أن مصلحتهم الدخول فً اإلسبلم والتعرٌب‪ ،‬إما عن اقتناع‪ ،‬وإما هربا من‬
‫المضاٌقات االجتماعٌة‪ ،‬أو فرارا من الضراٌب المتزاٌدة‪ ،‬أو رؼبة فً اإلبقاء على مناصبهم بحسب سٌدة‬
‫كاشؾ(ٓ‪ ، )9‬وٌمكن أن ٌُضاؾ إلى ذلك أن المسٌحٌة لم تكن قد تمكنت بما ٌكفً من نفوس كثٌر ممن‬
‫اعتنقوها أٌام الرومان‪ ،‬خاصة وأن بعضهم أٌضا اعتنقها خوفا وهربا من االضطهاد الذي ٌلقاه من مسٌحٌٌن‬
‫أو من االحتبلل الرومانً حٌن تعاملوا مع من ٌبقى على دٌنه القدٌم بؤنه "وثنً خابن"‪ ،‬والبعض اآلخر‬
‫صار مسٌحٌا بحكم األمر الواقع بعد إؼبلق المعابد المصرٌة وؼٌاب المرشدٌن الدٌنٌٌن الخاصٌن بها‪ ،‬فلم‬
‫ٌجدوا حرجا أو مانعا فً التحول من المسٌحٌة إلى اإلسبلم‪ ،‬هذا بخبلؾ أٌضا المتوقع أنهم ظلوا باقٌن على‬
‫أطبلل دٌنهم القدٌم فدخلوا منه إلى اإلسبلم مباشرة دون أن ٌمروا على المسٌحٌة‪.‬‬

‫❿ االضطهاد الدٌنً ساعة وساعة‬

‫اختلؾ شعور المصرٌٌن بالحرٌة الدٌنٌة فً عهد الوالة العرب بحسب صبلح الخلفاء أو الوالة وفسادهم‪،‬‬
‫واختلؾ فً بداٌة الفتح عما بعده‪.‬‬

‫فبعد الفتح بدأ عمرو بن العاص عصره بتصرؾ إٌجابً‪ ،‬أن سعى لتهدبة الحٌاة الدٌنٌة بؤن كتب عهد‬
‫أمان بؤن ٌعود البابا بنٌامٌن آمنا من منفاه‪ ،‬وذلك بعد ٖ سنوات ظل فٌها مختببا بعد الفتح‪ ،‬وقال له‪" :‬جمٌع‬
‫بٌعك (كنابس) ورجالك (األساقفة والكهنة) اضبطهم ودبر أحوالهم"‪ ،‬وطلب منه الدعاء له‪ ،‬وٌقال إن من نبَّه‬
‫عمرو إلى بنٌامٌن شخص ٌدعى سانوتٌوس(ٔ‪ ،)9‬وكان لعودته رنة فرح وطرب فً مصر‪ ،‬ولكن من ؼٌر‬
‫المفهوم لماذا ظل بنٌامٌن مختببا ٖ سنوات بعد الفتح العربً‪ ،‬وٌستدل ألفرٌد بتلر باستمرار االختفاء بؤن‬
‫القبط لم ٌستدعوا العرب‪ ،‬وأن البابا انتظر مختببا طوٌبل حتى ٌتؤكد من نواٌاهم(ٕ‪.)9‬‬

‫وعن أحوال عمرو مع المصرٌٌن بعد ذلك قال ٌوحنا النقٌوسً إنه‪" :‬تشدد فً جباٌة الضراٌب التً وقع‬
‫االتفاق علٌها‪ ،‬ولكنه لم ٌضع ٌده على شًء من ملك الكناٌس‪ ،‬ولم ٌرتكب شٌبا من النهب أو الؽصب‪ ،‬بل‬

‫(‪)89‬‬
‫‪ -‬راجع مقدمة عبد المجٌد دٌاب فً تحقٌقه لكتاب "القول اإلبرٌزي للعبلمة المقرٌزي" المعروؾ بـ"تارٌخ األقباط‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪٘9‬‬
‫(ٓ‪)9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٗٔٔ‬
‫(ٔ‪)9‬‬
‫‪ -‬تارٌخ البطاركة‪ ،‬ساوٌرس بن المقفع‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٗ8 -ٗ9‬‬
‫(ٕ‪)9‬‬
‫‪ -‬فتح العرب لمصر‪ ،‬ألفرٌد بتلر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٗ٘8 -ٗ٘9‬‬

‫‪ٕٖ8‬‬
‫إنه حفظ الكناٌس وحماها إلى آخر مدة حٌاته(ٖ‪.")9‬‬

‫لكن األمور عادت تضٌق على المصرٌٌن بعد السنوات األولى من الفتح‪ ،‬ووضعت شروطا حتى أنه مع‬
‫الوقت ظنها الناس أصوال فً اإلسبلم‪ ،‬وهً لٌست كذلك‪ ،‬ومنها ما قاله المواردي إنه "ال ٌحق ألهل الذمة‬
‫أن ٌتخذوا ألنفسهم كنابس أو بٌعا جدٌدة فً دار اإلٍسبلم‪ ،‬فإذا بنوا ألنفسهم هدم‪ ،‬ولكن لهم أن ٌعٌدوا بناء ما‬
‫تهدم من كنابسهم أو بٌعهم"‪.‬‬

‫ومن أدلة أن ذلك لم ٌكن معموال به فً أول الفتح أنه فً زمن البطرٌرك إسحق ووالٌة عبد العزٌز بن‬
‫مروان على مصر أمر عبد العزٌز ببناء كنٌسة فً حلوان(ٗ‪ ،)9‬وبنٌت كنٌسة فً زمن مسلمة بن مخلد‪،‬‬
‫فؽضب الجند العرب من ذلك‪ ،‬ولكنه قال لهم إن الكنٌسة لٌست فً األرض المخصصة للجند فسكتوا(٘‪.)9‬‬

‫ولكن الحال لم ٌدم طوٌبل‪ ،‬فقد هدمت كناٌس بؤمر الخلٌفة أحٌانا‪ ،‬مثلما حدث فً عهد المؤمون حٌن‬
‫انتقامه من الثابرٌن المصرٌٌن فً الثورة البشمورٌة‪ ،‬والتً باع فٌها أٌضا نسابهم وأطفالهم‪.‬‬

‫وفً ذلك ٌقول المقرٌزي إنه لما ولً مصر عبد هللا بن عبد الملك بن مروان اشتد على النصارى‪،‬‬
‫واقتدى به قرة بن شرٌك أٌضا فً والٌته على مصر‪ ،‬وأنزل شدابد لم ٌبتلوا قبلها بمثلها‪ ،‬وكان عبد هللا بن‬
‫الحبحاب‪ -‬متولً الخراج‪ -‬زاد على القبط قٌراطا فً كل دٌنار‪ ،‬فانتفضوا علٌه فً الحوؾ الشرقً‪،‬‬
‫فحاربهم المسلمون وقتلوا منهم ع َّدة وافرة فً سنة ‪ ٔٓ9‬ه‪ ،‬واشتد أٌضا أسامة بن زٌد التنوخً‪ -‬متولً‬
‫الخراج‪ -‬على النصارى‪ ،‬وأوقع بهم وأخذ أموالهم‪ ،‬ووسم أٌدي الرهبان بحلقة حدٌد‪ ،‬فٌها اسم الراهب‪ ،‬واسم‬
‫دٌره وتارٌخه‪ ،‬فكل من وجد بؽٌر وسم قطع ٌده‪.‬‬

‫وأضاؾ المقرٌزي أن التنوخً كتب إلى األعمال بؤن من وجد من النصارى ولٌس معه منشور أن ٌإخذ‬
‫منه ٓٔ دنانٌر‪ ،‬ثم كبس الدٌارات‪ ،‬وقبض على عدة من الرهبان بؽٌر وسم فضرب أعناق بعضهم‪ ،‬وضرب‬
‫باقٌهم حتى ماتوا تحت الضرب‪ ،‬ثم هدمت الكناٌس‪ ،‬وكسرت الصلبان‪ ،‬ومحٌت التماثٌل‪ ،‬وجرى هذا فً‬
‫خبلفة ٌزٌد بن عبد الملك‪ ،‬فلما تولى هشام بن عبد الملك أوقؾ هذه األمور‪ ،‬ثم استؤنفها الوالً حنظلة بن‬
‫صفوان والً مصر فتشدد على النصارى وزاد فً الخراج وأحصى الناس والبهابم وجعل على كل‬
‫نصرانً وسما صورة أسد‪ ،‬وتتبعهم‪ ،‬فمن وجده بؽٌر وشم قطع ٌده (‪.)9ٙ‬‬

‫وأمر الخلٌفة ٌزٌد بن عبد الملك (ٔٓٔ‪ ٔٓ٘ -‬هـ) فً سنة ٗٓٔ هـ بكسر الصلبان فً كل مكان‪ ،‬وبمحو‬
‫الصور والتماثٌل التً فً الكناٌس‪ ،‬ولم تن ُج فً هذه الحركة بعض اآلثار المصرٌة القدٌمة‪ .‬ولذا نرى‬
‫ساوٌرس بن المقفع ٌصفه بؤنه سلك طرٌق الشٌطان وحاد عن طرٌق هللا"‪.‬‬

‫وبعد فترة االضطهاد فً عهد ٌزٌد بن عبد الملك‪ ،‬وبعد ثورة المصرٌٌن ضد العرب المسماة بثورة سخا‬

‫(ٖ‪)9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٓ‪ٗٙ‬‬
‫(ٗ‪)9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫(٘‪)9‬‬
‫‪ -‬فتوح مصر وأخبارها‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٖٔ‬
‫(‪)9ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تارٌخ األقباط‪ ،‬تقً الدٌن المقرٌزي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٗ‪9٘ -9‬‬

‫‪ٕٖ9‬‬
‫وهدم عدة كناٌس‪ ،‬عاد الوالة للسماح ببناء الكناٌس فً عهد الوالً موسى بن عٌسى بناء على مشورة من‬
‫اإلمام اللٌث بن سعد‪ ،‬وقاضً مصر عبد هللا بن لهٌعة اللذٌن قاال إن بناء الكناٌس من عمارة الببلد‪ ،‬وإن‬
‫الكناٌس التً فً مصر تم بنابها فً عهد الصحابة(‪.)99‬‬

‫وفً العصر العباسً أراد الخلٌفة إبراهٌم (تولى بعد المؤمون) أن ٌحمل أعمدة ورخام الكناٌس إلى‬
‫بؽداد‪ ،‬ومنها كنٌسة مارمٌنا العجاٌبً (بمرٌوط)‪ ،‬وتم قلع ببلط الكنٌسة المذكورة بالفعل‪ ،‬ولكن أعادها البابا‬
‫إلى سابق عهدها(‪.)98‬‬

‫➀ تعرٌب الدٌن والدواوٌن‪ ..‬الخنجر الرابع للؽة المصرٌة‬

‫فً البداٌة حصل ازدهار للؽة المصرٌة نتٌجة لتراجع االهتمام باللؽة الٌونانٌة بعد رحٌل معظم الرومان‬
‫وذٌولهم من معظم الجالٌات‪.‬‬

‫كما بدأ ٌختفً من الوثابق الرسمٌة األسامً الٌونانٌة التً أطلقها الٌونان والرومان على المدن‬
‫المصرٌة‪ ،‬فسطعت أسمابها المصرٌة من جدٌد‪ ،‬والتً حافظ المصرٌون علٌها فً أحادٌثهم‪ ،‬مثل أخمٌم‬
‫محل بانوبولٌس‪ ،‬واألشمونٌن محل هٌرموبولٌس(‪ ،)99‬وهكذا‪.‬‬

‫ولكن بعد ٓ‪ ٙ‬سنة دارت الدابرة على اللؽة المصرٌة لتطحن عظامها من جدٌد وتعود لرحلة التراجع‬
‫المإلمة نتٌجة لقرار الخلٌفة األموي الولٌد بن عبد الملك (‪89‬هـ‪ 9ٓٙ -‬م) بتعرٌب الدواوٌن لتسهٌل فهم‬
‫األوراق والمعامبلت‪ ،‬ولتسهٌل تشؽٌل العرب فً الدواوٌن واإلشراؾ علٌها‪ ،‬فقفزت اللؽة العربٌة إلى مكانة‬
‫اللؽة الرسمٌة للبلد بدال من المصرٌة والٌونانٌة‪ ،‬وانتقلت خبلل التعرٌب مصطلحات وكلمات مصرٌة‬
‫وٌونانٌة وفارسٌة للؽة العربٌة‪ ،‬وفً نفس الوقت بدأت اللؽة العربٌة تتؽلؽل بٌن المصرٌٌن‪ ،‬خصوصا من‬
‫ٌعملون بالدواوٌن الحكومٌة أو المعامبلت المباشرة مع المسبولٌن فً الزراعة والخراج والتجارة‪ ،‬هذا‬
‫بخبلؾ من تعلم العربٌة لقراءة القرآن بعد اعتناقه اإلسبلم‪.‬‬

‫واألهم‪ ،‬أمر األصبػ بن عبد العزٌز بن مروان بترجمة اإلنجٌل للعربٌة لمعرفة هل به ما ٌمس اإلسبلم‬
‫بسوء؛ ما دفع باللؽة العربٌة إلى الكناٌس‪ ،‬ولهذا تؤثٌر فً تضٌٌع اللؽة المصرٌة أشد من تؤثٌر تعرٌب‬
‫الدواوٌن‪ ،‬ألن قراءة اإلنجٌل وإلقاء العظات بالمصرٌة هو ما حفظ اللؽة قوٌة أٌام الرومان رؼم تنصٌب‬
‫اللؽة الٌونانٌة لؽة رسمٌة للبلد وللدواوٌن‪ ،‬أما تحوٌل اإلنجٌل إلى العربٌة فمعناه اضطرار المصرٌٌن‬
‫المسٌحٌٌن إلى تعلم العربٌة لقراءة اإلنجٌل ولٌس المسلمٌن فقط الذٌن سٌضطرون لها لقراءة القرآن‪.‬‬

‫وزاد من نشر اللؽة العربٌة أن المصرٌٌن العاملٌن فً الدواوٌن اضطروا لتعلمها لٌحافظوا على‬
‫وظابفهم‪ ،‬فً حٌن أنه أٌام الرومان كان عدد المصرٌٌن العاملٌن بالدواوٌن قلٌل مقارنة بالرومان والٌونان‬

‫(‪)99‬‬
‫‪ -‬تارٌخ األقباط‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪99 -98‬‬
‫(‪)98‬‬
‫‪ -‬تارٌخ البطاركة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘‪ٕٔٓ -9‬‬
‫(‪)99‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة‪ ،‬سٌدة الكاشؾ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔٔ‬

‫ٕٓٗ‬
‫الذٌن كانوا ٌحكمون الببلد‪ ،‬فاضطر عدد نادر منهم لتعلم الٌونانٌة‪ ،‬كما ظلت الدواوٌن فً زمن الٌونان‬
‫والرومان تصدر أوراقها أحٌانا باللؽة المصرٌة بجانب الٌونانٌة كما رأٌنا على حجر رشٌد‪.‬‬

‫وانعكس تراجع اللؽة المصرٌة لصالح العربٌة على األسماء‪ ،‬فمع اعتناق بعض المصرٌٌن اإلسبلم‪ ،‬أو‬
‫بعملهم فً الدواوٌن تحت سلطة عربٌة‪ ،‬تسموا بؤسامً عربٌة‪ ،‬أو ترجموا األسامً المصرٌة إلى نفس‬
‫معانٌها لكن بالعربٌة‪ ،‬مثل "نفرتاري" إلى حبلوتهم‪ ،‬و"مري إتس" إلى حبٌبة أبوها و"حتشبسوت" إلى‬
‫ستهم‪ ،‬و"نب" إلى السٌد إلخ‪ ،‬واتخذت بعض المدن والقرى أسماء عربٌة بدال من الٌونانٌة أو المصرٌة‪،‬‬
‫وذلك بفعل إقامة بعض القباٌل بها‪ ،‬فتسمت باسمها‪ ،‬لسهولة نطقها بٌنهم أكثر من األسماء المصرٌة‬
‫والٌونانٌة‪ ،‬ومن باب الشعور بالتفوق‪ ،‬حتى لو كان عدد العرب بها قلٌل جدا بالنسبة لسكانها‪ ،‬أو حتى عابلة‬
‫عربٌة واحدة‪ ،‬فكانت تفرض اسمها على القرٌة أو النجع‪ ،‬فً المقابل ظلت الكثٌر من أسامً المدن والقرى‬
‫المصرٌة على حالها للٌوم(ٓٓٔ)‪.‬‬

‫ولكن مع ذلك ظلت اللؽة المصرٌة فً عهد الوالة العرب هً لؽة حدٌث المصرٌٌن‪ ،‬فخطوات التعرٌب‬
‫صارت ببطء السلحفاة‪ ،‬فٌقول المقرٌزي إنه حٌن قدم المؤمون لمصر إلخمادة ثورة ‪ ٕٔ9‬هـ‪ ،‬أي قرب نهاٌة‬
‫عصر الوالة‪" ،‬كان ٌمشً والتراجمة حوله من كل جنس"(ٔٓٔ)‪ ،‬وساوٌرس بن المقفع ٌقول فً سٌرة ٌوساب‬
‫بابا الكنٌسة إنه كان ٌكلم القاضً بالقبطٌة وبعض المسلمٌن جلوس عند القاضً ٌفهمون منه وٌترجمونها‬
‫للقاضً‪ ،)ٕٔٓ(،‬وبعض العرب مثل القاضً خٌر بن نعٌم تعلم القبطٌة فؤورد الكندي أنه "كان ٌسمع كبلم‬
‫القبط بلؽتهم وٌخاطبهم بها"(ٖٓٔ) ما ٌإشر إلى أن العرب سعوا من جانبهم لتعلم المصرٌة‪.‬‬

‫وفً ذات اإلطار‪ ،‬ظهر فً مصر ما عرؾ بالتقوٌم الهجري لٌحل محل التقوٌم الٌولٌانً الذي ظهر أٌام‬
‫االحتبلل الرومانً‪ ،‬وأصبح المعتمد رسمٌا وإلى جانبه التقوٌم القبطً ألجل الزراعة واألعٌاد واالحتفاالت‬
‫سواء القومٌة المرتبطة بالنٌل والحصاد أو المرتبطة بالكنٌسة‪.‬‬

‫➁ العدوان على الهرم األكبر ونهب اآلثار‬

‫مسلسل نهب اآلثار فً مصر لم ٌتوقؾ طوال فترات الفوضى واالستٌطان األجنبً السابقة كما تابعنا‪،‬‬
‫ولكن الجدٌد ربما هو محاول هدم األهرام الكبرى‪.‬‬

‫فٌسجل الرحالة المسعودي المتوفً فً القرن ٗ الهجري فً كتابه "مروج الذهب" عن اهتمام الناس‬
‫بالتنقٌب عن آثار مصر التً سموها بـ"المطالب"‪ ،‬بحثا عن الكنوز فٌقول‪" :‬ولمصر أخبار عجٌبة من‬
‫الدقابق وما ٌوجد من الدفابن من ذخابر الملوك التً استودعوها األرض"‪ ،‬وأن والة مصر شؽفوا بالحفر‪،‬‬
‫ومنهم عبد العزٌز بن مروان‪ ،‬وفً زمن اإلخشٌدي عثروا قرب األهرام على "مطلب عجٌب"‪ ،‬عبارة عن‬

‫(ٓٓٔ)‬
‫‪ٌ -‬نادي الٌوم "مثقفون" بتؽٌٌر األسامً المصرٌة للمحافظات والقرى‪ ،‬مثل المنٌا وسوهاج وأرمنت وبوصٌر‪ ،‬إلى أسامً عربٌة وأوروبٌة‪،‬‬
‫بدعوى أن أسامٌها القدٌمة "ؼٌر مفهومة"‪ ،‬وهم بدال من أن ٌبذلوا جهدا لمعرفة معانٌها المصرٌة‪ ،‬استسهلوا محوها وتلبٌسها أسامً وافدة‪.‬‬
‫(ٔٓٔ)‬
‫‪ -‬الخطط المقرٌزٌة‪ ،‬جٔ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٖ9‬‬
‫(ٕٓٔ)‬
‫‪ -‬تراث األدب القبطً‪ ،‬شنودة ماهر وٌوحنا نسٌم ٌوسؾ‪ ،‬مإسسة القدٌس مرقس لدراسات التارٌخ القبطً‪ ،‬ص ٕ٘‬
‫(ٖٓٔ)‬
‫‪ -‬الوالة وكتاب القضاة‪ ،‬أبو عمر الكندي‪ ،‬طبعة اآلباء الٌسوعٌٌن‪ ،‬بٌروت‪ ،ٔ9ٓ8 ،‬ص ‪ٖٗ9‬‬

‫ٕٔٗ‬
‫أقباء وحجارة مجوفة وبداخله تماثٌل خشبٌة ورمم بالٌة‪ٌ ،‬قصد توابٌت وبداخلها المتوفٌن "المومٌاوات"‪،‬‬
‫وكسروها بحثا عما بداخلها‪ ،‬ومعنى كبلمه أنهم عثروا على مقبرة(ٗٓٔ)‪ ،‬وحكى المإرخ أحمد بن ٌوسؾ‬
‫"ابن الداٌة" فً كتابه "المكافبة" أن أحمد بن طولون خصص عماال للحفر حول األهرام(٘ٓٔ)‪.‬‬

‫وعن الهرم األكبر نقل المسعودي فً "أخبار الزمان" أن الخلٌفة المؤمون‪ -‬لما أتى لقمع الثورة‬
‫المصرٌة‪ -‬أحب أن ٌهدم أحد األهرام لٌعرؾ ما بها فلم ٌقدر‪ ،‬فاستعاض عن ذلك بالتكسٌر فً جزء منه‬
‫لعمل مدخل إلٌها(‪ ،)ٔٓٙ‬وربما هو الثقب الذي ٌدخل إلٌه الناس لهرم خوفو اآلن‪ ،‬وٌنقل المقرٌزي أن بعد‬
‫نقب الهرم "لم ٌجدوا فٌه ؼٌر رمَّة بالٌة قد أتت علٌها العصور الخالٌة‪ ،‬فعند ذلك أمر المؤمون بالكؾ عن‬
‫نقب ما سواه‪ ،‬وٌقال إن النفقة على نقبة كانت عظٌمة والمإونة شدٌدة"(‪ .)ٔٓ9‬وستتكرر محاولة هدم األهرام‬
‫أٌام األٌوبٌٌن ومحمد علً‪.‬‬

‫➂ توزٌع أرض مصر وخراجها على األجانب‬

‫(نظام المقابلة)‬

‫حٌن تسلم العرب حكم مصر من الرومان كانت معظم األرض أمبلك وإقطاعات ووسٌات خاصة لحفنة‬
‫من الرومان وأتباعهم من بقٌة الجالٌات األجنبٌة‪ ،‬وقلٌل من المصرٌٌن‪ ،‬ولما ؼادر معظم الرومان تركوا‬
‫أراضً وعقارات واسعة‪ ،‬وتبٌن من سٌاسة عمر بن الخطاب أنه فً البداٌة لم ٌتم تسلٌم هذه األراضً إلى‬
‫األفراد العرب عند دخولهم‪ ،‬ألنه كان ضد تملٌك الجند والقباٌل لؤلراضً لٌتفرؼوا للحرب واإلدارة‪ ،‬على‬
‫أن ٌكون لهم نصٌبا مفروضا من الخراج‪ ،‬واستثنى من ذلك ابن سندر بؤن منحه إقطاعا بلػ ألؾ فدان دفعة‬
‫واحدة فً منٌة األصبع قرب ضاحٌة الدمرداش الحالٌة‪ ،‬شرق القاهرة‪.‬‬

‫وآلت األراضً التً كان ٌتملكها أباطرة الرومان واألجانب الراحلون مع الجٌش البٌزنطً واألراضً‬
‫التً هجرها أصحابها أو ماتوا إلى الحكومة العربٌة‪ ،‬ومن ٌملك من المصرٌٌن واألجانب أراضً بقٌت‬
‫معه‪ ،‬وهو ما ترك متنفسا للمصرٌٌن فً الحركة والرزق‪ ،‬لكن األمر تؽٌر فً عهد عثمان بن عفان‪ ،‬وتملك‬
‫العرب وموالٌهم الوافدٌن األرض‪.‬‬

‫وفً عهد بنً أمٌة أقطعوا أراضً بمحافظة الشرقٌة لقبٌلة عربٌة‪ ،‬وأقطعوا أراضً أخرى لخواص بنً‬
‫أمٌة‪ ،‬واستمرت سٌاسة اإلقطاع فً عصر العباسٌٌن(‪ ،)ٔٓ8‬أما إقطاع حق االنتفاع‪ ،‬أو ما سمً بإقطاع‬
‫االستؽبلل‪ ،‬فارتبط بكبار الموظفٌن طوال حٌاتهم فً المنصب‪ ،‬وال ٌحق لهم التصرؾ فٌه بالبٌع‪ ،‬وال‬
‫ٌُورث‪ ،‬ولكن فً بعض الفترات صار ٌحق للمنتفع شراءها من الدولة‪ ،‬وعثمان بن عفان أول خلٌفة ٌلجؤ‬

‫(ٗٓٔ)‬
‫‪ -‬مروج الذهب ومعادن الجوهر‪ ،‬أبو الحسن المسعودي‪ ،‬المكتبة العصرٌة‪ ،‬طٔ‪ ،‬بٌروت‪ ،‬جٕ‪ ،‬ص ٗٔٗ‪ ،‬وجٔ ص ٘‪ٕ9ٙ -ٕ9‬‬
‫(٘ٓٔ)‬
‫‪ -‬المكافؤة وحسن العقبى‪ ،‬أحمد بن ٌوسؾ الكاتب (ابن الداٌة)‪ ،‬تحقٌق محمود محمد شاكر‪ ،‬مطبعة االستقامة‪ ،‬صٖٕٔ‬
‫(‪)ٔٓٙ‬‬
‫‪ -‬أخبار الزمان ومن أباده الحدثان‪ ،‬أبو الحسن المسعودي‪ ،‬ط ٔ‪ ،‬مطبعة عبد الحمٌد حنفً‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪ٖٔ8‬‬
‫(‪)ٔٓ9‬‬
‫‪ -‬الخطط المقرٌزٌة‪ ،‬ج ٔ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖٖٙ‬‬
‫(‪)ٔٓ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬ملكٌة اإلراضً الزراعٌة فً القرن التاسع عشر (رسالة دكتوراة)‪ ،‬د‪ .‬حمدي الوكٌل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪99‬‬

‫ٕٕٗ‬
‫إلى هذا النوع من اإلقطاع(‪.)ٔٓ9‬‬

‫وتم إقطاع خراج مصر بكاملها عدة مرات‪ ،‬وأول من أقطعه فً عصر العرب معاوٌة ل َّما جعل مصر‬
‫طعمة لعمرو بن العاص فً والٌته الثانٌة على مصر سنة ‪ ٖ8‬هـ‪ ،‬ومن سنة ‪ ٕٔ8‬هـ سارت الخبلفة‬
‫العباسٌة على إقطاع خراج مصر للقواد الترك‪ ،‬وأدت كفالة الخراج وإقطاعه لهإالء إلى انهٌار مالٌة مصر‬
‫بسبب اهتمام الكفٌل والمقتطع بجمع أكبر قدر من المال‪ ،‬وإهماله عمارة الجسور والترع(ٓٔٔ)‪.‬‬

‫وفً أثناء ذلك عاد صؽار المبلك إلى نظام مماثل لنظام الحماٌة الذي شاع فً االحتبلل الرومانً لما‬
‫زادت علٌهم الضراٌب‪ ،‬وهو أنهم ألحقوا أراضٌهم بؤراضً كبار المبلك لصد أذى الجباه‪ ،‬وأطلق على تلك‬
‫الوسٌلة اصطبلح "التلجبة" أو "اإللجاء"‪ ،‬وهو ما أسفر عن أٌلولة تلك األراضً إلى المالك الكبٌر(ٔٔٔ)‪.‬‬

‫وفً العصر العباسً ظهر بقوة نظام التقبٌل‪ ،‬وهو أن شخصا ٌؤخذ منطقة لمدة ٗ سنٌن‪ ،‬وٌلتزم بؤن ٌقدم‬
‫للوالً مبلؽا كضراٌب علٌها دون أن ٌإثر على هذا المبلػ أن المحصول جاء كثٌرا أو ضعٌفا‪ ،‬وٌؤخذ هو ما‬
‫ٌتبقى من عابد المنطقة بعد دفع ما التزم به‪.‬‬

‫ومجمله لم ٌكن سوى صورة مماثلة للنظام البٌزنطً‪ ،‬وزادت وطؤته فً عهد أصحاب إقطاع مصر من‬
‫األتراك‪ ،‬وسماه العرب نظام "قباالت األراضً" أو التقبٌل‪ ،‬وٌشببه بعد ذلك نظام االلتزام فً االحتبلل‬
‫العثمانً‪ ،‬وهذا االلتزام ٌُعرض فً مزاد فً جامع عمرو بن العاص‪ ،‬ثم صار ٌقام فً جامع ابن طولون‪.‬‬

‫وتصاعد األمر‪ -‬فً العصر العباسً أٌضا‪ -‬أن صار نظام التقبٌل ٌشمل إسناد الوالٌة كلها للوالً‪ ،‬بؤن‬
‫ٌكون ملزما بتقدٌم مبلػ معٌن سنوٌا ٌشمل ضراٌبها بكل أنواعها بما فٌها الجزٌة‪ ،‬وٌؤخذ هو ما ٌزٌد علٌه‪،‬‬
‫وٌتحمل ما ٌنقص(ٕٔٔ) ‪ ،‬ولنا أن نتصور أن الملتزم فً نظام "قباالت األراضً" أو إقطاع الوالٌة كان ٌلجؤ‬
‫ألي أسالٌب للضؽط على المزارعٌن وكافة األهالً لكً ٌتحصل على مبلػ أكثر من المبلػ الحكومً المقرر‬
‫علٌه لٌفوز بربح وفٌر‪.‬‬

‫➃ نظام السخرة "اللٌتورجٌا"‬

‫وتطلق علٌه بعض الكتب نظام االلتزامات‪ ،‬وهو منقول من النظام البٌزنطً الذي سماه"اللٌتورجٌا"‪،‬‬
‫وٌقضً بؤن كل محافظة (كورة) ملزمة بتقدٌم خدمات البناء فً مشروعات الدولة‪ ،‬فٌكلؾ أبناء المحافظة‬
‫بذلك‪ ،‬ومن ٌرفض تؤدٌة هذه الخدمة اإلجبارٌة علٌه أن ٌقدم بدال منها أمواال للوالً‪ ،‬وهذا ٌعنً أنها كانت‬
‫تطحن الفقراء‪.‬‬

‫وأحٌانا ٌلزم الوالً الموظفٌن بعدم قبول المال إلعفاء األشخاص من العمل فً حال ما احتاج المشروع‬

‫(‪)ٔٓ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪98 -9ٙ‬‬
‫(ٓٔٔ)‬
‫‪ -‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪88‬‬
‫(ٔٔٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٗ‪9‬‬
‫(ٕٔٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة‪ ،‬ص ٖٗ‪ ،ٗٙ -‬والخطط المقرٌزٌة‪ ،‬ج ٔ‪ ،‬ص ‪ٕٗ8 -ٕٖ9‬‬

‫ٖٕٗ‬
‫ألٌدي عاملة كثٌرة أو المواد البلزمة‪ ،‬ولو كان المشروع ٌعود بالمنفعة على المصرٌٌن لربما هان األمر‪،‬‬
‫ولكن معظم المشارٌع أٌام الرومان أو العرب أو ؼٌرهم من أجانب كانت تصب فً جٌوب الؽزاة‪.‬‬

‫وفً هذا النظام ثقٌل الوطؤة على النفس والبدن ألزم الفاتح المصرٌٌن بتقدٌم خدمات شاقة فً البناء‬
‫واإلنشاءات وشق الطرق وحفر الترع والقنوات‪ ،‬وصلت أحٌانا لدرجة نزع المصري من بلده وتسفٌره إلى‬
‫الخارج للعمل فً بناء المساجد والقصور فً الشام والحجاز(ٖٔٔ)‪.‬‬

‫وٌنقل الدكتور زكً محمد حسن أستاذ الفنون اإلسبلمٌة عن أوراق البردي والمصادر التارٌخٌة أن عمر‬
‫بن عبد العزٌز استعان بالفنانٌن القبط فً إعادة بناء المسجد النبوي فً المدٌنة المنورة‪ ،‬وشٌدوا فٌه أول‬
‫محراب فً المساجد‪ ،‬كما ٌقول ابن دقماق والمقرٌزي(ٗٔٔ)‪ ،‬واشتركوا فً بناء الجامع األموي وقصر الولٌد‬
‫بن عبد الملك فً دمشق‪ ،‬والمسجد األقصى فً بٌت المقدس(٘ٔٔ)‪ ،‬ومن ؼٌر المعلوم إن كان جمٌعهم‬
‫سافروا مرؼمٌن ومسخرٌن أم كانوا مختارٌن وبمقابل‪.‬‬

‫➄ تشرد المصرٌٌن وعٌشة المطارٌد‬

‫فً أول الفتح العربً أخذ المصرٌون هدنة من الضؽوط التً طحنهم فٌها االحتبلل الرومانً‪ ،‬خاصة مع‬
‫سٌاسة عمرو بن العاص المحنكة‪ ،‬ؼٌر أنه الحقا ض َّج المصرٌون من كثرة الضراٌب التً أثقل األموٌون‬
‫ثم العباسٌون كاهلهم بها‪ ،‬إلى جانب االنحرافات فً تطبٌق الجزٌة واالضطهاد الدٌنً فً بعض الفترات‪،‬‬
‫ووصل بعض الوالة فً االهتمام بجباٌة األموال بكل قسوة حتى شعر المصرٌون أنهم عادوا لما كانوا علٌه‬
‫تحت حكم الروم من أعباء‪ ،‬وعاد صوت طحن عظامهم ٌرن أل ًما فً القلوب من جدٌد‪.‬‬

‫وفً البداٌة‪ ،‬واجه الفبلحون هذا الوضع بطرٌقة تعودوا علٌها سابقا أٌام الروم‪ ،‬فلجؤوا إلى رفض دفع‬
‫الضراٌب‪ ،‬أو لجؤوا لؤلدٌرة وانخرطوا فً سلك الرهبنة؛ فقابل الوالة ذلك بفرض ضرٌبة دٌنار عن كل‬
‫راهب‪ ،‬بعد أن كان الرهبان معفٌٌن من الضراٌب‪ ،‬وبالحد من التحاق رهبان جدد باألدٌرة‪.‬‬

‫فاختار آخرون العٌش "عٌشة المطارٌد" متخفٌا ٌنتقل من مدٌنة إلى أخرى فً خبلفة الولٌد بن عبد الملك‬
‫(‪ 9ٙ -8ٙ‬هـ)‪ ،‬خاصة من رفضوا تؽٌٌر دٌنهم‪ ،‬فطاردهم والً مصر عبد هللا بن عبد الملك‪ ،‬أخو الولٌد‪،‬‬
‫بوسم جباه وأٌدي الذٌن ٌعثر علٌهم فً أماكن لٌست أماكنهم(‪.)ٔٔٙ‬‬

‫واستمرت حركة التخفً فً عهد الوالً التالً له‪ ،‬قرة بن شرٌك‪ ،‬وأخذت شكبل جماعٌا‪ ،‬بمعنى فرار‬
‫العابلة كلها‪ ،‬رجاال ونساء وأطفاال‪ ،‬من محافظة إلى أخرى‪ ،‬وأكثر الفارٌن من المزارعٌن‪ ،‬وفً خطاب‬
‫مرسل من موظؾ كبٌر إلى المسبول عن إقامة من وصفهم باألجانب فً الباجاركٌة ٌقول عن مواطنٌن‬
‫جاءوا من الفٌوم وأشمون وقوص لٌقٌموا فً كوم أشقوة (بسوهاج)‪" :‬وقد قررت إبعاد األجانب فً‬

‫(ٖٔٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔٗ‪ٖٗ -‬‬
‫(ٗٔٔ)‬
‫‪ -‬بعض التؤثٌرات القبطٌة فً الفنون اإلسبلمٌة‪ ،‬د‪.‬زكً محمد حسن‪ ،‬المجلة الجدٌدة‪ ،‬العدد رقم ٖ‪ ،ٔ9ٖ8-ٖ-ٔ ،‬ص ‪ٕ9 -ٕٙ‬‬
‫(٘ٔٔ)‬
‫‪ -‬الفن القبطً المصري فً العصر الٌونانً الرومانً‪ ،‬لبٌب ٌعقوب صلٌب‪ ،‬مطبعة قاصد خٌر‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ9ٙٗ ،‬هوامش ص ٔ‪9‬‬
‫(‪)ٔٔٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة‪ ،‬ص ٕ٘ٔ‪ٕٔٙ -‬‬

‫ٕٗٗ‬
‫األجاركٌة وهإالء األجانب‪ ...‬ببل تؤخٌر‪ ،‬وأقسمت باهلل وبمشٌبته أننً سؤستبعد أي أجنبً من الباجاركٌة‪،‬‬
‫وسؤرى إذا كان سٌبقى هناك أم ال‪ ،‬وسؤخرجه‪ ،‬فإذا تسلمت خطابً فابحث عن األجانب المقٌمٌن فً‬
‫الباجاركٌة الذٌن كتبت أسماإهم ألن بعضهم هرب من خمس عشرة سنة‪ ،‬وعلى ذلك فؤرسلهم لً بعناٌة مع‬
‫رجلً هذا الذي سٌعطٌك الخطاب وسٌسلم هإالء األجانب ولٌرسلوا معه"‪ ،‬وظهر فً القرنٌن الثانً‬
‫والثالث الهجرٌٌن نظام ربط الفبلح بقرٌته‪ ،‬وأال ٌؽادرها إال بتصرٌح‪ ،‬وكان هذا من أسباب الثورات ‪.ٔٔ9‬‬

‫وهكذا امتد العقاب التارٌخً للمصرٌٌن أن ٌؤتً األجنبً لٌصؾ المصرٌٌن فً بلدهم بؤنهم "أجانب"‪،‬‬
‫وٌحدد هو أٌن ٌقٌموا وأن ال ٌقٌموا‪ ،‬ألنهم قدٌما لم ٌعوا الدرس كامبل حٌن قال إٌبو ور عن أسباب سقوط‬
‫األسرة ‪" :ٙ‬وأصبح المصرٌون أجانب وأصبح األجانب مصرٌون فً كل مكان"‪.‬‬

‫وفً خبلفة سلٌمان بن عبد الملك (‪99 -9ٙ‬هـ) تشدد مسبول الخراج‪ ،‬أسامة بن زٌد التنوخً‪ ،‬فً تحصٌل‬
‫أكبر كم من الخراج والجزٌة؛ وبحسب المقرٌزي فإنه وسم أٌدي الرهبان بحلقة حدٌد فٌها اسم الراهب ودٌره‬
‫وتارٌخه‪ ،‬فكل من وجده بؽٌر وسم قطع ٌده‪ ،‬فزادت األعباء وكثرة حركة الفرار‪ ،‬وللحد منها‪ ،‬أمر السواحل‬
‫والموانً والفنادق بعدم إٌواء الهاربٌن‪ ،‬ووضع سجبلت لؤلهالً تشبه البطاقات الشخصٌة‪ ،‬بحٌث أن كل شخص‬
‫ٌذهب إلى مكان ٌكون ملزما بتقدٌم بطاقته إلثبات هوٌته ومن أٌن جاء‪ ،‬ومن ال ٌقدم بٌاناته ٌعاقب(‪.)ٔٔ8‬‬

‫▲▲▲ ثورات المصرٌٌن على االحتالل العربً‬

‫وبعد فشل محاوالت المصرٌٌن للتهرب من األعباء المالٌة وسوء المعاملة بتقدٌم الشكاوى أو باالختباء‬
‫ٌبق سوى الثورة على جبلدٌهم‪ ،‬فقاموا بـ ‪ 8‬ثورات على األقل خبلل‬ ‫فً األدٌرة أو فً محافظات بعٌدة‪ ،‬لم َ‬
‫ٓٓٔ سنة قبل أن تخمدهم ضربة فوق طاقة البشر وجهها لهم الخلٌفة المؤمون‪.‬‬

‫❶ ثورة الحوؾ الشرقً ‪ ٔٓ7‬هـ‪ ..‬أول صرخة‬

‫نقل المقرٌزي فً خططه أن عبد هللا بن الحبحاب‪ ،‬متولً خراج مصر فً عهد الخلٌفة هشام بن عبد‬
‫الملك‪ ،‬كتب إلى الخلٌفة بؤن أرض مصر تحتمل الزٌادة‪ ،‬فزاد على كل دٌنار قٌراطا‪ ،‬فانتفضت كورة بنو‬
‫ونمً وقرٌط وطرابٌة وعامة الحوؾ الشرقً بالوجه البحري سنة ‪ ٔٓ9‬هـ‪ ،‬فبعث إلٌهم الوالً الحر بن‬
‫ٌوسؾ بؤهل الدٌوان (أي قوات االحتبلل العربً) فحاربوهم وقتل منهم بشرا كثٌرا‪ ،‬وذلك أول انتفاض‬
‫القبط بمصر‪ ،‬على حد تعبٌره‪ ،‬واستمرت االنتفاضة المصرٌة عدة شهور‪ ،‬حتى أن الوالً رابط فً دمٌاط‬
‫ٖ شهور‪ ،‬وانتقلت االنتفاضة إلى الصعٌد(‪.)ٔٔ9‬‬

‫وعقب هذه الثورة أرسل هشام عبد الملك عام ‪ ٔٓ9‬هـ ٖ آالؾ من أفراد قبٌلة قٌس إلى الحوؾ الشرقً‪-‬‬
‫مركز الثورة‪ -‬فً محافظة الشرقٌة وسلمهم أرضا لٌزرعوها‪ ،‬وٌبدو أنه فعل ذلك لٌتقوى بهم العرب ضد‬

‫‪ -ٔٔ9‬الفبلح المصري بٌن العصر القبطً والعصر اإلسبلمً‪ ،‬زبٌدة عطا‪ ،‬ص ‪ ٕٔ8‬و ٕٕٔ‬
‫(‪)ٔٔ8‬‬
‫‪ -‬انظر مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة‪ ،‬ص ‪ ٕٔ8 -ٕٔٙ‬والخطط المقرٌزٌة‪ ،‬جٖ‪ ،‬ص ‪9ٙ9‬‬
‫(‪)ٔٔ9‬‬
‫‪ -‬الخطط المقرٌزٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج ٔ‪ ،‬ص ٖٕٔ‬

‫ٕ٘ٗ‬
‫المصرٌٌن‪ ،‬وأن ٌحل العرب محل من ٌموت من المصرٌٌن فً هذه الثورات‪ ،‬أو من ٌهجر أرضه‪ ،‬وذلك‬
‫حتى ال ٌصٌب الزراعة ضرر‪ ،‬وأٌضا لعمل توازن بٌن أنواع القباٌل وانتماءاتها(ٕٓٔ)‪.‬‬

‫❷ ثورة الوجه القبلً ٕٔٔ هـ‬

‫ونقل الكندي (عاش فً مصر أٌام العباسٌٌن) والمقرٌزي أنه فً ٕٔٔ هـ ثار القبط فً الوجه القبلً‬
‫على موظفً الدٌوان وحاربوهم‪ ،‬فؤرسل إلٌهم الوالً حنظلة بن صفوان جنود الدٌوان فقتلوا منهم ناسا‬
‫كثٌرا(ٕٔٔ)‪.‬‬

‫❸ ثورة سمنود بالوجه البحري ٕٖٔ هـ‬

‫وبعد ٔٔ سنة‪ ،‬أي سنة ٕٖٔ هـ‪ ،‬خرج قبطً اسمه ٌحنس فً سمنود فً الوجه البحري‪ ،‬جمع حوله‬
‫جٌشا وعزم على أن ٌقاتل والً مصر‪ ،‬فبعث عبد الملك بن مروان إلٌهم جٌشا ٌقوده موسى بن نصٌر (فاتح‬
‫األندلس) استطاع أن ٌهزمه وٌقتل ٌحنس فً جمع كبٌر من أصحابه(ٕٕٔ) وفق المقرٌزي والكندي‪.‬‬

‫❹ ثورة رشٌد ٕٖٔ هـ‬

‫وفً السنة نفسها ٕٖٔ هـ ‪ ،‬ثار القبط برشٌد على الخلٌفة مروان بن محمد (آخر خلٌفة أموي)‪ ،‬وكان‬
‫دخل مصر فارا من العباسٌٌن‪ ،‬وعاث جنده فً الببلد فسادا‪ ،‬فقتلوا جماعة من رجال الدٌن األقباط‪ ،‬ونهبوا‬
‫أموالهم‪ ،‬وسبوا نسابهم‪ ،‬كما أحرقوا دٌارات عدة وهدموا كثٌرا من الكناٌس واعتدوا على الراهبات(ٖٕٔ)‪.‬‬

‫❺ ثورة سمنود الثانٌة ٖ٘ٔ هـ‬

‫بعد سنٌن فقط من بدء عصر العباسٌٌن‪ ،‬أطلق المصرٌون أولى صرخاتهم فً وجههم بثورة سمنود‬
‫ٖ٘ٔ هـ‪ ،‬واختتموها بكبرى ثوراتهم منذ عصر الرومان‪ ،‬وهً الثورة البشمورٌة‪ ،‬وكانت فً ‪ ٕٔٙ‬هـ أٌام‬
‫الخلٌفة المؤمون الذي استخدم فٌها أبشع وسابل التنكٌل واإلبادة‪.‬‬

‫ففً ٖ٘ٔ هـ ثاروا بسمنود تحت زعامة أبو مٌنا‪ ،‬فبعث إلٌهم الوالً جٌشا حاربهم وأخمد ثورتهم(ٕٗٔ)‪.‬‬

‫❻ ثورة سخا ٓ٘ٔ هـ‬

‫وفً ٓ٘ٔ هـ‪ ،‬ثار المصرٌون بسخا فً الوجه البحري‪ ،‬وطردوا موظفً الوالً‪ ،‬وساروا إلى شبرا‬
‫سنباط‪ ،‬وانضم إلٌهم أهل البشرود‪ ،‬واألوسٌة‪ ،‬والنجوم‪ ،‬فؤتى الخبر ٌزٌد بن حاتم المهلبً والً مصر‪ ،‬فعبؤ‬
‫جٌشا كثٌفا من أهل الدٌوان وبعثه لمقاتلتهم‪ ،‬فؤخذهم المصرٌون على ؼرة‪ ،‬وهزموا جٌش المهلبً‪ ،‬وقتلوا‬

‫(ٕٓٔ)‬
‫‪ -‬انظر مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة‪ ،‬ص ‪ ،ٖٔٙ‬والخطط المقرٌزٌة‪ ،‬ج ٔ‪ ،‬ص ٖٖٕ‬
‫(ٕٔٔ)‬
‫‪ -‬الوالة وكتاب القضاة‪ ،‬أبو عمر الكندي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔ‪ ،8‬والخطط المقرٌزٌة‪ ،‬جٔ‪ ،‬ص ٖٕٔ‬
‫(ٕٕٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجعٌن‪ ،‬الكندي‪ ،‬ص ٓ‪ ،9‬والخطط المقرٌزٌة‪ ،‬ج ٔ‪ ،‬ص ٖٕٔ‬
‫(ٖٕٔ)‬
‫‪ -‬الخطط المقرٌزٌة‪ ،‬جٔ‪ ،‬ص ٖٕٔ‪ ،ٕٖٕ -‬ومصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة‪ ،‬ص ٕٔٔ‬
‫(ٕٗٔ)‬
‫‪ -‬الثورات الشعبٌة فً مصر اإلسبلمٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘‪ٙ‬‬

‫‪ٕٗٙ‬‬
‫بعض العرب‪.‬‬

‫فاضطر الباقون إلى إلقاء النار فً معسكرات المصرٌن لشؽلهم عنهم‪ ،‬فلما فعلوا انصرؾ الجٌش‬
‫العربً المهزوم إلى الفسطاط‪ ،‬وإذ وصلت األنباء مسامع الخلٌفة وهاله األمر وعزل الوالً‪ ،‬وولى مكانه‬
‫موسى بن علً بن رباح(ٕ٘ٔ)‪ ،‬وقضى الوالً الجدٌد على الثورة‪ ،‬وبتعبٌر المقرٌزي فإن النصارى اشتد‬
‫الببلء علٌهم واحتاجوا إلى أكل الجٌؾ‪ -‬ما ٌدل على فرض العرب حصارا شدٌدا علٌهم‪ ،‬وهدم الوالً‬
‫الكناٌس المحدثة ككنٌسة مرٌم وكناٌس حارس قسطنطٌن(‪ ..)ٕٔٙ‬فقام المصرٌون بثورة جدٌدة‪.‬‬

‫❼ ثورة بلهٌب ‪ ٔ٘ٙ‬هـ‬

‫فبعدها بـ ‪ ٙ‬سنوات ثار المصرٌون عام ‪ٔ٘ٙ‬هـ فً مدٌنة بلهٌب‪ ،‬فؤرسل هذا الوالً الجند إلٌهم‪،‬‬
‫فتمكنوا من إخماد الثورة‪ ،‬وقتلوا جماعة من القابمٌن بها‪ ،‬وعفا عن جماعة(‪ ،)ٕٔ9‬وكانت بلهٌب من المدن‬
‫التً رفضت التسلٌم للعرب وقت الفتح‪ ،‬ودخلت فً قتال مع الجٌش العربً‪ ،‬وأسروا بعض سكانها‪.‬‬

‫❽ الثورة البشمورٌة‪ -‬اإلبادة ‪ ٕٔٙ‬هـ‬

‫وهدأت أحوال المصرٌٌن نحو ٓ‪ ٙ‬سنة‪ ،‬حتى ضجوا فً عام ‪ ٕٔٙ‬هـ بعد أن عاث موظفو الوالً‬
‫عٌسى بن منصور وأتباعه فسادا فً أرجاء مصر‪ ،‬وكثر الؽبلء‪ ،‬حتى باع بعض الناس أطفالهم‪ -‬بحسب‬
‫تعبٌر ساوٌرس ابن المقفع‪ -‬فثار سكان الوجه البحري جمٌعا‪ ،‬والبلفت أنه انضم إلى المصرٌٌن من جاورهم‬
‫من العرب الذٌن بدأوا ٌعانون من عبء الخراج الذي اضطروا لدفعه حٌن تملكوا األراضً‪ ،‬وذلك بعد أن‬
‫كانوا ٌشاركون هم أنفسهم فً قتل المصرٌٌن إذا ما ثاروا أو احتجوا ضد التحكم العربً‪.‬‬

‫وأعلن المصرٌون العصٌان وطردوا أتباع الوالً‪ ،‬واحتشد الثابرون فكثر عددهم‪ ،‬وساروا لمقاتلة الوالً‪،‬‬
‫فت جهز عٌسى وجمع العساكر والجند‪ ،‬ولكنه هاب الثابرٌن وضعؾ عند لقابهم وتقهقهر بمن معه‪ ،‬فشجع هذا‬
‫الثابرٌن على التقدم إلى الفسطاط‪ ،‬وأخرجوا الوالً منها‪ ،‬وطردوه هو وصاحب الخراج على أقبح وجه(‪.)ٕٔ8‬‬

‫ولما بلؽت األنباء الخلٌفة المؤمون‪ ،‬ابن الجارٌة الفارسٌة مراجل(‪ ،)ٕٔ9‬أمر قابده التركً "األفشٌن"‪ ،‬وكان فً‬
‫برقة‪ ،‬أن ٌهاجم المصرٌٌن من الؽرب‪ ،‬ولكن فٌضان النٌل حال بٌنه وبٌنهم‪ ،‬وبعد أشهر خرج لشن الحرب من‬
‫جدٌد‪ ،‬وانضم إلٌه عٌسى بن منصور الوالً المطرود‪ ،‬فكثر عدد عسكر الوالً‪ ،‬وأعدوا للقتال عدته‪ ،‬وبدأوا‬
‫بمقاتلة أهل تنو وتمً‪ ،‬وهزموهم وأس روا منهم كثٌرا‪ ،‬وقتلهم األفشٌن‪ ،‬ثم مضى إلى أهل الحوؾ فقاتلهم وبدد‬
‫جمعهم‪ ،‬وأسر منهم جماعة كبٌرة‪.‬‬

‫(ٕ٘ٔ)‬
‫‪ -‬الكندي‪ ،‬ص ‪ ،ٔٔ9 -ٔٔٙ‬والخطط المقرٌزٌة‪ ،‬ج ٔ‪ ،‬ص ٕٖٕ‪ ،‬والثورات الشعبٌة فً مصر اإلسبلمٌة‪ ،‬ص ٘‪ٙ9 -ٙ‬‬
‫(‪)ٕٔٙ‬‬
‫‪ -‬الخطط المقرٌزٌة‪ ،‬جٖ‪ ،‬ص ‪9ٙ8‬‬
‫(‪)ٕٔ9‬‬
‫‪ -‬الكندي‪ ،‬ص ‪ ،ٔ9‬والمقرٌزي‪ ،‬ص ٕٖٕ‪ ،‬والثورات الشعبٌة فً مصر اإلسبلمٌة‪ ،‬ص ٘‪ٙ9 -ٙ‬‬
‫(‪)ٕٔ8‬‬
‫‪ -‬المقرٌزي‪ ،‬الخطط‪ ،‬جٔ‪ ،‬ص ٕٖٕ‪ ،‬والثورات الشعبٌة فً مصر اإلسبلمٌة‪ ،‬ص ‪ٙ9‬‬
‫(‪)ٕٔ9‬‬
‫‪ -‬الدولة العباسٌة مراحل تارٌخها وحضارتها‪ ،‬سوزي حمود‪ ،‬ط ا‪ ،‬دار النهضة العربٌة‪ ،‬بٌروت‪ ،‬ص ‪ٙ8‬‬

‫‪ٕٗ7‬‬
‫وأكمل طرٌقه إلى شرقٌون من المحلة الكبرى‪ ،‬ولقى الثابرٌن بمحلة أبً الهٌثم فاقتتلوا‪ ،‬وقتل األفشٌن‬
‫قابد الثوار‪ ،‬ثم مضى إلى دمٌرة فقاتل أهلها وانتصر علٌهم‪ ،‬وفً هذه األثناء خرج عٌسى بن منصور إلى‬
‫أهل تمً أٌضا وهزمهم‪ ،‬ومضى األفشٌن إلى اإلسكندرٌة‪ ،‬فلقى جماعة من بنً مدنج بخربتا‪ ،‬فحاربهم‬
‫وهزمهم‪ ،‬ثم لقى جماعة أخرى بمحلة الخلفاء فهزمهم وأسر أكثرهم وضرب أعناقهم‪.‬‬

‫وبعدها ولَّى وجهه شطر الوجه البحري لٌقاتل أهل البشرود أو البشمورٌٌن فً شماله‪ ،‬فلم ٌستطع أن‬
‫ٌتؽلب علٌهم بسبب كثرة مٌاه ومستنقعات ووحول المنطقة‪ ،‬والتً ال ٌعرؾ طرقها إال أهلها‪ ،‬فبقٌت الحرب‬
‫سجاال‪ ،‬وحاول بابا الكنٌسة‪ ،‬األنبا ٌوساب‪ ،‬أن ٌتوسط بٌن الطرفٌن لوضع حد للدماء(ٖٓٔ)‪.‬‬

‫وٌحكً ساوٌرس بن المقفع فً "تارٌخ البطاركة" أن البابا "ٌوساب" لما آلمه ما وقع ألولبك الضعفاء‬
‫الذٌن ال ٌقدرون على مقاومة الجٌش العباسً‪ ،‬وأنهم باستمرارهم فً الثورة فإنهم ٌختارون الهبلك ألنفسهم‬
‫كتب إلٌهم كتابا مملوءا بالخوؾ علٌهم‪ ،‬وٌدعوهم للرجوع‪ ،‬فلم ٌرجعوا‪ ،‬فظل ٌكتب لهم كل ٌوم وال‬
‫ٌستجٌبون‪ ،‬ورفضوا وساطة األساقفة الذٌن ذهبوا إلٌهم بؤنفسهم‪ ،‬وقال‪" :‬وحزن البابا ٌوساب من حدوث‬
‫الوباء والؽبلء وسٌؾ األعداء‪ ،‬وثار البشمورٌون على الظلم‪ ،‬وحموا أنفسهم فً المستنقعات الشمالٌة‪،‬‬
‫ورفضوا نداء الباب بالهدوء‪ ،‬وكتب لهم بعدم قدرتهم على محاربة الجٌش (العباسً) فلم ٌسمعوا له"‪.‬‬

‫وامتد ؼضب الثابرٌن لؤلساقفة الذٌن طالبهم بالهدوء‪ ،‬فٌقول ساوٌرس‪"" :‬كما ثار شعب تنٌس (بالشرقٌة)‬
‫على أسقفهم المدعو إسحق‪ ،‬لعدم حكمته‪ ،‬وكذلك ثار شعب مصر (حً مصر القدٌمة حالٌا) على أسقفهم‬
‫تادرس"(ٖٔٔ)‪.‬‬

‫فلما تحقق األفشٌن من إصرارهم على القتال‪ ،‬وفً نفس الوقت عجزه عن النصر السرٌع علٌهم‪ ،‬طلب‬
‫مددا من الخلٌفة المؤمون‪ ،‬فؤتى الخلٌفة بنفسه على رأس جٌش عرمرم‪ ،‬وبعث الرسل إلى كل أرجاء مصر‬
‫ٌدعو أتباعه فٌها لتتبع الثابرٌن‪ ،‬وتوجه جٌش المؤمون إلى بطحا وسخا‪ ،‬وبتعبٌر الكندي فإن المؤمون سخط‬
‫على الوالً الذي حمَّل الناس فوق طاقتهم(ٕٖٔ)‪ ،‬ولكنه فً نفس الوقت َّ‬
‫دور سٌؾ القتل فً الثابرٌن‪.‬‬

‫وفٌما ٌخص البشمورٌٌن‪ ،‬فقد بدأ باللٌن‪ ،‬واصطحب معه البطرٌرك لٌهدبهم‪ ،‬ولكنهم أبوا‪ ،‬فؤمر بحشد كل‬
‫من ٌعرؾ الطرق والمسالك الخاصة بالمنطقة من أهالً المدن والقرى المجاورة‪ ،‬وهاجمهم واستمات فً‬
‫حربهم حتى قضى على ثورتهم‪ ،‬وأراد المؤمون أن ٌبث الرعب واإلرهاب فً نفوس المصرٌٌن‪ ،‬حتى ال‬
‫ٌعودوا للثورة مرة أخرى‪ ،‬فؤمر أن ٌُفعل فٌهم أقبح ما ٌتخٌلون‪ ،‬وهو السبً والنفً‪ ،‬فبجانب الحكم بقتل‬
‫وأسر الرجال حكم ببٌع نساءهم وأطفالهم وفق ما ذكره الكندي والمقرٌزي(ٖٖٔ)‪ ،‬معتبرا أنهم ؼنٌمة حرب‪.‬‬

‫وقال ساوٌرس بن المقفع إن المؤمون أٌضا أمر بتخرٌب الكناٌس وهدمها‪ ،‬ولما رأى المؤمون كثرة القتل‬

‫(ٖٓٔ)‬
‫‪ -‬الثورات الشعبٌة فً مصر اإلسبلمٌة‪ ،‬ص ٘‪ ،ٙ8 -ٙ‬وتارٌخ البطاركة‪ ،‬ساوٌرس بن المقفع‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٗ‪9‬‬
‫(ٖٔٔ)‬
‫‪ -‬تارٌخ البطاركة‪ ،‬ص ٖ‪9ٗ -9‬‬
‫(ٕٖٔ)‬
‫‪ -‬الكندي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ‪ٔ9‬‬
‫(ٖٖٔ)‬
‫‪-‬الكندي‪ ،‬ص ٕ‪ ،ٔ9‬الثورات الشعبٌة فً مصر اإلسبلمٌة‪ ،‬ص ‪ ،ٙ9‬الخطط المقرٌزٌة‪ ،‬ج ٔ‪ ،‬ص ٕٖٕ‬

‫‪ٕٗ8‬‬
‫أمر برفع السٌؾ‪ ،‬وإرسال من بقً منهم أسرى من الرجال والنساء إلى بؽداد(ٖٗٔ)‪ ،‬وأضاؾ أن من تم‬
‫اقتٌادهم إلى بؽداد ظلوا فً السجون فترة طوٌلة‪ ،‬إلى أن أخرجهم إبراهٌم أخو المؤمون‪ ،‬وبقً منهم البعض‬
‫فً بؽداد‪ ،‬وأنشؤوا بساتٌن هناك إلى الٌوم (ساعة كتابة ساوٌرس لكتابه فً القرن العاشر المٌبلدي) وسموهم‬
‫"البشرودٌٌن"‪ ،‬ورجع ؼٌرهم إلى مصر فٌما بعد(ٖ٘ٔ)‪.‬‬

‫والبلفت أن المقرٌزي فً ختام حكٌه عن الثورة األخٌرة قال متشفٌا‪" :‬ومن حٌنبذ أذل هللا القبط فً جمٌع‬
‫أرض مصر‪ ،‬وخذل شوكتهم‪ ،‬فلم ٌقدر أحد منهم على الخروج وال القٌام على السلطان‪ ،‬وؼلب المسلمون‬
‫على القرى فعاد القبط من بعد ذلك إلى كٌد اإلسبلم وأهله بؤعمال الحٌلة واستعمال المكر(‪.")ٖٔٙ‬‬

‫فالمقرٌزي‪ -‬أبوه شامً قدم لمصر من حارة المقارزة ببعلبك للعمل فً مصر‪ٌ -‬بدو أنه نظر للمصرٌٌن كما‬
‫ٌنظر إلٌهم األجانب المستوطنٌن فً كل زمن‪ ،‬فً أنه لٌس من حقهم الثورة على المحتلٌن والمستوطنٌن‬
‫المتنعمٌن فً ظل االحتبلل‪ ،‬أو المطالبة بحقوقهم‪ ،‬بالرؼم من أنه اعترؾ فً ثناٌا كتابه عدة مرات بؤن الوالة‬
‫حمَّلوا المصرٌٌن ما ال ٌطاق من الضراٌب واالعتداء على األعراض والكناٌس واإلذالل فً هٌبة الزي وؼٌره‪.‬‬

‫▼▼▼ سقوط مصر تحت حكم الممالٌك العبٌد ألول مرة‬

‫ٔ‪ -‬االحتالل الطولونً ٕٗ٘هـ ‪ٕ9ٖ -‬هـ‪ 8ٙ8 /‬م‪9ٓ٘ -‬م‬

‫لم تكن سنة ٕٗ٘ هـ هً بداٌة سقوط مصر فً حكم الممالٌك فقط‪ ،‬بل بداٌة سقوط الدولة العباسٌة‬
‫نفسها‪ ،‬فهً اتبعت أول سطر فً وصفة سقوط الدول‪ ،‬وهو أنه بعد التوسع المبالػ فٌه ٌجري حشوها‬
‫باألجناس واألعراق واألدٌان المتصارعة‪ ،‬وتسلٌم زمامها إلٌهم‪.‬‬

‫فتابعنا كٌؾ استعان المعتصم ابن الجارٌة التركٌة بؤخواله محل العرب فً أمور الدولة‪ ،‬وفً آواخر‬
‫الدولة العباسٌة سٌطر المرتزقة الترك الذٌن جلبهم خلفاإه من بطون آسٌا؛ انبهارا بقدراتهم العسكرٌة‬
‫واستقواء بهم ضد العرب المنافسٌن‪ ،‬على مناصبها‪ ،‬فصار منهم والة األمصار وقادة الجٌوش‪ ،‬ووصل‬
‫نفوذهم لدرجة إرؼام خلفاء على التنازل عن العرش وقتل خلفاء كما فعلوا مع المتوكل والمهتدي(‪.)ٖٔ9‬‬

‫ومن الوالة األتراك على مصر "باكباك" فؤرسل ناببه التركً أحمد بن طولون‪ ،‬ومعه جٌش ٌساعده‪،‬‬
‫وابن طولون أبوه مملوك تركً من منؽولٌا‪ ،‬رفعته موهبته العسكرٌة لحرس الخلٌفة(‪ ،)ٖٔ8‬واستفرد أحمد بن‬
‫طولون باألمر فً مصر‪ ،‬مستندا على قوة جٌشه‪ ،‬وعلى حسن عبلقته برجال الدولة فً بؽداد ألنه ٌرسل‬
‫إلٌهم الهداٌا والعطاٌا العظٌمة‪ ،‬وهً كل ما ٌهمهم من أمر البلد‪ ،‬وأدار مصر بشكل مستقل‪ ،‬محافظا على‬

‫(ٖٗٔ)‬
‫‪ -‬تارٌخ البطاركة‪ ،‬ص ٗ‪9٘ -9‬‬
‫(ٖ٘ٔ)‬
‫‪ -‬حٌن ٌحذر أحد من خطر توطٌن هجرات فً مصر ٌرد آخرون بؤن مصر طول تارٌخها "مالذ آمن للجمٌع"‪ ،‬وأن هذا من مزاٌاها‪ ،‬وهم ال‬
‫ٌعلمون‪ -‬أو ٌتجاهلون‪ -‬أنها ٌوم أن تصبح المالذ للجمٌع فهً بالتاكٌد لن تكون مالذا آمنا ألوالدها هً؛ ألن الهجرات ستتسلط علٌهم ٌوما حتما‪.‬‬
‫(‪)ٖٔٙ‬‬
‫‪ -‬الخطط المقرٌزٌة‪ ،‬ج ٔ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٖٕ‬
‫(‪)ٖٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬أحمد بن طولون‪ ،‬سٌدة إسماعٌل كاشؾ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ٘‪٘ٗ -‬‬
‫(‪)ٖٔ8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٔ9‬‬

‫‪ٕٗ9‬‬
‫الرباط الظاهري بالخبلفة‪ ،‬وهو إرسال الجزٌة والخراج وسك العملة باسم الخلٌفة‪.‬‬

‫كما ساعد بن طولون على التمكٌن لنفسه انشؽال الخلٌفة العباسً بإخماد فتنة كبٌرة‪ ،‬عُرفت فً التارٌخ‬
‫بثورة الزنج (زنوج جلبهم العرب بكثرة من أفرٌقٌا) فً جنوب العراق‪ ،‬واستؽلهم الشٌعة فً إشعال ثورة‬
‫ضد العباسٌٌن انتهت بدماء وأشبلء نحو نصؾ ملٌون قتٌل خبلل ٘ٔ سنة‪ ،‬وفً ؼمارها اتخذ ابن طولون‬
‫لنفسه عاصمة جدٌدة أسماها القطابع بجوار الفسطاط‪ ،‬وٌرجع االسم إلى أنه اقتطع لكل فبة من جنوده حًٌا‬
‫فٌها ألنهم من أعراق مختلفة‪ ،‬ممالٌك ترك وسودانٌٌن وروم بلؽوا ٓ٘ ألفا‪ ،‬وأنشؤ فٌها مسجد ابن طولون‬
‫الباقً حتى اآلن‪ ،‬ولنا أن نتخٌل حجم ما أنفقه من أموال المصرٌٌن لشراء هإالء الممالٌك والمرتزقة‬
‫لٌصنع لنفسه مجدا‪ ،‬وكم أنفق لبناء عاصمة جدٌدة ومسجده الفخم وقصوره التً لم ٌشهد الناس مثلها منذ‬
‫قصور البٌزنطٌٌن‪ ،‬وكل ذلك فً زمن قصٌر‪ ،‬ومن صور بذخه مع ممالٌكه لٌضمن والبهم ما نقله الكندي‬
‫من أنه أرسل ألحد قادته "خلعا وطوق من الذهب"(‪.)ٖٔ9‬‬

‫وقضى على فتن العلوٌٌن الشٌعة المختببٌن بمصر وؼٌرهم مثل بؽا األصؽر وابن الصوفً‪ ،‬واألخٌر‬
‫من نسل علً بن أبً طالب‪ ،‬والعمري‪ ،‬وهو من نسل عمر بن الخطاب‪ ،‬وزعم أنه ٌدافع عن المسلمٌن فً‬
‫أسوان ضد النوبٌٌن المسٌحٌٌن ]ؼالبا ٌقصد بالمسلمٌن فً أسوان قبابل عربٌة وفدت مع الفتح[‪ ،‬فقتلوا خلقا‬
‫كثٌرا فً أسوان وإسنا والمنٌا فً معارك دوافعها قبلٌة احتبللٌة نزفت فٌها مصر المال والدم ألمور ال‬
‫تخصها‪.‬‬

‫واتسمت فترة حكمه بالهدوء‪ ،‬واكتسب والء بعض القباٌل‪ ،‬وٌُذكر له أنه أزال عن كاهل المصرٌٌن‬
‫جزءا من الضراٌب الفجة التً فرضها أحمد بن المدبر قبله‪ ،‬واعتنى بالزراعة‪ ،‬وأشرؾ على مشروعات‬
‫تنموٌة‪ ،‬منها إنشاء بٌمارستان (مستشفى) لعبلج المرضى مجانا‪ ،‬ؼٌر أنه استمر فً حصد المال وتكنٌزه‬
‫حتى أنه أنشؤ فً روضة المنٌل حصنا لتؤوي إلٌه أسرته ومعها االكنوز التً جمعها‪ ،‬وكان طابش السٌؾ‪،‬‬
‫ٌقتل وٌحبس الناس بالظن(ٓٗٔ)‪.‬‬

‫ونقل ابن سعٌد األندلسً فً كتاب "الدر المكنون فً حلً دولً بنى طولون" أن من ضمن الثروة التً‬
‫تركها ابن طولون ٓٔ ملٌون دٌنار‪ ،‬وٕٗ ألؾ مملوكا‪ ،‬و‪ 9‬آالؾ من الخٌول(ٔٗٔ)‪.‬‬

‫وبعد وفاته تولى ابنه خماروٌه‪ ،‬وهادن الخلٌفة العباسً المعتضد باهلل لٌتركه مستقبل بمصر والشام‪ ،‬فزوَّ جه‬
‫ً‬
‫جهازا وهداٌا بلؽت تكالٌفها عنان‬ ‫ابنته أسماء الشهٌرة باسم قطر الندى‪ ،‬ولٌشتري سكوت الخلٌفة عنه أرسل معها‬
‫السماء‪ ،‬وكتب المسعودي الذي عاش فً عصر اإلخشٌدي التالً للحكم الطولونً فً كتابه "مروج الذهب"‪:‬‬
‫"وٌٌقال إنه حمل معها جوهرا لم ٌجتمع مثله عند خلٌفة قط"‪ ،‬ولكثرته اقتطع منه ابن الجصاص المشرؾ على‬

‫(‪)ٖٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬أحمد بن طولون‪ ،‬مرجع سابق‪ ٘9 -٘ٗ ،‬وص ٕ٘ٔ‪ٖٔٓ -‬‬
‫(ٓٗٔ)‬
‫‪ -‬انظر تارٌخ مصر إلى الفتح العثمانً‪ ،‬عمر اإلسكندري وأ‪.‬ج‪ .‬سفدج‪ ،‬ط ٕ‪ ،‬مكتبة مدبولً سلسلة "صفحات من تارٌخ مصر"‪ ،‬القاهرة‪،ٔ99ٙ ،‬‬
‫ص ٕٔٓ‪ ،ٕٓٗ -‬وأحمد بن طولون‪ ،‬سٌدة كاشؾ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔ‪ 8ٗ -9‬وٕٓٓ‬
‫(ٔٗٔ)‬
‫‪ -‬أحمد بن طولون‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔ99‬‬

‫ٕٓ٘‬
‫موكب الجهاز بعضا منه كان سبب ؼناه‪ ،‬حتى أن السبح كان ٌنظمها من الجواهر"(ٕٗٔ)‪.‬‬

‫وأصبح الذهب والحرٌر الذي اصطحبته معها‪ ،‬وصُنعت منهما المجوهرات والمبلبس واألدوات واآلثاث‬
‫والسجاجٌد حكاٌات كاألساطٌر‪ ،‬تتناقلها األجٌال البلحقة بانبهار وافتخار‪ ،‬وؼنوا لها "الحنة ٌا حنة ٌا قطر‬
‫الندى" دون أن ٌسؤلوا أنفسهم من دفع ثمن كل هذا‪ ،‬وكٌؾ كان حال المصرٌٌن وقتها وأموالهم تتحول إلى‬
‫ذهب وحرٌر‪ٌُ ،‬رسل هداٌا فً حفل للزواج‪ ،‬وٌبدر على األرض تدوسه أقدام الوالة والخلفاء والعبٌد‪،‬‬
‫واألؼرب لو أن بعض المصرٌٌن وقتها ٌتراصون على طرٌق موكب الجهاز تؽلً دماءهم وٌتحسرون‪،‬‬
‫وأحفادهم الٌوم ٌتراصون على حافة جنبات التارٌخ ٌكتبون األشعار وٌؽنون "الحنة ٌا حنة ٌا قطر الندى"‪.‬‬

‫وبهذا كرر خماروٌه ما فعله بطلمٌوس الثانً خبلل احتبلله لمصر حٌن هادن ؼرٌمه أنتٌوخس ملك‬
‫فزوجه ابنته برنٌقة‪ ،‬وكان والد العروسة هو من ٌدفع المهر للعرٌس‪ ،‬وٌبدو أن مهر برنٌقة كان من‬
‫سورٌا َّ‬
‫الضخامة بحٌث لقبت بحاملة المهر‪.‬‬

‫وبعد هذا اإلسراؾ ترك خماروٌه خزانة مصر خاوٌة(ٖٗٔ)‪ ،‬بحسب سٌدة كاشؾ‪ ،‬وضٌَّع ثمار مشارٌع‬
‫أ بٌه فً الصناعة والزراعة‪ ،‬وترك الببلد لٌضؽط من ٌؤتً بعده على المصرٌٌن لتمتؤل من جدٌد‪ ،‬وٌنفقها‬
‫على جوارٌه وعبٌده ورشاوٌه وممالٌكه فً جٌش مرتزقة جدٌد‪.‬‬

‫وٌمر بآذننا فً هذا المشهد أٌضا وبعض المصرٌٌن من أساتذة التارٌخ والشعراء فً الوقت المعاصر‬
‫ٌهتفون فً كتبهم لقطر الندى وهً تجر خٌرات مصر للخارج‪ ،‬وٌمجدون هارون الرشٌد والمؤمون وابن‬
‫طولون وؼٌرهم من محتلٌن عرب وترك‪ ،‬وٌحتفون بحكم الممالٌك للمصرٌٌن األحرار‪ٌ ،‬مر بآذننا‪:‬‬

‫حابً‪:‬‬

‫كٌؾ ٌوحون إلٌـه‬ ‫اسمع الشعب دٌون‬

‫بحٌا َت ًْ قاتلٌـــــــه‬ ‫مأل الجو هتافــــــا‬

‫وانطلى الزور علٌه‬ ‫أ َّثر البهتـان فٌه‬

‫عقله فً أذنٌـــــــه‬ ‫ٌاله من ببؽــــاء‬

‫دٌون‪:‬‬

‫الرم ٌَّة تحتفً بالرامً‬


‫أن َّ‬ ‫َ‬
‫سمعت وراعنً‬ ‫ُ‬
‫سمعت كما‬ ‫حابً‪،‬‬

‫وأصار عرشهم فراش ؼرام‬ ‫هتفوا بمن شرب الطال فً تاجهم‬

‫(ٕٗٔ)‬
‫‪ -‬مروج الذهب ومعادن الجوهر‪ ،‬أبو الحسن علً المسعودي‪ ،‬ج ٗ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔ89‬‬
‫(ٖٗٔ)‬
‫‪ -‬أحمد بن طولون‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٔٔ‬

‫ٕٔ٘‬
‫ولو استطاع مشى على األهرام(ٗٗٔ)‬ ‫ومشى على تارٌخهم مستهزبا‬

‫وبمقتل خماروٌه على ٌد جوارٌه وخلع ابنه "أبو العسكر جٌش"‪ ،‬استعاد الخلٌفة العباسً المكتفً حكم‬
‫مصر‪ ،‬ولكنه أرسل إلٌها فؤرسل جٌشا بقٌادة محمد بن سلٌمان هزم الجٌش الطولونً‪ ،‬ودخل القطابع‬
‫فدمرها تدمٌرا‪ ،‬بكل ما تكلفته من عرق وأموال المصرٌٌن‪ ،‬تاركا فقط الجامع‪.‬‬

‫ومع ظهور الدولة العبٌدٌة (الفاطمٌة) فً المؽرب وسعٌها من وقت آلخر لبلسٌتبلء على مصر‪ ،‬بعثت‬
‫عٌونها وجواسٌسها فً عباءة الدعاة والتجار والعمال إلى مصر لٌستقوا لها األخبار وٌنشروا الفتن‪ ،‬حتى‬
‫تحٌن لحظة القطاؾ‪.‬‬

‫❷ االحتالل اإلخشٌدي (ٕٖٗ‪ ٖ٘8 -‬هـ ‪ 9ٙ9 -9ٖ٘ -‬م)‬

‫أسس تركً آخر هو محمد بن طؽج اإلخشٌدي ما عُرؾ باسم الدولة اإلخشٌدٌة‪ ،‬لتكون ثانً دولة مستقلة فً‬
‫مصر عن الخبلفة بعد الدولة الطولونٌة‪ ،‬وتوفً اإلخشٌدي ‪ ٖٖ9‬هـ‪ ،‬موصٌا بالحكم البنه صؽٌر السن‪ ،‬فصار‬
‫كافور الحبشً وصٌا علٌه؛ ما أعطاه فرصة لٌكون الحاكم الحقٌقً لمصر‪ ،‬وكافور عبد حبشً خصً‪،‬‬
‫اشتراه اإلخشٌد بـ ‪ ٔ8‬دٌنار‪ ،‬وتقدٌرا لذكابه وإخبلصه حرره‪ ،‬وجعله محاربا فً جٌشه‪.‬‬

‫واستطاع كافور أن ٌضم الشام إلى ملك مصر‪ ،‬وعبل شؤنه‪ ،‬وصار ٌُذكر فوق المنابر كالخلٌفة‪ ،‬وفً‬
‫ٖ٘٘ ه أصدر الخلٌفة تكلٌفا رسمٌا لكافور بالوالٌة على مصر‪ ،‬وتوفً بعد ذلك بسنتٌن(٘ٗٔ)‪.‬‬

‫وخبلل حكم اإلخشٌدي وكافور تعرضت مصر لهجمات من جمٌع النواحً‪ ،‬فهاجمها السودانٌون (كوش‬
‫القدٌمة) من الجنوب ٌشنون الؽارات على أسوان‪ ،‬وهاجمها العبٌدٌون (الفاطمٌون) من الؽرب بشن الؽارات‬
‫على الواحات‪ ،‬وحاربها الحمدانٌون من الشرق‪ ،‬وهدد القرامطة الشٌعة قوافل الحج والتجارة فً جنوب‬
‫الشام‪ ،‬وانتهت أؼلب هذه الؽزوات بالصلح‪ ،‬لكن بموت كافور انفرط العقد‪ ،‬فتصارع الجند مختلفو األجناس‬
‫على الحكم‪ ،‬وع َّم البلد ضنك العٌشة حٌن ق َّل فٌضان النٌل‪ ..‬وطابت الثمرة لتسقط فً حجر ؼازي جدٌد‪..‬‬
‫ٌنتصب بؤظافره الهثا سابل اللعاب على الحدود‪.‬‬

‫هكذا وصل عقاب التفرٌط فً "ماعت"‪ ،‬وفً وحدانٌة الشعب المصري‪ ،‬أن ٌحكم مصر عبٌد وممالٌك‬
‫ومرتزقة فٌصٌرون حكاما على أهلها األحرار‪ ....‬أما آن لهذا العقاب أن ٌنتهً؟‬

‫(ٗٗٔ)‬
‫‪ -‬مصرع كلٌوباترة‪ ،‬أحمد شوقً‪ ،‬مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٓٔ‬
‫(٘ٗٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر فً عصر اإلخشٌدٌٌن‪ ،‬سٌدة إسماعٌل كاشؾ‪ ،‬مطبعة جامعة فإاد األول‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ9٘ٓ ،‬ص ٘٘‪ ،9ٕ -‬وتارٌخ مصر إلى الفتح‬
‫العثمانً‪ ،‬عمر اإلسكندري وأ‪.‬ج‪ .‬سفدج‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٓ9 -ٕٓٙ‬‬

‫ٕٕ٘‬
‫"إن البوابات ]الحدود[ التً فوقك كبوابات حامٌة‪ ....‬إنها سوؾ ال تفتح للؽربٌٌن‪ ،‬إنها سوؾ ال تفتح‬
‫للشرقٌٌن‪ ،‬إنها سوؾ ال تفتح للجنوبٌٌن‪ ،‬إنها سوؾ ال تفتح للشمالٌٌن‪ ،‬إنها سوؾ ال تفتح لهإالء الذٌن‬
‫فً وسط األرض‪ ،‬إنها سوؾ تفتح لحورس (‪.")ٔٗٙ‬‬

‫(نصوص األهرام)‬

‫"إن الذي ٌفعل الماعت فذلك الذي ٌكون بعٌدا عن الضالل"‪ٌ" ،‬حل العقاب دابما بالذي ٌتخطى‬
‫قواعدها"(‪.)ٔٗ9‬‬

‫(الحكٌم بتاح حتب فً األسرة ٘)‬

‫(‪)ٔٗٙ‬‬
‫‪ -‬القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ٘ٔ‪ٕٔٙ -‬‬
‫(‪)ٔٗ9‬‬
‫‪ -‬انظر تقدٌم علً رضوان لكتاب "الماعت‪ ..‬فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔ‪ٔ٘-‬‬

‫ٖٕ٘‬
‫شاهت وشوشنا‪ ..‬توهنا بٌن شٌن وزٌن‬

‫ولسه ٌاما وٌاما ح نشوؾ كمان‬

‫وٌنفلت من بٌن إٌدٌنا الزمان(ٔ)‬

‫(ٔ)‬
‫‪ -‬أؼنٌة مقدمة مسلسل أرابٌسك‪ ،‬كلمات سٌد حجاب‪ ،‬ألحان عمار الشرٌعً‪ ،‬ؼناء حسن فإاد‬
‫المشهد ٕٔ‪ :‬االحتالل العبٌدي "الفاطمً"‬

‫‪ ٔٔ7ٔ -9ٙ9‬م ‪ ٘ٙ7 -ٖ٘8 /‬هـ‬

‫(الؽزو الشٌعً)‬

‫وسط انشؽال الحكام من ممالٌك ومرتزقة بصراعاتهم نهشت المجاعات مصر‪ ،‬وتخلخلت حدودها‪،‬‬
‫والنشؽال الدولة العباسٌة أٌضا فً محاربة البٌزنطٌٌن انتهز العبٌدٌون (الفاطمٌون) المتربصون بمصر‬
‫الفرصة بعد أن أرسل لهم جواسٌسهم من دعاة وتجار استوطنوا البلد وتؽلؽلوا فً الجٌش وقصور الحكم‬
‫ومراكز النفوذ بؤنه حانت لحظة االنقضاض‪.‬‬

‫وبعثوا جٌشا لؽزو مصر بقٌادة جوهر الصقلً سنة ‪ ٖ٘8‬هـ‪ 9ٙ9 /‬م‪ ،‬ومعه سفن حربٌة‪ ،‬لٌكون ؼزوا‬
‫برٌا وبحرٌا‪ ،‬اقتحم مصر من ناحٌة اإلسكندرٌة‪ ،‬واستولى علٌها‪ ،‬ووصل إلى الجٌزة‪ ،‬وهناك ُهزم الجٌش‬
‫اإلخشٌدي‪ ،‬وسقط الحكم فً حجر العبٌدٌٌن‪.‬‬

‫وهذا أول احتبلل ٌتملك البلد قادما من الحدود الؽربٌة منذ ؼزوات قباٌل شعوب البحر التً هاجمت‬
‫بالسبلح مصر عدة مرات فً األسرتٌن ‪ ٔ9‬وٕٓ‪ ،‬وفشلت‪ ،‬لكن انتهى أمرها باحتبلل مصر أٌضا بعد‬
‫استٌطانها كؤسرى حرب أو خدم توسلوا لرمسٌس الثالث لٌبقً على حٌاتهم وٌعٌشوا تحت قدمٌه؛ فسمح لهم‪،‬‬
‫فكان ما هو معروؾ‪.‬‬

‫ٕ٘٘‬
‫واالحتبلل العبٌدي هو الؽزو الشٌعً األول لمصر ألنه سٌؤتً فٌما بعد ؼزوات شٌعٌة أخرى‪ ،‬ولكن فً‬
‫أثواب أخرى ؼٌر الثوب العسكري‪ ،‬ستظهر لنا فً القرنٌن الـ ٕٓ و ٕٔ‪ ،‬وستكون األخبث واألخطر‪ ،‬ألنها‬
‫خفٌة لمعظمنا‪.‬‬

‫▼▼▼ تارٌخ العبٌدٌٌن فً التنظٌمات السرٌة‬

‫(جهاز التجار والدعاة)‬

‫واالسم الحقٌقً للفاطمٌٌن هو العبٌدٌون نسبة إلى مإسس دولتهم عبٌد هللا المهدي الذي ا َّدعى أنه اإلمام‬
‫المهدي المنتظر‪ ،‬وأنه من نسل الحسٌن وفاطمة‪ ،‬ولذا تسموا بالفاطمٌٌن وهً نسبة استؽلوها إلضفاء هالة‬
‫على دولتهم التً أقامها فً المؽرب بعد هجرة أتباعه إلٌها فً زي دعاة وتجار أظهروا الورع والتقوى‬
‫والشطارة أمام البربر‪ ،‬ولٌَّنوا قلوبهم ناحٌتهم بسرد قصص االضطهاد وما اعتبروه ظلما تعرضوا له كـ"آل‬
‫البٌت" من العباسٌٌن‪ ،‬حتى حشدوا حولهم األتباع واألموال من القباٌل البربرٌة كقبٌلة كتامة‪ ،‬واستؽلوها فً‬
‫إسقاط حكامهم بحروب أهلٌة تحت خرافة أنهم بهذا ٌنصرون المهدي المنتظر وٌعجلون بنشر العدل فً‬
‫الدنٌا‪ ،‬ونصَّبوا عبٌد هللا إماما‪ ،‬وحسب المقرٌزي فإنه تلقب بـ"المهدي لدٌن هللا" و"أمٌر المإمنٌن"‪ ،‬ومن‬
‫رفض الدخول فً مذهبه قتله(ٔ)‪.‬‬

‫وكبقٌة الحركات والدول الشٌعٌة‪ٌ ،‬كتنؾ أصول مإسسً الدولة العبٌدٌة الؽموض‪ ،‬فمع إدعابهم نسبتهم‬
‫إلى آل البٌت‪ ،‬فإنهم لم ٌتركوا دلٌبل قاطعا حول ذلك‪ ،‬ونقل المإرخ بن واصل عن مإرخٌن معاصرٌن لهم‬
‫أن جدهم ٌهودي‪ ،‬وآخرون قالوا فارسً‪ ،‬خاصة وأنهم ٌتوقفون عند ذكر الجد الرابع‪ ،‬وما قبله ٌسمونهم‬
‫"االبمة المستورٌن"(ٕ)‪.‬‬

‫والثابت أنهم ٌنتمون إلى الحركة اإلسماعٌلٌة الشٌعٌة التً اعتمدت فً تؽلؽلها على نشاط مكثؾ لدعاة‬
‫سرٌٌن انتشروا بؤعداد قلٌلة‪ ،‬ولكن نشطة ٌقظة ألهدافها فً أرجاء الببلد‪ ،‬طوٌلة النفس‪ ،‬فاستطاعت بؤعداد‬
‫قلٌلة إسقاط شعوب كبٌرة‪ ،‬واشتهر هذا النشاط باسم "تنظٌم الدعاة"‪ٌ ،‬لخص هذا ببراعة المثل المصري‬
‫الفصٌح‪" :‬تبلتة لو اتفقو على بلد خربوها"‪ ،‬و"الٌد الؽرٌبة تخرب البٌوت العامرة"(ٖ)‪.‬‬

‫وبحسب المقرٌزي فإن عبٌد هللا المهدي أرسل أبا عبد هللا الشٌعً (الحسٌن بن أحمد بن محمد بن زكرٌا)‬
‫إلى المؽرب لنشر الدعوة والتمهٌد لوصوله‪ ،‬ووصفه المقرٌزي بؤنه "أحد رجاالت العالم القابمٌن بنقض‬
‫الدول‪ -‬أي هدمها‪ -‬وإقامة الممالك العظام من ؼٌر مال وال رجال"(ٗ)‪ ،‬أي بدون جٌوش تابعة لهم فً‬
‫البداٌة‪ ،‬بل عبر "تنظٌم الدعاة" والتجار ٌحشدون وٌجندون جٌشا من داخل البلد المستهدفة‪ ،‬من أبنابها‪ ،‬ومن‬
‫أموالها‪ ،‬وٌكلفهم هم بإسقاط حكوماتهم‪ ،‬كنهج الشٌعة حتى الٌوم‪.‬‬

‫وهكذا أقام العبٌدٌون دولتهم فً المؽرب ‪ ٕ99‬هـ‪ 9ٓ8/‬م‪ -‬بالتزامن مع حكم الطولونٌٌن فً مصر‪ -‬بعد‬

‫(ٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬اتعاظ الحنفا بؤخبار األبمة الفاطمٌٌن الخلفا‪ ،‬المقرٌزي‪ ،‬تحقٌق جمال الدٌن الشٌال‪ ،‬طٕ‪ ،‬المجلس األعلى للشبون اإلسبلمٌة‪ ،‬ص٘٘‪ٙ8-‬‬
‫(ٕ)‬
‫‪ -‬مفرج الكروب فً أخبار بنً أٌوب‪ ،‬جمال الدٌن بن واصل‪ ،‬تحقٌق جمال الدٌن الشٌال‪ ،‬دار الكتب والوثابق القومٌة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٕٗٓ‪ٕٓ٘ -‬‬
‫(ٖ)‬
‫‪ -‬العادات والتقالٌد المصرٌة‪ ،‬جون لوٌس بوركهارت‪ ،‬ترجمة إبراهٌم شعبلن‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬طٗ‪ ،‬ص ‪ 99‬و‪ٔٓ8‬‬
‫(ٗ)‬
‫‪ -‬اتعاظ الحنفا فً أخبار األبمة الفاطمٌٌن الخلفا‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٙ8‬‬
‫طول صبر وأناة‪ ،‬وتسلٌم داعٌة الراٌة لدعاة آخرٌن من بعده‪ ،‬جٌل ورا جٌل‪ ،‬طوال ٓ٘ٔ سنة‪.‬‬

‫وباتت الخبلفة اإلسبلمٌة منقسمة إلى ٖ خبلفات ما بٌن العباسٌٌن فً العراق والعبٌدٌٌن فً المؽرب‬
‫واألموٌٌن فً األندلس‪ ،‬موزعة ما بٌن سنة وشٌعة‪ ،‬والسنة منقسمون فٌما بٌنهم (العباسٌٌن واألموٌٌن)‬
‫والشٌعة منقسمون على أنفسهم فٌما بعد (قرامطة وفاطمٌٌن وزٌدٌٌن)(٘)‪.‬‬

‫وعلى طرٌقة اختبلؾ اللصوص وقتل بعضهم حتى ال تنكشؾ أسرارهم‪ ،‬تخلص المهدي من أبً عبد‬
‫هللا الشٌعً بعد أن طلب أن ٌشاركه فً الحكم ورفض المهدي‪ ،‬وبعد أن بدأت قباٌل تشك فً أنه المهدي‬
‫المنتظر ‪ ،‬خاصة أنه لم ٌظهر أي كرامات مما شاعها عبد هللا الشٌعً حٌن قال لهم إن المهدي سٌحًٌ‬
‫الموتى وٌجعل الشمس تشرق من الؽرب(‪ ،)ٙ‬بحسب المقرٌزي‪ ،‬فخشى أن ٌستؽل عبد هللا الشٌعً ذلك‬
‫وٌكشؾ سره‪ ،‬فقتله‪ ،‬وقتل بعده كل من شكك فٌه‪.‬‬

‫ولمَّا أن تم لهم المؽرب‪ ،‬ولَّى خلفاء المهدي المزعوم وجههم شطر مصر لكثرة خبلفاتهم مع قباٌل‬
‫البربر‪ ،‬وطمعا فً الؽرؾ من خٌرات مصر‪ ،‬ولموقعها الذي ٌمكنهم إذا ما أصبحت بها عاصمة دولتهم أن‬
‫ٌكونوا فً قلب الببلد المفتوحة فً آسٌا وأفرٌقٌا‪ ،‬خاصة وأن عٌنهم على بؽداد‪ ،‬مكررٌن نفس حلم الدولة‬
‫الفارسٌة التً أسقطت بابل فً العراق واحتلت مصر لتحقٌق حلم إقامة الحكومة العالمٌة‪.‬‬

‫واستمر الدعاة ٌبخون فتنهم فً مصر عشرات السنٌن‪ ،‬حتى قال المإرخ أبو المحاسن بن تؽري بردي‬
‫إن الدٌار المصرٌة "اضطربت فً أواخر عهد اإلخشٌدٌٌن بسبب المؽاربة أعوان الخلفاء الفاطمٌٌن‬
‫الواردٌن إلٌها من المؽرب"‪ ،‬واستمال الدعاة نفرا من القواد ووجوه الرعٌة‪ ،،‬وأرسل إلٌهم المعز لدٌن هللا‪-‬‬
‫حفٌد المهدي المزعوم الذي مات دون أن تمتؤل األرض عدال أو تظهر عبلمات القٌامة الكبرى‪ -‬أرسل من‬
‫المؽرب تعالٌم وزعوها وسط من استجاب لهم‪ ،‬وأمرهم أن ٌنشروها عندما تقترب عساكره من مصر(‪.)9‬‬

‫وٌصؾ المقرٌزي أجواء الفتنة وسط ذلك بؤن عسكر كافور انقسموا على أنفسهم‪ ،‬وانضم بعضهم إلى‬
‫فرٌق الفاطمٌٌن‪ ،‬فؤرسلوا مكتوبا إلى المعز لدٌن هللا‪ ،‬وصار الناس فً مصر فً توتر ما بٌن أنباء تصلهم‬
‫عن استعداد القرامطة لؽزوهم من الشرق‪ ،‬واستعداد الفاطمٌٌن لؽزوهم من الشرق‪ ،‬وإرسال عسكر كافور‬
‫اإلخشٌدي رسابل للفاطمٌٌن لٌؤتوا لمصر من أدلة أن من راسلوا المعز لٌؤتً وٌحتل مصر‪ ،‬ورحبوا به عند‬
‫مجٌبه‪ ،‬كانوا من المرتزقة والمستوطنٌن األجانب ولٌسوا المصرٌٌن والد البلد‪.‬‬

‫وتزامن ذلك مع انتشار االنحبلل فً الطبقة المسٌطرة على الحكم والثروة‪ ،‬وضرب المقرٌزي مثاال‬
‫بقوله إن ابنة اإلخشٌد اشترت صبٌة مؽربٌة بـ ٓٓ‪ ٙ‬دٌنار لتتمتع بها‪ ،‬فلما بلػ ذلك المعز اعتبره عبلمة‬
‫انتهاء ملك اإلخشدٌٌٌن‪ ،‬وقال ألصحابه‪" :‬إن الؽٌرة قد ذهبت من نفوس الرجال بمصر حتى إن إمرأة من‬

‫(٘)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الدولة الفاطمٌة تفسٌر جدٌد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔٔ‬
‫(‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬اتعاظ الحنفا بؤخبار األبمة الفاطمٌٌن الخلفا‪ ،‬ص ‪ٙ8 -ٙ9‬‬
‫(‪)9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الدولة الفاطمٌة تفسٌر جدٌد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٓٔ‪ٖٔٔ -‬‬

‫‪ٕ٘7‬‬
‫بنات ملوكهم تخرج لتشتري لنفسها جارٌة تتمتع بها‪ ،‬فانهضوا بنا إلٌهم‪ ،‬فقالوا‪ :‬السمع والطاعة(‪.")8‬‬

‫وظهر فً مصر ٌهودي مستوطن قادم من العراق اسمه ٌعقوب بن كلس‪ ،‬اعتنق اإلسبلم‪ -‬أو تظاهر به‪-‬‬
‫ور َّقاه الحكام فً المناصب‪ ،‬ولما اختلؾ مع الوزٌر ابن الفرات بعد وفاة كافور سافر سرا إلى المؽرب‪،‬‬
‫وقابل المعز‪ ،‬ودعاه إلى ؼزو مصر‪ ،‬وؼالبا كان بن كلس ممن جندهم الدعاة العبٌدٌٌن قبل الؽزو‪ ،‬وكافبه‬
‫المعز بعد احتبلله لمصر بؤن َّ‬
‫واله أمر تنظٌم الحكومة والدعوة اإلسماعٌلٌة‪ ،‬أي أنه تحول أٌضا للمذهب‬
‫الشٌعً(‪.)9‬‬

‫وزٌارة بن كلس للخلٌفة العبٌدي فً المؽرب دلٌل آخر على أن من استدعى االحتبلل العبٌدي‪ ،‬واستقبلوه‬
‫بالراٌات والزٌنة‪ ،‬كانوا مستوطنٌن أجانب ولٌسوا مصرٌٌن‪ ،‬فالمصرٌون أوالد البلد لم ٌكونوا ٌعرفون من‬
‫هم العبٌدٌن‪ ،‬وال اتصال وال مصلحة بٌنهم‪ ،‬ولٌس هناك أي داعً لكً ٌفرحوا بقدومهم لمصر‪ ،‬وجاء الخلط‬
‫بسبب أنه فً كتب المإرخٌن القدامى كانوا ٌقولون كلمة "مصرٌٌن" على أهل الحكم والسٌطرة وسكان‬
‫العاصمة (مصر القدٌمة قبل بناء القاهرة) التً تموج باألجانب من كل جنس‪ ،‬أما أوالد البلد فٌقال عنهم‬
‫حٌنها القبط والفبلحٌن‪.‬‬

‫▼▼▼ الجٌش فً االحتالل العبٌدي (مرتزقة وعبٌد)‬

‫وفد العبٌدٌون بجٌش من مؽاربة قبٌلتً كتامة وزوٌلة مع الصقالبة الروم‪ ،‬ولكن العزٌز باهلل أراد الحد‬
‫من نفوذ المؽاربة كً ال ٌبتزونه‪ ،‬خاصة أنه فً األصل لٌس منهم‪ ،‬فاستورد مرتزقة أتراك لٌزاحموهم‬
‫الجٌش والمناصب‪ ،‬واستجلب المستنصر مرتزقة من السودان ألن أمه جارٌة سودانٌة‪ ،‬وجلب خلفاء آخرون‬
‫بدوا من الحجاز‪ ،‬وكالعادة خلق هذا صراعات دامٌة بٌن األجناس أهلكت الحرث والنسل‪ ،‬وصارت‬
‫األصول األجنبٌة ألمهات وزوجات الخلفاء تتحكم فً اختٌار تشكٌلة الجٌش‪.‬‬

‫ووصل تدنً روح المرتزقة الكرٌهة إلى درجة أن الترك بقٌادة ناصر الدولة الحسٌن بن حمدان التؽلبً‬
‫فً عهد المستنصر طالبوا الخلٌفة بزٌادة مرتباتهم سنة ٓ‪ ٗٙ‬هـ ‪-‬رؼم المجاعة اللً كانت تضرب البلد‬
‫وقتها‪ -‬فزودهم من ‪ ٕ8‬ألؾ دٌنار فً الشهر لـ ٓٓٗ ألؾ(ٓٔ)‪ ،‬ورؼم الزٌادة المهولة‪ ،‬إال أنهم لم ٌكفوا عن‬
‫طلب الزٌادة‪ -‬كعادة المرتزقة عندما ٌشعرون بؤن لهم الكلمة العلٌا‪ -‬ونهبوا القاهرة‪ ،‬فلم ٌجد الخلٌفة فً مٌزانٌة‬
‫الدولة ما ٌمنحهم إٌاه‪ ،‬فؤجبروه على بٌع ثروته‪ ،‬ووسط ذلك‪ ،‬استؽل ناصر الدولة‪ ،‬قابد الترك فً جٌش‬
‫العبٌدٌٌن الظروؾ لهدم الدولة العبٌدٌة لصالح العباسٌٌن‪ ،‬فانكشؾ أمره‪ ،‬وخاؾ األتراك أن ٌإثر ذلك على‬
‫مصٌرهم فً مصر فقتلوه فً منزله هو وأسرته‪.‬‬

‫ولقهر نفوذ الترك‪ ،‬رمى المستنصر طوبتهم وطوبة المؽاربة والسودانٌٌن‪ ،‬واتجه لعرق جدٌد‪ ،‬فؤرسل سنة‬
‫‪ ٗٙٙ‬هـ لبدر الجمالً‪ -‬مملوك أرمنً تولً قٌادة الجٌوش فً الشام‪ ،-‬لٌتولى ضبط األمور لما اشتهر به من قوة‬

‫(‪)8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬اتعاظ الحنفا فً أخبار األبمة الفاطمٌٌن الخلفا‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓٓٔ‬
‫(‪)9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الدولة الفاطمٌة تفسٌر جدٌد‪ ،‬أٌمن فإاد سٌد‪ ،‬ص ٖ٘ٔ‬
‫(ٓٔ)‬
‫‪ -‬للمزٌد‪ :‬انظر الدولة الفاطمٌة تفسٌر جدٌد‪ ،‬ص ٕٓٓ‪ ٕٓٔ -‬وٖ‪ٙ9ٖ -ٙٙ‬‬

‫‪ٕ٘8‬‬
‫اإلدارة‪ ،‬وطلب أن ٌصحب معه عساكره األرمن من الشام لٌتقوى بهم‪ ،‬فوافق الخلٌفة المكسور‪ ،‬وسٌؤخذ العبٌدٌون‬
‫فً األرمن مقلبا جدٌدا كما أخذوه من الترك‪ ،‬فلما دخل الجمالً مع عساكره‪ ،‬عمل حٌلة للتخلص من الترك‪،‬‬
‫وقتلهم وطرد العبٌد السودانٌٌن من الجٌش وطاردهم فً المحافظات‪ ،‬وحارب عرب جهٌنة والتعالبة‬
‫والجعافرة لمساعٌهم السٌطرة على الوجه القبلً؛ فخلت له ولجنسه الساحة‪ ،‬وصار المتحكم األول فً رقبة‬
‫البلد بعد تولٌه منصب الوزٌر أمام خلفاء ضعاؾ(ٔٔ)‪.‬‬

‫وحمل الجمالً ألقابا أسبؽها علٌه االحتبلل العبٌدي منها "أمٌر الجٌوش‪ ،‬سٌؾ اإلسبلم‪ ،‬ناصر اإلمام‪،‬‬
‫كافل قضاة المسلمٌن‪ ،‬وهادي دعاة المإمنٌن‪ ،‬مجدد القاهرة الفاطمٌة" توارثتها أجٌال حتى سماه البعض‬
‫"منقذ مصر"‪ ،‬فصار المحتل ٌوصؾ بـ"المنقذ"‪ ،‬وما هو إال منقذ دولة االحتبلل العبٌدي من االنهٌار ومن‬
‫فقدانها لمصر بعد المجاعات التً ضربتها والفوضى الناجمة عن صراع الجالٌات وإهمال شبون الري‪.‬‬

‫ولكنه ضحك كالبكـــــا‬ ‫وماذا بمصر من المضحكات‬

‫درس أنساب أهل الفال‬


‫ٌُ ِّ‬ ‫بها نبطً من أهل السواد‬

‫ٌقال له أنت بدر الدجى‬ ‫وأسود مِشفره نصفـه‬

‫ولكنه كان هجـــو الورى‬ ‫فما كان ذلك مدحا له‬


‫(ٕٔ)‬
‫ؼٌره منه ما ال ٌَرى‬
‫رأى ُ‬ ‫قدره‬
‫سه َ‬‫ومن جهلت نف ُ‬

‫♣♣♣ السكان وتعرٌؾ المصري فً االحتالل العبٌدي‬

‫تبدلت كالعادة الطبقة الحاكمة مع االحتبلل الجدٌد‪ ،‬فسقط العبٌد السود التابعٌن لكافور لٌحل هجٌن عربً‬
‫مؽربً ممثبل فً العبٌدٌٌن وأتباعهم الكتامٌٌن‪ ،‬ثم انضم لهم األرمن والترك‪ ،‬فٌما ظل السكان بنفس الحال‬
‫التً هم علٌها من قبل‪ ،‬المصرٌون الحقٌقٌون فً األرٌاؾ الواسعة‪ ،‬وندرة منهم فً الفسطاط‪ ،‬أما القاهرة‪-‬‬
‫العاصمة الجدٌدة‪ -‬فكانت فً مساحة حً صؽٌر‪ ،‬ومحرمة علٌهم على ؼٌرهم ممن ال ٌنتمون للطبقة‬
‫الحاكمة زمنا طوٌبل‪.‬‬

‫وكالعادة أٌضا فإن الكتب التً تإرخ لهذه الفترة تركز الضوء على ما ٌجري فً القاهرة والفسطاط‬
‫واإلسكندرٌة ذوي األؼلبٌة األجنبٌة من السكان‪ ،‬وتصؾ جٌش االحتبلل العبٌدي المرتزق بؤنه‬
‫"المصرٌٌن"‪ ،‬والعبٌدٌٌن أنفسهم والجالٌات الملونة فً القاهرة ٌوصفون أٌضا بالمصرٌٌن لمجرد أنهم‬
‫ساكنٌن فً مصر‪ ،‬ونفس األمر على سكان الفسطاط التً تحول اسمها إلى "مصر العتٌقة"‪ ،‬ثم "مصر‬
‫القدٌمة"‪ ،‬فبل نسمع فً كتب التارٌخ حدٌثا سوا عن العسكر (مرتزقة الجٌش العبٌدي)‪ ،‬والعرب‪ ،‬العبٌد‬

‫(ٔٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕٓ8 -ٕٓٙ‬‬
‫(ٕٔ)‬
‫‪ -‬أبٌات للمتنب ً خبلل زٌارته لمصر‪ ،‬انظر‪ :‬مع المتنبً"‪ ،‬طه حسٌن‪ ،‬مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٘‪ٕ8ٙ -ٕ8‬‬

‫‪ٕ٘9‬‬
‫الترك‪ ،‬والكتامٌٌن‪ ،‬الصقالبة (عبٌد من ببلد روسٌا)‪ ،‬العجم‪ ،‬المشارقة (أهل الشام)‪ ،‬واألرمن‪ ،‬ومظاهر‬
‫الفخامة والتبذٌر فً معاٌشهم‪ ،‬وصلٌل السٌوؾ بٌنهم فً صراعهم على الؽنابم والمناصب‪ ،‬وٌرد ذكر‬
‫المصرٌٌن الحقٌقٌٌن قلٌبل فً الكبلم عن "القبط"‪" ،‬أهل الزراعة"‪" ،‬النصارى"‪" ،‬العامة"‪ ،‬وأكثرهم‬
‫ٌوصفون بالفقر‪ ،‬عدا بعض المصرٌٌن ٌعملون فً الدواوٌن والتجارة دخلوا فً زمرة األؼنٌاء‪.‬‬

‫وٌذكر ابن حوقل فً القرن الرابع الهجري‪ -‬وهو القرن الذي شهد وفود االحتبلل العبٌدي‪ -‬أن معظم‬
‫رساتٌق (أي سواد وؼالبٌة) مصر وقراها فً الحوؾ والرٌؾ نصارى قبط ولهم البٌع الكثٌرة والعزٌزة‬
‫الواسعة‪ ،‬وأنهم أهل ٌسار وذخابر وأموال‪.‬‬

‫وذكر أبو الصلت أن "سكان أرض مصر أخبلط من الناس مختلفو األصناؾ واألجناس‪ ،‬من قبط وروم‬
‫وعرب وأكراد ودٌلم وحبشان‪ ،‬وؼٌر ذلك من األصناؾ‪ ،‬إال أن جمهورهم ]أكثرهم[ قبط‪.‬‬

‫أما المقدسً الذي زار مصر حٌنها أٌضا فٌقول‪" :‬إن عامة ذمته نصارى ٌقال لهم القبط‪ ،‬وإن النصارى‬
‫ٌشكلون ؼالبٌة سكان القرى فً الصعٌد‪ ،‬فضبل عن كثٌر من قرى الفٌوم التً ؼلبوا على سكانها"‪.‬‬

‫وفً المراكز الصناعٌة‪ ،‬نجد أن القبط ؼالبٌة أٌضا‪ .‬فمدٌنة تنٌس التً ٌقدر الرحالة ناصر خسرو سكانها‬
‫بـ ٓ٘ ألؾ نسمة شكل القبط أكثر سكانها‪ ،‬كما كانت دمٌاط ٌسكنها الكثٌر من القبط الذٌن كانت تقع أكثر‬
‫دورهم على شاطا البحر‪ ،‬أما شطا‪ ،‬القرٌة الصناعٌة الكبرى بٌن تنٌس ودمٌاط‪ ،‬فؤكثر سكانها أقباط‪ ،‬كما‬
‫أن مدن الصؽٌد الكبرى كؤسٌوط وأخمٌم على سبٌل المثال ؼالبٌة سكانها من القبط نظرا لما كانت تتمتع به‬
‫هذه المدن من أهمٌة صناعٌة وتجارٌة فً مصر فً عهد االحتبلل العبٌدي(ٖٔ)‪.‬‬

‫ومعظم هذه المدن تقوم على الصناعات والحرؾ الٌدوٌة الدقٌقة؛ ما ٌعنً أن معظم الصناعات ظلت بٌد‬
‫المصرٌٌن‪ ،‬فٌما كثر الصناع األجانب فً القاهرة والفسطاط‪.‬‬

‫وتعنً هذه الشهادات المتنوعة أنه حتى بداٌة االحتبلل العبٌدي كان أكثر المصرٌٌن كانوا على دٌنهم‬
‫السابق لدخول العرب‪ ،‬وإن اختلفت الدكتورة سٌدة كاشؾ مع ذلك وقالت فً كتابها "أحمد بن طولون" إن‬
‫أكثر المصرٌٌن صاروا أٌام ابن طولون مسلمٌن ألسباب تخص رؼبتهم فً التخلص من األعباء الضرٌبٌة‬
‫أو لبلحتفاظ بالوظابؾ(ٗٔ)‪.‬‬

‫وبعد أن انفتحت القاهرة لسكن بقٌة الجالٌات من ؼٌر العبٌدٌٌن عرفت نظام الحارات مقسمة حسب‬
‫األعراق‪-‬مثلما فعل العرب بالفسطاط وابن طولون بالقطابع‪ -‬لعدم قدرتهم على االندماج‪ ،‬فهناك حارات‬
‫للروم وبرجوان والدٌلم واألتراك وكتامة وحلب والشرابٌة إلخ‪ ،‬والٌهود سكنوا حارة الجودرٌَّة‪ ،‬أما‬

‫(ٖٔ)‬
‫‪ -‬لمزٌد عن تصنٌؾ السكان انظر الفاطمٌون تارٌخهم وآثارهم فً مصر‪ ،‬أمٌرة الشٌخ رضا فرحات‪ ،‬كتاب‪-‬ناشرون‪ ،‬ص ‪ٖٔ9 -ٖٔٙ‬‬
‫(ٗٔ)‬
‫‪ -‬أحمد بن طولون‪ ،‬سٌدة إسماعٌل كاشؾ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٗٔ‪ٕٔ٘ -‬‬

‫ٓ‪ٕٙ‬‬
‫اإلسكندرٌة فسكنها األجانب المشتؽلون بالتجارة من جالٌات مختلفة‪ ،‬ولكل جالٌة فندق خاص بها(٘ٔ)‪.‬‬

‫وفً جملة هذه الحارات وتفصٌبلتها المذكورة فً خطط المقرٌزي وؼٌره ال نجد حارة مخصصة ألوالد‬
‫البلد الذي بنٌت بؤموالهم المدٌنة وتلك الحارات‪.‬‬

‫وعن حال معظم المصرٌٌن ساكنً األرٌاؾ ٌقول المقرٌزي‪" :‬وٌسمى المزارع المقٌم بالبلد فبلحا قرارا‪،‬‬
‫فٌصٌر عبدا قنا لمن أقطع تلك الناحٌة‪ ،‬إال أنه ال ٌرجو قط أن ٌُباع وال أن ٌُعتق‪ ،‬بل هو قن ما بقً ومن ولد‬
‫له كذلك"(‪ ،)ٔٙ‬وهو وصؾ قاسً ألن المصرٌٌن لم ٌكونوا عبٌدا‪ ،‬لكن ٌظهر أن الثراء والفخفخة التً مٌزت‬
‫االحتبلل العبٌدي المستفٌد األكبر منها األجانب‪ ،‬وقلة من المصرٌٌن العاملٌن فً الدواوٌن‪ ،‬فٌما تدهورت‬
‫أحوال المصرٌٌن فً األرٌاؾ عما كانت علٌه فً االحتبلالت السابقة كؤنه ملفوؾ بمنحنى ال ٌكؾ عن‬
‫الهبوط ألسفل‪.‬‬

‫وفً عبارة المقرٌزي أٌضا وكتاباته عموما ٌظهر أن توصٌؾ أهل الرٌؾ ومن ٌذهب منهم للقاهرة‬
‫بكلمة فبلح انتشرت بقوة أٌام االحتبلل المملوكً‪ ،‬واختفى التعبٌر العربً بكلمة "نبطً"‪.‬‬

‫▼▼▼ نتابج االحتالل العبٌدي‬

‫❶ المذهب الشٌعً والحركات السرٌة فً نظام الحكم‬

‫حٌن أسقط الملك الفارسً كورش بابل واستعد الجتٌاح بقٌة العالم لٌإسس "الحكومة العالمٌة" لم ٌقدم‬
‫نفسه على أنه محتل ؼاصب ٌؤخذ ما ال حق له‪ ،‬بل كمحرر للشعوب المستضعفة من حكامها الظالمٌن‪-‬‬
‫كنهج الفرس الشٌعة الٌوم‪ -‬فٌقول فً "أسطوانة كورش" ببابل‪" :‬كانت قواتى تجوب بسبلم بابل‪ ،‬ولم ٌكن‬
‫لسومر وأكد ما تخشاه‪ ،‬حرصت على توفٌر األمان فً المدٌنة وحماٌة مقدساتها‪ ،‬أما سكان بابل‪ ،‬الذٌن‬
‫عاشوا قهرً ا لم ٌكن ٌجب أن ٌعٌشوه‪ ،‬فقد هدأت من روعهم وحررتهم وحطمت قٌودهم"(‪.)ٔ9‬‬

‫ولما اقترب الجٌش العبٌدي الشٌعً من اإلسكندرٌة وأحس الوزٌر فً مصر جعفر بن الفرات بضعؾ‬
‫قوته‪ ،‬خاصة بعد تمرد الجند المرتزقة لقلة أو تؤخر مرتباتهم وسط الؽبلء‪ ،‬تشاور مع من حوله فً تسلٌم‬
‫مصر للعبٌدٌٌن‪ ،‬وانتهت المفاوضات بٌن ابن الفرات والعبٌدٌٌن بكتابة العبٌدٌٌن عهد أمان‪.‬‬

‫تضمن عهد األمان أن العبٌدٌٌن جاءوا "إلنقاذ" مصر من الفوضى‪ ،‬وأنهم سٌعٌدون لها األمن وٌحاربون‬
‫الؽش وٌنشرون العدل‪ ،‬وٌصلحون الحالة االقتصادٌة وٌدفعون مرتبات من انقطعت مرتباتهم وٌعمرون‬
‫المساجد‪ ،‬وأنهم لن ٌفرضوا مذهبهم الشٌعً على الناس‪.‬‬

‫لكن بعض سكان الفسطاط رفضوا عهد األمان‪ ،‬وأعلنوا أنه‪" :‬ما بٌننا وبٌن جوهر إال السٌؾ"‪ ،‬ووقع‬

‫(٘ٔ)‬
‫‪ -‬للمزٌد انظر الفاطمٌون تارٌخهم وآثارهم فً مصر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ ، ٖٔ8 -ٖٔ9‬والخطط المقرٌزٌة‪ ،‬جٕ‪ ،‬ص ٓ‪ٗٔ٘ -ٖ9‬‬
‫(‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬الخطط المقرٌزٌة‪ ،‬ج ٔ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٗ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬كورش األكبر والتسامح الدٌنً (مقالة)‪ ،‬موقع "تفانا" (فارسً)‪ ،‬مشروع التسامح ‪https://tolerance.tavaana.org/ar‬‬
‫(‪)ٔ9‬‬

‫ٔ‪ٕٙ‬‬
‫القتال وانتهى بهزٌمة جنود الفسطاط‪ ،‬فلما وصل الخبر إلى المعز فً المؽرب أنشده شاعر العبٌدٌٌن ابن‬
‫هانا مكاٌدة للعباسٌٌن‪:‬‬

‫فقل لبنً العباس‪ :‬قد قُضً األمر‬ ‫ٌقول بنو العباس‪ :‬هل فتحت مصر؟‬

‫ووجه كبلمه للمعز بقول ال ٌتوافق مع كل ما ادعوه عن صلتهم بنصرة اإلسبلم‪:‬‬


‫(‪)ٔ8‬‬
‫فاحكم فؤنت الواحد القهــار‬ ‫ما شبت ال ما شاءت األقدار‬

‫وكً ال ٌشعر السكان بوطؤة دخول المذهب الشٌعً ترك جامع عمرو بن العاص ٌدرس المذاهب‬
‫األربعة كم ا كان‪ ،‬وأمر ببناء جامع جدٌد لٌكون رمزا للسٌادة العبٌدٌة ومذهبها‪ ،‬فكان جامع القاهرة الذي‬
‫سمى بعد حٌن باألزهر‪.‬‬

‫وتحقق أمل العبٌدٌٌن فً ضعضعة نفوذ الخبلفة العباسٌة‪ ،‬ونتٌجة لذلك أمر جوهر الصقلً باالمتناع عن‬
‫ذكر اسم الخلٌفة العباسً فً المساجد‪ ،‬وأن ٌُذكر محله العبٌدي المعز لدٌن هللا‪ ،‬وصك العملة باسمه‪ ،‬وعلى‬
‫أحد وجهً العملة (الدٌنار) ٌُكتب "ال إله إال هللا محمد رسول هللا أرسله بالهدى ودٌن الحق لٌظهره على‬
‫الدٌن كله ولو كره المشركون‪ ،‬علىّ أفضل الوصٌٌن وزٌر خٌر المرسلٌن"‪ ..‬وهً صٌاؼة شٌعٌة‪ ،‬ونقض‬
‫جوهر الصقلً عهد األمان الذي أعطاه للناس بعد سنة واحدة‪ ،‬بؤن سعى لفرض المذهب الشٌعً بتؽٌٌر‬
‫قوانٌن المٌراث وإرؼام المساجد على أن تلهج بالدعاء الشٌعً ورفع اآلذان الشٌعً وبتعٌٌن الشٌعة فً‬
‫المناصب الكبٌرة‪ ،‬وخصوصا القضاة‪ ،‬لٌضعوا األحكام والفتاوى على المذهب الشٌعً‪ ،‬وبتعٌٌن المؽاربة‬
‫والشٌعة عموما مكان بعض الموظفٌن القدامى فً الوظاٌؾ بعد ما عرفوا خباٌاها‪.‬‬

‫وأمر أن ٌضم فً الخطبة عبارة‪" :‬اللهم صلً على محمد النبً المصطفى‪ ،‬وعلى علًّ المرتضى‪،‬‬
‫وعلى فاطمة البتول‪ ،‬وعلى الحسن والحسٌن سبطً الرسول اللذٌن أذهبت عنهم الرجس وطهرتهم تطهٌرا‪،‬‬
‫اللهم صلً على األبمة الراشدٌن آباء أمٌر المإمنٌن الهادٌٌن المهدٌٌن"‪ ،‬وأن ٌإذن فً جمٌع المساجد‬
‫بـ"حً على خٌر العمل"‪ ..‬وهً صٌؽة اآلذان عند الشٌعة‪.‬‬

‫كذلك صارت المساجد الكبٌرة كعمرو بن العاص وابن طولون منارات للدعوة للشٌعة كالجامع األزهر‪،‬‬
‫وأفرط الشٌعة فً االحتفاالت المستفزة بشعابرهم‪ ،‬مثل ٌوم عاشورا والضرب بآالت حادة على األجساد‬
‫إلسالة الدماء (التطبٌر) الذي ٌخالؾ الفطرة المصرٌة‪ ،‬واحتفلوا بٌوم الؽدٌر فً ‪ ٔ8‬ذي الحجة والذي ٌدعً‬
‫الشٌعة أن الرسول اختار فٌه علً بن أبً طالب خلٌفة له(‪.)ٔ9‬‬

‫وخبلل هذا وقعت اعتداءات بٌن الشٌعة والسكان بعد أن شعر الشٌعة‪ ،‬وخاصة المؽاربة‪ ،‬بعز السلطان‬
‫والنفوذ‪ ،‬فسعوا إلجبار السكان على المشاركة فً احتفاالتهم وطقوسهم‪ ،‬وٌضربون فً الشوارع من‬

‫(‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬راجع التفاصٌل السابقة فً‪ :‬اتعاظ الحنفا فً أخبار األبمة الخلفا‪ ،‬المقرٌزي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪99‬‬
‫(‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الدولة الفاطمٌة تفسٌر جدٌد‪ ،‬مرجع سابق‪ٔٗٗ -ٔٗٔ ،‬‬

‫ٕ‪ٕٙ‬‬
‫ٌرفض‪ ،‬وأكبر مواجهة حصلت أٌام المعز(ٕٓ) لما نهب المؽاربة أمبلك السكان‪ ،‬واؼتصبوا دٌارهم‪،‬‬
‫وأخرجوهم منها عنوة‪ ،‬فتدخل بعد كثرة شكاوى الناس‪ ،‬ونقل المؽاربة خارج القاهرة إلى عٌن شمس‪.‬‬

‫وفً عهد العزٌز باهلل الذي تولى سنة ٘‪ ٖٙ‬هـ اهتم بالمذهب الشٌعً‪ ،‬وبؤن تكون المناصب الهامة‬
‫قاصرة على الشٌعة‪ ،‬وإلزام الموظفٌن من ؼٌر الشٌعة فً الوظاٌؾ األقل مكانة بالسٌر على أحكام المذهب‬
‫الشٌعً‪ ،‬وترتب على ذلك دخول البعض فً المذهب الشٌعً لٌصل إلى المراتب العلٌا‪.‬‬

‫واشتدت المحنة بتولى الحاكم بؤمر هللا ٓ‪ ٖ9‬هـ‪ ،‬وهو أكثر تعصبا للشٌعة ممن سبقوه‪ ،‬فؤمر بنقش سب‬
‫الصحابة على جدران المساجد واألسواق والشوارع‪ ،‬وألؽى صبلة الضحى والتراوٌح‪ ،‬وألزم المساجد بقول‬
‫حً على العمل فً اآلذان‪ ،‬ولكنه تراجع عن ذلك بعد سنتٌن لما كثرت شكاوى الناس‪ ،‬فسمح بإنشاء مدرسة‬
‫للمذهب "السنً"‪ ،‬وأصدر مرسوما للتوفٌق بٌن "السنة" والشٌعة فً أحكام صوم رمضان ورإٌة الهبلل‪،‬‬
‫وبعد ٖ سنٌن من الهدوء‪ ،‬عاد أدراجه‪ ،‬فتعصب مجددا للمذهب الشٌعً‪ ،‬وأبطل صبلة الضحى والتراوٌح‬
‫وفرض عبارة حً على العمل فً اآلذان‪ ،‬وفً عهد الخلٌفة الظاهر والخلٌفة المستنصر اشتدت روح العداء‬
‫لؽٌر الشٌعة‪ ،‬ورجع فرض نقش سب الصحابة فً الشوارع‪.‬‬

‫واستخدم االحتبلل العبٌدي األعٌاد كسبلح لنشر المذهب الشٌعً ولتحبٌب الناس فً حكمه‪ ،‬مستؽبل‬
‫الخٌرات الوفٌرة فً مصر لئلنفاق علٌها‪ ،‬حتى سماه البعض "عصر التفارٌح"‪ ،‬ومنها أعٌاد قومٌة (مصرٌة‬
‫بحتة) كعٌد النٌروز (رأس السنة المصرٌة)‪ ،‬وأعٌاد دٌنٌة وجدوها كعٌدي الفطر واألضحى والقٌامة‬
‫والؽطاس‪ ،‬وأعٌاد أخرى ابتدعوها كالمولد النبوي وموالد فاطمة والحسٌن وعلً ابن أبً طالب وؼٌرهم من‬
‫آل البٌت‪ ،‬وأكثروا من بناء المساجد‪ ،‬سواء مساجد كؤضرحة آلل البٌت‪ -‬ألول مرة‪ -‬لٌتحلق حولها الناس‬
‫وٌقتربوا من الفكر الشٌعً‪ ،‬أو مساجد لتخلٌد أسامً الخلفا؛ فاتخذت مصر "وجها إسبلمٌا" لم تكن قد‬
‫اكتسبته بهذا الشكل من قبل‪.‬‬

‫واشتهر فً تلك األعٌاد أنهم ٌمدون السماط‪ ،‬وهو موابد الطعام‪ ،‬بكل األطعمة الفاخرة من الذباٌح‬
‫والمشوٌات والحلوى‪ٌ ،‬نعم بها كبار رجال الحكم العبٌدي‪ ،‬وٌقول المسبحً إنه فً أزمة سنة ٘ٔٗ ه‪/‬‬
‫ٕ٘ٓٔ م كبس العامة على القصر ٌوم عٌد النحر صابحٌن‪ :‬الجوع الجوع‪ ،‬نحن أحق بسماط موالنا‪ ،‬ونزل‬
‫علٌهم الصقالبة بالضرب‪ ،‬فلم ٌبالوا‪ ،‬وتهافتوا على الطعام ٌنهبونه نهبا وٌضربون بعضهم بعضا(ٕٔ)‪.‬‬

‫وهكذا ساهم االحتبلل العبٌدي فً شق المسلمٌن لشٌعً ومسلم كما تسبب االحتبلل الرومانً الٌونانً فً‬
‫شق المسٌحٌٌن إلى أرثوذكسً وكاثولٌكً مع ما ٌجلبه هذا من مذابح وخبلفات تعذب األرواح وتفرق‬
‫الناس‪ ،‬ومن فضل هللا أن هذا الشقاق لم ٌتوؼل فً الجسد المصري وظل أثره أشد ما ٌكون على السطح فً‬
‫وسط الطبقة الحاكمة والمستوطنٌن الخلٌط من األجناس بالفسطاط والقاهرة‪.‬‬

‫(ٕٓ)‬
‫‪ -‬من مظاهر الؽفلة التارٌخٌة للمصرٌٌن ترك أكبر شارع فً حً األزهر باسم المعز‪ ،‬فؽرٌب مثبل أن ٌسعى بعض الناس إلزالة أسماء حكام‬
‫مصرٌٌن من المدن مثلما حدث مع الربٌس حسنً مبارك النتشار الفساد فً عصرهم‪ ،‬فً حٌن نلتزم باإلبقاء على أسماء المحتلٌن‪.‬‬
‫(ٕٔ)‬
‫‪ -‬للمزٌد انظر‪ :‬خطط المقرٌزي‪ ،‬جٔ‪ ،‬ص ‪ ٖ88 -ٖٗ8‬وٖٗ‪ ،9ٖ8 -9‬والدولة الفاطمٌة فً مصر تفسٌر جدٌد‪ ،‬ص ‪٘9ٔ -٘٘8‬‬

‫ٖ‪ٕٙ‬‬
‫ولكن ظلت له ندبات وتقٌحات بشكل آخر‪ ،‬منها الطرق التً ادعت الصوفٌة وٌشرؾ علٌها أشخاص من‬
‫فارس والمؽرب‪ ،‬تنشر الخرافات والتواكل والطاعة العمٌاء لئلمام‪ ،‬ممثبل فً شٌخ الطرٌقة‪ ،‬وتنزع اإلٌمان‬
‫الحقٌقً لتؽرس محله القشور والمظاهر‪ ،‬وتكره الناس فً مقاومة المحتلٌن‪ ،‬كما سنرى‪.‬‬

‫❷ القاهرة‪ ..‬عاصمة جدٌدة محرمة على المصرٌٌن‬

‫اختار جوهر الصقلً تؤسٌس عاصمة جدٌدة لٌكون بعٌدا عن أجناس العرب والترك وؼٌرهم من سكان‬
‫الفسطاط والعسكر والقطابع (وسمت هذه المدن على بعضها باسم مصر العتٌقة أو القدٌمة)‪ ،‬فاختار منطقة‬
‫األزهر الحالٌة لتكون سكنا له وللقادمٌن معه‪ ،‬وتعبؤت بالقصور المنٌفة التً نافست قصور الخلٌفة العباسً‬
‫واإلمبراطور البٌزنطً والمساجد الفخٌمة‪ ،‬فكان بناإها عببا جدٌدا على المصرٌٌن‪ ،‬استنزؾ أموالهم‬
‫وجهدهم فً مدٌنة لم ٌستفٌدوا منها حٌنها شٌبا‪ ،‬بل كان إقامتهم فٌها شبه مستحٌلة(ٕٕ)‪ ،‬فالقاهرة طوال القرن‬
‫األول من االحتبلل العبٌدي كان محرم دخولها على أفراد الشعب إال بإذن خاص ألؼراض خدمٌة(ٖٕ)‪،‬‬
‫وحتى بداٌة القرن الـ ‪ ٔ9‬ظ َّل من ٌهرب من المجاعات أو السخرة فً األرٌاؾ وٌتسلل إلى القاهرة معرض‬
‫للطرد بقرار رسمً فً أي وقت‪.‬‬

‫❸ إبادة ثلث سكان مصر‬

‫شهد االحتبلل العبٌدي سلسلة مجاعات لم تذق مرارتها مصر منذ مبات السنٌن‪ ،‬وأشهرها ما سطره التارٌخ‬
‫باسم "الشدة المستنصرٌة"‪ ،‬وهً المجاعة العظمى التً حصلت فً عهد المستنصر‪ ،‬وظلت ‪ 9‬سنوات بداٌة من‬
‫‪ ٗ٘9‬هـ نتٌجة كثرة الصراعات بٌن األج ناس المختلفة داخل الجٌش والصراع على الحكم داخل القصر‪ ،‬والؽفلة‬
‫عن مشارٌع الري وتخزٌن المحاصٌل ووضع نظام لتوزٌعها وقت األزمات بالعدل‪.‬‬

‫وقال ابن وصٌؾ شاه فً "جواهر البحور"‪ ،‬والمقرٌزي فً "إؼاثة األمة بكشؾ الؽمة" انتشر الجوع‬
‫حتى بٌع رؼٌؾ الخبر بـ ٘ٔ دٌنارا‪ ،‬وأ ُكلت الكبلب والقطط‪ ،‬فبٌع الكلب لٌإكل بـ ٘ دنانٌر‪ ،‬وزادت الحال‬
‫حتى أكل الناس بعضها بعضا‪ ،‬فكان ٌجلس الناس على سطوح بٌوتهم ومعهم خطاؾ لٌصطادوا المارة‬
‫وٌشرحوا لحمهم وٌؤكلونهم‪ ،‬وتعذر السٌر إال بحراسة‪ ،‬وباع المستنصر كل ما فً قصره من ذخابر وأُثاث‬
‫وسبلح‪ ،‬وجلس على حصٌر‪ ،‬وذهب وقاره‪ ،‬ونساء القصور ٌخرجن ناشرات شعورهن تصحن‪" :‬الجوع!‬
‫الجوع!"‪.‬‬

‫ووقفت سٌدة فً السوق تسخر من المستنصر وتقول فٌما معناه إنه بفضل حكمه أصبح قرص الخبز‬
‫بؤلؾ دٌنار‪ ،‬فقرر استخدام الشدة مع التجار الذٌن ٌحتكرون القمح‪ ،‬وهددهم بقطع الرإوس إن استمروا فً‬
‫ذلك‪ ،‬وقطع بالفعل رأس أشخاص أمامهم‪ ،‬فخافوا وأخرجوا ما فً مخازنهم وعمرت األسواق‪.‬‬

‫(ٕٕ)‬
‫‪ -‬من عالمات الؽفلة التارٌخٌة أن المسبولٌن اختاروا أن ٌكون العٌد القومً لمحافظة القاهرة هو ٌوم تؤسٌسها‪ ،‬رؼم أنه ٌعد ٌوم "تثبٌت"‬
‫االحتالل العبٌدي لمصر‪ ،‬وال ٌلٌق االحتفا ل بؤي مناسبة فٌها انتصار لالحتالل‪ ،‬وكان األولى اختٌار أي مناسبة وطنٌة شهدتها القاهرة مثل ٌوم ثورة‬
‫ٔ‪( ٔ88‬المشهورة بثورة عرابً) أو ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬اللتٌن انطلقتا من القاهرة لتحرٌر البالد من لٌل االحتالالت الطوٌل‪.‬‬
‫(ٖٕ)‬
‫‪ -‬الدولة الفاطمٌة تفسٌر جدٌد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔ‪ٗ9‬‬

‫ٗ‪ٕٙ‬‬
‫وشرح المقرٌزي أسباب المجاعة‪ ،‬فهً لٌس لمجرد نقص فٌضان النٌل كما هو شابع‪ ،‬بل هً أسباب‬
‫السقوط والمجاعات فً كل زمن‪ ،‬وهً كما قال‪" :‬ضعؾ السلطنة‪ ،‬واختبلل أحوال المملكة‪ ،‬واستٌبلء‬
‫األمراء عل ى الدولة‪ ،‬واتصال الفتن بٌن العربان‪ ،‬وقصور النٌل‪ ،‬وعدم من ٌزر ما شمله الري"(ٕٗ)‪ ،‬إضافة‬
‫الحتكار كبار التجار للؽبلل والدقٌق وتخزٌنه لحصد الربح الحرام‪ ،‬أي أن األسباب الربٌسٌة هً ضعؾ‬
‫قبضة الدولة المركزٌة‪ ،‬وظهور مراكز القوى الذٌن ٌناطحون الحاكم‪ ،‬والفتن التً ٌنشرها الدخبلء‪ ،‬وؼفلة‬
‫الدولة عن مشروعات الري ومنع االحتكار‪ ،‬وأخٌرا ٌكون قصور النٌل‪ ،‬فإذا ما قصر النٌل ووجد هذه‬
‫األسباب حصل الخراب والمجاعات‪.‬‬

‫ولم ٌذكر المقرٌزي بالتفصٌل ما حدث للمصرٌٌن فً األرٌاؾ مثلما وصؾ ما حدث فً القاهرة‬
‫والفسطاط‪ ،‬والمتوقع أنه كان أشد ألؾ مرة‪ ،‬فإن كان الحاكم العبٌدي بكل ؼناه باع سبلحه وأثاثه وشكت‬
‫نساء قصوره الجوع فما المتصور أن ٌكون حصل للفبلحٌن الذٌن ال ٌملكون هذا وال ذاك؟‬

‫ؼٌر أنه أشار إشارة عابرة حٌن قال‪" :‬وتعطلت األراضً الزراعٌة"‪ ،‬وما نقله البعض من أن مصر‬
‫فقدت فً هذه الشدة ثلث سكانها(ٕ٘)‪ ،‬وبما أن معظم السكان فً األرٌاؾ فمعظم الضحاٌا مصرٌون‪.‬‬

‫❹ العودة للعٌشة تحت راٌة الدماء واالؼتٌاالت‬

‫بتبدل الجالٌات والمحتلٌن ‪ ،‬فإن القادم الجدٌد ٌصدق علٌه المثل المصري "الؽربال الجدٌد له شدة"‪ ،‬فٌسعى بكل‬
‫قوته للتمكٌن لنفسه بكل وسٌلة‪ ،‬خاصة فً ظل الصراع المحتدم على كعكة الببلد بٌن األعراق واألجناس‪.‬‬

‫وبجلب األرمن القادمٌن للسٌطرة بدأ ما ٌسمٌه مإرخون "عصر الوزراء"‪ ،‬جعلوا فٌه نفوذ الوزاء فوق‬
‫الخلفاء وٌرون أنفسهم أصحاب الفضل فً مد عمر الدولة العبٌدٌة بعد الفتن والمجاعات التً لطخت عهد‬
‫المستنصر‪ ،‬فباتت االؼتٌاالت والفساد والرشاوى عنوان العصر لحمى التنافس الشدٌد على منصب الوزٌر‬
‫صاحب النفوذ‪ ،‬بل وسادت االؼتٌاالت فً البٌت الحاكم نفسه للتسابق على منصب الخلٌفة‪ ،‬حتى أن بعض‬
‫الخلفاء قتلوا أولٌاء العهد األطفال‪.‬‬

‫ووصل األمر إلى أن بعضهم استعان بقوى من الخارج ضد الطرؾ اآلخر‪ ،‬مثل استعانة الخلٌفة العاضد‬
‫بنور الدٌن زنكً فً الشام‪ ،‬واستعانة الوزٌر شاور بالفرنجة المحتلٌن بٌت المقدس‪.‬‬

‫وتحكم األرمن فً العبٌدٌٌن كما تحكم األتراك فً العباسٌٌن‪ ،‬فتضخم نفوذ الوزٌر حتى أن األفضل بعد‬
‫أن ورث المنصب من أبٌه بدر الجمالً استبعد نزار من الخبلفة بعد وفاة العاضد رؼم مخالفة هذا للمذهب‬
‫اإلسماعٌلً الذي ٌعطً العرش لبلبن األكبر‪ ،‬فتشٌع لنزار البعض‪ ،‬وترأس شٌعته الحسن بن الصباح الذي‬
‫جاء من فارس إلى مصر ألهداؾ مرٌبة أٌام المستنصر‪ ،‬ودخل فً صراع مع الجمالً فطرده‪ ،‬وأنشؤ فً‬
‫فارس تنظٌما سرٌا دموٌا عُرؾ باسم "الحشاشٌن"‪ٌ ،‬عد من أقدم تنظٌمات المسٌخ الدجال المتخفٌة بالدٌن‪،‬‬

‫(ٕٗ)‬
‫‪ -‬انظر إؼاثة األمة بكشؾ الؽمة‪ ،‬ص ‪ٔٓٓ -98‬‬
‫(ٕ٘)‬
‫‪ -‬الدولة الفاطمٌة تفسٌر جدٌد‪ ،‬ص ٕ٘ٓ‬

‫٘‪ٕٙ‬‬
‫وعلى فكره وأسلوبه تعٌش تنظٌمات حالٌا ك"اإلخوان المسلمٌن"‪.‬‬

‫وأسس الحسن الصباح أٌضا فرقة شٌعٌة عُرفت باسم النزارٌة احتضنت الهادي بن نزار بعد فراره إلٌها‬
‫فً فارس‪ ،‬وال تعترؾ بشرعٌة حاكم مسلم إال إذا كان من ذرٌة الهادي هذا‪ ،‬ولها أبمة تقول إنهم من‬
‫ذرٌته‪ ،‬وهم أبمة ظاهرٌن للناس؛ حٌث ال تإمن بمبدأ اإلمام الؽابب‪ ،‬ومن ذرٌته أؼاخان صاحب المشارٌع‬
‫"الثقافٌة"‪ ،‬و"الخٌرٌة" فً مصر حالٌا والهادفة إلعادة نفوذ الشٌعة اإلسماعٌلٌة وحكم مصر(‪.)ٕٙ‬‬

‫وبعد وفاة المستعلً باٌع األفضل ابن المستعلً أبو علً فً منصب الخبلفة ولقب باآلمر بؤحكام هللا‪،‬‬
‫وكان األفضل ال ٌمٌل للمذهب الشٌعً‪ ،‬فؤلؽى االحتفاالت بالمولد النبوي وموالد فاطمة وعلً إلخ‪ ،‬لكن‬
‫الخلٌفة اآلمر دبَّر مإامرة وقتل األفضل‪ ،‬وعٌن مكانه عبد هللا محمد بن البطابحً‪.‬‬

‫وبعد ٓٔ سنٌن توفى اآلمر وابنه ما زال جنٌنا فً بطن أمه‪ ،‬فاختار الجند المرتزقة أبو المٌمون ابن عم‬
‫الخلٌفة وباٌعه كبار القوم كولً للعهد باسم الحافظ لدٌن هللا حتى ٌتضح إن كان المولود ذكرا أم أنثى‪ ،‬وبعد‬
‫أن وضعت الزوجة المولود الذكر اختفت بابنها‪ ،‬وقٌل إنها فرَّ ت به خوفا من قتله خبلل الصراع على‬
‫الحكم‪ ،‬وفً فترة الحقة وجد الطفل مقتوال‪.‬‬

‫وتولى الوزارة أحمد بن األفضل الذي منع الحافظ من الحكم وعاش كالسجٌن‪ ،‬واؼتال ٌانسً األرمنً‬
‫بن األفضل‪ ،‬وأخرجوا الحافظ من محبسه‪ ،‬وصار هذا الٌوم عٌدا للدولة العبٌدٌة حتى زوالها‪ ،‬وعٌن الحافظ‬
‫ٌانسً وزٌرا‪ ،‬وقرَّ ب بنً جلدته األرمن فً مناصب الدولة‪ ،‬واستؤثروا بجانب كبٌر من الثروة‪ ،‬فثار علٌه‬
‫منافسوه من بقٌة األعراق الوافدة‪ ،‬فهرب إلى أخٌه المقٌم فً الوجه القبلً‪.‬‬

‫وبعد وفاة الخلٌفة الحافظ تولى ابنه الظافر وعٌن نجم الدٌن بن مصال منصب الوزارة‪ ،‬وحصل بٌن‬
‫رجال الدولة العبٌدٌة صراع على منصب الوزٌر لدرجة أن علً بن السبلر والً اإلسكندرٌة والبحٌرة‬
‫توجه بقواته إلى القاهرة لٌستولً على المنصب‪ ،‬وهرب ابن مصال ثم قتل‪ ،‬وأخذ بن السبلر مكانه؛ فتآمر‬
‫علٌه رجال الخلٌفة وقتلوه‪ ،‬وعٌن مكانه أبو الفضل عباس الذي تآمر بدوره على الخلٌفة وقتله سنة ‪٘ٗ9‬‬
‫هـ‪ ،‬فهاج أنصار الخلٌفة على أبو الفضل العباس فهرب وقُتل(‪.)ٕ9‬‬

‫وهكذا صار عنوان ذلك العصر متعدد األعراق والملل‪ ..‬قتل فً قتل‪ ،‬وؼدر فً ؼدر‪.‬‬

‫تولى الخبلفة عٌسى الملقب بالفابز بنصر هللا وهو طفل عمره ٘ سنٌن‪ ،‬أصٌب بالصرع من هول ما‬
‫شاهد من مناظر الدماء والقتل فً القصر‪ ،‬ومات‪ ،‬وبعد موته تولى العاضد‪ ،‬وهو آخر الخلفاء العبٌدٌٌن‬

‫(‪)ٕٙ‬‬
‫‪ -‬النزارٌة اإلسماعٌلٌة تنتشر فً الهند وشرق أفرٌقٌا وأوروبا‪ ،‬وتنشط فً التجارة‪ ،‬وترصد أمواال لٌكون لها موطؤ قدم فً بلدان بعٌنها‪،‬‬
‫وخاصة مصر‪ ،‬مشهور إمامهم بلقب آؼاخان الذي تحمل اسمه مإسسة عالمٌة تدٌر مشروعات ثقافٌة وخٌرٌة فً العالم كقوة ناعمة لهم‪ ،‬وٌعدونه‬
‫"إمام المسلمٌن"‪ ،‬ونظرا الهتمام اإلسماعٌلٌة بؤن ٌكون لهم قدم راسخة فً القاهرة‪ ،‬خاصة المناطق المشٌدة خالل االحتالل العبٌدي‪ ،‬مولت‬
‫مإسسة "آؼا خان للعمارة" إنشاء حدٌقة األزهر‪ ،‬كما ٌحتل آؼاخان الثالث موقعا ممٌزا فً أسوان على النٌل‪ ،‬شٌد فٌه قبره خالل خضوعه للعالج‬
‫فً أسوان‪ ،‬وٌحصلون على هذه االمتٌازات فً مصر مقابل مشارٌع خٌرٌة وثقافٌة ٌشجعها المسبولون دون التفكٌر فً العواقب أو األهداؾ البعٌدة‬
‫لهذه المإسسة التً ترى أن إمامها هو حاكم مصر والعالم‪.‬‬
‫(‪)ٕ9‬‬
‫‪ -‬المزٌد انظر‪ :‬الدولة الفاطمٌة تفسٌر جدٌد‪ ،‬أٌمن فإاد سٌد‪ ،‬ص ‪ٕٙ8 -ٕٕٙ‬‬

‫‪ٕٙٙ‬‬
‫وشهد انهٌار دولة زعم مإسسوها أن جدهم هو اإلمام المهدي المنتظر الذي جاء لٌمبلء الدنٌا عدال ونورا‪،‬‬
‫فكانت االؼتٌاالت والدماء والفساد والطابفٌة والتنظٌمات السرٌة والمجاعات والفتن أبرز إنجازاتها‪.‬‬

‫ولنا أن نتخٌل أٌضا أحوال المصرٌٌن فً األرٌاؾ وهذه المطاردات والمعارك تدك قراهم د َّكا‪ ،‬وتسلب‬
‫أموالهم سلبا؛ لتموٌل السبلح وتوزٌع المتحاربٌن الدخبلء الرشاوى لشراء والء المرتزقة فً الملٌشٌا‬
‫المتنافسة‪ ،‬وأبو الهول فً مكانه العالً بالجٌزة ٌطل على هذا المشهد السخٌؾ من عمر مصر‪ ...‬كؤنه‬
‫ٌحترق ألما‪ ،‬تنتفض الحجارة بداخله‪ٌ :‬ا رب‪ ..‬أما لهذا العقاب من نهاٌة؟‬

‫❺ المصرٌون ٌكتبون بالعربٌة محل اللؽة المصرٌة‪ ...‬الخنجر الخامس‬

‫فً كتابه "أحسن التقاسٌم فً معرفة األقالٌم"‪ٌ ،‬قول شمس الدٌن المقدسً بعد رحلته إلى مصر أٌام‬
‫االحتبلل العبٌدي عما سمَّاه "إقلٌم مصر"‪" :‬وعامة ذمته نصارى ٌُقال لهم القبط"‪ ،‬وعن سكان مصر عموما‬
‫من مصرٌٌن وؼٌر مصرٌٌن قال‪" :‬لؽتهم عربٌة ؼٌر أنها ركٌكة رخوة‪ ،‬وذمتهم ٌتحدثون بالقبطٌة"(‪.)ٕ8‬‬

‫وعلى هذا فإن معظم المصرٌٌن كانوا وقت االحتبلل العبٌدي ٌتحدثون اللؽة المصرٌة‪ ،‬ومن ٌتحدث‬
‫العربٌة‪ ،‬مصري أو ؼٌر مصري‪ ،‬فبصورة ركٌكة‪.‬‬

‫وفً أواخر القرن الرابع الهجري (ٓٔ م) تباعد بعض المصرٌٌن المتعلمٌن عن لؽتهم فً كتاباتهم‪ ،‬ولو‬
‫كانت عن تارٌخهم؛ فنرى ساوٌرس بن المقفع أسقؾ األشمونٌن ٌإرخ للبطاركة بلؽة عربٌة ركٌكة‪ ،‬وٌجمع‬
‫الوثابق الٌونانٌة والوثابق المصرٌة المكتوبة بالحرؾ القبطً لٌترجمها إلى العربٌة‪ ،‬ما ٌدلنا على أن العربٌة‬
‫أصبحت لؽة الكبلم للمتعلمٌن من المصرٌٌن‪ ،‬خاصة من ٌرٌدون أن ٌكون لهم باع فً الثقافة‪ ،‬فكانت ثانً‬
‫أكبر خطاٌاهم فً حقها بعد خطٌبة ترك عبلمات (حروؾ) اللؽة المصرٌة واستخدام الٌونانٌة‪.‬‬

‫فإن كانوا ٌتحججون باختٌار اللؽة العربٌة وقتها لؽة للكتابة بؤن التحكم فً مراكز الثقافة صار بٌد الحكام‬
‫العرب والمستعربٌن‪ ،‬إال أنه كان ٌلزم أن ٌؤخذوا كل وسٌلة لحماٌة اللؽة المصرٌة فً نفس الوقت‪ ،‬مثل‬
‫كتابة القصص واألؼنٌات الخاصة بكل المناسبات المصرٌة واألشعار فً كل مجال وأحداث التارٌخ التً‬
‫تمر بهم‪ ،‬لٌستمر إقبال المصرٌٌن علٌها‪ ،‬وال ٌحبسونها فقط فً الشؤن الدٌنً حتى انزوت فً نصوص دٌنٌة‬
‫أو جافة فً الكنٌسة‪.‬‬

‫فكم من جالٌات أجنبٌة احتفظت بلؽتها رؼم مرور السنٌن علٌها‪ ،‬ورؼم عدم تبنً الدولة المقٌمٌن فٌها‬
‫للؽتهم‪ ،‬فما بالنا بؤهل البلد ٌهملون لؽتهم لحجج واهٌة‪ ،‬وخاصة المتعلمٌن منهم المفروض أنهم حراس‬
‫الهوٌة ومنها اللؽة‪ ..‬إنها كما ٌقول المثل المصري الفصٌح "حجة البلٌد"‪.‬‬

‫ٌحكً المسعودي فً "مروج الذهب" أن قبطٌا عمره ٖٓٔ عاما استضافه أحمد بن طولون لما شاع عنه من‬
‫معرفة بالتارٌخ‪ ،‬ومن ضمن ما سإل عنه‪ :‬ما بال هذه الكتابة التً على األهرام والبرابً (المعابد) ال ُتقرأ؟‬

‫(‪)ٕ8‬‬
‫‪ -‬أحسن التقاسٌم فً معرفة األقالٌم‪ ،‬المقدسً المعروؾ بالبشاري‪ ،‬مكتبة مدبولً‪ ،‬طٖ‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ99ٔ ،‬ص ٕٕٓ‪ٕٖٓ -‬‬

‫‪ٕٙ7‬‬
‫"دثر الحكماء وأهل العصر الذٌن كان هذا قلمهم‪ ،‬وتداول أرض مصر األمم‪ ،‬فؽلب على أهلها‬ ‫فقال‪ُ :‬‬
‫القلم الرومً ]الٌونانً[ وأشكال األحرؾ للروم‪ ،‬والقبط تقرإه على حسب تعارفها إٌاه‪ ،‬وخلطها ألحرؾ‬
‫الروم بؤحرفها‪ ،‬على حسب ما ولَّدوا من الكتابة بٌن الرومً والقبطً األول‪ ،‬فذهبت عنهم كتابة آبابهم"(‪.)ٕ9‬‬

‫فذهبت عنهم كتابة آبابهم‪ ..‬واآلن ٌعضون أصابعهم بالندم‪ ،‬وٌكتفون باتهام المحتل الٌونانً والعربً‬
‫بالمسبولٌة عن كسر لؽتهم‪ ،‬وٌنسون أنفسهم وتقصٌرهم وإهمالهم واستسهالهم فً تقلٌد األجنبً‪.‬‬

‫ورؼم ذلك لم تعدم اللؽة أبنابها‪ ،‬فحصلت صحوة ؼٌورة على اللؽة المصرٌة القرن ٓٔ م أٌضا؛ فكثرت‬
‫الكتابة بها خاصة فً الدٌر األبٌض (دٌر األنبا شنودة صاحب الصحوة الؽٌورة على اللؽة المصرٌة أٌضا‬
‫وقت االحتبلل الرومانً)‪ ،‬وعثر فً نفس القرن على مخطوطة منسوبة خطؤ لؤلنبا صوبٌل القلمونً تحث‬
‫بشكل مإثر على االهتمام باللؽة القبطٌة(ٖٓ)‪ ،‬ولكن لم ٌكن هذا كافٌا‪ ،‬ألن معظم اإلنتاج باللؽة المصرٌة ظل‬
‫محصورا فً الشؤن الدٌنً وقواعد اللؽة‪ ،‬ولم ٌحظ بنفس االهتمام فً تسجٌل لؽة الحٌاة الٌومٌة واألحداث‬
‫واألؼانً والمراثً والتارٌخ‪.‬‬

‫وفً ذلك العصر أٌضا بدأت فً القاهرة بذور ما نسمٌها اآلن اللؽة المصرٌة الحدٌثة أو الدارجة أو‬
‫اللهجة المصرٌة‪ ،‬أو المصرٌة العامٌة أو لهجة القاهرة‪ ،‬وستؤخذ شكلها الواضح فً االحتبلل المملوكً‪.‬‬

‫وفً ذلك ورد فً كتاب "اللهجة المصرٌة الفاطمٌة"‪ " :‬فؤبناء هذا العصر مزاج مشترك من أبناء‬
‫الطوابؾ العربٌة والقبابل الوافدة ومن أبناء البٌبة المصرٌة األقباط"(ٖٔ)‪ ،‬وفٌها أخذت العربٌة من المصرٌة‬
‫وأخذت المصرٌة من العربٌة فخرج الشكل الجدٌد‪.‬‬

‫❻ توزٌع أرض مصر على األجانب‬

‫أراض فً مصر‪ ،‬وبدأ تملك الخلفاء لؤلراضً منذ عهد‬


‫ٍ‬ ‫طوال عهد الخلفاء الراشدٌن لم ٌتملك خلٌفة‬
‫معاوٌة بن أبً سفٌان فوجدت له ضٌاع‪ ،‬واستمر هذا األمر فً العصور التالٌة ومنها عصر االحتبلل‬
‫العبٌدي الذي توسع خلفاإه فً التملك بشدة‪.‬‬

‫ومع وجود نظام الملكٌة الخاصة‪ ،‬فإن الجزء األكبر من األرض تملكته الدولة العبٌدٌة بمرتزقتها‪ ،‬وزاد‬
‫بشكل كبٌر لكثرة األوببة والمجاعات التً حصدت أرواح عدد مهول من المصرٌٌن وؼٌر المصرٌٌن وآلت‬
‫أراضٌهم للدولة‪ ،‬وبخاصة فً عهد المستنصر الذي شهد مجاعتٌن كبٌرتٌن وحروبا طاحنة بٌن عسكره‪.‬‬

‫كذلك وجد فً ذلك العصر نظام إعطاء الدولة للناس أراضً لٌزرعوها بحق االنتفاع ال التملٌك‪ ،‬ونظام‬
‫تؤجٌر أراضً الدولة لمن ٌزرعها‪ ،‬ونظام أخذ األرض بوضع الٌد(ٕٖ)‪ ،‬وتوسع نظام األوقاؾ‪ ،‬ونظام إقطاع‬

‫(‪)ٕ9‬‬
‫‪ -‬مروج الذهب ومعادن الجوهر‪ ،‬أبو الحسن علً المسعودي‪ ،‬ج ٔ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ‪ٕٙ‬‬
‫(ٖٓ)‬
‫‪ -‬تراث األدب القبطً‪ ،‬شنودة ماهر وٌوحنا نسٌم ٌوسؾ‪ ،‬مإسسة القدٌس مرقس لدراسات التارٌخ القبطً‪ ،ٕٖٓٓ ،‬ص ‪ٕٙ‬‬
‫(ٖٔ)‬
‫‪ -‬اللهجة المصرٌة الفاطمٌة دراسة تارٌخٌة وصفٌة‪ ،‬عطٌة سلٌمان أحمد‪ ،ٔ99ٖ ،‬نسخة إلكترونٌة‪ ،‬ص ٕٓٓ‪ٕٓٔ -‬‬
‫(ٕٖ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الدولة الفاطمٌة تفسٌر جدٌد‪ ،‬ص ‪ٗ9ٔ -ٗٙ9‬‬

‫‪ٕٙ8‬‬
‫األرض بنظام التملٌك بدون مقابل ألفراد أدوا خدمات للدولة أو كإقطاعات لكبار رجال الدولة العبٌدٌة (ٖٖ)‪.‬‬

‫وفً نفس الوقت ٌملك الخلٌفة الكثٌر من العقارات والدكاكٌن‪ ،‬فٌقول ناصر خسرو فً رحلته إن فً‬
‫القاهرة ٕٓ ألؾ دكان كلها ملك للسلطان‪ ،‬بخبلؾ الحمامات(ٖٗ)‪ ...‬فً القاهرة فقط بخبلؾ ما خارجها‪.‬‬

‫❼ نزؾ المصرٌٌن الجزٌة والخراج لألجنبً‬

‫لما جاء العبٌدٌون أرادوا استؽبلل خٌرات مصر ألقصى حد‪ ،‬خاصة مع كثرة حروبهم‪ ،‬ومٌلهم‬
‫لئلسراؾ والبذخ والمظهرة وبناء القصور والمساجد فً أفخم صورة‪ ،‬ففرضوا ضراٌب فادحة اشتهرت‬
‫باسم "المكوس"‪ ،‬بلؽت ٓ‪ 8‬مكسا بحسب المقرٌزي‪ ،‬وأبدى الرحالة المقدسً خبلل زٌارته لمصر استؽرابه‬
‫من كثرة وثقلة المكوس بها‪ ،‬وتلؽً الدولة العبٌدٌة المكوس أحٌانا خبلل األزمات االقتصادٌة الطاحنة‬
‫كالؽبلء والمجاعات للتخفٌؾ عن الناس‪ ،‬ثم تعود لفرضها(ٖ٘)‪.‬‬

‫وظهر فً عصرهم نظام "الضمان"‪ ،‬وهو نظام مالً ؼٌر شرعً أٌضا‪ٌ ،‬شبه نظام المقابلة أو االلتزام‬
‫فً الزراعة‪ ،‬وٌعنً أن ٌلتزم شخص بتقدٌم مبلػ متفق علٌه للدولة عن قٌمة الضراٌب والمكوس المفروضة‬
‫على جهة ما‪ ،‬وٌؤخذ الباقً لنفسه‪ ،‬وٌتحمل الفرق إن نقص المبلػ‪ ،‬وهو ما ٌضع الناس تحت رحمة محصل‬
‫الضمان(‪ ،)ٖٙ‬وعلى حس هذه الضراٌب والقباالت واستبثارهم بالجزٌة (اشتهرت باسم الجوالً) والخراج‬
‫الذي كان ٌُرسل سابقا للعباسٌٌن‪ ،‬عاش العبٌدٌون عٌشة فاقت ما شاع عن هارون الرشٌد واألكاسرة‬
‫والقٌاصرة‪ ،‬ونثروا ثروة مصر فً نشر مذهبهم ونفوذهم وملكهم فً الشام والٌمن وعمان والحجاز وبؽداد‬
‫والموصل‪.‬‬

‫ونقل المقرٌزي عن كتاب "الذخابر والتحؾ" للقاضً ابن الزبٌر أن المعز اتخذ لنفسه عرشا فٌه من‬
‫الذهب ما ٌزن ٓٔٔ ألؾ مثقال‪ ،‬وٓ‪ ٔ,٘ٙ‬قطعة من الجواهر مختلفة األلوان‪ ،‬وحٌن ح َّل المعز لمصر‬
‫استقبله جوهر الصقلً بهداٌا وصفها ابن زوالق‪ ،‬منها ٓ٘ٔ فرسا سروجها ولجامها بعضها مذهب‬
‫وبعضها مرصع‪ ،‬وأوانً الذهب والفضة وٓٓٔ سٌؾ محبلة بالذهب والفضة(‪.)ٖ9‬‬

‫ومما حازه المستنصر‪ ،‬وذكره ابن مٌسر والمقرٌزي‪ ،‬أن ثروته كانت قبل أن ٌبددها األتراك ٖٓ ملٌون‬
‫دٌنار من الذهب‪ ،‬وتحؾ منها سبحة من األحجار الكرٌمة‪ ،‬وصنادٌق من الجواهر وٕٓٓٔ خاتم مرصع‬
‫باألحجار الكرٌمة‪ ،‬ومقادٌر كبٌرة من أوانً الذهب والصوانً المحبلة بالذهب والمبلبس واألنسجة‬
‫المطرزة بالذهب‪ ،‬والشطرنج المصنوع من الذهب والفضة‪ ،‬وطاووس من الذهب مرصع بالجواهر النفٌسة‪،‬‬
‫ودٌك من الذهب مرصع باللإلإ‪ ،‬بخبلؾ األراضً الواسعة والقصور الفخمة والعبٌد واألسلحة وخزابن‬

‫(ٖٖ)‬
‫‪-‬انظر‪ :‬ملكٌة األراضً الزراعٌة فً مصر خبلل القرن التاسع عشر‪ ،‬حمدي الوكٌل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪99 -9ٙ‬‬
‫(ٖٗ)‬
‫‪ -‬الدولة الفاطمٌة تفسٌر جدٌد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕ٘9‬‬
‫(ٖ٘)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕٔ٘‬
‫(‪)ٖٙ‬‬
‫‪ -‬للمزٌد عن نظام الضراٌب انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕ٘9 -٘ٔ9‬‬
‫(‪)ٖ9‬‬
‫‪ -‬الفاطمٌون فً مصر وأعمالهم السٌاسٌة والدٌنٌة بوجه خاص‪ ،‬حسن إبراهٌم حسن‪ ،‬المطبعة األمٌرٌة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٖٖٕ‪ٕٖٗ -‬‬

‫‪ٕٙ9‬‬
‫األثاث والفرش والستابر والسجاجٌد‪ ،‬وكلها مشحونة بالحرٌر والذهب والجواهر(‪.)ٖ8‬‬

‫ٌصؾ القاضً الفاضل مملتكات القصر عند سقوط العبٌدٌٌن‪" :‬كشؾ حاصل الخزابن الخاصة بالقصر‬
‫ما بٌن دٌنار ودرهم ومصاغ وجوهر ونحاس وملبوس وأثاث وقماش وسبلح ما ال ٌفً به ملك األكاسرة‪،‬‬
‫وال تتصوره الخواطر الحاضرة‪ ،‬وال ٌشتمل على مثله الممالك العامرة‪ ،‬وال ٌقدر على حسابه إال من ٌقدر‬
‫على حساب الخلق فً اآلخرة"(‪.)ٖ9‬‬

‫أما عن ثروة الوزراء فٌضرب لنا ابن منجب مثبل بالوزٌر ٌعقوب بن كلس الذي استدعى االحتبلل‬
‫العبٌدي‪ ،‬فٌقول إنه أنفق على زواج ابنته ٕٓٓ ألؾ دٌنار‪ ،‬ولما مات ترك ثروة بلؽت ٗ ملٌون دٌنار‬
‫وٗآالؾ من الؽلمان وٓٓ‪ ٙ‬محظٌة‪ ،‬وجواهر ثمٌنة قدرت بـ ٓٓٗ ألؾ دٌنار ومن المصوؼات ما بلػ قٌمته‬
‫نصؾ ملٌون دٌنار‪ ،‬وأرضا أخذها بنظام االلتزام مقدرة ب ٖٓٓ ألؾ دٌنار(ٓٗ)‪.‬‬

‫وبحسب ابن مٌسر‪ ،‬فإن الوزٌر األفضل بن بدر الجمالً ظل الك َّتاب ٌحصون فً ثروته بعد موته لمدة‬
‫شهرٌن‪ ،‬ووجدوا فٌها ‪ ٙ‬ملٌون دٌنار عٌنا‪ ،‬وفً بٌت الخاصة ٖ ملٌون دٌنار‪ ،‬وفً البٌت البرانً ٖ ملٌون‬
‫وربع الملٌون‪ ،‬وٓ٘ أردبا دراهم ورق‪ ،‬وٖٓ راحلة من الذهب العراقً‪ ،‬وٓٔ بٌوت فً كل بٌت منها ٓٔ‬
‫مسامٌر ذهب (خاصة بتعلٌق العمابم)‪ ،‬وٓٓ‪ 9‬ثوب دٌباج ملون‪ ،‬ومن األبقار والجاموس واألؼنام والجمال‬
‫والضٌاع الكثٌر وحتى دواته مرصعة بالجواهر‪ ،‬وٓٓ‪ 9‬طبق فضة وذهب‪ ،‬وٓ‪ 9‬ألؾ ثوب عتابً من‬
‫الدٌباج‪ ،‬وٖ خزابن كبٌرة ممتلبة بثٌاب تنٌس ودمٌاط‪ ،‬وؼٌر هذا ما ٌضٌق به المقام‪ ،‬ومجلس الشرب‬
‫الخاص به فٌه ‪ 8‬تماثٌل لجارٌات متقاببلت مصنوعة من الكافور والعنبر‪ ،‬ورؼم أنها تماثٌل لكنها ترتدي‬
‫أفخر الثٌاب المحبلة بالحلً وتمسك بؤٌدٌها األحجار الكرٌمة‪ ،‬والشراب ٌؤتً فً صوانً الذهب وأوانً‬
‫مملوءة بالجوهر‪ ،‬ورؼم ذلك ٌصفه معاصروه بـ"العدل وحسن السٌرة"(ٔٗ)‪.‬‬

‫وحرص العبٌدٌون على إظهار ثرابهم فً كسوة الكعبة‪ ،‬فكانت من الدٌباج األحمر‪ ،‬وفً حافتها ٕٔ هبلال‬
‫ذهبٌا‪ ،‬وداخل كل واحد منها ٓ٘ درة فً حجم بٌضة الحمام وٌاقو أحمر وأصفر وأزرق‪ ،‬ونقش حافات اآلٌات‬
‫بحروؾ الزمرد األخضر‪ ،‬وزٌن الكتابة بالجواهر الثمٌنة(ٕٗ)‪ ،‬متخٌلٌن أن هللا سٌقبل هذا البذخ الذي جُمع بؤسالٌب‬
‫ٌدل علٌها الحال الموجع لمعظم الفبلحٌن فً األرٌاؾ‪.‬‬

‫❽ مزاحمة الروح األجنبٌة للمصرٌة فً الصناعة والفنون‬

‫مرَّ علٌنا أن الطابع المصري الممٌز فً فنون العمارة والزخرفة والرسم اختفى كثٌر منه بؽلق المعابد‬
‫الراعٌة للفنون‪ ،‬لٌطل الطابع الٌونانً والرومانً برأسه بشكل بارز‪ ،‬ؼٌر أن البصمة المصرٌة فً العمارة‬
‫والفنون لم ُتباد‪ ،‬بل ظلت تتردد فً عمارة الٌونان والرومان‪ ،‬وحٌن جاء العرب أخذت مساحة أوسع‬

‫(‪)ٖ8‬‬
‫‪ -‬انظر المرجع السابق‪ ،‬ص ٖٕ٘‪ٕ٘9 -‬‬
‫(‪)ٖ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕ٘9‬‬
‫(ٓٗ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕٖ8‬‬
‫(ٔٗ)‬
‫‪ -‬الفاطمٌون فً مصر وأعمالهم السٌاسٌة والدٌنٌة بوجه خاص‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٓٗ‪ٕٕٗ -‬‬
‫(ٕٗ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖٕ٘‬

‫ٓ‪ٕ7‬‬
‫للظهور لقلة خبرتهم بالعمارة والفنون‪ ،‬ؼٌر أنه بتولً العبٌدٌٌن الحكم‪ ،‬فإن إسرافهم فً المشارٌع العمرانٌة‬
‫وخاصة القصور والمساجد واألسوار جعلهم ٌجلبون مزٌدا من الحرفٌٌن والصناع المهرة من مختلؾ‬
‫البلدان لٌضموا إلى القصور والمساجد أبدع ما جاد به الزمان فً كل مكان‪ ،‬فشاع فً منشآت وآثار ذلك‬
‫العصر اللون الفارسً والسامرابً واألفرٌقً إلى جانب القبطً والبٌزنطً‪.‬‬

‫ؼٌر أن العمارة المصرٌة ظل لها تؤثٌرها البارز‪ ،‬فدخلت القباب على المساجد‪ ،‬وأول مسجد زٌن بالقباب‬
‫مسجد الحاكم بؤمر هللا‪ ،‬وفٌه ٖ قباب‪ ،‬والقباب فن مؤخوذة من الفن المصري الذي شاع فً بناء الكناٌس‬
‫والمقابر أٌام االحتبلل الرومانً‪ ،‬ومن هنا نرى أن القباب التً تزدان بها أفخم وأعظم كنابس الدنٌا مثل‬
‫كنٌسة آٌا صوفٌا فً القسطنطٌنٌة ومسجد الحاكم بؤمر هللا اقتبسها الفنانون من الفن القبطً(ٖٗ)‪ ،‬وله جذور‬
‫فً العمارة المصرٌة األقدم خاصة تصمٌمات ما داخل المقابر‪ ،‬مثل القبب النصفٌة فً مقابر بنً حسن‬
‫بالمنٌا التً تعود للدولة الوسطى‪.‬‬

‫❾ إؼراق السوق بالبضاٌع الكمالٌة والوكاالت األجنبٌة‬

‫وأؼرى الثراء الفادح الخلفاء العبٌدٌٌن وأعوانهم إلؼراق األسواق بالبضاٌع األجنبٌة الكمالٌة من كل‬
‫لون؛ مع ما هو معروؾ من تؤثٌره على مراكز الصناعة المصرٌة‪ ،‬فظهر نوع جدٌد من األقمشة منها‬
‫العتابً القادم من بؽداد والسفبلطون القادم من ببلد الروم ٌنافس صناعة النسٌج المصرٌة‪.‬‬

‫وفً المقابل‪ ،‬اشتط العبٌدٌون فً تحصٌل الضراٌب من أصحاب مصانع النسٌج بمصر حتى أنه فً ٌوم‬
‫حصلت من تنٌس واألشمونٌن ودمٌاط ٕٓٓ ألؾ دٌنار‪ ،‬فقال المقرٌزي‪" :‬وهذا شًء لم ٌُسمع قط بمثله فً‬
‫بلد"‪ ،‬وكثر توافد التجار األجانب من الشام والعراق والمؽرب وإٌطالٌا‪ ،‬وسكنوا الفسطاط والقاهرة‬
‫واإل سكندرٌة‪ ،‬وتضخم نظام الوكاالت التجارٌة األجنبٌة الذي نقله إلى مصر المستوطنون اإلؼرٌق فً‬
‫األسرة ‪ ٕٙ‬كما تابعنا‪ ،‬ومؤل هإالء مصر بصنوؾ من البضاٌع الؽرٌبة استؽبلال لجشع رجال الحكم فً‬
‫اقتناء كل ما هو طرٌؾ‪ ،‬فٌقول ناصر خسرو إن سوق القنادٌل بالفسطاط "ال ٌُعرؾ سوقا مثله فً أي بلد‪،‬‬
‫وفٌه كل ما فً العالم من طرابؾ"‪.‬‬

‫ولم ٌكتؾ التجار الوافدون بحصد الثروات‪ ،‬فتطلعت أعٌنهم لحصد المناصب لتحصٌن ثرواتهم‪ ،‬فبعض‬
‫الشوام عملوا بالقضاء والتجارة معا وورثوا المناصب ألبنابهم‪ ،‬وتٌسر لهم هذا بامتٌازات قدمها الحكام‬
‫العبٌدٌون‪ ،‬فٌقول ابن المؤم ون إن الوزٌر البطابحً أمر ببناء دار وكالة بالقاهرة لمن ٌصل من الشام‬
‫والعراق من التجار‪ ،‬وهو ما ٌوفر لهم تسهٌبلت فً عملهم ال ٌجد مثلها التجار المصرٌون‪ ،‬وأتاح لهم هذا‬
‫القدرة على الوصول لمناصب خطرة سرٌعا‪ ،‬مثل قاضً قضاة مصر(ٗٗ)‪.‬‬

‫ما سبق عرضه هو كؤنه سطر من أطنان كتب تكشؾ كٌؾ جرى نهب مصر على ٌد محتلٌها‬

‫(ٖٗ)‬
‫‪ -‬الفن القبطً المصري فً العصر الٌونانً الرومانً لبٌب ٌعقوب صلٌب‪ ،‬مطبعة قاصد خٌر‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ9ٙٗ ،‬ص ٗ‪9٘ -9‬‬
‫(ٗٗ)‬
‫‪ -‬للمزٌد عن الصناعة والتجارة انظر‪ :‬الدولة الفاطمٌة تفسٌر جدٌد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ‪٘ٓٓ -ٗ9‬‬

‫ٔ‪ٕ7‬‬
‫ومستوطنٌها األجانب فً ذلك العصر‪ ،‬وأسالٌب الدعاٌة الماهرة التً نشرها الشٌعة لتبرٌر احتبللهم لمصر‪،‬‬
‫مدعٌن أنهم نشروا فً مصر الفخامة والعمارة والفنون واألعٌاد واالحتفاالت‪ ،‬وال ٌؤتون على ذكر أن هذا‬
‫كان ٌخص قصور الحكم وأعوانها‪ ،‬فٌما المصرٌون فً األرٌاؾ ٌجري تجاهلهم واستنزافهم سوا على‬
‫أرض الواقع أو فً تجاهل تسجٌل أحوالهم وآرابهم فٌما ٌجري فً كتب التارٌخ‪.‬‬

‫ومع هذا‪ ،‬تتقافز على اإلنترنت هذه األٌام مواقع وصفحات تدعو إلى عودة "الفاطمٌٌن" (وبرعاٌة دولٌة‬
‫من إٌران وجهات فً شمال أفرٌقٌا) الحتبلل مصر‪ ،‬وبعض أساتذة التارٌخ واإلعبلمٌٌن المتولٌن مهمة‬
‫تمجٌد االحتبلل العبٌدي ٌمؤلون الشاشات‪ ،‬بل نقلوا هذا التلمٌع إلى مسلسبلت تحبب المصرٌٌن فٌه‪ ،‬مثل‬
‫مسلسل "األزهر الشرٌؾ منارة اإلسبلم(٘ٗ)" المصروؾ علٌه من أموال المصرٌٌن لتمجٌد من احتلهم‪.‬‬

‫حابً‪:‬‬

‫كٌؾ ٌوحون إلٌـه‬ ‫اسمع الشعب دٌون‬

‫بحٌا َت ًْ قاتلٌـــــــه‬ ‫مأل الجو هتافـــــــــا‬

‫وانطلى الزور علٌه‬ ‫أ َّثر البهتـان فٌه‬

‫عقله فً أذنٌـــــــه‬ ‫ٌاله من ببؽــــاء‬

‫دٌون‪:‬‬

‫الرم ٌَّة تحتفً بالرامً‬


‫أن َّ‬ ‫َ‬
‫سمعت وراعنً‬ ‫ُ‬
‫سمعت كما‬ ‫حابً‪،‬‬

‫وأصار عرشهم فراش ؼرام‬ ‫هتفوا بمن شرب الطال فً تاجهم‬

‫ولو استطاع مشى على األهرام(‪)ٗٙ‬‬ ‫ومشى على تارٌخهم مستهزبا‬

‫(٘ٗ)‬
‫‪" -‬األزهر منارة اإلسبلم"‪ ،‬تؤلٌؾ أمٌنة الصاوي‪ ،‬إخراج أحمد طنطاوي‪ ،‬تمثٌل نخبة من الفنانٌن‪ ،‬إنتاج التلفزٌون المصري‬
‫(‪)ٗٙ‬‬
‫‪ -‬مصرع كلٌوباترة‪ ،‬أحمد شوقً‪ ،‬مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٓٔ‬

‫ٕ‪ٕ7‬‬
‫ٌصرفه المضلِّلل كٌؾ شاء(ٔ)‬ ‫هداك هللا من شعب برئ‬

‫(ٔ)‬
‫‪ -‬مصرع كلٌوباترا‪ ،‬أحمد شوقً‪ ،‬مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٔٔ‬
‫المشهد ٖٔ‪ :‬االحتالل األٌوبً‬

‫‪ ٘ٙ9‬هـ‪ٔٔ7ٖ/‬م‬

‫(المحتل بطال؟)‬

‫سقطت الدولة العبٌدٌة من علٌابها لتتحطم قطعا متناثرة تحت ضربات المذابح واالؼتٌاالت والفساد‬
‫ومإامرات المرتزقة متعددي األجناس‪ ،‬وخاتمة فصولها الصراع بٌن شاور والً الصعٌد وضرؼام أحد‬
‫قادة الجند على منصب الوزارة؛ وعجَّ ل بنهاٌتهما لجوبهما إلى االستعانة بؤعداءهم الخارجٌٌن؛ فاستعان‬
‫شاور بنور الدٌن محمود حاكم دمشق التابع للخلٌفة العباسً‪ ،‬طالبا منه أن ٌرسل له قوات تساعده على‬
‫استرجاع نفوذه فً مقابل أن ٌعطٌه ثلث خراج مصر‪ ،‬وقال له‪" :‬أكون ناببك بها‪ ،‬وأقنع بما تعٌّن لى من‬
‫الضٌّاع والباقى لك"‪.‬‬

‫ووافق نور الدٌن محمود الذي وجدها فرصة سانحة لٌضم مصر إلى الشام‪ ،‬وأرسل حملة ٌقودها‬
‫الكردي أسد الدٌن شٌركوه‪ ،‬فحاربت ضرؼام وقتلته‪ ،‬وأعادت شاور لمنصبه‪.‬‬

‫لكن شاور خالؾ وعده لنور الدٌن‪ ،‬وطلب من شٌركوه أن ٌرجع للشام‪ ،‬واستقوى بالروم بؤن بعث لـ‬
‫"أمارٌك" ملك بٌت المقدس ٌطلب منه التحالؾ ضد نور الدٌن زنكً‪ ،‬وٌخوفه من أنه لو نور الدٌن سٌطر‬
‫على مصر فإن نفوذه سٌكبر وٌطرد الفرنجة من بٌت المقدس‪ ،‬واستجاب له أمارٌك‪ ،‬وبعث قوات أرؼمت‬
‫شٌركوه على العودة للشام‪ ،‬فرد نور الدٌن بحملة ثانٌة لمصر سنة ٕ‪ ٘ٙ‬هـ بقٌادة شٌركوه اصطحب فٌها‬
‫ابن أخٌه صبلح الدٌن بن أٌوب‪.‬‬

‫واستنجد شاور بالفرنجة مرة أخرى‪ ،‬فؤرسلوا له قوات‪ ،‬ودارت معارك طاحنة على أرض مصر انتهت‬
‫بانتصار شٌركوه‪ ،‬وعٌَّن صبلح الدٌن والٌا على اإلسكندرٌة‪.‬‬

‫ودخول الفرنجة لمصر هٌَّج فً صدورهم ذكرٌات سٌطرتهم علٌها أٌام االحتبلل الرومانً ومشاهد‬
‫خٌراتها الوفٌرة‪ ،‬وطٌب العٌش فً مدنها الساحرة‪ ،‬فقرروا العودة‪ ،‬متشجعٌن بالصراع بٌن من ٌحتلونها‪،‬‬
‫فعاد أمارٌك على رأس حملة لمصر‪ ،‬ولكن هذه المرة لصالحه ولٌس لصالح شاور‪ ،‬ونهب بلبٌس وسبى‬
‫أهلها‪ ،‬فلما قربت من الفسطاط أخبلها شاور من السكان وأحرقها حتى ال تكون مؤوى للفرنجة(ٕ)‪ ،‬وحاصر‬

‫(ٕ)‬
‫‪ -‬للمزٌد‪ :‬الفاطمٌون فً مصر وأعمالهم السٌاسٌة والدٌنٌة بوجه خاص‪ ،‬حسن إبراهٌم حسن‪ ،‬المطبعة األمٌرٌة‪ ،‬ص ٖ‪ ٖٓ9 -ٕ9‬والدولة الفاطمٌة‬
‫فً مصر تفسٌر جدٌد‪ ،‬مرجع سابق‪ٖٓٓ -ٕ8ٓ ،‬‬

‫ٗ‪ٕ7‬‬
‫الفرنجة القاهرة أٌضا‪ ،‬وضٌقوا على سكانها‪ ،‬فؤرسل شاور والخلٌفة العاضد ٌستنجدون بنور الدٌن‬
‫عارضٌن علٌه أن ٌؤخذ ثلث أرض مصر مقابل ذلك‪ ،‬بخبلؾ إقطاعات لعسكر شٌركوه(ٖ)‪ ،‬بحسب ما أورده‬
‫ابن واصل مإرخ بنً أٌوب‪.‬‬

‫ففً البداٌة كان المزاد منصوبا لمصر فٌما ٌخص خراجها‪ ،‬وعرض شاور على نور الدٌن محمود زنكً‬
‫ثلث الخراج‪ ،‬وفً المرة الثانٌة عرضوا علٌه أرض مصر نفسها!‬

‫وافق نور الدٌن خاصة مع خوفه إن وقعت مصر فً ٌد الفرنجة فلن تبقى إماراته فً الشام بعٌدةعنهم؛‬
‫فؤرسل حملة جدٌدة وحاربوا الفرنجة وانتصروا علٌهم‪ ،‬وانسحب الفرنجة(ٗ)‪ ،‬وبزوال الخطر انفض التحالؾ‬
‫بٌن شاور وشٌركوه‪ ،‬وعادا لمحاربة بعضهما‪ ،‬وانتهى األمر بقتل شاور وتولً شٌركوه الوزارة‪ ،‬لكنه توفً‬
‫بعد ٖ شهور‪ ،‬فولَّى الخلٌفة العاضد محله صبلح الدٌن‪ ،‬واستمال صبلح الدٌن من حوله بالعطاٌا‪ ،‬ووزع‬
‫المناصب على أتباعه الكرد والترك القادمٌن معه حتى استفرد باألمر‪.‬‬

‫▼▼▼ الجٌش فً االحتالل األٌوبً (ممالٌك‪ -‬كرد‪ -‬ترك‪ -‬عربان)‬

‫اعتمد صبلح الدٌن على بنً جنسه فً الجٌش والحكم‪ ،‬فصارت نٌابة السلطنة وإمارات الوالٌات وقٌادة‬
‫الجٌوش فً ٌد الكرد واألتراك‪ ،‬ومال كثٌر منهم إلى العٌش المترؾ‪ ،‬وؼالوا فً استعمال الذهب والجواهر‬
‫والفضة‪ ،‬كما اعتمد على العربان‪ ،‬بحسب المقرٌزي فً كتابه الخطط‪ ،‬وقامت فً المقابل جماعة أخرى من‬
‫العربان بالتعاون مع اإلفرنج ضد األٌوبٌٌن‪ ،‬وهاجات بالسلب والنهب فً الببلد‪ ،‬فصادر صبلح الدٌن‬
‫إقطاعاتهم(٘)‪ ،‬ولكن كان الجٌش أقل فً تشكٌلة األعراق من زمن العبٌدٌٌن؛ فقلت الصراعات بٌن أفراده‪،‬‬
‫على األقل فً عهد صبلح الدٌن‪.‬‬

‫وبعد ٔٔ سنة خرج صبلح الدٌن من مصر لٌقاتل الفرنجة وٌطردهم من الشام سنة ‪ ٘98‬هـ‪ ،‬وهزمهم‬
‫فً معركة حطٌن‪ ،‬وفً الشام توفى ودفن‪ ،‬وتوزعت الدولة األٌوبٌة على أهله‪ ،‬العزٌز حكم مصر‪،‬‬
‫واألفضل حكم دمشق ووسط سورٌا‪ ،‬والظاهر حكم حلب‪ ،‬أما العادل أخو صبلح الدٌن فحكم العراق فً‬
‫حالة شبٌهة بتوزٌع اإلمبراطورٌة التً تركها اإلسكندر بٌن قادته‪.‬‬

‫وكعادة تلك العصور‪ ،‬دبَّ الصراع بٌن اإلخوة وبٌن األبناء على السلطة‪ ،‬وسعى بعضهم لبلستقواء‬
‫بالعناصر األجنبٌة لعدم ثقته بعابلته‪ ،‬حتى أن الكامل استقوى بالفرنجة على أخٌه‪ ،‬وتنازل لهم فً المقابل‬
‫عن بٌت المقدس‪ ،‬فكانت بداٌة نهاٌة األٌوبٌٌن وفاتحة عصر الممالٌك عندما فتح نجم الدٌن أٌوب حاكم‬
‫مصر باب شراء صؽار السن من وسط آسٌا‪ ،‬وبؤعداد كبٌرة‪ ،‬لٌربٌها على عٌنه وعلى الوالء التام له‪.‬‬

‫(ٖ)‬
‫‪ -‬مفرج الكروب فً أخبار بنً أٌوب‪ ،‬جمال الدٌن بن واصل‪ ،‬تحقٌق جمال الدٌن الشٌال‪ ،‬ج ٔ‪ ،‬دار الكتب والوثابق القومٌة‪ ،‬ص ‪ٔ٘9 -ٔ٘8‬‬
‫(ٗ)‬
‫‪ -‬تتفنن أفبلم ومسلسبلت ومناهج الدراسة فً تقدٌم نور الدٌن محمود وشٌركوه ممن كانوا ٌتعاملون بهذا الشكل مع مصر على أنهم أبطال ٌجب‬
‫على المصرٌٌن تمجٌدهم ولٌس على حقٌقتهم كمجرد طامعٌن فً أرضها كؤي احتبلل سبقهم ولحقهم‪.‬‬
‫(٘)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الحٌاة االجتماعٌة فً مصر خبلل العصر األٌوبً (‪ ٙٗ8-٘ٙ9‬هـ‪ٕٔ٘ٓ -ٔٔ9ٔ /‬م)‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓ٘ و‪ 99‬و‪99‬‬

‫٘‪ٕ7‬‬
‫ولم ٌكتؾِ بؤن جعلهم جٌشه‪ ،‬بل وزع علٌهم مناصب الدولة‪ ،‬فصار العبٌد أثرى الناس فً مصر‪ ،‬حتى‬
‫تفاخروا ب ؤنهم عبٌد!‪ ،‬وعزلوا أنفسهم عن السكان‪ٌ ،‬تكبرون علٌهم وال ٌختلطون بهم‪ ،‬وال ٌتزاوجون منهم‪،‬‬
‫وحرَّ موا على المصرٌٌن ركوب الخٌل بزعم أن ركوبها قاصر على الفرسان والمحاربٌن(‪.)ٙ‬‬

‫وبعد وفاة نجم الدٌن انتفخ طموح زوجته الجارٌة األرمنٌة شجرة الدر لحكم مصر فتآمرت مع الممالٌك‬
‫على قتل ابنه توران شاه‪ ،‬وتزوجت من األمٌر المملوكً عز الدٌن أٌبك لما رفض الخلٌفة العباسً تولٌة‬
‫امرأة‪ ،‬وارتفع أٌبك لعرش السلطان‪ ،‬ولكنها قتلته لما علمت أنه سٌتزوج ابنة أمٌر الموصل(‪.)9‬‬

‫وانتقاما منها قتلها بعض جواري زوجته أم ابنه وخلٌفته علً المنصور‪ ،‬وهكذا انتهت الدولة األٌوبٌة‬
‫بنفس الطرٌقة التً انتهت بها الدولة العبٌدٌة وهً حٌاة البذخ الشدٌد والصراع الدموي على الحكم‪،‬‬
‫واالستعانة بالمرتزقة‪ ،‬وبخطٌبة االستعانة بالدول األجنبٌة‪.‬‬

‫♣♣♣ السكان وتعرٌؾ المصري فً االحتالل األٌوبً‬

‫لم ٌطرأ تؽٌٌر كبٌر على السكان عما كان علٌه فً االحتبلل العبٌدي‪ ،‬إال بطرد األرمن والسود‪ ،‬واستٌبلء‬
‫عرق جدٌد على قمة السلطة والجٌش هو األكراد وأعوانهم الؽز‪ ،‬فظل الفبلحون السواد األعظم من السكان‪،‬‬
‫خاصة فً الرٌؾ الواسع‪ ،‬الفقر ٌؽلب على معظمهم‪ ،‬فٌما برز قلٌل منهم فً دواٌر السلطة‪ ،‬خاصة من‬
‫اشتهروا بـ"قبط الدواوٌن" فً المحاسبة وشبون الزراعة التً لم ٌستطع االستؽناء عن مهارتهم فٌها أي‬
‫احتبلل سابق أو الحق‪ ،‬فطبقة المحتلٌن تتؽٌر فٌما هم مستمرون فتراكمت لدٌهم الخبرة‪.‬‬

‫وممن برز منهم ابن ممَّاتً ربٌس دٌوانً الجٌش والمال أٌام صبلح الدٌن‪ ،‬وبرز أٌضا فً األدب‪ ،‬فهو‬
‫صاحب كتاب "الفاشوش فً حكم قراقوش" ساخرا فٌها من قراقوش وزٌر صبلح الدٌن بعد خبلؾ بٌنهما‪،‬‬
‫ونسج فٌها نوادر مرحة منحت قراقوش السمعة المعروؾ بها اآلن(‪ ،)8‬لكنه اصطدم بمنافسٌه وفقد مناصبه‪.‬‬

‫كما تولى شبون الدواوٌن نهاٌة عصر األٌوبٌٌن هبة هللا صاعد الفابزى‪ ،‬وكان طبٌبا مسٌحٌا اسمه‬
‫تادرس‪ ،‬وؼٌَّر اسمه لما أسلم(‪ ،)9‬وبحسب الزركلً والمقرٌزي تدرج حتى أصبح أول وزٌر قبطً‪ ،‬وكان له‬
‫ذلك زمن السلطان المملوكً عز الدٌن أٌبك‪ ،‬وساٌر الممالٌك فً ظلم واعتصار األهالً بالمكوس‪ ،‬وبعد‬
‫قتل أٌبك قبض علٌه سٌؾ الدٌن قطز لخبلؾ بٌنه وبٌن ممالٌك المعز‪ ،‬ومات مخنوقا(ٓٔ)‪.‬‬

‫ولفت الرحالة عبد اللطٌؾ البؽدادي الشهٌر بؤبو اللباد وزار مصر فً بداٌة الحكم األٌوبً فً مإلفه‬
‫"اإلفادة واالعتبار فً األمور المشاهدة والحوادث المعاٌنة بؤرض مصر" مقارنة سرعٌة تظهر الفرق بٌن‬

‫(‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الخطط المقرٌزٌة‪ ،‬ج ٖ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٕٔ‪ٕٖٔ -‬‬
‫(‪)9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تارٌخ دولة المم الٌك فً مصر‪ ،‬ولٌم موٌر‪ ،‬ترجمة محمود عابدٌن وسلٌم حسن‪ ،‬ط ٔ‪ ،‬مكتبة مدبولً‪ ،‬سلسلة صفحات من تارٌخ مصر‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،ٔ99٘ ،‬ص ٖٗ‪ ،‬والخطط المقرٌزٌة‪ ،‬ج ٖ‪ ،‬ص ٕٗٔ‪ٕٔ٘ -‬‬
‫(‪)8‬‬
‫‪ -‬الفاشوش فً حكم قراقوش البن مماتً‪ ،‬عبد اللطٌؾ حمزة‪ ،‬كتاب الٌوم‪ ،‬ص ‪ٖٙ -٘9‬‬
‫(‪)9‬‬
‫‪ -‬تارٌخ الكنٌسة القبطٌة‪ ،‬منسً ٌوحنا‪ ،‬مكتبة المحبة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪ٖٗ8 -ٖٗ9‬‬
‫(ٓٔ)‬
‫‪ -‬األعبلم قاموس تراجم‪ ،‬خٌر الدٌن الزركلً‪ ،‬ج ‪ ،8‬دار العلم للمبلٌٌن‪ ،‬ص ٕ‪ ،9‬والخطط المقرٌزٌة‪ ،‬ج ٖ‪ ،‬ص ٕٗٔ‪ٕٔ٘ -‬‬

‫‪ٕ7ٙ‬‬
‫حال المحتلٌن والمستوطنٌن وحال معظم المصرٌٌن والد البلد فً صورة األكل‪ ،‬فٌصؾ أكل األثرٌاء بقوله‬
‫إن مما ٌشمله أنواع الدجاج‪ ،‬وهرٌسة الفستق‪ ،‬ورؼٌؾ الصٌنٌة وهو خبز محشً وهو نً بلحم الخرفان‬
‫والدجاج والبٌض ولحم مدقوق وفستق مهروس واألعشاب العطرٌة والسنبوسك‪ ،‬ثم ٌوضع فً التنور حتى‬
‫ٌنضج الخبز والحشوة‪.‬‬

‫وعن بقٌة الناس ٌقول‪" :‬وأما عوامهم فقلما ٌعرفون شٌبا من ذلك‪ ،‬وأكثر أؼذٌتهم الصٌر والصحناه‬
‫والدلٌنس والجبن والذٌدة ونحو ذلك‪ ،‬وشرابهم البوظة وهو نبٌذ ٌتخذ من القمح"‪ ،‬والصحناة والدلٌنس هما‬
‫الملوحة وأم الخلول‪ ،‬كما أشار النتشار أكل السمك والرز فً وجه بحري(ٔٔ)‪.‬‬

‫والفبلحون بجانب الزرع عملوا حٌنها فً الصناعات وبناء المشارٌع العمبلقة‪ ،‬أحٌانا بالسخرة‪ ،‬فكانوا‬
‫مسخرٌن فً بناء القلعة (قلعة صبلح الدٌن) وأسوار القاهرة(ٕٔ)‪.‬‬

‫أما األجانب فكانوا الٌهود والترك والعربان والفرس والشوام والكرد والروم والمؽاربة فً معظمهم‪،‬‬
‫ومنهم الوزراء وعلماء الدٌن والمحتسبٌن‪ ،‬والقضاة‪ ،‬وأشهرهم القاضً الفاضل والقاضً بن شداد‪ ،‬كما‬
‫عمل األجانب فً الصناعات كالنسٌج واألؼذٌة‪ ،‬وتركزوا فً القاهرة والفسطاط واإلسكندرٌة(ٖٔ)‪.‬‬

‫واستمر أٌضا الخطؤ فً توصٌؾ كلمة مصري‪ ،‬فٌذكر ابن شداد رفٌق صبلح الدٌن فً "النوادر‬
‫السلطانٌة" جٌش صبلح الدٌن بؤنه "العسكر المصري"(ٗٔ)‪ ،‬وما كان مصرٌا بل خلٌطا من ممالٌك الترك‬
‫مع الكرد والعربان‪ ،‬وإن كانت نفقته ومبونته من العروق المصرٌة‪.‬‬

‫▼▼▼ نتابج االحتالل األٌوبً‬

‫❶ إسقاط المذهب الشٌعً‬

‫بالتؤكٌد لم ٌسحب شٌركوه وصبلح الدٌن ممالٌكهم وعاببلتهم إلى مصر إلنقاذ أهلها من المذهب الشٌعً‬
‫أو االحتبلل العبٌدي‪ ،‬وإنما لبلستحواذ علٌها وإسقاط المذهب المنافس للخبلفة العباسٌة المدٌنٌن لها بالوالء‪،‬‬
‫ولكن هذه الخطوة جاءت بالفاٌدة فً مصر ألن إلؽاء صبلح الدٌن العمل بالمذهب الشٌعً سنة ‪ ٘ٙ9‬هـ‪/‬‬
‫ٔ‪ ٔٔ9‬م‪ ،‬جمَّد مشروع العبٌدٌٌن إدخال مصر فً سرداب مذهبهم المصطنع‪ ،‬وإن لم ٌجفؾ صبلح الدٌن‬
‫منابع هذه المشروع تماما‪ ،‬فبقً فً عصره فرق شٌعٌة وافدة مثل اإلمامٌة والزٌدٌة واإلسماعٌلٌة‬
‫والنصٌرٌة‪ ،‬بخبلؾ تشجٌعه الطرق الصوفٌة‪.‬‬

‫ونصبت األعبلم السود على منابر المساجد ولبس الخطباء اللون األسود‪ ،‬رمز بنً العباس‪ ،‬وأسس‬

‫(ٔٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬اإلفادة واالعتبار فً األمور المشاهدة والحوادث المعاٌنة بؤرض مصر‪ ،‬ط ٕ‪ ،‬عبد اللطٌؾ البؽدادي‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬ص‬
‫‪ ،ٕٖٔ -ٔٔ8‬والمجتمع المصري فً مصر اإلسبلمٌة من الفتح العربً وحتى العصر الفاطمً‪ ،‬ج ٕ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓ‪8‬‬
‫(ٕٔ)‬
‫‪ -‬الحٌاة االجتماعٌة فً مصر خبلل العصر األٌوبً (‪ ٙٗ8-٘ٙ9‬هـ‪ٕٔ٘ٓ -ٔٔ9ٔ /‬م)‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٙ9‬‬
‫(ٖٔ)‬
‫‪-‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖٗ‪ ،ٗ9 -‬و٘٘‬
‫(ٗٔ)‬
‫‪ -‬النوادر السلطانٌة والمحاسن الٌوسٌفٌة‪ ،‬بهاء الدٌن (ابن شداد)‪ ،‬تحقٌق محمد محمود صبح‪ ،‬مطابع دار الكتاب العربً‪ ،‬ص ‪ٖٗ9‬‬

‫‪ٕ77‬‬
‫صبلح الدٌن مدرسة لتدرٌس المذهبٌن الشافعً والمالكً‪ ،‬وعزل قضاة الشٌعة‪ ،‬وأمر بالدعاء للخلٌفة‬
‫العباسً فً خطبة الجمعة محل الخلٌفة العبٌدي‪ ،‬فكانت هذه إشارة النهاٌة للدولة العبٌدٌة‪.‬‬

‫كان الخلٌفة العاضد ٌراقب ذلك وهو ٌشعر بقلة الحٌلة‪ٌ ،‬شاهد ال ُملك الذي شٌده أجداده ٌنهار وٌصٌر‬
‫ركاما‪ ،‬وحلم العبٌدٌٌن بالقضاء على العباسٌٌن ٌنقلب إلى العكس‪ ،‬فتوفً محسورا‪ ،‬وانهار االحتبلل العبٌدي‬
‫وخرافة إمامهم المهدي بعد حكم ٕٓٔ أعوام(٘ٔ)‪ ،‬أما االحتبلل األٌوبً فدام ٓ‪ 9‬سنة‪ ،‬وهو بذلك من أقصر‬
‫االحتبلالت لمصر‪ٌ ،‬قترب فً مدته االحتبلل اإلنجلٌزي‪.‬‬

‫واتبع صبلح الدٌن إجراءات شدٌدة لقلع بذرة العبٌدٌٌن من مصر مُلكا ونسبل‪ ،‬فبعد خطواته المشار إلٌها‬
‫فً محو المذهب الشٌعً من أركان الدولة‪ ،‬استولى على قصور العبٌدٌٌن وفرقها بٌن عابلته التً استدعاها‬
‫من الشام‪ ،‬وبٌن رجاله‪ ،‬وأخرج منها عابلة الخلٌفة‪ ،‬وفرَّ ق بٌن رجالها ونسابها كً ال ٌتناسلوا(‪ ،)ٔٙ‬وواجه‬
‫صبلح الدٌن تمرد الجنود السودانٌة والتركمان (األتراك) وؼٌرهم من أتباع العبٌدٌٌن‪ ،‬وأسرة شاور وأسرة‬
‫رزٌك‪ ،‬وحاول عبٌدي اسمه عمارة الٌمنً‪ -‬قادم من الٌمن التً بث فٌها العبٌدٌون سموم دعوتهم‪ -‬إحٌاء‬
‫الحكم العبٌدي‪ ،‬وقٌل إنه استقوى بالفرنجة‪ ،‬وانتهت المعارك بشنق عمارة وعدد كبٌر من أتباعه‪ ،‬وكً‬
‫آخرٌن بالنار فً صدورهم ووجوههم‪.‬‬

‫وقامت ثورات أخرى ضد األٌوبً منها ثورة رجل ٌدعً الكنز فً الصعٌد‪ ،‬ووصؾ ابن شداد فً كتابه‬
‫"النوادر السلطانٌة"‪ ،‬حماسة جٌش العادل أخً صبلح الدٌن فً إخماد هذه الثورة رؼم قوتها بؤن هذا‬
‫الجٌش "ممن ذاقوا حبلوة الببلد المصرٌة‪ ،‬وخافوا على فوت ذلك منهم"؛ أي خافوا على ضٌاع حكمها‬
‫وخٌراتها من أٌدٌهم‪ ،‬وهو الحكم الذي لم ٌكونوا ٌحلمون به من سنوات قلٌلة‪ ،‬فؤخذ الثابرٌن وصلب ٖ آالؾ‬
‫منهم بعمابمهم وطٌالسهم على األشجار بحسب وصؾ المقرٌزي‪.‬‬

‫وهكذا توالت الثورات التً كدرت الحال على صبلح الدٌن‪ ،‬ولم تهدأ إال بعد أن أخرج الفرنجة من بٌت‬
‫المقدس‪ ،‬فقدمته هذه المعركة كبطل نصر اإلسبلم(‪.)ٔ9‬‬

‫ولم ٌتضح فً رصدها موقؾ المصرٌٌن منها‪ ،‬وهل أٌدوا الثابرٌن ضد بنً أٌوب وساعدوهم‪ ،‬أم‬
‫خالفوهم‪ ،‬أم تركوا األؼراب من الجانبٌن ٌطحنون بعضهم بعضا‪ ،‬خاصة بعد شدة اإلرهاق الذي أصاب‬
‫الرٌؾ من توالً المجاعات والصراعات‪.‬‬

‫❷ استمرار تحقٌر المصرٌٌن‪ ..‬عمدا‬

‫أما ما ٌخص عبلقة االحتبلل األٌوبً بالمصرٌٌن واألجانب الؽٌر مسلمٌن فشاعت إجراءات توصؾ‬
‫بالمرونة‪ ،‬خاصة فً عهد الكامل‪ ،‬وأخرى بالتشدد موروثة عن عصور سابقة‪.‬‬

‫(٘ٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الخطط المقرٌزٌة‪ ،‬ج ٖ‪ ،‬ص ٕٔٔ‪ ،ٔٔٗ -‬والسلوك لمعرفة دولة الملوك‪ ،‬المقرٌزي‪ ،‬تحقٌق سٌد عبد الفتاح عاشور‪ ،‬دار الكتب والوثابق‬
‫القومٌة‪ ،‬ج ٔ‪ ،‬ص ٕ٘ٔ‪ ،‬ووالدولة الفاطمٌة تفسٌر جدٌد‪ ،‬ص ‪ٖٓ9 -ٕ89‬‬
‫(‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الخطط المقرٌزٌة‪ ،‬ج ٔ‪ ،‬مرجع سابق‬
‫(‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬قٌام الدولة األٌوبٌة فً مصر والشام‪ ،‬وفاء محمد علً‪ ،‬ط ٔ‪ ،‬دار الفكر العربً‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪9ٗ -ٙ9‬‬

‫‪ٕ78‬‬
‫فمما أبقوا علٌها من عصور سابقة إلزام المسٌحٌٌن بشكل محدد من المبلبس‪ ،‬منها أن ٌشد المسٌحً‬
‫الزنار على وسطه‪ ،‬وٌلبس عمامة زرقاء‪ ،‬وٌعلق الصلٌب على صدره‪ ،‬والنساء تتبع ألوان محددة أٌضا‪،‬‬
‫وفً قدمٌها تلبس حذا ًء فً قدم باللون األبٌض والثانً باللون األسود لتمٌٌزها عن المسلمات‪ ،‬كذلك ٌُحرم‬
‫على المسٌحً والٌهود ركوب الخٌل وامتضاء السٌؾ‪ ،‬وتوضع عبلمات خشبٌة على بٌوتهم لتمٌٌزها عن‬
‫بٌوت المسلمٌن‪ ،‬ولكن هذا كان ال ٌتم دابما‪ ،‬وإنما حسب مواقؾ وأمزجة الحكام(‪.)ٔ8‬‬

‫واستبعد صبلح الدٌن الموظفٌن الؽٌر مسلمٌن من الدواوٌن‪ ،‬ثم عاد وأبقى على بعضهم(‪ ،)ٔ9‬بحسب‬
‫المقرٌزي‪ ،‬ومنهم ابن مماتً‪ ،‬ربما خشٌة أن ٌتوقؾ دٌوان العمل‪ ،‬فٌما أبقى على الكتاب "ال ُؽز" التابعٌن له‪-‬‬
‫بتعبٌر المقرٌزي‪ -‬أي الترك فً الدواوٌن‪ -‬وهو ما ٌعنً تضاإل عدد المصرٌٌن فً الدواوٌن سوا مسلمٌن‬
‫أو مسٌحٌٌن ولٌس فقط المسٌحٌٌن‪ -‬وكلمة ال ُؽز شاعت بٌن الناس‪ ،‬لوصؾ الترك حتى وقت قرٌب‪ ،‬ومنها المثل‬
‫المصري "آخرة خدمة الؽز علقة"‪ ،‬داللة على الؽدر المتؤصل فٌهم‪.‬‬

‫وهكذا ظل المصرٌون‪ -‬الندرة منهم التً تستطٌع الوصول لمنصب‪ -‬على جمرة نار وقلقة من أنها ٌمكن أن‬
‫ُتطرد فً أي وقت‪ ،‬وٌحل محلها الدخٌل األجنبً بمجرد أن ٌعقد الحاكم األجنبً ما بٌن حاجبٌه ؼضبا من‬
‫المصري ألتفه سبب‪.‬‬

‫❸ تدمٌر األهرام الصؽرى والعدوان على هرم سنفرو ونزح اآلثار‬

‫واصل األٌوبٌون مسلسل نهب اآلثار المصرٌة ومحاوالت هدم األهرام الكبٌرة‪ ،‬وكؤن استنزاؾ آثار‬
‫وحضارة مصر وأدلة تمٌزها ٌورثها محتل إلى محتل آخر كما ٌورثه عرش مصر وأموالها‪.‬‬

‫وإن حصلت اعتداءات وسرقات لآلثار والمقابر فً أزمنة الحكم المصري القدٌم‪ ،‬إال أن الفرق أنه حٌنها‬
‫اعتبرت من الجرابم الكبرى‪ٌ ،‬خضع أصحابها لحساب عسٌر‪ ،‬فتكون قلٌلة‪ ،‬أما فً عصور االحتبلالت‬
‫فاعتبر المحتلون والمستوطنون اآلثار ضمن "ؼنابم الحرب واالستٌطان"‪ ،‬و"مشروعة" رسمٌا‪ ،‬بل عمل‬
‫ٌرصد له األباطرة والخلفاء الجهد والوقت إلنجازه؛ فشاعت بشكل ال ٌستوعبه عقل‪.‬‬

‫فٌحكً عبد اللطٌؾ البؽدادي فً كتابه "اإلفادة واالعتبار" أن صبلح الدٌن وقراقوش هدما كثٌرا من‬
‫األهرام الصؽٌرة ]وهً ؼٌر األهرام الثبلثة الشهٌرة وأهرام زوسر وسنفرو[ الستخدام كسوتها الحجرٌة‬
‫فً بناء قلعة الجبل ]قلعة صبلح الدٌن[ وسور القاهرة وقناطر الجٌزة‪ ،‬وبقً من األهرام المهدومة قلبها‬
‫وحشوتها‪ ،‬وهً ردم وحجارة صؽار ال تصلح للقناطر فتركوها‪ ،‬وكثٌر منها حالٌا فً الجٌزة(ٕٓ)‪.‬‬

‫سول له هذا "جهلة أصحابه"‬‫وسعى الملك العزٌز (ابن صبلح الدٌن) فً أن ٌهدم األهرام الكبٌرة بعد أن َّ‬
‫بتعبٌر البؽدادي الذي كان فً مصر حٌنها‪ ،‬وأضاؾ أن العزٌز بدأ بالهرم الصؽٌر األحمر‪ ،‬فجمع النقابٌن‬

‫(‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الحٌاة االجتماعٌة فً مصر خبلل العصر األٌوبً‪ ،‬رشا خلٌل علً (ماجستٌر) كلٌة الدراسات العلٌا‪ ،‬الجامعة األردنٌة‪ ،‬ص ‪89 -8ٙ‬‬
‫(‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬السلوك لمعرفة دولة الملوك‪ ،‬المقرٌزي‪ ،‬تحقٌق محمد عبد القادر عطا‪ ،‬جٔ‪ ،‬طا‪ ،‬دار الكتب العلمٌة‪ ،‬بٌروت‪ ،‬ص ٖ٘ٔ‬
‫(ٕٓ)‬
‫‪ -‬اإلفادة واالعتبار فً األمور المشاهدة والحوادث المعاٌنة بؤرض مصر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪9ٓ -89‬‬

‫‪ٕ79‬‬
‫والحجارٌن وجمع عظماء دولته وأمر الصناع بخرابه‪ ،‬وأقاموا نحو ‪ 8‬أشهر بخٌلهم ورجلهم ٌهدمون كل‬
‫ٌوم بعد بذل الجهد حجرا أو حجرٌن‪ ،‬فإذا سقط الحجر "سُمع له جلبة عظٌمة من مسافة بعٌدة حتى ترجؾ‬
‫له الجبال‪ ،‬وتزلزل األرض‪ ،‬وٌؽوص فً الرمل"‪ ،‬فلما طال بهم الوقت وكثرت النفقات "كفوا محسورٌن‬
‫مذمومٌن لم ٌنالوا بؽٌة وال بلؽوا ؼاٌة" إال أنهم "شوهوا الهرم" وذلك فً سنة ٖ‪ ٘9‬هـ‪.‬‬

‫ولكنه لم ٌوضح لماذا أقدم العزٌز على هذا‪ ،‬وسؤل مقدم الحجارٌن‪" :‬لو بذل لكم ألؾ دٌنار على أن‬
‫تردوا حجرا واحدا إلى مكانه هل كان ٌمكنكم ذلك؟ فؤقسم باهلل عالى أنهم لٌعجزون عن ذلك ولو بذل لهم‬
‫أضعافه"(ٕٔ)‪.‬‬

‫وؼٌر واضح ماذا ٌقصد بـ"الهرم الصؽٌر األحمر"‪ ،‬هل هرم منكاورع أم هرم سنفرو المعروؾ حالٌا‬
‫بـ"الهرم األحمر"‪ ،‬وهو فعبل بجانبه اآلن عدة أحجار كؤنها سقطت بفعل زلزال أو بفعل محاوالت ؼٌر‬
‫مسبوقة لنزعها منه‪ ،‬وهذه ثانً مرة ٌرد فٌها اعتداء بهذه الصورة على األهرام الكبٌرة بعد محاولة المؤمون‬
‫حٌن جاء لقمع ثورة ‪ ٕٔ9‬ه‪ ،‬وحاول هدم هرم خوفو‪ ،‬ونجَّ اه هللا من بٌن ٌدٌه‪.‬‬

‫وأورد البؽدادي حكاٌات كثٌرة فً كتابه عن جماعات متخصصة فً تخرٌب اآلثار واستخراج جثث‬
‫الموتى "المومٌا" وبٌعها فً األسواق لبلستفادة مما بداخلها‪.‬‬

‫ومما تمٌز به البؽدادي فً وصفه لآلثار أنه لم ٌردد الخرافات التً ذكرها المإرخون والرحالة العرب‬
‫القدامى عن األهرام‪ ،‬بل نظر لها نظرة علمٌة ونسبها لبشر عظماء‪ ،‬فقال‪" :‬فإنك إذا تبحرتها وجدت األذهان‬
‫الشرٌفة قد استهلكت فٌها‪ ،‬والعقول الصافٌة قد أفرؼت علٌها مجهودها‪ ،‬واألنفس النٌرة قد أفاضت علٌها‬
‫أشرؾ م ا عندها‪ ،‬والملكات الهندسٌة قد أخرجتها إلى الفعل مثبل هً ؼاٌة إمكانها حتى أنها تكاد تحدث عن‬
‫قومها‪ ،‬وتخبر بحالهم‪ ،‬وتنطق عن علومهم وأذهانهم وتترجم عن سٌرهم"؛ ولذا "صبرت على مر الزمان‪،‬‬
‫بل على مرها صبر الزمان"(ٕٕ)‪.‬‬

‫❹ توزٌع أرض المصرٌٌن على األجانب‬

‫(اإلقطاع المملوكً)‬

‫ألؽى صبلح الدٌن نظام القبالة (االلتزام) أو (الضمان) وأحل محله اإلقطاع الخراجً الذي اعتاد علٌه‬
‫أفراد جٌشه األكراد واألتراك خبلل عمله مع السبلجقة فً الشام‪ ،‬وعٌرؾ باسم إقطاع الجند‪ ،‬فوزع مدن‬
‫مصر وقراها على عابلته واألمراء والجند وكبار موظفٌه كؤنها ساندوٌتشات أو حلوى توزع فً احتفال‬
‫توزٌع الؽنابم‪ ،‬وٌعنً اإلقطاع أن ٌستلم المقتطع جزء من األرض وٌكون مسبوال عن تحصٌل خراجها‪،‬‬
‫واإلنفاق منها على بعض الجند وعلى مشارٌع الري الخاصة به‪ ،‬ثم ٌؤخذ حصته‪ ،‬فكان األٌوبٌون هم فاتحة‬
‫هذا النظام الكبٌب والذي سٌستمر علٌه الحال فً االحتبلل المملوكً على ٌد الممالٌك "تربٌة إٌدٌهم"‪،‬‬

‫(ٕٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٗ‪9٘ -9‬‬
‫(ٕٕ)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٓ‪9ٔ -9‬‬

‫ٓ‪ٕ8‬‬
‫واستمر نظام الملكٌة الفردٌة إلى جانب اإلقطاعات(ٖٕ)‪.‬‬

‫وبدأ صبلح الدٌن بتوزٌع اإلقطاعات فً مصر منذ كان ناببا عن نور الدٌن‪ ،‬ففً ٘‪ ٘ٙ‬هـ‪ ٔٔ9ٓ /‬م‬
‫استقدم والده نجم الدٌن أٌوب من دمشق فؤقطعه اإلسكندرٌة ودمٌاط والبحٌرة‪ ،‬وكان دخل البحٌرة وحدها‬
‫ٓٓٗ ألؾ دٌنار‪ ،‬وأقطع أخاه شمس الدولة تورانشاه قوص وأسوان وعٌذاب والجٌزة وسمنود‪ ،‬وأقطع ابن‬
‫أخٌه تقً الدٌن عمر بعساكره الخمسمابة البحٌرة والفٌوم والواحات لسد نفقاتهم وأقطع جزٌرة الذهب لضٌاء‬
‫الدٌن الشهرزوري(ٕٗ)‪.‬‬

‫❺ نزؾ المصرٌٌن الجزٌة والخراج لألجانب‬

‫أسقط صبلح الدٌن المكوس الثقٌلة الموروثة من العبٌدٌن‪ ،‬لكن أعاد خلفاإه فرض مكوس جدٌدة‪ ،‬ومنها‬
‫رسوم شد األحباس وشد المعٌن ورسم الجرارٌؾ إلصبلح الترع والجسور ورسوم الحصاد والكٌالة‬
‫والخفارة التً توالها البدو العربان وجعلت لهم شوكة وسطوة على الفبلحٌن ببل وجه حق(ٕ٘)‪.‬‬

‫وعاد ثقل آخر على المصرٌٌن لما عادت تسمى والٌة تابعة للخبلفة الخارجٌة‪ ،‬حٌث قام صبلح الدٌن‬
‫باستكمال نقل خٌراتها إلى الخلٌفة العباسً ونور الدٌن محمود فً الخارج‪ ،‬وعن هذا قال المقرٌزي فً‬
‫كتابه "السلوك لمعرفة دولة الملوك"‪" :‬وعمت بلوى الضابقة بمصر ألن الذهب والفضة خرجا منها وما‬
‫رجعا‪ ،‬وعدما فلم ٌوجدا‪ ،‬ولهج الناس بما عمهم من ذلك‪ ،‬وصاروا إذا قٌل دٌنار أحمر فكؤنما ذكرت حرمة‬
‫الؽٌور له‪ ،‬وإن حصل فً ٌده فكؤنما جاءت بشارة الجنة له(‪.)ٕٙ‬‬

‫❻ أكل لحوم البشر‪ ..‬عادة أجنبٌة؟‬

‫ٌحكً عبد اللطٌؾ البؽدادي فً "اإلفادة واالعتبار" عن مجاعة وقعت لمصر خبلل زٌارته‪ ،‬حكً عنها‬
‫المقرٌزي أٌضا فً "السلوك لمعرفة دولة الملوك" وهً أبشع صور عن مجاعة شهدتها مصر‪ ،‬لدرجة تهتز‬
‫لها األعصاب وٌرتجؾ القلب‪ ،‬فسبحان من أبقى من ذرٌة المصرٌٌن أحٌاء رؼم كل ما حصلهم من إبادات‬
‫بٌد البشر أو الطبٌعة‪.‬‬

‫فبعد وفاة صبلح الدٌن سنة ‪ ٘٘9‬هـ دبَّ الصراع بٌن ولدٌه الملك العزٌز والملك األفضل وعمهم الملك‬
‫العادل استؽرق سنٌن وسط كر وفر بٌن مصر التً ٌحكمها العزٌز والشام التً ٌحكمها األفضل والعادل‪،‬‬
‫وانتهى األمر بفوز العادل بحكم مصر‪.‬‬

‫ووسط ؼبار المعارك وانشؽال األٌوبٌٌن بها عن تدبٌر االقتصاد هبط النٌل إلى أقل من ٕٔ ذراعا‪ ،‬فع َّم‬

‫(ٖٕ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الدولة الفاطمٌة تفسٌر جدٌد‪ ،‬ص ٕٓ٘‪ ،ٕ٘ٔ -‬وملكٌة األرض الزراعٌة فً مصر خبلل القرن التاسع عشر‪ ،‬ص ٔ‪ 8‬و‪89‬‬
‫(ٕٗ)‬
‫‪ -‬السلوك فً لمعرفة دولة الملوك‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج ٔ‪ ،‬ص ٖ٘ٔ ‪ ،‬والحٌاة االقتصادٌة فً مصر فً العصر األٌوبً‪ ،‬فوزي خالد علً الطواهٌة‪،‬‬
‫(دكتوراة)‪ ،‬الجامعة األردنٌة‪ ،ٕٓٓ8 ،‬ص ‪9ٓ -89‬‬
‫(ٕ٘)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬ملكٌة اإلراضً الزراعٌة فً القرن التاسع عشر‪ ،‬ص ‪8ٙ‬‬
‫(‪)ٕٙ‬‬
‫‪ -‬السلوك لمعرفة دولة الملوك‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ٘ٔ‬

‫ٔ‪ٕ8‬‬
‫القحط والجدب والؽبلء ٖ سنٌن ورا بعض‪ ،‬وٌقول البؽدادي والمقرٌزي إن أهل الرٌؾ هجروا قراهم إلى‬
‫القاهرة ومصر‪ ،‬ومؤلوا الشوارع ٌتساقطون فً أرجابها وأزقتها موتى‪ ،‬واشتد بالفقراء الجوع حتى أكلوا‬
‫المٌتة والجٌؾ والكبلب والبعر والروث‪ ،‬وتعدى األمر ذلك إلى أن أكل سكان القاهرة والفسطاط األطفال؛‬
‫فكثٌرا ما ٌُعثر علٌهم ومعهم صؽار مشوٌون أو مطبوخون‪ ،‬فٌؤمر صاحب الشرطة بإحراق الفاعل‪.‬‬

‫وٌضٌؾ البؽدادي‪" :‬ورأٌت صؽٌراً مشوٌا فً قفة‪ ،‬وقد أُحضر إلى دار الوالً ومعه رجل وامرأة ٌزعُم‬
‫ورأٌت صبٌا نحو الرهاق مشوٌا ً وقد أخذ به شابان أقرَّ ا بقتله وشٌِّه‬
‫ُ‬ ‫الناس أنهما أبواه فؤمر بإحراقهما‪...‬‬
‫وأكل بعضه"‪ ،‬وحكت له سٌدة أنها "بٌنما تمشً على الخلٌج أنقضَّ علٌها رجل جاؾ ٌنازعها ولدها‪،‬‬ ‫ِ‬
‫فترامت على الولد نحو األرض حتى أدركها فارس وطرده عنها"‪.‬‬

‫ٌبق له كفٌل وال حارس ِّ‬


‫منبثٌن فً جمٌع أقطار الببلد وأز َّقة‬ ‫"وتجد أطفال الفقراء وصبٌانهم ممَّن لم َ‬
‫الدروب كالجراد المنتشر‪ ،‬ورجال الفقراء ونساإهم ٌتصٌَّدون هإالء الصؽار وٌتؽذون بهم"‪ ،‬ودخل فً أكل‬
‫لحم البشر جماعة من المٌاسٌر (األؼنٌاء) كشهوة له‪ ،‬وتفشت حٌل صٌد الناس‪ ،‬حتى ٌقال للداٌة أو الطبٌب‬
‫أن المرضى بحاجة لهم فٌذهبون فٌؤكلونهم(‪.")ٕ9‬‬

‫وٌتشكك الدكتور عبد الرحمن عبد هللا الشٌخ‪ ،‬المشرؾ على إصدار طبعة الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‬
‫من كتاب "اإلفادة واالعتبار"‪ ،‬فً جنسٌة من أشاعوا فكرة أكل لحوم البشر فً مصر‪ ،‬خاصة وأنها شاعت‬
‫أوال فً القاهرة والفسطاط المكتظتٌن باألجانب‪ ،‬ومنهم القادمون من داخل أفرٌقٌا المعروفة بوجود قباٌل‬
‫تؤكل البشر‪ ،‬واستدل على ذلك بعبارة وردت على لسان البؽدادي أن امرأة "تجرٌة" ضمن من أكلوا لحوم‬
‫الناس فً المجاعة‪ ،‬وقباٌل التجرٌٌن قباٌل سوداء من أطراؾ الحبشة‪ ،‬ولكن البؽدادي لم ٌهتم بتقصً‬
‫أعراق كافة من شاهدهم العتٌاد الرحالة على كثرة األجانب فً القاهرة والفسطاط‪ ،‬بل كانتا مدٌنتات‬
‫لؤلجانب والمصرٌون فٌهما ٌسمون بالؽرباء والرعاع(‪!)ٕ8‬‬

‫وقد ٌإٌد ما ذهب إلٌه الدكتور عبد الرحمن أن ما حكاه المقرٌزي أٌضا عن خطؾ الناس وأكلهم بعد‬
‫قتلهم فً الشدة المستنصرٌة كان ٌجري فً القاهرة المكتظة باألجانب والعبٌد المجلوبٌن من مجاهل أفرٌقٌا‬
‫وآسٌا‪ ،‬فٌما لم ٌورد شٌبا من هذا فً األرٌاؾ على ٌد مصرٌٌن (قبط‪/‬فبلحٌن)‪.‬‬

‫كذلك حٌن تحدث "إٌبو ور" عن الصور الموجعة آلثار المجاعة التً ضربت مصر بعد تفكك الحكم‬
‫المركزي نهاٌة األسرة ‪ ،ٙ‬فإنه على قدر بشاعتها لم ٌورد فٌها أن المصرٌٌن لجؤوا ألكل لحوم البشر‪.‬‬

‫وٌواصل البؽدادي مشاهداته أنه "وجد بؤطفٌح عند عطار عدة خوابً مملوءة بلحم اآلدمً وعلٌه الماء‬
‫والملح فسؤلوه عن علة اتخاذه واالستكثار منه‪ ،‬فقال‪ :‬خفت إذا دام الجدب أن ٌهزل الناس‪ ...‬وكان عند جامع‬
‫ٌتخطفون الناس"‪ ،‬كما شاع نبش القبور وأكل الموتى‪ ،‬وشاع القتل خصوصا فً طرٌق‬ ‫َّ‬ ‫ابن طولون قوم‬

‫(‪)ٕ9‬‬
‫‪ -‬اإلفادة واالعتبار فً األمور المشاهدة والحوادث المعاٌنة بؤرض مصر‪ ،‬عبد اللطٌؾ البؽدادي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٖٔ‪ٖٔٙ -‬‬
‫(‪)ٕ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٔ9‬‬

‫ٕ‪ٕ8‬‬
‫الفٌوم واإلسكندرٌة (‪ )...‬ومن كثرة الموتى ال ٌجدون من ٌوراٌهم الثرى‪ ،‬فبقوا حٌثما ماتوا"‪.‬‬

‫ً‬
‫قاطبة ّإال ما شاء هللا‪،‬‬ ‫وحٌن ٌنتقل لرصد األرٌاؾ فبل ٌورد شٌبا عن أكل لحوم البشر‪" :‬فإنه هلك أهلها‬
‫وبعضهم انجلى عنها اللهم إال األمهات والقرى الكبار كقوص واألشمونٌن والمحلة ونحو ذلك‪ ..‬والقرٌة التً‬
‫كانت تشتمل على زهاء ٓٔ آالؾ نسمة تمرُّ علٌها فتراها دمنة وربما وجد فٌها وربما لم ٌوجد‪ ،‬والفبلح‬
‫ٌموت فوق محراثه‪...‬وإن المسافر لٌمر بالبلدة فبل ٌجد فٌها ناف ُخ ضرمة وٌجد البٌوت مف َّتحة وأهلها موتى‬
‫متقابلٌن (‪ )...‬فتجد ساكنً كل دار موتى فٌها الرجل وزوجته وأوالده‪ ،‬قال‪ :‬ثم انتقلنا إلى بل ٍد آخر ذكر لنا‬
‫أنه كان فٌه أربعمابة د ّكان للحٌاكة فوجدناها كالتً قبلها فً الخراب‪ ،‬وأن الحابك مٌت وأهله موتى حوله"‪،‬‬
‫كما ٌقول إنه انعدم الدجاج والبقر والحمٌر‪ ،‬واستؽل تجار الفرصة فاشتروا الدجاج من الشام بؤسعار زهٌدة‬
‫وباعوه فً مصر بؤضعاؾ‪ ،‬ولما عاد النٌل للزٌادة بعد ٖ سنٌن لم ٌوجد الفبلحٌن واألبقار والثٌران الكافٌة‬
‫للزرع‪ ،‬وإن بعض الناس الذٌن فروا إلى الشام قتلهم من ساعدوهم على الخروج فً الطرٌق(‪.)ٕ9‬‬

‫فصدق فً المصرٌٌن قول عٌسى بن دأب‪ ،‬أحد أدباء عصر الخلٌفة الهادي العباسً‪ ،‬حٌن سؤله أن ٌحكً‬
‫له مزاٌا مصر وعٌوبها‪ ،‬فقال له إن من عٌوب مصر أنها "تمٌر وال تمتار‪ ،‬فإذا أجدبوا هلكوا"(ٖٓ)‪ ،‬أي تنقذ‬
‫الببلد من المجاعات وال ٌنقذها أحد‪.‬‬

‫❼ تمجٌد جدٌد للمحتلٌن‬

‫وهو تمجٌد ال نرمً به الفبلحٌن المصرٌٌن وقتها‪ ،‬ولم ٌظهر فً ذلك العصر بقدر ما ظهر فً العصور‬
‫الحدٌثة‪ ،‬بل إن أكثر صناعه لٌسوا بمصرٌٌن بل شخصٌات عربٌة وكردٌة‪ ،‬ولكن استسلم بعض المتعلمٌن‬
‫لفكرة أنه مدام من ٌحتل ببلدي ٌشترك معً فً اللؽة أو الدٌن "فؤهبل مرحب"‪ ،‬وإن استباح أرضً وجعلنً‬
‫فً الدرك األسفل أو مذلوال وكؤقل من العبٌد و"كل األجناس"‪.‬‬

‫حظً صبلح الدٌن األٌوبً بتقدٌر بٌن المسلمٌن ألنه حقق أكبر نصر على الفرنجة فً عصره‪ ،‬وساهم‬
‫فً هذا بكتبهم معاصرو األٌوبٌٌن مثل وزٌره القاضً الفاضل ومإرخه ابن شداد‪ ،‬ولكن لم ٌقفز لدابرة‬
‫األسطورة مثلما قفز مع بروز التنظٌمات العالمٌة الساعٌة إلعادة نظام الخبلفة اإلسبلمٌة فً القرن ٕٓ‪،‬‬
‫وتحبٌب المسلمٌن فٌها‪ ،‬وتقدٌمها مخلصا لهم من االحتبلل األوروبً‪ ،‬مثل تنظٌم اإلخوان المسلمٌن‬
‫والجماعات السلفٌة‪ ،‬ولمحاربة الروح القومٌة الوطنٌة التحرٌرٌة التً شاعت فً مصر وؼٌرها ضد‬
‫الخبلفة العثمانلٌة وتركٌا وأي احتبلل آخر‪ ،‬كذلك بالػ فً تمجٌده بعض صناع القومٌة العربٌة‪ -‬حتى أنهم‬
‫قدموه عربٌا أكثر منه كردٌا‪ -‬كرمز لقضٌة فلسطٌن‪ -‬ثم انزلق مصرٌون فً تمجٌده كـ"بطل محرر" فً‬
‫فٌلم السٌما الشهٌر "الناصر صبلح الدٌن"‪ ،‬ولم ٌكن معظم المصرٌٌن ٌعرفونه قبل هذا الفٌلم‪.‬‬

‫والفكرة فٌما ٌخص مصر‪ ،‬أنه إن كان إزاحة ٌد الفرنجة عن مصر أو القدس أمرا طٌبا للمصرٌٌن‬

‫(‪)ٕ9‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٔٗٔ -ٖٔ8‬‬
‫(ٖٓ)‬
‫‪ -‬مروج الذهب ومعادن الجوهر‪ ،‬أبو الحسن علً المسعودي‪ ،‬ج ٕ‪ ،‬طٔ‪ ،‬ص ٗ‪ٕ9‬‬

‫ٖ‪ٕ8‬‬
‫لوجود مقدسات دٌنٌة فٌها‪ ،‬فبالتؤكٌد إزاحة المحتل األجنبً (أٌا كان دٌنه) عن مصر نفسها أمر أطٌب وأكثر‬
‫أولوٌة‪ ،‬فما معنى أن ٌؤتً شخص ٌسترد القدس من الفرنجة فً حٌن ٌضع ٌدٌه وقدمٌه فوق بلدي؟‬
‫وٌحكمنً بما ٌوافق مصالح عشٌرته ومرتزقته وخلٌفته ولٌس مصلحة الشعب المصري المكدود؟‬

‫إن صبلح الدٌن‪ -‬مثله مثل قسطنطٌن الرومانً حٌن اعترؾ بالمسٌحٌة‪ ،‬وتٌودٌوس الرومانً حٌن أوقؾ‬
‫اضطهاد المسٌحٌٌن فً مصر‪ ،‬أو عمرو بن العاص حٌن أزاح الرومان عن مصر‪ ،‬وؼٌرهم من حكام‬
‫أجانب وفاتحٌن‪ ،‬لم ٌقدموا للمصرٌٌن حرٌة بلدهم فً المقابل‪ ،‬لم ٌتركوها لهم ٌدٌرونها‪ ،‬لم ٌتركوا لهم‬
‫ثروتها‪ ،‬لم ٌعٌدوهم فٌها أسٌادا على كل أجنبً‪ ،‬بل جعلوا كل أجنبً سٌدا علٌهم‪ ،‬بما فٌهم العبٌد والجواري‪،‬‬
‫فما أزاحوا احتبلال إال لٌحلوا محله بؤسالٌب معظمها ال ٌختلؾ عن اآلخر‪.‬‬

‫وهل ٌصح أن ٌقبل المصرٌون مثبل أن تحرر إٌران أو تركٌا أو العراق مثبل القدس وتحتل مصر؟‬
‫وٌستبٌحوا بمٌلٌشٌاتهم وأجناسهم وتكبرهم أرض مصر وأهل مصر‪ ،‬وتؤتً أجٌال تسخر أموالنا وسٌاسٌٌنا‬
‫وفنانٌنا لصنع أفبلم سٌما تخلد "الخمٌنً"‪ ،‬و"أردوؼان" كـ"أبطال محررٌن" لمصر‪ ....‬المنكوبة!‬

‫حابً‪:‬‬

‫اسمع الشعب دٌون كٌؾ ٌوحون إلٌــه‬

‫مأل الجو هتافـــــــــا بحٌا َت ًْ قاتلٌــــــه‬

‫أ َّثر البهتـان فٌه وانطلى الزور علٌــــه‬

‫ٌاله من ببؽــــاء عقله فً أذنٌــــــــــــه‬

‫دٌون‪:‬‬

‫الرم ٌَّة تحتفً بالــــــــرامً‬


‫أن َّ‬ ‫َ‬
‫سمعت وراعنً‬ ‫ُ‬
‫سمعت كما‬ ‫حابً‪،‬‬

‫وأصار عرشهم فراش ؼــــــــرام‬ ‫هتفوا بمن شرب الطال فً تاجهم‬


‫(ٖٔ)‬
‫ولو استطاع مشى على األهرام‬ ‫ومشى على تارٌخهم مستهزبا‬

‫(ٖٔ)‬
‫‪ -‬مصرع كلٌوباترة‪ ،‬أحمد شوقً‪ ،‬مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٓٔ‬

‫ٗ‪ٕ8‬‬
‫حكموكى ما حكموكى‬

‫والمملوك مملوكى‬ ‫برضه المصرى مصرى‬

‫ٌا حـــــرة ٌا زٌنــــة‬ ‫إوعى تباتى حزٌنــــــة‬

‫بكـره نحرروكـــــى‬ ‫لو ربطوا إٌدٌنـــــــــــا‬

‫والعهد المملوكى(ٔ)‬ ‫من السلطان والوالى‬

‫"لعنك هللا‪ ،‬ولعن الٌسرجً الذي جاء بك‪ ،‬ومن باعك‪ ،‬ومن اشتراك‪ ،‬ومن جعلك أمٌرا"(ٕ)‬

‫(ٔ)‬
‫‪ -‬مقدمة مسلسل "علً الزٌبق"‪ ،‬كلمات‪ :‬عبدالرحمن األبنودى‪ ،‬ألحان‪ :‬إبراهٌم رجب‪ ،‬ؼناء‪ :‬المجموعة‬
‫(ٕ)‬
‫‪ -‬الشٌخ األزهري علً الصعٌدي لؤلمٌر المملوكً ٌوسؾ بٌك نابب محمد أبو الدهب فً نهاٌة القرن ‪ ،ٔ8‬عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار‪ ،‬عبد‬
‫الرحمن الجبرتً‪ ،‬تحقٌق عبد العزٌز جمال الدٌن‪ ،‬الجزءٕ‪ ،‬الهٌبة العامة لقصور الثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٕٓٔ ،‬ص ٘‪88‬‬
‫المشهد ٗٔ‪ :‬االحتالل المملوكً‬

‫ٕٓ٘ٔ‪ ٔ٘ٔ7 -‬م‬

‫(حكم العبٌد والجواري الثانً‪ /‬القناع الثالث)‬

‫بدأ االحتبلل المملوكً الثانً لمصر‪ -‬لو اعتبرنا أن الحكم الطولونً واإلخشٌدي والكافوري هو أول‬
‫حكم الممالٌك‪ -‬بتولٌة عز الدٌن أٌبك حكم مصر بعد زواجه بشجرة الدر التً تآمرت على قتله فتسلم الحكم‬
‫تلمٌذه قطز لٌقتله زمٌله بٌبرس البندقداري‪ ،‬وٌواصلوا دوامة الدماء واالؼتٌاالت التً ٌعتبرونها عنوان‬
‫بطولتهم و"فروسٌتهم"‪.‬‬

‫فدستورهم هو أن العرش لصاحب السٌؾ المقطر بدماء زمبلبه‪ ،‬وؼاٌتهم فً الحٌاة القفز قبل اآلخر‬
‫للعرش‪ ،‬ولٌس مثلهم من طبَّق مبدأ "الؽاٌة تبرر الوسٌلة" دون أن ٌرمش لهم جفن‪ ،‬وهو ما سٌكون له أقبح‬
‫األثر فً حٌاة المصرٌٌن حتى الوقت الحاضر‪.‬‬

‫فبعد مقتل قطز على ٌد زمٌله بٌبرس فً طرٌق عودتهم من حرب التتار‪ ،‬وصل الممالٌك إلى الصالحٌة‬
‫شرق القاهرة‪ ،‬وٌروي المقرٌزي فً "السلوك لمعرفة دول الملوك"‪ ،‬أن األمٌر أقطاي المستعرب األتابك‬
‫قال لؤلمراء عند حضورهم‪" :‬من قتله منكم؟" فقال بٌبرس‪" :‬أنا قتلته"‪ ،‬فقال أقطاي‪ٌ" :‬ا خوند! اجلس فً‬
‫مرتبة السلطنة مكانه"‪ ،‬فجلس بٌبرس وباٌعه أقطاي وحلؾ له وتبعه بقٌة الممالٌك(ٖ)‪ ...‬هكذا‪ ،‬حتى دون‬
‫سإاله لماذا قتلته وهو المنتصر على التتار ومُنقذ الممالٌك أنفسهم من الفناء!‬

‫وٌزول العجب إذا ما عُرؾ أن قطز وبٌبرس كانا فً سباق على من ٌقتل اآلخر‪ ،‬خاصة وأن االثنٌن‬
‫ٌنتمٌان لفرقتٌن من الممالٌك أعداء لبعضهما‪ ،‬فٌنتمً قطز لفرقة المعز أٌبك‪ ،‬وبٌبرس لفرقة فارس الدٌن‬
‫أقطاي‪ ،‬وشارك قطز فً قتل أقطاي بقلعة الجبل رؼم أن أقطاي أنقذ الممالٌك من هجوم تحالؾ القباٌل‬
‫العربٌة علٌهم لمجرد أن شؤنه عبل فوق شؤن أمٌره أٌبك‪ ،‬فٌنقل المقرٌزي أنه لما استدعى أٌبك األمٌر‬
‫أقطاي بخدعة إلى القلعة‪" :‬أؼلق باب القلعة‪ ،‬ومُنع ممالٌكه من العبور معه‪ ،‬فخرج علٌه جماعة بالدهلٌز قد‬
‫أُعِ دوا لقتله‪ :‬وهم قطز وبهادر وسنجر الؽنمً‪ ،‬فهبروه بالسٌوؾ حتى مات"(ٗ)‪ ،‬فلٌس بعجٌب أن ٌقتل‬
‫بٌبرس قطز ؼدرا كما قتل قطز أمٌره أقطاي ؼدرا‪ ،‬خاصة لما رأى بٌبرس أن شؤن قطر عبل فوقه‪ ،‬وكما‬
‫سٌقتل الممالٌك بن قبلوون أٌضا رؼم انتصاره على الفرنجة‪.‬‬

‫(ٖ)‬
‫‪ - -‬السلوك لمعرفة دولة الملوك‪ ،‬تقً الدٌن المقرٌزي‪ ،‬ج ٔ‪ ،‬تحقٌق سٌد عبد الفتاح عاشور‪ ،‬مرجع سابق‪ ،ٔ99ٕ ،‬ص ٕٓ٘‬
‫(ٗ)‬
‫‪ -‬السلوك لمعرفة دول الملوك‪ ،‬تقً الدٌن المقرٌزي‪ ،‬ج ٔ‪ ،‬ص ٖ‪ٗ8‬‬

‫‪ٕ8ٙ‬‬
‫و صنؾ مإرخون بٌبرس على أن من أفضل الحكام الممالٌك‪ ،‬فكان أنه خفؾ الضراٌب التً فرضها من‬
‫قبله‪ ،‬واهتم بمشارٌع الري وكري الترع‪ ،‬إضافة لبلهتمام المملوكً المعروؾ ببناء المساجد والمدارس‬
‫الدٌنٌة‪ ،‬وخاض معارك مع الفرنجة "الصلٌبٌٌن" والمؽول كان النصر حلٌفه فً معظمها‪ ،‬وأعاد تشؽٌل‬
‫الجامع األزهر بعد أن تعطل ٓٓٔ سنة منذ سقوط العبٌدٌٌن(٘)‪.‬‬

‫لكنه ال ٌتوانى عن الؽدر واالستهانة باألرواح واألنفس‪ -‬كطبٌعة جنسه‪ -‬مثلما فعل مع قطز‪ ،‬ومع الخلٌفة‬
‫العباسً المستنصر لما تركه للمؽول خشٌة أن ٌطمع فً مصر‪ ،‬وما فعله بمؽٌث األٌوبً‪ ،‬حاكم الكرك‬
‫بالشام‪ ،‬بؤن تركه ٌموت جوعا فً القاهرة بعد أن أعطاه المواثٌق واألٌمان المؽلظة على أن ٌعطٌه األمان‬
‫إذا جاءه(‪ ،)ٙ‬ووصفه شمس الدٌن الذهبً بقوله‪" :‬كان الملك الظاهر نعم الملك‪ ،‬لوال ما كان فٌه من الظلم‬
‫وأخذ أموال الرعٌة بؽٌر الحق"(‪.)9‬‬

‫فإن كان هذا هو أفضلهم‪ ..‬فكٌؾ ٌكون حال أسوأهم؟‬

‫وٌجٌب على هذا المقرٌزي حٌن أفتى علماء بحرمة التدرٌس والصبلة فً المدرسة المنصورٌة ألن‬
‫َّ‬
‫وسخر الصناع بالقهر فً بنابها وهدم قلعة‬ ‫السلطان المملوكً قبلوون أخذ أرضها ؼصبا من أسرة أٌوبٌة‬
‫الروضة التً بناها األٌوبٌون لٌبنً بؤعمدتها المدرسة‪ ،‬فقال المقرٌزي إن ما فعله قبلوون من ظلم وؼصب‬
‫هو نفس ما فعله األٌوبٌون‪ ،‬فإنه "ما القوم إال سارق من سارق‪ ،‬وؼاصب من ؼاصب"‪ ،‬وأما عن "عسؾ‬
‫العمال وتسخٌر الرجال‪ ...‬باهلل عرفنً‪ ،‬فمن منهم لم ٌسلك فً أعماله هذا السبٌل؟؟ ؼٌر أن بعضهم أظلم‬
‫من بعض(‪.")8‬‬

‫▼▼▼ الجٌش فً االحتالل المملوكً (ممالٌك)‬

‫تكون الجٌش أٌام االحتبلل المملوكً من الممالٌك فقط ؼالب الوقت‪ ،‬فهم فقط من ٌُسمح له بصفة‬
‫"الفرسان"‪ ،‬وحٌن تشتد الحروب بٌن الممالٌك ٌلجؤ بعضهم لؤلعراب‪ -‬كونهم الجالٌة األكثر تسلٌحا بعد‬
‫الممالٌك وتملك الخٌول والجمال‪ -‬لٌحاربوا مع عصابة مملوكٌة ضد العصابة المملوكٌة األخرى‪ ،‬أو‬
‫ٌستعٌنون بهم أحٌانا حٌن ٌهجم على البلد ؼزو جدٌد‪ ،‬وهو ما انعكس علٌهم باالبتزاز من األعراب‪ ،‬فكانت‬
‫تتحول الحرب إلى ما بٌن الممالٌك وبٌنهم‪.‬‬

‫وفً حال تعرض الببلد لؽزو خارجً تعدى بالفعل حدود البلد ٌلجؤون أٌضا لبقٌة السكان‪ ،‬سواء‬
‫المصرٌٌن الفبلحٌن أو الجالٌات‪ ،‬كمقاومة شعبٌة لصد الؽزو كما حدث فً صد حملة الفرنجة "الصلٌبٌة"‬
‫على دمٌاط والمنصورة‪ ،‬بخبلؾ استخدامهم للصناٌعٌة فً إنشاء وتدبٌر أمور القبلع والحصون وؼٌرها‪.‬‬

‫(٘)‬
‫‪ -‬بدابع الزهور فً وقابع الدهور‪ ،‬محمد بن إٌاس الحنفً‪ ،‬تحقٌق محمد مصطفى‪ ،‬ط ٕ‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬ص ٕٖٔ‬
‫(‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تارٌخ دولة الممالٌك فً مصر‪ ،‬ولٌم موٌر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪٘ٓ -ٗ9‬‬
‫(‪)9‬‬
‫‪ -‬بدابع الزهور فً وقابع الدهور‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖٖ9 -ٖٖٙ‬‬
‫(‪)8‬‬
‫‪ -‬الخطط المقرٌزٌة‪ ،‬ج ٖ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓ٘٘‪ٕ٘٘ -‬‬

‫‪ٕ87‬‬
‫نقش ألمنحتب الثانً ٌتدرب على الرماٌة (موسوعة سلٌم حسن جٗ) ورسم لمملوك ٌتدرب على الرماٌة (مجهول المصدر)‪ ،‬فحٌن تساهلت أجٌال‬
‫سابقة فً تسلٌم السبلح لجنود أجانب من المستوطنٌن تلقؾ السهم كل هكسوسً لٌحكم مصر وٌرمٌها به‬

‫♣♣♣ السكان وتعرٌؾ المصري فً االحتالل المملوكً‬

‫(تؽٌٌر القناع)‬

‫أتاح طول الفترة التً احتل فٌها الممالٌك مصر (حوالً ٖٓٓ سنة منفردٌن عسكرٌا ثم ٖٓٓ باالشتراك‬
‫مع العثمانلٌة) فً رسم مبلمح قناع تركً زحزح القناع العربً إلى حد ما عن وجه العاصمة‪ ،‬فرؼم‬
‫استمرار العربٌة اللؽة الرسمٌة‪ -‬قبل أن تكون التركٌة هً لؽة الدواوٌن أٌام االحتبلل العثمانلً‪ -‬إال أن‬
‫الممالٌك ٌتكلمون مع بعضهم بالتركٌة‪ ،‬وٌعٌشون بطابع العنؾ والصراع التركً‪ ،‬وانتشرت ألفاظ وألقاب‬
‫تركٌة ومؽولٌة قحة أو مؤخوذة عن الفارسٌة فً المعامبلت الرسمٌة والتجارٌة وأسامً األدوات واألكبلت‬
‫واألشخاص وؼٌرها لتمتزج بوضوح بما بقى من اللؽة المصرٌة وباللؽة العربٌة‪ ،‬مثل كلمات أستاذ‪ ،‬أؼا‪،‬‬
‫أسطول‪ ،‬حرافٌش‪ ،‬أالطٌش‪ ،‬أوضة‪ ،‬أورطة‪ ،‬بازار‪ ،‬بقشٌش‪ ،‬البلص‪ ،‬تختروان‪ ،‬شاوٌش‪ ،‬بكباشً‪ ،‬خواجا‪،‬‬
‫خازندار‪ ،‬سلحدار‪ ،‬شادر‪ ،‬طبنجة‪ ،9‬والمبلبس المزركشة الملونة المناسبة لبطون آسٌا تدل على أصولهم‪.‬‬

‫إال أنه ال ٌوجد ممالٌك ظلوا ٌعٌشون فً مصر طوٌبل‪ ،‬فمعظمهم ٌفنون فً الحروب الطاحنة بٌنهم‪ ،‬أو‬
‫ٌنفٌهم السلطان المملوكً الجدٌد‪ ،‬أو ٌهربون منه إلى الشام أو السودان وؼٌر ذلك‪ ،‬وٌُجلب ؼٌرهم صؽارا‪،‬‬
‫وال ٌتزوجون إال من الجواري الترك والشركس‪ ،‬وقلٌل منهم ٌحبذ اإلنجاب‪.‬‬

‫وح َّل الممالٌك محل األٌوبٌٌن لٌكونوا الطبقة األولى‪ ،‬والطبقة التالٌة هً الجالٌات األجنبٌة المشكلة وقتها‬
‫من عرب وشوام ومؽاربة وٌهود وأروام وفرس والسود (من السودان والحبشة)‪ ،‬وظلت كل جالٌة معروفة‬
‫أصلها فً الوجوه والمبلبس واألسماء واللهجات والمهن‪ ،‬واحتكرت مناصب القضاة ومشاٌخ األزهر‬
‫وشٌوخ الطوابؾ المهنٌة والتجارٌة واستمروا لفترة ٌحتكرون منصب شٌخ القرٌة‪ ،‬باإلضافة الحتكار‬
‫السٌطرة على األرض‪ ،‬والطبقة الثالثة هً الجواري والعبٌد الذٌن تتملكهم الطبقتان األولتان‪.‬‬

‫‪ -9‬لممزيد عن ىذه األلفاظ واأللقاب انظر‪ :‬معجم األلفاظ التاريخية في العصر الممموكي‪ ،‬محمد أحمد دىمان‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬ط‪ ،1‬دمشق‪1991 ،‬‬

‫‪ٕ88‬‬
‫أما المصرٌون الحقٌقون (الفبلحون) فٌشكلون الؽلبة فً العدد‪ ،‬ولكن تصنفهم الطبقات السابقة كؤقل ناس‬
‫فً البلد مكانة‪ ،‬وٌعلو علٌهم فً الثروة والنفوذ الجواري والرقٌق‪ ،‬وال ٌتزاوج المصرٌون بهذه الجالٌات‬
‫والطبقات إال نادرا‪ ،‬فظل لهذا السبب الدم المصري نقٌا فً عروق معظمهم‪.‬‬

‫وعلى هذا الوصؾ ظلت مصر مثل بقٌة عصور االحتبلل‪ ،‬مقسمة الثنٌن‪ ،‬الول شعب أصلً بلون‬
‫واحد‪ ،‬والثانً مجتمع برَّ انً متعدد األلوان والراٌات‪ ،‬األول صاحب البلد‪ ،‬نسٌج واحد متآلؾ "السواد‬
‫األعظم"(ٓٔ)‪ ،‬معظمهم محجوبون فً األرٌاؾ‪ ،‬وقلٌل فً حارات المدن‪ ،‬والثانً مجتمع أجنبً مقسم‬
‫لطبقات تعٌش فً المدن وحواؾ بعض القرى‪ ،‬منفصلة عن بعضها‪ ،‬لكل منها منطقة أو حارة تسمى‬
‫باسمها‪ ،‬وال ٌحدث االختبلط بٌن األعراق األجنبٌة إال فً الشوارع والمساجد والمعامبلت التجارٌة‪ ،‬وهذا‬
‫المجتمع الخلٌط هو الذي ٌتقافز فً كل صفحات كتب التارٌخ المعاصرة لذلك الوقت‪ ،‬وأكثر من ٌرصد‬
‫حالهم الرحالة والمإرخون وٌقدمونهم على أنهم "المصرٌون"‪ ،‬وقلٌل ما ٌُرصد حال المصرٌٌن الحقٌقٌٌن‬
‫الذٌن سموهم فقط بالفبلحٌن وأهل الرٌؾ والقبط‪.‬‬

‫ورسمٌا‪ ،‬ظلت القاهرة ومصر القدٌمة شبه محرمة على المصرٌٌن‪ ،‬إال لو احتاجهم سكان القاهرة‬
‫والحكام األجانب فً مصالح كالبناء والحفر وبٌع سلع األرٌاؾ ووظابؾ الدٌوان‪ ،‬وبخبلؾ ذلك ؼٌر‬
‫مُرحب بهم‪ ،‬ورؼم ذلك لما كان الضٌق ٌبلػ آخره بالفبلحٌن فً القرى خبلل المجاعات أو ضؽط الجباٌة‬
‫وعنؾ الممالٌك والعربان ٌطفش بعضهم إلى القاهرة وٌتحاٌل للبقاء‪ ،‬وٌسمٌهم الحكام والمستوطنون‬
‫بـ"الؽرباء"‪ ،‬و"العامة"‪ ،‬و"الزعر" و"الحرافٌش"‪ ،‬وكل فترة ٌسعون إلخراجهم‪.‬‬

‫وعنهم قال المقرٌزي فً كتابه "السلوك لمعرفة دول الملوك"‪ ،‬إنه فً سنة ‪ 8ٕ9‬ه "نودي بخروج أهل‬
‫الرٌؾ من القاهرة ومصر (أي الفسطاط) إلى ببلدهم‪ ،‬فلم ٌُعمل بذلك"(ٔٔ)‪ ،‬وهذا فً وقت كانت المدٌنتان‬
‫مفتوحتان لؤلجانب من كل جنس‪.‬‬

‫جنس‬
‫ِ‬ ‫حالل للطٌر من كل‬ ‫أحرام على بالبله الدوح‬

‫رجس‬
‫ِ‬ ‫خبٌث من المذاهب‬ ‫كل دار أحق باألهل إال فً‬

‫ومع اهتمام المإرخٌن المعاصرٌن لذلك الزمن برصد مبلبس األفراد فً المدن الكبرى‪ ،‬وظهر أنها تنوعت‬
‫بشكل مبالػ فٌه‪ ،‬حتى أصبح من السهل على أي زابر للقاهرة أن ٌحكم على الشخص وحرفته ودٌانته‬
‫وطبقته االجتماعٌة وبلده األصلً من مبلبسه‪ ،‬وٌنقل د‪ .‬سعٌد عاشور أستاذ تارٌخ العصور الوسطى عن‬
‫كتب ذلك العصر أن موفد من تٌمولنك للسلطان برقوق أخذ ٌنظر إلى الناس فً شوارع القاهرة فلقً أقواما‬
‫وخلقا كثٌرا مختلفً الهٌبات والملبوس فسؤل عنهم فسموا له كل طابفة فتعجب من ذلك وقال‪" :‬نحن فً‬
‫ببلدنا ملبوس السلطان واألمٌر والخدم والفبلحٌن هٌبة واحدة"‪ ،‬أما عن مبلبس القرى فبل ٌستبعد عاشور أن‬

‫(ٓٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المجتمع المصري فً عصر سبلطٌن الممالٌك‪ ،‬د‪ .‬سعٌد عبد الفتاح عاشور‪ ،‬دار النهضة العربٌة‪ ،ٔ99ٕ ،‬ص ‪٘ٙ‬‬
‫(ٔٔ)‬
‫‪ -‬السلوك لمعرفة دولة الملوك‪ ،‬تقً الدٌن المقرٌزي‪ ،‬جٗ قٕ‪ ،‬تحقٌق سعٌد عبد الفتاح عاشور‪ ،‬دار الكتب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٕ‪ٙ9‬‬

‫‪ٕ89‬‬
‫تكون هً ما علٌه فً عصور الحقة‪ ،‬وهً اللبدة فوق رأسه والجبلبٌة الزرقاءٕٔ‪ ،‬خاصة وأن الممالٌك ومن‬
‫بعدهم العثمانلٌة والقبابل العربٌة على الحدود ترفض أن ٌرتدي الفبلح مبلبسهم معتبرٌن أنها نوع من‬
‫"التفوق" و"التمٌز"‪ٌ ،‬تعالون بها علٌه كما ٌتعالون‪ ..‬بالنهب والسٌؾ‪.‬‬

‫الزي األشير لمفالح المصري (الكيمتي) طوال تاريخو حتى اليوم‪ ،‬والطاقية كأنيا حمت محل الباروكة المصرية القديمة لحماية رأسو من الشمس واألتربة‪،‬‬
‫فمم ير ِتد الزي اليوناني ولروماني وال العقال والزي العربي وال التركي إال ندرة ممن تعمموا أو عمموا في الحكومة (مصدر الصورة الممتقطة نياية القرن ‪19‬‬
‫موقع ‪)Gettyimage‬‬

‫وٌرجع باحثون ارتداء الفبلح للجبلبٌة إلى تؤثره بمبلبس العرب الفضفاضة أوإلى القمٌص الرومانً‬
‫والٌونانً‪ ،‬إال أن النقوش المصرٌة القدٌمة تظهر أن الجبلبٌة الفبلحً التً نعرفها الٌوم‪ ،‬الفضفاضة فً‬
‫أسفلها‪ ،‬سواء ذات األكمام الواسعة أو األكمام الضٌقة‪ ،‬والقصٌرة أو الطوٌلة‪ ،‬ارتداها األجداد أٌضا‪ ،‬ولم‬
‫تكن جدٌدة على الفبلح‪.‬‬

‫مبلبس المصرٌٌن بداٌة من األسرة ‪ ٔ9‬وفٌها عناصر الجبلبٌة الفبلحً الحالٌة (المناظر الثبلثة من ٌمٌن الناظر إلى الٌسار‪ :‬نقش لرجل ٌسمى سوبك‬
‫حتب من األسرة ‪ ٔ8‬موجود بالمتحؾ البرٌطانً‪ ،‬مقبرة كنرو األسرة ‪ ،ٔ9‬مقبرة أمون إم ونٌت األسرة ‪)ٔ9‬‬

‫ٕٔ‪ -‬المجتمع المصري فً عصر سبلطٌن الممالٌك‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٕٔ‪ٕٖ9 -‬‬

‫ٓ‪ٕ9‬‬
‫وعن حال اللؽة المصرٌة‪ ،‬فإنها عفٌة فً بعض األماكن فً مصر‪ ،‬وخاصة الوجه القبلً‪ ،‬فٌقول‬
‫المقرٌزي فً كتابه "الخطط" الذي كتبه فً القرن ٘ٔ المٌبلدي‪ ،‬أي نهاٌة االحتبلل المملوكً‪ ،‬عن أدٌرة‬
‫درنكة فً أسٌوط‪ ":‬واألؼلب على نصارى هذه األدٌرة معرفة القبطً الصعٌدي‪ ،‬وهو أصل اللؽة القبطٌة‪،‬‬
‫وبعدها اللؽة ال قبطٌة البحرٌة‪ ،‬ونساء نصارى الصعٌد وأوالدهم ال ٌكادون ٌتكلمون إال بالقبطٌة الصعٌدٌة‪،‬‬
‫ولهم أٌضا معرفة تامة باللؽة الرومٌة ]الٌونانٌة["ٖٔ‪.‬‬

‫ؼٌر أن كثرة المعارك والصراعات أٌام الممالٌك ومن قبلهم نجم عنه حرق وهدم عدد كبٌر من عمارة‬
‫مصر‪ ،‬ومنها األدٌر والكنابس‪ ،‬فضاعت كنوز من المخطوطات القبطٌة‪ ،‬وقلت فرص انتشار وثبات‬
‫اللؽةٗٔ‪ ،‬إضافة إلى أن ذلك العصر شهد تزاٌدا فً دخول المصرٌٌن لئلسبلم طوعا أو كرها‪ ،‬وترتب علٌه‬
‫تحدثهم بالعربٌة باعتبارها مظهر من مظاهر اإلسبلم وقتها‪ ،‬وذلك بالرؼم من أن الممالٌك أنفسهم احتفظوا‬
‫بلؽتهم وظلوا ٌتحدثون معظم الوقت بالتركٌة‪.‬‬

‫ومع هذا سعى مصرٌون للتحوٌط على لؽتهم قبل سرسبتها من بٌن إٌدٌهم بعمل قوامٌس وكتب لتعلٌم‬
‫اللؽة المصرٌة وحفظ كلماتها‪ ،‬فصدرت مإلفات بالعربٌة تشرح قواعد اللؽة القبطٌة اسمها "مقدمات"‪ ،‬وفً‬
‫القرن ٖٔ كتب أبو إسحق بن العسال "السلم المقفً والذهب المصفً"‪ ،‬وهو قاموس هجابً للؽة‪ ،‬وأخوه أبو‬
‫الفرج بن العسال كتب "قواعد اللؽة القبطٌة"‪ ،‬وفً القرن ٗٔ كتب القس أبو البركات قاموس "السلم الكبٌر"‬
‫للكلمات القبطٌة وما ٌقابلها بالعربٌة‪ ،‬وكتب األنباء أثناسٌوس أسقؾ قوص "قبلدة التحرٌر فً علم التفسٌر"‬
‫وهو مقدمة باللهجة البحٌرٌة وأخرى بالصعٌدٌة‪.‬‬

‫والقدٌس برسوم العرٌان الذي تنٌح (توفً) سنة ‪ ٖٔٔ9‬م كتب المصرٌون سٌرته بالقبطٌة الصعٌدٌة‪،‬‬
‫وعُثر على قصٌدة شعرٌة طوٌلة بالقبطٌة الصعٌدٌة سنة م ٕٕٖٔ مع ترجمة لها بالعربٌة٘ٔ‪.‬‬

‫ورؼم ذلك ترسخت فً هذه الفترة بوضوح ما نصفه اآلن بـ"اللهجة أو اللؽة القاهرٌة أو المصرٌة‬
‫الدارجة التً ظهرت بوادرها وقت االحتبلل العبٌدي واألٌوبً‪ ،‬وهً مزٌج من الكلمات المصرٌة والعربٌة‬
‫مع تؤثٌرات تركٌة وفارسٌة‪ ،‬وانتشر شعر بهذه الشكل الجدٌد الممٌز للؽة‪ ،‬وٌتضح هذا فً قول أحد شعراء‬
‫ذلك العصر‪:‬‬
‫‪ٔٙ‬‬
‫ٌا مشؽول بهم الناس همك لٌه خلٌته‬

‫‪ -13‬الخطط المقريزية‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪811 -799‬‬


‫‪ -14‬المغة القبطية ومخطوطاتيا وفيارسيا ومصادرىا وأسباب ضعفيا‪ ،‬دراسة منشورة عمى موقع أثناسيوس المقاري‪ ،‬ص ‪59 -58‬‬
‫‪http://www.athanase.net/PDF/17general.pdf‬‬
‫‪ -15‬تراث األدب القبطي‪ ،‬شنودة ماىر ويوحنا نسيم يوسف‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪33 -31‬‬
‫‪ -16‬العادات والتقاليد المصرية‪ ،‬جون لويس بوركيارت‪ ،‬ترجمة إبراىيم شعالن‪ ،‬الييئة المصرية العامة لمكتاب‪ ،‬ط‪ ،4‬ص ‪57‬‬

‫ٔ‪ٕ9‬‬
‫وانتشرت فً ذلك العصر أمثلة ما زالت حتى اآلن‪ ،‬وردت فً مخطوطة شرؾ الدٌن بن أسد المصري‪،‬‬
‫وٌقول د‪ .‬إبراهٌم شعبلن المتخصص فً األدب الشعبً إنها تعود إلى صدر الحكم المملوكً‪ ،‬ومنها‪" :‬على‬
‫عٌنك ٌا تاجر"‪" ،‬الحٌطان لها ودان"‪" ،‬نواٌة تسند الزٌر"‪ٌ" ،‬اكل وٌتنقور"‪" ،‬نقبه طلع على شونة"‪،ٔ9‬‬
‫وٌظهر فٌها بوضوح اللؽة المصرٌة كما ننطقها اآلن‪.‬‬

‫وبرز فً دنٌا العلم والمناصب من المصرٌٌن المفضل المصري ابن أبً الفضابل‪ ،‬صاحب "كتاب النهج‬
‫السدٌد والدر الفرٌد فٌما بعد تارٌخ ابن العمٌد"‪ ،‬روى فٌه تارٌخ الممالٌك من عهد بٌبرس إلً الناصر بن‬
‫قبلوون‪ ،‬واألنبا ٌوساب صاحب كتاب "تارٌخ اآلباء البطاركة"‪ ،‬وابن الراهب صاحب كتاب "التوارٌخ"‪،‬‬
‫وعبد الكرٌم بن هبة هللا بن السدٌد المصري الشهٌر بؤبو الفضابل ووصل لمنصب مدبر دولة الناصر‬
‫قبلوون‪ ،‬وٌبلحظ أن أكثرهم من المصرٌٌن المسٌحٌٌن لسهولة اتصالهم بالدواوٌن‪ ،‬وؼٌروا أسامٌهم للعربٌة‬
‫على النمط واأللقاب السابدة‪.‬‬

‫▼▼▼ نتابج االحتالل المملوكً الثانً لمصر‬

‫❶ العبٌد ٌحكمون األحرار‪ ..‬شهقة التارٌخ‬

‫فً كتابه القٌم "تراث العبٌد فً حكم مصر المعاصرة" حول تؤثٌر حكم الممالٌك وصفاتهم على سلوكٌات‬
‫المصرٌٌن حالٌا ٌقول صاحبه الذي وقعه بإمضاء (دكتور ع‪.‬ع) إنه لم ٌحدث أن حكم العبٌد شعبا حرا إال‬
‫فً مصر وبعض الدول اإلسبلمٌة األخرى كالشام والعراق‪ ،‬فتفردوا بهذا النظام الؽرٌب "الرقٌق حاكم‬
‫ألحرار"‪ ،‬أو "الرقٌق مسترق األحرار" فً حٌن أن العبٌد فً أمرٌكا وأوروبا مثبل ٌكلفون باألعمال الشاقة‪،‬‬
‫(‪)ٔ8‬‬
‫ومقامهم فً مرتبة وضٌعة‪ ،‬بل إن العبد المملوك فً مصر والشام ٌؤبى أن ٌكون حاكمه حرا !‬

‫وإن كان استمرار الصراعات الطابفٌة والعرقٌة بٌن الشوام مثبل وعدم تمتعهم فً تارٌخهم القدٌم بدولة‬
‫وطنٌة حقٌقٌة هو السبب فً انحدارهم إلى هذا المصٌر‪ ،‬فما هو سبب انحدار مصر صاحبة الشعب الواحد‬
‫المتحاب المتعاون‪ ،‬العاشق لبلده وحرٌته؟‬

‫ٌبدو أن التهاون فً مراجعة التارٌخ مع ترك الحدود مفتوحة أمام الجمٌع واالستٌطان للجمٌع ال ٌقل فً‬
‫خطره على الدولة مهما كان شعبها واحدا ومتماسكا عن خطر الصراع والتقاتل فً شعوب أخرى‪ ،‬فكبلهما‬
‫منفذ للمحتل لٌسلك طرٌقه وٌعتلً رءوس أهل البلد‪ ..‬حتى وإن كان المحتل عبدا مملوكا‪ ..‬فقد نامت عن‬
‫مصر نواطرها (حراسها)‪.‬‬

‫أو خانه فله فـً مصـر تمهٌـد‬ ‫أكلما اؼتال عبـد السـوء سٌـده‬

‫‪ -17‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪69‬‬


‫(‪)ٔ8‬‬
‫‪" -‬تراث العبٌد فً حكم مصر المعاصرة‪ ،‬دراسة فً علم االجتماع التارٌخً"‪ ،‬دكتور ع‪.‬ع‪ ،‬المكتب العربً للمعارؾ‪ ،‬ص ٕٔ‬

‫ٕ‪ٕ9‬‬
‫فالحر مستعبد والعبد معبــود‬ ‫صار الخصً إمـام اآلبقٌن بها‬
‫(‪)ٔ9‬‬
‫فقد بشمن وما تفنى العناقٌـــد‬ ‫نامت نواطٌر مصر عن ثعالبها‬

‫❷ مصر تحت سلطان الملٌشٌات والعصابات‬

‫إن كانت االحتبلالت السابقة اعتمدت على المرتزقة فً حكم مصر‪ ،‬فمؤلوا األرض فسادا ودما َء‪ ،‬فإن‬
‫حكم الممالٌك هو أن المرتزقة أنفسهم وزعماء الملٌشٌات هم من ٌصبحون سبلطٌن‪.‬‬

‫فلكل أمٌر مملوكً ملٌشٌا خاصة ٌكونها هو بؤن ٌشتري الممالٌك صؽار السن (عرفوا باسم الترابٌة)‪،‬‬
‫وٌربٌهم على الوالء الخاص له ال للدولة وال السلطان‪ ،‬وٌكونوا عدته فً التخلص من أي مٌلٌشٌا أخرى‬
‫تسعى للتقلٌل من نفوذه‪ ،‬وعدته فً القفز إلى كرسً السلطان حٌن تحٌن الفرصة‪.‬‬

‫وعلى هذا وجد فً االحتبلل المملوكً ما سُمً بـ"الممالٌك المعزٌة"‪ ،‬أي الموالٌن لؤلمٌر معز الدٌن‬
‫أٌبك‪ ،‬والممالٌك القاسمٌة نسبة لزعٌمهم قاسم‪ ،‬والفقارٌة نسبة لزعٌمهم ذو الفقار إلخ‪.‬‬

‫وال تتحد ملٌشٌات الممالٌك إال فً استثناء واحد إذا ما واجهت ؼزوا قادما من الخارج فٌخشون أن ٌطٌح‬
‫بهم أجمعٌن‪ ،‬فٌتحدون ضده فً لحظة حتى ٌهزمونه‪ ،‬وقبل أن تجؾ دماء المعركة ٌؽرقون الببلد بدماءهم‬
‫هم فً حرب االستحواذ على الحكم بعد النصر‪ ،‬فٌقتلون السلطان المنتصر وٌبددون شمل ممالٌكه إن‬
‫استطاعوا حتى ال ٌعلو شؤنهم فوق بقٌة الممالٌك‪ ،‬كما فعلوا مع قطز وقبلوون وعلً بك الكبٌر‪ ،‬ولذا فإن‬
‫صاحب كتاب "تراث العبٌد فً حكم مصر المعاصرة" فً تحلٌله للقبابح التً تركها حكم الممالٌك الطوٌل‬
‫على الشخصٌة المصرٌة‪ٌ ،‬رى أن التآمر على الناجحٌن الذي ٌلوث بعض النفوس والجماعات حالٌا هو‬
‫نتٌجة من نتاٌج حكم الممالٌك الطوٌل‪.‬‬

‫وٌضرب أمثلة على ذلك بؤن انقبلب تنظٌم اإلخوان المسلمٌن على الربٌس جمال عبد الناصر رؼم أنه‬
‫حقق مطالب الشعب‪ ،‬والتً كان ٌتحدث عنها اإلخوان أنفسهم قبل ثورة ٕ٘‪ ،ٔ9‬ومحاولة اؼتٌاله وهو‬
‫منتصر عقب توقٌعه اتفاقٌة الجبلء مع اإلنجلٌز‪ ،‬واؼتٌال الربٌس السادات على ٌد تنظٌم "الجهاد" فً ٌوم‬
‫االحتفال بالنصر على إسرابٌل‪ ،‬هو حالة مملوكٌة‪ ،‬مثلها مثل قتل بٌبرس لقطز فور فوزه على التتار‪ ،‬وقتل‬
‫الممالٌك لسلطانهم خلٌل قبلوون بعد عودته منتصرا على الصلٌبٌٌن فً عكا ٓ‪ ٙ9‬ه‪ ،‬حتى أنهم وضعوا‬
‫السٌؾ فً دبره ضمن توحشهم المشهور فً التعذٌب واإلهانة حتى فً سكرات الموت وبعد الموت‪ ،‬وقال‬
‫إن حتى عمل الملٌشٌات فً صورة الجماعات اإلرهابٌة المسلحة هو أٌضا تراث مملوكً‪.‬‬

‫ورأى أن انتشار الشلل و"الرُ بطٌات" داخل الحكومة ٌستقوي بها مسبول ضد مسبول أحٌانا هً أٌضا‬
‫"تراث مملوكً"‪ ،‬وصورة من صور العصابات التً ٌجمعها كل مملوك حوله ٌستقوي بها على منافسٌه‪.‬‬

‫(‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬نواطرها أي حراس أرضها ومكانتها‪ ،‬والثعالب هم اللصوص‪ ،‬وبشمن أي عبؤوا من كنوزها حتى الثمالة‪ ،‬وما تفنى العناقٌد أي خٌر مصر ال‬
‫ٌفنى فتظل الثعالب حابمة حوله‪ ،‬انظر ‪" :‬مع المتنبً"‪ ،‬طه حسٌن‪ ،‬مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٗ‪ٕ8٘ -ٕ8‬‬

‫ٖ‪ٕ9‬‬
‫وإن كانت هذه األسالٌب لٌست جدٌدة مع الممالٌك‪ ،‬بل ذقنا مرَّ ها مع احتبلالت سابقة‪ ،‬إال أن طول أمد‬
‫ُ‬
‫والزنب ضد الناجحٌن)‬ ‫االحتبلل المملوكً‪ ،‬ثم تسرب هذه األسالٌب (الشلل والرُ باطٌات واألحزاب والكٌد‬
‫إلى الجهاز الحكومً حٌن أدخل محمد علً بواقً الممالٌك واألتراك فً الجهاز الحكومً واإلداري بصفة‬
‫"مدٌرٌن"‪ ،‬و"موظفٌن"‪ ،‬نقل هذه األسالٌب الخبٌثة إلى أسالٌب التعامل الحكومً‪ ،‬وانتقلت من موظفٌن إلى‬
‫وأثرت فً بعض المصرٌٌن(ٕٓ)‪.‬‬‫موظفٌن جٌل بعد جٌل‪َّ ،‬‬

‫❸ تفشً الحزبٌة فً الحكم‪ ..‬وتعدد الراٌات‬

‫من أفضل ما قٌل فً وصؾ الشخصٌة المصرٌة الحقٌقٌة هً أن المصرٌٌن ال ٌحبون أن ٌروا أكثر من‬
‫راٌة ترفرؾ فوق رءوسهم‪ٌ ،‬قلقون منها وٌتشاءمون‪ ،‬فلم ٌتعودوا إال على راٌة واحدة تعلو بلدهم وتحمل‬
‫اسما واحدا هو كٌمة (وفً وقت الحق عرفها باسم راٌة مصر)‪.‬‬

‫وحٌن تسلل المستوطنون األجانب وجلبوا األعراق واالحتبلالت أدخلوا لمصر طاعون تعدد الراٌات‬
‫واأللوان‪ ،‬وال تتعدد الراٌات وألوانها إال وتعددت االنتماءات‪ ،‬وما تعددت االنتماءات إال وظهرت األحزاب‬
‫والجماعات المتصارعة‪ ،‬وما ظهرت تلك إال وظهرت الملٌشٌات‪ ،‬وما ظهر كل هذا إال وتحولت مصر‬
‫لبركة دماء فً حرب قذرة ال تعرؾ معنى الشرؾ‪ ،‬ال تخص مصر وال المصرٌٌن‪.‬‬

‫وشاهدنا هذه الحزبٌة وتعدد االنتماءات والراٌات والحروب الداخلٌة زمن االحتبلل الخاسوتٌمً القبلً‪،‬‬
‫وبشكل أوضح بتعدد الجالٌات زمن االحتبلالت الٌونانٌة والرومانٌة والعربٌة والعبٌدٌة واألٌوبٌة‪ ،‬ولكنها‬
‫ستصل إلى أقصاها على ٌد االحتبلل المملوكً الملٌشٌاوي‪.‬‬

‫فانقسم الممالٌك منذ أٌام األٌوبٌٌن وطوال تارٌخهم بعد ذلك إلى فرق‪ ،‬كل فرقة تبع سلطان أو أمٌر‬
‫مملوكً تناصره على اآلخر‪ ،‬وتسمت على اسمه‪ ،‬فٌوجد الممالٌك الصالحٌة والممالٌك الكاملٌة والممالٌك‬
‫لمعزٌة والممالٌك القاسمٌة وهكذا‪ ،‬وال ٌحكمهم انتماء لوطن أو دٌن‪ ،‬وإنما حكم الؽلبة والسٌؾ‪.‬‬

‫❹ انتشار اللواط (الفجور) فً داٌرة الحكم‬

‫مع تمٌز عصر الممالٌك بكثرة المساجد والتكاٌا‪ ،‬كما لم ٌحدث فً أي عصر سابق‪ ،‬إال أن وراء هذه‬
‫المساجد ذات الجدران الشاهقة والفخامة الساحرة ٌتخفى انحبلل خلقً وأمراض خبٌثة تثٌر القرؾ ناتجة‬
‫عن التكوٌن الخبٌث لهذه الفبة منزوعة الضمٌر واألصول‪.‬‬

‫فمن سماتها انتشار اللواط والفجور‪ ،‬أو ما ٌسمٌه اإلعبلم حالٌا مداراة لحقٌقته "الشذوذ الجنسً"‪،‬‬
‫تتفش كما تفشت بٌن الممالٌك والعثمانلٌة‪.‬‬
‫َ‬ ‫و"المثلٌة"‪ ،‬التً لم‬

‫وأمهات الكتب المعاصرة لهم مشحونة بحكاٌات فجور الممالٌك واألتراك عموما‪ ،‬بما فٌهم الحكام رؼم‬

‫(ٕٓ)‬
‫‪ -‬تراث العبٌد فً حكم مصر المعاصرة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٗ ؤٖٔ‪ٖٔٙ -‬‬

‫ٗ‪ٕ9‬‬
‫كثرة ما بٌن أٌدٌهم من الجواري الحسان‪ ،‬منها ما أورده المإرخ ابن إٌاس عن الخلٌل قبلوون الذي رؼم أنه‬
‫صاحب االنتصار الكبٌر فً إسقاط آخر حصون الفرنجة فً الشام وهو عكا‪ ،‬منهٌا ما عرؾ بالحمبلت‬
‫الصلٌبٌة إال أنه اتصؾ بكل صفات القبح المملوكً‪ ،‬ومنها اللواط‪.‬‬

‫فٌقول ابن إٌاس إن الخلٌل قبلوون بعد تولٌه كان شدٌدا مع أصدقاء والده؛ فؤبعدهم وزج بهم فً السجون‪،‬‬
‫وقتل كثٌرٌن‪ ،‬وتؽطرس على بقٌة الممالٌك‪ ،‬واشتهر بؤنه فاسد األخبلق‪ ،‬واتهمه ممالٌكه بؤنه ٌؽرق فً‬
‫الشهوات مع الؽلمان باللواط فً قصره‪ ،‬فقتله ناببه بٌدرا وهو فً رحلة صٌد فً النٌل‪.‬‬

‫وحٌن ه َّم أتباع السلطان بقتل المتآمرٌن صاح أحدهم وهو ٌقول‪ٌ" :‬برر عملنا دعارة السطان وانؽماسه‬
‫فً الشهوات واللذات مع من حوله من الفتٌان‪ ،‬وعكوفه على معاقرة الخمر حتى فً شهر الصٌام‪ ،‬هذا إلى‬
‫وحشٌته فً معاملة أصدقاء والده وزجه فرٌقا منهم فً أعماق السجون‪ ،‬ثم القضاء علٌهم"‪.‬‬

‫والصحٌح أنهم قتلوه لشدته معهم ولٌس لفساده‪ ،‬فمعظمهم فاسدون‪ ،‬وبقٌت جثته ملقاة على الشاطا ٌومٌن‬
‫فوارها الثرى أحد أبناء القرى قبل أن ٌنقلها أتباعه للدفن فً القاهرة‪ ،‬وقال ابن إٌاس إن أتباعه قتلوا بٌدرا‬
‫وقطعوا لحمه بالسٌؾ وأخرجوا كبده وأكلوها(ٕٔ)‪ ،‬وهذا من فحش الممالٌك فً االنتقام‪.‬‬

‫ولم ٌتورعوا عن ارتكاب الفواحش أمام الناس‪ ،‬فٌحكً المقرٌزي فً كتاب السلوك إن السلطان برقوق‪-‬‬
‫الذي وصفه المإرخون بحب الخٌر والعلم واحترام الفقهاء‪ -‬لم ٌتحرج من ارتكاب الفواحش وتقرٌب‬
‫"الممالٌك الحسان لعمل الفاحشة فٌهم"‪ ،‬وفً رأي د‪.‬سعٌد عاشور فً كتابه "المجتمع المصري فً عصر‬
‫الممالٌك"‪ ،‬فإنه كان لوقاحتهم فً الجهر بالفحشاء أثره فً تقلٌد بعض الناس لهم‪.‬‬

‫وأضاؾ أن الممالٌك أحضروا معهم اللواط (الفجور) وأشاعوه‪ ،‬حتى أنه عندما عاب أحد مشاٌخ مصر‬
‫على شٌخ أندلسً فً القرن السابع الهجري أن أهل األندلس ٌشربون الخمر وٌحبون الشباب‪ ،‬رد علٌه‬
‫الشٌخ األندلسً قاببل‪" :‬أما الشباب فما أشك أن أهل مصر أفسق منا!"(ٕٕ) ومن ٌعرؾ تركٌبة المجتمع وقتها‬
‫ٌعرؾ أن المقصود بؤهل مصر فً كبلمه سكان القاهرة ومصر القدٌمة وأكثرهم الممالٌك والجالٌات‪.‬‬

‫وانتشر هذا الطاعون بٌن قضاة وبٌن الصوفٌة الذٌن سموا أنفسهم زورا "الفقراء" بحسب ابن حجر فً‬
‫"الدرر الكامنة"‪ ،‬وكل هإالء فً ذلك التوقٌت مستوطنٌن من الشرق والؽرب‪ ،‬وعن جذر هذا الطاعون‬
‫ٌقول أبو المحاسن إنه انتشر فً الشرق منذ دخول الخراسانٌة إلى العراق سنة ٕٖٔ ه‪ ،‬وٌفسر الجاحظ ذلك‬
‫بؤن العباسٌٌن منعوا خروج النساء مع الجنود فً الؽزوات وسمحوا بخروج الصبٌان الصؽار‪ ،‬فاستعاض‬
‫هإالء بالصبٌان‪.‬‬

‫وفً عصر االحتبلل األٌوبً‪ٌ ،‬قول القاضً الفاضل إنه رأى بمصر "من البؽً ومن المعاصً ومن‬
‫الجهر بالفسق والزنا واللواط وشهادة الزور وشرب الخمر ما لم ٌُسمع أو ٌُعهد مثله" وكان ذلك فً أواخر‬

‫(ٕٔ)‬
‫‪ -‬بدابع الزهور فً وقابع الدهور‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘‪ٖ99 -ٖ9‬‬
‫(ٕٕ)‬
‫‪ -‬المجتمع المصري فً عصر سبلطٌن الممالٌك‪ ،‬سعٌد عبد الفتاح عاشور‪ ،‬دار النهضة العربٌة‪ ،ٔ99ٕ ،‬ص ‪ٕٗ8 -ٕٗ9‬‬

‫٘‪ٕ9‬‬
‫عهد صبلح الدٌن(ٖٕ)‪ ،‬ومعلوم أن جٌش صبلح الدٌن أكثره من األكراد والممالٌك األتراك‪.‬‬

‫وهذه اآلفات لٌست جدٌدة بالتؤكٌد على العالم‪ ،‬ولكن المفجع أن أصبح األمر علنا ومحل مباهاة وله أماكنه‬
‫العلنٌة‪ ،‬وأحٌانا المرخصة من السلطات‪ ،‬فً العواصم التً نزل بها وباء الممالٌك واألتراك‪.‬‬

‫ومن مواطن هذا الطاعون أٌضا المرتزقة الترك الذٌن أسسوا السلطنة العثمانٌة‪ ،‬وأرسلته إلى مصر‬
‫وؼٌرها من البلدان مع عسكرها‪ ،‬فٌذكر ابن حجر فً حدٌثه عن ببلد "ابن عثمان" أن الزنا واللواط وشرب‬
‫الخمر والحشٌش كان فاشٌا فٌها‪ ،‬وأٌام الممالٌك اعترؾ الحكام ألول مرة بالبؽاٌا‪ ،‬وفرضت علٌهن ضراٌب‬
‫وخصص لهن حارات فً عدة مدن‪،‬‬ ‫كما قال المقرٌزي‪ ،‬حتى وقفت البؽاٌا فً األسواق جهرا تطلب المارة‪ُ ،‬‬
‫وإن خالؾ ذلك بعض الممالٌك مثل بٌبرس الذي سعى لمنع البؽاء وتزوٌج العامبلت فٌه(ٕٗ)‪.‬‬

‫وتعلٌقا ٌقول صاحب كتاب "تراث العبٌد" إنه فً مجتمع العبٌد البٌض (الممالٌك) شاعت اإلشارات‬
‫الجنسٌة فً المداعبة والمزاح "إنه مجتمع (العزاب) المجالٌب األؼراب"‪ ،‬ؼٌر أنه لفت إلى أن األمر لم‬
‫ٌتوقؾ عند اللهو‪ ،‬بل استؽلوا هذا الطاعون كعقاب وإذالل للخصوم‪ ،‬فمن أسالٌب الممالٌك إذا ما انتصروا‬
‫أن ٌذلوا المجموعة المملوكٌة المهزومة بممارسة اللواط مع أفرادها باإلجبار‪ ،‬أي اؼتصابا‪ ،‬واإلذالل هنا‬
‫عندهم لٌس فً فعل الفاحشة نفسها‪ ،‬ولكن ألنها تتم بالجبر والقهر ولٌس باالختٌار(ٕ٘)‪.‬‬

‫وعلى هذا فإنه على من ٌلجؤ إلى هذه الوسٌلة‪ ،‬اؼتصاب النساء أو الرجال‪ ،‬إلذاللهم فً السجون أو فً‬
‫الخصومات‪ ،‬أن ٌفتش بداخله عن أصل مملوكً له‪ ،‬أو أن ٌعتبر نفسه منزوع األصل والوطن واآلدمٌة‬
‫مثلهم‪ ،‬وأنه اختار بكامل إرادته أن ٌكون "عبدا مملوكا"‪.‬‬

‫❺ جلب المخدرات وانتشار الحانات‬

‫أول عهد مصر بالمخدرات والحشٌش كان أٌام الممالٌك‪ ،‬وٌقول المقرٌزي إن أهل الخبلعة تعاطوه "من‬
‫ؼٌر احتشام"‪ ،‬وفرض الممالٌك علٌه ضرٌبة فً البداٌة‪ ،‬ووصل الحال ببعض العلماء والصوفٌة أن أشاعوا‬
‫بٌن الناس أن الحشٌش حبلل‪ ،‬ونسج أدباء قصابد فً فوابده‪ ،‬وربط أحد الكتاب بٌن الحشٌش والتصوؾ‬
‫وزرع الحشٌش فً أرض الطبالة بالقاهرة وباب‬ ‫قاببل إن الظاهرتٌن سارتا فً مصر جنبا إلى جنب‪ ،‬بل ُ‬
‫اللوق‪ ،‬ودخل مصر كذلك األفٌون(‪ ،)ٕٙ‬وكؤنه "لٌهٌموا سكارى فً الملكوت"‪ ،‬وٌتوهمون أنه "هٌام ربانً"‪،‬‬
‫ودخل مصر فً توقٌت حساس‪ ،‬فؤقبل علٌه كثٌرون هروبا من مشاعر الضنك‪.‬‬

‫وبحسب الجبرتً فإن أول من أدخل الحشٌش إلى مصر هم تجار ٌنتمون للصوفٌة(‪ -)ٕ9‬بواقً العبٌدٌٌن‪-‬‬
‫وفً دفاع أحد الشٌوخ وهو علم الدٌن بن الصاحب عن الحشٌش قال(‪:)ٕ8‬‬

‫(ٖٕ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕٕ٘ -ٕٗ8‬‬
‫(ٕٗ)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٕٗ9 -ٕٗ8‬‬
‫(ٕ٘)‬
‫‪ -‬تراث العبٌد فً حكم مصر المعاصرة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔ‪ٕٕ -‬‬
‫(‪)ٕٙ‬‬
‫‪ -‬المجتمع المصري فً عصر سبلطٌن الممالٌك‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٕ٘‪ٕٖ٘ -‬‬
‫(‪)ٕ9‬‬
‫‪ -‬عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار‪ ،‬عبد الرحمن الجبرتً‪ ،‬ج ٕ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘‪ٕ98 -ٖ9‬‬
‫(‪)ٕ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬النجوم الزاهرة فً ملوك مصر والقاهرة‪ٌ ،‬وسؾ بن تؽري بردي‪ ،‬تقدٌم وتعلٌق محمد حسٌن شمس الدٌن‪ ،‬ج ‪ ،9‬طٔ‪ ،‬ص ٕٖٔ‬

‫‪ٕ9ٙ‬‬
‫فـاللــهو منه الفـــتى ٌعــــٌش‬ ‫ٌانفس مــــٌلى إلى التـصـابى‬

‫إن أعــوز الخـمــر فالحشـــٌش‬ ‫والتمــلـى مـن سـكـر ٌـوم‬

‫وتفشت فٌهم الخمور علنا كما لم ٌحدث من قبل؛ فشاعت حتى صارت من متممات األفراح‪ ،‬وقٌل إن‬
‫السلطان فرج بن برقوق شق شوارع القاهرة ال ٌكاد ٌثبت على فرسه من شدة السكر‪ ،‬والمنصور بن‬
‫قبلوون ٌعكؾ على الشرب مع ندمابه حتى ال ٌكادون ٌفٌقون ساعة‪ ،‬ورؼم هذا ٌبدو أن الحال كان أقل من‬
‫ببلد أخرى‪ ،‬حتى أن ابن دانٌال الموصلً ٌقول إنه عند حضوره إلى مصر أواخر القرن السابع الهجري‬
‫وجد "مواطن األنس ؼٌر آنسة" من خمر وحشٌش وؼٌرها‪ ،‬فساءه ذلك مما ٌدل على أنها "تؤخرت" عن‬
‫الببلد المجاورة فً مضمار الفساد(‪.)ٕ9‬‬

‫❻ ظهور بدعة شراء المناصب العلٌا‬

‫قبل حكم الممالٌك كانت المناصب أحٌانا تإخذ بالرشوة كما تإخذ بالسٌؾ‪ ،‬وإن كانت الرشوة مؽلفة‬
‫باسم "هدٌة" و"عطاٌا"‪ ،‬أما فً حكم الممالٌك منزوع الحٌاء فً كل شًء فإن شراء المناصب أصبح جهرا‬
‫وعبلنٌة‪ ،‬وبات وكؤنه عُرفا مقبوال‪.‬‬

‫ٌقول المقرٌزي فً "إؼاثة األمة" عن شراء المناصب بالرشوة التً سموها "البراطٌل" إن أصل الفساد‬
‫فً عصره هو تحكم الرشوة فً شراء المناصب حتى القضاء والوزارة ووالٌة األقالٌم والحسبة ومشٌخة‬
‫التصوؾ وسابر األعمال "بحٌث ال ٌمكن التوصل إلى شًء منها إال بالمال الجزٌل"‪ ،‬وخضعت لشكل‬
‫المزاد‪ٌ ،‬شتري مثبل المحتسب (القابم على مراقبة األسواق واألسعار ومنع الؽش) منصبه بالمال‪ ،‬فإذا‬
‫عرض شخص آخر مبلؽا أكبر بعد شهور ٌحصل على المنصب لنفسه‪ ،‬وفً نفس الوقت ٌقبل المحتسب‬
‫رشوة من التجار فبل ٌبلػ عن بضابعهم المؽشوشة(ٖٓ)‪.‬‬

‫س َّنة األربعة)‬
‫❼ تورم جدٌد للمذهبٌة (صراع مذاهب ال ُ‬

‫َّ‬
‫وؼذاها‬ ‫تابعنا أن المذهبٌة الدٌنٌة الدموٌة ظهرت فً مصر فً أبشع صورها أٌام انتشار المسٌحٌة‪،‬‬
‫حٌنها الٌهود والرومان والٌونان وبقٌة الجالٌات التً رأت فً المسٌحٌة فرصة للتخلص من الدٌن المصري‬
‫حورت فٌها فشرختها إلى أرثوذكسٌة وكاثولٌكٌة‪.‬‬
‫القدٌم‪ ،‬أو تلك التً رفضت المسٌحٌة ذاتها‪ ،‬أو َّ‬

‫كما ظهرت المذهبٌة الدٌنٌة أٌام االحتبلل العربً على ٌد من سعوا لشرخ اإلسبلم إلى سُنة وشٌعة‬
‫ألسباب سٌاسٌة كالخوارج وخبلل ما سُمً بفتنة خلق القرآن‪ ،‬وأصاب مصر منها نصٌب حٌن هبط على‬
‫أرضها الطٌبة فِرق سود من الخوارج والشٌعة‪.‬‬

‫أما أٌام الممالٌك فظهر نوع جدٌد من المذهبٌة‪ ،‬وهو الخاص بالتعصب للمذاهب األربعة (الشافعٌة‪،‬‬

‫(‪)ٕ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المجتمع المصري فً عصر سبلطٌن الممالٌك‪ ،‬ص ‪ٕ٘٘ -ٕٗ8‬‬
‫(ٖٓ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ٕ٘8 -ٕ٘ٙ ،‬‬

‫‪ٕ97‬‬
‫الحنفٌة‪ ،‬المالكٌة‪ ،‬الحنبلٌة)‪ ،‬انتقل لمصر من أرض العراق والحجاز على جناح األٌوبٌٌن حٌن أسس صبلح‬
‫الدٌن مدرسة لتدرٌس المذهبٌن الشافعً والمالكً بدال من اختٌار مذهب واحد للبلد‪ ،‬أو اختٌار أقرب ما فً‬
‫كل مذهب لما ٌناسب طبٌعة مصر‪ ،‬فصار خرٌج كل مدرسة ٌتعصب لمذهبه‪.‬‬

‫واتخذ بٌبرس قرارا عمَّق التحزب المذهبً بحسب ما ابن إٌاس‪ ،‬وذلك أنه رسمٌا كان ٌُفتً فً مصر‬
‫بالمذهب الشافعً‪ ،‬وٌتواله قاضً مخصص له‪ ،‬فإذا به ٌعٌن قاضٌا لئلفتاء بالمذهب الحنفً وآخر للمذهب‬
‫الحنبلً وثالث للمذهب المالكً ورابع للشافعً‪ ،‬فتبع هذا تفرق كلمة العلماء وتشاحنهم وتنافسهم فً جذب‬
‫الحكام والناس عامة لمذاهبهم‪ ،‬حتى شاع أن بٌبرس رأى فً منامه الشافعً ؼاضبا ٌقول له‪" :‬بهدلت‬
‫مذهبً وفرقت كلمة المسلمٌن"(ٖٔ)‪.‬‬

‫❽ أبجنً تجدنً‪ ..‬دستور الحكم‬

‫"أبجنً تجدنً"‪ ،‬هو مثل مصري ٌُطلق على الخونة والمرتزقة الذٌن ال مبادئ لهم‪ ،‬وال ٌتحكم فً‬
‫قرارهم شرٌعة سماوٌة أو قوانٌن مشروعة‪ ،‬شرٌعتهم المال والمناصب‪ ،‬وهو أشد ما ٌنطبق على الممالٌك‪.‬‬

‫وشاع هذا فً العالم قبل األتراك‪ ،‬فهو دستور قدٌم قدم الشٌطان‪ ،‬ورأٌناه عند المرتزقة الٌونان حٌن‬
‫استعانت بهم األسرة ‪ ٕٙ‬الخاسوتٌمٌة فً الجٌش محل المصرٌٌن‪ ،‬ورأٌناهم خبلل الحروب حٌن ٌنهزم‬
‫الجٌش ٌنتقلون بكل بساطة إلى صفوؾ الجٌش المعادي المنتصر مثلما حصل فً الؽزو الفارسً وانتقلوا‬
‫لصفوؾ الفرس ىٌحاربوا معهم ضد مصر‪ ،‬ورأٌنا ذلك ٌحدث من البلجبٌن الٌهود فً مصر لما أعانوا‬
‫الفرس ضدها‪ ،‬ورأٌناه من المرتزقة الترك فً جٌش العبٌدٌٌن (الفاطمٌٌن) حٌن ضعفت شوكة العبٌدٌٌن‬
‫فسعوا لتسلٌم مصر إلى خصومهم العباسٌٌن‪.‬‬

‫ؼٌر أنه فً أٌام االحتبلل المملوكً صار هذا الوباء "أبجنً تجدنً" دستور الحكم نفسه‪ ،‬ولٌس فقط‬
‫المرتزقة الذٌن ٌستعٌن بهم الحاكم‪ ،‬وهو أمر متوقع لنظام حكم ٌعٌش فً حالة "البلدٌن والبلوطن"‪.‬‬

‫فمثبل حٌن قتل المعز أٌبك خصمه فارس الدٌن أقطاي‪ ،‬فرَّ ممالٌك أقطاي إلى الشام عند خصمهم السابق‬
‫الناصر ٌوسؾ صاحب دمشق‪ -‬الطامع فً مصر‪ -‬لٌكونوا له أعوانا رؼم أنه لم ٌكن مر شهور على دخولهم‬
‫فً حرب ضده لمَّا حاول ؼزو مصر‪ ،‬واتجه جزء منهم إلى سلطان الروم رؼم أنه لم ٌكن مرت شهور‬
‫أٌضا على دخولهم فً حرب ضد الروم فً معركة المنصورة‪.‬‬

‫وفً هذا ٌقول المقرٌزي إن أٌبك أرسل إلى سلطان الروم ٌخوفه من هإالء الممالٌك كً ال ٌستخدمهم‬
‫ضده قاببل‪" :‬البحرٌة (أي الممالٌك البحرٌة) قوم مناحٌس أطراؾ‪ ،‬ال ٌقفون عند األٌمان‪ ،‬وال ٌرجعون إلى‬
‫كبلم من هو أكبر منهم‪ ،‬وإن استؤمنتهم خانوا‪ ،‬وإن استحلفتهم كذبوا‪ ،‬وإن وثقت بهم ؼدروا‪ ،‬فتحرر منهم‬
‫على نفسك‪ ،‬فإنهم ؼ َّدارون مكارون خوانون‪ ،‬وال آمن أن ٌمكروا علٌك"‪ ،‬فخاؾ سلطان الروم منهم وكانوا‬

‫(ٖٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬بدابع الزهور فً وقابع الدهور‪ ،‬محمد بن إٌاس‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج ٔ‪ ،‬ق ٔ‪ ،‬ص ٕٖٔ‪ٖٕٕ -‬‬

‫‪ٕ98‬‬
‫ٖٓٔ فارسا‪ ،‬فاستدعاهم وقال‪ٌ" :‬ا أمراء ما لكم وألستاذكم؟"‪ ،‬فتقدم سنجر الباشقردي وقال‪ٌ" :‬ا موالنا من‬
‫هو أستاذنا؟"‪ ،‬قال‪" :‬الملك المعز صاحب مصر"‪ ،‬فقال الباشقردي‪ٌ" :‬حفظ هللا موالنا السلطان! إن كان‬
‫الملك المعز قال فً كتابه أنه أستاذنا فقد أخطؤ‪ ،‬إنما هو خوشداشنا ونحن ولٌناه علٌنا(ٕٖ)"‪ ،‬كذلك األمر حٌن‬
‫باع محمد أبو الدهب حاكمه علً الكبٌر للسلطان العثمانلً بعد أن وعده األخٌر بؤن ٌولٌه على مصر‪.‬‬

‫وهل وجود أحزاب ومنظمات تسٌر الٌوم فً مصر بحسب التموٌبلت والوعود التً تؤتٌها من الخارج‪،‬‬
‫ال حسب مصالح البلد‪ ،‬ببعٌد عن تؤثٌرات هذا التراث المملوكً والجالٌاتً المتقٌح؟‬

‫❾ بشاعة أسالٌب التعذٌب واالنتقام‪ ..‬للخصوم وللرعٌة‬

‫لم ٌقنع الممالٌك بؤسالٌب العقاب التقلٌدٌة الشابعة فً وقتهم كالحبس واإلعدام والرجم‪ ،‬وإنما تمتعوا بؤن‬
‫ٌتفننوا فً أسالٌب تعذٌب وتشوٌه وإذالل خصومهم فً السجون أو خارجها‪ ،‬لم ٌُسمع عنها من قبل‪.‬‬

‫وكما مر علٌنا فإن من هذه األسالٌب اإلذالل الجنسً‪ ،‬أي االؼتصاب‪ ،‬ونسمع اآلن من المإرخٌن‬
‫المعاصرٌن لهم أسالٌب أخرى ال تقل عنها شناعة فً مجتمع "البلدٌن والبلوطن"‪ ،‬أي حٌاة الممالٌك‪.‬‬

‫فٌقول ابن إٌاس والمقرٌزي إنه بعد أن قتل الممالٌك سلطانهم "الجٌن" وهو ٌلعب الشطرنج فً اللٌل‬
‫لٌعٌدوا العرش إلى الناصر قبلوون‪ ،‬فإن قبلوون لما عاد انتقم من خصومه الذٌن أزاحوه عنه أبشع انتقام‪،‬‬
‫بالضرب بالسٌاط والخنق وتركهم ٌتضورون جوعا‪ ،‬حتى قٌل إن األمٌر المملوكً "السبلر" فً محبسه‬
‫أكل ٌدٌه من شدة الجوع‪ ،‬وأرسل إلٌه الناصر أطباقا ظنها طعاما‪ ،‬ولما رفع الؽطاء وجد جواهر‪ ،‬فً رسالة‬
‫تشفً من الناصر بؤن الكنوز التً جمعها حٌن كان ٌزدري السلطان وهو صؽٌر السن لم تنفعه‪ ،‬ومات فً‬
‫السجن جوعا(ٖٖ)‪.‬‬

‫وانقضى نسل قبلوون من الحكم بخنق الممالٌك البنه السلطان شعبان الذي شهده عصره مجاعة‬
‫مصحوبة بوباء التهم الكثٌر من السكان(ٖٗ)‪ ،‬فانقضى حكم الممالٌك األتراك البحرٌة‪ ،‬وبدأ حكم الممالٌك‬
‫الشراكسة البرجٌة بحكم السلطان برقوق‪ ،‬وبعده برسباي وفً عهده كان الممالٌك ٌختطفون النساء واألطفال‬
‫من الشوارع‪ ،‬وهاجم الببلد طاعون قتل ٖٓٓ ألؾ من سكانها‪ ،‬وأصٌب برسباي بمرض فلما عجز طبٌباه‬
‫عن عبلجه قطع رأسٌهما(ٖ٘)‪ ،‬ووصفه المقرٌزي بؤنه كان قاسً جشع ؼشوم‪.‬‬

‫وفً عهد عابلة برسباي أخذت أحزاب الممالٌك ألقاب السبلطٌن الموالٌن لهم‪ ،‬مثل الظاهرٌة واألشرفٌة‬
‫والمإٌدٌة‪ ،‬وتناحروا وملبوا الشوارع بؤصوات السٌوؾ‪ ،‬ال ٌحرك قلوبهم صٌاح وتوسبلت الناس التً‬
‫ُتنهب أرزاقهم أمام أعٌنهم؛ فذاقت منهم الرعٌة ما ذاقه منهم منافسوهم على السلطة‪.‬‬

‫(ٕٖ)‬
‫‪-‬انظر‪ :‬السلوك لمعرفة دول الملوك‪ ،‬المقرٌزي‪ ،‬جٔ‪ ،‬ص ٘‪ٗ8‬‬
‫(ٖٖ)‬
‫‪ -‬بدابع الزهور فً وقابع الدهور‪،‬ص ‪ ٗٓٓ -ٖ99‬والخطط المقرٌزٌة‪،‬ج ٔ‪ ،‬ص ٕٗ٘‪ ،ٕ٘٘ -‬تارٌخ دولة الممالٌك فً مصر‪،‬ص ‪88 -89‬‬
‫(ٖٗ)‬
‫‪ -‬المزٌد عن هذه المجاعة انظر إؼاثة األمة بكشؾ الؽمة‪ ،‬المقرٌزي‪ ،‬ص ٖٔٔ‪ٔٔٗ -‬‬
‫(ٖ٘)‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر‪ ،‬ص ٘‪ ،ٕٙ8 -ٕٙ‬وتارٌخ دولة الممالٌك فً مصر‪ ،‬ص ٕ٘ٔ‬

‫‪ٕ99‬‬
‫ومن شواهد ؼلظة هإالء الناس واختبلؾ طبابعهم عن المصرٌٌن أن "شٌخو" أكبر األمراء الممالٌك فً‬
‫عصر األسرة القبلوونٌة أمر بعمل نقرات فً رأس أحد خصومه‪ ،‬ثم وضع على كل نقرة حشرة سامة‬
‫تتوؼل فٌها وهو حً(‪ ،)ٖٙ‬هذا بخبلؾ أسالٌبهم فً قتل الخصوم ذبحا وحرقا وسحبل فً الشوارع وتهشٌم‬
‫الرءوس بالحجارة والتقطٌع إربا أو خنقا أو باإلؼراق فً النٌل‪ ،‬واألسلوبان األخٌران سمة ممٌزة للممالٌك‪،‬‬
‫استمرت تستعملهما األسرة العلوٌة حتى أٌام الخدٌوي إسماعٌل‪ ،‬وهو األسلوب الذي ٌرجح مإرخون أنه‬
‫تخلص به من وزٌره إسماعٌل المفتش مثبل‪.‬‬

‫وتولى بعد قاٌتباي ممالٌك اشتهر بعضهم بالمجون والخبلعة والسطو باللٌل على بٌوت الناس وأخذ‬
‫أموال االؼنٌاء بعد تعذٌبهم بالكً والحرق وإؼراق الخصوم فً النٌل‪ ،‬ومنهم السلطان محمد الثانً ابن‬
‫قاٌتباي الذي قتله ربٌس المالٌة بتمزٌقه إربا وتركه فً الشارع(‪.)ٖ9‬‬

‫ثم تولى طومان باي األول وبدأ عهده كعادة الممالٌك بقتل وإؼراق خصومه ومطاردتهم‪ ،‬ولقسوته‬
‫تآمروا علٌه فهرب‪ ،‬وتولى بعده قانصوه الؽوري الذي بدأ عهده بفرض ضراٌب جدٌدة لٌمؤل الخزانة التً‬
‫أفر ؼها الممالٌك قبله‪ ،‬ففرض ضراٌب على األمبلك والؽبلل وحتى البطٌخ‪ ،‬وعلى الموتى‪ ،‬حتى صارت‬
‫كلمة "موت وخراب دٌار" ٌذوق مرارها كل من توفً له إنسان‪ ،‬وثار الناس على الممالٌك‪ ،‬ورموا‬
‫محصلً الضراٌب فً الشوارع بالحجارة‪ ،‬فخفؾ بعض هذه الضراٌب فً نهاٌة عهده‪.‬‬

‫فؤشار علٌه أحد رجاله بفرض ضراٌب على الممالٌك‪ ،‬ألول مرة‪ ،‬فثاروا علٌه‪ ،‬ولم ٌتحمل ثورة‬
‫الممالٌك‪ ،‬فؤمر بقطع لسان من أشار علٌه بذلك‪ ،‬وتجرٌده من مبلبسه والتشهٌر به فوق جمل‪ ،‬ثم جلده‬
‫ورجمه تمشٌا مع ؼلظة كبد الممالٌك ووحشٌتهم(‪.)ٖ8‬‬

‫وقال عنه المإرخ ابن إٌاس المعاصر لنهاٌة عصر الممالٌك‪:‬‬

‫وقد حملنا فوق ما ال نطٌق‬ ‫فً دولة الؽوري رأٌنا العجب‬


‫(‪)ٖ9‬‬
‫من قلة األمن وقطع الطرٌق‬ ‫وقد كفى فً عامنا ما جرى‬

‫وفً الحادثة المشهورة‪ ،‬مقتل شجرة الدر‪ ،‬فإنها بعد أن تآمرت مع الممالٌك على قتل زوجها أٌبك خنقا‬
‫فً الحمام‪ ،‬أرسلها ممالٌكه إلى ضرتها‪ ،‬فضربها الجواري بالقباقٌب حتى الموت‪ ،‬وألقوها من سور القلعة‬
‫ولٌس علٌها سراوٌل وقمٌص‪ ،‬وتركوها فً العراء أٌاما حتى نتنت‪ ،‬فحُملت فً قفة إلى تربتها(ٓٗ)‪.‬‬

‫وأهمٌة معرفة هذه األمور‪ ،‬هو أن ٌدرك حالٌا كل من ٌلجؤ إلى وسابل التعذٌب البعٌدة عن الروح‬
‫المصرٌة‪ ،‬أو ٌنشر تعلٌم مثل هذه األسالٌب االنتقامٌة كؤنها سلوكٌات عادٌة فً األفبلم والمسلسبلت‪ -‬كما‬
‫(‪)ٖٙ‬‬
‫‪ -‬تارٌخ دولة الممالٌك فً مصر‪ ،‬هامش ص ٖٔٔ‪ٔٔٗ -‬‬
‫(‪)ٖ9‬‬
‫‪ -‬تارٌخ دولة الممالٌك فً مصر‪ ،‬ص ‪ٔ98 -ٔ99‬‬
‫(‪)ٖ8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٔ‪ٔ8ٕ -ٔ8‬‬
‫(‪)ٖ9‬‬
‫‪ -‬بدابع الزهور فً وقابع الدهور‪ ،‬ابن إٌاس‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٗٔ‬
‫(ٓٗ)‬
‫‪ -‬السلوك فً معرفة دول الملوك‪ ،‬المقرٌزي‪ ،‬جٔ‪ ،‬ص ٗ‪ٗ9‬‬

‫ٖٓٓ‬
‫ٌحدث بإلحاح ومنهجٌة فً السنٌن األخٌرة‪ -‬لٌتعود علٌها المصرٌون وتنتشر بٌنهم‪ ،‬والمسبول الذي ٌسكت‬
‫على هذا‪ ،‬علٌه أن ٌفتش عن روح العبد المملوك الكامن بداخله وما زال ٌحكمه‪ ،‬وٌسؤل نفسه‪ :‬كٌؾ رضً‬
‫أن ٌحل بداخله روح العبد المملوك الفاجر محل المصري الحر النبٌل؟‬

‫❿ السلب والنهب‪ ..‬الحرفة األولى لـ"األِشراؾ"‬

‫شهد االحتبلل العبٌدي واألٌوبً الؽارات وأعمال السلب والنهب على ٌد مرتزقة الجٌش العبٌدي وممالٌك‬
‫األٌوبٌٌن‪ ،‬وعلى ٌد العربان‪ ،‬ؼٌر أنها فً أٌام الممالٌك صار السلب والنهب على مستوى الحكام أنفسهم‬
‫ولٌس فقط مرتزقتهم وجالٌاتهم‪ ،‬وذلك رؼم أن الممالٌك والعربان ٌعتبرون أنفسهم "الفرسان" و"األشراؾ"‬
‫فً المكانة مقارنة بالفبلحٌن‪.‬‬

‫ٌقول المقرٌزي إنه بعد انتهاء معركة المنصورة ضد الفرنجة "الصلٌبٌٌن" أتى الممالٌك برباسة فارس الدٌن‬
‫أقطاري وبٌبرس البندقداري وبلٌان الرشٌدي "من النهب والخطؾ ما ال ٌجرإ الفرنجة أنفسهم على فعله‪:‬‬
‫"كثر ضرر الممالٌك البحرٌة بمصر‪ ،‬ومالوا على الناس‪ ،‬وقتلوا ونهبوا األموال‪ ،‬وسبوا الحرٌم‪ ،‬وبالؽوا فً‬
‫الفساد‪ ،‬حتى لو ملك الفرنج ما فعلوا فِعلهم"(ٔٗ)‪.‬‬

‫وشرٌكهم فً السلب والنهب العربان‪ ،‬وهم قباٌل عرب (قادمة من الشرق) وبربر (قادمة من المؽاربة)‬
‫تؽٌر كالرٌاح السموم الملتهبة على القرى من وراء الحدود فوق ظهور الخٌول والجمال‪ ،‬مثلمٌن أحٌانا‪،‬‬
‫ٌسلون سٌوفهم‪ -‬وفً وقت الحق بنادقهم‪ -‬على رءوس وصدور الفبلحٌن‪ٌ ،‬فرضون علٌهم اإلتاوات‬
‫وٌنهبون األراضً والمحاصٌل والمواشً‪ ،‬وأحٌانا البنات‪ ،‬وٌقتلون الفبلح إذا رفض تزوٌج ابنته لهم‪،‬‬
‫ٌستقوون بسبلحهم على من ال سبلح له(ٕٗ)‪ ،‬ومن أشهر قباٌل العربان وقتها العبابدة والهنادي والمعازة‬
‫والطرابٌن والقطاوٌة وأوالد علً والهوارة‪ ،‬وقوَّ ى شوكتهم صبلح الدٌن وخلفاإه لما استعانوا بهم كمرتزقة‬
‫فً الحروب‪ ،‬ولم ٌنخرط بعضهم فً التحضر إال مإخرا‪.‬‬

‫وانكسرت شوكة العربان بداٌة االحتبلل المملوكً‪ ،‬وذلك أنهم فً حكم عز الدٌن أٌبك رفضوا الخضوع‬
‫للممالٌك سنة ٖٕ٘ٔ م‪ ،‬وقالوا "نحن أصحاب الببلد(ٖٗ)"‪ ،‬و"إنا أحق بالملك من الممالٌك‪ ،‬وكفى أنا خدمنا بنً‬
‫أٌوب وهم خوارج خرجوا على الببلد"‪ ،‬وامتنعوا عن دفع الخراج‪ ،‬وجمع كبٌرهم حصن الدٌن ثعلب ٕٔ ألؾ‬
‫مقاتل‪ ،‬قطعوا الطرق برا ونهرا‪ ،‬ومكاٌدة فً الممالٌك بعثوا لخصمهم األٌوبً الملك الناصر حاكم دمشق لٌتحالفوا‬
‫معه ضدهم‪ ،‬لكن الممالٌك بقٌادة أقطاي هزموهم‪ ،‬وقال المقرٌزي "فؤوقعوا بهم‪ ،‬وسبوا حرٌمهم‪ ،‬وقتلوا الرجال‪،‬‬
‫وتبدد شمل عرب مصر‪ ،‬وخمدت جمرتهم من حٌنبذ"(ٗٗ)‪.‬‬

‫(ٔٗ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕ‪ ،ٗ9‬والخطط المقرٌزٌة‪،‬ج ٖ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٗٔ‬
‫(ٕٗ)‬
‫‪ -‬للمزٌد انظر‪ :‬المجتمع المصري فً عصر سبلطٌن الممالٌك‪ ،‬سعٌد عبد الفتاح عاشور‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٙٗ -٘9‬‬
‫(ٖٗ)‬
‫‪ -‬كل من احتل مصر فترة من الزمان ٌظن أنها صارت أسٌرته لؤلبد‪ ،‬وكل من احتل مصر ما زال ٌحلم بالرجوع لحكمها‪.‬‬
‫(ٗٗ)‬
‫‪ -‬السلوك لمعرفة دول الملوك‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج ٔ ص ‪ٗ8ٓ -ٗ99‬‬

‫ٖٔٓ‬
‫الممالٌك والعربان لم ٌكفوا عن تعببة الرٌؾ بالخراب والصراخ والدماء فً صراعهم على الؽنٌمة المصرٌة (المصدر‪ :‬رسم المملوك لوحة لـ كارل‬
‫فٌرنٌه رسمها فً أول القرن ‪ ٔ9‬ورسم العربانً مجهول المصدر)‬

‫وأٌام الناصر قبلوون ٖٔٓٔ م فرض العربان إتاوات على الناس فً أسٌوط ومنفلوط‪ ،‬ومنعوا الخراج‪،‬‬
‫وأخرجوا أهل السجون؛ فدبر الممالٌك حصارا لهم كحلقة الصٌد من كل الجهات فً الوجه القبلً‪ ،‬وأطلقوا‬
‫فٌهم السٌؾ‪ ،‬وسبوا نسابهم‪ ،‬وإذا ادعى أحد أنه حضري قٌل له قل‪" :‬دقٌق" فإن قالها بقاؾ العرب قتلوه‪،‬‬
‫ومن تخبى فً مؽارات الجبال أوقدوا علٌه النار‪ ،‬واستولوا على آالؾ رإوس األبقار والخٌول والؽنم‬
‫والجمال والسٌوؾ والحبوب واألموال(٘ٗ)‪ ،‬وهذا كله مما نهبه العربان من الفبلحٌن‪.‬‬

‫ولكنهم استمروا فً الؽارات على القرى وأطراؾ المدن ونهب الؽلة والمواشً وقطع طرٌق الحجاج‪،‬‬
‫وبتعبٌر ابن حجر فً "أنباء الؽمر" كانوا ٌذبحون الفبلحٌن ذبح المواشً لنهب محاصٌلهم(‪ ،)ٗٙ‬وقال أبو‬
‫المحاسن فً "حوادث الدهور"‪ :‬وفعلوا بالفبلحٌن "ما ال تفعله الخوارج وال الكفرة"(‪ ،)ٗ9‬فلم ٌكن ٌحكمهم‬
‫دٌن وال مبدأ إال بلطجة السٌؾ‪ ،‬واستؽل العربان سطوتهم فً تحوٌل مٌاه الري وقطع الجسور فً الوقت‬
‫المبلبم لهم‪ ،‬ؼٌر عاببٌن بمصالح جٌرانهم‪ ،‬وأكثر ما ٌإلم أن هذا شحن صراعات بٌن الفبلحٌن أنفسهم على‬
‫حصة المٌاه القلٌلة‪ ،‬ووقعت خناقات انتهت بنزٌؾ الدم المصري جرٌا وراء حصة من الري(‪.)ٗ8‬‬

‫➀ تفشً الحركات والجماعات السرٌة (الطرق الصوفٌة‪ /‬اآللهة الجدد)‬

‫تنتعش الحركات السرٌة فً أي بلد فً مناخ االحتبلل والفساد وتفكك الحكومة وضعؾ الروح الدٌنٌة‬
‫والوطنٌة‪ ،‬وتجاور أعراق وطواٌؾ ال ٌجمعهم ضمٌر واحد وال تبلحم وشفقة وال دستور إال "اخطؾ‬
‫واجري"‪ ،‬أو "استؽل الفراغ وسٌطر"‪.‬‬

‫وذلك أن االحتبلل وكذلك األعراق والطوابؾ المتعالٌة على أهل البلد‪ ،‬تسعى بؤي طرٌقة إلى التمٌز‬

‫(٘ٗ)‬
‫‪ -‬بدابع الزهور فً وقابع الدهور‪ ،‬ابن إٌاس‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔ‪9ٕٖ -9‬‬
‫(‪)ٗٙ‬‬
‫‪ -‬المجتمع المصري فً عصر سبلطٌن الممالٌك‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔ‪ٙ‬‬
‫(‪)ٗ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪٘9‬‬
‫(‪)ٗ8‬‬
‫‪ -‬للمزٌد انظر الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر‪ ،‬عبد الرحٌم عبد الرحمن عبد الرحٌم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ ،ٔٙ8 -ٕٔ9‬و ‪ٔ9ٙ‬‬

‫ٕٖٓ‬
‫واقتناص الفرص‪ ،‬والعمل السري واحد من الوسابل لهذا‪ ،‬خاصة إذا ما تخفى فً رداء الدٌن‪.‬‬

‫وأقدم اإلشارات إلى هذه الحركات فً مصر أٌام استٌطان اإلؼرٌق وبقٌة المرتزقة والجالٌات من‬
‫الكارٌٌن والفرس والٌهود واآلرامٌٌن وؼٌرهم‪ ،‬ومن أمثلتها حركة الؽنوصٌٌن والحركة المانوٌة‪ ،‬ثم ظهرت‬
‫فً ثوب الخوارج والشٌعة بعد االحتبلل العربً‪ ،‬وحكمت الحركات السرٌة مصر رأسً ا ألول مرة فً توب‬
‫االحتبلل العبٌدي (الفاطمً)‪ ،‬فهو ذاته لٌس إال إفراز حركة سرٌة ضخمة‪ -‬الحركة اإلسماعٌلٌة‪ -‬ما زالت‬
‫تنتج حركات شٌعٌة بؤسامً عدة فً أرجاء العالم‪.‬‬

‫وحٌن خلع األٌوبٌون قدم االحتبلل العبٌدي من مصر لم ٌكن خلعا كامبل‪ ،‬فقد ترك ندباته وتقٌحاته على‬
‫الجسد المصري فً صورة حركات سمت نفسها بالصوفٌة أو محبً آل البٌت‪ ،‬واتخذت من أضرحة آل‬
‫البٌت التً بناها العبٌدٌون لنشر مذهبهم نواة أو مؽناطٌس ٌجذبون إلٌه فرابسهم‪ ،‬شاحنٌن العواطؾ‬
‫بحكاٌاتهم الدرامٌة عن كرامات آل البٌت أو اضطهادهم‪ ،‬والجنة الزاهٌة المتشوقة إلى من ٌحب آل البٌت‬
‫وٌضحً من أجلهم‪ ،‬فتلٌن العقول وتخضع لطلب شٌوخ الحركات الصوفٌة من هإالء المحبٌن بؤن ٌقدموا‬
‫لهم "الطاعة العمٌاء "‪ ،‬وٌقسموا ٌمٌنا خاصا بالوالء‪ ،‬حتى ٌصٌر مال المحب وأهل بٌته وأسراره ملك ٌمٌن‬
‫شٌخ الطرٌقة‪ ،‬ثم ٌوجهه بعد سلب إرادته كٌفما شاء‪ ،‬أو ٌستؽله لتزوٌد جمهوره وشعبٌته لٌصنع لنفسه نفوذا‬
‫ٌحوله لقوة ضؽط على الحكام؛ فٌهابونه‪ ،‬وٌخشون تؤثٌره على الناس‪ ،‬وٌقدموا له المال والتقدٌس طابعٌن‬
‫فً صورة "تبرعات" و"أوقاؾ" طلبا لبركة آل البٌت واألولٌاء‪.‬‬

‫وقاد هذا األمر أؼراب جدد وفدوا على مصر من فارس والحجاز والمؽاربة‪ ،‬فإذ فجؤة وكؤن مجهوال‬
‫صاح فً بوق ٌنادي فتداعى إلٌه شخصٌات مجهولة لٌست ذات شؤن فً ببلدها‪ ،‬ما أن ٌهبطوا مصر حتى‬
‫ُتنسج حولهم القصص والحكاوي عن "كراماتهم" التً تفوق كرامات األنبٌاء‪ ،‬بل تتساوى أحٌانا مع اإلله‪،‬‬
‫كؤنهم آلهة جدد‪ ،‬وكلها ال تتصل بإصبلح أحوال الناس أو حثهم على مقاومة الجهل والفقر والمحتلٌن‪ ،‬بل‬
‫تشجعهم على محبة الجهل واالستزادة من الفقر‪ ،‬وترك األرض والمال للمحتلٌن بدعوى أن هذا هو الزهد‪.‬‬

‫ولم ٌكتفوا بؤضرحة آل البٌت التً تركها العبٌدٌون‪ ،‬بل بنوا أضرحة جدٌدة ألشخاص مجهولٌن‪ ،‬نشروها‬
‫فً كل مدٌنة وقرٌة وركن؛ إلحكام السٌطرة على كل رقعة فً مصر‪ ،‬وادعوا أنهم أولٌاء هللا الصالحٌن‬
‫مدعومٌن بشبكة دعاٌة فً كل مكان‪ ،‬ومنهم أحمد البدوي‪ ،‬وأبو الحسن الشاذلً‪ ،‬والمرسً أبو العباس‪،‬‬
‫والرفاعً‪ ،‬وإبراهٌم الدسوقً والتركروي (الدكروري)‪ ،‬وأقاموا لهم مساجد كبرى فً المحافظات‪ ،‬بحٌث‬
‫صار مسجد "الولً" هو المسجد الربٌسً بها‪ ،‬وٌصله معظم النذور والتبرعات والزكاة وعطاٌا الممالٌك‬
‫أنفسهم الذٌن ٌرٌدون الحصول على "البركة"‪ ،‬أو ٌرٌدون أن ٌشعروا األهالً بؤنهم أهل تقوى وورع‪ ،ٗ9‬أو‬
‫ٌستؽلوا فتاوى الصوفٌٌن فً إقناع الناس بعدم مقاومة الظلم والظالمٌن‪ ،‬باعتبار أن الظلم "قدر هللا"‪ ،‬ومن‬
‫الكفر معاندة قدر هللا‪ ،‬والمسامحة والعفو عن الظالمٌن تقرب العبد إلى الجنة ال مقاومتهم‪.‬‬

‫‪ -ٗ9‬راجع نشؤة الصوفٌة من أٌام األٌوبٌٌن وتوؼلهم أٌام الممالٌك فً‪ :‬القرٌة المصرٌة فً عصر سبلطٌن الممالٌك (‪ 9ٕٖ -ٙٗ8‬هـ‪ٔ٘ٔ9 -ٕٔ٘ٓ /‬‬
‫م)‪ ،‬مجدي عبد الرشٌد بحر‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ999 ،‬ص ‪ٕ9ٕ -ٕ88‬‬

‫ٖٖٓ‬
‫ومثال على خرافاتهم ما شاع عن أحمد البدوي الذي توفً فً عهد بٌبرس‪ ،‬قدم من الحجاز وأقام فً‬
‫طنطا معتزال الناس‪ ،‬صامت معظم الوقت‪ ،‬أشاع ناس أنه ال ٌنام‪ ،‬وأنه ٌحضر أسرى المسلمٌن من عند‬
‫الفرنج بقوته الخفٌة‪ ،‬وٌصوم ٓٗ ٌوما ال ٌؤكل وال ٌشرب(ٓ٘)‪ ،‬ألن بعض األولٌاء ٌشتركون مع هللا فً‬
‫صفة أنه "ال تؤخذه سنة وال نوم"‪ ،‬بل إن عٌسى بن نجم فً نواحً البرلس مكث ‪ ٔ9‬سنة لم ٌؽمض له فٌها‬
‫جفن‪ ،‬وأنه كما أن هللا ٌعلم ما ظهر وما بطن وٌعلم الخواطر‪ ،‬فإن المرٌد ٌكشؾ عالم الؽٌب المحجوب‪-‬‬
‫وربما منها جاءت الكلمة التً نرددها أن فبلن "مكشوؾ عنه الحجاب"‪ -‬وٌدرك أسرار الحٌوانات‬
‫والحشرات‪ ،‬وٌمشً على الماء وٌطٌر فً الهواء وٌقتحم النٌران وٌفعل كل ماال ٌقوى علٌه البشر‪ ،‬وسموا‬
‫هذا بـ"علم األسرار"‪ ،‬و"العلم البلدنً" كما ٌقول الشعرانً فً كتابه" الجواهر والدرر" (ٔ٘)‪ ،‬وسماه آخرون‬
‫بالباطنٌة والحركات أو الشبكات الخفٌة السرٌة‪.‬‬

‫ولمست هذه الحكاٌات الوتر فً صدور بعض المصرٌٌن‪ ،‬فهً جاءت فً أحلك وقت ومرحلة حساسة‬
‫فً عمرهم‪ ،‬هم أشد ما ٌكونوا شوقا ألبطال أطهار خارقً القوة ٌخرجوهم من واقعهم التعٌس‪ ،‬خاصة‬
‫وأنهم فاقدو ن للهدؾ من حٌاتهم‪ ،‬فإذن لٌس لهم هدؾ إال التفكٌر فً أقصر طرٌق للجنة ورضا هللا حسب‬
‫الطرٌقة المتاحة لهم‪ ،‬وذهبت لهم حتى بٌوتهم‪ ،‬وهً الطرق الصوفٌة‪ ،‬واستؽلت األخٌرة هذا جٌدا؛ كون‬
‫معظم فقهاء الرٌؾ فً المساجد لم ٌكونوا على درجة من العلم الحقٌقً‪ ،‬وعملٌة تحول عدد كبٌر من أهل‬
‫الرٌؾ إلى اإلسبلم لم تتم على ٌد من ٌفقه جوهر الدٌن‪ ،‬وانشؽلوا بتعلٌم الطقوس عن تربٌة النفوس‪.‬‬

‫وأشهرها القادرٌة نسبة لعبد القادر الجٌبلنً‪ ،‬والرفاعٌة نسبة ألحمد الرفاعً‪ ،‬والشاذلٌة نسبة لـ الشاذلً‪،‬‬
‫واألحمدٌة نسبة ألحمد بدوي‪ ،‬والبرهامٌة نسبة إلبراهٌم الدسوقً‪ ،‬والنقشبندٌة نسبة لمحمد النقشبندي‪،‬‬
‫والمولوٌة نسبة للشاعر الفارسً جبلل الدٌن الرومً‪ ،‬ومنهم من ادعوا نسبتهم لسبللة أتقٌاء المسلمٌن مثل‬
‫كبار الصحابة والخلفاء الراشدٌن‪ ،‬وتسمى بـ"القطب"(ٕ٘)‪.‬‬

‫ونبلحظ أن ما ٌسمونهم باألقطاب األربعة أضرحتهم موزعة فً طول مصر‪ ،‬من كفر الشٌخ إلى قنا‪،‬‬
‫لتجمع حولها أكبر عدد من الناس فً كل بر مصر‪ ،‬وأكثرهم أجانب طازة أو بؤنساب أجنبٌة ٌفتخرون بها‪،‬‬
‫حتى لتكاد السخرٌة نفسها تسخر وتسـؤل‪" :‬أال ٌوجد فبلح مصري ٌصلح أن ٌكون قطبا وولٌا كبٌرا من‬
‫أولٌاء هللا الصالحٌن" فً مصر‪ ..‬أم فقط دور الفبلحٌن أخذ البركة والطاعة‪ ..‬والدفع؟‬

‫وٌجٌب عبد الوهاب الشعرانً‪ ،‬إمام التصوؾ فً عصره‪ ،‬وهو ٌهاجم طابفة من المتصوفة فً زمانه ادعت‬
‫الوالٌة الكبرى بؤن الفبلحٌن أقرب إلى هللا من هإالء المضللٌن‪ ،‬ألنهم‪ -‬أي الفبلحٌن‪ٌ -‬قضون العمر فً نفع‬
‫العباد‪ ،‬وأما هإالء فٌقضونه فً ضرر الناس"(ٖ٘)‪.‬‬

‫وشجع معظم الممالٌك هذه الخرافات‪ ،‬فنجد الناصر قبلوون ٌرعى بناء خانكاه فٌها ٓٓٔ خلوة لـ ٓٓٔ‬

‫(ٓ٘)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬بدابع الزهور فً وقابع الدهور‪ ،‬محمد بن إٌاس‪ ،‬ج ٔ‪ ،‬ق ٔ‪ ،‬ص ٖٖ٘‪ٖٖٙ -‬‬
‫(ٔ٘)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬التصوؾ فً مصر إبان العصر العثمانً‪ ،‬د‪ .‬توفٌق الطوٌل‪ ،‬مكتبة اآلداب بالجمامٌز‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪ ٙ9‬و‪ٔ99 -ٔ9ٙ ،‬‬
‫(ٕ٘)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٔ‪9ٕ -9‬‬
‫(ٖ٘)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ ٔ89‬نقبل عن رسالة ردع الفقراء عن دعوة الوالٌة الكبرى للشعرانً‬

‫ٖٗٓ‬
‫صوفً ال ٌعملون شٌبا‪ ،‬وقال المقرٌزي فً خططه إن الناصر أمر بصرؾ لحم ضؤن مطبوخ شهً لكل‬
‫صوفً‪ ،‬ورطلٌن زٌت زٌتون‪ ،‬ورطلٌن صابون‪ ،‬وصرؾ الفواكه والسكر واألدوٌة‪ ،‬وثمن كسوة سنوٌة‪،‬‬
‫وتوسعة فً رمضان واألعٌاد‪ ،‬وطباخ وحبلق لتدلٌك أبدانهم "مساج" وحلق رءوسهم لٌتفرؼوا للعبادة(ٗ٘)‪.‬‬

‫أي عبادة هذه التً تصنع من العواطلٌة أولٌاء‪ ،‬ولماذا ٌتفرؼون للعبادة وهللا خلق اإلنسان لٌعبده بتعمٌر‬
‫األرض ومحاربة الشر ولٌس فقط للركوع والسجود‪ ،‬وماذا ٌستفٌد الشعب الذي ٌإخذ من دمه لٌؤكل هإالء‬
‫العواطلٌة أفخر الطعام‪ ،‬وٌدلكون بدنهم بالمساج‪ ،‬ثم ٌعتبرون أنفسهم أتقى من هذا الشعب؟‬

‫وعلى طرٌقة الممالٌك واألحزاب فً تمٌٌز أنفسهم بؤلوان وراٌات ٌتعالوا بها على السكان‪ ،‬ارتدت‬
‫األحمدٌة األحمر والبرهامٌة األخضر والرفاعٌة األسمر‪ ،‬واختاروا ألوانا لعمابمهم أٌضا تمٌزهم‪.‬‬

‫وٌؤخذون البٌعة للمرشد (شٌخ الطرٌقة) كؤنها بٌعة هلل نفسه‪ ،‬فؤورد كتاب "األصول المرعٌة فً قواعد‬
‫الطرٌقة الرفاعٌة"‪ ،‬أن الشٌخ ٌؤمر الطالب أن ٌتوضؤ وٌصلً ركعتٌن بنٌة التوبة‪ ،‬ثم ٌجلس المرشد مستقببل‬
‫القبلة جاثٌا على ركبتٌه باألدب والخشوع‪ ،‬وٌجلس الطالب أمامه الصقا ركبٌته‪ ،‬وٌقرأ الفاتحة ثبلثا‪ ،‬وٌؤخذ‬
‫المرٌد بعده وٌقرأ قوله تعالً "إن الذٌن ٌباٌعونك إنما ٌباٌعون هللا ٌد هللا فوق أٌدٌهم فمن نكث فإنما ٌنكث‬
‫على نفسه"‪ ،‬أي ٌرهبونه من عاقبة مخالفة المرشد وكؤنه ٌخالؾ هللا نفسه‪ ،‬ثم ٌؤمره أن ٌقول‪" :‬استؽفر هللا‪-‬‬
‫استؽفر هللا العظٌم الذي ال إله إال هو الحً القٌوم وأتوب إلٌه‪ ،‬تبت إلى هللا ورجعت إلى هللا ونهٌت نفسً‬
‫عما نهى هللا‪ ،‬ورضٌتك شٌخا لً ومرشدا لطرٌقة الرفاعً"(٘٘)‪ ،‬كؤنما ٌتوب من حٌاته السابقة للدخول فً‬
‫الطرٌقة‪ ،‬وكؤنها قبلها كانت حٌاة جاهلٌة‪.‬‬

‫وفوق هذا‪ ،‬كسرت هذه الطرق ما بقً من رمق لمقاومة المحتلٌن‪ ،‬فعلَّمت أتباعها أنه حسب اإلنسان من‬
‫حٌاته العبادة‪ ،‬والعبادة من مستلزماتها التواضع حتى لتهون على اإلنسان كرامته‪ ،‬وتسقط عزة نفسه‪،‬‬
‫وٌسهل علٌه التمرغ تحت أقدام الناس والرضا بظلم الظالمٌن‪ ،‬وبؽً المعتدٌن‪ ،‬واالؼتباط بالذل والهوان‪،‬‬
‫فإن احتمال الظلم رضاء بقضاء هللا وعقابه للمظلوم على سوء ما قدمت ٌداه‪ ،‬ولماذا ٌثور المظلوم فً وجه‬
‫ظالم؟ ثم إن الظالم ال ٌقدم على ظلم أحد من الناس إال وهو فً ؼفلة من ربه‪ ،‬ومثل هذا أحوج إلى عطؾ‬
‫المظلوم ومرثاته منه إلى سخطه وؼضبه‪ ..‬هكذا ٌقولون‪.‬‬

‫وبتعبٌر توفٌق الطوٌل فً كتابه المرجع "التصوؾ فً مصر إبان العصر العثمانً" فإنه بهذه العٌن الكلٌلة‬
‫أحالوا الدنٌا إلى مقبرة واسعة النطاق تضم مبلٌٌن المخلوقات‪ ،‬وحولوا الحٌاة إلى موت تتخلله الحركة‬
‫وٌشوبه الكبلم‪ ،‬ووضعوا هذه التعالٌم التً ال تبلبم إال الضعفاء والجبناء والكسالى وفقراء النفوس ومرضى‬
‫العقول وساقطً الهمة‪ ،‬وفً اإلجمال تسببوا فً حالة "شلل عقلً"‪ ،‬وقبول الذل‪ ،‬بل و"السعً إلى الذل"‪،‬‬
‫حتى أنهم أباحوا الشحاتة والتسول بحجة أنهم ٌحملون الحسنات للناس‪ ،‬وشجعوهم على اصطناع الهوان‬

‫(ٗ٘)‬
‫‪ -‬السلوك لمعرفة دول الملوك‪ ،‬جٕ‪ ،‬ق ٔ‪ ،‬ص ٔ‪ ،ٕٙ‬وهوامش ص ٕ‪ٕٙ‬‬
‫(٘٘)‬
‫‪ -‬التصوؾ فً مصر إبان العصر العثمانً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ 99‬و ‪89‬‬

‫ٖ٘ٓ‬
‫وإن لم ٌكن اإلنسان حقا فً مهانة وفقر(‪.)٘ٙ‬‬

‫➁ تضخٌم الوالء لألجنبً باسم الدٌن‪( ..‬تقدٌس شٌخ الطرٌقة)‬

‫ٌربً شٌخ الطرٌقة أتباعه على "الطاعة العمٌاء"‪ ،‬وٌرونه هو أول المستحقٌن للوالء‪ ،‬وراٌته‪ -‬راٌة‬
‫الطرٌقة الصوفٌة التً ٌرأسها‪ -‬هً األحق بالسٌر ورابها‪ -‬وٌشترط على أتباعه أحٌانا عدم التصرؾ فً‬
‫أموالهم أو شبون بٌوتهم إال بإذنه‪ ،‬وذلك رؼم أن هإالء الشٌوخ أكثرهم أجانب ودخبلء دما وفكرا‪.‬‬

‫بل إنه بتعبٌر الطوٌل‪" :‬والؽرٌب أن روح العصر كانت ال تسمح بؤن ٌكون الحاكم واحدا من أهل‬
‫البلد!"(‪ ،)٘9‬وانطبع هذا على شٌخ الطرٌقة‪ ،‬فهو إما فارسً أو مؽربً أو حجازي مثل أحمد البدوي‬
‫(حجازي) وٌوسؾ العجمً (فارسً) وإما مولود فً مصر أو عابلته لها كذا جٌل فٌها ولكنه ٌتفاخر بؤنه‬
‫من خارجها وبؤن عابلته أصبل أجنبٌة عنها مثل الشعرانً (من المؽرب) والسادات والبكري (من الحجاز)‪.‬‬

‫ورصد أن التصوؾ فً بداٌته بمصر قام به الؽرباء حتى أن الخوانق والربط والزواٌا نشؤت فً بداٌة‬
‫أمرها خصٌصا للوافدٌن من الببلد األجنبٌة‪ ،‬حتى أصبحت مصر محط المتصوفة (العواطلٌة) من أهل‬
‫المؽرب وتركٌا وفارس والشام‪ ،‬ضاربا مثبل عن استهداؾ مصر بؤعداد كبٌرة منهم بؤن القاسم المؽربً‬
‫دخل مصر وفً صحبته ٓٓ٘ فقٌر (كلمة فقٌر أطلقها الصوفٌة على أعضاء حركتهم)‪ ،‬حتى أن استخبلص‬
‫العناصر المصرٌة بٌن المتصوفة أمر عسٌر كما اكتشؾ فً دراسته‪ ،‬وما أطال أمد هذه الطرق أن‬
‫مإسسٌها ٌرثون مشٌختها جٌبل بعد جٌل‪ ،‬وٌحرصون على توسعة نفوذهم بشبكة عالمٌة‪ ،‬حتى ٌقول الطوٌل‬
‫كان شٌخ الطرٌقة ٌموت فً مصر ف ُتقام له صبلة الؽابب فً األقطار اإلسبلمٌة النابٌة‪ ،‬ولهذا ذاللته‬
‫ومؽزاه(‪ ،)٘8‬من داللته أنهم ال ٌتمصرون مهما مرَّ ت السنٌن‪ٌ ،‬عٌشون بروح حركة عالمٌة لها سدنتها‬
‫وكهنتها وأسرارها وعبلقاتها الداخلٌة والخارجٌة الخاصة‪.‬‬

‫وساهم انتشار الطرق الصوفٌة على أٌدي شخصٌات ال تعرؾ الطبٌعة المصرٌة‪ ،‬أو تعرفها وترٌد‬
‫(‪)٘9‬‬
‫مسحها‪ ،‬فً انتشار عادات وسلوكٌات همجٌة‪ ،‬وأحٌانا دموٌة فً الموالد‪ ،‬وظهور ما سمى بـ"الدراوٌش"‬
‫نشروا الخرافات‪ ،‬وقدموا المجاذٌب والنصابٌن والدجالٌن على أنهم قدٌسٌن وأولٌاء‪ ،‬وحرصوا على أن‬
‫ٌكونوا من المجاهٌل كً ٌسهل نسج األساطٌر حول صفاتهم وطهارتهم وأصولهم ونسبتهم إلى آل البٌت‪.‬‬

