Professional Documents
Culture Documents
(النكبة المصرٌة)
(جٔ)
إفتكار البنداري
(نفرتاري أحمس)
ٔ
اسم الكتاب :نكبة توطٌن الهكسوس (النكبة المصرٌة) جٔ
لٌس فقط فٌما اجتاح بلدنا من فوضى هبت بزبٌرها المزعج المخٌؾ كالرٌح الهوجاء السموم من
االتجاهات األربعة ،كالؽول الجابع ٌكاد ٌكتسح فً طرٌقه كل شًء ،مسلحا بالنٌران وأصوات الرصاص
والعصابات ،تنتهك حرمات كل شًء ،لكن أٌضا فٌما اجتاح نفوسنا وعقولنا من اهتزازات أوشكت أن
تقتلعنا من الجذور ..الجذور رأس مالنا الحقٌقً كمصرٌٌن.
ففً خضم المٌدان الهاٌج بؤحسن أنواع البشر وأسوأها ،وتحت األضواء الساطعة ،علت أصوات تتصارع
كالذباب البلهثة على فرٌسة مكبلة ،هذا ٌرفع شعار "مصر إسبلمٌة" ،وذاك "مصر عربٌة" ،وذاك "مصر
مدنٌة لٌبرالٌة" ،وهذا "مصر علمانٌة" ،وآخر "مصر أم الدنٌا لكل المذاهب واألجناس" ..عددهم قلٌل
وصوتهم كالهدٌر ..فً الظل ،فً البٌوت واألرٌاؾ والحواري ،العدد األضخم من الناس ،الؽالبٌة ،تتردد
فً صدورهم كلمة واحدة فقط "مصر" ،ال قبلها شًء ،وال بعدها شًء ،لكن ال ٌعرفون كٌؾ ٌوصلونها،
صوتهم مكلوم مكتومٌ ،تركون المتعلمٌن الذٌن صرفوا علٌهم دماء قلوبهم ٌتحدثون عن مصر كٌفما شاءوا..
ٌتخٌلون أنهم األدرى واألعلم.
أنا من المتعلمٌن ،لكنً فبلحة تربٌة فبلحٌن ،ربونً على أنها مصر ،مصر وفقط ،لم أسمع فً قرٌتً
كلمات مصر اإلسبلمٌة ومصر المدنٌة ومصر اللٌبرالٌة ومصر العلمانٌة وؼٌرها ،فتكلمت فً المٌدان
وسط المتعلمٌن بكبلم الفبلحٌن ،قلت إنها مصر وبس ،مصر المصرٌة ..فضحك بعضهم ،وسخروا.
إنهم ٌهزون كل شًء هزا ،قالوا إن "ثورة ٌناٌر ٕٔٔٓ هً أفضل الثورات فً تارٌخ مصر" ،ومنهم من
قال" :هً الثورة الوحٌدة فً تارٌخ مصر" ..لم ٌذكروا ثورات ٔ ٔ88و ٔ9ٔ9و ٕ٘ ٔ9إال بالشتاٌم،
وتزٌد الشتاٌم لثورتً ٔ ٔ88وٕ٘ ٔ9ألن قادهما جٌش الفبلحٌن ،قالوا إنها ثورات عسكر وانقبلبات،
لكنهم ٌمدحون محمد علً وإسماعٌل وفاروق والممالٌك ونابلٌون واإلسكندر والمعز لدٌن هللا وهارون
الرشٌد ووصبلح الدٌن ،ألم ٌكونوا عسكر؟ نعم عسكر ،لكنهم عسكر أجانب ،لٌسوا فبلحٌن ...هل السر إذن
فً كراهٌة الفبلحٌن؟ ولماذا ٌكروهون الفبلحٌن؟
إنهم ٌكرهون ثوراتنا ..لكنهم ٌمجدون ثورات فرنسا وإنجلترا وروسٌا التً قادتها تنظٌمات عالمٌة وفجرت
براكٌن الدم والمدابح والحروب األهلٌة واالحتبلالت على العالم ..لماذا ٌكرهون ثورات الفبلحٌن إذن؟ هل
ألنهم ضد الحروب األهلٌة واالحتبلالت والتنظٌمات العالمٌة؟ أم ألنهم المصرٌون الحقٌقون؟
لم ٌكن مٌدان التحرٌر فً ٕٔٔٓ مجرد مٌدان ثورة تهتؾ لمصر ..كان مٌدانا ٌضم مصرٌٌن حقٌقٌٌن
ٔ
ٌهتفون بحرٌتها ،وٌضم أٌضا "مصرٌٌن" مزٌفٌن دعاة كل احتبلل قدٌم ٌتمنون أن ٌعود لٌحتل مصر ! إن
رواٌح الهكسوس تهب فً كل مكان ،هكسوس الشرق والؽرب والجنوب والبحر ،بل إن بعض "قادة
المٌدان" هكسوس حقا.
قبل زلزلة ٕٔٔٓ كنا كؤننا نسٌر على بحر ببل أمواج ،ال حركة ال روح ،كؤنه لوح زجاج مٌت ،ال نعرؾ
إلى أٌن نسٌر ،وإذا فجؤة تبلطمتنا األمواج العاتٌة ،كل موجة كالجبل ترٌد أن تدفعنا بكل قوتها أمامها،
تفرقنا ،كل مجموعة من المصرٌٌن سارت برؼبة منها أو رؼما عنها فً اتجاه ..تقتلعنا من الجذور ،تفرقنا
أشتاتا أشتاتا ..وقابد كل موجة من الهكسوس ،كالشٌطان ٌرانا وال نراه !
فً ٕٕٔٓ ..البلد تشؽً بورش عمل ومناقشات حادة حول الدستور الجدٌد المقترح وضعه ،الخناقات
منصوبة حوله بٌن جمٌع الناس -خاصة المتعملٌن -وسط محاوالت حزبٌة قبٌحة القتناص مصر لهذا
الحزب أو هذا التنظٌم ،خصوصا مع تنمر تنظٌم اإلخوان المسلمٌن وجماعات السلفٌٌن ،ومن ٌصفون
أنفسهم بـ"الثورٌٌن" من علمانٌٌن وشٌوعٌٌن ولٌبرالٌٌن وعروبٌٌن ..الحٌرة تمزقنا ،والبلد تختنق ...ورواٌح
الهكسوس تسمم الهواء.
فً قاعة من قاعات كلٌة االقتصاد والعلوم السٌاسٌة بجامعة القاهرة العرٌقة ،احتشد لفٌؾ من األساتذة
الخبراء فً القانون والدستور والعلوم السٌاسٌة مع عشرات من الجمهور ،عرض فٌها األساتذة مشروعاتهم
المقترحة للدستور المنتظر ،فرَّ قوا علٌنا نسخا ورقٌة من المقترحات لنقرأها ونقول رأٌنا كعٌنة من
الجمهور ،فلما طلبت الكلمة قلت لصاحب المشروع الذي فً ٌدي:
-أنا قرٌت مشروع الدستور ،بس ما لقٌتش فٌه حاجة عن هوٌة مصر خالص ،حاجة تمٌز مصر.
ٌ -عنً مثبل فً تعرٌؾ الدولة والنظام السٌاسً المكتوب فٌه زي دول تانٌة كتٌر ،وفً النظام االقتصادي
ما لقتش حاجة تعرؾ نظام االقتصاد فً مصر وٌكون معبر عن هوٌتها.
الدكتور متملمبل باستٌاءٌ :عنً عاٌزانا نكتب فً تعرٌؾ الدولة ومصر إٌه مثبل؟
لم ٌؽضبنً ضحكهم وال سخرٌتهم ،ففضبل عن أنهم أساتذتنا وكبراءنا ،فؤٌضا هذه اإلجابة لو قلتها أمام كثٌر
ٕ
من المصرٌٌن -أصحاب الشهادات العالٌة -سٌضحكون ألنه مر علٌنا أجٌال وأجٌال ،بل قرون ،لم ٌكن من
حقنا أن نقول إن مصر مصرٌة ،وال أن حق مصر أن ٌكون لها نظامها الخاص فً الحكم واالقتصاد
والثقافة وكل مجاالت الحٌاة كما كانت علٌه آلالؾ السنٌن وهً حرة.
ٌقولون فً مشارٌع الدستور مصر مدنٌة /علمانٌة ..هناك عشرات الدول تصؾ نفسها هكذا ..فمن فٌهم
مصر؟
ٌقولون إن مصر إسبلمٌة ،هناك ٘ٙدولة تقول إنها إسبلمٌة ...فمن فٌهم مصر؟
ٌقولون مصر عربٌة ،هناك ٕٕ دولة تقول إنها عربٌة ..فمن فٌهم مصر؟
ٌقولون مصر اقتصادها اشتراكً ،أو ٌتبع السوق الحر ،هناك عشرات الدول هكذا ،فمن فٌهم مصر؟
هناك فً األرٌاؾ والحواري ،بعٌدا عن الجامعات الفخمة ،والشهادات الفخٌمة ،والنظرٌات المنفوخة ،إذا
قلت مصر مصرٌة سؤجد كثٌرا ممن ٌقول" :أٌوة طبعا بلدنا مصرٌة أومال أجنبٌة ٌعنً ٌا بنتً؟!" ..هناك
حٌث ما زالت بقٌة طاهرة من الحزبٌة السٌاسٌة والدٌنٌة وعُقد الهوٌة المستوردة.
ٌقول توفٌق الحكٌم فً لقاء مع التلفزٌون المصري وفً كتابه "مصر بٌن عهدٌن" إنه حٌن ذهب سعد
زؼلول مع زمٌلٌه إلى المندوب البرٌطانً وٌنجت ٌطلبون تصرٌحا بالسفر لعرض قضٌة مصر على
مإتمر الصلح ببارٌس سؤلهم :مصر من التً ستعرضون قضٌتها؟! فقالوا مصر بلدنا ،قال :ال نعرؾ بلدا
مستقلة اسمها مصر ،بل بلد إما تابعة لحكم العثمانٌٌن أو لثقافة العرب ،اسمها القطر المصري ولٌس مصر،
وكانت النتٌجةٌ -قول الحكٌم -أن المصرٌٌن قرروا أن ٌمؤلوا كل مكان فً مصر باسم مصر ،وطعم مصر،
وهوٌة مصر ،فخرجت مشارٌع بنك مصر كلها تحمل اسم مصر ،والمسارح والرواٌات واألشعار تتحدث
عن مصر الخالصة ،ال عثمانٌة وال عربٌة وال أوروبٌة.
وفً ندوة فً بٌت السناري -التابع لمكتبة اإلسكندرٌة -وجدت مع زمٌل كتاب عن تارٌخ مصر من الفتح
العربً وحتى العثمانً ،الكبلم فٌه عن سٌاسة العرب فً مصر والطولونٌٌن واإلخشٌدٌٌن والعبٌدٌٌن
(الفاطمٌٌن) والممالٌك ،لم أجد فٌه مصر السعٌدة بحكم هإالء التً ٌصورونها لنا فً التعلٌم والمسلسبلت،
لم أجد إال مصر مؽصوبة ٌتٌمة منهوبة تدوسها أقدام كل األجناس األجنبٌة ،عرب وعجم ،مسلمون أو
مسٌحٌون أو وٌهود.
قلت أكٌد هذا الكتاب كتبه مستشرقون أعداء لئلسبلم وللعرب ،نظرت فً المراجع وجدتها من أبمة الكتب
القدٌمة ،ابن عبد الحكم ،الكندي ،الطبري ،المقرٌزي ،ابن تؽري بردي ،ابن إٌاس ،إلخ ،عرب مسلمون ال
ٌفترون على العرب وال اإلسبلم ،قررت اشتري هذه المراجع التارٌخٌة القدٌمة أو اقرأها من على
اإلنترنت ...وتؤكدت أن مصر حٌنها لم تكن مصر تلك التً ٌعلمونها لنا فً المدارس والمسلسبلت الدٌنٌة
حتى ٌقنعونا بؤن "مصر عربٌة" ،وأسعد عصورها عصور "الخبلفة اإلسبلمٌة" حٌن هبطت علٌها هجرات
ٖ
أجنبٌة بوجه ؼٌر وجه مصرٌ ،ا ترى كم عصر من العصور تعلمناه بمعلومات كاذبة ،معلومات ترٌد أن
تقول لنا إن مصر ..لٌست مصرٌة.
إن معظم كتبنا ومسلسبلتنا وأفبلمنا تقول لنا إن أعظم عصور مصر وهً ٌحكمها األجانب ،نادر أن تقول
إن أعظم عصورها حٌن حكمها أوالدها ،فبلحوها ..هل هذا ٌستقٌم مع بلد تصؾ نفسها بؤنها "بلد حرة"؟
ٌقال إن ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘ ٔ9زورت التارٌخ ،وأن حكم األجانب قبلها كان "فل الفل" ،إذن فلنعود إلى
الكتب والصحؾ الصادرة قبل ٕ٘ ٔ9لنعرؾ الحقٌقة ،عدت وقرأت وعرفت ،لكن الحقٌقة ناقصة ،إنه
لنعرؾ حقٌقة ٖٕ ٌولٌو ٌلزم أن نقرأ المكتوب أٌام محمد علً واإلنجلٌز ،ولنعرؾ حقٌقة ذلك ٌلزم أن نقرأ
المكتوب أٌام العثمانٌٌن والممالٌك ،ولمعرفة حقٌقة أٌامهم ٌلزم أن نعرؾ ما كان علٌه الحال قبلهم أٌام
األٌوبٌٌن ،ولنعرؾ حقٌقة هإالء وهل كانوا خٌرا أم شر على مصر ٌلزم أن نعرؾ حال مصر قبلهم أٌام
العبٌدٌٌن (الفاطمٌٌن) ،وهكذا ،فٌلزم أن نقرأ ما كان قبلهم أٌام العرب ثم الرومان والٌونان والفرس إلخ..
حتى نؤتً إلى األرض الثابتة ،األصل ،فً أزمنة الحكم المصري الخالص ،نجلس وسط المصرٌٌن
الحقٌقٌٌن ،قبل أن تشوبهم الشواببٌ ،وم أن كان ال صوت فوق صوت الفبلح ،نسمع منهم هل كان حال
مصر أفضل أم ما كان علٌه فً عصور األجانب (الهكسوس من كل جنس)؟
الشوارع ملٌبة بالكتب ،األرصفة ،المكتبات المجانٌة فً المدارس والجامعات وقصور الثقافة ،المكتبات
العامة ،سور األزبكٌة ،لٌس أكثر وال أرخص من الكتب فً مصر ،اإلنترنت مكتبة عظمى ،بببلش تقرٌبا،
من ٌرٌد أن ٌعرؾ حقٌقته وتارٌخه فلٌؽرؾ ولٌقرأ ،لكن ماذا نقرأ وكٌؾ نقرأ فً هذا المحٌط الخضم ،إن
الحدث الواحد حوله ألؾ كتاب ٌكذب بعضهم بعضا ،وأحٌانا ٌصدق بعضهم بعضها...
أٌن تارٌخ مصر ..بل أٌن مصر! عاٌزة أشوؾ بلدي ،هذه الروح الدافٌة التً تسكننا ،عاٌزة أشوفها من ؼٌر
أي سحب وضباب.
بالتؤكٌد توجد الحقٌقة والمصرٌون الحقٌقٌون الذٌن ٌخبروننا بها بٌن هذه الكتب ،ولكن كٌؾ نجدهم.
دلَّنً زمٌل على كلٌة اآلثار ،أن أدرس فٌها ،إن من ٌرٌد أن ٌقرأ التارٌخ حقا ٌجب أن ٌكون عنده الحس
العلمً الختٌار الكتابٌ ،عرؾ من كتبه ،كٌؾ كتبه ،ما دقه مصادره ،فً كلٌة اآلثار بداٌة من ٖٕٔٓ،
وعلى إٌدٌن أساتذتها العظام ،ولعدة سنوات ،علمونً وأهدونً هذا الحس العلمً فً االختٌار.
أهم ملحوظة فً هذا المشوار الشاق ،أنه كلما عاد المصري فً قراءة كتب التارٌخ للوراء -المكتوبة على
ٌد المعاصرٌن لكل فترة -أكثر ما ٌسمعه ٌصدر من الكتب هو صوت المستوطنٌن األجانب ،هإالء القادمٌن
من الٌونان ،أو جزٌرة العرب ،أو الشام ،أو المؽرب ،أو القوقاز ،أو ببلد الروم ،أو األتراك ،هإالء ٌمؤلون
كتب التارٌخ القدٌم بصخبهم ومعاركهم وأطماعهم وآرابهمٌ ،صفهم المإرخون مثل المقرٌزي والجبرتً
بؤنهم "المصرٌٌن" ،مع أنهم فً نفس الوقت ٌشهدون بؤنهم لٌسوا مصرٌٌنٌ ،قولوا فبلن القادم من الشام،
وفبلن المجلوب من ببلد الؽز (الترك) ،وفبلن القادم من المؽرب ،إلخ.
ٗ
أٌن المصرٌون الحقٌقٌون ؼٌر الوافدٌن إذن؟ انقرضوا؟ أم هم هإالء الذٌن ٌوصفون فً هذه الكتب العتٌقة
بتعالً بكلمة "الفبلحٌن" و"المحلٌٌن" ،الكم المهمل فً األرٌاؾ الواسعة ،الكل ٌتصارع لحلب عروقهم إلى
آخر نقطة دم ،لٌس لهم كلمة وصوت فً كتب التارٌخ فً معظم عصور االحتبلالت ،كل هذه القرون
صوتهم مكتوم ،وؼٌرهم من كل األجناس ٌتحدثون باسمهم !
قبل االحتبلالت ..منقوش السإال والجواب ،حٌن كانت مصر كشمس رع ،ظاهرة صافٌة ،ببل ضباب ،من
هنا ،من أزمنة التارٌخ المصري القدٌم قبل االحتبلالت ،جاٌز أن نعثر على بذور الحقٌقة ،من هنا نسٌر مع
موكب التارٌخ عصر وراء عصر ،نسٌر وراء الفبلح نفسه ،كٌؾ كان ،وكٌؾ أصبح ،وماذا حصل له فً
االحتبلالت ،كٌؾ جاءت االحتبلالت أساسا ،خنع لها ،أم ُؼصب علٌها ،أم قاومها ،كٌؾ ؼار صوته
وصورته فً جوؾ ظلمات التارٌخ حتى ظنناه انقرض رؼم أنه باقً لحما ودماٌ ..عرق وٌكدح وٌقدم
اإلنجازات ،وٌكتبونها على ؼٌر اسمه !
حٌن ٌسٌر القارئ بمهل مع كتب التارٌخ -المكتوبة فً كل عصرٌ -ستكشؾ ،وإن كان بصعوبة ،إجابات
على أسبلة حٌرتنا كمصرٌٌن:
-كٌؾ سقطت مصر العظمى وتسلمها احتبلل بٌن قدمٌه لٌسلمها ألقدام احتبلل آخر مبات السنٌن؟
-أٌن ذهب المصرٌون؟ المصرٌون الحقٌقٌون أحفاد مٌنا ومنتوحتب وأحمس؟ هل هاجروا من بلدهم كما
ٌدعً البعض؟ هل أبادتهم نهابٌا سٌوؾ المحتلٌن؟ هل تكاثر علٌهم المستوطنون األجانب فذابوا فٌهم فلم ٌعد
فً مصر مصرٌون أصبلء؟ أم ما زالوا ملتصقٌن بؤرضهم كطمً النهر؟
-هل حقٌقً أن مصر بوتقة للهجرات األجنبٌة ،أما الحقٌقة أن هذه الهجرات محرقة المصرٌٌن؟ أشنع
محرقة عانى منها بشر لمبات السنٌن المتواصلة.
-من حقا َّأثر فً اآلخر ،هل تمصرت الهجرات األجنبٌة أم صبؽت كل هجرة مصر بصبؽتها حتى صارت
كمن ٌرتدى قناعا قبٌحا مرقعا من كل األشكال واأللوان؟
-هل حقٌقً تارٌخ مصر "طبقات" كطبقات "التورتة" ،فرعونً وٌونانً ورومانً وعربً وعثمانلً
وإنجلٌزي إلخ كما ٌقال؟ أم أنها مجرد "أقنعة" ألصقها المستوطنون المحتلون ؼصبا على وجه مصر
الصبوح لتخفٌه وٌبررون وجودهم وفرض ثقافتهم على مصر؟
-لماذا كلما زادت "الطبقات" المصطنعة (األقنعة) فوق وجه مصر كلما زادت الجرابم ،المظالم ،الشرور،
العادات القبٌحة ،الحزبٌة ،القلق ،وتباعد المصرٌون عن بعضهم ،وتباعد المصرٌون عن مصر ،وتكبروا
على كلمة الفبلح؟
٘
-لماذا ٌمجد معظم المصرٌٌن المتعلمٌن محتلٌهم؟ ٌسخرون أنفسهم لكتابة كتب تمجد المحتلٌن من كل لون
وتقدمهم كؤصحاب "فضل" على مصر!
-لماذا فً مصر ما زال أحفاد المحتلٌن والمستوطنٌن ٌفتخرون بؤصول أجنبٌة ألجدادهم؟ لماذا بكل جرأة
ٌقؾ شخص ٌقول أنا مصري من أصل ٌونانً ،أو مصري من أصل قبلً عربً ،أو مصري من أصل
أرمنً ،أو مصري من أصل تركً؟ ولماذا بعضنا ٌقبل هذا منهم وٌشجعهم؟
-ما تؤثٌر كل هذا على ما تكابده مصر من سقطات كلما نهضت؟ ومن أزمة هوٌة ،من سإال" :من نحن؟".
-أٌن ذهبت لؽة المصرٌٌن المقدسة؟ إحدى أقدم وأزهى لؽات األرض؟ لماذا فقد المصرٌون لؽتهم فً حٌن
لم ٌفقد الترك والفرس والهنود واألوروبٌون لؽاتهم؟ وهل فقدناها تماما أم ما زال فٌها الرمق؟
-ما هً أساسا أسباب نهضة مصر فً أي زمن وما هً أسباب سقوطها واحتبللها؟
-هل حقا مصر "مقبرة الؽزاة" ،أم الحقٌقة أن مصر "جنة الؽزاة"؟ أكثر الدول التً ٌجٌد الؽزاة احتبلالها
عبر التسلسل واللسان المعسول ،وال ٌجد فٌها الؽزاة عقابا حقٌقٌا على ما اقترفوه من جرابم -عدا مرات
نادرة -بل ٌجدون أحٌانا التكرٌم والتمجٌد ،حتى أن كثٌرا من شوارع ومدن مصر مسماة بؤسامً الؽزاة!
-من قاوم الؽزاة حقا؟ من سالت دماءهم فٌضانا كفٌضان النٌل وهم ٌثورون ضد استٌطان األجانب؟ وما أن
ٌثوروا حتى ٌظهر على الساحة من ٌ َّدعون أنهم مصرٌون وٌقتلون ثوراتهم.
-كٌؾ تحول مصرٌون متعلمون من روح واحدة إلى أحزاب وشٌع وتنظٌمات تكره بلدها وتعبد األجنبً؟
-كٌؾ تحولنا من أننا نعرؾ أن مهمتنا المقدسة هً حماٌة مصر أرضا وهوٌة ،وبنابها بؤٌدي وعقول
وأموال المصرٌٌن إلى الظن بؤن تملٌك األجانب لؤلرض وتقدٌم شرؾ الجنسٌة المصرٌة لهم باسم استثمار
أو منح ،وخلط األجناس بالمصرٌٌن هو الطرٌق لتنمٌة مصر؟
من ٌتحدث باسمنا وٌقول هذا الكبلم؟ هل نحن المصرٌون حقا؟ أم المستمصرون المجنسون وبواقً
االحتبلل؟ أم أرواح شرٌرة بداخلنا صنعها التارٌخ المزور ،تسكن أجسادنا وتنطق باسمنا ،بعد أن نجح
المحتلون فً تصفٌة المصرٌٌن من مصرٌتهم وذاكرتهم ،وإن بقٌت عروقهم تحمل دماء مٌنا وأحمس.
-من ٌحكم مصر حقا؟ ....هل المصرٌون الحقٌقٌون أم ظبلل وأفكار وهوٌات االحتبلل ،وبواقً دماء
احتبللٌة لم تتطهر من أصول دخٌلة؟
هذا وؼٌره ٌحاول الكتاب استكشافه ،وٌستطٌع المصري وهو ٌسٌر فً موكب التارٌخ مع كتبه القدٌمة أن
ٌلمسه ،وٌجد إجابات له ،شرط أن ٌقرأ بعٌن فبلح ،وٌشعر بقلب فبلح ،وٌقٌم األحداث بعقل الفبلح ،ذاك
الذي ال ٌإمن له بؤصل أو هوٌة إال أرض مصر ولونها ..فبل تختلط أمامه األوراق ،ال تختلط األجناس ،وال
ٙ
ٌتوه وسط الثقافات الدخٌلة ،وال ٌتمزق أو ٌضل بسبب الخطوط والفواصل الوهمٌة التً اختلقها بعض كتاب
التارٌخ فً القرن ٔ9لتمزٌق تارٌخ المصرٌٌن بتقسٌمه إلى (فرعونً ،قبطًٌ ،ونانً ،رومانً ،عربً،
فاطمً ،أٌوبً ،مملوكً ،عثمانً ،حدٌث) ٌستطٌع أن ٌلتقط صوت جده الفبلح وسط ضجٌج كل أصوات
التارٌخ التً زحمت ببلده فً الماضً ،مهما انخفض صوت جده ،سٌصل قلبه بقلبه ،ودمه بدمه ،وأرضه
بؤرضه ،ومصرٌته بمصرٌته.
ٌراه وهو وحده الثابت فً هذه األرض ،هو وحده الحقٌقة ،الكل ٌتؽٌر ،المحتلون والجالٌات األجنبٌة
واللؽات واألدٌان ،الثابت الوحٌد طوال هذه اآلالؾ من السنٌن هو الفبلح المصري "كٌمتً" وأرضه (وهما
وحدة واحدة ال تتجزأ) ،المؽروسة فٌها قدمه المشققة من طول الزرع فً طٌنها ،القابضة ٌداه الخشنتان من
الشقا على الفؤس وهو ٌزرع ،والقابضة على آداة الحرفة وهو ٌصنع ،وعلى الطوبة وهً ٌبنً ،الباسمة
شفتاه رؼم كل شًء ،المرفوعة عٌناه إلى السماء أمبل وعشما فً النجاة.
لكن هذا عمل شاق طوٌل ،سار فٌه الكثٌر والكثٌر من أساتذتنا مثل الدكاترة سلٌم حسن ،عبد العزٌز صالح،
سٌدة كاشؾ ،آمال الروبً ،زبٌدة عطا ،علً بركات ،عاصم الدسوقً ،رءوؾ عباس ،سامً عزٌز ،عبد
الرحٌم عبد الرحمن عبد الرحٌم ،وآالؾ ؼٌرهم ،وأنجزوا ،فً كل المجاالت ،وهم ٌتتبعون حال الفبلح فً
الهوٌة واللؽة والدٌن واألخبلق والمبلبس واآلداب واألؼانً واألكبلت والثورات وعبلقته باألجناس
والثقافات الوافدة ،وعدد السكان ،حاله فً الزراعة والصناعة والتعلٌم ،من أول الزمان وحتى اآلن ،دخلوا
إلى األرشٌفات العتٌقة ومخازن البردٌات والوثابق المخفٌة تحت ركام التراب ،واستخرجوا منها فً رسابل
الماجستٌر والدكتوراة المعلومات المكنوزة المخفٌة أو المهملة عن المصرٌٌن الحقٌقٌٌن ،وكٌؾ كان حالهم
فً كل عصر ،فقط ٌحتاجون الٌوم الذي تفوق فٌه الدولة لمصرٌتها ،وتلملم مجهود هإالء األساتذة
الفبلحٌن ،وتنشًء المكتبات المخصوصة التً ٌتوجه إلٌها المصري لٌعرؾ من هو المصري الحقٌقً،
وكٌؾ كان ،وكٌؾ أصبح ،فً كل المجاالت ،بتارٌخ كتبه المصرٌون الحقٌقٌون.
مهمتً أنً كنت عازمة -بمشٌبة هللا -على أن استؽل دراستً اإلعبلمٌة واألثرٌة فً أن ألملم بعض مجهود
هإالء األساتذة فً هذا الكتاب ،لٌجد المصري الخطوط العرٌضة لمسٌرة أجداده فً كل هذه المجاالت بعٌدا
عن الؽشاوة التً دفع كثٌر من هإالء األساتذة من أعمارهم لتزول وتشرق شمس مصر مرة أخرى ،لكن
وجدت أنه بالتؤكٌد ال ٌحوٌها كتاب ،بل سلسلة كتب ،كل كتاب ٌخص مجال من هذه المجاالت ،وتحمل
السلسلة اسم "هوٌتً مصر".
أما من أٌن أبدأ ،فإن حال مصر اآلن هً من فرضت البداٌة ،فمنذ ٕٔٔٓ ومصر فً عملٌة تؽٌٌر لدمها
وجلدها وروحها ،طوفان من األجناس ٌُقذفون على مصر باسم الجبٌن وعمالة وتجار ،مبلٌٌن دخلوا فً
وقت قصٌر ،وفً وقت قصٌر أٌضا سٌطروا على مناطق واسعة من األرض واالقتصاد والثقافة ،وما أن
استقروا حتى تدفقت ورابهم قوانٌن تسهٌل تملٌك وتجنٌس وتوطٌن األجانب! طوفان من أجناس متصارعة
عرقٌا وطابفٌا وقبلٌا ،تخربت ببلدهم لحزبٌتهم وطابفٌتهم ،فمن له مصلحة فً أن ٌحدفهم بؤسباب الخراب
إلى مصر؟
7
إن قصة تسلٌم مصر للهكسوس من جدٌد بدأت ٗ ،ٔ99بقوانٌن صنعت مراكز قوى أجنبٌة تحكم البلد باسم
مستثمرٌن ومجنسٌن ومستشارٌن وبٌوت الخبرة األجنبٌة ،ثم جاءوا الٌوم طوفانا من البشر ،بالمبلٌٌن ،باسم
الجبٌن ومستثمرٌن ،لسانهم حلو ووعودهم براقة ،بل وٌفرضون لونهم وهوٌتهم وأسمابهم على كل شارع
ومكان ٌسٌطرون علٌه ،وٌمحون كل ما ٌخص مصر ،قدموا لمصر بؤعداد لم تشهدها مصر لؤلجانب فً
تارٌخها ،إن من ٌتابع رصد وتحالٌل أساتذتنا فً تحلٌل فترات سقوط وصعود مصر لٌوقن كل الٌقٌن أن ما
تمر به مصر الٌوم هو الطرٌق إلى النهاٌة ،نهاٌة مصر بكاملها ،فقد تجمع فً سماء مصر وأرضها كافة
أسباب احتبلل مصر وسقوطها بل وإبادتها.
ٌشٌر الحكٌم "إٌبو ور" للمستوطنٌن األجانب فً بردٌته كؤحد أسباب انتشار الفوضى فً نهاٌة ااألسرة
ٙقبل سقوطها" :انظر! ال صانع ٌعمل ،والعدو ٌحرم الببلد حرفها(ٔ)" فبعد أن كثر المستوطنون"" :تخربت
األقالٌم ،وتوافدت قبابل قواسة ؼرٌبة إلى مصر ،ومنذ أن وصلوا لم ٌستقر المصرٌون فً أي مكان ()...
وأصبح األجانب مصرٌٌن فً كل مكان ...وأولبك الذٌن كانوا مصرٌٌن أصبحوا أؼرابا وأهملوا جانبا(ٕ)".
وٌتتبع نٌكوال جرٌمال جذور االحتبلل الهكسوسً فً نهاٌة الدولة الوسطى قبل سقوطها فٌرصد أن تدفق
العمالة اآلسٌوٌة هو بداٌة حركة هجرة متصلة وسلمٌة ،ولكنها ثابتة ودإوبة ،أدت إلى استقرار بعض
الشعوب على الحدود الشمالٌة الشرقٌة لمصر ،جاءت بعد أن طردتها من مواطنها األصلٌة هجرات جدٌدة
هاجمت الشام ،حتى إذا آن األوان نزع المهاجرون إلى االتحاد لٌحتلوا المناطق التً تقع تحت إٌدٌهم،
وعادت اآللٌات التً كانت وراء سقوط الدولة القدٌمة إلى الظهور ،وتتمثل فً إضعاؾ الدولة وما ترتب
علٌه من انفراط عقد وحدة الببلد(ٖ).
وٌرصد فرانسٌس فٌفر فً كتابه عن أسباب سقوط الدولة الحدٌثة بعد األسرة ٕٓ فً ٌد المستوطنٌن األجانب:
"شقٌة هً أرض مصر ،كم تعرضت لؤلطماع طوال العقدٌن الماضٌٌن! أطماع الوزراء ،أطماع كبار الكهنة
والنساخ ،بل أطما ع األعٌان األجانب أٌضا ،لقد فتحت ؼزوات الفراعنة فً القرون األخٌرة باب الببلط الملكً
أمام هإالء األجانب .فً البداٌة كانوا سفرا ء لببلدهم ،ثم أصبحوا مستشارٌن بارعٌن لدى الفراعنة ،وأخذوا
ٌإسسون سبلالت قوٌة من األعٌان تحٌط بؤصحاب العرش"(ٗ).
وبتعبٌر د .عبد العزٌز صالح فإنه على الرؼم من هذا التساهل النسبً فً توطٌن األجانب ٌعتبر مكرمة
للخلق المصري ،إال أنه جرَّ على مصر بعد ذلك شرورا كثٌرة كانت فً ؼنى عنها لو أنها استؤصلت شؤفة
أعدابها من جذورها(٘)"؛ ألن "الخطر كل الخطر كان ٌتمثل فً أال ٌخلو إخبلص هإالء النزالء لها من
شوابب ،وأن ٌتمصروا بمظهرهم ولٌس فً مخبرهم ،وأن ٌظل بعضهم على استعداد للتنكر لها متى سنحت
(ٔ)
-موسوعة مصر القدٌمة ،سلٌم حسن ،الجزء ،ٔ7الهٌبة العامة للكتاب ،مشروع مكتبة األسرة ،ٕٓٓٓ ،ص ٕ97
(ٕ)
-الشرق األدنى القدٌم (الجزء األول مصر والعراق) ،د .عبد العزٌز صالح ،مكتبة األنجلو ،طٕ منقحة ،القاهرة ،ٔ97ٖ ،ص ٖٓٙ
(ٖ)
-انظر :تارٌخ مصر القدٌمة ،نٌكوال جرٌمال ،ترجمة ماهر جوٌجاتً ،دار الفكر لدراسات والنشر والتوزٌع ،طٕ ،القاهرة ،ص ٕٖ7
(ٗ)
-الفرعون األخٌر رمسٌس الثالث :أو زوال حضارة عرٌقة ،فرانسٌس فٌفر ،ترجمة فاطمة البهلول ،دار الحصاد ،ص ٔٔ
(٘)
-الشرق األدنى القدٌم (الجزء األول مصر والعراق) ،مرجع سابق ،ص ٕٖ8
8
لهم فرصة أو ألمت بها نكبة ،وما كان أكثر احتماالت النكبات علٌها فً ذلك الزمان(.")ٙ
منذ ٕٔٔٓ كؤنهم فً سباق محموم ،لتفرٌػ مصر مما بقً من مصرٌتها ،ومن حقوق أوالدها فٌها ،ومن
التعرٌؾ الحقٌقً لكلمة مصري ،نشطت الكتابات عن أصول المصرٌٌن ،ومن أصحاب الحق فً مصر
أساسا ،وادعت أن لكل األجناس "حق" فً مصر -عدا المصرٌٌن الحقٌقٌٌن أنفسهم -تزاحمت األعمال
األدبٌة والفنٌة لتحقٌر كل ما هو مصري أصلً (فبلح) ،وبتمجٌد كل ما هو أجنبً ودخٌل ،وصل الٌوم
المجنسون ومزدوجو الجنسٌة بسرعة البرق إلى أعلى المناصب فً مصر (قادة الثقافة والفكر ومنصب
المحافظ على سبٌل المثال) ،تشجٌع المصرٌٌن على الهجرة وخفض الموالٌد مقابل تشجٌع األجانب على
القدوم لمصر وتجنٌسهم ،تحمٌل الفبلحٌن مسبولٌة كافة المصابب والنكبات التً تعرضت لها مصر وتبربة
األجانب والمحتلٌن ،وعلو الصوت أكثر وأكثر بؤن مصر حٌن ٌحكمها أجنبً أفضل من مصر حٌن ٌحكمها
المصري الفبلحٌ ،ا ترى ما هو سبب هذه الحمى؟
ولذا كانت البداٌة بهذا الكتاب ...رصد مؤخوذ من كتب أساتذتنا ،ومن كتب وشهادات المإرخٌن القدامى
والمعاصرٌن لكل فترة حرٌة أو احتبلل ،ألسباب صعود أو سقوط مصر ،وكٌؾ كان حال مصر حقا وهً
حرة ،وكٌؾ كان حالها تحت االحتبلل ،وكٌؾ كان حال مصر حقا وهً مصرٌة خالصة ،وكٌؾ حال
مصر وهً "لخبطٌطة" مشوهة من ثقافة "كل األجناس".
وعلى هذا ٌبدأ الكتاب بما رآه األجداد أنها األصول والمبلمح الحقٌقٌة لمصر ،وعقٌدتها (ماعت) ،بل وسبب
خلق مصر من األساس ،ووظٌفتها فً هذه الحٌاة ،وشروط تحقٌق هذه الوظٌفة ،وعهدها مع اإلله ،والعقاب
المنتظر ألوالدها حٌن تخلو عن هذا العهد ،ثم أسباب احتبللها ،ودور الهجرات األجنبٌة فً جلب
االحتبلالت ،ونتابج كل فترة احتبلل واستٌطان أجنبً تعرضت لها مصر ،ومبلمح االحتبلل االستٌطانً
الجدٌد الذي وضعه قدمه األولى بالفعل فً مصر مإخرا ،وهو مقسم إلى جزبٌن:
علَّها وعسى تكون صرخة تنضم لصرخات من سبقونا ،توقظنا ،قبل أن ُتباد مصر إلى األبد.
وحتى ال ٌؤتً ٌوم نقول ما ردده جدنا "إٌبو ور" بعد فوات اآلوان عاضا أصابع الندم وهو ٌرى مصر فً
نهاٌة األسرة ٙتسقط أمام عٌنٌه ،والدم ٌمؤل كل مكان ،على ٌد من فرضوا فً مركزٌة وسٌادة الدولة،
وعلى ٌد األجانب الذٌن استوطنوا فً مصر وقت ؼفلتها:
"لٌتنً رفعت صوتً فً ذلك الوقت حتى كنت أنقذ نفسً من األلم الذي أنا فٌه اآلن ،فالوٌل لً ،ألن
()ٙ
-نفس المرجع ،ص ٕٓٗ
9
البإس ع َّم فً هذا الزمان"(.)9
هذا الكتاب:
ال ٌجامل أحدا ،ال ٌجامل أي جنسٌة أجنبٌة ،ال ٌجامل أي أصحاب دٌن ،ال ٌبرر ألي مذهب ٌتخذه أصحابه
وسٌلة للسٌطرة وسرقة أوطان ؼٌرهم ،ال ٌتحسب ألي لوم إال إذا كان ٌختص بدقة المعلومات ،ال ٌبرر ألي
عصر أو شخص داس على رقبة الفبلح لٌخفً صوت مصر الحقٌقً ٌوما ما.
هذا الكتاب:
ال ٌصؾ أي أجنبً حكم مصر إال بؤنه "احتبلل" و"اؼتصاب" لمصر ،أٌا كانت لؽته أو دٌنه أو عرقه،
فالهكسوسً احتبلل ،والكوشً واآلشوري احتبلل ،والفارسً احتبلل ،والٌونانً والرومانً احتبلل،
والعربً احتبلل ،والعبٌدي (الفاطمً) واألٌوبً والمملوكً والعثمانلً احتبلل ،والفرنسً واإلنجلٌزي
واإلسرابٌلً احتبلل ،سوا كان دٌن هإالء ؼٌر معروؾ أو إسبلمً أو مسٌحً أو ٌهودي ،فكل من هو
أجنبً وقدم لمصر لٌؤخذ حكمها أو مناصبها وثروتها وهوٌتها وٌتكبر على الفبلح وداس علٌه ،وأصر على
أن ٌحتفظ بؤصله األجنبً وٌتفاخر به هو احتبلل خبٌث.
هذا الكتاب:
حٌن ٌنطق كلمة مصري فً الكتاب فهً تكون فً موضوعٌن ،إما على لسان المصدر والمرجع الذي ٌنقل
عنه ،وهنا التزام بؤمانة النقل وٌكون معنى مصري على حسب ما ٌقصد المرجع ،كؤن ٌصؾ مثبل الجبرتً
الممالٌك بؤنهم مصرٌٌن أو مصرلٌة ،رؼم أنهم طبعا لٌسوا مصرٌٌن.
والموضع الثانً هو على لسان صاحبة الكتاب ،وهً لن تعنً إال الفبلح المصري الذي ال ٌعرؾ له أصبل
إال أنه ابن مصر ،ذلك الباقً ٌحمل دم وعروق أجداده من آالؾ السنٌن ،أو ذاك الذي قدم فً عصر من
العصور إلى مصر فً صحبة احتبلل أو ؼٌره ،لكن نفض عن نفسه كل أصل أجنبً وكل ؼبار وافد ،ولم
ٌرض لنفسه أن ٌعٌش إال مصرٌا خالصا ،فبلحا ،ال ٌعتز بؤي نسب أجنبً ٌخص بلد ما أو قبٌلة أو أي َ
عرق أجنبً ،وال ٌعٌن أي احتبلل ،بل وٌقضً عمره لنصرة مصرٌة مصر ،ونصرة بانٌها الفبلح ،ورفعه
فوق رقبة محتلٌه ،هاتفا "مصر للمصرٌٌن" ...المصرٌٌن الحقٌقٌٌن.
وأما المقصود فً الكتاب بالهكسوس -ومعناها األجانب فً اللؽة المصرٌة -فهو كل ما هو أجنبً ال ٌناسب
هوٌة مصر ،سواء األجناس أو النظرٌات واألفكار والعادات والتقالٌد األجنبٌة ،مهما تم تزوٌقها وتلمٌعها
لتخفً ببرٌقها الزاٌؾ وجه مصر المشرق الحلو األصٌل ..أعذب وجه على األرض.
()7
-الحكم واألمثال والنصابح عند المصرٌٌن القدماء ،محرم كمال ،األلؾ كتاب الثانً ،ط ٕ ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرة ،صٔٔ
ٓٔ
لمن هذا الكتاب؟
ٔٔ
إلى ال َفبلحة المصرٌة األولى التً وقعت علٌها عٌناي ..وأرضعتنً ال ِفبلحة حتى آخر عمرها ...أمً
إلى الفبلح األول الذي أطعمنً بعرقه ودمه روح أرض مصر ،وسقانً رٌحتها العطرة ...خالً
ٕٔ
مصر لٌست دولة تارٌخٌة
()8
مصر جاءت أوال ثم جاء التارٌخ
( -)8مقولة منسوبة لألدٌب نجٌب محفوظ لم تستطع الكاتبة الوصول لمصدر ٌإكد نسبتها له ،ولكن أٌا كان قابلها فهً حقٌقة
ٖٔ
الفصل األول :أزمنة الحكم المصري الحر القدٌم
(من األزل ٔٓٙ9 -ق.م)
مصر xالهكسوس
(المٌالد)
فً لٌلة لٌست ككل اللٌالً ،ال ٌعرؾ تارٌخها إال اإلله الواحد ،والكون ظلمة وعدم ،بزؼت من تحت مٌاه
المحٌط األزلً "نون" ،الكامنة فٌه أسرار حٌاة كل شًء ،ربوة هرمٌة "التل األزلً" ،وبكلمة ألقاها اإلله
من فوقه ،أمر بخلق كل شًء ،ومن روحه خلق الهواء والنور "شو" ،والرطوبة والندى "تفنوت" ،ومن
اختبلط "شو" و"تفنوت" تخلَّقت األرض "جب" ،والسماء "نوت" ،وكانا ملتصقان ،فؤمر اإلله أن ٌرفع
"شو" السماء عن األرض ،وٌمؤل ما بٌنهما بالنور والهواء ،فتنفست الحٌاة ،وتخلَّق عن التصاق "جب"
(مذكر) ،و"نوت" (مإنث) ٗ كابنات "أوزٌر" (أوزٌرٌس) ،و"إٌسة" (إٌزٌس) ،و"سٌت" ،و"نبت حت"
(نفتٌس) ،وما فٌهم من خٌر وشر ،أرسل لهم اإلله رسوله "تحوت" بؤلواح الحكمة واألخبلق وصفات الحق
"ماعت" ،وصفات الباطل "إزفت"؛ لٌهتدوا بها فً مشوار الحٌاة الطوٌل لنصرة الحق المبٌن ،وكتب
"تحوت" أول سطر فً هذه المعركة الباقٌة بقاء "التل األزلً" ،معركة الحق والباطل(ٔ).
هذه أقدم وأشهر فكرة حوتها كتب وجدران األجداد المصرٌٌن عن قصة الخلق ،وهدؾ الخلق ،وبداٌة
(كٌمة) مصر ،وهدؾ مصر ،وقصة مصر ،وقضٌة مصر ...والفبلح.
علَّم أوزٌر المصرٌٌن الذٌن خلقهم اإلله من الصلصال ،وقٌل من دموعه ،الزراعة والحكم الرشٌد،
تزوج أوزٌر الشهٌر بؤلقاب األسمر واألخضر (لون طمً مصر وزرعها) من إٌسة ،وسٌت من نبت حت،
ودار صراع حول عرش مصر ،سٌت قتل أوزٌر ،ألقاه فً النٌل ،اختببت إٌسة فً أحراش الوجه البحري
لتربً ابنها حور بعٌدا عن جواسٌس سٌت ،احتضنها الفقراء ،عملت فً ورشة نسٌج لتربٌه ،علمته بإرشاد
من تحوت الحكمة وأصول الحق "ماعت" ،ومسبولٌته فً استعادة عرش أبٌه ،وأصول القتال والمبارزة،
عاد لعمه ٌسترد عرش أبٌه ،أحاط به األهالً ٌقوون قلبه ،وبعد مبارزة مرٌرة لجؤ للمحكمة ،فحكمت
(ٔ)
-للمزٌد عن مذاهب الخلق فً العقٌدة المصرٌة انظر :فلسفات نشؤة الوجود فً مصر القدٌمة ،د .عبد العزٌز صالح ،مجلة "المجلة" (الهٌبة
المصرٌة العامة للتؤلٌؾ والنشر) ،س ٖ ،ع ،ٕٙالقاهرة ،ٔ9٘9 ،ص ٖٖ ،ٗٙ -وتستخدم الباحثة األسماء األصلٌة للمقدسات والشخصٌات
المصرٌة كما تعلمنا فً كلٌة اآلثار ألن االحتالل الٌونانً شوهها بتسمٌتها حسب نطقه ،مثل تحوٌله أوزٌر إلى أوزٌرٌس.
٘ٔ
محكمة قضاة مصر وحكمابها ٌرأسهم "رع" ،بؤن عرش مصر حق لـ حور ،فحكم مصر بـ"ماعت"(ٕ) ،ترك
وصاٌاه ألبناءها ،وعرشها وحكمتها وعهدها والصولجان أمانة ٌحفظونها من الؽزاة والمعتدٌن ،وؼدر
السنٌن.
على ٌمٌن الصورة إٌسة ونبت حت ٌقفان وراء أوزٌر بلونه األخضر الزرعً وأمامه حور برأس صقر ٌقدم له أحد الخاضعٌن للحساب فً محكمة
اآلخرة وخلفه تحوت برأس أبو منجل ٌسجل أعمال الناس (بردٌة فً المتحؾ البرٌطانً)
ش ِرخ العرش ،وسقط الصولجان فً ٌد أشرار أرادوا فصل الوجه البحري ،أو ؼزاة من ؼفل األبناءُ ،
الصحاري الموحشة ،تركت لنا اآلثار بقاٌا مقمعة (سبلح قدٌم) ،مقمعة الملك العقرب تحكً نقوشها أنه
قهرهم لٌعٌد الطمؤنٌنة لمصر ،والسبلمة للعرش ،وأمسك الملك العقرب بالفؤس ،أمامه الفبلحون ٌقدمون له
الحبوب لٌزرعها ..هكذا أقدم الصور والنقوش ألصحاب عرش مصر ،قدمته فبلحا مقاتبل ،زارعا مناضبل،
الملك الفبلح ،والفبلح الملك ،األمٌن على عمار أرضها ،وطهارة عرشها من األجانب واألشرار ،والحافظ
للعهد ،عهد نصرة "ماعت".
العقرب ٌقؾ شامخا ممسكا بالفؤس لٌفتتح مشروع زراعً وأمامه فبلح ثانً ٌقدم له سلة الحبوب (محفوظة فً متحؾ األشمولٌن البرٌطانً)
(ٕ) -انظر :الشرق األدنى القدٌم (الجزء األول مصر والعراق) ،د .عبد العزٌز صالح ،مكتبة األنجلو ،طٕ ،القاهرة ،ٔ99ٖ ،ص ٖٖٖ -ٖٕٙ
ٔٙ
عاد شعب الفبلحٌن لٌؽفل عن رسالته ،فسقط ،من التل األزلً ،بزغ الملك الفبلح مٌنا ،قاد شعب
الفبلحٌن لطرد الؽزاة واألشرار ،وعمَّر بالزرع الدٌار ،وتؤلألت العروسة ،عاد شعب الفبلحٌن لٌؽفل عن
رسالته ،فسقط ،اختطؾ أهل الصحاري العروسة ،حتى بزغ من التل األزلً الملك الفبلح من جدٌد،
فٌنتصر ،وٌتكرر السقوط ،والصعود ،والسقوط ،والصعود ،حتى جاء السقوط األكبر ،األعنؾ واألقبح،
الذي ما زال مستمرا...
هل ٌعود الملك الفبلح وشعب الفبلحٌن وحدانٌة مصر الٌوم؟ كٌؾ والفبلحون المتعلمون ٌتكبرون على
كلمة الفبلحٌن ،كٌؾ وهم باتوا ٌقتلون مصر وروحها "ماعت" ،وٌجلبون الهكسوس بؤٌدٌهم ،وٌتبنون
روحهم "إزفت" ..وٌسلمون التل األزلً -بؤٌدٌهم -لكل األجناسٌ ،سلمونه للمسٌخ الدجال!
كارٌكاتٌر أوروبً ٌصور روتشٌلد (راعً االحتبلالت وتوطٌن األجانب وتقسٌم الببلد والوكٌل العصري للمسٌخ الدجال) ٌقدم مشروبا مؽرٌا لتماسٌح
النٌل ،كناٌة عن تقدٌمه قروضه المشبومة لمصر فً القرن ٔ9لٌستكمل احتبللها وٌبٌد شخصٌة الفبلحٌن بتوطٌن الجالٌات األجنبٌة وثقافاتها بشكل
منظم حتى الٌوم (مصدر الصورة موقع عابلة روتشٌلد (ٖ) )www.rothschildarchive.org
ٔ7
المشهد ٕ :فجر مصر قبل مٌنا
(التكوٌن)
تعود معظم المصرٌٌن أن ٌإرخوا ألنفسهم بداٌة من حكم أحد أبرز األجداد المإسسٌن للدولة المصرٌة،
وهو نعرمر (مٌنا) ،ولكن آثارنا تنطق بؤنه لم ٌكن المإسس األول ،فالتؤسٌس ٌعود لزمن طوٌل قبل هذا
الرجل العظٌم ،وما كان عصره إال إعادة األمر لنصابه ،وهو ما بات ٌعرفه العالم باسم "الدولة" و"الحكومة
المركزٌة" ..أعظم االختراعات التً قدمتها مصر للعالم.
وبحسب دراسات جرت على حجر "بالرمو" الذي سجل علٌه األجداد تؤرٌخا لحكام مصر حتى األسرة
٘ ،فإن مصر شهدت وحدة تامة قبل مٌنا ،وربما كانت عاصمتها مدٌنة أون (عٌن شمس) ،واتفقت على
معبود ربٌسً لها هو حور (حورس)(ٗ) ،ولكن تعرضت لفوضى وؼزو احتل أجزاء من الوجه البحري،
فجاء مٌنا لٌعٌد األمر إلى أصله.
وعلى هذا ٌقسم علماء اآلثار مراحل تارٌخ مصر القدٌم إلى ما ٌلً:
ٔ -عصور ما قبل التؤرٌخ (العصور الحجرٌة) ،وترجع لعشرات آالؾ من السنٌن.
ٕ -فجر التؤرٌخ المصري ،وٌسمى عصور ما قبل األسرات ،وشهد مراحل متقدمة للتكوٌن والنضج
وتحوٌل مصر لمجتمع متماسك مستقر متعاون.
(ٗ)
-انظر :مصر الفرعونٌة ،أحمد فخري ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب" ،مكتبة األسرة" القاهرة ،ٕٕٓٔ ،ص ٔٗ ،و"فجر الضمٌر" جٌمس
هنري برٌستٌد ،ترجمة سلٌم حسن ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرة ،ٕٓٔٔ ،ص ٖ7
ٔ8
ٖ -بداٌة العصور التارٌخٌة (أي بداٌة التؤرٌخ بالكتابة) ،وتشمل األسرتٌن األولى والثانٌة (من ٖٓ٘ٔ
ق.م – ٓٓ ٕ9ق.م)
٘ -عصر البلمركزٌة األولى (الزفتة األولى(٘)) األسرات ٔٓ-9من ٕٕٓٓ ٔ99ٔ-ق.م .
-9عصر البلمركزٌة الثانٌة (الزفتة الثانٌة) األسرات ٖٔ وٗٔ و ،ٔ9فٌما كانت األسرتان ٘ٔ ؤٙ
هكسوسٌة ،من ٖٖ ٕٔ٘٘ -ٔٙق.م.
-8عصور الدولة الحدٌثة األسرات ٕٓ-ٔ8من ٕ٘٘ٔ ٔٓ9ٙ -أو ٘ٗ 9ق.م.
-9عصر البلمركزٌة الثالثة ولٌل االحتبلالت الطوٌل (الزفتة الثالثة) من األسرة ٕٔ -ثورة ٖٕ ٌولٌو
ٕ٘ ٔ9من ٔٓٙ9ق.م ٔ9ٕ٘ -بعد المٌبلد(.)ٙ
وتسمى بالعصور الحجرٌة ألن نشاط المصري فٌها -وكل البشر المعاصرٌن له -اعتمد على الحجر فً
صناعة آوانً الطعام والسبلح والصٌد ،وشهدت فً نهاٌتها العصر النحاسً نسبة الكتشاؾ النحاس ،وشهد
معظم العالم حٌنها "نمطا واحدا" فً العٌشة ،حتى تعلم اإلنسان فً آواخرها الزراعة؛ فنقلت البشر من حٌاة
"جمع الطعام" إلى حٌاة "إنتاج الطعام"( )9وبدأ بها تمٌز بٌبة حضارٌة عن بٌبة أخرى ،وظهر إبداع وحكمة
هللا فً اختبلؾ الشعوب والحضارات ،وأال ٌكون العالم نمطا واحدا.
ففً آخر مرحلة من مراحل هذه العصور وهً (العصر الحجري الحدٌث) بدأ فجر الحضارة المصرٌة
أو مرحلة التكوٌن ،لٌس التكوٌن البشري فهو موجود فً كل الدنٌا منذ نزول آدم لؤلرض ،ولكن التكوٌن
الحضاري الممٌز لمصر ،بمعنى بروز مبلمح الحضارة المصرٌة بالشكل الذي نمت وظهرت واستمرت
علٌه بالشكل المعروؾ لها ،وتمٌزت به بٌن حضارات العالم أجمع.
-لفظ الزفتة مؤخوذ من الكلمة المصرٌة القدٌمة "إزفت" ،وتعنً الشر والفوضىAlan Gardiner, Egyptian grammar, ٖ edition, :
(٘)
ٔ9
وٌمتد آلالؾ السنٌن ،ؼٌر متفق على عددها ،ما بٌن ألفٌن ٕٔ -ألؾ سنة أو أكثر فً العصور قبل حكم
"مٌنا" ،وفٌها الجذور الواضحة التً قامت علٌها حضارة مصر فً العصور البلحقة ،فٌما ٌخص أسالٌب
الزراعة ،العقٌدة واألخبلق وموقع مصر من معركة الخٌر والشر (ماعت) ،الحكم المركزي ،روح التعاون
والتآخري ،البناء بالطوب اللبن ومعمار المنازل والمعابد ،تصمٌم المبلبس ،المبلحة وبناء السفن ،وصنعة
النسٌج ،ونحت التماثٌل ،والرسم ،وعبلقة مصر التجارٌة بجٌرانها ،ومعاركها مع الؽزاة ،تكوٌن الرموز
المصرٌة الخالدة مثل حور (حورس) ومٌن ،ونخبت إلخ ،وألعاب شهٌرة مثل الضامة والسٌجة والنحلة ،أما
التطور األكبر فهو ظهور الكتابة.
وٌطلق العلماء على عصور ذلك الزمان أسامً :حضارة جرزة ،حضارة عمرة ،بؤسوان وقنا ،حضارة
البداري بؤسٌوط ،حضارة مرمدة بنً سبلمة جنوب ؼرب الدلتا ،حضارة نقادة بقنا ،حضارة الفٌوم،
حضارة المعادي وحلوان ،حضارة نبتا باالٌا جنوب ؼرب أسوان ،إلخ ،وهً تقع فً نهاٌة العصر الحجري
الحدٌث( ، )8وهً لٌست حضارات منفصلة ،ولكن أطلقوها على تجمعات وقرى وجدوا بقاٌاها متناثرة فً
أنحاء مصر ،فً الوجهٌن القبلً والبحري ،فمٌزوا كل تجمع باسم لسهولة التعرؾ علٌه وعلى خصابصه،
والزمن الذي ٌنتمً إلٌه.
وٌدل امتداد تلك التجمعات على طول الوادي على أن مصر كلها كانت زاخرة بهذا النمط من الحٌاة
المستقرة ،وللقرى على طول النٌل خصابص مشتركة دلت على "وحدة الجنس والبٌبة ،ووحدة المطالب
المحدودة والكمالٌات المحدودة أٌضا" ،بحسب تعبٌر الراحل الدكتور عبد العزٌز صالح.
فمنذ الوهلة األولى تترك الحضارة المصرٌة انطباعا بؤنها كل متجانس ،اكتسبت بفضل امتدادها الزمنً
ؼٌر المؤلوؾ مكانة خاصة فً تارٌخ البشرٌة(.)9
وفً ذلك الزمان البعٌد حددت مصر أٌضا من هم أعدابها ،ومصادر الخطر القادم لها من الخارج ،وهذا
بناء على المعارك المرسومة على اآلثار المتروكة من ذلك الزمن ،وٌمكن اختصار كلمة "أعداء مصر"،
لٌس فً جنس دون جنس ،بل فً عبارة موجزة" :كل من طمع واعتدى".
وٌقع معظمنا فً خطؤ تارٌخً أننا نتصور أن الؽزوات الخارجٌة لم تذق مصر مرارة علقمها وحنظلها إال
فً الفترة ما بٌن الدولتٌن الوسطى والحدٌثة ،أي وقت االحتبلل الهكسوسً األشهر ،ولكن نظرة آلثارنا
تثبت أن مصر لم ٌمر علٌها أي وقت دون أن تكون هدفا ومطمعا للشعوب والقباٌل المحٌطة بها ،من كل
األجناس ،كؤنها متحزمة بحلقة نار ،حتى فً أبعد العصور عمقا فً جوؾ التارٌخ.
( -)8مزٌد من التفاصٌل عن عصور زمن التكوٌن ،انظر "الشرق األدنى القدٌم (الجزء األول مصر والعراق)" ،ص ،ٙ7 -ٖ8ومصر الفرعونٌة،
أحمد فخري ،ص ٗ٘-ٕ7
()9
-تارٌخ مصر القدٌمة ،نٌكوال جرٌمال ،مصدر سابق ،،ص ٕٗ
ٕٓ
الحدود الشمالٌة (البحرٌة) أٌضا فً األسرة ٕٓ.
ونختار منها هنا مثالٌن لنعرؾ تارٌخ ومصدر التهدٌدات التً تحٌط بمصر حتى اآلن:
معركة مسجلة على سكٌنة عثر علٌها علماء اآلثار فً منطقة جبل العركً فً نجع حمادي بمحافظة قنا،
فتسمت على اسمه ،وحالٌا موجودة بمتحؾ اللوفر ،وترجع لفترة حضارة جرزة.
صور الفنان على أحد وجهً مقبضها معركة جرت على البر ،كما جرت فً مراكب على الماء بٌن
فرٌقٌن اتخذ أحدهما هٌبة المصرٌٌن واتخذ ثانٌهما هٌبة اللٌبٌٌن وكانت الؽلبة للمصرٌٌن(ٓٔ).
وفً رأي عبد العزٌز صالح فالمعركة جرت عند السواحل المصرٌة الشمالٌة الؽربٌة القرٌبة من الحدود
اللٌبٌة ،وإن صح ذلك فإنها ستكون أقدم معركة بحرٌة فً تارٌخ مصر ،وأقدم من معركة الدلتا البحرٌة التً
ستقع بعد ذلك بؤكثر من ٕٓٓٓ سنة بٌن رمسٌس الثالث وقبابل شعوب البحر فً األسرة ٕٓ ،وانتهت كذلك
بانتصار مصر.
النقوش على سكٌن العركً تظهر مصرٌٌن بشعور قصٌرة وأعدابهم بشعور طوٌلة وٌتضح فٌها أن المعركة برٌة ونهرٌة أو بحرٌة مما ٌددل على
شدتها وضخامتها (متحؾ اللوفر)
صبلٌة "العقبان" الموجود جزء منها فً المتحؾ البرٌطانً والجزء الثانً فً متحؾ أشمولٌان تصور
محاربٌن ٌبدو من مبلمحهم أنهم لٌبٌون ،فهم ملتحون وشعرهم طوٌل ،وٌسٌر أسٌران أوثقت أذرعهم خلؾ
(ٓٔ)
-انظر نفس المرجع ص ٖٙ
ٕٔ
ظهرٌهما(ٔٔ).
ومعنى كلمة لٌبٌبن هنا قبابل قادمة من ناحٌة ما عُرؾ الحقا باسم لٌبٌا ،ولٌس بالضرورة شعب مقٌم
فٌها ،فتلك المنطقة كانت ممرا للقبابل الؽازٌة لمصر والقادمة من ببلد شتى.
وفً الصبلٌة أسد بجوار ثور ،وهما من رموز الحكم المصري ،وٌعاون الحاكم فً مهمته أنثى العقاب
"نخبة" وهً التً ستظهر فً العصور المصرٌة البلحقة تفرد جناحٌها فوق رأس حاكم مصر خبلل
معاركه تعبٌرا عن حماٌته ،وهً رمز الوجه القبلً(ٕٔ)؛ ما ٌعنً أن أهالً الوجه القبلً كان لهم دور فً
طرد الؽزاة من الوجه البحري وقتها ،وهذا ٌإشر لوحدانٌة الدولة المصرٌة منذ ما قبل مٌنا.
❸ مقمعة العقرب
وجدها العلماء فً معبد نخن بؤسوان ،تجسد أقدم النقوش للملك الفبلح وهو ٌزرع األرض ،ممسكا
بالفؤس ٌشق األرض فً افتتاح مشروع للزراعة ،وأمامه رجل دٌن ومزارعٌن ٌقدمون له السنابل والبذور،
وفً جانب آخر من المقمعة ٌرفع الناس راٌات ،معلق فً بعضها أقواس الحرب ونبات البردي ،فسرها
العلماء بؤنها تعبر عن انتصار العقرب على أهل األقواس الذٌن احتلوا الوجه البحري ،ألن األقواس ترمز
فً الفكر المصري لقباٌل الؽزاة ،والبردي ٌدل على الوجه البحري(ٖٔ).
ونظر األجداد إلى حكامهم فً فترة ما قبل األسرات نظرة امتنان وتقدٌس ،وصفوهم بـ"أتباع حور"،
وأٌضا "المبجلون" كما جاء فً بردٌة "تورٌن" ،و"أنصاؾ آلهة" كما جاء فً تارٌخ مانٌتون(ٗٔ)؛ ظنا منهم
أنهم لم ٌكونوا بشرا تقلٌدٌٌن مثل الحكام التالٌٌن فً عصور األسرات.
قبل الؽوص فً تارٌخ مصر ،ورإٌة مبلمح الشخصٌة المصرٌةٌ ،صح إلقاء نظرة على الفرق بٌن
هوٌة مصر وهوٌات الببلد المجاورة لها فً ذلك الزمان؛ ما ٌسهل إعادة استكشاؾ هوٌة مصر فً العصر
الحاضر ،بعد أن حاصر مصر خبلل االحتبلالت الهكسوسٌة من كل جنس شبكة من الهوٌات الوافدة،
تتصارع على اختطافها كما تتصارع الوحوش على فرٌستها الثمٌنة الؽافلة.
والهوٌة ألي بلد هً تفاصٌل كثٌرة تتراص جنب بعضها لتظهر الصورة الكاملة لهذه البلد ،تفاصٌل
تخص أخبلق شعبها ،نظرة هذا الشعب لعبلقته ببعضه ،ولعبلقته بؤرضه ،المناخ ،التكوٌن الجؽرافً ،األكل
واللبس والحلً وما ٌتعلق بهما من معانً ،الشكل الجسمانً ،األنشطة االقتصادٌة الماهر فٌها ،اللؽة،
عبلقته باهلل والدٌن وأسلوبه فً ممارسته ،هدفه من الحٌاة ،موقفه من الحرب والسبلم ومن بقٌة الشعوب،
(ٔٔ)
-تارٌخ مصر القدٌمة ،نٌكوال جرٌمال ،مرجع سابق ،ص ٗ8
(ٕٔ)
-نفس المرجع
(ٖٔ)
-حضارة مصر القدٌمة وآثارها -الجزء األول ،عبد العزٌز صالح ،مكتبة األنجلو ،القاهرة ،ٕٓٓٙ ،ص ٕ٘ٙ9 -ٕٙ
(ٗٔ)
" -مصر الفرعونٌة" ،مرجع سابق ،ص ٕ٘
ٕٕ
موقفه فً األزمات ،محاصٌله ،ألعابه ،وانعكاس كل هذا على عمارته وسلوكٌاته وفنونه وعلومه وحروبه
وأعٌاده ومزاجه ،حتى ألوانه المفضلة ،وكل شًء.
لذا ال ٌُفهم "هوٌة" أمة بمجرد جانب واحد من حٌاتها ،لكن كل هذه األمور سوا العمٌقة أو ما ٌبدو منها
سطحٌا؛ ألن كلها إفراز بعض ،وانعكاس على بعض ،وعند اكتمال الصورة ٌصح هنا اإلشارة إلٌها لٌقال
"هذه مصر" ،ونفس األمر الكتمال صورة أي أمة أخرى فتصبح هً هوٌتها.
ونستعٌن فً ذلك بتحلٌل للدكتور عبد العزٌز صالح أورده فً كتابٌه اللذٌن باتا مرجعا رابدا لدارسً
المصرٌات" :حضارة الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق" ،و"حضارة مصر القدٌمة وآثارها" عن
الفروق بٌن هوٌة مصر وكل من العراق والشام والجزٌرة العربٌة.
وبداٌة قال" :رسمت لمصر طرٌقها الحضاري القدٌم عوامل عدة ،كان منها موقعها المتمٌز ،وضخامة
نصٌبها من نهر النٌل ،وخصوبة أرضها ،ووفرة أعداد سكانها ،مع َجلدهم ،ووحدة لؽتهم ،وندرة الفوارق
الجنسٌة بٌنهم ،وسهولة االتصال بٌن جماعاتهم سهولة نسبٌة ،وقدم إدراكهم لوحدة وطنهم ،واستقرار نظم
الحكم بٌنهم ،ثم توفر عدد كبٌر من المواد األولٌة فً أرضهم ،مع حصانة حدودهم حصانة طبٌعٌة نسبٌة
على الرؼم من شدة اتساعها وامتدادها"(٘ٔ).
"ولسنا نعنً بتعداد كل هذه العوامل أنها حققت "المثالٌة" فً تارٌخ مصر وحضارتها ،ولكننا نعنً أنها
كانت من المقومات األولٌة لتكٌٌؾ التربة التً نشؤ فٌها تارٌخ مصر ،وأنها كانت من العوامل المساعدة
على إظهار الجوانب الطٌبة فٌه ،بؽٌر أن ننفً قٌام عوامل أخرى مضادة لها من داخل مصر ومن
خارجها"(.)ٔٙ
❶ (عٌلة واحدة)
وفً حدٌث صالح عن تؤثٌر النٌل وجرٌانه فً خط واحد من أول حدود مصر إلى نهاٌتها طوال قال إن
خاصٌة االمتداد الرأسً الطوٌل لنهر النٌل من الجنوب إلى الشمال أدت إلى توزٌع مواطن العمران على
جانبٌه الطوٌلٌن توزٌعها رأسٌا أكثر منه أفقٌا ،وهً ظاهرة أدت إلى تكاثؾ السكان ،وسهولة االتصال
بٌنهم؛ ما أوحى لمفكرٌهم بعمل أول وحدة سٌاسٌة كبٌرة مستقرة معروفة فً تارٌخ البشرٌة كلها(.)ٔ9
ولكن هذا لم ٌكن كافٌا ،فالنٌل ٌجري بنفس الطرٌقة فً بلدان عدة ولم ٌخلق شعبا واحدا مثل المصرٌٌن
وال دولة مبكرة ،فهناك عوامل أخرى مزجت المصرٌٌن ببعضهم وبؤرضهم.
حولها المصرٌون
ٌقول عنها صالح إن محنة المصاعب التً خلقها جموح فٌضان النٌل ومشقة الزراعة َّ
إلى منحة لخلق الدولة المتعاونة" :والواقع أن أمور النٌل والزراعة لم تكن هٌنة دابما فً أوبل عصور
(٘ٔ)
-الشرق األدنى القدٌم القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٖٔ
()ٔٙ
-مرجع سابق
()ٔ9
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٖ
ٖٕ
التحضر المصري القدٌم ،وإنما تخللتها مصاعب وظواهر ظلت تتطلب من أهلها كثٌرا من الصبر والجهد
المتصل ،وإن ٌكن جهدا منتجا فً حد ذاته؛ ففٌضانات النهر كانت ،على الرؼم من جودها وانتظام
مواسمها ،تستدعً من أهلها الٌقظة الجماعٌة لمواجهتها ،وتستدعً منهم التعاون لتقلٌل خطرها(.)ٔ8
وتسبب تراص القرى بجوار بعضها إلى كثرة التزاوج بٌن أبنابها ،فلم ٌظهر ما ٌدل على الطبقٌة المانعة
أو العصبٌات( ،)ٔ9وأدت فترات الشعور بالخطر من محاوالت القباٌل فً الببلد المجاورة لؽزو مصر إلى
التوحد أكثر؛ ألن طمع بدو الصحراوٌٌن الشرقٌة والؽربٌة فً خصوبة أراضها كان دافعا ألهلها على
التعاون لدرء شرهم ،وحافزا لهم على التجمع فً وحدات سٌاسٌة مبكرة متكاتفة(ٕٓ).
وٌتفق معه سٌرٌل ألدرٌد بقوله إن هذا العمل البارع الذي قام به الفبلحون األوابل بتحوٌل القوة التدمٌرٌة
لمٌاه الفٌضان إلى قوة إنتاجٌة جعلهم ٌعتادون على نمط أو نظام معٌن للحٌاة ،ونشؤت بالضرورة منشآت أو
سلطات سٌاسٌة لتدٌر هذه المشروعات الواسعة النطاق لمنفعة الجمٌع ،وتشرؾ على استمرارها بالنجاح
والنمو المطلوب للجماعة كلها(ٕٔ).
كما كان للمناخ تؤثٌره على نسج هوٌة مصر مقارنة بؽٌرها؛ ألن البٌبة المناخٌة فً مصر ،كانت وال
تزال ،ذات تؤثٌر على وجدان أهلها؛ فهً إذا قورنت ببٌبات أخرى تعتبر بٌبة مؤمونة العواقب ،هٌنة الحدة،
قلٌلة التقلب ،لٌس فٌها صراع الظواهر الطبٌعٌة أو مظاهر الرهبة والصخب العنٌؾ الذي ٌوجه الناس إلى
اعتٌاد الصخب والعنؾ ،أو ٌطبعهم بطابع التمرد والقلق وتقلب األهواء والمشاعر والعادات(ٕٕ).
ولهذا لم ٌكن من الؽرٌب أن ٌترتب على ما ألفه المصرٌون من ؼلبه الخٌر على الشر فً أحوال نٌلهم
ووادٌهم وصحراواتهم ومناخهم بعض األثر فً صبػ حضارتهم بصبؽة االستقرار واالتصال ،وصبػ
حٌاتهم السٌاسٌة بطابع الهدوء واالستمرار ،ثم اإلٌحاء إلٌهم بنوع من الشعور التلقابً بالكفاٌة ،كفاٌة الجهد
المنتج فً األرض ،وكفاٌة الموارد النسبٌة بها ،فضبل عن كفاٌة الحضارة فً بلدهم بوجه عام دون حاجة
إلى مدد خارجً كبٌر(ٖٕ).
حتى األرباب لم ٌكونوا متنافرٌن ،واتجه المصرٌون الفتراض روابط الزٌجة واألبوة والبنوة بٌن
أربابهم ،وترتب على ذلك أن اإلله األكبر للدولة لم ٌكن ربٌسا آللهة متنافرٌن ،وإنما متقاربٌن ،ألؼلبهم
صلة بمن سواه ،وألؼلبهم نصٌب من صفات اآلخرٌن ،ولكل منهم نصٌب من رعاٌة الدولة وملوكها(ٕٗ).
وأكمل هللا تعالى على مصر هذه النعمة الحقا بؤن المسٌحٌة واإلسبلم لٌسا متنافرٌن األصل ،ولٌسا
()ٔ8
-نفس المرجع
()ٔ9
-انظر نفس المرجع ،ص ٘9
(ٕٓ)
-نفس المرجع ،ص ٘ٙ
(ٕٔ)
-انظر "الحضارة المصرٌة من عصور ما قبل التارٌخ حتى نهاٌة الدولة القدٌمة" ،سٌرٌل ألدرٌد ،مرجع سابق ،ص ٗٙ
(ٕٕ)
-حضارة مصر القدٌمة وآثارها ،عبد العزٌز صالح ،مرجع سابق ،ص ٗ
(ٖٕ)
-نفس المرجع
(ٕٗ)
-انظر :القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم ،نجبلء فتحً شهاب ،رسالة دكتوراة ،كلٌة اآلثار جامعة القاهرة
ٕٕٔٓ ،ص ٖٗٗٗ-
ٕٗ
متنافرٌن مع الدٌن المصري القدٌم فً معظم األمور ،فكلهم متفقون على وجود إله خالق علوي ،له كل
صفات الرحمة والقوة والقدسٌة والعلم والكمال والطهارة ،وعلى أن التقوى خٌر زاد ،واآلخرة هً الحٌاة
الخالدة ،وعلى أن قٌمة اإلنسان أن ٌكون بجانب الخٌر ضد الشر.
❷ (أمة فً ذاتها)
وفً رسالة للدكتوراة فرٌدة بجامعة القاهرة ،عن القومٌة والشعور الوطنً فً التارٌخ المصري القدٌم،
بعنوان "القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم ،خلصت د .نجبلء فتحً
إلى أن مما جعل من مصر أول أمة فً التارٌخ ،وأمة قابمة بذاتها ما ٌلً:
التجانس البٌبً والجنسً ،اللؽة ،الدٌن الذي ٌحث المصري على حب وحماٌة مصر ،وٌعطً للحاكم
الشرعٌة فً العرش بقدر عمله على حماٌة مصر ،واالتصال الجؽرافً على طول الوادي(ٕ٘).
بل إنه على أساس إحساسهم بالتضامن وااللتحام ببعضهم ،حرص األجداد فً التخطٌط العمرانً لمدنهم
على أن تكون متصلة ببعضها ،ؼٌر مبعثرة وال متناثرة ،حتى تلك التً تقام بعٌدا عن وادي النٌل ،للحفاظ
على إحساس الحاجة لبعض ،والوصل الروحً والوجدانً والتواصل الذي انطبع فً نفوس المصرٌٌن إزاء
وطنهم وبعضهم ،وداوموا على الوصل بسٌناء والواحات عبر األنشطة االقتصادٌة والحمبلت الحربٌة
إلبعاد القباٌل الؽازٌة عنها.
ونضٌؾ لهذه العوامل فً تكوٌن "وحدانٌة المصرٌٌن" ،هو "االتصال الروحً" التارٌخً على مدار
األجٌال فً وجدان وجٌنات المصرٌٌن ،سوا بٌن أبناء الجٌل الواحد أو بٌن الجٌل وما سبقه من أجٌال ،فلم
ٌشهد تارٌخ المصرٌٌن فترة فراغ فً مصر من المصرٌٌن األصلٌٌن ،فلم ٌُهاجروا هجرات عظمى ،ولم
ٌُخلوا بلدهم ٌوما ،بل امتدد تٌار الدم المصري فً العروق ٌوصل جٌل بجٌل ،رؼم الهجرات الوافدة
والمذابح التً تعرضوا لها كما سنرى.
وٌقول عبد العزٌز صالح إن المصرٌٌن نسبوا أنفسهم إلى بلدهم فقط (ال لقبابل وال طوابؾ وال مذاهب
وال أعراق مختلفة) ،فقالوا إنهم "كٌمتٌو" أي أهل كٌمة ،وردد أدباإهم أن شعبهم هو شعب الشمس،
والشعب النبٌل ،وشعب السماء ،وشعب اإلله ،وادعوا أنهم صور من ربهم األكبر تشكلوا من لحمه ،وخلقوا
من عٌنٌه ،ونزلوا من دموعه(.)ٕٙ
وأنه اعتبر المصرٌون أنفسهم "أمة قابمة بذاتها" ،ولم ٌعترفوا صراحة بفترات االختبلط الجنسً القدٌم
إال فً مرات قلٌلة ،وهو اختبلط لم ٌبرأ من مثله شعب قدٌم على اإلطبلق ،واعتادوا على أن ٌطلقوا على
أنفسهم اسم "رمث" ،بمعنى الناس ،و"رمثن كٌمة" بمعنى أهل مصر ،و"رمثن باتا" بمعنى ناس
(ٕ٘)
-انظر نفس المرجع ،ص ٔ9
()ٕٙ
-حضارة مصر القدٌمة وآثارها ،عبد العزٌز صالح ،مرجع سابق ،ص ٔ8
ٕ٘
األرض(.)ٕ9
وعلى هذا صار المصرٌون من أقدم -إن لم ٌكونوا أقدم -الشعوب شعورا بؤنهم عابلة واحدة ،فاستخدموا
كلمة "أخً" فً مخاطبة بعضهم ،وفً نص "نجاة البحار" ،والمعروؾ أٌضا باسم "البحار الؽرٌق" جاء:
"عندما تبلػ (أرض) الوطن ،وتكون هناك بٌن إخوتك"( ،)ٕ8وٌخاطب سنفرو العلماء والحكماء حوله بكلمتً
ٌا "أخً" ،وٌا "صدٌقً" ،أو "صاحبً" رؼم مقامه المبجل كحاكم ؼٌر عادي( ،)ٕ9وٌخاطب الزوج
والزوجة بعضهما بكلمتً أخوٌا وأختً -كما هو الحال حتى الٌوم -حتى ظن علماء أجانب خطؤ أن زواج
اإلخوة شابع بٌن كل المصرٌٌن.
وعن إحساس تواصل األجٌال كؤنها خط واحد أو نهر واحد ،نرى مثبل رمسٌس الثانً ٌتحدث عن
الحكام الذٌن سبقوه بقوله "آبابً" و"أجدادي" ،حتى ممن هم لٌسوا من أسرته الحاكمة ،بل ٌقصد حكام
مصر عموما ،فكل جٌل ٌنظر على أنه موجة مولدة من الموجات المدٌدة السابقة فً نهر األجٌال الماضٌة،
وجذورها ممدودة ببل نهاٌة فً عمق األرض.
عامل آخر -من أهم وأبقى العوامل -وهو وحدة القٌم بٌن المصرٌٌن ،وهً لٌست أي قٌم ،بل تكاد تكون
فً بعضها خاصة بمصر ،أو هً أول من أخرجها للعالم ،وأشد من حافظ علٌها ،فهً التً جعلت الدٌن
والوطن عند المصرٌٌن عملة واحدة ،ورسمت حدود أعذب عبلقة بٌن المصري وربه ووطنه وحكومته
ونفسه وكافة المخلوقات والكون والشعوب األخرى ،ولخصها األجداد فً اسم "ماعت" ،هً الحبل السُري
الذي ربط وجمَّع أرواح المصرٌٌن ووحدانٌتهم الوطنٌة "جٌل ورا جٌل" مثلما ربط النٌل وجمَّع وحدانٌتهم
البشرٌة على ضفتٌه العطرتٌن ،هً القٌم واألصول التً أوصت بها السماء المصرٌٌن من قدٌم األزل ،حٌن
تربع اإلله فوق التل األزلً ،وعلى أساسها صنعوا حضارتهم ودولتهم الواحدة ،قبل أي عوامل خاصة
بالجؽرافٌا واللؽة ،وسنعرض لهذه القٌم الخالدة فً مكان خاص بها فً صفحات تالٌة ،وٌمكن تلخٌصها
مإقتا هنا فً عبارة واحدة "مصر فً األرض وهللا فً السماء" والمعنى :عمار مصر بالخٌر فً األرض
هو الطرٌق إلى رضا اإلله.
فإذن عوامل تكوٌن وخلود األمة المصرٌة كـ"أمة فً ذاتها" ،و"األمة الواحدة" ،تشع فً هذا التاسوع:
()ٕ9
-نفس المرجع
()ٕ8
-انظر :القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم ،مرجع سابق ،ص 99
()ٕ9
-راجع قصة سنفرو والحكماء فً :الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،عبد العزٌز صالح ،مرجع سابق ،ص ٖٖٙ
ٕٙ
ٗ -االتصال الجؽرافً
-ٙالتجانس الجنسً
-9وحدانٌة االنتماء لمصر (ال لقبٌلة أو طابفة أو عرق دخٌل وال ألي بلد آخر ،وال لمذهب عالمً(ٖٓ))
-8وحدة اللؽة
وأي عامل دخٌل ٌؽزو مصر أو ٌتسلل إلٌها لنزع فقرة من فقرات هذا العمود الفقري لمصر ٌلزم
التعامل معه كعدو ٌسعى لخلخلة مصر تمهٌدا الؼتٌالها وتفرٌؽها وتحوٌلها إلى مكسورة الظهر ،سهلة لكل
األجناس والتنظٌمات والتقسٌمات كما حدث فعبل فً أوقات ؼفلة المصرٌٌن أمام الهكسوس من كل جنس.
وعلى أساس اإلحساس الجماعً بهذا التجانس ،والتناؼم ،والتآلؾ بٌنهم من ناحٌة ،وبٌنهم وبٌن بٌبتهم
الوسطٌة العذبة من ناحٌة أخرى ،تخلقت فً دمابهم حرارة المحبة واإلخوة واالنتماء ألرضهم.
وبتعبٌر صالح ،ردد األجداد اسم كٌمة فً نصوصهم بروح التكرٌم ،ومنهم من افتحر فً نصوصه بؤنه
"من ثمرة كٌمة" ،ومن أدباإهم من افتخر فً مقدمة كتبه بؤنها "ثمرة كاتب من كٌمة"(ٖٔ).
وآمن حكامنا بؤن شرعٌة تولٌهم حكم مصر ،بل شرعٌة حٌاتهم نفسها ،هً فً الحفاظ على علو شؤن
مصر ،فها هو تحوتمس األول فً نقش على لوحة العرابة المدفونة "أبٌدوس" بمحافظة سوهاج أعدها
لتسجٌل حروبه وانتصاراته فً السودان وآسٌا على القباٌل التً تهدد مصر بالؽزو ٌقول" :عملت على أن
تصبح كٌمة فوق رأس كل أرض بؤهلها"(ٕٖ).
وألن المحن أشد ما تظهر حقٌقة عبلقة الشعب ببعضه وببلده ،فمن قبله قال جده أحمس ٌصؾ تبلحم
المصرٌٌن مع جٌشهم فً حرب التحرٌر لطرد الهكسوس خبلل المعارك النهرٌة ،وكٌؾ كان الناس على
الضفتٌن الشرقٌة والؽربٌة للنٌل ٌتطوعون بكل شًء" :لقد هبطت النٌل بقوتً لطرد اآلسٌوٌٌن بؤمر آمون
ذي الرأي السدٌد ،كان الشرق والؽرب ٌحضرون الدهن والنبٌذ ،والجٌش ٌزود باإلمدادات من كل
(ٖٓ) -المذاهب العالمٌة التً تربً أصحابها على والوالء لبالد أجنبٌة ولمشروعات إمبراطورٌة تجعل الوالء لهذا المذهب والبلد الراعٌة له -ولو
أجنبٌة -فوق الوالء للوطن ،وتحارب الحدود الجؽرافٌة بٌن البالد وتحارب الحكومات الوطنٌة ،مثل :المانوٌة ،الشٌعة ،الشٌوعٌة ،اللٌبرالٌة
الرأسمالٌة ،ال ماسونٌة ،الصهٌونٌة ،اإلخوان المسلمٌن ،مذهب المواطن العالمً "العولمة" ،القومٌة العربٌة ،طرق الصوفٌة الدولٌة ،وؼٌرها كثٌر
مما تبدعه فً كل جٌل قرٌحة الشٌطان والتنظٌمات الساعٌة لحكم العالم وتكوٌن ما ٌسمى بـ"الحكومة العالمٌة".
(ٖٔ)
-حضارة مصر القدٌمة وآثارها -الجزء األول ،عبد العزٌز صالح ،مكتبة األنجلو ،القاهرة ،ٕٓٓٙ ،ص7
(ٕٖ)
-القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم ،رسالة دكتوراة ،مرجع سابق ،ص79
ٕ7
مكان"(ٖٖ).
ومن بعده جاء فً نقوش أبو سمبل لوصؾ رمسٌس الثانً" :عظٌم المعجزات الذي ٌضع مصر فً فرح"(ٖٗ).
وعلى هذا فهم وضعوا ما وصفته الدكتورة نجبلء فتحً ،بؤنه "أقدم نشٌد وطنً" ،وتركه األجداد منقوشا
على جدران األهرام ،أي نصوص األهرامٌ ،هتفون فٌه:
و"عٌن حور" هو اسم من أسماء مصر ،أي عٌن اإلله المقدسة ،تكرٌما لمكانتها ،وٌبدأ النشٌد بالسبلم
على حور (حورس) الذي زٌن مصر بكلتا ٌدٌه(ٖ٘).
وٌتضح فٌه أن األجداد لم ٌعشقوا مصر لمجرد خٌراتها المادٌة ،ولكن ألنها صنعة اإلله ونعمته ،تحمل
رسالة اإلله لؤلرض ،وفً أعماقهم ٌإمنون بؤنها صُنع ٌد مقدسة ،وأن محبتها من محبة اإلله ،ومحبتها هً
قربان لئلله ،فلم ٌعرفوا ما ٌُشاع اآلن عن أن الدٌن والوطن مختلفان ومتخاصمان ،بل ٌوقنون بؤنهما
متكامبلن كوجهً العملةٌ ،عكس كبل منهما اآلخر ،وٌحمٌه ،وٌحوله لما ٌنفع الناس.
ولذا لم ٌعتد المصرٌون فً األزمنة القدٌمة إلى هجر مصر أو التآمر علٌها فً الحروب واألزمات
لمجرد أنها فً خطر أو جؾَّ ضرعها -إال قلة نادرة -بل معظمهم ٌرون أن حماٌتها ومساعدتها على القٌام
من عثراتها واجب مقدس لتكمل رسالتها المقدسة فً معركة الخٌر والشر.
ولتوضٌح الفروق بٌن طبابع وهوٌات الشعوب قارن صالح أٌضا بٌن تؤثٌر التضارٌس والمناخ والبٌبة
عموما على سبٌل المثال على تكوٌن هوٌة كل من مصر والعراق والشام والجزٌرة العربٌة.
فمثبل عن تؤثٌر فٌضان النٌل على مصر وفٌضان دجلة والفرات على العراق قال إن شدة انحدار دجلة
(ٖٖ)
-نفس المرجع ،ص ٖٙ
(ٖٗ)
-نفس المرجع ،ص 97
(ٖ٘)
-القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم ،مرجع سابق ،ص ٕ٘ٔ
وحور من أبرز المقدسات المصرٌة ،وهو ابن أوزٌر "أوزٌرٌس" الذي خ َّلص مصر من الشر والعدوان ممثلٌن فً عدوه مؽتصب عرش مصر
"ست" وقاد أقدم معركة معروفة فً مصر ضد االشر.
ٕ8
والفرات جعلت المبلحة فٌهما ؼٌر مؤمونة العواقب ،عكس التدرج ؼٌر المحسوس فً انسٌاب النٌل من
قبلً لبحري ،وعدم انتظام مواسم فٌضانات دجلة والفرات ،وشدة اندفاعها ،جعلها تظهر فً األدب العراقً
بصفة "زوبعة الفٌضان"؛ "للتعبٌر عن أمر كاسح مدمر" ،خاصة وأنه "عادة ما تشتد هذه الفٌضانات فً
ؼٌر فترات الحاجة الملحة إلٌها ،بحٌث قد تعنؾ خبلل مواسم الحصاد(.)ٖٙ
وهذا األمر ،إضافة للتمدد العرٌض ألراضً ما بٌن النهرٌن ،وحولهما وحول فروعها ،أدى لصعوبة
وجود وحدة سٌاسٌة وحضارٌة واحدة ،بل تمٌز تارٌخ العراق القدٌم بقٌام وحدات سٌاسٌة مستقلة عن
بعضها ،بنظام الدوٌبلت ،خالٌة من مشاعر الترابط بٌن أهلها ،وتؽلب صراعات المطامع والهوٌات على
العبلقات بٌنهم ،ولم تشهد وحدة سٌاسٌة إال فً عصور متؤخرة ،مع استمرار الحروب الداخلٌة بٌن البابلٌٌن
واآلشورٌٌن( ،)ٖ9ؼذتها هجرات أجنبٌة إلٌهم لم تنقطع.