‫وٌنبه عبد الرشٌد بحر فً دراسته لحال التصوؾ فً الرٌؾ فً ذلك العصر إلى أنه "ٌجدر بنا أن نشٌر‬
‫إلى أن موقؾ الفبلحٌن فً القرى من حركة التصوؾ هذه لم تتجاوز االعتقاد فً األولٌاء والدراوٌش‬
‫والتماس بركاتهم ومعجزاتهم ودعواتهم فً حٌاتهم وزٌارة أضرحتهم بعد وفاتهم لبلستعانة بهم فً قضاء‬
‫(‪)٘ٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕٔٔ‪ٕٕٔ -‬‬
‫(‪)٘9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖٖٔ‬
‫(‪)٘8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ٔٗ -ٖٔ ،‬‬
‫(‪)٘9‬‬
‫‪ -‬ضمن خرافاتهم ما اشتهر ب"الدوسة"‪ ،‬وفٌها ٌنبطح أتباع الطرٌقة على األرض ممدٌن ومتجاورٌن‪ ،‬وٌجري فوق أجسادهم بسرعة دابة‬
‫ٌركبها شٌخ الطرٌقة‪ ،‬متعمما بعمامة خضراء‪ ،‬فمن تنؽرس فً جسده حوافرها الحادة وتسٌل دمابه فهذه إشارة إلى نقص إٌمانه‪ ،‬وكؤنها اختبار‬
‫والء وإٌمان‪ ،‬وهم ال ٌدرون أن من نجا من اإلصابة لٌس ألنه قو ي اإلٌمان‪ ،‬ولكن ألن سرعة جري الدابة ال تسمح بإصابة الجمٌع‪ ،‬انظر‪ :‬مصر‬
‫وكٌؾ ؼدر بها‪ ،‬ألبرت فارمان‪ ،‬ترجمة عبد الفتاح عناٌت‪ ،‬الزهراء لإلعالم العربً‪ ،‬طٔ‪ ،‬ص ٔ‪77 -7‬‬

‫‪ٖٓٙ‬‬
‫حوابجهم ثم المشاركة فً موالدهم‪ ،‬فً حٌن لم ٌنخرطوا فً الطرق‪ ،‬بمعنى أن السواد األعظم منهم لم‬
‫ٌكونوا أتباع طرق"‪ ،‬خاصة أن أتباع الطرق حٌنها ٌتطلب اعتزال العمل لبلنقطاع للعبادةٓ‪ ٙ‬وهو ما ال‬
‫ٌتوفر للفبلحٌن المعتمدٌن فً سد رمقهم على سواعدهم‪ ،‬وانتشرت أضرحة األولٌاء المجاهٌل فً القرٌة أو‬
‫المركز‪ٌ ،‬شخص إلٌها الناس كؤنهم ٌجدون فٌها سلوى عن فقدان حكومتهم وقواتهم والقانون العادل‪.‬‬

‫➂ حملة على اآلثار المصرٌة وأبو الهول‬

‫كالعادة‪ ،‬فإن صناعة الوالء لؤلجنبً ال تتحقق إال بنزع الوالء لؤلرض‪ ،‬أي للوطن‪ ،‬بتارٌخه ورموزه‬
‫وروحه‪ ،‬وشهد عصر الممالٌك تكرٌها للناس فً التارٌخ المصري القدٌم وآثاره لم ٌحدث مثلها من قبل‪،‬‬
‫واستؽل البعض الحروب مع الفرنجة فٌما سمً بالحمبلت الصلٌبٌة وؼٌرها فً القرنٌن الثالث والرابع‬
‫عشر لشحن الناس ضد كل ما هو ؼٌر مسلم‪ ،‬ومنه ما وصفها باألوثان‪ ،‬وكان للطرق الصوفٌة الوافدة‬
‫دورها الرابد فً هذا‪ ،‬فحطم البعض تمثال إٌسة "إٌزٌس" فً الفسطاط‪ ،‬وانتزعوا حجارة من معبد فً منؾ‬
‫لبناء تكٌة للمتصوفة‪ ،‬وهدموا معبد أخمٌمٔ‪ ،ٙ‬ورؼم أن العرب منذ الفتح لم ٌلجؤوا لهدم اآلثار باعتبارها‬
‫"منكرا" وإنما باعتبارها موردا للحجار لبناء المبانً الضخمة أو طمعا فً الكنوز بداخلها‪ ،‬بل وأشادوا‬
‫ببراعة وعلوم من بنوا األهرام وأبو الهول‪ ،‬فإنه أٌام الممالٌك اتهم المقرٌزي رجبل ٌدعى صابم الدهر‪ ،‬قال‬
‫إنه من صوفٌة الخانقاه الصالحٌة‪ ،‬بؤنه فً ٓ‪ 98‬هـ وبحجة "تؽٌٌر أشٌاء من المنكرات" فإنه "سار إلى‬
‫وشوه وجه أبً الهول وشعثه"‪ ،‬وأن هذا أثار ؼضب أهالً الجٌزة‪ ،‬وٌبدو أنه األمر أثار أسى‬ ‫َّ‬ ‫األهرام‬
‫ٕ‪ٙ‬‬
‫المقرٌزي أٌضا الذي ردد شعر ظافر الحداد مادحا األهرام وأبو الهول ‪:‬‬

‫وبٌنهما أبو الهول العجٌب‬ ‫تؤمل هٌبة الهرمٌن واعجب‬

‫بمحبوبٌن بٌنهما رقٌــــــب‬ ‫كعمار ٌبتن على رحٌل‬

‫وصوت الرٌح عندهما نحٌب‬ ‫وماء النٌل تحتهما دموع‬

‫➃ توزٌع أرض مصر على المحتلٌن والمستوطنٌن‬

‫ورث االحتبلل المملوكً نظام توزٌع اإلقطاعٌات من األٌوبٌٌن‪ ،‬فالسلطان ٌستؤثر بؤجود األراضً‪ ،‬ثم‬
‫تلٌها فً الجودة أراضً األمراء‪ ،‬ثم الجند والقضاة و"األشراؾ" (من ٌنتسبون آلل البٌت والصحابة) وكبار‬
‫شٌوخ األزهر ودخل شٌوخ الطرق الصوفٌة لٌؤخذوا نصٌبا من الكعكة "اللً كؤنها مالهاش صحاب"‪.‬‬

‫ٌتراوح اإلقطاع بٌن نصؾ قرٌة وٌصل إلى ٓٔ قرى‪ ،‬وٌُرد اإلقطاع إلى السلطان فً حاالت عزل‬
‫األمٌر أو تقاعده أو الوفاة‪ ،‬وشاع الفساد فً هذا األمر‪ ،‬فكان المملوك مثبل ٌسجل نفسه على أنه أمٌر‬

‫ٓ‪ -ٙ‬القرٌة المصرٌة فً عصر سبلطٌن الممالٌك (‪ 9ٕٖ -ٙٗ8‬هـ‪ ٔ٘ٔ9 -ٕٔ٘ٓ /‬م)‪ ،‬مجدي عبد الرشٌد بحر‪ ،‬ص ٕ‪ٕ9‬‬
‫ٔ‪ -ٙ‬فراعنة من؟ علم اآلثار والمتاحؾ والهوٌة القومٌة المصرٌة من حملة نابلٌون حتى الحرب العالمٌة األولى‪ ،‬ص ٖ٘‬
‫ٕ‪ -ٙ‬الخطط المقرٌزٌة‪ ،‬جٔ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖٗ9 -ٖٗ8‬‬

‫‪ٖٓ7‬‬
‫ومملوك سلطانً وجندي فً نفس الوقت‪ ،‬فٌؤخذ ٖ إقطاعات دفعة واحدة(ٖ‪ ،)ٙ‬ومارس الممالٌك منتهى‬
‫القسوة فً تحصٌل الخراج‪ ،‬وانفرد كل منهم بدابرة إقطاعه الخراجً وبفبلحٌها‪ ،‬وساموهم سوء العذاب‪،‬‬
‫واعتبر نفسه المالك الفعلً لؤلرض وما علٌها من بشر‪ ،‬وأهدر آدمٌتهم‪ ،‬وجمع ما شاء من مال بجانب‬
‫الخراج والجزٌة‪ ،‬فٌما الفبلحٌن فً أفخر مؤكوالتهم ال ٌؤكلون إال الشعٌر والجبن القرٌش والبصل‪،‬‬
‫وأوصلوا الفبلحٌن لحالة جعلت ابن خلدون ٌصؾ مهنة الفبلحة وأهلها بؤنها "معاش المستضعفٌن"(ٗ‪.)ٙ‬‬

‫ولم ٌعد الفبلحون ممن تحت أٌدٌهم قطع صؽٌرة من األرض ٌحصلون إال على القلٌل؛ فلما تكالبت علٌهم‬
‫هموم األرض وزراعتها ودفع المال وجبروت المملوك تركها بعضهم؛ فانطمست حقوقه فٌها(٘‪.)ٙ‬‬

‫وهكذا تكررت مؤساة الفرار والتشرد فً أنحاء البلد من االحتبلل الرومانً للعربً للمملوكً‪.‬‬

‫وعلى هذا‪ ،‬انتفى فً ذلك العصر نهابٌا فكرة الحكومة والدولة‪ ،‬فهً إقطاعٌات موزعة بٌن أمراء حرب‬
‫أو مرتزقة‪ ،‬أسوأ حاال من إقطاعٌٌن أوروبا فً العصور الوسطى‪ ،‬الضراٌب لٌس لها نظام‪ ،‬بل حسب ما‬
‫ٌفرضه صاحب اإلقطاع‪ ،‬والجٌش لٌس له نظام‪ ،‬بل مجموعة ملٌشٌات تتقاتل على النهب والسلب‪ ،‬وقتل‬
‫الناس ٌتم فً الشوارع ببل محاكم وقضاء‪ ،‬والبلد ببل رأس‪ ،‬وال كؤنها هً البلد التً اخترعت للعالم الدولة‬
‫والحكومة والنظام‪ ،‬وجسدت أرقى نظم اإلدارة التً على أساسها تعلم العالم الحكومة والنظام‪ ...‬وال كؤن !‬

‫➄ كٌؾ اختفى مالٌٌن المصرٌٌن؟‬

‫حسبما تابعنا ٌقدر سكان مصر عند بداٌة االحتبلل العربً بـ ٕٔ‪ ٔ8 -‬ملٌون‪ ،‬وحتى من رأى فً الرقم‬
‫مبالؽة ففً النهاٌة بالتؤكٌد أن المصرٌٌن كانوا مبلٌٌن كثٌرة‪ ،‬والمصرٌون معروفون بكثرة اإلنجاب‪ ،‬ورؼم‬
‫ذلك فالعدد منذ ذلك التارٌخ لم ٌزد‪ ،‬بل نجد أنه عند تولً محمد علً فً أول القرن ‪ ٔ9‬هبط سكان مصر‬
‫لٌكون عددهم ما بٌن ٕ‪ ٖ -‬ملٌون‪.‬‬

‫وهنا ٌقفز السإال‪ :‬أٌن ذهب مبلٌٌن المصرٌٌن فً الفترة من االحتبلل العربً وحتى العثمانلً؟‬

‫رأٌنا أنه فً فترة االحتبلل العبٌدي فقدت مصر‪ ،‬بحسب المقرٌزي‪ ،‬خبلل مجاعة الشدة الستنصرٌة ثلث‬
‫سكانها‪ ،‬ثم فقدت آخرٌن فً مجاعات أخرى فً نفس العصر وفً االحتبلل األٌوبً‪ ،‬وتسابقت المجاعات‬
‫أٌضا على حصد المصرٌٌن أٌام االحتبلل المملوكً ثم العثمانً؛ لتصبح أكثر فترات التارٌخ التً ٌتقلب‬
‫فٌها المصرٌون بٌن المجاعات واألوببة "ورا بعض ورا بعض"‪ ،‬ما كان له تؤثٌره فً إبادة مبلٌٌن‬
‫المصرٌٌن ونزول عدد السكان إلى هذا الرقم الصادم الهزٌل فً أول عصر محمد علً‪.‬‬

‫هذا بخبلؾ تدوٌر السٌوؾ فٌهم حٌن كانوا ٌقومون بؤي احتجاج لرفض دفع الخراج الباهظ واالعتداء‬
‫على أعراضهم‪ ،‬أو ُتزهق أرواحهم خبلل المعارك التً تدور فً الرٌؾ بٌن المتصارعٌن على الحكم من‬

‫(ٖ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬للمزٌد انظر ملكٌة األراضً الزراعٌة فً القرن التاسع عشر‪ ،‬حمدي الوكٌل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓ‪9ٖ -9‬‬
‫(ٗ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬المجتمع المصري فً عصر سبلطٌن الممالٌك‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪٘8‬‬
‫(٘‪)ٙ‬‬
‫‪-‬انظر المرجع السابق‪ ،‬ص ٘‪9‬‬

‫‪ٖٓ8‬‬
‫العرب أو األتراك أو العبٌدٌٌن واألٌوبٌٌن ثم الممالٌك‪ ،‬أو خبلل ؼارات العربان‪ ،‬ومن أشهر المجاعات‬
‫واألوببة فً وقت الممالٌك ما وقع سنة ‪ ٕٔ9ٙ‬م حٌنما انخفض فٌضان النٌل عن مستواه فٌموت كل ٌوم‬
‫آالؾ من الناس‪ ،‬ووباء سنة ‪ٖٔٗ9‬م‪ ،‬وفً عهد قاٌتباي وحده انتشر الطاعون ٖ مرات‪ ،‬أشهرها سنة‬
‫ٕ‪ ٔٗ9‬م‪ ،‬وفً عهد السلطان كتبؽا حصل ؼبلء شدٌد بعد هبوط الفٌضان وهبوب رٌاح ترابٌة من الؽرب‬
‫أجهزت على الزرع‪ ،‬وخربت قرى بؤكملها من كثرة الموتى(‪.)ٙٙ‬‬

‫وفً كتابه "إؼاثة األمة بكشؾ الؽمة" الخاص بإحصاء المجاعات فً مصر طول تارٌخها حتى االحتبلل‬
‫المملوكً سعى المقرٌزي للوصول إلجابة عن سبب كثرة الطواعٌن والمجاعات والؽبل أٌام الممالٌك‪ ،‬ولخصها‬
‫فً فساد الممالٌك حتى جعلوا الوصول للمناصب بالرشوة‪ ،‬فبل ٌهتم أصحابها بصالح الناس‪ ،‬وال ٌقضون مصالح‬
‫الناس إال بالرشوة واإلتاوات‪ ،‬فطفش كثٌر من الفبلحٌن من قراهم وتشردوا وقل الزرع‪ ،‬فٌما ؼرق الممالٌك فً‬
‫عٌشة الترؾ وجمع المال‪ ،‬وصك العملة من ؼٌر الذهب والفضة والؽش فٌها(‪.)ٙ9‬‬

‫وعن دور السخرة فً إهبلك عدد ؼٌر قلٌل من المصرٌٌن قال المقرٌزي عن حودث ‪ 9ٔٙ‬ه‪" :‬انقطع الجسر‬
‫المجاور للقناطر األربعٌن بالجٌزة‪ ،‬فنقص ]الماء[ عدة أصابع‪ ،‬وجمع لسده خلق كثٌر‪ ،‬ؼرق منهم نحو ثبلثٌن‬
‫رجبل فً ساعة واحدة انطبق علٌهم الجسر‪ .‬ثم جمع من مصر رجال كثٌرة‪ ،‬وكتفوا وأنزلوا فً مركب وعدتهم‬
‫سبعون رجبل‪ ،‬فانقلبت بهم المركب فؽرقوا بؤجمعهم"(‪.)ٙ8‬‬

‫وٌقول ابن تؽري بردي فً "النجوم الزاهرة" عن حوادث ‪ 9ٖ8‬ه إن الناصر محمد بن قبلوون أمر والً‬
‫القاهرة بتسخٌر العامة فً مشروع خاص به‪ ،‬ولما جاء المسخرون‪" :‬فج َّدوا فً العمل لٌبل ونهار‪ ،‬واستحثهم أقبؽا‬
‫المذكور بالضرب‪ ،‬وكان ظالما ؼشوما‪ ،‬فعسؾ بالرجال وكلفهم السرعة فً أعمالهم من ؼٌر رخصة‪ ،‬وال مكنهم‬
‫]من[ االستراحة‪ ،‬وكان الوقت صٌفا حارا فهلك جماعة كثٌرة منهم فً العمل لعجز قدرتهم عما ُكلفوه‪ ،‬ومع ذلك‬
‫كله والوالة ُتسخر من تظفر به من العامة‪ ،‬وتسوقه إلى العمل‪ ،‬فكان أحدهم إذا عجز ]و[ ألقى بنفسه إلى األرض‪،‬‬
‫رمى أصحابه علٌه التراب فٌموت لوقته‪ ،‬هذا والسلطان ٌحضر كل ٌوم حتى ٌنظر العمل"‪ ،‬ولم ٌُخفؾ عنهم إال‬
‫حٌن استؽاثوا باألمٌر ألطبؽا الذي توسط لهم عند السلطان حتى خفؾ األمر‪ ،‬ثم تكرر األمر عند حفر خلٌج‬
‫وإنشاء جسر‪" :‬وزادوا فً ذلك حتى صارت الناس ُتإخذ من المساجد والجوامع واألسواق‪ ،‬فتستر الناس ببٌوتهم‬
‫خوفا من السخرة‪ ،‬ووقع االجتهاد فً العمل‪ ،‬واشتد االستحثاث‪ ،‬حتى إن الرجل كان ٌخر إلى األرض وهو ٌعمل‬
‫لعجزه عن الحركة فتردم رفقه علٌه الرمل فٌموت من ساعته‪ ،‬واتفق هذا لخبلبق كثٌرة(‪.")ٙ9‬‬

‫ولجؤ الكثٌرون للمقاومة أو لبلختباء للنجاة من السخرة‪ ،‬أما من ؼلبه الممالٌك بؤسلحتهم ومرتزقتهم فمن‬
‫طرٌؾ ما فعلوا أن ٌلجؤوا لحٌلتهم المصرٌة المعروفة لٌخففوا عن أنفسهم‪ ،‬وهً الؽناء‪ ،‬فٌروي ابن إٌاس وابن‬
‫تؽري بردي أنهم ٌصطحبون معهم الدفوؾ والمزامٌر‪ ،‬وٌنشدون أؼانً العمل‪ ،‬وروي أن بعض العمال لم‬

‫(‪)ٙٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬إؼاثة األمة بكشؾ الؽمة‪ ،‬المقرٌزي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔٔٓ -ٔٓ8‬‬
‫(‪)ٙ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٘ٔٔ‪ٔٗٙ -‬‬
‫(‪)ٙ8‬‬
‫‪ -‬السلوك لمعرفة دول الملوك‪ ،‬تقً الدٌن المقرٌزي‪ ،‬ج ٕ ق ٔ‪ ،‬محمد مصطفى زٌادة‪ ،‬لجنة التؤلٌؾ والترجمة والنشر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٘‪ٔٙ‬‬
‫(‪)ٙ9‬‬
‫‪ -‬النجوم الزاهرة فً ملوك مصر والقاهرة‪ٌ ،‬وسؾ بن تؽري بردي‪ ،‬ج ‪ ،9‬طٔ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٗ‪99 -9‬‬

‫‪ٖٓ9‬‬
‫ٌستطٌعوا جر عمودٌن ضخمٌن أثناء تشٌٌد مبنى تحت القلعة‪ ،‬فرددوا أؼانٌهم الحاثة على العمل حتى جرَّ وا‬
‫العمودٌن‪ ،‬فؤطلقت النساء الزؼارٌد ابتهاجا بذلك‪ ،‬واشتهرت تلك األؼنٌة حتى تداولتها األلسنة لفترة طوٌلة(ٓ‪.)9‬‬

‫▼▼▼ سقوط دولة العبٌد والجواري‬

‫بعد تمكن قبابل الؽز التركٌة من القسطنطٌنٌة وما حولها‪ ،‬تطلعت بؤطماعها إلى أؼنى الببلد‪ ،‬وهً‬
‫مصر‪ ،‬وإلى الببلد التً بها الحرمٌن الشرٌفٌن‪ ،‬وهً الحجاز‪ ،‬كً تلبس لباس الخبلفة اإلسبلمٌة بعد‬
‫سٌطرتها علٌهما‪ ،‬واستؽلت فً ذلك التناحر التقلٌدي بٌن الممالٌك‪ ،‬فٌما كان العثمانٌون فً عز فتوتهم‬
‫وتماسكهم‪ ،‬واستمالوا إمارات وقباٌل فً شمال الشام ومنها إمارة أبناء ذي الؽادر(ٔ‪.)9‬‬

‫وجهز السلطان المملوكً قنصوه الؽوري جٌشا لمحاربة العثمانٌٌن‪ ،‬ولكنه جٌش لٌس كما ٌجب‪ ،‬فقد‬
‫تخلى عنه كثٌر من الممالٌك بحجة قلة المرتبات بعد قطع العثمانلٌة طرق التجارة وهبوط الموارد المالٌة‪،‬‬
‫وهذا ما كان ٌهدؾ إلٌه العثمانٌٌون لما ضربوا قوافل التجارة والرقٌق‪ ،‬كما قٌل إن هإالء كانوا ساخطٌن‬
‫من قنصوه الؽوري ألنه ٌعطً الممالٌك أتباعه‪ ،‬من ملٌشٌاه الخاصة الذٌن رباهم بنفسه‪ ،‬مخصصات أكثر‬
‫من بقٌة الممالٌك‪ ...‬وهكذا هو حال عدٌمً الوطن فً كل زمان‪.‬‬

‫واتفق أٌضا العثمانٌون مع بعض نواب قنصوه الؽوري فً الشام على أن ٌعملوا لصالحهم مقابل أن‬
‫ٌعطوه م مزاٌا فً حكم مصر إن احتلها العثمانٌون‪ ،‬وممن استجاب لهم خاٌر بك نابب الؽوري على حلب‪،‬‬
‫وجان بردي الؽزالً ناببه على حماة‪ ،‬وهو ما ٌذكرنا بالمٌتانٌٌن والحٌثٌٌن الذٌن عاشوا فً نفس المنطقة‬
‫قبل ٖٓٓٓ سنة وحرضوا اإلمارات الشامٌة على مصر زمن تحوتمس الثالث ورمسٌس الثانً‪.‬‬

‫وانتهت المعارك بهزٌمة الممالٌك وتسلٌم حلب للعثمانلٌة‪ ،‬وانضم للجٌش العثمانً خاٌر بك وؼٌره من‬
‫الممالٌك الخونة‪ ،‬وبسرعة البرق ؼٌَّروا فً شكل لحاهم لتتماشى مع العثمانٌٌن‪ ،‬ولبسو لبس العثمانٌٌن‪،‬‬
‫واستسلمت له كل مدن الشام حتى وصل إلى مصر التً احتلوها بعد هزٌمة الممالٌك وقابدهم طومان باي‬
‫فً معركة الرٌدانٌة (العباسٌة حالٌا) شرق القاهرة(ٕ‪.)9‬‬

‫ومن الحوادث الؽرٌبة التً أوردها ابن إٌاس الذي حضر الؽزو أن طومان باي طلب من التجار‬
‫المؽاربة المسموح لهم بحمل السبلح فً مصر أن ٌجهزوا له ألؾ شخص لٌحاربوا مع الممالٌك فرفضوا‪،‬‬
‫وقالوا‪" :‬نحن ما نقاتل إال الفرنج‪ ،‬ما نقاتل مسلمٌن"‪ ،‬وأظهروا التعصب البن عثمان‪ ،‬فهددهم إن لم ٌفعلوا‬
‫لٌقتل كل مؽربً فً مصر"‪ )9ٖ(،‬فكان موقفهم ؼرٌبا‪ ،‬فلماذا ٌرفضون القتال ضد العثمانٌٌن بزعم أنهم‬
‫"مسلمٌن" فً حٌن ٌقبلوا أن ٌظلوا متفرجٌن على العثمانٌٌن وهم ٌقتلون المسلمٌن أٌضا فً مصر وٌؽزون‬
‫البلد التً آوتهم وأكرمتهم وجعلتهم ٌؽتنون بها؟‬

‫(ٓ‪)9‬‬
‫‪ -‬أحوال العامة فً مصر فً عصر الممالٌك البرجٌة‪ ،‬أحمد ماجد الجبوري‪( ،‬ماجستٌر) جامعة آل البٌت‪ ،‬بؽداد‪ ،ٕٓٔ٘ ،‬ص ٕ‪ٔٙ‬‬
‫(ٔ‪ -)9‬تؤسست على أنقاض دولة تترٌة‪ ،‬وامتدت فً أرمٌنٌا وكردستان ودٌار بكر‪ ،‬وتنصٌب حاكمها ٌتم بؤمر من الممالٌك فً مصر‬
‫(ٕ‪ -)9‬انظر‪ :‬تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر‪ ،‬عمر اإلسكندري وسلٌم حسن‪ ،ٔ9ٔٙ ،‬ص ٕ‪8 -‬‬
‫(ٖ‪ -)9‬بدابع الزهور فً وقابع الدهور‪ ،‬ابن إٌاس‪ ،‬الجزء ٘‪ ،‬ص ‪ٖٔ9‬‬

‫ٖٓٔ‬
‫كذلك نقل ابن إٌاس أنه أشٌع أن ابن عثمان عقد صفقة مع شٌخ العرب فً الشرقٌة أحمد بن بقر‪ ،‬وٌبدو‬
‫أن العربان انقسموا فً الموقؾ من العثمانلٌة‪ ،‬فساندهم البعض‪ ،‬فٌما حاربهم آخرون‪ ،‬ولما فرَّ طومان باي‬
‫إلى البحٌرة‪ ،‬وطلب من شٌخ أعرابً سبق أن أحسن إلٌه التخفً عنده‪ ،‬واسمه حسن بن مرعً‪ ،‬فؤعطاه‬
‫األمان‪ ،‬ولكن خانه‪ ،‬وبلَّػ عنه العثمانلٌة‪ ،‬فقبضوا على طومان باي فً مشهد تفوح منها أنتن روابح الؽدر‪،‬‬
‫وانتهت أٌامه مشنوقا على باب زوٌلة وجسده ٌترنح أمام الناس ٖ أٌام(ٗ‪.)9‬‬

‫ومن هذه السنة السوداء‪ ٔ٘ٔ9 ،‬م‪9ٕٖ/‬هـ‪ ،‬فتح التارٌخ لمصر صفحة هً أسود صفحات كتابها‪ ،‬أسود‬
‫من عصر حكم الممالٌك االنفرادي نفسه‪ ،‬وكؤن وحش مخٌؾ حدفها فً كهؾ بارد مظلم‪ ،‬مكفن بالدم‬
‫والسُخرة والفقر والمذلة والجهل والدجل لمدة ٖٓٓ سنة‪ ،‬ؼلب فٌها ال ُؽز العثمانلً االحتبلالت السابقة فً التفنن‬
‫فً إذالل المصرٌٌن‪ ،‬ونهب حضارتهم‪ ،‬ومص دمابهم‪ ،‬وإبادتهم‪ ،‬ومحو ذاكرتهم‪.‬‬

‫وٌجري هذا فٌما أوالد البلد ٌنكبون مرؼمٌن على زراعة أراضٌهم لؽٌرهم‪ ،‬وبناء القصور والتكاٌا‬
‫للؽزاة األوباش والعبٌد والجواري‪ ،‬والمستوطنٌن األجانب‪ ،‬وتماثٌل األجداد تراقبهم وهً تبكً فً صمت‪.‬‬

‫تبكً بلدا و ُملكا ُحرا كرٌما عزٌزا‪ ،‬بناه بؤؼلى القٌم والعرق الرجال‪ ،‬ودافع عنه بؤعز‬
‫الدماء الرجال‪ ،‬وحافظ علٌه بؤخلص القلوب الرجال‪ ،‬وضٌعه بؤعجب ؼفلة وسقطة‪ ..‬أٌضا‬
‫الرجال‪.‬‬

‫"إن البوابات ]الحدود[ التً فوقك كبوابات حامٌة‪ ....‬إنها سوؾ ال تفتح للؽربٌٌن‪ ،‬إنها سوؾ ال تفتح‬
‫للشرقٌٌن‪ ،‬إنها سوؾ ال تفتح للجنوبٌٌن‪ ،‬إنها سوؾ ال تفتح للشمالٌٌن‪ ،‬إنها سوؾ ال تفتح لهإالء الذٌن فً‬
‫وسط األرض‪ ،‬إنها سوؾ تفتح لحورس(٘‪( .")9‬نصوص األهرام)‬

‫"إن الذي ٌفعل الماعت فذلك الذي ٌكون بعٌدا عن الضالل"‪ٌ" ،‬حل العقاب دابما بالذي ٌتخطى‬
‫قواعدها"(‪( )9ٙ‬بتاح حتب)‬

‫(ٗ‪)9‬‬
‫‪ -‬انظر المرجع السابق‪ ،‬ج ٘‪ ،‬ص ٘٘ٔ وٗ‪ٔ99 -ٔ9‬‬
‫(٘‪)9‬‬
‫‪ -‬القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم‪ ،‬نجبلء فتحً شهاب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،ٕٕٓٔ ،‬ص ٕ٘ٔ‪ٕٔٙ -‬‬
‫(‪)9ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تقدٌم علً رضوان لكتاب "الماعت‪ ..‬فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔ‪ٔ٘-‬‬

‫ٖٔٔ‬
ٖٕٔ
‫وسمع أحدهم قاربا ٌقرأ‪" :‬ؼلب الترك فً أدنى األرض"‬

‫فقال له إنما هً "ؼلبت الروم فً أدنى األرض"‬


‫(ٔ)‬
‫فقال القارئ‪" :‬كلهم أعداإنا قاتلهم هللا"‬

‫ا‬

‫(‪ -)1‬النوادر الشعبية المصرية‪ ،‬إبراىيـ شعالف‪ ،‬ج ‪ ،1‬الييئة المصرية العامة لمكتاب‪ ،‬القاىرة‪ ،2112 ،‬ص ‪155‬‬
‫المشهد ٘ٔ‪ :‬االحتالل العثمانلً‬

‫‪ ٔ9ٔٗ -ٔ٘ٔ7‬م‬

‫(الهمج)‬

‫(تارٌخ الترك مع مصر)‬

‫العثمانلٌة قبابل تركٌة اسمها "األوؼوز"‪ -‬جاء منها اسم ال ُؽز‪ -‬موطنها األصلً المناطق الجبلٌة الوعرة‬
‫بوسط آسٌا‪ ،‬عرق ٌنتسب لعرق أكبر هو المؽولً الذي ٌنتسب له أٌضا الصٌنٌون وكثٌر من سكان شرق‬
‫ووسط آسٌا(ٕ)‪.‬‬

‫وتارٌخ الترك مع مصر هو تارٌخهم مع جٌرانها؛ فهم قباٌل رحل‪ ،‬كثرة تنقلهم وقسوة جبالهم جعلت‬
‫رسالتهم فً العالم هً السٌؾ‪ٌ ،‬حترفون القتال والؽزو والسطو على خٌرات ؼٌرهم‪ ،‬ومهرة فً الحرب‬
‫وصنع السبلح‪ ،‬وموردا للمرتزقة الذٌن استعانت بهم الدول التوسعٌة كالعباسٌة والعبٌدٌة واألٌوبٌة‬
‫والسبلجقة‪ ،‬وقذفوهم إلى مصر؛ فذاقت منهم سوء العذاب‪ ،‬ودابما ما كانوا "وش النحس" على الدول التً‬
‫استعانت بهم‪ ،‬وسبب انهٌارها بؽدرهم بحكامها واسٌتبلبهم على الحكم بعد استٌطانهم فٌها كما تابعناهم فً‬
‫الدول العباسٌة والعبٌدٌة واألٌوبٌة‪ ،‬ولما انهارت دولة السبلجقة التً استعانت بهم وأعطتهم أراضً أقاموا‬
‫علٌها أول كٌان مستقر لهم‪ ،‬وكانت مجاورة لبٌزنطة‪ ،‬سال رٌقهم للسٌطرة على بٌزنطة‪ ،‬وفتحوها واستولوا‬
‫على عاصمتها القسطنطٌنٌة سنة ٖ٘ٗٔ‪.‬‬

‫وفً نهاٌة "االحتبلل المملوكً" تابعنا الظروؾ التً ساعدت العثمانٌٌن على ؼزو مصر وإسقاط حكم‬
‫الممالٌك‪ ،‬وبعد شنق طومان باي على باب زوٌلة‪ ،‬بقً سلٌم األول فً مصر ‪ 8‬شهور ٌرتب لتمكٌن الحكم‬
‫العثمانلً بها‪ ،‬فعٌن المملوك الخابن خٌر بك والٌا علٌها‪ ،‬والمملوك الخابن اآلخر جان بردي الؽزالً والٌا‬
‫على الشام‪ ،‬فً ذلك قال مإرخ هذا العصر ابن إٌاس‪" :‬ومن العجابب أن مصر صارت نٌابة ]أي تابعة‬
‫لدولة أخرى[ بعد أن كان سلطان مصر أعظم السبلطٌن فً سابر الببلد قاطبة‪ ،‬ألنه خادم الحرمٌن‬
‫الشرٌفٌن‪ ،‬وحاوي ملك مصر"‪ ،‬وعن سلٌم قال‪" :‬ولكن ابن عثمان انتهك حرمة مصر وما خرج منها حتى‬
‫ؼنم أموالها وقتل أبطالها وبدد أحوالها"‪ ،‬وأنه فعل فٌها ما لم ٌفعله الخوارج‪.‬‬

‫وٌصؾ أخبلق وطباٌع العثمانٌٌن وصفا ٌكشؾ ما شاع عنهم فً ذلك الزمان‪ ،‬فقال إن سلٌم شاه لم‬
‫ٌنصؾ مظ لوما من ظالما‪ ،‬ولم ٌكن له كلمة وال عهد‪ ،‬وال ٌُرى إال عند سفك دماء الممالٌك الشراكسة‪،‬‬

‫(ٕ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر‪ ،‬عمر اإلسكندري وسلٌم حسن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔ‪ٕٕ -‬‬

‫ٖٗٔ‬
‫وؼرق فً اللهو‪ ،‬ومن عادته ٌعطً األمان لؤلمراء والممالٌك ثم ٌؽدر فً أمانه فً الحال‪.‬‬

‫ووصؾ عساكره بؤنهم "جٌاعٌن العٌن‪ ،‬نفسهم قذرة‪ٌ ،‬ؤكلون األكل وهم راكبون خٌولهم فً األسواق‪،‬‬
‫وعندهم عفاشة فً أنفسهم زابدة‪ ،‬وقلة دٌن‪ٌ ،‬جاهرون بشرب الخمور فً األسواق"‪ ،‬وأنهم "لم ٌكن عندهم‬
‫أدب وال حشمة ولٌس لهم نظام ٌعرؾ‪ ،‬وهم همج كالبهابم"‪ ،‬وما فعلوه فً مصر ال ٌساوٌه إال ما فعله‬
‫بختنصر البابلً فً تخرٌب القدس والتتار فً تخرٌب بؽداد(ٖ)‪.‬‬

‫▼▼▼ الجٌش فً االحتالل العثمالً (أوجاقات عثمانلٌة‪ -‬ممالٌك)‬

‫عٌَّن السبلطٌن العثمانلٌة حامٌة عسكرٌة فً مصر‪ ،‬ما بٌن ‪ 9 -ٙ‬أوجاقات‪ ،‬أي فرق‪ ،‬من العثمانلٌة‪،‬‬
‫وصل عدد مقاتلٌها فً عهد سلطانهم سلٌمان القانونً إلى ٕٓ ألفا‪.‬‬

‫وهذه الفرق هً‪ :‬متفرقة‪ ،‬جاوٌشان‪ ،‬مستحفظان‪ ،‬عزبان‪ ،‬جملٌان‪ ،‬تفكٌان‪ ،‬الجراكسة‪ ،‬والثبلثة األخٌرة‬
‫تسمى السباهٌة العثمانلٌة(ٗ)‪ ،‬وهً أشنع الفرق بالنسبة للفبلحٌن ألنها تتواجد فً الرٌؾ لحفظ األمن‪ ،‬فإذا‬
‫بها تكون خٌر تعبٌر عن المثل المصري "حامٌها حرامٌها"‪ ،‬وربما بسببهم خلق هذا المثل‪ ،‬فوصؾ البكري‬
‫الصدٌقً صاحب مخطوطة "كشؾ الكربة فً رفع الطلبة"‪ ،‬عن حوادث عام ‪ ٔٓٔ9‬هـ‪ ٔٙٓ8 /‬م عسكر‬
‫العثمانلٌة بؤنهم "الجند األشقٌا اللٌام"‪ ،‬الذٌن تسببوا فً "األهوال العظام والضرر العام(٘)"‪.‬‬

‫وكشاهد عٌان‪ ،‬وصؾ البكري الحال‪" :‬وقد كانت مصر قبل اآلن قد اختل أمرها‪ ،‬وضاقت معٌشة أهلها‪،‬‬
‫وكثر شرها‪ ،‬وخربت قراها‪ ،‬وضعفت فبلحٌها‪ ،‬وانفصمت عراها‪ ،‬وانقلبت أحوالها‪ ،‬وخست أموالها‪،‬‬
‫ونقصت ؼبللها‪ ،‬لما أراد هللا تعالى لها فً القدم‪ ،‬من نقلها من الوجود إلى العدم‪ ،‬وخراب الببلد‪ ،‬وهبلك‬
‫العباد‪ ،‬وجبلء الفبلحٌن‪ ،‬وازدراء الشرع المبٌن"‪.‬‬

‫وٌكمل‪" :‬وقد اتسع الخرق‪ ،‬وازداد الحرق‪ ،‬وأصل ذلك كله قٌام طابفة من الجند المكتوبٌن فً ببلد‬
‫األرٌاؾ ]السباهٌة العثمانلٌة المكلفٌن بإقرار األمن فً األرٌاؾ[ مع كشاؾ األقالٌم‪ ،‬فؤظهروا العناد‪ ،‬وسعوا‬
‫فً األرض الفساد‪ ،‬وأحدثوا شٌبا سموه الطلبة على الفبلحٌن والمزارعٌن فً ساٌر األقالٌم‪ ،‬وعلى العمالٌن‬
‫والبطالٌن‪ ،‬وصاروا ٌضاعفونها فً كل سنة من السنٌن إلى أن زادت على أموال المقاطعات‪ ،‬بل عمت‬
‫وطمت‪ ،‬ولم ٌقدر أحد على المرافعات‪ ،‬وذلك ؼٌر ما صدر منهم من األمور الشنٌعة واألفعال المنكرة‬
‫الفظٌعة من الزنا واللواط جهارا‪ ،‬وافتضاض األبكار نهارا‪ ،‬ال ٌتناهون عن منكر فعلوه‪ ،‬وال ٌؤتمروا بؤمر‬
‫والتهم وال ٌمتثلوه"‪.‬‬

‫كما "صار لهم أسمطة وأطعمة ؼالٌة المقدار‪ ،‬تحمل إلى خٌامهم أناء اللٌل وأطراؾ النار‪ ،‬وتهدٌد‬
‫الكشاؾ بما فٌه القتل إن قصروا عن ذلك‪ ،‬بل وٌسلكون بهم أسوأ المسالك‪ ،‬وصار المسلمون معهم فً أمر‬

‫(ٖ)‬
‫‪ -‬بدابع الزهور فً وقابع الدهور‪ ،‬محمد بن إٌاس‪ ،‬ج ٘‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪ٕٓ8 -ٕٓٙ ،ٔٙٓ ،ٔ٘9‬‬
‫(ٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔ‪8ٔ -9‬‬
‫(٘)‬
‫‪ -‬مخطوطة كشؾ الؽمة فً رفع الطلبة‪ ،‬محمد بن أبً السرور البكري الصدٌقً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖٓ9‬‬

‫ٖ٘ٔ‬
‫مرٌج‪ ،‬لٌس لهم منه خبلص‪ ،‬بل أضحوا فً ؼاٌة التعوٌج‪ ،‬صار أرذل الجند وأقلهم مقلدا بالسٌوؾ‬
‫المسقطة‪ ،‬والسروج بالذهب المنقطة والخٌول المسومة‪ ،‬والعدد المقومة‪ ،‬والمراد الجمٌلة المزٌنة بؤنواع‬
‫الزٌنة المكملة‪ ،‬راكبٌن خلفهم أجود الخٌول فً لهو وفرح ال ٌزول‪ ،‬وإن وجدوا أٌضا ولدا مقبول الصورة‬
‫أخذوه من والده بالسٌؾ‪ ،‬وقد حصل منهم ؼاٌة الحٌؾ‪ ،‬مع الفسق بنساء الفبلحٌن‪ ،‬وافتضاض أبكار بنات‬
‫المسلمٌن‪ ،‬بل قتل بعضهم وسلب ما معه‪ ،‬وؼٌر ذلك من القباٌح المنكرة‪ ،‬والحوادث الشنٌعة المتكررة(‪.")ٙ‬‬

‫وفً ذلك تجري علٌهم النادرة الشعبٌة التً شاعت فً ذلك الزمان‪ ،‬وتقول‪ :‬سمع أحدهم قاربا ٌقرأ‪:‬‬
‫"ؼلبت الترك فً أدنى األرض"‪ ،‬فقال له‪ :‬إنما هً "ؼلبت الروم فً أدنى األرض"‪ ،‬فقال القارئ‪" :‬كلهم‬
‫أعداإنا قاتلهم هللا"(‪.)9‬‬

‫وإضافة لهإالء حمل السبلح فً مصر أٌضا الممالٌك الذٌن أبقاهم العثمانلٌة‪ ،‬ولكنهم صارو أشد قسوة‬
‫فً استعماله عما كانوا‪ ،‬وأطلقوا لسٌوفهم وخٌولهم العنان أكثر فً النهب والقتل والؽصب كما سنرى‪.‬‬

‫♣♣♣ السكان وتعرٌؾ المصري فً االحتالل العثمانلً‬

‫ٌوصؾ االحتبلل العثمانً بؤنه احتبلل مركب‪ ،‬عثمانً ومملوكً‪ ،‬وٌمكن أن نقول علٌه إنه احتبلل‬
‫ثبلثً‪ ،‬عثمانً ومملوكً وجالٌاتً (الجالٌات المستوطنة)‪ ،‬وهو ما زاد من مساحة النهب من مصر بإضافة‬
‫عنصر احتبلل جدٌد دون إزاحة االحتبلل القدٌم‪ ،‬فزاد بالتالً من الدوس على صدور المصرٌٌن‪.‬‬

‫فمن قبل الخضوع من الممالٌك للسلطان العثمانً استعان بهم كبكوات للسناجق‪ ،‬أي مدٌرٌن للمحافظات‪،‬‬
‫ومصر وقتها مقسمة إلى ٕٗ مدٌرٌة‪ ،‬ونشر الترك فً مصر ألقابا جدٌدة تخص الحكم وتزٌد فً تمٌٌز ال ُؽز‬
‫والممبللٌك عن المصرٌٌن‪ ،‬مثل الباشا (الوالً العثمانً)‪ ،‬وأول من حمله فً مصر مصطفى باشا‪ ،‬ولقب‬
‫األؼا (الشٌخ والسٌد‪ ،‬والرجل المخصً العامل فً الحرملك(‪ ،)8‬وقابد فً الجٌش)‪ ،‬ولقب بك (محافظ‬
‫المدٌرٌة وتطور لصاحب األطٌان) واللقب قاصر على الممالٌك‪ ،‬و"الكاشؾ"‪ ،‬فٌقال كاشؾ الؽربٌة ٌعنً‬
‫محافظها‪ ،‬وكان من األجانب عموما‪ ،‬ومن الممالٌك خصوصا‪.‬‬

‫وانتشرت كلمة المصرلٌة لتشٌر للممالٌك لتمٌٌزهم عن جنود العثمانلٌة "العسكر"‪ ،‬وأٌضا سكان القاهرة‬
‫لشهرتها باسم مصر؛ لذا ٌلزم الحرص عند تفسٌر كلمة المصرلٌة والمصراوٌة والمصرٌٌن فً ذلك‬
‫الزمان‪ ،‬وكان المصرٌون الحقٌقٌون ٌُطلق علٌهم العثمانٌون والمإرخون وقتها كلمة الفبلحٌن أو ٌدخلونهم‬
‫ضمن كلمة الرعٌة(‪ ،)9‬واقتصرت كلمة قبطً على المسٌحٌٌن منذ االحتبلل المملوكً‪ ،‬فٌما تطلق كلمة‬
‫فبلحٌن على المصرٌٌن المسلمٌن‪ ،‬وٌدخل فً جعبتهم أٌضا المسٌحٌٌن عند التعمٌم على أهل الرٌؾ‪.‬‬

‫(‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬مخطوطة كشؾ الؽمة فً رفع الطلبة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٓٔ‪ ،ٖٔٔ -‬والرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬هوامش ص ٗ‪9‬‬
‫(‪)9‬‬
‫‪ -‬النوادر الشعبٌة المصرٌة‪ ،‬إبراهٌم شعبلن‪ ،‬ج ٔ‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٕٓٔ ،‬ص ٘٘ٔ‬
‫(‪)8‬‬
‫‪ -‬قاموس الشتابم المصرٌة (أصول وحكاٌات الشتابم)‪ ،‬عمرو المنشاوي‪ ،‬إبداع للترجمة والنشر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪99 -99‬‬
‫(‪)9‬‬
‫‪ -‬راجع أٌضا‪ :‬عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار‪ ،‬ج ٖ‪ ،‬هوامش المبلحق‪ ،‬ص ٕ‪9ٙ‬‬

‫‪ٖٔٙ‬‬
‫وعلى منوال االحتبلل المملوكً انفصلت الفبة الحاكمة وحاشٌتها عن بقٌة السكان بلؽة خاصة‪،‬‬
‫فاستمرت تتحدث ب التركٌة‪ ،‬لؽة الوالً العثمانلً وحاشٌته وكبار اإلقطاعٌٌن والممالٌك‪ ،‬وحتى من كان‬
‫ٌتحدث منهم العربٌة فكانت مشوبة بالتركٌة "عربٌة مكسرة"ٓٔ‪.‬‬

‫وحٌنها تسلط على رقبة المصرٌٌن شاهرا سكٌنه وظاٌؾ جدٌدة مرتبطة بنظام الخراج العثمانلً‪ ،‬مثل‬
‫الملتزم‪ ،‬والصراؾ‪ ،‬والشاهد‪ ،‬ومعظمهم ممالٌك أو أؼراب من الجالٌات المستوطنة‪.‬‬

‫❶ الوالً (الباشا)‬

‫وتكسب الوالً لنفسه أمواال طابلة من وراء الفبلحٌن والمتاجرة فً األرض واالمتٌازات‪ ،‬ومنها امتٌاز‬
‫االلتزام الذي حل محل اإلقطاع المملوكً‪ ،‬فهو ٌشرؾ على عملٌات بٌع االلتزامات أو إسقاطها‪ ،‬وٌتقاضى‬
‫حلوانا (عمولة أو سمسرة) علٌها‪.‬‬

‫وٌهم الممالٌك بعزل الوالً لو طلع فرمان على ؼٌر هواهم‪ ،‬وٌبلؽونه رؼبتهم فً عزله بالقول‪" :‬إنزل‬
‫ٌا باشا" فٌفقد بذلك حق التصرؾ فً منصبه‪ ،‬وعبَّر السلطان العثمانلً أحمد الثالث (ٖٓ‪ )ٔ9ٖٓ -ٔ9‬عن‬
‫ضٌقه من هذا بقوله للوفد الذي أرسله محمد بك جركس ٌطلب تؽٌٌر الوالً محمد باشا‪" :‬التمسوا لكم باشا‬
‫من خشب لتصنعوه على حسب أهوابكم"(ٔٔ)‪.‬‬

‫❷ شٌخ بلد القرٌة (العمدة فً وقت الحق)‬

‫كان فً الؽالب من مشاٌخ العرب لٌعززوا به سلطانهم على الفبلحٌن فً القرى‪ ،‬وقال الشاعر الشعبً‬
‫"أبو شادوؾ" على لسان أم مرعوبة على ابنها من قسوة شٌخ البلد عموما‪:‬‬

‫شٌخ البلد حط السداد عندك‬ ‫ٌا ولدي داري حمار خدك‬

‫شٌخ البلد حط السداد علٌك‬ ‫ٌا ولدي داري بٌاض إٌدك‬

‫وكتبو فً التمابم‪" :‬ارحل أٌها النمل كما رحلت الرحمة من قلوب شٌوخ القرى(ٕٔ)"‪.‬‬

‫❸ الصراؾ‬

‫‪ -11‬المسمسالت واألفالـ التي تتناوؿ االحتالليف الممموكي والعثمانمي بعضيا ُيظير جميع السكاف يتحدثوف العربية الفصحى ويرتدوف الزي العثمانمي‬
‫والممموكي (مسمسؿ الفرساف)‪ ،‬وىذا خطأ تاريخي‪ ،‬وبعضيا يجعؿ الجميع يتحدث بالشكؿ المصري (مسمسؿ الزيني بركات‪ /‬عمي الزيبؽ)‪ ،‬وىذا خطأ‬
‫تاريخي‪ ،‬وأحيانا نادرة يجعموف مف الفئة الحاكمة كالمماليؾ والعثمانمية يتحدثوف بالتركية أو بمغة ىجيف بيف التركية والعربية ويرتدوف زييـ األجنبي‪،‬‬
‫والمصرييف يتحدثوف بالشكؿ المصري أي الفالحي ويرتدوف الزي الفالحي (مسمسؿ مارد الجبؿ) ‪ ،‬وىذا ىو األقرب لمواقع‪ ،‬ويظير االنفصاؿ والتناقض‬
‫الحقيقي الذي كاف بيف المصرييف ومحتمييـ‪.‬‬
‫(ٔٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر‪ ،‬عبد الرحٌم عبد الرحمن عبد الرحٌم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪9ٔ -ٙ9‬‬
‫(ٕٔ)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٔٗ‬

‫‪ٖٔ7‬‬
‫وهو المكلؾ بجمع أموال الضراٌب المستحقة على الفبلحٌن‪ ،‬وعبر الشٌخ ٌوسؾ الشربٌنً‪ ،‬المعاصر‬
‫لتلك األٌام فً كتابه "هز القحوؾ فً قصٌدة أبً شادوؾ"‪ ،‬عن الخوؾ من الصراؾ بشعره الذي اتسم‬
‫بالقسوة والفظاظة فً الكبلم عن المصرٌٌن وهً سمة معاصرٌه‪:‬‬

‫فعندهم كالعـم أو كالخــال‬ ‫وهم عبٌـد قابض األموال‬

‫أو ٌقؾ الواحد منهم كالصبً‬ ‫وٌجلسون عنده فً أدب‬

‫وأصبحت عبارة "نزلة الصراؾ"‪ ،‬أي هبوطه على البلد لجمع الضراٌب‪ ،‬مصدر فزع للفبلحٌن‪ ،‬وهو ما‬
‫ٌكشؾ سوء العبلقة بٌن الفبلحٌن وأجهزة اإلدارة التً ٌتعاملون معها(ٖٔ)‪.‬‬

‫❹ الكاشؾ (البك)‬

‫بمثابة المحافظ حالٌا‪ ،‬ونزلة الكاشؾ المملوكً مرعبة أٌضا للفبلحٌن؛ ألن نزوله للقرٌة هو وأتباعه‬
‫نذٌر شوم بفرض التزامات جدٌدة‪ ،‬بخبلؾ الضراٌب‪ ،‬وهً االلتزامات الخاصة بتقدٌم األكل وأمور المعٌشة‬
‫للجماعة النازلة معه وتسمى "ضرٌبة الوجبة"‪ ،‬ومثلها مثل ما كان مفروضا علٌهم عن نزول جنود رومان‬
‫أو العرب لقراهم فً عصور سابقة‪ ،‬وعبَّر الشاعر الشعبً عن ضٌق الفبلح من نزلة الكشاؾ بقوله‪:‬‬
‫(ٗٔ)‬
‫وصار لقلبً لوعة ورجٌؾ‬ ‫ومن نزلة الكشاؾ شابت عوارضً‬

‫❺ الخولً‬

‫مكلؾ باإلشراؾ على زراعة ومسح أراضً الوسٌة الخاصة بالملتزم‪ -‬والوسٌة حٌنها ؼٌر أراضً االلتزام‬
‫فهً أرض ٌعود عابدها كله لجٌب الملتزم‪ -‬وتوزٌع األرض على الفبلحٌن لزراعتها بالسخرة أو بؤجر(٘ٔ)‪.‬‬

‫❻ المشد‬

‫لقب ٌطلق على المرشد‪ ،‬وهو الذي ٌبلػ أوامر الملتزم للفبلحٌن‪ ،‬وٌشدهم إلى دار شٌخ البلد لٌدفعوا‬
‫الفلوس هناك‪ ،‬ولو بالقوة واإلهانة‪ ،‬وذكر الجبرتً أن المشد "ٌسحب الفبلح الذي ٌتؤخر عن العونة‬
‫]السخرة[ من شنبه وٌشبعه سبا وشتما وضربا"‪ ،‬وذكر صاحب كتاب "هز القحوؾ" أن كل "من تراخى أو‬
‫تكاسل عن السروح أخذه المشد‪ ،‬وعاقبه‪ ،‬وؼرمه دراهم معلومة"‪ ،‬وفٌما ٌخص السخرة إذا احتاج األمر‬
‫لشٌل الطٌن من اآلبار ولحفر القنوات أو ضم الزرع أمر المشد رجبل ٌقال له الؽفٌر فٌنادي‪" :‬العونة ٌا‬
‫فبلحٌن العونة ٌا بطالٌن" ٌعنً الخالٌٌن من العمل‪ ،‬فٌخرجون عند صبٌحة النهار جمٌعهم وٌسرحون‬
‫للحفر‪ ،‬أو لكل ما ٌؤمرهم به كل ٌوم من ؼٌر أجرة إلى أن ٌفرغ الحفر‪.‬‬

‫(ٖٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٗٗ و ‪ٗٙ‬‬
‫(ٗٔ)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٙ9‬‬
‫(٘ٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٗ9 -ٗٙ‬‬

‫‪ٖٔ8‬‬
‫واستخرج د‪ .‬عبد الرحٌم عبد الرحمن عبد الرحٌم فً رسالته للدكتوراة التً ضمنها فً كتابه "الرٌؾ‬
‫المصري فً القرن الثامن عشر" من وثابق المحكمة الشرعٌة أن العربان قاموا بدور الؽفٌر‪ ،‬وأسمتهم‬
‫الوثابق الرسمٌة بالعرب المدركٌن "أي أصحاب الدرك"‪ ،‬وتخصص لهم نظٌر قٌامهم بعملٌة الخفارة قدر‬
‫من المال على كل فدان أو حصة ٌنص علٌه فً عقد اإلٌجار المكتوب بٌن الملتزم والفبلحٌن‪ ،‬وفً إحدى‬
‫الحجج التً من هذا النوع نص على أن إٌجار الفدان ‪ ٖٙ9‬نصؾ فضة‪ ٖٙٓ :‬للملتزم وٗ أنصاؾ للشاهد‬
‫و٘ أنصاؾ للعرب المدركٌن نظٌر ؼفرهم لطٌن الحصة‪.‬‬

‫ولم ٌتوقؾ الحال عند ذلك‪ ،‬بل صار العربً هو أٌضا ٌفرض إتاوات وضراٌب على األهالً‪ ،‬وسجل‬
‫الجبرتً أن عرب الجباٌة الذٌن بٌدهم خفارة الشطٌن الشرقً والؽربً من بوالق إلى دمٌاط استؽلوا نفوذهم‬
‫وفرضوا الضراٌب والعواٌد الشهرٌة والسنوٌة على سكان هذه المناطق(‪.)ٔٙ‬‬

‫واستعانة الوالً العثمانلً والممالٌك بالعربان فً مهنة الؽفر والحراسة لٌتقوا شر إؼارتهم على القرى‬
‫أشبه بمن ٌدفع األموال للبلطجً لٌكؾ آذاه عن الحارة بدال من معاقبته وإجباره على كؾ آذاه عن الناس‪.‬‬

‫وٌعٌد هذا األمر لذاكرتنا ؼفلة رمسٌس الثالث وؼٌره حٌن استعان بالقباٌل التً تؽٌر على الحدود‬
‫الؽربٌة‪ ،‬وترك لهم مهمة حراستها وصد القباٌل المؽٌرة الجدٌدة‪ ،‬فاكتسبت "شرعٌة" وجود فً مصر‪،‬‬
‫واستؽلت هذا فً تحقٌق مكاسب خاصة بها‪ ،‬وحٌن دب الضعؾ فً الدولة صاروا ؼزاة ومحتلٌن‪.‬‬

‫وبذلك أصبح الفبلح ملزما بدفع أمواله وعافٌته وما فً داره من طٌور أو محاصٌل للسلطان‪ ،‬وللوالً‪،‬‬
‫وللمملوك‪ ،‬وللعربان‪ ،‬وقال صاحب "هز القحوؾ" مواال عن هذا على لسان الفبلح(‪:)ٔ9‬‬

‫فً هم دي البطن اللً ما ترٌح حد‬ ‫ٌا دنٌة الشوم طول عمري وأنا أشتد‬

‫أقوم فً الصبح ألقى ما بنٌتو‬ ‫أضال أبنً وآجً بعد العشا أتمـد‬

‫وعلى هذا ظل السكان كسابق االحتبلالت نوعان‪ :‬أصٌل وبرَّ انً‪ ،‬األصٌل هو المصرٌٌن (الفبلحٌن)‬
‫السواد الكاسح‪ ،‬وظلوا هم أبناء إٌسة وأوزٌر وحور ومٌنا ومنتوحتب وأحمس وتحوتمس‪ ،‬فلم ٌعمل‬
‫المملوكً والتركً والشركسً والشامً والمؽربً والرومانً والٌهودي والفارسً واألعرابً إلخ فبلحٌن‬
‫ٌزرعون األرض بؤٌدٌهم أو ٌبنون السدود‪ ،‬أو ٌحفرون الترع‪ ،‬أو ٌقاسون السخرة‪ ،‬فظل المصرٌون‬
‫معروفون بمبلمحهم المصرٌة ومهنهم وأرٌافهم وحتى من ٌتسلل منهم للمدن ٌظل معروفا‪.‬‬

‫والبرَّ انً هو األجنبً من تشكٌلة الممالٌك والمؽاربة والٌهود والشوام واألرمن واألعراب وسودان‬
‫وروم‪ ،‬ومعظمهم فً المدن والقلٌل فً األرٌاؾ‪.‬‬

‫ومن الكتب التً كتبت أٌام العثمانلٌة عن الفبلحٌن كتاب "هز القحوؾ فً شرح قصٌد أبً شادوؾ" لـ‬

‫(‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬انظر "الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر" مرجع سابق‪ ،‬ص ٓ٘ٔ‪ٕٔ٘-‬‬
‫(‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬حواشً المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٔ٘ٙ‬‬

‫‪ٖٔ9‬‬
‫ٌوسؾ الشربنً‪ ،‬وهو أول كتاب معلوم مخصص لرصد حٌاة الفبلح‪ ،‬وٌنقل شكاوٌه على لسانه‪ ،‬وكؤنه‬
‫ٌحكً معنا‪ ،‬وإن تعمد الكتاب تحقٌر الفبلح وطرٌقته فً الكبلم واألكل والزواج وحتى األسامً بمبالؽة‬
‫كارٌكاتٌرٌة‪ ،‬وسجل بعض ما ٌجري فً الرٌؾ أٌضا كتاب "كشؾ الؽمة فً رفع الطلبة" لـ محمد بن أبً‬
‫السرور البكري الصدٌقً فً القرن ‪ ،ٔ9‬أما أهم مصدر فهو أرشٌؾ المحاكم الشرعٌة والمعامبلت‬
‫الحكومٌة فٌما ٌخص الضرٌب وعقود اإلٌجار وااللتزام التً ٌجتهد باحثون حالٌا الستخراجها من ركام‬
‫السنٌن؛ فتكشؾ أحوال السكان‪ ،‬ومن هذه المصادر تظهر الصورة التالٌة للفبلحٌن(‪.)ٔ8‬‬

‫عاش الفبلحون فً القرى عٌشة ؼاٌة فً البساطة والفقر (معظمهم)‪ ،‬فً بٌوت مبنٌة من الطوب النً‪،‬‬
‫وؼالبا من دور واحد‪ ،‬أما أكلهم فؤكثره عٌش البتاو من الدرة والشعٌر‪ ،‬والبصل‪ ،‬والكشك‪ ،‬الفول المدمس‪،‬‬
‫والعدس‪ ،‬البٌسارة‪ ،‬الوٌكة‪ ،‬الملوخٌة‪ ،‬الفسٌخ‪ ،‬الجبن القرٌش‪ ،‬والمش والبصل‪ ،‬أما الجبن الطرٌة فٌشترٌها‬
‫لٌقدمها لموظفً حكومة العثمانلً ضمن ضرٌبة الوجبة‪ ،‬واللحوم والطٌور فؤكلها عند الفبلح ٌعد عٌدا‪،‬‬
‫وٌنقل صاحب كتاب "هز القحوؾ" أنه فً الرٌؾ أكبلت مثل طاجن مشكشك والفطٌر والمفروكة واللبن مفتوت‬
‫فٌه العٌش السخن والفسٌخ والحمام وطاجن السمك فً الفرن والرز باللبن‪ ،‬لكنها تظهر فً المواسم واألفراح‪.‬‬

‫وكانت مبلبسه كذلك بسٌطة من صنع ٌده‪ ،‬أو من صنع المناسج المحلٌة المنتشرة فً القرى‪ ،‬وتنسجها‬
‫من القطن أو الصوؾ بعد ؼزلهما‪ ،‬والفبلح ٌعد نفسه سعٌدا إذا حاز شٌبا من صنع المدٌنة‪.‬‬

‫واستمر الفبلح‪ -‬رؼم هذا‪ -‬هم المنتج رقم (ٔ) فً البلد‪ ،‬من بٌن ٌدٌه تتفجر معظم ثروات مصر‪ ،‬وإن‬
‫كان المحتلون والجالٌات األجنبٌة تتخطفها من الفبلحٌن كما ٌتخطؾ الطٌر الحبوب‪ ،‬وٌتركون معظمهم‬
‫ببطون خاوٌة أو شبه خاوٌة‪ ،‬ومن ٌستطع أن ٌكتنز بعض المال‪ ،‬أو ٌؽتنً لبعض الوقت‪ٌ ،‬سارع العربان‬
‫وصور صاحب كتاب "هز القحوؾ"‬ ‫َّ‬ ‫لخطفه منه فً الؽارات‪ ،‬وٌتفنن عسكر العثمانلٌة والممالٌك إلفقاره‪،‬‬
‫حٌاة الفبلح‪ ،‬فٌقول‪" :‬فهم دابما فً انقباض‪ ،‬وطرد‪ ،‬وجري‪ ،‬وكر وفر وحبس وضرب‪ ،‬ولعن وسب وهوان‬
‫وشجار وشٌل تراب وحفر آبار‪ ،‬وخروج للعونة على جهة السخرة‪ ،‬وتعب شدٌد ببل أجرة‪ ،‬وإذا كان ذو‬
‫فضل ضاع فضله‪ ،‬أ و ذو عقل ذهب عقله‪ ،‬أو ذو مال أؼروا علٌه الحكام‪ ،‬أو ذو تجارة نهبوه فً‬
‫الظبلم"(‪.)ٔ9‬‬

‫ونقل عن الشاعر أبو شادوؾ ممثبل للفبلح‪:‬‬

‫وكل ساعة فً نقصـــان‬ ‫هم الفالحة حٌرنً‬

‫لما ٌجً مال السلطــان‬ ‫ما انفك من هم الوجبة‬

‫ومن مبلمح البٌبة المصرٌة وقتها أن كان الفبلح ٌزرع القمح واألرز والكتان والعصفر والنٌلة‪ ،‬ولكن‬

‫(‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬ا ستخرج بعضها ونشره د‪ .‬عبد الرحمن عبد الرحٌم عبد الرحمن فً‪" :‬الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر" ‪ ،‬وهو ما ننقل منها الفقرات‬
‫التالٌة‪ ،‬انظر‪ ،‬ص ‪ ٔ9‬وص‪ٔٗ9‬‬
‫(‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٕ٘ٔ‪ٔ٘ٗ -‬‬

‫ٕٖٓ‬
‫القمح معظم الفبلحٌن ال تستفٌد منه‪ ،‬فهً تؤكل الذرة (ٌسمى عٌش البتاو فً بعض القرى)‪ ،‬أما القمح فٌُدفع‬
‫كجزء من الضراٌب‪ ،‬أو ٌباع ؼذاء لؤلجانب المستوطنٌن وٌشتري بثمنه حاجات أكثر أولوٌة‪ ،‬أو ٌُقدم ضمن‬
‫ما ٌجبر الفبلح على تقدٌمه لموظفً العثمانلٌة فً ضرٌبة "الوجبة"‪ ،‬أو ٌتم تصدٌره للخارج مثل المعونات‬
‫التً ُترسل للحجاز‪ ،‬وصدق على المصرٌٌن فً ذلك القول "ماله وال ٌهناله"‪.‬‬

‫واهتم الفبلح بتربٌة الدجاج والحمام والحٌوانات بكثرة لسد رمقه لبٌعها فً السوق‪ ،‬وأحٌانا كان عابد هذه‬
‫الدواجن على الفبلح تافها‪ ،‬وأحٌانا ٌربٌها لٌقدمها هداٌا لرجال اإلدارة وٌؽذٌهم بها وقت حلول الوجبة‬
‫وطلوع الدٌوان ونزلة الكشاؾ على القرى(ٕٓ)‪ ،‬ولو حل بهذه الطٌور مرض أو موت ٌبكً وٌصرخ كؤنهم‬
‫من عٌاله؛ ألنه كما قال الجبرتً "هذه الحٌوانات فً نظره علٌها مدار عمار العالم"‪.‬‬

‫وجنب شؽل الزراعة وتربٌة الحٌوانات والطٌور كانت الستات واألطفال ٌعملون فً مهن أخرى‬
‫لمساعدة األب‪ ،‬منها الؽزل فً المنازل‪ ،‬وبٌع المؽزول لتجار المدن‪ ،‬وعملوا فً صنع الحصر والبسط‬
‫والفخار والطوب والبناء وتفرٌخ الفراخ والنجارة والحدادة وتربٌة النحل وتبٌٌض النحاس إلخ‪.‬‬

‫وسعى تجار المدٌنة‪ -‬وأؼلبهم من الشوام والمؽاربة والٌهود‪ ،‬الستؽبلل الفبلحٌن بدورهم‪ ،‬وتشٌر‬
‫المصادر إلى أنهم أصبحوا ٌوظفون أموالهم فً الرٌؾ‪ ،‬مستؽلٌن جهل أصحابه ورضاهم بالقلٌل‪ ،‬وذلك‬
‫بتقدٌم المواد الخام لتصنٌعها بؤٌدي الفبلحٌن والفبلحات تبعا لمواصفات معٌنة ٌضعونها لهم‪ ،‬ولم ٌكن األجر‬
‫الذي ٌدفعونه لهم ٌتناسب والجهد المبذول فً تصنٌع هذه المواد‪ ،‬وٌشتري التجار كذلك حاصبلت الفبلحٌن‬
‫منهم قبل أوان نضجها بسعر أرخص استؽبلال لسوء حالتهم االقتصادٌة(ٕٔ)‪.‬‬

‫ومن النوادر أن نرى مصرٌا صار من الملتزمٌن (أصحاب أراضً االلتزام)‪ ،‬أو من أصحاب العزوة‪،‬‬
‫وكانت تتم بالصدؾ‪ ،‬ومن ذلك قصة طرٌفة رواها الجبرتً عن صالح الفبلح‪ ،‬وقال إنه كان فً قرٌة‬
‫الراهب فً المنوفٌة ملتزم اسمه علً كتخدا الجلفً أخذ طفل اسمه صالح رهٌنة من أبٌه حتى ٌجبره على‬
‫سداد الضراٌب‪ ،‬فلما رأى الطفل مستوى العٌشة فً قصر الملتزم بهره الحال‪ ،‬ورفض أن ٌعود مع أبٌه بعد‬
‫أن سدد ما علٌه‪ ،‬واختار أن ٌخدم فً بٌت الملتزم‪ ،‬ومع الوقت استؽل خفة روحه وحركته فً التنقل من‬
‫مستوى لمستوى حتى أصبح من أصحاب األموال‪ ،‬بل واشترى ممالٌك وجواري‪ ،‬واشترى لهم بٌوتا‬
‫وأدخلهم فً األوجاقات والبلوكات عبر دفع الرشاوى ألرباب الحل والعقد‪ ،‬ووصل به النفوذ إلى أن ممالٌكه‬
‫صاروا أصحاب نفوذ وأتباع‪ ،‬ووصفه الجبرتً بؤنه "كان من نوادر الزمن"‪.‬‬

‫وٌستعرض الرحالة الفرنسً قسطنطٌن فولنً فً كتابه "الرحلة إلى مصر وسورٌا" سنة ٖ‪ٔ98‬‬
‫مشاهداته عن مصر قبل سنٌن قلٌلة من الؽزو الفرنسً‪ ،‬فٌصؾ أحوال الفبلحٌن بعبارات ُتظهر أنها لم‬
‫تختلؾ عما هً علٌه من مبات السنٌن‪ ،‬فٌقول تحت عنوان "حال الشعب فً مصر" أنه فً حٌن أن "معظم‬
‫أراضٌها ]مصر[ فً ٌد البكوات والممالٌك ورجال الشرٌعة"‪ ،‬فإن "الفبلحون آالت مؤجورة ال ٌُترك لهم‬

‫(ٕٓ)‬
‫‪ -‬انظر المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٕٔٓ ،ٕٓ9 ،ٔ٘9‬‬
‫(ٕٔ)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٖ‪ٕٔ9 -ٕٔ8 ،ٕٖٔ ،ٔٙ‬‬

‫ٕٖٔ‬
‫للمعاش إال ما ٌقٌهم الموت"‪ ،‬و"ما ٌحصدونه من أرز وحنطة ٌذهب إلى موابد أسٌادهم‪ ،‬فٌما ٌحتفون الذرة‬
‫وٌصنعون منها خبزا ببل خمٌر‪ ،‬ال طعم له إذا كان باردا‪ٌ ،‬ختبزون فً ملة وقدها من ورث الجوامٌس‬
‫والبقر ]الجلة[‪ ،‬فهذا الخبز مضافا إلى الماء والبصل النًء قوتهم طوال العام‪ ،‬وٌحسبون سعداء إذا تخلل‬
‫طعامهم هذا شًء من العسل والجبن واللبن الرابب والتمر‪ ،‬أما اللحم والشحم فمادتان ٌرؼبون فٌهما كثٌرا‪،‬‬
‫ولكن ال أثر لهما فً مؤكلهم فً ؼٌر األعٌاد الكبرى"‪.‬‬

‫وٌرتدون زٌا ٌمٌزهم عن أي أجناس مقٌمة فً مصر‪ ،‬وهً‪" :‬ملبسهم كله عبارة عن قمٌص من الخام‬
‫األزرق وجبة سوداء من نسٌج خشن‪ ،‬وتعلو رإوسهم قلنسوة ]الطاقٌة[ من الكتان ٌطوقونها بمندٌل من‬
‫الصوؾ األحمر"‪ ،‬و"مساكنهم أكواخ ترابٌة ٌضٌق الصدر من قٌظها ودخانها‪ ،‬وتحاصرهم فٌها األمراض‬
‫الناشبة عن األوساخ والرطوبة والؽذاء الردئ‪ ،‬أضؾ إلى هذه األدواء الجسدٌة ما ٌنتابهم من خوؾ الؽزو‬
‫والنهب ]من البدو العرب[ وزٌارات الممالٌك‪ ،‬واالنتقامات العابلٌة‪ ،‬ومشاؼل الحرب األهلٌة المستدٌمة‪ .‬هذه‬
‫هً صورة تنطبق على كل القرى"(ٕٕ)‪.‬‬

‫وعن ضآلة عد الممالٌك قال إن عددهم سواء أمراإهم أو عبٌدهم وكشافة أو معتقٌن ٌدور حول ٓٔ‬
‫آالؾ‪ ،‬مبات منهم فً القرى واآلالؾ فً القاهرة‪ ،‬فٌما العسكر العثمانلً نحو ٕٓ ألفا‪ ،‬وال ٌُرى المملوك إال‬
‫راكبا فرسه؛ ألنه ٌظن أن السٌر على القدمٌن حط من شؤنه؛ لذا حرموا على سكان القاهرة ركوب الخٌل‪،‬‬
‫وال تراهم ٌنتقلون من مكان لمكان وإن كانا متجاوران إال على الخٌل‪ ،‬واصفا إٌاهم بؤنهم "ٌنطوون على‬
‫نفوس عبٌد فً أثواب ملوك"‪ ،‬وأنهم "ؼرباء عن بعضهم ال تربطهم العواطؾ الطبٌعٌة التً تجمع بٌن سابر‬
‫الناس‪ ،‬ولما كانوا ال أهل لهم وال أوالد‪ ،‬فبل الماضً فعل شٌبا فً سبٌلهم‪ ،‬وال هم ٌفعلون شٌبا فً سبٌل‬
‫المستقبل‪ ،‬وتراهم جهلة تعودوا الخرافات بحكم التربٌة‪ ،‬والشراسة عن طرٌق القتل‪ ،‬والعصٌان عن طرٌق‬
‫االضطرابات‪ ،‬والخٌانة عن طرٌق الدسابس"‪ ،‬وهم "بصورة خاصة مستسلمون لهذا النوع المخزي الذي‬
‫طالما كان رذٌلة الٌونان والتتر ]اللواط[‪ ،‬وهً األمثولة التً ٌتلقونها من أسٌادهم فً السبلح"‪ ،‬متعجبا من‬
‫أنه "هذا هو نوع الناس الذٌن ٌتحكمون الٌوم فً مقدرات مصر وٌرأس الحكومة رجال من هذا‬
‫الطراز"(ٖٕ)‪.‬‬

‫ولم ٌقتصر انؽماس الممالٌك فً الترؾ على البكوات‪ ،‬بل إن ممالٌكهم الذٌن لم ٌرتقوا إلى الرٌاسة لهم‬
‫ركاببهم مزٌنة بؤفخر الحرابر ومرقشة من كل جانب بالذهب والفضة‪ ،‬وعومل أهل البلد كؤنهم العبٌد‬
‫الحقٌقٌٌن والممالٌك هم السادة؛ إذ استولى الممالٌك على جمٌع األمبلك‪ ،‬إال ما كان منها موقوفا على‬
‫األعمال الخٌرٌة فً وصاٌة العلماء‪ ،‬وتشعث حالة الفبلح حتى صار رثا فً ملبسه ومسكنه ومؤكله‪ ،‬ال ٌكاد‬
‫ٌفٌق من دفع ضرٌبة شرعٌة أو ؼٌر شرعٌة حتى ٌُطالب بدفع أخرى‪ ،‬وإذا امتنع عن الدفع ضرب وعذب‬

‫(ٕٕ)‬
‫‪ -‬عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار‪ ،‬عبد الرحمن الجبرتً‪ ،‬جٕ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪( 9ٔ9 -9ٔ8‬نص رحلة قسطنطٌن فولنً أورده المحقق‬
‫عبد العزٌز جمال الدٌن ضمن مبلحق الكتاب)‬
‫(ٖٕ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖٔ‪9ٔ8 -9‬‬

‫ٕٕٖ‬
‫حتى ٌدفع‪ ،‬وربما قُتل من أجل ذلك(ٕٗ)‪.‬‬

‫وكثرت أٌام العثمانلً الهجرات البدوٌة‪ -‬بعد أن انكسرت أٌام الممالٌك‪ -‬التً تسللت للسكن على حواؾ‬
‫القرى‪ ،‬مستؽلة أن مصر صارت محكومة من الخارج‪ ،‬وأفراد الحكومٌة الداخلٌة (الوالً والممالٌك)‬
‫مشؽولون فً معاركهم‪.‬‬

‫▼▼▼نضوج اللؽة المصرٌة الحدٌثة (الدارجة)‬

‫لما أوشكت معرفة الناس باللؽة المصرٌة الموروثة على الزوال فً القرن ‪ ٔ8‬كتبوا اللؽة المصرٌة‬
‫بالحروؾ العربٌة بدال من الٌونانٌة فً خطوة وصفها أندرٌاس المقاري بؤنها "آخر خطوة فً حٌاة اللؽة"ٕ٘‪،‬‬
‫فهذا تكرار للخطٌبة األولى أٌام الرومان حٌن تم محً الحروؾ المصرٌة العرٌقة وإلصاق الحروؾ‬
‫الٌونانٌة محلها على وجه اللؽة المصرٌة‪ ،‬ولهذا أثره فً تحرٌؾ نطق اللؽة الحقٌقٌة واالرتباط القلبً بها‪،‬‬
‫وبكتابتها بالحروؾ العربٌة انفتح الباب الستسهال إقحام ألفاظ عربٌة إلٌها‪ ،‬وضاعت فً مقابلها ألفاظ‬
‫مصرٌة‪.‬‬

‫ولكن ظل التؤثٌر متبادال أٌضا‪ ،‬فاخترقت اللؽة المصرٌة لؽة سكان المدن‪ ،‬حتى أن مإلفات كبار‬
‫المإرخٌن مثل ابن إٌاس والجبرتً مزٌنة بكلمات مثل "بتاع"‪" ،‬مفٌش"‪ ،‬وتخففت من ثقل النطق أحٌانا‬
‫بإزالة الهمزة على نبرة من الكبلم‪ ،‬فٌقول ضراٌب بدل ضرابب‪ ،‬وعجاٌب بدل عجابب‪.‬‬

‫وتطعمت اللؽة فً القاهرة بشكل أوسع بكلمات فبلحٌة مع كثرة هجرة الفبلحٌن إلٌها‪ ،‬حاملٌن معهم‬
‫الكلمات والتعبٌرات واألمثال المصرٌة األصٌلة‪ ،‬واألسلوب الفبلحً فً النطق والتؤدٌة‪ ،‬وٌتضح هذا فً‬
‫الكلمات الواردة فً كتاب "المقتضب فٌما وافق لؽة أهل مصر من لؽة العرب"‪ ،‬البن أبو السرور البكري‪،‬‬
‫المكتوب فً بداٌة القرن ‪ ٔ9‬وفٌها سعى المإلؾ لمعرفة أصول الكلمات التً تمٌز أهل مصر عن بقٌة‬
‫الشعوب‪ ،‬وسرد التعبٌرات الممٌزة لهم‪ ،‬وأظهر التؤثٌر العربً فً اللؽة المصرٌة‪ ،‬لكن أوقعه جهله باللؽة‬
‫المصرٌة إلى نسب بعض ألفاظها إلى أصول عربٌة لمجرد الشبه‪ ،‬وحٌن ٌحتار فً نسبة لفظ‪ ،‬مثل كلمة‬
‫"برة" وهً مصرٌة قحة ٌقول‪" :‬ولم أعرؾ لها أصبل"‪.ٕٙ‬‬

‫وأما فً القرى فظلت حصٌلة الكلمات المصرٌة األصٌلة أؼنى وأوفر كما ٌتضح فً كتاب "هز القحوؾ‬
‫فً قصٌدة أبً شادوؾ" للشربٌنً المكتوب فً ذات القرن‪.‬‬

‫(ٕٗ)‬
‫‪ -‬انظر ال رٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٕٓ‪ٕٖٔ -‬‬
‫‪ -25‬قواعد المغة القبطية‪ ،‬الراىب أندرياس المقاري‪ ،‬ج‪ ،1‬ط‪ ،4‬مطبعة دير القديس أنبا مقار‪ ،‬القاىرة‪ ،2113 ،‬ص ‪3‬‬
‫‪ -26‬راجع المقتضب فيما وافق لغة أىل مصر من لغة العرب‪ ،‬أبن أبي السرور البكري‪ ،‬تحقيق ىشام عبد العزيز وعادل العدوي‪ ،‬أكاديمية الفنون‪،‬‬
‫القاىرة‬

‫ٖٕٖ‬
‫ونبلحظ فً فً "هز القحوؾ" أن الشربٌنً قال إنه وضعه لٌشرح لسكان القاهرة المعانً فً قصٌدة الفبلح‬
‫أبو شادوؾ وؼٌرها التً ٌصؾ بها حال الرٌؾ و أسامً الفبلحٌن وأكبلتهم وطرٌقة كبلمهم‪ ،‬ما ٌعنً أنها كانت‬
‫محتفظة بوفرة من اللؽة المصرٌة صعب على سكان القاهرة فهمها بدون شرح‪.‬‬

‫ومنها أبٌاتها رثاء والد أبو شادوؾ والدعاء بؤن ٌكون شٌخ البلد‪:‬‬

‫أو الخلبوص جا ٌشفع شفاعة‬ ‫تقول رٌس على جوق المؽانً‬

‫وٌبشبش طوبتو فً كل ساعة‬ ‫وجٌصو راح ٌاهلل راحم عضامو‬

‫وٌصبح شٌخنا صاحب نفاعة‬ ‫وأبو شادوؾ ٌا هللا أبقً شبابوه‬


‫‪ٕ9‬‬
‫وٌجعمص وٌقعد فً الشراعة‬ ‫وٌتعنظز وٌسرح فً الضهاري‬

‫ومن أسامً المصرٌٌن فً الرٌؾ التً أوردها‪ :‬محٌلبة‪ ،‬دعموم‪ ،‬شبلطة‪ ،‬لهاطة‪ ،‬محمدٌن‪ ،‬مخمٌر‪ ،‬حنٌن‪،‬‬
‫خنافر‪ ،‬وطٌؾ‪ ،‬جُنجٌل‪ ،‬جُلجٌل‪ ،‬عفر‪ ،‬دعموم‪ُ ،‬زعٌط‪ ،‬مُعٌط‪ ،‬قُسٌط‪ ،‬شقلٌط‪ ،‬مقلٌط‪ ،‬ص ّفار‪ ،‬بهوار‪ ،‬جعمار‪،‬‬
‫شحٌبر‪ ،‬بُعٌبر‪ ،‬وٌستعملون ألقاب أبو قادوس‪ ،‬أ بو شادوؾ‪ ،‬أبو جاروؾ‪ ،‬أبو مطر‪ ،‬أبو جرٌدة‪ ،‬أبو طعٌمة‪ ،‬أبو‬
‫زؼلول‪ ،‬أبو سٌسً‪ ،‬أبو شعٌشع‪ ،‬أبو صابر‪ ،‬أبو هوٌر‪ ،‬أبو عوكل‪ ،‬أبو دشٌشة‪ ،‬أبو قلّوط‪ ،‬ومن أسامً الستات‬
‫حوٌطة‪ ،‬حلٌوة‪ ،‬شلباٌة‪َ ،‬شبارة‪ ،‬شمّة‪ ،‬هدٌة‪ ،‬معٌكة‪ ،‬زرارة‪ ،ٕ8‬واترٌق علٌهم الشربٌنً‪ -‬كعادة السخرٌة من‬
‫الفبلحٌن فً تلك العصور‪ -‬أن أسامهٌم "كؤسماء العفارٌت"‪ ،‬ومنها أسامً ما زلنا نستعملها‪ ،‬ومنها أسامً عربٌة‪،‬‬
‫وأكثرها أسامً تبدو محورة عن األسامً المصرٌة األصٌلة القدٌمة‪ ،‬ولكن لقلة االعتناء باللؽة المصرٌة تاهت‬
‫معانٌها ونطقها الصحٌح وصار هذا نطقها‪ ،‬ومٌزتها أنها ظلت تمٌز المصرٌٌن عن بقٌة أشكال األسامً للخلٌط‬
‫متعدد الجنسٌات الذي ٌحتل ببلدهم‪.‬‬

‫وٌقول عالم المصرٌات جوستان ماسبٌرو فً محاضرة ألقاها فً القاهرة ‪ ٔ9ٓ8‬عن "صلة المصرٌٌن‬
‫األقدمٌن بالمصرٌٌن الحالٌٌن" إن سكان الصعٌد ظلوا ٌتكلمون وٌكتبون باللؽة المصرٌة حتى السنٌن األولى‬
‫من القرن ‪ٔٙ‬؛ أي أول حكم العثمانلً‪ ،‬وأنه فً القرن ‪ ٔ9‬قُدم لسابح فرنساوي آخر كاهن قبطً ٌتكلم‬
‫باللؽة القبطٌة‪ -‬أي بشكل كامل بعٌد عن العربٌة‪ -‬والمرأة العجوز التً تنازعه ذلك االمتٌاز المحزن‪.ٕ9‬‬

‫وٌرى زكً شنودة صاحب كتاب "تارٌخ األقباط والمسٌحٌة" أن اللؽة بدأت تضمحل من القرن التاسع‬
‫المٌبلدي (أٌام اإلخشٌدي)‪ ،‬ولكن ظلت لؽة تخاطب فً الصعٌد حتى القرن ‪( ٔ9‬أٌام العثمانلً)‪ ،‬وظلت‬
‫تنازع الروح حتى أزهقتها فً القرن ‪.ٖٓٔ9‬‬

‫‪ -27‬ىز القحوف في شرح قصيد أبي شادوف" يوسف بن محمد بن خضر الشربيني‪ ،‬المطبعة األميرية‪ ،‬ط ‪ 1318 ،2‬ه‪ ،‬ص ‪91‬‬
‫‪ -28‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪8‬‬
‫‪ -ٕ9‬تراث األدب القبطً‪ ،‬شنودة ماهر وٌوحنا نسٌم ٌوسؾ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٗ‬
‫‪ -31‬تاريخ المغة العربية في مصر والشرق األدنى‪ ،‬أحمد مختار عمر‪ ،‬عالم الكتب‪ ،‬القاىرة‪ ،‬ص ‪69‬‬

‫ٕٖٗ‬
‫كما ظل استخدام اللؽة فً الكتابة الدٌنٌة‪ ،‬فمثبل نسخة من كتاب دٌنً مسٌحً محفوظة فً المتحؾ‬
‫القبطً بالقاهرة مإرخة بسنة ٖ٘‪ ٔٙ‬م مكتوب بالقبطٌة والعربٌة‪ ،‬فصفحة مكتوبة بالعربٌة والصفحة‬
‫المقابلة لها نفس النص بالقبطٌةٖٔ‪.‬‬

‫ولم ٌتحدث المصرٌون‪ -‬حتى من أخذ قسطا من التعلٌم منهم فً األزهر والكتاتٌب‪ -‬باللؽة العربٌة‬
‫الفصحى فً حٌاتهم الٌومٌة أبدا‪ ،‬وإن حدث فٌكون بٌن األزهرٌٌن وبعضهم أحٌانا‪ ،‬أي فً دابرة مؽلقة‪.‬‬

‫ولذا ال ٌمشً مع أحداث التارٌخ اتهام بعض "المثقفٌن" الؽٌورٌن على اللؽة العربٌة الفصحى للمصرٌٌن‬
‫الذٌن ما زالوا ٌعتزون بالحدٌث باللؽة المصرٌة الحدٌثة (المشهورة بالعامٌة أوالدارجة)‪ ،‬بؤنهم السبب فً‬
‫"دهورة وبوظان حالة اللؽة العربٌة"‪.‬‬

‫فالمصرٌون لم ٌتحدثوا فً حٌاتهم اللؽة العربٌة الفصحى‪ ،‬مطلقا‪ ،‬بل إن ألفاظ اللؽة العربٌة هً وفدت‬
‫على اللؽة المصرٌة‪ ،‬وهً التً تسللت إلٌها شٌبا فشٌبا‪ ،‬ثم تسللت ألفاظ تركٌة وقبل هذه وتلك ألفاظ ٌونانٌة‪،‬‬
‫وأسقطت الكلمات الوافدة فً المقابل الكلمات المصرٌة المقابلة لها‪ ،‬حتى تكونت اللؽة التً ٌتكلمها‬
‫المصرٌون اآلن‪ ،‬خلٌط من الباقً من اللؽة المصرٌة وما دخل علٌها من العربٌة ثم لؽات أخرى‪ ،‬مع‬
‫احتفاظها الممٌز بطرٌقة النطق والتؤدٌة المصرٌة الموافق لطبٌعة الجهاز الصوتً الفطري للمصرٌٌن‬
‫(الكٌمتٌٌن)‪ ،‬فهً نتاج هذه الموجات المتبلحقة من اللؽات‪ ،‬ولم تكن ٌوما لؽة عربٌة فصحى ثم تحولت إلى‬
‫لهجة عامٌة‪ ،‬والسبب الكبٌر لهذا التوهان و"الخناقة المنصوبة" بٌن المتخصصٌن فً اللؽة حول أصول‬
‫اللؽة المصرٌة بشكلها الحالً هو الجهل باللؽة المصرٌة وتطورها‪ ،‬فلن ٌخرج حكم صحٌح على لؽة مصر‬
‫اآلن إال على ٌد متخصصٌن فً اللؽة المصرٌة واللؽة العربٌة معا‪ ،‬مع دراٌة كافٌة بكبلم األرٌاؾٕٖ‪.‬‬

‫وال ننسى أن أؼلب القبابل العربٌة التً جاءت مع عمرو بن العاص والتً استوطنت مصر بعد ذلك‬
‫ٌمنٌة وبدوٌة‪ ،‬لهم لهجاتهم‪ ،‬ولم ٌتكلموا باللؽة العربٌة الفصحى كما نراها فً القرآن أو الكتب العتٌقة‪.‬‬

‫واإلصرار على إلؽاء ما تبقى من األلفاظ المصرٌة من على ألسنة المصرٌٌن بحجة أنها لؽة "هابطة"‪،‬‬
‫لٌس إال جهل بتارٌخ اللؽة المصرٌة‪ ،‬وجرٌمة ترتكب فً حق المصرٌٌن فً اؼتٌال آخر ما تبقى لهم من‬
‫مبلمح للؽتهم التً تمٌزهم عن بقٌة الشعوب وتفسح لهم المجال للتعبٌر بحرٌة وبصدق ودؾء عن أفكارهم‬
‫ومشاعرهم دون تكلؾ‪ ،‬وهً جرٌمة أٌضا فً حق فطرة هللا تعالى فً اختبلؾ األلسن "ومن آٌاته خلق‬
‫السماوات واألرض واختبلؾ ألسنتكم وألوانكم إن فً ذلك آلٌات للعالمٌن"ٖٖ‪.‬‬

‫▼▼▼ نتابج االحتالل العثمانلً لمصر‬

‫‪ -31‬انظر عجايب اآلثار في التراجم واألخبار‪ ،‬الجبرتي‪ ،‬ج ‪ ،2‬المالحق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪513‬‬
‫ٕٖ‪ -‬للتعرؾ على األصول المصرٌة القدٌمة لكثٌر من ألفاظ اللؽة حالٌا انظر التحلٌل العام للؽة العوام‪ ،‬أٌوب فرج إبراهٌم‪ ،‬طٔ‪ ،‬مطبعة قاصد خٌر‪،‬‬
‫وأصل األفاظ العامٌة من اللؽة المصرٌة القدٌمة‪ ،‬سامح مقار‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬ومجموع األلفاظ القبطٌة المتداولة باللهجة العربٌة‬
‫العامٌة‪ ،‬أقلودٌوس ي ‪ .‬لبٌب‪ ،‬مطبعة عٌن شمس ببطربكخانة األقباط األرثوذكس‬
‫‪ -33‬سورة الروم‪ ،‬اآلية ‪22‬‬

‫ٕٖ٘‬
‫❶ االفتتاحٌة‪ ...‬مذبحة الـ ٓٔ آالؾ‬

‫ارتكب العثمانلٌة مذبحة من أكبر المذابح فً تارٌخ مصر أول ما دنسوا ترابها بؤقدامهم‪ ،‬قتلوا فٌها ٓٔ‬
‫آالؾ ما بٌن رجال ونساء وأطفال وشٌوخ‪ ،‬وبوصؾ ابن إٌاس الذي حضر أحداث الؽزو فإن "العثمانٌة‬
‫طفش فً العوام والؽلمان من الزعر وؼٌر ذلك‪ ،‬ولعبوا فٌهم بالسٌؾ‪ ،‬وراح الصالح بالطالح‪ ،‬وربما عوقب‬
‫من ال جنى‪ ،‬فصارت جثثهم مرمٌة على الطرقات من باب زوٌلة إلى الرملة‪ ،‬ومن الرملة إلى الصلٌبة إلى‬
‫قناطر السباع إلى الناصرٌة إلى مصر العتٌقة‪ ،‬فكان مقدار من قُتل فً هذه الواقعة من بوالق إلى الجزٌرة‬
‫الوسطى إلى الناصرٌة إلى الصلٌبة فوق العشرة آالؾ إنسان فً مدة هذه األربعة أٌام‪ ،‬ولوال لطؾ هللا‬
‫تعالى للعب السٌؾ فً أهل مصر قاطبة(ٖٗ)"‪ ،‬وهذا بخبلؾ من قطعوا رأسه من الممالٌك‪.‬‬

‫ومن ٌصفهم بـ"العوام والؽلمان من الزعر"‪ ،‬أؼلبهم من الفبلحٌن الذٌن ال مؤوى وال نصٌر لهم‪َ ،‬هجُّ وا‬
‫من ظلم وضراٌب الممالٌك وؼارات العربان فً الرٌؾ‪ ،‬فتلقتهم سٌوؾ العثمانلٌة فً شوارع القاهرة‪.‬‬

‫وٌواصل ابن إٌاس‪" :‬وصارت أهل مصر تحت أسرهم"‪ ،‬و"انفتحت للعثمانٌة كنوز األرض بمصر من‬
‫نهب قماش وسبلح وخٌول وبؽال وجوار وعبٌد وؼٌر ذلك من كل شًء فاخر‪ ،‬واحتووا على أموال وقماش‬
‫ما فرحوا بها قط فً ببلدهم‪ ،‬وال أستاذهم الكبٌر"‪ ،‬وبكى القاضً أبو الفتح السراجً أحد المعاصرٌن لهذه‬
‫المآسً منشدا(ٖ٘)‪:‬‬

‫من حادث عمت مصٌبته الورى‬ ‫نوحوا على مصر ألمر قد جرى‬

‫وقعت بمصر ما لهــا مثل ٌــرى‬ ‫هللا أكبر إنها لمصٌبـــــــــــــــة‬

‫لم ٌذكروا فٌها بؤعجب ما جرى‬ ‫ولقد وقفت على توارٌخ مضت‬

‫سمــــع به أذن وال عٌن تــــرى‬ ‫وأتى من التكدٌر ما ال مخبــــــر‬

‫ونفى سلٌم كل أبناء السبلطٌن الممالٌك واألمراء وأكثر علماء األزهر والقضاة وكل من له مكانة وعلم‬
‫من مصر للقسطنطٌنٌة كً ٌضمن عدم وجود زعماء وقادة ٌحرضون الناس ضد االحتبلل العثمانً من‬
‫جهة‪ ،‬ولٌنتفع بخبراتهم فً بناء وتنظٌم شبون الدولة العثمانٌة من جهة‪ ،‬واصطحب معه الخلٌفة العباسً‬
‫محمد المتوكل من القاهرة أسٌرا‪ ،‬وأرؼمه على التنازل له عن الخبلفة‪.‬‬

‫❷ سرقة وتجرٌؾ الصناعات والحرؾ المصرٌة‬

‫وارتكب زعٌم الهمج "مذبحة الصناعات" أو "مذبحة الحرؾ"‪ ،‬وهً أنه أمر بلم كل رإساء الصناعات‬
‫والحرؾ المشهورٌن بؤنهم ماهرون و"إٌدٌهم تتلؾ فً حرٌر" فً كل المهن‪ ،‬بل حتى فنان األراجوز‪ ،‬فنقل‬

‫(ٖٗ)‬
‫‪ -‬بدابع الزهور فً وقابع الدهور‪ ،‬ج٘‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔ٘ٙ‬‬
‫(ٖ٘)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٔ٘ٔ و‪ٕٓٓ -ٔ98‬‬

‫‪ٖٕٙ‬‬
‫ألؾ صانع وخبٌر للقسطنطٌنٌة لٌنشروا فٌها تلك الصناعات والفنون التً ال ٌعرفها العثمانٌون‪ ،‬وٌساهموا‬
‫فً بناء المساجد والمدارس القصور والقبلع‪ ،‬وهو ما تسبب فً تعطل ٓ٘ حرفة فً مصر‪ ،‬بحسب إحصاء‬
‫ابن إٌاس(‪ ،)ٖٙ‬فكانت من أكبر جراٌ م التجرٌؾ فً تارٌخ مصر‪ ،‬وتؤخرت العلوم والفنون فٌها بعد حرمانها‬
‫من ٌدها الماهرة‪ ،‬ووصؾ ابن إٌاس ما حدث بؤنه كان عملٌة "أسر"‪.‬‬

‫وخرج من مصر ومعه ألؾ جمل محملة ما بٌن ذهب وفضة‪ ،‬بخبلؾ ما ؼنمه من التحؾ والسبلح‬
‫والصٌنً والنحاس المكفت والخٌول والبؽال والجمال‪ ،‬حتى نقل منها الرخام الفاخر‪ ،‬وأخذ من كل شًء‬
‫أحسنه "ما ال فرح به أباإه وال أجداده من قبله أبدا" بتعبٌر ابن إٌاس‪ ،‬وكذلك ما ؼنمه عسكره الذٌن أطلق‬
‫ٌدهم ٌنهبون الناس كٌفما شاءوا‪ ،‬فؤخذوا حتى الحمٌر‪ ،‬وانتهكوا حرمات المساجد‪ ،‬وسرقوا منها حتى‬
‫القنادٌل والشموع مثلما فعلوا فً مسجد السٌدة نفٌسة‪ ،‬وقتلوا من وجدوه من الممالٌك فً رحابها(‪.)ٖ9‬‬

‫❸ استمرار نهب آثار مصر كؽنٌمة حرب‬

‫لم ٌكتؾِ سلٌم األول بما ورثه من حضارة وآثار بٌزنطة‪ ،‬بل نقل بعض آثار مصر إلى القسطنطٌنٌة‪،‬‬
‫ومنها معظم اآلثار والكنوز التً فً القلعة وقصور السبلطٌن واألمراء والمساجد والزواٌا‪ ،‬وحتى الكتب‬
‫وأعمدة الرخام‪.‬‬

‫وفً ذلك‪ ..‬فإنه من نفس المكان (بٌزنطة)‪ ،‬نفذ نفس الجرٌمة التً سبق وأن نفذها البٌزنطٌون‪ ،‬أي نهب‬
‫آثار مصر‪ ،‬حٌنما قام إمبراطورهم الرومانً تٌودٌسٌوس األول بسرقة مسلة تحوتمس الثالث ونقلها إلى‬
‫بٌزنطة‪ ،‬لٌرثها من بعده‪ -‬بؽٌر حق لبلثنٌن‪ -‬سلٌم األول‪ ،‬وٌستكمل مسلسل نهب مصر‪ ،‬فبل رحم مصر من‬
‫كان بٌزنطٌا مسٌحٌا‪ ،‬وال عربٌا أو تركٌا مسلما‪.‬‬

‫قد خربت أركـانها العامـرة‬ ‫نبكً على مصر وسكانها‬


‫(‪)ٖ8‬‬
‫من بعد ما كانت هً القاهرة‬ ‫وأًصبحت بالذل مقهورة‬

‫❹ سٌطرة "رجال األعمال الدولٌٌن" على تجارة مصر‬

‫برز فً ذلك العصر الشوام والمؽاربة فً التجارة والفقه بشكل ؼٌر مسبوق‪ ،‬خاصة أنهم اعتمدوا على‬
‫نظام التورٌث‪ ،‬أي تورٌث المهن والمناصب التً ٌقتنصونها فً مصر‪ ،‬ونظام االحتكار‪ ،‬أي احتكار عٌلة‬
‫شامٌة أو مؽربٌة لتجارة أو سلعة معٌنة‪ ،‬ونظام التكتبلت‪ ،‬أي التعاون فٌما بٌن أبناء الجالٌة بنظام المشاركة‬
‫فً العمل‪ ،‬أو خلط رأس المال‪ ،‬أو عمل الجمعٌات‪ ،‬أو القروض‪ ،‬والتربٌط بٌن التجار المستوطنٌن بمصر‬

‫(‪)ٖٙ‬‬
‫‪ -‬كثٌر من الحرؾ والفنون التً نقلها المصرٌون إلى األستانة‪ ،‬وتعطلت لفترة من الزمن ونسٌها الناس‪ ،‬عادت لمصر فً عصور الحقة‪ ،‬ولكن‬
‫باسم أنها صنعة أو فن "تركً" أو "عثمانلً"‪ ،‬وهو فً األصل مصري‪ ،‬مثل فن الشفتشً‪ ،‬وهو شؽل من النحاس والذهب بشكل مفرغ تشبه شكل‬
‫الدانتٌل‪ ،‬وٌصنع به القنادٌل ومصابٌح اإلضاءة واألباجورات والحلً‪.‬‬
‫(‪)ٖ9‬‬
‫‪ -‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٗ٘ٔ‪ٕٓ9 ،ٔ99 ،‬‬
‫(‪)ٖ8‬‬
‫‪ -‬شعر بدر الدٌن الزٌتونً المعاصر لؤلحداث نقله ابن إٌاس فً مإلفه "بدابع الزهور فً وقابع الدهور"‪ ،‬ج ٘‪ ،‬ص ‪ٔٗ9‬‬

‫‪ٖٕ7‬‬
‫وبنً جلدتهم فً ببلدهم األصلٌة أو ببلد أخرى فً االستٌراد والتصدٌر لتستحوذ على أكبر نصٌب من‬
‫التجارة أو المناصب كما ظهر فً وثابق المحكمة الشرعٌة بشؤن العقود التجارٌة الوارد أمثلة لها فً كتاب‬
‫"الشوام فً مصر منذ الفتح العثمانً حتى أوابل القرن التاسع عشر" (‪.)ٖ9‬‬

‫فمثبل سٌطر إلٌاس مٌخابٌل الحلبً على تجارة الجوخ واحتكروا تجارة البن والقماش والحرٌر والتوابل‬
‫والسكر والفواكه القادمة من الشام والخرز وسم الفٌران والزجاج والحبوب والمشمش وقمر الدٌن والٌامٌش‬
‫واللحوم والجلود والسجاد والذهب واللإلإ وتجارة الرقٌق والصابون‪ ،‬وانشروا بشكل خاص فً القاهرة‪،‬‬
‫وخاصة حً األزهر وخان الخلٌلً‪ ،‬ودمٌاط واإلسكندرٌة‪ ،‬وحملت عاببلتهم اسم التجارة التً احتكروها أو‬
‫سٌطروا علٌها مثل الحرٌري‪ ،‬أو اسم المدٌنة القادمٌن منها مثل النابلسً والبعلبكً والطرابلسً والحلبً‬
‫والشامً والؽزي‪ ،‬وحملوا لقب الخواجة الذي ٌطلق حٌنها لٌس على اإلفرنجً فقط بل على التجار الكبار‪،‬‬
‫ومنهم الخواجة إسماعٌل أبو طاقٌة الذي وصل نفوذه لٌكون شهبندر التجار فً مصر فً القرن ‪.ٔ9‬‬

‫ولعبوا األدوار التً خلقها اإلؼرٌق والٌهود فً مصر فً نشر الوكاالت التجارٌة الدولٌة التً تمكنهم من‬
‫احتكار السلع القادمة من الخارج‪ ،‬وكذلك السمسرة والوسٌط التجاري والصرافة‪ ،‬وبرز منهم ابن السقا‬
‫الحموي شٌخ طابفة الداللٌن والسماسرة‪ ،‬ووصل نفوذهم إلقراض رجال الحكومة واألوجاقات العسكرٌة‪،‬‬
‫مثلما أقرض الشهبندر أبو طاقٌة حكام أقالٌم المنوفٌة والؽربٌة والدقهلٌة أو عمل شراكة معهم(ٓٗ) مع ما لهذا‬
‫من تؤثٌر على قرارات الحكام فً منحهم االمتٌازات‪.‬‬

‫َّ‬
‫الوزان واألثاث والحبلقة والصرماتً‬ ‫وعملوا فً كل المهن‪ ،‬من أبسطها إلى أكبرها‪ ،‬كالقبانً أي‬
‫والخٌاطة والخبازٌن والمكارٌة (سابقً الحمٌر) والسقا والتحقوا بالوظابؾ الحكومٌة؛ فوصلوا بذلك أن‬
‫صاروا شٌوخ معظم طوابؾ الحرؾ الكبٌرة والصؽٌرة‪ ،‬واستؽلوا ثرواتهم فً شراء العقارات وااللتزامات‬
‫والحوانٌت واألراضً الزراعٌة فً عدة محافظات(ٔٗ) فصاروا مجتمعا خاصا بؤنفسهم ٌجدون فٌه كل‬
‫احتٌاجاتهم‪ ،‬ما زاد من الطبقٌة واألعراق المتمٌزة عن بعضها البعض فً المدن‪.‬‬

‫وعلى حس المسٌحٌٌن منهم انتشر عدد ونفوذ كنابس الكاثولٌك عامة المنافسة للكنٌسة المصرٌة‬
‫األرثوذكسٌة‪ ،‬وأسس أنطون فرعون أول كنٌسة للروم الكاثولٌك فً مصر(ٕٗ) ما تسبب فً زٌادة الطوابؾ‬
‫والمذاهب وصراعاتها‪.‬‬

‫أما المؽاربة فجلبهم إلى مصر االحتبلل العبٌدي (الفاطمً) حٌن جاء بقبٌلتً كتامة وزوٌلة‪ ،‬وزالت‬
‫سطوتهم بعد أن فضّل األتراك علٌهم‪ ،‬فاتجهوا للحرؾ والتجارة فً القاهرة والفسطاط واإلسكندرٌة‪،‬‬
‫وبحسب ما أورده كتاب "المؽاربة فً مصر فً العصر العثمانً" برزوا فً تجارة السكر واالزٌوت‬

‫(‪)ٖ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الشوام فً مصر منذ الفتح العثمانً حتى أوابل القرن التاسع عشر‪ ،‬السٌد سمٌر عبد المقصود‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫ٖٕٓٓ‪ ،‬ص ‪ ،ٔٔٓ -ٔٓٙ‬وٗٔٔ‬
‫(ٓٗ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ ،ٔٓ٘ -ٔٓٗ -99‬و ‪ ،ٕٔٙ‬و ٗٔٔ‪ٔٔٙ -‬‬
‫(ٔٗ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕ٘ٔ‪ ٕٔٙ -‬وٓ٘ و‪ٖٔ8 -ٖٔٙ‬‬
‫(ٕٗ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٔٗ9 -ٔٗٙ‬‬

‫‪ٖٕ8‬‬
‫واألقمشة والسبلح وامتبلك العقارات وشراء حصص التزام األراضً الزراعٌة وعمل بٌوت الصرافة‪،‬‬
‫واشتهر منهم أسرة الخواجة الدادي الشراٌبً والسقاط‪ ،‬وفعلوا كالشوام أنهم أقرضوا رجال الحكم لٌتحكموا‬
‫فً قرار اتهم أو لتهدٌدهم‪ ،‬وتصاهروا معهم‪ ،‬وبعضهم عمل ملٌشٌات مثل الشراٌبً الذي وسع داٌرة الربا‬
‫فً مصر أٌضا‪.‬‬

‫واعتمدوا على العصبٌة فً الشؽل‪ ،‬بحٌث ٌفضلون تشؽٌل المؽاربة أمثالهم‪ ،‬وٌحرصون على عدم‬
‫تسرب أسرار المهنة لبقٌة السكان بما فٌهم المصرٌٌن حتى ال ٌنافسهم أحد‪ ،‬وعملوا طواٌؾ للمهن خاصة‬
‫بهم ألجل هذا(ٖٗ)‪ ،‬وحرصوا على إضافة صفة "المؽربً" ألسامٌهم‪ ،‬واشتؽلوا كالشوام فً كل الحرؾ‬
‫والمهن حتى ال ٌحتاجون لؽٌرهم‪- ،‬فهم من ٌنتجون السلعة ومن ٌبٌعونها ومن ٌدللون علٌها‪ ،‬فكؤنهم دوٌبلت‬
‫داخل الدولة‪-‬أو فوقها‪ -‬ولذا كان من تضرب بلده األزمات أو المجاعات وٌفر إلى مصر ٌجد الطرق ممهدة‬
‫له سوا بنفوذ أبناء جلدته المستوطنٌن بها أو بتساهل السلطات الحاكمة معهم‪.‬‬

‫واتخذ المؽاربة مصدر قوة جدٌد لهم من العصبٌة القبلٌة بقدوم قباٌل مؽربٌة جدٌدة أٌام الممالٌك‬
‫والعثمانلٌة مثل قباٌل هوارة وأوالد علً وزناتة وسلٌم وبنً هبلل‪ ،‬عاشت على السلب والنهب لزمن طوٌل‬
‫على أطراؾ القرى والمدن قبل أن تستقر فً الداخل بعد أن قنصت حصص من صكوك االلتزام‬
‫واألراضً حتى صاروا أصحاب النفوذ فً الصعٌد كهوراة وعرب طه‪ ،‬وهو نفوذ لم تصل له جالٌة أجنبٌة‬
‫أخرى هناك‪ ،‬وكذلك نفوذ فً البحٌرة وؼرب اإلسكندرٌة والمنٌا ألوالد علً وعربان محارب‪ ،‬ومن اختار‬
‫عٌشة السلب والنهب منهم نظروا للفبلحٌن على أنهم "ولدوا خصٌصا إلنتاج طعام العربان"‪ ،‬وأنه "ال توجد‬
‫مهنة أكثر نببل من أن تعٌش من خٌرات الؽٌر دون مشقة" بالتعبٌر الذي أورده أحد علماء الحملة الفرنسٌة‪،‬‬
‫وعاٌروا الفبلحٌن‪ ،‬وقابل الفبلحون هذا بثورات ومعارك ضد العربان واجهها العربان بشن ؼارات فجابٌة‬
‫"كالقضا المستعجل" لتدمٌر القرى وقتل أهلها(ٗٗ)‪ ،‬فطفش بعض الفبلحٌن منها وجرى علٌهم بٌت الشعر‪:‬‬

‫ودمـروا كل أشٌابً الحبٌبـــا ِ‬


‫ت‬ ‫نفٌت واستوطن األؼراب فً بلدي‬

‫أم ؼرك البهرج الخـداع موالتً‬ ‫ؾ وفً كذ ِ‬


‫ب‬ ‫خانتك عٌناكِ فً زٌ ٍ‬

‫والؽدر حطم أمالً العرٌضا ِ‬


‫ت‬ ‫أصٌـح والسٌؾ مزروع بخاصرتً‬

‫حقا‪ ،‬خانتها عٌناها فً زٌؾ وفً كذب حٌن صدقت مصر منذ مبات السنٌن توسبلت ووعود األؼراب لما‬
‫ألقوا السبلح وطلبوا االستٌطان والعمل فٌها وأوهموها أنهم حابط صد على الحدود‪ ...‬فؽدروها‪.‬‬

‫❺‪ -‬تحقٌر الفالح لكسر عٌنه وروحه‬

‫ورؼم أن الفبلح هو األصل الحضاري فً البلد‪ ،‬والمنتج األول‪ ،‬واألكثر تحضر ورقً فً سلوكٌاته‬

‫(ٖٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المؽاربة فً مصر فً العصر العثمانً‪ ،‬عبد الرحٌم عبد الرحمن عبد الرحٌم‪ ،‬منشورات المجلة التارٌخٌة المؽربٌة‪ ،‬ص ٓ٘‪ ٙ9 -‬و‪-99‬‬
‫ٓ‪ ،8‬وٖ‪8‬‬
‫(ٗٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٕٖ‪ ٖ9 -‬ؤٖٕ‬

‫‪ٖٕ9‬‬
‫رؼم فقره وجهله‪ ،‬إال أن المحتلٌن والمستوطنٌن والمتعلمٌن الذٌن داروا فً فلكهم استمروا فً التفنن فً‬
‫وصفه بؤشنع الصفات‪ ،‬إلحساسهم من داخلهم بؤنه صاحب األرض‪ ،‬األصٌل الوحٌد فٌها‪ ،‬وحتى ال ٌتجرأ‬
‫على المطالبة بطردهم أو الثورة علٌهم‪ ،‬وخاطب العثمانلً الفبلح بقوله‪" :‬فبلح خرسٌس"‪.‬‬

‫وفً ذلك ٌقول الدكتور سعٌد عاشور فً كتابه "المجتمع المصري فً عصر سبلطٌن الممالٌك" إن‬
‫جمٌع مإلفات ذلك العصر تصؾ الفبلح بالجهل والتؤخر وخشونة الطبع وقذارة المنظر وبالرذٌلة‪ ،‬وكتبوا‬
‫القصص الطوٌلة إلثبات أن هذه الصفات متؤصلة فً الفبلح كما فعل ٌوسؾ الشربٌنً فً كتابه "هز‬
‫القحوؾ فً قصٌدة أبً شادوؾ"‪ ،‬وأبو شادوؾ إشارة للفبلح(٘ٗ)‪.‬‬

‫وإذا صادؾ أن التقى مملوك رجبل أصله من الرٌؾ وصل إلى وظٌفة كبٌرة ؼضب الممالٌك وصاحوا‪:‬‬
‫"ما كان فً ممالٌك السلطان من ٌعتمد علٌه إال هذا الفبلح!"‪ ،‬وإذا تجرأ من ٌسمونهم بالعوام على الممالٌك‬
‫صاحوا فٌه‪" :‬اخرس ٌا فبلح ٌا كلب"‪ ،‬وإذا ولى أمٌر مملوكً من المتشددٌن بعض األقالٌم ال ٌسمح‬
‫للفبلحٌن بلبس مبزر أو ركوب الخٌل أو تقلد السٌؾ أو حتى ٌحمل عصا مجلبة بالحدٌد(‪.)ٗٙ‬‬

‫وٌزٌدوا من تحقٌر الفبلح إذا أبدى مقاومة لمن ٌستؽلوه وثار علٌهم‪ ،‬فورد فً "هز القحوؾ"‪:‬‬

‫نافجة أرٌاحها صاعدة‬ ‫ال تصحب الفالح لو أنه‬

‫بؤنهم من طٌنة واحدة‬ ‫ثٌرانهم قد أخبرت عنهم‬

‫وقال‪:‬‬

‫فإن إكرامهم فً عقبه النـــدم‬ ‫أهل الفالحة ال تكرمهم أبدا‬

‫ٌبدو الصٌاح بال ضرب وال ألم سود الوجوه إذا لم ٌظلموا ظلموا‬

‫فاستكثر علٌهم الضجٌج بالشكوى‪ ،‬واستكثر علٌهم مقاومة الؽاصب‪ ،‬وكان إذا تفنن الفبلح فً إخفاء ماله‬
‫حتى ال تنزعه منه أٌادي العثمانلٌة والممالٌك والعربان الدموٌة وصفوه باللإم وبؤسوأ الصفات‪ ،‬وربما منها‬
‫جاءت كلمة "لإم الفبلحٌن"‪ ،‬وهً مٌزة لهم ولٌست عٌبا‪ ،‬فهً وسٌلة من وساٌله فً المقاومة وحماٌة‬
‫أرزاق أوالده قدر ما ٌستطٌع من ؼلظة قلوب وأكباد المحتلٌن‪.‬‬

‫ولم ٌقؾ األمر بالشاعر عند هذا الحد‪ ،‬وإنما حذر من ٌرٌد العبل من المعٌشة فً الرٌؾ قاببل‪:‬‬

‫إن المذلة فً القرى مٌراث‬ ‫ال تسكن األرٌاؾ إن رمت العال‬

‫علق لثورك جاءك المحراث‬ ‫تسبٌحهم هات العلؾ حط الكلؾ‬

‫(٘ٗ)‬
‫‪ -‬المجتمع المصري فً عصر سبلطٌن الممالٌك‪ ،‬سعٌد عبد الفتاح عاشور‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪٘9‬‬
‫(‪)ٗٙ‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪٘9‬‬

‫ٖٖٓ‬
‫والشاعر ال تعجبه عٌشة الرٌؾ ألن أهله ٌشتؽلون بمهنة الزراعة الشرٌفة‪ ،‬ولكنه ال ٌحرج من أن ٌمد‬
‫ٌدٌه لٌنزع منهم ما لذ وطاب من نتٌجة عرقهم‪ ،‬وال تعجبه سٌرة العلؾ والمحراث التً اختارها الفبلح من‬
‫آالؾ السنٌن وسٌلة حضارته بدال من أن ٌؤخذ سٌفه وٌدور ٌعتدى على ببلد ؼٌره كالمرتزقة والعربان‪.‬‬

‫وقسى الشٌخ حسن حجازي على الفبلحٌن حٌن اعتبر أجهزة اإلدارة من المصاٌب التً حلت بهم نتٌجة‬
‫لما حووه من قبٌح الفعال‪ ،‬وزاد على ذلك قوله‪:‬‬
‫(‪)ٗ9‬‬
‫مع اسوداد الوجه هذا النكال‬ ‫وفقرهم ما بٌن عٌنٌهم‬

‫فبل ٌعجبه سمرة الوجوه التً صبؽتها بهم الشمس وهم ٌكدحون تحتها‪ ،‬فٌخرج من بٌن أٌدٌهم وأرجلهم‬
‫المؽروسة فً الطٌن ما ٌؤخذه الشٌخ وؼٌره بكل قسوة حتى قبل أن ٌتذوقوه هم‪.‬‬

‫وٌبدو أن طول زمان هذه المعاملة أثرت فً نفوس بعض أهل الرٌؾ حتى أصٌبوا بشعور زابؾ‬
‫بالنقص‪ -‬وهم األعلون‪ -‬ومن ذلك أن أحد علماء األزهر تزوج قاهرٌة (أي ؼالبا من المستوطنٌن األجانب‬
‫فً ذلك الوقت) فلما قدمت أمه من الرٌؾ لزٌارته تنكر لها لببل تعرؾ زوجته أن أمه فبلحة‪ ،‬وهددها‬
‫بالضرب إن علم أحد أنها أمه‪ ،‬كما ذكر زكً مبارك فً كتابه "التصوؾ"(‪.)ٗ8‬‬

‫وقبل ٖ آالؾ سنة كتب ملك بابل "كادا شمال إنلٌل األول" إلى الملك أمنحوتب الثالث ٌرجوه بؤن ٌزوجه‬
‫من ابنته‪ ،‬فاعتذر أمنحوتب بحجة أنه "لم ٌسبق أن أرسلت أمٌرة مصرٌة إلى أي إنسان"(‪.)ٗ9‬‬

‫فماذا حصل لبنات المصرٌٌن بعد أن ؼفل بعض أجدادهم عن مإامرات أعادٌهم‪ ،‬وتركوا مصر لتكون‬
‫"وطنا" لكل أجنبً مدام ال ٌرفع السبلح؟‬

‫صرنَّ "نهٌبة" لمن رفع السبلح ومن لم ٌرفعه‪ ،‬فقد أعطى العربان ألنفسهم حق الزواج من بنات‬
‫الفبلحٌن‪ ،‬حفٌدات أمنحوتب الثالث‪ ،‬وإذا منع فبلح ابنته عمن ٌطلبها من العربان فمصٌره القتل على حد‬
‫تعبٌر الرحالة إدوارد ولٌم لٌن‪ ،‬وعلى العكس لم ٌسمح أعرابً لفبلح بالزواج من ابنته(ٓ٘)‪ ،‬وأطلقوا المثل‪:‬‬
‫"أرمٌها للتمساح وال أعطٌها لفبلح"‪ ،‬وأحٌانا ٌُزوجون ابنة الفبلح رؼما عن أبٌها مقابل دٌون تراكمت‬
‫علٌه‪ ،‬كما سنرى فً شهادة الشعرانً‪.‬‬

‫وٌك ّل العقل فً تصور كٌؾ تحمل المصرٌون (الكٌمتٌون) كل هذه األعباء والتهدٌدات من العثمانلً‬
‫والممالٌك والملتزمٌن والعربان فً وقت واحد‪ ،‬وظل الكثٌر منهم‪ -‬رؼم تؤثر البعض‪ -‬محافظا على أخبلقه‬
‫المصرٌة الرفٌعة ووداعته وسبلمة فطرته والحضارة الكامنة بداخله حتى عادت لتضا الدنٌا فٌما بعد‪.‬‬

‫(‪)ٗ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٗ‪ٔٙ‬‬
‫(‪)ٗ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المجتمع المصري فً عصر سبلطٌن الممالٌك‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪٘9‬‬
‫(‪)ٗ9‬‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم (مصر والعراق)‪ ،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٔٙ‬‬
‫(ٓ٘)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٔ‪ٔ89 -ٔ8‬‬

‫ٖٖٔ‬
‫نقش لمممؾ حور محب مف مقبرتو بسقارة‪ ..‬ىكذا رأى حكاـ مصر قيمة الفالحة (روح مصر) فاعتزو بتصوير أنفسيـ مزارعيف يمسكوف المحراث خمؼ البقروىـ‬
‫آنذاؾ عظماء األرض‪ ،‬إشارة لدورىـ الخالد في عمار األرض‪ ،‬فيما أياـ االحتالالت صار ىمج األرض يحقروف مكانة الفالح المصري (النقش اآلف في متحؼ بولونيا‬
‫األثري بإيطاليا)‬

‫❻ تضخم جرٌمة بٌع المناصب‬

‫ٌشتري الوالة مناصبهم بالمزاد فً دار السلطنة العثمانلٌة‪ ،‬وٌترتب على هذا استحبللهم ارتكاب كل‬
‫الجرابم ضد الناس النتزاع مال ٌعوضهم عما اشتروا به المنصب‪ٌ ،‬ؽتصبون وٌختلسون‪ ،‬وال ٌخجل‬
‫السلطان أن ٌطالب الوالً بالسداد إن تؤخر فً دفع ثمن المنصب؛ فمثبل أمر السلطان مراد والٌه على الشام‬
‫أحمد كوجك بؤن ٌدفع للسلحدار ٕٓ ألؾ لٌرة المتبقٌة علٌه فً الحساب لٌبقى فً منصبه(ٔ٘)‪.‬‬

‫وٌنقل عبد الرحمن الرافعً عن "دي ماٌٌه" قنصل فرنسا فً مصر ٕ‪ ٔ99‬أن "الوالً ٌشتري والٌته‬
‫بثمن ٌتراوح بٌن ٓٓٗ‪ ٘ٓٓ -‬ألؾ لاير‪ ،‬وال ٌوفق إلى تجدٌد والٌته سنة أخرى إال إذا أرسل لؤلستانة هداٌا‬
‫تزٌد على ٓٓٔ ألؾ لاير‪ ،‬وعلٌه أن ٌرسل الخراج السنوي وقدره ٓٓ‪ ٙ‬ألؾ لاير‪ ،‬وأن ٌبعث بهداٌا من‬
‫السكر والبن واألرز والشراب والحلوى والؽبلل ال تقل قٌمتها عن ٓٓ‪ ٙ‬ألؾ لاير‪ ،‬وذلك عدا نفقات الحج‬
‫والجنود فً مصر"‪ ،‬وفً المقابل ٌحصل الوالً على ٕٔ ملٌون فرنك سنوٌا‪ ،‬وإلٌه تإول تركات المتوفٌن‬
‫ببل عقب‪ ،‬وٌكثر دخله من هذه الناحٌة إذا وقع وباء فً الببلد"‪ ،‬أي كلما حلت مجاعة أو وباء حصد آالفا‬
‫من الناس‪ ،‬وما أكثر المجاعات واألوببة فً عصرهم‪ ،‬فٌذهب إلٌه وإلى أمثاله أمبلك الناس(ٕ٘)‪.‬‬

‫❼ العثمانلٌة‪ ..‬صٌت عالمً فً الفجور واللواط‬

‫(ٔ٘)‬
‫‪ -‬النكبات‪ ،‬أمٌن الرٌحانً‪ ،‬المطبعة العلمٌة لٌوسؾ صادر‪ ،‬بٌروت‪ ،ٔ9ٕ8 ،‬ص ٗ‪8‬‬
‫(ٕ٘)‬
‫‪ -‬تارٌخ الحركة القومٌة وتطور نظام الحكم فً مصر‪ ،‬عبد الرحمن الرافعً‪ ،‬جٔ‪،‬مطبعة النهضة‪ ،‬طٔ‪ ،ٔ9ٕ9 ،‬ص ٖٕ‪ٕٗ -‬‬

‫ٕٖٖ‬
‫تابعنا فً الحدٌث عن تفشً وباء اللواط والفجور أن من أول وأكثر من حولوا هذا إلى ظاهرة‪ ،‬وعلنا‬
‫ببل خشى أو حٌاء‪ ،‬هم األتراك‪ ،‬وظهر هذا من وقت االستعانة بهم مرتزقة‪ ،‬وتفشى حٌن أصبحوا ممالٌك‬
‫حكام وقت االحتبلل المملوكً‪ ،‬وأن دولة آل عثمان (تركٌا حالٌا) كان لها صٌ ًتا عالمٌا فٌه‪.‬‬

‫وٌسجل ابن إٌاس حوادث عسكر سلٌم األول فً هذا الوباء حٌن اجتاحوا مصر فٌقول‪" :‬ولما أقام سلٌم‬
‫شاه بالقلعة نصب وطاق عسكره بالرملة من باب القرافة إلى سوق الخٌل‪ ،‬ثم إن العثمانٌة نصبوا خٌمة فً‬
‫وسط الرملة وجعلوا فٌها أدنان بوزة‪ ،‬وخٌمة أخرى فٌها جفن حشٌش‪ ،‬وخٌمة أخرى فٌها صبٌان مردة‬
‫ٌحارفون كعادتهم فً ببلدهم"(ٖ٘)‪.‬‬

‫ووصؾ البكري الصدٌقً صاحب مخطوطة "كشؾ الكربة فً رفع الطلبة"‪ ،‬عن حوادث سنة ‪ٔٓٔ9‬‬
‫هـ‪ ٔٙٓ8 /‬م التً عاصرها‪ ،‬فُحش عسكر العثمانلٌة وممالٌكهم فً هذا بؤن قال بعد أن ع َّدد جرابمهم فً‬
‫الرٌؾ‪" :‬وذلك ؼٌر ما صدر منهم من األمور الشنٌعة واألفعال المنكرة الفظٌعة من الزنا واللواط جهارا‪،‬‬
‫وافتضاض األبكار نهارا‪ ،‬ال ٌتناهون عن منكر فعلوه‪ ،‬وال ٌؤتمروا بؤمر والتهم وال ٌمتثلوه"‪.‬‬

‫كما "وإن وجدوا أٌضا ولدا مقبول الصورة أخذوه من والده بالسٌؾ‪ ،‬وقد حصل منهم ؼاٌة الحٌؾ‪ ،‬مع‬
‫الفسق بنساء الفبلحٌن‪ ،‬وافتضاض أبكار بنات المسلمٌن‪ ،‬بل قتل بعضهم وسلب ما معه(ٗ٘)"‪.‬‬

‫❽ من أٌن جاءت عادة "أخد التار" بٌن العابالت؟‬

‫تؤثر الرٌؾ بالصراعات القبلٌة كما تؤثر بالصراعات الحزبٌة المملوكٌة‪ ،‬فبسببها انتشر السبلح والعنؾ‬
‫فً الرٌؾ المصري المستقر الودٌع‪ ،‬وارتج القرن ‪ ٔ8‬بالصراعات القبلٌة التً أثرت على الرٌؾ فً الوجه‬
‫البحري فً ظل ؼٌاب حكومة مركزٌة قوٌة‪ ،‬ومن أشهرها الصراع بٌن قبٌلة سعد وقبٌلة حرام‪.‬‬

‫وقال ٌوسؾ الشربٌنً فً "هز القحوؾ" عن المناخ القبلً الدموي الذي أشاعتاه القبٌلتان‪:‬‬

‫إن قال شخص ٌالضد الذمـه‬ ‫وٌقتلون النفس عند كلمة‬

‫للشر ٌدعوهم وكــــل كٌــــــــد‬ ‫شخص ٌمٌل منهم لسعد‬

‫ٌصٌـــح فً إؼرابـــــهم ٌقـــول‬ ‫ولحرام آخر ٌمٌـــــــــــــــــل‬

‫ثم اقتلوه واخمــــــدو أنفاســــه‬ ‫خذوه من قبل ترون بؤسه‬

‫وٌرصدون القتل فً الطرقات‬ ‫فٌخربون األرض بالؽارات‬

‫(ٖ٘)‬
‫‪" -‬بدابع الزهور فً وقابع الدهور"‪ ،‬ابن إٌاس‪ ،‬ج ٘‪ ،‬ص ٕ‪ٖٔٙ -ٔٙ‬‬
‫(ٗ٘)‬
‫‪ -‬مخطوطة كشؾ الؽمة فً رفع الطلبة‪ ،‬محمد بن أبً السرور البكري الصدٌقً‪ ،‬تحقٌق عبد الرحٌم عبد الرحمن عبد الرحٌم‪ ،‬المجلة التارٌخٌة‬
‫المصرٌة‪ ،‬المجلد ٖٕ‪ ،‬سنة ‪ ٔ99ٙ‬ص ٖٓٔ‪ ،ٖٔٔ -‬والرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬هوامش ص ٗ‪9‬‬

‫ٖٖٖ‬
‫أما فً الوجه القبلً فنشب الصراع بٌن صوامعة ووناتنة فً طهطا بسوهاج‪.‬‬

‫وحجم الدور الذي لعبته القباٌل العربٌة فً حٌاة الرٌؾ المصري كبٌر على الحٌاة االقتصادٌة‬
‫واالجتماعٌة حتى انقسم السكان من الفبلحٌن إلى عصبٌات تبعا لعصبٌات هذه القباٌل"(٘٘)‪ ،‬ولهذا تؤثٌره‬
‫الخطر ع لى هوٌة مصر الواحدة فٌما بعد‪ ،‬وهو ما أوجد فً مصر ما ٌسمى الٌوم بـ"عادة أخد التار" بٌن‬
‫بعض العاببلت‪ ،‬خاصة فً قرى كانت تحت سٌطرة هذه القباٌل وورثتها منها‪ ،‬فٌما لم ٌكن قبل االحتبلالت‬
‫للمصرٌٌن طرٌقا ألخذ حقوقهم سوى الطرٌق الشرعً الذي خطته لهم "ماعت" لٌظلوا أمة متحضرة‪ ،‬وهو‬
‫طرٌق قوانٌن الدولة ومحاكمها‪.‬‬

‫وتقبٌل وتحزٌب وتقسٌم أهل مصر ظهرت بوادره كما تابعنا‪ -‬ونكرر التذكٌر ألهمٌة الربط‪ -‬مع استٌطان‬
‫تحالؾ القباٌل الخاسوتٌمٌة واحتبللها لمصر بعد األسرة ٕٓ‪ ،‬ألنها قباٌل متنافرة وؼرٌبة عن بعضها‪،‬‬
‫وانتقلت بصراعاتها إلى مصر‪ ،‬وفً االحتبلل الٌونانً والرومانً أخذ إلى جانب ذلك صورة عصبٌة‬
‫الجالٌات‪.‬‬

‫وفً االحتبلل العربً جاءت القباٌل العربٌة كذلك بصراعاتها وتحزباتها؛ فنشرت‪ -‬على قلة عددها‪-‬‬
‫الفتن والدماء على خلفٌة عرقٌة أو سٌاسٌة أو دٌنٌة‪ ،‬واستفحل األمر بقباٌل العربان التً وط َّنها فً مصر‬
‫الممالٌك والعثمانلٌة‪ -‬ثم محمد علً فٌما بعد‪ -‬وال تعرؾ ؼٌر السٌؾ لؽة للحٌاة أو معنى للشرؾ‪ ،‬ومع‬
‫ؼٌاب نظام قضابً شامل للدولة وملزم للجمٌع‪ ،‬انعكس هذا على بعض المصرٌٌن الذٌن انضم بعضهم‪-‬‬
‫برؼبة منهم أو بالؽصب‪ -‬لمعسكر هذه القبٌلة أو تلك‪ ،‬وإن لم ٌشمل هذا الجمٌع‪.‬‬

‫وقام على نشر هذه التحزبات والعصبٌات مشاٌخ القرى‪ ،‬وأكثرهم مشاٌخ عرب‪ ،‬فٌجبرون الفبلحٌن‬
‫المتحكمٌن فً أرزاقهم على اتباعهم ومساعدتهم حٌن ٌواجهون قبٌلة منافسة فً قرٌة أخرى‪ ،‬وزاد فً‬
‫االحتبلل العثمانلً القباٌل فً بحري وقبلً‪ ،‬وأصبحوا أهل زرع وماشٌة وفبلحة وضرع ومشاٌخ القرى‬
‫وخفرابها‪ ،‬وصار لهم مزارع واسعة‪ ،‬ومنهم قضاة وفقهاء‪ ،‬بحسب المقرٌزي‪ ،‬عبر صفقات عقدوها مع‬
‫السلطان جسدها "قانون سلٌمان نامة" أحٌانا ومع خصومهم الممالٌك أحٌانا أخرى لٌناصروا فرٌق مملوكً‬
‫على آخر‪ ،‬فؤخذوا أراضً التزام(‪.)٘ٙ‬‬

‫وساهم هذا فً أن شٌخ منهم وهو همام زعٌم قبٌلة هوارة سٌطر لفترة على الصعٌد‪ ،‬وهوارة من القباٌل‬
‫التً قدمت إلى مصر فً االحتبلل المملوكً‪ ،‬واستقرت سنة ٓ‪ ٖٔ8‬م‪ ،‬وأخذت أراضً كثٌرة منتفعٌن من نظام‬
‫االلتزام الظالم‪ ،‬وبعد الؽزو العثمانلً أقرهم السلطان على إمارة الصعٌد مقابل أن ٌجمعوا له المال والؽبلل من‬
‫الفبلحٌن وٌسٌطروا على بقٌة القباٌل لتتوقؾ عن النهب والسلب‪ ،‬وظل هذا سارٌا حتى سنة ‪ ٔ٘9ٙ‬لما صدر أمر‬
‫سلطانً بإقصابهم عن إمارة الصعٌد وتسلٌمها للممالٌك‪ ،‬لكن استؽلت هوارة ضعؾ الحكم المركزي فً القرن‬
‫‪ ٔ8‬وسٌطرت على الصعٌد من جدٌد‪ ،‬بل وكونوا جٌشا خاصا‪ ،‬وجعلوا للصعٌد دواوٌن فً أٌدٌهم‪ ،‬وحكم‬

‫(٘٘)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر‪ ،‬عبد الرحٌم عبد الرحمن عبد الرحٌم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔ٘8 ،ٔٙ9‬‬
‫(‪)٘ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٔ9٘ -ٔٙ9‬‬

‫ٖٖٗ‬
‫خاص به ٌملكونه بتعبٌر الجبرتً(‪ ،)٘9‬ونصبوا أنفسهم أسٌادا‪ ،‬فً تكرار لما حدث نهاٌة األسرة ‪ ٙ‬حٌن‬
‫سٌطر المحافظون على حكم المحافظات لما ضعفت السلطة المركزٌة‪ ،‬واستعانوا باألجانب المستوطنٌن‪،‬‬
‫فتمكن األجانب من الببلد‪ ،‬وصار بتعبٌر الحكٌم "إٌبو ور"‪" :‬األجانب مصرٌٌن والمصرٌٌن أجانب"‪ ،‬أي‬
‫نصب األجانب أنفسهم أصحابا للببلد؛ ما كان سببا فً إحدى أكبر سقطات التارٌخ‪.‬‬

‫وبالمثل فإن الفبلحٌن فً وجه بحري عانوا من هجمات العربان؛ ما اضطر السلطة‪ -‬بدال من ردع‬
‫العربان‪ -‬أن تسند للعربان مهمة الخفارة (الحراسة) فشاركوا فً فرض اإلتاوات على الفبلحٌن‪ ،‬مثلهم مثل‬
‫الملتزمٌن والمم الٌك‪ ،‬ومنها ضراٌب البرانً‪ ،‬وفوق ذلك باتوا ٌعاٌرون الفبلحٌن بؤنهم من "ٌحمونهم" من‬
‫بقٌة العربان‪ ،‬فصاروا كبلطجً الحارة ٌفرض على أهلها إتاوات لٌكفٌهم شر نفسه وشر أمثاله‪ ،‬ومع ذلك‬
‫استمرت جرابمهم؛ فنهب عربان العبابدة فً ‪ٔ988‬م قافلة تجار وحجاج‪ ،‬ووصؾ الجبرتً أفاعٌل العربان‬
‫فً بؤنها "عربدة"‪" :‬وعربدت العربان وقطعوا الطرق وعملوا خٌاناتهم"‪.‬‬

‫وانتهكوا حرمة رمضان‪ ،‬فحكى الجبرتً عن أنه فً رمضان ٕٗٔٔه‪ٌ -‬ناٌر ٓٓ‪ٔ8‬م حصل "وقوؾ‬
‫العرب وقطاع الطرٌق بجمٌع الجهات القبلٌة والبحرٌة والشرقٌة والؽربٌة والمنوفٌة والقلٌوبٌة والدقهلٌة‬
‫وسابر النواحً‪ ،‬فمنعوا السبٌل‪َ ،‬ولَ ْو بالخفارة‪ ،‬وقطعوا طرٌق الس ّفار‪ ،‬ونهبوا المارٌن من أبناء السبٌل‬
‫والتجار‪ ،‬وتسلطوا على القرى والفبلحٌن وأهالً الببلد والحرؾ بالعرى والخطؾ للمتاع والمواشً من‬
‫البقر والؽنم والجمال والحمٌر‪ ،‬وإفساد المزارع ورعٌها‪ ،‬حتى كان أهل الببلد ال ٌمكنهم الخروج ببهابمهم‬
‫إلى خارج القرٌة للرعً أو للسقً لترصد العرب لذلك‪ ،‬ووثب أهل القرى على بعضهم بالعرب فؤخلوهم‬
‫وتطاولوا علٌهم‪ ،‬وضربوا علٌهم الضراٌب"‪.‬‬

‫وضاق العثمانلً فً النهاٌة بهم فتوالت أوامر السبلطٌن إلى والتهم بالقضاء على العربان‪ ،‬وبخاصة‬
‫المتجولٌن‪ ،‬وإجبلبهم عن مصر‪ ،‬ومنهم عربان عبد هللا بن وافً المؽربً الذٌن طاردوهم فً الصحراء‬
‫الؽربٌة‪ ،‬وقال عنهم ٌوسؾ الملوانً فً كتابه "تحفة األحباب بمن ملك مصر من الملوك والنواب"‪:‬‬
‫"وأوقعهم هللا تعالى فً النكال والخسران بما فعلوه فً سالؾ األزمان"‪.‬‬

‫وكسرة العربان الكبٌرة جاءت على ٌد علً بك الكبٌر بعد أن تحالفوا مع خصومه وسعى إلبادتهم لوال‬
‫تؽلب ناببه محمد بك أبو الدهب علٌه‪.‬‬

‫❾ زٌادة نشر العصبٌة المذهبٌة بٌن المسلمٌن‬

‫خبلل االحتبلل العثمانلً استكمل المتعصبون للمذاهب األربعة (الحنفً والشافعً والمالكً والحنبلً)‬
‫تمكٌنها فً أروقة األزهر‪ ،‬واشتدت المعارك بٌن المتعصبٌن لكل منها‪ ،‬وبات كل منهم ٌلزق بجانب اسمه‬
‫صفة "الشافعً" أو "الحنفً" إلخ‪ ،‬فٌقال مثبل فبلن ابن فبلن الشافعً‪ ،‬أو فبلن ابن فبلن المالكً‪ ،‬وكؤنها‬
‫راٌة وعلم ٌمٌز نفسه به‪ ،‬ولم تفرض السلطنة العثمانلٌة مذهبها الرسمً (الحنفً) إال فً الوظاٌؾ الهامة‪،‬‬

‫(‪)٘9‬‬
‫‪ -‬للمزٌد انظر عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار‪ ،‬ج ٕ‪ ،‬المبلحق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ‪ٕٙٗ -٘9‬‬

‫ٖٖ٘‬
‫فٌما كانت تشجع المعارك بٌن أهل المذاهب من باب "فرق تسد"‪ ،‬ورفضت عدة محاوالت قام بها علماء‬
‫لتنقٌة المذاهب وتوحٌدها على مذهب واحد(‪.)٘8‬‬

‫وصارت العصبٌة تكون مركبة فً شخصٌة الفقٌه أو التاجر أو القاضً الواحد‪ ،‬فٌقال مثبل فبلن النابلسً‬
‫الشافعً‪ ،‬أو المؽربً المالكً‪ ،‬أي ٌحتفظ بتعصبه لبلد أجنبً وٌضٌؾ له تعصبه للمذهب‪.‬‬

‫❿ فتح البالد لإلرسالٌات التبشٌرٌة المعادٌة للكنٌسة المصرٌة‬

‫مع نشر التعصب والفرقة المذهبٌة بٌن المسلمٌن‪ ،‬حملت الرٌاح السموم إلى مصر بداٌة من أٌام‬
‫العثمانلٌة عودة التعصب والفرقة المذهبٌة بٌن المسٌحٌٌن‪ ،‬وكانت خ َّفت برحٌل معظم الكاثولٌك الرومان‬
‫أٌام االحتبلل العربً‪.‬‬

‫فالقرن ‪ ٔ9‬شهد وفود البعثات التبشٌرٌة إلى مصر استؽبلال لعقد اتفاقٌات بٌن السلطنة العثمانلٌة‬
‫وأوروبا‪ ،‬على رأسها بعثة "الكابوسٌن" سنة ‪ ،ٔٙٓ9‬وهدفها األول لٌس كما ٌعتقد معظم الناس تحوٌل‬
‫المسلمٌن إلى المسٌحٌة (التنصٌر)‪ ،‬بل هدفها األول تحوٌل المصرٌٌن األرثوذكس إلى المذهب الرومانً‬
‫الكاثولٌكً‪ ،‬لٌكسبوا أرضا ودعما بداخل مصر لم ٌجدوه خبلل حمبلت الفرنجة "الصلٌبٌة" الختبلؾ‬
‫المذهب‪ ،‬وٌكونوا طابفة لهم تصبح مبررا للقناصل األجانب للتدخل فً شبون مصر(‪.)٘9‬‬

‫➀ تضخم الطرق الصوفٌة والدجل لكسر إرادة مقاومة األجنبً‬

‫رؼم أن الممالٌك فً االحتبلل العثمانلً ظلوا أصحاب النفوذ الحقٌقٌٌن إال أنهم ظلوا ٌشعرون فً قرارة‬
‫أنفسهم بؤنهم ؼرباء عن الببلد وأهلها‪ ،‬ومن أصول منبوذة‪.‬‬

‫وهً نفس نظرة السكان لهم‪ ،‬ومنهم علماء األزهر الذٌن بدأوا ٌؤخذون تقدٌرا واسعا فً القرن ‪ ،ٔ8‬فنجد‬
‫الشٌخ علً الصعٌدي ٌقول عبلنٌة لؤلمٌر ٌوسؾ بك نابب محمد أبو الدهب حٌن طلب منه فتوى تخالؾ‬
‫الشرع‪" :‬لعنك هللا‪ ،‬ولعن الٌسرجً الذي جاء بك‪ ،‬ومن باعك‪ ،‬ومن اشتراك‪ ،‬ومن جعلك أمٌرا"(ٓ‪.)ٙ‬‬

‫وهذه النظرة جعلتهم ٌحاولون تعوٌض النقص بإظهار أنفسهم أهل بر وإحسان وتقوى‪ ،‬فزادوا من بناء‬
‫المإسسات الدٌنٌة والمساجد واألسبلة والكتاتٌب والتكاٌا وأعمال البر والعناٌة بالقرآن‪ ،‬ونافسهم فً ذلك‬
‫الباشوات األتراك فؤوقؾ بٌرام باشا والً مصر فً القرن ‪ ٔ9‬خمس جزر اشتراها من طرح النٌل من‬
‫الروزنامة على مسجد وكتاب وتكٌة الكلشنٌة وتكٌة المولوٌة‪ ،‬وأحد الباشوات أوقؾ ‪ 9‬ببلد اشتراها من‬
‫"المحالٌل" فً إقلٌم البحٌرة على تكٌة‪.‬‬

‫وٌعلق الجبرتً ساخرا بؤن األمٌر رضوان كتخدا "كان مولعا بحٌاة النعٌم والترؾ والخبلعة وإنشاء‬

‫(‪)٘8‬‬
‫‪ -‬عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار‪ ،‬ج ٕ‪ ،‬المبلحق‪ ،‬ص ‪ٗٓ8 -ٖ99‬‬
‫(‪)٘9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر فً كتابات الرحالة الفرنسٌٌن فً القرنٌن السادس عشر والسابع عشر‪ ،‬إلهام محمد ذهنً‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬ص ٔٗ‬
‫(ٓ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار‪ ،‬عبد الرحمن الجبرتً‪ ،‬تحقٌق عبد العزٌز جمال الدٌن‪ ،‬جٕ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘‪88‬‬

‫‪ٖٖٙ‬‬
‫القصور الفاخرة‪ ،‬وٌجاهر بالمعاصً والراح والوجوه المبلح‪ ،‬ومع ذلك فإنه كان ٌبذل الكثٌر على وجوه‬
‫الخٌر وإقامة المإسسات الدٌنٌة"‪.‬‬

‫فكؤنهم ٌسكتون ضمابرهم عن سماع صرخات الناس بتلك األعمال‪ ،‬وصدق علٌهم القول إنهم كمن ٌؤخد‬
‫مال شخص ثم ٌتصدق علٌه بلقمة منه‪ ،‬وٌنتظر منه الشكر‪ ،‬فإن لم ٌشكره اتهمه بالجحود ونكران الجمٌل‬
‫كما رأٌنا صاحب كتاب "هز القحوؾ" ٌقول(ٔ‪:)ٙ‬‬

‫فإن إكرامهم فً عقبه النـــدم‬ ‫أهل الفالحة ال تكرمهم أبدا‬

‫فكؤن المتحدث ٌرٌد أن ٌضلل الناس عن أن هإالء الفبلحٌن ٌنفرون من الممالٌك والعربان والعثمانلٌة‬
‫ألنهم ٌعلمون تمام العلم أن هإالء "المتصدقٌن" هم لصوص أرضهم وؼاصبٌها‪.‬‬

‫وٌعلق عبد الوهاب الشعرانً فً كتابه "الدرر والُلمع" فً القرن ‪ ٔٙ‬على كٌؾ كان الحكام ومشاٌخ‬
‫العرب ٌنزعون المال ظلما من الفبلحٌن ثم ٌنفقونه على التكاٌا لٌؤخذوا الثواب‪" :‬وسمعت سٌدي علٌَّا‬
‫الخواص ٌقول‪ :‬إٌاكم وقبول هداٌا ال ُكشاؾ ومشاٌخ العرب من ضحاٌا وسمن وعسل وؼٌر ذلك‪ ،‬فقد صاروا‬
‫ٌؤخذونها قهرا من رعاٌاهم وٌجمعونها ثم ٌفرقونها على من ٌعتقدون فٌه العلم والصبلح‪ ،‬فٌقبلها ذلك الشٌخ‪،‬‬
‫وٌقول‪ :‬األصل الحِل مع أنه شاع وذاع ومؤل األسماع أخذهم مثل ذلك من رعٌتهم ظلما وعدوانا"‪ ،‬وأنه "من‬
‫شك فً قولً فلٌسافر إلى ببلد الؽربٌة أو المنوفٌة أو البحٌرة وٌسؤل الفبلحٌن فً الببلد فإنهم ٌخبرونه بما‬
‫قلناه"(ٕ‪.)ٙ‬‬

‫وعلى حس التكاٌا والشعوذة والطرق الصوفٌة اشتهر فقهاء األحجبة والتمابم بل والمفاسد؛ استؽبلال‬
‫لنشفان رٌق الناس لمن ٌرشدهم للطرٌق الصح‪ ،‬وسبٌل النجاة‪ ،‬خاصة وأن مناصب الفقها والفتاوى احتكرها‬
‫أتراك وشوام ومؽاربة وعرب‪ ،‬ولم ٌهتم معظمهم بما ٌرشد الفبلحٌن لكٌفٌة إزاحة الظلم عن كاهلهم‪ ،‬أو‬
‫مقاومة محتلٌهم إال قلٌل منهم فً نهاٌة القرن ‪ ٔ8‬لما اشتد عسؾ الممالٌك على الجمٌع‪.‬‬

‫ومما أضعؾ مقاومة المصرٌٌن للمظالم حٌنها أن الطرق الصوفٌة تحت شعار السبلم والحب والصفاء‬
‫ارتدت مسوح الراهب الودٌع‪ ،‬وحملت ؼصن الزٌتون‪ ،‬تطوؾ داعٌة إلى الوبام بٌن الطواٌؾ‪ ،‬وتطالب‬
‫مرٌدٌها باحتمال األذى والصبر على االضطهاد أمبل فً نٌل الثواب ورؼبة فً اكتساب الصفاء النفسً‬
‫الذي ٌإدي إلى حضرة هللا‪ ،‬وطالبت المظلوم بالرضا عن ظلمه‪ ،‬وشكر هللا على ما أصابه‪ ،‬بل وعذر من‬
‫أقدم على إهانته؛ ألنه لم ٌفعل ذلك إال ألنه ؼافل ال ٌذكر أن المعتدي علٌه واحد من عباد هللا(ٖ‪ ،)ٙ‬وهذا‬
‫انعكس على الموقؾ من المحتلٌن الحاكمٌن الظالمٌن‪ ،‬وكؤن مقاومتهم تحدي إلرادة هللا‪.‬‬

‫وهذه الطرق الصوفٌة شرخت شرخا جدٌدا فً الجسد المصري‪ ،‬فكما سعت المذاهب الدٌنٌة إلى تفرٌق‬

‫(ٔ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٕٓ‪ٕٖٔ -‬‬
‫‪ -‬الدرر واللُمع فً بٌان الصدق فً الزهد والورع‪ ،‬عبد الوهاب الشعرانً‪ ،‬تحقٌق أحمد فرٌد المزٌدي ومحمد عبد القادر نصار‪ ،‬طٔ‪ ،‬دار الكرز‬
‫(ٕ‪)ٙ‬‬

‫للنشر والتوزٌع‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٓٓ٘ ،‬ص ‪٘ٙ‬‬


‫(ٖ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬التصوؾ فً مصر إبان العصر العثمانً‪ ،‬توفٌق الطوٌل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ‪ٔ8ٗ -ٔ8‬‬

‫‪ٖٖ7‬‬
‫المصرٌٌن أحزابا تكفر بعضها البعض‪ ،‬وتسببت القباٌل فً نشر القبلٌة بضم بعض المصرٌٌن إلٌها ضد‬
‫القباٌل المنافسة‪ ،‬تسببت الطرق الصوفٌة فً تقسٌم بعض المصرٌٌن إلى أتباع للشٌخ فبلن والشٌخ عبلن‪،‬‬
‫وٌقدمون له الطاعة العمٌاء‪ ،‬وقد ٌشتبكون مع بعضهم نصرة لهذه الطرٌقة أو تلك‪.‬‬

‫وفً حٌن ال ٌجد المصرٌون علما لبلدهم ٌمشون ورابه‪ ،‬تعددت الراٌات فوق رءوس المصرٌٌن‬
‫وألوانها‪ ،‬لكل طرٌقة راٌة ٌتبعونها‪ ،‬وقال المقرٌزي عن هإالء المشاٌخ فً كتابه "الخطط"‪ ،‬نافرا من‬
‫بدعهم السٌبة وطرٌقة معٌشتهم وتخارٌفهم‪" :‬ال ٌُنسبون إلى علم دٌانة‪ ،‬وإلى هللا المشتكى"‪.‬‬

‫ووصل عدد الطرق ألكثر من ٓ‪ 8‬طرٌقة‪ ،‬توؼلت فً عروق مصر ومفاصلها‪ ،‬فلكل طرٌقة معسكر أو‬
‫مقر فً القرى باسم خانقاه وزاوٌة‪ ،‬بخبلؾ ضرٌح الولً المزعوم‪ٌ ،‬نشر الدجل والشعوذة والتواكل‬
‫والضعؾ‪ ،‬وٌشفط أموال الفبلحٌن باسم حجاب وتمٌمة وندر وهداٌا ووجبات وموالد وأوقاؾ‪.‬‬

‫وشاعت على ألسنة هإالء المدعٌن فً ذلك العصر إجابات توحً للناس بؤنه لٌس من حقهم مناقشة‬
‫أمورهم‪ ،‬وأصبحوا ٌجٌبون على كل سإال ٌوجه إلٌهم بقولهم "دع الخلق للخالق‪ ،‬وال تعترض على شًء"‪.‬‬

‫وضاق بعض المعاصرٌن بهم ذرعا بما ٌفعلونه من افتراءات على الدٌن ونهب لؤلموال‪ ،‬وسعوا‬
‫(ٗ‪)ٙ‬‬
‫لمقاومتهم‪ ،‬فمنهم من أطلق علٌهم سبلح الشعر لفضح حقٌقتهم‪ ،‬مثل قصٌدة حسن الحجازي‬

‫والتصوؾ والعكاز والشملة‬ ‫احذر أولً التسبٌح والسبحة‬

‫شٌوخ إبلٌس أولً الشعـرة‬ ‫والدلق واألبرٌق ال سٌمـــــا‬

‫حوت شعـــــوار بل بال عــــدة‬ ‫حوت أبالٌس بتعــــــداد مـــا‬

‫ٌقول ٌاللعـــــون والنجـــــــدة‬ ‫فصار أبلٌس لهم تابعـــــــــا‬

‫ولم ٌقؾ بهم األمر عند هذا الحد‪ ،‬ففرضوا ألنفسهم على الفبلحٌن المنتمٌن إلى طرقهم عادات وإتاوات‬
‫ٌؤخذونها منهم متى حلوا علٌهم‪ ،‬وزادوا بؤن خولوا ألنفسهم أخذ أموال الناس بالباطل فً مناطق نفوذهم‪،‬‬
‫كما كان ٌفعل أتباع الطرٌقة األحمدٌة فً الؽربٌة‪ ،‬قابلٌن إن الؽربٌة ببلد السٌد البدوي‪ ،‬ونحن من فقرابه‪،‬‬
‫فكل ما نؤخذه حبلل لنا‪ ،‬فظهر هدفهم الحقٌقً من تقدٌس هإالء‪ ،‬وفوق ذلك‪ ،‬اشتهر أتباع هذه الطرق‬
‫بارتكاب الفحشاء مع النساء البلتً ٌؤخذن العهد (البٌعة) علٌهن‪ ،‬بل وٌرتكبون الفاحشة مع الؽلمان‪ ،‬وبعض‬
‫الطرق كانت فً حقٌقتها إلحاد وكفر بالجنة وبالنار(٘‪.)ٙ‬‬

‫وهاجمهم عبد الوهاب الشعرانً رؼم أنه من الصوفٌة‪ ،‬ولكنه ٌرى أن لٌس كل المتصوفة سواء‪ ،‬وقال‬
‫إن طابفة من الفقراء (صفة ادعتها طرق صوفٌة ألتباعها) "سموا أنفسهم بالصوفٌة‪ ،‬وادعو الوالٌة الكبرى‪،‬‬

‫(ٗ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬للمزٌد انظر‪ :‬الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر‪ ،‬عبد الرحٌم عبد الرحمن عبد الرحٌم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٕٓ‪ٕٖ9 -‬‬
‫(٘‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع ص ٕٓٗ‬

‫‪ٖٖ8‬‬
‫وهم أضل من األنعام‪ ،‬فصار كل من أذن له شٌخه بؤن ٌستفتح الذكر بجماعة‪ٌ ...‬جمع له جماعة من العوام‬
‫من أهل الصنابع وؼٌرهم‪ ...‬وٌكلؾ العباد فً هذه األٌام الكدرة النكدة على الخاص والعام‪ ،‬وهو مع هذا‬
‫ٌدعً أنه قابم فً الخلق مقام نبٌهم صلى هللا علٌه وسلم‪ ،‬كفى بذلك كفرا وجهبل وسوء أدب"‪.‬‬

‫والكدرة والنكدة ٌقصد بها تكلٌؾ الناس بمد موابد الطعام والعسل والجبن واألؼنام والسمن إلخ فً‬
‫الحضرات والوالبم لمشاٌخ الطرق‪.‬‬

‫وانتشرت خرافات العبلج الروحانً والسحر وتدبٌر مكاٌد للؽٌر‪ ،‬وخلق هذا العداوات بٌن األسر فً‬
‫الرٌؾ ومشاكل اجتماعٌة كان لها تؤثٌرها فً جرح ألفة األخوة بٌن المصرٌٌن(‪.)ٙٙ‬‬

‫وبحسب د‪ .‬عبد الرحٌم عبد الرحمن عبد الرحٌم فإنه من أشنع ما تركته هذه الطرق من شروخ فً‬
‫الشخصٌة المصرٌة أنها طبعت حٌاة بعض الفبلحٌن بطابع االتكالٌة واالستسبلم للمظالم‪ ،‬ألنهم وجدوا لدى‬
‫شٌوخهم الصوفٌة أقواال تسوغ لهم الصبر علٌها‪ ،‬وتقنعهم بؤن هذه المظالم لٌست إال اختبارا من هللا لقدرتهم‬
‫على اإلٌمان‪ ،‬مثل "واللً انكتب على الجبٌن ال بد نصبر له"(‪.)ٙ9‬‬

‫➁ توزٌع أرض مصر على المحتلٌن والمستوطنٌن‬

‫ساد فً ذلك الزمن ما ساد فً احتبلالت سابقة من إسناد مساحة أرض أو قرى لشخص ٌلتزم بسداد‬
‫خراجها وٌحتفظ بالباقً‪ ،‬وسُمً فً أٌام العثمانلً بـ"نظام االلتزام"‪.‬‬

‫وهو ٌختلؾ عن نظام اإلقطاع المملوكً الذي ألؽاه العثمانلٌة فً أن اإلقطاع المملوكً ٌوزعه الممالٌك‬
‫على أنفسهم وأتباعهم من المقاتلٌن كؤنه ملكٌات خاصة (كاإلقطاعات األوروبٌة والوسٌات الرومانٌة)‪ ،‬أما‬
‫نظام االلتزام فإن األرض توزع على الممالٌك والسلطان وحاشٌتهم وكبار المشاٌخ والتجار‪ ،‬ولكن ال‬
‫ٌتملكونها‪ ،‬بل تظل "ملكا للسلطان"‪ ،‬والملتزم ٌستفٌد بؤنه ٌجمع الخراج وكافة الضراٌب المشروعة وؼٌر‬
‫المشروعة من أرض االلتزام‪ -‬بؤي طرٌقة كانت‪ -‬وٌلتزم بدفع مبلػ معٌن من الخراج للسلطان وٌحتفظ‬
‫بالباقً فً جٌبه‪ ،‬أي كؤن مهمته جامع للضرابب مع احتفاظه بحصة منها‪ ،‬والملتزم من الممالٌك ورجال‬
‫األوجاقات ومشاٌخ العرب وكبار التجار والمسبولٌن والعلماء وأعضاء نقابة األشراؾ‪ ،‬ونساء تبع هإالء‬
‫ونساء من الجواري‪ ،‬وٌُسمح له بؤن ٌجبر الفبلحٌن على زرع أراضً له بببلش "السخرة" فٌما اشتهر‬
‫بالوسٌة‪ ،‬وٌورث منصبه ألوالده‪.‬‬

‫واشتهر من الملتزمٌن التجار الخواجة أحمد حدق المؽربً تاجر البن‪ ،‬ومن علماء األزهر محمد األمٌر‬
‫(من المؽرب)‪ ،‬نزل أهله األول فً الصعٌد وملكوا نفوذا بسرعة‪ ،‬وتعلموا فً األزهر وأخذوا مناصب‪،‬‬
‫وورثوا االلتزام‪ ،‬ومن أوابل العلماء الذٌن أخذوا االلتزام الشٌخ ٌوسؾ الحنبلً (من فلسطٌن) حضر من‬

‫(‪)ٙٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٕٔٗ‪ٕٗ8 -‬‬
‫(‪)ٙ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕ٘٘ -ٕٗ9‬‬

‫‪ٖٖ9‬‬
‫نابلس إلى القاهرة ودرس على شٌوخها ثم تصدى للتدرٌس باألزهر(‪.)ٙ8‬‬

‫فالؽرٌب ٌؤتً لٌجد من حكومة االحتبلل ما ٌإهله لٌؽتنً فً سنٌن قلٌلة‪ ،‬وٌشتري أو ٌُمنح المناصب‬
‫الهامة‪ ،‬وقد ٌورثها ألوالده‪ ،‬وٌسٌطر على مساحات واسعة من األرض‪ ،‬وٌتحكم فً رقاب الناس وأرزقاهم‪،‬‬
‫كما ٌصبح من كبار علماء األزهر فٌتحكم فً فتاواهم ودٌنهم بخلفٌاته الطابفٌة والعرقٌة والمذهبٌة القادم بها‬
‫من بلده‪ٌ ،‬ساعده فً هذا شبكة من المهاجرٌن السابقٌن لمصر من بنً جنسه أو طابفته ومذهبه‪ ،‬ألنه حرفٌا‬
‫كانت مصر ُتعامل على أنها "مالهاش صحاب"‪.‬‬

‫وبجانب نظام االلتزام وجد نظام تؤجٌر األراضً‪ ،‬ونظام االنتفاع‪ ،‬واألوقاؾ‪ ،‬واختفت الملكٌة الخاصة‬
‫ألن السلطان العثمانلً سار على فكرة أن األرض كلها ملك للسلطان(‪.)ٙ9‬‬

‫عٌنة لتوزٌعة أراضً مصر بنظام االلتزام على المحتلٌن من عسكرٌٌن ومستوطنٌن (نقبل عن كتاب‬
‫"الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر" د‪ .‬عبد الرحٌم عبد الرحمن عبد الرحٌم(ٓ‪))9‬‬

‫➂ نزؾ المصرٌٌن الجزٌة والخراج والسخرة لألجنبً‬

‫اعتبر الرومان مصر "سلة ؼذاء" اإلمبراطورٌة‪ ،‬واعتبرها العرب "المٌرة والمؽٌث"‪ ،‬واعتبرها الترك‬
‫"مال السلطان"‪ ،‬واعتبرها اإلنجلٌز "مزرعة القطن" لمصانع النكشاٌر‪ ،‬بخبلؾ أن كل هإالء اعتبروها‬
‫"ممول" ربٌسً لحروبهم‪.‬‬

‫(‪)ٙ8‬‬
‫‪ -‬الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬هوامش ص ‪ ،ٔٓ9‬و‪ٕٔٔ -ٔٓ8‬‬
‫(‪)ٙ9‬‬
‫‪ -‬لمزٌد عن توزٌعة األراضً على المحتلٌن والمستوطنٌن انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص من ‪99 -9٘ ،9ٔ– 8ٙ‬‬
‫(ٓ‪)9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٔٓ8 -ٔٓٙ‬‬

‫ٖٓٗ‬
‫وأٌام العثمانلٌة تلونت أنواع الجباٌات على الفبلحٌن أكثر مما سبق‪ ،‬فضراٌب خاصة بالسلطان اسمها‬
‫المٌري (الجزٌة والخراج ونفقات حروبه مع أوروبا وفتوحاته)‪ ،‬وضراٌب وإتاوات ابتدعها الممالٌك لتموٌل‬
‫معاركهم الخاصة‪ ،‬وإتاوات ونفقات ٌفرضها العربان ومشاٌخ طرق صوفٌة وشٌوخ المنصر‪.‬‬

‫▼ الضراٌب الرسمٌة‬

‫(المٌري)‬

‫فرض العثمانلً على مصر خراجا سنوٌا ٌُرسل لؤلستانة‪ ،‬وٌشمل ضراٌب األمبلك واألراضً‪ ،‬تسمى‬
‫بالمال المٌري‪ ،‬وشملت‪ :‬ضرٌبة األرض‪ ،‬المضاؾ‪ ،‬البرانً‪ ،‬الفاٌض‪ ،‬الكشوفٌة‬

‫وفً الرٌؾ موكل للمتلزم جمعها من الفبلحٌن‪ ،‬وعرفها الفبلحون باسم "مال السلطان"‪ ،‬وموعد سدادها‬
‫مهوال عندهم للقسوة التً تتبع فً جمعها‪.‬‬

‫وذكر الشربٌنً فً كتاب "هز القحوؾ" فً شرحه لحال الفبلح ٌوم تحصٌل هذه الضرٌبة‪" :‬وهو أن‬
‫النصرانً(ٔ‪ )9‬إذا حضر إلى القرٌة أو ال َكفر وفرد المال على الفبلحٌن حكم الحوالً والقوانٌن التً جرت‬
‫بها العادة وشرع فً أخذها فٌكثر الخوؾ والحبس والضرب لمن ال ٌقدر على ؼبلق المال‪ ،‬فمن الفبلحٌن‬
‫من ٌقترض الدراهم بزٌادة ]أي بالربا[‪ ،‬أو ٌؤخذ على زرعه إلى أوان طلوعه بناقص عن بٌعه فً ذلك‬
‫الزمن‪ ،‬أو ٌبٌع بهٌمته التً تحلب على عٌاله‪ ،‬أو ٌؤخذ مصاغ زوجته ٌرهنه‪ ،‬أو ٌتصرؾ فٌه بالبٌع ولو‬
‫قهرا علٌها‪ ،‬وٌدفع الثمن للنصرانً‪ ،‬أو لمن هو متولً قبض المال"‪.‬‬

‫"وإن لم ٌجد شٌبا وال ٌرى من ٌعطٌه وخشً الملتزم أو المشد من خرابه (هروبه) من البلد أخذ ولده‬
‫رهٌنة عنه حتى ٌؽلق ]ٌدفع[ المال‪ ،‬أو ٌؤخذه أخاه إن لم ٌكن له ولد‪ ،‬أو أحدا من أقاربه‪ ،‬أو ٌوضع فً‬
‫الحبس للضرب والعقوبة‪ ،‬حتى تنفذ فٌه أحكام هللا تعالى‪ ،‬ومنهم من ٌنجو بنفسه فٌهرب تحت لٌله فبل ٌعود‬
‫إلى بلده قط‪ ،‬وٌترك أهله ووطنه من هم المال وضٌق المعٌشة؛ فبلبد على كل حال من تؽلٌق المال‪ ،‬ولو‬
‫حصل من ذلك الهم والنكال كما فً المثل الذي اشتهر وع ّم "مال السلطان ٌخرج من بٌن الظفر واللحم" وما‬
‫دام الفبلح شًء من المال فهو فً هم شدٌد وٌوم السداد عند الفبلح عٌد(ٕ‪ ،")9‬وسجل الشاعر الشعبً أبو‬
‫شادوؾ على لسان الفبلح‪:‬‬

‫(ٔ‪)7‬‬
‫‪ -‬كان الصراؾ ٌُختار من المسٌحٌٌن‪ ،‬ربما تقلٌدا لما كان قبل وبعد الؽزو العربً ولمهارتهم فً الحساب‪ ،‬وفً ؼالب الظن أن كثٌرا منهم من‬
‫ذراري اإلؼرٌق والرومان الذٌن فضلوا البقاء فً مصر بعد زوال االحتالل الرومانً وأبقاهم العرب فً اإلدارة المحلٌة و فً الدواوٌن التً كانوا‬
‫مسٌطرٌن علٌها قبل مجا العرب‪ ،‬خاصة مع اتقانهم اللؽة الٌونانٌة‪ ،‬لؽة الدواوٌن وقتها‪ ،‬وبانخراطهم وسط المصرٌٌن بعد االحتالل العربً‪،‬‬
‫وحسبهم العرب على األقباط‪ ،‬لكن بعضهم تكتل على نفسه وم ٌَّزها عن بقٌة المصرٌٌن (مسلمٌن ومسٌحٌٌن) كعادتهم أٌام الرومان‪ ،‬واحتفظوا‬
‫ألنفسهم بؤسرار مهن الدواوٌن وتوارثوها‪ ،‬وٌدل على هذا قسوتهم الشدٌدة فً تحصٌل الضراٌب مع المصرٌٌن فً األرٌاؾ مسلمٌن ومسٌحٌٌن‪،‬‬
‫وانعزالهم عن قضاٌا الفالحٌن‪ ،‬بل مساهمتهم فً معاناتهم‪ ،‬واهتمامهم بالعمل الحكومً والتجاري دون الفالحة‪ ،‬وتوارث هذه المهن والثروة حتى‬
‫عصر عٌلة محمد علً‪ ،‬ووجود السحنة الرومانٌة والٌونانٌة على وجوه ذرارٌهم حتى الٌوم ‪ ،‬ولو كانوا مصرٌٌن خالصٌن النخرط فً هذه المهنة‬
‫بقٌة المصرٌٌن من مسلمٌن ومسٌحٌٌن‪ ،‬ولما انحصرت المهن ومظاهر الؽنى المتوارث فٌهم أٌام االحتالالت فً فبة وعابالت معدودة منهم مقارنة‬
‫بالمصرٌٌن الفالحٌن‪ . .‬وهذا احتمال ٌحتاج مزٌد من الدراسة من المتخصصٌن فً البردٌات‪.‬‬
‫(ٕ‪)9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر‪ ،‬ص ٕٓٔ‪ٕٔٙ -‬‬

‫ٖٔٗ‬
‫ما انفك من الوجبة لما ٌجً مال السلطــــان‬ ‫هم الفالحة حٌرنً وكل ساعة فً نقصــــــان‬

‫(المضاؾ)‬

‫وفق دفاتر االلتزام فهً ضرٌبة تضاؾ للمٌري فً حالة حدوث عجز فً مبلػ الخراج المرسل للسلطان‬
‫بسب فساد اإلدارة‪ ،‬أو فً حالة دخول السلطنة فً حرب أو قٌامها بفتح بلد جدٌد‪ ،‬أو لو قصر الممالٌك فً‬
‫دفع ضراٌب االلتزام المفروضة علٌهم الستخدامها فً حروبهم الداخلٌة فٌكلفون الفبلحٌن بتسدٌد النقص‪.‬‬

‫(الفاٌض)‬

‫وهً الفرق بٌن إٌجار األرض والضرٌبة المٌري األساسٌة المفروضة علٌها‪ ،‬وفً أؼلب األحٌان ٌؤخذه‬
‫الملتزم لنفسه‪ ،‬ووصل الحال فً القرن ‪ ٔ8‬أنها صارت أكبر من الضرٌبة المٌري نفسها‪.‬‬

‫(البرانً)‬

‫هو األكل الذي ألزمت اإلدارة الفبلحٌن أن ٌقدموه لموظفٌها العاملٌن فً القرى‪ ،‬كالسمن والعسل والجبنة‬
‫والحبوب والدجاج والؽنم وؼٌرها من خٌرات الرٌؾ‪ ،‬وكان الفبلح ٌسمٌها "الوجبة"‪ ،‬وقال عنها ٌوسؾ‬
‫الشربٌنً فً شرحه لبٌت أبً شادوؾ‪:‬‬

‫علً ٌحٌؾ‬
‫َّ‬ ‫ٌوم تجً الوجبة‬ ‫وال ضرنً إال ابن عمً محٌلبة‬

‫ولو كان فقٌرا ألزموه بذلك قهرا وإال حبسه المشد‪ ،‬وضربه ضربا موجعا‪ ،‬وربما هرب‪ ،‬فٌرسل المشد‬
‫إلى أوالده وزوجته ٌهددهم وٌطلب منهم الضرٌبة‪ ،‬فربما رهنت المرأة شٌبا من مصاؼها أو ملبوسها على‬
‫دراهم وأخذت بها الدجاج واللحم وأطعمتهم‪ ،‬وحرمت أوالدها من األكل منه خوفا من أال ٌكفً الضرٌبة‪.‬‬

‫وأضاؾ الشربٌنً أن الفبلح قد ٌربً الدجاج فبل ٌؤكل منه شٌبا وٌحرم نفسه وعٌاله من خوفه من‬
‫الضرب والحبس‪ ،‬ومثل الدجاج السمن والدقٌق فٌبقٌه ألجل هذه البلٌة‪ ،‬وٌطبخ بالشٌرج "زٌت السمسم"‪،‬‬
‫وٌؤكل الخبز الشعٌر‪ ،‬وٌصنع لهم القمح الزرٌع‪ ،‬وٌؤكل الجبن القرٌش المالح وٌتكلؾ شراء الجبن الطري‬
‫الحلو وٌرسله فً الوجبة؛ فهً من أنواع الظلم والكل منها حرام‪.‬‬

‫وألؾ المإرخ ابن إٌاس مواال ٌطابق هذا الحال قال فٌه‪:‬‬

‫رحل وولى علٌنا كل صاحب حٌـــــؾ‬ ‫كان بن عثمان مزجا مصر كالضٌؾ‬
‫(ٖ‪)9‬‬
‫أطراؾ أقالمهم تفعل فعال السٌؾ‬ ‫مباشرٌن ٌجورو فً الشتا والصٌؾ‬

‫(الكشوفٌة)‬

‫(ٖ‪)9‬‬
‫بدابع الزهور فً وقابع الدهور‪ ،‬ج ٘‪ ،‬محمد بن إٌاس الحنفً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٕٕ‬

‫ٕٖٗ‬
‫ضرٌبة مخصصة لسد نفقات اإلدارة المحلٌة فً األقالٌم‪ ،‬مثل مرتب الكاشؾ التركً (المحافظ) وترمٌم‬
‫الجسور وشق الترع ومرتبات العسكر الترك المحلٌٌن‪.‬‬

‫وبسبب كثرة ثورات أو هروب الفبلحٌن من القرى رفضا لهذه الحمول وطرق اإلهانة فً جمعها‪،‬‬
‫اضطر بعض الملتزمٌن نهاٌة القرن ‪ ،ٔ8‬إلى تخفٌؾ بعض الضراٌب‪ ،‬وصارت الضراٌب الملزمة‬
‫للفبلحٌن هً المٌري والفاٌض‪ ،‬وكما وضح من وثابق المحكمة الشرعٌة أصبح الملتزم ٌشترط على نفسه‬
‫فً عقد اإلٌجار بؤنه رفع عن كاهل مشاٌخ وفبلحٌن األربع حصص (الخاصة به) كامل السمن والدجاج‬
‫معتاد الشادٌة وسمن الشادٌة وعواٌد الصراؾ والنحرة والعونة وتقادم الملتزم وكامل ما ٌتعلق بالمتلزم من‬
‫مصروؾ وؼنم وضٌافة وؼٌر ذلك الرفع الكلً‪ ،‬وأن ٌكون جرؾ الجسور بؤثوار الوسٌة‪.‬‬

‫وكان هذا تخفٌفا ؼٌر مسبوق على الفبلحٌن منذ زمن طوٌل‪ ،‬اضطر المتلزمون له اضطرارا بعد رفض‬
‫الكثٌر من الفبلحٌن العمل فً الؽٌطان؛ احتجاجا على سوء المعاملة وكثرة الضراٌب(ٗ‪.)9‬‬

‫▼ الضراٌب ؼٌر الرسمٌة‬

‫ما فات هو الضراٌب الرسمٌة المسجلة‪ ،‬ورؼم أنها كفٌلة بكسر ظهر الفبلح‪ ،‬لكن الملتزمٌن أضافوا‬
‫علٌها ضراٌب أخرى ال تصل إلى الخزانة أو األستانة‪ ،‬وهً‪ :‬ال ِفرد (جمع ِفردة)‪ ،‬والكلؾ (جمع كلفة)‪،‬‬
‫والطلبة (حق الطرٌق)‪ ،‬والعونة‪ ،‬والسخرة‪.‬‬‫ُ‬ ‫والمؽارم‪ ،‬ورفع المظالم‪،‬‬

‫وتكفً اإلشارة إلى ما حدث بٌن إبراهٌم بك ومراد بك من جهة‪ ،‬وإسماعٌل بٌك الكبٌر وحسن باشا‬
‫الجزاٌري قابد الحملة التً أرسلها السلطان عبد الحمٌد األول ‪ ٔ989‬لتضع حدا للفوضى التً تمر بها‬
‫الببلد من جهة أخرى كمثال على طرقهم فً فرض ضراٌب وإتاوات ؼٌر رسمٌة على الفبلحٌن‪ ،‬فدار‬
‫صراع مرٌر بٌن الجبهتٌن‪ ،‬وقع العبء األكبر فٌها على الرٌؾ‪ ،‬وكثرت الفرد والكلؾ على القرى‪ ،‬فكلما‬
‫وطا أحد الفرٌقٌن منطقة قرر فردة جدٌدة‪ ،‬حتى أن بعض القرى ما تكاد تخلص من تسدٌد فردة ألحد‬
‫الفرٌقٌن حتى تفاجا برجال الفرٌق اآلخر ٌطلبون منها فردة تخصه‪.‬‬

‫واستؽل الكشاؾ حالة الفوضى هذه وفرضوا مظالم أخرى على أهل الرٌؾ‪ ،‬حتى أن الجبرتً ذكر أن‬
‫"ما فعله كشاؾ األقالٌم فً القرى القبلٌة والبحرٌة من المظالم والمؽارم وأنواع الفرد والتساوٌؾ فشًء ال‬
‫تدركه األفهام وال تحٌط به األقبلم‪ ،‬وخصوصا سلٌمان كاشؾ البواب بالمنوفٌة"‪ ،‬وٌعلق على ذلك بقوله‬
‫"فنسؤل هللا العفو والعافٌة وحسن العاقبة فً الدٌن والدنٌا واآلخرة"‪.‬‬

‫(ال ُطلبة)‬

‫ضرٌبة فرضها العسكر العثمانلٌة "السباهٌة" على الناس بؤنه كلما احتاجوا المال اصطنعوا أي تهمة‬
‫للشخص وطالبوه بدفعها تكفٌرا عنها‪ ،‬وبدأت فً البداٌة باسم حق الطرٌق‪.‬‬

‫(ٗ‪)9‬‬
‫‪ -‬للمزٌد عن هذه الضراٌب ومعاناة المصرٌٌن فً األرٌاؾ انظر‪ :‬الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر‪ ،‬ص ‪ٖٖٔ -ٕٔٙ‬‬

‫ٖٖٗ‬
‫وكتب محمد أبً السرور البكري فً كتابه "النزهة الزكٌة فً والة مصر والقاهرة المعزٌة" تجربته‬
‫الشخصٌة وعن حوادث تصرخ لها السموات السبع كان علٌها شاهد عٌان مع ضرٌبة‪" ،‬الطلبة" فً سنة‬
‫‪ ،ٔٙٓ8‬فقال‪:‬‬

‫"والطلبة معناها أي الؽز ] األتراك[ ٌؤتون لكاشؾ اإلقلٌم فٌقولون له اكتب لنا على الناحٌة الفبلنٌة كذا‪،‬‬
‫مما ٌرٌدون مثبل‪ ،‬فٌقول بؤي طرٌقة اكتب لكم ذلك‪ ،‬فٌقولون اكتب أن فبلنا اشتكى فبلنا من أهالً الناحٌة‬
‫الفبلنٌة‪ ،‬فٌؤمر الكاشؾ بكتابة ما ٌقولون وٌكتب لهم حق الطرٌق بقولهم‪ ،‬سواء كان له صحة أو ال‪ ،‬والؽالب‬
‫أن جمٌع ما ٌقع من مثل ذلك ٌكون ال أصل له‪ ،‬بل الجمٌع ال أصل له‪ ،‬فهذا معنى الطلبة"‪.‬‬

‫وحكى تجربة له‪" :‬كان لً بلدة بالمنوفٌة ومالها ماٌة ألؾ نصؾ فضة؛ فؽرمت أنا وأهالٌها فً الطلبة‬
‫مابتً ألؾ نصؾ فضة‪ ،‬وقد جاء لبلدتنا المذكورة شخص من العسكر بطلبة مذكور فٌها أن كرم الناحٌة‬
‫اشتكى من المادٌن تحت وحق الطرٌق ألؾ نصؾ فضة‪ ،‬فحٌن جاء إلى الناحٌة فرَّ أهلها جمٌعا‪ ،‬فرأى‬
‫إمرأة لها ولدٌن فؤخذهم منها‪ ،‬ووضعهما فً الخرج‪ ،‬فحٌن رأت المرأة ذلك ذهب عقلها‪ ،‬فجاءت له‬
‫بمصاؼها وقالت له هذا ٌساوي زٌادة عن ألؾ نصؾ‪ ،‬أخذ المصاغ منها‪ ،‬وأخرج الوالد من الخرج‪ ،‬فإذا‬
‫هم مٌتٌن‪ ،‬فانظروا إلى هذا التجري الذي ما ٌفعله كافر بخبلؾ المسلم‪ ،‬فبل حول وال قوة إال باهلل العلً‬
‫العظٌم(٘‪.")9‬‬

‫وواضح أن هذه الفترة شاع الرعب فً عموم البلد‪ ،‬وسمٌت بحوادث الفتنة‪ ،‬حتى إنه أرَّ خ لها إضافة‬
‫للبكري الصدٌقً كل من محمد البرلسً السعدي‪ ،‬القاضً الشرعً باألسكندرٌة ودمٌاط ورشٌد فً مإلفه‬
‫"بلوغ األرب برفع الطب"‪ ،‬ومنهم من أرَّ خ لها بالشعر مثل عبد الواحد البرجً‪ ،‬والشٌخ عبد المنعم الماطً‬
‫الذي قال سنة ‪:ٔ٘89‬‬

‫وصار فً أرضها القاطن بها محـروم‬ ‫نظام مصر العزٌزة قد ؼدا مخروم‬
‫(‪)9ٙ‬‬
‫ل َّما بتارٌخها جارت علٌها الـــــــــــــروم‬ ‫وذل َّ فٌها العزٌز الفاضل المكروم‬

‫وكان قلٌل من الوالة من عنده الشجاعة لٌقؾ قصاد توحش الممالٌك وفرقة السباهٌة العثمانلٌة فً فرض‬
‫نفوذهم على الرٌؾ وفرض ضراٌب خاصة بهم كالطلبة‪ ،‬ومن وقؾ ضدهم من الوالة ثار علٌهم الممالٌك‬
‫وأوجاقات السباهٌة العثمانلٌة وتآمروا علٌهم‪ ،‬لدرجة القتل‪ ،‬كما قتلوا الوالً إبراهٌم باشا وأمٌر معه سنة‬
‫ٗٓ‪ ٔٙ‬م‪ ،‬وطافوا برأسٌهما فً شوارع القاهرة وعلقوها على باب زوٌلة‪ ،‬حتى جاء محمد باشا لٌتسلم‬
‫منصب الوالً فً ٔٔ‪ ٔٙ‬م‪ ،‬ف تلقى شكاوى من األهالً من ظلم السباهٌة‪ ،‬وكان مدركا لما حدث لمن قبله‪،‬‬
‫فاصطحب عند قدومه لمصر قوات قتلت كثٌرا من الممالٌك‪ ،‬ونفى المبات للٌمن‪ ،‬فكان ٌوم فرح‪ ،‬وتسمى بـ‬

‫(٘‪)9‬‬
‫‪ -‬النزهة الزكٌة فً والة مصر والقاهرة المعزٌة‪ ،‬محمد بن أبً السرور البكري‪ ،‬ص ٘‪ ٔ8‬عن حوادث سنة ‪ ٔٙٓ8‬م‪ ،‬تحقٌق عبد الرازق عبد‬
‫الرازق عٌسى‪ ،‬العربً للنشر والتوزٌع‪ ،‬ط ٔ‪ ،‬القاهرة‪ٔ998 ،‬‬
‫(‪)9ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر مخطوطة كشؾ الكربة فً رفع الطلبة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٓٔ‪ ،ٖٔ8 ،ٖٕٔ-‬هوامش ‪ ،ٖٓ9‬والرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر‪،‬‬
‫مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ ،ٖٔ9 -ٖٔٙ ،9٘ -ٗ9‬والروم مقصود بها سلطنة العثمانلٌة كونها قامت على أرض الروم أي بٌزنطة‬

‫ٖٗٗ‬
‫"مبطل الطلبة" و"معمر مصر"(‪.)99‬‬

‫(العونة)‬

‫ضرٌبة تدفع لٌس ماال أو من منتجات الرٌؾ ولكن من جسد اإلنسان بالعمل فً أرض الملتزم وحفر‬
‫القنوات وشٌل الطٌن من اآلبار بدون أجر‪ ،‬وبالؽصب‪.‬‬

‫وٌقول الجبرتً عنها‪" :‬إن العونة إنما تكون فً ببلد الملتزمٌن التً فٌها األوسٌة ]الوسٌة[ وبعض الببلد‬
‫تكون العونة فٌها على رجال معروفٌن بالبٌوت مثبل‪ ،‬فٌقولون ٌخرج من بٌت فبلن شخص واحد ومن بٌت‬
‫فبلن شخصان بحسب ما تقرر علٌهم قدٌما وحدٌثا‪ ،‬فبل ٌنفك من علٌه العونة منها‪ ،‬وإن مات جعلوها على‬
‫ولده‪ ،‬وهكذا؛ فهً داهٌة كبرى على الفبلحٌن ومصٌبة عظمى على البطالٌن(‪.")98‬‬

‫(السخرة)‬

‫وإن كانت العونة هً العمل بببلش فً أرض الملتزم‪ ،‬فالسخرة هً العمل بببلش فً أرض ومشروعات‬
‫الحكومة مثل جرؾ الجسور السلطانٌة وؼٌرها‪.‬‬

‫وشاع نظام السخرة فً زمن العثمانلً بؤقبح شكل‪ ،‬فٌُجبر الفبلح على زراعة األراضً الموقوفة على‬
‫المساجد والمدارس وؼٌرهما من المشارٌع الخٌرٌة بببلش‪ ،‬فً تناقض تام مع الهدؾ منها‪ ،‬فالبرؼم من أنها‬
‫مشارٌع هدفها تخفٌؾ العبء عن الناس بزٌادة المساجد والمدارس‪ ،‬إال أنها تهلك مقابل هذا أرزاق وحقوق‬
‫وأجساد وأرواح اآلالؾ عنوة وؼصبا‪ ،‬وٌذهب خٌرها لؤلؼنٌاء ولدراوٌش الصوفٌة العواطلٌة‪.‬‬

‫ورفض الكثٌر من الفبلحٌن القٌام بالعونة والسخرة‪ ،‬ولذا عٌَّن الممالٌك لهم أشخاصا ؼبلظ القلب‬
‫مخصصٌن لنزع الفبلحٌن من دٌارهم بالسبلح حٌن ٌرفضون الذهاب‪.‬‬

‫وٌصؾ الجبرتً مشهد اقتحام عسكر العثمانلٌة لمنازل الفبلحٌن‪" :‬ووجه (إسماعٌل بك الكبٌر) على‬
‫الناس قباح الرسل والمعٌنٌن من السراجٌن والدالة وعسكر القلٌونجٌة‪ ،‬فٌدهمون اإلنسان‪ ،‬وٌدخلون علٌه فً‬
‫بٌته مثل التجردٌة الخمسة والعشرة بؤٌدٌهم البنادق واألسلحة‪ ،‬بوجوه عابسة‪ ،‬فٌشاؼلهم وٌبلطفهم وٌلٌن‬
‫خواطرهم باإلكرام‪ ،‬فبل ٌزدادون إال قسوة وفظاظة‪ ،‬فٌعدهم على وقت آخر‪ ،‬فٌدخلون الدار ولٌس فٌها إال‬
‫النساء‪ ،‬وٌحصل منهم ماال خٌر فٌه‪ ،‬من الهجوم علٌهم‪ ،‬وربما نططن من الحٌطان أو هربن إلى بٌوت‬
‫الجٌران‪ ،‬وسافر رضوان بك قرابة على بك الكبٌر إلى المنوفٌة‪ ،‬وأنزل بها كل بلٌة وعسؾ بالقرى عسفا‬
‫عنٌفا قبٌحا بؤخذ البلص (الرشاوى) والتساوٌؾ‪ ،‬وطلب الكلؾ الخارجة عن المعقول إلى أن وصل إلى‬
‫رشٌد‪ ،‬ثم رجع إلى مولد السٌد البدوي بطندتا (طنطا) ثم عاد وفً كل مرة من مروره ٌستؤنؾ العسؾ‬
‫والجور‪ ،‬وكذلك قاسم بك بالشرقٌة وعلً بك الحسنً بالؽربٌة"‪.‬‬

‫(‪)99‬‬
‫‪ -‬الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘‪9ٙ -9‬‬
‫(‪)98‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٕ٘9‬‬

‫ٖ٘ٗ‬
‫وبحسب الجبرتً أٌضا الذي عاصر هذه األحداث‪ ،‬فإن األعباء التً أصبح الفبلح ملزما بها "ٌكل القلم‬
‫عن تسطٌرها‪ ،‬وٌستحً اإلنسان من ذكرها‪ ،‬وال ٌمكن الوقوؾ على بعض جزبٌاتها‪ ،‬حتى خربت القرى‪،‬‬
‫وافتقر أهلها‪ ،‬وجلوا عنها(‪.")99‬‬

‫كان القضاة وال ُكشاؾ ٌحطون علٌه‪ ،‬وٌطالبونه بدفع الضراٌب واإلتاوات‪ ،‬فإن عجز عن الدفع انتزعوا‬
‫منه أرضه‪ ،‬وأذاقوه العذاب ألوانا وأشكاال‪ :‬بالمقارع والكسارات وعصر الرأس وإمرار الطونس على‬
‫ظهره وإدخال البوص بٌن الظفر واللحم‪ ،‬والتعلٌق‪ ،‬ووضع الخوذة المحماة بالنار على الرأس(ٓ‪.)8‬‬

‫(ضرٌبة السوق)‬

‫كعادة المصرٌٌن طول التارٌخ‪ ،‬لكل قرٌة ٌوم فً األسبوع ٌسمى "ٌوم السوق" ٌبٌعون فٌه محاصٌلهم‬
‫وطٌورهم وحٌواناتهم والمشؽوالت الٌدوٌة‪ ،‬وله نصٌب من ضراٌب العثمانلٌة‪ ،‬وٌتولى جمعها ملتزم‬
‫ٌختص بكل سوق‪ٌ ،‬شبه ملتزم األراضً الزراعٌة‪.‬‬

‫وشارك تجار فً عملٌة االستنزاؾ‪ ،‬فكانوا ٌستخدمون نوعٌن من المكاٌٌل‪ ،‬مكاٌٌل كبٌرة لما ٌشتري من‬
‫الفبلح‪ ،‬ومكاٌٌل صؽٌرة لما ٌبٌع ما اشتراه منه‪ ،‬ونفس الموضوع فً الموازٌن‪ ،‬فٌوفر لنفسه ربحا كبٌرا‪،‬‬
‫ونفس الموضوع ٌعمله بعض الصٌارفة لما ٌكٌلوا المحاصٌل من الفبلح بمكاٌٌل أكبر من الشون األمٌرٌة‪،‬‬
‫وٌحتفظ هو بالفرق‪.‬‬

‫واألسواق لم تسلم من عملٌات الكر والفر والمعارك بٌن الممالٌك‪ ،‬فالجبرتً ٌقول ضمن أحداث صفر‬
‫ٕ٘ٓٔ ه – أكتوبر ٓ‪ ٔ99‬م إن أحمد بك كاشؾ (محافظ) الدقهلٌة وأتباعه أصبحوا "ٌخطفون دواب الناس‬
‫من األسواق وخٌول الطواحٌن‪ ،‬ولما سرحوا فً الببلد حصل منهم ما ال خٌر فٌه من ظلم الفبلحٌن مما هو‬
‫معلوم من أفعالهم"‪.‬‬

‫ورصد الجبرتً فً حوادث ‪ٕٔٔ8‬ه‪ -‬الموافق ٖٓ‪ ٔ8‬م‪" :‬وٌترصدون لمن ٌذهب إلى األسواق مثل‬
‫سوق أنبابه ]إمبابة[ فً ٌوم السبت لشراء الجبن والزبد واألؼنام واألبقار‪ ،‬فٌؤخذون ما معهم من الدراهم ثم‬
‫ٌذهبون إلى السوق وٌنهبون ما ٌجلبه الفبلحون من ذلك للبٌع‪ ،‬فامتنع الفبلحون عن ذلك إال فً النادر خفٌة‪،‬‬
‫وقل وجوده‪ ،‬وؼبل السمن‪ ،‬حتى وصل إلى ثلثمابة وخمسٌن نصؾ فضة العشرة أرطال قبانً‪ ،‬وأما التبن‬
‫فصار أعز من التبر‪ ،‬وبٌع قنطاره بؤلؾ نصؾ فضة إن وجد (‪ )...‬ووقفت األرنإوود ]العسكر األرناإوط[‬
‫لخطؾ ذلك من الفبلحٌن‪ ،‬فكانوا ٌؤتون بذلك فً أواخر اللٌل وقت الؽفلة وٌبٌعونه بؤؼلى األثمان‪ ،‬وعلم‬
‫األرنإود ذلك‪ ،‬فرصدوهم وخطفوهم ووقع منهم القتل فً كثٌر من الناس‪ ،‬حتى فً بعضهم البعض‪،‬‬
‫وؼالبهم ]األرناإوط[ لم ٌصم رمضان‪ ،‬ولم ٌعرؾ لهم دٌن ٌتدٌنون به‪ ،‬وال مذهب وال طرٌقة ٌمشون‬
‫علٌها‪ ،‬أباحٌة أسهل ما علٌه قتل النفس‪ ،‬وأخذ مال الؽٌر‪ ،‬وعدم الطاعة لكبٌرهم وأمٌرهم‪ ،‬وهم أخبث منهم‪،‬‬

‫(‪)99‬‬
‫‪ -‬انظر المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٖٔ9 -ٖٔ8‬‬
‫(ٓ‪)8‬‬
‫‪ -‬التصوؾ فً مصر إبان العصر العثمانً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ٘ٔ‪ٔ٘ٗ -‬‬

‫‪ٖٗٙ‬‬
‫فقطع هللا دابر الجمٌع(ٔ‪.")8‬‬

‫وسجَّ ل عبد الوهاب الشعرانً مشهدا نستنتج منه أنه حتى األوقاؾ المفروض أنها مرصودة للفقراء‬
‫وأعمال الخٌر فإن الفبلح كان ٌُجبر أحٌانا أن ٌقدم "ضٌافة" لناظر الوقؾ‪ ،‬وأنه كان فً زمن سابق على‬
‫االحتبلل العثمانلً ٌجد أحٌانا نظار وقؾ فً قلوبهم رحمة ٌردوا له محل "الضٌافة" بؤحسن منها‪ ،‬ولكن‬
‫تؽٌر الحال فً أوابل عهد العثمانلٌة‪.‬‬

‫فٌقول فً كتابه "الدرر واللُمع" إن نظار الوقؾ كانوا ٌعطون الفبلح األرز المفلفل والحلو وكساوى له‬
‫عز فً نظار األوقاؾ فً هذا‬ ‫ولعٌاله إذا جاءهم بالضٌافة فكان ذلك من باب المكارمة‪" :‬وهذا أمر قد َّ‬
‫الزمان‪ ،‬فقل َّ ناظر ٌفعل مع الفبلح شٌبا مما ذكرناه‪ ،‬بل رأٌت شخصا من أهل العلم جاءته ضٌافة من ببلد‬
‫بعٌدة فٌها أوزة عرجاء‪ ،‬فردها على فبلحه‪ ،‬وقال له‪ :‬خذها معك إلى بلدك وأرسل لنا ؼٌرها‪ ،‬فحملها الفبلح‬
‫ثانٌة إلى بلده ورد له ؼٌرها‪ ،‬هكذا حكى لً الفبلح‪ ،‬وقال‪" :‬إنها أوزة ابن أخً الٌتٌم"‪.‬‬

‫ولم ٌرد الضٌافة التً هً أوزة الٌتٌم وتكبد الفبلح كذا مشوار لٌحضرها لناظر الوقؾ إال بطعام الفول‪:‬‬
‫"وذكر لً أنه ؼ َّدى الفبلح فوال حارا بخبز ٌابس من خبز الخانقاه"(ٕ‪.)8‬‬

‫وهذا مع أن الخانقاه "التكٌة" تنفق أحلى الطعام والكساء للعواطلٌة القابعٌن بها تحت اسم العبَّاد الزهاد‬
‫الدراوٌش الذٌن ٌتفنون فً صنع الخرافات لرسم قداسة حول أنفسهم‪ ،‬وهذه النفقات ٌنزعها الممالٌك والوالة‬
‫والمشرفون على األراضً نزعا من دم الفبلح لٌنفقوها على الخانقاه بدعوى التقرب إلى هللا‪.‬‬

‫➃ حصد أرواح المصرٌٌن بالمجاعات واألوببة‬

‫ضربت مصر فً االحتبلل العثمانلً مجاعات وأوببة فتكت بالكثٌر من الناس‪ ،‬منها طاعون سنة ٖٓ‪ٔٙ‬‬
‫م‪ ،‬وطاعون سنة ‪ٔٙٔ9‬م‪ ،‬ووباء سنة ٕٔ‪ٔٙ‬م الذي ظل ٌفتك بالبلد ٖ شهور‪ ،‬ومعه ؼبلء فاحش‪ ،‬ووباء‬
‫ٕ٘‪ ٔٙ‬وفٌه استولى الوالً قرة مصطفى باشا على أموال الضحاٌا المتوفٌن كؤنها ملكه الخاص‪ ،‬وأشدهم‬
‫كان سنة ٕٗ‪ٔٙ‬م الذي حصد أرواح أكثر مما سبقوه‪ ،‬حتى أنه من كثرة الموت دفن الناس ذوٌهم من ؼٌر‬
‫صبلة علٌها‪ ،‬وخربت ٖٕٓ قرٌة‪ ،‬وجاء بعده قحط وؼبلء‪ ،‬ووباء سنة ٓ‪ٔ99‬م الذي لم ٌن ُج منه حتى‬
‫األؼنٌاء‪ ،‬فحصد فً طرٌقه أسرة إسماعٌل بك شٌخ البلد (حاكم القاهرة)‪ ،‬وهو ما خفض سكان مصر‬
‫كثٌرا(ٖ‪.)8‬‬

‫وكشاهد عٌان ٌنقل الرحالة فولنً صور للمجاعة التً عمَّت البلد بعد نقص النٌل ٗ‪ ٔ98‬بؤنه متوقع أن‬
‫البلد فقدت سدس سكانها فً أحوال "تقشعر من وصفها األبدان‪ ،‬وتطبع فً النفس تؤثٌرات من الهول والكآبة‬
‫ال تمحى‪ ،‬فقد كانت الشوارع والساحات العامة‪ -‬على نحو ما حصل إبان مجاعة البنؽال لسنوات خلت‪-‬‬

‫(ٔ‪)8‬‬
‫‪ -‬الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٕٕ‪ٕٕ٘ -‬‬
‫‪ -‬الدرر واللُمع فً بٌان الصدق فً الزهد والورع‪ ،‬عبد الوهاب الشعرانً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘‪8ٙ -8‬‬
‫(ٕ‪)8‬‬
‫(ٖ‪)8‬‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر‪ ،‬سلٌم حسٌن وعمر اإلسكندري‪ ،‬مكتبة مدبولً‪ ،‬ط ٕ‪ ،‬ص ‪8ٗ ،98‬‬

‫‪ٖٗ7‬‬
‫مزدرعة بهٌاكل منهوكة القوى تستجدي بؤصواتها الواهنة شفقة عابري السبل‪ ،‬ولكن على ؼٌر طابل‪ ،‬ألن‬
‫خوؾ الخطر المشترك حجَّ ر القلوب‪ ،‬فكان هإالء التعساء ٌلفظون آخر أنفاسهم‪ ،‬فٌما هم مستلقون‬
‫بظهورههم على منازل البكوات التً ٌعرفون أنها تزخر بالحنطة واألرز‪ ،‬وكثٌرا ما كان صراخهم ٌزعج‬
‫الممالٌك فٌطاردونهم بؤعقاب العصى(ٗ‪.")8‬‬

‫صحٌح أن األوببة والمجاعات كانت وقتها تضرب العالم ولٌس مصر فقط‪ ،‬ؼٌر أنه لو وجدت حكومة‬
‫مصرٌة مركزٌة‪ ،‬ال تعمل إال لصالح أهلها‪ ،‬وال تتفرغ فً صراعات قبلٌة وعرقٌة ومذهبٌة‪ ،‬وال تسلم‬
‫الجٌش واإلدارة ألجانب‪ ،‬التخذت االحتٌاطات البلزمة من مشارٌع للصحة وللري وتخزٌن وتدبٌر الحبوب‬
‫والعدالة فً توزٌعه تخفؾ كثٌرا جدا من وطؤة هذه النكبات‪.‬‬

‫➄ تشرد المصرٌٌن فً عٌشة المطارٌد‬

‫هذا العنوان قابلناه خبلل االحتبللٌن الرومانً والعربً‪ ،‬وٌتردد صداه فً أنحاء البلد أٌضا خبلل‬
‫االحتبللٌن المملوكً والعثمانلً‪ ،‬الشتراك الجمٌع فً األسالٌب‪.‬‬

‫حط االحتبلل العثمانلً على مصر كانت مشكلة هجر الفبلحٌن قراهم على أشدها‪ ،‬حتى‬ ‫وٌبدو أنه حٌن َّ‬
‫أن قانون "نامة سلطان" الذي أصدره السلطان العثمانلً سنة ٕ٘٘ٔ‪ ،‬فٌه فقرة تلزم مشاٌخ القرى بؤن ٌحلوا‬
‫المشاكل التً أجبرت الفبلح أن ٌهجر القرٌة‪ ،‬وٌحصوا القرى التً أصبحت خاوٌة على عروشها وٌبحثوا‬
‫عن أصحابها وٌعٌدوهم إلٌها‪ ،‬وأن مشاٌخ القرى ملزمٌن بإلزام الفبلح بزراعة األرض‪ .‬ولهذا ضرورة‬
‫ملحة حتى تتلقؾ خزانة السلطان العثمانلً خراجا ثرٌا من عمل الفبلحٌن‪.‬‬

‫وصور ٌوسؾ الملوي صاحب"تحفة األحباب" مشهد هجر القرى بعد إحدى أزمات انخفاض النٌل‪،‬‬ ‫َّ‬
‫فقال‪" :‬وجاءوا (الفبلحٌن) من ببلدهم‪ ،‬وأتوا مصر (القاهرة)‪ ،‬وامتؤلت حارات مصر (القاهرة) وأزقتها‪،‬‬
‫وهلك أهل القرى حتى صار المسافر ٌمر بالقرٌة فبل ٌجد فٌها من أهلها إال القلٌل"‪.‬‬

‫ومن أسباب الطفشان صراعات الممالٌك داخل الرٌؾ‪ ،‬وٌضرب الجبرتً أمثلة‪ ،‬فٌقول وقعت "حرب‬
‫بٌن العسكر ]الفرق التركٌة[ والمصرلٌة ] الممالٌك[ والعربان‪ ...‬عند الخصوص وبهتٌم‪ ،‬وجبل أهل تلك‬
‫القرى‪ ،‬وخرجوا منها‪ ،‬وحضروا إلى مصر بؤوالدهم وقصاعهم‪ ،‬فلم ٌجدوا لهم مؤوى‪ ،‬ونزل الكثٌر منهم‬
‫بالرمٌلة"‪.‬‬

‫وصور الجبرتً هذه األزمة أٌضا‪" :‬وجلت الفبلحون من ببلدهم من الشراقً والظلم‪ ،‬وانتشروا فً‬ ‫َّ‬
‫المدٌنة بنسابهم وأوالدهم ٌصٌحون من الجوع‪ ،‬وٌؤكلون ما ٌتساقط فً الطرٌق من قشور البطٌخ وؼٌره‪،‬‬
‫وال ٌجد الزبال شٌبا ٌكنسه‪ ،‬واشتد بهم الحال حتى أكلوا المٌت من الخٌل والحمٌر‪ ،‬فإذا خرج حمار مٌت‬
‫تزاحموا علٌه وقطعوه وأخذوه‪ ،‬ومنهم من ٌؤكله نٌبا من شدة الجوع‪ ،‬ومات كثٌر من الفقراء بالجوع‪ .‬هذا‬

‫(ٗ‪)8‬‬
‫‪ -‬عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار‪ ،‬عبد الرحمن الجبرتً‪ ،‬جٕ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬مبلحق الكتاب‪ ،‬ص ‪9ٕٓ -9ٔ9‬‬

‫‪ٖٗ8‬‬
‫والؽبلء مستمر واألسعار فً الشدة‪ ،‬وعز الدرهم والدٌنار من أٌدي الناس‪ .‬وق َّل التعامل إال فٌما ٌإكل‪،‬‬
‫وصار سمر الناس وحدٌثهم فً المجالس ذكر المؤكل والقمح والسمن ونحو ذلك ال ؼٌر"‪.‬‬

‫كونوا الحارات التً اشتهرت باسم "الحارات واألحٌاء الشعبٌة"‪ ،‬ألنها مكونة من‬
‫وؼالبا هإالء هم الذٌن َّ‬
‫المصرٌٌن والد البلد فً القاهرة ومصر القدٌمة منذ القرن الـ ‪ ،ٔ8‬وباتت معروفة بؤصالة تقالٌدها المصرٌة‬
‫وبؤنها حارات والد البلد بعد أن كانت المدٌنتان مقسمتان لحارات خاصة باألجانب‪.‬‬

‫وأحٌانا ٌتجمع أهالً عدة قرى فً قرٌة واحدة لٌبتعدوا عن الجند المكلفٌن بجمع الفِرد‪ ،‬وما ٌكاد هإالء‬
‫الجند ٌإمون هذه القرى التً تجمع فٌها الفبلحون حتى ٌلحقها الخراب وٌتركها الفبلحون إلى ؼٌرها‪ ،‬ومن‬
‫نتابج هذا األسلوب أن إقلٌما مثل إقلٌم المنوفٌة مثبل لم ٌبق به فً سنة ٗٓ‪ ٔ8‬إال ٕ٘ قرٌة فٌها بعض‬
‫سكان‪ ،‬وباقً قراه أصبحت خرابا لٌس فٌها دٌَّار وال نافخ نار على حد تعبٌر الجبرتً(٘‪.)8‬‬

‫وفً بداٌة تطبٌق نظام االلتزام لما ألزمت اإلدارة العثمانلٌة مشاٌخ القرى بإعادة الفبلحٌن إلى أراضٌهم‬
‫لزراعتها‪ ،‬سمحت لهم باستخدام أعنؾ الوسابل‪ ،‬ووصؾ هذا الجبرتً‪" :‬وكان إذا تؤخر الفبلح فً دفع‬
‫الضرٌبة جروه من شنبه‪ ،‬وبطحوه‪ ،‬وضربوه بالنبابٌت رجال الملتزم‪ ،‬هذا عدا ما كان ٌراه من عسؾ‬
‫الصراؾ النصرانً من مماطلة فً استخراج ورقة الخبلص‪ ،‬وكذلك الشاهد والشاوٌش الذٌن كانوا ٌسٌمونه‬
‫أنواع العذاب"‪.‬‬

‫ولم ٌرضخ كل الفبلحٌن لؤلسالٌب الخبٌثة للطرق الصوفٌة الداعٌة إلى االستسبلم واالستكانة أمام هذه‬
‫المظالم‪ ،‬بل نقرأ فً المصادر‪ -‬حسبما ٌنقل د‪.‬عبد الرحٌم عبد الرحمن عبد الرحٌم عن وثابق العصر‪ -‬أن‬
‫بعضهم قتل المعٌنٌن لجمع المؽارم والكلؾ والفرد‪ ،‬ولم ٌرضخوا لهذه المظالم‪ ،‬وٌعلق بؤنه إن كانت هذه‬
‫الحاالت لم تكن ظاهرة عامة‪ ،‬وإنما لها مؽزاها الذي ٌدل على أن الفبلح مهما هجر قرٌته فهو مطارد بهذه‬
‫المظالم من أصحاب النفوذ‪ ،‬ولذا فإنه فضل فً بعض األحٌان اللجوء للقتل لٌفرج عن مكنون ذات صدره‪،‬‬
‫وتعبٌرا عن عدم رضاه عن األسالٌب ؼٌر اإلنسانٌة التً ٌتبعها المحتل فً معاملته(‪.)8ٙ‬‬

‫وٌسجل الشعرانً حٌنها مشهدا من مشاهد تشرد الفبلحٌن داخل ببلدهم‪" :‬فصار الٌوم كل فبلح خرج من‬
‫بلده ٌذوب كما ٌذوب الملح فً الماء (‪ )...‬ال ٌجد أحدا ٌؤوٌه‪ ،‬ثم إذا رجع بعد طول الؽربة ٌرجع كلحانا‬
‫كالقط األجرب ال ٌجد أحدا ٌسعى فً رده إلى وطنه‪ ،‬فبل حول وال قوة إال باهلل العلً العظٌم"(‪.)89‬‬

‫ودمـروا كل أشٌابً الحبٌبـــا ِ‬


‫ت‬ ‫نفٌت واستوطن األؼراب فً بلدي‬

‫أم ؼرك البهرج الخـداع موالتً‬ ‫ؾ وفً كذ ِ‬


‫ب‬ ‫خانتك عٌناكِ فً زٌ ٍ‬
‫(٘‪)8‬‬
‫‪ -‬الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ ٖٔ9‬و‪ٔٙ8-ٔٙٙ‬‬
‫وأنا أنقل هذه الكلمات من كتاب الجبرتً سمعت فً قناة تلفزٌونٌة مذٌعة تطمبن الناس إلى أن مصر مهما تعرضت لؽزوات أو هجرات وتؤثٌرات‬
‫أجنبٌة إال أنها ال تتؤثر‪ ،‬وقالت نصا‪" :‬إال مصر ‪ ،‬عمرها ما تتؤثر‪ ،‬داٌما هً اللً تبلع ؼٌرها مش ؼٌرها اللً ٌبلعها‪ ،‬دي أم الدنٌا"‪ ..‬فربما حان‬
‫الوقت لمراجعة هذا االطمبنان‪.‬‬
‫(‪)8ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬هوامش ص ‪ ،ٔ٘ٙ‬و‪ٔٙ8‬‬
‫(‪)89‬‬
‫‪ -‬البحر المورود فً المواثٌق والعهود‪ ،‬عبد الوهاب الشعرانً‪ ،‬مكتبة الثقافة الدٌنٌة‪ ،‬طٔ‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٓٓٗ ،‬ص ٕٗٔ‬

‫‪ٖٗ9‬‬
‫(‪)88‬‬
‫والؽدر حطم أمالً العرٌضا ِ‬
‫ت‬ ‫أصٌـح والسٌؾ مزروع بخاصرتً‬

‫♦♦♦ لماذا لم ننتحر؟‬

‫لمَّا ٌضع الواحد نفسه محل أجداده هإالء ٌسؤل نفسه كٌؾ كانوا ٌنظرون لحٌاتهم‪ ،‬لسبب وجودهم‪،‬‬
‫ولماذا ٌعٌشون؟ فهم إن ثاروا مُزقوا تمزٌقا‪ ،‬وإن سكتوا مُزقوا تمزٌقا‪ ،‬وال أمل لبل رٌقهم وتطبٌب جراحهم‬
‫تحمله أي رٌاح‪.‬‬

‫محرومون من أؼلب المتع‪ ،‬محرومون من متعة األكل‪ٌ ،‬ؤكلون نوعا واحد أو نوعٌن ثبلثة من الطعام‬
‫طول السنة (الخبز والبصل والجبن)‪ ،‬ال ٌبدلونه إال فً الفرح والعٌد‪ ،‬هل إذن لمتعة اللبس والمظهر‬
‫الحسن؟ إنهم محرومون أساسا من اللبس ومعظمهم ال ٌملك أكثر من جبلبٌتٌن‪ ،‬هل لمتعة الطموح والترقً‬
‫فً المناصب أو التملك والؽنى؟ هم أساسا محرومون من المناصب ومن الؽنى‪ ،‬هل طٌب لمتعة العلم‬
‫واالستكشاؾ؟ هم أساسا محرمون من كل أنواع العلم التً فٌها استكشاؾ‪ٌ ،‬مكن لمتعة ممارسة المواهب‬
‫واإلبداع؟ هم أساسا محصورون فً أنواع معٌنة من المهن وال ٌتوفر لهم جو اإلبداع وتنمٌته وتنمٌة‬
‫المواهب إال قلٌبل‪ ،‬وٌجترون المهارات التً ورثوها من حضارتهم وعصورهم الماضٌة‪ ،‬إذن لماذا ٌعٌشون‬
‫وٌتحملون وهم األشراؾ أوالد األشراؾ هذا الذل من الهمج والحبللٌؾ والفجرة والساقطٌن؟! ما منعهم من‬
‫عمل حفبلت انتحار جماعً؟‬

‫َ‬
‫ٌتبق إذن من متع الحٌاة لهم إال ثبلث نعم لم ٌنزعها منهم الهكسوس‪ ،‬متعة اإلٌمان باهلل‪ ،‬ومتعة‬ ‫لم‬
‫االرتباط بالبلد رؼم التشرد‪ ،‬ومتعة الزواج واإلنجاب ودؾءاألسرة‪ ،‬األولى حفظته من االنتحار‪ ،‬والثانٌة‬
‫والثالثة حفظتاه من االندثار‪ ،‬وبجانبهم روح التكافل المصرٌة القدٌمة التً تجعلهم ٌعٌنون بعضهم بعضا‬
‫بؤقل القلٌل‪ ،‬والنخلة والجمٌزة والنبقة وحشٌش األرض كالخبٌزة‪ ٗ ،‬نباتات ساعدت ثمارهم المجانٌة‪-‬‬
‫أحٌانا‪ -‬فً سد رمق المعدمٌن وصلب عودهم بدل الموت جوعا‪ ،‬نبات نعمة فً رٌؾ مصر طعام ربانً‪،‬‬
‫بهذه النعم فقط نجا المصري من اإلبادة‪ ،‬بهذه النعم فقط تحمل رذاٌل الهمج والحبللٌؾ‪ ،‬وكؤن بداخله نداء‬
‫ٌقول له‪:‬‬

‫" َ‬
‫ابق‪ ..‬فسترجع ٌوما تطفو على السطح‪ ،‬وٌسقط القناع‪ ،‬وتعلو بجناحً حور فوق رءوس الكل‪ ،‬فوق كل‬
‫ابق‪ ..‬فظهرك ملا بمن سٌخرجون منه وٌرفعون اسمك‬ ‫هإالء الهكسوس الطواعٌن الذٌن ٌنهشونك اآلن‪َ ..‬‬
‫ورسمك من جدٌد فوق األمم‪ ،‬وٌلتقطون الصولجان‪َ ..‬‬
‫ابق‪" ..‬إحنا راجعٌن"‪ ...‬وهذا وعد"‪.‬‬

‫ومصر عارفة وشاٌفة وبتصبر‪..‬‬

‫لكنها فً خطفة زمن تعبر‪..‬‬

‫(‪)89‬‬ ‫وتسترد االسم والعناوين‪..‬‬

‫(‪)88‬‬
‫‪ -‬قصٌدة أنا ولٌلى‪ ،‬كلمات حسن مروانً‪ ،‬ألحان وؼناء كاظم الساهر‬

‫ٖٓ٘‬
‫الفبلح المقاتل رمسٌس الثانً‪ ..‬سنعود‬

‫(ٓ‪)9‬‬
‫جنة ترعاها الخنازٌر (الحاللٌؾ)‬

‫تعودت الحبللٌؾ الرعً فً الزبالة‪ ،‬علٌها تتؽذى ومنها تخرج لحومها التً اعتبرها األجداد زبالة أٌضا‪،‬‬
‫وأؼلب من اعتدوا على مصر وأذلوها حبللٌؾ تعودوا على عٌشة الزبالة‪ ،‬أي أكل الحرام وحقوق الؽٌر‪،‬‬
‫وؼفلة المصرٌٌن القدٌمة وهبتهم فرصة أن ٌرعوا فً الجنة ألول مرة‪ ..‬فً مصر‪.‬‬

‫ووصفت عشرات الكتب فً عصور االحتبلل مصر وتؽنت بثرابها ومناخها ونٌلها وزرعها وما تتفرد به‬
‫وسط العالمٌن من صنع هللا أو صنع أهلها‪ ،‬ومن ٌقرأها ٌحس أن كل من على أرضها ٌتقلب فً النعٌم‪ ،‬ال‬
‫فقر فٌها وال ضنى‪ ،‬فكٌؾ كانت حال مصر وسط ما كان أؼلب أوالدها ٌقاسون ما قاسوا فً االحتبلالت؟‬

‫ٌقول ابن زوالق والسٌوطً والبؽدادي وؼٌرهم من مقٌمٌن فً مصر أو رحالة زابرٌن(ٔ‪ )9‬إن خٌرات‬
‫مصر تنوعت‪ ،‬فمن ؼبللها ونباتاتها‪ :‬القمح والشعٌر والذرة واألرز والقطن والكتان والبرسٌم والرٌحان‪،‬‬
‫ومن فواكهها وحلوها‪ :‬التٌن والدوم والموز واللٌمون والبلح والخوخ والتفاح والكمثرى والبرقوق والموز‬
‫والرمان والعنب وقصب السكر والبطٌخ والشمام وقرع العسل والجمٌز والنبق والخروب‪ ،‬ومن خضرواتها‬
‫وبقولها‪ :‬الباذنجان والعدس والفول والبصل والثوم والبسلة واللفت والجزر والفجل والقنبٌط واللوبٌا‬
‫والحمص والقرطم والعصفر وأعشاب الدواء‪ ،‬ومن أخشابها‪ :‬األبنوس وخشب اللنج والسنط‪ ،‬ومن زهورها‪:‬‬
‫البنفسج والٌاسمٌن والنٌلوفر والبشنٌن والنرجس والورد‪.‬‬

‫(‪)89‬‬
‫‪ -‬قصٌدة ضحكة المساجٌن‪ ،‬تؤلٌؾ‪ :‬عبد الرحمن األبنودي‬
‫(ٓ‪)9‬‬
‫‪ -‬مثل مصري انتشر أٌام الممالٌك والعثمانلٌة عن الست الحلوة لما تتجوز راجل وحش‪ ،‬انظر‪ :‬العادات والتقالٌد المصرٌة من األمثال الشعبٌة‬
‫فً عهد محمد علً‪ ،‬جون بوركهارت‪ ،‬ترجمة إبراهٌم شعالن‪ ،‬ط ٖ‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬ص ٖٔٔ‬
‫(ٔ‪)9‬‬
‫‪ -‬لمراجعة األوصاؾ السابقة عن مصر واالستزادة انظر‪ :‬حسن المحاضرة فً تارٌخ مصر والقاهرة‪ ،‬جالل الدٌن السٌوطً‪ ،‬تحقٌق محمد أبو‬
‫الفضل إبراهٌم‪ ،‬ج ٕ‪ ،‬ط ٔ‪ ،‬دار إحٌاء الكتب العربٌة‪ ،‬ص ٔ‪ ،ٗٗ8 -ٖ9‬وفضابل مصر وأخبارها وخواصها البن زوالق‪ ،‬تحقٌق علً محمد عمر‪،‬‬
‫الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬ص ‪ ،ٖٔٓ -97‬و اإلفادة واالعتبار فً األمور المشاهدة والحوادث المعاٌنة بؤرض مصر‪ ،‬عبد اللطٌؾ البؽدادي‪ ،‬ط‬
‫ٕ‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬ص ٔ‪ ٕٔٓ -ٙ‬وص ‪ٕٖٔ -ٔٔ8‬‬

‫ٖٔ٘‬
‫ومن أسماكها‪ :‬أم الخلول والبلطً والبوري والبسارٌا وسمك موسى واألبرمٌس‪ ،‬ومن طٌورها‪ :‬الدجاج‬
‫والحمام والوز والبط والسمان‪ ،‬ومن طٌور زٌنتها‪ :‬الكروان والقمري والعصافٌر‪ ،‬ومن حٌواناتها‪ :‬البقر‬
‫والجاموس والخراؾ والماعز والجمال والخٌل ولٌس مثلها فً الدنٌا‪ ،‬وٌروي بن زوالق أنه لفخامتها كان‬
‫الخلفاء ٌفضلون ركوبها‪.‬‬

‫كذلك من حٌواناتها‪ :‬النعام واألرانب والؽزالن والزرافة والحمٌر‪ ،‬وأعجب البؽدادي بالحمٌر فً مصر‬
‫لسرعتها ورشاقتها حتى قال فً كتابه "اإلفادة واالعتبار" إنها لو جرت مع الخٌل النفٌسة لعلها تسبقها‪،‬‬
‫وأعجب بنوع بقر اسمه الخٌسٌة عظٌمة القرون ؼزٌرة اللبن‪ ،‬وتصدر للخارج‪.‬‬

‫ومن أكبلتها‪ :‬الكباب ومكفن بالصلصة‪ ،‬والدجاج بالسكر والمسك‪ ،‬والفسٌخ واألجبان واأللبان والرز المفلفل‬
‫والمتوكلٌة والنٌدة (فطاٌر) والكنافة والزالبٌة والقطاٌؾ والفالوذج (حلوى من عسل ونشا) والعدس‬
‫والمدمس والصحناة والدلٌنس (الملوحة وأم الخلول) والعصٌدة وعٌش الكعكا والقنود (كٌزان العسل)‬
‫والحمص المسلوق والهرٌسة بالفستق ورؼٌؾ الصٌنٌة المحشً بلحم الخراؾ والسنبوسك والوٌكة‬
‫والملوخٌة والقلقاس‪ ،‬ومن شرابها‪ :‬شربات العسل‪ ،‬وبحسب ابن زوالق كان الخلفاء ٌطلبونه من والة مصر‪،‬‬
‫وشربات الزبٌب واللٌمون والبوظة وشراب البنفسج‪ ،‬وقٌل ٌوجد فً مصر كل وقت من الزمان من المؤكول‬
‫والمؤدوم والمشموم وساٌر القول والخضر جمٌع ذلك فً الصٌؾ والشتاء‪ ،‬ال ٌنقطع من شًء لبرد وال‬
‫لحر‪.‬‬

‫ومن صناعاتها‪ :‬النسٌج فً دمٌاط وتنٌس واإلسكندرٌة وأخمٌم والبهنسا كالستور‪ ،‬والكوفٌة‪ ،‬والتطرٌز‪،‬‬
‫وتصدر هذا برة حتى قٌل "لٌس فً الدنٌا ملك جاهلً وال إسبلمً ٌلبس خواصه وحرمه ؼٌر ثٌابها"‬
‫والمفروشات‪ ،‬والسجاد‪ ،‬والتلً فً أخمٌم‪ ،‬وصناعة القراطٌس (البردي) وال توجد إال فً مصر‪ ،‬والسكر‪،‬‬
‫والسبلح من سٌوؾ ورماح‪ ،‬الزجاج وفنون الخشب‪ ،‬والسفن‪ ،‬وؼٌرها‪ ،‬وبجبالها الذهب والفضة والٌاقوت‬
‫والزمرد ولٌس فً الدنٌا زمرد مثله إال فً مصر‪.‬‬

‫وبها من أنواع المدارس والخوانق والزواٌا والعماٌر الجلٌلة معدومة المثال‪ ،‬المسقوفة باألخشاب‪،‬‬
‫والمدهونة الملمعة بالذهب والبلزورد‪ ،‬المفروش ؼالبها بالرخام‪ ،‬حتى حماماتها فً األسواق بالرخام من‬
‫كثرته‪ ،‬حتى حرص الفاتحون على اقتبلعه لحمله لببلدهم كما فعل سلٌم العثمانلً‪.‬‬

‫وعن فرحة العٌن طوال فصول السنة لما تراه من جمالها‪ ،‬قالوا إن نٌلها ٌطبقها (ٌؽطٌها فً الفٌضان)‬
‫فتصٌر كؤنها فضة بٌضاء‪ ،‬ثم ٌنضب عنها (بعد الفٌضان) فتصٌر مسكة سوداء‪ ،‬ثم تزرع فتصٌر زبرجدة‬
‫خضراء‪ ،‬ثم تستحصد فتصٌر ذهبة صفراء‪.‬‬

‫وحكى ابن زوالق فً كتابه "فضابل مصر وأخبارها وخواصها" عن أعجوبة أن مناخ مصر وأرضها‬
‫جعلوا وكؤن كل األشٌاء فً الدنٌا من زرع وصحاري ومراعً وجبال وسهول تتجمع فٌها فً مساحة‬
‫صؽٌرة فً أي مكان فً وادٌها‪ ،‬فٌقول إن أمٌر مصر (الوالً) موسى بن عٌسى وقؾ بالمٌدان عند بركة‬

‫ٕٖ٘‬
‫الحبش بالفسطاط‪ ،‬فالتفت ٌمٌنا وشماال‪ ،‬وقال لمن معه من جنده‪ :‬أترون ما أرى؟‬

‫قالوا‪ :‬وما ٌرى األمٌر؟‬

‫قال‪ :‬أرى عجبًا‪ ،‬ما فً شًء من الدنٌا مثله‪ ،‬أرى مٌدان أزهار‪ ،‬وحٌطان نخل‪ ،‬وبستان شجر‪ ،‬ومنازل‬
‫سكنى‪ ،‬وجبانة أموات‪ ،‬ونهرً ا عجاجً ا‪ ،‬وأرض زرع‪ ،‬ومراعً ماشٌة‪ ،‬ومرابط خٌل‪ ،‬وساحل بحر‪ ،‬وقانص‬
‫وحش‪ ،‬وصابد سمك‪ ،‬ومبلح سفٌنة‪ ،‬وحادي إبل‪ ،‬ورمبل وسهبل وجببل‪ ،‬فهذه سبعة عشر؛ مسٌرها فً أقل‬
‫من مٌل فً مٌل‪.‬‬

‫أما آثارها التً تركها األقدمون فتعلو على الوصؾ‪ ،‬وقال الحكماء إنها معدن الحكمة التً انتشرت فً أٌدي‬
‫الناس‪ ،‬ولخص أبو بكر بن سبلر هذا فً أشعاره‪:‬‬

‫هً الجنـــة العلـــٌا لمن ٌتفكر‬ ‫بمصر وإنمـــــا‬


‫ٍ‬ ‫لعمرك ما مصر‬

‫وروضتها الفردوس والنٌل كوثر‬ ‫فؤوالدها الولدان من نســـل آدم‬

‫واألسمى من نعم الجنات والبطون والمساكن‪ ،‬نعمة السكٌنة والطمؤنٌنة التً كانت تعمر صدور أهلها‪ ،‬وقٌم‬
‫ماعت وحكمتها المسطورة فً الدولة القوٌة الحامٌة‪ ،‬قبل االنزالق فً جهنم االحتبلالت‪.‬‬

‫فً هذه الجنة التً خلقتها بعد هللا أٌدي أبنابها‪ ،‬من حكمة وزرع وحٌوان وجواهر وصناعات وآثار ومن كل‬
‫خٌر مختلؾ األلوان‪ٌ ..‬رعى فٌها األؼراب‪ ،‬المحتلون السفاحون‪ ،‬فؤكلوا وجاع أهلها‪ ،‬ولبسوا وتعرى أهلها‪،‬‬
‫وسكنوا وتشرد أهلها‪ ،‬وسرقوا حكمتها ونسٌها أهلها‪ ،‬ودخلوها آمنٌن وفزع أهلها‪...‬‬

‫حٌن نسوا وصٌة حور‪ ،‬وثٌقة العهد‪ ،‬وصٌة األجداد األزلٌة األبدٌة‪:‬‬

‫"إن البوابات ]الحدود[ التً فوقك كبوابات حامٌة‪ ....‬إنها سوؾ ال تفتح للؽربٌٌن‪ ،‬إنها سوؾ ال تفتح‬
‫للشرقٌٌن‪ ،‬إنها سوؾ ال تفتح للجنوبٌٌن‪ ،‬إنها سوؾ ال تفتح للشمالٌٌن‪ ،‬إنها سوؾ ال تفتح لهإالء الذٌن‬
‫فً وسط األرض‪ ،‬إنها سوؾ تفتح لحورس(ٕ‪.")9‬‬

‫فاستحقت أبناإها حٌن فرَّ طوا فٌها عقاب اإلله وتحذٌر بتاح حتب‪:‬‬

‫"إن الذي ٌفعل الماعت فذلك الذي ٌكون بعٌدا عن الضالل"‪ٌ" ،‬حل العقاب دابما بالذي ٌتخطى‬
‫قواعدها"(ٖ‪.)9‬‬

‫فإلى متى العقاب ٌارب؟‬

‫(ٕ‪)9‬‬
‫‪ -‬نصوص األهرام‪ ،‬القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ٘ٔ‪ٕٔٙ -‬‬
‫(ٖ‪)9‬‬
‫‪ -‬انظر تقدٌم علً رضوان لكتاب "الماعت‪ ..‬فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔ‪ٔ٘-‬‬

‫ٖٖ٘‬
‫▲▲▲ أٌن الثورات الكبرى؟‬

‫ثار المصرٌون ثورات ضخمة وصلت لحروب كما تابعنا ضد الفرس وآشور والٌونان والرومان‬
‫والعرب‪ ،‬وآخر الثورات الكبرى الثورة البشمورٌة سنة ‪ ٕٔٙ‬هـ (ٖٔ‪ 8‬م) فً عصر الخلٌفة المؤمون‪،‬‬
‫أظهر فٌها المصرٌون قدرة على الصمود والمواجهة لشهور أذهلت الجمٌع‪ ،‬حتى عجز أمامهم جنود الوالً‬
‫فاستؽاثوا بالمؤمون الذي فزع بنفسه من بؽداد واجتاح أرض النٌل بجٌش جدٌد لقمع الفبلحٌن‪.‬‬

‫ولمدة ألؾ سنة لم تحدث ثورة بحجمها رؼم المظالم والمذابح التً تعرض المصرٌون لها‪ ،‬وإن كان‬
‫الفبلحون لم ٌقفوا جامدٌن أمام هذه اإلهانات‪ ،‬فكانت ثوراتهم تؤخذ شكل المعارك الفردٌة أو على مستوى‬
‫انتفاضة قرٌة أو معارك مع موظفً وقوات اإلدارة المحتلة والعربان المعتدٌن‪ ،‬أو التحاٌل فً تخببة أموالهم‬
‫إن وجدت‪ ،‬أو المقاومة السلبٌة بالهروب من القرى إلى قرى أخرى أو إلى المدن‪ ،‬أو حرق محاصٌل من‬
‫ظلمهم‪ ،‬أو االمتناع عن العمل‪ ،‬أو الشكوى إلى الوالً وشٌوخ األزهر‪.‬‬

‫ومن ذلك اقتحامهم سجن الكشوفٌة بمدٌنة المنصورة إلطبلق سراح المقبوض علٌهم ظلما سنة ٓ‪،ٔٙ8‬‬
‫وفً السنببلوٌن بالدقهلٌة قبض العسكر الترك خبلل جوالتهم لتؽرٌم القرى على فبلحٌن فتصدت البلدة لهم‬
‫ودارت معارك عنٌفة بالعصى والنبوت والسبلح األبٌض‪ ،‬قتل فٌها وجرح عدد كبٌر من الطرفٌن‪ ،‬وانتهت‬
‫باقتحام المرتزقة القرٌة وفرار أهلها وهدم أسوارها عقابا لها‪ ،‬وتكرر األمر‪ ،‬وصار الملتزمون معرضون‬
‫للسب والشتم ]من الفبلحٌن الساخطٌن[‪ ،‬وحتى القتل أحٌانا(ٗ‪.)9‬‬

‫وفً ‪ ٔ998‬امتنع الفبلحون فً طهطا بالوجه القبلً عن دفع الضراٌب‪ ،‬فتوحد ال ُكشاؾ (الممالٌك حكام‬
‫المحافظات) ضدهم إلخماد تمردهم‪ ،‬لكن الفبلحٌن انتصروا علٌهم ودمروا قوتهم العسكرٌة التً جاءت‬
‫للقضاء علٌهم‪ ،‬وارتفعت الروح المعنوٌة‪ ،‬وتكرر مثل هذا فً قرى أخرى(٘‪.)9‬‬

‫ولكن أٌن ذهبت الثورات الكبرى التً تشمل مصر بؤكملها؟!‬

‫لئلجابة احتماالت‪ ..‬مجرد احتماالت تحتاج لمراجعات ودراسات‪:‬‬

‫ٔ‪ -‬من بعد االحتبلل العبٌدي أصبح معظم المصرٌٌن مسلمٌن‪ ،‬وتمكنت منهم‪ -‬فكرة "شرعٌة" الخبلفة‬
‫اإلسبلمٌة وأن الخروج علٌها ٌقوي أعداء اإلسبلم؛ فمعظم ثورات المصرٌٌن ضد الفرس والرومان‬
‫والعرب إلخ كان المحتل ٌخالفهم فً الدٌن أو المذهب ولٌس له سلطة دٌنٌة‪ ،‬كما أن اآلتٌن بالمسٌحٌة‬
‫واإلسبلم إلى مصر ألنهم أجانب فلم ٌحملوا معهم تعزٌزا لفكرة الوطن واالستقبلل‪ ،‬بل كان ٌهمهم أن ٌكون‬
‫والء المصرٌٌن للحاكم أو البابا المسٌحً المتوافق فً المذهب أٌام الرومان والحاكم أو الشٌخ المسلم أٌام‬
‫العرب ولو كان أجنبٌا‪ ،‬فتراجع أن ٌكون الدٌن حافزا من حوافز التحرر مثلما كان علٌه قبل هذا‪.‬‬

‫(ٗ‪)9‬‬
‫‪ -‬سقط الكرباج التركً ورفع الفبلح رأسه فً السنببلوٌن‪ ،‬موقع عثمانلً دوت كوم‪ٕٓٔ8 -ٔٔ -ٕ9 ،‬‬
‫(٘‪)9‬‬
‫‪ -‬األرض والفبلح فً صعٌد مصر فً العصر العثمانً‪ ،‬جمال كمال محمود‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٓٔٓ ،‬ص ‪ٕٔٙ‬‬

‫ٖٗ٘‬
‫واستؽل األٌوبٌون والممالٌك والعثمانلٌة حمبلت الفرنجة لؽزو مصر والشام لدعم الفكرة‪ ،‬وأنهم ُ‬
‫"خ َّدام‬
‫اإلسبلم لحماٌة دٌار اإلسبلم من الصلٌبٌٌن الكفرة"‪ ،‬وذلك بالرؼم من أنهم أنفسهم كانوا ٌتحالفون مع‬
‫الفرنجة لحماٌة عروشهم‪ ،‬مثلما تحالؾ الملك األٌوبً الكامل مع فردرٌك ملك الفرنجة وسلمه القدس‪،‬‬
‫وتحالؾ الممالٌك مع اإلنجلٌز والفرنسٌٌن‪ ،‬وتحالؾ العثمانلٌة مع اإلنجلٌز والفرنسٌس والروس واأللمان‪،‬‬
‫وهً تحالفات كانت ضد المسلمٌن‪.‬‬

‫ٕ‪ -‬ضٌاع الهدؾ من المصرٌٌن‪ ،‬ظل ٌلوح للمصرٌٌن‪ -‬ربما حتى االحتبلل العربً‪ -‬ضً ماضٌهم‬
‫العرٌق‪ ،‬أنهم أصحاب هذا البلد وحكامه الحقٌقٌون‪ ،‬وٌطوون صدورهم على حلم طفوهم على السطح‬
‫واسترداد صولجانهم‪ ،‬وبهذه الروح قاوموا المحتلٌن السابقٌن‪ ،‬ولكن ربما مع إسدال ستارة قرن ورا قرن‬
‫من الزمان على ما بٌنهم وبٌن ماضٌهم أبعد عنهم صورتهم كحكام لبلدهم‪.‬‬

‫ٖ‪ -‬اإلنهاك واإلرهاق واإلفقار الذي أهلك المصرٌٌن لما تكالبت علٌهم تشكٌلة أعداء بكرابٌجهم وسٌوفهم‬
‫وخناجرهم وضراٌبهم وإتاواتهم فً وقت واحد‪ :‬المحتل الربٌسً (العبٌدي‪ ،‬األٌوبً‪ ،‬المملوكً‪ ،‬العثمانً)‬
‫والمحتلون التابعون كالعربان والممالٌك وبقٌة الجالٌات األجنبٌة‪ ،‬فكان المصرٌون ٌنتقلون مع كل عصر‬
‫لحال أفقر من السابق‪ ،‬واتنحل الوبر‪ ،‬وٌضاؾ لهذا الطواعٌن والمجاعات التً ضربت المصرٌٌن ببل‬
‫رحمة "ورا بعض ورا بعض"‪ ،‬وخسفت بعدد وصحة السكان وما ٌملكونه األرض‪.‬‬

‫ٗ‪ -‬النشاط اللحوح من الطرق الصوفٌة فً كل قرٌة لشل إرادة المصرٌٌن وتعجٌزهم عن المقاومة بحجة أن‬
‫مظالم االحتبلل ببلء وقضا‪ ،‬بل نعمة‪ ،‬وأن من اإلٌمان الرضا بالقضا ولو كان أشنع الظلم‪ ،‬وأن المسلم‬
‫الربانً "ٌتطهر" بكثرة الببلء‪.‬‬

‫٘‪ -‬تقطٌع أوصال المصرٌٌن باإلقطاعات وااللتزام‪ ،‬فتحولت مصر إلى مناطق نفوذ موزعة على المحتلٌن‪،‬‬
‫فهذه القرى أو المدن تبع المملوك فبلن‪ ،‬وهذه القرى تبع شٌخ العرب تبلن‪ ،‬وهذه القرى تبع التاجر الشامً‬
‫أو المؽربً سبلن وهكذا‪ ،‬وانتقال المصري من مكان آلخر كان بإذن أو بشكل عسٌر‪ ،‬فانشلت حركة‬
‫المصرٌٌن داخل بلدهم‪ ،‬وانحصر اهتمام أهل القرٌة علٌها وعلى القرى القرٌبة‪ ،‬وقلت فرص االتصال‬
‫والتنسٌق بٌنهم فً بر مصر للقٌام بثورة أو أي عمل جماعً ٌنجٌهم من المحتل أو ٌشكل لهم قٌادة واحدة‪.‬‬

‫‪ -ٙ‬مع هذا اإلرهاق واإلفقار المنظم واإلبادة المتواصلة للمصرٌٌن كان االحتبلل ٌجدد نفسه وٌنشط‪ ،‬فٌكون‬
‫قمعه لل مقاومة دابم الشدة‪ ،‬بمعنى أن المصرٌٌن ثابتون فً األرض‪ ،‬فً حٌن المحتل إذا ضعؾ جاء محتل‬
‫آخر أزاحه وحل محله بكل نشاط وفتوة ٌفرغ شروره وعطشه الشدٌد لخٌرات مصر على الفبلحٌن‪.‬‬

‫‪ -9‬ؼٌاب الزعامة والقٌادة التً تجمع شتات ؼضب المصرٌٌن فً قبضة واحدة وتوجهه لهدؾ واحد‪،‬‬
‫فالمصرٌون ٌصنعون أعظم إنجازاتهم بالعمل الجماعً المنظم‪ ،‬وألنهم الشعب الذي اخترع الدولة والقٌادة‬
‫الجامعة‪ ،‬وأٌام الثورات ضد الفرس وآشور والٌونان والرومان كان المعبد هو الزعٌم وهو القٌادة‪ ،‬وتوارى‬
‫دور الكنٌسة أٌام االحتبلل العربً ولكن لما ظهرت قٌادات مثل ٌحنس تفجرت ثورة ‪ ٕٔٙ‬هـ الكبرى‪ -‬رؼم‬

‫ٖ٘٘‬
‫عدم تحمس الكنٌسة لها‪ -‬فقتله المؤمون‪ ،‬وعلى هذا تبدو كل األسباب السابقة "مُهبطة" ولكنها فً الحقٌقة‬
‫لٌست "مانعة" لقٌام الثورات الكبرى‪ ،‬بدلٌل أن الؽضب والمقاومة كانت تحدث فعبل ولكن على مستوى‬
‫القرى‪ ،‬وفقط تنتظر القٌادة الجامعة التً ال تتحدث إال باسم وقلب المصرٌٌن (الكٌمتٌٌن)‪ ،‬ووقتها ستسقط‬
‫كل األسباب المهبطة وٌخرج أعتى أنواع المقاومة من الصدور المصرٌة‪ ،‬وهو ما سٌثبت حٌن ظهور قٌادة‬
‫تعمل للناس ال للممالٌك والسفاحٌن مثل عمر مكرم وعرابً وسعد زؼلول وؼٌرهم فً مستقبل األٌام‪.‬‬

‫و سإال ؼٌاب الثورات الكبرى شؽل بال رحالة تجولوا فً مصر زمنً الممالٌك والعثمانلٌة‪ ،‬ومنهم‬
‫الفرنسً فولنً الذي زار مصر ٘‪ ،ٔ98‬ونفى ما تناقله رحالة آخرون عن أن الفبلحٌن المصرٌٌن طبعهم‬
‫"االستسبلم للعبودٌة"‪ ،‬وأرجع "استكانة المصرٌٌن لئلرهاق" بحسب قوله‪ ،‬وإلى أسباب أخرى هامة‪ ،‬منها‬
‫تعاقب االحتبلالت على الفبلح بحٌث لم ٌؤخذ فرصة لملمة صفوفه‪ ،‬ودابما تسبب االحتبلل فً وجود‬
‫جماعات متنافرة المصالح ]الجالٌات[‪ ،‬وأن المحتل استعان بطبقة جماعات مصالح وموظفٌن نشرها‪ -‬على‬
‫قلة عددها‪ -‬فً كل قرٌة‪ ،‬إلرهاب أهلها‪ ،‬تنشر الخصومة والمنافسة والبؽضاء بٌن أهل القرٌة‪ ،‬وتجذب إلٌها‬
‫عددا منهم تربط مصالحهم بمصالحها لٌكونوا عونا لها ضد البقٌة‪ ،‬كما أن المصرٌٌن حُرموا التدرب على‬
‫السبلح وحمله‪ ،‬والثورة على الممالٌك الذٌن حرفتهم القتال تحتاج من الثابرٌن التمرس فً القتال‪ ،‬واألهم أن‬
‫"ما ٌكبت شجاعة المصرٌٌن"‪ ،‬ما ٌظهر من "انعدام المروءة والثقة بالنفس"‪ ،‬بحسب تعبٌره‪.‬‬

‫كما أورد سببا جؽرافٌا وهو أن الطبٌعة المسطحة لمصر تجعل مناورات وحركة الثابرٌن صعبة‪ ،‬ألنها‬
‫مكشوفة‪ ،‬وسهل إخماد أي ثورة‪ ،‬عكس الببلد الجبلٌة‪.‬‬

‫و رؼم ما سبق إال أنه الحظ أن الفبلحٌن فً القرى رؼم ضٌق الحال لكنهم لم ٌستسلموا لـ"التخنٌث" مثل‬
‫أهل المدن‪ ،‬فٌتمٌزون بحٌوٌة فً النشاط والحركة وقوة تحمل المشاق والعناد؛ ما ٌظهر فً "ثاراتهم‬
‫وشراستهم فً اقتتالهم قرٌة وأخرى‪ ،‬وتمسكهم بشرؾ المحافظة على السر برؼم ضربات العصى‪،‬‬
‫ووحشٌتهم فً معاقبة نسابهم وبناتهم ألقل إخبلل بالعفاؾ‪ ،‬فً كل ذلك دلٌل على أنه إذا كانت العادة قد‬
‫أٌقظت فٌهم النخوة فً بعض النواحً‪ ،‬فإن هذه النخوة ال ٌعوزها إال التوجٌه حتى تصبح شجاعة رهٌبة‪،‬‬
‫إن الفتن التً ٌثٌرونها آونة بعد أخرى‪ ،‬وقد عٌل صبرهم‪ -‬فً مدٌرٌة الشرقٌة خاصة‪ -‬تدل على نار تحت‬
‫الرماد تنتظر لبلنفجار ٌد تعرؾ كٌؾ تحركها"(‪ .)9ٙ‬فً إشارة منه إلى أن تؤثرهم بروح العنؾ والتحزبات‬
‫القبلٌة والثارات التً نشرها وسطهم القباٌل والممالٌك ٌمكن بسهولة أن تنصرؾ عن إٌذاء بعضهم إلى‬
‫تفرٌؽها ضد المحتلٌن حال وجدوا من ٌوحدهم فً الثورة‪.‬‬

‫وفً سنة ٘‪ ٔ99‬حدث تطور الفت فً طرق احتجاج المصرٌٌن‪ ،‬وهو اللجوء إلى شٌوخ األزهر الذٌن‬
‫رأوا فٌهم زعامة ٌفتقدونها بعد أن قوٌت شوكة الشٌوخ أمام الممالٌك المتفككٌن حٌنها‪ ،‬وذلك أن أهالً قرٌة‬
‫فً بلبٌس حضروا إلى الشٌخ محمد الشرقاوي ٌشكون ظلم ممالٌك محمد األلفً لهم وكثرة الجباٌات‪ ،‬فنقل‬
‫الشرقاوي الشكوى لمراد بك وإبراهٌم بك‪ ،‬ولم ٌنصفا الناس‪ ،‬فجمع الشرقاوي كبار شٌوخ األزهر وأؼلقوا‬

‫(‪)9ٙ‬‬
‫‪ -‬عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار‪ ،‬عبد الرحمن الجبرتً‪ ،‬جٕ‪ ،‬نص الرحلة فً مبلحق الكتاب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٓ‪9ٕٕ -9‬‬

‫‪ٖ٘ٙ‬‬
‫أبوابه‪ ،‬وطلبوا من الناس اإلضراب بإؼبلق دكاكٌنهم‪ ،‬ولما بلػ مراد أمر اإلضراب أرسل لهم من ٌسؤلهم‬
‫عن مطالبهم‪ ،‬فقالوا نرٌد العدل ووقؾ المكوس التً ابتدعتموها‪ ،‬فرفض مراد مطالبهم‪.‬‬

‫وتحرك المشاٌخ‪ ،‬ومن بٌنهم عمر مكرم‪ ،‬والناس إلى األزهر وباتوا فٌه‪ ،‬فخاؾ مراد وإبراهٌم قٌام ثورة‬
‫ٌتزعمها المشاٌخ ووافقوا على إبطال بعض المكوس ووقؾ السلب والنهب‪ ،‬أحضر المشاٌخ حجة (وثٌقة)‬
‫وطلبا من مراد وإبراهٌم الختم علٌها كً تكون حجة علٌهما أمام الناس‪ ،‬فختما‪ ،‬واستبشر الناس‪ ،‬وانفك‬
‫اإلضراب‪ ،‬والتزم الممالٌك بوعدهم لمدة شهر واحد‪ ،‬وعاد األمر لما كان علٌه وزٌادة بتعبٌر الجبرتً(‪،)99‬‬
‫وهذه نقضة المطر التً ستتفجر ورابها السحب لتنهمر هبَّات وثورات مصرٌة مفاجبة‪ ..‬بداٌة من الهبَّات‬
‫ضد الفرنسٌس‪" ..‬الدواعش البٌض"‪.‬‬

‫(‪)99‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ج ٖ‪ ،‬الهٌبة العامة لقصور الثقافة‪ ،‬ص ٘‪٘99 -٘9‬‬

‫‪ٖ٘7‬‬
‫"ال تنتظر أن ٌمنحك الفرنجة الحرٌة"‬
‫(ٔ)‬
‫لورد باٌرون‬

‫(ٔ)‬
‫‪ -‬التارٌخ السري الحتبلل اإلنجلٌزي لمصر‪ -‬رواٌة شخصٌة لؤلحداث‪ ،‬ولفرٌد سكاون بلنت‪ ،‬ترجمة صبري محمد حسن‪ ،‬مقدمة المراجع د‪.‬أحمد‬
‫زكرٌا الشلق‪ ،‬المركز القومً للترجمة‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٓٔٓ ،‬ص ‪9‬‬
‫المشهد ‪ :ٔٙ‬االحتالل الفرنساوي‬

‫‪ٔ8ٓٔ -ٔ798‬‬

‫(الدواعش البٌض)‬

‫عاش الفرنسٌس فً مصر فوق بركان ثابر‪ ،‬لم ٌهدأ ٌوما ولم ٌخبُ لحظة‪ ،‬وهذا هو الذي عجل بطردهم‬
‫وعودتهم من حٌث أتوا ٌجرون أذٌال العار والهزٌمة على الرؼم من أنهم كانوا فً ذلك الوقت فً أوج‬
‫مجدهم الحربً‪ ،‬وٌقودهم قابدهم الكبٌر نابلٌون بونابرت(ٕ)‪.‬‬

‫هذه كلمات محمد عطا‪ ،‬فً مقدمة كتاب "النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة" للمقدم محمد فرج‪،‬‬
‫لخصت حال الفرنسٌس فً آخر أٌامهم فً مصر‪ ،‬أٌامهم التعٌسة‪ ،‬وهً أٌام وإن كانت كذلك تعٌسة على‬
‫المصرٌٌن‪ ،‬بل علقم وحنظل‪ ،‬لكنها كالنار التً خرج من وسطها المعدن المصري البراق بعد طول خفاء‪،‬‬
‫دون أن ٌقصد المحتل خروجه‪ ،‬فسلسلة عملٌات المقاومة ضد الفرنسٌس أحٌت فٌهم قدرتهم على العمل‬
‫الجماعً من جدٌد‪ ،‬والثورة الجماعٌة ضد المحتل من جدٌد‪.‬‬

‫وفً كبلمه عن سبب تؤلٌؾ كتابه قال محمد فرج‪" :‬وأدركت من الحقابق التارٌخٌة أن الشعب المصري‬
‫كان أكثر شعوب العالم تعرضا لمطامع االستعمار والمستعمرٌن‪ ،‬وأكثر هذه الشعوب مقاومة لها(ٖ)"‪.‬‬

‫(تارٌخ فرنسا مع مصر قبل الؽزو)‬

‫الحملة الفرنسٌة على مصر مرحلة من مراحل الطمع الرومً (األوروبً) الدابم فً مصر‪ ،‬فتابعنا أنه‬
‫بعد طرد العرب للرومان من مصر‪ ،‬كانت السفن الرومانٌة تؤتً من بٌزنطة لتهاجم اإلسكندرٌة بٌن الحٌن‬
‫والحٌن‪ ،‬ثم هبَّت مرحلة حروب الفرنجة "الصلٌبٌة" مستعٌنة بالتجار الفرنجة المقٌمٌن فً مصر‪ ،‬خاصة‬
‫دمٌاط واإلسكندرٌة‪ ،‬وفً ‪ 9‬أبرٌل ٕٓ٘ٔ لقٌت فرنسا نهاٌة "عفشة" فً مصر حٌن تعرض ملك فرنسا‬
‫لوٌس التاسع لهزٌمة مدوٌة فً معركة المنصورة‪ ،‬وقع فً األسر وحُبس فً دار ابن لقمان‪ ،‬وشاهد مقتل‬
‫وإصابة جنوده وؼرق بعضهم فً البحر(ٗ)‪.‬‬

‫وعادت فً زمن االحتبلل العثمانً بشكل ناعم وراء ستارة اإلرسالٌات التبشٌرٌة الكاثولٌكٌة (خاصة‬

‫(ٕ)‬
‫‪ -‬النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة‪ ،‬محمد فرج‪ ،‬الدار القومٌة للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٗ‬
‫(ٖ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٘‬
‫(ٗ)‬
‫‪ -‬حولت ثورة ٕ٘‪ ٔ9‬دار ابن لقمان إلى متحؾ افتتحه الربٌس جمال عبد الناصر سنةٓ‪ ٔ9ٙ‬لحفظ الذاكرة‬

‫‪ٖ٘9‬‬
‫الٌسوعٌة) التً ترعاها فرنسا‪ -‬أكبر رعاة حروب الفرنجة حتى ذلك الوقت‪ -‬وزرعت جواسٌسها فً مصر‬
‫باسم تجار ومبشرٌن‪ ،‬حتى تحٌنت اللحظة المناسبة‪ ،‬وبالفعل‪ ،‬أصبح التجار الفرنسٌس الـ ٘‪ ٙ‬الساكنٌن فً‬
‫القاهرة واإلسكندرٌة ورشٌد ودمٌاط‪ -‬إضافة للقناصل الفرنسٌس فً القاهرة واإلسكندرٌة ورشٌد‪ -‬أكبر‬
‫عون للحملة الفرنسٌة بتقارٌرهم عن أحوال مصر‪ ،‬عززوها بإرسال شكاوى عن تعرضهم لسوء المعاملة‪،‬‬
‫لتكون أحد مبررات فرنسا للتدخل أمام حلٌفها التركً(٘)‪.‬‬

‫ولعب نابلٌون بحرفٌة بورقة حماٌة األجانب‪ ،‬ففً منشوره الذي أرسله للمصرٌٌن حول أهداؾ الحملة‬
‫جاء فٌه‪" :‬من زمان مدٌد والسناجق ٌتسلطون فً الببلد المصرٌة‪ ،‬وٌتعاملون بالذل واالحتقار فً حق الملَّة‬
‫الفرنسٌة‪ ،‬وٌظلمون تجارها بؤنواع اإلٌذاء والتعدي‪ ،‬وحانت اآلن ساعة عقوبتهم"(‪.)ٙ‬‬

‫أٌضا اشتدت الرؼبة فً إعادة احتبلل مصر بعد سٌطرة المحافل الماسونٌة على فرنسا إثر الثورة‬
‫وؼذى شهوة الؽزو التنافس مع برٌطانٌا على البحار وطرق التجارة‪ ،‬وح َّفز‬ ‫َّ‬ ‫الفرنسٌة الدموٌة ‪،ٔ989‬‬
‫نابلٌون جنوده‪" :‬إذا أردنا أن نهاجم إنجلترا فعلٌنا أن نهاجمها فً مصر"‪ ،‬وخاطب جنوده لٌمؤلهم باإلٌمان‬
‫بفكرة احتبلل مصر فً ٓٔ مارس ‪" ٔ999‬إن أعبلم فرنسا تخفق ألول مرة على ضفاؾ األدرٌاتٌك على‬
‫مقربة من مقدونٌا القدٌمة التً نبت فٌها اإلسكندر واتجه إلى مصر‪ ،‬وإن مهمة كبٌرة تنتظركم(‪.")9‬‬

‫وهذه المرة‪ ..‬تعزز الؽزو بؤحبلم السٌطرة على الحضارة المصرٌة نفسها ولٌس فقط األرض المصرٌة‪،‬‬
‫وهً األحبلم التً زرعها المستشرقون والتجار الذٌن أتوا لمصر سابقا‪ ،‬وبعضهم ربما كانوا جواسٌس‬
‫لدراسة أحوال مصر وآثارها‪ ،‬ونشروها فً كتب الرحالة التً أثارت لعاب الساسة واألثرٌاء فً فرنسا‪،‬‬
‫وهو ما ظهر فً اإلعداد "العلمً" الجٌد للحملة‪ ،‬وما كان معها من علماء فً كل المجاالت‪.‬‬

‫ومعلوم أن المحافل الماسونٌة تنسب نفسها زورا للحضارة المصرٌة‪ ،‬وتحلم بالسٌطرة على مصر‬
‫وامتبلك آثارها ورموزها العرٌقة‪ ،‬ومؽرمة بتسمٌة محافلها بؤسامً مصرٌة مثل "أوزٌرٌس"‪ ،‬و"إٌزٌس"‪.‬‬

‫▼▼▼ نتابج االحتالل الفرنساوي‬

‫❶ هبوط المحافل الماسونٌة إلى مصر‬

‫الماسونٌة هً االسم القدٌم لـ"العولمة" حالٌا‪ ،‬وهً تٌار أجنبً ٌنتمً لصفة "العالمٌة"‪ ،‬وٌعنً أنه لٌس‬
‫بٌن الببلد حدود‪ ،‬زرعها شٌطان االحتبلل بالعنوة فً أرض مصر‪ ،‬وتقوم على الوالء لشً واحد‪ ،‬هو‬
‫المحفل الماسونً‪ ،‬وأن "اإلخوة" تكون فقط بٌن أعضابه‪ ،‬واسمهم "اإلخوان الماسون"‪ ،‬وال والء لوطن أو‬
‫دٌن أو أي شًء آخر بجانب المحفل ومبادبه وإخوانه‪ ،‬بل وكل من هم لٌسوا أعضاء المحفل اسمهم‬
‫"أجانب"‪ ،‬و"خوارج"‪ ،‬وعضو المحفل الماسونً فً فرنسا أو ألمانٌا أو سورٌا مثبل هو أقرب لعضو‬

‫(٘)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬بونابرت فً مصر‪ ،‬كرستوفر هٌرولد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔ‪ٕٕ -‬‬
‫(‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار‪ ،‬عبد الرحمن الجبرتً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج ٗ‪ ،‬ص ‪ٙ9 -ٙٙ‬‬
‫(‪)9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة‪ ،‬ص ٔٔ‪ٔ٘ -‬‬

‫ٓ‪ٖٙ‬‬
‫المحفل الماسونً فً مصر من المصرٌٌن(‪.)8‬‬

‫ومثل التنظٌمات والدول التً ترٌد احتكار مصر لها بنسؾ أصول المصرٌٌن ونسب حضارتهم لها‪ ،‬فإن‬
‫الماسونٌة ت َّدعً أن أصولها نشؤت فً مصر؛ وأنهم تسموا بالماسون (أي البناءٌن) نسبة إلى المهنة التً‬
‫برع فٌها المصرٌون وكانوا رقم (ٔ) فٌها فً الدنٌا كلها وهً البناء والعمارة؛ ولذا ٌحرص الماسون على‬
‫إقحام رموز حضارة مصر‪ ،‬مثل أوزٌر وإٌسة وعٌن حور "وجات" والهرم فً طقوسها‪.‬‬

‫حلَّت المحافل الماسونٌة فً مصر مع الؽزو الفرنسً سنة ‪ ،ٔ998‬ودورها ضم أصحاب الجاه والتؤثٌر‬
‫من سٌاسٌٌن وتجار وأطباء ومعلمٌن لٌكونوا عونا بنفوذهم للفرنسٌس فً مصر‪ ،‬وعن هذا ٌقول جورجً‬
‫زٌدان‪ -‬وهو ماسونً لبنانً هاجر إلى مصر فً القرن ‪ -ٔ9‬فً كتابه "تارٌخ الماسونٌة العام"‪" :‬وتفصٌل‬
‫ذلك أن نابلٌون بونابرت لما جاء الدٌار المصرٌة وافتتحها كان فً معٌته نخبة من رجال فرنسا‪ ،‬وفٌهم‬
‫الجنرال كبلبر ]كلٌبر[ المشهور‪ ،‬فلما وصلوا القاهرة اتفق بونابرت والجنرال كبلبر وعدة من الضباط‪-‬‬
‫وكانوا من اإلخوة الماسونٌٌن‪ -‬على تؤسٌس محفل ٌجتمعون إلٌه‪ ،‬فؤسسوه فً أؼسطس من تلك السنة فً‬
‫مدٌنة القاهرة‪ ،‬ودعوه "محفل إٌزٌس"‪ ،‬وهو ٌشتؽل على طرٌقة دعاها نابلٌون طرٌقة ممفٌس ]نسبة‬
‫لـ"منؾ"[ ولعلهم قصدوا بذلك مقصدا سٌاسٌا؛ ألنهم أدخلوا فٌه كثٌرا من عمد الببلد ورجالها‪ ،‬والظاهر أن‬
‫نابلٌون بونابرت كان ٌفعل مثل ذلك حٌثما نزل مفتتحا تمكٌنا لقدمه(‪ ،")9‬أي لٌساعده كبار القوم هإالء فً‬
‫قمع المقاومة باعتبار أن هذا األجنبً مدام ماسونٌا مثلهم فبل ٌجوز مقاومته‪ ،‬بل وفرٌضة علٌهم كسر أي‬
‫مقاومة له‪ ،‬خاصة واألجنبً ٌرفع شعار "الحرٌة واإلخاء والمساواة"‪.‬‬

‫وما أكثر ما ٌمكن أن تجدهم المحافل لٌقوموا بهذا الدور‪ ،‬أوال ألن معظم "عمد الببلد"‪ ،‬أي أؼنٌاإها‬
‫وأصحاب المراكز من المستوطنٌن األجانب‪ ،‬وثانٌا أن ضمهم لٌكونوا جز ُء من "تنظٌم عالمً"‪ٌ ،‬عطٌهم‬
‫"أهمٌة عالمٌة"‪ ،‬هو إحساس مؽري لهم‪ ،‬خاصة مع الضجة التً أحدثتها الثورة الفرنسٌة وقتها(ٓٔ)‪.‬‬

‫ولكن نشؤة المحافل الماسونٌة عندنا سبقها زٌارات شخصٌات ماسونٌة إلى مصر‪ ،‬وكؤنها من باب‬
‫االستطبلع وتجهٌز األرض‪ ،‬منها شباتاي تسٌفً‪ ،‬الٌهودي المولود فً تركٌا من أبوٌن مهاجرٌن من إسبانٌا‬
‫(األندلس)‪ ،‬وكان ٌمارس السحر وطقوس الكاباال(ٔٔ)‪ ،‬وادعى أنه المسٌح المنتظر‪ ،‬جاء إلى مصر بعد سنة‬
‫‪ ٔٙٙٙ‬وقابله روفابل ٌوسؾ جلبً ربٌس الطابفة الٌهودٌة ومدٌر الخزانة المصرٌة‪ ،‬وعبؤ له من خزابن‬
‫مصر أمواال طابلة توجه بها إلى فلسطٌن‪ ،‬وهناك أعلن تقسٌم العالم إلى ‪ ٖ8‬منطقة‪ ،‬وعٌَّن لكل منطقة حاكم‬
‫(ملك)‪ ،‬وهو نفس التقسٌم القابمة علٌه الماسونٌة حتى اآلن(ٕٔ)‪ ،‬وأندٌة الروتاري واللٌونز التً حلت محل‬
‫المحافل الماسونٌة فً مصر مإخرا‪.‬‬

‫(‪)8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تارٌخ الماسونٌة العام‪ ،‬جرجً زٌدان‪ ،‬مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٗٗ‬
‫(‪)9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٔٔ8 -ٔٔ9‬‬
‫(ٓٔ)‪ -‬انظر‪ :‬الماسونٌة والماسون فً مصر ‪ ،ٔ9ٙٗ -ٔ998‬وابل إبراهٌم الدسوقً‪ ،‬دار الكتب والوثابق القومٌة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪ٖٔ9‬‬
‫(ٔٔ)‬
‫‪ -‬الكاباال تسمى بالتصوؾ الٌهودي وهً علم باطنً ألسرار التفسٌر الٌهودي للتوراة بطرٌقة الرموز والحروؾ الؽامضة‪ٌ ،‬تناقلونه شفهٌا‪،‬‬
‫وتهتم بالمسٌح الٌهودي المنتظر الذي تقول إنه سٌظهر آخر الزمان لٌحكم العالم وٌجعل الٌهود ملوك البشر‪ ،‬انظر‪ :‬موسوعة المصطلحات الدٌنٌة‬
‫الٌهودٌة‪ ،‬رشاد الشامً‪ ،‬المكتب المصري لتوزٌع المطبوعات‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪ٖٔٔ -ٕٔ9‬‬
‫(ٕٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الماسونٌة والماسون فً مصر ‪ ،ٔ9ٙٗ -ٔ998‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔ‪ٕٕ -‬‬

‫ٔ‪ٖٙ‬‬
‫ؼٌر أن محفل "إٌزٌس" "تفركش" لما اضطرت الحملة الفرنسٌة للجبلء عن مصر بعد ٖ سنٌن‪ ،‬وستعود‬
‫المحافل الماسونٌة بؤسنان حادة بعد قلٌل كما سنتابع عند الحدٌث عن االحتبللٌن العلوي واإلنجلٌزي‪.‬‬

‫❷ مبرر جدٌد لالحتالل‪" ..‬نشر الحرٌة واإلخاء والمساواة"‬

‫دراسة نابلٌون لمصر وعاداتها وأحوال أهلها جعلته ٌرى أن مفتاح الدخول للمصرٌٌن هو النفاق والمدٌح‬
‫لهم ولبلدهم‪ ،‬والحدٌث عن أحقٌتهم بحكم بلدهم‪ ،‬خاصة وأنه اكتشؾ المرار الذي بداخلهم من سوء معاملة‬
‫العثمانٌٌن والممالٌك وتكبرهم علٌهم‪ ،‬وجاء لمصر مسرشدا بكتاب الرحالة فولنً الذي وصؾ معاناة‬
‫المصرٌٌن وأنهم بانتظار "أٌدي تحرك" الثورة فً نفوسهم ضد الممالٌك‪ ،‬فقرر تقدٌم نفسه لهم بصفته‬
‫"المخلص والمنقذ"‪ ،‬وعمل التالً‪:‬‬

‫وزع منشورات على جنوده وصاهم فٌها باحترام مشاعر المصرٌٌٌن وشعابرهم الدٌنٌة‪ ،‬وعدم التعرض‬
‫لنسابهم وأموالهم وبٌوتهم‪ ،‬وهدد من ٌخالؾ هذا بالعقاب الشدٌد‪.‬‬

‫ومنها منشور أذاعه على الجنود فً ‪ٌ ٕ8‬ونٌو ‪ ٔ998‬قال فٌه‪" :‬أٌها الجنود إنكم ستخوضون ؼمار حملة‬
‫لها آثار ال تحصى فً حضارة العالم وتجارته‪ ،‬وستنالون إنجلترا بضربة هً أشد ما ٌصٌبها فً الصمٌم‪...‬‬
‫إن الشعب الذي سنتصل به ٌدٌن بدٌن اإلسبلم‪ ،‬وأول أركانه شهادة أن ال إله إال هللا وأن محمد رسول هللا؛‬
‫فبل تعارضوهم فً دٌنهم‪ ،‬وعاملوهم كما عاملتم الٌهود‪ ،‬وكما عاملتم اإلٌطالٌٌن‪ ،‬واحترموا مشاٌخهم‬
‫وأبمتهم‪ ..،‬وستجدون هناك عادات تختلؾ عن عادات أوروبا فعلٌكم أن تؤلفوها‪ .‬وإن الشعب الذي سنقٌم‬
‫بٌنه ٌعامل النساء على ؼٌر عاداتنا‪ ،‬واالعتداء على أعراض النساء جرٌمة ال ٌقدم علٌها إال الوحوش‪...‬‬
‫واعلموا أن النهب ال ٌعود بالنفع إال على طابفة قلٌلة من الناس‪ ،‬ولكنه ٌدنس شرفنا‪ ،‬وٌقضً على مواردنا‪،‬‬
‫وٌجلب علٌنا كراهٌة الشعوب التً تقضً مصلحتنا بؤن نكسب ودها"‪.‬‬

‫وزاد الفرنسٌس فً التودد للمصرٌٌن بؤنه فً اإلسكندرٌة أصدر كلٌبر‪ -‬أحد قواد الحملة‪ -‬تهدٌدات بتنفٌذ‬
‫عقوبة اإلعدام على الجنود الذٌن ٌعتدون على حرمات البٌوت أو المساجد‪ ،‬أو ٌتسلق البٌوت‪ ،‬أو لو صاد‬
‫الحمام باآلالت النارٌة وتسبب فً تعرٌض حٌاة األهالً للخطر‪ ،‬وهذا خوفا من ؼضب األهالً وانتفاضهم‬
‫ضد الفرنسٌس‪ ،‬وعارض كلٌبر نابلٌون لما فكر فً فرض ضراٌب على تجار اإلسكندرٌة(ٖٔ)‪.‬‬

‫وهذا هو األسلوب الجدٌد لبلحتبلالت التً ستطبق على رقبة مصر منذ ذلك التارٌخ وما بعده‪ ،‬بل‬
‫والعالم كله‪ ،‬فهو لٌس أسلوب فرض القوة والسبلح المباشر وحده‪ -‬فً البداٌة‪ -‬بل المحتل ٌزحؾ مقدما نفسه‬
‫فً ثوب "المنقذ"‪ ،‬و"ناصر دٌن أهل البلد"‪ ،‬ومن ٌحمل لها "اإلخاء" و"الحرٌة"‪.‬‬

‫لعب نابلٌون على وتر ضٌق المصرٌٌن من استبعادهم من المناصب والثروات‪ ،‬فقال فً منشوره‬
‫للمصرٌٌن‪" :‬هذه الزمرة من الممالٌك المجلوبٌن من جورجٌا والقوقاز ٌفسدون فً اإلقلٌم الحسن األحسن‬

‫(ٖٔ)‬
‫‪ -‬النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٓ‪ٕٔ -‬‬

‫ٕ‪ٖٙ‬‬
‫الذي ال ٌوجد فً كرة األرض كلها‪ ..‬أٌها المصرٌون قولوا للمفترٌن أننً ما قدمت إلٌكم إال ألخلص حقكم‬
‫من ٌد الظالمٌن‪ ..‬ماذا ٌمٌزهم عن ؼٌرهم حتى ٌستوجبوا أن ٌتملكوا مصر وحدهم وٌختصوا بكل شًء‬
‫أحسن فٌها من الجواري الحسان والخٌل العتاق والمساكن المفرجة‪ ،‬فإذا كانت األرض المصرٌة التزاما‬
‫للممالٌك فلٌقدموا لنا الحجة التً كتبها هللا لهم‪ ،‬ولكن رب العالمٌن رإوؾ وعادل وحلٌم‪ ،‬ولكن بعونه تعالى‬
‫من اآلن فصاعدا ال ٌٌبس أحد من أهالً مصر من الدخول فً المناصب السامٌة‪ ،‬وعن اكتساب المراتب‬
‫العالٌة؛ فالعلماء والفضبلء والعقبلء بٌنهم سٌدبرون األمور‪ ،‬وبذلك ٌصلح حال األمة كلها"‪.‬‬

‫ٌنس األسلوب القدٌم وهو اللعب بورقة الدٌن؛ فتودد للمصرٌٌن باسم اإلسبلم‪ ،‬حتى إنه فتح أول‬ ‫أٌضا لم َ‬
‫منشور ٌخاطب المصرٌٌن بعبارات "بسم هللا الرحمن الرحٌم‪ ،‬ال إله إال هللا ال ولد له‪ ،‬وال شرٌك له فً‬
‫ملكه"‪ ،‬وقال "إننً أكثر من الممالٌك أعبد هللا سبحانه وتعالى واحترم نبٌه والقرآن العظٌم(ٗٔ)"‪.‬‬

‫واعترؾ نابلٌون وهو فً منفاه فً سانت هٌبلنة فٌما بعد بؤنه فعل ذلك تؤثرا بما فعله اإلسكندر‪ ،‬فً‬
‫إشارة إلى تودد اإلسكندر للمصرٌٌن من بوابة الدٌن ووالبه آل َّمون‪ ،‬فقال‪" :‬كان ٌفعل هذا وهو على وعً‬
‫تام بعقلٌة هإالء الناس‪ ...‬وقد حقق بعمله هذا من حٌث تثبٌت دعابم فتحه للببلد أكثر مما كان ٌحققه لو بنى‬
‫ٕٓ حصنا وعزز جٌشه بـ ٓٓٔ ألؾ من المقاتلٌن المقدونٌٌن"(٘ٔ)‪.‬‬

‫واعترؾ أٌضا فً منفاه بؤن هذا المنشور كان "قطعة من الدجل‪ ،‬ولكنه دجل من أعلى طراز"‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"ع َّل اإلنسان أن ٌصطنع الدجل فً هذه الدنٌا ألنه السبٌل الوحٌد إلى النجاح(‪ ،")ٔٙ‬هكذا فكر أبناء الثورة‬
‫الفرنسٌة التً قالوا إنها قامت لتنشر فً العالم احترام العقل وحرٌات الشعوب‪.‬‬

‫كان هذا المنشور ونابلٌون قادم فً البحر‪ ،‬أما حٌن اقترب أزٌر سفنه من السواحل ووجدت مقاومة من‬
‫اإلسكندرٌة ترجم الفرنسٌس معانً "اإلخاء" و"الحرٌة"‪ ،‬و"المساواة" للسكان بالتحٌة التالٌة‪.‬‬

‫ٌحكً الكولونٌل سلكوسكً فً مذكراته‪ ،‬وهو ضابط فً الحملة‪ ،‬إنه لما احتل الفرنسٌس مالطة وصل الخبر‬
‫للمصرٌٌن "وعندما الح األسطول الفرنسً‪ ،‬وأصبح فً حدود النظر‪ ،‬أرسل السٌد كرٌم (محمد كرٌم) ٖٔ ساعٌا‬
‫إلى القاهرة لٌنبا المسبولٌن بوصول الفرنسٌٌن‪ ،‬وبذله معه أهل اإلسكندرٌة كل ما فً استطاعتهم لمقاومة الؽزو‬
‫وللدفاع عن المدٌنة‪ ،‬وحصنوا األسوار‪ ،‬وأمدوا القبلع بالذخٌرة‪ ،‬وأعدوا السبلح‪ ،‬وحمله القادرون منهم‪ ،‬ووضعوا‬
‫المدافع فً أماكنها على أسوار المدٌنة‪ ،‬وجهزوا جماعة من الفرسان لتقوم بمناوشة الفرنسٌٌن عند نزولهم‪ ،‬ووقؾ‬
‫األهالً محتشدٌن حاملٌن السبلح مشاة وركبانا‪ ،‬رجاال ونساء‪ ،‬صؽارا وكبارا ٌطلقون النٌران‪ ،‬وٌقاومون الؽزو‪،‬‬
‫إال أن الفرنسٌس استطاعوا أن ٌتؽلبوا علٌهم لكثرة عدتهم ولتمٌز سبلحهم(‪.")ٔ9‬‬

‫(ٗٔ)‬
‫‪ -‬نص الرسالة كامل فً عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار‪ ،‬عبد الرحمن الجبرتً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج ٗ‪ ،‬ص ‪ٙ9 -ٙٙ‬‬
‫(٘ٔ)‬
‫‪ -‬بونابرت فً مصر‪ ،‬كرستوفر هٌرولد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ ٔ97‬وٕٓٓ‬
‫*وهذا نفس أسلوب الربٌس األمرٌكً باراك أوباما عندما ألقى خطابا فً جامعة القاهرة ‪ ٕٓٓ9‬أشاد فٌه باإلسالم وبدأ كلمه بـ"السالم علٌكم"‪ ،‬وما‬
‫بٌن التارٌخٌن الفٌصل هو ذاكرة الشعوب‪.‬‬
‫(‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪8ٔ ،‬‬
‫(‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٓ‬

‫ٖ‪ٖٙ‬‬
‫وٌحكً الجندي "مٌٌه" الذي اشترك فً القتال فً اإلسكندرٌة فً مذكراته‪" :‬ظننا أن المدٌنة استسلمت‪،‬‬
‫وأشد ما أدهشنا أن ٌنهال علٌنا رصاص البنادق ونحن نمر أمام المساجد‪ ،‬فؤمرنا قابد اتفق وجوده هناك أن‬
‫نقتحم باب المسجد‪ ،‬وال نبقً على أحد فٌه‪ ،‬وهكذا هلك الرجال والنساء واألطفال‪ ..‬بحد السناكً ]ذبحا[‪،‬‬
‫ولكن لما كانت العواطؾ اإلنسانٌة أقوى من االنتقام‪ ،‬فقد توقفت المذبحة حٌن تعالت أصواتهم طلبا للرحمة‪،‬‬
‫فاستحٌٌنا ثلثهم"‪ ،‬أي قتلوا الثلثٌن ومنهم نساء وأطفال وأبقوا الثلث إلظهار الرحمة‪.‬‬

‫وهذه أول تحٌة فرنساوٌة لمصر‪ ،‬الدم والدعشنة والؽدر‪ ،‬وأول تحٌة بمصر للفرنسٌس الرفض‪.‬‬

‫و سط هذا وقعت حادثة تظهر األسلوب الفرنسً الفرٌد فً اللعب على كل األوتار فً وقت واحد‪ ،‬فلكً ٌرسل‬
‫رسالة تإكد "عدله ورحمته"‪ ،‬أمر بإطبلق الرصاص على جندي فرنسً انتزع خنجر من "عربً مسالم"‪،‬‬
‫وعندما ألقى كلٌبر القبض على محمد كرٌم‪ ،‬حاكم اإلسكندرٌة الذي رفض تسلٌمها‪ ،‬أجبرت شجاعته نابلٌون‬
‫أن ٌقول له فً مجلس من أعٌان المدٌنة‪" :‬لقد أخذتك والسبلح فً ٌدك‪ ،‬وكان لً أن أعاملك معاملة األسٌر‪،‬‬
‫ولكنك استبسلت فً الدفاع‪ ،‬والشجاعة متبلزمة مع الشرؾ‪ ،‬لذلك أعٌد إلٌك سبلحك" (‪.")ٔ8‬‬

‫لكن الفرنسٌس اتهموه بتهمة ؼرٌبة تدل على انقبلب المعاٌٌر عندهم وهً "خٌانة الفرنسٌس"؛ فاعتبروا‬
‫مقاومة الؽزاة "خٌانة"‪ ،‬فحكموا علٌه باإلعدام علنا فً مٌدان القلعة بالرصاص فً ‪ ٙ‬دٌسمبر ‪،ٔ998‬‬
‫ومصادرة أمبلكه‪ ،‬وقطعوا رأسه‪ ،‬وطافوا بها فً الشوارع وعلٌها ورقة مكتوب علٌها أن هذا جزاء من‬
‫ٌخالؾ الفرنسٌس وٌعمل "جاسوسا" ضدهم‪.‬‬

‫وصور "تٌبودو" فً كتابه "تارٌخ نابلٌون" أثر إعدام كرٌم بقوله "إن إعدام هذا الشرٌؾ هو أول عمل‬
‫من التصرفات المتعددة التً وجهت فٌها التهم إلى نابلٌون فً أثناء حملة مصر‪ ،‬فإن النفوس الحساسة قد‬
‫تؤثرت للخاتمة المحزنة التً انتهت بها حٌاة ذلك الشرٌؾ النزٌه الذي أعدم بؤمر القابد العام(‪.")ٔ9‬‬

‫❸ توسع المشروع العالمً لـ "تدوٌل مصر"‬

‫تابعنا لمحات من مساعً المحتلٌن لتحوٌل مصر إلى دولة "لكل األجناس"‪ -‬عدا أهلها‪ -‬أو أن ٌكون أهلها‬
‫"خدم لكل األجناس"‪ ،‬سوا باالحتبلل المباشر وتوطٌن الجالٌات األجنبٌة المتعددة التً تخدمه مثلما حصل‬
‫فً األسرة ‪ ٕٙ‬الخاسوتٌمٌة ثم االحتبلل الٌونانً‪ ،‬وحتى تفشً الطرق الصوفٌة القابمة على فكرة التنظٌم‬
‫العالمً‪ ،‬ووصلنا اآلن إلى محطة مهمة فً هذا المشوار‪ ،‬وهً قدوم تنظٌم عالمً أكثر تنظٌما وإحكاما‪ ،‬بل‬
‫وٌمتلك وسابل العلم الحدٌث‪ ،‬لٌكون أكثر إؼراء لؤلجٌال التً ستنشؤ وسط عالم جدٌد مختلؾ عن عالم‬
‫االحتبلالت السابقة‪ ،‬وهو تنظٌم الماسونٌة وما سٌتفرع عنه من تٌارات أخرى فً مصر‪.‬‬

‫ٌقول نابلٌون وهو ٌروي قصة حملته فً سانت هٌبلنه‪" :‬ما الذي ٌمكن عمله فً هذا البلد الجمٌل‬

‫(‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ 99 -98‬وٕٕ‬
‫(‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٖ٘‬
‫*** بعد ثورة ٕ٘‪ ،ٔ9‬وضمن سٌاسة الدولة لتكرٌم الزعماء والشهداء‪ ،‬وضعت صورة محمد كرٌم مع صور محافظً اإلسكندرٌة فً مبنى‬
‫المحافظة‪ ،‬وأطقت اسمه على شارع ومدرسة ومسجد باإلسكندرٌة‪ ،‬وصنعت تمثال للشهٌد نصبته فً حدٌقة الخالدٌن بالمحافظة‪.‬‬

‫ٗ‪ٖٙ‬‬
‫(مصر) خبلل ٓ٘ عاما من الرخاء والحكم الصالح؟ إن الخٌال لٌرتع فً هذا المنظر الساحر‪ ،‬فإن ألؾ‬
‫بوابة من بوابات الري ستضبط فٌضان النٌل وتوزع مٌاهه على كل بقعة فً الببلد‪ ،‬وستشق القنوات لتحمل‬
‫الببلٌٌن الثمانٌة أو العشرة من ٌاردات الماء المكعبة إلى الواحات‪ ،‬بل وأبعد منها ؼربا‪ ،‬وسٌتضاعؾ‬
‫السكان ٗ مرات بفضل المهاجرٌن الكثٌرٌن من أعماق أفرٌقٌا وببلد العرب وسورٌا والٌونان وفرنسا‬
‫وإٌطالٌا وبولنده وألمانٌا‪ ،‬وتعود التجارة مع الهند إلى طرٌقها القدٌم‪ ..‬فتتحقق سٌادة فرنسا على الهند‬
‫بسٌادتها على مصر"‪ ،‬بل "وٌحكم العالم من اإلسكندرٌة"(ٕٓ)‪.‬‬

‫وهكذا من جاء ٌبشر المصرٌٌن بؤنه جاء لـ"ٌحررهم" من حكم الممالٌك فٌعود ألهل البلد عرشها‬
‫وخٌراتها‪ ،‬كان ٌخطط إذا ما تمكن من رقبة مصر أن ٌعبؤها بؤعداد رهٌبة من األجانب من ٖ قارات‪ٖ ،‬‬
‫أضعاؾ عدد المصرٌٌن‪ٌ ،‬عنً أن ٌكون المصرٌٌن مجرد ربع عدد السكان‪ ،‬وبالتؤكٌد كان سٌستمر‬
‫المصرٌون "خدما لكل األجناس" مقابل أن تتحول بلدهم إلى بلد "ملا بمشارٌع الزراعة والعمران" على‬
‫النمط الفرنسً الحدٌث‪ ..‬إذن فً حجر من ستسقط ثمار هذه المشروعات المؽرٌة وقتها؟‬

‫وبخبلؾ التدوٌل البشري االستٌطانً تبنى األوروبٌون والجالٌات األجنبٌة المتحالفة معهم تدوٌل مصر‬
‫فً تمٌٌع ومحو الجنسٌة المصرٌة من األساس‪ ،‬وهو ما سنتابعه عند الحدٌث عن أول قوانٌن تم وضعها‬
‫للجنسٌة المصرٌة‪ ،‬والتنظٌمات والتٌارات العالمٌة التً هبطت على مصر فٌما بعد‪.‬‬

‫❹ تطوٌر صناعات قدٌمة ونشر مشروعات جدٌدة‬

‫ٌمكن ل محتلٌن أن ٌقام فً عهدهم مشروعات صناعٌة وزراعٌة وثقافٌة واسعة‪ ،‬وتوصؾ بالنهضة‪،‬‬
‫ولكنها نهضة جوفاء‪ ،‬ألن هدفها توفٌر مصادر دخل جدٌدة لبلحتبلل‪ ،‬وتسهٌل حٌاته فً البلد المحتل‪ ،‬أو‬
‫تحوٌلها لجوهرة تاج إمبراطورٌة مشعة ٌتربع على عرشها المحتل والجالٌات‪ ،‬وٌلم أهل البلد من حولهم‬
‫الفتات‪ ،‬إال إذا اقتنص أهل البلد الفرصة وحولوا الشراب المر لشراب حلو بالمقاومة التً تطرد المحتل‪،‬‬
‫وتستفٌد من أي محاوالت تطوٌر تمت فً عهده‪ ،‬من باب "رب ضارة نافعة" و"اللً ٌٌجً منه أحسن منه"‪.‬‬

‫وبدأ الفرنسٌس فً إجراءات عملٌة لتطوٌر اإلدارة والصناعة وتنظٌم المدن لتزٌد ثروة مصر؛ فتزداد‬
‫الفرصة التً ٌحقق به نابلٌون حلمه فً تكرار إمبراطورٌة اإلسكندر‪ ،‬وٌعبر عن هذا الرحالة الفرنسً‬
‫أولٌفٌه وهو ٌحث حكومته على ؼزو مصر بعد الثورة الفرنسٌة فٌقول‪" :‬ستصبح مصر أؼنى دولة فً‬
‫العالم‪ ،‬وفً نفس الوقت سٌضٌؾ الؽزو مجدا عسكرٌا لفرنسا‪ ،‬وسوؾ ٌنظر إلٌنا الشعب المصري على أننا‬
‫محرروه‪ ..‬ال بد من إحبلل أمة جدٌدة حرة تفتح أبوابها أمام التجارة وتعمل على تطوٌر الصناعة‪ٌ ،‬جب أال‬
‫نترك مصر ؼارقة فً ٌد البرابرة(ٕٔ)"‪.‬‬

‫وبدأ نابلٌون تنظٌم اإلدارة التً أفسدها الممالٌك والعثمانلٌة فً صراعاتهم‪ ،‬فؤنشؤ دٌوان القاهرة (اإلدارة‬

‫(ٕٓ)‬
‫‪ -‬بونابرت فً مصر‪ ،‬كرستوفر هٌرولد‪ ،‬ص ‪ٕ9 -ٕٙ‬‬
‫(ٕٔ)‬
‫‪ -‬مقدمة المحقق عبد العزٌز جمال الدٌن للجزء الرابع من كتاب "عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار" للجبرتً‪ ،‬ص ‪ٖ9‬‬

‫٘‪ٖٙ‬‬
‫الحكومٌة) وعٌن فٌه ٓٔ علماء‪ ،‬هم‪ :‬خلٌل البكري‪ ،‬مصطفى الدمنهوري‪ ،‬سلٌمان الفٌومً‪ ،‬مصطفى‬
‫الصاوي‪ ،‬محمد المهدي‪ ،‬أحمد العرٌشً‪ٌ ،‬وسؾ الشبراخٌتً‪ ،‬محمد الدواخلً‪ ،‬موسى الشرسً‪ ،‬عبد هللا‬
‫الشرقاوي‪ ،‬وفً ٌده ظلت السلطة العسكرٌة الكاملة‪.‬‬

‫وهدفه‪ ،‬إلى جانب تسهٌل إدارته للببلد‪ ،‬أن ٌوهم المصرٌٌن أنه جاء إلى مصر لنشر الحضارة والتقدم‪،‬‬
‫وٌؽفلون عن مشروعه االحتبللً الكبٌر‪ ،‬وحاول أن ٌرؼم علماء األزهر على لبس الطٌلسان الفرنسً‪،‬‬
‫وعموم الناس على وضع شارة الفرنسٌس (العلم)‪ ،‬ولكنهم رفضوا‪ ،‬ومع الوقت حشر فرنسٌٌن فً الدٌوان‬
‫العام‪ ،‬وفً رسالة وجهها لهم قال لقواده‪ٌ" :‬جب أن ُتفهما األعضاء أننا ال نقصد إال توفٌر السعادة والرفاهٌة‬
‫للببلد التً تشكو من سوء نظام الضراٌب الحالً‪ ،‬كما تشكو من طرٌقة تحصٌلها(ٕٕ)"‪.‬‬

‫وأنشؤوا مصنعا للجوخ عمل فٌه الفرنسٌس فقط خوفا من تسرب أسرار الصناعة الفرنسٌة للمصرٌٌن‪،‬‬
‫بل واعتزموا حال فشل الحملة تدمٌره وإرجاع آالته لفرنسا‪ ،‬واهتموا بالمشارٌع الصحٌة والصناعٌة التً‬
‫تخدم األؼراض الحربٌة للجٌش الفرنسً فً المقام األول فٌما ٌخص أسلحته ومبلبسه وصحته وطعامه‬
‫ونظافته وتسهٌل طرق مواصبلته وتنقبلته‪ ،‬فؤسسوا محاجر صحٌة ومستشفٌات‪ ،‬ووضعوا لوابح النظافة‬
‫العامة للحد من أسباب انتشار الطواعٌن واألمراض‪ ،‬وسعوا إلنشاء طواحٌن الهواء ومصنع للبارود‪،‬‬
‫ومصنع لدبلػ الجلود‪ ،‬ومصنع للنجارة ومصنع للصابون من الزٌوت المصرٌة(ٖٕ)‪ ،‬وأقاموا الجسور‪،‬‬
‫ورتبوا الشوارع‪ ،‬وؼرسوا على جوانبها األشجار‪ ،‬وأطلقوا مشروعا إلحصاء الموالٌد والوفٌات ودفاتر‬
‫الجواز ومسح األطٌان ألجل الضراٌب‪ ،‬وأقاموا المسارح لتمثٌل الرواٌات‪.‬‬

‫ولكن اعترؾ فرنسٌون‪ ،‬مثل المسٌو مارتان من مهندسً الحملة‪ ،‬بعجزهم عن إؼراء الناس بهذه‬
‫المشروعات حٌن قال‪" :‬بالرؼم من احتبلل الفرنسٌٌن لعاصمة مصر‪ ،‬فإنهم لم ٌستقر لهم قرار فً الببلد‪،‬‬
‫وكان مركزهم فٌها مزعزعا ومحفوفا بالمتاعب‪ ،‬ولم ٌترك األهالً وسٌلة لمقاومة السلطة الفرنسٌة إال‬
‫أتبعوها‪ ،‬وقد ذهب كثٌر من الفرنسٌٌن ضمن هذه المقاومة"‪.‬‬

‫وردا على رسابل نابلٌون للمصرٌٌن بؤن الفرنسٌس جاءوا من آخر الدنٌا لكً "ٌحرروا" المصرٌٌن‪،‬‬
‫و"ٌسعدوهم"‪ ،‬و"ٌنشروا التقدم" قال المسٌو رٌبو‪" :‬من الصعب أن توجد أمة تبلػ بها السذاجة مبلؽا أن تنتظر‬
‫الخٌر من جٌش ٌركب متن البحار‪ ،‬وٌستهدؾ لؤلخطار‪ ،‬وٌحتل ببلدها‪ ،‬وٌخوض فٌها ؼمار الحرب لمجرد‬
‫الدفاع عن مصالحها‪ ،‬وال ٌمكن أن تإثر المنشورات والكلمات الفخمة فً تؽٌٌر حالة الشعب النفسٌة(ٕٗ)"‪.‬‬

‫ورؼم هذا استمروا فً إرسال الكبلم الحلو للمصرٌٌن ألن هذه سٌاسة فرنسٌة راسخة‪" ..‬السكٌنة جنب‬
‫الوردة"‪ ،‬أو "العصا والجزرة"‪.‬‬

‫❺ استكشاؾ ما خفى من عظمة الحضارة المصرٌة‬

‫(ٕٕ)‬
‫‪ -‬النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ٘ و ‪.ٕٙ‬‬
‫(ٖٕ)‬
‫‪ -‬الحرؾ والصناعات فً عهد محمد علً‪ ،‬د‪ .‬صبلح أحمد هرٌدي‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ98٘ ،‬ص ٕٔٔ‪ٔٔ٘ -‬‬
‫(ٕٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬االنضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ٘‪ٕ8 -‬‬

‫‪ٖٙٙ‬‬
‫وسط فوضى الدماء والفزع التً أشاعها الفرنسٌس فً طول مصر وعرضها‪ -‬كما سنرى‪ -‬مستقوٌٌن‬
‫بوهم أنهم صاروا بثورتهم الفرنسٌة أعظم الحضارات‪ ،‬صدمهم معبد دندرة فً األقصر‪ ،‬فش َّل حركة‬
‫أسلحتهم بعض الوقت ٌلتقط فٌه األهالً األنفاس‪.‬‬

‫فخبلل مطاردتهم للمملوك مراد بك وصلوا فً قنا عند معبد دندرة (معبد حتحور) على شاطا النٌل‬
‫الشرقً‪ ،‬وٌتذكر العالم "دٌنون" المصاحب للحملة‪" :‬ودون أن تصدر إلٌهم أو ٌتلقوا أي أوامر‪ ،‬ترك كل‬
‫ضابط وجندي الطرٌق واندفع إلى تنتٌرة (دندرة)‪ ،‬وتلبث الجٌش كله هناك بقٌة الٌوم من تلقاء نفسه‪ ،‬وٌاله‬
‫من ٌوم!"‪.‬‬

‫وعن مشاعره الشخصٌة كفنان نسخ الرسوم والنقوش من المعبد حٌنها‪ ،‬فقد اضطر لنبذ ما عرفه عن‬
‫القواعد الكبلسٌكٌة لؤلسالٌب الدورٌة واألٌونٌة والكورنثٌة‪ ،‬وقال عن مدرسة الفن المصري الماثلة بشموخ‬
‫وبساطة أمامه‪" :‬لن تجد أبسط وال أحسن حسابا من الخطوط القلٌلة التً تؤلؾ منها هذا المعمار‪،‬‬
‫فالمصرٌون الذٌن لم ٌستعٌروا شٌبا من ؼٌرهم من األمم لم ٌضٌفوا زخرفا دخٌبل واحدا‪ ،‬وال حشوا واحدا‬
‫ال لزوم له إلى الخطوط التً أملتها الضرورة‪ ،‬والنظام والبساطة مبدأهما اللذان سموا بهما إلى الذروة (‪)...‬‬
‫وحذار من خطؤ شابع هو االعتقاد أن المعمار المصري ٌمثل هذا الفن ]العمارة[ فً مهده‪ ،‬واألصح أن‬
‫نقول إنه الصورة القٌاسٌة لهذا الفن(ٕ٘)"‪.‬‬

‫وفً المساء ذهب إلٌه أحد الضباط وقال له‪" :‬منذ الٌوم الذي حضرت فٌه إلى مصر كنت أحس أننً خدعت‬
‫خداعا تاما‪ ،‬وكنت على الدوام مبتبسا مرٌضا‪ ،‬ولكن دندرة أبرأتنً‪ ،‬فما رأٌته الٌوم عوضنً عن كل تعاستً"‪،‬‬
‫وبعد أن ارتووا من سكٌنة وعذوبة دندرة‪ ،‬واصلوا طرٌقهم‪ ،‬فبلحت لهم على جانبً النهر مشاهد واسط‬
‫(طٌبة القدٌمة) كاملة‪ ،‬بما احتوته من معابد األقصر والكرنك‪ ،‬ووقفت الفرقة كلها من تلقاء نفسها‪ ،‬وصفق‬
‫أفرادها استحسانا‪.‬‬

‫وٌصؾ دٌفرنوا‪" :‬ودون أن ٌصدر أمر للرجال وقفوا فً طوابٌرهم وأدوا التحٌة العسكرٌة على قرع‬
‫الطبول وعزؾ الموسٌقى" (‪ ،)ٕٙ‬كانت تحٌة عظمى لعبقرٌة اإلنسان‪ ..‬الفبلح‪.‬‬

‫وإضافة إلى استكشاؾ المعابد ونقش ما علٌها وتسجٌله‪ ،‬وضعت الحملة الفرنسٌة موسوعتها الشهٌرة‬
‫"وصؾ مصر"‪ ،‬جمعت فٌها كل ما ٌخص الحٌاة فً مصر‪ ،‬تارٌخٌة وحاضرة‪ ،‬البشر والنبات والطٌر‬
‫والحٌوان‪ ،‬جؽرافٌا‪ ،‬ثروات‪ ،‬خصابص السكان‪ ،‬الفنون والعلوم‪ ،‬بهدؾ معرفة مصر تمام المعرفة لٌسهل‬
‫إدارتها وتحوٌلها إلى مستعمرة فرنسٌة تحقق حلم نابلٌون فً أن تكون قاعدة إمبراطورٌته فً الشرق‪.‬‬

‫كذلك عثر الفرنسٌون صدفة على حجر رشٌد "مرسوم كانوب" الذي كتبه رجال المعابد عن إجراءات‬
‫بطلمٌوس الخامس تجاه ثورة ‪ ٕٔ9‬ق‪.‬م‪ ،‬والطرٌؾ أنه عن طرٌق الخط الهٌروؼلٌفً الذي أصر رجال‬

‫(ٕ٘)‬
‫‪ -‬بونابرت فً مصر‪ ،‬هٌرولد‪ ،‬ص ٗ‪ٖٙ‬‬
‫(‪)ٕٙ‬‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‪ ،‬ص ٘‪ٖٙ‬‬

‫‪ٖٙ7‬‬
‫الدٌن على استخدامه فً تدوٌن اإلجراءات إلى جانب الخط الدٌموطٌقً واللؽة الٌونانٌة تمكن شامبلٌون من‬
‫فك رموز اللؽة المصرٌة؛ وكؤنها هدٌة من الثوار المصرٌٌن ألحفادهم‪ ،‬وكؤن حجر رشٌد تجلً من تجلٌات‬
‫الثورة وموجات تٌارها التً وصلتنا لتكون مفتاح العودة إلى الحضارة المصرٌة من جدٌد‪.‬‬

‫وفً الوقت الذي اهتم به الفرنسٌس بالحضارة المصرٌة من ناحٌة (ألهداؾ علمٌة أو ماسونٌة)‪ ،‬كانوا‬
‫ٌهدمون آثارا مصرٌة أٌضا حٌن تقؾ عقبة فً طرٌقهم‪ ،‬فؤسرؾ الفرنسٌس فً هدم القاهرة لبناء قبلع جدٌد‬
‫وسور لتحصٌنها؛ ما أضاع منها كنوزا أثرٌة فً العمارة وفنون األرابٌسك والزجاج المعشق وأشؽال‬
‫النحاس والنسٌج‪ ،‬فهدمت األٌادي السوداء بٌوتا كثٌرة وجوامع لٌؤخذوا خشبها ومواد البناء‪ ،‬كجامع‬
‫الجنببلطٌة والسبع سبلطٌن والشركسً والروٌعً والبنهاوي‪ ،‬وهدموا أحٌاء كاملة كالحسٌنٌة والخروبً‬
‫وبركة الفٌل‪ ،‬ومصاطب المحبلت الستعمال حجارتها بحجة توسٌع الشوارع واألزقة‪ ،‬فً حٌن كان الهدؾ‬
‫استعمالها كمتارٌس إذا ما قامت ثورة ضدهم‪ ،‬ومنها مصطبة درب الجمامٌز ودرب سعادة وباب خلق(‪.)ٕ9‬‬

‫❻ نزؾ المصرٌٌن الضراٌب واإلتاوات لألجنبً‬

‫رؼم كبلم نابلٌون عن عدم إرهاق المصرٌٌن بالضراٌب‪ ،‬لكن فً التطبٌق العملً فرض ضراٌب شدٌدة‬
‫لم ٌتحملها األهالً المذبوحٌن أساسا من الضراٌب الموروثة من الممالٌك والعثمانلٌة واألعراب المناكٌد‪.‬‬

‫ومن وسابل الفرنسٌس لجمع ضراٌب جدٌدة أنهم أسسوا فً كل مدٌرٌة مكتبا لتسجٌل العقود‪ ،‬وقالوا إن‬
‫حكومة الفرنسٌس لن تعترؾ بملكٌة أحد ألرضه إال إذا سجل الملكٌة بعقود‪ ،‬وفرضوا الرسوم على‬
‫التسجٌل‪ ،‬ولم تكن هذه الرسوم موجودة‪ ،‬كما قالوا إن األرض التً ال ٌسجل صاحبها ملكٌتها خبلل ٖٓ‬
‫ٌوما ُتنتزع منه و ُتصادر لصالح جمهورٌة فرنسا‪ ،‬وكانت هذه وسٌلة الحتبلل أرض مصر "بالقانون"‪،‬‬
‫وتحوٌلها إلى فرنسٌة‪.‬‬

‫كما فرضوا رسوما على عقود البٌع والبدل والتنازل والهبة‪ ،‬و ُتسجل خبلل ٓٔ أٌام‪ ،‬وإال ُتعتبر عقودا‬
‫باطلة‪ ،‬وذك إلجبار األهالً على سرعة سداد الرسوم‪ ،‬وفرضوا ضراٌب سنوٌة جدٌدة على جمٌع أصحاب‬
‫الحرؾ والصناعات‪ ،‬ووصفها الجبرتً بؤنها "تحاٌل على أخذ األموال"‪.‬‬

‫وأول ما أحرق اإلنجلٌز أسطول بونابرته فً أبو قٌر فرض ضرٌبة فادحة فً شكل سلفة إجبارٌة‬
‫بخمسابة ألؾ لاير على التجار‪ ،‬فحكى دٌبلجو نكٌٌر إن نابلٌون ففرض ٖٓٓ ألؾ فرنك على تجار اإلسكندرٌة‬
‫وٓٓٔ ألؾ على تجار رشٌد و‪ ٔ٘9‬ألؾ على تجار دمٌاط‪ ،‬وٕٓٓ ألؾ على تجار البن والبهار بالقاهرة‪ ،‬وٓٓٔ‬
‫ألؾ على تجار خان الخلٌلً‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫وألنهم بلد الفن كما ٌُقال‪ ،‬تفنن الفرنسٌس فً ابتزاز األموال حتى أن نابلٌون فرض على نساء البكوات‬
‫الممالٌك أن تصالح كل منهن عن نفسها وأتباعها بمقدار من المال‪ ،‬كما سمح لهن بسكن بٌوتهن نظٌر مبالػ‬

‫(‪)ٕ9‬‬
‫‪ -‬النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة‪ ،‬ص ‪ٔٓ9 -ٔٓٙ‬‬

‫‪ٖٙ8‬‬
‫من المال‪ ،‬فمثبل أصدر فً أؼسطس ‪ ٔ998‬أمرا بؤن تدفع نفٌسة زوجة مراد بك ٓٓ‪ ٙ‬ألؾ فرنك عن‬
‫نفسها وعن نساء أتباع زوجها‪ ،‬وقٌل إنها باعت وجواهرها لتدفع حصتها فً الؽرامة(‪ ،)ٕ8‬وكلها أموال‬
‫نزعها الممالٌك من الفبلحٌن نزعا‪.‬‬

‫ومن أسوأ أشكال التعسؾ مصادرة المنازل وهدم المبانً واآلثار والمساجد‪ ،‬فؤخرج الفرنسٌون كثٌرا من‬
‫األهالً من بٌوتهم بدعوى الحاجة إلٌها‪ ،‬ومن أجل ترمٌم القلعة هدموا جمٌع البٌوت المحٌطة بها بعد أن‬
‫أفرؼوها من السكان‪ ،‬وامتد هدمهم إلى المساجد القرٌبة؛ ما شحن مشاعر المصرٌٌن(‪.)ٕ9‬‬

‫❼ الدم المصري مسفوك‪ ..‬والمقاومة الجماعٌة تعود‬

‫حٌن ثار المصرٌون على هذه اإلهانات فً ثورة القاهرة األولى والمحافظات أظهر نابلٌون وجهه‬
‫الحقٌقً‪ ،‬وصدرت األوامر مشددة إلى نوابه فً المدٌرٌات باستعمال منتهى القسوة من قتل وتخرٌب وحرق‬
‫وسلب ونهب؛ لضمان إذعان األهالً‪ ،‬وكتب إلى أحد قواده ٌقول‪" :‬إنً هنا أقتل كل ٌوم ثبلثة‪ ،‬وآمر بؤن‬
‫ٌطاؾ برإوسهم فً شوارع القاهرة‪ ،‬وهذه هً الطرٌقة الوحٌدة إلخضاع الناس(ٖٓ)"‪.‬‬

‫وفً هذا قال الجنرال بلٌار فً ٌومٌاته‪" :‬إن روح التذمر سابدة فً الجٌش‪ ،‬والضباط لعدم اكتراثهم‬
‫بالواجب تركوا الجنود ٌجوبون القرى ٌنهبون كل ما تصل إلٌه أٌدٌهم"‪.‬‬

‫وجاء فً ٌومٌات الجنرال لوجٌٌه‪" :‬وصلنا ٌوم ٗٔ من ٌولٌو إلى قرٌة النخٌلة فً حٌن كان جنود‬
‫الجنرالٌن بون وفٌان ٌنهبونها‪ ،‬وكان صٌاح األهالً وبكاء النساء ونحٌبهم ٌصم اآلذان"‪ ،‬وفً ٌومٌات‬
‫الكابتن سافاي‪" :‬صادرنا بعض المواشً التً وجدناها فً طرٌقنا‪ ،‬وبٌنما كانوا ٌقٌدونها كان الجنود ٌنهبون‬
‫هذه القرٌة (الطرانة) وٌخربونها‪ ...‬وإن فرقتنا لم تكن تعمل سوى إتمام خراب القرى التً ٌمر بها‬
‫الجٌش(ٖٔ)"‪.‬‬

‫ولذا بدأت المعارك ضد الفرنسٌس فً الوجه البحري‪ ،‬وانتقلت منه كانسٌاب مٌاه الفٌضان من محافظة‬
‫لمحافظة حتى عمَّت الوجه القبلً لحد أسوان‪ ،‬وربما هً المرة األولى منذ الثورة البشمورٌة تتوحد فٌها‬
‫الببلد فً مقاومة الؽازي من اإلسكندرٌة إلى أسوان‪ ،‬وسنحاول استكشاؾ السبب فً صفحات قادمة‪ ،‬كما‬
‫أن دور الفبلحٌن فٌها فاق دور الممالٌك رؼم عدم تدربهم على القتال‪.‬‬

‫والمعارك بٌن المصرٌٌن والفرنسٌس أكثر مما ٌمكن حصرها فً هذا الكتاب‪ ،‬فلم تخ ُل منها مدٌنة أو‬
‫قرٌة فً بر مصر‪ ،‬ومضطرٌن لبلكتفاء بؤمثلة لتساعدنا فً معرفة سبب تفجر ثورة المصرٌٌن الكبرى هذه‬
‫المرة‪ ،‬وسنتفاجا أنه ما ترك الفرنسٌس جرٌمة الدواعش اآلن إال وعملوها فً مصر‪ ،‬وشاركهم فً هذا‬

‫(‪)ٕ8‬‬
‫‪ -‬النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة‪ ،‬ص ٖٗ وٖ‪ٙ‬‬
‫(‪)ٕ9‬‬
‫‪ -‬نفس ما ٌفعله اإلسرابٌلٌون فً إجبار فلسطٌنٌٌن على إخالء منازلهم‪ ،‬ونظن أنه لم ٌعانً أحد مثلهم‪ ،‬وننسى أن معظم تارٌخ المصرٌٌن مع‬
‫المحتلٌن اكتووا فٌه بهذه الممارسات أكثر من ؼٌرهم‪.‬‬
‫(ٖٓ)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٖ‪ ،ٙ٘ -ٙ‬وٌستحق نابلٌون بما فعله من جرابم إرهابٌة لقب كبٌر ومعلم دواعش العصر الحدٌث‬
‫(ٖٔ)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٖٗ‬

‫‪ٖٙ9‬‬
‫ممالٌك وعسكر عثمانلٌة وعربان‪ ،‬ومثل من سبقهم من محتلٌن‪ ،‬رؼم دعاوى الحرٌة واإلخاء والمساواة‬
‫التً حملوها‪ ...‬فكلهم ٌا عزٌزي إذا تمكنوا من مصر‪ ...‬دواعش‪.‬‬

‫♣ (معركة شبراخٌت)‬

‫وفٌها بدأ ظهور الممالٌك ألول مرة بقٌادة مراد بك فً مواجهة الفرنسٌس بعد أن تخلوا عن اإلسكندرٌة‪،‬‬
‫ورؼم أن الفبلحٌن األقل تسلٌحا‪ ،‬لكنهم األكثر عددا فً المعارك‪ ،‬واألكثر شهداء ومعاناة‪.‬‬

‫ضرب‬
‫وخبلل زحفهم من شبراخٌت‪ ،‬قال الجاوٌش فرانسوا إن قرٌة رفضت إمداد الفرنسٌٌن بالبضابع "ف ُ‬
‫أهلها بحد السٌؾ وأحرق بالنار‪ ،‬وذبح وأحرق ٓٓ‪ 9‬رجل وامرأة وطفل لٌكونوا عبرة لشعب همجً نصؾ‬
‫متوحش(ٕٖ)"‪.‬‬

‫وقال الجبرتً عن سرٌان روح المقاومة إن "جمٌع الناس بذلوا وسعهم‪ ،‬وفعلوا ما فً مقدورهم‬
‫وطاقتهم‪ ،‬وسمحت نفوسهم بإنفاق أموالهم‪ ،‬فلم ٌشح أحد فً ذلك الوقت بشًء ٌمتلكه(ٖٖ)"‪.‬‬

‫♣ (معركة إمبابة )‬

‫فً كتابه "مذكرات ضابط فً الحملة الفرنسٌة على مصر" قال الضابط مورٌٌه‪ ،‬ومثله قال الجنرال‬
‫برتٌٌه فً كتابه عن حروب بونابرت‪" :‬استولى الفرنسٌون على قرٌة إمبابة بعد أن دافع عنها نحو ٓٓ٘ٔ‬
‫مملوك ومثلهم من الفبلحٌن دفاع األبطال‪ ،‬ورفضوا التسلٌم فماتوا قتلى وؼرقى"‪ ،‬وسجل تٌٌرس فً كتابه‬
‫تارٌخ الثورة الفرنسٌة أرقاما أخرى‪ ،‬أن قوة من الفبلحٌن تبلػ ٕٗ ألفا دافعت عن إمبابة(ٖٗ)‪.‬‬

‫وبعد معركة إمبابة هرب مراد بك للوجه القبلً والمملوك إبراهٌم بك لسورٌا‪ ،‬وسابوا المصرٌٌن‬
‫للفرنسٌس‪ ،‬ودخل الفرنسٌس بعد المعركة إلى القاهرة التً باتت خاوٌة تقرٌبا بعد أن هجرها الممالٌك‬
‫وزوجاتهم وجوارٌهم وأؼنٌاإها‪ ،‬والبلفت أن أول من خرج مهلبل للفرنسٌس هم المستوطنون األوروبٌون‬
‫الشاكرٌن للفرنسٌٌن إنقاذهم إٌاهم‪ ،‬وتلقى صٌدلً إٌطالً الجاوٌش فرانسوا قابد الفرنسٌٌن لٌطلعه على‬
‫أحوالها(ٖ٘)‪ ،‬وفتح لهم األروام ]الٌونان[ المطاعم لٌقدموا لهم الطعام حسب عادات ببلدهم(‪.)ٖٙ‬‬

‫♣ (معركة الجمالٌة)‬

‫كشاهد عٌان قال جازالس من ضباط كتٌبة داماس إنه فً معركة الجمالٌة على الشاطا الؽربً من بحر‬
‫أشمون بالمنوفٌة‪" :‬فوجبت السفن التً تقل الجنود بعاصفة من األحجار والرصاص انهالت من أسوار البلدة‬

‫(ٕٖ)‬
‫‪ -‬بونابرت فً مصر‪ ،‬هٌرولد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘ٓٔ‬
‫(ٖٖ)‬
‫‪ -‬االنضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٔ‬
‫(ٖٗ)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٕٖ ‪ ،‬ومذكرات ضابط فً الحملة الفرنسٌة على مصر‪ ،‬جوزٌؾ ماري موارٌه‪ ،‬ترجمة كامٌلٌا صبحً‪ ،‬المجلس األعلى‬
‫للثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٓٓٓ ،‬ص ‪ٗ9‬‬
‫(ٖ٘)‬
‫‪ -‬بونابرت فً مصر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔٙ9 -ٔٙ8‬‬
‫(‪)ٖٙ‬‬
‫‪ -‬عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪89‬‬

‫ٓ‪ٖ7‬‬
‫وبٌو تها‪ ،‬وفً الوقت نفسه رأٌنا جموعا كثٌرة من العرب والممالٌك والفبلحٌن مسلحٌن بالبنادق والسٌوؾ‬
‫والعصً تهرع من الجهات المجاورة إلى مهاجمتنا‪ ،‬وكان بعضهم ممتطٌا الخٌل وأكثرهم مشاة‪ ،‬فدهشنا‬
‫لهذه الهجمة العنٌفة"‪.‬‬

‫والممتطون الخٌل هما الممالٌك والعرب‪ ،‬أما المشاة فهم الفبلحون‪.‬‬

‫وفً هذا قال زاجبلس‪" :‬ونزلت الجنود حاملة سبلحها إلى البر الشرقً المقابل للقرٌة‪ ،‬وتؤهبوا للقتال‬
‫منتظرٌن قدوم األهالً‪ ،‬فرأٌنا أكثرهم شجاعة ٌؽامرون بؤنفسهم‪ ،‬وٌهجمون إلى أن ٌصبحوا فً وسط‬
‫جنودنا‪ ،‬وقد رأٌت نفسً جماعة من الفبلحٌن لٌس بٌدهم سبلح سوى العصً ٌهاجموننا بحماسة(‪.")ٖ9‬‬

‫♣(معركة شباس عمٌر)‬

‫حاول الجنرال مٌنو فً ٕٔ سبتمبر أن ٌقوم بجولة فً شمال الدلتا‪ ،‬وعند قرٌة شباس عمٌر خرج‬
‫األهالً ٌقاومون كتٌبته‪ ،‬وأطلقوا علٌها الرصاص‪ ،‬وقتل الفنان جولً‪ ،‬وتراجعت الكتٌبة‪ ،‬ثم عادت لتدور‬
‫معركة شدٌدة بٌن الجانبٌن‪ ،‬وأدرك مٌنو خطورة الموقؾ وخاصة أن رصاصة أصابت جواده‪ ،‬فؤمر جنده‬
‫بإضرام النار فً القرٌة‪ ،‬وجاء أهالً القرٌة المجاورة ٌنجدون إخوانهم‪ ،‬حتى بلؽت الجموع ٖ آالؾ من‬
‫الفبلحٌن‪ ،‬وتحت الضؽط العنٌؾ عاد مٌنو بكتٌبته بعد أن فقد عددا من رجاله(‪.)ٖ8‬‬

‫♣ (معركة ؼمرٌن وتتا)‬

‫اصطدم الفرنسٌس بؤهالً ؼمرٌن وتتا فً الؽربٌة‪ ،‬واستمر القتال حتى تؽلبت القوة الفرنسٌة‪ ،‬فعاود‬
‫األهالً القتال فً "تتا" وتؽلبت قوة الفرنسٌٌن‪ ،‬ورؼم ذلك أشعلوا النار فً القرٌتٌن‪ ،‬ووصؾ الكابتن‬
‫"فٌروس" القتال الذي دار فً القرٌتٌن "أن عددا من النساء كن ٌهاجمن جنودنا بكل بسالة وإقدام(‪.")ٖ9‬‬

‫♣(معركة المنصورة)‬

‫المنصورة على موعد جدٌد لهزٌمة الفرنسٌس بعد معركتها مع لوٌس التاسع‪ ،‬وٌصفها "مورشون"‬
‫الناجً الوحٌد من الحامٌة الفرنسٌة فً المعركة فٌقول إن األهالً قتلوا ٖ جنود فتحصن البقٌة فً بٌت‪،‬‬
‫فهاجمهم الفبلحون وقتلوا منهم ‪ ،8‬وقُتل أحد الفبلحٌن‪ ،‬وبقً على الحٌاة ٕ٘ جندٌا‪ ،‬وفرغ رصاصهم‪ ،‬فآثر‬
‫ٓٔ جرحى منهم على االنتحار ؼرقا من الوقوع فً األسر‪ ،‬فبقً ٘ٔ‪ ،‬وألقى حشد من الفبلحٌن الهابجٌن‬
‫بؤنفسهم علٌنا‪ ،‬وجردونا من ثٌابنا‪ ،‬وقتلونا بالشوم‪ ،‬وبقٌت أنا لما ألقٌت نفسً فً النٌل(ٓٗ)‪.‬‬

‫♣ (معركة سوهاج)‬

‫(‪)ٖ9‬‬
‫‪ -‬النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٗ‪ٖٗ -‬‬
‫(‪)ٖ8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٖ8‬‬
‫(‪)ٖ9‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٓٗ‬
‫(ٓٗ)‬
‫‪ -‬بونابرت فً مصر‪ ،‬هٌرولد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ٘ٔ‬

‫ٔ‪ٖ7‬‬
‫وفً الوجه القبلً قابل الجنرال "دافو" فً ٌناٌر ‪ ٔ999‬آالؾ من الفبلحٌن وٓٓ‪ 9‬من فرسان الممالٌك‬
‫وبدو من جزٌرة العرب اتفق معهم مراد بك‪ ،‬وأطلق علٌهم نٌرانه فاستشهد من المقاومٌن ٓٓ‪ ،8‬فٌما تحدث‬
‫الضابط موارٌه عن معركة بسوهاج وطهطا قتل الفرنسٌس خبللها أكثر من ٕٓٓٓ شخص(ٔٗ)‪.‬‬

‫♣ (معركة فٌلة)‬

‫قصد الجنرال "بلٌار" جزٌرة فٌله فً أسوان فً ‪ ٙ‬فبراٌر لمطاردة الممالٌك الذٌن فروا للحدود الجنوبٌة‪،‬‬
‫ولما حب ٌعبر النٌل إلٌها على مراكب األهالً رفض األهالً أن ٌسلموا مراكبهم للفرنسٌس فرجع ألسوان‪.‬‬

‫وبعد أٌام حاول مرة ثانٌة‪ ،‬ورفض األهالً مرة ثانٌة‪ ،‬فضرب علٌهم النار‪ ،‬وقال "بلٌار" فً ٌومٌاته‪:‬‬
‫"حمل األهالً أسلحتهم وصاحوا صٌحات القتال‪ ،‬ورأٌنا النساء ٌنشدن أناشٌد الحرب‪ ،‬وٌحثون التراب فً‬
‫وجوهنا‪ ،‬أما الرجال فؤطلقوا الرصاص على رجالنا الذٌن ركبوا البحر"‪ ،‬و"كنت أحضرت معً مدفعا‬
‫إلخضاعهم‪ ،‬فدعوتهم إلى الصلح والسبلم فكان جوابهم أنهم ال ٌقبلون منا كبلما‪ ،‬وإنهم ال ٌفرون من أمامنا‬
‫كما ٌفر الممالٌك(ٕٗ)"‪.‬‬

‫واقتحم بلٌار الجزٌرة ودهم النساء‪ ،‬أما ردة فعل الناس فٌصفها دٌنون‪" :‬ألقى الجمٌع‪ -‬الرجال والنساء‬
‫واألطفال‪ -‬بؤنفسهم فً النهر‪ ،‬وكنت ترى النساء الثابتات على فطرتهن الوحشٌة ٌؽرقن األطفال الذٌن ال‬
‫ٌستطعن حملهم معهن وٌشوهن بناتهم حماٌة لهن من اؼتصاب المنتصرٌن‪ ،‬ووجدت فتاة فً السابعة أو‬
‫الثامنة خٌطت بطرٌقة منعتها من قضاء الضرورة العاجلة وسببت لها تشنجات رهٌبة(ٖٗ)"‪.‬‬

‫ولكن استطاع بلٌار فً النهاٌة أن ٌحتل المدٌنة‪ ،‬معتمدا على قوة نٌرانه‪ ..‬ولما علم بلٌار بتوجه المملوك‬
‫مراد ألسٌوط ترك أسوان‪ ،‬وفً الطرٌق سمح لجنود بممارسة هواٌتهم السوداء فً اؼتصاب النساء وحرق‬
‫المحاصٌل‪ ،‬معتبرا أن هذا "لرفع معنوٌاتهم(ٗٗ)"!‬

‫♣ (معركة الروسٌة)‬

‫وفً ٔٔ فبراٌر اصطدم الجنرال "دافو بمجموعة مقاومٌن فً الروسٌة بإدفو فً معركة دارت رحاها ٖ‬
‫ساعات‪ ،‬استخدم فٌها المقاومون السبلح األبٌض‪ ،‬واشتبكوا مع الفرنسٌس‪ ،‬وجها لوجه وخسر الفرنسٌس‬
‫‪ ٖ9‬من قواتهم بٌنهم ضابط اسمه "فونتت"(٘ٗ)‪ ،‬وهً من المعارك التً ٌقؾ أمامها التارٌخ مذهوال‪ ،‬أنه‬
‫كٌؾ لفبلحٌن ٌحاربون بؤخؾ سبلح أن ٌتؽلبوا على الفرنسٌس الذٌن ٌحاربون بؤحدث وأبشع سبلح‪.‬‬

‫♣ (معركة بارو)‪ ..‬كسر قلب نابلٌون‬

‫(ٔٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة‪ ،‬ص ٖ٘‪ ،‬ومذكرات ضابط فً الحملة الفرنسٌة على مصر‪ ،‬ص ‪ٔٓ8 -ٔٓ9‬‬
‫(ٕٗ)‬
‫‪ -‬النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة‪ ،‬ص ٘٘‬
‫(ٖٗ)‬
‫‪ -‬بونابرت فً مصر‪ ،‬هٌرولد‪ ،‬ص ‪ٕٙ9‬‬
‫(ٗٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‬
‫(٘ٗ)‬
‫‪ -‬النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪٘ٙ‬‬

‫ٕ‪ٖ7‬‬
‫هً من أصعب المعارك على نفس نابلٌون‪ ..‬والسبب محبوبته "إٌتالٌا"‪ ،‬ففً ٖ مارس ‪ ،ٔ999‬وعلى‬
‫مقربة من قرٌة "بارو" بقنا هاجم األهالً السفن‪ ،‬وأطلقوا علٌها الرصاص‪ ،‬فؤجابتهم بإطبلق مدافعها‪،‬‬
‫واستطاع األهالً بعد أن ألقوا بؤنفسهم فً المٌاه وسبحوا فً النٌل أن ٌستولوا علٌها‪ ،‬ثم امتطوها وقصدوا‬
‫بها إلى السفٌنة الحربٌة "إٌتالٌا"؛ ففكر قابد السفٌنة فً االنسحاب حٌنما وجد أن جنوده أثخنتهم الجراح‪ ،‬وأن‬
‫جموعا من األهالً تحفزت على الجانب اآلخر للنٌل للهجوم علٌه‪ ،‬وتدخل عامل الطبٌعة فعاكست الرٌح‬
‫السفٌنة فجنحت وأسرع إلٌها األهالً وصعدوا على ظهرها‪ ،‬ولكن "موراندي" برؼم ما أحاط به من الخطر‬
‫أبى االستسبلم‪ ،‬ولجؤ إلى خدٌعة إذ أشعل النٌران فً مستودع البارود‪ ،‬وألقى بنفسه ورجاله فً النٌل‪،‬‬
‫وانفجر مستودع البارود ونسفت السفٌنة‪ ،‬فقتل عددا كبٌرا من األهالً‪.‬‬

‫وبذلك‪ ..‬فإن الحملة الفرنسٌة أول من أذاق المصرٌٌن االستشهاد وتمزٌق الجسد بالمتفجرات‪.‬‬

‫واندفع من بقً من األهالً إلى النٌل ٌنتقمون‪ ،‬وتمكنوا من قتل الفرنسٌٌن جمٌعا‪ ،‬بما فً فٌهم "موراندي"‪،‬‬
‫وكارثة فرنسا فً السفٌنة "إٌتالٌا" فً قرٌة بارو شدٌدة جدا؛ ألنها السفٌنة اللً تقود األسطول الفرنسً إلى‬
‫الوجه القبلً وتحمل الذخٌرة والمإن‪ ،‬ولها ؼبلوة خاصة عند نابلٌون‪ ،‬لدرجة أنه اعتبر فقد "إٌتالٌا" بداٌة‬
‫ألفول نجم فرنسا‪ ،‬وقال لمن حوله‪ :‬إن فرنسا قد فقدت "إٌتالٌا"‪ ،‬إن شعوري ال ٌكذبنً"‪ ،‬وكان ٌقصد الببلد‬
‫اإلٌطالٌة التً تحتلها ببلده لتشابه األسماء(‪ ،)ٗٙ‬وبالفعل خسرت فرنسا بعد ذلك األراضً اإلٌطالٌة‪.‬‬

‫♣ (معركة بنً سوٌؾ)‬

‫منذ هزٌمتهم أمام العثمانلٌة تحول الممالٌك فً مواجهة العدو الخارجً إلى "سٌؾ مصدي"‪ ،‬أما فً‬
‫مواجهة المصرٌٌن فٌصدق علٌهم المثل "أس ُد علٌَّا وفً الحروب نعامة"‪ ،‬فؤظهر الممالٌك أمام الفرنسٌس‬
‫جب ًنا وخساسة ساهما فً زٌادة جراح األهالً‪ ،‬فمراد بك هرب للصعٌد بعد موقعة إمبابة فً إمبابة‪،‬‬
‫واقتصر دوره هناك على جباٌة المال بقوة السبلح من األهالً من ناحٌة‪ ،‬وتحمٌسهم للقتال ضد "الكفار"‪،‬‬
‫وتصدٌرهم كدروع بشرٌة فً مقدمة المعارك مع الفرنسٌس من ناحٌة‪ ،‬فإذا الحت الهزٌمة فر ومن معه‬
‫كالبرق إلى قرى أخرى أوالصحاري‪ ،‬وتركوا األهالً لجحٌم الفرنسٌس‪.‬‬

‫فمثبل لما وصل الفرنساوٌة إلى الفشن فً بنً سوٌؾ‪ ،‬تراجع مراد قبل أن ٌدركه الجٌش‪ ،‬وتعقبه‬
‫الفرنساوٌة ٖ أٌام وهو ٌنسحب من قرٌة إلى قرٌة دون أن ٌواجههم فً معركة فاصلة‪ ،‬وقال عنهم دٌزٌٌه‪:‬‬
‫"إن الممالٌك على جانب عظٌم من الحذر والحرص‪ ،‬فهم ال ٌستهدفون للقتل‪ ،‬بل ٌعرضون ؼٌرهم‬
‫للخطر(‪ ،")ٗ9‬وفً النهاٌة ذهب مراد للفرنسٌس واتفق على الصلح مع كلٌبر عام ٓٓ‪ ٔ8‬مقابل أن ٌكون‬
‫رجلهم فً مصر‪ٌ ،‬جبً لهم األموال وٌقمع ثورة الناس؛ فنصبوه حاكما على الوجه القبلً‪.‬‬

‫وكان حٌن هرب بعد معركة إمبابة إلى الصعٌد ٌجبى الضراٌب من الفبلحٌن بالقوة‪ ،‬فثاروا علٌه‬

‫(‪)ٗٙ‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪٘ٙ‬‬
‫(‪)ٗ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ -ٗ8 ،‬ص ٕ٘‬

‫ٖ‪ٖ7‬‬
‫واشتبكوا معه فً بلدة صنبو‪ ،‬وقتلت ملٌشٌاته ٓ‪ 8‬فبلحا وقتل الفبلحون ‪ 8‬ممالٌك منهم خازن مراد‪ ،‬وقال‬
‫بلٌار فً ٌومٌاته إن القرٌة أرسلت للجنرال دٌزٌه لٌتصدى للممالٌك‪ ،‬ولكن بدال من ذلك طلب دٌزٌه أٌضا‬
‫منهم الضراٌب‪ ،‬ولم ٌستجب أحد لتوسبلتهم أن ٌعفوهم منها ألنهم دفعوها فعبل لمراد‪ ،‬وبذلك دفعت القرى‬
‫الضراٌب مرتٌن فً سنة واحدة‪ ،‬وبعضها بات ٌصارع الفرنسٌس والممالٌك معا‪.‬‬

‫وأضاؾ أن القابد دٌنون بدأ ٌرثى لحال األهالً "الذٌن أتٌنا إلى مصر لنحقق لهم الرفاهٌة"‪ ،‬فإذا هم‬
‫ٌُ جبرون إذا تركوا قراهم وقت االجتٌاح فإنه عند عودتهم ال ٌجدون سوا حٌطان الطٌن "فؤدواتهم ومحارٌثهم‬
‫وأبوابهم وسقوؾ بٌوتهم نستعملها وقودا لطهً حساءنا‪ ،‬وقمحهم ٌإكل ودجاجهم وحمامهم ٌشوى‪ ،‬وفً‬
‫طرٌق عودتهم وهم ٌمسكون عصٌانهم تشتبه القوات فً نواٌاها فتطلق علٌهم النار لٌسقط بعضهم قتلى‪،‬‬
‫فٌدفنون موتاهم ونظل أصدقاء حتى ٌجدوا الفرصة للثؤر دون أن ٌتعرضوا للخطر"‪.‬‬

‫واختتم‪" :‬صحٌح لو ظلوا فً قرٌتهم ودفعوا المٌري لما خسروا كل ذلك‪ ،‬والؼتصبنا عددا أقل من‬
‫زوجاتهم وبناتهم‪ ،‬ولكن هذا كان ٌعد جرٌمة تعاون معنا(‪.")ٗ8‬‬

‫♣ (معركة دمنهور)‬

‫وتبلورت ثورة جدٌدة فً رشٌد بسبب السلفة اإلجبارٌة اللً فرضها علٌها الفرنسٌس‪ ،‬فضرب الفرنسٌس‬
‫قرى ومدن حولها مثل شباس عمٌر والسعدة وبرنبال وهدموها‪ ،‬وٌصؾ "رٌبو" دخول الجنرال "النوس"‬
‫دمنهور بؤنه كان لٌنتقم منها أشد انتقام؛ ألنها من المدن التً ثارت بشدة ضد الفرنسٌس‪ ،‬وهزموهم فً كذا‬
‫معركة "فؤحرقوا مساكنها بالنار‪ ،‬وقتلوا كل من وجدوه من الشٌوخ والنساء واألطفال بحد السٌؾ‪ ،‬وفً‬
‫الٌوم التالً كانت دمنهور ركاما من األحجار السوداء‪ ،‬اختلطت بها أشبلء الجثث ودماء القتلى"‪ ،‬وٌصؾ‬
‫الجنرال "النوس" بنفسه ما ارتكبه من فظابع فً دمنهور فً خطاب إلى دٌجا‪" :‬إن دمنهور زالت من‬
‫الوجود‪ ،‬وقد أحرق أو ضرب بالنار ٕٓٓٔ‪ ٔ٘ٓٓ -‬من أهلها(‪.")ٗ9‬‬

‫♣ الطفل األسطورة‬

‫من أعجب حوادث الوجه القبلً ما حصل فً قرٌة النعناعً فً بنً سوٌؾ‪ ،‬وحكاه القابدان دٌنون‬
‫وبلٌار‪.‬‬

‫أنه فً هذه القرٌة عسكر الفرنسٌس فً انتظار قدوم المدفعٌة‪ ،‬وتؽلؽل فً داخل المعسكر طفل ما بٌن‬
‫‪ ٔٓ-8‬سنوت‪ ،‬استولى على بندقٌة‪ ،‬وخرج ٌجري بسرعة‪ ،‬فلمحه جندي وتعقبه‪ ،‬ولم ٌتوقؾ الصبً إال بعد‬
‫أن أصابه الجندي بالسٌؾ فً ذرعه‪ ،‬وساقه جرٌحا إلى الجنرال دٌزٌٌه‪.‬‬

‫واستجوب الجنرال الصبً‪ ،‬فؤذهلته حماسته ورباطة جؤشه؛ فكان ٌجٌب عن أسبلته بثبات وقدرة‪،‬‬

‫(‪)ٗ8‬‬
‫‪ -‬بونابرت فً مصر‪ ،‬هٌرولد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖ٘ٙ‬‬
‫(‪)ٗ9‬‬
‫‪ -‬بونابرت فً مصر‪ ،‬ص هٌرولد ص ٖٖٓ‬

‫ٗ‪ٖ7‬‬
‫وتعجب الفرنسٌس حٌن سؤلوه عمن حرضه؛ فؤجابهم ناظرا إلى السماء إن هللا أمره أن ٌفعل ذلك‪.‬‬

‫وقال لدٌزٌٌه افعل بً ما تشاء‪ ،‬ثم خلع طاقٌته وأعطاها للجنرال‪ ،‬وطلب منه أن ٌفصل فً مصٌره‪،‬‬
‫وظل طول الوقت هادبا هدوءا عجٌبا وأبدى قوة خلق نادرة‪ ،‬أما الجنرال فراعى صؽر سنه وخضوعه‬
‫لحكمه‪ ،‬ؼٌر أنه لم ٌتخ َّل عن قسوته تماما‪ ،‬فحكم علٌه بالجلد ٖٓ جلدة‪ ،‬وانحنى الصبً طواعٌة وتلقى‬
‫الجلدات على ظهره دون صوت أو دمعة‪ ،‬حتى أن "بلٌار" وهو ٌقص حكاٌته قال‪" :‬إن هذا الؽبلم إذا عنً‬
‫بتربٌته كان ذا شخصٌة نادرة المثال(ٓ٘)"‪.‬‬

‫وتواصلت المعارك حتى وصفها الجنرال "رٌبو" بقوله‪" :‬كانت الثورة كحٌة ذات ٓٓٔ رأس‪ ،‬كلما‬
‫أخمدها السٌؾ والنار فً ناحٌة ظهرت من ناحٌة أخرى أقوى وأشد مما كانت‪ ،‬فكؤنما كانت تعظم وٌتسع‬
‫مداها‪ ،‬كلما ارتحلت من بلد إلى آخر"‪ ،‬وقال فً موضع آخر‪" :‬فوجبت مصر بالحملة الفرنسٌة؛ فؤخذت‬
‫تنتفض وتتجاذب لتتخلص من قبضة الفاتح الحدٌدٌة‪ ،‬وعلى الرؼم مما بذلناه من الجهود لٌقبلنا الشعب كما‬
‫ٌتقبل محررٌه‪ ،‬فقد قامت سلطتنا على القوة ال على اإلقناع‪ ،‬وكانت سٌاستنا قابمة على إكراه الشعب على‬
‫اإلذعان بالحزم مرة وبالقوة مرة أخرى(ٔ٘)"‪.‬‬

‫وفً وصفه لمشاعر المصرٌٌن قال المسٌو بوسلٌج‪" :‬إن الشعب المصري ٌكرهنا وهٌهات أن ٌحبنا‪ ،‬مع‬
‫أننا نعامله بؤحسن ما ٌمكن أن تعامل ببلد محتلة‪ ،‬إنهم ٌمقتون حكم الممالٌك‪ ،‬وٌرهبون نٌر األستانة‪ ،‬وال‬
‫ٌحبون حكمها‪ ،‬ولكنهم ال ٌطٌقون حكمنا وال ٌصبرون علٌه إال بؤمل التخلص منه(ٕ٘)"‪.‬‬

‫♣ ثورة القاهرة األولى‬

‫خبلل اشتعال الثورة فً األرٌاؾ كانت تتحضر الثورة فً القاهرة أٌضا‪ ،‬رؼم مهادنة بعض سكانها‬
‫وعلمابها للفرنسٌس‪ ،‬فصارت مصر من أقصاها ألقصاها شعلة من النٌران‪.‬‬

‫ففً ٕٔ أكتوبر ‪ ٔ998‬عقد ٖٓ من المشاٌخ واألعٌان اجتماعا اتفقوا فٌه على إؼبلق الحوانٌت والسٌر‬
‫فً مظاهرة كبٌرة إلى القٌادة الفرنسٌة إلببلؼها رؼبات الناس وعرض وجهات النظر فٌما ٌتعلق بالضراٌب‬
‫وبؤعمال الهدم التً تقوم بها القوات الفرنساوٌة‪ ،‬ورؼم معاناتهم فً قراهم‪ ،‬جاء الفبلحون أٌضا ومعهم‬
‫عرب من الضواحً والببلد القرٌبة‪ ،‬وٌصؾ "رٌبو" الحالة فٌقول‪" :‬سادت الجلبة‪ ،‬واختلطت األصوات‪،‬‬
‫وعلت الصٌحات‪ ،‬فكان هذا المنظر ٌبعث الرهبة فً نفوس أشجع الناس‪ ،‬ولم ٌعد هناك شك فً أن الثورة‬
‫قد بدأت(ٖ٘)"‪ ،‬وخرج الجنرال "دٌبوي" ٌستطلع األمر‪ ،‬وفجؤة‪ ..‬أطلق تاجر من األروام (ٌونانً) اسمه‬
‫برتملً ٌ َّنً‪ -‬كان ٌتخفى فً مهنة صاحب محل قوارٌر قبل الؽزو‪ -‬الرصاص على الناس‪ ،‬فرد الناس‬

‫(ٓ٘)‬
‫‪ -‬بونابرت فً مصر‪ ،‬هٌرولد‪ ،‬ص ٕ٘٘‪ ،‬والنضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة‪ ،‬ص ٔ٘‬
‫(ٔ٘)‬
‫‪ -‬النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة‪ ،‬ص ٕٗ‬
‫(ٕ٘)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة‪ ،‬ص ‪9ٕ -89‬‬
‫(ٖ٘)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٘‪ٙ‬‬

‫٘‪ٖ7‬‬
‫بهجوم بالعصٌان والحجارة والسٌوؾ والرماح والسهام‪ ،‬وقتلوا الجنرال "دٌبوي" نفسه(ٗ٘)‪.‬‬

‫وكان لقتل "دٌبوي" دفعة فً عروق الناس؛ فتحمسوا‪ ،‬وسٌطروا على مواقع استراتٌجٌة كباب الفتوح‬
‫وباب النصر وباب الشعرٌة وباب زوٌلة‪ ،‬وتجمع ٘ٔ ألؾ من الناس فً األزهر وحوله‪ ،‬مسلحٌن بالبنادق‬
‫والعصٌان‪ ،‬فً حٌن الفرنسٌس ٌرابطون متحفزٌن أمام مدافع نصبوها فوق أماكن عالٌة كالقلعة كما قال‬
‫الجنرال "دٌتروا" فً ٌومٌاته‪ ،‬وأمر نابلٌون الجنرال "دومارتان" بنصب مدافعه فوق المقطم لتتعاون مع‬
‫المدافع المنصوبة فً القلعة فً ضرب الناس المتجمعٌن فً األزهر‪.‬‬

‫وفً ٕٕ أكتوبر ‪ ٔ998‬بدأ الصدام‪ ،‬وقتل الثابرون الجنرال "سلكوسكً"‪ٌ ،‬اور نابلٌون‪ ،‬المكلؾ بصد‬
‫الفبلحٌن من أن ٌؤتوا إلى القاهرة‪ ،‬وهتؾ الناس "نصر هللا دٌن اإلسبلم"‪ ،‬فً المقابل‪ ،‬أصدر الشٌخ أحمد‬
‫العرٌشً والسادات‪ ،‬وكانا ما زاال فً مهادنة مع الفرنسٌس‪ ،‬منشورا لتهدبة الناس‪ ،‬وصؾ ما ٌجري بؤنه‬
‫"فتنة وفوضى" صنعها "األشرار"‪ ،‬ومدح فً نابلٌون ألنه منع جنوده من إحراق القاهرة بؤكملها‪ ،‬واتهم‬
‫الممالٌك بؤنهم وراء إثارة "الفتنة"‪ ،‬ألنهم ال ٌرٌدون أن ٌؤخذ الفرنساوٌة مصر منهم‪ ،‬وٌرٌدون استعادة‬
‫حكمهم الؽابر‪ ،‬فٌدفعوا الناس لـ"الهبلك" (٘٘)‪.‬‬

‫▼▼▼ االنتقام‪ ..‬بالفرنساوي‬

‫فً الٌوم الثانً لثورة القاهرة تلقى "بون" أوامر القابد العام نابلٌون‪" :‬علٌكم أن تهاجموا لفوركم معسكر‬
‫الثابرٌن‪ ،‬وأن تضربوا األزهر بالمدافع‪ ،‬ولتكن المدافع فً أصلح موقع لٌكون الضرب أشد أثرا‪ ،‬بلؽوا‬
‫الجنرال "دومارتان" أن ٌفعل مثل ذلك‪ ،‬وعلٌكم أن تقتلوا األهالً‪ ،‬وأن كل المنازل التً تلقى منها الحجارة‬
‫تحرق حاال بالنار‪ ،‬وعلٌكم أن تقتلوا كل من فً المسجد"‪.‬‬

‫وفً الساعة ٗ عصرا بدأت المدافع ترمً القنابل وسط الناس فً األزهر‪ ،‬وأصوات القنابل جدٌدة على‬
‫آذان الناس؛ فصمت آذانهم وزلزلت قلوبهم‪ ،‬وانهالت كتابب الفرنسٌس تحتل الشوارع الموصلة لؤلزهر‪،‬‬
‫فبقى الناس بٌن نار المدافع من المرتفعات ونار الكتابب التً تصطادهم فً الشوارع‪ ،‬ووصؾ "رٌبو" اثار‬
‫ضرب األزهر‪" :‬أوشك الجامع األزهر أن ٌتداعى من شدة الضرب‪ ،‬فٌدفن تحت أنقاضه الجماهٌر الحاشدة‬
‫فٌه‪ ،‬وأصبح الحً المجاور لؤلزهر صورة من الخراب‪ ،‬فلم ٌكن ٌرى فٌه إال بٌوتا مدمرة ودورا محترقة‪،‬‬
‫ومات تحت األنقاض آالؾ من السكان اآلمنٌن‪ ،‬وكان ٌسمع لهم أنٌن مزعج وصٌحات مرعبة(‪.")٘ٙ‬‬

‫ولما استمر الضرب والهدد والقتل حسَّ الناس أن المدٌنة ستتدمر نهابٌا‪ ،‬وتروح آالؾ األرواح األخرى‬

‫(ٗ٘)‬
‫‪ -‬قتلت االحتجاجات فً أنحاء مصر عدة جنراالت فرنسٌس‪ ،‬مثل دٌبوي (مسبول القاهرة) وسلكوسكً ٌاور بابلٌون (بونابرت فً مصر ص‬
‫‪ ،) ٕٓ8‬ولٌس فقط كلٌبر الذي أخذ قتله حظا من الشهرة أكثر من ؼٌره‪ ،‬ربما ألنه خلٌفة نابلٌون فً قٌادة الفرنسٌس‪ ،‬أو ألن القاتل اسمه صار‬
‫معروفا وهو سلٌمان الحلبً‪ ،‬فً حٌن أن الذٌن قتلوا جنراالت وقٌادات فرنسٌة أخرى ؼفل التارٌخ أسماءهم‪.‬‬
‫(٘٘)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ ،ٙ8 -ٙٙ‬وعجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار‪ ،‬ج ٗ‪ ،‬ص ٕٕٔ‪ ،ٕٔ9 -‬و‪ٔٗ9 -ٔٗٙ‬‬
‫(‪)٘ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٙ9 -ٙ8‬‬
‫هذه المشاهد المفجعة وؼٌرها طوال التارٌخ وقعت للمصرٌٌن بال مؽٌث من منظمات دولٌة أو هالل وصلٌب أحمر‪ ،‬وبال إعالم ٌنقل للعالم ما جرى‬
‫لهم بصدق‪ ،‬وبال تعوٌضات وال تبرعات‪ ،‬وبال أي بواكً علٌهم‪.‬‬

‫‪ٖ7ٙ‬‬
‫تحت البٌوت المحترقة‪ ،‬ووافقوا على التفاوض‪ ،‬فطالبهم الفرنسٌس بتسلٌم السبلح‪ ،‬ولكن الفرنسٌس لم‬
‫ٌحفظوا عهد التفاوض‪ ،‬فنفذوا سلسلة مذابح انتقاما من األهالً كً ال ٌفكروا مرة أخرى فً الثورة‪.‬‬

‫وعن هذا كتب الجنرال "دٌتروا" فً ٌومٌاته أنه راح ضحٌتها منٓٓ‪ 8ٓٓ-9‬قتٌل‪ ،‬وقال نابلٌون فً تقرٌر‬
‫لحكومة فرنسا إنهم من ٕٓٓٓ‪ ،ٕ٘ٓٓ-‬وكذلك قالت "كورٌٌه دي لٌجٌبت"‪ ،‬أما الجنرال "بلٌار" فؤحصاهم ٗ‬
‫آالؾ قتٌل‪ ،‬وذلك فً ساعات معدودة(‪ ،)٘9‬وكؤن زلزال ضرب مصر بؤقصى درجاته أو بركانا انفجر‪.‬‬

‫و شهد المسٌو "بورٌٌن" سكرتٌر نابلٌون الخاص فً مذكراته متباهٌا بنفسه‪" :‬سٌق المسجونون إلى‬
‫القلعة‪ ،‬وكنت أتولى فً مساء كل ٌوم كتابة األوامر القاضٌة بإعدام ٕٔ سجٌنا كل لٌلة‪ ،‬وكانت جثث القتلى‬
‫توضع فً زكابب وتؽرق فً النٌل‪ ،‬واستمر ذلك لٌالً عدة"‪ ،‬و"كتب الجنرال "برتٌٌه" إلى الجنرال‬
‫"دوجا" قومندان المنصورة ٌقول له‪" :‬لقد نكلنا بالثابرٌن فً مذبحة رهٌبة‪ ،‬فسادت السكٌنة‪ ،‬وقد قتلنا منهم‬
‫ألفٌن أو ثبلثة آالؾ"‪ ،‬وكتب نابلٌون إلى "رٌنٌه"‪" :‬عادت السكٌنة إلى القاهرة‪ ،‬وفقد الثابرون نحو ألفً‬
‫قتٌل‪ ،‬وفً كل لٌلة نقطع رإوس نحو ٖٓ من الرجال وكثٌر من زعماء األهالً‪ ،‬وأظن أن هذا سٌكون‬
‫درسا قاسٌا لهم(‪.")٘8‬‬

‫وقبض على الزعماء أعضاء لجنة الثورة‪ ،‬وحُكم علٌهم باإلعدام‪ ،‬ومنهم الشٌوخ إسماعٌل البراوي‬
‫وٌوسؾ المصٌلحً وعبد الوهاب الشبراوي وسلٌمان الجوسقً (شٌخ العمٌان)‪ ،‬وبحسب مذكرات نابلٌون‬
‫كانوا ٓ‪ 8‬شخصا‪ ،‬وفً ٌوم ٖ نوفمبر ‪ ٔ998‬تلى علٌهم حكم اإلعدام بالرصاص دون محاكمات‪ ،‬ومن نفذ‬
‫حكم اإلعدام كان "برتلمً ٌ َّنً" الرومً (الٌونانً)‪ ،‬وبعد أن قتلوهم ألقوا بهم من فوق السور خلؾ القلعة‪،‬‬
‫وأصدر الجنرال "برتٌٌه" أوامر بقطع رإوس كل المساجٌن الذٌن ضبطوا بسبلح‪ ،‬ورمً جثثهم فً النٌل‪،‬‬
‫حتى ال ٌتم تسلٌمها ألهالٌهم‪ ،‬فٌكون عقابا لهم وألهالٌهم‪ ،‬وحٌن تزاٌدت حاالت اإلعدام فً القلعة‬
‫بالرصاص قال نابلٌون ببرود الحبللٌؾ‪ :‬إنً أرٌد أن أعٌن جبلدا (لقطع الرإوس) لٌحل محل فرقة إطبلق‬
‫النار‪ ،‬وفً هذا توفٌر للذخٌرة وتخفٌؾ للضجة(‪.")٘9‬‬

‫فكانت المذابح الفرنسٌة فً قرى ومدن مصر من أكبر مذابح العصر الحدٌث‪ ،‬وبعد هذا بـ ‪ ٙ‬أٌام أمر‬
‫نابلٌون باجتماع للمجمع العلمً للبحث فً األمور العلمٌة‪ ،‬فما أؼربها من طبٌعة فرنسٌة‪ٌ ،‬قطع رإوس‬
‫األبرٌاء والعلماء بٌد‪ ،‬وٌمجد العلم بٌد أخرى‪.‬‬

‫وفوق هذا كاٌدوا الناس أكثر بانتهاك حرمة األزهر فاجتاحوه كؤنهم "جنود إبلٌس"‪ ،‬بحسب وصؾ‬
‫الجبرتً‪ ،‬ووطؤوه بالخٌول‪ ،‬وتؽوطوا فٌه‪ ،‬وشربوا الخمر‪ ،‬وكسروا القنادٌل والسهارات فً الشوارع‪،‬‬
‫وهشموا خزابن الطلبة فً األزهر والمجاورٌن والمكتبة‪ ،‬حتى أنهم نهبوا ما لقوه من متاع وأوانً فً‬
‫الدوالٌب‪ ،‬وكان الناس خزنوا فً األزهر الحاجات التً ٌخافون علٌها‪ ،‬ظانٌن أن الفرنسٌس لن ٌتجرأوا‬

‫(‪)٘9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬هوامش المحقق فً كتاب "عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٕٔ‪ٕٔ٘ -‬‬
‫(‪)٘8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة‪ ،‬ص ‪ ،7ٔ -ٙ9‬و"عجاٌب اآلثار"‪ ،‬ج ٗ‪ ،‬ص ‪ ،ٖٔٔ -ٕٔ7‬وقطع الرإوس بهذا الشكل الداعشً‬
‫أمر اعتاد علٌه الفرنسٌس فً قطع رءوس خصومهم خالل الثورة الفرنسٌة رؼم شعاراتها "اإلنسانٌة"‪.‬‬
‫(‪)٘9‬‬
‫‪ -‬بونابرت فً مصر‪ ،‬ص ٖٖٔ‬

‫‪ٖ77‬‬
‫وٌدخلوه‪ ،‬ورمى الفرنسٌس الكتب والمصاحؾ على األرض‪ ،‬وداسوها بنعالهم‪ ،‬وقتلوا من علماء األزهر‬
‫ٖٔ عالما‪.‬‬

‫وألن حملة نابلٌون درست جٌدا كتب المستشرقٌن والرحالة عن الحال فً مصر قبل ؼزوها‪ ،‬فٌبدو أنها‬
‫كانت تعلم ما للطرق الصوفٌة من تؤثٌر على المصرٌٌن؛ فاتبع أسلوبها كوسٌلة أخرى‪ -‬بجانب العنؾ‪ -‬لكسر‬
‫حدة مقاومتهم؛ ولذا لبس قناع الدراوٌش إلرهاب الناس عن مقاومته بؤن ا َّدعى أنه ٌعلم ما تخفً النفوس‪،‬‬
‫وأن احتبلل الفرنسٌس لمصر "أمر إلهً"‪ ،‬وٌكاد ٌقول إنه تلقً الوحً كاألنبٌاء‪ ،‬بل إنه إله‪ ،‬فؤصدر بٌانا‬
‫فً ٕٔ دٌسمبر ‪ ٔ998‬هدد فٌه الناس بؤن "الذي ٌعادٌنً وٌخاصمنً ال ٌجد ملجؤ مخلصا ٌنجٌه منً فً‬
‫هذا العالم‪ ..‬واعلموا أنً أقدر على إظهار ما فً نفس كل واحد منكم‪ ،‬ألنً أعرؾ أحوال الشخص‪ ،‬وما‬
‫انطوى علٌه‪ ،‬بمجرد ما أراه‪ ،‬وإن كنت ال أتكلم‪ ،‬وال أنطق بالذي عنده"‪.‬‬

‫وأرجع احتبلل مصر ألسباب وردت فً القرآن ورؼبة سماوٌة فقال‪" :‬قدر فً األزل أنً أجً من‬
‫الؽرب إلى أرض مصر‪ ،‬وإجراء األمر الذي أمرت به‪ ،‬وال ٌشك العاقل أن هذا كله بتقدٌر هللا وإرادته‬
‫وقضابه‪ ،‬واعلموا أٌضا أن القرآن العظٌم صرح فً آٌات كثٌرة بوقوع الذي حصل‪ ،‬وكبلم هللا فً كتابه‬
‫صدق وحق ال ٌتخلؾ"(ٓ‪.)ٙ‬‬

‫▼▼▼ دور المستوطنٌن األجانب‬

‫أما الٌونانً برتلمً ٌ ِّنً‪ ،‬الذي كان ٌتخفى فً شكل تاجر القوارٌر‪ ،‬فعٌَّنه الفرنسٌس فور دخولهم القاهرة‬
‫ناببا لمحافظها‪ ،‬ما ٌإشر إلى أنه كان جاسوسا لهم لٌمدهم بالمعلومات البلزمة للؽزو‪ ،‬ونراه ٌطلق أعوانه‬
‫للقبض على الناس فً الشوارع‪ ،‬وٌزج بهم فً السجون وٌطٌح فٌهم دواعشه ضربا وإهانة‪.‬‬

‫وأشار الجبرتً إلى دور للشوام واألروام فقال‪" :‬وتحزبت نصارى الشوام‪ ،‬وجماعة أٌضا من األروام‬
‫الذٌن انتهبت دورهم بالحارة الجوانٌة لٌشكو لكبٌر الفرنسٌس ما لحقهم من الرزٌة‪ ،‬واؼتنموا الفرصة فً‬
‫المسلمٌن‪ ،‬وأظهروا ما هو بقلوبهم كمٌن‪ ،‬وضربوا فٌهم المضارب‪ ،‬وكؤنهم شاركوا اإلفرنج فً النواٌب‪،‬‬
‫وما قصدهم المسلمون ونهبوا ما لدٌهم إال لكونهم منسوبٌن إلٌهم‪ ،‬مع أن المسلمٌن الذٌن جاوروهم نهبهم‬
‫الزعر أٌضا وسلبوهم"‪.‬‬

‫و أمر الفرنسٌس بتؤلٌؾ كتٌبة من األروام المقٌمٌن فً القاهرة ورشٌد ودمٌاط‪ ،،‬وانضم لهم جزابرٌون‬
‫ومؽاربة‪ ،‬وترأس الكتٌبة برتلمً ٌ ِّنً‪ ،‬ومهمتها حراسة السفن فً النٌل بسبب كثرة مهاجمة األهالً للسفن‬
‫التً ٌستخدمها الفرنسٌس‪ ،‬وقال الجبرتً عن فرقة المؽاربة‪ ،‬إن شخصا ٌدعى عمر القلقجً جمع مؽاربة‬
‫الفحامٌن وعرضهم على صاري عسكر (نابلٌون)‪ ،‬فدربهم على القتال بالطرٌقة الفرنساوٌة‪ ،‬وأرسلهم إلى‬
‫الوجه البحري الذي لقً فٌه الجنود الفرنساوٌة القتل على ٌد األهالً‪ ،‬فؤراد تصدٌر المؽاربة‪ ،‬فذهبوا‪،‬‬

‫(ٓ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة‪ ،‬محمد فرج‪ ،‬ص ‪99 -9ٙ‬‬

‫‪ٖ78‬‬
‫ونهبوا منازل األهالً وبهاٌمهم‪ ،‬وقتلوا ابن شعٌر‪ ،‬أحد كبٌر الجهات هناك‪ ،‬وقتلوا إخوته وأوالده(ٔ‪.)ٙ‬‬

‫كذلك انضم الكثٌر من الٌونانٌٌن الذٌن ٌعملون على سفن الممالٌك خبلل معركة بالمنٌا فً دٌسمبر‬
‫‪ ٔ998‬إلى الفرنسٌس(ٕ‪ ،)ٙ‬ومثلهم فعل التركً مصطفى أؼا الذي جعله نابلٌون محافظا للقاهرة‪ ،‬وأشرؾ‬
‫على ذبح الكثٌر من المصرٌٌن وإلقاء جثثهم فً بحر النٌل‪ ،‬حتى وصفه الجبرتً بؤنه "اللعٌن األؼا"‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"مات فً هذٌن الٌومٌن وما بعدهما أمم كثٌرة ال ٌحصى عددها إال هللا"‪.‬‬

‫وفً نفس الوقت انضم مؽاربة وأتراك للمقاومة ضد الفرنسٌس تحزبا للسلطنة العثمانلٌة أو ألسباب‬
‫دٌنٌة‪.‬‬

‫▼▼▼ شرخ جدٌد فً الجسد المصري‪ ..‬فرقة ٌعقوب‬

‫احتبلل الببلد ال ٌكون عسكرٌا فقط‪ ،‬وال اقتصادٌا فقط‪ ،‬بتملك األجانب األرض والمال‪ ،‬وال جسدٌا فقط‪،‬‬
‫بتوطن األجانب فً الببلد وتنصٌبهم طبقة علٌا فوق رأس أهلها‪ ،‬لكن األشنع هو االحتبلل الفكري‪ ،‬احتبلل‬
‫العقل الوطنً وتحوٌره وخداعه واستعباده لٌعمل لصالح المحتل ظ ًنا منه أنه بهذا ٌخدم بلده‪.‬‬

‫وفٌما ٌخص االحتبلل الفرنسً ظهرت أمثلة لتبرٌر التعاون مع المحتل مثل بعض علماء األزهر‬
‫الرافضٌن لظلم الممالٌك والعثمانلٌة ورأوا أن الفرنسٌس أخؾ منهم وطؤة‪ ،‬كذلك من مسٌحٌٌن ممثلٌن فً‬
‫كون فرقة مسلحة من‬ ‫"فرقة الجنرال ٌعقوب"‪ ،‬وهو مصري اسمه ٌعقوب حنا‪ ،‬من التجار األؼنٌاء‪َّ ،‬‬
‫المصرٌٌن المسٌحٌٌن لدعم الفرنسٌس الذٌن خلعوا علٌه لقب جنرال‪.‬‬

‫ٌقول عنه الجبرتً فً حوادث سنة ٕٕٔٔ ه (ٓٓ‪ ٔ8‬م) إن الفرنسٌس "طلبوا عسكرا من القبط فجمعوا‬
‫منهم طاٌفة وزٌوهم بزٌهم‪ ،‬وقٌدوا بهم من ٌعلمهم كٌفٌة حربهم وٌدربهم على ذلك‪ ،‬وأرسلوا إلى الصعٌد‬
‫فجمعوا من شبانهم نحو األلفٌن وأحضروهم إلى مصر‪ ،‬وأضافوهم إلى العسكر"‪.‬‬

‫وأن "ٌعقوب القبطً لما تظاهر مع الفرنساوٌة وجعلوه ساري عسكر القبطة جمع شبان القبط وحلق‬
‫لحاهم‪ ،‬وزٌاهم بزي مشابه لعسكر الفرنساوٌة ممٌزٌن عنهم بقبع ٌلبسونه على روسهم مشابه لشكل‬
‫البرنٌطة"‪ ،‬وحٌن سلَّط نصوح باشا العثمانلً بعض المسلمٌن على قتل النصارى من قبط وشوام وأروام‬
‫خبلل الثورة استؽل ٌعقوب فرقته فً حماٌة القبط الموجودٌن بالقاهرة ووضعهم فً قلعة باألزبكٌة‪.‬‬

‫ووفق الجبرتً أٌضا‪ ،‬فإنه عند جبلء الفرنسٌس خرج معهم ٌعقوب وجماعة من المسٌحٌٌن قبط وشوام‬
‫مثل ٌوسؾ الحموي ووإفرنج وأروام‪ -‬منهم السفاح برتملً ٌ ِّنً‪ -‬ومسلمٌن أٌضا مثل عبد العال األؼا الذٌن‬

‫(ٔ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار‪ ،‬ج ٗ‪ ،‬ص ٕٖٔ‪ ،ٖٖٔ -‬وبونابرت فً مصر‪ ،‬ص ‪ ،ٔ٘9‬والنضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة‪ ،‬ص ٗ‪-9‬‬
‫٘‪9‬‬
‫(ٕ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬جٕ‪ ،‬المبلحق التً أوردها المحقق عبد العزٌز جمال الدٌن‪ ،‬ص ٓٓٗ‬

‫‪ٖ79‬‬
‫أٌدوا الفرنسٌس‪ ،‬فٌما رفض كثٌر ممن كانوا فً الفرقة مؽادرة مصر(ٖ‪.)ٙ‬‬

‫ولم ٌترك ٌعقوب‪ ،‬الذي مات فً السفٌنة اإلنجلٌزٌة قبل وصوله لفرنسا‪ -‬أوراقا ٌشرح فٌها بنفسه‬
‫مبرراته لتشكٌل فرقة مسلحة لمعاونة الؽازي‪.‬‬

‫ولكن نقل عنه صدٌق له اسمه السكارٌاس‪ٌ ،‬قال إنه من فرسان مالطة الذٌن انضموا لنابلٌون بعد ؼزوه‬
‫مالطة وأتى معه لمصر‪ ،‬كان ذو طموح كبٌر وٌسمً نفسه "رجل المشروعات"‪ ،‬وٌتضح من حٌاته أن من‬
‫مشروعاته هذه تخلٌص ببلد مثل مصر وجبل لبنان من االحتبلل العثمانلً والمملوكً لتستقل ولكن تحت‬
‫رعاٌة أو حماٌة أوروبٌة‪.‬‬

‫وكشفت وثابق عثر علٌها د‪ .‬شفٌق محمد ؼربال فً بداٌة القرن ٕٓ فً أرشٌؾ وزارتً الخارجٌة‬
‫اإلنجلٌزٌة والفرنسٌة النور قلٌبل‪ ،‬منها رسالة من القبطان جوزٌؾ إدموندس ربان السفٌنة "باالس" التً‬
‫كان علٌها ٌعقوب والسكارٌاس إلى لورد البحرٌة اإلنجلٌزٌة ٌنقل له فٌها خبلصة حدٌثه مع ٌعقوب قبل‬
‫موته عن رؼبته فً الحصول على دعم برٌطانً الستقبلل مصر‪ ،‬وذلك بعد أن فقد ٌعقوب الثقة فً فرنسا‪،‬‬
‫و"أنه انضم للفرنسٌٌن تلبٌة لباعث وطنً علَّه ٌخفؾ عن مواطنٌه ما قاسوه‪ ،‬وأن الفرنسٌٌن خدعوهم‪ ،‬وأن‬
‫المصرٌٌن فً الوقت الحاضر ٌحتقرونهم كما كانوا ٌحتقرون الترك"‪ ،‬ولكنه "لم ٌفقد بعد أمله فً خدمة‬
‫ببلده‪ ،‬وأن ارتحاله لفرنسا قد ٌمكنه من هذا"‪.‬‬

‫أما مكاتبات السكارٌاس‪ -‬الذي صاحب ٌعقوب على متن نفس السفٌنة‪ -‬إلى القبطان فتحمل تبرٌرا بؤن‬
‫وجود ٌعقوب والوفد المصري فً فرنسا سٌمكنهم من التواصل مع الحكومات األوروبٌة لتحقٌق فكرة‬
‫استقبلل مصر‪ ،‬وٌتمنى من برٌطانٌا أن ٌكون هذا االستقبلل محور مفاوضاتها مع فرنسا حول مستقبل‬
‫مصر بعد إتمام الجبلء الفرنسً‪ ،‬وفً المقابل تكون مصر المستقلة صدٌقة لبرٌطانٌا(ٗ‪.)ٙ‬‬

‫فٌما نقل ٌعقوب روفٌلة فً كتابه "تارٌخ األمة القبطٌة" الذي وضعه نهاٌة القرن ‪ ٔ9‬عن معمرٌن‬
‫قرٌبٌن من عصر ٌعقوب أن الكنٌسة لم تكن راضٌة عن تصرفاته‪ ،‬وأنه خالؾ أبناء ملته "فً الزي‬
‫والحركات" بل و"اتخذ له إمرأة من ؼٌر جنسه بطرٌقة ؼٌر شرعٌة"‪ ،‬فً إشارة لزواجه من مسٌحٌة‬
‫شامٌة‪ ،‬واألؼلب أنها كاثولٌكٌة "وسمعت من بعض شٌوخ األقباط المسنٌن أن البطرٌرك نصحه المرات‬
‫العدٌدة بالعدول عن هذه الخطة‪ ،‬وأن ٌعٌش كسابر إخوانه فلم ٌقبل‪ ،‬وعاوده بالنصٌحة مرة أخرى فجاوبه‬
‫جوابا عنٌفا فسخط علٌه‪ ،‬وسمعت من آخر أٌضا والعهدة علٌه أن ما كان بٌنه وبٌن البطرٌرك من المنازعة‬
‫والمشاحنة دفعه إلى التجارئ على الدخول فً الكنٌسة مرة راكبا جواده ورافعا سبلحه(٘‪ ،)ٙ‬وربما فً هذا‬
‫إشارة إلى تحوله للمذهب الكاثولٌكً الذي تتبناه فرنسا وسعت لنشره فً مصر منذ القرن ‪.ٔٙ‬‬

‫واختلفت اآلراء حول نواٌا ٌعقوب وتقٌٌمها‪ ،‬ما بٌن من رآه صاحب أول مشروع مصري استقبللً مثل‬

‫(ٖ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج٘‪ ،‬ص ٘ و ٕ٘ وٗ‪ٔ9٘ -ٔ9‬‬
‫(ٗ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬الجنرال ٌعقوب والفارس السكارٌاس ومشروع استقبلل مصر فً ٔٓ‪ ،ٔ8‬د‪ .‬شفٌق ؼربال‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬طٔ‪ ،‬ص ‪ٙٓ -٘9‬‬
‫(٘‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬تارٌخ األمة القبطٌة‪ٌ ،‬عقوب نخلة روفٌلة‪ ،‬طٕ‪ ،‬مإسسة مار مرقص لدراسات التارٌخ القبطً‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٓٓٓ ،‬ص ‪ٕ9ٓ -ٕ89‬‬

‫ٓ‪ٖ8‬‬
‫شفٌق ؼربال‪ ،‬ومن رآه متعاونا مع االحتبلل‪ ،‬مثلما اختلفوا حول بعض شٌوخ األزهر الذٌن رفضوا ثورة‬
‫المصرٌٌن على الفرنسٌس ما بٌن أنهم سعوا لحماٌة المصرٌٌن العزل من التهلكة فً ثورات ٌقودها‬
‫الممالٌك لصالحهم‪ ،‬وما بٌن من رأوهم ٌعملون لصالح االحتبلل‪.‬‬

‫وما بٌن هذا الرأي وذاك ٌبقى الٌقٌن أن شرخا اتسع فً جسد مصر حول الموقؾ من الؽزاة منذ‬
‫االحتبلل الرومانً‪ ،‬وتسبب كثرة تعرض البلد الحتبلل ورا احتبلل ببل هوادة‪ ،‬وظهور أنواع من االحتبلل‬
‫والتنظٌمات تبرره للمصري المسلم والمسٌحً باسم الدٌن‪ ،‬وأخٌرا باسم الحرٌة‪ ،‬هذا الشرخ زاد اتساعا‬
‫وأشبع العقل المصري‪ ..‬توهانا‪.‬‬

‫♣ ثورة القاهرة الثانٌة‬

‫شبت فً مارس ٓٓ‪ ٔ8‬فً بوالق‪ ،‬ظهرت لها زعامات من الصؾ األول من المشاٌخ‪ ،‬وشجعها هذه‬
‫المرة العثمانلٌة باتفاق مع إنجلترا‪ ،‬وق َّدر كلٌبر الموقؾ‪ ،‬خاصة بعد سٌطرة الثابرٌن على مبلحة النٌل‪،‬‬
‫فحاصر القاهرة لتجوٌعها‪ ،‬فانشرت المجاعات وؼلت األسعار‪ ،‬وأمر المدفعٌة أن تصلً المدٌنة نارا حامٌة‬
‫بالقذابؾ الملتهبة‪ ،‬فقصفوا المنازل التً رصدوا بها المقاومٌن‪ ،‬بمن فٌها من نساء وأطفال‪ ،‬فانتشر الصراخ‬
‫والهلع‪ ،‬على حد وصؾ الجبرتً‪.‬‬

‫فً المقابل قضى الناس على كتٌبة من فرقة الجنرال "رٌنٌه" وقتلوا ضباطها‪ ،‬ودخلت الكتٌبة الثانٌة‪،‬‬
‫فخلعت المتارٌس التً ٌتحصن الناس ورابها‪ ،‬ففروا للتحصن فً أماكن جدٌدة‪ ،‬فطاردتهم كتابب الفرنسٌس‪،‬‬
‫وولعت النار فً البٌوت‪ ،‬واستمر الكر والفر من ٘‪ ٔٓ -‬أبرٌل‪.‬‬

‫والعجٌب أنه وسط هذه المآسً أطلق الكاتخدا العثمانلً عسكره ٌنهبون ما بقً من منازل ومحبلت‬
‫عامرة‪ ،‬وٌبتزون الناس لبٌع ما لدٌهم وإعطابهم المال‪ ،‬وذلك بالرؼم مما هم فٌه من الببلء وشقاء الحال‪،‬‬
‫واستؽل العربان الرحل الفوضى فً فرض فرد وإتاوات جدٌدة ونهب الؽٌطان حتى وصفهم الجبرتً بؤنهم‬
‫"المبلعٌن األعراب‪ ،‬الذٌن هم أقبح األجناس‪ ،‬وأعظم ببل محٌط بالناس"‪.‬‬

‫وبدأ كلٌبر ٌؤخذ خطوات عنٌفة للقضاء على الثورة‪ ،‬خصوصا أن العثمانلٌة أٌضا رفضوا الصلح (بدافع‬
‫تحالفهم مع إنجلترا)‪ ،‬وفً ٗٔ أبرٌل هاجمت قواته حً بوالق بالمدفعٌة‪ ،‬وحرقوا البٌوت‪ ،‬وتنقلت النار بٌن‬
‫البٌوت والمحبلت‪ ،‬وتدمر الحً كله‪ ،‬ومات الكثٌر من العاببلت تحت األنقاض‪ ،‬أو أكلتهم النار‪ ،‬و"صارت‬
‫القتلى مطروحة فً الطرقات واألزقة"‪ ،‬بتعبٌر الجبرتً‪ ،‬ونفس الرواٌة قالها المسٌو جاالن الذي عاش‬
‫األحداث فً بوالق‪ ،‬فقال‪" :‬أنذرت بوالق بالتسلٌم فرفض أهلها كل إنذار‪ ،‬وأجابوا بإباء وكبرٌاء أنهم‬
‫ٌتبعون مصٌر القاهرة‪ ،‬وأنهم إذا هوجموا فهم مدافعون عن أنفسهم حتى الموت‪ ،‬وأخذ الجنرال "فرٌان"‬
‫ٌحاصر المدٌنة‪ ،‬وٌصب علٌها من المدافع ضربا شدٌدا‪ ،‬أمبل منه فً إجبار األهالً على التسلٌم‪ ،‬فهرب‬
‫بعضهم وصمد آخرون وأجابوا بضرب النار‪ ،‬وأسلم الفرنساوٌة المدٌنة للنهب‪ ،‬وصار أهلها عرضة لبطش‬
‫الجنود وتنكٌلهم‪ ،‬فجرت الدماء أنهارا فً الشوارع‪ ،‬واشتملت النار أحٌاء بوالق من أقصاها إلى أقصاها‪..‬‬

‫ٔ‪ٖ8‬‬
‫فلٌس فً اإلمكان أن نخطو خطوة إال على كثبان من الخرابب واألتربة‪ ،‬وكانت رابحة العفونة تنبعث من‬
‫الرمم المدفونة تحت الهدم"‪.‬‬

‫وهو وصؾ من أقسى مشاهد الحروب فً العالم‪.‬‬

‫ولما اضطر أهل بوالق بعد تمام الخراب لبلستسبلم لم ٌرحمهم الفرنسٌس‪ ،‬ففرضوا علٌهم ؼرامات‬
‫شدٌدة‪ ٕٓٓ ،‬ألؾ لاير‪ ،‬مع ٖٓٓ ألؾ لاير سكر وبن وزٌت‪ ،‬واألبشع أنهم لما قبضوا على مصطفى‬
‫البشتٌلً‪ ،‬أحمد زعماء الثوار‪ ،‬طلبوا من أتباعه أن ٌقتلوه بؤنفسهم‪ ،‬فضربوه بالعصى حتى مات‪ ،‬مما ٌدل‬
‫على أن ؼلظة كبد الفرنساوٌة لم تفرق شٌبا عن ؼلظة كبد الممالٌك‪ ،‬وقال الجبرتً عن الخراب‪" :‬وصارت‬
‫كلها تبلال وخرابب كؤنها لم تكن مؽنى صبابات وال مواطن أنس ونزاهات (‪ )...‬صارت كلها خرابب‬
‫متهدمة محترقة تسكب عند مشاهدتها العبرات"(‪.)ٙٙ‬‬

‫وأرسل السادات كتابا إلى عثمان كتخدا محمبل العثمانلٌة جزءا من مسبولٌة الخراب والدم‪ ،‬بدأه‬
‫بـ‪":‬حسبنا هللا ونعم الوكٌل"‪ ،‬وقال إنه سلط عسكره كً ٌنبهوا أموال الناس‪" :‬عسكركم الذي أوقع بالمإمنٌن‬
‫الذل والمضرات‪ ،‬بلػ فً النهب والفساد ؼاٌة الؽاٌات وأخفتم البلد بعد أمنها وأشعلتهم نار الفتنة بعد طفٌها‪،‬‬
‫ثم فررتم فرار الفٌران من السنور‪ ،‬وتركتم الضعفا متوقعٌن أشنع األمور"(‪.)ٙ9‬‬

‫وفً ٗٔ ٌونٌو ٓٓ‪ ٔ8‬قتل شاب من حلب اسمه سلٌمان الحلبً كلٌبر بطعنات فً قلبه‪ ،‬وحكم علٌه‬
‫بحرق ٌده الٌمٌن وإعدامه على الخازوق وترك جثته ٌؤكلها الطٌر‪ ،‬قال خبلل محاكمته بحسب ما أورد‬
‫الجبرتً وهٌرولد عن دوافعه للقتل إن من أؼراه بهذا الضابط التركً أحمد أؼا بعد أن وعده بتخفٌؾ‬
‫الضراٌب الباهظة التً فرضها والً حلب على أبٌه تاجر السمن‪ ،‬ولم ٌوافق الشاب إال بعد مقابلتٌن‬
‫أخرٌٌن‪ ،‬وأمده بالمال‪ ،‬ونفذ مهمته(‪.)ٙ8‬‬

‫وبتولى مٌنو انتهى األمر بتجرعه الهزٌمة فً اإلسكندرٌة بعد معركة جدٌدة مع األسطول اإلنجلٌزي‪،‬‬
‫ورحل الفرنسٌس فً ‪ ٔ8‬أكتوبر ٔٓ‪ ٔ8‬بعد أن اكتوى بنارهم البشر والحٌوان والنبات والحجر(‪.)ٙ9‬‬

‫وبسماع الخبر السعٌد‪ ..‬خرج الناس للشوارع ٌطٌرون من الفرحة‪ ،‬كالطٌور الحرة الجرٌحة‪ ،‬تحمل على‬
‫رٌشها بقاٌا دمابها‪ٌ ،‬دق قلبها بالثقة فً نفسها واألمل فً الؽد‪ ،‬كما ٌدق بالقلق والترقب‪ ..‬فمصر ال زالت‬
‫تحت االحتبلل وأسٌرة فً سجون مرتزقة األرض‪.‬‬

‫▲▲▲ لماذا ثرنا أٌام الفرنسٌس؟‬

‫حاولنا معرفة إجابة لماذا لم نثر ثورة كبٌرة على مستوى البلد كلها خبلل االحتبلل المملوكً والعثمانً‬

‫(‪)ٙٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة‪ ،‬ص ‪ ،ٔٓٔ -99‬وعجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار‪ ،‬ص ٕٖ٘‪ٖٖ٘ -‬‬
‫(‪)ٙ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة‪ ،‬محمد فرج‪ ،‬ص ٕٓٔ‪ ،‬وعجاٌب اآلثار‪ ،‬ج ٗ‪ ،‬ص ٖٖ٘‪ٖ9ٖ -‬‬
‫(‪)ٙ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار‪ ،‬الجبرتً‪ ،‬ص ٘‪ ،٘9 -‬وبونابرت فً مصر‪ ،‬هٌرولد‪ ،‬ص ‪ٖ8ٓ -ٖ9ٙ‬‬
‫(‪)ٙ9‬‬
‫‪ -‬انظر النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة‪ ،‬ص ‪ٔٓ9 -ٔٓ9‬‬

‫ٕ‪ٖ8‬‬
‫فً نهاٌة فصل االحتبلل العثمانلً‪ ،‬وٌبدو أن عوامل استجدت مع الفرنسٌس ساعدت فً انتشار الثورات‬
‫أٌامهم‪ ،‬ومنها أن‪:‬‬

‫ٔ‪ -‬الفرنسٌس من دٌن مختلؾ‪ ،‬واستفاد العثمانٌون والممالٌك من ذلك فً نشر فتاوى بوجوب محاربة‬
‫"الكفار القادمٌن لهدم الدٌن"‪ ،‬وساهم الفرنسٌس فً ذلك بقصؾ األزهر وقتل علمابه‪ ،‬فكان العامل الدٌنً له‬
‫سحره‪ ،‬بالرؼم من أن العثمانٌٌن أنفسهم متحالفٌن مع اإلنجلٌز "الكفار" بتعبٌر ذلك الزمان‪.‬‬

‫ٕ‪ -‬توفرت القٌادة للثورة‪ ،‬سواء من علماء األزهر ومشاٌخ القرى أو من بعض الممالٌك بل وفً مرحلة‬
‫الحقة أٌدها السلطان العثمانً‪ ،‬وإن كان لكل أسبابه‪ ،‬والبلفت أنه أحٌانا كانت الثورة أٌضا ضد الممالٌك كما‬
‫رأٌنا فً بعض القرى التً انتفضت ضد الممالٌك حٌن تركوا قتال الفرنسٌس وتفرؼوا للم اإلتاوات‪.‬‬

‫وأٌا ما كان السبب الصحٌح‪ ...‬فتجربة الثورة المصرٌة ضد الفرنسٌس أحٌت روح الجندٌة فً صدور‬
‫المصرٌٌن‪ ،‬ووفرت تجربة ظهرت ثمارها الحلوة فً إثبات المصرٌٌن لقدرتهم الحربٌة حٌن استعان بهم‬
‫محمد علً فً إعادة بناء الجٌش بعد هذه األحداث المُرَّ ة بـ ٕ٘ سنة‪ ،‬أما الثورة المصرٌة "على حق"‬
‫فستعود وتفاجا العالم فً ٔ‪ ٔ88‬أٌام عرابً وما بعده‪ ،‬وقتها سٌظهر المصرٌون وكؤنهم فً حربهم مع‬
‫الهكسوس تحت قٌادة أحمس وتحوتمس ورمسٌس‪ ،‬بوعً وطنً صافً‪ -‬ولٌس فقط معتمدا على االختبلؾ‬
‫مع العدو فً الدٌن‪ -‬ؼلى فً عروقهم وكؤنه لم ٌفصل بٌنهم وبٌن الزمن العظٌم ٖ آالؾ سنة‪.‬‬

‫"إنها ]ماعت[ ال تتؽٌر وال تتبدل منذ زمن الذي أوجدها"‬

‫(الحكٌم بتاح حتب عن الماعت التً تختفً أحٌانا لكن ال تموت)‬

‫"إن صالح األرض (مصر) ٌنحصر فً تطبٌق الماعت"‬


‫(ٓ‪)9‬‬
‫(الفبلح الفصٌح)‬

‫(ٓ‪)9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تقدٌم الدكتور علً رضوان لكتاب "الماعت‪ ..‬فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔ‪ٔ٘-‬‬

‫ٖ‪ٖ8‬‬
‫أٌام ورا أٌام ورا أٌام‬

‫ال الجرح ٌهدى وال الرجا بٌنام‬

‫ماشً فى طرٌق الشوك ماشً‬

‫لكن قلبً مطرح ما ٌمشً ٌبدر األحالم‬

‫العتمه سور والنور بٌتواري‬

‫وإٌش للفقاري فً زمان النوح‬

‫مٌته تخطى السور ٌا نوارة‬

‫وٌهل عطرك علً الخال وٌفوح‬


‫(ٔ)‬
‫وٌشدنا لقدام‬

‫(ٔ)‬
‫‪ -‬أؼنٌة مقدمة مسلسل "األٌام"‪ ،‬كلمات سٌد حجاب‪ ،‬ألحان عمار الشرٌعً‪ ،‬ؼناء علً الحجار‬
‫المشهد ‪ :ٔ7‬االحتالل العلوي‬

‫(الجزء األول ٘ٓ‪)ٔ88ٕ -ٔ8‬‬

‫(قبضة روتشٌلد)‬

‫♦♦♦ المناخ الذي خدم محمد علً‬

‫تشكلت السلطنة العثمانلٌة من شعوب مختلفة‪ ،‬بؤدٌان متباٌنة ونحل متصارعة وجٌش مرتزقة؛ فدخل‬
‫إلٌها الضعؾ واالختبلل الذي بلػ أقصاه فً عصر محمد علً‪.‬‬

‫وقبل ظهور محمد علً تفككت عرى جمٌع أجزاء السلطنة بالثورات علٌها أو بٌن الفرق التً تتقاسم‬
‫الحكم كالممالٌك‪ ،‬فمصر واألناضول والشام كانت فً فتن وقبلقل‪ ،‬وببلد العرب مع العثمانلٌة فً حرب‬
‫عوان‪ ،‬والجٌش العثمانلً مإلؾ من رعاع الناس وسفلتهم ]معظمهم مرتزقة[‪ ،‬والسلطان أشبه بسجٌن أو‬
‫ألعوبة فً ٌد وزرابه وعساكره االنكشارٌة‪ ،‬والوزراء ٌتهددهم الخطر فً كل الحظة‪ ،‬كل منهم ٌتحٌن‬
‫الفرص الؼتٌال خصومه والسعً فً عزل السلطان وتولٌة ؼٌره لٌكون هو الصدر األعظم الجدٌد(ٕ)‪.‬‬

‫وبعد جبلء الفرنسٌس عن مصر اشرأبت أعناق الممالٌك مرة أخرى للقبض على زمام األمور‪ ،‬فً حٌن‬
‫العثمانلً ٌطمح لطرد الممالٌك من مصر‪ ،‬لكن المقادٌر جاءت بعكس ما أمل الفرٌقان‪ ،‬إذ أراد هللا أن ٌكون‬
‫الحكم لشخص كان وقتها للجمٌع مجهوال هو محمد علً الذي جاء على رأس فرقة مرتزقة أرناإوط (ألبان)‬
‫تابعة للجٌش العثمانلً لمحاربة الفرنسٌس‪.‬‬

‫واشتعلت حرب الممالٌك مع بعضهم وحرب الممالٌك مع اإلنكشارٌة(ٖ) واألتراك مع محمد علً‪ ،‬وكل‬
‫هإالء أشعلوا سوٌا حربا على الفبلحٌن باستخدم أقسى الوسابل فً انتزاع أكبر كم من عرق أجسادهم‬
‫لتموٌل معاركهم وطموحاتهم بثمنه‪.‬‬

‫وبعد أن ساهم محمد علً فً التخلص من والة العثمانلً وبعض كبار الممالٌك انقلب على حلٌفه‬
‫البردٌسً مستؽبل عجزه عن سداد مرتبات ممالٌكه وفرضه ضراٌب على الناس الذٌن لم ٌرتاحوا من‬

‫(ٕ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر‪ ،‬عمر اإلسكندري وسلٌم حسن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔٔٔ‬
‫(ٖ)‬
‫‪ -‬اإلنكشارٌة فرقة عسكرٌة كونها العثمانلٌة من صبٌان المسٌحٌٌن الذٌن قُتل أباإهم فً الحروب‪ ،‬وٌعلمونهم اإلسالم والحرب وٌرقونهم ألعلى‬
‫المناصب‪ ،‬حتى انتهزوا الفرصة وطؽوا فً الدولة قبل أن ٌبٌدهم السلطان محمود الثانً ‪( ٔ8ٕٙ‬تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت‬
‫الحاضر‪ ،‬عمر اإلسكندري وسلٌم حسن‪ ،‬ص ٗٔ)‬

‫٘‪ٖ8‬‬
‫ضراٌب الفرنسٌس‪ ،‬وقتل أحٌانا من رفض أو عجز عن السداد‪ ،‬حتى تظاهر ضده الناس فً الشوارع‬
‫هاتفٌن‪" :‬إٌش تاخد من تفلٌسً ٌا بردٌسً"‪.‬‬

‫فلما تؤكد محمد علً أن البردٌسً وؼٌره من الممالٌك صاروا فً نظر السلطان العثمانلً عصاة‬
‫واألهالً ٌتمنون الخبلص منهم انتهز الفرصة وانسلخ من البردٌسً‪ ،‬وتظاهر باستٌاءه لجمع هذه الضراٌب‬
‫الفادحة‪ ،‬ووعد األهالً بمناصرتهم‪ ،‬فمال إلٌه الناس‪ ،‬ولما وثق من أنهم ٌإٌدونه‪ ،‬حاصر سنة ٗٓ‪ ٔ8‬قصر‬
‫البردٌسً المحصن بالمدافع‪ ،‬ورشا محمد علً الممالٌك من رجال مدفعٌة البردٌسً فحولوا مدافعهم على‬
‫سٌدهم‪ -‬كعادة الممالٌك "أبجنً تجدنً"‪ -‬إال أن البردٌسً وإبراهٌم بك الكبٌر فرا إلى سورٌا‪ ،‬فصفا الجو‬
‫عندبذ لمحمد علً‪.‬‬

‫▲▲▲ ثورة ٗٓ‪ ..ٔ8‬فضل المصرٌٌن المنسً على محمد علً‬

‫أظهر المصرٌون الؽضب والكراهٌة للعثمانلٌة فٌما سبق‪ ،‬لكنه كان ؼضبا مبعثرا ؼٌر منظم وؼٌر‬
‫مإثر؛ ألسباب منها ؼٌاب القٌادة وؼٌاب البدٌل‪ ،‬وحٌن ظهرت القٌادة ممثلة فً األزهر انتظم الؽضب فً‬
‫ثورة واضحة‪.‬‬

‫بعث السلطان العثمانً والٌا جدٌدا هو خورشٌد باشا‪ ،‬وٌحكً الجبرتً أن خورشٌد هذا جلب من الشام‬
‫عسكر مرتزقة من الدالة (خلٌط من البوسنة والصرب واأللبان مشهورون بالوحشٌة) لٌساعدوه‪ ،‬وفرض‬
‫على الببلد فِردة جدٌدة لدفع مرتباتهم‪ ،‬فجعل على كل بلد فول وخرفان وسمن وبن وعٌش ورز وبرؼل‬
‫بخبلؾ األموال‪ ،‬ونزل "الدالة" البساتٌن ومصر القدٌمة وما حولهما؛ فؤكلوا زرع الناس وخطفوا ما فً‬
‫أٌدٌهم‪ ،‬وخطفوا النساء واألوالد‪ ،‬والطوا بالرجال كبار السن‪ ،‬وطردوا الناس من منازلها‪ ،‬وذهبوا قلٌوب‬
‫فاستولوا على بٌوتها وفرضوا فردة على أهلها‪ ،‬وأخذوا النساء والبنات واألوالد وباعوهم فٌما بٌنهم ]كما‬
‫ٌفعل الدواعش[‪ ،‬وتصدى لهم أهالً قرٌة أبو الؽٌط ورفضوا إعطابهم أي ف َِرد‪ ،‬وتركوا القرٌة‪ ،‬فقتل‬
‫"الدالة" ٓٓٔ فبلح‪ ،‬فضج الناس وفزعوا إلى مشاٌخ األزهر الذٌن طالبوا خورشٌد بوقؾ المظالم فلم ٌرد‬
‫علٌهم‪ ،‬فؤضربوا عن الدروس باألزهر وأؼلقوه‪ ،‬وطاؾ األوالد الصؽار فً الشوارع ٌصرخون "ٌارب ٌا‬
‫متجلً أهلك العثمانلً‪ ،‬و"ٌا لطٌؾ"‪ ،‬وٌطلبون من الناس ؼلق الدكاكٌن(ٗ)‪.‬‬

‫وأمام هذا محمد علً ٌتفرج علٌهم‪ ،‬وال ٌقوم بما ٌردعهم‪ ،‬لٌزٌد سخط الناس على خورشٌد‪ ،‬واستمر‬
‫اإلضراب فً القاهرة‪ ،‬ومظاهرات األطفال تجري فً الشوارع‪ ،‬واجتمع المشاٌخ وذهبوا إلى محمد علً‬
‫وقالوا‪ :‬له "إنا ال نرٌد هذا الباشا حاكما علٌنا وال بد من عزله"‪ ،‬فرد بخبث‪" :‬ومن ترٌدون أن ٌكون والٌا؟"‬
‫فجاءته ا إلجابة المنتظرة‪" :‬ال نرضى إال بك‪ ،‬وتكون والٌا علٌنا بشروطنا لما نتوسمه فٌك من العدالة‬
‫والخٌر"‪ ،‬فتم َّنع أوال ثم رضى‪ ،‬وأحضروا له كركا وعلٌه قفطان ألبسه له عمر مكرم والشٌخ الشرقاوي‪،‬‬
‫ولكن بعد أن أخذوا علٌه العهد أن ٌقٌم العدل بٌن الناس‪ ،‬وأال ٌفرض علٌهم ضراٌب ظالمة‪ ،‬ونادوا فً‬

‫(ٗ)‬
‫‪ -‬عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار‪ ،‬الجبرتً‪ ،‬ج ‪ ،ٙ‬الهٌبة العامة لقصور الثقافة‪ ،‬ص ‪ ٖ98 -ٖ99‬و‪ٗٓٗ -ٖ99‬‬

‫‪ٖ8ٙ‬‬
‫الناس بالخبر‪ ،‬وأرسلوا لخورشٌد لٌترك مكانه فقال خورشٌد‪" :‬إنً مولَّى من طرؾ السلطان فبل أعزل بؤمر‬
‫الفبلحٌن"(٘)‪.‬‬

‫فتجمع المشاٌخ مع من وصفهم الجبرتً بالعامة وبؤٌدٌهم األسلحة والعصً والنبابٌت‪ ،‬والزموا السهر‬
‫باللٌل فً الشوارع والحارات ٌسرحون فً نوبات حراسة لحماٌتها من عسكر خورشٌد وؼٌره‪ ،‬ومجموعة‬
‫تطوؾ الشوارع بالمشاعل‪ ،‬بل وقرروا محاصرة القلعة التً ٌتحصن بها خورشٌد لٌجبروه على الرحٌل‪،‬‬
‫وعملوا المتارٌس‪ ،‬واشتركت عساكر محمد علً فً الحصار‪ ،‬أما عساكر خورشٌد فركبوا فوق األسوار‬
‫ٌرمون الناس برصاص البنادق‪ ،‬وعمر مكرم ٌطوؾ وٌجمع ناس جدٌدة لتشدٌد الحصار‪.‬‬

‫وتحدث حسن باشا‪ -‬أحد رجال السلطان‪ -‬لعمر مكرم حدٌثا ٌظهر تخصص العثمانلٌة فً تفسٌر الدٌن‬
‫حسب مصالحهم‪" :‬كٌؾ تعزلون من َّ‬
‫واله السلطان علٌكم وقد قال هللا تعالى أطٌعوا هللا وأطٌعوا الرسول‬
‫وأولً األمر منكم؟"‪ ،‬فرد علٌه‪" :‬أولو األمر السلطان العادل والعلماء وهذا الرجل ظالم‪ ،‬وجرت العادة أن‬
‫الناس تعزل الوالً الظالم حتى لو كان الخلٌفة والسلطان"‪ ،‬ففوجا حسن باشا‪ ،‬فساق االستعطاؾ كعادة‬
‫األتراك حٌن ٌجدون خصمهم أقوى منهم‪" :‬وكٌؾ تحصروننا وتمنعون عنا الماء واألكل وتقاتلوننا؟ نحن‬
‫كفرة حتى تفعلوا معنا ذلك؟"‪ ،‬فرد عمر مكرم بإصرار‪" :‬نعم قد أفتى العلما واالقاضً بجواز قتالكم ألنكم‬
‫عصاة"‪ ،‬فقال له حسن باشا‪" :‬إن هذا القاضً كافر"‪ ،‬فرد عمر مكرم بحكمة وسخرٌة‪" :‬إن كان قاضٌكم‬
‫كافر فكٌؾ بكم؟!"(‪.)ٙ‬‬

‫وٌقول الجبرتً إن من وصفهم بالعامة اشتد إصرارهم على عزل خورشٌد حتى أن الفقٌر منهم كان ٌبٌع‬
‫مبلبسه أو ٌستدٌن لكً ٌشتري سبلحا ٌشارك به فً حصار القلعة ومطاردة جند العثمانلٌة‪ ،‬وشارك معهم‬
‫العربجٌة والفعلة لٌنقلوا للناس المرابطٌن حول القلعة الماء والطعام‪ ،‬وفً المقابل‪ ،‬فإنه مع مرور الوقت لم‬
‫ٌتحمل عسكر محمد علً األرناإوط الرباط؛ فطلبوا منه ماال‪ ،‬فؤجابهم بؤن اصبروا حتى ٌنزل خورشٌد‪ ،‬فلم‬
‫ٌقبلوا وتركوا المتارٌس‪ ،‬وانفضوا عن الحصار‪ ،‬فح َّل األهالً محلهم وتترسوا فً مواقعهم(‪.)9‬‬

‫وفوق هذا انقلب األرناإوط على الثوار فطاحوا فً األهالً فً الشوارع‪ ،‬وخطفوا أسلحتهم‪ ،‬وصرخوا‪:‬‬
‫"اقتلوا الفبلحٌن"‪ ،‬فجمع حجاج الخضري من كبار رملة بوالق وإسماعٌل جودة األهالً و"نزلوا ضرب" فً‬
‫األرناإوط وقتلوا عددا منهم‪.‬‬

‫ولم ٌتص َّد محمد علً لجرابم قومه األرناإوط‪ ،‬ولكنه أعطاهم عطاٌا وكساوى وأرسلهم إلى محاربة‬
‫محمد األلفً‪ ،‬وفً طرٌقهم إلٌه أفحشوا فً نهب الببلد "ما لم ٌسمع بمثله"‪ ،‬بحسب تعبٌر الجبرتً المعاصر‬
‫لهم‪ٌ ،‬قتلون وٌنهبون وٌفسقون بالنساء واألوالد‪ ،‬ولم ٌذهبوا لمقاتلة األلفً(‪.)8‬‬

‫(٘)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬الجبرتً‪ ،‬ص ٘ٓٗ‪ ،ٗٓ8 -‬ومصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر‪ ،‬ص ٘ٔٔ‪ٔٔ9 -‬‬
‫(‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬الجبرتً‪ ،‬ص ٓٔٗ‪ٖٗٔ -‬‬
‫(‪)9‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٖٔٗ‪ٗٔٗ -‬‬
‫(‪)8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٗٔٗ‪ٗٔ9 -‬‬

‫‪ٖ87‬‬
‫فً المقابل‪ ،‬استمر المصرٌون الثابرون ورجال األزهر فً تعرٌض أرواحهم للخطر لٌزٌحوا خورشٌد‬
‫وٌولوا محمد علً‪ ،‬واستمروا فً حصار القلعة وعساكر خورشٌد ترمً الناس بالقنابل من المدافع‪ ،‬وأرسل‬
‫العلماء للسلطان ٌلتمسون منه تعٌٌن محمد علً‪ ،‬فلما وصله أخبار صمود الناس فً الحصار اضطر أن‬
‫ٌرسل رسوال "قابجً" إلى مصر بعزل خورشٌد وتولٌة محمد علً‪ ،‬ففرح الناس وأقاموا االحتفاالت‪ ،‬فٌما‬
‫استمر عسكر المرتزقة ٌنهبون الشوارع‪ ،‬فقاد الحجاج الخضري األهالً لمطاردتهم وقتلهم(‪.)9‬‬

‫وبهذا حقق ثوار القاهرة‪ ،‬سواء من الفبلحٌن الذٌن وصفهم الجبرتً بالعامة والعربجٌة والفعلة‪ ،‬أو من‬
‫مشاٌخ وتجار بعضهم مصري وبعضهم من المستوطنٌن أول نصر صادح على السلطنة العثمانلٌة بإرؼامها‬
‫على الخضوع إلرادتهم رؼم قلة أسلحتهم‪ ،‬متوجٌن سلسلة من انتصارات ضٌقة حققها فبلحون خبلل‬
‫ثوراتهم فً القرى على عسكر العثمانلٌة والممالٌك رفضا ألسالٌبهم الهمجٌة فً تحصٌل الضراٌب‪.‬‬

‫▼▼▼ لماذا اختاروا حاكما أجنبٌا ولٌس مصرٌا؟‬

‫هذا السإال ٌسؤله الكثٌر منا وٌحٌرنا‪ ،‬وهو‪ :‬بعد كل ما مر به المصرٌون من ظلم الممالٌك والعثمانلٌة‪،‬‬
‫وكل ما شعروا به من ثقة فً أنفسهم وقدرتهم على المقاومة خبلل بسالتهم فً تصدٌهم ألعتى أسلحة فرنسا‬
‫ولعسكر خورشٌد بشا‪ ،‬لماذا اختاروا رجبل أجنبٌا من المرتزقة أٌضا لٌحكمهم‪ ،‬وهو محمد علً؟‬

‫ٔ‪ٌ -‬صعب القول إن االختٌار كان مصرٌا جماعٌا‪ ،‬وإنما من كان منهم فً القاهرة وما حولها‪ ،‬وثوار‬
‫القاهرة وافقوا على محمد علً بعد أن اختاره زعٌمهم عمر مكرم‪ ،‬فهم فً الحقٌقة ساروا وراء عمر مكرم‬
‫الذي شجع محمد علً على التقدم محل الوالً العثمانً‪ ،‬شرط تطبٌق العدل‪ ،‬ولكن لماذا لم ٌختاروا عمر‬
‫مكرم نفسه حاكما؟‬

‫ٕ‪ -‬أعٌان القاهرة حٌنها‪ -‬بما فٌهم عمر مكرم‪ -‬كانوا ما بٌن علماء األزهر وتجار‪ ،‬واالثنان لٌسا من‬
‫رجال الحرب والقتال والجٌش‪ ،‬والعرؾ فً ذلك الزمان أن الحاكم‪ -‬فً كل الدنٌا‪ٌ -‬جب أن ٌكون مقاتبل‬
‫ومن رجال الجٌش واإلدارة‪ ،‬فنابلٌون مثبل ضابط‪ ،‬وهو ما كان مطلوبا أٌضا فً مصر لٌستطٌع التصدي‬
‫للممالٌك المسلحٌن المقاتلٌن وللعسكر العثمانلً‪.‬‬

‫ٖ‪ -‬المصرٌون وأعٌان القاهرة ال ٌملكون قوة مسلحة منظمة ٌعتمدون علٌها فً مواجهة العسكر‬
‫العثمانلً والممالٌك‪ ،‬أما محمد علً فقابد لفرقة مسلحة وقادر على ضم فرق أخرى له بنظام شرا المرتزقة‪.‬‬

‫ٗ‪ -‬الناس فً ذلك الوقت كانوا ما زالوا متؤثرٌن بالفكرة الخاطبة بؤنه مدام الحاكم "مسلما" فٌمكن أن‬
‫ٌكون شرعٌا مهما كان من أي دولة أجنبٌة‪ ،‬خاصة بعد ما تفنن محمد علً فً تقدٌم نفسه فً صورة‬
‫"العطوؾ"‪ ،‬وساعد على هذا أن معظم من بٌده األمر فً مصر هم أساسا من مستوطنٌن أجانب‪ ،‬بما فٌهم‬
‫كثٌر من علماء األزهر الذٌن ٌصدرون الفتاوى بهذا الشؤن‪.‬‬

‫(‪)9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕٗ9 -ٗٔ9‬‬

‫‪ٖ88‬‬
‫٘‪ -‬إضافة لما سبق‪ ،‬كان لما أظهره محمد علً من دهاء فً تقدٌم نفسه على أنه المنقذ لسكان مصر من‬
‫عسؾ الممالٌك والعثمانلٌة‪ ،‬وتصدٌه فعبل للممالٌك‪ ،‬أثره فً قدرته على تولً الحكم‪ ،‬فهو إن كان أجنبٌا‬
‫مثل الممالٌك والعثمانلٌة‪ ،‬ولكنهم ظنوا أنه ٌنطبق علٌه المثل المصري "قضا أخؾ من قضا"‪.‬‬

‫‪ -ٙ‬فرضا لو تقدم فبلح مصري لتولً الحكم‪ -‬دون أن ٌسنده قوة مسلحة حٌنها‪ -‬من كان سٌُم َّكنه من‬
‫ذلك؟ هل كان أعٌان البلد األجانب سٌسمحون البن البلد أن ٌستردها وٌتحكم فٌهم وٌعٌد مناصب ومال‬
‫الدولة إلى أصحابها؟ اإلجابة بالطبع معلومة‪ ...‬إن كلمة "الفبلحٌن" فً الحقٌقة ترعب المستوطنٌن‬
‫األجانب‪ -‬رؼم تعالٌهم على الفبلحٌن‪ -‬أكثر مما كان ٌرعبهم الؽازي الجدٌد القادم من الخارج‪.‬‬

‫الؽازي الج دٌد ٌمكن التوابم معه بصفقات توزٌع وتوازن النفوذ‪ ..‬أما الفبلح ابن البلد فهل قام لٌثور‬
‫لٌقتسم البلد مع أجانب مستوطنٌن؟ سإال مرعب بالنسبة لهم‪.‬‬

‫♣♣♣ السكان وتعرٌؾ المصري فً االحتالل العلوي‬

‫دبَّر محمد علً مكٌدة مذبحة الممالٌك بعد دعوتهم لحفلة "العشاء األخٌر" فً القلعة مارس ٔٔ‪ ٔ8‬ألنهم‬
‫القوة المسلحة الوحٌدة المنافسة له‪ ،‬وٌتصفون بعدم الطاعة‪ ،‬ومبدأهم الؽدر‪ ،‬وجرب ذلك حٌن حاولوا اؼتٌاله‬
‫فجز بنو جنسه األرناإوط رءوس‬ ‫فً احتفال فتح الخلٌج‪ ،‬وحٌن تحالفوا مع البدو ضده فً الوجه البحري‪َّ ،‬‬
‫ٓٓ٘ من أمراء الممالٌك‪ ،‬بما فٌهم كبٌرهم شاهٌن بك‪ ،‬وتعامل محمد علً مع جثثهم معاملة عادة أمثاله فً‬
‫هذا الوسط الداعشً‪ ،‬حٌث سلخ رءوس بعضها ومؤلها بالتبن‪.‬‬

‫وبعد نجاح تدبٌره أصدر أوامره لحكام المدٌرٌات بقتل من ٌعثرون علٌه من الممالٌك‪ ،‬فكان مجموع من‬
‫قتل منهم بالقاهرة والمدٌرٌات ٌزٌد على األلؾ‪ ،‬وهكذا سقطت هذه الطابفة التً عاثت فً األرض فسادا‬
‫أكثر من ‪ ٙ‬قرون أذاقت خبللها المصرٌٌن كل صنوؾ الذل والعذاب‪.‬‬

‫وبذلك تبدلت الطبقة الحاكمة المعاصرة للمصرٌٌن‪ ،‬فصارت مكونة من محمد علً وجنسه األرناإوطً‪،‬‬
‫مستقوٌٌن بما بقً من صؽار الممالٌك ممن أظهروا له الطاعة والوالء‪ ،‬ومن اشتراهم من ممالٌك جدد‬
‫ٌربٌهم بطرٌقته‪ ،‬ثم طرأ تؽٌٌران على السكان‪ ،‬خاصة فً القاهرة واإلسكنرٌة‪ ،‬عما كانت علٌه قبل محمد‬
‫علً مع زٌادة عدد الفرنجة وأصدقابهم؛ أي األرمن والشوام الذٌن دربتهم مدارس اإلرسالٌات التبشٌرٌة فً‬
‫الشام وأرسلوهم إلى مصر مسلحٌن بالعلوم األوروبٌة واللؽات وخطط للتمكٌن‪ ،‬فلبست القاهرة واإلسكندرٌة‬
‫شٌبا فشٌبا قناعا أوروبٌا‪.‬‬

‫ونشر الرحالة إدوارد ولٌم لٌن الذي عاش فً مصر أٌام محمد علً فً كتابه "عادات المصرٌٌن‬
‫المحدثٌن وتقالٌدهم‪ -‬مصر ما بٌن ٖٖ‪ "ٔ8ٖ٘ -ٔ8‬إحصا ًء فٌه تقدٌر مبدبً تم حٌنها فً مصر لعدد‬
‫السكان وأجناسهم‪ ،‬قدرهم بنحو ٕ ملٌون‪ ،‬وورد نصا كما ٌلً بهذا التصنٌؾ‪:‬‬

‫المسلمون المصرٌون (الفبلحون وسكان المدن) ٓٓٓ‪ٔ,9٘ٓ,‬‬

‫‪ٖ89‬‬
‫ٓٓٓ‪ٔ٘ٓ,‬‬ ‫المسٌحٌون المصرٌون (األقباط)‬

‫ٓٓٓ‪ٔٓ,‬‬ ‫العثمانٌون أو األتراك‬

‫ٓٓٓ‪٘,‬‬ ‫السورٌون (ٌقصد الشوام عموما)‬

‫ٓٓٓ‪٘,‬‬ ‫الٌونانٌون (األروام)‬

‫ٓٓٓ‪ٕ,‬‬ ‫األرمن‬

‫ٓٓٓ‪٘,‬‬ ‫الٌهود‬

‫وأما ما تبقى من السكان (العرب وعرب شمالً أفرٌقٌا (المؽاربة) والنوبٌٌن والعبٌد الزنوج والممالٌك‬
‫]أو العبٌد البٌض[ والجارٌات البٌض والفرنجة‪ -‬بحسب تصنٌفه‪ -‬فقدر نسبتهم بـ ٓ‪ 9‬ألفا‪ ،‬وقال إن عرب‬
‫الصحارى المجاورة ال ٌدخلون فً تعداد سكان مصر (ٓٔ)‪.‬‬

‫أي أن المصرٌٌن (مسلمٌن ومسٌحٌٌن) ملٌون وٓٓ‪ 9‬ألؾ‪ٌ ،‬عنً السواد األعظم بنسبة أكثر من ٘‪،%9‬‬
‫ٌكاد ال ٌذكرهم أحد فً كتب التارٌخ إال ضمن الحدٌث عن جمع الضراٌب وتكالٌؾ السخرة‪ ،‬والبقٌة من‬
‫األجناس الذٌن ٌمؤلون كتب التارٌخ بؤخبارهم وضجٌجهم وحكمهم للبلد وصراعاتهم وقصورهم وألوانهم‬
‫المزركشة وجواهرهم وجوارٌهم وقراراتهم‪ ،‬وٌتصدرون الشاشة فً المسلسبلت واألفبلم التً تتحدث عن‬
‫هذه الفترة أقل من ٓٓٔ ألؾ من األتراك والممالٌك والٌونانٌٌن واألرمن والشوام والٌهود والعرب‬
‫والمؽاربة واألفارقة‪ ،‬إلخ‪ ..‬وهكذا كان ٌُكتب التارٌخ‪.‬‬

‫وصدق فٌه قول نجٌب محفوظ فً رواٌته "خان الخلٌلً"‪:‬‬

‫"أال تعلم أن رعاع الؽزاة انتهبوا فً الماضً أراضٌنا بحكم الؽزو؟ وها هم أوالء ٌكونون طبقة عالٌة‬
‫ممتعة بالجاه والسإدد واالمتٌازات ال حصر لها"(ٔٔ)‪.‬‬

‫و ٌتضح أنه لم ٌظهر فٌه من األوروبٌٌن ؼٌر الٌونانٌٌن (األروام)‪ ،‬فً إشارة إلى ضآلة عدد الفرنسٌس‬
‫والبرٌطانٌٌن حتى نصؾ فترة حكم محمد علً‪ ،‬قبل تفجر سلسلة المشروعات الكبٌرة‪ ،‬وٌستضاعؾ هذا‬
‫العدد بشكل مهول فً عهد أوالده لٌصل إلى عشرات اآلالؾ‪ ،‬وبعد أن كانت الطبقة المتصدرة فً الحكم‬
‫ودور العلم فً القرن ‪ٌ ٔ8‬ؽلب علٌها اللون العثمانلً حتى فً الهٌبة واللبس واللؽة‪ ،‬صارت فً القرن ‪ٔ9‬‬
‫ٌزاحمها اللون اإلفرنجً‪ ،‬سواء من اإلفرنج نفسهم أو من ٌقلدونهم‪.‬‬

‫وتواصل التشوٌه فً توصٌؾ "المصري" بؤن انضم لهذا التوصٌؾ الفضفاض أرمن وأوروبٌون لمجرد‬

‫(ٓٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬عادات المصرٌٌن المحدثٌن وتقالٌدهم (مصر ما بٌن ٖٖ‪ ،)ٔ8ٖ٘ -ٔ8‬إدوارد ولٌم لٌن‪ ،،‬ترجمة سهٌر دسوم‪ ،‬ط ٕ‪ ،‬مكتبة مدبولً‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،ٔ999 ،‬ص ٖٗ‪ٖ9 -‬‬
‫(ٔٔ)‬
‫‪ -‬خان الخلٌلً‪ ،‬نجٌب محفوظ‪ ،‬مكتبة مصر‪ ،‬ط ‪ ،ٙ‬ص ٕ‪ ،ٙ‬ومصر فً قصص كتابها المعاصرٌن‪ ،‬محمد جبرٌل‪ ،‬ج ٖ‪ ،‬ص ٕٗٔ‬

‫ٓ‪ٖ9‬‬
‫إقامتهم فً مصر ولو لمدة قصٌرة‪ ،‬فمثبل حٌن أسست الجالٌة األوروبٌة "الجمعٌة المصرٌة" ‪ٔ8ٖٙ‬‬
‫للرحالة والمهتمٌن بمجال اآلثار قصرت عضوٌتها على األوروبٌٌن‪ ،‬وحٌنما فتحت العضوٌة فٌما بعد‬
‫للمصرٌٌن ضمت سلٌمان الفرنساوي باعتباره قابد الجٌش المصري (من الفرنسٌس)‪ ،‬وحككٌان وأنستاسً‬
‫(أرمن) ٕٔ‪ ،‬وهإالء من وصفتهم بالمصرٌٌن الذٌن لهم حق االنتماء لجمعٌة تهتم بآثار مصر فً وقت كانت‬
‫الدول األوروبٌة تتشدد جدا فً منح جنسٌتها لؤلجانب مهما طالت إقامتهم فٌها‪.‬‬

‫فً المقابل ظل التوصٌؾ األساسً للمصرٌٌن الحقٌقٌٌن ما بٌن كلمتً فبلح وقبطً‪.‬‬

‫واشتهرت مصر حٌنها بؤنها "جنة األؼراب"‪ ،‬و"جنة ٌرعى فٌها الخنازٌر"‪ ،‬وإن كان هذا لٌس جدٌدا‪،‬‬
‫فقد شاع فً احتبلالت سابقة مثل ٌقول "دٌار مصر خٌرها لؽرٌبها"(ٖٔ)‪ ،‬ولكن فً القرن ‪ ٔ9‬صارت جنة‬
‫لؤلوروبٌٌن وأتباعهم بشكل أكبر‪ ،‬ومصبا لكل جنسٌاتهم‪ ،‬الجٌد منهم والردئ‪ ،‬الصالح والمجرم‪ ،‬وحتى‬
‫العصابات الدولٌة‪ ،‬مستقوٌٌن باالمتٌازات األجنبٌة التً حمتهم من عقاب ورقابة الحكام‪.‬‬

‫وفً النصؾ الثانً من عهد محمد علً‪ ،‬تدفق الفرنسٌس بوجه آخر‪ ،‬بوجه خبراء وموظفٌن‪ -‬كعادة أن‬
‫"من ال ٌقدر على مصر بالسبلح ٌقدر علٌها بالسبلم"‪ -‬وتبلهم األرمن والبرٌطان والٌونان واإلٌطالٌٌن‬
‫والشوام خرٌجً اإلرسالٌات األجنبٌة للمشاركة فً ذات المشروعات‪ ،‬وجاء المشروع األضخم‪ ،‬قناة‬
‫السوٌس‪ ،‬لٌكون أداة جذب آالؾ أخرى من األجانب‪ ،‬خاصة بعد ؼلق عباس حلمً األول معظم المدارس‬
‫والمصانع التً تخرج الكفاءات والصناٌعٌة المصرٌٌن فً الصناعات البحرٌة والمبلحٌة؛ فتوسع مجال‬
‫العمل لؤلجانب‪ ،‬وصار وجه مصر المتصدر للعالم‪ -‬ما فً العاصمة واإلسكندرٌة‪ -‬خلٌطا ؼٌر متجانس‬
‫ومشوه من عدة أعراق‪ ،‬بواقً العثمانلً والعربان واألوروبٌٌن والعبٌد األفارقة والؽجر والٌهود والشوام‬
‫والجواري البٌض من األرمن والشركس‪ ،‬وكل ما تقذفه البحار والصحاري وكؤن مصر بلد ببل حدود‪.‬‬

‫ٕٔ‪ -‬انظر‪ :‬فراعنة من؟ علم اآلثار والمتاحؾ والهوٌة القومٌة المصرٌة من حملة نابلٌون حتى الحرب العالمٌة األولى‪ ،‬دونالد مالكوم رٌد‪ ،‬ص ‪99‬‬
‫(ٖٔ)‬
‫‪ -‬العادات والتقالٌد المصرٌة من األمثال الشعبٌة فً عهد محمد علً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٔ9‬‬

‫ٔ‪ٖ9‬‬
‫الفبلحون المصرٌون فً محافظات قبلً وبحري وحارات القاهرة من القرنٌن ‪ ٔ9‬وأول الـ ٕٓ تظهر التجانس بٌنهم فً المبلمح والمبلبس والمعاناة‬
‫والشقاء فً العمل‪ ،‬وال ٌختلفون عن وصؾ الرحالة والمإرخٌن لحال ومبلبس الفبلح فً قرون سابقة (موقع ‪ + getty image‬بوابة األهرام)‬

‫أجناس شكلت قناعا مزٌفا على وجه مصر من عثمانلٌة وعربان وؼجر وجواري بٌض وعبٌد أفارقة وبواقً ممالٌك وأوروبٌٌن وؼٌرهم فً صور‬
‫ملتقطة و مرسومة فً القرن ‪ٌ ،ٔ9‬شتركون فً حٌاة الرؼد والنهب‪ ،‬وهإالء من سماهم البعض بالمصرٌٌن وتصدرهم الدراما والسٌنما الٌوم على أنهم‬
‫ٌعبرون عن المصرٌٌن فٌما ال ٌتناولون حٌاة وآراء المصرٌٌن حقا وقتها إال نادرا ( ‪ + getty image‬لوحات المستشرق فرٌدرٌك برٌدجمان)‬

‫ٕ‪ٖ9‬‬
‫ومع تسلل القناع األوروبً (القناع الرابع) على المدن الكبرى بتضخم عدد األوروبٌٌن والمتؤوربٌن كان‬
‫ٌجري تكتٌؾ الحدود والرٌؾ بحزام عربانً بعد تضخم عدد العربان بشكل ؼٌر مسبوق فً تارٌخ مصر‬
‫بسبب توطٌن محمد علً وأوالده لقباٌلهم فً أطراؾ الرٌؾ لٌكفوا عن السلب والنهب‪ ،‬وخاصة حدود‬
‫محافظات الشرقٌة والفٌوم والمنٌا والبحٌرة‪ ،‬ولكنهم لم ٌقنعوا بالمساحات الشاسعة التً أخذوها من مصر‬
‫ببل حق أو تعب‪ ،‬ولم ٌتمصروا؛ فواصلوا هواٌتهم فً التسلط على الفبلحٌن‪ ،‬وجلب عشابرهم من ببلدهم‬
‫األصلٌة كل فترة‪ ،‬وخٌر ما ٌمثل سطوتهم وشراستهم فً الرٌؾ فٌلم "شًء من الخوؾ"(ٗٔ)‪ ،‬فعترٌس‬
‫وعشٌرته رؼم ما كنزوه من أموال ظلوا ٌتلذذون بالؽارات‪ٌ ،‬قتحمون كالعاصفة بٌوت الفبلحٌن‪ٌ ،‬سرقون‬
‫موا شٌهم‪ ،‬وٌضعون أٌدٌهم على ما ٌحلو لهم من أشٌابهم‪ ،‬ومن امتنع إما ٌُقتل أو ٌمنعوا مٌة الري عن‬
‫أرضه حتى تتشقق شراقً من العطش‪ ،‬وإن أعجبهم بناتهم ٌخطفونهم أو ٌتزوجونهم قهرا واؼتصابا‪.‬‬

‫وحقا "جواز عترٌس من فإادة باطل"‪ ،‬أٌا كانت جنسٌة ودٌن عترٌس‪.‬‬

‫♦♦♦ الجٌش فً االحتالل العلوي (مصرٌون‪ -‬ممالٌك جدد ومرتزقة)‬

‫لما رجع محمد علً من جزٌرة العرب لمصر قرر تؤسٌس جٌش كالفرنسٌس‪ ،‬لتؤثره بما رآه من تنظٌم‬
‫وطاعة وتسلسل للقٌادة ٌحترمه الجمٌع فً جٌشهم‪ ،‬وما رآه من كثرة تمرد وعصٌان ومطالب المرتزقة‬
‫األرناإوط "األلبان" والدالة والممالٌك‪.‬‬

‫لكن األرناإوط رفضوا أن ٌنتظموا فً سلك الجٌش المنظم‪ ،‬وعاثوا فً القاهرة بؤعمال السلب والنهب‬
‫حٌن كانت ال ترضٌهم المرتبات‪ ،‬أو ٌرٌدون الضؽط علٌه فً أي شًء‪ ،‬فؤبعد جزء منهم عن مصر‪،‬‬
‫والجزء اآلخر كان ٌصدره فً الصفوؾ األمامٌة فً حروبه بالجزٌرة العربٌة والسودان إلبادتهم(٘ٔ)‪.‬‬

‫وساعده الحظ أن فً هذه الفترة كانت تدور طاحونة الحرب األهلٌة واإلرهاب فً فرنسا عقب الثورة‬
‫الفرنسٌة‪ ،‬وكثٌر من الكفاءات الفرنسٌة تبحث عن فرص فً الخارج‪ ،‬ولم ٌجدوا فرصا مؽرٌة كتلك التً‬
‫فً خٌرات مصر‪ ،‬وأؼرى كثٌر منهم محمد علً بمشروعات وأفكار ٌشرؾ الفرنسٌس على تنفٌذها‪.‬‬

‫وعلى هذا تؤسست مدرسة للحربٌة فً أسوان أدارها سٌؾ (سلٌمان الفرنساوي)‪ ،‬ضباطها من الممالٌك‬
‫الصؽار واألتراك سنة ٕٓ‪ ،ٔ8‬أما الجنود فعرؾ أنه ال ٌمكن االعتماد على األتراك وال األرناإوط والدالة‪،‬‬
‫فاستقدم ٖٓ ألفا من كردفان وسنار بالسودان‪ ،‬هلك اآلالؾ منهم بسب األمراض وعدم تؤقلمهم مع المناخ‪،‬‬
‫فخاطر بتجنٌد المصرٌٌن‪ ،‬على حد وصؾ كلوت بك(‪.)ٔٙ‬‬

‫وبذلك ٌكون محمد علً ظل حتى ذلك الوقت ٌفعل كل شًء كً ال ٌجند المصرٌٌن؛ خوفا من أن‬
‫ٌستعٌدوا حكم بلدهم إذا امتلكوا الجٌش‪ ،‬ولحاجته لهم فً مشارٌع الزرع والبناء‪ ،‬ولكن لم ٌبق أمامه سواهم‪،‬‬

‫(ٗٔ)‬
‫‪" -‬شًء من الخوؾ" (إنتاج ‪ ،) ٔ9ٙ9‬تؤلٌؾ ثروت أباظة‪ ،‬إخراج حسٌن كمال‪ ،‬تمثٌل شادٌة ومحمود مرسً وٌحًٌ شاهٌن‬
‫(٘ٔ)‬
‫‪ -‬أقباط ومسلمون من الفتح العربً إلى عام ٕٕ‪ ،ٔ9‬جاك تاجر‪ ،‬مإسسة هنداوي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٔ‪ٔٙ‬‬
‫(‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬لمحة عامة إلى مصر‪ ،‬كلوت بك‪ ،‬ترجمة محمد مسعود‪ ،‬دار الكتب والوثابق القومٌة‪ ،‬القاهرة‪ ٕٓٔٔ ،‬ص ‪٘ٓٓ -ٗ99‬‬

‫ٖ‪ٖ9‬‬
‫فاضطر لتجنٌدهم‪ ،‬ووجد صعوبة فً ذلك ألسباب‪ ،‬منها ؼٌاب الدافع الوطنً‪ ،‬فمعلوم للمصرٌٌن أن معظم‬
‫الحروب المملوكٌة والتركٌة لؽٌر صالح المصرٌٌن‪ ،‬وتخص صراعاتهم ومطامعهم فً الداخل والخارج‪،‬‬
‫كما أن محمد علً جعل مدة التجنٌد مفتوحة‪ ،‬تستؽرق عمر المجند فٌترك ورابه أسرة تتضور جوعا وال‬
‫تعرؾ مصٌره‪ ،‬وأرضا تضٌع أو تبور‪ ،‬وبالرؼم من ذلك استطاع تجنٌد أعداد كبٌر بداٌة من ٖٕ‪ ،ٔ8‬وقال‬
‫كلوت بك فً كتابه "لمحة إلى مصر" إن عدد الجٌش وصل فً مرحلة ‪ ٕ9ٙ‬ألؾ ما بٌن جنود نظامٌٌن‬
‫وباشبزق "مرتزقة" ومهندسٌن وبحرٌة(‪.")ٔ9‬‬

‫▲ (الجندي الفالح المقاتل)‬

‫والتجنٌد هو الفابدة الوحٌدة للمصرٌٌن من الجٌش حٌنها؛ فؤحسوا من جدٌد بؤنهم رجال حرب كما أنهم‬
‫رجال بناء وزراعة وصناعة‪ ،‬ولكن دفعوا الثمن فادحا‪ ،‬فكافة الحروب التً خاضها محمد علً وأسرؾ فً‬
‫إنفاق األرواح واألموال علٌها لم ٌكن للمصرٌٌن فٌها أي مؽنم‪ ،‬مجرد استنزاؾ جدٌد لهم‪ ،‬تمثل فً ضراٌب‬
‫وضؽوط ودماء جدٌدة‪.‬‬

‫ومثال على مقدار ما استنزفته حروب محمد علً التوسعٌة‪ ،‬أو تلك التً جامل بها السلطان العثمانلً فً‬
‫إرسال قوات لتشارك فً حروب خاصة بالسلطان‪ ،‬فإن دخل مصر عام ٖٖ‪ ٔ8‬كان ٘‪ ٕ,‬ملٌون جنٌه‪،‬‬
‫معظمها وارد الزراعة والضراٌب‪ ،‬صرؾ منها ملٌون وٓٓ‪ ٙ‬ألؾ على تجهٌزات الجٌش(‪ ،)ٔ8‬وهذه‬
‫المٌزانٌة ال ٌصل منها للجندي المصري إال فتات‪ ،‬فٌما ٌُكال جزء كبٌر منها لؤلتراك والممالٌك واأللبان‪،‬‬
‫فٌقول كلوت بك فً كتابه "لمحة عامة إلى مصر" إن مرتب الجندي ٘ٔ قرشا‪ ،‬فٌما المبلزم األول ٖٓ٘‬
‫قرشا‪ ،‬والٌوزباشً ٓٓ٘ والقابمقام ٖ آالؾ‪ ،‬واألمٌراالي ‪ 8‬آالؾ‪ ،‬وهكذا‪ ،‬مبررا الفرق الخٌالً بٌن ما‬
‫ٌؤخذه المصري وما ٌؤخذه األجانب بؤن "سمو الوالً كان ٌرٌد استمالة األتراك إلى النظام الحدٌث فً‬
‫الجٌش على أثر ما أبدوه من النفور الشدٌد منه"(‪.)ٔ9‬‬

‫ومعظم الـ ٓٓٗ ألؾ الباقٌة من المٌزانٌة العامة بالتؤكٌد صرؾ منها على شبون رفاهٌته وقصوره‬
‫وعشٌرته التً استقدمها والمحظوظٌن‪ ..‬فكم بقً للفبلح المصري؟‬

‫واألهم من النزح المالً هو استنزاؾ البشر‪ ،‬فٌقول كلوت بك فً فصل "األسلوب المتبع فً التجنٌد" إن‬
‫الباشا اتبع أسلوبا عشوابٌا وحشٌا فً التجنٌد "مخالفا لطبٌعة البشر"‪ ،‬وإن العسكر األتراك ٌنقضون على‬
‫القرى فجؤة‪ٌ ،‬ختطفون الذكور جمٌعا‪ ،‬وٌسوقونهم مصفدٌن فً األؼبلل إلى عاصمة المدٌرٌة‪ ،‬وعند ذلك‬
‫تشهد منظرا تنخلع له القلوب‪ ،‬فؤمهاتهم وأزواجهم ٌندبونهم صابحات مولوالت ٌهرولن ورابهم‪ ،‬وفً‬
‫المركز ٌنتخب الطبٌب من ٌراه منهم صالحا للجندٌة‪ ،‬هذه هً طرٌقة التجنٌد حٌنها فً مصر‪ ،‬وهً طرٌقة‬
‫عاقبتها إبادة األمة‪ ،‬وفً البداٌة لم ٌكن هناك حساب للسن‪ ،‬وال لؤلسر التً تجد نفسها فً مهاوي الخراب‬

‫(‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ‪ٔٙ‬‬
‫(‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ‪ ٔٙ‬وص ٘‪ٔٙ‬‬
‫(‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬لمحة إلى مصر‪ ،‬كلوت بك‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪٘ٓٙ‬‬

‫ٗ‪ٖ9‬‬
‫والبإس(ٕٓ)‪ ،‬فٌؤخذون الطفل والشاب والشٌخ‪ ،‬وٌستؽرق التجنٌد سنوات العمر كله أحٌانا‪.‬‬

‫وبرر مقربون منه ومإرخون هذا بؤنه اضطر ألن المصري كان نسً الجندٌة منذ زمن طوٌل ولن‬
‫ٌرضى باالنتظام بها باالختٌار‪ ،‬كما أنه كان ٌحتاج لبناء مشروعات فً زمن قصٌر‪ ،‬وهً مبررات ٌُرد‬
‫علٌها بؤنه ول َم لم ٌجرإ على استخدام هذه الضؽوط مع المرتزقة من األجناس المستوردة؟‪ ،‬وبؤن حسن‬
‫المعاملة وتقصٌر فترة التجنٌد وتعمٌم خٌرات المشروعات على الفبلحٌن كان سٌكون له مفعول أفضل من‬
‫هذه الوحشٌة‪ ،‬وأن حماٌة حٌاة الفبلحٌن التً ٌُخاطر بها فً الوسابل الوحشٌة تستحق أن ٌجعل مشروعاته‬
‫على مراحل‪ ،‬فالمبرر األرجح هو لهاثه وراء استؽبلل الفرصة لبلستقبلل بمصر عن العثمانلٌة فً أقصر‬
‫وقت‪ ،‬وبؤي ثمن‪.‬‬

‫والفبلح المجند بذلك ٌترك ورابه فراؼا فً أرضه‪ ،‬وأحٌانا حٌن تجد اإلدارة أن ال أحد قادر على‬
‫زراعتها فً أسرته تسلمها لؽٌره‪ ،‬فٌجتمع على األسرة ألم فقد األحبة ومرارة قطع األرزاق(ٕٔ)‪ ،‬ولم ٌتم‬
‫حفظ حق المجند فً التصرؾ فً أرضه خبلل فترة تجنٌده إال فً ٘‪.ٔ8ٙ‬‬

‫وأجبر هذا األمهات على تشوٌه خلقة أبنابهن لٌصبحوا ؼٌر صالحٌن للتجنٌد‪ ،‬مثل فقؤ العٌن أو قطع‬
‫أصبع السبابة‪ ،‬وقابل الباشا هذا بسن عقوبة مملوكٌة على األمهات بقتلهن عبر إؼراقهن فً الترعة(ٕٕ)‪،‬‬
‫وحٌن تخفً األم أو الزوجة مكان رجل الدار‪ -‬ألنها لن تراه ثانٌة إذا ذهب للتجنٌد‪ٌ -‬علقهن عسكر إبراهٌم‬
‫باشا من شعورهن‪ ،‬وٌُضربن بالسٌاط حتى ٌضطررن لبلعتراؾ(ٖٕ) قبل أن تنسلخ جلود رءوسهن من‬
‫التعلٌق‪ ،‬وجلود ظهورهن من الكرباج‪.‬‬

‫ورؼم هذا استمرت األمهات بعناد فً عملٌة التشوٌه‪ ،‬فؤمر الباشا بتجنٌد حتى المشوهٌن‪ ،‬فكان الفبلحون‬
‫ٌحفرون خنادق بجوار المقابر والمستنقعات‪ ،‬أو ٌفرون إلى الصحاري ٌختببون عدة أشهر تاركٌن زرعهم‬
‫ٌٌبس فوق ؼصونه‪ ،‬للهرب من موظفً الباشا حٌن ٌبحثون عنهم‪ ،‬ومنهم من كان ٌرشً شٌخ البلد حتى ال‬
‫ٌسلمه لئلدارة‪ ،‬وبذلك كان من ٌذهب للتجنٌد هم أفقر الناس والمؽضوب علٌهم(ٕٗ)‪.‬‬

‫تحسنت أحوال الفبلحٌن فً الجٌش لحد ما زمن سعٌد‪ ،‬فٌذكر له أحمد عرابً أنه اهتم بتصعٌد الفبلحٌن‬
‫من أبناء شٌوخ البلد والعمد إلى مراتب ضباط بعد أن كان استخدامهم قاصرا على التجنٌد‪.‬‬

‫وخطوة هامة أخرى‪ ،‬أن سعٌد ألؽى الجزٌة المفروضة على المسٌحٌٌن سنة ٘٘‪ ،)ٕ٘(ٔ8‬وقرر تجنٌدهم‪،‬‬
‫ولكن ظلت مصر تدفع جزٌة إلى األستانة سنوٌا‪ ،‬ومن العجب أنه رؼم أن ضمن المبررات الخاطبة لفرض‬
‫الجزٌة على المصرٌٌن هو "إعفاءهم" من الجندٌة‪ ،‬فإن الجزٌة العثمانلٌة استمرت مفروضة رؼم تجنٌد‬

‫(ٕٓ)‬
‫‪-‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ ،ٖ٘8‬وصفحة من تارٌخ مصر فً عهد محمد علً الجٌش المصري البري والبحري‪ ،‬ص ‪ٕٔٓ -ٔٔ9‬‬
‫(ٕٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬ملكٌة األراضً فً مصر فً القرن التاسع عشر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٓٔ‪ٕٔٔ -‬‬
‫(ٕٕ)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ٕٔ٘ -ٕٕٔ ،‬‬
‫(ٖٕ)‬
‫‪ -‬مصر الحدٌثة‪ ،‬اللورد كرومر‪،‬المركز القومً للترجمة‪ ،‬ترجمة صبري محمد حسن‪ ،‬جٕ‪ ،‬طٔ‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٓٔٗ ،‬ص ٖ‪٘ٙ‬‬
‫(ٕٗ)‬
‫‪ -‬ملكٌة األراضً فً مصر فً القرن التاسع عشر‪ ،‬ص ٕٔٓ‪ ،‬والجٌش المصري البري والبحري‪ ،‬ص ٕٔٔ‬
‫(ٕ٘)‬
‫‪ -‬أقباط ومسلمون منذ الفتح العربً إلى عام ٕٕ‪ ،ٔ9‬جاك تاجر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٓٓ‬

‫٘‪ٖ9‬‬
‫المصرٌٌن مسلمٌن ومسٌحٌٌن‪ ،‬فً حٌن أعفت المسٌحٌٌن والٌهود األجانب من الجزٌة بموجب االمتٌازات‬
‫األجنبٌة(‪ ،)ٕٙ‬وٌبرر العثمانلٌة أخذ الجزٌة من المصرٌٌن فً كل األحوال بؤنها بموجب "حق الفتح"‪.‬‬

‫وبعد أن كان التجنٌد قاصرا على أبناء القرى‪ ،‬قرر سعٌد فً ٗ٘‪ ٔ8‬أن ٌكون التجنٌد لكافة أبناء الشعب فً‬
‫القرى والمدن‪ ،‬ؼٌر أنها كانت مساواة صورٌة(‪ ،)ٕ9‬ألنه سُمح لؤلؼنٌاء وأبناء العمد بتقدٌم "بدل شخصً"‬
‫عنهم للتجنٌد‪ ،‬أي شخص بدٌبل لهم‪ ،‬فٌرسلوا فً ذلك ؼالبا العبٌد‪ ،‬ثم وضع االحتبلل اإلنجلٌزي البدل‬
‫النقدي‪ ،‬وكان نظاما مرٌرا فً الحلق ألنه ٌفرق فً خدمة الوطن بٌن األؼنٌاء والفقراء فٌلزم بها الفقراء‬
‫فقط‪ ،‬وٌفرغ الجٌش من مضمونه وهدفه القومً الوطنً السامً(‪.)ٕ8‬‬

‫وقامت الثورات فً جهات متعددة ضد التجنٌد القابم على المساوئ المذكورة‪ ،‬إال أنها قمعت‪ ،‬وانتهى‬
‫األمر بالفبلح أن ٌرضى بحالته الجدٌدة وٌتعودها بعد أن رأى ما ٌُعامل به من الرعاٌة وحسن العناٌة‪،‬‬
‫وٌتؽذون وٌ لبسون أحسن مما كانوا فً بٌوتهم‪ ،‬وانتهى األمر بهم إلى اعتٌاد حٌاتهم الجدٌدة واالؼتباط‬
‫بها(‪ ،)ٕ9‬بحسب تعبٌر كلوت بك‪.‬‬

‫ورؼم هذا الظلم إال أن المصرٌٌن أبدوا تفوقا مذهبل مقارنة باألتراك فً أول اختبار لهم فً الحرب‪ ،‬تدل‬
‫على ترسخ نبل الجندٌة فً دمابهم‪ ،‬فٌورد كلوت بك أمثلة فً حرب الشام‪ ،‬منها أن جندي اسمه منصور‬
‫انتزعت ذراعة من جسمه بقنبلة أثناء معركة حمص فلم ٌرض أن ٌنسحب من مٌدان القتال‪" ،‬بل تقدم رجال‬
‫كتٌبته حامبل على العدو بؤشد ما ٌكون من البؤس والبسالة‪ ،‬وظل ٌحارب إلى أن مات"‪ ،‬وخبلل الحرب ضد‬
‫العثمانلٌة فً قونٌة سنة ٕٖ‪ ٔ8‬ترك جمٌع الجرحى الذٌن كانوا ٌستطٌعون حمل السبلح أسرتهم فً‬
‫المستشفى قاصدٌن إلى مٌدان القتال "لمشاركة إخوانهم مجد االنتصار أو شرؾ الموت"‪.‬‬

‫وفً معركة أخرى دارت الدابرة على فرقة المشاة الـ ٘ٔ وأصٌب من بٌنهم فتً عمره ٓٔ سنٌن ٌعمل‬
‫على دق الطبول‪ ،‬فلما رأى رفاقه ٌفرون استمر ٌقرع الطبل وهو معرض لوابل من الرصاص ٌمطره‬
‫وٌمطر الجنود‪ ،‬فدبت الحماسة فً رفاقه‪ ،‬وخجلوا إذ رأوا صبٌا ٌقدم لهم مثاال من البطولة‪ ،‬وعادوا أدراجهم‬
‫إلى القتال لٌنتقموا لشرفهم الذي انتهكه العدو‪ ،‬ورفض سلٌمان الفرنساوي االستعانة بجندي عمره ‪ ٔٙ‬سنة‬
‫ألن جسده نحٌل جدا وعلى وجهه عبلمات المرض‪ ،‬اسمه الحاج علً‪ ،‬فتضاٌق الشاب من سبب الرفض‪،‬‬
‫وقال له إنه‪ -‬أي سلٌمان‪ -‬سٌعرؾ خطؤ سوء ظنه فٌه حٌن تحٌن الفرصة‪ ،‬وخبلل حصار الجٌش لعكا‬
‫تعرضت األورطة الثامنة لهزٌمة من حامٌة عكا؛ فتقدمت األورطة الثالثة التً بها الحاج علً‪ ،‬وانتصرت‬
‫على حامٌة عكا‪ ،‬ولم ٌكتؾ الحاج علً بالمشاركة فً هذا النصر‪ ،‬بل أنقذ ٌوزباشً كان على وشك الوقوع‬
‫فً أسر العدو‪ ،‬كما أسر ضابطا تركٌا‪ ،‬وجاء باالثنٌن إلى سلٌمان باشا ٌقول له‪" :‬أال تزال تعتقد أننً جندي‬

‫(‪)ٕٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ٌ :‬هود مصر (ٕٕ‪ ،)ٔ9٘ٙ -ٔ9‬رشاد رمضان عبد السبلم‪ ،‬دار الكتب والوثابق القومٌة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬هامش رقم ٕ ص ‪ٔ99‬‬
‫(‪)ٕ9‬‬
‫‪-‬انظر‪ :‬ملكٌة األراضً الزراعٌة فً مصر فً القرن التاسع عشر‪ ،‬ص ٕٔٔ‪ٕٕٔ -‬‬
‫(‪)ٕ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الجٌش المصري فً القرن التاسع عشر‪ ،‬محمد محمود السروحً‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪ ،8ٓ -9ٙ‬ومقدمات ثورة ٖٕ ٌولٌو‬
‫ٕ٘‪ ،ٔ9‬عبد الرحمن الرافعً‪ ،‬ط ٖ‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٕ‪ٔٙ‬‬
‫(‪)ٕ9‬‬
‫‪ -‬لمحة عامة إلى مصر‪،‬كلوت بك‪ ،‬ص ٓٓ٘‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓٓ٘‬

‫‪ٖ9ٙ‬‬
‫ال أصلح لشًء؟"(ٖٓ)‪.‬‬

‫وبتعبٌر كلوت بك ‪ ،‬فقد "أزاحت هذه المعارك عن أعٌن األتراك ما كانوا ٌحتقرونه من المصرٌٌن‪ ،‬فقد‬
‫ظلوا زمنا طوٌبل ٌعتقدون أنهم ال ٌعادلونهم كفاٌة‪ ،‬فعلمتهم هذه الحرب أن هذا الشعب الذي ضعضعته‬
‫المظالم‪ ،‬وحطت من قدره‪ ،‬وزرعت فً قلبه المخاوؾ‪ ،‬فً استطاعته أن ٌسترد مجده التالد‪ ،‬وأن ٌقارعهم‬
‫فً مواقؾ القتال‪ ،‬بل وٌسمون علٌهم فً القوة إذا أحسنت قٌادتهم وعببوا للحرب بالطرٌقة الفنٌة(ٖٔ)‪.‬‬

‫وفً هذه الكلمات إشارة إلى أن من ٌعٌش فً مصر لفترة مثل كلوت بك ٌدرك جٌدا الفرق بٌن‬
‫المصرٌٌن الحقٌقٌٌن وبٌن المستوطنٌن األجانب‪ ،‬وأنه ٌرى فً الفبلحٌن امتدادا دما ولحما لتارٌخ مصر‬
‫القدٌم‪ ،‬وأنه كامنة بداخلهم كافة جذور استعادة مجده‪ ،‬رؼم كل ما هم فٌه وقتها من فقر وجهل وإذالل‪.‬‬

‫وبهإالء الجنود استطاع إبراهٌم باشا فتح عكا الحصٌنة‪ ،‬وهزٌمة العثمانٌٌن فً ساحة الحرب على ٌد‬
‫مصرٌٌن ألول مرة‪ ،‬وهذا هو الفبلح الذي طالما أشاع التركً والمملوكً واألعرابً أنه ال ٌصلح‬
‫للفروسٌة‪.‬‬

‫دوال والد الفالحٌـــــــــــن‬ ‫دوال عساكر مصرٌٌــــــــن‬


‫(ٕٖ)‬
‫دوال عٌــــون المصرٌٌـــن‬ ‫دوال خالصة مصر ٌا ولدي‬

‫هذا عن التجنٌد‪ ،‬أما وظابؾ الضباط فٌنقل عمر طوسون عن المارشال الفرنسً مارمون‪ ،‬وهو قابد‬
‫سابق فً الحملة الفرنسٌة واستعان محمد علً بآرابه فً إعادة بناء الجٌش‪ ،‬أنها "ظلت مقصورة على‬
‫ٌرد أن ٌجعل نفسه فً متناول الشعب المصري‪ ،‬ولكن لما توطدت سلطته‬‫األتراك والممالٌك ألن الباشا لم ِ‬
‫أدخل المصرٌٌن فً وظابؾ الضباط الصؽٌرة (صؾ ضباط) فؤظهر هإالء الصؾ الضباط ذكا ًء فابق‬
‫الحد‪ ،‬ونشاطا عظٌما حتى أن الضباط الذٌن انتخبوا من بٌنهم صاروا بعد وقت ٌسٌر أحسن وأفضل من‬
‫األتراك‪ ،‬ولٌس أمامهم أي عابق لشؽل الوظابؾ العلٌا"‪.‬‬

‫وٌرى كلوت بك أن محمد علً كان ٌخشى من أنه إذا وصل المصرٌون إلى مناصب قٌادٌة أن ٌتمردوا‬
‫علٌه‪ ،‬ولذا أبعدهم عن القٌادة فً الجٌش‪ ،‬وعلل األمر بسبب آخر وهو أن المصرٌٌن ٌجٌدون القتال وهم‬
‫جنود أما إذا ترقوا لمناصب عالٌة فبل ٌكونون فً نفس الكفاءة (ٖٖ)‪ ،‬وثبت أن هذا لٌس صحٌحا حٌن صار‬
‫المصرٌون ضباطا وقٌادات فً حروب الحقة‪ ،‬وأثبتوا كفاءتهم‪.‬‬

‫ؼٌر أن ابنه سعٌد خطا خطوة ترقٌة الفبلحٌن‪ -‬من أبناء العمد‪ -‬إلى رتب الضباط عام ٗ٘‪ ٔ8‬لكراهته‬

‫(ٖٓ)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٕٗ‪ ،ٖٗ -‬ولمحة عامة إلى مصر‪ ،‬ص ‪٘ٓ8 -٘ٓٙ‬‬
‫(ٖٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجعٌن‪ ،‬األول ص ٖٗ‪ ،‬والثانً ص ‪٘ٓ8‬‬
‫(ٕٖ)‬
‫‪ -‬أؼنٌة دوال مٌن‪ ،‬كلمات أحمد فإاد نجم‪ ،‬ألحان كمال الطوٌل‪ ،‬ؼناء سعاد حسنً‬
‫*** كتبها الشاعر بعد نصر أكتوبر ٖ‪ ٔ97‬الذي حققه الجنود الفالحون بعد أن مألت إسرابٌل العالم ضجٌجا عن أن المصرٌٌن ال ٌصلحون للحرب‬
‫ولن ٌجرأوا على اس تعادة سٌنا مرة أخرى‪ ...‬فالحرب النفسٌة من األعادي واحدة فً كل زمان‪.‬‬
‫(ٖٖ)‬
‫‪ -‬صفحة من تارٌخ مصر فً عهد محمد علً الجٌش المصري البري والبحري‪ ،‬ص ‪ 9‬و ٘ٗ‬

‫‪ٖ97‬‬
‫سٌطرة األتراك على الجٌش‪ ،‬فؤمر بانتظام أوالد العمد ومشاٌخ البلد فً سلك الجٌش وترقٌة رتبهم من‬
‫جندي تحت السبلح إلى ضباط‪ ،‬ولكنها ترقٌة تتنفس فً جو ثقٌل من النفوذ التركً والشركسً الذي‬
‫تضاعؾ فً عهد إسماعٌل(ٖٗ)‪ ،‬وترقٌة من تحت السبلح‪ ،‬أي ٌدخل الفبلح الجٌش من بوابة التجنٌد فقط‪ ،‬أما‬
‫المدرسة الحربٌة فظلت قصرا على األتراك والشراكسة(ٖ٘) حتى ٌظل فرق فً الرتب بٌن المصري وبٌنهم‪،‬‬
‫رؼم فرق األصول بٌن المصري الحر ابن البلد وبٌن الترك والشراكسة أبناء الممالٌك والمرتزقة‪..‬ولكن‬
‫هكذا الحال مع من ٌتعاملون بـ"حق الفتح"‪.‬‬

‫وللجنود المصرٌٌن دورهم المشهود‪ -‬ولكنه ؼٌر مشهور‪ -‬فً حفر مشارٌع الري والقنوات وتشٌٌد‬
‫المبانً الفخٌمة فً وسط القاهرة‪.‬‬

‫فبعد أن ألؽى إسماعٌل استخدام الفبلحٌن فً السخرة لحفر قناة السوٌس لجؤ الستخدام المجندٌن؛ فساهم‬
‫الجٌش فً بناء القصور الملكٌة وحفر الترع وتجمٌل القاهرة وؼٌرها‪ ،‬وإن كانوا حصلوا على نظام ؼذابً‬
‫أفضل من فبلحٌن السخرة قبلهم‪ ،‬تضمن رز وعدس ولحم‪ ،‬وبذلك حمل الجٌش‪ ،‬خاصة من أبناء الفقراء‪،‬‬
‫عبء حماٌة الببلد‪ ،‬وعبء رفع السخرة عن أهلها فً بعض المشروعات(‪ )ٖٙ‬وإن بقت السخرة فً‬
‫مشروعات أخرى‪.‬‬

‫ووصل عدد الجٌش أٌام إسماعٌل إلى ٓٗ ألفا وقت السلم و٘‪ ٙ‬ألفا‪ 8ٖ -‬ألفا وقت الحرب‪ ،‬هذا بخبلؾ‬
‫قوات اإلمدادٌة (االحتٌاطً) والبولٌس‪ ،‬ثم هبطت بشكل صادم بوصٌة لجنة التحقٌق األوروبٌة فً األزمة‬
‫المالٌة ‪ ٔ899‬بتخفٌض الجٌش إلى ‪ ٖٙ‬ألفا‪ ،‬ثم بالتدرٌج خفضوه إلى ‪ ٔ8‬ألفا‪ ،‬وبعد تولً توفٌق فً نفس‬
‫السنة أوصت بتنزٌله إلى ٕٔ ألفا‪ ،‬وهو ما كان مإشرا الستعداد برٌطانٌا للتدخل العسكري فً مصر بعد‬
‫ضمان تآكل الجٌش‪.‬‬

‫ولم تكتؾِ الوزارة األوروبٌة بقٌادة نوبار بتخفٌض العدد‪ ،‬ولكن تعمدت تؤخٌر المرتبات لشهور طوٌلة‪،‬‬
‫وخفضت األكل المخصص للجنود بحجة األزمة المالٌة‪ ،‬حتى اضطر الضباط لبلقتراض من األهالً‪ ،‬ثم‬
‫وصل بعضهم للعجز عن االقتراض من كثرة ما استدان‪ ،‬فمد أهالٌهم أٌدٌهم للسإال حتى صار ٌضرب‬
‫بعوزهم المثل‪ ،‬وظهروا أمام األهالً فً أسمال بالٌة؛ فاستحقوا الرثاء‪ ،‬فٌما مرتبات الضباط والموظفٌن‬
‫األجانب ٌتم صرفها‪ ،‬والجزٌة ترسل للسلطان العثمانً‪ ،‬وكوبونات الدٌن لبنوك روتشٌلد وإخوانه ُتدفع فً‬
‫مواعٌدها قهرا(‪.)ٖ9‬‬

‫وٌقول عرابً فً مذكراته إنه عند توجٌه االتهام له أمام المجلس العسكري بؤن جنود اآلالي التابع له‬
‫اشتركوا فً مظاهرة قام بها ضباط ضد نوبار باشا والقنصل اإلنجلٌزي‪ ،‬أجاب عرابً‪" :‬إنه لو فرض‬

‫(ٖٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الجٌش المصري فً السٌاسة (ٕ‪ )ٔ9ٖٙ-ٔ88‬عبد العظٌم رمضان‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬ص ‪ٔ8‬‬
‫(ٖ٘)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٔ9‬‬
‫(‪)ٖٙ‬‬
‫‪ -‬الجٌش المصري فً القرن التاسع عشر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ 89 -88‬وٗ‪9٘ -9‬‬
‫*** وبذلك حٌن ٌنظر المصري إلى المبانً الحكومٌة والعمارات والقصور الفخٌمة فً القاهرة واإلسكندرٌة الموروثة من تلك الفترة ٌنطبع فً‬
‫ذهنه فورا صور أجداده وهم ٌكابدون فً بنابها‪ ،‬ومن عرقهم فً األرض ترتفع شاهقة‪ ،‬فً حٌن كانت تخصص لألجانب وحاشٌة الخدٌوي‬
‫(‪)ٖ9‬‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‪ ،‬ص ٖ‪ ٖ8ٙ -ٖ9‬و ٕٗ٘‬

‫‪ٖ98‬‬
‫وجود أحد منهم‪ ...‬فهو ؼٌر ملوم ألن نساء الضباط وأوالدهم فً العباسٌة ببل مؤوي وال دراهم فً أٌدٌهم‬
‫ٌنفقون منها على عاببلتهم‪ ،‬وال خبز وال تعٌٌن ٌصرؾ لهم"‪.‬‬

‫وظهرت نواٌا التدخل العسكري البرٌطانً بوضوح حٌنها على لسان ورفرز ولسون بؤن عدد الجٌش‬
‫المصري "أكثر مما ٌجب"‪ ،‬ألن مصر حسب قوله "تحت الحماٌة األوروبٌة"‪ ،‬القادرة عل الدفاع عنها إذا‬
‫ما تعرضت لعدوان‪ ،‬ولذا "استقر الرأي على إلؽاء البحرٌة تماما‪ ،‬وتخفٌض عدد الجٌش إلى ‪ 9‬آالؾ"(‪.)ٖ8‬‬

‫▲ (الجندي الفالح الصانع)‬

‫هذا عن عودة الفبلح للعمل كمقاتل‪ ،‬أما دوره كصانع فً الصناعات الحربٌة فإنه منذ البداٌة كان قوام‬
‫العمال والصناع فً دار صناعة السفن الحربٌة التً تؤسست باإلسكندرٌة ٖٗ‪" ٔ8‬الترسانة البحرٌة"‬
‫مصرٌون قادمون من الرٌؾ‪ ،‬كما أشار لذلك المارشال مارمون‪ ،‬ووصفهم بالنشاط والنباهة واتقان الصنعة‬
‫الدقٌقة فً زمن قصٌر‪ ،‬حتى البوصلة والمناظٌر‪.‬‬

‫وقال فً كتابه "رحلة المارشال مارمون"‪" :‬وشاهدت الصناع الذٌن ٌصنعونها بدقة عجٌبة وهم لم‬
‫ٌقضوا فً تعلمهم ؼٌر عامٌن‪ ،‬فكان عجبً من ذلك عظٌما‪ ،‬ألن العامل األوروبً من أي جنسٌة كانت ال‬
‫ٌمكن أن ٌصل إلى هذه الدرجة المدهشة‪ ،‬خصوصا إذا أُخذ من بٌن الفبلحٌن كما هو الحال مع هإالء‬
‫العمال المصرٌٌن(‪.")ٖ9‬‬

‫ومعظم البحارة على السفن مصرٌون من نوتٌة مراكب النٌل‪ ،‬وتعلموا أٌضا بسرعة فابقة‪ ،‬وعلى أٌدٌهم‬
‫عوض محمد علً السفن التً خسرها فً موقعة نوارٌن‪ ،‬واستؽنى عن استٌراد السفن من الخارج(ٓٗ)‪.‬‬ ‫َّ‬

‫وسجل كلوت بك أن البحرٌة قبل بناء ترسانة اإلسكندرٌة اعتمدت على استٌراد سفنها وأدواتها من‬
‫الخارج‪ ،‬وكان ٌدٌر صٌانة هذه السفن وتسلٌحها اثنان‪ ،‬األول مصري اسمه الحاج عمر‪ ،‬لم ٌدخل المدارس‪،‬‬
‫ولكن مهر فً صنعته بالتمرٌن والمواهب الذاتٌة‪ ،‬والثانً مهندس تركً كان عنوان للؽباوة والجهل؛ ففصله‬
‫مسٌو دي سرٌزي المشرؾ على تؤسٌس الترسانة من الخدمة"(ٔٗ)‪.‬‬

‫وعن مستوى الترسانة بعد تؤسٌسها قال إنها استطاعت مباراة جمٌع الترسانات فً العالم وهو البرهان‬
‫الساطع على القوى الكامنة لدى المصرٌٌن التً ٌمكن استخدامها واالنتفاع بها‪ ،‬وإن أبناء الشعوب‬
‫األوروبٌة لٌعجزون أن ٌؤتوا بنتابج باهرة فً مثل الزمن الذي أتى المصرٌون فٌه بهذه النتابج(ٕٗ)‪.‬‬

‫وهذه شهادة أخرى تضاؾ للفبلح‪ ،‬فهو فً أرضه المزارع األول‪ ،‬وحٌن عاد للجندٌة ثبت أنه المقاتل‬
‫من الطراز األول‪ ،‬ولما عاد للصناعات الدقٌقة ثبت أنه الصانع األول فً أول تجربة ٌختبرونه فٌها‪ ،‬وأثبت‬
‫(‪)ٖ8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕ٘٘ و ‪٘ٗ9‬‬
‫(‪)ٖ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪99 -98‬‬
‫(ٓٗ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ 8ٙ‬ؤٕٖ‬
‫(ٔٗ)‬
‫‪ -‬لمحة إلى مصر‪ ،‬كلوت بك‪ ،‬مرجع سابق‪ ،ٕٓٔٔ ،‬ص ‪٘ٔٙ‬‬
‫(ٕٗ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ ،ٕ٘9‬والجٌش البري والبحري‪ ،‬عمر طوسون‪ ،‬ص ‪ٔٓ8 -ٔٓ9‬‬

‫‪ٖ99‬‬
‫نفس األمر حٌن عاد إلى الطب والهندسة والموسٌقى والؽناء والنحت إلخ‪ ،‬وهكذا هو كالذهب الذي أزٌح من‬
‫علٌه التراب فً كل حرفة؛ ولذا فبالمصرٌٌن نجحت مساعً محمد علً ومن جاءوا بعده لتحدٌث مإسسات‬
‫الدولة‪ ،‬ولو كان فً ببلد أخرى لما نجح مشروعه فً هذا الوقت القٌاسً ولو جمع له كل علماء وخبراء‬
‫الدنٌا‪.‬‬

‫▼▼▼ نتاٌج االحتالل (العلوي‪ -‬العثمانلً‪ -‬الجالٌاتً) لمصر‬

‫❶ العثمانلٌة والممالٌك والمؽاربة ٌعلنون "الجهاد" ضد المصرٌٌن‬

‫نبَّهت الحملة الفرنسٌة عقل إنجلترا لخطورة موقع مصر على مصالحها‪ ،‬فحضَّرت نفسها لتحل محل‬
‫فرنسا فً احتبللها‪ ،‬وما كادت دماء المصرٌٌن تجؾ على األرض من جراح مدافع الجٌش الفرنسً حتى‬
‫تبلطمت أمواج سواحل رشٌد معلنة عن قدوم الؽازي اإلنجلٌزي ممثبل فً "حملة فرٌزر" سنة ‪.ٔ8ٓ9‬‬

‫وهنا اهتزت أعصاب محمد علً والممالٌك لما خبروه من صبلبة جٌش اإلنجلٌز فً حربه مع‬
‫الفرنسٌس "وتخبطت الركب"‪ ،‬وٌصؾ حالهم الجبرتً بؤنهم تسابقوا فً بٌع ممتلكاتهم وآثاثهم وتحوٌله إلى‬
‫ذهب وأموال لٌسهل حمله استعدادا للهرب من مصر‪ ،‬واستعد محمد علً للهرب إلى الشام إذا ما احتل‬
‫اإلنجلٌز القاهرة‪ ،‬ولكن لما وصلتهم البشاٌر من رشٌد تحمل رإوس القتلى اإلنجلٌز واألسرى اطمبنت‬
‫نفوسهم‪.‬‬

‫فعلى عكس جبن هإالء‪ ،‬تلقت رشٌد اإلنجلٌز بالحٌلة الشهٌرة‪ ،‬وأربكت صفوفهم‪ ،‬وشارك عمر مكرم‬
‫فً حشد المقاومة ضد اإلنجلٌز‪ ،‬كما فعل سابقا فً حشدها ضد الممالٌك والوالً العثمانلً والفرنسٌس‪،‬‬
‫حتى أن الجبرتً ٌقول‪" :‬نبَّه السٌد عمر النقٌب على الناس‪ ،‬وأمرهم بحمل السبلح والتؤهب لجهاد اإلنجلٌز‪،‬‬
‫حتى مجاوري األزهر أمرهم بترك حضور الدروس‪ ،‬وكذلك أمر المشاٌخ بترك إلقاء الدروس"‪.‬‬

‫ومن مشاهد ندالة المرتزقة أن رشٌد أرسلت تستؽٌث بالقاهرة بعد تؤخر المدد‪ ،‬فؤظهر األتراك وفرق‬
‫المؽاربة والدالة والممالٌك استعدادهم للذهاب ومحاربة اإلنجلٌز‪ ،‬وجمعوا أمواال كثٌرة فً شكل تبرعات‬
‫من الناس‪ ،‬وخرجوا من القاهرة‪ ،‬ولكن لم ٌتجهوا إلى رشٌد‪ ،‬بل توزعوا بٌن المنوفٌة والؽربٌة وبوالق‬
‫وشبرا لـ "ٌجمعوا من الناس المال والمؽارم والكلؾ‪ ،‬فخطفوا البهاٌم قهرا من أصحابها‪ ،‬وخطفوا النساء‬
‫والبنات والصبٌان‪ ،‬وفجروا بالنساء وافتضوا األبكار والطوا بالصبٌان‪ ،‬وأخذوهم وباعوهم فٌما بٌنهم حتى‬
‫باعوا البعض بسوق مسكة" كما قال الجبرتً‪ ،‬وهكذا فعل من ٌدعون حماٌة المسلمٌن بالمسلمٌن وقت‬
‫الحرب‪.‬‬

‫وعلق الجبرتً على هذه الجرابم ساخرا‪" :‬وهكذا تفعل المجاهدٌن"‪ ،‬مشٌرا إلى أن كثٌرا من الناس من‬
‫كثرة قهرهم مما حدث "تمنوا مجا اإلفرنج من أي جنس كان وزوال هإالء الطواٌؾ الخاسرة الذٌن لٌس‬
‫لهم ملة وال شرٌعة"‪ ،‬بل كان كلما صرخ األهالً وهم ٌمنعونهم مما ٌفعلون‪ٌ" ،‬زاداد حقدهم وعداوتهم ]أي‬
‫حقد ملٌشٌات األتراك والمؽاربة والممالٌك على المصرٌٌن[‪ ،‬وٌقولون‪ :‬أهل هذه الببلد لٌسوا مسلمٌن ألنهم‬

‫ٓٓٗ‬
‫ٌكرهونا وٌحبون النصارى‪ ،‬وٌتوعدونهم إذا خلُصت لهم الببلد"‪.‬‬

‫وٌعلق الجبرتً بسخرٌة مرة أخرى‪" :‬وال ٌنظرون لقبح أفعالهم"؛ أي أن هإالء المرتزقة ٌؤتون بكل‬
‫أشكال الفجور والرزاٌا وال ٌشعرون أن هذا شًء ٌستحق المبلمة‪.‬‬

‫وهكذا فعل المملوك ٌاسٌن بك وعساكره فً الوجه القبلً بالفٌوم وأطفٌح وؼٌرهما‪ ،‬ؼٌر عاببٌن بما فٌه‬
‫الناس من ضٌق أو فٌه البلد من خطر اإلنجلٌز‪ ،‬وإذا قاومهم أهل قرٌة أوقدوا فٌهم النٌران‪ ،‬وحرقوا جرونهم‬
‫ونهبوهم أكثر كما فعلوا فً أطفٌح‪.‬‬

‫ولما انتصرت رشٌد وحماد‪ ،‬وجبل اإلنجلٌز‪ ،‬نزل األتراك على حمَّاد وما جاورها "واستباحوا أهلها‬
‫ونساءها وأموالها ومواشٌها‪ ،‬زاعمٌن أنها صارت دار حرب بنزول اإلنجلٌز علٌها وتملكها"‪ ،‬كما قال‬
‫الجبرتً‪ ،‬وبعدها "نزلوا على رشٌد وضربوا على أهلها الضراٌب‪ ،‬وطلبوا منها األموال والكلؾ الشاقة"‬
‫فثار علٌهم كبٌرها حسن كرٌت وقال‪" :‬أما كفانا ما وقع لنا من الحروب وهدم الدور وكلؾ العسكر‬
‫ومساعدتهم ومحاربتنا معهم ومعكم‪ ،‬وما قاسٌناه من التعب والسهر وإنفاق المال‪ ،‬ونجازى منكم بعدها بهذه‬
‫األفاعٌل؟!"‪ ،‬واضطر كثٌر من أهالً رشٌد وحماد للطفشان منهما إلى القاهرة هربا من هذا الشٌطان‬
‫العثمانً المملوكً الرجٌم(ٖٗ)‪.‬‬

‫قطؾ محمد علً ثمار النصر‪ -‬رؼم وقوفه متفرجا على المناضلٌن ضد اإلنجلٌز واستعداده للهرب‪ -‬بؤنه‬
‫بعد انسحاب اإلنجلٌز لئلسكندرٌة مخذولٌن و َّقع معهم معاهدة دمنهور وبموجبها تم الجبلء اإلنجلٌزي فً‬
‫‪ ٔ9‬سبتمبر ‪ ،ٔ8ٓ9‬فصارت له نفوذ استقوى به أمام السلطان العثمانلً والممالٌك‪.‬‬

‫❷ تفرٌػ ثورة ٗٓ‪ ٔ8‬الستفراد محمد علً بمصر‬

‫إن انتفاضة ٗٓ‪ ٔ8‬تكسب أهمٌتها فً التارٌخ المصري من أن الناس ثاروا ضد والً السلطان‬
‫العثمانلً‪ ،‬أي تحدوا السلطان وش لـ وش رؼم مكانته الدٌنٌة المصطنعة‪ ،‬بؤمل إزالة مظالم الـ ٓٓ‪ ٙ‬سنة‬
‫من حكم الممالٌك والـ ٖٓٓ سنة من حكم ال ُؽز العثمانلٌة‪ ،‬وتوهم ثوارها أن الرحمة والحرٌة ستؤتً ممن‬
‫ضحوا ألجله‪ ،‬من محمد علً‪ ،‬لكنهم فوجبوا بالحقٌقة‪.‬‬

‫أخلؾ محمد علً وعده مع عمر مكرم والمشاٌخ‪ ،‬ففرض ضراٌب شدٌدة على الناس لتموٌل معركته مع‬
‫الممالٌك‪ ،‬وفوجا الناس بقسوته التً خببها حتى ٌتمكن من الحكم‪ ،‬وفً ‪ ٔ8ٓ9‬هاج الناس وذهبوا إلى عمر‬
‫مكرم والمشاٌخ ٌشكون ما فرضه محمد علً من ضراٌب جدٌدة فً أراضً الوسٌة واألوقاؾ‪ ،‬وعلم محمد‬
‫علً باجتماعهم فؤرسل لهم دٌوان أفندي لٌدعوهم للقاءه‪ ،‬فؤجابوا‪" :‬ال نذهب إلٌه أبدا ما دام ٌفعل هذه‬
‫الفعال‪ ،‬فإن رجع عنها وامتنع عن إحداث البدع المظالم عن خلق هللا رجعنا إلٌه وترددنا علٌه كما كنا فً‬
‫السابق؛ فإننا باٌعناه على العدل ال على الظلم والجور"؛ فؤخذ الباشا محمد علً ٌدبر فً تفرٌق كلمة العلماء‬

‫(ٖٗ)‬
‫‪ -‬لمراجعة ما سبق ومزٌد من تفاصٌل هذه األٌام انظر‪ :‬عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار‪ ،‬ج ٗ ‪ ،‬تحقٌق عبد الرحٌم عبد الرحمن عبد الرحٌم‪،‬‬
‫دار الكتب والوثابق القومٌة‪ ،ٔ998 ،‬ص ٖ‪9ٕ -9‬‬

‫ٔٓٗ‬
‫وقلوبهم‪ ،‬وبتعبٌر الجبرتً‪" :‬أخذ الباشا ٌدبر فً تفرٌق جمعهم وخذالن السٌد عمر لما فً نفسه منه من عدم‬
‫إنفاذ أؼراضه ومعارضته له فً ؼالب األمور‪ ،‬وٌخشى صولته وٌعلم أن الرعٌة والعامة تحت أمره إن شاء‬
‫جمعهم وإن شاء فرقهم‪ ،‬وهو الذي قام بنصره وساعده وأعانه وجمع الخاصة والعامة حتى ملَّكه اإلقلٌم"‪.‬‬

‫وتحقق له هذا‪ ،‬خاصة لما ٌحمله بعض المشاٌخ من ضؽٌنة على عمر مكرم‪ ،‬فذهب بعضهم إلى الباشا‬
‫فً القلعة‪ ،‬فً حٌن امتنع عمر مكرم وآخرون‪ ،‬وقال لهم محمد علً شاكٌا عمر مكرم‪" :‬فً كل وقت‬
‫ٌعاندنً وٌبطل أحكامً وٌخوفنً بقٌام الجمهور‪ ،‬فقال الشٌخ المهدي هو لٌس إال بنا وإذا خبل عنا فبل ٌسوى‬
‫بشًء"‪ ،‬فواصل محمد علً مستقوٌا بهذا الصدع‪" :‬وأما ما تفعلونه من التشنٌع واالجتماع باألزهر فهذا ال‬
‫ٌناسب منكم‪ ،‬وكؤنكم تخوفونً بهذا االجتماع وتهٌٌج الشرور وقٌام الرعٌة كما كنتم تفعلون فً زمان‬
‫الممالٌك‪ ،‬فؤنا ال أفزع من ذلك‪ ،‬وإن حصل من الرعٌة أمر ما فلٌس لهم عندي إال السٌؾ واالنتقام"‪.‬‬

‫" وإن حصل من الرعٌة أمر ما فلٌس لهم عندي إال السٌؾ واالنتقام" !‬

‫ولما عاد العلماء إلى عمر مكرم وهو ممتلا ؼٌظا من خطوتهم االنفرادٌة بالذهاب لمحمد علً تحججوا‬
‫بما علموه من محمد علً‪ ،‬وأنه "ال نحب ثوران الفتن"‪ ،‬ثم قاموا منصرفٌن "واستمر القال والقٌل‪ ،‬وكل‬
‫حرٌص على حظ نفسه وزٌادة شهرته وسمعته ومظهر خبلؾ ما فً ضمٌره"‪ ،‬بتعبٌر الجبرتً‪ ،‬وفً‬
‫مواجهة أخرى بٌنهم مع استمرار محمد علً فً ابتداع ألوان الف َِرد صاح فٌهم عمر مكرم‪" :‬فقد عاد وزاد‬
‫وأنتم توافقونه وتساٌرونه وال تصدونه وال تصدعونه بكلمة‪ ،‬وأنا الذي صرت وحدي مخالفا وشاذا‪ ،‬ووجَّ ه‬
‫علٌهم اللوم فً نقضهم العهد واألٌمان"‪.‬‬

‫وفرض محمد علً أمواال جدٌدة بحجة إقامة سد ترعة الفرعونٌة وحفر الخلجان والترع وعمارة القلعة‬
‫وتكملة ما نقص من المال المٌري بسبب شراقً األرض‪ ،‬وبعث إلى عمر مكرم لٌوافقه على هذا وٌهدأ‬
‫هٌاج الناس‪ ،‬فامتنع وقال‪" :‬أما ما صرفه على سد الترعة فإن الذي جمعه وجباه من الببلد ٌزٌد على ما‬
‫صرفه أضعافا كثٌرة‪ ،‬وأما ؼٌر ذلك فكله كذب ال أصل له‪ ،‬وإن وجد من ٌحاسبه على ما أخذه من القطر‬
‫المصري من الفرض والمظالم لما وسعته الدفاتر"‪ ،‬فما كان من محمد علً إال أن عزل عمر مكرم من‬
‫منصب نقٌب األشراؾ ومنحه للسٌخ السادات‪ ،‬وأمر بنفً مكرم إلى دمٌاط‪ ،‬وقرَّ ب إلٌه من وجد فً نفسه‬
‫طمع من المشاٌخ(ٗٗ)‪ ،‬وهكذا شتت شمل القوة التً ساعدت فً رفعه‪ ،‬والقوة الوحٌدة التً ٌلجؤ إلٌها الناس‬
‫إلنصافهم منه‪ ،‬فتفشكلت صبلبة الجمع‪ ،‬وانفرد بالناس‪.‬‬

‫❹ تحدٌث المإسسات فً مصر‪ ..‬بتفلٌس المصرٌٌن‬

‫∎ (الحكم المركزي)‬

‫اختلؾ محمد على عمن قبله من الممالٌك فً أنه رؼم احتفاظه بوسابل الممالٌك والمرتزقة فً نزع‬

‫(ٗٗ)‬
‫‪ -‬راجع تفاصٌل األزمة بٌن محمد علً وعمر مكرم والناس فً‪ :‬عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار‪ ،‬ج ‪ ،ٙ‬ص ٕ‪8ٓٓ -99‬‬

‫ٕٓٗ‬
‫المال بكل أسالٌب شٌطانٌة من عروق المصرٌٌن‪ ،‬وأسالٌب التعذٌب والعقاب الداعشٌة مع الفبلحٌن‬
‫وخصومه‪ ،‬وأن مجده الشخصً فوق الجمٌع‪ ،‬إال أن هذا المال لم ٌنفقه كله على مشارٌع مظهرٌة مثل بناء‬
‫المساجد الفخٌمة أو القبلع الخاصة والقصور فقط‪ ،‬وإنما بجانب هذا أنفق على إعادة بناء مإسسات الدولة‬
‫على الطراز العلمً؛ متؤثرا فً هذا بالفرنسٌس ونابلٌون كقدوة له‪ ،‬بل معظم مشارٌعه التحدٌثٌة هً مشارٌع‬
‫الحملة الفرنسٌة فً األساس‪ ،‬وإن كانت ستقوم بها لصالح جٌش الفرنسٌس وتوسعه اإلمبراطوري‪.‬‬

‫واستلم محمد علً مصر "وهً جاٌبة آخرها" بعد سنٌن طوٌلة من تسٌٌر البلد ببل حكومة حقٌقٌة‪،‬‬
‫تحكمها عصابات مملوكٌة تتصارع مع بعضها ومع الوالً العثمانلً والعربان وبقٌة الجالٌات على النفوذ‬
‫والمال دون اهتمام كافً بالزرع والتعلٌم والصحة‪ ،‬فقرر أن تكون زمام األمور كلها فً ٌد واحدة‪ ،‬والعودة‬
‫لنظام الحكومة المركزٌة‪ ،‬باعتبارها أول خطوة تساعده لبلنطبلق باطمبنان للمشارٌع الكبٌرة‪.‬‬

‫وبعد مذبحة القلعة‪ ،‬لملم ملكٌة األراضً فً ٌده وحده لٌقصقص رٌش من تبقى من الممالٌك وكبار‬
‫األؼنٌاء بإلؽاء نظام االلتزام ٗٔ‪ ٔ8‬لٌقطع عنهم مصدر قوتهم وتموٌلهم وهو األراضً‪ ،‬وهو ٌعلم أن‬
‫مشارٌعه لن تظهر ثمارها سرٌعا‪ ،‬ورؼم هذ استمر فٌها‪ ،‬واتضح أنه كان ٌنتوي تحوٌل الحكم إلى وراثً‬
‫لصالح ذرٌته وٌبنً هذا لهم‪ ،‬ف ُنقل عنه‪" :‬إن ثمرة ؼرسً سٌجنٌها أحفادي من بعدي‪ ،‬ألن ببلدا ع َّم فٌها‬
‫االرتباك وساد‪ ،‬ودرست (انداست) فٌها معالم الحكومة وآثارها‪ ،‬وأصبح أهلها فً الدور األول من النشء‪،‬‬
‫وبلؽوا من الجهل درجة ال ٌتسنى لهم معها أن تقوم بعمل نافع‪ :‬ال ٌدخلها التمدٌن إال ببطء(٘ٗ)"‪.‬‬

‫وإن كان خاب ظن محمد علً فً أن التمدٌن سٌدخل مصر ببطء‪ ،‬فمن تعلم من المصرٌٌن دخله‬
‫استوعب التطور بؤسرع مما ظن‪ ،‬فبمجرد اتصالهم بالعلوم الحدٌثة خبلل البعثات خرج منهم األفذاذ من أول‬
‫مرة‪ ،‬مثل رفاعة الطهطاوي وعلً مبارك‪ ،‬ولم ٌستؽرق الموضوع أجٌاال مثلما حدث مع دول أخرى‪،‬‬
‫فكانوا كقطع الذهب المخفً تحت أكوام التراب‪ ،‬بمجرد أن زال التراب‪ ،‬ظهر الذهب سلٌما والمعا‪.‬‬

‫ولم ٌستطع أن ٌبدأ كل إصبلحاته فً وقت واحد‪ ،‬فاستؽرق أول ‪ ٙ‬سنٌن من حكمه فً التخلص من‬
‫مراكز القوى حتى مذبحة ٔٔ‪ ،ٔ8‬أما اإلصبلح اإلداري فبدأ ‪ ٔ8ٕٙ‬لٌرمم اإلدارة المفككة‪ ،‬واقتدى بنظام‬
‫الدٌوان الذي أقامه نابلٌون‪ ،‬فعمل دٌوانا جدٌدا‪ ،‬ومجلس شورى أسماه "مجلس المشاورة الملكً"‪ ،‬أعضاإه‬
‫من اختٌاره‪ ،‬وأنشؤ دواوٌن متخصصة بمثابة الوزارت‪ ،‬كدٌوان التجارة‪ ،‬ودٌوان الترسخانة "الصناعة"‪،‬‬
‫ومجلس المشاورة العسكرٌة‪ٌ ،‬دٌر كل هذا بنفسه‪ ،‬وٌتصرؾ فً مالٌة البلد منفردا(‪.)ٗٙ‬‬

‫علم الباشا الجدٌد أن مشارٌعه االقتصادٌة وتؤسٌس جٌش نظامً‪ ،‬إضافة إلى الهداٌا الضخمة للسلطان‪،‬‬
‫ٌحتاجون أمواال ضخمة‪ ،‬ولن ٌتسنى له جمعها إال بؤن تكون ثروة الببلد كلها تحت ٌده‪.‬‬

‫فبعد نزع السٌطرة على معظم األراضً وإلؽاء نظام االلتزام أصبح هو المالك األوحد لها تقرٌبا‪ ،‬بما‬

‫(٘ٗ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔٗٔ‬
‫(‪)ٗٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖٗٔ‪ٔٗٗ -‬‬

‫ٖٓٗ‬
‫فٌها األوقاؾ اللً أصبحت تحت رعاٌته وتصرفه بدال من العلماء‪ ،‬واستخدم فً ذلك الشدة أحٌانا واإلقناع‬
‫أحٌانا‪ ،‬وجمع كل حجج المِلكٌة من المبلك بطرٌق الحٌلة وأعدمها‪ ،‬ولم ٌستطع الوقوؾ أمامه القضاة‪ ،‬وال‬
‫لقٌت شكاوى الناس مجٌبا‪ ،‬وسمح لعدد قلٌل باالستحواذ على أراضً‪ ،‬خاصة األمراء من عابلته وأصحاب‬
‫الحظوة عنده‪ ،‬والموظفٌن األجانب الذٌن استجلبهم من أوروبا والشام‪.‬‬

‫وعن التصرؾ فً المحصول نصَّب محمد علً نفسه التاجر األكبر والمحتكر األوحد للمحاصٌل‪ ،‬فجزء‬
‫من المحصول الذي ٌنتجه المزارع ٌإخذ منه كضراٌب‪ ،‬والباقً ٌشترٌه هو‪ ،‬ومنعهم من بٌعه للتجار‪ ،‬ثم‬
‫ٌبٌعه لتجار األجانب بثمن أؼلى وتصرفه على المشروعات وتجهٌز الجٌش‪.‬‬

‫وكان ممكن أن تعود هذه اإلصبلحات بتعدٌل حٌاة الفبلحٌن والتخفٌؾ عنهم‪ ،‬لكن العكس هو ما حصل؛‬
‫ألن الفبلحٌن تحملوا فً هذا مؽارم كبٌرة؛ إذ كانت تشترى محاصٌلهم بؤثمان بخسة وموازٌن مؽشوشة‪،‬‬
‫فضبل عن أنهم ال ٌؤخذون ثمنها نقدا‪ ،‬بل معظم األحٌان ٌجبرون على أن ٌبادلوا بها مصنوعات معامل‬
‫الحكومة تروٌجا لها‪ ،‬بحسب وصؾ صاحبً كتاب "مصر من الفتح العثمانً حتى قبٌل الوقت الحاضر"‬
‫الصادر ‪ ،ٔ9ٔٙ‬وأضافا أنه ساعده فً إجبار الفبلحٌن على هذا أنه ٌترك لعمدة كل قرٌة توزٌع األراضً‬
‫على الفبلحٌن حسب اختٌاره‪ ،‬و"ما أشبه الفبلح فً هذه الحالة بالحٌوان تحت رحمة العمدة‪ ،‬أما العمدة فكان‬
‫مثله كمثل السوط فً ٌد المدٌر الذي كان صاحب البؤس والسطوة ال ٌسٌطر علٌه إال الوالً مالك مصر‬
‫الوحٌد"(‪.)ٗ9‬‬

‫ومع هذا‪ ،‬بالػ فً فرض الفرد واإلتاوات على الناس‪ ،‬مرة بحجة تقدٌم مرتبات العسكر‪ ،‬ومرة بحجة‬
‫تموٌل الحمبلت على الوهابٌٌن‪ ،‬حتى قلت المواشً واأللبان واللحوم‪ ،‬وترك عسكره األرناإوط ٌتخطفون‬
‫من أٌدي الفبلحٌن الجبن والسمن والبٌض القلٌل الذي معهم وهم ٌبٌعونه فً سوق إنبابه‪ ،‬وٌسخر الجبرتً‬
‫من األرناإوط بعد أن لبسوا المبلبس الفخٌمة وركبوا الخٌول المسومة بالسروج المذهبة وحولهم العبٌد‬
‫والخدم بقوله‪" :‬ووصل كل صعلوك منهم لما ال ٌخطر على باله أو ٌتوهمه أو ٌتخٌله وال فً عالم الرإٌا"‪،‬‬
‫واصفا إٌاهم بالجهل واالنحراؾ وعدم الدٌن(‪.)ٗ8‬‬

‫وزود زراعة النٌلة‬


‫َّ‬ ‫ونشط محمد علً فً تطوٌر الزراعة‪ ،‬فنشر زراعة صنؾ ممتاز من القطن‪،‬‬
‫والشجر الذي ٌإخذ منه أخشاب كثٌرة بدال من استٌراده‪ ،‬وأكبر مشارٌعه حفر ترعة المحمودٌة‬
‫وبناءالقناطر الخٌرٌة‪ ،‬ولكن أقدم على جرٌمة شنٌعة‪ ،‬أنه طالب بهدم األهرام لتنبنً القناطر بحجارتها بدال‬
‫من أن ٌؤخذ وقتا فً قطع أحجار جدٌدة‪ -‬مثلما هدم األٌوبٌون أهراما صؽٌرة وشرعوا فً هدم أحد األهرام‬
‫الكبٌرة‪ -‬وكادت تحدث فاجعة الزمان‪ ،‬لوال أن ص َّدر هللا تعالى المهندس الفرنسً المسبول عن القناطر‬
‫"لٌنان" باشا وأقنعه بؤن قطع األحجار من المحاجر أسهل وأقل تكلفة من تفكٌك األهرام بؤحجارها‬

‫(‪)ٗ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٘ٗٔ‪ٔٗ8 -‬‬
‫(‪)ٗ8‬‬
‫‪ -‬عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار‪ ،‬ج ‪ ،ٙ‬ص ٗ٘ٗ‪ٗ٘٘ -‬‬

‫ٗٓٗ‬
‫الضخمة(‪.)ٗ9‬‬

‫اهتم إسماعٌل بعده بالزراعة؛ فاستصلح الفبلحون مساحات واسعة حتى زادات مساحة األراضً‬
‫الزراعٌة ٖٓ‪ ،%‬وحفروا ٕٓٓ ترعة‪ ،‬ومدوا آالؾ األمٌال من الطرق الزراعٌة‪ ،‬وأنشؤوآٓ٘ كوبري‬
‫أشهرها كوبري قصر النٌل‪ ،‬وخط حدٌدي من القاهرة ألسٌوط لتسهٌل حركة نقل المحاصٌل‪ ،‬وزادت‬
‫زراعة القصب والقطن خصوصا وقت الحرب األهلٌة األمرٌكٌة اللً منعت قطن أمرٌكا عن العالم‪ ،‬فزادت‬
‫أسعار القطن زٌادة ؼر متوقعة(ٓ٘)‪.‬‬

‫ومن أسوأ ما فعله إسماعٌل فً الزراعة هو جشعه فً تملك األراضً‪ ،‬واؼتصابها من أصحابها بطرق‬
‫ملتوٌة‪ ،‬فتملك ُخمس أراضً مصر الزراعٌة‪ ،‬وتجرع القهر من ورابه الفبلحون الذٌن كدحوا طوٌبل حتى‬
‫ٌصبحوا أصحاب أمبلك صؽٌرة أو مستؤجرٌن‪ ،‬وٌوضح ذلك عبد هللا الندٌم فً مقالة بصحٌفة "الطابؾ"‬
‫بتارٌخ ‪ ،ٔ88ٕ -٘ -ٙ‬تحت عنوان "الفصل الثالث فً سلب األمبلك"‪" :‬كان ٌتلذذ بؤنٌن المظلومٌن وحنٌنهم‬
‫وتضرعهم وتؤوهم وتضجرهم‪ ،‬وٌبتهج بتمثٌل ذلك وتصور وقوعه فً المستقبل"‪.‬‬

‫وٌتابع‪" :‬فبث أعوانه أهل السوء فً الجهات ٌتخٌرون له األرضً الجٌدة للتربة الخصبة الطٌنة القرٌبة‬
‫من المٌاه الوافرة الحاصٌل؛ فانتشروا فً األنحاء تحت اسم العمال المؤمورٌن‪ ،‬وهم اللصوص السارقون من‬
‫كل صخري الفإاد‪ ،‬ردئ المنبت‪ ،‬فانتقوا له خٌر البقاع فً أفضل المواقع‪ ،‬وكلما أنبؤه أحدهم بشًء من ذلك‬
‫طلب إلٌه أهل البلد التابعة له األرض وألزمهم بالبٌع له قهرا على شرط أن ٌقولوا طوعا‪ ،‬فإن لم ٌفوهوا بها‬
‫اختٌارا‪ ،‬أكرهوا علٌها‪ ،‬ثم ٌجٌا بالمشاٌخ أهل البلد وجٌرته‪ ،‬وٌحضروا لدى القاضً ألداء الشهادة بالمباٌعة‬
‫وإسقاط المنفعة على مبلػ معلوم من النقود ال ٌساوي معشار القٌمة الحقٌقٌة‪ ،‬وٌسجل ذلك فً المحكمة‬
‫الشرعٌة على أنهم قبضوا الثمن‪ ،‬فكان الفدان الذي ٌساوي ٓ‪ 9‬جنٌها أو ٓ‪ٌ 8‬ؤخذه من أربابه بـ ٓٔ أو ‪8‬‬
‫جنٌهات بالرؼم عنهم‪ ،‬ثم ال ٌسلم إلٌهم النقود‪ ،‬بل ٌنظر فً شؤنهم فإن كان علٌهم متؤخرات من األموال‬
‫والمقابلة أو أي نوع من أنواع الضراٌب أقٌم ما لهم من الثمن فٌما علٌهم من المتؤخر‪ ،‬وذهبت األرضً من‬
‫أٌدٌهم بدون عوض‪ ،‬فإن لم ٌكونوا كذلك أعطٌت لهم األراضً (أي التً أخذت منهم)‪ ،‬باإلٌجار فً السنة‬
‫التً انتقل فٌها الملك"‪ ،‬وبمثل هذه الممارسات "ٌخرجون من ملكهم كؤن لم ٌكونوا مالكٌه !"‪.‬‬

‫وضرب أمثلة‪" :‬هكذا كان ٌفعل فً جمٌع الجهات التً حدد فٌها ملكا فً األراضً الزراعٌة آلل بٌته‪،‬‬
‫ولقد فعل فً أرض الشباسات وقوتة والبكدوش وسخا وقلٌن وما واالها من الببلد فعبل وحشٌا‪ ،‬وهو أنه بعد‬
‫ما نهبها من أصحابها قلب من أراضً القمح وهو متهٌا إلخراج السنابل ما أراد أن ٌزرعه قطنا‪ ،‬وأجَّ ر‬
‫الباقً ألربابه كل فدان ‪ ٙ‬جنٌه‪ ،‬وخصم بقٌة الثمن فٌما كان علٌهم من أموال تلك السنة‪ ،‬وقس على ذلك‬
‫أراضً الساقٌة وكفر البطٌخ وكفر الحمام وهٌا وأبً كبٌر والقرشٌة وؼٌرها من أراضً فً الوجه القبلً‬
‫التً اؼتصبها من مبلكها ثم أعدمهم فً زراعتها ببل أجرة"‪.‬‬

‫(‪)ٗ9‬‬
‫‪-‬انظر‪ :‬مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓ٘ٔ‪ٖٔ٘ -‬‬
‫(ٓ٘)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر‪ ،‬المرجع السابق ‪ ،‬ص ‪ٕٖ8 -ٕٖٙ‬‬

‫٘ٓٗ‬
‫و"مثل ذلك كان ٌعمل إسماعٌل فً العقارات التً ٌرٌد أن ٌمتلكها لٌنشًء فٌها عمارات وسراٌات كما‬
‫فعل فً جزٌرة العبٌد المجاورة لقصر النٌل (أرض الجزٌرة حالٌا) وؼٌرها من األماكن‪ ،‬حتى صار له‬
‫بط رٌق الملك فً الدٌار المصرٌة مالم ٌكن لسلطان قبله فضبل عن أمٌر كما ٌُعلم من االطبلع على سجبلت‬
‫األمبلك التً امتلكها‪ ،‬وآل إلٌه ملٌون فدان وكسور من أجود األراضً وأخصبها"‪.‬‬

‫وطرٌقة أخرى هً التطفٌش‪ ،‬بمعنى أن من عودهم وعودوه على الفساد "كانوا ٌكلفون األهالً بؤداء ما‬
‫لم ٌكن علٌهم من الضراٌب والرسوم فً ؼٌر وقتها‪ ،‬أو باختراع أعمال تضطرهم على القٌام بها لتكون‬
‫وسٌلة الستعمال وسابل اإلذالل والتضٌٌق حتى ٌحتاج األهالً إلى مفارقة أوطانهم والتخلً عن أمبلكهم‬
‫وتقدٌمها إلى حضرته بزهٌد الثمن ودنا القٌمة"‪.‬‬

‫وٌتابع‪" :‬وال تنسى ما أصٌب به كثٌر من المبلك فً أطراؾ القاهرة عند انتزاع أمبلكهم؛ إذ خرجوا من‬
‫أماكنهم مكرهٌن قبل أن ٌجدوا لهم مسكنا ٌؤوون إلٌه‪ ،‬فؤقاموا أٌام بل أسابٌع فً جوانب الطرق والجسور‬
‫مع نسابهم وأبنابهم وأثاث بٌوتهم على حال ٌنفطر لها الجماد!"(ٔ٘)‪.‬‬

‫ودمـروا كل أشٌابً الحبٌبـــا ِ‬


‫ت‬ ‫نفٌت واستوطن األؼراب فً بلدي‬

‫أم ؼرك البهرج الخـداع موالتً‬ ‫ؾ وفً كـذ ِ‬


‫ب‬ ‫خانتك عٌناكِ فً زٌ ٍ‬
‫(ٕ٘)‬
‫والؽدر حطم أمالً العرٌضا ِ‬
‫ت‬ ‫أصٌـح والسٌؾ مزروع بخاصرتً‬

‫وفً الصناعة‪ ،‬قامت أٌام محمد علً معامل (مصانع) للؽزل ونسج القطن والحرٌر والكتان والصوؾ‬
‫والجوخ والطرابٌش وللسكر والزٌت‪ ،‬إضافة للمصانع الحربٌة كالمسابك ولوازم األسطول‪ ،‬بضؽط شدٌد‬
‫العتصار الفبلحٌن حتى آخر قطرة‪ ،‬لٌنجز أكبر عدد منها فً أقل وقت‪ ،‬وخدمة توسعات الجٌش‪ ،‬وبعض‬
‫هذه الصناعات كانت موجودة قبل محمد علً‪ ،‬لكن القابمٌن علٌها كبَّروها ونشروا مصانعها‪ ،‬أو حسَّنوا‬
‫إنتاجها‪ ،‬وساعدته وفرة االنتاج فً الصرؾ على فتوحاته‪ ،‬وإرضاء إسطنبول بالمال الوفٌر‪.‬‬

‫وكثٌر من المصانع توقفت وأؼلقت أبوابها فً آواخر حٌاته بسبب الحصار الذي فٌرض علٌه من‬
‫السلطان العثمانلً بالتحالؾ مع اإلنجلٌز رؼم كل األموال التً أرسلها له كجزٌة وهداٌا ورشاوى‪ ،‬حتى قال‬
‫مهندس إنجلٌزي زار دار الصناعة ببوالق عقب وفاته إنه وجد فٌها من اآلالت المهملة ما ال تقل قٌمته عن‬
‫ملٌون وٕٓٓ ألؾ جنٌه(ٖ٘)‪ ...‬شقا الفبلحٌن‪.‬‬

‫(ٔ٘)‬
‫‪ -‬عبد هللا الندٌم خطٌب الثورة العرابٌة‪ ،‬نجٌب توفٌق‪ ،‬مكتبة الكلٌات األزهرٌة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٓ‪ٔ8ٕ -ٔ8‬‬
‫*** مسلسل بوابة الحلوانً (تؤلٌؾ محفوظ عبد الرحمن وإخراج إبراهٌم الصحن) قدم إسماعٌل فً صورة الحاكم الوطنً وخفٌؾ الدم بشكل حبب‬
‫مشاهدٌن كثٌرٌن فٌه‪ ،‬ولم ٌتعرض كما ٌجب لجراٌ مه فً نهب األراضً وتسخٌر واستنزاؾ الفالحٌن رجال ونساء وأطفال وطردهم من أراضٌهم‬
‫لٌوزعها على خاصته أو ٌبنً فوقها قصورا وعمارات ٌسكنها المستوطنون األجانب ‪ ،‬وال فً تفضٌله الشركس على المصرٌٌن فً الجٌش‪ ،‬وال‬
‫إنفاقه دٌون مصر على مشارٌع معظمها انتفع به األجانب أكثر من المصرٌٌن حتى كاد ٌعلن اإلنجلٌز إفالسها‪ ،‬وال تعرض لثروته الطابلة التً جعلته‬
‫قارون العصر واستحوذ علٌها بالحرام‪ ،‬وذلك رؼم أن جراٌمه موثقة على ٌد المعاصرٌن له من مصرٌٌن وأجانب‪ ،‬بما فٌهم مقربٌن منه‪.‬‬
‫(ٕ٘)‬
‫‪ -‬قصٌدة أنا ولٌلى‪ ،‬كلمات حسن مروانً‪ ،‬ألحان وؼناء كاظم الساهر‬
‫(ٖ٘)‬
‫‪ -‬مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔ٘ٓ-ٔٗ9‬‬

‫‪ٗٓٙ‬‬
‫ولما تولى حفٌده عباس األول الحكم عام ‪ ٔ8ٗ8‬أؼلق معظم ما تبقى من مصانع ومدارس‪ ،‬وخ َّفض‬
‫الجٌش من ‪ ٔ8‬ألفا إلى ‪ 9‬آالؾ‪ ،‬وأظهر مٌله للنظم التركٌة أكثر من الؽربٌة‪ ،‬وطرد معظم الموظفٌن‬
‫الؽربٌٌن‪ ،‬ولم ٌكن مٌاال للمؽامرات(ٗ٘)‪ ،‬لكن عهده لم ٌخ ُل من بعض المشروعات‪ ،‬ففٌه م َّد أول خط حدٌدي‬
‫سنة ٕ٘‪ ٔ8‬بٌن القاهرة واإلسكندرٌة بتشجٌع من اإلنجلٌز لٌسهل حركة نقل تجارتهم وبرٌدهم القادم من‬
‫الهند إلى اإلسكندرٌة‪ ،‬إضافة إلى تنفٌع مصانع إنجلترا التً اشترى منها عباس عربات القطارات‪ ،‬واستقدام‬
‫خبراء إنجلٌز بمرتبات ضخمة للعمل بها وإدارتها‪ ،‬أما مصر فلم ٌكن لها فابدة كبٌرة منه حٌنها‪ ،‬وانتهت‬
‫حٌاة عباس بالقتل فً قصره ٗ٘‪.ٔ8‬‬

‫ولم ٌخ ُل عهد خلفه سعٌد من مشارٌع كبٌرة‪ ،‬فتواصل مشروع السكة الحدٌد وحفر الترع وؼرس‬
‫األشجار‪ ،‬ورؼم قٌادة األجانب لهذه المشارٌع‪ ،‬إال أنها قامت على أكتاؾ المصرٌٌن أٌضا‪ ،‬ففً مشروع‬
‫السكة الحدٌد مثبل بٌن القاهرة واألسكندرٌة شارك ٕٓ ألؾ عامل مصري ٌقومون باألعمال الشاقة‪ ،‬إضافة‬
‫إلى ٓٓ٘ عامل برٌطانً وٓٓ٘ عامل أوروبً‪ ،‬و‪ ٔ8‬مهندسا برٌطانٌا‪ ،‬وقٌل إنه استعان أٌضا بالمصرٌٌن‬
‫المهندسٌن خرٌجً البعثات إلى أوروبا فً زمن أبٌه‪.‬‬

‫وسعت برٌطانٌا بكافة الطرق لشراء السكة الحدٌد مقابل بعض الدٌون على مصر ولكنها فشلت‪ ،‬وإن‬
‫استولوا على المناصب الهامة فٌها رؼم أن الكثٌر منهم ؼٌر كؾء لها‪ ،‬حتى أنه فً ٌولٌو ‪ ٔ8ٙ9‬تم رفت‬
‫‪ ٕ8‬مهندس برٌطانً لكثرة الشكوى منهم(٘٘)‪.‬‬

‫∎ (تحدٌث التعلٌم)‬

‫وصؾ جمال حمدان حال المصرٌٌن بعد ٖٓٓ عام من حكم العثمانلٌة بؤنهم خرجوا منه كما خرج فتٌة‬
‫أهل الكهؾ من كهفهم المظلم لٌفاجبوا بعالم جدٌد وؼرٌب‪.‬‬

‫ولوال التراث الحضاري الكامن فً المصرٌٌن وترجموه فً الحرؾ التً ظلوا ٌبدعونها فً كل عصور‬
‫االحتبلالت (ما زالت الرموز المصرٌة كزهرة سشن "اللوتس" والجعران خبر والخراطٌش وكرانٌش‬
‫المعابد وعبلمة عنخ (مفتاح الحٌاة) ولفة شعر حتحور ورع المجنح والصقر حور تظهر فً أعمال النجارة‬
‫والحدادة والحلً الرٌفً والنسٌج الٌدوي حتى الٌوم على سبٌل المثال)‪ ،‬ولوال القٌم األصٌلة (ماعت) التً‬
‫حافظت على كثٌر منها عزلتهم داخل األرٌاؾ‪ ،‬لما بقً من هوٌة مصر شًء‪.‬‬

‫فلما أراد محمد علً التحدٌث أرسل بعثات إلى أوروبا‪ ،‬أولها إلٌطالٌا ٖٔ‪ ٔ8‬ثم لفرنسا ‪ ،ٔ8ٔ8‬وتلقاها‬
‫جومار‪ ،‬وهو كما ٌقول عمر طوسون‪ ،‬حفٌد محمد علً‪ ،‬كان عضوا فً حملة نابلٌون على مصر‪ ،‬وشارك‬
‫فً كتاب "وصؾ مصر"‪ ،‬وأقنع طبلب البعثة وخاصة عثمان نور الدٌن المقرب من محمد علً بؤن ٌرسل‬
‫بعثات أكبر لفرنسا(‪ ،)٘ٙ‬وٌُفهم من ذلك أن مشروع السٌطرة الذي فشل نابلٌون فً فرضه على مصر‬

‫(ٗ٘)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖٕٓ‬
‫(٘٘)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الجالٌة البرٌطانٌة فً مصر (٘ٓ‪ ،)ٔ88ٕ -ٔ8‬ناهد السٌد علً زٌان‪ ،‬دار الكتب والوثابق القومٌة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪ٕٔ9 -ٕٔ9‬‬
‫(‪)٘ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬البعثات التعلٌمٌة فً عهد محمد علً ثم فً عهدي عباس األول وسعٌد‪ ،‬عمر طوسون‪، ،‬مطبعة صبلح الدٌن‪ ،‬اإلسكندرٌة‪ ،‬ص ‪ٔٔ -ٙ‬‬

‫‪ٗٓ7‬‬
‫بالسبلح سعى الفرنسٌس لفرضه بجذب وجدان حكام مصر الجدد والمتعلمٌن إلى فرنسا بؤن ٌتعلموا فٌها‪،‬‬
‫فٌرتبطون بثقافتها‪ ،‬وٌنشروها فً مصر‪ ،‬فٌكون لها السٌطرة من وراء الستار بتوجٌه "النخبة" لما ترٌده‬
‫هً‪ ..‬حتى تحٌن لها الفرصة ذات ٌوم لتعود بدعم "أصحاب الثقافة الفرنسٌة" كتجربتها فً احتبلل لبنان‪.‬‬

‫وبعثة سنة ‪ ٔ8ٕٙ‬لفرنسا هً األكبر فً عدد التبلمٌذ‪ ،‬وربما األكبر فً عدد المصرٌٌن‪ ،‬ألن أكثر‬
‫الطبلب فً بقٌة البعثات السابقة من األرمن والترك والجورجٌٌن وعٌلة محمد علً وؼٌرهم من‬
‫مستوطنٌن‪.‬‬

‫وفً هذه البعثات بزغ من المصرٌٌن رفاعة رافع الطهطاوي الذي صار رابدا فً علوم اللؽة والسٌاسة‬
‫والتعلٌم‪ ،‬وعلً باشا مبارك رابد التعلٌم والجؽرافٌا‪ ،‬و محمد علً البقلً الذي صارا مدٌرا لمدرسة الطب‬
‫(عمٌدا)‪ ،‬وأصدر أول مجلة طبٌة باللؽة العربٌة هً "الٌعسوب"‪.‬‬

‫ونبوغ هإالء فً علوم متقدمة بشكل حدٌث‪ ،‬وبلؽة لم ٌسمعوها من قبل‪ ،‬وهً الفرنسٌة‪ ،‬وفً ببلد لم‬
‫ٌطؤوها من قبل معجزة فً حد ذاتها‪ ،‬تحدث عنه الفرنسٌون أنفسهم الذٌن درسوا للبعثة‪ ،‬ومنهم المسٌو‬
‫جومار‪ ،‬وتعجبوا من سرعة استٌعابهم السرٌع للعلوم الجدٌدة‪.‬‬

‫وداخلٌا‪ ،‬سعى محمد علً لتعلٌم المستوطنٌن األجانب وعدد من المصرٌٌن‪ ،‬فهو وإن كان ٌرى أن‬
‫األوروبٌٌن أكثر علما فً زمانه‪ ،‬إال أنه ٌعلم أٌضا أن ال مؤمن لهم‪ ،‬وٌعرؾ الطمع الفرنسً واإلنجلٌزي فً‬
‫مصر‪ ،‬فبل ٌرٌد أن ٌترك لهم األمور لوحدهم‪ ،‬فشجع أولٌاء األمور على التعلٌم بالتكفل بالصرؾ على‬
‫التبلمٌذ وأكلهم وإعطابهم رواتب شهرٌة‪ ،‬وإذا رفض األهالً إرسال أبنابهم للمدارس ٌؤخذهم ؼصبا‪،‬‬
‫وٌقٌدهم بالسبلسل‪ ،‬وتؤسست ٓ٘ مدرسة ابتدابً تعلم فٌها ٔٔ ألؾ تلمٌذ‪ ،‬وخصص مدرسة لتعلٌم أوالده‬
‫وأوالد األؼنٌاء واألجانب تعلم فٌها ٓٓ٘ تلمٌذ‪.‬‬

‫وتؤسست مدارس للطب سنة ‪ ٔ8ٕ9‬لتخرٌج أطبا الجٌش كان لها دور فً لفت نظر المصرٌٌن لخطورة‬
‫التمابم واألحجبة التً أؼرقتهم فً االحتبلل المملوكً والعثمانلً‪ ،‬وتؤسست مدارس للطب البٌطري‬
‫والهندسة والموسٌقى والتعلٌم الفنً واأللسن‪ ،‬ومدرسة األلسن شار علٌه بها رفاعة الطهطاوي لتستؽنً بها‬
‫مصر عن األجانب عندما ٌصبح المصرٌون قادرون على الترجمة ونقل العلوم‪ ،‬وظهرت نجابة التبلمٌذ فً‬
‫االختبارات رؼم حداثة رجوع المصرٌٌن للتعلٌم‪.‬‬

‫لكن عباس توقؾ عن إرسال البعثات‪ ،‬وكذلك سعٌد الذي أهمل التعلٌم؛ ألنه اعتقد أن فتح المدارس ٌنبه‬
‫عقول عامة الناس فٌجعل قٌادتهم أمرا عسٌرا(‪.)٘9‬‬

‫فلما استلم إسماعٌل حكم مصر كانت معظم المدارس مقفولة مثل المصانع‪ ،‬ففكر فً العودة لتعلٌم أهل‬
‫الببلد‪ ،‬وساعده فً ذلك "خصب مدارك المصري وقوة حافظته التً ال تضارع فً أكثر الشعوب‪ ،‬ولما له‬

‫(‪)٘9‬‬
‫‪ -‬مصر من الفتح العثمانً إلى ما قبٌل الوقت الحاضر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘٘ٔ‪ ،ٔ٘8 -‬و‪ٕٓ9‬‬

‫‪ٗٓ8‬‬
‫من المجد األثٌل والباع الطوٌل والمٌل القدٌم للعلوم والمعارؾ"‪ ،‬بحسب تعبٌر مإلفً كتاب " مصر من‬
‫الفتح العثمانً إلى ما قبٌل الوقت الحاضر"‪ ،‬ووصل عدد التبلمٌذ إلى ‪ ٔٗٓ,999‬ألفا‪ ،‬وعدد المدارس‬
‫‪ ،ٗ8ٔ9‬بخبلؾ األزهر الشرٌؾ والمدارس الحربٌة والمدارس األجنبٌة‪ ،‬وزادت مٌزانٌة التعلٌم إلى ٓٗ‬
‫ألفا‪ ،‬و أنشؤ علً مبارك دار الكتب جمع فٌها كتب التراث‪ ،‬واشترى كثٌرا من نفابس الكتب(‪ ،)٘8‬وشجع‬
‫إسماعٌل المدارس التابعة للكنٌسة المصرٌة‪ ،‬وأمر بتخصٌص بعض المال الحكومً ألجلها(‪ )٘9‬لتنافس‬
‫مدارس اإلرسالٌة اإلنجٌلٌة التابعة إلنجلترا بعد تدهور عبلقته بها‪.‬‬

‫❺ استنزاؾ المصرٌٌن فً حروب ؼٌرهم بالخارج‬

‫بعث محمد علً جٌشا من ‪ 8‬آالؾ مرتزق ألبانً معززا بؤسطول بحري‪ ،‬تكلؾ الكثٌر من دم وعرق‬
‫المصرٌٌن فً حرب لٌست حربهم‪ ،‬محاربة الوهابٌٌن سنة ٔٔ‪ ٔ8‬لصالح السلطان العثمانلً لٌكسب محمد‬
‫علً رضاه عن والٌته مصر‪ ،‬لكن انهزموا‪ ،‬وقتل العرب منهم ٗ آالؾ‪ ،‬وهرب الباقً‪ ،‬فكانت نكبة قرر‬
‫بعدها محمد علً نفً صالح قوج ربٌس األلبان (األرناإوط) من مصر بعد ما أظهره جنوده من جبن‪.‬‬

‫وأرسل جٌشا آخر للجزٌرة بقٌادة ابنه طوسون وفشل أٌضا‪ ،‬فراح للجزٌرة بنفسه‪ ،‬وانتصر على عبد هللا‬
‫بن سعود فً معركة بٌصل سنة ٘ٔ‪ ،ٔ8‬خاصة وأن سعود بطل الوهابٌٌن مات وهو هناك(ٓ‪.)ٙ‬‬

‫أما بعد أن نجح فً تكوٌن جٌش نظامً‪ ،‬إضافة لنجاحاته فً مشارٌع الصناعة وتوسٌع الزراعة‪ ،‬ومع‬
‫مع زٌادة الصراعات داخل السلطنة العثمانٌة وقلقه من ؼدر السلطان‪ ،‬فكل هذا أؼراه بعمل فتوحات لنفسه‪،‬‬
‫فؽزا الشام ثم تركٌا نفسها‪ ،‬وأوشك جٌش محمد علً بقٌادة ابنه إبراهٌم أن ٌصل لؤلستانة لوال أن هرول‬
‫العثمانلً لئلنجلٌز والروس وبروسٌا (ألمانٌا فٌما بعد) والنمسا لٌنجدوه‪ ،‬فعرضوا على محمد علً أن ٌكتفً‬
‫بمصر والشام‪ ،‬لكنه رفض وأصر على استمرار قتال السلطنة‪ ،‬خصوصا بعد أن سلَّم أحمد باشا قابد‬
‫البحرٌة العثمانلٌة األسطول لمحمد علً لخبلفات بٌنه وبٌن خسرو باشا الصدر األعظم(ٔ‪.)ٙ‬‬

‫وبعد رفض محمد علً‪ -‬اعتمادا على وعود فرنسٌة بمساعدته ضد تركٌا وإنجلترا‪ -‬تدخلت إنجلترا فً‬
‫تؤلٌب القباٌل الشامٌة علٌه‪ ،‬واستؽلوا أن إبراهٌم فرض نزع سبلح القباٌل وتجنٌد أوالدهم فً الجٌش وكثرة‬
‫الضراٌب فانضموا إلنجلترا ضده‪ ،‬واستؽلو حصار أساطٌل الحلؾ اإلنجلٌزي الروسً النمساوي لسواحل‬
‫الشام فً ضرب الجٌش داخل الشام(ٕ‪ ،)ٙ‬فكان تؤثٌر ثورة الشوام أكبر من تؤثٌر جٌوش الحلفاء‪ ،‬وتسببت فً‬
‫خسارة جٌش محمد لحوالً ثلثً عدد الجنود‪ ،‬وبذلك خذله الجمٌع‪ ،‬بما فٌهم فرنسا التً انتطر دعمها‪.‬‬

‫(‪)٘8‬‬
‫‪ -‬مصر من الفتح العثمانً إلى ما قبٌل الوقت الحاضر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٕ٘‬
‫(‪)٘9‬‬
‫‪ -‬أقباط ومسلمون من الفتح العربً إلى عام ٕٕ‪ ،ٔ9‬جاك تاجر‪ ،‬مإسسة هنداوي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٕٔٓ‬
‫(ٓ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖٔٔ -ٕٔٙ‬‬
‫*** تقع كتب فً خطؤ إطالق صفة "الجٌش المصري" على الجٌش الذي أرسله محمد علً لمحاربة الوهابٌٌن‪ ،‬واألصح أن ٌُقال قوات محمد علً‪،‬‬
‫أو األرناإوط‪ ،‬ألنه لم ٌكن بها مصري واحد‪ ،‬فتجنٌد المصرٌٌن فً العصر الحدٌث لم ٌبدأ قبل ٕٗ‪ ،ٔ8‬وقبل ذلك كان كل الجٌش ممالٌك وألبان ومن‬
‫السودان وأجانب آخرٌن‪ ،‬انظر‪ :‬لمحة عامة إلى مصر‪ ،‬كلوت بك‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪٘ٓٓ -ٗ99‬‬
‫(ٔ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔ‪ٔ89 -ٔ9‬‬
‫(ٕ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬تفرق كلمة الشام سالح ٌجٌد استخدامه دابما أعداء مصر ضدها‪ ،‬سواء وهً حرة أو محتلة‪ ،‬كما تابعنا فً أمثلة تارٌخٌة أٌام تحوتمس‬
‫ورمسٌس‪ ،‬وما حدث مع محمد علً حلقة من حلقات مستمرة حتى اآلن‪.‬‬

‫‪ٗٓ9‬‬
‫وهذا هو أول تحالؾ دولً ضد مصر فً العصر الحدٌث‪ ،‬وسٌستمر للوقت الحاضر‪ ،‬بل لٌوم القٌامة‪،‬‬
‫مشترك فٌه العربً والعجمً‪ ،‬الجار والبعٌد‪ ،‬المسلم والمسٌحً والٌهودي والملحد‪ ،‬من ٌقول إنه حامً‬
‫اإلسبلم ومن ٌهتؾ بعبادة الشٌطان‪...‬من ٌقول إنه صدٌق أو حلٌؾ أو ٌجهر بعداوته‪.‬‬

‫وانسحب الجٌش موزعا ٖ فٌالق بقٌادة إبراهٌم وسلٌمان الفرنساوي وأحمد المنكلً‪ ،‬ووقع االنسحاب فً‬
‫ٓٗ‪ ٔ8‬بؤشنع طرٌقة‪ ،‬عدد الجٌش ٓ‪ 9‬ألفا‪ٌ ،‬تبعهم آالؾ األفراد من األسر المصاحبة لموظفٌن وؼٌرهم‪،‬‬
‫قطعوا مسافات شاسعة قاسوا فٌها وٌبلت الجوع والعطش والتعب‪ ،‬تتبلقاهم فً كل منطقة ٌصلون إلٌها‬
‫هجمات القباٌل‪ ،‬فتساقط كثٌر منهم موتى فً الطرٌق‪ ،‬وخسر فٌلق المنكلً نصؾ رجاله جوعا وعطشا‬
‫وتحت ضربات العربان‪ ،‬وفقد فٌلق الفرنساوي ٓٓ٘ٔ‪ ،‬ومات عدد كبٌر من فٌلق إبراهٌم من الجنود‬
‫والنساء واألطفال‪ ،‬وعاد إلى مصر ٓٗ ألفا فقط‪ ،‬أي فقد ٖٓ ألؾ جندي فً االنسحاب‪ ،‬بخبلؾ المدنٌٌن‬
‫الذٌن لم ٌشملهم حصر دقٌق‪ ،‬وأورد مورٌٌه إحصاء مختلفا مروعا قال فٌه إن عدد أفراد الجٌش والعاببلت‬
‫المصاحبة لهم ٕٓٓ ألؾ شخص‪ ،‬لم ٌرجع منهم سوى ٓ‪ ٙ‬ألفا‪ ،‬أي استشهد ٓٗٔ ألفا‪ ،‬وعلَّق على هذا‬
‫االنسحاب وضحاٌاه بؤنه من أفظع ما روي عن فجابع تقهقر الجٌوش فً التارٌخ(ٖ‪.)ٙ‬‬

‫اضطر محمد علً لقبول عرض جدٌد عرؾ بمعاهدة لندن سنة ٔٗ‪ ٔ8‬سحبت امتٌازات من العرض‬
‫األول‪ ،‬وتضمن أن أوالد محمد علً ٌتوارثون حكم مصر‪ ،‬وفرض علٌه شروطا تإكد تبعٌته وذرٌته‬
‫لؤلستانة‪ ،‬منها أن ٌذهب كل والً جدٌد إلى القصر السلطانً الستبلم فرمان التعٌٌن‪ ،‬وأن تقدم مصر خراجا‬
‫سنوٌا‪ ،‬وتلتزم باالتفاقٌات الخاصة بتركٌا مع الدول األجنبٌة‪ ،‬وأن ٌنخفض الجٌش إلى ‪ ٔ8‬ألفا‪.‬‬

‫وفً أٌام عباس األول‪ ،‬وكان موالٌا للسلطان العثمانً‪ ،‬أرسل حملة من الجٌش إلى ثلوج القرم لنجدة‬
‫السلطان سنة ٖ٘‪ ٔ8‬بناء على طلب العثمانً فً حرب القرم بٌن تركٌا وروسٌا‪ ،‬والؽرٌب أن السلطان‬
‫العثمانً كان استعان بروسٌا نفسها ضد جٌش محمد علً فً ٖٔ‪ ٔ8‬خبلل حروب الشام‪.‬‬

‫والمصرٌون أول من عبروا نهر الدانوب سباحة إلى مٌدان القتال لبلشتباك مع الروس‪ ،‬وكانوا ٓٗ‬
‫مصرٌا‪ ،‬وقتلوا ٓٔ جنود روس‪ ،‬وتبعهم الجنود األلبان‪ ،‬وفً اآلخر عبر الجنود األتراك(ٗ‪.)ٙ‬‬

‫وقال األمٌرال اإلنجلٌزي سلٌد الذي شارك فً هذه الحرب فً كتابه "تركٌا وحرب القرم" عن الجنود‬
‫المصرٌة‪" :‬هإالء هم الجنود الذٌن ألقً القبض علٌهم بؽلظة وانتزعوا من عقر دورهم وصٌاح أوالدهم من‬
‫حولهم ٌطن فً آذانهم‪ ،‬وانتقلوا من ضفاؾ فروع النٌل المضٌبة بنور الشمس إلى ؼدران نهر الدانوب‬
‫القاتمة‪ ،‬ومع هذا ظلوا إلى نهاٌة الحرب محتفظٌن ببسالتهم وقوة روحهم العسكرٌة‪ ،‬وامتازوا دوما سواء‬
‫أكان ذلك فً بلؽارٌا أم ؼٌرها فً الحروب‪ ،‬وأظهروا فً كل وقت وآن جلدا وصبرا عند التعب والحرمان‪،‬‬

‫(ٖ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬عصر محمد علً‪ ،‬عبد الرحمن الرافعً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٖٓ‪ٖٓٗ -‬‬
‫*** معظم اإلعالم ٌتناول ما ٌصفها بإنجازات محمد علً فً الفتوحات الخارجٌة بالمدح واالفتخار‪ ،‬وال ٌظهرون للناس الفواجع التً حصدت أرواح‬
‫المصرٌٌن وأموالهم فٌها ‪ ،‬وخاصة أنها لم تكن أولوٌة للمصرٌٌن أساسا ومجرد مطمع شخصً لمحمد علً‪ ،‬فما رأت الدنٌا نخبة مسلطة على‬
‫شعبها فً تلمٌع األجانب والمحتلٌن على حساب روحه وأرضه مثل هإالء الؽارقٌن فً بتمجٌد جرابم األجنبً مهما كانت‪.‬‬
‫(ٗ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬الجٌش المصري فً الحرب الروسٌة المعروفة بالقرم (ٖ٘‪ ،)ٔ8٘٘ -ٔ8‬عمر طوسون‪ ،‬ص ٖ‪ٖٔٔ -ٖٔٓ ،ٔٓٙ ،9ٗ -9‬‬

‫ٓٔٗ‬
‫ؼٌر أنه وٌاللحسرة والندم‪ ،‬نصفهم ألقى آخر نظرة إلى مصر لدى سفره منها(٘‪.")ٙ‬‬

‫وهذا ٌعنً استشهاد اآلالؾ من المصرٌٌن ودفنهم فً الثلوج أو ترك جثثهم عراة فً تلك الحرب القذرة‬
‫التً لٌس للمصرٌٌن فٌها أي مصلحة‪ ،‬فعدد من أرسلهم عباس ومن بعده سعٌد لثلوج القرم ٔ٘ ألؾ ضابط‬
‫وجندي‪ ،‬بخبلؾ السفن والمعدات والذخٌرة واألموال التً أرسلت باسم تبرعات‪ ،‬وإضافة لشهداء مصر فً‬
‫مٌدان القتال ؼرقت سفٌنتان علٌها ٕٓ‪ ٔ9‬من رجال الجٌش‪ ،‬ولم ٌن ُج منهم إال ٖٓٔ(‪.)ٙٙ‬‬

‫ولما استكمل إسماعٌل خطٌبة سعٌد فً استمرار االقتراض بنهم ألجل المشارٌع االستثمارٌة‪ ،‬أؼرته هذه‬
‫المشروعات ومدٌح القناصل له أن ٌكون من "الفاتحٌن" مثل قادة أوروبا‪ ،‬ومثل محمد علً‪ ،‬فتوؼل فً‬
‫السودان توؼبل شدٌدا حتى وصل للصومال‪ ،‬وضم أرٌترٌا بعد ما اشترى بعض مدنها من السلطان‬
‫العثمانلً‪ ،‬وأهدر مزٌدا من المال والقروض‪ ،‬واألهم أهدر الرجال‪.‬‬

‫وسعى لضم الحبشة‪ ،‬لكن صعوبة تضارٌسها ساعدت النجاشً فً عمل كمابن تسببت فً استشهاد كثٌر‬
‫من جنود الجٌش وكفاءاته‪ ،‬ومن بٌن من استشهدوا طبٌب الجٌش محمد علً البقلً باشا سنة ‪ ٔ89ٙ‬الذي‬
‫تعلم فً إحدى بعثات محمد علً وصار أنبػ جراحً عصره‪ ،‬حتى أنه حصلت منافسة بٌنه وبٌن األطباء‬
‫األوروبٌٌن فتسببوا فً نقله من القصر العٌنً قبل أن ٌعود مرة أخرى وٌترأسه(‪.)ٙ9‬‬

‫فلم ٌتراجع إسماعٌل عن حلمه بالسٌطرة على الحبشة‪ ،‬وأرسل حمبلت أخرى تعرضت لنفس المصٌر‪،‬‬
‫وقُتل آالؾ المصرٌٌن‪ ،‬خاصة وأن الجٌش لم ٌكن مدربا على الحرب فً هذه الببلد‪ ،‬ولم ٌكن واضحا‬
‫الهدؾ الوطنً من ورابها‪ ،‬وضمن ضباط هذه الحرب العبثٌة أحمد عرابً‪ ،‬وتركت فٌه أثرها‪.‬‬

‫وحرب الحبشة من أسباب ضٌاع حصة مصر فً قناة السوٌس لما م َّد إسماعٌل عٌنه الطامعة للخارج‬
‫فضٌع الداخل‪ ،‬وذلك أنه عند تجهٌز الحملة الثانٌة كان مركز مصر المالً فً منتهى الخطورة‪ ،‬ورؼم هذا‬
‫تفاوض مع بنك روتشٌلد‪ -‬المعروفة عابلته حتى الٌوم بؤنها "قرون الشٌطان"‪ ،‬على قرض جدٌد بل وعلى‬
‫بٌع أسهم قناة السوٌس‪ ،‬وخبلل ٖ أٌام سقطت األسهم فً ٌد إنجلترا (بنك روتشٌلد)(‪ ،)ٙ8‬فالمستشارٌن‬
‫األجانب ٌزٌنون للخدٌوي المشارٌع والمؽامرات التً تتطلب القروض الباهظة‪ ،‬والدول والبنوك الخارجٌة‬
‫تظهر فً ساعة الصفر للم الحصاد‪.‬‬

‫وبذلك ٌكون المصرٌون خاضوا أٌام محمد علً وحتى إسماعٌل حروبا فً الشام والقرم (روسٌا)‬
‫والسودان والحبشة‪ ،‬بخبلؾ دفع تكالٌؾ حروب المرتزقة والسودان فً الجزٌرة العربٌة والٌونان‬
‫والمكسٌك‪.‬‬

‫(٘‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕٕ٘‪ٕٕٙ -‬‬
‫(‪)ٙٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٔ9ٔ ،ٕٗٙ‬‬
‫(‪)ٙ9‬‬
‫‪ -‬عصر محمد علً‪ ،‬عبد الرحمن الرافعً‪ ،‬ط ٘‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ98٘ ،‬ص ٔ‪ٗ9ٕ -ٗ9‬‬
‫(‪)ٙ8‬‬
‫‪ -‬مصر وكٌؾ ؼدر بها‪ ،‬ألبرت فارمان‪ ،‬ترجمة عبد الفتاح عناٌت‪ ،‬الزهراء لئلعبلم العربً‪ ،‬طٔ‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ99٘ ،‬ص ٕٕٔ‪ٕٕٕ -‬‬

‫ٔٔٗ‬
‫فالفبلح المقاتل مونتو(‪ ،)ٙ9‬عاد له سبلحه‪ ،‬وعاد لساحة القتال‪ ،‬فلتفرحً ٌا سخمت(ٓ‪ ،)9‬وصبً ؼضبك‬
‫على أعدابه‪ ...‬ولكن "استنً"‪ ..‬فـ مونتو أرسلوه إلى ساحة ؼٌر ساحته‪ ،‬بل ساحة محتلٌه‪ ،‬لمصالحهم هم‬
‫ولٌس لمصلحة مصر‪ٌ ،‬ستنزفون دماءه فً المٌدان كما استنزفوا عرقه فً الؽٌطان‪ ..‬ولكن ع َّل وعسى‬
‫تكون "رب ضرة نافعة"‪ ..‬فمدام عاد له سبلحه‪ ،‬فستعود له ساحته ٌوما‪ ..‬وٌرقص قلب ماعت من جدٌد‪.‬‬

‫❻ نزؾ المصرٌٌن فً السخرة لألجنبً‬

‫ٌقولون اآلن‪ :‬بنى محمد علً القناطر وشق الترع‪ ،‬وحفر سعٌد القناة ومد السكة الحدٌد‪ ،‬وأقام إسماعٌل‬
‫المبانً الفخٌمة واستصلح األراضً‪ ...‬وال ٌقولون أن من بنى وشق وحفر وأقام واستصلح ذاك الفبلح‬
‫المنفً فً بلده على ٌد االحتبلل‪ ..‬ومنفً من ذاكرة أحفاده على ٌد الؽفلة والنكران‪.‬‬

‫ٌسجل صاحبا كتاب "مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر" أن مشروع حفر وبناء القناطر‬
‫الخٌرٌة الذي بدأ ٖٖ‪ ٔ8‬قام على أكتاؾ الفبلحٌن بنظام السخرة‪ ،‬وخبلل العمل الشاق انتشر بالبلد وباء‬
‫ٖ٘‪ ٔ8‬ففتك بعدد كبٌر من العمال المصرٌٌن‪ ،‬وتكلؾ حفر القناطر ٗ ملٌون جنٌه وفق تقدٌر السٌر‬
‫"ول ُككس"(ٔ‪ ،)9‬ومن أسباب هذا األجور الضخمة التً أخذها المهندسون الفرنساوٌون‪ ،‬فً حٌن ٌعمل معظم‬
‫المصرٌٌن بالسخرة‪.‬‬

‫وتوأم هذا المشروع هو حفر ترعة المحمودٌة‪ ،‬ووصؾ الجبرتً عملٌة جمع الناس بؤن محمد علً "أمر‬
‫حكام الجهات بجمع الفبلحٌن‪ ،‬فكانوا ٌربطونهم قطارات بالحبال‪ ،‬وٌنزلون بهم المراكب‪ ،‬وتعطلوا عن زرع‬
‫الدراوي ]الدرة[ الذي هو قوتهم‪ ،‬وقاسوا شدة بعد رجعوهم‪ ،‬ومات الكثٌر منهم من البرد والتعب‪ ،‬وكل من‬
‫سقط أهالوا علٌه تراب الحفر ولو فٌه الروح" (كما روى ابن تؽري بردي عن دفنهم أحٌاء تحت التراب‬
‫خبلل العمل بالسخرة فً بناء المبانً الفخمة أٌام االحتبلل المملوكً) فلٌس عند الباشا وقت لعبلجهم أو‬
‫إرجاعهم لببلدهم ٌقضون اللحظات األخٌرة وسط أهلهم وٌدفنون بجانبهم‪.‬‬

‫أما من عاد لببلده فتلقاه الخراب لطول ؼٌابه عن زرعه‪ ،‬ولم ٌرحمهم جامع الضراٌب فـ"طولبوا بالمال وزٌد‬
‫علٌه عن كل فدان حمل بعٌر من التبن وكٌلة قمح وكٌلة فول وأخذ ما ٌبٌعونه من الؽلة بالثمن الدون"(ٕ‪.)9‬‬

‫وكشاهد عٌان قال القنصل الفرنسً وقتها مانجان إنه مات من الفبلحٌن فً حفر ترعة المحمودٌة ٕٔ ألؾ‬

‫(‪)ٙ9‬‬
‫‪ -‬مونتو هو رب الحرب ورمز المقاتل الشجاع فً الحضارة المصرٌة‪ ،‬وعلى اسمه تسمى منتوحتب الثانً (أي مونتو راضً) الزعٌم المصري‬
‫العظٌم الذي أعاد للبالد األمن والسكٌنة بعد أن حررها من أعدابها وأعاد لهما حكمها المركزي فً األسرة ٔٔ فً الدولة الوسطى‪.‬‬
‫(ٓ‪)7‬‬
‫‪ -‬سخمت (سخمة) من رموز الحرب أٌضا‪ ،‬ودورها أن تنزل بلعناتها من األو ببة والؽضب والهزٌمة على أعداء مصر‪ ،‬وهً الصورة أو النسخة‬
‫سخام"‪.‬‬
‫المحاربة لحتحور وإٌسة (إٌزٌس)‪ ،‬وربما من اسمها أخذنا الدعوة‪" :‬جاك ُ‬
‫(ٔ‪)7‬‬
‫‪ -‬مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘٘ٔ‪ٔ٘ٗ -‬‬
‫***إحقاقا للتارٌخ نذكر أن محمد علً هو صاحب مشروع القناطر الخٌرٌة وترعة المحمودٌة وأنهما مشروعان جٌدان‪ ،‬وإحقاقا للتارٌخ نقول إن‬
‫مصر لم تكن تحتاج الحتالل حتى تقوم بمشارٌع ري ممٌزة‪ ،‬فهً أجادت الكثٌر منها وهً حرة‪ ،‬وإحقاقا للتارٌخ أٌضا وإنصافا لألجداد نذكر فضل‬
‫األجداد فً المشروعات التً قامت أٌام االحتالل‪ ،‬فتحت حجارة ومٌاه هذه المشارٌع راح عدد كبٌر منهم شهدا ومصابٌن فً العمل الشاق‪ ،‬وحتى‬
‫عواٌد المشارٌع استفاد منها األجانب‪ ،‬ولم ٌستفد منها المصرٌون إال نادرا أو فً وقت متؤخر بعد قٌامهم بالثورات‪ ،‬ومن أكبر وصمات العار فً‬
‫جبٌن المصرٌٌن أن تظل هذه المشارٌع بؤسامً من احتلوهم‪.‬‬
‫(ٕ‪)9‬‬
‫‪ -‬عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار‪ ،‬ج ‪ ،9‬ص ٕٕ٘ وٕٗ٘‪ ،ٕ٘٘ -‬وٗٔ‪ ،ٙٔ٘ -ٙ‬و‪ ،ٙٔ9 -ٙٔ8‬و ‪ٕٙ9‬‬

‫ٕٔٗ‬
‫فً مدة ٓٔ شهور فقط من قلة الزاد والمبونة أو من شدة التعب وسوء المعاملة التً عاملهم بها عسكر‬
‫الوالً إلجبارهم على العمل من الفجر حتى ٌرخً الظبلم ستاره‪ ،‬ولم ٌبذل الباشا جهدا فً إعادتهم ألهلهم‬
‫لٌدفنوهم‪ ،‬فدفنوا تحت أكداس التراب الذي كانوا ٌرفعونه من قاعها‪ ،‬واشتؽل فٌها ٖٖٔ ألؾ فبلح(ٖ‪ ،)9‬وهو‬
‫عدد ضخم مقارنة بعدد السكان وقتها‪ ،‬وبمجرى أرواحهم المعذبة إلى السماء جرت مٌاهها إلى اإلسكندرٌة‪،‬‬
‫وأورقت من دماهم وعرقهم أشجار العمار الكبٌر الذي شهدت اإلسكندرٌة والبحٌرة‪ ،‬بعد أن تسهَّل وصول‬
‫الماء والمبلحة إلٌها‪ ،‬وانتعش تجارها‪ ،‬لكن الفضل‪ -‬كالعادة‪ -‬منسوب إلى األجانب الذٌن تمتعوا هم بمعظم‬
‫هذا العمار ال الفبلحٌن‪ ،‬فٌقال اآلن إن األجانب "عمروا" اإلسكندرٌة‪.‬‬

‫ولكن قال الرافعً إن‪" :‬الفضل فً ذلك العمران ٌرجع لمن حفروا بؤٌدٌهم ترعة المحمودٌة‪ ،‬وبذلوا دمهم‬
‫وأرواحهم حتى جرى ماء النٌل فً تلك النواحً حامبل إلى الخبلبق والناس واألراضً عناصر الخصب‬
‫والحٌاة‪ ،‬فإذا تؤملت فً كل ذلك فاذكر تضحٌات اآلباء واألجداد‪ ،‬ومبلػ ما بذلوه فً سبٌل رفاهٌة األجٌال‬
‫األعقاب‪ ،‬وتمهل فً سٌرك قلٌبل‪ ،‬واستمطر الرحمة على من استشهد فً سبٌل ذلك العمران(ٗ‪.")9‬‬

‫وتلى قول المعري‪:‬‬

‫األرض إال من هذه األجســـاد‬ ‫خؾ الوطؤ ما أظن أدٌم‬

‫هــــــوان اآلبـــــاء واألجـــــداد‬ ‫وقبٌح بنا وإن قدم العهد‬

‫وبعد سنٌن طوٌلة قال الشاعر محمود عبد الظاهر(٘‪:)9‬‬

‫على جـــــــــدودك تـــدوس‬ ‫خؾ على األرض دوسك‬

‫وطً علـى األرض بوس‬ ‫األرض وجنة عروســــــــة‬

‫(ٖ‪)9‬‬
‫‪ -‬عصر محمد علً‪ ،‬عبد الرحمن الرافعً‪ ،‬ط ٘‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬القاهرة‪ٗ9ٔ -ٗ88 ،‬‬
‫(ٗ‪)9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫(٘‪)9‬‬
‫‪ -‬تتر مقدمة مسلسل "الناس ي كفر عسكر"‪ ،‬كلمات محمود عبد الظاهر‪ ،‬ألحان محمد علً سلٌمان‪ ،‬ؼناء علً الحجار‬

‫ٖٔٗ‬
‫المحمودٌة "ترعة الشهداء" فً ٓ‪ ٔ89‬على جانبٌها البٌوت واألشجار طارحة من أجساد الفبلحٌن (الصورة‪ :‬مكتبة الكونجرس(‪))9ٙ‬‬

‫وواصل بعض خلفابه "المشروعات الكبرى" دون حساب تؤثٌرها على أهل البلد ومستقبلهم‪ ،‬وأشهرها‬
‫حفر قناة السوٌس‪ ،‬وبدأ حفرها ‪ ٔ8٘9‬بؤٌدي مبات آالؾ الفبلحٌن من قبل حفر الترعة البلزمة إلمدادتهم‬
‫بمٌاه عذبة لسقاٌتهم‪ ،‬مثلما حدث وأخذوا لحفر ترعة المحمودٌة دون توفٌر ماء الشرب البلزم لهم‪.‬‬

‫وللتسرٌع فً إنجاز الحفر‪ ،‬حث دٌلٌسبس الوالً سعٌد على اإلكثار من العمال المسخرٌن بدون مراعاة لعدد‬
‫معٌن؛ فصار ٌساق إلى القناة ٕ٘ ألؾ فبلح وبعد ٖ أشهر ٌحل محلهم ٕ٘ ألفا آخرٌن وهكذا‪ ،‬بدون أجر‪،‬‬
‫ٌشتؽلون طول الٌوم تحت مراقبة حراس مسلحٌن بالسٌاط‪ ،‬عاشوا على الشظؾ‪ ،‬وتساقطوا شهداء ٌقاسون‬
‫الجوع والظمؤ والعري وحر الصٌؾ وقر الشتاء وإجهاد الجسم والبإس‪ ،‬وكلما هلك منهم أحد أتوا بؽٌره‪،‬‬
‫ولو تم مشروع حفر الترعة على حسب االتفاق األصلً لسبب نقصا عظٌما فً تعداد سكان الببلد‪ ،‬بتعبٌر‬
‫عمر اإلسكندري وسلٌم حسن(‪.)99‬‬

‫وتابعا أنه شاع هذا األمر وأصبح من الفضاٌح حتى فً مصر‪ ،‬وتناولته ألسنة المعارضٌن لحفر القناة‬
‫وخاصة إنجلترا‪ ،‬وكان اللورد بالمرستون ربٌس الوزارة اإلنجلٌزٌة فً ذاك الحٌن ٌعارض أمر تسخٌر‬
‫الفبلحٌن ألنه نوع من االسترقاق‪ ،‬والحقٌقة ٌعارضه ألنه ال ٌرٌد أن ٌرى النفوذ الفرنسً ٌسود فً مصر‪،‬‬
‫لذلك أوعز إلى السفٌر اإلنجلٌزي فً القسطنطٌنٌة أن ٌحتج على تسخٌر األهالً فً األراضً العثمانٌة‬
‫لفابدة شركة أجنبٌة(‪.)98‬‬

‫‪/https://www.loc.gov/item/ٕٓٔ9ٙ٘9ٕٔ9 Alexandrie, le canal Mahmoudieh -‬‬


‫(‪)9ٙ‬‬

‫(‪)99‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٓٔ‪ٕٖٔ -‬‬
‫(‪)78‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٖٕٔ‪ ،‬ومصر وكٌؾ ُؼدر بها‪ ،‬ألبرت فارمان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٕٕ‪ٕٕ8 -‬‬
‫*** عرض التلفزٌون المصري (ال أتذكر التارٌخ بالٌوم ولكنه بعد ٕٗٔٓ ) فٌلما وثابقٌا عن تارٌخ العالقات بٌن مصر وفرنسا بمناسبة زٌارة‬
‫متبادلة بٌن ربٌسً البلدٌن‪ ،‬قدم فٌها الحملة الفرنسٌة وحفر قناة السوٌس على أنهما "فضل" من فرنسا على مصر‪ ،‬ولم ٌتعرض بؤي شكل لجرابم‬
‫الفرنسٌس فً الحملة وال إهالك المصرٌٌن فً حفر قناة السوٌس والظلم الشدٌد فً عقد الشركة‪ ،‬ولم ٌتعرض لدور فرنسا فً عدوان ‪ ،ٔ9٘ٙ‬كما‬
‫نشرت "األهرام" مقاال بعنوان "حكاٌات من أوراق قدٌمة سعٌد باشا وطبق المكرونة الشهٌر"‪ ،‬بتارٌخ ‪ ،ٕٓٔ7-9 -ٕ9‬العدد ‪ ،ٗ7779‬دافع عن‬

‫ٗٔٗ‬
‫وتكلؾ تطهٌر الترع تسخٌر ٖٓٓ ألؾ فبلح أٌام سعٌد الذي استخدم السخرة أٌضا فً مد الخط الحدٌدي‬
‫من كفر الزٌات إلى القاهرة‪ ،‬ثم عبر الصحراء إلى السوٌس‪ ،‬وبنٌت القلعة السعٌدٌة بالسخرة(‪ ،)99‬وتوفً‬
‫سعٌد سنة ٖ‪ ٔ8ٙ‬تاركا على مصر دٌونا بلؽت ٓٔ ملٌون من الجنٌهات(ٓ‪ ،)8‬وآالؾ األرواح ُتزهق كلما‬
‫زاد عمق حفر القناة‪ ،‬من بٌنهم أطفال مسخرٌن لنقل التراب من شاطا القناة إلى األماكن العالٌة‪.‬‬

‫وٌرى مإرخون أن إسماعٌل قام بعمل إنسانً حٌن أمر بتوقؾ السخرة فً قناة السوٌس‪ ،‬لكن ٌلزم جنب‬
‫كلمة "عمل إنسانً"‪ ،‬أن ٌضاؾ إلٌها ما أورده القنصل األمرٌكً فً عصره ألبرت فارمان من أن هذا تم‬
‫بعد أن كانت مرحلة الحفر على الناشؾ انتهت وبدأت مرحلة التكرٌك(ٔ‪ ،)8‬وما قاله الدكتور أنور لوقا فً‬
‫تقدٌمه لكتاب جون نٌنٌه السوٌسري‪ -‬الذي عمل مزارعا وتاجرا للقطن فً مصر من أٌام محمد علً إلى‬
‫توفٌق‪" -‬رسابل من مصر" أن إسماعٌل "بذرٌعة إنسانٌة سحب من دلٌسبس األٌدي العاملة الوفٌرة التً كان‬
‫ٌحتاجها لزٌادة محاصٌله بصفته المالك األكبر لؤلراضً الزراعٌة‪ ،‬بعد أن سال لعابه بسبب "االنفجار‬
‫القطنً"(ٕ‪ ،)8‬فنقل الفبلحٌن من قناة السوٌس إلى مزارعه حتى ٌستفٌد من فرقعة أسعار القطن فً العالم‪.‬‬

‫والبلفت أن دٌلٌسبس ممثبل لشركة القناة طالب مصر بتقدٌم تعوٌض للشركة عن توقفها عن إرسال‬
‫العمال للحفر بالسخرة قدره ‪ ٖ8‬ملٌون فرنك‪ ،‬ودفعه إسماعٌل من دماء ذات الفبلحٌن‪ ،‬وفً سنة ‪ٔ8ٙ9‬‬
‫وحدها استلزمت المشروعات العامة أٌام إسماعٌل تسخٌر ‪ ٘8‬ألؾ فبلح(ٖ‪.)8‬‬

‫وضمن مشارٌع السخرة التً استخدم فٌها الفبلحٌن أٌام إسماعٌل حفر الترعة اإلبراهٌمٌة لخدمة أراضٌه‬
‫الخاصة التً احتكر فٌها زراعة قصب السكر‪ ،‬وكانت تمتد من القاهرة ألسٌوط (نحو ٓٓٗ كم)‪ ،‬وهً‬
‫مسافة توضح كم كان أمر حفرها مهوال فً شدته على الفبلحٌن‪ ،‬وفوق هذا كان معظم العمال الذٌن‬
‫ٌشتؽلون فً معامل السكر ٌجبرون على العمل وٌتقاضون أجورهم إما من السكر أو العسل(ٗ‪.)8‬‬

‫وٌنقل تقرٌر دوفرٌن (الذي جاء لتنظٌم أمور االحتبلل اإلنجلٌزي بعد ذبح ثورة ٔ‪ )ٔ88‬عن شخص‬
‫ٌدعى فالٌري ستٌوارت ما شاهده من أحوال الفبلحٌن فً السخرة‪ ،‬فٌقول إنهم ٌعملون من الشروق حتى‬
‫الؽروب ببل انقطاع‪ ،‬ما عدا فترة قلٌلة عند الظهر ٌؤكلون فٌها خبزهم المؽمس بماء النٌل‪ ،‬وهو نفس‬
‫طعامهم قبل بداٌة العمل‪ ،‬بعضهم ٌملك فإسا ٌحفر بها‪ ،‬وآخرون ال ٌملكون إال أٌدٌهم‪ ،‬فٌما ٌوجد فً الردم‬
‫حجارة حادة من الصوان‪ ،‬والرمد منتشر جدا بٌنهم‪ ،‬ورؼم شدة القٌظ ٌقبض النظار على العصً ٌضربون‬

‫سعٌد ودٌلٌسبس ولمع صورتٌهما وختم المقال بعبارة "هللا هللا على مصر زمان"‪ ،‬ولم ٌتعرض بؤي شكل للقهر الذي تجرعه المصرٌون فً ذاك‬
‫الزمان‪ ،‬وال لفضل المصرٌٌن على الجمٌع‪ ،‬وخطورة هذا األكبر أنها تصدر عن مإسسات حكومٌة‪.‬‬
‫(‪)99‬‬
‫‪ -‬تطور ملكٌة األرض الزراعٌة ٖٔ‪ ٔ9ٔٗ -ٔ8‬وأثره على الحٌاة السٌاسٌة‪ ،‬د‪ .‬علً بركات‪ ،‬دار الثقافة الجدٌدة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٖٕٗ‬
‫(ٓ‪)8‬‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٓ8‬‬
‫(ٔ‪)8‬‬
‫‪ -‬مصر وكٌؾ ؼدر بها‪ ،‬مرجع سابق‪،‬ص ٖٕٓ‪ٕٖٖ -‬‬
‫(ٕ‪)8‬‬
‫‪ -‬رسابل من مصر (‪ ،)ٔ88ٕ -ٔ899‬جون نٌنٌه‪ ،‬ترجمة فتحً العشري‪ ،‬طٔ‪ ،‬المجلس األعلى للثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٓٓ٘ ،‬ص ٖ٘‬
‫(ٖ‪)8‬‬
‫‪ -‬تطور ملكٌة األرض الزراعٌة ٖٔ‪ ٔ9ٔٗ -ٔ8‬وأثره على الحٌاة السٌاسٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٖٗ‬
‫(ٗ‪)8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر‪ ،‬المرجع السابق ‪ ،‬ص ‪ٕٖ8 -ٕٖٙ‬‬
‫*أمر شبٌه بما فعله محمد علً حٌن كان ٌحرم الفالحٌن أحٌانا من أخذ ثمن محاصٌلهم نقودا لٌوفر المال لبقٌة مشارٌعه‪ ،‬وٌجبرهم على أخذ الثمن‬
‫فً شكل منتجات المصانع التً تؤسست فً عصره‪ ،‬دون مراعاة لما ٌحتاجونه أو ال ٌحتاجونه‪.‬‬

‫٘ٔٗ‬
‫بها األنفار دون سبب ظاهر(٘‪.)8‬‬

‫صورة لظروؾ عمل الفبلحٌن ونومهم فً الحر والبرد فً أرض العمل معبرة عن حالهم نتٌجة عصور االحتبلالت (بوابة األهرام(‪))8ٙ‬‬

‫وفٌما كان ٌعمل هإالء بالسخرة أو بمقابل هزٌل‪ ،‬كان إسماعٌل ٌعمل بكل العزم فً بناء أفخم القصور‬
‫له وألوالده وللجواري ولؤلجانب‪ ،‬وال تهتز شعرة فً رأس أحدهم إذا ما أمر بهدم قصر تكلؾ أطنان من‬
‫المال لمجرد أن ٌقٌم قصرا آخر محله لٌكون على طراز معماري جدٌد رآه فً أحد سٌاحاته األوروبٌة‪.‬‬

‫ٌقول أحمد شفٌق باشا‪ ،‬أحد شهود العصر وربٌس الدٌوان الخدٌوي فً عهد عباس الثانً‪ ،‬فً مذكراته‬
‫الصادرة ٖٗ‪ ،ٔ9‬إن إلسماعٌل ولع خاص ببناء المنشآت البارٌسٌة والقصور التً مؤلها بؤسراب الجواري‬
‫الحسان‪ ،‬فشٌد قصر الجزٌرة على مثال قصر الحمراء فً األندلس‪ ،‬وأودع فً حدٌقته البدٌعة الحٌوانات‬
‫الكاسرة‪ ،‬وأقٌم فً أٌامه قصر الجٌزة‪ -‬مكانه اآلن جنٌنة الحٌوانات‪ -‬وقصورا أخرى ألوالده فً الجٌزة‪،‬‬
‫وسراي القبة لولً عهده‪ ،‬وقصرا فً اإلسماعٌلٌة خصٌصا إلقامة الحفبلت الفاخرة فً افتتاح قناة السوٌس‪،‬‬
‫ووسع قصر عابدٌن‪ ،‬وٌُشاع أن فلكً نصحه باستمرار البناء طوال حكمه حتى ال ٌُنتزع العرش منه‪،‬‬
‫وعرض شفٌق باشا مشاهد من الحٌاة داخل القصور مدعمة بالصور‪ ،‬وبخبلؾ بذخ عٌش الحكام وزوجاتهن‬
‫فٌها واألكل والشرب فً أوانً الذهب والفضة‪ ،‬عرض لطرٌقة حٌاة الجواري الفخٌمة‪ ،‬حتى قال إن الزوار‬
‫حٌن ٌرونهم ٌتساءلون‪ :‬هل حقا هإالء مملوكات؟(‪.)89‬‬

‫ونقل أن إسماعٌل فً زٌارته لؤلستانة ٖ‪ ٔ89‬دعا السلطان عبد العزٌز لمؤدبة أعدها له فً قصر‬
‫مٌركون على ضفة البوسفور‪ ،‬استعمل فٌها أوانً من الذهب أرسلها للسلطان هدٌة بعد المؤدبة‪ ،‬وروى بارو‬
‫باشا الفرنسً ربٌس الدٌوان األفرنجً فً عصره أن إسماعٌل فً إحدى زٌاراته لبارٌس سمع بجمال قصر‬
‫ألحد أؼنٌاءها‪ ،‬أراد زٌارته هٌاما بالفن الجمٌل‪ ،‬فلما علم صاحبه دعاه لمؤدبة‪ ،‬وكانت له فتاة جمٌلة أعجب‬
‫بها الخدٌوي‪ ،‬وبعد الفراغ من الطعام سؤل إسماعٌل صاحب القصر عما إذا كان ٌرؼب فً بٌعه‪ ،‬ولم ٌكن‬

‫(٘‪)8‬‬
‫‪ -‬تطور ملكٌة األرض الزراعٌة ٖٔ‪ ٔ9ٔٗ -ٔ8‬وأثره على الحٌاة السٌاسٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٖ٘‪ٖٖٙ -‬‬
‫(‪)8ٙ‬‬
‫‪ -‬إذا كنت ممن ٌعتقدون أن مصر كانت جنة قبل ثورة ٌولٌو‪ ..‬تعرؾ على تلك الحقابق قبل أن تحكم‪ ،‬بوابة األهرام‪ٕٓٔ٘ -9 -ٕٖ ،‬‬
‫(‪)89‬‬
‫‪ -‬مذكراتً فً نصؾ قرن‪ ،‬أحمد شفٌق باشا‪ ،‬طٔ‪ ،‬مطبعة مصر‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ9ٖٗ ،‬ص ٕٔ‪ ،ٕٗ -‬و ٕ‪8ٖ -8‬‬

‫‪ٗٔٙ‬‬
‫الرجل ٌود التفرٌط فٌه‪ ،‬ففكر فً الخبلص من المؤزرق بؤن طلب لقصره ثمنا باهظا قدره ٘ مبلٌٌن فرنك‪،‬‬
‫وبُهت بؤن الخدٌوي قبل الثمن‪ ،‬وأمر بكتابة العقد‪ ،‬وبُهت الرجل أكثر حٌن رأى الخدٌوي وهو ٌُملً اسم‬
‫المشتري بؤنه ٌشٌر بؤصبعه البنة صاحب القصر الحسناء قاببل‪" :‬مدموازٌل‪ ،"...‬وبذا عاد البنة صاحبه‪،‬‬
‫وؼرم إسماعٌل ثمنه الباهظ(‪.)88‬‬

‫وبمعنى أصح ؼرمه ذلك الٌتٌم المنحنً ظهره على بعد آالؾ األمٌال فً الرٌؾ المصري ٌفلح األرض‬
‫المؽصوبة‪ ..‬للؽاصبٌن‪ ...‬حتى ٌؤتً حفٌده بعد ٓٓٔ سنة ٌكتب أن مصر "بلد الكرم"‪ ،‬التً "ال ترد من ٌدق‬
‫بابها"‪ ،‬و"ٌعٌش أهلها مع كل األجناس فً وبام‪ ،‬وانصهار تام"‪ ،‬و"ما أحلى تلك األٌام"‪ ،‬و"ما أجهله أبً‪،‬‬
‫كٌؾ ثار وطرد األجانب وحرمنا من أن ٌُقال إن مصر لؤلجانب أرض األمان؟"‪.‬‬

‫وتوفً موظؾ فرنسً تاركا زوجته ببل معاش‪ ،‬وعلم إسماعٌل أن حالتها تسوء‪ ،‬فؤمر بارو باشا بؤن‬
‫ٌكتب للمالٌة لٌرسل لها ألؾ جنٌه‪ ،‬ولكنه عاد واستدعى بارو إلى خزانته الخاصة قاببل‪" :‬الصراؾ احضر‬
‫لً اآلن نقودا ذهبٌة‪ ،‬وال ضرروة للكتابة إلى المالٌة اختصارا للوقت‪ ،‬ثم أخذ ٌقبض بٌده بضع قبضات‬
‫متعاقبة من الذهب وٌضعها فً مندٌل بارو باشا‪ ،‬لٌرسلها إلى الزوجة الفرنسٌة(‪ ...")89‬حتى ال تعٌش فً‬
‫ضٌم فً مصر‪ ..‬ما أشد عطفه!‬

‫وٌختتم شفٌق باشا بالتعلٌق بؤنه فً الوقت الذي كان ٌنفق بهذا الشكل‪ ،‬فإنه كان ٌقترض بالربا الفاحش‪،‬‬
‫وأثقل كاهل األهالً بمختلؾ الضراٌب والجباٌات‪ ،‬وعصفت بهم الفاقة‪ ،‬وبلػ البإس بالفبلحٌن أن كانوا‬
‫ٌنزلون عن أطٌانهم فرارا من الضراٌب المتوالٌة(ٓ‪.)9‬‬

‫❼ استمرار نزؾ المصرٌٌن الجزٌة والخراج لألجانب‬

‫ٌقول عمر السكندري ود‪ .‬سلٌم حسن إنه رؼم كل مشارٌع محمد علً التحدٌثٌة‪ ،‬ظلت حالة الفبلح‬
‫المصري ؼاٌة فً الشقاء والبإس‪ ،‬إذ أثقل عاتقه بالضراٌب وبتسخٌره فً حفر الترع وجره فً حروب‬
‫خارجٌة‪ ،‬فؤثرت هذه العوامل فٌه تؤثٌرا سٌبا‪ ،‬فكان ٌهلك من المصرٌٌن اآلالؾ فً حفر الترع وتحت‬
‫تعذٌب محصلً الضراٌب‪ ،‬ومع خسارة محمد علً لمكتسباته فً الشام كانت مصر وصلت لحالة بإس‬
‫شدٌد‪ ،‬لما حل بؤهلها من المصابب من جراء كل هذه الحروب التً قاموا بؤعبابها‪ ،‬وأنفقوا علٌها من دمابهم‬
‫وأموالهم "حتى أصحبت الببلد فً حالة ٌرثى لها"(ٔ‪.)9‬‬

‫وزاد على هذا أن انتشر طاعون الماشٌة‪ ،‬وتبعه هبوط النٌل‪ ،‬واجتاح الجراد زراعة الببلد "فتركها قاعا‬
‫صفصفا"‪ ،‬وأصبحت "على حافة الخراب"‪ ،‬واستولى الرعب والوجل على قلوب الناس؛ فاجتمع مجلس فً‬
‫القاهرة وكتب تقرٌرا عن سٌر األحوال وما آلت إلٌه‪ ،‬كما استولى الخوؾ على محمد علً أن ابنه إبراهٌم‬

‫(‪)88‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕٗ‪ٕ٘ -‬‬
‫(‪)89‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕ٘‬
‫(ٓ‪)9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕ9‬‬
‫(ٔ‪)9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘‪ٔ99 -ٔ89 ،ٔ9ٖ ،ٔٙ‬‬

‫‪ٗٔ7‬‬
‫سٌستؽل الفرصة وٌخلعه وٌتولى مكانه‪ ،‬لكن األحوال تحسنت بالتدرٌج‪ ،‬وسافر هو لتركٌا ومكث فترة‪،‬‬
‫استقبله السلطان بشكل جٌد‪ ،‬لكن فً النهاٌة تعامل رجال القصر بقسوة معه‪ ،‬فرجع كشبح إنسان(ٕ‪.)9‬‬

‫أما الخراب األشد الذي ٌسلخ ما بقً من لحم ظهر الفبلح فحٌن تسقط خزٌنة مصر فً ٌد روتشٌلد‪.‬‬

‫❽ سقوط مصر فً بٌر الدٌون ألول مرة (دفع الجزٌة لروتشٌلد)‬

‫ال ٌُعرؾ عن مصر أنها لجؤت لبلستدانة من الخارج طوال تارٌخها قبل االحتبلل العلوي سوى مرة فً‬
‫التارٌخ القدٌم حٌن استدان الملك الٌونانً بطلمٌوس الثانً عشر لما اقترض من الرومان لئلنفاق على‬
‫صراعاته مع عابلته على الحكم‪ ،‬وأجبره الرومان على تعٌٌن رابٌرٌوس الرومانً وزٌرا للمالٌة فً مصر‪،‬‬
‫وكانت التجربة "فال نحس"‪ ،‬استؽلها الرومان البتزاز البطالمة حتى سقطت دولتهم واحتل الرومان مصر‪.‬‬

‫وألن التارٌخ دواٌر مملة لمن ال ٌتعلم‪ ،‬فإن األمر تكرر فً االحتبلل العلوي‪ ..‬وانتهى لنفس السقوط‪.‬‬

‫ٌقول عمر اإلسكندري وسلٌم حسن‪ ،‬إنه حٌن تولى سعٌد سنة ٗ٘‪ ٔ8‬كان اقتصاد البلد فً حالة حسنة‬
‫خالٌة من الدٌون األجنبٌة‪ ،‬دخلها السنوي البالػ ٖ ملٌون جنٌه كافً لسد حاجاتها‪ ،‬والتجارة متقدمة‪،‬‬
‫واألراضً الزراعٌة آخذة فً االزدٌاد‪ ،‬واحتاج هذا إلى الحاكم الذي ٌحافظ على هذا االستقرار‪ ،‬ولم ٌكن‬
‫سعٌد هذا الحاكم؛ فارتمى فً أحضان األجانب من إنجلٌز وفرنسٌس‪ ،‬وألؽى المجلس الخصوصً (مجلس‬
‫النظار)‪ ،‬ولم ٌدرب أحدا من أبناء األمة على شإون اإلدارة حتى ٌكون له عونا‪ ،‬وانؽمس فً اللذات فاعتل‬
‫نظام الحكومة(ٖ‪.)9‬‬

‫ومن أبشع قرارات سعٌد‪ ،‬بل من أبشع النكبات فً تارٌخ مصر كلها‪ ،‬أنه أدخل مصر فً دابرة القروض‬
‫والدٌون فً السنة الحزٌنة ٕ‪ ٔ8ٙ‬لما مضى عقد أول قرض دولً فً لندن مع بٌت مال "فرهلنج جوشن"‬
‫بمبلػ ٓٓ‪ ٖ,ٕ9ٕ,8‬جنٌه لحفر قناة السوٌس‪ ،‬برؼم عدم حاجة مصر وقتها للقناة فً أي شًء‪ ،‬ووافق أن‬
‫ٌكون المستفٌد من خٌرها لمدى ‪ 99‬عاما هم األجانب ولٌس المصرٌٌن‪.‬‬

‫فلماذا وقع عقدا ظالما ومذال مثل هذا؟‬

‫دعا للمشروع وتواله دٌلسبس ]المشهور بؤنه سمسار دٌون[ بما كان له من المكانة عند سعٌد‪ ،‬وبما كان‬
‫ٌعده به من الفوابد التً ستعود على مصر من المشروع‪ ،‬مع قلة النفقات التً ستتحملها‪ -‬حسب كبلمه‬
‫وقتها‪ -‬وأن تكالٌؾ الحفر ستكون من فرنسا(ٗ‪ ،)9‬وسٌتضح أن وعود الداهٌة دٌلسبس كانت تخدٌرا وأوهاما‪،‬‬
‫ومعظم نفقات القناة نزعوها من دماء وأرواح الفبلح المصري‪ ،‬وما كان دور دٌلسبس إال سمسارا لتنفٌذ‬
‫مشروع فرنسا الذي كان ٌعتزمه نابلٌون بحفر القناة والسٌطرة على حركة التجارة العالمٌة‪ ،‬وسمسارا أٌضا‬
‫لبٌوت المال العالمٌة التً تسعى لتكبٌل الدول بالقروض والدٌون فً مشروعات تحتاجها أو ال تحتاجها‬

‫(ٕ‪)9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٔ98 -ٔ99‬‬
‫(ٖ‪)9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٓ9‬‬
‫(ٗ‪)9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕٓ8 -ٕٓ9‬‬

‫‪ٗٔ8‬‬
‫لتحكمها من وراء ستار‪.‬‬

‫كان ؼرٌبا جدا قبول سعٌد للشروط التً وضعها دٌلٌسبس فً عقد حفر القناة‪ ،‬ومعظمها شروط ال ٌوافق‬
‫علٌها إال شخص مهزوم فً حرب شدٌدة‪ ،‬ولٌس رجل ٌحكم بلد مكتفٌة ذاتٌا من كل شًء‪ ،‬والشروط فً‬
‫العقد الموقع ٌناٌر ‪ ٔ8٘ٙ‬هً‪:‬‬

‫‪ -‬تتمتع الشركة بفوابد القناة مدة ‪ 99‬سنة من فتحها‪.‬‬

‫‪ٌ -‬حفر دٌلسبس ترعة تستمد ماءها من النٌل إلى اإلسماعٌلٌة‪ ،‬وٌُمنح فً مقابل ذلك كل األراضً‬
‫البلزمة لؤلبنٌة واألعمال بدون مقابل خالٌة من كل الضراٌب‪.‬‬

‫‪ٌ -‬كون له الحق فً أخذ أجر من المبلك الذٌن ٌنتفعون بالماء العذب الذي ٌإخذ من هذه الترعة (رؼم‬
‫أن حفر الترعة ال ٌكلفه شٌبا ألنه بالسخرة)‪.‬‬

‫‪ٌ -‬كون للشركة الحق فً تعدٌن كل مناجم الحكومة ومحاجرها بدون ثمن أو ضراٌب‪.‬‬

‫‪ -‬تعفى الشركة من كل المكوس على الوارادات التً تجلب لها‪.‬‬

‫‪ٌ -‬نتهً المشروع خبلل ‪ ٙ‬سنٌن إال إذا حصلت عوابق ال ٌمكن تبلفٌها‪.‬‬

‫‪ٌ -‬كون أربعة أخماس الفعلة العاملٌن فً حفر الترعة من الفبلحٌن‪.‬‬

‫‪ -‬رسوم المرور فً القناة ٓٔ فرنكات على كل مسافر ومثلها على كل طن من حمولة السفن‪.‬‬

‫‪-‬تكون الشركة مصرٌة بحٌث ٌسري علٌها قانون الببلد‪.‬‬

‫‪ -‬تقسم األرباح (بعد أن ٌخصم منها فابدة ألموال المساهمٌن بنسبة ٔ٘‪ %‬ومثلها للمال االحتٌاطً) على‬
‫الترتٌب اآلتً‪ %ٔ٘ :‬للحكومة المصرٌة‪ %ٔٓ ،‬لمإسسً الشركة‪ %9٘ ،‬للمساهمٌن والمدٌرٌن‬
‫والموظفٌن (وكان معظمهم فً البداٌة من فرنسا وتركٌا)‪.‬‬

‫‪ -‬بعد انتهاء المدة المقررة (‪ 99‬عاما) تصٌر القناة وكل مشتمبلتها ملكا للحكومة المصرٌة‪.)9٘(.‬‬

‫تولى إسماعٌل سنة ٖ‪ ،ٔ8ٙ‬وكان ممتعضا من شروط عقد قناة السوٌس‪ ،‬وٌراها مجحفة بحق مصر‬
‫وبسٌادته كحاكم لها‪ ،‬وسعى إللؽاء بعضها‪ ،‬مستعٌنا بالسلطان العثمانلً عبر الرشاوى‪ ،‬وبالتزامن شجعت‬
‫برٌطانٌا السلطان على تقلٌل االمتٌازات الممنوحة لشركة القناة مكاٌدة فً فرنسا‪ ،‬وهو ما ساعد إسماعٌل‪،‬‬
‫فهدد الشركة بؤنها إن لم ترد األراضً التً أخذتها من سعٌد فإنه سٌوقؾ الحفر‪ ،‬كما سعى لتقلٌل عدد‬
‫العمال المسخرٌن‪.‬‬

‫(٘‪)9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٓٔ‪ٕٖٔ -‬‬

‫‪ٗٔ9‬‬
‫ولكن دٌلٌسبس بخبث طلب من إسماعٌل االحتكام لئلمبراطور نابلٌون الثالث‪ ،‬ابن أخ بونابرته‪ ،‬فكؤنما‬
‫ٌحتكم للثعلب أو بلطجً الحارة‪ ،‬فكوَّ ن نابلٌون لجنة ألزمت إسماعٌل بدفع ؼرامة للشركة ٖ ملٌون ونصؾ‬
‫ملٌون جنٌه بحجة إخبلله بشروط االتفاق األصلً بشؤن أعمال السخرة‪ ،‬رؼم أن من أخ َّل بالشروط هً‬
‫الشركة لمّا أخذت عددا من العمال أكبر من المتفق علٌه‪ ،‬وتركتهم للجوع والعطش‪.‬‬

‫وفوق ذلك أخذت الشركة‪ -‬بحسب حكم لجنة نابلٌون الثالث‪ -‬تعوٌضا عن األراضً اللً استردها‬
‫إسماعٌل‪ ،‬وثمن حفر ترعة اإلسماعٌلٌة رؼم أن حفرها كان واجبا على الشركة‪ ،‬وفعبل دفع إسماعٌل المبلػ‬
‫سنة ‪ ،ٔ8ٙ9‬ووصؾ ألبرت فارمان قنصل أمرٌكا فً مصر حٌنها فً كتابه "مصر وكٌؾ ُؼدر بها" أن‬
‫هذا المبلػ أخذه نابلٌون الثالث "ظلما وعدوانا" على مصر‪ ،‬وبـ "خدعة مشٌنة"(‪.)9ٙ‬‬

‫وبعد ما كان إسماعٌل ضد مشروع حفر القناة والتوؼل األجنبً باسم استثمارات بدأ ٌتفاخر بهذا‬
‫المشروع قصاد العالم‪ ،‬وٌسعد بالقول إنه الرجل القابم على أكبر مشروع فً القرن ‪ ،ٔ9‬وأسكرته عبارات‬
‫المدٌح التً أؼدقتها علٌه الصحؾ األجنبٌة والدبلوماسٌون األجانب بؤنه صاحب النهضة والمشروعات‬
‫العظمى‪ ،‬لٌؽروه بالموافقة على مشروعات جدٌدة‪ ،‬وقروض جدٌدة‪.‬‬

‫نتٌجة لهذا‪ ،‬وافق أن ٌدفع أمواال ضخمة لشركة القناة بحجة تعوٌضها عن بعض المبانً واألراضً‬
‫التً أخذتها الحكومة من الشركة‪ ،‬وعند االفتتاح فً نوفمبر ‪ ٔ8ٙ9‬كان حفل االفتتاح على شاطا القناة هو‬
‫األفخم فً زمانه‪ ،‬تتراقص موجاتها مع رقصات المحتفلٌن على هٌاكل وجماجم ودماء ضحاٌا أكبر مشروع‬
‫استثماري فً العالم‪.‬‬

‫وتكلؾ حفر القناة حسب المدون فً دفاتر الشركة ٕ‪ ٖٕٗ,8ٓ9,88‬ملٌون فرنك (حوالً‬
‫ٓٓٓ‪ ٔ9,٘ٓٓ.‬ملٌون جنٌه)‪ ،‬رؼم أن رأس المال كان فقط ٕٓٓ ملٌون فرنك‪ ،‬صرفت مصر منهم‬
‫ٓٓٓ‪ ٔٙ,ٓٓٓ,‬ملٌون جنٌه‪ٌ ،‬عنً مصر صرفت نفقات أكثر من ٓ‪ %9‬من عملٌة الحفر رؼم أن حصتها‬
‫فً األسهم ٘ٔ‪ %‬فقط‪.‬‬

‫ولم ٌقؾ عذاب الفبلحٌن عند االستشهاد والمرض خبلل حفر القناة‪ ،‬ولكنه امتد إلى إنشاء المبانً‬
‫ُدع لحضوره‪.‬‬
‫والمشارٌع الخاصة باحتفال االفتتاح‪ ..‬االحتفال الذي لم ٌُكرم فٌه‪ ،‬بل لم ٌ َ‬

‫فلكً ٌبهر إسماعٌل األوروبٌٌن بالمدن المصرٌة‪ ،‬لتكتمل صورته كـ"حاكم عصري على النمط‬
‫األوروبً" أمر بؤن ٌنتهً الفبلحون من إنشاء وتعبٌد طرٌق األهرام فً أقل من ‪ ٙ‬أسابٌع‪ ،‬وشارك فً ذلك‬
‫نحو ٓٔ آالؾ عامل‪ ،‬لكً تسٌر علٌه اإلمبراطورة الفرنسٌة أوجٌنً‪ -‬خطٌبة دٌلٌسبس السابقة وزوجة‬
‫نابلٌون الثالث الذي خدعه‪ -‬عند زٌارتها لؤلهرام‪ ،‬كما أمر بسرعة إنهاء بناء دار األوبرا لٌكتمل أمام‬
‫الضٌوؾ اللصوص "الوجه األوروبً" لمصر‪.‬‬

‫(‪)9ٙ‬‬
‫‪ -‬مصر وكٌؾ ؼدر بها‪ ،‬ص ٕٕ٘‪ ،‬ومصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر‪ ،‬ص ٖٕٔ‬

‫ٕٓٗ‬
‫وتكالٌؾ قدوم الضٌوؾ من أوروبا وعودتهم إلٌها على نفقة مصر‪ ،‬وبلػ مجموع ما أنفق على هذا‬
‫االحتفال نحو ٓٓٓ‪ ٔ,ٗٓٓ,‬جنٌه(‪ ،)99‬وبتعبٌر صاحبً كتاب "تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل‬
‫الوقت الحاضر" فإنه "مما ٌإسؾ له أن مصر لم تستفد من نجاح ترعة قناة السوٌس مطلقا‪ ،‬فإنه فوق‬
‫خسارتها القناطٌر المقنطرة من األموال وإرهاقها الفبلحٌن المصرٌٌن إرهاقا عظٌما‪ ،‬وفضبل عن تحول‬
‫التجارة المارة بٌن أوروبا والهند من داخل مصر إلى طرٌق القناة مما أحدث نقصا كبٌرا فً دخل سكك‬
‫حدٌد الحكومة‪ ،‬تنازلت للشركة الفرنسٌة فً سنة ‪ ٕٔ99‬هـ (ٓ‪ٔ88‬م) عما كان ٌخصها من أرباح الشركة‬
‫وقدره ٘ٔ‪ %‬فً مقابل مبلػ حقٌر قدره ٓٓٓ‪ 9ٓٓ,‬جنٌه كانت الحكومة قد اقترضته من تلك الشركة ولم‬
‫تقدر على سداده‪ ،‬فحرمت بذلك مصر من مصدر دخل عظٌم‪ ،‬ولم ٌتم لوالة مصر من إنشاء الترعة شًء‬
‫مما كان ٌمنٌهم به دٌلٌسبس من توطٌد دعامة حكمهم واتساع جاههم وسلطانهم‪ ،‬فترى مما تقدم كله أنه لم‬
‫ٌخسر من وراء إنشاء هذه الترعة إال األسرة المحمدٌة العلوٌة ومصر والفبلحون(‪.")98‬‬

‫وفً المقابل كان المكسب لفرنسا وبرٌطانٌا وبٌوت المال العالمٌة الشٌطانٌة مثل روتشٌلد وجوشن‪.‬‬

‫فلمَّا كثرت الدٌون األوروبٌة على مصر وأوشكت موارد الضمان التً ٌمكن تقدٌمها أن تنفذ‪ ،‬أصبح من‬
‫الصعب اقتراض دٌون جدٌدة‪ ،‬وما أمكن اقتراضه منها كان بؤرباح باهظة جدا لم ٌسبق لها مثٌل‪ ،‬ومن ذلك‬
‫أن إسماعٌل اقترض فً جمادي الثانٌة سنة ٓ‪ ٕٔ9‬هـ (ٌونٌو سنة ٖ‪ )ٔ89‬دٌنا قدره ٓٓٓ‪ ٖٕ,ٓٓٓ,‬جنٌها‬
‫لٌسدد به جمٌع الدٌون السابرة‪ ،‬فلم ٌتمكن من عقد القرض إال فً ماٌو ٗ‪ ،ٔ89‬فكان مجموع ما قبضته‬
‫الحكومة بالفعل من هذا الدٌن بعد طرح جمٌع أنواع النفقات والخصم (السمسرة) ٌبلػ ٓٓٓ‪ ٕٓ,ٕٓٙ,‬جنٌها‬
‫فقط‪ ،‬أي بنقص ‪ %ٖ9‬عن مقدار ما حسب دٌ ًنا على الحكومة‪ ،‬فضبل عن أن المبلػ الذي قبضته الحكومة لم‬
‫ٌدفع كله نقدا‪ ،‬بل كان منه ٓٓٓ‪ 9,ٓٓٓ,‬جنٌه من سندات الخزانة المصرٌة‪ ،‬ومعنى ذلك أن الحكومة نظٌر‬
‫حصولها على ٓٓٓ‪ ٔٔ,ٓٓٓ.‬جنٌها نقدا فقط زادت دٌنها بقدر ٓٓٓ‪ ٕٖ,ٓٓٓ.‬جنٌها(‪.)99‬‬

‫وإضافة للدٌون الضخمة البرانٌة (الخارجٌة) تورط فً الدٌون الداخلٌة‪ ،‬فبدأ ٌقترض من األثرٌاء‪،‬‬
‫ومعظمهم أجانب‪ ،‬فصارت الحكومة مدٌنة لؤلجانب فً الداخل والخارج(ٓٓٔ)‪ ،‬وألن المرابٌن داٌرة واحدة‬
‫توصل لبعضها‪ ،‬فإن الحكومة مثبل حٌن تعجز عن سداد قرض لبنك خارجً‪ ،‬تلجؤ لبنك داخلً أجنبً لسداد‬
‫الدٌون للبنك الخارجً‪ ،‬وكل هذه البنوك فً دابرة تنظٌم واحد‪ ،‬فمثبل ٌروي عرابً أنه فً أٌام إسماعٌل‬
‫عُهد إلٌه بمؤمورٌة تسلٌم ٓٓ‪ 9‬ألؾ أردب قمح وفول وشعٌر إلى بنك منشا وقطاوي‪ ،‬وبنك إٌجٌون‬
‫(ٔٓٔ)‬
‫وإبراهٌم بٌجة باألسكندرٌة‪ ،‬سدادا لدٌن اقترضته الحكومة منهما لسداد بعض أقساط دٌن بنك روتشٌلد‬

‫وأصبح أجانب الداخل أداة ابتزاز جدٌدة للحكومة مقابل دٌونهم علٌها فً تكرار لما فعله التجار الشوام‬
‫والمؽاربة وربما الٌهود فً تقدٌم القروض للمالٌك والعثمانلٌة بمصر لٌرسخوا وجودهم بكل وسٌلة وتؤثٌرهم‬

‫(‪)99‬‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر‪ ،‬عمر اإلسكندري وسلٌم حسن‪ ،‬ص ‪ٕٗ9 -ٕٗٙ‬‬
‫(‪)98‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٕ٘ٔ‪ٕٔٙ -‬‬
‫(‪)99‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕٗ8‬‬
‫(ٓٓٔ)‬
‫‪ -‬انظر المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٕٗ9 -ٕٗ8‬‬
‫(ٔٓٔ)‬
‫‪ -‬مذكرات الزعٌم أحمد عرابً‪ ،‬دراسة وتحقٌق عبد المنعم الجمٌعً‪ ،‬مجلد ٔ‪ ،‬دار الكتب والوثابق القومٌة‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٓٓ٘ ،‬ص ٕٖٔ‬

‫ٕٔٗ‬
‫على صناعة القرار‪ ،‬وكذلك ما ٌُتوقع أن فعله المستوطنون األجانب من قباٌل شعوب البحر وأسرى الحرب‬
‫لما تمكنوا من اقتصاد مصر والمعابد وأوقافها فً إقراض الحكومة المصرٌة وهً تترنح من الضعؾ نهاٌة‬
‫القرن ٕٓ حتى سقط العرش فً أٌدي "أصحاب القروض" المنزوعة أساسا من أرض مصر‪.‬‬

‫وفً ٘‪ ٔ89‬شدت األزمة‪ ،‬وصدرت سندات على خزابن الحكومة بقٌمة تقل كثٌرا عن قٌمتها االسمٌة‪،‬‬
‫فعرضت الحكومة ما لها من أسهم القناة للبٌع‪( ،‬وعددها ٕٓ‪ )ٔ9ٙٙ‬فاشترتها الحكومة اإلنجلٌزٌة بثمن‬
‫بخس ٌقل عن ٓٓٓ‪ ٗ,ٓٓٓ,‬جنٌه‪ ،‬ولم ٌفرج ذلك شٌبا من األزمة‪ ،‬وصار ٌخشى كل ٌوم من تدخل أوروبا‬
‫فً شإون مصر محافظة على األموال التً أقرضها رعاٌاها للحكومة المصرٌة‪.‬‬

‫وبحلول ٘‪ ٔ89‬كان الدٌون على مصر ساٌرة وثابتة ٓ‪ 9‬ملٌون جنٌه‪ٌ ،‬عنً ‪ 9‬أضعاؾ الدٌن الذي تركه‬
‫سعٌد‪ ،‬وحصة مصر من القناة بٌعت إلنجلترا‪ ،‬وصارت الدولة تسٌر مثقلة كاألسٌرة بؤؼبلل تسدٌد أقساط‬
‫القروض‪ ،‬وفوابدها المتزاٌدة‪ ،‬واألجور الباهظة لؤلجانب مدٌري ومشؽلً المشارٌع‪ ،‬وتتفنن حكومة‬
‫إسماعٌل فً فرض ضراٌب جدٌدة على الفبلحٌن لتضمن سداد فواٌد الدٌن فً موعدها(ٕٓٔ)‪.‬‬

‫واستمر هذا التوؼل األوروبً بالرؼم من أنه على حد معلومات القنصل األمرٌكً فً عهد إسماعٌل‬
‫ألبرت فارمان‪" :‬كانت مصر فً سنة ٕ‪ ٔ88‬سددت كل األموال التً تسلمتها فعبل من بٌع السندات‪ ،‬بما فً‬
‫ذلك فابدة سنوٌة قدرها ‪ ،%ٙ‬وهذه القروض تشمل الدٌون المختلفة من أٌام سعٌد باشا وقدرها ٓ٘ ملٌونا‬
‫من الدوالرات‪ ،‬كما تشتمل على تلك المبلٌٌن العدٌدة التً أخذتها شركة قناة السوٌس نتٌجة للتعوٌض الذي‬
‫حكم به نابلٌون الثالث‪ ،‬أما الـ ٗ٘ ملٌونا من الدوالرات المدٌنة بها مصر اآلن ]وقت صدور كتاب فارمان‬
‫الذي توفً ٔٔ‪ [ٔ9‬والفابدة التً ُتدفع علٌها منذ سنة ٕ‪ ٔ88‬والتً ٌبلػ مقدارها نفس مقدار الدٌن األصلً‬
‫فكلها من قبٌل الربا دون أي وجه حق"‪.‬‬

‫وإضافة إلى أن مصر من بعد سنة ٕ‪ ٔ88‬كانت تدفع "الربا الفاحش" رؼم سداد جمٌع دٌونها‪ ،‬فقد اعتبر‬
‫فارمان هذه األموال التً تخرج من مصر لبرٌطانٌا وبنوك روتشٌلد وؼٌره من الممولٌن الٌهود العالمٌٌن‬
‫"جزٌة مكشوفة ُتدفع ألوروبا ألجل ؼٌر محدود‪ ،‬قد ٌمتد إلى أجٌال"‪.‬‬

‫كما قال‪" :‬وتنحصر الجرٌمة الحقٌقٌة التً ارتكبها إسماعٌل فً أنه وضع نفسه تحت نفوذ ٌهود لندن‬
‫وبارٌس‪ ،‬هإالء الذٌن كان معظمهم من الممولٌن الٌهود‪ ،‬وكانت لدٌهم القوة الكافٌة لتوجٌه حكومتً إنجلترا‬
‫وفرنسا وحثهما على ابتداع سابقة جدٌدة خاصة بتدخل الدول رسمٌا فً جمٌع الدٌون المبرمة طبقا لعقود‪،‬‬
‫وحتى الدٌون التً ال ترتكز على أي التزام أدبً"‪.‬‬

‫وإنه "من أجل جمع هذه الدٌون التً تمٌزت بهذا الطابع‪ ،‬والتً مكنت بنوك روتشٌلد‪ ،‬وأبنهاٌم‪،‬‬
‫وجوشن‪ ،‬وؼٌرها من البٌوت المالٌة أن تجنً ثمار مؽامراتها المالٌة‪ ،‬قامت الدولتان الكبرٌتان ببذل‬

‫(ٕٓٔ)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٕ٘ٓ -ٕٗ8‬‬
‫*** فكر ومهمة صندوق الدٌن هو ما تم على أساسه تؤسٌس صندوق النقد الدولً وبرامجه الخاصة بـ"اإلصبلح االقتصادي" التً ٌتحكم بها فً‬
‫اقتصاد الدول عقب إنشاء األمم المتحدة ٘ٗ‪ٔ9‬‬

‫ٕٕٗ‬
‫معونتهما الرسمٌة أوال‪ ،‬ثم قامت إنجلترا بعد ذلك بتقدٌم معونتها العسكرٌة(ٖٓٔ)"‪.‬‬

‫والمعونة كلمة ساخرة من القنصل األمرٌكً الراحل ٌقصد بها التدخل االقتصادي بالدٌون ثم االحتبلل‬
‫العسكري‪ ،‬وطالب دولته (الوالٌات المتحدة) بؤال تنجر فً ٌوم من األٌام للسٌاسات األوروبٌة القابمة على‬
‫تكبٌل الدول بالدٌون وإؼرابها بمشروعات استثمارٌة تكون وسٌلتها لبلحتبلل تلك الدول‪ ،‬واستشهد بكلمة‬
‫وزٌر الخارجٌة األمرٌكٌة وقتها‪ ،‬إلٌهو روت‪ ،‬فً خطابه فً األرجنتٌن‪" :‬إن الوالٌات المتحدة لم تستخدم‬
‫ولن تستخدم قط جٌشها أو بحرٌتها فً جمع دٌون تعاقدت علٌها حكومات أو أفراد‪....‬مثل هذه اإلجراءات‬
‫تإدي إلى المضاربة وهً قابمة على أؼراض دنٌبة(ٗٓٔ)"‪ ،‬ولكن أمل فارمان فً تجنب ببلده الوقوع فً‬
‫هذه المخططات الخبٌثة لم ٌتحقق كما نعلم‪.‬‬

‫وبنفس تعبٌر فارمان عن الجزٌة لبنوك أوروبا قال البرٌطانً إلٌنور بٌرتز إنه "فً أثناء القرن (‪)ٔ9‬‬
‫أتى مصر سٌد جلٌل أعلى فً شكل الممول األجنبً‪ ،‬سٌد ٌطلب جزٌة هو اآلخر (إضافة للجزٌة التركٌة‬
‫التً بلؽت عام ٖ‪ ٔ89‬مبلػٓٓ٘‪ٙ9‬جنٌه)‪ ،‬ولكنها جزٌة متزاٌدة على مر األٌام‪ ،‬وقد حدث أول تؽلؽل عظٌم‬
‫لرأس المال البرٌطانً فً الخمسٌنات ]من القرن ‪ [ٔ9‬ببدء العمل فً قناة السوٌس"(٘ٓٔ)‪.‬‬

‫❾ األجانب ٌبلعون األراضً والعقارات بالربا والرهونات‬

‫فجؤة‪ ..‬امتدت شبكة من عناكب الربا على كامل النسٌج المصري‪ ،‬كامل القرى‪ ،‬جحافل من عناكب‬
‫الٌهود والٌونانٌٌن والسورٌٌن وؼٌرهم هبطت علٌها كنزلة الجراد تمتص بكل خفة وهدوء المال واألبقار‬
‫والجوامٌس والبٌوت واألراضً من عروق الفبلحٌن(‪ ..)ٔٓٙ‬من أٌن وكٌؾ أتى هإالء؟‬

‫التعامل المباشر مع بنوك روتشٌلد وجوشن جرى على مستوى الدولة‪ ،‬ورؼم أن حكومة االحتبلل‬
‫العلوي لم تتؤخر فً نبش أظافرها فً عروق المصرٌٌن لسداد الدٌون وفواٌدها لهذه البنوك‪ ،‬إال أن البنوك‬
‫لم تشبع‪ ،‬فسلَّطت رسلها ونوابها لٌجوبوا األرٌاؾ وٌبرموا عقودا فردٌة بٌن كل مرابً وفبلح لٌنزعوا منه‬
‫أي قرش أو قٌراط تبقى له‪.‬‬

‫كان منظرا مؤلوفا أن ٌُرى مؤموري التحصٌل مصحوبٌن بحملة الفلقة والكرابٌج وفً ذٌلهم المرابٌن‪،‬‬
‫ٌهوي المؤمور على جسد الفبلح بالكرابٌج أو ٌربطه بالفلقة‪ ،‬وإذا فشل الكرباج مع الفبلح ٌقول له المؤمور‪:‬‬
‫"كل هذا الضرب وال تقر بما عندك من نقود؟!" فٌجٌبه بالنفً‪ ،‬فٌقول له‪" :‬اقترض‪ ،‬فٌرد‪ :‬من ٌقرضنً؟‬
‫وهنا ٌظهر المرابً فً المكان وقد درس حالة الفبلح وما عنده‪ ،‬فٌقرضه دون سإال‪ ،‬وٌقبل الفبلح بؤي‬
‫فوابد‪ ،‬وٌتضح فً النهاٌة أن المرابً والمؤمور متفقٌن على هذا‪ ،‬وٌؤخذ المؤمور حصته‪ ،‬حتى وصلت دٌون‬

‫(ٖٓٔ)‬
‫‪-‬مصر وكٌؾ ُؼدر بها‪ ،‬ألبرت فارمان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٗٔ‪ٖٔ٘ -‬‬
‫(ٗٓٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٖٔٙ‬‬
‫(٘ٓٔ)‬
‫‪ -‬دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً‪ ،‬أحمد رشدي صالح مترجما لكتاب "االستعمار البرٌطانً فً مصر" للبرٌطانً إلٌنور بٌرتز‪ ،‬مرجع‬
‫سابق‪ ،‬ص ٘‪9-‬‬
‫(‪)ٔٓٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬رسابل من مصر‪ ،‬جون نٌنٌه‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٕٗ‬

‫ٖٕٗ‬
‫الفبلحٌن بحلول ٕ‪ ٔ88‬حوالً ٘ٔ ملٌون جنٌه(‪.)ٔٓ9‬‬

‫وٌصؾ محمد عبده ما رآه متؤلما‪" :‬المرابٌن من أعظم أعوان الظلم وأشد أنصاره؛ فإذ رأوا حاجة‬
‫األهالً إلٌهم تدللوا وتمنعوا لعلمهم أن الكرباج وراءهم فبل قدرة لهم على الصبر‪ ،‬وال سبٌل إلى التخلص‬
‫من ألم العذاب ولو مإقتا إال بالرضا بكل ما ٌرسمون علٌهم من الفابدة"‪ ،‬وأن "التجار وأرباب البنوك‬
‫]المرابٌن[ الؽرماء الدخبلء الذٌن انتشروا بٌن أبناء الببلد انتشار الذباب بٌن األؼنام؛ فؤثقلت كواهل‬
‫الفبلحٌن بالدٌون الهابلة‪ ،‬واضطرهم العجز لبٌع أمبلكهم ورهن عقاراتهم وأراضٌهم أو االنسبلخ منها‬
‫بالكلٌة‪ ،‬فؤحاط بهم الفقر وأصبحوا فً أسوأ حال"(‪.)ٔٓ8‬‬

‫ومع صدور البلبحة السعٌدٌة سنة ‪ ٔ8٘9‬أقبل الٌهود‪ ،‬مثل بقٌة األجانب‪ ،‬على تملك األرض‬
‫والعقارات‪ ،‬فٌقدموا القروض للمزارعٌن‪ ،‬وفً حالة عجزهم عن السداد ٌدخل المرابً ٌكوش على األرض‬
‫أو البٌت‪ ،‬وفً ٓ‪ ٔ8ٙ‬سمح لؤلجانب أن ٌقٌموا محالج للقطن فً المزارع التً ٌؽتصبونها‪ ،‬وفً سنة‬
‫‪ ٔ8ٙ9‬أصدرت الدولة العثمانٌة قانونا خاصا بتملٌك األجانب للعقارات فً مصر أصبح بمثابة تؤكٌد على‬
‫خطوات التملٌك التً اتخذها سعٌد‪ ،‬وفً ٔ‪ ٔ89‬أنشبت بورصة العقود باإلسكندرٌة‪ ،‬وٕ‪ ٔ89‬أنشبت‬
‫بورصة مٌناء البصل باإلسكندرٌة أٌضا(‪.)ٔٓ9‬‬

‫وهكذا بدأ بالتدرٌج السٌطرة األوروبٌة والٌهودٌة على أعمدة االقتصاد‪ ،‬بل وأراضً وعقارات‬
‫المصرٌٌن بشكل مباشر أو بالحٌل والنهب أو بنقل االختراعات المالٌة االستنزافٌة التً نشرها الٌهود فً‬
‫أوروبا ونقلوها لمصر كالبورصات والبنوك والرهونات والتؤمٌن إلخ‪.‬‬

‫ولخدمة تجارتهم أنشؤ الٌهود مطبعتٌن باإلسكندرٌة‪ ،‬واحتكروا على حس ذلك تجارة الورق‪،‬‬
‫والمصرٌون فً ؼفلة ال ٌدرون ما ٌجري خلؾ ظهورهم من مكاٌد ومإامرات لحسن نٌتهم‪ ،‬ومن ناحٌة‬
‫أخرى لضحالة ثقافتهم؛ فهم حدٌثً عهد بمثل هذه األمور‪ ،‬وأٌضا لعزوفهم عن العمل فً هذه المجاالت‪،‬‬
‫بتعبٌر الدكتور حسٌن كفافً فً كتابه عن الٌهودي هنري كورٌٌل أشهر من نشر الشٌوعٌة فً مصر(ٓٔٔ)‪.‬‬

‫وعلى رأي المثل المصري الفصٌح "الؽفلة تجٌب الكفٌة"‪.‬‬

‫وقسم المرابون األجانب مصر قطعا بٌنهم (مناطق نفوذ)‪ ،‬كل مرابً له منطقة ال ٌتعدى زمٌله علٌها؛‬
‫فانتشروا فً مصر من أقصاها إلى أدناها‪...‬كما تنتشر خٌوط العنكبوت(ٔٔٔ)‪ ،‬وسٌطروا على تجارة القطن‬

‫(‪)ٔٓ9‬‬
‫‪ -‬تطور الرأسمالٌة المصرٌة‪ ،‬مجموعة باحثٌن‪ ،‬دار الكتب والوثابق القومٌة‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٓٔٔ ،‬ص ‪ٗ8‬‬
‫(‪)ٔٓ8‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٗ9 -ٗ8‬‬
‫(‪)ٔٓ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬هنري كورٌٌل‪ -‬األسطورة والوجه اآلخر‪ ،‬حسٌن كفافً‪ ،‬الهٌبة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة ٖٕٓٓ‪ ،‬ص ٕٗ‬
‫(ٓٔٔ)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٕ٘‬
‫*** تنبه طلعت حرب فً القرن ٕٓ لخطورة سٌطرة األجانب على صناعة الورق والثقافة‪ ،‬وكان من دوافعه لبناء اقتصاد خالص للمصرٌٌن هو‬
‫الحد من احتكار األجانب لهذه الصناعة‪ ،‬فؤنشؤ شركة الورق لتوفٌره للمصرٌٌن لنشر كتبهم ومنشوراتهم الوطنٌة دون تحكم من الشركات األجنبٌة‬
‫فٌها‪ ،‬إلى جانب إن شابه استودٌو مصر وشركة السٌنما لنشر الثقافة المصرٌة بطرق أخرى‪.‬‬
‫(ٔٔٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٖٕ‬

‫ٕٗٗ‬
‫ألرباحه السرٌعة والثرٌة‪ ،‬وكونه سلعة استراتٌجٌة للجمٌع‪ ،‬فقد ظل هو البترول األبٌض لفترة من الزمان‪.‬‬

‫تابع جون نٌنٌه باعتباره تاجرا للقطن ومتملكا ألراضً فً عصر إسماعٌل المرابٌن الصؽار ٌتجولون‬
‫بؤكٌاس النقود كثعالب باحثة عن فرابسها فً القرى‪" :‬إن وضع الفبلح المصري ؼٌر محتمل‪ ،‬فعما قرٌب‬
‫لن ٌستطٌع هذا الفبلح أن ٌقترب من محاصٌله"‪ ،‬ألنه‪" :‬من ناحٌة هناك المدٌرون ومحصلو األموال الذٌن‬
‫ٌطالبونه مسبقا بالرسوم والضراٌب‪ ،‬ومن ناحٌة أخرى هناك المرابون الٌونانٌون والسورٌون‪ ،‬مسٌحون‬
‫وٌهود‪ ،‬الذٌن ٌقرضونه المال الذي ٌحتاجه بشدة"‪ ،‬وذلك بفابدة تتراوح بٌن ٘‪ %ٔٓ -%ٕ,‬شهرٌا‪ ،‬وقد‬
‫ٌفاجا الفبلح بضراٌب جدٌدة ٌفرضها علٌه الخدٌوي "إذن تنهال ضربات الكرباج‪ ،‬و ُتتفح سجون المدٌرٌن‪،‬‬
‫وتبكً النساء واألطفال"‪ ،‬فٌعجز عن سداد القرض‪ ،‬وهنا "ٌجد المزارع المسكٌن نفسه وعابلته وقد ألقً بهم‬
‫على الطرٌق"‪ ،‬ونابب الملك (الخدٌو) "ال ٌشؽله األمر فلدٌه مشاؼله الخاصة وهً القبض والمطالبة‬
‫والقبض دابما!"(ٕٔٔ)‪ ،‬والمرابون األجانب‪ ،‬تقع فً أٌدٌهم الرهونات من أراضً وبٌوت ومواشً‪ٌ ،‬زدادون‬
‫ؼنى وٌتمتعون بالحماٌة عندما ٌؤخذون الرعوٌة من سفارة أجنبٌة‪.‬‬

‫وعبر عن هذا أبلػ تعبٌر الفبلح فً مواوٌله التً تحكً مرارة حاله وانتشرت قبل ثورة ٔ‪:ٔ88‬‬

‫ٌا دنٌة الشوم ما خلٌتً عزٌز وال جاه‬

‫ابن البلد ٌتظلم والندل ٌتهنى‬


‫ٖٔٔ‬
‫من ؼٌر ما ٌشجى (ٌشقى) ٌالجً (ٌالقً) كل ٌوم مال جاه‬

‫❿ السقوط فً فخ االستثمار األجنبً وفلك الرأسمالٌة العالمٌة‬

‫تمٌزت العبلقات االقتصادٌة بٌن مصر والخارج فً تارٌخها الحُر (أزمنة الحكم المصري القدٌم)‬
‫باالقتصار على التبادل التجاري‪ ،‬بضاعة قصاد بضاعة‪ ،‬والدولة هً المشرؾ األول على العملٌة‪ ،‬لكن‬
‫حٌن تسلل إلٌها االستٌطان اإلؼرٌقً والٌهود ظهر فٌها مشارٌع أجنبٌة هً "الوكاالت األجنبٌة"‪ ،‬كالشركات‬
‫متعددة الجنسٌات اآلن‪ ،‬لكن نشاطها ظل أٌضا تبادل تجاري‪ ،‬وظلت العبلقات تبادل سلع بٌن الدول فً‬
‫عصور الحقة‪.‬‬

‫أما فً االحتبلل العلوي فظهر فً مصر ما ٌُسمى بـ"مشارٌع التنمٌة" باستثمارات أجنبٌة أو بإشراؾ‬

‫***ومعظم من تسللوا لمصر فً ثوب الجا وعامل وتاجر بعد ٕٔٔٓ ٌعملون بنفس الطرٌقة االحتكارٌة‪ ،‬بداٌة بالعمل فً أكثر وأسرع المجاالت‬
‫ربحا‪ ،‬وهً الصرافة وتجارة العملة والمط اعم وبٌع أدوات الزٌنة والعطور‪ ،‬وصوال لعماد وأعصاب االقتصاد كصناعة الؽزل والنسٌج واألدوٌة‬
‫والصرافة واإلعالم والفنون وتجارة التهرٌب إلخ‪.‬‬
‫(ٕٔٔ)‬
‫‪ -‬رسابل من مصر (‪ ،)ٔ88ٕ -ٔ899‬جون نٌنٌه‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔٔٔ‪ٕٔٔ -‬‬
‫‪ - 113‬األغنية الوطنية من عرابي إلى عبد الناصر‪ ،‬السيد زىرة‪ ،‬مجمة أدب ونقد‪ ،‬ع ‪ ،246‬القاىرة‪ ،‬فبراير ‪ ،2116‬ص ‪51‬‬

‫ٕ٘ٗ‬
‫أجنبً‪ ،‬مثل قناة السوٌس وشركات االستصبلح الزراعً والسكك الحدٌد نتٌجة لظهور الرأسمالٌة العالمٌة‬
‫فً أوروبا التً اتخذت االستثمار وسٌلة للهٌمنة واالنتشار االحتبللً فً الخارج بدٌبل عن االحتبلل بالسبلح‬
‫أو سابقة له‪.‬‬

‫فً البداٌة كان األمر خطره بسٌط‪ ،‬ألن محمد علً كان "حوٌط" عن أوالده‪ ،‬جلب الخبراء األجانب‬
‫لعمل مشارٌعه التنموٌة فً الصناعة والزارعة والجٌش والصحة وؼٌرها‪ ،‬لكن حرص أن ٌكون بؤموال‬
‫مصرٌة والملكٌة تخص الحكومة‪ ،‬وال ٌتملك أجنبً أي مشروع‪ ،‬عدا خطٌبته فً تقدٌم تسهٌبلت لخاصته‬
‫األجانب فً تملك أرض‪ ،‬أما أوالده بداٌة من سعٌد فـ"اندلقوا" على األجانب‪ ،‬وقبلوا أن ٌفتحوا لهم حدود‬
‫الببلد بدون ضابط‪ ،‬وأن ٌتسلموا مشارٌع كبرى باسم "استثمار أجنبً"‪ٌ ،‬تملكون فٌها معظم األسهم‬
‫وٌدٌرونها وحدهم‪ ،‬وٌختارون المشارٌع التً تخدم مصالح وتجارة الدول األجنبٌة وجالٌاتها‪ ،‬سواء كانت‬
‫مصر تحتاج هذه المشارٌع فعبل أو ال تحتاجها‪ ،‬وبدأت بقناة السوٌس‪.‬‬

‫واتسع الفخ لما قرر إسماعٌل إحٌاء مشارٌع جده محمد علً‪ ،‬وكان لبعضها تؤثٌره الطٌب فً المستقبل‪،‬‬
‫إال أن اعتماده على عملها عن طرٌق القروض الضخمة‪ ،‬واستجبلب طوفان األجانب لٌتولوا أمرها تماما‬
‫ولٌس فقط كخبراء مإقتٌن‪ ،‬وإصراره على تنفٌذ أكبر كم من المشروعات فً وقت قصٌر مها تكلفت من‬
‫دٌون‪ ،‬وكسره لظهر الفبلحٌن بكل وحشٌة‪ ،‬كل هذا تسبب فً أن نفس المشارٌع من شركات ومرافق‬
‫وعمارات وقصور‪ ،‬إضافة لقناة السوٌس‪ ،‬سقطوا كالثمرة الناضجة فً حجر احتبلل أجنبً جدٌد‪ ،‬هو‬
‫اإلنجلٌز وجالٌاتهم الذٌن تراصوا فوق ظهر مصر إلى جوار االحتبللٌن العثمانلً والعلوي‪.‬‬

‫فؤٌام إسماعٌل تم بناء وتوسٌع ٘ٔ مٌناء على البحرٌن األحمر والمتوسط‪ ،‬بإٌعاز أوروبً ألهمٌة هذه‬
‫الموانً فً تسٌٌر وتسرٌع نقل تجارة ومصالح أوروبا‪ ،‬إضافة إلى أنها توفر فرصا لزٌادة القروض‬
‫المصرٌة‪ ،‬ولزٌادة فرص العمل لؤلجانب‪ ،‬وفرص شراء منتجات المصانع األجنبٌة البلزمة للموانً‪.‬‬

‫وفعبل‪ ،‬أسند العمل فً مٌناء السوٌس إلشراؾ فرنسً‪ ،‬ومٌناء اإلسكندرٌة إلشراؾ إنجلٌزي بمبلػ ٕ‬
‫ملٌون ونصؾ ملٌون جنٌه‪ ،‬واعترؾ السٌر رفرز ولسون‪ ،‬أحد المسبولٌن اإلنجلٌز فً الحكومة المصرٌة‬
‫فً عهد إسماعٌل‪ ،‬بؤن هذا االتفاق مجحؾ بمصر‪ ،‬وأن المٌناء لم ٌنفق علٌه أكثر من ملٌون ونصؾ؛ ُ‬
‫فخدع‬
‫إسماعٌل فً هذا العقد كما ٌخدع قبله سعٌد باشا فً عقد قناة السوٌس‪ ،‬وهذا فً الحقٌقة َمثل من كثٌر من‬
‫أنواع االتفاقات التً كان ٌُخدع فٌها إسماعٌل وٌضٌع من جرابها األموال الطابلة(ٗٔٔ)‪.‬‬

‫هذا بخبلؾ أن األعمال الشاقة من البناء والنقل فً هذه الموانً كان ٌقع على عاتق الفبلحٌن‪ ،‬ومعروؾ‬
‫أنه كان ال ٌصلهم من األموال المنفقة علٌها إال الفتات‪ ،‬بالرؼم من أنها ٌتقام بقروض ُتسدد من عرقهم‬
‫ودمابهم‪ ،‬وٌؤخذ الموظفون األجانب مرتبات خٌالٌة‪.‬‬

‫وعن هذا قال جنكس فً كتابه "ارتحال رأس المال البرٌطانً‪" :‬اآلن امتؤلت الببلد بالمهندسٌن‬

‫(ٗٔٔ)‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٖ9‬‬

‫‪ٕٗٙ‬‬
‫البرٌطانٌٌن ٌفٌضون بمشروعات لمد رحاب الرقً والمدنٌة‪ ،‬وفً اإلسكندرٌة كانت إحدى شركات‬
‫المقاولٌن اإلنجلٌز تقوم بؤعمال البناء فً المٌناء لقاء مبلػ (ٕ ملٌون ونصؾ الملٌون جنٌه) فً حٌن أن هذه‬
‫األعمال تكلفها حوالً ٓٓٓ‪ ٔ,ٗٓٓ,‬جنٌها (ملٌون وٓٓٗ ألؾ جنٌه)(٘ٔٔ)"‪.‬‬

‫وفوق الدفع المباشر للمشارٌع االستثمارٌة األجنبٌة كانت مصر تؤخذ نصؾ ما تطلبه من الدٌون‪ ،‬فً‬
‫حٌن أنها عند السداد تسددها كاملة إضافة للفواٌد‪ ،‬وهو ظلم ما بعده ظلم‪ ،‬وفً ذلك قال البرٌطانً إلٌنور‬
‫بٌرتز فً كتابه "االستعمار البرٌطانً فً مصر"‪ ،‬صدر ضمن أبحاث حزب العمال البرٌطانً عن مصر‬
‫‪" :ٔ9ٕ8 -ٔ9ٕ9‬كانت مصر فً الواقع مدٌنة مرة أخرى بنصؾ ما اقترضته بالفعل‪ ،‬فإذا أدخلنا فً‬
‫اعتبارنا أن معظم المال المستدان كان ٌدفع للمقاولٌن البرٌطانٌٌن‪ ،‬وهم الذٌن حصلوا على أرباح طابلة‪،‬‬
‫فإنه ٌكون من المشكوك فٌه كل الشك أن ٌمثل ما أنفق على الصناعة المصرٌة والنقل ثلث الدٌن"‪.‬‬

‫وأضاؾ أنه "لٌس عجٌبا إذن أن تنزلق مالٌة مصر فً فترة وجٌزة إلى إفبلس ال أمل معه‪ ،‬وأن ٌصبح‬
‫من الممكن أن تدفع فوابد الدٌن وأن تإدي أقساطه بطرٌق واحد هو عقد قروض جدٌدة‪ ،‬ولم ٌكن مثار‬
‫للدهشة بعد أن فحص تفاصٌل الدٌون أن تنتوي الحكومة البرٌطانٌة أمرا أخطر من التدخل(‪.")ٔٔٙ‬‬

‫وبقلب وبلسان فبلح فصٌح عبَّر عبد هللا الندٌم عن رأي الفبلحٌن فً هذا الحال ساخرا(‪:)ٔٔ9‬‬

‫صاروا على األعٌان أعٌان‬ ‫أهل البنوكا واألطٌان‬

‫ما معاه وال حق الدخان‬ ‫وابن البلد ماشً عرٌان‬

‫شرم برم حالً ؼلبان‬

‫فلم ٌكن ؼرٌبا أمام هذا المشهد أن تنتظر مصر احتبلال جدٌدا‪ ...‬فوق االحتبلالت الثبلثة‪.‬‬

‫وإضافة إلى جزٌة القروض والفواٌد‪ ،‬نبَّه بٌرتز لتؤثٌر آخر مدمر لطوفان االستثمار األجنبً قاببل إن‬
‫السٌد الجلٌل "ما لبث أن تدفق بعد االحتبلل فً شكل استثمار خاص‪ ،‬ولٌس من شك فً أن تصدٌر رأس‬
‫المال والمنتجات الجاهزة من الببلد الصناعٌة إلى مصر هو الظاهرة الجوهرٌة لبلستعمار األجنبً‪ ،‬وال‬
‫شك أٌضا أن تصدٌر السلع الفابضة من هذه الببلد إلى مصر لم ٌربطها إلى الببلد المنتجة كما ربطها‬
‫تصدٌر رأس المال الفابض إلٌها"‪.‬‬

‫فٌوضح أن الرأسمالٌٌٌن البرٌطانٌٌن ٌقترحون المشروعات على الخدٌوي‪ ،‬وٌعقدون معه الصفقات‬
‫لٌنفذوها‪ ،‬ثم ٌقرضونه المال الذي ٌدفعه للمقاولٌن‪ ،‬أي لهم هم أنفسهم‪ ،‬ولنا أن نتصور أن المثل الذي أورده‬

‫(٘ٔٔ)‬
‫‪ -‬دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً‪ ،‬أحمد رشدي صالح‪ ،‬الفصل الخاص بترجمة كتاب االستعمار البرٌطانً فً مصر للبرٌطانً إلٌنور‬
‫بٌرتز‪ ،‬الصادر عام ‪ ٔ9ٕ9‬ببرٌطانٌا‪ ،‬الهٌبة العامة للكتاب‪ ،‬سلسلة تارٌخ المصرٌٌن‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪9‬‬
‫(‪)ٔٔٙ‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪8-9‬‬
‫(‪)ٔٔ9‬‬
‫‪ -‬عبد هللا الندٌم‪ ،‬صحٌة التنكٌت والتبكٌت‪ ،‬العدد ‪ ،9‬بتارٌخ ‪ٔ88ٔ -ٙ -9‬‬

‫‪ٕٗ7‬‬
‫جنكس لم ٌكن استثنابٌا‪ ،‬فبلبد أن هذه الصفقات كانت تصفً أرباحا طابلة‪ ،‬والبد أن الممولٌن كانوا ٌطالبون‬
‫بعمولة باهظة(‪.)ٔٔ8‬‬

‫حذر منه عباس العقاد فً كتابه "سعد زؼلول سٌرة وتحٌة" عن عادة األجانب فً‬ ‫وٌذكرنا هذا بما َ‬
‫عصر واستنزاؾ اإلنسان المصري‪ ،‬فٌقول‪" :‬وجاءه المرتزقة من أبناء األمم المتشتؽلة بالتجارة وتروٌج‬
‫السلع الؽرٌبة؛ فؤحوجوه مرة أخرى إلى الحٌطة والٌقظة واجتناب الؽفلة‪ ،‬ألنهم كانوا جمٌعا قناص كسب‪ ،‬ال‬
‫ٌتورعون عن خطفه واختبلسه بكل وسٌلة مٌسورة‪ ،‬وال ٌزالون محمٌٌن مرعٌٌن ]باالمتٌازات األجنبٌة‬
‫والحماٌة من الحكام األجانب[‪ ،‬وهو بٌنهم فرٌسة مباحة الذمار‪ ،‬ال تؤوى إلى حماٌة وال تعدل على رعاٌة"‪.‬‬

‫وضرب مثبل بؤنه زار مصر إنجلٌزي هو روبرب كرزون صاحب كتاب "األدٌرة والمعابد" (فً القرن‬
‫‪ ،)ٔ9‬فوصؾ أخبلق بعض الباعة المخادعٌن الذٌن ابتلٌت بهم مصر‪ ،‬ذاكرا منهم األتراك واألرمن‬
‫والفرنجة والٌهود واإلؼرٌق (الٌونانٌٌن)‪ ،‬فقال إنهم "على الجملة أنذال ٌتفاخرون بالختل واالختٌال‪ ،‬وإن‬
‫هناك بٌانا صحٌحا لنصٌب كل طابفة من القدرة على الؽش والسرقة ٌدل علٌه هذا التقدٌر"‪ ،‬وذكرنا العقاد‬
‫بؤن "هإالء كلهم كانوا فً العصور الوسطى وما بعدها مسلطٌن على المصري األعزل‪ٌ ،‬زٌفون له‬
‫البضابع الؽرٌبة‪ ،‬وٌخدعونه عن قٌمتها وعن درجتها وعن ثمنها وعن حاجته إلٌها"(‪.)ٔٔ9‬‬

‫والمخدوع ٌدفع الثمن‪ ..‬والثمن فً مصر‪ -‬كالعادة‪ -‬ؼالٌا‪ ،‬بل وهذه المرة سرٌعا‪ ،‬خاصة أن المخدوع‬
‫هذه المرة هم حكام قساة ألقوا بمصر كلها فً فم الؽول‪ ،‬فكان العقاب التارٌخً‪ ،‬وهو احتبلل جدٌد‪.‬‬

‫وٌقال إن من أسباب استٌطان الهكسوس القدماء فً مصر أن التجار ٌؤتون من الشام محملٌن ببضاٌع‬
‫وسلع ؼرٌبة على المصرٌٌن‪ ،‬منها أدوات للزٌنة وؼٌرها‪ ،‬وكان المصرٌون وقتها أٌام الدولة الوسطى فً‬
‫حالة مادٌة مزدهرة‪ ،‬فؤؼراهم حب تجربة الؽرٌب والعجٌب من البضاٌع رؼم عدم حاجتهم إلٌها‪ ،‬ورؼم أن‬
‫لدٌهم األفضل منها‪.‬‬

‫وفً حدٌث لتاجر سوري مع برنامج "صاحبة السعادة" على فضابٌة "سً بً سً" ٖٓ‪ ،ٕٓٔ8-ٗ -‬قال‬
‫إن من أسباب انتشار مطاعم األكل السوري فً مصر هو حب المصرٌٌن لتجربة كل جدٌد‪ ،‬وتقٌٌمه‬
‫صحٌح‪ ،‬فنظرة إلى شوارع مصر‪ -‬بما فٌها القرى اآلن‪ -‬لمتابعة كمٌة المطامعم المخصصة لؤلكبلت‬
‫األجنبٌة‪ ،‬والمبلبس األجنبٌة (بما فٌها الهندٌة واإلٌرانٌة)‪ ،‬وؼٌرها من بضاٌع لسنا بحاجة لها‪ ،‬وتنتشر رؼم‬
‫كثرة الدٌون على مصر‪ ،‬والشكوى الدابمة من األسعار‪ ،‬والمخاطر التً تواجه الببلد حال كثرة ؼسٌل‬
‫األموال الممكن أن تتستر تحت االستثمار األجنبً والبضاٌع المؽرٌة باسم مطاعم ومحبلت وشركات‪،‬‬
‫تعطً مإشرا لما ٌمكن أن ٌنتج عن هذا فً المستقبل‪.‬‬

‫➀ توزٌع أرض مصر على المحتلٌن والمستوطنٌن‬

‫(‪)ٔٔ8‬‬
‫‪ -‬دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً‪ ،‬أحمد رشدي صالح مترجما لكتاب "االستعمار البرٌطانً فً مصر" للبرٌطانً إلٌنور بٌرتز‪ ،‬ص ٘‪9-‬‬
‫(‪)ٔٔ9‬‬
‫‪ -‬سعد زؼلول‪ ،‬سٌرة وتحٌة‪ ،‬عباس محمود العقاد‪ ،‬الهٌبة العامة للكتاب‪ ،ٕٓٔ9 ،‬ص ٖٔ‪ٖٕ -‬‬

‫‪ٕٗ8‬‬
‫اعتبر االحتبلل العثمانلً أن األرض كلها ملك للسلطان "بحق الفتح"‪ٌ ،‬وزعها كٌفما شاء كالتزامات أو‬
‫أوقاؾ‪ ،‬ومنع تملكها ألشخاص‪ ،‬وحٌن ألؽى محمد علً االلتزام وقتل أو طرد معظم المسٌطرٌن الكبار على‬
‫األرض‪ ،‬ونزع الحٌازات من الباقٌن (الممالٌك والمشاٌخ وكبار التجار)‪ ،‬وزعها على عٌلته وخاصته‬
‫وموظفٌه‪ ،‬ولكن لم ٌسمح بالملكٌة الخاصة فً معظم عصره إال له ولعابلته وبعض المنعم علٌهم‪.‬‬

‫وسُمٌت األراضً التً تملكتها األسرة الحاكمة بـ"الجفالك" و"الشفالك"‪ ،‬وفٌوقت الحق بـ"الدابرة السنٌة"‬
‫و"الدابرة الخاصة"‪ ،‬وأعفاها من الضراٌب‪ ،‬وهً مساحات شاسعة ألخصب األراضً اختارها بنفسه‪،‬‬
‫وصل مجموعها سنة ‪ ٔ8ٗ8‬إلى ٖٖٗ ألؾ فدان‪ ،‬وضم إلٌها قرى بؤكملها‪ ،‬وزاد عباس من مساحتها‬
‫باستصبلح أراضً جدٌدة على ٌد الفبلحٌن بنظام السخرة‪ ،‬فٌما مارس إسماعٌل نشاطا محموما فً ضم‬
‫األراضً لنفسه وأسرته حتى وصلت سنة ‪ ٔ898‬ألكثر من ٓٔ‪ 9‬ألؾ فدان‪ ،‬أي حوالً ملٌون فدان‪ ،‬بما‬
‫ٌساوي خمس األرض المصرٌة المزروعة‪ ،‬وأخصبها(ٕٓٔ)‪ ،‬بخبلؾ ما هو معطى لبقٌة عٌلة محمد علً‪،‬‬
‫فكان بحق "قارون العصر"‪.‬‬

‫وأبقى محمد علً على األبعدٌات فً ٌد المنعم علٌهم وورثها لذوٌهم ثم وهب لهم تملٌكها‪ ،‬وبقٌة‬
‫األراضً ٌزرعها الناس بنظام حق االنتفاع‪ ،‬أما الوسٌات التً كانت فً ٌد الملتزمٌن‪ -‬ومعظمهم أجانب من‬
‫شوام وترك وعربان وأرناإوط إلخ‪ -‬فؤبقاها بؤٌدٌهم بنظام االنتفاع أٌضا‪ ،‬ثم سمح إسماعٌل بتملٌكها لهم‬
‫ولذرٌتهم مقابل دفع ضراٌب ‪ ٙ‬سنوات مقدما فٌما ٌُعرؾ بنظام المقابلة(ٕٔٔ)‪ ،‬وأضافوا علٌها أراض أخرى‪،‬‬
‫ومن صلب كل هذا األصناؾ خرج ما عرفناهم فً القرن ٕٓ باسم "اإلقطاعٌٌن"‪ ،‬وأخضعت ثورة ٖٕ‬
‫ٌولٌو ٕ٘‪ ٔ9‬ما بٌدهم من أرض لقانون "اإلصبلح الزراعً" باعتبارها أراضً أُخذت من الشعب بطرق‬
‫ظالمة‪ ،‬وفً وقت احتبلل‪ ،‬ورؼم هذا أعطتهم الثورة مقاببل مادٌا لما أخذته منهم من أراضً‪ ،‬وتركت لهم‬
‫مساحات واسعة !‬

‫وكان سعٌد تخلى قبله عن احتكار ملكٌة األرض‪ ،‬وفتح باب الملكٌة الفردٌة للناس‪ ،‬وهو ما سٌكون له‬
‫عواقب طٌبة وسٌبة فً نفس الوقت؛ ألنه أباحها للمصرٌٌن ولؽٌر المصرٌٌن‪ ،‬ففً ‪ ٔ8٘8‬أصدر قانون‬
‫األراضً الشهٌر باسم "البلبحة السعٌدٌة" سمح فٌه للشخص بتملك األرض التً ٌزرعها‪ ،‬فانتعشت أحوال‬
‫البعض‪ ،‬وخلقت منهم أؼنٌاء خاصة العمد(ٕٕٔ)‪.‬‬

‫ولكنه فً نفس الوقت سمح بتمل ٌك األجانب‪ ،‬ولذا فمن ؼٌر المستبعد أن ٌكون القانون صدر بإٌعاز من‬
‫األجانب المحٌطٌن به‪ ،‬فبهذا القانون أصبح األوروبٌون وؼٌرهم ألول مرة أصحاب وسٌات وإقطاعٌات‪،‬‬
‫وهذا من أبشع قراراته بعد قراري فتح باب الدٌون وحفر قناة السوٌس لصالح األجانب‪.‬‬

‫ومعرفة كٌؾ جرى توزٌع أراضً مصر فً ذلك العصر تعطً صورة عن جذور الثراء الفاحش الذي‬

‫(ٕٓٔ)‬
‫‪ -‬ملكٌة األراضً الزراعٌة فً مصر خبلل القرن التاسع عشر‪ ،‬حمدي الوكٌل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٓٓ -ٔ9ٙ‬‬
‫(ٕٔٔ)‬
‫‪ -‬انظر المرجع السابق‪ ،‬ص ٔ‪ٔ8ٕ -ٔ8‬‬
‫(ٕٕٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٓ9‬‬

‫‪ٕٗ9‬‬
‫تمٌزت به بعض العاببلت فٌما‪ ،‬فمن اؼتنى فً ذلك العهد هم أؼنٌاء العهد التالً‪.‬‬

‫وبموجب هذا التوزٌع وأسالٌبه تركزت ثروة األطٌان والثروة العقارٌة فً ٌد‪ :‬أسرة محمد علً‪ ،‬كبار‬
‫الموظفٌن من عدة جنسٌات‪ ،‬األوروبٌون‪ ،‬شٌوخ البدو‪ ،‬ندرة من المصرٌٌن‪ ،‬وفق ما سجلته سجبلت‬
‫الروزنامة ووثابق الملكٌة الزراعٌة وتراجم األعٌان فً ذلك الوقت‪ ،‬ونقلتها المراجع المذكورة فً‬
‫الهوامش‪.‬‬

‫♦♦♦ (عابلة محمد علً)‬

‫تابعنا كٌؾ وزع محمد علً أخصب أراضً مصر على نفسه وأسرته‪ -‬كقطع الجاتوه‪ -‬وتابع أبناإه نفس‬
‫النظام‪ ،‬فحٌن تولى عباس أؼدق الهبات من األراضً على األسرة الحاكمة‪ ،‬فمنح لكل زوجة من زوجات‬
‫محمد علً وإبراهٌم ٘ آالؾ فدان فوق ما لهن من أمبلك‪ ،‬ومنح أبناء وبنات أحمد باشا ٌكن (جد عدلً ٌكن‬
‫ربٌس الوزراء فٌما بعد) وإبراهٌم ٌكن‪ -‬وهم من أقارب األسرة الحاكمة‪ ٔٔ,٘ٓٓ -‬فدان بواقع ألؾ فدان‬
‫لكل ولد وٓٓ٘ فدان لكل بنت(ٖٕٔ)‪.‬‬

‫واستولى سعٌد على مساحات من األراضً البور الستصبلحها‪ ،‬وضم ألبعادٌاته من البحٌرة ‪ ٙ‬آالؾ‬
‫فدان من األطٌان الخراجٌة التً تركها الفبلحون تخلصا مما علٌهم من أعباء مالٌة‪ ،‬وصاروا هم ببل أرض‪،‬‬
‫كما استولى على أراضً بعض األفراد بحجة تداخلها فً أراضٌه وأعطى لهم بدال منها أراضً أخرى من‬
‫البور الخارجة عن الزمام‪ ،‬وبلؽت أطٌان دابرته عند وفاته ‪ ٖٔ,ٔٔ9‬فدان‪ ،‬وابنه وزوجاته ٌمتلكون‬
‫ٓ‪ ٔ9,ٔ9‬فدان من أجواد األراضً الزراعٌة بالدلتا(ٕٗٔ)‪.‬‬

‫وكثٌرا ما كان الفبلحون ٌجبرون أٌام سعٌد على التنازل عن أراضٌهم ألفراد األسرة الحاكمة الراؼبٌن‬
‫فً ضمها لمزارعهم‪ ،‬سوا عوضوا أصحابها بؤراضً أقل خصوبة أو لم ٌعوضوهم‪ ،‬والجلد جزاء من‬
‫ٌرفض التنازل عن أرضه‪ ،‬فتحكً وثابق "معٌة تركً محفظة ‪ ٙ9‬وثٌقة ٕٕٕ" أنه فً سنة ٔ‪ ٔ8ٙ‬طلب‬
‫سعٌد من فبلحٌن ٌملكون ٖٓٓ فدان مجاورة ألبعادٌة عبد الحلٌم ابن محمد علً بالمطاعنة فً قنا أن‬
‫ٌشترٌها لٌلحقها بؤبعادٌته‪ ،‬فرفضوا‪ ،‬فؤمر بجلدهم‪ ،‬ووافق أصحاب ‪ 89‬فدان من الفبلحٌن بٌع أطٌانهم‬
‫ورفض البقٌة‪ -‬رؼم الجلد‪ -‬البٌع للباشا‪ ،‬مما دفع مدٌر قنا لرفع أمرهم إلى سعٌد لٌؤمر بما ٌُتبع بشؤنهم(ٕ٘ٔ)‪.‬‬

‫أما إسماعٌل فلم ٌكتؾِ بإجبار الفبلحٌن على بٌع األراضً "اللً بتطلع علٌها عٌنه"‪ ،‬ولكن أجبر أٌضا‬
‫أفراد عٌلته ‪ ،‬فؤرؼم عمه عبد الحلٌم باشا وأخاه مصطفى فاضل باشا على أن ٌبٌعاه دابرتٌهما اللتٌن بلؽت‬
‫مساحتهما ٘‪ 9‬ألؾ فدان‪ ،‬واستولى على مساحات واسعة من األراضً المتروكة‪ -‬أي تركها الفبلحون‬
‫لعجزهم عن تكالٌفها‪ -‬واألراضً المستبعدة‪ ،‬بعضها ٌُزرع لحسابه وبعضها أجرَّ ها لفبلحٌن‪ ،‬وأنعم على‬

‫(ٖٕٔ)‬
‫‪ -‬كبار المبلك والفبلحٌن فً مصر من ‪ ، ٔ9ٕ٘ -ٔ8ٖ9‬رإوؾ عباس وعاصم الدسوقً‪ ،‬نسخة إلكترونٌة على موقع المإرخ د‪.‬رإوؾ عباس‪،‬‬
‫ص ٓ‪9ٔ -9‬‬
‫(ٕٗٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫(ٕ٘ٔ)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٔ‪9‬‬

‫ٖٓٗ‬
‫أوالده وبناته زوجاته وجوارٌه بمساحات واسعة من األطٌان‪ ،‬واشترى أراضً سدد أثمانها من خزانة‬
‫الدولة‪ ،‬وسخر الفبلحٌن لحفر ترعة اإلبراهٌمٌة لري مزارع القصب التً تملكها فً أسٌوط والمنٌا‪ ،‬حتى‬
‫بلؽت األراضً المملوكة له وألسرته نحو ملٌون فدان‪ ،‬بخبلؾ ما ٌملكه بقٌة أسرة محمد علً(‪.)ٕٔٙ‬‬

‫ولم ٌحد هذه الملكٌات الخارجة عن العقل إال إجباره على ٌد صندوق الدٌن التنازل عنها لصالح سداد‬
‫الدٌون‪ ،‬وجرى بٌعها بالتقسٌط لنفس العاببلت الثرٌة فزادت ثراء‪ ،‬واشترى أٌضا أجانب جدد فزادوا فً‬
‫البلد تملكا‪ ،‬ثم عاد استحواذ األسرة العلوٌة على األراضً لٌظهر "قارون" جدٌد هو فإاد األول‪.‬‬

‫♦♦♦ (كبار الموظفٌن)‬

‫هم الرقم الثانً فً كبار المتملكٌن بعد أن أنعمت علٌهم أسرة محمد علً بهبات واسعة من األراضً‬
‫لٌخلصوا لها‪ ،‬ومعظمهم ٌنتمً للمجموعة التركٌة التً عرَّ فها ملنر فً كتابه "إنجلترا فً مصر" بؤنها تضم‬
‫أخبلطا من أتراك آسٌا الصؽرى والمؽرب وتونس والشراكسة واألكراد والشوام واألرمن‪ ،‬وتلتزم بؤسالٌب‬
‫الحٌاة التركٌة واللؽة التركٌة‪ ،‬وانضم لهإالء الموظفٌن عدد محدود من المصرٌٌن الذٌن هٌؤت لهم إجادتهم‬
‫للتركٌة فرصة ولوج الوظابؾ الكبرى‪ ،‬وزوجهم الحكام بتركٌات وشركسٌات من جوارٌهم المعتقات لٌؤلفوا‬
‫الحٌاة التركٌة(‪.)ٕٔ9‬‬

‫وبداٌة وهب محمد علً ما بٌن ٓٓٔ‪ ٖٓٓٓ -‬آالؾ فدان للموظؾ مثلما أنعم على مصطفى باشا محافظ‬
‫كرٌت ب ٖ آالؾ فدان‪ ،‬وبعض ضباط الجٌش األتراك بما بٌن ٕٓٓ‪ ٘ٓٓ -‬فدان‪ ،‬وهو ما واصله عباس‬
‫الموالً لؤلتراك؛ فوزع مثبل ٓ٘‪ 8‬فدانا إلبراهٌم أدهم وٖٓ٘ لخورشٌد باشا‪ ،‬وهكذا‪ ،‬وأسرؾ إسماعٌل فً‬
‫منح األراضً لكبار الموظفٌن ما بٌن ٓٓٔ‪ ٔٓٓٓ -‬فدان‪.‬‬

‫وتضخمت ثروات كبار الموظفٌن الذٌن عاصروا عدة حكام بشكل خرافً‪ ،‬فمثبل شرٌؾ باشا الذي تولى‬
‫وظابؾ منذ أٌام محمد علً تجمع فً ٌدٌه من اإلنعامات المتتالٌة حتى عهد إسماعٌل ٗ‪ ٕٓ,ٔٙ‬فدان سنة‬
‫ٓ‪ ،ٔ89‬وملك حسن المانسترلً ٗٓ‪ ٕٙ‬فدان‪ ،‬وهكذا(‪ ،)ٕٔ8‬وٌسمونها هبات وهً أموال حرام منزوعة من‬
‫الفبلحٌن‪ ،‬وانطبق على أسرة محمد علً القول الذي اشتهر عن آرثر بلفور صاحب وعد بلفور الشهٌر‬
‫للمستوطنٌن الٌهود بتملك فلسطٌن "أعطى ما ال ٌملك لمن ال ٌستحق"‪.‬‬

‫وتوقؾ منح الهبات مع اشتداد األزمة المالٌة ثم قدوم االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬وحل محلها كوسٌلة لتضخم‬
‫الثروات شراء األراضً المٌري بؤبخس األثمان استؽبلال لنفوذهم داخل الحكومة‪ ،‬حتى اشترى إسماعٌل‬
‫باشا راؼب مثبل لوحده‪ ،‬وهو مفتش الحسابات باألقالٌم‪ ٖٕٗ٘ ،‬فدانا من أطٌان المٌري بالؽربٌة(‪.)ٕٔ9‬‬

‫وبنظام "البٌع والشراء" ترسخت ملكٌة األراضً فً أٌدي المستوطنٌن األجانب؛ بمعنى أنهم صاروا‬

‫(‪)ٕٔٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع ص ٔ‪9ٖ -9‬‬
‫(‪)ٕٔ9‬‬
‫‪ -‬كبار المبلك والفبلحٌن فً مصر من ‪ ،ٔ9ٕ٘ -ٔ8ٖ9‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪9ٙ‬‬
‫(‪)ٕٔ8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٓ‪9‬‬
‫(‪)ٕٔ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪99‬‬

‫ٖٔٗ‬
‫ٌتوارثونها وٌتصرفون فٌها كٌفما شاءوا‪ ،‬وال ٌحق للحاكم نزعها منهم مثل الهبات‪ ،‬فتكون فً مصر طبقات‬
‫حدٌدٌة من كبار متملكً األراضً واألؼنٌاء الذٌن ال ٌتؽٌرون وال ٌتزحزحون‪ ،‬حتى بالثوارات وبتؽٌر‬
‫الحكام‪ ،‬واستؽلوا هذا فً أنهم قفزوا على المناصب البرلمانٌة والحكومٌة وصاروا أٌضا ٌتوارثونها‬
‫كعاببلت وأصهار حتى ثورة ٕ٘‪ -ٔ9‬خاصة بعد حصولهم على الجنسٌة المصرٌة بقانون سًء السمعة‪ -‬بل‬
‫وبعضهم ما زال ٌتوارث األمبلك والمناصب حتى الٌوم‪.‬‬

‫♦♦♦ (شٌوخ البدو)‬

‫النوع الرابع لمن صاروا من كبار متملكً األراضً هم شٌوخ البدو‪ ،‬كانوا حتى ذلك الوقت ٌنظرون‬
‫للمصرٌٌن بتكبر وقسوة ألن عادتهم فً ضم األراضً وتحصٌل المال كانت بالسبلح إلرهاب الفبلحٌن‬
‫وفرض إتاوت علٌهم‪ ،‬أو بالصراع مع الممالٌك حتى الحصول على التزام مساحات شاسعة من األراضً‪،‬‬
‫وفً عهد محمد علً اعتمد سٌاسة توطٌن البدو فً الوجه البحري والقبلً لٌكفوا عن السلب والنهب حتى‬
‫تقلد بعضهم أرفع المناصب فً المدٌرٌات المستوطنٌن بها‪.‬‬

‫ومن مشاٌخ البدو المستفٌدٌن من التملٌك وقتها آل مناع من قبٌلة أوالد ٌحًٌ فً قنا التً وصل ابنها‬
‫عمر لمنصب مدٌر جرجا ثم أسٌوط فً عصر إسماعٌل‪ ،‬وسموا بلدة باسمهم‪ ،‬وأبو كرٌشة الذٌن استوطنوا‬
‫نجوع فً جرجا وسموا قرٌة باسمهم واستولوا على مساحة ‪ ٔٙ‬ألؾ فدان‪ ،‬وعٌلة أبو دومة فً جرجا الذي‬
‫عٌنه محمد علً فً وظٌفة ناظر قسم وأصبح ابنه عبد الرحمن من أعضاء مجلس شورى النواب‪،‬‬
‫واشتهرت العابلة بالثراء الواسع والسطوة على الفبلحٌن‪ ،‬وعابلة آل أباظة بالشرقٌة‪ ،‬وٌقول عنهم علً‬
‫مبارك إنهم من عشابر قبٌلة العابد التً نزلت مصر فً القرن ٗٔ م واستوطنت الشرقٌة واستولت على‬
‫أراضً بعض القرى وسخروا الفبلحٌن فً زراعتها‪ ،‬وبقوا على بداوتهم فترة طوٌلة حتى تولى محمد علً‬
‫وخٌرهم بٌن أن ٌُعاملوا معاملة الفبلحٌن فٌكون لهم ما لهإالء من حقوق وعلٌهم ما علٌهم من واجبات وبٌن‬
‫أن ٌعاملوا معاملة البدو فٌنزع ما تحت أٌدهم من أطٌان استولوا علٌها بدون وجه حق‪ ،‬فقبلوا أن ٌعاملوا‬
‫معاملة الفبلحٌن حتى اعتادوا االستقرار والخضوع للسلطة‪ ،‬وجمعوا فً ٌدهم آالؾ األفدنة‪ ،‬ثم تولوا‬
‫مناصب فً الحكومة‪.‬‬

‫وعابلة آل الشواربً من قبٌلة فً الحجاز نزحت لمصر فً القرن ٖٔ م وأنعم علٌهم الظاهر بٌبرس‬
‫بؤطٌان فً قرٌة البرادعة‪ ،‬وترقت فً الوظابؾ زمن محمد علً وخلفابه فً قلٌوب ومع نهاٌة القرن ‪ٔ9‬‬
‫كانت تمتلك ‪ %٘8‬من زمام قلٌوب وجمٌع حوانٌت البلدة ووكاالتها وبساتٌن الفاكهة ومضخات الري(ٖٓٔ)‪.‬‬

‫وزرع االحتبلل العلوي نوعا آخر من القباٌل التً تتخذ من الؽارات على القرى وسٌلة للتكسب‪،‬‬
‫فؤعطاهم أبعادٌات معفاة من الضراٌب دون تقاسٌط تثبت حٌازتهم لها‪ ،‬على أن ٌعفٌهم من السخرة والخدمة‬
‫العسكرٌة‪ -‬هذا فٌما ٌستمر فرض الضراٌب والسخرة على الفبلحٌن وكؤنه ٌكافا المجرم وٌعاقب صاحب‬

‫(ٖٓٔ)‬
‫‪ -‬كبار المبلك والفبلحٌن فً مصر من ‪ ،ٔ9ٕ٘ -ٔ8ٖ9‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘‪89 -8‬‬

‫ٕٖٗ‬
‫األرض‪ -‬ورؼم هذه العطاٌا ظلوا ٌستبدون بالفبلحٌن وٌسطون على أراضٌهم ومحاصٌلهم ببلطجة السبلح‬
‫واإلرهاب‪ ،‬خاصة أنهم أخذوا مناصب شٌوخ القرى والعمد‪ ،‬وعاندوا أحٌانا الحكومة‪ ،‬فجرد سعٌد باشا‬
‫الحمبلت العسكرٌة علٌهم وصادر ما تحت أٌدٌهم وطاردهم فً الصحرا الؽربٌة‪ ،‬ولم ٌبقً إال على من قبل‬
‫الدخول ف ً طاعة الحكومة وفبلحة األرض بنفسه‪ ،‬ومنهم آل الطحاوي من قبٌلة الهنادي‪ ،‬وصار بعض‬
‫الشٌوخ أصحاب آالؾ األفدنة(ٖٔٔ)‪.‬‬

‫♦♦♦ (األوروبٌون وأتباعهم)‬

‫فً البداٌة كان للٌونانٌٌن نصٌب األسد فً تملك األراضً‪ ،‬واحتموا بالقضاء القنصلً الذي ٌحمٌهم من‬
‫نزع الدولة لؤلرض التً ٌتملكونها‪ ،‬وكونوا شركات الستصبلح األراضً‪ ،‬وتملكوا أبعادٌات‪ ،‬وزادت‬
‫األراضً التً ٌتملكونها بشدة بسبب نظام الرهونات األجنبً الذي تسبب فً خسارة الكثٌر من الفبلحٌن‬
‫ألراضٌهم وأٌلولتها إلى األجنبً صاحب الرهن(ٕٖٔ)‪.‬‬

‫ومع تزاٌد تدفق األوروبٌٌن على مصر وتبعٌاتهم من شوام وٌهود ومؽاربة أصبح األوروبٌون رقما ظاهرا‬
‫فً خرٌطة األثرٌاء بمصر؛ وبدأوا رحلة الثراء السرٌع باألبعادٌات التً منحها محمد علً لكبار الموظفٌن‬
‫األجانب العاملٌن فً مشارٌعه‪ ،‬وتملكوا هذه األراضً فً فبراٌر ٕٗ‪ ٔ8‬بشكل ؼٌر رسمً‪ ،‬وحصلوا على‬
‫عدد من القرى بحق االنتفاع‪ ،‬والدفعة الكبٌرة لهم فً ابتبلع أراضً وعقارات مصر كانت على ٌد سعٌد‬
‫لما سمح لهم بؤخذ مساحات واسعة من أطٌان "المتروك" الخاصة بالفبلحٌن‪ ،‬ولجؤوا لوسٌلة لبٌمة لوضع‬
‫الٌد على مزٌد من األرض وهً إقراض الفبلحٌن المال ثم االستٌبلء على أراضً من ٌعجزون عن السداد‬
‫من دٌون وفوابد‪ ،‬وما كان أكثر هإالء(ٖٖٔ)‪.‬‬

‫وساعدهم فً اكتناز األراضً والعقارات أنهم أسسوا مكتبا لتسجٌل العقود الناقلة لملكٌة األطٌان والعقارات‬
‫وعقود الرهونات ٌتبع القنصلٌات األجنبٌة ال القوانٌن المصرٌة؛ فبات أي خبلؾ لهم مع األهالً ٌنتهً فً‬
‫الؽالب لصالح األجانب حتى تؤسست المحاكم المختلطة‪ ،‬وتحت حماٌة االمتٌازات األجنبٌة تهرب كثٌر منهم‬
‫من دفع الضراٌب(ٖٗٔ)‪.‬‬

‫بل ٌتحاٌل بعض األجانب على فبلحٌن مٌسورٌن ألخذ أموال منهم تحت أي اسم‪ ،‬وٌتحاٌلون كً ال ٌردوه‪،‬‬
‫ففً سنة ٓ‪ ٔ88‬رفع ٖ فبلحٌن دعوة فً المحاكم المختلطة على مسر كوترٌللً مهندس الري بؤنه لهم دٌن‬
‫علٌه‪ ،‬فحكمت المحكمة لصالحه وعلى الفبلحٌن بدفع تعوٌض‪ ،‬وبعدها قابلوه وهددوه إن لم ٌرد إلٌهم الدٌن‬
‫سٌقتلونه‪ ،‬فنصحه القنصل بترك مصر(ٖ٘ٔ)‪.‬‬

‫وعلى هذا‪ ،‬بلؽت مساحة ما ٌملكه األجانب (األوروبٌون) من األطٌان الزراعٌة فً مصر ٔ‪ ٕٕ٘,ٔ8‬أي‬

‫(ٖٔٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪88 -89‬‬
‫(ٕٖٔ)‬
‫‪ -‬ملكٌة األراضً الزراعٌة خبلل القرن التاسع عشر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٖٔ‪ٖٕ9 -‬‬
‫(ٖٖٔ)‬
‫‪ -‬كبار المبلك والفبلحٌن فً مصر من ‪ ،ٔ9ٕ٘ -ٔ8ٖ9‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ‪9ٗ -9‬‬
‫(ٖٗٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع ص ٘‪9‬‬
‫(ٖ٘ٔ)‬
‫‪ -‬الجالٌة البرٌطانٌة فً مصر (٘ٓ‪ ،)ٔ88ٕ -ٔ8‬ناهد السٌد علً زٌان‪ ،‬دار الكتب والوثابق القومٌة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٕٖٖ‬

‫ٖٖٗ‬
‫نحو ربع ملٌون فدان حتى عام ‪ ،ٔ889‬أي فً فترة قصٌرة جدا‪ ،‬وزادت للضعؾ خبلل ٓٔ سنوات حتى‬
‫بلؽت ‪ ٘9ٖ,8ٔ9‬سنة ‪ ٔ89ٙ‬ثم ٕٕ٘‪ ٕٕٙ,‬فً ‪ ،ٔ9ٓٙ‬أي نحو ٔٔ‪ %‬من أراضً مصر الزراعٌة‬
‫وخاصة فً وجه بحري وما حول القناة بسبب تراكم أراضً المصرٌٌن فً أٌدي الدابنٌن األجانب‪ ،‬ومن‬
‫أمثلة أصحاب الملكٌات الكبٌرة جانكلٌس وبٌراركوس الٌونانٌٌن اللذٌن تملكا ‪ 9‬آالؾ فدان فً البحٌرة‪،‬‬
‫وأرمانت السندرٌنً اإلٌطالً تملك أكثر من ٕٓٓٗ فدان‪ ،‬والحكٌمباشً ٌوركر بك الذي أنعم علٌه إسماعٌل‬
‫بـ ٓٓ٘ فدان من أطٌان األبعادٌة وباولٌنو بك كبٌر الصٌادلة الذي حصل على ٘‪ ٔٗ8‬فدان بالبحٌرة‪،‬‬
‫ودرانت باشا مدٌر األوبرا الخدٌوٌة الذي بلػ ما تحت ٌده من أراضً ٕٔ ألؾ فدان مطلع القرن ٕٓ‬
‫بعضها إنعامات من إسماعٌل(‪.)ٖٔٙ‬‬

‫والجانب األكبر من ملكٌة األجانب نتجت عن فتح الباب أمامهم لبلستثمار فً استصبلح األراضً؛ فؤسسوا‬
‫شركات أراضً مثل شركة الكوم األخضر الزراعٌة الفرنسٌة وشركة ري البحٌرة اإلنجلٌزٌة التً اشترت‬
‫مساحات شاسعة من األراضً البور بثمن بخس‪ ،‬أو حصلت علٌها كمنحة من الخدٌوي‪ ،‬وبعد استصبلحها‬
‫تبٌعها للؽٌر بثمن ؼالً وتزرع بعضها اآلخر(‪.)ٖٔ9‬‬

‫وشارك بعض الشوام والٌهود واألتراك األوروبٌٌن فً هذه الؽنٌمة عبر حصولهم على جنسٌات أوروبٌة‬
‫لٌستفٌدوا من االمتٌازات األجنبٌة التً تحمً ثرواتهم من المصادرة وتساعدهم على التهرب من الضراٌب‪،‬‬
‫وتزود صفقاتهم؛ فظهرت مساحات ملكٌاتهم ضمن ملكٌات األجانب‪ ،‬ومنهم سلٌم بك شدٌد الذي تملك ٖٖ‬
‫ألؾ فدان بعد حصوله على الجنسٌة البرتؽالٌة‪ ،‬ورزق هللا بك شدٌد الذي تملك ‪ ٔٙ‬ألؾ فدان بعد أن انتمى‬
‫أللمانٌا‪ ،‬وسكاكٌن باشا وحبٌب لطؾ هللا الذٌن تملكا آالؾ األفدنة بجنسٌتهما الفرنسٌة‪ ،‬والتركً علً باشا‬
‫شرٌؾ الذي تملك ٖٔ ألفا من أجود األراضً الزراعٌة محتمٌا بالجنسٌة اإلٌطالٌة‪ ،‬بل وصار ربٌسا‬
‫لمجلس شورى القوانٌن(‪.)ٖٔ8‬‬

‫وإذا كانت ملكٌات المصرٌٌن تقسم إلى صؽٌرة وكبٌرة فإن ملكٌات األجانب كانت كبٌرة دابما(‪ ،)ٖٔ9‬بسبب‬
‫اإلنعامات أو ما فً أٌدٌهم من رإوس أموال وامتٌازات أجنبٌة ودعم قنصلً ٌتٌح لهم ضم أراضً كثٌرة‪،‬‬
‫بخبلؾ التخصص فً الربا وإقراض الفبلحٌن‪ ،‬ثم نزع أراضٌهم‪.‬‬

‫♦♦♦ (المصرٌون)‬

‫وهم األقل عددا بٌن المبلك‪ ،‬وقبل محمد علً كان من ٌصل إلى درجة الؽنى الواسع من المصرٌٌن‬
‫ؼالبا من المصرٌٌن المسٌحٌٌن المتوارثٌن أعمال الدواوٌن‪ ،‬واستمروا فً االحتبلل العلوي هم األكثر قدرة‬
‫من بٌن المصرٌٌن على الوصول للثراء أٌضا؛ فؤخذ حصة مما تسمى بـ"اإلنعامات" سبللة من عاببلت‬
‫"قبط الدواوٌن" مثل باسٌلٌوس بن المعلم ؼالً ربٌس الروزنامجة (أي الدواوٌن) الذي وصل لٌده من‬

‫(‪)ٖٔٙ‬‬
‫‪ -‬كبار المبلك والفبلحٌن فً مصر من ‪ ،ٔ9ٕ٘ -ٔ8ٖ9‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪9ٙ‬‬
‫(‪)ٖٔ9‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‬
‫(‪)ٖٔ8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪98‬‬
‫(‪)ٖٔ9‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪99‬‬

‫ٖٗٗ‬
‫"إنعامات" محمد علً ٕٓٓٓ فدان‪ ،‬ودوس طوبٌا والمعلم رزق الذي ظلت أطٌان كفور رزق بالدقهلٌة ملكا‬
‫ألوالده وأحفاده حتى القرن ٕٓ(ٓٗٔ)‪.‬‬

‫االمتٌازات األجنبٌة وسٌلة أخرى من وسابل ثراء بعض المصرٌٌن الذٌن اختاروا أن ٌدخلوا فً عباءة‬
‫سفارات أجنبٌة لٌُعاملوا معاملة مختلفة عن بقٌة المصرٌٌن بمباركة من الدول األجنبٌة مقابل أن ٌرعوا‬
‫مصالحها داخل مصر‪ ،‬فؤسندت لهم القنصلٌات وسٌلة هامة من وسابل الثراء السرٌع وهً توكٌبلت البٌوت‬
‫التجارٌة األجنبٌة أو تولً منصب القنصل‪ ،‬فمثبل واصؾ جرٌس من عابلة جرٌس الثرٌة بالوجه البحري‬
‫تولى منصب قنصل البرتؽال بالمنصورة‪ ،‬وأندراوس بشارة عمل قنصبل إلٌطالٌا وبلجٌكا باألقصر وتولى‬
‫تجارة بضاٌع الشرق األقصى‪ ،‬واشترى جراء ذلك ألؾ فدان دفعة واحدة‪ ،‬وزادت أمبلكه إلى ‪ ٙ‬آالؾ فدان‬
‫فً ٓٔ سنوات فقط‪ ،‬وعابلة وٌصا بقطر بؤسٌوط التً اشتؽلت بالتجارة وعمل قنصبل ألمرٌكا وهولندا‬
‫بؤسٌوط حتى وصلت األراضً فً ٌده إلى ‪ ٕ8‬ألؾ فدان بخبلؾ مصنع للسكر وأمبلك أخرى‪ ،‬وعابلة‬
‫مٌخابٌل بؤسٌوط التً عملت بالتجارة ومنصب قنصل روسٌا بؤسٌوط حتى أصبح من كبار المبلك‪ ،‬وأنشؤ‬
‫مصرفا بؤسٌوط إلقراض الفبلحٌن وهو بنك البكوات بشرى وسٌنوت حنا‪ ،‬واحتمى هإالء وفق تبعٌاتهم‬
‫األجنبٌة بالمحاكم المختلطة لتبعد ثرواتهم عن مصادرة الحكام لها(ٔٗٔ)‪.‬‬

‫وأتاح اضطرار محمد علً وبعض أبنابه لبلستعانة بمصرٌٌن فً البعثات الدراسٌة فرصة للوصول‬
‫إلى مناصب أخذوا على حسها "إنعامات"‪ ،‬ومنهم علً باشا مبارك الذي أعطاه عباس األول ٖٓٓ فدان من‬
‫أراضً الدقهلٌة‪ ،‬ورفاعة الطهطاوي الذي أعطاه محمد علً أبعادٌة مساحتها ٓ٘ٔ فدانا من أراضً‬
‫أسٌوط وسعٌد أعطاه ٕ٘‪ ٙ‬من أطٌان جرجا وأسٌوط‪ ،‬وأضاؾ علٌهم ٔ‪ 99‬اشتراها من أراضً المٌري فً‬
‫عهد إسماعٌل(ٕٗٔ)‪ ،‬وهذه النوعٌة التً تصل لمكانة رفٌعة بجهدها وعلمها كانت األراضً المعطاه لهم أقل‬
‫فً مقدارها من األتراك والشركس والعربان وؼٌرهم من رعاٌا العثمانلٌة‪ ،‬وفرصتهم فً الثراء ظلت أقل‪.‬‬

‫وحصل على األطٌان أٌضا العمد بطرق ٌبٌحها قانون االحتبلل وقتها وأخرى ال ٌبٌحها‪ ،‬منها السٌطرة‬
‫على أراضً المتوفٌن بدون أن ٌتركوا ورٌثا‪ ،‬واالستٌبلء على أراضً الفبلحٌن التً ٌهجرونها لعدم‬
‫قدرتهم على سداد الضراٌب والمستحقات أو من شدة قسوة العمد فً معاملتهم وفرض السخرة علٌهم‬
‫وؼٌرها من أشكال الظلم‪ ،‬وتسمت بـ"أراضً المتروك"‪ ،‬أو ما أخذوه كـ"إنعامات" من الحكام‪ ،‬أو بشراء‬
‫أراضً المٌري واألطٌان العشورٌة بتسهٌبلت ٌعجز عن الحصول علٌها معظم الفبلحٌن‪ ،‬وتورٌد بضابع‬
‫كالزٌوت والقطن للحكومة‪ ،‬ومن أشهر العاببلت التً أثرت من عمل العمودٌة عابلة على البدراوي وعابلة‬
‫سٌد زؼلول فً الؽربٌة‪ ،‬والشندوٌلً فً جرجا‪ ،‬وحسن أبو سلٌمان فً المنٌا(ٖٗٔ)‪.‬‬

‫أما بقٌة المصرٌٌن فما بٌن قلة ملكت مساحة قلٌلة وذاقت ألول مرة طعم الكفاٌة‪ -‬خاصة بعد رواج‬

‫(ٓٗٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬كبار المبلك والفبلحٌن فً مصر من ‪ ،ٔ9ٕ٘ -ٔ8ٖ9‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔ‪9‬‬
‫(ٔٗٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٔ‪9ٖ -9‬‬
‫(ٕٗٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪99 -98‬‬
‫(ٖٗٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٔ‪8ٗ -8‬‬

‫ٖ٘ٗ‬
‫تجارة القطن عالمٌا‪ -‬وما بٌن أؼلبٌة ال ٌملك الواحد فٌهم أحٌانا العمامة‪ -‬خاصة فً السنوات االستنزافٌة فً‬
‫عصر إسماعٌل‪ -‬وال ٌملك سوى جلباب‪ ،‬ولو ملك عمامة وأكثر من جلباب ٌخفً ذلك حتى ال ٌطارده‬
‫الصرافون وٌطالبونه بالضراٌب باعتبار أن امتبلكه أكثر من جلباب دلٌل رفاهٌته‪ ،‬وكانت النساء تبٌع‬
‫حلٌهن ذهبٌة أو فضٌة وحتى مبلبسهن‪ ،‬وٌُساق الناس أطفال ونساء وشباب ومسنٌن بالكرباج إلى مشارٌع‬
‫إسماعٌل العامة أو الخاصة(ٗٗٔ)‪.‬‬

‫وٌثبت هذا الحال "سكاون بلنت" بالمشاهد التً صادفها أثناء جولته فً الرٌؾ سنة ‪" :ٔ89ٙ‬كانت المجاعة‬
‫تدق أبواب الفبلحٌن‪ ،‬وق َّل فً تلك األٌام أن ٌُرى رجل فً حقله وهو ٌضع عمامة على رأسه‪ ،‬أو أكثر من‬
‫قمٌص واحد ٌستر به جسمه"‪ ،‬وفً األسواق "تعج بالنساء البلتً كن ٌبعن مبلبسهن ومصاؼاتهن الفضٌة‬
‫للمرابٌن الٌونانٌٌن نظرا ألن جباة الضراٌب كانوا فً القرٌة وسٌاطهم فً أٌدٌهم"‪ ،‬و"انضمننا (بلنت‬
‫وزوجته) إلٌهن فً لعنهن وقذفهن فً حق الحكومة التً كانت تعرٌهن(٘ٗٔ)"‪.‬‬

‫هذه هً الطرق التً سقطت بها أراضً مصر بنظام التملٌك ألول مرة فً أٌدي حفنة قلٌلة‪ ،‬معظمها أجانب‬
‫طازة أو مستوطنٌن ٌعٌشون بروح وتوب الؽزاة‪ ،‬ولم ٌشعروا بؤي تؤنٌب للضمٌر فً اتباع هذه الطرق‬
‫للثراء‪ ،‬فكؤن "الحرام" صار هو قانون الثراء الوحٌد؛ وكلهم ما بٌن من ٌبرر لهذا بؤنه "حق الفتح"‪ ،‬ومنهم‬
‫من ٌبرره بؤنه ٌعٌش فً عباءة أصحاب "حق الفتح"‪ ،‬أو بـ"حق التفوق" العثمانلً والعربانً واألوروبً‬
‫ومن كل ملة أو بحق "اإلنعامات"‪.‬‬

‫"هللا ٌلعنك ٌا زمان‪ٌ ،‬اللً خلٌت للندل كبلم‪ ،‬وجبت اللً ورا قدام‪ ،‬وخلٌت السٌد خدام"(‪.)ٔٗٙ‬‬

‫مثل شعبً فصٌح‪ ..‬لكن هل الزمان من ٌستحق اللعنة‪ ..‬أم ذاكرة شعب تصفر فٌها الرٌح !‬

‫منذ أن خالؾ المصرٌون وصٌة حور وماعت وكل شعوب األرض تنظر إلى مصر على أنها "نهٌبة‬
‫الدنٌا"‪ ،‬الشاطر من ٌمد ٌده لـ"ٌكبش" منها بكل قوته‪ ،‬وبكل وسٌلة‪ ،‬مهما كانت حراما‪ٌ ،‬رون أن شعبها‪-‬‬
‫الذي لم ٌكؾ عن الكد والكدح‪ -‬هو الوحٌد الذي لٌس له الحق فٌها ألنه "فبلح"‪ ،‬وألن أرضه سُلبت منه‬
‫بالسٌؾ (الفتح)‪ ،‬ثم ابتدعوا وسٌلة سلب األرض المصرٌة بالقانون والرهن والربا واالستثمار والتجنٌس أو‬
‫الزواج من عاببلت من ٌؽتنً من المصرٌٌن وأخذ أرضهم بالتورٌث‪.‬‬

‫➁ توحٌد نطق اللؽة المصري مع الٌونانً‪ ..‬الخنجر السادس‬

‫فً عهد الوالً سعٌد تلقت اللؽة المصرٌة طعنة جدٌدة حٌن وافق بابا الكنٌسة المصرٌة كٌرلس الرابع (‬
‫تولى ما بٌن ٗ٘‪ )ٔ8ٙٔ -ٔ8‬على مشروع لتوحٌد نطق اللؽة بٌن الكنٌسة القبطٌة والكنٌسة الٌونانٌة‪،‬‬
‫لتستمر لعنة البصة الٌونانٌة على لؽة مصر منذ االحتبلل الٌونانً القدٌم‪.‬‬

‫(ٗٗٔ)‬
‫‪ -‬األرض والفبلح‪ ..‬المسؤلة الزراعٌة فً مصر‪ ،‬إبراهٌم عامر‪ ،‬الدار المصرٌة للطباعة والنشر والبحوث والحسابات العلمٌة‪ ،‬ص ٗ‪9‬‬
‫(٘ٗٔ)‬
‫‪ -‬التارٌخ السري الحتبلل اإلنجلٌزي لمصر‪ -‬رواٌة شخصٌة لؤلحداث‪ ،‬ولفرٌد سكاون بلنت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘٘‬
‫(‪)ٔٗٙ‬‬
‫‪ -‬موسوعة األمثال الشعبٌة المصرٌة‪ ،‬د‪ .‬إبراهٌم شعبلن‪ ،‬جٔ‪ ،‬طٔ‪ ،‬دار األفاق العربٌة‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٖٓٓ ،‬ص ‪ٔٔ8‬‬

‫‪ٖٗٙ‬‬
‫وأصل الموضوع ٌرجع إلى أن اللؽة المصرٌة لها لهجات‪ -‬مثلما ننطق لهجات حتى الٌوم‪ -‬هً البحٌري‬
‫والصعٌدي والفٌومً والبشموري واإلخمٌمً‪ ،‬وفً القرن ٔٔ م أٌام االحتبلل العبٌدي قرر البابا‬
‫خرٌستوذولس توحٌد كل هذه اللهجات أو إقرار اللهجة البحٌرٌة لكل الكناس‪ ،‬وإن ظل الكثٌر من المصرٌٌن‬
‫ٌتحدثون بلهجاتهم الموروثة خارج الكناٌس‪ ،‬وحٌن جاء البابا كٌرلس الرابع أٌام سعٌد رأت الكنٌسة إزاحة‬
‫النطق البحٌري نفسه واالستعانة بالنطق الٌونانً‪ ،‬وتعم َّم هذا على كل الكناٌس والكتب الصادرة عنها‪.‬‬

‫وٌرى علماء للؽة القبطٌة مثل القس شنودة ماهر أن هذا خلق خطؤ كبٌرا فً نطق اللؽة المصرٌة‪،‬‬
‫وشوه نطقها لٌبلبم النطق الٌونانً الدخٌل‪ ،‬وتم هذا على ٌد المعلم عرٌان أفندي جرجس مفتاح بالتعاون مع‬
‫مدرس ٌونانً‪ ،‬وبرعاٌة كٌرلس‪ ،‬حتى انتهً اللفظ القدٌم‪ ،‬ومن هذا إدخال أصوات لم تكن على ألسنة القبط‬
‫مثل الثاء والذال وصوت مماثل لـ ‪ V‬اإلنجلٌزي(‪ ،)ٔٗ9‬وهو ما جعلها لؽة ثقٌلة ولٌست سلسلة النطق كاللؽة‬
‫المصرٌة الحقٌقٌة‪.‬‬

‫وٌبرر آخرون ما فعله البابا بؤنه "إصبلح"‪ ،‬فٌقول األب بٌجول باسٌلً إن البابا أراد تنقٌة اللؽة المصرٌة‬
‫مما دخل علٌها من نطق عربً‪ ،‬وكذلك ما دخل على النطق البحٌري من اللهجات الباقٌة كالصعٌدي‬
‫والفٌومً منعا لحدوث "بلبلة" فً اللؽة(‪ ،)ٔٗ8‬إال أنه ؼٌر معلوم ؼٌر ٌُراد تنقٌة اللؽة المصرٌة من النطق‬
‫العربً فً حٌن تلجؤ للنطق الٌونانً‪ ،‬ألٌس هذا دخٌل وهذا دخٌل؟‬

‫ولوحظ وقتها أن اإلرسالٌات التبشٌرٌة فً خطابها للمصرٌٌن شجعت استخدام اللؽة العربٌة فً الكناٌس‬
‫أكثر من اللؽة القبطٌة‪ ،‬كما فعلت فً الشام حٌن أماتت اللؽة السرٌانٌة لصالح العربٌة فً كناٌس الشام‪،‬‬
‫وهذا لٌس حبا فً العربٌة‪ ،‬ولكن تموٌتا لهوٌات وحضارات هذه الببلد‪ ،‬وهو ما سٌتضح عند الحدٌث عن‬
‫صناعة "القومٌة العربٌة"‪.‬‬

‫وتعبٌرا عن ازدواج الشخصٌة الذي أصاب المصرٌٌن‪ ،‬فً أنهم ٌفعلون الشًء وعكسه‪ ،‬فإنه فً نفس‬
‫الوقت شهد القرن ‪ ٔ9‬صحوة جدٌدة إلحٌاء اللؽة القبطٌة‪ ،‬فؤطلق البابا كٌرلس الرابع نفسه نداء لجمع‬
‫تبرعات لبناء معهد علمً إلحٌاء اللؽة القبطٌة‪ ،‬قاببل إنه ال ٌجوز أن الؽرب ٌعرفها أكثر من المصرٌٌن‪،‬‬
‫فً إشارة الهتمام أوروبا وقتها بالبردٌات واللؽة القبطٌة‪ ،‬وامتنع عن دفع رواتب القساوسة إال من ٌقدم‬
‫القداس بالقبطٌة‪.‬‬

‫واتضح أن تمسك عاببلت بلؽة األجداد ظل ٌعافر حتى ذلك الوقت‪ ،‬فسجل كوبٌل سنة ٔٓ‪ ٔ9‬أن‬
‫المرسل األمرٌكً دٌفٌد سترانج فً بنً سوٌؾ أخبره أنه عندما وصل لمصر قبل ٖٓ عاما سمع من رجل‬
‫اسمه إتفانوس أنه وهو صبً كان ٌسمع والدٌه وقلٌلٌن من كبار السن فً قوص ونقادة ٌتحدثون معا‬
‫بالقبطٌة‪ ،‬و ٌسجل ورل (أستاذ اللؽة القبطٌة فً جامعة مٌتشجان األمرٌكٌة جاء لمصر لبحث اللؽة القبطٌة‬

‫(‪)ٔٗ9‬‬
‫‪ -‬تراث األدب القبطً‪ ،‬شنودة ماهر وٌوحنا نسٌم ٌوسؾ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٗ و‪٘ٓ -ٗ8‬‬
‫‪http://www.copts-‬‬
‫(‪)ٔٗ8‬‬
‫مصرٌة"‪.‬‬ ‫"دراسات‬ ‫موقع‬ ‫باسٌلً‪،‬‬ ‫بٌجول‬ ‫والحدٌث‪،‬‬ ‫القدٌم‬ ‫بٌن‬ ‫ما‬ ‫‪-‬‬
‫‪united.com/C_U/Branches_CPTS/Egyptian_Studies/Egy_Coptic_Lang/Abouna_Pigol_Part ٔ.htm‬‬

‫‪ٖٗ7‬‬
‫سنة ‪ )ٔ9ٖٙ‬أن القساوسة فً فرشوط بؤسٌوط قالوا إنه حتى ٓ٘ عاما مضت‪ ،‬أي فً القرن ‪ ،ٔ9‬لم ٌكونوا‬
‫ٌتكلمون داخل هٌكل الكنٌسة سوى بالقبطٌة‪ ،‬واألطفال كانوا ٌتؤثرون بسماع هذه اللؽة التً ٌعتقدون أنها‬
‫سرٌة وٌشتهون تعلمها‪ ،‬وظل حتى وقت قرٌب عاببلت بعض القساوسة ٌتحدثون بالقبطٌة‪ ،‬وكؤنهم ٌمسكون‬
‫بتبلبٌبها(‪.)ٔٗ9‬‬

‫فً نفس الوقت‪ ،‬تم اعتماد اللؽة العربٌة كلؽة رسمٌة للببلد من جدٌد أٌام إسماعٌل بعد عقود من اعتماد‬
‫اللؽة التركٌة‪ ،‬وتكثؾ االهتمام ببعث العربٌة الفصحى‪ ،‬وتسربت كلمات جدٌدة منها إلى ألسنة أهل الرٌؾ‬
‫مع تزاٌد دخول أبنابهم للمدارس وتعلمهم لؤلدب العربً وكثرة الكتاتٌب وانتشار الصحؾ‪ ،‬وتبلشت أمامها‬
‫نظٌرتها المصرٌة‪ ،‬وفً خط معاكس‪ ،‬زاد تطعٌم لؽة القاهرة واإلسكندرٌة بالكلمات المصرٌة لكثرة هجرات‬
‫أهل الرٌؾ إلٌها إما طفشانا من كثرة الضراٌب واإلتاوات وال ِفرد‪ ،‬أو الذٌن أخذهم محمد علً للعمل فً‬
‫مشارٌعه‪ ،‬فظلت إذن العبلقة بٌن اللؽتٌن المصرٌة والعربٌة عبلقة تؤثٌر متبادل‪ ،‬لكن مع سلخ المتعلمٌن من‬
‫هوٌتهم وابتعداهم عن صفة "الفبلح"‪ ،‬وتعمدهم الحدٌث بالفصحً كً ال ٌقال علٌهم "فبلحٌن"‪ ،‬فالؽلبة تسٌر‬
‫فً جلباب العربٌة الفصحى‪.‬‬

‫➂ تورٌث الحكم للوالة بقرار رسمً ألول مرة‬

‫التورٌث‪ ..‬كلمة لها دالالت ثقٌلة فً عهد االحتبلل العلوي‪ ،‬فهً تعنً‪ -‬ألول مرة‪ -‬تورٌث األرض‬
‫لعاببلت ولؤلجانب عبر التملٌك‪ ،‬وتورٌث المناصب والوزارات ونٌابة البرلمان أٌضا لهذه العاببلت بقوة‬
‫المال والنسب العابلً أو الحزبً‪ ،‬لتتكون ما تسمى بـ"طبقة اإلقطاعٌٌن" الذٌن ٌملكون وٌحكمون بؤجٌال‬
‫تسلم أجٌال‪.‬‬

‫وأٌضا قبل عصر محمد علً كان الوالة ال ٌورثون الحكم‪ ،‬بل ٌتولى الباشا لمدة محددة ثم ٌترك الحكم‬
‫بانتهاء المدة أو باإلقالة أو الموت‪ ،‬ولم ٌتو َّل أبناءهم الحكم إال استثناء‪ ،‬أما محمد علً فاستطاع رؼم هزابمه‬
‫األخٌرة أن ٌنتزع من السلطان العثمانلً وحلفابه اإلنجلٌز مرسوما رسمٌا بتورٌث الحكم ألبنابه‪.‬‬

‫وعلى هذا صار حكام األسرة العلوٌة ٌظنون أنهم "أصحاب مصر" ولٌس مجرد والة لهم مدة حكم‬
‫وٌؽادرون‪ ،‬تماما كاألجانب الذٌن ظنوا أنفسهم "أصحاب األرض" لما تملكوها بقانون التملٌك بعد أن كانت‬
‫ُتعطى لهم كالتزامات وإقطاعٌات مإقتة‪ ،‬والحق أن كبلهما أخذ هذا وذاك بقانون "من ال ٌملك أخذ ما ال‬
‫ٌستحق"‪.‬‬

‫وورث إسماعٌل عن جده حب االستحواذ‪ ،‬فقرر أن ٌحصر العرش فً نسله؛ فسعى عند السلطان‬
‫العثمانلً لٌوافق على تؽٌٌر نظام تسلٌم العرش‪ ،‬بحٌث ٌكون فً أكبر أبناء إسماعٌل فقط ولٌس أبناء األسرة‬
‫العلوٌة كما كانت تنص معاهدة لندن ٔٗ‪ ،ٔ8‬إضافة لتحوٌل لقبه من والً إلى خدٌوي‪ ،‬وهً كلمة فارسٌة‬
‫تعنً أمٌر‪ ،‬وبعد إلحاح وافق السلطان‪ ..‬ولكن مقابل ماذا؟‬

‫(‪)ٔٗ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تراث األدب القبطً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ٘‪ ٖ9 -‬و‪ٗ9 -ٗ9‬‬

‫‪ٖٗ8‬‬
‫مقابل زٌادة حلب دم الفبلحٌن بزٌادة الجزٌة المفروضة على مصر من ٕٖٓ ألؾ جنٌه إلى ٓٓ‪ ٙ‬ألؾ‬
‫بداٌة من سنة ‪ ،ٔ8ٙٙ‬بخبلؾ الهداٌا التً لم تنقطع للسلطان‪ ،‬وفً ٖ‪ ٔ89‬بعث المال والهداٌا للسلطان ألخذ‬
‫امتٌاز آخر وهو االستقبلل فً إدارة شبون مصر الداخلٌة‪ ،‬وزٌادة عدد الجٌش بشرط أال ٌكون فٌه‬
‫مدرعات‪ ،‬والمقابل زٌادة الجزٌة إلى ٘‪ ٙٙ‬ألؾ(ٓ٘ٔ)‪.‬‬

‫➃ نزؾ دم المصرٌٌن فً المجاعات واألوببة والمذابح‬

‫بعد مذبحة الممالٌك وإعادة تؤسٌس الجٌش النظامً ق َّل سماع المصرٌٌن فً األرٌاؾ ألصوات صهٌل‬
‫الخٌول الهاٌجة‪ ،‬وصلٌل السٌوؾ الؽادرة‪ ،‬وخطوات سنابك الخٌل المرعبة التً كانت تصم آذانهم‪ ،‬وتسفك‬
‫دمابهم‪ ،‬وتنهب محاصٌلهم خبلل معارك الممالٌك مع بعضهم أو مع العربان‪.‬‬

‫ولكن لم تتوقؾ صرخات المصرٌٌن ترَّ ج الجبلٌن الواقفٌن متجمدٌن على جانبً الوادي ألن النزٌؾ استمر‬
‫بخنجر التجوٌع والسخرة واألوببة‪ ،‬وال ٌمكن أن ٌقال عن استشهاد اآلالؾ فً مشارٌع مثل ترعة‬
‫المحمودٌة وقناة السوٌس والقناطر الخٌرٌة وأراضً التً تسٌطر علٌها العٌلة العلوٌة وؼٌرها خبلل العمل‬
‫بالسخرة والقهر إال أنها "مذابح" مع سبق اإلصرار والترصد‪ ،‬خاصة مع اشتداد إسماعٌل فً جمع األموال‬
‫والمحاصٌل من الفبلحٌن لسداد الدٌون‪.‬‬

‫كتب مراسل "التاٌمز" فً ‪ٌ ٕ9‬ونٌو سنة ‪ٌ ٔ899‬قول‪" :‬إن هذا المحصول كله عبارة عن ضراٌب‬
‫عشرٌة أداها الفبلحون‪ ،‬فإذا اعتبر اإلنسان حال الفبلحٌن الذٌن أدمتهم الفاقة وأرهقهم الطلب أولبك الذٌن ال‬
‫ٌتوفر لهم الكفاؾ من العٌش فً حظابرهم البابسة‪ ،‬والذٌن ٌعملون مبكرٌن وممسٌن لٌملبوا جٌوب الدابنٌن‪،‬‬
‫إذا تدبر اإلنسان هذا كله بدا له أن أداء الكوبونات ]كوبونات سداد الدٌون[ فً مواعٌدها لم ٌمكن مما ٌؽتبط‬
‫به كل االؼتباط(ٔ٘ٔ)‪.‬‬

‫وتحالؾ طاعون الماشٌة سنة ‪ ٔ898‬مع نقص المحصول والفٌضان وأحدثا مجاعة سنة ‪ ٔ899‬أزهقت‬
‫أرواح ٓٔ آالؾ فبلح فً الوجه القبلً‪ ،‬وآالؾ آخرٌن مثلهم سقطوا موتى من المرض والتعب‪ ،‬ولم تسمح‬
‫الحكومة البرٌطانٌة ولو بمجرد تؤجٌل دفع فوابد الدٌن(ٕ٘ٔ)‪.‬‬

‫ووصفت "التاٌمز" فً ٖٔ مارس ‪ ٔ899‬الحال بؤن الضراٌب تجمع فً وقت "ٌموت فٌه الناس على‬
‫قارعة الطرٌق‪ ،‬ومساحات واسعة من الرٌؾ ال تزرع بسبب ثقل االلتزامات المالٌة‪ ،‬والفبلحون باعوا‬
‫ماشٌتهم والنساء حلٌهن‪ ،‬والمرابون ٌملبون مكاتب الرهون بصكوكهم والمحاكم بقضاٌا المصادرة"(ٖ٘ٔ)‪.‬‬

‫والمفاجبة‪ ..‬أن الباشوات واألعٌان لم ٌكونوا ٌدفعون أي ضراٌب لٌتحملوا جز ُء من أعباء الدٌون التً‬
‫استفادوا هم منها‪ ،‬فٌقول جون نٌنٌه متعجبا‪ ،‬إن الوزٌر اإلنجلٌزي فً الحكومة وٌلسون اكتشؾ أنهم كانوا‬

‫(ٓ٘ٔ)‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر‪ ،‬المرجع السابق‪ٕٕٓ -ٕٔ9 ،‬‬
‫(ٔ٘ٔ)‬
‫‪ -‬دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪9‬‬
‫(ٕ٘ٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬وانظر الجٌش المصري فً القرن التاسع عشر‪ ،‬محمد السروحً‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ9ٙ9 ،‬ص ٘ٗ٘‬
‫(ٖ٘ٔ)‬
‫‪ -‬دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬مترجم عن كتاب االستعمار البرٌطانً فً مصر إللٌنور بٌرتز‪ ،‬ص ‪9‬‬

‫‪ٖٗ9‬‬
‫ٌتفقون مع المحاسبٌن على تحمٌل ضراٌب أراضٌهم الخاصة على األراضً العامة التً ٌزرعها الفبلحون‪،‬‬
‫فٌدفع الفبلحون الضراٌب كاملة‪ ،‬وفوق هذا "فً المدٌرٌات كان المزارعون المساكٌن الذٌن ٌسلبهم السٌد‬
‫كل شًء ٌُضربون كل ٌوم على ظهورهم وبطون أقدامهم من أجل النقود"‪.‬‬

‫ولٌخلص المبانً المرهونة لدى عابلة روتشٌلد مقابل الدٌون‪ ،‬فرض إسماعٌل ضرٌبة وقتٌة جدٌدة على‬
‫كل فدان‪ ،‬لم ٌكن ٌؤبه بؤي صراخ من الضحاٌا الفبلحٌن‪ ،‬ونقل عنه جون نٌنٌه قوله عن الفبلحٌن‪" :‬إن‬
‫أكٌاس الدقٌق هذه ملٌبة كانت أم فارؼة ال بد أن ٌخرج منها شًء ما عند ضربها"(ٗ٘ٔ)‪.‬‬

‫وٌقؾ ضباط الجٌش وجنوده الفبلحون ٌراقبون هذه المذابح‪ ،‬وأهلهم ٌتساقطون أمام أعٌنهم‪ ،‬والجٌش‬
‫نفسه ٌتعرض لمذبحة تسرٌح المصرٌٌن منه‪ ،‬واألجانب ٌزدادون تطاوال‪ ،‬وهم كاظمون الؽٌظ‪ ..‬حتى حٌن‪.‬‬

‫➄ تطبٌق االمتٌازات األجنبٌة (دولة خاصة باألجانب)‬

‫وصفها الكاتب البرٌطانً جون مارلو فً كتابه "تارٌخ النهب االستعماري لمصر" بؤنها منحت األجانب‬
‫"الحكم الذاتً" فً مصر؛ بدأت فً عصر السلطان العثمانلً سلٌمان القانونً وتعززت فً عصر محمد‬
‫علً‪ ،‬وحصل بها األجانب على ما لم ٌحصلوا علٌه فً ببلدهم ذاتها(٘٘ٔ)‪.‬‬

‫ولكن الصح أنها أعطتهم فوق "الحكم الذاتً"‪ ..‬أعطتهم مصر بحذافٌرها‪ ،‬وخلقوا نظام فصل عنصري‬
‫"أبارتهاٌد"‪ ،‬لٌس فقط بٌن األجانب وبٌن المصرٌٌن فهذا معتاد فً االحتبلالت السابقة‪ ،‬بل وبٌنهم وبٌن‬
‫السلطة الحاكمة نفسها بعد أن صاروا فوقها حتى قبل هبوط الجٌوش اإلنجلٌزٌة‪.‬‬

‫ومدخل األجانب النتزاع االمتٌازات هو التحجج بؤنهم ٌرٌدون بٌبة آمنة إلقامتهم واستثماراتهم‪ ،‬وقوانٌن‬
‫خاصة للفصل فً نزاعاتهم؛ كون أن دٌاناتهم وأعرافهم تختلؾ عما ٌسود الببلد التً ٌحكمها العثمانلً‪.‬‬

‫وهذه هً مجاالت تطبٌق االمتٌازات األجنبٌة‪ ،‬فلٌتؤمل كل قارئ فٌها‪ ،‬وٌضع لها الوصؾ المناسب‪:‬‬

‫‪ -‬إعفاء األجنبً من القبض علٌه أو تفتٌش بٌته أو محل عمله إال بحضور القنصل‪.‬‬

‫‪ -‬إعفاء األجنبً‪ -‬حال القبض علٌه‪ -‬من المحاكمة أمام محاكم مصرٌة أو بالقانون المصري‪ ،‬بل ٌُحاكم‬
‫أمام المحاكم القنصلٌة بقوانٌن بلده هو رؼم أنه على أرض مصر‪.‬‬

‫‪ -‬إعفاء األجنبً من الضراٌب بكل أنواعها ومن الجزٌة والسخرة بكل أنواعها‪ ،‬مهما طال بقاإه‪.‬‬

‫‪ -‬حرٌة الحركة المطلقة فً التنقل داخل البلد والخروج من والدخول إلى البلد ولو ببل وثابق‪ ،‬وتحرٌم‬

‫(ٗ٘ٔ)‬
‫‪ -‬رسابل من مصر (‪ ،)ٔ88ٕ -ٔ899‬جون نٌنٌه‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٓٔ و‪ٔٓ9‬‬
‫(٘٘ٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تارٌخ النهب االستعماري لمصر ‪ ،ٔ88ٕ -ٔ998‬جون مارلو‪ ،‬ترجمة عبد العظٌم رمضان‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬ص ‪-99‬‬
‫‪99‬‬

‫ٓٗٗ‬
‫إبعاده من مصر ولو كان مجرما إال بموافقة القنصل (‪.)ٔ٘ٙ‬‬

‫ولذا صارت من أبرز وسابل جذب األجانب لمصر‪ ،‬حتى وصفت بؤنها "أرض األحبلم" لؤلجانب (جنة‬
‫ٌرعى فٌها الخنازٌر)؛ ألنها بشهادة األجانب أكثر بلد ٌمنح حكامه امتٌازات لؤلجانب وحصانة فً الجراٌم‬
‫والمحاكمات‪ ،‬فاألجنبً ٌنهب وٌسرق وٌقتل وٌنشر الرذابل والفجور دون محاكمة‪ٌ ،‬ؽتنً وٌكتنز دون دفع‬
‫ضراٌب أو جزٌة أو محاسبة‪ ،‬لٌس علٌه أي واجبات‪ ،‬هو فقط ٌؤخذ وال ٌعطً‪ٌ ،‬ؤتً عارٌا حافٌا منبوذا من‬
‫ببلده لٌعتلً فً لمح البصر أكبر المناصب والوظابؾ وٌتملك أخصب األراضً‪ ،‬وٌجد "شعبا ٌتٌما" ٌؤمر‬
‫وٌتؤمر علٌه فً "نهٌبة الدنٌا"‪.‬‬

‫ولخص عبد هللا الندٌم وهو ٌتجول فً مصر حٌنها هذا شعرا ساخرا(‪:)ٔ٘9‬‬

‫فما رأٌت من قصر لطٌؾ فذلك للمسٌو‬

‫وما نظرت من جفالك وأباعد فهذا للمستر‬

‫ومابلؽك من بنك ومتجر فهذا للخواجا‬

‫وما سمعت من رفعة وإنعام فهذا للسنٌور‬

‫قد صار اإلسكاؾ عندنا مهندسا‪ ،‬والمزٌن طبٌبا‬

‫وخادم الخٌل ربٌسا‪ ،‬وذلٌل بالده عزٌزا‪ ،‬وطرٌدها محبوبا‬

‫ٌقول الدكتور عبد الرازق السنهوري فً مقدمته لكتاب "االمتٌازات األجنبٌة" الذي أصدره محمد عبد‬
‫الباري سنة ٖٓ‪" :ٔ9‬فبعد أن كان األصل أن صاحب البلد ٌمتاز على األجنبً‪ ،‬انقلبت اآلٌة فً مصر‪،‬‬
‫وأصبح األجنبً هو الممتاز‪ ،‬والمصري هو الذي ٌنادي بوجوب المساواة بٌنه وبٌن األجنبً"‪.‬‬

‫وبتعبٌر مإلؾ ذات الكتاب‪" :‬كان المصرٌون إزاءهم ]إزاء األجانب[ أكثرٌة تسعى وراء وقاٌة نفسها‬
‫من أقلٌة أجنبٌة متحكمة"(‪.)ٔ٘8‬‬

‫وفً رسالتها للماجستٌر عن الجالٌة البرٌطانٌة فً مصر فً القرن ‪ ٔ9‬قالت الباحثة ناهد زٌان إن هذه‬
‫االمتٌازات سلبت حق الحكومة فً مصر إبعاد األجنبً إذا ثبت أنه خطر على األمن العام أو أن إقامته‬
‫مخالفة‪ ،‬وال ٌكون الطرد إال بموافقة القنصل الخاص به‪ ،‬وهو من ٌصدره بعد تقدٌم الحكومة طلبا بذلك‪،‬‬
‫وبعد تحكٌم من ‪ 9‬قناصل‪ ،‬قبل أن ٌعود األمر للحكومة مع المحاكم المختلطة ‪.)ٔ٘9( ٔ89ٙ‬‬

‫(‪)ٔ٘ٙ‬‬
‫‪ -‬للمزٌد عن شرور االمتٌازات األجنبٌة انظر‪ :‬االمتٌازات األجنبٌة‪ ،‬محمد عبد الباري‪ ،‬مطبعة االعتماد‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ9ٖٓ ،‬ص ٖ‪٘ٓ-‬‬
‫(‪)ٔ٘9‬‬
‫‪ -‬قصٌدة نشرها عبد هللا الندٌم فً مجلة "التبكٌت والتنكٌت"‪ٔ88ٔ-ٔٓ -9 ،‬‬
‫(‪)ٔ٘8‬‬
‫‪ -‬االمتٌازات األجنبٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٗ و ‪ٖٔ8‬‬
‫(‪)ٔ٘9‬‬
‫‪ -‬الجالٌة البرٌطانٌة فً مصر (٘ٓ‪ ،)ٔ88ٕ -ٔ8‬ناهد السٌد علً زٌان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬حواشً رقم ٗ‪ ،ٔٙ‬ص ٔ‪9‬‬

‫ٔٗٗ‬
‫وبجانب االمتٌازات األجنبٌة التً ٌستفٌد منها جنسٌات ‪ ٔ9‬دولة ؼربٌة وجنسٌات أخرى تابعة لرعوٌة‬
‫قناصلها‪ ،‬توجد االمتٌازات المماثلة التً ٌتمتع بها األسرة العلوٌة الحاكمة المحصنة‪ ،‬والباشوات وأبناء‬
‫العاببلت المستوطنة وأتباعهم‪ ،‬ونوع آخر من طرق الحصول على االمتٌازات هو بلطجة السبلح‪ ،‬كؤن تؤتً‬
‫قبٌلة عربان فتنهب القرى وتحارب النظام الحاكم القابم وٌحاربها‪ ،‬ثم ٌنتهى األمر إلى صفقة بٌنهما وتستولً على‬
‫أراضً ومناصب وإعفاءات‪ ،‬والوحٌد الذي لٌس له امتٌازات فً البلد هو الفبلح المصري‪.‬‬

‫ولم ٌشبع األجانب من االمتٌازات والطلبات‪ ،‬فطالب القناصل من الوالً سعٌد بعمل قوة أمن خاصة‬
‫لحماٌة األجانب ومناطق معٌشتهم‪ ،‬فؤسس ضبطٌة (شرطة) أجنبٌة فً اإلسكندرٌة والقاهرة من جنسٌات‬
‫أجنبٌة(ٓ‪ ،)ٔٙ‬فاكتملت بذلك أركان الدولة األجنبٌة االستٌطانٌة المستقلة بداخل مصر؛ فلؤلجنبً قوانٌن‬
‫ومحاكم خاصة به (القنصلٌة ثم المختلطة)‪ ،‬واقتصاد خاص به (الشركات والبنوك األجنبٌة واألراضً التً‬
‫تملكوها)‪ ،‬ومدن خاصة به (اإلسكندرٌة ومدن القناة ومدن أخرى كانت فً الطرٌق) وإعبلم خاص به‬
‫(الصحؾ األجنبٌة الصادرة داخل مصر)‪ ،‬وسلطة دٌنٌة خاصة به (الكناٌس والجمعٌات الخاضعة‬
‫لئلرسالٌات األجنبٌة)‪ ،‬ومدارس خاصة به (مدارس الجالٌات واإلرسالٌات)‪ ،‬وجٌش خاص به (جٌش‬
‫االحتبلل)‪ ،‬وشرطة خاصة به (قوة األمن األوروبٌة داخل المدن المصرٌة)‪.‬‬

‫سإل هولندي وقت احتبلل هولندا ألندونٌسٌا‪ :‬أصحٌح أن أبناء وطنك فً جاوة (بؤندونٌسٌا) ٌجبرون‬
‫الجاوٌٌن فً الطرق على أن ٌمدوا ظهورهم فٌركبوها كما ُتركب البهابم؟‬

‫قال‪ :‬صحٌح‪ ..‬وإذا نحن امتنعنا من هذا ال ٌستقٌم أمرنا هناك ألننا قلة تضٌع فً الكثرة"(ٔ‪.)ٔٙ‬‬