ولذا لم ٌكن ؼرٌبا أن ٌنعكس هذا على أن تنطبع الحٌاة فً العراق وقتها بمشاعر الحدة والتوتر ،كما
اصطبؽت بهذا كثٌر من فنونهم وأساطٌرهم التً آثرت المٌل إلى إشاعة الرهبة ،واالهتمام بالخلود فً الدنٌا
أكثر من اآلخرة ،على خبلؾ المصرٌٌن القدماء الذٌن اهتموا أكثر باآلخرة ،وما تمٌزت به فنون مصر من
عذوبة ومبلمح هادبة مطمبنة فً معظم األحوال(.)ٖ8
وبخصوص هوٌة ببلد الشام أشار صالح إلى أن االختبلؾ الحاد بٌن تضارٌسها ،وخاصة الحواجز
الجبلٌة بٌن أراضٌها التً تعرقل تواصل سكانها ،فً مقابل سهولة وصول األجانب ألراضٌها من الخارج،
تسبب أٌضا فً صعوبة ظهور وحدة سٌاسٌة وروحٌة فً الشام التً تشكل تارٌخها السٌاسً من إمارات
متناحرة أو متنافسة ،مع استسهال السكان الهجرة الجماعٌة إلى بلدان أخرى.
و ترتب على تنوع تضارٌسها كثرة التباٌن بٌن مٌول أهلها ،أهل الجبال ،وأهل السواحل ،وأهل السهول
والودٌان ،وأهل الصحاري ،وصعوبة اتحادهم فً وحدة قومٌة صرٌحة ،ولم ٌلتبم شملها فً وحدة سٌاسٌة
كبٌرة طوال عصورها القدٌمة(.)ٖ9
وعن سبب استسهال كثٌر من أهل الشام للهجرة ،فٌعود ذلك لطبٌعة تكوٌنهم ،فهم من قبابل وجماعات
جاءته بالؽزو أو السرسبة حٌن رأته أخصب وأهنؤ عٌشا من مناطقها القدٌمة فً الجزٌرة العربٌة أو فً
داخل آسٌا ،ثم تؽادره إذا ما حلت به كوارث ورأت مناطق أخرى أطٌب فً العٌش(ٓٗ).
وكان لقبابل الجزٌرة العربٌة دورها فً حركة الهجرة واالستٌطان وتؽٌٌر تركٌبة السكان فً العراق
والشام الواقعتٌن شمالها ،وما ترتب على ذلك من زٌادة الصراعات القبلٌة والعرقٌة ،حٌن تترك مناطق
الجفاؾ والخطر فً الجزٌرة وتتجه إلى هناك بؤسلوب التسلل البطًء ،وكل هجرة تعتمد على الهجرة التً
()ٖٙ
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،عبد العزٌز صالح ،ص ٘
()ٖ9
-انظر :نفس المرجع
()ٖ8
-انظر :المرجع السابق ،ص 9
()ٖ9
-انظر نفس المرجع
(ٓٗ)
-انظر :المرجع السابق ص 8
ٕ9
سبقتها فً تهٌبة الحال لها(ٔٗ).
وبعد التمكٌن حٌن ٌتعرؾ المهاجرون على مواطن الضعؾ فً حدود دوٌبلت الهبلل الخصٌب،
ٌتربصون بها الدوابر ،حتى إذا تفككت وحدتها وضعفت قوتها وخفت قبضتها عن حماٌة ذمارها ،ألسباب
داخلٌة أو ألسباب خارجٌة ،تسربوا إلٌها أسرا وعشابر وشاركوا أهلها معاٌشهم ،أو اندفعوا إلٌها قبابل
وجٌوشا إذا توافرت لهم الزعامات القوٌة ،ثم تؽلبوا على أهلها وسٌطروا على أرضهم وحكمهم(ٕٗ) ،وعلى
هذا ظهرت لهم هناك دوٌبلت وممالك مثل الؽساسنة والحٌرة واألنباط.
و نفس األسلوب اتبعته هجرات من مناطق أخرى ،فظهر فً العراق والشام ما ٌسمى باألكدٌٌن
والبابلٌٌن واآلرامٌٌن واألمورٌٌن والخابٌرو والعابٌرو والكلدانٌٌن واآلشورٌٌن والمٌتانٌٌن والعبرانٌٌن،
ظلت ممالك وإمارات فً صراع وشقاق معظم تارٌخها؛ فكل واحدة تكبرت عن الذوبان مع السكان.
أما عن اختبلؾ هوٌة مصر مع الجزٌرة العربٌة ،فإنه كان التساع مساحة الجزٌرة واختبلؾ مناخها من
منطقة ألخرى ،وتفرق موارد مٌاهها حسب المناطق المطٌرة أو الجافة ،وقلة سكانها مقارنة بمساحتها ،أن
كان السكان فٌها متفرقٌن فً مسافات بعٌدة ،فتكونت القباٌل وعصبٌاتها ،وكثرت المنازعات بٌنها رؼم
وحدة الجنس واللؽة(ٖٗ) ،ولم تسنح لهم فرصة التوحد إال برابطة اإلسبلم ،وبعد معارك عدة ،وسرعان ما
انفكت عراهم بعد سنٌن قلٌلة مجددا لقبابل وإمارات ومذاهب وممالك متحاربة فً صراعات الحكم
(العباسٌة واألموٌة والبوٌهٌة والحمدانٌة والقرامطة واألندلس واألدارسة والشٌعة والسنة إلخ).
وبالمثلٌ ،مكن أن نجد تشابهات أو اختبلفات بٌن ظروؾ تلك الببلد وبٌن ببلد الٌونان أو الكوشٌٌن
(السودان وما ورابها) ،أو المناطق الواقعة بعد الحدود الؽربٌة المصرٌة فً ذلك الحٌن.
ولذا ظهرت مصر طوال التارٌخ بمظهر البعٌد عن التآمر على الؽٌر؛ لعدم اعتٌادها على وجود سكان
متنافرٌن متآمرٌن على بعضهم ومتنافسٌن ،فؽاب منها الطمع أٌضا فٌما خارج حدودها ،ولرضاها بما فٌها،
ولقلة الصراعات بٌن أهلها ،والحترامهم وعشقهم ألرضهم ،ولم تتعدَ حدودها للخارج إال دفاعا عن النفس
وكٌل العقاب لمن سبق واعتدى علٌها -كما حدث فً زحفها لببلد الشام فً الشرق بعد أن جاء منها
الهكسوس الحتبلل مصر ،ولببلد كوش فً الجنوب بعد أن ؼزوا مصر من الجنوب وتحالفوا مع الهكسوس
ضدها ،فً حٌن مالت معظم األمم إلى التآمر والؽزو واالحتبلل بسبب وبدون سبب ،وكثرت ؼزواتهم
ومطامعهم فً مصر ،سواء بالسبلح أو بالتسلل.
هذه الطلة السرٌعة على عوامل تكوٌن الهوٌة المصرٌة والفروق بٌنها وبٌن هوٌات ببلد أخرى مهمة
لفهم سبب ما اعترى حضارة مصر من سقطات ووقوعها تحت األسر واالحتبلل لمبات السنٌن فٌما بعد؛
لؽفلتها عن هذه الفروق خبلل تعاملها مع الشعوب األخرى ،وقبولها استٌطان بعضهم فٌها ،فٌإدي تنافر
(ٔٗ)
-انظر :نفس المرجع ص ٕٔ ،ٖٔ-و"تارٌخ شبه الجزٌرة العربٌة فً عصورها القدٌمة" ،عبد العزٌز صالح ،مكتبة األنجلو ،القاهرةٕٓٔٓ ،
(ٕٗ)
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،ص ٖٔ
(ٖٗ)
-انظر :نفس المرجع ،ص ،ٔٔ-9وتارٌخ شبه الجزٌرة العربٌة فً عصورها القدٌمة ،مرجع سابق.
ٖٓ
الطباع والطموحات إلى خرابها ،فمع االحترام لكل الهوٌات والشعوب -ولكل شعب مزاٌاه وعٌوبه -فإن كل
هوٌة أولى بؤرضها التً نبتت فٌها وكونتها ،ال أن تفرضها على ؼٌرها كما سعت الشعوب الؽازٌة لؽرس
هوٌاتها فً مصر التً فتحت لهم أبوابها كما ٌفتح الرجل الؽافل بٌته اآلمن للرٌح السموم.
كما ال ٌوجد إنسان مبرأ من العٌوب ،فكذلك ال ٌوجد بلد مهما بلؽت حضارتها مبرأة منها ،ولمصر نقاط
ضعؾ أحسن األعادي استؽبللها ،منها :ضعؾ الذاكرة ،االطمبنان للشعوب ببل حذر ،نسٌان الثؤر ممن
ظلمها ،الببلدة فً التعامل مع دروس التارٌخ ،وكلها عوامل تتصل بكلمة واحدة ..التارٌخ.
ولو انعقدت األبحاث والمإتمرات المخلصة لتبحث عن إجابة سإال واحد وهو:
ما الذي جعل مصر ،وهً أعظم الحضارات وصاحبة الشعب الواحد األكثر حبا ألرضه ،تقع فً ٌد
االحتبلالت مبات السنوات ،وتتقلب بٌن أٌدي وأقدام شعوب األرض من كل ملة وجنس ،بما فٌهم العبٌد
والمرتزقة والجواري؟
ٌقول أ .ب كلوت ،المشرؾ على تؤسٌس القصر العٌنً فً القرن ،ٔ9فٌما سرده من صفات حسنة وسٌبة
عن المصرٌٌن فً كتابه "لمحة عامة إلى مصر"" :فتراهم لهذا السبب ال ٌهتمون من شبونهم إال بما ٌتعلق
منها بحاضرهم ،ؼٌر ملتفتٌن إلى مستقبلهم ،وهم ٌشبهون لصوص نابلً ال ٌحركون ساكنا إال إذا عضهم
الجوع بنابه ،فالنظر إلى المستقبل ال ٌمتد عندهم إلى أبعد من الؽد"(ٗٗ) ،ببل وال أبعد من الٌوم ،فبل ٌلتفت
إلى إلى الوراء لٌدرس تارٌخه كما ٌجب ،وٌنتظر الضربة من العدو قبل أن ٌتحرك إلزاحته.
فحالة الطمؤنٌنة واالستقرار التً تنعَّم بها المصري بعرقه وقٌمه ،وإحساسه بقوته مقابل ؼٌره من
الشعوب ،جعله ٌركن إلى السبلم إلى درجة ال ٌفكر جٌدا فٌما تدبره له هذه الشعوب.
وعدم طمع المصري فً ؼٌره من شعوب ،وعدم تآمره علٌهم ،وافتقاده لمهارات التآمر ،جعله ٌفتقد
التنبإ المبكر بمإامراتهم علٌه ،وال ٌهتم بتتبع أسالٌبهم الجدٌدة فً التسلل إلٌه ،بل وال ٌعرؾ عدوه إال إذا
رفع فً وجهه السبلح ،وجاءه ؼازٌا بالجٌوش والعصابات المكشرة عن أنٌابها فً عدوان صرٌح ،وٌرى
بعٌنٌه دمه ٌقطر من سٌؾ عدوه عبلمة تؤكٌد العدوان ،ولكن إذا جاءت إلٌه األعادي فً صورة هجرات ببل
سبلح ،تتسلل إلى ببلده "سلمٌا" باللسان الحلو أو بطلب نجدته ،أو فً توب تاجر أو الجا أو صدٌق ،فإنه
ٌكون حسن الظن وسرٌع التصدٌقٌ ،فتح لهم حدود ببلده بٌدٌه مرحبا مهلبل ،وربما شاكرا لهم أنهم اختاروا
بلده بالذات لٌؤتوها ،وال ٌفٌق من ؼفلته إال بعد أن ٌكون "وقع فً الخٌة" ،والسٌؾ انؽرز فً جانبٌه ،فٌندم
ٌوم ال ٌنفع المصري الندم.
(ٗٗ)
-لمحة إلى مصر ،كلوت بك ،ترجمة محمد مسعود ،دار الكتب والوثابق القومٌة ،القاهرة ،ٕٓٔٔ ،ص ٕ9ٓ -ٕ89
ٖٔ
▲▲▲ الوصٌة الحارسة (العهد)
إن اآلباء المإسسٌن ،أو ربما السماء ،وضعوا لمصر الدواء لنقاط ضعفها السابقة ،ومن هذا الدواء
الوصٌة التً سجلتها نصوص األهرام -وهً قلب قضٌة هذا الكتاب -بؤال تفتح بواباتها (حدودها) لؤلجانب
الطامعٌن فٌها ،والذٌن ٌحاولون ؼزوها ،سواء من الشرق أو الؽرب أو الشمال أو الجنوب ،فاإلله أسس هذه
الحدود لحماٌتها ،ولعلمه بؤنها مطمع الجمٌع ..وفً هذا إشارة لوجود حدود لمصر منذ أقدم العصور،
والمصرٌون ملزمون بتحصٌنها مادٌا ومعنوٌا.
"إن البوابات التً فوقك كبوابات حامٌة ....إنها سوؾ ال تفتح للؽربٌٌن ،إنها سوؾ ال تفتح للشرقٌٌن،
إنها سوؾ ال تفتح للجنوبٌٌن ،إنها سوؾ ال تفتح للشمالٌٌن ،إنها سوؾ ال تفتح لهإالء الذٌن فً وسط
األرض ،إنها سوؾ تفتح لحورس"(٘ٗ).
وفً ترجمة أخرى وكاملة لهذه الوصٌة ،أو هذا العهد ،قام بها هنري برٌستد فً كتابه "تطور الفكر والدٌن
فً مصر القدٌمة"ٌ ،قول النص:
(٘ٗ)
-القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم ،مرجع سابق ،ص ٕٕ٘ٔٔٙ -
ٕٖ
إن األبواب الموجودة علٌكِ تستوي ثابتة مثل "إنموتؾ"
فؤمر اإلله مصر أن تكون األصول التً وضعها لها (ماعت) هً مرجعٌتها ،وال تسلم نفسها للشعوب
الكابنة وراء الحدود وثقافاتهم ،فهو األدرى بما ٌصلح لها؛ ألنه هو من أسسها ووضع قواعدها(.)ٗٙ
عٌن حور "وجات" وعن ٌمٌنها "نخبة" رمز الوجه القبلً وعن شمالها "واجٌت" رمز الوجه البحري (مقتنٌات توت عنخ آمون بالمتحؾ المصري)
قبلدة معبرة عن مصر التً سماها األجداد "عٌن حور" وألجلها انتصر حور على الشر
وهذه هً الوصٌة الصارمة الحارسة الخالدة بعدم استقبال وتوطٌن هجرات أو ثقافات أجنبٌة التً لمَّا
()ٗٙ
-تطور الفكر والدٌن فً مصر القدٌمة ،جٌمس هنري برٌستٌد ،ترجمة زكً سوس ،دار الكرنك للنشر والتوزٌع ،القاهرة ،ٔ9ٙٔ ،ص ٓٗ،ٗ٘ -
وكلمة "إنموتؾ" المذكورة فً "األبواب الموجودة علٌكِ تستوي ثابتة مثل إنموتؾ" تعنً "عمود أمه" (نفس المرجع)
ٖٖ
خالفها األجداد فً بعض العصور ،كان عقاب هللا لمصر شدٌدا ومرعبا ،بالخراب واالحتبلل.
ولمس هذا مإرخون قدامى ،تؤملوا فً أسباب سقوط مصر المدوي قبل مٌبلد المسٌح ،ونقل عنهم أ .ب،
كلوت" :لو أن مصر استطاعت أن تقً نفسها شر االتصال باألجانب ،أو لو كانت طبٌعة وجه أرضها
وشكل سطحها من الوجهة الحربٌة بحٌث ٌصدان عنها الؽارات األجنبٌة ،لما بقً شك فً قدرتها على
صٌانة وجودها وإطالة أمد حٌاتها بما كان مسنونا لها من األنظمة العالٌة والقوانٌن الحكٌمة لتدبٌر مرافقها
ومصالحها من كل نوع ،ولكن مصر ال تملك من وسابط الدفاع الطبٌعٌة عن كٌانها ما ٌكترث به أو ٌُعتمد
علٌه ( )...فهً بهذا الوصؾ فرٌسة سهلة ولقمة سابؽة جذبت إلٌها من جمٌع النواحً عظماء الفاتحٌن
الذٌن طالما طمحت أنظارهم إلى خٌراتها الزراعٌة وموقعها الجمٌل بٌن ٖ من قارات العالم" ،و"لقد أدرك
واضعو قوانٌنها القدٌمة هذه الحقٌقة من بادئ األمر ،وحسبوا لعواقبها الحساب؛ فحرَّ موا على األمة
المصرٌة باسم الدٌن كل اتصال باألجانب أو اختبلط بهم؛ خشٌة أن ٌستفز هذا االختبلط هإالء إلى محاولة
الوقوؾ على أسرارها والعلم بمواطن ضعفها؛ فٌنشطوا إلى فتحها وامتبلكها ،وطالما لبث فرٌق الكهنوت
عزٌز الجانب رهٌب المقام بكثرة عدده وامتداد نفوذه ،واستقرار صولته ،فإنه كان ٌحول دون كل اتصال
باألجانب؛ فؤمنت الببلد شرهم ووقت نفسها عاقبة أطماعهم ،ولكن ملوك األسرة السادسة والعشرٌن رأوا أن
ٌلقوا عن عاتقهم نٌر النفوذ الكهنتً وٌستبدوا باألمر؛ فمهدوا السبل لذلك اإلتصال الذي كانت عاقبته شرا
وباال على مصر؛ إذ بلػ بؤحدهم وهو الملك أبسامٌتك األول أن اتخذ لنفسه جندا من اإلؼرٌق والكارٌٌٌن
والٌونانٌٌن المجمكٌن( .")ٗ9واألسرة ٕٙمن قبٌلة أجنبٌة مستوطنة ولٌست أسرة مصرٌة.
وسنختبر دقة هذا التشخٌص فٌما سنقابله من أحداث ،بٌن أمجاد تحلق بها مصر ،وأصفاد تؤسرها.
ولو أن االتصال باألجانب اقتصر على تبادل التجارة والعلوم لما كان فٌه ضرر ،أما وقد ص َّم حكام
مصر وبعض مثقفٌها آذانهم عن صوت األجداد ،وفتحوا البلد الستٌطان هجرات تسللت فً أي ثوب ،أو
استقدموا األجانب للتوظٌؾ محل المصرٌٌن ،واعتمدوا هوٌات أجنبٌة محل المصرٌة؛ فزلزلت هنا األرض
الطٌبة زلزالها.
إذا وزعت ورق الٌوم (فً سنة )ٕٓٔ9على المصرٌٌن -خاصة المتعلمٌن -وطلبت منهم اإلجابة على
سإال واحد مكتوب فٌها وهو :من هم أعداء مصر؟ أو من عدو مصر فً نظرك ،ماذا ستكون اإلجابة؟
لن تكون إجابة ..بل إجابات ،بل آالؾ اإلجاباتٌ ،ختلؾ فٌها تقٌٌم "العدو" باختبلؾ انتماء المصري
المعاصر نفسه ،فهل انتماءه لمصر وحدها ال قبلها شًء وال بعدها شً أم ٌنتمً لشًء آخر خارج الحدود،
وتختلؾ اإلجابات باختبلؾ التٌار الدٌنً أو السٌاسً الذي قد ٌكون منتمً إلٌه (لٌبرالً ،شٌوعً،
اشتراكً ،عروبً" ،إخوان مسلمٌن" ،جماعات دٌنٌة سلفٌة ،عولمً ،إلخ) ،ونوعٌة التعلٌم (حكومً/
()ٗ7
-لمحة إلى مصر ،كلوت بك ،مرجع سابق ،ص ٖٕٕٗ -
ٖٗ
أجنبً) ،وهل هو مصري خالص الدم أم "خبلسً" ٗ8الدم ،أي هجٌن من أبوٌن أحدهما ؼٌر مصري ،أو
"خبلسً" الجنسٌة ،أي ٌحمل جنسٌة أخرى أو أكثر بجانب الجنسٌة المصرٌة وأعطى ٌمٌن الوالء لدول
أخرى ؼٌر مصر ،أو "خبلسً" الهوٌة ،أي من هإالء الذٌن لهم أجداد قدموا إلى مصر فً عصر سابق
ولكنهم لم ٌتخلصوا من االنتماء للبلد التً قدم منها هإالء األجداد األباعد وما زالوا ٌحتفظون بالوالء لها
بجانب أو قبل الوالء لمصر (مثل بواقً قبابل عربٌة أو بعض بواقً الٌونان واألرمن والترك إلخ) ،أو
"خبلسً" الزواج ،أي متزوج أو متزوجة من أجانب وأوالدهم حملوا جنسٌة بلد األجنبً ،إلخ.
ما هذا كله؟! إن هذا كله لم ٌكن موجودا فً معظم تارٌخ مصر بٌن المصرٌٌن ،بل لم ٌكن بٌنهم أساسا كلمة
"اختبلؾ االنتماء" فٌما ٌخص تحدٌد من هو العدو ،ألنه لم ٌكن بٌنهم أساسا "اختبلؾ انتماء" حول مصر؛
ألنه أساسا لم ٌكن هناك انتماء دٌنً أو سٌاسً أو فً الدم أو التعلٌم إلخ بعٌدا عن مصر ،بل كله متمحور
حول مصر (كٌمة) ،ألن المصرٌٌن كانوا مصرٌٌن (كٌمتٌو) وفقط ،ال توصٌؾ آخر ٌخترقهم.
ومن الشواهد على هذا فً تارٌخ مصر الطوٌل القدٌم هو ما عرفناه وقتها باسم "األقواس التسعة" ،وهً
االسم الدال على أعداء مصر ،وجاء من أن كل عدو من أعداء مصر جسده الفنان المصري فً شكل قوس،
باعتبار أن األعداء فً أقدم الزمن كانوا ٌؽٌرون على مصر وٌهاجمونها من وراء الحدود برمً السهام،
واألقواس التسعة تعبر عن األقوام التً اعتبرها األجداد أنهم أعداء مصر ،وهً لٌست بالضرورة 9
بالتمام ،بل ٌضاؾ إلٌها إذا استجد أعداء ،والثابت أنها تتوزع ما بٌن أقوام وقبابل تؤتً من الحدود الجنوبٌة
(الكوشٌون أي أقوام السودان والحبش وما جاورهم من زنوج) ،وأقوام وقبابل تؤتً من الحدود الؽربٌة (مثل
التحنو والتمحو واللٌبو) ،وأقوام وقبابل تؤتً من الحدود الشرقٌة (مثل الشاسو والعامو) وهم فً الشام
وشمال الجزٌرة العربٌة ،وظل األعداء ٌهاجمون مصر من هذه الحدود الثبلثة طوال تارٌخ مصر القدٌم،
حتى هبَّت أمواج البحر األبٌض المتوسط بؤقوام وقبابل تهدؾ لؽزو مصر من الحدود الشمالٌة فً األسرة
ٕٓ (تسموا بقبابل شعوب البحر ألنهم قادمون من جزر البحر األبٌض وما وراءها كاألناضول) ،وبذلك
استحكمت دابرة العداء حول مصر من الحدود األربعة.
-ٗ8كلمة خالسً ٌقال :ولد خِالسًُ :ولد بٌن أبوٌن أبٌض وأسود ،ودجاج خالسً تو َّلد بٌن دجاج هندي وفارسً (المعجم الوسٌط) أي الخلٌط أو
الهجٌن ،هذا المعنى الحرفً لؽوٌا ،ومنه معنى عام وهو ذلك الذي تتعدد فً صدره وعروقه االنتماءات الختالط الدم واألنساب أو اختالط الثقافات
والوالءات ،وفً اللؽة المصرٌة الدارجة ٌطلق على هذا النوع كلمة "بزرمٌط".
ٖ٘
أمثلة من النقوش المصرٌة لؤلقوام المدرجٌن تحت مسمى أعداء (األقواس التسعة) وهم الكوشٌٌن ؼزاة الجنوب والقبابل الؽازٌة من الؽرب والؽازٌة
من الشرق (الصور الستة األولى وهً فً المتحؾ المصري) ثم انضم لهم القبابل القادمة من البحر شماال (الصورة األخٌرة على ٌمٌن الناظر وهً
من معبد هابو)
وثبت تصنٌؾ المصرٌٌن لهإالء األعداء بؤنهم أعداء منذ أقدم معارك نعرؾ أنهم خاضوها ضد الؽزاة (مثل
المعارك المنقوشة على سكٌن جبل العركً قبل عصر مٌنا) وحتى سقوط مصر فً االحتبلالت المتوالٌة
التً لم تنت ِه إال فً ٕ٘ ،ٔ9فلماذا ظل الثبات المصري على تصنٌؾ األعداء مهما تؽٌر الحكام واألجٌال؟
ظل هذا التصنٌؾ ثابت ألن االنتماء المصري ظل ثابتا طول تلك األزمنة قبل االحتبلالت ،وهو أنه لمصر
وحدها ،ال ٌشاركه فٌها أي بلد أو شعب آخر ،وعلى هذا فإن العدو لٌس هو الذي ٌنتمً إلى جنس معٌن ،أو
دٌن معٌن ،أو لؽة معٌنة ،ولكن العدو فً عقٌدة مصر وجٌشها وشعبها عموما هو "من طمع واعتدى" ،أٌا
كان لونه أو جنسه أو دٌنه أو لؽته أو بلده ،وجار كان أم بعٌد ،مدام قد "طمع أواعتدى"
رسم األجداد الشعوب المعتدٌة على الصنادل و رسموها على مسند القدمٌن عند الجلوس على الكرسً الستمرار تذكر األعداء ،وربما من هنا جاءت
الكلمة التً نقولها "فبلن تحت جزمتً" (الصندل من مقبرة حوي باألقصر ،والكرسً والمسند من مجموعة توت عنخ آمون بالمتحؾ المصري)
وعلى هذا سنرى فً الصفحات القادمة خبلل تتبع المعارك المصرٌة أن طوال أزمنة الحكم المصري القدٌم
ظل الجٌش ٌحارب على الحدود الثبلثة ،ثم على الحدود األربعة ،وفً نفس الوقت لم تكن العبلقة مع
الجٌران أو األباعد عبلقة حرب دابمة ،فهم من القدٌم ساروا على درب "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها" ،فإن
اقتصرت الشعوب األخرى فً عبلقتها مع مصر على التجارة والعبلقات السٌاسٌة الطبٌعٌة كانت مصر نعم
ٖٙ
الصدٌق لهإالء ،وإن لم ٌكونوا هم نعم الصدٌق لها دابما ،وإنما ٌستؽلون اطمبنانها إلى ما ٌظهرونه من
سبلم وصداقة لبلستعداد لبلنقضاض على مصر وهً فً حاالت استرخاء من جدٌد ..وما أبشعه حٌنها من
هجوم ،خاصة حٌن ٌؤتٌها من الداخل ،على أٌدي من فتحت لهم أبوابها لبلستٌطان تجارا والجبٌن
ومهاجرٌن وأزواج وزوجات حتى تكتلوا وتمكنوا ،ثم انقضوا ،كما حصل فً نهاٌات األسرة ٙواألسرة
ٖٔ واألسرة ٕٓ.
أما إذا عدنا لبلندهاش حول لماذا إذن "انكسر" هذا الثابت المصري ،وتحول المصرٌون -خاصة المتعلمٌن،
وبما فٌهم الرإساء والوزراء ورجال الجٌش والداخلٌة والتعلٌم واإلعبلم واالقتصاد واألزهر والكنٌسة
ونواب البرلمان -إلى انتماءات ،كؤنهم هم أنفسهم تحولوا إلى قبابل وأقوام ولٌسوا شعب واحد ،وهذه هً
النكبة الكبرى فً مسٌرتهم ،فهذا هو ما ٌحاول هذا الكتاب اإلجابة علٌه ..قبل أن تذوق مصر من جراء هذه
النكبة ما لم تذقه فً احتبلالتها السابقة جمٌعا ...اإلبادة التامة لمصر شعبا ودولة.
ٖ7
كٌؾ أبنً قواعد المجد وحـدي وقــؾ الخلــق ٌنظـرون جمٌعــا
(ٔ)
-حافظ إبراهٌم األعمال الكاملة ،قصٌدة مصر تتحدث عن نفسها ،مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة ،القاهرة ،ص ٕٕٔ
المشهد ٖ :الوالدة الجدٌدة
(الدولة القدٌمة)
العصر العتٌق صفة ٌطلقها علماء اآلثار على األسرتٌن ٔ وٕ من األسرات الحاكمة ،وفٌه ترسخت أكثر
دعابم نظام الحكم المركزي ونظام الدولة المصرٌة كامل األركان ،أرضا وشعبا وحكومة وعقٌدة وحضارة،
ونضجت ،وبدت فٌه متؤلألة كالعروسة أو كالبدر فً السماء الظلماء.
وتبدأ األسرة األولى بمإسسها العظٌم نعرمر الشهٌر بـ"مٌنا" وهو لقب ٌعنً الثابت والخالد؛ ما ٌدل على
اعتزاز األجداد به وبدوره فً تارٌخهم.
وٌُستدل على هذا بكتابة اسمه فً سجبلت األجداد الخالدٌن المكتوبة فً عصور الحقة له ،مثل "قابمة
أبٌدوس" فً عهد سٌتً األول وقابمة "بردٌة تورٌن" فً عهد رمسٌس الثانً ،وهما جاءا بعده بمبات
السنٌن ،وتحتوى على أسماء الحكام الذٌن سبقوه ،ووضعوه فٌها فً موضع مكرم.
ومن أشهر آثار عصر مٌنا صبلٌته الشهٌرة التً تزٌن المتحؾ المصري ،وأهمٌتها أنها أول تجسٌد
لحاكم مصر وهو ٌرتدي تاج الوجهٌن القبلً والبحري ،وأهمٌتها فٌما ٌخص موضوع الكتاب أنها تكشؾ
معارك تبدو ضخمة بٌن مصر وؼزاة هددوا أرض مصر ووحدانٌتها بعد أن تسربوا إلٌها واستوطنوها.
وقد ال تنحصر الصبلٌة فً معارك بٌن وجه قبلً ووجه بحري فً سبٌل التوحٌد كما ٌقول البعض ،فقد
وصؾ سٌرٌل ألدرٌد الشخصٌن المهزومٌن فً أسفل الوجه األول للصبلٌة بؤنهما اثنٌن من اآلسٌوٌٌن،
والشخص الذي ٌطؤ الثور ذراعه الٌمنى بؤنه "ربما كان من اللٌبٌٌن"(ٔ) ،وفً هذا إشارة إلى أن هإالء
لٌسوا من المصرٌٌن سكان الوجه البحري ،ولكن ؼزاة متسللٌن من الشرق والؽرب ،بدلٌل شكلهم المختلؾ
واللحٌة ؼٌر المصرٌة.
كما رأى أن اللوحة (الصبلٌة) تمثل انتصار التجسٌد الحً لحاكم مصر على قوى الشر والعدوان،
وسواء ظهر الحاكم فً صورة رجل أو صقر أو ثور فإنا نراه ٌقوم بإخضاع الؽزاة من اآلسٌوٌٌن أو
اللٌبٌٌن المجاورٌن لمصر ،ونشر الدكتور على رضوان ،العمٌد األسبق لكلٌة اآلثار بجامعة القاهرة ،آراء
بؤن منظر دك الحصن هو "بسط النفوذ على جماعات البدو عند حدود مصر الشمالٌة الشرقٌة"(ٕ).
(ٔ)
-الفن المصري االقدٌم :سٌرٌل ألدرٌد ،ترجمة أحمد زهٌر ،وزارة الثقافة ،هٌبة اآلثار المصرٌة ،ص ٘٘
(ٕ)
-تارٌخ الفن فً العالم القدٌم ،علً رضوان ،دار شركة الحرٌري ،طٕ ،ٕٓٓٗ ،ص ٗٙ
صبلٌة نعارمر وجه وظهر (المتحؾ المصري)
وأشهر حكام العصر بعد مٌنا :حور عحا ،جر ،دن ،عجٌب ،واجً ،قاعا ،خع سخموي.
االستقرار والبناء الضخم للدولة لم ٌسلم -كالعادة -من تهدٌدات أعدابها فً الشرق والؽرب ،بل كان
ٌخطؾ برٌقه ألباب وأنظار المحٌطٌن بمصر ،فٌضعون الخطة تلو األخرى للسٌطرة على هذا البلد المهٌب،
أو على األقل الحصول على بعض خٌراته واالستمتاع ببعض ما ٌستمتع به.
فتبدأ القباٌل بالتسلل إلى حواؾ الدلتا الشرقٌة والؽربٌة على حٌن ؼفلة من أهلها ،واشتبكت معهم القوات
المصرٌة فً عدة معارك زمن الملكٌن "بر إبسن" و"خع سخم" فً نهاٌة األسرة األولى.
وحدث فً عهد الملك "نً نثر" السابق لعهد "بر إبسن" أن هاجمت قبابل قادمة من لٌبٌا الوجه البحري
واحتلوه عنوة ،وانفصلوا به عن الوجه القبلً ،فلما أعقبه "بر إبسن" لم ٌحكم ؼٌر الوجه القبلً ،ولكنه
اعتزم الكفاح ،وتسمى باسم "سخم إب" ،أي الجسور ،وتلقب بلقب ٌعطً معنى "الذي خرج للحق" أو
"انبعث النظام" ،ولكنه لم ٌنته فً كفاحه إلى شًء(ٖ).
فخلفه "خع سخم" الذي هاجم أراضً الدلتا وقاتل الؽزاة المسٌطرٌن علٌها قتاال عنٌفا حتى انتصر علٌهم
فً نهاٌة عهده(ٗ) ،وهكذا ٌتضح أنه فً أقدم العصور كان ٌؤتً من الؽرب أكثر الؽزاة لمصر ،وتسلبل ،ثم
بعد التمكٌن ٌرفعون السبلح.
وسجلت بطاقة من عهد "دن" من األسرة األولى ،أخبار نصره على أهل الشرق ألول مرة ،كما قال
(ٖ)
-الشرق األدنى القدٌم (الجزء األول مصر والعراق) ،عبد العزٌز صالح ،مكتبة األنجلو ،طٕ منقحة ،ص 99
(ٗ)
-انظر نفس المرجع
ٓٗ
كاتبها ،و سجلت بطاقات من عهد ولده "عنجإب" نشاطا مماثبل ضد قوم أطلقت علٌهم اسم "اإلونتٌو" ربما
بمعنى "أصحاب العمد ،وٌؽلب على الظن أنهم من األقوام الشرقٌٌن الذٌن أشارت إلٌهم بطاقة أبٌه ،أي من
بدو الصحراء الشرقٌة وبدو سٌنا ،وربما ما ورابها أٌضا(٘) .وما ورابها ٌعنً الشام وشمال الجزٌرة العربٌة
التً تفد منها القباٌل لسٌناء.
وذهب الباحثون De Rouge, R.Weill, and Y. yadinإلى أن مصر لها حصون وعملٌات
دفاعٌة فً المناطق األسٌوٌة منذ عهد نعرمر (مٌنا) ،وأٌام خلفابه "جر" و"دن" ،واستدلوا على نشاطها
هناك من صورة حصن نقشت على صبلٌة مٌنا ،ومن ذكر حصن ٌدعى "باب عن" وآخر ٌدعى "ونة" فً
جنوب فلسطٌن على آثار العصر نفسه(.)ٙ
وأشار علً رضوان إلى منطقة "عٌن بصور" ،جنوب فلسطٌن ،وفٌها وجد علماء آثار مبنً من الطوب
اللبن فٌه أكثر من ٓ 9قطعة علٌها أختام لحكام مصر فً األسرة األولً ,اعتبارا من الملك "جر" ،مع
كمٌات من الفخار المصري ،وتشٌر االختام إلً أن موظفٌن مصرٌٌن لهم إقامة متواصلة فً المبنً الذي
وصفه العالم األمرٌكً آالن شومان بؤنه نقطة مراقبة حدود مصرٌة للتفتٌش( ،)9وهو ما ٌإشر لحدود مصر
فً ذلك العصر عند رفح.
وانقضى عصر بداٌة األسرات بعد امتداده ٓٓ٘ سنة حافلة بالبناء والمعارك ،بعد انتقال الحكم من
أسرته الثانٌة إلى فرع حاكم جدٌد ٌتصل بها برابطة الدم والنسب ،مكونا األسرة الثالثة.
وظلت سٌرة حكامه عطرة خالدة ،تتناقلها األجٌال فً معظم التارٌخ المصري القدٌم ،فكانوا فً حكاٌاتهم
ٌردون إلٌه أصول بعض معارفهم وعلومهم القدٌمة ،فتضمنت بردٌة طبٌة من الدولة الحدٌثة فصبل ردته
إلى عهد الملك "دن"( ،)8وذكر المإرخ مانٌتون (فً القرن الثانً قبل المٌبلد) أن الملك "جر" ،ألؾ كتابا
فً التشرٌح ،وذكر المإرخ دٌودور الصقلً (فً القرن األول قبل المٌبلد) أن الكهان أخبروه بؤن مٌنا أول
من علم الناس أسلوب الحٌاة المهذبة وطقوس العبادة ،وأرشدهم إلى فوابد البشنٌن ]زهرة اللوتس[ وكٌؾ
ٌصنعون الخبز منه(.)9
(٘)
-نفس المرجع ،ص 89
()ٙ
-نفس المرجع ص 88
()9
" -ســـــٌناء تراب وتراث مصر مــــنذ األزل ٔ" ،علً رضوان ،صحٌفة األهرام ،العدد ٖ٘ٓٗٗ ،تارٌخ ٕٓٓ8- ٖ -ٕٙ
()8
-الشرق األدنى القدٌم ،عبد العزٌز صالح ،مرجع سابق ،ص 89
()9
-نفس المرجع
ٔٗ
بعض أبرز وجوه المصرٌٌن حاكمٌن ومحكومٌن حتى األسرة ،ٙوٌظهر فٌهم الكمال الفنً فً إظهار التجانس والتناؼم وإخراج المشاعر من نظرات
تؤمل أو سعادة أأو كبرٌاء أو أسى أو تحدي ،وهً نفس وشوش وتعبٌرات معظم المصرٌٌن حتى اآلن
األسرة الثالثة أسسها "نب كا" ،أي سٌد الروح أو روح السٌد ،قفزة مدهشة فً تارٌخ مصر الحضاري،
ففٌها انتقلت من بناء أبنٌة اآلخرة (المعابد والمقابر) من الطوب اللبن إلى البناء بالحجر ،بكل ما ٌتضمنه من
دالالت على التطور فً علوم الهندسة والفلك وشق الطرق بٌن المحاجر والعمران والنحت وحسن إدارة
أعداد كبٌرة من العمال الذي كانت تتطلبه هذه األبنٌة والصناعات والفنون المرتبطة بها.
واستهلت هذه األسرة العرٌقة بناء األهرام حتى عُرفت الدولة القدٌمة بؤنها "عصر بناة األهرام" ،ومنها:
هرم زوسر ،هرما سنفرو ،أهرام خوفو وخفرع ومنكاورع ،هرم ونٌس ،هرم تٌتً ،هرم بٌبً األول.
وتؤلأل هذا العصر بنجوم عمالقة الفن والطب والهندسة والعمارة والسٌاسة واإلدارة واألدب والحكمة،
مثل الطبٌب والمهندس إٌمحوتب وزٌر "زوسر" والمشرؾ على بناء هرمه الشهٌر ،وحسً رع طبٌب
األسنان ،وحم إٌونو المشرؾ على بناء هرم خوفو ،وبتاح حتب أحد أشهر الحكماء المعلمٌن(ٓٔ) ،إضافة إلى
حكامه األشهر مثل زوسر وخوفو وخفرع ومنكاورع وونٌس وتٌتً وجد كا رع إسٌسً.
ومن أشهر إنجازات الدولة القدٌمة بجانب ما سبق ،انتشار الكتابة ،والنحت على جدران األبنٌة مثل
األهرام والمقابر بعد أن كانت خالٌة منها فً السابق؛ ما ٌدل على تقدم فنون الكتابة والنقش ،وتنظٌم القضاء
(ٓٔ)
-مزٌد عن أحداث وإنجازات الدولة القدٌمة انظر "مصر الفرعونٌة" ،أحمد فخري ،الهٌبة العامة للكتاب ،مشروع "مكتبة األسرة" القاهرة،
ٕٕٔٓ ،من ص ٖٕٖٔ -9
ٕٗ
والمحاكم ،ونضج التقوٌم الشمسً الذي قسم السنة إلى ٌ٘ ٖٙوما تتكون من ٕٔ شهرا +شهر ٌتكون من ٘
أٌام مخصصة لبلحتفال بموالد حور (حورس) وإٌسه (إٌزٌس) وأوزٌر (أوزٌرٌس) وست ونبت حت
(نفتٌس) ،وكل شهر ٖٓ ٌوما ،والشهر مقسم إلى ٖ أسابٌع ،كل أسبوع ٓٔ أٌام.
وتطورت الكتابة من اقتصارها على الخط المقدس "الهٌروؼلٌفً" المنحوت على الجدران إلى خط
المعامبلت الٌومٌة "الهٌراطٌقً" بعد زٌادة عدد السكان والمعامبلت الٌومٌة ،وهو اختصار عبلمات الخط
الهٌروؼلٌفً لتكون أبسط وٌسهل كتابتها ،والفرق بٌنهما ٌشبه الفرق بٌن الخط الكوفً المخصص للكتابة
المنمقة على جدران المساجد وخط الرقعة الخاص بالمعامبلت الٌومٌة.
وأخرج المصرٌون أشكاال بدٌعة من األثاث والحلً والمبلبس ،وارتقوا أكثر فً نحت التماثٌل من كل
صنوؾ األحجار وأشقها فً القطع والنحت ،ونطقت مبلمح وجهها بالمشاعر ،من فرح وحزن وهموم
وشموخ وتؤمل ونشاط وصرامة ووداعة ،ال ٌنقصها إال دبٌب الروح لتنطق ،مثل تماثٌل نفرت وزوجها رع
حتب من األسرة ٗ ،وتمثال الكاتب الشهٌر من األسرة ٘ بالمتحؾ المصري ،بخبلؾ اللوحات المرسومة،
كؤنها لوحات معاصرة ناطقة ومتحركة مثل لوحة أوز مٌدوم ورحبلت الصٌد.
وفً كل هذه األعمال اتسم الخٌال المصري باالعتدال والجد ،واعتمد على المنطق فً كل تعبٌراته الخبلقة(ٔٔ).
ولم ٌكن الهرم فً مصر مجرد بناء هو األضخم فً الدنٌا حٌنها ،ولكنه الرمز الذي ٌجسد التل األزلً،
أصل الحٌاة السلٌمة ،وكل ما حوته حضارة مصر من روح دٌنٌة راقٌة وعلوم هندسٌة وفلكٌة ومعمارٌة
وكفاءة إدارٌة وقوة أمنٌة وحربٌة ،علت مصر بها القمة ،كما أن هرمها رمز للمركزٌة المصرٌة التً تحكم
العابلة وتحكم الدولة وتصون وحدانٌة مصر أرضا وروحا وشعبا فً سبٌكة واحدة ،ولوالها ما خرجت هذه
الحضارة بهذه الصورة الفرٌدة.
وفً هذا ٌقول هنري برٌستٌدٌ" :جب علٌنا أال ننظر للهرم من وجهة ضخامة بنابه ،بل علٌنا أٌضا أن
نتخذه مثبل ظاهرا النتقال القطر من الوحشٌة إلى النظام والمدنٌة ،ولوجود حكومة مركزٌة قوٌة تسوس
الببلد فً نظام دقٌق تحت إدارة شخص واحد(ٕٔ)" .وإن كان الشخص الواحد رمز المركزٌة لكن سلطاته
مجسدة فً الحكومة ككل.
(ٔٔ)
-الحضارة المصرٌة من عصور ما قبل التارٌخ حتى نهاٌة الدولة القدٌمة :سٌرٌل ألدرٌد ،مترجم ،مرجع سابق ،ص ٙ9
(ٕٔ)
-الشرطة واألمن الداخلً فً مصر القدٌمة ،بهاء الدٌن إبراهٌم ،هٌبة اآلثار المصرٌة ،مشروع المابة كتاب ،ص ٖٕ
ٖٗ
الهرم ..رمز االنتقال من الفوضى والوحشٌة إلى النظام والحضارة
▲▲▲ معارك بناة األهرام مع الهكسوس وعالقاتهم الخارجٌة
رؼم المحاوالت الدابمة من القباٌل والشعوب المحٌطة لؽزو مصر ،إال أن الدولة المصرٌة لم تقطع
وزع أرزاقه ،وجعل فً كل بلد عبلقاتها نهابٌا بهم ،فاهلل كتب على الشعوب التعارؾ والتبادل التجاري حٌن َّ
ما لٌس فً اآلخر من المنتجات ،فن َّشطت الدولة القدٌمة عبلقاتها الخارجٌة لتصدٌر البضاٌع المصرٌة
الفرٌدة واستٌراد بضاٌع أجنبٌة ،ولم ٌكن فً هذا ضٌر طالما كانت الدولة تقوم بذلك دون إسراؾ فً
االستٌراد ،ودون أن تؽفل عن مطامع الببلد المحٌطة ،ودون أن تفتح حدودها لتوطٌن قبابل وشعوب هذه الببلد
وعواٌدهم المعادٌة لـ"ماعت" ،وهو ما حرصت علٌه مصر معظم عصر الدولة القدٌمة ،حافظة العهد ،ثم ؼفلت
عنه فً الـ ٓٓٔ سنة األخٌرة منها ،فكان السقوط القاسً والمدوي فً األسرة .ٙ
ففً عهد سنفرو ،ظهر تقدم واضح فً المبلحة والتجارة الخارجٌة ،خاصة مع فٌنٌقٌا (لبنان) ،وظهر فً
حولٌات سنفرو فً قاٌمة "بالرمو"(ٖٔ) ورود ٓٗ سفٌنة منها محملة بؤخشاب(ٗٔ) األرز.
وظهر اسم ابنه خوفو على آثار معبد فً جبٌل بلبنان ما ٌشٌر لوجود عبلقات مصرٌة لبنانٌة ،وظهرت
واحدة من أقدم رحبلت مصر إلى ببلد بونت فً أفرٌقٌا فً األسرة ٘ أٌام ساحورع(٘ٔ).
أما عن المعارك مع الؽزاة ،فكانت مفتوحة على كل الجبهات ،فسجلت حولٌات سنفرو نشاطا حربٌا على
الحدود الشرقٌة والجنوبٌة والؽربٌة ،لتؤدٌب العصاة ،ورد القباٌل الؽزاة ،فسجل المصرٌون على صخور
سٌناء فً وادي المؽارة نقوشا لسنفرو ٌضرب بمقمعته رأس زعماء القباٌل الؽازٌة ،ووصفته األجٌال التالٌة
بؤنه أعظم حماة سٌناء ،واسمها القدٌم "تا مفكات" ،أي أرض الفٌروز ،نفس االسم الذي نصفه به الٌوم،
(ٖٔ)
-حجر بالرمو منقوش فً عصر األسرة ٌ٘ ،شمل قاٌمة بؤسامً حكام مصر منذ ما قبل األسرات وحتى األسرة الخامسة ،ونبذة عن إنجازاتهم،
وفٌه إشارة لملوك ٌرتدون التاج المزدوج قبل مٌنا ،وضاعت معظم أجزابه ،واألجزاء الباقٌة موزعة على متاحؾ القاهرة ولندن وبالرمو فً صقلٌة.
انظر "مصر الفرعونٌة" ،أحمد فخري ،مرجع سابق ،ص ٕ٘
(ٗٔ)
-الشرق األدنى القدٌم ،مرجع سابق ،ص ٔٓٔ
(٘ٔ)
-انظر نفس المرجع ،ص ٘ٓٔ و ٕ٘ٔ
ٗٗ
وظلت نقاط حراسة على الحدود الشرقٌة تحمل اسم سنفرو لمبات السنٌن(.)ٔٙ
وفً األسرة ٘ استمرت حمبلت القوات المصرٌة فً جبهة الشرق لصد ؼزو القباٌل لسٌناء ،وفً عهد
ساحورع بالذات حصل نشاط حربً ضد فرٌق من عصاة القباٌل فً جبهة الحدود الؽربٌة ،وصورت
جدران معبده زعماء هذه القباٌل وزوجاتهم وأوالدهم فً هٌبة المستسلمٌن لسطوته(.)ٔ9
ومن أشهر وأكبر معارك مصر لصد الؽزاة فً ذلك الزمان الحمبلت الحربٌة اللً قادها إلى أرض
كنعان القابد الشهٌر "ونً" فً أول األسرة ،ٙوسببها أنه توافد على كنعان أٌام الملك ببً األول ،أو قبله،
هجرات متقطعة سماها المصرٌون باسم "عامو حري شوشع" ،بمعنى بدو الرمالٌ ،حتمل أنها فرع من
الهجرات األمورٌة بالشام ،هددت طرق التجارة ،وحاولت أن تثٌر االضطرابات وتعبر الحدود لمصر ،فعهد
"ببً" إلى "ونً" بحماٌة تجارة مصر وحدودها(.)ٔ8
وبالفعل ،خرج "ونً" فً ٘ حمبلت ٗ ،عن طرٌق البر والخامسة عن طرٌق البر والبحر ،فحصر
العدو بٌن فكً كماشة ،وتكللت حمبلته كلها بالنجاح بحسب ما سجله عنها( ،)ٔ9والنجاح األعظم لرجال هذه
الفترة هو تنبههم لمخاطر الهجرات والؽزاة قبل أن ٌتعدوا الحدود إلى داخل مصر.
وكلمة "عامو" أطلقها األجداد على جماعات تسكن الشام ،وٌترجمها البعض إلى "اآلسٌوٌٌن"،
والهجرات األمورٌة هً نفس الهجرات التً تراكمت واستوطنت الشام ،وزحفت مع جماعات أخرى إلى
مصر بطرٌق السرسبة والدحلبة فً وقت الحق ،وعرفناهم باسم الهكسوس.
ومن آداب الجندٌة المصرٌة اللً خلَّدها "ونً" فً تسجٌل الحمبلت ،وهً نابعة من القٌم المصرٌة
"ماعت" ،وتظهر الفارق بٌن جٌش وظٌفته حماٌة بلده وبٌن شعوب وقباٌل ؼازٌة تعٌش بالسطو على ببلد
ؼٌرها أنه "نظم مسٌرة الجنود على خٌر وجه ،وترتب على حكمته فً رسم خطته أنه لم ٌحدث أن تنازع
جندي مع زمٌله ،أو اؼتصب جندي كسرة خبز من عابر سبٌل ،أو اؼتصب نعله ،ولم ٌحدث أن نهب أحد
جنوده خرقة من قرٌة ،أو سلب عنزة من عشٌرة ،حتى جاوز بجٌشه مناطق الحدود الشمالٌة الشرقٌة ،أو
جاوز الجزٌرة الشمالٌة وبوابة إٌمحوتب ،وساقة حور نب ماعت (أحد ألقاب سنفرو)(ٕٓ).
وبعد رجوع "ونً" بالجٌش ونجاح حمبلته كتب فً تقرٌره للملك "ببً" عن نتابجها ما ٌشبه القصٌدة،
تبدأ فً كل سطر بكلمة "عاد الجٌش سالما ،فٌنشد فرحا" :عاد الجٌش سالما ،...بعد أن فعل كذا وكذا...عاد
الجٌش سالما بعد أن دمر أرض أهل الرمال ،...عاد سالما بعد أن أسقط حصونهم"(ٕٔ).
()ٔٙ
-للمزٌد عن األنشطة االقتصادٌة والحربٌة فً سٌناء ،وأسماءها المصرٌة وآثارها منذ أقدم العصور المصرٌة وحتى نهاٌة الدولة الحدٌثة انظر:
مواقع اآلثار المصرٌة القدٌمة -الجزء األول" ،عبد الحلٌم نور الدٌن ،ط ،8الخلٌج العربً للطباعة والنشر ،ص ٔٗ8ٗ -ٗ9
()ٔ9
-انظر :الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٕٔ8
()ٔ8
-نفس المرجع ،ص ٖٗٔ
()ٔ9
-نفس المرجع
(ٕٓ)
-نفس المرجع ،ص ٖٖٗٔٔ٘ -
(ٕٔ)
-نفس المرجع ،ص ٖ٘ٔ
٘ٗ
لكن ٌبدو أن سكرة هذه االنتصارات وتلك القوة ألقت بساتر أسود من الؽفلة على أعٌن الحاكم ورجال
السكرة والتراخً بعد كل انتصار ،والتوهم
الدولة وقٌادات الجٌش ..وهذا عٌب آخر من "عٌوب مصر"َ ..
بؤنه خبلص "األمن بقى مستتب" ،و"كله تحت السٌطرة".
فاألحداث التالٌة تكشؾ أنهم نسوا كٌؾ تسلل األجانب فً العصر العتٌق (األسرتان ٔ وٕ) من الحدود
الؽربٌة والشرقٌة ،واستوطنوا حواؾ سٌناء والدلتا ،وتسللوا إلى الداخل ،واحتلوا مساحات من الوجه
البحري بعد التؤكد من دبٌب الضعؾ والتراخً فً مصر حٌن تطمبن للؽد ولما حولها.
واطمبن المصرٌون إلى بعض القباٌل القادمة من نواحً لٌبٌا ؼربا وكوش جنوبا الذٌن سمحوا لهم -وفق ما
ورد فً تقرٌر "ونً" -باالشتراك فً معارك الجٌش بكنعان(ٕٕ) ،لسبب ؼٌر واضح ،حتى أصبح هإالء من أشد
معاول الخراب التً أسقطت هٌلمان الدولة القدٌمة بعد أن عرفوا أسرار الببلد ودروبها واختراق مإسساتها.
وربما كان هإالء الؽرباء ممن تسللوا فً عهود سابقة فً أطراؾ المحافظات مثل أسوان وؼرب الدلتا
والواحات ألسباب تخص هروبهم من الحروب والمجاعات فً ببلدهم فدخلوا مصر بصفة "الجبٌن" ،أو
كتجار أو كطالبً رزق وعمل ،أو كحراس ألبواب الحدود لكونهم أدرى بشعاب الصحاري ومداخل الحدود
لخلفٌتهم ال َقبلٌة ،وادعوا أنهم تمصروا ،فاطمبنت لهم الدولة ،فكانت الطامة الكبرى ..وانشرخ الهٌلمان.
(ٕٕ)
-انظر :المرجع السابق ،ص ٖ٘ٔ
ٗٙ
"لٌتنً رفعت صوتً فً ذلك الوقت حتى كنت أنقذ نفسً من األلم الذي أنا فٌه اآلن ،فالوٌل لً ،ألن
البإس ع َّم فً هذا الزمان"(ٔ)
(ٔ) -الحكٌم "إٌبو ور" الب ًما نفسه على سكوته وهو ٌرى األجانب ٌستوطنون بالده والفساد ٌعم دون أن ٌحذر شبعه ،انظر :الحكم واألمثال
والنصابح عند المصرٌٌن القدماء ،محرم كمال ،األلؾ كتاب الثانً ،ط ٕ ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرة ،ٔ998 ،صٔٔ
المشهد ٗ :سقوط الدولة المركزٌة (الزفتة األولى)
ٕٕٓٓ ٔ99ٔ-ق.م
العقاب الشنٌع
سمَّى أجدادنا الحق والنظام واألصول الصحٌحة لحٌاتهم ومبادبهم وشرٌعتهم بكلمة "ماعت" ،والتً
باتباعها تعٌش مصر حٌاة سلٌمة مطمبنة هنٌة ،وقالوا إنهم من أنزلها إلى مصر هو رع.
وٌصفها علماء المصرٌات األجانب بؤنها (النظام ،والحق ،والصدق ،والعدالة ،وحفظ التوازن الكونً
والبٌبً)(ٔ) ،فٌما اختصرها علماء مصرٌون بتعبٌر مصري بلٌػ هو "األصول" ،و"دستور المصرٌٌن".
أي األصول التً تؤسست علٌها مصر فٌما ٌخص عبلقتها باإلله خالقها وبالدولة ،وتناسبها فً نظام
الحكم المركزي واالقتصاد والعمارة والعادات والتقالٌد والعبلقات األسرٌة واألخبلق وعبلقة المصرٌٌن
ببلدهم وببعضهم وباألجانب وبالكون كله ،بل وترسم هدؾ المصرٌٌن من الحٌاة نفسها.
ٌقول أحد أعمدة علم المصرٌات فً العالم د.علً رضوان(ٕ) إن "ماعت" بالنسبة للمصرٌٌن هً
"ناموس الحٌاة" ،أي قانونها ودستورها ،الذي وضعه "رع" لٌكون فٌه خٌر البشر والكون ،وببساطة هً
"اتباع السلوك السلٌم ،والنهج القوٌم ،والخلق الكرٌم".
وتحدثت نصوص األهرام ((٘ Pyr.ٔ99عن فضل إشاعة "ماعت" فً الكون ،فنسمعها تقول" :إن السماء
تكون فً سبلم ،واألرض تكون فً سرور ،ذلك أنه قد أُشٌع أن الملك سوؾ ٌضع "الماعت" لتحل محل
(الباطل)"(ٖ) ،وفً نص إصبلحات توت عنخ آمون ورد" :لقد أزاح الفوضى عن األرضٌن (الوجهٌن القبلً
والبحري) حتى تكون ماعت هً الباقٌة(ٗ)" ،فهدؾ حٌاة المصرٌٌن هو إقامة "ماعت".
وألنها األصول الؽٌر قابلة للتؽٌٌر مهما تبدلت األحوال والعصور ،قال عنها الحكٌم "بتاح حتب"" :إنها
ال تتؽٌر وال تتبدل منذ زمن الذي أوجدها" ،أي منذ الزمن الذي كان ٌحكم فٌه رع األرض مباشرة قبل أن
ٌخلق البشر لٌكونوا خلفاء له فً حكمها ،وأوصاهم بتنفٌذ شرٌعته فً األرض "ماعت".
وجاء فً نصوص األهرام ٘ Pyr, ٕٙعن الحاكم الصالح أنه "الذي ٌضع الماعت فً مكان الباطل"،
أي بدل الباطل(٘).
(ٔ)
-المزٌد عن "ماعت" طالع كتاب ماعت فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة ،أ َّنا مانسٌنً ،مرجع سابق
(ٕ)
-انظر تقدٌم علً رضوان لكتاب "الماعت ..فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة" ،مرجع سابق ،ص ٕٔٔ٘-
(ٖ)
-نفس المرجع
(ٗ)
-نفس المرجع
(٘)
-نفس المرجع
وٌنبه بتاح حتب إلى أن" :الذي ٌفعل الماعت فذلك الذي ٌكون بعٌدا عن الضبلل" ،وفً موضع آخر
ٌحذر من أنه "ٌحل العقاب دابما بالذي ٌتخطى قواعدها" ،أي ٌتعدى حدود الماعت(.)ٙ
وسجَّ ل الفبلح الفصٌح فً شكواه الثالثة إلى المسبول الحكومً" :إن صبلح األرض (مصر) ٌنحصر فً
تطبٌق الماعت"( ،)9أي الحق واألصول.
ومجلس ماعت (محكمة األرباب) هو الذي قضى بحق حور (حورس) فً عرش مصر خلفا ألبٌه
أوزٌر( )8بعد أن سٌطر علٌه "سٌت" فً أقدم قصة مصرٌة تحكً انتصار الحق على الباطل.
ولشرٌعة "ماعت" أكبر األثر فً تشكٌل شخصٌة المصرٌٌن ونفسٌتهم ،فانعكست على أعمالهم ،بل
وعلى وجوههم ،سواء الحقٌقٌة أو التماثٌل ،فتحب النظر فٌها ،ألنها تشعرك بالسماحة والسكٌنة والطمؤنٌنة
والحٌوٌة واألمل ،وترى فٌها حبلوة مهما كان حظ مبلمحها من الجمال.
وفً مقابل "ماعت" توجد الفوضى ،وهً تطفو بضٌاع الحق واألصول ،وتشتت الفكر ،وانهٌار األخبلق
والحكومة المركزٌة التً تحفظ وحدانٌة مصر ومبادبها ،وبفتح الحدود أمام الهجرات األجنبٌة القادمة
بهوٌات ومطامع وأرواح معاكسة لـ ماعت ،وسمى األجداد هذه الفوضى بـ "إزفت" ،وهً الكلمة التً ما
زلنا نستخدمها حتى الٌوم ،بنطقها "زفت" أو "زفتة" ،وتعنى الباطل والخراب والضٌاع والمذلة ،وهً الشر
الذي من أهداؾ حٌاة المصرٌٌن محاربته تقربا إلى اإلله.
ولم ٌترك لنا األجداد كتابا جامعا لقوانٌن ومبادئ "ماعت" ،أو ربما تركوا ولكن لم ٌعثر علٌه العلماء،
لكنهم تركوا مقتطفات تدل علٌها ،من نصابح وتعالٌم الحكماء فً التربٌة والسلوكٌات والمعامبلت مع اإلله
والناس والحٌوانات والنباتات والبٌبة والتجارة ،أو فً نظام حكم مصر نسبوها لـ"ماعت" ،وتعالٌم وأوامر
الحكام للوزراء عن الطرٌقة األحسن لمعاملة الناس ،وعن دور الحاكم فً األرض ونسبوها لـ"ماعت"
وتقالٌد مصر فً التعامل مع الشعوب األخرى خبلل أحداث التارٌخ فً السلم أو حٌن ؼزوا مصر ،والتً
استقوها أٌضا من "ماعت".
()ٙ
-نفس المرجع
()9
-نفس المرجع
()8
-نفس المرجع
ٗ9
ٖ -هدؾ حٌاة المصري نصرة اإلله الخالق على الشٌطان
ٗ -وظٌفة الحاكم تطبٌق "ماعت" باعتباره خلٌفة لئلله (صانع ماعت) فً حكم مصر
ٔٔ -الٌقظة الدابمة لبوابات حور (الحدود) وطرد المتسللٌن أوال بؤول
ٖٔ -منع استٌراد هوٌة من الخارج فً الفن والثقافة واالقتصاد والدٌن والحكم وحتى المظهر
ٗٔ -العبلقات مع الببلد األخرى فً حدود التعاون لتبادل التجارة والخبرات بما ٌحفظ مصلحة مصر ،ال
اندماج وال انصهار
ٓ٘
ٗ -الحاكم سلطته شكلٌة وال وصاٌة للدولة فً حفظ مبادئ وهوٌة المصرٌٌن
ٔٔ -التراخً فً حماٌة بوابات حور (الحدود) من تسلل األجانب ،وقبول توطٌنهم
-ٔ9التطرؾ فً كل أمر
هذه النقاط لم ترد نصا هكذا فً بردٌة واحدة ،ولكنها خبلصة ٌستشفها الباحثون فً النصوص المتعلقة
بـ ماعت ،و وصٌة حور (وصٌة العهد) السابق اإلشارة إلٌها ،واألوامر والنواهً فً وصاٌا الحكماء
واألجداد ،وفً الخطوات التً اتخذها األجداد وأدت لصعودهم ،وأٌضا التً اتخذوها وأدت لسقوطهم ،كذلك
من الدساتٌر ووثابق العمل السرٌة والمعلنة للتنظٌمات الدولٌة السرٌة التً ظهرت فً القرون األخٌرة
وأعلنت بوضوح خططها ووسابلها لنشر الفوضى "إزفت" والحروب فً العالم ،وكان لمصر من شرورها
وخططها نصٌب كبٌر كما سٌتضح فً فصول الحقة(ٓٔ).
()9
-كلمة "تدوٌل مصر" هدؾ حقٌقً ألعادي مصر فً القدٌم والحدٌث ،ووردت على لسانهم صرٌحة ،ومنهم وزٌر المستعمرات البرٌطانً ألفرد
ملنر وقت ثورة ٔ9ٔ9حٌن دعا لتحوٌل مصر إلى مصب وموطن للجالٌات األجنبٌة ،وتصطبػ كل مدٌنة فٌها بصبؽة أجنبٌة وٌكون لألجانب
السٌطرة ،وسنتابع هذا عند الحدٌث عن توطٌن الهجرات فً مصر خصوصا من االستٌطان اإلؼرٌقً ،مرورا باالحتالل اإلنجلٌزي ،وصوال لقوانٌن
التجنٌس والتوطٌن الحالٌة.
(ٓٔ)
-لمراجعة هذا انظر كؤمثلة :ماعت فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة ،مرجع سابق ،ماعت مصر الفرعونٌة وفكرة العدالة االجتماعٌةٌ ،ان
آسمان ،فجر الضمٌر ،جٌمس هنري برٌستٌد ،ترجمة سلٌم حسن ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،ٕٓٔٔ ،تارٌخ الشرق األدنى -مصر والعراق،
ٔ٘
▲▲▲ "كتالوج مصر"
تدور هذه األٌام ،خاصة بعد ثورة ٖٕٔٓ ،عبارة تقول إن من عبقرٌة مصر أن شعبها "مالوش كتالوج"،
أي ال ٌتوقع أحد كٌؾ سٌتصرؾ فً المصاعب التً تواجهه.
وللحق ،وللتارٌخ ..هذه عبارة خاطبة تماما ،بل مضللة -ولو عن ؼٌر قصد -فالشعب "اللً مالوش
كتالوج" هو شعب "مالوش أصول راسخة وال هوٌة" ،فبل مٌراث تارٌخً أودستور أخبلقً وفكري ٌسٌر
علٌه ،وشعب ؼٌر متجانس؛ لذا ٌصعب علٌه وعلى ؼٌره التنبإ بردود فعله ،وشعب كهذا عند األزمات
والمخاطر ٌتشتت وال ٌصمد ،وٌنهار كبٌت من الرمل مع خبطة أول موجة.
أما شعب مصر ،أقدم وأرسخ أهل األرض كشعب واحد له هوٌة ورسالة ،فإنه ابن أصول وطبع وهوٌة
واضحة كشمس رع(ٔٔ) ،والشعوب األخرى تعرفه ،أما من ال ٌتوقع ردود فعله فً بعض المواقؾ ،فهذا
جهل منه بطبٌعته وتارٌخه ،أو ظن أن الخطط التً وضعت لتدمٌر وإفساد المصرٌٌن فً العصور األخٌرة
أتت ثمارها ودمرته تماما.
فللمصرٌٌن ""كتالوج" ،بل ولهم "كتالوج للصعود والعمار" ،واضح جدا هو ،ماعت ،وآن األوان أن
ٌنتبهوا له ،فحٌنما ٌتبعونه ٌنجون من كل مكٌدة وتوهان ،ولهم "كتالوج للسقوط والدمار" واضح جدا ،هو
إزفت ،حٌنما ٌتبعونه ٌسقطون أشنع سقطة.
"إن الذي ٌفعل الماعت فذلك الذي ٌكون بعٌدا عن الضبلل"ٌ" ،حل العقاب دابما بالذي ٌتخطى
قواعدها"(ٕٔ).
وهنا ..نبدأ أمثلتنا الشاهدة على ذلك من تارٌخنا القدٌم وحتى اآلن ،التً ألجلها ٌخرج هذا الكتاب ،وفٌها
نختبر صحة أو خطؤ ما ورد فً المبادئ الـ ٔ9من "دستور عمار مصر" ،و"دستور سقوط مصر" ،أي
"أصول حٌاة المصرٌٌن" ،و"دستور الشٌطان".
فٌما ٌخص مكانة "ماعت" و"إزفت" فً العصر العتٌق والدولة القدٌمة ،فإنه على مدار ألؾ سنة (منذ
مٌنا حتى األسرة )ٙاتبعت مصر كما رأٌنا وصفة عمارها وهً "ماعت"؛ فقام بها نظام قومً ثابت
عبد العزٌز صالح ،مرجع سابق ،مصر الفرعونٌة ،أحمد فخري ،مرجع سابق ،الوعً السٌاسً عند قدماء المصرٌٌن ،فاٌز أنور عبد المطلب،
الهٌبة العامة للكتاب ،سلسلة تارٌخ المصرٌٌن ،أحجار على رقعة الشطرنج ولٌم جاي كار ،ترجمة سعٌد جزابرلً ،دار النفابس ،الماسونٌة
والماسون فً مصر ، ٔ9ٙٗ -ٔ798وابل إبراهٌم الدسوقً ،دار الكتب والوثابق القومٌة ،الشٌطان أمٌر العالم ،ولٌم جاي كار ،ترجمة عماد
إبراهٌم ،األهل ٌة للنشر والتوزٌع ،بروتوكوالت حكماء صهٌون ،فكتور ماسدون ،الحرٌة للنشر والتوزٌع ،القاهرة ،الفكر الفلسفً فً مصر القدٌمة،
د .مصطفى النشار ،الدار المصرٌة السعودٌة للنشر والتوزٌع ،طٔ.
(ٔٔ)
-شمس رع مقصود بها فً ثقافة األجداد أي "الشمس فً عز الضهر"ٌ ،عنً فً أقوى مراحلها وأكثرها ضٌا ًء وإشعاعا
(ٕٔ)
-انظر :تقدٌم علً رضوان لكتاب "الماعت ..فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة" ،مرجع سابق ،ص ٕٔٔ٘-
ٕ٘
األركانٌ ،مثله وٌحافظ علٌه الحاكم بصفته ناببا عن هللا فً تطبٌق "ماعت" على األرض(ٖٔ) ،وأثمرت
أعظم اإلنجازات التً ما زالت تبهر الدنٌا حتى الٌوم.
لكن ..نهاٌة األسرة ٙسقطت مصر فً واحدة من أشنع "الزفتات" فً تارٌخها .فكٌؾ تركت نفسها
لتسقط هكذا؟
❶ طاعون الالمركزٌة
بدأ انهٌار مصر تدرٌجٌا فً األسرة ( ٙالتً استمرت ٓ ٕٙعاما) باتباع حكامها وبعض مثقفٌها -ببل
وعً -وصفة الفوضى "إزفت"؛ فنهشتها الطواعٌن بكل وحشٌة وقسوة.
ففً ذلك العصر كثرت عطاٌا الحكام من األراضً لكبار رجال الدولة ،وبمرور الوقت تضخمت
الثروات فً أٌدٌهم ،وتكونت عاببلت ذات سطوة ،وفً نهاٌة األسرة اهتزت هٌبة الحاكم وقوة الحكومة
المركزٌة مع مطامع مراكز القوة الصاعدة -الموظفٌن الكبار والعاببلت الثرٌة -فً االستحواذ على نصٌب
من السلطة(ٗٔ) ،وصار لهم فعبل فً محافظاتهم سلطة وكلمة قوٌة فً اإلدارة تساوت مع سلطة حاكم الدولة،
بل وزادت علٌها فً النهاٌة ،وبالتدرٌج بسطوا نفوذهم على معابدها وضراٌبها.
ومع الزمن ،اعتبر بعض المحافظٌن أن المحافظات ( ُتسمى فً كتاب علماء اآلثار أقالٌم) حكرا خاصا
على عاببلتهم فً مناصبها وإدارتها ومالها ،حتى فً أمور القضاء ،ووصلوا لدرجة تورٌث المنصب
ألوالدهم بعد أن كان منصب المحافظ بالتعٌٌن من جانب الحكومة ،وامتنعوا عن إرسال الضراٌب وعابدات
الموارد للخزٌنة العامة بالعاصمة منؾ ،وعن إرسال الشباب للتجنٌد ،فانهار أعظم ما تم بناء مصر على
أساسه ،وهو الدولة المركزٌة الحازمة ونظامها الهرمً(٘ٔ).
وانعكس هذا على موظفً الدولة األصؽر ،ففً رسالة رد بها قابد صؽٌر على وزٌر عصره ،رفض
طلبا له بؤن ٌذهب مع فرقة من الجند ٌعملون فً طرة إلى العاصمة لتوزٌع الكساوي علٌهم فً احتفال
خاص ،وقال القابد للوزٌر إن هذا األمر ٌتطلب التضحٌة بـ ٙأٌام هو أحوج إلٌها ألداء ما أوكل إلٌه من
المهام ،أما توزٌع المبلبس على الجند فٌمكن أن ٌتم فً ٌوم واحد إن أرسلها الوزٌر إلى الجند فً مكانهم
مع رجال البرٌد(.)ٔٙ
و ؼٌر الواضح ما الذي دفع الحكام إلى الصمت أمام توسٌع صبلحٌات المحافظٌن وكبار األؼنٌاء فً إدارة
الدولة ،إال ما تكشفه آثار قلٌلة عن دخول العٌلة الحاكمة فً عبلقات نسب معهم وتزاوج السلطة والمال ،فمثبل
(ٖٔ)
-انظر :موسوعة مصر القدٌمة ،سلٌم حسن ،ج ،ٔ7الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،ص ٖٕ9
(ٗٔ)
-انظر :فجر الضمٌر ،جٌمس هنري برٌستٌد ،ترجمة سلٌم حسن ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،ص ٖ٘ٔ
(٘ٔ)
-خالل فوضى ٌناٌر ٕٔٔٓ ظهرت دعوات النتخاب المحافظٌن بدال من التعٌٌن وتوسٌع صالحٌاتهم بحجة الدٌمقراطٌة ،فٌما كانت أحزاب
أسسها رجال أعمال خصٌصا لالنتخابات وتنظٌم اإلخوان الدولً وعابالت معٌنة تتحفز القتناص منصب المحافظ ،ولو حدثت فعال انتخابات
للمحافظٌن لصارت محافظات مصر خالل ٓٔ سنوات مقسمة إقطاع للحزب الفالنً ،وإقطاع لرجل األعمال العالنً ،وأخرى لعابلة التالنً ،وتلك
لإلخوان ،إلخ ،وتؤخذ المحافظات صبؽات دٌنٌة وحزبٌة متصارعة ،وتنفلت عرى مصر تماما.
()ٔٙ
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٓٗٔ
ٖ٘
ورث ببً الثانً فً نهاٌة األسرة ٙالحكم عن أبٌه ببً األول وهو طفل ابن ٙسنٌن ،فصار الوصً علٌه
أمه وخاله ،وكان خاله من أسرة لها سلطة فً الوجه القبلً ،وأتاح صؽر سن ببً الثانً له إدارة شبون
الدولة ككل.
وش َّكل ضعؾ شخصٌة ببً الثانً عامبل إضافٌا لطمعهم فً مزٌد من السلطة ،وإلى جانب ذلك طال
حكم ببً الثانً إلى فترة مهولة 9ٓ ،سنة (مات وعمره حوالً 9ٙسنة) ،فلم تتوفر فرصة لظهور حاكم
قوي ٌزٌل آثار أخطاء سابقٌه قبل أن تستفحل(.)ٔ9
فلت الزمام من ٌد الحكومة المركزٌة ،حتى عجزت عن أن تفرض علً المحافظٌن تطهٌر قنوات الري
وصٌانتها لضمان توزٌع مٌاه الفٌضان وإدارة الزراعة بما ٌحمً الببلد من فترات الجفاؾ(.)ٔ8
واستفحل األمر باستعانة محافظٌن باألجانب الذٌن تسللوا واستوطنوا مصر فً عمل فرق قتالٌة تشتؽل
لصالحهم ،فعاثوا فً األرض فسادا فً األرض دون خشٌة من الحكومة( ،)ٔ9وٌبدو أنهم من نسل األجانب
المستمصرٌن زورا أٌام قابد الجٌش "ونً" فً األسرة ٘ ،واستقدموا آخرٌن من خلؾ الحدود ،واكتشفت
الحكومة متؤخرا أن أعناقهم ما زالت تشرأب لحكم مصر نفسها.
وإضافة لهإالء ،تضخم الخطر األجنبً فً مصر بالهجرات األمورٌة(ٕٓ) التً كسر "ونً" شوكتها فً
فلسطٌن فً عهد "ببً األول" ،فقد تجرأت على حدود مصر من جدٌد ،وهددوا طرق تجارتها مع الشام ،ثم
تسربت إلى أراضً الدلتا لتستقر فٌها ،وعجزت الحكومة المفككة عن تؤدٌبهم وإلزامهم حدود الطاعة(ٕٔ).
وترتب على هذه األوضاع انتشار الفساد ،وقلة محاكمة الفاسدٌن ،واإلهمال فً رعاٌة مشارٌع الري،
فانتشر السخط بٌن الناس ،وزاد السخط أكثر بتجرإ األجانب المستوطنٌن على المصرٌٌن بعد أن تعلموا
حرفهم وأسرارهم ،ولم ٌردعهم شًء عن نشر الجرابم والنهب ،وساعدهم فً ذلك تسلح من التحق منهم
بالجٌش والخدمات األمنٌة ،وقدوم ؼزوات جدٌدة من الشرق استؽلت الحدود المهملة.
عبرت عن هذه األحوال بردٌة مشهورة باسم بردٌة الحكٌم "إٌبو ور" أي إٌبو العظٌم(ٕٕ) ،وهو رجل
ٌبدو من حدٌثه المتسم بالفجٌعة فً البردٌة أنه كان معاصرا لؤلحداث ،وذا مقام رفٌع ،وبعد أن سرد صورا
()ٔ7
-استمر حكم ببً الثانً ٓ 9سنة ،ألنه حكم ،اسمٌا ،فً عمر السادسة ،وعاش حتى عمر الـ 9ٙعاما ،وهو أطول حكام مصر فً تارٌخها
عمرا وحكما بعد رمسٌس الثانً الذي حكم ٓ ٙعاما ،واالثنان من االستثناءات النادرة فً هذا األمر فً تارٌخ مصر كله.
()ٔ8
-انظر :تارٌخ مصر القدٌمة ،نٌكوال جرٌمال ،مرجع سابق ،ص ٔ79
()ٔ9
-انظر :الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ص ٕٗٔ
(ٕٓ)
-الهجرات األمورٌة صارت من المكونات األساسٌة لسكان الشام فً ذلك الزمان ،ولم تفقد طموحها فً ؼزو مصر رؼم الخساٌر التً تكبدتها
على ٌد الجٌش المصري ،فهم ال ٌنسون هدفهم ،ولكنهم فً نفس الوقت ال ٌصلون إلٌه إال إذا ؼفلت مصر عن خطرهم وآمنت لهم وهم ٌتسللون
إلٌها على دفعات فً ستار تاجر أو عامل أو الجا إلخ.
(ٕٔ)
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق،ص ٕٗٔ
(ٕٕ)
-البردٌة مشهورة كذلك باسم بردٌة "لٌدن" ،نسبة إلى متحؾ لٌدن الهولندي المحفوظة به اآلن ،وممزق منها األجزاء التً تحتوي اسم الملك فً
ذلك العصر ونهاٌة األحداث.
ٗ٘
باكٌة لها ،وجه اللوم الشدٌد للحاكم فً ذلك الوقت ،محمبل إٌاه نصٌبا كبٌرا من المسبولٌة ،ألنه كان ٌرى
األمور تستفحل واألجانب ٌتزاٌدون فً الببلد ،وال ٌحرك ساكنا.
فعن سٌطرة األجانب على الحرؾ والصناعات فً الببلد بعد أن تعلموها واحتكروها وقللوا فرصة أهلها
فً العمل قال "إٌبو ور"" :انظر! ال صانع ٌعمل ،والعدو ٌحرم الببلد حرفها(ٖٕ)" ،و"أصبح األجانب
مصرٌٌن فً كل مكان"؛ أي تجرأوا على أن ٌضعوا أنفسهم موضع المصرٌٌن فً هذا االنقبلب العام (ٕٗ).
وألن األجانب معتادون على حمل السبلح فً ببلدهم نقلوا هذا األمر لمصر ،فانتشر السبلح فً
الشوارع ،وفً هذا ٌشكو "إٌبو ور"(" :والببلد) مؤلى بالعصابات ،وٌذهب الرجل لٌحرث ومعه درعه...
حقا فإن الوجه قد شحب ،وحامل القوس أصبح مستعدا ،والمجرمون فً كل مكان ،وال ٌوجد رجل من
رجال األمس ...حقا إن الناهبٌن فً كل مكان(ٕ٘)".
وحامل القوس صفة أطلقها المصرٌون بشكل عام على القباٌل التً تهاجم الحدود من حٌن آلخر ،ألنها
تهاجم المصرٌٌن من على بعد برمً األقواس لتتجنب مواجهتهم فً فترات قوتهم.
وٌواصل "إٌبو ور"" :حقا فإن المواطنٌن قد ألقً بهم على أحجار الطواحٌن .وهإالء الذٌن كانوا
ٌرتدون الكتان الجمٌل أصبحوا ٌُضربون(" ،")ٕٙلقد أصبح بناءو (األهرام) عماال فً الحقول( ،")ٕ9بعد أن
توقفت حركة بناء المشارٌع العظٌمة.
وإذا ما سقطت الدولة الحاكمة ،وانتشرت عادات األجانب ،وانفتحت شهٌتهم للنهب ،وصار صوت
الفاسد هو األعلىٌ ،حل ؼضب اإلله ،وتؽوص "ماعت" فً الظبلم ،فتذبل األخبلق ،وٌجد الشٌطان فرصته
لتحرٌك النفوس الضعٌفة .وفً ذلك حكى "إٌبو ور"" :حقا لقد ...عمت الوقاحة (فً كل الببلد) عند كل
الناس .والرجل ٌقتل أخاه من أمه .فما العمل فً ذلك؟(.")ٕ8
بل وصل األمر للتجرإ على مإسسات الدولة ،بما فٌها المحاكم (مقر ماعت) ذات القدسٌة فً النفوس.
وٌصؾ "إٌبو ور" هذا المشهد الذي ندهش لتكراره فً تارٌخ مصر كثٌرا فً زمن االحتبلالت وحتى
فوضى ٕٔٔٓ" :لقد سلبت كتابات قاعة المحاكمة الفاخرة ،وأصبح المكان السري مكشوفا ( )...وفً الحق
لقد فتحت اإلدارات العامة ،ونهبت قوابمها ،وصار العبٌد أصحاب العبٌد ،وفً الحق لقد ذبح الموظفون
وسُلبت قوابمهم ،فتعسا لً بسبب البإس فً مثل هذا الزمن! (.")ٕ9()...
(ٖٕ)
-موسوعة مصر القدٌمة ،سلٌم حسن ،الجزء ،ٔ9الهٌبة العامة للكتاب ،مشروع مكتبة األسرة ،ٕٓٓٓ ،ص ٕ99
(ٕٗ)
-نفس المرجع ،ص ٕٖٓ
(ٕ٘)
-نفس المرجع ،ص ٖٖٓ
()ٕٙ
-نفس المرجع ،ص ٖٓٙ
()ٕ9
-نفس المرجع ،ص ٖ٘ٓ
()ٕ8
-نفس المرجع ص ٖٓ7
()ٕ9
-نفس المرجع ص ٖٓ8
٘٘
وٌستمر فً وصفه بحسب ترجمة د .سلٌم حسن" :ألقٌت قوانٌن دار القضاء فً العراء ،ووطبت باألقدام
فً الشوارع ،ومزقها الؽوؼاء فً األزقة ،وأخذ العوام ٌروحون وٌجٌبون فً دور (القضاء الكبٌرة) ،و ُنفِى
القضاة فً األرض ،واحترقت البوابات واألعمدة واألسوار(ٖٓ)".
ووفق سلٌم حسن فً سفره الضخم "موسوعة مصر القدٌمة" فإن هذا السلوك ٌعبر عن منتهى سقوط
الدولة وقتها ،فقد "كانت هذه فعلة شنعاء فً نظر النظام المصري؛ إذ كان سحب الكتابات والوثابق من
المصالح العامة لبلستشهاد بها أو لئلطبلع علٌها من األمور المنظمة تنظٌما دقٌقا(ٖٔ)".
ووصل األمر لمنتهاه ،وربما الهدؾ من كل هذه الفوضى ،فٌقول "إٌبو ور"" :لقد تجاسر بعض الخوارج
فحرموا الببلد ال َملَكٌة (الحكم المركزي)(ٕٖ) ..انظر! إن سر األرض (مصر) الذي ال ٌعرؾ أحد حدوده قد
أفشً ،وأصبح مقر الملك رأسا على عقب ..انظر! إن مصر قد أصبحت تصب الماء ]لؽٌرها[(ٖٖ)".
و"تصب الماء لؽٌرها" أي أن مصر تبدل حالها من أنه بعد أن كان الجمٌع ٌخدمها ،باتت تخدم ؼٌرها
من األجانب.
وٌكمل الحكٌم مندهشا ملتاعا" :واألجانب الذٌن كانو ٌخشونها والذٌن عرؾ الشعب (تفاهتهم) أصبحوا
ٌقولون لن تستطٌع مصر أن تؤتً شٌبا ،فالرمال (المحٌطة بها) هً كل حماٌتها!(ٖٗ)".
وظهر عجز الدولة عن كبح جماح الجنود األجانب فً جٌشها بحٌث "أصبحت خٌرات مصر نهبا
مشاعا" لكل من نزلها من ؼٌر أهلها ،بحسب عبد العزٌز صالح مترجما بدوره قول "إٌبور ور" عن هذا:
"إن الجنود الذٌن جندناهم من أجل صالحنا أصبحوا ضمن األسٌوٌٌن ،أال بعدا للخراب الذي حدث (فً
مصر) ،فقد جعل األسٌوٌٌن ٌعرفون أحوال الببلد(ٖ٘)".
وربما المعنى أن المجندٌن من اللٌبٌٌن والكوشٌٌن انضموا للمستوطنٌن وللؽزاة القادمٌن من الشام فً
تحالؾ ضد مصر لنشر الفتن والسٌطرة علٌها بعد أن عرفوا أسرارها لطول إقامتهم.
وعجزت الدولة عن صد هجرات جدٌدة للبدو استؽلت األمر؛ فتجاوزوا حدودها ،وتسربوا إلى أراضً
الدلتا ،وشاركوا المصرٌٌن معاٌشهم ،واعتبروا أنفسهم من أصحاب الببلد وخاصة أهلها(.)ٖٙ
(ٖٓ)
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٖٔٙ
(ٖٔ)
-موسوعة مصر القدٌمة ،مرجع سابق ،هامش ص ٕ97
(ٕٖ)
-الملكٌة هنا المقصود بها الدولة وأركانها ،ولٌس المقصود نوع الحكم ملكً وجمهوري كما فً العصر الحدٌث ،وسر األرض مقصود به
أسرار مصر وأسرار الحكم والوثابق الهامة.
-تكرر هذا األمر عدة مرات فً عصور الحقة خالل االحتالالت ،كما تكرر فً أحداث ٌناٌر ٕٔٔٓ حٌن تجرأ البعض على اقتحام مإسسات الدولة
مثل مقرات أمن الدولة والمحاكم وأقسام الشرطة بحجة السخط على الحكومة ،وإن كان اختٌار تلك األماكن والجرأة علٌها ؼٌر بعٌد عنه تخطٌط
أجنبً تورط فٌه بعض المتظاهرٌن الؽافلٌن ،مثلما ٌبدو أن حدث فً األسرة .ٙ
(ٖٖ)
-نفس المرجع ،ص ٖٓ9
(ٖٗ)
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٖ٘9
(ٖ٘)
-نفس المرجع ،ص ٖٓٙ
()ٖٙ
-نفس المرجع
٘ٙ
وٌواصل الحكٌم فً واأللم ٌحز فً نفسه شارحا كٌؾ استؽلت القباٌل والجماعات التً تراقبنا وتترصد
أحوالنا وراء الحدود ،كٌؾ استؽلت هذه الفوضى لتضرب ضربتها" :تخربت األقالٌم ،وتوافدت قبابل قواسة
ؼرٌبة إلى مصر ،ومنذ أن وصلوا لم ٌستقر المصرٌون فً أي مكان ( )...وأصبح األجانب مصرٌٌن فً
كل مكان ...وأولبك الذٌن كانوا مصرٌٌن أصبحوا أؼرابا وأهملوا جانبا".
فصار المصرٌون أؼرابا فً أوطانهمٌ ،عاملون كؤنهم من درجة أقل من األجانب ،وانطبق علٌهم حقا
المثل المصري" :البٌت بٌت أبونا ،والؽرب بٌطردونا" ،وكان من الطبٌعً أن ٌعز األمن فً البلد:
سار بلٌل فٌنهبون ما ٌحمله
ٍ "(ٌقولون) الطرق محروسة ،ولكن القوم ٌختببون على األشجار حتى ٌؤتً
وٌسلبونه ما علٌه ،وٌشوهون وجهه بالعصا ،وربما قتلوه ظلما(.")ٖ9
وتؤثر الوجه البحري بشدة باضطراب األمن لقرب طرفٌه من الؽزاة اآلسٌوٌٌن فً الشرق والقادمٌن من
لٌبٌا فً الؽرب ،وٌصؾ "إٌبو ور" حاله" :أصبحت أراضً األحراش (أي الوجه البحري) كلها ؼٌر
مستورة ،وامتؤل قلب الوجه البحري بالطرق المطروقة ،ولكن ما الذي ٌستطٌع اإلنسان أن ٌفعله؟."..
وتخاصم المحافظون مع بعضهم ،واستؤثر بعضهم بثروات محافظاتهم ،ومنعوا عن خزابن الحكومة
المركزٌة ضراٌب أؼلب مناطق الصعٌد ،وعلقت بردٌة "إٌبو ور" على هذا" :الحق أن أسوان وجرجا فً
أرض الصعٌد لم تعودا تإدٌان الضرابب نتٌجة لشٌوع الفتنَّ ،
فعز الؽبلل ،..ومنتجات المصانع ،فكٌؾ ٌسٌر
بٌت المال إذن بؽٌر موارده؟َ ....قلَّت سفن الصعٌد ،وتخربت المدن ،وأصبح الصعٌد خرابا ٌبابا(.")ٖ8
وعلى هذا" :أصبحت العاصمة (منؾ) فً خوؾ من العوز ،والناس ٌؤكلون الحشابش وٌتبلعون بالماء"،
بحسب تعبٌره ،إضافة إلى توقؾ سبل التجارة مع ؼرب آسٌا بعد أن هددتها الهجرات األمورٌة ،فٌكمل" :ما
عاد أحد ٌبحر الٌوم نحو جبٌل ،فما الذي سوؾ نفعله إذن بخصوص أخشاب األرز (التً اعتدنا أن نصنع
منها) توابٌتنا ،والزٌوت التً ٌحنط الكبراء بها ،و(ترد من) هناك ،ومما ٌجاور كفتٌو ]تكرٌت[ .ما عاد
ٌؤتً من ذلك شًء حتى أصبح مجًء أهل الواحات بمنتجاتهم (البسٌطة) شٌبا ذا بال"(.)ٖ9
َّ
"عز االبتسام وشاع الهرج والمرج خبلل فترة االنقبلب على الدولة ،ووصفه "إٌبو ور" بكلمات بلٌؽة:
عز الصخب فً سنوات الصخب (حتى بدا كؤنه) ال وما عاد أحد ٌبتسم ،وأصبح الحزن ٌسود الببلد ،...وما َّ
نهاٌة للصخب" ،وكنتٌجة" :قست القلوب ،وؼزا الوباء األرض( ،وسرى) الدم فً كل مكان ،وأصبح
مجرى النهر قبرا ،وؼدا مكان التطهر فٌه بلون الدم ،وإذا قصده الناس لٌرتووا منه عافوا جثث البشر
وظلوا على ظمبهم إلى الماء(ٓٗ)".
وٌصؾ علماء هذا الوصؾ بالمبالؽة ،لكن من سٌتابع ما سٌحصل للمصرٌٌن من مذابح ومجاعات
()ٖ9
-نفس المرجع
()ٖ8
-انظر :نفس المرجع
()ٖ9
-المرجع السابق ،ص ٖٓٙ
(ٓٗ)
-نفس المرجع ،ص ٖٔٙ
٘7
وؼوص األعادي والمستوطنٌن األجانب فً دمابهم وأعراضهم خبلل عصور احتبلالت التالٌة ،لن ٌشعر
أن ما وصفه الجد "إٌبو ور" كان مبالؽة.