‫وهكذا هو االستٌطان االحتبللً فً كل زمان ومكان‪ -‬خاصة بعد التمكٌن والسٌطرة على االقتصاد‬
‫والمشروعات‪ٌ -‬مدون ظهور أصحاب الببلد األصلٌٌن مهما كان عددهم كبٌرا لٌشعرونهم بالدونٌة؛ فبل‬
‫ٌرفعون رأسهم أمام األجنبً مهما ق َّل عدده‪ ،‬وركوب الظهر هذا أخذ فً بعض الببلد اسم "االمتٌازات‬
‫األجنبٌة"‪ ،‬وحالٌا ٌسمى بـ"قوانٌن تشجٌع االستثمار األجنبً وحماٌة األجانب"‪.‬‬

‫➅ ؼرس محاكم أوروبٌة ألول مرة (دولة فوق الدولة)‬

‫بفتح االحتبلل العلوي الباب لتطبٌق االمتٌازات األجنبٌة فً مصر لمجاملة القناصل األجانب والموظفٌن‬
‫األجانب‪ ،‬جرى االعتراؾ بقضاء أوروبً بدأ بما اشتهر باسم "المحاكم القنصلٌة"‪ ،‬وهً التً تحاكم‬
‫رعاٌاها من أوروبٌٌن وؼٌرهم كؤنهم فً أوروبا وبقوانٌن أوروبا ولٌس بقوانٌن مصر‪ ،‬فبل سلطان لقانون‬
‫أو حاكم فً مصر علٌهم‪.‬‬

‫ومن اإلصبلحات التً نفذها إسماعٌل لترسٌخ سٌادته واستقبلله فً حكم الببلد هو محاولة كسر نفوذ هذه‬
‫المحاكم بمساواة المصرٌٌن باألجانب فً التقاضً‪ ،‬لكن أفسد األمر سوء التطبٌق‪ ،‬فبدال من المحاكم‬

‫(ٓ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪٘8‬‬
‫(ٔ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬المذكرات‪ ،‬محمد كرد علً‪ ،‬مطبعة الترقً‪ ،‬دمشق‪ ،ٔ9ٗ8 ،‬ص ٕ‪ ،ٔٔ9‬وهو سإال وجهه المإلؾ بنفسه للهولندي‬

‫ٕٗٗ‬
‫القنصلٌة تؤسست محاكم مختلطة عام ‪ٌُ ٔ8ٙ9‬حاكم فٌها المصرٌٌن واألجانب‪ ،‬اتضح أنها لم تحفظ حق‬
‫سٌادة الدولة‪ ،‬فرؼم خضوع األجنبً لمحاكم مصرٌة إال أنه كان ٌُحاكم أٌضا بقانون مختلؾ عن قانون‬
‫مصر‪ ،‬والقضاة الـ ٕٔ أكثرٌتهم أجانب‪ ،‬وقلٌل منهم مصرٌون‪ ،‬وهم من ٌضعون القوانٌن‪ ،‬ورأي حكومة‬
‫إسماعٌل استشاري فقط‪ ،‬ووصل األمر إلى أن هذه المحاكم تفصل فً قضاٌا الحكومة بحسب مصالح الدول‬
‫األجنبٌة‪ ،‬فظلت أٌضا دولة فوق الدولة‪.‬‬

‫واإلٌجابً فً األمر للمصرٌٌن هو أنه أصبح لهم حق التقاضً فً المحاكم بعد أن كان نصٌبهم محاكم‬
‫األقسام‪ ،‬وٌقوم بدور القاضً فٌها ناظر القسم‪ ،‬وٌستخدم السوط أحٌانا فً التعامل مع األهالً‪ ،‬وأحٌانا ال‬
‫ٌعرؾ الفصل فً القضاٌا ألنه ؼٌر مإهل(ٕ‪.)ٔٙ‬‬

‫وجاء على لسان ألبرت فارمان‪ ،‬الذي عمل كؤحد قضاة المحاكم المختلطة أٌام توفٌق بعد انتهاء عمله‬
‫قنصبل أمرٌكٌا أٌام إسماعٌل‪ ،‬فً شهادته عن هذه الفترة أنه "لم تتواضع األمم المسٌحٌة (األوروبٌة) فً‬
‫طلباتها الخاصة باالمتٌازات األجنبٌة‪ ،‬وحٌنما سنحت الفرصة حصلوا على امتٌازات إضافٌة فً المدن‬
‫الربٌسٌة بمصر‪ ،‬وخاصة فً اإلسكندرٌة‪ ،‬حتى أصبح الناس ٌتساءلون ما إذا كانت الحكومات األجنبٌة أم‬
‫السلطة المحلٌة هً الحاكمة‪ .‬هذه االمتٌازات األجنبٌة التً طالبت بها الدول األجنبٌة وتمتعت بمزاٌاها نجم‬
‫عنها وجود سلطات عدٌدة فً مصر"‪ ،‬أي صارت دوال مستقلة داخل مصر‪.‬‬

‫ولتحوٌل النظام من المحاكم القنصلٌة إلى المحاكم الدولٌة "المختلطة"‪ ،‬نقل أنه ٌقال أن هذا لم ٌحدث إال‬
‫عن طرٌق مفاوضات شاقة طوٌلة‪ ،‬كما ٌقال أن الخدٌوي استخدم أمواال كثٌرة فً القسطنطٌنٌة ]إسطنبول[‬
‫وفً صحافة لندن وبارٌس ]رشاوى لئلعبلمٌٌن[ فً إنشاء هذه المحاكم(ٖ‪.)ٔٙ‬‬

‫ووقتها‪ ،‬كان ٌقٌم فً مصر عام ‪ ٔ898‬ثبلثون ألفا من الٌونانٌٌن‪ ،‬وعشرة آالؾ من اإلٌطالٌٌن‪ ،‬وكثٌر‬
‫ؼٌرهم من جنسٌات أخرى‪ ،‬وأصحاب البنوك وجزء كبٌر من التجار الكبار وؼٌرهم من رجال األعمال فً‬
‫الببلد من األجانب‪ ،‬وأؼلب المشارٌع التجارٌة فً أٌدٌهم‪ ،‬والقاضً األجنبً ٌتقاضى مرتبا ضخما ال ٌوازي‬
‫العمل الذي ٌقوم به رؼم أنه ٌحصل على أجازة سنوٌة تبلػ مدتها ثبلثة أشهر ونصؾ شهر‪ ،‬وهً شهور‬
‫الحرارة من ٌونٌو إلى أكتوبر(ٗ‪ ،)ٔٙ‬وهذه شهادة من فارمان الذي عمل قاضٌا فً هذه المحاكم‪.‬‬

‫وٌنقل "سكاون بلنت" أن نوبار األرمنً‪ -‬ربٌس النظارة (الوزارة)‪ -‬صدٌق طبقة التجار األجانب فً‬
‫اإلسك ندرٌة اشتهر لدى الفبلحٌن باعتباره صاحب فكرة المحاكم المختلطة‪ ،‬وأنها لصالح األجانب فً حٌن‬
‫كرهها الفبلحون ألنها وضعتهم فً قٌود وأؼبلل المرابٌن الٌونانٌٌن بعد أن جعلت الفبلح مجبرا على رفع‬
‫القضاٌا فً خبلفه مع األجنبً أمام محاكم ٌدٌرها أٌضا عدد من القضاة األجانب وإجراءات أجنبٌة‪ ،‬وأصبح‬
‫كل فبلح ممن ٌوقعون على أوراق القروض للمرابٌٌن ٌُسلب منه أرضه دون أن ٌُعطى أدنى فرصة للدفاع‬

‫(ٕ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٕٕ‪ٕٕٗ -‬‬
‫(ٖ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬مصر وكٌؾ ُؼدر بها‪ ،‬ألبرت فارمان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖٕٓ -ٖٔ9‬‬
‫(ٗ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕٖٓ‬

‫ٖٗٗ‬
‫عن نفسه إذا ما كان رجبل فقٌرا أو كانت الورقة مزورة أو جرى تؽٌٌر أرقامها(٘‪ ،)ٔٙ‬ألن المرابً الٌونانً‬
‫والقاضً األجنبً ٌستؽبلن جهله بإجراءات الدعوى وبالقراءة والكتابة‪.‬‬

‫استؽل المستوطنون األجانب جهلهم بالقراءة والكتابة لٌمضوهم على مبالػ ٌفقدون بسببها أراضٌهم‬
‫لتسقط فً حجر الخواجة‪ ،‬كما استؽل من سبقوهم جهل أجدادهم بدروس التارٌخ‪ ،‬لتسقط فً حجرهم مصر‬
‫كلها جٌل ورا جٌل‪.‬‬

‫وتعلٌقا على ما تابعه مدة ٓٗ سنة من تعمد األجانب سوا العٌلة الخدٌوٌة أو الباشوات أو منادٌب‬
‫روتشٌلد فً مصر أو الموظفٌن األجانب فً عمل انحرافات دون أن ٌحاسبهم أحد قال جون نٌنٌه فً‬
‫‪" :ٔ899‬ما أكثر الحماقات التً ارتكبت أو التً سُمح بارتكابها فً مصر‪ ،‬إنه أمر ٌكاد ال ٌُصدق"(‪.)ٔٙٙ‬‬

‫❼❶ التخفٌؾ من الحزازٌات بٌن المصرٌٌن (مسلمٌن ومسٌحٌٌن)‬

‫شهد عصر محمد علً حتى الخدٌوي توفٌق نقضة مضٌبة‪ -‬مقارنة باالحتبلالت السابقة‪ -‬فٌما ٌخص أنه‬
‫أخؾ وطؤة فٌما ٌخص معاملة المصرٌٌن المسٌحٌٌن‪ ،‬فؤزال أشكاال من المعاملة تسببت سابقا فً حزازٌات‬
‫بٌنهم وبٌن إخوتهم المصرٌٌن المسلمٌن‪ ،‬رؼم أن المصرٌٌن المسلمٌن أٌضا عانوا االضطهاد المنظم من كل‬
‫االحتبلالت‪.‬‬

‫ففً النصؾ الثانً من حكم محمد علً اختفى ما كان مفروضا على المسٌحٌٌن من زي‪ ،‬وهو األزرق‬
‫واألسود‪ ،‬وباتوا قادرٌن على ركوب الخٌل‪ ،‬بحسب الجبرتً‪ ،‬وجرى إلؽاء الجزٌة(‪ )ٔٙ9‬فً عهد سعٌد‬
‫والتساوي بٌن المصري المسلم والمصري المسٌحً فً التجنٌد‪.‬‬

‫ولم ٌفرق قانون ‪ ٔ8ٙٙ‬إلنشاء مجلس الشورى بٌن المسلمٌن والمسٌحٌٌن‪ ،‬فسمح بانضمام مصرٌٌن‬
‫مسٌحٌٌن‪ ،‬ومن أشهر باشوات العصر بطرس ؼالً‪ -‬وحصل على الرتبة بقرار من الوزارة التً شكلتها‬
‫ثورة ٔ‪ ٔ88‬حرصا من الثورة على عدم التفرٌق بٌن المصرٌٌن كما قال أحمد عرابً فً مذكراته(‪-)ٔٙ8‬‬
‫وقال إسماعٌل للكاتب الفرنسً جبرابٌل شارم عن نفسه متفاخرا‪ٌ" :‬عٌش المسٌحٌون فً تركٌا فً جوا من‬
‫التسامح مشوب باالحتقار‪ ،‬فٌما ٌعٌشون فً مصر فً جو من التسامح المقرون باالحترام"‪.‬‬

‫وبات الرأي العام متقببل لهذا بعد فترة من االستؽراب أو الضٌق فً عصر محمد علً‪ ،‬فتقول الكاتبة‬
‫اإلنجلٌزٌة لوسً دوؾ جوردون إن "أهالً ببا‪ ،‬ومعظمهم من المسلمٌن‪ ،‬انتخبوا جرجس القبطً عمدة لها‪،‬‬
‫وأنهم كانوا ٌقبلون ٌده طابعٌن بٌنما كنا نمر فً طرقات القرٌة"‪ ،‬وأضافت أنه‪" :‬مما أثار إعجابً روح‬

‫(٘‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬التارٌخ السري الحتبلل اإلنجلٌزي لمصر‪ -‬رواٌة شخصٌة لؤلحداث‪ ،‬ولفرٌد سكاون بلنت‪ ،‬ص ‪89‬‬
‫(‪)ٔٙٙ‬‬
‫‪ -‬رسابل من مصر (‪ ،)ٔ88ٕ -ٔ899‬جون نٌنٌه‪ ،‬ص ‪ٔٓ9‬‬
‫(‪)ٔٙ7‬‬
‫‪ -‬ألؽٌت الجزٌة عن المصرٌٌن المسٌحٌٌن ولكن ظل العثمانلً ٌؤخذ جزٌة على مصر كلها بمبلػ سنوي محدد‪ ،‬وٌتزاٌد حسب األحوال‪ ،‬باعتبار‬
‫أن مصر فتحت بالسٌؾ حسب تبرٌره االحتاللً‪.‬‬
‫(‪)ٔٙ8‬‬
‫‪ -‬مذكرات الزعٌم أحمد عرابً‪ ،‬ج ٔ‪ ،‬ص ٔ‪ٗ8‬‬

‫ٗٗٗ‬
‫التسامح التً أجدها ي كل مكان‪ ،‬وٌظهر أن المسلمٌن واألقباط على وبام تام"(‪.)ٔٙ9‬‬

‫وجرى هذا فً حٌن كانت الحزازٌات والحروب الدٌنٌة بٌن المسلمٌن والمسٌحٌٌن على أشدها فً الشام‪،‬‬
‫أشهرها الحرب األهلٌة سنة ٓ‪ ،ٔ8ٙ‬والؽرٌب أن بعض الشوام ممن هربوا من وجه هذه الجو الساخن‬
‫لٌحتموا بؤمان مصر‪ ،‬جاءوا ٌحملون لها النٌران ممثلة فً مشروعات لصنع حزازات دٌنٌة جدٌدة بٌن‬
‫المصرٌٌن‪ ،‬وأولبك من جاءوا فً ركب المحافل الماسونٌة واإلرسالٌات التبشٌرٌة مسٌحٌة وإسبلمٌة‪،‬‬
‫وسٌنتج عنها خلق ما سٌُعرؾ فٌما بعد بتنظٌم اإلخوان المسلمٌن‪ ،‬وحركات القومٌة العربٌة‪ ،‬وتقوٌة نفوذ‬
‫مذاهب مسٌحٌة منافسة للكنٌسة المصرٌة‪ ،‬كما سنرى‪.‬‬

‫❽❶ السقوط فً حجر اإلنجلٌز‪ ...‬االحتالل الرابع‬

‫ٌحم إسماعٌل من مصٌر أسود ٌتبربص به مشارٌعه العظمى‪ ،‬وال طوفان المداٌح الذي أؼراه به‬ ‫لم ِ‬
‫األجانب فً أول حكمه‪ ،‬وال مبات آالؾ األفدنة من أرض مصر التً اؼتصبها‪ ،‬وال الجالٌات األجنبٌة‬
‫الكثٌفة التً استقدمها لتعطً القاهرة "مظهرا أوروبٌا ال مصرٌا"‪ ،‬وال الممالٌك الشركس الذٌن اشتراهم‬
‫ورفع قدرهم فوق قدر المصرٌٌن فً الجٌش‪ ..‬وال صحوته المتؤخرة‪ ،‬فسقطت البلد ومشارٌعه فً حجر‬
‫جٌش اإلنجلٌز لٌكون االحتبلل الرابع المتراص بجانب العثمانلً والعلوي والجالٌات فوق ظهر مصر‪.‬‬

‫وحٌن بدأ زبٌر سفن االحتبلل ٌصل لمسامعه بدأ إسماعٌل ٌفوق‪ ،‬بؤسلوب الصدمة‪ ،‬فها هو الذي أقام كل‬
‫هذه المشارٌع لٌصبح "كملك أوروبً معاصر بدولة مستقلة"‪ٌ ،‬جد نفسه ٌرزح تحت أقدام األوروبٌٌن‪،‬‬
‫والدولة ٌنفضونها من خٌراتها كؤنهم ٌفرؼون شوال قطن فً مصانع النكشاٌر‪ ،‬وأصوات أقدامهم المزعجة‬
‫تقترب من مصر لتحكمها مباشرة‪ ،‬وٌعاملون إسماعٌل كؤنه مجرد ختم حكومً‪ ،‬وظٌفته ٌختم بالموافقة على‬
‫أوامرهم‪.‬‬

‫فً البداٌة رفض إسماعٌل التجاوب مع التوصٌات البرٌطانٌة‪ ،‬وفً أبرٌل ‪ ٔ89ٙ‬توقؾ عن صرؾ‬
‫قٌمة سندات الخزانة المصرٌة‪ ،‬فؽضبت الدول األوروبٌة‪ ،‬وأظهرت أنها قلقة على أموال رعاٌاها (الدٌون)‬
‫فتشكل فً ٕ ماٌو ‪ ٔ89ٙ‬لجنة باسم "صندوق الدٌن" مكونة من مندوبً الدول صاحبة القروض (من بٌنهم‬
‫اللورد كرومر)‪ ،‬وٌُعهد إلٌها إدارة شإون الدٌن وتدبٌر ما ٌجب النتظام تسدٌده‪ ،‬وفً ‪ 9‬ماٌو أمر بتوحٌد‬
‫جمٌع الدٌون المصرٌة من سابرة وؼٌر سابرة‪ ،‬وأصبحت دٌنا واحدا بلػ ٔ‪ 9‬ملٌون جنٌه‪ ،‬بفاٌدة ‪%9‬‬
‫(ٓ‪)ٔ9‬‬
‫وٌنتهً تسدٌده فً ٘‪ ٙ‬سنة (أي ٔٗ‪.)ٔ9‬‬

‫وفً وقت الحق‪ ،‬صارت السٌطرة على صندوق الدٌن فً ٌد مندوبٌن فقط‪ ،‬هما مندوب إنجلترا المستر‬
‫جوشن (المرابً السابق ومن عابلة جوشن صاحبة بٌت المال الذي قدم أول قرض لمصر فً عهد سعٌد)‪،‬‬
‫ومندوب فرنسا المسٌو جوبر‪ ،‬فٌما عرؾ باسم "المراقبة الثنابٌة"‪ ،‬وأدخلوا على االتفاق بنودا تجعل‬

‫(‪)ٔٙ9‬‬
‫‪ -‬أقباط ومسلمون من الفتح العربً إلى عام ٕٕ‪ ،ٔ9‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘‪ ٔ99 -ٔ9‬و ٕٕٓ‪ٕٓٗ-‬‬
‫(ٓ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕ٘ٓ -ٕٗ9‬‬

‫٘ٗٗ‬
‫المشارٌع الضخمة التً فرح بها إسماعٌل وأؼرته أوروبا بها رهٌنة لفرنسا وإنجلترا‪ ،‬وتوشك على السقوط‬
‫فً أٌدٌهما‪ ،‬وذلك بالنص على تقدٌم عواٌد السكة الحدٌد ومٌناء اإلسكندرٌة والدابرة السنٌة كضمانات‬
‫وتسدٌد للدٌون‪.‬‬

‫كما نص على وضع السكة الحدٌد ومٌناء اإلسكندرٌة تحت رقابة أجنبٌة بحجة مراقبة الواردات‬
‫وحماٌتها من السرقة والفساد الحكومً‪ ،‬وزود عدد الموظفٌن األجانب بحجة أنهم خبراء متخصصون‬
‫لئلشراؾ على اإلصبلحات وتنظٌم المٌزانٌة‪ ،‬فؤطاح هذا بؤحد أهداؾ التعلٌم فً عهدي محمد علً‬
‫وإسماعٌل‪ ،‬وهو توفٌر كوادر محلٌة تتسلم تلك المشارٌع بدال من الموظفٌن األوروبٌٌن(ٔ‪.)ٔ9‬‬

‫لكن اإلصبلحات التً وضعها جوشن وجوبر لم تإ ِد ألي إصبلح أو تخفٌؾ للدٌون‪ -‬فلم ٌكن هذا هدفها‬
‫فً األصل‪ -‬واضطرت الحكومة إلى أن تلجؤ لجمع الضراٌب من الناس قبل موعدها‪ ،‬وقبل حتى أن ٌبٌعوا‬
‫المحاصٌل الذي تساعدهم على دفعها‪ ،‬وذلك لتسدد الفوابد للوحوش األوروبٌة فً موعدها‪.‬‬

‫فطلب صندوق الدٌن من إسماعٌل عمل لجنة جدٌدة للتحقٌق فً أسباب تعثر الحكومة‪ ،‬وبعد فترة من‬
‫التبرم وافق على تشكٌلها فً ٗ أبرٌل ‪ ٔ898‬باسم لجنة دٌوان التحقٌق‪ ،‬وصار لها الحق المطلق فً إجراء‬
‫كل ما ترٌد من التحرٌات والتحقٌقات‪ ،‬وعُهدت رٌاسة اللجنة إلى "دٌلٌسبس"‪ -‬رأس المصٌبة من البداٌة‪-‬‬
‫وجُعل رٌاض باشا والسٌر رفرز ولسن وكٌلٌن لها‪ ،‬وجعل مندوبً الدٌن أعضاء فٌها(ٕ‪.)ٔ9‬‬

‫وبهذا فإن دٌلٌسبس كالقط الذي أخذ مفتاح الكرار‪ ،‬و"خربها وقعد على تلها"‪ ،‬وفوق هذا صار مسبوال‬
‫عن انتزاع أموال الفواٌد والقروض من الضحاٌا الذٌن ٌؤنون تحت أطبلل الخراب‪.‬‬

‫وبدأت اللجنة فً فحص كل ما ٌخص اقتصاد مصر‪ ،‬سواء فً النظام اإلداري أو الضراٌب إلخ‪،‬‬
‫وأعطت نفسها حق مساءلة موظفً الحكومة بحجة توجٌه الحكومة كٌؾ تتصرؾ لتسدد الدٌون فً‬
‫مواعٌدها‪ ،‬وكلما أرادت اللجنة االستفسار عن أمر حكومً تطلب من شرٌؾ باشا الحضور لئلجابة على‬
‫أسبلتها‪ ،‬وهو وزٌر الحقانٌة وأعظم الوزراء مكانة وقتها‪ ،‬فٌرفض الذهاب حفاظا على كرامته‪ ،‬وعرض أن‬
‫ٌرد على أسبلتهم كتابة بما ٌلٌق بمكانة الحكومة‪ ،‬فرفضت اللجنة إال أن ٌقدمها بنفسه‪ ،‬فاستعفى(ٖ‪.)ٔ9‬‬

‫ورؼم ظهور فشل لجنة المراقبة الثنابٌة فً تحقق الهدؾ المعلن من إنشابها وهو مساعدة الحكومة على‬
‫تدبٌر دفع فواٌد القروض واإلصبلح االقتصادي‪ ،‬إال أنها استمرت فً تحمٌل الحكومة المسبولٌة عن الفشل‬

‫(ٔ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر المرجع السابق‪ ،‬ص ٕٔ٘‬
‫*** هً شروط شبٌهة بشروط اإلص الح االقتصادي الذي شهدته مصر باسم الخصخصة نهاٌة القرن ٕٓ‪ ،‬والتً أقنع فٌها خبراء أجانب وصندوق‬
‫النقد الدولً المسبولٌن المصرٌٌن بؤن تحقٌق اإلصالح وإنهاء الفساد لن ٌكون إال بتحوٌل ملكٌة وإدارة شركات وأصول الدولة إلى القطاع الخاص‪،‬‬
‫وبالذات األجنبً‪ ،‬مع ما تطلبه هذا من استٌراد خبراء وموظفٌن أجانب‪ ،‬وشركات أجنبٌة‪ ،‬بحجة أنهم األقدر على إدارتها‪ ،‬فتسبب هذا فً زٌادة‬
‫األسعار بمعدالت ؼٌر مسبوقة‪ ،‬وارتفاع التضخم‪ ،‬واحتٌاج مصر لقروض جدٌدة‪ ،‬واإلسراؾ فً استٌراد البضابع األجنبٌة‪ ،‬فخربت بعض الصناعة‬
‫وجرت هذه االنقالبات االقتصادٌة أزمات اجتماعٌة وأخالقٌة وسٌاسٌة وأمنٌة تفجرت فً فوضى ٕٔٔٓ‪ ،‬وأجبرت الربٌس‬ ‫َّ‬ ‫المصرٌة والزراعة‪،‬‬
‫حسنً مبارك على الرحٌل‪ ،‬تماما كما تم إجبار إسماعٌل‪ ،‬ورؼم أن التارٌخ أكبر معلم‪ ،‬ولكنه ٌحتاج لمن ٌرٌد أن ٌتعلم‪.‬‬
‫(ٕ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕٕ٘‬
‫(ٖ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬

‫‪ٗٗٙ‬‬
‫من باب "اللً فٌه ٌجٌبه فٌك"‪ ،‬وزادت بؤن أوؼلت فً استنزاؾ أموال مصر فطلبت من الخدٌوي التنازل‬
‫عن كل ممتلكاته للحكومة لتسدد منها الفواٌد‪ ،‬وٌعٌش هو من مرتب سنوي ٌخصص له‪.‬‬

‫ووافق إسماعٌل على ذلك‪ ،‬كما وافق على مطلب سبق اإلشارة إلٌه وهو أن ٌتنازل عن بعض صبلحٌاته‬
‫للحكومة‪ ،‬وأن ٌصبح للوزراء سلطة اتخاذ قرارات دون الرجوع إلٌه بحجة أن هذا هو التمدن والتحضر‪،‬‬
‫فشكل وزارة مستقلة برٌاسة األرمنً نوبار باشا فً ٖٕ أؼسطس ‪ ،ٔ898‬ودخل فٌها الوزراء األجانب‬
‫بالصبلحٌات المستقلة الجدٌدة‪ ،‬وهما السٌر رفرز ولسن والمسٌو دي بلنٌٌر‪ ،‬فؤصبح لؤلوربٌٌن وزٌران‪ ،‬أي‬
‫مشاركة رسمٌة فً حكم مصر‪ ،‬فكان هذا هو االحتبلل السٌاسً بعد إتمام خطة االحتبلل االقتصادي‪ ،‬ولم‬
‫ّ‬
‫ٌبق األمر صعبا أن تمد برٌطانٌا قدمها بالخطوة األخٌرة وهً‪ ..‬االحتبلل العسكري‪.‬‬

‫وفً أكتوبر من نفس السنة تنازل الخدٌوي عن أطٌان األسرة الخدٌوٌة للحكومة كضمان لدٌن جدٌد‬
‫اقترضته الحكومة "المستقلة" بـ ‪ 8‬ملٌون ونصؾ ملٌون جنٌه بحجة أن الحكومة تحتاجه لتسدٌد الدٌون‬
‫الثابتة (الخاصة بالسندات)‪ ،‬وهو الدٌن الذي عُرؾ بـ"دٌن روتشٌلد" نسبة للبنك الذي سلفه للحكومة(ٗ‪.)ٔ9‬‬

‫وهنا بدأ ٌطلع من ورا الستارة المسٌخ الدجال‪ ..‬روتشٌلد !‬

‫فب هذه الخطوات األوروبٌة التً فاقت الخٌال فً تجبرها‪ ،‬وفً قبول إسماعٌل لها‪ ،‬بدأت معالم الفوضى‬
‫والسخط الشعبً سواء فً مإسسات الحكومة أو فً الشارع‪ ،‬واألهالً ٌراقبون األجانب ٌتمرؼون فً نعٌم‬
‫المشارٌع التً بقروض وضراٌب ُتنزع من عروق الفبلحٌن نزعا‪ ،‬وتتحول إلى أحٌاء سكنٌة جدٌدة فخٌمة‬
‫ووقصور وعمارات وسط البلد (التً سُمٌت فً وقت الحق بالقاهرة الخدٌوٌة) والمرتبات الضخمة فً‬
‫السكك الحدٌد والموانا والمصانع‪ ،‬فٌما كان معظم األهالً محرم علٌهم االقتراب من هذه األماكن إال‬
‫كموظفٌن صؽار أو عمالة بالسخرة أو بمرتبات باهتة‪.‬‬

‫وفً حٌن كانت مالٌة مصر تنهار لحد اإلفبلس‪ ،‬وٌنفتح الباب واسعا للتدخل األجنبً بحجة "إنقاذ‬
‫مصر"‪ ،‬حصلت خطوات أخرى لتسهٌل االحتبلل‪ ،‬منها "خفض عدد الجٌش‪ ،‬وإنقاص عدد موظفً‬
‫الحكومة‪ ،‬وباتت المهاٌا ]المرتبات[ متؤخرة جمٌعا‪ ،‬وأخذ الضجر ٌنتشر بٌن الطبقات المالكة‪ ،‬وٌسري بٌن‬
‫الضباط والموظفٌن والمزارعٌن(٘‪)ٔ9‬؛ فتحرك بعض الضباط وتجمهروا أمام وزارة المالٌة لبلحتجاج‪،‬‬
‫وقبضوا على األرمنلً نوبار باشا ورفٌقه اإلنجلٌزي رفرز ولسن وأهانوهما‪ ،‬فاستدعى المسبوالن الخدٌوي‬
‫إسماعٌل الذي أمر الضباط باالنصراؾ‪ ،‬فانصرفوا؛ فظن المسبولون األجانب أن حركة الضباط هذه كان‬
‫هو من سلطهم علٌها‪.‬‬

‫تقوَّ ى إسماعٌل بهذا‪ ،‬وانتهز الفرصة لٌضؽط على األجانب‪ ،‬بؤن بلؽهم أنه ال ٌجوز تحمٌله مسبولٌة‬
‫األزمات واالضطرابات فً البلد وهو مسحوبة منه معظم صبلحٌاته التً باتت فً ٌد حكومة ٌسٌرها‬

‫(ٗ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٕٗ٘‪ ،‬وملكٌة األراضً الزراعٌة فً مصر خبلل القرن التاسع عشر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٓ9‬‬
‫(٘‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً‪ ،‬أحمد رشدي صالح‪ ،‬الفصل الخاص بترجمة كتاب االستعمار البرٌطانً فً مصر للبرٌطانً إلٌنور‬
‫بٌرتز‪ ،‬الصادر عام ‪ ،ٔ9ٕ9‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪9‬‬

‫‪ٗٗ7‬‬
‫األجانب‪ ،‬وعلى هذا األساس أقال نوبار باشا والوزٌرٌن األجنبٌٌن وعٌَّن شرٌؾ باشا التركً ربٌسا للنظار‪.‬‬

‫ؼادر نوبار األرمنً مصر إلى أوروبا وحول نفسه أداة لزٌادة السخط األوروبً على إسماعٌل‪ ،‬والتؤكٌد‬
‫على عدم صبلحٌته للحكم مع كل من ٌلقاه من السٌاسٌٌن هناك‪ ،‬بحسب شهادة أحمد شفٌق باشا المعاصر له‬
‫فً مذكراته(‪ ،)ٔ9ٙ‬وكؤنه المتحدث باسم المصرٌٌن وهو ٌسعى لجلب احتبلل جدٌد لهم‪.‬‬

‫وظهر تعمد صندوق الدٌن فً إٌصال مصر لئلفبلس فً أنه فً أبرٌل ‪ ٔ899‬لم تستطع الحكومة تدبٌر‬
‫ت باإلصبلح المنتظر‪،‬‬‫المبلػ المستحق علٌها‪ ،‬فاعتبر إسماعٌل أن هذا عار‪ ،‬وأن التدخل األجنبً لم ٌؤ ِ‬
‫خاصة عندما نما لعلمه أن لجنة تشكلت للتحقٌق وضعت تقرٌرا تعلن فٌه إفبلس مصر رسمٌا‪ ،‬فخشى أن‬
‫ٌكون هذا مبررا لتدخل أجنبً أوسع‪ ،‬وسعى السترداد نفوذه‪.‬‬

‫ولما ؼٌَّر إسماعٌل الوزارة ؼضبت الدول األوروبٌة خشٌة انهٌار مخططها‪ ،‬وقررت أال ٌستمر‬
‫إسماعٌل فً الحكم‪ ،‬خاصة بعد أن انضم إلٌه األعٌان‪ ،‬ومبلحظة تزاٌد السخط الشعبً(‪ ،)ٔ99‬فطلبت إنجلترا‬
‫من إسماعٌل أن ٌستقٌل لكنه رفض‪ ،‬وبعث باألمر للسلطان عبد الحمٌد‪ ،‬ظنا منه أنه سٌثور لكرامة السلطنة‬
‫العثمانلٌة وٌرفض أن ٌتحكم األوروبٌون فً تعٌٌن أو عزل الوالة التابعٌن له‪ ،‬ولكن خاب ظنه‪ ،‬فقد نسى أن‬
‫العثمانلٌة هذه ذاتها هً من تعاونت مع إنجلترا لكسر جده محمد علً‪ ،‬وبالفعل أصدر عبد الحمٌد الثانً‬
‫أمرا بعزل إسماعٌل بناء على طلب إنجلترا‪ ،‬وتعٌٌن ابنه توفٌق محله فً ‪ٌ ٕٙ‬ونٌو ‪.ٔ899‬‬

‫وبحسب شهادة أحمد شفٌق باشا‪ ،‬فإن إسماعٌل فكر فً إعبلن استقبلله التام عن السلطنة العثمانلٌة‪،‬‬
‫واالستعداد لمواجهة الضؽوط األوروبٌة بالقوة‪ ،‬إال أن شرٌؾ باشا نصحه بؤال ٌفعل؛ تحسبا ألن ٌفشل‪،‬‬
‫وٌؽٌر السلطان فرمان التولٌة لٌعود لما كان علٌه ألكبر أوالد العٌلة العلوٌة سنا‪ ،‬فٌنحرم منه توفٌق وٌقع فً‬
‫ٌد حلٌم ابن محمد علً‪ ،‬فؤذعن إسماعٌل(‪ ،)ٔ98‬فاألمر بالنسبة له كرامة شخصٌة له وألسرته ولٌس كرامة‬
‫لمصر؛ وأجرى حساباته حسب ما ٌضمن بقاء العرش فً ٌدها‪.‬‬

‫لكنه لم ٌخرج خالً الوفاض‪ ،‬فمع ضمان عرش مصر البنه خرج محمبل بما بقً من كنوزها رؼم‬
‫إعبلن إفبلسها‪ ،‬فٌقول عرابً إن الخدٌوي توفٌق قال بحضوره وحضور خٌري باشا ربٌس الدٌوان‬
‫الخدٌوي فً إفطار رمضانً أن أبٌه أخذ معه أوراق مالٌة (بون) بمبلػ ٖٔ ملٌون جنٌه‪ ،‬وأنه‪ٌ" :‬ا لٌته ترك‬
‫للحكومة ولو ‪ ٙ‬مبلٌٌن إلصبلح شؤنها"(‪ ،)ٔ99‬وقال أحمد شفٌق باشا إن إسماعٌل أخذ معه اآلوانً الذهب‬
‫التً كانت فً بعض المخازن‪.‬‬

‫خرج إسماعٌل من مصر فً ٖٓ ٌونٌو على ٌخت المحروسة‪ ،‬مذموما مدحورا‪ ،‬هابما على وجهه فً‬
‫عرض البحر أٌاما ال ٌعرؾ إلى أن ٌتجه بعد أن رفض عبد الحمٌد الثانً استقباله‪ ،‬حتى وافقت إٌطالٌا على‬

‫(‪)ٔ9ٙ‬‬
‫‪ -‬مذكراتً فً نصؾ قرن‪ ،‬أحمد شفٌق باشا‪ ،‬طٔ‪ ،‬مطبعة مصر‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ9ٖٗ ،‬ص ‪ٖ8‬‬
‫(‪)ٔ99‬‬
‫‪ -‬تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ٘٘‪ٕ٘ٙ -‬‬
‫(‪)ٔ98‬‬
‫‪ -‬مذكراتً فً نصؾ قرن‪ ،‬أحمد شفٌق باشا‪ ،‬جٔ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٗٓ -ٖ9‬‬
‫(‪)ٔ99‬‬
‫‪ -‬مذكرات الزعٌم أحمد عرابً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖٔ9‬‬

‫‪ٗٗ8‬‬
‫استقباله نظٌر عبلقات مادٌة كانت تجمعهما‪.‬‬

‫ورحل إسماعٌل محمبل بكنوز مصرٌة ٌفترشها فً قصور إٌطالٌا‪ٌ ،‬سطر له التارٌخ إنجازات كبٌرة‪،‬‬
‫وخطاٌا أكبر‪ ،‬وحروبا حمقاء‪ ،‬ألقت بالمصرٌٌن ألفخاخ ؼابات الحبش‪ ،‬تاركا ورابه خزٌنة فارؼة‪ ،‬وجبال‬
‫دٌون على أكتاؾ المصرٌٌن‪ ،‬وقناة السوٌس ساقطة بالكامل فً ٌد األجانب‪ ،‬وجالٌات أجنبٌة تتحكم فً‬
‫اقتصاد وقرار الببلد‪ ،‬وجٌشا ٌتحكم فٌه العبٌد الشركس‪ ،‬ومبلٌٌن الناس تبن من وطؤة السُخرة والمرابٌن‪،‬‬
‫ولعناتهم للخدٌوي تشق عنان السماء‪ ،‬وكٌؾ ال ٌلعنونه وهو من لؾَّ الحبال حول رقابهم وسلمهم كاألسارى‬
‫ألوروبا وبنوكها الشٌطانٌة‪ ،‬واستنزؾ دماءهم وعرقهم وأراضٌهم لٌبنى بلدا ٌلٌق بإقامة األجانب أكثر مما‬
‫ٌتسع ألهله؟ وصدق علٌه المثل "ٌبنً قصر وٌهدم مصر"‪ ،‬وهو مثل شاع فً عهد محمد علً للسخط على‬
‫اهتمامه ببناء القصور والفٌبلت له ولؤلجانب فً الوقت الذي ٌعانً فٌه الفبلحون األمرٌن(ٓ‪.)ٔ8‬‬

‫وفٌما تبتعد مركب "المحروسة" نحو إٌطالٌا كانت أساطٌل برٌطانٌا تدوي بصفٌرها المزعج‪ ،‬تستعد‬
‫لبلنطبلق نحو مصر واستكمال الحلقة األخٌرة من االحتبلل‪.‬‬

‫▲▲▲ رفرفة جناح الصقر الجرٌح‬

‫هذه حالة مصر قبل الثورة التً تفجرت فً ٔ‪ ،ٔ88‬حالة تحرك الحجر قبل البشر‪ ،‬فكانت الثورة‬
‫الشعبٌة بقٌادة ضباط الجٌش كإشراقة لـ "ماعت" تعلن بها وجودها‪ ،‬ورفرفة لـ حور الجرٌح‪ ..‬رفرفة لم‬
‫تكتمل فً علوها‪ ،‬ولم تتمكن من فرد جناحاتها فً كبد السماء‪ ..‬لكنها طمبنتنا‪ ..‬ما زلنا هنا‪.‬‬

‫ولٌس ذلك ألن الثورة على الظلم فقط‪ ،‬ولكن ألنه ألول منذ زمن طوٌل قاد الثورة ضد األجانب من‬
‫ٌصدح بؤن "مصر للمصرٌٌن"‪ ،‬وتكون الثورة لٌس لمجرد طرد أجنبً لصالح أجنبً آخر مثلما حدث فً‬
‫الثورة ضد الفرنسٌس لتقع مصر مجددا فً ٌد السلطان العثمانلً أو وضد خورشٌد باشا لتقع فً ٌد الوالً‬
‫العثمانلً محمد علً‪ ،‬وال ألسباب دٌنٌة فقط‪ ،‬بل لتمكٌن المصرٌٌن من حكم ببلدهم بعد أن أحس‬
‫المصرٌون منذ عصور مدٌدة بؤن لهم زعٌما ٌفخر بؤنه منهم‪ ،‬وٌتكلم من وجدانهم‪.‬‬

‫"سادتً‪ ..‬أنا أخوكم فً الوطنٌة واسمً أحمد عرابً"(ٔ‪ ..)ٔ8‬عرابً بادبا خطبته أمام األهالً المستقبلٌن له‬
‫فً محافظة الشرقٌة ٌهنبونه بعد وقفة عابدٌن المشهودة‪ ..‬هو أول مسبول فً الجٌش‪ -‬المخطوؾ من‬
‫األجانب منذ مبات السنٌن‪ٌ -‬قول للمصرٌٌن "سادتً"‪ ،‬و"إخوانً"‪ ،‬ال ٌنظر إلٌهم على أنه "الفاتح" وهم‬
‫"المؽلوبٌن"‪ ،‬وال أنه المستوطن األجنبً المتمكن وهم المستباحٌن‪ ،‬أول مسبول كبٌر فً الجٌش ٌقول‬
‫للمصرٌٌن "أخوكم فً الوطنٌة"‪ ،‬لم ٌقل أخوكم فً اإلسبلم أو المسٌحٌة فقط‪ ،‬وال فً القبٌلة وال فً العشٌرة‬
‫الحاكمة‪ ..‬أول مسبول كبٌر فً الجٌش ٌعٌد أخوة الوطن وهو ٌخاطب المصرٌٌن‪.‬‬

‫أحس المصرٌون أنه عاد لهم السٌؾ والفارس وكٌان منظم مسلح ٌقود ؼضبهم وٌنظم ثورتهم المخنوقة‪.‬‬

‫(ٓ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬العادات والتقالٌد المصرٌة من األمثال الشعبٌة فً عهد محمد علً‪ ،‬جون لوٌس بوركهارت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔ‪ٕٙ‬‬
‫(ٔ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬مصر للمصرٌٌن‪ ،‬سلٌم النقاش‪ ،‬ج ٗ‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ998 ،‬ص ‪99‬‬

‫‪ٗٗ9‬‬
‫وسبقت اإلشارة إلى أن صوت أوالد البلد اختفى طوال عصور االحتبلالت‪ ،‬أو صار ٌُكتب عنهم‪ ،‬أي أن‬
‫كتب المإرخٌن والرحالة كانت إما تتجاهلهم تماما وتكتفً بنقل أحوال وآراء المستوطنٌن األجانب فً‬
‫العاصمة والمدن الكبرى وتقدمهم للتارٌخ على أنهم هم "المصرٌون"‪ ،‬أو أحٌانا تنقل أحوال الفبلحٌن‪ -‬كما‬
‫فعل المقرٌزي أو الجبرتً‪ -‬لكن من وجهة نظر هذا المإرخ ال على لسان المصرٌٌن الحقٌقٌٌن أنفسهم‪ ،‬وهم‬
‫مإرخون من المستوطنٌن األجانب أٌضا ولٌسوا من المصرٌٌن‪ ،‬ونظروا للفبلح نظرة من أعلى‪ ،‬ال انتماء‬
‫فٌها له وال أخوة وال مودة‪.‬‬

‫َّ‬
‫وشذ عن هذا مإلفون نادرون نقلوا قصابد قالوا إنها على لسان الفبلح تظهر آرابه فً الحٌاة والحكم مثل‬
‫الشربٌنً لما نقل قصٌدة أبو شادوؾ فً كتابه "هز القحوؾ" فً وقت مبكر من االحتبلل العثمانلً‪ ،‬ولكنه‬
‫نقلها أٌضا بروح متعالٌة على الفبلح‪ ،‬ال مودة فٌها وال عطؾ أخوة‪.‬‬

‫أما كتابات المإرخٌن المصرٌٌن مثل ساوٌرس ابن المقفع فكتاباتهم ركزت على أحوال الناحٌة الدٌنٌة‬
‫المسٌحٌة وما ٌتعلق بتارٌخ الكنٌسة أكثر ما ركزت على أحوال البلد والفبلحٌن عامة‪.‬‬

‫وعلى هذا‪ٌ ،‬صعب أن نعرؾ فً تلك العصور صورة مصر ومعنى الوطن فً صدور المصرٌٌن‬
‫الحقٌقٌٌن المكدسٌن فً األرٌاؾ‪ ،‬أهً ذات الصورة المقدسة التً ضمتها ضلوعهم وحناٌاهم طوال آالؾ‬
‫السنٌن فً أزمنة الحكم المصري القدٌم‪ ،‬أم تجرحت وتبددت بطول الزمان‪ ،‬وبؽٌاب الزعامة الوطنٌة‬
‫والمإسسات التً ترعى هذه الروح‪ ،‬وبتعدد الراٌات الوافدة‪ ،‬وبكثرة المرارات التً تجرعوها فً احتبلل‬
‫ورا احتبلل على هذه األرض المكدودة؟‬

‫إال أنه بداٌة من رفاعة الطهطاوي بدأنا نسمع صوت الفبلح المصري‪ ،‬ذاك الرٌفً الذي قادته الصدفة‬
‫إلى بارٌس فً بعثات محمد علً؛ فعاد منها لٌس أكثر انبهارا باألجنبً‪ ،‬بل أكثر انبهارا بالوطن‪ ،‬وزاده‬
‫العلم حبا لمصر‪ ،‬وبحثا فً تارٌخها القدٌم المهمل استفادة من اكتشافات الفرنسٌس فً المصرٌات وقتها‪،‬‬
‫وعاد لٌكتب عن تلك الكلمة المقدسة التً ؼابت فً مجاهل االحتبلالت واإلمبراطورٌات المتعاقبة‪ٌ ،‬كتب‬
‫عن "الوطنٌة"‪ ،‬و"حب الوطن"‪.‬‬

‫وربما كان لكتابات رفاعة دور فً تحرٌك مشاعر المصرٌٌن المتعلمٌن والضباط وقتها أٌضا‪ ،‬فهو من‬
‫أوابل من تحدثوا عن القومٌة المصرٌة‪ ،‬وتمٌز الشخصٌة المصرٌة فً كتابٌه "مناهج األلباب المصرٌة فً‬
‫مباهج اآلداب العصرٌة"‪ ،‬و"المرشد األمٌن للبنات والبنٌن" بعد أن كان المدٌح فً الكتب واألشعار فً‬
‫أزمان سابقة ٌُكال لؤلتراك والممالٌك أو العرب من مستوطنٌها‪ ،‬وحٌن الكبلم عن مصر ٌكون للتؽزل فً‬
‫خٌراتها‪ ،‬فٌما ٌُكال الذم والشتاٌم والتحقٌر لعصبها وروحها‪ ،‬وهو الفبلح المصري نفسه‪.‬‬

‫فجاءت كلمات الطهطاوي كهالة نور عادت من سفر بعٌد لتتركز من جدٌد على وجوه المصرٌٌن‬
‫والشخصٌة المصرٌة‪ ،‬وتبرز أحلى ما فٌها‪ ،‬وتعٌد لها الثقة‪.‬‬

‫ٓ٘ٗ‬
‫ففً كتاب " المرشد األمٌن للبنات والبنٌن" كان دابم التكرار لكلمة "مصرنا"(ٕ‪ ،)ٔ8‬وقال إن مصر "أول‬
‫وطن من أوطان الدنٌا ٌستحق أن تمٌل إلٌه قلوب بنٌه"(ٖ‪ )ٔ8‬وفً كتاب "مناهج األلباب المصرٌة فً مباهج‬
‫اآلداب العصرٌة" أسهب تحت عنوان "حضارة مصر القدٌمة" فً اإلشادة بالحكم المصري العادل قدٌما‪،‬‬
‫ومدح أخبلق األجداد وتمدنهم وقوانٌنهم المهذبة وعذوبة نفوسهم(ٗ‪ -)ٔ8‬بعد أن كان ٌُقال عنهم فً أوقات‬
‫سابقة الفراعٌن الكفرة والمساخٌط‪ -‬فشحن نفوس المصرٌٌن بؤن لكم مجدا عرٌضا ٌقوي ضهركم‪.‬‬

‫مصر لها أٌاد ُعلٌــا على البالد‬

‫وفخرها ٌُنادي ما المجد إال دٌدنً‬

‫الكون من مصر اقتبس نورا وما عنه احتبس‬

‫وما فخارها التبس إال على وؼ ٍد دَنً ِ‬

‫فخر قدٌ ُم ٌإثر عن سادة و ٌُنشر‬


‫ُ‬
‫(٘‪)ٔ8‬‬
‫زهور مجد تنثر منها العقول تجتبً‬

‫وتؽنى فً "منهاج األلباب" بـ "حب الوطن" و"واإلخوة الوطنٌة"(‪ ،)ٔ8ٙ‬فتحت عنوان "حب الوطن" قال‬
‫إن "إرادة التمدن للوطن ال تنشؤ إال عن حبه من أهل الفطن"‪ ،‬وأعاد اللحمة بٌن الدٌن والوطن بقوله "حب‬
‫الوطن من اإلٌمان"(‪ ،)ٔ89‬فؤنشد كؤنه ٌؽنً(‪:)ٔ88‬‬

‫مذهب‬

‫ٌا صاح حب الوطن حلٌة كل فطن‬

‫دور‬

‫فً أفخر األدٌان آٌــة كل مإمن‬ ‫محبة األوطان من ُ‬


‫شعب اإلٌمان‬

‫ومربع ومعه ٍد للـروح أو للبدن‬


‫ٍ‬ ‫ومصر أبقى مولد لنا وأزهى محتد‬

‫لطبعنا تالبم فً السر أو فً العلن‬ ‫شدت بها العزابم نٌطت بها التمابم‬

‫(ٕ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬المرشد األمٌن للبنات والبنٌن‪ ،‬رفاعة رافع الطهطاوي‪ ،‬الهٌبة العامة لقصور الثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٓٔ8 ،‬ص ٖ٘ٔ‬
‫(ٖ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖ٘ٔ‪ٔ٘ٗ -‬‬
‫(ٗ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬مناهج األلباب المصرٌة فً مباهج اآلداب العصرٌة‪ ،‬رفاعة الطهطاوي‪ ،‬الهٌبة العامة لقصور الثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٖٕٓ‪ٕٓٙ -‬‬
‫(٘‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬عصر محمد علً‪ ،‬عبد الرحمن الرافعً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ٘ٗ‬
‫(‪)ٔ8ٙ‬‬
‫‪ -‬مناهج األلباب المصرٌة فً مباهج اآلداب العصرٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔٔ9 -ٔٔ8‬‬
‫(‪)ٔ89‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖٔ‪ٖٖ -‬‬
‫(‪)ٔ88‬‬
‫‪ -‬عصر محمد علً‪ ،‬عبد الرحمن الرافعً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ٘ٗ‪ٗ٘٘ -‬‬

‫ٔ٘ٗ‬
‫وردد قول الشاعر‪:‬‬

‫وأن ال أرى ؼٌري له الدهر مالكا‬ ‫ولً موطن آلٌت أال أبٌعه‬

‫هل كان الطهطاوي متؤثرا بؤحادٌث الوطنٌة التً رآها فً فرنسا‪ -‬كما ٌقول البعض‪ -‬أم أنه مجرد‬
‫مصري وجد فرصته أخٌرا أن ٌعبر عما ٌجٌش فً صدور المبلٌٌن المخفً صوتها من مبات السنٌن؟‬
‫الفبلح عبل صوته وسٌجٌب بنفسه فً السطور واألحداث القادمة‪.‬‬

‫من وسط ؼبار دخان الفرن التً ٌعمل فٌها أبوه خبَّازا خرج عبد هللا الندٌم ٌقود شعبه وٌهز فٌه الوطنٌة‬
‫َّ‬
‫هزا‪ ،‬لم ٌؽادر الندٌم مصر ٌوما لفرنسا لتعلمه الوطنٌة ولم ٌعرؾ لؽتها‪ ،‬ساقته فطرته‪ -‬قبل الثورة‪ -‬لٌتبنى‬
‫قضٌة واحدة‪ ،‬إنصاؾ الفبلح المصري‪ ،‬وهو ٌلؾ القرى ٌتابع إذالله وهو الكرٌم بن األكارم على ٌد‬
‫إسماعٌل والمرابً الٌونانً والٌهودي والسوري ومن كل ملة‪ ،‬وٌفتش عن وسٌلة انتشاله‪ ،‬وجدها فً الروح‬
‫الوطنٌة‪ ،‬فكتب فً صحٌفته "التنكٌت والتبكٌت" التً أصدرها لهذا خصٌصا ٌدعو للتركٌز علٌها فً‬
‫المدارس‪" :‬أن ٌعرؾ التلمٌذ أصل نشؤة جنسه‪ ،‬ومقدار ما وصل إلٌه من العزة والقوة والثروة‪ ،‬واألسباب‬
‫التً تحل عروة الجنسٌة وتضعؾ قوتها‪ ،‬وٌحذره من االختبلؾ والتحاسد والتقاعد عن دعوة االتحاد‬
‫واأللفة"‪ ،‬وأن تقدم المدارس للتبلمٌذ "معنى الوطنٌة فً صورة ؼذاء ٌُنتفع به جمٌع الجسم بحٌث ال ٌترك‬
‫عرقا من عروقه إال وقد أجرى فٌه ماء الوطنٌة التً هً حفظ الببلد ولؽتها وعاداتها الجمٌلة"(‪،)ٔ89‬‬
‫وانتشرت صحٌفته انتشارا واسعا بٌن الضباط والمصرٌٌن المتعلمٌن اآلخرٌن‪ ،‬بل انتشر الندٌم نفسه‬
‫وسطهم ٌخطب وٌحفز‪.‬‬

‫سبب آخر لصعود إحساس "مصر للمصرٌٌن" هو ظهور عدد كبٌر من الرموز المصرٌة الناجحة‪ ،‬فإلى‬
‫جانب عرابً ومحمد عبٌد وعلً فهمً وعبد العال حلمً وؼٌرهم فً الجٌش‪ ،‬سبقهم ظهور قٌادات نبؽت‬
‫فً علوم الدٌن والدنٌا مثل رفاعة الطهطاوي وعلً مبارك وبطرس ؼالً وعبده الحامولً وعبد هللا الندٌم‬
‫ومحمد علً البقلً‪ ،‬ما أعطاهم الثقة فً قدرتهم للتمٌز فً كافة المجاالت‪.‬‬

‫وإلى جانب هذا ذاق الجنود المصرٌون طعم تمٌزهم أٌضا فً الحروب التً خاضوها فً الشام وروسٌا‬
‫حٌن تفوقوا على محتلٌهم من الضباط األتراك والممالٌك وؼٌرهم من جنسٌات أجنبٌة‪ ،‬وثبت أنهم أكثر‬
‫كفاءة منهم‪ ،‬خاصة إذا ما توفرت لهم القٌادة الماهرة الواعٌة‪ ..‬فلماذا إذن ٌتحملون عنجهٌتهم الفارؼة التً‬
‫ٌعتبر بالنسبة لها أبو جهل وأبو لهب مبلكٌن بجناحٌن؟‬

‫إنه ٌبدو نفس الشعور الذي سرى فً عروق األجداد فً ‪ ٕٔٙ‬ق‪.‬م بعد خوضهم معركة رفح مع‬
‫اإلؼرٌق‪ ،‬وأظهروا تفوقا علٌهم‪ ..‬فقرروا أنهم األولى ببلدهم‪ ...‬وقرروا الثورة‪.‬‬

‫وبدا أن من أسباب علو الروح الوطنٌة فً ٔ‪ -ٔ88‬وعدم االكتفاء بشعارات دٌنٌة تقلٌدٌة‪ -‬هو الحب‬

‫(‪ -)ٔ89‬درس تهذٌب تحاور به تلمٌذ مع ندٌم‪ ،‬عبد هللا الندٌم‪ ،‬التنكٌت والتبكٌت‪ ،‬العدد ٗ‪ ،‬السنة األولى‪ ،ٔ88ٔ -9 -ٖ ،‬ص ٗ٘‪ ،٘٘ -‬ومن تراث‬
‫عبد هللا الندٌم‪ ،‬التنكٌت والتبكٌت‪ ،‬دراسة تحلٌلٌة د‪ .‬عبد المنعم الجمٌعً‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة ٗ‪ٔ99‬‬

‫ٕ٘ٗ‬
‫الؽرٌزي لمصر فً عروقهم‪ ،‬رؼم ما قاسوه فٌها من جوع وقهر ومذابح على ٌد المحتلٌن‪ ،‬فٌقول كلوت بك‬
‫سنة ٓٗ‪ ٔ8‬تحت عنوان‪" :‬حب المصرٌٌن أوطانهم"‪" :‬ال ٌوجد بٌن مخلوقات هللا من ٌذهب المذهب البعٌد‬
‫فً حب مسقط رأسه كالمصرٌٌن(ٓ‪ ،")ٔ9‬فما أن وجدوا من ٌهتؾ باسم مصر والمصرٌٌن حتى هرعوا‬
‫إلٌه‪ ....‬كؤنهم على معٌاد‪.‬‬

‫ٌعلق جون نٌنٌه فً مراسبلته للصحؾ الفرنسٌة والسوٌسرٌة فً ٕ فبراٌر ٔ‪ ٔ88‬على تعجب المفكرٌن‬
‫الكبار فً أوروبا من موقؾ الضباط المصرٌٌن المتحد فً حادثة قصر النٌل‪ ،‬ولماذا لم ٌحصل بٌنهم قتال‪،‬‬
‫قال‪" :‬قتال ماذا؟ ومع ماذا؟ إن الجٌش المصري هو دماء الشعب النٌلً الذي لم تفسده الرذٌلة ونبات‬
‫األبسنت والخطابات والسٌاسة الخداعة‪ ،‬الشعب طاهر من هذا الدنس‪ ،‬وال ٌتقاتل مع نفسه ضد الشعب‪ ،‬بٌن‬
‫المحراث المحبوب والبندقٌة التً أُجبر على حملها ٌوجد اتحاد أخوي‪ ،‬وكل الوزارات وكل الدبلوماسٌٌن فً‬
‫العالم سوؾ ال ٌنجحون فً قطع هذه الصلة العجٌبة(ٔ‪."")ٔ9‬‬

‫فً نفس الوقت‪ ،‬أٌد عرابً الصالحون والطالحون‪ ،‬المصرٌون ومستوطنون أجانب‪ ،‬الوطنٌون‬
‫والخابنون‪ ،‬فهرع إلٌه الفبلحون المنكوبون باإلتاوات والسخرة وعبء تسدٌد دٌون إسماعٌل لروتشٌلد‬
‫ودٌونهم الشخصٌة للمرابٌن‪ ،‬والمتعطشٌن لمن ٌُعلٌهم وٌُعلً مصر فوق الجمٌع‪ ،‬وهرع إلٌه كبار المبلك‪،‬‬
‫أو "الملوك الصؽار" على حد تعبٌر إلكسندر شولش(ٕ‪ ،)ٔ9‬الذٌن أؼراهم الؽنى الطاؼً والنفوذ االقتصادي‬
‫لٌكونوا أصحاب نفوذ سٌاسً ٌشارك الخدٌوي الحكم وٌمنع قدوم منافس أجنبً جدٌد لهم‪ ،‬وهرع إلٌه علماء‬
‫األزهر والكنسٌة‪ ،‬وهرع إلٌه كبار التجار مصرٌون أو مستوطنون ضٌقا من تحكم التجار األوروبٌٌن فً‬
‫الصادر والوارد‪ ،‬بل وهرع إلٌه فرٌق من العابلة الحاكمة منهم إخوة لمحمد علً مثل زٌنب هانم وابناء‬
‫لمحمد علً مثل حلٌم باشا رفضا لوالٌة توفٌق؛ ألنهم ٌرون أن أبٌه إسماعٌل اؼتصب له العرش اؼتصابا‬
‫برشوة السلطان العثمانلً لٌجعل الحكم فً أكبر أبنابه وحده وحرم حلٌم من العرش‪ ،‬وأٌده السلطان ‪ -‬فً‬
‫البداٌة‪ -‬أمبل فً إلؽاء االمتٌازات التً أخذها منه إسماعٌل بالرشوة‪.‬‬

‫وبتعبٌر إلٌنور بٌرتز‪" :‬أصبح عرابً محور االضطراب من أجل االستقبلل‪ ،‬وهو ما أٌدته تؤٌٌدا واسعا‬
‫فبات مختلفة‪ ،‬أٌده كبار مبلك األرض الذٌن قاوموا االستؽبلل األجنبً لمرافق مصر المستجدة‪ ،‬وأٌده‬
‫العساكر الذٌن جندوا من طبقة الفبلحٌن المرهقٌن إرهاقا متزاٌدا لتسدٌد الدٌن األجنبً"(ٖ‪.)ٔ9‬‬

‫فمن من هإالء سٌبقى مع عرابً وصحبه وجنود مصر للنهاٌة؟‬

‫▲▲▲ شرارة‪ ..‬مصر للمصرٌٌن‬

‫الشرارة األولى للثورة أطلقها ظلم إسماعٌل للضباط المصرٌٌن بترك ناظر الجهادٌة (وزٌر الحربٌة)‬

‫(ٓ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬لمحة عامة إلى مصر‪ ،‬كلوت بك‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕ89‬‬
‫(ٔ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬رسابل من مصر‪ ،‬جون نٌنٌه‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٕ٘‪ٕٖٙ -‬‬
‫(ٕ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬مصر للمصرٌٌن أزمة مصر االجتماعٌة والسٌاسٌة ‪ ،ٔ88ٕ -ٔ898‬ألكسندر شولش‪ ،‬ترجمة رءوؾ عباس حامد‪ ،‬ص ‪ٔ8ٙ‬‬
‫(ٖ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔٔ‬

‫ٖ٘ٗ‬
‫الشركسً عثمان رفقً وبنً جنسه العبٌد ٌتكبرون على المصرٌٌن "فً الراٌحة والجاٌة"‪ ،‬ال محترمٌن أنهم‬
‫أبناء البلد وال أنهم زمبلءهم‪ ،‬حتى أنهم كانوا ٌسخرون من الضباط المصرٌٌن بقولهم‪ٌ" :‬ا مقطؾ"‪ ،‬إشارة‬
‫إلى أعمال الزراعة التً ٌقوم بها الفبلحون حاملٌن المقطؾ والفاس‪.‬‬

‫وبجانب هذا تؤثر الجٌش بالتدخل المباشر للوزارة األوروبٌة فً أمور الجٌش والبلد ككل‪ ،‬فٌقول سلٌم‬
‫النقاش فً كتابه الصادر ٗ‪" ٔ88‬مصر والمصرٌٌن"‪ ،‬وهو ما أٌده عرابً ونقله فً مذكراته‪" :‬وكان من‬
‫أهم أسباب االختبلل إذ ذاك عسر المالٌة وتداخل األجانب فً أمور الببلد‪ ،‬واستبثارهم بها على عهد‬
‫الوزارة الوٌلسونٌة فً مدة إسماعٌل‪ ،‬واشتداد وطؤتهم على العسكرٌة‪ ،‬وطموح أبصارهم إلى ما أوجب‬
‫ٌومبذ استحكام الضؽابن فً صدور الجهادٌة عموما‪ ،‬واستٌابهم من األجانب بسبب قطع مرتباتهم"‪ ،‬ورؼم‬
‫أن توفٌق سعى إلصبلح الحال المالٌة فور تولٌه‪ ،‬إال أنه "بقً فً نفوس الجهادٌة أثر سًء بعثهم على‬
‫اؼتنام فرصة للتخلص من ربقة األجنبً‪ ،‬ومن أهمها أٌضا ما كان من بعض األجانب أو أكثرهم من‬
‫استخفافهم باألهالً واألعراض عن مصالحهم وتداخلهم فً اإلدارات وأمور الببلد إجحافا بحقوق األمة‪،‬‬
‫(ٗ‪)ٔ9‬‬
‫فؤعٌا ذلك رجال العسكرٌة‪ ،‬وخافوا زٌادة االستبثار؛ فنفورا إلى إنقاذ الببلد من تداخل األجانب"‪.‬‬

‫كما ٌشٌر أحمد شفٌق باشا‪ -‬كشاهد عٌان حٌث كان وقتها موظفا بالمجلس الخصوصً بالداخلٌة‪ -‬إلى أن‬
‫من أسباب السخط التوقؾ عن دفع مرتبات الضباط والموظفٌن عموما ‪ ٔ8‬شهرا حتى ساءت حالهم‪ ،‬وأنه‬
‫مما صعد بؽضب الضباط أنه فً الوقت الذي ٌجري تسرٌح الضباط المصرٌٌن وتعطٌل مرتبات الباقٌن‬
‫علموا باستدعاء الضباط اإلنجلٌز من الهند(٘‪ ،)ٔ9‬وبحسب نٌنٌه فإن "رٌفرز وٌلسون طرد الضباط بدون أن‬
‫ٌدفع رواتبهم متخٌبل أنه ٌتعامل مع عبٌد زنوج"(‪.)ٔ9ٙ‬‬

‫وٌقول عرابً إن عثمان رفقً آل على نفسه أن ٌعمم سلطة الشراكسة على حساب المصرٌٌن؛ فؤصدر‬
‫قانونا ٌمنع الجنود المصرٌٌن تحت السبلح من الترقً لرتبة الضباط‪ ،‬وأزاح قٌادات مصرٌة مثل عبد العال‬
‫حلمً وأحمد عبد الؽفار وعٌن محلهم شراكسة‪ ،‬فاجتمع الضباط وهم فً هٌاج فً بٌت عرابً ٌطلبون منه‬
‫التصرؾ‪ ،‬ونصبوه زعٌما لهم‪ ،‬خاصة وأنهم علموا أن الشراكسة ٌجتمعون فً بٌت خسرو باشا‪ ،‬كبٌر‬
‫الشراكسة‪ٌ" ،‬تذاكرون فً دولة الممالٌك فً كل لٌلة بحضور عثمان باشا رفقً‪ ،‬وٌلعنون خٌري بك لتسلٌمه‬
‫وإذعانه بالطاعة إلى السلطان سلٌم‪ ،‬وٌقولون إنه قد حان الوقت لرد بضاعتنا‪ ،‬وأنهم ال ٌؽلبون من قلة‪،‬‬
‫وظنوا أنهم ٌملكون مصر وٌستبدون بها كما فعل أولبك الممالٌك من قبلهم"(‪.)ٔ99‬‬

‫وهكذا‪ ..‬فكل من شرب من احتبلل مصر راجع ٌشرب تانً‪ ،‬كل من احتل مصر ٌوما ٌحلم بالعودة‬
‫الحتبللها‪ ،‬ال ٌردعه فً هذا قلة عدده‪ ،‬وال قبح أفعاله‪ ،‬وال طول زمان سقوطه من على عرشها المؽصوب‪،‬‬
‫أٌا كانت لؽته‪ ،‬دٌنه‪ ،‬جنسه‪.‬‬

‫(ٗ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬مذكرات الزعٌم أحمد عرابً‪ ،‬جٔ‪ ،‬ص ٖ٘ٔ‪ ،ٖٔٙ -‬ومصر للمصرٌٌن‪ ،‬سلٌم النقاش‪ ،‬جٗ‪ ،‬ص ٘‪ٙ-‬‬
‫(٘‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬مذكراتً فً نصؾ قرن‪ ،‬أحمد شفٌق باشا‪ ،‬طٔ‪ ،‬مطبعة مصر‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ9ٖٗ ،‬ص ‪ٖٔ -ٕ9‬‬
‫(‪)ٔ9ٙ‬‬
‫‪ -‬رسابل من مصر‪ ،‬جون نٌنٌه‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٕ٘‬
‫(‪)ٔ99‬‬
‫‪ -‬مذكرات الزعٌم أحمد عرابً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٕ9 -ٕٕٙ‬‬

‫ٗ٘ٗ‬
‫فقرر الضباط‪ ،‬ومنهم أحمد عرابً وعبد العال حلمً وطلبة عصمت وعلً فهمً ومحمد عبٌد اتباع‬
‫الطرٌق القانونً برفع عرٌضة إلى ربٌس النظار (ربٌس الوزراء) رٌاض باشا (ومختلؾ حول أصله ما‬
‫بٌن ٌهودي أو تركً(‪ ))ٔ98‬فً ٖٓ ٌناٌر ٔ‪ ٔ88‬تشكو من عثمان رفقً من أنه "ٌعامل ضباط العسكرٌة‬
‫بالذل واالحتقار"‪ ،‬وتشكو من إحالة الضباط الوطنٌٌن‪ ،‬أي المصرٌٌن‪ ،‬إلى االستٌداع دون ؼٌرهم من‬
‫الضباط من بنً جنسه(‪ ،)ٔ99‬وتطلب عزل رفقً‪ ،‬وتعٌٌن وزٌر حربٌة مصري‪ ،‬ورفع عدد الجٌش إلى ‪ٔ8‬‬
‫ألفا (وكان نزل إلى ٓٔ آالؾ)‪.‬‬

‫ورؼم أن العرٌضة لٌس فٌها أي إساءة للخدٌوي وال مبالؽة فً المطالب ولكن توفٌق اعتراه القلق أن‬
‫ٌتضرر العرش "لو استتب أمر هذه العصابة واستفحل عملها"‪ ،‬فقرر هو ورٌاض التخلص من القٌادات‬
‫المصرٌة بحركة ؼدر‪ ،‬وهم علً بك فهمً المشهور بالدٌب‪ ،‬ربٌس جند الحرس الخدٌوي‪ ،‬وأحمد عرابً‬
‫بك أمٌر جند العباسٌة‪ ،‬وعبد العال بك حلمً المعروؾ بؤبً حشٌش أمٌر الجند السودانً المعسكر بطرة‪،‬‬
‫الموقعة أسمابهم على العرٌضة‪ ،‬فؤرسل عثمان رفقً إلٌهم أن ٌحضروا اجتماعا فً دٌوان الجهادٌة (وزارة‬
‫الحربٌة) فً قصر النٌل للترتٌب للفرقة الحربٌة التً ستصحب جمٌلة هانم‪ -‬أخت توفٌق‪ -‬خبلل زفافها‪ ،‬لكن‬
‫الضباط شموا رٌحة الؽدر العلوي الشهٌر‪ ،‬واتفقوا مع زمبلبهم على أنه لو تؤخروا ٌؤتوا إلنقاذهم‪ ،‬وصدق‬
‫ظنهم‪ ،‬فوجدوا أن أوامر تنتظرهم بالقبض علٌهم وتقدٌمهم لمحاكمة عسكرٌة عاجلة‪ ،‬والجلسة منعقدة‪ ،‬فلما‬
‫تؤخروا اقتحم الضباط المصرٌون اآلخرون مع حشد من الجنود بقٌادة البكباشً محمد عبٌد الدٌوان وهاجوا‬
‫على الشراكسة‪ ،‬وكسروا األبواب والشبابٌك‪ ،‬وخلصوا زمبلبهم من أٌدٌهم وهاجموا عثمان رفقً الذي فرَّ‬
‫كالفؤر من أمام القطط الؽاضبة‪ ،‬وقفز من الشباك حٌث خبؤه ربٌس ورشة الترزٌة فً الدٌوان داخل كٌس‬
‫مبلبس‪ ،‬وهرب كل الشراكسة الذٌن كانوا محتمٌٌن فً طبنجاتهم قبل ساعات قلٌلة‪ ،‬واشتهرت هذه الوقابع‬
‫باسم "حادثة قصر النٌل"(ٕٓٓ)‪ ،‬فكان أول نصر معلوم للضباط المصرٌٌن فً وجه محتلٌهم والممالٌك منذ‬
‫إعادة تؤسٌس الجٌش‪.‬‬

‫ٌقول عرابً إنه حٌن القبض علٌه هو وزمٌلٌه وإدخالهم فً قصر النٌل وجدوا الدٌوان محتشدا بالشراكسة‬
‫من رتبة مبلزم إلى فرٌق‪ ،‬وبؤٌدٌهم الطبنجات‪ ،‬مصطفٌن على الجنبٌن ونحن نسٌر أمامهم "وهم فً ؼاٌة‬
‫الفرح والمرح"‪ ،‬سعداء بالقبض على المصرٌٌن‪ ،‬وخسرو باشا ٌهزأ بالضباط المصرٌٌن بقوله لهم‪" :‬إٌه‬
‫زنبللً هارؾ ال"‪ ،‬أي "فبلحٌن شؽالٌن بالمقاطؾ(ٕٔٓ)"‪.‬‬

‫ٌهزأ بهم ألنهم شؽالٌن بالمقاطؾ بعرقهم وفً بلدهم ٌبدرون الخٌر‪ ،‬وال ٌهزأ بنفسه ألنه شؽال مرتزق‬

‫(‪)ٔ98‬‬
‫اإلسكندرٌة‪.‬‬ ‫لمكتبة‬ ‫التابع‬ ‫المعاصرة‬ ‫مصر‬ ‫ذاكرة‬ ‫موقع‬ ‫‪-‬‬
‫‪http://modernegypt.bibalex.org/Types/Persons/Details.aspx?type=minister&ID=e ٗEEDٙHD8Byir9vnNnٙZ9w:ٖD:‬‬
‫‪ٖD‬‬
‫وٌقول جون نٌنٌه فً مراسالته للصحؾ الفرنسٌة والسوٌسرٌة بتارٌخ ٕ فبراٌر ٔ‪ ٔ88‬إن "رٌاض باشا نفسه خارج من أسرة ٌهودٌة حٌث ٌكون‬
‫الجٌل الثالث"‪ ،‬وأمه شركسٌة‪ ،‬وأرجع إلى هذا التكوٌن العابلً ما وصفها بـ"القوة الهمجٌة فٌه" وتفضٌل الشراكسة على المصرٌٌن فً الجٌش‪:‬‬
‫رسابل من مصر‪ ،‬جون نٌنٌه‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٖٕ‪ٕٖٗ -‬‬
‫(‪)ٔ99‬‬
‫‪ -‬مصر للمصرٌٌن أزمة مصر االجتماعٌة والسٌاسٌة ‪ ،ٔ88ٕ -ٔ898‬ألكسندر شولش‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔ99‬‬
‫(ٕٓٓ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السباق‪ ،‬ص ‪ ،ٔ98 -ٔ99‬ومذكرات الزعٌم أحمد عرابً‪ ،‬تحقٌق عبد المنعم الجمٌعً‪ ،‬ص ٕٖٕ‪ٕٖٖ -‬‬
‫(ٕٔٓ)‬
‫‪ -‬مذكرات الزعٌم أحمد عرابً‪ ،‬ص ٖٕٓ‬

‫٘٘ٗ‬
‫بالسٌؾ فً بل بلد شارك فً اؼتصابها وٌبدر الدم والشر‪ ..‬وهكذا ورث الؽزاة استهزاء الشٌطان بالصالحٌن‬
‫فً االستهزاء بؤوالد البلد األصلٌٌن‪.‬‬

‫زادت حركة الؽدر الضباط إصرارا على أخذ حقوقهم فكانت وقفة عابدٌن األولى (مشهورة باسم حادثة‬
‫السبلملك)‪ ،‬وهً أنهم توجهوا بقٌادة عرابً وخضر خضر إلى ساحة قصر عابدٌن فً ٔ فبراٌر ٔ‪ٔ88‬‬
‫وعرضوا على الخدٌو وسط حشد كبٌر من الجنود والمتفرجٌن من األهالً واألجانب مطالبهم‪ ،‬وأمام‬
‫ؼضبهم لم ٌجد توفٌق إال الموافقة(ٕٕٓ) فٌما ٌخص إقالة رفقً وتعٌٌن محمود سامً البارودي محله‪ ،‬فكان‬
‫ثانً نصر للضباط المصرٌٌن‪.‬‬

‫ٌعلق نٌنٌه كشاهد عٌان على األحداث‪" :‬كان نابب الملك (الخدٌوي) خابفا‪ ،‬وكان وزٌره (رٌاض) ٌرتعد‬
‫بشدة بالرؼم من حذلقته"؛ ولذا لم ٌستطع أن ٌمارس ما كان ٌمارسه من قبل مع الفبلحٌن‪ ،‬وهو السجن‬
‫والضرب بالعصا والنفً(ٖٕٓ)‪ ،‬لقد انسخط المحتلون إلى أصلهم‪ ،‬إلى أخبلق الؽزاة‪ٌ ،‬ستؤسدون على من‬
‫ٌخشاهم وتسقط ثقته فً نفسه‪ ،‬وٌنسحقون فبرانا إذا ما الحت لمعة التحدي والثبات والثقة فً عٌون‬
‫أصحاب الحق‪.‬‬

‫واستجاب البارودي لطلب رفع مرتبات الجٌش التً قال عرابً إنها لم ُترفع منذ أٌام محمد علً‪ ،‬وأقام‬
‫لهم حفل تكرٌم فً نفس مكان اعتقال العقداء الثبلثة بالدٌوان فً قصر النٌل‪ ،‬والبارودي من أصل شركسً‪،‬‬
‫لكنه فلتة من فلتات جنسه‪ ،‬من ندرة أخلصت للبلد الذي آواها‪ ،‬ورأت أن أهله المصرٌٌن أولى به‪ ،‬تضامن‬
‫مع الضباط الفبلحٌن‪ ،‬بل وتطوع أن ٌكون رجلهم داخل الحكومة ٌنقل لهم ما ٌدبره الخدٌوي والشراكسة‬
‫ضدهم‪ ،‬وتؤٌٌدا ألن "مصر للمصرٌٌن"‪ ،‬حث عرابً على أن ٌتولى حكم مصر‪ ،‬ولكن عرابً رفض(ٕٗٓ)‪.‬‬

‫وعاد الضباط لثكناتهم فرحٌن بتخفٌؾ الضٌق عن زمبلبهم‪ ،‬ولكن وهم متوجسون من الخدٌوي رؼم‬
‫أنهم لم ٌكونوا ٌنتوون عمل أي تحرك جدٌد طالما استمرت اإلصبلحات‪ ،‬هرع الخدٌو الستدعاء القناصل‪،‬‬
‫سؤلوه إن كان لدٌه قوات ٌواجه بها قوات الفبلحٌن‪ ،‬أجاب‪ :‬ال‪ ،‬فنصحوه بؤن ٌستسلم‪ ،‬صاح رٌاض‪:‬‬
‫(ٕ٘ٓ)‬
‫سادتً‪ ..‬ؼدا سوؾ ٌجبرنا الجٌش على حرق كتاب الدٌَن العام‪ ،‬كٌؾ ٌصبح رعاٌاكم ودابنً مصر؟‬

‫وأظهر توفٌق لعرابً أنه معهم‪ ،‬وعقدا اجتماعات سرٌة‪ ،‬وٌقول المراسل السوٌسري جون نٌنٌه فً برقٌة‬
‫بعثها للصحؾ األوروبٌة ٔٔ مارس ٔ‪ ٔ88‬إن الفٌالق كانت تصٌح بٌن حٌن وآخر أمام عابدٌن‪ٌ" :‬حٌا‬
‫توفٌق‪ ،‬تحٌا مصر‪ ،‬وتسقط الوزارة‪ٌ ،‬سقط رٌاض(‪.")ٕٓٙ‬‬

‫هل حقا سطع هتاؾ "تحٌا مصر" فً تلك األٌام كما نقلها نٌنٌه؟ لو ص َّح هذ فإنها أول "تحٌا مصر" تنطق‬
‫فً التارٌخ الحدٌث‪ ،‬وأول إشارة لعودة النشٌد الوطنً إلى مصر‪.‬‬

‫(ٕٕٓ)‬
‫‪-‬انظر‪ :‬مصر للمصرٌٌن‪ ،‬سلٌم النقاش‪ ،‬ج ٗ‪ ،‬ص ٘‪8ٙ -8‬‬
‫(ٖٕٓ)‬
‫‪ -‬رسابل من مصر‪ ،‬جون نٌنٌه‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٖ9 -ٕٖٙ‬‬
‫(ٕٗٓ)‬
‫‪ -‬انظر شهادة عرابً حول هذا فً مذكرات الزعٌم أحمد عرابً‪ ،‬جٔ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٖٖ‬
‫(ٕ٘ٓ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬رسابل من مصر‪ ،‬جون نٌنٌه‪ٕٖ8 ،‬‬
‫(‪)ٕٓٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕٗ9‬‬

‫‪ٗ٘ٙ‬‬
‫تحٌة لكِ ٌا عٌن حور‬

‫ٌا من زٌنك كامال بٌدٌه‬

‫إنه هو الذي زٌنك‬

‫إنه هو الذي شٌدك‬

‫أسسك (‪)ٕٓ9‬‬ ‫إنه هو الذي‬

‫وفجؤة صدر قرار من توفٌق‪ -‬كؤنه ٌدفع الضباط للثورة دفعا‪ -‬بإقالة البارودي وبإخراج اآلالي الذي‬
‫ٌقوده عرابً واآلالي الذي ٌقوده عبد العال حلمً من القاهرة إلى الشرقٌة ودمٌاط‪ ،‬فؤحسوا أنها عملٌة‬
‫تصفٌة جدٌدة‪ ،‬وعفو الخدٌوي عن الضباط الثابرٌن فً قصر النٌل لم تكن إال "مطاطٌة للرٌح"‪ ،‬وشاع أن‬
‫الخدٌوي هدفه إؼراقهم كما حصل فً حادثة األمٌر حلٌم واألمٌر كمال حٌن سقط بهما القطار على كوبري‬
‫كفر الزٌات فً النٌل وظن كثٌرون أن سعٌد من أوعز بإؼراقه‪ ،‬فرفضوا تنفٌذ األمر‪ ،‬وحتى ال ٌعد‬
‫عصٌانا‪ ،‬سلك عرابً وصحبه طرٌقا شرعٌا وهو الذهاب إلى عابدٌن لمقابلة توفٌق‪ ،‬وهً الوقفة العظمى‬
‫المشهورة باسم "وقفة عابدٌن" فً ‪ 9‬سبتمبر ٔ‪.ٔ88‬‬

‫وقبلها‪ ،‬نشرت صحٌفة األهرام فً ‪ٌ 9‬ونٌو ٔ‪ ٔ88‬أن قناصل الدول التقوا بالخدٌوي وحدثوه عن شابعات‬
‫"بخصوص حركات جدٌدة من الضباط بمصر مما ٌخل بالراحة العامة‪ ،‬وأنهم مستعدون ألن ٌعلنوا ذلك‬
‫لدولهم حتى ترى فً الطرق المناسبة لئلسكان والراحة"‪ ،‬ورد الخدٌوي بؤنه سٌبذل كل جهده "فً إزالة كل‬
‫إشكال من هذا القبٌل"‪.‬‬

‫وفً هذه األثناء ظهر عبد هللا الندٌم وسط الضباط حامبل صوت بقٌة الشعب لما تؤكد اإلحساس بخٌانة‬
‫الخدٌوي والتنسٌق مع األجانب‪ ،‬وحمل الندٌم على كتفٌه عبء أن ٌكون حلقة الوصل بٌن الضباط وبٌن بقٌة‬
‫الشعب(‪ ،)ٕٓ8‬وٌالها من مهمة وضع رقبته ثمنا لها‪ ،‬خاصة فً زمن كان القتل ألهون سبب‪.‬‬

‫فوزع منشورا ٌطلب فٌه من الشعب إنابة عرابً فً المطالبة بحقوقه والتحدث باسمه‪ ،‬وجمع التوقٌعات‬
‫علٌه لتكون هذه هً أول "حركة توكٌبلت شعبٌة" فً تارٌخ مصر ل ُتنصب زعٌما مصرٌا بإرادة مصرٌة‬
‫حرة‪ ،‬وٌعقبها بعد ذلك "حركة توكٌبلت" قادها الصحفً أحمد حلمً سنة ‪ ،ٔ9ٓ8‬ثم "حركة توكٌبلت"‬
‫لصالح سعد زؼلول ‪.ٔ9ٔ9‬‬

‫فً هذه األثناء كانت فرنسا احتلت تونس‪ ،‬وهو ما فتح عٌون المصرٌٌن على نواٌا األوروبٌٌن‪ ،‬وأرسل‬
‫عرابً رسالة للسلطان عبد الحمٌد ٌحذره من أن برٌطانٌا قد تحتل مصر لتحقق توازن قوى فً المنطقة مع‬
‫فرنسا‪ ،‬فٌما اقترح راؼب باشا على عرابً أن ٌؽتال توفٌق بؤورطة من الجنود لٌتولى الزعامة‪ ،‬فرفض‬

‫(‪)ٕٓ9‬‬
‫‪ -‬القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ٘ٔ‬
‫(‪)ٕٓ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر للمصرٌٌن أزمة مصر االجتماعٌة والسٌاسٌة ‪ ،ٔ88ٕ -ٔ898‬ألكسندر شولش‪ ،‬ص ‪ ٔ8ٔ -ٔٙ9‬و ٕٔٓ‬

‫‪ٗ٘7‬‬
‫عرابً تماما(‪ ، )ٕٓ9‬لم ٌكن عرابً ٌرٌد دما‪ ،‬كما لم تكن مشكلته فً البداٌة مع توفٌق‪ ،‬بل ظل ٌنادٌه بموالي‬
‫وكل ألفاظ التبجٌل حتى قرب النهاٌة‪ ،‬كانت مطالب عرابً فً البداٌة شدٌدة التواضع‪ ،‬بل حتى ال ترقى‬
‫لمرتبة الثورٌة‪ ،‬وهً أن "ٌتساوى" المصرٌون باألجانب فً الوظابؾ والمرتبات والحقوق والواجبات‪،‬‬
‫وكؾ األوروبٌٌن عن التدخل فً توجٌه أمور الببلد‪ ،‬وعمل دستور وبرلمان‪ ..‬هكذا كان أمل المصرٌٌن أن‬
‫"ٌتساووا" فً بلدهم باألجنبً‪ ،‬مع أن الطبٌعً أن ٌكونوا فوقه‪.‬‬

‫أرسل عرابً خطابا فً صباح ‪ 9‬سبتمبر لوزٌر الجهادٌة داود ٌكن بؤن الضباط قرروا مقابلة الخدٌوي فً‬
‫نفس الٌوم لوضع النقاط فوق الحروؾ‪ ،‬وأرسل رسالة للقنصل البرٌطانً ٌعلمه بالمظاهرة وأنها لحماٌة‬
‫الضباط الذٌن تعرضوا لتهدٌدات منذ فبراٌر حتى ال ٌتخذها ذرٌعة لنشر إشاعات أن الجٌش ٌقوم بعصٌان‬
‫وٌهدد سبلمة الرعاٌا األجانب‪ ،‬وسعى توفٌق لمنع وصول اآلالٌات إلى القصر بكل وسٌلة‪ ،‬وبتعبٌر مٌخابٌل‬
‫شاروبٌم فً كتابه "الكافً فً تارٌخ مصر القدٌم والحدٌث" الصادر سنة ‪ ٔ898‬فإنه راح العباسٌة لٌمنع‬
‫الجنود من التحرك لعابدٌن فلم ٌجد فٌها الجنود‪ ،‬فضرب كفا على كؾ ومبلبسه امتؤلت عرقا وترابا‪ ،‬فكرَّ‬
‫على عابدٌن‪ ،‬فٌما كانت اآلالٌات وراء عرابً تقترب من القصر وهم ٌنفخون فً البوق وٌجرون ٕٕ مدفعا‬
‫من الطراز الكبٌر‪ ،‬والنساء ورابه ٌؽنٌن األؼانً الرٌفٌة‪ ،‬وٌهتفن‪" :‬هللا ٌنصرك ٌا عرابً ٌا سند الوالٌا هللا‬
‫ٌنصرك"(ٕٓٔ)‪.‬‬

‫انضم حرس الخدٌوي فً القصر بقٌادة علً فهمً إلى عرابً‪ ،‬والجماهٌر محتشدة فً المٌدان حول‬
‫الجٌش‪ ،‬والناس تراقب من األسطح والشبابٌك‪ ،‬واألجانب ٌتفرجون بدورهم‪ ،‬لحظة صمتت أمامها الدنٌا‪،‬‬
‫صار الخدٌوي ببل حول وال قوة‪ٌ ،‬صطؾ فً جانب وبجواره األمرٌكً إستون ربٌس أركان الجٌش‪،‬‬
‫وكوكسن القنصل البرٌطانً فً األسكندرٌة‪ ،‬وكولفن المراقب البرٌطانً فً الوزارة‪ ،‬واألتراك‬
‫والشراكسة‪ ،‬فٌما ٌصطؾ فً الجانب الثانً أمامهم جٌش متحد قوي العزٌمة ٌرابض عند أبواب القصر‬
‫وخلفه األهالً‪ ،‬إنه فصل جدٌد من فصول معركة الخٌر والشر‪ ،‬الحق "ماعت" والباطل "إزفت" على أرض‬
‫مصر‪.‬‬

‫(‪)ٕٓ9‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٔ‪ٔ8‬‬
‫(ٕٓٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الكافً فً تارٌخ مصر القدٌم والحدٌث‪ ،‬مٌخابٌل شاروبٌم‪ ،‬مكتبة مدبولً‪ ،‬ط ٕ‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٓٓٗ ،‬ص ٖ٘ٓ‪ٖٕٔ -‬‬

‫‪ٗ٘8‬‬
‫ٌمٌن الناظر عرابً والمصرٌون فً ظهره وعلى الشمال الخدٌوي واألوروبٌون والترك فً ظهره (مصدر الصورة‪ :‬األهرام(ٕٔٔ))‬

‫الحق فٌها هذه المرة نشط ٌقظ لٌس مقهورا‪ ،‬وماعت تترقب‪ ،‬توجه عرابً إلى الخدٌوي وخلفه ٖٓ ضابطا‬
‫سٌوفهم مسلولة بؤٌدٌهم وعرابً أمامهم راكبا حصانه وسٌفه فً ٌده‪ ،‬ولما طالبه الخدٌوي بؤن ٌترجل وٌؽمد‬
‫سٌفه نفذ األمر حتى ال ٌتكهرب الجو‪ ،‬وإعماال لمبدأ طاعة الجندي لقابده األعلى‪ ،‬قبل أن ٌستمع توفٌق‬
‫للمطالب أمر الضباط بالعودة لمعسكراتهم فرفضوا تنفٌذ األمر هذه المرة ألنه هدم لما جاءوا ألجله‪،‬‬
‫وانتظروا إشارة عرابً‪ ،‬ودار الحوار الشهٌر بٌن عرابً والخدٌوي‪:‬‬

‫تساءل الخدٌوي عن أسباب حضوره بالجٌش إلى عابدٌن‪.‬‬

‫عرابً‪ :‬جبنا ٌا موالي لنعرض علٌك طلبات األمة والجٌش وكلها طلبات عادلة‬

‫الخدٌوي‪ :‬وما هً هذه الطلبات؟‬

‫عرابً‪ :‬إسقاط الوزارة المستبدة‪ ،‬وتشكٌل مجلس نواب على النسق األوروبً‪ ،‬وزٌادة عدد الجٌش إلى القدر‬
‫المعٌن فً الفرمانات السلطانٌة‪ ،‬والتصدٌق على القوانٌن العسكرٌة السابق أمركم بوضعها‪.‬‬

‫الخدٌوي‪ :‬كل هذه الطلبات ال حق لكم فٌها‪ ،‬وأنا ورثت ملك هذه الببلد عن آبابً وأجدادي وما أنتم إال عبٌد‬
‫إحساناتنا‪.‬‬

‫عرابً‪ :‬نحن خلقنا هللا أحرارا ولم ٌخلقنا تراثا وعقارا‪ ،‬فوهللا الذي ال إله إال هو إننا ال نورث وال نستعبد‬
‫بعد الٌوم‪.‬‬

‫حٌنها‪ ..‬طلب كولفن من توفٌق ان ٌؤمر بقتل عرابً‪ ،‬فرفض خوفا الجٌش المحٌط بالقصر قاببل‪" :‬ألم تنظر‬
‫إلى من حولنا من العساكر؟"‪ ،‬فطلب كولفن منه الدخول على أن ٌتولى هو المفاوضة مع عرابً حتى ال‬

‫(ٕٔٔ)‬
‫‪ -‬الزعٌم أحمد عرابى رحلة كفاح من أجل الوطن‪ ..‬من الثورة إلى المنفى‪ ،‬األهرام‪ ،ٕٓٔٙ -9 -9 ،‬السنة ٔٗٔ العدد ٗ‪ٗ9ٖ9‬‬

‫‪ٗ٘9‬‬
‫ٌبدو الخدٌوي مستسلما لما ٌملٌه علٌه الثوار أمام المؤل‪ ،‬وتابع األهالً انسحاب الخدٌو من نوافذ وأسطح‬
‫المنازل المحٌطة بالمٌدان(ٕٕٔ)‪.‬‬

‫وهدد المسبول البرٌطانً عرابً باللجوء للسلطان العثمانلً والدول األجنبٌة‪ ،‬وأصر عرابً على أن الجٌش‬
‫ال ٌرٌد إال ضمان الحقوق والحرٌات للمصرٌٌن‪ ،‬فاضطر المفاوض اإلنجلٌزي للقبول باستقالة الوزارة فً‬
‫الحال بشروط عرابً‪ ،‬وهً أال ٌشارك أحد من األسر الحاكمة فً الوزارة وال ٌعٌن شركسً ناظرا‬
‫للجهادٌة‪ ،‬وأن تكتب وثٌقة تكلٌؾ الوزارة الجدٌدة قبل أن ٌؽادر‪ ،‬فكتبها الخدٌوي المختبا بالداخل وقرأها‬
‫حاملها بصوت عالً أمام الناس فصدحت الموسٌقى وصٌحات االبتهاج فً أرجاء المٌدان‪ ،‬وبعدها أطل‬
‫الخدٌوي من شرفة القصر‪ ،‬ورؼبة فً عدم التصعٌد أكد عرابً لتوفٌق الوالء بعد أن أطل علٌهم من شرفة‬
‫القصر‪ ،‬وانسحب الجنود بنظام تام(ٖٕٔ)‪.‬‬

‫لماذا لم ٌقتل عرابً توفٌق؟ لماذا لم ٌنتهز فرصة احتشاد الجٌش والجماهٌر ورابه‪ ،‬وانحسار الخدٌوي‬
‫كالفؤر المبلول مع كبار عابلته فً قصره لٌتخلص منه‪ ،‬أو على األقل ٌعتقله وٌخلعه؟ إنه أجنبً استقوى‬
‫بؤجانب ضد مصر وٌحتمً بالدبلوماسٌٌن األجانب فً مواجهة جٌش البلد الذي ٌحكمه "عٌنً عٌنك"! إن‬
‫عابلته قتلت عشرات آالؾ المصرٌٌن فً السخرة وفً حروب أرادوا بها أن ٌكونوا أباطرة وفً قمع‬
‫ثوراتهم الصؽٌرة فً القرى‪ ،‬وقتلوهم ألما وكمدا من سحب أراضٌهم أو جلد ظهورهم النتزاع الضراٌب‬
‫الظالمة‪ ،‬وتوفٌق عنده استعداد أن ٌقتل عشرات آالؾ آخرٌن‪ -‬وسٌفعل‪ -‬لماذا إذن تركه عرابً ولم ٌنتهز‬
‫الفرصة وٌخلع هذا الحكم الدموي وٌعلن حكما مصرٌا؟‬

‫سإال حٌَّر مإرخٌن أوروبٌٌن ولٌس فً مصر وحدها‪ ،‬لو أي ثورة وقع بٌن ٌدٌها الحكم الكارهة له ما‬
‫تركوه‪ ،‬الثورة الفرنسٌة والروسٌة واإلنجلٌزٌة علَّقت العاببلت الحاكمة فوق المشانق بكل انشكاح‪ ،‬لماذا لم‬
‫ٌفعلها عرابً إذن؟ هل ألن المصرٌٌن طابعهم لٌس دموٌا؟ هل ما ٌسمى بالتسامح المصري الزابد عن الحد‬
‫مع الؽزاة الذي ٌنسى اإلساءة بسرعة البرق؟ أم أن طموحه لم ٌكن وصل إلى أن ٌدفعه لٌزٌح هذه العابلة‬
‫وٌتسلم الحكم مصرٌون‪ ،‬أم أنه خاؾ من أنه لو فعلها لهاج علٌه السلطان العثمانلً واألوروبٌون فٌتخذوها‬
‫فرصة الجتٌاح مصر بجٌوشهم؟‬

‫وبعد وقفة عابدٌنٕٗٔ عاشت مصر ٖ شهور وصفها ولفرٌد سكاون بلنت‪ -‬السٌاسً والرحالة البرٌطانً‬
‫الذي كان فً مصر وقتها‪ -‬فً كتابه "التارٌخ السري لبلحتبلل اإلنجلٌز لمصر" بؤنها "أسعد األوقات‬
‫السٌاسٌة التً شهدتها مصر‪ ،‬وأنا سعٌد ألنً شهدت هذه الفترة بعٌنًّ ‪ ،‬األمر الذي ٌجعلنً أقول‪ :‬إنً لم‬
‫أسمع عن هذه الفترة‪ ،‬أو أشك فً حقٌقتها‪ ،‬كانت الجماعات الوطنٌة كلها‪ ،‬بل وكل سكان القاهرة كانوا‬
‫(ٕٕٔ)‬
‫‪ -‬مصر للمصرٌٌن أزمة مصر االجتماعٌة والسٌاسٌة ‪ ،ٔ88ٕ -ٔ898‬ألكسندر شولش‪ ،‬ص ٗ‪ ،ٔ8‬ومذكرات الزعٌم أحمد عرابً‪ ،‬ص ٖٗ‪-‬‬
‫‪ ،ٖٙ‬وص ‪ٖٓٓ -ٕ98‬‬
‫(ٖٕٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر للمصرٌٌن أزمة مصر االجتماعٌة والسٌاسٌة ‪ ،ٔ88ٕ -ٔ898‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٗ‪ٔ8‬‬
‫‪ -214‬يحاوؿ البعض اليوـ إنكار حدوث وقفة عابديف‪ ،‬ومواجية عرابي لتوفيؽ طالبا الحرية ألىؿ بمده‪ ،‬ولكف ىذه الوقفة وأقواؿ عرابي مسجمة في‬
‫عدة مراجع ل شخصيا عاصرتو‪ ،‬ومنيا "رسائؿ مف مصر" لجوف نينيو‪ ،‬و"التاريخ السري لالحتالؿ اإلنجميزي لمصر"‪ ،‬أللفريد سكاوف بمنت‪ ،‬و"مذكرات‬
‫محمد عبده" تحقيؽ طاىر الطناحي‪ ،‬وكرومر في كتابو "مصر الحديثة"‪ ،‬وغيرىا‪ ،‬فضال عف مذكرات عرابي نفسو‪.‬‬

‫ٓ‪ٗٙ‬‬
‫جمٌعا متحدٌن فً مسؤلة تحقٌق الفكرة الوطنٌة العظٌمة (‪ )...‬وفً سابر أنحاء مصر انتشر الفرح والسرور‬
‫على نحو لم ٌسبق أن رآه أحد من أبناء النٌل منذ مبات السنٌن‪ ،‬ومن الصحٌح أٌضا أن الناس فً شوارع‬
‫القاهرة كانوا ٌستوقفون بعضهم بعضا‪ ،‬على الرؼم من عدم تعارفهم‪ ،‬لكً ٌتعانقوا وٌفرحوا وٌبتهجوا لذلك‬
‫الحكم الحر الجدٌد المدهش الذي بدا بصورة مفاجبة مثل فجر بعد لٌل طوٌل مخٌؾ(ٕ٘ٔ)"‪.‬‬

‫ورفرفت الروح المصرٌة فً العبللً‪ ،‬فً سماء "نوت"(‪.)ٕٔٙ‬‬

‫وفً شهادة فارمان قال إن عرابً أصبح هو القوة الحاكمة‪ ،‬ولم ٌتدخل عرابً فً اإلٌرادات المخصصة‬
‫لدفع فواٌد الدٌن العمومً‪ ،‬ولم ٌصدر منه أي خطر حقٌقً فً سٌاسته سوى أنه قلل من هٌبة القوات‬
‫األجنبٌة ما ربما ٌإدي‪ -‬إذا استمرت الحال على هذا الموال‪ -‬إلى استقبلل مصر مرة أخرى‪.‬‬

‫ووصؾ فارمان‪ ،‬شاهد العٌان على األحداث أٌضا‪ ،‬عرابً بؤنه "كان معبود الشعب‪ ،‬وقلما كان ٌوجد‬
‫وطنً محبوب لدى الجمهور المصري كعرابً باشا‪ ،‬وظهوره باإلسكندرٌة أصبح مناسبة الحتفاء شعبً لم‬
‫ٌسبق له مثٌل بٌن أفراد هذا الشعب‪ ،‬وجعله هذا موضع سخط هإالء الذٌن كانوا ٌملون على الحكومة‬
‫سٌاستها‪ ،‬وكثٌرا ما تساعد المطامع الشخصٌة إلى درجة ما على إثارة الحركة الوطنٌة‪ ،‬ولكن الحقابق أثبتت‬
‫فٌما بعد أن ما م ن وطنً كان بعٌدا عن الدوافع الشخصٌة مثل عرابً‪ .‬والواقع أنه بعد التحقٌق الدقٌق لم‬
‫ٌمكن العثور على أي دافع لدٌه (سوى الرؼبة الجامحة فً التحرر من سٌطرة أجنبٌة ؼاشمة)(‪.")ٕٔ9‬‬

‫♦♦♦ عرابً وروتشٌلد‬

‫وارتعب الشٌطان القابع فً بنوك روتشٌلد وجوشن وأوبنهاٌم فً لندن وؼٌرها من أن مخططه البتبلع‬
‫مصر سٌفشل‪ ،‬فبدأ ٌخطو خطواته السوداء لكسر الفرحة المصرٌة‪ ،‬بسبلحً الرشوة واإلرهاب‪.‬‬

‫ٌقول سلٌم النقاش فً كتابه "مصر للمصرٌٌن" إن روتشٌلد حٌن تولى توفٌق منصبه ‪ ٔ899‬سارع‬
‫إلرسال تهنبة له تقول إن "هذا التؽٌٌر قد أزال الكثٌر من المصاعب التً حالت دون نفوذ شروط المٌثاق‬
‫المبرم بٌنهم وبٌن الحكومة المصرٌة متعلقا بقرض األمبلك الموهوبة"(‪ ،)ٕٔ8‬لكن روتشٌلد فوجا بالجٌش‬
‫المصري ٌقفز للمشهد‪.‬‬

‫ونشر ولفرٌد سكاون بلنت أن "بتون" (لم ٌتضح منصبه) أبلؽه أن روتشٌلد عرض على عرابً ٗ آالؾ‬
‫جنٌه إنجلٌزي فً العام مدى لحٌاة إذا ما ؼادر مصر‪ ،‬وكان هذا فً ٌونٌو ٕ‪ ،ٔ88‬أي قبل الؽزو بشهر‪.‬‬

‫وحٌن سؤل بلنت عرابً عن األمر بعد سنوات‪ ،‬قال له إنه عقب إنذار ماٌو الذي وجهته أوروبا لمصر‬

‫(ٕ٘ٔ)‬
‫‪ -‬التارٌخ السري لبلحتبلل اإلنجلٌزي لمصر (رواٌة شخصٌة لؤلحداث)‪ ،‬ولفرٌد سكاون بلنت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٓٓ -ٔ99‬‬
‫(‪)ٕٔٙ‬‬
‫‪ -‬نوت فً الحضارة المصرٌة هً قبة السماء الظاهرة‪ ،‬وفً فكرة الخلق المصرٌة فإن نوت كانت منطبقة على جب (األرض) فؤمر اإلله الخالق‬
‫بانفصالهما عن بعضهما‪ ،‬فرفع الرب شو (الهوا) نوت إلى أعلى‪ ،‬وبذلك توفر مناخ لظهور الحٌاة على األرض‪.‬‬
‫(‪)ٕٔ9‬‬
‫‪ -‬مصر وكٌؾ ُؼدر بها‪ ،‬ألبرت فارمان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖٕ8 -ٖٕ9‬‬
‫(‪)ٕٔ8‬‬
‫‪ -‬مصر للمصرٌٌن‪ ،‬سلٌم النقاش‪ ،‬جٗ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪9‬‬

‫ٔ‪ٗٙ‬‬
‫قبل ضرب اإلسكندرٌة‪ ،‬زاره القنصل‪ ،‬عارضا علٌه ٓٓ٘ جنٌه مصري شهرٌا من الحكومة الفرنسٌة‬
‫مقابل أن ٌؽادر مصر إلى بارٌس‪ ،‬وٌُعامل هناك مثلما حدث مع عبد القادر الجزابري‪ ،‬ولكن عرابً رفض‬
‫رفضا باتا‪ ،‬ؼٌر أنه‪ -‬والحدٌث لعرابً‪ -‬لم ٌسمع قط عن معاش معروض علٌه من آل روتشٌلد(‪.)ٕٔ9‬‬

‫وبالربط بٌن رواٌتً عرابً و"بتون" فاالحتمال أن العرض الفرنسً هو بإٌحاء من بٌوت مال روتشٌلد‪.‬‬

‫فؤرسل قنصل برٌطانٌا فً مصر إدوارد مالٌت ببلؼا إلى جرانفٌلد وزٌر خارجٌة برٌطانٌا فً حكومة‬
‫جبلدستون ٌقول فٌه‪" :‬لن نستطٌع استرداد سٌادتنا حتى ٌُقضً على السٌطرة العسكرٌة التً تثقل كاهل‬
‫مرض للمسؤلة‬
‫ٍ‬ ‫الببلد اآلن‪ ،‬وإنً ألعتقد أنه ال بد وأن تطرأ مشكلة حادة قبل أن نستطٌع الوصول إلى حل‬
‫المصرٌة‪ ،‬وإنه من الخٌر أن نتعجلها (أي المشكلة الحادة) بدل أن نحاول تؤخٌرها(ٕٕٓ)"‪.‬‬

‫وجاء هذا فً كتاب "دمار مصر" الذي أصدره تٌودور روذستٌن‪ ،‬مراسل صحٌفة إٌجٌبشٌان استاندارد‪،‬‬
‫سنة ٓٔ‪ ،ٔ9‬واعتبر ألكسندر شولش أن التروٌج للدٌكتاتورٌة العسكرٌة أو العداء لؤلجانب كان "أسطورة‬
‫دعابٌة لتبرٌر التدخل"‪ ،‬بل كان األجانب ٌعٌشون فً مصر فً ظروؾ ال ٌتمتعون بها فً ببلدهم(ٕٕٔ)‪.‬‬

‫وهكذا‪ ،‬أصبح مقضٌا أن تقع المشكلة الحادة‪ ،‬وهٌؤت صحؾ أجنبٌة األجواء لتبرٌر وجودها‪ ،‬نشرت وكالتا‬
‫روٌترز وهافاس انتقادات ألداء الحكومة التً بها عرابً‪ ،‬وأظهرت الوكالتان "القلق على الشعب"‪،‬‬
‫وطرحت ورقة المقٌمٌن األجانب على طاولة المضاربٌن الخضراء ألجل مصلحة السماسرة المالٌٌن‪،‬‬
‫بتعبٌر جون نٌنٌه الذي سخر من األكاذٌب التً تبثها الوكالتان وهو ٌعلم كذبها بحكم عمله كمراسل على‬
‫األرض‪.‬‬

‫وٌضٌؾ‪" :‬إذا قرأتم البرقٌات المؽرضة التً برق بها ٌومٌا مراسلو "الدٌلً نٌوز" وصحؾ كبٌرة أخرى‬
‫إنجلٌزٌة سوؾ تثٌر ازدراءكم لها‪ ،‬وكل ذلك من أجل البورصة‪ٌ ،‬جب خفضها من أجل رفعها‪ ،‬على حساب‬
‫حرٌة أمة‪ ،‬ودماء آالؾ األفراد‪ ،‬ولم ال! المصالح فوق العدالة‪ ،‬هكذا ٌرٌد تقدم التقدم "القوة فوق الحق"‪،‬‬
‫وحرصت صحؾ على وصؾ عرابً بـ"الدٌكتاتور المصري"‪.‬‬

‫فً المقابل ٌصؾ هو المشهد حٌنها فً برقٌات بتارٌخ ٕٓ‪ ٖ -‬ؤٕ‪ ٔ88ٕ -٘ -‬إلى صحٌفته‪" :‬أظهر‬
‫الجٌش التبعٌة والصبر‪ ،‬فلم ٌفهموه وال سمعوه‪ ،‬أرادوا فصل الشعب عن الرٌؾ الذي خرج منه‪ ،‬الجٌش‬
‫الذي هو مشكل منه‪ ،‬هنا ٌكون الخطؤ وسٌنبؽً اآلن اإلصؽاء إلٌه"‪ٌ" ،‬ا له من شعب ٌثٌر اإلعجاب‪ ،‬هإالء‬
‫المصرٌون! ٌتخذون ما هو فوق طاقتهم‪ ،‬وأن ٌتحملوا فً أنفسهم‪ ،‬وال ٌبالون بشًء(ٕٕٕ)"‪.‬‬

‫وشاع أن الضباط الشراكسة بتحرٌض من إسماعٌل تآمروا على قتل عرابً وصحبه‪ ،‬ووشى بهم إلى‬
‫عرابً زمٌل لهم؛ فؤلقى القبض على الضباط المسبولٌن‪ ،‬وحكم علٌهم بعقوبات مختلفة‪ ،‬خففها الخدٌو‬

‫(‪)ٕٔ9‬‬
‫‪ -‬التارٌخ السري لبلحتبلل اإلنجلٌزي لمصر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٗ‪ٖ8‬‬
‫(ٕٕٓ)‬
‫‪ -‬دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔ‬
‫(ٕٕٔ)‬
‫‪ -‬مصر للمصرٌٌن أزمة مصر االجتماعٌة والسٌاسٌة ‪ ،ٔ88ٕ -ٔ898‬ألكسندر شولش‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٕٗ‪ٕٗٗ -‬‬
‫(ٕٕٕ)‬
‫‪ -‬رسابل من مصر (‪ ،)ٔ88ٕ -ٔ899‬جون نٌنٌه‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٕ٘ و٘‪ ٖ9ٙ -ٖ9‬ؤٓٗ‬

‫ٕ‪ٗٙ‬‬
‫بضؽط من القنصل البرٌطانً‪ ،‬وبالتوازي أشهرت برٌطانٌا وفرنسا سبلح التدخل صراحة بؤن أرسلتا فً‬
‫ماٌو ٕ‪ ٔ88‬ثبلث سفن حربٌة إلى اإلسكندرٌة (بحجة المحافظة على أرواح رعاٌاهما)‪ ،‬وأوصى ممثلو‬
‫فرنسا وإنجلترا فً مصر الخدٌوي أن ٌقٌل الوزارة الوطنٌة‪ ،‬وأن ٌنفى عرابً من مصر‪ ،‬وأن ٌبعد قابدٌن‬
‫وطنٌٌن آخرٌن إلى الداخل‪ ،‬وبالفعل أقٌلت الوزارة‪ ،‬ولكن ما لبث احتجاج حامٌة اإلسكندرٌة أن أجبرت‬
‫الخدٌوي على إعادة الوزارة إلى الحكم‪.‬‬

‫وأثارت تحركات األسطول البرٌطانً وخنوع السلطان العثمانلً عبد الحمٌد الثانً إلنجلترا قلق بقٌة‬
‫الدول الكبرى الرافضة ألن تستفرد برٌطانٌا بمصر‪ ،‬فدعوا لمإتمر سداسً تتمثل فٌه الدول الستة صاحبة‬
‫المصالح فً مصر‪ ،‬أي صاحبة الدٌون‪ ،‬وهً برٌطانٌا وفرنسا وإٌطالٌا وألمانٌا والنمسا وروسٌا‪ ،‬والتبم‬
‫المإتمر فً إسطنبول ٌونٌو ٕ‪.ٔ88‬‬

‫وفٌه اتفقوا على تقسٌم النفوذ فً مصر عبر مٌثاق مضت علٌه الدول الست بعدم التدخل‪ ،‬بما فٌها‬
‫برٌطانٌا‪ ،‬ونص على "أال تسعى هذه الدول للحصول على مؽانم إقلٌمٌة أو على امتٌازات أٌا كان نوعها أو‬
‫على أٌة مٌزة تجارٌة لرعاٌاها أكثر مما ٌستطٌع رعاٌا الدول األخرى الحصول علٌه بالتساوي"‪.‬‬

‫كما اتفقوا على أن أي دولة من الدول العظمى ال تقوم بعمل انفرادي فً مصر‪ ،‬إال كما قال اإلنجلٌز فً‬
‫حالة "الضرورة االستثنابٌة"(ٖٕٕ)‪.‬‬

‫وألن برٌطانٌا متربصة من سنٌن الحتبلل مصر (منذ حملة فرٌزر ‪ ٔ8ٓ9‬على األقل)‪ ،‬تفننت فً عمل‬
‫الخدع التً تتؽلب بها على المنافسة الدولٌة على مصر‪ ،‬ومنها حشر كلمة "إال فً حالة الضرورة‬
‫االستثنابٌة" فً مٌثاق الدول الستة‪ ،‬وبدأت تخلق هذه الضرورة‪ ،‬فكانت أحداث الشؽب بٌن المصرٌٌن‬
‫واألجانب فً اإلسكندرٌة‪.‬‬

‫فً ذلك الوقت كانت الحكومة التً بها عرابً تملك زمام الحكم‪ ،‬واإلجراءات الحكومٌة مقنعة ومرضٌة‬
‫للجمٌع‪ ،‬فٌما عدا األجانب الذٌن لم ٌكن لهم رؼبة سوى حكم الببلد لمصلحتهم‪ ،‬وهإالء الذٌن لم ٌكونوا‬
‫ٌجرأون على عصٌان أوامرهم(ٕٕٗ)‪ ،‬وفً نفس الوقت بدأ القناصل‪ ،‬خاصة اإلنجلٌزي والٌونانً‪ٌ ،‬بذرون‬
‫بذور األحداث الدموٌة بٌن المصرٌٌن واألجانب‪ ،‬ولصقها بالجٌش المصري فً محاولة لتبرٌر االحتبلل‬
‫المخطط له‪ ...‬واختاروا مكان الفوضى والشؽب‪ ..‬اإلسكندرٌة‪.‬‬

‫وٌواصل فارمان‪ -‬الذي كان موجودا فً اإلسكندرٌة وقتها‪ -‬قاببل إنه بالرؼم من أن "السبلم كان ٌسود‬
‫بٌن مختلؾ طبقات الشعب إال أن القنصلٌن اإلنجلٌزي والٌونانً فً اإلسكندرٌة كانا ٌمدان المالطٌٌن‬
‫والٌونانٌٌن بالسبلح سرا‪ ،‬وهكذا مدت أخطر طبقة وأكثرها فوضى بالوسابل التً أضفت على المشاؼبات‬
‫طابعها الدموي"‪.‬‬

‫(ٖٕٕ)‬
‫‪ -‬دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔ‪ٖٔ -‬‬
‫(ٕٕٗ)‬
‫‪ -‬مصر وكٌؾ ُؼدر بها‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖٖٙ‬‬

‫ٖ‪ٗٙ‬‬
‫لكن بعض قناصل الدول األخرى أحسوا بالخطر من تسلٌح الرعاٌا الٌونانٌٌن والمالطٌٌن‪ ،‬إما خشٌة على‬
‫مصالحهم أو كً ال تؤخذه برٌطانٌا مبررا لفرض احتبللها لمصر‪ ،‬وعلى هذا عقدوا اجتماعا صباح األحد‬
‫ٔٔ ٌونٌو ٕ‪( ٔ88‬الذي سٌشهد وقوع الشؽب)‪ ،‬وتحدثوا عن أن التسلٌح هو "أخطر طرٌق ٌمكن اتباعه‪،‬‬
‫ومن المحتمل أن ٌإدي إلى تصادم فً أٌة لحظة"‪ ،‬وأبلػ هذا القرار إلى القنصل اإلنجلٌزي‪ ،‬وعقب تسلمه‬
‫بساعتٌن كان الشؽب والهٌاج على أشدهما(ٕٕ٘)‪.‬‬

‫وتدفقت السفن الحربٌة لفرنسا وإٌطالٌا والٌونان إلى مٌناء اإلسكندرٌة لمراقبة الوضع‪ ،‬احتشد األسطول‬
‫اإلنجلٌزي لٌمنع انفكاك أسر مصر من قٌودها‪ ،‬واحتشدت ورابه أساطٌل بقٌة الدول لتتؤكد أنه لن ٌؤخذ‬
‫مصر أسٌرة له وحده‪ ،‬جاءوا على أمل أن ٌتقاسموها‪.‬‬

‫وٌحكً فارمان أنه كان هناك قلٌل من الود بٌن الطبقات الدنٌا من الٌونانٌٌن فً اإلسكندرٌة وبٌن‬
‫األهالً‪ ،‬ولكن وجود البواخر الٌونانٌة جرح كبرٌاء المصرٌٌن وأثار حفٌظتهم‪ ،‬كما أثار كراهٌة الٌونانٌٌن‬
‫بالمثل‪ ،‬وقد زاد توتر الشعور العام‪ ،‬وأصبحت جمٌع الطبقات فً حالة من االضطراب لم تكن لتوجد لوال‬
‫وجود السفن الحربٌة العدٌدة فً المٌناء‪ ،‬ولكان الهدوء التام قد ساد لو أن هذه السفن لم تصل(‪.)ٕٕٙ‬‬

‫شعر المصرٌون أن الٌونانٌٌن لٌسوا مجرد جالٌة أو تجار وباعة‪ ،‬ولكنهم فً ساعة الصفر تآمروا مع‬
‫بلدهم ومع إنجلترا ضد مصر‪.‬‬

‫ورصد جون نٌنٌه فً رسالة إلى صحٌفته فً ٖٕ‪ ٔ88ٕ -٘ -‬أن إرسال الٌونان سفٌنتٌن حربٌتٌن أثار‬
‫دهشة عامة‪ ،‬فٌما رحب بها الٌونانٌون والسورٌون‪ ،‬وٌفسر نٌنٌه سبب الترحٌب‪" :‬الشعب ٌتسامر حول‬
‫وجود الباخرتٌن الٌونانٌتٌن الصؽٌرتٌن‪ ،‬المعروؾ أن المرابٌن السورٌٌن والٌونانٌٌن ٌبؽضون عرابً على‬
‫وجه الخصوص‪ ،‬الذي ٌراقبهم فً القرى ]أي ٌحارب انتشارهم كمرابٌن فً القرى ٌستنزفون أموال‬
‫وأراضً الفبلحٌن[‪ .‬الٌونانٌون لمقتهم للمسلمٌن الذٌن أخرجتهم أوروبا من رق العثمانٌٌن‪ ،‬والتً أنفقت من‬
‫أجل ذلك المبلٌٌن التً لم ترد إلٌها‪ ،‬الٌونانٌون الذٌن كان لهم شرؾ إنجاب بعض أكابر الوطنٌٌن الذٌن‬
‫إلٌهم ٌدٌنون بالكثٌر ٌنكرون على الشعب الفبلح تفوقه فً بعض األمور‪ ،‬الحق أنه فكر فً رجل ٌعمل‬
‫خصٌصا من أجل مصر‪ ،‬مع زمبلبه(‪.")ٕٕ9‬‬

‫إذن اجتمع فً الٌونانٌٌن كراهٌتهم القدٌمة للفبلح المصري المتفوق علٌهم حضارٌا حتى وصفوه وقت‬
‫االحتبلل البطلمً بـ"البربري المنحط"‪ ،‬ثم كرهوه ألن بلده مسلم وحمَّلوه وزر احتبلل العثمانٌٌن لهم (رؼم‬
‫أن الٌونانٌٌن أنفسهم ٌعشقون احتبلل ببلد ؼٌرهم)‪ ،‬ثم كرهوه ألنهم هم اضطروا لبلستعانة بؤوروبا‬
‫لتخلصهم من االحتبلل العثمانلً فً حٌن أن المصرٌٌن أخرجوا رجبل‪ ،‬بل جٌشا منهم ٌطالب بحقوقهم‬
‫وحرٌتهم‪ -‬مثلما حقدوا على المصرٌٌن أنهم تصدوا لقباٌل شعوب البحر أٌام رمسٌس الثالث فٌما تخرَّ بت‬

‫(ٕٕ٘)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٖٖٙ‬‬
‫(‪)ٕٕٙ‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٖٕ9‬‬
‫(‪)ٕٕ9‬‬
‫‪ -‬رسابل من مصر‪ ،‬جون نٌنٌه‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓ‪ٖ8‬‬

‫ٗ‪ٗٙ‬‬
‫وسقطت أمامهم بعض جزر الٌونان‪ -‬ثم كرهوه ألن هذا الجٌش ٌنوي تخلٌص شعبه من الربا الٌونانً‬
‫والٌهودي والسوري وٌقول "مصر للمصرٌٌن"‪ ،‬إذن هً كراهٌة رباعٌة‪.‬‬

‫كان ٌسكن شرق اإلسكندرٌة عدد كبٌر من األوروبٌٌن واألؼنٌاء من المصرٌٌن (أو المستمصرٌن) وفً‬
‫ؼربها ٌسكن الفقراء سواء من المصرٌٌن أو األجانب‪ ،‬وضمنهم ٌونانٌون ومالطٌون معروفون بمٌلهم‬
‫للشؽب وبسوء الخلق‪ ،‬وكانت برٌطانٌا تعتبرهم رعاٌاها رؼم أنهم لٌسوا إنجلٌزا لٌكونوا عونا لها‪ ،‬وفجؤة‪-‬‬
‫ٌحكً فارمان‪ -‬تشاجر مالطً من الٌونانٌٌن مع مصري على مبلػ من الفلوس‪ ،‬وسحب الٌونانً‪ ،‬الذي ٌُقال‬
‫كان مخمورا‪ ،‬السكٌن وضرب بها المصري فً بطنه‪ ،‬وتسبب منظر المصري وهو ٌنزؾ الدم ومحموال‬
‫على ٌدي أصحابه ؼٌرة وؼضب األهالً الذٌن تجمعوا ودخلوا فً عراك مع الٌونانٌٌن والمالطٌٌن‪.‬‬

‫لم ٌكن المصرٌون ٌملكون إال النبابٌت والعصً‪ ،‬وفجؤة دوى صوت الرصاص‪ ،‬فقد فوجا المصرٌون‬
‫بؤن األجانب ٌملكون أسلحة نارٌة‪ ،‬وٌطلقون الرصاص على المصرٌٌن العزل من أماكن عالٌة كالشبابٌك‬
‫واألسطح‪ ،‬فثار لذلك ؼضب المصرٌٌن أكثر‪ ،‬وقُتل فً الشؽب ٓ‪ ٙ‬أوروبٌا‪ ،‬وأضعافهم من المصرٌٌن‪،‬‬
‫وافتحر أحد الٌونانٌٌن فً الٌوم التالً بؤنه قتل خمسة أفراد(‪.)ٕٕ8‬‬

‫لم ٌكن مصرحا لؤلهالً بحمل السبلح‪ ،‬فلم ٌملكوا إال الهروات‪ ،‬وفً المقابل ٌختزن الٌونانٌون أسلحة‬
‫نارٌة بإذن من القنصل بحجة أنها ضرورٌة لحماٌة أنفسهم‪ ،‬ونتٌجة إلطبلق النار جن جنون المصرٌٌن‬
‫وتدفقوا إلى هذا الجانب من المدٌنة ٌقتلون بهراواتهم كل أوروبً ٌعثرون علٌه فً الطرٌق‪.‬‬

‫واضطر الجٌش المصري للتدخل‪ ،‬فنزل جنود من القبلع الموجودة فً جزٌرة فاروس ودخلوا أحٌاء‬
‫اإلسكندرٌة‪ ،‬وبمجرد نزولهم خؾ الشؽب بطرٌقة سحرٌة‪ ,‬وهذه هً الرواٌة الصحٌحة‪ ،‬بقدر اإلمكان‪ ،‬لما‬
‫أطلق علٌه المإرخون مذبحة المسلمٌن للمسٌحٌٌن فً اإلسكندرٌة‪ ...‬فً حٌن لم ٌطلق علٌها أحد فً األٌام‬
‫الثبلثة أي اسم سوى أنها كانت هٌاجا مإسفا خطٌرا بدأه أحد األجانب(‪.)ٕٕ9‬‬

‫ٌقصد فارمان أن من بعض الصحؾ األجنبٌة ؼٌرت الحقابق بعد وقت قصٌر‪ ،‬فؤلقت بالذنب على‬
‫المصرٌٌن‪ ،‬وصورتها على أنها همجٌة من المصرٌٌن ضد األجانب‪ ،‬رؼم أن ما حدث هو العكس‪ ،‬ورؼم‬
‫أن الحكومة بقٌادة عرابً سعت لوقؾ أي شحن بٌن المصرٌٌن واألجانب‪ ،‬لكن الصحافة أصرت على‬
‫اختبلق حجج تبرٌر االحتبلل‪.‬‬

‫وٌضرب مثبل بؤن ظهرت هذه الفقرة فً جرٌدة الدٌلً نٌوز"‪" :‬أطلق األوربٌون النار من النوافذ‪ ،‬وقتلوا‬
‫عددا كبٌرا من العرب الذٌن أحدثوا بدورهم أضرارا جسٌمة بٌن األوروبٌٌن فً الشوارع"(ٖٕٓ)‪ ،‬ولكن بعد‬
‫أٌام قلٌلة بدأ تزوٌر التارٌخ واألحداث لتبرٌر التدخل اإلنجلٌزي‪ ،‬فعندما عاد المراسلون األوروبٌون‪ -‬الذٌن‬

‫(‪)ٕٕ8‬‬
‫‪ -‬مصر وكٌؾ ُؼدر بها‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ ،ٖٖٔ -ٖٕ9‬وأورد جون نٌنٌه فً برقٌاته لصحؾ أوروبٌة وقتها رواٌة مشابهة‪ :‬انظر‪ :‬رساٌل من‬
‫مصر‪ ،‬جون نٌنٌه‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ‪ٖ8ٗ -ٖ8‬‬
‫(‪)ٕٕ9‬‬
‫‪ -‬مصر وكٌؾ ُؼدر بها‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٖٔ‬
‫(ٖٕٓ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕٖٖ‬

‫٘‪ٗٙ‬‬
‫كانوا حضروا إلى مصر مع األساطٌل األجنبٌة‪ -‬سرعان ما أصبح ٌطلق على الشؽب اسم "مذبحة" ٌرجع‬
‫السبب فٌها إلى تعصب المسلمٌن (أي المصرٌٌن)‪ ،‬ولقد اشتطوا فً قولهم إلى حد اتهام عرابً‪ ،‬دون أي‬
‫داع‪ ،‬بؤنه هو الذي أوعز بهذا الشؽب إلى الؽوؼاء‪ ،‬كما عمل على تنظٌمه‪.‬‬

‫وبحسب فارمان "اعتقد األوربٌون ]المقٌمون فً مصر[ األكثر ذكاء‪ ،‬والذٌن كانوا ٌعرفون الحقابق‪ ،‬أن‬
‫مصالحهم سوؾ ٌخدمها االحتبلل األجنبً‪ ،‬ولذا شجعوا نشر هذه األنباء دون أن ٌنشروا على المؤل أي‬
‫اعتراض من جانبهم‪ .‬وهكذا ٌُصنع التارٌخ"(ٖٕٔ)‪.‬‬

‫ومن أدلة تعمد اإلعبلم األوروبً تضلٌل الرأي العام رواٌة ٌتذكرها القنصل األمرٌكً أنه بعد حدوث‬
‫الشؽب بؤسبوع قرأ "رواٌة ؼٌر صحٌحة بالمرة عن الحادث فً إحدى الصحؾ المشهورة فً لندن‪ .‬ولما‬
‫كنت على معرفة بسٌطة بمراسل تلك الصحٌفة فقد سمحت لنفسً أن انتقد رواٌته هذه‪ .‬وسؤلته‪ :‬لِ َم أخفى‬
‫جزءا من الحقابق ووصؾ الشؽب بؤنه مذبحة دبرها المسلمون ]المصرٌٌن[ سلفا للمسٌحٌٌن ]األوروبٌٌن[‬
‫على حٌن أنه ٌعلم أن أحد الرعاٌا اإلنجلٌز قد بدأها‪ ،‬وأن عدد القتلى من األهالً ٌفوق عدد األجانب"؟‪.‬‬

‫ولم تبدر أقل بادرة من اضطراب على المراسل‪ .‬وأجاب فً برود إنه "فً مصر لؽرض ما‪ ،‬وهو بهذا‬
‫ٌإدي الؽرض من مهمته‪ .‬ثم ابتسم ورفع ٌدٌه فً وضع شخص ٌمسك بصحٌفة وٌقرإها‪ ،‬وأضاؾ قاببل‬
‫وهو ٌمزح‪" :‬إننً أرسل برقٌة كل ٌوم إلى لندن‪ ،‬وفً الصباح التالً ٌقرإها المشتركون فً الصحٌفة فً‬
‫جمٌع أنحاء إنجلترا وهم ٌحتسون قهوتهم بكل جد وثقة كما لو كانوا ٌقرأون اإلنجٌل(ٕٖٕ)"‪.‬‬

‫قال الصحفً األوروبً إنه فً مصر "لؽرض ما"‪ ،‬وهكذا دابما معظمهم فً مصر "لؽرض ما"‪،‬‬
‫وٌواصل فارمان‪ ،‬أنه جرت محاولة جدٌة فً ذلك الوقت للحصول على دلٌل ٌبرهن على أن عرابً باشا‬
‫كان مسإوال عن حدوث هذا الشؽب‪ ،‬وأنه نتٌجة لخطط رسمها هو وشركاإه‪ ،‬وكان لدى الحكومة‬
‫اإلنجلٌزٌة من األسباب السٌاسٌة ما ٌجعلها ترؼب فً إثبات بعض األعمال اإلجرامٌة ضد هإالء‪ ،‬ولذا‬
‫عٌنت محامٌا من اإلسكندرٌة وحصلت على بعض المعلومات ؼٌر الموثوق فٌها والملٌبة بالمتناقضات‪،‬‬
‫وخاصة من المالطٌٌن والٌونانٌٌن‪ ،‬ودون أن تعثر على أي شًء ٌبرهن على هذا‪.‬‬

‫ووجه لورد جرانفٌل فً رسالة بعث بها نظر العمبلء البرٌطانٌٌن إلى الحصول على دلٌل ٌدٌن عرابً‬
‫والذٌن ٌعملون تحت إمرته‪ ،‬ولكنهم عجزوا عن ذلك فتخلوا عن المهمة(ٖٖٕ)‪.‬‬

‫فً المقابل‪ ،‬رؼبت الحكومة فً مصر فً الحصول على تحقٌق فً الموضوع‪ ،‬فكونت لجنة تحقٌق‪،‬‬
‫وعٌنت إنجلترا محامٌا إنجلٌزٌا لٌمثل حكومته فٌها‪ ،‬وبمجرد أن ُعرؾ هذا النبؤ فً لندن بعث اللورد‬

‫(ٖٕٔ)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٕٖٖ‪ٖٖٖ -‬‬
‫(ٕٖٕ)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٖٖٖ‬
‫*** نفس األمر فً تزوٌر الحقابق فعلته الصحافة األجنبٌة فً الحدٌث عن ثورة ‪ ،ٔ9ٔ9‬وثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘‪ ،ٔ9‬ثم فً تزوٌر األحداث خالل‬
‫فوضى ٌناٌر ٕٔٔٓ حٌن اتهمت الجٌش والداخلٌة المصرٌٌن فً أحداث العنؾ التً وقعت حٌنها‪ ،‬وفً ٌوم وقوعها وقبل أي تحقٌقات‪ ،‬وكؤن‬
‫التقارٌر كانت معدة سلفا‬
‫(ٖٖٕ)‬
‫‪ -‬مصر وكٌؾ ُؼدر بها‪ ،‬ألبرت فارمان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٖٕ‬

‫‪ٗٙٙ‬‬
‫جرانفٌل بتعلٌمات بؤن "ٌبتعد الممثلون اإلنجلٌز عن هذه اللجنة‪ ،‬وانسحب الممثل الفرنسً كذلك‪ ،‬وبدون‬
‫معونة هاتٌن الحكومتٌن لم ٌكن فً اإلمكان إنجاز أي شًء‪ ،‬بحسب فارمان(ٖٕٗ)‪.‬‬

‫وبسبب االمتٌازات األجنبٌة التً ٌتمتع بها األجانب لم ٌكن من المستطاع االستشهاد بؤجنبً أمام اللجنة‪،‬‬
‫كما لم ٌكن من المستطاع تفتٌش منازل األجانب للبحث عن األشٌاء المسروقة أثناء فترة الشؽب دون موافقة‬
‫القناصل‪ ،‬ورفض القناصل إعطاء هذا اإلذن‪ ،‬وهكذا منع اللورد جرانفٌل الوصول إلى مزٌد من التحقٌق فً‬
‫الموضوع‪.‬‬

‫وخبلل مرور شهر على الشؽب‪ ،‬كان األجانب ٌهجرون المدٌنة‪ ،‬وٌصعدون إلى أساطٌل ببلدهم‬
‫المرابطة عى الساحل بناء على نصابح قناصلهم الذٌن توقعوا ضربها بقنابل األسطول اإلنجلٌزي‪ ،‬فً حٌن‬
‫ُترك المصرٌٌن فً المدٌنة "على عماهم" ولمصٌرهم دون تحذٌر‪.‬‬

‫وضرب األسطول البرٌطانً الراقد اإلسكندرٌة بالفعل بالمدافع فً ٔٔ ٌولٌوٕ‪ ،ٔ88‬وتحجج اإلنجلٌز‬
‫بؤنهم اضطرو لهذا لعلمهم أن المصرٌٌن ٌصلحون الطوابً فً القبلع‪ ،‬فظنوا أن المصرٌٌن سٌبدأون‬
‫بالهجوم وٌضربون األسطول‪ ،‬وأنهم خافوا على الجالٌات األجنبٌة فً مصر من الجٌش المصري(ٖٕ٘)‪.‬‬

‫كانت القبلع واالستحكامات المصرٌة على الشواطا قدٌمة‪ ،‬معظمها ؼٌر معد لصد آالت الحرب‬
‫الحدٌثة‪ ،‬وبعضها مبنً من الحجارة بحٌث أنها فً حد ذاتها خطر على الرجال الواقفٌن ورابها فً حالة أن‬
‫قذفت القنابل تلك الحجارة فتنهد علٌهم‪ ،‬فً المقابل ٌقؾ فً البحر أقوى أسطول تجمع الرتكاب أعمال‬
‫عدوانٌة حتى وقتنا هذا‪ ،‬كان هناك ‪ 8‬مدرعات و٘ سفن مبنٌة من الخشب‪ ،‬والسفن مسلحة بمدافع زنة كل‬
‫منها ٓ‪ 8‬طنا‪ ،‬وتستطٌع أن تقذؾ قنابل تزن ٓ‪ ٔ9‬رطبل مدى خمسة أمٌال(‪.)ٕٖٙ‬‬

‫هرع إلى الحصون "عدد وفٌر من الشباب وأطفال البلد المتطوعٌن بدافع من حب الوطن وكراهٌة‬
‫األجنبً‪ ،‬مفعمون باإلرادة القوٌة والمهارة‪ٌ ،‬قومون بواجبهم كالجنود الفعلٌٌن"(‪.)ٕٖ9‬‬

‫وفً الساعة ‪ 9‬صباحا انطلقت إشارة بداٌة الضرب اإلنجلٌزي‪ ،‬وردت علٌها القبلع بإطبلق النار على‬
‫الفور‪ ،‬وٌضٌؾ فارمان وهو ٌستعٌد المشهد حٌن كان على متن إحدى السفن التً احتمى بها األجانب على‬
‫الساحل‪" :‬كان الخبراء العسكرٌون ٌتوقعون إسكات المدافع المصرٌة خبلل ساعة واحدة‪ ،‬وكان من المعتقد‬
‫أنه من المستحٌل بالنسبة ألٌة قوات تقبع فً مثل هذه االستحكامات أن تتحمل‪ ،‬ولو لفترة وجٌزة‪ ،‬مثل هذا‬
‫السٌل الجارؾ من القنابل التً تلقٌها سفن األسطول علٌهم‪ ،‬وخبلل حدٌث دار بٌنً وبٌن الجنرال ستون منذ‬
‫أٌام خلت‪ ،‬سؤلته عن الوقت البلزم لؤلسطول إلسكات مدافع القبلع‪ ،‬وبعد تفكٌر دام بضع لحظات أجاب‬
‫قاببل‪" :‬حوالً ثبلثٌن دقٌقة"‪ .‬ولكن الجمٌع منو بخٌبة األمل"‪.‬‬

‫(ٖٕٗ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖٖٗ‬
‫(ٖٕ٘)‬
‫‪ -‬دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً‪ ،‬أحمد رشدي صالح‪ ،‬الفصل الخاص بترجمة كتاب االستعمار البرٌطانً فً مصر‪،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٗٔ‬
‫(‪)ٕٖٙ‬‬
‫‪ -‬مصر وكٌؾ ُؼدر بها‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٔٗ‪ٖٕٗ -‬‬
‫(‪)ٕٖ9‬‬
‫‪ -‬رسابل من مصر‪ ،‬جون نٌنٌه‪ ،‬ص ٕ‪ٖ9‬‬

‫‪ٗٙ7‬‬
‫فقد أمطرت الـ ٖٔ سفٌنة الرجال البواسل فً قبلعهم بوابل من القنابل المتفجرة حتى وصل عددها إلى‬
‫أكثر من ٖ آالؾ قنبلة‪ ،‬وكان فً مقدرونا أن نرى االنفجارات بوضوح‪ ،‬وكنا نراقبها فً شؽؾ من سفننا‪،‬‬
‫وكانت تنفجر أحٌانا فً الهواء قبل مٌعادها‪ ،‬وأحٌانا كان تنفجر فوق رءوس العرب فً االستحكامات فتبعثر‬
‫أشبلبهم فً كل مكان‪ ,‬وكان البعض اآلخر ٌدخل فً األرض على عمق كبٌر أو فً البناء‪ ،‬ثم ٌنفجر هناك‪،‬‬
‫فٌرسل بسحب من الؽبار واألنقاض تاركا خلفه أخادٌد كبٌرة‪ ،‬لقد أذهلتنا شجاعة العرب ]المصرٌٌن[ وهو‬
‫ٌصوبون مدافعهم؛ إذ بعد أن ٌنقشع الؽبار والدخان المتصاعد من القنابل المتفجرة التً تترك كل ما حولها‬
‫حطاما كانت تتصاعد سحابات صؽٌرة من الدخان من فوهة مدفع قرٌب ٌدل على أن األحٌاء من الجنود ما‬
‫زالوا متشبثٌن بمراكزهم(‪.)ٕٖ8‬‬

‫واستمر القتال من الساعة ‪ 9‬الصبح لحد الساعة ٘ فً اللٌل‪ ،‬أي ٓٔ ساعات‪ ،‬بعد ما كان القابد‬
‫اإلنجلٌزي ٌتوقع أن تسكت المدافع المصرٌة خبلل نصؾ ساعة فقط‪.‬‬

‫تسببت القنابل اإلنجلٌزٌة الحدٌثة فً إبادة بعض القبلع بما فٌها من الجنود‪ ،‬مثل قلعة عدا‪ ،‬وظلت‬
‫المدافع اإلنجلٌزٌة تضرب القبلع المصرٌة لمدة ساعة إضافٌة لتتؤكد أنه لم َ‬
‫ٌبق جندي حً‪ ،‬وجاءها الرد‬
‫بالسكوت من بعد الساعة ٘ على مدافعها وهً ترمً القنابل على القبلع المدمرة‪.‬‬

‫وكان ٌوجد فً القبلع حوالً ٓٓ٘ٔ مقاتل‪ ،‬مات ]استشهد[ أؼلبهم فً مراكزهم(‪ ،)ٕٖ9‬وفً المقابل قتل‬
‫من اإلنجلٌز ‪ ٙ‬أشخاص وأصٌب ‪ ٕ9‬بسبب قوة تحصٌناتهم فً السفن والمدرعات‪.‬‬

‫وعلق فارمان على فرحة اإلنجلٌز بهذا "اإلنجاز" الدموي بقوله‪ ":‬لٌس هناك من شك فً شجاعة القوات‬
‫اإلنجلٌزٌة‪ ،‬ولكن متى وأ َّنً وقفوا عند مدافعهم لكً ٌُذبحوا كما وقؾ هإالء الرجال؟(ٕٓٗ)"‪ ،‬فً إشارة إلى‬
‫ثبات الجنود المصرٌٌن لساعات طوٌلة‪.‬‬

‫وٌبدي جون نٌنٌه تعجبه‪" :‬شاهدت كل ما ٌجري (‪ )...‬ولكن أعتقد ما ال ٌمكن وصفه هو القصؾ‬
‫الوحشً‪ ،‬وبدون حاجة إلٌه‪ ،‬على قبلع ُدمرت منذ وقت طوٌل ولم تعد صالحة ألي شًء"(ٕٔٗ)‪.‬‬

‫ال داعً للدهشة ٌا نٌنٌه‪ :‬إنه الؽل األسود‪ ..‬كٌؾ ٌجرإ الفبلح على رفع رأسه ثم رفع سبلحه لٌخلص‬
‫مصر (كلمة الحق المجسدة على األرض) من قرون الشٌطان‪ ..‬فٌعود الفبلح سٌدا!‬

‫▼▼▼ تدمٌر اإلسكندرٌة‪ ..‬لـ"إعادة اإلعمار"‬

‫باإلضافة إلبادة مبات الجنود فً القبلع شقت القنابل طرٌقها لداخل أحٌاء اإلسكندرٌة‪ ،‬وأحرقت الكثٌر‬
‫من مبانٌها ودمرتها‪ ،‬وبعدها اشتعل حرٌق آخر‪ ،‬وانتشر النهب‪ ،‬وكان ضرب اإلسكندرٌة بالقنابل "إحدى‬

‫(‪)ٕٖ8‬‬
‫‪ -‬مصر وكٌؾ ؼدر بها‪ ،‬مرجع سابق‪ ،،‬ص ٕٕٗ‪ٖٖٗ -‬‬
‫(‪)ٕٖ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖٖٗ‬
‫(ٕٓٗ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٖٗٙ‬‬
‫(ٕٔٗ)‬
‫‪ -‬رسابل من مصر‪ ،‬جون نٌنٌه‪ٖ89 ،‬‬

‫‪ٗٙ8‬‬
‫النكبات الكبرى فً القرن التاسع عشر"‪ ،‬وطبقا لما نشرته التقارٌر الرسمٌة ُقتل حوالً ٕٓٓ من السكان‬
‫العزل من السبلح بواسطة هذه القنابل‪ ،‬ولم ٌدرك الفقراء الخطر الذي ٌحٌق بهم إال حٌنما بدأت القنابل‬
‫الطابشة تتساقط فً وسطهم‪ ،‬وحٌنبذ شرعوا فً الهروب‪ ،‬وسرعان ما عمت حركة الهجرة من المدٌنة‪ ،‬وقد‬
‫تشبث الكثٌرون حتى فً هذه الساعة الرهٌبة بحمل ممتلكاتهم الضبٌلة(ٕٕٗ)‪.‬‬

‫فرَّ المصرٌون مشتتٌن كؤنهم فً ٌوم القٌامة‪ٌ ،‬جرون بهلع وسط القنابل وأصواتها الشٌطانٌة التً تزلزل‬
‫المدٌنة وٌسمعونها ألول مرة‪ ،‬كؤنها القارعة‪ ،‬والنساء واألطفال ٌصرخون‪ ،‬والمرضى وكبار السن‬
‫والحوامل ٌتساقطون‪ ،‬وتتعثر األم التً تحمل رضٌعها على كتفها‪ ،‬وذلك دون أن ٌوفر لهم أحد وسابل‬
‫المواصبلت المناسبة‪ ،‬أو ٌهٌؤ لهم مبلجا‪ٌ ،‬هتفون "الموت لئلنجلٌز"‪ ،‬واحتشد معظمهم فً صحراء ضاحٌة‬
‫الرمل لمدة ‪ ٙ‬أٌام‪ٌ ،‬كتوون بحرارة رملها فً عز شمس ٌونٌو‪ ،‬وٌنقل جون نٌنٌه‪ -‬كشاهد عٌان‪ -‬مشاهد‬
‫لبعضهم ممن تراصوا عند ترعة المحمودٌة‪" :‬بعد ظهر ٌوم ٖٔ توجهت إلى اإلسكندرٌة فً الننش بخاري‬
‫بحصبة حراسة ألن هٌجان الشعر المعسكر بدون مؤوى‪ ،‬وبدون خبز على ضفاؾ قناة المحمودٌة ال ٌبعث‬
‫على الطمؤنٌنة‪ ،‬مذابح كثٌرة ومشاجرات عدٌدة‪ ،‬البد من أن تحدث"‪ ،‬أما عن المبانً‪" :‬أجمل الشوارع‬
‫وأجمل القصور التً شٌدها أكبر المالٌٌن إلسماعٌل باشا أصبحت أطبلال ٌنعبث منها الدخان"(ٖٕٗ)‪.‬‬

‫تراصوا على ضفة ترعة المحمودٌة المدفون تحت ترابها آالؾ من آبابهم خبلل حفر الترعة أٌام محمد‬
‫علً‪ ،‬والقصور التً بناها محمد علً وأبناإه من أموالهم انهارت ترابا‪ ،‬لكً ٌؤخذ المحتل الجدٌد من‬
‫عروقهم دماء وأموال جدٌدة‪ٌ ،‬سلمونها إلى شركات المقاوالت األجنبٌة من جدٌد‪ٌ ،‬بنون بها قصورا جدٌدة‬
‫باإلسكندرٌة باسم "إعادة اإلعمار"‪ ..‬هذه الكلمة التً ستتردد كثٌرا فً العالم فٌما بعد كلما دمَّر االحتبلل‬
‫والمؽتصبون مدٌنة ما‪ -‬عمدا‪ -‬ثم ٌسلم عقود "إعادة اإلعمار" لشركات تابعة له‪ ..‬فبل تتوقؾ مصانع السبلح‪،‬‬
‫وال مصانع األسمنت‪.‬‬

‫وٌسجل عرابً فً مذكراته أن حكومة الثورة رؼم انشؽاالتها بصد الؽزاة إال أنها بذلت وسعها للتخفٌؾ‬
‫عن المصرٌٌن المشردٌن‪ ،‬فصرفت لهم الجراٌات والقمح ومرتبات ٌومٌة‪ ،‬وفتح لهم بعض األعٌان منازلهم‬
‫لمن توجه منهم إلى األرٌاؾ‪ ،‬وأنه تسابق الناس على إعانة إخوانهم المهاجرٌن(ٕٗٗ)‪.‬‬

‫وعند رجوع األهالً من الصحراء كانوا عبارة عن سٌل متدفق من اإلنسانٌة المعذبة‪ ،‬وكلهم ٌرتدون‬
‫مبلبس بسٌطة تعلوها القذارة والؽبار‪ ،‬حفاة األقدام شبه عراة‪ ،‬والنسوة ٌحملن أطفالهن الرضع بٌن‬
‫أذرعهن‪ ،‬بٌنما أطفالهن ٌسٌرون متثاقلٌن وهم نصؾ عراة بجوارهن‪ ،‬والرجال والنساء الشٌوخ والشباب‬
‫ٌحملون ما بقً لهم من متاع(ٕ٘ٗ)‪.‬‬

‫وٌصور شولش الموقؾ‪" :‬ؼادر الكثٌر من األوروبٌٌن مصر‪ ،‬واستعد الشوام والشراكسة واألتراك وبعض‬

‫(ٕٕٗ)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،،‬ص ٘‪ ،ٖ89 -ٖ8‬مصر وكٌؾ ؼدر بها‪ ،‬ألبرت فارمان‪ ،‬ص ٖ٘ٗ و‪ ،ٕٗ9‬ؤٖ٘‬
‫(ٖٕٗ)‬
‫‪ -‬رساٌل من مصر‪ ،‬جون نٌنٌه‪ ،‬ص ‪ٖ88 -ٖ89‬‬
‫(ٕٗٗ)‬
‫‪ -‬مذكرات الزعٌم أحمد عرابً‪ ،‬جٕ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٙٗ9‬‬
‫(ٕ٘ٗ)‬
‫‪ -‬مصر وكٌؾ ؼدر بها‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٖ٘‬

‫‪ٗٙ9‬‬
‫األعٌان للفرار‪ ،‬ففر عبد السبلم الموٌلحً "البطل القومً ومٌرابو مصر" إلى سورٌا‪ ،‬أما المصرٌون فقد‬
‫بقوا فً ببلدهم(‪.)ٕٗٙ‬‬

‫أٌن كان الخدٌوي فً هذه المحرقة؟‬

‫كان فً سفٌنة أعدها لها قابد األسطول اإلنجلٌزي سٌمور‪ ،‬قضى أصعب األٌام فً حماه‪ ،‬ثم عاد إلى‬
‫قصر رأس التٌن فً حً الرمل‪ٌ ،‬قول نٌنٌه إنه سمع هتافات من مهاجرٌن بإساء حٌن كان ٌمر توفٌق‬
‫أمامهم فٌصٌحون‪ٌ" :‬عٌش عرابً وٌسقط توفٌق"(‪.)ٕٗ9‬‬

‫وأصدر أوامره لعرابً بالتصدي لئلنجلٌز وبؤال ٌسمح لهم بالنزول لئلسكندرٌة‪ -‬وهو ما وصفه عرابً‬
‫فٌما بعد بؤن موقؾ توفٌق المعادي لئلنجلٌز كان خدعة‪ -‬وبعد ما فعل عرابً ما فً وسعه لمنع ذلك‪ ،‬اعتبره‬
‫الخدٌوي السبب فً االحتبلل ألنه لم ٌقاوم األسطول اإلنجلٌزي كما ٌجب‪ ،‬وأصدر السلطان عبد الحمٌد‬
‫الثانً قراره باعتبار عرابً "خابنا"‪ ،‬فً حٌن أن كل من الخدٌوي والسلطان لم ٌسعٌا لمقاومة االحتبلل‬
‫اإلنجلٌزي بخطوات جدٌة كما فعل عرابً والجٌش والمصرٌٌن عموما‪ ،‬بل إن كان قرار عبد الحمٌد بؤن‬
‫عرابً "خابن" للخلٌفة وشرٌعة اإلسبلم بتحرٌض اإلنجلٌز أنفسهم‪ ،‬فمن ٌكون الخابن؟‬

‫وفً هذا ٌقول فارمان‪" :‬ثم بذل اإلنجلٌز جهودا عنٌفة فً كل من القسطنطٌنٌة ومصر لكً ٌُعلن رسمٌا‬
‫أن عرابً خابن‪ ،‬وكان هذا فً رأٌهم ضرورٌا لئلبقاء على أسطورة صداقتهم للخدٌوي‪ ،‬وأنهم قد جاءوا‬
‫لتؤٌٌده‪.‬‬

‫انشؽل عرابً والجٌش فً مواجهة الجٌش اإلنجلٌزي فً كفر الدوار لمنع تقدمه إلى القاهرة‪ ،‬حٌنها‪،‬‬
‫ٌقول جون نٌنٌه ‪" :‬أسمع من حولً لعنات تنصب على توفٌق الذي تسبب فً هجرة ٓ‪ ٙ‬ألفا من سكان‬
‫اإلسكندرٌة ٌعٌشون على كرم الفبلحٌن! فلٌشنقوه! صاحت النساء بذلك‪ ،‬وهن نابمات فً الطرٌق‪ ،‬وهن‬
‫مجردات من كل شًء‪ ،‬سمع عرابً باقتراحهن‪ ،‬فً ٌوم الجبلء عن اإلسكندرٌة‪ ،‬بٌنما الخدٌو ٌلوذ محتمٌا‬
‫فً الرملة كان ٌسهل أسره! كبل اتركوه لمصٌره‪ ،‬نحن مصرٌون فبلحون وجنود‪ ،‬ولسنا مؽتالٌن أو‬
‫سفاحٌن"(‪.)ٕٗ8‬‬

‫أضاع عرابً فرصة جدٌدة للتخلص من الدمٌة الحمقاء‪ ..‬األولى فً وقفة عابدٌن حٌن كان توفٌق ٌقؾ‬
‫مذعورا وسط حامٌته من القناصل‪ ،‬والثانٌة وهو فً قصر رأس التٌن‪ -‬خصوصا قبل أن ٌنزل اإلنجلٌز‬
‫لئلسكندرٌة‪ ...‬لماذا دابما نترك المحتلٌن "لمصٌرهم" حٌن ٌقعون فرٌسة فً أٌدٌنا؟ ها نحن نترك توفٌق‬
‫لمصٌره‪ ،‬وكذلك سنترك ابن أخٌه فاروق‪ ..‬لم نعاقب محتبل عقابا حقٌقٌا منذ أن طردنا الهكسوس‪ ..‬توقفنا‬
‫من ٌومها عن أن نكون مقبرة للؽزاة‪ ..‬صرنا مؽنما وفرصة لؤلجانب فً االحتبلل والنهب والقتل‬
‫واإلذالل‪ ..‬ثم النجاة‪.‬‬

‫(‪)ٕٗٙ‬‬
‫‪ -‬مصر للمصرٌٌن أزمة مصر االجتماعٌة والسٌاسٌة ‪ ،ٔ88ٕ -ٔ898‬ألكسندر شولش‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ‪ٕ9‬‬
‫(‪)ٕٗ9‬‬
‫‪ -‬رسابل من مصر‪ ،‬جون نٌنٌه‪ ،‬ص ‪ٖ88‬‬
‫(‪)ٕٗ8‬‬
‫‪ -‬رسابل من مصر‪ ،‬جون نٌنٌه‪ ،‬ص ٘‪ٖ9‬‬

‫ٓ‪ٗ7‬‬
‫فً كل األحوال‪ ،‬هذه اللحظات رفرفة أخرى لـ ماعت‪ ،‬صحٌح لحظات ستكون قصٌرة‪ ،‬لكنها ؼالٌة جدا‪،‬‬
‫أول مرة منذ األسرة ٕٔ تحكم مصر نفسها‪ ،‬إن من ٌقودها حقا فً هذه اللحظات هم من أبناءها الذٌن ال‬
‫ٌضعون فً اعتبارهم شٌبا إال إرادة الفبلح المصري‪ ،‬ال ٌنتظرون إذنا وال أمرا من خدٌوي أو والً فً‬
‫الداخل وال سلطان أو إمبراطور أو خلٌفة فً الخارج‪ ،‬مصر فً هذه اللحظات حرة‪ ...‬تتنفس هواءها‪.‬‬

‫ٌقول نٌنٌه حٌنها‪" :‬مصر تنقاد بمفردها‪ ،‬بحكمة ونزاهة‪ ،‬بداٌة من حدودها هذه وحتى السودان(‪.")ٕٗ9‬‬

‫▲▲▲ عودة الروح‪ ..‬ماعت‬

‫من ٖٓٓ٘ سنة وصؾ أحمس تبلحم المصرٌٌن مع جٌشهم فً حرب التحرٌر لطرد الهكسوس خبلل‬
‫المعارك النهرٌة وكٌؾ كان الناس على الضفتٌن الشرقٌة والؽربٌة للنٌل ٌتطوعون بكل شًء لتحرٌر‬
‫مصر‪" :‬لقد هبطت النٌل بقوتً لطرد اآلسٌوٌٌن بؤمر آمون ذي الرأي السدٌد‪ ،‬كان الشرق والؽرب‬
‫ٌحضرون الدهن والنبٌذ‪ ،‬والجٌش ٌزود باإلمدادات من كل مكان"(ٕٓ٘)‪.‬‬

‫ٌقول عرابً إن الحرب لما قامت لم ٌكن فً خزابن الحكومة درهم وال دٌنار؛ ألن المراقب اإلنجلٌزي‬
‫كولفن أخذ األموال الموجودة فً الخزنٌة وأنزلها الدونمة اإلنجلٌزٌة قبل إعبلن الحرب بؤٌام‪ ،‬وكذلك‬
‫األموال الموجودة فً صندوق الخزٌنة العمومً حملها أعضاء قومسٌون الصندوق إلى المراكب الحربٌة‪.‬‬

‫ففرض المجلس الوطنً الذي شكله قادة الثورة على كل فدان ٓٔ قروش لتموٌل الحرب‪ ،‬ومن شاء أن‬
‫ٌتبرع بشًء إعانة إلخوانهم المجاهدٌن للدفاع عن الوطن ٌكون مشكورا‪ ،‬فإذا باألمة تؤتٌه بالمال والؽبلل‬
‫والنخٌل والجمال واألبقار والجوامٌس واألؼنام والفاكهة والخضروات حتى حطب الحرٌق‪ ،‬و"منهم من‬
‫تبرع بنصؾ ما ٌمتلكه من الؽبلل والمواشً‪ ،‬ومنهم من خرج عن جمٌع ما ٌمتلكه‪ ،‬ومنهم من عرض‬
‫أوالده للدفاع عن الوطن العزٌز لعدم قدرته على القتال بنفسه‪ ،‬وفً الجملة فإن األمة المصرٌة قدمت من‬
‫التبرعات والكرم وأظهرت من الؽٌرة الوطنٌة ما لم ٌسبق له مثٌل فً القرون الخالٌة"(ٕٔ٘)‪.‬‬

‫وٌعلق د‪ .‬عبد المنعم الجمٌعً‪ ،‬محقق مذكرات عرابً‪ ،‬بؤنه "األمة المصرٌة أمدت ثوارها بسخاء من مال‬
‫وعتاد ورجال‪ ،‬وق َّل أن نجد فً تارٌخ الحروب حربا كهذه الحرب التً لم ٌُنفق فٌها قرش واحد من خزابن‬
‫الدولة‪ ،‬وقامت على ما بذله الشعب طابعا من أقواته وأمواله ودماء رجاله(ٕٕ٘)"‪.‬‬

‫ولم تكن الخزٌنة خالٌة من المال فقط‪ ،‬بل إن الجٌش شبه خالً من الجنود المدربٌن مقارنة بجٌش اإلنجلٌز‪،‬‬
‫فكان فٌه قبل الحرب ٓٔ آالؾ‪ ،‬فاستنفر عرابً الناس بمنشور لٌمدوا الجٌش بالرجال باسم "الخدمة‬

‫(‪)ٕٗ9‬‬
‫‪ -‬رسابل من مصر‪ ،‬جون نٌنٌه‪ ،‬ص ٘‪ٖ9‬‬
‫(ٕٓ٘)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٖٙ‬‬
‫(ٕٔ٘)‬
‫‪ -‬مذكرات الزعٌم أحمد عرابً‪ ،‬جٕ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٗٓ‪ٙ‬‬
‫(ٕٕ٘)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬هوامش ص ٗٓ‪ٙ‬‬

‫ٔ‪ٗ7‬‬
‫الوطنٌة الشرٌفة"(ٖٕ٘)‪.‬‬

‫وصدحت الشوارع بؤصوات الفبلحٌن‪:‬‬

‫ٌا عزٌز ٌا عزٌز ‪ ..‬كبه تاخد اإلنجلٌز‬


‫(ٕٗ٘)‬
‫كل العسكر فى الطوابى ‪ٌ ..‬ارب انصر عرابى‬

‫ٌسجل نٌنٌه إنه "مع قصؾ اإلسكندرٌة استٌقظت األمة المصرٌة‪ ،‬ولم تكن هناك إال صرخة واحدة على‬
‫مدى ٓٗ ٌوما ضد الخدٌو الذي استسلم لؤلجانب‪ ،‬مبلٌٌن العمال المتطوعٌن أقاموا خطوط دفاع ونفذوا‬
‫بحماس استثنابً أعماال هابلة (‪ )...‬لم ٌكن أحمد عرابً مرهقا‪ ،‬فً المدٌرٌات تتوالى التطوعات بمحض‬
‫اإلرادة‪ ،‬والجنود القدماء انضموا إلى فرقهم‪ ،‬كانت الهبات كلها عٌنٌة تنهمر من كل نوع‪ ،‬خٌول وبؽال‬
‫ودواب باآلالؾ‪ ،‬وأكثر من ربع ملٌون قنطار من الؽبلل‪ ،‬وصلت ٖ مبلٌٌن فرنك من الذهب إلى وزارة‬
‫الحربٌة بالقاهرة (‪ )...‬فً دمنهور ٌوجد ٖٓ ألؾ من الفرق النظامٌة من كل األسلحة وعدد من البدو مشاة‬
‫وفرسان (‪ )...‬أرسل أحد األعٌان المسٌحٌٌن ٓٓٔ حصان و ٕٓٓ٘ أردب قمح‪ ،‬وأرسل األكلٌروس القبطً‬
‫إلى نجاشً الحبشة وفدا ٌطلب منه عدم قبول أي تحالؾ ٌعرضه علٌه اإلنجلٌز‪ ،‬تعاون بعض تجار دمنهور‬
‫فً إرسال قافلة من ٓٓ٘ حصان إلى وزٌر الحربٌة‪ ،‬أجرٌت تحصٌنات هابلة حول دمنهور وكفر الدوار‬
‫والزقازٌق وبنها‪ ،‬فً القاهرة العمل ٌجري على قد وساق‪ ،‬قام ٘ٔ ألؾ من صؽار الفبلحٌٌن‪ ،‬منهم صبٌة‬
‫وبنات‪ ،‬لمدة ‪ 9‬أٌام فً إقامة التحصٌنات فً بوالق والجٌزة وشبرا والمقطم والعباسٌة وعٌن شمس‪ ،‬وتم‬
‫تسلٌحها بمدافع كروب ذات عٌار كبٌر‪ٌ ،‬ثق الشعب فً عرابً ورجاله ثقة عمٌاء‪ ،‬بالرؼم من الضرابب‬
‫ك أحد ولم ٌتنصل أحد ولم‬ ‫التً تشكل عببا ثقٌبل وتثقل كاهل الشعب والتً أعاقت تجارته وصناعته‪ ،‬فلم ٌش ُ‬
‫ٌنس أحد أن هناك تضحٌات البد من تحملها‪ ،‬وآالم قاسٌة من أجل تحقٌق هذا الهدؾ‪ ،‬فً كل مكان‬
‫الموضوع الذي ٌتحدث فٌه الناس هو حرب اإلنجلٌز وطاعة محرري الوطن‪ ،‬فً قلعة القاهرة ٌستمر العمل‬
‫لٌبل ونهارا‪ ،‬حوالً ألفً عامل ٌقومون بصناعة الخراطٌش‪ ،‬سبك المدافع‪ ،‬ولسوء الحظ فإن القطع التً‬
‫ٌتسنى لسبلح المدفعٌة صناعها ضعٌفة العٌار‪ ،‬ثكنات العباسٌة حافلة بالمتطوعٌن ٌتدربون ٌومٌا فً المٌدان‬
‫الفسٌح للمناورات‪ ،‬وطلبة جامع األزهر كلهم تقرٌبا متطوعون وٌقٌمون فً ثكنات جزء فً قصر النٌل‬
‫واآلخر فً القلعة (‪ )...‬هإالء الذٌن رأوا منذ ‪ ٙ‬أشهر الشعب المصري الطٌب جدا‪ ،‬الصبور جدا‪ ،‬ال‬
‫ٌعرفونه الٌوم"(ٕ٘٘)‪.‬‬

‫ما هذا؟ وكٌؾ هذا؟ ألٌس هذا الشعب هو من كان ٌفقؤ عٌنه وٌقطع إصبعه كً ال ٌذهب للتجنٌد؟ ألٌس هو‬
‫من ٌتحمل سلخ ظهره حتى ال ٌُخرج قرشا ٌنزعه جباة الضرابب ظلما منه؟ ألٌس هو الذي كان ٌختبا فً‬
‫المقابر والجبال حتى ال ٌذهب للعمل فً السخرة ببل أجر؟ كٌؾ إذن ٌقدم قروشه الكثٌرة أو القلٌلة وٌتطوع‬

‫(ٖٕ٘)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕٓ‪ٙ‬‬
‫(ٕٗ٘)‬
‫‪ -‬األؼنٌة الوطنٌة الشعبٌة‪ ،‬عصام ستاتً‪ ،‬موقع مجلة روزالٌوسؾ‪ٕٓٔٗ -9 -ٗ ،‬‬
‫(ٕ٘٘)‬
‫‪ -‬رسابل من مصر‪ ،‬جون نٌنٌه‪ ،‬ص ‪ ،ٖ98 -ٖ9ٙ‬وٕٓٗ‪ٗٓٗ -‬‬

‫ٕ‪ٗ7‬‬
‫بإراداته للجٌش اآلن؟ كٌؾ ٌهرول الفتٌات والصبٌان للقٌام بؤعمال شاقة تطوعٌة فً بناء الحصون والقبلع‬
‫وٌرفضون أن ٌؤخذوا أجرا إذا عُرض علٌهم؟‪ ..‬هنا الثورة المصرٌة إذن‪ ..‬لقد وجد روحه‪ ،‬وجد قضٌته‬
‫وكٌانه وكبرٌاءه‪ ..‬وجد مصرٌته‪.‬‬

‫تعشم الفبلحون أنهم سٌتخلصون من المرابً والسخرة والكرباج واالستعباد لؤلجنبً‪.‬‬

‫أمٌرات عابلة الخدٌوي وسٌدات العاببلت الكبٌرة بعضهن انضممن للعمل فً تضمٌد جراح المصابٌن‪،‬‬
‫ووالدة إسماعٌل قدمت الخٌول‪ ،‬أمراء أعلنوا أنهم موالون للحزب الوطنً‪ ،‬وأدوا ٌمٌن الوالء علنا لحكومة‬
‫الدفاع الوطنً أمام جمع ؼفٌر‪ ،‬وأرسل األمٌر حلٌم باشا من القسطنطٌنٌة انضمامه إلى لجنة القاهرة‬
‫المركزٌة(‪ . .)ٕ٘ٙ‬هإالء ٌؤملون أن انتصار عرابً ٌإدي لخلع توفٌق‪ ...‬ال لٌؤتً الفبلحون حكاما‪ ،‬ولكن‬
‫بعضهم على أمل أن ٌؤتً حلٌم الذي نفاه إسماعٌل‪ ،‬والبعض اآلخر على أمل أن ٌتهٌؤ الجو لعودة إسماعٌل‬
‫نفسه‪ ..‬كل ٌؽنً على لٌبله‪.‬‬

‫♦♦♦ معركة التل الكبٌر‬

‫الدوار كشؾ توفٌق انحٌازه لئلنجلٌز‪ ،‬أرسل لعرابً منشورا بؤنه السبب فً حرق‬
‫فً عز معركة كفر َّ‬
‫ونهب اإلسك ندرٌة‪ ،‬وأن اإلنجلٌز لم ٌخطبوا بضربها بل كان رد فعل على أفعال عرابً‪ ،‬ثم عزله‪ ،‬وبعث‬
‫لمدٌري المدٌرات بالكؾ عن إرسال الجند والمإن والضراٌب لعرابً‪ ،‬ومن ٌفعل هذا ٌُعاقب‪ ،‬ومن ٌدفع‬
‫لعرابً ضرٌبة لن ٌُعترؾ بها وستإخذ منه ضراٌب مساوٌة لها‪ ،‬أرسل عرابً المنشور إلى ناببه ٌعقوب‬
‫سامً فً القاهرة‪ ،‬وطلب منه جمع العلماء ورإساء األزهر والكنٌسة والتجار واألعٌان للتشاور‪ ،‬شكلوا‬
‫مجلسا إلدارة الببلد بعد أن رفض الخدٌوي ومجلس النظار العودة للقاهرة‪ ،‬وطلب الشٌخ محمد عبده عزل‬
‫الخدٌوي‪ ،‬فانقسمت اآلراء‪ ،‬معظم من فً المجلس أتراك وشراكسة‪ ،‬نادر منهم من قبل عزل الخدٌوي‪،‬‬
‫والبقٌة تحدثوا عن "الشرعٌة"‪ -‬هكذا ورد باللفظ‪ -‬أي شرعٌة الخدٌو وأنه ال ٌُعزل إال بؤمر السلطان‪،‬‬
‫وتمسك محمد عبده والضباط المصرٌون بـ"الشرعٌة الثورٌة" وعزل الخدٌوي‪.‬‬

‫نما لعلم عرابً أن االجتٌاح الحقٌقً للقوات اإلنجلٌزٌة سٌكون من الشرق‪ ،‬معززٌن بمدد كبٌر من‬
‫القوات الهندٌة القادمة لتعبر قناة السوٌس إلى القاهرة‪ ،‬بعث قوة تسعى لصد هذا الؽزو‪ ،‬وأرسل عرابً عدة‬
‫رسابل إلى دٌلٌسبس ]سمسار الدٌون[ بشؤن ردم قناة السوٌس لؽلق الطرٌق أمام االجتٌاح اإلنجلٌزي‪ ،‬ولكن‬
‫دٌلٌسبس أخبره بؤن القناة "محاٌدة"‪ ،‬وال ٌمكن لئلنجلٌز أن ٌعبروها(‪.)ٕ٘9‬‬

‫ولزٌادة التؤمٌن كلؾ عرابً أحد ضباطه‪ ،‬وٌدعى علً ٌوسؾ الخنفس‪ٌ ،‬روح التل الكبٌر إلقامة‬
‫االستحكامات فً المكان الذي ٌعتبر أسهل نقطة لمرور االحتبلل إلى القاهرة من جهة القناة‪ ،‬لكن بعد أن‬
‫وصلت أخبار استسبلم الخدٌوي لئلنجلٌز ظهرت خٌانة من ذلك الضابط الذي أرسل لئلنجلٌز فً‬

‫(‪)ٕ٘ٙ‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٖ99‬‬
‫(‪)ٕ٘9‬‬
‫‪ -‬نصوص الرسابل المتبادلة بٌن عرابً ودٌلٌسبس موجودة فً كتاب "التارٌخ السري لبلحتبلل اإلنجلٌزي لمصر‪ ..‬رواٌة شخصٌة لؤلحداث"‪،‬‬
‫ولفرٌد سكاون بلنت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ‪ٙ99 -ٙ9‬‬

‫ٖ‪ٗ7‬‬
‫اإلسكندرٌة بؤنه مستعد أن ٌُخلً مركزه فً التل الكبٌر‪ ،‬وقدم لهم معلومات عن حالة االستحكامات‪ ،‬وهرب‬
‫عن طرٌق قناة السوٌس‪.‬‬

‫لم ٌكن خنفس وحده الخابن‪ ،‬ففً عز التحام المصرٌٌن مع اإلنجلٌز فً موقعة القصاصٌن ‪ ٕ8‬أؼسطس‬
‫السابقة على التل الكبٌر أرسل السلطان عبد الحمٌد الثانً بتحرٌض من دوفرٌن سفٌر إنجلترا فً األستانة‬
‫منشورا بؤن عرابً ومن معه "عصاة لٌسوا على طاعة الدولة العلٌة السلطانٌة"؛ ألنه "استبد برباسة‬
‫العساكر المصرٌة بدون حق"‪ ،‬و"تهدد أساطٌل دولة حلٌفة للدولة العلٌة السلطانٌة"‪ ،‬أي األسطول‬
‫اإلنجلٌزي‪ ،‬وأن "الوكٌل الشرعً" للسلطان فً مصر هو توفٌق‪ ،‬وعلى "سكان األقطار المصرٌة حال‬
‫كونهم رعٌة موالنا وسٌدنا الخلٌفة األعظم أن ٌطٌعوا أوامر الخدٌو المعظم الذي هو فً مصر وكٌل‬
‫الخلٌفة"‪ ،‬وتلقفه توفٌق لٌصدر منشورا بؤن اإلنجلٌز لم ٌؤتوا لحرب على مصر‪ ،‬فبل داعً لمحاربتهم‪ ،‬بل‬
‫جاءوا لمساعدة الخدٌوي نابب السلطان ضد العصاة‪ ،‬وسٌؽادرون‪ ،‬فوهنت عزابم البعض‪ ،‬وأرسل توفٌق‬
‫وسلطان باشا وعلً لطفً وؼٌرهم أتباعهم بمبات آالؾ المنشورات ٌوزعونها بٌن الضباط والجنود وفً‬
‫األرٌاؾ‪ ،‬وقال عرابً‪" :‬وانضم إلٌهم فً هذه الخٌانة السٌد أفندي الفقً من مدٌرٌة المنوفٌة‪ ،‬وأحمد أفندي‬
‫عبد الؽفار عمدة تبل ومحمد الشواربً (ناببان فً مجلس النواب) وؼٌرهم ممن "خفقت قلوبهم من منشور‬
‫السلطان"‪ ،‬وأنه بتعمٌم هذه المنشورات فً معركة التل الكبٌر وقرأها الضباط والجنود "ضعفت عزابمهم‬
‫ووهنت قواهم فعم االختبلل وساد على عقولهم االرتباك"‪.‬‬

‫وألحوا بهذه المنشورات على كبار رجال الجٌش للضؽط النفسً علٌهم‪ ،‬فقد صار بذلك السلطان‬
‫العثمانلً والخدٌوي وأكابر أعضاء مجلس النواب الذي استبشر به الناس وكانوا مع عرابً‪ ،‬كل هإالء‬
‫صاروا ضده‪ ،‬وأثر هذا على أداء بعض الضباط فً معركة التل الكبٌر‪ ،‬فمنهم من ارتبك ولم ٌتح له تسارع‬
‫األحداث وحالة المٌدان أن ٌصل لرأي‪ ،‬ومنهم من استخسروا أرواحهم فً أن تموت "عاصٌة"‪ ،‬وبعض‬
‫ضعاؾ النفوس سال لعابهم للمكافبات المنتظرة لمن ٌستجٌب للسلطان والخدٌو‪.‬‬

‫وٌواصل عرابً أن ممن تؤثروا علً ٌوسؾ (الخنفس) وأحمد عبد الؽفار قومندان السواري وعبد‬
‫الرحمن حسن وحسن رأفت‪ ،‬وأشاع الخنفس فً ٌوم ٖٔ سبتمبر أن جواسٌسه أخبروه أن اإلنجلٌز لن‬
‫ٌخرجوا الٌوم من مراكزهم‪ ،‬فلم ٌقوم باالستحكامات التً أمره بها علً الروبً‪ ،‬فً حٌن كانت عساكر‬
‫اإلنجلٌز تتقدم ومعهم ضباط أركان حرب انحازوا للخدٌوي وعربان الهنادي ٌرشدونهم للطرٌق‪ ،‬وتركهم‬
‫الخنفس ٌمرون ببل مانع ٌمنعهم‪ ،‬وسلمهم خرٌطة أماكن تمركز عرابً والجنود‪ ،‬وانهالوا على الجنود‬
‫والضباط الراقدٌن لٌبل بالمدافع(‪.)ٕ٘8‬‬

‫واستٌقظ عرابً والجنود فجؤة على صوت المدافع‪ ،‬وقابلها الجنود قلٌلً العدد بطلقات الرصاص‬
‫الضعٌفة‪ ،‬ورؼم هذا قتلوا من اإلنجلٌز ‪ ٘8‬شخصا‪ ،‬بٌنهم ضباط‪ ،‬وفً المقابل استشهد من المصرٌٌن‬

‫(‪)ٕ٘8‬‬
‫‪ -‬مذكرات الزعٌم أحمد عرابً‪ ،‬جٕ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٗ‪ 9ٓ٘ -ٙ8‬ؤٖ‪9‬‬

‫ٗ‪ٗ7‬‬
‫ٕٕٓٓ جندٌا ومتطوعا‪ُ ،‬ذبحوا دون تمٌٌز بواسطة القوات الهندٌة(‪ ،)ٕ٘9‬بخبلؾ عدد كبٌر استشهد متؤثرا‬
‫بجروحه فً وقت الحق‪ ،‬ولم ٌكن من العجٌب أن تلتزم التقارٌر الرسمٌة اإلنجلٌزٌة التً نشرت الصمت‬
‫إزاء الخسابر من األهالً‪ ،‬ذلك أنها كانت مذبحة ال معركة(ٓ‪.)ٕٙ‬‬

‫قاتل محمد عبٌد وسط جنوده حتى استشهد‪ ،‬واستحق البطولة بدفاعه فً التل الكبٌر‪ ،‬بعد أن كان سببا فً‬
‫أول نصر لجٌش الفبلحٌن الحدٌث على أعدابه حٌن خلَّص عرابً وعلً فهمً وعبد العال حلمً من قبضة‬
‫الشراكسة فً قصر النٌل‪ ،‬وكما لم ٌتؤثر بتهدٌدات الشراكسة‪ ،‬لم ٌتؤثر بمنشورات العثمانلً وال الخدٌوي‪،‬‬
‫وقاتل اإلنجلٌز قتاال مجٌدا على رأس آالٌٌن من الجنود حتى قُتل معظمهم وقتل هو معهم‪ ،‬فختم حٌاته‬
‫بصفحة مشرفة فً تارٌخ الثورة‪ ،‬وٌلً محمد عبٌد فً البسالة حسن رضوان قومندان الطوبجٌة الذي أصلى‬
‫اإلنجلٌز نارا حامٌة بمدافعه(ٔ‪.)ٕٙ‬‬

‫شوؾ البطل‬

‫واألرض قاٌمة معاه على الجنبٌن‬ ‫مصري وشفاٌفه تشبه الولٌفٌن‬

‫ٌكسر صفوؾ اإلنجلٌز ٌضرب‬ ‫ألجل الوالد خلً البطل ٌضرب‬

‫الفجـر لمحمـد عبٌــد مكتــــوب‬ ‫ٌا بناٌٌن نضرب معاه الطوب‬

‫شوؾ البطل فً هجومه ودفاعه‬ ‫فً الجنة عرض السٌؾ مع دراعه‬

‫ٌرجع على التل الكبٌـــر وٌكر‬ ‫الفارس المصري األصٌل الحر‬


‫(ٕ‪)ٕٙ‬‬
‫ٌفضل على طول الزمن منصور‬ ‫رمق الشهادة فً الطرٌق المـر‬

‫وثبت البعض مثل عبٌد ومن معه‪ ،‬لكن تشتت كثٌرون‪ ،‬وٌقول عرابً إنه ظل ٌنادٌهم وٌذكرهم بشرؾ‬
‫الدفاع عن الدٌن والوطن‪ ،‬فلم ٌسمعوا له‪ ،‬خشوا أن ٌكونوا من "العصاة"‪ ،‬وٌموتوا على ؼٌر اإلسبلم!‬

‫▼▼▼ الولس كسر عرابً‬

‫اشتهرت هذه العبارة بعد "الكسرة التقٌلة" فً التل الكبٌر‪ ،‬وربما كلمة "ولس"‪ ،‬جاءت من الكلمة الشعبٌة‬

‫(‪)ٕ٘9‬‬
‫‪ *** -‬ربما من هنا جاء فً أؼنٌة "مصر تتحدث عن نفسها" التً ألفها حافظ إبراهٌم وشدت بها أم كلثوم‪:‬‬
‫أمضً من كل أبٌض هـندي‬ ‫إنمـا الحــق قــوة من قـوى الدــٌان‬
‫أي الحق أقوى من كل إنجلٌزي وهندي‪ ،‬فً إشارة للهجوم اإلنجلٌزي الهندي على المصرٌٌن خبلل الؽزو اإلنجلٌزي‪( .‬مجرد استنتاج)‬
‫(ٓ‪)ٕٙ‬‬
‫‪ -‬مصر وكٌؾ ؼدر بها‪ ،‬ص ‪ٖ٘9 -ٖ٘8‬‬
‫(ٔ‪)ٕٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مذكرات الزعٌم أحمد عرابً‪ ،‬هوامش المحقق ص ٕٓ‪ ،7‬والثورة العرابٌة واالحتالل اإلنجلٌزي‪ ،‬عبد الرحمن الرافعً‪ ،‬دار المعارؾ‪،‬‬
‫طٗ‪ ،ٔ98ٖ ،‬ص ‪ ٗٙٓ -ٗ٘9‬وتعجب الرافعً ؼاٌة التعجب من أنه لٌس لعبٌد والشهداء المصرٌٌن فً التل الكبٌر مقابر فً المدٌنة رؼم أنهم‬
‫باآلالؾ‪ ،‬فً حٌن أن الجنود البرٌطانٌٌن القتلى فٌها مشٌد لهم هناك مقابر! فٌا من تسٌر فً أرض المعارك‪ ،‬فً القصاصٌن والتل الكبٌر‪:‬‬
‫األرض إال من هذه األجساد‬ ‫خؾ الوطؤ ما أظن أدٌم‬
‫هــــــوان اآلبـــــاء واألجـــــداد‬ ‫وقبٌح بنا وإن قدم العهد‬
‫(ٕ‪)ٕٙ‬‬
‫‪ -‬مصر المصرٌة بتؽنً‪ ،‬فإاد حداد‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬مكتبة األسرة‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٕٓٓ ،‬ص ‪ٖٓ -ٕ9‬‬

‫٘‪ٗ7‬‬
‫"ٌوالس"‪ٌ ،‬عنً ٌخون أو ٌتآمر فً الشر‪ ،‬وفً ثورة ٔ‪ ٔ88‬ألؾ ولس وولس‪ ،‬وكٌؾ ال وهً لم تكن ثورة‬
‫عادٌة ضد حاكم ظالم‪ ،‬بل ثورة شعبٌة ضد تنظٌم الشر العالمً (روتشٌلد وأخوانه والدول األوروبٌة التً‬
‫ٌدٌرها)‪ ،‬وضد تحالؾ المحتلٌن (االحتبلل العثمانلً واالحتبلل العلوي واالحتبلل الجالٌاتً)‪ ،‬وإن نجحت‬
‫لكان شرارة الحرٌة الحقٌقة فً العالم أجمع‪.‬‬

‫❶ الولس الروتشٌلدي‬

‫ورد فً الصفحات السابقة لمحات من تدخبلت روتشٌلد وشركاه وإنجلترا وفرنسا وؼٌرهم والتً انتهت‬
‫باحتبلل مصر عسكرٌا بعد احتبللها سٌاسٌا واقتصادٌا قبل الثورة‪ ،‬وفً فصل قادم سنعرض لمحات أخرى‪.‬‬

‫❷ الولس العثمانلً‬

‫خذالن عبد الحمٌد الثانً لعرابً بعد أن أظهر له الرضا‪ ،‬ومنشور السلطان عن "عصٌان" عرابً فً‬
‫عز ما كان ٌجاهد عرابً لصد االحتبلل اإلنجلٌزي‪.‬‬

‫❸ الولس العلوي األرناإوطً‬

‫استقواء الخدٌوي بالقناصل ضد الجٌش المصري‪ ،‬منشور الخدٌوي بالكؾ عن الحرب مع اإلنجلٌز رؼم‬
‫نزولهم لئلسكندرٌة‪ ،‬تحمٌل الجٌش المصري كل أسباب األزمة وحرٌق وضرب اإلسكندرٌة‪ ،‬تهدٌد الشعب‬
‫المصري كله بالعقاب إن استمر فً دعم عرابً‪.‬‬

‫وقابل الفبلحون خٌانة توفٌق بمواوٌلهم وأؼانٌهم ٌفرؼون بها بعض نار صدورهم‪:‬‬

‫ٌارب خد توفٌق‬ ‫كل المٌه فى األبرٌق ‪..‬‬


‫ٖ‪ٕٙ‬‬
‫ٌا توفٌق ٌا وش النملة ‪..‬مٌن قالك تعمل دي العملة‬

‫❹ الولس الجالٌاتً‬

‫دور الجالٌات األجنبٌة فً مذبحة اإلسكندرٌة‪ ،‬دور الجالٌات األجنبٌة فً حرٌق اإلسكندرٌة‪ ،‬تهلٌل‬
‫الجالٌات األجنبٌة لؤلسطول اإلنجلٌزي‪ ،‬دور العربان الذٌن لم ٌتمصروا من بدور الحدود الشرقٌة والؽربٌة‬
‫فً إرشاد ودعم اإلنجلٌز‪ ،‬دور من تؽلؽل من البدو فً النسٌج المصري‪ ،‬لكنه ظل نتوءا به ولم ٌتمصر حقا‬
‫مثل بدو الطحاوٌة وسلطان باشا والشواربً (من بدو الحجاز الذٌن قدموا لمصر قبل محمد علً‪ ،‬وظلوا‬
‫عربانا‪ ،‬وحصلوا على إنعامات من العٌلة العلوٌة مكنتهم من آالؾ الفدادٌن المصرٌة ببل وجه حق)‪.‬‬

‫ٌقول عرابً فً مذكراته تحت عنوان أسباب الخذالن أن منها إرسال الخدٌوي رسابل إلى كبراء‬

‫‪ -263‬األغنية الوطنية من عرابي إلى عبد الناصر‪ ،‬السيد زىرة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪53‬‬

‫‪ٗ7ٙ‬‬
‫الضابط بالوعد والوعٌد‪ ،‬وبؤن الجٌش اإلنجلٌزي لم ٌحضر إال بؤمر من السلطان‪" :‬وكانت توزع تلك‬
‫الرسابل بواسطة محمد باشا أبً سلطان ربٌس مجلس النواب ومن معه الذٌن هم من اإلنجلٌز فً‬
‫اإلسماعٌلٌة بؤمر الخدٌوي وبواسطة الجواسٌس من (المصرٌٌن) كؤحمد عبد الؽفار عمدة تبل والسٌد الفقً‬
‫العضوٌن فً مجلس النواب عن مدٌرٌة المنوفٌة"‪ ،‬فتسبب هذا فً أن بعض الضباط لم ٌقوموا بعمل‬
‫االستحكامات البلزمة التً أمرهم بها علً الروبً‪ ،‬وأنه حٌن سار عساكر اإلنجلٌز كان ٌتقدمهم‪" :‬بعض‬
‫ضباط أركان حرب من المصرٌٌن الذٌن انحازوا إلى الخدٌوي بطرؾ اإلنكلٌز‪ ،‬وأمامهم عربان الهنادي‬
‫ٌرشدونهم إلى الطرٌق"‪ ،‬وأورد سلٌم النقاش فً "مصر للمصرٌٌن" أن محمد سلطان كان ٌوالً الخدٌوي‬
‫بتلؽرافات عن سٌر المعارك فً التل الكبٌر وفوز اإلنجلٌز‪ ،‬مما ٌثبت خٌانته التً كوفا علٌها‪ ،‬كما كافا‬
‫الخدٌوي الشٌخ حمد أبو سلطان وأخوته من عربان الهنادي بؤن أقطعهم خمسة آالؾ فدان فً رأس الودي‬
‫"مكافبة لهم على خٌانتهم للدٌن والوطن الذٌن نشؤوا فً خٌراتهٗ‪ "ٕٙ‬بتعبٌر عرابً‪.‬‬

‫وتكونت الحكومة والبرلمان فً أكثرهما من شركس وأتراك وأكرادا وشخصٌات من أصول بدوٌة‬
‫وعربانٌة لم تتخ َّل عنها‪ ،‬ومبدأها "مطرح ما تكون المصلحة الشخصٌة والنفوذ أكون"‪ ،‬وعلى هذا ساروا مع‬
‫عرابً حتى حصدوا بقوة الجٌش وثورة الفبلحٌن مجلس النواب والدستور الذي مكنهم من أال تقر الحكومة‬
‫ضراٌب إال بموافقة أعضاء البرلمان (وكلهم من األؼنٌاء ومعظمهم من المستوطنٌن األجانب)‪ ،‬وأن ٌكون‬
‫لهم مناقشة المٌزانٌة قبل إقرارها‪ ،‬أي ما ٌتعلق بحفظ المصالح االقتصادٌة لهإالء‪ ،‬حتى ال ٌتكرر لهم ما‬
‫عانوه من إسماعٌل من ضراٌب واحتماالت مصادرة األراضً المسٌطرٌن علٌها‪ ،‬أما حٌن بدأ الحدٌث عن‬
‫إمكانٌة مطالبة الفبلحٌن بإعادة توزٌع األراضً (بذور اإلصبلح الزراعً) واحتمال سٌر عرابً واء‬
‫الفبلحٌن ألنه ٌرى نفسه مفوضا منهم‪ ،‬انقلبوا على الثورة تمام االنقبلب(٘‪ ،)ٕٙ‬كما سٌنقلب أوالدهم على‬
‫ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬وأحفادهم على ثورة ٕ٘‪ ،ٔ9‬فكلهم من نفس العاببلت‪ٌ ،‬سلموا راٌة قبلٌتهم وتعالٌهم على‬
‫الفبلحٌن وتمسكهم بؤن ٌكونوا طبقة فوقهم وٌؤكلوا حقوقهم جٌل وراء جٌل‪.‬‬

‫❺ الولس المحلً‬

‫مثل علً خنفس الذي خان فً معركة التل الكبٌر وعلً مبارك وبطرس ؼالً اللذٌن تراصا بجانب‬
‫الخدٌوي واإلنجلٌز والمستوطنٌن األجانب فً األسكندرٌة بعد معركة كفر الدوار‪ ،‬وفً كل بلد وزمان هناك‬
‫ولس محلً‪ٌ ،‬ظهر انحٌازه للعدو وقت األزمة‪ ،‬إال أن هذا الولس بالتؤكٌد سٌكون خطره ضعٌفا وٌسهل‬
‫محاصرته أو عبلجه إن لم ٌكن محاطا فً الداخل بولس قادم من الخارج‪ ،‬فالولس الداخلً ٌستقوي بالوافد‪،‬‬
‫والعكس ‪ ،‬وٌتؽذى علٌه‪ ،‬وٌكثر عدده فً ظل وجوده مثلما ٌكثر عدد الذباب على سطح المستنقع كلما زادت‬
‫مساحة المستنقع‪.‬‬

‫❻ الولس التارٌخً‪ ...‬حرامً ذاكرة المصرٌٌن‬

‫‪ -264‬مذكرات الزعيـ أحمد عرابي‪ ،‬ج‪ ،3‬تحقيؽ عبد المنعـ الجميعي‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪712 -711‬‬
‫(٘‪)ٕٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تطور الرأسمالٌة المصرٌة‪ ،‬دار الكتب والوثابق القومٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔ‪9‬‬

‫‪ٗ77‬‬
‫وهذا الولس التارٌخً هو أخطر من كل ولس مما سبق‪ ،‬فلوال هذا الولس التارٌخً ما تمكن أي ولس من‬
‫رقبة مصر بهذا الشكل‪ ،‬وحتى وإن تمكن لضخامة إمكانٌاته الدولٌة لنهضت مصر فً أسرع وقت لتثؤر‬
‫لنفسها‪.‬‬

‫والمقصود بالولس التارٌخً هو "حرامً الذاكرة"‪ ،‬هو ؼفلة المصرٌٌن عن تارٌخهم الحقٌقً‪ ،‬وعن‬
‫الصورة الكاملة لهوٌتهم المصرٌة‪ ،‬وعن من هم أعدابهم‪ ،‬وهذه الؽفلة هً ما تسببت فً موجات من‬
‫"اللخبطة" اجتاحت الضباط والعلماء المصرٌٌن‪ ،‬فؤربكت صفوفهم فً اللحظات الحرجة‪ ،‬فمثبل رؼم دوي‬
‫"مصر للمصرٌٌن" فً أنفسهم إال أن معنى "المصرٌٌن" تلطخ بؤن ضموا لها مستوطنٌن أجانب سورٌٌن‬
‫وعربانا وأتراكا ومؽاربة لمجرد أنهم ٌعٌشون فً مصر‪ ،‬ورؼم كراهٌتهم لكل ما هو تركً إال أن بعضهم‬
‫ظل متمسكا بؤن السلطان العثمانلً له "حق" السٌادة فً مصر‪ ،‬وبرر هذا طلبة عصمت وعبد هللا الندٌم‬
‫وعبد العال حلمً بالحاجة للوحدة اإلسبلمٌة فً ظل المخاطر األوروبٌة التً تهدد ببلد المسلمٌن(‪،)ٕٙٙ‬‬
‫وبعضهم رؼم علمه بؤن األسرة العلوٌة لٌست مصرٌة حقا إال أنه ظل مقتنعا بؤنه لها "شرعٌة" الحكم‪ ،‬ولم‬
‫تظهر مطالب ثابتة بؤن ٌتولى حكم مصر حاكم مصري حقٌقً رؼم إعبلنهم فً األٌام األخٌرة خلع‬
‫الخدٌوي توفٌق‪ ..‬ففقد مبدأ "مصر للمصرٌٌن" جوهره دون قصد منهم‪.‬‬

‫فلنتخٌل لو أن جمٌع المصرٌٌن وقتها على قناعة بؤنه ال ٌوجد أي بلد أو جنس أجنبً فً العالم له الحق‬
‫فً حكم مصر‪ ،‬سوا ألسباب دٌنٌة أو ؼٌرها‪ ،‬فهل كانت االنقسامات التً صدعت الثورة فً األٌام األخٌرة‬
‫حصلت حٌن ورد مرسوم السلطان العثمانلً بؤن عرابً مخالؾ للشرٌعة ألنه خالؾ السلطان المسلم "حامً‬
‫الشرٌعة"؟‬

‫ولنتخٌل لو أن المصرٌٌن جمٌعا وقتها على قناعة بؤن الجالٌات الناطقة بالعربٌة فً مصر‪ ،‬وما زالت‬
‫محتفظة بانتماءاتها البدوٌة والشامٌة والمؽاربٌة والتركٌة إلخ‪ ،‬لٌسوا مصرٌٌن حقا‪ ،‬وإال ما احتفظوا‬
‫واعتزوا بثقافة وانتماء أجنبً‪ ،‬وما رفضوا وصؾ نفسهم بالفبلحٌن وما أذلوا الفبلحٌن ونهبوا أراضٌهم‪،‬‬
‫فهل كانوا سلموا لهم أمورا حساسة فً الثورة ثم اكتووا بخٌانتهم؟‬

‫♦♦♦ الصفحة‪ ..‬لٌست األخٌرة‬

‫امتطى عرابً جٌشه وولَّى وجهه شطر القاهرة أمبل فً تحصٌنها قبل وصول اإلنجلٌز‪ ،‬وعقد اجتماعا‬
‫مع المجلس التنفٌذي‪ ،‬تناقشوا هل نقاوم أم نستسلم‪ ،‬اتفقوا على المقاومة‪ ،‬ذهب إلى ثكنات العباسٌة ٌتفقد‬
‫القوات الباقٌة‪ ،‬لم ٌجد إال أقل من ألؾ رجل معظمهم أصبل خفراء‪ ،‬عاد وبلػ الزمبلء‪ ،‬بعضهم كمحمود‬
‫سامً البارودي اقترح إؼراق القلٌوبٌة والدقهلٌة لمنع اإلنجلٌز من التقدم‪ ،‬واالنسحاب للوجه القبلً إلعادة‬
‫تجهٌز الجٌش‪ ،‬ورفض عرابً خوفا على أهالً المدٌرتٌن من الخراب‪ ،‬كما لمس بنفسه عدم ثبات كثٌر من‬
‫الضباط والجنود بعد منشورات السلطان والخدٌوي‪ ،‬وأرسل بمشورة من المجلس للخدٌو ٌإكد له توقؾ‬

‫(‪)ٕٙٙ‬‬
‫‪ -‬انظر كلمات الزعماء الثبلثة فً‪ :‬مذكرات الزعٌم أحمد عرابً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ ،ٖٕٖ -ٖٔ9‬وهوامش المحقق ص ٔٓٗ‬

‫‪ٗ78‬‬
‫القتال وٌطلب منه عدم السماح بدخول اإلنجلٌز للقاهرة‪ ،‬لكن الجٌش اإلنجلٌزي دخل بإرشاد من "الولس"‪،‬‬
‫واستدعى قابده عرابً للقابه‪ ،‬وسؤله المراسل السوٌسري جون نٌنه هل ستهرب؟ رفض عرابً الهروب‪،‬‬
‫لكنه استجاب لنصٌحة من نٌنٌه بؤنه حٌن ٌصل إلى القابد اإلنجلٌزي ٌسلمه هو وزمبلبه أنفسهم كؤسرى‬
‫حرب‪.‬‬

‫هل كان محقا فً االستسبلم؟ هل ٌلٌق به؟ هل االستسبلم نهاٌة تلٌق بقابد شعب من أصحاب الجبللٌب‬
‫الزرقاء الممزقة واألرجل التً شققها الفقر لكنه وقؾ صلبا فً وجه روتشٌلد والعثمانلً واإلنجلٌزي‬
‫والٌونانً والفرنسً واألرمنً والٌهودي ومن كل ملة؟ لماذا لم ٌتركهم ٌؤتون للقبض علٌه أو حتى ٌقتلونه؟‬
‫ألٌس االستشهاد أفضل من االستسبلم وهو الذي عرض نفسه للخطر عشرات المرات دون أن ٌخشى‬
‫الموت؟ ورفض كل الرشاوى واإلؼراءات‪ ،‬هل كثرة وتسارع الصدمات والخٌانات َّأثرت على نفسٌة‬
‫عرابً وقتها فلم ٌؤخذ القرار الصحٌح؟ هل كان فً لحظة ارتباك فوق طاقة البشر؟‬

‫لقد كان فً شهر أؼسطس والجمٌع حوله روحه وروح الثورٌٌن المصرٌٌن ٌنطبق علٌها األؼنٌة‬
‫المصرٌة "طار بٌا األمل بجناحه ولمست النجوم بإٌدٌا"؛ وإذ فجؤة فً سبتمبر ٌنفض معظم الكبار الذٌن‬
‫أظهروا له التؤٌٌد‪ ،‬بل وٌطعنوه‪ ،‬وتصدر فتاوى تشتت الجٌش‪ ،‬وٌنهار كل شًء فً لمح البصر !‬

‫انتقلت قوة من الفرسان الهنود إلى اإلسكندرٌة كحرس شرؾ لحراسة الخدٌوي إلى محطة السكة الحدٌد‪،‬‬
‫ممتطٌن صهوة خٌولهم ومرتدٌن مبلبسهم الوطنٌة (الهندٌة) الزاهٌة؛ فبدوا فً صورة بهٌجة‪ ،‬هذا العرض‬
‫كان الؽرض منه التؤثٌر فً نفوس األوربٌٌن واألهالً لكً ٌثبتوا فً أذهانهم فكرة وجود قوة احتٌاطٌة‬
‫كبٌرة لئلمبراطورٌة اإلنجلٌزٌة فً قلب الهند‪ ،‬وحٌنما ركب الخدٌوي محاطا بهذه الثلة من الجنود إلى جوار‬
‫السٌر إدوارد مالٌت‪ ،‬الممثل السٌاسً والقنصل العام اإلنجلٌزي‪ ،‬مخترقٌن الشارع الربٌسً الذي اصطؾ‬
‫األهلون على جانبٌه‪ ،‬لم ٌصفق الناس ولم ٌبدوا أي مظهر من مظاهر الفرح(‪ ،)ٕٙ9‬عدا من هم من الجالٌات‬
‫األجنبٌة واألتباع‪.‬‬

‫وفً ٌوم ٕ٘ سبتمبر ٕ‪ ٔ88‬بدا كؤنه الؽزو الثانً ألسرة محمد علً لمصر‪ ،‬فكما دخلها محمد علً تحت‬
‫اسم السلطان العثمانلً"الفاتح"‪ ،‬فإن توفٌق دخل القاهرة واستقبله على المحطة رٌاض باشا وسلطان باشا‬
‫هاتفٌن "فلٌعش الجناب العالً مإٌدا بالنصر واإلجبلل"‪ ،‬وصعد إلى مركبة على ٌساره فٌها الدوق أؾ‬
‫كنوت ابن الملكة فٌكتورٌا‪ ،‬وأمامه الجنرال ولسلً قابد جٌش اإلنجلٌز‪ ،‬ومالٌت قنصل اإلنجلٌز‪ ،‬وسارت‬
‫ورابه فرسان اإلنجلٌز‪ ،‬وتبعه النظار وأمراء العٌلة الخدٌوٌة‪ ،‬والمحطة مفروشة بالبسط والرٌاحٌن‬
‫والراٌات وعلى الصفٌن جنود اإلنجلٌز(‪ ..)ٕٙ8‬دخلها فً موكب "اإلنجلٌزي الفاتح"‪ ،‬ومن ٌومها وعٌلة محمد‬
‫علً تحكم بـ"حق الفتح اإلنجلٌزي"‪.‬‬

‫وكتبت صحؾ تابعة لبلحتبلل فً مصر فٌما بعد عن "الترحٌب المصري" بالفتح اإلنجلٌزي‪ ،‬وكتب‬

‫(‪)ٕٙ9‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٓ‪ٖٙٔ -ٖٙ‬‬
‫(‪)ٕٙ8‬‬
‫‪ -‬انظر وصؾ الموكب كامبل فً مذكرات الزعٌم أحمد عرابً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬جٕ‪ ،‬ص ٘ٔ‪ 9‬والهوامش‬

‫‪ٗ79‬‬
‫(‪)ٕٙ9‬‬
‫كرومر "رحب بمقدم ذلك اإلنجلٌزي وبشًء من الفرح الحكام الشرعٌون وجماهٌر الشعب المصري"‬
‫كما كتب مإرخون فً عصور سابقة عن "الترحٌب المصري" بالفتح المقدونً (اإلسكندر) وبالفتح العربً‬
‫وبالفتح العبٌدي (الفاطمً) إلخ‪ ،‬وصورة رٌاض الٌهودي‪/‬الشركً‪ ،‬ونوبار األرمنً‪ ،‬وشرٌؾ التركً‪،‬‬
‫ومصطفى فهمً التركً‪ ،‬وسلطان باشا البدوي‪ ،‬والخدٌوي األرناإوطً‪ ،‬وأدٌب إسحق السوري‪ ،‬وندرة من‬
‫المصرٌٌن مثل علً مبارك‪ ،‬متراصٌن فً استقبال "الفاتح اإلنجلٌزي"‪ ،‬والجالٌات األجنبٌة على الصفٌن‬
‫ترمً علٌهم الزهور والورود ٌمكن أن تجٌب لنا عن سإال‪" :‬أي مصرٌٌن هإالء الذٌن اصطفوا على باب‬
‫مصر لٌرحبوا بالفتوحات الماضٌة"‪.‬‬

‫▼▼▼ تصفٌة ثورة "مصر للمصرٌٌن"‬

‫صدق فً هبة المصرٌٌن التً فاجبت العالم وجبابرته قول األبنودي‪:‬‬

‫ومصر عارفة وشاٌفة وبتصبر‪..‬‬

‫لكنها فً خطفة زمن تعبر‪..‬‬

‫وتسترد االسم والعناوٌن‬

‫ففً خطفة زمن هبت ومدت قدمها لتعبر‪ ،‬وعبرت لحد ما‪ ،‬عبرت من المقاومة الفردٌة أو القروٌة إلى‬
‫المقاومة الوطنٌة الجماعٌة من جدٌد‪ ،‬وعبرت التعود على الحاكم األجنبً إلى حقها فً أن تحكم نفسها‬
‫وٌجلس الفبلح على عرشها‪ ،‬وؼٌر ذلك‪ ،‬لكن لم ٌكتمل العبور‪ ،‬ألنها لم تسترد بعد االسم وكامل العناوٌن‪.‬‬

‫وهنا لحظة فاصلة‪ ..‬إن رحلة تصفٌة مبدأ "مصر للمصرٌٌن" ستبدأ فصولها ونتابع من اآلن بعنؾ‪ ..‬من‬
‫إخفاء عرابً وصحبه بالقتل أو النفً فً ٕ‪ ،ٔ88‬وتستمر بمحو أو"هلفتة الشخصٌة المصرٌة"(ٓ‪، )ٕ9‬‬
‫تصفٌة متعمدة وبكل األسلحة واأللوان؛ بمعنى أنه طوال مبات االحتبلالت السابقة كان التعامل مع مصر‬
‫ملخصا فً "االستنزاؾ المادي والحضاري"‪ ،‬أي السٌطرة على األرض‪ ،‬وتسخٌر المصرٌٌن لزراعتها‪،‬‬
‫وسرقة اآلثار المصرٌة‪ ،‬ونقل الحضارة المصرٌة إلى المحتل الجدٌد أو حضارات أخرى ونسبها إلٌها‪.‬‬

‫أما بداٌة من االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬فإن الثروة واآلثار لٌست هً الهدؾ وحدها‪ ،‬سٌكون الفبلح المصري‬
‫نفسه هو الهدؾ‪ ،‬أي شخصٌته وهوٌته وأخبلقه‪ ،‬فهذا الفبلح اكتشؾ المحتلون الجدد أنه لٌس مجرد "ثٌران‬
‫فً الساقٌة" ٌفلح لهم األرض‪ ،‬بل إنه ما زال ذلك المصري القدٌم الذي ٌثق بنفسه‪ ،‬ومرتبط بؤرضه لحد‬
‫الشهادة‪ٌ ،‬عرؾ جٌدا موقعه فً معركة الخٌر والشر‪ ،‬وأن عروقه لم تتفرغ من الشهامة والنخوة المصرٌة‪،‬‬
‫وأنه رؼم الؽٌوم التً تؽطً ذاكرته وتخفً عنه حقٌقة جدوره وماضٌه‪ ،‬ورؼم مظهره الممزق المكدود‪ ،‬إال‬
‫أنه ٌحمل فً أعماقه ٌقٌنا بؤنه فوق كل هإالء المحتلٌن‪ ،‬وأفضل منهم‪ ،‬فعاد لٌثور وٌنتقم‪.‬‬

‫(‪)ٕٙ9‬‬
‫‪ -‬مصر الحدٌثة‪ ،‬كرومر‪ ،‬جٕ‪ ،‬ص ٓ‪ ،ٔٙ‬ووصؾ‪ -‬كعادة المعتدٌن‪ -‬إنجلترا بـ "المنقذ لمصر"‪ ،‬و"تحمل الخٌر لمصر"‪ ،‬ص ٔ‪ٔٙ‬‬
‫(ٓ‪)ٕ9‬‬
‫‪" -‬هلفتة الشخصٌة المصرٌة" تعبٌر قرأته على من موقع "توٌتر"‪ ،‬وهو أدق وصؾ لما استهدؾ الشخصٌة المصرٌة منذ نهاٌة القرن ‪ٔ9‬‬

‫ٓ‪ٗ8‬‬
‫إذن‪ ،‬فإنهاك جسد هذا الفبلح أو قتله لٌس كافٌا‪ ،‬بل محو شخصٌته تماما‪ ،‬بؤال ٌكون فبلحا‪ ،‬ال ٌعتز أساسا‬
‫بؤنه مصري وفقط‪ ،‬بل ٌذوب فً تقلٌد ؼٌره من العرب أو العجم‪ ،‬واألهم أال ٌكون شعبا واحدا‪ ،‬بل أجزاء‬
‫وأحزاب وأدٌان وأعراق وطواٌؾ وفرق وتنظٌمات كالحطب تؤكل بعضها بعضا‪.‬‬

‫فلٌتعلم المصرٌون‪ ،‬ولتنتشر المدارس‪ ،‬لكنها لن تكون إال مفرخة أحزاب وتنظٌمات وهوٌات عكس‬
‫بعضها البعض‪ ،‬ولٌفتح كرومر لهم باب التوظٌؾ الحكومً أكثر لكن لن ٌكونوا إال موظفٌن كالخشب‬
‫المسندة‪ ،‬أختام تإشر على ما ٌرٌده محركوها من األجانب‪ ،‬الحاكمٌن لها مباشرة‪ ،‬أو من وراء ستار‪.‬‬

‫❶ البرابرة ٌحاكمون الثورة المصرٌة بقانون "الهرم المقلوب"‬

‫من أدوات التصفٌة أنه بدال من أن تحاكم الثورة أعداء األمة حاكم األعداء الثورة‪ ،‬هو قانون الهرم‬
‫المقلوب الذي ٌحكم مصر منذ سقوطها فً االحتبلالت واالستٌطان األجنبً‪ ،‬أن ٌعلو األجنبً على‬
‫المصري‪ ،‬أن ٌحكم المرتزق والعبد وعربان الجبال أهل الفبلحة والفبلح‪ ،‬أن تعلو قٌم الؽزاة والنهب‬
‫والسلب واالؼتصاب وتنخفض قٌم رد األرض والحقوق ألصحابها‪ ،‬أن ٌُحاكم ابن البلد الثابر بتهمة الخٌانة‬
‫وٌُكافا الخابن والؽازي بحجة أنه "صاحب الحق والفضل"‪.‬‬

‫انعقدت محاكمة عرابً وٖٓ ألفا من الثوار بـ"تهمة" إشعال الثورة فً دٌسمبر ٕ‪ ،ٔ88‬وانتهت بؤحكام‬
‫اإلعدام‪ ،‬ثم ُخفضت إلى نفً عرابً وعبد العال حلمً وعلً فهمً ومحمود سامً البارودي وٌعقوب سامً‬
‫إلى جزٌرة سٌبلن‪ ،‬وهو كان حبل أفضل لبلحتبلل حتى ال تزٌد الشهادة إذا أعدموه هالة عرابً فً نظر‬
‫الشعب المتعطش لزعٌمه‪.‬‬

‫وهذه التصفٌة للثورة تكرار للتصفٌة التً نفذها محمد علً ضد ثورة ٗٓ‪ ٔ8‬التً قادها عمر مكرم لخلع‬
‫خورشٌد باشا‪ ،‬فسار توفٌق على درب جده محمد علً الذي قال لشٌوخ األزهر كما تابعنا ردا على السخط‬
‫الشعبً من عدم تنفٌذه للوعود بالحد من الضراٌب‪" :‬وكؤنكم تخوفونً بهذا االجتماع وتهٌٌج الشرور وقٌام‬
‫الرعٌة كما كنتم تفعلون فً زمان الممالٌك‪ ،‬فؤنا ال أفزع من ذلك‪ ،‬وإن حصل من الرعٌة أمر ما فلٌس لهم‬
‫عندي إال السٌؾ واالنتقام"(ٔ‪.)ٕ9‬‬

‫فقد كان عرابً أول مصري ٌخاطب النفس المصرٌة‪ٌ ،‬خاطب ابن الشعب‪ ،‬متجاهبل ابن الحكومة‬
‫التركً‪ ،‬كان أول رسمً ]مسبول[ مصري ٌعتز بلقبه المصري ]أي الفبلح[ وٌصر على استعماله‪ ،‬لقد كان‬
‫قومٌا مصرٌا صمٌما‪ ،‬وٌقول البرٌطانً ستٌوارت فً كتابه "تارٌخ الشرق األوسط الحدٌث" إن "عرابً‬
‫أول فبلح مصري ٌقؾ فً وجه الحاكم منذ ألفً سنة وربما خمسة آالؾ‪ ...‬ومن ورابه ومعه اندفع جمهور‬
‫المصرٌٌن العادٌٌن المعدمٌن المضطربٌن أول مرة منذ أٌام الفراعنة نحو الحكم الذاتً"(ٕ‪.)ٕ9‬‬

‫ولذا؛ كان أهم ما ٌحرص علٌه اإلنجلٌز والخدٌوي فً المحاكمة نزع صفة الشعبٌة عن الثورة‪ ،‬وأن‬

‫(ٔ‪)ٕ9‬‬
‫‪ -‬عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار‪ ،‬ج ‪ ،ٙ‬الجبرتً‪ ،‬ص ٕ‪8ٓٓ -99‬‬
‫(ٕ‪)ٕ9‬‬
‫‪ -‬الحركة القومٌة العربٌة فً القرن العشرٌن‪ ،‬هانً الهندي‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربٌة‪ ،‬طٕ‪ ،‬بٌروت ٕ٘ٔٓ‪ ،‬ص ٘٘ٔ‬

‫ٔ‪ٗ8‬‬
‫ٌسجلها القضاء والتارٌخ على أنها "تمرد" من أشخاص "خابنة"‪ ،‬و"طامعة فً الحكم"‪ ،‬وعلى هذا تضمنت‬
‫عرٌضة االتهام بنودا منها‪ :‬ممارسة أعمال العصٌان العامة والتمرد على الخدٌوي والسلطان فً حادث‬
‫قصر النٌل ومظاهرة عابدٌن‪ ،‬ترقٌة الضباط المصرٌٌن وإحالة الضباط الشراكسة للمعاش‪ ،‬الخروج عن‬
‫األدب فً مخاطبة الخدٌو فً مناقشة موضوع الشراكسة‪ ،‬ترمٌم الطوابً فً اإلسكندرٌة‪،‬إشعال الحرب فً‬
‫أرض السلطان‪ ،‬القٌام بمذبحة اإلسكندرٌة‪.‬‬

‫فً المقابل تضمنت مذكرة الدفاع الذي قاده بلنت وبرودلً عن عرابً ورفاقه بنودا أبرزها‪" :‬نقاء‬
‫وأمانة أفكار عرابً وأهدافه‪ ،‬شعبٌة الحركة الوطنٌة وعمومٌتها‪ ،‬طبٌعة عرابً اإلنسانٌة ؼٌر العادٌة‪،‬‬
‫تعرض عرابً وزمبلبه للتعدي‪ ،‬وتعاونه مع السلطان وتوفٌق حتى ٕٔ ٌولٌو(ٖ‪ ،")ٕ9‬لكن برودلً أقنع‬
‫عرابً باالعتراؾ بتهمة العصٌان‪.‬‬

‫وفً ‪ ٕ8‬سبتمبر صدر ما ٌسمى بـ"قومسٌون التحقٌق" لتتبع أي شخص ساند الثورة المصرٌة‪ ،‬أي شخص‪،‬‬
‫واتهامه بجرٌمة العصٌان وإهانة الذات الخدٌوٌة‪ ،‬وتشكلت من أشد كارهً الثورة المصرٌة‪ ،‬فربٌسها‬
‫إسماعٌل أٌوب‪( ،‬مملوك شركسً)‪ ،‬وأعضاإها من الشركس والسورٌٌن واألرناإوط والٌونانٌٌن‪ ،‬وأورد‬
‫عرابً منهم ‪ :‬علً باشا ؼالب (شركس)‪ٌ ،‬وسؾ باشا شهدي (شركس)‪ ،‬محمد زكً باشا (أرناإوط)‪،‬‬
‫وسعد الدٌن بك (رومً أي ٌونانً)‪ ،‬و(محمد حمدي بك العظم (سوري)‪ ،‬ومصطفى بك راؼب (تركً)‪،‬‬
‫و"سلٌمان بك ٌسري (كردي)‪ ،‬ومصطفى بك خلوصً (فارسً) ومحمد بك مختار (تركً)‪ ،‬ومن العجاٌب‬
‫أن األجانب ٌحاكمون أبناء البلد بتهم "العصٌان"‪ ..‬ولكن هذا دابما هو قانون الشٌطان‪ ..‬الهرم المقلوب‪.‬‬

‫وصدر قرار تشكٌل محكمة عسكرٌة لمن ٌوجه القومسٌون لهم االتهامات‪ ،‬أحكامها ؼٌر قابلة لبلستبناؾ‬
‫وتشكلت‪ :‬الربٌس محمد باشا رءوؾ (كردي)‪ ،‬األعضاء‪ :‬إبراهٌم باشا الفرٌق (رومً أي ٌونانً)‪،‬‬
‫وإسماعٌل كامل الفرٌق (شركس)‪ ،‬وحسن باشا عاصم (شركس)‪ ،‬وخورشٌد باشا (شركس)‪ ،‬سلٌمان نٌازي‬
‫(أرناإوط)‪ ،‬عثمان باشا لطٌؾ (شركس) سلٌمان بك نجاتً (شركس)‪ ،‬أحمد حسانٌن باشا (مصري)‪،‬‬
‫وتشكلت لجانا أخرى فً المحافظات لنفس الؽرض(ٗ‪ )ٕ9‬وأعضاإها أٌضا جنسٌات أجنبٌة فً معظمها‪.‬‬

‫وسهل تصور المرارة فً حلق المصرٌٌن حٌن ٌستجوبهم‪ ،‬وبتكبر وشماتة‪ ،‬أجانب فً أمر ٌخص بلدهم‪.‬‬

‫و ورد فً كتاب "التارٌخ السري لبلحتبلل اإلنجلٌزي لمصر" لـ ولفرٌد سكاون بلنت شهادات عن‬
‫"بٌمان" مترجم "مالٌت" وعن الشٌخ محمد عبده‪ -‬أحد المقبوض علٌهم‪ -‬أن توفٌق كان ٌرسل زبانٌته من‬
‫األجانب فً الحكومة والقصر إلى عرابً وإخوانه فً الزنانزٌن لٌبل لٌقوموا بالتؾ (البصق) على‬
‫وجوههم‪ ،‬وشتمهم بؤقبح األلفاظ‪ ،‬ولعنهم‪ ،‬وإهانتهم للتشفً فٌهم‪ ،‬وإشعارهم باإلهانة جزاء على تجرأهم‬
‫كفبلحٌن على الخدٌوي والعناصر األجنبٌة الحاكمة‪ ،‬وذلك بالرؼم من أن عرابً حرص على عدم استخدام‬
‫العنؾ ضد الخدٌوي أو تلك الجالٌات طوال الثورة‪.‬‬

‫(ٖ‪)ٕ9‬‬
‫‪" -‬التارٌخ السري لبلحتبلل اإلنجلٌزي لمصر‪..‬رواٌة شخصٌة لؤلحداث‪ ،‬ص ‪ ،٘ٔ8‬مذكرات الزعٌم أحمد عرابً‪ ،‬جٔ‪ ،‬ص ‪ٙٗ -٘9‬‬
‫(ٗ‪)ٕ9‬‬
‫‪ -‬مذكرات الزعٌم أحمد عرابً‪ ،‬تحقٌق عبد المنعم الجمٌعً‪ ،‬ج ٕ‪ ،‬ص ‪9ٕٖ -9ٔ9‬‬

‫ٕ‪ٗ8‬‬
‫ونقل أن رٌاض باشا (الٌهودي‪/‬الشركسً) الذي وصفه مسبول أجنبً بؤنه "ٌقوم بدور الشٌطان فً‬
‫مصر"‪ ،‬كان ٌقول إن المصرٌٌن "مثل الثعابٌن‪ ،‬وطرٌقة منع الثعابٌن من االنتشار تتمثل فً سحقها‬
‫باألقدام‪ ،‬وسوؾ أسحق المصرٌٌن بهذه الطرٌقة"(٘‪.)ٕ9‬‬

‫ولزٌادة المكاٌدة أٌضا‪ ،‬أرسلت السلطات عساكر أتراك وشراكسة إلى منازل قادة الثورة التً تم‬
‫مصادرتها‪ ،‬واقتحموها دون أن ٌراعوا حرمة النساء فٌها‪ ،‬بل ومنعوا أهل البٌت من الدخول والخروج‬
‫بحسب ما ورد فً شكاوى عرابً وعلً فهمً ونشرها برودلً فً كتابه‪.ٕ9ٙ‬‬

‫وألقت سلطات الخدٌو ٖٓ ألؾ شخص ساندوا الثورة فً سجون القاهرة والمحافظات‪ ،‬ما بٌن المزارعٌن‬
‫والعمد وعلماء األزهر وتجار وأعٌان وؼٌرهم‪ ،‬حتى المراسل السوٌسري جون نٌنٌه ألنه ساند الثورة‪.‬‬

‫ورؼم هذا اإلرهاب تجمع بعض المصرٌٌن الحقٌقٌٌن حول سجن عرابً وأصحابه‪ ،‬فٌقول برودلً مندهشا‬
‫واصفا المشهد الذي كان علٌه شاهد عٌان‪" :‬ظل الشعب على وفابه ولم ٌتؽٌر‪ ...‬حتى ٌوم رحٌل الزعماء‬
‫ؼلى المنفى‪ ،‬ظلت الجماهٌر الحاشدة تتجمع طوال اللٌل والنهار رجاال ونساء وأطفاال حل سجن االستبناؾ‬
‫كما ٌفعلون حول أضرحة األولٌاء‪ٌ ..‬بكون‪ ،‬وٌرددون نشٌد الثورة‪ ،‬وٌصرون على تردٌده‪ٌ ..‬ارب انصر‬
‫عرابً"‪.ٕ99‬‬

‫❷ تزوٌر التارٌخ بسالح الصحافة الوافدة‬

‫ومن االنتقام أن سعى المحتلون لقطع أي لسان ٌكشؾ حقٌقة ما جرى‪ ،‬فبعد الحبس والقتل والنفً لمن‬
‫شارك فً الثورة منعوا الصحؾ الوطنٌة من الظهور؛ فصدر أمر من رٌاض بإلؽاء جرٌدتً "الزمان"‬
‫و "السفٌر" بحجة أنها تهٌج الخواطر وألن أصحابهما من "العصابة الثابرة"‪ ،‬أما صحٌفة "الطابؾ" لعبد هللا‬
‫الندٌم فتوقفت بدخول الندٌم فً المنفً الداخلً(‪ ،)ٕ98‬ولم ٌبق أمام الناس ولتسجٌل التارٌخ‪ -‬أو ظنوا هذا‪-‬‬
‫سوى الصحؾ صنٌعة األجانب مساندي اإلنجلٌز وقتها‪ ،‬مثل "األهرام"‪ ،‬و"المقطم"‪ ،‬و"المقتطؾ"‬
‫و"األعبلم" التً أسسها وٌدٌرها شوام ومؽاربة‪ٌ ،‬قدمونها على أنها "صحؾ مصرٌة"‪ ،‬وأنهم هم‬
‫"المصرٌون"‪ ،‬وٌعبرون عن "الرأي المصري"‪ ،‬وركزت على اتهام عرابً بؤنه السبب وراء االحتبلل‬
‫اإلنجلٌزي‪ ،‬وهً التهمة التً باتت تطارد عرابً حتى الٌوم‪.‬‬

‫وخرجت "األهرام" فً ٘ٔ سبتمبر ٕ‪ ٔ88‬بعنوان ‪" :‬البشرى الكبرى"‪" ،‬الجٌش اإلنجلٌزي قبض على‬
‫العاصً عرابً"‪ ،‬وفً ٘ دٌسمبر ٕ‪ ٔ88‬على لسان صاحبها بشارة تكبل تسخر من عرابً وأصحابه عند‬
‫قرب نفٌهم إلى سٌبلن بقوله هإالء‪" :‬سٌإلفون هناك مستعمرة مصرٌة عاصٌة"‪ٌ ،‬شمت فً المصرٌٌن‬

‫(٘‪)ٕ9‬‬
‫‪" -‬التارٌخ السري لبلحتبلل اإلنجلٌزي لمصر‪ ..‬رواٌة شخصٌة لؤلحداث‪ ،‬ولفرٌد سكاون بلنت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٗٓ٘‪٘ٔٓ -‬‬
‫‪" -276‬كيف دافعنا عن عرابي وصحبو"‪ ،‬برودلي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪326‬‬
‫‪ -277‬األغنية الوطنية من عرابي إلى عبد الناصر‪ ،‬السيد زىرة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪53‬‬
‫(‪)ٕ98‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مذكرات الزعٌم أحمد عرابً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬جٕ‪ ،‬ص ‪ ،9ٔ8‬والهوامش‬

‫ٖ‪ٗ8‬‬
‫بؤنهم سٌإلفون "مستعمرة مصرٌة عاصٌة"(‪ ،)ٕ99‬فرحا بؤنه وأمثاله جاءوا لمصر "ٌإلفون مستعمرة شامٌة‬
‫الهٌة"‪ ،‬وٌتعاملون مع مصر كؤنها بلدهم هم‪ ،‬ال بلد المطالبٌن بـ"مصر للمصرٌٌن"‪.‬‬

‫❸ أول قرار لتوفٌق اإلنجلٌزي‪ ...‬حل الجٌش المصري‬

‫تبدو هً المرة الثانٌة منذ انحبلل الجٌش المصري بعد األسرة ٕٓ وإحبلل أبناء القباٌل الخاسوتٌمٌة ثم‬
‫المرتزقة اإلؼرٌق والكارٌٌن محل الفبلحٌن المصرٌٌن‪ ..‬فبدون هذا ما بقوا فً مصر كل هذه القرون‪.‬‬

‫ولذا؛ ففور اعتقال عرابً وصحبه كان أول قرار لتوفٌق بتحرٌض إنجلٌزي فً ‪ ٔ9‬سبتمبر ٕ‪ ٔ88‬من ٖ‬
‫كلمات "حل الجٌش المصري"‪ ..‬التوقٌع محمد توفٌق(ٓ‪ ،)ٕ8‬وبسرعة محمومة جرى حبس الضباط‬
‫المصرٌٌن ومحاكمة المدافعٌن منهم عن الببلد بصفتهم "عصاة"‪ ،‬وإلؽاء الرتب العسكرٌة المعطاة لهم فً‬
‫أٌام الثورة‪.‬‬

‫ومن صور االنتقام إعدام ضابط الجٌش ٌوسؾ أبو دٌة‪ ،‬علنا وأمام عابلته‪ -‬ألنه وبخ الشركً إبراهٌم أدهم‬
‫مدٌر الؽربٌة حٌن ترك جرابم القتل تدور بٌن المصرٌٌن واألجانب وقت الثورة‪ ،‬وقرار بإعدام ضابط‬
‫الشرطة نده خطاب ألنه ارتدى مبلبس المدنٌٌن لٌحصل على أخبار اإلنجلٌز فً اإلسكندرٌة وٌوصلها إلى‬
‫جٌش المصرٌٌن‪ ،‬فاعتبروه جاسوسا لصالح المصرٌٌن(ٔ‪ ... )ٕ8‬ال عجب‪ ،‬فهذا قانون المملوك إذا ؼلب‪.‬‬

‫❹ مكافبة "الولس"‬

‫فً المقابل‪ ،‬كافؤ الخدٌوي سلطان باشا بعشرة آالؾ جنٌه على ما قام به من "الخدمات النافعة" وبالنٌشان‬
‫المجٌدي من الدرجة األولى‪ ،‬وقال توفٌق‪" :‬حٌث أنه بالنظر إلى ما أظهره سعادة محمد سلطان باشا من‬
‫الصداقة لحكومتنا الخدٌوٌة ومعارضته للعصاة فً جمٌع أمورهم وعزابمهم بالمخاطرة بحٌاته‪ ،‬وإلى ما‬
‫حصل له بسبب ذلك من الضرر والتعدي منهم على شخصه وأقربابه وموجوداته ومقدار جسٌم من‬
‫مزروعاته قد استحق المكافؤة من الحكومة"‪.‬‬

‫ولم ٌكتفٌا بؤخذ هذه المبالػ الضخمة من عروق الفبلحٌن المكلومٌن‪ ،‬لكن أٌضا أخذوا أمواال اشترى بها‬
‫سلطان باشا وأحمد السٌوفً وؼٌرهما أسلحة فاخرة محبلة بالجواهر الثمٌنة هدٌة لسٌمور قابد األسطول‬
‫اإلنجلٌزي الذي دمَّر األسكندرٌة‪ ،‬وولسلً قابد الجٌش اإلنجلٌزي الذي قتل وأصاب آالؾ المصرٌٌن فً‬
‫التل الكبٌر‪ ،‬وتسمت بؤنها "هدٌة من أهل البلد" حسب ما وصفها سلٌم النقاش فً "مصر للمصرٌٌن"(ٕ‪.)ٕ8‬‬

‫وٌقول شفٌق باشا إن توفٌق كافا الكثٌرٌن ومنهم هو رؼم أنه موظؾ صؽٌر‪" :‬فلما عدنا من اإلسكندرٌة‬
‫إلى القاهرة بمعٌة الجناب الخدٌوي كنت بٌن الذٌن كوفبوا على والبهم لسموه أٌام الثورة‪ ،‬فزٌد مرتبً إلى‬

‫(‪)ٕ99‬‬
‫‪ -‬األهرام دٌوان الحٌاة المعاصرة‪ ،‬د‪ٌ ,‬ونان لبٌب رزق‪ ،‬ج ٔ‪ ،‬مركز تارٌخ األهرام‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٖٕٕ وٕٖٕ‬
‫(ٓ‪)ٕ8‬‬
‫‪ -‬مصر الحدٌثة‪ ،‬اللورد كرومر‪ ،‬جٕ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،،‬ص ٕ‪٘ٙ‬‬
‫(ٔ‪)ٕ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مذكرات الزعٌم أحمد عرابً‪ ،‬ج ٕ‪ ،‬ص ٔ٘‪9ٕٗ -9ٕٖ ٕٙ٘ -ٙ‬‬
‫(ٕ‪)ٕ8‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ 9ٔٙ‬و‪ 9ٔ9‬مع الهوامش‬

‫ٗ‪ٗ8‬‬
‫عشرٌن جنٌها‪ ،‬ومنحت النٌشان المجٌدي من الدرجة الرابعة‪ ،‬والنجمة المصرٌة التً صٌؽت بؤمر خدٌوي‬
‫لتووزٌعها على أنصاره والذٌن أخلصوا له إبان الثورة العرابٌة‪ ،‬وعلى ضباط وأفراد الجٌش‬
‫اإلنجلٌزي(ٖ‪.")ٕ8‬‬

‫وفً هذا الخضم الهابج‪ ،‬هذا الهرم والمٌزان المقلوب‪ ..‬انتزع االحتبلل حلم مصر‪" ،‬عرابً" ورفاقه‬
‫المخلصٌن لها‪ ،‬من أرضها‪ ،‬زجوا بهم فً السفن إلى الببلد المجهولة‪ ،‬مصحوبٌن بنحٌب ودموغ إٌسة‬
‫"إٌزٌس" ونبت حت "نفتٌس"‪ ،‬وقلوب المصرٌٌن تلهج هلل بؤن تصب سخمت ؼضبها ولعناتها علٌهم‪ ،‬حتى‬
‫ٌظهر حور (حورس) مرة أخرى؛ لٌكمل مسٌرة عودة ماعت‪ ،‬وٌخلص مصر‪.‬‬

‫▲▲▲ ثمرات أول ثورة لـ"مصر للمصرٌٌن" فً العصر الحدٌث‬

‫❶ تعلم مصرٌون أن تكون ثورتهم ودماءهم ألجل أن تعود ببلدهم إلٌهم‪ ،‬ال أن ٌحموها من محتل جدٌد‬
‫لتعود للمحتل القدٌم بعد أن وصل عرابً فً النهاٌة لمرحلة األمل فً خلع أسرة محمد علً كلها‪.‬‬

‫❷ عادت الثقة لبعض المصرٌٌن بؤنهم قادرون على الوقوؾ فً وجه السلطان العثمانلً "الخلٌفة" حٌن‬
‫رفض عرابً ومحمد عبٌد وعبد العال حلمً وعلً فهمً فً معركة التل الكبٌر االنصٌاع لمنشور‬
‫العصٌان الصادر من األستانة (رؼم استمرار اعتقادهم فً شرعٌة الخبلفة)‪ ،‬وتهدٌد محمد عبده بؤن‬
‫الفبلحٌن سٌواجهون الجنود األتراك لو بعث السلطان جٌشا إلى مصر‪.‬‬

‫❸ تجلت ثقة المصرٌٌن فً أنفسهم كمصرٌٌن‪ٌ ،‬عتزون بلقب الفبلحٌن‪ ،‬خاصة مع مواكبة الثورة‬
‫النتشار اكتشافات أثرٌة فً العالم تتحدث عن مجد مصر القدٌم‪ ،‬وعظمة المصرٌٌن‪ ،‬وكٌؾ كانت مصر‬
‫ست الدنٌا وهً حرة مستقلة ٌحكمها أبناإها فقط‪.‬‬

‫❹ ثمرة فً ظاهرها حلوة‪ ،‬وفً باطنها مرة‪ ،‬فقد تحققت مطالب الجٌش فٌما ٌخص أول مجلس نواب‬
‫منتخب‪ ،‬ووضع دستور‪ ،‬لكن حصد إٌجابٌاتها نفس العاببلت القلٌلة المسٌطرة من الترك والعربان والعمد‬
‫الحاصدٌن الثروات بالطرق الظالمة فً معظمها‪ ،‬فٌقول د‪.‬عبد المنعم الجمٌعً إن نظرة على أسماء أعضاء‬
‫مجلس النواب تظهر أنها من نفس التركٌب الطبقً الذي كان فً مجلس شورى القوانٌن أٌام إسماعٌل‪،‬‬
‫ومنهم عبد السبلم الموٌلحً‪ ،‬أحمد السٌوفً‪ ،‬محمد الشواربً‪ ،‬السٌد الفقً‪ ،‬سلٌمان أباظة‪ ،‬أحمد الصباحً‪،‬‬
‫عباس الزمر‪ ،‬خلٌفة الهواري‪ ،‬السٌد الرٌدي‪ ،‬محمد سلطان‪ ،‬علً شعراوي‪ ،‬حسن الشرٌعً‪ ،‬محمود‬
‫سلٌمان‪ ،‬عبد السبلم خفاجً‪ ،‬السٌد الؽرٌانً (ٗ‪ ،)ٕ8‬وستتكرر نفس العاببلت لعصور قادمة‪.‬‬

‫❺ علو الصوت عن حقوق األمة بعد أن ظل لمبات السنٌن الكبلم فقط عن "حقوق" للمحتلٌن‬
‫والمستوطنٌن األجانب‪ ،‬وأن الفبلح (األمة الحقٌقٌة)‪ ،‬ما ُخلق إال لٌزرع لٌؤكل الؽزاة‪.‬‬

‫(ٖ‪)ٕ8‬‬
‫‪ -‬مذكراتً فً نصؾ قرن‪ ،‬جٔ‪ ،‬شفٌق باشا‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔ8‬‬
‫(ٗ‪)ٕ8‬‬
‫‪ -‬مذكرات الزعٌم أحمد عرابً‪ ،‬جٔ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٔ٘‪ٖٙٔ -‬‬

‫٘‪ٗ8‬‬
‫❻ صمدت مصر سنة أمام مخططات روتشٌلد وشركاه والقناصل األجانب والخدٌوي والترك‬
‫والشراكسة وأمثالهم‪ ،‬بمواردها الذاتٌة‪ -‬رؼم أن معظمها منهوب‪ -‬وكلما مر شهر تتحسن إدارتها وتقوى‬
‫معنوٌاتها وتصدر قوانٌن لتحسٌن أحوالها‪ ،‬فؤصدرت فً سنة واحدة الحكومة التً بها عرابً وزٌرا قوانٌن‬
‫حسنت أحوال رجال الجٌش والموظفٌن المصرٌٌن‪ ،‬واعتزمت تقلٌل عدد األجانب فً الحكومة‪ ،‬ومحاربة‬
‫االمتٌازات األجنبٌة‪ ،‬وتمصٌر القضاء‪ ،‬وجهزت الثورة لتؤسٌس بنك مصري ٌحمً الفبلحٌن من المرابٌن‬
‫شعاره "مساعدة الفبلح ورفع فاحش الربا عنه"‪ ،‬وتؤسست "الجمعٌة الصناعٌة المصرٌة"‪ ،‬وأطلقت صحٌفة‬
‫"التنكٌت والتبكٌت" حملة "ال تلبس إال من صنع ببلدك"‪ ،‬وسعى محمد عبده وعبد هللا الندٌم وعرابً لتعمٌم‬
‫التعلٌم‪ ،‬وكلها مشارٌع هدفها فً األساس‪ -‬وألول مرة منذ مبات السنٌن‪ -‬خدمة الفبلح المصري ال أن ٌكون‬
‫هو لها مجرد خادم‪ ،‬حتى قال برودلً وؼٌره إن برنامج اإلصبلح الخاص بالثورة لم ٌكن أقل من برامج‬
‫اإلصبلح األوروبً كفاءة(٘‪ ،)ٕ8‬فؤثبتت ثورة مصر أن قرون الشٌطان مهما كثرت واشتدت سمومها إال أن‬
‫القوة الذاتٌة للحق إذا ما توحدت وفهمت وصمدت قادرة على تحدٌها وصدها‪ ،‬ولوال "الولس" بؤنواعه‬
‫لصمدت أكثر‪ ،‬وربما نجت‪ ،‬لكن جاءت المعركة ومصر مكلبشة بـ"الولس" وخصوصا "الهكسوس"‬
‫المستوطنٌن من كل ناحٌة‪.‬‬

‫❼ كتب التارٌخ أن مصر لم ٌجتاحها االحتبلل بسهولة مدام فٌها جٌش ٌحمل أبناإها فٌه السبلح‪ ،‬كتب‬
‫التارٌخ أن االحتبلل لم ٌتمكن من مصر إال على جثث رجالها حاملٌن البندقٌة والعصاٌة والفاس‪ ،‬فاالحتبلل‬
‫اإلنجلٌزي "كان جاي جاي" لمخططات إنجلترا القدٌمة والنتشار "الولس" فً مصر‪ ،‬وفرق أن ٌؤتً وأهلها‬
‫صامتون‪ ،‬وبٌن أن ٌفعل رجالة البلد مدام ملكوا السبلح كل ما بٌدهم لمنعه حتى آخر نفس‪.‬‬

‫❽ ترعرعت شجرة الوطنٌة فً النفوس مجددا‪ ،‬مرتوٌة بالدماء‪ ،‬والمصري عاد لٌكون ضمن كفاحه‬
‫كلمات "الؽٌرة الوطنٌة"‪ ،‬و"الدفاع عن الوطن"‪ ،‬و"الوطنٌة الشرٌفة"‪ ،‬و"حرٌة مصر"‪ ،‬محتضنا بعٌنٌه‬
‫وقلبه ودمه مصر كلها‪ ،‬بعد أن اختزلت االحتبلالت حٌاته ووعٌه فً القرٌة فقط‪.‬‬

‫وفً ختام شهادته على األحداث‪ ،‬خاصة بعد سرد نهاٌتها الحزٌنة‪ ،‬وفً رده على سإال طرحه على‬
‫نفسه حول "ما الذي ٌحمله المستقبل لمصر"‪ ،‬قال "بلنت" إن اإلنجلٌز بما فعلوه "مكنوا سكان النٌل‬
‫الوطنٌٌن من الوقوؾ فً وجه األجنبً باعتباره مالكا لؤلرض‪ ،‬وما بقً هذا اإلحساس‪ ،‬وما بقٌت هذه‬
‫الوقفة‪ ،‬ستبقى األمة حٌة‪ ،‬وسٌؤتً الٌوم الذي سٌعود فٌه الحكم الذاتً إلى الفبلحٌن‪ ،‬وعندها ٌتبدى لهم أن‬
‫الصراع المسلح الذي دار فً عام ٕ‪ ٔ88‬كان فً حقٌقة األمر بداٌة لحٌاة وطنٌة لهم‪ ،‬تلك الحٌاة التً‬
‫ستمجدها حولٌات هإالء الفبلحٌن‪ .‬سوؾ أعلق أمالً كلها على مجا ذلك الٌوم الذي ٌتحقق فٌه التحرر‬
‫النهابً(‪.")ٕ8ٙ‬‬

‫(٘‪)ٕ8‬‬
‫‪ -‬راجع القوانٌن وبرنامج الحزب الوطنً ومطالب محمد عبده فً مذكرات الزعٌم أحمد عرابً‪ ،‬جٔ‪ ،‬ص ‪ ٖٔٙ -ٖٓ9‬و ‪ ،ٖ99‬وٕٖٗ و٘ٓٗ‪-‬‬
‫‪ ،ٗٓٙ‬ودعوات التعلٌم والصناعة وإنشاء بنك مصري فً‪ :‬تطور الرأسمالٌة المصرٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ ،9ٔ -ٙ8‬ووثٌقة عرابً إلصبلح حال‬
‫مصر فً "كٌؾ دافعنا عن عرابً وصحبه"‪ ،‬برودلً‪ ،‬ص ٕ‪ٖ88 -ٖ8‬‬
‫(‪)ٕ8ٙ‬‬
‫‪ -‬التارٌخ السري لبلحتبلل اإلنجلٌزي لمصر‪ ..‬رواٌة شخصٌة لؤلحداث‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ٘٘‬

‫‪ٗ8ٙ‬‬
‫وبحزم قال عرابً بعد عودته من المنفى ٔٓ‪" :ٔ9‬مصر للمصرٌٌن‪ ،‬إن لم ٌكن الٌوم فؽدا"(‪.)ٕ89‬‬

‫"إنها ]ماعت[ ال تتؽٌر وال تتبدل منذ زمن الذي أوجدها"‪.‬‬

‫(الحكٌم بتاح حتب)‬

‫"إن صالح األرض (مصر) ٌنحصر فً تطبٌق الماعت"(‪ ...)ٕ88‬المٌزان والهرم المعدول‪.‬‬

‫(الفبلح الفصٌح فً شكواه الثالثة)‬

‫(‪)ٕ89‬‬
‫‪ -‬مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن‪ ،‬محمد جبرٌل ج ٕ‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ٕٓٓ9 ،‬ص ٕ‪٘ٙ‬‬
‫(‪)ٕ88‬‬
‫‪ -‬تقدٌم علً رضوان لكتاب "الماعت‪ ..‬فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔ‪ٔ٘-‬‬

‫‪ٗ87‬‬
‫واخز الشٌطان(ٔ)"‬
‫ِ‬ ‫"قل الحقٌقة‬

‫"أعوذ باهلل من الشٌطان الرجٌم"‬

‫إنهم ٌنتظرون المسٌخ الدجال فً آخر الزمان‪ ...‬آال ٌعلمون أنه مرافق لإلنسان منذ نزال سوٌا إلى األرض‬
‫من بداٌة الزمان‪! ..‬‬

‫(ٔ)‬
‫‪ -‬الشٌطان أمٌر العالم‪ ،‬ولٌم جاي كار‪ ،‬ترجمة عماد إبراهٌم‪ ،‬األهلٌة للنشر والتوزٌع‪ ،‬األردن‪ ،ٕٓٔٗ ،‬ص ‪9‬‬
‫المشهد ‪ :ٔ8‬الشٌطان ٌحكم العالم وٌؤسر مصر‬

‫(المسٌخ الدجال)‬

‫امتؤلت الصفحات السابقة‪ -‬بداٌة من االحتبلل العلوي بالكبلم عن عاببلت وبٌوت مال باسم "روتشٌلد"‪،‬‬
‫و"جوشن" و"أوبنهاٌم"‪ ،‬و"التنظٌم العالمً" الذي أؼرق مصر بالدٌون والجالٌات األجنبٌة الجدٌدة حتى‬
‫أوقعها فً حبال أساطٌله الحربٌة واالحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬فمن هإالء؟ وما مصدر قوتهم؟ وما عبلقتهم‬
‫بمصر؟ وما دورهم فً إؼراق مصر بالهجرات األجنبٌة لكتم وحدانٌتها وتحوٌلها أعراقا وأحزابا وشٌعا؟‬

‫الصفحات القلٌلة القادمة تستقً اإلجابة من كتابات أوروبٌة قدٌمة وحدٌثة‪ ،‬ودراسات ووثابق مصرٌة‪،‬‬
‫حول هإالء‪ ،‬وضرورة استعراضها هو أنها مفتاح لنفهم كل األحداث القادمة فً مصر‪ ،‬بل وحتى ٌوم‬
‫القٌامة‪ ،‬ألنها تكشؾ أسباب كثٌر من الحروب واالحتبلالت والقرارات والثورات فً مصر والعالم‪ ،‬بل‬
‫ٌصعب أن نفهم ما ٌجري فً مصر إن لم نفهم ما هً بٌوت المال العالمٌة واألٌدٌولوجٌات التً تتحكم فً‬
‫العالم‪ ،‬وما عبلقة هذا بتمٌٌع الهوٌة المصرٌة‪ ،‬وتخرٌب معنى الجنسٌة المصرٌة‪ ،‬وتكدٌس مصر بالجالٌات‬
‫واألعراق األجنبٌة‪ ،‬وحشوها بالتنظٌمات العالمٌة كالشٌوعٌة واللٌبرالٌة الرأسمالٌة وتنظٌم اإلخوان‬
‫المسلمٌن والقومٌة العربٌة وخرافة المواطن العالمً وؼٌرها‪.‬‬

‫وكما نبَّهنا الدكتور جبلل أمٌن فً كتابه "قصة االقتصاد المصري من عهد محمد علً إلى عهد‬
‫مبارك"‪ ،‬فإنه لنفهم ما ٌجري فً مصر ٌجب أن نوسع نظرتنا لما ٌجري فً العالم‪ ،‬ولنفهم محنة مصر ٌلزم‬
‫فهم دورة رأس المال فً العالم‪ ،‬ومن ٌدفع مصر إلى "االنفتاح االقتصادي" وٌهٌل على أرضها الجالٌات‬
‫األجنبٌة لؽرؾ خٌراتها(ٕ)‪.‬‬

‫والنبش وراء ظهور هذه التنظٌمات السوداء فً العالم‪ -‬وهو ما اجتهدت فٌه مشكورة أجٌال قبلنا‪ -‬وكٌفٌة‬
‫ؼزوها مصر‪ ،‬ربما ٌكشؾ لنا إجابات عزٌزة عن أسبلة حٌرتنا وعذبتنا أجٌال ورا أجٌال حول سبب انتشار‬
‫اإلرهاب‪ ،‬وظهور جماعات فً مصر تتفاخر بخٌانة بلدها ومعاداة المإسسات الوطنٌة‪ ،‬وسبب الدعوة‬
‫اللحوحة إلزالة الحدود الجؽرافٌة‪ ،‬وتجنٌس األجانب‪ ،‬وسبب استمرار عقدة الخواجة وتحقٌر الذات‬
‫المصرٌة الشرٌفة‪ ،‬وظهور المنظمات الحقوقٌة‪ ،‬وانجراؾ مصرٌٌن للؽربة برة‪ ،‬ومسح مبلمح الباقً من‬
‫هوٌة مصر ببل هوادة‪ ،‬وسبب كعبلة مصر وجرها للوراء كلما انتصرت فً ثورة أو حرب وعلت برأسها‬

‫(ٕ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬قصة االقتصاد المصري من عهد محمد علً إلى عهد مبارك‪ ،‬د‪ .‬جبلل أمٌن‪ ،‬دار الشروق‪ ، ،‬القاهرة‪ ،ٕٕٓٔ ،‬ص ٕٔ‪ٕٖ -‬‬

‫‪ٗ89‬‬
‫كزهرة اللوتس من قاع المحٌط األزلً إلى السما من جدٌد‪.‬‬

‫كذلك ربما نجد السبب وراء شكوانا من أن "النخبة"‪ -‬وخاصة اآلن‪ -‬معظمها ال تعبر عنا‪ ،‬وتقودنا‬
‫للمهالك‪ ،‬وتمسح عٌوبها بكل وقاحة فً المصرٌٌن‪ ،‬حتى ظهر بعد فوضى ٕٔٔٓ تعبٌر "نخبة النكبة"‪.‬‬

‫وما سبق ٌلزمه عرض نبذة مختصرة عن مصنع هذه التنظٌمات والتٌارات العالمٌة‪ ،‬ومصنع االحتبلالت‬
‫والحروب األهلٌة والعالمٌة‪ ،‬منجم الشر‪ ،‬المتحكم األول فً االقتصاد والرأي العام العالمً‪ ،‬العاشق األول‬
‫لسفك الدم‪ ،‬الكاره األول للحضارات‪ ،‬وخاصة حضارة مصر (كلمة الحق)‪ ،‬صاحب سٌاسة "الهرم‬
‫المقلوب" وهو ما سمته الكتب األوروبٌة واألمرٌكٌة فً الـ ٕٓٓ سنة الماضٌة بـ"تنظٌم النورانٌٌن"‪،‬‬
‫وكشؾ بعض أسراره أعضاء سابقون فٌه‪ ،‬ومحققو أجهزة مخابرات فً جرابمه‪ ،‬وباحثون منقبون فً‬
‫التارٌخ‪.‬‬

‫▼▼▼ البداٌة‪ ..‬خطٌبة إبلٌس فً الجنة‬

‫"ألن أٌدٌكم قد تنجست بالدم‪ ،‬وأصابعكم باإلثم‪ .‬شفاهكم تكلمت بالكذب‪ ،‬ولسانكم ٌلهج بالشر‪ .‬لٌس من‬
‫ٌدعو بالعدل‪ ،‬ولٌس من ٌحاكم بالحق‪ٌ .‬تكلون على الباطل‪ ،‬وٌتكلمون بالكذب‪ .‬قد حبلوا بتعب‪ ،‬وولدوا إثما‪.‬‬
‫فقسوا بٌض أفعى‪ ،‬ونسجوا خٌوط العنكبوت‪ .‬اآلكل من بٌضهم ٌموت‪ ،‬والتً تكسر تخرج أفعى‪ .‬خٌوطهم ال‬
‫تصٌر ثوبا وال ٌكتسون بؤعمالهم‪ .‬أعمالهم أعمال إثم‪ ،‬وفعل الظلم فً أٌدٌهم‪ .‬أرجلهم إلى الشر تجري‪،‬‬
‫وتسرع إلى سفك الدم الزكً‪ .‬أفكارهم أفكار إثم‪ .‬فً طرقهم اؼتصاب وسحق‪ .‬طرٌق السبلم لم ٌعرفوه‪،‬‬
‫ولٌس فً مسالكهم عدل‪ .‬جعلوا ألنفسهم سببل معوجة‪ .‬كل من ٌسٌر فٌها ال ٌعرؾ سبلما"‪( .‬سفر إشعٌا‪-‬‬
‫اإلصحاح ‪.)٘9‬‬

‫أشد ما ٌصدق هذا الكبلم على التنظٌمات التً انتشرت فً العالم خبلل الـ ٕٓٓ سنة الماضٌة‪،‬‬
‫وشعاراتها‪( :‬ال دٌن‪ ،‬ال وطن‪ ،‬ال دولة‪ ،‬ال أخبلق‪ ،‬ال عابلة‪ ،‬ال سبلم‪ ،‬ال طاعة ألحد‪ ...‬إال إلبلٌس)‪.‬‬

‫ٌقول ضابط المخابرات الكندي ولٌام جاي كار الذي خدم فً سبلح البحرٌة والمخابرات مع دول الحلفاء‬
‫فً الحربٌن العالمٌتٌن األولى والثانٌة فً كتابه المشهود "أحجار على رقعة الشطرنج" الصادر سنة ‪ٔ9٘8‬‬
‫وأحدث دوٌا ما زالت أصداإه ترن حتى اآلن‪" :‬شرعت فً العمل منذ عام ٔٔ‪ ٔ9‬مستهدفا الوصول إلى‬
‫كنه السر الخفً الذي ٌمنع الجنس البشري من أن ٌعٌش بسبلم وٌنعم راؼدا بالخٌرات الوثٌرة التً منحها‬
‫هللا لنا‪ ،‬ولم استطع النفاذ إلى قلب هذا السر أخٌرا حتى عام ٓ٘‪ ،ٔ9‬فعرفت أن الحروب والثورات التً‬
‫تعصؾ بحٌاتنا‪ ،‬والفوضى التً تسٌطر على عالمنا لٌست جمٌعا‪ -‬دونما أي سبب آخر‪ -‬سوى نتاج مإامرة‬
‫شٌطانٌة مستمرة"‪.‬‬

‫وٌعٌد جذور هذه المإامرة إلى الصراع بٌن الخٌر والشر الذي نشؤت على أساسه الدنٌا لما أعجب إبلٌس‬
‫بنفسه ؼاٌة اإلعجاب بعد أن منحه هللا سلطانا فوق المخلوقات‪ ،‬وجعله أجملهم وأذكاهم‪ ،‬فؤحس أنه "مالوش‬
‫كبٌر"‪ ،‬حتى أنه لما أمره هللا أن ٌسجد آلدم رفض‪ ،‬مندهشا كٌؾ ٌكون آدم كبٌرا علٌه ولو بؤمر إلهً‪ٌ ،‬عنً‬

‫ٓ‪ٗ9‬‬
‫رفض أن ٌكون هللا نفسه كبٌرا علٌه؛ فتحداه‪ ،‬وأعلن بوقاحة أنه سٌثبت هلل أنه "أخطؤ" فً خلق آدم وفً ثقته‬
‫فٌه‪ ،‬وأن بنً آدم لن ٌكونوا إال عصاة له‪ ،‬وسٌعبدون فً النهاٌة آلهة أخرى ؼٌر هللا‪ ،‬وسٌنتهً الزمان بؤال‬
‫ٌكون بٌنهم مإمنٌن إال قلٌبل‪ ،‬فقبل هللا التحدي‪ ،‬وتحدد مٌعاد إعبلن النتٌجة بٌوم القٌامة‪ ،‬ومن ٌومها‬
‫والشٌطان ٌكد بكل نشاط وتركٌز فً تضلٌل البشر عن الحق‪ ،‬وباعتباره "أول المتمردٌن على الحق"‪،‬‬
‫فسبلحه فً هذا تهٌٌج التمرد فً النفوس ضد كل حق وكبٌر‪ ،‬تهٌٌج األجٌال على بعضها‪ ،‬والشعوب على‬
‫أوطانها‪ ،‬والشعوب على حكامها المخلصٌن ؼٌر التابعٌن لدول وتنظٌمات عالمٌة‪ ،‬وتهٌٌج البشر على هللا‬
‫واألخبلق الحسنة‪ ،‬وتهٌٌج الببلد ضد بعضها بزرع مطامع الؽزو واالحتبلل لنهب خٌراتها؛ فتستمر‬
‫الحروب والمذابح وٌكفر وٌفسد الناس من كثرة المعاناة‪.‬‬

‫وبدأ بآدم نفسه وحواء‪ ،‬فاهلل تعالى وهبهما الجنة بحالها‪ٌ ،‬جرون وٌمرحون وٌتمتعون فٌها "براحتهم"‪ ،‬ال‬
‫تعب وال خوؾ وال موت‪ ،‬فقط أمرهما أن ٌتركا شجرة واحدة ال ٌمساها‪ ،‬شجرة واحدة من كل أشجار الجنة‬
‫الباسقة‪ ،‬فتسحب الشٌطان كاألفعى وؼذى فٌهما الطمع والتمرد على أوامر هللا‪ ،‬ووسوس لهما بؤن هللا منعها‬
‫عنهما ألن فٌها خٌر كبٌر‪ ،‬فتمردا على أوامر اإلله الحق (كبٌرهم)‪ ،‬ورضخا للشٌطان وأكبل منها‪ ،‬فعاقبهما‬
‫هللا بتنزٌلهما للدنٌا الشقٌة‪ ،‬وكان هذا أول نصر للشٌطان على آدم‪ ،‬بسبلح تهٌٌج التمرد على الحق (هللا)‪،‬‬
‫وجهز نفسه لل مهمة األكبر وهً تضلٌل بقٌة نسله بؤن ٌؽذي فٌهم أٌضا فكرة أن اإلنسان الحر هو "اللً‬
‫مالوش كبٌر" فً عابلة أو وطن أو دٌن‪ ،‬وٌؽذي شعور التمرد هذا بزؼزؼة عطش كل إنسان ألن ال ٌخضع‬
‫ألي حساب فً الدنٌا واآلخرة‪ ،‬فهم حٌن ٌحطمون كل كبٌر وكل األصول فسٌنجون من كل حساب وعقاب‪،‬‬
‫فعبلم سٌُحاسبون إن لم ٌكن هناك أصول معروفة بٌن الناس؟ ومن سٌحاسبهم إن كان ال ٌوجد إله‪ ،‬أو أن‬
‫الناس ال ٌتفقون على كبٌر فً عابلة أو وطن أو دٌن؟‬

‫♦♦♦ التسابق على آخر الزمان‬

‫ولكن ماذا ٌفعل إبلٌس لتنفٌذه وعده وتحدٌه هلل الوارد فً اإلنجٌل والقرآن بؤنه سٌضل أبناء آدم‪ ،‬هل‬
‫سٌكتفً بالوسوسة لهم فً آذانهم من طرؾ خفً؟‬

‫أم سٌسعى لتجنٌد أشخاص منهم ٌعبدونه من دون هللا‪ ،‬وٌنشؤون المنظمات والمحافل التً تنشر أفكاره‬
‫الخبٌثة ضد هللا واألوطان واألخبلق والفطرة اإللهٌة فً كل شًء‪ ،‬وتؤخذ أسامً براقة تجذب المبلٌٌن‬
‫إلٌها‪ ،‬شاطرة فً الدعاٌة‪ ،‬تقدم الحق على أنه الباطل والباطل على أنه الحق (وظٌفة المسٌخ الدجال)‪،‬‬
‫فٌنفذون أجندة الشٌطان‪ ،‬حتى دون علمهم بؤنه قابع لهم ورا الستارة؟‬

‫ورد فً القرآن‪ :‬إذ قال ربك للمبلبكة إنً خالق بشرا من طٌن (ٔ‪ )9‬فإذا سوٌته ونفخت فٌه من روحً‬
‫فقعوا له ساجدٌن (ٕ‪ )9‬فسجد المبلبكة كلهم أجمعون (ٖ‪ )9‬إال إبلٌس استكبر وكان من الكافرٌن (ٗ‪ )9‬قال‬
‫ٌا إبلٌس ما منعك أن تسجد لما خلقت بٌدي أستكبرت أم كنت من العالٌن (٘‪ )9‬قال أنا خٌر منه خلقتنً من‬
‫نار وخلقته من طٌن (‪ )9ٙ‬قال فاخرج منها فإنك رجٌم (‪ )99‬وإن علٌك لعنتً إلى ٌوم الدٌن (‪ )98‬قال‬
‫رب فؤنظرنً إلى ٌوم ٌبعثون (‪ )99‬قال فإنك من المنظرٌن (ٓ‪ )8‬إلى ٌوم الوقت المعلوم (ٔ‪ )8‬قال‬
‫فبعزتك ألؼوٌنهم أجمعٌن (ٕ‪ )8‬إال عبادك منهم المخلصٌن (ٖ‪ )8‬قال فالحق والحق أقول (ٗ‪ )8‬ألمؤلن‬

‫ٔ‪ٗ9‬‬
‫جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعٌن (٘‪( ..)8‬سورة الحجر)‬

‫ٌقول ولٌام جً كار إن الكتب المقدسة "أخبرتنا كٌؾ انتقلت المإامرة الشٌطانٌة من جنات عدن إلى‬
‫عالمنا األرضً‪ .‬وكانت الحقابق والبدٌهٌات المتناثرة التً عثرت علٌها فً كل أرجاء العالم متقطعة‬
‫الحلقات ال ٌمكن تنسٌقها‪ ،‬واستمر ذلك حتى وصلت إلى الحقٌقة‪ ،‬وأدركت أن معركتنا لٌست مع مخلوقات‬
‫عادٌة من لحم ودم‪ ،‬بل مع القوى الروحٌة والفكرٌة التً تعمل فً الظبلم‪ ،‬وتسٌطر على معظم هإالء الذٌن‬
‫ٌشؽلون المراكز العلٌا فً العالم بؤسره‪.‬‬

‫إن وجود آدم فً األرض حقٌقة‪ ،‬كذلك وجود الشٌطان (المسٌخ الدجال) حقٌقة‪ ،‬أحدهما ظاهر‪ ،‬واآلخر‬
‫خفً‪ ،‬وكما آلدم معابده وكتبه المقدسة وذرٌة‪ ،‬كذلك للشٌطان معابده وكتبه وأتباع "إنه ٌراكم وقبٌله من‬
‫حٌث ال ترونهم" (سورة األعراؾ‪ ،‬اآلٌة ‪)ٕ9‬‬

‫وٌنبه جً كار‪" :‬إن الكتاب المقدس ٌذكر لنا‪ -‬وهذا ما ٌنساه معظمنا‪ -‬أن الشٌطان كان من أكبر سكان‬
‫الفردوس ذكاء ودهاء ومقدرة‪ ،‬وأن روحه باقٌة لم تفن‪ ،‬وكٌؾ خرج وأتباعه على قواعد الدستور اإللهً‬
‫(‪ )...‬ولٌست التوارة فً الواقع سوى قصة الشٌطان حٌن أصبح سٌد العالم‪ ،‬وجعل أجدادنا األولٌن ٌحٌدون‬
‫عن جانب الحق؛ فتؤسس كنٌس الشٌطان على األرض‪ ،‬ثم تخبرنا التوراة كٌؾ شرع هذا الكنٌس منذبذ فً‬
‫التآمر لمحاربة الدستور اإللهً"(ٖ)‪.‬‬

‫وفً رأي جً كار فإن المسٌح بُعث فً الوقت الذي بلؽت فٌه المإامرة مرحلة أصبح الشٌطان فٌها‬
‫المسٌطر على كل هإالء الذٌن ٌشؽلون المراكز العلٌا فً العالم‪ ...‬ففضح المسٌح كنٌس الشٌطان وهاجم‬
‫أتباع الكنٌس مسمٌا إٌاهم (أبناء الشٌطان)‪ ،‬وأن المسٌح أخبرنا فً اإلنجٌل بؤنهم َمن "ٌقولون إنهم ٌهود‪...‬‬
‫ولٌسوا ٌهودا‪...‬بل ٌكذبون" (سفر رإٌا ٕ‪ 9:‬وٖ‪.)9:‬‬

‫وقال المسٌح للٌهود‪" :‬أنتم من أب هو إبلٌس‪ ،‬وشهوات أبٌكم ترٌدون أن تعملوا‪ .‬ذاك كان ق َّتاال للناس من‬
‫البدء‪ ،‬ولم ٌَثبُت فً الحق ألنه لٌس فٌه حق‪ .‬متى تكلم بالكذب فإنما ٌتكلم مما له‪ ،‬ألنه كذاب وأبو‬
‫الكذاب"‪(.‬إنجٌل ٌوحنا ‪)ٗٗ :8‬‬

‫أي أن الشٌطان وأتباعه مهمتهم نشر القتل والحروب وتزوٌر الحقابق إلرهاب وتضلٌل الناس‪ ،‬لكنهم‬
‫على قدر ما ٌبدون من قوة فهم ضعاؾ‪ٌ ،‬ظهر ضعفهم عند ظهور الحق‪ ..‬وصاحب الحق‪.‬‬

‫واعتبر جً كار أن المسٌح قدم للناس الخبلص من حبابل الشٌطان بؤن ٌكشفوا مإامرته لكل الناس؛ ألن‬
‫معرفة الحقٌقة ستحررنا من ربقة المإامرة‪ ،‬ولكن لما أهمل الصالحون القٌام بهذا الواجب استمرت‬
‫المإامرة‪ ،‬وأخذت الفرصة لتتطور بحسب تطورات العصور‪ ،‬وهً اآلن تدخل مرحلتها قبل النهابٌة(ٗ)‪.‬‬

‫(ٖ)‬
‫‪ -‬انظر أحجار على رقعة الشطرنج‪ ،‬ولٌم جاي كار‪ ،‬ترجمة سعٌد جزابرلً‪ ،‬دار النفابس‪ ،‬ط ٔ‪ ،ٔ99ٓ ،‬ص ‪8-9‬‬
‫(ٗ)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪9 -8‬‬

‫ٕ‪ٗ9‬‬
‫أي أنه طالما الناس واعٌة لمإامرة إبلٌس وأتباعه الداعٌن لوضع نظام عالمً ٌخالؾ الفطرة السلٌمة‪،‬‬
‫فإنهم سٌكونون بمؤمن عنها‪ ،‬ألنهم لن ٌقعوا فً حبابل دعاة الفتن والفجور‪ ،‬سٌكتشفونهم بسرعة مهما تخفوا‬
‫فً أشكال حدٌثة‪ ،‬أما الؽفلة عنها ستمكن أعدابهم من النفاذ إلى عقولهم والسٌطرة علٌها بسهولة‪.‬‬

‫▲▲▲ موقع مصر فً السباق‬

‫وهذا الوصؾ المستخلص من الكتب المقدسة ٌعنً أن الشر‪ -‬كالخٌر‪ -‬ال نهاٌة له‪ ،‬وهو نفس الفكر‬
‫المصري القدٌم ألساس الحٌاة الدنٌا‪ ،‬فاآلثار تخبرنا بؤن العقٌدة المصرٌة تقوم على أننا فً معركة خٌر‬
‫وشر‪ ،‬تؤخذ مصر فٌها جانب الخٌر‪ ،‬وتمسك بالسبلح فً وجه الشر‪ ،‬والفنان المصري ٌصور مناظر‬
‫الصراع بٌن الخٌر (المصرٌٌن) وبٌن الشر (الثعبان المسمى عبَّ ‪ ،‬أو سٌد قشطة‪ ،‬فكبلهما رمز الشر‬
‫عنده)‪ ،‬وتنتهً بؤن المصري ٌطعن بسبلحه رمز الشر‪ ،‬فٌشل حركته وٌكسر سمه لٌعجز عن كسر اإلنسان‪،‬‬
‫لكن لم ٌصوره على أنه مات نهابٌا‪ ،‬ألن المصري بفطرته ٌعرؾ أن الشر سٌظل قابما مدامت الحٌاة‪ ،‬ألن‬
‫الحٌاة على األرض فً األساس قابمة على تحدي الخٌر والشر‪ ،‬ووظٌفة الخٌر شل حركة الشر وتعجٌزه‬
‫لٌنجً نفسه منه حتى إعبلن انتصار كلمة هللا وعباده فوق كلمة الشٌطان‪.‬‬

‫وهو أمر مستوحى من قصة حور وسٌت‪ ،‬فـ حور انتصر على سٌت‪ ،‬وكسره‪ ،‬لكن سٌت لم ٌمت‪،‬‬
‫فسٌظهر مرة أخرى فً شكل رجل فاسد أو احتبلل وؼزاة أو فتنة؛ فٌفوز فً معركة ضد الخٌر حور؛‬
‫فٌشحذ الخٌر أسلحته من جدٌد‪ ،‬وهً‪ :‬الحق (ماعت) ووحدانٌة الشعب المصري والٌقظة والقوة‪ ،‬وٌنتصر‬
‫من جدٌد‪ ،‬وهكذا‪ ..‬حتى الٌوم الموعود(٘)‪.‬‬

‫والمهم أن الخٌر ٌنتصر فً النهاٌة فً العقٌدة المصرٌة‪ ،‬هكذا نرى أن رع فً صورة الشمس وهو ٌسبح‬
‫بمركبته فً السماء ٌقضً اللٌل ٌعافر وٌتعارك مع عبّ (الثعبان رمز الفوضى وإزفت ومعروؾ فً الكتب‬
‫األثرٌة بالنطق الٌونانً أبو فٌس)‪ ،‬ألن عبَّ ٌرٌد أن ٌقلب المركب "ٌعطل المراكب الساٌرة" وٌمنع رع من‬
‫أن ٌصل إلى الشرق وتشرق الشمس من جدٌد وتعٌد النور للناس بعد الظبلم (الحق بعد الباطل)‪ ،‬لكن فً‬
‫نهاٌة المعارك ٌنتصر رع وٌعود النور وٌختفً الظبلم‪.‬‬

‫(٘)‪ -‬عن قصة حور وست أنظر‪ :‬تطور المثل العلٌا فً مصر القدٌمة‪ ،‬محمد علً سعد هللا‪ ،‬مإسسة شباب الجامعة للطباعة والنشر‪ ،‬ص ‪ٖٔٔ -99‬‬

‫ٖ‪ٗ9‬‬
‫حور برأس الصقر مرتدٌا تاج مصر وهو ٌطعن بالحربة سٌد قشطة "أحد رموز الشر" (معبد إدفو) وحارس مصري ٌمسك الحربة استعدادا لطعن‬
‫الثعبان عبَّ "أبو فٌس" رمز الشر وإزفت الذي ٌرٌد منع شروق الشمس كل ٌوم (مقبرة رمسٌس األول)‬

‫ولذا فلٌس بعجب أن مصر هً "كلمة الحق المجسدة فً وطن" على األرض‪.‬‬

‫لٌس فقط فً قٌم الخٌر المؤلوفة التً تتبناها‪ ،‬وفً أنها أول شعب تخلص من الهمجٌة المسلحة والفرقة‬
‫القبلٌة وٌسلم سبلحه وإدارته إلى جهة واحدة (الحكومة) ونظام واحد (ماعت) لٌإسس الدولة المتحضرة‪،‬‬
‫لكن فً أنها ربما الحضارة الوحٌدة التً نجت من الطمع الشٌطانً فً شجرة ؼٌرها‪ ،‬وال ترٌد أن تعطل‬
‫مراكب ؼٌرها مدامت ال تضرها‪ ،‬بمعنى أنها رفعت من بدء وجودها كدولة مبدأ "نسالم من ٌسالمنا ونعادي‬
‫من ٌعادٌنا"‪ ،‬فلم تخرج من حدودها إال لترد من سبق واعتدى علٌها‪ ،‬ولم تفتح بلدانا أو تحتلها إال ردا على‬
‫قدوم احتبلل إلى مصر من جوؾ هذه الببلد‪ ،‬كما حصل باحتبلل الشام والسودان ردا على تحالفهما فً‬
‫االحتبلل الهكسوسً ضد مصر‪.‬‬

‫وال ٌخص مصر قٌام من احتلوها مثل الٌونانٌٌن والرومان والعرب والممالٌك ومحمد علً باالعتداء‬
‫على من لم ٌعت ِد علٌهم‪ ،‬فلم تكن مصر هً التً تحكم من األساس‪ ،‬بل هً نفسها كانت محتلة منهم‪.‬‬

‫وكونت‬
‫وبهذا فإن مصر‪/‬ماعت من البداٌة (حٌن أقامت دولة وطنٌة لها حدود ثابتة وبحكم مركزي‪َّ ،‬‬
‫شعبا وحدانٌا بهوٌة خاصة تحمٌه من التمزق‪ ،‬وشبعان بما فً أرضه‪ ،‬أخذت جانب الخٌر ضد الشر‪ ،‬رفعت‬
‫مبدأ نسالم من ٌسالمنا ونعادي من ٌعادٌنا) فهً بذلك تهدد األسس التً ٌعتمد علٌها الشٌطان وأتباعه لتضلٌل‬
‫الشعوب وفرض سٌطرته على العالم باسم "العالمٌة‪/‬العولمة"‪.‬‬

‫ووفق ما ٌردد حزب الشٌطان الٌوم بعد أن كشفوا وجوههم‪ ،‬فإن مهتهم تحقٌق أن "الشٌطان هو الذي‬
‫سٌحرز النصر على هللا فً آخر الزمان" كما ورد فً الوصاٌا العشر فً كتاب "اإلنجٌل األسود" ألنطونً‬
‫لٌفً الذي أعلن صراحة ما وصفها بعبادة الشٌطان فً الوالٌات المتحدة سنة ‪ ،ٔ9ٙٙ‬وأنشؤ لها كنٌسا(‪.)ٙ‬‬

‫(‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬عبادة الشٌطان وسلطان القدٌسٌن‪ ،‬حلمً القمص ٌعقوب‪ ،‬كنٌسة القدٌسٌن مارمرقس الرسول‪ ،‬اإلسكندرٌة‪ ،‬ص ‪88‬‬

‫ٗ‪ٗ9‬‬
‫وما حركة الثورة العالمٌة المتجددة ضد كل األصول الربانٌة (العابلة والوطن والدٌن واألخبلق والحٌاء‬
‫إلخ)‪ ،‬أو بالمصري "الماعت"‪ ،‬إال تنفٌذ لما سماها جاي كار بعد جولته فً الوثابق الخاصة بالتنظٌمات‬
‫العالمٌة بـ"ثورة الشٌطان" على هللا‪ ،‬وهً بالمصري "الزفتة"‪ ،‬أي الفوضى‪.‬‬

‫▼▼▼ تنظٌم النارٌٌن (النجمة السداسٌة)‬

‫وٌحكً "جً كار" بداٌة العثور على أدلة مكتوبة عن المإامرة تثبت دورها فً الثورات األوروبٌة ما‬
‫بٌن القرنٌن ‪ ،ٕٓ-ٔ9‬ثم الحروب العالمٌة‪ ،‬وصوال إلى تؤسٌس األمم المتحدة‪ ،‬رأس الشٌطان‪ ،‬نقبل عن كتب‬
‫نشرها أعضاء سابقون فً تنظٌم ٌدعى "النورانٌٌن" أو "المتنورٌن" ‪ Illuminati‬ففً ٗ‪" ٔ98‬ضربت ٌد‬
‫هللا ضربتها"‪ ،‬وعثرت الحكومة البافارٌة (مملكة أوروبٌة تحولت إلى مقاطعة حالٌا فً ألمانٌا) على أوراق‬
‫بحوزة شخص كان ٌعبر بجواده الحدود من ألمانٌا إلى فرنسا مرسلة من آدم واٌزهاوبت إلى أعضاء محفل‬
‫الشرق األكبر‪ ،‬وهو اسم المحفل الماسونً األشهر فً فرنسا وقتها‪ ،‬تتضمن خطة إشعال الثورة الفرنسٌة‬
‫وتمكٌن النورانٌٌن من حكم فرنسا تحت شعار "التنوٌر"‪.‬‬

‫والنورانٌون‪ ،‬وفً قول آخر التنوٌرٌون‪ ،‬اسم مؤخوذ من "حامل النور" وهو من ألقاب الشٌطان عندهم‪،‬‬
‫وٌشٌعون أنهم هم حملة النور والتحضر للعالم‪ ،‬وأن رسالتهم التنوٌر ونشر الحداثة(‪ ،)9‬وسٌرا على نظام‬
‫الكتاب فً تسمٌة األسماء بمسٌاتها‪ ،‬وبما أن الشٌطان تفاخر أمام هللا بؤنه مخلوق من نار قبل أن ٌخدع‬
‫البشر بؤنه هو "رب النور"‪ ،‬فإن الكتاب سٌسمً هإالء باسم "النارٌون"‪ ،‬ولٌس "النورانٌون" المضللة‬
‫والتً تحجب حقٌقتهم كعادة وأسلوب المسٌخ الدجال منذ القدم‪.‬‬

‫وواٌزهاوبت عمل أستاذا لبلهوت فً جامعة أنجولد شتات بؤلمانٌا‪ ،‬ولكنه ارتد عن المسٌحٌة لٌعتنق‬
‫المذهب الشٌطانً "الناري"‪ ،‬وفً عام ٓ‪ ٔ99‬استؤجره المرابون الذٌن أسسوا فٌما بعد مإسسة روتشٌلد‪،‬‬
‫إحدى أشهر بٌوت المال العالمٌة‪ ،‬لمراجعة وتنظٌم بنود الخطة التً ٌسٌر علٌها أتباع الشٌطان منذ العصور‬
‫القدٌمة‪ ،‬وٌدفعون بها الشعوب إلى الحروب والرذابل والفتن الكبرى‪ ،‬لكً ٌح ِّدثها وفقا لتطور الظروؾ‬
‫السٌاسٌة فً العالم خبلل القرن ‪ ،ٔ8‬وأتم عمله فً ٔ ماٌو عام ‪ ٔ99ٙ‬الذي اتخذه الشٌوعٌون‪ -‬أحد فروع‬
‫تنظٌم النارٌٌن‪ -‬فٌما بعد عٌدا لهم تحت اسم عٌد العمال(‪.)8‬‬

‫وكان الروم الكاثولٌك ٌحتفلون فً ٔ ماٌو منذ قرون بعٌد أم المسٌح‪ ،‬ولهذا اختاره واٌزهاوبت‪ ،‬وهو‬
‫ٌسوعً مرتد‪ ،‬لٌعلن فٌه لرفاقه من عبدة الشٌطان عن خطته المعدلة لتدمٌر المسٌحٌة وإحداث ما أسماه‬
‫نٌتشه فٌما بعد "موت الرب"(‪ ،)9‬فٌكون تحول من ٌوم لتمجٌد المسٌح إلى ٌوم االحتفال بخطة "تدمٌره"‪.‬‬

‫(‪)9‬‬
‫‪ -‬أنظر‪ :‬الشٌطان أمٌر العالم‪ ،‬ولٌم جاي كار‪ ،‬ترجمة عماد إبراهٌم‪ ،‬األهلٌة للنشر والتوزٌع‪ ،‬األردن‪ ،ٕٓٔٗ ،‬ص ٖٓ‬
‫(‪)8‬‬
‫‪ -‬أحجار على رقعة الشطرنج‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔٔ‬
‫(‪)9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٔ‪ٔ9‬‬
‫*** الٌسوعٌون‪ ،‬رهبنة أو منظمة تابعة لكنٌسة روما الكاثولٌكٌة "الفاتٌكان"‪ ،‬نشؤت فً القرن ‪ ،ٔٙ‬واهتمت باالنتشار فً العالم عبر إنشاء‬
‫المدارس والجمعٌات الخٌرٌة والمستشفٌات والجامعات‪ ،‬كجامعة جورج تاون بؤمرٌكا وجامعة القدٌس ٌوسؾ ببٌروت‪ ،‬ومزجوا بٌن التعلٌم الدٌنً‬
‫والدنٌوي الحدٌث والفنون فبهروا الناس‪ ،‬ونقلوا المسٌحٌة إلى األمرٌكتٌن والصٌن‪.‬‬

‫٘‪ٗ9‬‬
‫ووفق نفس الدراسة فإن "النورانٌة تمارس داخل نظام الٌسوعٌة تحت اسم الكمالٌة"‪ ،‬بمعنى محاولة‬
‫الوصول لئلنسان إلى الكمال‪ ،‬فتخطؾ هذه األسماء وشعاراتها البراقة األبصار‪ ،‬وتوقع الشخصٌات‬
‫المستهدفة فً حبابلها‪ ،‬وهناك مثل مؤثور ٌقول "إن الطرٌق إلى جهنم ممهد بالنواٌا الحسنة(ٓٔ)"‪.‬‬

‫وقال واٌزهاوبت فً رسالة إلى أحد رفاقه اسمه الحركً ""كاتو" سنة ‪" :" ٔ998‬بواسطة هذه الخطة‬
‫سنقوم بإدارة كل الجنس البشري‪ ،‬وبهذه الطرٌقة وبؤبسط الوسابل سنجعل الجمٌع فً حركة وهٌاج (‪ )...‬لقد‬
‫أخذت باالعتبار كل شًء إلى درجة أنه إذا انهار النظام الٌوم سؤعٌد إنشاءه فً سنة لٌعود أروع من أي‬
‫وقت مضى(ٔٔ)"‪.‬‬

‫ولخص واٌزهاوبت وسابل حركة الثورة العالمٌة للوصول إلى الدمار الشامل للبشر‪ ،‬بحٌث ال ٌبقى إال‬
‫نخبة الشٌطان واألتباع المستسلمٌن لها لٌعلن بهم "انتصاره" على هللا فً ‪ ٙ‬نقاط‪:‬‬

‫ٔ‪ -‬إلؽاء جمٌع الحكومات الوطنٌة (أي التً لٌس لها جذور ووالءات خارجٌة)‬

‫ٕ‪ -‬إلؽاء اإلرث‬

‫ٖ‪ -‬إلؽاء الملكٌة الخاصة بصورة مطلقة‬

‫ٗ‪ -‬إلؽاء الشعور القومً والوطنً‬

‫٘‪ -‬إلؽاء المسكن العابلً والحٌاة العابلٌة اللً قامت علٌها الحضارة‬
‫(ٕٔ)‬
‫‪ -ٙ‬إلؽاء جمٌع األدٌان تمهٌدا إلحبلل األٌدٌولوجٌة النورانٌة (النارٌة الشٌطانٌة) محلها بالقوة‬

‫واعتمد واٌزهاوبت النجمة السداسٌة شعارا للنارٌٌن‪ ،‬لٌس ألنها نجمة داود‪ ،‬ولكن ألن برنامجه هذا الذي‬
‫ٌتؤلؾ من النقاط الستة‪.‬‬

‫▼▼▼ احتالل القلوب والوجدان‪ ..‬والنخبة‬

‫وعن سٌطرة "النارٌٌن" على تشكٌل وعً ووجدان الشعوب جاء فً رسالة واٌزهابت إلى رفٌق آخر له‬

‫وتكاد تكون أول تنظٌم دولً ٌتبع سٌاسة االنتشار من بوابة العمل الخٌري والمدارس والجامعات والخالٌا الثقافٌة والفنٌة‪ ،‬وٌكون له أذرع‬
‫وإمبراطورٌة اقتصادٌة فً كل قارات العالم‪ ،‬وتخرٌج شخصٌات ٌكون لها التؤثٌر فً الرأي العام فً بالدها‪ ،‬ما أثار حولها الكثٌر من التساإالت‬
‫حول أهدافها الحقٌقٌة‪.‬‬
‫ورسالة الٌسوعٌة األساسٌة إخضاع بقٌة المذاهب والكنابس فً العالم‪ -‬بما فٌهم الكنٌسة المصرٌة‪ -‬إلى كنٌسة روما‪ ،‬أو ما تسمٌه "االتحاد"‪ ،‬كما‬
‫لها اهتمام خاص بدعم األجانب والالجبٌن فً أي بلد‪ ،‬وخصصت لهم "الهٌبة الٌسوعٌة لخدمة االجبٌن"؛ ما ٌربط انتماءاتهم بؤهدافها فً تؽٌٌر‬
‫هوٌة الشعوب والسٌطرة علٌها بربطها بالفاتٌكان أو بتسلٌمها لألجانب المستوطنٌن‪.‬‬
‫وٌتصؾ أعضاء التنظٌم بالطاعة الشدٌدة ل قادتهم‪ ،‬وأول مرة ٌصل أحد من أعضابها إلى بابوٌة روما هو البابا الحالً فرنسٌس سنة ٖٕٔٓ‪ ،‬وعلى‬
‫مثلها ستتكون تنظٌمات كالفرنسٌسكان واإلخوان المسلمٌن وؼٌرها‪.‬‬
‫(ٓٔ)‬
‫‪ -‬الشٌطان أمٌر العالم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓٗٔ‬
‫(ٔٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٘‪ٔ9‬‬
‫(ٕٔ)‬
‫‪ -‬أحجار على رقعة الشطرنج‪ ،‬ولٌام جً كار‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ٘‪ٕٙ -‬‬

‫‪ٗ9ٙ‬‬
‫اسمه "فٌلو"‪ٌ" :‬جب أن نكتسب سٌطرة على عامة الناس فً كل مكان‪ ،‬وذلك عن طرٌق المدارس‪،‬‬
‫وبطرٌقة مشابهة ٌجب أن نحاول أن نكسب األكادٌمٌات العسكرٌة ودور النشر وباعة الكتب والمتجر‬
‫ورجال الكنٌسة ونإثر علٌها‪ ،‬وباختصار فً كل المواقع‪ ،‬وحتى فً توجٌه عقل اإلنسان ٌعتبر الرسم‬
‫والنحت جدٌران باهتمامنا(ٖٔ)"‪ ،‬أي كل ما ٌقع فً داٌرة اإلعبلم والتعلٌم والفن وما ٌإثر فً الرأي العام‪.‬‬

‫ولم ٌتضح ماذا كانت البنود القدٌمة فً الخطة قبل أن ٌحدثها واٌزهاوبت التً جرى تسرٌبها وسمٌت‬
‫الحقا ببروتوكوالت صهٌون أو البروتوكوالت الٌهودٌة‪ ،‬ولكن جً كار ٌفضل وصفها ببروتوكوالت أو‬
‫خطة الشٌطان‪ ،‬ألن الصهٌونٌة والٌهود الحقٌن لها‪ ،‬وهم مجرد أدوات مستحدثة‪.‬‬

‫وتقوم الخطة المعدلة على أن مهمة الحركات المتفرعة من تنظٌم "النارٌٌن" هً تدمٌر جمٌع الحكومات‬
‫واألدٌان‪ ،‬وتقسٌم العالم إلى معسكرات متنابذة متصارعة حول مشاكل ٌتم اصطناعها بشكل متواصل‪،‬‬
‫وتسلٌح هذه المعسكرات‪ ،‬ثم تدبٌر حوادث لخلق حرب وراء حرب‪ ،‬فتضعؾ الدول الوطنٌة‪ ،‬وٌدمر البشر‬
‫أنفسهم بؤنفسهم فً الحروب‪ ،‬وٌدمرون فً نفس الوقت شرابع هللا والقوانٌن االجتماعٌة األخبلقٌة التً‬
‫توارثوها‪ ،‬وبعد نشر الرذابل والمذابح والحروب المتبلحقة ٌتبقى منهم أعداد قلٌلة ال تجد لها سندا إال أن‬
‫تسلم نفسها لعبادة الشٌطان‪ ،‬فٌعلن أمام هللا فً ٌوم القٌامة "انتصاره"‪.‬‬

‫وفً ‪ ٔ99ٙ‬قدم واٌزهاوبت تنظٌم "النارٌٌن" على أنه "المنقذ للبشرٌة"‪ ،‬وأن هدفه الوصول إلى‬
‫(حكومة عالمٌة واحدة) تتكون من أصحاب القدرات الفكرٌة الخارقة‪ ،‬وأذكٌاء ونجوم العالم‪ ،‬إلدارة العالم‬
‫بشكل أفضل‪ ،‬واستطاع بذلك أن ٌضم إلى التنظٌم ما ٌقرب من ألفٌن من أبرز المتفوقٌن فً الفنون واآلداب‬
‫والتعلٌم والعلم واالقتصاد والصناعة فً أوروبا؛ باعتبارهم "النخبة"‪ ،‬وأسس عندبذ محفل الشرق األكبر‬
‫بفرنسا لٌكون مركزا تنطلق منه أوامر رجال المخطط الجدٌد(ٗٔ)‪.‬‬

‫ولهذا‪ ،‬أصبح التنظٌم هو القابد للمحافل الماسونٌة التً مهمتها جذب المتفوقٌن ونجوم المجتمع تحت‬
‫شعارات الحداثة ونشر السبلم‪ ،‬وكانت منتشرة قبل وضع مخطط واٌزهاوبت‪ ،‬ولكن المخطط جعل منها‬
‫"موردا" للشخصٌات التً ٌثبت سهولة تطوٌعها ألهدافه‪ ،‬فلٌس كل أعضاء المحافل الماسونٌة أعضاء فً‬
‫التنظٌم‪ ،‬فؤعضاإه عددهم محدود‪ ،‬وال ٌعرفهم معظم الماسون‪ ،‬بل ال ٌعرفون بوجود هذا التنظٌم أساسا‪ ،‬وال‬
‫ٌعرفون أنه من ٌدٌر اقتصاد العالم وٌدبر حروبه‪ ،‬وأعضاء تلك المحافل لٌسوا إال أدوات بٌده‪.‬‬

‫ووضع واٌزهاوبت ألتباعه تعلٌمات لجذب أؼنٌاء ونجوم المجتمع وقادة الحكومات والمتفوقٌن أصحاب‬
‫التؤثٌر بٌن شعوبهم‪ ،‬وهً‪:‬‬

‫ٔ‪ -‬الرشوة بالمال والجنس للسٌطرة على األشخاص الذٌن ٌشؽلون المراكز الحساسة فً الحكومات‬

‫(ٖٔ)‬
‫‪ -‬الشٌطان أمٌر العالم‪ ،‬ولٌام جً كار‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔ99‬‬
‫(ٗٔ)‬
‫‪ -‬أحجار على رقعة الشطرنج‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔٔ‬

‫‪ٗ97‬‬
‫ومختلؾ المجاالت‪ ،‬ثم ابتزازهم بفضحهم إذا ما أبدوا مقاومة لتنفٌذ المهام المكلفٌن بها(٘ٔ)‪.‬‬

‫ٕ‪ -‬على النارٌٌن الذٌن ٌعملون أساتذة فً الجامعات أن ٌولوا اهتمامهم للطبلب المتفوقٌن والمنتمٌن إلى‬
‫أسر محترمة لٌولدوا فٌهم االتجاه نحو األممٌة العالمٌة ]العولمة فٌما بعد[‪ ،‬وٌرسخ فً أذهانهم أن تكوٌن‬
‫حكومة واحدة فً العالم هو الطرٌقة الوحٌدة للخبلص من الحروب والكوارث المتوالٌة‪ ،‬وأن لهم الحق‬
‫باعتبارهم األكثر ذكاء فً مجتمعاتهم أن ٌقودوها إلى اإلصبلح والتؽٌٌر‪.‬‬

‫وٌتم هذا بدعم الطبلب المختارٌن بمنح دراسٌة تسٌر بهم فً هذا االتجاه بمناهج تتحدث عن قبول اآلخر‬
‫والتعاون والسبلم الدولً وفتح الحدود والعالم المفتوح واالنفتاح وتجاوز عنصرٌة األوطان إلخ‪.‬‬

‫ٖ‪ -‬مهمة الشخصٌات ذات النفوذ التً تسقط فً شباك النارٌٌن والطبلب الذٌن تلقوا التدرٌب الخاص هً‬
‫استخدامهم كعمبلء‪ ،‬وإحبللهم فً المراكز الحساسة خلؾ الستار لدى جمٌع الحكومات بصفة خبراء أو‬
‫مستشارٌن‪ ،‬بحٌث ٌمكنهم تقدٌم النصح إلى كبار رجال الدولة وتوجٌههم العتناق سٌاسات من شؤنها‪ ،‬بعد‬
‫أمد طوٌل‪ ،‬أن تخدم المخططات السرٌة لمنظمة العالم الواحد‪.‬‬

‫وٌتمثل فً اقتراحهم لمشروعات قوانٌن تحت اسم اإلصبلح االقتصادي أو اإلصبلح السٌاسً أو‬
‫اجتماعً‪ ،‬لكن تؤثٌرها بعد ٓ٘ عاما أو حتى ٓٓٔ عام ستإدي للتدمٌر والتفكٌك‪.‬‬

‫ٗ‪ -‬على النارٌٌن الوصول إلى السٌطرة على كل أجهزة اإلعبلم‪ ،‬بحٌث ٌنتهً األمر بالشعوب الخاضعة‬
‫لها إلى االعتقاد بؤن تكوٌن حكومة أممٌة واحدة هو الطرٌق الوحٌد لحل مشاكل العالم(‪.)ٔٙ‬‬

‫وعندما استلم مازٌنً فً إٌطالٌا راٌة إدارة برنامج واٌزهاوبت للحروب والثورات سنة ٖٗ‪ -ٔ8‬بعد‬
‫موت األخٌر‪ -‬كرر ما قاله واٌزهاوبت فً هذا الشؤن‪ ،‬ونقتبس ما ٌلً‪" :‬إن مساندة أصحاب النفوذ هو‬
‫ضرورة ال ؼنى عنها إلحداث إصبلحات فً بلد إقطاعً"‪.‬‬

‫وفً مصطلحات زعماء الحركة الثورة العالمٌة كلمة "إصبلحات" هذه تعنً "إخضاع" ونحن نرى فً‬
‫هذه األٌام (أي وقت نشر كتاب أحجار على رقعة الشطرنج ‪ )ٔ9٘8‬أن أصحاب النفوذ مثل األمٌر برنارد‬
‫فً هولندا واألمٌر فٌلٌب فً برٌطانٌا ناشطان فً مجموعة بٌلدربٌرج وفً ؼٌرها من المجموعات‬
‫الدولٌة(‪.")ٔ9‬‬

‫(٘ٔ)‬
‫‪ -‬من األمثلة على هذا سلسلة فضابح شخصٌات برٌطانٌة‪ ،‬منها وزٌر حربٌة برٌطانٌا بروفومٌو مع فتٌات صؽٌرات‪ ،‬منهم فتاة لعوب اسمها‬
‫كرٌستٌن كٌلر‪ ،‬واكتشفوا أن الدكتور "وارد" وهو شخصٌة اجتماعٌة متخصصة فً صنع العالقات مع كبار رجال الدولة كان المدٌر لهذا التشبٌك‬
‫مع الفتٌات‪ ،‬ونفس المنوال بعد حرب السوٌس (العدوان الثالثً على مصر ‪ )ٔ9٘ٙ‬هزت بارٌس فضٌحة تورط شخصٌات فرنسٌة كبٌرة‪ ،‬منها‬
‫ربٌس البرلمان "لوتروكٌه"‪ ،‬فً لٌالً حمراء مع مراهقات عارٌات‪( .‬مترجم كتاب أحجار على رقعة الشطرنج هامش ص ٕٔ)‬
‫(‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬أحجار على رقعة الشطرنج‪ ،‬ص ٔٔ‪ٖٔ -‬‬
‫(‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬الشٌطان أمٌر العالم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘ٗٔ‬
‫*** والمقصود مجموعة بٌلدربٌرج الدولٌة (‪ )Bilderberg Group‬و ُتعرؾ باسم مإتمر أو نادي بٌلدربٌرج‪ ،‬وهو اجتماع سنوي ؼٌر رسمً‬
‫ٌحضره فً سرٌة مجموعة من ٓٓٔ‪ ٔ٘ٓ -‬شخص من رجال السٌاسة واألعمال والبنوك األكتر نفوذا فً العالم لبحث تطورات العالم فً كافة‬
‫المجاالت‪ ،‬ورسم السٌاسات الخاصة بالشركات متعددة الجنسٌات والبنوك العالمٌة لتوجٌه العالم وفق مصالح تنظٌمهم‪ ،‬وتنشر وسابل اإلعالم حالٌا‬

‫‪ٗ98‬‬
‫ورأى نٌستا وٌبستر فً كتابه "الجمعٌات السرٌة والحركات التخرٌبٌبة" ‪secret societies and‬‬
‫‪ subversive movements‬الصادر ٕٗ‪ٔ9‬أن واٌزهاوبت هو مإلؾ الكتابات األصلٌة ألخوٌة‬
‫وطابفة النارٌة فً القرن ‪ ،ٔ8‬لكن جاي كار ال ٌتفق معه فً هذه النقطة‪ ،‬وٌقول‪" :‬لقد أقنعتنً دراساتً‬
‫وأبحاثً أن واٌزهاوبت قام فقط بتعدٌل وتحدٌث بروتوكوالت مذهب عبادة الشٌطان من أجل تمكٌن كنٌس‬
‫الشٌطان من االستفادة بشكل كامل من التقدم الذي تم إحرازه فً العلوم التطبٌقٌة والظروؾ االجتماعٌة‬
‫والسٌاسٌة واالقتصادٌة الدٌنٌة اآلخذة فً التؽٌر بسرعة‪ ،‬ولم ٌقم هو بإنشاء النورانٌة‪ ،‬ولكن النورانٌة‬
‫موجودة منذ أن انشق قابٌل عن الرب‪ ،‬وتمت كتابة البروتوكوالت مباشرة بعد أن أتقن اإلنسان مهارة‬
‫التعبٌر عن أفكاره وتسجٌل خططه بالكتابة على مواد ٌمكن حفظها‪ ،‬وقبل أن ٌكون أحد قد سمع بكلمة‬
‫صهٌون"(‪.)ٔ8‬‬

‫وكل فترة من الزمن ٌجري تنقٌح وتعدٌل هذه البروتوكوالت أو الخطة بحسب التطورات فً العالم‪.‬‬

‫والٌوم‪ٌ ،‬جري تعزٌز نسخة واٌزهاوبت المحدثة على ٌد مفكرٌن ٌشكلون القوة المسٌطرة فً مجموعة‬
‫"بٌلدبٌرج" والحركة االتحادٌة العالمٌة ومجلس العبلقات الخارجٌة المتواجد فً مبنى هنري برات فً‬
‫نٌوٌورك‪ ،‬و ُتجبر هذه المجموعات الضاؼطة الحكومات الوطنٌة وممثلٌها فً منظمة األمم المتحدة على‬
‫تعزٌز فكرة "حكومة عالمٌة واحدة" التً ٌنوي أتباع مذهب عبادة إبلٌس االستحواذ على السلطة فٌها(‪.)ٔ9‬‬

‫هذا الكتاب تم نشره ‪ ،ٔ9٘8‬وٌنقل هذا الكبلم عن كتب ووثابق مكتوبة قبله بعشرات السنٌن‪ ،‬من القرون‬
‫‪ ٔ8‬و‪ ٔ9‬وٕٓ‪ ،‬وٌتردد صداها اآلن فً ظهور مإسسات مخصوصة فً الوالٌات المتحدة وأوروبا وروسٌا‬
‫وتركٌا وإٌران ومالٌزٌا وؼٌرهم لتقدٌم منح دراسٌة لطبلب ٌتخرج الكثٌر منها وهم ٌدعون إلى النظام‬
‫العالمً الواحد ممثبل فً "العولمة"‪ ،‬أو"الشٌوعٌة"‪ ،‬أو "الخبلفة اإلسبلمٌة"‪ ،‬ومفتونٌن بالمنظمات العالمٌة‬
‫ونظرٌات اإلصبلح االقتصادي والسٌاسً واالجتماعً التً ٌسعون لتطبٌقها فً ببلدهم‪ ،‬بؽض النظر عن‬
‫إن كانت تتوافق مع طبٌعة شعوبهم واحتٌاجاتهم أم ال‪.‬‬

‫كما ٌنتشر على ألسنة هإالء "المثقفٌن المختارٌن" عبارات ُتحمل الفقراء واألمٌٌن مسبولٌة كافة أزمات البلد‪،‬‬
‫من فقر وتؤخر وإرهاب وتلوث ووجود نظام حكم ال ٌروق لهم؛ إلجبارهم على تلقً نصابح وبرامج هإالء‬
‫"المثقفٌن" بدون نقاش‪ ،‬ألن الفقراء واألمٌٌن مستودع األصول واألخبلق الخاص بكل بلد لقلة اتصالهم بالخارج‪.‬‬

‫وعن هذا ٌقول ولٌام جً كار‪ ،‬إن من عادة النارٌٌن ومسإولً الحركة الثورٌة العالمٌة وجمعٌاتها‬

‫موعد انعقاده كل سنة‪ ،‬ولكن ال تعلم ما ٌدور فٌه‪ ،‬واالسم منسوب لفندق بٌلدربٌر ج فً هولندا الذي شهد أول اجتماع لسادة المال والنفوذ هإالء‬
‫سنة ٗ٘‪ ٔ9‬وكان األمٌر الهولندي بٌرنارد أول ربٌس له‪.‬‬
‫انظر الخبر التالً‪ :‬اجتماع "بٌلدٌبٌرغ" المثٌر للجدل ٌُعقد الٌوم‪ ..‬فما هً تفاصٌله؟‪ ،‬موقع ٌورو نٌوز‪ٕٓٔ8 -ٙ -7 ،‬‬
‫(‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬الشٌطان أمٌر العالم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖٔ9‬‬
‫(‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٘ٗٔ‬
‫*** تعزٌز فكرة "حكومة عالمٌة واحدة" بتورٌط الحكومات فً اتفاقٌات التجارة العالمٌة وقوانٌن دولٌة خاصة باألسرة والثقافة والهجرة‬
‫والالجبٌن إلخ‬

‫‪ٗ99‬‬
‫السرٌة "إلقاء مسإولٌة أفعالهم الشٌطانٌة على كواهل ؼٌر كواهلهم(ٕٓ)‪.‬‬

‫▼▼▼ ثورات إسقاط الحدود‪ ..‬وتمكٌن األجانب‬

‫أول الساقطٌن فً فخ الثورات المسلحة فً القرون الثبلثة األخٌرة هً إنجلترا التً ؼٌَّر الٌهود وحلفابهم‬
‫نظامها الحاكم بحرب أهلٌة‪ ،‬وأوقعوها فً ٌد أسرة مالكة أجنبٌة (هولندٌة) وأسقطت اقتصادها فً ٌد تنظٌم‬
‫النارٌٌن األجنبً حٌن أنشؤوا بنك إنجلترا‪ -‬أحد المتورطٌن فً تكتٌؾ مصر بالدٌون زمن سعٌد وإسماعٌل‬
‫وذبح ثورة ٔ‪ -ٔ88‬فكانت إنجلترا مٌدان االختبار إلسقاط الدول فً قبضتهم وتحوٌل العالم إلى "قرٌة‬
‫صؽٌرة" ال تعترؾ بالحدود‪ ،‬وعلى نمط واحد وفكر واحد بشعارات ثورٌة‪.‬‬

‫وفً زمن واٌزهاوبت‪ -‬أي بعد ٓٓٔ سنة‪ -‬كانت فرنسا الهدؾ التالً‪ ،‬فؤمر أتباعه فً المحافل الماسونٌة‬
‫أن ٌثٌروا ثورة كبرى إلنهاك فرنسا وتحوٌلها إلى مركز لنشر أفكار النارٌٌن باسم العلمانٌة والتنوٌر‬
‫والحرٌة والمساواة وحقوق اإلنسان‪ ،‬وعهد إلى األلمانً "تسفاك" بؤن ٌجمع كتابات واٌزهاوبت فً كتاب‬
‫عنوانه‪" :‬المخطوطات األصلٌة الوحٌدة" لٌوزعه على الموثوق بهم فً فرنسا‪ ،‬إال أن نسخة منه سقطت فً‬
‫ٌد حكومة بافارٌا‪ ،‬فسارعت إلؼبلق المحفل الماسونً القابم بها‪ ،‬وأعلنت جماعة النارٌٌن جماعة خارجة‬
‫عن القانون‪ ،‬وفً ‪ ٔ989‬نشرت تفاصٌل المإامرة بعنوان "الكتابات األصلٌة لمذهب ومنظمة النورانٌٌن"‪،‬‬
‫أرسلت نسخا منها إلى الحكام والكنٌسة بؤوروبا‪ ،‬ولكن تؽلؽل النارٌٌن كان من القوة بحٌث ُتجوهل هذا‬
‫النذٌر كما تجوهلت قبله تحذٌرات المسٌح إلى العالم‪.‬‬

‫هذا اإلهمال فً تتبع هذه الجماعة أعطى الفرصة لواٌزهاوبت للخروج بخطة بدٌلة لبلنتشار عبر التسلل‬
‫إلى صفوؾ الجمعٌات الماسونٌة السرٌة "الماسونٌة الزرقاء" فً توب أهل البر واإلحسان‪ ،‬ونشر فكر‬
‫األممٌة أو العالمٌة‪ ،‬وممن سعوا إلٌه الماسونً جون روبسون أستاذ الفلسفة فً جامعة أدٌمبرج‪ ،‬ولكنه لم‬
‫ٌصدق األهداؾ التً ٌعلنها "العالمٌون" للناس‪ ،‬إال أنه احتفظ بشكوكه‪ ،‬وعهد إلٌه النارٌون بنسخة منقحة‬
‫من مخطط واٌزهاوبت لدراسته‪ ،‬وفً ‪ ٔ989‬تفجرت الثورة فً فرنسا بسبب رضوخ رجال الدولة‬
‫والكنٌسة فٌها لنصابح من رجال "نارٌٌن"‪ ،‬فتؤكد روبنسون من شكوكه‪ ،‬وخشى امتداد الخطر إلى بدان‬
‫أخرى‪ ،‬فنشر سنة ‪ ٔ998‬كتاب "أدلة المإامرة لتدمٌر كافة الحكومات واألدٌان" ‪Proofs of‬‬
‫‪Conspiracy against all the religions and governments of Europe‬‬
‫‪ ،carried on in the secret meetings of free masons, Illuminati‬لتوعٌة الناس‪،‬‬
‫ولكن تحذٌره ٌتجوهل أٌضا‪ ،‬فانتشر لهٌب الحروب األهلٌة والثورات فً أوروبا بعد ذلك حتى القرن (ٕٔ)‪.‬‬

‫▼▼▼ الثورة اإلنجلٌزٌة‬

‫(‪ -)21‬المرجع السابؽ‪ ،‬ص ‪278‬‬


‫(ٕٔ)‬
‫‪ -‬انظر المرجع السابق‪ ،‬ص ٖٔ‪ٔ٘ -‬‬
‫*** كتاب "المإامرة لتدمٌر كافة الحكومات واألدٌان" ومعظم الكتب الوارد ذكرها حول "النارٌٌن" موجودة على النت ‪ PDF‬وبعضها موجود فً‬
‫المكتبات‪ ،‬سوا فً نسخ إنجلٌزٌة أو فرنسٌة أو مترجم‪ ،‬وأهمٌة الموضوع أنها كتب منشورة فً أوقات مبكرة‪ ،‬تمثل شهادات ألصحابها الذٌن كانوا‬
‫شهودا على العصر وقرٌبٌن من األحداث‪ ،‬وعلى فترات متفرقة ومن عدة جنسٌات‪ ،‬وبعد وفاتهم بسنوات طوٌلة تحقق ما حذروا منه حرفٌا‪.‬‬

‫ٓٓ٘‬
‫وقبل الوصول إلى الثورة الفرنسٌة‪ -‬نجمة ثورات أوروبا‪ -‬نلقً نظرة مع مإرخً أوروبا على الثورة‬
‫اإلنجلٌزٌة (‪ )ٔٙ88‬التً سبقتها بـ ٓٓٔ عام‪ ،‬وكانت حقل التجارب لسلسلة ثورات هدفها كسر الحدود‬
‫الوطنٌة أمام التجارة العالمٌة لبٌوت المال النارٌة‪ ،‬ولملمة العالم فً بوتقة أفكار واحدة تسهل لملمته فً ٌد‬
‫حاكمة واحدة‪ ،‬ونعرؾ الفرق الهابل بٌن الثورات والحروب التً نظمها النارٌون فً أوروبا وبٌن الثورات‬
‫والحروب المصرٌة النبٌلة "ثورة الحق" التً قامت ضد هذا التنظٌم الممثل لـ "ثورة الشٌطان"‪.‬‬

‫بدأ األمر عل ى ٌد البلجبٌن الٌهود‪ ،‬فنظرا لدورهم فً تكنٌز المال والذهب للتحكم فً االقتصاد (من أٌام‬
‫اإلؼرٌق والرومان)‪ ،‬ودورهم فً نشر الفتن‪ ،‬وتقدٌم أنفسهم على أنهم المضطهدٌن من الحكومات دابما‪،‬‬
‫طردت برٌطانٌا و فرنسا وأسبانٌا ودول أوروبٌة أخرى الٌهود عدة مرات فً القرون الوسطى‪ ،‬وكانوا كلما‬
‫استقروا فً مكان تكتلوا فً أماكن سمٌت بـ"الجٌتو"‪ٌ ،‬بخون فٌها سمومهم فً صدور األجٌال الجدٌدة ضد‬
‫الحكومات البتزازها‪.‬‬

‫ولٌعودوا إلى المناطق التً طردوا منها فً أوروبا‪ ،‬أنشؤ بارونات الربا والمال العالمٌة شبكات للهجرة‬
‫ؼٌر الشرعٌة تساعدهم على التسلل عبر الحدود‪ ،‬كما أنشؤوا ما عرؾ باسم السوق السوداء ألنهم كانوا ال‬
‫ٌستطٌعون العمل فً النور(ٕٕ)‪ ،‬وبدأت العصابات الٌهودٌة فً مسلسل تدمٌر الحكومات التً وقفت ضدها‪،‬‬
‫ففً إنجلترا زرعت الخبلفات بٌن الملك وحكومته بحجة مقاومة االستبداد‪ ،‬وبٌن أصحاب العمل والعمال‪،‬‬
‫وبٌن الدولة والكنٌسة حول المذهب الكاثولٌكً المتمسكة به الدولة والبروتستانتً الخاص بالكنسٌة عبر نشر‬
‫آراء ونظرٌات متناقضة لحل المشكبلت‪ ،‬ثم ٌتصارع حولها الجمٌع‪.‬‬

‫ولم تلبث إنجلترا أن وجدت نفسها مقسمة إلى معسكرات وأحزاب ٌتحفز كل منها لبلنقضاض على‬
‫اآلخر‪ ،‬فانقسم الشعب اإلنجلٌزي إلى معسكرٌن بروتستانتً وكاثولٌكً‪ ،‬ثم انقسم البرتستانتً إلى طابفتً‬
‫"الملتزمون" و"المستقلون"‪ ،‬وانهمر الذهب فً ذلك كله من جهات مجهولة على المحرضٌن‪.‬‬

‫انتهى الصراع فً اآلراء إلى صراع مسلح فً عهد الملك شارل األول بٌن قوات تناصر الملك‬
‫وعصابات تناصر البرلمان وما تصفها بالحرٌات بتحرٌض وتموٌل من مناسح بن إسرابٌل (أحد كبار‬
‫المرابٌن العالمٌٌن فً هولندا)‪ ،‬والزعٌم الٌهودي المشهور فرناندٌز كارفاجال‪ ،‬اللذٌن استماال القابد‬
‫اإلنجلٌزي الشهٌر أولٌفر كروموٌل لئلطاحة بعرش الملك‪ ،‬وكونوا ملٌشٌات تسمت بالـ"الرإوس‬
‫المستدٌرة"‪ ،‬أمدوها بمبات المرتزقة فً ثوب ثورٌٌن مدربٌن قادمٌن من الخارج كمتطوعٌن لدعم "حرٌة"‬
‫الشعب اإلنجلٌزي‪ ،‬وانضم لها الخبلٌا الٌهودٌة الفوضوٌة وشرع الجمٌع فً نشر اإلرهاب وتروٌع السكان‪،‬‬
‫حتى مرحلة الصدام مع قوات األمن والجٌش‪.‬‬

‫وساهم السفراء الٌهود المعتمدون لدى إنجلترا‪ ،‬مثل مٌلخور دي سالم سفٌر فرنسا فً دعم وإٌواء زعماء‬
‫(ٕٕ)‬
‫‪ -‬انظر أحجار على رقعة الشطرنج‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٙ8‬‬
‫*** وألن التارٌخ ٌعٌد نفسه فإن نفس شبكات الهجرة ؼٌر الشرعٌة أُعٌد تشؽٌلها لتهرٌب الٌهود ألمرٌكا ثم لفلسطٌن باسم الجبٌن فارٌن من‬
‫المذابح‪ ،‬وحالٌا تعمل على تهرٌب السورٌٌن والعراقٌٌن واألفؽان واألفارقة باسم الجبٌن أٌضا‪ ،‬وتوزٌعهم على بلدان مستهدفة على رأسها مصر‪.‬‬

‫ٔٓ٘‬
‫الفوضى فً األوقات الحرجة‪ ،‬وتدرٌبهم‪ ،‬حتى قال الثري الٌهودي إسحق دزرابٌلً (والد ربٌس وزراء‬
‫برٌطانٌا بنٌامٌن دزرابٌلً صاحب صفقة شراء نصٌب مصر فً أسهم قناة السوٌس فٌما بعد) فً كتابه‬
‫"الملك شارل الثانً" إنه حصل على معظم المعلومات من سجبلت مٌلخور دي سالم‪ ،‬وتكلم عن التشابه بٌن‬
‫ظروؾ وأسالٌب الثورة اإلنجلٌزٌة والثورة الفرنسٌة(ٖٕ)‪.‬‬

‫وأثار تدفق المهاجرٌن الفوضوي إلى إنجلترا عن طرٌق التهرٌب بحجة دعم "الثوار األحرار"‪،‬‬
‫واستخدام المخربٌن المدربٌن لتكوٌن المنظمات اإلرهابٌة‪ ،‬وتموٌل العملٌة كلها بذهب المرابٌن العالمٌٌن‪،‬‬
‫وتكرر هذا فً حروب وثورات الحقة؛ مما أثار فضول الباحثٌن الذٌن ٌتتبعون الخطوط المتشابه‪ ،‬وبتعبٌر‬
‫جً كار فهذا األسلوب اتبعته المإامرة دابما فً كل التارٌخ(ٕٗ)‪.‬‬

‫وحقا‪ ،‬فً حروب وثورات العالم الدموٌة ٌكون المهاجرون سببا ربٌسٌا فٌها منذ التارٌخ القدٌم‪ ..‬ألم ٌشر‬
‫إلٌهم "إٌبو ور" فً بردٌته عن انتشار الفوضى "إزفت" فً األسرة ‪ ٙ‬وقال‪" :‬انظر! ال صانع ٌعمل‪ ،‬والعدو‬
‫ٌحرم الببلد حرفها"‪" ،‬وأصبح األجانب مصرٌٌن فً كل مكان"؛ أي تجرأوا على أن ٌضعوا أنفسهم موضع‬
‫المصرٌٌن فً هذا االنقبلب العام‪ ،‬و"(والببلد) مؤلى بالعصابات‪ ،‬وٌذهب الرجل لٌحرث ومعه درعه‪ ...‬حقا‬
‫فإن الوجه قد شحب‪ ،‬وحامل القوس ]تعبٌر مصري ٌقال على األجنبً محترؾ القتال[ أصبح مستعدا‪،‬‬
‫والمجرمون فً كل مكان‪ ،‬وال ٌوجد رجل من رجال األمس‪ ...‬حقا إن الناهبٌن فً كل مكان(ٕ٘)"‪.‬‬

‫وفً النهاٌة قتلت تلك العصابات الملك شارل األول وكافة رجال الدولة المعادٌن للثورة فً ‪،ٔٙٗ9‬‬
‫وأنشؤت بنك إنجلترا (كبنك خاص رؼم أنه ٌقوم بدور البنك المركزي فً الببلد) ٌدار من بارونات بٌوت‬
‫المال‪ ،‬وصار المتحكم األول فً اقتصاد إنجلترا وبالتالً سٌاستها‪ ،‬وهو أول من أدخلها فً دابرة االقتراض‬
‫منه لتكون أسٌرة له‪ ،‬وأدخل فً العالم ما عرؾ فٌما بعد بالقروض الدولٌة والحكومٌة الخارجٌة‪.‬‬

‫فلم ٌكن االنتقام من ملوك إنجلترا هو الهدؾ الحقٌقً للمرابٌن العالمٌٌن الٌهود فً عملٌاتهم هذه‪ ،‬فهم‬
‫ٌعلمون أنهم صناع الفتن التً دفعت الملوك إلى مطاردتهم‪ ،‬وأنهم لٌسوا بمظلومٌن حقا‪ ،‬ولكن هدفهم‬
‫السٌطرة على اقتصادٌات إنجلترا ومقالٌد األمور فٌها‪ ،‬ثم إثارة الحروب بٌنها وبٌن أوروبا ُتستنزؾ فٌها‬
‫األموال واألخبلق واألرواح‪ ،‬وتخضع الحكومات لبارونات المال‪ ،‬وٌُباد مبلٌٌن البشر(‪ ،)ٕٙ‬وفً نفس الوقت‬
‫ٌُشعر الحكومات أنه صاحب الفضل فً وجودها‪.‬‬

‫ف بعد اإلطاحة بملك إنجلترا الجدٌد جٌمس الثانً نصب الثوار الدوق الهولندي ولٌام أوؾ أورانج ملكا‬
‫على الببلد بعد تزوٌجه بابنة الملك لٌؤخذ "شرعٌة" حكم‪ ،‬و إجبار األخٌر على التنازل عن الحكم والرحٌل‬
‫لفرنسا‪ ،‬وتحولت إنجلترا من الكاثولٌكٌة إلى البروتستانتٌة (اإلنجٌلٌة) وهو المذهب المناصر لحركات‬

‫(ٖٕ)‬
‫‪ -‬انظر المرجع السابق‪ ،‬ص ٓ‪9ٗ -9‬‬
‫(ٕٗ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕ‪9‬‬
‫(ٕ٘)‬
‫‪ -‬موسوعة مصر القدٌمة‪ ،‬سلٌم حسن‪ ،‬الجزء ‪ ،ٔ9‬الهٌبة العامة للكتاب‪ ،‬مشروع مكتبة األسرة‪ ،ٕٓٓٓ ،‬ص ‪ ،ٕ99‬وٕٖٓ‪ٖٖٓ -‬‬
‫(‪)ٕٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬أحجار على رقعة الشطرنج‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔ‪9ٙ -9‬‬
‫*** وامتدت نٌران السٌاسة اإلنجلٌزٌة التً ٌدٌرها بنك إنجلترا إلى مصر بإؼراء سعٌد وإسماعٌل بالقروض كما رأٌنا ثم شد الحبل على رقبة مصر‬
‫واحتاللها‪ ،‬ولوال احتاجوا المصرٌٌن كؤٌدي عاملة فً الزراعة والبنٌة التحتٌة للمشارٌع ألبادوا معظم المصرٌٌن‪.‬‬

‫ٕٓ٘‬
‫التمرد‪ ،‬واقترض الملك للخزانة اإلنجلٌزٌة ٓٓٓ‪ ٔ,ٕ٘ٓ,‬جنٌها إسترلٌنٌا من الٌهود المرابٌن الذٌن نصبوه‬
‫فً مكانه‪ ،‬وضمن لمدٌري بنك إنجلترا الحق فً وضع سعر الذهب والتحكم فً العملة‪ ،‬وهً القرارات‬
‫التً شاعت فً بعض كتب التارٌخ بعد ذلك زورا باسم "إصبلحات" إٌجابٌة للثورة التً اشتهرت‬
‫بـ"المجٌدة"‪.‬‬

‫وتكرر هذا فً عدة دول أوروبٌة‪ ،‬حتى قال آمشل مابلو باور "روتشٌلد" ( ٖٗ‪" :)ٔ8ٕٔ -ٔ9‬دعنا نتولى‬
‫إصدار النقد فً أمة من األمم واإلشراؾ علٌه‪ ،‬وال ٌهمنا بعد ذلك من الذي ٌسن قوانٌن هذه األمة(‪.")ٕ9‬‬

‫كارٌكاتٌر نشرته الصحافة فً فرانكفورت ‪ٌ ٔ8ٗ8‬صور روتشٌلد وورابه أكٌاس الذهب المكدسة‪ ،‬وأمامه ملوك أوروبا راكعٌن ٌتوسلون لٌعطٌهم‬
‫قروضا لتموٌل حروبهم أوإعادة إعمار ببلدهم المدمرة (المصدر‪ :‬كتاب "مخلوق من جزٌرة جٌكل وتموٌل المإامرة" إلدوارد جرٌفٌن)‬

‫ونتٌجة هذه "اإلصبلحات" تورطت برٌطانٌا بالفعل فً حروب مع إسبانٌا وفرنسا وؼٌرهما‪ ،‬ترتب‬
‫علٌها اضطرارها لقروض جدٌدة حتى وصلت عام ٘ٗ‪ ٔ9‬إلى ٕ‪ ٕٕ,ٖ٘ٓ،ٖٕ٘،ٖ9‬جنٌها إسترلٌنٌا (ٕٕ‬
‫ملٌار جنٌه إسترلٌنً)(‪ ،)ٕ8‬أما فً ‪ ٕٓٔ9‬فؤعلن مكتب اإلحصاء الوطنً البرٌطانً ارتفاع دٌون القطاع‬
‫العام لٌصل إجمالً دٌن الدولة إلى أكثر من ٖ‪ ٔ.99‬ترٌلٌون جنٌه‪ ،‬وهً تعادل ‪ % 88‬من إجمالً الدخل‬
‫السنوي العام للببلد(‪ ،)ٕ9‬ولم ٌحمها من هذه القروض كل نظرٌات جون لوك والرأسمالٌة واللٌبرالٌة‬
‫ومظاهر التقدم المادٌة‪ ،‬ولوال احتبلالتها للدول واستنزاؾ أموالها وخٌراتها ألكل شعبها بعضه بعضا‪.‬‬

‫▼▼▼ آل روتشٌلد وإخوانهم (ال وطن لهم‪ ،‬وٌملكون كل الجنسٌات)‬

‫فً عصور قدٌمة اشتهرت عاببلت ٌهودٌة بؤنها "بٌوت للربا" وصلت فً نفوذها إلى أن تقرض الحكومات‬

‫(‪)ٕ7‬‬
‫‪ -‬انظر المرجع السابق‪ ،‬ص ٔ‪ 8ٖ -8‬و ‪٘7 -٘ٙ‬‬
‫*** ولهذا سارعت إنجلترا لتؤسٌس البنك األهلً المصري ‪ ٔ898‬بعد احتاللها لمصر وأصبح له حق إصدار العملة‪ ،‬وكان حٌنها بنكا خاصا بعٌدا‬
‫عن الحكومة‪ ،‬لٌسهل تحكم بنك إنجلترا فٌه‪ ،‬وأممت الحكومة المصرٌة البنك سنة ٔ‪ ٔ9ٙ‬لٌصبح بنكا حكومٌا تجارٌا‪ ،‬وأسست البنك المركزي فً‬
‫ذات العام لتحقٌق االستقالل االقتصادي‪.‬‬
‫(‪)ٕ8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٗ‪8٘ -8‬‬
‫(‪)ٕ9‬‬
‫‪ -‬دٌون برٌطانٌا تتعدى الترٌلٌون جنٌه إسترلٌنً‪ ،‬موقع سكاي نٌوز عربً‪ٕٓٔ9- 9 -ٕٕ ،‬‬

‫ٖٓ٘‬
‫وتمول حروبها‪ ،‬منها‪ -‬كما تابعنا‪ -‬فً بابل بٌت آل أجٌبً وبٌت آل موراشو حتى أفقرا أهل بابل وتسببا فً‬
‫تسلٌمها لبلحتبلل الفارسً فً القرن ‪ ٙ‬ق‪.‬م‪ ،‬وآل فنحاس (ٌوسؾ بن فنحاس) وآل عمران (هارون بن‬
‫عمران) فً بؽداد‪ ،‬حتى اقترض منهما الخلٌفة المقتدر لما انحنى ظهر الدولة العباسٌة أمام كثرة الحروب‬
‫الداخلٌة والخارجٌة بفابدة ٕٓ‪ ،)ٖٓ(%‬وفً أوروبا القرن ‪ ٔ8‬اشتهر آل روتشٌلد وعاببلت أخرى‪ ،‬واشتهروا‬
‫عمن سبقهم من بٌوت ربا فً أنهم صاروا إخطبوطا ٌمد أذرعه لٌسٌطر على كل العالم ولٌس فقط‬
‫اإلمبراطورٌة الموجودة بها‪.‬‬

‫(ٖٔ)‬
‫كارٌكاتٌر فً الصحافة األوروبٌة ٗ‪ٌ ٔ89‬ظهر أحذ أذرع أخطبوط عٌلة روتشٌلد ٌصل مصر باحتبللها‬

‫ٌقول جون نٌنٌه فً رسالة بعثها من مصر لصحؾ أوروبٌة فً ‪ ٔ88ٔ-ٔ-ٕ9‬مستعرضا دور روتشٌلد فً‬
‫تخرٌب مصر بالدٌون ودعم الخدٌوي ضد الثورة المصرٌة الرافضة لسٌطرة األجانب‪" :‬إن عابلة روتشٌلد‬
‫لٌس لها أٌة جنسٌة فً الحقٌقة‪ ،‬ولكن ٌمكن أن ٌكونوا إنجلٌزا وفرنسٌٌن وألمانا ونمساوٌٌن‪ ،‬سٌكون لدٌهم‬
‫ببل شك ذات مرة فرصة االختٌار من أجل أن ٌعملوا على مٌل المٌزان السٌاسً لصالح إحدى هذه القوى‬
‫حسب السعر الذي سٌكون مدفوعا لهم‪ ،‬وسبق أن نصؾ أسهم قناة السوٌس انتقل بواسطة تدخلهم‬
‫وبتحرٌض اللورد بٌكونسفٌلد (دذرابٌلً) إلى أٌدي البٌوت فً القسطنطٌنٌة"(ٕٖ)‪.‬‬

‫مإسس األسرة هو آمشل موس باور‪ ،‬مرابً ٌهودي‪ ،‬عمل فً صاؼة الذهب‪ ،‬معدنهم المفضل‪ ،‬وبعد‬
‫تجوال طوٌل فً أوروبا الشرقٌة (مقر مملكة ٌهود الخزر البابدة) استقر سنة ٖٗ‪ ٔ9‬فً فرانكفورت‬
‫األلمانٌة‪ ،‬وأسس مركزا للمعامبلت المالٌة ‪ ،‬وبعد وفاته خلفه ابنه آمشل ماٌر باور الذي حفظ أسرار أبٌه فً‬
‫الربا والذهب واألحبلم‪ ،‬وحمل لقب روتشٌلد‪ ،‬وتوزع األبناء واألحفاد على ٘ مناطق هً (إنجلترا‪ ،‬ألمانٌا‪،‬‬
‫فرنسا‪ ،‬النمسا‪ ،‬الفاتٌكان)‪ ،‬وحملوا جنسٌات هذه الدول لتكون ورقة مرورهم للمناصب والتحكم بداخلها‪،‬‬
‫فكانوا كالقبٌلة التً تتفرع بطونها على عدة دول تحمل جنسٌتها ووالبهم الحقٌقً للقبٌلة‪ ،‬وهو نفس فكر‬

‫(ٖٓ)‬
‫‪ -‬تارٌخ التمدن اإلسبلمً‪ ،‬جٕ‪ ،‬جرجً زٌدان‪ ،‬مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٗٓٔ‬
‫‪English octopus cartoon ٔ89ٗ -‬‬
‫(ٖٔ)‬

‫‪/https://atlanticsentinel.com/ٕٓٔ9/ٓ8/the-octopus-in-political-cartoons/ٔ89ٗ-english-octopus-cartoon‬‬
‫(ٕٖ)‬
‫‪ -‬رسابل من مصر (‪ ،)ٔ88ٕ -ٔ899‬جون نٌنٌه‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٕ9‬‬

‫ٗٓ٘‬
‫التنظٌمات العالمٌة التً تتفرع كاإلخطبوط فً كل دولة‪ٌ ،‬دعً كل ذراع فٌها أنه من الدولة‪ ،‬وٌتجنس‬
‫بجنسٌتها‪ ،‬وما هو إال ذراع تحتكر الدولة وتطوٌها لتسلمها إلى رأس األخطبوط‪ ،‬وربما لخدمة هذا الهدؾ‬
‫ساهمت الثورة الفرنسٌة فً نشر فكر "تجنٌس األجانب" فً العالم‪.‬‬

‫وفً ٖ‪ ٔ99‬استضاؾ آمشل ماٌر باور (روتشٌلد األول) ٕٔ من أرباب المال العالمٌٌن فً فرانكفورت‬
‫فً مإتمر لتؤسٌس احتكار عالمً ٌضخم سلطانهم المالً وإمكانٌات كل منهم التً تضخمت باالستٌبلء على‬
‫برٌطانٌا وإشعال حروب أوروبٌة‪ ،‬وكان بداٌة نظام االقتصاد العالمً الجاري فرضه على الجمٌع‪ ،‬وتناول‬
‫المإتمر الدور الٌهودي فً تدبٌر الثورة اإلنجلٌزٌة‪ ،‬وكٌفٌة تبلفً األخطاء فً الثورات المقبلة‪.‬‬

‫ومن هذه "األخطاء" بطء التنفٌذ وعدم السٌطرة الكاملة؛ ما ترك شخصٌات وطنٌة فً إنجلترا تقؾ مع‬
‫الملك والحكومة وتعرقل خططهم؛ فاستؽرقت الثورة سنوات طوٌلة‪ ،‬واتفقوا على أنه فً الثورات القادمة‬
‫ٌلزم التخلص الكامل من كافة الشخصٌات الوطنٌة ولو بإبادة جماعٌة‪ ،‬وفرض السٌطرة على الجماهٌر ولو‬
‫باإلرهاب‪ ،‬وهو ما تم تنفٌذه فً الثورة الفرنسٌة‪ ،‬أكثر ثورات أوروبا دموٌة ووحشٌة وإرهابا(ٖٖ)‪.‬‬

‫اعتمد مخطط تثوٌر فرنسا على استؽبلل خطاٌا النظام القابم وخلق ظروؾ اقتصادٌة أخرى مشبعة‬
‫بالقلق‪ ،‬وتورٌط فرنسا فً الدٌون والحروب؛ بحٌث تتفشى البطالة بٌن الشعب الفرنسً وتلقً بهم إلى شفا‬
‫المجاعة‪ ،‬واستعرض روتشٌلد أمام المرابٌن العالمٌٌن تفاصٌل اإلعداد للثورة الفرنسٌة ثم السٌطرة على‬
‫العالم عند تقدٌمها كمنوذج ٌحتذى‪.‬‬

‫وعرض فً ذلك وصاٌا للسٌطرة على العالم عبر شلل من الفسدة والخونة أو من ٌتم إفسادهم عن عمد‪،‬‬
‫واستخلص ولٌام جاي كار بنودها من وثابق قال إنها فً حوزته تشمل ٕٗ نقطة‪ ،‬ومن هذه الوصاٌا‪ :‬أن ما‬
‫ٌفرض النظام واالستقرار ألي مجتمع هو أن تمتلك السلطة الحاكمة القوة‪ ،‬وعلى هذا ٌلزم تجرٌدها من هذه‬
‫القوة تحت دعاوى الحرٌة السٌاسٌة‪ ،‬فتنتشر الفوضى‪ ،‬وتسقط السلطة‪ ،‬ثم ٌنصب بارونات الثورات العالمٌة‬
‫الحكومة الخاضعة لهم‪.‬‬

‫والقوة الثانٌة التً تنظم صفوؾ المجتمع وتحفظ تماسكه هً الدٌن‪ ،‬وعلى هذا أوصى بنشر فكرة التحرر‬
‫من الدٌن‪ ،‬باعتباره قٌد‪ ،‬أو اإلكثار من المذاهب الدٌنٌة المختلفة بدعوى حرٌة االعتقاد‪ ،‬فتكثر المذاهب تبعا‬
‫لهذا التحرر فتزٌد االنقسامات داخل المجتمع الواحد‪.‬‬

‫وقال المرابً روتشٌلد إن القوة الوحٌدة التً ٌجب أن تحل محل السطة الوطنٌة والدٌن هً "قوة المال"‬
‫الذي ٌتدفق من بارونات بٌوت المال العالمٌة على من ٌثٌرون الصراعات األهلٌة‪ ،‬فً إشارة إلى نشر‬
‫الفساد والوالء للخارج‪.‬‬

‫ومن أشكال اإلفساد األخرى التً أوصى بنشرها المشروبات الكحولٌة‪ ،‬المخدرات‪ ،‬االنحبلل الجنسً‬

‫(ٖٖ)‬
‫‪ -‬انظر أحجار على رقعة الشطرنج‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪9ٓ -88‬‬

‫٘ٓ٘‬
‫خاصة بٌن صؽار السن‪ ،‬الرشوة‪ ،‬والزج بالعمبلء المدربٌن لٌعملوا كؤساتذة ومعلمٌن وحتى مربٌٌن وعمالة‬
‫داخل بٌوت الشخصٌات المستهدفة‪.‬‬

‫وتحدث عما أسماه بـ"الؽزو التسللً" للمجتمعات المستهدفة‪.‬‬

‫ولم ٌتضح فً هذا البند المقصود به تماما‪ ،‬ولكن من الممارسات التً تمت فً حروب وثورات أشرؾ‬
‫علٌها بارونات المال ٌتضح أن المقصود زرع أقلٌات وأعراق وتٌارات دخٌلة تخلق صراعات فً‬
‫المستقبل‪ ،‬مثلما تم نقل الٌهود بٌن دول أوروبا وروسٌا بؤسلوب الهجرة ؼٌر الشرعٌة‪ ،‬أو ألمرٌكا باسم‬
‫الجبٌن‪ ،‬أو بتؤسٌس منظمات تحرض المجتمع بعضه على بعض باسم منظمات حقوقٌة أو دعم األقلٌات‪.‬‬

‫واختار روتشٌلد فً هذا المإتمر شعار "الحرٌة والمساواة واإلخاء" لرفعه فً الثورة الفرنسٌة وؼٌرها من‬
‫ثورات‪ ،‬رؼم قوله إن هذه الشعارات ال مكان لها‪ ،‬ولكنها وسٌلة لتهٌٌج الشعوب حتى "ترددها كالببؽاوات"‪.‬‬

‫وعن نشر الحروب بٌن الدول‪ ،‬قال إنها ضرورٌة إلؼراقها فً الدٌون وتكبٌلها‪ ،‬ثم ُتعقد بها مإتمرات‬
‫للسبلم إلعادة تشكٌل وجه العالم بما ٌناسب المرحلة الجدٌدة من مراحل إحكام سٌطرة قوة واحدة علٌه‪ ،‬وهو‬
‫ما تم تنفٌذه على سبٌل المثال فً مإتمر الصلح ببارٌس لتوزٌع ؼنابم الحرب العالمٌة األولى‪ ،ٔ9ٔ9‬ثم‬
‫مإتمر طهران بٌن الوالٌات المتحدة واالتحاد السوفٌتً ٘ٗ‪ ٔ9‬لتوزٌع ؼنابم الحرب العالمٌة الثانٌة ووضع‬
‫نظام عالمً جدٌد معدل‪.‬‬

‫ومن وسابل السٌطرة الداخلٌة أٌضا الهٌمنة على االنتخابات وتعٌٌنات المناصب العامة‪ ،‬وأشار فً هذا‬
‫لنقطة خطٌرة‪ ،‬وهً أن ٌتم إعداد شخصٌات للمناصب الهامة "منذ الطفولة(ٖٗ)‪.‬‬

‫كذلك أوصى بالسٌطرة التامة على وسابل إعبلم الجماهٌر‪ ،‬وقال حرفٌا‪" :‬سوؾ نحوز بفضل امتبلكنا‬
‫الصحافة على سبلح ذهبً‪ ،‬وال أهمٌة لكوننا لن نصل إلى السٌطرة على هذا السبلح إال بعد أن نخوض‬
‫بحارا من دماء ودموع الضحاٌا"؛ ألنه‪ -‬بحسب روتشٌلد‪ -‬بزٌادة وطول أمد اإلرهاب سٌصل الشعب‬
‫ل ئلعٌاء الشدٌد‪ ،‬بل واالنهٌار‪ ،‬خاصة بعد أن ٌكتشؾ خدعة شعارات الحرٌات والمساواة‪ ،‬حتى إذا ما تقدم‬
‫إلٌهم رجالنا لٌعدوهم باالستقرار وإعادة النظام ٌهرعون إلٌهم ببل تفكٌر‪.‬‬

‫وانتقل الحدٌث إلى دور الدبلوماسٌة‪ ،‬فؤجمع المإتمرون على أنه البد فً أعقاب أٌة حرب من إعمال‬
‫الدبلوماسٌة السرٌة‪ ،‬والسبب حسب تعبٌر روتشٌلد الحرفً‪" :‬لكً تتمكن المنظمة من إحبلل خبرابها فً‬
‫المراكز الحساسة االقتصادٌة والسٌاسٌة والمالٌة متنكرٌن على شكل مستشارٌن مثبل‪ٌ ،‬ظهرون على‬
‫المسرحٌن الداخلً والدولً بحٌث ٌقومون بتنفٌذ المهمات التً تعهد لهم بها السلطة الخفٌة المسٌطرة من‬
‫وراء الستار دون أن تخشى التعرض ألنظار المؤل‪.‬‬

‫(ٖٗ)‬
‫‪ -‬عبر التنظٌمات التً ٌتزاوج أعضابها من بعضهم وٌنجبون أطفاال ٌربونهم منذ نعومة أظافرهم على فكرهم‪ ،‬كحركات الٌسوعٌة واإلخوانٌة‬
‫والشٌوعٌة والشٌعٌة إلخ‪ ،‬أو عبر مدارس تتبع تلك التٌارات تتولى تربٌة األجٌال منذ الحضانة وكذلك المدارس األجنبٌة‪.‬‬

‫‪٘ٓٙ‬‬
‫وذ َّكر روتشٌلد المإتمرٌن عندبذ بالهدؾ النهابً‪ :‬وهو السٌطرة على العالم بؤسره‪ ،‬وفً الطرٌق إلى هذا‬
‫الهدؾ‪" :‬سٌكون من الضروري إنشاء احتكارات عالمٌة ضخمة تدعمها ثرواتنا المتحدة بمجموعها بحٌث‬
‫تصل هذه االحتكارات إلى درجة من السلطان والهٌمنة ال ٌمكن ألي ثروة وطنٌة ٌمتلكها "الجوٌٌم"‪ -‬أي‬
‫الشعوب من ؼٌر النارٌٌن‪ -‬إال أن تقع تحت وطؤة هذه االحتكارات‪ ،‬وعندما ٌحٌن الحٌن الذي نضرب فٌه‬
‫اقتصاد تلك األمة الضربة القاضٌة تتهاوى هذه األمة اقتصادٌا وسٌاسٌا‪ ،‬وتتهاوى معها جمٌع الثروات‬
‫الوطنٌة فٌها(ٖ٘)‪.‬‬

‫وانتقل الحدٌث بعد ذلك إلى األرض نفسها‪ ،‬أراضً "الجوٌٌم"‪ ،‬وانتزاع ملكٌاتها الزراعٌة والعقارٌة‬
‫والصناعٌة بافتعال ظروؾ ٌسود معها الظلم فً المنافسة االقتصادٌة الداخلٌة‪ ،‬وإضعاؾ المصانع الوطنٌة‬
‫بتنظٌم اإلضرابات العمالٌة الدابمة‪ ،‬وكلما حصل العمال على أجور أعلى ٌفاجبون بزٌادة فً األسعار‬
‫فٌعودون لئلضرابات وهكذا‪ ،‬فٌتم التحجج بسوء اإلدارة واستمرار الخسارة ل ُتباع تلك المصانع والشركات‬
‫وؼٌرها للجاهز بالمال‪.‬‬

‫وخصص مإتمر روتشٌلد هذا المنعقد سن ٖ‪ ٔ99‬جانبا مهما للحدٌث عن الشباب‪ ،‬قاببل إنه ٌلزم إفساد‬
‫الشباب بصورة منظمة بتعمٌم الرذٌلة واألفكار الفاسدة ومحاربة األدٌان السماوٌة‪.‬‬

‫وأضاؾ المبلحظة التالٌة‪" :‬لعلكم تظنون أن الجوٌٌم لن ٌسكتوا بعد هذا‪ ،‬بل سٌهبون لبلنقضاط علٌنا‪،‬‬
‫ولكن هذا خطؤ‪ ..‬سٌكون لنا فً البلدان واألقطار التً تمك َّنا من تدمٌر نظامها الشرعً وتمسكها بالدٌن‬
‫واألخبلق منظمة كفٌلة بتدارك هذا االحتمال‪ ،‬وستكون منظمة على درجة من القوة‪ ،‬رهٌبة‪ ،‬بحٌث تتخاذل‬
‫القوى األخرى مرعوبة أمامها‪ ،‬ولها أفرع فً كل مدٌنة(‪.)ٖٙ‬‬

‫بالتزامن‪ٌ -‬قول دونالد سترومبرج‪ -‬إنه فً ذات القرن جرى تحوٌل برٌطانٌا إلى نظام "التجارة الحرة"‪،‬‬
‫عبر إسقاط سٌطرة الحكومة على الصادر والوارد‪ ،‬وخرج البرجوازٌون (رجال األعمال والنواب‬
‫والمفكرون التابعون لفكر بٌوت المال العالمٌة) ٌسخرون من حجة "حماٌة المنتج الوطنً" و"األمن القومً"‬
‫و"األمن الؽذابً للشعب"‪ ،‬وطالبوا بفتح حدود أوروبا للتجارة ببل قٌود أمام التجارة الدولٌة (التً ٌسٌطرة‬
‫علٌه حفنة من رجال األعمال والشركات) بحجة أنها السبٌل لمنع الحروب‪ ،‬ولتحوٌل هذا إلى "علم اقتصاد"‬
‫ٌدرس فً الجامعات لتطبقه كل حكومات العالم أخرجوا نظرٌات تقننه كنظرٌة الرأسمالٌة آلدم سمٌث‪،‬‬
‫افترض فٌها أن الدولة هً منبع الشرور والمفاسد فً االقتصاد‪ ،‬وأن األفراد‪ -‬رجال األعمال طبلَّب‬
‫الثروات الباهظة‪ -‬هم من ٌبحثون عن العدل والصالح العام‪ ،‬وقال‪" :‬فلتتوقؾ الحكومة عن تقدٌم المساعدات‬

‫(ٖ٘)‬
‫‪ -‬عبر إلزام الدول بفتح أسواقها للتجارة الحرة حتى للسلع الؽٌر ضرورٌة‪ ،‬وعبر الشركات المتعددة الجنسٌات القادرة على ابتالع السوق‬
‫المحلً ‪ ،‬وتصفٌة الشركات الوطنٌة‪ ،‬وتملك المستثمر األجنبً قطاعات الكهرباء والماء والمرافق وؼٌرها من عروق الدولة‪ ،‬فٌسهل ش َّلها فً أي‬
‫وقت‪.‬‬
‫(‪)ٖٙ‬‬
‫‪ -‬وصاٌا روتشٌلد وخطته المإلفة من ٕ٘ نقطة واردة بالتفصٌل فً الصفحات ما بٌن ٔ‪ ٔٓٓ-9‬فً كتاب "أحجار على رقعة الشطرنج"‪،‬‬
‫والكاتب ولٌام جً كار ٌذكر أن روتشٌلد ألقاها فً مركز مإسسة روتشٌلد فً شارع "بوندن شتراس بمدٌنة فرانكفورت سنة ٖ‪ ،ٔ77‬وللمزٌد عن‬
‫هذه البروتوكوالت وتطبٌق ما ورد فٌها على ما ٌحدث اآلن فً العالم فً كل المجاالت انظر‪ :‬بروتوكوالت حكماء صهٌون‪ ،‬فكتور ماسدون‪ ،‬الحرٌة‬
‫للنشر والتوزٌع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬والخطر الٌهودي بروتوكوالت حكماء صهٌون‪ ،‬ترجمة محمد خلٌفة التونسً‪ ،‬ط ٗ‪ ،‬دار الكتاب العربً‪ ،‬القاهرة‬

‫‪٘ٓ7‬‬
‫للمشروعات‪ ،‬وعن الضبط والتنظٌم‪ ،‬وعندبذ ستختفً المظالم وٌنتفً الجور(‪.")ٖ9‬‬

‫وجاءت الرأسمالٌة االقتصادٌة ثمرة لما سبقها من نظرٌات اللٌبرالٌة السٌاسٌة والنفعٌة التً وضعها‬
‫جون لوك وجون ستٌوارت مٌل ودٌفٌد هٌوم وتسٌر فً اتجاه الفردٌة األنانٌة‪ ،‬وأن ٌكون الحكم فً ٌد‬
‫أفراد‪ ،‬مثل نواب البرلمان‪ ،‬ولٌس الحكومات(‪ ،)ٖ8‬مع ما هو معلوم أن أسرع من ٌصل للبرلمان هم رجال‬
‫األعمال أو من ٌموله رجال األعمال من أعضاء التنظٌمات العالمٌة الهادفة للسٌطرة على الحكم‪.‬‬

‫وقوبلت هذه النظرٌات برفض من مفكرٌن أوروبٌٌن كبنٌامٌن نلسون الذي حذر من أن "المجتمع الذي ٌقوم‬
‫على األنانٌة البحتة سٌتفتت حتما إلى ذرات‪ ،‬وسٌعٌش أفراده حاالت شاذة من البلانتماء"‪ ،‬وجوزٌؾ دي‬
‫مستر الذي قال إن عصر التنوٌر هو من سمم جسد فرنسا‪ ،‬واعتبر أن فولتٌر وأتباعه من "عتاة‬
‫المجرمٌن"‪ ،‬وفولتٌر ٌتبع "طقوس عبادة الشٌطان"‪ ،‬وفً أحسن األحوال فهو وأمثاله من فبلسفة كـ جون‬
‫لوك ودٌفٌد هٌوم "ضالون الضبلل الرهٌب المرعب"‪ ،‬وتخوؾ آخرون من أن هذه النظرٌات الطفٌلٌة‬
‫"تقتلع جذور األمة"‪ ،‬و"تقضً على حكمة األجٌال السابقة(‪.)ٖ9‬‬

‫ولمَّا تشبعت أوروبا من البضاٌع مع كثرة المصانع توجهوا لكسر الحدود أمام تجارتهم فً العالم‪ ،‬ورأٌنا‬
‫نصٌب مصر من هذا حٌن تآمرت برٌطانٌا مع السلطان العثمانلً ضد محمد علً إلنهاء االحتكار وحماٌة‬
‫المنتج المصري بمعاهدة بلطة لٌمان ‪ ،ٔ8ٖ8‬وجرى فً مصر ما علمنا من إؼراق فً الدٌون‪.‬‬

‫▼▼▼ الثورة الفرنسٌة‬

‫وهنا جاء اختبار تطبٌق ما سبق‪ ،‬ونتابع ما جاء حول هذه الثورة فً كتاب "أحجار على رقعة الشطرنج"‪.‬‬

‫قامت الثورة على ٌد أفسد أهل فرنسا والمتسللٌن األجانب‪ ،‬استؽلوا ظروفا اقتصادٌة وسٌاسٌة سٌبة‪،‬‬
‫وأضافوا علٌها ظروفا أشد مصطنعة‪ ،‬وتفننوا فً حرب اإلشاعات للطعن حتى فً شرؾ الملكة‪ ،‬وأشرؾ‬
‫على تؤجٌجها "األستاذ األعظم"(ٓٗ) لمحافل الشرق العظمى الماسونٌة فً فرنسا وهو الدوق دورلٌان‪ ،‬ابن‬
‫عم الملك لوٌس السادس عشر‪ ،‬الذي صوّ ت على إعدامه بعد الثورة طمعا فً تولً العرش مكانه‪.‬‬

‫ومساعد دورلٌان كان الكونت دي مٌرابو الذي وجد فٌه المرابون مٌبل كبٌرا للفساد واالنحراؾ‪ ،‬وفً‬
‫نفس الوقت خطٌبا بلٌؽا قادرا على توصٌل األفكار الثورٌة للناس‪ ،‬وجرى تورٌطه فً الدٌون‪ ،‬ثم ظهر له‬
‫الماسونٌون كمنقذٌن له من الدٌون بعرض أموال علٌه ببل حساب‪ ،‬حتى ؼرق فٌها لحلقومه وصار طوع‬
‫أٌدٌهم‪ ،‬وقذفوه المرأة ٌهودٌة هً مدام هٌوز مشهورة فً بارٌس بفتنتها الطاؼٌة‪ ،‬فتلطخت سمعته‪.‬‬

‫حول قصر‬
‫ونفس األمر جرى مع الدوق أورلٌان بجره إلى مستنقع الرذٌلة والدٌون الباهظة‪ ،‬حتى َّ‬
‫(‪)ٖ7‬‬
‫‪ -‬تارٌخ الفكر األوروبً الحدٌث (ٔٓ‪ ،)ٔ977 -ٔٙ‬دونالد سترومبرج‪ ،‬ترجمة أحمد الشٌبانً‪ ،‬طٖ‪ ،‬دار القارئ العربً‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ99ٗ ،‬ص‬
‫‪ ٕٖٙ‬و ٖٔٗ و‪ ٖٗ8‬و‪7ٕ8‬‬
‫(‪)ٖ8‬‬
‫‪ -‬أصول التارٌخ األوروبً الحدٌث‪ ،‬أشرؾ صالح‪ ،‬دار ناشري للنشر اإللكترونً‪ ،‬طٔ‪ ،‬الكوٌت‪ ،ٕٓٓ9 ،‬ص ‪ٔ9ٓ -ٔٙ9‬‬
‫(‪)ٖ9‬‬
‫‪ -‬تارٌخ الفكر األوروبً الحدٌث (ٔٓ‪ ،)ٔ999 -ٔٙ‬دونالد سترومبرج‪ ،‬ص ٖٖٓ‪ٖٖٙ -‬‬
‫(ٓٗ)‬
‫‪ -‬األستاذ األعظم لقب الربٌس األكبر لهذه المحافل‪ ،‬وسٌظهر أٌضا مع تنظٌمات أخرى إخوانٌة وشٌعٌة إلخ‬

‫‪٘ٓ8‬‬
‫"البالٌه روٌال" الملكً إلى محل لممارسة الرذٌلة‪ ،‬وبعد أن نضج االثنان فً إناء الفساد عرض النارٌون‬
‫لهما جانبا صؽٌرا من أهدافهم‪ ،‬وأخذوا منهما ٌمٌن الوالء‪ ،‬ومن ٌخالؾ مصٌره الموت‪.‬‬

‫لم ٌكن الفسدة من أهل البلد كافٌا‪ ،‬فكان السبلح القدٌم وهو االستعانة باألجانب‪ ،‬ففً ذلك الوقت انتشرت‬
‫فً أوروبا القصص اإلباحٌة لٌهودي من إسبانٌا‪ ،‬كودبرلوس دي الكلو‪ ،‬مثل قصة "العبلقات الخطٌرة"‪،‬‬
‫وصار فً فرنسا مشرفا على قصر "البالٌه روٌال" وأٌضا ٌهودي آخر من إٌطالٌا ٌدعى كالبسترو‪ ،‬واسمه‬
‫كون شبكة جواسٌس فً كل مكان لتتبع انحرافات الشخصٌات العامة وتسرٌبها‬ ‫األصلً "جوزٌؾ بالسامو‪َّ ،‬‬
‫للعامة لنشر السخط‪.‬‬

‫وأدرك المإرخ البرٌطانً األشهر السٌر والتر سكوت الدور الذي لعبته القوى الخفٌة وراء واجهة‬
‫الثورة الفرنسٌة‪ ،‬فً مإلفه الضخم "حٌاة نابلٌون"‪ -‬الصادر عام ٕٗ‪ -ٔ8‬حٌن تساءل باستؽراب لماذا كانت‬
‫معظم وجوه الثورة الفرنسٌة وجوها أجنبٌة عن فرنسا؟!‬

‫ونشرت اللٌدي كونبسبورو زوجة اللورد كوبنسبورو ومإلفة كتاب "حكم الكهنوت الخفً" خبلصة‬
‫مطبوعة قدٌمة اسمها "العداء للسامٌة" كتبها سنة ‪ ٔ8ٗ9‬الٌهودي بنٌامٌن جولد شمٌد تحكً أنه وأخاه‬
‫إبراهام جولد شمٌد وشرٌكهما موسى مٌكاتا وابن أخ هذا األخٌر الذي حصل على لقب نبٌل إنجلٌزي فٌما‬
‫بعد وأصبح اسمه موسى مونتٌفٌور(ٔٗ) وكلهم من كبار الممولٌن فً إنجلترا‪ ،‬ساعدوا فً تموٌل الثورة‬
‫الفرنسٌة‪ ،‬وعلق والتر سكوت على ذلك بؤن الممولٌن العالمٌن كانوا ٌقرضون األموال لفرنسا بٌد‪ ،‬وٌجنون‬
‫أرباح هذه القروض الفاحشة بٌد أخرى‪ ،‬حتى تسببوا فً إنهاك الخزٌنة‪.‬‬

‫وانتهى األمر بقبول لوٌس الرابع عشر شرطا بتعٌٌن رجلهم السوٌسري جاك نٌكر وزٌرا مطلق‬
‫الصبلحة للشإون المالٌة‪ ،‬مع حملة دعابٌة ضخمة أنه القادر على البرنامج اإلصبلحً البلزم إلنقاذ‬
‫فرنسا(ٕٗ)‪ ،‬وٌصؾ المإرخ اإلنجلٌزي الكابتن "آ‪.‬رامزي" الوضع فً كتابه "حرب دون اسم" كما ٌلً‪:‬‬
‫"كانت الثورة الفرنسٌة ضربة انقضت على جسم مشلول"‪ ،‬لكثرة الفساد األخبلقً وسٌطرة المرابٌن على‬
‫اإلعبلم‪.‬‬

‫وكان ٌجري إعداد الهجوم على سجن الباستٌل الشهٌر إلطبلق سراح المجرمٌن المهٌبٌن لخلق جو ٌإدي‬
‫لتروٌع الناس وخلق حكم إرهابً‪ ،‬ووضع قوابم سوداء لمن ٌُراد التخلص منهم(ٖٗ)‪.‬‬

‫(ٔٗ)‪ -‬موسى مونتٌفٌور ثري ٌهودي مشهور من برٌطانٌا ‪ ،‬عرض على محمد علً خالل حكمه الشام أن ٌسمح للٌهود بالهجرة لفلسطٌن بحجة‬
‫االستثمار‪ ،‬وهو من أول المرابٌن الذٌن كونوا مستوطنات للٌهود بفلسطٌن بداٌة من ٓٗ‪ ،ٔ8‬وله حً باسمه فً إسرابٌل‪ ،‬وشجع عابلة محمد علً‬
‫أٌضا على منح امتٌازات للٌهود فً مصر لم ٌحلموا بها فً أي دو لة أخرى‪ ،‬وجعلتهم ٌتخذوا من مصر قاعدة آمنة لتدرٌب العصابات الصهٌونٌة‬
‫وتكوٌن الجماعات اإلسرابٌلٌة وجمع األموال الضخمة من الربا وؼٌره وإرسالها للٌهود بفلسطٌن‪.‬‬
‫انظر هنا الشكر الذي ٌرسله ربٌس الوزراء اإلسرابٌلً بنٌامٌن نتنٌاهو إلى عابلتً مونتٌفٌور وروتشٌلد على دورهما فً تكوٌن إسرابٌل‪:‬‬
‫ربٌس الوزراء ٌدشن الطاحونة التً أعٌد ترمٌمها فً حً "مشكنوت شؤنانٌم" فً أورشلٌم القدس‪ ،‬موقع دٌوان رباسة الوزراء‪ٕٕٓٔ -8 -ٕ8 ،‬‬
‫(ٕٗ)‪ -‬كما حدث مع الملك البطلمً بطلمٌوس الثانً عشر فً مصر حٌن كبلته روما بالدٌون ثم أرسلت له رابٌرٌوس كوزٌر للمالٌة‪ ،‬وحدث مع‬
‫الخدٌوي إسماعٌل بإرسال نظام المراقبة الثنابٌة األجنبٌة‪.‬‬
‫(ٖٗ)‬
‫‪ -‬نفس مشهد إطالق سراح المساجٌن فً ٕٔٔٓ‪ ،‬واعترفت اإلعالمٌة جمٌلة إسماعٌل‪ ،‬إحدى الوجوه البارزة فً احتجاجات ذلك الوقت‪ ،‬فً‬
‫برنامج "ساعة حساب" بقناة "بً بً سً" العربٌة فً ‪ 7‬فبراٌر ٖٕٔٓ‪ ،‬بدور من وصفتهم بـ"الثوار" فً حرق األقسام واقتحام السجون‪.‬‬

‫‪٘ٓ9‬‬
‫وبعد اندالع الثورة جاءت الفترة المعروفة فً تارٌخ فرنسا باسم" حكم اإلرهاب"؛ حٌث كان الضحاٌا ٌساقون‬
‫فٌها إلى المقصلة ٌومٌا بالمبات‪ ،‬سواء من العابلة الحاكمة أو كبار رجال الدولة أو المواطنٌن الرافضٌن لهذه‬
‫الفوضى‪ ،‬ومن أشهر مذابح ذلك العصر تلك التً وقعت سنة ٕ‪ ٔ99‬بقتل اآلالؾ داخل السجون‪.‬‬

‫وفً كتابه ألفه جً‪ .‬رٌنٌه بعنوان "حٌاة روبسبٌر" قال إن حكم اإلرهاب بلػ ذروته القصوى فً الفترة‬
‫بٌن ‪ ٕ9‬أبرٌل‪ٌ ٕ9 -‬ولٌو ٗ‪ ،ٔ99‬ففً هذا الٌوم األخٌر ُخذِل روبسبٌر أمام الجمعٌة الوطنٌة؛ فؤلقى خطابا‬
‫شن فٌه هجوما عنٌفا على من أسماهم ب"اإلرهابٌٌن المتطرفٌن" قال فٌه‪" :‬إننً ال أجرإ على تسمٌتهم فً‬
‫هذا المكان وفً هذا الوقت‪ ..‬كما أننً ال استطٌع كشؾ الحجاب الذي ٌؽطً هذا اللؽز فً الثورات منذ‬
‫أجٌال سحٌقة‪ ..‬ؼٌر أننً أستطٌع أن أإكد‪ ،‬وأنا واثق كل الوثوق‪ ،‬أن بٌن مدبري هذه المإامرة عمبلء َّأثر‬
‫فٌهم ذلك المنهج القابم على الفساد والرشوة‪ ..‬وهما أكثر وسٌلتٌن فعالٌة بٌن جمٌع الوسابل التً اخترعها‬
‫أجانب عندنا لتفسٌخ هذه الدولة‪ ،‬وأعنً بهإالء كهنة اإللحاد والرذٌلة الدنسٌن"‪.‬‬

‫وهذه شهادة من أحد قادة الثورة أنفسهم بدور األجانب وأعوانهم فً نشر اإلرهاب والفوضى والرذٌلة‪،‬‬
‫بالرؼم من أنه هو نفسه ممن شاركوا فً هذا اإلرهاب(ٗٗ)‪.‬‬

‫وبعد الصعود القوي لنجم نابلٌون بونابرت‪ ،‬استؽل المرابون العالمٌون عشقه للحروب ولذاته فً مرمؽة‬
‫فرنسا فً مزٌد من الحروب الستنزافه من ناحٌة ولنشر أفكار الثورة الفرنسٌة من ناحٌة‪ ،‬وظهرت الحروب‬
‫باعتبارها "تجارة رابحة" احتكرت شركات بارونات البنوك العالمٌة بسبب صناعات السبلح والدواء‬
‫والكٌماوٌات والحدٌد واألسمنت‪ ،‬بخبلؾ اإلعبلم‪.‬‬

‫ومن رحم كل هذا‪ ،‬خرجت مشاعل فكرة المواطن العالمً‪ ،‬وخلط الشعوب عبر الهجرات تحت اسم‬
‫قبول اآلخر واإلخاء‪ ،‬وتٌارات العلمانٌة واللٌبرالٌة والشٌوعٌة واإللحاد وتقدٌس الحرٌة الفردٌة واإلباحٌة‬
‫والحرٌات المطلقة التً تنسؾ كل األصول الدٌنٌة والوطنٌة(٘ٗ)‪ ،‬وستطٌر بؤجنحتها السوداء كالطٌور‬
‫الجارحة إلى مصر ٌوما لتنهش فً ما بقً من ماعت فٌها‪.‬‬

‫▼▼▼ خلق الشٌوعٌة والنازٌة (صناعة األضداد)‬

‫تطبٌقا لبند تحوٌل العالم إلى معسكرات متنابذة متصارعة‪ ،‬وكل منها ٌدعً أنه المنقذ وأنه األجدر بقٌادة‬
‫العالم‪ ،‬ورفضا لترك كل دولة تصنع لنفسها طرٌقها الخاص فً الحكم والحٌاة‪ ،‬فإنه بعد تؤسٌس معسكر‬
‫العالم الرأسمالً اللٌبرالً باإلطاحة بنظم الحكم العتٌقة فً برٌطانٌا وفرنسا وبلع اقتصادها‪ ،‬بدأ التؤسٌس‬
‫لمعسكر الشٌوعٌة‪ ،‬ومعسكر النازٌة‪ ،‬ومعسكر الفاشٌة‪ ،‬وأخٌرا معسكر الدول والحركات المتمسحة فً‬
‫اإلسبلم‪ ،‬كجماعات السلفٌة و"اإلخوان المسلمٌن" ونظم الحكم الشٌعٌة كالتنظٌمات اإلٌرانٌة‪.‬‬
‫(ٗٗ)‬
‫‪ -‬ومعروؾ أنه فً تارٌخ مصر دخول أشنع الجرابم والرذابل ٌـتم على ٌد أجانب‪ ،‬كالدعارة والربا والمخدرات وتجارة البشر وتجارة األعضاء‪،‬‬
‫والجهر بالفجور (الشذوذ الجنسً وؼٌره) والفساد الممنهج‪ ،‬وهً الجرابم الت ً تخلؾ عددا كبٌرا من الضحاٌا فً وقت قصٌر‪ ،‬وتتعدى على كافة‬
‫الحرمات والفطرة‪ ،‬أما المجتمع المصري الطبٌعً فكانت الجرابم به تقلٌدٌة كالسرقة أو الرشوة أوالقتل الفردي وما شابه ذلك‪ ،‬ونسبتها قلٌلة‪،‬‬
‫خاصة فً فترات قوة الحكم المركزي وااللتزام بـ "ماعت"‪.‬‬
‫(٘ٗ)‬
‫‪ -‬ما سبق فٌما ٌخص الثورة الفرنسٌة ملخص لما جاء فً "أحجار على رقعة الشطرنج"‪ ،‬ولٌام جً كار‪ ،‬ص ‪ٖٔٔ -ٕٔ9‬‬

‫ٓٔ٘‬
‫ففً الوقت الذي كان كارل ماركس‪ -‬تحت إشراؾ جماعة اإلخوان النارٌٌن (اإلخوان النورانٌٌن)‪ٌ -‬كتب‬
‫البٌان الشٌوعً سنة ‪ ،ٔ8ٗ9‬أي بعد ‪ ٘8‬سنة من الثورة الفرنسٌة‪ ،‬كان كارل رٌتر األستاذ فً جامعة‬
‫فرانكفورت األلمانٌة ٌكتب سنة ‪ ٔ8ٗ9‬النظرٌة المعاكسة للشٌوعٌة‪ -‬تحت إشراؾ جماعة أخرى من‬
‫النارٌٌن أنفسهم‪ -‬بحٌث ٌكون‪ ،‬كما سٌتبٌن فً المستقبل‪ ،‬فً مقدرة رإوس المإامرة العالمٌة استخدام‬
‫النظرٌتٌن المتعاكستٌن فً خلق حروب بٌن الشعوب المنتمٌة لتلك األٌدٌولوجٌات‪.‬‬

‫وتقوم نظرٌة كارل رٌتر على تفوق الجنس الجرمانً (األلمانً) على ما سواه‪ ،‬وذلك ردا على ما كشفه‬
‫كتاب جون روبسون "المإامرة على كافة الحكومات واألدٌان" عن فكر النارٌٌن الذي ٌتحدث عن تفوق‬
‫الٌهود‪ ،‬فدعت نظرٌة رٌتر إلى القضاء على كافة بٌوت المال الٌهودٌة لنزع سٌطرتها على اقتصاد العالم‪،‬‬
‫ولكن لٌس لٌتحرر العالم‪ ،‬وإنما لٌخضع لسٌطرة جدٌدة‪ ،‬هً سٌطرة الجرمان‪.‬‬

‫فدعا إلى أن ٌسٌطر األلمان على حكم العالم وحدهم‪ ،‬و ُترؼم كافة الشعوب على نبذ حكوماتها الوطنٌة‪،‬‬
‫وعلى الوالء لحاكم واحد فً العالم هو الحاكم األلمانً‪ ،‬وهو ما تولد عنها ما عُرؾ فٌما بعد بالنازٌة (الدولة‬
‫األلمانٌة العالمٌة)‪ ،‬واقتدت به إٌطالٌا فظهرت الفاشٌة‪ ،‬ورأى رٌتر أن الشٌوعٌة التً دعا لها كارل ماركس‬
‫ابن العابلة الٌهودٌة ٌقؾ وراءها جماعة النارٌٌن وبٌوت المال العالمٌة‪ ،‬لذا دعا لمحاربتها‪ ،‬رؼم أنه فً‬
‫نفس الوقت كان ٌنفذ أٌضا ما تملٌه علٌه ذات الجماعة‪ ،‬وهو سٌطرة جنس أو مجموعة معٌنة على العالم‬
‫واستعباده‪.‬‬

‫وأوصى بإنشاء طابور خامس نازي ٌواجه الطوابٌر الشٌوعٌة وتنظٌماتها السرٌة‪ ،‬وٌشتؽل على إقناع‬
‫المستوٌات الوسطى والعلٌا فً الببلد التً تنوي ألمانٌا إخضاعها بؤن النازٌة هً الوسٌلة الوحٌدة لردع‬
‫الشٌوعٌة‪ ،‬وٌجهزوا الساحة الستقبال جٌوش ألمانٌا باعتبارها جٌوش صدٌقة ولٌست احتبلل(‪.)ٗٙ‬‬

‫وأكمل مشروع رٌتر ألمانً آخر هو نٌتشة‪ ،‬مإسس المذهب الفلسفً (النٌتشٌٌزم) أو فلسفة نٌتشه الملحدة‬
‫الذي ٌروج إلى أن كل خٌر فً الدٌنا ضعؾ‪ ،‬وأن كل شر هو مصدر قوة اإلنسان "السوبر"‪.‬‬

‫وبعد مرحلة ؼرس األٌدٌولوجٌات المتصارعة‪ ،‬بدأت المرحلة الثانٌة وهً تسلٌح كل من المعسكرٌن‪،‬‬
‫ودفعه لبلنقضاض على اآلخر‪ ،‬ولو بعد حٌن‪ ،‬وهذه المذاهب الثبلثة هً التً أتاحت للنارٌٌن عن طرٌق‬
‫عمبلبهم إشعال نٌران الحربٌن العالمٌتٌن األولى والثانٌة(‪.)ٗ9‬‬

‫وبعد انتقال مقر قٌادة النارٌٌن إلى الوالٌات المتحدة‪ ،‬صارت بٌوت المال فٌها صاحبة دور كبٌر فً‬
‫تؽذٌة جٌوب الشٌوعٌٌن‪ ،‬على عكس العداء الظاهر بٌن المعسكرٌن‪.‬‬

‫فٌتحدث المخرج والكاتب األمرٌكً ماٌرون فاجان فً كتابه "مخطط النورانٌٌن"‪ -‬الصادر ‪ -ٔ9ٙ9‬عن‬

‫(‪)ٗٙ‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٔٗ‪ٕٗ -‬‬
‫*** وتركٌز مشروع كارل رٌتر على تجنٌد النخبة فً كل بلد هو تنفٌذ لبند ورد أٌضا فً توصٌات تنظٌم النارٌٌن‬
‫(‪)ٗ9‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٔ8 -ٔ9‬‬

‫ٔٔ٘‬
‫جذور عبلقة أمرٌكا بنشؤة الشٌوعٌة‪ ،‬قاببل إنه فً خمسٌنٌات القرن ‪ ٔ9‬اجتمع النورانٌون فً نٌوٌورك‪،‬‬
‫وقرروا توحٌد جماعتً العدمٌٌن "النهلستً" ‪ Nihilist‬و"الملحدٌن" ‪ Atheist‬مع كل الجماعات المدمرة‬
‫فً جماعة عالمٌة ٌُطلق علٌها اسم الشٌوعٌٌن‪ ،‬تحمل الرعب والعمل المسلح للعالم‪.‬‬

‫وتولى كلٌنتون روزفلت‪ ،‬أحد أسبلؾ فرانكلٌن روزفلت‪ ،‬وهوارس جرٌلً‪ ،‬وتشارلز دانا‪ ،‬أشهر ناشري‬
‫الجرابد فً ذلك الوقت‪ ،‬مهمة جمع المال لتكوٌن التنظٌم الجدٌد‪ ،‬وبالطبع فإن معظم التموٌبلت جاءت من‬
‫عابلة روتشٌلد‪ ،‬واستخدموا األموال فً دعم كارل ماركس وإنجلز أثناء كتابتهما لكتاب "الرأسمالٌة" وكتاب‬
‫"البٌان الشٌوعً فً سوهو بإنجلترا‪ ،‬وصار لٌنٌن وتروتسكً وستالٌن الشٌوعٌٌن خلفاء لٌمً فً قٌادة‬
‫الحركة الثورٌة العالمٌة‪ ،‬واعتبر فاجان أنه بهذا فالشٌوعٌة لٌست أٌدٌولوجٌة كما ٌسمونها‪ ،‬بل هً سبلح‬
‫سري وكلمة مرعبة تقال كً تخدم ؼاٌات النارٌٌن(‪.)ٗ8‬‬

‫▼▼▼ "النارٌون" ٌحتلون أمرٌكا بالالجبٌن‬

‫لما كثرت الكتابات التً تكشؾ نشاط الماسونٌٌن األحرار والنارٌٌن فً أوروبا بعد الثورة الفرنسٌة‪،‬‬
‫وخاصة بعد النشاط الثوري الذي أشاعه مازٌنً (خلٌفة واٌزهاوبت فً قٌادة النورانٌٌن) فً إٌطالٌا‪ ،‬بدأ‬
‫النورانٌون ٌنقلون‪ -‬بالتدرٌج‪ -‬نشاطهم إلى البلد النابً البعٌد عن الشبهات حٌنها‪ ،‬أي الوالٌات المتحدة‪.‬‬

‫وفً العالم الجدٌد‪ ،‬كان توماس جٌفرسون‪ -‬الربٌس الثالث ألمرٌكا (ٔٓ‪ -)ٔ8ٓ9 -ٔ8‬تلمٌذا لواٌزهاوبت‪،‬‬
‫وأشد المدافعٌن عنه عندما أعلنته حكومة ببلده خارجا على القانون‪ ،‬وعن طرٌق جٌفرسون‪ ،‬الشهٌر بؤنه "نصٌر‬
‫الحرٌات والمساواة"‪ ،‬تؽلؽل النارٌٌن الجدد فً المحافل الماسونٌة بؤمرٌكا‪ ،‬ومن ثم سٌطروا علٌها(‪.)ٗ9‬‬

‫وهنا ظهر دور الهجرات األجنبٌة المنظمة تحت اسم الجبٌن أو مستثمرٌن مجددا كما ظهرت فً‬
‫الثورتٌن اإلنجلٌزٌة والفرنسٌة‪ ،‬فبعد أن كانت أمرٌكا تفضل الهجرات القادمة فقط من ؼرب أوروبا (البٌض‬
‫البروتستانت)‪ ،‬توؼل "النارٌون" مدعومٌن بتوطٌن هجرات ٌهودٌة كثٌفة استقدموها من روسٌا وشرق‬
‫أوروبا فً شكل الجبٌن‪ ،‬وتمكٌنهم من اقتصاد أمرٌكا ومإسساتها باسم مستثمرٌن ثم نواب وحزبٌٌن‬
‫لتطوٌق رقبتها‪ ،‬وسٌطروا فعبل من بوابة االستثمار والخصخصة‪ ،‬فاشتروا شركات عمبلقة تابعة للحكومة‬
‫أو ؼٌرها من األمرٌكٌٌن مثل "هاٌنز‪ -‬مورز" الخاصة بالسفن ومصانع الحدٌد واحتكرتها شركات‬
‫"مورجان" و"درٌكسٌل" العاملتان تحت مظلة روتشٌلد(ٓ٘)‪.‬‬

‫ومن األسماء التً ٌتوارى ورابها "النارٌون" حدٌثا فً أمرٌكا بعد اكتشاؾ أمر محافلهم القدٌمة مجلس‬
‫العبلقات الخارجٌة ‪ Council of Foreign Relation‬واختصارا معروؾ ب ‪ CFR‬وتؤسس‬
‫ٕٔ‪ ،ٔ9‬وهو الفرع السٌاسً لجماعة النارٌٌن فً الوالٌات المتحدة‪ ،‬وأخوه فً برٌطانٌا المعهد البرٌطانً‬

‫(‪)ٗ8‬‬
‫‪" -‬مخطط المتنورٌن"‪ ،‬ماٌرون فاجان‪ ،‬ترجمة عبلء الحلبً‪ ،‬سورٌا‪ ،‬ص ٘ٔ‪( ،ٕٓ-‬صفحات الوثٌقة المترجمة على اإلنترنت ؼٌر مرقمة‪ ،‬وهذا‬
‫أرقام نسخة ‪ PDF‬المنشورة بنفس العنوان)‬
‫(‪)ٗ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٘ٔ‬
‫(ٓ٘)‬
‫‪ -‬الشٌطان أمٌر العالم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔٗ9‬‬

‫ٕٔ٘‬
‫للعبلقات الخارجٌة ‪ British Institute of International Affairs‬وٌوجد مثله فً فرنسا‬
‫وألمانٌا إلخ‪.‬‬

‫تؤسس المجلس كرد فعل على فشل النارٌٌن فً إجبار الكونجرس على قبول انضمام أمرٌكا لعصبة األمم‬
‫بعد الحرب العالمٌة األولى‪ ،‬ألن الكونجرس كان ما زال فٌه نواب والبهم ألمرٌكا؛ فتؤسس المجلس لتخرٌج‬
‫من سٌصبحون نوابا ووزراء ومستشارٌن للحكومة ورإساء‪.‬‬

‫وبالتزامن‪ ،‬قام النارٌون والهٌبات التعلٌمٌة فً الكلٌات والجامعات بدعم الطبلب الذٌن ٌتمٌزون بذكاء‬
‫عال أو ٌنتمون لعاببلت مرموقة عبر المنح التعلٌمٌة‪ ،‬ومن أشهر من حصلوا على منحة وٌلٌام جً‬
‫فولبراٌت‪ ،‬والذي بعد سنوات خصص منحة باسمه "منحة فولبراٌت" تقدم لدول العالم لتخرٌج "طبلب‬
‫دولٌٌن"‪ٌ ،‬إمنون بفكرة الحكومة العالمٌة‪ ،‬وٌعمل بعضهم فٌما بعد مستشارٌن حكومٌٌن وخبراء ٌوجهون‬
‫المسبولٌن نحو الوجهة التً تإدي بعد حٌن إلى دمار الحكومات واألدٌان(ٔ٘)‪.‬‬

‫ولمنحة فولبراٌت فرع فً مصر‪ ،‬إلى جانب منح منظمات أجنبٌة أخرى‪ ،‬ونقبل علٌها كلنا‪ -‬وكنت أنا‬
‫ممن ٌسعون إلٌها قبل اكتشاؾ أمرها‪ -‬دون أن نسؤل أنفسنا عن أهداؾ هذه الدول من توفٌر "منح مجانٌة"‬
‫ألبناء ببلد معلوم أنها تطمع فً السٌطرة علٌها‪.‬‬

‫أما اإلعبلم فهو البوابة األسرع للتحكم فً الرأي العام‪ ،‬ولكننا فً مصر دابما نسمع أن أمرٌكا هً مثال‬
‫لئلعبلم الحر‪ ،‬وأننا فً مصر ٌجب أن نقلدها ونلؽً اإلعبلم الحكومً ونسلم اإلعبلم لرجال األعمال‬
‫مصرٌٌن أو أجانب‪ ،‬فهل اإلعبلم فً أمرٌكا والؽرب عموما حر؟‬

‫ٌجٌب فاجان‪" :‬هل تعلمون من ٌملك وٌتحكم بوسابل اإلعبلم األمرٌكٌة؟ سوؾ أخبركم‪ :‬كل استودٌوهات‬
‫تصوٌر األفبلم هولٌوود تملكها عابلة لٌمان‪ ،‬وشركة كون ولوٌب وشركابهم‪ ،‬وعابلة جولدمان ساتش‬
‫وؼٌرهم من بٌوت المال العالمٌة‪ ،‬وكذلك كل محطات الرادٌو والتلفاز المشهورة على نطاق الوالٌات‬
‫المتحدة ٌملكها وٌتحكم بها هإالء أٌضا‪ ،‬والحالة نفسها مع كل سبلسل الجرابد والمجبلت الرفٌعة مثل‬
‫"واشنطن بوست" و"نٌوزوٌك"‪ ،‬ووكاالت األنباء مثل أسوشٌتدبرس وٌوناٌتدبرس انترناشونال إلخ(ٕ٘)‪.‬‬

‫أي أن "حرٌة اإلعبلم" فً أمرٌكا وأوروبا هً أن ٌكون حرا من الحكومة والدولة والمصلحة الشعبٌة لٌقع‬
‫فً ٌد التنظٌم الناري "النارٌٌن األحرار"‪ ،‬أي كانها "حرٌة الشٌطان"‪.‬‬

‫وعن طرٌق اإلعبلم وتوزٌع ملكٌته وانتماءاته على عدة تٌارات انتشر التحزب وتقسٌم المجتمع‬
‫األمرٌكً لطوابؾ متخاصمة من الٌمٌن إلى الٌسار‪ ،‬وانتشر‪ -‬بحسب فاجان‪ -‬الخبلعة والشذوذ الجنسً‬
‫(الفجور)(ٖ٘)‪ ،‬وكما قال أحدهم‪" :‬امنحنً جٌبل واحدا من الشباب وأنا سؤؼٌر كل العالم"؛ فإصبلح أو إفساد‬

‫(ٔ٘)‬
‫‪ -‬انظر "مخطط المتنورون‪ ،‬فاجان‪ ،‬ص ٔٔ‬
‫(ٕ٘)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٔٔ‬
‫(ٖ٘)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٖٙ‬‬

‫ٖٔ٘‬
‫جٌل واحد قادر على إصبلح أو إفساد األجٌال البلحقة‪ ،‬ألنه من سٌضع القوانٌن التً تشكل المستقبل‪.‬‬

‫▼▼▼ ألبرت باٌك‪ ..‬والحروب العالمٌة الثالثة‬

‫وبعد تمكن النارٌٌن فً الوالٌات المتحدة تولى قٌادتهم هناك جنرال أمرٌكى ٌدعى ألبرت باٌك‪ ،‬صاحب‬
‫التمثال الشهٌر فً الساحة العامة بواشنطن‪.‬‬

‫(ٗ٘)‬
‫)‬ ‫تمثال ألبرت باٌك نصبه الماسون األحرار فً واشنطن ٔٓ‪( ٔ9‬صحٌفة واشنطن بوست‬

‫وكرر باٌك مهمة واٌزهاوبت‪ ،‬وهً تحدٌث البروتوكوالت لتناسب تطور األحداث‪ ،‬فإن كان على ٌد‬
‫واٌزهابت قامت الثورة الفرنسٌة واألٌدٌولوجٌة الشٌوعٌة والنازٌة‪ ،‬فعلى ٌد مخطط باٌك قامت الثورة‬
‫الروسٌة والثورة اإلسبانٌة‪ ،‬وأٌدٌولوجٌة الصهٌونٌة والحربان العالمٌتان األولى والثانٌة وٌعدون للثالثة‪.‬‬

‫فقام مشروع باٌك‪ -‬بحسب رسالة مإرخة بـ ٘ٔ أؼسطس ٔ‪ ،ٔ89‬وأبلؽها لمازٌنً‪ -‬على أن ٌشعل‬
‫مدٌرو الحركة الثورٌة العالمٌة ٖ حروب عالمٌة وٖ ثورات كبرى للحط من الحكومات المتبقٌة لتصل إلى‬
‫اإلنهاك فاالنهٌار االقتصادي‪ ،‬وتتشوق شعوبها لحكومة عالمٌة بوصفها الحل الوحٌد لمشاكلهم الكثٌرة‪.‬‬

‫وبعد الحروب العالمٌة الثبلثة وثورتٌن ستبقى الوالٌات المتحدة القوة العالمٌة الوحٌدة‪ ،‬ولكن فً الثورة‬
‫الثالثة‪ ،‬التً وصفها باٌك بؤنها أعظم كارثة اجتماعٌة ستمر على العالم‪ ،‬ستتفكك الوالٌات المتحدة بؽدر من‬
‫الداخل‪ ،‬وستقع فً أٌدي أتباع إبلٌس "مثل فاكهة شدٌدة النضج"‪.‬‬

‫أما الحرب األولى فستكون إلخضاع روسٌا وتحوٌلها لمعقل للشٌوعٌة الملحدة ونشرها فً العالم‪،‬‬
‫والحرب الثانٌة تنشا كٌانا للٌهود (إسرابٌل) وتنشر الصهٌونٌة التً على ٌدها ستقوم الحرب العالمٌة الثالثة‬

‫‪A homeless Confederate? Albert Pike’s complicated legacy leaves statue in limbo,Washington post, ٖٓ-ٔٓ- -‬‬
‫(ٗ٘)‬

‫‪ٕٓٔ9‬‬

‫ٗٔ٘‬
‫بالتركٌز على تؽذٌة الصراع بٌن إسرابٌل ودول الشرق األوسط(٘٘)‪ ...‬هذا الكبلم قٌل ٔ‪! ٔ89‬‬

‫وتؤسس المذهب الجدٌد‪ ،‬أي الصهٌونٌة‪ ،‬فعبل نهاٌة القرن ‪ ٔ9‬وإعبلنه فً مإتمر بازل بسوٌسرا سنة‬
‫‪ ٔ899‬والممٌز فٌه عن بقٌة المذاهب أن معظمها‪ ،‬اللٌبرالٌة الرأسمالٌة والشٌوعٌة‪ ،‬تسابقت لخطب وده‪.‬‬

‫ومن أدلة صحة وجود هذا المخطط ونسبة ما حدث من حروب وثورات عالمٌة له‪ ،‬ما ٌتعلق بالثورة‬
‫الثالثة التً قال إنها ستفتك بؤمرٌكا من داخلها عبر الهجرات األجنبٌة‪ ،‬وهو ما أشار إلٌه بعد ٖٓٔ سنة من‬
‫وضع مخطط باٌك الباحث األمرٌكً صموٌل هنتنجتون صاحب كتاب "صراع الحضارات"‪ ،‬ففً كتاب‬
‫آخر له باسم "من نحن؟" (منشور ٕٗٓٓ) حذر من استمرار فتح أبواب أمرٌكا أمام الهجرات قاببل إن كثرة‬
‫األعراق والثقافات والدٌانات ستمحو الهوٌة األمرٌكٌة األنجلو بروتستانتٌة‪ ،‬ولؽتها اإلنجلٌزٌة‪ ،‬وستخلق بكل‬
‫تؤكٌد صراعات بٌن هذه الثقافات واألعراق تفتك بالوالٌات المتحدة من الداخل(‪.)٘ٙ‬‬

‫فٌا ترى ماذا سٌكون نصٌب مصر من هذه الثورة الثالثة الكبرى؟‬

‫ألنه بالتؤكٌد لن تشمل الوالٌات المتحدة وحدها‪ ،‬فإن كانت ستفجر الوالٌات المتحدة وهً قطب النارٌٌن‬
‫الباقً‪ ،‬فبالتؤكٌد سٌكون تم تفجٌر بقٌة الببلد قبلها لتفرغ الساحة لمن تبقى من الشعوب لٌستعبدهم حفنة‬
‫"النارٌٌن" وحكومتهم الوحٌدة‪ ،‬فهل سٌكون تفجٌر مصر من الداخل عبر األمواج التً تتدفق علٌها‬
‫بالمبلٌٌن من البشر من مختلؾ األعراق واألدٌان والثقافات باسم الجبٌن ومستثمرٌن وعمالة وفنانون‬
‫وراقصات وأزواج وزوجات أجانب إلخ‪ ،‬وذلك بعد تفكٌك وجدان الشعب ما بٌن إخوانً وشٌوعً ولٌبرالً‬
‫وعروبً وملحد ووو إلخ‪ ،‬وبعد ؼرس مصر ألقصى قاع الدٌون والقروض واالستثمارات العالمٌة؟‬

‫وإن كان واٌزهاوبت أسس "محافل الشرق األعظم" الماسونٌة فإن باٌك أسس مجالس الطقس الباالدٌنً‬
‫الجدٌد أو المعدل (‪ )Palladian Rite N.P.R‬مع احتفاظه بمنصب الحبر األعظم للماسونٌة العالمٌة‬
‫والقابد األعلى الفخري للمجالس العلٌا فً مصر والبرازٌل وتونس وفرنسا وبلجٌكا وإٌطالٌا وإسبانٌا‬
‫وإنجلترا ووٌلز وإٌرلندا وأسكتلندا والٌونان إلخ‪ ،‬وسافر إلى بعض هذه البلدان الفتتاح المجالس بها(‪.)٘9‬‬

‫وفعبل فإنه فً ذلك التوقٌت‪ -‬سبعٌنات وثمانٌنات القرن ‪ -ٔ9‬شهدت انتشارات واسعا للمحافل الماسونٌة‪،‬‬
‫وعلنا‪ ،‬فً مصر على ٌد مستوطنٌن أجانب أو وافدٌن جدد من الشوام والٌونانٌٌن والٌهود وإنجلٌز وؼٌرهم‬
‫تحت دعاوى أنها جمعٌات خٌرٌة وتنوٌرٌة تصل مصر بمنابع الثقافة فً أوروبا‪.‬‬

‫فماذا أضاؾ فً هذه المجالس؟‬

‫ٌقول ولٌم جً كار إن مازٌنً وباٌك اتفقا سنة ٓ‪ ٔ89‬على وضع دستور ماسونٌة علٌا مركزٌة‪ ،‬وفٌما‬
‫تولى باٌك منصب الحبر األعظم للماسونٌة العالمٌة تولى مازٌنً منصب ربٌس العمل السٌاسً‪ٌ ،‬عنً‬

‫(٘٘)‬
‫‪ -‬انظر الشٌطان أمٌر العالم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓ‪ٕ9ٕ -ٕ9‬‬
‫(‪)٘ٙ‬‬
‫‪ -‬راجع "من نحن؟"‪ ،‬صموٌل هنتنجتون‪ ،‬ترجمة أحمد مختار الجمال‪ ،‬المركز القومً للترجمة‪ ،‬ط ٔ‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٓ9 ،‬‬
‫(‪)٘9‬‬
‫‪ -‬انظر الشٌطان أمٌر العالم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٖ8 -ٕٖ9‬‬

‫٘ٔ٘‬
‫ربٌس الحركة الثورٌة العالمٌة‪ ،‬ووضع باٌك الطقس الببلدٌنً المعدل‪ ،‬وأبرز أشكال التعدٌل فٌه هو تسمٌة‬
‫"قداس قتل أدوناي"‪.‬‬

‫وٌسمً "النارٌون " هللا بـ"أدوناي" مثل الٌهود‪ ،‬وخبلل طقوس الدرجات العلٌا فً محافلهم ٌقٌمون قداسا‬
‫النتهاكات حرمات هللا وممارسة كل ما ٌؽضبه‪ ،‬كانتهاك األعراض‪ ،‬وتعذٌب النساء‪ ،‬وقتل األطفال‪ٌ ،‬سمونها‬
‫"قتل أدوناي"‪ ،‬أي انتهاك شرٌعته وسلطانه على الخلق‪ ،‬وٌصبون فٌها كراهٌتهم للمسٌح الذي كشؾ أمرهم‪ ،‬وبعد‬
‫تجنٌد أعضاء جدد فً الماسونٌة‪ ،‬وخاصة فً الدرجات العلٌا فً المجالس الباالدٌنٌة‪ٌ ،‬سمى األعضاء‬
‫"إخوة" أثبتوا أنهم انشقوا عن الرب والمسٌحٌة(‪.)٘8‬‬

‫وفً ٕ٘‪ ٔ9‬نشر الكاردٌنال "كارو أي رود رجز" أسقؾ سانتٌاجو عاصمة تشٌلً كتابا باسم "سر الماسونٌة‬
‫بعد نزع النقاب عنه" شرح كٌؾ نشؤ النارٌون ‪ ،‬فقال إنهم جمٌعة سرٌة فً قلب جمعٌة سرٌة أكبر هً الماسونٌة‪،‬‬
‫واستدل على ذلك بؤن الماسونٌٌن من الدرجات ٕٖ و ٖٖ العلٌا ال ٌعرفون ما ٌدور فً المحافل التً تدرب‬
‫النساء على كٌفٌة التسلل لنجوم المجتمع وكبار رجال الدول من بوابة العبلقات ؼٌر المشروعة(‪.)٘9‬‬

‫وٌجري استقطاب نجوم المجتمع هإالء من بوابات أخرى ؼٌر النساء‪ ،‬كالمشاركة فً مبادرات نشر‬
‫المحبة والسبلم العالمً والتآخً والعمل الخٌري والتنوٌر ودعم البلجبٌن والحوار مع اآلخر‪.‬‬

‫وٌتفاخر النارٌون "بؤنه ال ٌمكن وضع ولو جزء صؽٌر من أي تشرٌع من خبلل أي برلمان دون أن‬
‫ٌكون لدٌهم معرفة كاملة عنه‪ ،‬وبدون إعطاء موافقتهم علٌه(ٓ‪.")ٙ‬‬

‫كما أن الماسون المختارٌن لٌكونوا فً الدرجات األعلى‪ ،‬أي النارٌٌن‪ٌُ ،‬جردون من كل انتماء دٌنً‪ -‬بما فٌهم‬
‫الٌهود ال ٌصبحون ٌهودا‪ -‬ولكن الجمٌع أتباع وعبٌد للشٌطان فقط‪ ،‬مثل "لٌمً" الذي اختاره الجنرال باٌك لخبلفة‬
‫مازٌنً فً إدارة حركة الثورة العالمٌة وتجرد لعبادة الشٌطان بعد أن كان حاخاما ٌهودٌا(ٔ‪.)ٙ‬‬

‫هإالء من قال عنهم اإلنجٌل (سفر رإٌا ٖ‪ :)9 :‬هنذا أجعل الذٌن من مجمع الشٌطان‪ ،‬ومن القابلٌن إنهم‬
‫ٌهود ولٌسوا ٌهودا‪ ،‬بل ٌكذبون‪.‬‬

‫وقال عنهم القرآن (البقرة آٌة ٗٔ)‪ :‬وإذا لقوا الذٌن آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شٌاطٌنهم قالوا إ َّنا معكم‬
‫إ َّنما نحن مستهزبون‪.‬‬

‫▼▼▼ شهادة فاجان وتوطٌن الالجبٌن‬

‫وهنا نعود إلى شهادة المخرج األمرٌكً ماٌرون فاجان الذي تعرؾ على دور توطٌن البلجبٌن بؤمرٌكا‬

‫(‪)٘8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕ‪ٕ8‬‬
‫(‪)٘9‬‬
‫‪ -‬انظر أحجار على رقعة الشطرنج‪ ،‬ص ٕ٘‬
‫(ٓ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬الشٌطان أمٌر العالم‪ ،‬ص ٗ‪ٕ8‬‬
‫(ٔ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬أحجار على رقعة الشطرنج‪ ،‬ص ٕ٘‬

‫‪٘ٔٙ‬‬
‫فً نشر وتمكٌن تنظٌم النارٌٌن فٌها‪ ،‬وبدأ الموضوع معه حٌن حضر واقعة فتحت له باب التساإالت‪،‬‬
‫وكرَّ س حٌاته بعد ذلك لكشؾ هذا التنظٌم وخطره على أمرٌكا فً اإلعبلم ومن خبلل أعماله الفنٌة‪.‬‬

‫ففً سنة ٘ٗ‪ ٔ9‬حضر فاجان بناء على دعوة من المإلؾ جون‪.‬ت‪ .‬فلٌن اجتماعا فً واشنطن‪ ،‬وشاهد‬
‫مجموعة أفبلم سرٌة جدا عن االجتماعات السرٌة اللً تمت فً "ٌالتا" بٌن الربٌس األمرٌكً فرانكلٌن‬
‫روزفلت والسوفٌتً جوزٌؾ ستالٌن لتقسٌم العالم بعد الحرب العالمٌة الثانٌة‪ ،‬وكان من نصٌب السوفٌت‬
‫أوروبا الشرقٌة والبلقان وبرلٌن‪ ،‬فً إطار رسم مبلمح النظام العالمً الجدٌد(ٕ‪.)ٙ‬‬

‫وبسبب ما عرفه فاجان فً هذا االجتماع واألفبلم كتب مإلفه "مخطط النورانٌٌن" أو فً بعض‬
‫الترجمات "مخطط المتنورٌن"‪ ،‬وأسس جمعٌة السٌنما للتثقٌؾ والتعلٌم )‪Cinema )CEG‬‬
‫‪ Educational Gild‬سنة ‪ ٔ9ٗ9‬لنشر التحذٌرات وكشؾ الشخصٌات المتورطة‪.‬‬

‫فشرح فاجان كٌؾ أرسلت عابلة روتشٌلد صنٌعتها الٌهودي جاكوب شٌؾ إلى الوالٌات المتحدة لٌستكمل‬
‫مسٌرة زرع فكر النارٌٌن فً مراكز القرار األمرٌكً‪ ،‬فسٌطر على الشركات الضخمة أوال‪ ،‬ومن بوابة‬
‫ا القتصاد والرشاوى سٌطر على الحزبٌن الجمهوري والدٌمقراطً‪ ،‬وساعد شٌؾ فً ذلك تدفق الٌهود من‬
‫أوروبا وروسٌا إلى الوالٌات المتحدة باسم الجبٌن مضطهدٌن‪.‬‬

‫وبدأت الحكاٌة بؤنه لتحقٌق تواجد رسمً للنارٌٌن داخل أروقة الكونجرس والبٌت األبٌض‪ -‬بعد السٌطرة‬
‫على البنك االحتٌاطً كما سٌطروا سابقا على بنك إنجلترا‪ -‬كان مطلوبا السٌطرة على أحد الحزبٌن‪،‬‬
‫الجمهوري أو الدٌمقراطً‪ ،‬ألنه عن طرٌق النواب سٌكون لهم صوت رسمً فً الكونجرس وعن طرٌق‬
‫مرشح الحزب للرباسة سٌكون لهم وجود رسمً فً البٌت األبٌض‪.‬‬

‫ووقع االختٌار على الحزب الدٌمقراطً ألنه الحلقة األضعؾ واألقدر على السٌطرة علٌه ألسباب‪ ،‬منها‬
‫فقر الحزب فً عدد الناخبٌن‪ ،‬وعلى هذا قرر شٌؾ‪ ،‬مد الحزب بؤعداد كافٌة للمنافسة وموالٌة للنارٌٌن‪،‬‬
‫فجلب هذه األعداد من الخارج على شكل الجبٌن ومهاجرٌن(ٖ‪.)ٙ‬‬

‫ووقع اختٌاره على العجٌنة الطٌعة فً هذا األمر‪ ،‬الٌهود‪ ،‬ألنهم من أكثر الطوابؾ قدرة على التكتل فً‬
‫هدؾ واحد‪ ،‬وتنفٌذ المهام الموكلة لها مهما طال أمدها‪ ،‬ومن أكثرها حبا للتسلط على ؼٌرها‪.‬‬

‫وتطلب هذا صناعة أحداث مإلمة تهدد وجود الٌهود فً عدة دول لٌتشجعوا على الهجرة‪ ،‬وفجؤة فً سنة‬
‫ٓ‪ ٔ89‬اندلعت فً روسٌا سلسلة مذابح جماعٌة قُتل فٌها آالؾ الٌهود‪ ،‬رجال ونساء وأطفال‪ ،‬على ٌد شعب‬
‫الكوساك‪ ،‬وحصلت مذابح مماثلة فً بولندا ورومانٌا وبلؽارٌا‪ ،‬وجمٌع هذه المجازر بتحرٌض من عمبلء‬
‫"روتشٌلد"؛ فتدفق البلجبون الٌهود من هذه الببلد إلى الوالٌات المتحدة‪ ،‬واستمر األمر على هذه الحال مدة‬

‫(ٕ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬النظام العالمً الجدٌد كلمة ظهرت منذ ٕٓ٘‪ ٖٓٓ -‬سنة‪ ،‬وتتكرر كل فترة بنفس الكلمات كؤنها كلمة السر لبدء مرحلة جدٌدة من مخطط‬
‫النارٌٌن‪ ،‬فهً بعد ٓ٘ سنة ظهرت على لسان الربٌس األمرٌكً جورج بوش األب بعد إسقاط االتحاد السوفٌتً لما أدى الؽرض منه لالشارة إلى‬
‫إعادة تنظٌم العالم بعد التخلص من القطبٌة الثنابٌة والدخول فً مرحلة القطب الواحد كمرحلة من مراحلة الحكومة العالمٌة الواحدة‪.‬‬
‫(ٖ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر "مخطط المتنورٌن"‪ ،‬ماٌرون فاجان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔ‪ٕ٘ -‬‬

‫‪٘ٔ7‬‬
‫ما بٌن ٕٓ‪ ٖٓ -‬عاما بسبب استمرار المذابح(ٗ‪.)ٙ‬‬

‫تلقفت الجمعٌات الخٌرٌة التابعة لمإسسات "شٌؾ" و"روتشٌلد" وعمبلبهم البلجبٌن‪ ،‬ووزعتهم بخرٌطة‬
‫مدروسة فً المدن األمرٌكٌة‪ ،‬وخاصة شٌكاؼو وبوسطن وفٌبلدلفٌا وودٌتورٌت ولوس أنجلوس‪ ،‬وهً‬
‫المدن التً بها كثافة تصوٌتٌة ضعٌفة للحزب الدٌمقراطً(٘‪.)ٙ‬‬

‫وبمرور الوقت أصبح هإالء البلجبون "مواطنٌن عادٌٌن"‪ ،‬وتم تثقٌفهم وإرشادهم لٌسجَّ لوا تحت اسم‬
‫الدٌمقراطٌٌن‪ ،‬وأصبحت هذه األقلٌات تجمعات من الناخبٌن ترهن صوتها للممولٌها وأولٌاء نعمتها(‪،)ٙٙ‬‬
‫وبعد فترة قصٌرة أصبحوا جماعات ضؽط "لوبٌهات" تقود الحٌاة السٌاسٌة ألمرٌكا‪ ،‬وتجرها لصناعة حرب‬
‫وراء حرب وفرض نموذج واحد على العالم فً الحٌاة‪ ،‬خاصة بعد أن أصبحت مقرا لؤلمم المتحدة‪.‬‬

‫وإضافة لهدؾ صنع تكتبلت انتخابٌة موجهة لصالح الحزب الدٌمقراطً‪ ،‬كان لجلب المهاجرٌن الجدد‬
‫هدؾ آخر وهو" القضاء على وحدة الشعب األمرٌكً" التً بدأت تتشكل بعد حرب االستقبلل‪.‬‬

‫وفً ذلك ٌقول فاجان إن جاكوب شٌؾ سعى لذلك عن طرٌق خلق األقلٌات والنزاع العنصري‪ ،‬فؤدخل‬
‫إلى الوالٌات المتحدة أقلٌة متكتلة مثل الٌهود‪ ،‬مع تحرٌض أقلٌة أخرى هً "المواطنٌن السود"‪ ،‬واللعب‬
‫على وتر أن كل منهما "مضطهدة"‪ ،‬وبذلك أمكن استخدام هاتٌن األقلٌتٌن بشكل جٌد لخلق الصراع األكبر‬
‫فً أمرٌكا‪ ،‬وهذا ما تحتاجه جماعة النارٌٌن إلنجاز مهمتها‪.‬‬

‫وبدأت االحتكاكات العرقٌة والكبلم عن اضطهاد المهاجرٌن والسود باحتكاكات فً الجامعات والكلٌات‬
‫المحمٌة بقرارات إٌرل وورن ‪ ، Earl Worren‬ولتؽذٌة الشعور العرقً واألقلٌات أسس "شٌؾ" جمعٌة‬
‫مدنٌة ‪ ٔ9ٓ9‬باسم "الجمعٌة الوطنٌة لرعاٌة المواطنٌن الملونٌن" ‪ NAACP‬بحجة رعاٌة المضطهدٌن‬
‫والمهمشٌن وحقوق السود والٌهود المهاجرٌن‪ ،‬وادعى أن تخصٌص جمعٌات لهم ٌقوي الوحدة الوطنٌة‬
‫بضمان حقوقهم‪ ،‬لكن الحقٌقة هدفها كان تؽذٌة مشاعر االنفصال العرقً أو الطابفً عن المجتمع والتمٌز‬
‫واالضطهاد بداخلهم‪ ،‬وساعدوا فً إبراز شخصٌات مثل مارتن لوثر كٌنج‪ ،‬وستوكلً كارمٌشٌل‪ ،‬وبارنارد‬
‫روستن(‪ ،)ٙ9‬وكلهم باسم المساواة وحقوق اإلنسان‪.‬‬

‫(ٗ‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر المرجع السابق‪ ،‬ص ٕ٘‪ٕٙ -‬‬
‫(٘‪)ٙ‬‬
‫‪ -‬الجمعٌات الخٌرٌة المكلفة بتوطٌن الالجبٌن تبلورت فٌما بعد فً المفوضٌة العلٌا لشبون الالجبٌن فً األمم المتحدة التً تدعم توزٌع الالجبٌن‬
‫على الدول المستهدفة كل فترة‪ ،‬إضافة لسلسلة أخرى من الجمعٌات مثل "الهٌبة الٌسوعٌة لخدمة الالجبٌن" ومنظمة كارٌتاس الكاثولٌكٌة وؼٌرها‪،‬‬
‫وكثٌر منها له نشاط فً مصر‪ ،‬إضافة لجمعٌات خٌرٌة محلٌة‪.‬‬
‫فحٌن تدفق مالٌٌن الالجبٌن على مصر من بعد ٕٔٔٓ ‪ ،‬وهو عدد ؼٌر مسبوق فً تارٌخنا‪ ،‬تلقفتهم بسرعة عجٌبة تنظٌمات وجمعٌات خٌرٌة‬
‫محلٌة ودولٌة‪ ،‬ووزعتهم بطرٌقة مدروسة على المحافظات‪ ،‬ودعمت إٌجاد فرص عمل وصار لهم أعمال تجارٌة ثرٌة فً كل شارع وحارة بسرعة‬
‫البرق‪ ،‬وبطرٌقة تدعو للتساإل‪ ،‬وكؤن هذه الجمعٌات كانت فً انتظارهم فً وقت معلوم‪.‬‬
‫(‪)ٙٙ‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٕٙ‬‬
‫***وحتى اآلن تقوم سٌاسة الحزب الدٌمقراطً على فتح امرٌكا أمام الهجرات من كل جنس؛ ألن أؼلب داعمٌه من المهاجرٌن‪ ،‬وأصبح هذا موضع‬
‫خالؾ حاد بٌنه وبٌن الحزب الجمهوري‪ ،‬خاصة بعد تولً دونالد ترامب الحكم‪ ،‬ورفعه شعار "أمرٌكا أوال"‪ ،‬ووضعه قٌودا على الهجرة‪.‬‬
‫(‪)ٙ7‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٕ7‬‬
‫*** هذا النموذج كرروه فً عدة دول‪ ،‬وفً مصر ٌإسس من ٌصفون أنفسهم بالحقوقٌٌن المدعومٌن من الخارج جمعٌات وحركات لما تصفه بدعم‬
‫المهمشٌن والمسٌحٌٌن والنوبٌٌن وأهالً سٌناء والالجبٌن والمجنسٌن إلخ‬

‫‪٘ٔ8‬‬
‫وفً ٖٔ‪ ٔ9‬بدأت المرحلة التالٌة لمرحلة الوجه "الخٌري" لهذه الجمعٌات العرقٌة والطابفٌة‪ ،‬وهو الوجه‬
‫المسلح لبدء عملٌات الصدام‪.‬‬

‫فتشكلت جمعٌة باسم ‪ Anti-defamation of the B'nai B'rith‬والمعروفة فً أمرٌكا‬


‫باسم ‪ AFL‬بمثابة بولٌس سري بحجة حماٌة األقلٌات والمضطهدٌن‪ ،‬أعضاإها مسلحٌن‪ ،‬بحٌث إذا وقع‬
‫شجار بٌن أبناء تلك العرقٌات‪ ،‬سواء عارض أو مصطنع‪ٌ ،‬تدخلون سرٌعا بالسبلح‪ ،‬فٌتضخم األمر‪.‬‬

‫وملحوظة هامة‪ ،‬أنه فً وسط تجمعات المهاجرٌن الٌهود القادمٌن من روسٌا بنٌوٌورك‪ -‬قبل الثورة‬
‫الروسٌة‪ -‬عاش القٌادي الشٌوعً تروتسكً كبلجا لٌتدرب وسط عصاباتهم على أعمال اإلرهاب التً‬
‫نشرها الشٌوعٌون فً روسٌا خبلل الثورة‪ ،‬وأنفق بسخاء على التدرٌبات رؼم أنه لم ٌكن ٌعمل‪ ،‬فً داللة‬
‫على أنه ٌتلقى تموٌبل خفٌا‪ ،‬وسافر مع ٖٓٓ من المجرمٌن المدربٌن لٌقابل فبلدٌمٌر لٌنٌن فً سوٌسرا على‬
‫متن سفٌنة ممولة من شٌؾ ومعهم ٕٓ ملٌون دوالر أمرٌكً ذهبً لتموٌل الثورة الروسٌة(‪.)ٙ8‬‬

‫فتحت ستارة "البلجبٌن" و"المهاجرٌن" ُتبتلع أكبر األمم‪ ،‬وتسقط أقوى الحكومات‪ ،‬قالها األجداد فً‬
‫أمثالهم الفصٌحة التً لم ٌتعظوا بها‪" :‬تبلتة لو اتفقو على بلد خربوها"‪ ،‬و"الٌد الؽرٌبة تخرب البٌوت‬
‫العامرة"(‪.)ٙ9‬‬

‫وأقام لٌنٌن وستالٌن فً سوٌسرا لفترة‪ ،‬حٌث المؤوى اآلمن للنارٌٌن وأموالهم وخططهم‪ ،‬ومن سوٌسرا‬
‫شحنوا عصابات البلجبٌن فً قطارات إلى روسٌا‪ ،‬لٌقوموا بمهمتهم فً نشر الحرابق والمذابح التً تم‬
‫نسبها لقٌصر روسٌا رومانوؾ‪ ،‬ثم قتله هو وعابلته حتى ال ٌطالب أحد منهم بالعرش مستقببل(ٓ‪.)9‬‬

‫▼▼▼ الثورة الروسٌة‬

‫كشفت الشهادات السابقة أن وراء ؼبار المعارك والصراعات السٌاسٌة واالقتصادٌة والفكرٌة بٌن‬
‫الشٌوعٌة الروسٌة الشرقٌة والرأسمالٌة األنجلوأمرٌكٌة الؽربٌة ٌختبا سر كبٌر مضحك جدا‪ ،‬ومر جدا‪،‬‬
‫وهو أن الشٌوعٌة تمولها أساسا البنوك الؽربٌة الرأسمالٌة فً برٌطانٌا وفرنسا وألمانٌا والوالٌات المتحدة‪.‬‬

‫وشاع وسط الجماهٌر أن الشٌوعٌة حركة عمالٌة قامت لتدمٌر الرأسمالٌة‪ ،‬ولكن ضباط المخابرات فً‬
‫كل من الوالٌات المتحدة وبرٌطانٌا حصلوا على وثابق أصلٌة تبرهن أن الرأسمالٌٌن العالمٌٌن هم الذٌن‬
‫مولوا كبل المعسكرٌن المتحاربٌن فً كل الحروب والثورات‪ ،‬بحسب أحد هإالء الضباط ولٌام جً كار(ٔ‪.)9‬‬

‫وخٌط الثورة الروسٌة قدٌم جدا‪ ،‬ومرتبط بحركة الهجرة واللجوء أٌضا التً ٌدور حولها هذا الكتاب‪ ،‬فقد‬
‫شهد القرن ‪ 8‬المٌبلدي هجرات قباٌل الخزر التركٌة من بطن آسٌا إلى شرق أوروبا‪ ،‬قمعت السكان‬

‫(‪)ٙ8‬‬
‫‪" -‬مخطط المتنورٌن"‪ ،‬ماٌرون فاجان‪ ،‬مرجع سابق‪ٖٓ -ٕ9 ،‬‬
‫(‪)ٙ9‬‬
‫‪ -‬العادات والتقالٌد المصرٌة‪ ،‬جون لوٌس بوركهارت‪ ،‬ترجمة إبراهٌم شعبلن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ 99‬و‪ٔٓ8‬‬
‫(ٓ‪)9‬‬
‫‪" -‬محطط التنوٌرٌن"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٔ‬
‫(ٔ‪)9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬أحجار على رقعة الشطرنج‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٕ‬

‫‪٘ٔ9‬‬
‫األصلٌٌن لتكون مملكة الخزر التً استمرت ٓٓ٘ سنة‪ ،‬ولسبب ؼٌر معروؾ اعتنق حكام ونخبة هذه‬
‫القباٌل الٌهودٌة بدال من المسٌحٌة السابدة فً أوروبا(ٕ‪ )9‬رؼم عدم محبة الٌهود العتناق ؼٌرهم لدٌانتهم‪.‬‬

‫بعد ٖ قرون تسللت هجرات روسٌة لنفس المناطق‪ ،‬وتصارعت مع مملكة الخزر حتى سٌطر الروس‬
‫وضموها لروسٌا‪ ،‬لكن ظل حاخامات الخزر ٌوقدون صدور القباٌل على روسٌا وتحٌن فرصة لبلنتقام‪.‬‬

‫واستؽلوا فترة قوة الدولة الروسٌة فً تكوٌن نفوذ اقتصادي لهم‪ ،‬بكنز الذهب والفضة بطرقهم الملتوٌة‬
‫فً الربا واالحتٌال‪ ،‬مع نشر الفتن والكراهٌة بٌن أهل البلد‪ ،‬وافتعال مشاكل تدفع السلطات إلصدار قوانٌن‬
‫لمعاقبة الٌهود‪ ،‬فٌستؽلونها لنشر قصص أنهم مضطهدٌن‪ ،‬حتى أضعفوا الدولة‪.‬‬

‫وفً النصؾ الثانً من القرن ‪ -ٔ9‬بعد خلق الشٌوعٌة على ٌد ماركس خلقو روابط تنتشر بٌن العمال‬
‫والمزارعٌن تحرضهم ضد القٌاصرة مستؽلٌن سوء أحوالهم‪ ،‬ومدعومٌن بتموٌل من بارونات المال‪ ،‬وأشهر‬
‫قادة هذه الروابط ستالٌن وتروتسكً وفبلدٌمٌر لٌنٌن‪ ،‬حتى أشعلوا ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬الشٌوعٌة‪.‬‬

‫وبالتزامن‪ -‬وعلى طرٌقة الثورة الفرنسٌة‪ -‬جري نشر الخبلٌا الفوضوٌة عبر نظرٌة "النهلستٌة"‪،‬‬
‫والمواخٌر وبٌوت الدعارة التً تستقطب رجال الحكم والجٌش والعابلة الحاكمة ونجوم المجتمع بقٌادة‬
‫الشهوانً الشهٌر راسبوتٌن‪ ،‬وتكبٌل الدولة فً قروض بعد تورٌطها فً حروب خارجٌة‪ ،‬وتقرٌب أجانب‬
‫من دوابر الحكم باسم خبراء ومستشارٌن(ٖ‪.)9‬‬

‫وسبق أن تحدث القٌصر إسكندر الثالث عقب صدور قوانٌن ماٌو ٔٓ‪ ٔ9‬فً بٌان رسمً عن أن‬
‫الفوضوٌٌن والٌهود هم السبب األول فً األزمات االقتصادٌة والفوضى التً حلت بببلده‪.‬‬

‫وبالفعل كانت معظم أسماء الحركات الفوضوٌة التً قادت الثورة الروسٌة هً من األجانب ومنهم الٌهود‬
‫مثل جولٌوس تسٌدٌر بهلوم قابد حزب المنشفٌك‪ ،‬وفبلدٌمٌر لٌنٌن‪ ،‬وتروتسكً‪ ،‬وروزا لكسمبورج ربٌسة‬
‫الحزب الشٌوعً البولونً‪ ،‬وروفابٌل إبراهٌموتموفٌتش ربٌس الحزب الشٌوعً األلمانً(ٗ‪.)9‬‬

‫انتهت الثورة إلى إعدام القٌصر وعابلته بما فٌها من أطفال‪ ،‬وإشعال حرب أهلٌة عن عمد‪ -‬على نمط‬
‫الثورة الفرنسٌة‪ -‬أزهقت أرواح مبات اآلالؾ‪ ،‬بما فٌهم من أطفال ونساء‪ ،‬وإعدامات ببل محاكمات‪ ،‬بخبلؾ‬
‫مبلٌٌن الفقراء ماتوا تحت وطؤة المجاعات واألوببة والفوضى‪ ،‬لم ٌهنؤوا بالشعارات التً رفعتها الشٌوعٌة‬
‫عن أنها قامت "لنصرة" الضعفاء‪ ،‬ثم تحولت روسٌا إلى "االتحاد السوفٌتً" راعً صناعة الثورات‬

‫(ٕ‪)7‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مملكة الخزر الٌهودٌة وعالقتها بالبٌزنطٌٌن والمسلمٌن فً العصور الوسطى‪ ،‬محمد عبد الشافً المؽربً‪ ،‬ص ‪ٖٔ -9‬‬
‫*** والخزر كلمة تعنً ضٌق العٌن جدا مثل عٌون الصٌنٌٌن والٌابانٌٌن وشعوب شرق آسٌا (نفس المرجع)‬
‫(ٖ‪)7‬‬
‫‪ -‬النهلستٌة مبدأ فوضوي انتشر فً روسٌا وأوروبا القرن ‪ٌ ،ٔ9‬نكر كل سلطة على اإلنسان‪ ،‬سواء األدٌان أو الحكومات أو األخالق أو‬
‫المجتمع أو العادات والتقالٌد‪ ،‬وٌدعو لتكون الفوضى أسلوب الحٌاة‪.‬‬
‫*** وجرٌجوري راسبوتٌن (‪ )ٔ9ٔٙ -ٔ8ٙ9‬هرب من قرٌته بعد اتهامه بسرقة جواد‪ ،‬فالتحق بؤحد األدٌرة متخفٌا باسم راهب‪ ،‬وعاش حٌاة‬
‫بوهٌمٌة ال ٌؽتسل باألشهر‪ ،‬والتحق بمنظمة متطرفة "خالٌستً" تشجع على الفجور الجنسً‪ ،‬واتبع مذهبا شٌطانٌا ٌوهم الناس بؤن التقرب إلى هللا‬
‫ٌلزمه أوال أن ٌقوم اإلنسان بالفواحش والرذابل بوعً كامل منه ثم ٌتوب عنها‪.‬‬
‫(ٗ‪)9‬‬
‫‪ -‬من نشروا الفكر الشٌوعً والفوضً فً مصر أٌضا ٌهود‪ ،‬وعلى رأسهم هنري كورٌٌل كما سٌتضح فً فصل الحق‪.‬‬

‫ٕٓ٘‬
‫المسلحة وقلب نظم الحكم فً العالم بشبلالت دم وحروب أهلٌة أؼرقت دوال فً آسٌا وأفرٌقٌا وأمرٌكا‬
‫البلتٌنٌة وشرق أوروبا لتنصٌب حكومات شٌوعٌة لٌس لها والء لوطن‪ ،‬بل تضم ببلدها إلى طرٌق إعبلن‬
‫"دولة البرولٌتارٌا االشتراكٌة العالمٌة"‪ ،‬وأنصارها حتى الٌوم من أكبر مشجعً الهجرات وخلط الشعوب‪.‬‬

‫▼▼▼ الحربان العالمٌتان األولى والثانٌة‬

‫فً نفس الوقت الذي كان ٌجري إعداد وتنفٌذ الثورة الروسٌة‪ ،‬كانت تدور الحرب العالمٌة األولى‬
‫العالمٌة ٗٔ‪ ،ٔ9ٔ8 -ٔ9‬لٌعٌش العالم بؤسره السنٌن األربع الرهٌبة فً طوفان دم لؾ العالم كله بشكل لم‬
‫تشهد اإلنسانٌة له مثٌبل من قبل‪ ،‬ودارت مصانع األسلحة تطحن وتبٌد مبلٌٌن الناس‪ ،‬وتعبؤ الدوالرات فً‬
‫بٌوت المال العالمٌة‪ ،‬وانقسم العالم لمحاور من ؼٌر أي سبب مقنع للحرب التً أعلنت انتصار الصهٌونٌة‬
‫والشٌوعٌة واللٌبرالٌة الرأسمالٌة على حد سواء‪ ،‬وبدأ تنفٌذ مشروع إسرابٌل بوعد بلفور الذي كتبه اللورد‬
‫روتشٌلد نفسه منتشٌا سنة ‪ ٔ9ٔ9‬الخاص بدعم برٌطانٌا إلقامة وطن للٌهود بفلسطٌن تتوٌجا لنشاط إرسال‬
‫الهجرات الٌهودٌة إلى هناك منذ سنة ٓٗ‪ ٔ8‬باسم مستثمرٌن والجبٌن ومهاجرٌن‪.‬‬

‫وأعلنت الدول المنتصرة‪ -‬رافعة شعار الحرٌة‪ -‬موافقتها على إعبلن الحماٌة البرٌطانٌة على مصر‬
‫ؼصبا عن مصر‪ ،‬وظهرت عصبة األمم كؤول كٌان تطبٌقً لمشروع "حكومة العالم الواحد"‪ ،‬وصارت‬
‫الصناعات االستراتٌجٌة البلزمة لصناعة السبلح فً زمن الحرب مثل الحدٌد والصلب واألسمنت‬
‫والكٌماوٌات فً ٌد بارونات المال مثل فردٌرك ناتان‪ ،‬ربٌس الوكالة الٌهودٌة فً فلسطٌن فٌما بعد؛ ولذا‬
‫نفهم لماذا سعوا إلؼبلق مصانع الحدٌد والصلب والكٌماوٌات واألسمنت التً أنشؤتها ثورة ٖٕ ٌولٌو‬
‫ٕ٘‪ ٔ9‬فً مصر‪ ،‬أو على ا ألقل نزعها من ٌد الدولة وخصخصتها ببٌع بعضها لؤلجانب ووضع بعض آخر‬
‫فً ٌد رجال أعمال ٌسهل التحكم فٌهم من الخارج‪.‬‬

‫وفً سفره الضخم بعنوان "عبر ثبلثٌن عاما" أقر وٌكهام ستدي ربٌس تحرٌر "التاٌمز" بالنفوذ الخفً‬
‫لسادة المال العالمٌٌن وقال فً الصفحة ٖٔٓ‪" :ٖٕٓ -‬إننً ألح بصورة خاصة فً القول بؤن الذٌن‬
‫ٌسٌطرون على القضاٌا العالمٌة هم سادة المال العالمٌٌن‪ ،‬وبؤنهم هم محركو األحداث بصورة خاصة"‪ ،‬وفً‬
‫المإتمر الصهٌونً العام الذي انعقد فً المجر ‪ ٔ9ٔ9‬قال أحد الخطباء‪" :‬إننا نحن الذٌن خلقنا عصبة األمم‪،‬‬
‫وسوؾ نتابع السٌر وراء السلطة المرشدة‪ ..‬أما أهدافنا ومهمتنا فهً محددة سلفا"(٘‪.)9‬‬

‫ولم ٌكد العالم ٌفٌق من جراح الحرب العالمٌة الفاجرة األولى حتى تم جره للحرب الفاجرة الثانٌة‬
‫(‪ )ٔ9ٗ٘ -ٔ9ٖ9‬بتؽذٌة الصراع بٌن النازٌة والٌهود والشٌوعٌة وإشعال حرب جدٌدة حصدت أرواح ٓ٘‬
‫ملٌونا لتتفوق على الحرب السابقة فً أنها أبشع مجزرة فً التارٌخ تحقق آمال إبلٌس فً الحد والحط من‬
‫الجنس البشري‪ ،‬وانتهت إلى‪ :‬إعبلن قٌام إسرابٌل‪ ،‬تؤسٌس األمم المتحدة‪ ،‬وضع قوانٌن دولٌة لمنح حقوق‬
‫لبلجبٌن تذكرنا باالمتٌازات األجنبٌة فً زمن االحتبلل بهدؾ توطٌنهم لٌحكموا الببلد من داخلها‪ ،‬وتقسٌم‬

‫(٘‪)9‬‬
‫‪ -‬أحجار على رقعة الشطرنج‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔ99‬‬

‫ٕٔ٘‬
‫العالم لمعسكرٌن متصارعٌن هما الشٌوعً والرأسمالً‪ ،‬لفترة مإقتة‪ ،‬انتهت فً ‪ ٔ989‬بإسقاط االتحاد‬
‫السوفٌتً بعد أن أدى دوره فً إنهاك العالم بدعم الثورات المسلحة‪ ،‬لٌبدأ عصر القطب الواحد‪ ،‬وحروب‬
‫اإلرهاب "الدٌنً"‪ ،‬وتهٌؤة العالم إلعبلن الحكومة العالمٌة الواحدة رسمٌا‪.‬‬

‫أما الحرب العالمٌة الثالثة المخطط لها أن تكون الطرٌق إلى ظهور هذه الحكومة‪ ،‬وساحتها الشرق‬
‫األوسط‪ ،‬وسبلحها هو الجماعات اإلرهابٌة "الدٌنٌة"‪ ،‬فسٌتم اإلشارة إلى تفاصٌلها وعناصرها وأماكنها‪-‬‬
‫المذكورة فً "الوثٌقة الكندٌة" عن فحوى ما دار فً المإتمر االستثنابً "للجنة الطوارئ لحاخامً أوروبا"‬
‫المنعقد فً بودابس ٕٔ ٌناٌر ٕ٘‪ -ٔ9‬وموضع مصر منها فً الجزء الثانً إن شاء هللا‪.‬‬

‫▼▼▼ الجهر بعبادة الشٌطان‬

‫فً عام ‪ ٔ9ٙٙ‬جهرت جماعة فً الوالٌات المتحدة بعبادة الشٌطان وتؤسٌس كنٌس له (مجمع الشٌطان)‬
‫فً والٌة كالٌفورنٌا بموجب قانون ٌتٌح حرٌة األدٌان فً الوالٌة صدر فً نفس السنة(‪.)9ٙ‬‬

‫وأصدروا كتابهم المسمى بـ"اإلنجٌل األسود" ٌحتوي على عقٌدة إبلٌس‪ ،‬وملخصها أن كل ما ٌرضً هللا‬
‫ٌؽضب إبلٌس‪ ،‬وكل ما ٌؽضب هللا ٌرضً إبلٌس؛ ولذا فإن انتشار المذابح فً الحروب والجماعات‬
‫اإلرهابٌة والفوضى الجنسٌة والفجور "الشذوذ الجنسً" فً اإلعبلم‪ ،‬والجهر والتفاخر بالرذٌلة والخٌانة‪،‬‬
‫واستؽبلل النساء واألطفال فً الجرابم القذرة‪ ،‬واللعب فً الجنس البشري عبر الهندسة الوراثٌة‬
‫واالستنساخ‪ ،‬والسخرٌة من الرموز الوطنٌة والدٌنٌة هو دٌنهم الذي ٌنشرونه فً كل مكان‪ ،‬وسٌكون لمصر‬
‫منه نصٌبا عبر فروعهم التنظٌمٌة وتبلمٌذهم الذٌن ٌنشرون هذا تحت اسم "إقامة الشرٌعة اإلسبلمٌة"‪،‬‬
‫أو"حرٌة التعبٌر واالعتقاد"‪.‬‬

‫وتطبٌقا لهذا تقول اآلٌات القرآنٌة‪:‬‬

‫إن ٌدعون من دونه إال إناث وإن ٌدعون إال شٌطانا مرٌدا (‪ )ٔٔ9‬لعنه هللا وقال ألتخذنَّ من عبادك‬
‫نصٌبا مفروضا (‪ )ٔٔ8‬وألضل َّنهم وألمنٌ َّنهم وآلمر َّنهم فلٌُبت ُكنَّ آذان األنعام وآلمر َّنهم فلٌُؽٌرنَّ خلق هللا ومن‬
‫الشٌطان ولٌا من دون هللا فقد خسر خسرانا مبٌنا (‪( )ٔٔ9‬النساء)(‪.)99‬‬ ‫َ‬ ‫ٌتخذ‬

‫وفً مجامع الشٌطان‪ ،‬المعلن منها والسري‪ ،‬فإن عبادتهم تسمى بـ"القداس األسود"‪ٌ ،‬مثل الكهنة دور‬
‫الشٌطان‪ ،‬وٌنتهكون حرمات النساء وأجسادهن وكرامتهن بشكل ال ٌطاق‪ ،‬تنفر منه الوحوش الهابمة على‬
‫وجهها فً الصحاري‪ ،‬إضافة لذبح الصؽار كقرابٌن للشٌطان‪ ،‬كرمز لقتل "أدوناي"‪ ،‬إي إله "الجوٌٌم"(‪.)98‬‬

‫(‪)7ٙ‬‬
‫‪ -‬فً الدساتٌر الحدٌثة توجد عبارات مثل "المساواة التامة بٌن المواطنٌن"‪ ،‬وااللتزام بتوفٌر حرٌة العقٌدة وحق المواطنٌن فً ممارسة‬
‫شعابرهم"‪ ،‬وذلك دون تقٌٌد‪ ،‬وهو ما ٌستؽله أصحاب المذاهب المشبوهة إلجبار الحكومات على أن تتٌح لها مساحة تواجد "شرعً"‪.‬‬
‫(‪)77‬‬
‫‪ٌ -‬ؽٌرن خلق هللا‪ ،‬أي تؽٌٌٌر فطرة هللا فً الجسد واألخالق واألشكال واألدوار والعالقات‪ ،‬وأن ٌسعى الرجل لٌكون كالمرأة أو تسعى المرأة‬
‫لتكون كالرجل‪( .‬تفسٌر الشعراوي فً برنامج خواطر الشعراوي على التلفزٌون المصري)‬
‫(‪)98‬‬
‫‪ -‬الشٌطان أمٌر العالم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓ٘ٔ‬

‫ٕٕ٘‬
‫ونشر بٌترٌم سوروكٌن من جامعة هارفارد كشفا لهذا الجانب فً كتاب عنوانه "الثورة الجنسٌة‬
‫األمرٌكٌة" ‪ The American Sex Revolution‬بٌَّن فٌه أن السلوكٌات الجنسٌة المنحرفة تلعب‬
‫دورا ربٌسٌا فً الحٌاة السٌاسٌة األمرٌكٌة الحدٌثة‪ ،‬وأن الرشوة الجنسٌة واالبتزاز الجنسً متفشٌان بقدر‬
‫تفشً الفساد المالً"(‪.)99‬‬

‫وبعد ٖٓ سنة من الجهر بعبادة الشٌطان فً أمرٌكا انتقلت إلى مصر عام ‪ ،ٔ999‬لتنفخ فً البوق أن‬
‫الخطر اقترب من مصر بقوة‪.‬‬

‫بدأت القصة فً قصر البارون فً القاهرة آواخر التسعٌنات‪ ،‬تحولت لقضٌة رأي عام ثم تجسدت فً‬
‫أفبلم سٌنما قدمت للمشاهد الفواحش بما فٌها اللواط والسحاق والفجور علنا ("عمارة ٌعقوبٌان"‪" ،‬حٌن‬
‫مٌسرة" كؤمثلة)‪ ،‬واهتمت بنشر الؽل والدم والقبح وتموٌت الحٌاء والنخوة بالتمعن فً مشاهد االؼتصاب‬
‫والقتل والذبح (طقوس القداس األسود وقتل أدوناي) باسم حرٌة الفن والتعبٌر‪ ،‬وبعد فوضى ٕٔٔٓ ظهرت‬
‫فً أثواب جدٌدة‪ ،‬على األرض وفً اإلنترنت‪ ،‬وحطمت عقول وقلوب عدد كبٌر من أوالد مصر‪ ،‬وما‬
‫ماتت النخوة فً شعب إال مات الوطن‪ ،‬وسلموه كسلعة من السلع ألقرب مشتري‪ ،‬بل لمحل نخاسة ٌُباع فٌه‬
‫بٌع الرقٌق تحت أي اسم براق‪ ،‬مثل تشجٌع االستثمار‪ ،‬أو منح وبٌع الجنسٌة واألرض للخروج من أزمة‪،‬‬
‫أو لقبول اآلخر وحق االختبلؾ وتحقٌق السبلم العالمً‪.‬‬

‫▲▲▲ بالغ الحقٌقة‬

‫بحسب ما سبق‪ ،‬فإن تدمٌر العالم ٌكون بنزع الوطنٌة والدٌن واألخبلق منه‪ ،‬وتحوٌله إلى معسكرات‬
‫وتٌارات متصارعة‪ ،‬كل معسكر ٌرى أنه األحق بقٌادة العالم‪ ،‬ولكن الحقٌقة الساخرة أنه لن ٌظفر أي منهم‬
‫بقٌادة العالم‪ ،‬سٌهدمون بعضهم بعضا‪ ،‬وٌحطمون الببلد‪ ،‬لٌتسلم التنظٌم األكبر العالم ببل مقاومة‪.‬‬

‫ولذا فً كتابه "الشٌطان أمٌر العالم" ٌقول جً كار إنه تبٌن دابما أن الثورات التً وقعت فً أوروبا‬
‫وروسٌا والحروب العالمٌة كان مخططا لها قبلها بسنوات طوٌلة‪ ،‬وعلى هذا فإن اللوم فٌما ٌجري فً العالم‬
‫ال ٌنصب على الشٌوعٌة والرأسمالٌة والنازٌة وبارونات المال العالمٌٌن وحدهم‪ ،‬بل ما وراء كل هذا‪ ،‬وهو‬
‫الشٌطان نفسه‪ ،‬والسبٌل لهزٌمته‪ ،‬هو كشؾ مخططاته‪ ،‬وعدم اإلنجرار وراء دعوات الثورات المسلحة‬
‫والحروب والصدامات المسلحة(ٓ‪.)8‬‬

‫ولذا انتقد الحكومة البافارٌة أنها لما اكتشفت وثٌقة وشخصٌات مإامرة واٌزهاوبت لم تحرق جذور‬
‫الشجرة الخبٌثة‪ ،‬بل قلمت أفرعها فقط بحبس أو حظر أو نفً أعضابها‪ ،‬وكان ٌلزم قلع الجذور وحرقها‪،‬‬
‫مستشهدا بقول اإلنجٌل‪" :‬كل شجرة ال تضنع ثمرا جٌدا ُتقطع و ُتلقى فً النار" (متى ‪ ،)ٔ9:9‬فواٌزهاوبت‬

‫*** ومن هنا تشجٌع هولٌوود وشركات اإلنتاج الفنً حول العالم اإلساءة للنساء بتقدٌمهن بشكل رخٌص فً المسلسالت واألفالم واألؼانً‬
‫واإلعالنات‪ ،‬والتفنن فً مشاهد اؼتصابهن أو المشاهد الجنسٌة عامة‪ ،‬ألنه بموت احترام النساء فً النفوس ٌموت احترام األمومة واألسرة‪،‬‬
‫ووقتها سٌموت احترام األرض والعرض‪ ،‬فٌكون التسلٌم إلبلٌس سهال‪.‬‬
‫(‪)99‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٔ9ٓ -ٔ89‬‬
‫(ٓ‪)8‬‬
‫‪ -‬الشٌطان أمٌر العالم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘ٔ‬

‫ٖٕ٘‬
‫وأتباعه ظلوا أحٌاء ٌبخون سمومهم وٌبتكرون فً سوٌسرا وإٌطالٌا وألمانٌا وبرٌطانٌا ثم أمرٌكا أثوابا‬
‫جدٌدة ٌظهرون بها‪ ،‬وصحٌح أن الشر ال نهاٌة له‪ ،‬لكن إذا حدث وأحرقت شجرة هإالء لكان ما بقً منه‬
‫أهون بكثٌر مما تعانٌه البشرٌة اآلن‪ ،‬فالشر درجات‪.‬‬

‫وهذه نفس خطٌبة مصر فً معظم جوالتها مع الشٌطان والشعوب التً دفعها الشٌطان دفعا الحتبلل مصر‪،‬‬
‫فلم تنتقم مصر منها االنتقام البلبق‪ ،‬فكم تسامحت مصر مع شعوب احتلتها وذبحتها ونكلت بها‪ ،‬فعادت وقبلت‬
‫استٌطانها فً مصر‪ ،‬وتسامحت مع تنظٌمات فرَّ قت بٌن أبنابها كتنظٌم اإلخوان المسلمٌن‪ ،‬وسلمت اقتصادها لنفس‬
‫من نهبوها واحتلوها وذبحوها؛ أي بٌوت مال روتشٌلد العالمٌة وإخوانه‪ ،‬ممثلة الٌوم فً صندوق النقد الدولً‬
‫وتحالفات المستثمرٌن األجانب وخبراإهم ومستشارٌهم ومنظماتهم الدولٌة‪ ،‬لٌس كمصر دولة تقطع من تارٌخها‬
‫الصفحات السوداء مع أعدابها كؤن لم تكن‪ ،‬فتظل تدور فً نفس دابرة االحتبلل والتوهان أجٌال ورا أجٌال‪ ،‬ما‬
‫تكاد تفوق وتتحرر من كبوة أو احتبلل حتى تنزلق قدمها فً وحل احتبلل جدٌد‪.‬‬

‫وبببلغ الحقٌقة الكاملة لعامة الناس‪ٌ ،‬قول جً كار‪ ،‬فإن معرفة الحقٌقة (حقٌقة وأسالٌب الصراع القدٌم‬
‫المتجدد بٌن الخٌر والشر) ستجعل بالتؤكٌد الؽالبٌة ٌشؽلون أنفسهم بإنقاذ ببلدهم وأرواحهم‪ ،‬وسوؾ تضع‬
‫حدا للخمول والبلمباالة‪ ،‬وكما أخبرنا السٌد المسٌح‪ ،‬الحقٌقة سوؾ تحررنا (روحٌا) من األؼبلل التً ٌتم‬
‫شد وثاقها علٌنا أكثر وأكثر كل ٌوم بواسطة قوى الظبلم الروحٌة(ٔ‪.)8‬‬

‫وبالمثل ٌقول القرآن‪ :‬فإذا قرأت القرآن فاستعد باهلل من الشٌطان الرجٌم (‪ )98‬إنه لٌس له سلطان على‬
‫الَّذٌن آمنوا وعلى ربهم ٌتوكلون (‪ )99‬إ َّنما سلطانه على الَّذٌن ٌتولَّونه والَّذٌن هم به مشركون (ٓٓٔ)‬
‫(سورة النحل)‪.‬‬

‫ولهذا استعرضنا ما سبق حول المسٌخ الدجال وتنظٌماته فً هذا الكتاب‪ ،‬ألن هذه التنظٌمات الهكسوسٌة‬
‫حطت كلها فً أرض مصر الطٌبة فً‬ ‫باختبلفاتها الظاهرٌة‪ ،‬وبؤرواحها الشرٌرة‪ ،‬وهدفها النهابً الواحد‪َّ ،‬‬
‫القرن ‪ ،ٔ9‬وتوؼلت وتؽلؽلت فً القرن ٕٓ مع تؽلؽل االحتبلل اإلنجلٌزي والجالٌاتً‪ ،‬وتجنً اآلن ثمارها‬
‫خططها فً القرن ٕٔ؛ فكان ٌلزم معرفة خطوط عرٌضة عنها لنحاول أن نفهم ونرى ماذا جرى للفبلحٌن‪،‬‬
‫ومن ٌؤخذهم وٌفرؼهم من فبلحٌتهم المقدسة لٌكونوا مسخا مضحكا‪ ،‬ومن ٌدٌر أمورهم فً هذا العصر‬
‫الصعب المش َّبر‪ ..‬ربما حٌنها‪ ،‬ربما‪ ،‬ننجو من اإلبادة القادمة‪.‬‬

‫♦♦♦ ضٌاع الهدؾ من أهل الخٌر‬

‫ٌقول المسٌح لعبٌد الشٌطان‪ٌ" :‬ا أوالد األفاعً‪ ،‬كٌؾ تقدرون أن تتكلموا بالصالحات وأنتم أشرار؟" (متى ٕٔ‪:‬‬
‫ٖٗ)‬

‫إن الشٌطان وأتباعه بضاعتهم الكذب‪ ،‬قلب الحقاٌق‪ ،‬قلب الهرم رأسا على عقب‪ ،‬الحرٌة عندهم احتبلل‬

‫(ٔ‪)8‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪99‬‬

‫ٕٗ٘‬
‫واالحتبلل حرٌة‪ ،‬والظالم ٌسمونه عادال والعادل ٌسمونه ظالما‪ ،‬واستقبلل الدولة برأٌها واقتصادها ٌسمونه‬
‫استبدادا وتسلٌم نفسها للعالم ٌسمونه نجاحا وانفتاحا‪ ،‬وثورة الخٌر ٌسمونها انقبلبا دٌكتاتورٌا‪ ،‬واإلصبلح‬
‫تخرٌب والتخرٌب إصبلح‪ ،‬وثورة الشر ٌسمونها ثورة الحرٌة‪ ،‬والنصر هزٌمة والهزٌمة نصر‪ ،‬والوطنٌة‬
‫ٌسمونها عنصرٌة كرٌهة وتمكٌن األجانب ٌسمونه احترام اآلخر‪ ،‬حماٌة وحدانٌة الوطن ٌسمونها إقصاء‪،‬‬
‫وتفتٌت الوطن إلى هوٌات وطوابؾ وفصابل ٌسمونها تسامح مع حق االختبلؾ‪ ..‬إنه "قاموس المسٌخ‬
‫الدجال"‪ ،‬التصنٌؾ ٌكون حسب ما إن كان الحدث مع أو ضد المسٌخ الدجال‪.‬‬

‫فإذا كان الشٌطانٌون (النارٌون) مكشوفون فً الكتب المقدسة وكتب التارٌخ القدٌم والحدٌث إلى هذه‬
‫الدرجة كما رأٌنا فلماذا ٌنجحون فً جوالت كثٌرة؟ حتى أنهم باتوا ٌتحدثون عن مخططاتهم علنا؟ لماذا‬
‫وصلوا إلى أن سٌطروا على العالم حتى وقعت فً براثنهم مصر نفسها‪ ،‬عدوة الشٌطان األولى فً العالم؟‬

‫ٌسار الناظر عملة أصدرها أؼسطس علٌها التمساح رمز مصر ومكتوب "فتح مصر" ابتهاجا باحتبلل الرومان لها بعد إؼراقها بالدٌون (المتحؾ‬
‫البرٌطانً)‪ ،‬وعلى الٌمٌن روتشٌلد ٌقدم شرابا مؽرٌا "الدٌون" للتمساح حتى سكر واحتلت برٌطانٌا مصر ٕ‪ٔ88‬‬
‫(‪ )www.rothschildarchive.org‬فهكذا حٌن تضعؾ ذاكرة الدولة وتنسى أسالٌب عدوها وتفقد هدفها تقع فً نفس الفخ مرة وراء مرة‬

‫تحدى إبلٌس هللا "قال فبعزتك ألؼوٌ َّنهم أجمعٌن" (سورة ص‪ ،)8ٕ :‬فمن هذه الجرأة ٌؤخذ أتباع كل‬
‫تنظٌم عالمً جرأتهم فً الباطل طالما ال ٌجدون نفس قوة التحدي فً أهل الخٌر لنصرة هللا وبلدهم‪.‬‬

‫أتباع التنظٌمات العالمٌة مستمرون ألنهم ٌرون هدفهم النهابً‪ٌ ،‬علمون أن كل شخص منهم جندي فً‬
‫الطرٌق الطوٌل إلٌه‪ٌ ،‬نفذ خطوة من الخطوات‪ ،‬ولذا ال ٌملون وال ٌٌؤسون‪ ،‬لدٌهم اطمبنان أن جهودهم‬
‫سٌكون لها ثمرات‪ ،‬ألن أعدابهم (أهل الخٌر) ال هدؾ لهم‪ ،‬و"بٌعٌشو الٌوم بٌومه"‪ ،‬وال ٌربطون بٌن‬
‫األحداث‪ ،‬وال ٌشعرون بؤنهم فً حرب دابمة مع الشر‪ ،‬فخطواتهم قصٌرة ومشتتة‪ ،‬وال ٌطمحون إلنجاز‬
‫كبٌر‪ ،‬وإذا فازوا على الشٌطان (فساد أو احتبلل) فً معركة أسكرتهم الفرحة‪ ،‬وتراخت إرادتهم‪ ،‬وظنوا‬
‫أنهم "خلصوا على الشر لؤلبد" (كما حدث لمصر بعد انتصارها على قباٌل شعوب البحر فً األسرة ٕٓ أو‬
‫بعد انتصار أكتوبر ٖ‪ ٔ99‬مثبل)‪.‬‬

‫ٌترجم لٌنٌن هذا فً قوله إنه ربما ٌحتاج األمر إلى ٖ آالؾ سنة قبل أن تصل الحركة الثورٌة العالمٌة‬
‫إلى مرحلتها النهابٌة‪ ،‬ولٌقووا فً نفسهم األمل دابما وٌعملوا بجد وهم سعداء وبؤعصاب هادٌة فإن شعارهم‬

‫ٕ٘٘‬
‫"وحٌث أنه ال ٌجب ألي شًء أن ٌجعلنا نحٌد عن خطتنا المرسومة فإنه ٌتعٌن علٌنا أن نخوض فً عملنا‬
‫الذي بدأناه حدٌثا كما لو أن الؽد سٌجلب لنا النجاح"(ٕ‪.)8‬‬

‫ولكن هذا ال ٌعنً أن الشٌطان وأالطٌشه مشٌبتهم نافذة‪ ،‬وأن قوتهم ببل حدود‪ ،‬فالحقٌقة أنهم ضعاؾ‬
‫كلوح الزجاج المكسور‪ ،‬ومصدر قوتهم الوحٌد أن أهل الخٌر ضعاؾ الذاكرة‪ ،‬ال ٌرونهم‪ ،‬وأحٌانا إذا رأوهم‬
‫ٌحبطون أنفسهم عن مواجهتهم وٌستسلمون لؤلمر الواقع بحجة أنهم "مش قدهم"‪.‬‬

‫أما حٌن ٌخرج من أهل الخٌر أصبلب قوٌة تعرؾ أن دورها وشرفها فً الحٌاة هو محاربة الشٌطان‬
‫وأالطٌشه‪ ،‬وٌتبعون األسباب‪ ،‬فإنهم ٌحققون انتصارات مدوٌة تهز الشر كؤنه شجرة خاوٌة أمام العاصفة‬
‫العاتٌة‪ ،‬مثلما فعل المصرٌون حٌن التزموا بؤصول الخٌر "ماعت"‪ ،‬وحاربوا بها الشر وسط همجٌة العالم‬
‫فً الزمن القدٌم‪ ،‬فؤخرجوا لنا أعذب وأنبل حضارات الخٌر‪ ،‬وكما حاربوه مجسدا فً الهكسوس بؤنواعهم‬
‫قدٌما وفً ‪ ٔ9٘ٙ‬وٖ‪ ،ٔ99‬وكما فاجبوا الشر فً ثورات ٔ‪ ٔ88‬و‪ ٔ9ٔ9‬و ٕ٘‪ ٔ9‬التً قامت ضد الشر‬
‫وتنظٌماته وتٌاراته‪ ،‬على عكس الثورات اإلنجلٌزٌة والفرنسٌة والروسٌة التً قامت لتمكٌن هذا الشر‬
‫وبنوكه وتنظٌماته وتٌاراته‪.‬‬

‫ثورة ٔ‪( ٔ88‬هبت فً وجه بنوك روتشٌلد وجٌوشه وأعادت لمصر شعار مصر للمصرٌٌن ووحدت‬
‫المصرٌٌن حول زعٌم منهم)‪ ،‬ثورة ‪( ٔ9ٔ9‬هبت وزلزلت جٌٌش االحتبلل الروتشٌلدي‪ ،‬وؼرست شعار‬
‫مصر للمصرٌٌن فً الفن واألدب واالقتصاد والسٌاسة والدٌن)‪ ،‬ثورة ٕ٘‪( ٔ9‬أتمت إجبلء جٌش االحتبلل‬
‫الروتشٌلدي وبنوكه ومعظم جالٌاته‪ ،‬واستردت حرٌة قرار وأرض واقتصاد مصر للمصرٌٌن‪ ،‬ورفضت‬
‫الشٌوعٌة والرأسمالٌة واإلخوان المسلمٌن معا)‪.‬‬

‫ولذا وصؾ اإلعبلم األجنبً الذي ٌدٌره بارونات المال ثورات مصر هذه بؤنها "انقبلبات دٌكتاتورٌة‬
‫على الشرعٌة"‪ ،‬أي انقبلب على الشٌطان واالحتبلل‪ ،‬فٌما وصفوا الثورات اإلنجلٌزٌة والفرنسٌة والروسٌة‬
‫بؤنها "ثورات مجٌدة ونصٌرة للحرٌة"‪ ،‬أي حرٌة الشٌطان وحرٌة األجانب فً االحتبلل والسٌطرة على‬
‫ؼٌرهم‪.‬‬

‫الخبلصة‪ ..‬أهل الشر ال ٌنتصرون علٌنا لذكابهم‪ ،‬وال لكثرة مالهم‪ ،‬وال لعنؾ إرهابهم‪ ،‬ولكن ألنهم شعب‬
‫"م َُخطِ ط"‪ ،‬أي ٌجٌد وضع الخطط والصبر علٌها‪ ،‬وتعدٌلها حسب الظروؾ الدولٌة‪ ،‬وتوجٌه الرأي العام بما‬
‫ٌخدمها‪ ،‬وٌحفظون تارٌخهم وتارٌخ ؼٌرهم جٌدا‪.‬‬

‫أما مصر‪ -‬منذ ضاعت منها ماعت ووصٌة العهد الحارسة‪ -‬فتسٌر بعشوابٌة‪ ،‬خطواتها مرتبكة مشتتة‪،‬‬
‫خطوة للٌمٌن وأخرى للٌسار‪ ،‬وخطوة للخلؾ وأخرى لؤلمام‪ ،‬ال ترى هدفها النهابً‪ ،‬ال تضع هدؾ أساسا‪،‬‬
‫ال ترى الشمس رؼم أنها بنت الشمس (رع)‪ ،‬تتخبط فً الظبلم‪ ،‬حجبها عنها حسن نواٌاها بالؽٌر‪ ،‬ونسٌانها‬
‫تارٌخها ودروسه‪ ،‬وكثرة االحتبلالت التً رمت على عٌنٌها التراب‪ ،‬ومجامبلتها الحالٌة لبعض الدول‬

‫(ٕ‪)8‬‬
‫‪ -‬الشٌطان أمٌر العالم‪ ،‬ولٌام جً كار‪ ،‬ص ٕ٘ٔ و ‪ٕٔ9‬‬

‫‪ٕ٘ٙ‬‬
‫بحجة روابط إسبلمٌة أو عربٌة أو إنسانٌة وسٌاسٌة‪ ،‬رؼم أنهم جمٌعا ال ٌرعون فٌها َّإال وال ذمة‪ ،‬ولو‬
‫وجدوا الفرصة فٌها التهموها‪ ،‬كما فعلوا سابقا مرارا‪.‬‬

‫وعلى هذا‪ ،‬ستفوز مصر فً هذا السباق الشرس وتحمً نفسها من اإلبادة‪ ،‬حٌن تعود أمة "م َُخطِ طة"‪..‬‬
‫تتذكر وظٌفتها ووصٌة العهد‪ ،‬واعٌة بتارٌخها كله متصبل ال مجزءا‪ ،‬وبتارٌخ ؼٌرها من األمم‪ ،‬لتكون‬
‫"على نور"‪ ،‬تعرؾ ماضٌها الحق‪ ،‬ترى مستقبلها وخطط أعدابها بوضوح‪ ،‬وتشلها وتكسر سمها‪ ،‬كما فعل‬
‫حور (حورس) مع الشٌطان‪ ،‬وتسقً هذا كله ألبنابها فً المدارس والؽٌطان والورش وكل مكان جٌل ورا‬
‫جٌل‪.‬‬

‫فً فٌلم "موعد مع إبلٌس" (إنتاج ٘٘‪ )ٔ9‬تخفى إبلٌس فً شكل إنسان طٌب وحنون وناجح هو د‪.‬نبٌل‬
‫(محمود الملٌجً) ل ٌتقرب من اإلنسان الؽافل الدكتور رجب (زكً رستم) مستؽبل حسن نواٌاه التً أعمته‬
‫عن أن ٌشك فٌه‪ ،‬وحرَّ ك فٌه الطمع للمال مستؽبل فقره‪ ،‬وجرَّ ه الرتكاب الخطاٌا لٌقع أسٌرا له‪ ..‬ووقع‪ -‬كما‬
‫وقعت مصر‪ -‬لكن فً لحظة صحوة ضمٌر بداخله وؼضبة "ماعت" من هذا الذل‪ ،‬انتفض رجب‪ ،‬ورفض‬
‫إؼراءات إبلٌس‪ ،‬فلما هدده األخٌر استعاذ باهلل فً وجهه‪ ،‬وأكد إٌمانه وإصراره على الخٌر‪ ،‬ألقى فً وجهه‬
‫بالثروة الحرام‪ ،‬فؤفلت من إؼراءاته وتهدٌداته‪ ...‬ونجا من الفخ‪.‬‬

‫"إنها ]ماعت[ ال تتؽٌر وال تتبدل منذ زمن الذي أوجدها"‬

‫(الحكٌم بتاح حتب)‬


‫(ٖ‪)8‬‬
‫"إن صالح األرض (مصر) ٌنحصر فً تطبٌق الماعت"‬

‫(الفبلح الفصٌح فً شكواه الثالثة)‬

‫(ٖ‪)8‬‬
‫‪ -‬تقدٌم علً رضوان لكتاب "الماعت‪ ..‬فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔ‪ٔ٘-‬‬

‫‪ٕ٘7‬‬
‫صبحت بالدنا للمؽشوش مورد‬

‫وصانعها ظمآن‬
‫(ٕٓٗٔ)‬
‫شرم برم‪ ..‬حالً ؼلبان‬

‫(ٕٓٗٔ)‬
‫‪ -‬عبد هللا الندٌم‪ ،‬صحٌة التنكٌت والتبكٌت‪ ،‬العدد ‪ ،9‬بتارٌخ ‪ٔ88ٔ -ٙ -9‬‬
‫المشهد ‪ :ٔ9‬االحتالل اإلنجلٌزي‬

‫(ٕ‪)ٔ9ٕ٘ -ٔ88‬‬

‫(هلفتة الشخصٌة المصرٌة‪ -‬القناع الرابع)‬

‫باالحتبلل اإلنجلٌزي أصبحت مصر تؤنّ تحت ٗ احتبلالت (احتبلل رباعً)‪ ،‬االحتبلل العثمانلً‪،‬‬
‫واالحتبلل العلوي‪ ،‬واالحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬واالحتبلل الجالٌاتً‪ ،‬أي من الجالٌات األجنبٌة الذراع القوٌة‬
‫والسند لبلحتبلالت الثبلثة‪.‬‬

‫فتابعنا أنه بهذا الذراع ٌسٌطر االحتبلل العسكري على معظم المناصب والثروة والفنون واإلعبلم؛ مما‬
‫ٌساعد فً استمرار إزاحة أوالد البلد عنها بحجة أنهم ؼٌر كؾء‪ ،‬كما أن كل احتبلل من االحتبلالت الثبلثة‬
‫لم ٌكن له من جنسه جالٌة بؤعداد تسمح له بقبض الزمام على مفاصل الحٌاة فً مصر‪ ،‬فكان ٌستعٌن فً‬
‫ذلك بالجالٌات األجنبٌة المستوطنة وٌمنحها االمتٌازات لتكون فوق المصرٌٌن‪ ،‬وٌستقدم جالٌات جدٌدة‪.‬‬

‫وتبدلت الطبقة الحاكمة‪ ،‬وإن لم ٌكن هذه المرة تبدال تاما‪ ،‬لم تكن عملٌة الكشط كاملة‪ ،‬لكن أضٌؾ‬
‫اإلنجلٌز بجانب العٌلة العلوٌة والسلطان العثمانلً‪ ،‬وإن كان المنتدب البرٌطانً هو الحاكم الحقٌقً وقتها‪،‬‬
‫إضافة لجعل األوروبٌٌن رقم ٔ فً المناصب‪ٌ ،‬لٌهم الشوام والٌهود واألتراك والشركس والعربان‪.‬‬

‫♦♦♦ الجٌش فً االحتالل اإلنجلٌزي (فالحون‪ -‬إنجلٌز‪ -‬مجنسون)‬

‫أما ما تم كشطه كامبل‪ ..‬فهو الجٌش المصري من أول قابده العام (أحمد عرابً) وحتى الجنود‪ ،‬بروح‬
‫االنتقام الهكسوسٌة الهمجٌة‪ ،‬فقد تؤكدوا أنه بوجود هذا الجٌش جسدا ورأسا فً ٌد مصرٌٌن والبهم لبلدهم‬
‫لٌس إال‪ ،‬فلن ٌبقى لكل المذكور أعبله (إنجلٌز وعثمانلٌة وأسرة علوٌة وجالٌات) سلطة فً مصر‪.‬‬

‫❶ حرمان المصرٌٌن من رتبة ضابط‬

‫تابعنا أن أول قرار اتخذه توفٌق عقب االحتبلل هو تسرٌح الجٌش المصري الذي أظهر مقام الفبلح من‬
‫جدٌد‪ ،‬وأعقب هذا إجراءات لتحوٌل إلى جٌش ال ٌصل فٌه الفبلح إلى مرتبة الضابط‪.‬‬

‫وٌحكً تقرٌر بعثة اللورد دوفرٌن‪ ،‬التً جاءت عقب االحتبلل لتنظٌم أمور االحتبلل فً مصر‪ ،‬أنه تناقش‬
‫مع الخدٌوي وشرٌؾ باشا (تركً) حول مصٌر الجٌش‪ ،‬واتفقوا جمٌعا على أال ٌكون مصرٌا خالصا‪،‬‬
‫وبتعبٌر كرومر‪ ،‬فإنهم باستعراض مسٌرة الجٌش المصري‪ ،‬وأن قدرته الذاتٌة على القتال تزداد إذا كان‬
‫الجندي تحت إمرة ضابط مصري‪ ،‬فإنهم توصلوا إلى أن "وجود جٌش مصري تحت قٌادة ضباط مصرٌٌن‬

‫‪ٕ٘9‬‬
‫كان أسوأ من السوء نفسه"‪ -‬بالنسبة للقوة األجنبٌة الحاكمة‪ -‬وتشاورا هل إذن ٌجلبون مرتزقة من كل‬
‫األجناس (مثلما كانت خطة نابلٌون لصناعة جٌش فً مصر حال استقر االحتبلل الفرنسً)‪ ،‬أم ٌكون من‬
‫األتراك والشركس والكرد والمشردٌن الذٌن ال مؤوى لهم من حوض البحر المتوسط‪ ،‬أو أن ٌصرفوا النظر‬
‫عن إنشاء جٌش من األساس وٌكتفون بالقوات البرٌطانٌة‪.‬‬

‫واقترح الجنرال اإلنجلٌزي فالنتٌن بٌكر أنه بعد إبعاد الضباط المصرٌٌن المشتركٌن فً ثورة ٔ‪ ٔ88‬التً‬
‫وصفها بؤنها "ؼٌر وطنٌة"‪ٌ ،‬جري تجنٌد مسلمً البوسنة وألبانٌا وبلؽارٌا على أن ٌكون الضباط من‬
‫اإلنجلٌز؛ منعا لتكرار الثورة(ٕٔٗٔ)‪ ،‬وانتهوا إلى تكوٌن جٌش‪ ،‬أو ما ٌشبه الجٌش‪ ،‬جنوده من الفبلحٌن‪،‬‬
‫وضباطه من العاببلت األجنبٌة‪ -‬المجنسة فٌما بعد‪ -‬كالتركٌة والشركسٌة والكردٌة‪ ،‬والقٌادة وكبار الضباط‬
‫والقابد العام "السردار" من اإلنجلٌز(ٕٕٗٔ)‪.‬‬

‫وٌقضً الجندي ‪ ٙ‬سنوات خدمة‪ ،‬عدا ‪ ٙ‬أخرى ٌقضٌها فً االحتٌاط أو البولٌس‪ ،‬وبرر اإلنجلٌز طول‬
‫الخدمة بؤنه لتزوٌدهم بالتدرٌب البلزم‪ ،‬والجهاز اإلداري بكامله فً ٌد ضباط وموظفٌن إنجلٌز(ٖٕٗٔ)‪ ،‬ولم‬
‫ٌكتفوا بذلك‪ ،‬فؤقام دوفرٌن جٌشا موازٌا اسمه "الجندرمة" لمراقبة وقمع الجٌش النظامً‪ ،‬أي ملٌشٌا مسلطة‬
‫على رقبة الجٌش‪.‬‬

‫وبرر ذلك بؤن‪" :‬إٌجاد قوة مدنٌة موالٌة ٌمكن االعتماد علٌها عند اللزوم لقمع أولى بوادر أي ثورة‬
‫عسكرٌة"‪ ،‬كما تحجج بالحاجة لها فً صد ؼارات البدو‪ ،‬وأفرادها متطوعون ولٌسوا مجندٌن لٌسهل فرزهم‬
‫وتحدٌد والءاتهم‪ ،‬وجعل مرتباتها أعلى من الجنود‪ ،‬وتخضع لقٌادة أوروبٌة‪ ،‬وجعل البولٌس ٓٓ‪ٔٙ‬‬
‫شخص‪ ،‬وسلمه لقٌادة أوروبٌة بدوره بحجة طمؤنة األوروبٌٌن بعد مذبحة اإلسكندرٌة(ٕٗٗٔ)‪.‬‬

‫وفوق هذا ألؽى اإلنجلٌز التجنٌد اإلجباري بؤن وضعوا سنة ‪ ٔ88ٙ‬نظام البدل النقدي لئلعفاء من التجنٌد‬
‫للحد من عدد جنوده وتفرٌؽه من قومٌته وروحه الوطنٌة‪ ،‬فبهذا النظام صار التجنٌد مختصا بالفقراء‪،‬‬
‫وتحول األمر كؤنه عب وسخرة لصالح األجنبً‪ ،‬وحُرمت الببلد من روح الجندٌة الحقة وما ٌستتبعها من‬
‫شعور التضامن بٌن أبناء الوطن بتعبٌر الرافعً‪ ،‬كما حُرم الجٌش من المصرٌٌن المتعلمٌن(ٕ٘ٗٔ)‪.‬‬

‫أما الشرطة‪ ،‬فعٌنوا مفتشا أوروبٌا صار له الكلمة العلٌا على وزٌر الداخلٌة‪ ،‬ومفتشٌن إنجلٌز فً المدٌرٌات‬
‫صارت لهم السلطة الفعلٌة ال المدٌرٌن‪ ،‬وهو ما تسببت فً صراع مع نوبار األرمنً‪ ،‬وزٌر الداخلٌة فٌما‬
‫بعد(‪ ،)ٕٔٗٙ‬حٌن تفرؼوا لصراع السلطات واقتسام الؽناٌم‪.‬‬

‫❷إبادة اآلالؾ من جنود ثورة ٔ‪ٔ88‬‬

‫(ٕٔٗٔ)‬
‫‪ -‬الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬د‪ .‬سامً عزٌز‪ ،ٕ٘9 -ٕ٘8 ،‬ومصر الحدٌثة‪ ،‬كرومر‪ ،‬جٕ‪ ،‬ص ‪٘ٙ9‬‬
‫(ٕٕٗٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الجٌش المصري فً السٌاسة (ٕ‪ ،)ٔ9ٖٙ-ٔ88‬عبد العظٌم رمضان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ ٖ9 -ٖٙ‬و‪98‬‬
‫(ٖٕٗٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪98‬‬
‫(ٕٗٗٔ)‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‪ ،‬صٓٗ‪ٖٗ -‬‬
‫(ٕ٘ٗٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مقدمات ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘‪ ،ٔ9‬عبد الرحمن الرافعً‪ ،‬ط ٖ‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬ص ٕ‪ ،ٔٙ‬ومصر الحدٌثة‪،‬جٕ‪ ،‬ص ٓ‪٘9‬‬
‫(‪)ٕٔٗٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر الحدٌثة‪ ،‬اللورد كرومر‪ ،‬جٕ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪٘88 -٘99‬‬

‫ٖٓ٘‬
‫جاء فً كتاب "مصر للمصرٌٌن" لسلٌم النقاش أن قرار حل الجٌش المصري ‪ ٔ9‬سبتمبر ٕ‪" ٔ88‬قصد به‬
‫صرؾ العساكر التً جاهرت بالعصٌان‪ ،‬واالكتفاء بمحاكمة الضباط وكبار قادة الجٌش"(‪.)ٕٔٗ9‬‬

‫لك ن الواقع أنهم لم ٌكتفوا بمحاكمة الضباط وكبار القادة‪ ،‬والحكم علٌهم بالقتل والحبس والنفً والتشرٌد‪،‬‬
‫وإبعاد الفبلحٌن عن رتبة الضابط‪ ،‬ولكن انداروا أٌضا على الجنود الفبلحٌن أبناء الثورة لٌنتقموا منهم‬
‫بالتشرٌد والنفً والقتل الجماعً‪ ...‬فً ؼابات السودان‪.‬‬

‫كتب دوفرٌن إلى وزٌر خارجٌة ببلده جرانفٌل فً ‪ ٔ8‬نوفمبر ٕ‪ ،ٔ88‬أي بعد شهرٌن من االحتبلل‪ ،‬أن‬
‫الجنود المصرٌٌن الذٌن ساعدوا عرابً وجرى تسرٌحهم سٌجرى إرسالهم إلى السودان للتخلص منهم‬
‫باألمراض واألوببة(‪)ٕٔٗ8‬؛ فلملم الجنود المسرحٌن وبعثهم هناك لكً ال ٌنشروا الفكر الوطنً وحقابق ما‬
‫جرى وسط قراهم‪.‬‬

‫وعن حالة الجنود لما وصلوا إلى السودان قال الكولونٌل ستٌوارت الذي أرسلته برٌطانٌا للسودان لتقدٌم‬
‫تقرٌر عن الجنود فٌما بٌن دٌسمبر ٕ‪ ٔ88‬ومارس ٖ‪" :ٔ88‬لم ٌكونوا ٌشعرون بؤن هناك واجبا مقدسا‬
‫ٌقتضٌهم الدفاع عن سلطان الحكومة الشرعً فً الوقت الذي ٌحتل العسكر األجنبً ببلدهم‪ ،‬وٌسود بٌنهم‬
‫االعتقاد بؤن الخدٌوي إنما أرسلهم إلى السودان لٌلقوا فٌه حتفهم(‪.")ٕٔٗ9‬‬

‫وحصل فعبل ما بات ٌُعرؾ باسم "إبادة الجٌش العرابً فً شٌكان"‪ ،‬أنه فً نوفمبر ٖ‪ ٔ88‬وفً حملة‬
‫مشبومة على كردفان كان ‪ 9‬آالؾ من المشاة المصرٌٌن على األقل بٌن ٓٔ آالؾ أبٌدوا بالكامل فً ؼابة‬
‫على ٌد الدراوٌش (أنصار المهدي المزعوم فً السودان)‪ ،‬ولم ٌنج إال ٓٓ‪ ،ٙ‬وذلك ألن البرٌطانٌٌن زجوا‬
‫بهم بدون سبلح وال تدرٌب فً الؽابات‪ ،‬وهً قواعد المهدي الحصٌنة‪ ،‬ورفض اإلنجلٌز أن ٌبقى الجنود فً‬
‫الخرطوم لصد الهجوم علٌها‪ ،‬وأصرت على أن ٌُلقى بهم فً الؽابات (ٖٓٗٔ)‪.‬‬

‫وباإلضافة إلى معارك أخرى ٌتبٌن أنه أبٌد ٕٖ ألؾ مصري فً الحلفاٌة والقطٌنة والحرٌؾ وأبو حراز‬
‫والخرطوم وكسبل وستار من سنة ٗ‪ ،)ٖٔٗٔ(ٔ88٘ -ٔ88‬لٌس عن ضعؾ منهم أو جبن‪ ،‬ولكن لتعمد عدم‬
‫تدرٌبهم وتسلٌحهم بما ٌكفً ورمٌهم فً ؼابات مجهولة‪ ،‬واختٌار الضابط الؽٌر كؾء هكس قابدا‪ ،‬وهذا‬
‫الرقم ٌعنً أن عملٌة التجنٌد لم تتوقؾ‪ ،‬فكلما أُبٌد آالؾ ٌرسل الخدٌوي توفٌق والبرٌطانٌون آالفا أخرى‪،‬‬
‫وكؤن هدفهم إبادة أكبر كم من الشباب المعروؾ أنه كان فً ثورة ٔ‪.ٔ88‬‬

‫وفً بعض المعارك التً ٌلزم فٌها انسحاب الجنود‪ ،‬كانت برٌطانٌا تصدر لهم األوامر باالنسحاب دون‬
‫ؼطاء ٌحمٌهم‪ ،‬وترفض إرسال المدد والنجدة لهم‪ ،‬فؤبٌد جراء ذلك أعداد كبٌرة‪ ،‬بما فٌهم نساء وأطفال كانوا‬
‫مع مصرٌٌن مقٌمٌن هناك ضمن الجٌش‪.‬‬

‫(‪)ٕٔٗ9‬‬
‫‪ -‬الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬د‪ .‬سامً عزٌز‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕ٘8‬‬
‫(‪)ٕٔٗ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الجٌش المصري فً السٌاسة (ٕ‪ ،)ٔ9ٖٙ-ٔ88‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٗ٘‬
‫(‪)ٕٔٗ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٘٘‬
‫(ٖٓٗٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٖ٘‪٘9 -‬‬
‫(ٖٔٗٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬راجع إحصابٌات عدة معارك فً نفس المرجع ص ٓ‪ٖٙ -ٙ‬‬

‫ٖٔ٘‬
‫ٌقول الرافعً‪" :‬وكان ؼرض اإلنجلٌز من إنفاذ هذ الجٌش هو التخلص منه فً حروب السودان‪ ،‬وقد تم لهم‬
‫ما دبروه‪ ،‬إذ أبٌد معظمه فً واقعة شٌكان"‪ ،‬وفٌما بعد علق الجنرال جوردون‪" :‬كلما فكر إنسان فً فداحة‬
‫الخسابر فً األرواح فً السودان منذ سنة ٓ‪ ٔ88‬ال ٌمتنع عن أن ٌتمنى إعدام السٌر أوكلن كولفن والسٌر‬
‫إدوار مالٌت والسٌر شارلس دٌلك"(ٕٖٗٔ)‪ ،‬إنه مدبحة دنشواي العظمى‪ ،‬فصل من فصول إبادة اإلنجلٌز‬
‫للهنود الحمر فً أمرٌكا‪ ،‬فصل ما زال ٌقطر دما من عروق الفبلح ال ٌراه المصرٌون‪ ،‬حجب أخباره عنهم‬
‫وقتها سٌطرة االحتبلل الحدٌدٌة على الصحافة‪ ،‬فمرت المذبحة العظمى دون ثورة أو ؼضب ٌلٌق بضخامة‬
‫الحدث‪.‬‬

‫وبتعبٌرات أوضح وصؾ بردولً‪ -‬كبٌر محامًٌ عرابً وأصحابه‪ -‬إبادة الجٌش المصري المتعمدة فً‬
‫السودان بقوله‪" :‬ولم ٌكفهم نفً "عرابً" وتجرٌده من رتبه‪ ،‬بل قالوا إنعار وخزي الزعٌم ٌجبؤن ٌشاركه‬
‫فٌه كل ضابط مرءوس له‪ ،‬بل وكل نفر فً الجٌش كان ٌحارب تحت الراٌة التً كان ٌحملها"‪ ،‬وجاءت‬
‫الفرصة بالتمرد الذي قاده محمد المهدي فً السودان"وأمكن جمع ما ٌمكن جمعه بقدر كاؾ من الجند‬
‫المسرحٌن والمهانٌن لٌنضموا تحت لواء الكولونٌل هكس‪ ،‬وقد شاهدت بنفسً نواة فرقة السودان وهً‬
‫تؽادر القاهرة فً طرٌقها إلى السوٌس‪ ،‬لقد كان مشهدا مإسفا ال ٌمكن أن ٌنسى‪ ،‬إذا وضع الجنود المصرٌة‬
‫فً عر بات نقؾ وعربات نقل المواشً‪ ،‬كما لو كانوا حٌوانات‪ ،‬لقد ؼادروا العاصمة عزال من السبلح‬
‫كمساجٌن مهانٌن بكل صور اإلهانة‪ ،‬أما ضباطهم الوطنٌون فقد اختٌروا من بٌن من كانوا أكثر كراهٌة‬
‫لنظام الحكم الجدٌد‪ ،‬وكان نفس تعٌٌنهم إجراء جهروا به وأعلنوه على أنه بمثابة عقوبة وقمع لهم"‬

‫فً المقابل‪ ،‬فإنه عندما احتاجت برٌطانٌا تشدٌد قبضتها على السودان‪ ،‬لجؤت هذه المرة إلى تسلٌح الجنود‬
‫المصرٌٌن وتدرٌبهم لتوفر لهم أسباب النصر‪ ،‬ففً سنة ‪ ٔ89ٙ‬ومع الزحؾ الطلٌانً والفرنسً على أفرٌقٌا‬
‫قررت استعادة السودان كاملة‪ ،‬واستعادته فعبل سنة ‪ ٔ899‬كامبل الجنود المصرٌٌن الذٌن رفضت نجدة‬
‫إخوتهم قبل ذلك‪.‬‬

‫وأثارت عملٌات المصرٌٌن حٌنها إعجاب اإلنجلٌز أنفسهم‪ ،‬فقد هزم المصرٌون عبد الرحمن النجومً‬
‫بشكل ساحق فً عدة معارك منها طوشكً أؼسطس ‪ ،ٔ889‬وقتلوا ٕٓٓٔ شخصا وأسرو اٗ آالؾ آخرٌن‬
‫مقابل ٕ٘ شهٌدا مصرٌا وٓٗٔ جرٌحا‪ ،‬وأزالوا خطر كوش (االسم القدٌم للسودان وما ورابها فً التارٌخ‬
‫المصري القدٌم) عن مصر ألول مرة منذ ٘‪ ،ٔ88‬فعلق كرومر حٌنها بؤن االنتصار أعطى الثقة للجٌش‬
‫المصري وللشعب المصري وألوروبا(ٖٖٗٔ)‪.‬‬

‫ومما شجع اإلنجلٌز على إعادة تسلٌح الجٌش فً هذه المعارك أنهم ظنوا أنه لم ٌعد هناك حركة وطنٌة‬
‫ٌخشونها بعد أن قاموا بتصفٌة من شاركوا فً الثورة‪ ،‬ؼٌر أنهم أبقوا على الجٌش المصري بؤسره (تقرٌبا)‬

‫(ٕٖٗٔ)‬
‫‪ -‬مقدمات ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘‪ ،ٔ9‬عبد الرحمن الرافعً‪ ،‬ط ٖ‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٓ‪ ،ٔٙٔ -ٔٙ‬وتفاصٌل فً‪ :‬مصر والسودان فً‬
‫أوابل عهد االحتبلل‪ ،‬عبد الرحمن الرافعً‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬طٗ‪ ،‬ص ‪ٔ8 -ٔٙ‬‬
‫(ٖٖٗٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الجٌش المصري فً السٌاسة (ٕ‪ ،)ٔ9ٖٙ-ٔ88‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪9ٙ‬‬

‫ٕٖ٘‬
‫فً السودان حتى ال تإدي "استعادة الثقة بالنفس" إلى التفكٌر مجددا فً الثورة على االحتبلل(ٖٗٗٔ)‪.‬‬

‫وشارك المصرٌون فً حرب جدٌدة فً السودان سنة ‪ ٔ9ٔٙ‬لصد حركة السلطان دٌنار‪ ،‬واحتلوا دارفور‬
‫وقضوا على دٌنار‪ ،‬فاضطر حاكم السودان اإلنجلٌزي أن ٌشٌد بالمصرٌٌن فً احتفال رأس السنة الهجرٌة‬
‫ٖٖ٘ٔ ه‪ٔ9ٔٙ -‬م بؤنه ٌسجل "بمزٌد من الفخر واإلعجاب الخدمة العظٌمة التً قام بها الجٌش المصري‬
‫وضباطه البواسل فً دارفور رؼم الصعاب العظٌمة التً كانت تعترضه من رمل وقلة مٌاه وصعوبات‬
‫جبلٌة"(ٖ٘ٗٔ)‪.‬‬

‫أما مستقبل الجٌش بعد هذا التارٌخ‪ ،‬ومالذي أجبر اإلنجلٌز وأسرة محمد علً على قبول دخول الفبلحٌن إلى‬
‫الكلٌة الحربٌة والتخرج كضبابط بداٌة من ‪ ،ٔ9ٖٙ‬فسنعرفه فً الكبلم عن نتاٌج انتفاضة ٖ٘‪.ٔ9‬‬

‫♣♣♣ السكان وتعرٌؾ المصري فً االحتالل اإلنجلٌزي (الرباعً)‬

‫حتى االحتبلل اإلنجلٌزي ظلت كلمة "فبلح" هً الفٌصل بٌن المصري الحقٌقً الذي ال ٌعرؾ له‬
‫أصل‪ -‬أو ال ٌرٌد أن ٌعرؾ‪ -‬إال األرض وبٌن المستوطنٌن المتمسكٌن بؤصول أجنبٌة دخٌلة فً المعامبلت‬
‫بٌن الناس وبعضها‪ٌ ،‬عرفون بعضهم بشكل أصدق مما تنطق به األوراق الرسمٌة‪.‬‬

‫وفً ختام هذه الرحلة الطوٌلة المرهقة مع االحتبلالت الطوٌلة للبحث عن مصر الحقٌقٌة وأبنابها‪ ،‬نقرأ‬
‫هذه الكلمات لباحث ٌبدو أنه مر برحلة شبٌهة بها‪ ،‬وهو هنري حبٌب عٌروط الذي ٌسجل فً كتابه‬
‫"الفبلحون" الصادر أول طبعة ‪ ٔ9ٖ8‬بعد جولته بٌن الورق فً كتب التارٌخ والرحالة وبٌن الفبلحٌن فً‬
‫جوالته على األرض بٌن القرى المصرٌة‪" :‬نحن نعرؾ ٌقٌنا أن سكان مصر الحالٌٌن الفبلحٌن منهم على‬
‫األقل ٌنحدرون من المصرٌٌن القدماء من عهود الفراعنة‪ ،‬وٌتصل نسلهم بدون انقطاع مدة خمسٌن قرنا لم‬
‫ٌختلطوا خبللها باألجناس األخرى تقرٌبا"‪ ،‬ورؼم استٌطان العربان على حواؾ القرى إال أن االمتزاج كان‬
‫محدودا‪ ،‬و"الفبلحون‪ ،‬وسكان الرٌؾ على األخص‪ٌ ،‬حتفظون بمبلمحهم وأشكالهم التً تمٌزهم على‬
‫العناصر المتعددة اآلتٌة من مختلؾ ببلد الشرق األدنى"‪ ،‬وإن "الفبلحٌن ٌزٌد عددهم عن ثبلثة أرباع‬
‫مجموع السكان‪ ،‬فهم بهذا العدد‪ ،‬وبما هم علٌه من وحدة العنصر وأصالته ٌعتبرون هم األمة نفسها‪ ،‬ال طبقة‬
‫من طبقاتها االجتماعٌة‪ ،‬هم األمة بخصابصها وممٌزاتها القومٌة‪ ،‬تلك األمة التً أنتجت أول حضارة عرفها‬
‫التارٌخ"‪.‬‬

‫وٌتابع‪" :‬إن هذا الشعب العظٌم‪ ،‬خلدت صفاته وممٌزاته‪ ،‬ومضت األجٌال وهو هو لم ٌتؽٌر من صفاته‬
‫شًء‪ ،‬رؼم ما تعاقب فوق أرضه من حكام ودٌانات وثقافات ومدنٌات ولؽات منذ عصور الفراعنة"‪ ،‬ورؼم‬
‫توالً الفرس واإلؼرٌق والرومان والعرب والترك والفرنسٌٌن واإلنجلٌز إال أن "قوة األمة وأصالتها كانت‬
‫أقوى من الزمن‪ ،‬وأصلب من أحداثه"‪ ،‬وأنه رؼم الصراعات التً جاء به محتلوه إال أنه كان "هادبا ثابتا‬

‫(ٖٗٗٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪99 -9ٙ‬‬
‫(ٖ٘ٗٔ)‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‪ ،‬ص ٕٓٗٔ ٕ٘ٔ‬

‫ٖٖ٘‬
‫كقاع البحر تحت األمواج الثابرة"‪ ،‬ورؼم أن كثرة الصراعات واالحتبلالت أبادت أو حولت تركٌبة وجنس‬
‫ببلد كثٌرة حوله (وٌضرب أمثلة)‪ ،‬إال أن "مصر من بٌن جمٌع الببلد حدث لها ما حدث لؽٌرها ]من‬
‫احتبلالت وصراعات[‪ ،‬ولكن شٌبا من ثبات الطبٌعة وعمق الكٌان فً مصر وفبلحها لم ٌمسه التؽٌٌر‬
‫والتحول‪ ..‬لقد كان الفبلح ٌصمد لؤلحداث التً تجري حوله‪ ،‬وٌقهرها بثباته‪ ،‬وٌصبر لها حتى تمر وتنتهً‬
‫وهو ثابت ثبات الصخر‪ ،‬وكم بادت شعوب وانقرضت ولم ٌبق منها إال األطبلل (‪ )....‬لكن الفبلح المصري‬
‫ظل ٌتحدى الزمن وٌؽالب أحداثه‪ ،‬وٌصارع عوامل الفناء واالنقراض فٌصرعها وٌبقى هو شامخ الكٌان‬
‫على مر األجٌال"‪.‬‬

‫فإن "تفاصٌل حٌاته الٌومٌة كما تدل علٌها نقوش المقابر الفرعونٌة أو األساطٌر القبطٌة أو كتابات‬
‫مإرخً العرب أو المعلقون والسواح األوروبٌون ٌخٌل إلٌنا أنها حلقات من سلسلة أو فصول من كتاب‬
‫واحد‪ ،‬وإن هذه األزمان التً تفصلها عن عصرنا لم تإثر فً أشكالها أو تؽٌر من مبلمحها"‪ ،‬وإننا "لنلمح‬
‫الفبلح المعاصر نفسه فً عاداته وكثٌر من تقالٌده من خبلل الصور التً ٌروٌها هٌرودوت وتٌودور‬
‫الصقلً وسترابون والمقرٌزي وفانسٌلت واألب سٌكار وفولنٌٌه وؼٌرهم‪ ،‬الفبلح القدٌم الذي ٌتحدث عنه‬
‫هإالء هو فبلح الٌوم‪ ،‬بدون تطور أو تحول"‪ ،‬ولٌس هذا فً صفاته األخبلقٌة وعاداته وتقالٌده فقط‪ ،‬بل فً‬
‫جنسه أٌضا "وهنا ٌخطر لنا هذا السإال وهو‪ :‬كٌؾ حدث هذا الثبات الجثمانً وذلك التوازن النفسانً‬
‫واالجتماعً‪ ،‬وهذا السمو المعنوي العجٌب لشعب من الشعوب‪ ،‬والجواب على ذلك هو أثر األرض‬
‫المصرٌة والبٌبة المصرٌة‪ ..‬نعم هذا هو الجواب على ذلك السإال"‪.‬‬

‫بٌنهم ٖٓٓ٘ سنة‪ ،‬نفس المبلمح‪ ،‬نفس العزم‪ ،‬نفس عذوبة البسمة وسماحة الوجه‪ ،‬والؽصن األخضر فً ٌده وحوله لم ٌسقط منه أبدا (النقش المصري‬
‫القدٌم من معبد الدٌر البحري‪ ،‬والصورة الحدٌثة من اإلنترنت)‬

‫وإضافة للتفسٌر الجؽرافً ٌضٌؾ هنري عٌروط تفسٌرا آخر لكلمة أثر األرض المصرٌة وهو التصاق‬
‫الفبلح بؤرضه‪" :‬والفبلح بحكم وضعه الؽرٌب بٌن المالك واألرض‪ٌ ،‬جد نفسه بٌن المطرقة والسندان‪،‬‬
‫ولكنه أقرب إلى األرض منه إلى المبلك‪ ،‬وكلما ألحت علٌه ضربات المالك ازداد لصوقا باألرض"‪،‬‬
‫وحصل ما ٌقوله سولً برودوم "زواج سابق على التارٌخ بٌن شعب وحقل قد صنعا نفسٌهما فٌما بٌنهما"‪،‬‬
‫وانعكس هذا على ثبات ما بٌن الفبلحٌن المصرٌٌن من أقصى مصر ألدناها "من تناسق وتجانس وخصوبة"‬

‫ٖٗ٘‬
‫مثل األرض المصرٌة الملتصقٌن بها وذات صفات واحدة على طول امتدادها على ضفتً النٌل‪.‬‬

‫وبجانب االلتصاق باألرض ومنهة الزراعة وجؽرافٌة مصر‪ ،‬أرجع أسباب عٌروط احتفاظ المصرٌٌن‬
‫الحقٌقٌٌن بوجودهم أؼلبٌة إلى نفور الفبلحٌن من الزواج من البدو واألجانب عموما‪ ،‬وٌرونها "فضٌحة"‪،‬‬
‫كما أن البدو واألجانب تعالوا فً الزواج واالختبلط التام بالفبلحٌن‪ ،‬فلم ٌحصل إال نادرا‪ ،‬إضافة إلى عامل‬
‫الخصوبة وكثرة اإلنجاب بٌن الفبلحٌن‪ ،‬وقلة أعداد المهاجرٌن مقارنة بعدد المصرٌٌن‪ ،‬وتفضٌل الؽزاة‬
‫والمهاجرٌن العٌشة فً المدن ال فً الرٌؾ "وعلى هذا فالعنصر المصري ٌحافظ دابما على سبلمته بٌن‬
‫األقباط والمسلمٌن على السواء"(‪.)ٖٔٗٙ‬‬

‫وربما سبب آخر ٌضاؾ إلى ما عدده هنري عٌوط‪ ،‬وهو األمٌة‪ ،‬أي احتفاظ الفبلحٌن بؤمٌتهم المؽلقة‬
‫على مدرستهم الكبرى مما توارثوه من حكمة وعادات وأخبلق ومعارؾ‪ ،‬ولم ٌختلطوا بثقافات محتلٌهم إال‬
‫نادرا؛ وٌقوي هذا الفرض التؽٌر المخٌؾ الذي بدا فً الشخصٌة المصرٌة جسمانٌا وأخبلقٌا حٌن خرجت‬
‫من أمٌتها الرٌفٌة لتتعلم‪ ،‬ال لتتعلم هوٌتها ومصرٌتها‪ ،‬ولكن تتعلم ثقافات أجنبٌة تركها محتلوها‪ ،‬وتقبل على‬
‫الزواج باألجانب‪ ،‬فبدأ التحول الكبٌر الخطٌر من الشخصٌة المصرٌة الفبلحٌة إلى الشخصٌة "المرقعة"‪ ،‬فً‬
‫القرن ٕٓ وحتى الٌوم‪.‬‬

‫ومبلحظات أخرى أوردها الرحالة والدبلوماسً األسبانً إدواردو تودا فً كتابه " عبر وادي النٌل"‪،‬‬
‫قنصل أسبانٌا فً مصر ٗ‪ ،ٔ88ٙ -ٔ88‬وتبرز كٌؾ ٌعٌش المصرٌون الحقٌقٌون واألجانب عٌشة منفصلة‬
‫حتى أن أي زابر للبلد ٌستطٌع بسهولة التفرٌق بٌنهم‪ ،‬وأن األجانب بؤنواعهم ظلوا محتفظٌن بهوٌاتهم ولم‬
‫ٌتمصروا‪ ،‬بل وكل عنصر أجنبً منفصل وممٌز عن بقٌة العناصر األجنبٌة األخرى‪ ،‬وهو ما ٌذكره فً‬
‫الفروق بٌن المدن والقرى‪ ،‬كما ٌظهر بٌن الفبلحٌن العاملٌن داخل المدن نفسها كاإلسكندرٌة وبٌن المقٌمٌن‬
‫األجانب فٌها‪ ،‬فٌقول‪" :‬إن مظهر المدن المصرٌة كلها لجد عجٌب لتنوع البشر الذٌن ٌجوبون شوارعها‪،‬‬
‫فؤقل الزوار ألمعٌة ٌمكنه عند وصوله إلى اإلسكندرٌة مبلحظة أن األفراد ذوي األصول المختلفة ٌختلطون‪،‬‬
‫وأن صفاتهم لم ٌمحها الزمن‪ ،‬وال كثرة العٌش مختلطٌن فً قومٌة واحدة‪ ،‬إن الدراسة المتؤنٌة بعض الشًء‬
‫للعادات المصرٌة تكشؾ عن فروق جوهرٌة بٌن تلك األقلٌات‪ ،‬ولنقل إن كل سبللة من سبللتها تختص‬
‫بشًء معٌن‪ ،‬وأن لها هدفنا معٌنا تسعى إلى تحقٌقه‪ ،‬أو أنها تسٌر على صراط خطة لها القدر دون أن تضله‬
‫ألي سبب كان"‪.‬‬

‫وبعد إسهابه فً الحدٌث عن تكوٌن السكان فً مصر حٌنها‪ٌ ،‬قول عن الفبلح‪" :‬الفبلح‪ ،‬وهو االسم الذي‬
‫ٌطلق على كل مصري ٌعٌش فً الرٌؾ وٌعمل بالزراعة‪ ،‬وٌعرؾ بقامته القصٌرة وخشونته وعصبٌته‬
‫وقوته وبشرته الزٌتونٌة وشعره القصٌر وارتفاع عٌنٌه إلى أعلى عند األطراؾ‪ ،‬وهو بذلك ٌمثل جنسا‬
‫وسطا بٌن المنؽولً واآلري‪ ،‬أما انفه وفمه فهما صؽٌران‪ ،‬وأسنانه ناصعة البٌاض‪ ،‬وتؽطً رأسه طاقٌة‬

‫(‪)ٖٔٗٙ‬‬
‫‪ -‬الفبلحون‪ ،‬هنري حبٌب عٌروط‪ ،‬ترجمة محًٌ الدٌن اللبان وولٌم داوود مرقص‪ ،‬المركز القومً للترجمة‪ ،‬ص ٖ٘‪ ،ٗٔ -‬و ٕ٘ٔ‪ٔ٘ٗ -‬‬

‫ٖ٘٘‬
‫من اللبد مصنوعة من وبر الجمال تؤخذ شكل الرأس‪ ،‬وٌرتدي عباءة بٌضاء من القطن ٌُشد علٌها حزام أو‬
‫حبل فً الوسط أحٌانا‪ ،‬أما ساقه وقدمه فهما عارٌتان‪ ،‬وٌرتدي الحذاء التونسً الضخم (البلؽة) فً‬
‫المناسبات المهمة فقط"‪ ،‬وهذا النوع من الفبلحٌن ال ٌتؽٌر فً مصر سواء فً السهول الرطبة الندٌة من‬
‫الدلتا أو فً مناطق مصر الوسطى الدافبة أو سهول الشبلل األول البور الشاسعة شدٌدة الحرارة‪ ،‬وكما أن‬
‫التؽٌرات الجؽرافٌة لم تإثر فٌه‪ ،‬فبل الزمان وال الحضارة أثرا فٌه على اإلطبلق‪ ،‬ونراه فً النقوش على‬
‫جدران المقابر القدٌمة مرسوما بإتقان‪ ،‬وهو نفس العامل الذي نتؤمله الٌوم عندما نتجول فً ضواحً‬
‫اإلسكندرٌة"‪ ،‬واعتبر أن "الفبلح هو أصل السكان فً مصر"‪ ،‬مستعٌنا فً هذا بؤبحاثه التارٌخٌة‪.ٖٔٗ9‬‬

‫"هو كما كان مرسوما بإتقان فً نقوش المقابر القدٌمة‪ ،‬وهذا النوع من الفبلحٌن ال ٌتؽٌر فً مصر سواء فً السهول الرطبة الندٌة من الدلتا أو فً‬
‫مناطق مصر الوسطى الدافبة أو سهول الشبلل األول البور الشاسعة شدٌدة الحرارة" (إدواردو تودا) (مصدر الصور‪ :‬مقبرة مننا باألقصر‪ ،‬موقع‬
‫جٌتً إماج‪ ،‬النت)‬

‫وعلى هذا اتضح أن الشكل اإلفرنجً (األوروبً) الذي تلونت به أحٌاء فً القاهرة واإلسكندرٌة ومدن‬
‫قناة السوٌس فً المبانً وعادات الحٌاة واألكل والمبلبس والمحبلت والثقافة وبعض السكان منذ عهد‬
‫إسماعٌل لم ٌكن إال قناعا ألصق إلصاقا وؼصبا على وجه مصر‪ ،‬مزحزحا لحد كبٌر القناع التركً‪ ،‬وال‬
‫ٌعبر بؤي حال عن حقٌقة مصر أرضا وسكانا وهوٌة‪ ،‬فقد جرى تحدٌث هذه األحٌاء خصٌصا للقادمٌن‬
‫الجدد من األوروبٌٌن والجالٌات السابرة فً ذٌلهم كالٌهود وبعض الشوام والمؽاربة واألرمن‪.‬‬

‫ونلقً نظرة على تعدادات السكان فً عصر االحتبلل العلوي واإلنجلٌزي‪ ،‬لتتبع أعداد المصرٌٌن‬
‫والمستوطنٌن األجانب‪ ،‬ومراحل تؽٌر تعرٌؾ المصرٌٌن فً األوراق الرسمٌة أٌام االحتبلل‪.‬‬

‫أجرت الحكومة ‪ 9‬إحصاءات للسكان زمن االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬سنذكرها ببعض التفصٌل ألهمٌتها فً‬
‫معرفة طبٌعة سكان مصر بعد ٖ آالؾ عام من االحتبلالت والهجرات‪ ،‬وهل حقا ذابت الهجرات جمٌعا فً‬
‫مصر أم ظل كثٌر منها منفصبل عن أوالد البلد لٌحصدوا المزاٌا التً ٌهبها المحتل لؤلؼراب وٌحموا أنفسهم‬
‫من األعباء المفروضة على أوالد البلد كالعونة والسخرة والعمل الشاق والضراٌب الفاحشة والحرمان من‬
‫المناصب العلٌا‪.‬‬

‫‪ -1437‬عبر وادي النيل‪ ،‬إدواردو تودا‪ ،‬ترجمة السيد محمد واصل‪ ،‬المركز القومي لمترجمة‪ ،‬ط‪ ،1‬القاىرة‪ ،2111 ،‬ص ‪55 -53‬‬

‫‪ٖ٘ٙ‬‬
‫❶ (تعداد ٕ‪)ٔ88‬‬

‫أول تعداد جرى سنة ٕ‪ ،ٔ88‬وأصدرته الحكومة فً كتاب بعنوان "الكشاؾ للدٌار المصرٌة وعدد‬
‫نفوسها"‪ ،‬وبلػ السكان ٔ‪ ٙ,8ٓٙ,ٖ8‬نفسا‪ ،‬أي حوالً ‪ 9‬ملٌون‪ ،‬منهم‪:‬‬

‫‪ ٙ,ٗٙ9,9ٔٙ‬أهالً مقٌمون‬

‫‪ ٕٗ٘,999‬عربان (قبابل) مقٌمون ورحل‬

‫‪ 9ٓ,88ٙ‬أجانب‬

‫وكان الحال على ما هو علٌه فً السابق‪ ،‬وهو أن األؼلبٌة الكاسحة من السكان هم المصرٌون "أوالد‬
‫البلد"‪ ،‬وٌتركزون فً األرٌاؾ والمدٌرٌات‪ ،‬وبعضهم فً القاهرة واإلسكندرٌة‪ ،‬أما األجانب من كذا جنسٌة‬
‫فٌتركزون فً القاهرة واإلسكندرٌة ومدن قناة السوٌس‪ ،‬والعربان على أطراؾ القرى والمدن‪.‬‬

‫وٌبلحظ فً هذا اإلحصاء أن أكثر المحافظات سكانا لم تكن القاهرة‪ ،‬بل الدقهلٌة فً الوجه البحري‪،‬‬
‫ٖٖٓ‪ ،٘8ٙ,‬ثم مدٌرٌة جرجا فً الوجه القبلً‪ ،٘98,ٔٗٗ ،‬فٌما بلؽت القاهرة ‪ -ٖٕ٘,ٗٔٙ‬مذكورة فً‬
‫اإلحصاء باسم مدٌنة مصر المحروسة ولٌس القاهرة‪ -‬وهو ما ٌعنً أن عدد الفبلحٌن أي أوالد البلد‬
‫المتمركزٌن فً األرٌاؾ كان الؽالبٌة الكاسحة(‪.)ٖٔٗ8‬‬

‫❷ (تعداد ‪)ٔ897‬‬

‫ثانً اإلحصاءات جرى فً ٌونٌو ‪ ٔ899‬وبلػ سكان مصر ٘ٓٗ‪ 9,9ٖٗ,‬نفسا؛ أي بزٌادة حوالً ٖ‬
‫ملٌون عن السابق‪ ،‬وهو أكثر تفصٌبل من سابقه‪ ،‬ألنه شمل إحصاء السكان على أساس الجنسٌات والدٌانة‬
‫والمذاهب والمهن والذكور واإلناث‪ ،‬وقسم السكان إلى مصرٌٌن وعربان وأجانب‪.‬‬

‫واستخدم كلمة "مصرٌٌن"‪ ،‬بعد أن استخدم اإلحصاء الذي جرى فً إحصاء ٕ‪ ٔ88‬كلمة "أهالً‬
‫مقٌمون"‪ ،‬ولكنه قسم كلمة مصرٌٌن إلى ٖ أقسام‪ :‬مصرٌون أصلٌون ‪ +‬رعاٌا الدولة العثمانٌة (أتراك‪،‬‬
‫شوام‪ ،‬عرب‪ ،‬مؽاربة‪ ،‬أرمن‪ٌ ،‬ونان إلخ) ‪ +‬العربان‪.‬‬

‫ٔ‪ -‬المصرٌون األصلٌون‪ ،‬وهم من وصفوا نفسهم فً التعداد بؤنهم مصرٌون ولم ٌنسبوا أنفسهم ألصل‬
‫آخر‪ 8,98ٓ,ٕ98 :‬بنسبة ٕ٘‪.% 9ٕ,‬‬

‫ٕ‪ -‬العربان المستوطنون والرحل‪ ٙٓٔ,ٕٗ9 :‬بنسبة ‪.%ٙ,ٔ8‬‬

‫ٖ‪ -‬األتراك ورعاٌا الدولة العثمانٌة من شعوب عربٌة وؼٌر عربٌة‪ ٗٓ,ٕٔٙ :‬ألفا بنسبة ٔٗ‪.%ٓ,‬‬

‫(‪)ٖٔٗ8‬‬
‫‪ -‬الكشاؾ للدٌار المصرٌة وعدد نفوسها‪ ،‬نظارة الداخلٌة إدارة التعداد‪ ،‬تعداد السكان ٘ٔ جمادي الثانً ‪ ٕٔ99‬هـ (ٖ ماٌو ٕ‪ ٔ88‬م)‪ ،‬ج ٕ‪،‬‬
‫مكتبة قصر عابدٌن المودعة حالٌا بدار الكتب‪.‬‬

‫‪ٖ٘7‬‬
‫أما من صنفهم على أنهم أجانب فهم‪ :‬األوروبٌون واألمرٌكٌون والروس والجنسٌات العربٌة وؼٌر‬
‫العربٌة التً ٌعتبرونها رعاٌاهم بموجب االمتٌازات األجنبٌة الممنوحة لهم‪ ٕٔٔ,٘9ٗ :‬بنسبة ‪.% ٔ,ٔٙ‬‬

‫وفً هذا اإلحصاء ٌُبلحظ أن القاهرة‪ -‬ألول مرة‪ -‬تصبح األكثر عددا فً السكان بٌن المحافظات؛ لكثرة‬
‫الهجرة من األرٌاؾ للعمل فً المصانع والمشروعات الجدٌدة وتحتاج أٌدي عاملة رخٌصة األجر‪ ،‬مع‬
‫زٌادة الهجرات األجنبٌة إلٌها أٌضا(‪.)ٖٔٗ9‬‬

‫كما ٌُبلحظ زٌادة كبٌرة فً األوروبٌٌن والعربان الستمرار اإلنجلٌز فً فتح حدود البلد ببل ضوابط‪،‬‬
‫وجرى تعرٌؾ العربان فً اإلحصاء كـ"مصرٌٌن" ألول مرة‪.‬‬

‫❸ (تعداد ‪)ٔ9ٓ7‬‬

‫اإلحصاء الثالث جرى سنة ‪ ،ٔ9ٓ9‬وبلػ مجموع نفوس الدٌار المصرٌة ‪ ٔٔ,ٔ89.998‬بزٌادة ملٌون‬
‫ونصؾ عن اإلحصاء السابق‪ ،‬وصدر تفصٌل ذلك فً كتاب "تعداد سكان القطر المصري لسنة ٕٖ٘ٔ‬
‫هجرٌة ‪ -‬سنة ‪ ٔ9ٓ9‬مٌبلدٌة"‪.‬‬

‫وصنؾ السكان هذه المرة إلى مصرٌٌن (وقسمهم إلى وطنٌٌن‪ -‬أي أهل البلد األصلٌٌن‪ -‬وإلى عربان‪،‬‬
‫وعثمانٌٌن (أتراك وسورٌون وحجازٌون وأرمنٌون وسودانٌون إلخ)‪ ،‬ثم الجالٌات األوروبٌة‪ :‬إنجلٌز‪،‬‬
‫فرنساوٌون‪ٌ ،‬ونانٌون‪ ،‬إٌطالٌون‪ ،‬نمساوٌون‪ ،‬ألمان‪ ،‬بلجٌك‪ ،‬إلخ‪ ،‬وظل المصرٌون األصلٌون (الوطنٌون)‬
‫كالعادة هم الؽالبٌة الكاسحة‪ ،‬وجاء فٌه‪:‬‬

‫‪ -‬الوطنٌون‪ٔٓ,ٖٙٙ,ٓٗٙ :‬‬

‫‪ -‬العربان المقٌمون‪ٖ٘ٙ,ٖٔٙ :‬‬

‫ولم ٌتناول اإلحصاء العربان الرحل ولكن نقل عن العمد تقدٌرهم بـ ٔ‪99,ٖ8‬‬

‫‪ -‬العثمانلٌة من عدة أجناس‪ٖٔٓ,9ٕ9 :‬‬

‫‪ -‬األجانب (أوروبٌون وأمرٌكٌون وروس إلخ ورعاٌاهم)‪ٔ٘8,8٘ٙ :‬‬

‫وٌُبلحظ فً هذا اإلحصاء زٌادة الٌونانٌٌن واإلٌطالٌٌن والعثمانٌٌن للضعؾ مقارنة باإلحصاء السابق‪ ،‬فٌما ظل‬
‫عدد العربان واإلنجلٌز والفرنسٌس شبه ثابت(ٓٗٗٔ)‪.‬‬

‫❹ (تعداد ‪)ٔ9ٔ7‬‬

‫(‪)ٖٔٗ9‬‬
‫‪ -‬لمزٌد من المعلومات انظر تعداد سكان القطر المصري ٖ٘ٔٔ ه‪ ٔ899 /‬م‪ ،‬المطبعة األمٌرٌة ببوالق مصر المحمٌة‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ899 ،‬ص‬
‫ٔٔ‪ ،ٖٔ -‬مودع بدار الكتب‪ ،‬وتعداد سكان القطر المصري‪ ،‬نظارة المالٌة إدارة التعداد لسنة ‪ ،ٔ899‬ص ٕٔ‪ ،ٕ٘ -‬مودع بدار الكتب‬
‫(ٓٗٗٔ)‬
‫‪ -‬لمزٌد من المعلومات انظر تعداد سكان القطر المصري فً سنة ٕٖ٘ٔ ه‪ -‬سنة ‪ ٔ9ٓ9‬م‪ ،‬نظارة المالٌة‪ ،‬المطبعة األمٌرٌة بمصر‪،ٔ9ٓ9 ،‬‬
‫مودع بدار الكتب‬

‫‪ٖ٘8‬‬
‫بلػ السكان‪ ،ٕٔ,9ٔ8,ٕ٘٘ :‬بزٌادة ملٌون ونصؾ فقط عن السابق‪ ،‬رؼم مرور ٓٔ سنوات‪.‬‬

‫وهو أول تعداد بعد استقبلل مصر عن السلطنة العثمانلٌة‪ ،‬وفٌه اتخذ تصنٌفا جدٌدا لسكان مصر‪،‬‬
‫فصنفهم إلى رعاٌا الحكومة المحلٌة‪ ،‬ورعاٌا الحكومة العثمانلٌة‪ ،‬ورعاٌا الحكومة البرٌطانٌة‪ ،‬ورعاٌا‬
‫الحكومة الفرنسٌة‪ ،‬ورعاٌا الحكومة اإلٌطالٌة‪ ،‬ورعاٌا الحكومة األمرٌكٌة‪ ،‬لكثرة االمتٌازات األجنبٌة التً‬
‫حصل بموجبها مستوطنون على رعوٌة حكومات أجنبٌة من ؼٌر ببلدهم‪ ،‬وجاء فٌه‪:‬‬

‫ٔ‪ -‬رعاٌا الحكومة المحلٌة‪ ،‬وهم معظم السكان (‪ )ٕٔ,ٖٕٔ,ٖٓٙ‬وقسمهم إلى‪( :‬مصرٌون‪ ،‬وعرب‪،‬‬
‫وبدو‪ ،‬وأرمن‪ ،‬وٌونانٌون‪ ،‬وأتراك‪ ،‬وسورٌون‪ ،‬وسودانٌون‪ ،‬وٌهود‪ ،‬وبرابرة‪ ،‬وجنسٌات أخرى‪ ،‬والمقصود‬
‫بهم المسبولون أمام الحكومة المصرٌة وال ٌدخلون فً تبعٌة حكومات أجنبٌة)‬

‫المصرٌون‪ٔٔ,ٕٓٙ,9ٕٓ :‬‬

‫عرب‪ٖ8,99ٙ :‬‬

‫بدو‪ٗٔ9,ٖٔٗ :‬‬

‫أرمن‪ٖ,ٗ9ٗ :‬‬

‫ٌونانٌون‪ٔ9,ٕٕٙ :‬‬

‫برابرة‪9ٓ,ٗٗ9 :‬‬

‫إسرابٌلٌون (أي ٌهود)‪ٔٗ,ٗٔ9 :‬‬

‫سودانٌون‪ٖٙ,9ٔ9 :‬‬

‫أتراك‪ٔ9,9ٖٓ :‬‬

‫جنسٌات أخرى‪9,ٗ9ٗ :‬‬

‫وٌُبلحظ هنا أن المصرٌٌن لهم الؽلبة الكاسحة‪ٌ ،‬لٌهم البدو (العربان) ثم العرب (أبناء الجزٌرة العربٌة)‬
‫والسودانٌون فالترك والٌونانٌون كالشذرات‪.‬‬

‫ٕ‪ -‬رعاٌا الحكومة البرٌطانٌة‪ ،‬أي حكومة االحتبلل‪ ،‬وهم‪( :‬برٌطانٌون‪ ،‬أسترالٌون‪ ،‬إسرابٌلون‪ ،‬كندٌون‪،‬‬
‫مصرٌون‪ٌ ،‬ونانٌون‪ ،‬مالطٌون‪ ،‬هنود‪ ،‬إلخ) ٖٗ٘‪ ،ٕٗ,‬والبرٌطانٌون منهم ٕٗٓ‪ 9,‬فقط والباقون وهم‬
‫األؼلبٌة أتباع‪.‬‬

‫ٖ‪ -‬رعاٌا الحكومة الفرنسٌة (فرنسٌس‪ ،‬جزابرٌون‪ ،‬إسرابٌلٌون‪ ،‬مراكشٌون‪ ،‬سورٌون‪ ،‬تونسٌون‪،‬‬

‫‪ٖ٘9‬‬
‫مصرٌون‪ ،‬إلخ) ٕٓٔ‪ ،ٕٔ,‬بٌنهم ‪ 8,8ٔٙ‬فرنسٌا فقط واألؼلبٌة من األتباع‪.‬‬

‫ٗ‪ -‬رعاٌا الحكومة اإلٌطالٌة (إٌطالٌون‪ٌ ،‬ونانٌون‪ ،‬إسرابٌلٌون‪ ،‬أرٌترٌٌون‪ ،‬طرابلسٌون‪ ،‬مصرٌون إلخ)‬
‫‪ ٗٓ,ٔ98‬بٌنهم ‪ ٖٕ,٘ٔ9‬إٌطالٌا واألقلٌة من األتباع‪.‬‬

‫ودخول مصرٌٌن ضمن أتباع حكومات أجنبٌة ناجم عن وجود أجانب حصلوا على الجنسٌة المصرٌة‬
‫واحتفظوا بتبعٌتهم لقنصلٌة البلد األصلً‪ ،‬أو مصرٌٌن اختاروا تقدٌم خدمات للقنصلٌات األجنبٌة مقابل أن‬
‫تظللهم بمظلة االمتٌازات األجنبٌة وكؤنهم أجانب‪ ،‬وأصبحوا على حس هذا من ذوي الثروات الطابلة‪.‬‬

‫٘‪ -‬رعاٌا الحكومة العثمانٌة (أتراك‪ ،‬عرب‪ ،‬سورٌون‪ ،‬أرمن وٌونانٌون‪ ،‬إسرابٌلٌون‪ ،‬إلخ) ‪،ٖٓ,ٕ99‬‬
‫بٌنهم ٔ‪ 8,ٗ9‬تركٌا فقط‪ ،‬واألؼلبٌة من األتباع‪.‬‬

‫‪ -ٙ‬رعاٌا الحكومة األمرٌكٌة‪ ٘ٔٗ :‬فقط‬

‫‪ -9‬الٌونانٌون‪٘ٙ,9ٖٔ :‬‬

‫‪ -8‬جنسٌات ؼٌر تابعة لحكومة معٌنة وهم‪( :‬عرب وحبش ومجرٌون وبلجٌكٌون ودنماركٌون‬
‫وبلؽارٌون‪ ،‬وفرس‪ ،‬وروس) إلخ ومعظم هإالء أعداد قلٌلة ما بٌن عشرات أو مبات لكل جنسٌة(ٔٗٗٔ)‪.‬‬

‫وفً اإلجمال‪ ،‬إذا طرحنا مجموع المصرٌٌن من إجمالً السكان‪ ،‬سٌظهر أن عدد المصرٌٌن ٕٓ‪،ٔٔ,ٕٓٙ,9‬‬
‫مقابل ٖٖ٘‪ ٔ,99ٔ,‬لبقٌة األعراق والجنسٌات‪ ،‬أي ٔٔ ملٌون مصري مقابل نحو ملٌون وٓٓ‪ 8‬ألؾ خلٌط أجنبً‬
‫من العرب والعجم‪ ،‬وهو فارق شاسع ٌجعل الخلٌط األجنبً عددٌا ؼٌر مإثر رؼم أنه أعلى عدد لؤلجانب عرفته‬
‫مصر فً تارٌخها‪ ،‬ولكنه صار مإثرا ألنه المتصدر للثروة وتملك األراضً والمناصب والسكن فً واجهات‬
‫المدن‪ ،‬والتعلٌم‪ ،‬والمالك للسبلح‪ ،‬والمتملك األكبر للصحافة‪.‬‬

‫ولكن كما جاء فً رواٌة "خان الخلٌلً" لنجٌب محفوظ‪:‬‬

‫"أال تعلم أن رعاع الؽزاة انتهبوا فً الماضً أراضٌنا بحكم الؽزو؟ وها هم أوالء ٌكونون طبقة عالٌة‬
‫ممتعة بالجاه والسإدد واالمتٌازات ال حصر لها"‪.‬‬

‫❺ (تعداد ‪)ٔ9ٕ7‬‬

‫السكان ككل‪ ٔٗ,ٔ99,8ٙٗ :‬بزٌادة ٘‪ ٕ.‬ملٌون نسمة عن اإلحصاء السابق‪.‬‬

‫وقسم السكان بنفس تقسٌمة إحصاء ‪ ،ٔ9ٔ9‬أي رعاٌا الحكومة المحلٌة‪ ،‬ورعاٌا الحكومة البرٌطانٌة‪،‬‬
‫ورعاٌا الحكومة الفرنسٌة واإلٌطالٌة واألمرٌكٌة وٌونانٌون إلخ‪ ،‬ولكن اختفى التصنٌؾ الخاص بـ "رعاٌا‬

‫(ٔٗٗٔ)‬
‫‪ -‬األرقام السابقة للمصرٌٌن واألجانب من كتاب تعداد السكان لعام ‪ ،ٔ9ٔ9‬إصدار وزارة المالٌة‪ ،‬الجزء الثانً‪ ،‬الجدول الثامن‪ ،‬مكتبة جهاز‬
‫التعببة العامة واإلحصاء‪ ،‬ص ‪ٖ٘ٓ -٘ٔ9‬‬

‫ٓٗ٘‬
‫الدولة العثمانٌة"‪ ،‬وذلك لزوال السلطنة العثمانٌة سنة ٖٕ‪ ،ٔ9‬وظهرت تركٌا‪ ،‬فلم ٌعد الٌونانٌون واألرمن‬
‫والشوام مثبل من رعاٌاها‪ ،‬فحل محل هذا التصنٌؾ بند "أتراك"‪ ،‬وألحق بتصنٌؾ األجانب‪.‬‬

‫ورعاٌا الحكومة المحلٌة بلؽوا ٗ‪ ،ٖٔ,9ٕ٘,ٕٙ‬والمصرٌون منهم ٕٕ٘‪ ،ٖٔ,٘9ٕ,‬فٌما الرعاٌا ؼٌر‬
‫المصرٌٌن من عرب وأتراك وسورٌٌن وسودانٌٌن وٌونان وأرمن إلخ بلؽوا ٕٔٓ‪ ٖ8ٓ,‬شخص‪.‬‬

‫واختفى عمل تصنٌؾ خاص للعربان‪ ،‬فٌما ظهر تصنٌؾ "عرب" ضمن رعاٌا الدولة المصرٌة من‬
‫األجانب‪ ،‬وبلؽوا ٔٗ‪ ٔ8ٔ,9‬ألفا‪.‬‬

‫وبلؽت جملة التبعٌات األجنبٌة األوروبٌة واآلسٌوٌة واألمرٌكٌة واألفرٌقٌة من كل الجنسٌات بمن فٌهم‬
‫األتراك ٓٓ‪ ٕٕ٘,ٙ‬نسمة(ٕٗٗٔ)‪ ،‬وإذا أضفنا هذا العدد على عدد رعاٌا الدولة المصرٌة من ؼٌر المصرٌٌن‬
‫بلػ عموم األجانب من كل الجنسٌات ٕٔ‪ ،ٙٓ٘,ٙ‬فً تراجع حاد لعددهم عن التعداد السابق‪.‬‬

‫ومبلحظة هامة فً ذلك اإلحصاء‪ ،‬أن المصرٌٌن ما بٌن عمر ٓ٘‪ ٙٓ -‬عاما بلػ ٗ‪ 9ٖ٘,ٖٙ‬أي ثبلثة‬
‫أرباع الملٌون فقط من جملة الـ ٘‪ ٖٔ,‬ملٌون مصري‪ ،‬وهو مإشر محزن ألنه ٌعنً أن معظم المصرٌٌن‬
‫كانوا ٌتوفون قبل بلوغ الـ ٓ٘ عاما‪.‬‬

‫❻ (تعداد ‪)ٔ9ٖ7‬‬

‫بلػ عدد السكان ككل ٗ‪ ٔ٘,9ٕٓ,ٙ9‬بزٌادة ملٌون وثبلثة أرباع الملٌون عن اإلحصاء السابق‪.‬‬

‫ورعاٌا الدولة المصرٌة بلؽوا ‪ ،ٔ٘,9ٖٗ,ٔ99‬المصرٌون منهم ‪ ،ٔ٘,ٖ٘8,9ٓ8‬وبقٌة العدد البالػ‬


‫ٔ‪ ٔ9٘,ٗ9‬ألفا موزع على الرعاٌا األجانب بٌن األتراك ‪ ٔٙ,ٖ88‬والسورٌون ٗ‪ ٖٓ,ٕ9‬والعرب (أهل‬
‫الجزٌرة العربٌة) ‪ 99,ٙ89‬والسودانٌون ٘٘ٓ‪ ،ٖٔ,‬وجنسٌات أخرى بؤعداد أقل‪.‬‬

‫أما تبعٌات الحكومات األجنبٌة (برٌطانٌون‪ ،‬أتراك‪ ،‬فرنسٌون‪ ،‬إٌطالٌون‪ٌ ،‬ونانٌون‪ٌ ،‬هود‪ ،‬سورٌون‪،‬‬
‫فلسطٌنٌون‪ ،‬سودانٌون‪ ،‬عرب إلخ) فبلؽت ٘ٔ٘‪ ٔ8ٙ,‬بنقص حوالً ٓٗ ألفا عن اإلحصاء السابق‪.‬‬

‫وإذا ضممنا عدد رعاٌا الحكومات األجنبٌة إلى األجانب من رعاٌا الحكومة المصرٌة فٌصٌر عدد كافة‬
‫األجانب فً مصر وقتها ‪ ٖ8ٔ,98ٙ‬ألفا‪.‬‬

‫وظهر تدنً عدد األجانب فً المحافظات حتى أنه فً محافظة المنٌا مثبل لم ٌكن بها من األجانب (بما فٌهم‬
‫من أتراك وأوروبٌٌن وٌونان وسورٌٌن وسودانٌٌن وعرب إلخ) سوى ٕ‪ ٔٓ9‬وفً سوهاج ‪ ،ٕ٘9‬وقنا ٖٖ٘‪،‬‬
‫وفً الوجه البحري بلػ فً المنوفٌة مثبل ٕ‪ ،ٗ9‬وفً الؽربٌة (كانت تضم الؽربٌة وكفر الشٌخ) ‪ ،ٕ98ٙ‬أما‬
‫تركٌزهم األكبر فظل فً اإلسكندرٌة فبلؽوا ٖٔ٘‪ 88,‬و القاهرة ٕٖ‪ ٙٓ,8‬ومدن القناة الثبلثة ‪.ٕٔ,999‬‬

‫(ٕٗٗٔ)‬
‫‪ -‬تعداد سكان القطر المصري لسنة ‪ ،ٔ9ٕ9‬وزارة المالٌة‪ ،‬مكتبة جهاز التعببة العامة واإلحصاء‪ ،‬جدول ‪ ٕٙ‬و ‪ ،ٕ8‬ص ٖ‪ٕٖٗ -ٔ9‬‬

‫ٔٗ٘‬
‫وفً هذا اإلحصاء اختفى‪ -‬ألول مرة‪ -‬تصنٌؾ كلمة ٌهودي وإسرابٌلً فٌما ٌخص الجنسٌات‪ ،‬وصار الٌهودي‬
‫ًٌذكر بالجنسٌة الملحق بها(ٖٗٗٔ)‪ ،‬فطوال التارٌخ وحتى ‪ ٔ9ٕ9‬كان الٌهود ٌعاملون كجنسٌة مستقلة بنفسهم‪ ،‬فقط‬
‫ٌُقال ٌهودي‪ ،‬ال ٌُنسب لمصر وال إٌطالٌا وال فلسطٌن وال تركٌا إلخ‪ ،‬وهم راضون بذلك ولذلك ال ٌجوز احتسابهم‬
‫حٌنها مواطنٌن أو من جملة أهل البلد‪.‬‬

‫وٌبلحظ استمرار تراجع عدد األجانب فً هذا اإلحصاء بفضل مساعً الحكومة تطبٌق مبدأ ثورة ‪ٔ9ٔ9‬‬
‫"مصر للمصرٌٌن" ودستور ٖٕ‪ ٔ9‬الذي نص على قصر الوظابؾ على المصرٌٌن‪ ،‬ومساعً إلؽاء‬
‫االمتٌازات األجنبٌة‪ ،‬وإن كان هذا تم بالتدرٌج البطا‪ ،‬ومقدمات الحرب العالمٌة الثانٌة التً دفعت‬
‫برٌطانٌٌن وفرنسٌٌن وٌهود إلخ للرحٌل خوفا من ؼزو األلمان لمصر‪ ،‬وكان هذا الرحٌل خٌر لمصر‪،‬‬
‫إضافة لدخول بعض األجانب فً الجنسٌة المصرٌة بموجب قوانٌنها سٌبة السمعة‪.‬‬

‫❼ (تعداد ‪)ٔ9ٗ7‬‬

‫بلػ عدد السكان ككل ‪ ٔ8,9ٙٙ,9ٙ9‬بزٌادة ٖ ملٌون عن اإلحصاء السابق‪.‬‬

‫وذكر اإلحصاء أن هذا اإلجمالً ال ٌشمل العربان الرحل المقدر عددهم ب ٖ‪ ٘٘ٓ9‬ألفا‪.‬‬

‫وهذا اإلجمالً صنفه التعداد إلى مصرٌون بلؽوا ٕ٘‪ ٔ8,8ٕٓ,8‬نسمة‪ ،‬فٌما األجانب (عرب وعجم)‬
‫ٕٔ‪ ٔٗ٘,9‬نسمة‪ ،‬وبذلك ٌكون نقص المصنفون أجانب إلى أقل من النصؾ مقارنة بالتعداد السابق الذي‬
‫بلػ فٌه األجانب ‪ ٖ8ٔ,98ٙ‬ألفا(ٗٗٗٔ)‪ ،‬وٌعود هذا أٌضا لفرار أجانب من وجه ألمانٌا وإٌطالٌا خبلل الحرب‬
‫العالمٌة الثانٌة‪ ،‬وتراجع االمتٌازات األجنبٌة وزٌادة إجراءات التمصٌر‪.‬‬

‫ونبلحظ أنه بداٌة من إحصاء ‪ ٔ9ٔ9‬توقؾ تصنٌؾ المصرٌٌن إلى "وطنٌٌن" أو "أصلٌٌن"‪ ،‬وأعراق‬
‫أخرى كالعربان‪ ،‬والعثمانلٌة (أتراك وسورٌون وحجازٌون وأرمنٌون وسودانٌون إلخ)‪ ،‬بل اعتبرهم عرق‬
‫واحد أو تصنٌؾ واحد وهو "مصرٌون"‪ ،‬أما العثمانلٌة من األعراق األخرى ولم ٌتجنسوا بالجنسٌة‬
‫المصرٌة فجرى تصنٌفهم كرعاٌا أجانب‪ ،‬منهم ما ٌتبع رعوٌة الدولة المصرٌة ومنهم من ٌتبع دول أجنبٌة‪.‬‬

‫♦♦♦ جنسٌات االحتالل الجالٌاتً‬

‫وبعد حصر األعداد‪ ،‬تستحق الجالٌات فً عصر االحتبلل اإلنجلٌزي أن نفرد لها مساحة خاصة‬
‫بتصنٌؾ كل جالٌة؛ لما أحدثته من شروخ ما زالت تتسع فً الجسد المصري بما نزحته من أموال‪ ،‬وبما‬
‫زرعته من تٌارات "النتش والنعكشة" (تٌارات ومذاهب دٌنٌة وسٌاسٌة وثقافٌة هدفها فشكلة الهوٌة‬

‫(ٖٗٗٔ)‬
‫‪ -‬تعداد سكان القطري المصري لسنة ‪ ،ٔ9ٖ9‬جٕ‪ ،‬الجدول ‪ ٕ8‬و‪ ،ٕ9‬وزارة المالٌة‪ ،‬مكتبة جهاز التعببة العامة واإلحصاء‪ ،‬ص ‪ٕٗ9 -ٕٔ9‬‬
‫(ٗٗٗٔ)‬
‫‪ -‬التعداد العام للسكان لسنة ‪ ،ٔ9ٗ9‬جٕ‪ ،‬وزارة المالٌة واالقتصاد (مصلحة اإلحصاء والتعداد)‪ ،‬جداول أرقام ٔ و‪ ٖٙ‬و‪ ٖ9‬ص ٕ و‪-ٖٙٙ‬‬
‫ٖ‪ ،ٖ9‬المطبعة األمٌرٌة‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ9ٖ٘ ،‬مودع بدار الكتب‬

‫ٕٗ٘‬
‫المصرٌة)‪ ،‬وما نشرته وأدخلته لمصر من جرابم وعادات ما زالت أنٌابها تنهش فً جسد األمن بمصر‪.‬‬

‫ونعرضها هنا مع نبذة تارٌخٌة عن تسلسل وجودها فً مصر تلخٌصا لما ورد عنها فً الفصول السابقة‬
‫لتكتمل الصورة‪.‬‬

‫❶ (الٌونانٌون)‬

‫اشتهروا باسم "األروام" لكونهم الجالٌة األجنبٌة األكثر عددا وقت االحتبلل الرومانً لمصر‪ ،‬وهو لفظ‬
‫ظل ٌمٌزهم عن بقٌة األوروبٌٌن الذٌن عرفهم المصرٌون بـ"الفرنجة"‪ ،‬واشتهروا أٌضا باسم "جرٌجً"‪.‬‬

‫وكما تابعنا فً العصور السابقة ظهر الٌونان فً مصر ألول مرة كجالٌة زمن االحتبلل الخاسوتٌمً‬
‫كتجارومرتزقة‪،‬وفً زمن االحتبلل الٌونانً صاروا األكثر ؼنى فً الببلد‪ ،‬واحتكروا اإلسكندرٌة ونقراش‬
‫(نوكراتٌس) والمنشاة (بطلمٌة) وخصوها بامتٌازات وجنسٌة لهم استمروا محتفظٌن بمعظمها زمن االحتبلل‬
‫الرومانً‪ ،‬ولما ثار المصرٌون ضدهم عدة مرات أعملوا فٌهم السٌؾ‪ ،‬ولما أزاح االحتبلل العربً الرومان‬
‫رحل بعضهم عن مصر وبقً آخرون للعمل فً الدواوٌن مع العرب والتجارة‪ ،‬ولعل لهم نصٌب فٌما عرؾ‬
‫بـ"قبط الدواوٌن"‪ ،‬ومنهم من انزوى على نفسه‪.‬‬

‫وطوال االحتبلالت التالٌة توقؾ قدوم الٌونانٌٌن إلى مصر‪ ،‬ولم ٌظهر للٌونانٌٌن جالٌة جدٌدة إال زمن‬
‫االحتبلل العثمانلً الذي جلب ٌونانٌٌن معه إلى مصر بعد أن احتل الٌونان وصار الٌونانٌون من الرعاٌا‬
‫العثمانلٌة‪ ،‬وانزووا فً حارات كحارة األروام‪ ،‬ودار عددهم حول ٘ آالؾ‪ ،‬ولم ٌقفز هذا العدد بشكل كبٌر‬
‫إال بحكم محمد علً الذي استكثر منهم هو وبنوه‪ ،‬واحتلوا اإلسكندرٌة من جدٌد على حس ما استنزفه‬
‫االحتبلل العلوي من عرق ودم المصرٌٌن فً مد ترعة المحمودٌة إلٌها وعمل الموانً‪ ،‬فً تعداد ‪ٔ9ٗ9‬‬
‫وصلت الجالٌة الٌونانٌة ألقصى عدد لها وهو ‪ 9ٖ,ٙ٘ٙ‬شخصا‪ ،‬خاصة مع األزمات التً ضربت الٌونان‪،‬‬
‫وكما عبرت عن الحال رواٌة "السمان والخرٌؾ" لنجٌب محفوظ فإنه حتى األعوام األولى من ثورة ٖٕ‬
‫ٌولٌو كانت الوجوه الٌونانٌة تطارد المرء فً اإلسكندرٌة أٌنما كان‪ ،‬فً الشرفات والنوافذ‪ ،‬وعلى قارعة‬
‫الطرٌق‪ ،‬حتى سوق الخضار والدكاكٌن كانت تحتلها الوجوه الٌونانٌة(٘ٗٗٔ)"‪.‬‬

‫وكوَّ ن الٌونانٌون ثروات باهظة بعملهم فً كل فروع التجارة مشروعة وؼٌر مشروعة‪ ،‬صؽٌرة وكبٌرة‪،‬‬
‫بداٌة من البارات ونوادي القمار والبؽاء والربا والمقاهً وبٌع الخضروات واألجبان وحتى الشركات‬
‫الكبرى‪ ،‬وحافظوا على هٌبتهم وانتمابهم اإلؼرٌقً ولؽتهم وتزاوجهم من بعضهم‪ ،‬وصبؽوا مبانً‬
‫اإلسكندرٌة بطابعهم‪ ،‬مثلما كانوا أٌام االحتبللٌن الٌونانً والرومانً‪ ،‬حتى أن فكري أباظة عاب علٌهم‬
‫تحوٌل مدٌرٌات مصرٌة (محافظات) إلى مستعمرات رومٌة‪ ،‬بعد أن أصبحوا فٌها هم المبلك وهم‬
‫المزارعون‪ ،‬وهم دون ؼٌرهم أصحاب المصالح‪ ،‬وحققوا هذا بعد أن كانوا مجرد تجار إسفنج وسردٌن‬
‫على شواطا البحر عن طرٌق عملهم فً الربا وإؼراء "البسطاء واألؼبٌاء" بالدٌون‪ ،‬معتبرا أن احتبلل‬

‫(٘ٗٗٔ)‬
‫‪ -‬مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن‪ ،‬محمد جبرٌل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج ٖ‪ ،‬ص ‪99‬‬

‫ٖٗ٘‬
‫األروام أدهى وأمر من احتبلل اإلنجلٌز(‪.)ٔٗٗٙ‬‬

‫وعبر عن هذا روذاكٌس فً رواٌة "أودٌسا العصر الحدٌث" للٌونانً مٌشٌل بٌرٌذٌس بقوله‪" :‬إننا ننتمً‬
‫إلى أصل واحد‪ ،‬وحققنا فً مصر ما عجزنا عن تحقٌقه فً ببلدنا‪ ،‬أنشؤنا وطنا واحدا لكل الٌونانٌٌن(‪،")ٔٗٗ9‬‬
‫فالٌونان فً ببلدهم معظم التارٌخ لم ٌتكتلوا فً كٌان واحد‪ ،‬كانوا دوٌبلت ال دولة‪ ،‬فهم أهل شقاق وحروب‬
‫ضد بعضهم‪ ،‬وهو ما جعلهم مهاجرٌن للخارج معظم تارٌخهم‪ ،‬وٌعملون كمرتزقة وقراصنة‪ ،‬ولكنهم فً‬
‫مصر توحدوا لٌكونوا كٌانا قوٌا ضد المصرٌٌن‪ ،‬وأٌضا ضد الجالٌات األخرى المتصارعة معهم على كعكة‬
‫النفوذ فً مصر "نهٌبة الدنٌا"‪.‬‬

‫وحٌن ؼزا الفرنسٌس مصر كانوا عونا لهم فً احتبللها وتعرٌفهم بؤسرارها بكتٌبة األروام‪ ،‬وهو نفس‬
‫الدور الذي لعبوه مع االحتبلل البرٌطانً؛ فساعده بعضهم فً احتبلل اإلسكندرٌة عبر مشاركتهم فً أعمال‬
‫الشؽب المدبرة ٔٔ ٌونٌو ٔ‪ ٔ88‬وقتل المصرٌٌن العزل بالرصاص‪.‬‬

‫وخبلل الحرب العالمٌة الثانٌة شكلوا تنظٌما مسلحا لدعم برٌطانٌا فً الحرب‪ ،‬وأمدوها بالتبرعات‬
‫المادٌة‪ ،‬ولم ٌخ ُل األمر من تشجٌع ٌونانٌٌن آخرٌن للحركة الوطنٌة‪ ،‬حتى أن بعضهم مشى فً‬
‫مظاهراتها(‪ )ٔٗٗ8‬ضد برٌطانٌا وإن كان معظم هإالء فعلوها ألنهم كانوا شٌوعٌٌن معادٌن للرأسمالٌة‬
‫البرٌطانٌة ولٌس تضحٌة ألجل مصر ذاتها‪.‬‬

‫وٌصؾ أحمد لطفً السٌد فً عصره أحد طرقهم فً نزح ثروة المصرٌٌن بصورة مختصرة دامعة‬
‫وبلٌؽة فٌقول إن "الرومً ٌجًء به طلب الرزق إلى مصر منفردا‪ٌ ،‬دخل إحدى قراها البعٌدة عن مراكز‬
‫الحكومة فٌتزلؾ إلى كبار أهلها‪ ،‬فٌفسحون له فً مساكنها ملجؤ ٌؤوي إلٌه‪ ،‬فبل ٌزال بتجارته الرابحة من‬
‫بٌع الزٌتون والجبن بؤضعاؾ القٌمة بثمن آجل ]التقسٌط والربا[ حتى ٌصبح ذا مال ٌقرضه إلى الفبلحٌن‬
‫بالربا الفاحش‪ ،‬وال ٌلبث على هذه الحال قلٌبل من الزمان إال وهو دابن ألؼلب أهل البلد‪ٌ ،‬نزع ملكٌة‬
‫أرضهم وٌستخدمهم فٌها عماال بسطاء"(‪.)ٔٗٗ9‬‬

‫وهذه األٌام ٌتابع الناس فً األفبلم القدٌمة مشاهد لحانات خمور والنادل "الجارسون" األجنبً ٌخدم‬
‫مصرٌٌن سكارى فٌها‪ ،‬فٌشٌر لهم بعض المصرٌٌن أمام الشاشات ببراءة طفولٌة ٌقولون‪" :‬شوؾ إزاي كنا‬
‫زمان؟ كان الخواجات بٌصبولنا الكاسات وٌخدمونا"‪ ،‬والبرئ ؼفبلن عن ثمن "الصبة" و"خد اشرب ٌا‬
‫خبٌبً وانسى"‪ ،‬وهً تسكٌر المصري لشفط جٌوبه وتهرٌب ماله برَّ ة‪ ،‬وٌكون الٌونانً فً مصر "السٌد"‪،‬‬
‫والمصري فً الدرجة العاشرة "سكران"‪ ،‬لما نسً تحذٌرات عبد هللا الندٌم من هذا المصٌر(ٓ٘ٗٔ)‪:‬‬

‫باعوا الفدادٌن لألروام‪ ..‬باألوهــــــــــام‪ ..‬وأصبـــــح الوطن ؼلبــــــــــــــــــان‬

‫(‪)ٔٗٗٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ج ٕ‪ ،‬ص ٕٔٔ‬
‫(‪)ٔٗٗ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫(‪)ٔٗٗ8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ج ٖ‪ ،‬ص ‪ ،99‬وج ٕ‪ ،‬ص ٕٔٔ‬
‫(‪)ٔٗٗ9‬‬
‫‪ -‬قصة حٌاتً‪ ،‬أحمد لطفً السٌد‪ ،‬مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٗ‪ٗٗ -‬‬
‫(ٓ٘ٗٔ)‬
‫‪ -‬عبد هللا الندٌم خطٌب الثورة العرابٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٗٗ‬

‫ٗٗ٘‬
‫والبٌه صبح باع األلماس‪ ..‬فً حب الكاس‪ ..‬والبٌت وساعته والؽٌطان‬

‫اسؤل بقى جرجً وٌ ِّنً(ٔ٘ٗٔ)‪ ..‬مش تسؤلنً‪ ..‬تلقى الفلوس راحت الٌونــــان‬

‫تلقى الفلوس فً إٌطالٌا‪ ..‬أو ألمانٌا‪ ..‬والال فرنســـا ٌا نعســــــــــــــــــــــان‬

‫ٌا مٌــت خســارة وندامــة‪ ..‬وهللا ؼرامة‪ ..‬نبٌع بكاس خمرة األوطـــــــــــان‬

‫فوقو بقى ٌا والد الٌوم‪ ..‬من دي النوم‪ ..‬إال العزٌز منكم ٌنهـــــــــــــــــان‬

‫❷ (الٌهود )‬

‫كما فً بقٌة العالم‪ ،‬لم ٌعتبر الٌهود أنفسهم من أبناء الوطن فً أي عصر قدموا فٌه إلى مصر‪ ،‬وفً‬
‫عقابدهم ٌتعلمون أن الدٌن والجنس عنصران متبلزمان ال فاصل بٌنهما(ٕ٘ٗٔ) فمهما طال بهم المقام ٌتكتلون‬
‫محتفظٌن بؤن دٌنهم ووطنهم هو "الٌهودٌة"‪ ،‬وٌؤخذون صؾ االحتبلل ضد أبناء البلد إذا كان هذا فً‬
‫مصلحتهم‪ ،‬وبشكل أعمق وصفهم كارل ماركس‪ ،‬وهو من عابلة ٌهودٌة‪" :‬والجنسٌة الوهمٌة للٌهودي هً‬
‫جنسٌة التاجر‪ ،‬جنسٌة رجل المال"(ٖ٘ٗٔ)‪.‬‬

‫وكما رأٌنا فً فصول سابقة‪ ،‬أول ظهور تعرفه اآلثار للٌهود فً مصر حٌن جاءوها الجبٌن فارٌن من‬
‫البطش البابلً زمن األسرة ‪ ،ٕٙ‬ورؼم هذا باعوا مصر للؽزو الفارسً‪ ،‬وفً زمن االحتبلل الٌونانً‬
‫والرومانً كثر عددهم فً اإلسكندرٌة‪ ،‬ومع االحتبلل العربً كان من شروط المقوقس فً الصلح مع‬
‫عمرو بن العاص بقاء الٌهود فً مصر‪ ،‬وبقوا ٌعملون فً التجارة والطب والصرافة والربا والذهب‪،‬‬
‫ولسبب ؼٌر معلوم تناقص عددهم بشكل حاد حتى ظهروا فً تقدٌر عدد السكان زمن محمد علً ٘ آالؾ‬
‫ٌهودي‪ ،‬ثم عادوا للزٌادة كالطوفان بفعل المحافل الماسونٌة وقانون تملٌك األراضً لؤلجانب واالمتٌازات‬
‫األجنبٌة‪.‬‬

‫وأخذوا‪ -‬مثل بقٌة األجانب‪ -‬موقعا متمٌزا داخل مصر لم ٌحلموا بمثله فً العالم‪ ،‬ومن أوابل من سعى‬
‫لضم الٌهود للحماٌة واالمتٌازات األجنبٌة هو الثري الٌهودي موسى مونتٌفوري حٌن تدخل لدى محمد علً‬
‫لٌسمح بؤن ٌكونوا تحت الحماٌة البرٌطانٌة وٌتم إعفاإهم من بعض الضراٌب(ٗ٘ٗٔ)‪.‬‬

‫وفً ‪ ،ٔ89ٙ‬قبل المإتمر الصهٌونً فً بازل بسنة واحدة‪ ،‬جاء لمصر جوزٌؾ ماركو باروخ‪ ،‬لٌإسس‬
‫جمعٌة صهٌونٌة فً مدٌنة القاهرة حملت اسم باركو خابا‪ ،‬أجرت اتصاال بتٌودور هرتزل الذي حضر إلى‬
‫اإلسكندرٌة والقاهرة فً ٖٕ مارس ٖٓ‪ ،ٔ9‬واإلسكندرٌة حٌنذاك مركزا لتجمع الٌهود‪ ،‬فقد تمركز فٌها‬

‫(ٔ٘ٗٔ)‬
‫‪ -‬جرجً وٌ ّنً من األسامً الشهٌرة المعروؾ بها الٌونانٌون‬
‫(ٕ٘ٗٔ)‬
‫‪ -‬الٌهود فً مصر فً عصري البطالمة والرومان‪ ،‬مصطفى كمال عبد العلٌم‪ ،‬مكتبة القاهرة الحدٌثة‪ ،‬ط ٔ‪ ،ٔ9ٙ8 ،‬ص ‪ٕ98‬‬
‫(ٖ٘ٗٔ)‬
‫‪ -‬كارل ماركس أو فكر العالم سٌرة حٌاة‪ ،‬جاك أتالً‪ ،‬ترجمة محمد صبح‪ ،‬دار كنعان‪ ،‬طٔ‪ ،‬دمشق‪ ،ٕٓٓ8 ،‬ص ٕ‪9‬‬
‫(ٗ٘ٗٔ)‬
‫‪ -‬الجالٌة البرٌطانٌة فً مصر ٘ٓ‪ ،ٔ88ٕ -ٔ8‬ناهد السٌد علً زٌان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ‪ ٖٙ‬هامش رقم ٖٗ٘‬

‫٘ٗ٘‬
‫٘ٗ‪ %‬من عددهم فً مصر(٘٘ٗٔ)‪ ،‬وتمتع هرتزل بحرٌة الحركة‪.‬‬

‫وبسبب االمٌتازات األجنبٌة وحماٌة المحافل الماسونٌة والقنصلٌات‪ ،‬وؼفلة المصرٌٌن المحٌطٌن‪ ،‬ؼزا‬
‫الٌهود كل المجاالت؛ إذ كسر الٌهود خصوصٌة وقٌود حارة الٌهود التقلٌدٌة إلى درجة لم ٌكن لها مثٌل فً‬
‫العالم‪ ،‬فتسللوا لنسٌج المجتمع موزعٌن بدرجات فً أحٌاء الجمرك والعطارٌن والرمل وباكوس وكرموز‬
‫واللبنان ومحرم بٌك والمنشٌة وحً مٌنا البصل وحً المٌناء(‪.)ٔٗ٘ٙ‬‬

‫ومن قابمة الجمعٌات اإلسرابٌلٌة ٌتضح أنهم كانوا مإسسٌن دولة داخل الدولة‪ ،‬تضم شبكة مصالح‬
‫ومإسسات تقدم لهم كافة الخدمات‪ ،‬كالمدارس والمستشفٌات والصحؾ والجمعٌات الخٌرٌة واالستثمارٌة‪،‬‬
‫والمعلن منها اتخذ طابعا خٌرٌا لحماٌة الٌهود من العوز‪ ،‬مثل جمعٌة "أزرات" تؤسست ٘‪ ٔ88‬لمساعدة‬
‫الشحاتٌن الٌهود‪ ،‬وجمعٌة "بٌكور هولٌم" تؤسست ‪ ٔ9ٓ9‬لمساعدة المرضى‪ ،‬وجمعٌة "هٌد فٌمٌت" تؤسست‬
‫ٖٓ‪ ٔ9‬لبناء دور العجزة‪ ،‬والمستشفى اإلسرابٌلً فً سٌدي جابر‪ ،‬ومستشفى إسرابٌلً فً سبورتنج‪،‬‬
‫وجمعٌة قطرة اللبن لمساعدة التبلمٌذ الٌهود الفقراء‪ ،‬وهذه األنشطة تمؤل سماء اإلسكندرٌة‪ ،‬أما الجمعٌات‬
‫السرٌة التً تمارس نشاطها السٌاسً تحت األرض‪ ،‬فؤكثر من هذا بكثٌر‪ ،‬وتسري بخٌوط عنكبوتٌة ال‬
‫ُترى‪ ،‬ومن ثمرة نش اطهم السري إنشاء "الفٌلق الٌهودي" خبلل الحرب العالمٌة األولى على ٌد الٌهودٌٌن القادمٌن‬
‫من روسٌا فبلدٌمٌر جابوتسكً وجوزٌؾ ترمبلدور‪ ،‬وبدأ تحت ستارة تشكٌل قوة بولٌسٌة "لحفظ النظام بٌن‬
‫المهاجرٌن الجدد(‪.)ٔٗ٘9‬‬

‫وبعد زمن طوٌل من إظهار الوجه الثقافً واالقتصادي والخٌري‪ ،‬ظهر الوجه الملٌشٌاوي للجمعٌات‬
‫الٌهودٌة بعد أن استقوت بوعد بلفور ‪ٔ9ٔ9‬؛ فظهرت فرق مسلحة بوضوح فً شوارع اإلسكندرٌة التً‬
‫باتت شبه مستوطنة لهم‪ ،‬واستعرضت قوتها فً عروض مسلحة سارت بها من الوردٌان وحتى المعبد‬
‫الٌهودي قبل أن ٌنضموا للقتال مع برٌطانٌا فً الحرب‪ ،‬وأسسوا مكتبا لتشجٌع الهجرة لفلسطٌن وتكونت‬
‫لجنة باسم "اللجنة المشاٌعة لفلسطٌن" وزعت منشورات فً اإلسكندرٌة تطالب باالكتتاب لجمع التبرعات‬
‫من أثرٌاء الٌهود وإرسالها لفلسطٌن إلقامة مستعمرات زراعٌة للٌهود باسم استثمارات‪.‬‬

‫وإضافة لبلحتكار الثقافً واالقتصادي ص َّدر الٌهود وجها آخر ودودا للمصرٌٌن‪ ،‬خاصة بعد ثورة‬
‫‪ ٔ9ٔ9‬التً أعلت مبدأ "مصر للمصرٌٌن"‪ ،‬لسهولة معرفة أسرار البٌوت‪ ،‬فكانوا ٌعٌشون متجاورٌن مع‬
‫المصرٌٌن فً ود وحب بالؽٌن‪ ،‬فالٌهود فً حٌاتهم الٌومٌة ودودون ٌحافظون على الجٌرة‪ ،‬وخصوصا أن‬
‫المرأة الٌهودٌة لها دور مهم فً حٌاة األسرة والمجتمع المحٌط بها‪ ،‬وكل من عاصر تواجد الٌهود فً مصر‬

‫(٘٘ٗٔ)‬
‫‪ -‬هنري كورٌٌل‪ -‬األسطورة والوجه اآلخر‪ ،‬الدكتور حسٌن كفافً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕ9‬‬
‫(‪)ٔٗ٘ٙ‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٖٓ -ٕ9‬‬
‫(‪)ٔٗ٘9‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٖٓ‪ٖٔ -‬‬
‫*** والشًء بالشًء ٌُذكر‪ ،‬فإن أشهر عصابات الوالٌات المتحدة حالٌا‪ ،‬وأكثرها همجٌة‪ ،‬وهً عصابة "إم إس ٖٔ"‪ ،‬نشؤت فً ثمانٌنات القرن‬
‫ٕٓ أٌضا بحجة أنها مجرد حراسة لتجمعات المهاجرٌن من السلفادور ‪ ،‬باعتبارهم بنً جلدتهم وأدرى بطبابعهم‪ ،‬وتسعى لتخفٌؾ األعباء عن‬
‫الشرطة‪ ،‬ثم ظهر السبب الحقٌقً بتحولها ألكبر العصابات إجراما‪ ،‬ومصدرا للمرتزقة فً العالم‪ ،‬فهو ذات األسلوب المكرر‪.‬‬

‫‪٘ٗٙ‬‬
‫ٌذكر هذا‪ ،‬فالمرأة عندهم محور كل شًء(‪.)ٔٗ٘8‬‬

‫ولعب الٌهود دورا وحاسما فً خروج المرأة المصرٌة بالمدن إلى مٌادٌن عمل ؼٌر معهودة‪ ،‬وتؽٌٌر‬
‫الحٌاة االجتماعٌة‪ ،‬ولكن لٌس بشكل ٌحفظ هوٌة وسمات وكرامة الست المصرٌة‪ ،‬فالٌهودٌات خرجن قبلها‬
‫للعمل بالمتاجر وتقلٌد الرطانة بالكلمات األجنبٌة‪ ،‬والدخول فً المؽامرات العاطفٌة‪ ،‬وشجعن المصرٌات‬
‫على الحٌاة التً وصفت بالعصرٌة‪ ،‬فحتى وجودهن فً الترام ٌستؽل َّنه فً التحدث مع من ٌجلسن بجوارهن‬
‫عن بارٌس وأزٌاءها وحٌاة النساء فً أوروبا والرقص الحدٌث عن المؽامرات العاطفٌة‪ ،‬وكثٌر من‬
‫الٌهودٌات ٌفرضنَّ أنفسهنَّ على الشباب المصري المجاور لهنَّ فً العمل أو السكن‪ ،‬ومعظم أبناء جٌل‬
‫العشرٌنٌات والثبلثٌنٌات تعرفوا على حٌاة العاطفة والجنس من خبلل ٌهودٌات (‪.)ٔٗ٘9‬‬

‫وأبدع األدٌب صالح مرسً فً مسلسله التلفزٌونً الشهٌر "رأفت الهجان" فً التعبٌر عن هذا‪ ،‬فهذه‬
‫سارة تنسج خٌوط العبلقة المحرمة مع عدلً ظابط الشرطة لتعرؾ منه المعلومات التً تجمعها الشرطة‬
‫عن الٌهود‪ ،‬وذاك الصاٌػ بنٌامٌن حنانٌا ٌتحدث عنه جٌرانه بكل ود لمعاملته الطٌبة معهم‪ ،‬وهم "زي‬
‫األطرش فً الزفة" ٌجهلون ما بٌن الٌهود والصهٌونٌة‪.‬‬

‫وفً عشرٌنات القرن ٕٓ أصبح الٌهود رقما صعبا فً السٌطرة على اقتصاد مصر‪ ،‬فصاروا ضمن‬
‫المحتكرٌن لصناعات الصحافة والنشر والطباعة وتجارة الورق والسٌنما والفنادق وتجارة القطن والؽزل‬
‫والنسٌج‪ ،‬ومعظم الشركات بداٌة من مالكها حتى كاتب اآللة الكاتبة من الٌهود‪ ،‬و‪ %98‬من العاملٌن فً‬
‫البورصة ٌهود‪ ،‬وأنشؤوا شركة التصدٌر الشرقٌة للسٌطرة على االستٌراد والتصدٌر سنة ٕٓ‪ ،ٔ9‬وامتلكوا‬
‫سلسلة المحبلت التجارٌة الكبرى لتوزٌع منتجاتهم الداخلٌة أو المستوردة‪ ،‬ومن أشهرها عمر أفندي وهانو وبٌن‬
‫صهٌون‪ -‬بن زٌون (بنزاٌون) وشٌكورٌل وشمبل والصالون األخضر وداود عدس‪ ،‬وفً البنوك أسسوا بنكً‬
‫مواصٌري وزلٌخة‪ ،‬هذا بخبلؾ بٌوت وبنوك الرهونات‪ ،‬وحتى فً بنك مصر لهم عضوان فً مجلس‬
‫إدارته‪ ،‬وٌساوي خطورتهم فً السٌطرة على البنوك سٌطرتهم على تجارة الذهب والفضة والماس‪.‬‬

‫وللسٌطرة على سوق العقارات أسسوا شركات عقارٌة مثل شركة مصر الجدٌدة‪ ،‬وشركة المعادي‪،‬‬
‫وشركات وادي كوم إمبو‪ ،‬وشركة مساهمة البحرٌة‪ ،‬واشتروا األراضً الزراعٌة والسكنٌة‪ ،‬حتى أن حً‬
‫سموحة بحاله فً اإلسكندرٌة كان جزء مما تملكه الملٌونٌر الٌهودي سموحة‪ٌ ،‬عنً باختصار كانت مصر‬
‫فً جٌبهم(ٓ‪ ،)ٔٗٙ‬وأكبر مُعٌن لهم فً هذه السٌطرة الرهٌبة هو الربا والرهونات والتسهٌبلت التً حصدوها‬
‫من االمتٌازات األجنبٌة والمحتلٌن‪ ،‬واألهم هو توهان المصرٌٌن عن خطرهم‪.‬‬

‫وعلى أساس أن الثقافة فً خدمة االقتصاد‪ ،‬أنشؤوا مطبعتٌن‪ ،‬وهكذا انتهزوا أي فرصة لنشر الثقافة‪-‬‬
‫الكتب التً ٌرٌدون تسوٌق أفكارها‪ -‬خبلل الصحافة والمطابع وتجارة الورق التً ٌسٌطرون علٌها تماما‪،‬‬

‫(‪)ٔٗ٘8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬صٕٖ وٖ٘‬
‫(‪)ٔٗ٘9‬‬
‫‪ -‬انظر مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن‪ ،‬محمد جبرٌل‪ ،‬ج ٖ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٗ89 -ٗ8ٙ‬‬
‫(ٓ‪)ٔٗٙ‬‬
‫‪ -‬هنري كورٌٌل األسطورة والوجه اآلخر‪ ،‬حسٌن كفافً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ ٕ9 -ٕٙ‬وٗ٘‪٘٘ -‬‬

‫‪٘ٗ7‬‬
‫وبتعبٌر حسٌن كفافً فالمصرٌون حٌنها فً ؼفلة ال ٌدرون ما ٌجري خلؾ ظهورهم من مكابد ومإامرات‬
‫لحسن نٌتهم‪ ،‬ومن ناحٌة أخرى لضحالة ثقافتهم وقلة تعلٌمهم‪ ،‬فهم حدٌثً عهد بمثل هذه األمور من التعلٌم‬
‫والثقافة‪ ،‬وأٌضا لعزوفهم عن العمل فً هذه المجاالت(ٔ‪.)ٔٗٙ‬‬

‫وألن اإلعبلنات من وسابل السٌطرة على الرأي العام‪ ،‬استولت شركة اإلعبلنات الشرقٌة التً ٌدٌرها الٌهودي‬
‫هنري حاٌٌم على معظم اإلعبلنات‪ ،‬ومدٌر عام اإلعبلنات فً "األهرام" و"دار الهبلل" ٌهودٌان(ٕ‪ ،)ٔٗٙ‬وؼزوا‬
‫السٌنما فور أن حطت رحالها فً مصر‪ ،‬وأبرز ٌهود هذه الصناعة توجو مزراحً وإٌلً درعً وٌوسؾ‬
‫موصٌري صاحب شركة جوزٌؾ فٌلم‪ ،‬ولم ٌنكسر احتكار الٌهود للسٌنما إال على ٌد طلعت حرب حٌن‬
‫أسس شركة مصر للتمثٌل والسٌنما واستدٌو مصر‪ ،‬وأرسل بعثات لتعلم السٌنما فً الخارج على حساب بنك‬
‫مصر‪ ،‬وكذلك كان لٌوسؾ وهبً دور مشهود فً تمصٌر السٌنما‪.‬‬

‫وساهم تحكم الٌهود فً البضاٌع الداخلة والخارجة لمصر والثقافة والفن فً أن ٌتٌسر لهم التدخل فً‬
‫رسم الذوق المصري‪ ،‬والتحكم فً األسعار‪.‬‬

‫ونصل للخط األحمر‪ ،‬للهدؾ األكبر‪ ..‬دخل الٌهود مخادع الحكم‪ ،‬فكانت واحدة من عابلة قطاوي وصٌفة‬
‫الملكة نازلً‪ ،‬ووصلوا الختراق الجٌش عبر زواج ضباط فً الجٌش‪ ،‬منهم عاملون فً إدارة المخابرات‪،‬‬
‫بٌهودٌات‪ -‬كعادة كافة التنظٌمات السرٌة الهادفة للسٌطرة‪ -‬ومنهم دٌدار فوزي بنت الملٌونٌر الصهٌونً‬
‫داوود عدس تزوجت الرابد فً الجٌش عثمان فوزي‪ ،‬وهً من جرَّ ته إلى الشٌوعٌة؛ ألنها صدٌقة لهنري‬
‫كورٌٌل(ٖ‪ ،)ٔٗٙ‬ولنتخٌل لو هذا الضابط صار ألي سبب ربٌسا لمصر فتكون تلك الدخٌلة والصهٌونٌة‬
‫"السٌدة األولى لمصر"!‬

‫ومعظم العاببلت الٌهودٌة التً سٌطرت على االقتصاد وافدة حدٌثا إلى مصر‪ ،‬وخاصة خبلل القرن ‪ٔ9‬‬
‫فً عهد حكم عٌلة محمد علً‪ ،‬ولٌسوا مصرٌٌن كما ٌقول البعض‪ -‬إال أن بعضهم حصل على الجنسٌة‬
‫المصرٌة بموجب القوانٌن المشبومة الخاصة بالتجنٌس بداٌة من أول القرن ٕٓ‪ ،‬ولٌتؽلبوا على شعار‬
‫"مصر للمصرٌٌن "‪ ،‬ولكن لم ٌعتبروا أنفسهم سوا خدام لمشروع تنظٌماتهم الخاصة‪ ،‬ولم ٌشذ عن هذه‬
‫القاعدة إال القلٌل‪ ،‬ولذا من أكبر األخطاء التارٌخٌة أن ٌقال أنه كان ٌوجد فً مصر فً أي عصر "ٌهود‬
‫مصرٌون"‪ ،‬بل الواقع أنهم "ٌهود فً مصر"‪ ،‬و"جالٌة ٌهودٌة"‪ ،‬وكتب التارٌخ القدٌمة نفسها ال تصفهم بؽٌر‬
‫هذه الصفة التً عرفتهم بها األجٌال السابقة فً كل بلد‪ ..‬أنهم ؼرباء دخبلء‪.‬‬

‫وتزاٌدوا بشكل كبٌر خبلل الحربٌن األولى والثانٌة بعد وفودهم باسم الجبٌن من أوروبا وروسٌا‪ ،‬ففً‬
‫اإلسكندرٌة وحدها وصل فً أول األربعٌنات الٌهود إلى ما بٌن ٖٓ‪ ٗٓ-‬ألؾ نسمة(ٗ‪ ،)ٔٗٙ‬وفً ذلك ٌقول‬
‫حسٌن كفافً فً "هنري كورٌٌل األسطورة والوجه اآلخر"‪ ،‬إنه فً ظل ما أسماه بالتسامح الدٌنً "كان‬

‫(ٔ‪)ٔٗٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕ٘‬
‫(ٕ‪)ٔٗٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕ‪ٔ9‬‬
‫(ٖ‪)ٔٗٙ‬‬
‫‪ -‬مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن‪ ،‬ج ٖ‪ ،‬ص ‪ ،ٗ9ٙ‬وهنري كورٌٌل األسطورة والوجه االخر‪ ،‬ص ‪ٕٓ8‬‬
‫(ٗ‪)ٔٗٙ‬‬
‫‪ -‬هنري كورٌٌل األسطورة والوجه اآلخر‪ ،‬ص ٕ‪8‬‬

‫‪٘ٗ8‬‬
‫الٌهود ٌعٌشون بٌن ظهرانٌنا كجزء من الشعب المصري‪ ،‬وكجزء من األمة العربٌة‪ ،‬إن كانوا فً مصر أو‬
‫لبنان أو سورٌا أو الٌمن أو العراق أو فلسطٌن‪ ،‬أمبلكنا بجوار أمبلكهم ٌشترون منا ونشتري منهم‪ ،‬وٌبٌعون‬
‫لنا ونبٌع لهم‪ ،‬وما ٌحدث فً مصر فً المقابل كان ٌحدث أٌضا فً فلسطٌن‪ ..‬هم ٌحفرون وٌخططون‬
‫وٌتآمرون وٌزرعون العمبلء هنا وهناك‪ ،‬وٌلجمون هنا وٌتركون اللجام على الؽارب هناك‪ ،‬والعرب فً‬
‫ؼٌبوبة‪ ،‬وسببها أن ثقتنا فً الٌهود كانت مفرطة"(٘‪.)ٔٗٙ‬‬

‫والؽفلة لفت حتى الحكومة واألحزاب‪ ،‬فلما حصل الخبلؾ بٌن مصطفى النحاس ومكرم عبٌد حول إدارة‬
‫حزب الوفد أصدر عبٌد "الكتاب األسود" ٌتهم النحاس أنه هضم حقوق "األقلٌات" لما اشترى من داود‬
‫عدس الٌهودي عزبة فً البحٌرة بسعر بخس‪ ،‬ورد علٌه النحاس بؤن السعر مناسب‪ ،‬وعدس ألح علٌه ألنه‬
‫ٌرٌد أن ٌشتري بثمنها عزبة فً فلسطٌن(‪ ،)ٔٗٙٙ‬فانشؽل عبٌد والنحاس بخبلفاتهما حول ثمن العزبة‪ ،‬ولم‬
‫ٌنشؽبل بمصدر أموال عدس‪ ،‬وال لماذا اختار شراء عزبة فً فلسطٌن‪.‬‬

‫وانتشر الٌهود تحت الجلد‪ٌ ،‬شكلون أعٌنا ترصد أي حركة‪ ،‬وصارت تجمعاتهم مراكز لدوامات بث‬
‫اإلشاعات والفكر الهدام وإفشاء الرذٌلة وخلق بلبلة ودوامات الجدل‪ ،‬محرفٌن الكلم عن مواضعه‪ ،‬ومن ذلك‬
‫أنهم سوقوا لفكر كارل ماركس حول ازدراء الدٌن‪ ،‬فٌما الٌهود فً بٌوتهم ٌعبدون هللا سرا‪ ،‬وٌحافظون على‬
‫تراثهم‪ ،‬وٌحٌون لؽتهم بعد أن كانت لؽة مٌتة‪ ،‬وروجوا لفكر نٌتشة ودارون وعالم النفس الٌهودي سٌجموند‬
‫فروٌد‪ ،‬تنفٌذا لكتاب بروتوكبلوت صهٌون‪ٌ" :‬جب أن نعمل لتنهار األخبلق فً كل مكان فتسهل سٌطرتنا‬
‫على العالم‪ ،‬إن فروٌد منا وسٌظل ٌعرض العبلقات الجنسٌة فً ضوء الشمس‪ ،‬ولكً ال ٌبقى فً نظر‬
‫الشباب شًء مقدس‪ ،‬وٌصبح همه األكبر هو أرواء ؼرابزه الجنسٌة‪ ،‬وعندبذ تنهار أخبلقه" وذلك فً الوقت‬
‫الذي كانوا ٌجمعون الشباب الٌهودي على صعٌد واحد هو الصهٌونٌة(‪.")ٔٗٙ9‬‬

‫ولم تتقلص الهٌمنة الٌهودٌة على اقتصاد مصر إال بعد ٖ عودات ٌهودٌة إلى الخارج‪ ،‬األولى ما بٌن‬
‫الحربٌن العالمٌتٌن‪ ،‬والثانٌة بعد حرب ‪ ٔ9ٗ8‬وقٌام إسرابٌل‪ ،‬والثالثة بعد العدوان الثبلثً الذي شاركت فٌه‬
‫إسرابٌل ‪ ٔ9٘ٙ‬واكتشاؾ تورط ٌهود فً عملٌات إرهابٌة وتفجٌرات بالقاهرة‪.‬‬

‫وبعد‪ ..‬ففً برنامج تلفزٌونً سنة ‪ ٕٓٔ8‬تفاخر موسٌقار شهٌر بؤنه عاش طفولته قبل ثورة ٕ٘‪ٔ9‬‬
‫والقاهرة معبؤة باألجانب‪ ،‬وأنه سكن فً عمارة بها ٌهود "طٌبٌن"‪ ،‬وأن وجود هذه الجالٌات‪ -‬ومنها الٌهود‪-‬‬
‫متراصة بجانب المصرٌٌن "فخر لمصر"‪ ..‬هكذا! ٌبدو أن للفخر معانً أخرى‪.‬‬

‫❸ (الشوام)‬

‫عرفنا منهم فً تارٌخنا القدٌم من اشتهروا باسم "الرتنو"‪ ،‬و"العامو"‪ ،‬وظهروا "محبٌن" لمصر وقت‬
‫قوتها‪" ،‬ؼادرٌن" بمصر وقت ضعفها‪ ،‬ومحاوالت قبابل الشام وشمال شرق الجزٌرة العربٌة المجاورة لها‬

‫(٘‪)ٔٗٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕٔ9‬‬
‫(‪)ٔٗٙٙ‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٖٔٓ -ٕٔ9‬‬
‫(‪)ٔٗٙ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕ9 -ٕ9‬‬

‫‪٘ٗ9‬‬
‫لبلعتداء على الحدود المصرٌة والتسلل لداخل مصر لؽرؾ خٌراتها لم تتوقؾ طوال التارٌخ‪.‬‬

‫وفشلها أو نجاحها فً هذا توقؾ على الصحوة المصرٌة من عدمها‪ ،‬فرأٌناهم لما ؼفل حكام مصر نهاٌة‬
‫الدولة القدٌمة تسللوا وعملوا فً بعض المهن ونشروا الفتن حتى ساهموا فً إسقاط األسرة ‪ ٙ‬ونشر‬
‫الفوضى "الزفتة"‪ ،‬وطاردهم لخارج مصر حكام األسرات ٓٔ ؤٔ ؤٕ‪ ،‬ؼٌر أنه فً نهاٌة األسرة ٕٔ‬
‫عادت الؽفلة بؤن تسللوا مع هجرات أخرى فً شكل تجار وعمالة ومهاجرٌن بٌن بلدٌن "صدٌقٌن" استؽبلال‬
‫للعبلقات التجارٌة القوٌة بٌنهما وقتها‪ ،‬حتى ضعفت مصر مجددا فً األسرة ٖٔ فاحتلوا أراضً بالوجه‬
‫البحري وعشنا محنة مصر معهم باسم "الهكسوس"‪ ،‬وتكرر األمر فً الدولة الحدٌثة بطردهم ثم عودتهم‬
‫باسم أنهم "أبناء الببلد المفتوحة" حتى سٌطرت عابلة "إرسو" السورٌة على أمور الببلد فً نهاٌة األسرة‬
‫‪ ٔ9‬قبل أن ٌقضً علٌها ست نخت والد رمسٌس الثالث‪.‬‬

‫واختفوا من المشهد حتى ظهروا بعد األسرة ‪ ٕٙ‬ضمن المرتزقة والتجار الذٌن استعانت بهم هذه‬
‫األسرة‪ ،‬واستمروا على هذا الحال أٌام الٌونان والرومان باسم كنعانٌٌن وفٌنٌقٌٌن وآرامٌٌن‪ ،‬وخؾ تواجدهم‬
‫أٌام العرب ألن الكوفة ودمشق وبؽداد أصبحوا العواصم األكثر جاذبٌة فً الفرص‪ ،‬ثم عادوا للهجرة إلى‬
‫مصر أٌام الممالٌك فارٌن من وجه التتار لما هزموهم‪ ،‬وأخذوا فرصتهم أكثر أٌام العثمانلً فشاركوا فً‬
‫نهب مصر أرضا وتجارة وعقارات ومناصب فً القضاء واألزهر‪.‬‬

‫وفً أٌام محمد علً‪ ،‬ظهر نوعٌة جدٌدة من الشوام‪ ،‬هً المتؤوربون‪ ،‬أي من أتوا فً زي أوروبً من‬
‫خرٌجً مدارس اإلرسالٌات التبشٌرٌة وٌتحدثون بؤلسنة أوروبا وعملوا لصالح القناصل األوروبٌة خاصة‬
‫فرنسا ثم برٌطانٌا خبلل االستعانة بهم فً مشارٌع الوالً وأوالده‪.‬‬

‫وإلى جانب التجارة‪ ،‬ر َّكزوا على الثقافة والصحافة والمسرح والسٌنما ونشر المحافل الماسونٌة؛ فكانت‬
‫األنشطة التً برعوا فٌها هً األكثر شبها بؤنشطة وتوجهات الٌهود‪ ،‬ونشر جزء منهم فكرة القومٌة العربٌة‪،‬‬
‫والجزء اآلخر زرع فكر السلفٌٌن واإلخوان المسلمٌن‪.‬‬

‫وحام عدد الشوام أٌام االحتبلل اإلنجلٌزي والجالٌاتً حول ٖٓ ألفا‪ٌ ،‬قل أو ٌزٌد حسب الظروؾ‪ ،‬متفرقٌن فً‬
‫تبعٌتهم بٌن رعاٌا للحكومة المصرٌة أو للسلطنة العثمانٌة أو برٌطانٌا وفرنسا‪.‬‬

‫ومثل ؼٌرهم‪ ،‬تراجع وجود الشوام فً االقتصاد والعدد بعد ثورة ٕ٘‪ ٔ9‬وقرارات التؤمٌم‪ ،‬وإن بقً لهم وجود‬
‫فً السٌنما والؽناء‪ ،‬مع االبتعاد‪ -‬ظاهرٌا‪ -‬عن التدخل فً شبون الببلد؛ نظرا للقبضة القوٌة التً كانت للدولة‬
‫المصرٌة‪ ،‬إال أنه ظل لمثقفٌهم وفنانٌهم سٌطرة فً سحب مصر إلى الفكر العروبً ومؽامراته الفاشلة كما سنرى‪،‬‬
‫واقتنص بعضهم الجنسٌة المصرٌة باستٌطانهم فً مصر أٌام الوحدة المشبومة مع سورٌا‪.‬‬

‫❹ (اإلٌطالٌون)‬

‫منذ رحٌل الرومان (أجداد اإلٌطالٌٌن) عن مصر لم ٌؤتوها إال كتجار أٌام العبٌدٌٌن أو األٌوبٌٌن‪،‬‬

‫ٓ٘٘‬
‫واشتهروا باسم البنادقة‪ ،‬وتركزوا فً اإلسكندرٌة‪ ،‬وكانوا عٌونا لحمبلت الفرنجة "الصلٌبٌة"‪ ،‬واستمروا‬
‫ٌفدون بعدد قلٌل ومتقطع فً ثوب التجار فً العصور البلحقة‪.‬‬

‫أما فرصتهم الذهبٌة فهً االحتبلل اإلنجلٌزي‪ -‬العلوي‪ -‬الجالٌاتً‪ ،‬متمتعٌن بفرص العمل التً فتحتها لهم‬
‫مشارٌع وقصور محمد علً وأوالده‪ ،‬محمٌٌن بمظلة االمتٌازات األجنبٌة‪ ،‬حتى شكلوا ثانً أكبر جالٌة‬
‫أوروبٌة بعد الٌونان‪ ،‬خاصة وأن بلدهم وقتها ٌؽلً من األزمات االقتصادٌة‪.‬‬

‫وزاول اإلٌطالٌون مهن التجارة والصناعات الكهربابٌة والموسٌقى وهندسة المبانً‪ ،‬وبصمات أصابعهم‬
‫الفنٌة فً المبانً الفخمة لذلك العصر‪ ،‬وترددوا فً القصور معلمٌن للموسٌقى أو اإلتٌكٌت واللؽات وخدم‪،‬‬
‫ونشطوا فً العمل السٌاسً والطابفً‪ ،‬مثل نشر الشٌوعٌة فً مصر‪ ،‬وخبلل الحرب العالمٌة الثانٌة انقسموا‬
‫بٌن المعادٌن للفاشٌة أو المإٌدٌن لها الذٌن كانوا ٌتمنون أن تؽزو إٌطالٌا مصر لٌحكمها موسٌلٌنً كما‬
‫حكمها من قبل ٌولٌوس قٌصر(‪ ،)ٔٗٙ8‬وٌتعطشون الستقبال الجنود اإلٌطالٌٌن الذٌن هتفوا والسفن تنقلهم‬
‫لؽزو الحبشة‪" :‬بعد الحبشة سٌؤتً دور مصر"(‪.)ٔٗٙ9‬‬

‫واختلؾ موقؾ اإلٌطالٌٌن من الحركة الوطنٌة فً مصر‪ ،‬ففً حٌن أٌدها بعضهم‪ ،‬خاصة خبلل ثورة‬
‫‪ ٔ9ٔ9‬مثل نادي خرٌجً الجامعات والمدارس اإلٌطالٌة‪ ،‬عادها البعض اآلخر(ٓ‪ ،)ٔٗ9‬بل فقد الموسٌقار‬
‫اإلٌطالً مارانجونً حٌاته فً صدام مع القوات البرٌطانٌة‪ ،‬وخطب إٌطالٌون فً األزهر خبلل ثورة‬
‫‪ ، ٔ9ٔ9‬وذلك ألن منهم شٌوعٌون ضد برٌطانٌا مثل روزنتال أحد مإسسً الحزب االشتراكً فً مصر‪،‬‬
‫ومنهم من كان ؼاضبا من تمٌز البرٌطانٌٌن عن بقٌة الجالٌات األوروبٌة‪ ،‬ففً الواقع ٌعتبروا وقفوا مع‬
‫بلدهم أو مذهبهم ضد برٌطانٌا ولٌس مع مصر‪ ،‬وفً المقابل كان هناك إٌطالٌون مع االحتبلل البرٌطانً‬
‫ضد مصر مثل "الفٌدرالٌٌن اإلٌطالٌٌن(ٔ‪.")ٔٗ9‬‬

‫ومثل بقٌة الجالٌات‪ ،‬تدرب اإلٌطالٌون على حمل السبلح وعمل الملٌشٌات‪ ،‬خاصة وقت الحرب العالمٌة‬
‫الثانٌة‪ ،‬وكؤنهم ٌهٌبون مصر لحروب ومعارك داخلٌة فً حال ما دخل األلمان واإلٌطالٌون لمصر بٌن‬
‫الفرٌق المإٌد لذلك منهم والفرٌق الرافض‪ ،‬وارتدى مناصرو موسٌلٌنً القمصان السوداء‪ ،‬رمز الفاشٌست‪،‬‬
‫وعملوا بها استعراضات حماسٌة فً الشوارع(ٕ‪.)ٔٗ9‬‬

‫وكبقٌة الجالٌات أٌضا‪ ،‬ش َّكل اإلٌطالٌون جمعٌات خاصة بهم ثقافٌة وإعبلمٌة ومدارس خاصة لترسٌخ‬
‫هوٌتهم ومذاهبهم‪ ،‬بما فٌها الهدامة كالشٌوعٌة والفاشٌة‪ ،‬وحٌن شبت الحرب العالمٌة الثانٌة بلػ عدد الجالٌة‬
‫اإلٌطالٌة ما بٌن ٓ‪ 9ٓ-ٙ‬ألفا‪ ،‬اعتمدت فً نفوذها على انتشارها فً النواحً الثقافٌة واالقتصادٌة‪ ،‬إضافة‬

‫(‪)ٔٗٙ8‬‬
‫‪ -‬مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن‪ ،‬محمد جبرٌل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج ٖ‪ ،‬ص ‪78 -7ٙ‬‬
‫*** كل من ذاقوا المجد والثروة خالل احتاللهم لمصر ٌتوقون إلعادة احتاللها‪ ،‬وتكتلهم فٌها باسم جالٌات أو استثمارات خطوة فً هذا الطرٌق‪.‬‬
‫(‪)ٔٗٙ9‬‬
‫‪ -‬حقٌقة االنقبلب األخٌر فً مصر‪ ،‬رشدي البراوي‪ ،‬مكتبة النهضة المصرٌة‪ ،‬ط ٕ‪ ،ٔ9ٕ٘ ،‬ص ‪ٔ٘8‬‬
‫(ٓ‪)ٔٗ9‬‬
‫‪ -‬مصر والحرب العالمٌة الثانٌة‪ ،‬محمد جمال الدٌن المسدي‪ٌ ،‬ونان لبٌب رزق‪ ،‬عبد العظٌم رمضان‪ ،‬مركز الدراسات السٌاسٌة واالستراتٌجٌة‬
‫باألهرام‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪9ٙ‬‬
‫(ٔ‪)ٔٗ9‬‬
‫‪-‬انظر‪ :‬األجانب فً مصر ٕٕ‪ ٔ9ٕ٘ -ٔ9‬دراسة فً تارٌخ مصر االجتماعً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٗٔ‪ٔٗٗ -‬‬
‫(ٕ‪)ٔٗ9‬‬
‫‪ -‬مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج ٖ‪ ،‬ص ‪98 -99‬‬

‫ٔ٘٘‬
‫لوجود أذرع لها داخل القصر الحاكم‪ ،‬حٌث كانت جزءا هاما من الحاشٌة التً تحٌط بالملك فاروق‪ ،‬مثل‬
‫أنطون بوللً‪ ،‬وكانوتشً(ٖ‪.)ٔٗ9‬‬

‫وتصدر اإلٌطالٌون مع الٌونانٌٌن واألرمن نسبة األجانب المتورطٌن فً نشر الجرٌمة فً مصر‪ ،‬خاصة‬
‫الجرابم الكبرى كالمخدرات والدعارة وتزٌٌؾ العملة والقمار والؽش التجاري‪ ،‬وتمٌزوا مثل الٌونانٌٌن‬
‫بالتواجد فً الرٌؾ والحواري على شكل محبلت بقالة‪ ،‬ما ٌسهل لهم التعرؾ على أحوال الناس وٌكون لهم‬
‫فً كل مكان عٌون‪ ،‬والتسوٌق لبضابعهم المشروعة أو الفاسدة (كالخمر والقمار والربا) فً كل مكان‪.‬‬

‫❺ (األرمن)‬

‫عرفت مصر األرمن خبلل االحتبلل العبٌدي (الفاطمً) قادمٌن من الشام لما استعان بهم العبٌدٌون‬
‫كمرتزقة فً جٌشهم ضد المؽاربة والترك والسودانٌٌن‪ ،‬وتراجع وجودهم وقت االحتبلل المملوكً الذي‬
‫كان الجٌش فٌه مكونا من الممالٌك المجلوبٌن من بطون آسٌا وشرق أوروبا‪.‬‬

‫ثم عبل نجمهم مرة أخرى وتوافدوا على مصر أٌام محمد علً ضمن الخبرات األجنبٌة التً استعان بها فً‬
‫مشروعاته‪ ،‬ومنهم ٌوسؾ بوؼوص الذي صار ربٌسا لدٌوان التجارة‪ ،‬وٌعقوب آرتٌن‪ ،‬ورفع شؤنهم الخدٌوي‬
‫إسماعٌل بؤن جعلوا من أحدهم‪ ،‬وهو نوبار‪ ،‬أول ربٌس وزراء فً تارٌخ مصر الحدٌث مدعوما من برٌطانٌا‬
‫التً ساعدها فً احتبلل مصر اقتصادٌا ثم سٌاسٌا وعسكرٌا‪.‬‬

‫وخبلل الحرب العالمٌة األولى هبطت على مصر موجة جدٌدة هم الفارون من معارك العثمانلٌة‪ ،‬واستقبلهم‬
‫بنو جلدتهم المقٌمٌن فً مصر وهٌؤوا لهم سبل المعٌشة‪ ،‬وأكرمتهم الحكومة كبلجبٌن فً الوقت الذي كان أهل‬
‫الببلد ٌعانون من النهب المنظم والتش رد على ٌد الجٌش البرٌطانً وبقٌة الجالٌات بما فٌها األرمن القدامى‪ ،‬فكان‬
‫مشهد من أسخؾ مشاهد التارٌخ‪ ،‬المصرٌون ٌسوقهم الجٌش البرٌطانً كعمال سخرة ورابه فً الشام وأوروبا‬
‫والعراق لٌساعدوه فً الحرب‪ ،‬ومن ٌفر من السخرة ٌتشرد من قرٌة لقرٌة‪ ،‬وإذا عثر علٌه ٌحترق ظهره جلدا أو‬
‫ٌُحبس أو ٌقٌد لٌلقى به فً السخرة‪ ،‬فً حٌن أهالً الببلد المشتعلة فٌها الحرب ٌؤتون لمصر وتستقبلهم الحكومة‬
‫والجالٌات مكرمٌن آمنٌن وٌنزع لهم المال من عروق المصرٌٌن باسم "تبرعات"‪.‬‬

‫ورؼم هذا اإلكرام انضم أرمن إلى االحتبلل البرٌطانً فً محاولة قمع ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬مقابل مكافآت مالٌة‪،‬‬
‫ألنهم كانوا ٌرون أن برٌطانٌا هً مصدر حماٌتهم وضمان بقابهم‪ ،‬وأطلق بعضهم الرصاص على المتظاهرٌن‬
‫المصرٌٌن؛ فرد متظاهرون بالهجوم على محبلت ومنازل من وصفوهم بـ"ناكري الجمٌل"(ٗ‪.)ٔٗ9‬‬

‫ؼٌر أن آخرون سعوا للتخفٌؾ من حدة الوضع بإظهار التضامن مع الحركة الوطنٌة‪ ،‬حتى أن بعضهم شارك‬

‫(ٖ‪)ٔٗ9‬‬
‫‪ -‬مصر والحرب العالمٌة الثانٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘‪9ٙ -9‬‬
‫(ٗ‪)ٔٗ9‬‬
‫‪ -‬مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج ٕ‪ ،‬ص ‪ٕٓ9‬‬

‫ٕ٘٘‬
‫فً استقبال سعد زؼلول حٌن عاد من المنفى‪ ،‬وأسسوا "االتحاد القومً لؤلرمن المصرٌٌن"(٘‪.)ٔٗ9‬‬

‫وكالٌونانٌٌن‪ ،‬عملوا فً كل المجاالت‪ ،‬من المهن البسٌطة وحتى المناصب الحكومٌة الكبٌرة‪،‬‬
‫ضخمت ثرواتهم‪ ،‬ومهروا فً صناعات‪ ،‬وعملوا بالسٌنما والؽناء‬ ‫َّ‬ ‫واالستحواذ على التوكٌبلت التجارٌة التً‬
‫والرقص وبٌوت الدعارة والمقار والخمور‪ ،‬ونشروا أنواع جدٌدة من المخدرات كالهٌروٌٌن‪.‬‬

‫والشؽل الشاؼل لهم هو ما ٌسمونه بـ"قضٌة األرمن"(‪ ،)ٔٗ9ٙ‬ورؼم انتهاء أزمة ببلدهم "أرمٌنٌا" منذ‬
‫سنوات طوٌلة إال أن بعضهم باقون فً مصر‪ ،‬وحرٌصون على استمرار كونهم عرق مختلؾ عن‬
‫المصرٌٌن فً ثقافتهم وطرٌقة معٌشتهم وأسماءهم وٌحتفظون بلؽتهم وٌورثون هذا لؤلجٌال‪ ،‬ولهم نوادٌهم‪،‬‬
‫مثل "چوچانٌان" و"هوسابٌر"‪ ،‬ومدارسهم وكنابسهم ووسابل إعبلمهم الخاصة بلؽتهم مثل "أرٌؾ"‬
‫و"هوسابٌر"(‪ ،)ٔٗ99‬مما ٌساهم فً تجزبة سكان مصر ووالءاتهم‪ ،‬وبات ٌحسبهم البعض على المصرٌٌن‬
‫لكن كطابفة‪ ،‬فٌُقال طابفة األرمن المصرٌٌن (فٌما صفة مصري الحقٌقٌة ال تقبل شرٌك بجانبها) فتتحول‬
‫مصر مع الوقت لبلد "طوابؾ وأعراق" توسع الشروخ و"البعكشة" فً الجسد المصري الواحد‪ ،‬خاصة وأن‬
‫منهم من بات ٌلتحق بالجٌش كجنود بعد حصولهم على الجنسٌة المصرٌة‪ ،‬فٌها والءهم باقً ألرمٌنٌا‪.‬‬

‫وٌشكو األرمن من أنهم تعرضوا إلبادة على ٌد العثمانٌٌن‪ -‬وحولها جدل‪ -‬وفً نفس الوقت ٌمارسون هم‬
‫جرٌمة اإلبادة للهوٌة المصرٌة‪ ،‬فؤي جالٌة أجنبٌة تؤتً لمصر وتعتزم االستٌطان الدابم بها وال تصبح‬
‫مصرٌة ظاهرا وباطنا‪ ،‬وتحتفظ باسم خاص بها وهوٌة ولؽة وقضٌة خاصة بها هً تساهم فً تبدٌل هوٌة‬
‫مصر وتجزبتها‪ ،‬بمحو مساحة من هذه الهوٌة وتعببتها بلون وطابفة دخٌلة‪ ،‬فتصبح مصر كالثوب المرقع‪،‬‬
‫مختلؾ االنتماءات‪ ،‬مكون من طوابؾ متصارعة‪ ،‬المصرٌون بٌنها مجرد "مكون" من "المكونات"‪ ،‬وهذا‬
‫سٌظهر خطره بوضوح إذا ما سقطت الحكومة المصرٌة الخالصة ٌوما ما‪ ،‬وإعادة توزٌع األدوار والمؽانم‬
‫كما حدث فً مصر أٌام االحتبلالت‪ ،‬وٌحدث فً سورٌا والعراق حالٌا‪ ،‬ووقتها لن تكون سقطة مصر‬
‫كالسقطات السابقة‪ ..‬هذه المرة إبادة‪.‬‬

‫❻ (األتراك)‬

‫عرفت مصر األتراك ألول مرة على ٌد الخبلفة العباسٌة أٌام أحمد بن طولون‪ ،‬وازدادوا كمرتزقة أٌام‬
‫العبٌدٌٌن واألٌوبٌٌن والممالٌك‪ ،‬حتى احتلوا بنً عثمان مصر‪ ،‬وفً عصر محمد علً وأوالده استمر‬
‫االستعانة بممالٌك أتراك وشركس حتى أٌام إسماعٌل‪ ،‬وتولت العاببلت التركٌة المناصب الهامة فً الببلد‬
‫بالمشاركة مع األرمن والٌونان من الموصوفٌن بالرعاٌا العثمانلٌة‪.‬‬

‫(٘‪)ٔٗ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٗ8‬‬
‫(‪)ٔٗ7ٙ‬‬
‫‪ -‬قضٌة األرمن تتعلق بمذابح قال األرمن إن العثمانٌٌن ارتكبوها ضدهم خالل الحرب العالمٌة األولى‪ ،‬ورؼم أن تارٌخ العثمانٌٌن ملا بالمذابح‬
‫ضد المصرٌٌن والشوام والعراقٌٌن أٌضا‪ ،‬إال أن اهتمام األرمن بإحٌاء الحدٌث عن المذابح التً تعرضوا لها سنوٌا‪ ،‬واستخدامهم لألرمن‬
‫المتواجدٌن حول العالم بمثابة شبكة عالمٌة تضؽط على حكومات الدول ال متواجدٌن فٌها لالعتراؾ بؤن ما حدث لهم جرٌمة إبادة جعل مذبحتهم هً‬
‫الظاهرة عما سواها‪ ،‬وٌتخذونها وسٌلة لتعاطؾ العالم معهم‪ ،‬وقبول استمرار استٌطانهم فً بالد معٌنة منها مصر‪ ،‬وتوحٌد األرمن فً العالم مثلما‬
‫ٌفعل الٌهود بما ٌسمونها الهولوكوست‪.‬‬
‫(‪)ٔٗ99‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬األرمن فً مصر‪ ،‬شٌري عبد المسٌح‪ ،‬تحقٌق صحفً بجرٌدة "وطنً"‪ٕٓٔ٘ -ٗ -ٕٗ ،‬‬

‫ٖ٘٘‬
‫وظل هإالء فبة منفصلة عن المصرٌٌن كالماء والزٌت‪ ،‬تنظر لهم بتعالً أحمق‪ ،‬وتعتبر كلمة "فبلح"‬
‫شتٌمة ولٌس أنه صاحب الفضل علٌها والوحٌد صاحب األصل العرٌق فً البلد‪ ،‬فٌما ٌنظر لهم الفبلح على‬
‫أنهم "ال ُؽز" األؼراب ؼبلظ األكباد‪ ،‬حتى عبل نجم بعض المصرٌٌن وتقلدوا وظابؾ علٌا وأصبحوا من‬
‫ذوات األمبلك‪ ،‬فكان الحكام ٌزوجونهم بتركٌات وشركسٌات لٌتطبعوا بالثقافة التركٌة وتنتقل أموالهم‬
‫لؤلتراك بالمٌراث‪ ،‬وال ٌنقلون الطابع المصري الوطنً لئلدارة‪.‬‬

‫وتراجع التدفق التركً على مصر بعد عصر إسماعٌل الذي أوقؾ جلب ممالٌك جدد بعد آخر دفعة‬
‫جلبها من الشركس‪ ،‬وانحسر طابع الحٌاة التركٌة فً عابلة محمد علً وعاببلت تركٌة أو مهجنة(‪.)ٔٗ98‬‬

‫ورؼم زوال االحتبلل العثمانلً عن مصر ٗٔ‪ ٔ9‬إال أن العاببلت العثمانلٌة ظل لها حظوة فً مناصب‬
‫البرلمان والوزارة والجٌش حتى الثبلثٌنات بسبب احتفاظهم بالنفوذ واألراضً التً تملكوها بموجب قوانٌن‬
‫عٌلة محمد علً‪ ،‬وحتى لما نصَّ دستور ٖٕ‪ ٔ9‬تحت ضؽط مبدأ ثورة ‪" ٔ9ٔ9‬مصر للمصرٌٌن" على أن‬
‫ٌنحصر تقلد المناصب فً المصرٌٌن‪ ،‬اقتنص األتراك المناصب بحصولهم على الجنسٌة المصرٌة بالقوانٌن‬
‫المشبومة مثل عابلة أحمد زٌور باشا وعدلً ٌكن باشا وحسٌن رشدي وؼٌرهم‪.‬‬

‫وفٌما ذابت قلة منهم بٌن المصرٌٌن وصاروا منهم‪ ،‬ظل آخرون‪ -‬حتى اآلن‪ -‬لم ٌندمجوا إال بورقة‬
‫الجنسٌة‪ٌ ،‬تباهون بؤصولهم وتارٌخ وأسامً عاببلتهم التركٌة رؼم سوء سمعة هذه األصول وما جلبته على‬
‫مصر من رزاٌا وهمجٌة وسفك للدماء‪.‬‬

‫فً نفس الوقت اتجهت عاببلت تركٌة افتقرت بسبب الدٌون أو ألي سبب آخر إلى الزواج بفبلحٌن أثرٌاء‬
‫بداٌة من العمد وحتى الباشوات المصرٌٌن لبلستفادة من ثرواتهم‪.‬‬

‫وعبرت عن ذلك أفبلم مثل "ابن الحداد" لٌوسؾ وهبً (إنتاج ٗٗ‪ )ٔ9‬وفٌه تزوجت أسرة تركٌة أوشكت على‬
‫اإلفبلس من مصري كوَّ ن ثروة كبٌرة من ورشة الحدادة حتى أصبح صاحب مصنع للحدٌد والصلب‪ ،‬وظلت فترة‬
‫"تتعنظز" علٌه وعلى أهله بعد الزواج منه‪ ،‬وأٌضا مسلسل "الشهد والدموع" للكاتب أسامة أنور عكاشة بزواج‬
‫دولت بنت العابلة التركٌة بحافظ الفبلح ألن أبٌه صار حلوانٌا ؼنٌا‪ ،‬وكؤنها "صفقات" ؼٌر معلنة‪ٌ ،‬ؤخذ التركً‬
‫المال والمركز مقابل أن ٌستفٌد الفبلح بالصٌت الذي كان لؤلتراك وٌفرح بكلمة "اتجوز بنت باشوات"؛ فظل‬
‫األتراك ٌكسبون من المصرٌٌن طوال الوقت‪ ،‬سواء بالسبلح فً زمن االحتبلل العثمانلً أو بالزواج والجنسٌة‬
‫المصرٌة والمٌراث بعد زواله‪ ،‬ولم ٌتم عقابهم على ما فعلوه بمصر من نهب وإذالل واؼتصاب وكرابٌج ومذابح‪.‬‬

‫أما إن كان المصري فقٌرا فٌرفضون أن ٌقترب منهم‪ ،‬مثلما صرخ شوكت باشا (زكً رستم) فً وجه أنور‬
‫العامل الفقٌر (أنور و جدي) حٌن دافع عن زواجه من لٌلى (لٌلى مراد) حفٌدة الباشا التركً ورفض إرجاعها‬
‫لجدها‪ ،‬وقال له‪" :‬دي مراتً"‪ ،‬فرد الباشا بعنؾ‪" :‬اخرس ٌا كلب‪ ،‬أوعى تقول الكلمة دي تانً‪ ،‬إنت مٌن علشان‬
‫تتجوز لٌلى حفٌدة شوكت باشا السنجهدار بن عاصم باشا؟!" (بنت األكابر إنتاج ٖ٘‪.)ٔ9‬‬

‫(‪)ٔٗ98‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬كبار المبلك والفبلحٌن من ‪ ،ٔ9ٕ٘ -ٔ8ٖ9‬رءوؾ عباس وعاصم الدسوقً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓٓٔ‪ٕٔٓ -‬‬

‫ٗ٘٘‬
‫وا لمتوقع أن أبطال الفٌلم بدال من أن ٌردوا علٌه كما ورد بكبلم من عٌنة أن الناس سواسٌة واألخبلق هً‬
‫الفٌصل أن ٌكسروا ؼطرسته بقولهم‪" :‬على أساس تتكبر على المصرٌٌن‪ ،‬إنت ما تعرفش مصدر الثروة اللً‬
‫بتعاٌرنا بٌها إٌه وال أجدادك جاٌٌن منٌن وعملوا فً مصر إٌه؟"‪ ..‬وٌجعل الذٌن ما زالوا ٌتباهون علٌها بؤصول‬
‫أجنبٌة احتبللٌة ٌفوقوا‪ ،‬فإما ٌعٌشوا مصرٌٌن ال ٌعتزون إال بمصر وفبلحها وأرضها وأصلها وأهلها‪ ،‬وإما‬
‫ٌعودوا إلى الببلد التً ٌتباهون بها‪ ،‬لكن خلت األفبلم المصرٌة وقتها من هذا الرد التارٌخً الذي ٌعٌد لمصر ذرة‬
‫من حقها بسبب قوانٌن رقابة السٌنما الصادرة ‪ ٔ9ٗ9‬ونصت على"عدم التعرٌض باأللقاب أو الرتب أو‬
‫النٌاشٌن"‪ ،‬وعدم التعرٌض بالوزراء والباشوات ومن فً حكمهم ورجال القانون والدٌن واألطباء ورجال‬
‫الجٌش والبولٌس(‪ ،)ٔٗ99‬وكثٌر من هإالء كانوا من عاببلت تركٌة ومملوكٌة‪.‬‬

‫وحتى الخمسٌنات ظل بعضهم متمسكا بلؽته القدٌمة وٌفضح أصلهم التركً لهجتهم(ٓ‪ ،)ٔٗ8‬أما عددهم‬
‫ففً ذروة نفوذهم فً مصر لم ٌتعدَ ٖٓ ألفا من األتراك والرعاٌا العثمانٌٌن من دول أخرى‪.‬‬

‫❼ (العربان)‬

‫كلمة عربان تطلق حتى أول القرن ٕٓ على القباٌل البدوٌة والعربٌة والبربرٌة القادمة من الجزٌرة‬
‫العربٌة والشام شرقا أو من نواحً لٌبٌا ؼربا‪ ،‬واحتفظوا بعاداتهم وتقالٌدهم وؼاراتهم وؼلظتهم‪.‬‬

‫وتارٌخ مصر ملا بمحاوالت الؽزو القبلً لمصر من الجهتٌن كما تابعنا فً الفصول السابقة‪ ،‬وكان‬
‫الجٌش المصري ٌصدها ذات الٌمٌن وذات الٌسار‪ ،‬وال تنجح فً االستٌطان على األطراؾ إال فً أوقات‬
‫الؽفلة المصرٌة القاتلة‪ ،‬ثم تعود مصر لتطردها‪ ،‬حتى جاء االحتبلل الٌونانً الذي أتاح لقبابل عربٌة وشامٌة‬
‫االستٌطان باطمبنان على أطراؾ الوجه القبلً قرب البحر األحمر وأطراؾ محافظة الشرقٌة لٌخدموا‬
‫حركة التجارة الدولٌة ما بٌن الهند وجزٌرة العرب والبحر المتوسط والشام‪.‬‬

‫وجاء عدد محدود من بطون القبابل مع الؽزو العربً وبعده‪ ،‬وزوال الحكم العربً وتراجع سلطانهم‬
‫ذابت قلة منهم وسط المصرٌٌن فٌما ظلت البقٌة محافظة على تورٌث أصولها األجنبٌة ألبنابها لٌظلوا‬
‫منفصلٌن عن الفبلحٌن فً الروح والمكان‪ ،‬وحاصدٌن للمزاٌا التً ٌوفرها المحتلون لؽٌر المصرٌٌن‪،‬‬
‫وٌستقوون على الفبلحٌن ببلطجة السبلح‪ ،‬وأذاقوهم كل ألوان العذاب فً األرض والرزق والعرض‪ ،‬خاصة‬
‫أٌام الممالٌك والعثمانلٌة‪ ،‬وسلمتهم أسرة محمد علً أراضً والتزامات مقابل الكؾ عن السلب والنهب‪،‬‬
‫فصاروا من كبار متملكً األراضً وأصحاب سطوة فً مناطق استٌطانهم وبعضهم انخرط فً المناصب‬
‫الحكومٌة مثل عاببلت محمد سلطان وأباظة ومحمد محمود وعبد الرحمن عزام‪.‬‬

‫واختلؾ عددهم فً اإلحصاءات بحسب ظروفهم فً االستقرار أو الترحل‪ ،‬وبحسب قبول الحكومة لهم‬
‫فً أوقات طردهم فً أوقات‪ ،‬وقدم تعداد ‪ ٔ9ٓ9‬أكبر رقم لهم من مقٌمٌن ورحل‪ ،‬ودار حول ٓٓ‪ٙ‬‬

‫(‪)ٔٗ99‬‬
‫‪ -‬السٌنما والدولة فً الوطن العربً"‪ ،‬سمٌر فرٌد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔٓٙ‬‬
‫(ٓ‪)ٔٗ8‬‬
‫‪ -‬مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج ٖ‪ ،‬ص ٗ‪ٙ‬‬

‫٘٘٘‬
‫ألؾ(ٔ‪ ،)ٔٗ8‬وظلوا‪ -‬كبقٌة األجانب‪ -‬فبة خاصة لٌست محسوبة على المصرٌٌن‪ ،‬وٌُدرجوا فً إحصاءات‬
‫السكان بشكل منفصل حتى نهاٌة القرن ‪ ٔ9‬وأوابل القرن العشرٌن(ٕ‪ ،)ٔٗ8‬فبحسب قوانٌن الجنسٌة الصادرة فً‬
‫ذلك التوقٌت اعتبرهم القانون مصرٌٌن‪ ،‬ونفضوا بعضهم عن كاهله البداوة والعنؾ‪ ،‬وإن ظل بعضهم ٌُفاخر‬
‫بؤصوله القبلٌة األجنبٌة حتى الٌوم‪ ،‬متعالٌا على الهوٌة المصرٌة العرٌقة التً فً أرضها أصبح ذا شؤن بعد حٌاة‬
‫التشرد والسطو والجاهلٌة‪.‬‬

‫❽ (الفرنسٌس)‬

‫للفرنسٌس دور حٌوي فً إرسال حمبلت الفرنجة "الصلٌبٌة" على مصر‪ ،‬ورؼم فشلها ظلت شرارات‬
‫الطمع تصوب من أعٌنهم على مصر؛ فكونوا جالٌة بها مع بداٌة االحتبلل العثمانلً من عشرات التجار‬
‫تسكن حً اإلفرنج بالقاهرة والوكاالت باإلسكندرٌة‪ ،‬إضافة لنشاطهم اللحوح كإرسالٌات تبشٌرٌة‬
‫(كاثولٌكٌة) ورحبلت المستشرقٌن التً قامت بدور المخابرات فً نقل أخبار مصر لبارٌس حتى ؼرست‬
‫الحملة الفرنسٌة أسنانها فً مصر‪ ،‬ورؼم رحٌلها تركت أقدامها فً مصر من علماء وضباط أؼروا محمد‬
‫علً باالستعانة بهم لتنفٌذ المشارٌع التً لم ٌطل بالحملة الوقت لتنفٌذها‪ ،‬فساهموا فً تحدٌث الجٌش والطب‬
‫والهندسة ونظم الري وإدخال صناعة الصحؾ‪ ،‬وصبؽوا بعض عمارة القاهرة وقصورها بلونهم(ٖ‪.)ٔٗ8‬‬

‫ووصل شؽؾ الفرنسٌس أن النساء فً فرنسا بداٌة القرن ‪ ٔ9‬ارتدوا وزرات (قطعة قماش ملفوفة حول‬
‫الوسط) مكتوب علٌها "العودة إلى مصر"(ٗ‪ ،)ٔٗ8‬ضمن الشؽؾ بالحضارة المصرٌة والرؼبة فً إعادة‬
‫االحتبلل الرومانً لها‪.‬‬

‫ورؼم أن االحتبلل العسكري لمصر بداٌة من ٕ‪ ٔ88‬إنجلٌزي‪ ،‬إال أن االحتبلل الثقافً كان فرنسٌا‪،‬‬
‫فالعاببلت الؽنٌة تتطبع بالحٌاة الفرنسٌة فً المبلبس وعادات الطعام والشراب وحتى الكبلم والتحٌات‬
‫(بونجور‪ ،‬بنسورا‪ ،‬أورٌفورا‪ ،‬باردون‪ ،‬مٌرسً إلخ)‪ ،‬واألهم هو االنجذاب لؤلفكار التحررٌة التً نشرتها‬
‫الثورة الفرنسٌة خبلل المحافل الماسونٌة والصالونات أو بتعلم أبناء األؼنٌاء والبعثات فً جامعات فرنسا‪.‬‬

‫واهتم الفرنسٌس اهتماما خاصا باآلثار‪ -‬امتدادا للنشاط الماسونً فً هذا األمر‪ -‬فكثرت بعثاتهم التنقٌبٌة‬
‫وساهموا فً تؤسٌس المتحؾ المصري‪ ،‬وسعوا مع اإلنجلٌز بكل الطرق لمنع سٌطرة المصرٌٌن علٌه‬
‫لٌظلوا محتكرٌن لعلم المصرٌات(٘‪ ،)ٔٗ8‬واهتمو بالتعلٌم لنشر ثقافتهم عبر مدارس الراهبات واإلرسالٌات‪،‬‬
‫وركزوا فً تجارتهم على الرهونات والبنوك واالستثمار العقاري كما فعل الٌهود والبرٌطان والٌونان‬
‫لكونها األنشطة األكثر نزحا لجٌوب المصرٌٌن‪ ،‬واألسرع طرٌقا لوضع الٌد على أمبلكهم‪.‬‬

‫(ٔ‪)ٔٗ8‬‬
‫‪ -‬تعداد سكان القطر المصري فً سنة ٕٖ٘ٔ ه‪ -‬سنة ‪ ٔ9ٓ9‬م‪ ،‬نظارة المالٌة‪ ،‬المطبعة األمٌرٌة‪ ،ٔ9ٓ9 ،‬مودع بدار الكتب‬
‫(ٕ‪)ٔٗ8‬‬
‫‪ -‬كبار مبلك األراضً الزراعٌة ودورهم فً المجتمع المصري (ٗٔ‪ ،)ٔ9ٕ٘ -ٔ9‬عاصم الدسوقً‪ ،‬دار الثقافة الجدٌدة‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ99٘ ،‬ص‬
‫‪ٕ9 -ٕ8‬‬
‫(ٖ‪)ٔٗ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الجالٌة الفرنسٌة فً مصر (ٕ‪ ،)ٔ9٘ٙ -ٔ88‬نورٌس محمد سٌؾ الدٌن‪ ،‬دار الكتب والوثابق القومٌة‪ ،‬ص ‪ٕٔ -ٔ9‬‬
‫(ٗ‪)ٔٗ8‬‬
‫‪ -‬الماسونٌة والماسون فً مصر ‪ ،ٔ9ٙٗ -ٔ998‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٗ٘‬
‫(٘‪)ٔٗ8‬‬
‫‪-‬انظر‪ :‬تؤسٌس المدرسة الوطنٌة لعلم المصرٌات‪ ،‬وابل إبراهٌم الدسوقً‪ ،‬موقع األهرام‪ -‬بوابة الحضارات‪ٕٓٔٙ -9 -ٖٔ ،‬‬

‫‪٘٘ٙ‬‬
‫وصل أكبر عدد للفرنسٌس إلى ٕٗ‪ ٕ٘ -‬ألؾ شخص فً تعداد ‪ ٔ9ٕ9‬ثم بدأ فً التناقص كؽٌرهم(‪،)ٔٗ8ٙ‬‬
‫وجاهروا بتؤٌٌدهم لدول الحلفاء التً تضم بلدهم فرنسا‪ ،‬واستؽلوا أموالهم وإعبلمهم لتنفٌذ تنفٌذ تعلٌمات‬
‫فرنسا لهم داخل مصر‪ ،‬فكونوا "الفرقة الفرنسٌة المحاربة فً الشرق"‪ ،‬وأنشؤت فروعا لها فً المدن‬
‫المصرٌة الكبرى(‪ )ٔٗ89‬التً تحولت لساحة ملٌشٌات على جمرة ساخنة‪ ،‬وكافة الجالٌات األجنبٌة مسلحة‪،‬‬
‫تنتظر ساعة الصفر لتفجر معاركها مع خصومها‪.‬‬

‫❾(اإلنجلٌز)‬

‫ظهروا كجالٌة مع االحتبلل العثمانلً معتمدٌن على االمتٌازات األجنبٌة التً أخذوها منه فً القرن ‪ ٔٙ‬لتفتح‬
‫حركة التجارة‪ ،‬ولكن ظل عددها دون العشرات لشدة المعاملة التً ٌلقونها من الممالٌك والسكان عامة‪ ،‬فلم تكن‬
‫صورة اإلفرنج الؽزاة فً الحمبلت "الصلٌبٌة" ؼادرت األذهان بعد‪ ،‬حتى جاء محمد علً كمكسب ؼٌر متوقع‬
‫لهم فً ترحٌبه باألوروبٌٌن ومعاقبة من ٌسًء لهم‪ ،‬حتى سموه "حامً حمى األجانب ضد التعصب‬
‫األعمى"(‪ -)ٔٗ88‬كعادتهم فً تفخٌم الحكام الذٌن ٌفضلونهم على أهل البلد‪ -‬وبعثت إنجلترا اإلرسالٌات اإلنجلٌزٌة‬
‫البروتستانتٌة "اإلنجٌلٌة"‪ ،‬ودف عت بنوك روتشٌلد وإخوانه المسٌطرة على الحكومة اإلنجلٌزٌة رجال األعمال‬
‫والمرابٌن إلى مصر للعمل فً البنوك وشراء األراضً‪ ،‬ونهب اآلثار وإؼراء إسماعٌل بالمشارٌع والقروض‬
‫وتمكٌن جالٌات أخرى بعٌنها كالٌهود والشوام‪.‬‬

‫وعلى ٌد الجالٌة جرى اؼتٌال صناعات مصرٌة ممٌزة كالمنسوجات بمعاهدة "بلطة لٌمان" التً أبرمتها‬
‫إنجلترا سنة ‪ ٔ8ٖ8‬مع العثمانلٌة‪ ،‬فمنحت المعاهدة البرٌطانٌٌن إدخال بضابعهم ولو على حساب المنتج‬
‫المصري‪ ،‬والتعامل المباشر مع التجار المحلٌٌن‪ ،‬وعدم دفع رسوم جمركٌة مما جعل البضابع اإلنجلٌزٌة أرخص‬
‫من المصرٌة‪ ،‬ومع االحتبلل اإلنجلٌزي تملكت الجالٌة مكابس ومحالج القطن لتصدٌر منتجاته بؤرخص األسعار‬
‫لمصانع برٌطانٌا(‪ ، )ٔٗ89‬وساهمت فً تحسٌن زراعة قصب السكر وإنتاج السكر وزراعة القطن ومشارٌع الري‪،‬‬
‫أما الصناعات التً تنافس االقتصاد البرٌطانً كالؽزل والنسٌج فوقفت لها بالمرصاد‪.‬‬

‫كذلك كان لهذه الجالٌة‪ -‬إضافة للجالٌات األخرى‪ -‬دورها الملحوظ فً نزح اآلثار المصرٌة بؤسالٌب جدٌدة‬
‫تحت اسم "البحث العلمً" إلى الخارج لتكوٌن المتاحؾ األوروبٌة الشهٌرة حالٌا‪ ،‬كما سٌرد ذكره فً محله‪.‬‬

‫ورؼم قلة عددهم لكنهم أصبحوا من أكثر الجالٌات انتشارا فً ربوع مصر لكثرة أنشطتهم التجارٌة‬
‫وسٌطرتهم على المناصب الحكومٌة فً الوزارات والشركات والموانا والمدارس وتملكهم عزب وأراضً‪،‬‬
‫فانتشروا فً القاهرة واإلسكندرٌة ومدن القناة واألقصر والقلٌوبٌة‪ ،‬ومعظمهم ٌعٌشٌون فً شبه عزلة ال‬
‫ٌختلطون باأل هالً إال قلٌبل؛ فالبرٌطانً ال ٌؤنس إال بؤبناء جنسه‪ ،‬وٌسكنون أحٌاء خاصة تظهر فٌها الفروق‬

‫(‪)ٔٗ8ٙ‬‬
‫‪ -‬الجالٌة الفرنسٌة فً مصر (ٕ‪ ،)ٔ9٘ٙ -ٔ88‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٗ‬
‫(‪)ٔٗ89‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن‪ ،‬محمد جبرٌل‪ ،‬ج ٖ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓ‪8‬‬
‫(‪)ٔٗ88‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الجالٌة البرٌطانٌة فً مصر (٘ٓ‪ ،)ٔ88ٕ -ٔ8‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘ٔ‪ ٗ8-‬و‪٘ٙ‬‬
‫(‪)ٔٗ89‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ 98‬و‪ ٖٔ9‬ؤٕٔ‬

‫‪٘٘7‬‬
‫الطبقٌة بٌن أؼنٌابهم وفقرابهم‪ ،‬وٌمتازون بمساعدة بعضهم فً توفٌر الفرص(ٓ‪.)ٔٗ9‬‬

‫وخبلل مقاومة المصرٌٌن للنفوذ البرٌطانً‪ ،‬كما حدث فً ٔ‪ ٔ88‬و‪ ،ٔ9ٔ9‬سعت الصحافة البرٌطانٌة‬
‫الصادرة فً مصر مثل "إٌجٌبشٌان جازٌت" فً تضلٌل الرأي العام بوصؾ المصرٌٌن بؤنهم عنصرٌٌن‪،‬‬
‫وأن دافعهم لرفض البرٌطانٌٌن هو "التعصب الدٌنً"‪ ،‬ولٌس الدافع الوطنً(ٔ‪ ،)ٔٗ9‬وهً تهمة"عصرٌة"‬
‫معتادة اخترعتها أوروبا‪ -‬أو محافلها "النارٌة" ضد من ٌرفض سٌطرة األجنبً‪.‬‬

‫❿ (السودانٌون)‬

‫طول التارٌخ وحتى القرن ‪ ٔ9‬فإن كلمة السودان ال تعنى البلد الذي نعرفه بحدوده الحالٌة جنوب مصر‪،‬‬
‫لكنه ٌعنً القباٌل السود من السودانٌٌن الحالٌٌن والحبش والزنوج واألرٌترٌٌن والصومالٌٌن وكل األفارقة‬
‫من بعد الشبلل الثانً للنٌل بعد الحدود المصرٌة الجنوبٌة‪.‬‬

‫وتطلق علٌهم المراجع التارٌخٌة األجنبٌة كلمة "السود"‪ ،‬أو "العبٌد"‪ ،‬وأخرى "األثٌوبٌٌن" وأخرى‬
‫توسعت فً كلمة النوبٌٌن لتشمل كل هإالء أٌضا ولٌس النوبة بمعناها الذي نعرفه كمصرٌٌن اآلن وهً‬
‫التً بٌن الشبللٌن األول والثانً‪.‬‬

‫أما مصر فسمتهم فً تارٌخها القدٌم "كاش"‪ ،‬أو "كوش" وهم الشعوب التً تعٌش ما بعد الشبلل الثانً‪،‬‬
‫أما النوبة فً أسوان فسماها المصرٌون "الواوات" و"بانحسً" وهً ضمن الحدود المصرٌة‪ ،‬وكان‬
‫الكوشٌون فً حالة عدوان دابم على الحدود المصرٌة بؽزواتهم اللحوحة وسبلحهم الشهٌر (السهام)‪ ،‬ؼٌر‬
‫أنه فً معظم أزمنة الحكم المصري القدٌم كانت الؽلبة لنا فً ردهم خاببٌن‪ ،‬ووضع سنوسرت الثالث فً‬
‫األسرة ٕٔ حدودا محصنة لمصر مع كوش عند الشبلل الثانً قرب وادي حلفا‪ ،‬ولم ٌسمح لهم بتعدٌها إال‬
‫للتبادل التجاري فً سوق أسوان ثم ٌعودون لببلدهم‪ ،‬وبعد تحالؾ كوش مع الهكسوس ضد مصر ؼزاهم‬
‫الجٌش المصري لٌشل حركتهم وحكمهم لمبات السنٌن اصطبؽت فٌها كوش بصبؽة مصرٌة لحد ما فً‬
‫الدٌن والثقافة والعمارة‪.‬‬

‫ولما نكبت مصر نفسها بفتح حدودها لؤلجانب وتوطٌنهم نهاٌة الدولة الحدٌثة واحتلتها قبابل شعوب البحر‬
‫المستوطنة فقدت السٌطرة على كوش التً استؽلت الصراع بٌن هذه القباٌل على عرش مصر واحتلتها فً عهد‬
‫الكوشً بعنخً‪ ،‬وأزاح األشورٌون بدورهم االحتبلل الكوشً‪ ،‬وعادت كوش إلى عادتها القدٌمة فً اإلؼارة من‬
‫حٌن آلخر على أسوان‪ ،‬و ُتقابل بالهزٌمة فً معظم األحٌان خبلل االحتبلالت التالٌة‪ ،‬وأسمت هذه االحتبلالت من‬
‫بعد االحتبلل الٌونانً كوش بـ"النوبة"‪ ،‬ح تى جاء محمد علً وؼزا كوش الستجبلب المقاتلٌن والذهب وتنشٌط‬
‫التجارة‪ ،‬وما كانت إال ممالك وقبابل متصارعة ولٌس بدولة كالٌوم‪ ،‬وعاد إسماعٌل لؽزو السودان‪ -‬رؼم الدٌون‬
‫التً ترزح تحتها مصر‪ -‬وأهلك عشرات اآلالؾ من الجنود المصرٌٌن لٌكون "إمبراطور أفرٌقٌا"‪ ،‬وامتدت‬

‫(ٓ‪)ٔٗ9‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٖٔٙ‬‬
‫(ٔ‪)ٔٗ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕ98‬‬

‫‪٘٘8‬‬
‫فتوحات ه لتصل إلى أوؼندا‪ ،‬وكل هذا (من أسوان إلى أوؼندا) أسموه "السودان"‪ ،‬وباتت تحت سٌطرة مصر مإقتا‬
‫حتى احتلها اإلنجلٌز فعلٌا ومصر اسمٌا باتفاقٌة ‪.ٔ899‬‬

‫وكجالٌة داخل مصر‪ ،‬عرفناهم كؤعداء وأسرى حرب وتجار ودافعً الجزٌة خبلل أزمنة الحكم‬
‫المصري القدٌم‪ ،‬وظهروا كعبٌد أٌام الٌونان والرومان والعرب‪ ،‬ثم مرتزقة فً الجٌش أٌام ابن طولون‬
‫وكافور الحبشً‪ ،‬واستكثر منهم العبٌدٌون (الفاطمٌون) كمرتزقة وعبٌد‪ ،‬وعادوا لمكانة العبٌد والجواري‬
‫دون المشاركة فً الجٌش أٌام الممالٌك والعثمانلٌة‪ ،‬ثم بجوار العبٌد عادوا للجٌش كمقاتلٌن أٌام محمد علً‬
‫وأوالده واإلنجلٌز‪.‬‬

‫ولم تظهر مسمٌات "أشقاء" و"إخوة"‪ ،‬وأن مصر والسودان "شقٌقتان" إال أوابل القرن ٕٓ خبلل‬
‫مكافحة االحتبلل اإلنجلٌزي للبلدٌن من باب توحٌد الجهود ضد االحتبلل وحماٌة حقوق مصر فً مٌاه‬
‫النٌل‪ -‬رؼم أن السودانٌٌن رأوا أن مصر بلد احتبلل كبرٌطانٌا‪ -‬كما اعتزمت ثورة المهدي احتبلل مصر‪-‬‬
‫ثم ما تبع هذا من تؽلؽل خٌوط القومٌة العربٌة القادمة من الشام‪ ،‬والتً اعتبرت أن كل الببلد الناطقة‬
‫بالعربٌة "أشقاء"‪.‬‬

‫وبعد إلؽاء تجارة العبٌد أٌام إسماعٌل ظهر السودانٌون فً مصر كجالٌة تبحث عن فرص عمل فً البلد‬
‫الؽنً اآلمن المتساهل‪ ،‬وبلػ أقصى عدد لهم فً تعداد ‪ ٔ9ٔ9‬حوالً ‪ ٖ9‬ألؾ شخص‪.‬‬

‫والخبلصة فٌما ٌخص تركٌبة السكان أٌام االحتبلل اإلنجلٌزي‪..‬‬

‫ظلت مصر كما هً طوال االحتبلالت كؤنها بلدٌن فً بلد واحد‪ ،‬بلد مكون من أعراق متعددة ومتنافرة‬
‫األجناس والمبلمح والطباع واللؽات والمصالح‪ ،‬ترفل وسط األحٌاء الؽنٌة والمبانً الشاهقة والفنادق‪ ،‬من‬
‫ٌراه ٌعتقد أنه بٌن أؼنى شعوب العالم‪ ،‬وبلد آخر عبارة عن أهالً ٌبدون كؤنهم من دم واحد‪ ،‬روح واحدة‪،‬‬
‫مبلمح وطباع متجانسة‪ ،‬ومبلبس متشابهة أشهرها الجبلبٌة الفبلحً والطاقٌة "اللبدة"‪ٌ ،‬ؽطون المساحات‬
‫الشاسعة من الرٌؾ ومن الحارات فً المدن‪ٌ ،‬سمٌهم األجانب بكلمة الفبلحٌن وأوالد البلد‪ ،‬وهم أنفسهم‬
‫ٌصفون أنفسهم بالفبلحٌن وال ٌعلم لها معنى إلى أنه "ابن األرض"‪ ،‬ومن ٌتجول بٌنهم ٌرى معظم بٌوتهم‬
‫فقٌرة وأزقتهم الضٌقة ومعظمهم مبلبسهم رثة؛ فٌشعر كؤنه بٌن واحدة من أفقر ببلد العالم‪.‬‬

‫وشهد على ذلك فارمان المتوفً فً ٓٔ‪ ٔ9‬بقوله إن الفنادق الحدٌثة الفاخرة‪ ،‬وزٌادة وسابل الرفاهٌة‪،‬‬
‫وقضاء شتاء ممتع فً العاصمة أو فً الوجه القبلً ]مثل فنادق ومشتى األجانب فً أسوان[ فً مجتمع‬
‫قوامه أناس مثقفون مهذبون وضباط إنجلٌز مإدبون لما ٌخلب لب السابح الذي ٌعلم عن طرٌق العدد الوفٌر‬
‫من الكتب اإلنجلٌزٌة والتصرٌحات الشفوٌة أن هناك تؽٌرا عجٌبا فً مصر‪ ،‬وهو ٌعٌد هذا القول على‬
‫مسامع أصدقابه وٌجعله أساسا لمقاالته فً الصحؾ والمجبلت والكتب‪ ،‬ولكن من النادر أن ٌدخل هإالء‬
‫السابحون كوخا من أكواخ الفبلحٌن‪ ،‬أو ٌدققوا البحث فً األحوال الحقٌقٌة التً تعٌش فٌها هذه‬

‫‪٘٘9‬‬
‫الطبقة(ٕ‪.)ٔٗ9‬‬

‫وقبل ذلك كانت إصبلحات إسماعٌل تترك هذا األثر فً نفس السابح حٌنما ٌرى التؽٌر العجٌب الذي‬
‫جعل الناس فً أوروبا ٌسبحون بحمده‪ ،‬ولكن اإلصبلحات المدهشة التً قام بها هو وخلفاإه‪ -‬بحسب تعبٌر‬
‫فارمان‪ -‬لم تؽٌر حال الفبلحٌن‪ ،‬فلسوؾ تجدهم إذا شبت أن تتعرؾ على أحوالهم ٌعٌشون فً نفس األكواخ‪،‬‬
‫وفً نفس البإس الذي كانوا ٌعٌشون فٌه فً سالؾ العصر‪ ،‬بل وأشد‪.‬‬

‫وأرجع ذلك إلى أن نظام فرض الضراٌب الذي طبقته برٌطانٌا "كان كطاحونة تطحن بدقة‪ ،‬وتحصل‬
‫على كل ما ٌمكن من الدقٌق‪ ،‬وال ٌبقى لهإالء الذٌن ٌنتجون ثروة الببلد بكدهم سوى النزر الٌسٌر مما تؽله‬
‫األرض‪ ،‬وال تترك لهم فرصة لزٌادة نصٌبهم‪ ،‬ولذا كثٌرا ما تحدث المجاعة إذا تلؾ المحصول(ٖ‪.")ٔٗ9‬‬

‫وعن تؤثٌر هذه الجالٌات مستقببل نقرأ كلمات صالح جودت صاحب كتاب "مصر فً القرن التاسع‬
‫عشر" المنشور سنة ٗٓ‪" : ٔ9‬وال ننكر أن مصر نالت فً هذا القرن درجة من التمدن لم تسبقها إلٌها ببلد‬
‫شرقٌة‪ ،‬فمدت بها الخطوط الحدٌدٌة‪ ،‬فسهلت المواصبلت وشقت الترع ونظمت الشإون العمومٌة‪ ،‬ولكن‬
‫بفضل مزاحمة األجنبً كان الخٌر من كل ذلك لؽٌر ساكنٌها‪ ،‬وإن من ٌدرس أخبلق المصري وٌعلم ما‬
‫طبعت علٌه نفسه من التسلٌم والوداعة وحسن الظن ال ٌبعد علٌه معرفة كٌؾ تسلط األجنبً على ماله‪ ،‬وكاد‬
‫ٌستؤثر بببلده فٌجعله فٌها ؼرٌبا"‪.‬‬

‫وٌنهشه القلق وهو ٌشاهد لهث مصرٌٌن متعلمٌن وراء األوروبٌٌن فً لؽتهم ومبلبسهم وعٌشتهم بعد أن‬
‫سبق وقلدوا الٌونان والرومان والعرب فقال إنه ٌخشى أن ٌكون قد قُضً على مصر "بؤال تصٌر مصرٌة‬
‫أبدا"(ٗ‪.)ٔٗ9‬‬

‫▼▼▼ نتابج االحتالل اإلنجلٌزي (إفساد المصرٌٌن(٘‪))ٔٗ9‬‬

‫إن كان الخطوة األولى التً سارع المحتلون لتنفٌذها لتطمبن قلوبهم هً تصفٌة الجٌش المصري من‬
‫جنود الثورة‪ ،‬فإن الخطوة الثانٌة هً تصفٌة الشخصٌة المصرٌة نفسها من مصرٌتها‪ ،‬وحشوها بعادات‬
‫وتقالٌد وأفكار دخٌلة تجعلها مسخا مضحكا‪ ،‬أو بحسب أحد التعبٌرات "هلفتة الشخصٌة المصرٌة"‪ ،‬بحٌث ال‬
‫تعرؾ لها شخصٌة‪.‬‬

‫إن أرض مصر الطٌبة ال تخلق الشر‪ ..‬ولكن حٌن ٌؽفل حور وٌتحكم الهكسوس‪ٌ ،‬هاجر إلٌها وٌرتع الشر‪.‬‬

‫(ٕ‪)ٔٗ9‬‬
‫‪ -‬مصر وكٌؾ ُؼدر بها‪ ،‬مرجع سابق‪ ،،‬ص ٓ‪ٖ9‬‬
‫(ٖ‪)ٔٗ9‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٓ‪ٖ9ٔ- ٖ9‬‬
‫*** هذا شبٌه بما تقوم به وسابل إعالم وصفحات إنترنت بنشر صور الفنادق والمبانً الفاخرة واألحٌاء الؽنٌة وؼٌرها من مظاهر الحٌاة الثرٌة فً‬
‫زمن إسماعٌل أو توفٌق أو فاروق‪ ،‬وٌقول للناس إن هذه هً "مصر زمان"‪ ،‬وهكذا كانت "حٌاة المصرٌٌن"‪ ،‬وقتها‪ ،‬وٌجهل أن هذا كان معظمه‬
‫ٌتمتع به األجانب من عجم وعرب ومجنسٌن‪ ،‬ولم ٌكن مسموحا لمعظم المصرٌٌن بالعٌش فٌه‪ ،‬أو على األقل ؼٌر قادرٌن على ذلك‪.‬‬
‫(ٗ‪)ٔٗ9‬‬
‫‪ -‬مصر فً القرن التاسع عشر‪ ،‬صالح جودت‪ ،‬مطبعة الشعب‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ9ٓٗ ،‬ص ‪8 -ٙ‬‬
‫(٘‪)ٔٗ9‬‬
‫‪ -‬صدر فً ٕ‪ ٔ88‬كتاب بعنوان "إفساد المصرٌٌن‪ -‬قصة العار"‪ ،‬للبرلمانً األسكتلندي سٌمور كار‪ ،‬حكى قصة إفساد األوروبٌٌن لسعٌد‬
‫وإسماعٌل بتعوٌدهم على الدٌون لتسهٌل احتالل مصر‪ ،‬أما إفساد المص رٌٌن الحقٌقً فهو ما سٌطلق صفارته كرومر وهدفه المصرٌٌن الحقٌقٌٌن‬
‫وشخصٌتهم‪ ..‬لٌستمر احتالل مصر ولو بدون جٌش أجنبً‪.‬‬

‫ٓ‪٘ٙ‬‬
‫وطوال االحتبلالت‪ ،‬من الخاسوتٌمً إلى العلوي‪ ،‬تركز النزح األجنبً على الثروة والعرق والدم‪ ،‬أي‬
‫فرض السٌطرة بالسٌؾ وتسخٌر المصرٌٌن فً الزراعة والبناء‪ ،‬وأحٌانا نزح دماءهم بحدفهم فً حروب‬
‫ؼٌرهم‪.‬‬

‫وكونه ٌوجد حٌنها فً مصر أؼلبٌة فبلحٌة أصٌلة تتبع األرض وأقلٌة خلٌطة دخٌلة تتبع المحتل‪ ،‬ترتب‬
‫على هذا أن فً مصر مدرستان‪:‬‬

‫▲المدرسة الكبرى‪ :‬المدرسة المصرٌة المتربعة فً األرٌاؾ تقتات على ما ترثه من قٌم ماعت ٌنقلها‬
‫الفبلحون ألوالدهم شفهٌا باألخبلق واألفكار والتقالٌد واألؼانً واألمثال الشعبٌة الموروثة جٌبل بعد جٌل‪.‬‬

‫▼ومدرسة صؽرى‪ :‬هً المدرسة الؽازٌة المتربعة فً المدن الكبرى‪ ،‬لٌس لها منهج محدد‪ ،‬بل ألؾ منهج‬
‫وألؾ دٌن وعقٌدة ألن لكل جالٌة منهجها‪.‬‬

‫والحظنا أنه لم ٌذهب المحتلون خبلل تلك العصور إلى المصرٌٌن فً األرٌاؾ عن عمد لتؽٌٌر شخصٌتهم‪،‬‬
‫أو تحوٌلهم إلى شًء آخر ؼٌر أنهم أوالد البلد الفبلحٌن‪ ،‬ولم ٌرؼبوا فً أن ٌحولوهم إلى ٌونان أو رومان‬
‫أو عرب أو ممالٌك أو أتراك‪ ،‬بل اهتم المحتلون باالنعزال عن المصرٌٌن‪ ،‬واإلبقاء علٌهم فبلحٌن بصفة‬
‫"مؽلوبٌن"‪ ،‬حتى فً القوانٌن واألوراق الرسمٌة كما رأٌنا فً تفرٌق القوانٌن الٌونانٌة والرومانٌة والعربٌة‬
‫واإلنجلٌزٌة إلخ فً المعاملة والتصنٌؾ بٌن الجالٌات التابعة لهذه الهوٌات وبٌن الفبلحٌن‪ ،‬وإذا ما قام‬
‫الفبلحون بثورات ٌكون قمعها مادٌا‪ ،‬أي بالسبلح‪.‬‬

‫وأي عادات سٌبة دخٌلة أو تقٌحات انتقلت من األجانب إلى الشخصٌة المصرٌة هً نتٌجة لؤلوقات التً‬
‫تعٌش فٌها الجالٌات األجنبٌة بجانب المصرٌٌن حٌن ٌصعب علٌها اإلقامة فً المدن مثلما فعلت القباٌل‬
‫والعربان‪ ،‬أو حٌن ٌتسرب بعض المصرٌٌن للمدن‪ ،‬أو ٌنالون قسطا من التعلٌم األجنبً ووظابؾ‪ ،‬ولم‬
‫ٌظهر شًء منظم ٌُراد به محاصرة الهوٌة المصرٌة الفبلحٌة إال فً قرار ؼلق المعابد المصرٌة وقمع الدٌن‬
‫المصري القدٌم‪ ،‬والتؽلؽل المتعمد من الطرق الصوفٌة فً الرٌؾ‪.‬‬

‫إال أنه بداٌة من االحتبلل اإلنجلٌزي أصبح إفساد الفبلحٌن سٌاسة رسمٌة‪ ،‬لها كتبها‪ ،‬وتقارٌرها الدورٌة‬
‫للمتابعة من المندوب البرٌطانً‪ ،‬وخططها المرحلٌة‪ ،‬بهدؾ تصفٌة الشخصٌة المصرٌة تماما‪ ،‬بحٌث ال‬
‫ٌظل الفبلح فبلحا‪ ،‬بل مسخا بواحا‪ ..‬وكما قال حافظ إبراهٌم لعمٌد هذا اإلفساد كرومر‪:‬‬

‫حواشٌه حتى بات ظلما منظما‬


‫(‪)ٔٗ9ٙ‬‬
‫لقد كان فٌنا الظلم فوضى فه َّذبت‬

‫وإذن‪ ..‬لماذا لجؤ االحتبلل اإلنجلٌزي إلى اإلفساد المنظم لشخصٌة مصر؟‬

‫(‪)ٔٗ9ٙ‬‬
‫‪ -‬قصٌدة "مصر تشكو االحتبلل" فً دٌوان حافظ إبراهٌم‪ ،‬جمع وشرح‪ :‬أحمد أمٌن‪ ،‬أحمد الزٌن‪ ،‬إبراهٌم اإلبٌاري‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة‬
‫للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ989 ،‬ص ‪ٖٖ9‬‬

‫ٔ‪٘ٙ‬‬
‫فوجا اإلنجلٌز أنه برؼم ؼرق األرٌاؾ فً الجهل والخرافات والفقر المدقع واإلذالل‪ ،‬ورؼم كل التقٌحات‬
‫التً نخرت جلدها من االحتبلالت‪ ،‬إال أن هذا النخر لم ٌتع َّد الجلد إلى العظم والنخاع‪ ،‬فظل العظم والنخاع‬
‫والروح فً سبلمة كبٌرة‪ ،‬كالشجرة المباركة‪ ،‬جدرها فً األرض سلٌم وعفً‪ ،‬وإن اصفرت األوراق‬
‫وتشرخت الفروع الظاهرة فوق األرض لكثرة ما تعرضت له من إهمال وعطش وهواء فاسد‪.‬‬

‫وأعلنت هذه الجدور المباركة عن نفسها فً الثورة التً زلزلت العالم حقا وحكامه روتشٌلد وإخوانه‪ ،‬ثورة‬
‫ٔ‪.ٔ88‬‬

‫إن أبناء إٌسة وأوزٌر ما زالوا بالمبلٌٌن لحما ودما‪ ،‬هإالء الفبلحٌن ما زالوا ٌشعرون أنهم أصحاب‬
‫األرض‪ ،‬وأنهم الشعب السٌد الواحد‪ ..‬ما زالوا ٌحبون بعضهم بعضا حتى فوجبنا بؤنهم لما عادوا للجٌش‬
‫عاد الؽٌط والجٌش جسدا واحدا‪ ،‬إنهم ما زالوا متعلقٌن باألرض وٌعرفون معنى الدٌن والوطن‪ ،‬إنهم ما‬
‫زالوا رؼم كل اإلذالل لهم ٌرون فً أنفسهم شخصٌة ممٌزة حرة تستحق أن تحكم نفسها بنفسها‪ ،‬عادوا‬
‫لٌقولوا مصر للمصرٌٌن‪ ،‬إنه ما زالوا ٌرفضون الؽرٌب‪ ،‬وما زال فٌهم الشهامة التً جعلتهم ٌضحون بما‬
‫عندهم لٌسترد لهم جٌشهم بلدهم‪ ،‬إنهم ما زالوا ٌرون أنفسهم أشرؾ من محتلٌهم‪ ،‬إنهم ما زالوا ٌنبضون‪:‬‬
‫تحٌة لكً ٌا عٌن حور‪.‬‬

‫معنى هذا‪ ،‬أنهم سٌثورون مرات أخرى‪ ،‬وستفلت مصر من االحتبلل (المسٌخ الدجال) ٌوما‪ ،‬ستقلدها بقٌة‬
‫الشعوب‪ ،‬وٌحفظ كل شعب أرضه من السقوط فً فخ التنظٌمات العالمٌة واإلمبراطورٌة‪ ،‬وهذا لن ٌتناسب‬
‫مع خطط الحرب العالمٌة الثالثة والثورة الثالثة‪ ،‬لن ٌكفً تصفٌة رجال الثورة والجٌش‪ ،‬بل تصفٌة وتفرٌػ‬
‫الشخصٌة المصرٌة ذاتها‪ ،‬كشوال دقٌق طاهر ٌتصفى بالتدرٌج لٌُعبؤ على مهل‪ ..‬بؤي قمامة‪.‬‬

‫فاتجه النزح‪ ،‬لٌس فقط إلى المال والدم والعرق‪ ،‬بل لتخرٌب المدرسة المصرٌة الكبرى‪ ...‬حتى النخاع‪،‬‬
‫خاصة أنه ٌصعب إبادة المصرٌٌن كبشر فً الوقت الحاضر‪ -‬آنذاك‪ -‬ألنه لن ٌوجد أصبر وال أمهر منهم فً‬
‫زراعة المساحات الواسعة أو التعامل مع النٌل وشبكة الري‪ ،‬وتشٌٌد المبانً العمبلقة‪ ،‬وال أقنع منهم فٌما‬
‫ٌخص األجر‪ ،‬كما أنه كان انتهى زمن استٌراد العبٌد الستخدامهم فً العمل الشاق بعد إبادة الشعوب‬
‫األصلٌة كما جرى فً أمرٌكا وأسترالٌا‪.‬‬

‫فلٌبق المصرٌون إذن‪ -‬مإقتا‪ -‬مدام ٌمكن تصفٌة ما ٌُخٌؾ فً شخصٌتهم‪ ،‬وتحوٌلهم إلى مجرد أحجار على‬ ‫َ‬
‫رقعة شطرنج‪ ،‬ونستفٌد من عرقهم ودمهم ومهاراتهم‪ ،‬وهو ما ٌتبع أٌضا منهج اإلفساد العالمً الذي تابعنا‬
‫خٌوطه فً خطة تنظٌم "النارٌٌن" لتسهٌل إحكام سٌطرة فبة قلٌلة على العالم‪.‬‬

‫ٌقول الدكتور سامً عزٌز بعد ؼوصه الطوٌل فً الصحافة الصادرة فً مصر عقب االحتبلل اإلنجلٌزي‪،‬‬
‫ولخصها فً كتابه "الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي" إنه بعد أن تم االحتبلل ٕ‪:ٔ88‬‬
‫"كثرت المحاوالت التً تستهدؾ خلق مجتمع جدٌد تتؽٌر فٌه القٌم المادٌة والمعنوٌة والمثل التً ٌسترشد‬
‫بها الشعب‪ ،‬ال فً األوضاع السٌاسٌة فحسب‪ ،‬بل فً كافة نواحً الحٌاة األخرى"‪.‬‬

‫ٕ‪٘ٙ‬‬
‫وباتت الصحافة أهم أدوات هذا التؽٌٌر‪ٌ ،‬واصل عزٌز‪" :‬إذ استخدمها العهد الجدٌد إلحداث "تؽٌرا فً‬
‫العقابد المذهبٌة والسٌاسٌة‪ ،‬ومحاولة إحداث تؽٌرات متبلحقة فً كٌان الشعب‪ ،‬وهز مقوماته التً رسخت‬
‫حتى تسهل زحزحتها‪ ،‬ثم دكه بعد ذلك إلرساء مقومات أخرى جدٌدة تتفق وأهداؾ الحاكم الجدٌد‬
‫واتجاهاته"(‪ ..)ٔٗ99‬أال ٌكونوا مصرٌٌن‪.‬‬

‫وصراحة تحدث كرومر(‪ )ٔٗ98‬عن هذا فً كتابه "مصر الحدٌثة"‪ ،‬وأنه ال ٌخشى منافسة أوروبا لبرٌطانٌا فً‬
‫مصر‪ ،‬ولكن ما ٌهمه هو صنع الثقة بٌن ببلده وبٌن المصرٌٌن‪ ،‬فٌقول‪" :‬كان على اإلنجلٌز مهمة كبرى هً‬
‫محاولة ربط مصر بهم‪ ،‬وصبؽها بصبؽتهم أو بالصبؽة التً ترضً فٌما بعد أن تكون الببلد جزءا ال ٌتجزأ‬
‫من الدولة البرٌطانٌة‪ ،‬كل هذا دون إثارة إحدى الدول‪ ،‬ودون عنؾ‪ ،‬ودون اتخاذ إجراءات قاسٌة‪ ،‬ولكن‬
‫بهدوء وصبر وطول أناة"(‪.)ٔٗ99‬‬

‫أول ما فعله االحتبلل الجدٌد فً هذا الطرٌق هو إخراس الصحافة الوطنٌة بتصفٌتها‪ ،‬وإنشاء عدد أكبر من‬
‫الصحؾ ؼٌر المصرٌة‪ ،‬واستٌراد وتشجٌع الشوام والٌهود والمؽاربة واألرمن على إصدار صحؾ تعبر‬
‫عن أفكار ؼٌر مصرٌة إلؼراق السوق واألفكار بهم‪ ،‬فلم ٌكن فً مصر وقتها عدد ٌكفً من المثقفٌن‬
‫المصرٌٌن المتشبعٌن باألفكار األجنبٌة المسمومة لٌنشروها‪.‬‬

‫واستدل سامً عزٌز على هذا بعدد ونوعٌة الصحؾ التً تفجرت فً زمن االحتبلل اإلنجلٌزي‪" :‬وتإٌد‬
‫هذه الفكرة كثرة عدد الصحؾ والمحبلت التً تناولت كافة نواحً النشاط البشري فهناك صحؾ للزراعة‬
‫وأخرى للطب وللعلوم والقضاء والسٌاسة واألدب‪ ،‬لكن "كل منها ٌحاول تعمٌق مفاهٌم جدٌدة فً أذهان‬
‫المصرٌٌن لم ٌكن لهم بها عهد"‪.‬‬

‫وفً مقابل مطاردة الصحفٌٌن المصرٌٌن‪ -‬مثل عبد هللا الندٌم‪ -‬وكسر أقبلمهم واالستٌبلء على أمبلكهم‪ ،‬فإن‬
‫الصحؾ الشامٌة التً اضطرت لمؽادرة مصر خبلل ثورة ٔ‪ ،ٔ88‬عادت بعد موقعة التل الكبٌر‪ ،‬لٌسٌطروا‬
‫على الساحة‪ ،‬وحصل أصحاب جرٌدة "األهرام" على ٓ‪ ٔ8‬ألؾ فرنك عن مطبعتهم التً راحت فً حرٌق‬
‫اإلسكندرٌة فً حٌن أن المطبعة ال تساوي أكثر من ٓٓ٘ فرنك‪ ..‬انظر للفارق‪ ،‬كما حصل سلٌم النقاش‬
‫على ٓٗ ألؾ فرنك "تعوٌضا" عن احتراق المطبعة أٌضا(ٓٓ٘ٔ)‪.‬‬

‫ولبلقتراب مما ٌحتوٌه قلب هذه الصحؾ وأصحابها لمصر نقترب مما حواه قلب مإسس جرٌدة "األهرام"‬
‫بشارة تقبل‪ٌ ،‬قول عرابً فً خطاب منه إلى محامٌه اإلنجلٌزي برودلً عن صور اإلهانة التً تعمد‬

‫(‪)ٔٗ99‬‬
‫‪ -‬الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘‪ٙ -‬‬
‫(‪)ٔٗ98‬‬
‫‪ -‬اسمه فً األساس إٌفلن بٌرنج وعابلته من أصل ألمانً أسست بنكا فً لندن مثل عابلة روتشٌلد‪ ،‬ورؼم ضعؾ كفاءته فً بداٌة حٌاته إال‬
‫أنه بالواسطة والمحسوبٌة الخاصة بعابلته تدرج فً وظابؾ دبلوماسٌة هامة فً الهند‪ ،‬وانتقل لمصر لٌعمل عضوا بصندوق الدٌن المشبوم‪ ،‬ثم‬
‫تولً لمدة ٖٕ سنة منصب القنصل أو المندوب البرٌطانً من ٖ‪ ،ٔ9ٓٙ -ٔ88‬وؼادر مصر بضؽط من الرأي العام لدوره فً مدبحة دنشواي‪،‬‬
‫أصدر كتابه "مصر الحدٌثة" ٌمجد فٌه االحتالل اإلنجلٌزي وٌزعم أنه صاحب "فضل" على مصر وٌصؾ المصرٌٌن بـ"نكران الجمٌل"‪ ،‬ألنهم ثاروا‬
‫فً وجه االحتالل (انظر‪ :‬مقدمة د‪ .‬أحمد زكرٌا الشلق لكتاب مصر الحدٌثة‪ ،‬اللورد كرومر‪ ،‬المركز القومً للترجمة‪ ،‬ط ٔ‪ ،‬ترجمة صبري محمد‬
‫حسن‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٓٔٗ ،‬ص ‪)ٖ9 -ٔ9‬‬
‫(‪)ٔٗ99‬‬
‫‪ -‬الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٕٗ‬
‫(ٓٓ٘ٔ)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬صٓ‪ 9‬نقبل عن صحٌفتً "الفبلح" ٔ‪ ،ٔ89‬و"الوقابع المصرٌة" ٖ‪ٔ88‬‬

‫ٖ‪٘ٙ‬‬
‫الخدٌوي وأتباعه إرسالها للمصرٌٌن فً المعتقل‪" :‬وبعد ساعة ُفتح الباب‪ ،‬وإذا بمحرر جرٌدة األهرام اسمه‬
‫(بشار تقله) فظننت أنه جاء لٌزورنً وٌهون علً المصاب لكونه كان معنا قبل الحرب‪ ،‬وكان ٌحلؾ بدٌنه‬
‫وشرفه أنه كواحد منا‪ ،‬وأنه من دعاة الحرٌة‪ ،‬وكنا نجله ونكرمه‪ ،‬وإذا به أتى بوقاحته لٌشمت بنا‪ ،‬وقال لً‬
‫بنفور‪ :‬عرابً أي شًء سوٌت‪ ،‬رأٌت أي شًء صار لك‪ ،‬فعلمت أنه ذو وجهٌن‪ ،‬وأنه ال شرؾ له‪ ،‬فلم‬
‫أجاوبه"(ٔٓ٘ٔ)‪.‬‬

‫وعلم كرومر تؤثٌر الصحافة على المصرٌٌن‪ ،‬سواء من ٌقرأون أو من تتلى علٌهم ما فً الصحؾ فً العٌلة‬
‫أو القرٌة أو الحارة‪ ،‬فقال‪" :‬إن السواد األعظم من المصرٌٌن من أعظم الناس تصدٌقا لما ٌقال"‪ ،‬وٌإرخ‬
‫الصحفً الشامً فارس نمر (من صناع القومٌة العربٌة األوابل) لصدور جرٌدة "المقطم" سنة ‪ ٔ889‬بؤنه‬
‫حضر من الشام مع زمٌلٌه ٌعقوب صروؾ وشاهٌن مكارٌوس (مإسس محفل اللطابؾ الماسونً) تلبٌة‬
‫لدعوة كبراء مصر (اإلنجلٌز والخدٌو) الذٌن اقترحوا علٌهم إصدار صحٌفة فً مصر‪ ،‬وأنه "استدعٌت إلى‬
‫الداخلٌة فوجدت اهتماما ملحوظا وعناٌة تامة‪ ،‬وطلبت اسم "المقطم" ولما سبلت عن السبب فً اختٌار هذا‬
‫االسم بالذات قلت ألنه الجبل الذي بنٌت من حجارته األهرام الثبلثة"(ٕٓ٘ٔ)‪.‬‬

‫فهل كان احتفاإه ببناء األهرام أم حلما بهدم الفبلح الذي بنى األهرام؟‬

‫وهنا مبلمح سرٌعة للمجاالت التً نخر بها االحتبلل فً عضم ونخاع المصرٌٌن‪ ،‬وهدم المدرسة المصرٌة‬
‫الكبرى (ماعت)‪ ،‬وإدخال الفبلحٌن‪ -‬ألول مرة‪ -‬مدرسة المسٌخ الدجال‪ ،‬ووسابله فً هذا‪ :‬الصحافة‪،‬‬
‫المدارس‪ ،‬السٌنما‪ ،‬األحزاب‪ ،‬التٌارات والمذاهب األجنبٌة‪ ،‬الدمج بالجالٌات األجنبٌة‪.‬‬

‫❶ (عبادة االحتالل)‬

‫تابعنا أن تمجٌد االحتبلل ظهر فً مصر على نطاق ضٌق جدا‪ ،‬أٌام االحتبلل الرومانً‪ ،‬وإن كان فً‬
‫حقٌقته لٌس تمجٌدا لبلحتبلل ذاته‪ ،‬بل لبعض الحكام الرومان الذٌن ساعدوا على إفساح المجال النتشار‬
‫المسٌحٌة‪ ،‬حتى مجد بعض المتعلمٌن قسطنطٌن مثبل؛ فكان تمجٌدا للدٌن فً األصل‪ ،‬والخطٌبة كانت الخلط‬
‫بٌن الدٌن وبٌن المحتل‪ ،‬وكذلك فعلوا حٌن مجد بعضهم احتبلل مصر باسم الخبلفة اإلسبلمٌة‪.‬‬

‫أما االحتبلل اإلنجلٌزي فسٌسٌر على نظام المحافل الماسونٌة التً أتى بها نابلٌون الستقطاب والء‬
‫المصرٌٌن باسم "اإلخاء العالمً"‪ ،‬وذلك بؽرس تمجٌد االحتبلل ذاته كاحتبلل‪ -‬ألول مرة فً التارٌخ‪-‬‬
‫كؤجانب ٌحكمون البلد‪ ،‬أٌا كان دٌنهم أو لؽتهم أو جنسهم‪ ،‬بؤن ٌربط بٌن تقدم مصر وتحضرها وبٌن وجود‬
‫هذا األجنبً‪.‬‬

‫وبتعبٌر سامً عزٌز فإنه "ٌعتبر إصدار المقطم الحلقة الثالثة من حلقات إحكام الحصار حول الرأي العام‬
‫فً مصر؛ إذ كان أصحابه الثبلثة ٌصدرون مجلة "المقتطؾ" العلمٌة فً مصر منذ ٘‪ ،ٔ88‬ثم أصدر‬

‫(ٔٓ٘ٔ)‬
‫‪ -‬كٌؾ دافعنا عن عرابً وصحبه‪ ،‬أ‪.‬م‪ .‬برودلً‪ ،‬ترجمة وتحقٌق عبد الحمٌد سلٌم‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬ص ٕٗٔ‬
‫(ٕٓ٘ٔ)‬
‫‪ -‬الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪9ٙ‬‬

‫ٗ‪٘ٙ‬‬
‫شاهٌن مكارٌوس مجلة "اللطابؾ" األدبٌة االتجاه عام ‪ ،ٔ88ٙ‬ثم صدر "المقطم" الذي اختص بالنواحً‬
‫السٌاسٌة"‪ ،‬وجمٌعها تدعو لمحبة االحتبلل والفرنجة بٌن المصرٌٌن‪ ،‬ومحاربة مبدأ مصر للمصرٌٌن‪.‬‬

‫وفً أول عدد لها عقب موقعة التل الكبٌر خرجت "المقتطؾ" لترسل تهنبة فً افتتاحٌة عدد نوفمبر ٕ‪ٔ88‬‬
‫على "خمود نٌران الثورة المصرٌة‪ ،‬ورجوع ماء مصر إلى مجارٌها‪ ،‬وانكساؾ شمس باؼٌها‪ ،‬وال عجب‬
‫أن حدا إلٌها حادي العمل وأوى إلٌها طابر السبلم"‪.‬‬

‫وعن سبب اختٌار هإالء الشوام الثبلثة‪ ،‬وؼٌرهم من شوام جاءوا قبلهم أو بعدهم وسٌطروا على الصحافة‬
‫فً مصر ٌقول عزٌز "وقد نشؤ أصحاب المقطم فً أكبر مدرسة ؼربٌة تؤسست فً الشرق‪ ،‬وهً الكلٌة‬
‫األمرٌكٌة فً بٌروت‪ ،‬وعرفوا التمدٌن العصري وبرعا فً العلم الجدٌدة‪ ،‬وقد اقترن فارس نمر فً ‪ٔ888‬‬
‫بابنة قنصل إنجلترا السابق فً األسكندرٌة‪ ،‬ثم سافر إلى لندن واجتمع فٌها بكبار السٌاسٌٌن‪ ،‬وال ؼرابة إذن‬
‫فً أن ٌصؾ نمر وجود اإلنجلٌز فً مصر بؤنه "كان أكبر نعمة‪ ،‬وسوؾ ٌستمر كذلك لهذا القطر"(ٖٓ٘ٔ)‪.‬‬

‫وقالت عنهم صحٌفة "األستاذ" التً أصدرها عبد هللا الندٌم بعد انتهاء فترة نفٌه إن الصحفٌٌن الشوام الثبلثة‪:‬‬
‫"التزموا فً جرٌدتهم الٌومٌة تنفٌر األمة‪ ،‬وتحسٌن االعتراؾ بسلطة الؽٌر"‪ ،‬أي قبول االحتبلل والتخلص‬
‫من الحمٌة والؽٌرة الوطنٌة‪.‬‬

‫وال ٌجد كرومر حرجا فً أن ٌصؾ "المقطم" بؤنها "موالٌة لئلنجلٌز"‪ ،‬كما قال مارتن هارتمان الذي أرَّ خ‬
‫هذه الفترة فً كتابه "الصحافة العربٌة فً مصر" إن اإلنجلٌز ٌدفعون مبلؽا ضخما من المال لـ"المقطم"‪،‬‬
‫وٌفسر هذا بقوله "فهو لسان حالهم‪ ،‬وٌحاول اإلنجلٌز استخدامه فً مصر كوسٌلة إلفساد الرأي العام‪ ،‬فكان‬
‫أصحابه أكبر المدافعٌن عن مصالح إنجلترا‪ ،‬وال شك فً أنهم كانوا رجال أعمال من الطراز األول"‪.‬‬

‫وتدفق التموٌل على أصحاب "المقطم" من الخزٌنة المصرٌة‪ -‬جٌوب الفبلحٌن‪ -‬من أوسع أبوابها‪ ،‬فاختارت‬
‫السلطات الحاكمة مطبعة المقطم لتطبع مطبوعاتها الحكومٌة بدال من المطبعة األهلٌة‪ ،‬وعلقت صحٌفة‬
‫"البسفور إجبسٌان" الصادرة فً مصر بالفرنسٌة‪" :‬وهكذا اكتشفت طرٌقة جدٌدة على حساب مصر لزٌادة‬
‫مكافؤة تلك الصحٌفة العربٌة التً تعمل جاهرة لخدمة اإلنجلٌز"‪ ،‬كذلك علقت صحٌفة "الفبلح" بؤن وزارة‬
‫الداخلٌة تطبع فً مطبعة "المقطم" جرنال "وقابع البولٌس" بمبلػ ٓٓ٘ جنٌة فً السنة‪ ،‬فً حٌن أنه لو طبع‬
‫فً مطبعة أخرى لم ٌكلؾ أكثر من ٓ٘ جنٌها‪ ،‬كذلك اختارت حكومة االحتبلل الصحٌفة الشامٌة لطبع ما‬
‫ٌخص المحاكم‪ ،‬وتحدث كرومر عن مصادر أخرى للتموٌل حٌن أشاد بؤن "المقطم" تطبع تقارٌره السنوٌة‬
‫باللؽة اإلنجلٌزٌة عن أحوال مصر وتترجمها للعربٌة والفرنسٌة وتوزعها على المشتركٌن‪.‬‬

‫ولكً تصل الصحٌفة إلى أكبر عدد فً أقصى أرٌاؾ مصر‪ ،‬فإنه إضافة لكثرة مطبوعاتها واألعداد التً‬
‫تطبعها‪ ،‬فإن إنجلترا خصصت لها مطبعة خاصة تصدرها فً شكل ٌسهل طٌه إلى طٌات صؽٌرة ٌسهل‬
‫حملها فً جٌوب العمد ومشاٌخ الببلد‪ ،‬حتى تسمىت هذه المطبعة بـ"مطبعة حجم المقطم"‪ ،‬وأصبحت‬

‫(ٖٓ٘ٔ)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ ٙٙ‬و‪99‬‬

‫٘‪٘ٙ‬‬
‫الصحٌفة المناصرة لبلحتبلل توزع ضعؾ أو ثبلثة أمثال عدد نسخ صحٌفة "المإٌد" المعادٌة لبلحتبلل‬
‫على سبٌل المثال(ٗٓ٘ٔ)‪.‬‬

‫أما ما سجلته للتارٌخ واألجٌال المعاصرة لها والمقبلة‪ -‬مقدمة نفسها على أنها مصرٌة وتتحدث بلسان‬
‫المصرٌٌن‪ -‬خاصة أن نادرا من الناس من ٌعرؾ حقٌقة وجنسٌة من وراء الصحؾ‪ ،‬وٌتصورون أن هذا‬
‫هو "كبلم المصرٌٌن المتعلمٌن المتنورٌن" فٌقلدونهم‪ ،‬فإنها بررت وقوفها مع االحتبلل بقولها‪" :‬لما نال‬
‫مصر من خٌر على ٌدٌه"‪ ،‬وفً ‪ ٔ889‬وما تبلها نشرت مقاالت منها ما عنوانه "هل مصر فً تقدم؟" لترد‬
‫بؤن مصر "تقدمت وتتقدم وهً اآلن فً تقدم ال ٌنكره إال طامع بنا أو ذو رؼبة‪ ،‬كٌؾ ال‪ ،‬وهً رابعة فً‬
‫ظل خدٌوٌها ووزٌرها‪ ،‬وآمنة بهمة أعوانها اإلنجلٌز من كل طارق"‪ ،‬وعن تحسن األحوال المالٌة قالت‪:‬‬
‫"ٌطول بنا تعداد الفوابد الجمة التً أدخلت علٌها"‪.‬‬

‫ودعت لزٌادة األجانب فً القضاء المصري‪" :‬كذلك تحسنت المحاكم األهلٌة‪ ،‬ولكنها تحتاج إلى زٌادة‬
‫التدقٌق فً انتقاء القضاة‪ ،‬وال بد من زٌادة اإلنجلٌز عما هم علٌه اآلن"‪ ،‬كذلك ما ٌخص التعلٌم‪:‬‬
‫"والضرورة تقتضً إبقاء زمام التعلٌم بؤٌدي األساتذة األوروبٌٌن"‪ ،‬وفً ٓ‪ ٔ89‬ؤ‪ ٔ89‬وصفت ثورة‬
‫مصر بؤنها "الببلء الذي نزل بالببلد فً عام ٕ‪ ٔ88‬وكٌؾ صال شٌطان الفوضى"‪ ،‬مقدمة الشكر لئلنجلٌز‬
‫ألن ٌدهم "أرجعت المٌاه إلى مجارٌها‪ ،‬وشٌدوا دعابم الحضارة‪ ،‬فهل ُنبلم إذا شكرناهم وفاء للدٌن‬
‫الجمٌل"(٘ٓ٘ٔ)‪ ...‬وبالطبع لم ٌكن هناك جمٌل لبلحتبلل إال على هذه الصحؾ وأصحابها الهكسوس‪.‬‬

‫وفً ‪ ٔ9‬أبرٌل ٓ‪ ٔ89‬نشرت مقاال وصفه سامً عزٌز بؤنه "األشد قسوة على الشعور الوطنً"‪ ،‬حول‬
‫مطالب المصرٌٌن بجبلء اإلنجلٌز‪ ،‬قال فٌه أصحاب "المقطم" (صناع القومٌة العربٌة)‪ ،‬أنكروا فٌه حق‬
‫المصرٌٌن فً الحرٌة التامة‪ ،‬وسخرت من تارٌخهم القدٌم‪" :‬العاقل ٌرى أتباع سٌاسة المحاسنة والموادعة‪،‬‬
‫ثم ما هو االستقبلل الذي ٌبكونه والحرٌة التً ٌندبونها؟ ففً زمان أي اآلباء والجدود تمتعوا باستقبلل‬
‫وحرٌة حرموهما اآلن؟ ومتى كان زمام الببلد فً قبضة ٌدهم وسلب اآلن منهم؟ وأي شًء تؽٌر علٌهم‪،‬‬
‫وما ضرهم إذا انفردت بالنفوذ دولة واحدة بٌنهم ال سبع عشرة دولة أجنبٌة‪ ،‬وأي خسارة خسروها بتقلٌد‬
‫رجال من اإلنجلٌز وظابؾ كان ٌتقلدها ؼٌرهم من سابر األجانب‪ ،‬وما ضرهم وجود فرقة من الجنود‬
‫اإلنجلٌزٌة لزٌادة توطٌد األمن‪ ،‬ومشاورة دولة واحدة ال مرضاة سبع عشرة دولة‪ ،‬لهذا كله ال نزال نتبع‬
‫سٌاسة المحاسنة ونحض على ترك سواها‪ ،‬فهً النافعة لهذا القطر والكافلة لتؤٌٌد االستقبلل"‪.‬‬

‫وبعد ٗ أٌام كتبت فً صفحتها األولى "علمنا أن ما كتبناه تحت عنوان االحتبلل واالستقبلل ح َّل لدى‬
‫العقبلء محل القبول لمطابقته مصلحة الببلد وأحكام العقول"‪ ،‬أما حٌن رفض المصرٌون ما جاء فٌها‬
‫وصفتهم بـ"األعداء" الذٌن حاولوا "كسر أقبلمها"‪ ،‬وشكرت كرومر على دفاعه عن الصحٌفة "فحال اللورد‬

‫(ٗٓ٘ٔ)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪99 -98‬‬
‫(٘ٓ٘ٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٓٓٔ‪ٔٓٔ --‬‬

‫‪٘ٙٙ‬‬
‫كرومر بٌنهم وبٌن ما ٌشتهون"(‪.)ٔ٘ٓٙ‬‬

‫هكذا من فروا من وجه االحتبلل العثمانلً فً ببلدهم بالشام‪ ،‬واخترعوا "القومٌة العربٌة"‪ ،‬لٌختلقوا "قومٌة‬
‫ومجدا" لبلدهم ٌحاربون به االحتبلل العثمانلً‪ ،‬جاءوا إلى مصر لٌضللوا أهلها وٌقنعوهم بـ"مزاٌا االحتبلل"‬
‫اإلنجلٌزي وضرورة القبول به ونبذ القومٌة المصرٌة األصٌلة‪ ،‬مدام االحتبلل لٌس عثمانٌا‪.‬‬

‫وحاربت صحٌفة "البال مال جازٌت" مبدأ "مصر للمصرٌٌن" قابلة إنه "ال ٌصح أن تكون سٌاسة إنجلترا‬
‫مبنٌة على البلبحة الوهمٌة وهً مصر للمصرٌٌن"‪.‬‬

‫فسخر ألكسان صرافٌان صحٌفة "الزمان" للدعوة لبلحتبلل‪ ،‬وعلق‬ ‫َّ‬ ‫ودخل على الخط صحفٌٌن أرمن‪،‬‬
‫قسطاكً الحلبً فً كتابه "تارٌخ صدور الصحؾ"‪" :‬إن االحتبلل راق لؤلرمنً ألكسان فصدر جرٌدة‬
‫الزمان‪ ،‬وصار ٌتؽنى على صفحاتها بمزاٌا هذا االحتبلل‪ ،‬وٌتمناه لعاصمة بنً عثمان لراحة بنً‬
‫جنسه"(‪ ،)ٔ٘ٓ9‬فاتخذ شوام وأرمن من مصر قاعدة لتصفٌة حسابات "بنً جسنهم" مع العثمانلٌة‪ ،‬عبر محاربة‬
‫العثمانلٌة باعتباره "احتبلال"‪ ،‬فً حٌن ٌإٌدون إنجلترا باعتبارها "نعمة لمصر"‪.‬‬

‫وحتى صحٌفة "البرهان" العثمانلٌة الصادرة فً مصر حاربت "مصر للمصرٌٌن"‪ ،‬لما عادت للصدور‪،‬‬
‫فكتبت فً ٖ‪ ٔ88‬عن الدعوة إلى "المسالمة والتوفٌق بٌن القلوب ببل نظٌر للجنسٌة والمعتقد‪ ،‬وقد جمعت‬
‫إنجلترا من جنودها ما ٌكفً لردع العصاة الذٌن تمزقت قوتهم بعد ٖٓ دقٌقة"(‪ ،)ٔ٘ٓ8‬فً سخرٌة من‬
‫المصرٌٌن فً موقعة التل الكبٌر‪.‬‬

‫وٌرصد الخدٌوي عباس حلمً الثانً فً مذكراته‪ -‬وكان فً بداٌة حكمه رافضا لبلحتبلل اإلنجلٌزي‪ -‬أن‬
‫"الصحافة المصرٌة كانت فً تلك الفترة إلى حد ما فً أٌدي أجانب أو فرٌق من األمة ٌإثر إرضاء‬
‫مطامحه على المحافظة على مصلحة مصر"‪.‬‬

‫وٌعلق حٌنها الصحفً المصري سبلمة موسى على كثرة الصحؾ األجنبٌة فً مصر بقوله‪" :‬وكان عارا‬
‫علٌنا أن ٌوكل تكوٌن الرأي العام المصري إلى أقبلم ؼٌر مصرٌة‪ ،‬ؼرٌبة عنا فً المزاج‪ ،‬ال ٌشؽل قلوب‬
‫أصحابها ما ٌشؽل قلوبنا من أمانً وآمال‪ ،‬وكان علٌنا جمٌعا أن نقرأ كل ٌوم ما ٌكتبه لنا الصحفٌون ؼٌر‬
‫المص رٌٌن فٌما ٌجب علٌنا وما ال ٌجب أن نتبعه فً سٌاسة ببلدنا من الخطط‪ ،‬وكانت الصحؾ والمجبلت‬
‫ؼٌر المصرٌة (األجنبٌة) تنساب بٌن العامة كؤنها الحٌات السامة‪ ،‬وبها هذر وهذٌان وسخؾ لتسمٌم العامة‬
‫وإضعاؾ عقولها"(‪.)ٔ٘ٓ9‬‬

‫وضمن حاشٌة االحتبلل اإلنجلٌزي أو العثمانلً الصحفٌة كان مؽاربة‪ ،‬منهم محمد بٌرم الخامس هرب من‬
‫تونس من وجه االحتبلل الفرنسً إلى األستانة‪ ،‬ومنها جاء لٌجاهد ضد االحتبلل الفرنسً من مصر‪ ،‬فكان‬

‫(‪)ٔ٘ٓٙ‬‬
‫‪ -‬الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬سامً عزٌز‪ ،‬ص ٕٓٔ‪ٖٔٓ -‬‬
‫(‪)ٔ٘ٓ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٗٓٔ‪ٔٓ٘ -‬‬
‫(‪)ٔ٘ٓ8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٔٓٙ‬‬
‫(‪)ٔ٘ٓ9‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٔٔٔ‪ ،‬نقبل عن كتاب سبلمة موسى "الصحافة حرفة ورسالة"‬

‫‪٘ٙ7‬‬
‫"جهاده" مناصرة االحتبلل اإلنجلٌزي باعتبار أن اإلنجلٌز أعداء فرنسا‪ ،‬ولم ٌهتم بمصلحة مصر التً‬
‫"ٌجاهد" من فوق أرضها ومن خٌراتها‪ ،‬وكان من أوابل من مزج الدٌن بالسٌاسة إلقناع المصرٌٌن بعبادة‬
‫االحتبلل عبر صحٌفته "األعبلم"‪ ،‬وذلك بؤن دعت إلى أن أوامر الدٌن تقضً باتباع الحاكم (توفٌق التابع‬
‫لئلنجلٌز حٌنها)‪ ،‬فتقول الصحٌفة‪" :‬فالخدٌو توفٌق منذ صعد منصة الخدٌوٌة كان أول خطاب له مإذن‬
‫بإجراء الحرٌة‪ ،‬ومن فروعها حرٌة المطبوعات‪ ،‬ولقد رأٌنا إصدار جرٌدتنا تنحو "منحى" المبلءمة بٌن‬
‫الشرٌعة والسٌاسة"‪ ،‬وأنه "لذلك أسسناها لتعضٌد سٌاسة حكومتنا السنٌة"‪.‬‬

‫واستدعت من التارٌخ أحداثا تخص مسلمٌن وفصلتها تفصٌبل جدٌدا لتبرر بها تؤٌٌد اإلنجلٌز‪ ،‬فقالت فً‬
‫٘‪( ٔ88‬بعد ٖ سنٌن من كسر ثورة ٔ‪" : )ٔ88‬إن الرسول أمر جمعا من أصحابه وفٌهم ابنته باالحتماء‬
‫بملك الحبشة وهو نصرانً من ظلم مشركً العرب‪ ،‬وأقاموا عنده مدة‪ ،‬وهذا دلٌل لجواز االحتماء بؽٌر‬
‫المسلم‪ ،‬وقد استدل به الفقهاء فً األفراد والعلة جارٌة فً الكل‪ ،‬والحالة الراهنة شاهدة به‪ ،‬فإن لم ٌكن تسلط‬
‫اإلنجلٌز الذي هو عبارة عن حراسة فقط مع بقاء األمور على مجراها كان تسلط ؼٌرهم وحالة الذٌن تحت‬
‫أٌدٌهم معلومة ولو مع أبناء ملتهم"‪ ،‬وٌلقح بهذا الكبلم أن اإلنجلٌز أفضل من العثمانلٌة(ٓٔ٘ٔ)‪.‬‬

‫ومن صحافة التجارة بالدٌن صحٌفتً "االعتدال"‪ ،‬و"البرهان للمؽربً حمزة فتح هللا لصالح السلطان‬
‫العثمانلً‪ ،‬وصب نارا على عرابً وكل المصرٌٌن فً عز احتدام المعارك مع اإلنجلٌز‪ ،‬فظل ٌفسر اآلٌات‬
‫واألحادٌث بما ٌعنً أن عرابً مذنبا‪ ،‬وشكا منه عرابً فً مذكراته وأورد أجزءا مما كتبه‪.‬‬

‫ثم تحولت جرٌدة "البرهان" ومعها "الزمان" العثمانٌتٌن لدعم اإلنجلٌز ضد أي حركة وطنٌة جدٌدة تتنفس‬
‫بعد االحتبلل‪ ،‬داعٌة المصرٌٌن إلى االستكانة‪ ،‬قالت "الزمان" فً صفحتها األولى‪" :‬االعتدال أسلم فلم تمر‬
‫بك األٌام التً تنسٌك هذه الؽصص والصروؾ التً جلبتها أعوان الحماقة"‪ ،‬فً إشارة إلى ثورة ٔ‪،ٔ88‬‬
‫وطالبت "البرهان" ٖ‪ ٔ88‬بتشكٌل لجنة من اإلنجلٌز والمصرٌٌن لتتبع الوطنٌٌن بعد ظهور أخبار عن‬
‫تشكل جمعٌات سرٌة تسعى الستكمال طرٌق ثورة ٔ‪ ٔ88‬ضد اإلنجلٌز‪" :‬حتى ٌطهر القطر من رجس‬
‫المفسدٌن"‪ ،‬كاشفة عن تخوفها من صحوة فبلحٌة جدٌدة‪ " :‬فكنا قد ظننا أنه ال ٌجرأ أحد من أبناء الببلد على‬
‫هذا السعً الممقوت ؼٌر أن شواهد األحوال نبؤتنا بؽٌر ما كان فً الحسبان"‪ ،‬معتبرة أن كل مصري ٌقاوم‬
‫اإلنجلٌز "خابن أثٌم"‪.‬‬

‫وفً ٗ‪ ٔ88‬دعت صحٌفة "الزمان" المصرٌٌن إلى النوم وترك السٌاسة لمن ٌفهم فٌها‪ ،‬خصوصا أن هللا‬
‫"أرسل إنجلترا لتساعد المصرٌٌن"(ٔٔ٘ٔ)‪:‬‬

‫نم فالمخاوؾ لهن أمان‬ ‫وإذا العناٌة الحظتك عٌونها‬

‫أمر آخر مدهش جدا‪ ،‬أن الٌهود والشوام المسٌحٌٌن دخلوا على خط الطرق الصوفٌة الشابع منذ االحتبلل‬

‫(ٓٔ٘ٔ)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٕ٘ٔ‪ٕٔٙ -‬‬
‫(ٔٔ٘ٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕٖٔ‪ٖٔ8 -‬‬

‫‪٘ٙ8‬‬
‫المملوكً فٌما ٌخص بث روح "الرضا بالظلم"‪ ،‬وكراهٌة أي مال أو منصب‪ -‬ولو كان قلٌبل‪ -‬حتى ٌموت‬
‫أي دافع لمقاومة النهب األجنبً لثروة البلد‪ ،‬فنجد الحاخام الٌهودي مزراحً صاحب جرٌدة "الحقٌقة" ٌكتب‬
‫مقاالت فً ٓ‪ ٔ89‬ضد المال!‪" :‬وكم من الناس سفكوا الدماء حبا بالمال‪ ،‬وكم انصرفوا بعٌدا عن األحبة‬
‫واألصدقاء طمعا فٌه‪ ،‬ومحبو المال كاألسرى فً أٌدي الشٌاطٌن‪ ،‬ثم إن المال ٌحمل صاحبه على الظلم"‬
‫وذلك "بعكس الفقٌر‪ ،‬فهذا بالكاد ٌسند رأسه عل مخدة النوم فٌرقد مسترٌحا‪ ،‬أما ذاك (الؽنً) فٌحٌا اللٌل‬
‫تابها فً بٌداء األفكار"‪ ،‬ولم ٌخبر الكاتب الٌهودي القراء هل هو وبنو ملته تنازلوا عن أطنان المال‬
‫والذهب التً جمعوها فً مصر أم ال؛ لٌصبح "مرتاح البال"‪.‬‬

‫بالمثل فعلت صحٌفة "المقطم" فتقول‪" :‬فالقنوع من ربَّى نفسه على الرضا والسرور‪ ،‬فٌرى البهجة والحبور‬
‫فً نور الشمس وضٌاء القمر وتؤللإ الكواكب"(ٕٔ٘ٔ)‪.‬ولٌسرح المصرٌون مع الكواكب بعٌدا عن سبب الكدر‬
‫األساسً وهو االحتبلل وأعوانه‪.‬‬

‫ودخلوا على خط الرواٌات فً تزوٌر التارٌخ لؤلجٌال المعاصرة والقادمة‪ ،‬فكتب إسكندر شاهٌن (ابن أخ‬
‫مكارٌوس شاهٌن) رواٌة ؼرامٌة باسم "تحفة العصر أو اإلنجلٌز فً مصر" ٌعدد فٌها محاسن اإلنجلٌز فً‬
‫مصر وأشكال االرتباط بٌنهم وبٌن المصرٌٌن وتعرض لثورة ٔ‪ ،ٔ88‬وخصصت وزارة المعارؾ جوابز‬
‫‪.‬‬
‫(ٖٔ٘ٔ)‬
‫على من ٌفوز من المصرٌٌن بمعرفة اللؽة اإلنجلٌزٌة‬

‫وٌصؾ سعد زؼلول‪ -‬وهو أحد المشاركٌن فً ثورة ٔ‪ -ٔ88‬لمحمد عبده متحسرا على االضطرابات‬
‫والتقلبات التً لعبت فً الرأي العام بعد سنٌن قلٌلة من الثورة‪" :‬الناس أخذوا فً نسٌان ما فات من الحوادث‬
‫وأهوالها‪ ،‬وقلت قالتهم فٌها‪ ،‬وخفت شماتة الشامتٌن منهم‪ ،‬وأصبح المادحون لئلنجلٌز من القادحٌن فٌهم‪،‬‬
‫وبالعكس"‪ ،‬وسعى إلصدار صحٌفة باسم "العدالة" لٌرد فٌها على مشاعر االستكانة واألكاذٌب التً تروجها‬
‫صحٌفة "المقطم" لكن اختٌاره قاضٌا أوقفه عن االستمرار‪.‬‬

‫أما محمد عبده نفسه فبعد حبسه ثم نفٌه عقابا على اشتراكه فً الثورة‪ ،‬فإنه حٌن قبلت حكومة االحتبلل‬
‫عودته من المنفى اشترطت علٌه عدم العمل فً الصحافة(ٗٔ٘ٔ)‪.‬‬

‫وبذلك سارت الحٌاة رتٌبة هانبة لبلحتبلل فً سنواته األولى‪ ،‬حتى عاب حافظ إبراهٌم على الشباب التفاهة‬
‫وتجاهل المثل العلٌا‪ ،‬مع االهتمام بالؽرٌب أكثر من أهله المصرٌٌن‪ ،‬وقال فً ٗٓ‪:ٔ9‬‬

‫حب الؽربا‬
‫ضها األهل َ و ُ‬
‫بؽ ُ‬ ‫أمة قد َف َّ‬
‫ت فى ساعـدها‬

‫تعشق اللهو و تهوى الطربا‬ ‫وهى واألحداث تستهدفها‬


‫(ٕٔ٘ٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔٗٓ -ٖٔ9‬‬
‫(ٖٔ٘ٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖٕ٘ و‪ٕ٘9‬‬
‫(ٗٔ٘ٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪7ٓ -ٙ9‬‬
‫*** قارن بٌن هذا الحال وبٌن شكوى فنانٌن ومخرجٌن ومإلفٌن فً الدراما والسٌنما حالٌا من ؼلق األبواب فً وجوههم فً تقدٌم فن مصري‬
‫ٌحمً القٌم والكبرٌاء المصرٌٌن‪ ،‬فً حٌن األبواب م فتوحة على آخرها أمام شركات إنتاج أجنبٌة أو محلٌة مشبوهة وفنانٌن وافدٌن ٌقدمون أسوأ‬
‫أنواع الفن‪ ،‬وٌصورون المصرٌٌن على أنهم هالفٌت وبلطجٌة ودواعر‪ ،‬وٌبعدهم كل البعد عن قضاٌاهم الحقٌقٌة‪ ..‬والتارٌخ للؽفالن دواٌر‪.‬‬

‫‪٘ٙ9‬‬
‫(٘ٔ٘ٔ)‬
‫أم بها صرؾ اللٌالى لعبـا‬ ‫ال تبالى لعب القــوم بها‬

‫وظلت الحركة الوطنٌة خافتة مطمورة تحت الرماد حتى فجرتها مرة أخرى مدبحة دنشواي‪.‬‬

‫وٌعترؾ كرومر بؤنه رؼم هذا الضؽط الصحفً لكن "الوطنٌة الحقٌقٌة استمرت حٌة طوال االحتبلل‪ ،‬ولو‬
‫أن صوتها كان خافتا إلى حد كبٌر"‪ ،‬وٌستدل سامً عزٌز على استمرار جذوة ثورة ٔ‪ ٔ88‬وتعلق الناس‬
‫بها باستمرار اشتداد الصحؾ العربٌة والتابعة لئلنجلٌز والعثمانلٌة وفرنسا فً تحقٌر شؤن عرابً‬
‫والفبلحٌن‪ ،‬فحٌن تردد أن عرابً قد ٌعود لمصر ٘‪ ٔ88‬تصدت جرٌدة "المحروسة" لصاحبها الشامً‬
‫خلٌل النقاش بنصح ملك إنجلترا‪" :‬أن ال تؤذن لزعٌم القتلة المخربٌن اآلثمٌن فً ٕ‪ ٔ88‬أن ٌرجع مارا‬
‫باألسكندرٌة أو مصر فإن فً هاتٌن المدٌنتٌن نساء ورجاال وأطفاال قد فجعوا بؤفبلذ أكبادهم بسبب زعٌم‬
‫العصابة"‪ .‬وقد تقصد بهإالء العاببلت األجنبٌة التً مات بعض أفرادها خبلل األحداث‪.‬‬

‫ولما ناقش مجلس العموم البرٌطانً عودة عرابً من المنفى ألن المسؤلة بٌنه وبٌن برٌطانٌا مسؤلة سٌاسٌة‬
‫انزعجت "المقطم" فً ٓ‪ ٔ89‬لتقول‪" :‬هل اؼتصاب الببلد وسفك دماء العباد واهتضام الحقوق مسؤلة‬
‫سٌاسٌة"(‪ .)ٔ٘ٔٙ‬فاعتبرت أن عرابً والفبلحٌن "اؼتصبوا" مصر‪ ،‬كؤنها تقرأ فً قاموس المسٌخ الدجال‪ ،‬من‬
‫ٌحرر ببلده "مؽتصب"‪ ،‬ومن ٌحتل ببلد ؼٌره بالسبلح أو بالصحافة "محرر"‪.‬‬

‫وحاربت "المحروسة" القومٌة المصرٌة‪ ،‬فكانت اتجاهاتها لدعم السلطان العثمانلً وفً نفس الوقت دعم‬
‫الثقافة الفرنسٌة ونشر صالوناتها(‪ ،)ٔ٘ٔ9‬وٌقول الشامً فارس نمر إن "المصرٌٌن عندما ٌتحدثوا عن‬
‫االستقبلل إنما ٌعنون حالة مشابهة لما علٌه تركٌا من سوء إدارة وإرهاب وبربرٌة فً كل صورها"(‪،)ٔ٘ٔ8‬‬
‫أي ال ٌصلحون لبلستقبلل‪.‬‬

‫وكان لصحافة الشوام فً مصر ٖ أفرع‪ :‬األول آداة تابعة النجلترا تدعو لبلحتبلل اإلنجلٌزي وتهاجم‬
‫السلطان العثمانلً ومنها "المقطم"‪" ،‬المقتطؾ"‪" ،‬اللطابؾ"‪" ،‬االتحاد المصري"‪.‬‬

‫والثانً أداة تابعة لفرنسا تدعو للثقافة والنفوذ الفرنسً فً مصر‪ ،‬وتإٌد أحٌانا السلطان العثمانلً ومنها‬
‫"المحروسة"‪" ،‬مصر"‪" ،‬التجارة"‪" ،‬األهرام"‪.‬‬

‫والثالث سٌظهر فً وقت متؤخر وهو تابع للجماعات الساعٌة إلحٌاء الخبلفة اإلسبلمٌة عقب خلع السلطان‬
‫عبد الحمٌد الثانً ‪ ،ٔ9ٓ8‬ومنها "المنار" و"الفتح"‪ ،‬وسٌكون لها دورها فً تكوٌن تنظٌم اإلخوان‬
‫المسلمٌن‪.‬‬

‫واألفرع الثبلثة‪ ،‬مع محاربتهم لبعضهم‪ ،‬إال أنهم متفقون على كراهٌة ثورة ٔ‪ ٔ88‬ومحو "مصر‬

‫(٘ٔ٘ٔ)‬
‫‪ -‬انظر المرجع السابق‪ ،‬ص ٔٗٔ‪ ،‬وقصٌدة "ؼادة الٌابان" فً دٌوان حافظ إبراهٌم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٖٔ‬
‫(‪)ٔ٘ٔٙ‬‬
‫‪ -‬الصحافة المصرٌة ومواقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬سامً عزٌز‪ ،‬ص ٖ٘ٔ‪ٖٔٙ -‬‬
‫(‪)ٔ٘ٔ9‬‬
‫‪ -‬جرٌدة المحروسة‪..‬صفحات من تارٌخ مصر السٌاسً واألدبً‪ ،‬تحقٌق بجرٌدة الشرق األوسط‪ ،‬العدد رقم ٓ٘‪ ،ٔٗٙ‬بتارٌخ ‪ٕٓٔ9 -ٔ -9‬‬
‫(‪)ٔ٘ٔ8‬‬
‫‪ -‬الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖٔ9‬‬

‫ٓ‪٘7‬‬
‫للمصرٌٌن"‪ ،‬وتمزٌق الوحدانٌة المصرٌة بانتماءات مسمومة لدول ومذاهب أجنبٌة وعبادة األجنبً‪.‬‬

‫واشتعلت نٌران صحٌفة "الوطن" على عبد هللا الندٌم ألنه من المصرٌٌن القبلبل الذٌن قدموا صحافة‬
‫مصرٌة حقٌقٌة‪ ،‬مع ما هو معروؾ عنه من دور جلٌل فً ثورة ٔ‪ ،ٔ88‬فاعتبرته ال ٌصلح صحفٌا‪،‬‬
‫وبكبلمه عن تحرٌر مصر من اإلنجلٌز ٌتدخل فٌما ال ٌعنٌه‪" :‬وخطؤ هإالء الناس تصدٌهم مما ال ٌعنٌهم‬
‫وحشر أنفسهم فً زمرة السٌاسٌٌن(‪ ،")ٔ٘ٔ9‬مع أن الندٌم من زعماء ثورة ٔ‪.ٔ88‬‬

‫ومن المإلم أن صحٌفة "الوطن" صاحبها "مصري"‪ ،‬هو مٌخابٌل عبد السٌد‪ ،‬وإن كان العجب ٌقل إذا علمنا‬
‫أن صاحبها خرٌج مدارس األمرٌكان التبشٌرٌة بالقاهرة‪ ،‬ذات المدارس التً تخرج منها الصحفٌون الشوام‬
‫فً ببلدهم‪ ،‬مدارس اإلرسالٌات التبشٌرٌة فً الشام‪ ،‬وكان له صدقاته الوطٌدة بهم‪.‬‬

‫وصارت هذه الصحؾ وؼٌرها ال تذكر عرابً والفبلحٌن المتمسكٌن بالثورة إال بكلمة "العصاة"‪،‬‬
‫"الطاعون"‪" ،‬الطؽاة البؽاة"ـ "العصابة"‪" ،‬الفبة الباؼٌة"‪" ،‬األشقٌاء المفدسٌن المتمردٌن"‪ ،‬وتصؾ الخدٌو‬
‫واإلنجلٌز ومن سار ورابهم بؤنهم "أصحاب المروءة"‪ ،‬و"المحررٌن"‪ ،‬و"المصلحٌن"(ٕٓ٘ٔ)‪.‬‬

‫وخبلل تنظٌمه ألمور احتبلل مصر أوصى دوفرٌن فً تقرٌره بؤنه "ٌلزم لجعل هذه النظم مثمرة وفعالة أن‬
‫تمنح الصحافة حرٌة تامة"‪ ،‬لكن حرٌة لمن؟ فعقب هذه الكلمة لقٌت الصحؾ المصرٌة حتفها واحدة وراء‬
‫األخرى كالـ"الطابؾ"‪ ،‬و"المفٌد"‪ ،‬و"السفٌر"‪ ،‬و"النجاح"‪ ،‬ومنتشٌا قال فارس نمر إن الحرٌة المعطاة‬
‫للصحافة فً مصر أوسع نطاقا من حرٌة الصحافة فً فرنسا ذاتها‪ ،‬فٌما قال حسن حسنً صاحب صحٌفة‬
‫"النٌل" (صاحبها عثمانلً مإٌد لئلنجلٌز) إن "الحرٌة المعطاة لجرابدنا المصرٌة هً فوق الكفاٌة"‪ ،‬وٌصؾ‬
‫الصحفٌون الشوام مصر بؤنها "مصر الحرة"‪ ،‬التً اتخذها "األحرار"‪ٌ ،‬قصد الشوام "موطنا لهم"‪ ،‬وأنها‬
‫انتفعت بهم كما انتفعوا بها‪ ،‬وٌعلق على هذا سامً عزٌز‪ٌ" :‬تبٌن أن حرٌة الصحافة فً عهد كرومر إذن‬
‫كانت أسطورة ضخمة كثر الحدٌث عنها"(ٕٔ٘ٔ)‪.‬‬

‫❷ (تلمٌع األوربة‪ ..‬قلع الجذور)‬

‫لٌس شًء ٌربط بٌن أبناء الشعب وبٌنهم وبٌن وطنهم مثل وجود أشٌاء متماثلة بٌنهم فً الفكر واألكل‬
‫والكبلم والعادات والتقالٌد واللبس والسلوكٌات‪ ،‬ألنها تصنع األلفة وشعور الوحدانٌة‪ ،‬ولٌس ٌربط شعب‬
‫بؤمة أجنبٌة مثل أن تتحول هذه األشٌاء من وطنٌة إلى تقلٌد األمة األجنبٌة‪ ،‬فبل ٌرى لنفسه معنى وال قٌمة‬
‫إال حٌن ٌلبس وٌؤكل وٌشرب وٌفكر وٌتكلم وٌعٌش مثلها‪ ،‬حتى ٌتمسك بها تمسك الرضٌع بؤمه‪ ،‬وإن كانت‬
‫احتبلال فتاكا‪.‬‬

‫ولوحظ أن الصحؾ التً أصدرها الشوام على أنها صحؾ حقوقٌة أو زراعٌة أو علمٌة أو أدبٌة تسخر هذه‬

‫(‪)ٔ٘ٔ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٖٔٙ‬‬
‫(ٕٓ٘ٔ)‬
‫‪ -‬المرجع السابق نقبل عن جولة فً "األهرام"‪" ،‬المقتطؾ"‪" ،‬المحروسة"‪"" ،‬الوطن"‪ ،‬وؼٌرها‬
‫(ٕٔ٘ٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٘‪ 99 -9‬وٗ‪ٔ8‬‬

‫ٔ‪٘7‬‬
‫المجاالت لتملٌع االحتبلل أٌضا‪ -‬ولٌس فقط الصحؾ السٌاسٌة‪ -‬وإؼراء المصرٌٌن بالبعد عن كل ما هو‬
‫مصري‪ ،‬فمثبل "المقتطؾ" العلمٌة حٌن تصدر مقاال علمٌا عن تكوٌن الثروة فً برٌطانٌا تشٌد بطرق‬
‫برٌطانٌا فً تكوٌن الثروة وأنها قدوة لؤلمم‪ ،‬ومجلة "الحقوق" القضابٌة لصاحبها شبلً شمٌل (خرٌج‬
‫مدرسة األمرٌكان ببٌروت) تكتب أن مصر "لم ترتع منذ قرون عدٌدة بما ترتع به فً األزمنة الحاضرة من‬
‫بحابح األمن والعدالة"‪ ،‬وصحٌفة "اللطابؾ" األدبٌة لصاحبها شاهٌن مكارٌوس قدمت الملكة فكتورٌا‪ -‬التً‬
‫تم فً عهدها احتبلل مصر‪ -‬بؤن من مآثرها أنها أسست فً" الشعب اإلنجلٌزي حب االستعمار"‪ ،‬وهكذا‬
‫جرى حصار الوعً المصري فً الحاضر والمستقبل فً كل االتجاهات‪ ،‬ومداومة االطبلع على مثل هذا‬
‫المحتوي "ستتكون منه رواسب ترسخ بمرور الوقت حتى تصبح ٌقٌنا"(ٕٕ٘ٔ) ولٌس صعبا اختبار صحة هذا‬
‫الكبلم‪ ،‬فإن طاعون تمجٌد االحتبلل الذي نراه فً كثٌر من المصرٌٌن المتعلمٌن الٌوم وإشادتهم بعصور‬
‫االحتبلالت أكبر برهان‪.‬‬