وصور حٌرة الناس فً هذه الفوضى بؤنهم كانوا رجاال ثبلثة :رجبل ٌعلم ما حدث وٌوافق علٌه ،ورجبل
َّ
ٌجهل تماما ،وثالثا علم بما حدث ولكنه ال ٌدري إن كان خٌرا أم شرا ،وكره بعض الناس دنٌاهم وآثروا
االنتحار ،سواء لضٌاع حقوقهم القدٌمة ،أو ألسفهم عما أصاب المعابد والمقابر ،أو ألسفهم عما أصاب
بلدهم من اضطراب لم ٌعرفوا عبلجه.
وٌقول" :وفارق النبل الدنٌا ,وأصبحت ربات البٌوت ٌقلن أنً لنا ما نؤكله ,وذبلت أجسادهن فً األعمال,
وتحطمت قلوبهن من ذل السإال(ٔٗ)".
ووصل األمر النتهاك حرمة الموتى والتجرإ على األهرام ،وهو من أشد الفواجع التً قال عنها "إٌبو
ور" متعجبا" :فقد وقعت أحداث لم نسمع عنها منذ ظلمات الماضً السحٌق .إذ قامت الؽوؼاء بخلع الملك!
أجل إن الذي دفن بصفته "الصقر" قد انتزعوه من تابوته! لقد نهبت حجرة الدفن وسلب ما بها! ووصل بنا
األمر إلى الحد الذي قامت زمرة من األفراد -تجهل كل شًء عن أمور الحكم -بتقوٌض النظام الملكً
]الدولة المركزٌة[ فً الببلد(ٕٗ)".
وفً إشارة إلى أن سرقة األهرامات وسرقة أجساد الملوك من توابٌتها تم منذ ذلك الوقت قال "إٌبو ور"
" :ومخبؤه ]أي تابوت الملك[ األهرام قد أصبح خلوا"(ٖٗ).
وانتهكت المقدسات؛ فلم ٌقؾ المهاجمون عند حد حرمان الببلد من حاكمها ،وهو الضامن األوحد
الستتباب النظام ،بل دمروا جسد الحاكم المتوفى فحرموا بذلك األجٌال السابقة من حٌاة اآلخرة؛ فكان الظن
أن سبلمة الجسد تساعد الروح فً التعرؾ على صاحبها.
وبتعبٌر سلٌم حسن ،لقد قوضوا بفعلتهم الشنعاء هذه بنٌة الهرم الكونً؛ فتصدع وتداعى ،وأصبحت
لتنقض علٌها كلما
ِ مصر "عالما مقلوبا رأس على عقب" ،فوقعت فرٌسة الفوضى الواقفة لها بالمرصاد
تقاعس الملك عن واجباته أو اختفى(ٗٗ).
والمقصود بالملك هنا لٌس الحاكم فً حد ذاته وحده ،وإنما الحكومة المركزٌة ككل ونظامها (ماعت).
وموجها اللوم بقوة للحاكم الموجود وقتها ،ولكنه ببل حول وال قوة ،قال له "إٌبو ور"" :إن القٌادة والفطنة
والصدق معك ,ؼٌر أن ما تبثه فً طول الببلد هو الفوضى وؼوؼاء الذٌن ٌتخاصمون ( )...فاألكاذٌب تتلً
(ٔٗ)
-نفس المرجع ،ص ٖٕٔٙ -ٖٙ
(ٕٗ)
-تارٌخ مصر القدٌمة ،نٌكوال جرٌمال ،مرجع سابق ،ص ٔ98
(ٖٗ)
-موسوعة مصر القدٌمة ،سلٌم حسن ،مرجع سابق ،ص ٖٓ9
(ٗٗ)
-نفس المرجع
٘8
علٌك ،والببلد قش ملتهب(٘ٗ)".
أما رد الحاكم علٌه فجاء كصوت ٌابس ٌقول إنه حاول حماٌة شعبه بالوقوؾ فً وجه الؽزاة واألجانب
ا لذٌن كانوا ٌهاجمون الببلد ،فجاوبه "إٌبو ور" بؤن هذا لم ٌكن كافٌا ،وإنه ٌعلم حسن نٌته ولكن ذلك ال
ٌكفً" :إنك جعلت الناس ٌعٌشون بسبب ما فعلته ] من محاوالت صد الفساد واإلهمال واألجانب فً وقت
متؤخر[ ولكنك تؽطً وجوههم خوفا من الؽد"( ،)ٗٙإشارة فٌما ٌبدو إلى أن الحاكم لم ٌكن من الشجاعة
والبصٌرة أن ٌواجه نذر الخطر من البداٌة وٌكاشؾ شعبه بها.
وكما وجه الكاتب اللوم للحاكم ألنه تهاون وهو ٌتابع هٌبة وحدود الدولة تتهاوى ،وجه اللوم لنفسه وبقٌة
الناس الذٌن لم ٌتحركوا أو ٌطلقوا تحذٌراتهم بقوة من البداٌة ،فقال" :لٌتنً رفعت صوتً فً ذلك الوقت
حتى كنت أنقذ نفسً من األلم الذي أنا فٌه اآلن .فالوٌل لً؛ ألن البإس ع َّم فً هذا الزمان(.")ٗ9
وفً إشارة إلى أن هذه الفوضى لم تكن تلقابٌة ،وإنما كان وراءها تدبٌر محكم قال "إٌبو ور"" :وانقلبت
العاصمة فً ساعة"" ،وقلبوا أوضاع العاصمة رأسا على عقب ،واقتحموا دواوٌنها ومزقوا وثابقها(.")ٗ8
وتزخر كتب علماء اآلثار التً تتناول هذه البردٌة بالقول إن سبب هذه الفوضى الجامحة وؼٌر المعتادة
فً مصر هو انتشار المجاعات والفساد وسوء الحكم ،أي ألسباب داخلٌة محضة ،ولذا سموها بـ"أول ثورة
اجتماعٌة أو شعبٌة فً التارٌخ".
ؼٌر أن األمر ٌحتاج إلعادة نظر ،وأن ٌبتعد المفسرون عن تؤثرهم بالنظرٌات االشتراكٌة الماركسٌة فً
تفسٌر الثورات ،والتً تحصرها فً فساد وتسلط الحاكم والفقر؛ فالمجاعات والفساد سبب صحٌح ،لكن
ظهرا فً مصر فً عدة عصور ولم ٌقدم الشعب على تخرٌب ببلده ،بما فٌه االعتداء على حرمة األموات
والمحاكم والمعابد ومإسسات الدولة وبهذا الؽِل ،أو انتشار أعمال القتل والدم بهذه الؽزارة.
والنظر للعبلقة بٌن هذه الفوضى وبٌن ظهور مراكز قوى فاسدة تناطح الدولة ،وانفتاح الببلد على
األجانب بشكل واسع ،وقٌامهم بنشر الفتن فً كل مكان ،خاصة مع اختبلؾ التقالٌد بٌن األجانب المعتادٌن
على العنؾ والتسلط على ؼٌرهم وبٌن الشعب المصري المسالم الؽافل عن التآمر قد ٌوضح الصورة أكثر
لنخرج بتفسٌر أصح ،وٌناسب الظروؾ المصرٌة.
وفً ذلك ٌقول صالح" :وتجمعت عٌوب النظام القدٌم مع سوءات المهاجرٌن واضطراب الثابرٌن
والموتورٌن(.")ٗ9
وٌرفض عالم المصرٌات نٌكوال جرٌمال أن تكون هذه الفوضى الدامٌة ثورة شعبٌة ،فٌقول" :وٌرى
(٘ٗ)
-موسوعة مصر القدٌمة ،مرجع سابق ،ص ٖ٘ٔ
()ٗٙ
-الفكر الفلسفً فً مصر القدٌمة ،د .مصطفى النشار ،الدار المصرٌة السعودٌة للنشر والتوزٌع ،طٔ ،القاهرة ،ص ٔ.9
()ٗ9
-موسوعة مصر القدٌمة ،مرجع سابق ،ص ٕ99
()ٗ8
-انظر :الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٕٗٔ
()ٗ9
-نفس المرجع ،ص ٖٔٙ
٘9
تفض إلى شكلالبعض أن األزمة التً اجتاحت مصر هً ثورة اجتماعٌة ،وهو أمر مستبعد؛ نظرا ألنها لم ِ
جدٌد من الحكومات ،بل استمر النظام القدٌم ،وهو نفس ما حدث بعد كل "عصر انتقالً" ،فما ٌروٌه "إٌبو
ور" من أحداث إنما ٌشبه هبة أكثر شرابح المجتمع حرمانا ،والتً لم تتحرك بسبب ما تعانٌه من ظلم
اجتماعً ،وهو أمر بعٌد كل البعد عن روح النظام السٌاسً السابد ،إنما حدث نتٌجة تؤثٌرات خارجٌة وفدت
على مصر لتجد تربة صالحة فً بلد أصابه الوهن واإلنهاك(ٓ٘)".
أي أن وجود عدد كبٌر من األجانب ،ومن قبابل ومناطق اعتادت حمل السبلح والفوضى ورفض
الخضوع للدولة ولـ ماعت ،واعتادت الطمع فً مصر ،وتؽلؽلت فً مإسسات الدولة بما فٌها الجٌش،
ووجود رؼبة عندها لهدم مصر -لمجرد الهدمٌ -لزم أن ٌوضع فً الحسبان جٌدا عند تفسٌر وقوع مصر فً
فوضى بهذا الحجم المخٌؾ.
ورؼم سوءات هذه الفوضى الشاملة ،إال أن صالح رأى أنه أٌضا المصرٌون استؽلوها فً مراجعة
أمورهم ،فؤخرجوا من المر شرابا حلوا ،فقال "إنها استثارت نوعا من الوعً القومً لدى المفكرٌن الذٌن
وعز علٌهم أنهم لم ٌنشطوا عند ظهور بوادر َّ عز علٌهم عجزهم عن دفع الببلء عن وطنهم قبل وقوعه، َّ
الخطر ولم ٌتبلفوها ،وصعب علٌهم أن تنتهك حرمات الببلد وتبتذل مقدساتها الدٌنٌة والتقلٌدٌة تحت
أبصارهم وأسماعهم ،سواء بؤٌدي المهاجرٌن أم بؤٌدي المواطنٌن الموتورٌن(ٔ٘)".
وألن عقٌدة مصر تإمن بؤن ماعت قد تختفً ولكنها ال تموت ،وبؤن الخٌر ٌنتصر على الشر حتما فً
النهاٌة ،ففً آخر البردٌة تكلم "إٌبو ور" عن األمل فً أنه سٌظهر فً مصر حاكم منقذ (الفبلح المقاتل)
وصفه بؤنه" :من ٌعمل لل بناء ،وال ٌفرق بٌن جرئ وهٌاب ،وصوره "رجبل ٌستطٌع أن ٌحٌل اللهب بردا
وسبلما ،وٌمكن أن ٌعتبره قومه راعٌا للناس أجمعٌن ،لٌس فً قلبه ضؽٌنة ،وإذا تفرقت رعٌته قضى ٌومه
ٌجمعها(ٕ٘)".
وهذه الصفات هً التً ٌحلم بها المصرٌون فً حاكمهم كلما حلت بهم الفوضى أو االحتبلالت ،ألنها
تعبر عن وظٌفة الحاكم المصري والحكومة بؤجمعها التً كلفها بها هللا منذ ظهور الدولة فً مصر ،فالحاكم
هو الراعً القوي الصالح ،المكلؾ بحماٌة وحدانٌة الدولة وإقامة "ماعت".
وتصدق اآلثار على كثٌر مما قالته ،ففً األسرات 9و 8و 9تبدو مصر كمن ؼرق فً ظبلم دامس،
آثارها قلٌلة ،ومستوى الكثٌر منها لٌس بجودة ما قبلها أو بعدها ،وال ٌوجد ما ٌدل على مشارٌع كبرى أو
تجارة خارجٌة نشطة؛ ما دل على ؼٌاب الحكم المركزي ،وانتشار النزاعات ،وؼٌاب ماعت ،حتى قال
المإرخ مانٌتون فً كتابه عن تارٌخ مصر الذي وضعه أٌام االحتبلل الٌونانً إنه تعاقب على مصر فً
األسرة السابعة ٓ 9ملكا فً ٌٓ 9وما! وإن كان الرقم مبالؽا ولكنه تعبٌر مجازي عن الخلخلة.
(ٓ٘)
-تارٌخ مصر القدٌمة ،نٌكوال جرٌمال ،مرجع سابق ،ص ٔ99 -ٔ98
(ٔ٘)
-الشرق األدنى القدٌم-مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٕٗٔ
(ٕ٘)
-نفس المرجع ،ص ٖٗٔ
ٓٙ
❸ أٌن الجٌش؟
اإلجابة المحتملة أن الجٌش وقتها لم ٌكن جٌشا نظامٌا بالشكل الذي ظهر علٌه فً األسرة ٔ9أو،ٔ8
وإنما ٌتؤلؾ من ضباط وجنود ٌتدربون كاحتٌاط تستدعٌهم الحكومة من المحافظات كلما حل بالبلد خطر
وعزمت على شن حمبلت حربٌة على الحدود لصد ؼزوات قباٌل الشرق والؽرب والجنوب.
وحٌن تزاٌد نفوذ المحافظٌن وكبار العاببلت بالتدرٌج فً وقت كانت الحكومة المركزٌة تذبل ،امتنع
محافظون عن إرسال الشباب للتجنٌد والتدرٌب ،واحتفظوا بهم كقوة مسلحة أو حراسة خاصة بهم فً داخل
المحافظة ،بل وبعضهم فضَّل األجانب المستوطنٌن علٌهم فً ذلك ،فتفكك الجٌش بشكل ؼٌر مباشر ،وفقد
قدرته على االلتبام والتوحد السرٌع عند اندالع الخطر.
وشكلت هذه الطرٌقة فً استخدام الجنود بشكل محلً خطرا جدٌدا على وحدة الببلد؛ ألن وجودهم تحت
إمرة المحافظٌن مباشرة شجع هإالء المحافظٌن على التنافس المسلح فٌما بٌنهم ،ودفع أقوٌاءهم إلى الطمع
فً السٌطرة على المحافظات األخرى(ٗ٘).
كما تجلى انهٌار الجٌش فً احتبلل الؽزاة للوجه البحري مجددا بعد سقوط الدولة المركزٌة ،وفً ذلك
قال نٌكوال جرٌمال" :واألدهى من ذلك أن البدو "الساكنٌن فوق الرمال" الذٌن حاربهم "أونً" فً زمن
سابق أخذوا ٌجتاحون الدلتا عند نهاٌة األسرة الثامنة(٘٘)".
وبتتبع األسباب والنتابج التً رمت مصر مقٌدة األؼبلل بٌن نار وأنٌاب الفوضى "إزفت" نهاٌة األسرة
ٙكما نقلتها لنا البردٌات واآلثار ..كم منها ٌنطبق علٌه ما ورد فً البنود الـ ٔ9لدستور خراب مصر؟
والبلفت أنه فً تحذٌرات "إٌبو ور" ردد عبارة "واألجداد قد تنبؤوا( ،")٘ٙفهل ٌقصد وصٌة األجداد
واألرباب المإسسٌن بعدم التفرٌط فً "ماعت" وبعدم الؽفلة عن الحدود وانتشار األجانب فً الببلد؟
(ٖ٘)
-انظر نفس المرجع ،ص ٘ٗٔ
(ٗ٘)
-انظر نفس المرجع
(٘٘)
-تارٌخ مصر القدٌمة ،نٌكوال جرٌمال ،مرجع سابق ،ص ٔ8ٓ-ٔ99
()٘ٙ
-موسوعة مصر القدٌة ،سلٌم حسن ،مرجع سابق ،ص ٕٖٓ
ٔٙ
"إن البوابات ]الحدود[ التً فوقك كبوابات حامٌة ....إنها سوؾ ال تفتح للؽربٌٌن ،إنها سوؾ ال تفتح
للشرقٌٌن ،إنها سوؾ ال تفتح للجنوبٌٌن ،إنها سوؾ ال تفتح للشمالٌٌن ،إنها سوؾ ال تفتح لهإالء الذٌن
فً وسط األرض ،إنها سوؾ تفتح لحورس(.")٘7
فاستحقت األجٌال التً لم تلتزم بها عقاب اإلله الذي حذر منه بتاح حتب فً األسرة ٘:
"إن الذي ٌفعل الماعت فذلك الذي ٌكون بعٌدا عن الضالل"ٌ" ،حل العقاب دابما بالذي ٌتخطى
قواعدها"(.)٘8
()٘9
-وصٌة نصوص األهرام ،القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم ،مرجع سابق ،ص ٕٕ٘ٔٔٙ -
()٘8
-انظر تقدٌم علً رضوان لكتاب "الماعت ..فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة" ،مرجع سابق ،ص ٕٔٔ٘-
ٕٙ
نحن ؼرقى وإذا المـــوت أمــــم قد ؼفونا وانتبهنا فإذا
ضعؾ فهجـــــم
ُ ؼر فٌنا الدهــر
َّ ثم كانت فترة مقدورة
آفة الشعب إذا الشعب انقسم آفة المرء إذا المرء ونى
(ٔ)
-حافظ إبراهٌم األعمال الكاملة ،قصٌدة قد ؼفونا ،مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة ،القاهرة ،ص ٓٔ9
المشهد ٘ :الوالدة الجدٌدة (الدولة الوسطى)
(ٔ ٖٖٔٙ-ٔ99ق.م)
(شروق ماعت)
المتتبع لسٌر زعماء مصر فً التارٌخ القدٌمٌ ،جد أن من ترك بصمته فً عمارها وصبلحها ٌبدأ عهده
ٌتفقد الحدود المصرٌة بإرسال حمبلت تفتٌشٌة تطرد من تسلل إلى داخلها -أو ٌطرد احتبلل قابم -وٌتفقد
حالة الحكم ما إن كان خالصا للدولة أم تناطحه مراكز قوى ٌلزم ردعها ،وٌتفقد حالة األرض لٌقٌم مشارٌع
الري والزراعة وٌواصل مشارٌع سلفه ،وٌتفقد القوانٌن وأحوال الناس لٌعلم إن كانت "ماعت" فً مكانها أم
محجوبة لٌعٌدها إلى عرشها وتتؤلأل بها مصر تحت شمس رع.
واستمرت الفوضى التً تفجرت فً األسرة ٙوسرعة تعاقب الحكام وأدعٌاء الشرعٌة ٓ٘ٔ سنة ،حتى
وصل الحال إلى أن مصر فً األسرة ٓٔ حوالً سنة ٖٕٓٔ ق.م أصبح ٌحكمها عابلتان.
العابلة األولى عابلة األناتفة ،نسبة إلى مإسسها "إنتؾ" ،وتحكم الوجه القبلً حتى طٌبة ،ثم العابلة
اإلهناسٌة ،نسبة إلى تمركزها فً أهناسٌا ببنً سوٌؾ ،وحكمت المحافظات من بعد طٌبة وحتى منؾ فً
الجٌزة ،فٌما الوجه البحري ٌرعى فٌه األجانب رعً الخنازٌر ،القباٌل اآلسٌوٌة فً شرقه ،والقباٌل القادمة
من نواحً لٌبٌا فً ؼربه.
وكبل من العابلتٌن ٌسعٌان إلعادة توحٌد الحكم فً الببلد تحت حكومة مركزٌة واحدة كما كانت فً
العصور السالفة ،ودخبل فً معارك واجه فٌها المصرٌون بعضهم فً مشاهد مإلمة.
وفً فترة وبام اعترؾ "إنتؾ األول" فً طٌبة بشرعٌة "خٌتً األول" من العابلة األهناسٌة كحاكم لكل
مصر ،ثم تصارع خلفاإهما على الحكم ،ونشبت بٌنهما معارك مركزها فً مدٌنة "ثنً" قرب أبٌدوس فً
سوهاج ،وهً المدٌنة التً تفصل بٌن منطقة نفوذ كل منهما(ٕ).
ومن مآثر البٌت األهناسً أنه رؼم التنافس مع البٌت الطٌبً إال أنه سعى لتحرٌر الوجه البحري من
(ٕ)
-للمزٌد عن هذه الفترة انظر رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة ،رمضان عبده علً ،وزارة اآلثار ،المجلس األعلى لآلثار ،مشروع المابة
كتاب ،القاهرة ،الجزء الثانً ص ٕٖٖٓٓ8 -
ٗٙ
األجانب ،وأعاد فتح طرق التجارة مع فٌنٌقٌا الستٌراد خشب األرز.
فقد سعى اآلسٌوٌون المتسللون لبلنخراط داخل الشعب المصري ،حتى اتبعوا عاداته وتسموا أحٌانا
بؤسمابه ،مع احتفاظهم فٌما بٌنهم بعاداتهم وتقالٌدهم وأسماءهم وأسرارهم ،لٌضمنوا أال تقوم مقاومة ضدهم
تحرمهم مما سٌطروا علٌه من أرض وثروة ،ولكن ظل المصرٌون خارج الوجه البحري ،وربما فٌه،
ٌنكرون على البدو المتمصرٌن سٌادتهم ،فاستؽل خٌتً هذه الروح ،ونجح مع جٌشه فً إبعاد بعض
األمورٌٌن وكسر شوكة بعضهم اآلخر(ٖ).
ووردت سٌاسة خٌتً الثالث (أو الرابع) فً ردع األجانب عن مصر فً تعالٌم مشهورة ألقاها على ابنه
وولً عهده مري كارع وحفظها المصرٌون ألجٌال قادمة ،معروفة باسم "تعالٌم خٌتً" ،وٌوجد نسخ منها
فً متاحؾ موسكو وكوبنهاجن واألرمتٌاج ،وتشمل إلى جانب سٌاسته ضد األجانب الؽزاة والمتسللٌن،
سٌاسته فً الحكم.
ومما ورد فٌها وٌظهر روح وتفاصٌل "ماعت" فً الحكم واإلدارة واألخبلق" :استخدم اللباقة فً
كلماتك ،إذا كنت ترٌد أن تصل إلى أؼراضك ،إنه بالنسبة للملك اللسان مثل السٌؾ ،والكلمة أكثر قوة من
كل األسلحة ،ال أحد ٌستطٌع أن ٌخدع خطٌب ماهر ،ومن هو متكبر فهو ٌسعى للنهاٌة ،وال تكن قاسٌا،
وقو حدودك ،ألنه من األفضل أنوتحكم فً نفسك فهذا شًء حسن ،وشٌد لنفسك أثرا خالدا بحب رعاٌاكِ ،
تكون مستعدا لؤلحداث المقبلة(ٗ)".
وقال عن خطر األجانب" :هإالء األجانب كانوا بمثابة حابط مؽلق ،ولكننً فتحته ...وعملت على أن
ٌعاقبهم الوجه البحري ،وسلبت ممتلكاتهم ،واستولٌت على قطٌعهم ،حتى أصاب اآلسٌوٌٌن التقزز من
مصر ،وبناء علٌه ال تشؽل بالك بهذا ،إن اآلسٌوٌٌن من اآلن فصاعدا مثل التمساح على الشاطا (الببلد)،
فً مقدوره أن ٌبتلع رجبل بمفرده ،ولكن ال ٌستٌطع أن ٌستولً على أرض بها مدن عدٌدة(٘)" ،وعلى هذا
األساس تحدث البنه عن أهمٌة إنشاء مدن محصنة شمال شرق مصر ،وتعمٌرها بخٌر الرجالٌ ،سكنونها
وٌزرعون ما حولها ،وٌتحصنون بها حٌن الشدة ،وٌصدون منها ؼارات القباٌل الؽازٌة.
فقال له" :ال تتهٌب العدو فهو ال ٌؽٌر إال على الموطن المنعزل ،وال ٌجرإ على مهاجمة مدٌنة عامرة
بالسكان ( )...أقم الحصون فً كل المناطق الشمالٌة ،والحظ أن سمعة الرجل فٌما ٌفعله لٌست بالشًء
الهٌن ،والبلد العامرة بالسكان لن ٌمسها سوء ،فابن مدنا(.")ٙ
ولكن هذا ال ٌكفً دون تعود المصرٌٌن على التحفز للخطر طول الوقت ،واالستعداد له قبل أن ٌقع ،فالوقاٌة
(ٖ)
-انظر :الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،عبد العزٌز صالح ،مرجع سابق ،ص ٔٗ8
(ٗ)
-رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة ،مرجع سابق ،ص ٖٖٕٔٔٔ -
(٘)
-نفس المرجع ،ص ٖٖٔ
()ٙ
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٔٗ9
٘ٙ
خٌر من العبلج ،وعلى هذا حث ابنه على "بث الروح الحربٌة فً الببلد والعناٌة بمجندٌها الشبان(.")9
هون علٌه شؤن أعدابه البدو وضعؾ حٌلتهم فً عبارات تدل على معرفته بعاداتهم وأحوال المناطق و َّ
التً ٌعتصمون بها وتتوافد هجراتهم منها قاببل" :هذا هو شؤن البرابرة ،فالعدو اللعٌن موطنه وعر ،وماإه
آسن ،حزون بكثرة ؼاٌاته ،سٌبة طرقاته بما ٌكتنفها من المرتفعات ،ولذلك لم ٌستقر فً مكان واحد،
واستمر دابم الترحال ،وظل ٌشاؼب منذ عهد (اإلله) حور ،فبل هو ٌَؽلب وال هو ٌُؽلب(.")8
ما ٌعنً أن ٌنتبه المصرٌون إلى أنهم فً رباط دابم ،ال تسكرهم نشوة نصر ،وال ٌؽرهم حالة قوة،
فعدوهم "دٌب مسعور"ٌ ،حوم ببل هوادة حول الحدود األربعةٌ ،نتصب ٌراقبنا فً لهفة للحظة ؼفلة ،فٌقفز
ؼارسا أنٌابه تقطر بالدماء فً رقابنا ،كالشٌطان ال ٌٌؤس وال ٌنتهً ،السطو طبعه ،وهو كثٌر الحٌل.
وتوفً خٌتً ،ثم توفً ابنه مري كارع ،وتعاقب حكام ضعاؾ على األسرة ٓٔ ،فاستؽلت أسرة األناتفة
الحال إلحكام سٌطرتها على أهناسٌا وإعادة مصر إلى الحكم القوي الواحد ،وأسسوا األسرة ٔٔ.
تمكن المصرٌون فً عصر منتوحتب الثانً من تحقٌق حلم الببلد فً الرجوع ألصلها تحت ظل حكم
واحد بعد سنوات طوٌلة من المعارك أفنى فٌها منتوحتب شبابه ،فسٌطر على أهناسٌا ،وطارد المتمردٌن
إلى الصحراء ،ثم التفت إلى الدلتا الستكمال تحرٌرها من الؽزاة ،فهدأت روح الببلد بعد طول شقاء ،وكؤنه
هو المخلص الذي اشتاقت إلٌه بردٌة "إٌبو ور".
وأعاد المناصب القدٌمة مثل الوزٌر (أي ربٌس الوزراء) وحامل األختام ،وثبَّت المخلصٌن فً
مناصبهم ،وأزاح المتمردٌن ،وخفؾ سلطات المحافظٌن ،فاختفى لقب "حاكم اإلقلٌم العظٌم" وؼٌره من
األلقاب الضخمة التً انتحلها المحافظون ألنفسهم خبلل عصر البلمركزٌة األولى(.)9
ومع إعادته للمركزٌة المقدسة أحٌا روح الٌقظة فً تتبع العدو التً أخذت بها الدولة القدٌمة فً أوقات
صحوها ،فقاد حملة فً الصحراء الؽربٌة ضد قبابل الـ"تمحو" والـ"تحنو" ،وفً سٌناء ضد بدو الـ "منتٌو"،
وأمَّن حدود الببلد ضد تسلل اآلسٌوٌٌن ،وطاردهم حتى نهر اللٌطانً داخل الشام ،وحاول استعادة ما كان
لمصر من نفوذ فً النوبة عند نهاٌة األسرة السادسة(ٓٔ)".
وإذا كان منتوحتب الثانً محاربا عظٌما ،فقد كان أٌضا بنا ًء عظٌما(ٔٔ) ،فشحذ همة شعبه لترمٌم آثار
مبان ضخمة جدٌدة مثل معبده العظٌم فً الدٌر ٍ األجداد فً إلفنتٌن ودندرة والكاب وأبٌدوس ،وإقامة
()9
-نفس المرجعٔٗ8 ،
()8
-نفس المرجع ،ص ٔٗ9
()9
-انظر نفس المرجع ،ص ٔ٘ٙ
(ٓٔ)
-انظر تارٌخ مصر القدٌمة ،نٌكوال جرٌمال ،مرجع سابق ،ص ٕٕٓ
(ٔٔ)
-انظر تارٌخ مصر القدٌمة ،نٌكوال جرٌمال ،مرجع سابق ،ص ٕٔٓ
ٙٙ
البحري ،الذي أقامت حتشبسوت بعد ذلك بمبات السنٌن معبدها على شاكلته ،وضم معبد منتوحوتب مقبرة
لجنوده الذٌن استشهدوا خبلل معارك تطهٌر الببلد ،ودفنهم فً معبده إلى جواره تكرٌما لهم.
واتخذ لنفسه فً السنة ٖ9من حكمه -بعد أن أتم التحرٌر وعودة المركزٌة المقدسة وتطهٌر الحدود -لقب
"سما تاوي" ،أي موحد الوجهٌن ،واتخذ من طٌبة ،واسمها "واسط" باللؽة المصرٌة ،عاصمة.
وعن عودة هٌبة مصر بعودة هٌبة حاكمها ودور هذا فً ردع األجانب قال قابد بالجٌش وهو ٌسجل
النصر على الؽزاة اآلسٌوٌٌن" :كان الخوؾ منه ]أي من حاكم مصر[ هو الذي جعلهم ٌخشوننً ،وكانت
سطوته هً التً جعلتهم ٌرهبوننً ،كما أن حب (األرباب) له هو الذي جعل األرضٌن ]مصر[
تعشقانه(ٕٔ)".
ونلمس فً هذه الكلمات البسٌطة النظرة المصرٌة للدٌن والوطن ،أنهما عملة واحدة ،فرضا اإلله عن
حاكم مصر هو الذي جعل مصر وأهلها ٌحبون الحاكم ،والحاكم نفسه اكتسب حب اإلله بؤن أعاد الحرٌة
الطمؤنٌنة لمصر ،وأعادها مرهوبة الجانب من جٌرانها ..فـ "عمار مصر ..الطرٌق إلى اإلله".
وسجل قابد آخر على صخور أبٌسكو قرب الشبلل األول (فً أسوان) أنه كان ضمن حملة قادها منتوحتب
الثانً بنفسه للحدود الجنوبٌة ،وشن حملة لفرض هٌبة مصر فً نفوس أهل "جاتً" بالشام(ٖٔ).
وفً نفس الوقت ،ازدهرت من جدٌد حركة العلم والفن واألدب مع رفرفة روح الناس بالفرحة لما عادت
مصر ألصلها كما حفظها وجدانهم ،فتجدد األمل وانتعش اإلحساس بالثقة واالطمبنان والقوة ،وبلػ األدب
المصري فً الدولة الوسطى مبلؽا عظٌما تعلمته األجٌال التالٌة فً المدارس حتى عصر الدولة الحدٌثة،
ومن أشهر نصوصه قصة المبلح الناجً ،وقصة سنوهً التً تتحدث عن أهمٌة الوطن ،وخطٌبة تركه،
وخطٌبة العٌش الطوٌل فً ببلد أجنبٌة ،كما حصل تقدم كبٌر فً علوم اللؽة ،حتى تسمى عصر الدولة
الوسطى بؤنه العصر الذهبً للؽة المصرٌة واتقان الخط الهٌراطٌقً.
( -)12الشرؽ األدنى القديـ -مصر والعراؽ ،مرجع سابؽ ،ص 156
( -)13انظر نفس المرجع ص 159
ٙ7
تمثال منتوحتب الثانً منحوت على شكل أوزٌري وتلون الجسد باللون األسود رمز البلنتقال للعالم اآلخر فً شكل مومٌاء أوزٌر (المتحؾ المصري)
توفً الفبلح المقاتل منتوحتب الثانً حوالً ٕٓٔٓ ق.م بعد ٔ٘ من الحكم المضنً ،طواها فً الكفاح
والبناء؛ فحفظت له األجٌال البلحقة ذكراه العطرة ،وكرموه كتكرٌم مٌنا وزوسر وأحمس ،وخبلل
االحتفاالت بذكرى األجداد حملوا تمثاله على األعناق بشكل ممٌز كمٌنا وأحمس ،اعترافا بدور الثبلثة فً
تحم ل المشاق الرهٌبة إلعادة الببلد إلى طبٌعتها األولى ،بعد أن تسلموا الحكم وهً فً حالة احتبلل أو
تشتت ،وإعادة "ماعت" (الحق واألصول) إلى نصابها.
اتبع منتوحتب وجٌله "وصفة عمار مصر" الرباعٌة إلنقاذها وإحٌابها ،وهً خبلصة دستور المصرٌٌن
"ماعت":
ٔ -جمع شمل الببلد تحت حكم مركزي قوي مهاب رادع
وخلفه ابنه منتوحتب الثالث ،ورؼم أنه كان كبٌر السن ،ولم ٌستمر حكمه أكثر من ٕٔ عاما ،لكنه أكمل
مشروعات والده فً تنمٌة الببلد ،وأقام التحصٌنات لحماٌة حدودها ،وبعث حملة لتنشٌط التجارة مع ببلد
ٙ8
بونت فً شرق أفرٌقٌا عادت محملة بالخٌرات(ٗٔ).
وبوفاته ساد الؽموض الفترة التالٌة له ،ولم تظهر وثابق تكشؾ أحوال الببلد ،إال أن المعروؾ أنه تسلم
الحكم منتوحتب الرابع ،ومنه انتقل ألسرة جدٌدة فً ظروؾ ؼامضة ،هً األسرة ٕٔ صانعة المجد
العرٌض ،أسسها أمنمحات األول ،وكان قبل الحكم قابدا فً الجٌش ثم ربٌسا للوزراء.
وبخبراته الحربٌة ،واصل أمنمحات مشوار منتوحتب الثانً بتقوٌة تحصٌن حدود مصر ،فقاد بنفسه
حملة للحدود الشرقٌة ،ودعَّم التحصٌنات التً بناها أسبلفه ،وشٌد حصونا على الحدود بٌن مصر وفلسطٌن
اشتهرت فٌما بعد باسم "أسوار األمٌر" ،وفً فترة متؤخرة باسم "جدار الوالً".
وفً الداخل ،ر َّكز على إعادة تنظٌم الجهاز اإلداري ،واستهل حكمه بنقل العاصمة من طٌبة إلى مدٌنة
جدٌدة اسسها باسم "إثت تاوي" ،اللشت حالٌا ،قرب الفٌوم ،وأرجع نظام التجنٌد العسكري(٘ٔ) ،وأرسل حملة
بقٌادة ابنه سنوسرت لمطاردة المتمردٌن والخصوم الذٌن لجؤوا إلى القباٌل فً الحدود الؽربٌة.
واتبع أمنمحات األول سٌاسة منتوحتب الثانً فً أنه ثبَّت المحافظٌن المتوافقٌن مع سٌاسته مثل حاكم
إقلٌم الوعل فً الصعٌد ،وأبعد من كانوا على خبلؾ مثل محافظً آبو فً أسوان والقوصٌة فً أسٌوط،
وهو ما ٌعنً زوال تورٌث هذه المناصب ،وعودة هٌبة العاصمة على الجمٌع.
وحتى بالنسبة لمن عٌَّنهم من المحافظٌن حرص على أن ٌشعروا بؤن ٌده ]الدولة[ هً الٌد العلٌا ،فتدخل بنفسه
فً تحدٌد حدود المحافظات ،ورسم سٌاستها ،وتعٌٌن موارد الري فٌها ،وتحدٌد سلطاتهم(.)ٔٙ
وبعد مشوار طوٌل استمر ٖٓ سنة فً البناء والحرب انتهت حٌاة أمنمحات باؼتٌاله ألسباب ؼامضة
ومختلؾ علٌها عند علماء اآلثار ،وهو من االؼتٌاالت النادرة التً تعرض لها الحكام المصرٌون فً
التارٌخ القدٌم ،فٌما كانت االؼتٌاالت منهجا منظما فً العاببلت الحاكمة فً ببلد أخرى معاصرة لمصر فً
ذلك الزمان أو الحقة كببلد النهرٌن والٌونان والرومان والعرب واألتراك إلخ.
وتسلم سنوسرت األول الحكم بعده فً سبلم ،دون شقاق أو صراع مع أحد على الحكم ،واتصؾ عهده
الذي استمر ٖٗ عاما بؤنه عهد أمن وسبلم ،اتبع سٌاسة أبٌه فً حب التشٌٌد والبناء ،واهتم اهتماما خاصا
بتعمٌر واستصبلح األراضً الزراعٌة فً الفٌوم التً حوّ لها إلى جنة واسعة ،وفً ذات الوقت شن حمبلت
لصد مخاطر القباٌل المؽٌرة على مصر من شمال السودان ،فوصل بقواته للشبلل الثالث فً ببلد كوش
(السودان الحالً وما ورابه).
وهنا ..أط َّل بوجهه الكاحل خطر آخر بقرونه الحادة وروحه الوحشٌة من الحدود الجنوبٌة ،فبعد أن
كانت الحدود الشرقٌة والحدود الؽربٌة صاحبة النصٌب األكبر فً اهتمام الحكام السابقٌن ،وجَّ ه سنوسرت
(ٗٔ)
-تارٌخ مصر القدٌمة ،نٌكوال جرٌمال ،ص ٖٕٓ
(٘ٔ)
-للمزٌد عن أمنمحات األول انظر نفس المرجع ،ص ٕٓٙ
()ٔٙ
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،ص ٔٙٙ
ٙ9
األول اهتماما خاصا بالحدود الجنوبٌة لزٌادة مطامع القباٌل الكوشٌة فً مصر.
فؤرسل لها حمبلت حربٌة ،ودعَّم الحصون ضد هجرات زنجٌة دفعت أمامها جماعات سودانٌة (؟) إلى
منطقة النوبة؛ فؤشاعت االضطرابات فٌها ،وأطلقت النصوص المصرٌة اسم "كاش" منذ ذلك الحٌن على
منطقة النوبة العلٌا (واقعة ضمن شمال السودان حالٌا) التً تمتد من الشبلل الثانً وقد حُرِّ ؾ هذا االسم فٌما
بعد إلى كوش ،وذلك فً مقابل االستمرار على تسمٌة منطقة النوبة السفلى ] المشهورة باسم النوبة
المصرٌة [ التً تمتد فٌما بٌن الشبلل األول والشبلل الثانً باسم "واوات"(.)ٔ9
وفرض األمن والنظام فً الواحات بالصحراء الؽربٌة ،وفً سٌناء لتؤمٌن مناطق العمال فً المحاجر
وطرق التجارة مع ببلد الشام(.)ٔ8
سارت األمور فً البناء والتشٌٌد والسلم على حالها الطٌب فً عهد خلفابه أمنمحات الثانً وسنوسرت
الثانً الذي استكمل تعمٌر الفٌوم وتوسٌع استصبلح األراضً بها التً كانت تؽطٌها المستنقعات والبرك فً
عهد الدولة القدٌمة ،بل وأنشؤ فٌها سدا عظٌما إلمداد مصر بالمٌاه فً أوقات الجفاؾ ،اشتهر باسم "سد
البلهون" جعل من الفٌوم سلة ؼذاء لمصر.
بعض أبرز وجوه المصرٌٌن حاكمٌن ومحكومٌن من األسرتٌن ٔٔ و ٕٔ وفن التعبٌر فٌها استكمال لما كان علٌه فً عصور النهضة األولى (الدولة
القدٌمة) ،وهً نفس وجوه معظم المصرٌٌن الٌوم
وتمٌز فن النحت بخصابص تعكس التجدٌد فً اإلبداع المصري ،فابتعد لحد ما عن المثالٌة الشدٌدة فً
تصوٌر وجه الحاكم الممٌزة للدولة القدٌمة ،فؤطلق الفنان لٌده العنان لتهدٌنا مبلمح أكثر واقعٌة وإنسانٌة،
()ٔ9
-انظر نفس المرجع ،ص ٔ9ٙ
()ٔ8
-تارٌخ مصر القدٌمة ،مرجع سابق ،ص ٕٕٕٔٔٔ-
ٓ7
فنرى فً وجه سنوسرت الثالث مثبل مبلمح مجهدة ،ولكن حازمة ،كؤنما تعكس إصرار صاحبها على
استكمال مهمته مهما كلفه األمر ،ولم ٌرفض أن تظهر التجاعٌد فً وجهه ،ما أسس لظهور المدرسة
الواقعٌة فً الفن ،وظهر مٌل فنانٌنا إلظهار خضوع الحكام -مثل بقٌة الناس -لؤلرباب(.)ٔ9
وٌعتبر سنوسرت الثالث من أقوى الحكام وأكثرهم تؤثٌرا فً نفوس الناس وقتها ،حتى أن الفنانٌن عكسوا
قوة بؤسه وشكٌمته وحبه للبناء والحرب فً المبلمح اللً نحتوا بها تماثٌله ،وٌحسها المتؤمل لتمثاله الشامخ
فً المتحؾ المصري بالقاهرة ،حتى أنه ٌردد التعبٌر المصري إنه "شاٌل الهم".
وأحسن سنوسرت الثالث االستفادة من ثمار تعب وكفاح أسبلفه بؤن واصل تحقٌق األهداؾ التً
خططوا لها على مراحل ،ولم ٌتٌسر لهم تحقٌقها دفعة واحدة.
وألنه ممن احترموا "ماعت" استكمل سنوسرت الثالث عمل أجداده فً القضاء المبرم على النفوذ الباقً
لبعض المحافظٌن ومراكز القوى ،فإن كان أسبلفه على مدى ٓٓٔ سنة نجحوا فً تروٌض العاببلت
الكبٌرة التً استؤثرت بالحكم والثروة خبلل عصور الفوضى ،لكنهم لم ٌصلوا للقضاء التام على نفوذها،
تركة عصر الفوضى األولى كانت ثقٌلة؛ فظل بعضها محتفظ بتورٌث المنصب ألوالده ،فؤنهى سنوسرت
(ٕٓ)
الثالث بعد أن قوٌت شوكة تورٌث منصب المحافظ ،وقلل ثرواتهم ،بل وألؽى منصب حاكم اإلقلٌم نهابٌا
كفترة انتقالٌة لتخلٌص المحافظات من التحالفات الموروثة.
وعوضا عن ذلك استحدث تنظٌما إدارٌا تولى فٌه الوزٌر ]ربٌس الوزراء[ اإلشراؾ الكامل المباشر
على المحافظات عبر ٖ وزارات :وزارة للوجه القبلً وأخرى للوجه البحري وثالثة لـ "رأس الجنوب،
وتشمل إلفنتٌن والنوبة بؤسوان ،وأتى هذا بنتابج طٌبة؛ إذ فقد كبار العاببلت سلطانهم؛ وبالتالً برزت الناس
من ذوي الحالة المتوسطة ،األمر الذي ٌمكن تتبعه فً زٌادة النذور المرسلة لـ أوزٌر فً معبد أبٌدوس(ٕٔ).
وفً الوقت نفسه أ َّشعت لسنوسرت الثالث شخصٌة حربٌة عنٌدة قوٌة اإلرادة حتى أنه أعلن "تبرأه من
كل ولد له ال ٌنهج منهاجه فً الحرب وحماٌة حدود ببلده وتوسٌعها(ٕٕ)".
فقد واجهت مصر فً عهده حركات مرٌبة قرب حدودها الشمالٌة والجنوبٌة معا ،فاضطر الرجل إلى
التوؼل الحربً فً دول الجوار لتؤمٌن الحدود وطرق التجارة وبث االحترام فً نفوس الجٌران ،وقاد أؼلب
حمبلته بنفسه إلى أواسط فلسطٌن ،وله معركة فٌها قرب سكٌم أو سشم الحالٌة(ٖٕ).
وعودة تجرإ قبابل الشرق والجنوب على مصر مجددا سببها سٌاسة السبلم التً اتبعها قبله أمنمحات
الثانً وسنوسرت الثانً وهما منشؽبلن بالبناء فً الداخل ،وهبوط روح التحفز والمراقبة الشدٌدة للحدود.
()ٔ9
-انظر المتحؾ المصري ،محمد صالح علً وهوورٌج سوروزٌان ،المجلس األعلى لآلثار ،القاهرة ،ص ٖ٘
(ٕٓ)
-انظر تارٌخ مصر القدٌمة ،جرٌمال ،ص ٕٕ٘ٔٔٙ -
(ٕٔ)
-للمزٌد عن هذا اإلصبلح انظر المرجع السابق ،ص ٕٕ٘ٔٔٙ -
(ٕٕ)
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،ص ٗٔ9
(ٖٕ)
-نفس المرجع ص ٓٔ8
ٔ7
فقد ظلت هجرات الزنوج والسودانٌٌن التً ظهرت أٌام سنوسرت األول تهدد النوبة ،فحاربهم
سنوسرت الثالث ٗ مرات ،ومهد لحروبه معهم بشق فتحة واسعة بٌن صخور الشبلل األول -رؼم
صبلبتها -بلػ عرضها ٕٓ ذراعا ،وبلػ طولها ٓ٘ٔ ذراعا وعمقها ٘ٔ ذراعا لتٌسر انتقال الجٌش
واألسطول ،وزاد الجنود الحصون فوق المرتفعات على ضفتً النٌل وفوق الجزر من أسوان حتى وادي
حلفا(ٕٗ).
وترك سنوسرت الثالث ،الذي حكم ٖٙسنة ،فً معبد حصن سمنة قرب وادي حلفا ]عند الشبلل الثانً
بالسودان حالٌا[ نصبٌن من الجرانٌت لتحدٌد حدود مصر الجنوبٌة ،وأمر أال ٌتعداها زنجً قط عن طرٌق
البر أو النٌل ،إال من ابتؽى التجارة فً سوق إٌقن الكبٌر بؤسوان ،أو وفد فً مهمة ،فؤولبك ٌعاملون
بالحسنى ،ولكن بؽٌر أن تتعدى سفنهم شمالً سمنة(ٕ٘).
وتدل أنشطة حكام مصر الحربٌة المتواصلة هذه فً النوبة وسٌناء حتى رفح وفً الصحراء الؽربٌة
حتى مرسى مطروح لطرد الؽزاة ،وإقامة حصون وقبلع فً هذه األطراؾ لمنع عودتهم على أنه لمصر
حدودها المعروفة طوال ذلك التارٌخ ،ولم تختلؾ كثٌرا عما هً اآلن ،وفً هذا رد واضح على من ٌدعً
أن فكرة الحدود "بدعة حدٌثة" ،أو بدعة وضعها "االستعمار األوروبً" ،وأن الببلد مشاع للجمٌع.
وحظً سنوسرت بنصٌب كبٌر من تمجٌد شعبه ،واحتفظت األجٌال بذكراه ،فظلت بعض حصون النوبة
تسمى باسمه ،وذكره تحوتمس الثالث ،المحارب العظٌم ،بالخٌر بعد نحو ٗ قرون من وفاته ،وشٌد له نصبا
باسمه ،وعندما وفد المإرخون اإلؼرٌق والرومان بعده بمبات السنٌن سمعوا عنه حكاٌات شٌقة(.)ٕٙ
وتسلم األمانة ابنه أمنمحات الثالث ،وحكم ٘ٗ عاما ،عاشها جٌله فً استكمال مشارٌع آبابه وأجداده،
فبنى هرمٌن فً دهشور وهوارة بالجٌزة والفٌوم ،و َّدعم الحصون عند سمنة على الحدود مع كوش
كثؾ التواجد البشري فً سٌناء،(السودان) وحصون سٌناء ،وإلى جانب استكمال مشارٌع الري فً الفٌوم َّ
فبعد أن كانت معسكرات العمال فً المحاجر ومناجم الفٌروز والنحاس موسمٌة جعلها دابمة تضم منازل
وآبار وجبانات ،وأجرى توسعات فً معبد حتحور "سٌدة الفٌروز" بسرابٌط الخادم وسط سٌناء(.)ٕ9
وهكذا صارت مصر "ماعت" مجسدة على األرض ..فً أكمل صورة ٌتمناها البشر من العز واألمن،
فً عالم ٌموج وقتها وٌتزلزل بالحروب األهلٌة والعرقٌة والمذابح الشنٌعة فً الشام وببلد النهرٌن (العراق)
وعٌبلم (داخل إٌران الٌوم) ،وؼٌرها لتوالً استٌطان الهجرات الكثٌفة فً أراضٌهم وعدم نضج عقٌدة
الدولة الوطن والحكم المركزي عندهم حتى ذلك الوقت.
وبمراجعة األسباب والنتابج التً حرر بها الزعماء فً األسرتٌن ٔٔ ؤٕ مصر من نار الفوضى الدامٌة
(ٕٗ)
-نفس المرجع
(ٕ٘)
-نفس المرجع ٓٔ8ٔ-ٔ8
()ٕٙ
-المرجع السابق ،ص ٔٔ8
()ٕ9
-انظر :تارٌخ مصر القدٌمة ،مرجع سابق ،ص ٕٔ8 -ٕٔ9
ٕ7
كما نقلتها لنا البردٌات واآلثار ..كم منها ٌنطبق علٌه ما ورد فً البنود الـ ٔ9لدستور عمار مصر؟
"إن السماء تكون فً سالم ،واألرض تكون فً سرور ،ذلك أنه قد أُشٌع أن الملك سوؾ ٌضع "الماعت" لتحل
محل (الباطل)"(.)ٕ8
()ٕ8
-راجع تقدٌم علً رضوان لكتاب "الماعت ..فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة" ،مرجع سابق ،ص ٕٔٔ٘-
()ٕ9
-موسوعة مصر القدٌمة ،سلٌم حسن ،ج ،ٔ9مرجع سابق ،ص ٕٕٖ
(ٖٓ)
-فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة" ،مرجع سابق ،ص ٕٔٔ٘-
(ٖٔ)
-نفس المرجع
ٖ7
تانً تانً تانً
(ٔ)
-أؼنٌة موعود ،كلمات محمد حمزة ،ألحان بلٌػ حمدي ،ؼناء عبد الحلٌم حافظ
المشهد :ٙسقوط الدولة المركزٌة (الزفتة الثانٌة)
ٖٖ ٕٔ٘٘ -ٔٙق.م
فً فٌلم "العتبة الخضرا" سؤل الرجل الطٌب مبروك التاجر الماكر ٌوسؾ" :إنت إزاي بتكسب الفلوس دي
كلها؟" ،فقاله ":ببص على السوق محتاج إٌه وأوفره ،ولو لقتوش محتاج أخلٌه محتاج(ٕ)".
مبروك ٌمثل مصر فً سبلمة نٌتها مع اآلخرٌن ،هذه الطٌبة التً تظن أن الجمٌع مثلها طٌبون -مداموا
ال ٌرفعون فً وجهها السبلح -فتصدق ما ٌقولونه لها ،فٌبٌعون لها الوهم والفخ (العتبة الخضرا) ،وٌوسؾ
هو أعادي مصر الداٌمٌن الذٌن إذا فشلوا فً اختراقها بالسبلح اخترعوا لها الحجج لتقبلهم فً أرضها،
وأؼروها ببضاٌع ال تحتاجها فً األساس ،ولكن بسحر لسان تاجر محترؾ "تزوٌق البضاعة" ٌوهمونها
أنها تحتاجها ،فتفتح لهم أبوابها على مصراعٌها.
وداٌ ما ..تبدأ مإشرات االنهٌار فً مصر فً اللحظة التً تصل فٌها شدة لمعان القوة المصرٌة إلى
أشدها ،وتخطؾ أبصار جٌرانها ،ولكنها ،وٌاللعجب ،تخطؾ كذلك أبصار المصرٌٌن عن رإٌة أعادٌهم
ومكاٌدهم أحٌانا ،وعن حماٌة بلدهم من "رباعً السقوط".
لم ٌقصد حاكم مصري خالص المصرٌة اتباعها مطلقا ،ولكن بعضهم اتبعوها عن ؼفلة وإهمال ،والؽفلة
نتٌجتها أشنع من الخٌانة.
و(وصفة خراب مصر) هً "رباعً السقوط" المعاكس تماما لـ"رباعً العمار" (وصفة عمارة مصر)
وهذا الرباعً المعاكس هو خبلصة البنود الـ ٔ9لدستور الشٌطان "إزفت":
(ٕ)
-فٌلم العتبة الخضرا ،تؤلٌؾ جلٌل البنداري ،إخراج فطٌن عبد الوهاب ،تمثٌل :إسماعٌل ٌس وأحمد مظهر وصباح
٘7
ٔ -البلمركزٌة فً الحكم وضعؾ قبضة الدولة
ٕ -ظهور مراكز قوى سٌاسٌة واقتصادٌة وفنٌة ودٌنٌة تناطح الدولة
ٗ -السٌر على دساتٌر ووصفات أجنبٌة فً الحكم والحٌاة مخالفة لـ ماعت
ففً أٌام سنوسرت الثالث ،وبفضل قضابه هو وأسبلفه أعمارهم فً حماٌة مصر من الؽزوات ،وفً
فبلحة أرضها وعمارتها ،وتفتٌت مراكز القوى الشاذة ،وصلت مصر ألعلى سماء المجد ،وباتت كالشمس
المتؤلألة بٌن جٌرانها ،توقظ بداخل الطامعٌن حنٌن العودة إلى ؼزوها من جدٌد.
وألن مصر وقتها حصنت الحدود ،وباتت قادرة على ردع من ٌرفع فً وجهها السبلح ،فكان التسلل
بإلقاء السبلح -مإقتا -والدخول فً ثوب التجارة وطلب العمل فً المهن الشاقة واللسان الحلو لقبول لجوبهم
لمصر هربا من الهجرات األمورٌة التً تمزق الشام هو سبلح االختراق.
وألن مصر وقتها عامرة بالمشارٌع القومٌة الكبٌرة ،وباإلنتاج الوفٌر ،وبحركة التجارة مع أفرٌقٌا
والشام ،فقد استوعبت هإالء ،ووجدوا من أشفق على أحوالهم ،ومن تؽرٌه بضاٌعهم وصناعاتهم الؽرٌبة
الطرٌفة القادمٌن بها؛ ألنهم كانوا تجارا شاطرٌن ،رؼم عدم حاجة المصرٌٌن لها أساسا ،لكن ذاكرة
المصرٌٌن "تصفر فٌها الرٌح".
وأعطى المسبولون فرص عمل لمن طلبها ،خاصة فً الوظابؾ الشاقة والصؽٌرة ،ولم ٌنتبهوا إلى أنهم
خبلل سنوات سٌتكتلون وٌحصلون على وظابؾ أكبر وأكبر ،وٌنشرون الفتن واألزمات مجددا ،حتى
ٌحكمها ذلك الؽرٌب الذي جاء متوسبل الرزق واألمان.
واحتفظت نصوص من عهد الدولة الوسطى بؤسماء كنعانٌة كثٌرة عمل أصحابها فً مناجم ومحاجر
سٌناء ،وأتباعا وإماء فً المعابد والبٌوت المصرٌة(ٖ) ،وبعض األٌدي العاملة األجنبٌة جاءت ومعها تقنٌات
جدٌدة ،وبدأت عملٌة تسلل بطٌبة مهدت الطرٌق أمام السٌطرة اآلسٌوٌة إذا حانت الفرصة(ٗ).
كما ارتدى التسلل ثوب التجارة ،وتظهر لنا مقبرة "خنوم حتب الثانً" فً بنً حسن بالمنٌا نقوشا
لجماعة أجنبٌة ٌتزعمهم شخص ذكرته باسم "إبشٌا" قادمة للمنٌا ،وفٌها رجال ونساء وأطفال ،تحمل هداٌا
للمحافظ أو بضاٌع للتجارة ،ؼٌر أن وجود نساء وأطفال ٌعنً أنهم جاءوا بنٌة االستٌطان.
(ٖ)
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،عبد العزٌز صالح ،مرجع سابق ،ص ٔ99
(ٗ)
-انظر :تارٌخ مصر القدٌمة ،نٌكوال جرٌمال ،مرجع سابق ،ص ٖٕٕٔٔٗ -
7ٙ
رسم لمنظر منقوش فً مقبرة خنوم حتب الثانً بالمنٌا فٌه مصري (المرتدي نقبة بٌضاء على ٌمٌن الناظر) ٌقود شوام بعاببلتهم لتقدٌمهم إلى مسبول
البلدة فور قدومهم لمصر ،وٌعتقد علماء مصرٌات أنهم تجار أو مهاجرٌن أو الجبٌن شكلوا مقدمة الؽزو الهكسوسً االستٌطانً
وكان أمنمحات الثالث ،ابن سنوسرت الثالث ،شخصٌة هادبة مالت إلى حٌاة السلم مثل جدٌه أمنمحات
الثانً وسنوسرت الثانً ،واستحب مشارٌع العمران(٘) ،ففٌما ٌبدو اطمبن إلى أن مصر فرضت هٌبتها
بشكل "نهابً" على جٌرانها من كرمة فً السودان جنوبا وحتى ببٌلوس فً لبنان ،وأن الحصون التً
أقامها أسبلفه واستكملها هو عند أسوان وسٌناء كافٌة لردعهم ،فحدث ارتخاء وتسلل األجانب ،واستهان
بؤمر الدخبلء بوهم أنهم فبة قلٌلة ،وأن "كله تحت السٌطرة" ،و"مٌن ٌقدر على مصر؟".
وٌبدو أن من أسباب ؼفلة مصر أٌضا عن هدؾ هذا التسلل هو المدٌح الهاٌل الذي ؼمرها به
المهاجرون ،وما ٌتضمنه من تبجٌل لمصر وتعداد لفضابلها علٌهم ،وتقلٌدهم لها فً ثقافتها وصناعاتها،
إضافة إلى إؼراءها بؤنواع جدٌدة من بضاٌع الفضة واألحجار الكرٌمة والزٌوت ومواد التجمٌل ،سال لها
لعاب مصرٌٌن كثرت فً أٌدٌهم الثروات بعد عودة مصر إلى مركزٌتها.
وكذلك العبلقات التجارٌة الحسنة التً كانت بٌن مصر وبعض إمارات الشام التً جعلت حركة الذهاب
واإلٌاب بٌن البلدٌن تبدو "طبٌعٌة" ،واطمبن المصرٌون ألهلها.
وفً ذلك ٌقول جرٌمال" :وفً ؼضون ذلك كانت مصر المثل الذي سار أهل مدٌنة "بٌبلوس" ]جبٌل
على ساحل لبنان[ على هدٌه ،فتلقب زعماإها باأللقاب المصرٌة ،واستخدموا عبلماتها الهٌروؼلٌفٌة
(٘)
-انظر :الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،ص ٗٔ9
77
والمنتجات التً صُنعت على ضفاؾ نهر النٌل(.")ٙ
ولم ترفض مصر من ناحٌتها أن تفتح مجاالت العمل أمام الراؼبٌن فٌه من شٌوخ جنوب سورٌا
تؤب أن تفتح أمام الراؼبٌن منهم فً
ورجالهم فً عملٌات استؽبلل الفٌروز فً شبه جزٌرة سٌناء ،ولم َ
االستقرار فٌها باب الوظابؾ فً عاصمتها ذاتها"( ،!)9بحسب عبد العزٌز صالح.
وكما ٌقول جرٌمال" :واستقبلت مصر فً عهده ]أمنمحات الثالث[ جمعا ؼفٌرا من العمالة الشرقٌة من
فبلحٌن وجنود وحرفٌٌن وفدوا إلى مصر ،وقد شدهم إشعاعها الحضاري وفرص العمل المتوفرة نتٌجة
مشارٌع التنمٌة فً طول الببلد وعرضها على حد سواء(.")8
واتسعت صبلت مصر التجارٌة والثقافٌة بالشام ،السٌما المٌنابٌن التجارٌٌن جبٌل وأوجارٌت ،وعثر فً
مقابر أمراء هذٌن المٌنابٌن على آثار مصرٌة وصلتهم على هٌبة الهداٌا من أمنمحات الثالث وخلفه
أمنمحات الرابع( ،)9واستؽل الصناع فً الشام البضابع المصرٌة فقلدوها(ٓٔ).
وهكذا ،اطمؤنت مصر لمن ظنتهم "أصدقابها" لدرجة الدخول فً معارؾ شخصٌة على مستوى
العاببلت الحاكمة ،فتبادل أمٌرات مصرٌات وأمٌرات شامٌات الهداٌا ،ومنها تمثال على هٌبة أبو الهول
لؤلمٌرة "إتا" بنت أمنمحات الثانً عُثر علٌه فً قطنة شمالً حمص بسورٌا ،وتمثال ٌجسد "خنمة نفرة
حجة" ،أخت سنوسرت الثانً ،كما وصل الود لدرجة أن مصرٌات تسموا بؤسامً معبودات شامٌات كربة
جٌبل(ٔٔ) فً انحراؾ ؼرٌب وقتها عن االعتزاز المعلوم بالدٌن المصري.
ولم تلتفت الحكومة إلى اإلنذارات التً ترِّ ن فً اآلذان عن نواٌا جماعات شامٌة نحو مصر ،مثل مشاكل
الحدود التً تنشب بٌن الحامٌات المصرٌة وبدو الصحاري الفلسطٌنٌة من حٌن إلى آخر.
ومن تؤثٌر انفتاح أمنمحات الثالث الؽٌر محسوب مع الجٌران أن سرت روح االرتخاء فً خلفابه،
أمنمحات الرابع ،وحور أوت إب ،ونفرو سوبك ،وٌبدو أنهم كانوا من الحكام الضعاؾ قلٌلً الوعً ،فٌما
كان بالتزامن ٌقوي المهاجرون شوكتهم فً الداخل(ٕٔ).
وانتهت األسرة ٕٔ مع حكم الملكة نفرو سوبك القصٌر حوالً ٘ ٔ98ق .م ،وانتقل الحكم لؤلسرة ٖٔ،
واستمر فً معظم عصر األسرة ٖٔ االستقرار النسبً ،والفضل األول فً ذلك لتقالٌد العمل العرٌق
()ٙ
-تارٌخ مصر القدٌمة ،ص ٕٗٔ
()9
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،ص ٕٔ8
()8
-تارٌخ مصر القدٌمة ،ص ٕٔ8
()9
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،عبد العزٌز صالح ،ص ٔٔ8
(ٓٔ)
-نفس المرجع ،ص ٔ98
(ٔٔ)
-انظر :نفس المرجع
(ٕٔ)
ٌ -شبه ما جرى فً عهد أمنمحات الثالث من ارتخاء وقلة وعً ما حدث فً عهد الربٌس حسنً مبارك ،فبعد عقود من الحروب والكفاح خلدت
مصر إلى السلم ،وتراخت ٌداها عن الحدود ،وظنت أنها طوت عهود الحروب ،وقابلت استعطاؾ فلسطٌنٌٌن لها فً الشرق وسودانٌٌن لها فً
الجنوب بؤذرع مفت وحة ،فتركت فلسطٌنٌٌن ٌتسللون إلى البالد بعدة أشكال ،منها األنفاق ،والسودانٌٌن تتكاثر أعدادهم باسم الجبٌن ،إضافة لتسلل
جماعات من لٌبٌا ،وظهرت مخاطر األنفاق وتوطٌن األجانب بعد عام ٕٔٔٓ فً ضرب االقتصاد واألعمال اإلرهابٌة ،خاصة أن مصر ؼفلت كذلك
عن تسلل أعدابها لها فكرٌا بالتنظٌمات والتٌارات الفكرٌة التً خربت هوٌة ونفوس كثٌر من أبنابها ،وجعلتهم "ضد الوطن".
78
بمإسسات الحكومة والجهاز اإلداري(ٖٔ) ،بتعبٌر جرٌمال.
لكن مع خفوت روح التحدى والحرب واستشعار الخطر ،دبَّ الضعؾ فً األوصال نهاٌة األسرة ٖٔ،
وظهرت معالمه بقٌام األسرة ٗٔ فً سخا بكفر الشٌخ بالوجه البحري لمنافسة األسرة ٖٔ ،فتشتت الحكم
المركزي من جدٌد ،وانشرخ قلب مصر ،وتفرَّ قت السلطات ،وتمزق الجٌش بٌنهم ،وتعاقب الحكام بشكل
سرٌع مهزوزٌن ،وحكم معظمهم لفترات صؽٌرة ،وأطلَّت فوضى جدٌدة بوجهها األؼبر فً تارٌخ
مصر(ٗٔ).
تحت عنوان "الؽزو" ٌتتبع جرٌمال جذور االحتبلل الهكسوسً فٌحكً أن تدفق العمالة اآلسٌوٌة هو
بداٌة حركة هجرة متصلة وسلمٌة ،ولكنها ثابتة ودإوبة ،أدت إلى استقرار بعض الشعوب على الحدود
الشمالٌة الشرقٌة لمصر ،جاءت بعد أن طردتها من مواطنها هجرات جدٌدة هاجمت الشام ،حتى إذا آن
األوان نزع المهاجرون إلى االتحاد لٌحتلوا المناطق التً تقع تحت إٌدٌهم ،وعادت اآللٌات التً كانت وراء
سقوط الدولة القدٌمة إلى الظهور ،وتتمثل فً إضعاؾ الدولة وما ترتب علٌه من انفراط عقد وحدة الببلد.
وأخذت مصر الحقٌقٌة تتحصن فً جنوب الببلد(٘ٔ).
وتشٌر عبارة أن "مصر الحقٌقٌة" أخذت "تتحصن فً جنوب الببلد" ،إلى أن المهاجرٌن (الذٌن سماهم
المصرٌون بعد ذلك بالهكسوس) مارسوا انتهاكات وفظاٌع ضد المصرٌٌن ،وطردوا بعضهم من أراضٌهم
بالوجه البحري ،فذهب بعضهم إلى الوجه القبلً الذي لم ٌصله االحتبلل االستٌطانً.
وصؾ آخر ٌورده ترٌفور براٌس للهكسوس بؤنهم "هجرات شعوب كنعان" ،وأنهم خبلل الدولة الوسطى
"استقرت بشكل نهابً فً دلتا مصر وبؤعداد كبٌرة ال حصر لها ،وبالفعل اعتبر بعض الباحثٌن أن أولبك
المهاجرٌن كانوا سببا فً انهٌار السٌطرة السٌاسٌة التً وصلت بالحكم إلى انهٌاره ،وربما كانوا بالفعل
عنصرا هاما من العناصر التً أدت إلى انهٌار اإلمبراطورٌة المصرٌة بعد حكم أسر المملكة
المتوسطة"(.)ٔٙ
واستولى الهكسوس على الحكم فً شمال شرق مصر بالتدرٌج وعلى مراحل ،فؤوال وطدوا أقدامهم فً
فرعشة وتل الصحابة عند مخرج وادي الطمٌبلت ،وفً بوباستس وإنشاص وفً تل الٌهودٌة على مسافة
ٕٓ كم شمال مدٌنة هلٌوبولٌس (أون بالمصري القدٌم وعٌن شمس حالٌا)(.)ٔ9
واستؽرق هذا الزحؾ حوالً ٓ٘ سنة -أي ببطء شدٌد لم ٌلحظه المصرٌون -لٌنتهً سنة ٘ ٔٙ9ق .م
(ٖٔ)
-انظر :تارٌخ مصر القدٌمة ،جرٌمال ،ص ٕٖ9 -ٕٖ8
(ٗٔ)
-للمزٌد انظر :رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة ،رمضان عبده علً ،جٕ ،مرجع سابق ،ص ٖ٘ٗٗ9ٖ -
(٘ٔ)
-انظر :تارٌخ مصر القدٌمة ،جرٌمال ،ص ٕٖ9
()ٔٙ
-رسابل عظماء الملوك فً الشرق األدنى القدٌم ،ترٌفور براٌس ،ترجمة رفعت السٌد علً ،دار العلوم للنشر والتوزٌع ،طٔ ،القاهرة ،ص ٖٙ
()ٔ9
-تارٌخ مصر القدٌمة ،ص ٕٕٗ
79
فً عهد الملك رقم ٖٖ أو ٖٗ فً قابمة ملوك األسرة ٖٔ(.)ٔ8
وتضم بردٌة بروكلٌن ( )Pap.Brooklyn ٖ٘.ٔٗٗٙالتً تتناول أول عهد الملك سوبك حتب
الثالث فً األسرة ٖٔ -وهً خاصة بمسابل الخدم فً الوجه القبلً ،قاٌمة لـ ٘ٗ آسٌوٌا من الرجال والنساء
والولدان ألحقوا بخدمة موظؾ واحد فً الوجه القبلً ،وٌعلق وٌلٌام هاٌس على البردٌة بعد أن درسها
وتؤملها" :و إذا ما تصورنا أن مثل هذا العدد سٌوجد عند األؼنٌاء من المصرٌٌن فً ذلك الوقت فً مصر
العلٌا ،فعند ذلك سٌصبح عدد اآلسٌوٌٌن كبٌرا أكثر مما ٌتصوره اإلنسان ،وساء لعبت هذه المجموعات من
العبٌد أم لم ٌلعبوا فً التعجٌل أو تمهٌد الطرٌق الحتبلل الهكسوسن فهذا أمر صعب قبوله ،إال أنه كان
للتزاوج وما شاكل هذا أثره فً إضعاؾ مقاومة المصرٌٌن للهكسوس الذٌن سٌندفعون بعد فترة إلى
الببلد"( ،)ٔ9فً إشارة فٌما ٌبدو لصنع الهكسوس روابط عاطفٌة وعبلقات مصلحة مع بعض المصرٌٌن،
فالبتؤكٌد ؼرس هإالء فً منازل وأماكن عمل األؼنٌاء وأصحاب النفوذ ،وبهذه الكثرة ،وفً مجتمع ٌقدم
حسن النٌة مع الؽرٌب على الشك ،بالتؤكٌد لن ٌمر مرور الكرام.
وواضح أن الخطر حاوط المصرٌٌن من كل اتجاه ،فتخلخلت الحدود الؽربٌة والجنوبٌة أٌضا على وقع
دبٌب الضعؾ فً مإسسات الدولة المركزٌة ،حتى لجؤ الناس إلى ما أسماه علماء اآلثار بـ"نصوص
اللعنة" ،وهً نصوص ألدعٌة ٌطلب الناس من رجال الدٌن كتابتها على تماثٌل صؽٌرة من الطٌن ،تمثل الشٌوخ
اللٌبٌٌن وحكام كوش وحكام مدن الشام ،ذكروا منها بٌبلوس (الجبٌل) ،أورشلٌم (القدس) ،عسقلون (عسقبلن)،
ٌافا ،كوشو ،العناكٌم ،حبرون (الخلٌل) ،عشتاروت ،أكر (عكا) ،شاروهٌن (ؼزة) ،وؼٌرها ،على أمل أن تصب
األرباب لعناتها علٌهم ،ثم ٌكسرونها أو ٌلقونها فً النار ،وهو ما ٌوضح أنهم بدأوا ٌتجرعون مرارة استٌطان
هجرات تابعة لهإالء(ٕٓ).
كما ٌكشؾ عن ضعؾ مإسسات الدولة التً لم ٌعد األهالً ٌرون فٌها القدرة على ردع تجرإ األجانب
علٌهم فً الببلد(ٕٔ) فلجؤوا ألسالٌب بدابٌة لتفرٌػ ما فً صدورهم من ؼٌظ أو فزع وخوؾ من المجهول.
ونصوص اللعنة باقً منها حالٌا أن الناس من باب المرح أو الدعابة ٌقصون الورق على شكل عروسة
أو ٌشكلون عروسة من عجٌن أو طٌن ،وٌخرمونها بشوكة أو عود وهم ٌصبون اللعنات على العزول
والخصوم مثل" :رقٌتك واسترقٌتك من عٌن فبلنة وشوكة فً عٌن فبلن" الذي تمثله العروسة ،وعقب ذلك
ٌحرق الشخص الورقة أو ٌكسر عروسة الطٌن على أمل كسر الشر.
وألن أعداء مصر داٌما ٌتحالفون ضدها فً وقت ضعفها ،فقد تحالؾ الهكسوس القادمون من الشرق مع
الكوشٌٌن فً السودان وببلد الزنج المهاجمٌن لها من الجنوب ،وانحصر المصرٌون بٌن فكً الكماشة،
وهذا بخبلؾ تجرإ القباٌل الهاجمة علٌهم من الؽرب ،وعشعشة األجانب بالداخل.
()ٔ8
-نفس المرجع ص ٕٔٗ
()ٔ9
-مجموعة الملوك المسماة "سوبك حتب" فً األسرة ٖٔ ،د .أحمد محمود صابون ،دار المعرفة الجامعٌة ،اإلسكندرٌة ،ص ٖٖٕٔ -
(ٕٓ)
-انظر :رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة ،ج ٖ ،مرجع سابق ،ص ٕٔ -8
(ٕٔ)
-انظر :الشرق األدنى القدٌم -مصر والعرق ،ص ٘ٔ8
ٓ8
ووصؾ المإرخ المصري مانٌتون ؼزو الهكسوس لمصر خبلل كبلمه عن ملك سماه توتٌماٌوس" :وفً
عهده كٌؾ ال أدرى عصؾ بنا ؼضب الرب ،ووفد ؼزاة من الشرق مجهولو األصل إلى أرضنا دون
توقع ،وكلهم أمل فً النصر ،فهاجموها عنوة واستولوا علٌها بسهولة ،وتؽلبوا على حكامها ،وحرقوا مدننا
فً وحشٌة ،وس ووا معابد األرباب باألرض ،وعاملوا المواطنٌن بخشونة وفظاظة ،وذبحوا بعضهم،
واسترقوا نساء بعض آخر وأطفالهم(ٕٕ)".
ت فجؤة كما قال مانٌتون الذي كتب تارٌخه بعد ٓٓٔٙ لكن واضح من تسلسل األحداث أن الؽزو لم ٌؤ ِ
سنة من األحداث ،فالؽزو العسكري هو آخر خطوة بعد أن تمكنت جماعاتهم المتسللة فً الداخل ،وؼزل
عبلقات قوٌة مع عاببلت مصرٌة ،وتحصنوا عبرها بالنفوذ ،وعلموا األسرار ،فلما تؤكدوا من ضعؾ
مإسسات الدولة ،وإهمالها لـ ماعت ،بذروا الشقاق والنزاع فً مصر ،فطابت لهم الثمرة ،ولم تعد تحتاج إال
طوبة ترمى علٌها لتسقطها ،فاستدعوا بنً جلدتهم المسلحٌن من الشام لٌضربوا الضربة األخٌرة.
وكلمة "هكسوس" عند المصرٌٌن ال تعنً شعبا بعٌنه ،ولكن تعنً القباٌل الرعوٌة األجنبٌة ،وهً تسمٌة
تشبه كما نقول اآلن "الفرنجة" على الؽرب ،وال نقصد بها برٌطانٌا فقط أو فرنسا فقط ،بل كل القادمٌن من
أوروبا ،أو نطلق كلمة العرب على كل دول الخلٌج ولٌس دولة بعٌنها.
وفً رأي الدكتور صالح(ٖٕ) فالهكسوس خلٌط من هجرات آرٌة ؼزت الشام مع جماعات أمورٌة من
سكان سهول الشام ،وتحالفوا سوٌا ،واتجهوا للجنوب ناحٌة الحدود المصرٌة ،وتسربوا منها إلى الداخل
ببطء ،وكوَّ ن المهاجرون نفوذا لهم بالداخل ،فتشجعوا على ؼزوها بالضربة القاضٌة بمساعدة المهاجرٌن
القدامى الذٌن عرفوا أسرار الببلد ووثقوا عبلقتهم بؤهلها.
وٌبدو أنهم شنوا حربا نفسٌة على المصرٌٌن أٌضا بنشر قصص األهوال التً تقوم بها الهجرات الجدٌدة
فً الشام باألسلحة الجدٌدة التً ال ٌملك المصرٌون مثلها ،وذلك لتخوٌؾ الناس ،وكسر روحهم المعنوٌة،
خاصة وهم ٌعلمون أال جٌش مركزي أو حكومة قوٌة تقوي ظهرهم(ٕٗ) ،وهو ما ٌشبه الحرب النفسٌة التً
ُتروى أو ُتصور عن جرابم اإلرهابٌٌن والدواعش فً العصر الحالً.
ومن أنواع األسلحة الجدٌدة التً فاجا الؽزاة بها المصرٌٌن العربات الحربٌة ،واألقواس المركبة
الكبٌرة المصنوعة من (طبقات) الخشب ومن القرون ومن أوتار شدٌدة ،وكانت ترمً بشدة وإلى مدى أبعد
من مرمى األقواس المصرٌة القدٌمة(ٕ٘).
ولما استولى الهكسوس على سٌناء ومعظم الدلتا ،تجرأوا على منؾ العظٌمة ،ونهبوا كنوزها ،وفضوا
أسرارها ..نفس الكاس الذي ذاقته فً أهوال زلزال السقوط نهاٌة األسرة ..ٙنفس الكاس!
(ٕٕ)
-المرجع السابق ص ٔ8ٙ
(ٖٕ)
-نفس المرجع ،ص ٔ88
(ٕٗ)
-انظر :نفس المرجع
(ٕ٘)
-نفس المرجع ص ٔ89
ٔ8
وأول حاكم منهم اسمه سالٌتس ،وظهرت بٌن أسامً ملوكهم أسامً آسٌوٌة مثل خٌان وٌعقوب ،وخوفا
من هجمات المصرٌٌن أنشؤوا عاصمة لهم أقصى شرق الوجه البحري ،محصنة تحصٌنا شدٌدا فً مدٌنة
"حت وعرة" ،سماها الٌونان بعد ذلك أفارٌس أو أوراٌس ،لتكون قرٌبة من مواطنهم فً الشام ،فٌسهل
وصول مدد إلٌهم إذا ما هاجمهم المصرٌون لطردهم ذات ٌوم(.)ٕٙ
وفً نفس الوقت حاولوا التشبه بالمصرٌٌن فً األسماء والملبس وبعض أشكال العمارة والعادات،
لٌكسروا حدة كراهٌة المصرٌٌن لهم ،وقدسوا المعبود "ست" ،وإن احتفظوا بالكثٌر أٌضا من أسمابهم
وعاداهم ودٌنهم ،وجعلوا من أنفسهم الطبقة األعلى فً مناطق سٌطرتهم التً بقً فٌها مصرٌون(.)ٕ9
ولم ٌنعدم اختبلطهم بالمصرٌٌن ،ولكن انعزالهم فً جزء من الببلد ،وكونهم قوم ؼزاة جعل هذا
االختبلط على نطاق ضٌق رؼم احتمال بقابهم فً مصر ٔٓ8سنة بحسب بردٌة "تورٌن"( ،)ٕ8وظلت
صدور المصرٌٌن تموج بالؽضب منهم وتحٌن الفرص لطردهم.
أما نفوذ المصرٌٌن فً وقت احتبلل الهكسوس فتراجع نحو الوجه القبلً من بعد المنٌا ،مع بقاء
وكون الهكسوس األسرتٌنمصرٌٌن أٌضا فً ؼرب الدلتا تمسكوا بؤراضٌهم وكونوا ما عُرؾ باألسرة َّٗٔ ،
٘ٔ و ،ٔٙفٌما كوَّ ن المصرٌون فً الوجه القبلً األسرة ،ٔ9وٌدفعون الجزٌة للهكسوس فً الؽالب بحسب
د .سلٌم حسن(.)ٕ9
ولنا أن نتخٌل الضٌقة والحصار الشدٌد الذي كابده األجداد خبلل تجهٌزهم حرب التحرٌر ضد
الهكسوس ،ورؼم هذا استطاعوا الفكاك منه وهزٌمة الهكسوس بكل حلفابهم.
فقد سٌطر الهكسوس على معظم ثروات مصر ،مناجم سٌناء ،األراضً الخصبة الواسعة وأحراش البردي فً
الوجه البحري ،وأراضً مصر ومناجمها الحجرٌة حتى المنٌا ،وتحكموا فً طرق التجارة بٌن مصر والشام،
وهدد حلفاإهم الكوشٌون جنوب أسوان ومناجمها ومحاجرها ،وطرق التجارة مع أفرٌقٌا ،فبات المصرٌون ال
ٌسٌطرون على أرضهم سوا المساحة ما بٌن المنٌا وأسوان ،وهً األقل فً الثروات من األماكن التً
ٌسٌطر علٌها الهكسوس والكوشٌون ،فلم ٌعد فً ٌد المصرٌٌن من ثروة البلد سوا مساحة من األرض
الزراعٌة ،إضافة لبعض الصناعات.
وفً هذه الظروؾ ،تولى أمر المصرٌٌن فً الوجه القبلً أسرة من طٌبة هً األسرة ،ٔ9أسسها رع
()ٕٙ
-المرجع السابق ،ص ٔ9ٓ -ٔ89
()ٕ9
-انظر :نفس المرجع ،ص ٓٔ9
()ٕ8
-انظر :نفس المرجع
()ٕ9
-موسوعة مصر القدٌمة ،سلٌم حسن ،جٗ ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب (مكتبة األسرة) ،ص ٗ٘ٔ
ٕ8
حتب ،قررت رؼم الحصار الخانق إعداد األهالً للقتال(ٖٓ).
جرى إعادة تنظٌم وتسلٌح الجٌش فً سرٌة تامة ،وفً نفس الوقت ركزت األسرة ٔ9على إحٌاء الروح
والثقة والعزة فً النفوس ،واعتزاز المصرٌٌن بتارٌخ ببلدهم أٌام األجداد ،لٌشتاقوا إلى رإٌتها حرة من
جدٌد ،فحافظ جٌلها على التراث المعماري واألدبً الذي تركته الدولة القدٌمة والوسطى ،واهتموا بتدرٌس
األدب المصري والحكمة الموروثة والتعالٌم والوصاٌا ،مثل تعالٌم "بتاح حتب" و"كاجمنً" ،واهتموا
بترمٌم وتجدٌد المعابد والمنشآت التً شٌدها أسبلفها كترمٌم معبد "مٌن" فً أسوان وأوزٌر (أوزٌرٌس) فً
مبان جدٌدة فً الكرنك وأبٌدوس(ٖٔ).
ٍ سوهاج ،ورؼم قلة الموارد شٌدت
ولٌس معروفا على وجه الٌقٌن متى بدأ الكفاح المسلح ضد الهكسوس ،لكن ظهرت مبلبس القتال
وأدوات حربٌة كؤقواس وسهام مدفونة مع إنتؾ السابع ،أحد أجداد أحمس ،فً مقبرته(ٕٖ) ،ؼٌر معروؾ هل
استعملها فً معارك ضدهم ،أما كانت داللة على إعبلنه الحرب علٌهم وتجهٌز الببلد لذلك(ٖٖ).
وتبدأ األدلة القاطعة على الكفاح المسلح بعهد "تا عا" الثانً (سكننرع) والد أحمس فً بردٌة دراسٌة
لتلمٌذ مصري اسمه "بنتاإور" فً عهد مرنبتاح ابن رمسٌس الثانً (بعد طرد الهكسوس بـ ٖٓٓ سنة)
تتناول قصة تحرٌر مصر ،كتب أن أرض مصر كانت تبن تحت وطؤة الوباء ،وأنه لم ٌكن فٌها سٌد ٌعتبر
ملك زمانه ،فبٌنما حكم الملك سكننرع فً مدٌنة طٌبة (الجنوبٌة) حل الوباء فً مدٌنة العامو (الهكسوس)،
وبمعنى آخر استقر الملك إٌبً (ملك الهكسوس) فً حة وعرة"(ٖٗ).
وٌظهر تقزز المصرٌٌن من الهكسوس فً أنهم استمروا حتى مبات السنٌن بعد طردهم فً وصفهم
بـ"الوباء" ،وفً مواضع أخرى وصفوهم بـ"الهمج" و"الطاعون" ،وٌبدو أن ملك الهكسوس "إٌبً" حاول
استعراض قوته واستفزاز سكننرع وإذالله بإهانة دٌنه ،فجمع "إٌبً" كتبته وحكماءه كما روت البردٌة ،وشاورهم
فً األمر ،فؤوحوا إلٌه بحٌلة ماكرة عقبوا علٌها بقولهم "ولسوؾ نرى إذن قدرة ربه الذي ٌحتمً به ،وهو الذي
ال ٌعتمد على إله ؼٌر آمون رع ملك األرباب(ٖ٘)".
(ٖٓ)
-تكرر هذا التحدي الرهٌب الخاص بـ"الحصار" أمام المصرٌٌن عدة مرات فً العصر الحدٌث ،منها وقوفهم عزل من السالح ومن ثروة بلدهم
فً وجه أكبر إمبراطورٌة مسلحة فً العالم ،برٌطانٌا ،خالل ثورة ،ٔ9ٔ9وإقامة المشروعات العظمى وتؤمٌم قناة السوٌس بعد عام ٕ٘ ٔ9رؼم
الحصار الؽربً وقلة الموارد ،وخوض حرب االستنزاؾ وإعادة بناء الجٌش واالنتصار فً حرب ٙأكتوبر ٖ ٔ97رؼم أن مصر مخنوقة اقتصادٌا،
فقناة السوٌس مؽلقة ،والسٌاحة متوقفة ،والبترول وخٌرات سٌناء فً ٌد إسرابٌل.
(ٖٔ)
-انظر اإلنجازات التنموٌة لألسرة ٔ7فً تارٌخ مصر القدٌمة ،نٌكوال جرٌمال ،ص ٕٕٗٗٗٙ -
(ٕٖ)
-نفس المرجع ،ص ٕٗٙ
(ٖٖ)
-الالفت أن جرٌمال رؼم حدٌثه عن الحروب بٌن مصر والهكسوس إال أنه استؽل أن الهكسوس قلدوا مظاهر حضارٌة مصرٌة فً األدب والدٌن
والعلوم ،وتعلم المصرٌٌن أسلحة جدٌدة كالعربات الحربٌة من الهكسوس ،ووجود بعض االختالط بسبب الجوار ،ووجود فترة ارتخاء أو سالم فً
العالقا ت لٌقول إنهم بشكل عام عاشوا فً سالم ،ولم ٌكن بٌنهم كراهٌة ،وزاد بؤن اعتبر أن للهكسوس "فضل" حضاري على المصرٌٌن ،وعجز
عن أن ٌفسر لماذا إذن حاربهم المصرٌون وطردوهم شر طردة ،وهذا أسلوب مكرر فً كتابات بعض علماء المصرٌات األجانب؛ لشٌوع أحادٌث
عن وجود عالقة بٌن الٌهود والهكسوس .انظر جرٌمال ،ص ٕٕٕٗٗ8 -
(ٖٗ)
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،ص ٔٔ9
(ٖ٘)
-نفس المرجع
ٖ8
واتبع "إٌبً" مشورتهم فؤوفد رسوال إلى سكننرع ٌقول له" :أسكتوا أفراس الماء فً البحٌرة الشرقٌة
بطٌبة؛ فضجٌجها ٌحرمنً النوم فً نهاري ولٌلً ،وأصواتها تطن فً مسامع مدٌنتً(.")ٖٙ
وأضافت البردٌة أن سكننرع عامل الرسول كما تنبؽً معاملة الرسل ،فؤكرمه وهاداه ،ثم جمع كبار
رجال الدولة لٌشاورهم فً األمر ..وهنا انتهى درس البردٌة قبل أن تتضح بقٌة األحداث ،ولكنه ن َّم عن أن
المصرٌٌن ظلوا ٌطوون صدورهم على كره الهكسوس وذكرٌات احتبللهم ،وأنه لم ٌكن فً وسع ملك
الهكسوس أن ٌعتبر نفسه ملكا على مصر كلها ،وأنه ضاق بنشاط أهل طٌبة وقلق من النتابج التً ٌمكن أن
تترتب علٌه(.)ٖ9
وإذا كانت بقٌة األحداث لم تتضح فً البردٌة ،فقد تحدثت عنها رأس سكننرع التً توجتها ٘ جراح
عمٌقة من ضربات سٌؾ ومقمعة وبضعة سهام ،ودل كل جرح منها على بداٌة الجهاد المسلح فً عهد
صاحبه واستبساله واستماتته فً الظفر بمآربه( ،)ٖ8وهو ٌرقد اآلن فً قاعة الجثامٌن (المومٌاوات)
بالمتحؾ المصري ،وٌبدو على حالته أن تحنٌطها تم على عجل فً ظروؾ طوارئ.
واستلم ابنه كامس راٌة الكفاح بعد استشهاده ،ودل على ذلك ٖ لوحات من الحجر فً معبد الكرنك ،نصبها
المصرٌون فً عهد كامس ،ودرس تارٌخً كتبه تلمٌذ على لوحة خشبٌة صؽٌرة ،معروفة باسم لوحة كارنرفون.
صور الدرس المراحل األولى للجهاد أٌام كامس ،فوصفه بؤنه حاكم فاضل ،وأن رع شاء أن ٌجعله
حاكما فعلٌا ووهبه الجرأة فً الحق ،وأنه ضاق بؤحوال الببلد فقال فً مجلس ببلطه" :كٌؾ أقدر نفوذي هذا
إذا كان هناك حاكم فً حة وعرة وحاكم آخر فً كاش؟ وال زلت شرٌكا لهكسوسً وزنجً ،وكل منا
ٌسٌطر على رقعة من هذه الببلد؟ وإنً ال أكاد أبلػ منؾ ،وقد سٌطر (العدو) على منطقة األشمونٌن
(بالمنٌا حالٌا) ،وما عاد أحد ٌؤمن السلب والنهب والعبودٌة للبدو األسٌوٌٌن(.")ٖ9
ولم ٌجد فً البداٌة من المسبولٌن حوله حماسة كافٌة للقتال واستكمال مشوار سكننرع ،فقد خشوا أن
ٌنتهً إلى أن ٌحتل الهكسوس ما تبقى من أرض مصر ،فحاول كامس أن ٌستفزهم للحرب ،وقال" :ولسوؾ
أقاتل (العدو) وأبقر بطنه ،وإن ؼاٌتً أن أحرر مصر وأستبٌح دماء العامو".
وانطلق كامس بالجٌش ،وصدق ظنه فً سواد شعبه ،فهرع إلٌه أهل الشرق والؽرب (ضفتا النٌل شرقا
وؼربا) ،كما قال ،وأمدوا الجٌش أٌنما حل بالمإنة والزاد ،ووصؾ مسٌرته مع جٌشه فقال" :أبحرت فً
عزم ألجلً الهكسوس وفقا ألمر آمون ذي الرأي الرشٌد ،وجٌشً أمامً مستبسل كؤنه شعلة من نار(ٓٗ).