‫ومن وساٌل تكرٌه المصري فً أي شًء ٌخص الفبلح المصري‪ ،‬حتى قٌمه‪ ،‬هو ربط كل خلق حمٌد‬
‫بؤوروبا ولٌس بمصر‪ ،‬حتى لو ٌوجد مثله أو أفضل منه فً القٌم المصرٌة‪ ،‬فاهتمت صحؾ الحزب‬
‫الفرنساوي الشامٌة مثل "المحروسة"‪ ،‬و"األهرام" بتسوٌق كل ما هو فرنسً فً األدب والسلوكٌات‬
‫والعادات وطرق الكبلم‪ ،‬ودعت صحؾ الحزب اإلنجلٌزي كـ "المقطم"‪ ،‬و"اللطابؾ" و"االتحاد المصري"‬
‫لبلقتداء بالملوك واألدباء اإلنجلٌز‪ ،‬فمثبل تقول الصحٌفة األخٌرة‪" :‬ما من شًء ٌفضً إلى الملل نظٌر‬
‫ال حدٌث المكرر حتى ولو كان قابله من فطاحل الرجال‪ ،‬ولو اقتدى هإالء باإلفرنج واقتصروا على إظهار‬
‫أفكارهم باختصار ألراحوا الناس"‪ ،‬رؼبة فً إشعار الفبلح بؤنه متخلؾ ال نجاة له إال أن ٌكون مسخا‬
‫أوروبٌا‪.‬‬

‫وأشهر مظاهر تقلٌد المصرٌٌن‪ -‬بعض المتعلمٌن‪ -‬ألوروبا استسهال شرب الخمر‪ ،‬القمار‪ ،‬ترك الجبلبٌة‬
‫الفبلحً والتباهً بالموضة األوروبً‪ ،‬استخدام التحٌات والتعبٌرات األجنبٌة‪ ،‬استسهال العبلقات المحرمة‬
‫بٌن شباب وشابات وٌسمونها "شقاوة"‪ ،‬أو "حٌاة عصرٌة"‪" ،‬حفبلت الرقص الؽربً"‪" ،‬تصمٌم المنازل‬
‫واختٌار أثاثها على الطراز الفرنسً واإلٌطالً‪ ،‬االتجاه للزواج باألجانب‪ ،‬تسمٌة األسامً األجنبٌة‪ ،‬سباقات‬
‫الخٌل‪ ،‬انزالق بعض المصرٌٌن إلى المذاهب الؽربٌة الدٌنٌة الوافدة كالبروتستانت والكاثولٌك‪ ،‬والمذاهب‬
‫السٌاسٌة كاللٌبرالٌة الرأسمالٌة باعتبار أن الحزبٌة رؼم ما تجلبه من فرقة وخصومة هً األساس الصحٌح‬
‫لحٌاة دٌمقراطٌة‪ ،‬انتعاش التفكٌر المادي‪ ،‬اعتبار كل األخبلق المصرٌة "دَقة قدٌمة"‪ ،‬تفضٌل اآلداب‬
‫والرواٌات األوروبٌة‪ ،‬اختصار كلمة حضارة فً أوروبا‪ ،‬إلخ‪.‬‬

‫وعلى حد وصؾ أحد الكتاب الفرنسٌٌن وقتها فإن "االحتبلل لن ٌؤتً بشعب جدٌد إلى مصر‪ ،‬ولكنه ٌعمل‬
‫بصبر على تؽٌٌر األسس التً تقوم علٌها مقومات الشعب"(ٖٕ٘ٔ)‪.‬‬

‫(ٕٕ٘ٔ)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٕٔٔ -ٔٔٙ‬‬
‫(ٖٕ٘ٔ)‬
‫‪ -‬الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٕٗ‬

‫ٕ‪٘7‬‬
‫هزا قبل نفٌه األخٌر ٌقول إن تفرنج الببلد ٌمحو التقالٌد‬‫وهز قومه المصرٌٌن َّ‬ ‫َّ‬ ‫ولمس هذا عبد هللا الندٌم‪،‬‬
‫المصرٌة والعادات المصرٌة‪ ،‬وٌضعؾ اإلٌمان بالخلق اإلسبلمً نفسه إلى األبد(ٕٗ٘ٔ)‪ ،‬كما رصده طه حسٌن‬
‫فً كتابه "مستقبل الثقافة فً مصر"‪ ،‬وأن البلد تحولت فً التعلٌم ونظام الحكم إلى النمط األوروبً‪" :‬ما‬
‫فً ذلك شك وال نزاع‪ ،‬نحن كون أبناءنا فً مدارسنا األولٌة والثانوٌة والعالٌة تكوٌنا أوروبٌا ال تشوبه‬
‫شاببة"(ٕ٘٘ٔ)"‪ ،‬وإن كان هذا لم ٌتع َّد األؼنٌاء والمتعلمٌن‪.‬‬

‫وصرح كرومر فً كتابه "مصر الحدٌثة" بؤن الشرط األساسً لتوظٌؾ المصرٌٌن "تشبعهم بالحضارة‬
‫األوروبٌة‪ ،‬وأن ٌكونوا قد حصلوا على التعلٌم البلزم لتطبٌق النظرٌات الؽربٌة فً النظم الحكومٌة"‪،‬‬
‫وبالمثل ٌقول ألفرٌد ملنر فً كتابه "إنجلترا فً مصر"‪ ،‬إن "هدؾ االحتبلل لم ٌكن نجلزة أصحاب السلطة‬
‫المصرٌٌن من ناحٌة المبادئ السٌاسٌة‪ ،‬لكن كان الهدؾ نجلزتهم من الناحٌة المعنوٌة حتى ٌإدوا مهامهم‬
‫بنفس الروح التً ٌإدٌها بها الفرد اإلنجلٌزي"‪.‬‬

‫وباطمبنان توقع كرومر نجاحه وهو ٌقول عن المصرٌٌن‪" :‬فهم مؽرمون بالتقلٌد"‪ ،‬وأنه "طالما بقً‬
‫اإلشراؾ اإلنجلٌزي فً الببلد فإن المصرٌٌن سٌحاولون تقلٌد كل ما ٌقوم به اإلنجلٌز‪ ،‬وهكذا لن تكون هنك‬
‫حاجة كبرى إلى استخدام عدد ضخم من اإلنجلٌز فً المناصب الصؽٌرة"(‪.)ٕٔ٘ٙ‬‬

‫وشعر بوطؤة هذا صبحً حمٌدة فً كتابه القٌم "فً أصول المسؤلة المصرٌة" فً األربعٌنات‪ -‬أي بعد‬
‫نضج سٌاسة كرومر لحد ما‪ -‬ونهض ٌحذر قومه المصرٌٌن‪" :‬وبذلك ٌتولى اإلشراؾ على أحوال مصر‬
‫على وجه العموم العناصر الفتٌة التً نالت نصٌبا من التربٌة الؽربٌة دون أن ٌكون لها حظ كبٌر من الثقافة‬
‫الشرق ٌة الصحٌحة‪ ،‬وٌدفع بها التٌار الؽربً إلى أجهزة الحكم دون العناصر التً كان ٌحق للمجتمع بتكوٌنه‬
‫الزراعً الدٌنً أن ٌرسلها إلٌها (المتمسكٌن بؤنهم فبلحٌن) لو لم ٌكن هذا التٌار الؽربً بمقتضٌاته‬
‫االجتماعٌة ونفوذه السٌاسً‪ ،‬والجو الؽربً الذي ٌنفذ على هذا النحو إلى حٌاتنا العامة والخاصة جمٌعا ٌدفع‬
‫بظواهرها إلى النضوج العاجل‪ ،‬ولكنه ٌضعؾ فً نفس الوقت من حٌوٌتها وٌمٌل بها عن مجراها الطبٌعً‪،‬‬
‫وتصاب بالسطحٌة واالضطراب والسقوط فً التقلٌد"(‪.)ٕٔ٘9‬‬

‫وإلى جانب تسلٌم الصحافة والتعلٌم ألجانب‪ ،‬اهتم اإلنجلٌز بالدفع بعدد كبٌر من الجالٌات األجنبٌة إلى مصر‬
‫باسم عمالة أو الجبٌن فارٌن من الحروب‪ ،‬فارتبطوا بالمصرٌٌن جٌرانا وزمبلء عمل وفً األسواق‬
‫والمواصبلت وحولوا المحبلت إلى أوروبٌة للمنتجات األوروبٌة والسلع األوروبٌة واللبس األوروبً‬
‫واألكل األوروبً‪ ،‬لنشر الذوق األوروبً فً كل أمر‪ ،‬ثم تعزز هذا بالسٌنما(‪ ،)ٕٔ٘8‬وتحول قلب القاهرة‬
‫"وسط البلد" بؤسامً محبلتها األجنبٌة "شٌكورٌل‪ ،‬هانو‪ ،‬رٌفولً‪ ،‬تسٌباس‪ ،‬جروبً‪ ،‬إلخ" بما تحوٌه من‬
‫بضاٌع أجنبٌة وموظفٌن أجانب‪ ،‬ولؽة أجنبٌة إلى قطعة من أوروبا‪ ،‬حتى سخر الصحفً محمد التابعً فً‬

‫(ٕٗ٘ٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕٕ٘‬
‫(ٕ٘٘ٔ)‬
‫‪ -‬مستقبل الثقافة فً مصر‪ ،‬د‪ .‬طه حسٌن‪ ،‬طٕ‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪ ٔ8 -ٔٙ‬وٖٗ‬
‫(‪)ٕٔ٘ٙ‬‬
‫‪ -‬الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٕٗ‬
‫(‪)ٕٔ٘9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬صٕٖٕ‬
‫(‪)ٕٔ٘8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ‪ٕ8‬‬

‫ٖ‪٘7‬‬
‫مقالة بمجلة "آخر ساعة" سنة ٕٗ‪ٌ ٔ9‬طالب بافتتاح سفارة مصرٌة فً وسط القاهرة(‪.)ٕٔ٘9‬‬

‫❸ (صناعة المسخ األوروبً)‪ ..‬صندوق معبؤ بالقمامة‬

‫وعن اقتبلع الجذور قال كرومر ما ٌعنً أنه ال ٌهمه أن ٌتحول المصرٌون المسلمون إلى مسٌحٌٌن‪ ،‬أو أن‬
‫ٌتحول المصرٌون المسٌحٌون األرثوذكس إلى المذهب البروتستانتً اإلنجلٌزي‪ ،‬لكن المهم أن ٌتخلص من‬
‫جذور شخصٌته المصرٌة وما ٌرتبط بها من إسبلم أو مسٌحٌة‪ ،‬فٌجد نفسه متقلدا للحضارة األوروبٌة‪،‬‬
‫وبمعنى أصح هدفه أن ٌكون تابعا‪ ،‬وٌقول‪" :‬فالحضارة األوروبٌة تقضً على دٌن دون أن تستبدل به‬
‫ؼٌره‪ ،‬فالمصري الذي قد نطلق علٌه "صاحب التفكٌر الحر" ٌجد نفسه فً خضم هابل دون مرشد أو هاد‪،‬‬
‫إنه ال ٌجد من تارٌخه الماضً وال من ظروفه الحاضرة سندا أخبلقٌا ٌعتمد علٌه‪ ،‬إنه ٌرى دٌنه راؼبا عن‬
‫التجدٌد‪ ،‬أما الدٌن الذي ٌقبل اإلصبلح والتجدٌد فهو دٌن آخر‪ ،‬لذلك فإنه ٌتجه إلى ترك الدٌن جانبا‪ ،‬وهذا‬
‫فإ نه بحرمان نفسه من عقٌدته لن ٌجد رادعا أخبلقٌا‪ ،‬وفً الوقت نفسه ٌحاول تقلٌد األوروبً‪ ،‬وال ٌترك هذا‬
‫المصري عقدٌته خلؾ ظهره فحسب‪ ،‬بل إنه ٌترفع عنها وٌزدرٌها‪ ،‬وهكذا ٌندفع مؽمض العٌنٌن بٌن‬
‫أحضان الحضارة األوروبٌة ؼٌر مدرك لحقٌقة هامة‪ ،‬هً أن ما ٌراه لٌس سوى المظهر الخارجً لتلك‬
‫الحضارة‪ ،‬بٌنما تستقر المعنوٌات المسٌحٌة ]البروتستانتٌة األوروبٌة[ تحت هذا المظهر وتتحكم فً‬
‫تحركاته‪ ،‬وٌصعب على مقلد الحضارة األوروبٌة أن ٌحصل علٌها"‪.‬‬

‫وسمى هذا النوع من المصرٌٌن بـ"المسلمٌن األحرار"‪ ،‬الذٌن "تركوا ماضٌهم وتارٌخهم‪ ،‬وأصبحوا ال‬
‫ٌك ترثون لشبون دٌنهم الذي ولدوا فٌه‪ ،‬وال ٌهابون التصرٌح باإللحاد"‪ ،‬و"اعتزم األحرار المسلمون اتخاذ‬
‫القواعد التً جرى علٌها الؽرب فً تقدمه ورقٌه واتخاذها أساس لما أنشؤوه من إصبلحات"(ٖٓ٘ٔ)‪.‬‬

‫إن هذا الكبلم حرفٌا هو ما رسمته ٌد واٌزهاوبت وباٌك وبروتوكوالت تنظٌم "النارٌٌن" عن زعزعة إٌمان‬
‫الشعوب بؤصولها وحضارتها ودٌنها وقٌمها لقلع جذورها فتصبح "رٌشة فً هوا" مهزوزة وسهلة التسٌٌر‬
‫من الخارج‪ ...‬هو نفس الكبلم حرفٌا‪.‬‬

‫ففً كتابه الشهٌر "أحجار على رقعة الشطرنج"‪ ،‬نقل ولٌام جً كار أنه فً ٘ٔ أؼسطس ٔ‪ ٔ89‬أخبر‬
‫الجنرال باٌك ناببه مازٌنً فً رسالة بعد عرض مراحل تدمٌر األدٌان والحضارات القدٌمة أنه نتٌجة لذلك‬
‫"ستكون هذه الجماهٌر بحاجة متعطشة إلى أٌة عقٌدة وإلى من تتوجه إلٌه بالعبادة‪ ،‬فتبلقً عندبذ النور‬
‫الحقٌقً‪ ..‬من عقٌدتنا نحن‪ -‬عقٌدة النورانٌٌن الشٌطانٌة التً ستصبح ظاهرة عالمٌة‪ ،‬وستقدم آنبذ وأخٌرا إلى‬
‫الجماهٌر بصورة علنٌة‪..‬وسٌكون تولد هذه الظاهرة نتٌجة لرد الفعل العام لدى الجماهٌر تتبع مباشر تدمٌر‬
‫المسٌحٌة واإللحاد معا وفً وقت واحد"(ٖٔ٘ٔ)‪.‬‬

‫مصرٌون لٌسوا بمصرٌٌن‪ ،‬ومسلمون لٌسوا بمسلمٌن‪ ،‬ومسٌحٌون لٌسوا بمسٌحٌٌن‪ ،‬حتى الملحدٌن‬

‫(‪)ٕٔ٘9‬‬
‫‪ -‬تطور الرأسمالٌة المصرٌة‪ ،‬نخبة من الباحثٌن‪ ،‬دار الكتب والوثابق القومٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٙ‬‬
‫(ٖٓ٘ٔ)‬
‫‪ -‬الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٖٓ‬
‫(ٖٔ٘ٔ)‬
‫‪ -‬أحجار على رقعة الشطرنج‪ ،‬ولٌام جً كار‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔ‬

‫ٗ‪٘7‬‬
‫سٌفاجبون بؤنهم لٌسوا بملحدٌن‪ ..‬جمٌعهم بٌن قرون الشٌطان راكعٌن‪.‬‬

‫وتولت صحؾ شامٌة تطبٌق هذه السٌاسة‪ ،‬فتبنت "المقتطؾ" الدعوة للتحلل من الدٌن‪ ،‬وٌقول المإرخ‬
‫لصحافة ذلك العصر قسطاكً الحلبً إن "كلمة المقتطؾ قد ترجع بداهة لذهن القراء اقتطاؾ ما فٌه نفع‬
‫الناس من العلوم‪ ،‬ولكن أصحاب هذه المجلة جعلوا جُل اقتطاؾ المقتطؾ على كل بدعة ظهرت على وجه‬
‫األرض بشكل أن ال تعرؾ أصل مبتدع البدعة‪ ،‬كالشك فً كل شًء دون أن ٌقولوا هذه بدعة‪ ،‬وكذلك‬
‫التهكم على األدٌان دون أن ٌذكروا فولتٌر وروسو وماركس وأناتول فرانس‪ ،‬بل وبالنؽمة التً اعتادوا‬
‫علٌها وهً‪ :‬هذا ٌقبله العقل وهذا ٌرفضه؛ تضلٌبل للبسطاء وسلٌمً النٌة‪ ،‬وفً نفس الوقت ٌؽدقون المدح‬
‫فً "عظمة العظماء وجبابرة العقول" الملحدٌن وكارهً األدٌان ودعاة المجون وٌضعونهم أو ٌسلمونهم‬
‫للناس كؤنهم فبلسفة وحكماء‪ ،‬وٌنشرون أقوالهم كتعالٌم أحق أن تتبع؛ فٌرددها الناس دون أن ٌعرفوا حقٌقة‬
‫أصحابها وأهدافهم‪ ،‬كذلك تقدٌم هللا على أنه "ؼٌر عادل" بسبب وجود أؼنٌاء وفقراء(ٕٖ٘ٔ)‪.‬‬

‫❹ (عبادة القوة المادٌة) أخالق المرتزقة‬

‫فً نفس الوقت سوقت "المقتطؾ" لنظرٌة داروٌن‪ ،‬لٌس من باب الشرح واإلطبلع على علوم اآلخرٌن‪،‬‬
‫لكن من باب التسوٌق لها كؤنها دٌن وهم دعاته‪ ،‬وهً نظرٌة تقوم على زرع النفعٌة واألنانٌة فً النفوس‪،‬‬
‫وكراهة األخبلق والتضحٌة ألجل اآلخرٌن‪ ،‬فتقول "البقاء لؤلقوى"‪ ،‬والضعٌؾ البد أن ٌضمحل‪ ،‬وهو‬
‫"مذهب حٌوانً صرؾ"‪ ،‬وبما أن اإلنجلٌز "أقوى األمم"‪ ،‬وقد احتلوا مصر الضعٌفة فعلٌهم أن ٌتمتعوا‬
‫بخٌراتها‪ -‬وعلى الشعب المصري الضعٌؾ أن ٌشكر لهم صنٌعهم وٌباشر زرع أراضٌه بكل اطمبنان(ٖٖ٘ٔ)‪.‬‬

‫هً لب عقٌدة كل احتبلل ومعتدي‪ ،‬أنه "صاحب الحق فً مصر ألنه صاحب حق فتحها بالسٌؾ"‪ ،‬أي‬
‫بالقوة فالبقاء لؤلقوى‪ ،‬وتتمم مذهب آدم سمٌث بؤن األقدر على كسب الثروة‪ -‬بؤي طرٌق‪-‬فهو أحق بثروة‬
‫األمم‪ ..‬فلماذا نقاوم االحتبلل إذن؟ ولماذا ال تترك الشعوب أوطانها وثرواها فً المستقبل تدٌرها حكومة‬
‫عالمٌة واحدة‪ ..‬إن قدمت نفسها على أنها األقوى؟‬

‫كذلك ٌقدس مذهب دارون المادة من ناحٌة أخرى حٌن ٌقول إن الكون كله أصله المادة‪ ،‬وال شًء وراء‬
‫المادة (ال إله وال جنة وال آخرة) وحتى الفكر والعاطفة مجرد مظهر من مظاهر المادة‪ ،‬فبل نفس وال روح‬
‫وال دٌن وال إله‪ ،‬وقدمت "المقتطؾ" المذهب فً ‪ 8‬صفحات‪ ،‬وقالت إنه "انحاز إلٌه كافة العلماء"‪ ،‬وعكؾ‬
‫شبلً شمٌل‪ ،‬صحفً شامً هاجر لمصر‪ ،‬على التسوٌق لكتاب داروٌن‪ ،‬وحرصت الصحؾ على أن ٌكون‬
‫مذهبه أداة جدل ومناقشة‪ ،‬ودعم الجهر باإللحاد ألنه "على أساس علمً"‪.‬‬

‫وتقول "المقتطؾ" عن أهدافها من عرض مثل هذه النظرٌات وعن سبب تخصصها فً العلوم من أساسه‪:‬‬
‫"إن المطلع على أحوال المجبلت العلمٌة "ٌحكم بؤن أتعابها تزٌد على أرباحها‪ ،‬والذٌن ٌنشبونها فً الشرق‬

‫(ٕٖ٘ٔ)‬
‫‪ -‬الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬سامً عزٌز‪ ،‬ص ٕٖٓ‬
‫(ٖٖ٘ٔ)‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖٖٓ‬

‫٘‪٘7‬‬
‫ٌخطبون أكبر خطؤ إذا اتخذوها وسٌلة الكتساب المال‪ ،‬والمقصد األول من المقتطؾ ترؼٌب القراء فً‬
‫العلوم والمعارؾ وتربٌة ذوقهم علٌها"(ٖٗ٘ٔ)‪ ،‬هل ٌعنً هذا أنها لملمت ثوبها وتركت الشام إلى مصر لتعلم‬
‫المصرٌٌن النظرٌات العلمٌة حتى لو خسرت من أجلهم المال؟!‬

‫جاءت اإلجابة من الجمعٌة البرٌطانٌة الفلسفٌة (مجمع فٌكتورٌا) برسالة تمدحها فٌها وتقول‪" :‬علم مجمعنا‬
‫من المصادر الصادقة بؤعمالكم المفٌدة والفوابد العدٌدة الصادرة عن المقتطؾ فً نشر العلوم والمعارؾ‬
‫وبث روح البحث والمطالعة فً مصر خصوصا والشرق عموما‪ ،‬لذلك ندعوكم إلى عضوٌة مجمعنا إذ‬
‫ؼاٌتنا االتحاد مع من ٌسعى هذا المسعى الحمٌد فً أقطار العالم"(ٖ٘٘ٔ)‪ .‬فلماذا مجمع فٌكتورٌا التً احتلت‬
‫مصر فً عهدها وجلس ابنها بجانب توفٌق فً موكب "نصر الفتح اإلنجلٌزي"‪ ،‬حرٌصة على "نشر‬
‫المعارؾ" فً مصر؟ وأي معارؾ هً المقصودة؟‬

‫تؤتً اإلجابة هذه المرة من كرومر وهو ٌتحدث عن إٌمانه "بؤن التقدم المادي الذي سٌنتج بعد االحتبلل‬
‫سٌكون سببا فً خلق رأي عام ٌتفاعل مع االحتبلل وٌتعاون معه فً شبون الحكم‪ ،‬وٌمنع األهالً من‬
‫االتجاه نحو معادة اإلنجلٌز"‪.‬‬

‫وٌشخص كرومر ببصره فً المستقبل ثم ٌعود إلى عصره مطمبنا‪ ،‬ومركزا على الفبلحٌن المصرٌٌن‪،‬‬
‫مخزن الحضارة والروح الطاهرة‪" :‬األجٌال القادمة من الفبلحٌن المصرٌٌن سٌنظرون بعٌن التقدٌر إلى أن‬
‫ما ٌنالهم من خٌر هو نتٌجة للسٌاسة البرٌطانٌة فتتدفق علٌهم الخٌرات المادٌة التً تؤتً فً أثر الحضارة‬
‫األوروبٌة وتفتح أمامهم الطرٌق للتقدم المعنوي ورفع المستوى الفكري"‪ ،‬وٌإكد أن هذا االعتقاد سوؾ ٌدوم‬
‫"‪ ،‬وأنه "لٌس هناك أدنى شك فً أن هذه السٌاسٌة سوؾ تتحقق"(‪.)ٖٔ٘ٙ‬‬

‫ومن أول مظاهر هذا التحقق‪ -‬إضافة الكتساب عادة الجدل والمنظارة ألجل المؽالبة ال المناقشة‪ ،‬والتشكك‬
‫فً كل شًء‪ -‬أخذ بعض المصرٌٌن ٌستبلدون بالقدٌم الذي كانوا علٌه الجدٌد الذي وصل بلدهم على أٌدي‬
‫األوروبٌٌن"؛ فالقروش القلٌلة التً استطاع بعضهم توفٌرها حٌن انتهت الضراٌب العشوابٌة الموروثة من‬
‫أٌام إسماعٌل وتوفٌق صاروا ٌدفعونها فً أنواع من األكل واألثاث والمبلبس والفسح والمطاعم لم ٌكونوا‬
‫محتاجٌن لها‪ ،‬ولم تضؾ لهم شًء سوى "التلذذ بإحساس أنه ٌعٌش زي األوروبٌٌن"‪ ،‬وقال عبد هللا الندٌم‬
‫فً جرٌدة "األستاذ" ٕ‪ ٔ89‬محذرا من هذا الؽزو إنه‪" :‬زمن هجمت فٌه جٌوش األزٌاء والتقالٌد فانتزفت دم‬
‫ثروتنا"‪ ،‬وعززت الصحؾ الشامٌة هذا اإلحساس بتلخٌص إحساس التفوق عند المصري فً اتباع العادات‬
‫األوروبٌة‪.‬‬

‫وكصدى للنظرٌات المادٌة حرصت الصحؾ التابعة لئلنجلٌز على تربٌة "روح المرتزقة" عند‬
‫المصرٌٌن‪ ،‬بمعنى أ نه مدام االحتبلل ٌؤتً لً بمصلحة مادٌة فإن "األصلح" هو التمسك باالحتبلل‪ ،‬بؽض‬

‫(ٖٗ٘ٔ)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٖٖٓ‪ٖٓٗ -‬‬
‫(ٖ٘٘ٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖ٘ٓ‬
‫(‪)ٖٔ٘ٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖ٘ٓ‪ ٖٓٙ -‬نقبل عن كتاب جون مارلو "تارٌخ العبلقات المصرٌة البرٌطانٌة ٓٓ‪)ٔ9ٖ٘ -ٔ8‬‬

‫‪٘7ٙ‬‬
‫النظر عن الكرامة والشرؾ واالعتماد على النفس‪ ،‬فتقول "المقطم" فً ٔ‪ ٔ89‬مثبل‪" :‬إذ ال ٌخفى أن أكثر‬
‫صادرات القطر المصري ترسل إلى إنجلترا‪ ،‬والتجار ال ٌبعثون بحاصبلتهم إلى إنجلترا إال ألن سوقها فٌها‬
‫أحسن من ؼٌرها‪ ،‬ولو حدث حادث ٌمنع إرسال الحاصبلت المصرٌة إلى ببلد اإلنجلٌز ]كثورة أو مقاومة‬
‫أو مقاطعة[ لخسرت الدٌار المصرٌة خسارة ال تقدر‪ ،‬أفبل ٌلٌق بهذا القطر أن ٌحافظ على سوق ال ؼبن فٌها‬
‫وال مشقة مهما بذل من الجهد فً ذلك"(‪.)ٖٔ٘9‬‬

‫وٌرصد معاصرون مظاهر هذه الدفقة الؽزٌرة والملحة من الثقافة األجنبٌة‪ ،‬أن شاع شًء آخر جدٌد جدا‬
‫هو ظهور "صراع األجٌال"‪ ،‬فٌقول لوثروب ستودارد إنه فً فترة صؽٌرة جدا فإن التباٌن العقلً‬
‫واألخبلقً أخذ ٌتسع بٌن أفراد الجٌل الواحد‪ ،‬وحدث سوء الفهم بٌن اآلباء واألبناء‪ ،‬وتنكر األبناء آلبابهم‪،‬‬
‫واشتد التنافر بٌن القدٌم والجدٌد(‪ ،")ٖٔ٘8‬فاالبن ٌرى نفسه "شاب عصري"‪ ،‬وأبٌه "موضة قدٌمة"‪.‬‬

‫وٌصؾ عبد الرحمن الرافعً المعاصر لهذا الوقت الحال‪" :‬وأصبح سبٌل النجاح سواء فً المناصب أو‬
‫الحٌاة االجتماعٌة هو الوالء لبلحتبلل والزراٌة بالمبادئ الوطنٌة وقلة اإلخبلص للببلد‪ ،‬ودرج الناس على‬
‫هذه الحالة وألفوها‪ ،‬حتى عدوها كؤنها حالة عادٌة‪ ،‬وكان الخروج علٌها ضرب من السخؾ أو الجنون‪،‬‬
‫وهكذا ٌمسخ الحكم األجنبً نفسٌة األمة‪ ،‬وٌفقدها الروح القومٌة والكرامة"(‪.)ٖٔ٘9‬‬

‫ورفعت صحٌفة "اآلداب" لصحابها علً ٌوسؾ صوتها برفض ما ٌجري أن األجانب "تسوروا ببلدنا‪،‬‬
‫ونصبوا لنا شباكا لٌستنزفوا ماء الثروة‪ ،‬وٌمتصون عروق الحٌاة"‪ ،‬وتحاول إحٌاء الؽٌرة الوطنٌة فً روح‬
‫المصري‪" :‬فٌا أٌها المؽرور المصري أخبرنً‪ ،‬هل كان أولبك الناس ٌتكبدون المشاق من األماكن الشاسعة‬
‫شفقة علٌك ورؼبة فٌك لٌكسبوك درهما أو ٌمنحوك دٌنارا؟"‪ ،‬وتنبه إلى أن األجانب اتخذوا من القمار‬
‫حرفة عن عمد فً مصر لكثرة أرباحها‪" :‬أحببت أن أذكر السبب الذي دفع الناس إلى ؼرس هذه الثمرة فً‬
‫أرض مصر التً أصبحت بفضل همتهم هشٌما تذروه الرٌاح"‪ ،‬وٌصدق على كبلمه عبد هللا الندٌم فً‬
‫"األس تاذ" بؤنه‪" :‬لو نوفر القرشٌن اللً معانا نشتؽل بٌهم فً تجارة علشان نصبح أؼنٌاء وتفضل البلد ماسكة‬
‫حٌلها شوٌة"‪ ،‬وٌعطً أمثلة على ما فعله الربا والخمر والقمار حتى فً األؼنٌاء‪ٌ" :‬زرع المابة فدان وال‬
‫تراه إال مقترضا ال ٌجد من القوت إال الضروري"‪ ،‬وقوبلت صحٌفة "اآلداب" بمتاعب عطلت صدورها‬
‫حتى تركها علً ٌوسؾ لٌصدر "المإٌد"(ٓٗ٘ٔ)‪.‬‬

‫وٌعلق عبد هللا الندٌم ساخرا فً "األستاذ"‪" :‬وهكذا أصبحت الببلد مسرحا لجرابد كثٌرة تتكلم بما ترٌد‬
‫وتتصرؾ فً أفكارها كٌؾ تشاء‪ ،‬هذه تقول أنا وطنٌة‪ ،‬وهذه تدعو لئلنجلٌز أو لفرنسا‪ ،‬وهذه مذبذبة‪ ،‬وهذه‬
‫علمٌة‪ ،‬وهذه تورد لهم من مصادرات األدٌان ما ٌوقعهم فً الشك والتردد‪ ،‬وهذه دٌنٌة‪ ،‬وهذه حقوقٌة‪ ،‬وهذه‬
‫طبٌة‪ ،‬وتركت إنجلترا للجرابد أن تخوض فً المواضٌع المتضادة‪ ،‬وتلعب باألفكار الجامدة‪ ،‬ونحن فً بحار‬

‫(‪)ٖٔ٘9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬سامً عزٌز‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖٓ9 -ٖٓٙ‬‬
‫(‪)ٖٔ٘8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ ٖٓ9 -ٖٓٙ‬نقبل عن كتاب ستودارد‪" :‬حاضر العالم اإلسبلمً" الصادر ٕٔ‪ٔ9‬‬
‫(‪)ٖٔ٘9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٔ٘ٔ‬
‫(ٓٗ٘ٔ)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٖٖٓ -ٖٕ8‬‬

‫‪٘77‬‬
‫اللهو ؼارقون"(ٔٗ٘ٔ)‪ ..‬وسبق أن حذر الندٌم من هذا قبل الؽزو الجدٌد(ٕٗ٘ٔ)‪:‬‬

‫صبحت بالدنا للمؽشوش مورد‬

‫وصانعها ظمآن‬

‫شرم برم‪ ..‬حالً ؼلبان‬

‫وفرَّ ق االحتبلل تصنٌفاته على الصحافة‪ ،‬فكما اعتبر الوطنٌٌن "عصاة"‪ ،‬وأتباع االحتبلل "شرعٌٌن"‪،‬‬
‫صنؾ الصحؾ التابعة لبلحتبلل بـ"المعتدلٌن"‪ ،‬والصحؾ المعادٌة له بـ"المتطرفٌن"‪ ،‬وهو تصنٌؾ ما زال‬
‫ٌُستخدم حتى اآلن فً تصنٌؾ الوطنٌٌن وؼٌر الوطنٌٌن‪.‬‬

‫صحٌح أن مصر لو كانت حرة وقتها من أي احتبلل عسكري واستٌطانً لكانت وصلتها الرٌاح السموم‬
‫من الخارج أٌضا‪ ،‬لكن صحٌح أٌضا أنه لو وصلتها وهً حرة فً قرارها‪ ،‬حرة فً تشكٌل ثقافتها‪ ،‬تحفظ‬
‫عهد ماعت وقٌمها‪ ،‬صاحٌة لدورها فً العالم‪ ،‬لكان تلقؾ هذه األفكار الجدٌدة أبناءها المخلصون أصحاب‬
‫السٌطرة على اإلعبلم والسٌنما والتعلٌم‪ ،‬ووزنوها بمٌزان ماعت والقٌم المسٌحٌة واإلسبلمٌة الصافٌة‪،‬‬
‫ولتعاملوا معها معاملة من ٌتعرؾ على البضاعة الجدٌدة فٌؤخذ منها أحسنها وٌرمً الردئ‪ -‬مثلما حاول‬
‫الندٌم ومحمد عبده وؼٌرهم‪ -‬والحتمى المجتمع بقٌمه الخالدة‪ ،‬ولكانت المضار أقل بكثٌر(ٖٗ٘ٔ)‪.‬‬

‫ورؼم كل ما سبق ظل المصرٌون الحقٌقٌون ٌتكالبون على الصحؾ التً ٌرونها وطنٌة حقا‪ ،‬مثل‬
‫"األستاذ" للندٌم التً كانت أحٌانا تنافس فً توزٌعها صحؾ كاألهرام والمقطم(ٗٗ٘ٔ)‪ ،‬وبعد أن اشتد هجوم‬
‫الندٌم على صحٌفة "المقطم" ودورها التخرٌبً‪ ،‬توعدته الصحٌفة الشامٌة بالنفً من ببلده‪ ،‬وحٌنها ٌقول‬
‫الندٌم متعجبا فً ٖ‪ ٔ89‬عن أصحاب "المقطم" وؼٌرها‪" :‬الذٌن صادؾ دخولهم مطرودٌن من وطنهم ؼٌبة‬
‫طبقة المنشؤٌن المصرٌٌن إذ ذاك كمحمد عبده وحسن حسنً وإبراهٌم اللقانً والهلباوي وحسن الشمسً‬
‫وأحمد سمٌر ووفا محمد وسعد زؼلول‪ ،‬فما لبثوا أن كفروا بالنعمة‪ ،‬وأنكروا المعروؾ‪ ،‬وانحازوا للؽٌر‪،‬‬
‫وأًحبوا أعداء هللا ونبٌه والسلطان والخدٌو و‪ ،"...‬أي جاءوا من الشام واستؽلوا خلو الساحة من مإسسً‬
‫الصحافة من المصرٌٌن الذٌن طاردهم اإلنجلٌز لٌفرضوا أنفسهم على الساحة المصرٌة‪.‬‬

‫فسعت الصحافة الدخٌلة للتخلص من عبد هللا الندٌم أٌضا‪ ،‬وكادوا له عند كرومر‪ ،‬وطلب كرومر من‬
‫الخدٌو عباس حلمً نفً الندٌم من الببلد‪ ،‬وعلم الندٌم بهذا وأشار له فً العدد األخٌر من صحٌفة "األستاذ"‬
‫الذي ودع فٌه المصرٌٌن على أمل العودة لبلده مرة أخرى‪ ،‬وأؼلقت صحٌفة "األستاذ" أبوابها مكلومة‪ ،‬أكثر‬
‫ٌضح أحد‪ ،‬لٌبقى‬ ‫فطرد من مصر ابنها الذي ضحى ألجلها كم لم‬ ‫الصحؾ تعبٌرا عن نبض الفبلح وحبا له‪ُ ،‬‬
‫ِ‬

‫(ٔٗ٘ٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٔٗ8‬‬
‫(ٕٗ٘ٔ)‬
‫‪ -‬عبد هللا الندٌم‪ ،‬صحٌة التنكٌت والتبكٌت‪ ،‬العدد ‪ ،9‬بتارٌخ ‪ٔ88ٔ -ٙ -9‬‬
‫(ٖٗ٘ٔ)‬
‫‪ -‬قارن بٌن مستوى الفنون المصرٌة كالدراما وبرامج التلفزٌون والسٌنما وهً تحت سٌطرة الدولة وبٌن مستواها لما تركتها تماما لشركات‬
‫إنتاج أجنبٌة أو مشتركة أو لشخصٌات مستوردٌن للنظرٌات واألفكار األجنبٌة بال تمٌٌز‪.‬‬
‫(ٗٗ٘ٔ)‬
‫‪ -‬انظر إحصابٌة توزٌع الصحؾ فً الصحافة المصرٌة وموقعها من االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٕٔ‬

‫‪٘78‬‬
‫ٌضح أحد‪ ،‬وٌتوفى الندٌم مكمودا بعٌدا عن ببلده وٌدفن ؼرٌبا‪ ،‬فٌما‬
‫ِ‬ ‫فٌها األجنبً ٌضحً بها كما لم‬
‫األؼراب ٌدفنون فً مصر‪ ،‬وٌقدمهم مإرخون لؤلجٌال على أنهم "أصحاب الفضل والنعمة" على‬
‫المصرٌٌن فً تنشٌط الصحافة والثقافة‪.‬‬

‫ودمـروا كل أشٌابً الحبٌبـــا ِ‬


‫ت‬ ‫نفٌت واستوطن األؼراب فً بلدي‬

‫أم ؼرك البهرج الخـداع موالتً‬ ‫ؾ وفً كذ ِ‬


‫ب‬ ‫خانتك عٌناكِ فً زٌ ٍ‬

‫والؽدر حطم أمالً العرٌضا ِ‬


‫ت‬ ‫أصٌـح والسٌؾ مزروع بخاصرتً‬

‫❺ (نزع الثقة بالكفاءة المصرٌة)‬

‫اتهمت "المقطم" مرارا المصرٌٌن بالعجز عن إدارة بلدهم‪ ،‬وأن هذا "العجز" ٌلزمهم باإلبقاء على‬
‫االحتبلل‪" :‬ألن مصر لم تتعلم أن تدبر أمورها بنفسها‪ ،‬بل إن اإلنجلٌز ٌدٌرون مالٌتها‪ ،‬وفً ٖ‪ ،ٔ88‬بعد‬
‫موقعة التل الكبٌر‪ ،‬خرجت صحٌفة "البرهان" لصاحبها المؽربً حمزة فتح هللا تقول‪" :‬إن إنجلترا أنفقت‬
‫نقودا عظٌمة وأراقت دماء كثٌر من رجالها‪ ،‬ولٌس مقابل ذلك‪ -‬كما ٌقول الجاهلون‪ -‬هو توظٌؾ رجالها فً‬
‫اإلدارات والمصالح حتى تكون الببلد كؤنها ببلدهم‪ ،‬كبل‪ ،‬فإن توظٌؾ رجالها كؽٌرهم من رجال بقٌة الدول‬
‫لٌس إال لعدم كفاءة أبناء الببلد للقٌام بكل األعمال"‪.‬‬

‫وٌقول سامً عزٌز‪" :‬وهكذا تحولت القضٌة إلى مناقشة مدى الكفاءة المصرٌة وعدم قدرة المصرٌٌن على‬
‫القٌام باألعمال والمهام‪ ،‬وأًصبح الدفاع عن تعٌٌن اإلنجلٌز فً المناصب المختلفة مادة تتبارى فٌها الصحؾ‬
‫على اختبلؾ نزعاتها‪.‬‬

‫ولوحظ أنه لعدة سنوات بعد مجا اإلنجلٌز تزاٌد معدل الجرابم فً مصر بشدة‪ ،‬وركزت صحؾ اإلنجلٌز‬
‫مثل "المقطم" على نشر الحوادث بشكل شبه ٌومً‪ ،‬وتحدثت فً ٔ‪ ٔ89‬عن "عجز المصرٌٌن عن ردع‬
‫المعتدٌن واللصوص"‪ ،‬وأسهبت فً نشر شكاوى الناس من اختبلل األمن‪ ،‬وبذلك مهدت السبٌل إلى اعتناق‬
‫بعض األهالً فكرة االستعانة باألجانب إلعادة األمن العام‪ ،‬وتؤكد هذا حٌن هللت "المقطم" لتعٌٌن كتشنر‬
‫مفتشا عاما للبولٌس فً مصر‪ ،‬وتقافزت سطورها من الفرحة لتقول‪" :‬هذا أهم ما ٌتحدث به الناس فً هذه‬
‫األٌام‪ ،‬فهو الذي سٌجدد نظام البولٌس وٌؽٌر ترتٌبه وٌدبر أموره على خٌر وجه" ومؤلت ذات العدد بؤعمدة‬
‫تتكلم عن خصاله وكفاءته‪ ،‬داعٌة إلى أال ٌتعجل الناس النتابج‪ ،‬بل أن ٌبقى كتشنر فً منصبه سنٌن حتى‬
‫ٌؤخذ فرصته فً إعادة األمن(٘ٗ٘ٔ)‪.‬‬

‫ولم ٌهتم فارس نمر صاحب "المقطم" بإبراز ضٌق المصرٌٌن من تحكم األجانب فً وظاٌؾ البلد وأخذ‬
‫مرتبات أضعاؾ مرتبات المصرٌٌن‪ ،‬بل ٌقول‪"" :‬الجانب األعظم من المصرٌٌن إذا لم نقل كلهم راض‬
‫بنتابج األعمال التً تمت فً مصر منذ االحتبلل اإلنجلٌزي"‪.‬‬

‫(٘ٗ٘ٔ)‬
‫‪ -‬الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٗ9 -ٕٗ9‬‬

‫‪٘79‬‬
‫عن أي مصرٌٌن ٌتحدث الشامً فارس نمر؟ ذاك الذي جاء لمصر طرٌدا لٌتمتع باالحتبلل وٌتملك بجانب‬
‫الصحؾ مبات األفدنة من أرض المصرٌٌن بتسهٌبلت من االحتبلل‪ ،‬منها ‪ ٕٓ9‬فدان فً المنٌا اشتراهم‬
‫دفعة واحدة سنة ‪ ٔ898‬من أراضً الداٌرة السنٌة (التً كان ٌتملكها إسماعٌل وبٌعت لسداد الدٌون)‪ ،‬وهً‬
‫أساسا أراضً الفبلحٌن التً استولى علٌها الخدٌوي بكل أنواع القهر‪.‬‬
‫(‪)ٔ٘ٗٙ‬‬

‫وعبر عن زور ما ٌقوله فارس نمر شاعر النٌل حافظ إبراهٌم فً رواٌته "لٌالً سطٌح"‪ ،‬مسجبل ضٌق‬
‫المصرٌٌن من الهجمة الشامٌة على ببلدهم‪ ،‬فٌقول إنه "تخطى أهالً الشام العمل فً الصحافة فً مصر‬
‫إلى التجارة ثم إلى المناصب الحكومٌة؛ فضٌقوا الباب أمام الناشبة المصرٌة وهً الراؼبة فً ذلك العمل‬
‫تصرؾ إلٌه همها وتقؾ علٌه علمها"(‪ ،)ٔ٘ٗ9‬ولٌس ذلك لمهارة زابدة عند الشوام‪ ،‬فلم ٌقدم أحدهم ما قدمه‬
‫رفاعة الطهطاوي وعبد هللا الندٌم ومحمد عبده وأحمد حلمً وطه حسٌن وعباس العقاد وؼٌرهم من صحافة‬
‫وثقافة تقوي عزم مصر‪ ،‬وتقوي اإلنسان فً وجه الشٌطان‪ ،‬وإنما سٌطروا ألنه توفر لهم فرص وتموٌل‬
‫سخً من حكومة االحتبلل والسفارات األجنبٌة‪ ،‬بخبلؾ اشتؽال بعضهم بالربا وتجارة األراضً‪ ،‬وما قدمته‬
‫لهم اإلرسالٌات األجنبٌة من تدرٌب‪.‬‬

‫وساعد كرومر فً التسوٌق لـ"شطارة" الشوام‪ ،‬مقابل تحقٌره لكفاءة المصرٌٌن‪ ،‬وذلك أنه لما أراد‬
‫إسماعٌل تحوٌل مصر لـ"قطعة من أوروبا"‪ ،‬وتلبٌسها البرنٌطة اشتد الطلب على موظفٌن ٌتقنون اللؽة‬
‫الفرنسٌة إلى جانب العربٌة ألن معظم أعمال اإلدارة بالفرنسٌة‪ ،‬فٌقول كرومر‪" :‬ولم ٌكن هناك كبٌر أمل‬
‫فً قٌام المصرٌٌن المسلمٌن أو األقباط بذلك‪ ،‬ومن ثم اشتدت الحاجة إلى العنصر السوري‪ ،‬وكانت فرصة‬
‫اهتبلها أهل الشام‪ ،‬فهم ٌملكون كل ما تستلزمه اإلدارة فً مصر‪ :‬إتقان العربٌة والفرنسٌة وشؽؾ بالعمل‬
‫والطموح"‪ ،‬و"عندما استولى اإلنجلٌز على شبون اإلدارة فً مصر واتت الظروؾ السورٌٌن مرة أخرى‪،‬‬
‫فاإلنجلٌز ٌجهلون اللؽة العربٌة‪ ،‬وال ٌعرفون سوى القلٌل من الفرنسٌة‪ ،‬ولم تكن هناك فابدة كبرى ترجى‬
‫من وراء استخدام مسلمً مصر وأقباطها‪ ،‬وهكذا لم ٌكن هناك سوى السورٌٌن الذٌن كانوا فً نظر‬
‫اإلنجلٌز أرقى من المصرٌٌن سواء منهم من أخذ بالتمدن أم لم ٌؤخذ"‪ ،‬وكان للسورٌٌن دورهم فً تثبٌت‬
‫االحتبلل فً بداٌته بحسب كرومر أٌضا‪" :‬وعلى أٌة حال فقد خدم السورٌون فً اإلدارة المصرٌة تحت‬
‫اإلشراؾ اإلنجلٌز وكان لذلك نتابج طٌبة وخاصة فً بداٌة االحتبلل"(‪.)ٔ٘ٗ8‬‬

‫وتسبب هذا فً النفور بٌن المثقفٌن المصرٌٌن والسورٌٌن‪ ،‬وبررت صحٌفة "االتحاد المصري" التً‬
‫أسسها لبنانٌون للشوام التدخل فً شبون مصر بؤنهم أول من أسسوا الجرابد العربٌة (كانت الصحافة فً‬
‫مصر موجودة على ٌد رفاعة الطهطاوي وؼٌره قبل أن ٌؤتٌها الشوام) وردت على جرٌدة "المإٌد"‪" :‬ألن‬
‫صاحبه ٌعٌرنا بلبنان‪ٌ ،‬عٌرنا بجبل رفٌع الشؤن فً التارٌخ‪ ،‬أتعامى عن أن اللبنانٌٌن هم السابقون على إنشاء‬

‫(‪)ٔ٘ٗٙ‬‬
‫‪ -‬راجع جدول ٌضم أسماء الشخصٌات التً اشترت أراضً الداٌرة السنٌة بالتقسٌط‪ ،‬وكثٌر منهم أتراك وشركس وألبان وشوام وٌهود‬
‫ووعربان وأرمن إلخ فً‪ :‬تطور ملكٌة األرض الزراعٌة ٖٔ‪ ٔ9ٔٗ -ٔ8‬وأثره على الحٌاة السٌاسٌة‪ ،‬د‪ .‬علً بركات‪ ،‬دار الثقافة الجدٌدة‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،‬ص ‪ٗ7ٙ‬‬
‫(‪)ٔ٘ٗ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔ٘ و٘ٓٔ‬
‫(‪)ٔ٘ٗ8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٔٓ9 -ٔٓٙ‬‬

‫ٓ‪٘8‬‬
‫الجرابد العربٌة ومنها النجاح والمقتطؾ واألهرام والطبٌب والشفاء والمقطم واللطابؾ والحقوق‬
‫والمحروسة‪ ،‬فؤصحابها من أهالً لبنان"(‪ ،)ٔ٘ٗ9‬فاستخدمت الصحٌفة سبلح الدعاٌة وتزوٌر التارٌخ‪ ،‬فقدمت‬
‫نفسها كـ"أصحاب فضل"‪ ،‬متجاهلة أن معظم الصحؾ الشامٌة تعمل فً مصر إما لصالح إنجلترا أو فرنسا‪،‬‬
‫وتنفق على نفسها ببذخ من الخزٌنة المصرٌة‪ ،‬ومن دعم االحتبلل‪ ..‬أي تستحق معاملة المحتل الؽاصب‪.‬‬

‫وإلخفاء صفة المحتل الؽاصب عن نفسها‪ ،‬ردت أٌضا الصحٌفة على من ٌرفض تدخلهم فً الشؤن‬
‫المصري بتمٌٌع معنى الوطنٌة‪ ،‬والضرب فً "مصر للمصرٌٌن"‪ ،‬بتمٌٌع كلمة المصرٌٌن نفسها لتشمل كل‬
‫األجناس الخاضعة لبلحتبلل العثمانلً‪ -‬رؼم كراهة الكثٌر من الشوام لبلحتبلل العثمانلً‪.‬‬

‫فٌقول صاحب "االتحاد المصري" سنة ٓ‪" :ٔ89‬وتعرٌفات الوطنٌة كلها تنطبق على حالة المصرٌٌن‬
‫والسورٌٌن؛ فهً تتناول كل فرد من أفراد الرعٌة على شرط أن ٌكون خاضعا لشرابع الدولة‪ ،‬وهل‬
‫السوري واألرمنً وؼٌرهم من العثمانٌٌن ٌعتبرون أنفسهم ؼرباء والحكومة عثمانٌة أم ٌعدون أنفسهم‬
‫عثمانٌٌن والحكومة أجنبٌة‪ ،‬وإذا أرٌد االقتصاد على القانون العثمانً كان لجمٌع السورٌٌن المقٌمٌن فً‬
‫مصر حق الظهور لدى الحكومة بمظهر المصرٌٌن جنسا وواجبا وحقا"‪ ،‬ثم أوردت أقوال القانون الدولً‬
‫فً الوطنٌة والجنسٌة لتؤٌٌد رأٌها‪ ..‬وهنا لجؤت لحجة أنهم تبع "الرعٌة العثمانلٌة" لتبرٌر أن ٌتحكموا فً‬
‫مصر كؤنهم "مصرٌٌن"‪ ،‬وبعد سقوط السلطنة العثمانلٌة ستظهر كتابات شامٌة تبرر هذا بـ"القومٌة‬
‫العربٌة"‪.‬‬

‫وحٌن أصدر رٌاض فً ٓ‪ ٔ89‬قرارا بوقؾ توظٌؾ الشوام فً الحكومة‪ ،‬تدخل كرومر وأصدر أمرا‬
‫للوزارة بؤنه‪" :‬طالما كان هناك جندي برٌطانً واحد فً شوارع القاهرة فلن ٌصدر قرار ٌفرق بٌن الناس‬
‫على أساس الجنسٌة أو الدٌن"؛ فرفعت الصحٌفة آٌات الشكر إلى السٌر بارنج (كرومر) "بلسان المصرٌٌن‬
‫والسورٌٌن واجب الشكر (فهو) صاحب الفضل الذي ال ٌعبؤ بتفاوقت المذاهب واختبلؾ المشارب‪ ،‬بل‬
‫ٌقابلها بكرامة الطبع واستقبلل الضمٌر‪ ،‬وشهد هللا أن السورٌٌن كإخوانهم المصرٌٌن ال ٌنكرون منافع‬
‫اإلصبلح الظاهرة على ٌدٌه‪ ،‬وال ٌملون من توجٌه الثناء إلٌه‪ ،‬ومصر فً نظر اإلنجلٌز بلد أراقوا فً‬
‫نجاتها من الفوضى الدماء‪ ،‬وكانت لدٌهم بعد متاعبهم ؼالٌة ال ٌهون علٌهم أن ٌخرجوا منها لمجرد طلب‬
‫لدولة ؼرٌبة قبل أن ٌتموا مشروعاتهم ووقاٌة مصالحهم"(ٓ٘٘ٔ)‪ .‬فتحدثوا من جدٌد باسم المصرٌٌن‪.‬‬

‫ثم صدر القانون فً نفس السنة‪ -ٔ89ٓ -‬بمنح السوري الذي عاش فً مصر ٘ٔ سنة الحق فً التوظؾ‬
‫لدى حكومة مصر(ٔ٘٘ٔ)‪ ،‬وبعدها بسنٌن قلٌلة أخذوا فً قانون الجنسٌة سًء السمعة فً حمل الجنسٌة‬
‫المصرٌة باعتبارهم من الرعٌة العثمانلٌة‪ ،‬وذلك فً أول قانون للجنسٌة المصرٌة‪.‬‬

‫وأراحت "المقطم" المصرٌٌن من عناء الحلم بإدارة ببلدهم والمناصب الكبٌرة‪ ،‬بؤن تقول لهم إنهم ال‬

‫(‪)ٔ٘ٗ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٔٓ8‬‬
‫(ٓ٘٘ٔ)‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٔٓ9 -ٔٓ8‬‬
‫(ٔ٘٘ٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬

‫ٔ‪٘8‬‬
‫ٌستحقون وال ٌصلحون إلدارة بلدهم قبل "مرور أٌام طوٌلة وتوالً األعقاب؛ لذلك فإن إعداد األمة ال ٌتم‬
‫فً زمان قصٌر بل ال بد له من زمان كاؾ‪ ،‬وهذا لٌس من أقوال اإلنجلٌز‪ ،‬بل هو مبنً على أقوال علماء‬
‫مشهورٌن من المصرٌٌن‪ ،‬واإلٌطالٌٌن والفرنسٌٌن"(ٕ٘٘ٔ)‪.‬‬

‫بالتزامن كان ٌجري تفلٌس وتطفٌش المصرٌٌن أصحاب ورش ومحبلت وإجبارهم على إؼبلقها بشكل‬
‫مباشر أو ؼٌر مباشر لتنفسح الساحة للمستوطنٌن األجانب‪ ،‬فإلى جانب إؼبلقها ألن بعضهم عاجز عن دفع‬
‫الضراٌب– الؽٌر ملتزم بها األجنبً مما ٌتٌح له فرصة منافسة المصري فً األسعار‪ -‬فإن قدرة الشركات‬
‫األجنبٌة على تسوٌق منتجاتها عبر الصحؾ التً تملكها أو تملك دفع مبالػ اإلعبلنات الباهظة فٌها لتلمٌع‬
‫منتجاتها كان له دور أٌضا فً المنافسة‪.‬‬

‫ٌقول المإرخ االقتصادي شارل عٌساوي فً ‪ ٔ9ٗ9‬إن هجرة الفنٌٌن والعمال األجانب إلى مصر أدت‪-‬‬
‫مع الكساد‪ -‬إلى اختفاء ؼالبٌة الصناعات المحلٌة بسبب المنافسة األجنبٌة(ٖ٘٘ٔ)‪ ،‬وتلقى الحرفٌون المصرٌون‬
‫الفقراء ضربة شدٌدة عندما توافد الحرفٌون األجانب (ترزٌة‪ -‬ساعاتٌة‪ -‬صناع أحذٌة إلخ)(ٗ٘٘ٔ) المحمٌٌن‬
‫بقناصلهم‪ ،‬وجذبهم للزباٌن بما شاع وقتها من تسوٌق للبضاٌع والصناٌع األجنبٌة‪.‬‬

‫وألن الجٌل‪ -‬أي الجٌل الذي حضر ثورة ٔ‪ -ٔ88‬ما زال فٌه الرمق والوطنٌة وكراهٌة اإلنجلٌز‪ ،‬فإن‬
‫"المقطم" واإلنجلٌز من وراءها نشرت فً ٓ‪ ٔ89‬مقالة تؤمل أن ٌطول االحتبلل حتى ٌنتهً هذا الجٌل‬
‫وٌؤتً الجٌل القادم على اساس تربٌة إنجلٌزي ومحبة لبلحتبلل‪" :‬ال ٌوافق مصلحة إنجلترا أن تترك لهم‬
‫الببلد حتى ٌمضً هذا الجٌل‪ ،‬وٌقوم بعده جٌل آخر رُبً على الثقة باإلنجلٌز‪ ،‬واعتبار أعمالهم لٌحفظ لهم‬
‫عهد الوالء‪ ،‬وٌقٌم على وداد منهم متى ؼادروا الببلد"(٘٘٘ٔ)‪.‬‬

‫وٌرسم الشامً فارس نمر لئلنجلٌز سٌاسة لتربٌة النشء المصري لٌتربى موالٌا لئلنجلٌز واألجانب بعد‬
‫انتهاء الجٌل الحالً‪ ،‬بدال من اإلقصاء التام للمصرٌٌن عن الوظابؾ الذي طالبت به أصوات أخرى؛ فٌحث‬
‫اإلنجلٌز على دراسة أخبلق وشخصٌة المصرٌٌن وعواٌدهم و"أن ٌعاملوهم وٌقدروهم حق قدرهم فٌكسبون‬
‫حبهم لهم‪ ،‬وأنا واثق أنه متى رقً النابؽون من شبان المصرٌٌن إلى المناصب العلٌا وسلموا زمام المهام فً‬
‫ببلدهم ورأوا موظفً اإلنجلٌز ٌعاملونهم بحسب ما هم أهله وما تستحقه كفاءتهم ٌنبت المٌل إلى اإلنجلٌز‬
‫فً أفبدة المصرٌٌن متنقبل من فرٌق إلى فرٌق حتى ٌعم جمهور المصرٌٌن"(‪.)ٔ٘٘ٙ‬‬

‫وعن خلخلة الجهاز الحكومً لٌكون "إنجلٌزٌا"‪ ،‬حتى وإن كان موظفوه مصرٌٌن ٌقول عباس حلمً الثانً‬
‫فً مذكراته إنه عجز عن معرفة أؼوار سٌاسة نجلزة اإلدارة المصرٌة‪" :‬فكان ٌلزمنً كً أتبٌن مدى‬
‫الجرأة التً زعزعت بها حكومة اللورد كرومر مقومات الحٌاة المصرٌة أن أؼرق فً تٌه اإلدارة‬

‫(ٕ٘٘ٔ)‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕٕ٘‬
‫(ٖ٘٘ٔ)‬
‫‪ -‬التحلٌل االقتصادي واالجتماعً لمصر‪ ،‬شارل عٌساوي‪ ،‬ترجمة د‪ .‬محمد مدحت مصطفى‪ ،‬بوب بروفٌشنال برس‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪ٖٙ‬‬
‫(ٗ٘٘ٔ)‬
‫‪ -‬تطور الرأسمالٌة المصرٌة‪ ،‬نخبة من الباحثٌن‪ ،‬دار الكتب والوثابق القومٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ٘‬
‫(٘٘٘ٔ)‬
‫‪ -‬الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٕ٘‬
‫(‪)ٔ٘٘ٙ‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٕٕ٘‬

‫ٕ‪٘8‬‬
‫المصرٌة‪ ،‬ولم ٌكن ذلك باألمر السهل المٌسور‪ ،‬وال ٌسعنً أن أصور بدقة سٌاسة النجلزة عمٌقة األسس"‪،‬‬
‫واعتبر كرومر فً "مصر الحدٌثة" أنه نجح فً تحقٌق هدفه بعد ٓٔ سنوات فقط من معركة التل‬
‫الكبٌر(‪.)ٔ٘٘9‬‬

‫وعلى هذا فإن من ٌرٌد عبلج مشاكل الجهاز الحكومً المصري المعاصر له أن ٌبحث فً دهالٌز أسالٌب‬
‫تكوٌنه أٌام اإلنجلٌز‪ ،‬بخبلؾ ما تركته علٌه بصمات االحتبلل العثمانلً وإدارته المملوكٌة‪.‬‬

‫❺ (التعلٌم‪ ..‬أي شًء إال أن ٌكون مصرٌا)‬

‫ٌعتبر مإرخون أن كرومر والمفتش اإلنجلٌزي لوزارة المعارؾ دانلوب أفسدا التعلٌم فً مصر‪ ..‬لكن‬
‫السإال‪ :‬ومتى كان التعلٌم فً "مصر المحتلة" صالحا حتى ٌُفسده كرومر ودانلوب؟ هل ٌوجد فً مصر‬
‫تعلٌم مصري من األساس؟‬

‫كرومر ودانلوب ربما األصح أن ٌقال زادا فً إفساد التعلٌم‪ ..‬أما نقطة البداٌة فهناك‪ ..‬بعٌدة بعٌدة‪ ،‬قبل‬
‫ٓٓ‪ ٔٙ‬سنة‪ ،‬عند اإلمبراطور الرومانً تٌودٌوس حٌن أمر سنة ٘‪ ٖ9‬م بؽلق المعابد المصرٌة‪ ..‬بٌوت العلم‬
‫والفن واألدب والحكمة والمدرسة المصرٌة الصمٌمة‪.‬‬

‫من ٌومها ومن ٌصل لفرصة تعلٌم فً مصر فهو ٌتلقى‪:‬‬

‫ٔ‪ -‬التعلٌم الٌونانً‪ :‬المعاهد ذات الثقافة اإلؼرٌقٌة أٌام االحتبلل الٌونانً والرومانً‪.‬‬

‫ٕ‪ -‬التعلٌم العربً‪/‬الشٌعً (العبٌدي)‪ /‬العثمانلً‪ :‬المساجد والمدارس الفقهٌة والزواٌا الصوفٌة والجمعٌات‬
‫المسٌطر علٌها الثقافة العربٌة والشٌعٌة والصوفٌة والعثمانلٌة من االحتبلل العربً وحتى الٌوم‪.‬‬

‫ٖ‪ -‬التعلٌم الفرنسً واإلنجلٌزي‪ :‬المدارس الحدٌثة منذ االحتبلل العلوي على ٌد مناهج ومدرسٌن أجانب‬
‫واإلرسالٌات األجنبٌة‪.‬‬

‫ٗ‪ -‬التعلٌم البزرمٌط (مرقع) ‪ :‬الحكومً من نهاٌة القرن ‪ ٔ9‬وحتى الٌوم‪ ،‬خلٌط من كل ما سبق‪ ،‬مناهجه‬
‫موروثة من ثقافات تركتها االحتبلالت أو موضوعة بناء على نظرٌات حدٌثة أجنبٌة أٌضا‪ ،‬وٌزاحمه تعلٌم‬
‫أجنبً آخر من المدارس اإلنجلٌزٌة والفرنسٌة والٌونانٌة واألمرٌكٌة والتركٌة والٌابانٌة‪.‬‬

‫أٌن التعلٌم المصري إذن؟‬

‫هل منهم تعلٌم ٌعلَّم المصري الثقافة المصرٌة؟ أو االعتزاز بتارٌخه المصري القدٌم والحدٌث فوق كل‬
‫تارٌخ؟ أو علَّمه كراهٌة االحتبلل أٌا كان دٌنه أو جنسه؟ أو أنه من العار أن ٌضٌؾ أي هوٌة دخٌلة إلى‬
‫جانب مصرٌته؟ هل ٌتعلم أن ٌعتز بؤنه فبلح مصري؟ أو ٌدرس الحكمة والفلسفة المصرٌة وأخبلق أجداده‬

‫(‪)ٔ٘٘9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕ٘ٙ‬‬

‫ٖ‪٘8‬‬
‫الراقٌة؟ وٌكتشؾ ما هو موصول بٌنها وبٌن المسٌحٌة واإلسبلم بعٌدا عن التشوٌهات التً ألصقتها المذاهب‬
‫والثقافات األجنبٌة بالمسٌحٌة واإلسبلم؟ أو ٌمجد األكل المصري واللبس المصري والعمارة المصري‬
‫واألعٌاد المصري؟ أو أن ٌحب إخوته المصرٌٌن ألن اإلخوة المصرٌة مقدمة على كل شًء؟‬

‫هل فً أي مدارس فً مصر تعلٌم ٌعلم المصرٌٌن حقٌقة ما عانوه من كل االحتبلالت السابقة؟ كلها بما‬
‫فٌها العربً والٌونانً واألٌوبً والمملوكً والفاطمً ولٌس االكتفاء بذم احتبلالت وتمجٌد احتبلالت‬
‫أخرى؟‬

‫هل توجد مدارس تعلم المصرٌٌن االعتماد على النفس ولٌس االنبهار باألجنبً؟ وأن فً شخصٌته‬
‫وأرضه من اإلمكانٌات ما تجعله حاجته للخارج فً أضٌق الحدود؟ هل ٌعلمون المصري أنه إنما خلق ب َّناء‬
‫لحضارة لها شخصٌتها الخاصة جدا‪ ،‬وأن سبب تعلٌمه أن ٌضع طوبة فً بنابها الشامخ أٌا كانت مهنته‬
‫فٌعٌش بإحساس الهمة والمسبولٌة والروح العالٌة؟ هل ٌعلمونه أن ٌتبنى "قضٌة مصر"؟ هل ٌوجد فً‬
‫التعلٌم الجاري فً مصر شًء اسمه "قضٌة مصر" من األساس؟‬

‫هل ٌشرحون للمصرٌٌن حقٌقة الخطط العالمٌة التً تستهدفهم والتٌارات والمذاهب والجالٌات التً تتؽلؽل‬
‫وسطهم؟ هل فٌهم تعلٌم ٌشرح للمصرٌٌن أسباب صعودهم وأسباب سقوطهم عبر التارٌخ؟ هل ٌتعلم‬
‫المصري أنه إنما ُخلق لٌكون جندٌا فً معركة الخٌر ضد الشٌطان‪ ،‬ولن ٌكون كذلك طالما ٌعٌش تابعا؟‬

‫أما ما فعله كرومر فهو زٌادة تتوٌه المصري‪ ،‬وفرض الثقافة اإلنجلٌزٌة والوالء لها لتعلو فوق أنواع‬
‫التعلٌم والثقافات األخرى المنافسة له أو مدارس الكنٌسة واألزهر‪ ،‬وبداٌة ألؽت حكومة االحتبلل الجدٌد ما‬
‫كان مٌسرا من تعلٌم مجانً‪ ،‬وبرر كرومر هذا بؤن هدفه تشجٌع التعلٌم "ذلك ألن من ٌرٌد أن ٌتعلم علٌه أن‬
‫ٌثبت ذلك بدفع نفقات تعلٌمه"‪ ،‬ودافع عنها األرمنً ٌعقوب أرتٌن وكٌل وزارة المعارؾ بؤن عدد الطلبة‬
‫الذٌن ٌتعلمون المجانٌة من األفضل أن ٌقل‪ ،‬وإلؽاء أي مدارس تجهٌزٌة خارج العاصمة‪ ،‬وأؼلقت معظم‬
‫المدارس‪ ،‬واكتفوا بالكتاتٌب‪ ،‬حتى أن عدد التبلمٌذ االبتدابً كان فً ٖ‪ ٔ89‬حوالً ٓٓٔ ألؾ تلمٌذ وكان‬
‫عدد السكان ٘ ملٌون نسمة‪ ،‬وبعد ربع قرن من االحتبلل اإلنجلٌزي انخفض عدد التبلمٌذ االبتدابً إلى ‪ٔٙ‬‬
‫ألؾ رؼم أن السكان وصل عددهم ٔٔ ملٌون وتفاخرت الصحؾ التابعة لبلحتبلل مثل "المقطم" الشامٌة‬
‫ب"التقدم" الذي حققه االحتبلل فً التعلٌم بؤن تورد إحصابٌات عن زٌادة عدد الكتاتٌب‪ ،‬دون أن تشٌر إلى‬
‫حال المدارس الثانوٌة والعالٌة(‪.)ٔ٘٘8‬‬

‫وصراحة قال كرومر‪" :‬لقد اعتبرنا أن توفٌر مستوى موحد للتعلٌم ]تعلٌم كرومري[ هو الضمان الوحٌد‬
‫ضد قٌام الدٌماجوجٌٌن الذٌن قد ٌعملون على إثارة الشعب ضد الحكام األجانب"‪ ،‬واكتفى بتخرٌج طبلب‬
‫سطحٌٌن ٌتسلمون وظابؾ الحكومة ٌتعاملون معها بنفس السطحٌة دون حمٌة وإبداع وإحساس بالمسبولٌة‪،‬‬
‫وفً نفس الوقت أسرؾ كرومر فً إحضار مدرسٌن من أوروبا بحجة "تحسٌن التعلٌم"‪ ،‬فً حٌن الؽرض‬

‫(‪)ٔ٘٘8‬‬
‫‪ -‬الصحافة المصرٌة وموقفها من ااالحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬سامً عزٌز‪ ،‬ص ٔ‪ٕ9‬‬

‫ٗ‪٘8‬‬
‫هو تشرٌب الجٌل الجدٌد من المصرٌٌن الروح األوروبٌة‪ ،‬ومدحت صحٌفة "الوطن"‪ ،‬هذا االتجاه‪ ،‬فً‬
‫ٓ‪ ،ٔ89‬خاصة حٌن جرى تعٌٌن دنلوب مفتشا لوزارة المعارؾ‪ -‬أي المسبول األول عنها‪ -‬واعتبرت أن‬
‫تعلٌم التبلمٌذ اللؽة اإلنجلٌزٌة وبمدرسٌن إنجلٌز ال عبلقة له بالنواحً السٌاسٌة‪ ،‬بل إنه ٌهدؾ إلى تخرٌج‬
‫شبان ٌتعلمون كٌؾ ٌكونون مصرٌٌن !‪.‬‬

‫وتعترؾ مضابط مجلس شورى القوانٌن فً جلسة ٕٗ‪ ٔ89ٗ -ٕٔ -‬بإهمال التعلٌم وٌقرر أن "نشر التعلٌم‬
‫قد تقهقهر تقهقرا كلٌا عما كان علٌه قبل ذلك‪ ،‬وأن القابضٌن على زمام نظارة المعارؾ قد سعوا بكل‬
‫اجتهاد إلى طرق تقلٌل التعلٌم وسد أبوابه بكل حٌلة فً وجه األمة"‪ ،‬وٌقول الرافعً إن الحكومة مسخت‬
‫ب رامج التعلٌم وحرصت على استبعاد التارٌخ القومً الصحٌح من المناهج لكً تنشؤ األجٌال جاهلة بتارٌخ‬
‫ببلدها‪ ،‬محرومة من ؼذاء النفوس فً الوطنٌة؛ فبل ٌفرقون بٌن االحتبلل واالستقبلل(‪.)ٔ٘٘9‬‬

‫وبدال من أن ٌتعلم األجنبً لؽة البلد دعت الصحؾ التابعة لبلحتبلل أهل البلد لبلستؽراق فً تعلم لؽة‬
‫األجنبً المحتل‪ ،‬فقالت صحٌفة "االتحاد المصري" الشامٌة وهً تدعً أنها تتكلم باسم المصرٌٌن‪" :‬وقد‬
‫قضت عبلقتنا باإلنجلٌز وهم بجانبنا أن نحسن التكلم بلسانهم فضبل عن درس عاداتهم وأخبلقهم"‪ ،‬وتحولت‬
‫مناهج التعلٌم إلى اللؽة اإلنجلٌزٌة‪ ،‬وحتى اللؽة العربٌة دعت صحٌفة "المقتطؾ" الشامٌة إلى كتابتها‬
‫بحروؾ التٌنٌة‪ ،‬وٌقول محمد حسٌن هٌكل إن سٌاسة االحتبلل بهذا أحرزت نجاحا فً زعزعة العقٌدة‬
‫الدٌنٌة واقتبلع مقومات الوطن والوطنٌة‪ ،‬مستدال على أنه بعد ٖٓ سنة فقط من االحتبلل "الناشبة لم تكن‬
‫تؤخذ بحظ عملً فً التوجٌه السٌاسً‪ ،‬بل كانت عاكفة عكوفا تاما على الدرس‪ ،‬ولم ٌكن ٌدور بخلد أحد فً‬
‫المدارس تبلمٌذ وأساتذة أن ٌدعو إلى إضراب لؽرض سٌاسً‪ ،‬ومن ذا ٌدعو وكثرة األساتذة كانت من‬
‫اإلنجلٌز(ٓ‪.")ٔ٘ٙ‬‬

‫ٌنطل كبلم كرومر على الجمٌع‪ ،‬فصاح حافظ إبراهٌم فً وجهه سنة‬‫ِ‬ ‫ورؼم أجهزة دعاٌته الضخمة لم‬
‫وطور الزراعة وأصلح التعلٌم‪ ،‬وأنه "مصلح مصر"‪،‬‬
‫َّ‬ ‫‪ ٔ9ٓ9‬ساخرا من كبلمه أنه نشر فً مصر الحرٌة‬
‫إنه ٌمن علٌنا بؤنه أجدب الشخصٌة المصرٌة(ٔ‪:)ٔ٘ٙ‬‬

‫وأن أصبح المصري حرا منعما‬ ‫تمن علٌنا الٌوم أن أخصب الثرى‬

‫فإنً رأٌت ال َمنَّ أنكى وآلمـــا‬ ‫أعِ د عهد إسماعٌل جلدا وسخرة‬

‫فؤؼلٌتم طٌنــا وأرخصتم دمــا‬ ‫عملتم على عز الجماد وذلنـا‬

‫وأجدبت فً مصر العقول تعمدا‬ ‫وأنك أخصبت البالد تعمــدا‬

‫واقتحم المهاجرون الشوام ‪ -‬بعد وفاة رفاعة الطهطاوي‪ -‬حركة الترجمة‪ ،‬خاصة فً اآلداب‪ ،‬ولم ٌسٌروا‬

‫(‪)ٔ٘٘9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕ‪ٕ99 -ٕ9‬‬
‫(ٓ‪)ٔ٘ٙ‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٕ8ٔ -ٕ99‬‬
‫(ٔ‪)ٔ٘ٙ‬‬
‫‪ -‬من قصٌدتا "مصر تشكو االحتبلل"‪ ،‬و"وداع اللورد كرومر فً دٌوان حافظ إبراهٌم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖٕٗ -ٖٖ9‬‬

‫٘‪٘8‬‬
‫سٌرة الطهطاوي وتبلمٌذه فً ترجمة المفٌد حقا للمصرٌٌن من علوم وفنون تناسب شخصٌتهم وتقوي‬
‫عزمهم فً المقاومة‪ ،‬فٌقول سامً عزٌز إن اختٌار هإالء الشوام المتشبعٌن بالثقافة األوروبٌة وجاءوا‬
‫متحالفٌن مع االحتبلل لم تكن عشوابٌة؛ فاختاروا ترجمة ُتخضع الشخصٌة المصرٌة ألوروبا‪ ،‬مثل ترجمة‬
‫"المقطم" لرواٌة "الشهامة والعفاؾ"‪ ،‬نقبل عن رواٌة لئلنجلٌزي ولتر سكوت تقدم اإلنجلٌز على أنهم فرسان‬
‫ذوو شهامة وعفة نفس‪ ،‬وصدرت مجلة الراوي األدبٌة لصاحبها اللبنانً خلٌل زبنٌة‪ ،‬وأؼلب مقاالتها صدى‬
‫لنفوس ضعٌفة مهزومة‪ ،‬وتتحدث عن التعساء واألمانة‪ ،‬وموضوعات تشؾ عن القلق والهوان‬
‫والعذاب(ٕ‪ ،)ٔ٘ٙ‬وتسبب هذا فً تسهٌل وإؼراء المصرٌٌن فً الجري وراء االقتباس من اآلداب األجنبٌة أكثر‬
‫من أن ٌإلفوا الرواٌ ات التً تعبر عن الحال الصمٌمة لمصر‪ ،‬ومنها انتشرت أفكار وقٌم ما كان ٌدور فً‬
‫الخلد أن ٌإمن بها مصرٌون‪ ،‬وإن تصدى لهذا الؽزو كتاب مصرٌون مثل حسٌن هٌكل وتوفٌق الحكٌم‬
‫وٌحًٌ حقً إلخراج رواٌات من صلب األرض المصرٌة‪.‬‬

‫وجاء الكتاب الشوام والمؽاربة وأمثالهم "ٌمؤلهم الؽرور" بتعبٌر سامً عزٌز‪ ،‬كؤنهم هم من ٌعلمون‬
‫المصرٌٌن اآلداب والفنون‪ -‬متجاهلٌن كل الرواد المصرٌٌن‪ -‬وكتاباتهم "ال تستطٌع أن تدرك إحساسات‬
‫الشعب األصٌلة‪ ،‬فتشحذها وتنمٌها‪ ،‬وتضٌؾ إلٌها كل ما من شؤنه أن ٌدفع بالببلد إلى طرٌق الرقً فً‬
‫مختلؾ النواحً‪ ،‬بل كانت الكتابات بعٌدة كل البعد عن مثل ذلك‪ ،‬مما كان له أثر فً توجٌه مٌول بعض‬
‫القراء باألسالٌب المقنعة إلى اإلنتاج الرخٌص والثقافة السطحٌة"(ٖ‪.)ٔ٘ٙ‬‬

‫وتسبب هذا التحول السرٌع فً لؽة التعلٌم والثقافة إلى "تخلخل ثقافً"‪ ،‬و"زلزال عقلً ووجدانً"(ٗ‪،)ٔ٘ٙ‬‬
‫وٌمكن فهم أثره لو تذكرنا أنه ثانً تحول عنٌؾ فً اللؽة والثقافة عند المصرٌٌن فً تارٌخهم بعد أن‬
‫تحولوا إلى اللؽة العربٌة‪ ،‬وإن كانوا فً التحول للعربٌة تحولوا بالبطًء جدا‪ ،‬حتى اختمرت العربٌة فً‬
‫ثوب وروح فبلحٌة حلوة ممٌزة بسبب ما بقً من اللؽة المصرٌة فً النطق واأللفاظ والتركٌب والقٌم‬
‫واألفكار‪ ،‬لكن الثقافة األوروبٌة ولؽاتها جاءت جرعات سرٌعة متدفقة إجبارٌة فً المدارس‪ ،‬وٌلزم‬
‫المصري باعتناقها ونطقها كما هً‪ ،‬وبكل ما فٌها من قٌم وأفكار واستخدامها كما هً‪ ،‬ببل تحرٌؾ أو‬
‫تؽٌٌر‪ ،‬وإال ضحكوا علٌه ألنه "فبلح ال ٌعرؾ التمدن واللؽات"‪ ..‬وبهذا كان الزلزال الوجدانً أشد‪.‬‬

‫❻ (إفساد المنبع‪ ..‬الست المصرٌة)‬

‫"أشبع جوفها‪ ،‬واستر ظهرها‪ ،‬وعطر بشرتها بالدهن العطر‪ ،‬فالدهن ترٌاق لها‪ ...‬واسعدها ما حٌٌت‪،‬‬
‫فالمرأة حقل نافع لولً أمرها‪ ،‬وال تتهمها عن سوء ظن‪ ،‬وامتدحها تضعؾ شرها‪ ،‬فإن نفرت راقبها‪،‬‬
‫واستمل قلبها بعطاٌاك تستقر فً دارك‪ ،‬وسوؾ ٌكٌدها أن تعاشرها ضرة فً دارها"‪.‬‬

‫(ٕ‪)ٔ٘ٙ‬‬
‫‪ -‬الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٗ‪ٕ8٘ -ٕ8‬‬
‫(ٖ‪)ٔ٘ٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٗ‪ٕ8‬‬
‫(ٗ‪)ٔ٘ٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕ8ٙ‬‬

‫‪٘8ٙ‬‬
‫(الحكٌم بتاح حتب‪ ٕ9ٓٓ ..‬ق‪.‬م(٘‪))ٔ٘ٙ‬‬

‫لم تكن الست المصرٌة تحتاج إلى أجنبً كً "ٌحررها"‪ ،‬احتاجت فقط‪ ،‬هً ومصر كلها‪ ،‬أن ٌرحل‬
‫األجنبً عن أرضها وسماها‪ ،‬بجٌوشه وعاداته وتقالٌده وهوٌاته وقٌمه وجالٌاته وعقده وتكبره وشروره‬
‫وكرابٌجه‪ ،‬وحٌنها تنقشع الؽٌوم‪ ،‬وتعود القٌم المصرٌة لعرشها‪ ،‬وكل شًء ألصله‪.‬‬

‫وضمن مشروع المحتلٌن لـ"تمدٌن مصر" ظهر ما اشتهر باسم "قضٌة المرأة"‪ ،‬مستؽلٌن بعض العادات‬
‫السٌبة التً أدخلتها قباٌل بدوٌة وعثمانلٌة فً النظرة للمرأة وتقٌٌدها فً "الحرملك" بؤن تبنى اإلنجلٌز‬
‫والمؽرمون بتقلٌدهم ما سموها بـ"تحرٌر المرأة"‪ ..‬أي تحرٌر؟ ومما؟‬

‫وإن انضم لهإالء مصرٌون بحسن نٌة‪ ،‬فإن البعض انجرفوا ببل بصٌرة‪ ،‬ومجموعة تعمدت أن ٌكون‬
‫"التحرٌر" هو نزعها من سمات الست المصرٌة األصٌلة وحٌاتها الفبلحٌة التً حفظت‪ -‬رؼم االحتبلالت‪-‬‬
‫فً ا ألرٌاؾ تماسك األسرة وربطت أوالدها بؤرضهم وقٌمهم ماعت‪/‬مصر للمصرٌٌن‪ ،‬لتتحول لمسخ‬
‫أوروبً مضحك ٌنشًء أجٌاال تتمرغ فً تراب األجانب‪.‬‬

‫ٌقول كرومر فً كتابه "مصر الحدٌثة"‪ ،‬وتقارٌره الدورٌة التً ٌرسلها لببلده عن الحال فً مصر "الكتاب‬
‫األزرق"‪" :‬إن الوضع العام للمرأة فً مصر ٌقؾ عقبة فً سبٌل الوصول إلى أي تقدم فً الفكر والعقل‪،‬‬
‫وهو ما ٌجب أن ٌصاحب الحضارة األوروبٌة إذا أردنا أن نجنً فوابدها فً مصر"‪ ،‬والعبلج فً نظر‬
‫كرومر هو العمل على تعلٌم المرأة "فإن هذا التعلٌم سٌعمل على تؽٌٌر العادات واألفكار فً الببلد‪ ،‬وإن‬
‫الجٌل الناشً ء فً مصر سٌتطلب فً المرأة شٌبا آخر ٌؽاٌر نظام الحرٌم‪ ،‬فهو ٌرجو أن ٌجد زوجته على‬
‫قدر من المعرفة‪ ،‬ولٌس هناك من شك فً استطاعة المرأة التؤثٌر فً الرجل‪ ،‬وهً إذا اتخذت مظاهر‬
‫الحضارة األووبٌة سٌكون تؤثٌرها قوٌا على الرجل‪ ،‬فعاطفتها تفوق عاطؾ الرجل وهً أشد منه‬
‫انفعاال"(‪.)ٔ٘ٙٙ‬‬

‫والتعلٌم كلمة مؽرٌة وجمٌلة والكل ٌنشدها‪ ،‬لكن حٌن تخرج من محتل أو متؤثر بالمحتل ٌلزم أن نتوقؾ‬
‫لنسؤل‪ :‬أي تعلٌم؟ أي مناهج وأفكار؟ وألي هدؾ؟‬

‫وٌمزج كرومر بٌن تعلٌم المرأة وهز معتقداتها؛ فهً "بحكم ضعؾ عقٌدتها الدٌنٌة عن الرجل ستكون أقدر‬
‫على تخلٌص نفسها من األفكار والعبلقات التً أحاطت بها منذ مولدها"‪ ،‬وفً نفس الوقت ٌطالب بؤن‬
‫ٌستمر تعلٌم الفتاة المصرٌة مدة طوٌلة "وإذا لم ٌستطع رجل اإلصبلح األوروبً أن ٌثبت جدارته ال فً‬
‫تعلٌم الفتاة فحسب بل وكذلك فً رفع مستواها‪ ،‬إذا لم ٌحدث ذلك فإنه لن ٌنجح فً بث الثقافة والتعلٌم‬
‫األوروبٌٌن بٌن الرجال"‪.‬‬

‫ومباشرة تحدث عن أن هدؾ التعلٌم األوروبً للمرأة هو الهدؾ الذي أعلنه من التعلٌم عموما فً مصر‪،‬‬

‫(٘‪)ٔ٘ٙ‬‬
‫‪ -‬األسرة فً المجتمع المصري القدٌم‪ ،‬د‪ .‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬دار القلم (وزارة الثقافة)‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ9ٙٔ ،‬ص ‪9‬‬
‫(‪)ٔ٘ٙٙ‬‬
‫‪ -‬الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕ99 -ٕ9ٙ‬‬

‫‪٘87‬‬
‫إخراج المصري من مصرٌته لٌكون أوروبٌا بالتدرٌج‪" :‬ومن الشواهد على ذلك تعلٌم الفتاة‪ ،‬فإن الرأي العام‬
‫المصري تؽٌر تؽٌرا شامبل فً هذا المجال‪ ،‬وإن نهضة تعلٌم الفتاة سٌكون لها تؤثٌرها فً الجٌل المقبل من‬
‫المصرٌات‪ ،‬وفً أخبلقهن ومكانتهن‪ ،‬وهٌهات أن ٌتشرب المقلدون المصرٌون روح التمدن األوروبً إذا‬
‫لم ٌحدث تؽٌر تدرٌجً فً مقام المرأة المصرٌة"(‪.)ٔ٘ٙ9‬‬

‫والتعلٌم المصري السلٌم ال ٌفصل بٌن المرأة والرجل‪ ،‬ال ٌجعل لهذا قضٌة وذاك قضٌة‪ ،‬بل ٌعالج األمور‬
‫كقضٌة عابلة ووطن‪ ،‬أما التعلٌم األوروبً فسعى فً االنفصال واالنقسام بما سماه بـ"قضٌة المرأة"‪،‬‬
‫وشحنها بكل ما تعادي به الرجل بتقدٌمها أنها "مضطهدة" دابما منه ومن المجتمع كله‪.‬‬

‫ومنه ما اختصر "قضٌة المرأة"‪ ،‬فً أن تعٌش "الؽرام"‪ ،‬قبل زواجها‪ ،‬فاختزل دورها كست مصرٌة‬
‫ودورها الوطنً فً مشاعر من نوع واحد‪ ،‬وشجع هذا نوعٌة معٌنة من الرواٌات والسٌنما‪.‬‬

‫وممن تزعم حركة "تحرٌر" المرأة مجلة "الراوي" لصاحبها اللبنانً فً ‪ ،ٔ888‬التً بدأت "التمدٌن"‬
‫بالكبلم عن الحب فً حٌاة المرأة‪ ،‬وأنها "إذا كانت خالٌة من العمل فارؼة الفإاد من حب زوج ٌكون كبح‬
‫لجماح شهواتها فبل تؤمن من ؼابلة هواجسها"‪ ،‬وؼصت الصحؾ بإعبلنات عن سٌدات (شامٌات وجنسٌات‬
‫أخرى) على استعداد لتقدٌم دروس فً الجؽرافٌا واللؽات واآلداب االجتماعٌة(‪ ،)ٔ٘ٙ8‬وأصبح من معالم "البٌت‬
‫العصري" فً بٌوت األؼنٌاء استحضار مدرسٌن لتعلٌم الفتٌات‪ ،‬لٌس ما ٌخص الثقافة والحضارة المصرٌة‬
‫واالعتزاز بها‪ ،‬لكن تعلم مزٌكا أجنبً على البٌانو ولؽة أوروبٌة ترقع بها لسانها‪ ،‬وقراءة الرواٌات‬
‫األوروبٌة‪ ،‬واألكل بالشوكة والسكٌن‪ ،‬واللبس على الموضة األوروبٌة وؼٌرها من سلوكٌات أجنبٌة‪ ،‬مع‬
‫السخرٌة من الست الفبلحة قدر المستطاع‪.‬‬

‫وصدرت أول صحٌفة مخصصة للمرأة على ٌد اللبنانٌة هند نوفل وهً مجلة "الفتاة" سنة ٕ‪ ،ٔ89‬فعلى‬
‫حد وصؾ هارتمان كان الباب مفتوحا ألن المرأة المسٌحٌة السورٌة "تتمتع بجرأة ؼٌر عادٌة"‪ ،‬وقوبلت‬
‫بترحٌب شدٌد من صحٌفتً "المقطم" الشامٌة و"النٌل" لصاحبها العثمانلً‪ ،‬وأفردت الصحٌفة عددها األول‬
‫لئلشادة بـ"جبللة ملكة إنجلترا فٌكتورٌا المعظمة"‪" ،‬حامٌة الدٌن واإلٌمان وإمبراطورٌة الهند"‪ ،‬وتخصصت‬
‫فً تقدٌم الرجل والمرأة اإلنجلٌزٌٌن كقدوة‪ ،‬وأن كل سلوك متحضر ٌجب أن ٌإخذ منهما‪ ،‬فحتى الحٌاء‬
‫والشهامة جعلوها إنجلٌزٌة‪" :‬فالحٌاة من أجل الصفات المعتبرة فً النساء‪ ،‬وحسبنا شاهدا ما نراه من‬
‫التقلٌدات اإلنجلٌزٌة‪ ،‬فإن الرجل منهم ال ٌقدر أن ٌؤتً بؤي عمل ٌإول بتكدٌر حاسات النساء‪ ،‬وال أن ٌتلفظ‬
‫بؤقل كلمة ذات معان كثٌرة احتراما وإجبلال لهن"(‪.)ٔ٘ٙ9‬‬

‫والبلفت أن من وضع فً أٌدٌهن فً البداٌة معظم صحؾ وأنشطة "تحرٌر المرأة"‪ ،‬هن نساء‪ -‬إضافة إلى‬
‫أنهن أجنبٌات‪ -‬فإنهن مختلفات فً الدٌن‪ ،‬مسٌحٌات ٌخالفن المصرٌات المسلمات فً دٌنهن‪ ،‬ومسٌحٌات‬

‫(‪)ٔ٘ٙ9‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ٕ99 -ٕ9ٙ ،‬‬
‫(‪)ٔ٘ٙ8‬‬
‫‪ -‬الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕ9ٙ‬‬
‫(‪)ٔ٘ٙ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٖٓٓ -ٕ98‬‬

‫‪٘88‬‬
‫كاثولٌك أو بروتستانت مخالفات للمصرٌات المسٌحٌات األرثوذكس؛ لٌخرج من تحت أٌدٌهن "المسخ"‪،‬‬
‫الذي قال عنه كرومر صراحة‪" :‬مسلمون ولٌست فٌهم خواص إسبلمٌة‪ ،‬وأوروبٌون ولٌست فٌهم خواص‬
‫أوروبٌة"(ٓ‪ )ٔ٘9‬وبالطبع مصرٌون ولٌست فٌهم خواص مصرٌة‪.‬‬

‫وساعد اإلنجلٌز على إحراز بعض النجاح(ٔ‪ )ٔ٘9‬أنهم ٌعرفون خطتهم‪ ،‬وأهدافها‪ ،‬ومداها‪ ،‬والصبر علٌها ولو‬
‫طالت السنٌن‪ ،‬تقوم على تنفٌذها حكومة وتنظٌمات‪ ،‬والصحؾ التابعة لهم تسٌر فٌها ٌومٌا‪ ،‬فٌما بقٌة‬
‫الصحؾ والشخصٌات الوطنٌة المعادٌة لئلنجلٌز جهودهم ذاتٌة من قلوب مخلصة‪ ،‬لٌس ورابهم حكومة‪ ،‬بل‬
‫ؼالبا تطاردهم الحكومة التابعة لبلحتبلل(ٕ‪.)ٔ٘9‬‬

‫ورؼم هذا حصل العجب‪ ،‬بقً لهم سحرهم فً حفظ ماعت متقدة فً النفوس‪ٌ ،‬ؽذٌها ظهرها‪ -‬سلٌم الفطرة‬
‫لحد كبٌر‪ -‬وهو الرٌؾ‪ ،‬ال سند لهم إال رابطة األرض والسماء‪ ،‬بل المعجزة أن مصر بعد ثورة ٔ‪ٔ88‬‬
‫ظهرت أكثر عملقة أوالدها الحقٌقٌٌن بدافع الوطنٌة الثورٌة فً كل المجاالت‪ ،‬فمن وسط الحصار الصحفً‬
‫والتعلٌمً والسٌاسً واالقتصادي خاضوا حرب إنشاء الجامعة المصرٌة‪ ،‬رؼم أنؾ كرومر‪ ،‬ونجحوا‪،‬‬
‫وخاضوا معركة أن ٌكون صوت المصري الحقٌقً مسموعا‪ ،‬بمواهب مثل طه حسٌن والعقاد وتوفٌق‬
‫الحكٌم وحافظ إبراهٌم وسٌد دروٌش وأم كلثوم المعتزٌن بفبلحٌتهم‪ ،‬وخاضوا معركة أن تظل المصرٌة‬
‫فبلحة مصرٌة مهما عبل نجمها ونجحوا‪ ،‬وخاضوا معركة إعادة الفبلحٌن كضباط فً الجٌش بداٌة من‬
‫‪ ٔ9ٖٙ‬ونجحوا‪ ،‬وخاضوا معركة إثبات أن المصري صانع ماهر بمشارٌع بنك مصر ونجحوا‪ ،‬وخاضوا‬
‫معركة أن المصري عالم بارع مثل د‪ .‬علً إبراهٌم ود‪ .‬مصطفى مشرفة ونجحوا‪ ،‬وخاضوا معركة النخوة‬
‫باستمرار كراهٌة االحتبلل ونجحوا‪..‬‬

‫وسٌعلنون كلمتهم فً دنشواي وثورة ‪ ٔ9ٔ9‬وانتفاضة ٖ٘‪ ٔ9‬وثورة ٕ٘‪.ٔ9‬‬

‫❽ (تحول مصر لساحة للعصابات الدولٌة والجرٌمة المنظمة)‬

‫ٌقول ٌعقوب النداو‪ ،‬مإلؾ "تارٌخ ٌهود مصر فً الفترة العثمانٌة ‪" :"ٔ9ٔٗ -ٔ٘ٔ9‬كان الماسون ٌمارسون‬
‫اإلجرام فً المدن المصرٌة‪ ،‬وتجد فً المحافل الحماٌة والعون"(ٖ‪.)ٔ٘9‬‬

‫ولٌس الماسون فقط من ٌجدون الحماٌة والعون‪ ،‬بل معظم الجالٌات‪ ،‬فً االمتٌازات األجنبٌة وفً حماٌة‬
‫بعضهم لبعض مستؽلٌن نفوذهم االقتصادي والسٌاسً والثقافً‪ ،‬إضافة إلى أن بعض األجانب ٌجدون براحا فً‬
‫ارتكاب الجرٌمة ألنهم ؼٌر معروفٌن وسط المجتمع‪ ،‬ال ٌخشون اللوم وال ٌحكمهم الحٌاء‪.‬‬

‫(ٓ‪)ٔ٘9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖٓٓ‬
‫(ٔ‪)ٔ٘7‬‬
‫‪ -‬أكبر نجاح مستمر لسٌطرة الصحؾ التابعة لإلنجلٌز والعثمانلٌة وفرنسا هو أن بعض المصرٌٌن ٌظنون حتى الٌوم أن عرابً هو سبب‬
‫احتالل اإلنجلٌز لمصر‪ ،‬ولٌس أنه والشعب كله حاولوا إنقاذ مصر من السٌطرة األوروبٌة بعد سٌطرة اإلنجلٌز والفرنسٌس على الحكومة‬
‫واالقتصاد‪ ،‬وحاولوا منع الؽزو المعد له مسبقا‪ ،‬بل إن من أسباب الثورة التخفٌض األوروبً الحاد فً عدد الجٌش المصري كً تكون البلد بال‬
‫حامً‪.‬‬
‫(ٕ‪)ٔ٘9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕ٘9‬‬
‫(ٖ‪)ٔ٘9‬‬
‫‪ -‬الماسون والماسونٌة فً مصر ‪ ،ٔ9ٙٗ -ٔ998‬ص ‪ٔٗ9‬‬

‫‪٘89‬‬
‫ولكثرة العدد وتنوع الجنسٌات واألدٌان والتٌارات والتنظٌمات امتؤلت مصر بؤشكال من الفساد والجرابم‬
‫والصراعات بؤشكال جدٌدة وكثٌفة‪ ،‬ووصلت لعمق المحافظات مع انتشار هإالء خارج القاهرة واإلسكندرٌة‪،‬‬
‫ومما ساعدهم أٌضا فً اإلحساس باألمان وهم ٌنشرون العصابات المنظمة فً مصر أن جهاز البولٌس كان ٌفتقد‬
‫لوسابل البحث الجنابً الحدٌثة مقابل مهارة المجرمٌن القادمٌن من الخارج فً ابتكار وسابل جدٌدة للجرٌمة‬
‫‪.‬‬
‫(ٗ‪)ٔ٘9‬‬
‫والهروب وجلب األدوات الحدٌثة البلزمة الرتكاب جرابمهم‬

‫▼ (المخدرات)‬

‫قبل هذا االحتبلل الجالٌاتً كان فً مصر الحشٌش‪ -‬وهو كما تابعنا دخل مصر على ٌد تجار تابعٌن‬
‫للطرق الصوفٌة بحسب ما أخبرنا الجبرتً‪ -‬وهم أجانب أٌضا‪ -‬وبعد الحرب العالمٌة األولى وتدفق األجانب‬
‫بكثرة جاءوا بالكوكاٌٌن والهٌروٌٌن األكثر تدمٌرا حسب تقارٌر وزارة الداخلٌة سنة ‪.)ٔ٘9٘(ٔ9ٕ8‬‬

‫وهربوا من العقاب باالمتٌازات األجنبٌة فكان القبض على تاجر مخدرات ٌلزمه الحصول على إذن قنصله‬
‫أو عدة قناصل لو الشبكة متعددة الجنسٌات‪ ،‬وأن ٌذهب القناصل مع البولٌس لحظة القبض‪ ،‬وقد ٌتباطبون‬
‫فٌفلت المجرم من العقاب‪ ،‬وفً ذلك قال توماس رسل‪ ،‬حاكم بولٌس القاهرة (من ‪ )ٔ9ٗٙ -ٔ9ٔ9‬فً مذكراته‬
‫إن العدو األكبر لمصر هو تاجر المخدرات األجنبً بسبب ما ٌتحصن به من امتٌازات أجنبٌة(‪.)ٔ٘9ٙ‬‬

‫وقاد شبكات المخدرات فً مصر الٌونان واإلٌطالٌون واألرمن‪ ،‬وشارك فً جلب وتوزٌع المخدرات‬
‫جنسٌات أخرى كالسورٌون والمؽاربة والٌهود والتونسٌون واألحباش‪ ،‬خاصة المنطوٌٌن تحت لواء‬
‫قنصلٌات تحصنهم باالمتٌازات األجنبٌة أٌضا‪ ،‬وبحسب "رسل" فتركٌا والٌونان كانتا مصدر عصابات‬
‫تهرٌب المخدرات لمصر(‪.)ٔ٘99‬‬

‫▼ (انتشار الدعارة)‬

‫فً األسرة ‪ -ٔ9‬خاصة مع انفناح مصر أٌام الدولة الحدٌثة بشدة أمام الشعوب األخرى‪ -‬أوصى الجد الحكٌم‬
‫"آنً" المصرٌٌن بقوله‪" :‬احذر المرأة األجنبٌة التً ال ُتعرؾ فً بلدتها ]ال ٌعرؾ أهل البلدة المقٌمة فٌها‬
‫من هً ومن أٌن أتت[‪ ،‬وال تنظرن إلٌها‪ ،‬وال تعرف َّنها فً جسدها‪ ،‬ألنها فٌضان (من الشر) عظٌم وعمٌق‪،‬‬
‫ال ٌعرؾ الرجل دورانه"(‪.)ٔ٘98‬‬

‫وفً عصرنا ٌحكً توفٌق الحكٌم أنه لما اشتعلت الحرب العالمٌة األولى فرَّ كثٌر من األوروبٌٌن‬
‫لمصر‪ ،‬وأقدمت بعض نساءهم على الدعارة‪ ،‬وصرنَّ أداة لنزح جٌوب المصرٌٌن الذٌن اؼتنوا من السوق‬
‫السوداء وأسعار القطن فً الحرب‪ ،‬مثل العمد الذٌن ٌحضرون من الرٌؾ خصٌصا لئلنفاق على‬
‫(ٗ‪)ٔ٘9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مجتمع القاهرة السري (ٓٓ‪ ،)ٔ9ٖ٘ -ٔ9‬عبد الوهاب بكر‪ ،‬العربً للنشر والتوزٌع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪ٙ‬‬
‫(٘‪)ٔ٘9‬‬
‫‪ -‬األجانب فً مصر ٕٕ‪ ٔ9ٕ٘ -ٔ9‬دراسة فً تارٌخ مصر االجتماعً‪ ،‬محمود محمد سلٌمان‪ ،‬عٌن للدراسات والبحوث اإلنسانٌة واالجتماعٌة‪،‬‬
‫ط ٔ‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ99ٙ ،‬ص ‪ٖٔ9‬‬
‫(‪)ٔ٘9ٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕٖٓ‬
‫(‪)ٔ٘99‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖٕٖ‬
‫(‪)ٔ٘98‬‬
‫‪ -‬فجر الضمٌر‪ ،‬هنري برٌستٌد‪ ،‬ترجمة سلٌم حسن‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٓٔٔ ،‬ص ٖٔٔ‬

‫ٓ‪٘9‬‬
‫هإالء(‪ ،)ٔ٘99‬وأطرؾ تمثٌل لهذه الحالة مسرحٌة "إش" لنجٌب الرٌحانً عن العمدة كشكش بٌه الذي أتى من‬
‫القرٌة لٌمطر األجنبٌات فً أوكار الخمر والقمار بماله وعرق الفبلحٌن حتى فقد ماله‪ ،‬واضطر لبٌع أمبلكه‬
‫فً مزاد ومد ٌده ألخذ قرض من الخواجة(ٓ‪.)ٔ٘8‬‬

‫وأقدم ظهور منظم معروؾ لبٌوت البؽاء فً القاهرة أٌام األٌوبٌٌن‪ ،‬وزاد أٌام الممالٌك والعثمانلٌة‪،‬‬
‫وسموها "بٌوت الخواطً" أي الخاطبات‪ ،‬تعمل بها الجواري والؽجرٌات‪ ،‬لكنها كانت مستنكرة‪ ،‬وأسست‬
‫نظؾ محمد علً القاهرة من هذه البٌوت لكنه ألقى‬ ‫حملة نابلٌون بٌوت بؽاء للجنود الفرنسٌس‪ ،‬ثم َّ‬
‫بالداعرات إلى الوجه القبلً‪ ،‬وبتدفق عشرات آالؾ األجانب‪ -‬نسبة كبٌرة منهم حثالة وصناع جرٌمة‪ -‬فً‬
‫عهد خلفابه انتشرت تلك البٌوت تحت ظل االمتٌازات األجنبٌة واالحتبلل اإلنجلٌزي(ٔ‪.)ٔ٘8‬‬

‫ٌقول المراسل جون نٌنٌه فً برقٌته للصحؾ األوروبٌة سنة ٓ‪ ٔ88‬إن الٌونانٌٌن واألرمن من أشهر من‬
‫عمبل فً "البؽاء"‪ٌ ،‬وقعون فً شباكهم اإلماء والجواري الذٌن ٌستؽنً عنهم أسٌادهم ألسباب مالٌة أو‬
‫لؽٌره‪ ،‬فمثبل فً المقهى الكبٌر لحدٌقة األزبكٌة المدار بواسطة ٌونانً ما بٌن ٓ٘‪ ٔٓٓ -‬امرأة تركٌة‬
‫وشابات وجمٌبلت ومزٌنات جالسات كل مساء حول تربٌزات وهن ٌتناولن مشروبات على صوت‬
‫الموسٌقى فً انتظار مندٌل العاشقٌن(ٕ‪ ،)ٔ٘8‬وهذا بخبلؾ من ٌتسرب إلى القرى من ؼجرٌات وؼٌرهن باسم‬
‫ؼوازي‪.‬‬

‫وٌقول توماس رسل إنه عندما ذهب البولٌس للقبض على رٌفون الفرنسٌة بصحبة القنصل الفرنسً قالت‬
‫إنها باعت بٌت الدعارة لجنتلً اإلٌطالٌة‪ ،‬ولما استدعوا القنصل اإلٌطالً قالت إنها باعته ألجنبً آخر‪،‬‬
‫وهكذا كانوا ٌجٌدون التبلعب بالقانون استنادا على االمتٌازات األجنبٌة(ٖ‪.)ٔ٘8‬‬

‫وفً البداٌة كانت بٌوت الدعارة ؼٌر رسمٌة‪ ،‬ثم انتزع األجانب بدعم من قناصلهم تصارٌح رسمٌة لخدمة‬
‫جنودهم وجالٌاتهم‪ٌ ،‬قوم علٌها ٌونان وأرمن وإٌطالٌون وفرنسٌون إلخ‪ ،‬وصار لها شوارع مشهورة فً‬
‫القاهرة وبعض المحافظات‪ ،‬وهذا بخبلؾ صٌد الشباب فً الشوارع‪ ،‬فلم ٌتركوا األمر اختٌارا للفاسد الذي‬
‫ٌذهب إلى أوكارهم بقدمٌه‪ ،‬ولكن ٌؽرون وٌصطادون من هم فً الشوارع‪ ،‬وبعد تفاقم األمر وزوال‬
‫االمتٌازات األجنبٌة أصدرت الحكومة القرار رقم ‪ 9ٙ‬لسنة ‪ ٔ9ٗ9‬بإؼبلق بٌوت الدعارة(ٗ‪.)ٔ٘8‬‬

‫ولم ٌقتصر انتشار الدعارة على المواخٌر‪ ،‬فجرى نقلها بفعل فاعل إلى شاشات السٌنما لتنتشر أوسع‪،‬‬
‫فساهمت أفبلم ورواٌات فً اإلقبال على أوكار الخمر والفسوق بنشر التعاطؾ مع الداعرات عبر تصوٌر‬
‫الداعرة (محور الفٌلم) فً شكل المظلومة التً دفعها الفقر أو قسوة أفراد األسرة إلى بٌع جسدها مقابل‬
‫المال‪ ،‬وهو أمر لم ٌكن له ظل فً الواقع‪ ،‬كما سبقت اإلشارة‪ ،‬ولكنه فكر أجنبً دخٌل على مصر لتشجٌع‬

‫(‪)ٔ٘99‬‬
‫‪ -‬توفٌق الحكم فً حوار ببرنامج "النهر الخالد"‪ ،‬إنتاج التلفزٌون المصري‪ ،‬تقدٌم سعد الدٌن وهبة‬
‫(ٓ‪)ٔ٘8‬‬
‫‪ -‬مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن‪ ،‬ج ٕ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ٘ٓ‬
‫(ٔ‪)ٔ٘8‬‬
‫‪-‬انظر‪ :‬مجتمع القاهرة السري (ٓٓ‪ ،)ٔ9ٖ٘ -ٔ9‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔٔ‪ٕٗ -‬‬
‫(ٕ‪)ٔ٘8‬‬
‫‪ -‬رسابل من مصر‪ ،‬جون نٌنٌه‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ٘ٔ‬
‫(ٖ‪)ٔ٘8‬‬
‫‪ -‬األجانب فً مصر ٕٕ‪ ٔ9ٕ٘ -ٔ9‬دراسة فً تارٌخ مصر االجتماعً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٖ٘‬
‫(ٗ‪)ٔ٘8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٖٕٙ‬‬

‫ٔ‪٘9‬‬
‫مصرٌات على االنزالق فً هذا الببر النتن‪ ،‬وتبرٌر الجرابم مهما قبحت‪ ،‬وإسكات الضمٌر أمامها‪ ،‬فٌسهل‬
‫اإلقبال علٌها والمجرم ٌتوهم أنه ضحٌة ولٌس مجرما‪ ..‬وهكذا ٌتجرد المصري من الشهامة والنخوة‪.‬‬

‫وهنا مبلحظة تستلزم وقفة‪ ،‬إن معظم األفبلم قدمت أن من أسسن بٌوت الدعارة وٌعملن فٌها "مصرٌات"‪،‬‬
‫وكذلك الراقصات وصاحبات بٌوت القمار‪ ،‬وزعماء العصابات والمجرمٌن مصرٌٌن‪ ،‬وال تشٌر إلى دور‬
‫األجانب واالحتبلل فً هذا‪ ،‬فكؤن الجرابم أنشؤها ونشرها مصرٌون‪ ،‬حٌث كانت السٌنما تتحسس من أن‬
‫توجه لها تهم اإلساءة لؤلجانب؛ وهو ما ضلل األجٌال المقبلة التً ظنت أن األخبلق السٌبة كانت اختصاص‬
‫مصري فً حٌن األجانب لم ٌكونوا إال "خٌر" على مصر‪.‬‬

‫وٌروي المخرج محمد كرٌم فً مذكراته مثاال أن جرٌدة "البورص" نشرت فً ٕٖ‪ ٔ9‬تطالب بمنع فٌلم‬
‫"أوالد الذوات"‪ ،‬وترجمت "المقطم" نص المقال الذي جاء فٌه‪" :‬فقد أرادوا به أن ٌروجوا الدعوة لدى‬
‫المصرٌٌن لكراهٌة المرأة األوروبٌة"‪ ،‬وكٌؾ ٌخرجون فً مصر فٌلما كهذا مبنٌا على التعصب دون أن‬
‫ٌكون حتى على شًء من الفن؟"‪ ،‬وقالت "المقطم" إن أجانب قدموا شكوى لوزارة الداخلٌة لمنع الفٌلم‪،‬‬
‫ومنعته الوزارة فً البداٌة ثم أجازت عرضه ألن اللجنة المنتدبة وجدت أنه لٌس فٌه ما ٌسًء للمرأة‬
‫األوروبٌة(٘‪ ،)ٔ٘8‬وبهذا ُتحفظ سمعة المرأة األوروبٌة رؼم جرابمها‪ ،‬و ُتترك سمعة الست المصرٌة وكافة‬
‫المصرٌٌن نهبا مستباحة للشعوب والتارٌخ المزور بالصوت والصورة‪.‬‬

‫▼ (نوادي القمار)‬

‫ٌقول كلوت بك إنه فً زمن محمد علً كان قلٌل من المصرٌٌن ٌعرفون الكوتشٌنة‪ ،‬وبالتالً ال ٌعرفون‬
‫األلعاب المترتبة علٌها أساسا‪ ،‬ومنها القمار(‪.)ٔ٘8ٙ‬‬

‫وبالتدفق األوروبً انتشر القمار فً المقاهً والمنازل والكازٌنوهات‪ ،‬محمٌٌن أٌضا باالمتٌازات األجنبٌة‬
‫وشرط أخذ إذن القناصل وصحبتهم لحظة اقتحام أوكار القمار‪ ،‬وإضافة للشكل التقلٌدي له ظهرت أنواع‬
‫أخرى للمقامرة مثل رهانات سبق الخٌل أٌام إسماعٌل بدعوى أنها من "مظاهر التمدن"‪.‬‬

‫كذلك انتشر ما ٌسمى باأللعاب األمرٌكٌة‪ ،‬واستؽل األجانب فٌها المقاهً فً صٌد زبابنهم وأصبح لهم‬
‫العدٌد من المقاهً والكازٌنوهات منذ ‪ ،ٔ9ٕ9‬وهً عبارة عن صندوق مؽلق ٌلقً البلعب فٌه عملة معدنٌة‬
‫ثم ٌحرك ٌدا خاصة باللعبة تمنح البلعب قطعة حلوى أو قطع نحاسٌة ٌدفعها ثمن للمشارٌب أو ال تمنحه‬
‫شٌبا‪ ،‬وشفطت هذه اللعبة نقود الصبٌة والشباب(‪ ،)ٔ٘89‬فكانت نوادي القمار وسباقات الخٌل لنزح أموال‬
‫األؼنٌاء‪ ،‬وألعاب المقاهً لنزح أموال الفقراء‪ ...‬حلب البقرة حتى آخر نقطة دم‪.‬‬

‫ولتتحول مصر إلى ما وصفه حافظ إبراهٌم وهو ناقم على حال مصر فً قصٌدته التً وجهها إلى كرومر‬

‫(٘‪)ٔ٘8‬‬
‫‪" -‬السٌنما والدولة فً الوطن العربً"‪ ،‬سمٌر فرٌد‪ ،‬ضمن أبحاث كتاب "الهوٌة القومٌة فً السٌنما العربٌة‪ ،‬ص ٖٓٔ‬
‫(‪)ٔ٘8ٙ‬‬
‫‪ -‬لمحة إلى مصر‪ ،‬كلوت بك‪ ،‬ترجمة محمد مسعود‪ ،‬دار الكتب والوثابق القومٌة‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٓٔٔ ،‬ص ٖٓٗ‬
‫(‪)ٔ٘89‬‬
‫‪ -‬األجانب فً مصر ٕٕ‪ ٔ9ٕ٘ -ٔ9‬دراسة فً تارٌخ مصر االجتماعً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖٕٙ‬‬

‫ٕ‪٘9‬‬
‫عقب مدبحة دنشواي‪ ،‬متحسرا على حال األمة التً أوصلتها إلى المدبحة(‪:)ٔ٘88‬‬

‫هى أمة تلهو‪ ..‬وشعب ٌلعب!‬ ‫وإذا سبلت عن الكنانة قل لهم‬

‫▼ (عصابات السرقة الدولٌة)‬

‫السرقة موجودة فً المجتمع المصري وؼٌره منذ نشؤة البشر‪ ،‬فهً والقتل والنصب والرشوة أقدم الجرابم‪،‬‬
‫ولكن ازدادت خطورتها فً مصر زمن االحتبلالت بعد أن قام علٌها عصابات دولٌة متعددة الجنسٌات‪،‬‬
‫تبدع أسالٌب للنصب والسرقة لم ٌكن ٌعرفها المصرٌون‪ ،‬ومسلحٌن بؤحدث أدوات تساعدهم على عملهم‪.‬‬

‫وساهمت االمتٌازات األجنبٌة فً كثرتها وتنوعها‪ ،‬وهو ما أشارت إلٌه صحٌفة "األهرام" فً عددها ٗ‬
‫ماٌو ٕٗ‪ ٔ9‬حٌن تحدثت عن صعوبة ترحٌل اللصوص األجانب المتناع القنصلٌات التابعٌن لها عن التؤشٌر‬
‫على جوازات سفر هإالء األجانب كً ٌحموا ببلدهم من جرابمهم‪ ،‬وفً نفس الوقت ٌصعب عقابهم داخل‬
‫مصر‪ ،‬وقاد العصابات ٌونان وأرمن وإٌطالٌون وروس ومالطٌون وجنسٌات أخرى(‪.)ٔ٘89‬‬

‫وحٌن ٌكون المجرمون أجانب تزداد صعوبات مكافحة الجرٌمة أمام رجال األمن لسبب آخر‪ ،‬أنه ؼٌر‬
‫متوفر ملفات كافٌة عنهم‪ ،‬وؼٌر معروؾ أصلهم وفصلهم‪ ،‬ولهم تشعبات فً الخارج تسهل هروبهم‪.‬‬

‫▼ (التزٌٌؾ والؽش التجاري)‬

‫بانتشار العمبلت الورقٌة محل المعدنٌة‪ ،‬انفتح الباب واسعا لظهور عصابات تزٌٌؾ العملة من الٌونان‬
‫واألرمن واإلٌطالٌٌن والروس وجنسٌات أخرى‪ ،‬مع ما لهذا من تؤثٌر فً نهب مال المصرٌٌن‪ ،‬محتمٌٌن‬
‫أٌضا باالمتٌازات األجنبٌة(ٓ‪ ،)ٔ٘9‬وقلدهم فٌما بعد مصرٌون ضعاؾ نفوس ضموهم إلى عصاباتهم‪.‬‬

‫أما الؽش التجاري فانتعش بتزاٌد تدفق البضابع واالستثمارات األجنبٌة‪ ،‬ومنها وضع السلع على أنها‬
‫مستوردة وهً محلٌة للمؽاالة فً ثمنها أو أن ٌبٌع السمن الصناعً على أنه طبٌعً‪ ،‬حسب ما أوردت‬
‫صحٌفة "المصور" فً ماٌو ٓٗ‪ ٔ9‬أو بٌع بضابع مقلدة على أنها أصلٌة‪ ،‬ورفضت المحاكم المختلطة قانونا‬
‫لمكافحة الؽش التجاري ولم ٌطبق إال بإلؽاء هذه المحاكم سنة ‪.)ٔ٘9ٔ(ٔ9ٗ9‬‬

‫وروت جرٌدة "الجمهور المصري" أن محاكم القاهرة نظرت خبلل سنة ٓ٘‪ ٔ9‬ثبلثة آالؾ قضٌة من‬
‫قضاٌا الؽش‪ :‬ؼش الدقٌق والمواد الدهنٌة والجبن والحلوى واللبن والكحول إلخ‪ ،‬وقالت إن سوس االنحبلل‬
‫واالنهٌار ٌنخر فً جسد الدولة‪ ،‬وعللت السبب فً أن الوزراء هم من ذوي األطٌان‪ ،‬ومعظم أعضاء‬
‫البرلمان من أصحاب العقارات ومن الممولٌن والمستوردٌن والمصدرٌن ومن أصحاب النفوذ‪ ،‬وأصحاب‬

‫(‪)ٔ٘88‬‬
‫‪ -‬دٌوان حافظ إبراهٌم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖٖ9‬‬
‫(‪)ٔ٘89‬‬
‫‪ -‬األجانب فً مصر ٕٕ‪ ٔ9ٕ٘ -ٔ9‬دراسة فً تارٌخ مصر االجتماعً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖٕٙ‬‬
‫(ٓ‪)ٔ٘9‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٖٕ9‬‬
‫(ٔ‪)ٔ٘9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٖٕ8‬‬

‫ٖ‪٘9‬‬
‫رءوس األموال ٌسٌطرن على الحكومة‪ ،‬وكبار الموظفٌن هم ذوو نفوذ فً مختلؾ الدوابر الرسمٌة‪ ،‬ومن‬
‫هإالء جمٌعا تتؤلؾ القوة الحاكمة التً تسٌطر على مفاتٌح الدولة‪ ،‬ومن العادة أن أمثال هإالء المتؽلبٌن من‬
‫أرباب السلطان ال ٌهتمون لؽٌر مصالحهم الخاصة(ٕ‪ ،)ٔ٘9‬ومعظم من أشارت لهم الجرٌدة ما بٌن أجنبً طازة‬
‫ومجنس ومستمصر وبعض المصرٌٌن‪.‬‬

‫▼ (حانات الخمرة)‬

‫رؼم أن شرب الخمر لٌس جدٌدا ولكنه أخذ شكبل جدٌدا بانتشار الحانات علنا على ٌد الحملة الفرنسٌة‪،‬‬
‫ومع فتح الباب للجالٌات األوروبٌة زمن عابلة محمد علً انتشرت فً القاهرة واإلسكندرٌة ومدن القناة‬
‫بحجة توفٌر نمط حٌاة لؤلجانب كما تعودوا علٌه فً ببلدهم‪ ،‬ثم انتشرت فً مدن أخرى وبعض القرى على‬
‫ٌد الخواجات‪ ،‬وإن تخفت وراء اسم مقاهً فً القرى‪ ،‬وأصبحت تجارة كبٌرة هدفها إفساد المصرٌٌن‪،‬‬
‫واإلثراء السرٌع‪ ،‬ونزح األموال للخارج‪.‬‬

‫وباالحتبلل اإلنجلٌزي انتشرت كما لم ٌحدث من قبل‪ ،‬وبتصارٌح‪ ،‬اإلعبلنات فً الصحؾ الشامٌة عن‬
‫الخمور تبٌن ممزٌات "الصنؾ العالً" وارد فرنسا وإٌطالٌا والٌونان‪ ،)ٔ٘9ٖ(،‬ثم جاءت السٌنما لتشجع‬
‫المصرٌٌن على "القربعة"‪ ،‬وتصور‪ -‬زورا‪ -‬كؤنه ال بٌت "متحضر" ٌخلو من الخمر‪ ،‬وأن لشاب إذا أهمه‬
‫شًء فلٌذهب إلى "الخمارة"‪ ،‬فهً ملجؤه ومسبله ومتواه والصدر الحنٌن "عشان ٌنسى"‪.‬‬

‫وٌإكد السٌاسً والرحالة اإلنجلٌز سكاونت بلنت دور إنجلترا فً هذا‪ ،‬فٌتحدث فً كتابه "مذكراتً" عن‪:‬‬
‫"نعمة االحتبلل على الٌونانٌٌن أصحاب الحانات الذٌن أخذوا ٌنتشرون فً القرى‪ ،‬وال شك أن الفبلح الذي‬
‫ٌتعاطى الخمر سٌفقد استقبلله االقتصادي فٌمد ٌده لبلقتراض ثم ال ٌلبث أن ٌنزلق فً مهاوي الرذٌلة"‪ ،‬وأنه‬
‫لما أثار الموضوع "مرارا مع بارنج‪ ،‬ووعد باتخاذ اإلجراءات البلزمة‪ ،‬وكانت النتٌجة التً وجدتها بعد‬
‫فترة هً زٌادة عدد الحانات"(ٗ‪.)ٔ٘9‬‬

‫فالٌونانً كؤنه رسول إبلٌس‪ٌ ،‬نزل القرٌة فً ٌده زجاجة خمر ٌؽري الفبلح المٌسو لحد ما بؤنها ستنسٌه‬
‫الهم‪ ،‬وفً الٌد الثانٌة كٌس المال لتكتٌفه بالربا لٌسدد دٌونه التً اقترضها "علشان ٌقربع" الخمر‪ ،‬وٌهمل‬
‫عمله وٌفقد حذره‪ ،‬وٌنتهى به األمر فً النهاٌة إلعطاء مواشٌه وداره للٌونانً مقابل الدٌن‪.‬‬

‫ومنعت الحكومة الترخٌص للمصري بفتح حانات وسمحت لؤلجنبً فً األحٌاء ذات الكثافة األوروبٌة التً‬
‫تسمى بالحً األوروبً‪ ،‬ولكن انجرَّ مصرٌون ضعاؾ النفوس للعمل فً هذا المجال بؤن ٌفتح حانة‬
‫بترخٌص ٌحمل اسم شخص أجنبً وٌتفق معه على أخذ مبلػ أو اقتسام األرباح‪ ،‬وبذلك ٌستفٌد من‬
‫االمتٌازات األجنبٌة‪ ،‬وعلى هذا وصل وباء الحانات لمساحة واسعة فً مصر‪ ،‬فلجؤت الحكومة للحد من‬

‫(ٕ‪)ٔ٘9‬‬
‫‪ -‬المذكرات‪ ،‬محمد كرد علً‪ ،‬مطبعة الترقً‪ ،‬دمشق‪ ،ٔ9ٗ8 ،‬ص ٓ‪ٔٔ9‬‬
‫(ٖ‪)ٔ٘9‬‬
‫‪ -‬الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬سامً عزٌز‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٕ٘‪ٕٕٙ -‬‬
‫(ٗ‪)ٔ٘9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬

‫ٗ‪٘9‬‬
‫انتشارها بمنع إضافة شوارع جدٌدة لؤلحٌاء المسماة حٌنها باألوروبٌة(٘‪.)ٔ٘9‬‬

‫وقدم عبد هللا الندٌم المعاصر النتشار حانات الخمر صورة عما فعلته من خراب فً بعض المصرٌٌن‬
‫وضٌاع أرضهم وأموالهم وهٌبتهم حٌن نقلها الخواجات للقرى‪ ،‬فٌقول(‪:)ٔ٘9ٙ‬‬

‫ضحكت على عقولنا الخواجات‪ ..‬والدٌن مات‪ ..‬والكل ٌتهاون ؼفـالن‬

‫اللً ٌقلد أوروبً‪ ..‬فً دي الشرب‪ ..‬ما ٌقلده فً حـــــب األوطـــــان‬

‫عجب عجب حتى التخرٌؾ‪ ..‬وصل الرٌؾ‪ ..‬والخمرة تشر على الكٌمان‬

‫تلقى ال ُعمد قبل اإلمساك‪ ..‬شربو الكنٌاك‪ ..‬فانظر صٌام من بات سكران‬

‫باعوا الفــــدادٌن لألروام‪ ..‬باألوهــــــــام‪ ..‬وأصبـــح الوطـــــن ؼلبـــــــــان‬

‫ومع مبلحظة أن الٌونان واإلٌطالٌٌن واألرمن والمالطٌٌن لهم الحضور األقوى فً كافة أنواع الجرابم من‬
‫قمار وؼش وسرقة ودعارة ومخدرات وخمور ٌمكن تفسٌر لماذا كان بعض هإالء أكثر انتشارا من بقٌة‬
‫الجالٌات فً ربوع المحافظات واألرٌاؾ‪ ،‬وٌتسترون فً شكل أصحاب مقاهً ودكاكٌن‪.‬‬

‫واختصرت رواٌات مصرٌة صورة كل ما سبق بشكل بلٌػ‪ ،‬فشرحت رواٌة "قلوب خاوٌة" أحد طرق‬
‫الخواجات للثراء فً مصر‪ ،‬وهً عن الخواجة مٌشو أخذ من مهنة الحلوانً ستارة لعمله الحقٌقً وهو‬
‫الربا‪ ،‬فٌسلؾ الجنٌه بلاير لحد ما عمل فلوس اشترى بها األرض‪ ،‬وفً رواٌة "الماء العكر" هبط الخواجة‬
‫خرٌستو على الرٌؾ فً بحر شبٌن وفتح قهوة كستارة ٌبٌع فٌها ألهل البلد كل شًء وٌؽرٌهم بالقروض‬
‫حتى كتؾ معظم أهل البلد بالدٌون‪ ،‬وأوصل قهر الفبلحٌن من الخواجات وتحكمهم فٌهم فً عقر دارهم‬
‫حتى خسروا أراضٌهم أن قتل فبلح الخواجة الٌونانً بضربة فاس على رأسه‪ ،‬كما فً رواٌة "طرح‬
‫النهر"(‪ ، )ٔ٘99‬ولم ٌكن هذا من خٌال األدباء بل قتل الفبلحون بالفعل مرابٌا ٌونانٌا وهددوا مرابٌن ٌهود بالقتل‬
‫فً عدة حوادث خبلل ثورة ٔ‪.)ٔ٘98( ٔ88‬‬

‫▼ (النزح والتهرٌب)‬

‫نشطت الجالٌات األجنبٌة فً نزح األموال التً تكسبها فً مصر إلى خارجها بؤشكال مشروعة أو ؼٌر‬
‫مشروعة لتصب فً بلدانهم األصلٌة أو البنوك العالمٌة‪ ،‬أو لتموٌل تنظٌمات معٌنة‪ ،‬أو فً شكل فتح‬
‫مشروعات وفروع لهم فً الخارج باسم استثمار‪ ،‬فصارت مصر بحسب وصؾ وزٌر االقتصاد األسبق‬
‫عبد الجلٌل العمري "زي البقرة اللً ضرعها ممدود لبرة وبٌتحلب برة"‪.‬‬

‫(٘‪)ٔ٘9‬‬
‫‪ -‬األجانب فً مصر ٕٕ‪ ٔ9ٕ٘ -ٔ9‬دراسة فً تارٌخ مصر االجتماعً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖٕ9 -ٖٕ8‬‬
‫(‪)ٔ٘9ٙ‬‬
‫‪ -‬عبد هللا الندٌم خطٌب الثورة العرابٌة‪ ،‬نجٌب توفٌق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٗٗ‬
‫(‪)ٔ٘99‬‬
‫‪ -‬مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن‪ ،‬محمد جبرٌل‪ ،‬ج ٕ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ٘ٓ‬
‫(‪)ٔ٘98‬‬
‫‪ -‬الفبلحون بٌن الثورة العرابٌة وثورة ‪ ،ٔ9ٔ9‬علً بركات‪ ،‬المجلة التارٌخٌة المصرٌة‪ ،‬المجلد ٕٕ‪ ،ٔ99٘ ،‬ص ‪ٕٔ9‬‬

‫٘‪٘9‬‬
‫وطبٌعً أن ٌتسبب اندفاع األموال المصرٌة للخارج فً خفض قٌمة الجنٌه المصري فً األسواق‬
‫العالمٌة‪ ،‬نتٌجة مباشرة لزٌادة عرضه للبٌع عند إجراء التحوٌل من مصر إلى الخارج(‪.)ٔ٘99‬‬

‫وزادت وتٌرة تهرٌب الثروات مع الحرب العالمٌة الثانٌة‪ ،‬فمثبل كان الٌهود ٌحولون أموالهم من مصر‬
‫إلى السودان استفادة من انعدام الرقابة الجمركٌة بٌن البلدٌن‪ ،‬ومن هناك تحول إلى أحد البنوك فً الخارج‬
‫لتشتري بضابع وأسلحة ٌجري تصدٌرها إلى إسرابٌل‪ ،‬وتقدمت عابلة ٌهودٌة‪ -‬أثناء حرب ‪ -ٔ9ٗ8‬بطلب‬
‫تحوٌل مبلػ ٌزٌد على ٖٓ ألؾ جنٌه‪ ،‬ولما طالبت مراقبة النقد مستندات إثبات ملكٌة األموال المطلوب‬
‫تحوٌلها رد البنك القابم بدور الوسٌط فً عملٌة التحوٌل بؤن أصحاب الطلب سحبوا أموالهم وؼادروا الببلد‬
‫نهابٌا‪ ،‬وكانت العابلة نجحت بالفعل فً الهجرة وتهرٌب كل أموالها عن طرٌق السوق السوداء التً ٌدٌرها‬
‫الٌهود أٌضا(ٓٓ‪.)ٔٙ‬‬

‫وبذلك فإن معظم أموال األجانب‪ -‬وبعض األثرٌاء المستمصرٌن والمصرٌٌن والعابلة الحاكمة‪ -‬تم‬
‫تهرٌبها للخارج قبل ٕ٘‪ ،ٔ9‬فما أممته ثورة ٖٕ ٌولٌو ال ٌساوي نقطة فً بحر ما هربوه من مصر‪.‬‬

‫وبجانب الٌهود نشط فً هذا الجال البرٌطانٌون والمالطٌون‪ ،‬واألخطر من ذلك هو النشاط المحموم‬
‫وؼٌر المسبوق فً تهرٌب اآلثار والذهب لخارج مصر‪ ،‬وفً المقابل تهرٌب البضابع المحظورة والخطرة‬
‫من الخارج إلى داخل مصر كالمخدرات والبارود(ٔٓ‪ )ٔٙ‬لنشر الضٌاع والعنؾ بٌن الناس‪ ،‬فٌنزحون من مصر‬
‫إلى الخارج الخٌر وٌهربون إلى داخلها الشر‪.‬‬

‫❾ تمٌٌع الجنسٌة المصرٌة (تجنٌس األجانب ألول مرة)‬

‫ٌستحق"‬ ‫"أعطى ما ال ٌملك لمن ال‬


‫(ٕٓ‪)ٔٙ‬‬

‫بجانب تمٌٌع وتدمٌر األخبلق والقٌم ذاته‪ ،‬فإن تصفٌة الشخصٌة المصرٌة تضمنت هتك قدسٌة كلمة‬
‫"مصري" و"ابن البلد" بعد أن بدأت تعود لوضعها فً ثورة ٔ‪ ،ٔ88‬بل تفرٌؽها من قدسٌة أن ٌكون حاملها‬
‫مصرٌا خالصا‪ ،‬لٌس له أي انتماء فً الجنسٌة أو العرق أو المذهب ألي بلد آخر‪.‬‬

‫وتابعنا أنه فً عصور االحتبلالت جرى السطو على صفة "مصري" لٌتسمى بها المحتلون أحٌانا‪ ،‬رؼم‬
‫انفصالهم التام عن المصرٌٌن الحقٌقٌٌن (الفبلحٌن)‪ ،‬ورؼم احتفاظهم باالنتماء ألعراق وببلد أخرى‪ ،‬بل‬
‫حتى الممالٌك وصفهم المقرٌزي والجبرتً بـ"المصرلٌة"‪ ،‬وهم ال ٌنتمون إال لنفسهم‪.‬‬

‫(‪)ٔ٘99‬‬
‫‪ -‬مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن‪ ،‬محمد جبرٌل‪ ،‬ج ٖ‪ ،‬ص ‪ٗ9ٙ‬‬
‫(ٓٓ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٗ99‬‬
‫*** من األعمال الفنٌة التً تعرضت لهذا التارٌخ مسلسل "رأفت الهجان" للكاتب صالح مرسً فً الجزء األول وأوضح نشاط الٌهود فً تهرٌب‬
‫األموال من مصر إلى الخارج لدرجة أنهم أصبحت "حرفة" للكثٌر منهم وٌؤخذون علٌها سمسرة‬
‫(ٔٓ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬انظر الجالٌة البرٌطانٌة فً مصر (٘ٓ‪ ،)ٔ88ٕ -ٔ8‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٖٗ‬
‫(ٕٓ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬عبارة قٌلت عن وزٌر الخارجٌة البرٌطانً آرثر بلفور لما أصدر وعدا بتقدٌم فلسطٌن وطنا للٌهود‪ ،‬ومنح الجنسٌة المصرٌة لؤلجانب هً تقدٌم‬
‫مصر ألجانب ٌتحكمون فً مصٌرها وٌشتركون فً ثروتها وٌملكون مناصبها عبر التجنٌس‪ ..‬فبل ٌفرق األمر شٌبا عن طرٌقة أخذ الٌهود لفلسطٌن‬
‫باالستٌطان وبوعد بلفور‪.‬‬

‫‪٘9ٙ‬‬
‫ومع ارتفاع صحٌة "مصر للمصرٌٌن"‪ ،‬وعودة كلمة مصرٌٌن لحقٌقتها وأهلها‪ ،‬ورؼبة المصرٌٌن‬
‫الحقٌقٌٌن فً إنهاء تحكم التركً والشركسً والٌونانً والسوري والٌهودي والعربانً إلخ فً ببلده خبلل‬
‫الثورة فً ٔ‪ ،ٔ88‬ظهر إلحاح فً تسمٌة األجانب بـ"المصرٌٌن" من بوابة القانون واألوراق الرسمٌة‪ ،‬أو‬
‫ما عُرؾ بالتجنٌس‪ ،‬بحٌث ٌحمل الجنسٌة المصرٌة أجناس أخرى بمجرد الوالدة فً مصر أو إلقامتهم فٌها‬
‫لسنوات محددة‪ ،‬وبموجب هذا ال ٌصبح من حق المصري الحقٌقً االعتراض على وجود األجنبً المجنس‬
‫فً الحكومة وكل المجاالت‪ ..‬فقد ح َّل االحتبلل بالقانون محل االحتبلل بالسٌؾ‪.‬‬

‫ففً عهد الخدٌوي عباس حلمً صدر قانون ٌسمح بمنح الجنسٌة المصرٌة لؤلجانب‪ -‬بعد أن سمح سعٌد‬
‫بتملٌكهم األرض‪ -‬فؤسقط من ٌد المصري حجته فً طرد المحتل أنه "أجنبً"‪ ،‬ولكن القصة جذورها تمتد‬
‫إلى عصر إسماعٌل بصدور قانون الجنسٌة العثمانٌة‪ ،‬ومنه نتتبع مسٌرة قوانٌن الجنسٌة المصرٌة‪.‬‬

‫❶ قانون الجنسٌة العثمانٌة سنة ‪ٔ8ٙ9‬‬

‫أصدره السلطان العثمانلً على نسق التشرٌعات األوروبٌة‪ ،‬وبه أصبح كل من ٌقٌم فً الوالٌات العثمانٌة‬
‫ٌُسمى عثمانً‪ ،‬فاستقلت الجنسٌة بذاتها وانقطعت صلتها بالدٌن‪ ،‬وأصبح كل الرعاٌا من مسلمٌن وؼٌر‬
‫مسلمٌن ٌتمتعون بما لهم من حقوق سٌاسٌة ومدنٌة على السواء(ٖٓ‪ ،)ٔٙ‬وإن كان هذا نظرٌا ولم ٌطبق حقا‪،‬‬
‫خاصة بالنسبة للمصرٌٌن الذٌن لم ٌؤخذوا حقوقا تساوٌهم بالوافدٌن والمستوطنٌن العثمانٌٌن‪.‬‬

‫وبتحقٌق إسماعٌل استقبلال ذاتٌا إلى حد ما ظهرت الرعوٌة المحلٌة‪ ،‬أي االعتراؾ بشخصٌة خاصة‬
‫بسكان مصر تمٌزهم عن العثمانٌٌن الوافدٌن‪ ،‬وأصبحت تظهر فً قوانٌن مثل الخدمة العسكرٌة المقتصرة‬
‫على من ٌقٌم بمصر من العثمانلٌة إضافة للمصرٌٌن‪ ،‬وإن ظل للعثمانٌٌن المستوطنٌٌن تمٌزا على‬
‫المصرٌٌن فً المناصب والثروة‪.‬‬

‫❷ قانون المنتخبٌن سنة ٓٓ‪ٔ9‬‬

‫فً ‪ٌ ٔ9‬ونٌو ٓٓ‪ ٔ9‬أٌام عباس حلمً الثانً صدر قانون ٌحدد من هم المصرٌون الذٌن ٌحق لهم انتخاب‬
‫مجلس شورى القوانٌن‪ ،‬فجاء فٌه‪ :‬عند إجراء العمل بقانون االنتخابات الصادر فً أول ماٌو سنة ٖ‪ٔ88‬‬
‫ٌعتبر من المصرٌٌن اآلتً بٌانهم‪:‬‬

‫ٔ‪-‬المتوطنون فً القطر المصري قبل ‪ ٔ8ٗ8‬بصفة دابمة‪ ،‬وأرٌد بهم أهل البلد األصلٌون ولم ٌبرحوا أرضهم‪.‬‬

‫ٕ‪ -‬رعاٌا الدولة العثمانٌة المولودون فً مصر من أبوٌن مقٌمٌن فً مصر دابما إلمكان توطن هإالء‬
‫واالندماج مع أهل البلد‪.‬‬

‫ٖ‪ -‬رعاٌا الدولة العثمانٌة المولودون فً مصر وقبلوا بدخول الجٌش أو دفع البدلٌة‪.‬‬

‫(ٖٓ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬األجانب فً مصر ٕٕ‪ ٔ9ٕ٘ -ٔ9‬دراسة فً تارٌخ مصر االجتماعً‪ ،‬محمود محمد سلٌمان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘ٔ‬

‫‪٘97‬‬
‫ٗ‪-‬اللقطاء‪.‬‬

‫وأجاز للرعاٌا العثمانٌة المقٌمٌن بمصر منذ أكثر من ٘ٔ سنة التجنس أٌضا إذا رؼبوا فً ذلك(ٗٓ‪.)ٔٙ‬‬

‫وبذلك دخل منذ ٓٓ‪ ٔ9‬اآلالؾ لصفة مصري ولم ٌكونوا كذلك‪ ،‬والرعاٌا العثمانٌون مقصود بهم كل‬
‫شخص تابع لبلد ٌحكمها السلطان العثمانً كالتركً والعراقً والسوري والحجازي والجزابري والتونسً‬
‫واألرمنً إلخ‪ ،‬أما األجنبً فهو كل من لٌس من والٌة عثمانٌة‪ ،‬وسبب إدخال هإالء فً كلمة "مصري"‪،‬‬
‫أن كثٌرا من أعضاء مجلس شورى القوانٌن وأعضاء الحكومة أساسا من هإالء العثمانلٌة الوافدٌن‪ ،‬فطبٌعً‬
‫أن ٌحشروا أنفسهم فً صفة "مصري" لٌحتفظوا باحتكارهم للمناصب والثروة‪.‬‬

‫❸ قانون الجنسٌة المصرٌة سنة ‪ٔ9ٕٙ‬‬

‫وهو أول قانون ٌصدر باسم الجنسٌة المصرٌة بسبب سقوط السلطنة العثمانٌة‪ ،‬وصدر فً ‪ ٕٙ‬ماٌو ‪ٔ9ٕٙ‬‬
‫إلعادة تحدٌد من ٌحمل الجنسٌة المصرٌة‪ ،‬ولكن القانون لم ٌقره البرلمان لما رأوا فٌه من توسٌع مبالػ فٌه‬
‫فً منح الجنسٌة‪ ،‬وألؽوه سنة ‪.ٔٙٓ٘ٔ9ٕ8‬‬

‫❸ قانون الجنسٌة المصرٌة سنة ‪ٔ9ٕ9‬‬

‫ظل العمل بالقانون العثمانلً حتى صدور قانون مارس ‪ ،ٔ9ٕ9‬وٌعتبر أول قانون مصري ٌنظم حالة‬
‫الجنسٌة‪ ،‬وفٌه حدد من هو المصري وفصله عن العثمانلً‪.‬‬

‫المادة األولى‪ٌ :‬عتبر داخل فً الجنسٌة المصرٌة‪:‬‬

‫ٔ‪ -‬كل أعضاء األسرة المالكة‪.‬‬

‫ٕ‪ -‬كل من ٌعتبر عند نشر القانون مصرٌا بحسب المادة األولى من األمر العالً الصادر ‪ٌ ٕ9‬ونٌو سنة‬
‫ٓٓ‪( ٔ9‬أي السكان القدماء)‪.‬‬

‫ٖ‪ -‬من عدا هإالء من الرعاٌا العثمانٌٌن المقٌمٌن عادة فً القطر المصري حتى ٘ نوفمبر ٗٔ‪ ٔ9‬وحافظوا‬
‫على اإلقامة حتى نشر هذا القانون‪.‬‬

‫أما من ٌمنح الجنسٌة المصرٌة فحسب المادة ‪ ٙ‬هم‪:‬‬

‫أوال‪ :‬من ولد فً القطر المصري أو فً الخارج ألب مصري‪.‬‬

‫ثانٌا‪ :‬من ولد فً القطر المصري أو فً الخارج من أم مصرٌة مدامت نسبته ألبٌه لم ٌثبت قانونا (أبناء‬

‫(ٗٓ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‪ ،‬ص ٘ٔ‪ٔ9 -‬‬
‫٘ٓ‪ -ٔٙ‬األجانب فً مصر ٕٕ‪ ٔ9ٕ٘ -ٔ9‬دراسة فً تارٌخ مصر االجتماعً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔ8‬‬

‫‪٘98‬‬
‫العبلقات الؽٌر شرعٌة؟)‬

‫ثالثا‪ :‬من ولد فً القطر المصري أو فً الخارج من أبوٌن مجهولٌن وٌعتبر لقٌطا ما لم ٌثبت العكس‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬من ولد فً القطر المصري أو فً الخارج ألب أجنبً أٌضا إذا كان هذا األجنبً ٌنتمً بجنسه‬
‫لؽالبٌة السكان فً بلد لؽته العربٌة أو دٌنه اإلسبلم‪.‬‬

‫ووسعت المادة ‪ 8‬باب التجنٌس بإتاحة التجنٌس لحالة جدٌدة‪ ،‬وهً من أقام بمصر ٓٔ سنوات وتوافر فٌه‬
‫حسن السٌر والسلوك وله مصدر رزق وٌعرؾ العربٌة(‪ ،)ٔٙٓٙ‬فصار التجنٌس "لكل من هب ودب"‪.‬‬

‫فهو أوال أكد على لصق العٌلة العلوٌة بالجنسٌة المصرٌة رؼم استمرار اعتزازهم بؤصولهم األجنبٌة وتعالٌهم‬
‫على الفبلح وانفصالهم عنه (وذلك بعد تعالً أصوات تطالب بإنهاء حكمها باعتبارها عابلة أجنبٌة مثل مقاالت‬
‫الصحفً أحمد حلمً والتً سُجن بسببها بتهمة اإلساءة للذات الخدٌوٌة الفخٌمة سنة ‪ ،)ٔ9ٓ9‬وجامل العثمانٌٌن‪،‬‬
‫خاصة أن كثٌرا من النواب وكبار المبلك الذٌن وضعوا القانون هم أصبل من العثمانٌٌن ورعاٌاهم الذٌن‬
‫استوطنوا مصر كاألتراك والٌونان واألرمن والعرب والشوام‪ ،‬وٌرٌدون الحصول على صفة مصري للوصول‬
‫إلى الوظابؾ المدنٌة والحربٌة والمناصب الهامة بعد أن نص دستور ٖٕ‪ ٔ9‬على أن تكون هذه الوظابؾ‬
‫للمصرٌٌن فقط‪ ،‬وأٌضا لٌتماهوا مع المجتمع وٌقدموا له مبررا قانونٌا لتملكهم معظم أراضً الببلد بعد ارتفاع‬
‫صوت "مصر للمصرٌٌن" من جدٌد بثورة ‪.ٔ9ٔ9‬‬

‫وثانٌا فتح الباب واسعا لؤلوروبٌٌن واألمرٌكٌٌن والروس واألفارقة إلخ للتسمً بتسمٌة مصري ألول مرة‬
‫بالمادة الخاصة بتجنٌس من أقام فً مصر ٓٔسنوات أو ولد فً مصر‪ ،‬أو ولد فً بلد ٌتحدث العربٌة ودٌنه‬
‫اإلسبلم‪ ،‬وبهذا صارت كل األجناس لها فرصة احتبلل مصر‪ ..‬بالقانون‪.‬‬

‫ومثال لهذا مصوراتً روسً اسمه سبلمون أوشٌرؾ طلب الجنسٌة سنة ٖٔ‪ ٔ9‬بحجة أنه فً مصر منذ‬
‫أكثر من ٓٔ سنوات وٌعرؾ العربٌة‪ -‬طبٌعً أن ٌتقنها فً هذه المدة‪ -‬وله حرفة‪ ،‬وحصل علٌها بالفعل‬
‫بحسب مذكرات وزارة الداخلٌة المودعة بدار الوثابق القومٌة بالقلعة(‪.)ٔٙٓ9‬‬

‫وإن كان فتح باب التجنٌس للعثمانٌٌن ورعاٌاهم سببه أن كثٌر من النواب وكبار المبلك منهم‪ ،‬فؽٌر مفهوم‬
‫فتح الباب على مصراعٌه هكذا أمام بقٌة األجانب إال خضوع من وضعوا هذا القانون لضؽوط أو صفقات‬
‫مع الجالٌات األجنبٌة أو االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬لٌكون امتدادا لبلمتٌازات األجنبٌة التً تعطً لؤلجانب مزاٌا‬
‫لٌست لهم‪ ،‬وتطبٌقا‪ -‬مقصود أو ؼٌر مقصود‪ -‬لمشروع كرومر وملنر بالتدوٌل‪.‬‬

‫وبالفعل‪ ،‬فإنه مع التطبٌق العملً لهذا القانون ظهرت عٌوبه‪ ،‬خاصة وأنه صدر ومصر ؼٌر كاملة السٌادة‪،‬‬
‫وتحت االحتبلل وٌعتبر امتدادا لبلمتٌازات األجنبٌة‪ ،‬فقد بلػ عدد المجنسٌن ٕٓٔ‪ ٖٔ,‬أجنبٌا دفعة واحدة فً‬

‫(‪)ٔٙٓٙ‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٕٓ -ٔ9‬‬
‫(‪)ٔٙٓ9‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٕٓ‬

‫‪٘99‬‬
‫لتظل حٌل المسٌخ الدجال مستمرة لسلب‬ ‫تعداد ‪ ٔ9ٗ9‬من عدة جنسٌات‪ ،‬أكثرهم من الٌونان واألرمن‬
‫(‪)ٔٙٓ8‬‬

‫مصر من أهلها ومصرٌتها بكل طرٌقة‪.‬‬

‫❺ قانون الجنسٌة المصرٌة رقم ٓ‪ ٔٙ‬لسنة ٓ٘‪ٔ9‬‬

‫لزم صدور قانون جدٌد ومصر فً حالة السٌادة (الشكلٌة بعد معاهدة ‪ )ٔ9ٖٙ‬ومختلفة عن عام ‪ٔ9ٕ9‬؛‬
‫وكانت االمتٌازات األجنبٌة انتهت تماما سنة ‪ ،ٔ9ٗ9‬على أن ٌوزن التشرٌع بمٌزان مصلحة الدولة العلٌا‪،‬‬
‫فصدر القانون رقم ٓ‪ ٔٙ‬لسنة ٓ٘‪.ٔ9‬‬

‫و اختلؾ عما سبقه فً أنه لؽى تجنٌس من ولد فً مصر ألجنبً ولد أٌضا فً مصر مدام ٌعرؾ العربٌة‬
‫ومسلم‪ ،‬ولؽى فكرة وحدة الجنسٌة فً العابلة‪ ،‬بمعنى أنه لؽى دخول الزوجة األجنبٌة تلقابٌا فً جنسٌة‬
‫الزوج بمجرد زواجها‪ ،‬بل ٌلزم األمر تقدٌمها طلبا وتوافق علٌه الدولة(‪ )ٔٙٓ9‬إال أن معظم بقٌة المواد تبقً‬
‫على مساوئ ما مضى رؼم المطالب بؤن ٌبتعد عن االنفتاح المهٌن فً التجنٌس‪.‬‬

‫فهو جمع المواد من ٔ‪ ٘-‬فً مادة واحدة هً المادة األولى‪ ،‬بل وأضاؾ مٌزة للرعاٌا العثمانٌٌن السابقٌن وهً‬
‫منح الجنسٌة لمن لم ٌحافظ على إقامة دابمة فً مصر بعد ٘ نوفمبر ٗٔ‪ ٔ9‬حتى ‪ ٔ9ٕ9‬لو طلبوا خبلل سنة من‬
‫هذا التارٌخ دخولهم فً الجنسٌة المصرٌة‪ ،‬ووافق وزٌر الداخلٌة على هذا الذي ٌتضح أٌضا أنه لم ٌكن إال‬
‫مجاملة لصالح عاببلت من أصول أجن بٌة من رعاٌا عثمانلٌة سابقٌن وبقاٌا أقاربهم وبنً جلدتهم من الوافدٌن‬
‫الجدد‪.‬‬

‫والمقصود فً هذه المرة بالرعاٌا العثمانٌٌن من لم ٌختاروا الجنسٌة التركٌة أو أي بلد آخر استقل عن تركٌا‬
‫بعد معاهدة لوزان سنة ٖٕ‪ ،)ٔٙٔٓ( ٔ9‬أي ٌكون تركٌا أو سورٌا أو عراقٌا أو حجازٌا أو جزابرٌا إلخ‪ ،‬ولكنه‬
‫لم ٌحصل على جنسٌة هذه الببلد‪ ،‬فؤعطوه الجنسٌة المصرٌة بدال من أن ٌعود إلى بلده األصلً أو ٌسعى‬
‫لٌتجنس بجنسٌتها‪ ،‬وذلك بالرؼم من أنه بداٌة من ذلك التارٌخ بدأت الدراسات تظهر لتحذر من زٌادة عدد‬
‫السكان فً مصر‪.‬‬

‫إنها صناعة من حلم بهم كرومر‪ :‬مسلمون ولٌسوا بمسلمٌن‪ ،‬مسٌحٌون ولٌسوا بمسٌحٌٌن‪ ،‬مصرٌون‬
‫ولٌسوا بمصرٌٌن"‪ ..‬ولٌس الجنسٌة المصرٌة أو الدٌن عندهم إال كلمة فً خانة على ورقة‪.‬‬

‫"قالت األعراب آم َّنا قل لم تإمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمَّا ٌدخل اإلٌمان فً قلوبكم" (الحجرات اآلٌة ٗٔ)‬

‫❿ التقدم فً مشروع "تدوٌل مصر"‬

‫(نداء إلى العالم للهجرة إلى مصر)‬

‫(‪)ٔٙٓ8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٙ8‬‬
‫(‪)ٔٙٓ9‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٕٕ‬
‫(ٓٔ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕٔ‪ٕٕ -‬‬

‫ٓٓ‪ٙ‬‬
‫ما سبق ٌصب‪ ،‬أو هو نتٌجة وصدى‪ ،‬لمشروع تدوٌل مصر كما جاء على لسانً ملنر وكرومر‪.‬‬

‫ٌقول ألفرد ملنر‪ ،‬وزٌر المستعمرات البرٌطانً وقت ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬عن التؤثٌر المستقبلً لبلمتٌازات‬
‫األجنبٌة بانشكاح‪" :‬لٌس فً الشرق ببلد كمصر ٌكثر فٌها النزالء األوروبٌون وٌتمتعون بمزاٌا خصوصٌة‪،‬‬
‫وٌحتلون مراكز مهمة فً التجارة والتعلٌم والصناعات العلمٌة واألدبٌة والهٌبة االجتماعٌة ودواوٌن‬
‫الحكومة أٌضا"‪ ،‬وأن "المدن المصرٌة الكبٌرة‪ ،‬وال سٌما اإلسكندرٌة‪ ،‬أصبحت مدنا أوروبٌة من وجوه‬
‫كثٌرة"‪ ،‬وأعرب عن عشمه فً أن مصر ستظل "ببلدا دولٌة على الدوام بمعنى ما"‪ ،‬ألنه اعتبر أن "ال حل‬
‫للقضٌة المصرٌة ٌدوم طوٌبل ما لم ٌراع فٌه ضمان المصالح األوروبٌة العظٌمة الحصٌنة فً وادي‬
‫النٌل(ٔٔ‪ ،")ٔٙ‬أي لن ٌخفوا ضؽطهم عن مصر إال بتعهد مصر باستمرار أن تكون "دولٌة للجمٌع"‪ ،‬ولٌس‬
‫"للمصرٌٌن"‪ ،‬فٌما ٌمكن وصفه بـ"تدوٌل مصر"‪.‬‬

‫وسبقه كرومر فً أحد تقارٌره المرسلة إلنجلترا عن مصر ضمن "الكتاب األزرق" فً ٗٓ‪ ٔ9‬أنه‬
‫خطط لنظام حكم تشترك فٌه الجالٌات األجنبٌة فً مصر فً الحكم‪ ،‬وٌكون صوتهم مسموعا‪ ،‬مبررا ذلك‪:‬‬
‫"إذ أن األجانب المقٌمٌن فً مصر ال ٌمكن اعتبارهم أجانب بالمعنى الذي ٌنصرؾ إلى الفرنسً المقٌم‬
‫بإنجلترا أو اإلنجلٌزي المقٌم فً فرنسا؛ وتقتضً السٌاسة الصحٌحة والعدل أن ٌعد هإالء األجانب‬
‫مصرٌٌن"(ٕٔ‪ ..)ٔٙ‬ولقً هذا قبوال واسعا عند الجالٌات األجنبٌةـ دعَّم ما ادعته إنجلترا لنفسها من أنها فً‬
‫مصر من أجل "حماٌة األجانب واألقلٌات"‪.‬‬

‫وهذه الطرٌقة "إشراك األجانب فً حكم مصر" عبر مشروع كرومر تم ترجمتها فً وقت الحق عبر‬
‫القوانٌن سٌبة السمعة الخاصة بالجنسٌة المصرٌة "االحتبلل المقنع"‪ ،‬وإدخال أجانب فً البرلمان‪.‬‬

‫وفً هذا الجو المسموم‪ ،‬اشتدت مطالب المصرٌٌن بالكؾ عن االمتٌازات األجنبٌة التً جعلت مصر بلد‬
‫أجانب ال بلد مصرٌٌن‪ ،‬وأظهر محمد عبد الباري فً كتابه "االمتٌازات األجنبٌة" سنة ٖٓ‪ ٔ9‬بحقابق‬
‫التارٌخ والقانون فساد الحجج التً ٌتذرع بها األجانب الستمرار هذه االمتٌازات وكؤنها صارت "حق‬
‫مكتسب"‪ ،‬ومنها حجة أن "مصر منشؤ االمتٌازات"‪ -‬أي هً السبَّاقة فً منح االمتٌازات لؤلجانب منذ قرون‬
‫طوٌلة‪ -‬وسبقت حتى تضمٌنها فً معاهدات مع السلطنة العثمانلٌة‪ ،‬وأنه حتى لو ألؽت السلطنة هذه‬
‫المعاهدات أو تحررت مصر من السلطنة فإن مصر ٌجب أن تلتزم بمنح هذه االمتٌازات لؤلجانب بموجب‬
‫"العرؾ والعادة"(ٖٔ‪.")ٔٙ‬‬

‫وهذا كبلم حٌن ٌتجرأ األجنبً على النطق به‪ٌ ،‬متؤل الحلق مرارة أن ٌفكر األجانب بؤننا بهذا الهوان‬
‫لدرجة أن ٌرى تمٌٌزه فوق المصرٌٌن هو "حق بحكم العرؾ والعادة"‪ ،‬لكن هذا "الهوان" له جذور بعٌدة‪،‬‬
‫فطوال التارٌخ‪ -‬فً عصور أزمنة الحكم المصري الحرة أو عصور االحتبلل‪ٌ -‬جد فً مصر معاملة ممٌزة‬

‫(ٔٔ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الصراع االجتماعً والسٌاسً فً مصر منذ قٌام ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘‪ ٔ9‬إلى نهاٌة أزمة مارس ٗ٘‪ ،ٔ9‬عبد العظٌم رمضان‪ ،‬مكتبة‬
‫مدبولً‪ ،‬ط ٕ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٘ٗ‪ٗٙ -‬‬
‫(ٕٔ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬سامً عزٌز‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ٘ٔ‪ٕٔٙ -‬‬
‫(ٖٔ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬االمتٌازات األجنبٌة‪ ،‬محمد عبد الباري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٖ‪ٖٗ -‬‬

‫ٔٓ‪ٙ‬‬
‫ال ٌجدونها فً ببلدهم وال ببلد ؼٌرهم‪ ،‬وإن كانوا أسرى حرب وعبٌد‪ ،‬وٌضًء وجه حكامها حٌن ٌوصؾ‬
‫أحدهم بؤنه "حامً حمى األجانب"‪ ،‬وٌحكم "بلد التسامح" و"بلد الفرص"‪.‬‬

‫وكعادة المحتل فً تقدٌم كل خطوة ٌفعلها كـ"جمٌل" على رقبة أهل البلد‪ ،‬فإنه حتى حٌن أبدى كرومر‬
‫مٌبل إلنهاء االمتٌازات األجنبٌة إلزاحة مزاحمة الدول األوروبٌة لبرٌطانٌا خرجت صحٌفة "االتحاد‬
‫المصري" الشامٌة التابعة له لتهلل أن معجزة ستتحقق بؤن المصري سٌتساوى فً بلده باألجنبً‪" :‬فإذا لم‬
‫ٌكن لئلنجلٌز عمل ٌحمد فً هذه الدٌار شكرا لهم سعٌهم المتواصل فً محو آثار االمتٌازات القدٌمة حتى‬
‫ٌصبح الوطنٌون مساوٌٌن لؤلجنبً"(ٗٔ‪.)ٔٙ‬‬

‫وصورة أخرى من صور االمتٌازات األجنبٌة التً نشطت زمن االحتبلل اإلنجلٌزي هو تحوٌل مصر‬
‫إلى "شركة متعددة الجنسٌات"‪ ،‬فبمفهوم ملنر‪ ،‬فإن تدوٌل مصر ٌعنً أن تكون مصر شركة تشترك فً‬
‫استٌطانها وإدارتها دول أوروبٌة عبر جالٌاتها‪ ،‬تجمعهم مصالح فً السٌطرة على مصر‪ ،‬ولٌس هذا رأي‬
‫الؽرب فقط‪ ،‬بل رأي شخصٌات وتنظٌمات من الشرق أٌضا ترٌد أن ٌكون لها أسهم فً هذه "الشركة"‪.‬‬

‫فحصل أنه فً الوقت الذي ٌجذب الؽرب مصر من ذراعها بكل قسوة نحوه‪ٌ ،‬جذب العرب أٌضا مصر‬
‫من ذراعها الثانً بكل قسوة نحو ""التدوٌل"‪ ،‬وهً على وشك التمزق بٌن هذا القلب الجاحد وذاك‪.‬‬

‫فتحدث ش وام صراحة أن مصر بلد "دولٌة"‪ ،‬ال تخص أبنابها فقط‪ ،‬وكتب أحد صناع القومٌة العربٌة فً‬
‫أول القرن العشرٌن‪ ،‬محمد كرد علً‪ ،‬مإسس أول مجمع للؽة العربٌة ومقره دمشق‪ ،‬مقالة فً مجلة أسسها‬
‫فً مصر اسمها "المقتبس" بعنوان "الهجرة إلى مصر" سنة ‪ ،ٔ9ٓ9‬عرض فٌها للهجرات التً هبطت‬
‫على مصر فً عصور االحتبلالت‪ ،‬ودعا كافة الجنسٌات للهجرة مجددا إلى مصر بحجة أن "مصر من‬
‫حٌث هً مهاجر األرض فهً دولٌة كما ٌقول الساسة أو مشتركة بٌن أجناس وأدٌان شتى"‪.‬‬

‫وتفاخر بؤن بنً جنسه الشوام ٌحصدون فٌها الثروة الباهظة‪ ،‬وأنه "قدرت ثروة السورٌٌن فٌها بخمسٌن‬
‫ملٌون جنٌه؛ أي بعشر ثروة القطر‪ ،‬وهكذا سابر األمم والسٌما الروم والطلٌان والفرنسٌس‪ ،‬فإن فٌها من‬
‫هذه األجناس ألوفا ً اؼتنموا من خٌراتها واتخذوها دار هجرتهم وطنا ً ثانٌا ً لهم"(٘ٔ‪ ،)ٔٙ‬متجاهبل أن هذا تسبب‬
‫فً أن ٓ‪ %9‬من أصحابها الحقٌقٌٌن ال ٌملكون ٓٔ‪ %‬من ثروة بلدهم‪.‬‬

‫جنس‬
‫ِ‬ ‫حالل للطٌر من كل‬ ‫أحرام على بالبله الدوح‬

‫خبٌث من المذاهب رجس‬ ‫كل دار أحق باألهل إال فً‬

‫ومحمد كرد علً قال هذا فٌما ٌعلم أنه هو وشوام آخرون ٌهربون من الشام إلى مصر فرارا من‬
‫الصراعات والمذابح الطابفٌة والعرقٌة الناتجة عن تعدد الهجرات واختبلؾ األعراق والطوابؾ فً الشام‪،‬‬

‫(ٗٔ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬سامً عزٌز‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٔ9‬‬
‫(٘ٔ‪)ٔٙ‬‬
‫‪" -‬الهجرة إلى مصر"‪ ،‬محمد كرد علً‪ ،‬مجلة المقتبس‪ ،‬العدد ‪ ،ٔ8‬بتارٌخ ٘ٔ‪ٔ9ٓ9 –9 -‬‬

‫ٕٓ‪ٙ‬‬
‫فكؤنهم لما عجزوا عن التوفٌق بٌن هذه األعراق والطوابؾ اختاروا أن تكون مصر "الوطن االحتٌاطً" لهم‬
‫ولؽٌرهم‪ ،‬فٌوعزوا ألهلها بقبول هذا ألنها "بلد لكل األجناس"‪ٌ ،‬لجؤ إلٌها الشامً والؽربً والشرقً عموما‬
‫لٌؤخذ فٌها ما عجز أن ٌؤخذه فً بلده‪ ،‬فٌرتاح المهاجر إلٌها من تمزق ببلده‪ ،‬وٌكابد المصري من تكالب‬
‫الطوابؾ واألعراق على بلده‪.‬‬

‫ورؼم أنه من أنصار تٌار "الجامعة اإلسبلمٌة"‪ ،‬أو"الجامعة العثمانٌة"‪ ،‬إال أن مصطفى كامل سخر من‬
‫الصحؾ التً تقول إن مصر بلد "لكل األجناس"‪ ،‬فٌتعجب فً جرٌدة اللواء سنة ٕٓ‪ ٔ9‬ممن "ٌقول‬
‫للمصرٌٌن إن مصر لٌست وطنا لكم بل وطن للعالم أجمع"(‪.)ٔٙٔٙ‬‬

‫باب آخر اتخذه الؽرب والشرق حجة للتدوٌل أٌام اإلنجلٌز‪ ،‬هو قناة السوٌس‪.‬‬

‫فبعد إلؽاء معاهدة ‪ ٔ9ٖٙ‬جن جنون البرٌطانٌٌن وفقدوا صوابهم‪ ،‬وأعلنت الوزارة اإلنجلٌزٌة الجدٌدة‪-‬‬
‫رؼم انتمابها لحزب العمال الذي ٌقول إنه نصٌر الشعوب والحرٌات‪ -‬على لسان وزٌر الخارجٌة هربرت‬
‫مورٌسون أن "برٌطانٌا ستقابل القوة بالقوة إذا اقتضى األمر لبقاء قواتها فً منطقة قناة السوٌس‪ ،‬وأن‬
‫الحكومة البرٌطانٌة لن تذعن لمحاولة مصر تمزٌق المعاهدة(‪.")ٔٙٔ9‬‬

‫وألقى تشرشل زعٌم المحافظٌن خطابا فً البرلمان ٌإٌد حكومة العمال‪ ،‬فاجتمع الحزبان ضد مصر‪،‬‬
‫كما اجتمعا ضدها فً االحتبلل‪ ،‬وقال تشرشل إن "إقدام حكومة مصر على إجبلء اإلنجلٌز عن منطقة قناة‬
‫السوٌس والسودان ضربة أخطر وأكثر مهانة للكرامة من اضطرارها إلى الجبلء عن عبدان بإٌران(‪.")ٔٙٔ8‬‬

‫وقبل اللجوء للقوة‪ ،‬تحا ٌلت برٌطانٌا بؤمر جدٌد ٌحل محل المعاهدة‪ ،‬وٌنبا عن أنها تعتزم أال ترد قناة‬
‫السوٌس إلى مصر عقب انتهاء فترة االمتٌاز سنة ‪ ،ٔ9ٙ8‬وهو ماعرؾ بمقترحات الدول األربعة‪.‬‬

‫والدول األربعة هً برٌطانٌا والوالٌات المتحدة وفرنسا وتركٌا‪ ،‬وقدموا مقترحات للحكومة المصرٌة فً‬
‫أكتوبر ٔ٘‪ ٔ9‬لمعاهدة للدفاع المشترك مع الدول األربعة‪ ،‬تحل محل معاهدة ‪ ،ٔ9ٖٙ‬تقضً بؤن تكون‬
‫حماٌة قناة السوٌس منوطة بقوات دولٌة تشترك فٌها مصر وبرٌطانٌا وأمرٌكا وفرنسا وأسترالٌا ونٌوزٌلندا‬
‫وجنوب أفرٌقٌا‪ ،‬وٌكون لجزء من هذه القوات حق البقاء فً مصر حتى فً حالة السلم‪ ،‬ثم استمرار الحكم‬
‫البرٌطانً فً السودان مع إنشاء رقابة دولٌة صورٌة ال تحد من سٌطرة اإلنجلٌز فٌه‪ ،‬وجعل عبلقة مصر‬
‫بالسودان عبلقة مٌاه فحسب(‪.)ٔٙٔ9‬‬

‫والستنزاؾ مصر كما حدث فً الحرب العالمٌة األولى‪ ،‬فإن المعاهدة الدولٌة المقترحة تطالب مصر‬
‫بتقدٌم األموال والتسهٌبلت لئلنفاق على القوات الدولٌة الجدٌدة فٌما ٌخص القوات العسكرٌة والمواصبلت‬
‫والموانً إلخ‪ ،‬سواء وقت الحرب أو وقت السلم بحجة أن هذه هً تكالٌؾ "حماٌتها"‪ ،‬أي "حماٌة" مصر‪.‬‬

‫(‪)ٔٙٔٙ‬‬
‫‪ -‬الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘‪ٕ9‬‬
‫(‪)ٔٙٔ9‬‬
‫‪ -‬مقدمات ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘‪ ،ٔ9‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٗ‬
‫(‪)ٔٙٔ8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖ٘‬
‫(‪)ٔٙٔ9‬‬
‫‪ -‬مقدمات ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘‪ ،ٔ9‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ٘‪ٖٙ -‬‬

‫ٖٓ‪ٙ‬‬
‫كما تضمنت تحوٌل القاعدة البرٌطانٌة فً قناة السوٌس إلى قاعدة للتحالؾ الدولً؛ مما ٌصعب المهمة‬
‫على الجٌش المصري فً استردادها ٌوما ما‪ ،‬ووضعها بعٌدا عن أي دابرة تفاوض‪.‬‬

‫وقدمت لمصر "إؼراء" فً سبٌل قبولها المعاهدة الجدٌدة‪ ،‬وهو أن التحالؾ الدولً سٌشارك فً تدرٌب‬
‫الجٌش المصري ورفع كفاءته‪ ،‬وٌوافق على أن ٌكون لمصر منصب كبٌر فً التحالؾ‪ ،‬ولكن القٌادة العلٌا‬
‫ستكون للحلفاء ولٌس للجٌش المصري‪.‬‬

‫وبذلك ٌعود الجٌش المصري تحت قٌادة إنجلٌزٌة كما كان قبل معاهدة ‪.ٔ9ٖٙ‬‬

‫ولعبت برٌطانٌا فً المقترحات الجدٌدة بورقة مٌاه النٌل حٌن تكلمت عن عمل سلطة خاصة لمشروعات‬
‫النٌل بمساعدة البنك الدولً تشمل ضمانا دولٌا التفاقٌات مٌاه النٌل(ٕٓ‪)ٔٙ‬؛ أي ٌضعوا روح مصر وسر حٌاتها‬
‫فً ٌد بنوك روتشٌلد وتنظٌم النارٌٌن بتدوٌل نهر النٌل من المنبع‪ ،‬وبذلك ٌتحول االحتبلل البرٌطانً إلى‬
‫احتبلل دولً ٌصعب المهمة أمام الشعب المصري فً مواجهته‪ ،‬ألنه سٌواجه عدة دول لها قوات ومصالح‬
‫فً مصر‪ ،‬وبالطبع جالٌات‪.‬‬

‫قوبلت هذه المقترحات بالرفض حٌنها‪ ...‬لكنها عادت بعد ٗ‪ ٔ99‬ثم ٕٔٔٓ بصور أخرى‪ ،‬أشد قوة‪.‬‬

‫❶❶ حصار الهوٌة بؽزوات محافل المسٌخ الدجال (النداهة)‬

‫تعالوا نبحث سوٌا عن اإلجابة العزٌزة لسإال أدٌبنا الحابر صبلح عبد الصبور‪" :‬ال أدرى كٌؾ ترعرع‬
‫فى وادٌنا الطٌب هذا القدر من السفلة واألوؼاد"‪ ،‬وإن كان أدٌبنا قصد بالسإال شٌبا آخر إال أننا نرٌد معرفة‬
‫اإلجابة على نفس السإال لو أشرنا إلى ظهور التنظٌمات اإلرهابٌة والجمعٌات السرٌة فً مصر واختبلل‬
‫القٌم والمعاٌٌر‪ -‬خاصة عند بعض المتعلمٌن‪ -‬وظهور "مصرٌٌن" ٌجهرون بكراهٌتهم لمصر وحضارتها‬
‫وحبهم لبل حتبلل‪ ،‬بل ورؼبتهم فً إعادة مصر لبلحتبلل سوا األوروبً أو العثمانلً أو العربً أو أٌا من‬
‫كان تحت أسامً "اإلسبلم هو الحل"‪ ،‬و"إحٌاء الخبلفة"‪ ،‬و"الوحدة العربٌة"‪ ،‬و"اإلخاءاإلنسانً"‪،‬‬
‫و"الحرٌات"‪ ،‬و"الدٌمقراطٌة"‪ ،‬و"االنفتاح على العالم"‪ ،‬وؼٌرها‪.‬‬

‫فؤرض مصر الطٌبة‪ -‬كما تابعنا‪ -‬ال ٌطرح طٌنها الشر منذ ؼلب حور ست‪ ،‬ولكنها‪ -‬فً وقت ؼفلتها‬
‫وؼٌاب ماعت تستقبل الشرور الوافدة‪ ،‬وتجد لها مكانا بمعونة الؽرباء األوؼاد‪.‬‬

‫وإن ما سبق كله من مخططات وقوانٌن (عبادة االحتبلل‪ ،‬نشر الجرٌمة المنظمة‪ ،‬التدوٌل‪ ،‬التجنٌس‪،‬‬
‫شحن الجالٌات إلى أرض مصر‪ ،‬تحقٌر قٌمة المصري‪ ،‬وؼٌرها)‪ ،‬لم ٌكن لٌجد له إثمار واستمرار فً‬
‫مصر بدون أن تتلقفه محافل ومذاهب تحارب الهوٌة المصرٌة والوطنٌة‪ ،‬وتتماهى وتندمج مع هوٌات‬
‫أجنبٌة فٌنقسم المصرٌون إلى أحزاب تحارب بعضها‪ ،‬وتسلم بلدها طوعا لبلحتبلالت "دون شعور بؤن ما‬
‫تفعله خٌانة"‪ ،‬بل خدمة للدٌن‪ ،‬أو للعروبة‪ ،‬أو لئلخاء اإلنسانً والسبلم العالمً‪.‬‬

‫(ٕٓ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬نصوص اتفاقٌة تدوٌل مصر منشورة كاملة فً‪ :‬مقدمات ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘‪ ،ٔ9‬عبد الرحمن الرافعً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖ9‬‬

‫ٗٓ‪ٙ‬‬
‫وفترة االحتبلل الرباعً (اإلنجلٌزي‪ ،‬العلوي‪ ،‬العثمانلً‪ ،‬الجالٌاتً) على قصرها (ٓ‪ 9‬سنة) لكنها‬
‫أخصب فترات تارٌخ مصر فً زرع هذه المحافل من كل لون‪ ،‬وما زالت تدنس أرض مصر‪ ،‬وما زالت‬
‫تفرخ أشخاصا ٌؤخذون مصر إلى طرٌق السقوط النهابً‪ -‬اإلبادة‪ -‬ومنها (الماسونٌة‪ ،‬الشٌوعٌة‪ ،‬السلفٌة‬
‫واإلخوان المسلمٌن‪ ،‬القومٌة العربٌة‪ ،‬اللٌبرالٌة الرأسمالٌة‪ ،‬اإلرسالٌات التبشٌرٌة)‪ ،‬وهً "تٌارات‬
‫الهكسوس" الجدٌدة التً أضٌفت للتٌار القدٌم (الطرق الصوفٌة)‪.‬‬

‫هكذا حال مصر منذ بدأ أوالد البلد ٌعودون للحٌاة من جدٌد‪ ،‬تتخطفها تٌارات أجنبٌة "تشوه وشها"‬
‫و"تتوهها بٌن شٌن وزٌن"‪ ،‬و"تطرطش نظرٌات الؽش علٌها"‪ ..‬كالنداهة‪.‬‬

‫و"النداهة" حكٌوة تراثٌة مصرٌة عن امرأة أجنبٌة عن القرٌة‪ ،‬تقؾ لرجالة القرٌة فً الطرٌق المظلم‪،‬‬
‫وتتلوى لهم كالحٌَّة‪ ،‬تبهرهم بجمالها‪ ،‬وتندهم بؤسامٌهم كؤنها تعرفهم‪ ،‬وتؽوٌهم بكبلم معسول‬
‫َّ‬ ‫تتسحب‬
‫ٌشعرهم بذاتهم ورجولتهم‪ ،‬فٌسٌل رٌق الرجل‪ ،‬وتتخدر أعصابه‪ ،‬ال ٌترك الفرصة لعقله ٌسؤل من هذه‬
‫الؽرٌبة وماذا ترٌد‪ ،‬وٌجري نحوها فً الظبلم‪ ...‬وإذ فجؤة تشد قبضتها علٌه وتؽوص به فً الترعة أو فً‬
‫أي مكان مجهول‪ ،‬وبعد أٌام ٌفاجا به أهل القرٌة مرمٌا على نفس الطرٌق مقتوال‪ ،‬أو مجنونا‪ ،‬خاصة لو‬
‫عرؾ أسرار عالمها الذي خطفته إلٌه‪ ،‬والعجٌب أنه رؼم تكرار حكاٌتها لكن ٌنسى الرجالة وٌقعون فً فخ‬
‫النداهة رجل وراء رجل‪ ..‬وٌقول حكماء القرٌة إن النجاة من النداهة بذكر هللا ورش ملح نحوها وعدم الرد‬
‫علٌها لما تندهٕٔ‪.ٔٙ‬‬

‫وهكذا حٌن خرج بعض المصرٌٌن‪ -‬ممن أخذوا قسطا من التعلٌم‪ -‬من تحت الركام واألطبلل التً هالتها‬
‫علٌه االحتبلالت الطوٌلة لٌبصروا الحٌاة من جدٌد فً القرن ‪ ،ٔ9‬خرجوا من تحتها بجسد تملإه التقٌحات‪،‬‬
‫وذاكرة مفقودة‪ ،‬وعٌون تتحسس خطواتها من بعد طول الظبلم‪ ،‬وقفوا على ركام هذه االحتبلالت ٌتلفتون‬
‫حولهم‪ٌ ،‬سؤلون‪ :‬أٌن نحن؟ من نحن؟ إلى أٌن نسٌر؟ وأمامهم ألؾ طرٌق وطرٌق‪ ،‬على ناصٌة كل طرٌق‬
‫تقؾ النداهة‪ ،‬تؽرٌهم وتمنٌهم بالجنة فً نهاٌة الطرٌق‪ ،‬فاختارت كل مجموعة منهم أن تسٌر وراء نداهة فً‬
‫طرٌق‪ ،‬فتشتت بالمصرٌٌن السبل‪ ،‬وتفرقوا‪ ،‬وتحولوا من أن ٌكون هدفهم أن ٌجدوا طرٌق مصر السلٌم‬
‫الذٌن ٌحضنهم جمٌعا‪ ،‬إلى خصوم‪ ،‬وبدال من أن ٌناصروا مصر وحدها لتكون طرٌقهم إلى السماء‪ ،‬باتوا‬
‫ٌناصرون أعداءها !‬

‫وهذه هً بالحرؾ حكاٌة أهل الشر مع المصرٌٌن بداٌة من االحتبلل الفرنساوي وحتى اآلن‪ ،‬ال ٌكتفون‬
‫بالسبلح كما كانوا فً االحتبلالت السابقة‪ ،‬بل ٌؽوون مصر بالكبلم المعسول عن جمالها ومكانتها‪ ،‬وعن أنهم هم‬
‫منقذوها من ظالمٌها ومحتلٌها ومن الجهل والتخلؾ‪ ،‬فإذا ما صدقهم مصري وجرى إلٌهم وقع فً الفخ واتشقلب‬
‫كٌانه‪ ،‬وانتهى به الحال لو طال بهم المقام إلى قتٌل‪ ،‬أو مجنون‪ ،‬أو عمٌل خاٌن‪ ،‬أو دلدول‪ ،‬أو مسخ‪ ،‬وفً أحسن‬
‫األحوال تاٌه تمزقه الحٌرة‪.‬‬

‫ٕٔ‪ -ٔٙ‬حكاٌات من ندهتهم "النداهة" من أهل مصر‪ ،‬نورهان فتحً وسارة دروٌش‪ ،‬موقع صحٌفة الٌوم السابع‪ٕٓٔ٘ -ٕٔ -٘ ،‬‬

‫٘ٓ‪ٙ‬‬
‫▼▼▼ الؽزو الماسونً لمصر (العولمة)‬

‫حلَّت المحافل الماسونٌة فً مصر مع الفرنسٌس سنة ‪ -ٔ998‬كما تابعنا فً الكبلم عن االحتبلل‬
‫الفرنساوي‪ -‬ورصد الدكتور وابل إبراهٌم الدسوقً فً رسالته للماجستٌر من جامعة عٌن شمس عن‬
‫الماسونٌة فً مصر تطورها منذ ذلك الحٌن وأشكالها وتؤثٌراتها على المصرٌٌن حتى صدور قرار الربٌس‬
‫جمال عبد الناصر بؽلق المحافل الماسونٌة ٗ‪ ،ٔ9ٙ‬ونعرض أجزاء منها هنا‪ ،‬ومن دراسات أخرى مصرٌة‬
‫وأجنبٌة حول نفس األمر‪.‬‬

‫ٌ َّدعى الماسون أن دٌانتهم هً الدٌانة المصرٌة‪ ،‬وأماكن إقامتهم بمثابة المعابد المصرٌة‪ ،‬وهم أنفسهم‬
‫بمثابة رجال الدٌن المصرٌٌن(ٕٕ‪ ،)ٔٙ‬والنتٌجة أنهم ٌعتبرون أنفسهم الحكام الحقٌقٌٌن لمصر!‬

‫وبحسب ما ذكره الماسونً الشامً والكاتب الشهٌر جرجً زٌدان الذي جاء لٌقٌم فً مصر خبلل القرن‬
‫‪ ٔ9‬فً كتابه "تارٌخ الماسونٌة العام" فإنه بعد رحٌل الحملة الفرنسٌة وؼلق محفل "إٌزٌس" الذي أسسه‬
‫كلٌبر أسس إٌطالٌون استقدمهم محمد علً لمشارٌعه محفبل فً اإلسكندرٌة على الطرٌقة األسكتلندٌة سنة‬
‫ٖٓ‪ ،ٔ8‬ثم توالت المحافل فً المحافظات وصارت بالعشرات‪ ،‬وتمتع أعضابها بحماٌة االمتٌازات األجنبٌة‬
‫التً تكفل لهم حرٌة الحركة والحماٌة من المحاسبة والرقابة‪.‬‬

‫كما تمتعت المحافل الماسونٌة برعاٌة محمد علً وأوالده من بعده‪ ،‬وخضعوا لها تحت إؼراء الخبراء‬
‫الذٌن بقوا من مخلفات الحملة الفر نسٌة أو جلبهم لتنفٌذ مشارٌع تحدٌث الصناعة والتعلٌم‪ ،‬وما ٌرفعونه من‬
‫شعارات الحداثة والتطوٌر واإلنسانٌة والعمل الخٌري‪ ،‬فانضم للمحافل األمٌر حلٌم ابن محمد علً‪،‬‬
‫والخدٌوي توفٌق وابنه محمد علً‪ ،‬وعمر طوسون (حفٌد الوالً سعٌد) كمظهر من مظاهر ارتباطهم‬
‫بـ"التحضر األوروبً" كما توهموا‪ ،‬وأصبح الماسون فً مراكز القرار؛ ما أكسب المحافل "شرعٌة" أمام‬
‫الناس‪ ،‬وٌخفً وجهها الحقٌقً كؤوكار للجاسوسٌة وإضعاؾ العقٌدة الوطنٌة والدٌنٌة‪.‬‬

‫وتفرعت المحافل لفرنسٌة وإٌطالٌة وٌونانٌة وبرٌطانٌة وأمرٌكٌة إلخ‪ ،‬فصار لكل دولة ذراع فً مصر‬
‫باسم محفل ماسونً‪ ،‬وأشهرها المحفل األكبر الوطنً المصري التابع لفرنسا برباسة إدرٌس راؼب‬
‫(مستوطن ٌونانً)(ٖٕ‪ ،)ٔٙ‬ورفع هذا المحفل تقرٌرا فً ٖٔ مارس ٖٖ‪ ٔ9‬للملك فإاد ٌفخر فٌه بؤنه صار له‬
‫‪ ٗ8‬محفبل فً مصر تعمل جاهدة على نشر الماسونٌة فً ربوع الببلد دون كلل(ٕٗ‪.)ٔٙ‬‬

‫تهافت المستوطون األجانب من أصحاب المناصب الهامة والنفوذ االقتصادي وقلٌل من المصرٌٌن‬
‫األؼنٌاء على االنضمام للمحافل الماسونٌة التً باتت األماكن والصالونات األكثر "رقٌا" للتجمع فً نظرهم‪،‬‬
‫وتعطً "الوجاهة"‪ ،‬كما أنها أماكن جٌدة لصنع الصفقات المالٌة والسٌاسٌة‪ ،‬وتربٌط العبلقات‪.‬‬

‫(ٕٕ‪ -)ٔٙ‬الماسونٌة والماسون فً مصر ‪ ،ٔ9ٙٗ -ٔ998‬د‪ .‬وابل إبراهٌم الدسوقً‪ ،‬دار الكتب والوثابق القومٌة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٕٕ٘‪ٕ٘ٗ -‬‬
‫(ٖٕ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬إدرٌس راؼب ابن إسماعٌل ٌ ّنً (الشهٌر بإسماعٌل راؼب) مملوك الٌونانً اشتراه محمد علً وجلبه من تركٌا ومنحه ٓٓ٘ فدان تضاعفت‬
‫إلى ٖٔ ألؾ فدان بخبل ؾ ثروة من الذهب‪ ،‬وتولى مناصب خطرة كوزارة الجٌش والخارجٌة والمالٌة ثم رباسة الوزارة أٌام عرابً سنة ٕ‪( ٔ88‬موقع‬
‫ذاكرة مصر المعاصرة التابع لمكتبة اإلسكندرٌة)‬
‫(ٕٗ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الماسونٌة والماسون فً مصر ‪ ،ٔ9ٙٗ -ٔ998‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٔ‪ٖ٘ -‬‬

‫‪ٙٓٙ‬‬
‫وألن المحافل الماسونٌة هً الدرجات الدنٌا لتنظٌم "النارٌٌن" السري‪ ،‬فهً تسٌر على طقوسه‪ ،‬ومنها أن‬
‫ٌحلؾ العضو وهو معصوب العٌنٌن ٌمٌن الوالء المطلق لربٌس المحفل الذي ٌجهل من هو أحٌانا‪ ،‬وٌجهل‬
‫هل هو خٌر أم شرٌر‪ ،‬وٌتعهد بكتم أسرار ما ٌحدث بداخله‪ ،‬وقبول التعرض للموت بؤبشع الطرق إن خالؾ‬
‫ذلك‪ ،‬ونظام الترقٌة داخل المحفل على أساس الدرجات‪ ،‬وما ٌعنٌنا هو أن ٌكون العضو مإٌدا للفكر األممً‬
‫(الدولً) الذي ٌعلٌه فوق الوطن وفوق الدٌن تحت مبرر"اإلخاء اإلنسانً"‪.‬‬

‫فرفعت المحافل الماسونٌة شعار الثورة الفرنسٌة "إخاء‪ ،‬حرٌة‪ ،‬مساواة"‪ ،‬والمقصود باإلخاء هو تآخً‬
‫أعضاء المحفل فً نفس الهدؾ‪ ،‬وأن تصبح الماسونٌة "عشٌرتهم" ومصلحتها فوق مصلحة الوطن حتى أن‬
‫شخصا ٌدعى حسٌن نور الدٌن فً محفل "صبلح الدٌن" بالمنصورة قال‪" :‬لو لم أكن ماسونٌا لوددت أن‬
‫أكون ماسونٌا"‪ ،‬والحرٌة والمساواة مقصود بهما إزالة الفروق الوطنٌة والدٌنٌة بٌن كافة البشر‪ ،‬وهً فكرة‬
‫لتسهٌل حركة األجانب داخل البلد المستهدؾ‪ ،‬حتى أنها أول من تصدت لما سمته بـ"كراهٌة األجانب" فً‬
‫الوقت الذي كان المصرٌون ٌسعون لتحرٌر ببلدهم من االحتبلل الجالٌاتً‪.‬‬

‫وبعد فترة من التخفً وراء وجه العمل الخٌري والحداثة كشفت الماسونٌة وجهها العسكري‪ ،‬فاخترقت‬
‫الجٌش الختراق الحركة الوطنٌة‪ ،‬خاصة فً عصر إسماعٌل‪ ،‬وضمت لها عدد من الضباط تحت إؼراء‬
‫شعارات الحرٌة وكحلقة وصل بالحضارة األوروبٌة‪ ،‬ولكن انقطعت صلة ضباط الجٌش المصرٌٌن‬
‫بالماسونٌة بعد االحتبلل فً عام ٕ‪ ٔ88‬وحتى أوابل العشرٌنٌات من القرن العشرٌن‪ ،‬وبناء على ما ذكره‬
‫الخدٌوي عباس حلمً فً مذكراته لم ٌنتسب الضباط الوطنٌٌن إلى المحافل الماسونٌة لتشككهم فً طبٌعة‬
‫ونواٌا تلك المحافل التً امتدت إلى الجٌش(ٕ٘‪.)ٔٙ‬‬

‫وخصص كتشنر‪ ،‬المندوب السامً البرٌطانً‪ ،‬سنة ‪ ٔ9ٓ9‬محفبل تسمى باسمه‪ ،‬محفل كتشنر رقم‬
‫ٕٖٓٗ‪ ،‬هدفه رصد ما ٌجري داخل الجٌش‪ ،‬وجذب الضباط له وألهداؾ برٌطانٌا من ورابه‪.‬‬

‫وعلى ذات النمط اخترقت الماسونٌة االقتصاد فخصصت محافل لتجار القطن باإلسكندرٌة‪ ،‬مثل محفل‬
‫"اإلسكندرٌة رقم ٗ‪ "ٗٔ8‬سنة ٕٔ‪ ،ٔ9‬وبعد العدوان الثبلثً ‪ ٔ9٘ٙ‬فتشت قوات األمن المحفل ووجدت ما‬
‫ٌدل على أنه وكر للتجسس والنشاط الصهٌونً بحسب ما نشرت مجلة "آخر ساعة" حٌنها‪ ،‬كما تخصص‬
‫محفل "السٌرابٌوم رقم ٕٖٔ٘" سنة ٖٔ‪ ٔ9‬للعاملٌن فً قناة السوٌس من كل الجنسٌات(‪.)ٕٔٙٙ‬‬

‫ومن أشكال االختراق لقصور الحكم تدخل المحافل فً الصراع بٌن إسماعٌل وحلٌم حول العرش(‪،)ٕٔٙ9‬‬
‫وناصر ماسون شوام وإٌطالٌون وفرنسٌون وٌهود حلٌم البتزاز إسماعٌل حٌن ٌرفض بعض مطالبهم‪.‬‬

‫وبالرؼم من من أن الماسونٌة تعمل على عزل الحكام فً السر‪ ،‬فإنها تنافقهم وتهادنهم فً العلن لٌتركوا‬

‫(ٕ٘‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٔٔ8‬‬
‫(‪)ٕٔٙٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪٘9 -٘ٙ‬‬
‫(‪)ٕٔٙ9‬‬
‫‪ -‬لما أجبر إسماعٌل عمه حلٌم على ترك مصر كً ال ٌنازعه العرش ذهب لؤلستانة وهناك ترأس محفل "مجلس عال تركً" الماسونً مدى‬
‫الحٌاة‪ .‬انظر‪" :‬تارٌخ الماسونٌة العام"‪ ،‬جورجً زٌدان‪ ،‬مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٖٔٔ‬

‫‪ٙٓ7‬‬
‫لمحافلها حرٌة العمل واالنتشار‪ ،‬وإعطابها الشرعٌة عندما ٌرى الناس أن الحاكم نفسه ٌدعمها‪ ،‬فتكررت‬
‫رسابل الماسونٌة بالنفاق للحكام من محمد علً لعباس وسعٌد وإسماعٌل وتوفٌق وعباس وحسٌن كامل‬
‫وفإاد وفاروق وعبد الناصر‪ ،‬ومن رسابل المداهنة أن وفدا ماسونٌا زار توفٌق بعد تولٌه الحكم‪ ،‬وخطبوا‬
‫بٌن ٌدٌه ٌطلبون الرعاٌة الخدٌوٌة‪ ،‬وٌحثونه على االستمرار فً عضوٌة الماسونٌة ألن االنتماء لها‬
‫"شرؾ" ٌجب على كل الملوك الحصول علٌه "لما تعطٌه من الرفعة والعزة لصاحبها"‪ ،‬ورد علٌهم توفٌق‬
‫بوعدهم برعاٌة محافلهم؛ ألن المحافل مرجو منها المساهمة فً "تمدن" المجتمع(‪.)ٕٔٙ8‬‬

‫ومن خبثها فإنها تملقت فً نفس الوقت الحركة الوطنٌة الختراقها وتضلٌلها‪ ،‬فؤظهرت دعمها لعرابً‬
‫وسعد زؼلول ومحمد فرٌد‪ ،‬ووصلت فً اختراقها للحركة أٌام محمد فرٌد لدرجة إقناع محٌطٌن به بتؤسٌس‬
‫حركة سرٌة هً تنظٌم "التضامن األخوي"‪ ،‬اعتمدت العمل المسلح ولو ضد المصرٌٌن أنفسهم بحجة‬
‫الخٌانة‪ ،‬وهو أمر دخٌل على المصرٌٌن‪ ،‬وطقوس االنضمام إلٌها مشابهة لطقوس االنضمام للماسونٌة‪،‬‬
‫فالعضو ٌقدم البٌعة لربٌس التنظٌم فً ؼرقة مظلمة معصوب العٌنٌن‪ ،‬وٌقسم على الطاعة العمٌاء واضعا‬
‫ٌده على المصحؾ والسٌؾ‪ ،‬ولو حنث بالقسم ٌقبل اإلعدام‪.‬‬

‫ونفذت الجمعٌة اؼتٌاالت جاءت بالضرر لمصر‪ ،‬ألنها لم تلتزم بخطة العمل الوطنً الذي تزعمه سعد‬
‫زؼلول‪ ،‬واستهدؾ بعضها شخصٌات مصرٌة مثل اؼتٌال ربٌس الوزراء بطرس ؼالً ٓٔ‪ ٔ9‬على ٌد‬
‫إبراهٌم الوردانً عضو الجمعٌة‪ ،‬الذي مع نبل مقصده فً إنقاذ قناة السوٌس من الضٌاع بعد أن وافق ؼالً‬
‫على تمدٌد امتٌازها لئلنجلٌز‪ ،‬إضافة لدوره فً إصدار أحكام مذبحة دنشواي‪ ،‬إال أن فتح باب اؼتٌال‬
‫الشخصٌات المصرٌة ٌفتح على مصر نار حرب أهلٌة‪ ،‬وكل شخص له خصومة مع أحد ٌقتله بحجة أنه‬
‫خابن‪ ،‬وهو ما كان سٌعصؾ بالحركة الوطنٌة عصفا‪ ،‬وهذا الهدؾ األساسً للماسونٌة‪.‬‬

‫كما تسببت الجمعٌة فً خسارة كبٌرة لمصر حٌن اؼتالت السٌرلً ستاك اإلنجلٌزي عام ٕٗ‪ ٔ9‬فً‬
‫ؼمرة مفاوضات سعد زؼلول مع اإلنجلٌز حول الجبلء‪ ،‬واستؽل اإلنجلٌز الحادثة لكسر ثورة ‪.ٔ9ٔ9‬‬

‫وملفت أن بعض أعضاء جمعٌة "التضامن األخوي" كانوا منضمٌن كذلك للطرق الصوفٌة‪ ،‬وٌجمع بٌن‬
‫هذه الطرق والماسونٌة فكرة الطاعة العمٌاء لربٌس المحفل أو شٌخ الطرٌقة؛ ما ٌإشر إلى أن كل‬
‫التنظٌمات السرٌة من النوع "العالمً"‪ ،‬بالبلدي الفصٌح "منفدة على بعضها"‪.‬‬

‫وتنفٌذا لوصاٌا زعمابها واٌزهاوبت وباٌك‪ ،‬فً االهتمام باإلعبلم لنشر أفكارهم اعتمدت المحافل على‬
‫الصحافة‪ ،‬فؤسست صحؾ "المٌثاق" و"اللطابؾ" و"الماسونٌة" و"النصوح" و"األخبار الماسونٌة" و"المجلة‬
‫الماسونٌة"‪ ،‬و"المقطم"‪ ،‬وؼٌرها(‪ ،)ٕٔٙ9‬وأكثرها موالً بكل جرأة لبلحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬وفً ذلك ٌقول‬
‫دسوقً إن االحتبلل البرٌطانً لم ٌكتؾِ فً تلك المرحلة "بالوصول إلى األرض والرزق والكبرٌاء الوطنً‬

‫(‪)ٕٔٙ8‬‬
‫‪ -‬انظر الماسونٌة والماسون فً مصر‪ ،‬وابل إبراهٌم الدسوقً‪ ،‬دار الكتب والوثابق القومٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ٘ٔ‪ٔ٘٘ -‬‬
‫(‪)ٕٔٙ9‬‬
‫‪ -‬الماسونٌة فً مصر‪ ،‬علً شلش‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ99ٖ ،‬ص ٖ‪ ،8‬والماسون والماسونٌة فً مصر ‪،ٔ9ٙٗ -ٔ998‬‬
‫وابل إبراهٌم الدسوقً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪٘8‬‬

‫‪ٙٓ8‬‬
‫فقط‪ ،‬وإنما أخذ ٌزحؾ أٌضا إلى صمٌم رقعة الفكر ذاتها"‪.‬‬

‫ومن مبلمح تلك الدولة الروتشٌلدٌة العنكبوتٌة ما الحظته دراسة دسوقً أن الصحؾ الماسونٌة لم‬
‫تتعرض لئلٌقاؾ أو الحظر على النشر فً أوقات الطوارئ وفرض األحكام العرفٌة التً فرضها الخدٌوي‬
‫أو اإلنجلٌز‪ ،‬فً حٌن كان ٌتم تطبٌق هذا الحظر والؽلق على الصحؾ المصرٌة(ٖٓ‪.)ٔٙ‬‬

‫وإن كان األوروبٌون أؼلبٌة فً هذه المحافل‪ ،‬فقد حل فً المرتبة بعدهم الترك والشركس(ٖٔ‪ ،)ٔٙ‬ودبج‬
‫الشعراء الماسون فً الماسونٌة قصابد الؽزل للدعاٌة لها‪ ،‬وتقدٌمها للناس على أنها رأس الفضٌلة‪ ،‬كعادة‬
‫المسٌخ الدجال فً تقدٌم الباطل حقا والحق باطبل‪ ،‬ومنها الشاعر محمود رمزي نظٌم(ٕٖ‪:)ٔٙ‬‬

‫تمم نورهـــا وسنــاءها‬ ‫ٌا معشر الماسون أنتم عصبة هللا‬

‫أخفى الزمان عن العٌون رواءها‬ ‫تتعاونون لنشر كل فضٌلة‬

‫ودعمت المحافل من بعد الحرب العالمٌة األولى الصهٌونٌة بجمع التبرعات لها واحتضان الحركات‬
‫اإلرهابٌة الوافدة باسم الجبٌن وتجار وعمالة‪ ،‬أو بضم صهاٌنة كؤعضاء ٌتمتعون بحماٌة هذه المحافل‪،‬‬
‫وأشهر العاببلت الٌهودٌة الثرٌة التً انضمت لها عاببلت قطاوي وشٌكورٌل وموصٌري وروصانو‬
‫وشمبل‪ ،‬وكلها عاببلت أجنبٌة وافدة فً القرنٌن ‪ ٔ9‬وأول القرن ٕٓ‪ٌ ،‬جمعون األموال بشراهة وبكل‬
‫الوساٌل من جٌوب المصرٌٌن‪ ،‬فكؤن الفبلح المصري صار دون أن ٌدري من أكبر ممولً الصهٌونٌة‬
‫واإلرهاب‪.‬‬

‫ومن أمثلة احتضان المحافل والعاببلت للحركات الصهٌونٌة أن محامٌا ٌهودٌا اسمه لٌون كاسترو وفد‬
‫على مصر مبعوثا من المنظمة الصهٌونٌة العالمٌة لٌإسس فرعا لها فً القاهرة ‪( ٔ9ٔ9‬فً سنة وعد‬
‫بلفور)‪ ،‬وفً فترة صؽٌرة جدا وحَّ د صفوؾ الخبلٌا الصهٌونٌة المتناثرة‪ ،‬وكوَّ ن الفرع‪ ،‬وأصدر المجلة‬
‫الصهٌونٌة سنة ‪ ،ٔ9ٔ8‬بل وتسلل إلى صفوؾ حزب الوفد واكتسب ثقة سعد زؼلول حتى ترأس تحرٌر‬
‫صحٌفة ‪ La Liberte‬لسان حال الوفد‪ ،‬واستثمر وجوده داخل صفوؾ الحركة الوطنٌة المصرٌة لصالح‬
‫الحركة الصهٌونٌة حتى منتصؾ األربعٌنات‪ ،‬وأسس الٌهودي ألبٌر ستراسلسكً بعد عام ٖ٘‪ ٔ9‬منظمة‬
‫صهٌونٌة فً مصر باسم "حزب التصحٌحٌٌن"‪ ،‬ودعمته عابلة موصٌري الٌهودٌة الثرٌة‪.‬‬

‫وفً ٕٕ‪ ،ٔ9‬وبعد أن بدأ الفلسطٌنٌون ٌشعرون بخطر البلجبٌن الٌهود وتقع احتكاكات بٌنهم‪ ،‬أصدر‬
‫المحفل األكبر الوطنً المصري برباسة إدرٌس راؼب نداء للفلسطٌنٌٌن بعدم االعتداء على الٌهود‪ ،‬وأن‬
‫ٌقبلوا بتوطٌنهم فٌما وصفه بـ"الوطن المشترك" باسم "الحرٌة واإلخاء والمساواة"(ٖٖ‪.)ٔٙ‬‬

‫(ٖٓ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬الماسون والماسونٌة فً مصر ‪ ،ٔ9ٙٗ -ٔ998‬ص ‪ ٘8‬و٘‪ٕ8‬‬
‫(ٖٔ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٘ٗٔ‬
‫(ٕٖ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬الماسونٌة فً مصر‪ ،‬علً شلش‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔ‪8‬‬
‫(ٖٖ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الماسون والماسونٌة فً مصر ‪ ،ٔ9ٙٗ -ٔ998‬ص ٗٓٔ‪ٔٔٓ -‬‬

‫‪ٙٓ9‬‬
‫ومثلها مثل اإلرسالٌات التبشٌرٌة اهتمت المحافل الماسونٌة بنشر المدارس األجنبٌة فً مصر والحد من‬
‫نفوذ التعلٌم الحكومً‪ ،‬فكانت عبر صحفها دابمة التدخل فً التعلٌم وطرح آرابها بشؤنه‪ ،‬ومعظم األوقات‬
‫تركز على السٌا فٌه وال تبرز اإلٌجابٌات؛ لكً تضعؾ ثقة الحكومة المصرٌة فً نفسها وتجعلها طٌعة‬
‫أمام نصابح واستشارات المحافل الماسونٌة أو الخبراء الذٌن تقدمهم لها‪ ،‬فكتبت صحٌفة "األخبار الماسونٌة"‬
‫مقاال بعنوان "التعلٌم فً مصر‪ -‬الحالة المحزنة للمدارس المصرٌة"‪ ،‬وتعللت فً تدخلها بذلك بؤنها تحمل‬
‫أمانة تربٌة أوالد المصرٌٌن‪ ،‬وتسابقت إلنشاء المدارس األهلٌة (الخاصة) ومنها مدرسة "االجتهاد‬
‫الوطنً"‪ ،‬وكذلك المدارس الحرفٌة(ٖٗ‪.)ٔٙ‬‬

‫أما عن وظٌفتها األساسٌة فً إلؽاء فكرة الحدود والوطنٌة فً العقول والصدور‪ ،‬فكشؾ جورجً زٌدان‬
‫فً "تارٌخ الماسونٌة العام" أن "البحة ٌورك"‪ -‬موضوعة ‪ 9ٕٙ‬م‪ -‬التً تنظم عمل الماسون وعبلقتهم‬
‫ببعضهم وبالعالم جعلت من معاونة الماسون الوافدٌن ركنا أساسٌا فً نشاطهم‪ ،‬فتقول المادة ٘ٔ من‬
‫البلبحة‪" :‬وعلى الماسون أن ٌترحبوا بالرفاق الذٌن ٌؤتون إلٌهم من ببلد بعٌدة‪ ،‬بعد أن ٌعطوهم اإلشارة‬
‫الماسونٌة‪ ،‬وأن ٌهتموا بمصالحهم‪ ،‬وأن ٌساعدوا جمٌع اإلخوان عندما ٌعلمون باحتٌاجهم إلى المساعدة إذا‬
‫كانوا على مسافة ربع ساعة"(ٖ٘‪.)ٔٙ‬‬

‫وقادت المحافل الماسونٌة وصحفها الترحٌب باألجانب فً مصر‪ ،‬تقدم لهم الرعاٌة واالمتٌازات فوق‬
‫أهل البلد‪ ،‬فالمحافل نفسها متمتعة بحماٌة القناصل وتنقل هذه الحماٌة ألعضابها‪ ،‬مبررة ذلك بؤن شعارات‬
‫"الحرٌة واإلخاء والمساواة" ال تفرق بٌن جنسٌة وأخرى(‪ ،)ٖٔٙٙ‬بالرؼم من أن الماسون أنفسهم ٌفرقون بٌن‬
‫الماسون وؼٌرهم‪ ،‬فٌنقل زٌدان عن البحة ٌورك موادا بهذا المعنى منها المادة ‪" :ٔٙ‬ال ٌنبؽً ألحد اإلخوة‬
‫الماسون أن ٌسمح بدخول أحد إلى المحفل إذا لم ٌتؤكد كونه ماسونٌا؛ لكً ال ٌطلع على صناعة النحت‬
‫والمربعات والفادن"(‪.)ٖٔٙ9‬‬

‫وبسبب هذه الفرصة الواسعة فً الحماٌة والمزاٌا التً أؼدقتها الماسونٌة على الوافدٌن‪ ،‬تزاٌدت هجرة‬
‫األجانب لمصر‪ ،‬وردوا الجمٌل بؤن صاروا أكبر معٌن لتلك المحافل‪ ،‬ففً نهاٌة الحرب العالمٌة األولى فتح‬
‫ربٌس الوزراء حسٌن رشدي (تركً) الباب لبلجبٌن جدد من أوروبا وروسٌا‪ ،‬ونظمت لهم الحكومة‬
‫عملٌات الؽوث‪ ،‬ووفرت لهم السكن والمؤوى باإلسكندرٌة‪ ،‬وأمر السلطان حسٌن كامل بصرؾ إعانة مالٌة‬
‫كبٌرة لهم‪ ،‬وتبرع لهم األثرٌاء‪ ،‬ودعمت ذلك المحافل الماسونٌة‪ -‬تنفٌذا لتعلٌمات "البحة ٌورك"‪ -‬ثم‬
‫استقطبت منهم الكثٌر لخدمة أهدافها(‪.)ٖٔٙ8‬‬

‫ومن دلٌل كذب حدٌثهم عن "اإلخاء اإلنسانً والمساواة" أن عملٌة االحتضان واإلؼاثة هذه لبلجبٌن‬

‫(ٖٗ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٔ‪ٕ9ٖ ،ٕ9‬‬
‫(ٖ٘‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬تارٌخ الماسونٌة العام‪ ،‬جورجً زٌدان‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٗ9‬‬
‫(‪)ٖٔٙٙ‬‬
‫‪ -‬نفس الفكر االحتاللً المعادي لمبدأ أن الوطن ملك أبنابه فقط‪ ،‬وهو الفكر الذي ٌؤخذ ثوب دٌنً فً التنظٌمات الدٌنٌة أو ثوب شٌوعً أو‬
‫ثوب لٌبرالً أو إنسانً باسم العولمة واالندماج العالمً‪ ،‬وحالٌا ٌتبناه فنانون والعبو كرة قدم أٌضا‪.‬‬
‫(‪)ٖٔٙ9‬‬
‫‪ -‬تارٌخ الماسونٌة العام‪ ،‬جورجً زٌدان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٗ9‬‬
‫(‪)ٖٔٙ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الماسون والماسونٌة فً مصر ‪ ،ٔ9ٙٗ -ٔ998‬ص ٔٓٔ‪ٕٔٓ -‬‬

‫ٓٔ‪ٙ‬‬
‫الفارٌن من الحرب إلى مصر تجري جنبا إلى جنب مع عملٌة نزح المٌزانٌة المصرٌة وبٌوت الفبلحٌن‬
‫الذٌن انقضَّ االحتبلل اإلنجلٌزي على محاصٌلهم ومواشٌهم‪ ،‬وترحٌل المصرٌٌن صؽارا وكبار مقٌدٌن‬
‫إجبارٌا للعمل فً معسكرات الحرب بؤوروبا والعراق الشام‪ ،‬وترك آالؾ العاببلت المصرٌة الفقٌرة ورابهم‬
‫دون معٌل(‪ )ٖٔٙ9‬وذلك تحت عٌن ذات الحكومة التً استقبلت البلجبٌن باسم "اإلخاء اإلنسانً"‪.‬‬

‫ومارست المحافل الماسونة أسلوبها المعتاد فً تخدٌر الحكام بؤن أرسلت رسالة مدح للسلطان ووزاربه‬
‫على إؼاثة البلجبٌن‪ ،‬وكتب الماسونً إدجار ساوٌرس‪ ،‬ربٌس الٌهود فً اإلسكندرٌة‪ ،‬شاكرا حسٌن رشدي‬
‫ربٌس الوزراء ٌقول‪" :‬لقد أثبتم مرة أخرى تحرر هذا البلد وضٌافته الكرٌمة‪ ،‬وإن طابفتنا لعلى ثقة فً هذه‬
‫المناسبة بؤنها تعبر عن عرفان ٌهود العالم للحكومة المصرٌة على اإلجراءات السرٌعة الفعالة التً اتخذتها‬
‫لمساعدة هإالء المطرودٌن البإساء"(ٓٗ‪.)ٔٙ‬‬

‫وضم األجانب للمحافل الماسونٌة هدؾ استراتٌجً‪ ،‬فهً تضمن أن والبهم صرؾ لها‪ ،‬ولن تحركهم فً‬
‫ٌوم من األٌام نزعة وطنٌة تجعلهم ٌنقلبون علٌها أو ٌتركونها مثلما فعل بعض المصرٌٌن الذٌن اكتشفوا أنهم‬
‫انخدعوا فٌها‪ ،‬هذا بخبلؾ أن كثرة األجانب واختبلطهم بؤهالً الببلد ٌكسر الحواجز وٌضعؾ الشعور‬
‫الوطنً لدى أبناء الوطن األصلٌٌن‪ ،‬خاصة لمَّا ترتبط مصالحهم بؤعمال ومشارٌع أجنبٌة‪.‬‬

‫وأٌام الملك فإاد رسخت أقدامهم فً الببلد أكثر وفً وقت قٌاسً بفتح األبواب أمامهم فً كل المجاالت‬
‫حتى تولى الٌهودي الماسونً ٌوسؾ قطاوي باشا وزارة المالٌة‪ ،‬أي وضع ٌده على خزانة مصر بحالها‬
‫وأسرارها‪ ،‬واعتبر تعٌٌنه فً هذا المنصب تقدٌرا وتكرٌما للطابفة الٌهودٌة‪.‬‬

‫و احتل نواب الٌهود مقاعد فً مجلسً الشٌوخ والنواب‪ ،‬وتؤسست لهم محافل ماسونٌة فً القاهرة‬
‫واإلسكندرٌة وعواصم األقالٌم المختلفة ساهمت فً مساعدة الٌهود البلجبٌن‪ ،‬أشهرها محفل "ابن‬
‫مٌمون"(ٔٗ‪ ،)ٔٙ‬وكثرت المعابد الٌهودٌة فً مصر‪ ،‬ووصلت فً النصؾ األول من القرن العشرٌن فً القاهرة‬
‫إلى ‪ ٕ9‬معبدا وفً اإلسكندرٌة ٕٓ معبدا وؼٌرهم فً بورسعٌد والمنصورة وباقً المحافظات‪.‬‬

‫وتؤسس الجمعٌات الثقافٌة ومنها "الجماعة الفنٌة الٌهودٌة" بالقاهرة ٕٔ‪ ٔ9‬كما أنشبت جمعٌة "بخور‬
‫حولٌم" ‪ ٔ9ٓ9‬و"االتحاد اإلسرابٌلً" بهلٌوبولٌس ٕٕ‪ ٔ9‬وجمعٌة مصر للدراسات التارٌخٌة الٌهودٌة‬
‫ٕ٘‪ "ٔ9‬إلخ‪ ،‬وتؤسست الصحؾ الٌهودٌة مثل النهضة الٌهودٌة والمجلة الصهٌونٌة ومجلسة إسرابٌل ومجلة‬
‫الشمس والكلٌم والفجر(ٕٗ‪ ،)ٔٙ‬وبالمثل حدث من بقٌة الجالٌات والبلجبٌن من أوروبا وروسٌا فً عمل‬
‫مجتمعات ومإسسات خاصة بهم‪ ،‬فصارت الببلد بشكل أكبر كؤنها عدة دول‪ ،‬خاصة فً المدن‪.‬‬

‫(‪)ٖٔٙ9‬‬
‫‪ -‬تزخر وسابل التواصل االجتماعً فً السنٌن األخٌرة بمدح الحكومة التً قامت بـ"احتضان" الالجبٌن الفارٌن من الحرب العالمٌة‪ ،‬وٌعدون‬
‫هذا عالمة ازدهار ورخا ء كبٌر لمصر وقتها‪ ،‬وال ٌظهرون الوجه الثانً لألمر أن الحكومة فعلت ذلك بضؽط من االحتالل وصمتت أمام تعذٌب‬
‫المصرٌٌن ورمٌهم فً نار الحرب وسرقة أموالهم ومحاصٌلهم ومواشٌهم‪ ،‬فآوت وحمت األجانب‪ ،‬وشردت وعذبت المصرٌٌن‪.‬‬
‫(ٓٗ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٕٓٔ‬
‫(ٔٗ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬حاٌٌم واٌزما ن الصهٌونً وأول ربٌس إلسرابٌل فٌما بعد كان ربٌسا شرفٌا لمحفل ابن مٌمون فً مصر‪.‬‬
‫(ٕٗ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الماسون والماسونٌة فً مصر (‪ ،)ٔ9ٙٗ -ٔ998‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٔ9‬‬

‫ٔٔ‪ٙ‬‬
‫وامتد تؤثٌر هذا إلى نزح مال المصرٌٌن بتهرٌبه للخارج‪ ،‬فهذه الجالٌات لها عاببلت ومصالح فً ببلدها‬
‫األصلٌة ترسل إلٌها بالمال‪ ،‬أو تسعى لتخزٌنه فً مكان آمن من المصادرة خارج مصر‪ ،‬وتزاٌد النزح باسم‬
‫التبرعات للخارج‪ ،‬ففً ‪ ٔ9ٔ8‬وبعد صدور وعد بلفور أعلن البارون فلٌكس دي منشة‪ ،‬من كبار الماسون‬
‫فً اإلسكندرٌة‪ ،‬تكوٌن لجنة لجمع التبرعات لتوطٌن الٌهود فً فلسطٌن وتؤسٌس الجامعة العبرٌة بالقدس‪،‬‬
‫واسمها "اللجنة المشاٌعة لفلسطٌن(ٖٗ‪ ،)ٔٙ‬ولم ٌقل حٌنها المشاٌعة إلسرابٌل لصرؾ النظر عن أهدافهم‬
‫الحقٌقٌة‪ ،‬وعدم استفزاز ؼٌر الٌهود الذٌن ٌتم تحصٌل التبرعات منهم‪.‬‬

‫كذلك كان لبعض الشوام دور ٌلً الدور الٌهودي فً نشر هذه المحافل؛ فقد التقى الشاعر السوري أدٌب‬
‫إسحق بجمال الدٌن األفؽانً‪ ،‬وكانا فً محفل ماسونً واحد فً مواجهة الخدٌوي إسماعٌل‪ ،‬وأظهر الوقوؾ‬
‫مع عرابً فً البداٌة ثم انقلب علٌه وانضم لتوفٌق واإلنجلٌز‪.‬‬

‫وأتى ٌعقوب صروؾ وشاهٌن مكارٌوس بماسونٌتهم من الشام‪ ،‬وسرعان ما لحق بهم جورجً زٌدان‬
‫مإسس مجلة "الهبلل" وإبراهٌم الٌازجً وخلٌل مطران الملقب بشاعر القطرٌن وملحم شكور ونعوم شقٌر‪،‬‬
‫ولم تكد تمضً ٖ سنٌن حتى كان صروؾ وفارس نمر وشاهٌن مكارٌوس دعموا صلتهم باالحتبلل‪،‬‬
‫فتزوج فارس نمر ابنة القنصل اإلنجلٌزي ثم زوج ابنته للسكرتٌر الشرقً للسفارة اإلنجلٌزٌة(ٗٗ‪.)ٔٙ‬‬

‫ومن دوافع اعتماد المحافل الماسونٌة واالحتبلل على بعض الشوام فً نشر أفكارها فً مصر معرفتهم‬
‫باللؽة العربٌة فٌكونوا أقدر على التواصل مع المصرٌٌن‪ ،‬وتلقٌهم تعلٌما أوروبٌا فً مدارس اإلرسالٌات‬
‫التبشٌرٌة فً الشام‪ ،‬ومنها الكلٌة السورٌة البروتستانتٌة األمرٌكٌة ببٌروت (الجامعة األمرٌكٌة)‪ ،‬وتدرٌبهم‬
‫على إنشاء الصحؾ والمسارح؛ ولذا كان لهم أٌضا دور فً نشر المذاهب الكنسٌة األجنبٌة كاإلنجٌلٌة‬
‫والكاثولٌكٌة التً استهدفت إضعاؾ الكنٌسة المصرٌة األرثوذكسٌة‪.‬‬

‫فما ٌفرؼون من حط رحالهم من الشام إلى مصر حتى ٌلقوا بؤنفسهم فً أحضان القنصلٌات األجنبٌة‬
‫والمحافل لٌتمتعوا بحماٌة األجانب‪ ،‬بتعبٌر الدسوقً‪.‬‬

‫وأصدروا‪ -‬كما تابعنا‪ -‬صحؾ "المقتطؾ" ٗ‪ ٔ88‬و"المقطم" ‪ ،ٔ888‬و"اللطابؾ"‪ ،‬وأصدر الربٌس‬


‫األعظم للمحفل األكبر الوطنً المصري منشورا باعتبار "اللطابؾ" جرٌدة الماسون فً مصر(٘ٗ‪.)ٔٙ‬‬

‫واختلفت دوافع االنضمام للماسونٌة ما بٌن الشرٌرة والخٌرة‪ ،‬فانضم لها أشخاص بحسن نٌة انخدعوا فً‬
‫شعاراتها البراقة‪ ،‬أو للحصول على الوجاهة االجتماعٌة باعتبار هذه المحافل مراكز اإلشعاع وتجمع نجوم‬
‫المجتمع‪ ،‬ومنهم من انضم كوسٌلة للترقً ألنه سٌقابل فٌها الوزراء‪ ،‬أو للتجسس على األعضاء‪ ،‬أو لعقد‬
‫الصفقات‪ ،‬أو للحصول على االمتٌازات األجنبٌة‪ ،‬أو استمتاع البعض بؤنه صار "مواطن عالمً"‪ ،‬خاصة‬
‫لما أفهموه أن التمسك بالوطنٌة "عنصرٌة وتعصب مكروه"‪.‬‬

‫(ٖٗ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٗٓٔ‬
‫(ٗٗ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٗٔٔ‬
‫(٘ٗ‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‪ ،‬ص ٘ٔٔ‪ٔٔٙ -‬‬

‫ٕٔ‪ٙ‬‬
‫▼▼▼ الؽزو اللٌبرالً لمصر‬

‫اللون اللٌبرالً هو األقرب للون الذي ظهرت به الماسونٌة فً مصر‪ ،‬رافعا مثلها شعار "الحرٌة"‪،‬‬
‫الحرٌة لرأس المال من أي مصدر‪ ،‬والحرٌة لحركة التجارة الدولٌة على حساب الصناعة الوطنٌة‪ ،‬الحرٌة‬
‫الستٌراد عادات وتقالٌد وثقافات أجنبٌة مخالفة لهوٌة الشعب‪ ،‬الحرٌة لئللحاد‪ ،‬الحرٌة ألي مذاهب دٌنٌة‬
‫جدٌدة‪ ،‬الحرٌة لتوطٌن األجانب‪ ،‬الحرٌة لبلحتبلل واعتباره "منقذا مصلحا"‪ ،‬وكل هذا مجسد فً الشعار‬
‫الشهٌر للٌبرالٌة والرأسمالٌة لؽزو العالم وهو "اتركه ٌعمل اتركه ٌمر"‪.‬‬

‫نبعت اللٌبرالٌة السٌاسٌة من نظرٌة "المذهب الفردي" التً وضعها جون لوك فً القرن ‪ ٔ9‬عن‬
‫التسامح والدٌمقراطٌة‪ -‬رؼم أنه تاجر عبٌد فً أمرٌكا‪ -‬وركزت نظرٌاتها االقتصادٌة على "التجارة الحرة"‪،‬‬
‫ومبؤ ٌ تجسد فً لفظة "األنانٌة"‪ ،‬فهً وإن كانت تتحدث عن "الحرٌات للجمٌع"‪ ،‬و"الدٌمقراطٌة"‪ ،‬لكن فً‬
‫التطبٌق فهً استبدادٌة بشكل مطلق‪ُ ،‬تخضع الجمٌع لـ"التاجر الدولً"‪ ،‬و"البنك األجنبً"‪ ،‬و"الحزب‬
‫اللٌبرالً"‪ ،‬و"التنظٌم الدولً"‪ ،‬و"المحفل الدولً"‪ ،‬وهإالء‪ -‬فقط‪ -‬من ٌطبق علٌهم ولهم "الحرٌة"‪ ،‬وؼٌرهم‬
‫ٌطلق علٌه صفتً االستبداد واالحتكار‪.‬‬

‫وفً القرن ‪ ٔ8‬ظهرت مجموعة اقتصادٌٌن فرنسٌٌن‪ ،‬سموا أنفسهم "الفٌزٌوقراطٌٌن" ٌقودهم فرانسوا‬
‫كٌنٌه‪ ،‬وضعوا ما عُرؾ بنظام "الحرٌة االقتصادٌة"‪ ،‬معتمدٌن على مقولة فٌنسان دي كورناي "دعه ٌعمل‪،‬‬
‫دعه ٌمر"‪ ،‬وهدفه كسر القٌود التً وضعتها الحكومات على حركة التجارة بٌن الببلد لحماٌة صناعتها‬
‫الوطنٌة‪ ،‬فٌتركز التحكم فً تجارة العالم وأرزاقه وإرادته فً أٌادي قلٌلة تقود العالم‪.‬‬

‫وتبع هذا نشر قٌم االنحبلل والمادٌة واألنانٌة المعادٌة للوطنٌة وللدٌن والتراحم‪ ،‬فٌقول الفٌزٌوقراطً‬
‫كوٌسنً فً كتابه "اللوابح االقتصادٌة" سنة ‪ ٔ9٘8‬إن "اإلنسان االقتصادي" ٌإمن بؤن السعادة الدنٌوٌة هً‬
‫ؼاٌة الحٌاة"‪ ،‬ورأى معاصرون له من علماء االقتصاد أن اإلنسان الفرد المستقل والمتحرر من شتى‬
‫المجموعات إنها هو النموذج الذي ٌحتذى به‪ ،‬وأخرج برنارد مندفٌل مقولته‪" :‬إن الرذابل الخاصة هً‬
‫فضابل عامة‪ ،‬وإن البشر وهم ٌكافحون من أجل جنً األرباح وٌتشهون طمعا الحٌاة المترفة إنما ٌوفرون‬
‫العمل للفقراء وٌزٌدون فً ثروة األمة"(‪.)ٔٙٗٙ‬‬

‫وفً القرن ‪ ٔ9‬وضع آدم سمٌث كتابه الشهٌر "ثروة األمم" افترض فٌه أن الدولة هً منبع الشرور‬
‫والمفاسد فً االقتصاد‪ ،‬وأن كل األفراد‪ -‬خاصة رجال األعمال وطبلَّب الثروات الباهظة‪ -‬مبلبكة وأخٌار‬
‫ٌبحثون عن نشر العدل والصالح العام‪ ،‬فقال‪" :‬فلتتوقؾ الحكومة عن تقدٌم المساعدات للمشروعات‪ ،‬وعن‬
‫الضبط والتنظٌم‪ ،‬وعندبذ ستختفً المظالم وٌنتفً الجور‪ ،‬ولتوسع فً نطاق نشاطات الفرد‪ ،‬آنذاك ستنطلق‬
‫الطاقات وسٌتقدم االقتصاد‪ ،‬وستتحسن أوضاع الجماعة كلها‪ ،‬وأما اإلشراؾ على المإسسات الصناعٌة‬
‫الخاصة وتوجٌهها الوجهة التً تإمن للمجتمع أؼزر الفوابد فهذا ٌنبؽً أال ٌكون من مسبولٌات الدولة‪،‬‬

‫(‪)ٔٙٗٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تارٌخ الفكر األوروبً الحدٌث (ٔٓ‪ ،)ٔ999 -ٔٙ‬دونالد سترومبرج‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٕٓ‪ٕٖٕ -‬‬

‫ٖٔ‪ٙ‬‬
‫فلتدافع الدولة عن شواطا شعبها‪ ،‬ولتكتؾ بإدارة المكاتب البرٌدٌة وإقامة العدل بٌن الناس‪ ،‬وما عدا ذلك‬
‫فلتترك لكل فرد أن ٌبحث عن مصالحه الخاصة‪ ،‬حٌث إنه أفضل من ٌعرفها وٌعرؾ السبٌل إلى تنمٌتها‪،‬‬
‫فالدول ال تصلح أبدا للقٌام بوظابؾ اقتصادٌة"(‪ ،)ٔٙٗ9‬وزعم أن "الدولة زارع سًء‪ ،‬وصانع سًء‪ ،‬وتاجر‬
‫سًء"‪ ،‬وردا على أن هذا سٌجعل االقتصاد فً ٌد مجموعة من األفراد وٌنحرم بقٌة الشعب رد بؤن "الٌد‬
‫الخفٌة" هً الكفٌلة بالتنسٌق آلٌا بٌن مصالح األفراد لتحقٌق المصلحة العامة(‪.)ٔٙٗ8‬‬

‫ورؼم ما روجته لنفسها فً العالم إال أن الحال بداخل برٌطانٌا ٌكشؾ عن زٌؾ ما أشاعوه فً العالم لنزح‬
‫ثرواته والتحكم فٌها‪ ،‬فرؼم قٌام الثورة اإلنجلٌزٌة ٓٗ‪ ،ٔٙ‬ورؼم تبنٌها النظام اللٌبرالً الرأسمالً‪ ،‬ظلت‬
‫الفوارق الحادة فً برٌطانٌا حتى ٗٔ‪ ٔ9‬وجاء نقبل عن أحد تبلمٌذ جورج برنارد شو‪" :‬كانت إنجلترا قبل‬
‫عام ٗٔ‪ ٔ9‬بلدا تسوده ال مساواة اجتماعٌة واقتصادٌة كرٌهة وفظة‪ ،‬حٌث كان ترؾ القلة من الناس‬
‫وتفاخرهم ٌستثٌران فقر األكثرٌة وبإسها"‪.‬‬

‫وأُجبرت األحزاب اللٌبرالٌة الحاكمة فً برٌطانٌا جبرا على التخفٌؾ من حدة أنانٌتها تحت وطؤة أنشطة‬
‫الحركة الؽابابٌة االشتراكٌة التً ظهرت نهاٌة القرن ‪ ،ٔ9‬ولجوء الحركة لنقل حقابق ما ٌجري فً المصانع‬
‫من مظالم‪ ،‬فاستطاعت أن ترؼم الحاكمٌن بقبول مبادئ الخدمات االجتماعٌة‪ ،‬بل وتؤمٌم المرافق ذات النفع‬
‫العام‪ ،‬مثل مرفقً الؽاز والماء‪ ،‬ووضع قوانٌن الضمان الصحً والتقاعد والشٌخوخة‪ ،‬حتى قال لورد‬
‫برٌطانً‪" :‬لقد أصبحنا اآلن جمٌعا اشتراكٌٌن"‪ ،‬وفً ألمانٌا قال بسمارك فً خطبته الكبرى أمام‬
‫الراٌخستاج وهو ٌقدم مشروع الضمان االجتماعً‪" :‬إن الدولة ال تستطٌع أن تتخلى عن كل مسبولٌاتها إلى‬
‫صالح العمال من المواطنٌن وسعادتهم"(‪.)ٔٙٗ9‬‬

‫كذلك تلقت هذه النظرٌات األنانٌة المادٌة ضربة قاصمة أظهرت عٌوبها فً األزمة االقتصادٌة سنة‬
‫‪ ٔ9ٕ9‬وطوابٌر الجوعى والعاطلٌن تسد شوارع وتؽطً أرصفة أوروبا وأمرٌكا؛ فاضطرت حكوماتهم‬
‫للتدخل فً االقتصاد والتدخل لصالح المجموع لحد ما‪ ،‬بل واتخذت قرارات أخرى لتؤمٌم مصالح وشركات‬
‫خاصة فً فرنسا وبرٌطانٌا فً األربعٌنات لتكون ملكا للدولة‪.‬‬

‫هبَّت رٌاح "اللٌبرالٌة والرأسمالٌة" بزبٌرها المدوي على مصر أٌام إسماعٌل حٌن فتح الحدود لكل أنواع‬
‫الرٌاح العالمٌة‪ ،‬ممثلة فً االستثمار األجنبً الرأسمالً فً التجارة والعقارات والمشروعات العامة‪ ،‬ورأٌنا‬
‫كٌؾ حاولوا تحوٌل ملكٌتها جمٌعا إلى ملكٌة خاصة‪ ،‬ونجحوا وجنوا الثمار بوضوح فً عصر توفٌق‬
‫وعباس حلمً الثانً‪ ،‬وبالتدرٌج تحول القطاع الخاص إلى المالك األول فً الدولة‪.‬‬

‫أما سٌاسٌا فظهرت اللٌبرالٌة فً مساعً كبار متملكً األراضً "الملوك الصؽار" ألن ٌصبحوا ملوكا‬
‫كبار‪ ،‬بؤن ٌقلدوا تجربة اإلنجلٌز فً أن ٌكونوا هم األؼنٌاء وفً نفس الوقت أصحاب أحزاب سٌاسٌة‬

‫(‪)ٔٙٗ9‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٕٖٙ‬‬
‫(‪)ٔٙٗ8‬‬
‫‪ -‬عملٌة الخصخصة‪ :‬الضرورة والمحاذٌر والمتطلبات‪ ،‬د‪ .‬محمد عبد الشفٌع عٌسى‪ ،‬مجلة بحوث اقتصادٌة عربٌة‪ ،‬مج ٖٔ‪ ،‬ع ‪،ٖ9 ،ٖٙ‬‬
‫القاهرة‪ ،ٕٓٓٙ ،‬ص ‪ٕٔ9‬‬
‫(‪)ٔٙٗ9‬‬
‫‪ : -‬تارٌخ الفكر األوروبً الحدٌث (ٔٓ‪ ،)ٔ999 -ٔٙ‬دونالد سترومبرج‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٗٙ8 -ٗٙٙ‬‬

‫ٗٔ‪ٙ‬‬
‫وأصحاب كراسً البرلمان فتسقط السلطة التشرٌعٌة والتنفٌذٌة فً أٌدٌهم؛ فٌحكمون الببلد بما ٌناسب حماٌة‬
‫ثرواتهم وتكثٌرها‪ ،‬والتمتع بالنفوذ السٌاسً اآلمر الناهً‪ ،‬وهو ما دفع كما رأٌنا كثٌر من كبار العاببلت‬
‫لمساندة عرابً حتى تحقق لهم وجود دستور وبرلمان‪ ،‬وبعدها انقلب معظمهم علٌه خوفا من أن ٌنازعهم‬
‫السلطة إذا ما تبنى حقوق الفبلحٌن الذٌن فوضوه التصرؾ باسمهم‪.‬‬

‫ولم ٌكن لهإالء األؼنٌاء بعد أن حملوا لقب "نواب البرلمان" برامج لتحقٌق الحرٌة والكفاٌة والكرامة‬
‫للشعب‪ ،‬وإنما برامجهم هً الوصول للوزارة‪ ،‬وحماٌة األراضً المسٌطرٌن علٌها من المصادرة ومن‬
‫فرض ضراٌب كبٌرة والحد من تدخل الخدٌو أمورهم‪ ،‬ولم ٌتمتعوا بهذه الفرصة كثٌرا لما زاحمهم المحتل‬
‫اإلنجلٌزي والتجار األجانب فً الكعكعة؛ فاشتركوا فً ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬وساندوا سعد زؼلول للحد من سلطة‬
‫اإلنجلٌز والملك فإاد على رقابهم‪ ،‬وبعد حصولهم على بعض المكاسب بوضع دستور ٖٕ‪ ٔ9‬وبإجراء‬
‫االنتخابات وتشكٌل البرلمان من جدٌد والسماح لهم بعمل أحزاب‪ ،‬انشؽلوا عن قضٌة تحرٌر الببلد وتنمٌتها‬
‫بمإامرات وصراعات األحزاب‪ ،‬مستكفٌٌن فٌما ٌخص قضٌة التحرٌر بؤسلوب المفاوضات المستكٌنة حتى‬
‫ال ٌفقدوا بؤي ثورة جدٌدة مكاسبهم‪.‬‬

‫وفٌما ٌخص األحزاب وصحفها فإن معنى اللٌبرالٌة عندهم هو "عاش الحزب وزعٌمه"‪ ،‬ولٌس الحرٌة‬
‫للجمٌع‪ ،‬بل دخلت معارك طاحنة ضد من ٌخالفون زعٌم الحزب كما سنرى‪ ،‬سواء داخل حزب الوفد الذي‬
‫انشط ر ألحزاب‪ ،‬أو بٌن األحزاب وبعضها‪ ،‬مقتدٌن فً هذا بجون لوك‪ٌ ،‬مؤل العالم ضجٌجا عن الحرٌة‬
‫واللٌبرالٌة وهو ال ٌقصد بها إال الساسة األؼنٌاء مثله‪ ،‬فً حٌن حرَّ مها على ؼٌره باستمراره المشاركة فً‬
‫تجارة العبٌد ووضع شرابع تبٌح لمالك العبد أن ٌقلته إذا عصاه(ٓ٘‪.)ٔٙ‬‬

‫وفً النهاٌة حصد المصرٌون من اللٌبرالٌة الرأسمالٌة زٌادة الفجوة والؽربة بٌن الؽنً والفقٌر‪ ،‬وبٌن‬
‫المتعلم وؼٌر المتعلم‪ ،‬وبٌن الرٌؾ والحضر‪ ،‬وزٌادة الحزبٌة البعٌدة عن الوطنٌة‪ ،‬وتحمٌل الفقٌر مسبولٌة‬
‫فقره بالقول إنه كسبلن ٌرٌد العٌش على قفا األؼنٌاء‪ ،‬رؼم أن الرخاء الذي ٌتنعم فٌه "اللٌبرالٌون" األؼنٌاء‬
‫ثمرة نشاطه وكده‪.‬‬

‫▼▼▼ ؼزو "اإلخوان المسلمٌن" لمصر‬

‫من أقدم النصوص التً ذكرت كلمة "اإلخوان" فً الحركات السرٌة هو ما ٌخص جماعة "إخوان‬
‫الصفا" التً نشؤت فً القرن الرابع الهجري‪ /‬العاشر المٌبلدي‪ ،‬فً عصر الدولة العباسٌة‪ ،‬بعد سٌطرة‬
‫البوهٌون (شٌعة إسماعٌلٌة) على الحكم فعلٌا فٌما كان العباسٌون ٌحكمون اسمٌا‪.‬‬

‫ورؼم االختبلؾ حول هوٌة هذه الجماعة‪ ،‬وهل هً شٌعٌة أم ال‪ ،‬فإنه مما عُرؾ عنها أن أعضابها‬
‫ٌسمون مذهبهم بالمذهب "الكامل" الجامع ألفضل ما فً العلوم والفنون واآلداب فً العالم‪ ،‬وهو نفس ما‬
‫ٌدعٌه تنظٌم النارٌٌن لنفسه‪ ،‬والٌسوعٌون‪ ،‬وتنظٌم اإلخوان المسلمٌن‪ ،‬والماسون‪ ،‬خاصة وأنه ٌنتقً من‬

‫(ٓ٘‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬حول تناقضات جون لوك انظر‪ :‬جون لوك‪ ..‬مإسس العبودٌة وتاجرها‪ ،‬سلطان عامر‪ ،‬صحٌفة الحٌاة اللندنٌة‪ٕٖٓٔ -ٕ -ٔ9 ،‬‬

‫٘ٔ‪ٙ‬‬
‫أعضابه األنبه واألمهر فً كل مجال‪ ،‬وٌسخر لهم اإلمكانٌات لٌزدادوا تؤلقا‪.‬‬

‫ولجماعة إخوان الصفا شروط للعضوٌة‪ ،‬والعضو فٌها ٌحمل لقب "أخ"‪ ،‬وتعتمد على الفكر الباطنً‪،‬‬
‫ٌعنً العمل السري‪ ،‬ومبدأ التقٌة‪ ،‬أي تقول للناس فً العلن عكس ما تخفٌه‪ ،‬وأعضاإها ٌعتبرون رسابلهم‬
‫مقدسة‪ ،‬وهً نفس األمور التً شاعت فً التنظٌمات السرٌة الحدٌثة‪.‬‬

‫وأخفى "إخوان الصفا" أسماء وهوٌات قادتهم الكبار‪ ،‬لكن قالوا فً رسابلهم إنهم متؽلؽلون فً كل الدول‬
‫وبٌن كل الناس‪ ،‬فً بٌوت الحكام والعلماء والصناع والفنانٌن وكل المستوٌات؛ أي اعتمدت مبدأ العالمٌة‬
‫واالختراق‪ ،‬وهو ما تكرر الحقا فً التنظٌمات السرٌة بؤنواعها(ٔ٘‪.)ٔٙ‬‬
‫‪،‬‬
‫وبحسب رسابلهم فإن من نشاطهم أن ٌحثوا الحكام على ؼزو الببلد األخرى تحت إؼراء تحقٌق المجد‬
‫وهو ما ٌتوافق مع الرؼبات المحمومة فً إشعال العالم بالحروب دابما‪ ،‬وتحوٌل العالم لؽالب ومؽلوب‪.‬‬

‫وفً رسالته اللً وجهها جمال الدٌن األفؽانً إلى أرباب المجمع المقدس الماسونً فً مصر ٌطلب‬
‫انضمامه لهم قال‪" :‬أرجو من إخوان الصفا‪ ،‬واستدعً من خبلن الوفا‪ ،‬أعنً أرباب المجمع المقدس‬
‫الماسون‪ ،‬الذي هو عن الخلل والزلل مصون‪ ،‬أن ٌمنوا علًَّ ‪ ،‬وٌتفضلوا إلًَّ بقبولً فً ذلك المجمع‬
‫المطهر‪ ،‬وإدخالً فً سلك المنخرطٌن فً ذلك المنتدى المفتخر"(ٕ٘‪ ،)ٔٙ‬ومن ؼٌر الواضح هل اختار‬
‫األفؽانً كلمة "إخوان الصفا" كمجرد وصؾ بالصدفة‪ ،‬أم تؤثرا بتلك الجماعة‪ ،‬خاصة أنه ضمن االختبلؾ‬
‫حول أصوله ٌقال إنه قادم من ببلد األفؽان القرٌبة من فارس‪ ،‬والتً تبنت فكر تلك الجماعة‪.‬‬

‫و ٌبلحظ التشابه فً االسم بٌن "إخوان الصفا" و"اإلخوان المسلمٌن"‪ ،‬و"اإلخوان الماسون" وبٌن رسابل‬
‫إخوان الصفا‪ ،‬ورسابل حسن البنا‪ ،‬وتضمن االثنٌن الحث على "الفتوحات" و"الؽزو"‪.‬‬

‫وتعنً "األخ" أي العضو فً المحفل الماسونً‪ ،‬وكل أعضاء المحفل "إخوان" وهم أٌضا "الصفوة" فً‬
‫العالم مهما اختلفت جنسٌاتهم ودٌاناتهم‪ ،‬وكل من هم خارج المحفل "جوٌٌم" أي ؼرباء ورعاع‪ ،‬حتى وإن‬
‫كانوا أبناء الدولة التً فٌها المحفل‪ ،‬وبجانب "اإلخوان" فً المحافل ظهرت كلمة "األستاذ األعظم"‪.‬‬

‫ففً رسالة لتصفٌة خبلؾ بٌن المحفل األكبر الوطنً المصري والشرق األكبر المصري(ٖ٘‪ )ٔٙ‬جاء‪" :‬أبلػ‬
‫كاتم السر األعظم عبد المجٌد ٌونس (إخوته الماسون) أن (حضرة األخ كلً االحترام األستاذ األعظم) أحمد‬
‫ماهر أصدر أمرا عالٌا بالعفو الشامل عن جمٌع األخوان الموقوفٌن والمشطوبٌن"(ٗ٘‪.)ٔٙ‬‬

‫وؼنً عن البٌان أن لصق كلمة المصري فً "المحفل األكبر الوطنً المصري"‪ ،‬و"الشرق األكبر‬

‫(ٔ٘‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬رسابل إخوان الصفا وخبلن الوفا‪ ،‬مج ٔ‪ ،‬مكتب اإلعبلم اإلسبلمً‪ ،‬قم بإٌران‪ ٔٗٓ٘ ،‬هـ‪ ،‬ص ٘‪ٕٓ-‬‬
‫(ٕ٘‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬الماسون والماسونٌة فً مصر (‪ ،)ٔ9ٙٗ -ٔ998‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓ٘ٔ‬
‫(ٖ٘‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬الفرق بٌن المحفل والمجمع والمحفل األعظم والشرق أن المحفل هو الوحدة األولى للماسونٌة‪ ،‬أي الخلٌة األولى الشتراك األعضاء‪،‬‬
‫والمجمع ٌتكون من عدة محافل فً منطقة داخل الدولة الواحدة‪ ،‬والمحفل األعظم هو الهٌبة التً تشرؾ على كل المحافل والمجامع داخل الدولة‪،‬‬
‫أما الشرق فهو الهٌبة التً تشرؾ على عدة محافل عظمى ومجامع فً عدة دول (انظر الماسونٌة فً مصر‪ ،‬علً شلش‪ ،‬ص ٖٕٔ‪)ٕٔ٘ -‬‬
‫(ٗ٘‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬الماسون والماسونٌة فً مصر (‪ ،)ٔ9ٙٗ -ٔ998‬وابل إبراهٌم الدسوقً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٗ9‬‬

‫‪ٙٔٙ‬‬
‫المصري"‪ ،‬ال تختلؾ كثٌرا عن لصقها لجٌوش وجالٌات أٌام االحتبلالت لمجرد وجودها فً مصر‪ ،‬فً‬
‫حٌن ال تعبر عن مصر وال المصرٌٌن دما وال لحما وال فكرا وال انتماء‪.‬‬

‫وفً قرار من القطب األعظم للماسونٌة بمصر أحمد ماهر بإنشاء المحفل األكبر الوطنً اللبنانً‬
‫السوري ورد فً نصه سنة ‪" ٔ9ٖ8‬إلى جمٌع الشروق والمحافل الكبرى واألخوان‪ ...‬وبعد سرد القرار‬
‫ٌختتمه بالقول‪ :‬إن األستاذ األعظم لهذه السلطة هو الكلً االحترام األخ عطا بك األٌوبً ربٌس الوزراء‬
‫سابقا‪ ،‬والسكرتٌر األعظم هو الكلً االحترام األخ نسٌب بك البكري محافظ جبل الدروز سابقا‪ ،‬وإننا نرجو‬
‫جمٌع السلطات االعتراؾ بهذا المحفل األكبر السوري واالتصال به مباشرة لما فٌه خٌر للعشٌرة"(٘٘‪.)ٔٙ‬‬

‫وٌخطًء من ٌحدد ظهور تنظٌم "اإلخوان المسلمٌن" فً مصر بسنة ‪ ،ٔ9ٕ8‬فهذا تارٌخ رفع ٌافطة‬
‫مكتوب علٌها "اإلخوان المسلمٌن" فوق مبنى بروضة المنٌل بالقاهرة‪ ،‬ولكنه لٌس تارٌخ التؤسٌس للتنظٌم‬
‫ودخول هذا الفكر الفاسد لمصر‪ ،‬فمع تضعضع السلطنة العثمانلٌة وخلخلة أعمدتها‪ ،‬سارع السلطان عبد‬
‫الحمٌد الثانً إلى حشد المسلمٌن فً العالم حوله لٌعٌد إلٌها قوتها‪ ،‬وأخذ فً هذا شعارات تتمحور حول‬
‫"دعم دولة اإلسبلم ضد الكفار"‪ ،‬ومسوقا لفكرة أن محاوالت أوروبا إلسقاط السلطنة العثمانلٌة هدفه الحقد‬
‫على اإلسبلم وإزالة "الدولة الحامٌة له"؛ كً ٌُنسً المسلمٌن ما ذاقوه من مذلة ومرارة وفقر مدقع تحت‬
‫كرابٌج ووحشٌة العثمانلٌة‪ ،‬وٌحول مشاعرهم إلى "دعم اإلسبلم"‪ ،‬و"الخبلفة اإلسبلمٌة"‪.‬‬

‫ومما تبنى هذه الفكرة‪ -‬سواء بتنسٌق مع عبد الحمٌد الثانً أو بدون‪ -‬جمال الدٌن األفؽانً الذي هبط على‬
‫مصر حاشدا الناس ضد اإلنجلٌز من ناحٌة وحول الخبلفة اإلسبلمٌة التً أسماها "الجامعة اإلسبلمٌة"‪ ،‬من‬
‫ناحٌة‪ ،‬مإكدا على أن الرابطة الوحٌدة بٌن المسلم وؼٌره هً رابطة الدٌن ولٌس الوطن‪.‬‬

‫وحتى ثورة ٔ‪ ٔ88‬لم ٌكن فً مصر جمعٌات خاصة لها صبؽة دٌنٌة (مسلمة أو مسٌحٌة) نشٌطة وذات‬
‫طابع سري أحٌانا وعالمً سوى الطرق الصوفٌة واإلرسالٌات التبشٌرٌة‪.‬‬

‫وبتؤثٌر األفؽانً ظهرت الدعوة لـ"الجامعة اإلسبلمٌة" سنة ٗ‪ ٔ88‬على صفحات جرٌدة "العروة الوثقى"‬
‫تابعة لـ"جمعٌة العروة الوثقى"‪ ،‬وهً تنظٌم سري ثوري هدفه إثارة المسلمٌن فً مصر والهند والسودان‬
‫إلخ وتحرٌضهم على أي حكم أوروبً وااللتفاؾ حول الحكم اإلسبلمً(‪ ،)ٔٙ٘ٙ‬ثم ظهرت "الجمعٌة الشرعٌة"‬
‫السلفٌة على ٌد الشٌخ محمود محمد خطاب السبكً ٕٔ‪.ٔ9‬‬

‫وجاء هتاؾ ثورة ‪ٌ" ٔ9ٔ9‬حٌا الهبلل مع الصلٌب" و"مصر للمصرٌٌن" وهو ٌدوي من قلوب وحناجر‬
‫المصرٌٌن‪ ،‬ومن األزهر والكنٌسة‪ ،‬وٌشق عنان السماء ٌنعش قلوب األحرار والنبات والحجر‪ ،‬وحتى‬
‫العصافٌر فوق الشجر‪ ،‬وفً نفس الوقت ٌهز أركان دولة الشٌطان وفروعها المتجسدة فً االحتبلل‬
‫البرٌطانً‪ ،‬والمستوطنٌن األجانب‪ ،‬والشٌوعٌة‪ ،‬والصهٌونٌة‪ ،‬والماسونٌة‪ ،‬وكل دعوة عالمٌة ضد فطرة‬

‫(٘٘‪)ٔٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖ‪ٙ‬‬
‫(‪)ٔٙ٘ٙ‬‬
‫‪ -‬تطور الحركة الوطنٌة فً مصر (‪ ،)ٔ9ٖٙ -ٔ9ٔ8‬عبد العظٌم رمضان‪ ،‬مكتبة مدبولً‪ ،‬طٕ‪ ،‬ص ‪ٖٔ ،ٕ9‬‬

‫‪ٙٔ7‬‬
‫الوطن وضد تفضٌل أبناء الوطن عمن سواهم‪.‬‬

‫فبماذا ٌرد الؽاصبون؟‬

‫بالتفرٌق بٌن المصري المسلم والمصري المسٌحً من جدٌد‪ ،‬وشق ما بٌن األزهر والكنٌسة فً مقابل‬
‫تحبٌب المصري فً الوالء لؤلجانب‪ ،‬وربطه بتنظٌمات بعٌدة عن األزهر والكنٌسة المصرٌة وبعٌدة عن‬
‫مصر نفسها‪ ،‬فلجؤت برٌطانٌا والجالٌات األجنبٌة المسلمة من شوام ومؽاربة التً خافت على مكتسباتها فً‬
‫مصر إلى تؤسٌس كٌان موازي لؤلزهر‪ ،‬ومنافس له‪.‬‬

‫وعلى هذا‪ ،‬تؤسست تنظٌمات دٌنٌة تنسب نفسها‪ -‬وحدها‪ -‬لئلسبلم‪ ،‬وتهاجم المسٌحٌٌن‪ -‬خاصة المصرٌٌن‬
‫منهم‪ -‬وتهاجم الهوٌة المصرٌة‪ ،‬وتفصل بٌن المسلم والمسٌحً‪ ،‬بل وتفضل المسلم األجنبً على المسلم ابن‬
‫البلد‪ ،‬وتطالب بإحٌاء الخبلفة وإقامة دولة إسبلمٌة عالمٌة على أنقاض مصر‪.‬‬

‫وفجؤة‪ ..‬تفجرت سلسلة جمعٌات أخرى وصفت نفسها باإلسبلمٌة‪ ،‬منها "جمعٌة أنصار السنة المحمدٌة "‬
‫السلفٌة التً أسسها محمد حامد الفقً ‪ ،ٔ9ٕٙ‬وجمعٌة "مكارم األخبلق اإلسبلمٌة‪ ،‬و"جمعٌة نشر الفضابل‬
‫اإلسبلمٌة"‪ ،‬و"جمعٌة اإلخاء اإلسبلمً"(‪ ،)ٔٙ٘9‬و فً ذٌلها ظهرت صحؾ "دٌنٌة" تخدم أهدافها‪ ،‬مثل صحٌفة‬
‫"المنار" للبنانً رشٌد رضا‪ ،‬و"الفتح" للسوري محب الدٌن الخطٌب‪ ،‬و"الهداٌة اإلسبلمٌة" للمصري محمد‬
‫خضر حسٌن‪ ،‬و"هدى اإلسبلم" لمحمد الصٌرفً‪ ،‬وفً فترة قصٌرة كانت كل جماعة تنشًء عشرات‬
‫المساجد والمدارس ذات الصبؽة الدٌنٌة والجمعٌات والورش والمشارٌع االقتصادٌة‪.‬‬

‫ولم ٌدر ببال الكثٌرٌن وقتها أن ٌسؤل من أٌن تدفقت األموال على هذه الجمعٌات الكثٌرة‪ ،‬ولماذا تتابع‬
‫ظهورها هكذا سرٌعا‪ ،‬خاصة وأنها اتخذت طابعا عالمٌا‪ ،‬وجمعت التبرعات لئلنفاق على الطلبة الوافدٌن‬
‫وإرسال أخرى للمسلمٌن فً الخارج لٌنشروا نفس أفكارها‪.‬‬

‫وأرسلت تبرعات للثورة السورٌة (ٕ٘‪ )ٔ9ٕ9 -ٔ9‬بحجة دعم حق سورٌا فً االستقبلل(‪ ،)ٔٙ٘8‬وذلك فً‬
‫الوقت الذي كان المصرٌٌن هم األولى بالدعم خبلل مواجهتهم لبلحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬وم َّكنت شخصٌات‬
‫شامٌة مثل محب الدٌن الخطٌب ورشٌد رضا لنفسها فً مصر برفعها شعارات محاربة اإلرسالٌات‬
‫التبشٌرٌة‪ ،‬وإعادة "وحدة المسلمٌن" بعد سقوط السلطنة العثمانلٌة ٕٕ‪ ،ٔ9‬وأسس الخطٌب بالتعاون مع عبد‬
‫الحمٌد سعٌد "جمعٌة الشبان المسلمٌن" سنة ‪ ٔ9ٕ9‬ونشرت بٌن المصرٌٌن فكر "الجهاد المسلح" لنصرة‬
‫المسلمٌن فً الخارج‪ ،‬ونزح أموال المصرٌٌن باسم التبرعات لصالح المسلمٌن فً الخارج‪ ،‬وبعدها بسنة‬
‫واحدة فقط‪ ،‬أي ‪ ،ٔ9ٕ8‬أسست فرعا لها فً فلسطٌن ترأسه عز الدٌن القسام الذي تسمى الجناح العسكري‬
‫لملٌشٌا حركة حماس باسمه فٌما بعد‪.‬‬

‫وهنا‪ ..‬نضجت الساحة وتهٌؤت لرفع ٌافطة على مبنى مكتوب علٌها "جماعة اإلخوان المسلمٌن" كحصاد‬

‫(‪)ٔٙ٘9‬‬
‫‪ -‬مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن‪ ،‬محمد جبرٌل‪ ،‬ج ٖ‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬ص ‪٘99‬‬
‫(‪)ٔٙ٘8‬‬
‫‪ -‬الحركة القومٌة العربٌة فً القرن العشرٌن‪ ،‬هانً الهندي‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربٌة‪ ،‬طٕ‪ ،‬بٌروت ٕ٘ٔٓ‪ ،‬ص ‪ٕٗ9‬‬

‫‪ٙٔ8‬‬
‫لكل ما سبق‪ ،‬وكإشارة لتحقٌق الهدؾ إلى من ٌهمه األمر‪.‬‬

‫انضم الشاب (المختلؾ حول أصوله) حسن البنا إلى جمعٌة الشبان المسلمٌن لمدة سنة‪ ،‬ثم تركها لٌإسس‬
‫تنظٌم "اإلخوان المسلمٌن" سنة ‪ ،ٔ9ٕ8‬وذلك ألن "جمعٌة الشبان المسلمٌن" اختارت أن تنفذ أهدافها من‬
‫بوابة العمل الخٌري والدعوي حتى ال تتعرض لتضٌٌق الحكومة‪ ،‬فً حٌن أراد البنا‪ -‬أو من ورابه‪ -‬اقتحام‬
‫مجال السٌاسة والبرلمان والعمل المسلح‪ ،‬وتظل جمعٌة الشبان المسلمٌن له ظهٌرا‪.‬‬

‫وعن اإلسم قال حسن البنا‪" :‬نحن أخوة فً خدمة اإلسبلم‪ ،‬فنحن إذن اإلخوان المسلمون"‪.‬‬

‫وخبلل سنٌن قلٌلة من إنشابها كان لجماعة اإلخوان ٓٓ٘ معهد للثقافة العامة‪ ،‬وأكثر من ٕٓ نادٌا‪،‬‬
‫ومدرستٌن ابتدابٌتٌن‪ ،‬وٕٓ مكتبا أولٌا لتفٌظ القرأن‪ ،‬وٓٔ مصانع ٌدوٌة للنسٌج‪ ،‬وٓٔ جمعٌات تعاونٌة‪،‬‬
‫وعٌادتٌن مجانٌتٌن‪ ،‬ولجنة للمصالحات بٌن األسر واألفراد‪ ،‬والعدٌد من المساجد(‪ ،)ٔٙ٘9‬وٓ٘ فرقة جوالة‬
‫روجت لها الجماعة على أنها نشاط رٌاضً‪ ،‬لكن تم استعمالها للتدرٌب على العنؾ والسبلح‪ ،‬وأعلن "اإلخوان"‬
‫أنهم مصدر الشفاء الوحٌد لؤلمة "أطباء األمة"‪ ،‬وأن اإلسبلم هو الوطن والجنسٌة‪ ،‬وتناصحوا بعدم التعامل‬
‫مع ؼٌر المسلمٌن‪ ،‬خاصة فً البٌع والشراء(ٓ‪.)ٔٙٙ‬‬

‫ورفعت جماعة اإلخوان شعار محاربة برٌطانٌا لتبرٌر حملها للسبلح‪ ،‬ولكن ظهر أن أي مواجهات مع‬
‫االحتبلل استؽلتها لتدرٌب أعضابها على ما كانت تنتوٌه لقلب نظام الحكم واالستٌبلء علٌه‪ -‬مثل اشتراك‬
‫الشٌوعٌٌن فً أي حروب خارجٌة باسم التطوع بهدؾ التدرٌب على شن الحروب األهلٌة واالنقبلبات‬
‫المسلحة داخل ببلدهم‪ -‬ولكن الهدٌة األكبر لجماعة "اإلخوان" كانت قضٌة فلسطٌن التً استؽلتها أكبر‬
‫استؽبلل لتكون أقوى أسباب وجودها‪.‬‬

‫وعن سبب مشاركتهم فً حرب ‪ -ٔ9ٗ8‬الفخ الذي تم نصبه للجٌش المصري ؼٌر المدرب وؼٌر‬
‫الواعً وقتها‪ -‬قال أحمد حسٌن مإسس حزب مصر الفتاة وآخرون إن معركة فلسطٌن كانت فرصة ذهبٌة‬
‫لحشد السبلح والتمرن علٌه بدعوى أنه من أجل فلسطٌن‪ ،‬أما الهدؾ الحقٌقً فهو إحداث انقبلب فً مصر‬
‫بالقوة(ٔ‪.)ٔٙٙ‬‬

‫ثم هادن اإلخوان اإلنجلٌز حتى أنهم تراجعوا عن المشاركة فً المقاومة الشعبٌة ضد اإلنجلٌز فً القنال‬
‫ٔ٘‪ ،ٔ9ٕ٘ -ٔ9‬وقال مرشدهم العام مؤمون الهضٌبً إنه "ضد العنؾ"‪ ،‬وهو ما رد علٌه الكاتب خالد‬
‫محمد خالد بمقالة فً مجلة روزا الٌوسؾ بعنوان "أبشر بطول سبلمة ٌا جورج"‪ ،‬وروى علً عشماوي‪،‬‬
‫أحد قادة التنظٌم الخاص لجماعة اإلخوان فً مذكراته‪ ،‬أن السبلح الذي ساهمت فً شرابه القوى الوطنٌة‬

‫(‪)ٔٙ٘9‬‬
‫‪ -‬مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن‪ ،‬ج ٖ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪٘99‬‬
‫(ٓ‪)ٔٙٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪٘99‬‬
‫(ٔ‪)ٔٙٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖٕ‪ٙ‬‬

‫‪ٙٔ9‬‬
‫لمعارك القنال "ما لبث أن اختفى فً سرادٌب اإلخوان المسلمٌن(ٕ‪.")ٔٙٙ‬‬

‫وفً ذات الوقت‪ ،‬وعلى طرٌقة االختراق الماسونً‪ ،‬اهتموا بالتقرب من الجٌش‪ ،‬فزرعوا ضباطا فٌه من‬
‫أعضابهم‪ ،‬أو ضموا ضباطا‪ ،‬مستؽلٌن أن فً تلك الفترة ماجت مصر بالتٌارات المتعارضة والمتصارعة‬
‫بعد ضٌاع زعامة ونقاء حزب الوفد‪ ،‬والشباب داخل الجٌش‪ ،‬مثله مثل بقٌة الشباب المتعلم‪ٌ ،‬بحث عن‬
‫النجاة وعن المنقد والمخلص‪ ،‬فٌجرب فً هذا التٌار أو ذاك‪.‬‬

‫ومن أشهر اإلخوان فً الجٌش عبد المنعم عبد الرإوؾ‪ ،‬وتحدث الربٌس أنور السادات فً مذكراته‬
‫"البحث عن الذات" عن حرص اإلخوان على اختراق الجٌش بؤن حسن البنا ذهب بنفسه إلى الوحدة التً‬
‫كان بها السادات سنة ٓٗ‪ ٔ9‬طالبا أن ٌخطب فً الجنود بمناسبة المولد النبوي‪ ،‬وبعد أن لمس إعجاب‬
‫السادات بشخصٌته دعاه لزٌارته فً مكتبه عدة مرات فً محاولة لتجنٌده‪ ،‬ولكنه فطن لهدفه‪ ،‬كما أشار إلى‬
‫العبلقة الوثٌقة التً الحظ أنها تربط بٌن البنا وعزٌز المصري الذي تولى قٌادة الجٌش(ٖ‪.)ٔٙٙ‬‬

‫ووصفهم السادات فً كتابه اآلخر "أسرار الثورة المصرٌة" بالؽموض‪ ،‬وقال إن البنا كان شخصٌة‬
‫ؼامضة جدا وإنه "ٌعتمد على قوة كبٌرة مختفٌة مجهولة"‪ ،‬ولكنه "قادر على إقناعك بؤن تإمن بهذه القوة‬
‫دون أن تعرؾ عنها أي شًء(ٗ‪.")ٔٙٙ‬‬

‫هذه القوة المجهولة لمَّح لها علً عشماوي أحد قادة التنظٌم الخاص فً مذكراته "التارٌخ السري لجماعة‬
‫اإلخوان المسلمٌن" بقوله إن اإلخوان درسوا جمٌع التنظٌمات العالمٌة‪ ،‬وانبهروا بالتنظٌمات صاحبة الفكر‬
‫الباطنً كالشٌعٌة‪ ،‬وخاصة فرقة الحشاشٌن التً أسسها حسن الصباحً‪ ،‬وخاصة أسلوبها فً فرض السمع‬
‫والطاعة على األعضاء حتى لو أمرهم زعٌمها بقتل أنفسهم‪ ،‬كما أن اإلخوان درسوا أسالٌب الصهٌونٌة‬
‫العالمٌة والمافٌا فٌما ٌخص إخضاع الخصوم وتصفٌتهم(٘‪.)ٔٙٙ‬‬

‫وكشؾ أن قٌادات جماعة اإلخوان مخترقة من األجهزة الؽربٌة‪ ،‬خاصة اإلنجلٌزٌة‪ ،‬وأن سٌد قطب‬
‫أخبره بذلك‪ ،‬وضمن عمبلءهم عبد الرحمن السندي صاحب خطة اؼتٌال محمود فهمً النقراشً‪ ،‬ووصؾ‬
‫المنتمٌن لئلخوان وما ٌماثلها بؤنهم "مخلصون وقادتهم عمبلء‪ ،‬وٌستعملونهم فً ؼٌر طاعة هللا"(‪.)ٔٙٙٙ‬‬

‫وانطبقت طقوس االنضمام إلى اإلخوان مع طقوس االنضمام للمحافل الماسونٌة‪ ،‬مثل البٌعة والطاعة‬
‫العمٌاء لـ"األستاذ األعظم"‪ ،‬وعدم النقاش والمجادلة‪ ،‬والقسم على السبلح (بجانب المصحؾ)‪ ،‬وأال ٌكون‬
‫هناك والء لوطن وال عابلة وال أي شًء فوق التنظٌم‪.‬‬

‫وهكذا ٌتضح أن تنظٌم اإلخوان المسلمٌن لٌس تنظٌما مصرٌا‪ ،‬ونشؤته لٌست مصرٌة‪ ،‬لم تخرجه هذه‬
‫(ٕ‪)ٔٙٙ‬‬
‫‪ -‬التارٌخ السري لجماعة اإلخوان المسلمٌن‪ ،‬علً عشماوي‪ ،‬ط ٕ‪ ،‬مركز ابن خلدون للدراسات اإلنمابٌة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٔ‪ ،9‬ومصر فً قصص‬
‫كتابها المعاصرٌن‪ ،‬جٖ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪٘9ٙ‬‬
‫(ٖ‪)ٔٙٙ‬‬
‫‪ -‬البحث عن الذات‪ ،‬محمد أنور السادات‪ ،‬المكتب المصري الحدٌث‪ ،‬طبعة خاصة‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ98ٓ ،‬ص ٖٔ‪ٖ٘ -‬‬
‫(ٗ‪)ٔٙٙ‬‬
‫‪ -‬مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن‪ ،‬جٖ‪ ،‬ص ‪٘8ٙ‬‬
‫(٘‪)ٔٙٙ‬‬
‫‪ -‬التارٌخ السري لجماعة اإلخوان المسلمٌن‪ ،‬علً عشماوي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪9 -8‬‬
‫(‪)ٔٙٙٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٔٔ‬

‫ٕٓ‪ٙ‬‬
‫األرض الطٌبة أبدا‪ ،‬بل هو امتداد لفكر عالمً قدٌم‪ ،‬وبلوره فً شكل تنظٌمً واضح مستوطنون أجانب‬
‫مثل األفؽانً ثم رشٌد رضا ومحب الدٌن الخطٌب وؼٌرهم‪ ،‬وتورط فً حباله مصرٌون تابهون عن هوٌتهم‬
‫الحقٌقة‪ ،‬فبعد أن كانت هوٌتهم (أي المصرٌة) التً نبتتها األرض المصرٌة تقضً بؤن قدسٌة وعمار مصر‬
‫هو طرٌق إلى هللا‪ ،‬وبعدم العدوان على أراضً وحضارات الؽٌر ما لم تعت ِد على مصر‪ ،‬هانت علٌهم‬
‫أنفسهم لٌنضوا إلى تنظٌم ٌقوده شخصٌة مثل حسن البنا ٌتعامل مع مصر كمجرد والٌة تابعة‪ ،‬وٌقول فً‬
‫"رسابل البنا" تحت عنوان "حق اإلنسانٌة" إن تنظٌم اإلخوان مؤمور بنشر دعوته بٌن الناس بالحجة‬
‫والبرهان "فإن أبوا إال العسؾ والجور والتمرد فبالسٌؾ والسنان"‪ ،‬مرددا بٌت الشعرر(‪:)ٔٙٙ9‬‬

‫فالحرب أجدى على الدنٌا من السلم‬ ‫والناس إذ ظلموا البرهان واعتسفوا‬

‫▼▼▼ الؽزو الشٌوعً لمصر‬

‫ال تبتعد الشٌوعٌة عن الماسونٌة واللٌبرالٌة والطرق الصوفٌة واإلرشالٌات التبشٌرٌة وتنظٌم اإلخوان‬
‫المسلمٌن‪ ،‬بل هً مثلهما صورة من صور تنظٌمات السٌطرة على العالم لصالح فبة قلٌلة تفرض نفسها‬
‫على بقٌة الشعوب بكل وسٌلة‪.‬‬

‫فتشترك الشٌوعٌة مع التنظٌمات السابقة فً‪ :‬فكرة العالمٌة‪ ،‬التنظٌم فوق الوطن‪ ،‬الطاعة العمٌاء لزعماء‬
‫التنظٌم‪ ،‬العمل المسلح إن لزم األمر‪ ،‬تفضٌل األجانب على أوال البلد إن كان األجنبً من نفس التنظٌم‪،‬‬
‫ؼرس الصراع بٌن أبناء البلد‪ ،‬وإن كانت تستخدم كلمة "رفٌق" بدال من "األخ" فً وصؾ أعضاء التنظٌم‪،‬‬
‫وتختلؾ عنهم فً أن المحافل الماسونٌة واللٌبرالٌة مخصصة لمخاطبة الحكام واألؼنٌاء ونجوم المجتمع‪،‬‬
‫والتنظٌ مات السلفٌة واإلخوان المسلمٌن مخصصة لمخاطبة ذوي النزعة الدٌنٌة فقراء كانوا أم أؼنٌاء‪ ،‬أما‬
‫الشٌوعٌة فمخصصة لمخاطبة الفقراء والعمال والمزارعٌن ومن تصفهم بالمهمشٌن‪.‬‬

‫والشٌوعٌة كما رآها كارل ماركس تقوم على خلق أو استؽبلل الصراع بٌن الطبقات‪ ،‬وفً رأٌه أن‬
‫العالم منذ نشؤته قابم على الصراع بٌن أبناء المجتمع ولٌس التكامل‪ ،‬وأن الحرٌة فً "التخلص من كل‬
‫األدٌان‪ ،‬ومن كل األمم أٌضا" إلقامة أمة واحدة(‪ ،)ٔٙٙ8‬وهو فً ذلك ٌمثل "إزفت" أو الثعبان عبّ (أبو فٌس)‪-‬‬
‫أي الصراع والفوضى‪ -‬المناقضة تماما لفكرة الدولة المصرٌة والمجتمع المتعاون المتآلؾ (ماعت)‪.‬‬

‫وعلى هذا نشرت الشٌوعٌة مصطلحات‪ ،‬الصراع بٌن األجٌال‪ ،‬الصراع بٌن العامل وصاحب العمل‪،‬‬
‫الصراع بٌن الفقٌر والؽنً‪ ،‬الصراع بٌن األدٌان‪ ،‬الصراع بٌن الشعب والدولة‪ ،‬إلخ‪ ،‬لخلق مناخ الكراهٌة‬
‫والفرقة البلزم إلشعال العمل المسلح‪ ،‬وبحسب تعبٌر ورد فً حوار داخل رواٌة "الحصاد" فالشٌوعٌون‬
‫"سٌاستهم هً أن ٌضعوا إصبعهم فً أي ثقب ٌجدونه لٌوسعوه‪ ،‬وأن ٌسكبوا الزٌوت على نار أٌة فتنة‬

‫‪ -‬رسابل حسن البنا‪ ،‬موقع إخوان وٌكً (الموقع الرسمً لتارٌخ اإلخوان المسلمٌن) ‪http://www.ikhwanwiki.com‬‬
‫(‪)ٔٙٙ9‬‬

‫(‪)ٔٙٙ8‬‬
‫‪ -‬للمزٌد عن آراء ماركس عن الدٌن والدولة والحضارات القدٌمة انظر‪ :‬كارل ماركس‪ ،‬جاك أتالً‪ ،‬مرجع سابق‬

‫ٕٔ‪ٙ‬‬
‫مشتعلة‪ ،‬ال تتحقق أهدافهم إال إذا عمَّت الفوضى"(‪.)ٔٙٙ9‬‬

‫ؼرست الشٌوعٌة بذورها فً مصر على ٌد فرنسٌٌن من تنظٌم "سان سٌمونٌن" جاءوا كعمال وخبراء‬
‫أٌام محمد علً‪ ،‬ثم تنظٌم الكاربوناري المسلح الذي جاء من إٌطالٌا بعد فشله فً إشعال ثورة بها‪ ،‬وفً‬
‫أواخر عصر إسماعٌل تؤسست فً اإلسكندرٌة‪ -‬التً عاش بها أعضاء الكاربوناري‪ -‬جمعٌة "مصر الفتاة"‪ -‬على‬
‫ؼرار "إٌطالٌا الفتاة" التً أسسوها فً ببلدهم‪ -‬وأؼلب أعضابها أجانب‪ ،‬إضافة إلى مصرٌٌن‪ ،‬ؼرضها القضاء‬
‫على إسماعٌل القضاء المبرم‪ -‬رؼم أنها جمعٌة أجنبٌة‪ -‬ومارست دورها تحت ستارة محاربة االستبداد والفساد‬
‫وحكم الفرد واالقتداء بالثورة الفرنسٌة‪.‬‬

‫وفً ‪ٔ898‬هبط على اإلسكندرٌة جوزٌؾ روزنتال‪ٌ ،‬هودي من روسٌا‪ ،‬اشتؽل فً الذهب‪ ،‬وشارك مع‬
‫حسنً العرابً فً تؤسٌس الحزب الشٌوعً ٖٕ‪ ٔ9‬مستؽبل زٌادة عدد العمال فً مصر مع كثرة المشارٌع‬
‫األجنبٌة‪ ،‬سوا عمال مصرٌٌن ٌعانون المظالم‪ ،‬أو عمال أجانب ٌطمعون فً أخذ امتٌازات أكبر مما وفرتها‬
‫لهم قناصل دولهم‪ ،‬كما استؽل الحزب معاناة الفبلحٌن من بطش المستولٌن على األراضً‪ ،‬وقدم نفسه‬
‫محاربا لبلحتبلل الرأسمالً المستؽل‪ ،‬وأظهر الحزب تبعٌته لبلتحاد السوفٌتً ومشروع الدولة االشتراكٌة‬
‫العالمٌة صراحة بؤن أعلن قادته سنة ٕٕ‪ ٔ9‬حٌن كان ٌحمل اسم الحزب االشتراكً انضمامه‬
‫لـ"الكومنترن" (تنظٌم ٌضم فً عضوٌته كل األحزاب الشٌوعٌة فً العالم لتوحٌد سٌاساتها)‪ ،‬وفً برنامجه‬
‫التؤسٌسً وضع بند صرٌح بـ‪":‬االعتراؾ بحكومة الجمهورٌة الروسٌة"‪ ،‬ولم ٌتضمن دوال ؼٌرها فً القسم‬
‫الخاص بالعبلقات الدولٌة(ٓ‪.)ٔٙ9‬‬

‫فلمس الحزب المشاعر المعذبة للفبلحٌن فجذب إلٌه مصرٌٌن مخلصٌن ٌسعون فعبل لتخلٌص الفبلحٌن‬
‫من محتلٌهم‪ ،‬وهم ال ٌدركون أن من وراء الستار ٌقبع محتل جدٌد ٌنتظرهم وهو المحتل السوفٌتً أو أي‬
‫كٌان ٌمثل دولة االشتراكٌة العالمٌة‪ ،‬ومن ورابها تنظٌم النارٌٌن والحكومة العالمٌة الواحدة‪.‬‬

‫ومن أشهر الشخصٌات األجنبٌة المستوطنٌة التً نشرت الفكر الشٌوعً فً مصر هنري كورٌٌل‪ ،‬وهو‬
‫شق طرٌقه بٌن المصرٌٌن من بوابة إعبلنه مناصرة الحركة الوطنٌة ضد اإلنجلٌز‪.‬‬

‫وٌسلط كتاب "هنري كورٌٌل‪ -‬األسطورة والوجه اآلخر" للدكتور حسٌن كفافً الضوء على مشوار هذا‬
‫الوافد الؽامض‪ ،‬أظهر األسالٌب الخبٌثة اللً اتبعها كورٌٌل فً نشر أفكاره وسط المصرٌٌن‪ ،‬وٌعترؾ بؤنه‬
‫استؽل وطنٌتهم ألؼراضه الصهٌونٌة‪ ،‬وٌقول إن هنري ابن الملٌونٌر دانٌال كورٌٌل من أسرة ٌهودٌة منسوبة‬
‫إلٌطالٌا‪ ،‬هبطت على مصر كبلجبة فً عهد محمد علً‪ ،‬واستفادت من االمتٌازات األجنبٌة ومن ولع بعض حكام‬
‫األسرة العلوٌة بكل ما هو أوروبً‪ ،‬وصارت من كبار المرابٌن الٌهود (من أتباع روتشٌلد)‪ ،‬حتى أسست بنكا‬
‫خاصا هو بنك الرهونات الشهٌر فً شارع الشواربً وسط القاهرة‪ ،‬مستؽلة انتشار الٌهود تحت الجلد‪،‬‬
‫(‪)ٔٙٙ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن‪ ،‬محمد جبرٌل‪ ،‬ج ٖ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ ،ٙٓ9‬ورواٌة الحصاد تؤلٌؾ عبد الحمٌد جودة السحار‬
‫(ٓ‪)ٔٙ9‬‬
‫‪ -‬لمزٌد من المعلومات عن نشؤة الحزب الشٌوعً انظر‪ :‬تارٌخ الحركة الشٌوعٌة فً مصر من ٓٓ‪ ،ٔ9ٗٓ -ٔ9‬رفعت السعٌد‪ ،‬والحركة‬
‫الشٌوعٌة فً مصر من ٕٔ‪ ٔ9‬إلى ثورة ٌناٌر ٕٔٔٓ‪ٌ ،‬وسؾ محمد‪ ،‬كتاب إلٌكترونً ‪https://www.slideshare.net/thisispyramid/ss-‬‬
‫‪ٖ9ٔ٘ٗ9ٖ9‬‬

‫ٕٕ‪ٙ‬‬
‫ٌشكلون أعٌنا ترصد أي حركة(ٔ‪.)ٔٙ9‬‬

‫وفً هذا الجو ولد هنري كورٌٌل ٗٔ‪ ٔ9‬وعاش فً قصر والده المنٌؾ فً حً الزمالك‪ ،‬المبنً من‬
‫الربا المنزوع من الفبلحٌن‪ ،‬والملًء بالخدم والحشم‪ ،‬وفً نفس الوقت ٌتقرب من الفقراء المصرٌٌن وٌذهب‬
‫لقراهم وحاراتهم بالرؼم من أنه ورث مهنة والده فً بنك الرهونات‪ ،‬فكان ٌصادقهم وٌواسٌهم‪ ،‬فؤسر قلوب‬
‫الكثٌر من أبناء الطبقة الكادحة التً توهمت فٌه التواضع والتمصر(ٕ‪ ،)ٔٙ9‬واستؽل قصرا آخر لوالده فً‬
‫عزبة بٌن محافظتً بنً سوٌؾ والفٌوم فً عمل االجتماعات السرٌة بعٌدا عن أعٌن األمن‪.‬‬

‫فً ذلك الوقت‪ ،‬كان الشباب المتعلم المصري ٌتلطم فً خضم أمواج بحر الحٌرة العاتٌة القاسٌة‪ ،‬بسبب‬
‫كثرة التٌارات التً تضرب أمواجها عقله فً الجامعة والمساجد والصالونات والصحؾ والمظاهرات‪،‬‬
‫خاصة بعد وفاة القدوة سعد زؼلول وتفرغ حزب الوفد للمناكفات الحزبٌة مع منافسٌه‪ ،‬فانجذب بعضهم‬
‫لدعوة أن الرجوع لمنابع حضارة مصر هو المخلص‪ ،‬وبعضهم جذبه فكر اإلخوان "المسلمٌن" بؤن الرجوع‬
‫للخبلفة اإلسبلمٌة هو المخلص‪ ،‬والبعض ذهب إلى أن التفاوض مع اإلنجلٌز والضؽط علٌهم بالمظاهرات‬
‫هو المخلص‪ ،‬وانجذب آخرون لفكرة أن الشٌوعٌة التً تحارب الرأسمالٌة واإلمبرٌالٌة بتحرٌك الفقراء‬
‫والكادحٌن وبالعمل المسلح هً المخلص‪.‬‬

‫والتٌار األخٌر هو مهمة كورٌٌل‪ ،‬فش َّك ل الخبلٌا الشٌوعٌة فً سرٌة تامة‪ ،‬خبلٌا للعمال وخبلٌا للطلبة وخبلٌا‬
‫للموظفٌن وخبلٌا للضباط‪ ،‬بل وش ًّكل خبلٌا مخصوصة للنوبٌٌن (تؤمل!)‪ ،‬وكل خلٌة ال تعرؾ أسماء الخبلٌا‬
‫األخرى"(ٖ‪ .)ٔٙ9‬والهدؾ مزدوج‪ ،‬وهو نشر الفكر الشٌوعً الهدام بٌن المصرٌٌن‪ ،‬وابتزاز اإلنجلٌز كً ال‬
‫ٌتراجعوا عن دعم الصهٌونٌة أو إقامة دولة إسرابٌل‪ ،‬فكورٌٌل من رعاة الحركات الصٌهونٌة اإلرهابٌة مثل‬
‫"اشترن" و"الهجاناه" الذٌن تسرب أعضاءهم لمصر باسم الجا وعامل ومهاجر‪ ،‬وقال عنهم كفافً إنهم‬
‫كانوا ٌتدربون فً صحراء حلوان وٌتابعهم كورٌٌل‪.‬‬

‫وٌصؾ الكاتب األسلوب الناعم لكورٌٌل فً تجنٌد الشباب المصري فً قصر والده وهو ٌقول إنه نصب‬
‫الشباك الصطٌاد أعضاء جدد لٌسقطوا فٌها كالؽزالن الودٌعة‪ ،‬واعتمد فً صٌده هذا على مخاطبة فرابسه‬
‫بشعارات نشر السبلم‪ ،‬والتروٌج ألنشطة حركة "أنصار السبلم"‪ ،‬والتحرٌر من ربقة االحتبلل‪ ،‬وتقدٌم نفسه‬
‫محبا للوطن (مصر)‪ ،‬وهذا فٌما كان ٌصؾ نفسه فً األوراق التً كتبها و ُنشرت بعد وفاته بؤنه "ٌهودي‬
‫إٌطالً"‪ ،‬وفرنسا التً تلقى تعلٌمه بها هً "الوطن الوحٌد الذي أشعر باالرتباط به"(ٗ‪.)ٔٙ9‬‬

‫ومن بصمات الفكر الٌهودي على الحركة الشٌوعٌة أنه رؼم استهدافها العمال والبسطاء إال أنها جلبت‬
‫إلٌهم داء اإلؼراق فً المناقشات النظرٌة‪ ،‬والدخول فً خبلفات أٌدٌولوجٌة مصطنعة لم ٌتعودها‬

‫(ٔ‪)ٔٙ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬هنري كورٌٌل‪ -‬األسطورة والوجه اآلخر‪ ،‬د‪ .‬حسٌن كفافً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕ8 -ٕ9‬‬
‫(ٕ‪)ٔٙ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪8-9‬‬
‫(ٖ‪)ٔٙ7‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪9‬‬
‫*** وكان ؼرٌبا أن ٌتجه فً ذلك إلى النوبٌٌن وٌتعامل معهم فً كٌان بعٌد عن بقٌة المصرٌٌن‪ ،‬و ٌُالحظ اتجاه الحركات الحقوقٌة والٌسارٌة إلى‬
‫النوبة إلثارة سخطها على المجتمع والحكومة حتى الٌوم كما ظهر قبل وبعد فوضى ٕٔٔٓ‪.‬‬
‫(ٗ‪)ٔٙ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬صٔٔ وٖٗ‬

‫ٖٕ‪ٙ‬‬
‫المصرٌون (على نمط دوامات الجدل النظري اإلؼرٌقً والبٌزنطً) دون االهتمام بالنضال السٌاسً بشكل‬
‫حقٌقً‪ ،‬حتى ٌبدو األمر كله‪ -‬بتعبٌر كفافً‪ -‬كؤنه سٌنارٌو معد مسبقا‪.‬‬

‫وأنشؤ مكتبة المٌدان سنة ٔٗ‪ ٔ9‬لٌروج عبرها للكتب الشٌوعٌة والصهٌونٌة‪ ،‬لٌزٌد من شوشرة العقل‬
‫المصري‪ ،‬وأسس مع زمبلبه الٌهود الحركة المصرٌة للتحرٌر الوطنً "حمتو" والحركة السودانٌة للتحرر‬
‫الوطنً "حستو"‪ ،‬رافعا شعار مكافحة اإلمبرٌالٌة‪ ،‬وأسس ٌهودي آخر هو مارسٌل إسرابٌل ٔٗ‪ ٔ9‬منظمة‬
‫"تحرٌر الشعب"‪ ،‬والٌهودي القادمة أسرته من رومانٌا هلل شوارتز باسم الجبٌن فارٌن من الحرب العالمٌة‬
‫األولى أسس تنظٌم "إسكرا"‪ ،‬أي الشرارة(٘‪.)ٔٙ9‬‬

‫وٌبدو أن انضمام بعض المتعلمٌن المصرٌٌن إلى الشٌوعٌة جاء بعد أن أعجبتهم "الرطانة الماركسٌة"‪-‬‬
‫بحسب تعبٌر كفافً‪ -‬والتعبٌرات الجدٌدة مثل برولٌتارٌا وبرجوازٌة‪ ،‬أو من باب الخروج عن روتٌن‬
‫حٌاتهم الطبقٌة واالستمتاع برٌاضة ذهنٌة جدٌدة‪ ،‬وكفرصة لبللتحاق بالجالٌات األجنبٌة التً كانوا ٌنبهرون‬
‫بها(‪ ،)ٔٙ9ٙ‬واألخطر أن الشعارات الشٌوعٌة جذبت بعض ضباط الجٌش‪ ،‬مثل أحمد حمروش‪ ،‬وخالد محًٌ‬
‫الدٌن‪ ،‬وٌوسؾ صدٌق‪ ،‬خاصة بعد رفعها شعارات رفض االحتبلل اإلنجلٌزي(‪.)ٔٙ99‬‬

‫ؼٌر أن أعضاء مصرٌون لمسوا التناقض بٌن شعارات الشٌوعٌة عن الفقراء وتحرر الشعوب‪ ،‬وبٌن‬
‫تشجٌع القٌادات الشٌوعٌة للسٌطرة األجنبٌة الٌهودٌة فً مصر‪ ،‬فبتشكٌل االتحاد الشٌوعً من التنظٌمات‬
‫الشٌوعٌة المتفرقة رأى شهدي الشافعً أنه لٌس من المنطقً أن تكون قٌادة التنظٌم المفروض أنه ٌخدم‬
‫الحركة الوطنٌة أجنبٌة‪ ،‬بل ومن الٌهود‪ ،‬فطرده كورٌٌل ‪ ٔ9ٗ8‬هو وآخرٌن اتفقوا مع رأٌه‪ ،‬ووصفهم‬
‫بـ"الشٌفونٌة"‪ ،‬وقبض البولٌس على شهدي‪ ،‬وتحوط الشكوك بدور لكورٌٌل فً القبض علٌه(‪.)ٔٙ98‬‬

‫▼▼▼ الؽزو العربً الثانً لمصر (القومٌة العربٌة)‬

‫مدح إبراهٌم طالب األزهر أمه فً القرٌة بؤبٌات شعر بالعربٌة الفصحى لم تفهم منها شٌبا‪ ..‬فقالت له‪:‬‬

‫‪ٌ -‬ا إبراهٌم‪ ..‬كلمنً بالفبلحً ٌا ابنً‬

‫‪ -‬حاضر ٌامَّه‬

‫(٘‪)ٔٙ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬هنري كورٌٌل‪ -‬األسطورة والوجه اآلخر‪ ،‬حسٌن كفافً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔ٘‪ ٕ٘ -‬ؤ‪ ٙ‬وٕ‪9‬‬
‫(‪)ٔٙ9ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٓ‪9ٔ -9‬‬
‫(‪)ٔٙ77‬‬
‫‪ -‬تشتت بعض ضباط الجٌش ما بٌن الشٌوعٌة و"اإلخوان المسلمٌن" والماسونٌة والقومٌة العربٌة‪ ،‬إضافة إلى من كان فٌهم منتمٌا ألحزاب‬
‫كالوفد أو ألحزاب تابعة للملك‪ ،‬وهو ما كان ٌهدد بتمزٌق وحدة الجٌش وتحوٌله إلى جماعات وأحزاب متناحرة ال تجمعها مصلحة الوطن‪ ،‬لوال قٌام‬
‫ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘‪ ٔ9‬التً أوقفت لحد كبٌر هذه الشروخات‪.‬‬
‫(‪)ٔٙ78‬‬
‫‪ -‬هنري كورٌٌل‪ -‬األسطورة والوجه اآلخر‪ ،‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٔٔ8 -ٔٔ7‬‬
‫*** والشٌوفنٌة كلمة ٌطلقها التابعون لتٌارات تدعو لفكرة الحكومة العالمٌة على اإلنسان حٌن ٌكون وطنٌا وٌرى أن وطنه فوق الجمٌع‪ ،‬وٌرفض‬
‫سٌطرة األجانب علٌه‪ ،‬مثلما تصفهم الماسونٌة بالعنصري والمتعصب وضٌق األفق إلرهابه وإسكاته عن الدفاع عن وطنه‪ ،‬وذلك بالرؼم من أن هذه‬
‫التٌارات نفسها تقوم على فكرة "الو الء التام" من أعضابها للحزب أو التنظٌم الخاص بها لدرجة قد تصل لقتل أو حبس من ٌتمرد علٌها‪ ،‬وتلقٌنهم‬
‫أن هذا التٌار هو "الوحٌد" الذي ٌستحق الوجود وحكم العالم‪.‬‬

‫ٕٗ‪ٙ‬‬
‫ومدحها بالفبلحً‪ ،‬ففهمت‪ ،‬وفرحت‪ ،‬ودعت له(‪.)ٔٙ99‬‬

‫لم ٌكن عدم فهم أم إبراهٌم الرٌفٌة للؽة العربٌة الفصحى‪ -‬فً النصؾ األول من القرن العشرٌن‪ -‬ألنها‬
‫"جاهلة" كما ٌصفها البعض‪ ،‬بل ألنها كانت ال تزال على فطرتها الفبلحً‪ ،‬وتتحدث بما بقً على لسانها من‬
‫لؽتها المصرٌة األصلٌة‪ ،‬وما تكالب علٌها من ألفاظ جلبتها جٌوش االحتبلل‪ٌ ،‬ونانً ورومانً وعربً‬
‫وفارسً وعثمانً‪ ،‬ولم تكن تعرؾ العربٌة الفصحى‪ ،‬تلك التً ظلت قاصرة على دوابر الحكم والمعامبلت‬
‫التجارٌة فً المدن ثم فً األزهر لمبات السنٌن قبل أن تعشش فً الرٌؾ فً وقت متؤخر‪.‬‬

‫فلما جاء تٌار القومٌة العربٌة لٌقول للمصرٌٌن إنكم عرب بدلٌل تحدثكم باللؽة العربٌة لم ٌكن ٓ‪ %9‬من‬
‫المصرٌٌن ٌفهمون العربٌة الفصحى‪ ،‬بل وال معنى كلمة العربٌة الفصحى نفسها‪ ،‬وٌسمونها "النحوي"‪ ،‬وما‬
‫ٌعتبره لؽة عربٌة هً لؽته الفبلحً (العامٌة المصرٌة)‪ ،‬وما سواها أجنبً‪.‬‬

‫وفً فٌلم "السفٌرة عزٌزة"‪ ،‬تكلم األزهري األستاذ َح َكم مع الجزار عباس باللؽة العربٌة الفصحى‪،‬‬
‫فصرخ عباس فً وجهه‪ٌ" :‬ا جدع إنت كلمنً بالعربً"‪ ،‬فرد األزهري‪" :‬وهل أتحدث بالبلوندي؟!(ٓ‪.")ٔٙ8‬‬

‫وانطوى النصؾ األول من القرن العشرٌن ومعظم أهل الرٌؾ ال ٌعرفون لكلمة عرب معنى إال هإالء‬
‫العربان الذٌن كانوا ٌهاجمون بؤسلحتهم وخٌولهم وجمالهم وسط عاصفة من التراب‪ ،‬ملثمٌن أحٌانا‪ ،‬قراهم‬
‫الودٌعة كقطٌع الذباب الجابعة‪ٌ ،‬نهبون محصولها وحٌواناتها وٌقتلون رجالها لو قاوموهم‪ ،‬أو هإالء العربان‬
‫الذٌن ما زالوا ٌجوبون صحارى مصر بحثا عن ؼنٌمة هنا أو هناك‪ ،‬أو العرب المستوطنٌن من العمد‬
‫ومشاٌخ القرى الذٌن كان بعضهم‪ -‬حتى ذلك الوقت‪ٌ -‬سٌبون للفبلحٌن‪ ،‬وٌتسلطون علٌهم ببلطجة السبلح‬
‫والسلطة‪ ،‬وٌترفعون عن وصؾ نفسهم بكلمة فبلح‪ ،‬مستندٌن على الثروة الفاحشة واألرض الشاسعة التً‬
‫نهبوها فً عصر سابق بصفقات مع الوالً أو الخدٌوي‪ ،‬وبعضهم مستوطن منذ أمد طوٌل‪ ،‬لكنهم‪ -‬بتعبٌر‬
‫طه حسٌن كما سنرى‪ -‬ما زالوا ٌعٌشون بروح الؽزاة‪.‬‬

‫كانت حركة تؽٌٌر هوٌات الدول على أشدها فً بداٌة القرن ٕٓ كما رأٌنا فً صفحات سابقة‪ ،‬ورؼم أنه‬
‫ٌطلق على تلك الفترة "عصر نضوج القومٌات" فً أوروبا‪ ،‬فإنه الواقع ٌقول إنها عصر "تذوٌب القومٌات"‬
‫فً مصر والشرق األوسط‪ ،‬وإفشال االستقبلل الحقٌقً لكل دولة بربطها بتٌارات عالمٌة أو إقلٌمٌة‪ ،‬ومنها‬
‫القومٌة العربٌة‪.‬‬

‫أعلن صناع القومٌة العربٌة أن هدفهم أن تصٌر المنطقة "تكتبل قوٌا" ضد االستعمار‪ ،‬ولكن اتضح أن‬
‫الهدؾ الحقٌقً أال تقوم لبلدان المنطقة قومة أبدا‪ ،‬ألن شعوبها باتت مشتتة بٌن عدة تٌارات متصارعة‪ ،‬كلها‬
‫تدعوها للتكتل والعالمٌة‪ ،‬وانتهى األمر بؤن معظمها ال أصبح دولة قومٌة لها شخصٌة قوٌة وواضحة‪ ،‬وال‬
‫أصبح ضمن تكتل إقلٌمً أو عالمً قوي وواضح‪.‬‬

‫(‪)ٔٙ79‬‬
‫‪ -‬مشهد من مسلسل "أدٌب" تؤلٌؾ طه حسٌن‪ ،‬سٌنارٌو وحوار محمد جالل عبد القوي‪ ،‬إخراج ٌحًٌ العلمً‪ ،‬تمثٌل‪ :‬نور الشرٌؾ‪ ،‬أمٌنة‬
‫رزق‬
‫(ٓ‪)ٔٙ8‬‬
‫‪ -‬فٌلم السفٌرة عزٌزة‪ ،‬تؤلٌؾ أمٌن ٌوسؾ ؼراب‪ ،‬إخراج طلبة رضوان‪ ،‬تمثٌل‪ :‬شكري سرحان‪ ،‬سعاد حسنً‪ ،‬عدلً كاسب‪ ،‬عبد المنعم إبراهٌم‬

‫ٕ٘‪ٙ‬‬
‫ورد أحمد لطفً السٌد على دعاة الوحدة اإلسبلمٌة والعربٌة فً عصره بقوله‪" :‬لم ٌؤت لنا الماضً بمثل‬
‫واحد ٌدلنا على أن أمة من أمم العالم ساعدت مصر وحمتها من المصابب التً كان ٌجرها علٌها طمع‬
‫األقوٌاء فً ثروتها وفً مركزها الجؽرافً النادر المثال"(ٔ‪.)ٔٙ8‬‬

‫و رؼم مبات الكتب حول تارٌخ هذه الدعوة‪ ،‬إال أن كثٌرا منا ما زال ٌنسبها إلى الربٌس جمال عبد الناصر‪،‬‬
‫وٌمدحه فً هذا أو ٌذمه‪ ،‬وٌحملونه كافة التبعات التً حلت بمصر والمنطقة بسببها‪.‬‬

‫والذي حصل أن عبد الناصر وجٌله لم ٌكونا إال "ضحٌة لها"‪ ،‬و"ورٌث" لمٌراث "عروبً" بدأ قبل‬
‫ناصر بـ ٓٓٔ سنة‪ ،‬أقحمه الشوام فً مصر وتبناه حزب الوفد ومثقفون فً الثبلثٌنات؛ فتسببوا فً انحراؾ‬
‫ثورة ٕ٘‪ ٔ9‬عن مسارها المؤمول‪ ،‬مسار استكمال كفاح األجداد فً أن تعود "مصر للمصرٌٌن"‪.‬‬

‫أما خطٌبة عبد الناصر وجٌله فهً أنهم ضاعفوا هذا المٌراث الثقٌل ونشروه فً كل األرجاء؛ ظنا أن‬
‫القومٌة العربٌة وسٌلة لتقوٌة شعوب المنطقة ضد الكتلتٌن الشرقٌة (االتحاد السوفٌتً) والؽربٌة (أوروبا‬
‫وأمرٌكا)‪ ،‬ولم ٌعطوا ألنفسهم فرصة للبحث عن حقٌقة هذه الدعوة وأصولها األجنبٌة وأهدافها البعٌدة‪.‬‬

‫وبحسب اللبنانً جورج أنطونٌوس‪ -‬وهو من مإسسً القومٌة العربٌة وٌُعرؾ بؤنه أول مإرخ لها‪ -‬فً كتابه‬
‫"ٌقظة العرب‪ :‬تارٌخ حركة القومٌة العربٌة" الصادر أول طبعة ‪ ٔ9ٖ9‬فإن أول جهد منظم لهذه الدعوة بدأ‬
‫٘‪ ٔ89‬كحركة مضادة لبلحتبلل العثمانلً حٌن تؤسست جمعٌة سرٌة فً بٌروت من ٘ مسٌحٌٌن درسوا فً الكلٌة‬
‫البروتستانتٌة السورٌة ببٌروت (بعثة تبشٌرٌة أمرٌكٌة تحولت إلى الجامعة األمرٌكٌة)‪ ،‬ثم أدركوا أهمٌة ضم‬
‫طوابؾ أخرى كالمسلمٌن والدروز‪ ،‬واستعانوا بالمحفل الماسونً هناك(ٕ‪.)ٔٙ8‬‬

‫بٌن األقارب‬ ‫واستعانوا فً نشر أفكارهم بلصق المنشورات لٌبل على الجدران‪ ،‬ونشر الدعوة همسا‬
‫أحد مإسسً‬ ‫واألصدقاء وفً التجمعات؛ خوفا من عٌون العثمانلً‪ ،‬ونقل أنطونٌوس هذه المعلومات عن‬
‫وفٌها أصدر‬ ‫الجمعٌة السرٌة وهو فارس نمر (صهر أنطونٌوس)‪ ،‬وهاجر نمر إلى مصر سنة ٖ‪،ٔ88‬‬
‫كان مإسسو‬ ‫صحٌفة "المقطم" لسان حال االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬وصحٌفة "المقتطؾ"‪ -‬كما تابعنا‪ -‬وهكذا‬
‫حركة القومٌة العربٌة هم أنصار للماسونٌة واالحتبلل البرٌطانً فً مصر‪.‬‬

‫ومنذ ذلك التارٌخ ومصر بالنسبة للقومٌٌن العرب من الشام مشروع تجاري رابح لخدمة أهدافهم هم‬
‫ومن ٌحركهم‪ ،‬فإن كان تؤٌٌدهم لمصر ضد احتبلل ما (كالعثمانلً) ٌفٌدهم أٌدوها‪ ،‬وإن كان بٌع مصر‬
‫لبلحتبلل (كاإلنجلٌزي) ٌفٌدهم باعوها‪.‬‬

‫واقتصرت منشورات الحركة فٌما ٌخص مفهوم "القومٌة العربٌة" على المناطق الشامٌة‪ ،‬داعٌة إٌاها‬
‫للوحدة على أساس الهوٌة العربٌة للتخلص من العثمانلً‪ ،‬وتذكٌر العرب بؤمجادهم‪ ،‬وبؤن األتراك اؼتصبوا‬

‫(ٔ‪)ٔٙ8‬‬
‫‪ -‬مبادئ فً السٌاسة واألدب واالجتماع‪ ،‬أحمد لطفً السٌد‪ ،‬تعلٌق طاهر الطناحً‪ ،‬دار الهبلل‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ9ٖٙ ،‬ص ‪ٕٔ8 -ٕٔ9‬‬
‫(ٕ‪)ٔٙ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ٌ" :‬قظة العرب‪ -‬تارٌخ حركة العرب القومٌة"‪ ،‬جورج أنطونٌوس‪ ،‬ترجمة ناصر الدٌن األسد وإحسان عباس‪ ،‬ص ‪ٕٔ٘ -ٔٗ9‬‬

‫‪ٕٙٙ‬‬
‫منهم الخبلفة‪ ،‬والدعوة إلى االتحاد بٌن سورٌا وجبل لبنان(ٖ‪ ،)ٔٙ8‬ثم تطورت فً نهاٌة القرن ‪ ٔ9‬وأوابل الـ‬
‫ٕٓ إلى االتحاد بٌن سورٌا ولبنان والعراق‪ ،‬وفً مرحلة أخرى بٌن هإالء والحجاز‪ ،‬وفً النهاٌة شملت كل‬
‫هإالء ومصر وشمال أفرٌقٌا‪.‬‬

‫فالحركة العربٌة فً بداٌتها كانت تركز على إحٌاء "مجد" الشام الؽابر حٌن كانت الخبلفة فً دمشق‪،‬‬
‫وذلك للتحرر من نٌر االحتبلل العثمانلً‪ ،‬وهو المجد الذي كان قابما على احتبلل العرب لبقٌة ببلد المنطقة‪،‬‬
‫ومنها مصر‪ ،‬ال بوحدة اختٌارٌة وإنما الضم بالسٌؾ‪ ،‬هدفها لٌس تقوٌة بعض‪ ،‬بل نزح الثروات‪ ،‬وعومل‬
‫فٌها المصرٌٌن كمؽلوبٌن أمام الؽازي الؽالب‪ ،‬وتسموا بؤهل الذمة وبالموالً‪ ،‬ولٌس إخوة متساوٌن مع‬
‫الؽازي فً الحقوق والواجبات‪.‬‬

‫وعرض مإرخو القومٌة العربٌة أسبابا أخرى الختٌار الشام بالذات لرمً بذور دعوة القومٌة العربٌة‬
‫فٌها‪ ،‬منها‪ :‬نشاط اإلرسالٌات األوروبٌة واألمرٌكٌة التبشٌرٌة فٌها الهادفة إلى ضم الشام إلى النفوذ الؽربً‬
‫بعد استقبللها عن العثمانٌٌن‪ ،‬ووجود نسبة كبٌرة من المسٌحٌٌن بٌن السكان المحتقنٌن من معاملتهم كؤهل‬
‫ذمة فً ظل االحتبلل العثمانلً‪ ،‬وافتقاد الشام لهوٌة وطنٌة واحدة لتعدده ما بٌن عربً وكردي وسرٌانً‬
‫وأعراق أخرى‪ ،‬ومسلم ومسٌحً ودرزي‪ ،‬وتارٌخ ورابهم لٌس فٌه وحدة وطنٌة‪ ،‬بل إمارات متنافسة‬
‫ومنفصلة طوال التارٌخ‪ ،‬فبحثوا عن ثوب ٌلبسونه جمٌعا ٌؽطً ؼٌاب الروح الوطنٌة فوجدوه فً اختراع‬
‫سموه "العروبة"‪.‬‬

‫وفٌما ٌخص دور اإلرسالٌات التبشٌرٌة‪ ،‬قال أنطونٌوس إن البعثتٌن التبشٌرٌة الفرنسٌة الكاثولٌكٌة‬
‫الٌسوعٌة واألمرٌكٌة البروتستانتٌة (اإلنجٌلٌة) قُدر لهما أن "تحضنا البعث العربً وترعٌاه(ٗ‪.)ٔٙ8‬‬

‫وبفعل بعثات التبشٌر البروتستانتٌة فً الشام تم تعرٌب اإلنجٌل بترجمته للؽة العربٌة فً القرن ‪،ٔ9‬‬
‫وصارت الصلوات تتلى فً الكناٌس بالعربٌة‪ ،‬وهذا بعدما كانت بالسرٌانٌة‪ ،‬وذلك إلبادة اللؽات القومٌة‬
‫المحلٌة ودمج أهل الشام فً لؽة تخدم هدؾ القومٌة العربٌة وهً اللؽة العربٌة الفصحى‪.‬‬

‫واعتبر العراقً‪ -‬السوري هانً الهندي‪ ،‬من رواد الجٌل الثالث أو الرابع للقومٌة العربٌة‪ ،‬فً كتابه "الحركة‬
‫القومٌة العربٌة فً القرن العشرٌن" أ ن هذا "أول انتصار فعلً للقومٌة العربٌة؛ إذ أصبحت العربٌة لؽة الصبلة"‪.‬‬

‫وضمن الشوام المسٌحٌٌن الذٌن أخذوا على عاتقهم التؽنً باألمجاد واللؽة العربٌة بطرس البستانً‬
‫(‪ ،)ٔ88ٖ -ٔ8ٔ9‬وناصٌؾ الٌازجً (ٓٓ‪ ،)ٔ89ٔ -ٔ8‬وخاطب ابنه إبراهٌم الٌازجً المسلمٌن‬
‫والمسٌحٌٌن بحماسة تخطؾ القلوب‪ ،‬وهو ٌلقً قصٌدته "أفٌقوا ٌا عرب"‪ ،‬داعٌا إٌاهم أن ٌتركوا التعصب‬
‫الدٌنً وٌكونوا "إخوانا متآلفٌن" بتراثهم "العربً المشترك"‪ ،‬وجاء بروح التعرٌب هذه لٌبثها فً عروق‬
‫مصر سنة ٗ‪ ٔ89‬رؼم أن مصر لم تكن مشكلتها طابفٌة وعرقٌة حٌنها كمشاكل الشام‪ ،‬بل مشكلتها أن‬

‫(ٖ‪)ٔٙ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٖ٘ٔ‪ٔ٘٘ -‬‬
‫(ٗ‪)ٔٙ8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪99‬‬

‫‪ٕٙ7‬‬
‫قومٌتها التارٌخٌة مختنقة تحت ضؽط االحتبلالت‪.‬‬

‫أما البستانً فلقبه "المعلم" ألنه أول من أنشؤ قاموسا عربٌا عصرٌا‪ ،‬هو "محٌط المحٌط"‪ ،‬وأول من وضع‬
‫دابرة معارؾ ب العربٌة‪ ،‬واالثنان مدعومان من البعثات التبشٌرٌة األمرٌكٌة والٌسوعٌٌن الفرنسٌٌن بحسب هانً‬
‫الهندي(٘‪ ،)ٔٙ8‬وعن دوافع انضمام المسلمٌن‪ -‬الحقا‪ -‬لهذه الحركة فً الشام ثم العراق وجزٌرة العرب‪ ،‬فمنها‬
‫استعادة المجد الؽابر لببلدهم فً زمن الخبلفة‪ ،‬مستقوٌٌن فً ذلك بؤن الرسول كان عربٌا‪.‬‬

‫وفً بداٌة القرن ٕٓ َّ‬


‫ؼذت برٌطانٌا فكرة القومٌة العربٌة خبلل الحرب العالمٌة األولى لجذب مساعدة‬
‫العرب (فً الحجاز والشام) لها فً الحرب ضد تركٌا‪ ،‬ووعدت قٌادات هذه الببلد بمساعدتهم فً تؤسٌس‬
‫"الدولة العربٌة الكبرى" تتكون من الحجاز والشام برباسة حسٌن الهاشمً (الشهٌر بالشرٌؾ حسٌن) أمٌر‬
‫مكة‪ ،‬وساعدوها بالفعل فٌما سُمً بـ"الثورة العربٌة الكبرى" سنة ‪.ٔ9ٔٙ‬‬

‫ولم ٌكن لمصر اهتمام بالثورة العربٌة هذه‪ ،‬بل كان ٌنمو فٌها األمل فً إحٌاء القومٌة المصرٌة على ٌد‬
‫طه حسٌن وأحمد لطفً السٌد ومحمد حسٌن هٌكل وؼٌرهم‪ ،‬وفً مقابلها تنشط الدعوة للخبلفة الذي ؼذاه‬
‫شوام مسلمون ومستوطنون عرب مثل عبد الرحمن عزام‪ ،‬إلنقاذ العثمانلٌة من السقوط‪.‬‬

‫وبفشل إقامة الدولة العربٌة الكبرى بنظام الضربة الواحدة لما ؼدرت برٌطانٌا بحسٌن الهاشمً‪ ،‬بدأ نشر الفكر‬
‫العروبً بٌن الناس بنظام النقاط والنفس الطوٌل عبر التنظٌمات السرٌة والمعلنة‪.‬‬

‫فبحسب اللبنانً شفٌق جحا‪ -‬أحد رواد القومٌة العربٌة وأحد مإسسً هذه التنظٌمات‪ -‬فً كتابه "الحركة‬
‫العربٌة السرٌة ٖ٘‪" ٔ9ٗ٘ -ٔ9‬فقد تبلور أول شكل تنظٌمً لذلك سنة ٖٖ‪ ٔ9‬حٌن اجتمعت نخبة من‬
‫شباب لبنان وسورٌا وفلسطٌن والعراق لعقد مإتمر بحث القضٌة العربٌة بشكل سري فً بلدة قرناٌل بقضاء‬
‫المتن األعلى فً لبنان‪ ،‬وتمخض عن تشكٌل "عصبة العمل القومً"‪ ،‬ومقرها دمشق‪ ،‬واصطدمت العصبة‬
‫مع حزب "الكتلة الوطنٌة" المناصر للقومٌة السورٌة؛ ما أضعؾ المقاومة الوطنٌة لبلنتداب الفرنسً(‪،)ٔٙ8ٙ‬‬
‫مصداقا لتحذٌر أحمد لطفً السٌد من أن إقحام تٌارات أممٌة على الحركة الوطنٌة ٌفسدها وٌخدم االحتبلل‪.‬‬

‫وتزعم السوري قسطنطٌن زرٌق واألخوان اللبنانٌان كاظم وتقً الدٌن الصلح مهمة تحوٌل تٌار "القومٌة‬
‫العربٌة" إلى العمل التنظٌمً‪ ،‬أي تؤسٌس أحزاب وحركات تنشر هذا التٌار داخل الشام والعراق‪ ،‬وهم‬
‫ضمن من وضعوا التعرٌفات والمبررات الحدٌثة والمصطنعة لمعنى كلمة عرب وتوسٌع نطاقها جؽرافٌا‬
‫من جزٌرة العرب لتشمل دول أخرى لم تعرؾ من قبل بؤنها عربٌة‪ ،‬وحاربوا الوطنٌة والحدود‪ ،‬وٌُبلحظ‬
‫أنهم أٌضا على صلة مستمرة بنشاط اإلرسالٌات التبشٌرٌة‪ ،‬وكؤنها تفرزهم جٌبل ورا جٌل‪ ،‬فكان األوالن‬
‫أستاذٌن بالجامعة األمرٌكٌة (الكلٌة السورٌة البروتستانتٌة) فً بٌروت‪ ،‬وتقً الدٌن الصلح أستاذا فً‬
‫مدرسة البعثة العلمانٌة الفرنسٌة "مدرسة البلٌٌك" فً بٌروت‪ ،‬وصار ربٌسا لوزراء لبنان فٌما بعد‪.‬‬

‫(٘‪)ٔٙ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الحركة القومٌة العربٌة فً القرن العشرٌن‪ ،‬هانً الهندي‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ٗ‪ٔ8ٙ -ٔ8‬‬
‫(‪)ٔٙ8ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الحركة العربٌة السرٌة ٖ٘‪( ٔ9ٗ٘ -ٔ9‬جماعة الكتاب األحمر)‪ ،‬شفٌق جحا‪ ،‬الفرات للنشر والتوزٌع‪ ،‬طٔ‪ ،‬ص ٖٗ‬

‫‪ٕٙ8‬‬
‫واهتم زرٌق‪ ،‬وهو أستاذ تارٌخ‪ ،‬بإحٌاء التراث العربً‪ ،‬وأسس مع كاظم وتقً الدٌن الصلح تنظٌما‬
‫عُرؾ الحقا باسم "الحركة العربٌة السرٌة" أو "حركة الكتاب األحمر" عام ٖ٘‪ ،ٔ9‬اعتمدت العمل السري‬
‫لمدة ٓٔ سنوات‪ ،‬وكانت هً القوة الدافعة فكرٌا وتنظٌمٌا لنشر تٌار القومٌة العربٌة بشكله المكتمل‬
‫المعروؾ به الٌوم‪ ،‬وزرعه بؤسلوب االختراقات السرٌة فً عروق الجٌوش واألحزاب والحكومات‬
‫والمإسسات الثقافٌة والفنٌة والجامعات‪ ،‬ولوالها ما وصل هذا التٌار المصطنع لما وصل إلٌه‪.‬‬

‫ووضعوا لها دستورا‪ ،‬على أمل أن ٌكون هو دستور الدولة العربٌة الكبرى التً خططوا لها‪ ،‬وعنوانه‬
‫"القومٌة العربٌة‪ :‬حقابق وإٌضاحات ومناهج" فً جو من السرٌة المطلقة‪ ،‬وظلت السرٌة أساس الحركة‪.‬‬

‫ووفق ما أورده أحد مإسسً هذه الحركة‪ ،‬وهو شفٌق جحا‪ ،‬خرٌج الجامعة األمرٌكٌة ببٌروت‪ ،‬فً كتابه‬
‫"الحركة العربٌة السرٌة ٖ٘‪( ٔ9ٗ٘ -ٔ9‬جماعة الكتاب األحمر)"‪ ،‬فقد دعا هذا الدستور للعلمانٌة‪ ،‬ولدولة‬
‫حرة مستقلة‪ ،‬وإحٌاء "المجد الؽابر للحضارة العربٌة"(‪.)ٔٙ89‬‬

‫واصطنعت الحركة فً دستورها تعرٌفا لٌس له ظل على الواقع أو التارٌخ‪ ،‬وهو أن "العرب أمة واحدة"‬
‫حٌن قالت فً تعرٌفها لكلمة العرب إن "العرب أمة واحدة‪ ..‬هم من كانت لؽتهم العربٌة‪ ،‬أو من ٌقطنون‬
‫الببلد العربٌة‪ ،‬ولٌست لهم فً الحالتٌن أٌة عصبٌة تمنعهم من االندماج فً القومٌة العربٌة"(‪.)ٔٙ88‬‬

‫فالتارٌخ ٌحكً أن كلمة العرب حتى عصر الفتوحات العربٌة ُتقال فقط على سكان جزٌرة العرب وقبابل‬
‫استوطنت بادٌة الشام وجنوب العراق‪ ،‬وبعد الفتوحات حملت بعض القباٌل المهاجرة منها إلى مصر‬
‫وؼٌرها كلمة "عربٌة" معها‪ ،‬ولكن اقتصرت على هذه القباٌل نفسها‪ ،‬فٌما ظلت الشعوب ُتعرؾ بهوٌتها‬
‫التارٌخٌة مثل الفبلحٌن‪/‬القبط فً مصر‪ ،‬والزنج فً وسط أفرٌقٌا والبربر فً شمال أفرٌقٌا‪ ،‬وظل الفرق‬
‫واضحا جدا بٌنهم وبٌن القباٌل العربٌة المستوطنة‪ ،‬وتتعمد هذه القبابل استمرار هذه الفرق‪.‬‬

‫وحتى من كان ٌشهر إسبلمه من أهل هذه الببلد وٌتحدث العربٌة لم ٌكونوا ٌسمونه "عربٌا"‪ ،‬بل أطلقوا‬
‫علٌه صفة "الموالً"‪ ،‬وهً صفة تعنً التبعٌة وتجعلهم فً درجة أقل من العرب(‪ ،)ٔٙ89‬حتى ال ٌتساوى‬
‫المؽلوب (ابن الببلد المفتوحة) بالؽالب (الؽازي)‪ ،‬ولم ٌُطلق على مصرٌٌن كلمة عرب أو أبناء العرب إال‬
‫فً مرحلة متؤخرة من االحتبلل العثمانلً لٌفرقهم عن األتراك كما ورد فً بعض كتب الرحالة األجانب‪.‬‬

‫وتتضح محاولة لًّ حقابق التارٌخ والجؽرافٌا فً أن ببلدا صار ٌُطلق علٌها كلمة عرب فً السنٌن‬
‫األخٌرة لمجرد انضمامها للجامعة العربٌة‪ ،‬مثل الصومال الذي انضم للجامعة سنةٓ‪ ،ٔ99‬وقبل هذا التارٌخ‬
‫لم ٌكن ٌُقال علٌه أنه عربً‪ ،‬فٌما متوقؾ تعرٌؾ أرٌترٌا على أنها عربٌة أو ؼٌر عربٌة على أساس هل‬
‫ستنضم للجامعة أم ال‪ ،‬ونفس األمر على دولة جنوب السودان الناشبة عام ٕٔٔٓ ذات األؼلبٌة الزنجٌة‪.‬‬

‫(‪)ٔٙ89‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٖ9 -ٖٙ‬‬
‫(‪)ٔٙ88‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٖ9‬‬
‫(‪ -)ٔٙ89‬معجم مصطلحات التارٌخ والحضارة اإلسبلمٌة‪ ،‬أنور محمود زناتً‪ ،‬ط ٔ‪ ،‬دار زهران للنشر والتوزٌع‪ ،‬عمَّان‪ ،‬ص ‪ٖ89‬‬

‫‪ٕٙ9‬‬
‫وللخروج من المؤزق التارٌخً الذي ٌإكد عدم وحدة شعوب المنطقة كـ"عرب" فً ٌوم من األٌام‪،‬‬
‫جعلت الحركة فً دستورها اللؽة العربٌة هً مقٌاس تعرٌؾ العرب حٌن قالت إن‪" :‬الببلد العربٌة هً‬
‫جمٌع األراضً التً تتكلم أو ٌتكلم سكانها اللؽة العربٌة فً آسٌا وأفرٌقٌا"(ٓ‪.)ٔٙ9‬‬

‫وهنا ٌواجهها أٌضا مؤزق‪ ..‬فهل الدول التً احتلتها فرنسا وصارت تتحدث الفرنسٌة حتى بعد االستقبلل‬
‫مثل بوركٌنا فاسو وساحل العاج فً أفرٌقٌا صارت دوال فرنسٌة؟ والدول التً تحدثت اإلنجلٌزٌة بسبب‬
‫احتبلل برٌطانٌا لها كجنوب أفرٌقٌا صارت دوال برٌطانٌة؟ وهل لو كان الٌونان اختلطوا بالمصرٌٌن‬
‫وتحدث المصرٌون اللؽة الٌونانٌة تصبح مصر ٌونانٌة؟‬

‫بل إن معظم الدول التً صار ٌسمونها عربٌة لم تتمكن اللؽة العربٌة الفصحى من كل سكانها األصلٌٌن‬
‫إال خبلل المابة سنة األخٌرة‪.‬‬

‫والبلفت أن الحركة فً دستورها ضمت الدول الواقعة فً أفرٌقٌا إلى تعرٌؾ كلمة "عرب"‪ ،‬وهذا ألول‬
‫مرة‪ ،‬وبالرؼم من أن القابمٌن على وضع الدستور كانوا من الشام والعراق‪ ،‬ولم تشترك دولة أفرٌقٌة فً‬
‫وضع هذا الدستور‪ ،‬ولم تكن معنٌة به‪ ،‬ولم ٌدر فً خاطرها حٌنها أساسا الدخول فً "وحدة عربٌة"‪.‬‬

‫ومثل بقٌة الحركات العالمٌة واإلقلٌمٌة‪ ،‬أسست "الحركة العربٌة السرٌة" فروعا سرٌة‪ ،‬فً سورٌا‬
‫ولبنان والعراق والكوٌت وألمانٌا (ؼٌر واضح لماذا ألمانٌا‪ ،‬ربما لتوجه القومٌٌن العرب للتحالؾ معها فً‬
‫الثبلثٌنات بعد أن خذلتهم برٌطانٌا)‪ ،‬وأطلقوا على كل فرع اسم معتمدٌة‪ ،‬ونشروا خبلٌا سرٌة فً أنحاء كل‬
‫بلد‪ ،‬كل خلٌة تتكون من ٘‪ ٔٓ-‬أفراد‪ ،‬وٌصل عقاب إفشاء أسرارها إلى الموت‪ ،‬حسب ما نقل مالك‬
‫المصري (فلسطٌنً) عن تجربته فً الخلٌة السرٌة التً انتسب إلٌها وهو فً الجامعة األمرٌكٌة ببٌروت‪،‬‬
‫وسجلها شفٌق جحا فً كتابه‪.‬‬

‫وأعضاء الحركة‪ -‬مثلهم مثل إخوان الصفا والنارٌٌن والماسون واإلخوان المسلمٌن‪ٌ -‬عرفون أنفسهم‬
‫بكلمة "اإلخوان"‪ ،‬وٌتكلم كل عضو عن زمٌله بصفة "األخ"‪ ،‬وبات عندهم الكتاب األحمر بمثابة "دستور‬
‫الحركة وقرآنها الذي ٌجب حفظه وتفسٌره"‪ ،‬حسب تعبٌر شفٌق جحا‪ ،‬وفور قبول العضو ٌُع َطى نسخة من‬
‫الكتاب األحمر بعد أن ٌقسم الٌمٌن بؤن ال ٌبوح بكل ما سمع وقرأ ورأى عن هذا الحزب ألي كان‪ ،‬وٌجري‬
‫تكرٌسه عضوا نظامٌا فً حفل حزبً محدود ٌحضره ممثل عن القٌادة والعضوان اللذان سعٌا إلدخاله‪.‬‬

‫وٌصؾ زهٌر عسٌران (لبنانً) فً كتابه "زهٌر عسٌران ٌتكلم" ما جرى فً حفل تكرٌس العضو‬
‫الجدٌد فً مذكراته بؤن القسم ٌتم على طاولة علٌها قرآن كرٌم للمسلمٌن وإنجٌل للمسٌحٌٌن ومسدس(ٔ‪.)ٔٙ9‬‬

‫وأورد كتاب "أوراق كاظم الصلح" نص القسم كالتالً‪ ،‬ونورده هنا إلظهار حجم التشابه بٌنها وبٌن‬
‫الحركات المتفرعة عن التنظٌمات العالمٌة األخرى‪ ،‬ومنها تنظٌم اإلخوان المسلمٌن‪:‬‬

‫(ٓ‪)ٔٙ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الحركة العربٌة السرٌة ٖ٘‪( ٔ9ٗ٘ -ٔ9‬جماعة الكتاب األحمر)‪ ،‬شفٌق جحا‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓٗ‬
‫(ٔ‪)ٔٙ9‬‬
‫‪ -‬انظر الحركة العربٌة السرٌة ٖ٘‪( ٔ9ٗ٘ -ٔ9‬جماعة الكتاب األحمر)‪ ،‬شفٌق جحا‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ٘‪٘٘ -‬‬

‫ٖٓ‪ٙ‬‬
‫"أقسم باهلل وبشرفً وبؤمتً العربٌة‪ ،‬وأقسم برجولتً وبمصٌري وبإنسانٌتً‪ ،‬وأقسم بذكرى أمواتً‬
‫وشهدابً‪ ،‬وبحٌاتً وبحٌاة كل عزٌز حبٌب إلىّ ‪ ،‬اآلن وقد أصبحت ركنا فً الحزب‪ ،‬أقسم على أن استمر‬
‫خا دما نشٌطا مخلصا لحزبً هذا وحده‪ ،‬وأن أتقٌد بقراراته وأنظمته وقوانٌنه‪ ،‬وأنفذ ما ٌؤمر وأمتنع عما‬
‫ٌنهى‪ ،‬وأن أذٌب مٌولً وشهواتً وجهودي فً سبٌله‪ ،‬فؤقاتل ما ٌقاتل‪ ،‬وأخالص ما ٌخالص‪ ،‬وأن أكون‬
‫صدٌقا نافعا وعونا صدوقا لكل عضو ٌوآخٌنً فً شرؾ االنتماء إلى الحزب‪ ،‬وأن أكتم كل ما أعرؾ أنه‬
‫سر من أسرار الحزب‪ ،‬وما أتلقاه كسر من أسراره‪ ،‬فبل أبوح بشًء منه‪ ،‬وأجهد كل الجهد كً أحول دون‬
‫إطبلع أي من الناس علٌه‪ ،‬أفعل ذلك"‪.‬‬

‫وعلى كل عضو أن ٌدفع ٓٔ‪ %‬من دخله السنوي للحركة‪ ،‬والعضوٌة تتبع مبدأ التدرج‪ ،‬بداٌة من رتبة‬
‫"متدرج" إلى رتبة "عون" ومن رتبة "عون" إلى رتبة ركن"‪ ،‬ولكل عضو اسم رمزي "حركً" جنب اسمه‬
‫الحقٌقً‪ ،‬وملزم بالكشؾ عن مصادر دخله وحجم ثروته للحركة(ٕ‪.)ٔٙ9‬‬

‫وٌقول مالك المصري (فلسطٌنً) بحسب ما ورد فً كتاب "مالك المصري‪ ،‬نابلسً فً الجامعة‬
‫األمرٌكٌة" إن خلٌته فً الجامعة األمرٌكٌة تراقب بقٌة الحركات فٌها‪ ،‬سواء عروبٌة أو وطنٌة "فنإٌد هذا‬
‫المرشح ونحارب ذاك‪ ،‬ونشارك فً هذه المظاهرة مإٌدٌن إن كانت تتفق مع أهدافنا‪ ،‬أو نعترض مظاهرة‬
‫أخرى ونعارضها إن كانت مناوبة لؽاٌاتنا"(ٖ‪ ،)ٔٙ9‬وهكذا فكل ما هو وطنً عندهم "عدو"‪.‬‬

‫واألعضاء العروبٌٌن الذٌن لقبوا أنفسهم أٌضا بـ"اإلخوان" ٌتبادلون الرسابل بنظام الشفرة‪ ،‬وكل خلٌة‬
‫تجهل الخلٌة الثانٌة نهابٌا‪ ،‬ووصلت درجة السرٌة أن كل عضو ٌخبا نفسه عن أهله‪.‬‬

‫وألن الحركة سرٌة لم ٌكن لها مقر معروؾ‪ ،‬واعتمدت على خبلٌاها "نقاط االعتماد" المنتشرة فً‬
‫األندٌة واألحزاب المنافسة والمحافل والصالونات األدبٌة والجمعٌات االجتماعٌة والجامعات والفرق الكشفٌة‬
‫والتنظٌمات شبه العسكرٌة لتنشر دعوتها بنظام التبشٌر و"الزن على الودان"‪ ،‬حتى ٌصل أعضاإها إلى‬
‫مراكز صناع القرار‪ ،‬عبر االنتخابات أو ؼٌره‪ ،‬وهنا ٌوجهون قٌادة النادي أو الحزب أو الجمعٌة حسبما‬
‫ٌرٌدون فً االتجاه العروبً‪ ،‬دون أن ٌمسك علٌهم أحد أنهم تبع تنظٌم مختلؾ(ٗ‪.)ٔٙ9‬‬

‫ووصلت درجة االختراق أنه مثبل فً هٌبة النادي العربً فً دمشق سٌطر العروبٌون على األعضاء‬
‫حتى انتخبوا عضو الحركة سعٌد فتاح اإلمام ربٌسا للنادي‪ ،‬وفً العراق اخترقوا هٌبة "نادي المثنى"‬
‫وسٌطروا علٌه‪ ،‬واخترقوا الحزب السوري القومً والحركات الكشفٌة مثل منظمة الكشاؾ المسلم فً‬

‫(ٕ‪)ٔٙ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٘٘‪٘8 -‬‬
‫*** شبٌه ببٌعة تنظٌم اإلخوان "المسلمٌن" الذي نصه‪" :‬أعاهد اهللا العظٌم على التمسك بؤحكام اإلسالم والجهاد فً سبٌله‪ ،‬والقٌام بشروط‬
‫عضوٌة جماعة اإلخوان المسلمٌن وواجباتها‪ ،‬والسمع والطاعة لقٌادتها فً المنشط والمكره‪ -‬فً ؼٌر معصٌة‪ -‬ما استطعت إلى ذلك سبٌالً‪ ،‬وأباٌع‬
‫على ذلك‪ ،‬واهللا على ما أقول وكٌل"‪ ،‬وٌقسم على المصحؾ والمسدس‪ .‬انظر‪ :‬المادة ٗ من الباب الثالث لالبحة العالمٌة لجماعة اإلخوان المسلمٌن‬
‫الموضوعة عام ٗ‪ ،ٔ99‬موقع "نافذة مصر" التابع للجماعة‪/https://www.egyptwindow.net :‬‬
‫(ٖ‪)ٔٙ9‬‬
‫‪ -‬الحركة العربٌة السرٌة ٖ٘‪( ٔ9ٗ٘ -ٔ9‬جماعة الكتاب األحمر)‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ٘‬
‫(ٗ‪)ٔٙ9‬‬
‫‪ -‬انظر المرجع السابق‪ ،‬ص ٘‪ٙ9 -ٙ‬‬

‫ٖٔ‪ٙ‬‬
‫لبنان(٘‪ ،)ٔٙ9‬ومن أنشطة الحركة السرٌة توجٌه المظاهرات واالحتجاجات فً الجامعات وؼٌرها ضد‬
‫الحكومات الوطنٌة بحجة أنها عمٌلة لبلستعمار‪.‬‬

‫وبذلك تكون سارت بنفس نهج جماعة اإلخوان المسلمٌن فً "اختراق الجمٌع"‪ ،‬ولٌس االقتصار على‬
‫اختراق األؼنٌاء واألجانب مثل المحافل الماسونٌة التقلٌدٌة مثبل؛ ألنها هدفها "تعرٌب" الجمٌع‪.‬‬

‫وفً محاربتها للقومٌات الوطنٌة قالت "الحركة العربٌة السرٌة" فً حدٌثها عن القومٌة العربٌة فً‬
‫دستورها "الكتاب األحمر" المادة ٘ تحت عنوان "لزوم العصبٌة العربٌة وحدها" إنه‪ٌ" :‬حرم العربً‬
‫العصبٌات التً تضعؾ العصبٌة العربٌة‪ :‬كالعصبٌات الطابفٌة والعنصرٌة والطبقٌة واإلقلٌمٌة والقبلٌة‬
‫والعابلٌة وأشباهها(‪ .")ٔٙ9ٙ‬واإلقلٌمٌة المقصود بها الوطنٌة‪ ،‬أي من ٌقول أنا مصري‪ ،‬أنا عراقً إلخ‪.‬‬

‫وتحت عنوان "تحتٌم االنتظام والجهاد" ورد فً المادة ‪ 9‬أن‪" :‬قعود الفرد العربً وإحجامه عن االنتظام‬
‫فً مواكب المجاهدٌن عار وضبلل ٌشبهان الخٌانة"‪.‬‬

‫فصار كل من ٌرفض االنضمام لـ"العروبة" خابنا‪ ،‬مثلما أن من ال ٌنضم لتنظٌم اإلخوان "المسلمٌن" أو‬
‫ٌإٌدهم كافرا أو عاصٌا‪ ،‬ومن ال ٌنضم لئلرسالٌات التبشٌرٌة ومشروع كنٌسة روما العالمً ضاال‪ ،‬ومن ال‬
‫ٌنضم للمحافل الماسونٌة جاهبل ومن الرعاع "الجوٌٌم"‪ ،‬ومن ال ٌنضم للتنظٌمات الشٌوعٌة رؼبة فً‬
‫احتفاظه بوطنٌته شوفٌنٌا وشعوبٌا عنصرٌا‪.‬‬

‫واعتمد التننظٌم العمل المسلح فٌما وصفه بـ"الجهاد" لتحرٌر ما وصفها باألمة العربٌة حٌن تحدث فً‬
‫المادة ‪ 9‬من المٌثاق عن أن كل "مٌسور عربً" ملزم بـ"الجهاد بالٌد" إن استطاع‪ ،‬فإن لم ٌستطع فبلسانه‪،‬‬
‫فإن لم ٌستطع فبجنانه(‪.)ٔٙ99‬‬

‫ولم ٌقصر "الجهاد" على أمر معٌن‪ ،‬االحتبلل األجنبً مثبل؛ ما ٌعنً استؽبلله ضد خصومه‪ ،‬أٌا كانوا‪،‬‬
‫وبالفعل‪ ،‬كان من أنشطة الحركة "التدرٌب على استعمال السبلح"(‪.)ٔٙ98‬‬

‫وفً باب الثقافة العربٌة قال دستور الحركة إن "كل علم أو فن أو أدب ٌرمً إلى الشعوبٌة والمٌعان‬
‫األممً والرخاوة فً العصبٌة العربٌة مفسدة لكٌانهم‪ ،‬فهم حرب علٌه"(‪ ،)ٔٙ99‬بمعنى أن كل عمل وإبداع‬
‫ٌرسخ االعتزاز بالهوٌة الوطنٌة أو التارٌخ الوطنً لكل شعب (كالشعب المصري أو الشعب العراقً إلخ)‬
‫هو بمثابة عمل "من أعمال الحرب"‪ٌ ،‬ضع صاحبه تحت طابلة العقاب‪.‬‬

‫وبذلك محت الحركة آالؾ السنٌن من عمر حضارة مصر والحضارات األخرى‪ ،‬وحددت لهم أن بداٌتهم‬
‫ُتحسب منذ بدء انطوابه تحت االحتبلل العربً منذ ٓٓ٘ٔ سنة فقط‪ ،‬وقصر مصادر أدبهم وثقافتهم قبل هذا‬
‫(٘‪)ٔٙ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٙ9 -ٙ8‬‬
‫(‪)ٔٙ9ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٘‪ٖ8‬‬
‫(‪)ٔٙ99‬‬
‫‪ -‬الحركة العربٌة السرٌة ٖ٘‪( ٔ9ٗ٘ -ٔ9‬جماعة الكتاب األحمر)‪ ،‬شفٌق جحا‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖ88‬‬
‫(‪)ٔٙ98‬‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‪ ،‬ص ٘‪8‬‬
‫(‪)ٔٙ99‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖٓٗ‬

‫ٕٖ‪ٙ‬‬
‫التارٌخ على أدب وتارٌخ جزٌرة العرب مثل تارٌخ عنترة وامرإ القٌس وحروب براقش‪.‬‬

‫وفً باب الثقافة أٌضا شن دستور الحركة حربا على كافة القومٌات الخاصة بقوله‪" :‬تفرض القومٌة‬
‫العربٌة أن ال ٌقٌم فً الوطن العربً جماعات ذات عنصرٌة أجنبٌة تتحسس بعصبٌة ؼٌر العصبٌة العربٌة‬
‫على الرؼم من حملها جنسٌة الدولة‪ ،‬فعلى هذه الجماعات أن تتعرب إذا شاءت أن تبقى فً هذا‬
‫الوطن"(ٓٓ‪.)ٔ9‬‬

‫وهذ بند خطٌر‪ ،‬ألن معناه لو المصري تمسك بمصرٌته فً الثقافة الشعبٌة والحضارة وطرٌقة الكبلم ونظام‬
‫الحٌاة فمن حق المس بول عن الدولة العربٌة المزعومة أن ٌطرده من مصر بتهمة خٌانة العرب!‬

‫واعتبرت أن المصري فً بلده "أجنبٌا"‪ ،‬مدام لٌس عروبٌا‪ ،‬مثلما اعتبرت محافل الماسون أن من هم ؼٌر‬
‫ماسون "خوارج"‪ ،‬و"أجانب"‪ ،‬وكذلك اعتبرت جماعة إخوان الصفا و"اإلخوان المسلمٌن" و"الشٌوعٌة" إلخ كل‬
‫من ال ٌنتمً إلى فكرهم المصطنع‪.‬‬

‫وفً تناقض صارخ ٌإكد روحها االحتبللٌة قال فً المادة ‪ ٕ8‬تحت عنوان "دوام الصلة الوطنٌة مع‬
‫العرب المؽتربٌن"‪ٌ" :‬جب أن تقوم الثقافة العربٌة بقسطها فً إبقاء العروبة على أبنابها الذٌن هاجروا إلى‬
‫الدٌار األجنبٌة فً طلب الرزق أو دفع الظلم حتى تحبب إلٌهم العودة إلى الوطن فٌشتركوا بتعمٌره والدفاع‬
‫عنه‪ ،‬أو تظل صلتهم به ناهضة متٌنة فٌخدموا أمتهم من منازل هجرتهم"(ٔٓ‪.)ٔ9‬‬

‫ففً الوقت الذي أعلن الحرب على أي شخص فً دول المنطقة ٌرفض التعرٌب والوالء للدولة العربٌة‪،‬‬
‫طالب "العرب" المؽتربٌن بؤن ٌحافظوا على "عروبتهم" وال ٌذوبوا فً هوٌة بلدان المهجر‪.‬‬

‫وعن تعرٌؾ القومٌة والجنسٌة طالب قسطنطٌن زرٌق فً كتابه "الوعً القومً" شعوب المنطقة بترك‬
‫أصولهم الوطنٌة وترك الفخر بؤجدادهم‪ ،‬وؼالبا ٌقصد إذا لم ٌكونوا عربا‪ ،‬ودعاهم لمحو ماضٌهم كامبل‪،‬‬
‫والتطلع للمستقبل‪" :‬أكثر ما نتجه عند تفكٌرنا فً المسابل القومٌة إلى الماضً‪ ،‬ال إلى المستقبل‪ ،‬نتجادل فً‬
‫أصلنا‪ ،‬وجنسنا‪ ،‬وما كان علٌه أجدادنا‪ ،‬وما حدث بٌن أقطارنا من العبلقات التارٌخٌة‪ ،‬إلى ؼٌر هذا مما‬
‫نفكر ونقول ونحن ملتفتون إلى الوراء‪ ،‬وبدال من أن نكون متطلعٌن إلى األمام(ٕٓ‪.")ٔ9‬‬

‫وهنا دلٌل آخر على تناقض فكرة القومٌة العربٌة‪ ،‬أو كذبها‪ ،‬ففً الوقت الذي تدعو فٌه "الحركة العربٌة‬
‫السرٌة" ومثٌبلتها شعوب المنطقة لمحو ماضٌها الوطنً بعدم النظر للوراء‪ ،‬تطالبها فً موضع آخر بالتفاخر‬
‫بـ"األمجاد العربٌة" القدٌمة‪ ،‬أي أن تنظر إلى الوراء‪ ،‬ولكن فً اتجاه الجزٌرة العربٌة ودمشق وبؽداد (فقط)؛‬
‫لحفظ "الصبلت التارٌخٌة العربٌة"‪ ،‬وهذا ٌعنً حفظ الماضً والتارٌخ ألبناء الجزٌرة العربٌة وبنً أمٌة‬
‫والعباسٌٌن فً الشام والعراق ونسؾ تارٌخ مصر نسفا بحجة أنه لم ٌكن ناطقا بالعربٌة أو أنه كان له شخصٌته‬

‫(ٓٓ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٗٓٗ‬
‫(ٔٓ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر المرجع السابق‪ ،‬ص ٕٓٗ‬
‫(ٕٓ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٕ‪9‬‬

‫ٖٖ‪ٙ‬‬
‫المختلفة عنها‪.‬‬

‫ومن أشكال اإلبادة الثقافٌة فً مٌثاق الكتاب األحمر رفضه لما ٌسمى باللؽة العامٌة الخاصة بكل شعب‪،‬‬
‫ففً المادة ‪ ،ٖٙ‬وبعد الكبلم عن تقدٌس اللؽة العربٌة ولزوم إنشاء المجامع العربٌة والقوامٌس للمحافظة‬
‫علٌها‪ ،‬طالب بـ "تقرٌب العامٌة من الفصحى لٌنشؤ جٌل ٌكتب كما ٌنطق وٌنطق كما ٌكتب‪ ،‬على أن ٌإخذ‬
‫من العامٌة ما هو موحد فً جمٌع األقطار العربٌة أو ما هان توحٌده(ٖٓ‪.")ٔ9‬‬

‫فتولت الحركة العربٌة مواصلة مهمة االحتبلالت السابقة فً تحقٌر لؽة كل وطن‪ ،‬وإدعاء أنها مجرد‬
‫تحرٌؾ للؽة العربٌة‪ ،‬بالرؼم من أنها لٌست كذلك‪ ،‬ووصؾ من ٌتحدث بها بؤنه "جاهل"‪ ،‬ولٌس من فبة‬
‫"المثقفٌن الراقٌن"‪ ،‬أو تتهمه بالتآمر على اللؽة العربٌة لصالح األعداء‪.‬‬

‫ونشطت الحركة العربٌة السرٌة فً القرى تحت ستار مشارٌع تنمٌة الرٌؾ‪ ،‬ونشطت فً تكوٌن نقابات‪،‬‬
‫فؤسست نقابة المعلمٌن فً المدارس الخاصة فً لبنان على ٌد تقً الدٌن الصلح وشفٌق جحا(ٗٓ‪ ،)ٔ9‬مستفٌدٌن‬
‫من أسلوب الشٌوعٌة فً هذا الجانب‪.‬‬

‫وساهموا مع بقٌة التٌارات فً أن حالة التشتت واالنقسام فً لبنان وصلت إلى المهن نفسها‪ ،‬فصار مثبل‬
‫هناك مدرس عروبً وآخر ٌساري وآخر إسبلمً وآخر مسٌحً وآخر شٌوعً إلخ‪ ،‬وال ٌؤخذون خطوة فً‬
‫مهنتم ونقابتهم إال بتوجٌه التٌار التابعٌن له‪.‬‬