بدأ بمدن مصر الوسطى فطهرها من الهكسوس ،وعاقب الخانعٌن لهم فً نفروسً (بالمنٌا) ،منهم نابب
()ٖٙ
-نفس المرجع
()ٖ9
-نفس المرجع ،ص ٔٔ9ٕ -ٔ9
()ٖ8
-نفس المرجع
()ٖ9
-نفس المرجع
(ٓٗ)
-نفس المرجع
ٗ8
للهكسوس فٌها ٌسمى تٌتً بن ببًٌ ،من المصرٌٌن الندرة الذٌن اندمجوا مع الهكسوس ،فصب الجٌش نار
ؼضبه علٌه ،وقال عنه كامس" :وقد أرسلت فرقة من المجاو على حٌن قضٌت ٌومً فً محاولة فرض
الحصار على تٌتً بن بٌبً فً منطقة نفروسً ألننً لم أكن أرؼب فً أن أتركه ٌفر ،لقد تحدٌت
اآلسٌوٌٌن ،وبهذه المناسبة قضٌت اللٌلة فوق سطح سفٌنتً ،وقلبً ٌملإه الفرح ،وفً الصباح انقضضت
علٌه مثل الصقر ،وقضٌت علٌه فً اللحظة التً كان ٌنظؾ فٌها أسنانه (أي عند قٌامه من النوم) ،وهدمت
جدرانه وقضٌت على أفراد قواته ،وأرؼمت زوجته على أن تقذؾ بنفسها من أعلى شاطا النهر ،وكان
جنودي مثل الذباب التً تنقض على الفرٌسة(ٔٗ)".
وبعدها ٌمم وجه شطر الجنوب لٌتخلص من أحد ضلعً الكماشة التً تحاصره ،وهو الكوشٌٌن حلفاء
الهكسوس ،وتتحدث عن ذلك نصوص فً الكرنك ٌظهر فٌها أنه شن حملة مفاجبة على كوش ،وأجبر
والٌها الجدٌد على أن ٌوقؾ صداقته للهكسوس ،ثم اندار إلى الشمال لقطع اإلمدادات التً تصل الهكسوس
عن طرٌق فروع النٌل(ٕٗ).
وٌبدو أن عنصر المفاجبة لعب دورا كبٌرا فً االنتصارات التً حققها كامس ،مع تراخً الهكسوس بعد
أن ظنوا أنهم صاروا حقا "سٌد" مصر ببل منازع.
كما جرى الهجوم فً وقت توهم فٌه الهكسوس وجود فترة سبلم بٌنهم وبٌن المصرٌٌن ،وكان الجٌش
أعد أسطوال حربٌا نهرٌا قوٌا لهذه المعركة ،وحامبلت نهرٌة للعجبلت الحربٌة ،وأدخل تحسٌنات ؼٌر
متوقعة على صناعتها ،جهلها حتى الهكسوس الذٌن ٌُنسب إلٌهم اختراعها(ٖٗ).
وهنا انقسم الهكسوس على أنفسهم ،وخرج بعضهم عن طاعة ملكهم ،وأحرز كامس نصرا فً بعض
المعارك النهرٌة ،ووصؾ دخوله إحدى المدن فً أسلوب لطٌؾ قال فٌه (أو قال على لسانه أحد أدباء
عصره)" :لمحت نساء العدو فوق دٌاره ٌتطلعن من النوافذ إلى الشاطا ،وحٌن سمعن صوتً لم ٌستطعن
حراكا ،ومددن أنوفهن من خبلل (شقوق) الجدران كؤفراخ القطا فً جحورها حٌن كانت أنادي :هذا أوان
الهجوم ،ها أنذا ولسوؾ أنتصر"(ٗٗ).
وكؤنه فً هذه المعارك وبهذه الروح والكلمات ٌجسد ما ردده حفٌده بعد آالؾ السنٌن ،الفبلح محمود
حسن إسماعٌل ،بالروح الموصولة ،أمام هكسوس العدوان الثبلثً على مصر ٔ9٘ٙفً رابعته "أنا النٌل
مقبرة للؽزاة":
(ٔٗ)
-رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة ،رمضان عبده علً ،مرجع سابق ،ص ٓٗٗٔ -
(ٕٗ)
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٖٔ9
(ٖٗ)
-انظر :رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة ،مرجع سابق ،ص ٕٓٗٗ-
(ٗٗ)
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٖٗ
٘8
على كل عا ٍد تشب العدم ٌد هللا فً ٌد مصر قسم
العلم
وترفع للشمس نور َ تدك الطؽاة وتحمً الحٌاة
ففً إطار الحرب المعنوٌة توعد كامس الهكسوس بقوله" :لقد خابت آمالك أٌها الخاسًء الذي اعتاد على
أن ٌقول أنا السٌد وال مثٌل لً .أما (عاصمتك) فسوؾ أمحوها ولن أجعل أحدا ٌعثر لها على أثر ،وسوؾ
أدمر قرى (شعبك) ،وأحرق دٌارهم حتى تصبح تبلال حمراء إلى األبد ،جزاء وفاقا على ما ألحقوه بمصر
من دمار ،وسوؾ ٌسمع الناس (عوٌل) الهكسوس حٌن ٌفارقون مصر سٌدتهم (مرؼمٌن)(.")ٗٙ
وٌمكن مقارنة قول الهكسوسً "أنا السٌد وال مثٌل لً" بعد التمكٌن بما متوقع أنه كان ٌقوله الهكسوس خبلل
هجرتهم لمصر بالدحلبة وهم ٌتوددون بخبث للمصرٌٌن بحلو العبارات وبالمدٌح فً مصر وأهلها كً ٌحصلوا
على ثقتهم.
وحاول ملك الهكسوس أن ٌوقع كامس مرة أخرى بٌن فكً الكماشة ،فؤرسل إلى حاكم كوش عند الحدود
الجنوبٌة -وكان ٌلقبه بـ "ولدي" -وٌحرضه على كامس ،وٌشجعه على مهاجمته من الجنوب حتى ٌنحصر
بٌنهما ،وحٌنبذ ٌؽلبانه وٌقتسمان مصر معا ،كما قال(.)ٗ9
وقذؾ الهكسوسً برسله على طرٌق الواحات لٌكونوا بمؤمن من عٌون كامس (المخابرات) ،ولكن
العٌون علمت بؤمرهم ،فؤرسل كامس سرٌة من الجٌش ترصدت الرسل واستولت على الرسالة ،ثم أطلقتهم
لٌنقلوا إلى ملكهم خٌبة أمله ،وخشى أن ٌعٌد الحلٌفان الكرَّ ة ،فوضع بعض وحداته فً مصر الوسطى
والواحات ،ورحل هو إلى واسط (طٌبة) ،وكان ٌوم عودته إلٌها ٌوما مشهودا ،وصفه كاتبه قاببل" :طابت
رحلة الحاكم إلى الجنوب ،وجنوده أمامه لم ٌنقصوا ،ولم ٌخسر أحدهم رفٌقه ،ولم تشتك قلوب (المدنٌٌن)
منهم ،...وأصبح إقلٌم طٌبة كؤنه فً عٌد الفٌضان ،وهرع النسوة والرجال ٌتطلعون إلى األمٌر ،وأسرعت
كل زوجة إلى زوجها تعانقه ،وقد خلت الوجوه من آثار الدموع(.")ٗ8
وتوفً القابد العظٌم كامس فً ظروؾ ؼٌر معروفة قبل أن ٌدخل معركته الفاصلة ضد الهكسوس،
فخلفه أخوه أحمس ،وأتم عمله وعمل أبٌه ،وانتفع باشتداد عزابم مواطنٌه ،فاستفزهم ولبوا نداءه الستكمال
(٘ٗ)
-أؼنٌة :أنا النٌل مقبرة للؽزاة ،تؤلٌؾ محمود حسن إسماعٌل ،ألحان رٌاض السنباطً ،ؼناء نجاح سبلم
()ٗٙ
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٖٗ
()ٗ9
-انظر :نفس المرجع
()ٗ8
-نفس المرجع
8ٙ
الجهاد واالنتقام ،وخرجوا معه لمهاجمة الهكسوس فً عقر عاصمتهم (حة وعرة)( )ٗ9وعمره ما بٌن -ٔٙ
ٔ8سنة ،مستندا على عزم وخبرات قواد الجٌش الكبار الذٌن عاصروا أبٌه وأخٌه مثل أحمس بن إبانا
وأحمس بن نخبت ،وكذلك جدته تً تً شٌري ،وأمه إٌاح حتب.
وقال أحمس بن إبانا وهو ٌتحدث عن دوره فً الحرب قابدا للسفن النهرٌة إنه اشترك مع أحمس فً
محاصرة عاصمة الهكسوس ،وإن المعارك دارت حولها وإلى الجنوب منها فً البر وعلى الماء عدة
مرات(ٓ٘) ،وعندما جبل الهكسوس عن مصر لم ٌٌؤسوا من الرجوع لها مرة أخرى ،فجمعوا فلولهم فً
معقلهم القدٌم ،شاروهٌن (فً ؼزة) ،وتحصنوا بها ،فؤدرك أحمس أنه لن ٌؤمن على حدوده ما داموا قرٌبٌن،
فلحقهم بالجٌش وفرض الحصار حولهم نحو ٖ سنوات حتى اضطروا للجبلء عنها.
وهكذا لفظت مصر الهكسوس أؼرابا كما دخلوها ،على الرؼم من طول إقامتهم فٌها(ٔ٘) ،وتط َّهر جوفها
من سمومهم.
ولٌؤمن عدم عودتهم ،قاد أحمس حمبلته فً جوؾ الشام لتعقب الهكسوس فً سنوات حكمه الـٕ٘،
وخرج فً العام ٕٕ على رأس حملة قادته إلى شواطا الفرات لٌصبح أول حاكم مصري ٌصل إلى
هناك(ٕ٘).
وإلى جانب أسماء العظام من المقاتلٌن فً حرب التحرٌر مثل سكننرع وأحمس وكامس وأحمس ابن
أبانا وأحمس ابن نخبت إلخ احتفظ التارٌخ بؤسماء عظٌمات من أبطال الحرب جسدنَّ دور الست المصرٌة
األصٌل فً حفظ مصر وقت المحن ،وسلما وحربا ،بحماٌة القوة المعنوٌة ،واقتدٌنَّ فٌه ببطوالت كفاح إٌسة
"إٌزٌس" لنصرة ابنها حور "حورس" ضد أهل الشر "سٌت" ،وهنَّ :تتً شٌري (أم سكننرع وجدة كامس
وأحمس) ،و إٌاح حوتب (زوجة سكننرع وأم كامس وأحمس) و أحمس نفرتاي (زوجة أحمس)(ٖ٘).
وصفت نصوص أحمس جدته تٌتً شٌري بؤلقاب كؤلقاب إٌسة أٌضا ،ومنها العالمة أو العارفة ،وقال عن
إٌاح حتب إنها "ربة األرض ،وسٌدة الحاونبو ،رفٌعة السمعة فً كل قطر أجنبً .التً دبرت سٌاسة
القوم ،...القدٌرة الجلٌلة التً أحكمت شبون مصر ،وجمعت (صفوؾ جٌشها) ،ورعت أهلها ،وأعادت
الفارٌن ،ولمت (شتات) المهاجرٌن ] ربما ٌقصد المشردٌن المصرٌٌن من األراضً التً احتلها
الهكسوس[ ،وهدأت (قلق) الصعٌد ،وأرهبت عصاته ،الملكة إٌاح حوتب لها الحٌاة"(ٗ٘).
وهكذا ..تجرعت مصر مرة أخرى مرار وذل سٌطرة األجانب علٌها ،ومرار وذل تفكك عرى حكمها
المركزي المقدس ،وتشتت جٌشها ،ونسٌان تارٌخ األجداد فً اإلنجازات والخطاٌا ،واالطمبنان األعمى
()ٗ9
-مرجع سابق ،ص ٖٔ9
(ٓ٘)
-نفس المرجع ،ص ٗٔ9
(ٔ٘)
-نفس المرجع
(ٕ٘)
-تارٌخ مصر القدٌمة ،نٌكوال جرٌمال ،ص ٕٕ٘
(ٖ٘)
-اسم أحمس من األسامً التً تسمى بها البنات واألوالد ،ومثله اسم "تً" ،وكما نسمً حالٌا مثبل :رضا ،عطٌة ،إٌمان على األوالد والبنات.
(ٗ٘)
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،ص ٗٔ9٘ -ٔ9
87
لؽٌرها من شعوب وتوطٌنهم فً عروقها ،تجرعت هذا ٔٓ8سنة تحت حكم الهكسوس الهمج.
صحٌح أنها خرجت من هذه المحنة بعود صلب ،وأثبتت قدرتها على تجاوز أشنع المحن ،وشمخت
بانتصارها على تحالؾ األشرار والشٌطان ،ولكن ...ألٌس كان من األحسن أن توفر طوفان من الدم نزفته
حٌن ؼزاها الهمج وأشاعوا فً أهلها أوالد األصول القتل واألسر ،وطوفان آخر من الدم لتحرٌر نفسها؟
وألٌس األلٌق بها وبقدسٌتها لو وفرت على نفسها المذلة والهوان والخراب تحت حكم الطاعون الذي
تكبر وتجبر علٌها عشرات السنٌن ،وأفرغ أحقاده فٌها ،وهً الشرٌفة ست الحضارات؟
ألٌس األولى بها وبذكابها أنه بعد المحنة العظمى التً طحنت عظامها العزٌزة بعد سقوط األسرة ٙأن
تعتنق مبدأ "الوقاٌة خٌر من العبلج" ،والذي هو خبلصة كافة تعالٌم ووصاٌا "ماعت"؟
ونظرة لؤلسباب والنتابج التً رمت مصر مقٌدة األؼبلل بٌن نار وأنٌاب الفوضى "إزفت" نهاٌة األسرة
ٖٔ كما نقلتها لنا البردٌات واآلثار ..كم منها ٌنطبق علٌه ما ورد فً البنود الـ ٔ9لدستور خراب مصر؟
دستور الشٌطان ،ونسٌانها العهد الخالد الذي أوصاها به من صنعها:
إن األبواب ]الحدود[ الموجودة علٌكِ ]ٌا مصر[ تستوي ثابتة مثل "إنموتؾ"
(٘٘)
-تطور الفكر والدٌن فً مصر القدٌمة ،جٌمس هنري برٌستٌد ،ترجمة زكً سوس ،مرجع سابق ،ص ٓٗٗ٘ -
88
فاستحقت األجٌال التً لم تلتزم بالوصٌة العهد عقاب اإلله الذي حذر منه بتاح حتب:
"إن الذي ٌفعل الماعت فذلك الذي ٌكون بعٌدا عن الضالل"ٌ" ،حل العقاب دابما بالذي ٌتخطى
قواعدها"(.)٘ٙ
()٘ٙ
-انظر :تقدٌم علً رضوان لكتاب "الماعت ..فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة" ،مرجع سابق ،ص ٕٔٔ٘-
89
ومصر عارفة وشاٌفة وبتصبر..
(ٔ)
-قصٌدة ضحكة المساجٌن ،تؤلٌؾ :عبد الرحمن األبنودي
المشهد :7الوالدة الجدٌدة (الدولة الحدٌثة)
(شروق ماعت)
عادت الروح لمصر من جدٌد ،وهدأ قلقها ،وعادت طٌورها الؽاضبة لتستقر بؤمان على ؼصون أشجارها،
وزهور السشن (اللوتس) تضحك وهً تتفتح لطلوع الشمس ،فقد زاح الطاعون عن أرض مصر الطاهرة،
ورجعت ماعت من ؼربتها ،وفرد الصقر حور جناحٌه على األرض المقدسة بكاملها ،ببل نقصان ،واستعد
المصرٌون لكتابة صفحة جدٌدة لمجدهم فً بناء الحضارة بؤقبلم تحوت(ٕ) بعد أن كتبوها فً هدم وقلع الشر.
فمع تطهٌر الجٌش لمصر من الهكسوس أعادت بقٌة المإسسات التنظٌم اإلداري للدولة وبنابها على
األسس واألصول المصرٌة المعروفة ،وإصبلح ما أفسده الهكسوس فً الوجه البحري وشمال الوجه
القبلً ،وصارت واسط (طٌبة) التً تخرج منها األوامر لتنفٌذ كل هذا أشهر عواصم العالم وأكثرها رهبة
وهٌلمان ،أما منؾ ،أول عاصمة فً عصر مٌنا ،فرجع إلٌها بهاإها بعد شفاءها من الطاعون ،واختارها
حكام األسرة ٔ8لتكون مقر القٌادة المركزٌة للجٌش ،ومقر ولً العهد ٌتدرب فٌها على شبون الحكم
والحرب ،فهً تتوسط الببلد ،وقرٌبة من الحمبلت المستمرة إلى ببلد الشام.
ومع انتعاش الثقة من جدٌد فً ربوع مصر تمتعت العلوم والفنون واآلداب والفكر الدٌنً بمرحلة جدٌدة
من االزدهار والتطوٌر ،من معالمها عماٌر األسرة ٔ8الفخمة الضخمة من معابد فً الكرنك وؼرب طٌبة،
والمقابر المحفورة فً بطن صخور وادي الملوك ،وهً تعتبر أهراما فً بدعها الهندسٌة والفنٌة وحجم
الجهد المبذول فٌها (وهذا تعبٌر مجازي لشدة إعجازها) ،وظهور اختراع الساعة المابٌة المنسوب إلى رجل
اسمه "أمنمحات" فً عهد أمنحتب األول ابن أحمس ،وظهور بردٌة "إبرٌس" المصدر الربٌسً لمعارفنا
حول الطب المصري القدٌم(ٖ).
(ٕ)
-تحوت /جحوتً ٌرمز فً حضارة مصر للرسول بٌن السماء وأهل مصر ،حافظ الحكمة وكاتبها فً السجالت األزلٌة ،وله دوره فً مساعدة
إٌسة على إخفاء وتربٌة حور ،وٌعد أحد المعلمٌن األوابل للمصرٌٌن ،صوره الفنان على شكل جسد إنسان برأس طابر أبو منجلٌ ،مسك بٌده
أقالما وأوراقٌ ،كتب وٌسجل؛ ولذا فً محكمة اآلخرة هو الذي ٌنشر كتاب كل شخص لٌظهر هل هو من الصالحٌن أو الظالمٌن ،للمزٌد انظر:
معجم المعبودات والرموز فً مصر القدٌمة ،مانفرد لوكر ،ترجمة صالح الدٌن رمضان ،مكتبة مدبولً ،طٔ ،القاهرة ،ٕٓٓٓ ،ص ٖ8ٗ -8
(ٖ)
-تارٌخ مصر القدٌمة ،نٌكوال جرٌمال ،مصدر سابق ،ص ٖٕٙ
ٔ9
جنود الجٌش خبلل احتفال فً األسرة ٌ ٔ8مسكون ؼصن نبات مع سبلح حربً تجسٌدا لمعنى الفبلح المقاتلٌ ،د تزرع وتبنً وٌد تحمل السبلح
(المتحؾ المصري فً برلٌن)
وتوفً أحمس وعمره فً األربعٌن ،بعد نحو ٕ٘ عاما قضاها فً الكفاح والبناء لم ٌركن فٌها لمباهج
الحكم ،وخلفه ابنه أمنحتب األول لٌواصل سٌاسة أبٌه فً البناء ،وكذلك فً الحروب الخارجٌة لتؤمٌن
الحدود ،فكان محاربا ال ٌُشق له ؼبار ،فؤكمل الحمبلت فً الشام والسودان لقطع أي فرصة تجمٌع
الهكسوس لصفوفهم من جدٌد.
وحكم بعد أمنحوتب األول أخوه تحوتمس األول وواصل حمبلته ،وكان ٌقول إن ساعة الحرب أشهى
عنده من ٌوم هنٌا ،وإنه ٌتشوق للقتال وٌنشرح كلما بلؽه نبؤ تحرك األعداء(ٗ).
وفً عهد هذه األسرة المجٌدة استكمل المصرٌون بناء أول جٌش نظامً كامل فً التارٌخ بصورة
تناسب أن ٌكون جٌشا هجومٌا ،ولٌس دفاعٌا فقط ،فقد آمنوا -وإن كان متؤخرا -أن ما ٌلٌق بمصر هو مبدأ
"الهجوم خٌر وسٌلة للدفاع" ،ولٌس شرطا أن ٌكون الهجوم اعتداءا على الؽٌر ببل سبب ،ولكن أن ٌظل
الجٌش ومن ورابه بقٌة الشعب فً حالة تحفز وترقب لدرء الخطر وهو ٌلوح من بعٌد ،قبل أن ٌصل
للحدود ..وما أكثر األخطار المتربصة بـمصر وأدومها.
فبات للجٌش العظٌم معسكراته ومقاره الدابمة ،وقسمه القادة إلى ألوٌة وأجنحة تعمل تحت قٌادة
مركزٌة ،وشكلوا أول "هٌبة أركان حرب" ،وهو النظام الذي عملت به جٌوش العالم بعد ذلك ولآلن(٘).
واستؽل تحوتمس األول القوة الدافعة فً نفسه والروح الحربٌة المعبؤة فً شعبه ،فم َّد سلطان مصر إلى
قرب الشبلل الرابع (شمال الخرطوم بالسودان) ،ودفعه ظهور دولة مٌتانً( )ٙفً منطقة تقع اآلن بٌن سورٌا
والعراق ،وتهدٌدها لنفوذ مصر فً شمال الشام إلى التوؼل أكثر فً الشرق ،حتى نهر الفرات ،ونصب على
شاطبه الشرقً نصبا حدد به حدود سٌطرة مصر فً عهده ،فامتدت على حد تعبٌر النصوص من قرن األرض
(ٗ)
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،عبد العزٌز صالح ،مصدر سابق ،ص ٕ٘ٓ
(٘)
-انظر :المإسسة العسكرٌة المصرٌة فً عصر اإلمبراطورٌة ٓ ٔ٘9ق.م ،ٔٓ98 -أحمد قدري ،ترجمة مختار السوٌفً ،محمد العزب موسى،
الهٌبة العامة للكتاب ،ٕٓٔٗ ،ص ٖٔ ؤ9
()ٙ
-تكونت مٌتانً من مهاجرٌن حطوا على تلك المنطقة خالل الهجرات األمورٌة والهندو أوروبٌة ،وزالت بعد وقت قصٌر
ٕ9
فً الجنوب (أي الشبلل الرابع) إلى أطراؾ المٌاه المعكوسة فً الشمال(.)9
والمٌاه المعكوسة أطلقها المصرٌون على الفرات ألنه ٌجري من الشمال للجنوب على عكس النٌل الذي
ٌجري من الجنوب للشمال ،وتندروا على ذلك بقولهم إنها المٌاه "اللً بتخلً الطالع نازل"(.)8
وظل الرجل فخورا بما أداه لـمصر ،ومن قوله بٌن كهنة أوزٌر فً أبٌدوس" :أطلقت حدود تامري(( )9
مصر) إلى ما تحٌط الشمس به ،وعوضت أهلها بعد خوؾ قوة (وأمنا) ،وأقصٌت الشر عنها ،وجعلتها فوق
رأس الدنٌا كلها ،وجعلت الجمٌع أتباعا لها(ٓٔ)".
وكلمة "أطلقت حدود تا مري إلى ما تحٌط الشمس به" هو أقدم التعابٌر التً تعبر عن اتساع سٌطرة أي
دولة ،و استخدمت برٌطانٌا شبٌهه فٌما بعد فً كلمة "اإلمبراطورٌة التً ال تؽٌب عنها الشمس" ،ولكن مع
تسع إلى السٌطرة على هذه الببلد
الفارق ،أن توسعات مصر خارج حدودها إلى هذا الحد اضطرارٌة؛ فـمصر لم َ
إال بعد أن أرسلت تلك الببلد إلٌها جحافل الؽزاة مرات تلو المرات ،حتى بعد أن أكرمت مصر -فً وقت ؼفلة-
ضٌافتهم وآوتهم ،فانقلبوا ضدها وأهانوا أهلها وجعلوا أعزتها أذلة.
أما برٌطانٌا ومعظم اإلمبراطورٌات األخرى ،فاستهدفت توسعاتها بلدانا لم ٌصلها منها أي شر ،فهاجمت
الببلد اآلمنة؛ طمعا فً ثرواتها ومواقعها ،أو لتنفٌذ رؼبات شٌطانٌة للتنظٌمات الخفٌة التً تحكمها لنشر
الدم والخراب (إزفت) فً العالم.
وفً ذلك ٌقول عبد العزٌز صالح" :خرج أولو الرأي المصرٌون من محنة الهكسوس وقد ؼلب على
تفكٌرهم أنه ال أمان الستقبللهم من ؼدر أعدابهم إال إذا واصلوا االهتمام بجٌشهم وزادوا قوته الحربٌة ،وأنه
ال أمان القتصادهم من اعتداءات الهكسوس إال إذا أبعدوهم عن مسالك تجارتهم الخارجٌة جهد ما
ٌستطٌعون ،وأحاطوهم بؤنصارهم جهد ما ٌستطٌعون ،وأنه ال أمان لمستقبل بلدهم من ؼزو هجرات شعوبٌة
جدٌدة ؼرٌبة إال إذا سٌطروا بؤنفسهم على مداخل الهجرات فً شمال الشام وأطراؾ العراق(ٔٔ)".
وشجع خلفاء أحمس على استمرار هذه السٌاسة ظهور دولة مٌتانً ثم ظهور دولة أخرى مجاورة
تكونت من هجرات أٌضا استوطنت األناضول ،وتسمت بؤرض الحٌثٌٌن ،أو "خاتً" ،وسعً البلدان إلى
التوسع باستمالة اإلمارات الشامٌة الخاضعة لـمصر لٌتمردوا علٌها ،وٌتحالفوا ضدها(ٕٔ).
ظهر خطر الدولتٌن الناشبتٌن فً عهد حتشبسوت ،حفٌدة أحمس ،ولكن حتشبسوت التً حكمت ٕٓ عاما
()9
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٕٓٙ
()8
-نفس المرجع
()9 ()9
-و"تا مري" معناها أرض الفٌضان أو األرض المرتفعة أصل كلمة "دمٌرة" التً ٌطلقها زراعنا على األرض المؽمورة بطمً الفٌضان.
(ٓٔ)
-نفس المرجع
(ٔٔ)
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٕٗٓ
(ٕٔ)
-هذا التحالؾ بٌن إمارات شامٌة مع قوى خارجٌة ضد مصر سٌتكرر باستمرار حتى نصل للعصر الحاضر حٌن تحالفت بعض بالد وجماعات
الشام مع تركٌا تارة ،ومع إٌران تارة ،ومع روسٌا تارة ،ومع دول عربٌة تارة ،ضد مصر ،ومن أسباب هذا أن الشام من القدٌم مكونة من أعراق
وقبابل ومذاهب مختلفة عن بعضها ،ومتصارعة فٌما بٌنها ،ولم تعرؾ معنى للدولة الوطنٌة لتتجانس تحت ظلها ،وتستقوي بقوى خارجٌة على
بعضها؛ ما ٌسهل للبالد األخرى أن تستمٌل هذه وتلك بدوافع سٌاسٌة أو مالٌة أو دٌنٌة.
ٖ9
صرفت معظم جهدها لتنمٌة مصر فً الداخل وتوسعة التجارة ،خاصة مع أفرٌقٌا ،ورحلتها الشهٌرة لببلد
بونت ،ولم تبذل مجهودا حربٌا بما ٌكفً ،فتجرأت الجماعات المعادٌة على الحامٌات المصرٌة فً ببلد
الشام ،وعندما خلفها تحوتمس الثالث فً الحكم ،لم ٌكد ٌفرغ من تتوٌجه حتى هرع كالسهم إلى تنظٌم
الحمبلت الحربٌة لردع هذا الخطر الجدٌد.
واستجاب لتحرٌضات مٌتانً ضد مصر بعض أمراء الشام وشٌوخ بدوها ،السٌما وأنه كانت ال تزال
تعٌش بٌنهم بقٌة من ذراري الهكسوس الذٌن طردهم المصرٌون(ٖٔ).
وتزعم التحالؾ الجدٌد أمٌر قادش (حمص بسورٌا) ،فاتجه بحلفابه وخٌلهم ورجلهم ،على حد تعبٌر النصوص
المصرٌة ،إلى شمال فلسطٌن ،وسٌطر على مدٌنة مجدو (بلدة تل المتسلم بشمال فلسطٌن) ،وجعلها مركزا
ألطماعه ،ومد نفوذه حتى شاروهٌن معقل الهكسوس القدٌم ،وبذلك اقترب من مصر(ٗٔ).
وانتهت معركة مجدو بانتصار مصر المحكم على تحالؾ األمراء السورٌٌن والمٌتانٌٌن ،وكان سبلحها
عنصر المفاجبة والمباؼته ،وخطة تحوتمس الثالث الشهٌرة فً اختٌار أضٌق طرٌق إلى مكان تمركز
القوات المعادٌة ،والذي لم ٌدر ببالها أن ٌقدم جٌش على العبور منه ،ألنه طرٌق ال ٌكفً إال لمرور رجل
واحد ،أو فرس واحدة ،وعلى جانبٌه مرتفعات لو وقؾ فوقها العدو لقضى على الجٌش العابر بسهامه فً
لمح البصر ،وشجع تحوتمس قواته بؤنه تقدمهم فً السٌر(٘ٔ).
ومن عوامل النجاح أٌضا خطة تسٌٌر األسطول المصري بالتنسٌق مع الجٌش البري ،والتطوٌرات
الجدٌدة على سبلح المركبات الحربٌة لتكون أكثر قدرة على المناورة وأكثر خفة فً الحركة إلرباك
صفوؾ العدو ،وؼٌر ذلك من أشكال الخطط والتسلٌح المبتكرة.
وتقول موسوعة كمبرٌدج عن الجٌش المصري وقتها" :كان جٌشا وطنٌا هابل الحجمٌ ،تؤلؾ معظمه من
جنود محترفٌن ،سواء من الجنود العاملٌن فً الخدمة العسكرٌة أو جنود االحتٌاط ،وٌقوم على قٌادته ضباط
محترفون مدربون على أعلى مستوى ،وٌإدون وظابفهم وواجباتهم الحربٌة فً إدارة الفرق واألسلحة
المنوطة بهم قٌادتها بشكل منظم ومنسق ودقٌق ،كما لو كانوا حلقات مترابطة فً سلسلة القٌادة العامة(.")ٔٙ
وفرَّ ملك مٌتانً الذي وصفته حولٌات تحوتمس بـ "الخاسًء" لبلد بعٌد ،وعبرت السفن المصرٌة نهر
الفرات ،وهً المرة األولى التً ٌتم فٌها نقل السفن الحربٌة عن طرٌق البر لمسافة حوالً ٕٓ٘ مٌبل،
وعلى ضفاؾ الفرات أقام نصبٌن سجل علٌهما أخبار نصره ،وعٌَّن بهما حدود فتوحاته ،وعبر تحوتمس
حٌنذاك عن اتساع حدود دولته بعبارة قرٌبة من عبارة جده تحوتمس األول ،قال فٌها إنه" :جعل حدوده من
(ٖٔ)
-مرجع سابق ،ص ٕٓ8
(ٗٔ)
-نفس المرجع
(٘ٔ)
-المزٌد عن الخطة النصر فً مجدو انظر :المإسسة العسكرٌة المصرٌة فً عصر اإلمبراطورٌة ،أحمد قدري ،ص ٗٔ ،ٔ9 -رإى جدٌدة فً
تارٌخ مصر القدٌمة ،رمضان عبده علً ،جٖ ،ص ،ٔ٘٘ -ٔٗ9الشرق األدنى القدٌم ،عبد العزٌز صالح ،ص ٕٖٔ -ٕٓ8
()ٔٙ
-المإسسة العسكرٌة المصرٌة فً عصر اإلمبراطورٌة ،مرجع سابق ،ص ٔ9
ٗ9
بداٌة األرض إلى أقاصً آسٌا (الؽربٌة)(.")ٔ9
وبعد إعادة تثبٌت وجود مصر فً الشام وهزٌمة القوى الجدٌدة ،لم ٌركن تحوتمس الثالث إلى السلم
وحٌاة الرفاهٌة ،رؼم أنه صار أقوى وأؼنى حاكم فً الدنٌا ،فخرج للشام 8مرات أخرى بقصد االستطبلع
وتوطٌد األمن( ،)ٔ8فكان بذلك أٌضا من أوفى من طبقوا ماعت بؤنه لم ٌؽفل عن مطاردة العدو وتحصٌن
الحدود حتى فً عز انتصاره واستقرار الببلد.
وفً نفس الوقت و َّفى الزعٌم المصري الخالد بدوره كخلٌفة لئلله فً تطبٌق ماعت على أرض مصر،
فحكم أهلها بالعدل والرحمة واالحترام واإلخوة بٌن المصرٌٌن ،بحسب ما تظهره النصوص.
فمن ناحٌته وقع ربٌس الوزارة تحت مراقبة شدٌدة وتوجٌه من الحاكم ،وٌظهر ذلك فً خطابات التكلٌؾ
التً ٌوجهها له الحاكم خبلل مراسم تولٌه منصبه فً قاعة مجلس الحكم ،وفٌها ٌؤمره باتباع األسالٌب
السلٌمة فً الحكم وإدارة الرعٌة ،الموروثة من سلفهم الصالح.
ومن هذه التكالٌؾ نسخة منقوشة على جدران مقبرة "رخ مً رع" ،الوزٌر (ربٌس الوزارة) فً عهد
تحوتمس الثالث ،فً األقصرٌ ،ظهر فٌها أصداء تعالٌم خٌتً البنه مري كا رع ،وحدٌث "إٌبو ور"،
و"الفبلح الفصٌح" وؼٌرهم ممن رددوا تعالٌم ماعت عن سمات الحاكم باعتباره الراعً الصالح.
ٌقول له تحوتمس" :تؤمل (خد بالك) ،إن منصب الوزٌر لٌس حلوا قط ،بل إنه مر المذاق كالصبر ()...
تؤمل إن القصد منه أال ٌجعل لنفسه وال لموظفً إدارته اعتبارا ما ،وأال ٌتخذ من الشعب عبٌدا ،تؤمل إذا
حضرك شاك من الوجه القبلً أو الوجه البحري مستعدا للمحاكمة ...ألجل سماع قضٌته فواجبك أن ترى
كل إجراء الزم لذلك قد اتخذ حسب القانون ،وأن ٌكون كل تصرؾ ٌتفق مع العرؾ الجاري".
""تؤمل (خد بالك) ،عندما ٌكلؾ حاكم بسماع قضاٌا علٌك أن تجعلها علنٌة ،وبذلك تجعل الماء والهواء
ٌنقبلن كل ما عساه أن ٌفعل ،تؤمل فإنه بذلك لن ٌبقى سلوكه خافٌا ،وعلى ذلك إذا أتى أي أمر (ؼٌر
مرض) ٌبلم علٌه فٌجب أال ٌنصب ثانٌة بؤمر من ربٌسه ،بل ٌجب أن ٌعلم الناس فعلته التً فعلها بواسطة
القاضً الذي حاكمه".
وفً نفس الوقت دعاه ألن ٌكون وسطا فً تطبٌق العدل ،فبل ٌتجنى على أقربابه خوفا من أن ٌتهمه
الناس بالتحٌز لهم ،وضرب له مثبل عندما ظلم أحد الوزراء قرٌبه خوفا من كبلم الناس ،واعتبرها "مبالؽة
منه (أي الوزٌر) فً تنفٌذ العدالة ،فالمحاباة بؽٌضة عند هللا ،وهذا تعلٌم ٌجب أن تسٌر على سنته".
"ٌجب أن تراعً من تعرفه كما تراعً من ال تعرفه ،وكذلك الفرد الذي ٌلتجا إلٌك كالفرد البعٌد عنك،
فإذا سار حاكم على حسب هذه الطرٌقة فإنه سٌصٌب النجاح فً هذه اإلدارة".
()ٔ9
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع ساق ،ص ٕٖٔ -ٕٓ8
()ٔ8
-نفس المرجع ،ص ٕٕٔ
٘9
وفً لمسة حانٌة راقٌة على أصحاب الشكاوى قال له" :ال تتخط مدعٌا (شاكٌا) قبل أن تسمع شكاٌته
( )...وإذا رفضت شكاٌته فعلٌك أن تجعله ٌسمع السبب الذي من أجله رفضت شكاٌته ،تؤمل! (خد بالك)
ٌقال إن المدعً (الشاكً) ٌفضل سماع أقواله عن أن ٌفصل فً القضٌة التً حضر من أجلها".
وفً نفس الوقت طلب منه أن ٌحفظ هٌبة منصب الوزٌر ،فقال"" :ال تؽضبن على رجال ظلما ،بل
اؼضب على من ٌستحق الؽضب علٌه ،ابعث الرهبة فً نفسك حتى ٌخشاك الناس ،ألن ذلك الموظؾ الذٌن
تخشاه الناس هو الموظؾ الحقٌقً".
ولكن هذه الرهبة ٌجب أن ٌكون مصدرها قوته فً الحق ولٌس "الشخط والنتر"" :تؤمل (خد بالك) ،إن
شهرة الموظؾ تنحصر فً أن ٌقول ما هو حق ،تؤمل ،إن الرجل إذا بعث الخوؾ منه مرات عدة أكثر مما
ٌجب فقد ٌدعو ذلك إلى اتهام الناس له بعدم االستقامة".
وبذلك ٌلتزم الوزٌر بدوره فً مٌزان صبلح البلد " :تؤمل (خد بالك) إن عمله (الوزٌر) ٌنحصر فً
القٌام بؤداء اإلشراؾ الدقٌق ألنه كاتب "ماعت" ( )....فبل تتبعن هواك فً أمور قد عرفت مبادبها
القوٌمة(،")ٔ9وبعد انتهاء مراسم التنصٌبٌ ،خرج الوزٌر فً موكب رسمً ٌتقدمه حرس الشرؾ.
ولهذا ،لم ٌمنع كون تحوتمس الثالث محاربا فً معظم حٌاته ،وحازما فً حكمه ،من أن ٌصفه "رخ مً
رع" بؤنه "كان أبا وأما للناس أجمعٌن(ٕٓ)".
()ٔ9
-النص وارد فً موسوعة مصر القدٌمة ،سلٌم حسن ،مرجع سابق ،الجزء الرابع ،ص ،٘9ٔ -٘ٙ9وللمزٌد انظر :الخطاب السٌاسً فً مصر
القدٌمة ،مصطفى النشار ،دار قباء للطباعة والنشر ،ط ٔ ،القاهرة ،ٔ998 ،ص ٗ99 -ٙ
(ٕٓ)
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٔ98
9ٙ
تحوتمس الثالث بمبلمح الطمؤنٌنة والرضا والشموخ التً طبعت عصره تتوٌجا لكفاح األجٌال السابقة ضد الهكسوس وفً تعمٌر مصر (تمثال فً
متحؾ األقصر)
وبعد ٕ8سنة من الحكم الرشٌد خلؾ تحوتمس الثالث ابنه أمنوحتب الثانً ،وكان مثل أبٌه محاربا وبنا ًء
عظٌما ،ثم تحوتمس الرابع (ابن أمنحوتب الثانً) ،وسار على درب أجداده أٌضا فً الٌقظة والعمل
الدإوب ،حتى جاء ابنه أمنوحتب الثالث لٌبدأ معه عصر ارتخاء جدٌد لمصر ،وهً فً قمة مجدها وؼناها-
كعادتها القدٌمة -فٌتبعه عصر جدٌد من القلق والفوضى ،تحوي فً جوفها السإال الحٌران ...لماذا تعٌد
مصر خطاٌاها وتذبح نفسها بٌدها قبل أن ٌذبحها أعادٌها؟
وٌتجدد السإال أٌضا :بمراجعة األسباب والنتابج التً حررت بها األسرتان ٔ9و ٔ8مصر من لهٌب نار
الفوضى المتوحشة كما نقلتها لنا البردٌات واآلثار ..كم منها ٌنطبق علٌه ما ورد فً البنود الـ ٔ9لدستور
المصرٌٌن؟
"إن السماء تكون فً سالم ،واألرض تكون فً سرور ،ذلك أنه قد أُشٌع أن الملك سوؾ ٌضع "الماعت"
لتحل محل (الباطل)".
"لقد أزاح الفوضى عن األرضٌن (الوجهٌن القبلً والبحري) حتى تكون ماعت هً الباقٌة".
97
(الحكٌم بتاح حتب)
مبلمح المصرٌٌن حكاما ومحكومٌن فً زمن الوالدة الثالثة تملإها الطمؤنٌنة والثقة والجد ،وهً نفس مبلمح وروح معظم المصرٌٌن للٌوم
بعد ٕ8سنة من الحكم الرشٌد خلؾ تحوتمس الثالث ابنه أمنوحتب الثانً ،وكان مثل أبٌه محاربا وبنا ًء
عظٌما ،ثم تحوتمس الرابع (ابن أمنحوتب الثانً) ،وسار على درب أجداده فً الٌقظة والعمل الدإوب،
حتى جاء ابنه أمنوحتب الثالث لٌبدأ فً نهاٌة حكمه عصر ارتخاء جدٌد لمصر ،وهً فً قمة مجدها
وؼناها -كعادتها القدٌمة -فٌتبعه عصر من القلق والفوضى ،تحوي فً جوفها السإال الحٌران ...لماذا تعٌد
مصر خطاٌاها وتذبح نفسها بٌدها قبل أن ٌذبحها أعادٌها؟!
فخبلل مرحلة القوة والتوسع ؼٌر المسبوقٌن ،وبعد هزٌمة التحالؾ المٌتانً -الشامً فً حرب مجدو توالت
مشاهد حكام الببلد المجاورة كآشور وبابل وقبرص ومٌتانً والشام ٌبعثون إلى مصر الرسل تخطب ودها،
ورؼم الٌقظة الكبٌرة لتحوتمس الثالث ،إال أنه وقع فً فخ جدٌد من أفخاخ األعداء المنصوبة لمصر ،وهو
الزواج من األجنبٌات لتوثٌق هذا "الود" ،ولم ٌكن زواج األجانب باألمر المعتاد أو المحبب قبل هذا التارٌخ
(ٕٔ)
-تقدٌم علً رضوان لكتاب "الماعت ..فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة" ،مرجع سابق ،ص ٕٔٔ٘-
98
فً مصر ،ووردت عنه أمثلة نادرة أو ؼٌر مإكدة.
وتوسع خلفاإه فً هذا الزواج ،إضافة لوقوعهم فً ٖ أفخاخ أخرى منها أفخاخ قدٌمة لم نتعلم منها
الدرس ،هً :توطٌن أسرى الحرب والعبٌد والجالٌات األجنبٌة ،وفتح الباب واسعا لتوظٌؾ أبناء الببلد
المفتوحة ،توظٌؾ األجانب فً الجٌش المصري.
فكانت أخبث ٗ أفخاخ سقطت فٌها مصر ،فعلت فٌها ما لم تستطع جٌوش الدنٌا وقتها أن تفعله.
❶ فخ الزواج باألجانب
بداٌة من عصر تحوتمس الثالث ،بدأ زواج حكام مصر بؤمٌرات آسٌوٌات؛ ظنا منهم على ما ٌبدو أن
هذا ٌضمن والء ببلدهم لمصر بعبلقة النسب فٌما ٌعرؾ اآلن بالزواج الدبلوماسً ،فتزوج ٖ أمٌرات
سورٌات ،وبعده تزوج أبناإه وأحفاده من ممالك مٌتانً والحٌثٌٌن وبابل ،هذا بخبلؾ أعداد كبٌرة من
الجواري والرقٌق الواصلة لمصر من الشام وكوش ،ومنها ما ٌرسله حكام الببلد األجنبٌة إلى حكام مصر
على سبٌل "الهدٌة" والتودد(ٕٕ) ،والزوجة األجنبٌة تؤتً وفً ذٌلها "زوفة" من أهلها وخدمها لٌإنسوا ؼربتها،
فٌسكنون قصور الحكام ،وٌشؽلون وظابؾ ممٌزة جعلتهم مطلعٌن على أحوال البلد ،وبالتدرٌج متحكمٌن فٌها،
ولو من وراء ستار.
ٌقول براٌس فً كتابه "رسابل عظماء الملوك فً الشرق األدنى" الخاص بتحلٌل الرسابل المتبادلة بٌن حكام
مصر وبابل وآشور ومٌتانً والحٌثٌٌن ،وما تضمنته من أحادٌث عن الزواج الدبلوماسً بٌن عاببلتهم" :اُسُتؽلت
أمٌرات كثٌرات كؤدوات دبلوماسٌة بإرسالهن إلى ببلد أجنبٌة كؤفضل وسٌلة مبلبمة لتحقٌق مصالح ممالك
آبابهن" ،و"كانت العروس الملكٌة تؤتً إلى موطنها الجدٌد تصحبها مجموعة من الخدم من موطنها األصلً"،
ضاربا المثل بؤنه "جاءت األمٌرة المٌتانٌة كٌلوحٌبا إلى مصر وبرفقتها ٖٔ9امرأة من خدمتها"(ٖٕ).
ودخل زواج الحكام والمسبولٌن المصرٌٌن بؤجنبٌات فً طور "ال ُح َّمى" -كناٌة عن كثرته -بعد نجاح
المفاوضات العسٌرة بٌن مصر ومٌتانً لتقسٌم مناطق النفوذ فً الشام أٌام تحوتمس الرابع بؤن ٌكون لمصر حتى
حمص والبلذقٌة بسورٌا ،ولمٌتانً ما بعدها شماال؛ فتزوج تحوتمس الرابع من ابنة الملك المٌتانً آرتاتاما،
وتزوج ابنه أمنحوتب الثالث باألمٌرة تادوحٌبا ابنة المٌتانً توشراتا وبابنة ملك بابل كاداشمان إنلٌل األول،
وتزوج إخناتون ورمسٌس الثانً من مٌتان وبابل والحٌثٌٌن(ٕٗ).
لم ٌنتبه حكام مصر لخطٌة الزواج بؤجنبٌات على مستقبل الببلد ،إال أنهم اتخذوا خطوة إٌجابٌة برفضهم
تزوٌج أمٌرات مصرٌات لؤلجانب ،فبوصؾ براٌس"" :كان طرٌق الزواج والمصاهرات مع ملوك مصر ذات
اتجاه واحد" ،بمعنى أن الحاكم المصري كان "راؼبا على الدوام فً استقبال زوجات أجنبٌات ذوات حسب رفٌع،
(ٕٕ)
-انظر :الشرق األدنى القدٌم،عبد العزٌز صالح ،مرجع سابق ،ص ٕٕ٘ٔٔٙ -
(ٖٕ)
-رسابل عظماء الملوك فً الشرق األدنى القدٌم ،ترٌفور براٌس ،ترجمة رفعت السٌد علً ،دار العلوم للنشر والتوزٌع ،،ص ٘ٔ8
(ٕٗ)
-نفس المرجع ،ص ٔ8٘ ،ٔٙ9 ،ٔٙٔ ،ٙ9 -ٙٙ
99
إال أن أٌَّا من فراعنة مصر لم ٌوافق أبدا على إرسال أمٌرات مصرٌات لٌكنَّ زوجات لملوك أجانب ،كان ذلك
تقلٌدا راسخا ال استثناء له".
وحٌن جسَّ الملك البابلً كاداشمان-إنلٌل النبض لٌكون أول حاكم أجنبً ٌتزوج بؤمٌرة مصرٌة ،متشجعا بؤن
أخته متزوجة من أمنحوتب الثالث ،جاءه الرد الحاسم من أمنحوتب" :لم ٌحدث من بداٌة الزمن أن أُعطٌت ابنة
ملك مصري كزوجة ألي ملك أجنبً" ،والسبب عند براٌسٌ" :عود إلى كبرٌاء الفراعنة واعتدادهم بؤنفسهم ،وفً
المحافظة على صورة الفراعنة الراسخة كؤهم وأعظم ملوك المنطقة" ،وقبولهم تزوٌج بناتهم باألجانب ٌقلل من
درجتهم ،و"ٌبدو أن الملوك األجانب قد تفهموا ذلك وقبلوه"(ٕ٘) فواضح أنهم وازنوا األمر ورأوا أن مكاسبهم من
العبلقة بمصر ،وترسٌخ قدم بها على ٌد بناتهم وحاشٌاتهم ،سٌعوضهم.
والطٌب فً رفض المصرٌٌن تزوٌج أمٌراتهم لؤلجانب هو أال تكون الست المصرٌة وسٌلة لنقل العرش إلى
أجنبً إذا ما توفً حاكم مصر ولم ٌترك ورٌثا ذكرا للعرش من أبنابه ،فتتخذ البلد األجنبً الفرصة لتدعً حق
األمٌرة المصرٌة وزوجها وأوالدها فً عرش مصر(" )ٕٙبالقانون".
كما أن األمٌرات المصرٌات -مثلهن مثل معظم المصرٌٌن -ال ٌجٌدنَّ مهارات التسلط والسٌطرة والتجسس
والمإامرات والتكتل فً الببلد التً ٌنتقلون إلٌها للزواج أو العمل ،أو تسخٌر ثروة البلد التً هنَّ فٌها لبلدهنَّ
األصلً ،فلن ٌكنَّ وسٌلة لوضع قدم مصر فً الدولة التً ٌتزوجنَّ فٌها ،أي أنها زٌجة تؤتً بالخسارة على مصر
من كل النواحً.
ضمن الهداٌا التً ٌتبادلها الحكام فً ذلك العصر هً العبٌد ،وأحٌانا ٌكونوا ضمن جهاز العروسة األجنبٌة،
وبعض الببلد ،ومنها الحٌثٌون ،برعوا فً استؽبلل العبٌد كوسٌلة لبلختراق ،أو برعوا فً التخلص من العبٌد
المشاؼبٌن تحت اسم "هداٌا" لببلد ؼٌرهم ،فٌكونوا تخلصوا من شؽبهم وفً نفس الوقت تبقى "بجمٌلة وبمعروؾ"
على الملك األجنبً ،وٌؤخذون مقابلها هدٌة أخرى ثمٌنة.
ومثال لذلك إرسال بودحٌبا زوجة ملك الحٌثٌٌن عبٌدها القوقاز ضمن جهاز ابنتها إلى رمسٌس الثانً ،وكان
القوقازٌون ٌشتهرون بؤنهم خطرون وعدوانٌون ،حتى وهم أسرى ،بحسب وصؾ براٌس ،الذي توقع أن "ال
ٌوجد شك أن بودحٌبا كانت سعٌدة بانتهاز تلك الفرصة للتخلص من أولبك األسرى القوقازٌٌن بإرسالهم إلى
مصر كعبٌد" ،وأعلن رمسٌس أنه ٌرحب بإرسالهم إلى مصر ،ولكنه نصح الملكة بؤن تشدد الحراسة علٌهم ،حتى
(ٕ٘)
-المرجع السابق ،ص ٔ8ٔ -ٔ99
()ٕٙ
-مواد قانون الجنسٌة المصرٌة الحالً ،فٌما ٌخص تجنٌس األجانب ،كتجنٌس أوالد المصرٌة ،والزوجة األجنبٌة ،وتجنٌس المقٌم األجنبً بعد
ٓٔ سنٌن ،وتجنٌس المستثمر األجنبً مقابل ودٌعة إلخ ،هو بمثابة بوابة لنقل عرش مصر إلى األجانب "بالقانون" أٌضا ،بل هو أسرع طرٌق
مخت صر لهذا ،خاصة وأن معظم الوظابؾ فً مصر وتملٌك األراضً والترشح النتخابات المحلٌات والبرلمان ال تطلب فً المتقدم لها "فٌما ٌخص
الجنسٌة إال أن ٌكون مصرٌا وبالكثٌر "من أبوٌن مصرٌٌن" ،دون االشتراط أن ٌكونوا ؼٌر مجنسٌن ،وحتى الربٌس ال ٌُشترط أن ٌكون جداه
مباشرة ؼٌر مجنسٌن ،أو أن تكون زوجته من أبوٌن ؼٌر مجنسٌن ،أي فً النهاٌة ٌسهل على األجنبً بعد جٌل أو جٌلٌن على األكثر أن ٌصلوا إلى
أرفع مناصب الدولة ..بالقانون ..بورقة ابتدعها األجانب باسم "التجنٌس" ،ستدفع مصر ثمنها ؼالٌا.
ٓٓٔ
وهم ما زالوا فً الحبس الحٌثً حتى ال ٌشكلون أي خطر على المرتحلٌن فً حفلة العرس(.)ٕ9
ولٌس مفهوما لماذ ا قبل رمسٌس الثانً هإالء العبٌد رؼم علمه بؤنهم خطرٌن ومشاؼبٌن؟ إال إن كان ثقة زابدة
فً النفس بؤنه "كله تحت السٌطرة" ،وهو ما ستظهر مشاكله فً دور األجانب المشاؼبٌن فً تحطٌم عظام األسرة
ٔ9التً كونها جد ووالد رمسٌس الثانً وإسقاطها ،وتحطٌم عظام مصر نفسها فٌما بعد.
واستخدم الحكام بداٌة من األسرة ٔ8وحتى األسرة ٕٓ األسرى المجلوبٌن من الببلد المفتوحة ،أو
المستسلمٌن ،فً بعض المهن ،ولٌتهم ما فعلت ،ولٌتهم بحثوا عن وسٌلة للتخلص منهم كما فعل الحٌثٌون
بدال من تراكمهم فً مصر التً وجدوا فٌها فرصا أرقى بكثٌر من الببلد األخرى ،ورؼم هذا لم ٌرحموها
حٌن تكتلوا علٌها كما سنرى ،فتباهى بعض حكام مصر بكثرة ما لدٌهم من أسرى حرب -كدلٌل على القوة
واالنتصارات -ولم ٌدر بخلدهم أن هإالء أنفسهم سٌحولون المصرٌٌن كلهم ،بل مصر نفسها ،إلى أسرى
حرب لدٌهم عما قرٌب.
فتحت مصر الباب لتوظٌؾ أجانب من أبناء الببلد المفتوحة والمقٌمٌن فً مصر فً أعمال الترجمة
واإلدارات الحكومٌة المتصلة بإدارة تلك الببلد على أساس دراٌتهم بشبون ببلدهم ،كما سنرى فً حكاٌة
السوري "إرسو" وكٌؾ استؽل وظٌفته فً السٌطرة على القصر.
وطبٌعً أن انفتحت أبواب مصر واسعا أمام بضابع الببلد المفتوحة وتجارها ،فانتشروا فٌها ،وأؼراهم
الثراء السرٌع فً استٌطانها وسط ؼفلة من أهلها الذٌن نسوا كٌؾ بدأ االحتبلل الهكسوسً باالستٌطان باسم
تاجر والجا وعامل ،وقبله توؼل األجانب بنفس األسلوب لٌساهموا فً إسقاط الدولة القدٌمة.
وهو ما سنتابعه بالتفاصٌل والوقابع فً الحدٌث تحت عنوانً "النار تصل الجٌش والمعبد" ،و"تصفٌة
الجٌش المصري" فً الصفحات التالٌة ،وهو عنوان قاسً ،ولكنه ما حصل ،وبدأ تشؽٌل أسرى الحرب
والمستوطنٌن األجانب فً مهام صؽٌرة جدا فً أعمال معاونة ،لم تب ُد أنها تشكل خطرا ،ثم تطور األمر
بمرور السنٌن إلى تجنٌد ،ثم ترقٌة إلى ضباط ،ثم قٌادات ،ثم دخول الضباط والقٌادات فً مصاهرات مع
العاببلت المصرٌة النافذة ،ثم االنفراد بقٌادة الجٌش نفسه ..ثم تولً أجنبً (ادعى التمصر كذبا) وظٌفة
القابد األعلى للقوات المسلحة المصرٌة.
فً عصور الدولة الحدٌثة وصلت مصر إلى مرحلة من الؽنى الفاحش لم تصلها طوال تارٌخها.
()ٕ9
-المرجع السابق ،ص ٕٔ9
ٔٓٔ
فإلى جانب اإلنتاج الداخلً مع دوران عجلة البناء من معابد ومقابر وتنشٌط المحاجر والمناجم ،وتطوٌر
مشارٌع الري وازدهار كافة الصناعات ،تدفق على مصر ثروات من الببلد المفتوحة كالجزٌة والهداٌا،
ونسمع ر َّنات هذا الثراء على لسان الملوك األجانب فً رسابلهم لحكام مصر ،فٌقول حاكم "مٌتانً" بعد
الصلح معه وزواج أمنحوتب الثالث من ابنته" :أخً ،أرجو أن تهدٌنً ذهبا كثٌرا ال ٌُحصى ،وإنً على ثقة
من أن أخً سوؾ ٌحقق ذلك وٌهدٌنً ذهبا أكثر من الذهب الذي حصل والدي علٌه ،ألٌس الذهب فً بلد
أخً كتراب األرض؟ بارك األرباب فٌه حتى ٌصبح الذهب فً أرض أخً أضعاؾ ما هو علٌه اآلن،
وعسى ما أطلبه ال ٌضاٌق أخً وال ٌضٌق به قلبه ،... ،وسوؾ أرد ألخً فضله عشرة أمثال مما
ٌشتهٌه"( ،)ٕ8أي حصل على الصلح ،وصلة النسب مع حاكم مصر ،والثروة ،ومساعدة مصر لهم وقت
اللزوم ،فً المقابل أخذت مصر منهم اللسان الحلو وهداٌا والؽرق فً جمال بناتهم.
وإن كان حكام مصر بداٌة من أحمس وحتى تحوتمس الرابع ( 8حكام) قاوموا إؼراء هذه الثروات،
وواصلوا كفاحهم فً الداخل والخارج لحماٌة البلد ،إال أن أمنحوتب الثالث ،ابن تحوتمس الرابع ،وبعد أن
بدأ عهده بحمبلت تفتٌشٌة فً الببلد المفتوحة ،إال أنه فً الجزء األخٌر من عهده مال إلى حٌاة السلم والدعة
والخمول وحفبلت القصر الصاخبة ،خاصة بعد الصلح مع مٌتانً ،وتبدى ذلك فً تماثٌله التً اتسم بعضها
بالسمنة مقارنة بتماثٌل أسبلفه الممشوقة ،إضافة لكثرة الوصل مع األجنبٌات البلواتً مؤلن القصور ،وٌبدو
قدمن منها رؼم مطامعها ،فعمٌت األبصار عن َ أنهنَّ كسرنَّ حدة العداء فً الصدور المصرٌة للببلد التً
مإامراتها.
وانتقلت نٌران الثراء الفاحش من قصور الحكم إلى المعابد ،وحسب تعبٌر هنري برٌستٌد فإن "ثروة
العاهلٌة ]الدولة[ أفسدت أخبلق الكهنة"(.)ٕ9
ولم ٌكن من بؤس على أثرٌاء مصر فً أن ٌستمتعوا بما أفاءته علٌهم جهود أسبلفهم من نعمة ونعٌم،
ولكن الضرر أوشك أن ٌقع بهم حٌن استمرأوا النعمة واستناموا إلى النعٌم(ٖٓ) ،بحسب تعبٌر عبد العزٌز
صالح ،فتراخت قبضتهم ظنا منهم أن الدنٌا دانت لهم ،و"كله تحت السٌطرة" ،وآن لهم أن ٌرٌحوا أنفسهم،
واستسهلوا إسناد بعض األعمال للموظفٌن األجانب ترفعًا عنها.
أدى هذا إلى تبدل االستقرار الخارجً فً نهاٌة عهد أمنحوتب الثالث شٌبا فشٌبا ،فبدأت القوة الحٌثٌة
الفتٌة تعبث بالحدود السورٌة والمٌتانٌة ،وتؽري ضعاؾ النفوس من اإلقلٌمٌن بالعمل لصالحها(ٖٔ).
وعندما خ َّفت اإلدارة المصرٌة وقلَّت حمبلتها الحربٌة أؼار بعض أمراء الشام على جٌرانهم ،وهددت
قبابل الخابٌرو والعابٌرو البدوٌة األمن وسبل التجارة ،فتوالت صرخات االستؽاثة من األمراء الشوام
الموالٌن ألمنحوتب ،فوجدت االستجابة مرة ،ولكنها وجدت اإلهمال مرات.
()ٕ8
-الشرق األدنى القدٌم ،عبد العزٌز صالح ،مرجع سابق ،ص ٕٔٙ
()ٕ9
-فجر الضمٌر ،جٌمس هنري برٌستٌد ،ترجمة سلٌم حسن ،مرجع سابق ،ص ٘ٗ
(ٖٓ)
-الشرق األدنى القدٌم ،مرجع سابق ،ص ٕٔٙ
(ٖٔ)
-انظر الشرق األدنى القدٌم،عبد العزٌز صالح ،مرجع سابق ،ص ٕٔ9
ٕٓٔ
فلم ٌق ِّدر أمنحوتب خطورة هذه األحوال تقدٌرها الصحٌح ،واستمر ٌظن فً نفسه السٌادة ،واستمر
ٌستمتع برسابل المدٌح القادمة من أمراء بابل والمٌتان وبعض أمراء آسٌا الصؽرى التً أخمدت شعلة
الحذر فً الصدور ،وشرّ ما أعماه عن تبٌن حقٌقة األوضاع هو جماعة من أمراء كنعان ومن الخابٌرو
العابٌرو ،مهروا فً النفاق ،واستمروا ٌضللونه وٌضللون ولده إخناتون من بعده ،وٌسرفون فً إظهار الود
والطاعة لـمصر ،وٌسرفون فً الوقت نفسه فً إضمار الحقد لها(ٕٖ).
وصورت هذه البلبلة مجموعة رسابل محفوظة بدٌوان رسابل أمنحوتب الثالث وإخناتون" ،و ُتسمى فً
علم اآلثار برسابل تل العمارنة ،موزعة اآلن على المتحؾ المصري ومتاحؾ أجنبٌة ،وتتضمن المراسبلت
المتبادلة بٌن أمنحوتب الثالث وإخناتون وبٌن ملوك الشرق وحكام الشام فً عهدٌهما.
وٌُفهم من رسابل العمارنة أنه كان من بٌن حكام اإلمارات الفٌنٌقٌة (اللبنانٌة) حاكم لؤلمورٌٌن اسمه "رٌب
أدي" ظل موالٌا لـمصر حتى آخر حٌاته مع حكام إمارات فٌنٌقٌة أخرى كبٌروت وصور وصٌدا وعكا ،وفً
المقابل ظهر حاكم اسمه "عبدو عشرتا" سٌطر على جزء من حوض العاصً ،ومد نفوذه بالقوة على
حساب جٌرانه؛ فاحتل عرقة وقطنة وحماة وأرواد ،ونافق المصرٌٌن والحٌثٌٌن فً وقت واحدٌ ،وهم كل
طرؾ أنه تبعه وٌعمل لحسابه.
وبعث "رٌب أدى" بشكاوى إلى مصر عن مطامع وخبث "عبدو عشرتا" ،وترجى أمنحتب أن ٌنجده،
وفً الوقت نفسه كان "عبدو عشرتا" ٌبعث رسابل لمصر ٌنكر فٌها كل ما ٌتهمه به حلفاء مصر ،وٌإكد أنه
خاضع كامل الخضوع لمصر ،لدرجة أنه ٌقول فً رسابله ألمنحوتب الثالث" :إلى الملك شمسً وموالي،
ٌقول عبدو عشرتا عبدك وتراب قدمٌك :أجثو عند قدمً موالي الملك سبعا ،وسبعا ،فؤنا خادم الملك وجرو
بٌته (الجرو هو الكلب الصؽٌر) ،وأحرس أرض أمور أو كلها من أجل موالي وسٌدي(ٖٖ)".
وفً نهاٌة المطاؾ أرسل أمنحوتب الثالث حملة تؤدٌبٌة قبضت على عبدو عشرتا ،وقتلته ،لكن سار
أبناإه ،وخاصة عزٌرو ،على نفس مسلكه.
وكتب "رٌب أدي" متحسرا على تراجع الهٌبة المصرٌة هناك"" :كان حكام كنعان إذا رأوا جندٌا مصرٌا
ولوا األدبار ،أما اآلن فإن أبناء عبدو عشرتا ٌستخفون بالمصرٌٌن وٌهددوننً بؤسلحة فتاكة" ،وؼدا الرجل
فً عاصمته جبٌل حسٌرا محصورا كعصفور فً قفص.
وفً رسالة ثانٌة قال ألمنحوتب"" :قدٌما كان للملك عندنا قلعة وحامٌة ،وكان الملك ٌكفل تموٌنها من
إٌارٌموتا ،ولكن عزٌرو ٌهاجمنا اآلن مرارا دون خوؾ ،ولم ٌبق لً حاشٌة أو مإنة بعد أن أصبحت قراي
اآلن فً حوزة عزٌرو ،وهو ٌظهر لً الرؼبة فً أن أنضم إلٌه ،ولكن لماذا أنضم إلٌه؟ إنهم أجراء أبناء
(ٕٖ)
-انظر :نفس المرجع
(ٖٖ)
-مرجع سابق ،ص ٕٔ9
ٖٓٔ
عبدو عشرتا هإالء ٌبؽون مصالحهم وٌخلفون مدن موالي الملك طعاما للنٌران"(ٖٗ).
"وكتب حاكم مدٌنة تونٌب ٌردد نفس الشكوى ،وٌذكر أمنحوتب الثالث بسٌاسة جده تحوتمس الثالث فً
استمرار تفقد األحوال فً الشام لتثبٌت النفوذ المصري بها" :موالي ملك مصر ،نحن أهل تونٌب أتباعك،
ندعو لك بالحٌاة ونقبل قدمٌك ،إن أ َمتك مدٌنة تونٌب تقول من ذا الذي كان ٌستٌطع أن ٌنهب توتٌب دون أن
ٌنتقم لها منخبرٌا (تحوتمس الثالث) وٌفعل بالناهب ما فعل بها".
"ولٌسؤل موالنا شٌوخ رجاله (كبار السن الذٌن عاصروا تحوتمس) لٌعرؾ إذا ما كنا نقول الحقٌقة أم
ؼٌرها .إذا لم ٌدركنا مشاة ملك مصر وعرباته قبل فوات الفرصة فإن عزٌرو سٌصنع معنا ما صنعه فً
مدٌنة نً ،وحٌنبذ لن نبكً وحدنا بل سٌبكً معنا أٌضا ملك مصر مما ٌرتكبه عزٌرو من أعمال ألنه
سٌرفع ٌده حٌنذاك ضد موالنا(ٖ٘)".
وفً إشارة للتجاهل التام من أمنحوتب لهذه النداءات قالت رسابل تونٌب" :إن مدٌنتك تونٌب تبكً،
ودموعها تجري ،وال ناصر لنا ،أرسلنا ٕٓ رسالة إلى موالنا ملك مصر ولم نتلق ردا منه"(.)ٖٙ
ومضى عزٌرو فً طرٌقه ،واستولى على أالزا (شمال طرابلس) وأرداتا (قرب زؼرتا بشمال لبنان)
وحرق أوجارٌت (راس شمرا بالبلذقٌة السورٌة) ودمر سمٌرا ،وظل ٌرسل خطاباته المخادعة إلى إخناتون
ٌظهر والءه فٌها ،وٌ َّدعً أنه إنما ٌستولى على المدن لٌحمٌها من الحٌثٌٌن ،وأنه ٌخرب بعضها حتى ال
ٌستفٌدوا منها ،وبلؽت به الثقة فً القدرة على خداع إخناتون أن ٌراسل الملك بؤمله فً أن ٌرى وجه مواله
البهً ،وذهب إلٌه بالفعل ورجع آمنا من عنده؛ وٌقول دونالدرٌد فورد إنه ذهب لمصر باستدعاء من
إخناتون لمحاكمته ،وظل طوٌبل ،لكنه عاد سلٌما؛ لٌوطد تحالفه مع الحٌثٌٌن ضد المدن السورٌة المعادٌة له
وضد مصر(.)ٖ9
وبتحرٌض الحٌثٌٌن( )ٖ8ظهر شخص مثل عبدو عشرتا اسمه "ال بآٌو" حاكم مدٌنة سشم الذي تعاون هو
وأوالده مع قباٌل العابٌرو ،وبلؽت الصفاقة به فً نفاقه إلخناتون -وبمعنى أدق محاولة تؽٌٌبه عن الحقٌقة-
أن قال له فً رسالة" :وهل إذا طلب الملك إمرأتً أستطٌع أن أمنعها؟ وإذا كتب إلًَّ أن إضرب قلبك
بخنجر ومت ،فهل أخالؾ أمر موالي؟" ،وعندما لقى "ال بآٌو" حتفه خلفه فً الشر والنفاق ولداه(.)ٖ9
فلماذا ٌا ترى هذا الصمت من الحكومة المصرٌة وقتها ،ومٌلها لتصدٌق الكاذب المنافق عن الصادق؟
(ٖٗ)
-مرجع سابق ،ص ،ٕٔ8 -ٕٔ9وأخناتون ذلك الفرعون المارق ،دونالدرٌد فورد ،ترجمة بٌومً قندٌل ،دار الوفاء لدنٌا الطباعة والنشر،
اإلسكندرٌة ،ص ٖٕٔ
(ٖ٘)
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٕٔ9
()ٖٙ
-نفس المرجع
()ٖ9
-انظر :مرجع سابق ،ص ،ٕٔ8وأخناتون ذلك الفرعون المارق ،مرجع سابق ،ص ٕٕٗٔٔٙ -
()ٖ8
-منطقة الحٌثٌٌن هً التً قامت علٌها تركٌا فً القرون األخٌرة ،ونفس الدور الحٌثً فً تسلٌط حكام وقبابل شامٌة ضد مصر هو نفس ما
تفعله تركٌا فً تسلٌط جماعات فً سورٌا وفلسطٌن ضد مصر اآلن ،وهذه المنطقة ترمً على مصر الشر دابما ،فهً نفس األرض التً قامت
علٌها أٌضا بٌزنطة (الجزء الشرقً لإلمبراطورٌة الرومانٌة التً احتلت مصر)
()ٖ9
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٕٔ9 -ٕٔ8
ٗٓٔ
ٌتؤمل دونالدرٌد فورد ،ثم ٌجٌبٌ" :ذهب رأًٌ إى أن عزٌرو كان واحدا من القبلبل الذٌن سبروا ؼور
أخناتون بشكل كامل ،فلقد وزن بصفته شٌخ قبٌلة ال ٌنقصه ال الدهاء وال سعة الحٌلة ،أي المكافا لـ
"بلطج ً" ،أو "قبضاي" الشوارع الخلفٌة للمدن حالٌا ،الحدود التً تفرضها التربٌة الراقٌة وحٌاة الدعة على
حاكم تختلؾ ثقافته بوجه عام عن ثقافته هو .ولقد كان فً طوع أخناتون أن ٌوظؾ عناصر وحشٌة ،وإن
كانت فعالة فً السٌاسة ،ؼٌر أنه لم ٌشؤ أن ٌكٌؾ نفسه مع التنظٌم الضروري البلزم إلطبلق حملة تتمتع
بالكفاءة والقدرة ،وكان فً وسع أخناتون أن ٌوجه تهمة شنٌعة ،إال أن خاطره كان ٌطٌب بسهولة
وٌسر"(ٓٗ).
هذا التحلٌل ال ٌنطبق فقط على عزٌرو ،بل على كل أعداء مصر والطامعٌن فٌها ،وال على إخناتون
فقط ،بل معظم المصرٌٌن فً أوقات ترك الحٌطة ونسٌان التارٌخ ،فؤمثال عزٌرو على مر التارٌخ ٌعرفون
أن المصرٌٌن فً هذه األوقات ٌركنون إلى السلم ،وتإثر فٌهم الكلمة الحلوة والوعود المؽموسة فً المدٌح
أو الخضوع ،ولٌس المشكلة أن هذا ٌإدي لخسارة مناطق نفوذ خارجٌة ،فهً فً النهاٌة لٌست أراضٌنا،
ولكن تإدي لتمكٌن العدو من أرض مصر نفسها حٌن ٌتؽلؽل بنفس األسالٌب داخل أروقة الحكم ،كما
سٌحدث فً السنٌن المقبلة.
وتزٌد فرص التمكٌن األجنبً من مصر حٌن ٌسكر أهلها فً الؽنى الفاحش ،فتثقل األقدام عن الحركة،
وٌتراخى العقل عن التفكٌر فً مإامرات الؽٌر ،وتؽرٌهم قوتهم باالطمبنان للمنافقٌن ،وٌنفر بعضهم من
الكفاح ،وألن مصر دولة "وسطٌة" ،وعّدَ لها فً وسطٌتها ،فإن الؽنى الفاحش ال ٌجلب لها إال الشر ،وألهلها
الكسل ،ولؤلجانب الفرص.
لسوء الحظ تزامنت هذه الظروؾ مع انشؽال إخناتون بفكره الدٌنً الجدٌد ،وخبلفه مع رجال الدٌن
وظهور نزاع داخلً ،وبحسب رأي عبد العزٌز صالح فإن إخناتون وقع فً خطؤ أنه بحسب دعوته الدٌنٌة
التً تقول إن كل الشعوب متساوٌة فإن اإلخاء والمساواة بٌنها سٌكون هو الكفٌل بإنهاء الحروب
والصراعات ،ولكن خاب ظنه(ٔٗ) كما خاب ظن كل من سعى بعده لدمج الشعوب أو تحوٌل العالم إلى أمة
واحدة بحسن أو بسوء نٌة ،كاإلسكندر وكنٌسة روما والخبلفة اإلسبلمٌة والدولة الشٌوعٌة العالمٌة
والعولمة ،فهً فكرة عكس حكمة هللا فً خلقه" ،لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء هللا لجعلكم أمة
واحدة ولكن لٌبلوكم فً ما آتاكم فاستبقوا الخٌرات" (المابدة ،اآلٌة )ٗ8
قوبلت أفكار إخناتون بالمقاومة الشدٌدة من علماء الدٌن بمعابد آمون الذٌن رأوا فٌها أفكارا متؤثرة
باالندماج واالختبلط باألجانب مع االنفتاح اإلمبراطوري علٌهم ،وأصروا على النزعة القومٌة التً تدعو
(ٓٗ)
-أخناتون ذلك الفرعون المارق ،دونالدرٌد فورد ،مرجع سابق ،ص ٕٔٙ
(ٔٗ)
-انظر :الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٕٔ9
٘ٓٔ
المصرٌٌن إلى الحذر من األفكار األجنبٌة(ٕٗ) .ربما خشوا أن تكون أفكار المساواة شعارات صدرها له من
ٌرٌدونه أن ٌساوي بٌن المصرٌٌن واألجانب ،فتنكسر مقاومة المصري لكل ما هو أجنبً ،وتنفتح حدود
ببلده للقادمٌن ببل حدود.
وزاد من ؼفلة إخناتون عن الخطر أنه أحاطت به حاشٌة طمؤنته إلى بؤس جٌشه "األمن مستتب" ،وأحاط
به أجانب من أبناء المناطق المفتوحة أو المتحالفة مع مصر ،خدعوه وأعموا عٌنٌه عن حقٌقة مجرٌات
األمور فً الخارج ،منهم رجل ٌدعى توتو تضخم نفوذه حتى راسله أحد المنافقٌن ذات مرة قاببل له" :ال
استطٌع أن انحرؾ عن كلمات سٌدي وربً وشمسً ،وال أحٌد عن كلمات سٌدي توتو ،...فؤنا أخشى
موالي الملك وأخاؾ توتو.")ٖٗ(...
هذه الرسالة إشارة إلى أن أبناء الببلد المفتوحة أخذوا مناصب حساسة داخل القصر الحاكم ،حتى أنهم
كانوا مسبولٌن عن تسلم الرسابل بٌن حاكم مصر وأمراء البلدان المجاورة ،فمتوقع أنهم من سٌتحكمون فٌما
ٌصل إلٌه منها بحسب طبٌعة عبلقتهم بمن ٌرسلها وأهدافه ،كما شارك بعضهم فً مإامرات سممت جو
البلد ،منها مإامرة سجلتها جدران مقبرة "ماحو" ربٌس الشرطة ،دبرها اثنان من األجانب وواحد مصري،
وٌتوقع د .عبد المنعم أبو بكر أن هدفها كان اؼتٌال إخناتون(ٗٗ).
توفً إخناتون بعد ٗٔ سنة من الحكم ،وخلفه حكام لم ٌعمروا فً الحكم ألسباب الوفاة السرٌعة مثل
سمنخ كا رع وتوت عنخ آمون ،أو لكبر السن مثل آي ،فازدادت األمور تدهورا ،وضعفت قبضة الدولة
المركزٌة ،فانتشر الفساد والرشوة فً كل مكان ،وابتزاز المزارعٌن والتجار باإلتاوات.
ل م ٌترك "آي" ولٌا للعهد ،فتولى حكم الببلد حور محب ،القابد السابق للجٌش بعد أن تزوج من "موت
نجمة" ابنة "آي" ،ولم ٌكن حور محب من أبناء العٌلة الحاكمة.
استحق حور محب لقب المنقذ ،وفً ذلك ٌشبه أمنمحات األول فً الدولة الوسطى ،فكبلهما جاء فً
مرحلة ؼامضة مرتبكة ،البلد تفتقد فٌها للحكم القوي ،وتنجرؾ شٌبا فشٌبا بعٌدا عن ماعت إلى فوضى
"زفتة" جدٌدة تلقً بها إلى بٌر الخراب واالحتبلل ،وكبلهما ال ٌنتمً للعٌلة الحاكمة التً سبقته ،كما أن
كبلهما كان قابدا للجٌش وربٌسا للوزرا ،وكما انكتب لمصر على ٌد أمنمحات النجدة فانتشلها من حافة البٌر
إلى البراح ،فعل ذات األمر حور محب ،فكانا ممن نفذا مبدأ "الوقاٌة خٌر من العبلج".
بدأ القابد الجدٌد بؤن ه َّدأ التوتر الداخلً وأعاد الحٌاة الدٌنٌة إلى ما كانت علٌه قبل إخناتون ،وحذؾ سٌرة
إخناتون ومن جاءوا بعده من السجبلت الحكومٌة ،وكؤن الحكم توقؾ عند أمنحوتب الثالث ،ولٌس للحكام
(ٕٗ)
-انظر :رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة ،رمضان عبده علً ،مرجع سابق ،الجزء ٖ ،ص ٕ٘9
(ٖٗ)
-انظر :الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٕٔ9
(ٗٗ)
-إخناتون ،د .عبد المنعم أبو بكر ،دار القلم (وزارة الثقافة) ،القاهرة ،ٔ9ٙٔ ،ص 99
ٔٓٙ
من إخناتون وحتى آي (أي أتباع آتون) شرعٌة.
ولحظ مصر ،كان به حسم وصرامة ومحبة عالٌة للكفاح ومواجهة الفاسدٌن ،فجاب أرجاء مصر ٌتفقد
أحوالها بعد القلقلة التً هزتها؛ فوضع أجراءات مشددة لمكافحة االنفبلت ،بدأت بالتفتٌش على الموظفٌن،
وحذر القضاة من االتصال بالناس ،أو قبول أي هداٌا ،وعاقب بالموت من ٌخالؾ ذلك ،ووضع فً مناصب
القضاة أشخاصا محمودي السٌرة ،لدٌهم القدرة الكافٌة على فهم مشاكل الناس وحلها ،أما العقوبات فجعلها
رادعة بالنسبة لبلعتداء على السفن الخاصة بنقل محاصٌل الضراٌب وحماٌة أصحاب السفن من عدوان
قطاع الطرق ،ومعاقبة من ٌتؤخر فً تورٌد الضراٌب المستحقة لدور العبادة ،ومعاقبة الموظفٌن الذي
ٌعملون بتجارة الرق ،ومنع االستٌبلء على جلود الحٌوانات من المزارعٌن(٘ٗ) ،وتعهد فً قوانٌنه "أن ٌحمً
دافعً الضراٌب وعمال المزارع ،ففرض على المعتدٌن والمرتشٌن عقوبات كالجلد بالسٌاط وجدع األنؾ
والنفً إلى ثارو على الحدود الشمالٌة الشرقٌة ،والتزم بالحزم مع رجال الجٌش أٌضا ،فعمل على المساواة
بٌنهم وبٌن ؼٌرهم فً الردع والعقاب ،خاصة بعد أن انجرؾ بعضهم للفساد فً وقت االضطرابات
واالنفبلت(.)ٗٙ
وإلى جانب هذه اإلصبلحات الداخلٌة كان لحور محب دور عظٌم فً حماٌة الحدود المصرٌة ]أبواب
حور[ ،بإعادة تنظٌم أمور الجٌش ومراتب رجاله ،كما أشار فً مراسٌمه إلى أنه وضع بروتوكوال ٌخص
سراي الحكم ،وٌحدد مراتب الموظفٌن وأٌهم ٌتقدم على اآلخر(.)ٗ9
توفً حور محب بعد ٕ8سنة من الحكم ،طواها جٌله فً إعادة األمور إلى نصابها فٌما ٌخص استعادة
الهٌبة المصرٌة فً الداخل والخارج ،وتطبٌق "ماعت" بقدر ما تٌسر له ،وإن لم ٌتضح موقفه من األجانب
الذٌن كانوا ٌملبون قصور الحكم وكبار رجال الدولة ،وهل أبقى علٌهم أم أبعدهم.
وترك البلد مطمبنة ،عاهدا بالحكم إلى قابد الجٌش رمسٌس األول ٘ ٕٔ9ق.م( ،)ٗ8وبه بدأت األسرة
،ٔ9وهكذا انتهت األسرة ٔ8بملك عظٌم هو حور محب كما بدأت بملك عظٌم هو أحمس(.)ٗ9
األسرة ٔ9من أعظم وأشهر األسرات الحاكمة المصرٌة ،خاصة نصفها األول ،لكنها مثلت أكبر مثال
للتناقض واالزدواجٌة فً الحكم على األمور فً مصر ،وهو ما سنعانً منه حتى اآلن.
فهذه األسرة سعت لبناء مصر وحماٌتها بشكل مبهر ،ؼامر حكامها بؤرواحهم فً قٌادة الحروب إلى
عمق الشام وإلى الحدود الؽربٌة لصد الخطر عنها ،وبنوا المشارٌع الفخمة ،وفً نفس الوقت ٌحشون مصر
(٘ٗ)
-انظر :رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة ،مرجع سابق ،الجزء ٖ ،ص ٖٖٖٖٓٔ -
()ٗٙ
-انظر :الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٕٕٓ
()ٗ9
-مصر الفرعونٌة ،أحمد فخري ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،مشروع مكتبة األسرة ،ٕٕٓٔ ،ص ٕٙٙ
()ٗ8
-بحسب التقدٌر التارٌخً الوارد فً كتاب تارٌخ مصر القدٌمة ،نٌكوال جرٌمال ،ص ٗٓ٘
()ٗ9
-مصر الفرعونٌة ،أحمد فخري ،مرجع سابق ،ص ٕٙٙ
ٔٓ7
بؤسباب سقوطها المدوي الذي ستشهده نهاٌة األسرة ٕٓ ،وهو التوسع ؼٌر المسبوق فً الزواج بؤجنبٌات،
وتوطٌن أعداد ضخمة من األجانب ،واالنفتاح الكبٌر على األعداء مثل الحٌثٌٌن بعد معاهدة السبلم،
واألخطر االستعانة بجنسٌات عدٌدة فً الجٌش والمعابد ،بل وفً قٌادة الجٌش.
تولى رمسٌس األول وهو كبٌر السن ،فلم ٌحكم سوى عامٌن ،وأورث الحكم البنه سٌتً األول ،القابد
الحربً العظٌم ،قابد قوات الحدود الشمالٌة الشرقٌة فً حصن ثارو بسٌناء ،وهً الوظٌفة التً ٌتوالها
أمهر القادة؛ نظرا لعظم التهدٌدات التً تواجه مصر حٌنها من جهة الشرق ،خاصة مع صعود قوة
الحٌثٌٌن ،وتعاظم خطر هجرات جدٌدة وفدت على الشام ،هً هجرات قبابل شعوب البحر ..التً ستكون
طامة مصر الكبرى على ٌدٌها بعد نحو ٕٓ٘ سنة.
ولما ارتقى سٌتً العرش سار على خطى حور محب فً تشدٌد العقوبات على الفاسدٌن ،وتوعد فً
مراسٌمه من ٌسلب راعٌا وٌتسبب فً هبلك الماشٌة بضربه ٕٓٓ عصا ،وتؽرٌمه أضعافا مضاعفة عن
الماشٌة المفقودة ،ووعظ خلفاءه فقال" :إن من عطل مصالح ؼٌره لقى جزاءه بالمثل ،والمؽتصب سوؾ
ٌؽتصب "...ثم خوفهم عذاب اآلخرة قاببل" :سٌكون (المردة) حمرا مثل لهب الجحٌم ،وسوؾ ٌشوون لحوم
من الٌستمعون إلى قولً(ٓ٘)".
ومن اآلثار التً تدل على التقدم العلمً فً عصر سٌتً خرٌطة مرسومة على بردٌة لمناطق مناجم وادي
الحمامات فً الشرقٌة وطرق الوصول إلٌها ،وتعتبر أول أو ثانً خرٌطة من نوعها عرفت حتى اآلن من العالم
القدٌم ،والخرٌطة األولى ٌقول أثرٌون إنها خرٌطة "نفر العراقٌة" ،وإن كانت أقرب للتخطٌط منها للخرٌطة(ٔ٘)،
كما عُثر من عهده على أقدم خرٌطة حربٌة جؽرافٌة مصورة ،نقشها المنهدسون فً الكرنك وصورت
المحطات والحصون المنتشرة على الحدود الشرقٌة حتى بداٌة فلسطٌن(ٕ٘).
ومن األحادٌث الطرٌفة اللً سجلتها نصوص سٌتً األول وتكشؾ جانبا من عبلقاته مع الرعٌة أن
سٌتً أراد أن ٌتحقق من أحوال الصحراء ومسالك المناجم ،وكان ٌظن أنه تتوفر فٌها مجار مابٌة كافٌة،
ولكنه بعد أن سار فٌها ولمس قسوتها راجع نفسه فقال" :ما أتعس الطرٌق الذي ٌعوزه الماء ،وكٌؾ ٌكون
حال المسافرٌن فٌه إذا أرادوا أن ٌتقوا جفاؾ حلوقهم؟ ومواطنهم بعٌدة والصحراء مدٌدة؟ فٌالتعاسة من
ٌظمؤ فً البرٌة ،"...هلم إلى عقلً حتى أفكر فً راحتهم وأكفل لهم ما ٌصون حٌاتهم وٌجعلهم ٌترحمون
علً فً السنٌن المقبلة ،وأمر رجاله بؤن ٌحفروا ببرا فٌه(ٖ٘).
وفٌما ٌخص المعارك والعبلقات الخارجٌة ،تزامن مع وصول سٌتً األول للحكم انهٌار دولة مٌتانً
على ٌد الحٌثٌٌن فتفرؼوا لتحرٌض من واالهم من أمراء الشام على المصرٌٌن.
(ٓ٘)
-انظر :الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٕٕٕٕٕٔ -
(ٔ٘)
-انظر المرجع السابق ،ص ٕٕٕ والهوامش
(ٕ٘)
-نفس المرجع
(ٖ٘)
-نفس المرجع ،ص ٕٕٕٕٕٖ -
ٔٓ8
وعاد العابٌرو -وصفهم دونالدرٌد فورد بؤنهم "ٌشبهون الؽجر فً صعلكتهم"(ٗ٘) -إلثارة الشؽب مستؽلٌن
فرصة انتقال الحكم فً مصر ،ونزعوا وجه نفاقهم القدٌم ،وأظهروا وجههم الحقٌقً ،فدفعوا ببدو الصحراء
من الشاسو إلى الحدود المصرٌة ،واستولوا على الحصون والحامٌات المصرٌة جنوب فلسطٌن ،وٌقال إنه
واتتهم الجرأة على ذلك بتحرٌض من "مواتلً" ملك الحٌثٌٌن ،فخرج إلٌهم سٌتً األول على رأس جٌش
كبٌر سلك طرٌق حور "حورس" الحربً فً شمال سٌناء -أطول طرٌق حربً ،وٌمتد من ؼرب سٌناء إلى
رفح -وكسر شوكتهم ،وأعاد الحامٌات ،وتؽلؽل فً فلسطٌن ،وحاول السكان الوقوؾ ضد المصرٌٌن لكن
تعرضوا لهزٌمة قبل استكمال لملمة تحالفهم(٘٘).
كما التقى الجٌش المصري فً معركة مع الحٌثٌٌن فً قادش انتهت إلى معاهدة بٌن الجانبٌن ،وهً
معركة ستتجدد فً نفس المكان فً عصر رمسٌس الثانً.
وفً ؼضون ذلك هبت هجرات قادمة من آسٌا وجزر شرق البحر المتوسط ،كالرٌح السموم المحملة
بالعقارب والثعابٌن ،سماها األجداد فً وثابقهم بـ"شعوب البحر"ٌ ،عمل أفرادها مرتزقة لمن ٌجزل لهم
عز علٌها أن تصل لمصر عبر العطاء ،ثم تحول هدفها الجتٌاح الحٌثٌٌن والشام وصوال إلى مصر ،ولما َّ
السواحل الشمالٌة ،أبحرت إلى السواحل اللٌبٌة ،ونزلت هناك ،تمهٌدا لؽزو مصر من الؽرب(.)٘ٙ
واختارت بداٌة أسلوب التسلل والسرسبة إلى مصر بحثا عن أماكن استقرار ،خاصة وأن أراضً
الواحات فً الصحراء الؽربٌة معروفة حٌنها بوفرة مراعٌها وأنعامها ،وٌبدو أنه كان ضمن هذه الجماعات
قبابل التحنو والمشواش ،ونجح سٌتً األول فً محاصرتها بسهولة ،ولكنه لم ٌقض على الخطر كله ،فبقٌت
جذوره ،وسوؾ ٌسبب هذا المتاعب لخلفابه( ،")٘9فً إشارة فٌما ٌبدو لبقاء بعضها فً الصحراء المصرٌة
قرب الدلتا ٌتحٌنون الفرصة للتسلل واالنقضاض.
وحكم سٌتً ٘ٔ سنة ،وخلفه ابنه صاحب الشهرة التً هزت الدنٌا كلها فً عهده وحتى اآلن ،رمسٌس الثانً،
أعاد الحٌثٌون فً عهده الكرَّ ة بتحرٌض إمارات الشام ضد مصر ،وعلى رأس الحٌثٌٌن ملك ٌسمى موتاللً
لم ٌقل عن رمسٌس طموحا ورؼبة فً إثبات جبروت دولته ،فاستعد للحرب ،وش َّكل تحالفا ضد مصر
ٌنتمً إلى ما ال ٌقل عن ٕٓ طابفة وجنسٌة(.)٘8
وبهذه المناسبةٌ ،بلحظ أنه فً معظم الحروب التً واجهتها مصر قدٌما وحدٌثا كان أعدابها لٌسوا عدوا
واحدا ،بل تحالفا من إمارات وطواٌؾ ،فلم ٌكن لمصر عدو واحد فقط فً أي عصر.
ودخلت مصر مع الحٌثٌٌن فً معارك استمرت ٔ8سنة ،فازت مصر ببعضها وفاز الحٌثٌون ببعضها اآلخر،
انتهت باتفاقٌة سبلم بعد أن تٌقن الجانبان أنه لن ٌقضً على خصمه القضاء المبرم ،كما لجؤ إلٌها الحٌثٌون وهم
(ٗ٘)
-أخناتون ذلك الفرعون المارق ،دونالدرٌد فورد ،مرجع سابق ،ص ٖٕٔ
(٘٘)
-انظر :رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة ،رمضان عبده علً ،مرجع سابق ،الجزء ٖ ،ص ٘ٔ
()٘ٙ
-انظر :الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،ص ٕٕ8
()٘9
-انظر رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة ،مرجع سابق ،الجزء الثالث ،ص ٔ9
()٘8
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ص ٕٕ9
ٔٓ9
ٌراقبون صعود نجم خطر جدٌد قرٌب منهم هو آشور فً العراق ،وخطر هجمات شعوب البحر اآلرٌة التً تهدد
الحٌثٌٌن ومصر على السواء ،إضافة إلى الصراعات الداخلٌة بٌن الحٌثٌٌن على العرش بعد وفاة موتاللً عدو
رمسٌس اللدود ،حتى أن خلٌفته خاتوسٌلً طلب من مصر مإازته ضد خصومه داخل ببلده(.)٘9
ومن ضمن شروط المعاهدة عدم االعتداء على حدود الدولة األخرى فً الشام ،وأن تتعهد كل دولة بنجدة
األخرى بجٌشها لو تعرضت العتداء مسلح ،وأال تؤوي الخوارج من األخرى "المتمردٌن والبلجبٌن السٌاسٌٌن"،
وٌُبلحظ أن الحٌثٌٌن أكثر من استفاد من هذه المعاهدة ،فهم بالفعل طلبوا من مصر فً األزمات النجدة
والقمح ،خصوصا وقت تعرضهم لصراعات أو هجمات الهجرات الجدٌدة ،فٌما لم تطلب منهم مصر دعما
ٌذكر ،وهكذا حال مصر فً معظم المعاهدات قدٌما وحدٌثا ،الطرؾ اآلخر ٌستفٌد أكثر منها لتجرإه فً
المطالب منها لٌؤخذ بالسلم ما لم ٌؤخذه بالحرب ،فٌما تتساهل هً معه ،وهو ما ٌحتاج لدراسة.
ووصل األمر أن تزوج رمسٌس الثانً من ابنه ملك الحٌثٌٌن ،وأكرمها ومنحها اسما مصرٌا هو
"ماعت -نفرو رع" ،وألقاب الملكات المصرٌات الرسمٌات ،وعلى حد النصوص المصرٌة أصبح الملكان
"قلبا واحدا كؤخوٌن ،ولم تعد هناك حفٌظة فً قلب أحدهما على اآلخر(ٓ.")ٙ
وفً إطار سرعة نسٌان مصر لماضً أعدابها معها وما ٌضمرونه لها ،تورط رمسٌس فً االنفتاح
الشدٌد على سورٌا بإؼراق الببلد بالسورٌٌن ،متوهما والبهم التام له بعد إحكام سٌطرته على ببلدهم،
وأدخل فً ببلطه عددا من األمراء والموظفٌن السورٌٌن الذٌن سٌإدي تؤثٌرهم إلى طبع الببلد بالطابع
الشرقً ،فق د سمى رمسٌس ابنته الكبرى والمفضلة عنده "بنت عنات" ،وعنات معبودة بالشام ،ولهذا األمر مؽزاه
الخطٌر عندما نعلم أن هذه االبنة كان ٌمكن أن ترث ]تورث؟[ العرش ،وفً السنوت األخٌرة من حكمه أصبح
رمسٌس الثانً آسٌوٌا حقٌقٌا فً بعض عاداته ،وبٌن نسابه الكثٌر من األمٌرات الشرقٌات(ٔ )ٙبحسب وصؾ
أستاذ المصرٌات الدكتور رمضان عبده علً.
وصلت ثقة رمسٌس الثانً باآلسٌوٌٌن بعد عبلقات النسب إلى أن ولَّى شخصا منهم اسمه "أورحٌا" قٌادة
القوات بالجٌش ،بل وأقحمه فً تولً أمور وجدان المصرٌٌن داخل المعبد بؤن تولى منصب المشرؾ على
معبد الرمسٌوم بطٌبة وربٌس العمال ،وتحدث بردٌة Ansatasi Iعن ضم أجانب إلى الجٌش المصري
فً عهد سٌتً الثانً(ٕ.)ٙ
وتوؼل إلى معبد الكرنك عابلة آسٌوٌة اسمها "دٌدٌا" أسسها شخص اسمه "بشً بعل" ،مرجح أنه أحد
أبناء المهاجرٌن األجانب أو أنه ولد فً مصر ،وتوالت أجٌال عابلته وتضخمت حتى وصلت إلى جٌل
()٘9
-انظر :مرجع سابقٕٖٕ ،
(ٓ)ٙ
-مرجع سابق ص ٖٖٕ ،ورإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة ،مصدر سابق ،الجزء الرابع ،ص ٖ9
(ٔ)ٙ
-انظر :رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة ،رمضان عبده علً ،مرجع سابق ،الجزء الرابع ،ص ٗٓ-ٖ9
(ٕ)ٙ
-الوعً السٌاسً عند قدماء المصرٌٌن ،فاٌز أنور عبد المطلب ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،سلسلة تارٌخ المصرٌٌن ،ص ٖٗٔ
ٓٔٔ
"دٌدٌا" الذي صار فً واسط (طٌبة) ربٌسا للرسامٌن فً الكرنك ،وحملت لوحته المحفوظة فً متحؾ
اللوفر ببارٌس نصا حوى أسماء أجنبٌة أصولها من الشام مثل عابلة "قاها" المكونة من أخٌه "با" ،وابنه
"خورو" ،وأمه "تانٌهسً" وؼٌرهم(ٖ.)ٙ
وبدأ هذا التساهل صؽٌرا ،بؤن بدأ سٌتً األول ،والد رمسٌس الثانً ،فً إلحاق أسرى الحرب من
سورٌا بالعمل فً حراسة المعابد(ٗ ،)ٙولم ٌدر بخلد أحد وقتها أن أحدا من بنً جنسهم سٌصل إلى أن ٌكون
مشرفا على المعبد نفسه ،بل وقابدا للجٌش المصري فً ٌوم من األٌام.
وقبل هذا التارٌخ تسلل األجانب إلى المعابد بؤسلوب ناعم ،بمعنى أنه بعد أن كان المصرٌون ٌحتقرون
المعبودات اآلسٌوٌة بسبب مرارة تجربتهم مع الهكسوس ،وحطموها باعتبارها "طاعون" فإن كثرة
االختبلط باألجانب بعد فتوحات األسرة ٔ8أفسحت المجال لآلسٌوٌٌن أن ٌسوقوا دعاٌة إٌجابٌة لمعبوداتهم،
خاصة فً مجال قدرتها الحربٌة ،مثل عنات وعشتارت -بالرؼم من أنهم فً معظم الحروب كانوا
مهزومٌن ولم تنفعهم هذه القدرة -وحصدوا ثمار هذه الدعاٌة بؤن أقنعوا المصرٌٌن بإدخال هذه المعبودات
للمعابد المصرٌة التً كانت محرمة على أي عبادة أجنبٌة (٘ ،)ٙوبالتالً كان من السهل أن ٌقنعوهم بإدخال
أجانب لتولً األمور فً المعابد بحجة أنهم أدرى بشبون هذه المعبودات ،أو لخدمة الجالٌة اآلسٌوٌة
المتؽلؽلة فً مصر ،فظهرت معابد آسٌوٌة فً منؾ وطٌبة الؽربٌة.
وٌصؾ علماء مصرٌات هذا األمر باإلٌجابً وأنه ٌدل على "تسامح" المصرٌٌن ،ولكن مستقبل األحداث
سٌكشؾ أنه لم ٌكن "تسامحا" ،بل تفرٌطا منكرا ،فالتسامح الحق أن المصرٌٌن ٌتركون دٌانة شعوب الببلد
المفتوحة وشؤنها فً تلك الببلد ،أما نقلها إلى مصر وبنفوذ أصحابها بهذه الطرٌقة ،رؼم الخبرات السابقة
بعداوتهم لمصر ومطامعهم فٌها ،فهو تفرٌط ؼٌر مقنع مع أي مبرر.
وٌرى آخرون مثل "إ .ماٌر" ،أن مركز اآللهة اآلسٌوٌٌن تعزز وتدعم فً مصر بسبب المقاومة
المستمرة لآلسٌوٌٌن ضد الحكم المصري الذي تسبب لآلسٌوٌٌن فً خسارة نفوذهم فً الشام( ،)ٙٙوؼٌر
واضح المعنى تماما من كبلم ماٌر ،ولكن ربما قصد أنه فٌما كانت تلحق باآلسٌوٌٌن هذه الخسابر للنفوذ فً
ببلدهم فإنهم تسللوا لمصر تحت عدة أسماء ودعموا وجودهم بنفوذ ثقافً ودٌنً لٌعوضوا ما فقدوه وٌكسبوا
مكانه نفوذا فً مصر الحصٌنة نفسها ،وهذا فً حد ذاته انتصار كبٌر لهم على المصرٌٌن سٌدفع األجداد
ونحن حتى الٌوم ثمنه ؼالٌا.
(ٖ)ٙ
-نفس المرجع ،ص ٖٗٔٔٗٗ -
(ٗ)ٙ
-نفس المرجع ،ص ٖٗٔ
(٘)ٙ
-انظر :المإسسة العسكرٌة المصرٌة فً عصر اإلمبراطورٌة ٓ ٔٓ89 -ٔ٘9ق.م ،أحمد قدري ،مرجع سابق ،ص ٖٖٖٔ -
()ٙٙ
-انظر :نفس المرجع ،ص ٖٖ
ٔٔٔ
أشكال الوجود األجنبً فً الدولة الحدٌثة :الصؾ األعلى األجانب المعتدون تحت سبلح الجٌش المصري ،والصؾ األوسط األجانب المعتدون من
الكوشٌٌن واآلسٌوٌٌن وقبابل شعوب البحر ٌقودهم جنود مصرٌون بعد أسرهم ،والصؾ الثالث أبناء الببلد المفتوحة فً كوش وآسٌا ٌؤتون إلى مصر
لتقدٌم الهداٌا والجزٌة ،وبعضهم عمل فً الجٌش والوظابؾ الحكومٌة بعد التظاهر بالوالء واستوطن مصر فكانت الطامة الكبرى التً قلبت اآلٌة
وجعلت المصرٌٌن ٌقعون تحت سبلح وأسر كافة هذه الشعوب األجنبٌة وٌدفعون لها الجزٌة
ومع حروب مصر فً الشرق اقترب خطر آخر من الؽرب وهو هجرات شعوب البحر اآلرٌة( )ٙ9التً
لمع خطرها بداٌة من عهد سٌتً األول (والد رمسٌس الثانً) ،واستعد لها الجٌش فً عهد رمسٌس بتقوٌة
الحصون على الحدود الؽربٌة ،ومنها حصن الؽرٌبات قرب برج العرب ،وحصن آخر عند العلمٌن،
وحصن زاوٌة أم الرخم على مسافة ٕ٘ كم من ؼرب مرسى مطروح(.)ٙ8
ومكان هذه الحصون ٌإشر إلى حدود مصر الؽربٌة وأنها امتدت لما بعد مرسى مطروح ،كما تشٌر
الحصون فً سٌنا وعند رفح منذ عصر مٌنا إلى حدود مصر الشرقٌة ،والحصون المقامة فً سمنة عند
الشبلل الثانً أٌام سنوسرت الثالث وؼٌره إلى حدود مصر الجنوبٌة -كما سبق الذكر -وهو ما ٌإكد مجددا
أن مصر دولة ذات حدود منذ القدم ،لم تختلؾ كثٌرا عما هً علٌه اآلن ،تحصنها وتحمٌها طوال عصور
()ٙ9
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،ص ٖٕٗ
()ٙ8
-انظر :مصر واألجانب فً األلفٌة األولى قبل المٌبلد ،جونتر فٌتمان ،ترجمة بعد الجواد مجاهد ،المركز القومً للترجمة ،القاهرة ،ٕٓٓ9 ،ص
ٖٓ ،وحضارة مصر الفرعونٌة ،أحمد فخري ،مرجع سابق ،ص ٕٓ8
ٕٔٔ
حرٌتها ،وتبذل الدم الستردادها وقت احتبللها ،ولم تكن الحدود فكرة مستجدة كما ٌزعم محترفو تزوٌر
التارٌخ فً التنظٌمات العالمٌة اآلن.
فً أثناء هذا ،توفً رمسٌس الثانً وهو فً الثمانٌن بعد أن حكم ٙ9عاما ،وهو رقم قٌاسً ،فً حٌن
كان معظم حكام مصر -عدا "ببً الثانً" الذي توفً فً التسعٌنٌ -توفون فً الستٌنات أو الخمسٌنات أو
األربعٌنات أو الثبلثٌنات ،وأحٌانا العشرٌنات(.)ٙ9
وبعد رمسٌس حكم ابنه مرنبتاح متحمبل عبء صد الهجرات الؽربٌة التً تزعمتها شٌخ قبٌلة رٌبو
(تحولت إلى لٌبٌو ثم لوبٌا وتسمت لٌبٌا الحقا على اسمهم) ،وضم إلٌه أعدادا من ٘ جماعات آرٌة مهاجرة
من جزر البحر المتوسط ،وهً :اإلقوش والتورشا والروكً (اللوكً) والشرادنة والشكرش (الشكلش)،
اندفعوا بنسابهم وأوالدهم وقطعانهم القلٌلة ،وطمعوا فً أن ٌعبروا البراري إلى الدلتا لٌستقروا فً أرضها
الخصبة(ٓ.)9
وٌبدو أن االنشؽال فً حروب الجبهة الشرقٌة أتاح الفرصة الختراق الحصون الؽربٌة ،فوصل
المهاجرون حتى فرع النٌل الكانوبً ؼرب الدلتا بؤعداد كثٌرة ،فؤعد لهم مرنبتاح ما استطاع من قوة ،وذكر
فً نصوصه أنه استنصر ربه بتاح فؤوحى إلٌه والنصر وقال له" :إثبت وانزع الشك من قلبك(ٔ.")9
وألن هذه المعركة من المعارك القلٌلة التً دارت رحاها داخل مصر منذ طرد الهكسوس ،ذاع نبؤ
النصر برنة عظٌمة فً أرجاء البلد ،ووصؾ أحد الشعراء مرنبتاح المنتصر بؤنه "شمس بددت الؽٌوم التً
رانت على مصر ،وأنه جعل تامري (مصر) ترى أشعة الكوكب ،وأنه كمن أزاح جببل من النحاس من فوق
أكتاؾ الناس ،ووهب نسمة الحٌاة لشعب كاد ٌختنق(ٕ.")9
ووصؾ هزٌمة المعتدٌن على لسان شٌوخهم بقوله" :وشٌخا ٌقول لولده "وانكبتاه على لٌبٌا ،حرم أهلها
المعٌشة الطٌبة (فً مصر) ،وما عادوا ٌجرأون على السعً بٌن المزارع ،وتوقؾ سعٌهم فً ٌوم واحد..
وجثا شٌوخ (المهاجرٌن) ٌقولون سبلما سبلما(ٖ.")9
وعنهم قال جونتر فٌتمان فً كتابه "مصر واألجانب فً األلفٌة األولى قبل المٌبلد"" :وانضمت الجماعات
المعروفة باسم "شعوب البحر" إلى اللٌبٌٌن ،وبالتؤكٌد لم ٌكن من قبٌل المصادفة أن النوبٌٌن ]ٌقصد الكوشٌٌن من
السودانٌٌن والزنج حالٌا [ أٌضا كانوا قد بدأوا ٌتقدمون من الجنوب نحو الببلد فً الوقت ذاته ،ومن المإكد أٌضا
أن ذلك لم ٌكن سوى اتفاق مدبر على النحو الذي عرفناه من قبل فً لوحة كاموزا ]كامس[(ٗ.)9
()ٙ9
-راجع أعمار الحكام على البطاقات التعرٌفٌة لجثامٌنهم فً قاعة المومٌاوات بالمتحؾ المصري بالقاهرة.
(ٓ)9
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٕٕٙ
-٘9انظر :مصر القدٌمة ،نٌكوال جرٌمال مصرـ ص ٖٔ٘
-انظر :الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٕٕٙ
(ٔ)9
(ٕ)9
-نفس المرجع
(ٖ)9
-نفس المرجع
(ٗ)9
-مصر واألجانب فً األلفٌة األولى قبل المٌبلد ،مرجع سابق ،ص ٕ9
ٖٔٔ
وٌقصد اللوحة التً تحدثت عن التحالؾ بٌن الكوشٌٌن والهكسوس ضد مصر لمحاصرتها بؤسلوب
الكماشة ،فتكرر األمر بعد ٖٓٓ سنة بتحالفهم مع القادمٌن من لٌبٌا ،وهو ما ٌذكرنا بؤسلوب التحالفات
المكررة ألعداء مصر فً كافة االتجاهات ضدها ...والتارٌخ دواٌر.
كما قال نٌكوال جرٌمال فً هذا أٌضا نقبل عن النصوص المصرٌة إن مرنبتاح "سحق تمردا فً كوش،
وٌبدو أن اللٌبٌٌن القاطنٌن فً "مرمارٌكا" (طبرق حالٌا) كانوا وراء هذا التمرد ،فقد بدأت لٌبٌا تلعب دورا
متزاٌد التؤثٌر على األحداث الجارٌة فً البحر المتوسط(٘.")9
لكن لم ٌساعد ذلك اللٌبٌٌن فً شًء ،فقد حقق المصرٌون النصر بعد ٙساعات من القتال فً شمال
ؼرب الدلتا ،وفر زعٌم المهاجرٌن تحت جنح الظبلم حافً القدمٌن )9ٙ(،بتعبٌر النصوص.
ؼٌر أن "الؽفلة المصرٌة اللً بتجٌب الكافٌة" و"التسامح الساذج" المعتاد من مصر ظهر فً هذا
الموقؾ أٌضا رؼم ما عانته البلد من هذه القباٌل ،فرؼم وضوح مطامعها استخدم المصرٌون بعض
المهاجرٌن القدماء من المشاوش والقحق فً الجٌش ،وخاصة إسناد مهمة مراقبة المهاجرٌن الجدد فً
الصحراء الؽربٌة؛ ظنا منهم أن القدماء ومن رموا السبلح وأعلنوا الطاعة قد تمصروا ،أو نفضوا عن
أنفسهم البداوة القدٌمة ،وأنهم بخبرتهم بدروب الصحراء والطرق أقدر على مراقبة الهجرات الجدٌدة عند
الحدود ،فٌما سٌتضح فٌما بعد أنهم سٌكونون عونا للهجرات الجدٌدة على احتبلل مصر من الداخل(.)99
وفً ذات الوقت هرع إلى مصر أبناء الببلد التً خربتها جحافل شعوب البحر فً الشرق كالحٌثٌٌن والشوام
باسم الجبٌن ٌبحثون عن األمن وفرص العمل ،وتوؼلوا فً مإسسات الدولة كالسوس فً العظام.
وبعد حكم ٔٔ سنة توفى مرنبتاح ،فٌما الكثٌر من الملفات الداخلٌة والخارجٌة مفتوحة ،وتحتاج إلى حسم
وتنظٌم ،ولسوء حظ مصر خلَفه حكام ضعاؾ شهد عهدهم اضطرابات سٌاسٌة داخلٌة ،ظهر أثرها فً
قصر مدد حكمهم ،بحٌث كانت أطول مدة هً 9سنوات البنه سٌتً الثانً -الذي تورط فً ضم مزٌد من
األجانب إلى الجٌش -فٌما تولى سً بتاح الحكم ألقل من سنة واحدة.
ولم ٌكشؾ التارٌخ الكثٌر عن ؼموض هذه الفترة التً استمرت ٘ٔ عاما ،هً ما تبقى من عمر األسرة
،ٔ9وأهدرت هذه السنوات القصٌرة الكثٌر من جهود الحكام األقوٌاء السابقٌن(.)98
وكالعادة ،انعكس الضعؾ الحكومً على انهٌار القانون واألخبلق (ماعت) ،وظهر فً استؽبلل أصحاب
النفوس الضعٌفة الحال النتهاك الحقوق ونشر الفساد ،فؤظهرت بردٌات من ذلك العصر شكاوى العمال فً
بلدة دٌر المدٌنة باألقصر من انتشار الرشوة والنهب والتسلط والقتل والرشوة ،فؤشارت بردٌات العهد لعامل
(٘)9
-تارٌخ مصر القدٌمة ،مرجع سابق ،ص ٖٓ٘
*والشًء بالشًء ٌُذكر ،وألن التارٌخ السًء ٌتكرر عند الؽفلة ،فال ٌخفى التحالؾ بٌن جماعات إرهابٌة فً ؼزة ولٌبٌا والسودان الستهداؾ حدود
مصر بتهرٌب السالح والمخدرات واإلرهابٌٌن ،خاصة بعد سنة ٕٔٔٓ.
()9ٙ
-األجانب فً مصر فً األلفٌة األولى قبل المٌبلد ،مرجع سابق ،ص ٕ9
()99
-انظر :الشرق األدنى -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٕٕ9
()98
-راجع قابمة سنوات حكم الملوك فً كتاب "تارٌخ مصر القدٌمة" ،جرٌمال ،مرجع سابق ،ص ٗٓ٘
ٗٔٔ
ٌتهم أحد رإسابه بالسلب والرشوة والشروع فً القتل ،واتهم وزٌر الصعٌد بقبول الرشوة ،،وتجرأ البعض
على شتم الحاكم(.)99
وعودة إلى الخطر الشرقً مجسدا فً ثمرة االستٌطان السوري فً مصر خبلل عهد حكام سابقٌن ،ففً
نهاٌة األسرة ٔ9ارتقى إلى الحكم األمٌر رمسٌس سً بتاح ،ابن سٌتً الثانً ،وكان طفبل ،تولت الوصاٌة
علٌه زوجة أبٌه الملكة تاوسرت ،واشترك معها فً الوصاٌة رجل ٌدعى "باي" ،وهو من سورٌا ،وظٌفته
حامل األختام والكاتب الملكً ،وهً وظابؾ حساسة تتعلق بؤسرار الببلد.
ولم ٌذكر المصرٌون هذا الشخص وتاوسرت بالخٌر ،فٌبدو أنه مارس الخدٌعة ألرملة الملك المتوفً التً
عٌنته مشرفا على الخزانة (وزارة المالٌة) ،و أن مكانته فً الببلط بلؽت مستوى جعله ٌشبه نفسه بحكام مصر،
حتى أنه استطاع أن ٌجهز لنفسه مقبرة فً وادي الملوك ،وٌستهزأ بدٌن مصر ،وهو ذات الشخص الذي تشٌر
إلٌه بردٌة "هارٌس" باسم "إرسو" ،وبعبارات تنسب إلٌه أسباب الفوضى التً سادت وقتها(ٓ.)8
ومما جاء فً البردٌة" :سادت مصر االضطرابات ،وأصبح كل شخص ٌضع قانونه الخاص ،وعلى
امتداد عدة سنوات لم تعرؾ مصر حكومة قبل أن تنتقل إلى عصر "اآلخرٌن" ،وتحكم األعٌان وعمد القرى
فً الببلد ،وذبح اإلنسان زمٌله ورفٌقه ،ؼنٌا كان أم فقٌرا ،وسٌطرت على مصر خبلل السنوات الفارؼة
عابلة ؼرٌبة ،كان "إرسو" السوري واحد من أفرادها ،واعتبر نفسه من األعٌان ،وبصفته اإلدارٌة سٌطر
"إرسو" على الببلد بؤسرها ،وتآمر هو وأعوانه للسطو على الناس! وعوملت اآللهة كما لو كانت من البشر،
فلم تقدم لها القرابٌن فً معابدها(ٔ.")8
ت
وبلوغ عابلة ذلك السوري هذا المبلػ وتؤثٌره على الملكة "تاوسرت" وفً تولٌة الحاكم الجدٌد لم تؤ ِ
دفعة واحدة بالتؤكٌد ،فٌبدو أنه سبقها عشرات السنوات منذ أتت تلك العابلة بصحبة إحدى الزوجات
األجنبٌات أو كموظفٌن فً إدارات الببلد المفتوحة أو الجبٌن أو تجار ،وتدرجوا فً الوظابؾ وكٌد المكابد
حتى وصلوا إلى هذه المكانة ،وأظهروا التمصر ربما ،وساهموا فً نشر المعابد اآلسٌوٌة فً مصر ،حتى
تمكنوا ،واستؽلوا كل فرصة لنشر الفتن والفوضى "إزفت" التً ال ٌصل األجانب فً مصر إلى المناصب
والثروات إال فً ظلها.
وقال عنهم فرانسٌس فٌفر فً كتابه الذي ٌروي قصة سقوط مصر فً األسرة ٕٓ على ٌد المستوطنٌن
األجانب " الفرعون األخٌر رمسٌس الثالث :أو زوال حضارة عرٌقة"" :شقٌة هً أرض مصر ،كم
تعرضت لؤلطماع طوال العقدٌن الماضٌٌن! أطماع الوزراء ،أطماع كبار الكهنة والنساخ ،بل أطمع األعٌان
األجانب أٌضا ،لقد فتحت ؼزوات الفراعنة فً القرون األخٌرة باب الببلط الملكً أمام هإالء األجانب .فً
()99
-انظر :الشرق األدنى -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٕٕ9
(ٓ)8
-تارٌخ مصر القدٌمة ،مرجع سابق ،ص ٖ٘٘
(ٔ)8
-مرجع سابق ،ص ٖ٘٘
٘ٔٔ
البداٌة كانوا سفراء لببلدهم ،ثم أصبحوا مستشارٌن بارعٌن لدى الفراعنة ،وأخذوا ٌإسسون سبلالت قوٌة
من األعٌان تحٌط بؤصحاب العرش"(ٕ.)8
وصل بهم شعور السطوة لسب دٌن مصر والتكبر على أهلها رؼم ما أظهر الحكام مما ٌوصؾ
بـ"التسامح" فً تركهم ٌعبدون معبوداتهم اآلسٌوٌة فً مصر ،وكما قال "إٌبو ور" فً بردٌته عن الفوضى
التً نشرها األجانب نهاٌة األسرة ٙقبل ألؾ سنة" :وأصبح األجانب مصرٌٌن فً كل مكان وأولبك الذٌن
كانوا مصرٌٌن أصبحوا أؼرابا وأهملوا جانبا(ٖ" ،")8انظر! إن مصر أصبحت تصب الماء ]لؽٌرها[(ٗ.")8
ولنا أن نتخٌل كٌؾ هبطت مصر من القمة أٌام مرنبتاح إلى القاع فً عهد خلفابه خبلل ٘ٔ سنة فقط،
وذلك ألن أعمدتها منذ احتضنت األجانب وأفكارهم ومعبوداتهم نهاٌة األسرة ٌ ٔ8رعى فٌها السوس دون
أن ٌشعر شعبها ،وحٌن حانت الفرصة للسوس لقنص السلطة وهدم أركانها ،فعلوا ذلك بسهولة فً سنٌن
معدودة ،أعادت للمصرٌٌن الذكرٌات المرٌرة ألجواء سقوط األسرة ..ٙوتارٌخ الؽفبلنٌن دواٌر.
اختتمت األسرة ٔ9حكمها بتولً "تاوسرت" الحكم لمدة عامٌن فقط ،ثم انطوت صفحة األسرة فً
ظروؾ ؼٌر واضحة ،إال أن انتقال الحكم إلى األسرة ٕٓ جاء سلمٌا وهادبا ،وأسسها "ست نخت" ،وهو
رجل كبٌر فً السن لم ٌعمر ؼٌر سنتٌن ،خلفه ابنه رمسٌس الثالث الذي ٌصفه علماء اآلثار بؤنه آخر حكام
مصر العظام فً تارٌخنا القدٌم.
قدمت األسرة الجدٌدة نفسها على أنها "اللً هتعدل الماٌلة" ،وتجدد حٌاة مصر ،وقالت بردٌة "هارٌس"
بعد أن سردت جراٌم عٌلة "إرسو" السورٌة فً اؼتصاب السلطة" :وعندما شاءت اآللهة أن ٌظهروا
رحمتهم وٌصححوا األوضاع فً مصر وٌعٌدوها إلى سٌرتها األولى ،نصبوا ولدهم الذي خرج من صلبهم
"ست نخت" حاكما على الببلد كلها ،وجعلوه على عرشهم الكبٌر ،فتجلى على هٌبة خبري ست الؽضوب،
وأعاد السبلم إلى األرض القلقة ،وفتك بالؽادرٌن فٌها ،وط َّهر عرش مصر العظٌم"(٘.)8
وخرج من صلبهم على ما ٌبدو المقصود لٌس المعنى الحرفً ،بل أنه حاكم مصري شرعً ولٌس
مؽتصبا أو دخٌبل ..فبموجب عهد "ماعت" والوصٌة الحارسة مصر ال ٌحكمها إال المصرٌون ،من ترابها
وصلبها.
ؼٌر أن تطهٌر الداخل لم ٌكن التحدي الوحٌد ،فخبلل فترة االنفبلت نهاٌة األسرة ٔ9عادت قبابل
شعوب البحر للتسلل بحرٌة إلى ؼرب الدلتا واالستٌطان ،فنهبوا مدنا هناك وفق الفصل التارٌخً لبردٌة
(ٕ)8
-الفرعون األخٌر رمسٌس الثالث :أو زوال حضارة عرٌقة ،فرانسٌس فٌفر ،ترجمة فاطمة البهلول ،دار الحصاد ،ص ٔٔ
(ٖ)8
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٖٓٙ
(ٗ)8
-موسوعة مصر القدٌمة ،سلٌم حسن ،الجزء ،ٔ9مرجع سابق ،ص ٖٓ9
(٘)8
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٖٕ٘
ٔٔٙ
هارٌس P.Harrisحتى تبلطمت خبلل عهد رمسٌس الثالث موجات جدٌدة من المهاجرٌن ،تدعمها
جماعات من جزر بحر إٌجة(.)8ٙ
وأخذ رمسٌس الثالث نصٌبا كبٌرا من شجاعة وهمة رمسٌس الثانً الذى تسمى باسمه تٌمنا به ،فوقع
على كتفٌه عبء حماٌة مصر من مصٌر دولة الحٌثٌٌن التً سقطت ركاما تحت أقدام هجرات شعوب
تبق ولم تذر فً روسٌا
البحر ،وهً هجرات شرسة عاتٌة تشبه فً عصور تالٌة هجمات التتار التً لم ِ
وفارس والعراق والشام ،ولم تنكسر إال على باب مصر.
فخاضت مصر فً عهده ٖ حروب ضخمة لصد هذه الهجرات ،األولى عند الحدود الشرقٌة لمنعهم من
اجتٌاح مصر من ناحٌة فلسطٌن وهزمتهم مصر ،فانتقلوا عبر البحر الذي ٌجٌدون القتال على أمواجه
لمهاجمة مصر من الشمال عند سواحل الدلتا ،فهزمتهم مصر ،فتحركوا إلى الؽرب ونزلوا على السواحل
اللٌبٌة وتحالفوا مع قبابل قدٌمة سبقتهم بالهجرة إلى هناك ،واجتاحوا الحدود المصرٌة ،فهزمتهم مصر.
ووصفت النصوص المصرٌة تحركات هإالء المهاجرٌن وخٌبة مسعاهم وص ًفا شٌقا على لسان رمسٌس
الثالث ،فقال" :تآمرت شعوب أجنبٌة فً جزرها ،وسرٌعا زالت ببلد وشردت الحرب أهلها ،ولم تستطع بلد
أن تثبت أمام أسلحتهم ،ابتداء من خاتً ]الحٌثٌٌن[ وقدي وقرقمٌش وأرزاوا إلى إرس "أالسٌا" فً آن واحد
]أي من آسٌا الصؽرى وشمال سورٌا وشواطا الفرات إلى قبرص فً عرض البحر[ ،واجتمع عسكرهم
فً بقعة واحدة (بؤرض) آمور ]الشام[ ،فشردوا أهلها ،وأصبحت أرضها كؤنها لم تكن ،ثم تقدموا نحو
مصر ،ولكن النار كانت على استعداد للقابهم ،وتؤلؾ حلفهم ]تحالفهم[ من برستً "البلستً"( )89والثكر
والشكرش والدانٌٌن "أو الدانونٌٌن" ،والوشاوش ،واتحدوا جمٌعًا ووضعوا أٌدٌهم على الببلد فً مدار
األرض كلها ،واستبشروا ومؤلتهم الثقة بؤنفسهم وقالوا :سوؾ تنجح مشارٌعنا(.")88
"ولكن عقل اإلله كان واعًٌا وعلى استعداد ألن ٌقتنصهم كالطٌور ،...وهكذا نظمت حدودي فً "جاهً" ]بلدة
جنوب الشام[ ،وأعددت أمامهم األمراء وقادة الحامٌات والمارٌانو ،وأمرت بتحصٌن مصبات األنهار لتكون
كالسد الكبٌر ،وزودتها بسفن وزوارق ناقبلت للجنود امتؤلت جمٌعها من مقدماتها إلى مإخراتها بمحاربٌن مهرة
مسلحٌن .وتؤلفت قوات المشاة من خٌرة شباب مصر ،وكانوا أشبه باألسود الزابرة على قمم الجبال .وتؤلفت فرق
الفرسان من عدابٌن مهرة وقادة قادرٌن ،ومن كل فارس عربة متٌن ،وهزت الخٌول أعطافها واستعدت لسحق
الشعوب األجنبٌة تحت حوافرها ،وكنت "مونتو" المقتدر ،أقؾ على رأسهم ،لٌشهدوا بؤنفسهم ما تفعله ٌداي ..أما
من ب لػ حدودي ،فلم تبق منهم باقٌة ،وانمحت قلوبهم وأرواحهم إلى األبد(.")89
وبعد هزٌمتهم فً فلسطٌن تحدثت النصوص عن هزٌمتهم فً معركة البحر المتوسط عند السواحل المصرٌة،
()8ٙ
-انظر :األجانب فً مصر فً األلفٌة األولى قبل المٌبلد ،مرجع سابق ،ص ٕ8 -ٕ9
()87
-البلستً قبابل استقرت فً كنعان بعد هزٌمتها من مصر وعكست علٌها اسمها فصار "فلسطٌن" ،خاصة بعد تردد االسم فً التوراة (الشرق
األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ،) ٕٖ8ولو كانت مصر فً قوتها األولى لطاردتهم إلى شمال الشام كما فعلت مع الهكسوس
()88
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٕٖٙ
()89
-نفس المرجع ،ص ٕٖ9
ٔٔ7
والمعروفة تارٌخٌا باسم "معركة الدلتا البحرٌة" ،أول معركة بحرٌة فً تارٌخ مصر منذ آالؾ السنٌن(ٓ ،)9إن لم
تكن األولى فً تارٌخها ،وحكت النصوص" :وأما من أتوا "بجموعهم معا عن طرٌق البحر ،فقد واجهتهم
نار حامٌة على مصبات األنهار ،وأحاط بهم على البر سد من الحراب ،واستدرجوا إلى الداخل،
وحوصروا ،وألقوا على وجوههم على الشاطا ،ثم قتلوا ومزقوا إربًا من القدم حتى الرأس ،وؼرقت سفنهم
وأمتعتهم فً البحر(ٔ.")9
نقوش معركة الدلتا البحرٌة رسٌس الثالث والجنود على ٌمٌن الناظر وقباٌل العدو على الشمال تنقلب مراكبهم فً البحر (معبد هابو)
فؤٌن ذهبت وتفرقت فلول تلك القباٌل والجماعات بعد هزٌمتها شرقا وشماال ،وانهٌارها عند أقدام مصر
بعد أن فعلت األفاعٌل ببلدان أخرى قبل أن تصل إلى مصر؟
تشتت فً جزر البحر وسواحله ،واحتفظت بعض هذه الجزر والسواحل بؤسمابها ،وهكذا ٌتجه رأي إلى
الربط بٌن الشرادنة وبٌن السرادنة "سردٌنٌا" ،وبٌن الشكلش "شكرش" والصقلٌٌن ،والربط بٌن الثكر وبٌن
الصقلٌٌن أٌضًا أو الطروادٌٌن(ٕ ،)9كما سبق واستقرت "بلستً" فً كنعان وأعطوها اسم فلسطٌن ،ونزلت
قبابل أخرى إلى السواحل اللٌبٌة ،وهً التً تهمنا هنا.
فلم ٌحمدوا لرمسٌس الثالث أنه سمح لهم بالمعٌشة قرب مصر بعدما أعلنوا السلم والطاعة ،وعادوا
للؽدر ،فظهرت بٌنهم جماعات جدٌدة ذكرتها المصادر المصرٌة بؤسماء قرٌبة من األسباط والقاٌقاش
والشاٌتٌت والهاسا والباقان ،واستجاب لهم عدد من بنً جلدتهم الذٌن سبق وأن استوطنوا ؼرب الدلتا،
وعاونوهم ،فاشتدت القوات المصرٌة علٌهم ،وأحبطت مشارٌعهم ،وكسرت شرتهم(ٖ.)9
(ٓ)9
-إن صح أن المعركة بٌن المصرٌٌن والقباٌل القادمة من الؽرب فً نقوش سكٌن جبل العركً التً ترجع إلى ما قبل األسرات جرت عند
السواحل المصرٌة الشمالٌة أٌضا.
(ٔ)9
-مرجع سابق ،ص ٕٖ9-ٕٖٙ
(ٕ)9
-نفس المرجع ،ص ٕٖ9
(ٖ)9
-انظر مرجع سابق ص ٕٖ8
ٔٔ8
ً
تسلبل سلمًٌا بطٌ ًبا، وبذلك انتهت محاوالتهم لدخول مصر عن طرٌق العنؾ ،وبدأوا ٌتسللون إلٌها
فتسامح رمسٌس الثالث معهم باسم مصر ،كما تسامح مع أسراهم الذٌن بدأهم بالشدة ثم عاد علٌهم بالعفو،
واكتفى بإحكام الرقابة علٌهم ،فقال حٌن ؼضبته علٌهم" :اعتقلت قادتهم فً حصون تحمل اسمً ،وولٌت
علٌهم ضباطا ورإساء قبابل ،واعتبرتهم عبٌدا مدموؼٌن باسمً ،وعومل نساإهم وأطفالهم نفس المعاملة،
ووهبت قطعانهم إلى دار آمون" ،ثم قال بعد أن خؾ ؼضبه" :وضعتهم فً الحصون ،ودمؽتهم باسمً ،وكانت
جماعاتهم الحربٌة تقدر بمبات األلوؾ ،وخصصت لهم مخصصات من الكساء والزاد ،تصرؾ من الخزانة
وشون الؽبلل كل عام(ٗ.")9
وأضافت بردٌة من أواخر عصر رمسٌس الثالث أن الشرادنة استقروا فً مدنهم التً خصصها لهم،
وأقام بعضهم فً حصونه ،وآخرون وسط المزارع التً سمح لهم بها ..فتفشت المستوطنات األجنبٌة.
أما الطامة الكبرى فإدخال بعضهم فً سلك التجنٌد وزرعهم بداخل الوجه القبلً بعد أن كان بعٌدا عن ٌد
الهجرات لحد كبٌر ،فؤضافت بردٌة أخرى كتبها صاحبها بعد عهده أن رمسٌس الثالث أنشؤ للمجندٌن منهم
محلَّة فً الوجه القبلً لٌعٌشوا فٌها ،وبتعبٌر عبد العزٌز صالح فإنه على الرؼم من أن هذا التساهل النسبً
ٌعتبر مكرمة للخلق المصري فً جملته ،إال أنه جرَّ على مصر بعد ذلك شرورا كثٌرة كانت فً ؼنى عنها
لو أنها استؤصلت شؤفة أعدابها من جذورها(٘.)9
واألدق فإن هذا لم ٌكن بـ"مكرمة للخلق المصري" ،بل ؼفلة ترفضها ماعت ،وضعؾ للذاكرة ،وتهاون
ٌتناقض مع ما عاناه المصرٌون طوال التارٌخ من توطٌن األجانب ،وخاصة بؤعداد كبٌرة مجتمعة أو دخلت
على دفعات صؽٌرة ؼٌر محسوسة ،وفتح مإسسات الدولة لهم.
وهنا ن َّب ه صالح إلى أن األصح كان االستمرار فً قتال هإالء الدخبلء حتى ٌجلوا عن مصر كلها،
وٌعودوا من حٌث أتوا ،وال ٌتسامح معهم رمسٌس الثالث أو ٌنخدع بعد أن رموا السبلح وتوسلوا له أن
ٌعٌشوا خدما فً مصر ،واستجابوا لرؼبته فً الحدٌث باللؽة المصرٌة ،وتوهم فً سكرة انتصاراته الثبلثٌة
العظٌمة أن قوة الجٌش وقتها وإحكام الرقابة علٌهم واإلجراءات التً اتخذها لتمصٌرهم كافٌة لتؽٌٌرهم أو
لردعهم عن أي ؼدر جدٌد.
وبحسب جرٌمال ،فقد تكاثروا وأنجبوا الذرٌة التً جددت اآللٌات التً مهدتت للؽزوات التً شهدتها
مصر فً أواخر الدولة الوسطى (الهكسوس) ،وتحالؾ المستوطنون القدماء مع المستوطنٌن الجدد من
أسرى الحرب ،وتركزوا فً مناطق محددة "مستوطنات" ،ثم استولوا على السلطة عندما ؼرقت الدولة فً
بحار الفوضى(.)9ٙ
وتحركت الرمال تحت أقدام المصرٌٌن لما سمح رمسٌس الثالث لهم وآلخرٌن كاآلسٌوٌٌن والكوشٌٌن
(ٗ)9
-نفس المرجع
(٘)9
-مرجع سابق ،ص ٕٖ8
()9ٙ
-تارٌخ مصر القدٌمة ،نٌكوال جرٌمال ،مرجع سابق ،ص ٖ٘8 -ٖ٘9
ٔٔ9
بالخدمة تحت قٌادة الجٌش المصري ،ظنا منه أنهم سٌكونون عونا له فً صد هجمات المناطق التً أتوا
منها لخبرتهم بها ،ولم ٌكتؾِ بهإالء القادمٌن من الؽرب ،بل فتح أبواب مصر من الشرق أمام البلجبٌن
الفارٌن من أمام الهجرات التً دمرت ببلدهم ،فتتحدث نقوش جدران معبد هابو بمدٌنة واسط (طٌبة())99
عن كٌؾ أن هإالء أتوا لبلحتماء بمصرٌ ،توددون ألهلها بالكلمات المعسولة لقبولهم ،فٌقول" :إن ربٌس
شتتوا وأخضعوا ،وكل من بقً آمور ]الشام[ أصبح رمادا وبذرته ال وجود لها ،وكل قومه أخذوا أسرى و ُ
على قٌد الحٌاة فً ببلده كان ٌؤتً بالثناء لٌرى شمس مصر العظٌمة تطلع علٌه ،وٌقولون" :الرفعة لـ رع،
إن أرضنا قد دمرت ،ولكننا نحن فً أرض الحٌاة (مصر) حٌث بُدد الظبلم(.")98
انخدع رمسٌس بابتهالهم لـ رع ،وهو ٌتباهى بؤن أرض مصر ظلت هً الوحٌدة الباقٌة صامدة ومستقرة
وكاملة بعد أن مزقت هجرات شعوب البحر البلدان األخرى ،وتباهى بؤن من كانوا أعداء مصر باألمس
باتوا ٌمدحونها وٌمدحون دٌنها ،وٌعترفون بفضلها بعد أن وجدوا فٌها األمان.
فقد أسكر النصر رمسٌس والحكومة جمٌعا ،وخدرت أعصابه نفس األسطوانة الملعونة من المدابح
وأؼانً المهاجرٌن لمصر والمصرٌٌن ،ومظهر الخضوع ،وظن أنهم استكانوا لما رأوه من شدته من
ناحٌة ،وما أتاحه لهم من فرص من ناحٌة ،ونسً أن مصر قبل عهده وعهد والده "ست نخت" مباشرة
تحولت إلى قِدر ٌؽلً بالماء الفاسدٌ ،سلق وٌهري عظام المصرٌٌن ،لما تمكنت عاببلت أجنبٌة مثل عٌلة
"إرسو" من رقبتها وح َّقروا معابدها ،وكانوا قبل التمكٌن أٌضا ٌمدحون مصر ودٌنها وحكامها.
ورفع رمسٌس الثالث بعض األجانب إلى مناصب القٌادة ،وكان ٌعلن لهم قراراته إلى جانب ؼٌرهم من
القا دة وكبار الموظفٌن المصرٌٌن ،واعتقد أن األمان الذي ٌوفره لهم كفٌل ببث اإلخبلص فً قلوبهم ،بتعبٌر
ً
أعدادا عبد العزٌز صالح ،وزاد نصٌب القصور الحكام وكبار رجال الدولة من الزٌجات األجنبٌات ،وتقبلت
أكثر من الجواري ،سواء بفعل ظروؾ الحرب وكثرة سباٌاها ،أو ح ًّبا فً مبلحة الشمالٌات ودؾء
أعدادا من الحشم األجانب عملوا خدما وسقاه ووصفاء(.)99
ً الجنوبٌات ،وتقبلت القصور إلى جانب الجواري
وزاد رمسٌس الثالث فعٌن بعض أولبك األجانب فً وظابؾ الببلط والقضاء ،أما المعابد فنصٌبها من
األرقاء واألسرى األجانب والمتمصرٌن أضخم ،بحٌث ذكرت النصوص أنه خصص ٕٙٓ9من أسراه
ألمبلك آمون ،وٖ ٕٓ9ألمبلك رع ،وٕ٘ٓ ألمبلك بتاح ،لكً ٌعملوا بؤسماء هذه المعابد فً المزارع
والمحاجر والمناجم ،بل وفً شبون العبادة نفسها.
نفس المقدمات التً سبقت االنهٌار الكبٌر فً نهاٌة األسرتٌن ٙبالدولة القدٌمة ؤٖ بالدولة الوسطى
واألسرة ٔ9بالدولة الحدٌثة ،فهل ننتظر نتاٌج ؼٌر النتاٌج؟
()97
-االسم ما زال حٌا واحتفظت به بلدة بجوار األقصر ،ونسمعه فً أؼنٌة "األقصر بلدنا" تشدو" :مش برضو منها؟ أنً من واسطة" ،كلمات
فتحً قورة ،ألحان علً إسماعٌل ،ؼناء محمد العزبً
()98
-القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم ،نجبلء فتحً شهاب ،مرجع سابق ،ص ٓٓٔ
()99
-انظر :الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٕٗٓ -ٕٖ9
ٕٓٔ
وفً رأي صالح" :لم ٌكن من بؤس فٌما جرت علٌه مصر من فتح قصورها ودواوٌنها ومعابدها ألبناء
جٌرانها وألسراها وللمرتزقة المسالمٌن طالما ظلت قوٌة ٌقظة وطالما ظلت ٌدها هً الٌد العلٌا ،ولكن
الخطر كل الخطر كان ٌتمثل فً أال ٌخلو إخبلص هإالء النزالء لها من شوابب ،وأن ٌتمصروا بمظهرهم
ولٌس فً مخبرهم ،وأن ٌظل بعضهم على استعداد للتنكر لها متى سنحت لهم فرصة أو ألمت بها نكبة ،وما
كان أكثر احتماالت النكبات علٌها فً ذلك الزمان(ٓٓٔ)".
وتسبب السماح لؤلجانب بالعمل فً شبون الدٌن بالمعابد المصرٌة ،وهً ركن ركٌن من أركان الهوٌة
والدولة المصرٌة ،فً تحوٌر وتحرٌؾ دٌن مصر ،فانتشرت الخرافات ،واإلفراط فً تقدٌس الحٌوانات،
وذلك إما عن جهل من هإالء األؼراب بجوهر الدٌن المصري ،أو عن عمد لتخرٌبه كوسٌلة من وسابل
إسقاط الدولة المصرٌة فً أٌدٌهم(ٔٓٔ) ،أو لتحوٌل النذور بالطٌور المحنطة إلى وسٌلة لجنً أرباح خٌالٌة.
وصلت تدابٌر المستوطنٌن األجانب إلى المشاركة فً مإامرة الؼتٌال رمسٌس الثالث ،رؼم أنه ساعد
فً تؤمٌنهم من التشرد ورفعهم إلى مراتب علٌا.
المإامرة تورط فٌها مع األجانب زوجة لرمسٌس دب النفور بٌنها وبٌنه إلى حد أن تجاهل الفنانون
تسجٌل اسمها مع بعض صورها فً معبده ،وأحست هً برؼبته فً إقصاء ولدها بنتاورة عن والٌة العهد،
فتآمرت مع بعض سقاة الببلط ونسابه وحرسه وخدمه من المصرٌٌن ومن النزالء المتمصرٌن(ٕٓٔ).
ولكن المإامرة انكشؾ أمرها ،وتولى التحقٌق فٌها بؤمر رمسٌس الثالث وهو على فراش الموت ٗٔ
قاضًٌا ،كان من بٌنهم ،وللعجب ٗ ،تدل أسماإهم على أنهم لم ٌكونوا مصرًٌ األصل.
وقبل أن ٌنتهً التحقٌق استطاع بعض أقارب المتهمٌن أن ٌرشوا ٖ من القضاة وضابطٌن ،ولكن انكشؾ
أمرهم وتحول القضاة الثبلثة والضابطان إلى متهمٌن ،وحكمت المحكمة على األمٌر بنتاورة وٖ من
شركابه باإلعدام ،وتركت لهم أن ٌقتلوا أنفسهم بؤنفسهم ،وحكمت على متهمٌن آخرٌن بالجلد والسجن،
وآخرٌن بجدع األنؾ وصلم األذنٌن.
أما ما أصاب رمسٌس الثالث من هذه المإامرة ،واسم الحاكم الذي تمت المحاكمة فً عهده ،إن كان هو نفسه
أم ولده رمسٌس الرابع ،فموضع جدل(ٖٓٔ) ،إال أنه فً عام ٕٕٔٓ نشر فرٌق بحثً مصري أن جثة رمسٌس
(ٓٓٔ)
-مرجع سابق ،ص ٕٓٗ
(ٔٓٔ)
-تكرر هذا فً فترات أخرى ،أي تحكم األجانب فً الفكر الدٌنً المصري فً عصور الحقة ،ومنها نشر خرافات الطرق الصوفٌة فً كل قرٌة،
وقدوم شخصٌات من الشام وؼٌرها ،كمحب الدٌن الخطٌب ورشٌد رضا ،إلى مصر ،وسٌطرتها على مساجد وجمعٌات لتصنع فكر تنظٌم اإلخوان
المسلمٌن والتنظٌمات السلفٌة ،أو كما حد ث فً نشاط اإلرسالٌات األوروبٌة التً استهدفت خلخلة الكنٌسة المصرٌة.
(ٕٓٔ)
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،ص ٕٓٗ
(ٖٓٔ)
-مرجع سابق ،ص ٕٕٓٗٗٔ -
ٕٔٔ
الثالث بها جرح قطعً فً الرقبة ناجم عن ذبح بالسكٌن؛ ما ٌعنً احتمال وفاته مذبوحا(ٗٓٔ).
فً األسرة ٙبالدولة القدٌمة ،كان من عوامل لؾ الحبل حول رقبة الدولة المصرٌة -إلى جانب توطٌن
األجانب -ترك الحبل على الؽارب لكٌانات وشخصٌات مثل كبار األؼنٌاء وعاببلت هٌمنت على مناصب مثل
منصب المحافظ حتى تضخمت مادٌا ،وصاهرت السلطة ،فتحولت إلى "مراكز قوى" لها صبلحٌات واسعة
تناطح بها العاصمة ومإسسات الدولة.
وفً األسرة ٕٓ تكرر -إلى جانب توطٌن األجانب أٌضا -ظهور كٌانات تركتها الدولة تتضخم مادٌا
حتى صارت ذات نفوذ اقتصادي وسٌاسً ،ودوٌبلت بداخل الدولة ،وهذه المرة كانت المعابد.
فلسبب ؼٌر واضح حرص رمسٌس الثالث على مد المعابد بهبات وثروات ضخمة رؼم أنها بالفعل
تمتلك ثروات هابلة ،واستمر فً مدها بالثروات مع تكبد الدولة أعباء شدٌدة لكثرة الحروب مع شعوب
البحر ،وبلػ دخل المعابد حٌنذاك ٓٓٔ ألؾ مكٌال من الؽبلل ،واستؤثرت بخٌرات ٔٙ9مدٌنة وقرٌة فً
مصر وخارجها ،وامتلكت أكثر من 88سفٌنة ،ونحو ٓ٘ ترسانة لصناعة السفن وإصبلحها ،وتراوحت
مساحة مزارعها بٌن ٕٔ و٘ٔ %أو ما هو أكثر من أراضً مصر الزراعٌة(٘ٓٔ) ،ولنتخٌل أن هذا جاء فً
الوقت الذي ٌزحؾ مستوطنون أجانب إلى المعابد والسٌطرة علٌها بكنوزها ونفوذها وأسرارها.
وكان على المعابد أن تساهم بنصٌب فً مشروعات الدولة ،ولكنه لم ٌصلها كامبل من المعابد الكبٌرة
نتٌجة لمؽالطات رجالها وامتداد نفوذ كبارهم كاألخطبوط إلى أؼلب إدارات الحكومة ومرافقها ،وانتشر
الفساد ،وتؤخر صرؾ مرتبات العمال ،فحصل ما أسماه علماء أثار بؤول إضراب عمالً فً التارٌخ ،وكان
فً مدٌنة الحرفٌٌن "دٌر المدٌنة" بواسط (طٌبة).
ودٌر المدٌنة بلدة أنشؤتها الحكومة فً األسرة ٔ8فً البر الؽربً لتضم الحرفٌٌن القابمٌن على تشٌٌد
المعابد والمقابر فً وادي الملوك ووادي الملكات ،وتحتضن خٌرة الرسامٌن والنجارٌن والبناءٌن والنقاشٌن
والمهندسٌن والمصمٌٌن ،بصحبة أسرهم ،وظلت عامرة وزاخرة بؤبدع المواهب طوال ازدهار العمران من
األسرات ،ٕٓ -ٔ8حتى أصابها ما أصاب مصر كلها بعد أن ؼفلت عن األصول "ماعت" ،وأرخت الحبل
لفسدة الداخل ولؤلجانب.
ولم تكن اإلضرابات التً ألمت بدٌر المدٌنة بعٌدة كذلك عن ٌد األجانب ،خاصة وأنه تسرب للعمل بها
أجناس مثل السورٌٌن واللٌبٌٌن ،وإن ظل المصرٌون لهم الؽلبة(.)ٔٓٙ
(ٗٓٔ)
-تقرٌر بعنوان "بعد دراسة استؽرقت عامٌن ..العلماء ٌثبتون أن الملك رمسٌس الثالث قتله متآمرون وذبحوه بسكٌن حاد" ،أ ش أ ،بوابة األهرام،
ٕٕٓٔ -ٕٔ -ٔ9
(٘ٓٔ)
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،ص ٕٔٗ
()ٔٓٙ
-تارٌخ مصر القدٌمة ،مرجع سابق ،ص ٖ99
ٕٕٔ
وقال علماء آثار إن بعض األجانب فً أوقات الفوضى كانوا ٌترصدون فً الطرٌق للعمال المصرٌٌن
وهم فً طرٌقهم إلى العمل ،وٌرهبونهم وٌهددونهم لٌتركوا العمل ،وٌؤخذ األجانب مكانهم ،مستؽلٌن
االنفبلت األمنً ،ووجود أجانب ٌستقوون بوجودهم داخل أجهزة األمن والجٌش ،وتشكلت عصابات من
اللٌبٌٌن والمشاوش تهدد العاملٌن فً المقابر الملكٌة ،فنقل جون وٌلسون فً كتابه "اللٌبٌون ونهاٌة
اإلمبراطورٌة المصرٌة" عن تقارٌر عمال دٌر المدنٌة أن العمال اضطروا إلى إٌقاؾ العمل بسب األجانب
من الرٌبو (اللٌبو)( ،)ٔٓ9وٌمكن بسهولة معرفة تؤثٌر وجود هإالء األجانب وسط العمال العارفٌن بؤسرار
بناء المقابر وطرق حماٌتها وؼلقها على مصٌرها.
جاءت وفاة رمسٌس الثالث لٌست كؤي وفاة لحاكم مصري قبله ،لٌس لمجرد أنه تعرض لبلؼتٌال وفً
مإامرة اشترك فٌها أجانب ،ولكن ألن وفاته نذٌر شوم لبداٌة عصور سواد وطمس ،لم تشهد مصر قبلها،
اختفى فٌه جٌشها العظٌم فً جوؾ األرض بعد تصفٌته ،وتولى أمر مإسساتها قباٌل أجنبٌة شلَّت ٌدٌها
وقدمٌها ،وأردتها أسٌرة حرب تحت أقدام أوباش األرض ،الذٌن آوتهم وأكرمتهم بتؤمٌنهم فً أراضٌها،
وظلت تصطلً بنٌران األسر لمبات السنٌن القادمة ،وتخرَّ ب دٌنها ،وانحلت عرى لؽتها ،واختفت مبلمحها
التارٌخٌة تحت أقنعة فرضها علٌها الؽزاة فرضا حتى الٌوم.
فهذه المرة األجانب لم ٌستوطنوا فً منطقة واحدة فً جهة واحدة من البلد ،مثلما استوطن مثبل
الهكسوس فً أماكن منفصلة عن المصرٌٌن ،بل استوطنوا فً كل األنحاء ،فتكتلوا فً الوجه البحري وفً
منؾ وا ألقصر وبنً سوٌؾ وؼٌرهم ،فً شرق البلد وؼربها ،قبلٌها وبحرٌها ،لفوا البلد كشبكة خٌوط
العنكبوت ،فؤصبح بعد حٌن من السهل شل عروقها كلها فً آن واحد ،وال ٌجد المصرٌون مساحة واسعة
()ٔٓ9
-انظر :الوعً السٌاسً عند قدماء المصرٌٌن ،فاٌز أنور عبد المطلب ،مرجع سابق ،ص ،ٔ9ٙوللمزٌد عن اضطرابات دٌر المدٌنة ووصولها
لدرجة عصٌان أوامر الحكومة :تارٌخ مصر القدٌمة ،جرٌمال ،ص ،ٖ99 -ٖٙٙوالشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،ص ٕٕٕٖٗٗ -
()ٔٓ8
-أؼنٌة تتر المسلسل التلفزٌونً "أرابٌسك" ،كلمات سٌد حجاب ،ألحان عمار الشرٌعً ،ؼناء حسن فإاد
ٖٕٔ
تخلو من األجانب فٌتمترسوا فٌها لٌعٌدوا تنظٌم صفوفهم وٌهبوا لقتال المحتلٌن كما فعلوا وتكتلوا فً الوجه
القبلً وجهزوا أنفسهم ثم هبوا لطرد الهكسوس من الوجه البحري.
كما أتاح لهم تعاقب الحكام الضعاؾ لمدة طوٌلة التوؼل أكثر وأكثر فً مإسسات الدولة -التً دخلوها
بموافقات وقرارات حكومٌة بعد تمصرهم الكاذب -واالستٌبلء على مناصب ووظاٌؾ المصرٌٌن ،حتى
تحٌ ن اللحظة الستؽبلل إمكانٌات هذه المإسسات بالتحالؾ مع بقٌة المستوطنٌن المنتشرٌن فً أنحاء البلد
لضرب الضربة القاتلة باحتبلل مصر احتبلال كامبل.
فقد تعاقب على العرش بعد رمسٌس الثالث 8حكام ،تسموا جمٌعا باسمه ،ابتدا ًء من رمسٌس الرابع حتى
رمسٌس ٔٔ ،ولذا اشتهر زمنهم باسم عصر الرعامسة ،وحكموا ما بٌن ٘ 8ٓ -9سنة()ٔٓ9؛ ولضعفهم من
ناحٌة ،وانتشار سوس األجانب فً عظام ونخاع الدولة من ناحٌة ،وتضخم مراكز القوى كالمعابد وؼٌرها من
ناحٌة أخرى ،ساء توزٌع ثروة الببلد ،وخفت هٌبة القانون ،وانتشرت الفتن ،واشتدت الضابقة بالناس أكثر فؤكثر،
وحدثت مجاعة طوٌلة فً أواخر األسرة أطلق الناس على أحد أعوامها اسم "عام الضباع".
فارتفعت أسعار الؽبلل وبقٌة األقوات إلى ٖ أمثالها ،وتكررت إضرابات العمال فً ؼرب واسط
(طٌبة) ،وبلػ من ضٌق العمال وجرأتهم أن طلب وزٌر ذات مرة رجاال منهم لٌحملوا متاعا لرمسٌس
التاسع ،فرفضوا ،ورد أحدهم على رسول الوزٌر بقوله" :دع الوزٌر نفسه ٌحمل المتاع(ٓٔٔ)" ،كما وصل
الفساد األخبلقى إلى درجة التعدي على حرمات األموات والمقابر -كما حدث فً "الزفتة" األولى بعد
األسرة -ٙوانتشار سرقات آثارهم.
لم ٌكن من سبٌل لتؽٌٌر هذه األوضاع إال عن طرٌق ثورة -وفق عبد العزٌز صالح -ولم تكن إمكانٌات
الجماهٌر حٌنذاك تسمح بثورة عامة] ،خاصة والجٌش عروقه فً أٌادي أجنبٌة ومشتت[ فحدث انقبلب
محدود ]مدنً[ من أحد مراكز القوى المتضخمة ،قامت به جماعة من كبار رجال معبد آمون بزعامة كبٌر
لهم اسمه أمنحوتب توارثت أسرته رٌاسة المناصب الكبٌرة فً المعبد منذ عهد رمسٌس الرابع ،وكان
توارث هذه المناصب الكبٌرة لعدة أجٌال فً المعبد ؼٌر معتاد فً فترات القوة ،ود َّل على أن األمور
صارت بؤٌدٌهم ولٌس بٌد حكومة البلد المركزٌة.
وآل المنصب إلٌه فً عهد رمسٌس التاسع ،ووصل نفوذده لدرجة أن فنانً عصره رسموه فً معبد
مساو لحجم الحاكم وفً مواجهته ،على عكس ما قضت به التقالٌد من رسم الحاكم دابما بحجم
ٍ الكرنك بحجم
أكبر دلٌبل على مكانته الفرٌدة ،وازدادت سلطة أمنحوتب فً عهد رمسٌس ٔٔ ،فتضخم عدد أتباعه ،كما
تضخم التذمر فً الوقت نفسه ضد طموحه وضد الثروات التً تكدست بٌن ٌدي أسرته(ٔٔٔ).
وهنا ٌلمع دور المستوطنٌن األجانب من جدٌد ،فظهروا كؤداة استقواء وتؤجٌج فً الصراع الذي نشب
()ٔٓ9
-انظر :الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٕٕٗ
(ٓٔٔ)
-نفس المرجع ،ص ٕٕٕٖٗٗ -
(ٔٔٔ)
-مرجع سابق ،ص ٖٕٗ
ٕٗٔ
بٌن أمنحوتب فً طٌبة وبٌن بانحسً نابب الملك فً كوش ،حٌث استعان كل منهم بؤجانب مستوطنٌن فً
المعارك ضد اآلخر ،وجاء هذا على حساب زعزعة أمن أهل البلد ،وزاد النار نارا.
فج َّند األول أرقاء المعابد ]األجانب والمتمصرٌن[ لمصلحته ،واستعان الثانً بجنود نوبٌٌن ]كوشٌٌن؟[
ولٌبٌٌن مرتزقة ،وتعددت الخساٌر بٌن هذا وذاك على حساب األهالً ،وانتهت باختفاء الطرفٌن وفشلهما،
ولم تخلص الجماهٌر لهذا أو ذاك ألن أ ًٌّا منهما لم ٌقم بحركته لمصلحتها(ٕٔٔ).
ولٌس من الواضح أٌن كان الجٌش فً خضم هذه الصراعات والفوضى ،إال أنه فٌما ٌبدو أصابه العطن
والتفكك بكثرة المجندٌن والضباط األجانب الذٌن توهم الحكام أنهم تمصروا ،كما تؤثر بتشتت الوالءات،
وبالدخول فً معارك داخلٌة لٌست لصالح الببلد ،بل وٌقودها أجانب ،وأخٌرا تؤثر بضعؾ الدولة والسماح
بتجنٌد شبان بعٌدا عن سلطة الجٌش فً حراسات خاصة للمعابد ولمنشآت الشخصٌات التً تضخمت
ثرواتها ومزارعها على حساب الدولة.
ففً النصوص المعروفة باسم خطابات الرعامسة المتؤخرة ٌ late Ramesside Lettersرد
الحدٌث عن صرؾ مخصصات الؽبلل ألناس من قباٌل المشاوش أٌام رمسٌس ٔٔ ،و طلب أحد قادة
القباٌل المستوطنة ،واسمه باي عنخ ،مساعدة المشاوش له فً حملة عسكرٌة ضد بانحسً ،بل لم ٌستطع
رمسٌس ٔٔ فٌما ٌبدو االستؽناء عن تعاون تلك القبابل معه(ٖٔٔ) ،أي أن القباٌل المستوطنة صارت تستقوي
ببعضها فً المعارك ضد الدولة وتناطحها ،أي لم ٌعد لمن بقً من المصرٌٌن داخل الجٌش النفوذ ،وهذا
من مإشرات تصفٌة الجٌش المصري بعد مبات السنٌن من حمله لقب أقوى جٌوش األرض.
وتولى رباسة الكهنة بعد ذلك حرٌحور ،فجرى على سبٌل سلفه فً التمهٌد لبسط نفوذه ،ولم ٌكن من
أسرة كبٌرة مثله ،ولكن كان له ماضٌه فً الجٌش والوظاٌؾ إلى جانب معارفه الدٌنٌة ،ثم جمع إلى كل ذلك
منصب نابب الملك فً النوبة ،واتخذ لقب وزٌر طٌبة لبعض الوقت على أقل تقدٌر ،ولم ٌكن معتادا فً
عصور الحكم المصري الرشٌد أن ٌتولى رجال الدٌن كل هذه المناصب؛ فمصر لم تكن من قبل دولة دٌنٌة
بالمفهوم الحالً الذي ٌحكم فٌه تنظٌم دٌنً أو مإسسة دٌنٌة الدولة (كإٌران) بل رجال الدٌن مختصٌن
بوظاٌؾ المعابد ،فكانت دولة متدٌنة تحركها قٌم الدٌن ال دولة دٌنٌة بالمعنى السٌاسً الحالً.
وتمادى حرٌحور فً نفوذه باسم الدٌن أكثر فؤكثر ،حتى انتحل ألقابا وشارات تشبه ألقاب الحاكم
وشاراته ،ورضً رمسٌس ٔٔ المؽلوب على أمره باألمر الواقع ،واعتبر الكهنة ذلك نصرً ا لهم وبشٌرً ا
بعصر جدٌد تبجحوا وسموه عصر النهضة -بتعبٌر عبد العزٌز صالح -وأرخوا به وثابقهم ،واعتبر
حرٌحور نفسه كما لو كان ملك طٌبة ،وإن ظل رمسٌس ٔٔ على العرش حتى العام ٕ9أو ٕ9من
حكمه(ٗٔٔ) ،وكلمة "النهضة" أو "تجدٌد الوالدة" (وحم مسوت باللؽة المصري) صفة ٌطلقها المصرٌون
(ٕٔٔ)
-انظر :المرجع السابق ،ص ٖٕٕٗٗٗ -
(ٖٔٔ)
-األجانب فً مصر فً األلفٌة األولى قبل المٌبلد ،جونتر فٌتمان ،مرجع سابق ،ص ٕٖ
(ٗٔٔ)
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٕٗٗ
ٕ٘ٔ
على عودة الروح لمصر بعد تعرضها ألزمات خانقة أو فقد حرٌتها ،مثلما حدث بعد القضاء على الزفتة
(الفوضى) األولى وهكسوس الشرق.
وٌعتقد علماء آثار مثل جونتر فٌتمان أن حرٌحور ٌنحدر من المإكد أٌضا من سبللة أجنبٌة ،تتبع
المستوطنٌن القادمٌن من وراء الحدود الؽربٌة(٘ٔٔ).
وفً نفس الوقت ظهر فً الوجه البحري نفوذ لشخص آخر هو نٌسوبانب جدة ،واشتهر فً كتب
التارٌخ باسم سمندس ،مجهول األصل ،وعقد مع كبٌر الكهنة فً طٌبة -المطعون فً أصله وشرعٌته مثله-
مهادنات تسمح بتقاسم السلطة بٌنهم ،خاصة بعد ما استؽل سمندس ثؽرة فً نظام الحكم المصري ،وهً أن
ٌُسمح بتولً العرش لزوج بنت الملك ،فتزوج سمندس من تانت آمون بنت رمسٌس ٔٔ لٌكتسب "شرعٌة"
الحكم.
هذه األوضاع الكبٌبة وضٌاع هٌبة حاكم مصر تطاٌرت أخبارها سرٌعا للببلد المحٌطة ،وتش َّفت فً
مصر ،وأظهرت بجرأة وسرعة شماتتها فٌها مثلما ٌظهر فً قصة القابد "ون آمون" حٌن سافر بؤمر
حرٌحور إلى الشام الستٌراد خشب األرز فً عهد رمسٌس ٔٔ ،وذكرت البردٌة اهتمامه بذكر حرٌحور
وسمندس ،فٌما أشار إلى رمسٌس ٔٔ إشارة عابرة ما ٌدل على تضاإل نفوذه أمامهما ،ولذا لم ٌكن ؼرٌبا
أن ٌصبح رمسٌس ٔٔ هو آخر حاكم مصري ال دخٌل وال هجٌن وال مطعون فً أصله ،وٌفسح المجال
بضعفه لطابور االحتبلل الثقٌل.
وجاء فً البردٌة التً روت قصة ون آمون بكل صراحة أن أمثال ون آمون من الرسل كانوا فً
عصور الحكم المصري السابقة ٌجدون الترحاب حٌثما حلوا ،أما هو فقد وجد الصدود حٌثما نزل ،فؤمراء
الشام ٌعلمون بؤن شوكة الحكم انكسرت فً مصرَّ ،
فعز علٌه أن ٌجد بٌن الطوابؾ الجدٌدة فً الشام األمن
القدٌم الذي كفله المصرٌون والسورٌون فً أٌام استقرارهم ومجدهم ،فسُرق منه متاعه من ذهب وفضة،
وعجز حاكم "الثكر" عن أن ٌعٌده إلٌه ،وتكبر علٌه أمٌر جبٌل ،واشترط علٌه ( )...أن ٌدفع أثمان أخشابه
على الرؼم مما عرفه عن نهب متاعه ،وعلى الرؼم من الصبلت الودٌة بٌن مصر القدٌمة وبٌن جبٌل وبقاء
بعض شراٌٌن التجارة بٌنهما مفتوحة ،وعلى الرؼم من اعتراؾ أمٌر جبٌل أمامه بفضل مصر القدٌم فً
إفاضة الحضارة على بلده ،وكان فً كل هذا ما ٌختلؾ تماما عن الفكرة التً خرج بها ون آمون من مصر
وورثها عن أسبلفه من اعتبار البحر بحر ربه آمون والجبل جبله والبلد بلده ،وبعد عدة مخاطرات خرج
الرجل بؤخشابه من جبٌل ،وعندما عاد إلى مصر كان أمٌنا فً تسجٌل ما مر به ،وتحدث بما رآه وسمعه
بكل ما فٌه من مرارة وأسى على سمعة وطنه(.)ٔٔٙ
وكٌؾ ال تفٌض المرارة ،وكٌؾ ال نتجرعها مع ون آمون حتى الٌوم؟ ..فقد نسى أبناء مصر للمرة
الثالثة ،وبسرعة مستفزة ،عهد من أسسوها بعد أن دلوها على سكة السبلمة ،وبصروها بسكة الندامة:
(٘ٔٔ)
-األجانب فً مصر فً األلفٌة األولى قبل المٌبلد ،مرجع ساق ،ص ٗٙ
()ٔٔٙ
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابقٕٗ٘ ،
ٕٔٙ
"إن البوابات ]الحدود[ التً فوقك كبوابات حامٌة ....إنها سوؾ ال تفتح للؽربٌٌن ،إنها سوؾ ال تفتح
للشرقٌٌن ،إنها سوؾ ال تفتح للجنوبٌٌن ،إنها سوؾ ال تفتح للشمالٌٌن ،إنها سوؾ ال تفتح لهإالء الذٌن
فً وسط األرض ،إنها سوؾ تفتح لحورس(.")ٔٔ9
فاستحقت األجٌال التً فرَّ طت فٌها عقاب اإلله الذي حذر منه بتاح حتب:
"إن الذي ٌفعل الماعت فذلك الذي ٌكون بعٌدا عن الضالل"ٌ" ،حل العقاب دابما بالذي ٌتخطى قواعدها".
()ٔٔ9
-الوصٌة الواردة فً نصوص األهرام ،القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم ،ص ٕٕ٘ٔٔٙ -
ٕٔ7
الفصل الثانً :الهكسوس ٌشعلون نٌران ٖ آ الؾ سنة احتالل
ٔٓٙ9ق.م -ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘ ٔ9ب.م
ٕٔ8
الشر شرق وؼرب داخل لحوشنا
()ٔٔ8
-أؼنٌة مقدمة مسلسل أرابٌسك ،كلمات سٌد حجاب ،ألحان عمار الشرٌعً ،ؼناء حسن فإاد
ٕٔ9
المشهد :8الزفتة الثالثة
على أساس ما سبق ٌمكن أن ٌقال إن آخر حاكم مصري خالص بشكل مإكد فً تارٌخنا القدٌم كان
رمسٌس ٔٔ ،وما تبله من حكام إما مجهولو النسب مثل سمندس مإسس األسرة ٕٔ ،أو من أسرى الحرب
والمستوطنٌن ومدعً التمصٌر مثل شاشنق مإسس األسرة ٕٕ.
وعلى هذه الحال الحرجة التً لم تخطر على بال انتهت أٌام األسرة ٕٓ بعد أن ولٌت أمور مصر ٔٔ9
سنة ،مختتمة عصور الرعامسة وذكراهم الخالدة ،بحلوها ومرها.
وتجمدت ما ٌمكن أن ت وصؾ بؤزمنة الحكم المصري الخالص المدٌد ،أزمنة مصر الحرة التً بدأت بحكم
أوزٌر وحور ثم أتباع حور فً زمن ال ٌُعرؾ بداٌته فً جوؾ التارٌخ ،تبلهم حكام تركت اآلثار نقوشا تدل
على وجودهم ،ولم تترك كتابة ألسمابهم النعدام أو ندرة الكتابة أٌامهم ،حتى نصل إلى عصر مٌنا الذي
عرفنا اسمه لظهوره بعد الكتابة ،وتبعه المبات من زعماءنا حتى نصل إلى رمسٌس ٔٔ ،منهم من كانوا أمناء
على وصاٌا وصولجان حور ،حفظوا مصر ألهلها حرة مطمبنة ،وهم األكثر ،ومنهم من لم ٌكونوا على قدر
المسبولٌة ،وهم األقل ،لكن ؼفلتهم وؼفلة بقٌة المصرٌٌن المعاصرٌن لهم كانت القاضٌة؛ لٌسقط الصولجان أخٌرا
من ٌد حور نهاٌة األسرة ٕٓ ،سقوطا له ر َّنة مدوٌة ،كصرخة ذبٌح ،لو سمعها الكون لشققت جباله وشلَّت كابناته
من فزعها وألمها،؛ ولتبدأ عصور مهجنة واحتبلالت فً ذٌل بعضها ،حتى تعود مصر وصولجانها إلى أهلها فً
ثورة ٕ٘ ،ٔ9أي بعد ٖٓٓٓ سنة..من كان ٌتصور أن تقبع مصر العظٌمة ،الدولة األكمل ،نبٌة الببلد ،أسٌرة
بسجون الشٌطان ٖٓٓٓ سنة !
لٌس عن جبن فً أهلها ،وال ضعؾ وال فقر فً أرضها ،ولكن لؽفلة حراسها عن قٌمة بلدهم ،ووصٌة
األجداد ..عن كفرهم بؤعظم النعم ،نعمة الطرٌق القوٌم الواضح (ماعت) المحدد لهم سلفا ،وبعد أن اختبرهم
هللا فذاقوا عدة مرات حبلوة السٌر فٌه ،ومرارة التخلً عنه.
لم ٌكن للمصرٌٌن أي عذر فً كفر النعمة ،فاهلل أعطاهم من اإلٌمان والعقٌدة والقوة والذكاء والثروة
والسكان ما ٌكفٌهم لبناء بلدهم وحماٌتها ،ومعظم أزمنة الحكم المصري شالها على أكتافهم أبناء األرض
الطٌبة ،ولما جاءها الؽرٌب ٌتسلل أو ٌتوسل كان هو الذي فً حاجة لها ،وحتى لو احتاجته فً أي أمر لم
ٖٓٔ
ٌكن هناك أي مبرر أن ٌكون ثمن تعاونه أن ٌستوطن ،وٌؤخذ األرض ،وٌنحشر فً مإسسات البلد ،وٌملك
اقتصادها ،وٌتؽلؽل فً بٌوتها ،وٌشوشر على دٌنها ،وٌبدل عاداتها ،وٌبلبل لؽتها ،وٌؽٌر نظام حكمها؛ ولذا
لما سلمنا بعض مناصب البلد وأسرارها لؤلجانب فً األسرتٌن ٔ9وٕٓ بعد ما بذله رجالها األبطال من
أعمارهم ودمابهم لتحرٌرها من األجانب فٌما سبق لم ٌكن لنا أبدا عذر ..فكان الخراب واالحتبلل الطوٌل،
الطوٌل جدا.
الخبلصة ،أنه من اآلن تمثل الوضع مع نهاٌة األسرة ٕٓ بحسب ما ٌصفه جونتر فٌتمان كما ٌلً :تؽلؽل
المستوطنون األجانب فً الدلتا والمنطقة الممتدة حتى أهناسٌا ببنً سوٌؾ بصورة كثٌفة دون رقابة ،بل
وصلوا إلى الوجه القبلً الذي لم ٌسكنه إال مصرٌون ،فاخترقوا شتى التحصٌنات حتى وصلوا إلى قلبه،
إلى واسطة (طٌبة)ٌ ،شٌعون فٌها االضطراب والفتن ،وتسببوا فً انهٌار الدولة الحدٌثة ،وتولوا مقالٌد
السلطة لٌبدأ "عصر مظلم" ،وتعد الـ ٓ٘ٔ سنة األولى من ذلك الزمن من أكثر الفترات ؼموضا(.)ٔٔ9
اختلؾ علماء اآلثار فً تسمٌة فترة االحتبلل التً أطبقت بظبلمها وثقلها على صدر مصر بعد الدولة
الحدٌثة ،فبعضهم مثل جونتر فٌتمان ٌصفها بالؽزو اللٌبً ،نسبة إلى أن المحتلٌن تدفقوا من وراء السواحل
والحدود الؽربٌة من ناحٌة لٌبٌا.
وآخرون مثل عبد العزٌز صالح ٌصفونها باالحتبلل الهجٌن ،ألن المحتلٌن ال ٌنتمون لشعب واحد
وأرض واحدة ،بل تحالؾ من شتات قباٌل تجمعت من آسٌا وجزر البحر المتوسط وحطت على ساحل لٌبٌا،
وضموا لتحالفهم قباٌل هناك ،فجمعهم الطمع فً ؼزو مصر ،وؼلبت علٌهم سمات المشاوش القادمٌن من
جزر البحر أكثر من سمة الرٌبو أو اللٌبو ،حتى أن شاشنق الذي حكم بداٌة من األسرة ٕٕ احتفظ بلقبه فً
النصوص المصرٌة ،ربٌس "ما الكبٌر" أي ربٌس المشاوش ولٌس ربٌس الرٌبو ،وكذلك كان أبوه وجده،
وحمل تاؾ نخت رأس األسرة ٕٗ نفس اللقب(ٕٓٔ).
وإذا كانت المإلفات الحدٌثة اعتادت تسمٌة هذه األسر وأعوانها باسم األسر اللٌبٌة فإنما جرت فً ذلك
على التقلٌد اإلؼرٌقً القدٌم الذي أطلق اسم لٌبٌا على كل أراضً شمال إفرٌقٌا الواقعة ؼرب دلتا النٌل،
دون أن ٌقصره على حدود دولة لٌبٌا بمعناها المعروؾ فً العصر الحدٌث ،وذلك مثلما أطلقوا لفظ أراضً
آرابٌا أي األراضً العربٌة على كل المناطق الصحراوٌة الواقعة شرق النٌل والممتدة بٌن شرق إفرٌقٌا
وؼرب آسٌا ،دون قصره على شبه الجزٌرة العربٌة بمدلوها المؤلوؾ(ٕٔٔ) ،بحسب شرح صالح.
وٌمكن فك هذا االختبلؾ باشتقاق اسم لهذا االحتبلل الخبٌث من لؽة األجداد واالسم الذي أطلقوه على
هذه القبٌ بل ،وكما سبق القول ،سماها األجداد حٌن حاربوها أٌام رمسٌس الثالث باسم شعوب البحر "نا
()ٔٔ9
-انظر :األجانب فً مصر فً األلفٌة األولى قبل المٌبلد ،جونتر فٌتمان ،مرجع سابق ،ص ٕٖ
(ٕٓٔ)
-انظر :الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،طبعة سنة ٓ ،ٔ98ص ٕ9ٙ
(ٕٔٔ)
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٕ99
ٖٔٔ
خاسوت إن با ٌَّم ،و"نا" أداة تعرٌؾ للجمع ،و"خاسوت" أي الشعوب األجنبٌة ،وهو نفس االسم الذي
وصفوا به هكسوس الدولة الوسطى ،و"إن" ٌعنً تبع ،و"با" أداة تعرٌؾ للمفرد المذكر ،و"ٌَّم" أي البحر،
وهً نفس كلمة الٌَّم التً انتقلت للعربٌة بمعنى البحر والبحٌرة.
وعلى هذا فمثلما تسمت قباٌل "حقا خاسوت" متعددة األعراق باالحتبلل الهكسوسًٌ ،مكن تسمٌة
االحتبلل الجدٌد متعدد األعراق أٌضا بضم كلمة شعوب أجنبٌة "خاسوت" والبحر"ٌَّم" سوٌا فتكون االحتبلل
الخاسوت ٌَمً ،أو اختصارا االحتبلل الخاسوتً.
االحتجاج بالكارٌكاتٌر
وإن كان بعض المصرٌٌن خبلل األسرتٌن ٔ9وٕٓ خدعوا أنفسهم بتمصر األسرى والمتسللٌن
وطاعتهم الظاهرة ،إال أن األؼلبٌة ٌبدو أنها لم تطمبن لهم ،وال لتؽلؽل نفوذهم فً البلد ،وظلت تعتبرهم
دخبلء أؼرابا ،وتصفهم باألجانب ،وصور الفنانون ذلك بصورة طرٌفة ،ولكن حزٌنة.
ففً رسم كارٌكاتٌري صوَّ ر الفنان كتٌبة من الفبران تهاجم حصن القطط ،فٌما ٌبدو أنه ٌعبر بالفبران
عن الدخبلء ،وبالقطط عن المصرٌٌن ،وكٌؾ انقلب الوضع فصار الدخبلء فً موضع القوة والهجوم بعد
أن اطمبنوا لؽفلة المصرٌٌن.
وفً رسم آخر صور الفنان فؤرا ؼنٌاٌ ،جلس على كرسً ٌرتشؾ مشروبا بمصاصة طوٌلة ،وتسرح
شعره قطة مصرٌة؛ ما ٌإشر لحٌاة الرؼد التً بدأ ٌحٌا فٌها األجانب بعد أن كانوا أسرى وخدما ،حتى
صاروا هم األؼنٌاء والمصرٌون خدمهم .وربما من مثل هذه االنقبلبات جاء المثل المصري الشهٌر "إن
ؼاب القط إلعب ٌا فار".
وكرر ذلك فً رسم فؤرة تجلس على كرسً ،فٌما تقدم قطة كؤس شراب إلٌها ،وقطة تسرح شعرها ،وقطة
تحمل ابن الفؤرة ،وقطة تقدم لها الهداٌا ،فً إشارة أٌضا النقبلب األوضاع بٌن المصرٌٌن (القطط) واألجانب
(الفبران) ،وفً سخرٌة الذعة من الدخبلء رسم فؤرة تجلس على مقعد فخم ،لكن بطرٌقة ؼٌر البقة ،وقط
ٌقدم لها ؼصنا لتؤكله كما ٌقدمه لبقرة أو أي حٌوان ،فً إشارة إلى أنه ٌعاملها على أنها مجرد حٌوانة مهما
عبل شؤنها فً ببلده(ٕٕٔ).
وفً ذات الوقت وجه الفنان نقده الشدٌد ألبناء بلده الذٌن ساعدوا فً تمكن األجانب من البلد ،وؼرقوا فً
الفساد ،حتى أنه صورهم على شكل قطط تؤكل األوز المكلفة برعاٌتها وحماٌتها(ٖٕٔ).
هذه الرسومات -من أقدم الرسوم الكارٌكاتٌرٌة فً العالم -أبدعها العاملون فً دٌر المدٌنة على قطع من
(ٕٕٔ)
-للمزٌد من هذه الرسوم وشروحها انظر :الفكاهة والكارٌكاتٌر فً الفن المصري القدٌم ،عبد العزٌز صالح ،مجلة "المجلة" ،العدد رقم ،88
بتارٌخ ٔ ،ٔ9ٙٗ -ٗ -القاهرة ،ص ٖٕٗٗ -
(ٖٕٔ)
-انظر :مرجع سابق ،ص 8
ٕٖٔ
الفخار "أوستراكا" ،والبردي ،وقلٌل منها على جدران المقابر ،وموزعة حالٌا بٌن المتحؾ المصري
ومتاحؾ أخرى ،ربما كانوا المتضاٌقٌن من اختراق األجانب للحرؾ المصرٌة فً دٌر المدٌنة وؼٌرها.
ؼفل الحراس عن الوصٌة والتارٌخ واألرض ،فتحول القط لفؤر والفؤر لقط ،والعبد لسٌد والسٌد لعبد ،والحق باطل والباطل حق ،وانقلب الزمان (نماذج
لرسوم الكارٌكاتٌر الواردة فً دراسة "الفكاهة والكارٌكاتٌر فً الفن المصري القدٌم" د .عبد العزٌز صالح)
أما عن مصٌر الجٌش المصري وسط هذا العك ،وكٌفٌة تفرٌؽه من الداخل ،فٌمكن تشبٌه ما حدث
للمصرٌٌن بداخله بمثل ما ٌحدث عند تصفٌة الدقٌق من خروم صؽٌرة فً "شوال الدقٌق" ،فٌتسرب منها
بشكل بطًء ؼٌر محسوس ،ولكن مع الوقت ٌصبح الشوال فارؼا منها تماما.
فكما تبٌن أنه بداٌة من عصر األسرة ٔ9تم قبول إدخال األجانب إلى صفوؾ الجٌش المصري من
أسرى الحرب وأبناء الببلد المفتوحة وؼٌرهم ،ووصلوا إلى رتب قٌادٌة ،وال ٌُستبعد أن هإالء القادة
الدخبلء كانوا ٌسنون القوانٌن وٌصدرون القرارات التً تدٌر عملٌة إحبلل وتبدٌل مستمرة للضباط والجنود
المصرٌٌن ،إلحبلل مقاتلٌن وافدٌن محلهم ،حتى أصبح للوافدٌن بالجٌش نصٌبا موفورا.
واعتبر هنري برٌستٌد أن استعانة المصرٌٌن بؤجانب فً الجٌش من أكبر أسباب سقوط الدولة المصرٌة
بعد تمكنهم من مفاصلها واستقوابهم علٌها بؤقاربهم فً مواطنهم األصلٌة ،ودفعت مصر بتهاونها هذا معهم
أفدح ثمن ،فؤصبحت بتعبٌره "مؽنما للؽزاة األجانب ٌستؽلون أهلها ،وٌنقلون القمح لٌطعموا به شعوب البحر
األبٌض المتوسط"(ٕٗٔ) ،وظلت تتقلب كاألسٌرة الجرٌحة بٌن أقدام كافة مرتزقة األرض ،كلما قامت وثارت
لتحرر نفسها وتطرد أعدابها ما تكاد تقؾ وتلمس قدماها األرض حتى تسقط من جدٌد ..فعمودها الفقري
(الجٌش) مكسور ،بل منزوع.
وحدث فً أواخر العصر -بحسب عبد العزٌز صالح -أن تكونت فً المجتمع طبقة من المحاربٌن أؼلب
(ٕٗٔ)
-انظر :قصة الحضارة ،هنري برٌستٌد ،ترجمة أحمد فخري ،المركز القومً للترجمة ،القاهرة ،ص ٔٗ9 -ٔٗٙ
ٖٖٔ
أفرادها من المستوطنٌن األجانب ،ذكرتهم المصادر اإلؼرٌقٌة باسم "ماخٌموي" ،وأصبحت العسكرٌة معهم
ولدا عن والد ،وٌحصلون عن طرٌقها على إقطاعٌات زراعٌةهدفا ٌرنو إلٌه أفراد األسر ،وٌتوارثونها ً
صؽٌرة مناسبة ،فظهرت بذلك طبقة متماسكة منطوٌة على نفسها من العسكرٌٌن األجانب ،احتكروا
المناصب الحربٌة واألراضً.
وربما اتخذ مثل هذا التقلٌد سبٌله إلى صفوؾ رجال الدٌن وأسرهم أٌضً ا ،ومن هنا تناقل المإرخون
اإلؼرٌق فكرتهم الخاطبة منذ القرن التاسع ق .م عن قٌام الحٌاة االجتماعٌة فً مصر على أساس الطبقات
المهنٌة(ٕ٘ٔ) ،فٌما كان األمر دخٌبل على المصرٌٌن على ٌد هذه القباٌل األجنبٌة ،ألنه فً أزمنة الحكم
المصري الخالص فإن رؼم توارث البعض حرفة آبابهم لكن هذه الحرؾ مفتوحة أمام الجمٌع لدخولها أٌضا
والترقً فٌها.
ومن أسباب ظهور الطبقات المهنٌة المنفصلة واإلقطاعات اختبلؾ هذه القباٌل عن بعضها ،فكؤنها
قسمت المهن والمناصب واألراضً بٌن بعضها البعض لترضً أو تتقً شر بعضها البعض ،إضافة ألنهم
كؤي احتبلل لمصر سعوا الحتكار كل شًء وترك القلٌل للمصرٌٌن لٌكونوا أصحاب التمٌز والهٌمنة.
وبذلك صار الجٌش فً مصر مصرٌا باالسم ،ولكنه فً الحقٌقة جٌشا أجنبٌا مكونه األساسً من
الؽرباء ،وسٌحوله أحفاد هإالء الؽرباء فً األسرة ٕٙإلى جٌش مرتزقة من اإلؼرٌق والكارٌٌن والٌهود
وؼٌرهم ،وذلك بعد فقد الثقة بٌن القباٌل وبعضها لكثرة صراعاتهم ضد بعضهم ،فلجؤت تلك األسرة لزٌادة
المرتزقة لتفادي خطر انقبلب منافسٌها علٌها.