‫وكعادة التٌارات العالمٌة المعادٌة للدولة الوطنٌة‪ ،‬فإن الجٌوش هدؾ أساسً لها‪ ..‬ألنه طالما الدولة لها‬
‫جٌش وطنً ومن أبنابها المخلصٌن لوطنهم فقط فلن تقع فً براثن هذا التنظٌمات‪.‬‬

‫فبعد أن توجهت الحركة العربٌة السرٌة إلى العراق اخترقت الجٌش العراقً عن طرٌق المبلزمٌن صبلح‬
‫الدٌن الصباغ وفهمً سعٌد حتى وصل عدد "العروبٌٌن" بالجٌش إلى ٕٓٔ ضابطا‪ ،‬وكونوا تنظٌما باسم‬
‫"التشكٌل القومً" العسكري سنة ‪ ،ٔ9ٕ9‬هدفه تكوٌن "إمبراطورٌة عربٌة مركزٌة فً المشرق العربً‪ ،‬تبدأ‬
‫بالعراق وسورٌا ولبنان وفلسطٌن واألردن‪ ،‬وتشكل اللبنة األولى فً الوحدة العربٌة الشاملة(٘ٓ‪.)ٔ9‬‬

‫ثم جاء االختراق الثانً على ٌد "الحركة العربٌة السرٌة" فً الثبلثٌنات‪ ،‬وهدفها أال ٌكون العراق هو‬
‫زعٌم الدولة العربٌة الكبرى المزعومة‪ ،‬ولكن أن تكون الحركة السرٌة‪ -‬أو من ورابها من تنظٌم أو دول أو‬
‫شخصٌات خفٌة‪ -‬هً المسٌطرة على العراق‪ ،‬وتم هذا بالتسلل إلى العراق فً شكل زٌارات طبلبٌة‪،‬‬
‫ومدرسٌن‪ ،‬والجبٌن فلسطٌنٌٌن‪ ،‬ولبنانٌٌن‪ ،‬وسورٌٌن‪ ،‬وهم ٌخفون األهداؾ الحقٌقٌة ورابهم‪.‬‬

‫وهنا ظهر مجددا دور المهاجرٌن والمستوطنٌن األجانب فً زرع التنظٌمات العالمٌة واإلقلٌمٌة‬
‫والحروب األهلٌة أو الثورات الخاصة بمصالحهم ولٌس مصالح الوطن المزروعٌن فٌه‪.‬‬

‫(ٖٓ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖٔٗ‬
‫(ٗٓ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٘ٔٔ‬
‫(٘ٓ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٕٔٗ‪ٕ٘ٓ -‬‬

‫ٖٗ‪ٙ‬‬
‫فقد استقبلتهم العراق استقباال حسنا‪ ،‬وألحقتهم بوظابؾ فً المدارس والمعاهد العراقٌة‪ ،‬فتولى البلجبون‬
‫والعاملون تشكٌل فرع الحركة العربٌة السرٌة‪ ،‬ثم اخترقوا صفوؾ الجٌش والدوابر الحكومٌة واألطباء إلخ‪،‬‬
‫وانضم لهم كوادر عراقٌة‪ ،‬منها عبد السبلم عارؾ‪ ،‬ربٌس العراق فٌما بعد(‪.)ٔ9ٓٙ‬‬

‫وسٌطر البلجبون والوافدون على تنظٌم صبلح الدٌن الصباغ بالجٌش‪ ،‬بؤن صاروا مستشارٌنه المقربٌن‪،‬‬
‫وسٌطروا على اإلعبلم تماما‪ ،‬كما ذكر كاظم الصلح متفاخرا‪ ،‬إضافة للسٌطرة على نادي المثنى صاحب‬
‫التؤثٌر فً الرأي العام وقادة الفكر‪ ،‬وجمعٌة الجوال العربً‪ ،‬وزاد من تضخٌم نشاط البلجبٌن هناك انتقال‬
‫القٌادي الفلسطٌنً المفتً أمٌن الحسٌنً من لبنان للعراق هو وأنصاره‪ ،‬وتوافد أنصار جدد إلٌها سنة‬
‫‪ ،ٔ9ٖ9‬وصاروا ٌوجهون األمور فً العراق لصالحهم تحت شعار إنقاذ فلسطٌن ودعم العراق فً التحرر‬
‫من االحتبلل البرٌطانً(‪ ،)ٔ9ٓ9‬وانضم لهم ربٌس الوزراء رشٌد الكٌبلنً‪ ،‬ولكن شنت برٌطانٌا حربا على‬
‫العراق‪ ،‬وفشل الجٌش العراقً والكتابب السورٌة والفلسطٌنٌة واللبنانٌة المتطوعة معه فً صدها‪ ،‬فهرب‬
‫فً لٌلة ٖٓ ماٌو ٔٗ‪ ٔ9‬معظم المسبولٌن السٌاسٌٌن والعسكرٌٌن الكبار "العروبٌون" سوا من كبار‬
‫البلجبٌن مثل أمٌن الحسٌنً أو من العراقٌٌن مثل الكٌبلنً‪ ،‬وتركوا بؽداد وأهلها لئلنجلٌز‪ ،‬وبعد الهروب‬
‫الكبٌر‪ ،‬تمكنت المخابرات البرٌطانٌة واألمن العراقً من تعقب الهاربٌن‪ ،‬وأعدمت عددا منهم‪ ،‬واعتقلت‬
‫آخرٌن‪ ،‬فكانت ضربة قاصمة للحركة العربٌة السرٌة‪ ،‬وانفكت عراها‪ ،‬بتعبٌر شفٌق جحا(‪.)ٔ9ٓ8‬‬

‫وبحث الباقون من قٌاداتها المقٌمٌن فً الشام عن بدابل الستمرار نشر "القومٌة العربٌة"‪ ،‬فؤنشؤ‬
‫قسطنطٌن زرٌق "النادي الثقافً العربً" لٌنظم الندوات لطبلب الجامعة األمرٌكٌة من الشوام والوافدٌن‪،‬‬
‫وتخرج من هذه الندوات قٌادات مثلت الجٌل الرابع للقومٌٌن العرب‪ ،‬مثل الفلسطٌنً جورج حبش مإسس‬
‫الجبهة الشعبٌة لتحرٌر فلسطٌن الٌسارٌة فٌما بعد‪ ،‬فٌما أسس كاظم الصلح حزب النداء القومً على نمط‬
‫أفكار الحركة العربٌة السرٌة‪ ،‬ولكنه كان علنا‪ ،‬وتفرع منه أحزاب على شاكلته فً عدة دول(‪ ،)ٔ9ٓ9‬وخرج‬
‫من عباءة حبش "حركة القومٌٌن العرب" التً سٌكون لها شؤن فً استمالة جمال عبد الناصر فً مصر قبل‬
‫أن ٌكتشؾ زٌفهم متؤخرا فٌنقلبوا علٌه‪.‬‬

‫ووفق شفٌق جحا‪ ،‬فإن الحركة العربٌة السرٌة حتى ذلك الوقت‪ -‬أي سنة ٓٗ‪ -ٔ9‬لم تكن انتشرت خارج‬
‫الشام والعراق‪ ،‬لكنه نقل رواٌات عن وجود "ؼٌر مإكد" لخبلٌا الحركة فً مصر‪ ،‬ممثلة فً أفراد قلٌلٌن‪،‬‬
‫واستدل على هذا بقول عضو الحركة محمد علً حمادة فً حدٌث لمجلة "الشراع" ٔٔ أبرٌل ٖ‪ ٔ98‬إن‬
‫"اتصاالتنا بمصر كان مع أعضاء ٌنتمون إلى خلٌة تابعة للكتاب األحمر‪ ،‬منهم محمد صبلح الدٌن الذي‬

‫(‪)ٔ9ٓٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕ٘ٙ -ٕٗ9‬‬
‫(‪)ٔ9ٓ9‬‬
‫‪ -‬انظر المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٕ٘8 -ٕ٘ٙ‬‬
‫(‪)ٔ7ٓ8‬‬
‫جرتها الحركة والالجبون على العراق‪ ،‬واختراقهم مإسسات الدولة‪ ،‬انظر الحركة العربٌة السرٌة ٖ٘‪ٔ9ٗ٘ -ٔ9‬‬ ‫‪ -‬للمزٌد عن األزمات التً َّ‬
‫(جماعة الكتاب األحمر)‪ ،‬شفٌق جحا‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖٕٕ -ٕ8ٙ‬‬
‫*** قارن بٌن هذا الهروب الكبٌر وبٌن صمود المصرٌٌن وقٌاداتهم الوطنٌة فً ثورتً ٔ‪ ٔ88‬و‪ ٔ9ٔ9‬رؼم التهدٌدات واإلؼراءات‪ ،‬ولم ٌتركها‬
‫بعضهم وقت الحرب إال لما أبعدهم اإلنجلٌز بالقوة إلى المنفى‪ ،‬ونفس األمر فً عدم هروب القٌادة فً عدوانً ‪ ٔ9٘ٙ‬و‪ ،ٔ9ٙ7‬وهذا من خصابص‬
‫الهوٌة المصرٌة "ماعت"‪ ،‬ونذكر أن األدب المصري القدٌم خ َّلد قصة ندم "سنوحً" على تركه مصر إلى بالد الشام وقت المحنة‪.‬‬
‫(‪)ٔ9ٓ9‬‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‪ ،‬ص ٗ‪ٖ9‬‬

‫ٖ٘‪ٙ‬‬
‫أصبح وزٌرا للخارجٌة فٌما بعد(ٓٔ‪.")ٔ9‬‬

‫وهكذا ٌتضح أن الدعوة للوحدة العربٌة نبعت من األماكن الثبلثة التً شهدت الخبلفة العربٌة‪ ،‬وهً‪:‬‬
‫الحجاز (موضع الخبلفة األولى حتى عثمان بن عفان)‪ ،‬والشام (موضع الخبلفة األموٌة بدمشق)‪ ،‬والعراق‬
‫(موضع الخبلفة العباسٌة ببؽداد) ولم ٌكن هدفها "وحدة تعاون"‪ ،‬بل رجوع عبلقة الؽالب والمؽلوب‪.‬‬

‫والبلفت أنه كما لم ٌوجد وحدة عربٌة بٌن العرب الحقٌقٌٌن أنفسهم قدٌما‪ ،‬وتجلى هذا حتى بعد اإلسبلم‬
‫فً الصراع بٌن األموٌٌن والعباسٌٌن والقباٌل العربٌة حول الحكم و"الزعامة"‪ ،‬واستعانوا بالترك والفرس‬
‫ضد بعضهم البعض(ٔٔ‪ ،)ٔ9‬فإنه أٌضا عاد الصراع بٌنهم (فً العراق وسورٌا والحجاز) على الزعامة عقب‬
‫فشل "الثورة العربٌة الكبرى" ‪ ،ٔ9ٔٙ‬وما زال الصراع قابما كما نراه ٌتجدد كل فترة بٌن هذه الدول‪-‬‬
‫وٌستقوي بعضهم ضد بعض بتركٌا أو إٌران كما فعلوا أٌام الخبلفة أو بؤوروبا وأمرٌكا‪ -‬فً مساعً كل‬
‫منهم للحصول على "الزعامة"‪ ،‬وٌعتبرون مصر مجرد مورد لنزح الثروة البشرٌة والمادٌة والحضارٌة‪.‬‬

‫فعن أي "وحدة عربٌة" بٌنهم قدٌما أو حدٌثا ٌتكلمون؟‬

‫وعن مصر أٌضا‪ٌ ،‬لوح أمامنا المقولة التالٌة‪" :‬قبط مصر أكرم األعاجم كلها‪ ،‬وأسمحهم ٌدا‪ ،‬وأفضلهم‬
‫عنصرا‪ ،‬وأقربه رحما بالعرب عامة‪ ،‬وبقرٌش خاصة‪ ،‬ومن أراد أن ٌذكر الفردوس أو ٌنظر إلى مثلها فً‬
‫الدنٌا فلٌنظر إلى أرض مصر حٌن تخضر زروعها وتنور ثمارها"‪.‬‬

‫وورد هذا عن عبد هللا بن عمرو بن العاص فً كتاب "فتوح مصر وأخبارها" لعبد الرحمن بن عبد‬
‫الحكم(ٕٔ‪ -)ٔ9‬وهو من القبلبل‪ ،‬بل النوادر الذٌن تكلموا عن القبط بطرٌقة حسنة فً عصره‪ -‬فكان العرب أنفسهم‬
‫ٌرون أن المصرٌٌن "أعاجم" ولٌسوا عربا‪ ،‬وأن الرابط الوحٌد بٌنهم وبٌن العرب هو ما أشار إلٌه الرسول‬
‫صلى هللا علٌه وسلم حول زواج هاجر بإبراهٌم ومارٌة بالرسول‪ ،‬وهو نسب ال ٌؽٌر فً هوٌة شعب وال‬
‫أصوله‪ ،‬وٌحدث بٌن كل الشعوب ٌومٌا‪ ،‬فهل لو صح مثبل أن الحسٌن بن علً حفٌد الرسول تزوج بابنة‬
‫كسرى فارس هل ٌصٌر الفرس بذلك عربا؟‬

‫وكم من مصرٌة منذ أٌام االحتبلالت وحتى اآلن تزوجت من أجانب‪ ،‬عرب وشوام وترك ولٌبٌٌن‬
‫وفلسطٌنٌٌن وبرٌطانٌٌن وإٌطالٌٌن وأمرٌكٌٌن إلخ‪ ،‬فهل تتؽٌر هوٌة مصر "زي ألوان اللبان السحري"‪ ،‬كلما‬
‫تزوجت مصرٌة بؤجنبً على حسب هوٌة بلد الزوج؟‬

‫ٌراع معظم العرب الفاتحٌن لها‬


‫ِ‬ ‫وصلة النسب مع إبراهٌم والرسول (ص) ووصاٌا الرسول بالقبط لم‬
‫خاطرا‪ ،‬فعاملوا القبط كما عاملوا بقٌة الشعوب المفتوحة‪ ،‬فرضوا علٌهم الجزٌة ومن أسلم اعتبروه من‬

‫(ٓٔ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر المرجع السابق‪ ،‬ص ٖٖٓ‬
‫(ٔٔ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬حول هذه الصراعات وتؤثٌرها على مصر راجع الفصل الخاص باالحتبلل العربً‬
‫(ٕٔ‪)ٔ7‬‬
‫‪ -‬فتوح مصر وأخبارها‪ ،‬عبد الرحمن بن عبد الحكم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘‬
‫*** وهكذا لم ٌرد فً أمهات الكتب عن تارٌخ مصر عقب الفتح العربً أي وصؾ للمصرٌٌن بؤنهم "عرب"‪ ،‬بل الصفة بؤنهم قبط وبؤنهم أعاجم‪،‬‬
‫وفً فترة الحقة فالحٌن‪ ،‬خاصة من ٌدخل منهم فً اإلسالم‬

‫‪ٖٙٙ‬‬
‫الموالً‪ ،‬والعربً والفارسً والتركً مكرم فً مصر بمراتب أعلى من المصرٌٌن أوالد البلد‪ ،‬ومن سمحوا‬
‫له من المصرٌٌن بؤخذ مناصب هامة كانوا قلة وبسبب حوجة العرب لهم ألنهم أدرى بشبون الزراعة‬
‫والمحاسبة‪ ،‬ومن اعترض فٌهم على زٌادة فً الضراٌب أو سوء المعاملة سحلوه وباعوه فً األسواق‪.‬‬

‫وكما كانت مصر هً الجوهرة فً إمداد العرب بالحضارة والثروة فً زمن الخبلفة‪ ،‬توجهت أعٌن‬
‫القومٌٌن العرب إلى مصر أٌضا فً العصر الحدٌث‪ ،‬ال لتشاركهم "المجد" المنتظر‪ ،‬ولكن لٌكون ؼزوا‬
‫عربٌا جدٌدا‪ٌ ،‬نزحوا به نهضتها الجدٌدة وثرواتها‪ ،‬وهذه المرة لٌس بالسٌؾ‪ ،‬فهً عادت أقوى منهم ولها‬
‫جٌش‪ ،‬فٌكون السبٌل أن ٌتم هذا برضا منها عبر إٌهامها بؤنها منهم وأنها "عربٌة"‪ ،‬وأن "دورها التارٌخً"‬
‫هو توحٌد العرب‪.‬‬

‫شهادة أخرى توضح هذا األمر‪ ،‬فً كتاب لواحد من أبرز رموز الجٌل الرابع من قٌادات القومٌة‬
‫العربٌة‪ ،‬هو هانً الهندي‪ ،‬تخرج هانً من الجامعة األمرٌكٌة ببٌروت (مفرزة رواد القومٌة العربٌة على‬
‫مدى أجٌال) عام ٘ٗ‪ ،ٔ9‬وانضم لجورج حبش فً "حركة القومٌٌن العرب"‪ ،‬واهتم بنشر الفكر القومً‬
‫العربً بإصدار الكتب التً تصنع مبررات "للعروبة" فؤسس "مإسسة األبحاث العربٌة" فً بٌروت‪،‬‬
‫وسجل شهادته‪ ،‬ورؼم أنه متمسك فً هذا الكتاب بـ"القومٌة العربٌة"‪ ،‬إال أنه ٌظهر ما ٌدل على ؼٌاب أي‬
‫دلٌل تارٌخً على ما سماه القومٌون العرب بـ"عروبة مصر"‪.‬‬

‫ٌقول الهندي إنه فً القرنٌن ‪ ٔ8‬ومطلع ‪ ٔ9‬كان مفهوم الهوٌة العربٌة ؼاببا عن معظم شعوب المنطقة‪،‬‬
‫فٌما ٌنتشر مفهوم االنتساب إلى "الدولة الحاكمة"‪ ،‬فكانت الهوٌة "عثمانٌة" بالنسبة إلى ؼالبٌة سكان المشرق‬
‫العربً (الشام والعراق)‪ ،‬أو االنتساب إلى الدٌن (مسلمٌن أو مسٌحٌٌن أو دروز أو ٌهود)‪ ،‬بل حتى إلى‬
‫الطابفة‪ ،‬وكانت كلمة "العرب" ال ُتستعمل كثٌرا‪ ،‬وؼالبا ما كان المقصود بها "البدو" سكان البادٌة فً بلدان‬
‫المشرق العربً(ٖٔ‪.)ٔ9‬‬

‫واعترؾ السوري ساطع الحصري‪ ،‬أحد رواد الجٌل الثانً للقومٌٌن العرب‪ ،‬وأحد أشد كارهً الحضارة‬
‫المصرٌة‪ ،‬أٌضا بؤن هدؾ القومٌٌن العرب من ضم مصر لحركتهم هو استنزافهان فقال إن مصر كانت‬
‫ُعرضة عن فكرة العروبة وال تهتم بما ٌجري حولها فً الشام والعراق‪ ،‬فٌما كان أبناء البلدٌن ترنو‬ ‫م ِ‬
‫أبصارهم إلى مصر لتكون مبلذا ألحبلمهم(ٗٔ‪.)ٔ9‬‬

‫ومع ثورة ٔ‪ ٔ88‬وما بعدها علت فً مصر روح القومٌة المصرٌة والدولة الوطنٌة باعتبارها الخبلص‬
‫من االحتبلل ومن التشوٌهات واإلذالل الذي تعمد المحتلون ممارسته على المصري الفبلح وهوٌته‪،‬‬
‫ووصلت هذه الروح ألعبلها فً ثورة ‪ ،ٔ9ٔ9‬وعلى صداها نشطت حركات المقاومة الوطنٌة فً ببلد‬
‫أخرى محٌطة رأت فً الوطنٌة منجاتها الوحٌدة من االحتبلل ومن التشرذم الطابفً والعرقً‪.‬‬

‫(ٖٔ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬الحركة القومٌة العربٌة فً القرن العشرٌن‪ ،‬هانً الهندي‪ ،‬ص ‪89‬‬
‫(ٗٔ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‪ ،‬ص ٕٔٔ‬

‫‪ٖٙ7‬‬
‫وعن رسوخ العقٌدة الوطنٌة فً مصر حٌنها قبل أن تهبط علٌها القومٌة العربٌة‪ٌ ،‬قول المإرخ العراقً‬
‫عبد العزٌز الدوري‪" :‬فً مصر ظهرت أفكار الوطن والوطنٌة والحرٌة والمساواة قبل مناطق الوطن‬
‫الكبٌر"‪.‬‬

‫ولما بدأ التحول بفكرة القومٌة العربٌة لمصر عبر الشوام المهاجرٌن لمصر وجدت معارضة من معظم‬
‫المثقفٌن والزعماء المصرٌٌن‪ ،‬وهو ما قابله القومٌون العرب الشوام والعراقٌٌن بحمبلت هجوم حادة ضد‬
‫المصرٌٌن الرافضٌن لهذه الهوٌة المصطنعة الوافدة‪ ،‬وكرَّ س ساطع الحصري جزءا من نشاطه لتحقٌر‬
‫الحضارة المصرٌة وتجرأ على وصفها بـ"المٌتة"؛ كً ٌبرر نظرٌته التً اسماها بـ"عروبة مصر"(٘ٔ‪.)ٔ9‬‬

‫كما برز الكبلم فً أول القرن ٕٓ عن "ظاهرة تعرٌب مصر"؛ ما ٌإكد وعً رواد القومٌة العربٌة‬
‫وقتها بؤن مصر لٌست عربٌة فً الحقٌقة‪ ،‬ولكن سٌجعلونها هم "عربٌة" بتزوٌر التارٌخ لٌؽزونها ؼزوا‬
‫ناعما‪.‬‬

‫وقال عنها الكاتب البحرٌنً‪ -‬خرٌج الجامعة األمرٌكٌة البروتستانتٌة فً بٌروت‪ -‬محمد جابر األنصاري إن‬
‫"ظاهرة تعرٌب مصر حقل نموذجً لتبٌن تبادل التفاعل بٌن العروبة واإلسبلم خبلل هذه الفترة"‪ ،‬وإن القومٌٌن‬
‫العرب اهتموا بـ "ضم أكبر قوة إلى "دار العرب" الجدٌدة‪ ،‬بل وجعلها مركز الثقل فً هذه الدار‪ ،‬بعد أن كان‬
‫االمتداد المكانً للفكر القومً (العربً) ال ٌتجاوز آسٌا العربٌة"‪ ،‬أي جزٌرة العرب والشام والعراق(‪.)ٔ9ٔٙ‬‬

‫واختمرت الفكرة أكثر بعد أن فشلوا فً تحقٌق "الدولة العربٌة الكبرى" منفردٌن بدون مصر فً زمن‬
‫حسٌن الهاشمً‪ ،‬ثم فً العراق خبلل ثورة رشٌد الكٌبلنً‪.‬‬

‫وٌبدي القومٌون العرب‪ ،‬ومنهم أنٌس الصاٌػ (سوري) فً كتاباتهم دهشتهم من أنه لماذا ظلت مصر‬
‫حتى سنة ٕٓ‪ ٔ9‬بعٌدة عن فكرة "العروبة"؟‪ ،‬وٌجٌبون بؤن ذلك ألن االستعمار البرٌطانً استهدؾ إبعادها‬
‫عن هذه الفكرة(‪.)ٔ9ٔ9‬‬

‫ولم ٌكن هذا حقٌقٌا‪ ،‬فالقومٌون العرب أنفسهم ٌقولون إن مصر قبل االستعمار البرٌطانً لم تكن تعرؾ‬
‫شٌبا عن العروبة‪ ،‬وظلت حتى القرن ٕٓ ترفض االنضمام لقافلة القومٌة العربٌة‪ ،‬كما أن االستعمار الؽربً‬
‫هذا هو نفسه الذي شجع فكرة العروبة فً القرن ‪ ٔ9‬بإرسالٌاته التبشٌرٌة فً الشام‪ ،‬وفً ‪ ٔ9ٔٙ‬بدعمه‬
‫"الثورة العربٌة الكبرى"‪ ،‬وفً تمكٌنه القومٌٌن العرب الوافدٌن لمصر‪ ،‬وهو ذاته الذي دعم تؤسٌس الجامعة‬
‫العربٌة سنة ٘ٗ‪ ،ٔ9‬وأنه فً ذلك الوقت كان ٌشجع أي تٌار ٌنزع عن المصرٌٌن روح المقاومة الوطنٌة‪،‬‬
‫وٌشتتهم وٌخلق منهم شٌعا متحاربٌن‪ ،‬بل لم تحارب برٌطانٌا القومٌة العربٌة إال لما تبناها جمال عبد‬
‫الناصر ألسباب سنعرفها‪ -‬إن شاء هللا‪ -‬فً الجزء الثانً‪.‬‬

‫(٘ٔ‪)ٔ7‬‬
‫‪ -‬ساطع الحصري فٌلسوؾ القومٌة العربٌة نافخ الروح فً معهد الدراسات‪ ،‬مجلة األهرام العربً‪ ،‬سهٌر عبد الحمٌد‪ٕٓٔ٘ -ٖ -7 ،‬‬
‫*** الحصري (ٓ‪ ) ٔ9ٙ8 -ٔ88‬مختلؾ حول أصله من كثرة تنقالته الؽامضة بٌن البالد‪ ،‬وٌقول إنه من أسرة ٌمنٌة سكنت سورٌا‪ ،‬وكان مإٌدا‬
‫للتترٌك قبل سقوط الخالفة العثمانلٌة ثم تحول للعروبة وألؾ ٓ٘ كتابا حشاها بنظرٌاته المصطنعة حولها‪.‬‬
‫(‪)ٔ9ٔٙ‬‬
‫‪ -‬الحركة القومٌة العربٌة فً القرن العشرٌن‪ ،‬هانً الهندي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٓ‬
‫(‪)ٔ9ٔ9‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٔٙ8‬‬

‫‪ٖٙ8‬‬
‫وإضافة إلى المهاجرٌن الشوام األوابل من دعاة الجٌل األول للقومٌة العربٌة إلى مصر‪ ،‬كان لعبد‬
‫الرحمن الكواكبً من دعاة الجٌل الثانً بعد هجرته أٌضا من الشام إلى مصر سنة ‪ ٔ899‬دور فً نثر‬
‫بذور القومٌة العربٌة‪ ،‬معتبرا أن رابط اللؽة أعلى من رابطة القومٌة الوطنٌة والجنس‪ ،‬وكان لكبلمه صدى‪،‬‬
‫خاصة أنه ٌمزج الدعوة للقومٌة العربٌة بمكافحة االستبداد والظلم العثمانً الذي عانى منه الجمٌع(‪،)ٔ9ٔ8‬‬
‫ولكن ظل تؤثٌره على أفراد معدودٌن من المصرٌٌن ولٌس جماعات‪.‬‬

‫وفً مرحلة تالٌة نشط الكبلم عن القومٌة العربٌة فً مصر بعد سٌطرة الشوام على قطاع كبٌر من الصحؾ‬
‫وروجت‬
‫فً مصر التً تنشر أفكارهم‪ ،‬ثم بدأوا فً عمل التنظٌمات مثل جمعٌة الشورى التً أنشؤها شوام َّ‬
‫للقومٌة العربٌة فً الفترة بٌن الحربٌن العالمٌتٌن(‪.)ٔ9ٔ9‬‬

‫أما من كان ال ٌستجٌب لدعوتهم القومٌة العربٌة وٌكشؾ زٌفها فكانوا ٌطبقون علٌه ما ورد فً دستور‬
‫ومٌثاق "الحركة العربٌة السرٌة" من أنه عدو ٌجب شن الحرب علٌه وهزٌمته‪.‬‬

‫ففً الؽزو العربً األول حٌن كان المصرٌون ٌثورون على التواجد أو الظلم العربً فً زمن الخبلفتٌن‬
‫األموٌة والعباسٌة كان جٌش الخلٌفة ٌرد علٌهم بالسبلح‪ ،‬بالقتل والحرق والسبً‪ ،‬وذلك ألنه األقوى حٌنذاك‪،‬‬
‫أما لما تبدل الحال وصارت مصر هً األقوى فلجؤوا إلى ؼزوها بوسٌلتٌن‪ :‬األولى هً التودد للمصرٌٌن‬
‫للقبول بالقومٌة العربٌة‪ ،‬والثانٌة هً اإلرهاب واالؼتٌال المعنوي بتهدٌد المصرٌٌن الرافضٌن لهذه الدعوة‬
‫بؤنه م عمبلء لبلحتبلل وأعداء العرب وعنصرٌون ولو استطاعوا الحقوهم فً أرزاقهم أو هددوا حٌاتهم‬
‫وشوهوا سمعتهم مثلما فعلوا مع طه حسٌن ولطفً السٌد‪ ،‬فٌما ٌشبه أسلوب الٌهود فً وصؾ من ٌرفضون‬
‫تؽلؽلهم بؤنهم "معادون للسامٌة" و"عنصرٌون"‪.‬‬

‫وٌشٌر لطفً السٌد لمثال من مرحلة التودد حٌن كان التٌار العروبً ما زال ضعٌفا ولٌس له أنصار‬
‫ٌُذكرون من المصرٌٌن فً كتابه "قصة حٌاتً" أنه "فً سنة ٔٔ‪ ٔ9‬ظهرت ألول مرة بوادر ما ٌسمونه‬
‫"البنارابٌزم" أو الجامع ة العربٌة‪ ،‬وفً هذا الحٌن وفد على مصر رجبلن من أعٌان الشام ولبنان‪ ،‬هما السٌد‬
‫شكري العسلً من دمشق والسٌد ثابت من أعٌان بٌروت‪ ،‬والؽرض هو ضم سورٌة إلى مصر ولقٌانً‬
‫ضمن من لقٌا من المشتؽلٌن بالسٌاسة وأهل الرأي‪ ،‬ولم أكن متفقا معهما فً هذا الرأي‪ ،‬ال لتعذر هذا الطلب‬
‫فحسب‪ ،‬بل ألنً لم أره فً مصلحة مصر"‪ ،‬وحٌن لمسا رفضه هو وآخرٌن لطلبهما قاال‪" :‬مصر فٌها مال‬
‫وسورٌا فٌها رجال!"(ٕٓ‪.)ٔ9‬‬

‫وهً عبارة تكشؾ عن نواٌاهم أن مصر بالنسبة لهم مصدر لنزح المال‪ ،‬وأنهم ٌعتبرون أن "الرجال"‬
‫الذٌن لهم حق السٌطرة فً النهاٌة بعد التمكن من مصر هم السورٌون‪ ،‬وأنهم امتداد لفكر العربان الذٌن‬
‫نظروا للمصرٌٌن وهم ٌنهبونهم فً الؽارات على أنهم "ولدوا خصٌصا إلنتاج طعام العربان"‪ ،‬وأنه "ال‬

‫(‪)ٔ9ٔ8‬‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٔ99 -ٔ9ٙ‬‬
‫(‪)ٔ9ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‪ ،‬ص ٕٗٔ‪ٕٔ٘ -‬‬
‫(ٕٓ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬قصة حٌاتً‪ ،‬أحمد لطفً السٌد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٗ‪8‬‬

‫‪ٖٙ9‬‬
‫توجد مهنة أكثر نببل من أن تعٌش من خٌرات الؽٌر دون مشقة"‪.‬‬

‫وبعد خذالن برٌطانٌا لـ "الثورة العربٌة الكبرى" ‪ ٔ9ٔٙ‬زاد تودد القومٌٌن العرب للمصرٌٌن بالتوجه‬
‫لزعٌم الثورة المصرٌة الصاعدة آنذاك‪ ،‬سعد زؼلول‪ ،‬والمخترق األعظم للساحة المصرٌة وقتها بالفكر‬
‫العروبً‪ -‬إلى جانب الشوام‪ -‬هو عبد الرحمن عزام‪ -‬مإسس جامعة الدول العربٌة‪ -‬الذي دعا سعد زؼلول‬
‫إلقامة وحدة بٌن مصر والببلد العربٌة‪ ،‬ولكن سعد زؼلول حدد هوٌة الثورة حٌن اتصل به بعض الساسة‬
‫العرب وهو فً بارٌس‪ ،‬وعرضوا علٌه توحٌد جهودهم ضد االستعمار‪ ،‬فقال لهم سعد‪ :‬إن قضٌتنا مصرٌة‬
‫ولٌست عربٌة"(ٕٔ‪.")ٔ9‬‬

‫ولنا أن نتخٌل مصٌر ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬إذا ما تشتت قادتها وانخرطوا فً قضاٌا الصراعات الداخلٌة للشام‬
‫والعراق‪ ،‬وتاهوا وسط تعدد والءات قٌادات تلك الشعوب بٌن برٌطانٌا وفرنسا وألمانٌا واألتراك والعرب‪.‬‬

‫وانتبه كثٌر من المصرٌٌن وقتها لخطورة المستوطنٌن الوافدٌن الذٌن جاءوا لفرض هوٌتهم على مصر‬
‫بدال من أن ٌتبنوا هم هوٌة مصر مداموا اختاروا االستٌطان فٌها‪ ،‬ولعبلقات بعضهم مع االحتبلل‪ ،‬ووصؾ‬
‫محمد جبرٌل فً كتابه "مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن" المشاعر بٌن المصرٌٌن وتلك الجالٌات وقتها‬
‫بـ"العزلة"‪ ،‬قاببل إن "مبعث اإلحساس بالعزلة بٌن الشعب المصري والجالٌات العربٌة من سورٌٌن ولبنانٌٌن‬
‫ومؽاربة وتونسٌٌن وؼٌرهم أنهم كانوا ٌتمتعون باالمتٌازات نفسها التً كانت تتمتع بها الجالٌات األجنبٌة‬
‫األخرى‪ ،‬وأن تلك االمتٌازات كانت هً الجرح األكبر فً جسد الشعب المصري"‪.‬‬

‫وأضاؾ أنه للحق فإن احتبلل العناصر الشامٌة مناصب الدولة شكل جزءا من الدافع الثوري عند‬
‫المثقفٌن المصرٌٌن‪ ،‬ومع ذلك فإن الخبلفات ثارت بٌن المثقفٌن المصرٌٌن والمثقفٌن من الشوام؛ ألن‬
‫المصرٌٌن كانوا ٌستندون إلى عدالة قضٌتهم الوطنٌة‪ ،‬وحق مصر فً االستقبلل‪ ،‬بٌنما الذ ؼالبٌة الشوام‬
‫بسلطات االحتبلل كحلٌؾ فً الصراع ضد الوطنٌٌن‪ ،‬ولعلنا نذكر الدور الذي أداه أصحاب صحٌفة المقطم‬
‫(الشوام) فً دعم االحتبلل‪ ،‬وهو دور لم ٌكن هٌنا على اإلطبلق‪ ،‬وكانوا سببا فً نفً عبد هللا الندٌم للمرة‬
‫الثانٌة(ٕٕ‪.)ٔ9‬‬

‫كذلك تزاٌدت كراهٌة المصرٌٌن للشوام نتٌجة لؤلرباح الطابلة التً حققها التجار الشوام بوسابل لم‬
‫ٌراعوا فٌها المصرٌٌن‪ ،‬وٌستكمل جبرٌل رصده لتلك الفترة بؤن الفبلح تعامل مع تجار ومرابٌن ٌتحدثون‬
‫العربٌة‪ ،‬لكنهم ٌسلبونه حقوقه وأرضه وماله‪ ،‬وٌستندون لجدار االمتٌازات األجنبٌة‪ ،‬وزاد من تلك الكراهٌة‬
‫أن الشوام كانوا ٌحصلون على فرص أفضل فً الوظابؾ اإلدارٌة‪ ،‬وبلػ األمر حد مهاجمة مصطفى كامل‬
‫للشوام‪ ،‬ونعتهم بالدخبلء فً مصر‪ ،‬وإن أعلن‪ ،‬فٌما بعد‪ ،‬أنه كان ٌعنً الشوام الموالٌن لبلحتبلل‪.‬‬

‫فرؼم أن الشوام عددهم قلٌل فً مصر‪ ،‬إال أنهم كانوا الفبة الثانٌة من األجانب بعد األوروبٌٌن التً أسبػ‬

‫(ٕٔ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن‪ ،‬ج ٕ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٙٗ9‬‬
‫(ٕٕ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن‪ ،‬جٕ‪ ،‬ص ٓ٘‪ٙ‬‬

‫ٓٗ‪ٙ‬‬
‫علٌها االحتبلل البرٌطانً رعاٌته وامتٌازاته‪ ،‬وقال كرومر عنهم "إن السورٌٌن كانوا ٌحتلون إلى حد كبٌر‬
‫فً مصر المركز الذي ٌحتله الٌهود فً أوروبا"‪ ،‬و"فً كل قرٌة من قرى مصر‪ ،‬البد من وجود مرابً‪،‬‬
‫وأن هذا المرابً إذا لم ٌكن ٌونانٌا فهو سوري"‪ ،‬واعترؾ بؤن االحتبلل أزاح المصرٌٌن المسٌحٌٌن من‬
‫عمل الكتبة الذي كانوا متخصصٌن فٌه من قبل فً الحكومة‪ ،‬وأح َّل محلهم السورٌٌن بحجة أن النظام‬
‫الحسابً للمصرٌٌن صارا "عتٌقا وبالٌا"؛ ما "تسبب فً قدر كبٌر من السخط والتذمر بٌن أفراد المجتمع‬
‫القبطً"‪ ،‬وأنه فً العموم "تنظر أؼلبٌة السكان إلى السورٌٌن نظرة كراهٌة واستٌاء"‪ ،‬خاصة وأن "المرابً‬
‫السوري ٌشتهر بجشعه للربح وبقسوته‪ٌ ،‬زاد على ذلك أن ابتزاز المرابً السوري لؤلموال تسهل بفضل‬
‫تقدم مسٌرة الحضارة فً مصر"(ٖٕ‪.)ٔ9‬‬

‫كما عبر الشاعر حافظ إبراهٌم فً كتابه "لٌالً سطٌح" عن النظرة التً ٌنظر بها المصري إلى الشوام‬
‫الطامعٌن فً بلده‪" :‬إننً ال أكذب هللا‪ ،‬لقد أكثرتم من التداخل فً شبونهم فعز علٌهم ذلك من أقرب الناس‬
‫إلٌهم‪ ،‬نزلتم ببلدهم فنزلتم رحبا‪ ،‬وتفٌؤتم ظبللها فؤصبتم خطبا‪ ،‬ثم فتحتم لهم أبواب الصحافة فقالوا أهبل‪،‬‬
‫وحللتم معهم فً دور التجارة فقالوا سهبل‪ ،‬ولو أنكم وقفتم عند هذا الحد لرأٌتم منهم ودا صحٌحا وإخبلصا‬
‫صرٌحا‪ ،‬ولكنكم تخطٌتم ذلك إلى المناصب‪ ،‬فسددتم طرٌق الناشبٌن‪ ،‬وضٌقتم نطاق االستخدام على‬
‫الطالبٌن(ٕٗ‪.")ٔ9‬‬

‫وقاد الكاتب سبلمة موسى عام ٖٓ‪ ٔ9‬حملة بعنوان ضد "النفوذ العربً فً مصر" فً الثبلثٌنات دعا‬
‫فٌها إلى أدب مصري ٌخاطب المصرٌٌن بلؽتهم‪ ،‬وٌحرك فً نفوسهم األمانً المصرٌة‪.‬‬

‫وقال‪" :‬ولن ننتظر من الصحفً السوري أن ٌإدي لنا هذا الواجب‪ ،‬بل هو ال ٌستطٌعه لو أراده‪ ،‬ألن‬
‫نفسه ؼٌر أنفسنا؛ فلسنا ننتظر من الجرابد والمجبلت السورٌة أن تطالبنا بدرس الحضارة الفرعونٌة كما‬
‫ف عل الدكتور هٌكل (محمد حسٌن هٌكل)‪ ،‬وأن ٌثبت على هذه الدعوة‪ ،‬بٌنما المجبلت السورٌة تتهمه باإللحاد‬
‫من أجلها‪ ،‬ولسنا ننتظر منها أن تدعونا إلى وطنٌة مصرٌة مقصورة على حدود مصر الجؽرافٌة كما فعل‬
‫األستاذ لطفً السٌد فً "الجرٌدة" مع اإلهانات المتكررة التً لقٌها من العامة على ذلك‪ ،‬والخبلصة أن‬
‫الصحٌفة التً ٌقرأها المصري ٌجب أن تكون مصرٌة بالدم والروح والمزاج‪ ،‬ألنها مرآة نفسه فً الٌوم‬
‫والؽد‪ ،‬تمثل رجاءه فً االستقبلل والحرٌة‪ ،‬وتنشد له أدبا مصرٌا ٌتفق ومزاجه ولؽته وبٌبته ومصرٌته"‪.‬‬

‫وشاور سبلمة موسى على رشٌد رضا القادم من الشام لٌهاجم المصرٌٌن الذٌن رفضوا فكرة "الجامعة‬
‫اإلسبلمٌة"‪ ،‬ووصفهم بـ"العمبلء لبلحتبلل"‪ ،‬فقال موسى عنه‪" :‬السوري القح الذي لٌس فً دمه قطرة‬
‫واحدة من دماء المصرٌٌن"‪ ،‬وتساءل‪" :‬لماذا ال تكون ببلده األصلٌة أولى منا بخدمته وحماسته‪ ،‬إن وطنه‬
‫األصلً قد ٌحترق باالستعمار‪ ،‬وقد ٌعٌش فً فوضى وشقاق‪ ،‬لكنه ال ٌؽار علٌه‪ ،‬بل ٌؽار على المصرٌٌن‬
‫وهو لٌس منهم"‪.‬‬

‫(ٖٕ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر تطور الحركة الوطنٌة فً مصر (‪ ،)ٔ9ٖٙ -ٔ9ٔ8‬عبد العظٌم رمضان‪ ،‬مكتبة مدبولً‪ ،‬طٕ‪ ،‬ص ٗ‪ ،9ٙ -9‬و"مصر الحدٌثة"‪،‬‬
‫كرومر‪ ،‬جٕ‪ ،‬المركز القومً للترجمة‪ ،‬ترجمة صبري محمد حسن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ ،ٕ٘8‬وٕ‪ٕٖٙ -ٕٙ‬‬
‫(ٕٗ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن‪ ،‬ج ٕ‪ ،‬ص ٓ٘‪ٙ‬‬

‫ٔٗ‪ٙ‬‬
‫وباألسلوب نفسه قال عن السوري محب الدٌن الخطٌب‪" :‬انزح إلى ببلدك وهلم بؽٌرتك هذه للدفاع عن‬
‫وطنك األصلً"‪ ،‬وانتقد كذلك مصطفى صادق الرافعً مإكدا خلو دمه من المصرٌة‪ ،‬فهو مصري الرعوٌة‬
‫ولكنه سوري األصل‪ ،‬ونصحه بالرحٌل إلى وطن آبابه‪.‬‬

‫وعن اآلفات والفتن التً صاحبت كثرة الشوام قال سبلمة موسى‪" :‬وبعد‪ ،‬فنحن نقول لهإالء السورٌٌن‪،‬‬
‫سواء تمصروا أم لم ٌتمصروا‪ ،‬إنه ال ٌلٌق بهم أن ٌدخلوا ببلدنا وٌعٌشوا باإلفساد والوقٌعة بٌن أبنابها‬
‫المسلمٌن والنصارى والشبان والشٌوخ‪ ،‬وشبابنا ال ٌرؼب فً الفساد أو الكفر أو الشٌوعٌة(ٕ٘‪.")ٔ9‬‬

‫ورؼم وعً هإالء الزعماء والمثقفٌن المصرٌٌن بخطر القومٌة العربٌة‪ ،‬إال أنها وجدت لها سبٌبل بٌن‬
‫مثقفٌن مختلفٌن‪ ،‬مستؽلة أجواء التعاطؾ مع ثورة عمر المختار ضد اإلٌطالٌٌن فً لٌبٌا‪ ،‬والثورة السورٌة‬
‫ضد الفرنسٌٌن‪ ،‬والثورة العراقٌة ضد اإلنجلٌز‪ ،‬والقصص اللً ُتحكى عن وحشٌة المحتلٌن وعن بطوالت‬
‫العرب‪ ،‬حتى جاءت قضٌة فلسطٌن لتجعل من التعاطؾ مع "العروبة" تٌارا ربٌسٌا ضمن التٌارات التً‬
‫تتناطح فً مصر وتتسابق على خطفها فً الثبلثٌنات واألربعٌنات‪.‬‬

‫ولذا تعتبر الصهٌونٌة ومشروع دولة إسرابٌل "فاتحة خٌر" للقومٌٌن العرب الستخدام "قضٌة فلسطٌن"‬
‫فً شحن مشاعر المصرٌٌن للتحول عن هوٌتهم المصرٌة ومبادئ ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬إلى الهوٌة العربٌة ومبادئ‬
‫الحركة العربٌة السرٌة‪ ،‬مستؽلٌن العامل الدٌنً فً القضٌة كالقدس والمسجد األقصى‪ ،‬بالرؼم من أن‬
‫الحركة القومٌة العربٌة علمانٌة‪ ،‬لكن استخدمت النؽمة الدٌنٌة للشحن على النمط المكٌافٌلً‪ ،‬وصنع فكرة أن‬
‫إنقاذ فلسطٌن وتحرٌر كافة دول المنطقة من االستعمار لن ٌكون إال بالتكتل فً "الوحدة العربٌة"‪.‬‬

‫وفً هذا ٌقول محمد جابر األنصاري فً كتابه "تحوالت الفكر والسٌاسة فً الشرق العربً ٖٓ‪-ٔ9‬‬
‫حول السٌاسٌٌن المصرٌٌن نحو سٌاسة عربٌة شاملة"‪،‬‬
‫ٓ‪" :"ٔ99‬لقد كانت فلسطٌن هً العامل الحاسم الذي َّ‬
‫وكان ثمرة ما سماه "تعرٌب مصر سٌاسٌا" فً الفترة من ٖٓ‪.)ٔ9ٕٙ(ٔ9ٖٙ -ٔ9‬‬

‫وساهم التٌار السلفً فً جر مصر للتعرٌب بنشاط محموم‪ ،‬وسبلحه فً هذا الجمعٌات واإلعبلم‪ ،‬فقامت‬
‫الصحؾ السلفٌة‪ ،‬خاصة التً أنشؤها شوام سلفٌٌن مثل رشٌد رضا ومحب الدٌن الخطٌب‪ ،‬بمهمة توجٌه‬
‫المصرٌٌن لقضاٌا خارجٌة‪ ،‬فؤبرزت الحدٌث عن الثورة السورٌة فً العشرٌنات ضد الفرنسٌس وحق‬
‫الشعب السوري فً االستقبلل وجمعت التبرعات لمنكوبً الثورة(‪.")ٔ9ٕ9‬‬

‫وازدحمت القاهرة بالمإتمرات وراء المإتمرات‪ ،‬والندوات وراء الندوات‪ ،‬والصحافة والصالونات‬
‫المسٌطر علٌها من الشوام مشتعلة بالدعوة لمناصرة فلسطٌن والتوحد العربً ضد االستعمار إلنقاذ فلسطٌن‪،‬‬
‫وأن من ٌتهاون فً ذلك أو ٌصر على مبدأ مصر للمصرٌٌن فهو "عمٌل للصهاٌنة"‪.‬‬

‫(ٕ٘‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن‪ ،‬محمد جبرٌل‪ ،‬ج ٕ‪ ،‬ص ٔ٘‪ٙ‬‬
‫(‪)ٔ9ٕٙ‬‬
‫‪ -‬الحركة القومٌة العربٌة فً القرن العشرٌن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ٘ٗ‬
‫(‪)ٔ9ٕ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕٗ9‬‬

‫ٕٗ‪ٙ‬‬
‫وقام الفلسطٌنً محمد علً الطاهر بدور فً شحن عواطؾ المصرٌٌن ناحٌة فلسطٌن بتؤسٌس جرٌدة‬
‫"الشورى" و"الشباب" فً القاهرة ٌتكلم فٌهما عن التدمٌر والقتل الذي تمارسه العصابات الصهٌونٌة ضد‬
‫الفلسطٌنٌٌن(‪)ٔ9ٕ8‬؛ وترك هو فلسطٌن والجهاد فٌها لكً ٌجاهد فً مصر‪.‬‬

‫وفً ‪ ٔ9ٖ8‬بدأت القاهرة استضافة مإتمرات تؤخذ صفة "عربٌة"‪ ،‬وهو أمر لم ٌكن مؤلوفا‪ ،‬فشهدت‬
‫مإتمرا برلمانٌا للشعوب العربٌة‪ ،‬وفً نفس العام عقد المإتمر النسابً العربً فً القاهرة بدعوة من هدى‬
‫شعراوي‪ -‬ربٌسة االتحاد النسابً المصري‪ -‬للنظر فً تطورات أوضاع فلسطٌن‪ ،‬كما شاركت مصر مع‬
‫العراق والسعودٌة والٌمن وشرق األردن فً مإتمر المابدة المستدٌرة الذي دعت إلٌه برٌطانٌا فً ‪ٔ9ٖ9‬‬
‫بلندن لدراسة القضٌة الفلسطٌنٌة‪ ،‬وهو أول مإتمر تحضره مصر بصفة رسمٌة حول فلسطٌن(‪.)ٔ9ٕ9‬‬

‫وبالتزامن‪ ،‬ظهرت السٌنما والمسرح كسبلح هام فً ٌد القومٌٌن العرب والشوام الوافدٌن‪ ،‬ومن تؤثر بهم‬
‫فٌما بعد من المصرٌٌن‪.‬‬

‫ففً األربعٌنات ومطلع الخمسٌنات تم حشو األفبلم بؤوبرٌتات وقصص بدوٌة وشامٌة ومؽربٌة‪ ،‬تفوح‬
‫منها أجواء الشام ولبنان والحجاز وببلد المؽرب‪ ،‬خاصة وأن كثٌرا من منتجً األفبلم أو الممثلٌن‬
‫والمطربٌن كانوا من هذه الببلد‪ ،‬مثل فرٌد األطرش وأسمهان أصحاب األوبرٌتات العربٌة والبدوٌة‬
‫الشهٌرة‪ ،‬وفجؤة‪ ..‬حولوا صورة الرجل البدوي بعقاله البدوي الذي ٌحمل ذكرٌات األطماع والؽارات‬
‫واالعتداءات المرَّ ة فً صدور المصرٌٌن إلى صورة الرجل البطل المؽوار الذي ٌحمل كل صفات البطولة‬
‫والحرٌة‪ ،‬وٌلزم أن ٌقلده المصرٌون وٌفخرون بؤن ٌحملوا هوٌته‪.‬‬

‫وفً فٌلم "ؼرام وانتقام" ( إنتاج عام ٗٗ‪ ..)ٔ9‬مشاهد ال ُتنسى‪ ..‬ألنها لم تكن عشوابٌة‪.‬‬

‫تعرض سهٌر (أسمهان) على جمال (ٌوسؾ وهبً) أن ٌضع موسٌقى استعراض ؼنابً لحفل خٌري‪.‬‬

‫المشهد‪:‬‬

‫سهٌر متحمسة‪ :‬موضوع التابلوه جدٌد من نوعه‪ ،‬هٌعجبك‪ ،‬سمٌته مصر الفرعونٌة‪.‬‬

‫جمال مبتسما‪ :‬فكرة وجٌهة ٌا هانم‪ ..‬ولكن مش مبتكرة‪ ،‬ألنه ؼٌرنا سبقنا فٌها‪.‬‬

‫سهٌر‪ :‬أومال تقترح إٌه؟‬

‫جمال‪ :‬اقترح تخلٌد مصر العربٌة‪ ،‬مصر الحدٌثة‪.‬‬

‫هكذا‪ ..‬اعتبر واضع الفٌلم أن الهوٌة المصرٌة األصٌلة "موضة قدٌمة"‪ ،‬وٌلزم السٌر وراء "الموضة‬

‫(‪)ٔ9ٕ8‬‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٖٗٙ‬‬
‫(‪)ٔ9ٕ9‬‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‪ ،‬ص ٓٗٗ‬

‫ٖٗ‪ٙ‬‬
‫الجدٌدة" فً ذلك الوقت‪ ،‬وهً القومٌة العربٌة‪ ،‬لنخلق "مصر الحدٌثة"‪ ،‬وكؤن هوٌات األوطان وفطرة هللا‬
‫فً البشر تخضع لـ"الموضة" مثل تسرٌحة الشعر أو أنها تتبدل بمرور السنٌن‪.‬‬

‫وبالفعل‪ ،‬تم نقل الكامٌرا إلى الشام لتصوٌر جزء من الفٌلم هناك‪ ،‬فً ؼٌر ضرورة درامٌة لذلك‪ ،‬وتؽنً‬
‫سهٌر أؼانً شامٌة وسط أجواء بدوٌة‪ ،‬وبعدها ٌلقً الدكتورة بشارة (بشارة واكٌم) خطبة عصماء باللهجة‬
‫الشامٌة ترحٌبا بسهٌر‪ ،‬تقول‪:‬‬

‫ت وجاع المرضان تحٌا الشهامة المصرٌة‪ ،‬شامً‬ ‫"ٌا بنت مصر ولبنان ٌا نجمة األمة العربٌة‪ ،‬خفف ِ‬
‫َّ‬
‫وهبل بالفكر الراقً‬ ‫فلسطٌنً وعراقً وابن الببلد النٌلٌة‪ ،‬نسب صاٌرله زمان باقً والد عموم بالجنسٌة‪،‬‬
‫حتصٌروا وحدة عربٌة"‪ ..‬وصفق الجمٌع منشكحٌن‪.‬‬

‫والبلفت أن الفٌلم من إنتاج ستدٌو مصر الذي أسسه طلعت حرب بروح ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬لٌجعل السٌنما‬
‫سخر شبابه لٌقدم مسرحا مصرٌا بعد‬‫مصرٌة وتخدم الهوٌة المصرٌة‪ ،‬وبطل الفٌلم هو ٌوسؾ وهبً الذي َّ‬
‫أن كان األوروبٌون والشوام ٌسٌطرون على هذا المجال‪ ،‬فكان هذا من عبلمات قوة تؤثٌر القومٌٌن العرب‬
‫رؼم قلة عددهم على المصرٌٌن‪.‬‬

‫وكما ٌقول المثل المصري الفصٌح "الزن على الودان أمر من السحر"‪ ،‬فكثرة األنشطة الثقافٌة والضؽط‬
‫العاطفً الذي مارسه القومٌون العرب الوافدون فً مصر وربطهم للوحدة العربٌة بالتحرر من االحتبلل‬
‫األوروبً والقضاء على الصهٌونٌة أفرز هذا التحول‪.‬‬

‫واشتهرت أوبرٌتات فرٌد األطرش العروبٌة‪ ،‬وأهمها "بساط الرٌح" (فٌلم آخر كدبة إنتاج عام ٓ٘‪،)ٔ9‬‬
‫الذي ٌنتقل من بلد إلى بلد فً المنطقة ٌعرض مزاٌاها بلهجة أهلها وأزٌاءهم‪ ،‬سورٌا ولبنان والعراق‬
‫وتونس‪ ،‬ثم ٌحط رحاله فً مصر‪ ..‬ولم تكن هذه الجولة لتقرٌب تلك البلدان إلى المصرٌٌن عشوابٌة‪.‬‬

‫ولوحظ هذا أٌضا فً اختٌار قصص أفبلم اعتمدت على تسوٌق األدب العربً وقصص شخصٌات لٌست‬
‫مصرٌة‪ ،‬بل عربٌة ال تنتمً للمصرٌٌن دما وال روحا وال تارٌخا‪ ،‬وال تفٌدهم فً قضٌة التحرر من‬
‫االحتبلل‪ ،‬ومن ذلك فٌلم "سبلَّمة" (٘ٗ‪ )ٔ9‬من تؤلٌؾ أحمد علً باكثٌر (ٌمنً عاش فً مصر) وتمثٌل أم‬
‫كلثوم‪ ،‬وٌقوم على قصة جارٌة فً الحجاز خبلل العصر األموي‪ ،‬وتدور المشاهد فً أجواء وبلهجة ال‬
‫تخص المصرٌٌن بصلة‪ ،‬وفٌلم "رابحة" (٘ٗ‪ )ٔ9‬تؤلٌؾ بٌرم التونسً وتمثٌل كوكا ومحمد الكحبلوي‪،‬‬
‫وفٌلم "عنتر وعبلة" (٘ٗ‪ ،)ٔ9‬عن قبٌلة بنً عبس‪ ،‬بطولة سراج منٌر وكوكا‪ ،‬وفٌلم "لٌلى العامرٌة"‬
‫(‪ ) ٔ9ٗ8‬عن قصة قٌس ولٌلى إنتاج الشركة السورٌة اللبنانٌة للسٌنما‪ ،‬وتمثٌل ٌحٌى شاهٌن وكوكا‪ ،‬وكوكا‬
‫أخذت على عاتقها تقدٌم األفبلم باللهجة البدوٌة‪ ،‬وتقدٌم قصص وافدة من بطن جزٌرة العرب‪.‬‬

‫وفً األفبلم التً تتحدث عن زواج مصرٌٌن ببنات البدو البد أن ٌُظهروا المصرٌة فً صورة تمثل‬
‫العار والخبلعة‪ ،‬والبدوٌة فً صورة الشرٌفة بنت األشراؾ‪ ،‬تقؾ لتلقً على سمع المصرٌة عبارات‬
‫لتعلمها الشرؾ والعفة‪ ،‬مثل فٌلم "رابحة"‪ ،‬وفٌلم ""طرٌق الشوك" (إنتاج ٓ٘‪ )ٔ9‬لحسٌن صدقً والمطربة‬

‫ٗٗ‪ٙ‬‬
‫التونسٌة حسٌبة رشدي‪ ،‬وٌقول الظابط مجدي (حسٌن صدقً) لبنت القبٌلة‪" :‬إنتً عربٌة وفٌكً شرؾ‬
‫العرب‪ ،‬ومقامك ؼالً عندنا"‪ ،‬وفً ذات الفٌلم قال لزوجته المصرٌة‪ٌ" :‬ارٌت أخبلقك زي أخبلق بنات‬
‫العرب"‪ ،‬ولم ٌقدم الفٌلمان نموذجا لمصرٌة شرٌفة‪ ...‬والمثٌر للعجب أن الفتاتٌن العربٌتٌن فً الفٌلمٌن‬
‫ٌنتمٌان لقبٌلتٌن ظهرتا تحترفان السلب والنهب والسطو على الؽٌر‪ ،‬ورؼم هذا قدمهم على أنهم "أشرؾ"‬
‫من المصرٌٌن ونموذج ٌُحتذى‪.‬‬

‫إنه قاموس المسٌخ الدجال‪ ..‬تورط فٌه مصرٌون متعلمون دون وعً‪ ،‬وسٌكونون أدواته الطٌعة لسنٌن‬
‫طوٌلة‪.‬‬

‫فمنذ الثبلثٌنات استهدفت حملة تعرٌب مصر األدب والسٌنما لتصل إلى كل مصري ولو فً أقصى‬
‫الرٌؾ‪ ،‬واشتد الزن فً األربعٌنات‪ ،‬ولم تكن قصص زواج المصرٌٌن بالبدو فً أفبلم مثل "رابحة"‬
‫وؼٌرها سوى تزوٌج قسري لمصر بالقومٌة العربٌة‪.‬‬

‫وٌشرح الكاتب المصري محمد جبرٌل فً "مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن" كٌؾ بعد أن نجح‬
‫الشوام فً إقناع بعض المثقفٌن المصرٌٌن بـ"القومٌة العربٌة" فً الثبلثٌنات‪ ،‬ومنهم زعماء بحزب الوفد‪،‬‬
‫بدأ سعً محموم لتعزٌز ذلك فً الصحؾ‪ ،‬وحتى السٌنما لٌصل إلى كل الناس‪ ،‬وٌضٌؾ‪" :‬ولعل األفبلم‬
‫المصرٌة أسهمت فً تعمٌق المعنى من خبلل التكلم باللهجات العربٌة‪ ،‬وتقدٌم الرقصات واألؼنٌات العربٌة‪،‬‬
‫واالستعراضات التً تإكد عروبة المنطقة وتوافق ظروفها (ٖٓ‪.")ٔ9‬‬

‫و حشر اللؽة والمبلبس والهوٌة البدوٌة والشامٌة صار من األربعٌنات كؤنه فرٌضة على األفبلم حتى لو‬
‫لم تتناول قصة بدوٌة وشامٌة‪ ،‬مثلما نرى فً فٌلم "أنا قلبً دلٌلً" (إنتاج ‪ )ٔ9ٗ9‬بحشر أؼنٌة شامٌة "ٌا‬
‫بنت اإلٌه قتلتٌنً" للمطرب اللبنانً محمد سلمان فً الفٌلم الذي ٌتكلم عن قصة مصرٌة صرفة‪ ،‬وحشر‬
‫أؼنٌة شامٌة للفنان السوري إلٌاس مإدب فً أوبرٌت "حبٌبً المجهول" فً فٌلم "عنبر" (إنتاج ‪،)ٔ9ٗ8‬‬
‫وتخصٌص أؼنٌة وأوبرٌتان كامبلن لؤلؼانً والرقصات والمبلبس الشامٌة فً فٌلم "لٌلة العٌد" (إنتاج‬
‫‪ )ٔ9ٗ9‬منهم أوبرٌت اسمه "أنا قلبً جامعة دول عربٌة" لشادٌة وإلٌاس مإدب ٌظهر فٌه الزواج بٌن‬
‫الشامً والمصرٌة‪ ،‬وانتهى بإزالة اسم "المصرٌة" لتصبح "العربٌة"‪ ،‬وهً إشارة واضحة المؽزى‪.‬‬

‫ومبلحظ أن منتج أو مخرج معظم هذه األفبلم أنور وجدي‪ ،‬وهم من أب سوري‪ ،‬وٌظهر أنه بدل أن‬
‫َّ‬
‫وسخر فنه لتحقٌقها‪.‬‬ ‫ٌستكمل تمصٌر نفسه فً مصر راقت له فكرة تعرٌب أو سورنة مصر‪،‬‬

‫ومن هذه األفبلم الكثٌر‪ ،‬ولم ٌكن لهذا تفسٌر إال تقرٌب وتحبٌب اللهجة والثقافة الشامٌة والبدوٌة‬
‫للمصرٌٌن تمهٌدا لقبول القومٌة العربٌة وتؽٌٌر جلدهم‪ ،‬ومحو الذكرٌات الكبٌبة لمناظر ؼارات العربان على‬
‫قراهم‪ ،‬وتسلط وتجبر الشوام والمؽاربة على الفبلحٌن‪ ،‬أو تعاونهم مع المحتلٌن ضدهم‪ ،‬ولكً ٌفقدوا سبلمة‬
‫موسى ومن مثله حجتهم فً االختبلؾ الثقافً واللؽوي بٌن المصرٌٌن والشوام حٌن قال‪"" :‬هإالء وؼٌرهم‬

‫(ٖٓ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن‪ ،‬محمد جبرٌل‪ ،‬ج ٕ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓ‪ٙ9‬‬

‫٘ٗ‪ٙ‬‬
‫من ذوي األصل العربً هم فً نظر الفبلحٌن المصرٌٌن أجانب بسحنتهم ولون بشرتهم ولهجتهم‪ ،‬ولو وقؾ‬
‫الشٌخ رشٌد رضا أو محب الدٌن الخطٌب بٌن جماعة من الفبلحٌن لما استطاع أحدهما أن ٌتفاهم وإٌاهم‬
‫بكبلم مفهوم"(ٖٔ‪.)ٔ9‬‬

‫ووضع عبد الرحمن عزام‪ -‬المتمسك بؤصوله القبلٌة العربٌة‪ -‬تبرٌرا لما وصفها بعروبة مصر ٌلوي به‬
‫التارٌخ فٌقول‪َ " :‬ق ِبل المصرٌون دٌن العرب‪ ،‬وعادات العرب‪ ،‬ولسان العرب‪ ،‬وحضارة العرب‪ ،‬وأصبحوا عربا‬
‫فً طلٌعة العرب(ٕٖ‪ ،")ٔ9‬وتجاهل عزام أن قبول الدٌن ال عبلقة له بالهوٌة الوطنٌة‪ ،‬فالدٌن المسٌحً لٌس دٌنا‬
‫فلسطٌنٌا أو آرامٌا لمجرد أنه نزل فً فلسطٌن وبلؽة أهلها‪ ،‬والٌهودٌة لٌست دٌنا مصرٌا لمجرد أنهم ٌقولن إن‬
‫التوراة نزلت فً مصر‪ ،‬وال المصرٌٌن المسٌحٌٌن صاروا فلسطٌنٌٌن ألن المسٌحٌة نزلت فً فلسطٌن‪ ،‬فكذلك‬
‫اإلسبلم لٌس دٌنا عربٌا لمجرد أنه نزل فً جزٌرة العرب وبلؽتهم‪ ،‬ولٌس المسلم بالضرورة ٌصبح عربٌا ألنه‬
‫قبل اإلسبلم أو تعلم اللؽة العربٌة ألجل فهم القرآن‪.‬‬

‫ولم ٌُفهم أي "حضارة عربٌة" قبلها المصرٌون؟ فالعرب استفادوا من الحضارة المصرٌة أكثر بكثٌر‬
‫فلماذا لم ٌصبحوا هم مصرٌون؟ واستفاد العرب من حضارة الٌونان فلماذا لم ٌصبحوا ٌونانٌون؟ والكثٌر‬
‫من العادات العربٌة التً دخلت مصر كانت تحت رعاٌة االحتبلل‪ ،‬أي مفروضة فرضا بواقع االحتبلل‪،‬‬
‫فهل ألن الفرنسٌٌن فرضوا لؽتهم أو عاداتهم على الجزابر تكون الجزابر فرنسٌة؟‬

‫وزاد على ذلك بمؽالطات علمٌة حٌن قال‪" :‬وإن أكثرٌة دماء المصرٌٌن ترجع إلى العرق العربً‪ ،‬وإن‬
‫فردا واحدا من ٓ‪ %9‬من سكان مصر ال ٌستطٌع أن ٌنكر أن عروقه تجري فٌها الدماء العربٌة"‪.‬‬

‫وأي فحص فً أوراق التارٌخ ٌُظهر أن الفبلحٌن الذٌن تجري فً عروقهم دماء وطٌن مصر دابما هم‬
‫السواد األعظم فً ببلدهم‪ ،‬بمتوسط ما بٌن ٘‪ %8‬على األقل طوال أٌام االحتبلالت وحتى االحتبلل‬
‫اإلنجلٌزي‪ ،‬كما رأٌنا فً الفصول السابقة‪ ،‬بل وكان العرب أحرص ما ٌكون على قلة الزواج بالفبلحٌن‪،‬‬
‫وفً الحاالت التً حصل فٌها زواج‪ ،‬فلماذا ال ٌقول إن العرب الذٌن استوطنوا مصر وتزوجوا من بناتها‬
‫اختلطت دمابهم بالدماء المصرٌة فحقا علٌهم أن ٌعتبروا أنفسهم مصرٌٌن هوٌة وثقافة؟ خاصة وأنهم هم‬
‫الوافدون على مصر ال العكس‪ ،‬ولماذا المصرٌون فقط هم من وجب علٌهم تؽٌٌر هوٌتهم وهم بداخل ببلدهم‬
‫وٌصبحوا عربا لمجرد أن قلة منهم تزوجت بعرب وافدٌن؟ ولماذا ال ٌصبحون ٌونان أو أتراكا أو إنجلٌز‬
‫بما أن قلة منهم أٌضا تزوجت من هإالء؟ لماذا ٌؽٌر ابن البلد هوٌته وال ٌؽٌرها الوافد؟ أم هو قانون‬
‫االحتبلل هو الذي ما زال ٌسري فً عروق ودماء عبد الرحمن عزام؟‬

‫هو قانون المسٌخ الدجال‪......‬‬

‫ولوحظ أن عبد الرحمن عزام سعى بكل قوته إلبعاد نفسه فعبل عن الدماء المصرٌة‪ ،‬فهو إضافة ألصوله‬

‫(ٖٔ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٔ٘‪ٙ‬‬
‫(ٕٖ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الحركة القومٌة العربٌة فً القرن العشرٌن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٔٗ‬

‫‪ٙٗٙ‬‬
‫القبلٌة العربٌة الوافدة حرص فً زواجه على أن ٌتزوج مرتٌن من قباٌل عربٌة تعٌش فً لٌبٌا لٌخرج أبنابه‬
‫أنقٌاء الدم العربً‪ ،‬وزاد على ذلك بؤن كرَّ س حٌاته إلٌهام المصرٌٌن بؤنهم لٌسوا مصرٌٌن‪ ،‬وهو ما ٌضع‬
‫حوله دابرة ملٌبة بعبلمات االستفهام‪.‬‬

‫فلٌس من الواضح مثبل أنه مادام عزام ٌعتز كل هذا االعتزاز بعروبته القدٌمة‪ ،‬ولم ٌحب أن ٌكون‬
‫مصرٌا‪ ،‬فلماذا عاش فً مصر ولم ٌذهب للعٌش فً الحجاز لٌكون عربٌا خالصا دما وإقامة‪ ،‬لماذا ٌشد‬
‫توب العروبة شدا من الحجاز ولٌبٌا وإلباسه لمصر‪ ،‬أم أنه تعامل مع مصر كؽنٌمة حرب؟‬

‫واستدل آخرون على ما ٌصفونها بـ "عروبة مصر" بوجود قباٌل عربٌة فً مصر قبل وصول عمرو‬
‫بن العاص استوطنت شرق الوجه القبلً أو حواؾ محافظة الشرقٌة أٌام االحتبلل الرومانً‪ ،‬ولكنهم ال‬
‫ٌفسرون لماذا إذن ال نقول إن مصر ٌونانٌة أو رومانٌة ألن الٌونان والرومان استوطنوها ألؾ سنة؟‬
‫واحتلوا مدنا أو قلب مدن كاملة‪ ،‬وأعدادهم كانت أضعاؾ عدد العرب؟ ولماذا ال نقول إن مصر ٌهودٌة‬
‫والٌهود استوطنوها أٌضا فً ظل ذلك االحتبلل مبات السنٌن؟ فمصر وقت االحتبلل الٌونانً والرومانً‬
‫كانت تزخر‪ -‬خاصة فً المدن‪ -‬بؤعراق مستوطنة كثٌرة‪ ،‬ولم ٌحق لواحدة منها أن تفرض جنسٌتها وعرقها‬
‫على مصر‪ ،‬واألولى أن من ٌستوطن مكانا هو الذي ٌصطبػ بهوٌته ال أن ٌصطبػ المكان بهوٌته األجنبٌة‬
‫فٌرتكب عملٌة إبادة جماعٌة للشعب المصري كاملة األركان‪ ،‬وتخالؾ فطرة هللا فً اختبلؾ هوٌات‬
‫الشعوب "وجعلكم شعوبا وقبابل لتعارفوا" (الحجرات اآلٌة ٖٔ)‪ ،‬وقال لتعارفوا‪ ،‬أي تعاونوا‪ ،‬ال لٌمحً‬
‫شعب شعبا آخر جسدٌا أو حضارٌا لمجرد أنه احتله واستوطنه‪.‬‬

‫وبجانب سبلح تزوٌر التارٌخ تفنن القومٌون العرب أٌضا فً سبلح الترؼٌب‪ ،‬أقوى سبلح فً السٌطرة‬
‫على المصرٌٌن‪ ،‬وإن لم ٌفلح هذا السبلح مع سعد زؼلول لقوة شخصٌته ومصرٌته‪ ،‬فإنه أفلح مع قٌادات‬
‫مصرٌة أخرى‪ ،‬فحٌن سافر مكرم عبٌد‪ ،‬القٌادي البارز بحزب الوفد‪ ،‬إلى الشام سنة ٖٔ‪ ،ٔ9‬التؾ حوله‬
‫خطباء الشام فً حفل تكرٌمً له‪ ،‬دعا فٌه الزعٌم السوري لطفً الحفار إلى زعامة مصر للببلد العربٌة‪،‬‬
‫ولكنه وضع شروطا‪ ،‬وهً أن "تكونوا معنا عربا ال شرقٌٌن وال فراعنة"‪.‬‬

‫وكان رد عبٌد صادما وسرٌعا لما قال‪" :‬إن المصرٌٌن عرب‪ ...‬وأقصد بقولً المصرٌٌن عرب هو هذه‬
‫الوشابج وتلك الصبلت التً لم تفصمها الحدود الجؽرافٌة ولم تنل منها األطماع السٌاسٌة مناال" (ٖٖ‪.")ٔ9‬‬

‫فانجرَّ حزب الوفد وراء نؽمة زعامة مصر للمنطقة العربٌة‪ ،‬رؼم أن مصر لم تكن لتحتاج استٌراد هوٌة‬
‫عربٌة لتكون زعٌمة‪ ،‬بل ألنها هً الزعٌمة والرابدة تكالب علٌها هإالء لتنضم إلى مشروعهم‪ ،‬ولم ٌنتبه‬
‫إلى أنه حٌن رمى له الحفار طعم "زعامة مصر للعرب" بشرط تخلٌها عن "هوٌتها المصرٌة"‪ ،‬فهو فً‬
‫الحقٌقة ٌجردها من زعامتها الفطرٌة‪ ،‬وأنه ٌجرها جرا لتكون مجرد "والٌة"‪ ،‬أو "محافظة"‪ ،‬فً الدولة‬
‫العربٌة الكبرى المنتظرة‪ ،‬والتً إن قامت فلن ٌُسمح للمصرٌٌن إال أن ٌكونوا "فواعلٌة" لبقٌة الشعوب فٌها‪.‬‬

‫(ٖٖ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن‪ ،‬محمد جبرٌل‪ ،‬ج ٕ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٙٙ8‬‬

‫‪ٙٗ7‬‬
‫وانضم لرفع لواء العروبة فً مصر كذلك األدٌب زكً مبارك واألدٌب أحمد حسن الزٌات الذي عمل‬
‫مدرسا فترة فً العراق‪ ،‬وتؤثر بالقومٌٌن العرب الناشطون هناك فً تجنٌد الوافدٌن‪ ،‬فعاد "عروبٌا"‪.‬‬

‫وحٌن أحست القومٌة العربٌة بؤنها وضعت لها قدما فً مصر فً الثبلثٌنات أخرجت من شنطتها سبلح‬
‫االؼتٌال المعنوي واإلرهاب الذي تحدث عنه دستورها "الكتاب األحمر"‪ ،‬فؤمعن "القومٌون العرب" الطعن‬
‫فً رافضٌهم ومنهم طه حسٌن رؼم أنه لم ٌدعً لقطٌعة مع العرب‪ ،‬بل وهو وزٌر للمعارؾ قدم مساعدات‬
‫لدول عربٌة مثل الكوٌت كإرسال معلمٌن على حساب الخزانة المصرٌة بعد أن رفض المعلمٌن الفلسطٌنٌٌن‬
‫التدرٌس هناك لضعؾ األجر‪ -‬قبل تدفق البترول‪ -‬ورؼم أنه عاشق لؤلدب العربً لدرجة أنه ال ٌتحدث إال‬
‫بالعربٌة الفصحى‪ ،‬ولكن جرٌمته عندهم أنه أراد االحتفاظ لمصر بمصرٌتها وأن ٌكون والء المصري‬
‫لمصر وال ٌقبل احتبللها من عربً أو عجمً(ٖٗ‪.)ٔ9‬‬

‫وذلك أن طه حسٌن تحدث عن الظلم الذي عاناه المصرٌون من االحتبلل العربً ضمن ؼٌره من‬
‫االحتبلالت لما كتب فً جرٌدة "كوكب الشرق" سنة ٖٖ‪ٌ ٔ9‬قول‪" :‬إن المصرٌٌن قد خضعوا لضروب من‬
‫البؽض وألوان من العدوان جاءتهم من الفرس والٌونان‪ ،‬وجاءتهم من العرب والترك والفرنسٌٌن"(ٖ٘‪.)ٔ9‬‬

‫ورفض طه حسٌن شرخ الشخصٌة المصرٌة وجعلها مصرٌة وعربٌة فً آن واحد فانتقد من انحرؾ من‬
‫المصرٌٌن وسار وراء "القومٌٌن العرب"‪ ،‬وقال عنهم تحت عنوان "المصرٌة والمجادلون"‪" :‬زعموا أنهم‬
‫قادرون على أن ٌكونوا مصرٌٌن محتفظٌن بمصرٌتهم‪ ،‬حرٌصٌن على شخصٌتهم‪ ،‬وأن ٌكونوا عربا‬
‫ٌنتمون إلى عدنان وقحطان‪ ،‬وٌلجون فً الفن بهذا النسب والحرص علٌه والرؼبة فً مواطنه القدٌمة‪ ،‬أي‬
‫أنهم قادرون على أن ٌكونوا مصرٌٌن وحجازٌٌن أو ٌمنٌٌن فً وقت واحد‪ ،‬كؤن الوطنٌة لعبة فً أٌدٌهم‬
‫أر عقوال بلؽت من القدرة على‬‫شدٌدة المرونة‪ٌ ،‬عطونها ما أحبوا من الصور‪ ،‬وما شاءوا من األشكال‪ ،‬ولم َ‬
‫التوفٌق بٌن هذه النقابص كعقول أصحابنا هإالء الذٌن ٌرٌدون أن ٌحتفظوا بشخصٌة مصر والحجاز‬
‫والٌمن‪ ،‬أي ٌجعلوا الوطنٌة أمرا شابعا‪ ،‬ثم ٌزعمون بعد ذلك أنهم وطنٌون"‪.‬‬

‫وبشكل أكثر جرأة ٌلمس طه حسٌن الجرح حٌن ٌنتقد من ٌتمسكون بؤصول قبلٌة عربٌة وٌسعون‬
‫لفرضها على مصر‪" :‬ولو أنهم عقلوا ما ٌقولون وفهموا ما ٌذهبون إلٌه لقالوا ؼٌر خابفٌن وال وجلٌن إنهم‬
‫ال ٌزالون ٌعتبرون أنفسهم فً مصر فاتحٌن ٌإٌدهم السٌؾ‪ ،‬وتبصرهم السنان‪ ،‬جناٌة لٌس أكبر منها‪ ،‬وذنب‬
‫لٌس أعظم منه خطرا على مصر‪ ،‬فإنهم ٌرٌدون بعد ثبلثة عشر قرنا مضت على الفتح أن ٌقسموا‬
‫المصرٌٌن بعروبتهم الكاذبة إلى ؼالب ومؽلوب‪ ،‬ومع أنهم ٌعلمون أن مزٌة الفتح والتؽلب قد ذهبت من‬
‫أٌدٌهم منذ زمن بعٌد إن صح أنهم من نسل الفاتحٌن حقا‪ ،‬وقد أصبحوا اآلن مؽلوبٌن قد فتحت علٌهم‬
‫ببلدهم‪ ،‬وأصبحت حقوقهم السٌاسٌة العامة فً أٌدي ؼٌرهم بحكم القوة والقانون والتارٌخ معا‪ ..‬إن الوٌل‬
‫لمصر إذا لم تكن قد استطاعت أن تصبػ هإالء الفاتحٌن بصبؽتها الخاصة فً ثبلثة عشر قرنا من‬

‫(ٖٗ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬السفٌر عاطؾ‪ :‬االستثمارات الكوٌتٌة فً مصر تبلػ نحو ٘ٔ ملٌار دوالر‪ ،‬موقع صحٌفة الراي الكوٌتٌة‪ٕٓٔٙ -ٖ -ٖٓ ،‬‬
‫(ٖ٘‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬الحركة القومٌة العربٌة فً القرن العشرٌن‪ ،‬هانً الهندي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٗ8‬‬

‫‪ٙٗ8‬‬
‫الزمان(‪.")ٔ9ٖٙ‬‬

‫نعم الوٌل لمصر ٌا طه حسٌن‪ ..‬الوٌل لها ممن ال ٌزالون ٌخدرونها وٌضللونها بؤن كل الهجرات‬
‫واالحتبلالت "ذابت" فً مصر و"تمصرت"‪ ،‬وفً نفس الوقت ٌطالبون مصر بؤن تلبس هً لبس وقناع‬
‫الهوٌات والهجرات من كل صنؾ‪ ،‬والتً ادعوا أنها "تمصرت"‪ ،‬وعادوا الٌوم لفتحها بهجرات جدٌدة‬
‫تشتاق لعصور احتبللها لمصر‪..‬‬

‫شاهت وشوشنا‪ ..‬توهنا بٌن شٌن وزٌن‬

‫ولسه ٌاما وٌاما ح نشوؾ كمان‬


‫(‪)ٔ9ٖ9‬‬
‫وٌنفلت من بٌن إٌدٌنا الزمان‬

‫وعلى إثر مقالة طه حسٌن الكاشفة للجرح ولؤلقنعة ولَّعت المعركة بٌن مصر والعروبٌٌن‪ ،‬فاحتشد فرٌق‬
‫للدفاع عن طه‪ ،‬وعلى رأسهم سبلمة موسى‪ ،‬وفرٌق ضده وعلى رأسهم عبد الرحمن عزام(‪ ،)ٔ9ٖ8‬واستعمل‬
‫العروبٌون سبلح اإلرهاب ضد المصرٌٌن‪ ،‬فنشرت صحٌفة "المقطم" الشامٌة أن مقاطعة الكتب "ستتبع مع‬
‫كل كاتب مصري ٌطعن فً القومٌة العربٌة وٌشجع الروح الشعوبٌة(‪.")ٔ9ٖ9‬‬

‫وبالفعل‪ ،‬أحرقت "عصبة العمل القومً" كتب طه حسٌن فً مٌدان عام بالعاصمة السورٌة دمشق فً‬
‫ٖٖ‪ ،ٔ9‬وتجرأت على الحضارة المصرٌة قابلة إن طه حسٌن "واحد من الذٌن ٌهونون أمر العرب‪،‬‬
‫وٌصؽرون من شؤنهم‪ ،‬وٌرفعون الصوت بالدعوة التً ٌكرهونها مُرَّ الكراهٌة‪ ،‬أال وهً الفرعونٌة(ٓٗ‪.")ٔ9‬‬

‫فاتهموا طه حسٌن وؼٌره من مصرٌٌن بؤنهم ٌصؽرون من أمر العرب لمجرد اعتزازهم بمصرٌتهم‪ ،‬فً‬
‫حٌن ال ٌعتبر هإالء العروبٌون خطتهم للسطو على مصر وكراهٌتهم للقومٌة المصرٌة وحضارتها‬
‫ومساعٌهم للتصؽٌر من شؤنها مقابل تمجٌد العرب والشوام تهمة أو جرٌمة‪ ..‬ولماذا ٌا ترى ٌكرهون الدعوة‬
‫للقومٌة المصرٌة "مُرَّ الكراهٌة" !‬

‫وٌعد هذا تنفٌذا حرفٌا لما ورد فً دستور "الحركة العربٌة السرٌة" (الكتاب األحمر) عن أن كل من‬
‫ٌرفض العروبة وٌتمسك بهوٌته الوطنٌة ٌكون قد ارتكب "عمبل من أعمال الحرب" ووجب معاقبته‪.‬‬

‫وبعد االطمبنان لوجود مكان لهذا التٌار فً الحكومة وبٌن المثقفٌن بدأت مرحلة جدٌدة وهً تؤسٌس‬
‫الجامعة العربٌة‪ ،‬وجاءت فً وقت حرج لمصر‪ ،‬فالحكومة واألحزاب مطحونة فً خبلفاتها الداخلٌة مع‬

‫(‪)ٔ9ٖٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن‪ ،‬ج ٕ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ٘‪ٙ‬‬
‫(‪)ٔ9ٖ9‬‬
‫‪ -‬أؼنٌة مقدمة مسلسل أرابٌسك‪ ،‬كلمات سٌد حجاب‪ ،‬ألحان عمار الشرٌعً‪ ،‬ؼناء حسن فإاد‬
‫(‪)ٔ9ٖ8‬‬
‫‪ -‬الحركة القومٌة العربٌة فً القرن العشرٌن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٗ8‬‬
‫(‪)ٔ7ٖ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖٔٗ‬
‫*** الشعوبٌة أو الشعبوٌة مصطلح سٌاسً ٌستخدمه دعاة تكوٌن اإلمبراطورٌات أو الحكومات اإلقلٌمٌة والعالمٌة لوصؾ وإرهاب المتمسكٌن‬
‫بهوٌة شعوبهم وأوطانهم وبحدودها‪ ،‬والرافضٌن للتدخالت األجنبٌة‪ ،‬مثلما ٌرهبونهم بمصطلح شوفٌنٌة وعنصرٌة‪.‬‬
‫(ٓٗ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن‪ ،‬ج ٕ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘٘‪ٙ‬‬

‫‪ٙٗ9‬‬
‫بعضها أو مع الملك‪ ،‬فٌما الشعب ٌطالبهم بالتوحد إلجبار برٌطانٌا على الجبلء‪ ،‬والبلد بحاجة إلى روح‬
‫ثورة ‪ ،ٔ9ٔ9‬وجدان واحد وشعب واحد بشعار واحد تحت راٌة واحدة‪ ،‬ال أن ٌتم تقسٌمه بٌن ألؾ راٌة‪.‬‬

‫وتجا هل عبد الرحمن عزام كل هذا‪ ،‬وطاؾ فً رحبلت مكوكٌة السعودٌة وبلدانا أخرى إلقناعهم بفكرة‬
‫الجامعة‪ ،‬وتم توقٌع مٌثاقها فعبل فً ٕٕ مارس ٘ٗ‪ ،ٔ9‬وقامت أول مإسسة توصؾ مصر فٌها بشكل‬
‫"رسمً" بؤنها عربٌة‪ ،‬ألول مرة فً التارٌخ المدٌد‪ ،‬ولتصبح مجبرة "بالقانون" على تشتٌت جهودها فً‬
‫قضاٌا المنطقة فً الوقت الذي تحدده الجامعة أو "الشعوب العربٌة"‪.‬‬

‫وتٌسر للقومٌٌن العرب هذه الؽنٌمة على ٌد الملك فاروق‪ ،‬ففاروق فشل فً أن ٌكون زعٌما للمصرٌٌن‪،‬‬
‫فلم ٌخرج منه موقؾ مشهود ضحى فٌه ألجلهم‪ ،‬وانكسرت صورته بعد حادث ٗ فبراٌر ٕٗ‪ ٔ9‬الذي تؤكد‬
‫فٌه من جدٌد أن العٌلة العلوٌة تدٌن بتولٌها العرش لئلنجلٌز‪ ،‬وبجانب فساده الشخصً كان دابم الصراع مع‬
‫الوزارات‪ ،‬وخاصة وزارة حزب الوفد‪ ،‬فتاق للزعامة من باب آخر‪ ،‬وهو زعامة المنطقة وتبنً قضٌة‬
‫فلسطٌن‪ ،‬فساعد على إنشاء الجامعة العربٌة وتورٌط الجٌش فً فخ ‪.ٔ9ٗ8‬‬

‫وكان مثٌرا لئلشفاق أنه فً حٌن انجرفت الحكومة فً مصر لهذا التٌار‪ ،‬كانت حكومات الببلد العربٌة‬
‫األصل حقا (السعودٌة) وحكومات الببلد التً خرجت منها دعوة القومٌة العربٌة (سورٌا ولبنان والعراق)‬
‫تتباعد عنه حٌن لم تجد نفسها ستكون زعٌمة للعرب‪ ،‬حتى قال مصطفى النحاس إنه "أثناء المشاورات التً‬
‫أجراها سنة ٗٗ‪ ٔ9‬بخصوص الوحدة لم ٌجد حكومة عربٌة واحدة مستعدة للتنازل عن ذرة من سٌادتها‬
‫واستقبللها لجامعة الدول العربٌة التً ٌُراد إنشاإها‪ ،‬أو ألٌة هٌبة عربٌة سواها(ٔٗ‪.")ٔ9‬‬

‫ومع ذلك لم تٌؤس التنظٌمات والشخصٌات العروبٌة‪ ،‬وظلت تضؽط نفسٌا لفرض هذا التٌار وإقناع‬
‫الحكومات به‪ ،‬لدرجة وصفوا من ٌتمسك بقومٌته الوطنٌة كـ "المصرٌة" أو ما ٌطلق علٌها "الفرعونٌة" فً‬
‫مصر‪ ،‬و"الفٌنٌقة" فً لبنان بؤنه ٌؤتً بـ "بدعة"‪ ،‬مع أن الهوٌة الوطنٌة‪ -‬خاصة فً مصر‪ -‬هً األصل‬
‫طوال آالؾ السنٌن‪ ،‬والقومٌة العربٌة هً الطاربة منذ وقت قرٌب‪.‬‬

‫ورؼم تؤسٌس الجامعة العربٌة فإنها لم تحقق األهداؾ المعلنة‪ ،‬فقد كان االتفاق بٌن تنظٌمات القومٌة‬
‫العربٌة هو إقامة دولة عربٌة من الخلٌج للمحٌط‪ ،‬فً حٌن اختلفوا على الصٌؽة وآلٌة التنفٌذ‪ ،‬هل تكون‬
‫فٌدرالٌة أم كونفٌدرالٌة‪ ،‬ملكٌة أم جمهورٌة‪ ،‬علمانٌة أم دٌنٌة‪ ،‬رأسمالٌة أم اشتراكٌة‪ٌ ،‬مٌنٌة أم ٌسارٌة‪ ،‬وهل‬
‫تتحالؾ مع الكتلة الشٌوعٌة وال الرأسمالٌة‪ ،‬وبسبب هذه الخبلفات أصبح هدؾ حركة القومٌة العربٌة شعارا‬
‫فارؼا بدون مضمون‪ ،‬واألمل بالوحدة حلما متعذر التحقٌق‪ ،‬بتعبٌر شفٌق جحا(ٕٗ‪.)ٔ9‬‬

‫أما الخبلؾ األكبر فكان سٌظهر إذا ما وصلوا لخطوات ملموسة فً طرٌقة "الوحدة"‪ ،‬وٌخص من‬
‫سٌكون الحاكم‪ ،‬وأٌن ستقع العاصمة‪ ،‬هنا ستهوى كل األعمدة التً أقاموها على الرمل‪ ،‬وتنهار أمام تفجر‬

‫(ٔٗ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الحركة العربٌة السرٌة ٖ٘‪( ٔ9ٗ٘ -ٔ9‬جماعة الكتاب األحمر)‪ ،‬شفٌق جحا‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٖ‬
‫(ٕٗ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‪ ،‬ص ٖٖ‬

‫ٓ٘‪ٙ‬‬
‫المطامع والجري وراء اصطٌاد الزعامة لشعوب كثٌر منها لم ٌتفق ٌوما على هدؾ واحد داخل حدود بلده‪،‬‬
‫وهو ما رأٌناه حٌن نسؾ السورٌون تجربة الوحدة المشبومة مع مصر بعد أن كانوا هم أنفسهم دعاتها‪،‬‬
‫وشنوا على مصر حربا ببل هوادة ألن عبد الناصر لم ٌسمح بؤن تكون مصر خاضعة لهم‪ ..‬فهل اختلقوا‬
‫القومٌة العربٌة وحاربوا الحضارة المصرٌة‪ ،‬بل اسم مصر نفسه‪ ،‬لتكون مصر زعٌمة لهم حقا كما خدعوا‬
‫حزب الوفد وفاروق ثم عبد الناصر؟ ٌا تعس من ال ٌزال ٌرددها‪.‬‬

‫▼▼▼ ؼزو اإلرسالٌات التبشٌرٌة لمصر‬

‫ٌظن بعضنا أن اإلرسالٌات التبشٌرٌة تستهدؾ اإلسبلم بتحوٌل المسلمٌن إلى المسٌحٌة‪ ،‬ولكن هذا لٌس‬
‫هدفهم األول‪ ،‬خاصة فً مصر‪.‬‬

‫فهدفهم األول‪ -‬المرتبط بمشروع السٌطرة على العالم‪ -‬هو تحوٌل المصرٌٌن المسٌحٌٌن من المذهب‬
‫األرثوذكسً (الذي ٌجعل الكنٌسة المصرٌة هً مرجعٌتهم الدٌنٌة الوحٌدة) إلى المذهب الكاثولٌكً (الذي‬
‫ٌجعل كنٌسة روما هً مرجعٌتهم)‪ ،‬أو إلى المذهب البروتستانتً "اإلنجٌلً"(ٖٗ‪( )ٔ9‬الذي ٌجعل الكنٌسة‬
‫اإلنجلٌزٌة أو المشٌخٌة اإلنجٌلٌة فً الوالٌات المتحدة هً المرجعٌة)‪ ،‬وبذلك تكون مرجعٌة المصرٌٌن‬
‫المسٌحٌٌن خارج بلدهم؛ مع ما لهذا من خطر حٌن تتدخل كنابس روما وبرٌطانٌا وأمرٌكا فً األمور‬
‫السٌاسٌة لصالح دولها ومشارٌعها القدٌمة المتجددة‪.‬‬

‫ونشط هذا الهدؾ خاصة بعد أن أظهرت الكنٌسة المصرٌة (األرثوذكسٌة) نفورا من حمبلت الفرنجة‬
‫(الصلٌبٌة)‪ ،‬ولم تتعاون معها‪ ،‬وكانت تلك الحمبلت تحت رعاٌة كنٌسة روما (الكاثولٌكٌة)‪.‬‬

‫■ (اإلرسالٌات التبشٌرٌة الكاثولٌكٌة‪ /‬كنٌسة روما الفاتٌكان)‬

‫سعت كنٌسة روما إلخضاع كنٌسة مصر‪ ،‬لتكون لها عونا وقت الحاجة تحت ستارة االتحاد الدٌنً‬
‫والخبلص‪ ،‬باإلقناع واإلؼراء بعد أن فشلت فً إخضاعها بالسٌؾ‪ ،‬وحانت لها الفرصة حٌن صدرت‬
‫االمتٌازات األجنبٌة فً االحتبلل العثمانً فً القرن ‪ ٔٙ‬التً منحت حماٌة وحصانة للتجار الروم بحجة‬
‫تسهٌل انتقاالتهم وحماٌتهم من االعتداءات‪ ،‬فبدأت كنٌسة روما ترشق عٌناها نحو مصر من جدٌد‪.‬‬

‫ٌقول الدكتور جٌفري برون فً مإلفه "تارٌخ أوروبا الحدٌث" إن كنٌسة روما (الفاتٌكان حالٌا) فً‬
‫محاولة فرض نفسها على المسٌحٌٌن فً العالم كانت "تعتمد على ما ٌُشاع ]وٌخالفها فٌه األرثوذكس[ من‬
‫أن المسٌح أسند إلى بولس الرسول حكم مملكته من بعده‪ ،‬وبولس أحد حوارًٌ المسٌح‪ ،‬وٌزعم بابا الفاتٌكان‬
‫أنه خلٌفته‪ ،‬وفً نفس الوقت قامت طوابؾ أخرى باسم الدٌن المسٌحً ابتلعتها الكنٌسة الكاثولٌكٌة بسرعة‪،‬‬
‫وأوقفت نموها‪ ،‬مدعٌة أنها هً المإسسة الوحٌدة التً لها السلطة على الناس‪ ،‬فقد منحها المسٌح ورسوله‬
‫من بعده هذه السلطة التً تمركزت فً أٌدي بطاركة روما الذٌن ٌعرفون بالباباوات‪ ،‬ومن الكفر أن ٌقوم لها‬

‫(ٖٗ‪ -)ٔ9‬الجالٌة البرٌطانٌة فً مصر (٘ٓ‪ ،)ٔ88ٕ -ٔ8‬ناهد السٌد علً زٌان‪ ،‬دار الكتب والوثابق القومٌة‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٓٔٔ ،‬ص ٕٕ٘‬

‫ٔ٘‪ٙ‬‬
‫منافس فً أي من البقاع األخرى ‪ ...‬وال خبلص لهم إال بطاعتها(ٗٗ‪.)ٔ9‬‬

‫كما ابتدع بابا كنٌسة روما جٌبلسٌوس األول "نظرٌة السٌفٌن" تتحدث عن وجود قوتٌن تتقاسمان العالم‪،‬‬
‫السلطة السٌاسٌة (سلطة اإلمبراطور)‪ ،‬والسلطة الدٌنٌة (سلطة البابا)‪ ،‬والثانٌة عنده أهم وأجَّ ل من األولى‪،‬‬
‫فالملوك واألباطرة‪ -‬حسب النظرٌة‪ -‬هم أبناء الكنٌسة‪ ،‬وعلى هذا فالعالم كله ٌجب إخضاعه للكنٌسة (٘ٗ‪،)ٔ9‬‬
‫والبلفت أنه نفس فكر تنظٌم اإلخوان المسلمٌن وبنفس الشعار "السٌفٌن المتقاطعٌن"‪.‬‬

‫ولتحقٌق هذا الهدؾ التوسعً‪ ،‬وبعد فشل تحقٌقه بالحروب المسماة بالصلٌبٌة‪ ،‬ظهر فً أوروبا بعد القرن‬
‫ٖٔ تنظٌمات تتبع كنٌسة روما‪ ،‬هدفها االنتشار فً العالم عبر العمل الخٌري والثقافً‪ ،‬لتنشر اإلٌمان‬
‫بحسب مذهبها‪ ،‬وللتخدٌم على األهداؾ االحتبللٌة ألوروبا‪ ،‬ومنها الٌسوعٌٌن والفرنسٌسكان والدومنٌكان‪،‬‬
‫وبثتهم فً العالم تحت اسم إرسالٌات تحمل للعالم الهداٌة والعمل الخٌري والعلوم الحدٌثة‪.‬‬

‫وبحسب دراسة نشرتها مجلة "المشرق" فً لبنان بعنوان "بعثتا الٌسوعٌٌن لدى أقباط مصر (ٔ‪-ٔ٘ٙ‬‬
‫ٖ‪ ٔ٘ٙ‬وٕ‪ ،)ٔ٘8٘-ٔ٘8‬فإن الٌسوعٌٌن أرسلوا أولى بعثاتهم التبشٌرٌة عام ٔ‪ ،ٔ٘ٙ‬و ضمن أعضابها‬
‫ٌوحنا المعمدان إلٌانو‪ ،‬كان ٌهودٌا‪ ،‬إلقناع كنٌسة مصر باالتحاد مع كنٌسة روما "الذي ال بد منه لنٌل‬
‫الخبلص األبدي"‪ ،‬وباعتبار أن بابا روما هو "نابب المسٌح حقا وخلٌفة القدٌس بولس"‪ ،‬وأنه المخول له‬
‫قٌادة الشعوب المسٌحٌة والبت فً أحكام الكتاب المقدس؛ ولذا وجب على الجمٌع "الخضوع" لكنٌسة روما‬
‫(‪.)ٔ9ٗٙ‬‬

‫لكن تجرعوا الخٌبة‪ ،‬فرؼم استمرار البعثة ‪ 9‬شهور‪ ،‬وحسن الضٌافة المصرٌة الذي أؼرى الٌسوعٌٌن‬
‫بؤن رسالتهم ستلقى قبوال‪ ،‬إال أنهم تلقوا رسابل من البابا المصري ملخصها "لٌسوا مستعدٌن لبلتحاد"‪.‬‬

‫تحاٌلت كنٌسة روما على استقطاب الكنٌسة المصرٌة من باب آخر فعرضت على البابا أن ٌرسل الشبان‬
‫إلى روما "لٌحصلوا فٌها على تربٌة وثقافة متٌنة"‪ ،‬فكانت ردود البابا "ما ألفناه"‪ -‬بحسب تعبٌر الكاتب لٌبوا‬
‫الٌسوعً‪" -‬الموافقة المبدبٌة وتؤجٌل التنفٌذ لخوفه الشدٌد من ؼٌر المإمنٌن"‪.‬‬

‫ورؼم ذلك قامت البعثة الٌسوعٌة بجولة فً الرٌؾ المصري‪َّ ،‬‬


‫لتطلع على أحواله‪ ،‬حتى إذا ما عجزت‬
‫عن استمالة رأس الكنٌسة‪ٌ ،‬مكن أن تستقطب أفرادا من المصرٌٌن المسٌحٌٌن إلى مذهب روما‪.‬‬

‫وكان الفتا أنه حٌن زارت البعثة دٌر األنبا أنطونٌوس‪ -‬أقدم األدٌرة المصرٌة قرب البحر األحمر‪-‬‬
‫تشاجر الرهبان والبعثة الٌسوعٌة‪ ،‬وتبادال السباب‪" ،‬وأكد األقباط أنهم سٌحافظون على إٌمان آبابهم بكامله‪،‬‬
‫كما هو مدون فً كتبهم‪ ،‬وأنهم لن ٌقدموا الخضوع لروما‪ ،‬مفضلٌن أن ُتقطع رإسهم على تؽٌٌر أي شًء‬
‫(ٗٗ‪)ٔ7‬‬
‫‪ -‬تارٌخ أوروبا الحدٌث‪ ،‬جٌفري برون‪ ،‬ترجمة علً المزروقً‪ ،‬األهلٌة للنشر والتوزٌع‪ ،‬طٔ‪ ،‬ع َّمان‪ ،ٕٓٓٙ ،‬ص ٖ٘‬
‫*** والبابا فً عرؾ كنٌسة روما هو نابب المسٌح باعتباره خلٌفة بطرس‪ ،‬وهو معصو م ال ٌجوز نقده وال مخالفته‪ ،‬وٌشبه فً هذا عقٌدة الولً‬
‫الفقٌه عند الشٌعة الذي ٌدعً أنه نابب المهدي المنتظر‪ ،‬وٌمثل هذا اإلدعاء حالٌا المرشد األعلى إلٌران‪.‬‬
‫(٘ٗ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٙٓ -٘9‬‬
‫(‪)ٔ9ٗٙ‬‬
‫‪" -‬بعثتا الٌسوعٌٌن لدى أقباط مصر (ٔ‪ٖٔ٘ٙ -ٔ٘ٙ‬و ٕ‪ ،)ٔ٘8٘-ٔ٘8‬شارل لٌبوا الٌسوعً‪ ،‬مجلة "المشرق"‪ ،‬العدد ٔ‪ٌ ٔ ،‬ناٌر ٔ‪ ،ٔ99‬ص‬
‫ٖ‪9‬‬

‫ٕ٘‪ٙ‬‬
‫فً إٌمانهم"‪ ،‬ور َّدت الكنٌسة هداٌا بابا روما إلٌها‪ ،‬وهو ما ردت علٌه البعثة فً رسابلها بوصؾ الرهبان‬
‫بؤنهم فً "ضبلل هابل"‪ ،‬و"جهل مطبق"‪ ،‬ووصؾ كنٌسة مصر بؤنها "ناكرة للجمٌل"(‪.)ٔ9ٗ9‬‬

‫واستمرت البعثات تؤتً بتشجٌع من قنصل فرنسا فً مصر‪ ،‬مارٌانً(‪ ،)ٔ9ٗ8‬واستخدم القنصل نفوذه فً‬
‫الضؽط على بابا مصر‪ ،‬وإن نجحت البعثة الثانٌة التً قادها أٌضا ٌوحنا المعمدان إلٌانو فً استمالة بعض‬
‫األشخاص للكاثولٌكٌة‪ ،‬ولكنها انتهت بالفشل فً إقناع الكنٌسة المصرٌة بالتوقٌع على وثابق الخضوع‬
‫للكنٌسة روما التً تحملها فً جعبتها‪.‬‬

‫بحث الٌسوعٌون عما ٌصفونها بـ"التناقضات" فً عقٌدة الكنٌسة المصرٌة لٌقنعوها بتركها و"الخضوع"‬
‫لروما‪ ،‬ؼٌر أنهم اكتشفوا أن هذا االتجاه العدابً تسبب فً نفور المصرٌٌن منهم‪ ،‬فلجؤوا إلى األسلوب‬
‫األنجح مع مصر‪ ،‬وهو الدحلبة والتسلل والتودد‪ ،‬بالتركٌز على أوجه الشبه بٌن الكنٌسة المصرٌة وكنٌسة‬
‫روما‪ ،‬وأوجه االلتقاء بٌنهما‪ ،‬لٌكون ذلك تبرٌرا أكبر لبلتحاد أو "الخضوع(‪.")ٔ9ٗ9‬‬

‫وجاء حكم محمد علً كفرصة من ذهب لكنٌسة روما‪ ،‬خاصة بعد استعانته بعدد كبٌر من الفرنسٌس‬
‫واألوروبٌٌن واألرمن فً مشروعاته‪ ،‬وبنوا مدارس وكنابس كاثولٌك لهم بحجة حاجة أبناء العاملٌن لها‪.‬‬

‫وإضافة إلى البعثات القادمة رأسا من أوروبا‪ ،‬توافدت بعثات متمثلة فً الشوام خرٌجً المدارس التبشٌرٌة‬
‫الٌسوعٌة فً الشام‪ ،‬لٌكونوا لهذه اإلرسالٌات عونا‪ ،‬وكانت اإلرسالٌات الٌسوعٌة وصلت لبنان قبل أن تصل‬
‫إلى مصر بـ ٓٓٔ سنة‪ ،‬واستهدفت الطابفة المارونٌة لتوثٌق عبلقتها بكنٌسة روما‪ ،‬وبفرنسا‪ ،‬وحسَّنت من‬
‫مستوى تعلٌم ومعٌشة المارون مقارنة ببقٌة السكان‪ ،‬واقتنص الملك الفرنسً لوٌس الرابع عشر من‬
‫السلطان العثمانً الموافقة على وضع المارون تحت حماٌة فرنسا‪ ،‬ومنحهم االمتٌازات األجنبٌة كنوع من‬
‫االحتبلل المعنوي الذي ساعدها على احتبللها العسكري الرسمً للبنان وسورٌا فً القرن ٕٓ‪ ،‬وتصؾ‬
‫لٌلى الصباغ فً كتابها "الجالٌات األوروبٌة فً ببلد الشام فً العهد العثمانً فً القرنٌن السادس عشر‬
‫والسابع عشر" هذه اإلرسالٌات بؤنها الطبلبع األولى لبلستعمار الحدٌث على األرض العربٌة‪ ،‬ألن تلك‬
‫اإلرسالٌات مصحوبة بجالٌات أوروبٌة كونت مستوطنات ونفوذا اقتصادٌا‪ ،‬وتوؼلت فً أسرار الببلد‪،‬‬
‫فكانت مراكز الؽزو األولى التً استقبلت الجٌوش األوروبٌة الحتبلل سورٌا ولبنان(ٓ٘‪.)ٔ9‬‬

‫وبالقٌاس فهذا ما خططت له فً مصر‪ ،‬أن ٌتحول المصرٌون المسٌحٌون‪ -‬أو أجانب مجنسٌن بالجنسٌة‬
‫المصرٌة‪ -‬إلى "مسمار جحا" ألوروبا فً مصر‪ ،‬وسنارة االحتبلل‪.‬‬

‫ولٌنتشروا فً مصر اعتمدوا ٗ وسابل‪ :‬اللؽة الفرنسٌة ‪ +‬الكنٌسة ‪ +‬المدرسة ‪ +‬المستشفى‪ٌ ،‬نشرون هذه‬
‫الرباعٌة أٌنما حلوا الستقطاب المسلم والمسٌحً بوجه "تنوٌري وإنسانً وخٌري"‪ ،‬حتى وصلوا الوجه‬

‫(‪)ٔ9ٗ9‬‬
‫‪ -‬انظر المرجع السابق‪ ،‬ص ٗ‪ٔٓ9 -9‬‬
‫(‪)ٔ9ٗ8‬‬
‫‪ -‬منذ حمبلت الفرنجة (الصلٌبٌٌن) لم تتوقؾ مساعً فرنسا‪ -‬التً تزعمت تلك الحمبلت‪ -‬لوضع موطؤ قدم لها فً مصر وراء أي ستار‪.‬‬
‫(‪)ٔ9ٗ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٔٓٙ‬‬
‫(ٓ٘‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الجالٌات األوروبٌة فً ببلد الشام فً العهد العثمانً فً القرنٌن السادس عشر والسابع عشر‪ ،‬لٌلى الصباغ‪ ،‬مإسسة الرسالة‪ ،‬بٌروت‪،‬‬
‫‪ ،ٔ989‬ص ‪ 989‬و ‪9ٔٓ -9ٓ9‬‬

‫ٖ٘‪ٙ‬‬
‫القبلً مثل المنٌا وأسٌوط‪ ،‬وأبرز مدارسهم الفرنسٌسكان والفرٌر والجزوٌت وسان جوزٌؾ والراعً‬
‫الصالح والقلب المقدس(ٔ٘‪ ،)ٔ9‬والستقطاب الناس حتى من ؼٌر المتعلمٌن أنشؤوا المستوصفات‪ ،‬كالمستشفى‬
‫اإلٌطالً والٌونانً‪ ،‬والمبلجا لتربٌة أٌتام ٌخرجون منتمٌن لهم‪ ،‬وأظهروا للناس معاملة راقٌة وحانٌة جدا‪،.‬‬
‫وبالتدرٌج أخذوا لهم مكانا فً مصر وقدموا أنفسهم على أنهم "طابفة" لها حقوق وواجبات؛ ما ساهم فً‬
‫تشرٌخ الجسد المصري وإدخاله فً فخ الطوابؾ وتعدد االنتماءات الذي ال ٌلٌق به‪.‬‬

‫■ (اإلرسالٌات البروتستانتٌة‪ /‬كنٌسة إنجلترا والمشٌخة األمرٌكٌة)‬

‫كما أن وجود اللٌبرالٌة الرأسمالٌة الزم لتبرٌر وجود الشٌوعٌة بحجة محاربة الرأسمالٌة المتوحشة‪،‬‬
‫ووجود الشٌوعٌة الزم لتبرٌر وجود اللٌبرالٌة بحجة محاربة الدٌكتاتورٌة‪ ،‬ووجود تنظٌمات "اإلخوان‬
‫المسلمٌن" والسلفٌة واللٌبرالٌة الزم لتبرٌر وجود القومٌة العربٌة بحجة محاربة الدولة الدٌنٌة واإلمبرٌالٌة‪،‬‬
‫ووجود القومٌة العربٌة واإلرسالٌات المسٌحٌة الزم لتبرٌر وجود التنظٌمات اإلسبلمٌة بحجة محاربة أعداء‬
‫اإلسبلم‪ ،‬ووجود كل هإالء الزم لتبرٌر وجود المحافل الماسونٌة واللٌبرالٌة بحجة محاربة التعصب الدٌنً‬
‫والقومً‪ ،‬وهكذا‪ ،‬كل تٌار ٌلزم وجود نقٌض له لتبرٌر وجوده‪ ،‬كذلك فداخل التٌار الواحد ٌوجود تٌارات‬
‫نقٌضة لبعضها لزٌادة تبرٌر وجوده‪ ،‬فمثبل بجانب اإلرسالٌات الكاثولٌكٌة توجد اإلرسالٌات البروتستانتٌة‬
‫المنافسة‪ ،‬وهكذا تتحول مصر من مصر الواحدة إلى أرض المتناقضات والممالك التً تمسك فً خناق‬
‫ورقاب بعضها بعضا بعد حٌن‪ ،‬وٌكونون ثعابٌن عبَّ (أبو فٌس) التً تعطل مركب رع الساٌرة‪.‬‬

‫فبعد الكاثولٌك جاء البروتستانت‪ ،‬وهم طابفة مستحدثة‪ ،‬ظهرت فً القرن ‪ ٔٙ‬بؤوروبا حٌن انشقت‬
‫جماعة بقٌادة مارتن لوثر عن كنٌسة روما‪ ،‬وٌعنً اسمهم "المحتجون"‪ ،‬واشتهروا باسم "اإلنجٌلٌٌن"‪،‬‬
‫وكنابسها الربٌسٌة فً إنجلترا والوالٌات المتحدة‪ ،‬وهدفه التحرر من التقالٌد الكنسٌة‪ ،‬وآمنوا بالمسٌح فقط‪،‬‬
‫ورفضوا تبجٌل القدٌسٌن‪ ،‬وتركوا لكل شخص أن ٌفسر الكتاب المقدس حسب رأٌه الخاص‪ ،‬وفً كل مكان‬
‫ٌذهبون إلٌه ٌمٌلون إلى دعم الحركات االحتجاجٌة والتمرد على أي سلطة دٌنٌة أو سٌاسٌة ‪ ،‬خاصة لو‬
‫كانت وطنٌة أو منافسة لهم‪.‬‬

‫وحتى منتصؾ القرن ‪ ٔ9‬اقتصر وجود هذا المذهب فً مصر على التابعٌن للقنصلٌات األجنبٌة‪ ،‬ولكن‬
‫فً سنة ٓ٘‪ ٔ8‬استصدروا قرارا هماٌونٌا‪ ،‬أي فرمان عثمانلً‪ ،‬بؤنهم أقلٌة مسٌحٌة فً مصر ومن حقهم أن‬
‫ٌعقدوا اجتماعات فً كنابس خاصة بهم‪ ،‬وهكذا أضٌفت طابفة جدٌدة مصطنعة ودخٌلة لمصر‪.‬‬

‫واالحتبلل البرٌطانً ٕ‪ ٔ88‬هو فرصتهم الذهبٌة لبلنتشار فً ربوع مصر وبناء كنابس لهم ألن‬
‫برٌطانٌا بروتستانتٌة‪ ،‬وبسبب تدفق األوروبٌٌن الذٌن استقدمهم االحتبلل للعمل بمشارٌعه فً مصر‬
‫واالستقواء بهم ضد المصرٌٌن‪ ،‬وجاء أكثر البروتستانت من إنجلترا والوالٌات المتحدة والشام‪ ،‬وأظهروا‬
‫اهتماما شدٌدا بالنظافة واألناقة‪ ،‬وتعلموا الطرٌقة المصرٌة فً الكبلم؛ لٌسهل علٌهم الوصول للناس بسرعة‬

‫(ٔ٘‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الجالٌة الفرنسٌة فً مصر (ٕ‪ ،)ٔ9٘ٙ-ٔ88‬نورٌس سٌؾ الدٌن‪ ،‬دار الكتب والوثابق القومٌة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٕٗ‪ٕٙ -‬‬

‫ٗ٘‪ٙ‬‬
‫فً القرى والنجوع‪.‬‬

‫ومن عوامل انتشارهم أنهم "مبحبحٌن"‪ٌ ،‬بٌحون الطبلق والزواج بٌن المذاهب‪ ،‬وأخذوا امتٌازا ؼرٌبا‬
‫وهو إعفاء المصرٌٌن الملتحقٌن بهم من العمل الشاق الذي ٌُخصص له المصرٌٌن فً السكك الحدٌد‬
‫والطرق واإلعفاء من االلتحاق بالجٌش‪ ،‬فجذبوا إلٌهم مسلمٌن ومسٌحٌٌن‪.‬‬

‫ورؼم هذه اإلؼراءات‪ ،‬فإنهم مثل الكاثولٌك‪ ،‬وجد البروتستانت معارضة قوٌة من الكنٌسة المصرٌة‪،‬‬
‫فلما حاولوا "إخضاع" البابا كٌرلس الخامس وطلبوا منه االلتحاق بحماٌة ملك برٌطانٌا‪ ،‬سؤلهم‪" :‬هل ٌموت‬
‫ملككم؟ فقالوا‪ :‬نعم‪ ،‬فقال لهم‪" :‬إننا تحت حماٌة ملك ال ٌموت"‪ ،‬وأٌده الخدٌوي إسماعٌل فً صموده(ٕ٘‪ )ٔ9‬بعد‬
‫اشتداد خبلفه مع برٌطانٌا‪.‬‬

‫وقابل البروتستانت ذلك باتهام المصرٌٌن بـ"التعصب"‪ ،‬ورهبان دٌر وادي النطرون بـ"الجهل"(ٖ٘‪،)ٔ9‬‬
‫مثلما فعل الكاثولٌك سابقا حٌن رفضت كنٌسة مصر "الخضوع" لبابا روما‪ ،‬فرؼم أنهم جاءوا ٌبشرون بما‬
‫ٌسمونه اإلخاء والتسامح‪ ،‬إال أنهم ٌشترطون لوصؾ الناس بالتسامح والتنوٌر أن ٌلتحقوا بهم‪ ،‬أو ٌتركوهم‬
‫ٌتوؼلوا فً البلد‪ ،‬فإن رفضوا صار الرافض "متعصبا وجاهبل وعنصرٌا"‪ ..‬قاموس المسٌخ الدجال‪.‬‬

‫وفً هذه النقطة تجلى الهدؾ الحقٌقً لئلرسالٌات التبشٌرٌة‪ ،‬وهو إلحاق المصرٌٌن بالتبعٌة ألوروبا‬
‫وتفتٌت وحدتهم من باب الدٌن‪ ،‬فعاطفة التبعٌة الدٌنٌة تجلب ورابها تبعٌة سٌاسٌة‪ ،‬وتكسر مقاومة المصرٌٌن‬
‫للمحتل األوروبً أو األمرٌكً لو كان الكنٌسة األجنبٌة التابعٌن لها تإٌدهم‪.‬‬

‫وٌُبلحظ أن اإلرسالٌات البروتستانتٌة قامت فً مصر بنفس الدور الذي قامت به من قبل فً الشام‪ ،‬وهو‬
‫المساهمة فً إضعاؾ اللؽة األصلٌة للبلد‪ ،‬فكما نشرت اللؽة العربٌة فً كنابس الشام بدال من السرٌانٌة‪،‬‬
‫كذلك فعلت فً مصر بتشجٌع إلقاء العظات فً الكناٌس بالعربٌة أو بالمصرٌة الدارجة بدال من اللؽة‬
‫المصرٌة القدٌمة (القبطٌة)‪ ،‬وحكى القمص بولس جورج فً سلسلة مقاالت على موقع "األنبا تكبل‬
‫هٌمانوت" عن تارٌخ اإلرسالٌات التبشٌرٌة أنهم ٌلقون العظة بؤسلوب مإثر وعاطفً جدا‪ ،‬وباللؽة المصرٌة‬
‫الدارجة‪ ،‬فكانوا ٌصلون إلى الناس أسرع من الكاهن األرثوذكسً المصري‪ ،‬ألن الكناٌس المصرٌة وقتها‬
‫كانت ما تزال تلقً العظات بالقبطٌة(ٗ٘‪.)ٔ9‬‬

‫وإلى جانب اإلرسالٌات التً تستهدؾ المصرٌٌن كثرت الكناٌس التابعة للٌونانٌٌن واألرمن؛ ما ٌتٌح‬
‫الفرصة لحكومات أجنبٌة للتدخل فً مصر من بوابة حماٌة الكناٌس التابعة لجالٌاتها و"األقلٌات"(٘٘‪.)ٔ9‬‬

‫▼▼▼ استمرار الؽزو الصوفً (الطرق الصوفٌة)‬


‫(ٕ٘‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الجالٌة البرٌطانٌة فً مصر (٘ٓ‪ ،)ٔ88ٕ -ٔ8‬ناهد السٌد علً زٌان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓ‪ٕٙ‬‬
‫(ٖ٘‪)ٔ7‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‬
‫(ٗ٘‪ -)ٔ7‬تارٌخ دخول الطوابؾ (الكاثولٌك والبروتستانت) فً مصر وهدفها‪ ،‬القمص بولس جورج ‪ ،‬موقع األنبا تكالهٌمانوت)‬
‫(٘٘‪ -)ٔ7‬مع احترام أن ٌعتقد اإلنسان فٌما ٌشاء‪ ،‬إال أنه ٌبقى أن المعتقدات التً تربط الشخص بروابط خارجٌة‪ ،‬وتجعل مرجعٌته األولى فً‬
‫تسٌٌر أمور حٌاته وما ٌترتب علٌها من عالقته بوطنه موجودة فً الخارج‪ ،‬فً الفاتٌكان أو كنٌسة إنجلترا وأمرٌكا مثال‪ٌ ،‬بقى خطرا على األمن‬
‫القومً‪ ،‬مثل خطورة فكر تنظٌم اإلخوان المسلمٌن والشٌوعٌٌن والماسون والطرق الصوفٌة والشٌعة‪.‬‬

‫٘٘‪ٙ‬‬
‫إن كان معظم التٌارات والتنظٌمات السابقة هبطت بثقلها على صدر مصر فً القرن ‪ ،ٔ9‬وركز أكثرها‬
‫على المتعلمٌن والمدن‪ ،‬فإن التنظٌم الصوفً (شبكة الطرق الصوفٌة) الذي ظهر فً قرون سابقة‪ ،‬استمر‬
‫تؤثٌره فً القرن ‪ ٔ9‬وٕٓ متوؼبل فً األرٌاؾ‪ -‬بجانب المدن‪ -‬فكان صاحب التؤثٌر األكبر‪ -‬واألسوأ‪ -‬حتى‬
‫ذلك الوقت‪ -‬على المصرٌٌن الحقٌقٌٌن (الكٌمتٌٌن)‪.‬‬

‫ومما ٌتسع له المقام هنا هو ما ٌخص تؤثٌرها على المقاومة الوطنٌة التً تفجرت فً ثورتً ٔ‪ ٔ88‬و‬
‫‪ ٔ9ٔ9‬ونصٌبها فً إضعافها بعد وصولها للذروة‪.‬‬

‫بداٌة نتذكر قول الدكتور توفٌق الطوٌل فً فصل تحت عنوان‪" :‬أثر التصوؾ فً توجٌه الحٌاة‬
‫المصرٌة" إن "التصوؾ الذي قام بٌن المصرٌٌن كان‪ -‬فٌما ٌرجح على الظن‪ -‬أقوى الحركات الدٌنٌة‬
‫توجٌها لهم وأعظمها أثرا فً حٌاتهم؛ ألنه كان فً عرؾ الناس زبدة الدٌن وخبلصته"؛ ولهذا فإن "الحٌاة‬
‫المصرٌة ال ُتفهم على وجهها الصحٌح" إال بعد دراسة دقٌقة مفصلة للحركات الدٌنٌة وبخاصة التصوؾ‬
‫الذي وضع فٌه شٌوخ الطرق أنفسهم فً مكانة عند الناس فوق األنبٌاء‪ ،‬بل فوق هللا نفسه‪.‬‬

‫إذن أفبل ٌضعون أنفسهم ومصالحهم الخفٌة فوق الوطن؟‬

‫فاستمروا فً التسوٌق لنزع تعلق الناس بؤرضها‪ ،‬ومن ذلك تكرٌه الناس فً ملكٌة األرض‪ ،‬والقصاص‬
‫من سارق أمبلك ؼٌره‪ ،‬فؤشاعوا‪ -‬ما سار علٌه تنظٌم اإلخوان المسلمٌن أٌضا‪ -‬عبارات "المال مال هللا"‪،‬‬
‫و"األرض أرض هللا"‪ ،‬وأشاعوا العفو عن السارق‪ ،‬ورفض القصاص‪ ،‬وذلك فً الوقت الذي كان بعض‬
‫الشٌوخ أنفسهم ٌتملكون مساحات شاسعة من األراضً وٌستبٌحون ألنفسهم أخذ المال من كل طرٌق‪.ٔ9٘ٙ‬‬

‫واستمرواأٌضا فً محاولة اؼتٌال روح المقاومة الوثابة فً النفوس كلما بدت إشارة لها‪ ،‬كؤن ٌنشرون‬
‫أن هللا ال ٌبتلى الناس بالظلم والضنك إال عقابا على تفرٌطهم فً الدٌن‪ ،‬ولذا فالحل لٌس مقاومة هذا الظلم‬
‫(وهو آنذاك االحتبلل وجرابم وتسلط الجالٌات األجنبٌة) وإنما هو الؽرق فً التقرب من هللا‪ ،‬والذي كان فً‬
‫عرفهم الموالد والخضوع بٌن ٌدي شٌخ الطرٌقة لتلقً أوامره‪ ،‬وتردٌد الورد الذي ٌلزمه به من األذكار‪.‬‬

‫ومن البلفت هنا حادثة وقعت خبلل الحرب فً ٕ‪ ،ٔ88‬فٌحكً سلٌم النقاش فً كتابه "مصر‬
‫للمصرٌٌن" أنه بعد أن أرسل علً ٌوسؾ "الخنفس" ٌخدع عرابً بؤن اإلنجلٌز لن ٌتحركوا إلى التل الكبٌر‬
‫هذه اللٌلة‪ -‬فً حٌن كان ٌقودهم بالفعل إلى أماكن تمركز الجٌش المصري‪ -‬أصدر عرابً أمره إلى الجٌش‬
‫باالستراحة‪ ،‬وعزم الشٌخ عبد الجواد على إحٌاء تلك اللٌلة باألذكار‪( ،‬ج٘ ص ‪ )ٕٗ9‬وٌإكد هذا محمود‬
‫فهمً فً مذكراته "البحر الزاخر" أن عرابً جلس مع الفقراء (دراوٌش المتصوفة) مع أوالد الشٌخ عبد‬
‫الجواد فً صٌوان ٌذكرون هللا إلى آخر النصؾ األخٌر من اللٌل‪ ،‬وعند الفجر ناموا جمٌعا ولم ٌستٌقظوا إال‬
‫على إطبلق المدافع والبنادق"‪.‬‬

‫‪ -1756‬انظر‪ :‬التصوف في مصر إبان العصر العثماني‪ ،‬توفيق الطويل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪215 -195‬‬

‫‪ٙ٘ٙ‬‬
‫وٌحكً عرابً نفسه فً مذكراته عن موقعة التل الكبٌر أنه فً ٖٔ سبتمبر ٕ‪" :ٔ88‬كنت فً صبلة‬
‫الفجر إذ سمعت ضرب المدافع والبنادق بشدة فخرجت ونظرت فوجدت ضرب النار على طول خط‬
‫االستحكام ورأٌت بطارٌة طوبجٌة سواري على مرتفع من األرض ٌبعد عن الخٌمة التً كنت فٌها بنحو‬
‫ستمابة متر‪ ،‬وصبت مقذوفاتها على مركزنا العمومً‪ ،‬وكان مركزنا المذكور خلؾ االستحكامات بؤربعة‬
‫آالؾ متر‪ ،‬ولم ٌكن هناك إال األهالً المتطوعٌن مع الشٌخ محمد عبد الجواد‪ ،‬وأخٌه الشٌخ أحمد عبد‬
‫الجواد وجابر بك من بندر ببا بمدٌرٌة بنً سوٌؾ‪ ،‬وكانوا نحو ألفٌن فدعوناهم للهجوم معنا على تلك‬
‫ا لبطارٌة فامتنعوا ودهشوا‪ ،‬فذكرناهم بحماٌة الدٌن والعرض والشرؾ والوطن ولم ٌجد ذلك نفعا‪ ،‬بل تفرقوا‬
‫فرارا"‪ ،ٔ9٘9‬فكانوا من عوامل تثبٌط الهمم فً الوقت الحرج‪.‬‬

‫وكما كانت الصحؾ التابعة لئلنجلٌز تحث المصرٌٌن على ترك المقاومة بحجة أنها طابفٌة وإرهاب‪،‬‬
‫وترك التفكٌر فً تمصٌر االقتصاد‪ ،‬نجد أن أحد شٌوخ األزهر المخترق من المتصوفة ٌدرس "الجؽرافٌا‬
‫سخر‬‫االقتصادٌة" بعد ثورة ‪ٌ ٔ9ٔ9‬قول لطلبته فً مذكرات مطبوعة‪" :‬إن من نعم هللا على المصرٌٌن أن َّ‬
‫لهم األجانب ٌقومون عنهم باألعمال االقتصادٌة والمالٌة حتى ٌتفرؼوا هم (المصرٌون) لعبادة هللا‪.‬‬

‫وٌعلق الطوٌل على هذا ساخرا‪" :‬فهذا الشٌخ‪ -‬عفى هللا عنه‪ٌ -‬عتبر من نعم هللا على المصرٌٌن قٌام‬
‫األجانب عنهم بالشبون المالٌة فً بلدهم واستحواذهم على شركات المٌاه والنور والمواصبلت ومختلؾ‬
‫مرافق الحٌاة االقتصادٌة‪ ،‬وذلك لكً ٌنقطع المصرٌون لعبادة هللا فً عصر بلؽت فٌه زحمة الحٌاة والتكالب‬
‫حدهما األقصى‪ !!..‬ولست أدري ماذا تكون لعنة هللا ونقمته من الشعوب إذا كانت سٌطرة األجنبً على‬
‫مرافق الحٌاة االقتصادٌة فً عصر تستعبده المادة ٌعتبر نعمة ٌحمد اإلنسان ربه من أجلها إال إذا كان المراد‬
‫أن ٌحمد هللا الذي ال ٌُحمد على مكروه سواه ‪!..‬‬

‫وٌرى الطوٌل أٌضا أن تؤثٌر الطرق الصوفٌة التً تشجع على الزهد أو عدم الملكٌة أو عدم المنافسة أو‬
‫المقاومة هو من أسباب ضعؾ المصرٌٌن فً التجارة والكسب‪ ،‬وذلك مقارنة بتفنن األجانب فً التكسب‬
‫وابتداع أنواع التجارة‪ ،‬وٌضرب أمثاال فً الرٌؾ وفً األحٌاء الوطنٌة بالقاهرة للفبلحٌن الذٌن ٌفتحون‬
‫محبلت للتجارة‪ ،‬لكن ٌمكثون أعمارهم ال ٌؽٌرون نوع البضابع أو ٌطورون فً أسالٌبهم‪.ٔ9٘8‬‬

‫واإلٌحاء للمصرٌٌن بحمد هللا على وجود األجانب وسٌطرتهم على االقتصاد وكل مجال شعار ٌرفعه‪-‬‬
‫كما تابعنا‪ -‬الماسون واللٌبرالٌون واإلخوان المسلمٌن والشٌوعٌٌن‪ ،‬ولكل مبرره‪ ،‬ولكل منهم نوعٌة األجانب‬
‫التً تخصه‪ ،‬فتعددت أسبابهم وأسمابهم‪ ..‬وطرٌقهم إلى احتبلل مصر واحد‪ ...‬الحرب على "مصر‬
‫للمصرٌٌن"‪.‬‬

‫‪ -1757‬حقائق األخبار عن دول البحار‪ ،‬إسماعيل سرىنك‪ ،‬ج‪ ،2‬ط‪ ،1‬المطبعة األميرية‪ ،‬ص ‪ ،415‬ومذكرات عرابي ج‪ ،2‬ص ‪ 711‬وىوامش ص‬
‫‪715 -714‬‬
‫‪ -1758‬التصوف في مصر إبان العصر العثماني‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪215 -214‬‬

‫‪ٙ٘7‬‬
‫وفً النهاٌة‪...‬‬

‫ٌقول أتباع الحكومة اإلسالمٌة العالمٌة إن األرض حق لإلسالمٌٌن فحالل لهم كٌفما شاءوا‬

‫وٌقول أتباع الشٌوعٌة العالمٌة إن األرض حق للعمال "البرولٌتارٌا"‪ ،‬فحالل لهم كٌفما شاءوا‬

‫وٌقول أتباع الصهٌونٌة العالمٌة إن األرض حق للٌهود فحالل لهم كٌفما شاءوا‬

‫وٌقول أتباع تنظٌم النارٌٌن إن األرض حق للشٌطان فحالل ألتباعه كٌفما شاءوا‬

‫وٌقول صناع القومٌة العربٌة إن األرض حق للقومٌٌن العرب فحالل لهم كٌفما شاءوا‬

‫وٌقول أتباع فكر كنٌسة أوروبا "اإلمبراطوري" إن األرض حق ألتباع المسٌح فحالل لهم كٌفما‬
‫شاءوا‬

‫وٌقول أتباع الطرق الصوفٌة إن األرض حق أولٌاء هللا وشٌوخ الطرق فحالل لهم كٌفما شاءوا‬

‫وٌقول أتباع حكومة الشٌعة العالمٌة (فارس) إن األرض حق لشٌعة آل البٌت‪ ،‬فحالل لهم كٌفما شاءوا‬

‫وكلهم دٌنهم الحقٌقً أنه (ال وطن‪ ،‬ال حدود‪ ،‬ال حقوق أصٌلة ألصحاب بلد فً بلدهم‪ ،‬الؽاٌة تبرر‬
‫الوسٌلة)‪ ،‬فمألوا العالم حروبا وأطماعا وفقرا وصراخا وأشالء ودماء وصلٌل سٌوؾ وزلزالت قنابل‪..‬‬
‫وقهقهات الشٌطان‪.‬‬

‫وتقول مصر على لسان "ماعت" إن كل وطن أحق بؤهله‪ ،‬وال اعتداء إال على من اعتدى‪ ،‬ولٌتفرغ كل‬
‫أهل بلد لحماٌة وعمار بلدهم وهوٌتهم‪ ،‬ال ٌمدون عٌونهم ألوطان ؼٌرهم‪ ،‬وال ٌفرض ؼرٌب هوٌته على‬
‫بلد ؼٌره‪ ،‬ولتتقدس الحدود‪ ،‬ولتتعارؾ البالد والشعوب‪ ،‬ولتتعاون على البر والتقوى؛ فتتراجع الحروب‪،‬‬
‫وتعمر البالد‪ ،‬وتهدأ اإلنسانٌة المضللة‪.‬‬

‫مصر (كٌمة)‪ ..‬كلمة الحق المجسدة على األرض‪.‬‬

‫والحق ٌلزمه قوة وعً تحمٌه‪ ،‬وٌشٌر لها أحمد لطفً السٌد حٌن دعا المصرٌٌن للعروة الوثقى "سما‬
‫تاوي"(‪ )ٔ9٘9‬التً تحمٌهم من مشارٌع اإلمبراطورٌات االحتبللٌة بكل أنواعها‪:‬‬

‫"إن الوطن وورباط األرض فقط ٌجب أن ٌكونا أساس كل الجهود السٌاسٌة والفكرٌة‪ ،‬فآالؾ السنٌن من عبق التارٌخ‬

‫(‪)ٔ7٘9‬‬
‫‪ -‬سماتاوي كلمة مصرٌة مكونة من "سما" أو صما أي ٌوحد و"تاوي" أي الوجهٌن القبلً والبحري‪ ،‬فمعناها "توحٌد الوجهٌن"‪ ،‬وهً‬
‫شعٌرة ًتقام فً االحتفاالت القومٌة المصرٌة‪ ،‬بؤن ٌقوم اثنان ٌمثالن حور وست بالربط بٌن اللوتس (عالمة على الوجه القبلً) والبردي (عالمة‬
‫على الوجه البحري) بإحكام‪ ،‬كنوع من االحتفال بوحدانٌة األمة المصرٌة‪ ،‬وتذكٌرا بقصة أوزٌر وست التً انتهت إلى تسلٌم مصر بحكم مركزي‬
‫قوي وروح واحدة إلى ٌد قابدها حور ‪ ،‬وهً تعبر عن وحدانٌة روحٌة أكثر منها أرضٌة‪ ،‬فل وال وحدانٌة الروح المصرٌة لما تحققت وحدانٌة أرضها‬
‫آالؾ السنٌن‪.‬‬

‫‪ٙ٘8‬‬
‫المصري القدٌم مزجت مع أحداث التارٌخ المصري الحدٌث لتكون شخصٌة مصر الفرٌدة"(ٓ‪.)ٔ9ٙ‬‬

‫❷❶ فتح باب "الجهاد" التطوعً َّ‬


‫برة ألول مرة (الخروج األسود)‬

‫بناء على ما سبق من تمٌٌع القومٌة المصرٌة وربط المتعلمٌن المصرٌٌن بمشارٌع إمبراطورٌة خارجٌة‪،‬‬
‫ظهرت‪ -‬ألول مرة‪ -‬فً تارٌخ مصر ظاهرة "الجهاد والتطوع فً الخارج"‪.‬‬

‫فطوال االحتبلالت كان خروج المصرٌٌن من بلدهم للعمل أو للحرب فً الخارج ٌتم بقوة االحتبلل نفسه‬
‫الذي ٌشفطهم إلى عاصمته لبنابها وتحدٌثها‪ ،‬وكما أجبرت األسرة العلوٌة والسلطنة العثمانلٌة المصرٌٌن‬
‫على الحرب لصالح طموحاتهم التوسعٌة فً السودان والحبشة والقرم والشام‪.‬‬

‫ولكن بداٌة من القرن ٕٓ‪ ،‬وبتؤثٌر االحتبلل الجالٌاتً االستٌطانً‪ ،‬بدأت ظاهرة لها بصماتها الخطٌرة‬
‫على مستقبل مصر‪ ،‬وهً سفر المصرٌٌن إلى الخارج للعمل أو القتال‪ ،‬بإرادتهم‪ ،‬وبدت ظاهرة أن مصري‬
‫"ٌتطوع" من نفسه فً كتابب أو ما ٌسمى مقاومة شعبٌة لصالح شعوب أخرى مرٌبة‪ ،‬خاصة وأنها كانت‬
‫بذرة تكوٌن التنظٌمات اإلرهابٌة فً وقت الحق‪.‬‬

‫بدأ "الخروج األسود" سنة ٔٔ‪ ٔ9ٕٔ -ٔ9‬قبل الحرب العالمٌة األولى عندما ش َّكل عبد العزٌز زكً‬
‫علً (الشهٌر بعزٌز المصري) متطوعٌن مصرٌٌن لٌحاربوا مع السنوسٌٌن اللٌبٌٌن لصالح تركٌا ضد‬
‫االحتبلل اإلٌطالً ألسباب دٌنٌة‪.‬‬

‫ولعزٌز المصري تركٌبة ؼرٌبة‪ ،‬فهو شركسً ولد فً القاهرة‪ ،‬تخرج من األكادٌمٌة العسكرٌة العثمانٌة‬
‫بتركٌا‪ ،‬وشارك فً حروب لدعم الجٌش العثمانً فً لٌبٌا إلى جانب السنوسٌٌن ٕٔ‪ ٔ9‬حتى انقلب علٌه‬
‫السنوسٌون أو انقلب هو علٌهم وقاتلوا بعضهم البعض‪ ،‬وفرَّ لؤلستانة وسماه األتراك هناك (قاهرة لً عزٌز‬
‫علً) أي (عزٌز علً المصري) ‪ ،‬وشارك مع كمال أتاتورك وجمعٌة االتحاد والترقً فً عزل عبد الحمٌد‬
‫الثانً ‪ ،ٔ9ٓ8‬وأصبح والبه مزدوج للعرب والترك وأن تقوم دولة ٌشارك الترك والعرب فً حكمها معا‪،‬‬
‫وعندما بدت كراهٌة أتاتورك للعرب وحكم علٌه الترك باإلعدام نادى بدولة عربٌة مستقلة وأسس جمعٌة‬
‫سرٌة عسكرٌة اسمها "العهد" ٖٔ‪ ،ٔ9‬وشارك مع دعاة القومٌة العربٌة مثل العراقً نوري السعٌد فً‬
‫تشكٌل حركات الختراق الحكومات المناهضة للقومٌة العربٌة‪ ،‬وتحالؾ مع اإلنجلٌز‪ -‬رؼم احتبللهم لمصر‪-‬‬
‫حٌن شارك فً الثورة العربٌة التً نشبت فً الحجاز والشام ‪ ٔ9ٔٙ‬ضد الحكم التركً حتى انقلب على قابد‬
‫الثورة حسٌن الهاشمً أو انقلب حسٌن علٌه وحكم علٌه باإلعدام(ٔ‪ ،)ٔ9ٙ‬وهكذا حٌاته تحالفات وانقبلبات ال‬
‫ٌحكمها والء واضح‪.‬‬

‫(ٓ‪)ٔ9ٙ‬‬
‫‪ -‬أحمد لطفً السٌد‪ ،‬معاركه السٌاسٌة واالجتماعٌة‪ ،‬عواطؾ سراج الدٌن‪ ،‬نهضة مصر‪ ،‬طٔ‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٔٔ ،‬‬
‫(ٔ‪)ٔ9ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬موسوعة هذا الرجل من مصر‪ ،‬لمعً المطٌعً‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ط ٕ‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ999 ،‬ص ٖٓٗ‪ٖٗ8 -‬‬

‫‪ٙ٘9‬‬
‫أما مصر التً ٌنتسب إلٌها باالسم فكانت آخر ما ٌشؽل اهتمامه طوال شبابه‪ ،‬رؼم ما كانت تقاسٌه من‬
‫االحتبلل البرٌطانً‪ ،‬بل كان حرٌصا على نزح أبنابها فً حروب تطوعٌة بالخارج‪.‬‬

‫وحٌن ضاق به الترك والعرب لم ٌجد له مؤوى إال مصر‪ ،‬فعاد لها من مؽامراته‪ ،‬وتزوج أمرٌكٌة‪،‬‬
‫وتولى فً الثبلثٌنات منصبا خطٌرا هو مفتش عام الجٌش المصري فً وزارة علً ماهر رؼم أنه خرٌج‬
‫كلٌة عسكرٌة أجنبٌة ولم ٌعمل فً الجٌش المصري من قبل‪ ،‬وكما جاء فً رسالة السفٌر البرٌطانً فً‬
‫مصر ماٌلز المبسون إلى حكومته عن تقٌٌم الموقؾ آنذاك فً البلد فقد تسبب هذا التعٌٌن فً تذمر داخل‬
‫الجٌش‪ ،‬ألن عزٌز المصري لٌس من رجاله(ٕ‪.)ٔ9ٙ‬‬

‫وصار من أكبر دعاة تٌار القومٌة العربٌة‪ ،‬حتى أؼوى ضباط فً الجٌش المصري لدعم ثورة رشٌد‬
‫الكٌبلنً فً العراق ٔٗ‪ ٔ9‬وأن ٌُهربوه بطابرة تبع الجٌش إلى العراق لٌشارك فٌها‪ ،‬ولما فشل فً الهرب‬
‫ساهم فً تدرٌب المقاومة الشعبٌة ضد اإلنجلٌز فً القناة ٓ٘‪ ،ٔ9٘ٔ -ٔ9‬ودعم فكرة التخلص من االحتبلل‬
‫اإلنجلٌزي والعابلة الحاكمة(ٖ‪ )ٔ9ٙ‬بعد أن أصبح موالٌا أللمانٌا وٌدعم ؼزوها لمصر بحجة تحرٌرها من‬
‫اإلنجلٌز‪ ،‬واخترق الجٌش المصري لٌقنع ضباطه بالوالء أللمانٌا بزعم أنها المساعد األكبر فً التخلص من‬
‫اإلنجلٌز‪ -‬حلفابه السابقٌن‪ -‬أي ٌحبب الضباط فً فكرة الترحٌب بؽزو أجنبً‪ ،‬ورؼم مشاركته فً إسقاط‬
‫الخبلفة العثمانلٌة لكنه صار مقربا من تنظٌم "اإلخوان المسلمٌن"‪.‬‬

‫فهو تركٌبة شاذة مشتتة االنتماءات كثٌرة االنقبلبات مجهولة األهداؾ‪ ،‬وتسبب فً تشتٌت عقل مصر فً‬
‫أحوالها الداخلٌة وعبلقاتها الخارجٌة‪ ،‬والبلفت أن ٌُطلق علٌه األب الروحً لحركة الضباط األحرار‪،‬‬
‫وٌُمجد فً كل كتاب‪ ،‬رؼم أنه لم ٌساهم فً عمل ٌخص مصر إال فً نهاٌة رحلته‪ ،‬ولٌس ألجل مصر نفسها‬
‫بل لصالح حلفابه من ألمان وقومٌٌن عرب ٌسعون لـ"النط" مكان اإلنجلٌز‪ ،‬وأٌضا ساهم فً تشتٌت مسٌرة‬
‫الضباط‪ ،‬فبعد أن كانت قضٌتهم مصر فقط‪ ،‬أدخل فٌهم فكرة القومٌة العربٌة‪ ،‬وبعد ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘‪،ٔ9‬‬
‫ورؼم إكرام الثورة له‪ ،‬إال أنه دعَّم ضدهم الضابط اإلخوانً عبد المنعم عبد الرءوؾ لما طردته الثورة من‬
‫الجٌش ألنه من كوادر "اإلخوان المسلمٌن" قاببل للكاتب لمعً المطٌعً إن "شخصا واحدا ٌحوز تقدٌره‬
‫وإعجابه" من الضباط األحرار هو عبد المنعم عبد الرءوؾ ولٌس جمال عبد الناصر كما ٌُشاع(ٗ‪.)ٔ9ٙ‬‬

‫عاش شعلة نار هدفها إٌقاد الثورات والحروب فً أي مكان‪ ،‬ال ٌعرؾ العٌش بعٌدا عن صوت‬
‫الرصاص ورٌحة الدماء‪ ،‬ال وطن له‪ ،‬بلده هً الحرب أو الثورة والتنظٌمات المسلحة‪ ،‬فؤٌنما كانت الحرب‪-‬‬
‫عادلة أو ؼٌر عادلة‪ -‬فهناك بلده‪ ..‬فالصح أن ٌسموه عزٌز الشركسً أو عزٌز زكً (اسمه الحقٌقً) ولٌس‬
‫عزٌز المصري‪ ،‬فمصر لٌست عنده إال محطة من محطات‪ ،‬أو عزٌز األلمانً ألنه لم تتوثق عبلقة له بؤحد‬
‫مثلما توثقت باأللمان الذٌن أرسلوه للعمل وسط معظم األحداث‪.‬‬

‫(ٕ‪)ٔ9ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر والحرب العالمٌة الثانٌة‪ ،‬محمد جمال الدٌن المسدي‪ٌ ،‬ونان لبٌب رزق‪ ،‬عبد العظٌم رمضان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٙ9‬‬
‫(ٖ‪)ٔ9ٙ‬‬
‫‪ -‬للمزٌد‪ :‬مقال "عزٌز المصري سندباد العسكرٌة األب الروحً للضباط األحرار"‪ ،‬حمد أبو العٌنٌن‪ ،‬صحٌفة األهرام‪ٕٖٓٔ -ٗ -٘ ،‬‬
‫(ٗ‪)ٔ9ٙ‬‬
‫‪ -‬راجع حدٌث المطٌعً عن حواره مع عزٌز زكً (عزٌز المصري) فً "هذا الرجل من مصر"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٓٗ‪ٖٗٔ -‬‬

‫ٓ‪ٙٙ‬‬
‫وتوأمه فً هذا التشتٌت لوجدان ودماء وثروات المصرٌٌن عبد الرحمن عزام‪ ،‬ساهم بقوة فً دفع المصرٌٌن‬
‫للحرب فً الخارج لصالح ؼٌرهم‪ ،‬فشارك مثل عزٌز الشركسً فً الحرب لدعم السنوسٌٌن وتركٌا فً لٌبٌا‪،‬‬
‫وساعد اللٌبٌٌن مع محمد صالح حرب واللٌبً أحمد الشرٌؾ السنوسً الحتبلل الواحات المصرٌة بحجة اتخاذها‬
‫قاعدة لمهاجمة اإلٌطالٌٌن‪ ،‬فسلَّم أرض البلد ألجانب‪ ،‬ودون تنسٌق مع الحكومة القابمة‪.‬‬

‫ومحمد صالح حرب كان حٌنها قابدا فً الجٌش المصري‪ ،‬ورؼم جرٌمته هذه تولى منصب وزٌر الحربٌة‬
‫سنة ‪ ٔ9ٖ9‬ثم ربٌسا لجمعٌة الشبان المسلمٌن‪ ،‬فتلمٌذا لئلخوانً حسن البنا‪.‬‬

‫كما ذهب عبد الرحمن عزام لٌحارب مع تركٌا فً حرب البلقان ٗٔ‪ ،ٔ9‬وعندما عاد انضم لحزب‬
‫الوفد‪ -‬بؤسلوب االختراق‪ -‬وآل على نفسه نشر فكر الخبلفة اإلسبلمٌة والعروبة فً صفوؾ الحزب الذي قام‬
‫أساسا إلحٌاء القومٌة المصرٌة‪ ،‬وواضح أنه نجح فً تؽٌٌر مٌول مصطفى النحاس ومكرم عبٌد اللذٌن تبنٌا‬
‫معه فكرة إقامة الجامعة العربٌة و"تعرٌب" مصر سٌاسٌا وثقافٌا‪.‬‬

‫وعمل على "شعشعة" تولً الخبلفة اإلسبلمٌة فً عقل أسرة محمد علً‪ ،‬وذكر عزام فً مذكراته أنه أرسل‬
‫لفإاد وهو ما زال أمٌرا بؤن ٌكون ملكا على ألبانٌا‪ ،‬وأن ٓٓٔ ألؾ مسلم فً ألبانٌا ٌإٌدون أي أمٌر مسلم‬
‫من أسرة محمد علً‪ ،‬ودعمت إٌطالٌا الفكرة التً فشلت بتدخل النمسا(٘‪ ،)ٔ9ٙ‬وبعد سقوط السلطنة العثمانلٌة‬
‫ٖٕ‪ ٔ9‬تطلع فإاد إلى أن تكون مصر مقرا للخبلفة‪ ،‬وانعقد مإتمر إسبلمً بالقاهرة للتروٌج للفكرة ولكنه‬
‫فشل لخبلفات الجنسٌات الوافدة من ببلد أخرى حول حقٌقة الخبلفة ومن ٌكون خلٌفة(‪.)ٔ9ٙٙ‬‬

‫وأكمل عزام مهمته هذه مع فاروق وهو ٌؽرٌه بؤن ٌكون خلٌفة للمسلمٌن وزعٌما للعرب؛ ما دفعه للموافقة‬
‫على إنشاء الجامعة العربٌة على حساب الهوٌة المصرٌة‪ -‬كمرحلة إلى الخبلفة‪ -‬وتحوٌل جزء من مٌزانٌة‬
‫مصر للجامعة ولفلسطٌن‪ ،‬وتورٌط رجالها لٌنزفوا الدم فً فخ حرب ‪.ٔ9ٗ8‬‬

‫وقبل الحرب العالمٌة الثانٌة أقنع باالشتراك مع عزٌز الشركسً ربٌس الوزراء علً ماهر بتؤسٌس كٌان‬
‫مسلح شعبً خارج نطاق الجٌش باسم "الجٌش المرابط" بحجة مقاومة اإلنجلٌز‪ ،‬واتضح فٌما بعد أنه أراد‬
‫بهذا الكٌان إحٌاء فكرة الجهاد الشعبً للتطوع فً الخارج‪ ،‬وأنه استؽل هإالء المقاتلٌن للتؽرٌر بهم فً‬
‫فلسطٌن عامً ‪ ٔ9ٗ9‬و‪ ٔ9ٗ8‬على ؼرار الكتابب التً أسسها فً نفس الوقت تنظٌم "اإلخوان المسلمٌن"‬
‫الذي ٌلتقً معه عزام فً حلم الحكومة اإلسبلمٌة العالمٌة‪.‬‬

‫َّ‬
‫وسخر لهذا الهدؾ كتابه "الرسالة الخالدة" الذي كال فٌه المدٌح لبلحتبلل العثمانلً ووصفه بـ"الرحٌم‬
‫العادل"‪ ،‬وأشاد بالعرب الذٌن "أخلصوا للعثمانٌٌن" أكثر مما أخلصوا ألهلهم العرب‪ ،‬ومجَّ د الحروب‬
‫التوسعٌة وامتبلك العالم بحجة رد البشرٌة إلى الحق ونصرة المظلوم‪ ،‬وؼلفها باسم "اإلخوة اإلنسانٌة"‪،‬‬

‫(٘‪)ٔ9ٙ‬‬
‫‪ -‬المرجع فً تارٌخ مصر الحدٌث والمعاصر‪ ،‬نخبة من أساتذة التارٌخ‪ ،‬المجلس األعلى للثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٓٓ9 ،‬ص ‪ٗٙ8‬‬
‫(‪)ٔ9ٙٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٔ‪ٗ9ٕ -ٗ9‬‬

‫ٔ‪ٙٙ‬‬
‫وحارب الوطنٌة قاببل إنها "شر" و"سبب االضطراب العالمً"(‪ ،)ٔ9ٙ9‬داعٌا لتشكٌل هٌبة تمهد للنظام العالمً‬
‫الجدٌد وإعبلن الحكومة العالمٌة الواحدة التً تقدم لها كل الشعوب الوالء(‪ ،)ٔ9ٙ8‬وما هذا إال ترجمة لمشروع‬
‫تنظٌم النارٌٌن ولكن بلون إسبلمً‪ ،‬كما أن الصهٌونٌة ترجمة له بلون ٌهودي‪ ،‬واإلرسالٌات التبشٌرٌة‬
‫ترجمة له بلون مسٌحً‪.‬‬

‫ولو قرأ أحد كتاب الرسابل لحسن البنا وكتاب الرسالة الخالدة لعبد الرحمن عزام ألحس أن من كتبهما‬
‫شخص واحد‪ ،‬حتى تحتار هل البنا هو أستاذ عزام أم عزام هو أستاذ البنا‪ ،‬فهما نفس األسلوب واألفكار‪،‬‬
‫ٌصبػ معظم حدٌثه بؤدلة عن الرحمة ومحاسن األخبلق فً اإلسبلم بطرٌقة تدؼدغ المشاعر‪ ،‬وٌفخخ هذه‬
‫الرسابل بالهدؾ الحقٌقً وهو جر المسلمٌن وراء فكرة الحكومة اإلسبلمٌة العالمٌة على أنقاض األوطان‬
‫وعلى حساب ؼٌر المسلمٌن من أبناء األوطان‪ ،‬وشعارهما السٌؾ لمن عارض إقامتها‪.‬‬

‫وتولى عبد الرحمن عزام مناصب حساسة فً الدولة كوزارتً األوقاؾ ومسبول بدرجة وزٌر فً‬
‫الخارجٌة‪ ،‬استؽلها فً شحن موارد مصر لمناصرة القضٌة الفلسطٌنٌة والقومٌة العربٌة ونشط فً هذا أكثر‬
‫لما بات أول أمٌن عام للجامعة العربٌة ٘ٗ‪.ٔ9‬‬

‫وانطبلقا من إٌمانه بالخبلفة اإلسبلمٌة لم ٌقصر عمل الجامعة على العرب‪ ،‬بل شحن مصر والجامعة‬
‫العربٌة لتقدم التبرعات والمتطوعٌن لدعم أندونٌسٌا فً كفاحها ضد االحتبلل الهولندي‪ ،‬وذلك فً الوقت‬
‫الذي لم ٌكن كثٌرا من الحكام والمثقفٌن ٌعرفون أٌن تقع أندونٌسٌا على الخرٌطة أصبل‪.‬‬

‫ولذا لم ٌكن ؼرٌبا أن ٌسٌر حفٌده أٌمن الظواهري‪ ،‬زعٌم تنظٌم "القاعدة" اإلرهابً‪ ،‬وحفٌدته مها عزام‬
‫المنتمٌة لجماعة "اإلخوان المسلمٌن" فً طرٌق شحن الشباب المصري لعمل ملٌشٌات إرهابٌة فً الداخل‬
‫والقتال باسم الجهاد فً الخارج بحجة مناصرة قضاٌا المسلمٌن والخبلفة اإلسبلمٌة‪ ،‬فذلك هو الطرٌق الذي‬
‫صنعه جدهما جنبا إلى جنب مع عزٌز الشركسً وشوام مهاجرٌن لمصر‪.‬‬

‫ولما أقنع عزام الحكومة وفاروق بحدؾ المصرٌٌن‪ ،‬سواء من الجٌش أو المتطوعٌن‪ ،‬ببل رحمة لفخ‬
‫حرب ‪ ٔ9ٗ8‬بحجة الدفاع عن العروبة واإلسبلم‪ ،‬كان ٌعلم فرق التسلٌح وعدم التدرٌب وما علٌه الجٌش‬
‫المصري من إهمال من جانب اإلنجلٌز والملك على حد سواء‪ ،‬ووقع خبلؾ فً البداٌة بٌنه وبٌن النقراشً‬
‫باشا وإسماعٌل صدقً حول الحرب‪ ،‬ولكن أسلحته السحرٌة وؼفلة المصرٌٌن مكنته من هدفه‪.‬‬

‫فهكذا كان عبد الرحمن عزام وعزٌز الشركسً (عزٌز المصري)‪ ،‬ال ٌنتمٌان لمصر ال بالدم وال‬
‫بالوالء‪ ،‬وسخرا نفسٌهما لنزع الحرٌة والعزة واالستقبلل من نفوس المصرٌٌن لٌزرعا بدال منهم مشاعر‬
‫الخنوع والخضوع والوالء لؽٌرهم سوا للعرب أو للترك أو األوروبٌٌن‪ ،‬أو أٌا من كان‪ ،‬المهم أال ٌكون‬

‫(‪)ٔ7ٙ7‬‬
‫‪ -‬الوطنٌة الحقة لم تكن أبدا سببا الضطراب العالم‪ ،‬فهً تدعو إلى أن ٌحمً الشعب بلده من المعتدٌن‪ ،‬وأال ٌعتدي على بلد لم ٌسبق أن‬
‫اعتدى علٌه‪ ،‬فلو التزمت الشعوب بهذا لما حصلت الحروب‪ ،‬وإنما الحروب تتفجر حٌن تطمع الشعوب فً بالد ؼٌرها كً تقٌم إمبراطورٌة تعلً بها‬
‫عرقها أو دٌنها على بقٌة الشعوب‪ ،‬وتتوسع ل تحكم العالم‪ ،‬فلم ٌعرؾ العالم عدوا كمشارٌع اإلمبراطورٌات العالمٌة بؤي شكل كانت‪.‬‬
‫(‪)ٔ9ٙ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الرسالة الخالدة‪ ،‬عبد الرحمن عزام‪ ،‬المجلس األعلى للشبون اإلسبلمٌة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٖٗ ؤ‪ ،ٔٓٓ -9‬وٖ٘ٔ‪ ،‬وٕ٘ٓ‪ٕٓ8 -‬‬

‫ٕ‪ٙٙ‬‬
‫مصرٌا !‬

‫❸❶ استمرار التحقٌر المتعمد للمصرٌٌن‬

‫وال ٌعٌش الهكسوس‪ -‬بشرا أو فكرا كالتٌارات السابقة‪ -‬إال إذا ماتت الروح والشخصٌة الوطنٌة لٌفسحوا‬
‫لنفسهم مكانا فً البلد‪ ،‬وعلى هذا الحظنا أن كل تٌار هكسوسً مما سبق ٌحقر الوطنٌة والقومٌة المصرٌة‬
‫وٌعتبرها نوعا من العنصرٌة المكروهة أو من التخلؾ وضٌق األفق‪ ،‬أو حتى من الكفر‪.‬‬

‫أما فٌما ٌخص هكسوس البشر فٌقول الصحفً األمرٌكً " وٌلتون واٌن"‪ -‬عاش فً مصر آواخر‬
‫االحتبلل اإلنجلٌزي‪ -‬فً سرده للمزاٌا التً تمرغ فٌها األجانب فً مصر حٌنها واستؽبللهم هذا فً كسر‬
‫خواطر المصرٌٌن‪" :‬كانوا ٌعٌشون فً مصر فً مستوى من الٌسر واألناقة لم ٌكن ٌستطٌع أن ٌعٌش فٌه‬
‫من الؽرب إال أؼنى األؼنٌاء‪ ،‬مثل هإالء األجانب لم ٌكونوا ٌحترمون المصرٌٌن وال الثقافة المصرٌة‪،‬‬
‫وقلٌل منهم تعلم اللؽة العربٌة‪ ،‬أما النساء فقد تعلمن منها ما ٌكفٌهن لتوبٌخ أحد الخدم‪ ،‬وأما الرجال فلكً‬
‫ٌشتموا سابق سٌارة‪ ،‬ولكن كان من النادر أن تجد مقٌما أجنبٌا ٌتعلم قراءة اللؽة العربٌة الصعبة أو التكلم بها‬
‫إلى درجة التحدث على مستوى مقبول‪ .‬كان مجتمعهم ٌعتبر اللؽة العربٌة لسانا خاما مبتذال ال ٌصلح إال‬
‫كلؽة شارع وبٌن طبقة الخدم"(‪.)ٔ9ٙ9‬‬

‫وظلت كلمة "ابن األصول"‪ ،‬و"ابن عابلة عرٌقة"‪ ،‬و"ابن األكابر"‪ ،‬و"ابن الذوات"‪ ،‬و"ابن ناس"‪ ،‬شبه‬
‫محتكرة على األجنبً من أي جنسٌة كان‪ -‬ولو كان فً بلده ال ٌساوى مندٌبل متسخا ملقى على الرصٌؾ‪-‬‬
‫وسلٌل العبٌد والمرتزقة والمحتلٌن والعاببلت المستوطنة التً لم تتمصر إال فً شهادة الجنسٌة‪ ،‬وحرَّ موا‬
‫هذه الكلمة على المصرٌٌن الذٌن ظلوا ٌحصرونهم فً كلمة "فبلح" و"الشعبً" و"ابن البلد" و"الخدام"‪،‬‬
‫مهما وصل بعضهم لمناصب‪ ،‬رؼم أن الحقٌقة أن "ابن األصول" و"ابن العاببلت العرٌقة األصول" هو ابن‬
‫األرض‪ ،‬الموصولة عروقه بؤعمق أعماقها‪ ،‬مهما كان فقٌرا‪ ،‬ال ٌحمل لونا وال هوٌة إال لون وهوٌة األرض‬
‫التً ٌعٌش علٌها‪ ،‬ولٌس الدخٌل أو المتمسك بلون أراضً أجنبٌة‪ ،‬ورؼم أن "ابن األكابر" هو ابن من‬
‫ٌحافظون على استقبلل هذه األرض وحرٌتها من الدخبلء لٌظل كل أهلها أكابر بالنسبة لؤلجانب‪ ،‬ولٌس‬
‫األجنبً الذي اؼتصبها بالؽزو أو البلطجة أو النصب أو االمتٌازات األجنبٌة‪ ،‬ورؼم أن "ابن الناس" هو ابن‬
‫الناس الكرام الذٌن احتفظوا بؤحلى ما فً "الناس" وهو عدم العدوان على ؼٌرهم وعدم إذالل من لم ٌعت ِد‬
‫علٌهم‪ ،‬ولٌس األجانب الذي انحدروا من مستوى "الناس" إلى مستوى الشٌاطٌن بالعدوان على أراضً‬
‫ؼٌرهم وإذالل أهلها المسالمٌن‪.‬‬

‫فظلت المعاٌٌر "مقلوبة"‪ ،‬خاضعة للتزوٌر‪ ،‬مثلما قال "إٌبو ور" منذ ٓٓ٘ٗ سنة متحسرا على حال‬
‫المصرٌٌن بعد تمكن المستوطنٌن األجانب من بلدهم نهاٌة األسرة ‪" :ٙ‬تخربت األقالٌم‪ ،‬وتوافدت قبابل‬
‫قواسة ؼرٌبة إلى مصر‪ ،‬ومنذ أن وصلوا لم ٌستقر المصرٌون فً أي مكان (‪ )...‬وأصبح األجانب‬

‫(‪)ٔ9ٙ9‬‬
‫‪ -‬عبد الناصر‪ ..‬قصة البحث عن الكرامة‪ ،‬وٌلتون واٌن‪ ،‬مكتبة مدبولً‪ ،‬ط ٔ‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٓٔٓ ،‬ص ٕٓ‬

‫ٖ‪ٙٙ‬‬
‫مصرٌٌن فً كل مكان‪ ...‬وأولبك الذٌن كانوا مصرٌٌن أصبحوا أؼرابا وأهملوا جانبا(ٓ‪.")ٔ99‬‬

‫ووصل األمر لمنتهاه‪ٌ ،‬واصل "إٌبو ور" مدهوشا ملتاعا‪" :‬لقد تجاسر بعض الخوارج فحرموا الببلد‬
‫الملكٌة (الحكم المركزي)‪ ..‬انظر! إن سر األرض (مصر) الذي ال ٌعرؾ أحد حدوده قد أفشً‪ ،‬وأصبح‬
‫مقر الملك رأسا على عقب‪ ..‬انظر! إن مصر قد أصبحت تصب الماء ]لؽٌرها[(ٔ‪.")ٔ99‬‬

‫انظر! إن مصر قد أصبحت تصب الماء لؽٌرها‪! ..‬‬

‫❹❶ توزٌع أرض مصر على المحتلٌن والمستوطنٌن (بالتملٌك‪ /‬الرهن‪ /‬التجنٌس)‬

‫فً تمثٌلٌة "فكرة خاطبة" حسنٌن (محمود عبد الؽفار) ٌشكر صاحبه جبلل (صبلح قابٌل) أنه وفر له‬
‫عمل فً تجارته‪ ،‬فٌقول له‪" :‬لوالك كان زمانً لسة بشتؽل بكٌلتٌن درة فً السنة" و "بشتؽل بلقمتً"‪.‬‬

‫وفً فٌلم "الحرام"‪ٌ ،‬قضً الفبلحون ستات ورجالة ٌومهم فً الؽٌط منكبٌن على وجههم فً العمل‬
‫الشاق‪ ،‬تنزل على ظهورهم عصاٌة الخولً إذا حاول أحدهم أن ٌرتاح قلٌبل‪ ،‬وفً وقت األكل ٌفرد الشؽٌلة‬
‫منادٌلهم لتكشؾ عن كسرة خبز جافة وبصلة ٌلتهمونها لتقوي بدنهم النحٌل‪ ،‬وفً نهاٌة الٌوم تنضم أٌدٌهم‬
‫"المشققة" على مبللٌم قلٌلة ٌفرحون بها لٌسدوا جوع من ٌنتظرونهم فً البٌت(ٕ‪.)ٔ99‬‬

‫هذه الكلمات والمشاهد تمر على مبلٌٌن المتفرجٌن دون أن ٌدركوا معناها‪ ،‬ومرارتها‪ ،‬وبعضنا ٌظنها‬
‫مبالؽات‪ ،‬أو من زمن قدٌم جدا‪ ،‬وال ٌدرك ظلت لزمن قرٌب جدا إال من نشؤ فً قرٌة حكى له أهلها ما كان‬
‫فٌها‪ ،‬أو من قرأ جٌدا عن توزٌعة أرض مصر فً أٌام االحتبلل‪.‬‬

‫ترسخ الحال فً توزٌعة األراضً على ما تابعناه فً زمن االحتبلل العلوي بٌن (العٌلة األرناإوطٌة‬
‫الحاكمة‪ ،‬والموظفٌن الكبار شراكسة وأتراك وأرمن وٌونان وشوام وٌهود وأوروبٌٌن وؼٌرهم‪ ،‬وشٌوخ‬
‫البدو‪ ،‬وندرة من المصرٌٌن)‪ ،‬أما بعد دخول شرٌك جدٌد فً نزع الثروة وهو االحتبلل اإلنجلٌزي فقد‬
‫تضخم نصٌب األوروبٌٌن ورعاٌاهم فً كعكة األرض‪.‬‬

‫ٌقول ألبرت فارمان عن الحال بعد مرور ٕ٘ سنة من االحتبلل اإلنجلٌزي‪" :‬أما األراضً فٌمتلكها‬
‫األجانب بسرعة‪ ،‬وقد أصبحت بعض الشركات اإلنجلٌزٌة وبعض األفراد مبلكا لمساحات كبٌرة من‬
‫األرض‪ ،‬ولكن بصرؾ النظر عمن ٌمتلك التربة‪ ،‬سواء كان أوروبٌا أو تركٌا أو من األهالً‪ ،‬فإن حالة‬
‫هإالء الذٌن ٌعزقونها‪ ،‬وٌحفرون القناة وٌطهرونها‪ ،‬وٌقٌمون الجسور على النٌل‪ ،‬وٌقومون بالجزء األكبر‬
‫من العمل الذي ٌتطلبه الري‪ ،‬لن ٌتؽٌر من الناحٌة المادٌة(ٖ‪.")ٔ99‬‬

‫(ٓ‪)ٔ99‬‬
‫‪ -‬الشرق األدنى القدٌم‪ -‬مصر والعراق‪ ،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓ‪ٖٙ‬‬
‫(ٔ‪)ٔ99‬‬
‫‪ -‬موسوعة مصر القدٌمة‪ ،‬سلٌم حسن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖٓ9‬‬
‫(ٕ‪)ٔ99‬‬
‫‪ -‬مسلسل "فكرة خاطبة" قصة رسمً فارس‪ ،‬إخراج أحمد صبلح الدٌن‪ ،‬بطولة صبلح قابٌل ومحمود عبد الؽفار‪ ،‬وفٌلم "الحرام" قصة ٌوسؾ‬
‫إدرٌس‪ ،‬إخراج هنري بركات‪ ،‬بطولة فاتن حمامة‬
‫(ٖ‪)ٔ99‬‬
‫‪ -‬مصر وكٌؾ ُؼدر بها‪ ،‬ألبرت فارمان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٙٙ‬‬

‫ٗ‪ٙٙ‬‬
‫وبسبب تدفق الجالٌات األجنبٌة على مصر‪ ،‬وفتح باب بٌع أراضً مصر واسعا وبشكل متسارع ؼٌر‬
‫مسبوق لؤلجانب ارتفعت أسعارها ألرقام خٌالٌة‪ ،‬وبالتالً صار األمر أصعب بالنسبة للمصري الساعً ألن‬
‫ٌشتري هو أٌضا قطعة أرض أو بٌت‪.‬‬

‫وسمح القانون حٌنها بنزع ملكٌة األرض من الفبلح‪ ،‬ولو كانت فدانا واحدا‪ ،‬لو عجز عن تسدٌد دٌون‬
‫الربا‪ ،‬فتسبب هذا فً زٌادة ضم األوروبٌٌن والٌونان والشوام والٌهود العاملٌن فً الربا والرهونات لمزٌد‬
‫من األمبلك المصرٌة‪ٌ ،‬ضمونها بشؽؾ إلى صدورهم ؼنٌمة جدٌدة من أرض مصر‪ ،‬فٌما ٌتحول مالك‬
‫األرض المصري إلى مستؤجر لها أو أجٌرا‪.‬‬

‫وتخفؾ هذا سنة ٖٔ‪ ٔ9‬حٌن أصدر المعتمد البرٌطانً كٌتشنر ما عُرؾ باسم "قانون الخمس فدادٌن"‬
‫الذي ٌُحرم نزع ملكٌة أقل من ٘ أفدنة بسبب الدٌون؛ ما حفظ الفرصة لبعض المصرٌٌن لٌكونوا من مُبلك‬
‫األرض‪ ..‬ولكن لماذا اختار القانون ٘ أفدنة فقط‪ ،‬فً حٌن سمح بنزع ملكٌة ما فوق ذلك؟‬

‫رمت سٌاسة االحتبلل إلى خلق طبقة من صؽار المبلك المصرٌٌن ٌستفٌد منها؛ ألن وجودها ٌجعلها‬
‫صمام أمان ٌمنع حدوث ثورات على االحتبلل‪ ،‬ألنها وإن كانت فقٌرة لكنها لٌست معدمة(ٗ‪ ،)ٔ99‬كما أن بقاء‬
‫مال فً ٌدها ٌتسبب فً زٌادة استهبلك الخدمات والسلع التً تصدرها أوروبا لمصر‪ ،‬وفً نفس الوقت‬
‫تظل طبقة ؼٌر مإثرة فً النفوذ ألنها تسٌطر على القلٌل من األرض‪.‬‬

‫وبعد أن كانت أراضً الدولة هً األراضً الزراعٌة والبور‪ ،‬أصبح خبلل ٓٓٔ سنة من حكم أسرة‬
‫محمد علً ثم االحتبلل اإلنجلٌزي معظم األرض الزراعٌة مملوكة لعدد محدود من األفراد‪ ،‬ومعظم أمبلك‬
‫الدولة من األراضً البور‪.‬‬

‫وتقسمت الملكٌات الزراعٌة إلى ٖ فبات‪ ،‬كبار المبلك وهم من معهم ٓ٘ فدانا فما فوق (حتى عشرات‬
‫اآلالؾ من األفدنة)‪ ،‬وتصنٌؾ آخر جعلهم من ٌملكون ٓٓٔ فدان فؤكثر ]وهً نفس العاببلت الوافدة فً‬
‫معظمها التً أثرت وتملكت األراضً بقوانٌن مخصوصة وإنعامات أٌام محمد علً وإسماعٌل[‪،‬‬
‫ومتوسطً المبلك وهم من معهم من ٘‪ ٘ٓ -‬فدان‪ ،‬وصؽار المبلك وهم من معهم أقل من ٘ فدادٌن‪ ،‬وهم‬
‫أؼلبٌة المبلك‪ ،‬أما أؼلبٌة أهل الرٌؾ فمن مستؤجري األراضً والعاملٌن بؤجرة من عمال التراحٌل‪ ،‬أي ال‬
‫ٌملكون قٌراطا وال سهما(٘‪.)ٔ99‬‬

‫وفً تقرٌر لجنة الشبون المالٌة بمجلس النواب عام ٘ٗ‪ ،ٔ9‬ونشرته جرٌدة أخبار الٌوم ‪-9 -9‬‬
‫٘ٗ‪ٔ9‬جاء أن الملكٌات الكبٌرة تستؽرق ربع المساحة المنزرعة‪ ،‬وبلػ عدد المعدمٌن ٔٔ ملٌون نسمة من‬

‫(ٗ‪)ٔ99‬‬
‫‪ -‬الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬د‪.‬سامً عزٌز‪ ،‬ص ‪ٕٖٙ‬‬
‫(٘‪)ٔ99‬‬
‫‪ -‬للمزٌد عن توزٌعة األراضً ونزع الملكٌة من الفبلحٌن انظر‪ :‬تارٌخ العمال الزراعٌٌن فً مصر (ٗٔ‪ ،)ٔ9ٕ٘ -ٔ9‬فاطمة علم الدٌن عبد‬
‫الواحد‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬سلسلة تارٌخ المصرٌٌن‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ999 ،‬ص ‪ ،8‬وكبار مبلك األراضً الزراعٌة ودورهم فً المجتمع‬
‫المصري (ٗٔ‪ ،)ٔ9ٕ٘ -ٔ9‬عاصم الدسوقً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕ9 -ٕ8‬‬

‫٘‪ٙٙ‬‬
‫بٌن ‪ ٔ9‬ملٌون نسمة (اإلحصاء التقرٌبً لسكان مصر عام ٘ٗ‪.)ٔ99ٙ()ٔ9‬‬

‫وأوردت مصلحة اإلحصاء الجدول التالً عن توزٌعة ملكٌة األراضً الزراعٌة لحد دٌسمبر ‪.)ٔ999(ٔ9ٗٙ‬‬

‫وفٌه ٌتضح بؤرقام تقرٌبٌة أنه حتى قبل ‪ ٙ‬سنٌن من قٌام ثورة ٕ٘‪ ٔ9‬فإن من ٌتملكون أراضً زراعٌة فً‬
‫مصر وقتها هم أكثر بقلٌل من ٕ ملٌون وٓٓ‪ ٙ‬ألؾ من إجمالً عدد السكان حٌنها البالػ ‪ ٔ9‬ملٌونا‪ ،‬أي أن‬
‫٘ٔ‪ %‬فقط من السكان ٌملكون أراضً‪ ،‬ومعظم هإالء المبلك ٌملك الواحد منهم أقل من فدان واحد‪ ،‬بما‬
‫ٌساوي ٕٔ‪ %‬من األراضً‪ ،‬فٌما تملك فبة قلٌلة جدا معظم األراضً‪ ،‬ومنهم ٕٗ شخصا الواحد منهم ٌملك‬
‫أكثر من ألفٌن فدان‪.‬‬

‫فمن ٌملكون نصؾ فدان فؤقل حوالً ملٌون و ٓٓٗ ألؾ‪ ،‬ومن ٌملكون من نصؾ فدان إلى فدانٌن حوالً‬
‫نصؾ ملٌون شخص‪ ،‬وهذه مساحة ال تكفً صحابها المعٌشة طوال العام‪ ،‬وٌلجؤ معظم أصحابها وأوالدهم‬

‫(‪)ٔ99ٙ‬‬
‫‪ -‬تارٌخ العمال الزراعٌٌن فً مصر (ٗٔ‪ ،)ٔ9ٕ٘ -ٔ9‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٔ‬
‫(‪)ٔ999‬‬
‫‪ -‬بٌان عن مصلحة اإلحصاء نشره عبد الرحمن الرافعً المإرخ وعضو مجلس الشٌوخ قبل ثورة ٖٕ ٌولٌو فً كتابه "فً أعقاب الثورة‬
‫المصرٌة ثورة ‪ ،"ٔ9ٔ9‬جٕ‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬طٖ‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ988 ،‬ص ‪ ٖٙ9‬وأول طبعة له صدرت ‪.ٔ9ٗ9‬‬

‫‪ٙٙٙ‬‬
‫للعمل فً أرض الؽٌر باألجرة أو ألي عمل آخر للوفاء بالحاجات األساسٌة للعٌشة‪.‬‬

‫ومن ٌملكون ما بٌن ٖ‪ ٘ -‬أفدنة‪ -‬وهو أقل معدل مناسب لسد االحتٌاجات األساسٌة طوال العام‪ٌ -‬بلػ حوالً‬
‫ٖ‪ ٕٙ‬ألؾ‪ ،‬ومن ٌملكون ما بٌن ٘ أفدنة إلىٓ٘ فدان حوالً ٘ٗٔ ألفا‪.‬‬

‫أما من ٌملك الواحد منهم ملكٌات كبٌرة بٌن ٓ٘ فدان وٓٓٗ فدان فهم ٔٔ ألؾ شخص فقط‪ ،‬ومن ٌملك‬
‫الواحد منهم ملكٌات أكبر ما بٌن ٓٓٗ إلى ألؾ فدان فهم ٓٓ‪ 9‬شخص فقط‪ ،‬أما من ٌملك الواحد منهم‬
‫ملكٌات مهولة وهً من ألؾ إلى ألفٌن فدان فهم ٕ٘ٓ شخص فقط‪ ،‬ومن ٌملك الواحد منهم ملكٌات فوق‬
‫العقل وهً أكثر من ألفٌن فدان فهم ٕٗ شخصا ٌتحكمون فً األرض ومن علٌها وفً سٌاسة البلد كلها‪.‬‬

‫وبذلك ٌكون من ٌملكون ٓ٘ فدان فما فوق أقل من نصؾ ‪ %‬من المبلك‪ ،‬و‪% ,ٓ9‬من إجمال السكان‪.‬‬

‫ومن ٌملكون ٓٓٗ فدان فما فوق ٖٓ‪ %,‬من مجموع المبلك‪ ،‬و٘ٓٓ‪ %,‬من عدد السكان ككل‪ ،‬وهما ما‬
‫ٌصطدم بكل مقاٌٌس العقل‪ ،‬فالفروق بٌن الناس والفقر والؽنى موجود وفطرة من هللا فً كل زمان ومكان‪،‬‬
‫ولكن أن تكون الفروق بهذا الشكل وكؤنها الفرق بٌن السماء السابعة واألرض السابعة فٌعبر عن منتهى‬
‫الظلم‪ ،‬خاصة وأن معظم هذه األراضً وصلت إلى أصحابها‪ -‬ومعظمهم دخبلء‪ -‬بطرق ؼٌر شرعٌة‬
‫هضمت حقوق بقٌة أهل الببلد‪ ،‬وبقوانٌن وتسهٌبلت من االحتبلل‪ ،‬وهو ما تابعناه فً كٌفٌة حصول كبار‬
‫المتملكٌن على تلك األراضً بالنهب أو كهبات ٌؽدقها الحاكم على نفسه وأفراد عابلته وكبار الموظفٌن‬
‫واألجانب‪ ،‬أو أخذها باالمتٌازات األجنبٌة‪ ،‬أو عبر استنزاؾ الفبلحٌن بالروهونات والقروض‪ ،‬أو بنظام‬
‫العهدة والوسٌة‪ ،‬أو ببلطجة السبلح مثل قبابل العربان‪ ،‬أو بتسهٌبلت فً البٌع والشراء تتوفر ألفراد العابلة‬
‫الحاكمة وكبار الموظفٌن واألجانب دون بقٌة الناس‪.‬‬

‫وحٌلة أخرى لبلستحواذ على أراضً الدولة ابتدعها المستثمرون األجانب‪ ،‬وهً إقناع الحكومة بعدم‬
‫جدوى أن تكون الدولة مالكا لؤلرض‪ ،‬وأنه األفضل بٌع أراضً الدولة جمٌعها لؤلفراد ٌستثمرونها فٌما‬
‫تتفرغ الدولة لشبون أخرى‪ ،‬حتى باعت الحكومة لهم حوالً نصؾ ملٌون فدان فً الفترة من ٗٔ‪-ٔ9‬‬
‫‪ ،ٔ9ٗ9‬خاصة فً البحٌرة والؽربٌة والشرقٌة‪ ،‬وقع أؼلبها فً ٌد كبار المتملكٌن‪ ،‬خاصة وأن بعضهم كان‬
‫مشاركا أساسا فً السلطة بصفة وزٌر أو مدٌر مدٌرٌة أو نواب بالبرلمان‪ ،‬كما سعوا لئللؽاء مصلحة‬
‫األمبلك األمٌرٌة‪ ،‬أي إللؽاء أن تملك الدولة أراضً من أساسه‪ ،‬ولكن لم ٌفلحوا فً ذلك بشكل كامل(‪.)ٔ998‬‬

‫وظل الحاكم األرناإوطً وعابلته المتملك األكبر لؤلرض فً مصر حتى سنة ٕ٘‪ ،ٔ9‬سوا عبر ما ورثه‬
‫من الحاكم السابق‪ ،‬أو بالسطو والتحاٌل‪ ،‬إضافة لما استحدثه عباس الثانً من حصٌلة بٌع النٌاشٌن واأللقاب‬
‫(الباشا والبك)‪ ،‬واستصبلح أراضً جدٌدة على نفقة أجهزة الدولة‪ ،‬وهذا بخبلؾ المرتب السنوي‬
‫والمخصصات الملكٌة‪.‬‬

‫(‪)ٔ998‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬كبار المبلك والفبلحٌن من ‪ ،ٔ9ٕ٘ -ٔ8ٖ9‬رإوؾ عباس وعاصم الدسوقً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔ‪ٙٙ -ٙ‬‬

‫‪ٙٙ7‬‬
‫فالملك فإاد تسلم الحكم فً ‪ ٔ9ٔ9‬وبحوزته ٓٓ‪ 8‬فدان وتضاعفت بسرعة نفخ البالونة إلى ‪ ٕ8‬ألؾ فدان‬
‫حتى سنة وفاته ‪ ،ٔ9ٖٙ‬وتضاعفت هذه األرض بؤسلوب نفخ البالونة السرٌع أٌضا إلى حوالً ‪ ٗ9‬ألؾ‬
‫فدان فً ٌد فاروق وأمه وإخوته الخمسة‪ ،‬أي أضافوا ٕٔ ألؾ فدان على ما ورثوه من أبٌه خبلل ‪ ٔٙ‬سنة‬
‫فقط(‪ ،)ٔ999‬هذا بخبلؾ المجوهرات واألموال المكدسة فً البنوك داخل وخارج مصر واألوقاؾ إلخ‪،‬‬
‫وبخبلؾ ما تملكه بقٌة فروع عابلة محمد علً من آالؾ األفدنة األخرى‪.‬‬

‫♦♦♦ ظهور مبادرات لإلصالح الزراعً‬

‫أدى تدهور مستوى مٌعشة السكان فً الرٌؾ وزٌادة عدد المعدمٌن والعاطلٌن والسخط المنتشر ضد‬
‫الحكومة وكبار المستولٌن على األرض إلى ظهور مبادرات إلصبلح حال الفبلح‪.‬‬

‫الوزراء إسماعٌل صدقً سنة‬ ‫ومنها مبادرة تخفٌض اإلٌجار للتخفٌؾ عن الفبلحٌن‪ ،‬وقادها ربٌس‬
‫تكالٌؾ األرض خبلل األزمة‬ ‫ٕٖ‪ ٔ9‬للحد من أزمة تدهور أسعار القطن وعجز الفبلحٌن عن سداد‬
‫فً تمرٌرها وتخفٌض اإلٌجار‬ ‫االقتصادٌة العالمٌة الشهٌرة‪ ،‬ورفض ؼالبٌة النواب المبادرة‪ ،‬ولكنه نجح‬
‫صفوؾ المعارضة وٌقود حملة‬ ‫بنسبة ٖٓ‪)ٔ98ٓ(%‬؛ وذلك خبلل التنافس بٌنه وبٌن حزب الوفد الذي كان فً‬
‫فً القرى ضد صدقً وأسالٌبه فً البطش‪.‬‬

‫ونسمع فً ذلك مبررات الرافضٌن من النواب أصحاب الملكٌات الرهٌبة‪ ،‬وكٌؾ نظروا إلى الفبلحٌن‬
‫سواء من المستؤجرٌن أو األجرٌة كما وردت فً محضر جلسات مجلس النواب رقم ‪ ٕ9‬فً ٗ أبرٌل‬
‫ٕٖ‪ ٔ9‬لنستوضح أي نوعٌة من الشخصٌات كانت تقدم نفسها على أنهم "نواب األمة"‪.‬‬

‫فرأى النابب إبراهٌم الهبللً أن قانون تخفٌض اإلٌجارات قانون "جابر ظالم"‪ ،‬و"ما كان ٌحق للمجلس‬
‫أن ٌنظر فً هذا المشروع أو ٌعٌره جانبا من االلتفات"‪ ،‬وقال‪" :‬أرٌد أن أإدي واجب الدفاع عن المبلك‪،‬‬
‫وعجٌب أن ٌكون المزارع الذي تكفٌه قطعة من الخبز وقلٌل من الجبن أجدر بالعطؾ من المالك المرهق‬
‫بالنفقات الذي ألؾ عٌشة البذخ والترؾ هو وأسرته"‪ ،‬وأٌده النابب السٌد عبد السبلم رجب بقوله‪" :‬أما فٌما‬
‫ٌختص بالمستؤجر الصؽٌر فمثله كمثل الفؤر ٌكفٌه من القوت قلٌل من الذرة ٌتلمسه فً جوانب الؽٌط"(ٔ‪.)ٔ98‬‬

‫هكذا ورد بالنص ! وهكذا كان تقٌٌمهم للفبلح الذي على كتفٌه قامت ثورتا ٔ‪ ٔ88‬و‪ ٔ9ٔ9‬اللتان صنعتا‬
‫لهم هذا البرلما ن الذي ٌتحدثون فٌه‪ ،‬وخاض معارك مع اإلنجلٌز سالت فٌها دماإه واحترق محصوله لكً‬
‫تجري انتخابات تؤتً بمن ظنهم "نواب الشعب" إلى البرلمان‪ ،‬ولٌحققوا له شعار الثورة "مصر‬
‫المصرٌٌن"‪ ،‬الذي فسره بعض هإالء النواب بؤن مصر للمصرٌٌن المجنسٌن من أصول ؼٌر مصرٌة‪ ،‬أو‬
‫فقط من هم من فطاحل متملكً األرض‪ ،‬أما ؼٌر ذلك فمجرد "فبران ٌكفٌها من القوت قلٌل من الذرة فً‬
‫جوانب الؽٌط"‪.‬‬

‫(‪)ٔ999‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬كبار مبلك األراضً الزراعٌة ودورهم فً المجتمع المصري (ٗٔ‪ ،)ٔ9ٕ٘ -ٔ9‬عاصم الدسوقً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓ٘‬
‫(ٓ‪)ٔ98‬‬
‫‪ -‬تارٌخ العمال الزراعٌٌن فً مصر (ٗٔ‪ ،)ٔ9ٕ٘ -ٔ9‬فاطمة علم الدٌن عبد الواحد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘ٔ‬
‫(ٔ‪)ٔ98‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٗ9 -ٗ8‬‬

‫‪ٙٙ8‬‬
‫ونشرت "األهرام" فً ٖ نوفمبر ‪ ٔ9ٖٙ‬تحقٌقا صحفٌا عن أحوال المستؤجرٌن‪ ،‬ومنهم فبلح باع‬
‫جاموسته لسداد اإلٌجار ألنه بسبب تكالٌؾ الزراعة‪ ،‬ورؼم عمله هو وأوالده طوال العام فً األرض‪ ،‬لم‬
‫ٌكفه الربح أن ٌسدد اإلٌجار فضبل عن أن ٌضمن عٌشه لمدة عام قادم(ٕ‪.)ٔ98‬‬

‫وبعد هذا التارٌخ لم تجرإ أي وزارة على تحقٌق مطالب أخرى بتخفٌض القٌمة اإلٌجارٌة‪ ،‬حتى عندما‬
‫أبادت المبلرٌا والكولٌرا عشرات اآلالؾ من المصرٌٌن بعد ذلك بسبب سوء التؽذٌة الناجم عن إجهاد‬
‫الجسم بالعمل مع قلة الؽذاء والرعاٌة الصحٌة‪ ،‬فكانت أشبه بوباء مقترن بمجاعة‪.‬‬

‫فحٌن انتشر وباء المبلرٌا سنة ٕٗ‪ ٔ9‬فً مدٌرتً قنا وأسوان وأصاب أكثر من ربع ملٌون شخص توفً منهم‬
‫ٕٓ ألفا أؼلبهم من األجرٌة والفقراء‪ ،‬واتضح أن ارتفاع عدد الوفٌات ٌرجع لسوء التؽذٌة‪ ،‬ومما كشؾ الحال أكثر‬
‫أنه لما أرسلت الحكومة األطباء واألدوٌة للمرضى رفض بعضهم قبول العبلج قاببل إن العبلج ٌتطلب األكل‬
‫الكافً ولٌس الدواء‪ ،‬وعلق عبد الواحد الوكٌل وزٌر الصحة آنذاك بقوله‪" :‬إن اإلصبلح الحق لهذه الحالة التعسة‬
‫إنما ٌكون بتعدٌل النظام االجتماعً تعدٌبل ٌسمح برفع مستوى المعٌشة بٌن الفبلحٌن‪ ،‬وٌمكنهم من العٌش عٌشة‬
‫إنسانٌة ٌحصلون منها على أبسط مطالب الحٌاة اآلدمٌة"‪.‬‬

‫وقال مصطفى النحاس‪ ،‬ربٌس الوزراء‪ ،‬فً نفس السنة فً بٌانه أمام البرلمان عن المبلرٌا إن "العٌب‬
‫الكبٌر الذي أدى إلى فقر أؼلبٌة السكان هو كثرة الملكٌات الزراعٌة الكبٌرة(ٖ‪.")ٔ98‬‬

‫ومتفقا معه قال مكرم عبٌد فً مجلس النواب سنة ٕٗ‪ ٔ9‬أٌضا‪" :‬الحق أنً مررت بقرٌة من قرانا‪،‬‬
‫ورأٌت الفبلح ٌكاد ٌؤكله العمل‪ ،‬وؼٌره ٌؤكل‪ ،‬وٌلبسه العري وؼٌره ٌرفل‪ ،‬وٌضنٌه العٌش القذر والمؤوى‬
‫القذر‪ ،‬حتى لكؤن المسكٌن ٌخرج من الجنة لكً ٌدعنا نحن ندخلها(ٗ‪.")ٔ98‬‬

‫ورؼم هذا لم ٌجرإ حزب الوفد على المساس بالملكٌات الكبٌرة‪ -‬فكثٌر من أعضابه من أصحاب هذه‬
‫الملكٌات‪ ،‬واكتفى بمصمصة الشفاة وكلمات اإلشفاق على الفبلحٌن واقتراحات لئلصبلح تضمنت وضع حد‬
‫أدنى ألجور العمال الزراعٌٌن ٌكفً المستوى البلبق للمعٌشة‪ ،‬وتعمٌم المٌاه الصالحة للشرب فً القرى‪،‬‬
‫وبٌع أراضً الحكومة المستصلحة والبور لصؽار المزارعٌن مع توفٌر وسابل الري والصرؾ(٘‪.)ٔ98‬‬

‫ولكن لم تعدم مصر فً آواخر األربعٌنات من ٌعلن سخطه على هذا الوضع وٌطالب بوضع حد البتبلع‬
‫األؼنٌاء مزٌدا من األرض‪ ،‬فظهرت مبادرات لوضع قوانٌن تفرض بالقوة الجبرٌة على هإالء الكؾ عن‬
‫ضم وشراء مزٌد من األرض عبر تحدٌد الملكٌة‪.‬‬

‫ومن دوافع المطالبٌن بتحدٌد الملكٌة أن من كان قادرا على شراء أرض فً ذلك الوقت هو من عنده‬
‫أرض أصبل‪ ،‬فسدوا الطرٌق أمام معظم الفبلحٌن مهما وفروا من أموال فً شراء أراضً‪ ،‬كما أن زٌادة‬

‫(ٕ‪)ٔ98‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٘ٔ‬
‫(ٖ‪)ٔ98‬‬
‫‪ -‬األرض والفبلح‪ ..‬المسؤلة الزراعٌة فً مصر‪ ،‬إبراهٌم عامر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔٔ‬
‫(ٗ‪)ٔ98‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪99‬‬
‫(٘‪)ٔ98‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تارٌخ العمال الزراعٌٌن فً مصر (ٗٔ‪ ،)ٔ9ٕ٘ -ٔ9‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓٗٔ‪ٔٗٔ -‬‬

‫‪ٙٙ9‬‬
‫عدد السكان مع الثبات النسبً لمساحة األرض زاد من سعر األرض من ناحٌة‪ ،‬وزاد البطالة من ناحٌة؛‬
‫ألن الباشوات ٌفضلون السٌطرة على األراضً الخصبة أكثر من استصبلح األراضً جدٌدة‪ ،‬فتقل فرص‬
‫العمل أمام العمال الزراعٌٌن‪ ،‬كما ٌرفض معظم الباشوات استثمار أموالهم فً عمل مصانع تفتح فرص‬
‫عمل جدٌدة للناس‪.‬‬

‫ففً ٘ٗ‪ ٔ9‬تقدم محمد خطاب‪ ،‬عضو حزب الهٌبة السعدٌة والنابب فً مجلس الشٌوخ‪ ،‬بمشروع قانون‬
‫لوضع حد أعلى للملكٌة الزراعٌة قدره ٓ٘ فدان‪ ،‬وأقرت لجنة الشبون االجتماعٌة المشروع بعد رفعه الحد‬
‫األقصى إلى ٓٓٔ فدان‪ ،‬على أال ٌسري هذا على المبلك الحالٌٌن وورثتهم‪ ،‬ومع ذلك رفضه المجلس ألن‬
‫معظم نوابه أٌضا من كبار المبلك(‪ )ٔ98ٙ‬الطامعٌن فً ضم مزٌد من األرض‪.‬‬

‫وتحول الهجوم على خطاب فً المجلس إلى "هدٌر وزبٌر"(‪ )ٔ989‬بحسب تعبٌره‪ ،‬فاستقال من الحزب‬
‫الذي رفض المشروع‪ ،‬وحٌن انتهت عضوٌته فً مجلس الشٌوخ‪ ،‬وكان عضوا معٌنا‪ ،‬رفض النقراشً‬
‫(ربٌس الحزب وربٌس الوزارة وقتها) إعادة تعٌٌنه‪ ،‬فرشح نفسه للعضوٌة بداٌرة عابدٌن فحاربته الحكومة‬
‫وسقط فً االنتخابات‪ ،‬وقال ربٌس مجلس الشٌوخ فً تصرٌح لمجلة المصور "إن مجلس الشٌخ وجد لٌحد‬
‫من المشروعات الثورٌة ومن الطفرات التً ٌندفع إلٌها تطرؾ اآلراء باسم التقدم الذي ال ٌتفق وشرع‬
‫الببلد"‪ ،‬لكن خطاب لم ٌٌؤس وكرر تقدٌم المشروع للمإتمر الزراعً الثالث ‪ ٔ9ٗ9‬وفً ٓ٘‪ ٔ9‬مإكدا أن‬
‫السبب فً انخفاض مستوى معٌشة أؼلب السكان وفقرهم هو الملكٌات الزراعٌة الكبٌرة(‪.)ٔ988‬‬

‫وبدال من تحدٌد الملكٌة ظهر اقتراح بٌع أراضً‪ -‬لٌست من األراضً الخصبة التً ٌهٌمن علٌها رابطة‬
‫المتملكٌن الكبار‪ -‬ولكن أراضً مستصلحة‪ ،‬ولكن هذه أٌضا سٌقع أكثرها فً ٌد القادر على الشراء من‬
‫المٌسورٌن واألجانب‪ ،‬ولٌس أؼلب السكان األجرٌة أو المستؤجرٌن أو المالكٌن ألقل من فدان‪ ٘ -‬فدادٌن‪.‬‬

‫وضرب البلد وباء جدٌد سنة ‪ ٔ9ٗ9‬هو الكولٌرا حصد أرواح أكثر من ٓٔ آالؾ نفس ؼالبٌتهم من‬
‫فقراء الفبلحٌن أٌضا(‪.)ٔ989‬‬

‫وفً محاضرة ألقاها وكٌل وزارة الشبون االجتماعٌة المساعد فً فبراٌر ‪ ٔ9ٗ8‬ونشرتها مجلة المصور ‪-ٔ8‬‬
‫ٕ‪ ٔ9ٗ8-‬حاول تهدبة حدة المطالبة باإلصبلح مبرءا الحكومة بؤن "الواقع أن الفبلحٌن المصرٌٌن ٌكونون ثبلثة‬
‫أرباع السكان‪ ،‬وحالتهم لٌست بالحالة الطاربة التً ٌمكن عبلجها عبلجا سرٌعا حاسما‪ ،‬بل هً نتٌجة عدة عوامل‬
‫سٌاسٌة واجتماعٌة واقتصادٌة تضافرت منذ أجٌال لتصل بهم إلى هذه الحالة(ٓ‪.")ٔ99‬‬

‫وأثناء انتخابات ‪ ٔ9ٗ9‬البرلمانٌة طالب ‪ 9ٙ‬مرشحا مستقبل بتحدٌد الملكٌة الزراعٌة وزٌادة الضراٌب‬

‫(‪)ٔ98ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬األرض والفبلح‪ ..‬المسؤلة الزراعٌة فً مصر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔٔ‪ ،‬ومقدمات ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘‪ ،ٔ9‬عبد الرحمن الرافعً‪ ،‬ط ٖ‪،‬‬
‫دار المعارؾ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٔ‪ٔ9٘ -ٔ9‬‬
‫(‪)ٔ989‬‬
‫‪ -‬الصراع اإلجتماعً والسٌاسً فً مصر منذ قٌام ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘‪ ٔ9‬إلى نهاٌة أزمة مارس ٗ٘‪ ،ٔ9‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ‪9‬‬
‫(‪)ٔ988‬‬
‫‪ -‬كبار مبلك األراضً الزراعٌة ودورهم فً المجتمع المصري (ٗٔ‪ ،)ٔ9ٕ٘ -ٔ9‬عاصم الدسوقً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٖٔ‪ٖٔٗ -‬‬
‫(‪)ٔ989‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تارٌخ العمال الزراعٌٌن فً مصر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔ و‪ ٔٙ‬وهوامش المقدمة ص ٕٕ‪ٕٖ -‬‬
‫(ٓ‪)ٔ99‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٗٔ‬

‫ٓ‪ٙ7‬‬
‫"حتى ٌحوِّ ل مبلك األرض استثماراتهم للصناعة" لٌتوقفوا عن ضم مزٌد من األرض‪ ،‬وطالب الدكتور‬
‫راشد البراوي فً السنة نفسها بتعدٌل نظام حٌازة األرض بما ٌإدي إلى تعمٌم الملكٌات الصؽٌرة والملكٌات‬
‫المتوسطة‪ ،‬وطالب الدكتور أحمد سحٌن بمشروعات "تساعد على نشر الملكٌات العابلٌة الصؽٌرة‪ ،‬وتنظٌم‬
‫العبلقة بٌن المالك والمستؤجر ووضع حد أدنى ألجور العمال الزراعٌٌن"‪ ،‬ونادى إبراهٌم شكري عضو‬
‫مجلس النواب ٓ٘‪ ٔ9‬بتحدٌد الملكٌة بؤال تزٌد عن ٓ٘ فدانا للمالك‪ ،‬وأعلن النابب علً الشٌشٌنً مشروعا‬
‫لتحدٌد الملكٌة ب ٓٓٔ فدان مع زٌادة ٓ‪ ٙ‬فدانا للولد وٖٓ فدانا لكل من البنت والزوجة(ٔ‪.)ٔ99‬‬

‫وبذلك دارت مقترحات اإلصبلح حول الحد من تضخم الملكٌات الكبٌرة القابمة‪ -‬دون المساس بها‪ -‬ومنع‬
‫تكون ملكٌات كبٌرة جدٌدة‪ ،‬ولم ٌتطرق أحد إلى عدم شرعٌة الملكٌات الكبٌرة القابمة من األساس‪ ،‬وأنها‬
‫حق للدولة وللفبلحٌن ألن معظمها أُخذ بطرق ؼٌر مشروعه أو بمعونة المحتلٌن وبتسخٌر الفبلحٌن وسلب‬
‫حقوقهم‪ ،‬سوى إشارة بسٌطة وردت بفرض ضرٌبة إضافٌة على األراضً التً تملكها أصحابها بالمنح‬
‫والهبات تمٌٌزا لها عن األراضً التً تملكها أصحابها بالشراء إلحداث التوازن االجتماعً(ٕ‪.)ٔ99‬‬

‫ومن التطورات اإلٌجابٌة أٌضا أنه بعد الحرب العالمٌة الثانٌة علت أصوات بتحرٌم تملٌك األجانب‬
‫لؤلراضً المصرٌة‪ ،‬فقدم المإرخ والنابب فً مجلس الشٌوخ عبد الرحمن الرافعً سنة ‪ ٔ9ٗ8‬مشروع‬
‫قانون ٌحظر على األجانب تملك األراضً الزراعٌة وأراضً البناء والعقارات المخصصة للسكن‪ ،‬مستدال‬
‫على خطر تملك األجانب لؤلراضً والعقارات بإحصاء صدر ‪ ٔ9ٗٙ‬أظهر أن األجانب ٌملكون‬
‫ٕ‪ ٖ٘9,ٔ9‬فدانا من األراضً الزراعٌة البالؽة ٖٗٔ‪ ،٘,9ٖٓ,‬إضافة لما لهم من أمبلك عقارٌة على جزء‬
‫كبٌر من األراضً المملوكة للمواطنٌن‪ ،‬وأن ‪ ٔ9‬أجنبٌا ٌملك الواحد منهم أكثر من ألؾ فدان‪ ،‬واستمرار‬
‫هذا األمر خطر على الكٌان القومً(ٖ‪ ،)ٔ99‬وإذا وضعنا فً حسابنا أن معظم كبار متملكً األراضً أساسا‬
‫من عاببلت تركٌة وشركٌة وٌونانٌة وعربان‪ ،‬حصلوا على الجنسٌة المصرٌة حدٌثا بموجب قوانٌن‬
‫التجنٌس سٌبة السمعة الصادرة بداٌة القرن ٕٓ‪ٌ ،‬تبٌن أنه فً الحقٌقة فإن معظم كبار متملكً األراضً‬
‫والعقارات هم عاببلت أجنبٌة‪.‬‬

‫ولما أحس كبار المبلك بكثرة المطالب ووعً الفبلحٌن بها لجؤوا إلى حٌلة بٌع أراضٌهم ألوالدهم‬
‫(ٗ‪)ٔ99‬‬

‫حتى ٌصعب تحدٌد الملكٌة الزراعٌة علٌها‪.‬‬

‫وفً كتابها الصادر سنة ‪ ٔ9ٖٙ‬بعنوان "الرٌؾ المصري" تتحدث الدكتورة عابشة عبد الرحمن "بنت‬
‫الشاطا" ملتاعة عما شاهدته فً قرٌة مكثت فٌها فترة لبلستشفاء‪ ،‬ورأت أن طعام معظم أهلها أرؼفة الذرة الجافة‬
‫وبضعة أعواد من حشابش األرض كالجعضٌد‪ ،‬وشربتهم مٌاه ملوثة تسري فٌها الجراثٌم والدٌدان‪ ،‬ومبلبسهم‬
‫"أحٌانا ال تكفً ستر العورة" ‪ ..‬ألٌست هذه نفس الحال التً ٌصفها المإرخون والرحالة عن حٌاة المصرٌٌن‬

‫(ٔ‪)ٔ99‬‬
‫‪ -‬األرض والفبلح‪ ..‬المسؤلة الزراعٌة فً مصر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٕٔ‪ٕٖٔ -‬‬
‫(ٕ‪)ٔ99‬‬
‫‪ -‬انظر هذه اإلشارة فً‪ :‬كبار المبلك والفبلحٌن من ‪ ،ٔ9ٕ٘ -ٔ8ٖ9‬مرجع سابق ص ٕٖٔ‪ٖٔٗ -‬‬
‫(ٖ‪)ٔ99‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬فً أعقاب الثورة المصرٌة ثورة ‪ ،ٔ9ٔ9‬عبد الرحمن الرافعً‪ ،‬جٕ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٔٓ‪ٖٓٗ -‬‬
‫(ٗ‪)ٔ99‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬األرض والفبلح‪ ..‬المسؤلة الزراعٌة فً مصر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٕٔ‬

‫ٔ‪ٙ7‬‬
‫الحقٌقٌٌن فً كل عصور االحتبلالت؟ أٌن نتابج المشارٌع الكبرى للمحتلٌن إذن؟ من حلب خٌرها؟‬

‫وتعجبت بنت الشاطا ممن ٌؽنون للنٌل وال ٌهتمون بالفبلح الذي ٌستخرج الحٌاة من النٌل‪ ،‬وقالت إنه لٌس من‬
‫العدل أن ٌزرع هو وٌحصد ؼٌره وحدهم‪ ،‬وٌشقى هو لٌإخذ الخٌر من ٌدٌه لعمارة وتزٌٌن وتنظٌؾ المدٌنة‬
‫وحدها‪ ،‬ساردة مشاهد آلباء وأمهات ٌعصرهم األلم وهم ٌحملون القمح القلٌل الذي زرعوه أو الطٌور التً ربوها‬
‫لٌبٌعوها فً السوق وٌشتروا بضابع ضرورٌة كالزٌت والذرة دون أن ٌتركوا منها شٌبا ألطفالهم ٌتذوقوه‪،‬‬
‫وصرخت فً وجه الحكومة وكل من ٌتجاهل الفبلح أو ٌسخر منه بوصفها لهم إنهم من "الجاحدٌن" وٌؤخذون ما‬
‫ال حق لهم ‪ ،‬مختتمة بكلمات شبٌهة بكلمات الحكٌم إٌبو ور وهو ٌؤمل فً قدوم المخلص الذي ٌعدل الحال‪" :‬فلٌت‬
‫شعري‪ ،‬أٌة ٌد رحٌمة حازمة تلك التً ستوقظ األمة من تؽافلها وتنبهها إلى واجبها؟!(٘‪.")ٔ99‬‬

‫أما من ٌهرب من الرٌؾ لقلة العابد وٌذهب إلى المدٌنة للعمل فواعلً فً بناء القصور ومنشآت الحكومة‬
‫فبعضهم ٌتؽٌر حاله لؤلحسن‪ ،‬وبعضهم ال ٌجد حظا أحسن من حظ أخٌه فً الرٌؾ لسخافة األجور التً ٌجدونها‬
‫ٌوما وال ٌجدونها أٌاما‪ ،‬وٌنطق بحالهم حسٌن (محمد الدفراوي) الذي ٌقوم بدور فواعلً فً فٌلم "كل هذا‬
‫الحب" (إنتاج ‪" :)ٔ988‬وإٌه ذنبنا نبٌع عمرنا وشبابنا عشان ناكل عٌش وبصل ونشرب شاي؟"‪ ،‬فرد علٌه‬
‫صاحبه ناصر (ٌحًٌ شاهٌن)‪" :‬ذنبنا إننا دخلنا البندر ومفٌش على راسنا طرابٌش وال برانٌط"‪.‬‬

‫▲▲▲ ؼضبة الفالح‬

‫ولم تكن هذه الحالة تمر على الفبلح دون أن ٌعبر عن أنفته وؼضبه وٌسعى ألخذ ثؤره‪ ،‬وإن كان متؤخرا‬
‫وعلى فترات متباعدة رؼم الؽٌظ والنار التً تؽلً فً صدورهم بسبب ما وصفه الدكتور عبد العظٌم‬
‫رمضان بتشتت أفراد الفبلحٌن ومعتقداتهم االستسبلمٌة وعدم وجود شكل منظم لهم(‪.)ٔ99ٙ‬‬

‫وكانت الؽضبة الكبرى هً ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬التً حملها الفبلحون على أكتافهم ورووها بدمابهم قبل أن‬
‫ٌختطفها اإلقطاعٌون وٌحصدون بها مكاسب جدٌدة لهم فً البرلمان والحكومة وضم المزٌد من األرض‪.‬‬

‫وفٌما ٌتمنع اإلقطاعٌون المسٌطرون على البرلمان والحكومة عن اتخاذ خطوات تنصؾ الفبلح بعد‬
‫الثورة‪ ،‬أخذ هو ٌقوم باحتجاجاته التقلٌدٌة فً شكل االمتناع عن دفع الضراٌب واإلٌجار‪ ،‬التوقؾ عن حصد‬
‫المحاصٌل‪ ،‬هجر األرض التً ٌستنزفه فٌها الباشا‪ ،‬التحاٌل على إجراءات الحجز على محاصٌل الفبلح‬
‫وممتلكاته المنزلٌة وماشٌته‪ ،‬وأحٌانا ٌصل به المدى للعنؾ مثل حرق المزروعات قبل حصدها أو حرقها‬
‫فً األجران بعد حصدها لبلنتقام من المتملكٌن األجانب أو ؼٌرهم‪.‬‬

‫وفً سنة ٔ٘‪ ٔ9‬سطر الفبلحون مبلحم رفض الخضوع ألوامر متملكً األرض فً استنزافهم وإهانتهم‬
‫كما حصل فً أراضً ٌتملكها البدراوي بقرٌة بهوت وأمٌرا العٌلة الحاكمة ٌوسؾ كمال ومحمد علً‬

‫(٘‪)ٔ99‬‬
‫‪ -‬الرٌؾ المصري‪ ،‬بنت الشاطا‪ ،‬مكتبة ومطبعة الوفد‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ9ٖٙ ،‬ص ٔ‪ٕٗ-‬‬
‫(‪)ٔ99ٙ‬‬
‫‪ -‬الصراع اإلجتماعً والسٌاسً فً مصر منذ قٌام ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘‪ ٔ9‬إلى نهاٌة أزمة مارس ٗ٘‪ ،ٔ9‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٗ9‬‬

‫ٕ‪ٙ7‬‬
‫والخاصة الملكٌة وفإاد سراج الدٌن وعبد اللطٌؾ طلعت(‪.)ٔ999‬‬

‫وظهر استمرار تحكم روح الؽزاة فً ردود فعل هإالء على احتجاجات الفبلحٌن‪ ،‬فلم تختلؾ عن أسالٌب‬
‫آبابهم وأجدادهم الذٌن استولوا على هذه األراضً تحت ظل سٌؾ االحتبلل‪ ،‬وال عن أسلوب اإلنجلٌز فً‬
‫دنشواي‪ ،‬ففً قرٌة بهوت سنة ٓ٘‪ ٔ9‬رفض الفبلحون دفع اإلٌجار‪ ،‬فوضعهم اإلقطاعٌون فً السجون‪،‬‬
‫و حُ كم علٌهم بعقوبات قاسٌة‪ ،‬وفً قرٌة "كفور نجم" التً بها أراضً ٌتملكها محمد علً – ولً العهد قبل‬
‫مٌبلد أحمد فإاد‪ ،‬قام الفبلحون باحتجاجات قوبلت بالعنؾ‪ ،‬واستشهد الفبلح عواد وهو ٌقول‪" :‬إن األرض‬
‫أرضنا‪ ،‬ولنا فٌها أكثر مما لصاحب السمو ولً العرش(‪.")ٔ998‬‬

‫❺❶ استمرار عصر عروق مصر بالدٌون لألجنبً‬

‫"لكً تدفع مصر"‪ ..‬هو عنوان فصل ورد فً كتاب "االستعمار البرٌطانً فً مصر" بقلم إلٌنور بٌرتز‪،‬‬
‫الصادر ‪ ،ٔ9ٕ9‬وأظهر أن سٌاسة االحتبلل هدفها األول "استنزاؾ وابتزاز" مصر آلخر قطرة‪.‬‬

‫وٌقول إن أهداؾ خطة "بٌرنج إخوان" ]شركة تابعة لعابلة كرومر[(‪ )ٔ999‬فً مصر هً عٌنها أهداؾ‬
‫خطة فروهلنج وجوشن ]بٌوت المال العالمٌة[‪ ،‬وهً أن ٌعتصر رأس المال البرٌطانً ربحا متزاٌدا تبتزه‬
‫الطبقة الحاكمة المصرٌة من الفبلحٌن الكادحٌن‪ ،‬وأن تزداد طاقة مصر االنتاجٌة حتى ٌمكن الحصول على‬
‫أعظم النتابج من اعتصار طبقة الفبلحٌن‪ ،‬ثم إخضاع الطبقة الحاكمة المصرٌة بشكل مباشر بعد أن ضُربت‬
‫اإلسكندرٌة بالقنابل‪ ،‬وتحطمت الحركة الوطنٌة بقٌادة عرابً‪ ،‬واحتلت القوات البرٌطانٌة مصر‪ ،‬وأُدخل‬
‫الموظفون البرٌطانٌون فً جمٌع المصالح الهامة‪ ،‬وخاصة فً وزارة المالٌة‪ ،‬وفً الجٌش(ٓٓ‪.)ٔ8‬‬

‫وفً دٌسمبر ٘‪ ٔ88‬فً أٌام توفٌق (‪ )ٔ89ٕ -ٔ899‬استدانت الحكومة مبلؽا باهظا جدا‪ ،‬هو ‪ 8‬ملٌون‬
‫جنٌه ونصؾ ملٌون جنٌه لدفع تعوٌضات اإلسكندرٌة لؤلجانب‪ ،‬وسداد العجز الحاصل فً إٌرادات السنة‬
‫الماضٌة‪ ،‬ثم استدانت ملٌونٌن آخرٌن تحت بند إصبلح الري(ٔٓ‪.)ٔ8‬‬

‫وكانت مهمة سٌر إفلٌن بٌرنج (كرومر) المباشرة هً أن ٌضمن دفع فوابد الدٌن القابمة دفعا منتظما‪،‬‬
‫وٌفتح مصر سوقا لمنتجات الصناعة البرٌطانٌة التً أخذت تحس وطؤة منافسة الصناعة األلمانٌة المتطورة‬
‫بسرعة(ٕٓ‪.)ٔ8‬‬

‫❻❶ استٌراد القمح بعد تسخٌر األرض للقطن‬

‫(‪)ٔ999‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬األرض والفبلح‪ ..‬المسؤلة الزراعٌة فً مصر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٔٔ‪ٖٔٔ -‬‬
‫(‪)ٔ998‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الممٌزات العامة للتركٌب الطبقً فً مصر عشٌة ثورة ٌولٌو ٕ٘‪ ،ٔ9‬جمال مجدي حسنٌن‪ ،‬مجلة الطلٌعة‪ ،‬س‪ ،9‬ع ٗ‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫ٔ‪ ،ٔ99‬ص ‪ٙٓ -٘9‬‬
‫(‪)ٔ999‬‬
‫‪ -‬أحد شركات أو بٌوت المال تؤسست فً لندن ٖ‪ ،ٔ9ٙ‬وتتبع عابلة "إٌفلٌن بٌرنج" الذي عُرؾ باسم اللورد كرومر‪.‬‬
‫(ٓٓ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘ٔ‬
‫(ٔٓ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬مصر فً القرن التاسع عشر‪ ،‬صالح جودت‪ ،‬مكتبة الشعب‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ9ٓٗ ،‬ص ‪ٗ9‬‬
‫(ٕٓ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘ٔ‬

‫ٖ‪ٙ7‬‬
‫قرر كرومر زٌادة مساحة زراعة القطن لصالح مصانع النسٌج فً النكشاٌر ببرٌطانٌا على حساب‬
‫المحاصٌل الؽذابٌة‪ ،‬وٌمكننا أن نعرؾ نتٌجة هذه السٌاسة من الحقٌقة التالٌة‪.‬‬

‫كانت صادرات القطن فً السنوات السابقة لنظام "بٌرنج إخوان" ملٌونً قنطار فً العام‪ ،‬قٌمتها ‪8‬‬
‫مبلٌٌن من الجنٌهات‪ ،‬ثم أصبحت فً نهاٌة الفترة ]بعد ٕ٘ عاما من حكم كرومر[ ‪ 9‬مبلٌٌن قنطار تساوي‬
‫أكثر من ٖٓ ملٌونا من الجنٌهات‪ ،‬فهً زٌادة عظٌمة فً الدخل‪.‬‬

‫ولكن‪ ،‬فً ذات الوقت تحولت مصر من بلد كان ٌعتمد على نفسه فً إنتاج حاجاته الؽذابٌة إلى بلد‬
‫مستورد لها‪ ،‬ربما ألول مرة فً تارٌخه‪ ،‬وبعد أن كانت مزرعة القمح لئلمبراطورٌة الرومانٌة القدٌمة‬
‫صارت مستوردة للقمح بفضل اإلمبراطورٌة الرومانٌة الجدٌدة وأعوانها فً االحتبلل العلوي والجالٌاتً‪.‬‬

‫ففً سنة ‪ ٔ9ٓ8‬استوردت مصر موادا ؼذابٌة بما قٌمته أكثر من ٘ ملٌون جنٌه‪ ،‬وهذه المواد ٌضطر‬
‫الناس لشرابها بؤسعار أؼلى منها فً الببلد األوروبٌة‪ ،‬فمثبل كان سعر القمح فً مصر فً ذلك العام ٌزٌد‬
‫ٓ٘‪ %‬المابة عن سعر القمح فً إنجلترا‪.‬‬

‫النتٌجة‪ٌ ،‬قول إلٌنور بٌرتز‪ ،‬أن هذه السٌاسة جعلت المصرٌٌن أكثر اعتمادا على مستؽلٌهم‪ ،‬فبدال من أن‬
‫ٌبٌعوا الفابض من محصول القطن ال ؼٌر‪ ،‬أصبحوا اآلن ٌعتمدون أكثر ما ٌعتمدون على بٌع القطن‪ ،‬ثم‬
‫تمشٌا مع التؽٌٌر أصبحوا مجبرٌن على شراء الؽذاء المستورد المنقول من أماكن سحٌقة؛ فؤصبحوا واقعٌن‬
‫فً ٌد الوسطاء مرتٌن(ٖٓ‪.)ٔ8‬‬

‫وما أتعس شعب ٌعتمد على من ٌحتله فً ؼذابه !‬

‫❼❶ استمرار عصر مصر بمشارٌع االستثمار األجنبً‬

‫وإضافة لذلك‪ ،‬خلقت سٌاسة تنمٌة إنتاج القطن لسد حاجة المصانع اإلنجلٌزٌة "سوقا رابجة لمنتجات‬
‫الصناعة البرٌطانٌة‪ ،‬والضراٌب ٌتم تحصٌلها من الفبلحٌن "لتدفع للمقاولٌن األجانب نظٌر قٌامهم بمد‬
‫السكك الحدٌدٌة أو بؤعمال الري أو بؤعمال عمرانٌة أخرى‪ ،‬وبهذه الطرٌقة ضمنت سوقا دابمة للمصنوعات‬
‫البرٌطانٌة الثقٌلة أو المصنوعات الخاضعة للسٌطرة البرٌطانٌة"‪.‬‬

‫وٌتفاخر كرومر بهذه المشروعات فً كتابه "مصر الحدٌثة"‪ ،‬وبؤنه بٌن سنة ‪ ٔ9ٓٗ -ٔ888‬صرؾ من‬
‫االحتٌاطً ‪ ٔٙ‬ونصؾ ملٌون جنٌه على األعمال العامة بما فٌها أعمال الري والسكك الحدٌد وإصبلح‬
‫الموانا"(ٗٓ‪ ،)ٔ8‬وٌقدم هذا على أنه جمٌل على مصر‪ ،‬رؼم أنها مشروعات منتقاة بعناٌة لخدمة حركة تجارة‬
‫وصناعة ونقل بضابع االحتبلل‪.‬‬

‫وفً ‪ ٔ898‬تعاقدت الحكومة مع جون إٌرد وشركاه على مقاولة لبناء خزان أسوان بمبلػ ملٌونً جنٌه‬

‫(ٖٓ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٔ9 -ٔٙ‬‬
‫(ٗٓ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٔ8‬‬

‫ٗ‪ٙ7‬‬
‫إنجلٌزي(٘ٓ‪ )ٔ8‬لزٌادة المحاصٌل فٌزٌد العابد‪ ،‬وٌشٌر لهذا ملنر‪ ،‬وزٌر المستعمرات‪ ،‬وهو ٌقول‪" :‬إذا كان البد‬
‫من إدخال إصبلح دابم فً مصر فؤول األمور هو أن نجعلها قادرة على الدفع(‪.")ٔ8ٓٙ‬‬

‫ولتجمٌع أي أرباح تسقط فً ٌد الجالٌات األجنبٌة أو المصرٌٌن تؤسس البنك األهلً المصري وعضو‬
‫لجنته اللندنٌة كان أحد أقارب إٌفلٌن بٌرنج (كرومر)(‪ ،)ٔ8ٓ9‬واألخطر أنه أخذ من الحكومة امتٌاز إصدار‬
‫العملة المصرٌة‪ ،‬رؼم أنه بنك خاص وإدارته أجنبٌة‪ ،‬ومسٌطر علٌه من بنك إنجلترا الخاص أٌضا الواقع‬
‫تحت إدارة روتشٌلد وإخوانه من بٌوت المال العالمٌة‪.‬‬

‫وفً ظل تدفق المال فً ٌد االحتبلل والجالٌات نشؤت شركات رأسمالها برٌطانً وأجنبً الحتكار‬
‫السوق المصري‪ ،‬ومنها شركة مصر لحبلجً األقطان المتحدٌن‪ ،‬شركة سٌنا للتعدٌن‪ ،‬شركة األراضً‬
‫الم تحدة المصرٌة‪ ،‬شركة سكة حدٌد الدلتا‪ ،‬شركة إنجلو إٌجٌبشٌان أوٌل فٌلد لٌمتد وشركة شل للبترول‪،‬‬
‫وشركات سجابر برٌطانٌة ثانوٌة كثٌرة أو شركات محلٌة للمٌاه والنور وشركات النقل البحري وشركات‬
‫التموٌن بالفحم التً تعمل فً الموانا وشركات التؤمٌن على الحٌاة‪ ،‬وبحسب موري هارٌس فً كتابه‬
‫"مصر تحت حكم المصرٌٌن" فإن ٓ‪ %9‬من أعمال التؤمٌن فً مصر فً ٌد منشآت برٌطانٌة(‪.)ٔ8ٓ8‬‬

‫كان طرٌق المال بٌن مصر وبرٌطانٌا فً اتجاهٌن‪ ،‬األول من مصر لبرٌطانٌا وهو خٌرات مصر من‬
‫محاصٌل ومواد خام ونقود‪ ،‬ومن برٌطانٌا إلى مصر وهً رأس المال الفاٌض فً بنوكها الذي جمعه‬
‫روتشٌلد وشركاه‪ ،‬وٌؤتً لمصر فً صورة استثمار خاص (ؼسٌل أموال)‪ ،‬ولكن فً مجاالت تزٌد من‬
‫إحكام الخناق على رقبة مصر‪ ،‬وفً نفس الوقت أرباحها سرٌعة وخٌالٌة‪ ،‬فاستثمروا فً الرهونات‬
‫والعقارات واألراضً الزراعٌة‪ٌ ،‬متلكون أكبر قدر من أمبلك مصر‪ ،‬وٌوجهون السٌاسة الزراعٌة‬
‫والصناعٌة كٌفما ٌشاءون فً نوعٌة المحاصٌل والمنتجات بما ٌتوافق مع حاجات مصانع أوروبا‪ ،‬وفً نفس‬
‫الوقت تزٌد أسعار األراضً والمساكن فً مصر(‪ ،)ٔ8ٓ9‬وهو ما ٌمثل عببا على المصرٌٌن الذٌن ال ٌكادون‬
‫ٌبلحقون الزٌادات فً األسعار مثل األجانب‪ ،‬وتؽرٌهم شركات الرهن والبنوك األجنبٌة باالقتراض لتنمٌة‬
‫أراضٌهم أو مشارٌعهم‪ ،‬وحٌن ٌتعثرون تقع هذه األمبلك فً ٌد األجانب‪.‬‬

‫وفً ذلك قال حافظ إبراهٌم سنة ‪ ٔ9ٓ9‬متحسرا على سقوط أمبلك مصر بٌد األجانب باسم استثمار‪،‬‬
‫وما هً إال شرك (فخ) ٌصطاد ضحاٌاه‪ ،‬وهو نفس ما حذر منه عبد هللا الندٌم من قبل(ٓٔ‪.)ٔ8‬‬

‫على حٌن لم نبلػ من الفطنة المدى‬ ‫سلبنا ضٌاعنــــــا‬


‫ألم ٌكفنا أنا ُ‬

‫خبٌـــــر وكنـــــا جاهلٌــن ورقـدا‬ ‫وزاح َمنا فً العٌش كل ممارس‬

‫(٘ٓ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬مصر فً القرن التاسع عشر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓ‪ٙ‬‬
‫(‪)ٔ8ٓٙ‬‬
‫‪ -‬الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬د‪.‬سامً عزٌز‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٕٗ‬
‫(‪)ٔ8ٓ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٓ‪ٙٙ ،‬‬
‫(‪)ٔ8ٓ8‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٘٘‬
‫(‪)ٔ8ٓ9‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٔ‪ٙ8 -ٙ‬‬
‫(ٓٔ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬دٌوان حافظ إبراهٌم األعمال الكاملة‪ ،‬حافظ إبراهٌم‪ ،‬مإسسة هنداوي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٖ‪ٔ8ٗ -ٔ8‬‬

‫٘‪ٙ7‬‬
‫سوى شِ ـــرك ٌلقى به من تصٌـدا‬ ‫وما الشركات السود فً كل بلدة‬

‫❽❶ ظهور الخصخصة فً العصر الحدٌث‬

‫ربما أول نوع من الخصخصة فً تارٌخ مصر‪ ،‬وتسلٌم اقتصاد الدولة لٌد حفنة من األفراد األجانب‪،‬‬
‫كان فً فترة االستٌطان اإلؼرٌقً ثم االحتبلل الرومانً حٌن تسلم حفنة تجار أجانب مصر بجانب‬
‫أراضٌها‪ ،‬وأنشؤوا وكاالت تجارٌة متعددة الجنسٌات كما تابعنا‪.‬‬

‫وفً عهد سعٌد ُزرعت بوادر خصخصة أمبلك مصر بالسماح بتملك األجانب لؤلراضً والعقارات من‬
‫جدٌد‪ ،‬ولكن تعذر علٌهم تملك مشروعات الدولة مثل السكة الحدٌد‪ ،‬ؼٌر أن كثرة الدٌون وفرت لهم الفرصة‬
‫فً عهد إسماعٌل وتوفٌق ثم عباس حلمً الثانً‪ ،‬فحٌنها أهدرت الحكومة كثٌرا من أراضً ومشروعات‬
‫الدولة والمرافق العامة واألصول ببٌعها رسمٌا إلى األجانب‪ ،‬وبثمن بخس‪.‬‬

‫ففً ٗ‪ ٔ89‬با عت الحكومة قدرا عظٌما من أطٌان الوجه البحري "تفتٌش بسندٌلة" لشركة أجنبٌة بثمن‬
‫بخس‪ ،‬ولم تعطها لشركة وطنٌة سعت لشرابها(ٔٔ‪ ،)ٔ8‬وفً ‪ ٔ899‬تنازلت الحكومة عن حق استخراج الملح‬
‫والنطرون لشركة أجنبٌة‪ ،‬وفً ‪ ٔ898‬باعت إلى شركة إنجلٌزٌة "بواخر البوسطة" الخدٌوٌة بمبلػ ال‬
‫ٌتجاوز ٓ٘ٔ ألؾ جنٌه‪ ،‬واعترض السلطان العثمانلً رسمٌا على هذا البٌع‪ ،‬وكثرت أقوال الناس لما فٌه‬
‫من الؽبن الظاهر على الحكومة(ٕٔ‪ ،)ٔ8‬وفً ‪ ٔ898‬عقدت الحكومة اتفاقٌة مع شركة مختلطة لبٌع أطٌان‬
‫الدابرة السنٌة لهذه الشركة بمبلػ ٓٓ٘‪ ٙ,ٖٗٔ,‬جنٌه(ٖٔ‪.)ٔ8‬‬

‫❾❶ استمرار سفك الدم المصري فً المذابح‬

‫▼ (مدبحة دنشواي)‬

‫أصدر االحتبلل قانونا سنة ٘‪ ٔ89‬بتوجٌه من كرومر ٌنص على عرض قضاٌا المنازعات بٌن األهالً‬
‫وجٌش االحتبلل على محاكم نصؾ عسكرٌة ال ُتستؤنؾ أحكامها بعد تؤكده من استمرار سخط الفبلحٌن علٌه‬
‫رؼم ما وصفها بـ"اإلصبلحات"‪ ،‬وفً ظل هذا القانون تمت محاكمة دنشواي ‪ ،ٔ9ٓٙ‬وهً على حد تعبٌر‬
‫إلٌنور بٌرتز فً كتابه "االستعمار البرٌطانً فً مصر"‪" :‬واحدة من أبشع ما روى التارٌخ من مظالم‬
‫العدالة البرٌطانٌة الشابنة ضد شعب مستعمر(ٗٔ‪ ،")ٔ8‬كان هدفها معاقبة الفبلح أن رفع رأسه ورفع عصاه‬
‫على جنود االحتبلل من جدٌد بعد ثورة ٔ‪.ٔ88‬‬

‫والقصة أن جماعة من ضباط اإلنجلٌز خبلل صٌدهم للحمام فً قرٌة دنشواي بالمنوفٌة‪ ،‬فً الٌوم‬
‫التعٌس ٔٔ ٌونٌو ‪ٔ9ٓٙ‬؛ فؤصابوا الفبلحة أم محمد بنٌرانهم وتسببوا فً حرق جرن القمح‪ ،‬فثارت ؼٌرة‬

‫(ٔٔ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬مصر فً القرن التاسع عشر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٗ٘‬
‫(ٕٔ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٓ‪ٙ‬‬
‫(ٖٔ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٔ‪ٙ‬‬
‫(ٗٔ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕٔ‬

‫‪ٙ7ٙ‬‬
‫أهالً القرٌة‪ ،‬ونادوا‪" :‬الخواجة حرق الجرن وقتل أم محمد"‪.‬‬

‫وأطلق اإلنجلٌز الرصاص الحً فؤصابوا شٌخ الؽفر عامر عدس‪ ،‬وشحاتة داود‪ ،‬وعلً الدبشة‪ ،‬وطارد‬
‫الفبلحون الؽاضبون الضباط اإلنجلٌز بالعصً والحجارة‪.‬‬

‫وخبلل هروب الضباط أصٌب أحدهم "الكابتن بول" بضربة شمس ومات‪ ،‬وتركه زمبلبه وهربوا‪،‬‬
‫فتجمع حوله األهالً‪ ،‬ولما عاد بعض الضباط اتهموهم بؤنهم سبب قتله‪ ،‬وطاردوا األهالً‪ ،‬وقبضوا على‬
‫بعضهم‪ ،‬وهرب أحدهم وهو سٌد أحمد سعٌد فً بطن طاحونة‪ ،‬وقتله فٌها اإلنجلٌز بؤبشع وسٌلة‪ ،‬انهالوا‬
‫علٌه ضربا بالسونكً حتى قطعوه إربا‪.‬‬

‫وانعقدت محاكمة سرٌعا‪ ،‬ومما ٌُدمً القلب تورط قضاة "مصرٌٌن"‪ -‬بجانب اإلنجلٌز‪ -‬فً هذه المحكمة‬
‫ٌرأسهم بطرس ؼالً ومن أعضابها فتحً زؼلول‪ ،‬وفً المقابل ترأس فرٌق الدفاع عن الفبلحٌن أحمد‬
‫لطفً السٌد أحد حاملً لواء "مصر للمصرٌٌن"‪.‬‬

‫وانتهت المهزلة إلى شنق واستشهاد ٗ من األهالً هم دروٌش زهران‪ ،‬حسن محفوظ (٘‪ ٙ‬سنة)‪ٌ ،‬وسؾ‬
‫سلٌم‪ ،‬والسٌد عٌسى سالم‪ ،‬وجلد ‪ 9‬آخرٌن‪ ،‬وحبس ٕٔ ما بٌن سنة والمإبد مدى الحٌاة فً ٌوم ‪ٌ ٕ8‬ونٌو‬
‫‪ ،ٔ9ٓٙ‬وذلك بالرؼم من أن تقرٌر األطباء اإلنجلٌز أثبت أن وفاة الضابط بول سببها ضربة الشمس ولٌس‬
‫إصابة على ٌد األهالً‪ ،‬ولكن هذه األحكام لم تكن عقابا على جرٌمة قتل‪ ،‬ولكن على جرٌمة أشنع فً رأي‬
‫إنجلترا‪ ،‬وهً تجرإ المصرٌٌن على أن ٌتحدوا اإلنجلٌز وٌرفضوا تدخلهم فً قرٌتهم‪.‬‬

‫ونكاٌة فً األهالً‪ ،‬قرر اإلنجلٌز تنفٌذ األحكام وسط القرٌة وحشود األهالً وأقارب المحكوم علٌهم‬
‫ٌراع فً ذلك الستات أو األطفال أو األباء أو‬
‫ِ‬ ‫باإلعدام والجلد لٌشاهدوا قتل وجلد أحبابهم بؤعٌنهم‪ ،‬ولم‬
‫األمهات‪ ،‬و ُنفذ الحكم وسط وصرخات األهالً التً شقت عنان السماء‪.‬‬

‫أبطال دنشواي فً ثٌابهم الدالة على حالتهم من الفقر فً طرٌقهم للجلد والشنق عقابا على أن الفبلح رفع رأسه وعصاه على الؽازي‬

‫أول المشنوقٌن أكبرهم سنا وهو حسن محفوظ‪ ،‬فاضت روحه وهو ٌدعو على عمدة القرٌة ألنه شهد‬
‫ضده‪ ،‬وثانً المشنوقٌن أصؽرهم سنا‪ ،‬وهو ٌوسؾ سلٌم‪ ،‬صاح قبل أن ٌتؤرجح جسده الطاهر على الحبل‬
‫أمام أهله‪" :‬اللهم انتقم من الظالمٌن‪ ..‬اللهم انتقم من الظالمٌن"‪.‬‬
‫‪ٙ77‬‬
‫وعملٌة الشنق تجري كانت بجوارها عملٌة الجلد‪ ،‬وإبراهٌم السٌسً ٌصرخ والكرباج ذي الثمانٌة أفرع‬
‫ٌنهال على ظهره العاري‪" :‬سقت علٌكم النبً‪ٌ ،‬ا هو‪ ،‬اشنقونً أحسن"‪ ،‬حتى سقط مؽشٌا علٌه‪ ،‬والكرباج‬
‫ٌستمر فً سلخ ظهره‪...‬ومجلود آخر هو عزب محفوظ‪ ،‬لم ٌقل شٌبا ولحم ظهره ٌتقطع‪ ،‬ولكن سمعوا له‬
‫صوتا كنباح الكلب‪ ،‬وكؤنه فقد عقله من األلم‪.‬‬

‫آخر المشنوقٌن محمد دروٌش زهران‪ ،‬وهو أكثرهم ثباتا‪ ،‬حتى أنه لما تؤخرت عملٌة الشنق دقابق‪،‬‬
‫صاح فً الش َّناق‪" :‬شهل ٌا أخً شهل"‪ ..‬وبعد لحظة‪ ..‬هوى جسد زهران‪ ،‬وهوت معه‪ -‬كما قالت صحٌفة‬
‫"المإٌد"‪ -‬قلوب الستات المتجمعات‪ ،‬ولطمن الخدود‪ ،‬و ُترك فترة فً الهواء ٌتؤرجح ٌمٌنا وشماال‪ ،‬زٌادة فً‬
‫مكاٌدة األهالً‪.‬‬

‫وٌصؾ عباس محمود العقاد هول الحادثة على المصرٌٌن‪" :‬كنا أربعة نقرأ وصؾ التنفٌذ فً أسوان‪،‬‬
‫فؤؼمى على واحد منا‪ ،‬ولم نستطع إتمام القراءة‪ ،‬إال بصوت متهدج تخنقه العبرات"(٘ٔ‪.)ٔ8‬‬

‫وٌصفها األدٌب أحمد أمٌن‪" :‬وأذكر أنً قرأت الجرابد ٌوم محاكمة بعض أهالً دنشواي‪ ،‬وكنت معزوما‬
‫فً اإلسكندرٌة على العشاء‪ ،‬فبكى الحاضرون جمٌعا وتركوا مكانهم من ؼٌر عشاء"(‪.)ٔ8ٔٙ‬‬

‫وهكذا تزلزلت أرواح وعروق المصرٌٌن‪ ،‬وخنقهم البكاء‪ ،‬من أسوان إلى اإلسكندرٌة‪ ،‬فً وقت واحد‪،‬‬
‫على الوطن الواحد الذي ٌُشنق أمامهم فً ٌوم الزلزلة العظٌم‪ ،‬وبهزات لم تبارح وجدانهم حتى الٌوم‪.‬‬

‫وسرى نبؤ زهران وإخواته سرٌان مٌة الفٌضان فً أرض مصر الطٌبة‪ ،‬فنسج له األدب الشعبً شعرا‬
‫تدفق من عروق المصرٌٌن الموصولة باستشهاد أوزٌر مظلوما وتصمٌم حور على أخد تاره من أهل‬
‫الشر‪ ،‬فؽ َّنوا ملتاعٌن‪:‬‬

‫ٌوم شنق زهران كانت صعب وقفاته‬

‫أمه بتبكً علٌه فوق السطح وإخواته‬

‫لو كان له أب ساعة الشنق لم فاته‬

‫صبرك علٌنا ٌا ظالم بكره راح تندم‬


‫(‪)ٔ8ٔ9‬‬

‫نفذ أهل الشر حكم الشنق والجلد والحبس فً ٖٕ مصرٌا شرٌفا لتهمة ؼٌر موجودة‪ ،‬فً حٌن لم ٌتم‬
‫محاكمة الضابط الذي أصاب الفبلحة بالرصاص‪ ،‬أو من قتلوا الفبلح فً بطن الطاحونة وجعلوا أكبر حتة‬

‫(٘ٔ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬التفاصٌل المذكورة حول الحادثة وأكثر منها فً كتاب "حكاٌات من دفتر الوطن"‪ ،‬صبلح عٌسى‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬مشروع‬
‫مكتبة األسرة‪ ،ٔ998 ،‬ص ‪.ٖ٘ٗ -ٖٓ9‬‬
‫(‪)ٔ8ٔٙ‬‬
‫‪ -‬قاموس العادات والتقالٌد والتعابٌر المصرٌة‪ ،‬أحمد أمٌن‪ ،‬مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة‪ ،‬ص ‪ٔ٘8 -ٔ٘9‬‬
‫(‪)ٔ8ٔ9‬‬
‫‪ -‬مقدمة فً الفولكلور القبطً‪ ،‬عصام ستاتً‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٓٓٔ‪ٔٓٔ -‬‬

‫‪ٙ78‬‬
‫من جسده فً حجم القرش تعرٌفة‪ ،‬بحسب وصؾ بعض المجبلت المعاصرة للمذبحة(‪.)ٔ8ٔ8‬‬

‫ولم تمر مذبحة دنشواي مرور الكرام كما مرت مذابح سابقة ُنصبت للمصرٌٌن خبلل الؽارات‬
‫والتحصٌل الظالم لئلتاوات وخبلل مقاومتهم لمظالم الممالٌك والترك وعٌلة محمد علً؛ فالمصرٌون بات‬
‫عددهم أكبر فً الصحافة‪ ،‬والصحؾ انتشرت تحمل معها أخبار المذابح بعد أن كانت تجري وال ٌعلم‬
‫المصرٌون عما ٌحدث لبعضهم شٌبا‪ ،‬وكثر عدد المصرٌٌن فً الحكومة لتدرجهم فً التعلٌم والوظابؾ‪،‬‬
‫سواء من عاببلت مٌسورة استطاعت إلحاق أوالدها بالتعلٌم العالً مثل سعد زؼلول ومصطفى كامل وأحمد‬
‫لطفً السٌد‪ ،‬أو الفقراء الذٌن شقوا طرٌقهم بصعوبة فً سلك التعلٌم مثل أحمد حلمً وعباس العقاد‪ ،‬جعلوا‬
‫ألسنتهم هً الكرابٌج التً ٌردون بها على كرابٌج االحتبلل بعد أن فقدوا مجددا الدرع والسٌؾ (الشرطة‬
‫والجٌش)‪.‬‬

‫بدأ العقاب بداٌة من مقاطعة واحتقار من شاركوا اإلنجلٌز فً المذبحة مثل إبراهٌم الهلباوي الذي عانى‬
‫من احتقار المصرٌٌن له‪ ،‬واعترؾ بذلك فً مذكراته(‪)ٔ8ٔ9‬؛ فشعر بجرٌمته الشنٌعة‪ ،‬وسعى لٌكفر عنها‪،‬‬
‫و ٌذكر دابما االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬حتى فً وجه القادة اإلنجلٌز‪ ،‬بـ"المؽتصب"‪ ،‬و"الكرٌه"‪ ،‬وأنهم لم ٌفٌدوا‬
‫مصر بشًء‪ ،‬بل ؼدروا بها كؤكبر ؼدر حصل ألمة فً ذلك الزمان‪ ،‬ودافع عن قتلة السردار اإلنجلٌزي‬
‫السٌر لً ستاك سنة ٕٗ‪.)ٔ8ٕٓ( ٔ9‬‬

‫ورؼم ذلك مات الهلباوي سنة ٓٗ‪ ٔ9‬تشٌعه أبٌات حافظ إبراهٌم ٌقول عنه فٌها(ٕٔ‪:)ٔ8‬‬

‫فً ؼفلة من الزمان وشــادا‬ ‫أٌه ٌا مدرة القضاء وٌا من ساد‬

‫قد لبسنا على ٌدٌك الحــدادا‬ ‫أنت جالدنــــا فال تنس أ َّنــــــــــــــا‬
‫َ‬

‫وٌحكً ٌحٌى حقً أن الهلباوي خطب بعد سنوات من المحاكمة فً سرادق لحزب األحرار الدستورٌٌن‬
‫ٌدعو لتخلٌص البلد من االحتبلل‪ ،‬وقوبل بتصفٌق‪ ،‬وفجؤة هتؾ شخص "ٌسقط جبلد دنشواي"‪ ،‬فكؤنه أعاد‬
‫مشهد المذبحة للوجدان كؤنه الٌوم‪ ،‬فإذا الناس‪ ،‬بما فٌهم المقربٌن من الهلباوي‪ٌ ،‬هتفون ورابه بصوت‬
‫‪.‬‬
‫(ٕٕ‪)ٔ8‬‬
‫كالرعد "ٌسقط جبلد دنشواي"‪ ،‬وكؤنه صوت مصر ٌنطلق من حلوقهم على رؼم إرادتهم‬

‫▼(مذبحة الحرب العالمٌة األولى)‬

‫هناك مذابح فً التارٌخ على بشاعتها تضٌع وسط ؼبار التارٌخ وكثرة أحداثه‪ ،‬هً أشد فً هولها وعدد‬
‫شهدابها من دنشواي ‪ ،ٔ9ٓٙ‬منها المذبحة التً نزؾ فٌها آالؾ المصرٌٌن الدم فً مصر والشام وأوروبا فً‬

‫(‪)ٔ8ٔ8‬‬
‫‪ -‬إن كانت جرابم اإلبادة الجماعٌة ال تسقط بالتقادم فؤٌن مقاضاة برٌطانٌا على مذابح دنشواي وقالع اإلسكندرٌة وؼٌرها من مذابح أجرتها‬
‫فً ثورة ‪ ٔ9‬وما بعدها؟‬
‫(‪)ٔ8ٔ9‬‬
‫‪ -‬مذكرات إبراهٌم الهلباوي‪ ،‬تحقٌق عصام ضٌاء الدٌن‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ99٘ ،‬ص ٕ‪ٔ8‬‬
‫(ٕٓ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ ،ٔ98 -ٔ99‬و‪ٔ8ٙ‬‬
‫(ٕٔ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬دٌوان حافظ إبراهٌم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓ‪ٔ8‬‬
‫(ٕٕ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬حكاٌات من دفتر الوطن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘‪ٖٙٙ -ٖٙ‬‬

‫‪ٙ79‬‬
‫حرب لٌس لهم فٌها مصلحة‪ ،‬كما نزفت عرقهم‪ ،‬لما أعاد اإلنجلٌز السخرة والكرباج وحولوا اقتصاد مصر لحنفٌة‬
‫تمول الجٌش اإلنجلٌزي طوال الحرب من ٗٔ‪.ٔ9ٔ8 -ٔ9‬‬

‫و ٌؤتً الحدٌث عن ألوان قتل وخطؾ وأسر وتسخٌر المصرٌٌن فً هذه الحرب فً الحدٌث عن عودة‬
‫نظام السخرة لصالح الحرب‪.‬‬

‫من أعلى سٌتً األول ٌعبر طرٌق حور (حورس) الحربً فً سٌناء قادما من فلسطٌن منتصرا ٌقود أمامه األعداء أسرى‪ ،‬ومن أسفل اإلنجلٌز ٌقودون‬
‫أمامهم المصرٌٌن كؤسرى حرب للعمل فً جر تنكات المٌاه وتمهٌد المكان للعدو اإلنجلٌزي عند طرٌق حور فً الحرب العالمٌة األولى‪ ..‬نفس‬
‫الطرٌق‪ ،‬مع اختبلؾ المصٌر‪ ..‬شهقة التارٌخ‪ ..‬فٌما أذنبنا‪ ،‬فٌما قصرنا؟ (مصدر الصور‪ :‬معبد الكرنك‪ ،‬وموقع ‪australian war‬‬
‫(ٖٕ‪)ٔ8‬‬
‫)‬ ‫‪memorial‬‬

‫⓿❷ نزؾ المصرٌٌن فً السخرة لألجنبً‬

‫تباهى كرومر بؤنه ألؽى السخرة والكرباج‪ ،‬وحصل إلؽاء السخرة بالتدرٌج ال دفعة واحدة‪ ،‬ؼٌر أنه ظهر‬
‫أنه مجرد إلؽاء مإقت لتهدبة خواطر المصرٌٌن بعد االحتبلل وألسباب أخرى‪ ،‬فقد أعاد االحتبلل السخرة‬
‫بؤلعن أشكالها مثبل لحفر القنوات والخنادق والعمل بالمعسكرات البرٌطانٌة خبلل الحرب العالمٌة األولى‪.‬‬

‫وبتعبٌر بٌرتز فإن من المستحٌل أن نعطً فً مساحة ضٌقة صورة كاملة عما فعله البرٌطانٌون فً‬
‫مصر أثناء الحرب‪ ،‬ولكن لعل بعض األمثلة توضح الحالة التً أثارت كراهٌة الحكم البرٌطانً كراهٌة‬

‫(ٖٕ‪NATIVES OF THE EGYPTIAN LABOUR CORPS MOVING A WATER-TANK AT EL FERDAN -)ٔ8‬‬


‫‪https://www.awm.gov.au/collection/Cٗٓ98‬‬

‫ٓ‪ٙ8‬‬
‫عامة‪ ،‬كما أثارت ضده الضجر الواسع وخلقت التؤٌٌد العام للحركة الوطنٌة فً ‪.)ٔ8ٕٗ(ٔ9ٔ9‬‬

‫ففً إحصابٌة نشرها لٌفتننت كولونٌل إلجود ‪( Elgood‬كومندان الجٌش اإلنجلٌزي ببورسعٌد) عام‬
‫ٕٗ‪ ٔ9‬فً كتابه "مصر والجٌش" برر إعادة السخرة سنة ‪ ٔ9ٔٙ‬بؤنه بدونها لن تتوفر اإلمدادات البلزمة‬
‫للفرق االحتٌاطٌة وخاصة فً أعمال حفر الخنادق ونقل المإن‪.‬‬

‫كان الحصار ٌضرب على جموع الرٌفٌٌن أثناء ذهابهم إلى األسواق‪ ،‬ثم ٌرسلون إلى أقرب "نقطة‬
‫عمل"‪ ،‬وبٌنما األؼلبٌة تقابل مصٌرها بالتسلٌم قاوم البعض‪ ،‬وآخرون فروا إلى المناطق المجاورة رجاء‬
‫السبلمة‪ ،‬ولكن كانت نهاٌة هإالء جمٌعا واحدة؛ فالمقاومة تخمد‪ ،‬وٌقبض على الفارٌن‪ ،‬ثم ٌسلمون إلى‬
‫ضباط القرعة‪ ،‬وفً ‪ ٔ9ٔ9‬و‪ ٔ9ٔ8‬الضؽط ٌزٌد وٌزٌد كلما اتسعت المعارك وطالت‪ ،‬فقد دلت التجربة‬
‫على أنه لٌس هناك عمال أفضل من المصرٌٌن فً إقامة الجسور ومد السكك الحدٌدٌة على السواء‪ ،‬وبدأ‬
‫الفبلحون ٌفرون من بعض القرى(ٕ٘‪.)ٔ8‬‬

‫وبهذا عادت "عٌشة المطارٌد" للمصرٌٌن لٌنضم االحتبلل البرٌطانً إلى ما قبله فٌها‪ ،‬فلم ٌكن تخفٌؾ‬
‫قبضته عن الفبلحٌن فً بعض األوقات إال فترة استرخاء‪.‬‬

‫وبحسب إلٌنور بٌرتز أٌضا‪ ،‬استولى السماسرة على الحمٌر والجمال التً ال تقوم بؽٌرها الزراعة‪،‬‬
‫واستولى مكتب اإلمدادات بنفس الطرق على المحاصٌل(‪.)ٔ8ٕٙ‬‬

‫وٌصؾ سعد زؼلول بدوره ما حصل فً مذكراته‪ ،‬وٌقول إن المسبولٌن عن جمع الناس‪ٌ" :‬تخطفون‬
‫الناس فً األسواق‪ ،‬ومن الطرقات‪ ،‬ومن المساكن فً القرى‪ ،‬وٌحملونهم على أن ٌكتبوا طلبا بالتطوع فً‬
‫الحملة! ومن أبى من المخطوفٌن أن ٌختم ضُرب حتى ٌختم!"‪ ،‬وٌضرب مثاال بؤنه فً أطسا‪" :‬جاءتهم قوة‬
‫من العساكر والخفراء‪ ،‬وسقتهم إلى المركز مكبلٌن فً الحدٌد‪ ،‬وهناك ضُربوا حتى ختموا!"‪ ،‬وعدى الفُجر‬
‫كل الحدود بؤن "بعض األهالً فً فارسكور امتنعوا‪ ،‬وقامت بٌنهم وبٌن العساكر مشاجرة‪ ،‬أدت إلى إطبلق‬
‫النار علٌهم‪ ،‬وقتلت ثبلثة نسوة فٌهم"(‪.)ٔ8ٕ9‬‬

‫وقاوم الفبلحون االنقٌاد للسخرة بكل وسٌلة؛ فٌما عاود اإلنجلٌز استعمال الكرابٌج ضد الرافضٌن‪،‬‬
‫وأخذوهم تحت تهدٌد السبلح‪ ،‬بما فٌهم أطفال وشٌوخ فً السبعٌن‪ ،‬بعد أن تباهوا أمام العالم بؤنهم ألؽوا‬
‫الكرباج(‪ ،)ٔ8ٕ8‬ومنذ بداٌة الحرب تعالت الصٌحات فً طلب العمال المصرٌٌن‪ ،‬لٌس فقط من الجبهة‬
‫المصرٌة‪ ،‬بل من جبهات الحرب األخرى‪ ،‬وذلك بعد أن أظهرت فرقة عمال مصرٌة أرسلت إلى‬
‫"مدروس" بالٌونان ٘ٔ‪ ٔ9‬بناء على طلب قٌادة جٌش البحر المتوسط من الكفاءة ما سرى صٌته فً جمٌع‬

‫(ٕٗ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٙ‬‬
‫(ٕ٘‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕ9 -ٕٙ‬‬
‫(‪)ٔ8ٕٙ‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕ9‬‬
‫(‪)ٔ8ٕ9‬‬
‫‪ -‬مذكرات سعد زؼلول‪ ،‬تحقٌق عبد العظٌم رمضان‪ ،‬ج ‪ ،8‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،ٔ989 ،‬ص ‪ٔ89‬‬
‫(‪)ٔ8ٕ8‬‬
‫‪ -‬تطور الحركة الوطنٌة فً مصر (‪ ،)ٔ9ٖٙ -ٔ9ٔ8‬عبد العظٌم رمضان‪ ،‬مكتبة مدبولً‪ ،‬طٕ‪ ،ٔ98ٖ ،‬ص ‪ٙ9‬‬

‫ٔ‪ٙ8‬‬
‫المٌادٌن‪ ،‬حسب اللورد لوٌد(‪ ،)ٔ8ٕ9‬وذلك أٌضا بعد أن تفنن اإلنجلٌز وصحافتهم فً الحط من كفاءة المصرٌٌن‬
‫المصرٌٌن فً أعمال تخص تعمٌر بلدهم‪.‬‬

‫وباإلضافة إلى الفرق اإلضافٌة‪ ،‬ج َّند االحتبلل ٓ‪ ٔ9‬ألؾ مصري فً فرق المواصبلت بالجمال‪ ،‬وقُدر‬
‫مجموع المصرٌٌن المجندٌن فً مختلؾ القوات بحوالً ملٌون مصري‪ ،‬وهو عدد ضخم جدا‪.‬‬

‫واختطفت قوات االحتبلل عشرات اآلالؾ من المصرٌٌن تحت اسم زابؾ وهو "متطوعٌن" وشتتهم فً‬
‫عدة قارات‪ ،‬فؤلقت بهم فً المعارك فً شبه جزٌرة جالٌوبلً على ضفة الدردنٌل عند تركٌا‪ ،‬وفً العراق‬
‫وفلسطٌن وبلجٌكا وفرنسا إلخ‪ ،‬فً أسوأ الظروؾ الصحٌة والؽذابٌة والمناخٌة وقلة التدرٌب(ٖٓ‪ ،)ٔ8‬وتفرق‬
‫المصرٌون‪ ،‬وتوفً وأصٌب الكثٌر منهم بالسبلح أو من المرض والكدح واإلهمال‪ ،‬وؼاصت أجسادهم‬
‫الطاهرة لتدفن ٌتٌمة فً ثلوج فرنسا وأحراش العراق وجبال الشام‪.‬‬

‫ومن ؼٌر المعروؾ على وجه الدقة عدد الضحاٌا والمصابٌن المصرٌٌن فً الحرب أو بسوء المعاملة‪،‬‬
‫ومن القلٌل المنشور ٖٔ‪ 9‬شهٌدا فً فرق المواصبلت بالجمال بسبب انعدام الوقاٌة(ٖٔ‪.)ٔ8‬‬

‫وٌحفظ لنا التارٌخ أنٌن األمهات والزوجات على هإالء فً نواحهم اآلسر الذي نقله ٌونس القاضً وسٌد‬
‫دروٌش من أفواههم فً القرى "ٌا عزٌز عٌنً"(ٕٖ‪:)ٔ8‬‬

‫السلطة خدت ولـــدي‬ ‫بلـدي ٌا بلـدي‬

‫أنا بدي أروح بلــــدي‬ ‫ٌا عزٌز عٌنً‬

‫أنا نفسً أشوؾ بلدي‬ ‫ٌا عزٌز عٌنً‬

‫وصارت مصر أسٌرة حرب بكل معنى الكلمة‪ ،‬بناسها وزرعها وصناعتها وموانٌها ومواصبلتها‪ ،‬وربع‬
‫ملٌون جندي برٌطانً وهندي وأسترالً ونٌوزٌلندي ٌدنسون أرضها‪ ،‬بخبلؾ تسكٌن وإطعام وتشؽٌل‬
‫طوفان األوروبٌٌن والشوام واألرمن واللٌبٌٌن الفارٌن من ببلدهم خبلل الحرب‪ ،‬وكثٌر منهم استؽل ستارة‬
‫اللجوء لنشر الجرابم والكبش والؽرؾ من "نهٌبة الدنٌا" مصر‪.‬‬

‫(‪)ٔ8ٕ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٙ9‬‬
‫(ٖٓ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تارٌخ الطبقة العاملة المصرٌة من ‪ ،ٔ9ٕ9 -ٔ9ٔ9‬أمٌن عز الدٌن‪ ،‬دار الشعب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٘‪ٙ -‬‬
‫(ٖٔ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕ9‬‬
‫(ٕٖ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬أؼنٌة ٌا عزٌز عٌنً‪ ،‬كلمات محمد ٌونس القاضً‪ ،‬ألحان وؼناء سٌد دروٌش‬

‫ٕ‪ٙ8‬‬
‫ٌمٌن الناظر رسم للعمال المصرٌٌن ٌمهدون الطرق الوعرة فً صحاري مٌادٌن الحرب‪ ،‬وعلى الشمال مصرٌون ٌتولون العمل الشاق فً معسكرات‬
‫(ٖٖ‪)ٔ8‬‬
‫)‬ ‫الحرب بفرنسا (المصدر‪ :‬مكتبة الكونجرس ومتحؾ الحرب اإلمبراطوري‬

‫البلجبون األرمن ٌتدفقون وٌؽرسون أقدامهم فً مصر لٌحٌٌوا فً أمان وثراء فً الوقت الذي تنخلع أقدام المصرٌٌن منها لتحارب بدال عنهم فً‬
‫أوروبا خبلل الحرب العالمٌة األولى‪ ،‬والجبون أوروبٌون ٌلهون آمنٌن بعد أن تدفقوا على مصر فً الحرب العالمٌة الثانٌة رؼم األزمة االقتصادٌة‬
‫(ٖٗ‪)ٔ8‬‬
‫‪)auroraprize‬‬ ‫التً خنقت المصرٌٌن حٌنها (الصور‪ :‬صحٌفة دٌلً مٌل البرٌطانٌة وموقع‬

‫فى مذكرات د‪ .‬عصمت سٌؾ الدول شهادة فبلح ممن عملوا فى الجبهة الفرنسٌة‪ٌ ،‬حكى ٌونس عبد هللا‬
‫من قرٌة الهمامٌة مركز البدارى أسٌوط أنه سافر لفرنسا مع أكثر من ٓٓ٘‪ ،‬قسموهم إلى فرق لحفر‬
‫ً‬
‫متجمدا من البرد فحملته عربة ٌجرها بؽل إلى مكان مجهول‪،‬‬ ‫الخنادق تحت المطر والثلج‪ ،‬ومات أحدنا‬
‫فؤضرب الفبلحون عن العمل‪ ،‬وأخبروا ضابط مؽربً ٌشرؾ علٌهم بؤنهم ٌرٌدون العودة لببلدهم‪ ،‬حضرت‬
‫قوة فرنسٌة ٌقودها جنرال قال لهم‪" :‬نحن نحارب وأوالدنا تموت وأنتم ترفضون العمل‪ ..‬نحن نعرؾ‬
‫حالتكم قبل أن تحضروا إلى هنا‪ ..‬حقٌقة أنكم متعبون لكنكم تعٌشون عٌشة اآلدمٌٌن ً‬
‫بدال من عٌشة الكبلب‬
‫التى كنتم تعٌشونها"‪ ...‬عندبذ ثار أحدهم وضرب الجنرال الفرنسى بالكورٌك فشق صدره‪ ،‬وفى لحظة‬
‫فتحت القوة الفرنسٌة النار على المجموعة فماتوا جمٌعًا‪ ،‬عدا ٌونس الذي ظل أسبوعا ٌُعالج من جرحه بعد‬

‫(الرابط اإللكترونً فً قابمة المراجع)(ٖٖ‪Egyptian labour corps, repairing the nebi Mosa rooad -)ٔ8‬‬
‫‪(Egyptian labor on dock in France‬الرابط اإللكترونً فً قابمة المراجع)‬
‫(ٖٗ‪( )ٔ8‬الرابط اإللكترونً فً قابمة المراجع)‪ARMENIANS THANK PEOPLES OF THE MIDDLE EAST -‬‬
‫‪Egyptian camp during World War II,Dailymailonline,ٔٔ- ٙ- ٕٓٔ9‬‬

‫ٖ‪ٙ8‬‬
‫أن أقنع الضابط المؽربً الفرقة الفرنسٌة بتركه(ٖ٘‪.)ٔ8‬‬

‫❶❷ نزح مصر باسم "التبرعات" لألجنبً (ألوروبا‪ ،‬ألفرٌقٌا‪ ،‬للعرب)‬

‫"التبرعات"‪ ..‬بداٌة من االحتبلل اإلنجلٌزي ستكون آداة من أدوات نزح المٌزانٌة والجٌوب المصرٌة‪،‬‬
‫إما جبرً ا مثل األموال التً ٌؤخذها االحتبلل ؼصبا من الحكومة باسم تبرعات خبلل حروبه‪ ،‬أو اختٌارا‬
‫بتسلٌط العاطفة على المصرٌٌن لٌتبرعوا للٌبٌا وفلسطٌن وسورٌا وأندونٌسٌا واألرمن وأوروبا وكل من‬
‫كان‪.‬‬

‫وبحسب إلٌنور بٌرتز‪ ،‬أجبر االحتبلل الحكومة على أن تدفع ٘‪ ٖ,‬ملٌون جنٌه‪ ،‬مساهمة منها ]إتاوة[ فً‬
‫نفقات الحرب العالمٌة األولى‪ ،‬وسلم مبلػ ٓٓ‪ ٙ‬ألؾ جنٌه إلى الصلٌب األحمر البرٌطانً‪ ،‬وهو مبلػ فرض‬
‫إجبارٌا على القرى فً مصر والسودان(‪ ،)ٔ8ٖٙ‬وهذه األموال ٌشٌع البعض اآلن أنها "تبرعات" طوعٌة من‬
‫مصر لدول الحلفاء حتى ال تطالب بها‪ ،‬ولتبٌٌض وجه االحتبللٌن اإلنجلٌزي والعلوي بؤن المصرٌٌن كانوا‬
‫مرتاحٌن وعندهم فابض من األموال فً عصرهم لدرجة التبرع ألوروبا‪ ،‬وكذلك أن مشاركة المصرٌٌن فً‬
‫الحرب لم ٌكن جبرا تستحق مصر علٌه تعوٌضات‪ ،‬وٌستحق اإلنجلٌز العقاب‪ ،‬بل كان "تطوعا"‪.‬‬

‫وأكد نفس المعلومات سعد زؼلول كشاهد عٌان فً مذكراته عن حوادث ماٌو ٗٔ‪ ،ٔ9‬وأضاؾ أن‬
‫الحكومة بعد أن "سلبت من األمة ٘‪ ٖ,‬ملٌون جنٌه وقدمتها هدٌة للحكومة اإلنجلٌزٌة"‪ ،‬سلمت األمة للفقر‬
‫وؼبلء األسعار‪ ،‬فحددت أسعار القطن والمحصوالت بؤبخس األثمان‪ -‬أي صاروا ٌبٌعون بؤقل أسعار‪ -‬وفً‬
‫نفس الوقت حظرت علٌهم التصرؾ فً محصوالتهم قبل أن تؤخذ السلطة منها احتٌاجاتها‪ ،‬وسلطت الحكام‬
‫]المسبولٌن[ على الناس ٌجمعون منهم األموال تحت أسماء التبرع للهبلل األحمر‪ ،‬وٌوم فرنسا‪ ،‬ومنكوبً‬
‫الحجاز‪ ،‬وؼٌر ذلك‪ ..‬واختتم "إن الناس حٌارى فً أمرهم وهللا لطٌؾ بهم"(‪.)ٔ8ٖ9‬‬

‫إذن ٌنزعون من عروق المصرٌٌن المال واألرواح والرجال بالكرباج والقتل إلؼاثة منكوبً برٌطانٌا‬
‫وفرنسا والحجاز وكل من كان‪ ..‬فمن لمنكوبً مصر؟‬

‫وٌكتب زؼلول متعجبا ومتحسرا أن السلطان أحمد فإاد والوزراء برروا تقدٌم هذه المبلٌٌن لبرٌطانٌا‬
‫باسم تبرعات بؤنها "اعترافا بجمٌل برٌطانٌا العظمى التً حمت الببلد من الؽارات!"‪ ،‬وأن الشعب لما علم‬
‫بذلك "استنزل علٌهم اللعنات"(‪ ،)ٔ8ٖ8‬فقد سلبوا قوت الشعب وفً نفس الوقت طوقوا رقبته بجمٌل للؽازي‪.‬‬

‫(ٖ٘‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬حول مصر والحرب العالمٌة األولى‪ ،‬أحمد جمال‪ ،‬صحٌفة األهرام‪ ،‬السنة ٖٗٔ‪ ،‬العدد ‪ ،ٗ8ٔ98‬بتارٌخ ٕٕ‪ٕٓٔ8 -ٔٔ -‬‬
‫*** أبناء هإالء الفالحٌن منذ ٕٗٔٓ بدأوا ٌحتفلون رسمٌا مهللٌن بمشاركة أجدادهم فً الحرب‪ٌ ،‬عدونها افتخارا كبٌرا‪ٌ ،‬فتخرون بؤن أجدادهم‬
‫ساقهم عدوهم كؤسرى حرب إلى جبهات قتال فً حرب فاجرة‪ ،‬حرب باطل مع باطل‪ ،‬ومن ٌرفع رأسه محتجا على هذا االستعباد ُتزهق روحه و ٌُلقى‬
‫جسده فً مدافن مجهولة‪ٌ ،‬فتخر بعض األ حفاد بهذا وال ٌتجرأون خالل "االحتفال" على انتقاد برٌطانٌا وفرنسا أو مطالبتهما باإلقرار بالذنب‬
‫واالعتذار والتعوٌضات‪ٌ ! ...‬ا أمة ضحكت من جهلها األمم‪ ..‬رؼم أنها جوهرة األمم‪.‬‬
‫(‪)ٔ8ٖٙ‬‬
‫‪ -‬دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕ9‬‬
‫(‪)ٔ8ٖ9‬‬
‫‪ -‬مذكرات سعد زؼلول‪ ،‬تحقٌق عبد العظٌم رمضان‪ ،‬ج ‪ ،8‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔ89 -ٔ8ٙ‬‬
‫(‪)ٔ8ٖ8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٔ‪ٕٔٙ -ٔٙ‬‬

‫ٗ‪ٙ8‬‬
‫كما استولت برٌطانٌا على الرصٌد الذهبً لمصر‪ ،‬فقصرت التداول على األوراق النقدٌة (الجنٌه الورق)‬
‫وألؽت العملة الذهبٌة‪ ،‬وبُهت الناس وهم ٌرون العمبلت الذهبٌة تختفً من السوق وٌجبرون على استعمال‬
‫ورق‪ ،‬واعتبروا ساخرٌن وهو ٌقلبون األوراق النقدٌة فً أٌدٌهم أن "الدنٌا قلت بركتها"‪ ،‬فً حٌن كان ذهب‬
‫مصر محبوسا فً بنك إنجلترا التابع له حٌنها البنك األهلً المصري؛ فارتفعت األسعار أضعافا‪ ،‬وزاد‬
‫الؽبلء(‪ ،)ٔ8ٖ9‬خاصة وأن ؼذاء الفبلحٌن من محاصٌل ومواشً وردته برٌطانٌا لجٌوشها‪.‬‬

‫❷❷ نزح مصر فً حروب لٌست حروبها‬

‫تابعنا كٌؾ استنزفت إنجلترا عشرات آالؾ الرجال من المصرٌٌن فً توسعاتها فً السودان‪ ،‬كما‬
‫استنزفت أموالهم إلقامة مشارٌعها هناك‪ ،‬وكٌؾ نزحت الرجال والمال خبلل الحرب العالمٌة األولى‪،‬‬
‫ونصل اآلن إلى فخ ‪ ..ٔ9ٗ8‬فكٌؾ تورطت مصر فً هذا الفخ؟‬

‫القصة تتضح أكثر ونحن نلمس تؽلؽل فكر تنظٌم اإلخوان المسلمٌن والقومٌة العربٌة فً مصر وإقناع‬
‫المصرٌٌن بتسخٌر بلدهم رجاال وماال لقضاٌا ؼٌرهم‪ ،‬والتؾ دعاة المذهبٌن حول األحزاب والحكومة‪،‬‬
‫مستؽلٌن أحبلم حزب الوفد وفاروق فً زعامة العرب والمسلمٌن‪ ،‬فقررت فً ٕٔ ماٌو ‪ ٔ9ٗ8‬قذؾ‬
‫الجٌش فً ساحة فلسطٌن‪ ،‬وبدأت الحرب فعبل فً ٗٔ ماٌو‪.‬‬

‫أي أن إعداد الجٌش للحرب لم ٌؤخذ أكثر من ٌومٌن‪...‬فً حٌن أن األسرة المصرٌة "لما تحب تتفسخ فً‬
‫جنٌنة الحٌوانات" ٌلزمها أسبوع لتجهٌز نفسها‪.‬‬

‫وبحسب أحمد حمروش‪ ،‬أحد قٌادات حركة الضباط األحرار‪ ،‬فإنه قبل هذا التارٌخ لم ٌكن اتفاق بٌن‬
‫القوى السٌاسٌة حول دخول الحرب بالجٌش النظامً‪ ،‬بل األرجح المشاركة بحرب عصابات من‬
‫المتطوعٌن ٌعاونهم رجال الجٌش بشكل ؼٌر نظامً‪ ،‬باعتبار أن اإلسرابٌلٌٌن مجرد عصابات‪.‬‬

‫وعارض بعض الساسة‪ ،‬ومنهم ربٌس الوزراء السابق إسماعٌل صدقً‪ ،‬قذؾ الجٌش إلى الحرب‪ ،‬قاببل‬
‫إنه ؼٌر مستعد وؼٌر مسلح بما ٌكفً‪ ،‬وفً فلسطٌن سٌواجه العالم الؽربً الذي ٌدعم اإلسرابٌلٌٌن‪ ،‬وبالمثل‬
‫كان موقؾ ربٌس الوزرا وقتها محمود فهمً النقراشً‪ ..‬ولكن فجؤة ؼٌَّر النقراشً موقفه فً ٔٔ ماٌو‪،‬‬
‫وطلب عقد جلسة سرٌة للبرلمان لمناقشة األمر فً ٕٔ ماٌو‪ ،‬وٌقول حمروش إنه لما اعترض فإاد سراج‬
‫الدٌن‪ ،‬زعٌم المعارضة الوفدٌة فى مجلس الشٌوخ‪ ،‬وإسماعٌل صدقً‪ ،‬خشٌة أن ٌتعرض الجٌش للطعن من‬
‫الخلؾ‪ ،‬طمؤنهما النقراشً بؤن العصابات الٌهودٌة ضعٌفة‪ ،‬واإلنجلٌز ٌإٌدون الحرب علٌها‪ ،‬وسٌكون األمر‬
‫للجٌش "نزهة"(ٓٗ‪.)ٔ8‬‬

‫وعلق نجٌب محفوظ على ذلك وهو ٌستعٌد الذكرى المرَّ ة بؤن الدافع األكبر للحرب كان المظاهرات‬

‫(‪)ٔ8ٖ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الحركة القومٌة العربٌة فً القرن العشرٌن‪ ،‬هانً الهندي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٗ‪ ،ٔٙ‬وموقع البنك المركزي المصري على اإلنترنت‪:‬‬
‫"نبذة تارٌخٌة عن تطور النقود فً مصر"‬
‫(ٓٗ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬أسرار دخول مصر حرب فلسطٌن "الحلقة األولى"‪ ،‬محمود صبلح‪ ،‬مجلة األهرام العربً‪ٕٓٔ9-ٔٓ-ٕ8 ،‬‬

‫٘‪ٙ8‬‬
‫والتؤجٌج والتعببة النفسٌة التً ضؽطت لدخول الحرب‪ ،‬معتبرا أن الحكومة "خدعت الشعب"‪ ،‬وهً تطمؤنه‬
‫بؤن الجٌش قادر على دحر هذه العصابات‪ ،‬رؼم عدم تؤهٌله بؤي شكل من األشكال‪.‬‬

‫وٌصؾ حمروش حال الجٌش حٌنها بؤنه ٌعانى من نقص التسلٌح‪ ،‬فلم تكن برٌطانٌا أمدته باألسلحة التى‬
‫طلبها‪ ،‬وهو بعٌد عن خوض المعارك منذ سنوات طوٌلة‪ ،‬لٌس به نظام التشكٌبلت‪ ،‬أي أن أسلحته منفصلة‬
‫ال تنسٌق بٌنها‪ ،‬وتدرٌبه على المناورات قاصر‪ ،‬ومنذ أن سٌطر اإلنجلٌز على الجٌش لم ٌرى الناس طوابٌر‬
‫الجٌش إال فى مواكب المحمل النبوى والجنازات‪ ،‬ورؼم ذلك نجحت الدعاٌة الجارفة فً إشعال الحماس‬
‫للقتال(ٔٗ‪.)ٔ8‬‬

‫وال ٌخفى أن المظاهرات والتعببة والدعاٌة كان ٌقودها الجمعٌات والصحؾ السلفٌة واإلخوانٌة‬
‫والقومٌون العرب‪ ،‬وانجرؾ لها الؽافلون‪.‬‬

‫والحرب جاءت على هوى فاروق‪ ،‬فقد ٌنتصر الجٌش وٌصبح زعٌما‪ ،‬وٌسكت تلك المظاهرات التً‬
‫تدوي منذ أشهر فً الشوارع تحتج على فساد رجال الحكم والؽبلء الذي دفع بعض الجنود إلى وضع أرؼفة‬
‫الخبز على سناكى بنادقهم أثناء المظاهرات(ٕٗ‪.)ٔ8‬‬

‫حناجرهم هتـــافا أو دعـــاء‬ ‫فضج الناس بالبشرى وكدُّوا‬


‫َّ‬

‫ٌصرفه المضلِّلل كٌؾ شاء‬


‫(ٖٗ‪)ٔ8‬‬
‫هداك هللا من شعب برئ‬

‫وقضت الخطة العربٌة بؤن ٌتقدم الجٌش المصري بسرعة حتى ٌافا فً فلسطٌن على بعد ٕٓ كم من تل‬
‫أبٌب‪ ،‬وهناك تلتقً الجٌوش العربٌة القادمة من الشرق (األردنٌة والعراقٌة)‪ ،‬ومن الشمال (السورٌة‬
‫واللبنانٌة)‪ ،‬وبذلك تكون تل أبٌب محاصرة و ُتجبر على التسلٌم وطرد قواتها وتنصٌب الحكومة الفلسطٌنٌة‬
‫الشرعٌة التً تشكلت قبل قرار الحرب‪.‬‬

‫ولكن‪ ..‬لم تنفذ معظم الجٌوش الخطة الطموحة‪ ،‬أما الجٌش المصري فنفذ دوره فٌها‪ ،‬وتوؼلت قواته‬
‫بسرعة فً فلسطٌن مستخدمة الطرٌق الساحلً لتستولً على المستعمرات الٌهودٌة(ٗٗ‪ ،)ٔ8‬واتضح فٌما بعد‬
‫أن حكام سورٌا والعراق وحتى عبد الرحمن عزام أمٌن عام الجامعة العربٌة لم ٌكونوا متفقٌن على خطة‬
‫وال قرار سٌاسً ٌحدد الهدؾ من الحرب‪ ،‬وتركوا الجٌش المصري لمصٌره‪.‬‬

‫وفً مذكراته‪ ،‬قال المشٌر طه الهاشمً إنه خبلل اجتماعه فً دمشق دٌسمبر ‪ ٔ9ٗ9‬مع اللوء إسماعٌل‬
‫صفوت قابد القوات العربٌة المقرر مشاركتها فً الحرب‪ ،‬تساءل‪ :‬أنا ال أدري ما هً المهمة التً أنٌطت‬
‫بً؟ هل القصد إشعال النار فً فلسطٌن حتى ال تنطفا لؽرض سٌاسً‪ ،‬أم القصد القضاء على الصهٌونٌة‬

‫(ٔٗ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‬
‫(ٕٗ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‬
‫(ٖٗ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬مصرع كلٌوباترا‪ ،‬أحمد شوقً‪ ،‬مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٔٔ‬
‫(ٗٗ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬هنري كورٌٌل‪ -‬األسطورة والوجه اآلخر‪ ،‬د‪.‬حسٌن كفافً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٗٗٔ‪ٔٗ٘ -‬‬

‫‪ٙ8ٙ‬‬
‫فً فلسطٌن؟‬

‫وهنا اختلفت اإلجابات‪ ،‬ففً حٌن قال ربٌس الوزراء السوري وأحد القومٌٌن العرب‪ ،‬جمٌل مردم‪ ،‬إن‬
‫الهدؾ األول هو المقصد‪ ،‬احتج على ذلك الربٌس السوري شكري القوتلً‪ -‬من القومٌٌن العرب أٌضا‪-‬‬
‫وطالب بالهدؾ الثانً الذي تم إعبلنه لشعوب المنطقة‪ ،‬وفً اجتماع آخر فً دار عزت دروزة ]المفكر‬
‫الفلسطٌنً وأحد القومٌٌن العرب المتبنٌٌن السخرٌة من الحضارة المصرٌة لصالح القومٌة العربٌة[ فً‬
‫فبراٌر ‪ ٔ9ٗ8‬كرر إسماعٌل صفوت نفس السإال أمام أمٌن الحسٌنً وعبد الرحمن عزام‪ ،‬فلم ٌعطه األخٌر‬
‫جوابا شافٌا(٘ٗ‪.)ٔ8‬‬

‫وهكذا كان من اصطنعوا القومٌة العربٌة‪ ،‬ثم سوقوها للناس خبلل الثبلثٌنات واألربعٌنات على أن من‬
‫أهدافها إنقاذ فلسطٌن‪ٌ ،‬لقون بالجنود والشعوب الؽافلة عامة فً أتون معركة لٌس لها هدؾ سوا إشعال‬
‫األوضاع لمصالح وحسابات خاصة بهم هم ومن ورابهم من تنظٌمات سرٌة عالمٌة‪.‬‬

‫وكم هو مثٌر لئلشفاق والؽٌظ منظر الجنود والمتطوعٌن المصرٌٌن وهم ٌمرون بجانب القوات‬
‫البرٌطانٌة التً تحتل ببلدهم وٌتركونها خلفهم قابعة فوق أرضهم لٌذهبوا إلى فلسطٌن ٌهبونها دمابهم‬
‫وشبابهم‪ ..‬وكم هو مثٌر لئلشفاق وخبط الكؾ على الكؾ منظر الشباب المصري وهو ٌترك بلده ومستقبله‬
‫لكً ٌنقذ فلسطٌن‪ ،‬فً الوقت الذي تترك طوابٌر الشباب الفلسطٌنً بلدها لبلحتبلل اإلسرابٌلً وتذهب إلى‬
‫مصر تختبا بداخلها وتتنعم بثرواتها وأمانها‪ ،‬ثم ٌهزأ البعض وٌسخر من الشباب المصري بعد الحرب‬
‫بحجة أنهم "الجٌش المهزوم"‪ ،‬وأنهم "من ضٌع فلسطٌن"‪.‬‬

‫فلٌس كلمات تصؾ هذه المشاهد الخارجة عن المنطق سوا أن النكبة الحقٌقٌة لم تكن نكبة فلسطٌن التً‬
‫وجد أبناإها ممن تركوها ألؾ بدٌل لها‪ ،‬ومن بداخلها وجدوا ألؾ معٌن لهم‪ ،‬بل هً نكبة جدٌدة لمصر‪،‬‬
‫والعقاب الذي ح َّل بها مرة أخرى لما ضٌَّع بعض أبناإها‪ -‬خاصة المتعلمٌن‪ -‬نعمة الشفاء والنهوض‬
‫وشروق ماعت التً هٌؤها لها هللا فً ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬لتعالج جراحها وتعٌدها لطرٌق النور الصحٌح الذي‬
‫ضاع منها منذ توطٌن قبابل شعوب البحر قبل ٖ آالؾ عام‪.‬‬

‫فتشتتوا فً ألؾ طرٌق‪ ،‬وسلموا بؤٌدٌهم مصر أسٌرة مرة أخرى لآلخرٌن‪ٌ ،‬متصون خٌرها ودمابها‬
‫وذاكرتها‪ ،‬وٌتركونها تبكً وحٌدة فً نهاٌة المشوار‪ٌ ،‬ضحك حولها من استنزفوها‪ ،‬منها وعلٌها‪ ،‬وهم‬
‫ٌجلدونها بكرابٌجهم‪ ،‬وٌصرخون فً وجهها‪ :‬أنتً من ضٌعتٌنا وأنتً الواجب علٌكً أن تفعلً لنا كذا وكذا‪،‬‬
‫وأنتً وأنتً وأنتً ‪!...‬‬

‫ٌا أمة ضحكت من جهلها األمم‬ ‫أؼاٌة الدٌن أن تحفوا شواربكم‬

‫قالها المتنبً بعد زٌارته لمصر(‪ ،)ٔ8ٗٙ‬وسخر فٌها من اإلخشٌدٌٌن والمستوطنٌن فً مصر‪ ،‬وإن ما ٌصدق‬

‫(٘ٗ‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الحركة القومٌة العربٌة فً القرن العشرٌن‪ ،‬هانً الهندي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٗ98 -ٗ9ٙ‬‬
‫(‪)ٔ8ٗٙ‬‬
‫‪ -‬مع المتنبً‪ ،‬طه حسٌن‪ ،‬مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪ٕ98‬‬

‫‪ٙ87‬‬
‫على المصرٌٌن فً هذه الحرب التً ٌإخذ فٌها دمهم ومالهم وأرضهم طوعا‪ -‬باسم الدٌن والعروبة‪ -‬بعد أن‬
‫كانت تإخذ ؼصبا‪ ،‬فٌجري االستعباد بالمزاج بعد أن ٌكان ٌجري بسٌؾ اإلجبار‪ ،‬ربما أن ٌكون البٌت‪:‬‬

‫ٌا أمة ضحكت من جهلها األمم‬ ‫أؼاٌة الدٌن أن ٌستعبدكم ؼٌركم‬

‫❸❷ اضطهاد لؽة الفالحٌن فً معركة "العامة والعربٌة"‪ ..‬الخنجر السابع‬

‫نهضت اللؽة العربٌة على ٌد أزهرٌٌن وأدباء مثل محمود سامً البارودي وحافظ إبراهٌم وأحمد شوقً‬
‫وطه حسٌن‪ ،‬فٌما سماه أهل األدب "اإلحٌاء والبعث"‪ ،‬حتى انتشرت بشكل لم ٌحدث من قبل فً مصر‪ ،‬وفً‬
‫المقابل تراجعت خطوات جدٌدة اللؽة المصرٌة تحت وطؤة انتشار التعلٌم وكثرة الملتحقٌن بالمدارس‬
‫والجامعات التً ن َّفرت طبلبها من استخدام "العامٌة المصرٌة"‪ ،‬وصار من ٌحب االحتفاظ بما بقى من‬
‫اللس ان المصري وكلماته الراسخة فً األرٌاؾ والحارات ٌنهره "المثقفون"‪ ،‬لٌقولوا له إن هذا كبلم‬
‫"الرعاع "‪ ،‬و"الفبلحٌن"‪ ،‬و"الجهلة"‪ ،‬و"الناس البلدي"‪ ،‬رؼم أنه أعذب الكبلم وأسرعه فً الوصول لؤلفهام‬
‫والقلوب والتعبٌر عن المعنى المقصود‪.‬‬

‫وكلما سار مشوار التعلٌم‪ ،‬كلما سقطت فً الطرٌق كلمات مصرٌة لتحل محلها كلمات عربٌة فصحى أو‬
‫كلمات إنجلٌزٌة أو فرنسٌة من باب إظهار "التمدن"‪ ،‬و"الثقافة"‪.‬‬

‫بل حتى لو نطق المصري كلمات عربٌة بالفصحى أو كلمات إنجلٌزٌة أو فرنسٌة بطرٌقة تناسب مخارج‬
‫الحروؾ الفطرٌة فً حلقه سخروا منه‪ ،‬بالرؼم من أن العربً أو اإلنجلٌزي أو الفرنسً إن نطق الكبلم‬
‫المصري بطرٌقة ؼٌر صحٌحة بما ٌناسب مخارج الحروؾ الفطرٌة فً حلقه ال نسخر منه‪ ،‬بل نرحب بؤنه‬
‫مجرد عرؾ الكبلم المصري وتحدث به‪ ..‬فلماذا نسخر من أنفسنا ونجبر حلوقنا أن تتلوى لتنطق لؽات‬
‫ؼٌرنا بطرٌقتهم ال بطرٌقتنا فً حٌن لهم الحرٌة لٌنطقوا كبلمنا بطرٌقتهم؟‬

‫هو مشوار اضطهاد واؼتٌال لؽة‪ ..‬وإبادة هوٌة‪ ...‬على ٌد أهلها قبل أعدابها‪.‬‬

‫واختلق مثقفون عرب ومصرٌون ما اشتهر باسم "المعركة بٌن اللؽة العربٌة واللؽة العامٌة" بٌن أدباء ال‬
‫ٌعترفون بؤدب إال لو كان بالعربٌة الفصحى‪ ،‬وبٌن من ٌرون أنه ال وصول حقٌقً للمصرٌٌن وال تعبٌر‬
‫سلٌم عن حٌاتهم وما فً صدورهم إال بالمصرٌة الدارجة‪ ،‬وهً صورة من الصراع القابم بٌن الهوٌة‬
‫المصرٌ ة وتٌار القومٌة العربٌة لمسناه فً دستور "الحركة العربٌة السرٌة" (الكتاب األحمر) وهو ٌدعو إلى‬
‫محاربة كل من ٌتحدث بالعامٌة‪.‬‬

‫وبالتزامن‪ ،‬بقصد أو بدون‪ ،‬هبط التقوٌم القبطً بما ٌحمله من شهور مصرٌة عرٌقة من مكانته الرسمٌة‪-‬‬
‫ألول مرة فً التارٌخ‪ -‬فبعد أن معتمدا رسمٌا إلى جانب التقوٌم الهجري ح َّل فً ٓٓ‪ ٔ9‬محله التقوٌم‬
‫اإلفرنجً المٌبلدي من جدٌد‪ ،‬وأصبح استخدام الشهور المصرٌة قاصرا على أهل الرٌؾ الرتباطه‬
‫بالزراعة واألعٌاد القومٌة القدٌمة كشم النسٌم وعٌد رأس السنة المصرٌة "النٌروز"‪ ،‬وكذلك داخل الكنٌسة‪.‬‬

‫‪ٙ88‬‬
‫❹❷ عقدة الخواجة "طالع نازل"‬

‫واصلت فتنة عقدة الخواجة نشر خبلٌاها السرطانٌة فً الجسد المصري أٌام اإلنجلٌز‪ ،‬خاصة مع تزاٌد‬
‫عدد المتعلمٌن والمبتعثٌن للخارج‪ ،‬ووصول التؤثٌرات األجنبٌة إلى األرٌاؾ‪ ،‬وجرى مثبل ما رأٌناه فً‬
‫رواٌة "قندٌل أم هاشم" لٌحًٌ حقً حٌن عاد الدكتور إسماعٌل من بعثته فً ألمانٌا ساخطا متؤففا من أهل‬
‫حارته فً حً السٌدة زٌنب‪ ،‬قبل أن ٌعود لصوابه وٌعرؾ أن دوره بعد أن صار متعلما أن ٌساهم فً ترقٌة‬
‫الحارة وٌعالج مشكبلتها بعلمه ال أن ٌحقر من شؤنها‪ ،‬وآخرون لم ٌفعلوا مثله‪ ،‬بل ترفعوا عن أهلهم‬
‫وانخرطوا فً "التفرنج" وصاروا كالمسخ‪.‬‬

‫فً المقابل زادت صبلبة مصرٌٌن آخرٌن وتمسكهم بمصرٌتهم لما اطلعوا على حٌاة األجانب داخل أو‬
‫خارج مصر‪ ،‬وسخروا ما استفادوه من علم ومكانة لصالح المصرٌٌن‪ ،‬مثلما فعل رفاعة الطهطاوي وعبد‬
‫هللا الندٌم‪ ،‬من قبل‪ ،‬ومثلما فعل بعد االحتبلل اإلنجلٌزي محمد حسٌن هٌكل الذي دفعه حنٌنه لوطنه وهو‬
‫ٌدرس الدكتوراة فً بارٌس إلى أن ٌكتب رواٌة "زٌنب" لتكون أول رواٌة حدٌثة تعلو بالفبلحٌن على‬
‫السطح‪ ،‬ونشرها ٗٔ‪ ٔ9‬بإمضاء "مصري فبلح"‪ ،‬وبرر فً مقدمة الرواٌة سبب اختٌار هذه الصفة بؤنه‬
‫كان ٌشعر بؤن "أبناء الذوات" ]العاببلت التركٌة وؼٌرها من أصول أجنبٌة[ ممن ٌزعمون ألنفسهم حق‬
‫حكم مصر ٌنظرون إلٌنا جماعة المصرٌٌن وجماعة الفبلحٌن بؽٌر ما ٌجب من االحترام‪ ،‬فؤردت أن‬
‫استظهر على ؼبلفة الرواٌة التً قدمتها للجمهور ٌومبذ‪ ،‬والتً قصصت فٌها صورا لمناظر رٌؾ مصر‬
‫وأخبلق أهله أن المصري الفبلح ٌشعر فً أعماق نفسه بمكانته‪ ،‬وبما هو أهل له من االحترام‪ ،‬وأنه ال‬
‫ٌؤنؾ أن ٌجعل المصرٌة والفِبلحة شعارا له ٌتقدم به للجمهور‪ٌ ،‬تٌه به وٌطالب الؽٌر بإجبلله‬
‫واحترامه(‪.")ٔ8ٗ9‬‬

‫ووصلت أعلى درجات تحدي الفبلحٌن ممن نجوا من السقوط فً فتنة "عقدة الخواجة" فً ثورة ‪،ٔ9ٔ9‬‬
‫واعتزاز سعد زؼلول بؤنه فبلح‪ ،‬وجسدت السٌنما حالة المصرٌٌن الثابتٌن والمصرٌٌن التاٌهٌن فً فٌلم‬
‫"األفوكاتو مدٌحة" (إنتاج ٓ٘‪ )ٔ9‬عبر محمد (ٌوسؾ وهبً) الذي رؼم أنه حصل على تعلٌم عال لكنه ظل‬
‫ٌفخر بؤهله فً القرٌة وأصله الفبلحً وٌخدمهم بعلمه‪ ،‬فً مقابل أخته مدٌحة (مدٌحة ٌسري) التً حولها‬
‫اختبلطها باألؼنٌاء والمتفرنجٌن فً الجامعة إلى ناقمة على القرٌة قبل أن تعود إلى صوابها وأصلها الطٌب‬
‫حٌن تخلى عنها المتؤوربون فً محنتها واحتضنها أبناء القرٌة‪.‬‬

‫▲▲▲ ثورة ‪ ..ٔ9ٔ9‬عودة الروح‬

‫ربما لم نشعر كمصرٌٌن حتى الٌوم بحجم المفاجبة التً زلزلت االحتبلل اإلنجلٌزي وجالٌاته حٌن هبَّت‬
‫ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬من إسكندرٌة إلى أسوان‪ ،‬بنفس صٌحات ثورة ٔ‪ ٔ88‬مصر للمصرٌٌن ل ُتسقط كل جهوده فً‬
‫فحولته هشٌما تذروه الرٌاح‪.‬‬
‫تصفٌة الثورة األولى والشخصٌة المصرٌة كتمثال هش سقط على أرض صلبة َّ‬

‫(‪)ٔ8ٗ9‬‬
‫‪ -‬زٌنب‪ ..‬مناظر وأخبلق رٌفٌة (رواٌة)‪ ،‬محمد حسٌن هٌكل‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬ط ٘‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ99ٕ ،‬ص ‪8‬‬

‫‪ٙ89‬‬
‫فنعم َّأثرت الحمبلت ضد ثورة ٔ‪ ٔ88‬فً بلبلة األفكار‪ ،‬وتورط مصرٌون فً تحمٌل عرابً مسبولٌة‬
‫االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬نعم تورط مصرٌون فً التقلٌد األعمى للفرنجة بسبب تحكم المحتلٌن فً التعلٌم‬
‫والصحافة‪ ،‬لكن لم ٌكن هذا النوع من الثقافة المسمومة ؼطى مساحات واسعة من مصر‪ ،‬فبقً منها من‬
‫تملإه النخوة لٌقول لبلحتبلل‪ :‬ال‪ ،‬وتملإه القومٌة المصرٌة لٌقول‪ :‬مصر للمصرٌٌن‪.‬‬

‫ولعل السر أٌضا فً "الزعٌم"‪ ،‬فطوال تارٌخ االحتبلالت والشعب المصري "مطلوقة فً عروقه النار"‪،‬‬
‫ٌفور وٌقاوم أحٌانا‪ ،‬وٌخمد أحٌانا‪ ،‬وأعلى درجات الفوران تلك التً ٌجد فٌها زعٌما من روحه‪ٌ ،‬تصدر‬
‫المشهد‪ٌ ،‬نظم الصفوؾ‪ ،‬وٌقود شعبه بكل جسارة‪ ،‬ال ٌنتظر من المحتل وعدا وال ٌخشى منه وعٌدا‪.‬‬

‫بدأت الحكاٌة بؤنه بعد إعبلن الهدنة التً أطفؤت نٌران الحرب العالمٌة ‪ ٔ9ٔ8‬وإعبلن الربٌس األمرٌكً‬
‫وودرو وٌلسون مبدأ حق تقرٌر المصٌر اقترح رشدي باشا‪ ،‬ربٌس الوزراء‪ ،‬أن ٌذهب إلى لندن لعقد‬
‫اجتماع مع وزارة الخارجٌة البرٌطانٌة وتقدم مطلب االستقبلل بعد أن قدمت لها مصر الؽالً والنفٌس فً‬
‫الحرب‪ ،‬فلحس البرٌطانٌون‪ -‬كالعادة‪ -‬كبلمهم عن تقدٌر دور مصر فً الحرب‪ ،‬ورفضوا االقتراح؛ فتشكل‬
‫وفد ؼٌر حكومً برباسة سعد زؼلول‪ ،‬وهو وقتها نابب ربٌس الجمعٌة التشرٌعٌة المعطلة (البرلمان)‪،‬‬
‫لعرض مطالب مصر فً االستقبلل على مإتمر الصلح (مإتمر بارٌس للسبلم) الذي عقده المنتصرون سنة‬
‫‪ ٔ9ٔ9‬لتقسٌم ؼنابم الحرب‪ ،‬ووضع أسس النظام العالمً الجدٌد تحت رعاٌة بٌوت المال العالمٌة التً‬
‫أججت الحرب‪.‬‬

‫لكن بدأ اإلنجلٌز فً التضٌٌق علٌه لمنع سفره بؤن رفضوا إعطاء الوفد جوازات السفر‪ ،‬واعتبروه ال‬
‫ٌمثل المصرٌٌن‪ ،‬وردا على الحمق اإلنجلٌزي احتشد المصرٌون فً كل حارة وقرٌة لجمع توقٌعات تإكد‬
‫أنهم ٌكلفون أعضاء الوفد بؤن ٌكونوا وكٌبل عنهم فً الحدٌث أمام المإتمر‪ ،‬وجمعوا التبرعات إلعانة الوفد؛‬
‫تكرارا لما فعلوه عند تفوٌض أحمد عرابً أمام الخدٌوي‪.‬‬

‫وجاء فً نص الورقة الموقع علٌها‪" :‬نحن الموقعٌن على هذا أنبنا حضرات سعد زؼلول باشا‪ ،‬وعلى‬
‫شعرواى باشا‪ ،‬ومحمد محمود باشا‪ ،‬وعبد العزٌز فهمى بك‪ ،‬ومحمد على بك‪ ،‬وعبد اللطٌؾ المكباتى بك‪،‬‬
‫وأحمد لطفى السٌد بك‪ ،‬ولهم أن ٌضموا إلٌهم من ٌختارون‪ ،‬فى أن ٌسعوا بالطرق السلمٌة المشروعة حٌثما‬
‫وجدوا للسعى سبٌبل‪ ،‬فى استقبلل مصر استقبلال تاما(‪.")ٔ8ٗ8‬‬

‫وتقدم مصرٌون مسٌحٌون بقابمة أسماء منهم لٌنضموا إلى سعد وٌشاركوا الشرؾ الوطنً‪ -‬كً ال‬
‫ٌتخذها االحتبلل حجة أن المسٌحٌٌن قابلٌن باالحتبلل‪ -‬ومنهم واصؾ ؼالً ابن بطرس ؼالً الذي اؼتٌل‬
‫فً ٓٔ‪ ،ٔ9‬وكان واصؾ فً بارٌس‪ ،‬فذهب إلٌه سفٌر برٌطانٌا ببارٌس خصٌصا لٌنزع الصفة الوطنٌة‬
‫الجامعة عن تحرك المصرٌٌن ضد االحتبلل‪ ،‬وقال له‪" :‬كٌؾ تضع ٌدك فً ٌد من قتلوا أباك؟ فقال‬

‫(‪)ٔ8ٗ8‬‬
‫‪ -‬ثورة ‪ ٔ9‬بعد تسعٌن عاما‪ ،‬األقباط والثورة‪ ،‬جابر عصفور‪ ،‬جرٌدة الشروق‪ٌ ٔ8 ،‬ونٌو ‪ٕٓٓ9‬‬

‫ٓ‪ٙ9‬‬
‫واصؾ‪ :‬هذا خٌر لً من أن أضع ٌدي فً ٌد من قتلوا وطنً"(‪.)ٔ8ٗ9‬‬

‫▼▼▼ وعٌد بلفور للمصرٌٌن‬

‫أرسل وزٌر الخارجٌة البرٌطانً آرثر بلفور إلى المندوب البرٌطانً وٌنجت فً مصر رسالة فً ٖٕ‬
‫نوفمبر ‪ٌ ٔ9ٔ8‬طالبه بمنع الوفد الشعبً من السفر لبارٌس بؤٌة وسٌلة‪ ،‬وباستخدام الشدة‪ ،‬واصفا طلبات‬
‫الوفد باالستقبلل التام بؤنها "متطرفة"‪ ،‬واعتبر أن المصرٌٌن ؼٌر مإهلٌن للحكم‪ ،‬وبالفعل نفذت القوات‬
‫البرٌطانٌة وعٌده فحاصرت الوفد لمنع التوكٌبلت وهددت العمد واألعٌان الذٌن ٌجمعونها(ٓ٘‪ ،)ٔ8‬حتى وصلت‬
‫إلى سفك الدماء ببل هوادة لما انفجرت الحركة الوطنٌة بعد ذلك‪.‬‬

‫ولجؤوا لوسٌلة أخرى لوأد الحركة الولٌدة وهً إخفاء زعمابها‪ ،‬فقبض اإلنجلٌز على زؼلول وٖ من‬
‫أعضاء الوفد ونفوهم إلً مالطة فً ‪ 8‬مارس ‪ ،ٔ9ٔ9‬وكتموا الخبر عن الشعب بتحكمهم فً الصحافة حتى‬
‫ٌوم ٔٔ مارس كً ال ٌثور ؼضبه عند عملٌة النفً‪.‬‬

‫بدأت النشر صحٌفة "اإلٌجٌبشٌان مٌل"‪ ،‬وبعده نشر اإلنجلٌز تحذٌرا للشعب فً الصحافة من أن "الببلد‬
‫ال تزال تحت الحكم العسكري (المعلن منذ ٗٔ‪)ٔ9‬؛ ولن ٌُسمح باالجتماعات أو االحتجاجات العامة‪،‬‬
‫و ُسٌعاقب كل من خرج على هذا األمر"‪ ،‬وبعد ٌومٌن صدر أن "أي شخص ٌتلؾ أو ٌخرب أو ٌعطل بؤٌة‬
‫وسٌلة السكك الحدٌدٌة أو المواصبلت التلٌفونٌة والتؽرافٌة أو ٌحاول أن ٌرتكب فعبل من هذه األفعال‬
‫بعرض نفسه ألن ٌُرمً بالرصاص(ٔ٘‪.")ٔ8‬‬

‫ورؼم ذلك عرض الشعب نفسه للرصاص‪ ،‬خرجوا فً المظاهرات‪ ،‬وأضرب موظفو الحكومة‬
‫والعاملون فً المهن األخرى‪ ،‬وقطع ؼاضبون السكك الحدٌدٌة خبلل نقلها جنودا برٌطانٌٌن‪ ،‬ووقعت‬
‫حوادث هجوم ضد جنود االحتبلل‪ ،‬لقد ثارت جمٌع الناس فً كل مكان‪.‬‬

‫قتلت برٌطانٌا فً األٌام األولى للثورة ٓٓٓٔ مصري‪ ،‬واجتاحت بؤسلحتها عدة قرى‪ ،‬حتى جاء فً‬
‫الكتاب الذي أصدره زؼلول والوفد المصري فً بارٌس أن قرى أبٌدت عن بكرة أبٌها‪ ،‬واعترؾ‬
‫س‪.‬هارمزورت أحد المتحدثٌن بلسان الحكومة البرٌطانٌة فً مجلس العموم بؤن من قُتل من المصرٌٌن‬
‫بلؽوا حوالً األلؾ‪ ،‬وفً ٕٔ مارس نشر الجنرال بلفٌن تحذٌرا للمصرٌٌن فً منشورات أسقطتها‬
‫الطابرات أنه سٌعاقب على كل تخرٌب أو تدمٌر للسكك الحدٌدٌة بؤن ُتحرق القرى المجاورة لمكان‬
‫التخرٌب(ٕ٘‪ ،")ٔ8‬وأحرق فعبل عدة قرى فً تكرار لحرق القرى زمن االحتبلالت العربً والمملوكً‬

‫(‪)ٔ8ٗ9‬‬
‫‪ -‬مذكرات فخري عبد النور‪ :‬ثورة ‪ ،ٔ9ٔ9‬دار الشروق‪ ،‬طٔ‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ99ٕ ،‬ص ٕٔ‬
‫(ٓ٘‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬دار المندوب السامً فً مصر‪ ،‬ماجدة محمد حمود‪ ،‬ج ٕ‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٖٕ‪ٕ٘ -‬‬
‫*** ٌشتهر بلفور بٌن المصرٌٌن بؤنه صاحب الوعد المشبوم بعمل "وطن" للٌهود فً فلسطٌن‪ ،‬لكن معظمنا ٌجهل دوره فً تقدٌم مصر "وطن"‬
‫لإلنجلٌز والجالٌات األجنبٌة باستمرار احتاللها واؼتٌال أي حركة وطنٌة تطالب باستقاللها حتى ؼاصت ٌداه وقدماه فً دماء المصرٌٌن خالل ثورة‬
‫‪ ، ٔ9ٔ9‬وهذا مما ٌجب أن نراجع أنفسنا فٌه أنه‪ :‬لماذا نحفظ تارٌخ ؼٌرنا أكثر مما نحفظ تارٌخنا؟ فلماذا نعرؾ دور بلفور فً احتالل فلسطٌن وال‬
‫نعرؾ دوره المشبوم فً احتالل مصر؟‬
‫(ٔ٘‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً‪ ،‬أحمد رشدي صالح‪ ،‬فصل ترجمة كتاب االستعمار البرٌطانً فً مصر إللٌنور بٌرتز‪ ،‬ص ‪ٕ8‬‬
‫(ٕ٘‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕ9‬‬

‫ٔ‪ٙ9‬‬
‫والعثمانً والفرنساوي‪.‬‬

‫وأعلن ببلغ رسمً آخر أنه "تقرر أن تزور القوات الحربٌة األجزاء القصوى فً الببلد لتعٌد تنظٌم‬
‫السلطات المدنٌة‪ ،‬وتقبض على المعتدٌن‪ ،‬وتتخذ أٌة خطوات تراها الزمة إلعادة النظام إلى نصابه"‪ ،‬وفً‬
‫هذا إشارة إلى أن الثورة تلتهب فً كل قرى الببلد من أقصاها إلى أقصاها‪.‬‬

‫ونشرت "إٌجٌبشٌان مٌل" أنه فً ٕٗ مارس ألقٌت القنابل بالفعل على قرى ؼربً مدٌرٌة البحٌرة‪ ،‬وفً‬
‫أول أبرٌل كانت ‪ ٔٙ‬فرقة متحركة تعمل فً وجه بحري‪ ،‬وحكم على ٔ٘ مصرٌا باإلعدام ونفذ الحكم فً‬
‫‪ ٕ8‬منهم التهامهم بقتل ضابطٌن وخمسة جنود(ٖ٘‪ ،)ٔ8‬فً دنشواي جدٌدة وأكثر عنفا من سابقتها‪ ،‬ونصبت‬
‫قوات االحتبلل مشانق المحاكم العسكرٌة فً أرجاء البلد‪ ،‬ولم ٌفلت منها حتى رجال الشرطة الذٌن ساعدوا‬
‫الثوار‪ ،‬ففً أسٌوط حكم باإلعدام على البكباشً محمد كامل محمد مؤمور البندر‪ ،‬ونفذ فٌه الحكم ٓٔ ٌونٌو‬
‫‪ ،ٔ9ٔ9‬وحكم على ثابرٌن آخرٌن باألشؽال الشاقة(ٗ٘‪.)ٔ8‬‬

‫وهنا‪ ..‬نتوقؾ عند واقعة مهمة تذكرنا بما حصل فً مذبحة اإلسكندرٌة ٔٔ ٌونٌو ٕ‪ ٔ88‬التً هدفت‬
‫لتبرٌر وجود االحتبلل بؤنه لحماٌة األجانب من المصرٌٌن‪ ،‬فإنه فً ٕٕ و ٕٗ ماٌو ٕٔ‪ ٔ9‬حدثت‬
‫مصادمات بٌن المتظاهرٌن والبولٌس المحكوم إنجلٌزٌا والقوات البرٌطانٌة‪ ،‬وداخل األحٌاء التً ٌسكنها‬
‫اإلٌطالٌون والٌونانٌون فوجا المصرٌون باإلٌطالٌٌن والٌونانٌٌن ٌطلقون علٌهم النٌران‪ ،‬فوقعت اشتباكات‬
‫بٌنهم استشهد فٌها ٖٗ مصرٌا وقتل ٕٔ ٌونانٌا وٖ من جنسٌات أوروبٌة أخرى‪ ،‬وبحسب فخري عبد‬
‫النور‪ -‬أحد أعضاء الوفد حٌنها‪ -‬فإن الشكوك تحٌط بؤن الضابط اإلنجلٌز "انجرام" مؤمور الضبط‬
‫باإلسكندرٌة له أصابع فً هذا الصدام‪ ،‬خاصة وأن ونستون تشرشل تحجج بهذه الحادثة لتبرٌر استمرار‬
‫االحتبلل بقوله إن ببلده لو سحبت الجٌش البرٌطانً من القاهرة واإلسكندرٌة لتم القضاء على الجالٌات‬
‫األوروبٌة هناك(٘٘‪ ،)ٔ8‬وهكذا تتكرر أالعٌب االحتبلل وٌستمر فً استؽبلل المستوطنٌن األجانب سبلحا ضد‬
‫أهل البلد‪ ،‬ومبررا لقتلهم واحتبللهم‪.‬‬

‫وكادت المذابح تصل لرقاب وصدور قادة الثورة‪ ،‬فٌنقل عباس العقاد عن السفٌر األمرٌكً األسبق فً‬
‫مصر‪ ،‬موتون هول‪ ،‬ما ورد من شهادة له فً كتابه "مصر ماضٌا وحاضرا ومستقببل"‪ ،‬إن اللبنً خطط لقتل‬
‫سعد زؼلول ورفاقه بإعدامهم بتهمة الثورة والخٌانة العظمى‪ ،‬إال أنه من الواضح أن برٌطانٌا رفضت خطته‬
‫لحساب ما‪ ،‬واكتفت بعملٌة النفً(‪.)ٔ8٘ٙ‬‬

‫وهو نفس ما جرى مع عرابً‪ ..‬نفس الخطة‪ ،‬نفس التهمة‪ ،‬نفس المصٌر‪ ،‬لنفس السبب‪ ،‬أن كبل منهما قاد‬
‫الفبلحٌن أوالد الشمس لٌقولوا للمحتلٌن أوالد الظبلم‪ ...‬ال‪.‬‬

‫(ٖ٘‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫(ٗ٘‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬مذكرات فخري عبد النور‪ :‬ثورة ‪ ،ٔ9ٔ9‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪9ٙ‬‬
‫(٘٘‪)ٔ8‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕ٘ٔ و‪ٔ٘8‬‬
‫(‪)ٔ8٘ٙ‬‬
‫‪ -‬سعد زؼلول سٌرة وتحٌة‪ ،‬محمود عباس العقاد‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٓٔ9 ،‬ص ٔٔٗ‬

‫ٕ‪ٙ9‬‬
‫استمرت االحتجاجات بؤشكالها المختلفة من إضرابات ومظاهرات من حٌن آلخر حتى نهاٌة ٕٔ‪،ٔ9‬‬
‫وقام اللنبً بمحاولة نهابٌة لٌحمل الحكومة المصرٌة على توقٌع معاهدة‪ ،‬ولكنه فشل فً محاولته‪ ،‬ومنع‬
‫اللنبً سعد زؼلول من أن ٌعقد اجتماعات سٌاسٌة‪ ،‬أو أن ٌستمر فً نشاطه السٌاسً‪ ،‬وهدده بالنفً‪ ،‬وفً‬
‫ٖٕ دٌسمبر ألقى القبض علٌه‪ ،‬ورحل إلى السوٌس لٌبعث إلى سٌبلن‪ ،‬منفى عرابً الشهٌر‪.‬‬

‫وحٌن بلػ الخبر الناس‪ ،‬احتشدوا فً مظاهرات حول بٌت األمة بالقاهرة‪ ،‬ففرقها البولٌس المحكوم‬
‫بضباط إنجلٌز بعد استشهاد اثنٌن وإصابة ‪ ،9‬وقبض على ٘ من قٌادات الوفد منهم مصطفى النحاس‪.‬‬

‫ورؼم كل شًء‪ ،‬ظلت الثورة "قاٌدة نار" ٖ سنٌن‪ ،‬ففً ٕ٘ دٌسمبر ٕٔ‪ ٔ9‬أرسل اللورد اللنبً التقرٌر‬
‫التالً إلى لورد كٌرزون‪" :‬القاهرة جمٌع المدارس مضربة‪ ،‬إضراب موظفً الحكومة عام اآلن‪ ،‬عدد القتلى‬
‫المصرٌٌن فً القاهرة ٔٔ‪ ،‬وفً ٌوم ٖٕ قتلت الجماهٌر كهربابٌا أوروبٌا فقٌرا ٌسكن األحٌاء الفقٌرة‪ ،‬عدد‬
‫المقبوض علٌهم حتى اآلن ‪ ،ٔ8ٙ‬اإلسكندرٌة لم ٌحدث تؽٌٌر‪ ،‬الموقؾ فً ٌدنا‪ .‬بلػ المقبوض علٌهم حتى‬
‫اآلن ‪ ٕ89‬منهم ٕٖٕ صبٌا‪ .‬وصل مندوبو حكومة جبللة الملك‪ .‬منطقة القنال حدثت مظاهرات عنٌفة هذا‬
‫الصباح‪ ،‬وسلمت المدنٌة آخر األمر إلى السلطات الحربٌة التً اضطرت إلى أن تطلق النار على الجموع‬
‫التً رفضت أن تنصرؾ‪ ،‬الخسابر قتٌل وٖ جرحى مصرٌون‪ ،‬وٌإٌد القوات الحربٌة ٓ‪ ٙ‬من البسً الستر‬
‫الزرقاء من حرس السفن"(‪.)ٔ8٘9‬‬

‫▲▲▲ ثمرات ثورة ‪ٔ9ٔ9‬‬

‫بتعبٌر ٌحًٌ حقً لبرنامج "شرٌط الذكرٌات" فً التلفزٌون المصري فإن ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬هً ثورة‬
‫االستقبلل فً كل شًء‪ ،‬ولٌس فقط االستقبلل الحربً‪ ،‬فقد سعى كافة المصرٌٌن فً كل المجاالت لتؤكٌد‬
‫هذا االستقبلل‪ ،‬وإثبات جدارتهم إلدارة ببلدهم فً كافة النواحً‪.‬‬

‫ونلتقط أمثلة من هذا بما ٌسمح به المجال فً استعراض لمحات من نتابج الثورة على حٌاة مصر‪.‬‬

‫❶أول ربٌس وزراء مصري بإرادة مصرٌة منذ مبات السنٌن‬

‫عرابً هو أول وزٌر حربٌة مصري منذ مبات السنٌن بفضل ثورة ٔ‪ ،ٔ88‬وصار بطرس ؼالً أول‬
‫ربٌس وزراء مصري‪ ،‬ولكن تعٌٌنه بعد حادثة دنشواي التً ترأس محكمتها الهمجٌة جعلت تعٌٌنه ٌظهر‬
‫كمكافبة من االحتبلل‪ ،‬خاصة وأنه عمل سنٌدا لبلحتبلل منذ اصطؾ لجانبه فور معركة التل الكبٌر‪.‬‬

‫أما الوزارة التً جاءت بسعد زؼلول ربٌسا لها فالجدٌد أنها لٌست مصرٌة فقط فً ربٌسها‪ ،‬ولكن األهم‬
‫أنها اختٌار مصري محض‪ ،‬جاءت بها ثورة الشعب ولٌس اإلنجلٌز أو الخدٌوي األرناإوطً‪ ،‬وجاءت بؤول‬
‫انتخابات حرة‪ ،‬رأي الفبلحٌن فٌها واضح وحاسم‪ ،‬فانتخبوه ربٌسا للوزارة بعد أن انتخبوه بدمابهم قبل‬
‫أحبارهم فً توكٌبلت التفوٌض له ربٌسا للوفد المتحدث باسم مصر فً مإتمر الصلح ببارٌس‪ ،‬وٌشببها فً‬

‫(‪)ٔ8٘9‬‬
‫‪ -‬دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٓ‪ٖٔ -‬‬

‫ٖ‪ٙ9‬‬
‫ذلك انتخابهم المباشر لعرابً حٌن فوضوه لٌطالب بحقوقهم أمام الخدٌوي األرناإوطً‪.‬‬

‫فرؼم كل ما فعلته برٌطانٌا من قتل ونفً وحبس وتقسٌم وإرهاب على مدى ٘ سنٌن‪ ،‬إال أنه فً أول‬
‫انتخابات برلمانٌة تجري فً مصر ٌناٌر ٕٗ‪ ٔ9‬فاز الوفد بؤؼلبٌة المقاعد‪ ،‬وبرهنت جموع الناخبٌن أنها‬
‫كانت تشد أزر سعد زؼلول حتى ذلك المدى(‪.)ٔ8٘8‬‬

‫❷ إفشال فرض الحماٌة البرٌطانٌة رسمٌا‬

‫خرجت برٌطانٌا من الحرب العالمٌة األولى منتصرة‪ ،‬فازداد بطشها بطشا‪ ،‬وؼرورها ؼرورا‪ ،‬وظنت‬
‫أن مصر دانت لها لؤلبد‪ ،‬وتكتلت معها دول ؼربٌة فً الموافقة على فرض حماٌتها على مصر؛ ففوجبت‬
‫بانفجار ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬التً أجبرتها على سحب الحماٌة المزعومة‪.‬‬

‫❸ أول برلمان مصري منتخب شعبٌا‬

‫جاءت ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬بؤول برلمان منتخب شعبٌا حقا فً انتخابات ٕٗ‪ ٔ9‬التً جاءت بسعد زؼلول ربٌسا‬
‫للوزراء‪.‬‬

‫❹ دستور ٖٕ‪ٔ9‬‬

‫كان دستور ٕ‪ ٔ88‬ثمرة من ثمرات ثورة ٔ‪ ٔ88‬كؤحد مطالبها التً أصرت علٌها‪ ،‬وهو تطور هاٌل‬
‫وقتها‪ ،‬لكنه لم ٌركز على الحقوق الخاصة بالشعب المصري‪ ،‬بل ركز على حقوق وواجبات نواب مجلس‬
‫النواب‪ ،‬ومعظمهم ؼٌر مصرٌٌن فً الحقٌقة‪ ،‬وطلبوا هذه الحقوق والواجبات لحماٌة نفوذهم ومنع الحاكم‬
‫من مصادرة األراضً التً سقطت فً حجورهم‪ ،‬وجاء دستور ٖٕ‪ ٔ9‬بعٌدا عن الطموحات الشعبٌة‬
‫الحقٌقٌة أٌضا‪ ،‬وجرى تفصٌله ووسعد زؼلول فً المنفى‪ ،‬إال أنه تضمن مٌزة أنه نص على أن مصر دولة‬
‫مستقلة‪ ،‬وهو إن كان استقبلال صورٌا‪ ،‬ولكنها المرة األولى التً ٌُعترؾ فٌها بؤن مصر دولة ؼٌر تابعة منذ‬
‫مبات السنٌن‪.‬‬

‫فقد نصت مادته األولى على‪ :‬مصر دولة ذات سٌادة‪ ،‬وهً حرة مستقلة‪ ،‬ملكها ال ٌجزأ وال ٌنزل عن‬
‫شًء منه‪ ،‬وحكومتها ملكٌة وراثٌة‪ ،‬وشكلها نٌابً(‪.)ٔ8٘9‬‬

‫❺ التعلٌم األولً إلزامً ومجانً‬

‫نشؤت المدارس أٌام محمد علً بشكلها الحدٌث‪ ،‬وزادت أٌام إسماعٌل ولكن توفٌر التعلٌم ظل حسب‬
‫مزاج الحاكم‪ٌ ،‬وفره أحٌانا وٌؽلق المدارس أحٌانا‪ ،‬فؤلزم دستور ٖٕ‪ ٔ9‬الدولة بتوفٌر التعلٌم األساسً‬
‫بصفة داٌمة وبالمجان‪ ،‬وكان هذا هدؾ من أهداؾ بعض قادة ثورة ٔ‪.ٔ88‬‬

‫(‪)ٔ8٘8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٖ‬
‫(‪)ٔ8٘9‬‬
‫‪ -‬راجع ظروؾ وضع دستوري ٖٕ‪ ٔ9‬وٖٓ‪ ٔ9‬فً‪ :‬تارٌخ الدساتٌر المصرٌة‪ ،‬وقع الهٌبة العامة لبلستعبلمات‬

‫ٗ‪ٙ9‬‬
‫فنصت المادة ‪ ٔ9‬على‪" :‬التعلٌم األولى إلزامً للمصرٌٌن من بنٌن وبنات‪ ،‬وهو مجانً فً المكاتب العامة"‪،‬‬
‫ولكن ألن واضعً الدستور وضعوا المادة فقط لضمان التؤٌٌد الشعبً للدستور‪ ،‬دون رؼبة حقٌقٌة فً تعلٌم‬
‫الشعب حتى ال ٌنافسهم فً المناصب والثروات وٌطالب بحقوق المصرٌٌن‪ ،‬فإن تطبٌق هذا المادة لم ٌتم إال‬
‫بالتدرٌج البطا جدا‪ ،‬فلم تنشر الحكومة المدارس الكافٌة لتصل للناس فً األرٌاؾ‪ ،‬ولم تصدر قانونا بتطبٌق‬
‫المادة الدستورٌة‪ ،‬وعافر طه حسٌن ونجٌب الهبللً بمبادرات فردٌة إللزامها بتطبٌقه حتى تم هذا لبلبتدابً سنة‬
‫ٖٗ‪ ٔ9‬وصدر قانون للثانوي ٓ٘‪ ،ٔ9‬ولكن ظلت تماطل فً بناء المدارس البلزمة لتوصٌل المجانٌة لؤلرٌاؾ‪،‬‬
‫وٌستدل على هذا من مناقشات النواب فً مجلس النواب فً جلستً ٖٕ‪ ٔ9ٖٖ -٘ -‬و ‪ٌ ٔ9ٖ9 -ٙ-9‬طالبون‬
‫فٌها بعدم التوسع فً إنشاء المدارس خوفا من أن تحدث "ثورات نفسٌة حٌن ٌتعلم ابن الصراؾ وابن الساعً"‬
‫بتعبٌر النابب وهٌب دوس‪ ،‬وأنه ٌكفً تعلٌم أبناء الفقراء القراءة والكتابة والحساب ألن الهدؾ من تعلٌمهم "لٌس‬
‫إعداد محامٌن" بتعبٌر النابب عبد هللا لملوم‪ ،‬وأن تعرض أبناء الرٌؾ للتعلٌم وحٌاة المدٌنة جعلهم ٌلبسون‬
‫"الببلطً والجوارب واألحذٌة وٌحملون أدوات العمل على أكتافهم وهم ركوب فوق الدراجات" وٌخرجون‬
‫بـ"الجبللٌب المكوٌة"‪ ،‬ولو استم ر الحال على ذلك "سٌؤتً بعدهم قوم ٌركبون السٌارات ال ٌزعم وازع وال ٌدفعهم‬
‫إلى حقولهم دافع" ‪ ،‬وٌتحول "أصحاب الجبللٌب الزرقاء إلى أصحاب الجبللٌب المكوٌة" بتعبٌر النابب محمد‬
‫عزٌز أباظة(ٓ‪ ،)ٔ8ٙ‬مع اإلشارة إلى أن معظم النواب إضافة إلى أنهم وصلوا لمنصب النابب على أكتاؾ صاحب‬
‫الجبللٌب الزرقاء فإن كثٌرا منهم مستوطنٌن قدمت عاببلتهم لمصر مشردة أو من بطون الجاهلٌة بالؽارات أو‬
‫التسلل أو على كتؾ احتبلل‪ ،‬وبدال من أن ٌتمصروا حقا عاشوا ٌعاملون الفبلح ابن الحضارة بروح الؽزاة‬
‫الؽالبٌن‪.‬‬

‫❻ "تمصٌر" الوظابؾ العامة‪ ..‬شكلٌا‬

‫ومن مكاسب ثورة "مصر للمصرٌٌن" فً دستور ٖٕ‪ ٔ9‬أن تقتصر الوظابؾ العامة العسكرٌة والمدنٌة على‬
‫المصرٌٌن فقط (المادة ٖ)‪ ،‬وٌشكل الوزارة مصري (المادة ‪ ،)٘8‬ولٌس أحدا من العابلة المالكة (المادة ‪..)٘9‬‬
‫ولكن بدا التمصٌر شكلٌا‪ ،‬فقد أحدثت كلمة "مصري" خبلفا‪ ،‬فبٌنما أراد المكباتً أن من ٌتولى الوزارة ٌكون‬
‫"مولودا مصرٌا"‪ ،‬أصر حسٌن رشدي (التركً) على أن ٌكون فقط "مصري" (مجنس)‪ ،‬لٌتسنى الفرصة لبنً‬
‫جلدته الحصول على هذه المناصب‪ ،‬فظل ٌتسلل للمناصب الهامة مستوطنون أجانب‪ ،‬مثل أحمد زٌور باشا‬
‫الذي صار ربٌسا للوزراء (من عابلة شركسٌة تحمل الجنسٌة الٌونانٌة)‪ ،‬وهكذا ظلت معظم مناصب الدولة‬
‫العلٌا فً الحقٌقة مصرٌا اسمها‪ ،‬أجنبٌة واقعا‪ .‬كما ماطل األوروبٌون فً ترك الوظاٌؾ التً أخذوها بعد‬
‫االحتبلل‪ ،‬وآخرون تحاٌلوا بالرجوع لنفس الوظاٌؾ بنظام العقود بعد خروجهم منها‪.‬‬

‫❼ بدء تمصٌر االقتصاد‬

‫‪.‬‬
‫(ٔ‪)ٔ8ٙ‬‬
‫دٌن مصر العام وقتها ٔ‪ 9‬ملٌون جنٌه‪ ،‬تدفع الخزانة ٖ ملٌون ونصؾ ملٌون فوابد سنوٌة‬

‫(ٓ‪)ٔ8ٙ‬‬
‫‪ -‬كبار مبلك األراضً الزراعٌة ودورهم فً المجتمع المصري (ٗٔ‪ ،)ٔ9ٕ٘ -ٔ9‬عاصم الدسوقً‪ ،‬ص ٖٗٓ‪ٖٓٙ -‬‬
‫(ٔ‪)ٔ8ٙ‬‬
‫‪ -‬دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً‪ ،‬ترجمة كتاب االستعمار البرٌطانً فً مصر للبرٌطانً إلٌنور بٌرتز‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ٘‬

‫٘‪ٙ9‬‬
‫وٌدمً القلب أن ٌ ُرى الفبلحون أمام محبلت الربا والبنوك األجنبٌة ٌلحون علٌها أن تصبر علٌهم عند‬
‫عجزهم عن سداد دٌونهم‪ ،‬أو ٌ ُرى مبلمح القهر فً وجوههم حٌن ٌخسرون أراضٌهم ومنازلهم لعجزهم عن‬
‫سداد الدٌون وحجم الفوابد التً تفرضها القلوب األجنبٌة الؽلٌظة علٌهم‪.‬‬

‫فاعتزم طلعت حرب انشاء بنك مصري ٌمول الفبلحٌن دون ابتزازهم‪ -‬وهً فكرة بدأ عرابً وآخرون‬
‫تنفٌذها فً ثورة ٔ‪ ٔ88‬ولم ٌطل بالثورة العمر الستكمالها‪ -‬فكان بنك مصر الذي أنشؤه عبر حملة لشراء‬
‫األسهم‪ ،‬ساهم فٌها األؼنٌاء والفقراء‪ ،‬كل بما ٌقدر علٌه من جنٌهات كثرة أو قلت‪.‬‬

‫ولم ٌتوقؾ البنك عند هذا الحد‪ ،‬لكن أرسى سلسلة شركات ومصانع هدفها لٌس فقط الربح‪ ،‬ولكن توفٌر‬
‫الصناعات المصرٌة لتقلٌل اعتماد المصرٌٌن على السلع األجنبٌة‪ ،‬ولتوفٌر فرص عمل للمصرٌٌن فً‬
‫أماكن مصرٌة‪ٌ ،‬شعرون فٌها بكٌانهم وحرٌتهم‪ ،‬بعٌدا عن تحكم صاحب رأس المال األوروبً‪.‬‬

‫ففً ‪ ٔ9ٕٙ‬أنشا بنك مصر ٗ شركات مصرٌة أكبرها تعمل فً الؽزل والنسٌج؛ فقل استٌراد المصرٌٌن‬
‫للمنسوجات والمبلبس‪ ،‬وفً نفس السنة اشترت شركة مصرٌة أكبر مصانع السجابر فً مصر‪ ،‬وفً‬
‫‪ ٔ9ٕ9‬صدر قانون الشركات وٌنص على أن ٌكون فً كل شركة مدٌران مصرٌان على األقل‪ ،‬وأن ٌحتفظ‬
‫بنسبة معٌنة من رأسمالها للمصرٌٌن‪ ،‬وصدر قانون فً سبتمبر ‪ ٔ9ٕ9‬بإعطاء امتٌازات خاصة للجمعٌات‬
‫التعاونٌة التً ٌكون جمٌع أعضابها مصرٌٌن(ٕ‪.)ٔ8ٙ‬‬

‫ورؼم كل وساٌل األجانب لتحطٌم ثقة المصرٌٌن بمهاراتهم‪ ،‬انطلقت حمبلت تشجع شراء المنتج‬
‫المصري ومقاطعة اإلنجلٌزي‪ ،‬ساعد فٌها الشعراء والمطربون بتحمٌس الناس‪ ،‬ومنهم ٌونس القاضً وسٌد‬
‫دروٌش وصوته ٌلعلع بكلمات شبٌهة بكلمات عبد هللا الندٌم وهو ٌدعو خبلل ثورة ٔ‪ ٔ88‬لدعم المنتج‬
‫المصري‪:‬‬

‫وكل حاجة من شؽل برة‬ ‫مش بزٌادانا بقٌنا عــــرة‬

‫شوؾ الخواجا قلع عٌنٌنا وآخر المتمة فلس علٌنـــا‬

‫وقال‪:‬‬
‫(ٖ‪)ٔ8ٙ‬‬
‫إمتى بقى نشوؾ قرش المصري ٌفضل فً بلده وال ٌطلعشً‬

‫❽ تمصٌر الفن‬

‫فً معظم االحتبلالت‪ ،‬وبعد ؼلق المعابد المصرٌة ومنع معظم االحتفاالت المصرٌة القدٌمة الرسمٌة‪،‬‬

‫(ٕ‪)ٔ8ٙ‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪٘8 -٘9‬‬
‫(ٖ‪)ٔ8ٙ‬‬
‫‪ -‬سٌد دروٌش فنان الشعب والثورة الدابمة‪ ،‬السٌدة زهرة‪ ،‬مجلة أدب ونقد‪ ،‬العدد ‪ ،ٕٗ9‬القاهرة‪ ،‬مارس ‪ ،ٕٓٓٙ‬ص ٓ‪9‬‬

‫‪ٙ9ٙ‬‬
‫اختفت الفنون المصرٌة من الساحة العامة‪ ،‬وخاصة المدن التً ٌستوطنها األؼراب‪ ،‬وؼاصت مع‬
‫المصرٌٌن بٌن الحقول فً األرٌاؾ‪ٌ ،‬زٌنون بها مناسباتهم الشعبٌة والخاصة‪ ،‬وال ٌسمعها إال هم‪.‬‬

‫على الجانب اآلخر‪ ،‬كانت الجزر المنعزلة‪ ،‬أي المستوطنات األجنبٌة ؼارقة فً الفنون األجنبٌة الخاصة‬
‫بها‪ ،‬وحتى ما استفادت به من الفنون المصرٌة ال ٌكون معلنا أنه من الفنون المصرٌة‪.‬‬

‫ولكن الفرصة التً توفرت لبعض المصرٌٌن الموهوبٌن فً التوجه إلى العاصمة واالقتراب من أهل‬
‫السلطة أخرجت بعض الفن المصري من عقاله‪ ،‬وتمثل هذا فً عبده الحامولً‪ ،‬ومحمد المسلوب‪ ،‬ومحمد‬
‫عثمان القادمٌن من المحافظات واألرٌاؾ بروحهم المصرٌة وما فً وجدانهم من نؽمات وكلمات مصرٌة‪،‬‬
‫فزحزحت الركاد العثمانلً والمستورد فً بحٌرة الفن بموجات مصرٌة عذبة‪.‬‬

‫وشاعت عن طرٌقهم األؼنٌات بالكبلم المصري‪ ،‬وتراجع لحد ما الكبلم العثمانلً‪ ،‬حتى لقب عبده‬
‫الحامولً كان مصرٌا‪ ،‬فناداه معاصروه باللقب المصري العرٌق "سً" (وهً كلمة مصرٌة قدٌم خالصة‬
‫ومإنثها ست) وأصبح "سً عبده"‪ ،‬وألماظ تسمت بـ"الست ألماظ"‪ ،‬ولم ٌنادٌهم الناس بؤفندي وهانم‪.‬‬

‫هذه الدفعة هً األرضٌة التً تلقفتها ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬مجسدة فً سٌد دروٌش الذي عمل وسط العمال‬
‫والمزارعٌن‪ ،‬فنقل نؽماتهم ووجدانهم وتعبٌراتهم المصرٌة الحلوة إلى أؼانٌه لٌصبح "فنان الشعب" وٌؽنً‬
‫آالم وآمال الشعب ولٌس الحاكم األجنبً‪ ،‬فؤكمل إعادة الفن المصري إلى عرشه‪ ،‬ولٌمجد قٌمة أوالد البلد‪،‬‬
‫فؽنى للمزارعٌن والعمال والزعما الوطنٌٌن والصناٌعٌة والست المصرٌة ولصنع فً مصر وشرؾ األصل‬
‫المصري وحضارة األجداد‪.‬‬

‫ولمع حٌنها رواج أؼنٌات تشدو بحب مصر‪ ،‬فٌما عرؾ باألؼانً الوطنٌة‪ ،‬فلم ٌكن شابعا فً الساحة‬
‫دروٌش بكلماته وكلمات ٌونس‬
‫َ‬ ‫العامة فً فترات االحتبلالت أن ٌشدو مطربا مشهورا بحب مصر‪ّ ،‬‬
‫فهز سٌد‬
‫القاضً وعبد البدٌع خٌري وبٌرم التونسً الوجدان بؤؼانً مثل "قوم ٌا مصري"‪ ،‬و"أنا المصري كرٌم‬
‫العنصرٌن"‪ ،‬وأٌضا "ببلدي ببلدي لكً حبً وفإادي" المؤخوذة من نبضات مصطفى كامل‪.‬‬

‫ومع سٌد دروٌش وبعده‪ ،‬سار على نفس الخطى أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وزكرٌا أحمد وؼٌرهم‬
‫ممن كانت المصرٌة عنوانهم األول كلمة ولحنا وأداء‪.‬‬

‫وفً النحت‪ ،‬تراجع صنع التماثٌل المصرٌة مع االحتبللٌن الٌونانً والرومانً‪ ،‬وحلت محلها التماثٌل‬
‫الٌونانٌة والرومانٌة‪ ،‬ولم ٌشجع العرب والممالٌك النحت‪ ،‬ثم جاء األوروبٌون زمن محمد علً لٌشٌدوا‬
‫تماثٌل بطرٌقتهم للحكام األرناإوط‪ ،‬فجاءت ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬بمحمود مختار من على شط الترعة فً عمق‬
‫الرٌؾ لٌكون أول مصري ٌلتقط اإلزمٌل الذي سقط من ٌد أجداده‪ -‬حسب التعبٌر البلٌػ الشابع عنه‪ -‬وٌعٌد‬
‫به اإلعجاز المصري فً إنطاق األحجار لتتكلم من جدٌد بالمصري؛ فٌصنعها مصرٌون بمبلمح مصرٌة‬
‫لشخصٌات مصرٌة‪ ،‬فشاع فً أعماله تماثٌل المزارعٌن‪ ،‬والعمال‪ ،‬وزعماء األمة مثل سعد زؼلول‪ ،‬وأشهر‬
‫أعماله تمثال "نهضة مصر" الذي جسد فً صورة الفبلحة مع أبو الهول آمال األمة فً التحرٌر والفخر‬

‫‪ٙ97‬‬
‫بكل ما هو مصري من فن ومبلبس ومبلمح وأسامً‪ ،‬وشمخت الفبلحة بمبلبسها الرٌفٌة منصوبة الضهر‬
‫وسط العاصمة ألول مرة منذ االحتبلالت‪.‬‬

‫وفً المسرح‪ ،‬قدمت المعابد المصرٌة أول مسرح‪ ،‬هو تمثٌل حكاٌة إٌسة "إٌزٌس" وأوزٌر "أوزٌرٌس"‬
‫وحكاٌة حور (حورس) وست فً االحتفاالت الرسمٌة والدٌنٌة سنوٌا(ٗ‪ ،)ٔ8ٙ‬وتوقؾ كؽٌره من فنون مصرٌة‬
‫مع صاعقة االحتبلالت‪ ،‬ولما عاد المسرح لمصر بصورته التقلٌدٌة فً القرن ‪ ٔ9‬كان المسٌطرون على‬
‫ساحته الٌهود والشوام واألوروبٌون إلمكانٌاتهم المادٌة‪ ،‬وتدرٌبهم على ٌد األوروبٌٌن‪ ،‬وكان مبتذال فً‬
‫أكثره‪ ،‬وإن سعى عبد هللا الندٌم إلعادة المسرح المصري الراقً عبر المدرسة حٌن كان ٌعمل مدرسا قبل‬
‫ثورة ٔ‪ ،ٔ88‬وكتب وقدم مسرحٌات‪ ،‬منها "الوطن"‪.‬‬

‫ومن بعده قلٌل من المصرٌٌن من استطاع أن ٌنضم للمسرح قبل ثورة ‪ ،ٔ9ٔ9‬ومنهم علً الكسار‪ ،‬وبعد‬
‫الثورة انتقلت روح الفخر بالهوٌة المصرٌة إلى المسرح‪ ،‬وتلقفها ٌوسؾ وهبً بفرقة "رمسٌس"‪ ،‬وساهم فً‬
‫تمصٌر المسرح سٌد دروٌش ونجٌب الرٌحانً وبدٌع خٌري‪ ،‬فكرا ولؽة‪ ،‬و ُنقل عنه الرٌحانً قوله‪" :‬عاٌزٌن‬
‫مسرح مصري‪ ،‬مسرح ابن بلد‪ ،‬فٌه رٌحة الطعمٌة و"الملوخٌة‪ ،‬مش رٌحة البطاطس المسلوقة والبفتٌك"‪.‬‬

‫وبعد دخول السٌنما لمصر وسٌطرة الٌهود واألجانب عموما علٌها بؤفكارهم المسٌبة‪ ،‬سعى طلعت حرب‬
‫لتمصٌرها بتؤسٌس شركة مصر للتمثٌل والسٌنما واستدٌو مصر؛ إلٌمانه بؤن االقتصاد لٌس هدفا فً حد ذاته‪ ،‬بل‬
‫هو وسٌلة لخدمة الشعب بتعلٌمه القٌم التً ترسخ اعتزازه بنفسه وتحفظ هوٌته‪ ،‬وأوفد بعثات لتعلٌم فنونها فً‬
‫الخارج‪ ،‬والتزمت بعض األفبلم قضاٌا نصرة الفبلح وابن الحارة وتشجٌع الصناعة المصرٌة مثل فٌلمً‬
‫"بٌومً أفندي" و"العزٌمة"‪.‬‬

‫❾ تمصٌر األدب‬

‫قبل ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬كانت معظم أعمال الشعر والرواٌات والكتب تؤخذ طابعا عربٌا إسبلمٌا‪ ،‬سواء فً‬
‫المضمون أو اللؽة العربٌة الرصٌنة باستثناء قلٌل ٌجسده عبد هللا الندٌم الذي تجرأ وقدم أعماال باللؽة‬
‫المصرٌة الحدٌثة تدور فً أجواء الحارة والرٌؾ ومحمد حسٌن هٌكل الذي قدم رواٌة "زٌنب" ٗٔ‪ ٔ9‬عن‬
‫الرٌؾ‪ ،‬ووقعها باسم "مصري فبلح"‪ ،‬وبعد ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬دبت روحها فً أوصال األدباء‪ ،‬فتدفقت األعمال‬
‫األدبٌة العاشقة للقومٌة المصرٌة‪ ،‬وسخروها للبٌبة المصرٌة‪ ،‬ومنهم توفٌق الحكٌم وٌحًٌ حقً ونجٌب‬
‫محفوظ وٌوسؾ وهبً الذي كتب أفبلما تمجد أهل الحارة والرٌؾ ‪ ،‬و"ابن الحداد" و"لٌلى بنت الرٌؾ"‪.‬‬

‫❿ األزهر والكنٌسة فً روح واحدة‬

‫بعد مبات السنٌن من الرزوح تحت حكم أباطرة رومان أعلوا شؤن المسٌحً‪ -‬وخاصة لو أجنبً‪ -‬على‬
‫ابن البلد‪ ،‬ثم الخبلفة اإلسبلمٌة التً أعلت شؤن المسلم‪ -‬وخاصة لو أجنبً‪ -‬على ابن البلد لؾَّ الثوب الوطنً‬

‫(ٗ‪)ٔ8ٙ‬‬
‫‪ -‬تارٌخ المسرح عبر العصور‪ ،‬مجٌد صالح‪ ،‬الدار الثقافٌة للنشر‪ ،‬طٔ‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٕٓٓ ،‬ص ٘ٔ‬

‫‪ٙ98‬‬
‫المصرٌٌن خبلل ثورة ٔ‪ ،ٔ88‬وبشكل أوضح ظهر هذا فً ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬فهتؾ الشٌخ أمٌن الخولً خبلل‬
‫مظاهرات ‪ ٔ9ٔ9‬بؤعلى صوته إن "المصري النصرانً أقرب لً من المسلم التركً"‪ ،‬وفً قول آخر‪" :‬إن‬
‫ما بٌن مسلمً مصر وأقباطها أقرب مما بٌنهم وبٌن المسلمٌن األتراك"‪ ،‬فكان محوا لمبات السنٌن من‬
‫التفرٌق الشٌطانً بٌن المصرٌٌن‪.‬‬