فً تقدٌر عالم اللؽة المصرٌة فٌتمان فإن أول حلقة فً لٌل االحتبلالت الطوٌلة المعبؤة برابحة الموت،
وهً حلقة االحتبلل الخاسوتٌمً ،بدأت فعلٌا فً نهاٌة األسرة ٕٓ وأول األسرة ٕٔ ،ولٌس بتولً شاشنق
الحكم فً األسرة ٕٕ كما ٌعتقد علماء آخرون ،وأن األسرة ٕٓ ٌصعب أن ٌقال إنها مصرٌة.
أي ٌرى أن تولً األجانب حكم مصر بدأ باألسرة ٕٔ التً تزعمها سمندس مجهول األصل ،وشاركه
فً الحكم فً الوجه القبلً كبٌر معبد آمون حرٌحور الذي قال فٌتمان إنه من أصول لٌبٌة ،وٌضٌؾ" :علٌنا
أن نستنتج من ذلك أن اللٌبٌٌن كانوا قد ؼزوا الببلد فعبل فً ذلك الوقت ولٌس بعده ،أي ]لٌس[ فً عهد
شاشنق األول مثبل ،كما أ ُعتقد دابما حتى قبل وقت قصٌر ،وذلك لوجود انفصام تام فً نواح عدٌدة فٌما بٌن
الفترة المتؤخرة لعصر الدولة الحدٌثة واألسرة ٕٔ ،ولٌس فٌما بٌن األسرة ٕٔ وٕٕ فقط(.")ٕٔٙ
وعن نواحً االختبلؾ بٌن هوٌة وطبٌعة الحكم المصري والحكام المصرٌٌن الحقٌقٌٌن حتى األسرة ٕٓ
وما ظهر فجؤة من شكل للحكم بداٌة من األسرة ٌٕٔ ،قول فٌتمان نقبل عن أبحاث خاصة به ودراسات
(ٕ٘ٔ)
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،عبد العزٌز صالح ،مرجع سابق ،ص ٕٕٙ
()ٕٔٙ
-األجانب فً مصر فً األلفٌة األولى قبل المٌبلد ،مرجع سابق ،ص ٖٖ
ٖٗٔ
لعلماء آخرٌن مثل أ.لٌهً ،وٌوٌوت ،وكارل ٌانسن -فٌنكلن ،إنها تتعلق بالعقٌدة الدٌنٌة ،وطرق الدفن،
والجمع بٌن أكثر من وظٌفة هامة فً ٌد واحدة (مثل وظاٌؾ الجٌش والمعابد والحكم السٌاسً) ،ظهور
تؽٌٌرات على اللؽة المصرٌة جعلتها أقل جماال وفصاحة ،والرضا فجؤة بتقسٌم الببلد لعدة مقاطعات ٌحكمها
عدة ملوك ] بتقسٌم متعمد[ كؤنه نظام اختٌاري للحكم فً مخالفة صرٌحة لؤلٌدٌولوجٌة الملكٌة المصرٌة
التً لم تشهد هذا التعدد للحكام إال مرؼمة فً وقت فوضى واحتبلل ،واستشهد أٌضا فٌتمان بتفرد كهنة
آمون بحكم الصعٌد مع مطلع األسرة ٕٔ فجؤة فً حٌن كانت سلطة الملك اسمٌة ،وهذه أول مرة ٌقوم بها
رجال الدٌن بحكم الببلد وتنصٌب أنفسهم محل حاكم مصر بهذه الفجاجة.
وخلص إلى ما وصفها بالنتٌجة الثورٌة وهً أنه "لم ٌبدأ عصر اللٌبٌٌن بشوشنق األول ،الملك األول
لؤلسرة ٕٕ" ،وأن األرجح "لقد ح َّل اللٌبٌون محل حكم الرعامسة!(.)ٕٔ9
كما "رأى أن قباٌل شعوب البحر لم ٌتمصروا حقا ،حتى وإن أظهروا التمصر فً الشكل واللؽة ،واستدل
على ذلك بالتؽٌٌر الذي أدخلوه على العقابد الدٌنٌة ،واحتفاظهم بؤسماء أجنبٌة وافدة مثل شاشنق والنمرود
وأوسركون ،واحتفاظهم بتصوٌر أنفسهم والرٌشة على رأسهم ،وهو الزي الممٌز للقباٌل التً تهاجم مصر
من الؽرب منذ أزمنة قدٌمة ،واستحباب كبارهم ،مثل شاشنق ،بؤن ٌتسموا بلقب "زعٌم الما" ٌعنً "زعٌم
المشاوش" ،وهو توجه قبلً عشابري دخٌل على مصر ،فلم ٌكن لحاكم مصر لقبا ٌخص قبٌلة أو طابفة وال
عرق دخٌل ،بل هو مصري وفقط.
بل وتجرأ أوسركون الثانً ،من الملوك الخاسوتٌمٌٌن فً األسرة ٕٕ ،وهو ٌناجً آمون بقوله]" :أنت
سوؾ[ ُتشكل نسلً ،النطفة التً تخرج من أعضابً ]حكاما[ كبارا لمصر ،وأمراء ،وكهانا أ ُ َول آلمون رع
ملك اآللهة ،وزعما ًء كباراً للما ،و]زعما ُء كبارا[ لؤلجانب ،وكهانا (لئلله) حارسافٌس" ،أي حرص على أن
ٌدعو لزعماء الـ"ما" ،أي قباٌل الماشوش لٌخرج منهم مزٌد من الزعماء؛ ما ٌدل على تمسكه بقبلٌته وأصله
األجنبً ،واضعا إٌاهم فوق المصرٌٌن.
وعلى هذا ٌحسن فٌتمان الوصؾ حٌن ٌقول" :فقد تبنى اللٌبٌون ظاهرٌا األٌدٌولوجٌة الملكٌة الفرعوٌنة،
لكن إذا ما خدشنا السطح ،إن جاز هذا التعبٌر ،فإن تركٌبات السلطة ؼٌر المصرٌة تظهر تحته بوضوح،
ودالبل ذلك أن الطبقة الحاكمة نفسها لم تكن قد تمصَّرت كثٌرا"(.)ٕٔ8
وعلى هذا لم ٌبدو من "تمصرهم" الظاهري إال المبلبس المصرٌة (مع احتفاظهم بوضع رٌشة زعماء
قباٌلهم فوق رءوسهم) وبعض ألقاب الحكم ،والسماح باستمرار الدٌن المصري فً المعابد ،فٌما لم ٌستبعد
أنهم كانوا ٌمارسون دٌنهم الخاص "فً الخفاء" ،وٌتحدثون مع بعضهم بلؽتهم "شفوٌا" ،وٌستخدمون اللؽة
المصرٌة فقط فً الكتابة( ،)ٕٔ9مع المٌل لتبسٌطها بما أخ َّل بها.
()ٕٔ9
-نفس المرجع ،ص ٗٓ -ٖ9
()ٕٔ8
-انظر :المرجع السابق ،ص ٖ9 -ٖٙ
()ٕٔ9
-انظر :نفس المرجع ،ص ٕٗ -ٖ8
ٖ٘ٔ
وتحصن ؼزاة الداخل فً الوجه البحري؛ ربما لقربه من الحدود الؽربٌة ومن بقً منهم خلفها لسهولة
التواصل؛ واتخذوا تانٌس (صان الحجر بمحافظة الشرقٌة) عاصمة ،فٌما ق َّل عددهم بالوجه القبلً(ٖٓٔ).
أما أخطر األمور ،فهو خطة الدخبلء لتفرٌػ الجٌش من ضباطه وجنوده المصرٌٌن ،والتوسع فً
السٌطرة على المعابد ،إضافة لبلستٌبلء على األراضً الزراعٌة التً قسموها بٌن قباٌلهم على شكل
إقطاعٌات ،فٌما تؤججت الصراعات القبلٌة بٌن المستوطنٌن ،واكتوى بنٌرانها المصرٌون ،خاصة وأن
معاركهم تجري فً القرى والمدن كما سنرى.
وبزواج سمندس من ابنة رمسٌس ٔٔ أخذ صك "الشرعٌة" الشكلٌة الذي منحه لقب ملك مصر فً
ظرؾ ؼامض ،وبدأ عصر ما عرفت باسم األسرة ٕٔ.
وبذلك ،كانت الست المصرٌة-بدون قصد -حٌن قبلت الزواج بهذا الشخص بوابة من بوابات احتبلل ببلدها،
بعد أن ظلت فً العصور السابقة حصنا حصٌنا لحماٌتها ،بداٌة من إٌسة وتتً شٌري وإٌاح حتب وؼٌرهن،
فؤحسن األؼراب استؽبلل ثؽرة فً قوانٌن الحكم المصرٌة بجواز اعتبلء العرش لزوج ابنة الحاكم ،وبالتؤكٌد حٌن
وضع األجداد هذه المادة لم ٌدر بخلدهم أن ابنة الحاكم ٌمكن أن ٌتزوجها أجنبً ،ولو كان مستوطنا مستمصرا،
ورأٌنا كٌؾ رفض أمنحوتب الثالث تزوٌج ابنته لملك بابل حتى ال ٌخالؾ فً هذا أصول الماعت.
وظل سمندس فً الوجه البحري على مهادنته لؽرٌمه حرٌحور المسٌطر على مقالٌد األمور فً واسط
(طٌبة) ،ووثق هذه المهادنة بالمصاهرة ،وصارت مصر وكؤنها دولة ذات عاصمتٌن ،واستمرت هذه
األسرة من ٖٓٔ ٔٗٓ-سنة ،تتنقل ما بٌن حكام مجهولً األصل ،سعوا للتؽلب على الناس بتخدٌرهم باسم
الدٌن ،خاصة وأن حرٌحور جمع بٌن منصب الحاكم وكبٌر رجال الدٌن فً معبد آمون.
وفً نفس الوقت استمرت الفتن ،فعصر األسرة ٕٔ "لم ٌخ ُل من خصومات بٌن حكامها ،وانقسامات
طابفٌة ،ومإامرات المستوطنٌن فً أماكن قرب الحدود الؽربٌة ،وهذه سوؾ تصبح فٌما بعد شر البلٌة(ٖٔٔ).
والبلفت أنه رؼم الضعؾ الشدٌد الذي أصٌبت به مصر وقتها إال أن المصرٌٌن ظلوا فً قدرتهم على
اإلنتاج واإلبهار -وإن كانت نفوسهم مكسورة -واستدل عبد العزٌز صالح على هذا بؤن النبً سلٌمان طلب
معونة مصر فً معاركه مع منافسٌه فً كنعان ،وفق ما ذكرته التوراة ،ولكن ال ٌوجد مصدر ؼٌرها حول
هذا األمر ،وهذا ٌعنً أن مصر حتى فً عهود ضعفها كانت أقوى مرات من ملك سلٌمان الذي تحدثت به
األمثال(ٕٖٔ) ،وأن القوة التً وضعها هللا فً سواعد وقلب وعقل أبناء مصر أقوى وأبقى مما شٌده عفارٌت
الجن الذٌن استعان بهم سلٌمان فً بناء ملكه ،والدلٌل زوال كل آثار ملك سلٌمان فٌما بقٌت آثار المصرٌٌن
شامخة رؼم كل ما تعرضت له من فوضى وخراب واحتبلالت همجٌة.
(ٖٓٔ)
-انظر نفس المرجع ،ص ٓٗ
(ٖٔٔ)
-انظر :الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،عبد العزٌز صالح ،مكتبة األنجلو ،طٕ ،ٔ99ٖ ،ص ٕٗ9
(ٕٖٔ)
-نفس المرجع ،ص ٕٗ8
ٖٔٙ
فكلمة أن "المصري معجزة فً حد ذاته" ،أو بالتعبٌر الشاٌع أن "المصري أقوى من العفرٌت" ..لٌس
فٌها أي مبالؽة ..ولكن إن وعى لقٌمة نفسه والطاقة التً بداخله وبنعمة بلده.
وإن كانت األسرة ٕٔ اختلؾ علماء حول أصلها ،وما إن كانت مصرٌة أم من االستٌطان االحتبللً ،إال
أن األسرة ٕٕ متفق بٌنهم على أن مإسسها هو شاشنق ،أحد أفراد القباٌل األجنبٌة ،وٌإرخون به لبداٌة ما
ٌسمونه بـ"العصر المتؤخر" ،وكما تزوج سمندس من ابنة رمسٌس ٔٔ لٌؤخذ شرعٌة لبلحتبلل "بالقانون"،
صاهر شاشنق ابنة آخر حكام األسرة ٕٔ لٌؤخذ ذات "الشرعٌة".
ولوصول شاشنق ابن المشاوش إلى هذه المكانة الرفٌعة وقدرته على احتبلل مصر من الداخل قصة
تروٌها اآلثار ،وتقدمها كنموذج للفرق بٌن قصر نظر المصرٌٌن الذٌن ٌنظرون تحت أقدامهم ،وبٌن طول
نظر األجانب الذٌن ٌضعون خطط للتمكٌن ٌصبرون على تحقٌقها ولو بعد ٕٓٓ سنة.
فالبنسبة لقبٌلة المشاوش استوطن كبٌرها "بٌواوا" فً أهناسٌا ببنً سوٌؾ ،وتسرب أوالده وأحفاده
للعمل فً معبد "حرٌشؾ" ،وفً نهاٌة األسرة ٕٔ ،أي بعد عشرات السنٌن ،صار شاشنق كبٌر القبٌلة،
وظهر النفوذ الذي بلؽوه فً أن والده نمرود صار له قبر فً أبٌدوس (مقر أوزٌر) ،وهً أقدس األماكن
عند المصرٌٌن ،ومكان الحج ،وحصل اعتداء على القبر ،فشكا شاشنق إلى حاكم تانٌس الذي أرضاه بؤن
أذن له بوضع تمثال لوالده فً معبد أوزٌر نفسه ،وبلػ من ثرابه أن أوقؾ على مقصورة تمثال والده ٓٓٔ
أرورة زراعٌة وحدٌقة كبٌرة ،وعٌَّن لها ٕ٘ من األرقاء لحراستها(ٖٗٔ) ،هذا الذي دخلت عابلته لمصر
كسٌرة ال تملك سوى ما على جسدها.
ومن النفوذ الدٌنً واالقتصادي طمع فً قنص النفوذ السٌاسً ،فصاهر أسرة بسوسٌنس ،آخر حكام
األسرة ٕٔ ،وكفل لنفسه ولولده "أوسركون" وراثة عرش لم ٌكن ٌحلم به -بتعبٌر صالح -عرش مصر،
وجعل عاصمته فً بوباسطة شرق الدلتا(ٖ٘ٔ) ،وظل محتفظا بلقبه فً النصوص المصرٌة ،ربٌس "ما
الكبٌر" أي ربٌس المشاوش ،ومع ذلك ادعت نصوص بعض خلفابه قرابتهم للرعامسة ،وتلقب أؼلبهم
(ٖٖٔ)
-قصٌدة "على باب مصر" ،كلمات كامل الشناوي ،ألحان محمد عبد الوهاب ،ؼناء أم كلثوم
(ٖٗٔ)
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،ص ٕٔٙ
(ٖ٘ٔ)
-نفس المرجع
ٖٔ7
بؤلقاب الرعامسة ،مثل وسر ماعت رع ،وستبن رع ،وستبن آمون ،ربما للحد من كراهٌة المصرٌٌن لهم.
وأصبحت أهناسٌا التً استوطنها أجداده إقطاعا لفرع من أسرته احتكرت أمورها واتسعت بحدودها،
وتردد الوجه القبلً فً التسلٌم بسلطان الحاكم الجدٌد مدة طوٌلة ،ثم سلم باألمر الواقع( ،)ٖٔٙودأبت حولٌات
معابد طٌبة على اإلشارة إلى شاشنق باسم "كبٌر زعماء المشاوش" إبرازا لرفضها االعتراؾ بسلطانه(.)ٖٔ9
وشبههم صالح بممالٌك العصور الوسطى ،لٌس فقط فٌما ٌخص أصولهم األجنبٌة ،ولكن فً تفرق
كلمتهم وتشتتهم وصراعهم الدامً الدابم على السلطة خبلل األسرات ٕٕ و ٖٕ وٕٗ(.)ٖٔ8
وٌتفق كل من جرٌمال وجاردنر وإد.ماٌر فً أن األسرة ٕ٘٘ -ٙ9ٕ( ٕٙق .م) التً أسسها بسماتٌك بعد
انتهاء االحتبلل األشوري هً أٌضا أسرة أجنبٌة ،وامتداد للحكام األجانب من األسرتٌن الـ ٖٕ وٕٗ
()ٖٔ9
تسع إلعادة المصرٌٌن إلى حكم الببلد والجٌش؛ ولذا وجب إعادة النظر فً وصؾ األجنبٌتٌن ،ولم َ
البعض لها بؤنها "مصرٌة".
بقفز الخاسوتٌمٌٌن على عرش حور دخلت مصر فً كهؾ االحتبلالت األلفٌة ،أي هذه االحتبلالت التً
دامت ٖ آالؾ سنة حتى التحرٌر فً سنة ٕ٘ ،ٔ9بل ومنها ما وصل وحده إلى نحو ٓٓٓٔ سنة هو
االحتبلل األوروبً (الٌونانً -الرومانً) ،وهً مُدد لم تشهدها مصر فً تارٌخها المدٌد من قبل ،فؤطول
احتبلل سجله الت ارٌخ من قبل هو االحتبلل الهكسوسً ،واستمر وفق ما ٌُفهم من بردٌة تورٌن ٔٓ8سنة،
وفرض نفسه على مناطق من مصر ولٌس كلها ،أما االحتبلل الخاسوتٌمً فهو أول احتبلل لمصر بؤكملها.
وابتدع المحتلون الخاسوتٌون نظام حكم جدٌد على المصرٌٌنٌ ،ضمن حصر الوظاٌؾ الكبرى فً
السٌاسة والدٌن والجٌش واالقتصاد بٌدهم ،وإبعاد المصرٌٌن.
فرسموا سٌاسة بعٌدة المدى إزاء واسط (طٌبة) صاحبة المجد الفرٌد ،ال سٌما بعد أن اصطدموا بها فً
بداٌة عصرهم ،فعمل أؼلبهم على أن ٌعٌن أحد أوالده كبٌرً ا لكهنة معبد آمون لٌكفل ألسرته السلطة
السٌاسٌة والسلطة الروحٌة معً ا ،ولٌكون له نصٌب األسد من ثروات معابد آمون الطابلة؛ وذلك إلى جانب
()ٖٔٙ
-نفس المرجع
()ٖٔ9
-تارٌخ مصر القدٌمة ،جرٌمال ،ص ٗٔ9
()ٖٔ8
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،عبد العزٌز صالح ،طبعة عام ٖ ،ٔ99ص ٕٕٔٙ -ٕٙ
()ٖٔ9
-انظر :مصر الفراعنة ،آالن جاردنر ،مرجع سابق ،ص ،ٖ88و مقدمة أحمد بدوي لكتاب "هٌردوت ٌتحدث عن مصر" ،ترجمة محمد صقر
خفاجة ،المركز القومً للترجمة ،القاهرة ،ٕٓٓ9 ،ص ٖٗ ،ٗ٘ -وأورد بدوي آراء 9علماء ٌقولون إنها أسرة لٌبٌة ،وٗ ٌقولون إنها أثٌوبٌة
(كوشٌة؟) ،وٗ ٌقولون إنها مصرٌة.
ٖٔ8
أخذ نصٌب من السلطة الحربٌة أٌضا بؤن ٌؤخذ لقب قابد الجٌش(ٓٗٔ).
وتسلحوا بسبلح المصاهرة ،فتزوجوا من أمراء وكبار القباٌل ،وربما قلٌل من المصرٌٌن األؼنٌاء
الراضٌن بهم ،فكونوا طبقة منعزلة ،تحتكر الثروة والسلطة بما فٌها الجٌش والمعبد(ٔٗٔ) ،وتراكمت حقوق
االنتفاع حتى بٌن أٌدي نساء القبٌلة ،إضافة إلى ما ٌمتلكه ذووهم ،حتى قارب إجمالً ما ٌمتلكونه ثلث
أراضً مصر العلٌا(ٕٗٔ).
هذه الكلمة "تدوٌل مصر" -ال قدر هللا -ستصحبنا بداٌة من هذه الصفحة فً الكبلم عن دور كل احتبلل
تقرٌبا لتحقٌقها ،بل وستتواصل بعد التحرٌر حتى سنة وضع هذا الكتاب ٕٓٔ9التً تشهد أعلى وأسخن
مرحلة من مراحل مساعً الهكسوس للتدوٌل حتى الٌوم.
فالمرتزقة متعددي األجناس ،االستثمارات األجنبٌة ،الربا ،الوكاالت التجارٌة الدولٌة ،االستٌطان
اإلؼرٌقً والٌهودي والكاري ومن كل جنس ،تعدد الثقافات واللؽات الدخٌلة ،نزح ثروة مصر للخارج،
عناوٌن ممٌزة لؤلسرة الـ ٕٙوما بعدها ،وبها دخلت مصر بما ٌمكن تسمٌته بلؽة الٌوم عصر "العولمة"،
و"التدوٌل" ،فقادتها فً الحكم ،والقادة والضباط فً الجٌش ،وكبار كهنة معابدها المتحكمٌن فً دٌنها ،ومن
ٌملكون اقتصادها هم "من كل األجناس" ،وأقل جنس له نصٌب فً كل هذا هو المصرٌون أنفسهم ،وأحٌانا
ال ٌُترك لهم نصٌب إطبلقا.
وعن انتشار تجارة المرتزقة متعددي الجنسٌات وتؤثٌرها على األحداث فً مصر ٌقول جرٌمال إنه
أضٌؾ إلى "اللٌبٌٌن والنوبٌٌن ]الكوشٌٌن؟[ فً الجٌش اإلؼرٌق والكارٌٌن الذٌن أخذوا ٌعرضون مهاراتهم
العسكرٌة فً سوق الشرق األدنى الذي تمزقه الحروب الداخلٌة ،وٌزخر بالفرص التً ال تعوض ،وبكل من
قذفت بهم الف توحات اآلشورٌة إلى عرض الطرٌق من فٌنقٌٌن وسورٌٌن ،بل والٌهود الذٌن أسسوا فً إلفنتٌن
]أسوان[ مستعمرة ذات شؤن ،ولكن ضباط "الما" ]المشاوش[ المحٌطٌن بالملك ظلوا ٌحتلون المناصب
القٌادٌة".
وأنه "باالعتماد على هذه القوات الجدٌدة أمكن إزاحة القوات القدٌمة ذات األصول اللٌبٌة ]الخاسوتٌَّمٌة[
التً ال ه َّم لها سوى اقتسام السلطة ،كما استطاع بسماتٌك أن ٌحط من شؤن دوابر الشمال اللٌبٌة بفتحه الباب
أمام إنشاء مستعمرات لئلؼرٌق والكارٌٌن الذٌن كانوا خٌر معٌن له فً بسط نفوذه على مصر ( )...ووصل
التجار اإلؼرٌق لبلستٌطان فً مصر فً ذٌل المرتزقة من أبناء جلدتهم(ٖٗٔ)" وفق تعبٌره الدقٌق.
واستعان بسماتٌك أٌضا بمرتزقة كارٌٌن من لٌدٌا الواقعة فً تركٌا حالٌا (ببلد الحٌثٌٌن سابقا) ،بعد أن
(ٓٗٔ)
-انظر :الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٕٕٔٙ -ٕٙ
(ٔٗٔ)
-انظر :نفس المرجع
(ٕٗٔ)
-تارٌخ مصر القدٌمة ،جرٌمال ،ص ٗٓ9
(ٖٗٔ)
-تارٌخ مصر القدٌمة ،جرٌمال ،مرجع سابق ،ص ٗ٘9 -ٗ٘8
ٖٔ9
عقد تحالفا مع ملكها جٌجس ،وللكارٌٌن وقتها أهمٌة كبٌرة مثل اإلؼرٌق فً مهنتً التجارة والمرتزقة ،حتى
أن الشعراء الٌونانٌٌن استخدموا كلمة "كاري" كمرادؾ لكلمة جندي مرتزق ،بحسب جونتر فٌتمان.
وبقً الكارٌون -مثلهم مثل الٌونانٌٌن والٌهود والفٌنٌقٌٌن -حتى االحتبلل الرومانً ،أي مبات السنٌن،
ورؼم ذلك لم ٌتمصروا إال فً عادات دٌنٌة شكلٌة ،وظلوا محتفظٌن بلؽاتهم وعاداتهم ومبلبسهم ،وتكتل كل
جنس فً مستوطنات ظهرت كبقع حمراء دموٌة وتقٌحات فوق الجسد المصري الصافً؛ وهو ما ٌدل على
االنفصال التام بٌن هإالء المستوطنٌن وبٌن المصرٌٌن طوال مبات السنٌن ،وأن العبلقة بٌنهم كانت كـ
"المٌة والزٌت" ،إال فً حاالت اختبلط قلٌلة فً التجارة أو لتجاور المساكن أحٌانا(ٗٗٔ).
وهكذا صارت مصر -ألول مرة" -ملقؾ" للمرتزقة والعصابات اإلجرامٌة والتجار الطامعٌن من كل
جنس فً استؽبلل هذه األوضاع الكتساب الثروة السهلة والتمتع بإحساس التسٌد على أهل البلد ،ونزح ما
تبقى من ثرواتها التً باتت تخرج إلى خارج حدودها باسم االستثمار األجنبً -على ٌد هإالء التجار-
وألول مرة أٌضا ،واستمر هذا حتى قٌام ثورة ٕ٘ ..ٔ9ومإقتا.
ومن ٌطل على هذا من شرفة التارٌخ اآلن ٌقفز إلى عقله فورا بٌت الشعر البدٌع(٘ٗٔ):
جنس
ِ حالل للطٌر من كل أحرام على بالبله الدوح
ٌعتقد الدكتور عبد الجواد مجاهد ،أستاذ التارٌخ واللؽة الدٌموطٌقٌة بجامعة بنً سوٌؾ ،خبلل ترجمته
لكتاب فٌتمان "األجانب فً مصر فً األلفٌة األولى قبل المٌبلد" ،وتعلٌقا على ربط اإلؼرٌق كلمة "كاري"
بكلمة المرتزق ،أن كلمة "عسكر" أٌضا مرتبطة بكلمة "كاري" ،وٌستند فً تحلٌله اللؽوي إلى أن "عسكر"
كلمة دخٌلة على اللؽة العربٌة واللؽات السامٌة عموما ،و ترجع إلى كلمة "أرسكر" أو "أرسكور" ،أحد
األسماء الكارٌة ،خاصة مع شٌوع كلمة كاري كمرادؾ للجندي المرتزق فً الزمن القدٌم ،وهً الكلمة التً
رجح كذلك أنه جاء منها اسم فارسكور فً دمٌاط ،خاصة وأن هذه المنطقة أشار هٌرودوت إلى أن بسماتٌك
أقام مستوطنة للكارٌٌن فٌها(.)ٔٗٙ
وربما ورثت القباٌ ل التركٌة منهم كلمة "عسكر" ،خاصة أن حرفة المرتزقة هً مهنتها أٌضا منذ كانت فً
بطون جبال وسط آسٌا وحتى ؼزوها األناضول "تركٌا حالٌا" -نفس موطن الكارٌٌن -وظلت كلمة عسكر ملتصقة
بالمرتزقة الترك ثم جٌشهم العثمانلً الذي ٌطلق على نفسه كلمة "عسكر" حرفٌا حتى الٌوم ،فٌما استخدمت اللؽة
(ٗٗٔ)
-مزٌد عن صنوؾ المستوطنات األجنبٌة فً مصر فً ذلك العصر انظر :األجانب فً مصر فً األلفٌة األولى قبل المٌبلد ،جونتر فٌتمان ،مرجع
مرجع سابق
(٘ٗٔ)
-قصٌدة ؼربة وحنٌن "السٌنٌة" ،للشاعر أحمد شوقً
()ٔٗٙ
-انظر تعلٌق عبد الجواد مجاهد فً هوامش "األجانب فً مصر فً األلفٌة األولى قبل المٌبلد" ،ص ٕٓٔ
ٓٗٔ
العربٌة كلمة "الجند" ،و"األجناد" ،أما الكلمة المصرٌة القدٌمة للجٌش فهً "مشع"( ،)ٔٗ9وعلى هذا ٌصح حذؾ
كلمة "عسكر وعسكرٌة" من قاموس الجٌش المصري ألنها ال تلٌق به ،وأن ٌعتمد كلمة تلٌق.
وإن كان االستٌطان اإلؼرٌقً أصبح ظاهرة فً األسرة ٕٙبالمرتزقة ،إال أنه كان له بذرة مُرَّ ة هً التً
فتحت باب مصر للمرتزقة ،وهً أن اإلؼرٌق ،وخاصة من أهل "مبلطٌة" انتشروا فً الدلتا من أٌام القرن الثامن
ق .م ،أي قبل األسرة ٕٙبقلٌل ،حٌن أخذوا ٌمدون أنوفهم إلى مصر للؽرؾ من خٌراتها الوفٌرة خبلل الهجرات
اإلؼرٌقٌة التً وزعت نفسها على ببلد حوض البحر المتوسط ،ونزلوا على المدن الواقعة على ساحل البحر قرب
أبو قٌر ،وتمددوا بالتجارة إلى ساٌس فً محافظة الؽربٌة حتى اتخذوا فٌها سوقا( )ٔٗ8أؼروا فٌه بعض أهل الؽنى
ببضاٌعهم الؽرٌبة وأسالٌبهم فً جنً الربح السرٌع ،ومن السلع التً روجوا لها فٌما ٌبدو المرتزقة من قومهم؛
كما كان َّ
الجبلبون ٌجلبون الممالٌك فً عصور الحقة ،مع ما لهذا من أهمٌة فً إشعار هإالء المهاجرٌن بالقوة
حٌن ٌصبح قومهم أصحاب السبلح فً مصر.
وٌبدو أن التجار اإلؼرٌق وقتها لم ٌلفتوا النظر لخطرهم بقلة عددهم ولرضاهم بالقلٌل ،فؤخذوا فرصة االنتشار
حتى اؼتنوا بالكثٌر وتبادلوا المنافع مع الحكام ،وتسلموا مقالٌد الحرب واالقتصاد ،بتعبٌر عبد العزٌز صالح(،)ٔٗ9
وشجع التجار من كل األجناس فً مصر شراهة االستهبلك لسلع ؼٌر ضرورٌة ٌستوردها محتلوها فً مقابل
تصدٌر السلع الحٌوٌة للشعب ،وأسسوا وكاالت أجنبٌة إلدارة التجارة عبر المدن والموانً الساحلٌة ،وهً الشكل
األول لما ٌُعرؾ حالٌا باسم الشركات المتعددة الجنسٌات ،والمناطق التجارٌة والصناعٌة األجنبٌة.
وبحسب جرٌمال ،قامت العبلقات الدبلوماسٌة بٌن مصر والٌونان -عبر المرتزقة والتجار اإلؼرٌق-
على أسس اقتصادٌة راسخة ،فصدرت مصر الؽبلل وورق البردي وأدخلت إلٌها الٌونان أولى الوكاالت
التجارٌة الدولٌة مع قدوم الملٌتٌٌن الذٌن استقروا عند مصب الفرع البولبٌتً للنٌل(ٓ٘ٔ).
وحٌن تنؽرس أقدام هذا النوع من الشركات والتجارة فً بلد فإن المال هو سٌدها ومحركها ،ال ٌهمها ما
تحتاجه حقا البلد من سلع ،وال ٌوجد عندها قٌمة اسمها "الصالح العام" ،أو "صالح الشعب" ،التً ال تهتم بها
إال الحكومات الوطنٌة؛ ولذا ففً ذلك الزمن كانت المرة األولى التً ٌتم فٌها تصدٌر البردي بكثافة رؼم أنه
سلعة اس تراتٌجٌة فً مصر ،وهً الوحٌدة التً تنتجه فً العالم؛ ما أدى إلى ارتفاع أسعاره ،وصعوبة
وصوله إلى أٌدي المصرٌٌن ،وهذا بعد أن تم تصدٌر القمح بكثافة إلى الٌونان الستٌراد كمٌات ضخمة من
الفضة وتحوٌلها لعملة.
Alan Gardiner, Egyptian grammar, ٖ edition, Griffith institute Ashmolean museum, Oxford, ٕٓ9 -
()ٔٗ9
()ٔٗ8
-انظر مقدمة أحمد بدوي لكتاب "هٌردوت ٌتحدث عن مصر" ،مرجع سابق ،هامش ص ٕٗ
()ٔٗ9
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،عبد العزٌز صالح ،مرجع سابق ،ص ٕٔ8
(ٓ٘ٔ)
-انظر :تارٌخ مصر القدٌمة ،جرٌمال ،مرجع سابق ،ص ٗ٘9
*** هذه الوكاالت ستستمر فً التحكم فً الصادر والوارد فً السوق ا لمصري وملك للمحتلٌن حتى تتمصر ألول مرة فً التارٌخ سنة ٔ9٘7بقرار
من ثورة ٖٕ ٌولٌو بعد ثبوت إضرارها باالقتصاد المصري واحترافها تهرٌب األموال كما سنرى فً الجزء الثانً.
ٔٗٔ
فاالستعانة بالمرتزقة بهذه األعداد تحمٌل شدٌد على المٌزانٌة وعلى الشعب المصري ،ألن أجورهم
باهظة ،ونظام العملة انتشر فً العالم ،والمرتزقة ٌؤخذون مرتباتهم بالعملة ،فص َّدرت الحكومة القمح إلى
الٌونان لتؤخذ محله الفضة وتقدمها عملة للمرتزقة(ٔ٘ٔ) ،وهكذا انتفعت الٌونان بؤن تخلصت من المشاؼبٌن
والمتصارعٌن فٌها باستٌطانهم فً مصر ،وبإرسال آخرٌن كمرتزقة ،وبالحصول على القمح المصري
مقابل تصدٌر الفضة لتتحول إلى عملة ٌقبضها المرتزقة الٌونان فً مصر ...داٌرة مؽلقة المنافع للٌونان.
رؼم ذلك فضَّل بسماتٌك واألسرة الصاوٌة عموما (نسبة إلى اتخاذها مدٌنة صا الحجر "ساٌس" عاصمة
لها) االستعانة بهإالء المرتزقة عن أن ٌستعٌنوا بالمصرٌٌن؛ خوفا من أن ٌطردوهم فً ٌوم من األٌام نظرا
ألصولهم األجنبٌة التً ظلوا ٌرعونها ،وظل المصرٌون ٌذكرونها لهم.
وكما أقام الجنود المرتزقة فً دمٌاط وفً منؾ ،خصص حكام مصر مدٌنة نقراطٌس (نقراش حالٌا
بالبحٌرة) شمال ؼرب الدلتا مركزا إلقامة التجار اإلؼرٌق ،أي صار فً مصر مستوطنات تجارٌة مؽلقة
على المستوطنٌن األجانب ،بعدما صار فٌها مستوطنات للمقاتلٌن المرتزقة.
وإلى جانب هذا النوع الجدٌد من التجارة ،أدخل المستوطنون األجانب إلى مصر ،ألول مرة ،نظام الربا ،بما
ٌعكسه من معانً انعدام الرحمة والتكافل بٌن الناس ،وبما فٌه من دوامة استنزاؾ تعصر الناس عصرا.
وبدا أن الربا وصل لمصر مع ما وصلها من استٌطان إؼرٌقً وٌهودي وؼزو فارسً بشكل خاص ،وذلك أن
ب نوك الربا والرهونات ظهرت فً ببلد النهرٌن (العراق) ،قبل ظهورها فً مصر ،واتخذ الٌهود فً بابل حٌن
لجؤوا بعد األسر البابلً من نظام إقراض المزارعٌن والمبلك أسرع وسٌلة للتربح ،بل وللسٌطرة على االقتصاد
البابلً ،وقٌل إن إفقار المبلك والمزارعٌن وجمع الفضة واألموال فً ٌد المستوطنٌن الٌهود متفق علٌه مع
الفرس اإلخمٌنٌٌن لبلنتقام الٌهودي من بابل من ناحٌة ،وإلضعافها لصالح سقوطها فً الؽزو الفارسً من ناحٌة،
وبدأت الفوابد البنكٌة فً عهد الملك نبوخذ نصر الثانً بنسبة ٓٔ ،%ٕٓ -وبعد التمكٌن وصلت إلى ٓ،%9
وظهرت الرهونات التً ٌستحوذ بها الٌهود ع لى األراضً والعقارات فً حال عجز صاحب الرهن عن السداد،
وعقب احتبلل الفرس لبابل اشتركوا مع الٌهود فً نظام البنوك الربوٌة الستنزاؾ الشعوب التً ٌحتلونها،
واشتهر منها بنك بٌت عابلة أجٌبً وبنك عابلة موراشو(ٕ٘ٔ).
وانتقلت هذه المعامبلت مع الٌهود واإلؼرٌق إلى مصر ،وانتعشت بعد الؽزو الفارسً حتى الرومانً ،وٌمكن
التؤرٌخ بها -إضافة للجزٌة والضراٌب الضخمة واحتكار المحتلٌن والمستوطنٌن تملك األرض -لئلفقار الجذري
للمصرٌٌن الذي سٌصل إلى أقصى مداه فً القرن ،ٔ9حتى أنك حٌن تنظر إلى المصرٌٌن الحقٌقٌٌن وقتها تظنهم
جمٌعهم أقل من العبٌد فً ملبسهم ومسكنهم ومؤكلهم واستؽبلل المستوطنٌن لهم فً السُخرة التً تفترسهم افتراسا.
(ٔ٘ٔ) -انظر :مصر من اإلسكندر األكبر حتى الفتح العربً ،مصطفى عبادي ،مكتبة األنجلو المصرٌة ،ص ٖٔ -9
(ٕ٘ٔ) -مختصر تارٌخ العراق ،علً شحٌبلت وعبد العزٌز إلٌاس الحمدانً ،ج٘ ،طٔ ،دار الكتب العلمٌة ،بٌروت ،ٕٕٓٔ ،ص 8ٖ -99
ٕٗٔ
❻ -تصفٌة الدٌانة المصرٌة
وعن استمرار التؤثٌر المخرب لؤلؼراب على دٌن مصر فقد بالؽوا فً االهتمام بقشوره وتقدٌس
الحٌوانات ،فاؼتالوا روحه ،وتركوه فً شكل الخرافات التً تندر بها الرحالة والمإرخون الحقا.
ً
مفرطا بالدٌن وفً ذلك ٌقول صالح" :كعادة الحكام ذوي األصل الخلٌط ،أظهر ملوك العصر اهتمامًا
ومعابده ،بل وبسخافات لم ٌكن لها من قبل ؼٌر ظبلل خفٌفة ،ومنها شدة اهتمامهم بعجول المعبود حاب
"أبٌس" ودفنها فٌما عرؾ باسم سٌرابٌوم سقارة ،وسمحوا بتشٌٌد مبان جدٌدة فً المعابد إلله الدولة آمون
شؤنهم شؤن سابقٌهم ،ولو أنها لم تبلػ فً روابها وفخامتها ما بلؽته معابد الدولة الحدٌثة(ٖ٘ٔ)".
وبحسب أستاذ المصرٌات آالن جاردنر فإن تفشً عبادة الحٌوانات وقتها خلق ظاهرة أخرى هً أنه
"كانت األقالٌم المتجاورة تحارب بعضها بعضا دفاعا عن حٌوانها المفضل المرموق"(ٗ٘ٔ) ،وهو ما ٌمكن
وصفه بتفشً الفتن الطابفٌة والدٌنٌة بتشجٌع من الكهنة األجانب بشكل لم تعتده مصر.
كما لفت إلى أن حكام وكهنة األسرة ٕٕ توارثوا -حتى من قبل أن ٌسقط عرش مصر فً أٌدٌهم -بعض
المعابد ومهنة الكهانة بؤعلى مراتبها فً أهناسٌا ؼرب بنً سوٌؾ وفً مدٌنة بالوجه القبلً ،ومنهم عٌلة
شاشنق ،مستشهدا بنصوص تحمل أسماء أشخاص أجانب مثل حاربسون ونمرات (نمرود) وبكن بتاح
ٌحملون فٌها ا أللقاب الكهنوتٌة ،وبعضهم ٌحمل بجانبها ألقاب "ربٌس الجٌش كله" ،و"الربٌس األكبر
لؤلجانب" توارثوها من عدة أجٌال سابقة ،هذا بخبلؾ تولً أسرة شاشنق وؼٌرها بعد أخذهم عرش مصر
منصب ربٌس كهنة آمون فً معابد الكرنك نفسها -أعلى سلطة دٌنٌة فً الببلد -متوقعا أن هإالء هم ذرٌة
أسرى الحرب والقباٌل التً استوطنت الببلد فً زمنً مرنتباح ورمسٌس الثالث(٘٘ٔ).
وال ٌخفى ما ٌمكن أن تكون هذه األٌادي البربرٌة الجاهلة بالدٌن المصري قد خرَّ بته فٌه عن قصد أو
ؼٌر قصد ،وما أفرؼته فٌه من عقابدها القبلٌة وروحها القاسٌة ،وتوظٌفها إٌاه لخدمة مصالحها ،ومحاربة
أي مقاومة مصرٌة.
كذلك خلط الملوك األجانب بٌن منصبهم السٌاسً وبٌن المنصب الدٌنً بؤن أصبح أحٌانا الملك هو أٌضا
ربٌس كهنة آمون ،وهذه مخالفة صرٌحة لنظام الحكم فً مصر ،وفً نفس الوقت كثرت -بحسب جاردنر-
ظاهرة اللجوء إلى المعبد الستشارة "الوحً" فً األمور الدنٌوٌة للناس والحكومة ،وتعٌٌن كبار الموظفٌن،
والفصل بٌن المتخاصمٌن ]كؤنه ال ٌوجد دولة من أساسه[ وذلك بؤن ٌسؤل الكاهن األكبر تمثال اإلله ثم
ٌؤخذ "الوحً" منه وٌجٌب بها السابلٌن( ،)ٔ٘ٙوهً وسٌلة سهلة التخاذ قرارات سٌاسٌة حساسة تعجز أمامها
المعارضة الشعبٌة.
(ٖ٘ٔ)
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٖٕٙ
(ٗ٘ٔ)
-مصر الفراعنة ،آالن جاردنر ،ترجمة نجٌب مٌخابٌل إبراهٌم ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،ٔ99ٖ ،ص ٖ88
(٘٘ٔ)
-نفس المرجع ،ص ٖٖ٘٘٘9 -
()ٔ٘ٙ
-انظر :نفس المرجع ،ص ٖٖ٘
ٖٗٔ
وعلى حس هذا التفشً لفكرة "الوحً" و"التنبوءات" ،ربما قام معبد آ ّمون الشهٌرة فً واحة سٌوة ،التً
ٌرى فٌتمان وآخرون أنه كان تحت سٌطرة قباٌل أجنبٌة جاءت من خلؾ الحدود الؽربٌة ،وأصبح له سمعة
عالمٌة ،حتى زاره فٌما بعد اإلسكندر األكبر لٌدله "الوحً" على من هو أبٌه( ..)ٔ٘9وما أوسعه من مصدر
رزق للقابمٌن علٌه ،فكان ٌُدار بعقلٌة العرَّ افٌن ال أصحاب دٌن راسخ.
وسعت األسرة ٕٕ إلى القٌام بؤعمال تدعم حكمها وملكها وما تؤمله من "شرعٌة" عند أهالً الببلد،
فجردت حمبلت عسكرٌة إلى فلسطٌن ،وتوددت إلى آمون بمشروعات إنشابٌة فً معابد الكرنك ،وأحٌت
الروابط التجارٌة مع جبٌل باعتبارها المنفذ التقلٌدي لتجارة مصر(.)ٔ٘8
ورؼم ذلك ،حصلت انتفاضات فً واسط (طٌبة) ضد حكم شاشنق فً األسرة ٕٕ كما قامت ضد األسرة
ٕٔ ،ولكن جاء رد فعل حكام األسرة ٕٕ على ثورات طٌبة أعنؾ ،فخبلل الثورات التً اشتعلت فً عهدي
"وسركون" الكاهن األكبر وشاشنق الثالث اشتدوا فً إخمادها حتى ألقوا بعض زعمابها فً النار(.)ٔ٘9
هذا االحتبلل تصفه كتب علماء المصرٌات أحٌانا باالحتبلل الكوشً وأحٌانا باالحتبلل األثٌوبً وأحٌانا
بالنوبً ،وهو خلط واضح ال ٌراعً الفروق بٌن هذه المسمٌات والمناطق التً تحملها قدٌما وحالٌا.
وكلمة كوش تشٌر فً النصوص المصرٌة إلى ما بعد الشبلل الثانً (بعد ودادي حلفا) باتجاه الجنوب،
إلى ما وراء ذلك من ببلد الزنج ،وال تضم النوبة التً نعرفها فً مصر التً أسماها األجداد "واوات"
و"تاستً" ،بحسب عبد العزٌز صالح ،وعبد المنعم أبو بكر ،ولم ٌظهر اسم "النوبة" إال بعد االحتبلل
البطلمً ،وبمفهوم مختلؾ ٌخلط بٌن ما ٌخص مصر وما ٌخص كوش(ٓ.)ٔٙ
وفً أزمنة الحكم المصري الخالصة مرت العبلقات بٌن كوش وبٌن مصر بفترات من نار وأخرى من
سبلم ،وأبعد إشارات إلٌها هً محاوالت الؽزو الدابمة من القباٌل الكوشٌة للحدود المصرٌة الجنوبٌة ،وهو
ما جعل حكام األسرة ٕٔ مثبل ٌجردون إلٌها الحمبلت لتؤدٌبها وردعها ،حتى أقاموا حصون سمنة عند
الشبلل الثانً ،وحرَّ موا على الكوشٌٌن دخول مصر إال للتجارة فً سوق أسوان ثم العودة لببلدهم.
كذلك تاجرت مصر مع ببلد أفرٌقٌا الشرقٌة ،خصوصا "بونت" بداٌة من الدولة القدٌمة كما هو معروؾ
عن الرحبلت التجارٌة أٌام الملك ساحو رع وصورها على جدران معبده فً أبو صٌر فً األسرة ٘ ،ثم
()ٔ٘9
-مصر واألجانب فً األلفٌة األولى قبل المٌبلد ،فٌتمان ،مرجع سابقٗٙ -ٗ٘ ،
()ٔ٘8
-انظر :تارٌخ مصر القدٌمة ،جرٌمال ،مرجع سابق ،ص ٗٔ9 -ٗٔ8
()ٔ٘9
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،د .عبد العزٌز صالح ،مرجع سابق ،ص ٖ ، ٕٙوببلد النوبة :تارٌخها وآثارها ،د .عبد المنعم أبو بكر،
المجلة ،سٖ ،ع ،ٕ8الهٌبة المصرٌة العامة للتؤلٌؾ والنشر ،القاهرة ،ٔ9٘9 ،ص ٕٗ
(ٓ)ٔٙ
-انظر :الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،ص ٔ9ٙ
ٗٗٔ
صورتها حتشبسوت على معبدها "الدٌر البحري" باألقصر فً األسرة ،ٔ8وإن كانت معظم الرحبلت إلى
هناك تتم عبر البحر األحمر(ٔ ،)ٔٙولٌس التوؼل برا داخل أفرٌقٌا لتجنب هجمات قباٌلها.
وحٌن وصلت عداوة كوش منتهاها بتحالفها مع الهكسوس ضد مصر فً محنة االحتبلل ؼزتها مصر
وحكمتها حوالً ٓٓ٘ سنة بداٌة من عصر األسرة ،ٔ8فتشربت كوش من ثقافة مصر حتى فً العبادة والعمارة
والمبلبس ،وأقامت مصر هناك معابد آلمون ،منها معبد الصلب أٌام أمنحتب الثالث.
وحٌن اشتد الصراع على النفوذ بٌن أمراء الحكام الخاسوتٌٌن فً األسرة ٕٗ وتوزعت مصر بٌنهم إلى
مناطق نفوذ وإمارات (ٗ إمارات) على رأس كل منها حاكم مستقل ،ال جٌش واحد وال حكومة واحدة وال قلب
واحد ،فتعطلت وسابل الري ،وانعدم األمن فً الطرق حتى أصبح الناس ال ٌؤمنون على حٌاتهم حٌن ٌنتقلون من
مدٌنة إلى مدٌنة(ٕ ،)ٔٙفتجرأت كوش على احتبلل مصر واجتاحها حكام نباتا -عاصمة كوش -معتبرٌن أنهم
"أحق" بمصر من الؽزاة الخلٌط القادمٌن من ثقافات وبٌبات بعٌدة ،ألنهم -أي الكوشٌٌن -كانوا تحت الحكم
المصري واألقرب لثقافته ،وألنهم ٌقدسون آمون ،وقاد "بً عنخً" الكوشً الؽزو فً القرن 8ق .م.
وانتصر "بً عنخً" على خصومه ،وأعلن نفسه ملكا لمصر ،وأسس األسرة ٕ٘ ،وألسباب ؼامضة
أبقى على أمراء الحكم الخاسوتٌَّمً السابق فً أماكنهم ،فاستمرت األسرة ٕٗ بالتزامن مع األسرة ٕ٘،
وبذلك صارت مصر محتلة احتبلال مركبا ألول مرة.
ورؼم استمرار االحتبلل الكوشً ٓ 9سنة ،إال أنه لم ٌترك أثرا أو نتاٌج ُتذكر ،وظل الحاكم الكوشً فً
عاصمته نباتا ،وترك األمور للمحتلٌن السابقٌن له ٌحكمون باسمه ،وانعكس التؤثٌر األكبر لثقافة مصر على
الكوشٌٌن ،خصوصا فً الرسوم والنقوش ،ورسم حكامهم متزٌٌن بالزي والتاج المصري ،وبناءهم أهرام
حضارة مروي فً شمال السودان على نمط مقابر كبار رجال الدولة المصرٌة الهرمٌة الصؽٌرة المبنٌة فً
األسرة ٔ8فً واسط (طٌبة)(ٖ.)ٔٙ
وفً ذات الوقت كان نجم آشور ٌصعد فً ببلد النهرٌن ،ووصلت بفتوحاتها إلى فلسطٌن ،واستنجدت
فلسطٌن بحكام األسرة ٕٗ واألسرة ٕ٘ الذٌن قدموا لها المدد ،وفتحوا أبواب مصر لبلجبٌن الفلسطٌنٌٌن
الفارٌن من الؽزو اآلشوري ،وساعدوا حاكم ؼزة البلجا فً مصر ضد آشور ،وذلك دون أن ٌقدر هإالء
الحكام العواقب ،أو ٌلتفتوا إلى عنفوان آشور(ٗ )ٔٙبتعبٌر صالح.
ورأى حكام آشور أن مصر بذلك صارت خطرا علٌهم بدعم حكامها ألمراء الشام ضدهم ،فقادوا حمبلت
(ٔ)ٔٙ
-انظر :نفس المرجع ،ص ٕٔ9وٕٓ9
(ٕ)ٔٙ
-انظر :هٌردوت ٌتحدث عن مصر ،مرجع سابق ،مقدمة أحمد بدوي ،هامش ص ٖ9
(ٖ)ٔٙ
-للمزٌد أنظر :األهرامات المصرٌة ،أحمد فخري ،مكتبة األنجلو ،القاهرة ،ٔ9ٖٙ ،ص ٖ٘ٓ -ٖٗٙ
(ٗ)ٔٙ
-انظر :الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٕٙ8 -ٕٙ9
٘ٗٔ
لؽزو مصر فً زمن الحكام اآلشورٌٌن سرجون وسنحرٌب وأسرحدون ،فشلت كلها عدا ؼزوة أسرحدون
ٔ ٙ9ق.م ،خاصة بعد أن أنقذته من عطش الصحاري جماعة من البدو حملوا له الماء فوق الجمال وعملوا
أدالء لجٌشه داخل سٌناء ،وعبر فٌها على طرٌق حور (حورس) الحربً العظٌم إلى داخل الوادي ،هذا
الطرٌق الذي ظ َّل طوال عصور الحرٌة طرٌقا باتجاه واحد ،من مصر إلى الشرق ،تسٌر علٌه حمبلت
مصر لردع خصومها فً الشام ،وحٌن سقط الصولجان من ٌد مصر وانزوت ماعت ؼاضبة من إهمالها
تحول الطرٌق إلى مسار عكسً ،من الشرق إلى مصر ،فانتهكته جٌوش آشور الحتبلل مصر ثم جٌوش
الفرس فالٌونان فالعرب واألٌوبٌٌن والعثمانلٌة.
وهزم جٌش آشور قوات طهرقا الكوشً ،ونهب منؾ ،وأسر ولً العهد وعددا من أفراد البٌت الكوشً،
وهنا انضمت قباٌل خاسوتٌمٌة إلى آشور ضد طهرقا للتخلص من الكوشٌٌن ،ولكن اندارت آشور ضد
هإالء الحكام بعد أن تحسست أنهم عادوا للتحالؾ مع طهرقا ،وٌتفاوضون معه ضدها ،فقتلتهم جمٌعا ،عدا
أمٌر واحد اسمه نكاو حاكم ساٌس (فً محافظة الؽربٌة) ،والذي سٌإسس األسرة .)ٔٙ٘(ٕٙ
تقع آشور فً شمال العراق الحالٌة ،وذكرتها النصوص المصرٌة ألول مرة فً عهد تحوتمس الثالث
باسم "إسور" ،بؤن أمٌرها أهدى إلٌه كمٌة من البلزورد الحر وأحجارا كرٌمة( )ٔٙٙضمن المتقربٌن من
مصر باعتبارها الدولة األقوى فً العالم القدٌم وقتها ،ثم ظهرت حٌن أرادت أن تحظى بصفة مملكة عظٌمة
بٌن الدول فً الزمن المعاصر إلخناتون ،وتطلع ملكها آشور -أوبالٌط حوله لٌتواصل دبلوماسٌا مع الدول
الكبرى المحٌطة لٌعترفوا بؤن بلده أصبحت كٌان دولً معترؾ به ،فكتب إلى إخناتون ٌقول" :بالرؼم من
أنه لم ٌسبق ألحد من أسبلفً الكتابة إلى ملك مصر ،ها أنذا أكتب إلٌك الٌوم ،وأرسل إلٌك رسولً لزٌارتك
وزٌارة بلدك ،وأبعث إلٌك أٌضا كهدٌة عربة رابعة وجوادٌن وشجرة نخٌل من البلزورد النقً".
ولم ٌطلب أن ترد له مصر الهداٌا بهداٌا أخرى كما هً عادة الحكام العظام مع بعضهم فً ذلك الوقت؛
ما ٌعنً إحساسه بؤنه أقل من أن ٌطلب من حاكم مصر أن ٌرد له الهدٌة ،وأن رسالته هً جس نبض
لموقؾ مصر منه ،بحسب تحلٌل ترٌفور براٌس فً عرضه للرسابل المتبادلة بٌنهما.
تبادل إخناتون معه المراسبلت ،ولما اعترؾ به ملكا هاما ،تجرأ ملك آشور وصار ٌتحدث مع أحد خلفاء
إخناتون ،ومرجح أنه توت عنخ آمون ،الند بالند ،مستؽبل ربما التراجع الذي ضرب مصر بعد أزمة دعوة
إخناتون؛ فٌقولٌ" :مكن ألي أمرئ فً بلدكم أن ٌلتقط الذهب كما ٌلتقط التراب ،وتحصلون علٌه بكل
سهولة ،لماذا تشح فً وهبه؟ ،أنا أشٌد اآلن قصرا جدٌدا ،أرسل إلً بقدر ما تستطٌع من ذهب حتى ٌصبح
(٘)ٔٙ
-انظر :تارٌخ مصر القدٌمة ،مرجع سابق ،ص ٔ٘ٗ ،ٕٗ٘ -والشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،ص ٕٔ9
()ٔٙٙ
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٗ9ٙ
ٔٗٙ
()ٔٙ9
القصر البقا".
وبالتزامن مع اختفاء الجٌش المصري ومجًء االحتبلل الخاسوتٌمً والكوشً ،فردت آشور قلوعها
الحتبلل ما حولها ،وتحقق لها احتبلل الشام ثم مصر بعد جوالت مع مصر وقتها من الهزٌمة والنصر.
وآشور من االحتبلالت القلٌلة التً لم ترسل جالٌة كبٌرة لتعٌنها فً احتبلل مصر ،لكنها اعتمدت أكثر
على المستو طنٌن األجانب السابقٌن لها ،ولهذا ربما لم تتمكن قبضتها طوٌبل من مصر ،وكانت من أقصر
االحتبلالت ،ولم تترك تقٌحات ثقافٌة وبشرٌة تدل على وجودها طوٌبل.
باالحتبلل اآلشوري حُ كِمت مصر ألول مرة من خارج حدودها ،فالهكسوس وقباٌل شعوب البحر
حكموها من الداخل؛ ولهذا تبعاته ،منها أن حجم النهب المنظم والضرابب سٌكون أفظع عشرات المرات
لنقل أكبر حجم من ثروة البلد للخارج ،وهذه أٌضا أول مرة ٌجري نقل ثروة مصر للخارج ،إال إذا كان
المحتل الهكسوسً ٌرسل منها نصٌبا للقباٌل التابعة له فً الشام والمحتل الخاسوتٌمً ٌرسل منها إلى القباٌل
التابعة له عند الحدود الؽربٌة.
وأفظع ما فعلته آشور فً مصر ،هو ما لم ٌجرإ احتبلل فٌما سبق على فعله ،أن ملكها آشور بانٌبال أرسل
جٌوشا جدٌدة سنة ٗ ٙٙق.م إلخماد الثورة المشتعلة ضد االحتبلل اآلشوري ،واجتاحوا واسط (طٌبة) ،العاصمة
المطهرة والمقدسة التً ظلت مصانة من أي هجمات أجنبٌة على معابدها ،فسلبها الؽزاة ،ونهبوها وأشعلوا
النٌران فٌها ،وعاثوا فسادا ،وسطوا على الكنوز التً تراكمت وحفظها الناس فً المعابد على امتداد قرون طوٌلة
بدافع من الورع والتقوى( ،)ٔٙ8وهذا هو أسلوب آشور المشهور مع الجمٌع.
وٌعد نهب طٌبة "نذٌر بانتهاء عالم بؤسره ،فقد انهارت أسطورة حرمة معابد مصر تحت ضربات معاول
عالم شرقً همجً شرع ٌبث الرعب والخوؾ فً قلوب سابر الشعوب الساكنة فً المنطقة الممتدة من آسٌا
الصؽرى حتى ضفاؾ نهر النٌل"( ،)ٔٙ9بتعبٌر جرٌمال.
وصار لسقوط (واسط) طٌبة على هذا النحو دوٌه فً العالم كله.
وعبَّر النبً الٌهودي ناحوم عن هول صدمة العالم بسقوط طٌبة حٌن قال وهو ٌنذر نٌنوى عاصمة آشور
()ٔٙ9
-رسابل عظماء الملوك فً الشرق األدنى القدٌم ،ترٌفور براٌس ،ترجمة رفعت السٌد علً ،دار العلوم للنشر والتوزٌع ،طٔ ،القاهرة،ٕٓٓٙ ،
ص ٖٔ8 -ٖٔ9
()ٔٙ8
-تارٌخ مصر القدٌمة ،مرجع سابقٗ٘9 ،
()ٔٙ9
-انظر :نفس المرجع ،ص ٘٘ٗٗ٘ٙ -
ٔٗ7
بؤنها لن تكون أعز من "نو آمون" ،أي طٌبة ،المستقرة بٌن األنهار ،تحمٌها المٌاه ،البحر حصنها ،وٌسورها
البحر ،وٌدافع عنها المصرٌون الذٌن ال حصر لهم والكوشٌون والقوط واللٌبٌون ،ومع ذلك دمرت وسبٌت،
وسحق أطفالها عند منعطفات الشوارع ،وألقوا القرعة على أشرافها وقٌد عظماإها باألؼبلل(ٓ.)ٔ9
روت المتون اآلشورٌة على لسان ملكها آشوربانٌبال فً حملته على مصر" :ؼنمت من طٌبة ؼنابم تجل
عن الحصر ،ونزعت مسلتٌن ضخمتٌن من قواعدهما ،وكانا مؽشٌتٌن بالبرونز المذهب ،وتبلػ زنة كل
منهما ٕٓٓ٘ تالنت ،وأمرت بنقلهما إلى آشور" ،وتحدث متن آخر عن أنه سجل انتصاراته وانتصارات
ً
تمثاال من تماثٌل الملوك المصرٌٌن ،وربما أمر بنقل بعضها أٌضً ا إلى آشور(ٔ ،)ٔ9وهذا أول أبٌه على ٘٘
حدٌث عن نهب ونقل مسبلت مصر وتماثٌل حكامها إلى الخارج.
واستهزا ًء بالدٌن المصري وهوٌة ؼٌرهم من الحضارات ؼٌَّر اآلشورٌون أسماء مدن مصرٌة إلى أسماء
معبودات آشورٌة مثل :آشور ،وسٌن ،ومردوك ،وعشتار ،وصوروا طهرقا الملك الكوشً على مصر حٌنها
جاثًٌا أمام ملك آشور مخزومًا من أنفه بحبل ٌرجو عفوه على نصب أقاموها فً أنحاء دولتهم ،مع أن طهرقا لم
ٌقع فً قبضة ملك آشور إطبل ًقا ولم ٌهادنه(ٕ.)ٔ9
ولم ٌكتؾ ملك آشور بما ؼنمه من كنوز مصر "مما ال مثٌل له فً آشور ومما أبدعت صناعته" على حد قوله
هو نفسه ،وإنما طمع فً أن ٌجعل مهارة المصرٌٌن طوع ٌمٌنه فً آشور نفسها ،فؤمر بترحٌل جماعات من
األطباء والبٌطرٌٌن والصاؼة والكتبة والموسٌقٌٌن ،بل ومن صانعً النعال وصانعً الجعة (البوظا المصرٌة)
والخبازٌن ومن لؾ لفهم إلى عاصمته ،وكؤنما وجد فً مهارتهم ً
كنزا ال تقل قٌمته عن كنوز القصر الملكً ،أو
رأى فً إبعادهم عن مصر حرما ًنا لها من أدوات حضارتها التً تمٌزت بها على عالمها القدٌم(ٖ.)ٔ9
وهذه أول مرة ٌتم فٌها نهب المعٌن الحضاري لمصر ممثبل فً فنانٌها وصناعها إلى خارج الببلد وتخرٌب
صناعات مصر ،وهو ما سٌتكرر فٌما بعد فً االحتبلالت الفارسٌة والعربٌة والعثمانلٌة.
أمام هذا كله تفجرت ثورات مصرٌة ضد االحتبلل اآلشوري ،وقع عبء مواجهتها على الملك اآلشوري
(ٓ)ٔ9
-انظر :الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،طبعة ٖ ،ٔ99ص ٖ ،ٕ9ٗ -ٕ9و طبعة ٓ ،ٔ98ص ٕٗ9
(ٔ)ٔ9
-المرجع السابق ،ص ٕٗ9
(ٕ)ٔ9
-انظر :الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٕٔ9ٕ -ٕ9
(ٖ)ٔ9
-انظر :نفس المرجع
ٔٗ8
الجدٌد آشوربانٌبال ،فعبر عن ؼٌظه بقوله" :وصل رسول سرٌع إلى نٌنوى وأبلؽنً النبؤ فؽضبت ج ًّدا لهذه
األحداث واشتعلت نفسً ورفعت كفً إلى آشور وإشتار (عشتار)".
عددا من أمراء الفرات والشام وفلسطٌن على مصاحبته بقواتهم ،وكانوا كما قالفخرج بجٌشه ،وأجبر ً
ٕٕ مل ًكا ،استعان بخبرتهم المبلحٌة وهاجم مصر من البر والبحر ،وتبلقى بقواته مع جٌوش طهرقا فً
معركة وصفتها نصوص آشور بؤنها معركة مكشوفة رهٌبة ،أحرز ملكهم النصر فٌها(ٗ.)ٔ9
لكن بعد فترة عادت الثورة من جدٌد ،فؤعمل الجٌش اآلشوري السٌؾ فً المدن المصرٌة ،ولم ٌستثنوا
ً
واحدا من حكام تانٌس والمدن التً تعاهدت على الثورة ،فشنقوهم على السراٌا ،وسلخوا جلودهم وؼطوا
بها أسوار المدن ،وأرسلوا زعماء الثورة إلى نٌنوى حٌث أهلكوا جمٌعً ا(٘ )ٔ9وهو ما ٌدل على بشاعة ال
ٌحد ها وصؾ من أسالٌب التعامل والحرب الوحشٌة التً اشتهرت بها آشور كؤحد أسلحتها إلرهاب
الخصوم.
وعند وفاة "نكاو" ،اعترؾ اآلشورٌون بابنه بسماتٌك األول ،وعهدوا إلٌه بإدارة البلد التً ٌجهلون لؽتها
وعاداتها وتقالٌدها ،وتفصل بٌنها وبٌن آشور مساحات شاسعة ،شرٌطة أن ٌحول دون حدوث ثورة ضدهم،
واستؽل بسماتٌك هذه الفرصة فً التؽلب على خصومه من أبناء القباٌل الخاسوتٌمٌة المنافسة له فً أترٌب
وأون (عٌن شمس) وفً ؼرب الدلتا وأهناسٌا وؼٌرهم ،حتى سٌطر على طٌبة ذاتها ،وهكذا جمع شتات
الحكم السٌاسً والعسكري فً ٌد حاكم واحد ألول مرة منذ فترة طوٌل بعد طول انقسامات(.)ٔ9ٙ
كما ساعده انشؽال آشور فً صراعها مع عٌبلم (فً إٌران)( )ٔ99فً أن ٌستعٌن بالمرتزقة من اإلؼرٌق،
وكانت تجارة المرتزقة فً ذلك العصر رابجة لكثرة الحروب ،واإلؼرٌق ٌتربعون على عرشها ،فؤؼرق
الجٌش بهم ،واستبعد الكثٌر من خصومه ،فصار الجٌش فً معظمه من المرتزقة ألول مرة ،إلى جانب
بعض أبناء القباٌل التً احتكرته طوٌبل بعد أن أبعدت معظم المصرٌٌن.
طال عهد بسماتٌك أكثر من ٓٗ سنة ،وبعد التحرر من اآلشورٌٌن ،استعاد وحدة الببلد -فً اإلدارة -ألول
مرة منذ عهد األسرة ٕٔ ،وللحفاظ على هذه الوحدة ،ومع انتماء القباٌل الخاسوتٌة التً هو منها ألعراق
مختلفة ،وكذلك المرتزقة الذٌن استعان بهم ،لم ٌجد ؼٌر الحضارة المصرٌة لٌجعل منها مظلة تدعم تلك
الوحدة ،وتقدمه فً ثوب هٌبة حكام مصر األصلٌٌن.
وكان المعتاد فً عصور الحرٌة المصرٌة أنه حٌن تقوم مصر من محنة ،مثل "إزفت" األولى نهاٌة
(ٗ)ٔ9
-انظر الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٖٕ9
(٘)ٔ9
-انظر نفس المرجع ،ص ٕٕ9ٖ -ٕ9
()ٔ9ٙ
-تارٌخ مصر القدٌمة ،جرٌمال ،مرجع سابق ،ص ٗ٘8
()ٔ77
-منذ ذلك الزمان لم ٌنقطع الصراع بٌن المنطقتٌن اللتٌن ُعرفتا فٌما بعد باسم إٌران والعراق حتى اآلن ،ودابما كان له انعكاساته على مصر
بالسلب أو اإلٌجاب ،على حسب وعً حكامها بخلفٌات الصراع الدولً.
ٔٗ9
الدولة القدٌمة أو "إزفت" الثانٌة باالحتبلل الهكسوسً نهاٌة الدولة الوسطى أن تتمخض عن هذه المحنة
تجدٌد للوالدة "وحم مسوت" لدورة حضارٌة مصرٌة جدٌدة تعلن للعالم أن مصر ما زالت تعطً وتقود،
وتشمل هذه الوالدة إحٌاء جذور الدورات الحضارٌة السابقة وأصول حضارة مصر من ناحٌة ،ومن ناحٌة
ثانٌة تتدفق عروق المصرٌٌن بالثقة بعد هزٌمتهم للشر بإنجازات جدٌدة وأفكار إبداعٌة تظهر فً إضافة
ألوان جدٌدة مصرٌة للعمارة والفنون واألدب واللؽة والفكر الدٌنً والزراعة والصناعة وحتى فً موضة
المبلبس والزٌنة واألثاث ،إلخ.
أما فً عهد األسرة ٕٙبعد عبور محنة االحتبلل اآلشوري فكانت "النهضة" مجرد ردة للقدٌم ،كؤنها
صدى صوت له ،مرآة ٌنعكس فٌها شبح الماضً العرٌق ،فانتشر إحٌاء الفنون القدٌمة بؤسلوب التقلٌد
الجامد ،خاصة فً النحت والنقش ،واإلشادة بالقومٌة المصرٌة واالهتمام باللؽة( )ٔ98على طرٌقة تقلٌد
المصرٌٌن فً الدولة القدٌمة الوسطى باعتبارها تعكس "صفاء األصول األولى" ونقاءها قبل تؽلؽل
التؤثٌرات اآلسٌوٌة التً حملتها لمصر رٌاح اإلمبراطورٌة فً الدولة الحدٌثة(.)ٔ99
ولكنها محاولة ببل عصب وببل روح ،فالحرٌة لم تعد لمصر كاملة ،والثقة منقوصة ،والمصري ما زال
محبطا ٌتجرع مرارة استبعاده من مإسسات بلده وإدارتها ورإٌته أراضٌها تتوزع على المرتزقة ،بل ما
انزاح اآلشورٌون والكوشٌون حتى ؼرقت الببلد فً ٌد المستوطنٌن اإلؼرٌق؛ فانعكس الضٌق من سٌطرة
األجانب القدامى والجدد على األعمال الفنٌة ،فبدت -رؼم جودة التقلٌد -كؤنها "مجرد أداء واجب" ،خالٌة من
اإلبداع والتجدٌد والحٌوٌة الذٌن كانوا ٌصاحبون الفن المصري مع كل فترة نهوض ،فٌما ٌفسر باحثون
عملٌة "نسخ الفن القدٌم حرفٌا" بؤنها إحساس ؼرٌزي من الفنانٌن بالتشبث بكل كٌانهم بمبلمح القومٌة
المصرٌة والهوٌة التً بدأت تنفلت من أٌدٌهم وٌهددها التشوٌه األجنبً لكثرة اإلؼرٌق والٌهود والكارٌٌن
والسورٌٌن -إضافة للحاكمٌن األجانب -بمبلبسهم وأسامٌهم ومبلمحهم وعاداتهم وفظاظتهم ولؽاتهم الؽرٌبة
على مصر.
وأمثلة على هذا نقل مناظر حملة القرابٌن من المقابر المصرٌة القدٌمة إلى المقابر الجدٌدة ،وفقرات من
نص وص األهرام ،ونحت التماثٌل على نظام تماثٌل الكتبة المصرٌة القدٌمة ،ونقشوا مبلبس األشخاص على
(ٓ)ٔ8
الجدران بنفس موضتها القدٌمة حرفٌا.
أما لؽة الحٌاة الٌومٌة فؤصابها التؽٌٌر؛ فظهر ما وصؾ بالخط الشعبً "الدٌموطٌقً" وهو اختصار
للخط الهٌراطٌقً ،لٌتناسب مع سرعة إٌقاع الحٌاة وكثرة المعامبلت(ٔ )ٔ8التً تسبب فٌها كثرة الحركة
التجارٌة األجنبٌة فً البلد ،وأفسد هذا الخط جمال الخط المصري ورونقه ،وإن كان فٌه مٌزة وهً أن
الكتابة تتم كما ُتنطق الكلمات تماما ،بعد أن اعتادت الكتابة المصرٌة على إسقاط الضم والفتح والكسر.
()ٔ98
-انظر :الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،عبد العزٌز صالح ،ص ٕ99
()ٔ99
-انظر :تارٌخ مصر القدٌمة ،مرجع سابق ،جرٌمال ،ص ٗٙٓ -ٗ٘9
(ٓ)ٔ8
-انظر :الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٖٕ8ٗ -ٕ8
(ٔ)ٔ8
-اللؽة المصرٌة القدٌمة ،عبد الحلٌم نور الدٌن ،دار األقصى للطباعة والنشر ،ط ،9القاهرة ،ٕٕٓٔ ،ص ٖ9
ٓ٘ٔ
❽ -تربٌة العقارب السود (الٌهود واإلؼرٌق)
بعد ما توفى بسماتٌك خلفه ابنه نٌكاو الثانً الذي واصل حمبلت أبٌه فً الشام ٙٓ8ق.م ،خاصة مع
تصاعد خطر بابل التً سطع نجمها بعد أن أجهزت على آشور بالتعاون مع عدوهم المشترك المٌذانٌٌن
(فً إٌران حالٌا) ،وولت بابل وجهها شطر الشام.
وواجه نٌكاو الثانً الملك البابلً نبوخذ نصر فً فلسطٌن ،وانتصر علٌه نٌكاو حتى سٌطر على أورشٌلم
(القدس) وبات خطرا ٌهدد بابل ،وفً جولة أخرى انهزم نٌكاو ،وسٌطر نبوخذ نصر على أورشلٌم واقتاد
كثٌر من الٌهود إلى ببلده فٌما عُرؾ بالسبً البابلً ،وفرَّ بعض الٌهود وأهل الشام إلى مصر من وجه
البابلٌٌن كبلجبٌن(ٕ ،)ٔ8وهو ما سٌظهر خطره حٌن ٌؽدرون بمصر وٌعاونون الفرس على احتبللها.
تجمدت الحروب الخارجٌة لؤلسرة ٕٙعند هذه النقطة ،وصرفت جهدها للشؤن الداخلً ،وأبرز
مشروعاتها أٌام نٌكاو الثانً محاولة ربط النٌل بالبحر األحمر بقناة مابٌة لتشجٌع التجارة البحرٌة بعد زٌادة
التجار األجانب ،وروى هٌرودوت أن المشروع توقؾ بعد أن استهلك آال ًفا من الرجال خوفا من أن ٌسهل
الؽزو األجنبً -كما سٌستهلك آالفا أخرى فً المستقبل إلعادة حفرها فً ظل االحتبلل الفارسً ،ثم العربً
(خلٌج أمٌر المإمنٌن) ،ثم حفر قناة أخرى أٌام االحتبلل العلوي (قناة السوٌس) -وأوفد بعثة بحرٌة للدوران
حول إفرٌقٌا واستكشافها ،بدأت رحلتها من البحر األحمر ،وروى هٌرودوت أنها تمت فً ٖ سنوات ،ولما
عادت روى رجالها أنهم فً دورانهم حول األرض (أي إفرٌقٌا) ظلت الشمس على ٌمٌنهم ،على عكس ما
خرجوا به ،وهً مبلحظة شك هٌرودوت فً حدوثها ،مع أنها دلٌل صدقهم(ٖ.)ٔ8
وعند هذه النقطة من التارٌخ بدأ ٌظهر الٌهود فً تارٌخ مصر بؤدلة أثرٌة الجبٌن ومرتزقة كؽٌرهم من
جالٌات أجنبٌة فً وقت متؤخر من الزمان هو القرن السابع قبل المٌبلد ،بعد انقضاء أزمنة الحكم المصري
الخالص ،أي لم ٌظهر دلٌل أثري فً مصر حتى اآلن عما ٌخص قصة وجودهم مع موسى ،وال زمن
حدوثها ،وال ما ٌُروى عن قصص تعذٌب فرعون موسى لهم وهروبهم إلى فلسطٌن ،وال من هو فرعون
موسى من األساس.
كانت األسرة ٕٙتدخلت عسكرٌا لعدم سقوط أورشلٌم (القدس) فً ٌد بابل ،وهنا انقسم سكانها إلى
فرٌقٌن ،فرٌق حمد لمصر صنٌعها وتزعمهم صدقٌا ،وفرٌق تزعمه نبً الٌهود إرمٌا لم تلق منه مصر
جزاء وال شكورً ا ،وكان إرمٌا ٌكن الحقد لمصر ،ورؼم ذلك لجؤ إلٌها بعد أن دمرت بابل أورشلٌم ،ولم
ٌحمد لمصر قبولها له الجبا ،بل صاح متنببا بسقوط مصر فً احتبلل جدٌد ،قاببل" :هكذا قال الرب ،لسوؾ
أوقع الفرعون هوفرا بٌن ٌدي أعدابه الذٌن ٌطلبون حٌاته"(ٗ ،)ٔ8وسنتابع بعد قلٌل ؼدر الٌهود بمصر.
وفً عهد واح إب رع "إبرٌس" تسبب اإلؼرٌق فً انقسامات داخل الجٌش وحرب داخلٌة ،وذلك أن قباٌل فً
(ٕ)ٔ8
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٕ8ٔ -ٕ99
(ٖ)ٔ8
-انظر تفاصٌل الرحلة فً نفس المرجع ،ص ٕ99
(ٗ)ٔ8
-انظر :الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٕٓ8
ٔ٘ٔ
لٌبٌا استعانت به ضد جماعات الدورٌٌن اإلؼرٌق الذٌن استوطنوا برقة ،وزاحموا أهلها فٌها ،ونصبوا أنفسهم
سادة علٌها بعد التمكٌن ،وربما لوجود عبلقات قبلٌة ما بٌن هذه القباٌل وبٌن حكام األسرة ٕٙذوي األصول
األجن بٌة أعانهم إبرٌس بقوات تذكر المصادر أنهم مصرٌٌن ،ولكن األرجح أنهم من المتمصرٌن من أبناء قباٌل
الخاسوتٌَّمٌة ،أو خلٌط منهم ومن مصرٌٌن -ولم ٌرسل قوات من المرتزقة اإلؼرٌق حتى ال ٌمٌلوا إلى بنً
جلدتهم المستوطنٌن هناك.
ولكن قوات واح إب رع وقعت فً كمٌن ،و ُقتل معظم أفرادها ،فعاد البقٌة ؼاضبٌن ٌتهمونه بؤنه دبر
هذه الحملة للتخلص منهم فً الجٌش حتى ٌزداد انفرادا بمصر ،وأنه أسرؾ فً احتضان اإلؼرٌق على
حسابهم ،وكان لكل من االتهامٌن نصٌب من الصحة فٌما ٌبدو(٘.)ٔ8
وندب واح إب رع قابد جٌشه أحمس للتفاوض مع الثوار ،ولكنهم اجتذبوه إلى صفوفهم وعهدوا إلٌه
بزعامتهم ،فهاجم بهم واح إب رع وأسره ،وٌبدو أنه أجبره على إشراكه فً الحكم معه ،ثم تجدد القتال
بٌنهما ومات واح إب رع مقتوال.
وأحمس هذا المذكور فً كتب التارٌخ باسم أحمس الثانً ،وسماه اإلؼرٌق "أمازٌس" ،وؼٌر معلوم على
وجه الٌقٌن ما إن كان من بواقً االحتبلل ال َقبلً أم مصري ،وإن كان مٌله كما سنرى لبلستزادة من
اإلؼرٌق بدال من تمصٌر الجٌش قد ٌنبا بؤصله.
وفً نفس الوقت ازداد ضٌق وتبرم المصرٌٌن أهالً الببلد من زٌادة عدد اإلؼرٌق وبقٌة الجنسٌات
المرتزقة؛ ما ٌقلل من فرص إمكانٌة تحرٌرها من السطوة األجنبٌة قرٌبا ،وشاركهم فً هذا التبرم القباٌل
الخاسوتٌّمٌة نفسها التً رأت أن حبل القٌادة والسلطة والثروة ٌنفلت من أٌدٌها لصالح الوافدٌن الجدد.
وٌصؾ هٌردوت الحال بؤن حزازات اإلؼرٌق مع المصرٌٌن أصبحت مشكلة عوٌصة ،وردها إلى
اختبلؾ العقابد بٌن الطرفٌن ،وروى أنه بلػ من أمرها أن المصرٌٌن كانوا ٌؤنفون أحٌا ًنا من تقبٌل إؼرٌقً
أو استعمال أدواته الخاصة(.)ٔ8ٙ
وتؤثرت الروح الوطنٌة فً كبرٌابها ،وحدثت اضطرابات هامة من جانب المصرٌٌن أو المستمصرٌن
ضد التجارا إلؼرٌق المتفرقٌن فً الدلتا ،وأول عمل قام به أحمس الثانً لتجنب تدهور الموقؾ وإرضاء
الشعور الوطنً أن طلب من اإلؼرٌق أن ٌستقروا فً أراضً محدودة لكً ال ٌدخلوا فً صراع مفتوح مع
المصرٌٌن ،واختار لهذا المكان نقراطٌس )نقراش أو كوم جعٌؾ بالبحٌرة) ،وسمح للتجار اإلؼرٌق ببناء
مدٌنة خاصة لهم فٌها ،أصبحت مركزا لعبلقاتهم التجارٌة مع مصر ،فكانت البضابع تؤتً من البحر
المتوسط إلٌها عن طرٌق البحر( ،)ٔ89وقامت هذه المدٌنة بالدور الذي قامت به اإلسكندرٌة بعد ذلك بـ ٕٓٓ
عام ،وأنشؤ فٌها اإلؼرٌق معابد ٌونانٌة لتؤكٌد هوٌتهم ،مثل معابد هٌرا وأبوللو وأفرودٌتى.
(٘)ٔ8
-انظر :نفس الرجع ،ص ٕٔ8
()ٔ8ٙ
-المرجع السابق ،ص ٕٔ8
()ٔ89
-انظر رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة ،رمضان عبده علً ،الجزء الرابع ،ص ٖٖٖ
ٕ٘ٔ
وإن كانت خطوة أحمس الثانً فً تخصٌص مستوطنات لئلؼرٌق فً منؾ ونقراش ساهمت فً
استمرار الفصل بٌنهم وبٌن أهالً الببلد ،إال أنها جاءت على ؼٌر صالح الببلد فً المستقبل؛ حٌث كرَّ س
هذا قوتهم ،واتخذوها معاقل لهم ساعدتهم فً السٌطرة على اقتصاد الببلد ،والتعاون مع اإلسكندر األكبر
الحتبللها بعد ٕٓٓ عام ،فً تكرار لتجربة استٌطان الهكسوس وشعوب البحر.
وحافظ أحمس الثانً على عبلقات الود والصداقة مع اإلؼرٌق ،وفً نفس الوقت حرص على المحافظة
على مصالح الشعب -أو هكذا توهم -وكان محبا لئلؼرٌق لدرجة أن هٌرودوت لقبه -بالمحب لئلؼرٌق-
وأرسل الهداٌا إلى ببلد اإلؼرٌق ،منها تمثال للمعبودة نٌت مؽطى بالذهب مع صورة مرسومة()ٔ88؛ فكال
له المإرخون اإلؼرٌق المدٌح ،ألنه لم ٌستجب لمطالب المصرٌٌن بإبعاد اإلؼرٌق تماما ،وإنما فصل بٌن
الجانبٌن بسبلم ،واعتبروه أكثر الملوك الصاوٌٌن حنكة وحصافة ،وخلعوا علٌه ألقابا إؼرٌقٌة( ،)ٔ89كعادة
الجالٌات األجنبٌة فً وصؾ الحاكم حٌن ٌطلق لها العنان بالمنفتح والمتسامح ،ومن ٌضٌق علٌهم لحفظ
مصالح وحقوق شعبه بؤنه متسلط وعنصري.
وٌُرجع هٌردوت إلى هذا الحاكم بعض المآثر ،منها وضع القانون الذي بات ٌعرؾ باسم "من أٌن لك
هذا" ،حٌث كان ٌفرض على كل شخص أن ٌبٌن سنوٌا مورد عٌشه ،ومن لم ٌفعل ذلك ،ولم ٌثبت أنه ٌعٌش
عٌشة مشروعة كان عقابه المحاكمة ،ونقل سولون اإلثٌنً هذا القانون من مصر ووضعه لئلٌثٌٌن ،كما قال
إنه أول من وضع ضرٌبة الدخل(ٓ.)ٔ9
ولكن سٌخٌب ظن أحمس الثانً فً اإلؼرٌق الذٌن أسرفوا فً مدحه وتخدٌره بنشاطهم االقتصادي فً
البلد ،فهإالء سٌكونون مع الٌهود آداة عون للؽزو الفارسً لمصر فور وفاته ،ثم أداة للؽزو الٌونانً.
لم ٌكن لببلد فارس فٌما مضى ،ومنذ كانت تسمى بـ"عٌبلم" عبلقات مع مصر ،واقتصرت معظم
حروب العٌبلمٌٌن مع جٌرانهم من ببلد النهرٌن.
وتؽٌرت دفة األحداث فً مصر والعالم بمٌبلد الدولة الفارسٌة (اإلخمٌنٌة) فً ذلك العصر ،وهً دولة أراد
زعماإها أن ٌثبتوا بعقلٌتهم القبلٌة الجبلٌة أنهم ٌتفوقون على أسبلفهم ذوي المٌراث الحضاري الطوٌل من
عٌبلمٌٌن وم اذٌٌن ،وصمموا على بسط نفوذهم فً االتجاهات األربعة ،مستؽلٌن فتوتهم وشٌخوخة جٌرانهم(ٔ.)ٔ9
فخرجوا بحمبلت مسعورة ،ولكنها قوٌة منظمة ،تحت قٌادة ملكهم قورشٌ ،دقون األرض د ًّقا عنٌ ًفا حتى
()ٔ88
-نفس المرجع ،ص ٖٖٖٖٕٔ -
()ٔ89
-انظر :الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،ص ٕٕ8
(ٓ)ٔ9
-انظر :رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة ،مرجع سابق ،ص ٕٖٖٖٖ9 -
(ٔ)ٔ9
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،عبد العزٌز صالح ،ص ٕ٘8
ٖ٘ٔ
بلؽوا آسٌا الصؽرى ،واكتسحوا دولة لٌدٌا التً كانت شٌ ًبا عظٌمًا ،وطووا بابل ذات التراث المجٌد،
وأدركوا من ث َّم سهولة إخضاع العالم المحٌط بهم الذي مزقته المنافسات والحروب المتصلة لحكومة عالمٌة
واحدة ،هً حكومتهم بطبٌعة الحال(ٕ ،)ٔ9وهو الحلم الذي تعٌش علٌه فارس (إٌران) حتى اآلن.
سعى أحمس الثانً لصد خطرها بالتحالؾ مع قبرص ،ولكن توفً سنة ٕ٘٘ ق.م بعد أن حكم ٗٗ سنة،
ولم ٌكد ٌمر ٙشهور على وفاته حتى اجتاح الفرس مصر ،ووضعت فٌنٌقٌا أسطولها الكبٌر تحت طاعتهم،
وتخلت قبرص عن التعاون مع مصر ،وبقٌت مصر وحٌدة أمام هذا االجتٌاح الجدٌد(ٖ ،)ٔ9ملؽمة بالداخل
بمستوطنٌن أجانب فً مدنها ومرتزقة فً الجٌش.
وهنا بدأ مشوار الخٌانة اإلؼرٌقٌة والٌهودٌة لمصر ،فقد كان قابد الجٌش من اإلؼرٌق ٌدعى فانٌس،
خانها وهرب إلى قمبٌز ،ملك الفرس وابن قورش ،وقاد له جٌشه إلى مصرـ مستؽبل معرفة اإلؼرٌق
بدروب الصحراء والمداخل لعملهم فً الجٌش بمصر.
أما الٌهود الذٌن دخلوها الجبٌن فً عهد األسرة ٕٙفارٌن من االجتٌاح البابلً ،وسمح لهم حكامها
بالعمل كتجار وبالتجنٌد فً الجٌش ،فكان والبهم مطلق للفرس ،فالٌهود ٌعتبرون قورش مسٌحهم المنتظر بعد
أن فك أسر الٌهود المنفٌٌن فً بابل وما حولها ،وأعادهم إلى أورشلٌم ،وسمح لهم بتعمٌرها من جدٌد ،ولهذا كانوا
على استعداد ألن ٌذللوا الصعاب فً سبٌله(ٗ.)ٔ9
فلسبب ؼامض ٌخص العبلقة بٌن الٌهود والفرس ،صان الٌهود الجمٌل لقورش ولم ٌصونوه لمصر التً آوتهم
من نٌر االستعباد فً بابل ولٌس مجرد فك أسرهم ،بل وظلت نبوءات أنبٌاء الٌهود أو أحبارهم تتوعد مصر
بالمستقبل المظلم وبكل شر مستطٌر(٘!)ٔ9
أما البدو "السابرون على الرمال" ،كما سماهم المصرٌون ،أي القباٌل التً تستؽل فترات الضعؾ أو االحتبلل
فً مصر لبلستٌطان عند الحدود الشرقٌة ،فقد أرشدوا الفرس فً سٌناء( ،)ٔ9ٙومع تحالؾ كل هإالء ضدها
قاومت مصر جهد االستطاعة ،وخاضت بقٌادة حاكمها التعس بسماتٌك الثالث ،بوصؾ عبد العزٌز صالح،
آخر ملوك األسرة ،ٕٙمعركة عنٌفة ضد الفرس فً "بلوزٌوم" (الفرما /بورسعٌد) عام ٕ٘٘ ق .م ،ورأى
هٌرودوت آثار المعركة بعد ٘ 9سنة؛ فشهد بضراوة ما حدث فٌها.
ولم ٌثبت جٌش بسماتٌك الثالث طوٌبل أمام الطوفان الفارسً ،خاصة بعد خٌانة قابده اإلؼرٌقً،
وانضمام العدٌد من اإلؼرٌق إلى صفوؾ الجٌش "المنتصر" كعادة المرتزقة ،فتراجع إلى منؾ ،ولكنها
سقطت ،وأخذ الفرس بسماتٌك الثالث أسٌرا ،ثم أطلقوا سراحه ،فسعى للمقاومة من جدٌد ،ولما كشؾ
(ٕ)ٔ9
-نفس المرجع
***هذا الحلم لم ٌفارق بالد فارس حتى اآلن ،مهما تؽٌر اسمها أو دٌنها أو مذه بها ،وسٌرد إشارة تفصٌلٌة لوسابل استهدافها لمصر فً الوقت
الحالً لتحقٌق هذا الهدؾ.
(ٖ)ٔ9
-المرجع السابق ،ص ٕ٘8
(ٗ)ٔ9
-نفس المرجع
(٘)ٔ9
-انظر :المرجع السابق ،ولكن فً طبعة عام ٓ ،ٔ98ص ٖٗٔ
()ٔ9ٙ
-تارٌخ مصر القدٌمة ،جرٌمال ،مرجع سابق ،ص ٗٗ9
ٗ٘ٔ
الفرس أمره قٌل انتحر ،ورؼم المقاومة فإنها لم تعؾ هذه األسرة من مسبولٌة إؼراق البلد بالمرتزقة.
وبتعبٌر صالح" :خضعت مصر للفرس كما خضع ؼٌرها من أمم الشرق ،وإن لم ٌعفها هذا من وزر
كبٌر بعد أن فتحت أبوابها للمرتزقة من هنا وهناك ،وجعلتهم دعامة جٌشها"(.)ٔ99
واستعمل الفرس وجنودهم متعدًٌ األجناس الشدة مع مصر والتخرٌب ،حتى مع المعابد المقدسة
المحصنة ،مثلما فعلت آشور ،وبلػ من تقدٌر قمبٌز لضخامة البلد أن أقام فً مصر أكثر من ٖ سنوات،
صحبه فً بداٌتها ما ٌتؤتى عادة من الؽزاة من تخرٌب ونهب ومصادرات وؼرامات ،وأنقص مخصصات
المعابد إلى النصؾ ،وعسكر فٌها جنود االحتبلل من كل ملة انتهاكا لمقدساتها(.)ٔ98
ورؼم ذلك لم تكن إقامة قمبٌز هنٌبة كلها ،فقد فشلت حملته لهدم معبد الوحً "معبد آمّون" فً سٌوة ،وقٌل إن
عاصفة رملٌة دفنت الجٌش الذي أرسله إلى هذه المهمة فً الصحراء ،وخبلل احتفاالت مولد العجل حاب
(أسماه الٌونان أبٌس) ،بما فٌها من مظاهر فرح ،ظن قمبٌز أنها فرحة الشماته فٌه ،فقتل الكثٌر من كبار
السكان ،وطعن حاب بخنجره ،وأمر بإخراج جثة أحمس الثانً "أمازٌس" ،وأهانها ،وأحرقها.
وخبلل هذه األحداث ،جاءته أخبار مإامرة فً ببلده لبلستٌبلء على العرش ،وكان من عادة الفرس عمل
انقبلبات عابلٌة والصراع الدموي على الحكم ،كعادة بابل وآشور أٌضا ثم البطالمة فٌما بعد ،فقرر العودة
لفارس ،وفً الطرٌق وخز نفسه بسبلحه فً فخذه فً موضع مماثل للموضع الذي طعن فٌه العجل ،فتسمم
الجرح وتوفً ،واعتبر المصرٌون هذا "انتقاما إلهٌا(.)ٔ99
وخلفه فً الحكم دارا األول ،كان أقل منه ظلما ،سعى لتهدبة األوضاع فً مصر لمنع الثورات ،وأزال
القوانٌن الفارسٌة التً أقرها قمبٌز ،وأعاد القوانٌن المصرٌة التً سادت فً عهد أحمس الثانً ،وأبدى
االحترام لحابً "أبٌس" ،وأمر بإقامة معبد آلمون فً الواحات على أطبلل معبد قدٌم.
اعتبر الفرس مصر "والٌة" أو "سترابا" باللفظ الفارسً ،فهً ثانً مرة ُتحكم مصر من الخارج بعد
االحتبلل اآلشوري ،ورأوها أؼنى "الوالٌات"؛ فطلب دارا األول إعادة حفر القناة السابق حفرها أٌام نٌكاو
لربط النٌل بالبحر األحمر وتٌسٌر نقل السفن للجزٌة المؤخوذة من مصر لتصب خٌراتها عند فارس ،وبلؽت
ً
رطبل بٌن ٕٗ سفٌنة سنوٌا ،تحمل ما ٌبلػ ألؾ تالنت من الفضة ،وقدر هٌرودوت التالنت المصري بـ ٘ٙ
()ٔ99
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،عبد العزٌز صالح ،طبعة عام ٖ ،ٔ99ص ٕ٘8
()ٔ98
-األجانب فً مصر فً األلفٌة األولى قبل المٌبلد ،مرجع سابق ،ص ٕ8ٙ
()ٔ99
-انظر مرجع سابق ص ،ٕ8ٙوتارٌخ مصر القدٌمة ،جرٌمال ،ص ٗٗ98 -ٗ9
٘٘ٔ
جزٌة ونفقات احتبلل ،واستؽلوا من معادن مصر ما ٌعادل هذا المقدار(ٕٓٓ).
كما استنزؾ الفرس ثروات مصر لتموٌل حروبهم مع الٌونان ،فمثبل فرض أكسركسٌس األول على
مصر إعداد ٕٓٓ سفٌنة استؽلها فً قتاله ضد اإلؼرٌق(ٕٔٓ).
وكؽٌرهم من المحتلٌن قرَّ ب الفرس الجالٌات األجنبٌة والمستوطنٌن لٌكونوا عونا طٌعا لهم ضد أهالً
الببلد ،فكان ٌعاون السترابا (الوالً) الفارسً عدد من كبار الموظفٌن والجباة الفرس والبابلٌٌن والسورٌٌن
والٌهودٌ ،عملون لصالحه ،إلى جانب قلة من كبار المصرٌٌن أو المستمصرٌن من بقاٌا القباٌل الخاسوتٌة
صاحبة النفوذ السابق(ٕٕٓ).
وتزاٌد تواجد الٌهود فً معسكرات أسوان على الحدود الجنوبٌة خبلل االحتبلل الفارسً ،فكانوا أكثر
المخلصٌن له ،وعٌو ًنا له على المصرٌٌن ،ووفق ما ورد فً خطاب باآلرمٌة ،لؽة الٌهود حٌنها ،عثر علٌه
فً أرشٌؾ جالٌة "ٌدانٌا" الٌهودٌة فً بؤسوانٌ ،ظهر مدى االحتقان بٌن المصرٌٌن والٌهود بسبب خٌانتهم،
وأٌضا بسبب االختبلؾ فً الدٌن الذي كان الٌهود ٌتكبرون به على ؼٌرهم.
وتضمن الخطاب التماسا أرسلته الجالٌة الٌهودٌة إلى حاكم أورشلٌم الفارسً "باجواس" تطلب منه
مساعدتهم باعتبارهم "أصدقابه" فً إعادة بناء معبد ٌاهو الٌهودي الذي دمره كهنة خنوم(ٖٕٓ) المصرٌٌن،
خاصة وأن هذا المعبد لم ٌمسه قمبٌز بسوء ،فٌما أساء إلى المعابد المصرٌة(ٕٗٓ).
وفً تقدٌر العالم األثري الدكتور أحمد بدوي فإنه "ظاهر أن احتبلل الفرس أرض مصر قد أرضى
اإلؼرٌق الذٌن كانوا ٌقٌمون فٌها ،ولٌس أدل على ذلك من انضمام بعضهم إلى صفوؾ الؽزاة ،وقد زاد من
نشاطهم فً الببلد ٌومبذ ،وتتابعت هجرة قومهم إلٌها ،كما ازدهرت تجارتهم فً نوكراتٌس" ،وذلك رؼم ما
هو معروؾ من عداوة بٌن الفرس والٌونان.
وعلق بدوي على هذا التناقض بؤنه" :ولٌس بخاؾ كذلك أن اإلؼرٌق الذٌن كانوا ٌقٌمون فً مصر-
سواء منهم من كان ٌرتزق من العمل فً الجٌش ومن كان ٌعمل فً التجارة -إنما كانوا ٌإثرون الفرس
على المصرٌٌن طمعا فً الكسب الوفٌر ،والعٌش الرخٌص ،وذلك شؤن الؽرٌب المرتزق فً كل زمان
ومكان؛ فهو واجد -على الدوام -فً ظل االستعمار فسادا ٌستطٌع أن ٌُفٌد منه فً سهولة وٌسر"(ٕ٘ٓ).
(ٕٓٓ)
-انظر الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،ص ،ٕ89 -ٕ8ٙومصر الفراعنة ،جاردنر ،ص ٖ98
(ٕٔٓ)
-انظر :الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٕ88
(ٕٕٓ)
-انظر :الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،ص ٕ89
(ٖٕٓ)
-خنوم/ؼنم هو رمز "إلهً" مقدس ٌتصوره المصرٌون فً شكل كبش مهمته تشكٌل البشر الموالٌد على عجلة الفخرانً ،وله دور فً دفع
مٌاه النٌل من الجنوب إلى مصر عند أسوان ،انظر معجم المعبودات والرموز فً مصر القدٌمة ،مانفرٌد لوكر ،مرجع سابق ،ص ٕٔ9
(ٕٗٓ)
-انظر :األجانب فً مصر فً األلفٌة األولى قبل المٌبلد ،مرجع سابقٕٔ9 -ٕٔ8 ،
(ٕ٘ٓ)
-انظر هٌردوت ٌتحدث عن مصر ،مرجع سابق ،مقدمة أحمد بدوي ،ص ٕ9
ٔ٘ٙ
وٌإٌد رأي بدوي ما تكرر خبلل التارٌخ من تعاون المستوطنٌن األجانب مع الؽازي الجدٌد حتى وإن
كان عدوا لببلدهم القادمٌن منها ،مدام سٌعطٌهم مزاٌا ومداموا سٌساعدونه على التمكٌن فً البلد المقٌمٌن
فٌها ،فسنرى أن الٌهود تبادلوا المنافع مع الؽزاة العرب فً مصر رؼم أن العرب طردوا الٌهود من
الجزٌرة العربٌة ،وشوام تعاونوا مع الؽزاة العثمانلٌة فً مصر رؼم أنهم تركوا الشام إلى مصر هربا من
الظلم العثمانلً لهم فً ببلدهم ،وهكذا حٌاة االحتبلل العسكري فً الجالٌات األجنبٌة ،وحٌاة الجالٌات
األجنبٌة فً االحتبلل العسكري.
وفً نفس الوقت وجدنا أن اإلؼرٌق فً بعض الفترات التً اشتدت فٌه الثورات داخل مصر ضد الفرس
ٌتعاونون مع هذه الثورات أحٌانا ،لسبب وحٌد ،هو حٌن ٌكون فً إضعاؾ الفرس مصلحة لمدٌنة ٌونانٌة
ٌتبعها بعض الٌونانٌٌن كؤثٌنا( ،)ٕٓٙونقل صبحً وحٌدة عن مإرخٌن تفسٌرات أن الٌونان طول تارٌخهم
فرق ومدن متصارعة ،لٌسوا على قلب رجل واحد ،فمنهم من ٌحارب الفرس ،ومنهم من ٌستقوي بالفرس
على بقٌة المدن الٌونانٌة؛ ولذا ٌختلفون فً مواقفهم(.)ٕٓ9
وكرر أكسركسٌس األول ما فعله اآلشورٌون بنهب المعٌن الحضاري لمصر بنقل المتخصصٌن
الماهرٌن منها إلى ببلده لٌساهموا فً بناء نهضتها ،فاشتط فً االنتقام واالستؽبلل -كعادة الفرس -وهجَّ ر
عددا كبٌرً ا من أهل الحرؾ إلى فارس ،وشدد الحامٌات هنا وهناك ،واستعان فٌها بالٌهود ،ثم عٌن أخاه ً
والًٌا على مصر(.)ٕٓ8
ولم ٌمنع تودد "دارا" ألهالً الببلد فً بعض األمور من أن ٌكرهوا االحتبلل وٌسعوا لزواله ،وردد
المصرٌون فً لعناتهم على االحتبلل الفارسً كلمات" :لٌكن حور ضدهم"" ،لتثر عٌن حور (مصر)
علٌهم" ،مما ٌدل على حدة الشعور الوطنً ضد الؽزاة ،وعبرت مسرحٌة "عودة ست" بعد الؽزو الفارسً
عن شكل من أشكل الؽلٌان فً العروق ،ففً تلك المسرحٌة جسد "ست" دور الشر وؼازي أجنبً لم ٌكتؾ
بنصٌبه من األراضً الذي أقرته له األرباب فً ببلده ،فؽزا مصر واحتل عٌن حور (مصر) عنوة ،ولم
ٌكن "ست" إال ملك الفرس ،وعبرت المسرحٌة عن رؼبتهم فً طرده ألن وجوده ؼٌر شرعً(.)ٕٓ9
وبالفعل ،قامت ثورة تحدث عنها المإرخ دٌودور الصقلً أن األهالً اشتعل ؼضبهم وهم ٌراقبون السفن
الفارسٌة تنقل خٌرات الببلد إلى الخارج ،حتى أن نصوص محاجر وادي الحمامات بالصحراء الشرقٌة
ذكرت أن األحجار التً ُتقطع هناك تستخدم لصالح الفرس ،وزاد األمر فداحة الضراٌب ،فشبت الثورة،
()ٕٓٙ
-نفس المرجع ،ص ٕ8
()ٕٓ9
-فً أصول المسؤلة المصرٌة ،صبحً وحٌدة ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،ٕٓٔ٘ ،ص ٘ٔٔ8 -
()ٕٓ8
-انظر :الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٕ88
()ٕٓ9
-القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم ،مرجع سابق ،ص ٓٗ ،ٗٔ -ص ٔٗ
ٔ٘7
وأشارت أخبار إلى استٌبلء الثابرٌن على شحنة سفٌنة فارسٌة محملة بالؽبلل.
وتوفً "دارا" قبل إخماد الثورة ،وخلفه ابنه أكسركسٌس األول الذي أخمدها بعنؾ ،وزاد على ذلك أن
أكثر من الضراٌب ،وزاد من نهب الثروات الستؽبللها فً حروبه ضد خصمته اللدودة ،الٌونان(ٕٓٔ).
ورؼم هذا العنؾ فً االنتقام ،تجددت نار الثورة فً مصر ،مستؽلة القبلقل التً نشبت فً فارس خبلل
انتقال العرش إلى "أرتكسركسٌس" ثم "دارا" الثانً سنة ٕٗٗ ق.م ،وتزعم الثورة "أمٌرتاٌوس" ،سلٌل
ملوك األسرة الصاوٌة ،وبعد سنوات من الصراع ،توج نفسه حاكما لمصر فً نفس عام وفاة "دارا الثانً"
لٌإسس األسرة ،ٕ8انتهت بوفاته ،وأعقبته األسرتان ٕ9وٖٓ ،وشهدت مصر خبلل األسر الثبلثة استقبلال
عن الفرس ،قبل أن ٌعودوا إلٌها فً ٖٖٗ ق.م(ٕٔٔ).
و اإلؼرٌق هذه المرة تحالفوا مع "أمٌرتاٌوس" ضد الفرس؛ لٌس إخبلصا لمصر ،ولكن بسبب الصراع الدابر
بٌن فارس وأثٌنا للسٌطرة على جزر البحر المتوسط ،ونظرا لحاجة أثٌنا إلى قمح مصر.
ومن المبلحظ أنه ظهرت أسماء أجنبٌة بشكل واضح فً أسماء ملوك األسرتٌن ٕ9وٖٓ؛ فاسم مإسس
األولى ناٌؾ عاورود ،واشتهر باسم "نفرٌتس األول" ،وثالث أو رابع ملوكها ٌدعى هجر أو هكر ،واشتهر
باسم "آخورٌس" ،ثم آخر ملوكها ناٌؾ عاورود الثانً "نفرٌتس الثانً" ،وهإالء وملوك األسرة ٖٓ من
شرق الدلتا وؼربها ،حٌث المستوطنات القبلٌة األجنبٌة قدٌمها وجدٌدها(ٕٕٔ).
اعتادت مصر على الخذالن والؽدر من جٌرانها فً الجنوب والؽرب والشرق ،خاصة فً أوقات ؼفلتها،
وبعد أن اتسعت عبلقاتها بشكل ؼٌر محسوب بدأت تذوق خذالن الشمال ،أي المدن الٌونانٌة كؤثٌنا
وإسبرطة ،وكقبرص.
فقد تحالفت األسرة ٕ9فً مصر مع أسبرطة ضد محاوالت الفرس للعودة إلى حوض البحر المتوسط،
وأمدتها مصر بتجهٌز ٓٓٔ سفٌنة مقاتلة وبالؽبلل ،ولكن بعد سنوات تصالحت إسبرطة مع الفرس ،وفكت
تحالفها مع مصر ،وتنكرت لها(ٖٕٔ) ..وبقٌت مصر وحدها.
ورؼم هذا التنكر المستمر من األحبلؾ لمصر ،تحالفت ذات األسرة فً عهد هكر مع أثٌنا ومع ملك
قبرص ،وأعانت األخٌر بـ ٓ٘ سفٌنة وبالؽبلل لمكافحة الفرس ،وواجه جٌش هكر الفرس فً معركة جدٌدة
ؼٌر واضحة المعالم ،ثم تركت قبرص مصر واستسلمت للفرس ،وبقٌت مصر وحدها.
وخبلل األسرة ٖٓ انقلبت أثٌنا تماما ضد مصر ،حتى أنها استدعت قابدها خابرٌاس الذي كان ٌقود
(ٕٓٔ)
-رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة ،رمضان عبده علً ،مرجع سابق ،الجزء الرابع ،ص ٖٙ8 -ٖٙ9
(ٕٔٔ)
-انظر :تارٌخ مصر القدٌمة ،جرٌمال ،مرجع سابق ،ص ٗ99
(ٕٕٔ)
-انظر :رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة ،رمضان عبده علً ،مرجع سابق ،ص ٖ٘99 -ٖ9
(ٖٕٔ)
-انظر :الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٕٔ9
ٔ٘8
الجٌش فً مصر ،فؽادرها فً وقت خرج على رأس ٕٓ ألؾ من المرتزقة اإلؼرٌق لٌعاونوا الفرس
ضدها ،وذلك بعد اتفاق بٌن أثٌنا وفارس ،وهكذا توالى تخاذل األحبلؾ(ٕٗٔ).
حشدت فارس جٌوشا من المرتزقة واألعوان ،واخترقوا الشام وصوال لمصر ،ولكن لحسن الحظ
وصلوها فً وقت قرب الفٌضان ،فداهمتهم مٌاهه وكؤن موجاته جنودا مجندة لحماٌة مصر ،فتراجعوا.
وفً عهد "جد حر" ابن "نختانبو" فً األسرة ٖٓ قاد جٌشا إلبعاد الفرس عن الشام ،فٌبعد خطرهم عن مصر،
ولسبب ؼٌر مفهوم استعان بالقابد اإلثٌنً خابرٌاس الذي سبق وأن خان مصر وانضم للفرس!
وأٌضا فاوض أجٌسٌبلوس ملك إسبرطه العجوز -التً سبقت وتخلت عن مصر -لٌستعٌن بخبرته؛ فانضم إلٌه
بؤلؾ من رجاله ،وجند "جد حر" ٓ 8أل ًفا من المصرٌٌن أو المستصمرٌن والخاسوتٌَّمٌن والمرتزقة ،وأعد ما بٌن
ٕٓٓ ٖٓٓ-سفٌنة وصله بعضها من آسٌا الصؽرى ،وتؤهب للخروج لضرب جٌوش الفرس خارج مصر.
لكن األمور لم تكن هٌنة ،فقد تنافس القابد األثٌنً والملك اإلسبرطً على القٌادة العلٌا ،وحل "جد حر"
المشكلة بؤن تولى هو القٌادة العلٌا ،وعهد بقٌادة المرتزقة إلى أجٌسٌبلوس اإلسبرطً العجوز الذي بلػ الثمانٌن،
وظن أنه سوؾ ٌؤتً برجاله األلؾ العجب العجاب ،كما عهد بقٌادة األسطول إلى خابرٌاس األثٌنً المؽرور،
ولكنه لم ٌستطع أن ٌستل الحقد من قلب أحدهما تجاه اآلخر أو تجاهه هو(ٕ٘ٔ).
ولتموٌن جٌشه الضخم ،وإلرضاء المرتزقة الذٌن أبوا أن ٌتسلموا أجورً ا عٌنٌة ،بل طلبوها نقدا ،رأي
أنه ال بؤس من فرض تضحٌات اقتصادٌة على المصرٌٌن طٌلة فترة الحرب ،وذلك بمشورة خابرٌاس
األثٌنً ،فؤمر بمصادرة المعادن الثمٌنة فً مصر ،وحض رجال المعابد على التبرع بجانب من أمبلكهم
الخاصة ،واالكتفاء بإنفاق عشر المخصصات المرصودة للمعابد وتحوٌل بقٌتها لخزابن الدولة حتى تنتهً
الحرب ،وحض كل مواطن على التبرع بجانب من مدخراته ،وفرض نسبة ضرٌبٌة معٌنة على عملٌة البٌع
والشراء ،مع تعمٌم ضرٌبة العشر على األرباح ومصادر الدخل.
وعندما خرج "جد حر" بالجٌش إلى الشام لضرب الفرس أتاه األذى من مؤمنه ،ففً مصر انقلب علٌه
أخوه وناببه على عرشه ،واستعان بتذمر رجال الدٌن والمتضررٌن من الضراٌب الجدٌدة التً رأوها
تنصرؾ إلى المرتزقة األجانب أكثر مما تصل إلى مواطنٌهم(.)ٕٔٙ
(ٕٗٔ)
-انظر :المرجع السابق ،ص ٕٔ9ٕ -ٕ9
(ٕ٘ٔ)
-انظر :المرجع السابق ،ص ٕٔ9ٕ -ٕ9
()ٕٔٙ
-نفس المرجع ،ص ٖ9
ٔ٘9
له ،وهنا لجؤ "جد حر" كسٌرا إلى صٌدا ،وروي منافسوه أنه طلب حق اللجوء السٌاسً بعد ذلك من الفرس(.)ٕٔ9
وتولى العرش "نخت حر حب" الذي اشتهر باسم نختانبو الثانً ،وقامت ضده ثورة قادها أشخاص من
سبللة األسرة ،ٕ9وأخمدها باالستعانة باإلؼرٌق ،وحكم ٔ8عاما ،تودد فٌها إلى المعابد بؤن أمر بإقامة
منشآت لتطوٌرها ،مثل معبد بتاح-سوكر-أوزٌر فً أبو صٌر الملق ،ومسبلت صؽٌرة فً األشمونٌن،
ومقاصٌر ،متمتعا بمناخ استقرار ساهم فٌه انشؽال الفرس بالصراع العنٌؾ على السلطة فً ببلدهم.
ؼٌر أنه فً عهد الملك الفارسً أرتاكسركسٌس الثالث وجَّ ه وجهه شطر مصر لؽزوها من جدٌد سنة
ٖٔٗ ق.م ،ولكن هزمه جٌش نختانبو الثانً ،ثم عاود الكرة عن طرٌق البر والبحر ،وبمعدات وأسلحة
هابلة بمقٌاس ذلك العصر ،ومنها ٖٓٓ سفٌنة مكونة من عدة طوابق لتحمل أكبر عدد من المقاتلٌن فً
البحر ،وضم جٌشه ٖٓٓ ألؾ مقاتل ،فً حٌن كان جٌش نختانبو الثانً ال ٌضم أكثر من ٓٓٔ ألؾ ،والتقى
الجٌشان عند "بلوزٌوم" (الفرما) ،وكان الفوز للجٌش الفارسً ،وعندما رأى المرتزقة فً جٌش نتختانبو
ذلك ،ؼٌروا مواقعهم ،وانضموا لصفوؾ الجٌش الفارسً ،فٌما تراجع نختانبو إلى الوجه القبلً ،وآزره
()ٕٔ8
األهالً هناك سنتٌن ،ثم اختفى أثره والمعلومات حول مصٌره.
وعادت مصر تحت االحتبلل الفارسً ٖٖٗ ق.م -بعد ٓ ٙسنة من االحتبلل األول -وصار نختانبو
الثانً ٌوصؾ عند المإرخٌن بؤنه "آخر الحكام الوطنٌٌن" ،وإن كان فً صفة "الوطنٌٌن" شك الحتمال
كونه من القباٌل "الخاسوتٌمٌة" أو ؼٌرها وسط تضارب حول أصول حكام األسرات األخٌرة ،ولكنه على
كل حال كان آخر من حكم وحارب تحت راٌة مصرٌة ولو اسمًا ،ثم توالت على الببلد بعد ذلك الحكم
واالحتبلالت تحت راٌة فارسٌة وٌونانٌة ورومانٌة وعربٌة وعثمانلٌة إلخ.
جاء الؽزو الفارسً الثانً أصعب بكثٌر من األول ،كاشفا ؼبل ٌفوق الوصؾ ،فتعرضت الببلد للسلب
والنهب ،وهدمت دور العبادة ،وانتهكت حرمتها ،ونهبت تماثٌل معبوداتها ،ونقلت إلى فارس ،وطعن
أرتاكسركسٌس الثالث العجل أبٌس المقدس ،وللسخرٌة من المصرٌٌن وضع مكانه حمارا ،وذبح كبش
مندس المقدس ،ونفى بعض األمراء المصرٌٌن ]أو المستمصرٌن[ إلى فارس(.)ٕٔ9
وهنا وصفت بردٌة "األٌام" الدٌموطٌة كٌؾ فقدت بٌوت المصرٌٌن رجالها ،وسكنها الماذٌون ،أي "الفرس".
كما لم ٌُتوج الملوك الفارسٌون داخل مصر على الطرٌقة المصرٌة مثلما فعل أسبلفهم ،وتفجرت الثورات فً
()ٕٔ9
-انظر :المرجع السابق ،ص ٕٕ9ٖ -ٕ9
()ٕٔ8
-انظر :رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة ،مرجع سابق ،ص ٖٓ9ٕ -ٖ9
()ٕٔ9
-انظر :المرجع السابق ،ص ٕٖ9
ٓٔٙ
أنحاء مصر ضدهم ،وتزعمها أمٌر من سبللة الحكام السابقٌن فً سنة ٖٖٙق.م ،اشتهر باسم خباباش ،أعلن
نفسه ملكا ،لم ٌنجح فً أن ٌحكم الببلد حكما حقٌقٌا ،ولكن ظل قابدا للمقاومة عدة سنوات(ٕٕٓ) ،وفً تلك األثناء
كانت تدور دابرة المعارك بٌن اإلسكندر المقدونً وبٌن الفرس ،فً نهاٌتها أسقط اإلسكندر إمبراطورٌة
الفرس بجٌوشه الكاسحة ،فاستسلم له السترابا الفارسً وانسلت أقدامهم من مصر ،وزحفت جٌوش اإلسكندر
إلٌها ،وكان المستوطنون من اإلؼرٌق وبقٌة الجالٌات األجنبٌة أكبر عون له ،هٌؤوا له األجواء الستقباله
استقباال حارا ،ولم ٌعد اإلؼرٌق بحاجة للعمل كمرتزقة فً صفوؾ الجٌش بمصر ،فالمعتدي الجدٌد -خاصة
أٌام البطالمة -جعل الجٌش جٌشهم.
وٌصؾ عبد العزٌز صالح أثر العٌشة الطوٌلة لئلؼرٌق والجالٌات األجنبٌة فً مصر فً تمكٌن اإلسكندر من
احتبللها ،خاصة بعد استسبلم الوالً الفارسً قاببل" :وعندما دخلها اإلسكندر فً خرٌؾ ٕٖٖ ق .م فً ثوب
منقذها من الفرس ،لم ٌكن أعوانه أؼرابًا عنها ،فطالما عمل بعضهم مرتزقة فً جٌشها ،وطالما شاركها بعضهم
فً معاداة الفرس ،وعلى نحو ما عمل إؼرٌق نقراطٌس وسطاء فً التجارة بٌنها وبٌن ببلد الٌونان عملوا كذلك
وسطاء بٌنها وبٌن اإلسكندر ،ولكن فات مصر أن إؼرٌق الٌوم ؼٌر إؼرٌق األمس ،وأنهم أتوها ٌومبذ (أي بؽزو
اإلسكندر) ٌعملون لحسابهم الخاص ،مستعمرٌن ولٌسوا مؤجورٌن ،سادة ولٌسوا مرتزقة(ٕٕٔ).
وهذا ٌنفً تماما ما أشاعته بعض كتب التارٌخ عن أن المصرٌٌن "رحبوا" باإلسكندر األكبر ،لـ"ٌنقذهم" من
الفرس ،فمن رحب باإلسكندر هم المستوطنون اإلؼرٌق واألجانب والمرتزقة ،ومن مهد له الطرٌق هإالء الذٌن
وصفوا بكلمة مصرٌٌن زورا لوجودهم فً مصر ،أما المصرٌون الحقٌقٌون فكٌؾ ٌرحبون باحتبلل جدٌد ،وبؤن
ٌحتلهم من عمل فً ببلدهم مرتزقة ،وتفننوا فً نهبهم؟
وإلى جانب اعتماده على المرتزقة واألجانب المستوطنٌن ،لجؤ اإلسكندر لتوطٌد قدمه إلى سٌاسة محنكة،
وهً مهادنة المصرٌٌن باحترام تقالٌدهم ودٌنهم ،وعدم اللجوء إلى العنؾ معهم ،لٌقبلوا األمر الواقع ،حتى
أنه اختار أن ٌتم تتوٌجه حاكما لمصر فً معابد منؾ على الطرٌقة المصرٌة ،ثم زار معبد الوحً الخاص
بآ َّمون فً سٌوة ،وتم إعبلنه هناك ابنا آل ّمون ،كنوع من إعطابه "الشرعٌة" الدٌنٌة لحكم مصر ،بل ونسج
البعض قصصا لربط اإلسكندر بالدماء المصرٌة ،بؤنه من نسل نختانبو الذي اختفى أثره بعد أن ترك الببلد.
وعند هذه اللحظة ،بدأ نزول الستارة على أعظم الحضارات ،وأنبلها ،وأكثرها سلما وإنتاجا وخصوبة،
وأكثرها عذوبة وحرٌة وحبا للدٌن ،وأشدها احتراما لئلنسان واألوطان.
(ٕٕٓ)
-مرجع سابق ،ص ٖ ،ٖ9ٗ -ٖ9و ٖ9ٙ
(ٕٕٔ)
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،ص ٕ99
ٔٔٙ
فقد انزوى االهتمام باللؽة المصرٌة -معٌن حضارتنا -شٌبا فشٌبا لصالح الٌونانٌة التً أصبحت اللؽة الرسمٌة
للببلد ،وتداخلت أرباب أخرى قادمة من الٌونان مع أرباب مصرٌة فتشوه تارٌخها وأشكالها وهوٌتها وتخرج لنا
مسخا ٌسمى بسٌرابٌس ،ونسب مإرخون الكثٌر من علوم مصر إلى الٌونان بعد أن انكبوا على ترجمتها للٌونانٌة
لما استولوا على مكتبات المعابد والوثابق السرٌة ،وبالتدرٌج نسى الناس أصولها المصرٌة.
فتراجعت ذاكرة المصرٌٌن ووعٌهم بحضارتهم وعظمابهم وحروبهم ،حتى وصلنا إلى درجة أن ٌسٌر
المصري جنب معابده وتماثٌل وبردٌات أجداده فبل ٌفقه المكتوب علٌها ،وال ٌدرى لمن هذه التماثٌل ،بل ال
ٌعرؾ أجداده أنفسهم ،وامتؤل دٌنه بخرافات أدخلها الؽرباء ،وؼاصت الذاكرة والذكرٌات شٌبا فشٌبا ..تحت
األرض ،مع الجٌش ونظام الحكم المقدس والحرٌة والمجد وماعت ،تحت األرض ....وآه ٌا مصر.
وإذن ..عودة لؤلسباب والنتابج التً رمت مصر مقٌدة األؼبلل فً نار الفوضى الثالثة "إزفت" نهاٌة
األسرة ٕٓ كما نقلتها البردٌات واآلثار ..كم منها ورد فً البنود الـ ٔ9لدستور الشٌطان لتخرٌب مصر؟
"إن األبواب الموجودة علٌكِ تستوي ثابتة مثل "إنموتؾ" إنها ال تنفتح لسكان الؽرب ،إنها ال تنفتح
لسكان الشرق ،إنها ال تنفتح لسكان الشمال ،إنها ال تنفتح لسكان الجنوب ،إنها ال تنفتح للقاطنٌن وسط
األرض ،إنها تنفتح لحورس ،إنه هو الذي صنعها ،إنه هو الذي أقامها ،إنه هو الذي نجاها من كل سوء
أوقعه "ست" علٌها ،إنه هو الذي أقام دعابمك(ٕٕٕ)".
فاستحقت األجٌال التً فرَّ طت فٌها عقاب اإلله الذي حذر منه بتاح حتب:
"إن الذي ٌفعل الماعت فذلك الذي ٌكون بعٌدا عن الضالل"ٌ" ،حل العقاب دابما بالذي ٌتخطى
(ٖٕٕ)
قواعدها"
(ٕٕٕ)
-تطور الفكر والدٌن فً مصر القدٌمة ،جٌمس هنري برٌستٌد ،ترجمة زكً سوس ،مرجع سابق ،ص ٓٗٗ٘ -
(ٖٕٕ)
-انظر تقدٌم علً رضوان لكتاب "الماعت ..فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة" ،مرجع سابق ،ص ٕٔٔ٘-
ٕٔٙ
هزمناهم لٌس حٌن ؼزوناهم
(ٔ)
ولكن حٌن أنسٌناهم تارٌخهم وحضارتهم
(ٔ)
-عبارة منسوبة للشاعر الٌونانً سٌمونٌدس عند سقوط إسبرطة ،لم تستطع الكاتبة التحقق من صحة نسبها إلٌه ،ولكن بؽض النظر عن قابلها
فإنها حقٌقة ،وأكثر ما تنطبق علٌه هو ما فعلته االحتالالت فً مصر ..إسقاط تارٌخها من ذاكرة المصرٌٌن.
المشهد :9االحتالل اإلؼرٌقً (النكبة الثانٌة)
ٌمكن الرجوع إلى جذور هذه العبلقة فً الصفحات السابقة ،وظهر من التتبع التارٌخً أن االستٌطان بدأ فً
القرن 8ق.م بتجار إؼرٌق اختاروا مصر ضمن موجات هجرة من مدن الٌونان لكثرة صراعاتهم الداخلٌة،
وهربا من الخراب الذي تركته فً مناطقهم هجمات قباٌل شعوب البحر(ٕ) ،فلم ٌلفتوا النظر بقلة عددهم
ومهارتهم فً البٌع والشراء لخطرهم ،ومدو حبال الود مع البٌوت الؽنٌة والحكام ،واستقبلت األسرة ٕٙ
مجموعات أخرى كمحاربٌن مرتزقة ،وتضخم عددهم خبلل ٖٓٓ سنة حتى صاروا أصحاب مستوطنات
عسكرٌة وتجارٌة ،وانتهى األمر بمعاونتهم للفرس مرة على احتبلل مصر ،ثم مجًء اإلسكندر.
فً نظام الحكم الذي وضعه اإلسكندر ثم بطلمٌوس األول لمصر كان جٌش البطالمة ٌتكون من
المقدونٌٌن واإلؼرٌق والمرتزقة ،وبعد تدخل روما بحجة حماٌة العرش البطلمً فً آخر عصور البطالمة،
انضم الرومان والعبٌد وؼٌرهم لهذا الجٌش الدخٌل.
وبنظرة على وصؾ ٌولٌوس قٌصر لمكونات الجٌش نهاٌة االحتبلل البطلمً ٌتكشؾ الخطؤ المخجل
الذي ٌ قع فٌه مإرخون حٌن ٌصفون ذلك الجٌش بؤنه "جٌش مصري" ،فلم ٌكن فٌه من المصرٌة سوى
األموال التً تتدفق من عرق المصرٌٌن بالؽصب لئلنفاق على جٌش معظم أفراده من األجانب والمرتزقة
والعبٌد ،وقابده األعلى أجنبً ،وٌخوض معارك لٌس للمصرٌٌن فٌها أي مصلحة.
ٌقول" :إن جٌش إخٌبلس ]قابد جٌش الٌونانٌٌن[ لم ٌكن بالدرجة التً ٌستهان بها من ناحٌة الحجم ونوع
رجاله وخبرتهم فً الحرب ،فقد كان لدٌه ٕٓ ألفا تحت السبلح ٌتؤلفون من جنود جابٌنٌوس الذي استمرأوا
حٌاة االنطبلق فً اإلسكندرٌة ،قد نسوا النظام الرومانً ومعنى انتسابهم لشعب روما ،واتخذوا ألنفسهم
(ٕ)
ٌ -قول فرانسٌس فٌفر إن هجمات قباٌل شعوب البحر ؼزت جزر البحر المتوسط ،ومنها جزر الٌونان ،مطلقة فٌها النٌران والسٌوؾ :انظر:
"الفرعون األخٌر رمسٌس الثالث أو زوال حضارة عرٌقة" ،مرجع سابق ،ص .٘ٓ -ٗ8ولجؤ الٌونانٌون لبلحتماء بمصر ،لكن لم ٌحفظوا صنٌعها،
بل احت لوها تكرارا لما فعلته قباٌل شعوب البحر فً اؼتصاب البلدان ،وإن كان وسٌلتهم التجارة واالستٌطان والمرتزقة.
ٗٔٙ
زوجات وأنجب كثٌر منهم أطفاال .أضؾ إلى هإالء أعدادا من اللصوص وقطاع الطرق فً سورٌا
وكٌلٌكٌا والمناطق المجاورة ،وقد انضم إلٌهم كثٌرون من المجرمٌن والمنفٌٌن؛ فكل من ٌفر من عبٌدنا كان
له ملجؤ مؤمون وحٌاة مطمبنة فً اإلسكندرٌة ما داموا ٌسجلون أنفسهم فً عداد الجنود".
وٌتابع" :هإالء الجنود كانوا ٌطالبون بقتل أصدقاء الملوك ،وٌنهبون أمبلك األثرٌاء ،وٌحاصرون قصر
الملك من أجل المطالبة بزٌادة رواتبهم ،وٌطردون بعض الملوك من العرش وٌعٌنون آخرٌن ،جرٌا فً
الواقع على عادة قدٌمة لجٌش اإلسكندرٌة ،وكان هناك إلى جانب هإالء ألفان من الفرسان ،هإالء الجنود
كانوا قد شاخوا فً حروب اإلسكندرٌة المتعددة عندما أعادوا بطلمٌوس الوالد إلى عرشه ،وعندما قتلوا
ابنً بٌبولوس ،وأثناء حروبهم ضد المصرٌٌن ،هكذا كانت خبرتهم الحربٌة(ٖ)".
وٌتضح من قول ٌولٌوس قٌصر عن حروب الجٌش البطلمً أن مهمته األساسٌة بعد الحروب الخارجٌة
كانت شنه حروبا على المصرٌٌن وعمل مإامرات ضد الحكام والفتن للحصول على أكبر مكاسب ،فما كان
جٌشا مصرٌا ،بل وال أي جٌش بالمعنى الكرٌم للكلمة.
ولم ٌنضم مصرٌون حقٌقٌون إلى الجٌش إال فً حاالت نادرة ،أشهرها احتٌاج اإلؼرٌق لهم فً موقعة
رفح كما سنراها عند الحدٌث عن الثورات المصرٌة ضد البطالمة.
فً زمن االحتبلل الخاسوتٌمً ظلت مصر -ولو ظاهرٌا -مجتمعا له هوٌة واحدة ،ألن قبابل االحتبلل
الخاسوٌتمً لحد كبٌر تزٌوا بالزي المصري وتحدثوا بالمصرٌة وعبدوا المعبودات المصرٌة ،خاصة وأنه
لم ٌكن لهم امتداد حضاري خارج مصر ،أما بعد احتبلل اإلؼرٌق لمصر ،فصارت كؤن بها هوٌتان ،أو
مجتمعان منفصبلن تمام االنفصال فً الثقافة لؽة ودٌنا ،وفً المهن ،وفً أماكن اإلقامة ،وفً الزي
واألخبلق والعادات.
األولى هوٌة الشعب األصلً ابن البلد ،األؼلبٌة الكاسحة ،ومعظمهم ٌقطن الرٌؾ؛ أي معظم مساحة
مصر ،وعددا من المدن البعٌدة عن العاصمةٌ ،حترفون الزراعة واألشؽال الٌدوٌة والفنون والصناعات
والعمارة وبعض التجارة والعمل فً المعابد ،وٌملكون نسبة قلٌلة من ثروة البلد ،وٌعرفون بمبلمحهم ولؽتهم
ومبلبسهم وأخبلقهم وعاداتهم وأعٌادهم ،وبؤنهم "رٌفٌون" ،وبفضل هإالء -فقط -بقً لمصر بعضا من
هوٌتها حتى الٌوم.
والثانٌة هوٌة المجتمع البرَّ انً الدخٌل ،ومكون من خلطة أعراق وطواٌؾ ودٌانات ،ال ٌجمعهم إال الوالء
(ٖ)
-مصر من اإلسكندر األكبر حتى الفتح العربً ،مرجع سابق ،ص ٕٓٔ ،والمقصود بقوله "جرٌا على عادة قدٌمة لجٌش اإلسكندرٌة" هً أن
الجٌش البطلمً كان دابم االنق البات وعمل اضطرابات لتولٌة حاكم أو تنزٌل آخر أو إجباره على تنفٌذ مطالبه
٘ٔٙ
للمال ولبلحتبلل وثقافة اإلؼرٌق ،خلٌط من الٌونانٌٌن والكارٌٌن واآلرمٌٌن والٌهود والفٌنقٌٌن ،بؤزٌابهم
ولؽاتهم وأدٌانهم وأشكالهم المختلفة تماما عن المصرٌٌن ،وكانوا قلة فً العدد بالنسبة للسكان األصلٌٌن،
وٌقطنون المدن وقلٌل من فقراءهم فً األرٌاؾ ،وٌحترفون مهن الجٌش ،والسٌاسة ،والتعلٌم ،والوظابؾ
اإلدارٌة الحكومٌة ،والتجارة ،والصناعة ،وبعضهم عمل فً المعابد ،وٌتملكون معظم ثروة البلد.
وبٌن هذا وذاك ،كان قلٌل من المصرٌٌن ٌستطٌعون الولوج إلى المجتمع األجنبً ألؼراض الدراسة
والتعلٌم أو العمل ،وحٌنها ٌتطبعون بالطابع اإلؼرٌقً فً المبلبس والثقافة ،وأحٌانا األسامً ،مثلما ٌظهر
علٌه بٌتوزٌرس ،كاهن تحوت ،فً مقبرته بتونة الجبل بالمنٌا ،والذي تسمى باسم ٌونانً بجانب اسمه
المصري "بادي أوزٌر" ،ومثل المإرخ مانٌتون الذي كتب التارٌخ المصري بالٌونانٌة.
وال ٌوجد إحصاء رسمً لتعداد المصرٌٌن وتعداد كل جالٌة ،ولكن أرقام إجمالٌة فً كتابات المإرخٌن
والرحالة ،منهم جزٌفوس الذي عاش بداٌة العصر الرومانً ،أي قرٌب من االحتبلل الٌونانً ،وقال إن
سكان مصر 9ملٌون ونصؾ الملٌون عدا سكان اإلسكندرٌة الذٌن كان لهم سجل خاص ،ألن الٌونانٌٌن
اعتبروا اإلسكندرٌة مدٌنة منفصلة عن مصر ،وجعلوا سكانها من األجانب ،ولها امتٌازات خاصة.
ووضع الدكتور مصطفى عبادي أستاذ التارٌخ الٌونانً -الرومانً ثقته فً هذه األرقام؛ نظرا ألن
اإلدارة الٌونانٌة والرومانٌة كانت تحتفظ بإحصاءات دقٌقة لعدد السكان ،كما كانت تسجل الموالٌد والوفٌات
بانتظام الرتباط هذا بالضراٌب.
وعن سكان اإلسكندرٌة قال دٌودور الصقلً إن عددهم من األحرار فً الفترة األخٌرة من الحكم
البطلمً هو ٖٓٓ ألؾ شخص ،وعلى هذا األساس اقتراح عبادي أن متوسط سكان عدد مصر حوالً 8
ملٌون فً العصر الٌونانً وبداٌة الرومانً ،أؼلبٌتهم من المصرٌٌن(ٗ).
ودلت إدارة الٌونان لؤلجناس المختلفة فً مصر صراحة على التمٌٌز الواضح لصالح األجانب ،سواء
من اإلؼرٌق أو المتؤؼرقٌن (الجالٌات األجنبٌة الدابرة فً فلكهم) على حساب المصرٌٌن(٘).
ٌعكس هذا الوضع الممتاز لئلسكندرٌٌن لؽة الوثابق الرسمٌة الخاصة بالضراٌب وقوابم أصحاب
األمبلك ،فنجد هذه الوثابق فً بداٌة العصر الرومانً تقسم المبلك إلى فبتٌن هما "اإلسكندرٌٌن"
و"المحلٌٌن" ،وهذه المقابلة بٌن اإلسكندرٌٌن وسابر السكان فً وثابق الضراٌب تبٌن قوة اإلسكندرٌٌن
كطبقة اقتصادٌة؛ فبسبب تحكمهم فً وسابل الثراء عن طرٌق التجارة العالمٌة أصبحوا أثرى طبقة فً
مصر ،وأكبر متملكٌن لؤلراضً(.)ٙ
وٌوصؾ اإلؼرٌق والجالٌات األجنبٌة بحسب المدن التً ٌسكنونها أو األعراق التابعٌن لها ،فٌُقال
(ٗ)
-انظر :مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً ،مصطفى عبادي ،مرجع سابق ،ص ٓٔٔ
(٘)
-انظر :نفس المرجع ،ص ٔٔٓ -ٔٓ9
()ٙ
-انظر :نفس المرجع ،ص ٕٓ9
ٔٙٙ
هٌلٌنٌٌن أو متروبولٌٌن أو سكندرٌٌن ،أما بقٌة السكان من مصرٌٌن وؼٌرهم فٌوصفون حسب حرفهم،
وربما على هذا األساس تم تصنٌؾ المصرٌٌن بؤنهم المزارعٌن أو الفبلحٌن؛ نظرا لتركزهم فً األرٌاؾ
وارتباطهم بالزرع ،حتى وإن كانوا ٌعملون بمهن ؼٌر فبلحة األرض ،كما ٌطلق علٌهم وصؾ "المحلٌٌن".
وهم ٌمؤلون الرٌؾ على امتداده الواسع ،وال ٌختلطون بالمستوطنٌن إال فً أمور محددة ،فقد اهتمت
الحكومة الٌونانٌة بحفظ العنصر اإلؼرٌقً نقٌا دون أن ٌختلط ببقٌة السكان فٌفنى فٌهم بمرور الزمن،
وجعلوه العنصر "الممتاز" فً المجتمع ،وسنوا له قوانٌن تجعلهم هم فقط من ٌحصلون على حق المواطنة
فً اإلسكندرٌة ،ومنعت الزواج بالمصرٌٌن(.)9
ولبقٌة األعراق األجنبٌة تجمعات خاصة ،فهناك مثبل "بولٌتٌوما" للمقدونٌٌن ،وأخرى للٌهود ،وثالثة
للكرٌتٌٌن وهكذا ،والبولٌتٌوما نظام ٌتشابه مع الجٌتوهات الٌهودٌة فً أوروبا ،وإن كان فً مصر ؼرضه
تعلٌة شؤن سكانها األجانب ولٌس تحقٌر شؤنهم كما كانت تفعل أوروبا مع ٌهود العصور الوسطى.
أما الٌهود فً مصر وقتها فكان لهم كؽٌرهم من األجانب وضع ممٌز ،وتؤؼرقوا فً كل شًء -ما عدا
دٌنهم وعاداتهم ومعابدهم( ،)8ألن هذه الرابطة هً الوحٌدة التً تجمع بٌنهم وتلم شتاتهم فً أي مكان هم فٌه
بدٌبل عن الرابطة الوطنٌة التً ٌفتقدونها ،وصار لهم حًٌا خاصا داخل اإلسكندرٌة هو حً "دلتا" ،وهم رقم
ٕ بعد اإلؼرٌق فً العدد والنفوذ بالمدٌنة(.)9
أما المصرٌون الحقٌقون ،أصحاب البلد ،فرؼم أنهم بطبٌعة الحال األؼلبٌة الساحقة وعماد المجتمع ،إال
أنه فً كل المجاالت كان الٌونانً هو الربٌس والمصري هو المرءوس ،باستثناء مجال المعابد(ٓٔ).
وفرَّ قت القوانٌن أٌضا بٌن السكان ،فالقانون المصري القدٌم للمصرٌٌن ،وصدر قانون خاص بالٌونانٌٌن
واألجانب ،وقانون ثالث خاص بالمدن الثبلثة المخصصة للٌونانٌٌن (اإلسكندرٌة ،بطلمٌة ،نقراش
"نقراطٌس") ولكل نوع من القوانٌن محاكم خاصة وقضاة(ٔٔ).
أما أصحاب الحظوة الكبرى فهم سكان اإلسكندرٌة (اإلؼرٌق والمتؤؼرقٌن) ،فإضافة إلى أن لهم مواطنة
خاصة بهم ،وبالرؼم من أنهم األكثر ؼنى تمتعوا بإعفاءات ضرٌبٌة واسعة(ٕٔ) ،وجاء تخصٌص مواطنة
لسكان اإلسكندرٌة جناٌة مرٌعة لبلحتبلل الٌونانً ،فصل بها المدٌنة فصبل تاما عن مصر لٌحفظوا
لئلؼرٌق وضعا فوق بقٌة سكان البلد ،وما زال ٌونانٌون -حتى الٌومٌ -عتبرون اإلسكندرٌة مدٌنة خاصة بهم
وٌحلمون بعودة احتبللها كما سنرى الحقا.
وتمنح مواطنة اإلسكندرٌة أصحابها معاملة ممٌزة فً الحقوق السٌاسٌة والضراٌب ،وفً االحتبلل
()9
-انظر :نفس المرجع ،ص ٔٔٔ
()8
-نفس المرجع ،ص ٖٔٔ
()9
-انظر :المرجع السابق ،ص ٔٔٔٔٔٗ -
(ٓٔ)
-المرجع السابق ،ص ٗٔٔٔٔ٘ -
(ٔٔ)
-نفس المرجع ،ص ٕٔٔ ،وٌشبه هذا نظام المحاكم القنصلٌة واالمتٌازات األجنبٌة فً عصر أسرة محمد علً.
(ٕٔ)
-انظر المرجع السابق ،ص ٕٖ٘ٔٔ٘ -
ٔٙ7
الرومانً ،أصبح الحصول على المواطنة اإلسكندرٌة جواز المرور للحصول على المواطنة الرومانٌة،
وهذا بطبٌعة الحال قاصر -فً معظم األحٌان -على اإلؼرٌق و المتؤؼرقٌن ،ألن اإلقامة الداٌمة فً
اإلسكندرٌة لم تكن بالسهولة لكل السكان ،بل ولٌس كل من أقام فٌها ٌكون سكندرٌا ،فكثٌر من الٌهود لم
ٌحصلوا على المواطنة السكندرٌة رؼم عٌشهم فٌها ،كما كانت مواطنة اإلسكندرٌة فً االحتبلل الرومانً
تعفً أصحابها من دفع ضرٌبة الرأس (الجزٌة).
إن كان االحتبلل االستٌطانً الذي أوصل تحالؾ القباٌل نهاٌة األسرة ٕٓ إلى عرش مصر هو النكبة
األولى التً أضاعت حرٌة مصر وجٌشها ورمتها فً ببر االحتبلالت الطوٌلة ،فإن االحتبلل اإلؼرٌقً
والرومانً هو النكبة الثانٌة التً بدأت مشوار مسح هوٌة مصر أو تؽرٌبها عن أهلها ....كٌؾ؟
ألنه رؼم ما عاناه المصرٌون فً عهد االحتبلل ال َقبلً الخاسوتٌمً من استبعاد أبنابهم عن المناصب
القٌادٌة ،واحتكار الدخبلء للثروة ،وضٌاع أرواح المصرٌٌن فً أتون الحروب الداخلٌة خبلل الصراع
ال َقبلً على السلطة ،وتحوٌل بلدهم إلى مهبط للمرتزقة والعصابات ،إال أنه بقً الحكام األجانب ملتزمٌن
بالمعالم الربٌسٌة للحضارة المصرٌة ،وإن شابها التشوٌه من ثقافتهم الدخٌلة.
فالمستوطنون األجانب وقتها لم ٌكونوا شعبا موحدا ،بل "أقوام مختلطة متعددة اللؽات" على حد وصؾ
فرانسٌس فٌفر(ٖٔ) أتت من مناطق وثقافات مختلفة ،وعندما تمكنوا من احتبلل مصر لم ٌكونوا ٌملكون
حضارة أو دٌنا أو لؽة واحدة ٌنافسون بهم ما وجدوه فً مصر ،فاضطروا للتستر بالحضارة المصرٌة
كضرورة من ضرورات البقاء والسٌطرة ..فظل وجه مصر مصرٌا.
أما المحتلون الجدد ،اإلؼرٌق ،فإنهم من مدن متجاورة ،ولؽة واحدة ،وورابهم ثقل ثقافً فً الٌونان
وخبرة عسكرٌة قتالٌة عرٌضة وجٌوش مرتزقة حاشدة ،وورابهم قوة اقتصادٌة عالمٌة ،كونوها من
سٌطرتهم على التجارة الدولٌة ،كما ؼلبتهم نشوة أنهم صاروا قوة عالمٌة بفضل انتصارات اإلسكندر الذي
تبنى الثقافة الهٌلٌنة؛ ففرضوا ثقافتهم البرَّ انً على العاصمة الجدٌدة وهً اإلسكندرٌة -حتى فً اسمها-
وفرضوا ذات الثقافة على المدن التً ٌكثر فٌها الجالٌات األجنبٌة مثل منؾ والفٌوم.
وحتى المعابد المصرٌة التً تركوا المصرٌٌن ٌعٌدون بنابها أو ٌرمموها انحصر أكثرها فً الوجه
القبلً ،مثل إدفو وكوم إمبو ودندرة فً أسوان واألقصر ،ولم ٌُلحظ اهتمام مماثل للمعابد المصرٌة فً منؾ
وأون والفٌوم؛ فصارت المدن طابعها أجنبً (إؼرٌقً) ولٌس مصرٌا -ألول مرة فً تارٌخها -تتركز فٌها
التجارة والثروة ومعاهد العلم ،حتى أن القادم من الخارج وٌتجول فً العاصمة والمدن المتؤؼرقة ال ٌسمع
"الفرعون األخٌر رمسٌس الثالث أو زوال حضارة عرٌقة" ،مرجع سابق ،ص ٓ٘
ٔٙ8
الحدٌث فً الؽالب إال باللؽة الٌونانٌة ،وال ٌرى إال مبلبس ٌونانٌة ،لمعبودات ٌونانٌة -إضافة لـ إٌسة التً
صارت معبودة عالمٌة -والمبلمح ٌونانٌة وخلٌط من جالٌات أخرى ،كؤنها بلد آخر ،وإذا لم ٌخطؾ رجله
وٌتجول فً الرٌؾ الواسع وٌرى مبلٌٌن المصرٌٌن لظن نفسه فً بلد لم ٌحمل ٌوما اسم كٌمة (مصر).
وٌرصد نفتالً لوٌس أن اإلؼرٌق تبنوا عبادة مقدسات مصرٌة أثرت فٌهم بقوة ،واحتفلوا بؤعٌاد مصرٌة
كرأس السنة المصرٌة إال أنهم أعطوها أسماء معبوداتهم اإلؼرٌقٌة أؼلب الوقت ،فمثبل إٌسة سموها دٌمتٌر
وهٌرا ،وأوزٌر سموه أبولو وبلوتو ،وإٌسة وحتحور بؤفرودٌت ،وأن الٌونان ظلت -بتعبٌره" -األم الروحٌة"
لئلؼرٌق ،ولم ٌبنوا معابدهم إال على الطراز الٌونانً مع بعض التؤثر المصري الستخدامهم مواد بناء
وأسالٌب محلٌة ،وأقاموا أعٌادهم بما ٌتواكب مع ما ٌجري فً ببلد الٌونان ،وتبرع أحد مستوطنً البهنسا
بمبلػ كبٌر لتقام احتفاالت للشبٌبة على نمط التً تجري فً أنتٌنوبولٌس (مدٌنة مخصصة لئلؼرٌق بالمنٌا)،
وفً سنة ٕٙ8م (أٌام االحتبلل الرومانً) وجدت قابمة بؤسماء إؼرٌق وإؼرٌق رومان من مستوطنً
نقراطٌس (نقراش) فً احتفاالت تضمنت أشعار ومبارٌات ورقصات أؼرٌقٌة تحت رعاٌة اإللهٌن
هٌراكٌلٌس ودٌونٌسٌوس ،وفً رسالة من أورٌلٌوس أجاثوس مدٌر معهد التربٌة ٌوجه دعوة لشخصٌات
لحضور ما سماه بـ"االحتفال بعٌد أجدادنا" بمناسبة ذكرى اإلله كرونوس" فً الفٌوم؛ٗٔأي رؼم استٌطانهم
فً مصر ألكثر من ٓٓ ٙسنة ظلوا إؼرٌق الروح واألسامً واللؽة واالنتماء ،وفً نفس الوقت ٌدعون أن
مصر ملك لهم.
وبذلك صارت مصر كإنسانة وضِ ع على وجهها ؼصبا قناعا أجنبٌا حجب مبلمحها الحقٌقٌة ،واس ُتبعد
بقٌة جسدها خلؾ التراب والرمال فً األرٌاؾ كً ال ٌُرى منها إال ذلك الوجه االصطناعً ،ومنذ ذلك
الوقت -وحتى أول القرن ٕٓ -ومصر فً الرٌؾ الواسع كؤنها بلد ،وفً المدن بجالٌاتها األجنبٌة وبرابرتها
الؽزاة كؤنها بلد آخر ..وتارٌخ ذلك العصر ال ٌسجل من النجوم إال ما فعله الحاكم الٌونانً ،والشاعر
الٌونانً ،والفٌلسوق الٌونانً أو ُتقال أحٌانا السكندري -ولم ٌسمح ببروز مصرٌٌن إال نادرا مثل مانٌتون
لتخصصه فً تارٌخ مصر -حتى شاع ذلك الظن الساذج بؤن المصرٌٌن (أو كما ٌُقال الفراعنة) اختفوا فجؤة
بحلول االحتبلل الٌونانً ،كما شاع ذلك التقسٌم الساذج أٌضا للتارٌخ المصري بؤنها مصر الفرعونٌة ،ثم
مصر الٌونانٌة ،ثم مصر الرومانٌة ،ثم مصر العربٌة ،وهكذا ...كؤن ال شعب أصٌل فٌها بالمبلٌٌن من نبع
أرضها ،من عرقه ٌعٌش وٌزدهر الٌونانً والرومانً والعربً إلخ ..كؤن ال شعب.
ٗٔ -انظر :الحٌاة فً مصر فً عهد الرومان ،نفتالً لوٌس ،ص ٗٔٔ٘ -9
ٔٙ9
الوجه األصلً لمصر ..مصرٌون حكاما ومحكومٌن (المصدر :تجمٌعة قوش وتماثٌل من المعابد والمقابر المصرٌة)
القناع األول الذي ألصق على وجه مصر ؼصبا ،الوجه الٌونانً الرومانً (المصدر :تجمٌعة تماثٌل ونقوش لرومان وٌونانٌٌن من المعابد والمقابر
وصور مرسومة لؤلزٌاء الخاصة بهما من اإلنترنت -الصؾ األعلى ٌمثل الٌونانٌن واألسفل ٌمثل الرومان والجالٌات المعاصرة لهم)
قلد الٌونانٌون اآلشورٌٌن فً تؽٌٌر أسماء المدن المصرٌة العرٌقة ،وإن توسعوا ،فمثبل أون (عٌن
شمس) صارت "هٌلٌوبولٌس" ،ومنؾ صارت "ممفٌس" ،وآبو أو سونو (أسوان) صارت "إلفنتٌن" ،وفٌوم
صارت "كروكودٌلوبولٌس" ،وواسط (األقصر) صارت "دٌوس بولٌس" ،أو "طٌبة" إلخ(٘ٔ).
أما الجدٌد فهو تؽٌٌر اسم كٌمة (مصر) لتكون "إٌجٌبتٌوس" ،وترتب على هذا تؽٌٌر وصؾ المصرٌٌن
من "كٌمتٌو" ،إلى "جٌبتٌون" ،أو "جٌبتٌوس" باللفظ الٌونانً( ،)ٔٙوهً التً جاءت منها كلمة "قبط"،
(٘ٔ)
-حكام األقالٌم فً مصر الفرعونٌة ،حسن محمد محًٌ الدٌن السعدي ،دار المعرفة الجامعٌة ،اإلسكندرٌة ،ٔ99ٔ ،ص ٖٖٕ٘٘ٙ -
()ٔٙ
-لتتبع ظهور لفظ قبط انظر :تراث األدب القبطً ،ش نودة ماهر وٌوحنا نسٌم ٌوسؾ ،مإسسة القدٌس مرقس لدراسات التارٌخ القبطً ،ص ٗ٘-
٘٘
ٓٔ7
وشملت لٌس فقط المصرٌٌن الحقٌقٌٌن ،بل والمستوطنٌن األجانب من ؼٌر سكان اإلسكندرٌة والمدن
المخصصة لئلؼرٌق ،فحدث التباس فً فهم مدلول كلمة "قبطً" ،ودور المصرٌٌن فً بعض األحداث
واألفكار التً ُتنسب إلى "القبط" ،دون تحدٌد المقصود بها المصرٌٌن الحقٌقٌٌن أم المستوطنٌن األجانب ،أم
االثنٌن كما سنرى.
وؼٌروا أسماء المقدسات فمثبل إٌسة صارت "إٌزٌس" ،وحور صار "حورس" ،وأوزٌر صار
"أوزورٌس" ،ونبت حت صارت "نفتٌس" ،وتحوت صار "هرمس" ،وتبدلت أسامً الحكام فؤمنحوتب
صار "أمونوفٌس" ،وأحمس صار "أمازٌس" ،وهكذا ،وهذه المسمٌات هً التً شاعت فً كتب التارٌخ
فٌما بعد ،بل وعلى ألسنة المتعلمٌن من المصرٌٌن حٌن كتب أحدهم تارٌخ مصر وهو مانٌتون ،ثم بدأ
مشوار اختفاء أسامً هذه المقدسات المتجذرة فً عروق المصرٌٌن بعد إؼبلق المعابد المصرٌة أٌام
الرومان ،وانتسبت العلوم المصرٌة لؽٌر أصحابها ،فصارت عٌون الحكمة المصرٌة تشتهر بؤسماء
أفبلطون وفٌثاؼورث وأرسطو مثبل ال باسم المصرٌٌن(.)ٔ9
وٌجدر المبلحظة هنا ،أنه رؼم اعتماد المسمٌات اإلؼرٌقٌة هذه رسمٌا ،إال أنها ظلت محصورة على
ألسنة األجانب والورق الرسمً ،فٌما المصرٌون -وخاصة األمٌٌن وفً األرٌاؾ -ظلوا محافظٌن على
األسامً المصرٌة النقٌة فً كل شًء ،وٌنطقون اسم بلدهم (كٌمة وأحٌانا خٌمً).
واألفدح ،هو محاولة تؽٌٌر سمعة المصري ذات الرنٌن التارٌخً الساحر؛ فؤلول مرة ٌعتبر أن ٌوصؾ
شخص بؤنه مصري تقلٌبل من شؤنه ،و ُترمى هذه الكلمة بؤحط الصفات مثل "بربري" و"منحط"؛ فكتب
إؼرٌقً ٌعٌش فً البهنسا ألسرته" :ربما تظنون أو تتوقعون أننً قد أصحبت بربرٌا أو مصرٌا ؼٌر
متحضر" ،نافٌا عن نفسه أن ٌكون قلَّد المصرٌٌن فً عٌشتهم القروٌة( ،)ٔ8بعد أن كان بعض اإلؼرٌق -مثل
هٌردوتٌ -قولون إنهم نقلوا الكثٌر من علومهم وآلهتهم عن معبودات مصر ،وٌروي هٌرودوت أٌضا حٌن
زار مصر خبلل االحتبلل الفارسً أن المصرٌٌن كانوا ٌؤنفون من تقبٌل المستوطنٌن الٌونانٌٌن فً شفاههم،
وال ٌستعملون آوانً األكل الٌونانٌة ،بل ال ٌذوقون لحم ثور طاهر إذا قُطع بسكٌن ٌونانٌة( ،)ٔ9وأبدى عجبه
من إسراؾ المتدٌنٌن المصرٌٌن فً نظافتهم(ٕٓ).
فصاروا بعد تمكنهم من رقبة المصرٌٌن ٌلبسون كلمة إؼرٌقً بؤعظم الصفات ،وباتت كلمة "متعلم"
مقترنة بمن ٌرتدي الزي الٌونانً ،وٌتكلم بلسان الٌونان ،وٌعٌش عٌشة الٌونان ،وٌكون اسمه من أسامً
الٌونان ،وأصدروا قوانٌن تمٌز الٌونانً عن المصري فً كافة المعامبلت.
()ٔ9
-انظر :متون هرمس الحكمة الفرعونٌة المفقودة ،تٌموثً فرٌك وبٌتر ؼاندي ،ترجمة عمر الفاروق عمر ،المجلس األعلى للثقافة ،ص ٕٙ
()ٔ8
-انظر :الحٌاة فً مصر فً العصر الرومانً ،نفتالً بولٌس ،ترجمة آمال الروبً ،مراجعة محمد حمدي إبراهٌم ،دار عٌن للدراسات والبحوث
اإلنسانٌة واالجتماعٌة ،ط ٔ ،القاهرة ،ٔ999 ،ص ٘ٗ
()ٔ9
-هٌردوت ٌتحدث عن مصر ،مرجع سابق ،ص ٕٖٔو ٖٗٔ ،ؤٕ٘ -ٔٗ9
(ٕٓ)
-تارٌخ الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،مرجع سابق ،ص ٕٔ8
ٔٔ7
ورؼم اضطرار الٌونانٌٌن لبلستعانة بالكثٌر من علوم ودٌانة الحضارة المصرٌة فً حٌاتهم ومعابدهم
ومنازلهم لشدة ما تبهرهم ،لكن اعتمدوا "تحقٌر المصرٌٌن" سٌاسة ثابتة ،لٌس ألن المصرٌٌن ٌستحقون
االحتقار ،ولكن لٌشعروهم باالحتقار؛ فٌشعروهم بؤنهم مختلفٌن عن األجداد القدامى صانعً هذه الحضارة
وتصبح مشاعا ،ولٌشعروهم بؤنهم لٌسوا أهبل إلدارة بلدهم ...فٌرضوا باحتبللهم ،أو ٌنكسروا ..ولٌشعروهم
بؤنهم لٌسوا أهبل الستكمال بناء الحضارة ،فٌتركوا الساحة لهم ...وال تقوم للمصرٌٌن قابمة أخرى.
ٌقول عباس العقاد فً استعراضه لوساٌل كافة المحتلٌن للحط من مكانة المصرٌٌن" :فالٌونان فً العالم
القدٌم كانوا ٌنقمون على المصرٌٌن الترفع والشمم واعتبارهم اإلؼرٌق جمٌعا فً الحضٌض األدنى من
مراتب الشعوب ،وكانوا ٌشعرون بنفور المصرٌٌن منهم ألنهم أعانوا الفراعنة الؽاصبٌن ]الخاسوتٌمٌٌن[
علٌهم ،ودخلوا زرافات زرافات فً الجٌوش المرتزقة التً كان أولبك الفراعنة ٌستعٌنون بها على حراسة
عروشهم وإخضاع رعاٌاهم ،وكان الٌونان ٌزعمون بطبٌعة الحال أن الفراعنة ٌتخذون الجٌوش المرتزقة
من األجانب ومن الٌونان خاصة ألن أبناء الببلد ال ٌصلحون للحرب وال ٌصبرون على مضانك الجندٌة"،
ور َّد العقاد بؤن هإالء الحكام استكثروا من المرتزقة الٌونان وأبعدوا المصرٌٌن عن الجٌش؛ خوفا من
الثورات المصرٌة ضدهم(ٕٔ).
وتجاهل الٌونانٌون أن المصرٌٌن هم الجٌش الوحٌد الذي ص َّد قباٌل شعوب البحر فً حٌن أن الٌونانٌٌن
رؼم تمرسهم فً عمل المرتزقة فشلوا فً صدهم ،بعد فشلهم فً إقامة دولة موحدة لهم ،وهرب بعضهم
لٌتنعم بمصر وعرق فبلحٌها.
ومن أجلى مظاهر الشموخ المصري فً ذلك الوقت أن المعابد المصرٌة لم ٌُقام فٌها تماثٌل للحكام
الٌونانٌٌن وال الرومان ،وفٌما ٌخص النقش فلم ٌُمثل فٌها على الجدران حاكم أجنبً إال بمبلبس ومبلمح
مصرٌة (رؼم أن أكثرهم لم ٌرتدوا المبلبس المصرٌة أصبل) ،ولم ٌُنصب فٌها ظل للمعبودات الٌونانٌة
كالمسخ سرابٌس ،ولم ٌُنقش على جدرانها حرؾ واحد من لؽة أجنبٌة.
بعد أن استتب األمر لئلسكندر بتتوٌجه حاكما لمصر ،بدأ خطوات إحكام قبضة اإلؼرٌق على مفاصل
الدولة ،فؤلؽى التنظٌم اإلداري الذي كان فً مصر قبله ،وقسم مصر إدارٌا إلى ٗ مناطق أو ٗ أقالٌم ،وهً
الوجهان القبلً والبحري ومنطقة الصحراء الشرقٌة ومنطقة الصحراء الؽربٌة ،وأوكل بإدارة الوجهٌن
القبلً والبحري لمصرٌٌن ،ومن ؼٌر الواضح إن كانا فعبل مصرٌٌن أم من المستوطنٌن المستمصرٌن،
وهما بتٌزٌس ودوالسبٌس ،فكل ما هو لٌس إؼرٌقً كانوا ٌسمونه "مصرٌا" ،وأوكل بإدارة الصحراوٌن
إلؼرٌق ،وهما أبولونٌوس كلٌومنٌس النقراطٌسً ،كما أوكل مهام قٌادة الجٌش لئلؼرٌق.
ووفق الدكتور مصطفى عبادي صار لكلٌومنٌس النقراطٌسً -أحد كبار المستوطنٌن اإلؼرٌق القدامى-
(ٕٔ)
-سعد زؼلول ،سٌرة وتحٌة ،عباس محمود العقاد ،الهٌبة العامة للكتاب ،ٕٓٔ9 ،ص 8-9
ٕٔ7
الحظوة األكبر فً المناصب ،فتولى أٌضا اإلشراؾ على الخزانة (وزارة المالٌة) وواإلشراؾ على بناء
اإلسكندرٌة فً موضع ال ٌفصله عن الٌونان سوى البحر(ٕٕ) ،وما ٌهمنا أكثر فً كلٌومنٌوس أنه به ترسخ
فً مصر عصر ٌمكن أن ٌوصؾ بعصر "رجال األعمال الدولٌٌن" والتجار المحتكرٌن والوسطاء
والسماسرة ،وهً المهن الؽرٌبة على الثقافة المصرٌة والتً سبق أن رأٌنا كٌؾ ؼرسها فً الببلد
المستوطنون اإلؼرٌق والٌهود فً األسرة ،ٕٙوهً األسس التً خلقت ما ٌُعرؾ حالٌا بالشركات المتعددة
الجنسٌات والبنوك العالمٌة وصوال لمنظمة التجارة العالمٌة.
والمتتبع ألعمال كلٌومنٌس ٌبلحظ أنه انتهج سٌاسة مقصودة الحتكار تجارة القمح عن طرٌق السٌطرة
على السوق المصرٌة بؤن ٌصبح هو المصدر الوحٌد للقمح ،وعن هذا السبٌل استطاع التحكم فً تجارة
القمح العالمٌة ،وتحدٌد أسعاره فً الخارج على نحو ٌحقق له الربح الوفٌر(ٖٕ).
ولٌصل إلى مرحلة االحتكار واالنفراد هذه قضى على سابر المنافسٌن المحلٌٌن له ،مثل رجال المعابد
وكبار المزارعٌن والمصدرٌن ،مثلما تفعل حتى الٌوم الشركات العالمٌة فً مصر.
وبدأ برجال المعابد ،فاستعمل الحٌلة إلرهابهم واستنزافهم بالتدرٌجً حتى ال ٌفاجبهم فٌثوروا؛ إذ جمعهم
وأعلنهم أن المعابد تتكلؾ المال الكثٌر ،ولذلك ٌجب القضاء على بعضها ،فخافوا على معابدهم واتفقوا على
جمع مبلػ كبٌر من أمبلكهم الخاصة أو من أموال المعابد وقدموها لكلٌومنس(ٕٗ) ،وهذه الجولة األولى،
بعدها اتجه إلى المزارعٌن ،فتخلص من منافستهم بؤن اتفق معهم على أن ٌبٌعوا له جمٌع محصولهم من
القمح بالسعر الذي كانوا ٌصدرون به -أي ٌصبح وسٌطا بٌنهم وبٌن الخارج رؼم أنهم لم ٌكونوا بحاجة
لذلك من قبل -وبذلك احتكر تجارة القمح ،وأصبح المصدر الوحٌد لها.
أما عن تحكمه فً األسواق العالمٌة فعبر شبكة متقنة من السماسرة والوكبلء بثهم فً موانا البحر
األبٌض المتوسطٌ ،خبرونه أوال بؤول عن أسعار القمح ،وحٌنما ٌشح فً سوق وٌرتفع سعره ٌنتهز الفرصة
وٌرسل إلى ذلك السوق شحنات القمح ٌبٌعها بالسعر الذي ٌفرضه هو ،حتى ٌقال أنه باع الكٌل من القمح فً
بعض األزمات بمبلػ ٕٖ دراخمة ،بٌنما السعر العادي بٌن ٘ ٔٓ-دراخمات فقط(ٕ٘).
وبذلك تكون محاولة كلٌومنٌس إنشاء تجارة احتكارٌة دولٌة هً األولى فً التارٌخ( ،)ٕٙوأصبح للقمح
المصري أهمٌة اس تراتٌجٌة كما صار للقطن فٌما بعد ،وذلك على حساب ؼذاء المصرٌٌن ،فلنا أن نتخٌل كم
نقص نصٌب كل مصري من ؼذاء القمح لٌستؽله المحتكرون فً بٌعه بؤرباح باهظة فً الخارج.
وكثٌرا ما تكونت فً اإلسكندرٌة شركات دولٌة من تجار ذوي جنسٌات مختلفة للقٌام بتجارة عالمٌة،
ٌوضح هذه الظاهرة عقد تجاري بحري الستٌراد التوابل من شرق أفرٌقٌا عن طرٌق البحر األحمر،
(ٕٕ)
-مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً ،مصطفى العبادي ،مرجع سابق ،ص ٕٕ
(ٖٕ)
-انظر مرجع سابق ،ص ٖٕٕٗ -
(ٕٗ)
-انظر :نفس المرجع ،وهذا نفس األسلوب الذي سٌتبعه محمد علً أٌضا فً تنفٌذه لسٌاسة االحتكار فً القرن ٔ9
(ٕ٘)
-انظر :نفس المرجع ،ص ٕٕٗ٘ -
()ٕٙ
-نفس المرجع
ٖٔ7
فؤطراؾ العقد ٌنتمون إلى أكثر من 9جنسٌات مختلفة(.)ٕ9
توفً اإلسكندر األكبر خبلل فتوحاته فً الخارج؛ فارتبكت اإلمبراطورٌة ألنه لم ٌضع نظاما لوراثة
العرش ،وانتهى الخبلؾ بٌن قادته إلى أن قتل زوجته روكسانا ورضٌعها ،وتقاسم الببلد المفتوحة ،فتولى
بردٌكاس أمر آسٌا ،والٌونان توالها أنتٌباتروس ،أما مصر فتوالها بطلمٌوس بن الجوس؛ باعتبارها والٌة
"سترابا" تابعة لئلمبراطورٌة ،لكنه لم ٌكتؾ بؤن ٌكون مجرد "والً" فاستؽل صراع القادة فً آسٌا والٌونان
على الحكم واؼتٌال بردٌكاس على أٌدي ضباطه ،واستقل بمصر ،وبدأ العصر المعروؾ باالحتبلل
البطلمً ،نسبة ألن حكامه تسموا ببطلمٌوس ،بداٌة من هذا وحتى بطلمٌوس الخامس عشر(.)ٕ8
وأهلك ثروات مصرٌة ضخمة فً صراعاته مع خصومه حكام سورٌا والٌونان الذٌن استكثروا علٌه
حكم مصر ،كما أهلك البطالمة أموال المصرٌٌن على أفراح ؼٌرهم ،وعلى سبٌل المثال فإن بطلمٌوس
الثانً المشهور بالبذخ والمجون وسط المحظٌات جمع حوله كل أسباب الفخامة والنعٌم ،ومنها أنه بعدما
زوجه من ابنته برنٌقة ،وحسب تقالٌد العصر كانت المرأة أو أوقؾ الحرب مع أنتٌوخس ملك سورٌاَّ ،
والدها من ٌقدمون المهر ،وٌبدو أن مهر برنٌقة كان من الضخامة بحٌث لقبت بحاملة المهر(.)ٕ9
وفٌما ٌخص سٌاسته الداخلٌة اعتمد بطلمٌوس نظام الحكم المركزي القوي ،النظام المصري األصٌل فً
الحكم ،ودار فً ذهنه سإال" :هل سٌحكم مصر بواسطة المصرٌٌن أم المقدونٌٌن واإلؼرٌق؟".
واإلجابة كانت سرٌعة فقرر "االعتماد على المقدونٌٌن واإلؼرٌق -رؼم تنافرهم وتنافسهم -فً جٌشه
وحكومته ،وفتح باب مصر لهجرات إؼرٌقٌة جدٌدة؛ ومنح ضباط جٌشه وموظفً الدولة قطعا من األرض
ٌستثمرونها وقت السلم(ٖٓ) ،وهذا األمر من بوادر ظهور نظام "الوسٌة" الذي ترسخ فً العصر الرومانً،
وربما كان له جذور فً السابق ،وفٌه ٌستقطع الحاكم قطعا من األرض للوافدٌن كمكافبات على خدماتهم
للحكومة ،وبمرور الوقت صاروا ٌتوارثونها ،حتى وصلت إلى وراثة قرى بؤكملها.
قبل االحتبلل الٌونانً عاش الٌونانٌون وؼٌرهم من مرتزقة وتجار فً مستوطنات خاصة بهم ،مثل
نقراش ومستوطنات أخرى فً دمٌاط ،وأخرى فً منؾ.
()ٕ9
-انظر :نفس المرجع ،ص ٕٗٔ
()ٕ8
-انظر :مرجع سابق ،ص ٕ9
()ٕ9
-انظر مصر من اإلسكندر األكبر وحتى الفتح العربً ،مرجع سابق ،ص ٕٙ -٘9
(ٖٓ)
-انظر :مرجع سابق ،ص ،ٗ8 -ٗٙو*المقدونٌٌن والٌونان عرقان متصارعان ،وٌحتقر المقدونٌون كل ٌونانً ،حتى أن الٌونان فً بالدهم لم
ٌفرحوا بانتصارات اإلسكندر المقدونً ،وساعدت إسبرطة الفرس ضده (فٌما ساعده ٌونانٌون فً مصر) ،ولم ٌعتز الٌونان باإلسكندر إال فً عصر
الحق بعد شهرته العرٌقة وربطها بال ثقافة الهلٌنٌة .انظر :فً أصول المسؤلة المصرٌة ،صبحً وحٌدة ،مرجع سابق ،ص ٔ7
ٗٔ7
وهذا النظام وافق طبٌعة معٌشتهم فً ببلدهم األصلٌة بالٌونان ،القابمة على نظام المدٌنة الدولة ،فالٌونان
لم تكن دولة واحدة مثل مصر ،بل كل مدٌنة ٌونانٌة دوٌلة بذاتها ،وأهلها ٌدٌرون شبونهم بشكل منفصل لعدم
تجانسهم ولكثرة صراعاتهم واستعبادهم وإذاللهم لبعضهم.
وبعد االحتبلل اتخذوا بدال من المستوطنات الصؽٌرة مد ًنا كبٌرة ،وهً اإلسكندرٌة التً اختاروا لها
موقع قرٌة راكوتة ،ومدٌنة المنشاة فً سوهاج (بطلمٌة) ،وحولوا نقراش (نقراطٌس) إلى مدٌنة ،وأداروهم
بنظام المدن الٌونانٌة ،وقسموا كل مدٌنة ألحٌاء وقباٌل كعادتهم ،وصارت حكرا علٌهم وعلى المتؤؼرقٌن،
ومحرمة على المصرٌٌن أصحاب البلد ،عدا وجود مصرٌٌن فً قرٌة راكوتة التً صارت ضمن
اإلسكندرٌة ،ولكن محرومون من الحقوق السٌاسٌة والمدنٌة كؤنهم أجانب عن المدٌنة(ٖٔ).
وانطبق علٌهم وعلى المصرٌٌن فً كل المحافظات قول محمود حسن إسماعٌل ٌصؾ حال المصرٌٌن
أٌام االحتبلل اإلنجلٌزي(ٕٖ):
وبذلك ٌكون الٌونانٌون توؼلوا ألول مرة فً الوجه القبلً بإنشاء المنشاة ،تماشٌا مع انتشار حامٌاتهم
العسكرٌة ،وتبعا النتشار ما تملكوه من أراضً فً أنحاء مصر ،وللحد من نفوذ مدٌنة واسط "طٌبة".
وإضافة للمدن الثبلثة ،أنشؤوا نظاما اسمه "نومات" والمفردة "نوموس" ،وهً عاصمة المدٌنة ،بحٌث
اختاروا مدنا مصرٌة ،وحولوا قلبها إلى مدٌنة مؽلقة على اإلؼرٌق ،لٌكونوا قرٌبٌن من األراضً التً
سٌطروا علٌها(ٖٖ) ،وش َّكلت هذه المدن بقعا واضحة االختبلؾ فوق الجسد المصري المتنافر معها ،كؤنها
جزر تسبح فً فوق صفحة مٌاه المحٌط المصري األخضر بحسب أحد التعابٌر.
عندما احتل البطالمة مصر ،اتخذوا إجراءات أزاحت اللؽة المصرٌة عن عرشها كلؽة رسمٌة للببلد
ألول مرة فً تارٌخها ،فؤعلنوا الٌونانٌة لؽة رسمٌة للمعامبلت ،وهً لؽة العلم فً المعاهد.
وساهم الفرق بٌن اللؽتٌن ،وقلة المصرٌٌن العالمٌن بالٌونانٌة فً الفصل الطوٌل بٌن معظم المصرٌٌن
واألجانب طوال االحتبللٌن الٌونانً والرومانً ،أما المصرٌٌن الذٌن تعلموا الٌونانٌة فهم من ٌُلحقون
بؤعمال حكومٌة ،أو ٌعملون فً خدمات بالمزارع والتجارة ،أو المجموعة النادرة التً شقت لها طرٌقا فً
فً اإلسكندرٌة لما بدأ االحتبلل الٌونانً ٌشٌخ.
ولكن ظلت على كل حال اللؽة المصرٌة هً لؽة المصرٌٌن فً حٌاتهم ،وفً نفس الوقت ،فرؼم اعتبار
(ٖٔ)
-انظر :تارٌخ مصر فً عصري البطالمة والرومان،أبو الٌسر فرج،العٌن للدراسات والبحوث اإلنسانٌة واالجتماعٌة ،طٕ،ص ٔٔٓ -99
(ٕٖ)
-قصٌدة دعاء الشرق ،كلمات :محمود حسن إسماعٌل ،ؼناء وألحان محمد عبد الوهاب
(ٖٖ)
-انظر :مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً ،ص ،ٗ9الحٌاة فً مصر فً العصر الرومانً ،نافتالً لوٌس ،ص ٖٖٓٔ -
٘ٔ7
الٌونانٌة هً اللؽة الرسمٌة ،إال أن الحكومة تصدر المراسٌم الهامة باللؽتٌن المصرٌة والٌونانٌة مثلما رأٌنا
على حجر رشٌد الذي ٌعود لذلك الزمن.
وببل شك أن األمٌة (فٌما ٌخص الجهل بكتابة وقراءة اللؽة المصرٌة) زادت فً االحتبلل الٌونانً ،ففٌما
سبق كان المصرٌون أو حتى المستمصرٌن الناطقٌن باللؽة المصرٌة هم من ٌتولون الوظابؾ الحكومٌة
التً تتطلب القراءة والكتابة باللؽة المصرٌة ،أما فً االحتبلل الٌونانً حل اإلؼرٌق محل المصرٌٌن فً
معظم الوظابؾ ،وحتى المصري الذي ٌحصل على وظٌفة ٌضطر للكتابة بالٌونانٌة.
وفٌما ٌخص الثقافة عموما ،تحولت دولة االحتبلل البطلمً لمركز إشعاع بفضل مكتبة اإلسكندرٌة التً
جمعت لها أكبر وأندر عدد من الكتب فً العالم ،وأصبحت اإلسكندرٌة محط أنظار كل طالب علم على
مستوى رفٌع ،بعد أن كانت تحظى بهذه المكانة منؾ وطٌبة وأون فً أزمنة الحكم المصري.
ولكن على ما فً مكتبة اإلسكندرٌة من شهرة فً تطوٌر العلوم ،إال أنها كانت نكبة ثقافٌة من ناحٌة
أخرى بالنسبة لحضارة مصر ،ألنه ٌُعتقد أن اإلؼرٌق جمعوا وثابق وكتب مصرٌة هامة مما تحتفظ بها
المعابد والمنشىآت الرسمٌة من أنحاء مصر ،وضموها إلى مكتبة اإلسكندرٌة الستكشاؾ أسرار مصر،
ولترجمتها ونقلها إلى الٌونانٌة ،فؤبعدوها عن ٌد المصرٌٌن فً المدن البعٌدة عن اإلسكندرٌة ،وق َّل انتفاع
المصرٌٌن بها ،وقلَّت قدرتهم على تطوٌرها ،فٌما كانت مشاعا ألجناس األرض باألسكندرٌة.
وهذه الثروة الكبٌرة احترقت فً حرٌق مكتبة اإلسكندرٌة فً عصر كلٌوباترا ،وهو ما ضٌعَّ األصول
المصرٌة فً الكثٌر من العلوم والفنون التً تم نسبتها لحضارات أخرى بعد ذلك ،وبهذا ٌصح القول إن
مكتبة اإلسكندرٌة لم تكن مكسبا حقٌقٌا إال لئلؼرٌق واألجانب.
إن كان االحتبلل ال َقبلً الدخٌل نشر الخرافات فً الدٌن المصري مثل المبالؽة فً تقدٌس الحٌوانات
والشكلٌات وخرافة اللجوء للوحً فً كل األمور داخل المعابد ،واالحتبللٌن اآلشوري والفارسً دمروا
ونهبوا المعابد ،فإن االحتبلل الٌونانً تسبب فً تكدٌس ما ٌوصؾ بتعدد األدٌان والمذاهب المتعارضة التً
جلبها المستوطنون معهم ،وخلط الدٌن البسٌط العذب بفلسفات معقدة متشاحنة.
فالمشهد الدٌنً فً مصر أصبح على هذا الشكل :المصرٌون لهم دٌنهم الراسخ فً جذور األرض ،ثم
المقدونٌون واإلؼرٌق والسورٌون والفٌنٌقٌون والفرس والٌهود وقباٌل وفدت من الشرق والؽرب وؼٌرهم،
ولكل جماعة من هإالء أدٌانه وأربابه ولؽاته(ٖٗ) ،وإن التقوا سوٌا بالحدٌث بالٌونانٌة.
وكثرة األعراق والمذاهب هذة أوقدت معارك ومشاحنات من حٌن آلخر ،فاحتاج المحتل الجدٌد لنوع من
الوحدة الدٌنٌة تشمل بالذات المصرٌٌن باعتبارهم األكثر عددا واإلؼرٌق باعتبارهم األكثر نفوذا ،حتى تساند
(ٖٗ)
-انظر :مصر من اإلسكندر األكبر حتى الفتح العربً ،مرجع سابق ،ص ٓ٘
ٔ7ٙ
هذه الوحدة الدٌنٌة الوحدة السٌاسٌة للدولة ،فاخترع بطلمٌوس األول ربا جدٌدا أسماه "سرابٌس" مكون من
الدمج بٌن المعبود المصري أوزٌر أبٌس ،وبٌن صفات معبودات ٌونانٌة مثل اسكلبٌوس ،ودٌونٌسٌوس
وهلٌوس وزٌوس(ٖ٘) ،وهكذا انتقل األمر من مجرد تشوٌه للعقٌدة إلى إعادة تدوٌر واختراع لتخرج عقٌدة
لٌست لها عبلقة بروح مصر.
سرابٌس بذقن كثٌفة وشعر طوٌل ومبلمح قاسٌة وجثة ضخمة ومبلبس إؼرٌقٌة ،لٌس فٌه من المصرٌٌن شًء ،فتركزت عبادته فً معابد اإلؼرٌق،
وظل المصرٌون على دٌنهم القدٌم (المتحؾ القومً فً اإلسكندرٌة)
وأدخل الٌونانٌون أٌضا فً مصر بدعة جدٌدة هً "عبادة الملوك" فً حٌاتهم وبعد مماتهم ،فإن كان
المصري مشهورا بتبجٌل حكامه وتقدٌس ذكراهم بعد مماتهم ،خصوصا من قدموا أعماال جلٌلة مثل زوسر
ومٌنا وتحوتمس ،إال أنه لم ٌخصص عبادة لهم إال زٌارة أضرحتهم بعد وفاتهم وتقدٌم القرابٌن بنفس روح
تبجٌل األولٌاء والقدٌسٌن فً المسٌحٌة واإلسبلم فٌما بعد ،وبروح شعبٌة خالصة ،ولكن البطالمة وضعوا
عبادة الملوك ،أحٌاء وأموات وبمرسوم من الدولة(.)ٖٙ
ورؼم ذلك تدل اآلثار فً المعابد وأنحاء مصر على أن البدع الٌونانٌة الجدٌدة انتشرت بشكل محدود،
فظل معظم المصرٌٌن مرتبطٌن برموزهم وأربابهم المعروفٌن من القدم ،ولم تنتشر المعابد الٌونانٌة
وأربابها "المكلكعٌن" خارج المدن التً ٌحتكرها الٌونانٌون ،بل وتفوق ما تسمى وقتها بعبادة إٌزٌس
المصرٌة على المعبودات اإلؼرٌقٌة حتى وصلت إلى أن ٌكون لها معابد رسمٌة فً روما ؼربا ،فؤصبحت
صاحبة أول دٌانة منتشرة عالمٌا خارج حدود بلدها(.)ٖ9
وفً نفس الوقت ،حرص البطالمة على عدم تؤجٌج الؽضب المصري ألقصاه بإعاده بناء أو ترمٌم ما
تهدم من بعض المعابد المصرٌة فً زمن الحروب واإلهمال؛ وهذه المعابد هً من أبقت لنا على الشكل
الكامل للمعابد المصرٌة فً العصور السابقة لها ،وصارت درة المعابد ،ومنها معابد دندرة وفٌلة وإدفو.
(ٖ٘)
-انظر :نفس المرجع ،ص ٓ٘ ٕ٘-
()ٖٙ
-انظر :مرجع سابق ،ص ٕ٘
()ٖ9
-مصر من اإلسكندر األكبر حتى الفتح العربً ،مرجع سابق ،ص ٕ٘
ٔ77
❿ -توزٌع أرض مصر على األجانب
تابعنا كٌؾ جرى توزٌع جانب من أرض مصر إلى ما ٌشبه اإلقطاعٌات على كبار عاببلت االحتبلل
الخاسوتٌمً القبلً ،ثم كمستوطنات للمرتزقة والمستوطنٌن األجانب.