‫وأنشد الشاعر محمد عبد المطلب بٌته البلٌػ(٘‪:)ٔ8ٙ‬‬

‫ولكن خذالن البالد هو الكفر‬ ‫كالنا على دٌن به هو مإمن‬

‫لنجدتها سٌان مرقس أو عمرو‬ ‫إذا ما دعت مصر ابنها نهض ابنها‬

‫وخرج األزهرٌون والقساوسة ممسكٌن بؤٌدي بعضهم‪ ،‬متراصٌن األكتاؾ فً الشوارع‪ٌ ،‬واجهون‬
‫رصاص االحتبلل هاتفٌن "تحٌا مصر"‪ٌ" ،‬حٌا الهبلل مع الصلٌب"‪ ،‬وظهرت الدعوة إلى أن ٌتبنى األزهر لٌس‬
‫فقط قضاٌا المسلمٌن‪ ،‬بل هوٌة مصر أٌضا‪ ،‬وتدعٌم أركان الشخصٌة المصرٌة‪ ،‬كما جاء فً كتاب طه حسٌن‬
‫"مستقبل الثقافة فً مصر"‪ ،‬وكتابات الشٌخ أمٌن الخولً‪.‬‬

‫ومن البلفت أن ممن خطبوا فً األزهر القس سرجٌوس‪ ،‬وكان قبل ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬دابم الشكوى من‬
‫تدهور أحوال المصرٌٌن المسٌحٌٌن منذ دخول العرب لمصر‪ ،‬ولكن حٌن حانت اللحظة الفارقة فً حٌاة‬
‫مصر كلها‪ ،‬انضم للشٌخٌن الخطٌبٌن محمود أبو العٌون ومصطفى القاٌاتً لتحمٌس الناس على الجهاد ضد‬
‫اإلنجلٌز‪ ،‬وقال قولته المشهورة من فوق منبر األزهر‪" :‬إذا كان اإلنجلٌز ٌتمسكون ببقابهم فى مصر بحجة‬
‫حماٌة القبط فؤقول لٌمت القبط ولٌحٌا المسلمون أحرارا"‪ ،‬و"إذا كان استقبلل المصرٌٌن ٌحتاج إلى‬
‫التضحٌة بملٌون قبطى‪ ،‬فبل بؤس بهذه التضحٌة(‪.")ٔ8ٙٙ‬‬

‫وخبلل وضع دستور ٖٕ‪ ،ٔ9‬كانت المواطنة من المبادئ التً استؽرقت مناقشات كبٌرة‪ ،‬وارتفع شعار‬
‫"الوطنٌة دٌننا"‪ ،‬ورفض المصرٌون المسٌحٌون أن ٌكون للمسٌحٌٌن نصٌبا "كوتة" فً المقاعد بالتعٌٌن‬
‫لتسد النقص فً حال عدم انتخاب عدد مبلبم منهم‪ ،‬وقالوا‪ ،‬وفق ما نقل سبلمة موسى‪ ،‬إننا أمة مواطنة‪،‬‬
‫وٌ جب أن ٌتساوى الجمٌع فً االنتخاب‪ ،‬وال ٌكون هناك تمٌٌز بٌن المواطنٌن‪ ،‬وال ٌكون هناك مزٌة ألحد‬
‫على بقٌة أبناء الوطن(‪.)ٔ8ٙ9‬‬

‫ونختتم هذه اللمحات من ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬ودورها كخطوة عزٌزة فً مشوار تحرٌر مصر من أسرها‬
‫وسجنها بقول سعد زؼلول وهو فً منفاه فً مالطة ٌتابع أخبار الثورة التً تفاجا بها شخصٌا‪:‬‬

‫"فحٌا هللا األمم إذا عرفت واجبها‪ ،‬وحٌاها إذا اتحدت على المطالبة‪ ،‬وحٌاها إذا هً أبناإها خاطروا بؤنفسهم فً سبٌل‬

‫(٘‪)ٔ8ٙ‬‬
‫‪ -‬شعراء الوطنٌة فً مصر‪ ،‬عبد الرحمن الرافعً‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬طٖ‪ ،‬ص ٖٕ٘‬
‫(‪)ٔ8ٙٙ‬‬
‫‪ -‬ثورة ‪ ٔ9‬بعد تسعٌن عاما‪ ،‬األقباط والثورة‪ ،‬جابر عصفور‪ ،‬جرٌدة الشروق ‪ٕٓٓ9 -ٙ -ٔ8 ،‬‬
‫(‪)ٔ8ٙ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬

‫‪ٙ99‬‬
‫استقبللها"(‪.)ٔ8ٙ8‬‬

‫وكشاهد عٌان عاصر الثورة المصرٌة قال توفٌق الحكٌم فً كتابه "فن األدب"‪:‬‬

‫"لقد انكشفت لعٌنً وقلبً معجزة مصر عام ‪ ، ٔ9ٔ9‬ورأٌت الثورة فً كل مراحلها تسفر عن روح خفٌة باقٌة أبد الدهر‪,‬‬
‫نابضة تسعؾ مصر بٌن حٌن وحٌن"(‪.)ٔ8ٙ9‬‬

‫إنها هً ٌا حكٌم‪ ..‬الخالدة أبد الدهر‪ ..‬روح ماعـت‬

‫"إنها ]ماعت[ال تتؽٌر وال تتبدل منذ زمن الذي أوجدها"(ٓ‪.)ٔ89‬‬

‫(الحكٌم بتاح حتب)‬

‫"إن صالح األرض (مصر) ٌنحصر فً تطبٌق الماعت"(ٔ‪.)ٔ89‬‬

‫(الفبلح الفصٌح فً شكواه الثالثة)‬

‫▼▼▼ وسابل تصفٌة ثورة ‪ٔ9ٔ9‬‬

‫مثل ثورة ٔ‪ ،ٔ88‬قامت ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬والبلد ٌحكمها وٌتولى أعلى مناصبها وٌتحكم فً ثروتها المستوطنون‬
‫تسع للتخلص من هإالء (الترك‬ ‫َ‬ ‫األجانب‪ ،‬القدامى منهم والقادمون طازة‪ ،‬ومثل ثورة ٔ‪ ٔ88‬فإنها لم‬
‫والشركس والٌهود والشوام واألرمن والٌونان وقبابل البدو المحتفظة بانتماءاتها األجنبٌة إلخ)‪ ،‬خاصة أن‬
‫بعضهم أظهر مساندة الثورة فً البداٌة حتى ٌلدؼونها اللدؼة الممٌتة فً اللحظة الفارقة‪ ،‬وٌفرقوا كلمتها‪،‬‬
‫مستؽلٌن نفوذهم‪ٌ ،‬تبعهم عدد قلٌل من المصرٌٌن التاٌهٌن‪ ،‬لكن مإثرٌن‪ ،‬وٌتحدث هإالء باسم المصرٌٌن‪،‬‬
‫فٌُنحى الزعماء الحقٌقٌون‪ ،‬وٌسٌر الؽرباء ومن تبعهم بالثورة بعٌدا عن مجراها‪ ،‬كالثعلب ٌهرب بفرٌسته‬
‫منتشٌا‪.‬‬

‫وسقطت ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬أٌضا فً خطٌبة ثورة ٔ‪ ٔ88‬وهً أن بعض قادتها فسروا "مصر للمصرٌٌن" بؤن‬
‫ٌتساوى المصري بالمستوطنٌن األجانب‪ ،‬ال أن ٌعلو وٌكون له السٌادة وحده‪ ..‬أي أنها ثورة ناقصة‪.‬‬

‫واستخدم المحتلون لتصفٌة الثورة نفس األسلحة التً استخدموها فً ٕ‪ ٔ88‬مع أسلحة أخرى جدٌدة‪.‬‬

‫(‪)ٔ8ٙ8‬‬
‫‪ -‬مذكرات سعد زؼلول‪ ،‬ج ‪ ،9‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪88‬‬
‫(‪)ٔ8ٙ9‬‬
‫‪ -‬فن األدب‪ ،‬توفٌق الحكٌم‪ ،‬دار مصر للطباعة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪ٗ9‬‬
‫(ٓ‪)ٔ89‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مقدمة علً رضوان لكتاب "الماعت‪ ..‬فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔ‪ٔ٘-‬‬
‫(ٔ‪)ٔ89‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬

‫ٓٓ‪7‬‬
‫معظم المتظاهرٌن كانوا الفبلحٌن فً القرى والمدن‪ ،‬بمبلبس بالٌة وأقدام حافٌة ٌحتضنون حلمهم بمصر حرة وهم أعزاء حكام لبلدهم‪ ،‬حتى اختطؾ‬
‫(ٕ‪)ٔ89‬‬
‫)‬ ‫ثورتهم من جدٌد الؽزاة القدامى والجدد (الصور‪ :‬الجامعة األمرٌكٌة‪ ،‬وموقع ‪King’s College London‬‬

‫❶ إنكار وطنٌة الفالحٌن‬

‫ٌقول ٌحًٌ حقً‪" :‬بدأت الناس تؤلؾ ألول مرة كلمة "الشعب"‪ ،‬تنطقها بكسر الشٌن‪ ،‬ال بؤس‪ ،‬فلم تكن‬
‫ثورة مثقفٌن وحدهم أو فبلحٌن وحدهم أو عمال وحدهم‪ ،‬بل ثورة الشعب كله اتحد فً عجٌنة واحدة‪ ،‬ولم‬
‫تعد كلمة "فبلح" سبة"‪.‬‬

‫ولكن كعادتها سعت برٌطانٌا للحط من قدر الفبلحٌن‪ ،‬ونزع صفة الوطنٌة عنهم‪ ،‬أنكرت حقهم فً أن‬
‫ٌكون لهم أرض ووطن ٌدافعون عنه من األساس‪ ،‬فصدرت صحفها تصؾ الثابرٌن بالؽوؼاء والرعاع‪،‬‬
‫ولكن هذا الوصؾ لم ٌحبطهم‪ ،‬بل زادت تحدٌهم لبلنتقام لكرامتهم‪.‬‬

‫وعبر عن هذا االنتقام المصري جنازة الشهٌد ابن القباقٌبً‪ ،‬فالصبً ابن القباقٌبً (ٗٔ سنة) هو ممن‬
‫تصفهم صحافة أوروبا بـ"الرعاع"‪ ،‬ولكنه وهو الفقٌر‪ ،‬ابن حً السٌدة زٌنب‪ ،‬ووحٌد أبٌه الذي ٌعمل معه‬
‫فً الدكان ‪ ،‬وٌسٌر حافٌا رؼم أن والده مهنته عمل القباقٌب‪ ،‬ثار فً وجه برٌطانٌا‪ ،‬أعزال من كل سبلح‪،‬‬
‫عدا كرامته ووطنٌته والقبقاب الذي رفعه فً وجه االحتبلل‪ ،‬استشهد البطل المجهول اسمه‪ ،‬وسقط بٌن‬
‫أٌدي أبناء وطنه الثابرٌن‪ ،‬فصنعوا له جنازة عظٌمة‪ ،‬سار فٌها األؼنٌاء جنب الفقراء‪ ،‬والمستشارون‬
‫والمحامون والقضاة‪ ،‬والطلبة والتبلمٌذ‪ ،‬وسموها جنازة "ابن القباقٌبً"‪ ،‬كؤنهم ٌبعثون بها رسالة إلى‬
‫أوروبا‪" :‬انظري الرعاع ٌشٌعون بطل الرعاع"‪ ،‬ولم تشبهها جنازة أخرى طوال الثورة(ٖ‪.)ٔ89‬‬

‫وحرص سعد زؼلول على إعادة االعتبار للفبلحٌن األصحاب الحقٌقٌٌن لهذا الوطن المؽتصب‪ ،‬فٌقول على‬

‫(ٕ‪)ٔ89‬‬
‫‪ -‬الجامعة األمرٌكٌة بالقاهرة توثق رقمٌا مجموعة من الصور النادرة لتارٌخ مصر من ٖٔ‪ٔ9ٕٔ -ٔ9‬‬
‫ٔ‪https://www.aucegypt.edu/index.php/ar/node/998‬‬
‫‪Telegraphing Revolt: Protest Diffusion in the ٔ9ٔ9 Egyptian Revolution‬‬
‫‪https://www.kcl.ac.uk/events/telegraphing-revolt-protest-diffusion-in-the-ٔ9ٔ9-egyptian-revolution‬‬
‫(ٖ‪)ٔ89‬‬
‫‪ -‬صفحات من تارٌخ مصر‪ٌ ،‬حًٌ حقً‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،ٔ989 ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٖٕٗ‪ٕٖ٘ -‬‬

‫ٔٓ‪7‬‬
‫رءوس األشهاد فً خطبه إن الفبلح‪ٌ" :‬خفً تحت الثٌاب الزرقاء نفسا أبٌة وقلبا طاهرا"(ٗ‪.)ٔ89‬‬

‫كما حرص على أن ٌكون ممثبل للفبلحٌن فً روح اإلباء هذه فً وجه المحتلٌن‪ -‬بعد أن فوضوه‬
‫باستعادة حرٌتهم‪ -‬فٌقول عبد العزٌز فهمً (عضو الوفد قبل أن ٌنضم لحزب األحرار الدستورٌٌن) لسعد‬
‫وهو ٌصر على االستقبلل التام‪" :‬إننً أالحظ أنك تتكلم مع وزٌر خارجٌة برٌطانٌا بلهجة عنٌفة‪ ..‬تذكر إننا‬
‫شحاذون‪ ،‬نشحذ استقبللنا"‪ ،‬فقال له سعد‪" :‬أنا ال أشعر أبدا أمامهم أننً "شحاذ" بل أشعر أننً صاحب حق‬
‫ٌواجه لصا سرق ببلده‪ ،‬وٌطالبه بإعادتها إلى أبنابها!"(٘‪.)ٔ89‬‬

‫فً المقابل فإن عدلً ٌكن (ألبانً قرٌب محمد علً) بعد أن استولى على أن ٌكون هو المفاوض "باسم‬
‫المصرٌٌن"‪ ،‬فإنه خبلل مفاوضاته مع كٌرزون لم ٌصر على تحرٌر حقٌقً لمصر‪ ،‬بل أراد "استقبلال‬
‫ظاهرٌا"‪ٌ ،‬سد "أفواه المشاؼبٌن والؽوؼاء من الوفد وخبلفه"‪ ،‬وقال‪" :‬بالطبع نحن ال نطالب بجبلء برٌطانٌا‬
‫الناجز عن مصر‪ ،‬إن ببلدنا ال زالت فً حاجة ماسة إلى رعاٌتكم‪ ،‬ولكن عظمة السلطان ؼٌر مطمبن من‬
‫ناحٌة الخدٌوي السابق وفرنسا‪ ،‬وهو ٌرجو أن تمنحوه الفرصة لٌثبت لكم أنه كفٌل بالمحافظة على مصالح‬
‫اإلنجلٌز واألجانب فً مصر إذا وافقتم على نقل بعض سلطات دار المندوب السامً إلٌه!"(‪.)ٔ89ٙ‬‬

‫فبمثل هذا األجنبً الذي ٌتحدث بصفته "مصري"‪ ،‬وباسم "المصرٌٌن"‪ ...‬جرى اؼتٌال ثورات الحرٌة‬
‫فً مصر‪ ..‬وإطالة أمد أسرها‪.‬‬

‫❷ تفتٌت "الوفد" من جماعة وطنٌة إلى أحزاب‬

‫كادت ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬أن تصل لهدفها النهابً‪ ،‬وهو تحرٌر مصر حقا‪ ،‬فبعد أٌام اقترح اللورد على‬
‫حكومته أن تعلن بشكل رسمً "انتهاء الحماٌة واالعتراؾ بمصر دولة مستقلة ذات سٌادة"‪ ،‬وأن تستبقً‬
‫بعض التحفظات دون أن ٌنتظر حتى ٌتم توقٌع معاهدة‪ ،‬وذلك بعد أن وصله ما وصل سلفٌه نابلٌون وكلٌبر‬
‫من مشاعر العداء المصري وعدم االستقرار فً ظل الثورة المتؤججة‪.‬‬

‫وألح فً برقٌة أرسلها فً ٕٔ ٌناٌر ٕٕ‪ ٔ9‬أن بدٌل ذلك سوؾ ٌكون‪" :‬إما ضم بلد معا ٍد أشد ما ٌكون‬
‫العداء نضطر أن نحكمه بالقوة‪ ،‬وإما أن تسلم حكومة صاحب الجبللة بكل شًء‪ .‬لقد اعتدنا أن نتوقع من‬
‫العالم أن ٌعجب بعملنا فً مصر‪ ،‬وإنً ال أتصور خاتمة أشد نكرا من التً أراها اآلن"‪.‬‬

‫ولكنه فً نفس الوقت اقترح خطة لئلبقاء على نفوذ لبرٌطانٌا داخل دوابر الحكم فً مصر‪ ،‬حتى لو‬
‫رحلت‪ ،‬بسٌاسة فرق تسد وتمزٌق وتحطٌم الحركة الوطنٌة‪.‬‬

‫فقال إن عبد الخالق ثروت (تركً) على استعداد أن ٌإلؾ وزارة على أساس التصرٌح المقترح‬
‫(تصرٌح ‪ ٕ8‬فبراٌر)‪ ،‬وأن هذه السٌاسة جعلت من الممكن لنا "أن نكسب إلى جانبنا عضوا أو عضوٌن من‬

‫(ٗ‪)ٔ89‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مذكرات فخري عبد النور‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔٓٙ‬‬
‫(٘‪)ٔ89‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٔٙ‬‬
‫(‪)ٔ89ٙ‬‬
‫‪ -‬باشوات وسوبر باشوات‪ ،‬د‪ .‬حسٌن مإنس‪ ،‬الزهراء لئلعبلم العربً‪ ،‬ط ٕ‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ988 ، ،‬المقدمة ؼٌر مرقمة‬

‫ٕٓ‪7‬‬
‫قادة حزب سعد زؼلول؛ فٌضعؾ تؤثٌره إضعافا عظٌما(‪ ،")ٔ899‬وساعده فً ذلك بدء الخبلفات فعبل بٌن‬
‫أعضاء الوفد حول التفاوض مع برٌطانٌا أم استمرار الثورة‪.‬‬

‫وإضافة لهذا‪ ،‬شنت برٌطانٌا حربا نفسٌة على المصرٌٌن بإبعاد الزعٌم وصحبه من جدٌد "لٌوقع الٌؤس‬
‫فً قلوبهم وقلوب المصرٌٌن من كل مستقبل مرجو لهإالء القوم المبعدٌن فً السٌاسة المصرٌة" بحسب‬
‫تعبٌر عباس العقاد‪ ،‬ولكن الحرب فشلت‪ ،‬وانسابت كلمات زؼلول إلى الشعب تهدئ خاطره وتشد أزره وهو‬
‫ٌقول لهم قبل ترحٌله إلى سٌشل‪" :‬إنكم أنبل الوارثٌن ألقدم مدنٌة فً العالم‪ ،‬وقد حلفتم أن تعٌشوا أحرارا أو‬
‫تموتوا كراما‪ ،‬فبل تدعوا التارٌخ ٌقول ٌوما فٌكم‪ :‬أقسموا ولم ٌبروا بالقسم"(‪.)ٔ898‬‬

‫وصدر تصرٌح ‪ ٕ8‬فبراٌر ٕٕ‪ ،ٔ9‬من طرؾ واحد‪ ،‬هو برٌطانٌا‪ ،‬فً ؼٌاب سعد‪ ،‬ونص على‪:‬‬

‫ٔ‪ -‬إنهاء الحماٌة البرٌطانٌة على مصر وأن تكون دولة ذات مستقلة سٌادة‪.‬‬

‫ٕ‪ -‬إلؽاء األحكام العرفٌة المعلنة فً ٕ نوفمبر ٗٔ‪.ٔ9‬‬

‫ولكن مع هذٌن البندٌن وضعت برٌطانٌا ٗ شروط‪ ،‬سمتها "التحفظات"‪ ،‬هً فً حد ذاتها نسؾ للبندٌن‬
‫السابقٌن‪ ،‬وتقول الشروط‪:‬‬

‫ٖ‪ -‬إلى أن ٌحٌن الوقت إلبرام االتفاقٌات بٌن البلدٌن تنظم األمور اآلتٌة‪ ،‬تحتفظ برٌطانٌا بتولً أمور‪:‬‬

‫أ‪ -‬تؤمٌن مواصبلت اإلمبراطورٌة البرٌطانٌة فً مصر‪.‬‬

‫ب‪ -‬الدفاع عن مصر من كل اعتداء أو تدخل أجنبً‪.‬‬

‫ج‪ -‬حماٌة المصالح األجنبٌة واألقلٌات فً مصر‪.‬‬

‫د‪ -‬السودان (أي تتولى برٌطانٌا إدارته)(‪.)ٔ899‬‬

‫وبهذا أؼتصبت برٌطانٌا لنفسها الحق فً السٌطرة على قناة السوٌس ومدنها والموانا المصرٌة األخرى‬
‫تحت بند "تؤمٌن مواصبلت اإلمبراطورٌة"‪ ،‬واالستمرار فً السٌطرة على الجٌش كإدارة وقٌادة وتسلٌح‬
‫تحت بند "الدفاع عن مصر ضد االعتداءات الخارجٌة"‪ ،‬والتدخل فً شبون مصر تحت بند "حماٌة‬
‫المصالح األجنبٌة واألقلٌات‪ ،‬واحتفظت لنفسها بإدارة السودان بموجب اتفاقٌة ‪ ٔ899‬التً جعلت إدارة‬
‫مصر له اسمٌة واإلدارة الفعلٌة برٌطانٌة‪.‬‬

‫وٌعلق على ذلك البارون فان دن بوش البلجٌكً فً كتابه "عشرون سنة بمصر" واصفا احتفاال أقٌم فً‬

‫(‪)ٔ899‬‬
‫‪ -‬دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٓ‪ٖٔ -‬‬
‫(‪)ٔ898‬‬
‫‪ -‬سعد زؼلول سٌرة وتحٌة‪ ،‬محمود عباس العقاد‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،ٕٓٔ9 ،‬ص ‪ ٗٓ9‬و ‪ٖ98‬‬
‫(‪ -)ٔ899‬المرجع فً تارٌخ مصر الحدٌث والمعاصر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓ‪ٗٙٔ -ٗٙ‬‬

‫ٖٓ‪7‬‬
‫اإلسكندرٌة بـ"االستقبلل" عقب صدور التصرٌح‪ ،‬وفٌه قام البعض لٌخطب وٌهلل بالعهد الجدٌد‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫"إال أن رجبل قصٌرا على رأسه طربوشه المنحرؾ تقدم فً مشٌة إبلٌسٌة ورفع ٌده فً وقار وعٌناه تلمعان‬
‫ثم نادى‪ :‬لٌحٌا االستقبلل التام! فهبطت كلماته فً وسط سكوت مكروب‪.)ٔ88ٓ("..‬‬

‫وٌعلق العقاد‪ :‬أٌن االستقبلل؟ ال أحد ٌصدق أنه االستقبلل‪ ،‬حتى المبتهجٌن بٌوم االسقبلل!!‬

‫وصاح أحمد شوقً شعرا‪:‬‬

‫واللــه‪ :‬مــا دون الجـبلء وٌومـــــه ٌـــوم تســمٌه الكنانــة عٌــــــــدا‬

‫ربحــت مـن التصـرٌح أَن قٌودهـا قـد صرنَّ مـن ذهـب وكنّ حدٌدا‬
‫(ٔ‪)ٔ88‬‬

‫وبالتزامن مع نفً سعد زؼلول ورفاقه‪ ،‬ومحاولة تفتٌت حزب الوفد من الداخل‪ ،‬أقام االحتبلل حكومات‬
‫صورٌة تخضع لدٌكتاتورٌة اللنبً فٌما ٌتعلق بمفاوضات وضع الدستور الجدٌد وقانون االنتخابات(ٕ‪،)ٔ88‬‬
‫وأقرت الدستور أبرٌل ٖٕ‪ ٔ9‬دون مشاركة سعد زؼلول‪.‬‬

‫❸ ترسٌخ خلفاء محمد سلطان فً الحكم‬

‫إنهم هم أنفسهم‪ ،‬نفس النوعٌة‪ ،‬وبعضهم أبناء أو أقارب نفس الشخصٌات التً خانت عرابً أمثال محمد‬
‫سلطان‪ ،‬بل خانت مصر كلها فً ٕ‪ ٔ88‬حٌن أخذوا من الثورة ما أرادوا (مجلس النواب والدستور الحافظ‬
‫لنفوذهم) ثم تراصوا بجانب الجٌش اإلنجلٌزي كالمرتزقة‪ ،‬وصفقوا والجنود المصرٌٌن ٌتساقطون بمدافع‬
‫اإلنجلٌز فً القصاصٌن والتل الكبٌر‪ ،‬تراصوا أٌضا بجانب اإلنجلٌز بعد أن أخذوا ما أرادوا من ثورة‬
‫‪( ٔ9ٔ9‬عودة البرلمان والدستور وبنفوذ أقوى لهم)‪ ،‬وسٌكون لهم دورهم أٌضا فً ضرب ثورة ٕ٘‪،ٔ9‬‬
‫سلسال مخلوق ضد حرٌة الفبلح‪ ،‬ولم ٌخسر شٌبا‪ ،‬لم ٌدفع ثمن خٌانته حتى الٌوم‪.‬‬

‫ٌقول د‪.‬علً بركات فً كتابه "تطور الملكٌة الزراعٌة فً مصر من ٖٔ‪ ٔ9ٔٗ -ٔ8‬وأثره على الحٌاة‬
‫السٌاسٌة " بعد أن استعرض مواقؾ كبار متملكً األرض أعضاء المجالس النٌابٌة والمحلٌة من االحتبلل‬
‫اإلنجلٌزي منذ استتب سنة ٕ‪" :ٔ88‬وبتداخل موقؾ كبار المبلك من السلطة مع موقفهم من االحتبلل‪،‬‬
‫وكبلهما ٌبدأ من التسلٌم بوجود االحتبلل أساسا‪ ،‬وعلى هذا فالخبلؾ بٌن كبار المبلك واالحتبلل لٌس خبلفا‬
‫حول وجود االحتبلل‪ ،‬وإنما هو خبلؾ حول المشاركة فً السلطة"‪ ،‬وضرب مثبل‪" :‬فمجلس شورى‬
‫القوانٌن الذي احتج سنة ‪ ٔ89ٙ‬على عدم استشارته فً المبالػ التً صُرفت على حملة السودان ]ألنها‬
‫ستإخذ من محاصٌل األراضً المستولٌن علٌها[ لم ٌحتج على الوحشٌة التً صدرت ونفٌذت بها أحكام‬
‫دنشواي"(ٖ‪ ،)ٔ88‬ولم ٌتخذ موقفا البقا إزاء حل الجٌش ثم إبادة جنوده فً السودان‪ ،‬وال نزع الفبلحٌن من‬

‫(ٓ‪)ٔ88‬‬
‫‪ -‬سعد زؼلول سٌرة وتحٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٓٔٗ‪ٗٔٔ -‬‬
‫(ٔ‪)ٔ88‬‬
‫‪ -‬دٌوان الشوقٌات‪ ،‬أحمد شوقً‪ ،‬كلمات عربٌة للترجمة والنشر‪ ،‬القاهرة ص ٓ٘ٔ‬
‫(ٕ‪)ٔ88‬‬
‫‪ -‬دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٖ‬
‫(ٖ‪)ٔ88‬‬
‫‪ -‬تطور ملكٌة األرض الزراعٌة ٖٔ‪ ٔ9ٔٗ -ٔ8‬وأثره على الحٌاة السٌاسٌة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ٘ٗ‪ٗ٘ٗ -‬‬

‫ٗٓ‪7‬‬
‫بلدهم لٌتفرقوا على جبهات القتال األجنبٌة فً الحرب العالمٌة األولى‪.‬‬

‫وعلى هذا فإن مشاركة معظمهم مع سعد زؼلول فً بداٌة ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬كان احتجاجا وضؽطا على‬
‫اإلنجلٌز الذٌن استؤثروا بمحصول القطن وكلفوهم دفع جزء من تكالٌؾ الحرب العالمٌة وحلوا البرلمان‬
‫الذي جاءت به ثورة ٔ‪ ،ٔ88‬أما حٌن َّلوح لهم اإلنجلٌز بإعادة البرلمان والسماح لهم باألحزاب للمشاركة‬
‫فً السلطة تفلتوا وانسلوا من حول سعد كما تنسل اإلبرة من العجٌن‪ ،‬والحجة أنه "متطرؾ" فً طلب‬
‫االستقبلل وفً المفاوضات مع اإلنجلٌز‪.‬‬

‫وٌبدو أن الوفد حمل فً جنباته أسباب ضعضعة الثورة‪ ،‬فمعظم قادته من كبار متملكً األرض‪ ،‬ولٌسوا‬
‫جمٌعهم سعد زؼلول‪ ،‬أي لٌسوا جمٌعهم هإالء المستعدٌن للتضحٌة بنفوذهم وأموالهم وأعمارهم مقابل إعادة‬
‫مصر ألهلها وحرٌتها‪ ،‬فً تكرار لخطؤ عرابً حٌن وثق فً كبار متملكً األراضً وأبناء العٌلة العلوٌة‬
‫َّ‬
‫ٌتبق حول‬ ‫الذٌن احتشدوا حوله‪ ،‬وكان احتشادهم لٌنتزع لهم سلطات من الخدٌو‪ ،‬وحٌن جاءت القارعة لم‬
‫عرابً إال الفبلحٌن وقلٌل جدا من هإالء األؼنٌاء‪ ،‬واندار الباقً لتصفٌة الثورة مع اإلنجلٌز‪.‬‬

‫وٌرصد د‪.‬عاصم الدسوقً فً دراسته "كبار مبلك األراضً الزراعٌة ودورهم فً المجتمع المصري‬
‫(ٗٔ‪ ")ٔ9ٕ٘ -ٔ9‬أن "اللجنة المركزٌة التً شكلت لقٌادة الثورة من ٖٗ عضوا كان عدد كبار المبلك‬
‫المشتركٌن فٌها ‪ ٖٙ‬عضوا"‪ ،‬وتسبب بعضهم فً أول انشقاق داخل الوفد بؤن خرجوا لتؤسٌس حزب‬
‫األحرار الدستورٌٌن فً ٕٕ‪ ٔ9‬ترأسه عدلً ٌكن(ٗ‪ )ٔ88‬األلبانً والعضو باألسرة الحاكمة فً انحراؾ خطٌر‬
‫لمعنى مصر للمصرٌٌن‪ ،‬وشد هذا الحزب الثورة إلى الخمود عبر سلك طرٌق المفاوضات بشروط ال‬
‫تناسب التضحٌات التً بُذلت فٌها‪ ،‬ومن المإلم أن انجر ورابهم فً الحزب مصرٌون مثل أحمد لطفً السٌد‬
‫ثم محمد حسٌن هٌكل رؼم اعتزازهم بفبلحٌتهم وكراهٌتهم لبلحتبلل؛ توهما بؤن البرلمان والدستور سٌؤتً‬
‫للببلد بؤفضل مما ستؤتً لها به الثورة‪.‬‬

‫وحٌن طالب سعد زؼلول بؤن تضع الدستور جمعٌة وطنٌة منتخبة من الشعب‪ ،‬رفض عبد الخالق ثروت‬
‫(تركً)‪ ،‬متحججا بؤن الدساتٌر فً إٌطالٌا والٌابان والنمسا وضعها ملوكها(٘‪ ،)ٔ88‬وترأس لجنة الدستور‬
‫حسٌن رشدي (تركً)‪ ،‬وكبلهما من أشد كارهً ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬والفبلحٌن؛ ولم ٌشترك فً اللجنة حزب‬
‫الوفد وال الحزب الوطنً (الذي أسسه مصطفى كامل) احتجاجا على طرٌقة تشكٌلها‪ ،‬فاستحقت صفة "لجنة‬
‫األشقٌاء" التً وضعت دستورا جاء على خلفٌة ثورة شعبٌة دامٌة بدون أن ٌشارك الشعب فً وضعه‪،‬‬
‫ووضعه ؼرباء فً ؼٌبة زعمابه‪.‬‬

‫وبالطبع لم ٌقترب الدستور أو القوانٌن المنبثقة عنه من األراضً التً استول علٌها العاببلت المعروفة‬
‫منذ القرن ‪ ،ٔ9‬ولم تتضمن أي خطوات‪ -‬بخبلؾ التعلٌم‪ -‬لتحسٌن حٌاة الفبلحٌن وإعادة حقوقهم المؽصوبة‬
‫لهم‪.‬‬

‫(ٗ‪)ٔ88‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬كبار مبلك األراضً الزراعٌة ودورهم فً المجتمع المصري (ٗٔ‪ ،)ٔ9ٕ٘ -ٔ9‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٕٕ‪ٕٕٙ -‬‬
‫(٘‪)ٔ88‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٕٗ9‬‬

‫٘ٓ‪7‬‬
‫ربما من أخطاء ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬أنها لم تجعل صٌحتها ضد اإلنجلٌز والعٌلة الحاكمة معا‪ ،‬ألن كلٌهما‬
‫باطل‪ ،‬ووقتها ما كان لمثل عبد الخالق ثروت وحسٌن رشدي وعدلً ٌكن شرعٌة فً حكم مصر أو وضع‬
‫دستورها‪ ،‬ولكانوا فروا فرارا من مصر كما فعل بعض أمثالهم فً ثورة ٔ‪ ٔ88‬حٌن خشوا انتقام الفبلحٌن‪،‬‬
‫وإن كان فً ضمٌر سعد زؼلول أن ٌتحرك إلى هذه الخطوة‪ -‬إزالة عٌلة محمد علً‪ -‬إن استمرت الثورة‪،‬‬
‫فقد طالب فً ذروتها بؤن ٌكون من حق الشعب االختٌار ما بٌن الحكم الملكً أو الجمهوري‪ ،‬وكلؾ عبد‬
‫العزٌز فهمً بوضع مشروع دستور لمصر إذا ما أسفرت الثورة‪ -‬كما ٌتعشم‪ -‬عن استقبللها‪ ،‬فكتب فهمً‬
‫فً المادة األولى‪ٌ" :‬كون الملك فإاد ملكا لمصر‪ ،‬وٌخلفه صاحب السمو األمٌر فاروق"‪.‬‬

‫وٌقول عبد العزٌز فهمً إن سعد زؼلول ألقى فً وجهه مشروع الدستور وقال له‪" :‬موش كفاٌة جاٌب‬
‫لنا الملك فإاد‪ ..‬تجٌب لنا كمان فاروق!"(‪.)ٔ88ٙ‬‬

‫وأطاح االنشقاق الذي حصل من بعض أعضاء الوفد‪ ،‬وتولً عدلً ٌكن المفاوضات وتشكٌل الوزارة‬
‫بآمال زؼلول العرٌضة‪ ..‬وظل جاثما على صدر مصر اإلنجلٌز وعٌلة محمد علً وخلفاء محمد سلطان‪.‬‬

‫❹ التشكٌك فً مصرٌة سعد زؼلول‬

‫مع سعٌها لشق صؾ الحركة الوطنٌة‪ ،‬سعت برٌطانٌا لتشوٌه صورة الزعٌم‪ ،‬بل حتى التشكٌك فً‬
‫مصرٌته‪ ،‬بإرجاع أصله إلى تونس أو المؽول أو الترك أو العربان‪ ،‬المهم أن تقول إنه لٌس فبلحا أصوله‬
‫متجذرة فً األرض‪.‬‬

‫وٌنقل عباس العقاد الجدل الذي ثار حول األمر فً فصل عنوانه "أصل سعد" من كتابه سعد زؼلول‬
‫سٌرة وتحٌة"‪ ،‬شرح أن من أسباب انتشار هذا الجدل أنه حتى ذلك التارٌخ كان السابد فً مصر أن أصحاب‬
‫المناصب الكبرى ٌكونون من ؼٌر المصرٌٌن‪ ،‬أو من ؼٌر األصول المصرٌة البعٌدة‪ ،‬وأنه من باب الطعن‬
‫فً األمة المصرٌة كلها‪ ،‬وإلبقاء أبنابها بعٌدٌن عما ٌستحقون من مكانة شاع أن الفبلح ال ٌستطٌع أن ٌكون‬
‫من ال نوابػ أو أصحاب المناصب الكبرى‪ ،‬حتى انتشر مثل ؼرٌب ٌقول "الفبلح لو اتمدن ٌجر على أهله‬
‫داهٌة"‪ ،‬فعندما وصل سعد زؼلول لمناصب علٌا كوزٌر للمعارؾ ونابب ربٌس الجمعٌة التشرٌعٌة‪ ،‬بل‬
‫وٌتزعم األمة‪ ،‬استكثروا علٌه هذا‪ ،‬فطعنوا فً نسبه لطٌنة مصر وللفبلحٌن‪.‬‬

‫وٌضٌؾ أنه سؤل سعدا عن حقٌقة نسبه‪ ،‬فضحك وقال له إن ما شاع عن أن له أصبل قدٌما من ببلد‬
‫المؽرب كان حٌلة وضعها المحامً الذي دافع عن سعد خبلل اعتقاله فً بداٌة االحتبلل؛ إذ أنه كان معروفا‬
‫أن الرعاٌا األجانب لهم امتٌازات تعجل باإلفراج عنهم‪ ،‬وكانت فرنسا بعد احتبللها لتونس أعلنت أن‬
‫التوانسة فً مصر من رعاٌاها‪ ،‬فكتب هذه النسبة الملفقة لً لٌُعجل بؤمر خروجً‪ ،‬ورؼم ذلك خرجنا لسبب‬
‫ؼٌر هذا‪ ،‬ولم أعلم باألمر إال بعد اإلفراج عنا‪ ،‬فتلقؾ البعض هذه الخدعة ونسج حولها األقاوٌل‪.‬‬

‫(‪)ٔ88ٙ‬‬
‫‪ -‬مذكرات فخري عبد النور‪ :‬ثورة ‪ ،ٔ9ٔ9‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٔٙ‬‬

‫‪7ٓٙ‬‬
‫وفً رأي العقاد‪ ،‬فإنه حتى فً حال إن كان لسعد أصل أجنبً قدٌم فٌكفٌه أنه ال ٌعٌره اهتماما‪ ،‬وال ٌتفاخر به‪،‬‬
‫وٌرى أن فخره وعزه أن ٌكون فبلحا ابن فبلح‪ ،‬خرج من وسط أصحاب الفاس والجبللٌب الزرقا(‪..)ٔ889‬‬
‫المصرٌٌن الحقٌقٌٌن‪.‬‬

‫❺ التشكٌك فً وجود مصر !‬

‫التشكٌك فً أن للفبلح وطن وأرض له حق أن ٌرفض نهب األجنبً لها‪ ،‬والتشكٌك فً مصرٌة سعد زؼلول‪،‬‬
‫هما مجرد صدى لما ٌرٌده االحتبلل‪ -‬كل احتبلل‪ -‬فً األساس‪ ،‬وهو أال ٌعود للحٌاة الدولة الشامخة التامة‬
‫المصرٌة‪ ..‬مصر (كٌمة)‪.‬‬

‫ٌحكً توفٌق الحكٌم كمعاٌش لثورة ‪ ٔ9ٔ9‬الدوافع وراء مشاركته فً حملة إزالة األقنعة وإعادة الوجه‬
‫المصري الحقٌقً لمصر بعد ‪ ٔ9ٔ9‬فٌقول إنه حٌن توجه سعد زؼلول ورفاقه إلى المندوب البرٌطانً‬
‫لبحث وضع مصر بعد نهاٌة الحرب العالمٌة األولى "سؤلهم هل ستعودون إلى سٌادة الدولة العثمانٌة‬
‫المهزومة؟ فقالوا‪ :‬ال‪ ،‬بل تعود مصر إلى مصر‪ ..‬فدهش اإلنجلٌز وسؤلوا‪" :‬وما هً مصر؟! إننا ال نعرؾ‬
‫شٌبا اسمه مصر‪ ،‬ولكن فقط مجرد قطر اسمه "القطر المصري" كما هو موجود على الخرابط الرسمٌة‪..‬‬
‫ٌتبع سٌاسٌا الدولة العثمانٌة‪ ،‬وحضارٌا "الحضارة العربٌة" حسب اللؽة والدٌن‪ ..‬أما مصر‪ ،‬فؤٌن هً؟ وما‬
‫هً مقوماتها؟‪ ..‬وما هً شخصٌتها؟ وكانت اإلجابة عسٌرة"‪.‬‬

‫"وعندبذ ]ٌواصل توفٌق الحكٌم[ قام رجال الفكر والفن واالقتصاد ٌجٌبون عن السإال وٌبحثون عن‬
‫مصر‪ ..‬قام طلعت حرب بإنشاء بنك باسم مصر‪ ..‬ونهض رجال األدب والفن ٌصورون "مصر" وٌعبرون‬
‫عنها‪ ..‬كل ذلك لٌجٌبوا عن سإال اإلنجلٌز وٌقولوا لهم‪ :‬ها هً ذي "مصر" التً نرٌد لها االستقبلل‬
‫بؤرضها‪ ..‬فالبحث إذن فً العشرٌنات عن "شخصٌة مصر" و"روح مصر" لم ٌكن المقصود به كما حدث‬
‫أخٌرا مجرد موضوع ٌستهدؾ الدراسة والكتابة والتؤلٌؾ‪ ..‬بل كان فً أعقاب ‪ ٔ9ٔ9‬أمرا حٌوٌا خارجا‬
‫من ضرورة ملحة‪ ..‬من صمٌم كٌاننا‪ ..‬وهو إقناع من ٌنكر علٌنا وجودنا وحقنا فً هذا الوجود‪ ..‬وهذا كان‬
‫شعوري الخاص ٌوم كتبت فً العشرٌنٌات؛ أي بعد قٌام ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬بنحو سبع سنوات رواٌة "عودة‬
‫الروح"‪ ،‬أي روح مصر‪ ..‬لم ٌكن قصدي تؤلٌؾ رواٌة‪ ..‬بل إقناع نفسً بؤنً أنتمً إلى بلد له كٌان محدد‬
‫مستقل وتارٌخ طوٌل‪ ،‬نمنا فٌه‪ ،‬وآن لنا أن نستٌقظ‪ ،‬وتعود إلٌنا الروح التً اختفت عنا وعن اآلخرٌن تحت‬
‫تراب الزمن"(‪.)ٔ888‬‬

‫الروح التً اختفت عنا وعن اآلخرٌن تحت تراب الزمن‪ ،‬هً ومعظم الجسد‪ ،‬ولم ٌظهر من مصر سوى‬
‫ذلك القناع االصطناعً الذي ٌلصقه على وجهها ؼصبا االحتبلل تلو االحتبلل‪.‬‬

‫هذه الروح الناهضة التً لمسها الحكٌم بفبلحٌته وتربٌته الرٌفٌة لم ٌُكتب لها‪ -‬حتى الٌوم‪ -‬النهضة‬

‫(‪)ٔ889‬‬
‫‪ -‬سعد زؼلول سٌرة وتحٌة‪ ،‬عباس محمود العقاد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖٗ -ٖ9‬‬
‫(‪)ٔ888‬‬
‫‪ -‬مصر بٌن عهدٌن‪ ،‬توفٌق الحكٌم‪ ،‬مكتبة مصر‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ98ٖ ،‬ص ٖٔ‪ٔ٘ -‬‬

‫‪7ٓ7‬‬
‫الكاملة‪ ،‬تلقت ضربة جدٌدة على رأسها أخمدتها تحت تراب الزمن من جدٌد‪ ..‬إلى حٌن‪.‬‬

‫فهنا جاء دور التٌارات التً أخرجتها معامل ومحافل الشٌطان (المسٌخ الدجال) التً تناولناها باختصار‬
‫فً صفحات سابقة‪ ،‬صحٌح أنها تكونت قبل الثورة‪ ،‬لكن وظٌفتها ظهرت جدا بعدها‪ ،‬وتملكتها حمى هرولة‬
‫فً العشرٌنات والثبلثٌنات واألربعٌنات لفرض نفسها على المصرٌٌن‪ ،‬لٌتشتتوا وٌضلوا الطرٌق‪ ،‬وٌتفرقوا‬
‫وٌتؽربوا فً جزر بعٌدة عن نهرهم الخالد‪.‬‬

‫فؤنت حٌن تقول إن مصر شٌوعٌة تكون قد حققت كلمة اإلنجلٌز الساخرة "وهل توجد دولة اسمها‬
‫مصر؟ "؛ ألن كلمة شٌوعٌة تجردها من معنى الوطن والحدود بل هً مجرد والٌة فً دولة االشتراكٌة‬
‫العالمٌة‪ ،‬وحٌن تقول إن مصر إسبلمٌة‪ -‬على الفهم اإلخوانً والسلفً‪ -‬فمعناها أن مصر مجرد والٌة فً‬
‫الحكومة اإلسبلمٌة العالمٌة‪ ،‬كذلك حٌن تقول مصر لٌبرالٌة رأسمالٌة‪ ،‬فهً والٌة تبع الحكومة العالمٌة التً‬
‫تبنٌها العولمة‪ ،‬وحٌن تقول مصر عربٌة فهً والٌة تبع الحكومة العربٌة‪ ،‬ودلٌل ما سبق أنه حٌن انضمت‬
‫لؤلخٌرة مثبل أول شًء حصل محو اسم مصر وسموها "الجمهورٌة العربٌة المتحدة"‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫وفً الوقت الذي تجندت فٌه الصحافة والجمعٌات والتنظٌمات والتموٌبلت والجالٌات لنصرة هذا التٌار‬
‫أو ذاك‪ ،‬ظلت الهوٌة المصرٌة األقل دعاٌة‪ -‬رؼم جهود رواد الدفاع عنها مثل طه حسٌن وأحمد لطفً‬
‫السٌد وتوفٌق الحكٌم وسٌد دروٌش‪ -‬فكل الجالٌات تكالبت ضدها‪ ،‬وكل التٌارات المتصارعة تحالفت إلخماد‬
‫صوتها‪ ،‬وتعاملوا معها على أنها مجرد تٌار من التٌارات‪ ،‬وأضعؾ التٌارات‪ ،‬ولٌس أنها األصل الثابت وهم‬
‫الطوارئ الشاذون‪.‬‬

‫وهذه أشد ضربة تلقتها ثورتا ٔ‪ ٔ88‬و‪ ،ٔ9ٔ9‬وفٌما بعد ثورة ٕ٘‪ ،ٔ9‬أن ٌتشتت المصرٌون عن‬
‫مصرٌتهم‪ ،‬التً قامت الثورات لنصرتها فً األساس‪ ،‬وٌتفرؼوا للنزاع مع بعضهم بدال من الجهاد لطرد‬
‫المحتلٌن وهوٌاتهم‪.‬‬

‫وعبر أدق تعبٌر عنها الرواي فً قصة "العسكري األسود" فٌقول‪" :‬تفتقت عنا الحرب العالمٌة الثانٌة‬
‫لنجد أنفسنا هكذا زمبلء فً كلٌة أو جامعة واحدة‪ ،‬بنزعات سٌاسٌة وآراء فً الناس والحٌاة ال ٌمكن أن‬
‫ٌربط بٌنها رابط"‪ ،‬وذلك بعد أن "كنا جمٌعا نإمن‪ -‬برؼم اختبلؾ طرقنا ووسابلنا‪ -‬أن لنا رسالة واحدة نحن‬
‫مبعوثو العناٌة لتحقٌقها‪ :‬إنقاذ ببلدنا وتؽٌٌر مصٌر شعبنا تؽٌٌرا جذرٌا‪ ،‬وإلى األبد(‪.")ٔ889‬‬

‫عادت النداهة‪ ...‬رسول المسٌخ الدجال‪ ..‬مؤلت أركان مصر‪ ،‬وسممت منازل الوادي الطٌب‪.‬‬

‫على الجسر فٌه ِجنٌة‬

‫رامٌة شعورها طوال‬

‫(‪)ٔ889‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن‪ ،‬محمد جبرٌل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج ٖ‪ ،‬ص ٗ‪ٗ9‬‬

‫‪7ٓ8‬‬
‫تقلب ساعات على ح ٌَّة‬

‫تلدغ تموت فً الحال‬

‫واتسحبت جوة السكك والدُور‬

‫لفت على كل الرجال بالدور‬

‫مٌن قد ناب األفاعً‬

‫ؼٌر حامً عهد الرفاعً ]حور[‬

‫واللً ألرضه مراعً‬


‫(ٓ‪)ٔ89‬‬
‫ما تتقلعله جدور‬

‫وبعد الجولة السرٌعة مع ثورة ٔن‪ 9ٔ9‬نستكمل نتابج االحتبلل اإلنجلٌزي التً لم تؤخذ الثورة فرصتها‬
‫لمحاربتها‪:‬‬

‫❺❷ تحزٌب المصرٌٌن‪ ..‬والرد بانتفاضة ٖ٘‪ٔ9‬‬

‫الحزبٌة لص الوطنٌة‪ٌ ..‬بدو أنه لٌس للحزبٌة فً تارٌخ مصر تعرٌؾ آخر‪ ..‬بل فً كل العالم‪.‬‬

‫لما هلَّت ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬انضم المصرٌون لهٌبة واحدة تتكلم باسمهم‪ ،‬كانت بمثابة جمعٌة عمومٌة للشعب‬
‫المصري كله‪ ،‬تشكلت تلقابٌا‪ ،‬ومثلت الزعامة الجامعة‪ ،‬وهً الوفد‪.‬‬

‫لم ٌكن الوفد وقتها حزبا بمفهوم األحزاب السٌاسٌة المتصارعة الوافدة من أوروبا‪ ،‬ولكنه المظلة‬
‫والزعامة الجامعة التً تتشوق لها األرض لتلملم ؼضب الفبلحٌن المتناثر فً القرى فً هبَّة واحدة ترفع‬
‫راٌة "مصر للمصرٌٌن"‪ ،‬و"الكل فً واحد"‪ ،‬و"مصر فوق الجمٌع"‪ ،‬وحسَّ فٌها المصرٌون بدولتهم‬
‫وحكومتهم الوطنٌة الؽاببة عنهم منذ مبات السنٌن‪.‬‬

‫وبعد ما أدى حزب الوفد مهمته األولى فً تجمٌع المصرٌٌن تحت راٌة واحدة لقٌادة دفة التحرٌر‬
‫ضربته االنشقاقات لٌتشظى إلى أحزاب (حزب الوفد‪ ،‬حزب الهٌبة السعدٌة‪ ،‬حزب األحرار الدستورٌٌن‪،‬‬
‫الطلٌعة الوفدٌة) ٌؤكل بعضها بعضا وٌكٌد بعضها لبعض‪ ،‬وال ٌرعون فً الشعب ّإال وال ذمة‪ ،‬بفعل من‬
‫االحتبلل والسراٌا وأطماع بعض أعضابه‪ ..‬فض َّج الناس‪ ،‬ودقت القلوب بعنؾ من الخوؾ وهً ترى‬
‫منجزات ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬تتهاوى‪ ،‬والملك وإسماعٌل صدقً ٌلؽون الدستور‪ ،‬واالحتبلل ٌستؽل خناقات‬

‫(ٓ‪ -)ٔ89‬أؼنٌة نهاٌة مسلسل الناس فً كفر عسكر‪ ،‬كلمات محمود عبد الظاهر‪ ،‬ألحان محمد علً سلٌمان‪ ،‬ؼناء علً الحجار‬
‫*** وحامً العهد فً ضمٌرنا وتارٌخنا هو "حور" وكل مصري ٌحفظ عهده فً حماٌة هوٌة مصر وحدود مصر وحرٌة مصر‪.‬‬

‫‪7ٓ9‬‬
‫األحزاب والسراٌا لـ"ٌتمطع"‪ ،‬و"ٌبرطع" وٌرفض البوح بكلمة الجبلء فً المفاوضات‪ ..‬فكانت انتفاضة سنة‬
‫ٖ٘‪.ٔ9‬‬

‫وصفها المإرخ عبد الرحمن الرافعً بقوله‪" :‬كانت مظاهرات الطلبة فً نوفمبر ودٌسمبر من تلك السنة‬
‫مظاهرات سلٌمة ف ً تكوٌنها برٌبة فً مقصدها؛ إذ كانوا مدفوعٌن بشعور وطنً عام ٌهدؾ إلى تحقٌق‬
‫مطالب الببلد‪ ،‬ولم ٌكن موعزا إلٌهم من أحد(ٔ‪.")ٔ89‬‬

‫هذه االنتفاضة الؽاببة عن الذاكرة المصرٌة لوالها لتم وأد ثورة ‪ ،ٔ9ٔ9‬وبدأت موجات االنتفاضة تعلو‬
‫منذ ٖٓ‪ ٔ9‬لما خرجت مظاهرات تطالب إسماعٌل صدقً بإعادة العمل بدستور ٖٕ‪ ٔ9‬الذي ألؽاه الملك‬
‫فإاد واستخدم الرصاص فً مواجهة المظاهرات الرافضة لقراره‪.‬‬

‫ومع الحرب اإلٌطالٌة فً الحبشة ٖ٘‪ ٔ9‬تضخم عدد الجٌش البرٌطانً فً مصر‪ ،‬واحتل موانٌها‪-‬‬
‫بخبلؾ األماكن المتمركز فٌها من قبل‪ -‬وبات ٌتصرؾ فً مصر كؤنه لم ٌحدث فٌها ثورة ‪ ،ٔ9ٔ9‬وال‬
‫صدر تصرٌح ‪ ٕ8‬فبراٌر‪ ،‬ووزارة محمد نسٌم الظوؼلً (تركً) موالٌة لئلنجلٌز وفاقدة الشعبٌة‪ ،‬فظهرت‬
‫مطالب بعمل معاهدة مع إنجلترا تحجمها وتضع النقاط فوق الحروؾ بشؤن العبلقة بٌن البلدٌن(ٕ‪.)ٔ89‬‬

‫وعبَّر عباس العقاد‪ -‬وهو من حزب الوفد‪ -‬عن سخطه من انصراؾ الحزب عن قضٌة الجبلء لصالح‬
‫تمكٌن نفسه فً السلطة‪ ،‬وشن حملة ضارٌة فً صحٌفة "روزالٌوسؾ" ضد الحزب‪ ،‬ورد علٌه الحزب بؤن‬
‫ٌكؾ عن النقد‪ ،‬فكتب العقاد فً ‪ 9‬سبتمبر ٖ٘‪(ٔ9‬الموافق لذكرى ثورة ٔ‪ )ٔ88‬مقاال بعنوان "الوزارة‬
‫والنقد" قال فٌه‪" :‬فالذٌن ٌرٌدون من األقبلم أن تسكت أو تنقد‪ -‬كما ٌحبون‪ٌ -‬رٌدون أمرا ؼٌر معقول‪ ،‬ولٌس‬
‫له سابقة فً نظام الوزارات واألحزاب" وفً مقالة أخرى اعتبر أن "السكوت على ذلك إجرام" ورد الوفد‬
‫علٌه فً صحٌفة الجهاد بوصفه أنه من "الحاقدٌن"‪ ،‬وسٌَّر مظاهرة تهاجم "روزالٌوسؾ" فرد العقاد بمقالة‬
‫نارٌة‪" :‬الربٌس الجلٌل مكرم عبٌد ٌسوق الببلد بدسابسه إلى هاوٌة الخراب لسر لو طال احتجابه فبلبد له‬
‫من ظهور"‪ ،‬وترك حزب الوفد(ٖ‪.)ٔ89‬‬

‫وتجرأ الجٌش اإلنجلٌزي بعمل استعراض عسكري فً مٌدان محمد علً باإلسكندرٌة؛ ما أعاد‬
‫للمصرٌٌن ذكرٌات انتشار قواته سنة ٗٔ‪ ٔ9‬بحسب تعبٌر "األهرام"‪ ،‬وٌعلق العقاد فً "رزوالٌوسؾ"‬
‫موجها كبلمه للنحاس بسخرٌة مرٌرة‪ ":‬فً مصر وزارة تشهد العرض العسكري شهود الؽرٌب فً بلد‬
‫اإلنجلٌز"‪.‬‬

‫وحذرت مجلة "آخر ساعة" فً ‪ ٕ9‬سبتمبر ٖ٘‪ ٔ9‬من أن العالم مقبل على حرب‪ ،‬ولو انتصرت‬
‫إنجلترا سترفع أنفها متؽطرسة فً وجه المصرٌٌن‪ ،‬وإن خسرت ستقع مصر فً ٌد محتل جدٌد؛ ولذا البد‬
‫أن نصل مع إنجلترا لنتٌجة صرٌحة‪ ،‬أما الوعود فقد شبعنا منها‪ ،‬وعندنا منها أكثر من ٓ‪ ٙ‬وعدا ٌتوجها‬

‫(ٔ‪)ٔ89‬‬
‫‪ -‬الدستور واالستقبلل والثورة الوطنٌة ٖ٘‪ ،ٔ9‬ضٌاء الدٌن الرٌس‪ ،‬جٕ‪ ،‬مإسسة دار الشعب‪ ،‬ص ٗٔ‬
‫(ٕ‪)ٔ89‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٖ9‬‬
‫(ٖ‪)ٔ89‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ٗ9‬‬

‫ٓٔ‪7‬‬
‫القسم بشرؾ التاج البرٌطانً!"(ٗ‪.)ٔ89‬‬

‫وردت برٌطانٌ ا بؤن أوعزت لوكالة "روٌترز" أن تنشر بوقاحة‪" :‬إن المقامات الرسمٌة البرٌطانٌة ترى‬
‫من الكوارث الكبرى أن تحاول مصر استؽبلل الحال الحاضرة إلكراه الحكومة البرٌطانٌة على االرتباط‬
‫بتعهدات أو التزامات فً وقت ال شك أنه ؼٌر مناسب(٘‪.")ٔ89‬‬

‫فنشرت "األهرام" مقالة لمواطن بإمضاء رمزي (أ‪.‬م‪.‬ؾ) ٌهاجم األحزاب المتصارعة جاء فٌها‪" :‬تجتاح‬
‫مصر الٌوم أزمة من األزمات المعدودة فً تارٌخها‪ ،‬استولت فٌها برٌطانٌا على موانٌها ومطاراتها وأصبح‬
‫االستقبلل حبر على ورق‪ ،‬وصرنا فً نظر ساستهم كؤسترالٌا ونٌوزٌلندة‪ ،‬فهل لهذه النتٌجة المحزنة ثرنا‬
‫فً سنة ‪ ٔ9ٔ9‬وضحٌنا بدمابنا وأموالنا؟"‪ ،‬وٌحث األحزاب على ترك الصراع‪" :‬هل نسً الزعماء‬
‫المحترمون أحقاد النفوس وشهوة الحكم؟" وٌبحث عن المخلص كما تبحث مصر عنه فً كل لحظة حرجة‪:‬‬
‫"أٌن رجل الساعة فٌدق ناقوس الخطر وٌمسك بٌده راٌة الوطن؛ فٌلتؾ حوله األسود واألشبال للذود عن‬
‫حقوق مصر من ؼاصبٌها وعن حدود مصر من العدو المتربص الذي ٌكاد ٌؽٌر علٌها؟(‪.")ٔ89ٙ‬‬

‫وظهر رجل الساعة فً شباب األمة المنزهٌن عن الشهوة الحزبٌة‪ ،‬فثار طلبة الجامعات والعمال فً انتفاضة‬
‫بدأت ٖٔ نوفمبر ٖ٘‪ ٔ9‬بعد انطبلق الشرارة التً فجرت ؼٌظ الجمٌع‪ ،‬وهً تصرٌح وزٌر خارجٌة برٌطانٌا‬
‫صموٌل هور ‪ 9‬نوفمبر قال فٌه‪" :‬أجل‪ ،‬إننا عندما استشارونا أشرنا بعدم إعادة دستوري سنة ٖٕ‪ ٔ9‬وسنة‬
‫ٖٓ‪ ،"ٔ9‬فجاء هذا تؤكٌدا للشكوك بؤن وزارة نسٌم تنسق سرا مع اإلنجلٌز‪ ،‬وكان التصرٌح لحظة صلؾ برٌطانٌة‬
‫شبه صلفها لما منعت الوفد من السفر سنة ‪ ٔ9ٔ9‬؛ فتحركت الروح المصرٌة ووقع االنفجار‪ ،‬وسمع صداه‬
‫العالم(‪.)ٔ899‬‬

‫واستعدت الحكومة واإلنجلٌز لهذا الٌوم الذي أعلن موعده طبلب جامعة القاهرة بنشر البولٌس والجٌش‪،‬‬
‫وعبرت عناوٌن "األهرام" عن بعض ما حدث فً ذلك الٌوم الرهٌب‪ ،‬ومنها‪" :‬إضراب الطلبة واصطدامهم‬
‫مع رجال البولٌس"‪" ،‬ضباط البولٌس من اإلنجلٌز"‪" ،‬إطبلق الرصاص على المتظاهرٌن"‪" ،‬إصابات كثٌرة‬
‫من الطلبة والبولٌس"‪" ،‬االعتداء على قنصلٌة إنجلترا"‪.‬‬

‫وفً المظاهرات تعاهد طبلب الجامعات والمدارس أن ٌكون الشباب أول من ٌضحً فً سبٌل مصر‪،‬‬
‫ورددوا‪" :‬مصر فوق الجمٌع"‪" ،‬نحن فداإك ٌا مصر"‪" ،‬فلٌسقط االستعمار"‪" ،‬فلٌسقط تصرٌح هور"‪،‬‬

‫(ٗ‪)ٔ89‬‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‪ ،‬ص ‪٘8 -٘ٙ‬‬
‫*** رصدت وزارة الخارجٌة المصرٌة عشرات الوعود البرٌطانٌة الكاذبة عن عدم نٌتها احتالل مصر من سنة ٖ‪ ٔ87‬وحتى احتاللها مصر‬
‫ٕ‪ ،ٔ88‬ثم وعودا كاذبة بعدم فرضها الحماٌة على مصر والتً فرضتها فعال ٗٔ‪ ،ٔ9‬كما وعدت كثٌرا بالجالء ولم تحققه إال بقوة ثورة ٖٕ ٌولٌو‬
‫ٕ٘‪ ،ٔ9‬ما ٌفرغ برٌطانٌا من معانً الشرؾ أو الوفاء بوعد‪ ،‬ونشرتها فً كتاب "وزارة الخارجٌة المصرٌة‪ :‬القضٌة المصرٌة ٕ‪،"ٔ9٘ٗ -ٔ88‬‬
‫المطبعة األمٌرٌة بالقاهرة‪.‬‬
‫(٘‪)ٔ89‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٔ‪ٙ‬‬
‫(‪)ٔ89ٙ‬‬
‫‪ -‬انظر المقالة كاملة فً‪ :‬الدستور واالستقبلل والثورة الوطنٌة ٖ٘‪ ،ٔ9‬ص ‪ٙ9 -ٙ9‬‬
‫(‪)ٔ899‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٓ‪9ٗ -9‬‬

‫ٔٔ‪7‬‬
‫وبعدها زحفوا للقاهرة لزٌارة بٌت األمة وضرٌح سعد زؼلول(‪.")ٔ898‬‬

‫كانت مطالب المتظاهرٌن استقالة وزارة نسٌم المهادنة لئلنجلٌز وأن ٌعٌد الملك الدستور‪ ،‬فؤمر المٌراالي‬
‫لوكاس بك مساعد حكمدار العاصمة بإطبلق النار‪ ،‬ولكنهم استمروا فً المظاهرات‪ ،‬وأقسموا بخشوع على‬
‫التضحٌة لمصر وحدها(‪ ،)ٔ899‬فقابلتهم كونستببلت اإلنجلٌز على كوبري عباس بالرصاص‪ ،‬وتلقى محمد عبد‬
‫المجٌد مرسً طالب كلٌة الزراعة أولى الرصاصات فً صدره استشهد على إثرها‪ ،‬وأرسلت الحكومة قوة‬
‫إلى المستشفى استولت على الجثة ونقلتها لٌبل إلى أهله فً اإلسكندرٌة لتمنع الطلبة من إقامة جنازة مهٌبة‬
‫له‪ ،‬فسافر وفد من الطلبة لتعزٌة أبٌه‪.‬‬

‫وبعده تلقى طالب كلٌة اآلداب محمد الجراحً ٖ رصاصات فً صدره‪ ،‬ظل ٌؽالب الموت أٌاما والناس‬
‫تتابع أخباره بشجن من الصحؾ‪ ،‬وكتب على سرٌره خطابا إلى بلدوٌن ربٌس الحكومة اإلنجلٌزٌة ٌقول فٌه‪:‬‬
‫"إلى برٌطانٌا روح الشر"‪ ،‬وذكر ظلمها وعدوانها على الشعوب‪ ،‬وتنبؤ بزوال إمبراطورٌتها‪ ،‬وطلب ورقة‬
‫وكتب لزمبلبه هذه الرسالة‪" :‬إخوانً األعزاء‪ :‬إنً أشكر لكم شعوركم السامً بالنسبة لما أدٌته‪ ،‬واعتبره‬
‫أقل من الواجب فً سبٌل البلد الذي وهبنا الحٌاة‪ ،‬بل وهب الحضارة للعالم(ٓٓ‪ ،")ٔ9‬وفاضت روحه السامٌة‪،‬‬
‫واهتزت قلوب األمة‪ ،‬ففً المستشفى انكب علٌه من حوله ٌقبلون جسده المسجى وهم ٌهتفون للحرٌة‬
‫وشهدابها‪ ،‬وأحاطت الممرضات بالسرٌر ٌبكٌنه‪ ،‬ومشى الحزن بٌن األطباء‪ ،‬واستحال قصر العٌنً إلى‬
‫مؤتم‪ ،‬والطلبة ال ٌفارقون المكان خوفا من أن تهرب الحكومة الجثة كما فعلت مع الشهٌد محمد عبد المجٌد‬
‫مرسً‪ ،‬وعند خروجه من المستشفى أطل زمبلإه الجرحى من الشبابٌك ٌهتفون‪" :‬نموت فً سبٌل مصر‬
‫الخالدة"‪.‬‬

‫وٌوم تشٌٌع جنازته من األٌام المشهودة‪ ،‬خرج الشعب لوداعه فً موكب مهٌب‪ ،‬وصارت جنازته رمزا‬
‫للمؤساة التً ٌجتازها الشعب‪ ،‬مؤساة الحزن على المصٌر الذي آل إلٌه الوطن؛ فما زال اإلنجلٌز ٌحكمونه‬
‫وجهود السنٌن راحت هباء وزعماإه متصارعون‪ ،‬وأثر هذا الحزن حتى فً الزعماء الذٌن شعروا بما أدت‬
‫إلٌه أعمالهم‪ -‬أو تصور الناس ذلك‪ -‬فجاءوا لٌشتركوا فً تشٌٌع الشهٌد‪ ،‬ورآهم الناس ٌبكون من فرط‬
‫التؤثر‪ٌ ،‬تقدمهم مصطفى النحاس وإسماعٌل صدقً وأحمد ماهر‪ ،‬إضافة لمدٌر الجامعة أحمد لطفً السٌد‬
‫وأساتذة الجامعة والكادر الطبً للقصر العٌنً والعلم المصري ٌقود الموكب‪ ،‬والطلبة والطالبات ٌسرن‬
‫خلؾ العلم حاملٌن أكالٌل الزهور‪ ،‬وبعد الصبلة علٌه فً مسجد السٌدة زٌنب هتؾ الناس بؤلم ٌشق السماء‬
‫"العزاء ٌا مصر"‪" ،‬فلٌسقط االستعمار"‪" ،‬مصر فوق الجمٌع"‪ "،‬فلٌسقط الظلم وأنصار الظلم"‪" ،‬فلٌسقط‬
‫القتلة"‪ ،‬والستات ٌنوحون علٌه من الشبابٌك خبلل سٌر الجنازة بكلمات زادت من بكاء المشٌعٌن(ٔٓ‪.)ٔ9‬‬

‫وهكذا تكون مصر كتلة للمحبة وااللتحام والصفاء والوطنٌة الخالصة حٌن تنبذ عنها الحزبٌة وتتحد حول‬

‫(‪)ٔ898‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪99 -99‬‬
‫(‪)ٔ899‬‬
‫‪ -‬الدستور واالستقبلل والثورة الوطنٌة ٖ٘‪ ،ٔ9‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪88‬‬
‫(ٓٓ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫(ٔٓ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬الوصؾ الكامل للجنازة وتؤثٌرها الوطنً من أقوال الصحؾ فً المرجع السابق‪ ،‬ص ٖ‪9٘ -9‬‬

‫ٕٔ‪7‬‬
‫رمز واحد ال ٌخص إال مصر وحدها‪.‬‬

‫واضطرت "روٌترز" أن تتحدث عن مهابة الجنازة وتعترؾ بؤن ضابط برٌطانً أطلق النار على الجراحً‪،‬‬
‫واستمر الؽضب‪ ،‬فؤعلن عن إضراب ٕٔ نوفمبر احتجاجا على ضرب المتظاهرٌن وحدادا على الشهداء‪،‬‬
‫واحتجبت الصحؾ‪ ،‬وأؼلق التجار محبلتهم‪ ،‬وأضرب المحامون‪ ،‬واستمرت فً نفس الوقت المظاهرات‪،‬‬
‫وأرسلت هٌبات األطباء وأساتذة الجامعة والقضاة احتحاجات للملك وربٌس الوزارة‪ ،‬واعتبر محمد محمود‪،‬‬
‫‪.‬‬
‫(ٕٓ‪)ٔ9‬‬
‫ربٌس حزب األحرار الدستورٌٌن‪ ،‬فً خطاب أن ما فعله الشباب رفع مكان مصر فً العالم‬

‫ولكن محمد محمود وؼٌره من القٌادات السٌاسٌة لم ٌتخلوا عن حزبٌتهم حقٌقة‪ ،‬فدخل حزبه فً معركة‬
‫مع حزب الوفد حول هل نعٌد الدستور أوال أم نتفاوض مع برٌطانٌا على الجبلء أوال‪ ،‬وتحولت لمعركة فً‬
‫أروقة األحزاب وصحفها وانتقلت للجامعة لتنشر بٌن الطبلب الحزبٌة واالنقسام حول هذا وذاك بعد‬
‫الوحدانٌة التً أظهرتها انتفاضة ٖ٘‪ ،ٔ9‬وخبلل مإتمر طبلبً طعنوا فً بعضهم البعض مثل الشٌوخ‪،‬‬
‫والصحؾ األجنبٌة ومن ورابها حكوماتها تتابع ما ٌجري بسعادة‪ ،‬حتى قال مراسل "األوبزرفر" فً ٖٓ‬
‫نوفمبر إن "المساعً التً بذلت لتؤلٌؾ جبهة متحدة من العناصر السٌاسٌة المختلفة إزاء خطة برٌطانٌا نحو‬
‫مصر فشلت فشبل تاما‪ ،‬ولم تكن نتٌجتها سوى إظهار الطباع المتنافرة التً جبل علٌها الوفدٌون واألحرار‬
‫الدستورٌون وإحٌاء المنازعات الحزبٌة"‪ ،‬ثم ٌختتم بتشفً‪" :‬فإذا كانت مصر عاجزة بهذه الصورة الجلٌة‬
‫الواضحة عن أن تقرر ما هً فً حاجة إلٌه حقٌقة‪ ،‬فإنه ٌلوح من ؼٌر المعقول أن ٌتوقع المرء أن تبدي‬
‫برٌطانٌا من جانبها إشارة ٌحتمل أن تخفؾ وطؤة القلق الحالً"‪.‬‬

‫وعلقت الصحؾ فً مصر معربة عن خٌبة أملها من شٌوخ الزعماء فقالت "روزالٌوسؾ" ‪ ٕ8‬نوفمبر‪:‬‬
‫ولتشق مصر"(ٖٓ‪.)ٔ9‬‬
‫َ‬ ‫"ٌتراشقون وبٌزنطة تحترق"‪" ،‬فلٌنعم اإلنجلٌز‬

‫لكن األنقٌاء من الطبلب بدافع وطنً صمٌم طردوا شٌطان الحزبٌة من نفوس زمبلبهم‪ ،‬وبعد مناقشات‬
‫وتهدبة للخواطر اتفقوا على التوقؾ عن التحزب‪ ،‬وساعدهم القدر بؤن صموٌل هور أصدر تصرٌحا مستفزا‬
‫آخر بعد اطمبنانه للنزاع الحزبً داخل مصر‪ ،‬فقال فً مجلس العموم إن برٌطانٌا لن تقبل أن تفاوض‬
‫مصر فً الظروؾ الحاضرة‪ ،‬فزاد دافع الطلبة للتوحد من جدٌد وهم ٌرون الببلد تتسرب من بٌن أصابع‬
‫أبنابها لؤلبد‪ ،‬بل وطافوا فً مظاهرات على مقار األحزاب ٌطالبون زعمابها بالتوحد فً جبهة وطٌنة‪،‬‬
‫وٌجبرونهم لو لزم األمر‪ ،‬وأنه ال ٌوجد دستور أوال واستقبلل أوال‪ ،‬بل ٌصرون على االثنٌن معا(ٗٓ‪.)ٔ9‬‬

‫و"اسبهل" اإلنجلٌز‪ ،‬وصباح السبت ‪ 9‬دٌسمبر خرجت الصحؾ بهذه المانشٌتات المفاجبة‪" :‬روزالٌوسؾ"‪:‬‬
‫"الطلبة ٌصدرون قرارا وطنٌا رابعا ٌزول به انقسامهم"‪" ،‬الجهاد"‪ :‬بٌان هام من لجنة الطبة التنفٌذٌة العلٌا عن‬

‫(ٕٓ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪99 -9ٙ‬‬
‫(ٖٓ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‪ ،‬ص ٓٔٔ‪ٕٕٔ -‬‬
‫(ٗٓ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ /‬ص ٖٓٔ‪ٔٗٗ -‬‬

‫ٖٔ‪7‬‬
‫توحٌد صفوفهم"‪ ،‬األهرام‪" :‬توحٌد كلمة الطلبة"(٘ٓ‪.)ٔ9‬‬

‫انزعج اإلنجلٌز أشد االنزعاج من هذا االلتحام السرٌع بحسب ما نشرته "اإلٌجٌبشٌان جازٌت"‪،‬‬
‫واستقالت وزارة نسٌم‪ ،‬وأبلػ المندوب السامً المبسون الحكومة بقبول عودة الدستور‪ ،‬وانتصرت األمة‬
‫على الحزبٌة وعلى برٌطانٌا روح الشر فً جولة الدستور(‪.)ٔ9ٓٙ‬‬

‫اما الجولة الثانٌة فتولتها األحزاب‪ ،‬فانعكست فٌها روح ضعؾ فٌهم ال تلٌق بروح مصر الشابة الثابرة‪،‬‬
‫وظهر الوهن الذي أنهكهم بسب صراعاتهم مع بعض ومع القصر وقلق كل منهم على مركزه‪ ،‬فلم ٌطلب‬
‫كتاب االستقبلل الذي أرسلوه للمندوب البرٌطانً االستقبلل بشكل مباشر وحاسم‪ ،‬بل تحدثوا عن تعاون بٌن‬
‫البلدٌن فً زمن السلم والحرب‪ ،‬وأقروا بالسماح بوجود قوات برٌطانٌة فً األراضً المصرٌة ألجل ؼٌر‬
‫محدد بحجة التحالؾ فؤزالوا عنها صفة االحتبلل‪ ،‬ما تسبب فً خروج معاهدة ‪ ٔ9ٖٙ‬باستقبلل منقوص‪،‬‬
‫وإن حملت مزاٌا فٌما ٌخص زٌادة عدد الجٌش وتمصٌره وإلؽاء االمتٌازات األجنبٌة تدرٌجٌا(‪.)ٔ9ٓ9‬‬

‫وحام شٌطان الحزبٌة بسواده ثانٌة على األحزاب بعد تولً فاروق الحكم‪ ،‬فانطوت األحزاب الصؽٌرة‬
‫تحت جناحه لتحارب باألمل فً شعبٌته شعبٌة حزب الوفد‪ ،‬وانقسم الطلبة مجددا بسبب انحرافات األحزاب‬
‫بعد أن سٌَّر حزب الوفد مظاهرات تهتؾ بحٌاة الوفد والنحاس‪ ،‬والملك ٌسٌر مظاهرات تهتؾ بحٌاته(‪،)ٔ9ٓ8‬‬
‫وانتشر بقوة نشاط اإلخوان المسلمٌن والشٌوعٌٌن الذٌن سٌَّروا مظاهرات أٌضا وشفطوا إلٌهم مجموعة من‬
‫الطلبة باسم الدٌن وحقوق العمال والفقراء‪ ،‬وكانوا بداٌة صراعات الطبلب فً الجامعات واإلرهاب‪.‬‬

‫وأحس بعض الوزراء بؤن "تحزٌب" المصرٌٌن كؤنه سٌاسة متعمدة‪ ،‬وٌنطق بهذا خطاب االستقالة الذي‬
‫تقدم به مصطفى مرعً من وزارة حسٌن سري باشا فً ‪ ٔٙ‬أكتوبر ‪ٌ ٔ9ٗ9‬قول فٌه‪:‬‬

‫"حضرة صاحب الدولة ربٌس مجلس الوزراء‪ ،‬تحٌة وبعد‪ ،‬فإنك تعلم كما ٌعلم ؼٌرك أنً إنما اشتركت‬
‫فً حكومتك على أمل فً أن لك ؼاٌة هً جمع الكلمة وتوحٌد الصفوؾ‪ ،‬وأن لك هدفا‪ ،‬هو االستعانة‬
‫بالقوى المإتلفة على مواجهة الخطٌر من مشاكلنا الداخلٌة والخارجٌة‪ ،‬وقد تبٌن أنك ال تتؽٌا(؟) هذه الؽاٌة‪،‬‬
‫وال تتوسل بوسابلها‪ ،‬بل إنك تبدو كما لو كنت مسلطا لتجعل من كل حزب حزبٌن‪ ،‬ومن كل فرقة فرقتٌن‪،‬‬
‫وقد رأٌتك بنفسً ترى الرأي للحق وتنقضه للباطل‪ ،‬وتقول الكلمة وتنكرها‪ ،‬ولم ٌقع ذلك مرة واحدة‪ ،‬بل‬
‫وقع مرارا فً الخطٌر من شبون الدولة‪ ،‬أما لفظك وأما عباراتك‪ ،‬وأما أسلوبك فً إدارة مناقشات مجلس‬
‫الوزراء‪ ،‬فقد أصبح هذا كله مضرب األمثال‪ ،‬وموضع التندر فً كل مكان‪ .‬لهذا أحٌطك علما باعترالً‬

‫(٘ٓ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ ٔ٘9 -ٔٗ8‬وٕ‪ ،ٔٙٗ -ٔٙ‬ومن بٌن الطبلب الذٌن شاركوا فً هذه المظاهرات فً عدة مدن الطالب جمال عبد‬
‫الناصر حٌنها‪ ،‬ربٌس مصر بعد ٕٔ سنة‪ :‬انظر "ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘‪ ،ٔ9‬تارٌخنا القومً فً ‪ 9‬سنوات"‪ ،‬عبد الرحمن الرافعً‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬ط ٕ‪،‬‬
‫‪ ،ٔ989‬ص ‪ٕ٘ٙ‬‬
‫(‪)ٔ9ٓٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الدستور واالستقبلل والثورة الوطنٌة ٖ٘‪ ،ٔ9‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ‪ٔ9ٔ -ٔٙ‬‬
‫(‪)ٔ9ٓ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع السابق ص ٕ‪ٔ98 -ٔ9‬‬
‫(‪)ٔ9ٓ8‬‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‪ ،‬ص ٕٗٔ‪ٕٔ٘ -‬‬

‫ٗٔ‪7‬‬
‫العمل فً الوزارة‪ ،‬وهللا المسإول أن ٌدفع عن ببلدنا السوء‪ ،‬وأن ٌقٌها ؼوابل الفساد"(‪.)ٔ9ٓ9‬‬

‫▲▲▲ تمصٌر وتسلٌح الجٌش ‪ ..‬ألمع نتاٌج انتفاضة ٖ٘‪ٔ9‬‬

‫بعد ثورة ‪ ٔ9ٔ9‬أصبح تسلٌح وتمصٌر كافة وظابؾ ورتب الجٌش من أهم بنود المفاوضات بٌن زعماء‬
‫الثورة واإلنجلٌز‪.‬‬

‫وخبلل مفاوضات عدلً‪ -‬كٌرزون سعى األخٌر الختبلق الحجج لعدم الموافقة على تسلٌم زمام الجٌش‬
‫للمصرٌٌن‪ ،‬فشكك فً استعداد المصرٌٌن من األساس للقتال‪ ،‬وقال إن مصر لٌس بها نزعة حربٌة‪ ،‬فهً‬
‫فٌها خٌر فبلحٌن لؤلرض‪ ،‬ولكن لما نزلت مصر شاهدت أهل الجندي ٌشٌعونه بالعوٌل فً القرعة‬
‫العسكرٌة‪ ،‬فرد علٌه عدلً ٌكن‪ -‬ربٌس الوزراء حٌنها‪ -‬بؤن ذلك حدث ألن نظام القرعة كان ممقوتا‬
‫والجندي عندما ٌإخذ ال ٌعد ٌصلح لعمل شًء آخر(ٓٔ‪ ،)ٔ9‬فً إشارة لطول مدة التجنٌد‪.‬‬

‫وتفننت برٌطانٌا‪ -‬كعادتها‪ -‬فً الحط من مستوى الجٌش؛ ألنه لو ارتفع لن ٌكون هناك مبرر لبلحتبلل‬
‫وحجة حماٌة قناة السوٌس‪ ،‬والجٌش فً العشرٌنات ٌطلق علٌه جٌش من باب التجاوز‪ ،‬عدده ٓٔ آالؾ‬
‫فقط‪ ،‬ولم ٌكن به سبلح للطٌران وال بحرٌة‪ ،‬وقال تقرٌر لجنة المالٌة بالبرلمان إن البطارٌات قدٌمة وال‬
‫ٌمكن إصبلحها‪ ،‬والمدافع قلٌلة وعتٌقة ال تصل إال خردة‪ ،‬وسعت الحكومة لشراء مدافع فٌكرز وهوٌدزر‬
‫ولكن برٌطانٌا عطلت وصولها(ٔٔ‪.)ٔ9‬‬

‫أما المٌزانٌة فمعظمها ٌذهب مرتبات لكبار الضباط من اإلنجلٌز والمستمصرٌن ذوي األصول التركٌة‬
‫والشركسٌة إلخ‪ ،‬أما الجنود المصرٌٌن فٌدفعون من مرتباتهم الزهٌدة للعبلج‪ ،‬وٌحصلون على وجبتٌن فقط‬
‫فً قروانات‪ ،‬خالٌتٌن من الحلوى والفاكهة‪ ،‬وال ٌحصلون على مبلبس شتوٌة‪ ،‬وٌنامون على أسرة خشب‬
‫فً الدور األرضً أو على األرض فً الدور العلوي(ٕٔ‪.)ٔ9‬‬

‫وللعجب ‪ ،‬فإن مساعً البعض حٌنها لتقوٌة الجٌش لم تكن تشمل تحسٌن ظروؾ الجنود‪ ،‬رؼم أن الثورة‬
‫رواها الفبلحون بدماءهم إلنصاؾ هإالء ومبلٌٌن الفبلحٌن المهضومة حقوقهم‪ ،‬فعندما طرح نابب استجوابا‬
‫عن سوء حالة الجنود قال له ربٌس مجلس النواب بالنٌابة‪" :‬وهل فاتنا من أٌن ٌؤتً العساكر؟ (ٌقصد أنهم‬
‫ٌؤتون من الرٌؾ ومعتادون على الحرمان) فرد النابب‪" :‬نرٌد أن نتقدم كباقً األمم"‪ ،‬فقال الربٌس‪" :‬إذا‬
‫تعود العسكري ما ترٌده له من المعٌشة المرفهة فماذا ٌصنع إذا عاد إلى بلده؟ وذلك حسبما ورد فً‬
‫مضبطة البرلمان لجلسة ‪.)ٔ9ٖٔ(ٔ9ٕٙ-9-ٙ‬‬

‫ولكن أفلحت بعض المحاوالت للتخفٌؾ عن الجنود بخفض البرلمان مدة التجنٌد إلى ٖ سنوات سنة ‪،ٔ9ٕ9‬‬

‫(‪)ٔ9ٓ9‬‬
‫‪ -‬المذكرات‪ ،‬محمد كرد علً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٔ٘8‬‬
‫(ٓٔ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الجٌش المصري فً السٌاسة (ٕ‪ ،)ٔ9ٖٙ-ٔ88‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٘ٗٔ‬
‫(ٔٔ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ ٕٔ9 -ٕٔٙ‬و ‪ٕٕ8‬‬
‫(ٕٔ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‪ ،‬ص ٕٕٕ‪ٕٕٖ -‬‬
‫(ٖٔ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‪ ،‬ص ٖٕٕ‪ٕٕٗ -‬‬

‫٘ٔ‪7‬‬
‫أما "النقلة" العظٌمة فجاءت على صدى انتفاضة ٖ٘‪ ٔ9‬فمعاهدة ‪ ٔ9ٖٙ‬نصت على سحب البرٌطانٌٌن من‬
‫الجٌش‪ ،‬وزٌادة عدد ضباطه‪ ،‬وعلى حس الحاجة ألعداد كبٌرة من الضباط انفتح الباب أمام الفبلحٌن لدخول‬
‫الكلٌة الحربٌة والترقً فً رتب الضباط بعد أن ظلت حكرا على أبناء العاببلت المجنسة‪ ،‬وهذا فتح مبٌن‬
‫فً تارٌخ الجٌش‪ ،‬فهذه أول مرة منذ عودة المصرٌٌن للتجنٌد ٌدخلون الكلٌات الحربٌة‪ ،‬ألنه حتى حٌن‬
‫أصبحوا ضباطا أٌام الوالً سعٌد كانت الترقٌة من تحت السبلح‪.‬‬

‫وأول دفعة بها فبلحٌن دخلت الكلٌة الحربٌة سنة ‪ ،ٔ9ٖٙ‬والبلفت أنه منها تكونت حركة "الضباط‬
‫األحرار"‪ ،‬فقد كانوا ٌحملون فً قلوبهم وعقولهم هموم وشكاوى وأحبلم أهالٌهم البسطاء فً الرٌؾ‬
‫والحواري(ٗٔ‪ ،)ٔ9‬وبعضهم كان مشاركا فً انتفاضة ٖ٘‪ ٔ9‬مثل جمال عبد الناصر‪ ،‬وهو أمر له مؽزى‬
‫كبٌر‪ ،‬أن أول دفعة مصرٌة تصبح من الضباط من تحت السبلح تقوم بثورة ٔ‪ ،ٔ88‬وأول دفعة مصرٌة‬
‫تصبح من الضباط بدخولها الكلٌة الحربٌة تقوم بثورة ٕ٘‪ ،ٔ9‬واضعٌن أرواحهم ومستقبلهم الزاهً‬
‫والمكاسب التً حصلوا علٌها من رتب الضباط فً مهب الرٌح؛ فكؤن المصري الحق ال ٌضٌق مدام حمل‬
‫السبلح أن ُتذل مصر لؤلجنبً‪ ،‬موقنا بؤن الجٌش ما ُخلق إال لتعٌش حرة‪.‬‬

‫هكذا علمهم حور الفبلح المقاتل‪ ،‬أول المنتصرٌن على الؽاصبٌن‪ :‬تحٌة لكً ٌا عٌن حور‪.‬‬

‫ورؼم فتح الباب فلم ٌكن دخول الفبلحٌن للجٌش هٌنا‪ ،‬فالكلٌة الحربٌة اشترطت‪ -‬صراحة‪ -‬أن ٌؤتً المتقدم‬
‫بواسطة‪ ،‬فٌقول أنور السادات حاكٌا تجربته فً دخول الكلٌة ‪" :ٔ9ٖٙ‬ولكن رؼم هذه التسهٌبلت الجدٌدة‬
‫التً واكبت رؼبتً فً دخول الكلٌة الحربٌة لم ٌكن التحاقً بهذه الكلٌة‪ -‬وهو منتهى أملً حٌنذاك‪ -‬باألمر‬
‫السهل‪ ،‬صحٌح أنهم سمحوا ألبناء الطبقة المتوسطة والفقٌرة بدخول الكلٌة‪ ،‬ولكن كان باستمارة الدخول‬
‫شرطان‪ :‬دخل األب وثروته ثم الواسطة‪ ..‬وفً كشؾ الهٌبة كان ٌُنادى رسمٌا علٌنا‪ ..‬فبلن ابن فبلن‪..‬‬
‫وواسطته فبلن(٘ٔ‪.")ٔ9‬‬

‫وبذلك فالكلٌة المست الفبلحٌن‪ ،‬لكن اشترطت الدخل الثابت‪ -‬أي ٌكون األب موظفا أو ٌمتلك أرضا تدر‬
‫دخبل ثابتا‪ -‬إضافة للواسطة‪ ،‬فظل العدد األكبر من الفبلحٌن وهم األجرٌة فً األرض وعمال التراحٌل‬
‫والعاملٌن بالٌومٌة فً الورش والمحبلت والحرفٌٌن مثبل خارج القبول رؼم أحقٌتهم‪.‬‬

‫❻❷ عودة الملٌشٌات من كل راٌة‬

‫ما تعددت األعراق والجالٌات والهوٌات‪ ،‬واألحزاب‪ ،‬والراٌات‪ ،‬إال تخلقت وتحكمت العصابات‬

‫(ٗٔ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع فً تارٌخ مصر الحدٌث والمعاصر‪ ،‬نخبة من أساتذة التارٌخ‪ ،‬المجلس األعلى للثقافة‪ ،،‬ص ‪٘ٙ7‬‬
‫*** فً إحدى الجلسات سخر زمٌل صحفً من ثورة ٖٕ ٌولٌو ومن فٌلم "رد قلبً" الذي ٌظهر مظالم ما قبل ٕ٘‪ ٔ9‬قابال كٌؾ كان الملك ظالما‬
‫فً حٌن ٌدخل علً ابن الجناٌنً الكلٌة الحربٌة؟! وهو ال ٌعلم أن دخول الفالحٌن للكلٌة لم ٌكن بفضل الملك‪ ،‬ولكن بفضل الدماء والتضحٌات التً‬
‫قدمها الفالحون أنفسهم فً ثورتً ٔ‪ ٔ88‬و‪ ٔ9ٔ9‬وانتفاضة ٖ٘‪ ٔ9‬اللتٌن أجبرتا اإلنجلٌز والملك على التفاوض وخرجت معاهدة ‪ ٔ9ٖٙ‬التً‬
‫نصت على زٌادة عدد الجٌش؛ وألن عدد العابالت التركٌة والؽنٌة عموما ال ٌفً بالعدد الذي ٌتطلبه الجٌش فاضطر الملك واإلنجلٌز اضطرارا لفتح‬
‫ال باب أمام الفالحٌن فً الكلٌة الحربٌة‪ ،‬مشترطٌن رؼم هذا وجود واسطة من باشا فما فوق‪ ،‬ولو األمر بٌد الملك واإلنجلٌز وحدهما ما انفتح هذا‬
‫الباب أبد ا‪ ،‬وحبس ونفً وقتل الضباط وإبادة الجٌش بعد ثورة ٔ‪ ٔ88‬خٌر شاهد‪.‬‬
‫(٘ٔ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬البحث عن الذات‪ ،‬محمد أنور السادات‪ ،‬المكتب المصري الحدٌث‪ ،‬طبعة خاصة‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ98ٓ ،‬ص ٕٕ‬

‫‪7ٔٙ‬‬
‫والملٌشٌات‪.‬‬

‫لم نر فً مصر طوال أزمنة حرٌتها فً الحكم المصري القدٌم أنها بلد ملٌشٌات‪ ،‬عدا فترات تعتبر‬
‫شذوذا عن طبٌعة مصر ومخالفة للعهد حٌن انحرفت وؼفلت الحكومة عن دورها‪ ،‬فسقطت فً الهاوٌة كما‬
‫حصل فً فترات الفوضى "إزفت"‪ ،‬ورأٌنا دور المستوطنٌن األجانب خبللها فً نشر الملٌشٌات واإلرهاب‪.‬‬

‫ولم تصبح الملٌشٌات عادة إال أٌام االحتبلالت‪ ،‬وصناع الملٌشٌا هم المحتلون والمستوطنون لٌتقووا بها ضد‬
‫المصرٌٌن أو ضد بعضهم أو ضد السلطة‪ ،‬فمؤلوا مصر ببرك دماء ال تجؾ وؼبار معارك ال ٌنقشع إال قلٌبل‪.‬‬

‫وفً العصر الحدٌث قلَّت ظاهرة الملٌشٌات بعد مذبحة الممالٌك وظهور الجٌش النظامً أٌام محمد علً‬
‫وحتى أٌام إسماعٌل‪ -‬عدا ملٌشٌات العربان‪ -‬ثم عادت فً األفق مرة ثانٌة باالحتبلل اإلنجلٌزي بؤن انتشرت‬
‫مجددا بٌن الجالٌات بؤن تسلح الٌهود والٌونان والطلٌان والفرنسٌس‪ ،‬بل واتخذت الملٌشٌات شكبل "قانونٌا"‬
‫بعمل شرطة أوروبٌة مخصوصة لؤلحٌاء التً ٌسكنها األوروبٌون‪.‬‬

‫أما الجدٌد فً هذا االحتبلل أن مصرٌٌن انسلخوا من ماعت وتورطوا فً عمل ملٌشٌات لقتل إخوتهم‬
‫المصرٌٌن وهم "مقتنعون" أنها لٌست ملٌشٌا‪ ،‬بل وسٌلة "شرعٌة" لنصرة الدٌن أو الفقراء أو اإلنسانٌة بعد‬
‫أن خطفتهم "النداهة" من تٌار إخوانً وشٌوعً أو تؤثرا بالفاشٌة والنازٌة مثل التنظٌم الخاص التابع‬
‫لئلخوان المسلمٌن‪ ،‬وملٌشٌا جند محمد المنشق عنه‪ ،‬وملٌشٌا القمصان الخضر التابعة لـ"مصر الفتاة"‪،‬‬
‫وملٌشٌا القمصان الزرق التابعة لحزب "الوفد"‪ ،‬بل ودخل الملك فاروق حلبة الصراع بملٌشٌا "الحرس‬
‫الحدٌدي"‪ ،‬وهذه الملٌشٌات لم تكن موجهة لبلحتبلل اإلنجلٌزي فً األساس‪ ،‬بل لصدور المصرٌٌن‪ ،‬كل‬
‫حزب صنع ملٌشٌا لٌرهب خصومه‪.‬‬

‫وأول تنظٌم ملٌشٌاوي كبٌر ٌوجه سبلحه لصدور المصرٌٌن هو ملٌشٌا "التنظٌم الخاص" التابع ل‪،‬‬
‫"اإلخوان المسلمٌن"‪ ،‬صاحب الٌد السودا فً اؼتٌال أحمد الخازندار ورجال أمن وحتى ربٌس الوزراء‬
‫محمود فهمً النقراشً‪ ،‬كما كان للتنظٌم ملٌشٌا أخرى من فرقة الجوالة تلبس "القمصان الكاكً"‪.‬‬

‫وبالتزامن كوَّ ن حزب "مصر الفتاة" بقٌادة أحمد حسٌن ملٌشٌا "القمصان الخضر" فً الثبلثٌنات‪ ،‬وأطلق‬
‫على أعضابه اسم "المجاهدون"‪ ،‬وبعد تصاعد الخبلؾ بٌن "مصر الفتاة" وحزب الوفد أطلق عز الدٌن عبد‬
‫القادر عضو "مصر الفتاة" النار على مصطفى النحاس سنة ‪ ٔ9ٖ9‬انتقاما من منع حكومته إقامة معسكر‬
‫لتدرٌب زمبلبه‪.‬‬

‫وٌقول الدكتور عاصم الدسوقى‪ ،‬أستاذ التارٌخ المصري المعاصر بجامعة حلوان‪ ،‬إن ظاهرة تسلٌح‬
‫األحزاب لمواجهة بعضها البعض انتقلت إلى مصر من التجربتٌن األلمانٌة واإلٌطالٌة‪ ،‬فمن أجل مواجهة‬
‫التٌارات الدٌمقراطٌة والشٌوعٌة كون هتلر فرقة ترتدى قمصانا بنٌة وموسٌلٌنى كون فرقة ترتدى القمصان‬

‫‪7ٔ7‬‬
‫السوداء(‪ ،)ٔ9ٔٙ‬وانتقل األمر لمصر بسبب ضعؾ الدولة المفروض أنها المحتكر الوحٌد للسبلح ‪.‬‬

‫وانزلق حزب الوفد رؼم بداٌته المشرفة فً هوة الفخ المستورد‪ ،‬وش َّكل مصطفى النحاس فً الثبلثٌنات‬
‫ملٌشٌا "القصمان الزرق"‪ ،‬لبلستقواء بها ضد خصومه وضد الملك رؼم أنه كان ٌتولى الوزارة من حٌن‬
‫آلخر‪ ،‬ولنا أن نتخٌل أن حكومة ٌكون لها ملٌشٌا ترهب بها خصومها من بقٌة األحزاب والحركات أو أي‬
‫شخصٌات معارضة لها رؼم أن وظٌفة الحكومة هً منع التحارب بٌن أبناء الوطن‪ ،‬وفوق هذا أنفق الحزب‬
‫على هذه الملٌشٌا من بند المصروفات السرٌة لوزارة الداخلٌة‪ ،‬أي من مال الشعب الكادح(‪ )ٔ9ٔ9‬الذي ٌتوق‬
‫لصرؾ هذا المال على تقوٌة الجٌش والداخلٌة فً مواجهة االحتبلل والفسدة ال فً صراعات األحزاب على‬
‫الحكم ونشر اإلرهاب‪.‬‬

‫وسعى الوفد لرفع عدد أعضاء هذه الملٌشٌا الوباء إلى ٓٓٔ ألؾ‪ ،‬وهو عدد أضخم من عدد الجٌش‬
‫نفسه‪ ،‬تقسم قسم والء لمصطفى النحاس ذاته‪ ،‬ونص القسم‪" :‬أقسم باهلل أن أظل مجاهدا لوطنً تحت لواء‬
‫زعٌمً مصطفى النحاس آلخر رمق من حٌاتً"(‪.)ٔ9ٔ8‬‬

‫وهكذا تسلحت األحزاب ضد بعضها‪ ،‬وتسلحت ضد الحكومة‪ ،‬وتسلحت الحكومة ضد األحزاب‪،‬‬


‫والداهٌة األكبر‪ ..‬أن ٌتسلح الملك ضد الشعب‪.‬‬

‫ففً األربعٌنات اشتد الخبلؾ بٌن فاروق وعدة أحزاب خاصة حزب الوفد بعد حادثة ٗ فبراٌر ٕٗ‪ٔ9‬‬
‫التً كاد اإلنجلٌز ٌجبرونه فٌها على ترك الحكم‪ ،‬فاستقطب عددا من ضباط الجٌش‪ ،‬على رأسهم الضابط‬
‫الطبٌب ٌوسؾ رشاد‪ ،‬لعمل تشكٌل هدفه التخلص من خصوم الملك سوا حزب الوفد أوؼٌره‪ ،‬إضافة إلى‬
‫عمل مناوشات مع اإلنجلٌز‪.‬‬

‫ولم ٌكن ٌوسؾ رشاد بالطبٌب أو الضابط العادي‪ ،‬فقد بدأت عبلقته بالملك سنة ٖٗ‪ٔ9‬حٌن نجح فً عبلجه‬
‫من حادثة مرور وقعت لسٌارته فً القصاصٌن باإلسماعٌلٌة‪ ،‬فنقله للعمل كطبٌب خاص فً القصر ومعه زوجته‬
‫التركٌة ناهد رشاد وجعلها وصٌفة أخته فاٌزة‪ ،‬فاكتسبا ثقة الملك‪ ،‬وبتكلٌؾ من فاروق أقنع ٌوسؾ رشاد ‪ ٙ‬ضبا‬
‫بعمل التشكٌل المسلح على أساس أن قٌادات حزب الوفد "خونة" لسكوتهم على ما فعله اإلنجلٌز بحصار‬
‫قصر عابدٌن فً ٗ فبراٌر ٕٗ‪ ،ٔ9‬ونفذوا كذا محاولة لم تنجح الؼتٌال مصطفى النحاس بالتفجٌرات أمام‬
‫منزله فً ‪ ٔ9ٗ8‬أو بنسؾ قطار ٌستقله إلى الصعٌد(‪ ،)ٔ9ٔ9‬كما حاولوا اؼتٌال رفٌق الطرزي‪ ،‬أحد قٌادات‬
‫الوفد الشابة‪ ،‬واؼتالوا الوزٌر من حزب الوفد أمٌن عثمان‪.‬‬

‫وبجانب استهداؾ المصرٌٌن‪ ،‬استهدؾ تنظٌم "الحرس الحدٌدي" خصوم الملك من الشٌوعٌٌن‪ ،‬مصرٌٌن‬
‫وأجانب‪ ،‬وبعض اإلنجلٌز‪ ،‬وٌصؾ سٌد جاد‪ ،‬أحد أعضاء التنظٌم‪ ،‬فً مذكراته التً حملت اسم "الحرس‬

‫(‪)ٔ9ٔٙ‬‬
‫‪ -‬قبل ٖٕ ٌولٌو اختلفت األلوان والهدؾ واحد!‪ ،‬موقع جرٌدة المال‪ ،‬بتارٌخ ٖٔ‪ٕٖٓٔ -ٔ -‬‬
‫(‪)ٔ9ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬أصحاب القمصان الملونة‪ ..‬األمة تستخدم الشرطة علً األمن العام ال إلخضاعها إدارة األمن العام‪ٌ ،‬ونان لبٌب رزق‪ ،‬صحٌفة‬
‫األهرام‪ ،‬العدد ٔ‪ ،ٖٕٗ9‬بتارٌخ ‪ٕٓٓ٘ -ٙ -ٔٙ‬‬
‫(‪)ٔ9ٔ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تارٌخ الوزارات المصرٌة ‪ٌ ،ٔ9ٖ٘ -ٔ898‬ونان لبٌب رزق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٗٓٓ -ٖ9ٙ‬‬
‫(‪)ٔ9ٔ9‬‬
‫‪ -‬الحرس الحدٌدي كٌؾ كان الملك فاروق ٌتخلص من خصومه‪ ،‬سٌد جاد‪ ،‬الدار المصرٌة اللبنانٌة‪ ،‬ص ٔ٘‬

‫‪7ٔ8‬‬
‫الحدٌدي كٌؾ كان الملك فاروق ٌتخلص من خصومه" بعض أعضاء التنظٌم بـ"التطرؾ"‪ ،‬و"ناهد رشاد"‬
‫بؤنها "الملكة السرٌة والحقٌقٌة" لمصر؛ لتؤثٌرها على الملك لما تولت منصب كبٌرة الوصٌفات(ٕٓ‪.)ٔ9‬‬

‫وتسبب اختبلؾ انتماءات األعضاء السٌاسٌة‪ ،‬ما بٌن موالً للملك أو شٌوعً أو موالً لتنظٌم اإلخوان‬
‫المسلمٌن أو مقربٌن من النازٌة خبلل الحرب العالمٌة أو ببل انتماء‪ ،‬فً فشل معظم عملٌاتهم‪ ،‬ثم بدأت‬
‫االنشقاقات داخل التنظٌم ما بٌن موالً بشكل تام للملك وما بٌن معارض له‪ ،‬ودخلوا فً مرحلة تصفٌة بعضهم‬
‫‪.‬‬
‫(ٕٔ‪)ٔ9‬‬
‫فً أتفه خبلؾ ولو كان على حب امرأة‬

‫وساءت العبلقة بٌن التنظٌم وفاروق لما أصابه الضجر واإلحباط بعد تمكن حزب الوفد من الحكم‪،‬‬
‫ورأى كل طرؾ أن اآلخر عبء علٌه‪ ،‬حتى أن بعض أعضاء التنظٌم مثل مصطفى كمال صدقً دعا لقتل‬
‫فاروق‪ ،‬ومنه من هدده لما "كره مصر والمصرٌٌن والحرس الحدٌدي وقبل لقب جنرال فخري" فً الجٌش‬
‫اإلنجلٌزي‪ -‬بتعبٌر سٌد جاد‪ -‬ونفذ فعبل حسن فهمً عبد الحمٌد محاولة اؼتٌال له من أعلى منزل ٌطل على‬
‫القصر(ٕٕ‪.)ٔ9‬‬

‫وبذلك دخل الملك مرحلة أبشع فً إساءة استخدام منصبه‪ ،‬فبعد أن تورط فً صنع ملٌشٌا‪ ،‬ورَّ ط ضباطا‬
‫فً الجٌش والداخلٌة لبلشتراك فٌها‪ ،‬ثم دفعهم لرفع السبلح على بعض لٌضع البلد على حافر االنفجار‬
‫وحرب أهلٌة لو توسع األمر‪.‬‬

‫واعترؾ سٌد جاد أنه كان ٌخطط لتوسٌع "الحرس الحدٌدي" حتى ٌكون مجرد إرسال بطاقة للشخص‬
‫المستهدؾ كافٌة إلعادته للخط الملكً‪ ،‬وإال ٌكون فً انتظاره مدافع "األشمٌزر"‪ ،‬واألخطر أنه كان ٌخطط‬
‫لتشكٌل حرس حدٌدي لئلسبلم وحرس حدٌدي للعرب‪ -‬بحسب تعبٌره‪ -‬فإذا خرج أحد الرإساء عن الصؾ‬
‫اإلسبلمً أو العربً اخترقت جثته رصاصات "األشمٌزر"(ٖٕ‪ ،)ٔ9‬وهو ما ٌشبه فً الوقت الحالً ملٌشٌا‬
‫(ٕٗ‪)ٔ9‬‬
‫الحرس الثوري اإلٌرانً التً ٌستخدمها النظام اإلٌرانً فً إرهاب خصومه فً الداخل والخارج‬
‫وتصبح مصر دولة إرهابٌة‪ ..‬فإلى أٌن كان هإالء الناس ٌنوون أن ٌذهبوا بمصر؟!‬

‫وهكذا‪ ..‬لكل جالٌة ملٌشٌا تتحفز لؤلخرى‪ ،‬وللمعارضة والحكومة واألحزاب والتنظٌمات الدٌنٌة‬
‫ملٌشٌات‪ ،‬وللملك ملٌشٌا‪ ،‬ورواٌح اإلرهاب األحمر تفوح من كل شارع‪ ،‬والجٌش والداخلٌة ٌتفتت والبهما‬
‫بٌن مصر والملك واألحزاب والملٌشٌات وتٌارات الهكسوس‪ ،‬ومعظم الشباب ضاٌع وحاٌر‪ ..‬و"ماعت"‬
‫تختنق‪.‬‬

‫(ٕٓ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٘ٔ‬
‫(ٕٔ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕ٘‪ٕٙ -‬‬
‫(ٕٕ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٕٕ ؤ‪ 9‬و‪ٔٗ8‬‬
‫(ٖٕ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬الحرس الحدٌدي‪ ..‬كٌؾ كان الملك فاروق ٌتخلص من خصومه‪ ،‬سٌد جاد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕ٘‪ٕٙ -‬‬
‫(ٕٗ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬ملٌشٌا الحرس الثوري أنشؤها الخمٌنً عقب الثورة اإلٌرانٌة ‪ ٔ979‬لتكون تنظٌما موازٌا للجٌش ٌستخدمه ضد خصومه وٌمنع الجٌش من‬
‫أن ٌؽٌر نظام الحكم الثوري الذي ٌصفه الخمٌنً باإلسالمً‪ ،‬وله دور فً دعم الجماعات اإلرهابٌة فً البلدان التً تستهدؾ إٌران السٌطرة علٌها‬
‫مثل مصر والعراق والٌمن ولبنان وسورٌا ونٌجٌرٌا‪ ،‬ومن أذرعه حركات حماس والصابرٌن والجهاد اإلسالمً بفلسطٌن وجماعة حزب هللا بلبنان‬
‫وٌتحالؾ مع تنظٌم اإلخوان المسلمٌن وتنظٌمات إرهابٌة أخرى فً مصر‪.‬‬

‫‪7ٔ9‬‬
‫❼❷ (ٔ‪ )7‬وزارة فً (٘‪ )7‬سنة‬

‫حٌن أراد المإرخ المصري مانٌتون أن ٌصؾ الفوضى التً ضربت البلد فً "الزفتة األولى" بعد تفرد‬
‫بعض المحافظٌن بإدارة المحافظات وثرواتها بعٌدا عن الحكومة المركزٌة ونشر األجانب الفتن فٌها؛ ما‬
‫أدى لسقوط األسرة ‪ ٙ‬قال إنه لم ٌستقر فً مصر حاكم ٌلتؾ حوله الناس‪ ،‬حتى أنه حكمهآ‪ 9‬ملكا فً ٓ‪9‬‬
‫ٌوما‪ ،‬وٌبدو أنها صٌؽة مبالؽة للتعبٌر عن عدم االستقرار‪.‬‬

‫ومنذ ‪ ،ٔ9ٖ٘ -ٔ898‬أي خبلل ٘‪ 9‬سنة بداٌة من أول وزارة فً تارٌخ مصر الحدٌث وحتى سقوط‬
‫عابلة محمد علً‪ ،‬شهدت مصر ٔ‪ 9‬وزارة‪ ،‬بمتوسط وزارة كل عام‪ ،‬وفً عهد فاروق وحده (٘ٔ سنة)‬
‫تولت ٖٕ وزارة(ٕ٘‪ ،)ٔ9‬وهذا أٌضا عدد مهول ٌدل على عدم االستقرار فً ظل الروح الحزبٌة‪.‬‬

‫فتعبؤت فترة حكم فاروق بضجٌج حزبً وصراعات محمومة بٌن األحزاب وبعضها أو بٌن األحزاب والملك‪،‬‬
‫أو داخل الحزب الكبٌر نفسه (الوفد)‪ ،‬وتؽٌر سرٌع فً الوزارات التً لم ٌدم بعضها إال أٌاما؛ ما أدى لعدم إنجاز‬
‫مشارٌع تنمٌة واسعة وحقٌقٌة‪ ،‬بل إن بعض الوزارات تعمدت إٌقاؾ مشارٌع وزارات سابقة حتى ال ٌُحسب‬
‫نجاحها للحزب المنافس الذي كان ٌشكل تلك الوزارات‪.‬‬

‫اتسمت معظم األحزاب بالطبقٌة‪ ،‬فمثبل حزب "األحرار الدستورٌٌن" تبع كبار متملكً األرض‪ ،‬وحزب‬
‫"الهٌبة السعدٌة" تبع الطبقة البرجوازٌة‪ ،‬وفً وقت سابق كان ٌوجد حزبا "االتحاد" و"الشعب" تبع الملك‬
‫مباشرة‪ -‬حل محلهما الحرس الحدٌدي فٌما بعد‪ -‬فٌما كان حزب الوفد الوحٌد "للكل"‪ ،‬قبل أن ٌتشظى إلى‬
‫أحزاب وٌتحول بدوره إلى حزب لكبار المتملكٌن ولٌس للشعب بداٌة من الثبلثٌنات‪ ،‬وهو ما جعل األحزاب‬
‫تستعلً على الشعب مثلما حدث فً مواقفها المتعنتة إزاء الملكٌة الزراعٌة وأحوال الفبلحٌن وجنودهم‪،‬‬
‫وٌرى بعضها أنه ٌكفٌهم عٌشة أكل العٌش الناشؾ والبصل وسكن األكواخ‪.‬‬

‫وٌعرض المإرخ الشهٌر الدكتور ٌونان لبٌب رزق فً كتابه الجامع "تارٌخ الوزارات المصرٌة ‪-ٔ898‬‬
‫ٖ٘‪ "ٔ9‬مبلمح هذا االضطراب الكبٌر‪.‬‬

‫ومنها أنه بعد تولً فاروق الحكم سنة ‪ ٔ9ٖ9‬تفجرت أول مواجهة بٌنه وبٌن وزارة حزب الوفد حٌن‬
‫طلب الملك أن ٌكون قسم الجٌش على الوالء للملك‪ ،‬فٌما طلب الوفد أن ٌكون قسم الجٌش على الوالء‬
‫للدستور؛ كً ٌترك للجٌش مساحة التحرك ضد الملك إذا واصل سٌرة أسبلفه فً اإلخبلل بالدستور‪،‬‬
‫وحاول أن ٌحد من صبلحٌات الوزارة التً ٌطمع الوفد فً أن ٌتوالها معظم األوقات‪.‬‬

‫واستعرض كل منهما قوته على اآلخر‪ ،‬فسٌَّر حزب الوفد مظاهرات ضد الملك تهتؾ "النحاس أو‬
‫الثورة" ٌقودها ملٌشٌا القمصمان الزرق‪ ،‬وسٌَّر الملك مظاهرات من طلبة األزهر تهتؾ له وهو ٌخرج‬
‫ٌحٌٌها‪ ،‬وتدخل اإلنجلٌز على خط األزمة فؤبلػ السفٌر البرٌطانً الملك فً لقاءه ٌوم ٕٓ دٌسمبر ‪ٔ9ٖ9‬‬

‫(ٕ٘‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬راجع تارٌخ الوزارات المصرٌة ‪ٌ ،ٔ9ٖ٘ -ٔ898‬ونان لبٌب رزق‪ ،‬مركز الدراسات السٌاسٌة واالستراتٌجٌة باألهرام‪ٔ99٘ ،‬‬

‫ٕٓ‪7‬‬
‫بؤنه قد ٌفقد ثقة برٌطانٌا إذا ما استمر فً سٌاسته‪ ،‬وأنه بذلك ٌعرض عرشه للخطر(‪.)ٔ9ٕٙ‬‬

‫وتوصل الوفد والملك إلى صفقة بؤن ٌوافق الوفد على قسم الجٌش بالوالء للملك ولٌس الدستور‪ ،‬وأن‬
‫ٌحل الوفد ملٌشٌا القمصان الزرق‪ ،‬مقابل أن ٌترك الملك للوفد تعٌٌن أعضاء مجلس الشٌوخ وسن قوانٌن‬
‫دون الرجوع للملك‪ ،‬وتعٌٌن أو فصل الموظفٌن بكل درجاتهم(‪.)ٔ9ٕ9‬‬

‫وؼٌَّر فاروق فً شعار الجٌش من (هللا‪ ،‬الوطن‪ ،‬الملك) إلى (هللا‪ ،‬الملك‪ ،‬الوطن) تعالٌا على مصر‪ ،‬فجعل‬
‫نفسه أكبر منها ومقدما علٌها(‪.)ٔ9ٕ8‬‬

‫ؼٌر أن الصدامات استمرت‪ ،‬خاصة بعد تدخل أحزاب المعارضة وأحمد ماهر ربٌس مجلس النواب على‬
‫الخط وشن حملة على وزارة الوفد تتهمها بؤنها "أفسدت األمن والتعلٌم وخنقت الحرٌات"‪ ،‬وانتهى األمر بإقالة‬
‫الوزارة‪.‬‬

‫واستمر هذا النوع من المكاٌدات فً إقالة وتعٌٌن الوزارات حتى تولد عن هذا الجو حادث ٗ فبراٌر‬
‫ٕٗ‪ ٔ9‬البؽٌض‪ ،‬تحركت الدبابات البرٌطانٌة إلى سراٌا عابدٌن فً قلب القاهرة لتجبر الملك على اإلتٌان‬
‫بخصمه اللدود حزب الوفد‪--‬الذي ٌراه الملك التهدٌد الوحٌد لنفوذ عابلة محمد علً منذ عرابً‪ -‬وقدم السفٌر‬
‫البرٌطانً المبسون للملك ورقة التنازل عن العرش إذا لم ٌكلؾ مصطفى النحاس بالوزارة(‪ .)ٔ9ٕ9‬فؤذعن‬
‫فاروق كعادة آبابه‪.‬‬

‫وبتعبٌر ٌونان لبٌب رزق‪ ،‬فهذا الحادث بداٌة النهاٌة لحزب الوفد‪ ،‬وبداٌة النهاٌة للملك أٌضا‪ ،‬أي سحب‬
‫الشعبٌة من كل منهما‪ ،‬فخصوم حزب الوفد أظهروه بمظهر من أتى على دبابات اإلنجلٌز‪ ،‬والملك ظهر‬
‫بمظهر الضعٌؾ الذي ال ٌستطٌع أن ٌكلؾ أو ٌقٌل الوزارة إال برضا االحتبلل‪ ،‬وفً ذات الوقت أعطى هذا‬
‫الفراغ فً الزعامة الفرصة لعلو نجم الشٌوعٌٌن وتنظٌم "اإلخوان المسلمٌن"‪ ،‬وبدأت تتبلور نواة تنظٌم‬
‫الضباط األحرار داخل الجٌش(ٖٓ‪ )ٔ9‬ؼضبا من أن تصل المهانة بالبلد إلى حد أن ٌظل‪ ،‬بعد كل هذا الكفاح‪،‬‬
‫من ٌحكمها ٌعٌنه اإلنجلٌز‪.‬‬

‫وأتاح هذا التفكك للجالٌات التدخل لدى برٌطانٌا لتعٌٌن أو إقالة الوزراء حسب مصالحها‪ ،‬مثلما حدث‬
‫حٌن تدخلت برٌطانٌا فً التعدٌل الوزاري فً وزارة النحاس ٖٗ‪ ٔ9‬بؤن طلبت سحب وزارة الشبون‬
‫االجتماعٌة من عبد الحمٌد عبد الحق ألنه أصدر بٌانات "أزعجت" الجالٌة األجنبٌة(ٖٔ‪.)ٔ9‬‬

‫أما شعبٌا‪ ،‬فالشارع ٌؽلً من كذا اتجاه‪ ،‬إما لدوافع وطنٌة بحتة تطالب بالجبلء وتهاجم األحزاب والفساد‬
‫والؽبلء‪ ،‬أو بدوافع من تنظٌم اإلخوان والشٌوعٌٌن الذٌن ٌرٌدون ملء الفراغ‪ ،‬فتحركت مثبل مظاهرات‬
‫(‪)ٔ9ٕٙ‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٕٓٗ‪ٖٗٓ -‬‬
‫(‪)ٔ9ٕ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٕٓٗ‪ٖٗٓ -‬‬
‫(‪)ٔ9ٕ8‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مقدمات ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘‪ ،ٔ9‬عبد الرحمن الرافعً‪ ،‬ط ٖ‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬القاهرة‪ ،ٔ989 ،‬ص ٗ‪ٔ9‬‬
‫(‪)ٔ9ٕ9‬‬
‫‪ -‬انظر المرجع السابق‪ ،‬ص ٕ٘ٗ‪ٖٗٙ -‬‬
‫(ٖٓ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬تارٌخ الوزارات المصرٌة ‪ ،ٔ9ٖ٘ -ٔ898‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٖٗ9 -ٖٗٙ‬‬
‫(ٖٔ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٖ٘ٗ‬

‫ٕٔ‪7‬‬
‫الطلبة الشهٌرة ٕٔ فبراٌر ‪ ٔ9ٗٙ‬من جامعة القاهرة باتجاه مٌدان اإلسماعٌلٌة (التحرٌر)‪ ،‬وبحركة ؼادرة‬
‫انفتح كوبري عباس لٌتساقط الطلبة شهداء ؼرقى فً مٌاه النٌل األسمر الذي احتضنهم باكٌا‪ -‬كما احتضن‬
‫أوزٌر من قبل‪ -‬أن ٌكون هذا مصٌرهم بعد الثورات التً قامت بها البلد لتعود مصر إلى حرٌتها وتكون هً‬
‫فوق الجمٌع‪.‬‬

‫وشاركت السٌارات البرٌطانٌة فً دهس المتظاهرٌن خبلل مسٌراتهم(ٕٖ‪)ٔ9‬؛ ما زاد من عدد الشهداء‬
‫لٌصل إلى العشرات‪ ،‬ونظمت الجامعات والمدارس والمحبلت إضرابات وتظاهرات تحٌة للشهداء‪ ،‬وأصبح‬
‫هذا الٌوم فٌما بعد ٌوم الطالب العالمً‪.‬‬

‫تحت هذه الضؽوط فتحت الحكومة جولة جدٌدة من المفاوضات مع برٌطانٌا على الجبلء‪ ،‬وش َّكل‬
‫النقراشً من حزب الهٌبة السعدٌة فرٌق التفاوض‪ ،‬فٌما رفض حزب الوفد المشاركة فً الفرٌق بعد رفض‬
‫شرطه بؤن ٌكون نصؾ األعضاء من حزبه وأن ٌرأس الفرٌق(ٖٖ‪ ،)ٔ9‬فهو أراد ترإسه حتى إذا ما أحرز‬
‫المفاوضون نصرا ٌُنسب للوفد ال للهٌبة السعدٌة‪ ،‬حتى أنه لما لجؤ النقراشً لمجلس األمن الدولً لحل‬
‫القضٌة المصرٌة أرسل الوفد برقٌة إلى المجلس ٌقول فٌها‪" :‬الحكومة المصرٌة التً رفعت دعوى أمام‬
‫مجلس األمن ال تمثل على أي وجه شعب وادي النٌل"(ٖٗ‪.)ٔ9‬‬

‫حركة ؼدر فً الصمٌم‪ ..‬فكٌؾ لحزب أن ٌحرج حكومة ببلده أمام العالم وهً تطالب االحتبلل بالجبلء‬
‫عن بلدها وتشحذ همة العالم لٌناصرها فً ذلك‪ ،‬وٌقول إنها ال تمثل الشعب لمجرد منافسات حزبٌة على‬
‫الحكم؟ ولكن هكذا‪ ،‬إذا ما تمكنت الحزبٌة الدخٌلة من النفوس هانت بداخلها األوطان‪.‬‬

‫وواجه النقراشً أسالٌب التحاٌل والكذب التً تسلحت بها برٌطانٌا لتتبرأ من أي وعود بالجبلء‪ ،‬حتى‬
‫ض َّج النقراشً ووصؾ اإلنجلٌز بالقراصنة فً خطابه أمام مجلس األمن ‪ ٔ9ٗ9-8-ٕ8‬قاببل عن معاهدة‬
‫‪ ٔ9ٖٙ‬إنها لٌست إال "أثر من آثار أٌام القراصنة التً ٌجهد العالم فً نسٌانها"(ٖ٘‪.)ٔ9‬‬

‫وانتهت هذه الجولة باؼتٌال النقراشً فً ‪ ٔ9ٗ9‬على ٌد تنظٌم اإلخوان المسلمٌن بحجة الرد على‬
‫قراره بحل التنظٌم‪ ،‬وإن كانت أصابع برٌطانٌا ٌمكن أال تكون بعٌدة عن األمر‪ ،‬خاصة أنه بعد عودته أعلن‬
‫أن خطة وزارته تجاهل إنجلترا تجاهبل تاما و"أننا سنولً وجهنا شطر الجٌش المصري سٌاج الوطن‪،‬‬
‫فنقوٌه بزٌادة عدده واالستعانة بالدول األخرى لجلب عِ دده والخبراء والمستشارٌن البلزمٌن له‪ ،‬وسندعم‬
‫اإلصبلح الداخلً ما فً وسعنا(‪.")ٔ9ٖٙ‬‬

‫وتجمعت السحب السودا فً سماء مصر مع ازدٌاد الؽلٌان‪ ،‬حتى سعت األحزاب فً ٓ٘‪ ٔ9‬لؽسل ٌدها مما‬

‫(ٕٖ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ ** * ٗ88‬حادثة تشبه ما تردد عن مشاركة سٌارات دبلوماسٌة لبعض السفارات فً دهس المتظاهرٌن سنة ٕٔٔٓ‬
‫(ٖٖ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر نفس المرجع‪ ،‬ص ‪ٗ88‬‬
‫(ٖٗ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬المرجع فً تارٌخ مصر الحدٌث والمعاصر‪ ،‬نخبة من أساتذة التارٌخ‪ ،‬المجلس األعلى للثقافة‪ ،‬ص ‪٘ٗ9‬‬
‫(ٖ٘‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬فً أعقاب الثورة المصرٌة ثورة ‪ ،ٔ9ٔ9‬عبد الرحمن الرافعً‪ ،‬جٖ‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬طٖ‪ ،‬ص ‪ٕٖٙ‬‬
‫(‪)ٔ9ٖٙ‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬المرجع فً تارٌخ مصر الحدٌث والمعاصر‪ ،‬ص ‪٘ٗ8‬‬
‫***والنقراشً هو صاحب قرار إنهاء وجود البعثة البرٌطانٌة العسكرٌة من الجٌش المصري ‪ ،ٔ9ٗٙ‬وسبق هذا رفض الضباط المصرٌٌن بإباء‬
‫تنفٌذ أوامر الجٌش البرٌطانً تسلٌمهم األسلحة التً وزعها علٌهم خالل الحرب العالمٌة للدفاع عن مرسى مطروح من هجوم األلمان‪.‬‬

‫ٕٕ‪7‬‬
‫ٌنتظر البلد‪ ،‬فؤرسلت أحزاب األحرار الدستورٌٌن والهٌبة السعدٌة والحزب الوطنً وؼٌرهم‪ -‬عدا الوفد‬
‫الذي كان فً الوزارة‪ -‬كتابا مشهورا لفاروق ٌحذر من أنه "فً الحاشٌة الملكٌة أشخاص ال ٌستحقون هذا‬
‫الشرؾ‪ ،‬فؤساءوا النصح وأساءوا التصرؾ"‪ ،‬وأن "النظام النٌابً قد أضحى حبرا على ورق" بتدخبلت‬
‫الملك‪ ،‬وتنبؤوا بقٌام ثورة شعبٌة قابلٌن إن "احتمال الشعب مهما ٌطل فهو البد منته إلى حد‪ ،‬وإننا لنخشى أن‬
‫تقوم فً الببلد فتة ال تصٌبن الذٌن ظلموا وحدهم‪ ،‬بل تتعرض فٌها الببلد إلى إفبلس مالً وسٌاسً وخلقً‬
‫فتنتشر فٌها المذاهب الهدامة بعد أن مهدت لها آفة استؽبلل الحكم أسوأ تمهٌد"‪ ،‬وأنه بسبب هذا االستؽبلل‬
‫"استفحل الؽبلء إلى حد لم ٌسبق له مثٌل‪ ،‬وحرموا الفقٌر قوته الٌومً"‪ ،‬وطالبوه بتصحٌح األوضاع‬
‫الدستورٌة "تصحٌحا شامبل وعاجبل"(‪.)ٔ9ٖ9‬‬

‫وٌقول محمد حسٌن هٌكل‪ ،‬ربٌس حزب األحرار الدستورٌٌن‪ ،‬فً مذكراته إن الملك ؼضب ؼضبا شدٌدا‬
‫على الذٌن أرسلوا الكتاب واحتفظ بؤسمابهم فً حافظته ٌخرجها بٌن الحٌن واآلخر حتى ال ٌؽفر لهم‬
‫أبدا(‪.)ٔ9ٖ8‬‬

‫وتحركت الرمال تحت أقدام الجمٌع‪ ..‬فتوالت بشكل سرٌع الوزارات‪ ،‬وزارة إبراهٌم عبد الهادي‪ ،‬ثم‬
‫وزارة حسٌن سري باالتفاق مع تشابمان أندروز أحد مسبولً الخارجٌة البرٌطانٌة‪ ،‬وهكذا ظلت ٌد برٌطانٌا‬
‫تتدخل فً اختٌار الوزارة حتى قبٌل ثورة ٖٕ ٌولٌو(‪ ، )ٔ9ٖ9‬ثم وزارة الوفد سنةٓ٘‪ ٔ9‬فعلً ماهر فوزارة‬
‫الهبللً‪ ،‬فحسٌن سري‪ ،‬ثم من جدٌد الهبللً لمدة ٌوم‪ ،‬وهو ٌوم ٕٕ ٌولٌو ٕ٘‪.ٔ9‬‬

‫وصلت نار االضطرابات إلى األزهر‪ ،‬فعزلت الوزارة شٌخ الجامع األزهر عبد المجٌد سلٌم بعد ؼضب‬
‫الملك علٌه ألنه فً حدٌث لمجلة "آخر ساعة" انتقد الفساد وقال‪" :‬تقتٌر هنا وإسراؾ هناك"‪.‬‬

‫وشهدت المرحلة صفقة بٌن الملك والوفد لتوازن السلطات‪ ،‬حتى أن وزارة الوفد نصبت نفسها محامٌة‬
‫عن الملك فً االتهامات الموجهة لمن حوله‪ ،‬وٌضرب محمد حسٌن هٌكل فً مذكراته مثال على ذلك من‬
‫موقعه كربٌس لمجلس الشٌوخ أنه لما قدم مصطفى مرعً استجوابا حول ما تردد عن استٌبلء كرٌم ثابت‬
‫(لبنانً) المستشار الصحفً للملك على ٘ آالؾ جنٌه من أموال جمعٌة المواساة‪ ،‬وعن العبث فً صفقات‬
‫األسلحة والذخابر الفاسدة المستوردة من أوروبا للجٌش فً حرب ‪ ٔ9ٗ8‬دافع فإاد سراج الدٌن‪ ،‬وزٌر‬
‫الداخلٌة العضو بحزب الوفد‪ ،‬عن ثابت‪ ،‬ونفى التهمة عن األسماء المذكورة‪ ،‬وهم رجال الملك(ٓٗ‪.)ٔ9‬‬

‫وسط هذا كله‪ ،‬ماذا كان ٌا ترى ٌدور فً نفوس وعقول المصرٌٌن منذ الثبلثٌنات حتى ثورة ٖٕ ٌولٌو‬
‫وهم ٌعٌشون هذه األحداث والصراعات‪ ،‬وكٌؾ كانوا ٌنظرون للمستقبل؟‬

‫كان لتحوٌل األحزاب والملك الحركة الوطنٌة من "معركة تحرر شعبٌة" إلى صراعات على النفوذ‬

‫(‪)ٔ9ٖ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬تارٌخ الوزارات المصرٌة ‪ ،ٔ9ٖ٘ -ٔ898‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٗٔ٘‪ ،‬ومقدمات ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘‪ ،ٔ9‬عبد الرحمن الرافعً‪ ،‬مرجع‬
‫سابق‪ ،‬ص ‪ٕٔٔ -ٕٓ9‬‬
‫(‪)ٔ9ٖ8‬‬
‫‪ -‬تارٌخ الوزارت المصرٌة ‪ ،ٔ9ٖ٘ -ٔ898‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٗٔ٘‬
‫(‪)ٔ9ٖ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٓ‪ٗ98 -ٗ9‬‬
‫(ٓٗ‪)ٔ9‬‬
‫‪-‬انظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص ٘ٓ٘‪٘ٓٙ -‬‬

‫ٖٕ‪7‬‬
‫تؤثٌره المدمر على نفسٌة الشباب الذي ؼرق فً مشوار البحث عن الذات وعن المخلص‪ ،‬وتقاذفته أمواج‬
‫تٌارات الهكسوس والنظرٌات األجنبٌة المتطرفة فً كل المجاالت‪ ،‬وانجذب للزعامات األجنبٌة الصاعدة‬
‫كهتلر وموسٌلٌنً بعد ؼٌاب الزعامة الوطنٌة(ٔٗ‪.)ٔ9‬‬

‫وفً رواٌة عنوانها معبر هً "نفوس مضطربة" صدرت عام ٔٗ‪ ٔ9‬ألحمد زكً مخلوؾ‪ٌ ،‬قول‬
‫الراوي‪" :‬لقد زهق الشباب من جدل األحزاب وهذه الفتنة الضاربة بٌن الزعماء‪ ،‬لماذا توجد فً الببلد‬
‫أربعة أو خمسة أحزاب؟ لماذا ٌكون عشرة أو عشرون زعٌما؟ وما هً سٌاسة كل حزب؟ وما هدؾ كل‬
‫زعٌم؟ ال أحب تكوٌن األحزاب بحالتها الراهنة‪ ،‬إذ ال مبادئ مرسومة لها‪ ،‬وال سٌاسة موضوعة‪ ،‬وال‬
‫برامج لئلصبلح االجتماعً‪ ،‬إنما هو زعٌق وصٌاح وسباب" (ٕٗ‪.)ٔ9‬‬

‫ولخص المشهد والتؤفؾ الشعبً من التعددٌة المرٌضة شهدي باشا فً رواٌة "الرجل الذي فقد ظله"‬
‫لفتحً ؼانم‪" :‬البلد فٌها دلوقت شٌوعٌٌن وإشتراكٌٌن وإخوان مسلمٌن وعفارٌت زرق‪ ،‬ما كناش بنسمع‬
‫عنهم قبل الحرب"‪ ،‬و"أتلفت األحزاب كل شًء فً البلد" بحسب تعبٌر أحمد حسٌن فً كتابه "إٌمانً"‪،‬‬
‫بالرؼم من أنه هو نفسه كان ربٌسا لحزب "مصر الفتاة"(ٖٗ‪.)ٔ9‬‬

‫وبتعبٌر ٌونان لبٌب رزق فإن النظام القدٌم‪ -‬األحزاب والعٌلة العلوٌة‪ -‬تآكل‪ ،‬وصار المناخ مهٌؤ فً‬
‫انتظار قوى سٌاسٌة جدٌدة تنقض علٌه وتنهً استمراره الذي أصبح عببا على األمة(ٗٗ‪.)ٔ9‬‬

‫وهذه القوة إما "اإلخوان" المدعومٌن ؼربٌا أو الشٌوعٌٌن المدعومٌن شرقٌا‪ ..‬أو الجٌش‪.‬‬

‫أما أسوأ ما فً األمر فهو أن عدوى التحزب انتقلت للجٌش‪ ،‬فصار به خبلٌا إخوانٌة وخبلٌا شٌوعٌة‬
‫وخبلٌا وفدٌة وخبلٌا فاروقٌة (والبها لفاروق شخصٌا)‪ ،‬بل وتشكل داخل الجٌش خلٌه صوفٌة عسكرٌة‬
‫بحسب ما سجله الضابط سٌد جاد أحد أعضاء ملٌشٌا الحرس الحدٌدي التابعة للملك فاروق فً كتابه(٘ٗ‪،)ٔ9‬‬
‫وهذا ٌذكرنا بؤن أعضاء تنظٌم "التضامن األخوي" الذي قتل بطرس ؼالً كان بعضهم أعضاء فً طرق‬
‫صوفٌة أٌضا؛ ما ٌفتح باب البحث فً األهداؾ الحقٌقٌة لهذه الطرق بداٌة من االحتبلل العبٌدي وحتى الٌوم‪.‬‬

‫و وزٌر الحربٌة ٌُختار بحسب االنتماء الحزبً للوزارة الحاكمة أو تبعا لوالبه للملك شخصٌا‪ ،‬وكل خلٌة‬
‫إخوانٌة وشٌوعٌة ووفدٌة وصوفٌة تستؽل موقعها فً الجٌش لتخدم تٌارها‪ ..‬وهكذا كان الجٌش‪ -‬لو استمر‬
‫الحال سنوات قلٌلة أخرى‪ -‬فً طرٌقه لٌكون أحزابا وشٌعا تصارع بعضها ال تصارع االحتبلل‪ ،‬ووالبها‬
‫لؤلجانب ال للوطن‪ ،‬فً صورة مرعبة تشبه الجٌوش المرتزقة والطابفٌة فً دول أخرى‪.‬‬

‫❽❷ فً مصر‪ ..‬أكبر قاعدة عسكرٌة ومركز للتجسس فً العالم‬

‫(ٔٗ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن‪ ،‬محمد جبرٌل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج ٖ‪ ،‬ص ٖ‪ٗ9‬‬
‫(ٕٗ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص ٗ‪ٗ9‬‬
‫(ٖٗ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن‪ ،‬محمد جبرٌل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج ٖ‪ ،‬ص ‪ٗ99‬‬
‫(ٗٗ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬تارٌخ الوزارت المصرٌة ‪ ،ٔ9ٖ٘ -ٔ898‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٔ٘‬
‫(٘ٗ‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬الحرس الحدٌدي كٌؾ كان الملك فاروق ٌتخلص من خصومه‪ ،‬مرجع سابق‪ ،ٔ99ٖ ،‬ص ‪ ٔٔ9‬و‪ ٖٔ8‬و‪ٔٗ9‬‬

‫ٕٗ‪7‬‬
‫تحولت مصر ألحد أكبر مراكز التجسس والمإامرات والمكابد فً العالم بعد تحولها ألكبر مصب‬
‫لبلجبٌن والمجرمٌن والجالٌات األجنبٌة من كل الجنسٌات‪.‬‬

‫فهذه الجالٌات تنتمً لطوابؾ وتٌارات متصارعة كالمارون والشٌعة والكرد واإلخوان والقومٌون العرب‬
‫والشٌوعٌٌن والٌهود والفاشٌٌن واألرمن إلخ‪ ،‬كما تنتمً لدول متحاربة ضد بعضها كفرنسا وروسٌا‬
‫وبرٌطانٌا وإٌطالٌا وألمانٌا وتركٌا والشام ولٌبٌا والٌونان‪.‬‬

‫كل هإالء ٌتجسسون على بعضهم البعض‪ ،‬وٌكٌدون لبعضهم البعض؛ ما دفع النتشار ظاهرة الملٌشٌات‬
‫وتسلٌح كل طابفة وعرقٌة‪ ،‬وتحولت مصر بعد انتشار الجٌش البرٌطانً فً أرجابها إلى سجن كبٌر‪،‬‬
‫خاصة فً فترتً الحربٌن العالمٌتٌن‪ ،‬بما ارتبط بذلك من أحكام عرفٌة ومحاكمات عسكرٌة ونزح مالً فً‬
‫إعادة لمشهد انتشار الجٌش الرومانً فً مصر بكثافة لقمع الثورات المصرٌة‪.‬‬

‫وبلػ الجٌش البرٌطانً قبل ثورة ٖٕ ٌولٌوٕ٘‪ ٔ9‬بؤٌام ٘‪ 8ٓ -9‬ألؾ جندي‪ ،‬فً مخالفة وقحة لمعاهدة‬
‫‪ ٔ9ٖٙ‬التً نصت على أال ٌزٌد عن ٓٔ آالؾ من القوات البرٌة وٓٓٗ طٌار وموظفٌن إدارٌٌن(‪ ،)ٔ9ٗٙ‬بل‬
‫واستعد لجلب قوات أمرٌكٌة وتركٌة بحجة اضطراب األوضاع فً مصر والحاجة لتؤمٌن قناة السوٌس‪،‬‬
‫ووصِ ؾ حٌنها الوجود البرٌطانً بمصر بؤنه أكبر قاعدة عسكرٌة فً العالم‪.‬‬

‫▲▲▲ أجراس ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘‪ٔ9‬‬

‫وفً عز هذا المناخ المخٌؾ الذي ٌنبا بؤن مصر تمشً فً اتجاه سقوط كبٌر جدٌد على ٌد من ٌدعون‬
‫أنهم نخبة األمة وحكامها ومساعً برٌطانٌا والجالٌات إلى "البقاء لؤلبد" مرَّ ت ٌد هللا الحانٌة على مصر‬
‫ٌحول دفة السبلح المصري إلى صدر العدو ال إلى الصدر المصري‪.‬‬ ‫تهدئ روعها وترسل لها ما َّ‬

‫فبعد فشل المفاوضات بٌن وزارة الوفد وبرٌطانٌا ٔ٘‪ ٔ9‬لتعدٌل معاهدة ‪ ،ٔ9ٖٙ‬فاجا ربٌس الوزارة‬
‫مصطفى النحاس المصرٌٌن والعالم ٌوم ‪ 8‬أكتوبر ٔ٘‪ ،ٔ9‬وفً مشهد تارٌخً وسط البرلمان بقوله إنه "من‬
‫أجل مصر" وقع معاهدة ‪ ،ٔ9ٖٙ‬و"من أجل مصر أٌضا" ٌلؽً هذه المعاهدة(‪.)ٔ9ٗ9‬‬

‫أشرق وجه البلد بالفرحة والحماسة‪ ،‬وأبدى الناس استعدادهم للبذل والتضحٌة‪ ،‬فكانت المقاومة الشعبٌة‬
‫ضد القوات البرٌطانٌة على ضفاؾ القنال(‪.)ٔ9ٗ8‬‬

‫وهنا نتوقؾ قلٌبل عند مشاهد سرٌعة خبلل المقاومة‪ ،‬ففً السوٌس مشهد ؼفلت عن تجسٌده شاشات‬
‫السٌنما والتلفزٌون رؼم ما به من أحداث تختصر معنى االحتبلل‪ ،‬وذلك أن أرسكٌن‪ ،‬القابد العام للقوات‬
‫البرٌطانٌة فً القناة‪ ،‬طلب من محافظ السوٌس إخبلء حً أحمد عبده‪ ،‬وفٌه ٖٓٓ أسرة‪ ،‬بحجة شق طرٌق‬

‫(‪)ٔ9ٗٙ‬‬
‫‪ -‬مقدمات ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘‪ ،ٔ9‬عبد الرحمن الرافعً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖ٘‪ٖٙ -‬‬
‫(‪)ٔ9ٗ9‬‬
‫‪ -‬الثورة المضادة فً مصر‪ ،‬ؼالً شكري‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ٔ‪ٔ9‬‬
‫(‪)ٔ9ٗ8‬‬
‫‪ -‬الثورة المضادة فً مصر‪ ،‬ؼالً شكري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٔ‪ٔ9‬‬

‫ٕ٘‪7‬‬
‫بٌن وابور تكرٌر المٌة ومعسكرات اإلنجلٌز فً ٘ دٌسمبر ٔ٘‪ ،ٔ9‬بعد شهرٌن من إلؽاء معاهدة ‪،ٔ9ٖٙ‬‬
‫فرفض المحافظ وبلػ وزارة الداخلٌة التً أمرته بعدم تنفٌذ أوامر االحتبلل وطالبته بمقاومته‪.‬‬

‫وبعد ٌومٌن فً ‪ 9‬دٌسمبر حشد االحتبلل قوة من ‪ ٙ‬آالؾ جندي‪ ،‬ب ٕٓ٘ دبابة وٓٓ٘ مصفحة وبؽطاء‬
‫من الطابرات الحربٌة‪ ،‬وطوقت الحً فً اللٌل‪ ،‬وهددت السكان باالقتحام‪ٌ ،‬عزز إرهابها زمجرة البوارج‬
‫البرٌطانٌة فً المٌنا وهً مصوبة مدافعها ناحٌة المدٌنة فً حالة تؤهب لقصفها بالقنابل عند أول إشارة‪ ،‬فً‬
‫نفس مشهد محاصرة البوارج البرٌطانٌة لئلسكندرٌة سنة ٕ‪ ،ٔ88‬وفً المقابل كان السكان عزال‪ ،‬وقوة‬
‫البولٌس فً المدٌنة ٓٓٗ جندي مسلحٌن بالبنادق ال ؼٌر‪ ،‬فما كان من المحافظ إال أنه اضطر لمخالفة‬
‫وزارة الداخلٌة خوفا على السكان من سقوط البٌوت فوق رإوسهم حال قصؾ المدٌنة‪ ،‬فؤخلى السكان الحً‬
‫حاملٌن القلٌل مما قدروا علٌه‪ ،‬وخرجوا للمجهول‪ ،‬ودمرت الدبابات الحً وحولته خرابا(‪ ..)ٔ9ٗ9‬نفس ما فعلته‬
‫االحتبلالت السابقة ببل استثناء‪ ،‬فكلهم ٌا عزٌزي إذا تمكنوا من مصر دواعش‪.‬‬

‫وفً قرٌة القرٌن بمحافظة الشرقٌة لما رأى رجالها الخطر ٌقترب ظلوا ساهرٌن لٌلهم حاملٌن سبلحهم‬
‫على عواتقهم‪ ،‬فلما أؼار علٌهم اإلنجلٌز استشهد ٘ فبلحٌن فً حٌن قتلوا ٕٓ إنجلٌزٌا‪ ،‬وكم كان األثر عمٌقا‬
‫فً النفوس أن ٌشهد العالم جنازة تضم ٘ شهداء فً موكب مهٌب ومن حولهم جموع الهاتفٌن مكبرٌن‪،‬‬
‫وأمامهم سارت الموسٌقى تعزؾ لحنا حزٌنا‪ ،‬وأجراس الكناٌس تدق عالٌا وأصوات المإذنٌن تهلل وتكبر‪،‬‬
‫وما إن بلؽت الجنازة مقرها األخٌر حتى ارتفعت أصوات النساء ٌزؼردن فً فرح ال فً مؤتم‪ ،‬ومن‬
‫الشهداء شهٌد لم ٌبلػ الحُلم فاستقبله رفاقه الصؽار عند القبر هاتفٌن باسمه "إلى جنة الخلد"(ٓ٘‪.)ٔ9‬‬

‫وفً اإلسماعٌلٌة‪ ،‬التً شالت عببا ضخما فً المقاومة الشعبٌة؛ ألن قٌادة جٌش االحتبلل فٌها‪ ،‬تكررت‬
‫استفزازات االحتبلل لؤلهالً‪ ،‬واستعرض عضبلته على قوات األمن المصرٌة باالعتداء على ثكناتها من‬
‫ؼٌر سبب كالوحش الجابع‪ ،‬وفً لٌل ٕٗ ٌناٌر ٕ٘‪ ٔ9‬احتشدت قوات ضخمة من البرٌطان بالدبابات‬
‫ومدافع المٌدان‪ ،‬وطوقت مبنى المحافظة وثكنات بلوكات النظام (قوات الداخلٌة) بشكل مفاجا‪.‬‬

‫وفً الصبح ٕ٘ ٌناٌر أرسل البرٌجادٌر أكسهام قابد القوات البرٌطانٌة فً اإلسماعٌلٌة إنذارا لقابد‬
‫بلوكات النظام اللواء أحمد رابؾ ٌطلب منه تسلٌم كل أسلحة قوات البولٌس‪ ،‬وجبلء رجال البولٌس عن‬
‫ثكناتهم ومنطقة القناة كلها‪ ،‬مجردٌن من السبلح‪ ،‬فرفض قابد البولٌس اإلنذار الوقح‪ ،‬خاصة بعد االتصال‬
‫بوزٌر الداخلٌة فإاد سراح الدٌن الذي أٌده فً رفض اإلنذار‪ ،‬فكرر أكسهام إنذاره وهو ٌهدد بنسؾ الثكنات‬
‫ومبنى المحافظة‪ ،‬فؤصر القابد المصري على الرفض‪ ،‬فنفذ أكسهام إنذاره ورمت المدافع الثقٌلة المحافظة‬
‫بطوفان القنابل‪ ،‬فرد الجنود المصرٌون على الضرب بؤسلحتهم البسٌطة‪ -‬بنادق‪ -‬فً معركة ؼٌر متكافبة‬
‫استمرت ساعتٌن‪ ،‬وخبللها استشهد ٓ٘ من رجال البولٌس وأصٌب ٓ‪ 8‬آخرٌن‪ ،‬وخسر اإلنجلٌز ٖٔ قتٌبل‬
‫على األقل‪ ،‬وتحققت كلمة القابد المصري بؤن قوات االحتبلل لن تؤخذ المحافظة إال ورجال البولٌس مقدمٌن‬

‫(‪)ٔ9ٗ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬الكتاب األسود لبلستعمار البرٌطانً فً مصر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٕٓ -ٕٔ9‬‬
‫*** نفس مشهد إخبلء اإلسرابٌلٌٌن لبعض الفلسطٌنٌٌن من منازلهم‪ ...‬ولكن مصر ال بواكً لها‬
‫(ٓ٘‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬مذكراتً فً السٌاسة والثقافة‪ ،‬ثروت عكاشة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪899 -89ٙ‬‬

‫‪7ٕٙ‬‬
‫كل ما عندهم‪ ،‬بما فٌه أرواحهم‪ ،‬حتى انحنى لهم أكسهام محٌٌا شجاعتهم(ٔ٘‪.)ٔ9‬‬

‫▼▼▼ حرٌق القاهرة الثانً (اللهو الخفً ٌعود)‬

‫أشعل "مجهولون" القاهرة بشكل مفاجا نهار ‪ٌ ٕٙ‬ناٌر ٕ٘‪ ،ٔ9‬بعد ٌوم واحد من معركة اإلسماعٌلٌة‪،‬‬
‫ومصر لم تدفن بعد شهدابها‪ ،‬ولم ٌُعرؾ على وجه الٌقٌن حتى اللحظة من هو "اللهو الخفً" الذي أحرق‬
‫العاصمة‪ ،‬مثلما لم ٌُعرؾ من هو "اللهو الخفً" الذي دمَّر عشرات الكناٌس فً طول مصر وعرضها فً‬
‫وقت واحد أٌام السلطان المملوكً الناصر محمد بن قبلوون فً "واقعة الكناٌس" التً أعقبها الحرٌق األول‬
‫‪.‬‬
‫(ٕ٘‪)ٔ9‬‬
‫للقاهرة‬

‫وسارعت الحكومة بإعبلن األحكام العرفٌة‪ ،‬وانتهز الملك الفرصة وأقال وزارة النحاس‪ ،‬وفً نفس‬
‫الوقت ٌجهز نفسه لترك مصر إذا ما تصاعدت األمور(ٖ٘‪ ،)ٔ9‬مثلما جهز جده محمد علً نفسه للهروب إلى‬
‫الشام حٌن ؼزت مصر حملة فرٌزر ‪ ،ٔ8ٓ9‬وأقام فً ‪ٌ ٕٙ‬ناٌر ٕ٘‪ ،ٔ9‬الٌوم الثانً لمعركة اإلسماعٌلٌة‪،‬‬
‫حفلة كبٌرة دعا لها كبار رجال الدولة لبلحتفال بمولد ولً العهد أحمد فإاد‪ ،‬ولم ٌشارك الشعب مشاعر‬
‫الحداد(ٗ٘‪ ، )ٔ9‬تماما كما احتفل جده توفٌق بتثبٌته على العرش فً موكب "نصر الفتح اإلنجلٌزي"‪ ،‬فٌما جثث‬
‫اآلالؾ من المصرٌٌن متناثرة فً التل الكبٌر والشوارع‪ ،‬والبلد ٌلفها السواد‪.‬‬

‫حقق حرق القاهرة أهدافه‪ ،‬فصرؾ نظر المصرٌٌن والعالم عن الكفاح الكبٌر فً القناة والشرقٌة ضد‬
‫االحتبلل‪ ،‬وع َّتم على معركة اإلسماعٌلٌة‪ ،‬ونقل المصرٌٌن فً اإلعبلم الدولً من كونهم مقاومٌن للمحتل‬
‫إلى "ظالمٌن" وهمج" نشروا الفوضى‪ ،‬فكانت ضربة كبٌرة للمقاومة شؽلت الجمٌع‪.‬‬

‫وفً هذا قال جمال عبد الناصر فٌما بعد‪ ،‬وكان هو وضباط آخرون ٌشاركون فً المقاومة الشعبٌة‬
‫بصورة سرٌة فً معارك القناة‪" :‬حُ ِرقت القاهرة وحرق معها كفاحنا فً القنال‪ ،‬ومن ذلك الٌوم ‪ٌ ٕٙ‬ناٌر‬
‫سنة ٕ٘‪ ٔ9‬بدأنا نفقد الصبر‪ ،‬وبدأنا نفكر فً العمل اإلٌجابً‪ ،‬وآثرنا أن نصرع الفساد قبل أن ٌصرعنا‪،‬‬
‫وأن نحطم الطؽٌان قبل أن ٌحطمنا(٘٘‪ ،")ٔ9‬وهو ما كان بعد ‪ ٙ‬شهور‪.‬‬

‫(ٔ٘‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر الكتاب األسود لبلستعمار البرٌطانً فً مصر‪ ،‬ص ٕٕٓ‪ٕٕٕ -‬‬
‫(ٕ٘‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬فً ٌوم جمعة من سنة ٕٔ‪ 7‬ه‪ ٖٕٔٓ /‬م أٌام الناصر قالوون ظهر فجؤة رجل مجذوب (أو ٌصطنع أنه كذلك) ٌصرخ وسط جامع قلعة الجبل‬
‫عقب الصالة ‪" :‬اهدموا الكنٌسة التً فً القلعة‪ ..‬اهدموها"‪ ،‬وأكثر الصٌاح‪ ،‬وفً نفس الوقت ظهر رجل فً الجامع األزهر من الفقراء (ٌطلق حٌنها‬
‫هذا الل فظ على الصوفٌة) وصاح‪" :‬اهدموا كنابس الطؽٌان والكفرة‪ .‬نعم‪ .‬هللا أكبر‪ .‬فتح هللا ونصر"‪ ،‬واستؽرب الناس أمرهما ولكن لم ٌعثرا لهما‬
‫على أثر‪ ،‬وفجؤة انتشر من وصفهم المقرٌزي بؽوؼاء العامة وهدموا كنٌسة الزهري وقتلوا من فٌها ونهبوها‪ ،‬وهدموا كنٌسة بومٌنا فً الحمراء‬
‫ونهبوها وتسارع األمر حتى هدموا ‪ ٙ‬كنابس وسبوا البنات‪ ،‬وتتابعت أخبار هدم كنابس أخرى فً الفسطاط وسط هرج ومرج فؤرسل قالوون‬
‫قواته لكؾ الن ًّهابة عما ٌفعلون‪ ،‬واتضح أنه شاع بٌنهم أن السلطان أمر بذلك‪ ،‬وما أمر بشًء‪ ،‬وهم ذهول جاءهم أخبار بهدم ٗ كنابس باألسكندرٌة‬
‫وكنٌستٌن فً البحٌرة وأٌضا هدم ‪ ٙ‬كنابس فً ساعة واحدة بقوص فً الوجه القبلً ثم كنابس دمٌاط وؼٌرها وؼٌرها من أقصى مصر إلى‬
‫أقصاها‪ ،‬وبنفس تحرٌض هإالء المجاذٌب الذٌن ٌظهرون فجؤة وٌختفون فجؤة‪ ،‬فؤمر السلطان بقتل الن َّهابٌن‪ ،‬وبعد شهر وقع حرٌق بالقاهرة‬
‫والفسطاط أتى على الكثٌر من البٌوت والمحالت والمراكب واستمر ٗ أٌام‪ ،‬وعلم أن ورابه بعض الرهبان لالنتقام مما حصل للكنابس‪ ،‬فؤحرق‬
‫السلطان عددا منهم‪ ،‬وبقً حتى الٌوم لؽز المجاذٌب والمتصوفة الذٌن حرضوا الجهلة على هدم الكناٌس فً عدد من مدن مصر فً وقت واحد خفٌا‬
‫(انظر‪" :‬تارٌخ األقباط المعروؾ بالقول األبرٌزي للعالمة المقرٌزي"‪ ،‬تحقٌق عبد المجٌد دٌاب‪ ،‬دار الفضٌلة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪)ٕٓ9 -ٔ97‬‬
‫(ٖ٘‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬الحرس الحدٌدي كٌؾ كان الملك فاروق ٌتخلص من خصومه‪ ،‬سٌد جاد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٖٔ‪ٖٗ -‬‬
‫(ٗ٘‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬انظر‪ :‬مقدمات ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘‪ ،ٔ9‬ص ٕٗٔ‬
‫(٘٘‪)ٔ9‬‬
‫‪ -‬مقدمات ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘‪ ،ٔ9‬عبد الرحمن الرافعً‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ٕٔ9‬‬

‫‪7ٕ7‬‬
‫مٌن اللً قال مكتوب علٌنا الهوان‬

‫ال الدنٌا سٌرك وال الزمن بهلوان‬

‫شى هللا ٌا طاهرة ‪ٌ ..‬ا ربٌسة الدٌوان‬

‫آن األوان نبقى احنا‪ ..‬آن األوان‬

‫وآدٌكو ٌا والد األصول شاهدٌن‬

‫ٌاللى الزمان‪ ..‬خدكم لفوق فى صعوده‬

‫ورجع وخان‪ ..‬ضعتوا ؾ بروقه ورعوده‬

‫عودوا ألصولكو‪ ..‬تانى لألرض عودوا‬

‫ده اللى ٌمد جدوره‪ٌ ..‬شتد عوده‬

‫ٌا قلبى داحنا وبكره‪ ..‬متواعدٌن‬

‫حكمة وقالوها جدودكم الخالدٌن‬

‫ٌاللً اكتشفت إن إنت عشت فً خداع‬

‫وإن ماضً العمر ع الفاضً ضاع‬

‫صحصح كدة وفتح عٌنٌك الوساع‬

‫وافرد شراع المجــد ومد الدراع‬

‫لبكرة تلقى بكرة بٌن اإلٌدٌن‬


‫(‪)ٔ9٘ٙ‬‬
‫وأمٌرة راجعة أمٌرة فً عابدٌن‬

‫ومصر راجعة‪ ...‬لعرشها المخطوؾ من مبات السنٌن‪.‬‬

‫(‪)ٔ9٘ٙ‬‬
‫‪ -‬آن األوان‪ ،‬تؤلٌؾ سٌد حجاب‪ ،‬ألحان عمار الشرٌعً‪ ،‬ؼناء هشام عباس‪ ،‬أؼنٌة مقدمة مسلسل "أمٌرة فً عابدٌن"‬

‫‪7ٕ8‬‬
‫"أال تعلم أن رعاع الؽزاة انتهبوا فً الماضً أراضٌنا بحكم الؽزو؟‬

‫وها هم أوالء ٌكونون طبقة عالٌة ممتعة بالجاه والسإدد واالمتٌازات ال حصر لها(‪.")ٔ9٘9‬‬

‫(‪)ٔ9٘9‬‬
‫‪ -‬رواٌة خان الخلٌلً‪ ،‬نجٌب محفوظ‪ ،‬مكتبة مصر‪ ،‬ط‪ ،ٙ‬القاهرة‪ ،‬ص ٕ‪ٙ‬‬
‫المشهد ٕٓ‪ :‬هل كان لتوطٌن األجانب إٌجابٌات؟‬

‫(نظرة المصرٌٌن لمن احتلوهم الٌوم)‬

‫ٌرى باحثون أنه كما كان لؤلجانب‪ -‬سواء احتبلل عسكري أو استٌطانً كل هذه الرزاٌا والنكبات التً‬
‫حلت على مصر فإنه لهم أٌضا "إٌجابٌات" و"إنجازات"‪ ،‬وٌصل األمر بؤن ٌقولوا أن لهم "فضل" على‬
‫مصر‪.‬‬

‫وأصدروا كتبا وسطروا مقاالت لئلشادة بدور الٌونانٌٌن والرومان والممالٌك والعرب واألسرة العلوٌة‬
‫واإلٌطالٌٌن والٌونانٌٌن واألرمن واإلنجلٌز والفرنسٌس والترك والشوام‪ ،‬وحتى الٌهود‪ ،‬و ُكل ٌرى هذا‬
‫"الفضل" على مصر حسب معتقداته وانتماإه‪ ،‬فمنهم من ٌرى "الفضل" فً المزج بٌن الحضارة المصرٌة‬
‫واألوروبٌة عبر االحتبلل الٌونانً والرومانً فً القدٌم‪ ،‬وتحدٌث مصر على الطرٌقة األوروبٌة باالحتبلل‬
‫الفرنسً واإلنجلٌزي‪ ،‬ومنهم من ٌراه فً نقل اإلسبلم واللؽة العربٌة إلٌها عبر االحتبلل العربً‪ ،‬ومنهم من‬
‫ٌراه فً "تخلٌص" و"تحرٌر" مصر من احتبلل سابق‪ ،‬مثل ما ٌقولون إن اإلحتبلل الٌونانً "حرر" مصر‬
‫من الفرس‪ ،‬والعربً "حرر" مصر من الرومان‪ ،‬واألٌوبً والمملوكً "أنقذ" مصر من الفرنجة‬
‫"الصلٌبٌٌن" والتتار‪ ،‬والعثمانلً "حمى" مصر من البرتؽال‪ ،‬والعلوي "حرر" مصر من االحتبلل‬
‫المملوكً‪ -‬العثمانلً‪ ،‬وبالطبع فإن من ٌإمنون بهذه األشٌاء ٌرفضون وصؾ هذه االحتبلالت بؤنها احتبلل‬
‫من األساس‪.‬‬

‫كذلك ٌشٌرون إلى "اإلنجازات" المادٌة أو الثقافٌة والعمرانٌة التً تمت فً عصور هذه االحتبلالت بؤنها‬
‫دلٌل "فضل" هإالء على مصر‪ ،‬مثل مكتبة اإلسكندرٌة والنهضة الحضارٌة فً اإلسكندرٌة أٌام الٌونان‪،‬‬
‫والمساجد واألسبلة والعمابر الفخٌمة أٌام االحتبلل المملوكً‪ ،‬وموسوعة وصؾ مصر وأفكار التحدٌث التً‬
‫جاء بها االحتبلل الفرنسً‪ ،‬وتحوٌل هذه األفكار لمشروعات فً الصناعة والتعلٌم والزراعة إضافة لتجنٌد‬
‫المصرٌٌن أٌام االحتبلل العلوي‪ ،‬والعمابر الفخٌمة ومشروعات النقل والمواصبلت والبنوك وانتشار‬
‫الصحؾ والسٌنما زمن االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬أما الجالٌات األجنبٌة (االحتبلل الجالٌاتً واالستٌطانً)‬
‫فٌذكرون لها أن هذه المشروعات كلها كان لها فٌها من التخطٌط والتنفٌذ نصٌب كبٌر‪.‬‬

‫♦ ♦♦ فمن ٌتحدث باسم المصرٌٌن وٌقول هذا الكالم؟‬

‫منهم أبناء هذه االحتبلالت‪ ،‬أي من جاءوا فً موكبها‪ ،‬وما زالوا مقٌمٌن فً مصر‪ ،‬لكنهم لم ٌتمصروا حقا‬
‫رؼم كرور السنوات إال بورقة الجنسٌة‪ ،‬فٌسخرون حٌاتهم لوضع كتب أو قصص تمجد االحتبلالت المنتمً‬
‫لها أجداد قدامى لهم إلعطابها شرعٌة‪ ،‬مثل بعض المنتمٌن للٌونانٌٌن أو األرناإوط أو األرمن أو قباٌل‬
‫عربٌة أو الترك أو الممالٌك إلخ‪ ،‬وكذلك باحثٌن ٌونانٌٌن أو فرنسٌس أو إنجلٌز أو أرمن أو عرب أو أتراك‬

‫ٖٓ‪7‬‬
‫إلخ صرؾ ٌعٌشون فً بلدانهم فٌكتبون من باب االعتزاز بالفتوحات أو األنشطة الخاصة بها‪.‬‬

‫ومنهم أبناء تٌارات الهكسوس‪ ،‬أي المرتبطٌن بتٌار الخبلفة اإلسبلمٌة (تنظٌم اإلخوان والسلفٌٌن)‪ ،‬أو تٌار‬
‫اللٌبرالٌة الرأسمالٌة أو الشٌوعٌة أو الصوفٌة أو الماسونٌة أو القومٌة العربٌة أو اإلرسالٌات التبشٌرٌة‪ ،‬وكل‬
‫أبناء تٌار من هإالء مرتبط باحتبلل معٌن ٌجهد لٌعطٌه شرعٌة‪ ،‬مثل ارتباط تٌار الخبلفة بالعرب‬
‫والعثمانلٌة‪ ،‬أو ارتباط تٌار الرأسمالٌة واإلرسالٌات بالفرنسٌس واإلنجلٌز والجالٌات األوروبٌة‪ ،‬أو ارتباط‬
‫القومٌة العربٌة بالعرب‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫ومنهم من لٌس بداخله ؼرض سًء‪ ،‬ولكنه من المتلقٌن للمعلومات التً تقدمها المدارس فً مصر‬
‫(حكومٌة أو أجنبٌة) ووسابل اإلعبلم ببرامجها ومسلسبلتها وأفبلمها‪ ،‬وٌشكل آرابه منها فقط‪.‬‬

‫والسإال‪..‬‬

‫♦♦♦ هل حقا هناك جٌش أجنبً "حرر" مصر‪ ،‬و"أنقذ" مصر؟‬

‫جٌش اإلسكندر لما هزم الفرس واحتل مصر‪ ،‬هل بذلك حررها أم تخلص من منافس له لٌحتلها هو؟‬

‫جٌش الرومان لما هزم البطالمة واحتل مصر‪ ،‬هل بذلك حررها أم تخلص من منافس له لٌحتلها هو؟‬

‫وجٌش العرب لما هزم الروم واحتل مصر‪ ،‬هل حررها أم تخلص من منافس له لٌحتلها هو؟‬

‫جٌش العبٌدٌٌن (الفاطمٌٌن) لما هزم العرب (الخبلفة العباسٌة) واحتل مصر‪ ،‬بذلك حررها أم تخلص من‬
‫منافس له لٌحتلها هو؟‬

‫وجٌش األٌوبٌٌن لما هزم العبٌدٌٌن واحتل مصر‪ ،‬هل بذلك حررها أم تخلص من منافس له لٌحتلها هو؟‬

‫الممالٌك لما هزموا األٌوبٌٌن واحتلوا مصر‪ ،‬بذلك حرروها أم تخلصوا من منافس لهم لٌحتلوها هم؟‬

‫وجٌش العثمانلٌة لما هزم الممالٌك واحتل مصر‪ ،‬بذلك حررها أم تخلص من منافس له لٌحتلها هو؟‬

‫جٌش الفرنسٌس حٌن هزم الممالٌك واحتل مصر‪ ،‬بذلك حررها أم تخلص من منافس له لٌحتلها هو؟‬

‫ومحمد علً مدعوما بالثورات الشعبٌة على الفرنسٌس والوالً العثمانلً لما هزم الممالٌك والعثمانلٌة‬
‫واحتل مصر‪ ،‬هل بذلك حررها أم تخلص من منافس له لٌحتلها هو؟ بل وتخلص من قادة الثورات لٌنفرد‬
‫بالحكم‪.‬‬

‫وجٌش اإلنجلٌز حٌن كسر ثورة التحرٌر المصرٌة ٕ‪ ٔ88‬ثم هزم السلطنة العثمانلٌة فً الحرب العالمٌة‬
‫األولى واحتل مصر‪ ،‬هل بذلك حررها أم تخلص من منافس له لٌحتلها هو؟‬

‫ٖٔ‪7‬‬
‫هل محتل واحد من هإالء حٌن طرد المحتل السابق له وقؾ وسلَّم مصر ألهلها؟‬

‫هل محتل واحد من هإالء قال لقد "حررناكم" أٌها األحبة المصرٌون وهاكم صولجان حكم مصر وعرشها‬
‫وثرواتها تعود لكم هنٌبا مرٌبا ونحن عابدون لببلدنا و"نشوؾ وشكو على خٌر" و"ربنا ٌدٌم المعروؾ"؟‬

‫هل محتل واحد من هإالء حٌن تمكن من حكم مصر أعاد المصرٌٌن لمكانتهم األصلٌة‪ ،‬أن ٌكونوا األسٌاد‬
‫فً بلدهم‪ ،‬أم أبقوا علٌهم مسخرٌن وخادمٌن للمحتل الجدٌد والجالٌات األجنبٌة وفً أسفل الدرجات؟‬

‫هل محتل واحد من هإالء حرص على أن ٌكون الجٌش مصرٌا خالصا؟ المناصب مصرٌة خالصة؟ أو‬
‫أعاد توزٌع الثروة واألرض على أصحابها المصرٌٌن الحقٌقٌٌن؟‬

‫هل محتل واحد أو جالٌات أجنبٌة أنصؾ ثورة قامت تنادي‪" :‬مصر للمصرٌٌن"؟‬

‫♦♦♦ متى احتاجت مصر فً أي عصر هجرات أجنبٌة لتبنً نفسها ؟‬

‫وكدلٌل على ما ٌعتبرونه "فواٌد" االستٌطان الجالٌاتً فً مٌادٌن العمارة والفنون والزراعة والصحافة‬
‫والصناعة واألدب‪ٌ ،‬ضرب باحثون أمثلة منها ما شهدته مصر فً العصر الحدٌث‪:‬‬

‫ففً الصناعة‪ :‬ساهمت الجالٌات األجنبٌة منذ محمد عً وحتى ثورة ٕ٘‪ ٔ9‬فً تطوٌر صناعات قدٌمة‬
‫مثل السكر وتبٌٌض األرز والتعدٌن والنسٌج‪ ،‬وإدخال صناعات جدٌدة أو إحٌاء صناعات اندثرت أو قلَّت‬
‫مثل صناعة الثلج والمٌاه المعدنٌة وصناعة السفن وسباكة الحدٌد(‪.)ٔ9٘8‬‬

‫وفً الزراعة‪ :‬ساهمت الجالٌات األجنبٌة واستثماراتها فً توسٌع رقعة األراضً الزراعٌة عبر شركات‬
‫استصبلح األراضً والسدود وتوسٌع زراعة القطن حتى باتت مصر رقم (ٔ) فٌه عالمٌا‪.‬‬

‫وفً العمارة‪ :‬نشروا الطابع األوروبً فً العمارة‪ ،‬الفرنسً واإلٌطالً والٌونانً‪ ،‬خاصة فً اإلسكندرٌة‬
‫ووسط القاهرة ومدن القناة‪ ،‬حتى باتت بعض األحٌاء تتفوق فً جمالها على أحٌاء أوروبا‪.‬‬

‫وفً الثقافة‪ :‬انتشرت المدارس الحدٌثة والصحؾ والمجبلت وعاد المسرح لمصر بعد طول ؼٌاب‪،‬‬
‫وظهرت السٌنما فً مصر مبكرا مقارنة بمعظم الدول‪ ،‬وانتشر علم المصرٌات واآلثار والمتاحؾ‪.‬‬

‫وفً النقل واالتصاالت‪ :‬صارت مصر من أوابل دول العالم التً ظهر فٌها السكك الحدٌدٌة والتلٌفونات‬
‫والبرٌد وأحدث السٌارات‪ ،‬وتملك أهم ممر مبلحً عالمً وهو قناة السوٌس‪.‬‬

‫كل هذا ال ٌنفٌه المصرٌون‪ ،‬والسإال‪:‬‬

‫‪ -‬هل المصرٌون طوال تارٌخهم القدٌم المدٌد ناس "كتعة"‪ٌ ،‬عنً عجزوا عن إدارة بلدهم واختراع‬

‫(‪)ٔ9٘8‬‬
‫‪ -‬انظر الجالٌة البرٌطانٌة فً مصر (٘ٓ‪ ،)ٔ88ٕ -ٔ8‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔٔ‪ٖٔٓ -‬‬

‫ٕٖ‪7‬‬
‫وتطوٌر أرقى الفنون والعلوم أم كانوا مثاال لتقدٌم حضارة مشهودة أضاءت العالم وكانت له المنارة؟‬

‫‪ -‬هل لو لم تقع مصر فً االحتبلل العسكري واالستٌطانً كانت ستتوقؾ عن اإلبداع أم كانت ستبدع‬
‫دورات حضارٌة جدٌدة كعادتها‪ -‬مثل النهضة والوالدة الجدٌدة بعد الزفتة األولى والزفتة الثانٌة فً التارٌخ‬
‫القدٌم‪ -‬ال تقل رقٌا وإبداعا عما ورد إلٌها على ٌد االحتبلل االستٌطانً والعسكري‪ ،‬بل تفوقها كماال وجبلال‪،‬‬
‫واألهم أنها ستحتفظ بطابع وهوٌة مصرٌة تكون لنا َعلَما أمام العالم بدال من أن نتفاخر بؤن عمابر بلدنا‬
‫وثقافتنا صارت "ٌونانٌة" و"عربٌة" و"فرنسٌة" و"إٌطالٌة"‪ ،‬و"فرنسٌة" و"إنجلٌزٌة"‪ ،‬كؤ َّنا لمن نكن ٌوما‬
‫صناع حضارة‪ ،‬أو كؤ َّنا لم نكن ٌوما من األساس شعبا له بصمته وشخصٌته‪.‬‬

‫‪ -‬هل البلد التً بنت منؾ وأون وواسط (طٌبة) وساٌس وأبجو (أبٌدوس) وؼٌرها عشرات المدن‬
‫الشامخة كانت تنتظر أن ٌؤتٌها اإلؼرٌق لٌعلموها بناء المدن فنقول إن لهم فضل فً بناء اإلسكندرٌة؟‬

‫‪ -‬هل األفضل أن تؤتً إلٌنا احتبلالت عسكرٌة واستٌطانٌة فتصب على رأسنا وأرضنا صبا هوٌتها‬
‫وثقافتها و ُتلزمنا بها‪ ،‬أم أن نظل أحرارا‪ ،‬ال ٌملك بلدنا سوانا‪ ،‬وننتج ما ٌعبر عن دمنا وروحنا ودورنا فً‬
‫الحٌاة‪ ،‬ونتفاعل مع الحضارات والشعوب األخرى تفاعل "التعاون"‪ ،‬و"تبادل الخبرات"‪ ،‬ال الفرض والقهر؟‬

‫‪ -‬لمن كانت هذه المشروعات التً جرت أٌام االحتبلالت وشارك فٌها مستوطنون أجانب؟ هل‬
‫للمصرٌٌن أم لؤلجانب فً األساس؟ ولصالح تحرٌر واستقبلل مصر وإعادتها لمكانتها وهوٌتها األولى أم‬
‫لصالح ترسٌخ االحتبلل وأن تكون مصر مشاعا لكل األجناس؟‬

‫‪ -‬كم من المصرٌٌن استفادوا من األراضً المستصلحة أو ملكوها مقارنة بما تملكه منها األؼراب؟‬

‫‪ -‬كم مصري من والد البلد استطاع أن ٌسكن العمارات الفخٌمة المزخرفة فً اإلسكندرٌة ووسط البلد‬
‫ومدن القناة التً كانت شبه حكر على األجانب؟‬

‫‪ -‬هل معظم الزرع والحفر والبناء كان بسواعد المصرٌٌن أم األجانب؟ وكم تكلؾ المصرٌون من عرق‬
‫وسخرة لتظهر مثبل السكك الحدٌدٌة والعمارات الفخٌمة وقناة السوٌس والشوارع الممهدة على األرض؟‬

‫‪ -‬هل الصحافة والمدارس التً أسسها األجانب كانت تكتب وتعلم لصالح مصر أم لصالح األجنبً؟‬
‫وتنشر األخبلق واألصول المصرٌة أم تسعى لتعلٌم المصرٌٌن محبة المحتل وتلبسهم هوٌة من أذلوهم؟‬

‫‪ -‬كم طابفة ومذهب ؼرسته الجالٌات فً جسد مصر لٌشرخوه وٌخلقوا صراعات بٌن المصرٌٌن؟‬

‫‪ -‬هل كان ٌستطٌع اإلؼرٌق بناء اإلسكندرٌة واإلنفاق علٌها كل البذخ الذي كان‪ ،‬وهل كانت ستظهر‬
‫الفسطاط والقاهرة والكناٌس واألسبلة والمساجد والقصور والقبلع الممٌزة فً عصر الخبلفة اإلسبلمٌة‪،‬‬
‫وهل كان محمد علً وأوالده واإلنجلٌز وكافة الجالٌات قادرون على تنفٌذ قناة السوٌس والسكك الحدٌد‬
‫وتشٌٌد العمارات والقصور الفخٌمة والمصانع بدون أموال وعرق وشقا وأٌدي الفبلحٌن‪ ،‬بل وبدون ما‬

‫ٖٖ‪7‬‬
‫ورثه العالم من علوم وفنون وعمارة وإدارة مصرٌة؟‬

‫‪ -‬ولماذا نجحت أسرة محمد فً مصر وفشلت فً الشام‪ ،‬ولماذا ازدهرت مشارٌع الفرنسٌس واإلنجلٌز‬
‫والجالٌات األجنبٌة فً مصر أكثر من دول أخرى احتلوها فً المنطقة إن لم ٌكن الفضل األول فً ذلك‬
‫ألبناء مصر وكدهم؟‬

‫‪ -‬لماذا تحول بعض من أتوا من أوروبا وجزٌرة العرب والشام والمؽرب من الشًء أو حٌاة البداوة إلى‬
‫أؼنٌاء وأسماء معروفة ومراكز مرموقة فً الفن والسٌاسة واالقتصاد إن لم ٌكن الفضل لمصر ال لهم؟‬

‫‪ -‬هل تساوي كل اإلنجازات المنسوبة لؤلجانب منظر المصرٌٌن ٌساقون أسرى فً الحبال لٌزرعوا‬
‫وسٌة الرومانً فبلن والٌونانً عبلن والعربً سبلن واإلنجلٌزي تبلن إلخ؟‬

‫‪ -‬هل تساوي االنجازات المنسوبة لؤلجانب منظر المصرٌٌن أطفال وكبار سن وستات ٌتساقطون موتى‬
‫من اإلعٌاء واإلرهاق فً العمل أو الضرب بالكرابٌج أو من البرد أو العطش كما حدث فً مشارٌع عدة‬
‫أٌام العرب والممالٌك والعثمانلٌة ومحمد علً واإلنجلٌز وؼٌرهم؟‬

‫‪ -‬هل تساوي منظر المصرٌٌن ٌختطفهم االحتبلل وأعوانه من الشوارع والبٌوت هم ومحاصٌلهم‬
‫وحٌواناتهم لٌحاربوا بالسخرة فً حروب العثمانلً واإلنجلٌزي ومحمد علً وإسماعٌل وؼٌرهم؟‬

‫‪ -‬هل تساوي منظر المصرٌٌن وهم ٌفاجبون "كل ٌوم والتانً" بذباب العربان الجوعى تنقض على‬
‫قراهم وتنهش أموالهم وأجسادهم وأعراضهم ومحاصٌلهم وأراضٌهم؟‬

‫‪ -‬هل تساوي منظر المصرٌٌن وهم كاألٌتام بٌن اللبام بعد فقد الحكومة والجٌش والداخلٌة التً منه‬
‫فٌتحكم فٌه العربً والعجمً فً قرٌته وٌتسلط وٌعامله معاملة العبٌد وٌتحجج بؤنه "بٌحمٌه"؟‬

‫‪ -‬هل تساوي سرقة تعب وفن وفكر المصرٌٌن الذي أصبح منسوبا للٌونان أو الرومان أو العرب أو‬
‫العبٌدٌٌن وؼٌرهم‪ ،‬فٌقال فن ٌونانً ورومانً وعربً وفاطمً وإسبلمً وال ٌُذكر نصٌب المصرٌٌن فٌه‬
‫وكؤن مصر ماتت مع مجا االحتبلل اإلؼرٌقً؟‬

‫‪ -‬هل تساوي أن تارٌخ مصر بداٌة من االحتبلل الخاسوتٌمً وحتى االحتبلل العثمانلً ال ٌكتبه تقرٌبا‬
‫إال المحتل والجالٌات األجنبٌة‪ ،‬فٌظهر لنا أحوال و"إنجازات" األجانب فً مصر‪ ،‬فً حٌن نكاد ال نسمع‬
‫صوتا للمصرٌٌن وال نعرؾ آرابهم وأحوالهم من ألسنتهم كؤنهم ؼٌر موجودٌن؟‬

‫‪ -‬هل تساوي سرقة صفة "المصرٌٌن" من أوالد البلد‪ ،‬ولصقها بالجالٌات األجنبٌة من مستوطنً مصر‪،‬‬
‫فٌكاد من ٌقرأ كتب المإرخٌن والرحالة ال ٌعرؾ عند كبلمهم عن "المصرٌٌن" من ٌقصد بالضبط؟‬

‫‪ -‬هل تساوي عقد الخواجة "اللً راكبة معظم المتعلمٌن" وانحناءة الضهر وركوع النفس أمام "اللً‬

‫ٖٗ‪7‬‬
‫ٌسوى وما ٌساوش" من األجانب بعد تعود هإالء المتعلمٌن على أن ٌسٌروا وراء األجانب؟‬

‫‪ -‬هل تساوي اإلنجازات المنسوبة لؤلجانب حرمان المصرٌٌن من متعة الطموح والترقً والعلم وحرٌة‬
‫الحركة و حتى متعة األكل مبات السنٌن وهو ٌراقبون كل سفٌه ووضٌع ٌدخل بلدهم فٌتحول فً لحظة‬
‫لصاحب جاه وٌؤمر وٌتؤمر علٌهم؟‬

‫‪ -‬هل تساوي أن ٌملك أرضنا األجانب سوا بالؽصب أو بالربا أو من الحكومة بالشرا والهبات وٌصبح‬
‫األجنبً "صاحب أرض المصرٌٌن"‪ ،‬وهم الذٌن ٌتوسلون إلٌه لٌسمح لهم بؤن ٌعملوا فٌها أو ٌسكنوا؟!‬

‫‪ -‬هل تساوي أن ٌتحول الشعب الواحد الوحٌد فً العالم إلى شعب مؽروس بالطوابؾ والمذاهب والقبابل‬
‫واألعراق األجنبٌة تنهش بعضها بعضا وتحول المصرٌٌن لفرق تقتل بعضها بعضا؟‬

‫‪ -‬هل تساوي أن ٌتحول جزء من المصرٌٌن إلى "خونة دون وعً"‪ٌ ،‬ستحلوا بٌع بلدهم للتنظٌمات‬
‫الدولٌة والببلد األجنبٌة بعد أن نسوا أصولهم المصرٌة الشرٌفة وارتموا فً أحضان الشٌوعٌة والماسونٌة‬
‫واإلخوان المسلمٌن واللٌبرالٌة واإلرسالٌات والروح القبلٌة والحزبٌة؟‬

‫‪ -‬هل تساوي أن تظل مصر مبات السنٌن خٌرها لؽرٌبها ومرها ألوالدها؟‬

‫‪ -‬هل تساوي أن ننسى حضارتنا وٌشوهها العالم وتشنع علٌنا الشعوب التً احتلتنا واستوطنتنا أننا كنا‬
‫شعب من الكفرة والفسقة رؼم أننا كنا من أعظم‪ -‬إن لم نكن أعظم‪ -‬شعب وأكثره تدٌنا مقارنة بهم؟‬

‫‪ -‬هل تساوي أن تتجرأ الشعوب التً نهبت ببلدنا أن تتكبر علٌنا وتقول نحن من حررناكم من االحتبلل‬
‫كما ٌقول العرب إنهم "حررونا" من االحتبلل الرومانً‪ ،‬وأسرة محمد علً أنهم "حررونا" من االحتبلل‬
‫المملوكً إلخ‪ ،‬واألدهى أن مصرٌٌن ٌكررون ورابهم نفس الكبلم؟‬

‫‪ -‬هل تساوي أن ٌُساق المصرٌون رجال وستات وأطفال للبٌع فً أسواق الرقٌق كما بهم فعل العربان‬
‫والممالٌك والعثمانلٌة داخل مصر أو ٌتجرجروا لبٌعهم فً أسواق الحجاز كما فعل عمرو بن العاص أو فً‬
‫بؽداد كما فعل الخلٌفة المؤمون؟‬

‫‪ -‬هل تساوي أن ُتساق كفاءات المصرٌٌن فً كل صنعة وحرفة وفن مقٌدٌن لٌبنوا ببلد آشور وفارس‬
‫وإسطنبول حٌن احتلنا تلك الببلد‪ ،‬فٌما ٌتركون مصر قاعا صفصفا؟‬

‫‪ -‬هل تساوي اؼتصاب ستات مصر وبالجملة أمام أهالٌهنَّ أو على الطرقات أو ٌُساقوا إلى بٌوت‬
‫المؽتصبٌن على ٌد العربان والممالٌك والعثمانلٌة والفرنسٌس المسلحٌن خبلل هجماتهم على القرى‪،‬‬
‫وٌشاهدنَّ آبابهنَّ العُزل ٌقتلون أمامهنَّ وهم ٌدافعون عنهنّ ؟‬

‫‪ -‬هل تساوي أن ٌتعطل المصرٌون كل فترة لٌقوموا بثورات رهٌبة ضد المحتلٌن تستمر شهورا أو‬

‫ٖ٘‪7‬‬
‫سنوات لٌتخلصوا منه‪ ،‬ثم تنزؾ أرواحهم باآلالؾ حٌن ٌقابلها المحتل بسٌوؾ مرتزقة وأوباش األرض؟‬

‫‪ -‬هل تساوي أن ٌحكم مصر العبٌد والجواري والمرتزقة وٌذلوا الفبلحٌن األحرار؟‬

‫‪ -‬هل تساوي أن المصرٌٌن بعد أن كانوا النجوم البلمعة فً سماء الدنٌا آالؾ السنٌن ٌصبحون مجرد‬
‫خدم وفواعلٌة‪ ،‬بل مسخرٌن ببل أجر لٌس فً مشارٌع تخدم بلدهم حقا‪ ،‬بل عند المستوطنٌن األجانب؟‬

‫‪ -‬هل تساوي منظر المصري الحُر‪ ،‬ابن األرض‪ ،‬وابن ماعت‪ٌ ،‬نحنً لٌقبل ٌد المستوطن األجنبً‪ -‬جبرا‬
‫أو اختٌارا‪ -‬باعتباره "السٌد" متملك األرض التً فٌها رزقه‪ ،‬لٌكسب رضاه أو لٌإجل له مٌعاد دفع اإلتاوات‬
‫والضراٌب أو لٌرد له أوالده وزوجته الذٌن أخذهم رهنا عنده حتى ٌدفع المعلوم؟‬

‫‪ -‬هل تساوي أن ٌكون ترتٌب الطبقات فً معظم عصور االحتبلالت هو‪ :‬الطبقة األولى المحتل‬
‫العسكري‪ ،‬الطبقة الثانٌة الجالٌات األجنبٌة‪ ،‬الطبقة الثالثة العبٌد والجواري‪ ،‬الطبقة الرابعة المصرٌٌن‪ ،‬أي‬
‫أننا فً بلدنا أقل من العبٌد والجواري؟‬

‫‪ -‬هل تساوي أنه من كثرة معاٌشتنا لؤلجانب وكثرة فرضهم ألذواقهم علٌنا أصبحت مصر بلد "مرقعة"‪،‬‬
‫كل حاجة فٌها تبع هوٌة وتبع بلد‪ ،‬سوا العمارة أو اللبس أو اللؽة أو المدارس أو الفنون أو حتى فرش بٌوتنا‬
‫وأكلنا وأسامٌنا وأسامً شوارعنا ومدننا‪ ،‬وكؤننا بلد "ال جدر لها وال أصل"؟‬

‫‪ -‬هل ٌساوي اإلنجازات المنسوبة لؤلجانب سرقة ما تم سرقته من اآلثار المصرٌة منذ االحتبلل‬
‫األشوري وحتى اآلن‪.‬‬

‫‪ -‬هل تساوي فقدان المصرٌٌن للسانهم المصري البلٌػ‪ ،‬اللؽة المصرٌة‪ ،‬روح حضارتهم‪ ،‬فٌتجرأ علٌنا‬
‫الشعوب وتقول‪ :‬لو كنتم حقا حضارة عظٌمة ما فقدتم لؽتكم وما أصبحتم منقادٌن لثقافات ؼٌركم؟‬

‫‪ -‬هل تساوي أن تتجرأ علٌنا الشعوب لتقول إنكم شعب خلٌط من الؽزاة ولستم مصرٌٌن‪ ،‬فبل هوٌة لكم‪،‬‬
‫وٌتخذوا هذا حجة لتحقٌق مشروع تدوٌل مصر لكل األجناس ولكل الهوٌات والثقافات بعد أن كانت هً‬
‫صانعة أول وأبهى هوٌة وطنٌة؟‬

‫‪ -‬هل تساوي أن الٌوم ٌتجرأ علٌنا ٌهودي وزنجً وسودانً وأوروبً وعربً وأمازٌؽً وألبانً بل‬
‫حتى الؽجر (كما سنرى إنشاء هللا فً الجزء الثانً) لٌقولوا إنهم من صنع حضارة مصر لمجرد أن بعضهم‬
‫سكن فٌها لفترة كؽزاة أو عبٌد أو أسرى حرب أو حتى لم ٌسكنها‪ ،‬وأن من فً مصر الٌوم ؼزاة‪،‬‬
‫وٌخططون بمساعدة تنظٌمات دولٌة للنزاع معنا على مصر بحجة أن لهم فٌها حقوقا تارٌخٌة؟‬

‫‪ -‬هل األصح واألعدل واألنسب مع ما جرى فً التارٌخ أن ٌقال للؽزاة وجالٌاتهم "فضل" على مصر‪،‬‬
‫أم أن لمصر "حقوقا" عندهم لم ُتفتح ملفاتها بعد؟ وإن علٌهم أن ٌتحدثوا مع مصر معتذرٌن محنً الرءوس‬
‫على ارتكبوه فً حقها من جراٌم ونهب وقتل وإذالل ال أن ٌتمادوا فً الظلم والكذب والحدٌث بلسان المسٌخ‬

‫‪7ٖٙ‬‬
‫الدجال وٌطلبوا منها أن تشكرهم هً‪.‬‬

‫إن برٌطانٌا أرؼمت مصرٌٌن تحت إرهاب السبلح أن ٌوقعوا على أنهم ذهبوا للمشاركة فً الحرب‬
‫العالمٌة األولى كـ"متطوعٌن" ولٌس مسخرٌن مؽصوبٌن‪ ،‬وأرؼمت الحكومة أن تحسب المبلٌٌن التً نهبتها‬
‫برٌطانٌا من خزنة مصر للحرب على أنها "تبرعات"‪ ،‬ولٌست سرقات أو دٌون‪ ،‬وذلك كً ال نطالبها ٌوما‬
‫بحقوق دماءنا وعرقنا واحتبللها لنا‪ ،‬فهل من ٌرفعون فً وجهنا كلمة "فضلهم" على مصر ٌرٌدون هم‬
‫أٌضا أال ٌفتح أي جٌل مصري حقٌقً ملفات حقوق مصر على هإالء؟‬

‫فً النهاٌة‪ٌ ..‬شهد التارٌخ أنه ال ٌوجد فً تارٌخ االحتبلالت أي مشروعات ٌسمٌها البعض "إنجازات"‬
‫إال وفعلته مصر فً أزمنة حرٌتها قبل أن ٌدنسها المحتلون‪ ،‬بل وفاقتهم عظمة وجماال وإجبلال‪ ،‬فً‬
‫العمارة‪ ،‬مشارٌع الري‪ ،‬تطوٌر الزراعة‪ ،‬الصناعات‪ ،‬الفنون بكل ألوانها‪ ،‬اآلداب واألخبلق والحكمة‪،‬‬
‫القوانٌن‪ ،‬النظام‪ ،‬تخطٌط المدن البدٌعة‪ ،‬المكتبات العامرة التً ٌسٌل لها رٌق طبلب العلم فً الدنٌا‪،‬‬
‫مإسسات التعلٌم‪ ،‬تؤسٌس أعظم الجٌوش‪ ،‬الحكم الرشٌد‪ ،‬وؼٌرها‪ ..‬لم نكن نحتاج لبلحتبلل والذل كً تفعلها‬
‫لنا شعوب أخرى عرفت الحضارة بعدنا‪ ..‬لم نكن نحتاج أبدا‪ ،‬فما لهذا ُخلقنا‪.‬‬

‫♦♦♦ ألم تتمصر الهجرات األجنبٌة والمستوطنون فً أي عصر؟‬

‫ما معنى التمصر؟‬

‫إن لمصر وجه واحد فقط‪ ،‬لٌست دولة متعددة األوجه وال مرقعة‪ ،‬فمن استوطن مصر وضم نفسه لهذا‬
‫الوجه بكل مبلمحه‪ٌ ،‬نظر خلفه وأمامه فبل ٌرى إال أرض مصر‪ ،‬وٌفخر بلقب الفبلح‪ ،‬ذاك هو المتمصر‪،‬‬
‫وما ٌلبس أن ٌكون حقا مصرٌا‪ ،‬وال ٌورث أوالده أساسا ذكرى أن لهم أجدادا أتوا ٌوما من بلد أجنبً‪ ،‬أما‬
‫ذاك الذي ٌؤتً لمصر بروح الؽزاة أو الطمع والسٌطرة‪ ،‬وٌجتهد لٌضٌؾ وجها جدٌدا أو رقعة أجنبٌة فوق‬
‫وجه مصر‪ ،‬وٌعٌش بثقافة البلد التً أتى منها ظاهرا أو باطنا‪ ،‬فبل ٌفرق شٌبا عن الؽازي المسلح الذي ٌؤتً‬
‫لٌسرق مصر أرضا وهوٌة‪ ..‬حتى لو حمل الجنسٌة‪ ،‬وحتى لو عاش فً مصر ألؾ سنة‪.‬‬

‫ماذا لو تمصرت الهجرات األجنبٌة حقا؟‬

‫لو تمصرت ما سقطنا فً ببر احتبلالت ٖ آالؾ سنة؛ ألنها بعدم تمصرها صار الجٌش حكرا على‬
‫األجانب‪ ،‬والمستوطنون ٌعاونون المحتل الجدٌد‪ ،‬ولو تمصرت ما شربنا كإوس الذل والمذابح واإلفقار‬
‫ألوانا ما خطرت على قلب بشر‪ ،‬وما بات ٌُنظر إلى تارٌخ مصر على أنه فترات منفصلة ألن كل هجرة‬
‫كبٌرة أو احتبلل صبػ علٌها لونه بدالمن أن ٌكتسً هو بلون مصر‪.‬‬

‫لو تمصرت الهجرات األجنبٌة حقا ما وجدنا طوال عصور االحتبلل أن المستوطنٌن األجانب هم‬
‫"أؼنٌاء البلد"‪ ،‬وأصحاب المناصب الكبرى‪ ،‬والمسٌطرٌن على الجٌش والداخلٌة والمالٌة واألرض العزٌزة‬
‫وكل أمر‪ ،‬فٌما المصرٌون الحقٌقٌون ٌُنظر لهم على أنهم المسخرٌن إلنعاش حٌاة هإالء‪.‬‬

‫‪7ٖ7‬‬
‫لو تمصرت حقا ما احتفظ المستوطنون بلؽاتهم ولما تؽٌرت لؽة مصر الرسمٌة مرتٌن‪ ،‬ولما طؽت‬
‫الثقافة الٌونانٌة والعربٌة على ساحة الثقافة‪ ،‬وباتت الثقافة المصرٌة الشعبٌة ٌُنظر لها نظرة متدنٌة‪.‬‬

‫لو تمصرت ما دار بٌننا سإال عن "الهوٌة"‪ ،‬وما عانى المثقفون من البحث فً "أزمة الهوٌة"‪.‬‬

‫لو تمصرت الهجرات حقا ما شهق الزمان مفجوعا بنكبة أن العبٌد وقطاع الطرق وأهل ؼارات‬
‫الصحاري ٌحكمون األحرار‪ ،‬فحكم هإالء مصر‪.‬‬

‫لو تمصرت حقا ما كنا رأٌنا مدنا (كاإلسكندرٌة والقاهرة) فً بعض العصور مؽلقة على المستوطنٌن‬
‫األجانب والمصرٌون محرم علٌهم دخولها‪ ،‬ولو عاشوا فٌها فٌُنظر لهم على أنهم "ؼرباء" أو"رعاع"‪.‬‬

‫لو تمصرت الهجرات حقا ما وجدنا الفصل الواضح بٌن المصرٌٌن والمستوطنٌن حتى القرن ٕٓ فً كل‬
‫شًء‪ ،‬بل حتى قٌام ثورة ٕ٘‪ ٔ9‬كان سهل معرفة المصري من الٌونانً من الشامً من األرمنً من‬
‫اإلنجلٌزي من اإلٌطالً من العربانً من السودانً من التركً‪ ،‬سوا بسبب األسماء أو المبلمح أو أماكن‬
‫اإلقامة أو المهن المشهورٌن بها أو اللؽة واللهجة أو احتفاظ وافتخار المستوطن بؤصله األجنبً أو بالمواقؾ‬
‫المتباٌنة إزاء مصر فً أوقات المحن‪.‬‬

‫لو تمصرت حقا ما ظلت عاببلت‪ -‬حتى الٌوم‪ -‬تسقً أوالدها مع الرضاعة أن عابلتهم أصلها من تركٌا‬
‫أو الحجاز أو المؽرب أو الشام أو األرمن إلخ‪ ،‬فٌشب الفتى مشتت االنتماء ما بٌن أنه مصري حسب شهادة‬
‫المٌبلد وما بٌن أنه فً األصل من بلد آخر أو قبٌلة ٌحفظ له نصٌبا من المحبة والوالء‪.‬‬

‫وفً نفس الوقت‪ ..‬تمصر فعبل بعض المستوطنٌن‪ ،‬ولكن ما أقلهم‪ ،‬بل ما أندرهم مقارنة بطوفان‬
‫المستوطنٌن الذٌن تلذذوا بعٌشة المتسٌد فوق رقاب أهل البلد والمتلذذ باحتفاظه بؤصله األجنبً‪ ،‬وهإالء‬
‫الذٌن تمصروا حقا نذكرهم بكل الخٌر‪ ،‬وربما ألنهم تمصروا حقا من قلبهم وبكل عروقهم عاشوا فً وجدان‬
‫المصرٌٌن بؤعمالهم‪ ،‬عاشوا مصرٌٌن مثلهم مثل أي مصرٌٌن‪ ،‬ألنهم هم احترموا وافتخروا بؤن ٌكونوا‬
‫مصرٌٌن وفقط‪ ،‬بل قدموا أعمالهم وحٌاتهم خدما لمصر وأهلها‪ ،‬للفبلحٌن‪ ،‬وعاشوا مصرٌٌن ال قبل هذه‬
‫الكلمة صفة وال بعدها صفة‪ ،‬ال قبلها نسب وال بعدها نسب‪.‬‬

‫ومن هإالء مثبل عبد البدٌع خٌري (عابلة أبٌه تركٌة وأمه مصرٌة)‪ ،‬ونجٌب الرٌحانً (عابلة أبٌه‬
‫عراقٌة وأمه مصرٌة)‪ ،‬لٌلى مراد (عابلتها ٌهودٌة)‪ ،‬فتش فً أعمال هإالء ومواقفهم‪ ،‬هل ترى فٌها لونا‬
‫ؼٌر لون مصر؟ هل ترى فٌها أي ذكر أو تفاخر بالبلد األجنبً الذي قدمت منها عاببلتهم؟ بل العكس‪،‬‬
‫الرٌحانً مثبل أخذ على عاتقه حٌنما كان المسرح ٌطؽى علٌه اللون األجنبً أن ٌقدم فنا مصرٌا خالصا‬
‫ٌعبر عن آالم وآمال الفبلحٌن والحارات‪ ،‬وعبد البدٌع خٌري أخذ على عاتقه أن ٌعٌد باالشتراك مع سٌد‬
‫دروٌش العزة الحضارٌة فً عروق المصرٌٌن وباالعتزاز بؤجدادهم المصرٌٌن‪ ،‬ولوال حدٌث مإرخٌن عن‬
‫وجود أجداد أجانب لهإالء ما شعرنا لثانٌة واحدة أنهم من عاببلت تنتمً لبلد أجنبً‪.‬‬

‫‪7ٖ8‬‬
‫ولكن كم من المستوطنٌن كان لدٌه نفس الروح ونفس التمصر الحقٌقً‪ ..‬وهل من تمصر كانوا صدفة‬
‫وحاالت فردٌة أم القاعدة‪ ،‬إن أ َّنات األجداد المعبؤ بها صدر التارٌخ مما كابدوه من توالً المحتلٌن‬
‫والمستوطنٌن‪ ،‬والتقٌحات العمٌقة فً الجسد المصري‪ ،‬والشروخ فً الوجدان والعقل المصري‪ ،‬بل‬
‫اإلرهاب الذي ٌنشر الٌوم الدم فً كل مكان وٌجد من بٌن سكان مصر مبلٌٌن تبرره‪ ،‬تجٌب بصدق و"ببل‬
‫زواق"‪ ،‬و"ببل تزوٌر" عن هذا السإال‪ ..‬رؼم كل الكتب وكل األفبلم وكل المسلسبلت التً وضعها‬
‫المستوطنون وأحفادهم الذٌن لم ٌتمصروا إلى الٌوم‪ ،‬وبعض المإرخٌن‪ ،‬لمدح المحتلٌن وتوطٌن األجانب‬
‫فً مصر‪.‬‬

‫حابً‪:‬‬

‫اسمع الشعب دٌون كٌؾ ٌوحون إلٌــه‬

‫مأل الجو هتافـــــــــا بحٌا َت ًْ قاتلٌــــــه‬

‫أ َّثر البهتـان فٌه وانطلى الزور علٌــــه‬

‫ٌاله من ببؽــــاء عقله فً أذنٌــــــــــــه‬

‫دٌون‪:‬‬

‫الرم ٌَّة تحتفً بالرامـً‬


‫أن َّ‬ ‫َ‬
‫سمعت وراعنً‬ ‫ُ‬
‫سمعت كما‬ ‫حابً‪،‬‬

‫وأصار عرشهم فراش ؼــــرام‬ ‫هتفوا بمن شرب الطال فً تاجهم‬

‫ولو استطاع مشى على األهرام‬ ‫ومشى على تارٌخهم مستهزبا‬

‫بل مشوا على األهرام‪ ،‬بل حاولوا تدمٌرها‪ ،‬بل سخطوا فكرة الهرم وصارت مصر هرما مقلوبا لما نسٌت‬
‫وصٌة الهرم‪:‬‬

‫"إن البوابات ]الحدود[ التً فوقك كبوابات حامٌة‪ ....‬إنها سوؾ ال تفتح للؽربٌٌن‪ ،‬إنها سوؾ ال تفتح‬
‫للشرقٌٌن‪ ،‬إنها سوؾ ال تفتح للجنوبٌٌن‪ ،‬إنها سوؾ ال تفتح للشمالٌٌن‪ ،‬إنها سوؾ ال تفتح لهإالء الذٌن‬
‫فً وسط األرض‪ ،‬إنها سوؾ تفتح لحورس(‪( .")ٔ9٘9‬نصوص األهرام)‬

‫"إن الذي ٌفعل الماعت فذلك الذي ٌكون بعٌدا عن الضالل"‪ٌ" ،‬حل العقاب دابما بالذي ٌتخطى‬
‫قواعدها(ٓ‪( .")ٔ9ٙ‬الحكٌم بتاح حتب)‬

‫(‪)ٔ9٘9‬‬
‫‪ -‬الوصٌة الواردة فً نصوص األهرام‪ ،‬القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم‪ ،‬ص ٕ٘ٔ‪ٕٔٙ -‬‬
‫(ٓ‪)ٔ9ٙ‬‬
‫‪ -‬تقدٌم علً رضوان لكتاب "الماعت‪ ..‬فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ٕٔ‪ٔ٘-‬‬

‫‪7ٖ9‬‬
‫المراجع العربٌة والمترجمة مرتبة بترتٌب أحداث الزمن‬

‫ٔ‪ -‬الشرق األدنى القدٌم (الجزء األول مصر والعراق)‪ ،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬مكتبة األنجلو‪ ،‬طٕ منقحة‪ ،‬القاهرة‪ٔ99ٖ ،‬‬
‫ٕ‪ -‬حضارة مصر القدٌمة وآثارها‪ -‬جٔ‪ ،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬مكتبة األنجلو‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٓٙ ،‬‬
‫ٖ‪ -‬موسوعة مصر القدٌمة‪ ،‬سلٌم حسن‪ ،‬الجزء ‪ ،ٔ9‬الهٌبة العامة للكتاب‪ ،‬مشروع مكتبة األسرة‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٓٓ ،‬‬
‫ٗ‪ -‬مصر الفرعونٌة‪ ،‬أحمد فخري‪ ،‬الهٌبة العامة للكتاب‪ ،‬مشروع "مكتبة األسرة" القاهرة‪ٕٕٓٔ ،‬‬
‫٘‪ -‬الفن المصري القدٌم‪ :‬سٌرٌل ألدرٌد‪ ،‬ت‪ .‬أحمد زهٌر‪ ،‬وزارة الثقافة‪ ،‬هٌبة اآلثار المصرٌة‪ ،‬القاهرة‪ٔ99ٓ ،‬‬
‫‪ -ٙ‬تارٌخ الفن فً العالم القدٌم‪ ،‬علً رضوان‪ ،‬ط ٕ‪ ،‬دار شركة الحرٌري‪ٕٓٓٗ ،‬‬
‫‪ -9‬األسرة فً المجتمع المصري القدٌم‪ ،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬دار القلم (وزارة الثقافة)‪ ،‬القاهرة‪ٔ9ٙٔ ،‬‬
‫‪ - 8‬تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬نٌكوال جرٌمال‪ ،‬ت‪ .‬ماهر جوٌجاتً‪ ،‬دار الفكر لدراسات والنشر والتوزٌع‪ ،‬طٕ‪ ،‬القاهرة‪ٔ99ٖ ،‬‬
‫‪" -9‬الحضارة المصرٌة من عصور ما قبل التارٌخ حتى نهاٌة الدولة القدٌمة"‪ ،‬سٌرٌل ألدرٌد‪ ،‬ت‪ .‬مختار السوٌفً‪ ،‬الدار‬
‫المصرٌة اللبنانٌة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬طٖ‪ٔ99ٙ ،‬‬
‫ٓٔ‪ -‬فجر الضمٌر‪ ،‬جٌمس هنري برٌستٌد‪ ،‬ت‪ .‬سلٌم حسن‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٔٔ ،‬‬
‫ٔٔ‪ -‬قصة الحضارة‪ ،‬جٌمس هنري برٌستٌد‪ ،‬ت‪ .‬أحمد فخري‪ ،‬المركز القومً للترجمة‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٔٔ ،‬‬
‫‪ -‬تطور الفكر والدٌن فً مصر القدٌمة‪ ،‬جٌمس برٌستٌد‪ ،‬ت‪ .‬زكً سوس‪ ،‬دار الكرنك للنشر والتوزٌع‪ ،‬القاهرة‪ٔ9ٙٔ ،‬‬
‫ٕٔ‪ -‬مصر الفراعنة‪ ،‬آالن جاردنر‪ ،‬ت‪ .‬نجٌب مٌخابٌل إبراهٌم‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ٔ99ٖ ،‬‬
‫ٖٔ‪ -‬األهرامات المصرٌة‪ ،‬أحمد فخري‪ ،‬مكتبة األنجلو‪ ،‬القاهرة‪ٔ9ٖٙ ،‬‬
‫ٗٔ‪ -‬ماعت فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة‪ ،‬أ َّنا مانسٌنً‪ ،‬ت‪ .‬محمد رفعت عواد‪ ،‬الهٌبة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٓ9 ،‬‬
‫٘ٔ‪ -‬الوعً السٌاسً عند قدماء المصرٌٌن‪ ،‬فاٌز أنور عبد المطلب‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ٕٖٓٔ ،‬‬
‫‪ -ٔٙ‬الخطاب السٌاسً فً مصر القدٌمة‪ ،‬مصطفى النشار‪ ،‬دار قباء للطباعة والنشر‪ ،‬ط ٔ‪ ،‬القاهرة‪ٔ998 ،‬‬
‫‪ -ٔ9‬تطور المثل العلٌا فً مصر القدٌمة‪ ،‬محمد علً سعد هللا‪ ،‬مإسسة شباب الجامعة للطباعة والنشر‪ ،‬اإلسكندرٌة‪ٔ989 ،‬‬
‫‪ -ٔ8‬الحكم واألمثال والنصابح عند المصرٌٌن القدماء‪ ،‬محرم كمال‪ ،‬ط ٕ‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ٔ998 ،‬‬
‫‪ -ٔ9‬اللؽة المصرٌة القدٌمة‪ ،‬عبد الحلٌم نور الدٌن‪ ،‬دار األقصى للطباعة والنشر‪ ،‬ط ‪ ،9‬القاهرة‪ٕٕٓٔ ،‬‬
‫ٕٓ‪ -‬القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم‪ ،‬نجبلء فتحً شهاب‪ ،‬رسالة دكتوراة‪ ،‬كلٌة‬
‫اآلثار جامعة القاهرة ٕٕٔٓ‬
‫ٕٔ‪ -‬الشرطة واألمن الداخلً فً مصر القدٌمة‪ ،‬بهاء الدٌن إبراهٌم‪ ،‬هٌبة اآلثار المصرٌة‪ ،‬القاهرة‪( ،‬ؼٌر مإرخ)‬
‫ٕٕ‪ -‬حكام األقالٌم فً مصر الفرعونٌة (دراسة فً تارٌخ األقالٌم حتى نهاٌة الدولة الوسطى)‪ ،‬حسن محمد محًٌ الدٌن‬
‫السعدي‪ ،‬دار المعرفة الجامعٌة‪ ،‬اإلسكندرٌة‪ٔ99ٔ ،‬‬
‫ٖٕ‪ -‬مجموعة الملوك المسماة "سوبك حتب" فً األسرة ٖٔ‪ ،‬أحمد محمود صابون‪ ،‬دار المعرفة الجامعٌة‪ ،‬اإلسكندرٌة‪،‬‬
‫(ؼٌر مإرخ)‬
‫ٕٗ‪ -‬معجم المعبودات والرموز فً مصر القدٌمة‪ ،‬مانفرٌد لوكر‪ ،‬ت‪ .‬صبلح الدٌن رمضان‪ ،‬مكتبة مدبولً‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٓٓ ،‬‬
‫ٕ٘‪ -‬الفكر الفلسفً فً مصر القدٌمة‪ ،‬مصطفى النشار‪ ،‬الدار المصرٌة السعودٌة للنشر والتوزٌع‪ ،‬طٔ‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٓٗ ،‬‬
‫‪ -ٕٙ‬رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة‪ ،‬رمضان عبده علً‪ ،‬وزارة اآلثار‪ ،‬المجلس األعلى لآلثار‪ ،‬القاهرة (ؼٌر مإرخ)‬
‫‪ -ٕ9‬المإسسة العسكرٌة المصرٌة فً عصر اإلمبراطورٌة ٓ‪ ٔ٘9‬ق‪.‬م‪ ،ٔٓ98 -‬أحمد قدري‪ ،‬ت‪ .‬مختار السوٌفً‪ ،‬محمد‬
‫العزب موسى‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٔٗ ،‬‬
‫‪ -ٕ8‬مواقع اآلثار المصرٌة القدٌمة‪ ،‬جٔ‪ ،‬عبد الحلٌم نور الدٌن‪ ،‬ط ‪ ،8‬الخلٌج العربً للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٓ9 ،‬‬
‫‪ -ٕ9‬المتحؾ المصري‪ ،‬محمد صالح علً وهوورٌج سوروزٌان‪ ،‬المجلس األعلى لآلثار‪ ،‬القاهرة‪( ،‬ؼٌر مإرخ)‬
‫ٖٓ‪ -‬متون هرمس الحكمة الفرعونٌة المفقودة‪ ،‬تٌموثً فرٌك وبٌتر ؼاندي‪ ،‬ت‪ .‬عمر الفاروق عمر‪ ،‬المجلس األعلى للثقافة‪،‬‬
‫القاهرة‪ٕٕٓٓ ،‬‬
‫ٖٔ‪ -‬انتصار الحضارة‪ ،‬جٌمس هنري برٌستد‪ ،‬ت‪ .‬أحمد فخري‪ ،‬المركز القومً للترجمة‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٔٔ ،‬‬
‫ٕٖ‪ -‬إخناتون‪ ،‬عبد المنعم أبو بكر‪ ،‬دار القلم (وزارة الثقافة)‪ ،‬القاهرة‪ٔ9ٙٔ ،‬‬

‫ٓٗ‪7‬‬
‫ٖٖ‪ -‬أخناتون ذلك الفرعون المارق‪ ،‬دونالدرٌد فورد‪ ،‬ت‪ .‬بٌومً قندٌل‪ ،‬دار الوفاء لدنٌا الطباعة والنشر‪ ،‬اإلسكندرٌة‪ٕٓٓٓ ،‬‬
‫ٖٗ‪ -‬رسابل عظماء الملوك فً الشرق األدنى القدٌم‪ ،‬ترٌفور براٌس‪ ،‬ت‪ .‬رفعت السٌد علً‪ ،‬دار العلوم للنشر والتوزٌع‪ ،‬طٔ‪،‬‬
‫القاهرة‪ٕٓٓٙ ،‬‬
‫ٖ٘‪ -‬الفرعون األخٌر رمسٌس الثالث‪ :‬أو زوال حضارة عرٌقة‪ ،‬فرانسٌس فٌفر‪ ،‬ت‪ .‬فاطمة البهلول‪ ،‬دار الحصاد‪ ،‬دمشق‪،‬‬
‫(ؼٌر مإرخ)‬
‫‪ -ٖٙ‬مصر واألجانب فً األلفٌة األولى قبل المٌبلد‪ ،‬جونتر فٌتمان‪ ،‬ت‪ .‬بعد الجواد مجاهد‪ ،‬المركز القومً للترجمة‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪ٕٓٓ9‬‬
‫‪ -ٖ9‬هٌردوت ٌتحدث عن مصر"‪ ،‬ت‪ .‬محمد صقر خفاجة‪ ،‬المركز القومً للترجمة‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٓ9 ،‬‬
‫‪ -ٖ8‬مختصر تارٌخ العراق (تارٌخ العراق القدٌم)‪ ،‬علً شحٌبلت وعبد العزٌز إلٌاس الحمدانً‪ ،‬ج٘‪ ،‬طٔ‪ ،‬دار الكتب‬
‫العلمٌة‪ ،‬بٌروت‪ٕٕٓٔ ،‬‬
‫‪ -ٖ9‬مصر من اإلسكندر األكبر حتى الفتح العربً‪ ،‬مصطفى عبادي‪ ،‬مكتبة األنجلو المصرٌة‪ ،‬القاهرة‪ٔ999 ،‬‬
‫ٓٗ‪ -‬الحٌاة فً مصر فً العصر الرومانً‪ ،‬نافتالً لوٌس‪ ،‬ت‪ .‬آمال الروبً‪ ،‬دار عٌن للدراسات والبحوث اإلنسانٌة‬
‫واالجتماعٌة‪ ،‬ط ٔ‪ ،‬القاهرة‪ٔ999 ،‬‬
‫ٔٗ‪ -‬مظاهر الحٌاة فً مصر فً العصر الرومانً اجتماعٌا واقتصادٌا وإدارٌا‪ ،‬آمال الروبً‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪،‬‬
‫القاهرة‪ٔ99٘ ،‬‬
‫ٕٗ‪ -‬تارٌخ مصر فً عصري البطالمة والرومان‪ ،‬أبو الٌسر فرج‪ ،‬عٌن للدراسات والبحوث اإلنسانٌة واالجتماعٌة‪ ،‬طٕ‪،‬‬
‫القاهرة‪ٕٕٓٓ ،‬‬
‫ٖٗ‪ -‬الفكر المصري فً العصر المسٌحً"‪ ،‬رأفت عبد الحمٌد‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٓٓ ،‬‬
‫ٗٗ‪ -‬الفبلح المصري بٌن العصر القبطً والعصر اإلسبلمً‪ ،‬زبٌدة عطا‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ٔ99ٔ ،‬‬
‫٘ٗ‪ -‬الفن القبطً المصري فً العصر الٌونانً والرومانً‪ ،‬لبٌب ٌعقوب صلٌب‪ ،‬مطبعة قاصد خٌر‪ ،‬القاهرة‪ٔ9ٙٗ ،‬‬
‫‪ -ٗٙ‬الٌهود فً مصر فً عصري البطالمة والرومان‪ ،‬مصطفى كمال عبد العلٌم‪ ،‬مكتبة القاهرة الحدٌثة‪ ،‬ط ٔ‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪ٔ9ٙ8‬‬
‫‪ -ٗ9‬تارٌخ مصر فً عصري البطالمة والرومان‪ ،‬محمد إبراهٌم السعدنً‪ ،‬مكتبة األنجلو‪ ،‬القاهرة‪( ،‬ؼٌر مإرخ)‬
‫‪ -ٗ8‬تارٌخ الكنٌسة القبطٌة‪ ،‬منسً ٌوحنا‪ ،‬مكتبة المحبة‪ ،‬القاهرة‪( ،‬ؼٌر مإرخ)‬
‫‪ -ٗ9‬حضارة مصر فً العصر القبطً‪ ،‬مراد كامل‪ ،‬مطبعة دار العالم العربً‪ ،‬القاهرة‪( ،‬ؼٌر مإرخ)‬
‫ٓ٘‪ -‬تارٌخ األمة القبطٌة‪ٌ ،‬عقوب نخلة روفٌلة‪ ،‬طٕ‪ ،‬مإسسة مار مرقص لدراسات التارٌخ القبطً‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٓٓ ،‬‬
‫ٔ٘‪ -‬تارٌخ اللؽة القبطٌة‪ ،‬كمال فرٌد إسحق‪ ،‬مإسسة بٌتر للطباعة والتورٌدات‪ ،‬القاهرة‪( ،‬ؼٌر مإرخ)‬
‫ٕ٘‪ -‬مصرع كلٌوباترة‪ ،‬أحمد شوقً‪ ،‬مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة‪ ،‬القاهرة‪( ،‬ؼٌر مإرخ)‬
‫ٖ٘‪ -‬فتوح مصر وأخبارها‪ ،‬أبو القاسم بن عبد الحكم‪ ،‬مكتبة مدبولً‪ ،‬سلسة صفحات من تارٌخ مصر‪ ،‬القاهرة‪ٔ999 ،‬‬
‫ٗ٘‪ -‬فتح العرب لمصر‪ ،‬ألفرٌد بتلر‪ ،‬ت‪ .‬محمد فرٌد بك أبو حدٌد‪ ،‬مكتبة مدبولً‪ ،‬طٕ‪ ،‬القاهرة ‪ٔ99ٙ‬‬
‫٘٘‪ -‬تارٌخ شبه الجزٌرة العربٌة فً عصورها القدٌمة عبد العزٌز صالح‪ ،‬مكتبة األنجلو‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٔٓ ،‬‬
‫‪ -٘ٙ‬كتاب األصنام‪ ،‬أبو المنذر هشام الكلبً‪ ،‬تحقٌق أحمد زكً باشا‪ ،‬دار الكتب المصرٌة‪ ،‬طٖ‪ ،‬القاهرة‪ٔ99٘ ،‬‬
‫‪ -٘9‬تارٌخ الرسل والملوك (تارٌخ الطبري)‪ ،‬محمد بن جرٌر الطبري‪ ،‬تحقٌق محمد أبو الفضل إبراهٌم‪ ،‬ج ٗ‪ ،‬ط ٕ‪ ،‬دار‬
‫المعارؾ‪ ،‬القاهرة‪( ،‬ؼٌر مإرخ)‬
‫‪ -٘8‬تارٌخ مصر لٌوحنا النقٌوسً "رإٌة قبطٌة للفتح اإلسبلمً"‪ ،‬عمر صابر عبد الجلٌل‪ ،‬عٌن للدراسات والبحوث اإلنسانٌة‬
‫واالجتماعٌة‪ ،‬القاهرة‪ٕٖٓٓ ،‬‬
‫‪ -٘9‬الوالة وكتاب القضاة‪ ،‬أبو عمر محمد ابن ٌوسؾ الكندي‪ ،‬طبعة اآلباء الٌسوعٌٌن‪ ،‬بٌروت‪ٔ9ٓ8 ،‬‬
‫ٓ‪ -ٙ‬أحسن التقاسٌم فً معرفة األقالٌم‪ ،‬المقدسً المعروؾ بالبشاري‪ ،‬مكتبة مدبولً‪ ،‬طٖ‪ ،‬القاهرة‪ٔ99ٔ ،‬‬
‫ٔ‪ -ٙ‬الدولة العباسٌة مراحل تارٌخها وحضارتها‪ ،‬سوزي حمود‪ ،‬ط ٔ‪ ،‬دار النهضة العربٌة‪ ،‬بٌروت‪ٕٓٔ٘ ،‬‬
‫ٕ‪ -ٙ‬الثورات الشعبٌة فً مصر اإلسبلمٌة‪ ،‬حسٌن نصار‪ ،‬الهٌبة العامة لقصور الثقافة‪ ،‬طٕ‪،‬القاهرة‪ٕٕٓٓ ،‬‬
‫ٖ‪ -ٙ‬تارٌخ البطاركة‪ ،‬ساوٌرس بن المقفع‪ ،‬تلخٌص وتعلٌق مٌخابٌل مكسً إسكندر‪ ،‬مكتبة المحبة‪ ،‬القاهرة‪( ،‬ؼٌر مإرخ)‬
‫ٗ‪ -ٙ‬مروج الذهب ومعادن الجوهر‪ ،‬أبو الحسن علً المسعودي‪ ،‬المكتبة العصرٌة‪ ،‬ط ٔ‪ ،‬بٌروت‪ٕٓٓ٘ ،‬‬
‫٘‪ -ٙ‬أخبار الزمان ومن أباده الحدثان‪ ،‬أبو الحسن المسعودي‪ ،‬ط ٔ‪ ،‬مطبعة عبد الحمٌد حنفً‪ ،‬القاهرة‪ٔ9ٖ8 ،‬‬
‫‪ -ٙٙ‬أحمد بن طولون‪ ،‬سٌدة إسماعٌل كاشؾ‪ ،‬المإسسة المصرٌة العامة للتؤلٌؾ واألنباء والنشر‪ ،‬القاهرة‪ٔ9ٙ٘ ،‬‬
‫‪ -ٙ9‬مصر فً عصر اإلخشٌدٌٌن‪ ،‬سٌدة إسماعٌل كاشؾ‪ ،‬مطبعة جامعة فإاد األول‪ ،‬القاهرة‪ٔ9٘ٓ ،‬‬
‫‪ -ٙ8‬أوراق البردي العربٌة بدار الكتب المصرٌة‪ ،‬أدولؾ جروهمان‪ ،‬ترجمة حسن إبراهٌم حسن‪ ،‬دار الكتب المصرٌة‪ ،‬القاهرة‪ٔ9٘٘ ،‬‬
‫‪ -ٙ9‬مع المتنبً"‪ ،‬طه حسٌن‪ ،‬مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة‪ ،‬القاهرة‪( ،‬ؼٌر مإرخ)‬
‫ٓ‪ -9‬المكافؤة وحسن العقبى‪ ،‬أحمد بن ٌوسؾ الكاتب (ابن الداٌة)‪ ،‬تحقٌق محمود محمد شاكر‪ ،‬مطبعة االستقامة‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫ٓٗ‪ٔ9‬‬
‫ٔ‪ -9‬اللهجة المصرٌة الفاطمٌة دراسة تارٌخٌة وصفٌة‪ ،‬عطٌة سلٌمان أحمد‪ ،ٔ99ٖ ،‬نسخة إلكترونٌة ؼٌر مذكور اسم الناشر‬

‫ٔٗ‪7‬‬
‫ٕ‪ -9‬المواعظ واالعتبار بذكر الخطط واآلثار (الخطط المقرٌزٌة)‪ ،‬تقً الدٌن المقرٌزي‪ ،‬تحقٌق محمد زٌنهم‪ -‬مدٌحة‬
‫الشرقاوي‪ ،‬مكتبة مدبولً‪ ،‬القاهرة‪ٔ998 ،‬‬
‫ٖ‪ -9‬إؼاثة األمة بكشؾ الؽمة‪ ،‬تقً الدٌن المقرٌزي‪ ،‬تحقٌق كرم حلمً فرحات‪ ،‬عٌن للدراسات والبحوث اإلنسانٌة‬
‫واالجتماعٌة‪ ،‬ط ٔ‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٓ9 ،‬‬
‫ٗ‪ -9‬الفاشوش فً حكم قراقوش البن مماتً‪ ،‬عبد اللطٌؾ حمزة‪ ،‬كتاب الٌوم‪ ،‬القاهرة‪( ،‬ؼٌر مإرخ)‬
‫٘‪ -9‬اإلفادة واال عتبار فً األمور المشاهدة والحوادث المعاٌنة بؤرض مصر‪ ،‬عبد اللطٌؾ البؽدادي‪ ،‬ط ٕ الهٌبة المصرٌة‬
‫العامة للكتاب‪ٔ998 ،‬‬
‫‪ -9ٙ‬تارٌخ الجمعٌات السرٌة والحركات الهدامة فً المشرق‪ ،‬محمد عبد هللا عنان‪ ،‬دار البنٌن للنشر والتوزٌع‪( ،‬ؼٌر مإرخ)‬
‫‪ -99‬رسابل إخوان الصفا وخبلن الوفا‪ ،‬المجلد األول‪ ،‬مكتب اإلعبلم اإلسبلمً‪ ،‬مدٌنة قم بإٌران‪ ٔٗٓ٘ ،‬هـ‬
‫‪ -98‬تارٌخ األقباط‪ ،‬المقرٌزي‪ ،‬تحقٌق عبد المجٌد دٌاب لكتاب القول اإلبرٌزي للعبلمة المقرٌزي لصاحبه مٌنا إسكندر‬
‫الجامع لما ذكره المقرٌزي عن األقباط‪ ،‬دار الفضٌلة‪ ،‬القاهرة‬
‫‪ -99‬مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة‪ ،‬سٌدة الكاشؾ‪ ،‬دار المعارؾ (ؼٌر مإرخ)‬
‫ٓ‪ -8‬تراث األدب القبطً‪ ،‬شنودة ماهر وٌوحنا نسٌم ٌوسؾ‪ ،‬مإسسة القدٌس مرقس لدراسات التارٌخ القبطً‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫ٖٕٓٓ‬
‫ٔ‪ -8‬فضابل مصر وأخبارها وخواصها البن زوالق‪ ،‬تحقٌق علً محمد عمر‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪ٔ999‬‬
‫ٕ‪ -8‬حسن المحاضرة فً تارٌخ مصر والقاهرة‪ ،‬جبلل الدٌن السٌوطً‪ ،‬تحقٌق محمد أبو الفضل إبراهٌم‪ ،‬ج ٕ‪ ،‬ط ٔ‪ ،‬دار‬
‫إحٌاء الكتب العربٌة‪ٔ9ٙ8 ،‬‬
‫ٖ‪ -8‬المجتمع المصري فً مصر اإلسبلمٌة من الفتح العربً وحتى العصر الفاطمً‪ ،‬هوٌدا عبد العظٌم رمضان‪ ،‬الهٌبة‬
‫المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ٔ99ٗ ،‬‬
‫ٗ‪ -8‬تارٌخ مصر إلى الفتح العثمانً‪ ،‬عمر اإلسكندري وأ‪.‬ج‪ .‬سفدج‪ ،‬ط ٕ‪ ،‬مكتبة مدبولً‪ ،‬القاهرة‪ٔ99ٙ ،‬‬
‫٘‪ -8‬الفاطمٌون تارٌخهم وآثارهم فً مصر‪ ،‬أمٌرة الشٌخ رضا فرحات‪ ،‬كتاب‪-‬ناشرون‪ ،‬بٌروت‪ٕٖٓٔ ،‬‬
‫‪ -8ٙ‬الدولة الفاطمٌة‪ -‬تفسٌر جدٌد‪ ،‬أٌمن فإاد سٌد‪ ،‬الدار المصرٌة اللبنانٌة‪ ،‬طبعة خاصة عن الهٌبة العامة للكتاب لمشروع‬
‫مكتبة األسرة‪ ،‬طٕ‪ٕٓٓ9 ،‬‬
‫‪ -89‬الفاطمٌون فً مصر وأعمالهم السٌاسٌة والدٌنٌة بوجه خاص‪ ،‬حسن إبراهٌم حسن‪ ،‬المطبعة األمٌرٌة‪ ،‬القاهرة‪ٔ9ٖٕ ،‬‬
‫‪ -88‬اتعاظ الحنفا فً أخبار األبمة الفاطمٌٌن الخلفا‪ ،‬تقً الدٌن المقرٌزي‪ ،‬تحقٌق جمال الدٌن الشٌال‪ ،‬طٕ‪ ،‬المجلس األعلى‬
‫للشبون اإلسبلمٌة‪ ،‬القاهرة‪ٔ99ٙ ،‬‬
‫‪ -89‬السلوك لمعرفة دولة الملوك‪ ،‬تقً الدٌن المقرٌزي‪ ،‬تحقٌق سٌد عبد الفتاح عاشور‪ ،‬دار الكتب والوثابق القومٌة‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫ٕ‪ٔ99‬‬
‫ٓ‪ -9‬السلوك لمعرفة دول الملوك‪ ،‬المقرٌزي‪ ،‬تحقٌق محمد عبد القادر عطا‪ ،‬ج ٔ‪ ،‬طٔ‪ ،‬دار الكتب العلمٌة‪ ،‬بٌروت‪ٔ999 ،‬‬
‫ٔ‪ -9‬السلوك لمعرفة دول الملوك‪ ،‬تقً الدٌن المقرٌزي‪ ،‬ج ٕ ق ٔ‪ ،‬محمد مصطفى زٌادة‪ ،‬لجنة التؤلٌؾ والترجمة والنشر‪،‬‬
‫القاهرة‪ٔ9ٖٙ ،‬‬
‫ٕ‪ -9‬السلوك لمعرفة دولة الملوك‪ ،‬تقً الدٌن المقرٌزي‪ ،‬جٗ قٕ‪ ،‬تحقٌق سعٌد عبد الفتاح عاشور‪ ،‬دار الكتب‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫ٕ‪ٔ99‬‬
‫‪ -89‬النجوم الزاهرة فً ملوك مصر والقاهرة‪ٌ ،‬وسؾ بن تؽري بردي‪ ،‬تقدٌم وتعلٌق محمد حسٌن شمس الدٌن‪ ،‬ج ‪ ،9‬طٔ‪،‬‬
‫دار الكتب العلمٌة‪ ،‬بٌروت‪ٔ99ٕ ،‬‬
‫ٖ‪ -9‬تارٌخ الخلفاء‪ ،‬جبلل الدٌن السٌوطً‪ ،‬دار ابن حزم‪ ،‬ط ٔ‪ ،‬بٌروت‪ٕٖٓٓ ،‬‬
‫ٗ‪ -9‬قٌام الدولة األٌوبٌة فً مصر والشام‪ ،‬وفاء محمد علً‪ ،‬ط ٔ‪ ،‬دار الفكر العربً‪ ،‬القاهرة‪ ٔٗٓ9 ،‬ه‬
‫٘‪ -9‬الحٌاة االجتماعٌة فً مصر خبلل العصر األٌوبً (‪ ٙٗ8-٘ٙ9‬هـ‪ٕٔ٘ٓ -ٔٔ9ٔ /‬م)‪ ،‬رشا خلٌل أحمد علً‪ ،‬ماجستٌر‪،‬‬
‫كلٌة الدراسات العلٌا‪ ،‬الجامعة األردنٌة‪ ،‬ماٌو ٕٓٔٓ‬
‫‪ -9ٙ‬الحٌاة االقتصادٌة فً مصر فً العصر األٌوبً (‪ ٙٗ8-٘ٙ9‬هـ‪ٕٔ٘ٓ -ٔٔ9ٔ /‬م)‪ ،‬فوزي خالد علً الطواهٌة‪،‬‬
‫(دكتوراة)‪ ،‬الجامعة األردنٌة‪ٕٓٓ8 ،‬‬
‫‪ -99‬مفرج الكروب فً أخبار بنً أٌوب‪ ،‬جمال الدٌن بن واصل‪ ،‬تحقٌق جمال الدٌن الشٌال‪ ،‬دار الكتب والوثابق القومٌة‪،‬‬
‫القاهرة‪( ،‬ؼٌر مإرخ)‬
‫‪ -98‬النوادر السلطانٌة والمحاسن الٌوسٌفٌة‪ ،‬بهاء الدٌن (ابن شداد)‪ ،‬تحقٌق محمد محمود صبح‪ ،‬مطابع دار الكتاب العربً‪،‬‬
‫القاهرة‪ٔ9ٕٙ ،‬‬
‫‪ -99‬تارٌخ دولة الممالٌك فً مصر‪ ،‬ولٌم موٌر‪ ،‬ت‪ .‬محمود عابدٌن وسلٌم حسن‪ ،‬ط ٔ‪ ،‬مكتبة مدبولً‪ ،‬القاهرة‪ٔ99٘ ،‬‬
‫ٓٓٔ‪ -‬المجتمع المصري فً عصر سبلطٌن الممالٌك‪ ،‬سعٌد عبد الفتاح عاشور‪ ،‬دار النهضة العربٌة‪ٔ99ٕ ،‬‬
‫ٔٓٔ‪ -‬القرٌة المصرٌة فً عصر سبلطٌن الممالٌك (‪ 9ٕٖ -ٙٗ8‬هـ‪ ٔ٘ٔ9 -ٕٔ٘ٓ /‬م)‪ ،‬مجدي عبد الرشٌد بحر‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪،‬‬
‫القاهرة‪ٔ999 ،‬‬

‫ٕٗ‪7‬‬
‫ٕٓٔ‪ -‬تراث العبٌد فً حكم مصر المعاصرة‪ ،‬دراسة فً علم االجتماع التارٌخً"‪ ،‬دكتور ع‪.‬ع‪ ،‬المكتب العربً للمعارؾ‪،‬‬
‫القاهرة‪( ،‬ؼٌر مإرخ)‬
‫ٖٓٔ‪ -‬أحوال العامة فً مصر فً عصر الممالٌك البرجٌة‪ ،‬أحمد ماجد عبد هللا الجبوري‪( ،‬رسالة ماجستٌر) جامعة آل البٌت‪،‬‬
‫بؽداد‪ٕٓٔ٘ ،‬‬
‫ٗٓٔ‪ -‬بدابع الزهور فً وقابع الدهور‪ ،‬محمد بن إٌاس الحنفً‪ ،‬تحقٌق محمد مصطفى‪ ،‬ط ٕ‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪،‬‬
‫القاهرة‪ٔ98ٗ ،‬‬
‫ٓٓٔ‪ -‬تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر‪ ،‬عمر اإلسكندري وسلٌم حسن‪ ،ٔ9ٔٙ ،‬مكتبة مدبولً‪ ،‬ط ٕ‪،‬‬
‫القاهرة‪ٔ99ٙ ،‬‬
‫٘ٓٔ‪ -‬التصوؾ اإلسبلمً فً األدب واألخبلق‪ ،‬زكً مبارك‪ ،‬ج ٔ‪ ،‬ط ٔ‪ ،‬مطبعة الرسالة‪ ،‬القاهرة‪ٔ9ٖ8 ،‬‬
‫‪ -ٔٓٙ‬البحر المورود فً المواثٌق والعهود‪ ،‬عبد الوهاب الشعرانً‪ ،‬مكتبة الثقافة الدٌنٌة‪ ،‬طٔ‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٓٗ ،‬‬
‫‪ -ٔٓ9‬الدرر واللُمع فً بٌان الصدق فً الزهد والورع‪ ،‬عبد الوهاب الشعرانً‪ ،‬تحقٌق أحمد فرٌد المزٌدي ومحمد عبد القادر‬
‫نصار‪ ،‬طٔ‪ ،‬دار الكرز للنشر والتوزٌع‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٓ٘ ،‬‬
‫‪ -ٔٓ8‬األعبلم قاموس تراجم‪ ،‬خٌر الدٌن الزركلً‪ ،‬ج ‪ ،8‬دار العلم للمبلٌٌن‪ ،‬بٌروت‪ٕٕٓٓ ،‬‬
‫‪ -ٔٓ9‬مصر فً كتابات الرحالة الفرنسٌٌن فً القرنٌن السادس عشر والسابع عشر‪ ،‬إلهام محمد ذهنً‪ ،‬الهٌبة العامة للكتاب‪،‬‬
‫القاهرة‪ٔ99ٔ ،‬‬
‫ٓٔٔ‪ -‬الجالٌات األوروبٌة فً ببلد الشام فً العهد العثمانً فً القرنٌن السادس عشر والسابع عشر‪ ،‬لٌلى الصباغ‪ ،‬مإسسة‬
‫الرسالة‪ ،‬بٌروت‪ٔ989 ،‬‬
‫‪ -‬األرض والفبلح فً صعٌد مصر فً العصر العثمانً‪ ،‬جمال كمال محمود‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٔٓ ،‬‬
‫ٔٔٔ‪ -‬الشوام فً مصر منذ الفتح العثمانً حتى أوابل القرن التاسع عشر‪ ،‬السٌد سمٌر عبد المقصود‪ ،‬الهٌبة العامة للكتاب‬
‫(سلسلة تارٌخ المصرٌٌن)‪ ،‬القاهرة‪ٕٖٓٓ ،‬‬
‫ٕٔٔ‪ -‬المؽاربة فً مصر فً العصر العثمانً‪ ،‬عبد الرحٌم عبد الرحمن عبد الرحٌم‪ ،‬منشورات المجلة التارٌخٌة المؽربٌة‪،‬‬
‫ٕ‪ٔ98‬‬
‫ٖٔٔ‪ -‬كشؾ الؽمة فً رفع الطلبة‪ ،‬محمد بن أبً السرور البكري الصدٌقً‪ ،‬تحقٌق عبد الرحٌم عبد الرحمن عبد الرحٌم‪،‬‬
‫المجلة التارٌخٌة المصرٌة‪ ،‬المجلد ٖٕ‪ ،‬سنة ‪ٔ99ٙ‬‬
‫ٓٗٔٔ‪ -‬النزهة الزكٌة فً والة مصر والقاهرة المعزٌة‪ ،‬محمد بن أبً السرور البكري‪ ،‬ص ٘‪ ٔ8‬عن حوادث سنة ‪ٔٙٓ8‬‬
‫م‪ ،‬تحقٌق عبد الرازق عبد الرازق عٌسى‪ ،‬العربً للنشر والتوزٌع‬
‫٘ٔٔ‪ -‬الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر‪ ،‬عبد الرحٌم عبد الرحمن عبد الرحٌم‪ ،‬مكتبة مدبولً‪ ،‬ط ٕ‪ ،‬القاهرة‪ٔ98ٙ ،‬‬
‫‪ -ٔٔٙ‬ملكٌة األراضً الزراعٌة فً القرن التاسع عشر (رسالة دكتوراة)‪ ،‬د‪ .‬حمدي الوكٌل‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪،‬‬
‫القاهرة‪ٕٓٓ9 ،‬‬
‫‪ -ٔٔ9‬النوادر الشعبٌة المصرٌة‪ ،‬إبراهٌم شعبلن‪ ،‬ج ٔ‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ٕٕٓٔ ،‬‬
‫‪ -ٔٔ8‬موسوعة األمثال الشعبٌة المصرٌة‪ ،‬د‪ .‬إبراهٌم شعبلن‪ ،‬جٔ‪ ،‬طٔ‪ ،‬دار األفاق العربٌة‪ ،‬القاهرة‪ٕٖٓٓ ،‬‬
‫‪ -ٔٔ9‬العادات والتقالٌد المصرٌة من األمثال الشعبٌة فً عهد محمد علً‪ ،‬جون لوٌس بوركهارت‪ ،‬ترجمة إبراهٌم شعبلن‪،‬‬
‫ط ٖ‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٓٓ ،‬‬
‫ٕٓٔ‪ -‬عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار‪ ،‬عبد الرحمن الجبرتً‪ ،‬تحقٌق عبد العزٌز جمال الدٌن‪ ،‬الهٌبة العامة لقصور‬
‫الثقافة‪ ،‬القاهرة‪ٕٕٓٔ ،‬‬
‫ٕٔٔ‪ -‬النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة‪ ،‬المقدم محمد فرج‪ ،‬الدار القومٌة للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪( ،‬ؼٌر مإرخ)‬
‫ٕٕٔ‪ -‬بونابرت فً مصر‪ ،‬كرستوفر هٌرولد‪ ،‬ت‪ .‬فإاد أندراوس‪ ،‬الهٌبة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ٔ998 ،‬‬
‫ٖٕٔ‪ -‬مذكرات ضابط فً الحملة الفرنسٌة على مصر‪ ،‬جوزٌؾ ماري موارٌه‪ ،‬ت‪ .‬كامٌلٌا صبحً‪ ،‬المجلس األعلى للثقافة‪،‬‬
‫القاهرة‪ٕٓٓٓ ،‬‬
‫ٕٗٔ‪ -‬الجنرال ٌعقوب والفارس السكارٌاس ومشروع استقبلل مصر فً ٔٓ‪ ،ٔ8‬شفٌق ؼربال‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬طٔ‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪ٕٓٓ9‬‬
‫ٕ٘ٔ‪ -‬تارٌخ أوروبا الحدٌث‪ ،‬جٌفري برون‪ ،‬ت‪ .‬علً المزروقً‪ ،‬األهلٌة للنشر والتوزٌع‪ ،‬طٔ‪ ،‬عمَّان‪ٕٓٓٙ ،‬‬
‫‪ -ٕٔٙ‬البعثات التعلٌمٌة فً عهد محمد علً ثم فً عهدي عباس األول وسعٌد‪ ،‬عمر طوسون‪ ،‬مطبعة صبلح الدٌن‪،‬‬
‫اإلسكندرٌة‪ٔ9ٖٗ ،‬‬
‫‪ -ٕٔ9‬عصر محمد علً‪ ،‬عبد الرحمن الرافعً‪ ،‬ط ٘‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬القاهرة‪ٔ98٘ ،‬‬
‫‪ -ٕٔ8‬عادات المصرٌٌن المحدثٌن وتقالٌدهم (مصر ما بٌن ٖٖ‪ ،)ٔ8ٖ٘ -ٔ8‬إدوارد ولٌم الٌن‪ ،،‬ت‪ .‬سهٌر دسوم‪ ،‬ط ٕ‪،‬‬
‫مكتبة مدبولً‪ ،‬القاهرة‪ٔ999 ،‬‬
‫‪ -ٕٔ9‬النكبات (خبلصة تارٌخ سورٌة منذ العهد األول بعد الطوفان إلى عهد الجمهورٌة بلبنان)‪ ،‬أمٌن الرٌحانً‪ ،‬المطبعة‬
‫العلمٌة لٌوسؾ صادر‪ ،‬بٌروت‪ٔ9ٕ8 ،‬‬
‫ٖٓٔ‪ -‬لمحة إلى مصر‪ ،‬كلوت بك‪ ،‬ت‪ .‬محمد مسعود‪ ،‬دار الكتب والوثابق القومٌة‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٔٔ ،‬‬

‫ٖٗ‪7‬‬
‫ٖٔٔ‪ -‬الحرؾ والصناعات فً عهد محمد علً‪ ،‬صبلح أحمد هرٌدي‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬القاهرة‪ٔ98٘ ،‬‬
‫ٕٖٔ‪-‬صفحة من تارٌخ مصر فً عهد محمد علً الجٌش المصري البري والبحري‪ ،‬عمر طوسون‪ ،‬مكتبة مدبولً‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪ٔ99ٙ‬‬
‫ٖٖٔ‪ -‬الجٌش المصري فً الحرب الروسٌة المعروفة بالقرم (ٖ٘‪ ،)ٔ8٘٘ -ٔ8‬عمر طوسون‪ ،‬مطبعة المستقبل باإلسكنرٌة‪،‬‬
‫‪ٔ9ٖٙ‬‬
‫ٖٗٔ‪ -‬الجٌش المصري فً القرن التاسع عشر‪ ،‬محمد محمود السروحً‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬القاهرة‪ٔ9ٙ9 ،‬‬
‫ٖ٘ٔ‪ -‬مصر والسودان فً أوابل عهد االحتبلل‪ ،‬عبد الرحمن الرافعً‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬طٗ‪ ،‬القاهرة‪ٔ98ٖ ،‬‬
‫‪ -ٖٔٙ‬مناهج األلباب المصرٌة فً مباهج اآلداب العصرٌة‪ ،‬رفاعة رافع الطهطاوي‪ ،‬الهٌبة العامة لقصور الثقافة‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪ٕٓٔ8‬‬
‫‪ -ٖٔ9‬المرشد األمٌن للبنات والبنٌن‪ ،‬رفاعة رافع الطهطاوي‪ ،‬الهٌبة العامة لقصور الثقافة‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٔ8 ،‬‬
‫‪-ٖٔ8‬مصر وكٌؾ ُؼدر بها‪ ،‬ألبرت فارمان‪ ،‬ت‪ .‬عبد الفتاح عناٌت‪ ،‬الزهراء لئلعبلم العربً‪ ،‬طٔ‪ ،‬القاهرة‪ٔ99٘ ،‬‬
‫‪ -ٖٔ9‬من تراث عبد هللا الندٌم‪ :‬التنكٌت والتبكٌت‪ ،‬دراسة تحلٌلٌة عبد المنعم الجمٌعً‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪،‬‬
‫القاهرة‪ٔ99ٗ ،‬‬
‫ٓٗٔ‪ -‬رسابل من مصر (‪ ،)ٔ88ٕ -ٔ899‬جون نٌنٌه‪ ،‬ت‪ .‬فتحً العشري‪ ،‬طٔ‪ ،‬المجلس األعلى للثقافة‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٓ٘ ،‬‬
‫ٔٗٔ‪ -‬مذكرات الزعٌم أحمد عرابً‪ ،‬دراسة وتحقٌق عبد المنعم إبراهٌم الجمٌعً‪ ،‬مجلد ٔ‪ ،‬دار الكتب والوثابق القومٌة‪،‬‬
‫القاهرة‪ٕٓٓ٘ ،‬‬
‫ٕٗٔ‪ -‬مصر للمصرٌٌن‪ ،‬سلٌم النقاش‪ ،‬ج ٗ‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ٔ998 ،‬‬
‫ٖٗٔ‪ -‬مصر للمصرٌٌن أزمة مصر االجتماعٌة والسٌاسٌة ‪ ،ٔ88ٕ -ٔ898‬ألكسندر شولش‪ ،‬ت‪ .‬رءوؾ عباس حامد‪ ،‬عٌن‬
‫للدراسات والبحوث اإلنسانٌة واالجتماعٌة‪ ،‬ط ٔ‪ ،‬القاهرة‪ٔ999 ،‬‬
‫ٗٗٔ‪ -‬الكافً فً تارٌخ مصر القدٌم والحدٌث‪ ،‬مٌخابٌل شاروبٌم‪ ،‬مكتبة مدبولً‪ ،‬ط ٕ‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٓٗ ،‬‬
‫٘ٗٔ‪ -‬الثورة العرابٌة واالحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬عبد الرحمن الرافعً‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬طٗ‪ ،‬القاهرة‪ٔ98ٖ ،‬‬
‫‪ -ٔٗٙ‬كٌؾ دافعنا عن عرابً وصحبه‪ ،‬أم‪.‬م‪ .‬برودلً‪ ،‬ت‪ .‬عبد الحمٌد سلٌم‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ٔ989 ،‬‬
‫‪ -ٔٗ9‬التارٌخ السري الحتبلل اإلنجلٌزي لمصر‪ -‬رواٌة شخصٌة لؤلحداث‪ ،‬ولفرٌد سكاون بلنت‪ ،‬ت‪ .‬صبري محمد حسن‪،‬‬
‫المركز القومً للترجمة‪ٕٓٔٓ ،‬‬
‫‪ -ٔٗ8‬مصر المصرٌة بتؽنً‪ ،‬فإاد حداد‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬مكتبة األسرة‪ ،‬القاهرة‪ٕٕٓٓ ،‬‬
‫‪ -ٔٗ9‬تارٌخ النهب االستعماري لمصر ‪ ،ٔ88ٕ -ٔ998‬جون مارلو‪ ،‬ت‪ .‬عبد العظٌم رمضان‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة‬
‫للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ٔ99ٙ ،‬‬
‫ٓ٘ٔ‪ -‬فراعنة من؟ علم اآلثار والمتاحؾ والهوٌة القومٌة المصرٌة من حملة نابلٌون حتى الحرب العالمٌة األولى‪ ،‬دونالد‬
‫مالكوم رٌد‪ ،‬ت‪ .‬عبد الرءوؾ عباس ‪ ،‬المجلس األعلى للثقافة‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٓ٘ ،‬‬
‫ٔ٘ٔ‪ -‬تطور الرأسمالٌة المصرٌة‪ ،‬مجموعة باحثٌن‪ ،‬دار الكتب والوثابق القومٌة‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٔٔ ،‬‬
‫ٕ٘ٔ‪ -‬مذكراتً فً نصؾ قرن‪ ،‬أحمد شفٌق باشا‪ ،‬طٔ‪ ،‬مطبعة مصر‪ ،‬القاهرة‪ٔ9ٖٗ ،‬‬
‫ٖ٘ٔ‪ -‬االمتٌازات األجنبٌة‪ ،‬محمد عبد الباري‪ ،‬مطبعة االعتماد‪ ،‬القاهرة‪ٔ9ٖٓ ،‬‬
‫ٗ٘ٔ‪ -‬الكشاؾ للدٌار المصرٌة وعدد نفوسها‪ ،‬نظارة الداخلٌة إدارة التعداد‪ ٖ( ،‬ماٌو ٕ‪ ٔ88‬م)‪ ،‬ج ٕ‪ ،‬القاهرة‬
‫٘٘ٔ‪ -‬تعداد سكان القطر المصري ٖ٘ٔٔ ه‪ ٔ899 /‬م‪ ،‬المطبعة األمٌرٌة ببوالق مصر المحمٌة‪ ،‬القاهرة‬
‫‪ -ٔ٘ٙ‬تعداد سكان القطر المصري‪ ،‬نظارة المالٌة إدارة التعداد لسنة ‪ ،ٔ899‬القاهرة‬
‫‪ -ٔ٘9‬تعداد سكان القطر المصري فً سنة ٕٖ٘ٔ ه‪ -‬سنة ‪ ٔ9ٓ9‬م‪ ،‬نظارة المالٌة‪ ،‬المطبعة األمٌرٌة بمصر‬
‫‪ -ٔ٘8‬تعداد السكان لعام ‪ ،ٔ9ٔ9‬إصدار وزارة المالٌة‪ ،‬جٕ‪،‬الجدول الثامن‪،‬مكتبة جهاز التعببة العامة واإلحصاء‪ ،‬القاهرة‬
‫‪ -ٔ٘9‬تعداد سكان القطر المصري لسنة ‪ ،ٔ9ٕ9‬وزارة المالٌة‪ ،‬مكتبة جهاز التعببة العامة واإلحصاء‪ ،‬القاهرة‬
‫ٓ‪ -ٔٙ‬تعداد سكان القطري المصري لسنة ‪ ،ٔ9ٖ9‬جٕ‪ ،‬وزارة المالٌة‪ ،‬مكتبة جهاز التعببة العامة واإلحصاء‪ ،‬القاهرة‬
‫ٔ‪ -ٔٙ‬التعداد العام للسكان لسنة ‪ ،ٔ9ٗ9‬جٕ‪ ،‬وزارة المالٌة واالقتصاد (مصلحة اإلحصاء والتعداد)‪ ،‬المطبعة األمٌرٌة‪،‬‬
‫القاهرة‬
‫ٕ‪ -ٔٙ‬مصر فً القرن التاسع عشر‪ ،‬صالح جودت‪ ،‬مطبعة الشعب‪ ،‬القاهرة‪ٔ9ٓٗ ،‬‬
‫ٖ‪ -ٔٙ‬قاموس الشتابم المصرٌة (أصول وحكاٌات الشتابم)‪ ،‬عمرو المنشاوي‪ ،‬إبداع للترجمة والنشر والتوزٌع‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪ٕٓٔ9‬‬
‫ٗ‪ -ٔٙ‬الجالٌة البرٌطانٌة فً مصر (٘ٓ‪ ،)ٔ88ٕ -ٔ8‬ناهد السٌد علً زٌان‪ ،‬دار الكتب والوثابق القومٌة‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٔٔ ،‬‬
‫٘‪ -ٔٙ‬الجالٌة الفرنسٌة فً مصر (ٕ‪ ،)ٔ9٘ٙ -ٔ88‬نورٌس محمد سٌؾ الدٌن‪ ،‬دار الكتب والوثابق القومٌة‪ ،‬القاهرة‪ٕٕٓٔ ،‬‬
‫‪ -ٔٙٙ‬أقباط ومسلمون منذ الفتح العربً إلى عام ٕٕ‪ ،ٔ9‬جاك تاجر‪ ،‬مإسسة هنداوي‪ ،‬القاهرة‪( ،‬ؼٌر مإرخ)‬
‫‪ -ٔٙ9‬حكاٌات من دفتر الوطن‪ ،‬صبلح عٌسى‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬مشروع مكتبة األسرة‪ ،‬القاهرة‪ٔ998 ،‬‬
‫‪ -ٔٙ8‬مقدمة فً الفولكلور القبطً‪ ،‬عصام ستاتً‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب (مكتبة األسرة)‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٔٗ ،‬‬
‫‪ -ٔٙ9‬دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً‪ ،‬أحمد رشدي صالح‪ ،‬الهٌبة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪( ،‬ؼٌر مإرخ)‬

‫ٗٗ‪7‬‬
‫ٓ‪ -ٔ9‬مذكرات إبراهٌم الهلباوي‪ ،‬تحقٌق د‪.‬عصام ضٌاء الدٌن‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ٔ99٘ ،‬‬
‫ٔ‪ -ٔ9‬سعد زؼلول‪ ،‬سٌرة وتحٌة‪ ،‬عباس محمود العقاد‪ ،‬الهٌبة العامة للكتاب‪ٕٓٔ9 ،‬‬
‫ٕ‪ -ٔ9‬مذكرات سعد زؼلول‪ ،‬تحقٌق عبد العظٌم رمضان‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ٔ989 ،‬‬
‫ٖ‪ -ٔ9‬قصة حٌاتً‪ ،‬أحمد لطفً السٌد‪ ،‬مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة‪ ،‬القاهرة‪( ،‬ؼٌر مإرخ)‬
‫ٗ‪ -ٔ9‬صفحات من تارٌخ مصر‪ٌ ،‬حًٌ حقً‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ٔ989 ،‬‬
‫٘‪ -ٔ9‬األهرام دٌوان الحٌاة المعاصرة‪ٌ ،‬ونان لبٌب رزق‪ ،‬ج ٔ‪ ،‬مركز تارٌخ األهرام‪ ،‬القاهرة‪( ،‬ؼٌر مإرخ)‬
‫‪ -ٔ9ٙ‬دٌوان حافظ إبراهٌم األعمال الكاملة‪ ،‬حافظ إبراهٌم‪ ،‬مإسسة هنداوي‪ ،‬القاهرة‪( ،‬ؼٌر مإرخ)‬
‫‪ -ٔ99‬دٌوان حافظ إبراهٌم‪ ،‬جمع وشرح‪ :‬أحمد أمٌن‪ ،‬أحمد الزٌن‪ ،‬إبراهٌم اإلبٌاري‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪ٔ989‬‬
‫‪ -ٔ98‬دٌوان الشوقٌات‪ ،‬أحمد شوقً‪ ،‬كلمات عربٌة للترجمة والنشر‪ ،‬القاهرة‪( ،‬ؼٌر مإرخ)‬
‫‪ -ٔ99‬فن األدب‪ ،‬توفٌق الحكٌم‪ ،‬دار مصر للطباعة‪ ،‬القاهرة‪( ،‬ؼٌر مإرخ)‬
‫ٓ‪ -ٔ8‬الماسونٌة والماسون فً مصر ‪ ،ٔ9ٙٗ -ٔ998‬وابل إبراهٌم الدسوقً‪ ،‬دار الكتب والوثابق القومٌة‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٔ٘ ،‬‬
‫ٔ‪" -ٔ8‬تارٌخ الماسونٌة العام"‪ ،‬جورجً زٌدان‪ ،‬مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة‪ ،‬القاهرة‪( ،‬ؼٌر مإرخ)‬
‫ٕ‪ -ٔ8‬الماسونٌة فً مصر‪ ،‬علً شلش‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ٔ99ٖ ،‬‬
‫ٖ‪ -ٔ8‬أحجار على رقعة الشطرنج‪ ،‬ولٌم جاي كار‪ ،‬ت‪ .‬سعٌد جزابرلً‪ ،‬دار النفابس‪ ،‬ط ٔ‪ٔ99ٓ ،‬‬
‫ٗ‪ -ٔ8‬الشٌطان أمٌر العالم‪ ،‬ولٌم جاي كار‪ ،‬ت‪ .‬عماد إبراهٌم‪ ،‬األهلٌة للنشر والتوزٌع‪ ،‬األردن‪ٕٓٔٗ ،‬‬
‫٘‪ -ٔ8‬مخطط المتنورٌن‪ ،‬ماٌرون فاجان‪ ،‬ت‪ .‬عبلء الحلبً‪ ،‬سورٌا‪ ،‬نشر إلكترونً‬
‫‪ -ٔ8ٙ‬عبادة الشٌطان وسلطان القدٌسٌن‪ ،‬حلمً القمص ٌعقوب‪ ،‬كنٌسة القدٌسٌن مارمرقس الرسول‪ ،‬اإلسكندرٌة‪( ،‬ؼٌر‬
‫مإرخ)‬
‫‪ -ٔ89‬بروتوكوالت حكماء صهٌون‪ ،‬فكتور ماسدون‪ ،‬الحرٌة للنشر والتوزٌع‪ ،‬القاهرة‪( ،‬ؼٌر مإرخ)‬
‫‪ -ٔ88‬الخطر الٌهودي بروتوكوالت حكماء صهٌون‪ ،‬ت‪ ,‬محمد خلٌفة التونسً‪ ،‬ط ٗ‪ ،‬دار الكتاب العربً‪ ،‬القاهرة‪ٔ9٘ٔ ،‬‬
‫‪ -ٔ89‬مملكة الخزر الٌهودٌة وعبلقتها بالبٌزنطٌٌن والمسلمٌن فً العصور الوسطى‪ ،‬محمد عبد الشافً المؽربً‪ ،‬دار الوفاء‬
‫لدنٌا الطباعة والنشر‪ ،‬اإلسكندرٌة‪( ،‬ؼٌر مإرخ)‬
‫ٓ‪ -ٔ9‬موسوعة المصطلحات الدٌنٌة الٌهودٌة‪ ،‬رشاد الشامً‪ ،‬المكتب المصري لتوزٌع المطبوعات‪ ،‬القاهرة‪ٕٕٓٓ ،‬‬
‫ٔ‪ -ٔ9‬من نحن؟‪ ،‬صموٌل هنتنجتون‪ ،‬ت‪ .‬أحمد مختار الجمال‪ ،‬المركز القومً للترجمة‪ ،‬ط ٔ‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٓ9 ،‬‬
‫ٕ‪ -ٔ9‬مصر الحدٌثة‪ ،‬اللورد كرومر‪،‬المركز القومً للترجمة‪ ،‬ت‪ .‬صبري محمد حسن‪ ،‬جٕ‪ ،‬طٔ‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٔٗ ،‬‬
‫ٖ‪ -ٔ9‬كبار المبلك والفبلحٌن من ‪ ،ٔ9ٕ٘ -ٔ8ٖ9‬رإوؾ عباس وعاصم الدسوقً‪ ،‬النسخة اإللكترونٌة المنشورة على موقع‬
‫الدكتور رإوؾ عباس‬
‫ٗ‪ -ٔ9‬كبار مبلك األراضً الزراعٌة ودورهم فً المجتمع المصري (ٗٔ‪ ،)ٔ9ٕ٘ -ٔ9‬عاصم الدسوقً‪ ،‬دار الثقافة‬
‫الجدٌدة‪ ،‬طٔ‪،‬القاهرة‪ٔ99٘ ،‬‬
‫٘‪ -ٔ9‬دار المندوب السامً فً مصر‪ ،‬ماجدة محمد حمود‪ ،‬ج ٕ‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ٔ999 ،،‬‬
‫‪ -ٔ9ٙ‬مذكرات فخري عبد النور‪ :‬ثورة ‪ ،ٔ9ٔ9‬دار الشروق‪ ،‬طٔ‪ ،‬القاهرة‪ٔ99ٕ ،‬‬
‫‪ -ٔ99‬فً أصول المسؤلة المصرٌة‪ ،‬صبحً وحٌدة‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة ٕ٘ٔٓ‬
‫‪ -ٔ98‬شعراء الوطنٌة فً مصر‪ ،‬عبد الرحمن الرافعً‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬طٖ‪ ،‬القاهرة‪( ،‬ؼٌر مإرخ)‬
‫‪ -ٔ99‬فً أعقاب الثورة المصرٌة ثورة ‪ ،ٔ9ٔ9‬عبد الرحمن الرافعً‪ ،‬جٕ‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬طٖ‪ ،‬القاهرة‪ٔ988 ،‬‬
‫ٕٓٓ‪ -‬تارٌخ الحركة القومٌة وتطور نظام الحكم فً مصر‪ ،‬عبد الرحمن الرافعً‪ ،‬جٔ‪،‬مطبعة النهضة‪ ،‬طٔ‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪ٔ9ٕ9‬‬
‫ٕٔٓ‪ -‬تطور الحركة الوطنٌة فً مصر (‪ ،)ٔ9ٖٙ -ٔ9ٔ8‬عبد العظٌم رمضان‪ ،‬مكتبة مدبولً‪ ،‬طٕ‪ٔ98ٖ ،‬‬
‫ٕٕٓ‪ -‬باشوات وسوبر باشوات‪ ،‬د‪ .‬حسٌن مإنس‪ ،‬الزهراء لئلعبلم العربً‪ ،‬ط ٕ‪ ،‬القاهرة‪ٔ988 ، ،‬‬
‫ٖٕٓ‪ -‬الجٌش المصري فً السٌاسة (ٕ‪ ،ٔ9ٖٙ-ٔ88‬عبد العظٌم رمضان‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ٕٕٓٓ ،‬‬
‫ٕٗٓ‪ -‬مبادئ فً السٌاسة واألدب واالجتماع‪ ،‬أحمد لطفً السٌد‪ ،‬تعلٌق طاهر الطناحً‪ ،‬دار الهبلل‪ ،‬القاهرة‪ٔ9ٖٙ ،‬‬
‫ٕ٘ٓ‪ -‬أحمد لطفً السٌد‪ ،‬معاركه السٌاسٌة واالجتماعٌة‪ ،‬عواطؾ سراج الدٌن‪ ،‬نهضة مصر‪ ،‬طٔ‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٔٔ ،‬‬
‫‪ -ٕٓٙ‬تارٌخ الطبقة العاملة المصرٌة من ‪ ،ٔ9ٕ9 -ٔ9ٔ9‬أمٌن عز الدٌن‪ ،‬دار الشعب‪ ،‬القاهرة‪ٔ99ٓ ،‬‬
‫‪ -ٕٓ9‬خان الخلٌلً‪ ،‬نجٌب محفوظ‪ ،‬مكتبة مصر‪ ،‬ط ‪ ،ٙ‬القاهرة‪( ،‬ؼٌر مإرخ)‬
‫‪ -ٕٓ8‬مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن‪ ،‬محمد جبرٌل‪ ،‬الهٌبة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة ‪ٕٓٓ9‬‬
‫‪ -ٕٓ9‬مصر بٌن عهدٌن‪ ،‬توفٌق الحكٌم‪ ،‬مكتبة مصر‪ ،‬القاهرة‪ٔ98ٖ ،‬‬
‫ٕٓٔ‪ -‬قاموس العادات والتقالٌد والتعابٌر المصرٌة‪ ،‬أحمد أمٌن‪ ،‬مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة‪ ،‬القاهرة‪( ،‬ؼٌر مإرخ)‬
‫ٕٔٔ‪ -‬هنري كورٌٌل‪ -‬األسطورة والوجه اآلخر‪ ،‬حسٌن كفافً‪ ،‬الهٌبة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة ٖٕٓٓ‬
‫ٕٕٔ‪ -‬الحركة القومٌة العربٌة فً القرن العشرٌن‪ ،‬هانً الهندي‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربٌة‪ ،‬طٕ‪ ،‬بٌروت ٕ٘ٔٓ‬
‫ٖٕٔ‪ -‬الحركة العربٌة السرٌة ٖ٘‪( ٔ9ٗ٘ -ٔ9‬جماعة الكتاب األحمر)‪ ،‬شفٌق جحا‪ ،‬الفرات للنشر والتوزٌع‪ ،‬طٔ‪ ،‬بٌروت‪،‬‬

‫٘ٗ‪7‬‬
‫ٕٗٓٓ‬
‫ٕٗٔ‪ٌ -‬قظة العرب‪ -‬تارٌخ حركة العرب القومٌة‪ ،‬جورج أنطونٌوس‪ ،‬ت‪ .‬ناصر الدٌن األسد وإحسان عباس‪ ،‬دار العلم‬
‫للمبلٌٌن‪ ،‬بٌروت‪ ،‬ط ‪ٔ989 ،8‬‬
‫ٕ٘ٔ‪ -‬التارٌخ السري لجماعة اإلخوان المسلمٌن‪ ،‬علً عشماوي‪ ،‬ط ٕ‪ ،‬مركز ابن خلدون للدراسات اإلنمابٌة‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪ٕٓٓٙ‬‬
‫‪ -ٕٔٙ‬كارل ماركس أو فكر العالم سٌرة حٌاة‪ ،‬جاك أتالً‪ ،‬ت‪ .‬محمد صبح‪ ،‬دار كنعان‪ ،‬طٔ‪ ،‬دمشق‪ٕٓٓ8 ،‬‬
‫‪ -ٕٔ9‬الحركة الشٌوعٌة فً مصر من ٕٔ‪ ٔ9‬إلى ثورة ٌناٌر ٕٔٔٓ‪ٌ ،‬وسؾ محمد‪ ،‬كتاب إلٌكترونً‬
‫‪ -ٕ8‬موسوعة هذا الرجل من مصر‪ ،‬لمعً المطٌعً‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ط ٕ‪ ،‬القاهرة‪ٔ999 ،‬‬
‫‪ -ٕٔ9‬الرسالة الخالدة‪ ،‬عبد الرحمن عزام‪ ،‬المجلس األعلى للشبون اإلسبلمٌة‪ ،‬القاهرة‪ٔ9ٙٗ ،‬‬
‫ٕٕٓ‪ -‬مستقبل الثقافة فً مصر‪ ،‬طه حسٌن‪ ،‬طٕ‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬القاهرة‪( ،‬ؼٌر مإرخ)‬
‫ٕٕٔ‪ -‬تارٌخ ال لؽة العربٌة فً مصر والمؽرب األدنى‪ ،‬أحمد مختار عمر‪ ،‬عالم الكتب‪ ،‬القاهرة‪( ،‬ؼٌر مإرخ)‬
‫ٕٕٕ‪ -‬تارٌخ المسرح عبر العصور‪ ،‬مجٌد صالح‪ ،‬الدار الثقافٌة للنشر‪ ،‬طٔ‪ ،‬القاهرة‪ٕٕٓٓ ،‬‬
‫ٖٕٕ‪ -‬السٌنما والدولة فً الوطن العربً"‪ ،‬سمٌر فرٌد‪ ،‬ضمن أبحاث كتاب "الهوٌة القومٌة فً السٌنما العربٌة‪ ،‬مركز‬
‫دراسات الوحدة العربٌة‪ ،‬ط ٔ‪ ،‬بٌروت‪ٔ98ٙ ،‬‬
‫ٕٕٗ‪ -‬معجم مصطلحات التارٌخ والحضارة اإلسبلمٌة‪ ،‬أنور محمود زناتً‪ ،‬ط ٔ‪ ،‬دار زهران للنشر والتوزٌع‪ ،‬عمَّان‪،‬‬
‫ٕٔٔٓ‬
‫ٕٕ٘‪ٌ -‬هود مصر (ٕٕ‪ ،)ٔ9٘ٙ -ٔ9‬رشاد رمضان عبد السبلم‪ ،‬دار الكتب والوثابق القومٌة‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٔٗ ،‬‬
‫‪ -ٕٕٙ‬تارٌخ العمال الزراعٌٌن فً مصر (ٗٔ‪ ،)ٔ9ٕ٘ -ٔ9‬فاطمة علم الدٌن عبد الواحد‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪،‬‬
‫‪ٔ999‬‬
‫‪ -ٕٕ9‬األرض والفبلح‪ ..‬المسؤلة الزراعٌة فً مصر‪ ،‬إبراهٌم عامر‪ ،‬الدار المصرٌة للطباعة والنشر والبحوث والحسابات‬
‫العلمٌة‪ٔ9٘8 ،‬‬
‫‪ -ٕٕ8‬الكتاب األسود لبلستعمار البرٌطانً فً مصر‪ ،‬شحاتة عٌسى إبراهٌم‪ ،‬الهٌبة العامة لقصور الثقافة‪ ،‬القاهرة‪( ،‬ؼٌر‬
‫مإرخ)‬
‫‪ -ٕٕ9‬األجانب فً مصر ٕٕ‪ ٔ9ٕ٘ -ٔ9‬دراسة فً تارٌخ مصر االجتماعً‪ ،‬محمودمحمد سلٌمان‪ ،‬عٌن للدراسات والبحوث‬
‫اإلنسانٌة واالجتماعٌة‪ ،‬ط ٔ‪ ،‬القاهرة‪ٔ99ٙ ،‬‬
‫ٖٕٓ‪ -‬الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي‪ ،‬سامً عزٌز‪ ،‬دار الكتاب العربً‪ ،‬القاهرة‪ٔ9ٙ8 ،‬‬
‫ٖٕٔ‪ -‬مجتمع القاهرة السري (ٓٓ‪ ،)ٔ9ٖ٘ -ٔ9‬عبد الوهاب بكر‪ ،‬العربً للنشر والتوزٌع‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٓٔ ،‬‬
‫ٕٖٕ‪ -‬تطور ملكٌة األرض الزراعٌة ٖٔ‪ ٔ9ٔٗ -ٔ8‬وأثره على الحٌاة السٌاسٌة‪ ،‬علً بركات‪ ،‬دار الثقافة الجدٌدة‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫(ؼٌر مإرخ)‬
‫ٖٖٕ‪ -‬التحلٌل االقتصادي واالجتماعً لمصر‪ ،‬شارل عٌساوي‪ ،‬ت‪ .‬محمد مدحت مصطفى‪ ،‬بوب بروفٌشنال برس‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫ٕٕٔٓ‬
‫ٖٕٗ‪ -‬المذكرات‪ ،‬محمد كرد علً‪ ،‬مطبعة الترقً‪ ،‬دمشق‪ٔ9ٗ8 ،‬‬
‫ٖٕ٘‪ -‬أصول التارٌخ األوروبً الحدٌث‪ ،‬أشرؾ صالح‪ ،‬دار ناشري للنشر اإللكترونً‪ ،‬طٔ‪ ،‬الكوٌت‪ٕٓٓ9 ،‬‬
‫‪ -ٕٖٙ‬تارٌخ الفكر األوروبً الحدٌث (ٔٓ‪ ،)ٔ999 -ٔٙ‬دونالد سترومبرج‪ ،‬ت‪ .‬أحمد الشٌبانً‪ ،‬طٖ‪ ،‬دار القارئ العربً‪،‬‬
‫القاهرة‪ٔ99ٗ ،‬‬
‫‪ -ٕٖ9‬زٌنب (رواٌة)‪ ،‬محمد حسٌن هٌكل‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬ط ٘‪ ،‬القاهرة‪ٔ99ٕ ،‬‬
‫‪ -ٕٖ8‬الرٌؾ المصري‪ ،‬بنت الشاطا‪ ،‬مكتبة ومطبعة الوفد‪ ،‬القاهرة‪ٔ9ٖٙ ،‬‬
‫‪ -ٕٖ9‬الفبلحون‪ ،‬هنري حبٌب عٌروط‪ ،‬ت‪ .‬محًٌ الدٌن اللبان وولٌم داوود مرقص‪ ،‬المركز القومً للترجمة‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪ٕٓٓ9‬‬
‫ٕٓٗ‪ -‬الحرس الحدٌدي كٌؾ كان الملك فاروق ٌتخلص من خصومه‪ ،‬سٌد جاد‪ ،‬الدار المصرٌة اللبنانٌة‪ ،‬القاهرة‪ٔ99ٖ ،‬‬
‫ٖٖٕ‪ -‬مذكراتً فً السٌاسة والثقافة‪ ،‬ثروت عكاشة‪ ، ،‬ط ٖ‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٓٓ ،‬‬
‫ٕٔٗ‪ -‬الصراع االجتماعً والسٌاسً فً مصر منذ قٌام ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘‪ ٔ9‬إلى نهاٌة أزمة مارس ٗ٘‪ ،ٔ9‬عبد العظٌم‬
‫رمضان‪ ،‬مكتبة مدبولً‪ ،‬ط ٕ‪ ،‬القاهرة‬
‫ٕٕٗ‪ -‬قصة االقتصاد المصري من عهد محمد علً إلى عهد مبارك‪ ،‬جبلل أمٌن‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪ٕٕٓٔ ،‬‬
‫ٖٕٗ‪ -‬مصر والحرب العالمٌة الثانٌة‪ ،‬محمد جمال الدٌن المسدي‪ٌ ،‬ونان لبٌب رزق‪ ،‬عبد العظٌم رمضان‪ ،‬مركز الدراسات‬
‫السٌاسٌة واالستراتٌجٌة باألهرام‪ ،‬القاهرة (ؼٌر مإرخ)‬
‫ٕٗٗ‪ -‬تارٌخ الوزارات المصرٌة ‪ٌ ،ٔ9ٖ٘ -ٔ898‬ونان لبٌب رزق‪ ،‬مركز الدراسات السٌاسٌة واالستراتٌجٌة باألهرام‪،‬‬
‫القاهرة‪ٔ99٘ ،‬‬
‫ٕ٘ٗ‪ -‬المرجع فً تارٌخ مصر الحدٌث والمعاصر‪ ،‬نخبة من أساتذة التارٌخ‪ ،‬المجلس األعلى للثقافة‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٓ9 ،‬‬
‫‪ -ٕٗٙ‬الدستور واالستقبلل والثورة الوطنٌة ٖ٘‪ ،ٔ9‬ضٌاء الدٌن الرٌس‪ ،‬جٕ‪ ،‬مإسسة دار الشعب‪ ،‬القاهرة‪( ،‬ؼٌر مإرخ)‬

‫‪7ٗٙ‬‬
‫‪ -ٕٗ9‬مقدمات ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘‪ ،ٔ9‬عبد الرحمن الرافعً‪ ،‬ط ٖ‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬القاهرة‪ٔ989 ،‬‬
‫‪ -ٕٗ8‬حقٌقة االنقبلب األخٌر فً مصر‪ ،‬رشدي البراوي‪ ،‬مكتبة النهضة المصرٌة‪ ،‬ط ٕ‪ٔ9ٕ٘ ،‬‬
‫‪ -ٕٗ9‬عبد الناصر‪ ..‬قصة البحث عن الكرامة‪ ،‬وٌلتون واٌن‪ ،‬مكتبة مدبولً‪ ،‬ط ٔ‪ ،‬القاهرة‪ٕٓٔٓ ،‬‬
‫ٕٓ٘‪ -‬ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘‪ ،ٔ9‬تارٌخنا القومً فً ‪ 9‬سنوات"‪ ،‬عبد الرحمن الرافعً‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬ط ٕ‪ٔ989 ،‬‬
‫ٕٔ٘‪ -‬الثورة المضادة فً مصر‪ ،‬ؼالً شكري‪ ،‬الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪( ،‬ؼٌر مإرخ)‬
‫ٕٕ٘‪ -‬البحث عن الذات‪ ،‬محمد أنور السادات‪ ،‬المكتب المصري الحدٌث‪ ،‬طبعة خاصة‪ ،‬القاهرة‪ٔ98ٓ ،‬‬
‫‪ٕٖ٘ -Alan Gardiner, Egyptian grammar, ٖ edition, Griffith institute Ashmolean‬‬
‫٘٘٘ ‪museum, Oxford, page‬‬

‫الدورٌات والصحؾ‪:‬‬
‫ٔ‪ -‬فلسفات نشؤة الوجود فً مصر القدٌمة‪ ،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬مجلة المجلة (الهٌبة المصرٌة العامة للتؤلٌؾ والنشر)‪ ،‬س ٖ‪،‬‬
‫ع ‪ ،ٕٙ‬القاهرة‪ ،ٔ9٘9 ،‬ص ٖٖ‪ٗٙ -‬‬
‫ٕ‪ -‬الفكاهة والكارٌكاتٌر فً الفن المصري القدٌم‪ ،‬عبد العزٌز صالح‪ ،‬مجلة "المجلة"‪ ،‬العدد رقم ‪ ،88‬بتارٌخ ٔ‪،ٔ9ٙٗ- ٗ-‬‬
‫القاهرة‬
‫ٖ‪ -‬ببلد النوبة‪ :‬تارٌخها وآثارها‪ ،‬عبد المنعم أبو بكر‪ ،‬مجلة المجلة‪ ،‬سٖ‪ ،‬ع‪ ،ٕ8‬الهٌبة المصرٌة العامة للتؤلٌؾ والنشر‪،‬‬
‫القاهرة‪ٔ9٘9 ،‬‬
‫ٗ‪ -‬اللؽة المصرٌة لؽة الببلد األصلٌة‪ ،‬جرجس فٌلناإس عوض‪ ،‬مقال بمجلة الكرمة‪ ،‬العدد ‪ ،9‬س ‪ ،9‬بتارٌخ ٔ‪،ٔ9ٕٖ -9 -‬‬
‫القاهرة‬
‫٘‪ -‬الفبلحون بٌن الثورة العرابٌة وثورة ‪ ،ٔ9ٔ9‬علً محمد بركات‪ ،‬المجلة التارٌخٌة المصرٌة‪ ،‬المجلد ٕٕ‪ ،‬القاهرة‪ٔ99٘ ،‬‬
‫‪ -ٙ‬ســـــٌناء تراب وتراث مصر مــــنذ األزل ‪ ،‬علً رضوان‪ ،‬صحٌفة األهرام‪ ،‬العدد ٖ٘ٓٗٗ‪ٕٓٓ8- ٖ -ٕٙ ،‬‬
‫‪" -9‬بعثتا الٌسوعٌٌن لدى أقباط مصر (ٔ‪ٖٔ٘ٙ -ٔ٘ٙ‬و ٕ‪ ،)ٔ٘8٘-ٔ٘8‬شارل لٌبوا الٌسوعً‪ ،‬مجلة "المشرق"‪ ،‬العدد ٔ‪،‬‬
‫ٔ ٌناٌر ٔ‪ٔ99‬‬
‫‪" -8‬الهجرة إلى مصر"‪ ،‬محمد كرد علً‪ ،‬مجلة المقتبس‪ ،‬العدد ‪ ،ٔ8‬بتارٌخ ٘ٔ‪ٔ9ٓ9 –9 -‬‬
‫‪ -9‬بعض التؤثٌرات القبطٌة فً الفنون اإلسبلمٌة‪ ،‬زكً محمد حسن‪ ،‬المجلة الجدٌدة‪ ،‬العدد رقم ٖ‪ٔ9ٖ8-ٖ-ٔ ،‬‬
‫ٓٔ‪ -‬درس تهذٌب تحاور به تلمٌذ مع ندٌم‪ ،‬عبد هللا الندٌم‪ ،‬التنكٌت والتبكٌت‪ ،‬العدد ٗ‪ ،‬السنة األولى‪ٔ88ٔ -9 -ٖ ،‬‬
‫ٔٔ‪ -‬الزعٌم أحمد عرابى رحلة كفاح من أجل الوطن‪ ..‬من الثورة إلى المنفى‪ ،‬األهرام‪ ،ٕٓٔٙ -9 -9 ،‬السنة ٔٗٔ العدد‬
‫ٗ‪ٗ9ٖ9‬‬
‫ٕٔ‪ -‬سٌد دروٌش فنان الشعب والثورة الدابمة‪ ،‬السٌدة زهرة‪ ،‬مجلة أدب ونقد‪ ،‬العدد ‪ ،ٕٗ9‬القاهرة‪ ،‬مارس ‪ٕٓٓٙ‬‬
‫ٖٔ‪ -‬ثورة ‪ ٔ9‬بعد تسعٌن عاما‪ ،‬األقباط والثورة‪ ،‬جابر عصفور‪ ،‬جرٌدة الشروق ‪ٌ ٔ8‬ونٌو ‪ٕٓٓ9‬‬
‫ٗٔ‪ -‬جون لوك‪ ..‬مإسس العبودٌة وتاجرها‪ ،‬سلطان عامر‪ ،‬صحٌفة الحٌاة اللندنٌة‪ٕٖٓٔ -ٕ -ٔ9 ،‬‬
‫٘ٔ‪ -‬ثورة ‪ ٔ9‬بعد تسعٌن عاما‪ ،‬األقباط والثورة‪ ،‬جابر عصفور‪ ،‬جرٌدة الشروق‪ٌ ٔ8 ،‬ونٌو ‪ٕٓٓ9‬‬
‫‪ -ٔٙ‬حول مصر والحرب العالمٌة األولى‪ ،‬أحمد جمال‪ ،‬صحٌفة األهرام‪ ،‬السنة ٖٗٔ‪ ،‬العدد ‪ ،ٗ8ٔ98‬بتارٌخ ٕٕ‪-ٔٔ -‬‬
‫‪ٕٓٔ8‬‬
‫‪" -ٔ9‬عزٌز المصري سندباد العسكرٌة األب الروحً للضباط األحرار"‪ ،‬حمد أبو العٌنٌن‪ ،‬صحٌفة األهرام‪ ٘ ،‬أبرٌل ٖٕٔٓ‬
‫‪ -ٔ8‬أسرار دخول مصر حرب فلسطٌن "الحلقة األولى"‪ ،‬محمود صبلح‪ ،‬مجلة األهرام العربً‪ٕٓٔ9-ٔٓ-ٕ8 ،‬‬
‫‪ -ٔ9‬أصحاب القمصان الملونة‪ ..‬األمة تستخدم الشرطة علً األمن العام ال إلخضاعها إدارة األمن العام‪ٌ ،‬ونان لبٌب رزق‪،‬‬
‫صحٌفة األهرام‪ ،‬العدد ٔ‪ٕٓٓ٘ -ٙ -ٔٙ ،ٖٕٗ9‬‬
‫ٕٓ‪ -‬الممٌزات العامة للتركٌب الطبقً فً مصر عشٌة ثورة ٌولٌو ٕ٘‪ ،ٔ9‬جمال مجدي حسنٌن‪ ،‬مجلة الطلٌعة‪ ،‬س‪ ،9‬ع ٗ‪،‬‬
‫القاهرة‪ٔ99ٔ ،‬‬
‫ٕٔ‪ -‬قبل ٖٕ ٌولٌو اختلفت األلوان والهدؾ واحد!‪ ،‬موقع جرٌدة المال‪ ،‬بتارٌخ ٖٔ‪ٕٖٓٔ -ٔ -‬‬
‫ٕٕ‪ -‬ساطع الحصري فٌلسوؾ القومٌة العربٌة نافخ الروح فً معهد الدراسات‪ ،‬مجلة األهرام العربً‪ ،‬سهٌر عبد الحمٌد‪-9 ،‬‬
‫ٖ‪ٕٓٔ٘ -‬‬
‫ٖٕ‪ -‬األرمن فً مصر‪ ،‬شٌري عبد المسٌح‪ ،‬تحقٌق صحفً بجرٌدة "وطنً"‪ٕٓٔ٘ -ٗ -ٕٗ ،‬‬
‫ٕٗ‪ -‬عملٌة الخصخصة‪ :‬الضرورة والمحاذٌر والمتطلبات‪ ،‬محمد عبد الشفٌع عٌسى‪ ،‬مجلة بحوث اقتصادٌة عربٌة‪ ،‬مج ٖٔ‪،‬‬
‫ع ‪ ،ٖٙ،ٖ9‬القاهرة‪ٕٓٓٙ ،‬‬

‫المواقع اإللكترونٌة‪:‬‬
‫‪7ٗ7‬‬
‫ موقع ذاكرة مصر المعاصرة‬،‫سٌرة محمد رٌاض ربٌس الوزراء‬
http://modernegypt.bibalex.org/Types/Persons/Details.aspx?type=minister&ID=e
ٗEEDٙHD8Byir9vnNnٙZ9w:ٖD:ٖD
ٔ9ٕٔ -ٔ9ٖٔ ‫الجامعة األمرٌكٌة بالقاهرة توثق رقمٌا مجموعة من الصور النادرة لتارٌخ مصر من‬
https://www.aucegypt.edu/index.php/ar/node/998ٔ
:ً‫ كورش األكبر والتسامح الدٌن‬،‫موقع التسامح‬
https://tolerance.tavaana.org/ar/content/%D9:8ٖ:D9:88%D8:Bٔ:D8:Bٗ-
%D8:A9:D9:8ٗ:D8:Aٖ:D9:8ٖ:D8:A8:D8:Bٔ-
%D9:88:D8:A9:D9:8ٗ:D8:AA%D8:Bٖ:D8:A9:D9:8٘:D8:AD-
%D8:A9:D9:8ٗ:D8:AF%D9:8A%D9:8ٙ:D9:89
،‫ بوابة الحضارات‬،‫ موقع األهرام‬،‫ عبد العزٌز جمال الدٌن‬،ً‫ األهلى والزمالك فً عصر الجبرت‬..‫صراع األحمر واألبٌض‬
ٕٓٔ8-ٔ -ٙ
http://hadarat.ahram.org.eg/Articles/%D8:AA%D8:Bٔ:D8:A9:D8:AB/%D8:A9:D9
:8ٗ:D8:Aٖ:D9:89:D9:8ٗ:D9:89-
%D9:88:D8:A9:D9:8ٗ:D8:Bٕ:D9:8٘:D8:A9:D9:8ٗ:D9:8ٖ-%D9:8ٔ:D9:8A-
%D8:B9:D8:B٘:D8:Bٔ-%D8:A9:D9:8ٗ:D8:AC%D8:A8:D8:Bٔ:D8:AA%D9:8A-
ٕ9ٓ9ٔ٘
ً‫ بٌجول باسٌل‬،‫ ما بٌن القدٌم والحدٌث‬-
http://www.copts-
united.com/C_U/Branches_CPTS/Egyptian_Studies/Egy_Coptic_Lang/Abouna_Pi
gol_Partٔ.htm
‫ بوابة‬،‫ أ ش أ‬،‫ العلماء ٌثبتون أن الملك رمسٌس الثالث قتله متآمرون وذبحوه بسكٌن حاد‬..‫ بعد دراسة استؽرقت عامٌن‬-
ٕٕٓٔ -ٕٔ -ٔ9 ،‫األهرام‬
http://gate.ahram.org.eg/News/ٕ8ٗ٘ٔ٘.aspx
‫قبل ٖٕ ٌولٌو تعددت األلوان والهدؾ واحد‬-
http://www.almalnews.com/Story/ٖٓ8ٕٔ/ٔ9/%D9:8ٕ:D8:A8:D9:8ٗ-
%D9:8A%D9:88:D9:8ٗ:D9:8A%D9:88-ٔ9ٕ٘---
%D8:A9:D8:AE%D8:AA%D9:8ٗ:D9:8ٔ:D8:AA-
%D8:A9:D9:8ٗ:D8:Aٖ:D9:8ٗ:D9:88:D8:A9:D9:8ٙ-
!%D9:88:D8:A9:D9:8ٗ:D9:89:D8:AF%D9:8ٔ-%D9:88:D8:A9:D8:AD%D8:AF
ٕٓٔٙ -9 -ٖٔ ،‫ بوابة الحضارات‬-‫ موقع األهرام‬،ً‫ وابل إبراهٌم الدسوق‬،‫ تؤسٌس المدرسة الوطنٌة لعلم المصرٌات‬-
http://hadarat.ahram.org.eg/Articles/%D8:Aٖ:D9:8ٔ:D9:8ٖ:D8:A9:D8:Bٔ/%D8:A
A%D8:Aٖ:D8:Bٖ:D9:8A%D8:Bٖ-
%D8:A9:D9:8ٗ:D9:8٘:D8:AF%D8:Bٔ:D8:Bٖ:D8:A9-
%D8:A9:D9:8ٗ:D9:88:D8:B9:D9:8ٙ:D9:8A%D8:A9-
%D9:8ٗ:D8:B9:D9:8ٗ:D9:8٘-
%D8:A9:D9:8ٗ:D9:8٘:D8:B٘:D8:Bٔ:D9:8A%D8:A9:D8:AA-ٔٓٓ9ٔٙ
)‫ موقع إخوان وٌكً (الموقع الرسمً لتارٌخ جماعة اإلخوان المسلمٌن‬،‫ رسابل حسن البنا‬-
http://www.ikhwanwiki.com/index.php?title=%D8:Bٔ:D8:Bٖ:D8:A9:D8:Aٙ:D9:8
ٗ_%D8:A9:D9:8ٗ:D8:A٘:D9:8٘:D8:A9:D9:8٘_%D8:A9:D9:8ٗ:D8:Bٗ:D9:89:D9
:8A%D8:AF_%D8:AD%D8:Bٖ:D9:8ٙ_%D8:A9:D9:8ٗ:D8:A8:D9:8ٙ:D8:A9#.D8.
AD.D9.8ٕ_.D8.A9.D9.8ٗ.D8.A٘.D9.8ٙ.D8.Bٖ.D8.A9.D9.8ٙ.D9.8A.D8.A9
:‫ موقع "نافذة مصر" التابع للجماعة‬،ٔ99ٗ ‫ البلبحة العالمٌة لجماعة اإلخوان المسلمٌن الموضوعة سنة‬-
/https://www.egyptwindow.net
ٕٓٔٙ -ٖ -ٖٓ ،‫ موقع صحٌفة الراي الكوٌتٌة‬،‫ االستثمارات الكوٌتٌة فً مصر تبلػ نحو ٘ٔ ملٌار دوالر‬:‫ السفٌر عاطؾ‬-
http://www.alraimedia.com/Home/Details?Id=٘٘9c9baa-ٖ9bٔ-ٖٖٗٓ-a٘ٗ8-
dfٖٓ8eٕٕٗٔc9
ٕٓٔ9 -ٕٔ-ٕ ،‫ روزالٌوسؾ‬،‫ ملك ال ٌستحق لقب القداسة‬..‫ قسطنطٌن‬:"‫ الباحث رٌاض فارس لـ"روزالٌوسؾ‬-
https://www.masress.com/rosadaily/ٕٔٓ9٘9ٔ

7ٗ8
‫ موقع دٌوان رباسة‬،‫ ربٌس الوزراء ٌدشن الطاحونة التً أعٌد ترمٌمها فً حً "مشكنوت شؤنانٌم" فً أورشلٌم القدس‬-
ٕٕٓٔ -8 -ٕ8 ،)ً‫الوزراء (اإلسرابٌل‬
http://www.pmo.gov.il/Arab/MediaCenter/Events/Pages/eventtahanaٕ8ٓ8ٕٔ.aspx
‫ موقع البنك المركزي المصري‬،"‫ "نبذة تارٌخٌة عن تطور النقود فً مصر‬-
https://www.cbe.org.eg/ar/BankNote/Pages/HistoricalOverview.aspx
‫ موقع األنبا تكبلهٌمانوت‬، ‫ القمص بولس جورج‬،‫تارٌخ دخول الطوابؾ (الكاثولٌك والبروتستانت) فً مصر وهدفها‬
https://st-takla.org/articles/fr-boles-george/nondenominational/history.html
‫ الهٌبة العامة لبلستعبلمات‬،‫ تارٌخ الدساتٌر المصرٌة‬-
http://www.sis.gov.eg/section/ٔٓ/ٕٕٔ8?lang=ar

-Exhibition - Rothschilds in Caricature, 8: Feeding time

https://www.rothschildarchive.org/exhibitions/rothschild_in_caricature/feeding_ti
me
NATIVES OF THE EGYPTIAN LABOUR CORPS MOVING A WATER-TANK AT EL
FERDAN
https://www.awm.gov.au/collection/Cٗٓ98
Egyptian labour corps, repairing the nebi Mosa rooad
https://www.iwm.org.uk/collections/item/object/ٔ8ٓ9ٖ
Egyptian labor on dock in France
http://www.loc.gov/pictures/resource/ggbain.ٕ٘99ٖ/?co=ggbain
ARMENIANS THANK PEOPLES OF THE MIDDLE EAST
https://auroraprize.com/en/aurora/article/multimedia/ٔٓ٘ٔٗ/armenians-thank-
peoples-middle-east-ٓ
Incredible images show the everyday life of thousands of Yugoslavian refugees
who spent ٔ8 months at an Egyptian camp during World War II
https://www.dailymail.co.uk/news/article-ٗ٘9ٖٔٔٗ/Images-Yugoslavians-Egyptian-
refugee-camp-WWII.html
Telegraphing Revolt: Protest Diffusion in the ٔ9ٔ9 Egyptian Revolution
https://www.kcl.ac.uk/events/telegraphing-revolt-protest-diffusion-in-the-ٔ9ٔ9-
egyptian-revolution
English octopus cartoon ٔ89ٗ -
https://atlanticsentinel.com/ٕٓٔ9/ٓ8/the-octopus-in-political-cartoons/ٔ89ٗ-
/english-octopus-cartoon

7ٗ9
‫الفهرس‬

‫لماذا هذا الكتاب؟ ‪ٔ..............................................................................................................‬‬


‫لمن هذا الكتاب؟ ‪ٔٔ.............................................................................................................‬‬
‫الفصل األول‪ :‬أزمنة الحكم المصري الحر القدٌم (من األزل‪ٔٗ .............................. )ٔٓٙ9 -‬‬

‫المشيد ‪ :1‬فوؽ التؿ األ زلي (في البدء كانت الكممة‪ ..‬وجاءت مصر ‪15 ...............................................‬‬

‫المشيد ‪ :2‬فجر مصر قبؿ مينا (التكويف) ‪18 .........................................................................‬‬

‫▲▲▲العصور الحجرٌة ما قبل التؤرٌخ (طفولة مصر) ‪ٔ9................................................................‬‬


‫▲▲▲ عصور ما قبل األسرات (صبا مصر) ‪ٔ9..........................................................................‬‬
‫❶ معركة سكٌن جبل العركً ‪ٕٔ............................................................................................‬‬
‫❷ معركة صبلٌة العقبان ‪ٕٔ..................................................................................................‬‬
‫❸ مقمعة العقرب ‪ٕٕ..........................................................................................................‬‬

‫▲▲▲ جذور ىوية مصر (النخاع) ‪22 .............................................................................‬‬

‫❶ (عٌلة واحدة) ‪ٕٖ...........................................................................................................‬‬


‫❷ (أمة فً ذاتها) ‪ٕ٘..........................................................................................................‬‬
‫❸ (تاسوع وحدانٌة الهوٌة المصرٌة) ‪ٕٙ.....................................................................................‬‬
‫❹ (مصر‪ ..‬المقدسة المعشوقة) ‪ٕ9...........................................................................................‬‬

‫▲▲▲ فرؽ اليوية بيف مصر وجيرانيا ‪28 .........................................................................‬‬

‫▲▲▲ أكبر عيوب مصر ‪31 .......................................................................................‬‬

‫▲▲▲ الوصية الحارسة (العيد) ‪32 ................................................................................‬‬

‫▲▲▲ العقيدة المصرية القتالية واألقواس التسعة ‪34 ...............................................................‬‬

‫المشيد ‪ :3‬الوالدة الجديدة (الدولة القديمة) ‪39 .......................................................................‬‬

‫▲▲▲ العصر العتٌق (التحرٌر واستعادة المركزٌة) ‪ٖ9...................................................................‬‬


‫▲▲▲ معارك العصر العتٌق مع الهكسوس وعبلقاته الخارجٌة ‪ٗٓ.......................................................‬‬
‫▲▲▲ معارك بناة األهرام مع الهكسوس وعبلقاتهم الخارجٌة ‪ٗٗ........................................................‬‬

‫المشيد ‪ :4‬سقوط الدولة المركزية (الزفتة األولى) العقاب الشنيع‪48 ..................................................‬‬


‫▲▲▲ "ماعت" و"إزفت" ‪48 ........................................................................................‬‬

‫▲▲▲ (دستور المصرييف) ‪49 ....................................................................................‬‬

‫▼▼▼ دستور الشيطاف لمصر ‪51 .................................................................................‬‬

‫▲▲▲ "كتالوج مصر" ‪52 ..........................................................................................‬‬

‫▲▲▲ السقوط الكبير ‪52 .........................................................................................‬‬

‫❶ طاعون البلمركزٌة ‪ٖ٘ .....................................................................................................‬‬


‫❷ طاعون توطٌن األجانب ‪٘ٗ ................................................................................................‬‬
‫❸ أٌن الجٌش؟ ‪ٙٔ .............................................................................................................‬‬

‫المشيد ‪ :5‬الوالدة الجديدة (الدولة الوسطى) شروؽ ماعت ‪64 ........................................................‬‬

‫▲▲▲ معركة التحرير ‪64 .........................................................................................‬‬

‫▲▲▲ عودة الروح ‪66 ............................................................................................‬‬

‫▲▲▲ وصفة عمار مصر ‪68 .....................................................................................‬‬

‫المشيد ‪ :6‬سقوط الدولة المركزية (الزفتة الثانية) مصر تدفع الجزية ‪75 ..............................................‬‬

‫▼▼▼ ونسيت مصر‪75 ...................................................................................... ! ..‬‬

‫▼▼▼ وصفة خراب مصر ‪75 .....................................................................................‬‬

‫▼▼▼ الغزو‪ ..‬ىكسوس الشرؽ والجنوب ‪79 ......................................................................‬‬

‫▲▲▲ ىزيمة الحصار الشيطاني‪82 ...............................................................................‬‬

‫▲▲▲ حرب التحرير الخالدة ‪83 ...................................................................................‬‬

‫المشيد ‪ :7‬الوالدة الجديدة (الدولة الحديثة) شروؽ ماعت ‪91 .........................................................‬‬

‫▲▲▲ عودة الروح ‪91 ............................................................................................‬‬

‫ٔ٘‪7‬‬
‫▼▼▼ونسيت مصر‪ 4 ..‬أفػخػاخ‪98 ................................................................................‬‬

‫❶ فخ الزواج باألجانب ‪99.....................................................................................................‬‬


‫❷ فخ توطٌن أسرى الحرب والعبٌد ‪ٔٓٓ ......................................................................................‬‬
‫❸ فخ توظٌؾ أبناء الببلد المفتوحة والجالٌات األجنبٌة ‪ٔٓٔ ................................................................‬‬
‫❹ فخ تشؽٌل األجانب فً الجٌش المصري ‪ٔٓٔ ............................................................................‬‬
‫▼▼▼ الؽنى الفاحش مفسدة لمصر ‪ٔٓٔ ...................................................................................‬‬

‫▼▼▼ الثعابيف في القصر ‪115 ...................................................................................‬‬

‫▲▲▲ الوقاية مف إزفت ‪116 ......................................................................................‬‬

‫▼▼▼ البناء بيد واليدـ باليد األخرى ‪117 .........................................................................‬‬

‫▼▼▼ النار تصؿ الجيش والمعبد ‪111 ............................................................................‬‬

‫▼▼▼ طاعوف قبائؿ شعوب البحر "نا خاسوت با يَّـ" ‪112 .........................................................‬‬

‫▼▼▼ اغتصاب عائمة "إرسو" السورية لمحكـ ‪115 ................................................................‬‬

‫▼▲▼ انتصارات فاخرة وخطايا غادرة ‪116 .........................................................................‬‬

‫▼▼▼ اغتياؿ رمسيس الثالث ‪121 ................................................................................‬‬

‫▼▼▼ دويالت جوة الدولة ‪122 ...................................................................................‬‬

‫▼▼▼ نياية أزمنة الحكـ العظيـ ‪123 .............................................................................‬‬

‫الفصل الثانً‪ :‬الهكسوس ٌشعلون نٌران ٖ آ الؾ سنة احتبلل (مصر أسٌرة حرب ‪ ٔٓٙ9‬ق‪.‬م‪ٕٔ8)ٔ9ٕ٘ -‬‬

‫المشيد ‪ :8‬الزفتة الثالثة (وسقط الصولجاف والييمماف) ‪131 ..........................................................‬‬

‫▼▼▼ االحتالؿ الخاسوتيَّمي (ىكسوس البحر) ‪131 ...............................................................‬‬

‫االحتجاج بالكاريكاتير ‪132 ...........................................................................................‬‬

‫▼▼▼الجيش المصري في االحتالؿ الخاسوتيمي (التصفية‪-‬جمب المرتزقة) ‪133 ....................................‬‬

‫ٕ٘‪7‬‬
‫الخاسوتيمي ‪134 ........................................................‬‬
‫َ‬ ‫♦♦♦ السكاف ومف ىو المصري في االحتالؿ‬

‫▼▼▼ نتائج االستيطاف واالحتالؿ الخاسوتيمي ‪138 ...............................................................‬‬

‫❶ ‪ -‬السقوط فً االحتبلالت األلفٌة ‪ٖٔ8 .....................................................................................‬‬


‫❷‪ -‬احتكار األجانب للمناصب والثروة ‪ٖٔ8 .................................................................................‬‬
‫❸‪ -‬بداٌة مشروع "تدوٌل مصر" ‪ٖٔ9 .......................................................................................‬‬

‫♦♦♦ أصؿ كممة عسكر ‪141 .........................................................................................‬‬

‫❹‪ -‬ظهور الوكاالت األجنبٌة "الشركات متعددة الجنسٌات" ‪ٔٗٔ ...........................................................‬‬


‫❺‪ -‬انتشار الربا فً مصر ألول مرة ‪ٕٔٗ ...................................................................................‬‬
‫❻‪ -‬تصفٌة الدٌانة المصرٌة ‪ٖٔٗ .............................................................................................‬‬

‫▼▼▼االحتالؿ الكوشي (‪ 656 -747‬ؽ‪ .‬ـ) ‪144 ................................................................‬‬

‫(تارٌخ مصر مع كوش) ‪ٔٗٗ ...................................................................................................‬‬

‫▼▼▼ االحتالؿ اآلشوري ‪145 ....................................................................................‬‬

‫(تارٌخ آشور مع مصر) ‪ٔٗٙ ...................................................................................................‬‬

‫▼▼▼ نتائج االحتالؿ اآلشوري ‪147 ..............................................................................‬‬

‫❶‪ -‬حكم مصر من خارجها ألول مرة ‪ٔٗ9 ..................................................................................‬‬


‫❷‪ -‬إحراق واسط (طٌبة)‪ ..‬وانتهاك قدسٌة معابدها ألول مرة‪ٔٗ9 .........................................................‬‬
‫❸‪ -‬نهب ونقل آثار مصر للخارج ألول مرة ‪ٔٗ8 ...........................................................................‬‬
‫❹‪ -‬تؽٌٌر أسامً المدن المصرٌة ألول مرة ‪ٔٗ8 ............................................................................‬‬
‫❺‪ -‬تهجٌر المصرٌٌن من ببلدهم ؼصبًا ألول مرة ‪ٔٗ8 ....................................................................‬‬
‫❻‪ -‬تدوٌر المذابح ونشر بحر الدماء فً أنحاء مصر ‪ٔٗ8 ..................................................................‬‬
‫❼‪ -‬تؽٌر مفهوم النهضة المصرٌة "وحم مسوت" ‪ٔٗ9 ......................................................................‬‬
‫❽‪ -‬تربٌة العقارب السود (الٌهود واإلؼرٌق) ‪ٔ٘ٔ ..........................................................................‬‬

‫▼▼▼ االحتالؿ الفارسي األوؿ ‪153 ..............................................................................‬‬

‫(تارٌخ مصر مع ببلد فارس) ‪ٖٔ٘ .............................................................................................‬‬

‫▼▼▼نتائج االحتالؿ الفارسي ‪155 ...............................................................................‬‬

‫❶‪ -‬نزح ثروات مصر إلى الخارج ‪ٔ٘٘ .....................................................................................‬‬


‫❷‪ -‬استمرار تعلٌه شؤن المستوطنٌن األجانب على المصرٌٌن ‪ٔ٘ٙ ........................................................‬‬

‫ٖ٘‪7‬‬
‫❸‪ -‬تهجٌر المواهب المصرٌة للخارج ؼصبا ‪ٔ٘9 ..........................................................................‬‬

‫▲▲▲ الثورات ضد المحتؿ الفارسي ‪157 ..........................................................................‬‬

‫▼▼▼ خذالف دولي لـ ولف ينتيي ‪158 ............................................................................‬‬

‫▼▼▼ االحتالؿ الفارسي الثاني ‪161 ..............................................................................‬‬

‫▼▼▼ نتائج االحتالؿ الفارسي الثاني ‪161 ........................................................................‬‬

‫▼▼▼ ترحيب المستوطنيف بغزوة اإلسكندر لمصر ‪161 ............................................................‬‬

‫▼▼▼ نزوؿ الستارة عمى أنبؿ حضارة ‪161 ........................................................................‬‬

‫المشيد ‪ :9‬االحتالؿ اإلغريقي (النكبة الثانية) مصر تمبس القناع ‪164 ................................................‬‬

‫(تارٌخ العبلقة بٌن مصر والٌونان) ‪ٔٙٗ .......................................................................................‬‬

‫▼▼▼ الجيش في االحتالؿ اليوناني (إغريؽ‪ -‬مرتزقة) ‪164 .......................................................‬‬

‫♦♦♦ السكاف وتعريؼ المصري في االحتالؿ اليوناني ‪165 .............................................................‬‬

‫▼▼▼ نتائج االستيطاف واالحتالؿ اإلغريقي ‪168 ..................................................................‬‬

‫❶‪ -‬مصر تلبس القناع‪ ..‬ألول مرة ‪ٔٙ8 ......................................................................................‬‬


‫❷‪ -‬تؽٌٌر اسم ومدلول مصر والمصرٌٌن ‪ٔ9ٓ ..............................................................................‬‬
‫❸‪ -‬تحقٌر مكانة المصرٌٌن‪ ..‬الحرب النفسٌة الطوٌلة‪ٔ9ٔ ..................................................................‬‬
‫❹‪ -‬عصر رجال األعمال الدولٌٌن ‪ٔ9ٕ ......................................................................................‬‬
‫❺‪ -‬إهبلك مال المصرٌٌن فً حروب ؼٌرهم ‪ٔ9ٗ ..........................................................................‬‬
‫❻‪ -‬تضخم االحتبلل الجالٌاتً (االستٌطانً) ‪ٔ9ٗ ...........................................................................‬‬
‫❼‪ -‬تحرٌم مدن على المصرٌٌن ‪ٔ9ٗ .........................................................................................‬‬
‫❽‪ -‬إزاحة اللؽة المصرٌة عن عرشها‪ ..‬ألول مرة (الخنجر األول) ‪ٔ9٘ ..................................................‬‬
‫❾‪ -‬اختراع دٌن جدٌد‪ ..‬المسخ سرابٌس ‪ٔ9ٙ ................................................................................‬‬
‫❿‪ -‬توزٌع أرض مصر على األجانب ‪ٔ98 .................................................................................‬‬
‫❶❶‪ -‬عٌش المصرٌٌن فً دولة تحكمها الدماء واالنقبلبات ‪ٔ99 .........................................................‬‬

‫▲▲▲ ثورات مصر ضد االحتالؿ اليوناني ‪181 ....................................................................‬‬

‫ٗ٘‪7‬‬
‫▲▲▲ سقوط دولة الدـ واالنقالبات ‪183 ..........................................................................‬‬

‫▼▼▼ كميوبات ار اإلغريقية‪ ..‬ليست منا ولسنا منيا‪185 ............................................................‬‬

‫المشيد ‪ :11‬االحتالؿ الروماني (سقوط القالع) ‪188 .................................................................‬‬

‫▼▼▼ الجيش في االحتالؿ الروماني (روماف‪ -‬إغريؽ‪ -‬مرتزقة) ‪188 .............................................‬‬

‫♣♣♣ السكاف وتعريؼ المصري في االحتالؿ الروماني ‪189 ..........................................................‬‬

‫حرة؟ ‪191 ................................................................‬‬


‫♣♣♣ ماذا لو دخمت المسيحية مصر وىي َّ‬

‫▼▼▼ نتائج االحتالؿ الروماني ‪195 ..............................................................................‬‬

‫❶‪ -‬نشؤة عقدة الخواجة ‪ٔ9٘ ..................................................................................................‬‬


‫❷‪ -‬محو حروؾ اللؽة المصرٌة‪ ..‬الخنجران الثانً والثالث‪ٔ9٘ ...........................................................‬‬
‫❸‪ -‬اضطهاد الدٌن المصري‪ ..‬ؼلق المعابد ‪ٔ98 ............................................................................‬‬
‫❹‪ -‬مصر تفقد ذاكرتها ‪ٔ99 ..................................................................................................‬‬
‫❺‪ -‬توزٌع أرض مصر على األجانب ‪ٕٓٓ ..................................................................................‬‬
‫❻‪ -‬نزح أموال المصرٌٌن جزٌة وضرابب ‪ٕٖٓ ............................................................................‬‬
‫❼‪ -‬نزح أموال المصرٌٌن للبنوك والقروض الخارجٌة‪ٕٖٓ ................................................................‬‬
‫❽‪ -‬إهبلك ثروة المصرٌٌن فً حروب ال تخصهم ‪ٕٓٗ .....................................................................‬‬
‫❾‪ -‬السخرة واتساع داٌرة التشرد للمصرٌٌن ‪ٕٓٗ ...........................................................................‬‬
‫❿‪ -‬قبول وتمجٌد االحتبلل باسم الدٌن ‪ٕٓ٘ .................................................................................‬‬

‫▲▲▲ ثورات مصر ضد االحتالؿ الروماني ‪217 ...................................................................‬‬

‫▼▼▼ صراعات الطوائؼ واألعراؽ األجنبية ‪218 ..................................................................‬‬

‫▼▼▼ االحتالؿ الفارسي الثالث ‪219 ..............................................................................‬‬

‫المشيد ‪ :11‬االحتالؿ العربي (الدوامة‪/‬القناع الثاني) ‪212 ............................................................‬‬

‫(تارٌخ العرب مع مصر قبل الؽزو)‪ٕٕٔ ......................................................................................‬‬

‫حرة؟ ‪213 ....................................................................‬‬


‫♣♣♣ ماذا لو دخؿ اإلسالـ مصر وىي َّ‬

‫٘٘‪7‬‬
‫▼▼▼ الجيش في االحتالؿ العربي (عرب‪ /‬مرتزقة الفرس والترؾ) ‪216 .............................................‬‬

‫♣♣♣ السكاف وتعريؼ المصري في االحتالؿ العربي (تبدؿ القناع) ‪218 ...............................................‬‬

‫▼▼▼ نتائج االستيطاف والفتح العربي ‪221 ........................................................................‬‬

‫❶‪ -‬فتح الطرٌق للعرب فً ؼزو مصر ‪ٕٕٔ ................................................................................‬‬


‫❷ دفع الجزٌة والخراج لؤلجنبً ‪ٕٕٕ ........................................................................................‬‬
‫❸ طاعون اختبلؾ المصرٌٌن فً الموقؾ من عدوهم ‪ٕٕ9 ................................................................‬‬
‫❹ التباهً بتحول المصرٌات إلى جواري وهداٌا ‪ٕٕ9 ......................................................................‬‬
‫❺ الفسطاط‪ ..‬مدٌنة جدٌدة محرمة على المصرٌٌن ‪ٕٖٓ ....................................................................‬‬
‫❻ زٌادة فرص المصرٌٌن داخل الدواوٌن ‪ٕٖٔ ..............................................................................‬‬
‫❼ معاناة مصر من صراعات ودماء الخبلفة ‪ٕٖٕ ..........................................................................‬‬
‫❽ تحقٌر المصرٌٌن‪ ..‬عمدا ‪ٕٖ٘ .............................................................................................‬‬
‫❾ تورم عقدة الخواجة ‪ٕٖ9 ...................................................................................................‬‬
‫❿ االضطهاد الدٌنً ساعة وساعة ‪ٕٖ8 ......................................................................................‬‬
‫➀ تعرٌب الدٌن والدواوٌن‪ ..‬الخنجر الرابع للؽة المصرٌة ‪ٕٗٓ ............................................................‬‬
‫➁ العدوان على الهرم األكبر ونهب اآلثار ‪ٕٗٔ .............................................................................‬‬
‫➂ توزٌع أرض مصر وخراجها على األجانب ‪ٕٕٗ ........................................................................‬‬
‫➃ نظام السخرة "اللٌتورجٌا" ‪ٕٖٗ ............................................................................................‬‬
‫➄ تشرد المصرٌٌن وعٌشة المطارٌد ‪ٕٗٗ ...................................................................................‬‬

‫▲▲▲ ثورات المصرييف عمى االحتالؿ العربي ‪245 ................................................................‬‬

‫▼▼▼ سقوط مصر تحت حكـ المماليؾ العبيد ألوؿ مرة ‪249 .......................................................‬‬

‫‪ -1‬االحتالؿ الطولوني ‪254‬ىػ ‪293 -‬ىػ‪ 868 /‬ـ‪915 -‬ـ ‪249 ....................................................‬‬

‫❷ االحتالؿ اإلخشيدي (‪ 358 -324‬ىػ ‪ 969 -935 -‬ـ) ‪252 ....................................................‬‬

‫المشيد ‪ :12‬االحتالؿ العبيدي "الفاطمي" (الغزو الشيعي) ‪255 ........................................................‬‬

‫▼▼▼ تاريخ العبيدييف في التنظيمات السرية ‪256 .................................................................‬‬

‫▼▼▼ الجيش في االحتالؿ العبيدي (مرتزقة وعبيد) ‪258 ..........................................................‬‬

‫‪7٘ٙ‬‬
‫♣♣♣ السكاف وتعريؼ المصري في االحتالؿ العبيدي ‪259 ...........................................................‬‬

‫▼▼▼ نتائج االحتالؿ العبيدي ‪261 ...............................................................................‬‬

‫❶ المذهب الشٌعً والحركات السرٌة فً نظام الحكم ‪ٕٙٔ .................................................................‬‬


‫❷ القاهرة‪ ..‬عاصمة جدٌدة محرمة على المصرٌٌن ‪ٕٙٗ ...................................................................‬‬
‫❸ إبادة ثلث سكان مصر ‪ٕٙٗ ................................................................................................‬‬
‫❹ العودة للعٌشة تحت راٌة الدماء واالؼتٌاالت ‪ٕٙ٘ ........................................................................‬‬
‫❺ المصرٌون ٌكتبون بالعربٌة محل اللؽة المصرٌة‪ ...‬الخنجر الخامس ‪ٕٙ9 ..............................................‬‬
‫❻ توزٌع أرض مصر على األجانب ‪ٕٙ8 ...................................................................................‬‬
‫❼ نزؾ المصرٌٌن الجزٌة والخراج لؤلجنبً ‪ٕٙ9 ..........................................................................‬‬
‫❽ مزاحمة الروح األجنبٌة للمصرٌة فً الصناعة والفنون‪ٕ9ٓ ............................................................‬‬
‫❾ إؼراق السوق بالبضاٌع الكمالٌة والوكاالت األجنبٌة ‪ٕ9ٔ ...............................................................‬‬

‫المشيد ‪ :13‬االحتالؿ األيوبي (المحتؿ بطال؟) ‪274 ..................................................................‬‬

‫▼▼▼ الجيش في االحتالؿ األيوبي (مماليؾ‪ -‬كرد‪ -‬ترؾ‪ -‬عرباف) ‪275 ............................................‬‬

‫♣♣♣ السكاف وتعريؼ المصري في االحتالؿ األيوبي ‪276 ............................................................‬‬

‫▼▼▼ نتائج االحتالؿ األيوبي ‪277 ...............................................................................‬‬

‫❶ إسقاط المذهب الشٌعً ‪ٕ99 ...............................................................................................‬‬


‫❷ استمرار تحقٌر المصرٌٌن‪ ..‬عمدا ‪ٕ98 ...................................................................................‬‬
‫❸ تدمٌر األهرام الصؽرى والعدوان على هرم سنفرو ونزح اآلثار ‪ٕ99 ..................................................‬‬
‫❹ توزٌع أرض المصرٌٌن على األجانب ‪ٕ8ٓ ..............................................................................‬‬
‫❺ نزؾ المصرٌٌن الجزٌة والخراج لؤلجانب‪ٕ8ٔ ..........................................................................‬‬
‫❻ أكل لحوم البشر‪ ..‬عادة أجنبٌة؟ ‪ٕ8ٔ ......................................................................................‬‬
‫❼ تمجٌد جدٌد للمحتلٌن ‪ٕ8ٖ .................................................................................................‬‬

‫المشيد ‪ :14‬االحتالؿ الممموكي (حكـ العبيد والجواري الثاني‪ /‬القناع الثالث) ‪286 .....................................‬‬

‫▼▼▼ الجيش في االحتالؿ الممموكي (مماليؾ) ‪287 ..............................................................‬‬

‫♣♣♣ السكاف وتعريؼ المصري في االحتالؿ الممموكي ‪288 ..........................................................‬‬

‫‪7٘7‬‬
‫▼▼▼ نتائج االحتالؿ الممموكي الثاني لمصر ‪292 ................................................................‬‬

‫❶ العبٌد ٌحكمون األحرار‪ ..‬شهقة التارٌخ ‪ٕ9ٕ .............................................................................‬‬


‫❷ مصر تحت سلطان الملٌشٌات والعصابات ‪ٕ9ٖ ..........................................................................‬‬
‫❸ تفشً الحزبٌة فً الحكم‪ ..‬وتعدد الراٌات ‪ٕ9ٗ ............................................................................‬‬
‫❹ انتشار اللواط (الفجور) فً داٌرة الحكم ‪ٕ9ٗ .............................................................................‬‬
‫❺ جلب المخدرات وانتشار الحانات ‪ٕ9ٙ ....................................................................................‬‬
‫❻ ظهور بدعة شراء المناصب العلٌا ‪ٕ99 ...................................................................................‬‬
‫❼ تورم جدٌد للمذهبٌة (صراع مذاهب ال ُس َّنة األربعة) ‪ٕ99 ................................................................‬‬
‫❽ أبجنً تجدنً‪ ..‬دستور الحكم ‪ٕ98 ........................................................................................‬‬
‫❾ بشاعة أسالٌب التعذٌب واالنتقام‪ ..‬للخصوم وللرعٌة ‪ٕ99 ...............................................................‬‬
‫❿ السلب والنهب‪ ..‬الحرفة األولى لـ"األِشراؾ" ‪ٖٓٔ .......................................................................‬‬
‫➀ تفشً الحركات والجماعات السرٌة (الطرق الصوفٌة‪ /‬اآللهة الجدد) ‪ٖٕٓ ..............................................‬‬
‫➁ تضخٌم الوالء لؤلجنبً باسم الدٌن‪( ..‬تقدٌس شٌخ الطرٌقة) ‪ٖٓٙ ........................................................‬‬
‫➂ حملة على اآلثار المصرٌة وأبو الهول ‪ٖٓ9 ..............................................................................‬‬
‫➃ توزٌع أرض مصر على المحتلٌن والمستوطنٌن‪ٖٓ9 ....................................................................‬‬
‫➄ كٌؾ اختفى مبلٌٌن المصرٌٌن؟ ‪ٖٓ8 ......................................................................................‬‬

‫▼▼▼ سقوط دولة العبيد والجواري ‪311 ...........................................................................‬‬

‫المشيد ‪ :15‬االحتالؿ العثمانمي (اليمج) ‪314 ........................................................................‬‬

‫(تارٌخ الترك مع مصر) ‪ٖٔٗ ..................................................................................................‬‬

‫▼▼▼ الجيش في االحتالؿ العثمالي (أوجاقات عثمانمية‪ -‬مماليؾ) ‪315 ............................................‬‬

‫♣♣♣ السكاف وتعريؼ المصري في االحتالؿ العثمانمي ‪316 ..........................................................‬‬

‫▼▼▼نضوج المغة المصرية الحديثة (الدارجة) ‪323 ................................................................‬‬

‫▼▼▼ نتائج االحتالؿ العثمانمي لمصر ‪325 .......................................................................‬‬

‫❶ االفتتاحٌة‪ ...‬مذبحة الـ ٓٔ آالؾ ‪ٖٕٙ .....................................................................................‬‬


‫❷ سرقة وتجرٌؾ الصناعات والحرؾ المصرٌة ‪ٖٕٙ ......................................................................‬‬
‫❸ استمرار نهب آثار مصر كؽنٌمة حرب ‪ٖٕ9 .............................................................................‬‬
‫❹ سٌطرة "رجال األعمال الدولٌٌن" على تجارة مصر ‪ٖٕ9 ...............................................................‬‬

‫‪7٘8‬‬
‫❺‪ -‬تحقٌر الفبلح لكسر عٌنه وروحه ‪ٖٕ9 ...................................................................................‬‬
‫❻ تضخم جرٌمة بٌع المناصب ‪ٖٖٕ .........................................................................................‬‬
‫❼ العثمانلٌة‪ ..‬صٌت عالمً فً الفجور واللواط ‪ٖٖٕ .......................................................................‬‬
‫❽ من أٌن جاءت عادة "أخد التار" بٌن العاببلت؟ ‪ٖٖٖ .....................................................................‬‬
‫❾ زٌادة نشر العصبٌة المذهبٌة بٌن المسلمٌن ‪ٖٖ٘ ..........................................................................‬‬
‫❿ فتح الببلد لئلرسالٌات التبشٌرٌة المعادٌة للكنٌسة المصرٌة ‪ٖٖٙ ........................................................‬‬
‫➀ تضخم الطرق الصوفٌة والدجل لكسر إرادة مقاومة األجنبً ‪ٖٖٙ ......................................................‬‬
‫➁ توزٌع أرض مصر على المحتلٌن والمستوطنٌن ‪ٖٖ9 ...................................................................‬‬
‫➂ نزؾ المصرٌٌن الجزٌة والخراج والسخرة لؤلجنبً ‪ٖٗٓ ...............................................................‬‬
‫➃ حصد أرواح المصرٌٌن بالمجاعات واألوببة ‪ٖٗ9 .......................................................................‬‬
‫➄ تشرد المصرٌٌن فً عٌشة المطارٌد ‪ٖٗ8 ................................................................................‬‬

‫♦♦♦ لماذا لـ ننتحر؟ ‪351 ...........................................................................................‬‬

‫جنة ترعاىا الخنازير (الحالليؼ) ‪351 ................................................................................‬‬

‫▲▲▲ أيف الثورات الكبرى؟ ‪354 ..................................................................................‬‬

‫المشيد ‪ :16‬االحتالؿ الفرنساوي (الدواعش البيض) ‪359 ............................................................‬‬

‫(تارٌخ فرنسا مع مصر قبل الؽزو) ‪ٖ٘9 ......................................................................................‬‬

‫▼▼▼ نتائج االحتالؿ الفرنساوي ‪361 ............................................................................‬‬

‫❶ هبوط المحافل الماسونٌة إلى مصر‪ٖٙٓ ..................................................................................‬‬


‫❷ مبرر جدٌد لبلحتبلل‪" ..‬نشر الحرٌة واإلخاء والمساواة" ‪ٖٕٙ ..........................................................‬‬
‫❸ توسع المشروع العالمً لـ "تدوٌل مصر" ‪ٖٙٗ ...........................................................................‬‬
‫❹ تطوٌر صناعات قدٌمة ونشر مشروعات جدٌدة ‪ٖٙ٘ ....................................................................‬‬
‫❺ استكشاؾ ما خفى من عظمة الحضارة المصرٌة ‪ٖٙٙ ...................................................................‬‬
‫❻ نزؾ المصرٌٌن الضراٌب واإلتاوات لؤلجنبً ‪ٖٙ8 .....................................................................‬‬
‫❼ الدم المصري مسفوك‪ ..‬والمقاومة الجماعٌة تعود ‪ٖٙ9 ..................................................................‬‬
‫♣ الطفل األسطورة ‪ٖ9ٗ ........................................................................................................‬‬

‫▼▼▼ االنتقاـ‪ ..‬بالفرنساوي ‪376 .................................................................................‬‬

‫▼▼▼ دور المستوطنيف األجانب ‪378 ............................................................................‬‬

‫‪7٘9‬‬
‫▼▼▼ شرخ جديد في الجسد المصري‪ ..‬فرقة يعقوب ‪379 ..........................................................‬‬

‫♣ ثورة القاهرة الثانٌة ‪ٖ8ٔ .....................................................................................................‬‬

‫▲▲▲ لماذا ثرنا أياـ الفرنسيس؟‪382 .............................................................................‬‬

‫المشيد ‪ :17‬االحتالؿ العموي (قبضة روتشيمد) ‪385 .................................................................‬‬

‫♦♦♦ المناخ الذي خدم محمد علً ‪ٖ8٘ ........................................................................................‬‬

‫▲▲▲ ثورة ‪ ..1814‬فضؿ المصرييف المنسي عمى محمد عمي ‪386 ..............................................‬‬

‫▼▼▼ لماذا اختاروا حاكما أجنبيا وليس مصريا؟ ‪388 .............................................................‬‬

‫♣♣♣ السكاف وتعريؼ المصري في االحتالؿ العموي ‪389 .............................................................‬‬

‫♦♦♦ الجيش في االحتالؿ العموي (مصريوف‪ -‬مماليؾ جدد ومرتزقة) ‪393 .............................................‬‬

‫▲ (الجندي الفبلح المقاتل) ‪ٖ9ٗ ...............................................................................................‬‬


‫▲ (الجندي الفبلح الصانع) ‪ٖ99 ..............................................................................................‬‬

‫▼▼▼ نتايج االحتالؿ (العموي‪ -‬العثمانمي‪ -‬الجالياتي) لمصر ‪411 .................................................‬‬

‫❶ العثمانلٌة والممالٌك والمؽاربة ٌعلنون "الجهاد" ضد المصرٌٌن ‪ٗٓٓ ..................................................‬‬


‫❷ تفرٌػ ثورة ٗٓ‪ ٔ8‬الستفراد محمد علً بمصر ‪ٗٓٔ ....................................................................‬‬
‫❹ تحدٌث المإسسات فً مصر‪ ..‬بتفلٌس المصرٌٌن ‪ٕٗٓ ..................................................................‬‬
‫❺ استنزاؾ المصرٌٌن فً حروب ؼٌرهم بالخارج ‪ٗٓ9 ...................................................................‬‬
‫❻ نزؾ المصرٌٌن فً السخرة لؤلجنبً ‪ٕٗٔ ................................................................................‬‬
‫❼ استمرار نزؾ المصرٌٌن الجزٌة والخراج لؤلجانب ‪ٗٔ9 ...............................................................‬‬
‫❽ سقوط مصر فً بٌر الدٌون ألول مرة (دفع الجزٌة لروتشٌلد) ‪ٗٔ8 ....................................................‬‬
‫❾ األجانب ٌبلعون األراضً والعقارات بالربا والرهونات ‪ٕٖٗ ...........................................................‬‬
‫❿ السقوط فً فخ االستثمار األجنبً وفلك الرأسمالٌة العالمٌة ‪ٕٗ٘ ........................................................‬‬
‫➀ توزٌع أرض مصر على المحتلٌن والمستوطنٌن‪ٕٗ8 ....................................................................‬‬
‫➁ توحٌد نطق اللؽة المصري مع الٌونانً‪ ..‬الخنجر السادس ‪ٖٗٙ .........................................................‬‬
‫➂ تورٌث الحكم للوالة بقرار رسمً ألول مرة ‪ٖٗ8 ........................................................................‬‬
‫➃ نزؾ دم المصرٌٌن فً المجاعات واألوببة والمذابح ‪ٖٗ9 ...............................................................‬‬
‫➄ تطبٌق االمتٌازات األجنبٌة (دولة خاصة باألجانب) ‪ٗٗٓ ................................................................‬‬
‫➅ ؼرس محاكم أوروبٌة ألول مرة (دولة فوق الدولة) ‪ٕٗٗ ................................................................‬‬

‫ٓ‪7ٙ‬‬
‫❼❶ التخفٌؾ من الحزازٌات بٌن المصرٌٌن (مسلمٌن ومسٌحٌٌن) ‪ٗٗٗ .................................................‬‬
‫❽❶ السقوط فً حجر اإلنجلٌز‪ ...‬االحتبلل الرابع‪ٗٗ٘ ...................................................................‬‬

‫▲▲▲ رفرفة جناح الصقر الجريح ‪449 ...........................................................................‬‬

‫▲▲▲ شرارة‪ ..‬مصر لممصرييف ‪453 .............................................................................‬‬

‫♦♦♦ عرابي وروتشيمد ‪461 ..........................................................................................‬‬

‫▼▼▼ تدمير اإلسكندرية‪ ..‬لػ"إعادة اإلعمار" ‪468 .................................................................‬‬

‫▲▲▲ عودة الروح‪ ..‬ماعت ‪471 .................................................................................‬‬

‫♦♦♦ معركة التؿ الكبير ‪473 .........................................................................................‬‬

‫▼▼▼ الولس كسر عرابي ‪475 ...................................................................................‬‬

‫♦♦♦ الصفحة‪ ..‬ليست األخيرة ‪478 ..................................................................................‬‬

‫▼▼▼ تصفية ثورة "مصر لممصرييف" ‪481 ........................................................................‬‬

‫▲▲▲ ثمرات أوؿ ثورة لػ"مصر لممصرييف" في العصر الحديث ‪485 ................................................‬‬

‫المشيد ‪ :18‬الشيطاف يحكـ العالـ ويأسر مصر (المسيخ الدجاؿ) ‪489 ...............................................‬‬

‫▼▼▼ البداية‪ ..‬خطيئة إبميس في الجنة ‪491 .....................................................................‬‬

‫♦♦♦ التسابؽ عمى آخر الزماف ‪491 .................................................................................‬‬

‫▲▲▲ موقع مصر في السباؽ ‪493 ...............................................................................‬‬

‫▼▼▼ تنظيـ النارييف (النجمة السداسية) ‪495 ....................................................................‬‬

‫▼▼▼ احتالؿ القموب والوجداف‪ ..‬والنخبة ‪496 ....................................................................‬‬

‫▼▼▼ ثورات إسقاط الحدود‪ ..‬وتمكيف األجانب ‪511 ...............................................................‬‬

‫ٔ‪7ٙ‬‬
‫▼▼▼ الثورة اإلنجلٌزٌة ‪٘ٓٓ ...............................................................................................‬‬

‫▼▼▼ آؿ روتشيمد واخوانيـ (ال وطف ليـ‪ ،‬ويممكوف كؿ الجنسيات) ‪513 ...........................................‬‬

‫▼▼▼ الثورة الفرنسٌة ‪٘ٓ8 .................................................................................................‬‬

‫▼▼▼ خمؽ الشيوعية والنازية (صناعة األضداد) ‪511 .............................................................‬‬

‫▼▼▼ "الناريوف" يحتموف أمريكا بالالجئيف ‪512 ...................................................................‬‬

‫▼▼▼ ألبرت بايؾ‪ ..‬والحروب العالمية الثالثة ‪514 ................................................................‬‬

‫▼▼▼ شيادة فاجاف وتوطيف الالجئيف ‪516 .......................................................................‬‬

‫▼▼▼ الثورة الروسٌة ‪٘ٔ9 .................................................................................................‬‬


‫▼▼▼ الحربان العالمٌتان األولى والثانٌة ‪ٕ٘ٔ .............................................................................‬‬

‫▼▼▼ الجير بعبادة الشيطاف ‪522 ................................................................................‬‬

‫▲▲▲ بالغ الحقيقة ‪523 .........................................................................................‬‬

‫♦♦♦ ضياع اليدؼ مف أىؿ الخير ‪524 ..............................................................................‬‬

‫المشيد ‪ :19‬االحتالؿ اإلنجميزي (ىمفتة الشخصية المصرية‪ /‬القناع الرابع) ‪529 ......................................‬‬

‫♦♦♦ الجيش في االحتالؿ اإلنجميزي (فالحوف‪ -‬إنجميز‪ -‬مجنسوف) ‪529 .............................................‬‬

‫❶ حرمان المصرٌٌن من رتبة ضابط ‪ٕ٘9 ..................................................................................‬‬


‫❷إبادة اآلالؾ من جنود ثورة ٔ‪ٖ٘ٓ .................................................................................. ٔ88‬‬

‫♣♣♣ السكاف وتعريؼ المصري في االحتالؿ اإلنجميزي (الرباعي) ‪533 ...............................................‬‬

‫♦♦♦ جنسيات االحتالؿ الجالياتي ‪542 ...............................................................................‬‬

‫❶ (الٌونانٌون) ‪ٖ٘ٗ ...........................................................................................................‬‬


‫❷ (الٌهود ) ‪٘ٗ٘ ..............................................................................................................‬‬
‫❸ (الشوام) ‪٘ٗ9 ...............................................................................................................‬‬
‫❹ (اإلٌطالٌون) ‪٘٘ٓ ..........................................................................................................‬‬
‫❺ (األرمن) ‪ٕ٘٘ ..............................................................................................................‬‬

‫ٕ‪7ٙ‬‬
‫❻ (األتراك) ‪ٖ٘٘ .............................................................................................................‬‬
‫❼ (العربان) ‪٘٘٘ .............................................................................................................‬‬
‫❽ (الفرنسٌس) ‪٘٘ٙ ...........................................................................................................‬‬
‫❾(اإلنجلٌز) ‪٘٘9 ..............................................................................................................‬‬
‫❿ (السودانٌون)‪٘٘8 ..........................................................................................................‬‬

‫▼▼▼ نتائج االحتالؿ اإلنجميزي (إفساد المصرييف) ‪561 ..........................................................‬‬

‫❶ (عبادة االحتبلل) ‪٘ٙٗ .....................................................................................................‬‬


‫❷ (تلمٌع األوربة‪ ..‬قلع الجذور) ‪٘9ٔ ........................................................................................‬‬
‫❸ (صناعة المسخ األوروبً)‪ ..‬صندوق معبؤ بالقمامة ‪٘9ٗ ................................................................‬‬
‫❹ (عبادة القوة المادٌة) أخبلق المرتزقة ‪٘9٘ ...............................................................................‬‬
‫❺ (نزع الثقة بالكفاءة المصرٌة) ‪٘99 .......................................................................................‬‬
‫❺ (التعلٌم‪ ..‬أي شًء إال أن ٌكون مصرٌا) ‪٘8ٖ ............................................................................‬‬
‫❻ (إفساد المنبع‪ ..‬الست المصرٌة) ‪٘8ٙ ....................................................................................‬‬
‫❽ (تحول مصر لساحة للعصابات الدولٌة والجرٌمة المنظمة) ‪٘89 ........................................................‬‬
‫❾ تمٌٌع الجنسٌة المصرٌة (تجنٌس األجانب ألول مرة) ‪٘9ٙ ..............................................................‬‬
‫❿ التقدم فً مشروع "تدوٌل مصر" ‪ٙٓٓ ....................................................................................‬‬
‫❶❶ حصار الهوٌة بؽزوات محافل المسٌخ الدجال (النداهة) ‪ٙٓٗ .......................................................‬‬
‫▼▼▼ الؽزو الماسونً لمصر (العولمة) ‪ٙٓٙ ............................................................................‬‬
‫▼▼▼ الؽزو اللٌبرالً لمصر ‪ٖٙٔ .........................................................................................‬‬
‫▼▼▼ ؼزو "اإلخوان المسلمٌن" لمصر ‪ٙٔ٘ .............................................................................‬‬
‫▼▼▼ الؽزو الشٌوعً لمصر ‪ٕٙٔ ........................................................................................‬‬
‫▼▼▼ الؽزو العربً الثانً لمصر (القومٌة العربٌة) ‪ٕٙٗ ...............................................................‬‬
‫▼▼▼ ؼزو اإلرسالٌات التبشٌرٌة لمصر‪ٙ٘ٔ ............................................................................‬‬
‫▼▼▼ استمرار الؽزو الصوفً (الطرق الصوفٌة) ‪ٙ٘٘ ..................................................................‬‬
‫❷❶ فتح باب "الجهاد" التطوعً برَّ ة ألول مرة (الخروج األسود) ‪ٙ٘9 .................................................‬‬
‫❸❶ استمرار التحقٌر المتعمد للمصرٌٌن ‪ٖٙٙ .............................................................................‬‬
‫❹❶ توزٌع أرض مصر على المحتلٌن والمستوطنٌن (بالتملٌك‪ /‬الرهن‪ /‬التجنٌس) ‪ٙٙٗ ................................‬‬

‫♦♦♦ ظيور مبادرات لإلصالح الزراعي ‪668 ..........................................................................‬‬

‫▲▲▲ غضبة الفالح ‪672 ........................................................................................‬‬

‫❺❶ استمرار عصر عروق مصر بالدٌون لؤلجنبً ‪ٙ9ٖ .................................................................‬‬

‫ٖ‪7ٙ‬‬
‫❻❶ استٌراد القمح بعد تسخٌر األرض للقطن ‪ٙ9ٖ .......................................................................‬‬
‫❼❶ استمرار عصر مصر بمشارٌع االستثمار األجنبً ‪ٙ9ٗ .............................................................‬‬
‫❽❶ ظهور الخصخصة فً العصر الحدٌث ‪ٙ9ٙ ..........................................................................‬‬
‫❾❶ استمرار سفك الدم المصري فً المذابح ‪ٙ9ٙ ........................................................................‬‬
‫▼ (مدبحة دنشواي) ‪ٙ9ٙ ......................................................................................................‬‬
‫▼(مذبحة الحرب العالمٌة األولى) ‪ٙ99 .......................................................................................‬‬
‫⓿❷ نزؾ المصرٌٌن فً السخرة لؤلجنبً ‪ٙ8ٓ ...........................................................................‬‬
‫❶❷ نزح مصر باسم "التبرعات" لؤلجنبً (ألوروبا‪ ،‬ألفرٌقٌا‪ ،‬للعرب) ‪ٙ8ٗ ...........................................‬‬
‫❷❷ نزح مصر فً حروب لٌست حروبها ‪ٙ8٘ ...........................................................................‬‬
‫❸❷ اضطهاد لؽة الفبلحٌن فً معركة "العامة والعربٌة"‪ ..‬الخنجر السابع ‪ٙ88 .........................................‬‬
‫❹❷ عقدة الخواجة "طالع نازل" ‪ٙ89 ......................................................................................‬‬

‫▲▲▲ ثورة ‪ ..1919‬عودة الروح ‪689 ...........................................................................‬‬

‫▼▼▼ وعيد بمفور لممصرييف ‪691 ................................................................................‬‬

‫▲▲▲ ثمرات ثورة ‪693 ................................................................................... 1919‬‬

‫▼▼▼ وسائؿ تصفية ثورة ‪711 ........................................................................... 1919‬‬

‫❶ إنكار وطنٌة الفبلحٌن ‪9ٓٔ ................................................................................................‬‬


‫❷ تفتٌت "الوفد" من جماعة وطنٌة إلى أحزاب ‪9ٕٓ .......................................................................‬‬
‫❸ ترسٌخ خلفاء محمد سلطان فً الحكم‪9ٓٗ ................................................................................‬‬
‫❹ التشكٌك فً مصرٌة سعد زؼلول ‪9ٓٙ ....................................................................................‬‬
‫❺ التشكٌك فً وجود مصر ! ‪9ٓ9 ...........................................................................................‬‬
‫❺❷ تحزٌب المصرٌٌن‪ ..‬والرد بانتفاضة ٖ٘‪9ٓ9 ....................................................................ٔ9‬‬
‫▲▲▲ تمصٌر وتسلٌح الجٌش ‪ ..‬ألمع نتاٌج انتفاضة ٖ٘‪9ٔ٘ ........................................................ ٔ9‬‬
‫❻❷ عودة الملٌشٌات من كل راٌة ‪9ٔٙ ...................................................................................‬‬
‫❼❷ (ٔ‪ )9‬وزارة فً (٘‪ )9‬سنة‪9ٕٓ ......................................................................................‬‬
‫❽❷ فً مصر‪ ..‬أكبر قاعدة عسكرٌة ومركز للتجسس فً العالم ‪9ٕٗ ...................................................‬‬

‫▲▲▲ أجراس ثورة ‪ 23‬يوليو ‪725 ........................................................................ 1952‬‬

‫▼▼▼ حريؽ القاىرة الثاني (الميو الخفي يعود) ‪727 ..............................................................‬‬

‫ٗ‪7ٙ‬‬
‫المشيد ‪ :21‬ىؿ كاف لتوطيف األجانب إيجابيات؟ ‪731 ................................................................‬‬

‫(نظرة المصرٌٌن لمن احتلوهم الٌوم) ‪9ٖٓ ....................................................................................‬‬

‫♦ ♦♦ مف يتحدث باسـ المصرييف ويقوؿ ىذا الكالـ؟ ‪731 ............................................................‬‬

‫♦♦♦ ىؿ حقا ىناؾ جيش أجنبي "حرر" مصر‪ ،‬و"أنقذ" مصر؟ ‪731 ...................................................‬‬

‫♦♦♦ متى احتاجت مصر في أي عصر ىجرات أجنبية لتبني نفسيا ؟ ‪732 ............................................‬‬

‫♦♦♦ ألـ تتمصر اليجرات األجنبية والمستوطنوف في أي عصر؟ ‪737 .................................................‬‬

‫ماذا لو تمصرت اليجرات األجنبية حقا؟ ‪737 .........................................................................‬‬

‫المراجع العربية والمترجمة مرتبة بترتيب أحداث الزمف ‪741 ...........................................................‬‬

‫الفيرس ‪751 ........................................................................................................‬‬

‫٘‪7ٙ‬‬

You might also like