وحٌن هبط االحتبلل الٌونانً وضع نظاما للملكٌة قسم األرض المصرٌة إلى ٙأنواع ،األول ٌسمى
أرض الملك وهً معظم أراضً مصر وٌزرعها أعداد ضخمة من المزارعٌن ٌطلق علٌهم اسم "فبلحو أو
مزارعو الملك" ،وأحٌانا تإجر للمزارعٌن نظٌر إٌجار عٌنً ٌإخذ من محصول األرض(.)ٖ8
وألن شروط عقد اإلٌجار مجحفة بالمزارعٌن فكثٌرا ما عجزوا عن سداد اإلٌجار ،ولجؤوا إلى الفرار
من األرض ،ومنهم من لجؤ للمعابد ووهب نفسه لخدمتها ،وفً هذه الحالة ال تستٌطع سلطة الدولة أن تناله
بسوء ،احتراما لحق المعابد فً الحماٌة( ،)ٖ9وربما كان اللجوء للمعابد ووهب النفس لخدمة اإلله هو ما
أفرز نظام الرهبنة أٌام االضطهاد الرومانً.
النوع الثانً هً األوقاؾ ،فمنذ القدم وللمعابد المصرٌة أوقاؾ من األراضً ،مثلما أصبح للكنابس
والمساجد فٌما بعد ،وسعى الٌونانٌون لسلبها مثلما فعل كلٌومٌنٌس ،ووضعوها تحت سلطة الدولة مباشرة،
ثم عاد بعضها إلٌها نتٌجة للثورات المصرٌة.
النوع الثالث أراضً ُخصصت كإقطاعات خاصة لموظفً الحكومة اإلؼرٌق أو المتؤؼرقٌن ،وهً
أراضً بور ،تمنح لهم كمكافبة إن استزرعوها ،وٌبقى عابدها هو راتبهم طوال فترة وظٌفتهم ،ثم تعود
ملكٌتها للحكومة(ٓٗ) ،والنوع الرابع أراضً مخصصة كإقطاعات عسكرٌة تمنحها الدولة البطلمٌة لئلؼرٌق
واألجانب الذٌن خدموا فً الجٌش البطلمً طوال فترة حٌاتهم ،ثم تعود للدولة بعد وفاتهم ،ولكن فً نهاٌة
القرن الثانً ق.م صارت ملكٌة خاصة ومسموح بتورٌثها.
وسمَّى البطالمة المنتفعٌن بهذه اإلقطاعات من اإلؼرٌق واألجانب ب"المستوطنٌن" ،وبعد معركة رفح
والثورة المصرٌة (سٌؤتً ذكرهما بعد قلٌل) وإدخال مصرٌٌن فً الجٌش البطلمً بدأوا ٌحصلون على
إقطاعات من تلك األراضً ،ولكنها أصؽر من مساحة األراضً التً ٌؤخذها اإلؼرٌق وبقٌة األجانب،
بحسب مصطفى العبادي(ٔٗ).
النوع الخامس من الملكٌات هو الملكٌة الشخصٌة ،وكانت محدودة جدا بالنسبة لمساحة أراضً الدولة،
وتتكون إما من اإلقطاعات العسكرٌة بعد أن صارت ُتورث ،أو من أراضً زراعٌة مستصلحة تملكها
أصحابها بعد استصبلحها ،أما النوع السادس واألخٌر من ملكٌة األراضً فهً أراضً المدن الثبلثة
()ٖ8
-انظر :نفس المرجع ،ص ٕ٘
()ٖ9
-نفس المرجع ،ص ٖٓٔ
(ٓٗ)
-انظر نفس المرجع ،ص ٖٖٖٓٔٔ -
(ٔٗ)
-انظر :مصر من اإلسكندر األكبر حتى الفتح العربً ،مرجع سابق ،ص ٖٖٔ
ٔ78
المخصصة للٌونانٌٌن(ٕٗ).
ومن هذا ٌتضح أن معظم األراضً المصرٌة فً عهد االحتبلل الٌونانً كانت موزعة على الحكومة
البطلمٌة واإلؼرٌق والوافدٌن األجانب.
على قدر ما كانت دولة البطالمة مركزا لئلشعاع العلمً ،على قدر ما كانت مركزا لنزؾ الدم والبؽضاء
والحروب لكثرة المعارك واالؼتٌاالت واالنقبلبات بٌن البطالمة فً الصراع على العرش ،أو لكثرة ثورات
المصرٌٌن ضدهم.
فبعد وفاة بطلمٌوس األول تولى ابنه الشاب بطلمٌوس الثانً ،وامتؤل قصر الحكم بالمإامرات العابلٌة،
فكانت إرسٌنوي الثانٌة ،زوجة بطلمٌوس الثانً ،تكٌد ضد أختها كً ال تنافسها فً إدارة شبون الببلد،
وكان أخٌه ماجاس الذي ٌحكم َبرقة ٌتآمر لٌستقل بها بعٌدا عن سلطانه ،ولكنه تصالح معه قبل وفاته ،ولما
مات بطلمٌوس الرابع ترك ولٌا للعهد عمره ٘ سنوات تحت وصاٌة أمه أرسٌنوي الثالثة ،فقتل القابد
العسكري سوسٌبٌوس الملكة لٌكون هو الوصً على ولً العهد ،وزٌَّؾ وصٌة للملك قرأها على الناس ،قال
فٌها إن الملك عهد إلٌه بالوصاٌة.
وكعادتهم ،اشترى والء القوات بالمال ،وعٌَّن أصدقاء فً المناصب الربٌسٌة ،وردا على ذلك أعلن
أتلٌب ولمٌس قابد حامٌة بلوزٌوم (الفرما) ثورة ضده فً اإلسكندرٌة ،قتل خبللها سوسٌبٌوس وأخته وأمه،
وصار أتلٌبولمٌس وصٌا على الملك الطفل ،واستؽل أنتٌوخس ملك سورٌا وفٌلٌب الخامس ملك مقدونٌا هذه
الصراعات للتوسع على حساب اإلمبراطورٌة البطلمٌة ،فدخل أنتٌوخس حربا مع الجٌش البطلمً انتهت
باستٌبلبه على سورٌا الجنوبٌة (فلسطٌن ولبنان).
وبعد موت مفاجا لبلطمٌوس الخامس -مسموما فٌما ٌبدو -كان ولً العهد بطلمٌوس السادس طفبل ،فكثر
أوصٌاء العرش والنزاعات ،وانقسم والء القوات بٌن األوصٌاء ،ووقعت حروب أهلٌة (بٌن البطالمة
وبعضهم) ،وصارت الدولة صٌدا ثمٌنا سهبل للتمربصٌن فً الخارج ،وخاصة روما(ٖٗ).
دخل البطالمة معارك مع أنتٌوخس السلوقً ملك سورٌا (السلوقٌون من بقاٌا جٌش اإلسكندر مثل
البطالمة) الستعادة السٌطرة على جنوب الشام انتهت بؽزوه مصر ،ووقع بطلمٌوس السادس أسٌرا خبلل
محاولته الهرب ،وولى اإلؼرٌق الثابرون فً اإلسكندرٌة بطلمٌوس السابع العرش ،وتوسط وفد من المدن
الٌونانٌة بٌن البطالمة والسلوقٌٌن حتى أقنعوا أنتٌوخس باالنسحاب من مصر ،وحصل اتفاق بٌن بطلمٌوس
السادس وبطلمٌوس التامن على أن ٌكون الحكم شركة بٌنهم.
(ٕٗ)
-انظر :نفس المرجع ،ص ٖٖ٘ٔٔٙ -
(ٖٗ)
-انظر :مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً ،مصطفى العبادي ،مرجع سابق ،ص ٘8
ٔ79
لكن أنتٌوخس عاد الكرة وهاجم مصر حتى حاصر اإلسكندرٌة ،وهنا ..لم تقؾ روما مكتوفة األٌدي،
فهً على علم بحقٌقة الموقؾ ،وتحرص على أال تتؽلب دولة على دولة؛ فسارعت بإرسال مندوب عنها إلى
معسكر أنتٌوخس قرب اإلسكندرٌة ٌطالبه باالنسحاب من مصر "فً الحال"(ٗٗ) ،وبلػ من سلطان روما أن
ردت على تردد أنتٌوخس فً االنسحاب بؤن مندوبها "الٌناس" رسم حوله دابرة بعصاة ،وطلب منه أن ٌرد
على طلب روما باالنسحاب قبل أن ٌؽادر الدابرة ،و ُبهت الملك من عنؾ هذا التصرؾ ،لكنه بعد تردد
قصٌر أجاب بؤنه سٌفعل كل ما ٌطلبه منه الرومان(٘ٗ).
وقُتل بطلمٌوس السادس خبلل حرب جدٌدة مع السلوقٌٌن فً الشام ،تاركا ولً عهد صؽٌر هو
بطلمٌوس السابع الذي قتله عمه بطلمٌوس الثامن لٌخلو له الحكم منفردا ،وتزوج أمه كلٌوباترا الثانٌة،
واؼتصب ابنتها كلٌوباترا الثالثة ثم تزوجها( ،)ٗٙوصار هذا الملك المارق معتمدا بشكل كبٌر على روما،
حتى أنه عُثر على نقش فً برقة ٌتعهد فٌه لروما بؤن تإول مملكته إلٌها إذا توفً بؽٌر ورٌث للحكم(.)ٗ9
وسط كل هذا "العك" فً الحكم ،تؤجج أكثر إحساس المصرٌٌن بالنفور من اإلؼرٌق والحرقة من تكبرهم
على أهل البلد ،وظهر فً األدب الشعبً نبوءات تبشر بٌوم الخبلص وطرد األؼراب من مصر ،فاشتعلت
ثورات متتابعة ،كشفت كتب مإرخً الٌونان والرومان عن ٘ منها على األقل ،أشدها ثورة ٕٔ9ق.م(.)ٗ8
ووقعت الثورة بعد حادث لم ٌخطر للمصرٌٌن على بال ،ففً وسط مستنقع المإامرات الذي ٌسبح فٌه
القصر البلطمً انتهز أنتٌوخس الثالث ملك سورٌا الوضع لٌستعٌد سورٌا الجنوبٌة من مصر ،واستعان
سوسٌبٌوس قابد الجٌش البطلمً بالٌونان والمرتزقة ،ولكنهم لم ٌإدوا الؽرض ،فقام بخطوة ؼٌر مسبوقة
منذ سنوات طوٌلة ،وهً تجنٌد المصرٌٌن فً صفوؾ الجٌش النظامً.
فقد اضطر لتجنٌد ٕٓ ألؾ من المصرٌٌن الفبلحٌن ودربهم ضباط مقدونٌون وإؼرٌق على أسالٌب
الحرب المقدونٌة( ،)ٗ9وقبل هذا كان البطالمة ٌخشون المصرٌٌن بوجه عام ،وال ٌجازفون بتجنٌدهم فً
الجٌش العامل بوجه خاص(ٓ٘) ،بتعبٌر الدكتور سلٌم حسن ،وٌؽطون هذا باتهامهم بالجبن.
وربما سبب اضطرار بطلمٌوس الرابع لتجنٌد مصرٌٌن فً تلك الحرب هو ضمانه أنهم حتى فً حالة
الهزٌمة لن ٌنتقلوا إلى صفوؾ عدوه فً سورٌا ،ذلك أنه فً إحدى المواجهات السابقة انتصر أنتٌوخس،
واستولى على شمال فلسطٌن وقضى على حامٌتٌن تتبعان البطالمة ،ما أدى النشقاقات فً صفوؾ الجنود
(ٗٗ)
-انظر :نفس المرجع ،ص 89
(٘ٗ)
-انظر :الحٌاة فً مصر فً العصر الرومانً ،نافتالً لوٌس ،مرجع سابق ،ٔ999 ،ص ٗٔ
()ٗٙ
-انظر :مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً ،مصطفى العبادي ،مرجع سابق ،ص 89 -88
()ٗ9
-انظر :الحٌاة فً مصر فً العصر الرومانً ،مرجع سابق ،ص ٗٔٔ٘ -
()ٗ8
-انظر :تارٌخ مصر فً عصري البطالمة والرومان ،أبو الٌسر فرج ،عٌن للدراسات والبحوث اإلنسانٌة واالجتماعٌة ،طٕ ،ص ٓٓٔ
()ٗ9
-انظر :مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً ،مصطفى العبادي ،ص ٖ9
(ٓ٘)
-موسوعة مصر القدٌمة ،سلٌم حسن ،الجزء ٗٔ ،مرجع سابق ،ص ٖٕٗ
ٓٔ8
المرتزقة فً الجٌش البطلمً ،وانضم رجال بطلمٌوس ،ومنهم سٌراس وهٌبولوكس إلى معسكر أنتٌوخس
المعادي ،وقادوه ضد الجٌش البطلمً(ٔ٘) -كعادة المرتزقة "أبجنً تجدنً" -وهو ما سٌتكرر مع محمد علً
فٌما بعد الذي اضطر لتجنٌد المصرٌٌن فً القرن ٔ9بعدما خذله المرتزقة فً عدة معارك.
وفً موقعة رفح(ٕ٘) واجه الجٌش البطلمً -بما فٌه الفرقة المصرٌة -الجٌش السلوقً سنة ٕٔ9ق.م،
والمٌزان فً البداٌة لصالح ملك سورٌا ،وبعد قتال عنٌؾ التحم فٌه المشاة من الجانبٌن ،وأمام عجب
ٌمض على تجنٌدهم عام ونصؾ جدارتهم فً المعركة الخطٌرة رؼم بُعد ِ الجمٌع ،أثبت الفبلحون الذٌن لم
عهدهم بالقتال ،ولم تنته المعركة إال وكان لهإالء الجنود الفضل األكبر فً كسبها ،وهكذا احتفظت مصر
بسٌادتها على سورٌا الجنوبٌة ،بما فٌها فٌنٌقٌا وفلسطٌن(ٖ٘) ،مثلما م َّكن الفبلحون أٌضا محمد علً من فتح
عكا والسٌطرة على الشام.
المعركة لم تكن فاصلة فقط للٌونانٌٌن ،بل األهم ،فاصلة للمصرٌٌن ،فمن هذه اللحظة تعبؤوا بعزتهم
القومٌة وعادت ثقتهم فً أنفسهم كجنود مقاتلٌن منتصرٌن بعد أن ظلوا مؽلوبٌن على أمرهم مهملٌن تحت
حكم البطالمة الذٌن وصفوا المصرٌٌن بؤنهم "شعب منحط" وال ٌصلح لقتال ،فهذا النصر أظهر لهم أنهم
أصلب عودا وأشدا بؤسا مما كان ٌظنه فٌهم المحتلون ،ورأوا بؤنفسهم اإلؼرٌق ٌولون األدبار ،فً حٌن أنهم
كانوا ٌقفون هم فً وجه كل هجوم جبار ٌصوبه لهم العدو(ٗ٘).
وأذن الجو بلحظة المواجهة...أخذت الثورة الكبرى ٌُسمع دبٌبها فً طول الببلد وعرضها ،وانتهز رجال َّ
الدٌن الفرصة ،وأعلنوا تحدٌهم للبطالمة ،ولم ٌنتبه بطلمٌوس الرابع للحركة الوطنٌة التً تتفشى ،فٌما أخذ
المصرٌون ٌتحدثون عن ضعؾ هذا التسلط األجنبً الذي لم ٌعرؾ قٌمتهم إال فً األزمات حٌن ٌعجز عن
حلها ،وأنه لم ٌعد فً طاقتهم احتمال تلقً األوامر من البطالمة ،وبدأوا ٌبحثون عن حاكم من بنً جلدتهم،
ففطن الملك رؼم انؽماسه فً الشهوات إلى أن تجنٌد المصرٌٌن كان عمبل عظٌما أنقذ الببلد من الخطر ،إال
أنه خطر على البطالمة(٘٘).
واندلعت نار ثورة عامة بٌن األهالً أوال فً الدلتا ثم فً الصعٌد( ،)٘ٙولؤلسؾ ،ورد القلٌل جدا من
أخبارها ،ال تروي الظمؤ ،والواضح أنها استمرت سنوات طوٌلة بعد وفاة بطلمٌوس الرابع ،وٌدل على هذا
ما ورد على حجر رشٌد الذي تم نقشه بعد ٕٕ سنة من اندالع الثورة ،وفٌه إشارة لقٌام بطلمٌوس الخامس
بمعاقبة زعماء الثورة المصرٌة.
(ٔ٘)
-انظر نفس المرجع ،ص ٕٕ٘ٗٗٙ -
(ٕ٘)
-رفح كلمة مصرٌة ،أصلها ربح ،تتكون من مقطعٌن ،األول "را" بمعنى فم أو بداٌة ،و"بح" بمعنى النهاٌة أو الوصول ،والمعنى فم النهاٌة،
أي نهاٌة الحدود المصرٌة ،ومع الوقت انقلبت الباء إلى فاء كعادة المصرٌٌن ،مثلما حولوا كلمة "بتاح" إلى "فتاح ،و"بٌوم" إلى "فٌوم" ,انظر
مقالة ســـــٌناء تراب وتراث مصر مــــنذ األزل ،ٔ -علً رضوان ،صحٌفة األهرام ،العدد ٖٕ٘ٓٗٗٓٓ8- ٖ -ٕٙ ،
(ٖ٘)
-مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً ،مصطفى العبادي ،مرجع سابق ،ص ٗ9
(ٗ٘)
-انظر :موسوعة مصر القدٌمة ،الجزء ٗٔ ،مرجع سابق ،ص ٖٖٗ
(٘٘)
-انظر :المرجع السابق ،ص ٖٖٖٗٗٗ -
()٘ٙ
-مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً ،مرجع سابق ،ص ٘9
ٔٔ8
كما وردت إشارات فً كتب المإرخٌن عن اشتداد القوات البطلمٌة فً قتل المصرٌٌن ،وأورد
"بولٌبٌوس" عبارة مختصرة أن الجانبٌن ،المصري والبطلمً ،استخدما "القسوة والطؽٌان(.")٘9
وإشارة لقوة تلك الثورة ورد أن فٌلٌب ملك مقدونٌا ،وأنتٌوخس ملك سورٌا ،قدما مساعدة لبطلمٌوس
الرابع لقمع الثورة بحجة "حماٌة السلطة الشرعٌة فً الببلد المصرٌة من عبث الثوار" -رؼم العداء
المستحكم بٌن مقدونٌا وسورٌا ومصر -وأٌضا بحجة "المحافظة على التجارة الدولٌة" التً كانت مصر
مركزا هاما لها ،وكانت حجج لتدخل الدولتٌن فً الشبون المصرٌة من هذا الباب( )٘8وهً نفس حجج
االحتبلل البرٌطانً بعد ٕٓٓٓ سنة لقمع ثورة ٔ ٔ88التً قادها أحمد عرابً.
وقال المإرخ بولٌبٌوس إن الثورة "كانت طوٌلة األمد ،وخاصة فً طٌبة ،بل واستطاع األهالً إعبلن
استقبللهم عن اإلسكندرٌة حتى عام ٘ ٔ8ق.م فً حكم الملك بطلمٌوس الخامس(.)٘9
أي ٌمكن تقدٌر أن الثورة ظلت مشتعلة ٕٖ سنة ،وهً فترة ضخمة إذا ما تذكرنا أن المصرٌٌن كانوا
ؼٌر مدربٌن على القتال -عدا من شاركوا فً معركة رفح ،وهإالء كبروا فً السن مع طول أمد الثورة-
وأنهم ال ٌملكون ثروات كبٌرة وأسلحة حدٌثة تعٌنهم ضد البطالمة المحتكرٌن لثروة مصر وسبلحها.
واضطر المصرٌون إلى التسلٌم فً ٔ99ق.م بسبب الفٌضان المرتفع الذي أضعؾ مركزهم وأعان
العدو على إحكام الحصار علٌهم ،ومع ذلك عاملهم الجٌش البطلمً معاملة وحشٌة ونفذ فٌهم اإلعدام ،فجدد
هذا الؽضب فً النفوس وتجددت الثورة حتى قضى علٌها جٌش البطالمة سنة ٘ ٔ8ق.م(ٓ.)ٙ
ومما ٌدل على عمق جذور هذه الثورة فً نفوس األهالً ما ورد فً بردٌة دٌموطٌقٌة ترجع إلى ذلك
العصر ،تحتوي على نبوءة ٌدعً كاتبها أنها ترجع إلى عصر ملك سماه تاخوش ( ٖٙٓ -ٖٙٙق.م) من
ملوك األسرة ٖٓ ،وتتحدث عما تعرضت له مصر من احتبلالت بعده من الفرس ثم اإلؼرٌق ،وفً نهاٌتها
تقدم بشرى للمصرٌٌن بؤن ٌوم الخبلص قرٌب ،وأنه سٌظهر واحد من أبناء إهناسٌا ٌحرر مصر وٌطرد
األجانب واإلٌونٌٌن ،أي اإلؼرٌق.
وفً رأي مصطفى عبادي فإن النبوءة قد تكون دعاٌة نشرها زعماء الثورة لتحفٌز المصرٌٌن وتعببتهم
باألمل(ٔ ،)ٙولكن فً كل األحوال فالثورة والوثٌقة دلٌل على أن المصرٌٌن عاشوا ٌنظرون لحكم البطالمة
على أنه اؼتصاب لحكم ببلدهم ،حتى وإن كانوا ٌحكمون من داخل الببلد ،وأن البطالمة لم ٌتمصروا.
ورؼم قمع الثورة فً النهاٌة ،إال أنها حققت مكاسب ،منها اضطرار البطالمة اتخاذ إجراءات للتودد
للمصرٌٌن ،مثل اصطناع التمصٌر بؤن أعلنوا أن تتوٌج الملك سٌعود لٌكون فً منؾ حسب التقالٌد
()٘9
-انظر :موسوعة مصر القدٌمة ،الجزء ٗٔ ،مرجع سابق ،ص ٖ٘ٗ
()٘8
-انظر :المرجع السابق ،ص ، ،ٖٗٙوٌدل هذا على ثبات السٌاسة العالمٌة منذ ذلك الوقت ،وخاصة أنه لو نجحت ثورة الشعب المصري ضد
المحتلٌن الستقوت بها شعوب أخرى لتثور على محتلٌها ومحتكري التجارة الدولٌة والمحاصٌل.
()٘9
-مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً ،مصطفى العبادي ،مرجع سابق ،ص ٘9
(ٓ)ٙ
-المرجع السابق ،ص ٖ8
(ٔ)ٙ
-انظر نفس المرجع ،ص ٘9ٙ -9
ٕٔ8
المصرٌة ولٌس فً اإلسكندرٌة ،وألؽى بطلمٌوس الخامس بعض الضراٌب وخفض أخرى ،وتنازلت
حكومة االحتبلل عن بعض الدٌون المتؤخرة على المصرٌٌن ،وصدر عفو شامل عن الجنود المصرٌٌن
المنضمٌن للثورة ،كما نلحظ ظهور مصرٌٌن فً مناصب علٌا فً الدولة والجٌش ،وتساهل القصر مع
رجال المعابد ،فترك لهم امتٌازات كثٌرة(ٕ.)ٙ
ورؼم ما سبق تكررت الثورات حتى نهاٌة االحتبلل البطلمً ،منها ثورة ٗ ٔٙق.م حٌن قادها شخص
ٌحمل اسمًا فً شقه الثانً ٌبدو مصرًٌا ،هو دٌونٌسٌوس بٌتو سرابٌس ،له منصب كبٌر فً القصر ،ومن
ؼٌر المعروؾ هل هو مستمصر أم مصري فعبل من الذٌن حصلوا على مناصب فً الدولة بعد ثورة ٕٔ9
ق .م استؽل الخبلؾ بٌن األخوٌن بطلمٌوس السادس والثامن لٌوقع بٌنهما ،وحرض سكان اإلسكندرٌة على
الثورة ضد بطلمٌوس السادس ومناصرة بطلمٌوس الثامن ،لكن انكشفت حٌلته ،واتفق الملكان ضد حركته،
ورؼم هذا انتقلت الثورة للوجه القبلً ،فمضى إلٌها بطلمٌوس السادس بنفسه؛ ما ٌدل على شدتها ،وقضى
علٌها(ٖ ،)ٙثم ثار اإلؼرٌق علٌه فً اإلسكندرٌة ألسباب تخصهم ،واستؽلها المصرٌون فً الوجه القبلً
لٌجددوا الثورة ،وانتهى األمر بؤن بطلمٌوس الثامن بعد تؽلب على أخٌه أصدر قرارات للتودد للمصرٌٌن
واإلؼرٌق معا ،سمتها كتب المإرخٌن بـ"وثابق العفو العام" عن الجرابم التً وقعت حتى صدور الوثٌقة فً
مارس ٔٔ8ق .م باستثناء جرابم القتل وسرقة المعابد ،وتنازل الحكومة عن معظم الضراٌب على
المزارعٌن ،ومنح المزارعٌن الذٌن ٌستصلحون أراضً بور امتٌازات طوٌلة األجل ،وتثبٌت ملكٌة بعض
المصرٌٌن على األرض التً أخذوها من إقطاعات الدولة العسكرٌة ،وتثبٌت مالٌة المعابد ،ووقؾ عملٌات
التعذٌب التً تتم ضد العمال والمزارعٌن خبلل نزع الضراٌب منهم.
توفً بطلمٌوس التاسع دون أن ٌترك ذكورا ،فتدخلت روما الختٌار الملك الجدٌد ،وهكذا بات ظل روما
ٌتسع على أرض مصر ،خاصة بعد استٌبلءها على قبرص التً كانت تحت سٌطرة البطالمة.
وفً ٘8ق.م لجؤ بطلمٌوس الثانً عشر الملقب بالزمار إلى روما -بعد أن ثار اإلؼرٌق ضده ألنه لم
ٌفعل شٌبا حٌال ضٌاع قبرص -لٌحصل على تؤٌٌد القابد الرومانً بومبً فً صراعه مع خصومه على
العرش ،وبالفعل تم إعادته لعرشه بالقوة العسكرٌة باالستعانة بالقابد الرومانً جابنٌوس ،وعٌن الملك
(ٕ)ٙ
-انظر المرجع السابق ،ص ٔ8ٕ -8
(ٖ)ٙ
-انظر :الحٌاة فً مصر فً العصر الرومانً ،مرجع سابق ،ص ٗٔٔ٘ -
(ٗ)ٙ
-انظر :مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً ،ص ٓ9٘ -9
ٖٔ8
رابٌرٌوس الرومانً وزٌرا للمالٌة بعد أن عجز الملك البطلمً عن تسدٌد دٌون اقترضها من الرومان،
وبذلك ٌكون قدم مملكته ضمانا لسداد دٌونه ،بحسب نافتالً لوٌس(٘.)ٙ
وكحبلوة روح قبل موت الجسد ،ق َّدم بطلمٌوس الثانً عشر مبلػ ٓٓٓ ٙتالنت (ٌعادل نصؾ دخل
مصر) رشوة إلى قابد روما ٌولٌوس قٌصر لٌتراجع عن ضم مصر لروما ،فقبلذلك -مإقتا -وعقد معه
معاهدة على أنه "حلٌؾ وصدٌق الشعب الرومانً"( ، )ٙٙوجاء ماركوس أنطونٌوس على رأس قوات
رومانٌة إلى اإلسكندرٌة بحجة حماٌة عرش الملك (كما ستفعل الحقا فً صورة برٌطانٌا وترسل جٌش
احتبلل لئلسكندرٌة سنة ٕ ٔ88بحجة حماٌة "شرعٌة" الخدٌوي توفٌق ضد الثورة المصرٌة).
وهنا تستعد الستارة للنزول ،فبوفاة بطلمٌوس الثانً عشر ٔ٘ ق.م تولت مكانه نذٌر الشوم على مصر
وعلى قومها اإلؼرٌق ،ابنته كلٌوباترا السابعة ،باالشتراك مع أخٌها بطلمٌوس الثالث عشر ،ورؼم صؽر
سنها ناطح طموحها السحاب ،وتطلعت لحكم روما ،واستؽلت ذكابها وأنوثتها أبشع استؽبلل.
استعانت بٌولٌوس قٌصر ضد قومها الذٌن اتهموها بالتخطٌط إلبعاد أخٌها واالستفراد بالحكم ،واستجاب
لها قٌصر ،بل وجاء لؤلسكندرٌة ونصب نفسه حكما بٌن األخوٌن ،فاستقبلته وطلب لقاءهما سوٌا ،ولكن
عجزت عن الوصول إلٌه بسبب جٌش أخٌها هناك ،فلجؤت لحٌلة بارعة تلفت بها نظر القٌصر إلى مفاتنها
العقلٌة واألنثوٌة ،فتخفت واستقلت قاربا ،وأبحرت لئلسكندرٌة ،وطلبت من مرافقٌها أن ٌدخلوها إلى
القٌصر ملفوفة داخل سجادة ،فلما بسطوا السجادة أمامه خرجت منها كلٌوباترا بكل دالل ،وانتهى األمر بؤن
أقرها قٌصر ملكة على عرشها على أن ٌشاركها أخوها ،لكن خصوم كلٌوباترا أعلنوا الحرب باسم الدولة
ضد الدخٌل األجنبً(.)ٙ9
وقعت بٌن الجٌشٌن البطلمً والرومانً معارك عرفت باسم "حرب اإلسكندرٌة" كانت فٌها كلٌوباترا
وأخوها تحت حماٌة الرومانً ٌولٌوس قٌصر ،وحصل وقتها أن بعض سفن قٌصر احترقت ،وامتدت النار
لمكتبة اإلسكندرٌة القرٌبة من البحر فً واحدة من أفجع كوارث التارٌخ لما تحوٌه من وثابق وأصول الكتب
المصرٌة القدٌمة النادرة ،وانتصر قٌصر فً الحرب ،وكافؤ نفسه برحلة نٌلٌة طوٌلة مع كلٌوباترا إلى الوجه
القبلً ،قضى معها هناك الشتاء ،وأنجبا ولدا سماه سكان اإلسكندرٌة اإلؼرٌق قٌصرون من باب السخرٌة
لعدم رضاهم عن هذه العبلقة ؼٌر الشرعٌة بٌن ملكتهم وخصمهم الرومانً ،خاصة وأنها كانت متزوجة
من أخٌها األصؽر بطلمٌوس الرابع عشر بعد ؼرق أخٌها بطلمٌوس الثالث عشر فً النٌل.
وفً ٗٙق.م سافرت مع ابنها وأخٌها إلى روما -التً طالما حلمت بحكمها -ولكن مجلس السناتو دبر
مإامرة وقتل قٌصر ٗٗ ق.م ،ودخلت روما فً حرب أهلٌة ،فهربت متخفٌة إلى مصر ،وتوفً أخٌها قتٌبل،
(٘)ٙ
-انظر :الحٌاة فً مصر فً العصر الٌونانً ،نافتالً لوٌس ،مرجع سابق ،ص ٔٙ
* نفس الوسٌلة التً استخدمتها البنوك الحاكمة ألوروبا إلؼراق وإنهاك مصر بالدٌون أٌام سعٌد وإسماعٌل ثم احتاللها فً القرن ٔ9
()ٙٙ
-انظر :مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً ،مرجع سابق ،ص 99
()ٙ9
-انظر :المرجع السابق ،ص ٔٓٔ
ٗٔ8
وتم إعبلن ابنها قٌصرون شرٌكا لها فً الحكم باسم بطلمٌوس الخامس عشر(.)ٙ8
وسرعان ما بحثت عن مؽامرة جدٌدة ،بطلها ماركوس أنطونٌوس من قادة الرومان ،وخبلل لقاءهما
لتحدٌد شكل العبلقة بٌن مصر وروما ،وقع فً ؼرامها ،وأنجب منها ولدٌن وبنت ،ووزع الوالٌات الشرقٌة
على أوالدها ،وأعلن كلٌوباترا ملكة علٌها ،فتحقق لها حلمها القدٌم ،فؤطلق القابد الرومانً أوكتافٌوس حملة
على أنطونٌوس بؤنه أعطى حقوق الرومان المرأة أجنبٌة ،وأعلن ضده حربا باسم "إنقاذ اإلمبراطورٌة"،
دارت معركتها الفاصلة فً أكتٌوم ؼرب الٌونان ٖٔ ق.م ،وانتهت بهزٌمة أنطونٌوس ،واستٌبلء روما على
مصر ٖٓ ق .م ،وتلقى أنطونٌوس وكلٌوباترا النبؤ باالنتحار(.)ٙ9
وكشخصٌة شاذة ،أخذت كلٌوباترا شهرة عرٌضة فً العالم بالرؼم من أنها لم تقم بؤي إنجاز سٌاسً أو
وسخرت إمكانٌات مصر لمؽامراتها الشخصٌة ،وسقطت من جبلل الملكة َّ عسكري أو حتى أخبلقً،
بالدخول فً عبلقات مخزٌة مع رجال أجانب طامعٌن فً البلد ،ولم تملك شٌبا الفتا سوى الحٌلة والدالل
والحدٌث الساحر.
وأكثر من شعر بهذا الفبلح المصري ..فكل هذه المؽامرات والرحبلت والحروب والمإامرات دفع ثمنها
هإالء األشراؾ الكادحٌن فً الرٌؾ الواسع ،ومنهم من كانوا على طول ضفتً النٌل تنحنً ظهورهم فً
زرع األرض وهم ٌراقبون بمرارة الملكة تتماٌل فً دالل بٌن ٌدي الطامع الجدٌد فً البلد (ٌولٌوس قٌصر
ثم أنطونٌو) فً المراكب المارة بجوار الؽٌطان خبلل رحبلتهم النٌلٌةٌ ،نفقون على لهوهم من عرق هإالء
المزارعٌن ،ألهداؾ ومطامع ال تخص المصرٌٌن فً شًء.
وألمه سٌكون أشد إذا ما علم أن مصرٌٌن من أحفاده -حالٌاٌ -مجدون كلٌوباترا اإلؼرٌقٌة ،وٌعتبرونها
سخرن حٌاتهن لحماٌة مصر من األعداء، "ملكة مصرٌة" ٌساوونها بـ إٌسة وإٌاح حتب وتتً شري اللواتً َّ
وحفظ حرٌتها ،وضربن أعذب األمثلة فً األخبلق الطٌبة ،ال فً تقدٌم أجسادهن هداٌا وإؼراءات لؤلعداء،
بل واالستقواء بهإالء األعداء ضد أهلهن ،مثل كلٌوباترا.
وربما ٌعود ذلك إلى األفبلم والدعاٌة التً جمَّلت بها هولٌوود وجه كلٌوباترا ،وحرصها على أن تقدمها
وسط جو مصري ساحر ،فمسَّ هذا ورم عقدة الخواجة المتضخم فً صدور بعض المتعلمٌن المصرٌٌن،
حتى جعلوا من أنفسهم بوق دعاٌة وتبرٌر لكٌلوباترا ومساخرها وجراٌمها فً حق مصر.
وٌشهد التارٌخ بؤن كلٌوباترا إؼرٌقٌة حتى النخاع ،دما وروحا ولؽة واسما وشكبل ونسبا ،ولم ٌختلط الدم
تسع للتمصٌر أو االختبلط بالمصرٌٌن ،وال ٌشٌر شًء إلى عبلقتها َ المصري بنقطة فً عروقها ،ولم
بمصر سوى ما ٌُثار عن معرفتها باللؽة المصرٌة ،وٌحسبون ذلك إنجازا رؼم أنها مولودة بمصر ،إضافة
()ٙ8
-انظر :المرجع السابق ،ص ٗٓٔ
()ٙ9
-انظر :المرجع السابق ،ص ٘ٓٔٔٓٙ -
٘ٔ8
إلى نقوش تصورها فً ثٌاب ملكة مصرٌة ،وهً نقوش قلٌلة تخص تقالٌد المعابد ،فٌما معظم نقوشها
وتماثٌلها فً ثٌاب ٌونانٌة.
رأس لكلٌوباترا الحقٌقٌة بهٌبتها اإلؼرٌقٌة الشابعة فً الفن البطلمً وبجانبها نقش بثٌاب مصرٌة فً معبد دندرة؛ حٌث تحظر المعابد المصرٌة نقش
المظاهر األجنبٌة على جدرانها (األولى فً متحؾ ألتٌس بؤلمانٌا والثانٌة فً معبد دندرة)
وحول تمجٌد بعض المتعلمٌن المصرٌٌن للؽزاة ،استشهد الدكتور كمال فرٌد إسحق أستاذ اللؽة القبطٌة
بؤبٌات أحمد شوقً فً مسرحٌة "مصرع كلٌوباترة"(ٓ:)9
حابً:
دٌون:
(ٓ)9
-مصرع كلٌوباترة ،أحمد شوقً ،مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة ،القاهرة ،ص ٓٔ ـ وتارٌخ اللؽة القبطٌة ،كمال فرٌد إسحق ،مإسسة بٌتر
للطباعة والتورٌدات ،القاهرة ،ص ٔ8
ٔ8ٙ
مصر صورة للسماوات وٌسكن الكون كله هنا فً قدس معبدها
لكن اإلله سوؾ ٌهجرها ،وٌعود إلى السماء ،وٌرتحل من هذا البلد الذي كان مقرا للروحانٌة ،ستصبح
مصر مهجورة موحشة ،محرومة من وجود اإللهٌ ،حتلها الدخالء الذٌن سٌتنكرون لتقالٌدنا المقدسة.
إن هذا البلد الزاخر بالمعابد واألضرحة سٌضحى ملٌبا بالجثث والمآتم
آه ٌا مصر!(ٔ)
(ٔ)
-متون هرمس الحكمة الفرعونٌة المفقودة ،تٌموثً فرٌك وبٌتر ؼاندي ،ترجمة عمر الفاروق عمر ،ص ٖٖ٘ٙ -
* نص م نسوب إلى تحوت الذي أسماه الٌونان هرمسٌ ،رجع للقرنٌن الثانً والثالث المٌالدي ،وعثر علٌه فً القرن ٌ٘ٔ ،ضم نبوءات وتوصٌات
بالتمسك بماعت ،وفٌه أٌضا روحانٌات العالقة بٌن اإلنسان واإلله ،وٌحذر من عواقب من ٌضل عن هذا على مستقبل مصر.
المشهد ٓٔ :االحتالل الرومانً
(سقوط القالع)
إن كان اقتحام االحتبلل الرومانً لمصر جرى بشكل تقلٌدي عبر سبلح الدٌون ثم الؽزو العسكري
واللعب على ضعؾ وتفكك البطالمة ،إال أن طول أمده الؽٌر تقلٌدي كاتما أنفاس مصر لمدة ٓٓ 9سنة-
وهو أطول احتبلل عسكري لمصر -ارتكز على الجالٌات األجنبٌة المتكتلة فً المدن الكبرى والمستوطنات
والجٌش ،والتً ؼٌَّرت من موقع والبها بسرعة البرق من الجانب الٌونانً إلى الجانب الرومانً ،مرحبة
مهللة ،ومعاونة له فً تبصٌره بؤسرار الببلد وإدارتها.
أما بالنسبة لتؤثٌر االحتبلل الجدٌد على مصر نفسها فجاء كنزول الصاعقة على رأس المصرٌٌن ،وكؤننا
نراهم وسط حقولهم وأمام بٌوتهم متجمعٌن ٌضربون كفا بكؾ فً ذهول األٌتام" :ما خصلناش من الٌونان،
قوم ٌنزل علٌنا احتبلل تانً ٌاخد فوق اللً كان بٌاخده الٌونان جزٌة وضراٌب لروما!".
فحكم مصر من عاصمة خارجٌة من جدٌد حمَّلها جزٌة وأعباء إضافٌة منها جزٌة االحتبلل التقلٌدٌة
(ضرٌبة الرأس) ،وفرض ضرٌبة نوعٌة من القمح والؽبلل تشحن إلٌها كل سنة؛ أي أن جزءا كبٌرا من
دخل المصرٌٌن وإنتاجهم الزراعً كان ٌذهب إلى روما دون مقابل.
ولهذا احتفل أؼسطس ]أوكتافٌوس[ بفتح مصر ،وأصدر عملة تذكارٌة حاملة لصورة التمساح ،رمز
مصر ،وعلٌها كلمة "فتح مصر" لٌزؾ النبؤ للرومان وٌبشرهم أنه َّ
سخر لبطونهم قمح مصر(ٕ).
ألهمٌة مصر لروما ،واشتهارها بجنوح سكانها إلى الثورة ،نشر أؼسطس حامٌات عسكرٌة ضخمة فً
(ٕ)
-مصر من اإلسكندر األكبر حتى الفتح العربً ،مصطفى العبادي ،مرجع سابق ،ص ٖ٘ٔ
*** أوكتافٌوس حمل لقب أؼسطس ،ومعناه المبجل والمقدس
ٔ88
أنحاء البلد من اإلسكندرٌة ألسوان ،لتصبح أكبر حامٌة رومانٌة موجودة فً أرجاء اإلمبراطورٌة.
وعنها قال المإرخ إسترابون إن "هذه الحامٌة تكونت من ٖ فرق ،و 9سراٌا ،وٖ وحدات من الفرسان،
وقوة الحامٌة ٓٓ ٕٕ,8جندي فً عصر أؼسطس(ٖ) ،والعدد ٌقل جدا فً أوقات السلم.
و الجٌش أبرز مبلمح الوجود الرومانً فً مصر ،بزٌهم الرومانً الممٌز ،وتكون من فرقتٌن مؽلقتٌن
تماما على حاملً المواطنة الرومانٌة ،مدة الجندٌة فٌها ٕ٘ سنة ،وقوة ثالثة اسمها القوات المساعدة ٌُسمح
بالعمل فٌها لمواطنً المدن المخصصة لئلؼرٌق والمتؤؼرقٌن ،كما عمل فٌه عرب األنباط ،ومدة العمل فٌها
ٕ9عاما ،ومن ٌنهً خدمته فً األخٌرة نهاٌة "مشرفة" ٌحصل على الجنسٌة الرومانٌة.
وظلت أبواب الجٌش موصدة أمام ؼٌر هإالء حتى القرن الثانً المٌبلدي ،حتى انضم إلٌها جنود من
سكان عواصم المدن ،ترجع جذورهم إلى اإلؼرٌق الذٌن استوطنوا مصر أثناء العصر البطلمً(ٗ) ،وبحسب
آمال الروبً انضم مصرٌون للجٌش وحصلوا على الجنسٌة الرومانٌة بعد انتهاء الخدمة(٘) ،إال أن السإال
مطروح ما إن كانوا مصرٌٌن حقٌقٌٌن ،أم ممن صنفهم الرومان مصرٌون من اإلؼرٌق والمستوطنٌن
األجانب القاطنٌن خارج اإلسكندرٌة والمدن المخصصة لفبات معٌنة من اإلؼرٌق.
تعرض الدكتورة آمال الروبً ونفتالً لوٌس نقبل عن أوراق البردي واألوستراكا "الشقافات" مبلمح
للحٌاة أٌام الرومان ،فٌقوال إن الرومان صنفوا سكان مصر لـ"طبقات وضعوها فوق بعضها البعض"،
وفصلوا بٌنها بقوانٌن صارمة تمنع االنتقال من طبقة ألخرى إال باستثناء من اإلمبراطور ،فمع أنهم صنفوا
السكان اسمٌا إلى رومان ومصرٌٌن ،إال أن كلمة مصرٌٌن لم تعنً عندهم طبقة واحدة وجنسا واحدا ،بل
أدخلوا فٌها السكندرٌٌن (اإلؼرٌق) وجعلوهم الطبقة الثانٌة بعد الرومان ،والٌهود واإلؼرٌق سكان المدن
التً ٌحتكرونها بخبلؾ اإلسكندرٌة للطبقة الثالثة ،ثم القاعدة العرٌضة ذات األؼلبٌة الكاسحة وتضم
المصرٌٌن الحقٌقٌٌن (الفبلحٌن) إضافة لعدد متناثر من فقراء األجانب ،وهذه هً الطبقة الرابعة.
وٌضٌفا أنه حتى داخل هذه الطبقة الرابعة الفقٌرة فلؤلجانب الفقراء وضع أعلى من المصرٌٌن
الحقٌقٌٌن ،فللجمٌع امتٌازات فً الوظاٌؾ والثروة وإعفاءات الضراٌب عدا هإالء القروٌٌن "فبل ٌتمتعون
بؤي مٌزة" ،وهم ملزمون بتقدٌم ضرٌبة الرأس (الجزٌة) -بداٌة من سن ٗٔ سنة -وؼٌرها من ضراٌب
كاملة ،وأعمال السخرة وشق الترع والقنوات ،وإعاشة الجنود الرومان حٌن ٌنزلون للقرى ،وفرض قانون
التنظٌمات الذي وضعه أؼسطس عقوبات على من ٌتزوج بمصرٌٌن وإن كان عبدا معتوقا(.)ٙ
(ٖ)
-انظر :نفس المرجع ،ص ٖ٘ٔ ،ؤٕٙ
(ٗ)
-انظر :الحٌاة فً مصر فً العصر الرومانً ،نوفتالً لوٌس ،مرجع سابق ،ص ٕٕٕٖ -
(٘)
-مظاهر الحٌاة فً مصر فً العصر الرومانً اجتماعٌا واقتصادٌا وإدارٌا ،آمال الروبً ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،ص ٔٙ
()ٙ
-انظر :نوفتالً لوٌس ،ص ٕٔ ،ٗٓ -وآمال الروبً ،ص ،ٖٓ -9مرجعان سابقان
ٔ89
وبتعبٌر آمال الروبً عن حال المصرٌٌن الوطنٌٌن (الخلَّص)" :كانت هذه الطبقة الوطنٌة أكثر الطبقات
حجما ،وأوسعها انتشارا ،وأقلها حقوقا ،وأكثرها فقرا" ،والحظ لوٌس أنه "حقٌقة أن المطحونٌن والفقراء فً
جمٌع أنحاء اإلمبراطورٌة الرومانٌة لم ٌكونوا فً وضع ٌحسدون علٌه ،ولكن من الواضح أن الشعب
المصري ٌعتبر االستثناء الوحٌد من بٌنها الذي عومل بمثل هذه المعاملة القاسٌة" ،وبعد تفكر عمٌق فً
السبب ،توقع أن ٌكون "لكبح جماحهم لمنعهم من الثورة" ،وتحمٌلهم للمصرٌٌن وزر مطامع كلٌوباترا فً
حكم روما(.)9
وبتصنٌفه السكان إلى مصرٌٌن ورمان ٌكون االحتبلل الرومانً زاد من تمٌٌع المحتلٌن لكلمة
"المصرٌٌن" بتحوٌلها لعباءة ٌُدخل فٌها الجالٌات األجنبٌة الخلٌطة لمجرد أنهم ٌسكنون مصر ،وهو ما
سٌكون له تؤثٌره الخطٌر والسًء فً تسجٌل التارٌخ مستقببل ،بالخلط بٌن أفعال وثقافات األجانب وبٌن
المصرٌٌن ،فٌما ظل المصرٌون الحقٌقٌون فً األرٌاؾ ٌعلنون عن هوٌتهم واختبلفهم الحاد عن األجانب
لؽ َّة ومبلبس وأخبلق ومبلمح وتقالٌد ومهن وسكن ،وانتشرت بقوة حٌنها كلمة "قبط" للتعبٌر عن تعرٌؾ
المصري بالمعنى الرومانً.
وإن ح َّل الرومان محل الٌونان فً قمة الطبقات ،إال أنه وفقا آلمال الروبً فإنهم "لم ٌشكلوا جالٌة
رومانٌة" ،لقلة عددهم ،وتركزوا فً عمل الجنود وكبار الموظفٌن ورجال األعمال.
وعن تعداد السكان ،فكما سبق الحدٌث ،فإن جوزٌفوس فً بداٌة االحتبلل الرومانً ق َّدر أن عدد سكان
مصر -باستثناء االسكندرٌة -كان ٘ 9,ملٌون نسمة ،وبتقدٌر أنه كان باإلسكندرٌة نصؾ ملٌون من السكان،
ٌصبح المجموع 8مبلٌٌن نسمة قرٌبا.
وهذا ٌعنً أن معظم الرقم من المصرٌٌن ،خاصة وأن معظم اإلؼرٌق وبقٌة األجانب الٌهود والسورٌٌن
والفٌنٌقٌٌن واللٌبٌٌن وؼٌرهم هم كانوا ٌتركزون فً اإلسكندرٌة ،وتتوزع بقٌتهم على المدن المحتكرة
إؼرٌقٌا والبولٌتومٌات والنومات ،ونسبة أقل تنتشر فً مدن أخرى كمنؾ والمنٌا وأسوان والفٌوم( ،)8وٌتوقع
زٌادة العدد عدة مبلٌٌن أخرى نهاٌة االحتبلل الرومانً كما ٌتضح فً مقدار الجزٌة التً حصَّلها العرب
عند فتحهم لمصر.
وصنؾ السكان أنفسهم تصنٌفات أخرى بخبلؾ التصنٌؾ الرومانً ،فتكشؾ مثبل بردٌة من البهنسا
تتحدث أن اجتماع لسكان المدٌنة اشترك فٌه موظفو المدٌنة وشعبها والمواطنون الرومان واإلسكندرٌون
المستقرون بها ،فهً هنا صنفت السكان إلى مواطنٌن رومان وسكندرٌٌن وشعب المدٌنة(.)9
وظهر التمٌٌز بٌن السكان أٌضا فً الوثابق الرسمٌة الخاصة بتقسٌم أصحاب األراضً إلى فبتٌن هما
"فبة الرومان واإلسكندرٌٌن" و"فبة المحلٌٌن(ٓٔ)".
()9
-آمال الروبً ،ص ٕ٘ ،نوفتالً لوٌس ،ص ٗٓ -ٖ9
()8
-معلومات أكثر عن السكان انظر :مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً ،مرجع سابق ،ص ٕٕٕٔٓٓ -
()9
-انظر :مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً ،ص ٕٓ8
(ٓٔ)
-المرجع السابق ،ص ٕٓٔ
ٓٔ9
والمواطنون الرومان هم من حمل الجنسٌة الرومانٌة وإن كان من أعراق أخرى ،فالرومان منحوا
جنسٌتهم لؤلجانب لٌدٌروا بعض األمور باسمهم لقلة عدد الرومان فً مصر ،ولٌكونوا عونا لهم بعد
حصولهم على امتٌازات جدٌدة ،فٌما ٌشبه نظام االمتٌازات األجنبٌة فً عهد االحتبلل اإلنجلٌزي الحقا،
فهذه الببلد أسالٌبها فً االستحواذ على ؼٌرها ال تتؽٌر كثٌرا ،ولكن من ال ٌتتبعها فً التارٌخ هو من ٌفاجا
بها وٌقع دابما فً فخها.
أما عن نسبة تمصٌر الجالٌات األجنبٌة فً ذلك العصر ،فٌعتقد باحثون أنه حصل تمصٌر لنسبة قلٌلة من
اإلؼرٌق الذٌن تزوجوا بمصرٌٌن ،مع اإلشارة إلى أن الٌهود وجالٌات أخرى من ؼٌر حاملً المواطنة الرومانٌة
أو السكندرٌة كانوا "مصرٌٌن" (جٌبتٌوس /قبط) من وجهة نظر األوراق الرسمٌة ،فٌصعب معرفة أي مصرٌٌن
تزاوجوا أكثر مع اإلؼرٌق الذٌن حرصوا كل الحرص على التعالً على المصرٌٌن األصلٌٌن(ٔٔ).
وفً سنة ٕٕٔ م أصدر اإلمبراطور كاراكاال منشوره الشهٌر بمنح الجنسٌة الرومانٌة لجمٌع سكان
اإلمبراطورٌة "فٌما عدا المستسلمٌن" ،ولم ٌتفق الباحثون حول معنى هذه العبارة ،وهل المقصود بها
الشعوب األصلٌة للببلد المفتوحة باعتبارهم "مؽلوبٌن" بحكم الفتح وٌدفعون الجزٌة كاملة أم ماذا ،ولكن فً
كل األحوال بحسب ما استشفه نوفتالً لوٌس من أوراق البردي فإن "األمر بالنسبة للمصرٌٌن لم ٌحدث
تؽٌٌرا جوهرٌا ،والوضع فً المدن والقرى كان على النحو التالً :بقدر ما ٌكون هناك تؽٌٌر ،بقدر ما ٌظل
الوضع على ما هو علٌه (بالنسبة لهم)"(ٕٔ).
حرة؟
♣♣♣ ماذا لو دخلت المسٌحٌة مصر وهً َّ
لٌس معروفا على وجه الدقة متى دخلت المسٌحٌة مصر ،إال من رواٌة تتحدث عن أن مار مرقص دخل
اإلسكندرٌة سنة ٘ ٙم مبشرا سرا ،وقابله إسكافً ٌهودي آمن به ،ووجدت المسٌحٌة "سكتها" بسبب احتدام
الصراعات الدٌنٌة والفلسفٌة متعددة الثقافات المعقدة فً اإلسكندرٌة ،والتً خلّفت أرواحا حابرة ممزقة
تسؤل "أٌن الحقٌقة؟"(ٖٔ) ،مع التشوٌه الذي طرأ على الدٌن المصري منذ عصر االحتبلل الخاسوتٌمً
وانتشار الخرافات ،فجاءت المسٌحٌة من خارج دابرة الصراع هذه بروح بسٌطة هادبة تدعو للسكٌنة
واالرتباط بالسماء فقط ،مع مٌلها للفقراء ومحاربتها للطبقٌة ،فتعلق بها البعض كؤنها طوق النجاة ،أما من
تمسك بالدٌن المصري القدٌم فؤُجبر على تركه أو نسٌانه بإؼبلق المعابد.
وٌبدو أن اإلؼرٌق استقبلوا المسٌحٌة قبل المصرٌٌن ،ألن التبشٌر بدأ باللؽة الٌونانٌة ،وتركز أوال فً
المدن المحتشدة باإلؼرٌق والمتؤؼرقٌن ،ولقت رواجا أسرع بٌنهم ألن عقابد الٌونان لٌست قدٌمة كالعقٌدة
المصرٌة ،وصفات آلهتهم المتصارعٌن مع بعضهم والمتآمرٌن ضد بعضهم وانتشار االنحرافات واإلباحٌة
الجنسٌة بٌنهم ال تشجع على التمسك بهم كثٌرا أمام دٌانة كالمسٌحٌة ،إضافة ألن اإلؼرٌق وجدوا فٌها
"تمٌزا" ٌجعلهم فوق أعدابهم الرومان دٌنٌا ،خاصة وأن المسٌحٌة تحارب تؤلٌه اإلمبراطور ،وهً العبادة
(ٔٔ)
-انظر المزٌد :مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً ،ص ٖٕٕ
(ٕٔ)
-الحٌاة فً مصر فً العصر الرومانً ،نفتالً لوٌس ،مرجع سابق ،ص ٔٗ
(ٖٔ)
-انظر حضارة مصر فً العصر القبطً ،مرجع سابق ،ص 99
ٔٔ9
التً ارتكزت علٌها اإلمبراطورٌة الرومانٌة فً فرض نفوذها جنبا لجنب مع سٌؾ جٌشها؛ ولذا نجد أن
كثٌرا من القدٌسٌن وآباء الكنٌسة األوابل هم من اإلؼرٌق والسكندرٌٌن.
وتعرض المسٌحٌون فً مصر لسلسلة اضطهادات شنٌعة ،راح ضحٌتها عدد كبٌر ما بٌن حرق وفقؤ
عٌنٌن وقطع الرإوس إلخ ،ولكنها لٌست اضطهادات متصلة ،فٌسودها فترات سبلم وتهاون بحسب سٌاسة
كل إمبراطور.
وعصر اإلمبراطور دقلدٌانوس ( ٕ٘ٔ -ٕٗ9م) هو األشهر فً االضطهاد رؼم صؽر مدته ،ومن ذلك
أنه أمر باختبار لكل األهالً أمام الموظفٌن ،وكل فرد ٌعلن تمسكه بدٌنه القدٌم وٌقدم التضحٌة لئلله ٌؤخذ
شهادة منهم بؤنه نجح فً االختبار ،أما من ٌرفض التمسك بالدٌن القدٌم فٌتم قتله"(ٗٔ).
وبعد فترة حدثت انقسامات بٌن المسٌحٌٌن أنفسهم بٌن كنٌسة اإلسكندرٌة وبٌن كنابس روما
والقسطنطٌنٌة وأنطاكٌة حول السٌد المسٌح هل هو إله أم بشر ،وهل هو طبٌعة إلهٌة واحدة أم طبٌعتٌن
بشرٌة وإلهٌة ،وهً خبلفات لم تكن فً جعبة المبشرٌن األوابل ،ولكنها تخلَّقت من الطبٌعة المتصارعة
والمعقدة والطابفٌة بٌن اإلؼرٌق والرومان ،وبٌن اإلؼرٌق والٌهود وبقٌة الجالٌات األجنبٌة ،وصراعاتهم
السٌاسٌة الدفٌنة القدٌمة حول النفوذ فً مصر ،فعكسوا هذا على تفسٌراتهم للمسٌحٌة ،ففرؼوا الدعوة
المسٌحٌة من صفابها ،وانشطر المسٌحٌون إلى مذاهب وأحزاب ،وظهر نوع آخر من االضطهاد ،هو
االضطهاد المسٌحً -المسٌحً على حسب المذهب ،دفع ثمنه عدد آخر قتبل وتشرٌدا فً معارك بٌن أتباع
الكنابس األربعة ،وانتهى األمر بؤن دان معظم المسٌحٌٌن فً مصر من مصرٌٌن وإؼرٌق بمذهب
األرثوذكس ،فٌما دان الرومان بالمذهب الملكانً (الكاثولٌكً)٘ٔ.
وعلى ضوء انتشار المظالم الدٌنٌة -إلى جانب االقتصادٌة -انتشرت الرهبنة فً صحارى مصر ،ورؼم
قسوتها ،لكنها لعبت دورا فً علو نجم زعماء مصرٌٌن فً سماء البلد بعد طول ؼٌاب ،فظهرت زعامات
روحٌة مثل القدٌسٌن آمون ،ومٌنا ،وأنطونٌو (أنطونٌوس) ،وشنودة(.)ٔٙ
وفً عصر اإلمبراطور قسطنطٌن اعترؾ بالمسٌحٌة دٌنا من أدٌان اإلمبراطورٌة( ،)ٔ9أما المصرٌون
الذٌن بقوا على دٌنهم القدٌم ،فقوبلوا باضطهاد واسع ،سواء من جانب الدولة الرومانٌة بعد اعترافها
بالمسٌحٌة أو من بعض المسٌحٌٌن ،فوصفوهم بالوثنٌٌن والخابنٌن( ،)ٔ8وخاصة بعد إصدار اإلمبراطور
تٌودٌوس أمرا سنة ٘ ٖ9بؤن المسٌحٌة هً الدٌن الوحٌد للدولة ،وبإؼبلق المعابد ومحو الدٌانة
المصرٌة( ،)ٔ9ولنا أن نتخٌل األسالٌب العنٌفة التً اتبعوها فً إرؼام رجال الدٌن على ؼلق المعابد وإرؼام
الناس على عدم الذهاب إلٌها ،وبحسب كتاب "تارٌخ الكنٌسة القبطٌة" للقس منسً ٌوحنا فإنه رؼم ؼلق
(ٗٔ)
-للمزٌد عن انتشار المسٌحٌة انظر :مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً ،مصطفى العبادي ،مرجع سابق ،ص ٔ99
٘ٔ -للمزٌد حول دور الصراعات العرقٌة والطابفٌة القدٌمة والتنافس للسٌطرة على مصر فً شطر المسٌحٌة إلى مذاهب انظر" :الفكر المصري فً
العصر المسٌحً" ،رأفت عبد الحمٌد ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرةٕٓٓٓ ،
()ٔٙ
-للمزٌد ،من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً ،مصطفى العبادي ،ص ٖٕٖٖٖ٘ -
()ٔ9
-تارٌخ الكنٌسة القبطٌة ،منسً ٌوحنا ،مكتبة المحبة ،القاهرة ،ص ٔٔ8
()ٔ8
-انظر :تارٌخ مصر فً عهد البطالمة والرومان ،محمد إبراهٌم السعدنً ،مكتبة األنجلو ،القاهرة ،ص ٔ98
()ٔ9
-تارٌخ الكنٌسة القبطٌة ،مرجع سابق ،ص ٘ٗٔ و٘ٔ8
ٕٔ9
بعدم وجود ٌنمح إال بمرور السنٌن
(ٕٓ)
ِ المعابد لكن بقً كثٌر من الناس فً الصعٌد على الدٌن المصري ولم
قابم علٌه ٌرعاه من معابد وأوقاؾ ورجال دٌن.
وهنا وقفة ..ماذا لو دخلت المسٌحٌة إلى مصر وهً تحت حكم مصري حر خالص ،وهً عبارة عن
مصرٌٌن (كٌمتٌو) فقط ،ال أعراق وافدة وال طوابؾ وثقافات متنافرة ومتنافسة ومتقاتلة؟
ٌحتاج هذا بحث مستقل ،أكبر من إمكانٌات وتخٌل الباحثة ،ولكن ٌستحق التطرق له ،قد ٌرى البعض أنه
ت باختبلؾ جوهري عن الدٌن لو حصل هذا ما كانت المسٌحٌة لتجد لها موطؤ قدم فً مصر؛ ألنها لم تؤ ِ
المصري القدٌم -خاصة قبل تشوٌهه -فهما متشابهان فً بساطة الفكرة وفً المثل العلٌا واألخبلق
والمعامبلت واإلٌمان بالبعث واآلخرة والجنة والنار ،ورفض العدوان وكراهٌة الصراعات والدماء ،وفً
عقٌدة أن الحٌاة هً معركة خٌر وشر بٌن اإلنسان والشٌطان ،وقصة مرٌم والمسٌح وقدسٌة االستشهاد ال
تختلؾ فً جوهرها عن قصة إٌسة وأوزٌر وحور ،فٌما االختبلؾ بٌن الدٌن المصري والمسٌحٌة فً أمور
عقابدٌة قلٌلة ،منها عدم إٌمان المسٌحٌة بتجسٌد اإلله والقدٌسٌن فً تماثٌل مثبل.
والبعض سٌرى العكس ،وهً أنه ألن المسٌحٌة ال تختلؾ فً جوهرها كثٌرا عن الدٌن المصري فإنها
ستجد قبوال وترحٌبا وتسامحا ،وٌُترك فً هدوء من ٌتبع الدٌن القدٌم أو المسٌحٌة ٌتعبد كما ٌحلو له ،خاصة
إذا احترم أتباعها أٌضا الدٌن المصري ولم ٌسعوا الضطهاده أو إؼبلق معابده أو تفضٌل األجانب
المسٌحٌٌن على المصرٌٌن الباقٌن على الدٌن القدٌم.
وأٌا ما كان ،فإن األكٌد هو أنه لو دخلت المسٌحٌة ومصر حرة للقٌت مصٌرا أهدأ مما لقٌه أتباعها
ومصر تحت االحتبلل متعدد األعراق والثقافات ،ولظهرت فً ثوب أقل تعقٌدا ،وؼٌر متشبع بهذا القدر من
الدماء . .وقٌاسا على هذا هو أن المرة المعروفة للصراع الدٌنً داخل مصر ،وهً فترة حكم إخناتون ،فإن
الفتن والصدام فٌها ال ٌُذكر مقارنة بما حصل بٌن أتباع المسٌحٌة وخصومها ،أو بٌن أتباع المذاهب
المسٌحٌة المختلفة ،فلم تتحول مصر إلى حرب أهلٌة ،ولم ُتنصب فٌها المذابح والمحارق الجماعٌة كتلك
التً حصلت وقت دخول المسٌحٌة أٌام الرومان.
أمر آخر ،وهو أن دخول المسٌحٌة والبلد فٌها أعراق أجنبٌة متصدرة المشهد وكارهة لبعضها ،وفً
نفس الوقت كارهة للمصرٌٌن الحقٌقٌٌن وتفوقهم الحضاري ،ووجود عدد كبٌر من اإلؼرٌق والمتؤؼرقٌن
المندرجٌن تحت اسم سكندرٌٌن أو قبط بٌن المصرٌٌن المسٌحٌٌن ،مع ما هو معلوم من الطابع القبلً المؽلق
لئلؼرٌق (هم مجموعات ،كل مجموعة منسوبة لمدٌنة إؼرٌقٌة ومتنافسة مع بقٌة المجموعات والمدن) هذا
الطابع المؽلق والحذر عكسوه على ممارستهم للمسٌحٌة ،فحولوا أتباعها إلى مجموعة تجنح إلى االنؽبلق
على نفسها ،تشعر أن لها صفات ومزاٌا تجعلها شٌبا مختلفا عما حولها ،وهو تفكٌر معاكس للتفكٌر
المصري الوحدانً ،الذي ٌنظر للمصرٌٌن على أنهم شًء واحد ،ولم ٌتعود حٌاة المجموعات المنؽلقة أو
لها عالم آخر بخبلؾ بقٌة المصرٌٌن.
(ٕٓ)
-المرجع السابق ،ص ٘ٔ8
ٖٔ9
وانجرؾ مصرٌون تحولوا للمسٌحٌة إلى الطبع اإلؼرٌقً المنؽلق ،وشجعهم على هذا ما لقوه من
اضطهاد أو محاولة استبعاد من الرومان لهم بسبب دٌنهم ،وأن آباء وقدٌسً كنٌسة اإلسكندرٌة األوابل من
الخلَّص القادمٌن حدٌثا لئلسكندرٌة أو اإلؼرٌق المستوطنٌن المندرجٌن تحتالٌهود السابقٌن واإلؼرٌق ُ
مسمى سكندرٌٌن أو قبط ،ولهم حق الطاعة األول حٌنها ،فانعكس هذا لٌس فقط على أن ٌصبح انتماء
هإالء -خاصة أٌام االحتبلالت -للكنسٌة تحت اسم "شعب الكنٌسة" أكثر من أن ٌكون انتماء لـ"شعب
مصر" ،وأن ٌتعلم بعضهم أن اإلؼرٌقً أو أي شخص من دٌنه أقرب إلٌه من أخٌه المصري مدام المصري
على دٌن آخر ،ولكن أٌضا انعكس على اللؽة المصرٌة التً تحول اسمها للقبطٌة بعد محو حروفها وكتابتها
بالحروؾ الٌونانٌة لتسهٌل التبشٌر بها ،وفً وقت الحق قصر صفة قبطً على المسٌحٌٌن -مصرٌٌن أو
إؼرٌق مستوطنٌن -واهتمام المصرٌٌن المسٌحٌٌن فً كتبهم التارٌخٌة القلٌلة على حفظ أخبار الكنٌسة
وأتباعها أكثر من تتبع وحفظ أخبار المصرٌٌن ككل ،وزاد هذا الجنوح لبلنؽبلق مع دخول العرب والترك
واستؽبللهم لئلسبلم أداة للتعالً على ؼٌرهم أٌضا.
ومثال على الفرق بٌن أن تدخل المسٌحٌة أو اإلسبلم إلى بلد ٌحكمه أهله وبلد ٌحكمه محتلون ٌظهر مثبل
فً الببلد المستقلة فً ظل اإلمبراطورٌة الرومانٌة ،كروما نفسها وبقٌة أوروبا وببلد الٌونان والحبشة
وبعض أجزاء الجزٌرة العربٌة ،فإن المسٌحٌة حٌن دخلتهم وهم ٌحكمون أنفسهم لم ٌبدلوا لؽتهم ،وال
حروفها ،وال أسماءهم ،وال مبلبسهم ،ولم ٌحتقروا أجدادهم وحكامهم السابقٌن ،بل ظلوا ٌعتزون برومانٌتهم
أو ببلتٌنٌتهم أو بإؼرٌقٌتهم أو بحبشٌتهم أو بعروبتهم واعتزازهم بؤنفسهم.
كذلك متوقع أن الشدة التً فً الؽالب عومل بها المصرٌون الباقون على الدٌن المصري القدٌم ،وؼلق
معابدهم بالقوة ،ما كانت لتحدث لو أن المسٌحٌٌن كانوا مصرٌٌن فقط ،بل بالتؤكٌد أن المسٌحٌٌن
المستوطنٌن اإلؼرٌق والمتؤؼرقٌن لهم الٌد العلٌا فً هذه الشدة والعنؾ لما ٌحملونه من كراهٌة أو تعالً
على المصرٌٌن ،وكؤنهم "ما صدقوا ومسكوا علٌهم فرصة" ،خاصة مع ما حملته التوارة (العهد القدٌم عند
المسٌحٌٌن) من صفات تذم مصر والمصرٌٌن ،فلٌس من السهل تصور أن مصرٌٌن ٌصفون إخواتهم
المصرٌٌن بؤنهم "الوثنٌٌن الخابنٌن" كما وصفتهم المراجع المسٌحٌة القدٌمة ،بل هً كلمة تخرج من
أشخاص لم ٌشتركوا ٌوما مع المصرٌٌن فً دٌنهم المعروؾ بؤنه أبعد ما ٌكون عن الخٌانة.
ورؼم كل ما سبق ،فإن المصرٌٌن وضعوا بصمتهم المصرٌة القوٌة على المسٌحٌة أٌضا ،فرؼم معاداة
المسٌحٌٌن اإلؼرٌق للدٌن المصري القدٌم واستهداؾ معابده ،إال أنهم أخذوا فً عاداتهم وأعٌادهم وعمارة
الكنابس الكثٌر من حضارة الدٌن المصري ،حتى أنه ظل ٌُطلق على المسٌح كلمة أوزٌر لفترة طوٌلة،
واستخدام عبلمة عنخ (الشهٌرة خطؤ بمفتاح الحٌاة) كؤول شكل من أشكال الصلٌب لزمن طوٌل ،واحتفلوا
بقٌامة المسٌح كما كانوا ٌحتفلون ببعث وقٌامة وزٌر ،وحولوا سٌت عدو حور إلى التنٌن الذي قتله ماري
جرجرس كما ٌظهر فً أٌقونته ،وانتشرت كذلك صورة العذراء وهً تحمل رضٌعها المسٌح كتماثٌل إٌسة
وهً تحمل رضٌعها حورٕٔ ،وبناء برج الكنٌسة على نظام المسلة ،واستخدمت مذبح القرابٌن والبخور كما
ٕٔ -راجع فً هذا :فراعنة من؟ علم اآلثار والمتاحؾ والهوٌة القومٌة المصرٌة من حملة نابلٌون حتى الحرب العالمٌة األولى ،دونالد مالكوم رٌد،
ترجمة عبد الرءوؾ عباس حامد ،المجلس األعلى للثقافة ،القاهرة ،ٕٓٓ٘ ،ص ٗ9
ٗٔ9
كانت فً المعبد المصري ،وأسبػ المصرٌون تبجٌلهم لـ إٌسة على مرٌم أم المسٌح ،وعكسوا احتفاالتهم
المصرٌة على احتفاالتهم بؤعٌاد مسٌحٌة حلت محلها وربطتها بالنٌل كعٌد الشهٌد وعٌد الؽطاس ،واحتفظ
المسٌحٌون األمٌون فً الرٌؾ ببساطة الطبع المصري وعذوبته.
كما أن كنٌسة مصر هً الكنٌسة الوحٌدة فً العالم التً لٌس لها مشارٌع إمبراطورٌة عدوانٌة مقارنة
بكنابس روما والقسطنطٌنٌة ثم روسٌا وإنجلترا وأمرٌكا فٌما بعد.
مع كثرة الجنسٌات الوافدة كان ضبط السلم االجتماعً والطبقً عبر األسماء واأللقاب أمرا بالػ األهمٌة
من الناحٌة المالٌة ،ألنه ٌتعلق بدفع الضراٌب ،وما ٌتم تكلٌفه به أو إعفابه من خدمات عامة ،كما أنه ٌحدد
إلى أي طبقة ٌنتمً ،فً نظام كررته االحتبلالت التالٌة ،خاصة مع اختراع ألقاب خاصة ألبناء الطبقة
الحاكمة ،مثل التؤكٌد على اسم القبٌلة أٌام العرب ،وألقاب "باشا" و"بك" أٌام العثمانلٌة.
فوضع الرومان قواعد دقٌقة لمراعاة كتابة االسم واللقب والوضع االجتماعً حتى ال ٌحصل خلط
وفوضى ،وخصصت اإلدارة الرومانٌة لذلك مكتبا خاصا(ٕٕ) ،وفٌما ٌتعلق بؤسماء األفراد ظهر مٌل بٌن
مصرٌٌن "مثقفٌن" التخاذ أسماء إؼرٌقٌة كسبٌل لـ"الترقً" االجتماعً ،خاصة من اختلط منهم بالٌونان أو
الرومان فً عمل أو تجارة.
وال ٌسمح لهم بهذا إال إذا قدم طلبا خاصا لتؽٌٌر اسمه ،ولعل األسماء المختلطة التً ترد فً الوثابق
" مصرٌة وٌونانٌة" تبٌن أن أصحابها اكتسبوا أسماء ٌونانٌة مإخرا ،فاستخدموا أسماءهم المصرٌة القدٌمة
إلى جانب أسمابهم الٌونانٌة الجدٌدة للداللة على شخصٌاتهم(ٖٕ) ،وهذا التنازل من بعض المثقفٌن باكتساب
أسماء أجنبٌة منذ االحتبلل الٌونانً هو أول الخٌط الذي كرَّ ت معه حلقات ضٌاع جانب من الهوٌة المصرٌة
وتهاون أهلها نحوها.
ظلت اللؽة المصرٌة هً لؽة الحٌاة للمصرٌٌن ،واللؽة الٌونانٌة هً لؽة المخاطبات واألعمال فً
دواوٌن الحكم والتعلٌم والمعامبلت الرسمٌة ،ولؽة الخطاب بٌن خلٌط األجانب.
وهبَّ القرن الثالث المٌبلدي بفاجعة جدٌدة للؽة المصرٌة -بعد فاجعة إعبلن أن الٌونانٌة هً اللؽة
الرسمٌة لمصر أٌام البطالمة -وهً إلؽاء استخدام العبلمات أو الحروؾ المصرٌة (الهٌروؼلٌفٌة
والهٌراطٌقٌة والدٌموطٌقٌة) فً كتابة اللؽة المصرٌة ،لتحل محلها الحروؾ الٌونانٌة مع 9حروؾ فقط
(ٕٕ)
-انظر :مظاهر الحٌاة فً مصر فً العصر الرومانً اجتماعٌا واقتصادٌا وإدارٌا ،مرجع سابق ،ص ٕ9 -ٕ8
*** وٌشبه هذا فً وقت الحق إضافة لقب " الشرٌؾ" على من ٌنسبون أنفسهم للساللة النبوٌة ،أو تخصٌص ألقاب الباشا والبٌك وصاحب السعادة
إلخ خالل حكم أسرة محمد علً ،وهو تقسٌم طبقً دخٌل وصارخ.
(ٖٕ)
-انظر :نفس المرجع
٘ٔ9
مصرٌة ال ٌوجد مثلها فً الٌونانٌة؛ ما أفرز ما تسمى بالخط القبطً ،وهو كتابة اللؽة المصرٌة بحروؾ
ٌونانٌة(ٕٗ) ،مثل كتابة الفرانكو آراب حالٌا التً تكتب اللؽة العربٌة بحروؾ إنجلٌزٌة.
ووفق القس شنودة ماهر ،فإن أقدم محاولة لكتابة اللؽة بهذه الطرٌقة ظهرت فً بردٌة هاٌدلبرج ٗٔٗ
ترجع إلى القرن ٖ ق.م ،أي فً بداٌة االحتبلل اإلؼرٌقً ،كتبها رجل ٌونانً ،وتشمل مفردات مصرٌة
بحروؾ ٌونانٌة ،وتفشى األمر فً االحتبلل الرومانً بعد تبنٌه المسٌحٌة دٌنا للببلد ،فقررت الكنٌسة على
ٌد بابا الكنٌسة دٌمترٌوس السكندري فً القرن الثاث المٌبلدي كجزء من برنامجها التبشٌري مع بداء
ترجمة اإلنجٌل من الٌونانٌة إلى المصرٌة ،ف ُنقل بالحروؾ الٌونانٌة مع االحتفاظ باللفظ المصري(ٕ٘)،
وٌظهر فٌه االستسهال ألن المترجمٌن فً الؽالب سكندرٌٌن وقبط من ؼٌر المصرٌٌن الحقٌقٌٌن ،فؤرادوا
التبشٌر بالمسٌحٌة فً األرٌاؾ وسط المصرٌٌن الذٌن ال ٌعرفون الٌونانٌة ،وفً نفس الوقت كتابة اإلنجٌل
بالحروؾ الٌونانٌة لصعوبة الحروؾ المصرٌة على المترجمٌن.
وبحسب جرجس فٌلوناإس عوض فً مجلة "الكرمة" -صوت الكنٌسة المصرٌة -فإن من أخذ على
عاتقه هذا التحوٌل هم بانتٌونس الصقلً وأكلٌمندس اإلسكندري وأورٌجانس ]ؼٌر مصرٌٌن فمثبل بانتٌونس
اختلؾ حوله ما بٌن صقلً وسكندري ،وأكلٌمندس متفق أنه قدم حٌنها من أثٌنا[ وبرر هذا بؤن الحروؾ
الٌونانٌة فً األصل مؤخوذة من األبجدٌة الفٌنٌقٌة المؤخوذة بدورها من العبلمات المصرٌة ،فكؤنها
"بضاعتكم ردت إلٌكم"( ،)ٕٙوهو مبرر ٌحمل ضعفه بداخله ،فإن كان الٌونانٌون أنفسهم أخذوا األبجدٌة من
الفٌنٌقٌٌن فإنهم ؼٌروا فٌها لتكون ٌونانٌة ،والفٌنٌقٌون ؼٌروا فً العبلمات المصرٌة لتكون فٌنٌقٌة ،وكل
منهم أخذ أبجدٌة ؼٌره ألنه لم ٌكن عنده أبجدٌة عتٌقة وكاملة ،أما مصر فلدٌها أبجدٌتها ،وال ٌلٌق بها أن
تهبط لمستوى المتقلً ألبجدٌات صارت عبلمة ممٌزة لببلد ؼٌرها.
وتسربت كلمات ٌونانٌة للؽة المصرٌة كما ٌظهر فً الترجمات المنقولة من الٌونانٌة للقبطٌة ،وٌظهر
فٌها استسهال المترجم بدال من أن ٌجد لها مقابل فً اللؽة المصرٌة.
وهذه أكبر لطمة لثقافة مصر بعد لطمة -بل طعنة -فتح مإسسات الدولة لؤلجانب وتشؽٌلهم فٌها فً نهاٌة
الدولة الحدٌثة؛ فإن محو الحروؾ المصرٌة ولزق حروؾ ٌونانٌة محلها هو ستارة ثقٌلة نزلت بٌن
المصرٌٌن ولؽتهم وحضارتهم ،وعمَّت عٌونهم عن حقٌقتهم وقٌمتهم ،فكانت نكبة أشد من نكبة إعبلن
المحتل أن الٌونانٌة هً لؽة الدولة ،ألن الٌونانٌة فً النهاٌة كانت محبوسة بٌن األجانب والموظفٌن.
ولٌس مقبوال أن ٌُبرر لهذا بصعوبة الكتابة بالهٌراطٌقً والدٌموطٌقً؛ فالخط الدٌموطٌقً كان منتشرا
وصالحا للكتابة بالفعل ،وحتى إن كان به صعوبة فسهل تبسٌطه من وحً الحروؾ المصرٌة نفسها ،كما
فعل األجداد بتبسٌط الخط الهٌروؼلٌفً إلى الهٌراطٌقً ،أما محو الخطوط المصرٌة جمٌعها واللهث وراء
خط أجنبً ،وفوق هذا هو خط االحتبلل ،فإنما هو تفرٌط ال ٌقل عن التفرٌط فً األرض؛ وبعض العزاء
(ٕٗ)
-انظر :اللؽة المصرٌة القدٌمة ،عبد الحلٌم نور الدٌن ،دار األقصى للطباعة والنشر ،ط ،9مرجع سابق ،ص ،ٗٗ -ٖ8ومصر من اإلسكندر
األكبر إلى الفتح العربً ،ص ٔٔٙ
(ٕ٘)
-انظر تتبع ظهور الخط القبطً فً :تراث األدب القبطً ،مرجع سابق ،ص ٔٔٔٙ -
( -)26المغة المصرية لغة البالد األصمية ،جرجس فيموناؤس عوض ،مقال بمجمة الكرمة ،العدد ،7س ،9بتاريخ ،1923 -7 -1ص 363
ٔ9ٙ
ٌكون فً أن بداٌة التفرٌط لم تكن مصرٌة خالصة ،بل خرج من مستوطنٌن أجانب رأوا الحروؾ الٌونانٌة
أسهل لهم من تعلم الحروؾ المصرٌة ،وبعضهم صدره معبؤ بالكراهة للحضارة المصرٌة التً وصفوها
بالوثٌنة بعد تشبع بعض القلوب بما فً التوارة من تحقٌر للمصرٌٌن وحضارتهم ،فلم ٌؤبه المترجمون
للتوراة واإلنجٌل بحفظ خطوط اللؽة التً تحفظ وصل المصرٌٌن بها.
تطورات الخط المصري وصوال إلى محوه لٌحل محله خط أجنبً تسمى بالقبطً (كتاب اللؽة المصرٌة القدٌمة عبد الحلٌم نور الدٌن)
ومن هنا جاء انفراط عقد اللؽة المصرٌة من ٌد المصرٌٌن ،بل والحضارة المصرٌة ككل ،ألنه باختفاء
العبلمات (الحروؾ) المصرٌة من بٌن أصابعهم انتشر الجهل بهذه العبلمات ،وبالتالً الجهل بما تركه
األجداد من بردٌات ونقوش على المعابد والمقابر ،بل صارت بالنسبة لنا "طبلسم"! حتى أسامً زعماءنا
ومدننا وحوادث تارٌخنا ال نعرؾ قراءتها ،فانضوت الحضارة المصرٌة على نفسها كسٌرة حزٌنة ،وحلت
الؽربة والوحشة فً نفوس المصرٌٌن.
ومتوقع أن هذا طال نطق اللؽة أٌضا ،فالمستوطنٌن الذٌن ٌكتبونها بالحروؾ الٌونانٌة ٌكتبونها بنطقهم
هم لها ،ولٌس بالنطق المصري السلٌم ،ووجود اللؽة بخط أجنبً ،ساهم فً اختبلق الفصل فً تارٌخ مصر
ما بٌن مصري (الشهٌر خطؤ باسم فرعونً) وقبطً ،وظهور ما تسمى بالحضارة القبطٌة لها مبلمح
بعضها ٌتفق مع الحضارة المصرٌة وبعضها مختلؾ تماما نظرا لتداخل مستوطنٌن أجانب مع مصرٌٌن فً
ٔ97
بوتقة المسٌحٌة ،وتسمً كل هإالء بـ"القبطً" ،وٌتجسد هذا الخلٌط على سبٌل المثال فً الفنون التً تسمت
بالقبطٌة ،وفٌها ٌظهر األشخاص "القبط" بلحٌة آسٌوٌة ،ومبلبس ٌونانٌة أو رومانٌة ،ومبلمح أقرب
للٌونانٌة والرومانٌة من المبلمح المصرٌة ،وتؽٌر مدرسة الفن وخطوطها ،وذلك إما تؤثرا بمبلمح القدٌسٌن
أو تماشٌا مع مبلمح وثقافة القابمٌن على هذه األعمال والحكام.
وم َّد فً روح العبلمات المصرٌة بعض الشًء أنه كان واجبا على رجال الدٌن تعلمها ،ألنه محرم
الكتابة فً المعابد والنقش على جدرانها إال باللؽة المقدسة "مدت نتر" ،وبعبلماتها المصرٌة الخالصة،
فظلت داخل المعابد حتى ؼلق المعابد ؼصبا بقرار اإلمبراطور تٌودٌوس سنة ٘ ٖ9وطرد رجال الدٌن
المتحصنٌن خبلل االضطرابات التً نشبت بعد اعتراؾ اإلمبراطورٌة الرومانٌة بالمسٌحٌة ،وقتلوا أو
كتموا معهم أعرق العلوم والمعارؾ والمهارات.
وآخر نقش وصلنا بالخط الهٌروؼلٌفً تم نقشه على جدران معبد فٌلة بؤسوان سنة ٗ ٖ9م ،بٌنما آخر
نص بالدٌموطٌقً فً البردٌات وصلنا ٌرجع لسنة ٓٗ9م( )ٕ9أي قبل االحتبلل العربً بـ ٓ٘ٔ عاما فقط،
وهذا الؽلق التعسفً للمعابد ٌعد الخنجر الثالث للؽة المصرٌة الختفاء من ٌهتم باإلبقاء على عبلماتها
األصٌلة مفهومة ألبنابها ،وؼاضت أسرارها حتى تلَّقؾ شامبلٌون بعضا منها بعد ٓٓٗٔ سنة.
هذا ما حصل للؽة المصرٌة المكتوبة ،أما اللؽة المنطوقة فظل المصرٌون ٌتحدثون بها لمبات السنٌن.
ولم تعدم اللؽة المصرٌة أبنابها الؽٌورٌن علٌها ،فمع اشتداد اضطهاد الرومان للمصرٌٌن ؼلت العروق
بالرؼبة فً االستقبلل والتمسك بالقومٌة المصرٌة ،فظهرت محاوالت إلنقاذ اللؽة المصرٌة للتمٌز عن
المحتلٌن قادها األنبا شنودة فً القرن ٗ المٌبلدي تضمنت تنقٌة اللؽة من األلفاظ الٌونانٌة وتنقٌة األدب
المصري من ثقافة الٌونان ،وكان أدٌبا فصٌحا رفض الكتابة أو الكبلم إال باللؽة المصرٌة رؼم إجادته
للٌونانٌة ،وحٌن أسس نظامه فً الرهبنة أصر أن تقبل األدٌرة المصرٌٌن فقط ،بٌنما كانت أدٌرة األنبا
باخ ومٌوس تقبل رهبانا من جنسٌات أخرى ،ولم تكن فقط للرهبنة بل سخرها شنودة لمهاجمة كبار المبلك
والحكام األجانب الظالمٌن ألنه تبنى قضاٌا مصرٌة صمٌمة( ،)ٕ8وإن لم ٌتم إعادة الخط المصري إلى اللؽة
المصرٌة ،وهً جرٌمة ٌُبلم علٌها المثقفون المصرٌون حٌنها أكثر مما ٌُبلم علٌها المستوطنون األجانب
الذٌن أبعدوا هذا الخط عن عرشه.
انحسر انتشار المعابد المصرٌة زمن االحتبلل الٌونانً لقلة اهتمام حكومة االحتبلل ببناء معابد جدٌدة،
مكتفٌة بالسماح بإعادة بناء أو ترمٌم معابد شاخت أو تهدمت ،خاصة مع انحسار مٌزانٌة األوقاؾ
المخصصة لئلنفاق على المعابد باالستٌبلء علٌها من حٌن آلخر كما تابعنا ،وظل المصرٌون ٌمارسون
دٌنهم حسبما تٌسر لهم.
()ٕ9
-تراث األدب القبطً ،مرجع سابق ،ص ٓٔٔٔ -
()ٕ8
-انظر :حضارة مصر فً العصر القبطً ،مراد كامل ،دار العالم العربً ،القاهرة ،ص ٕ9ؤٕٓ ؤٖٕٕٔٗ -
ٔ98
ومع دخول المسٌحٌة وتعرضها لبلضطهاد ،فإنه بالتزامن -وهو ما ٌؽفل ذكره الكثٌرون -تعرض
المصرٌون الذٌن بقوا على دٌنهم القدٌم الضطهاد واسع أٌضا ،سواء من جانب الدولة الرومانٌة بعد
اعترافها بالمسٌحٌة أو من بعض المسٌحٌٌن الذٌن وصفوا أصحاب الدٌن القدٌم بالوثنٌٌن؛ وبعد قرار
اإلمبراطور تٌودٌوس بمحو الدٌانة المصرٌة وؼلق معابدها سنة ٖ٘9م جرى معاقبة من ٌستمر فً
ممارسة العبادات "الوثنٌة" بتهمة الخٌانة ،ومن ث َّم ع َّم الدٌن المسٌحً(.)ٕ9
ولم ٌكن إؼبلق المعابد وتحرٌم العبادة فٌها وقتل أو طرد من بقً من رجال الدٌن المصري مجرد تحرٌم
دٌن قدٌم إلزاحة مكان لدٌن جدٌد ،بل إزاحة حضارة بكاملها؛ فكون المعابد المصرٌة هً قواعد حفظ
العلوم والفنون ومعقل حماٌة الهوٌة المصرٌة ،فبؽلقها سقطت أزامٌل وقواعد النحت والرسم من أٌدي
الفنانٌن المصرٌٌن لٌصمت الفن المصري األصٌل مبات السنٌن ،وتتوقؾ حركة العمارة المصرٌة بمبلمحها
الممٌزة فً المنشآت الكبرى ،وٌختفً العلماء حُ َّفاظ الهوٌة المصرٌة الخالصة حكمة ولؽة وزًٌا وعمارة
وفنون وعلوما ،فٌختفً ورابهم شٌبا فشٌبا وجه مصر البهً النقً الواضح المبلمح ،وٌحل محله شٌبا فشٌبا
وجه -أو قناع -معتم مشوه ...حتى حٌن.
وربما لو دخلت المسٌحٌة فً ظل حكم مصري ،واستقبلها مصرٌون فً بداٌتها ،مبرأٌن من الكراهٌة
التً حملها المبشرون والمستوطنون األجانب للحضارة المصرٌة ألنها رمز التفوق المصري أو بتؤثٌر من
قصص الٌهود فً التوراة ،العتنقوها بدون حاجة إللؽاء العمارة والزي والفنون وحروؾ اللؽة وؼٌرها من
معالم الهوٌة المصرٌة -كما حافظت ببلد أخرى على هوٌتها رؼم اعتناقها المسٌحٌة -والستؽنوا فقط عن
الرموز الدٌنٌة المختلفة بٌن الدٌنٌن ،ولظهر االمتزاج بٌن روح ماعت والدٌن الجدٌد كؤعذب ما ٌكون.
وبعد زمن من ؼلق المعابد فكؤن من ٌمر أمام المعابد الخاوٌة الصامتة بعد أن كانت تمؤل مصر بهجة فً
أعٌادها ،تدوي بؤصوات ابتهاالت وأناشٌد رجالها ،وحركة الفنانٌن والنحاتٌن ال تكؾ فٌها عن البناء
والترمٌم وتلوٌن الجدران ،والداخل والخارج من طلبة العلم فً العمارة والهندسة والطب والحكمة واللؽة
واألدب ،تحوطهم رواٌح البخور العطرة ،واألشجار وزهور اللوتس والبردي تزٌن كل حتة داخل وحول
"بٌت الحٌاة" ..كؤن من ٌمر أمامها وهً تكتم آالمها ٌخفق قلبه:
()ٕ9
-انظر تفاصٌل فً :تارٌخ مصر فً عصري البطالمة والرومان ،محمد إبراهٌم السعدنً ،مكتبة األنجلو ،القاهرة ،ص ،ٔ98وتارٌخ الكنٌسة
القبطٌة ،مرجع سابق ،ص ٘ٗٔ و٘ٔ8
(ٖٓ)
-أؼنٌة مقدمة مسلسل أرابٌسك ،كلمات سٌد حجاب ،ألحان عمار الشرٌعً ،ؼناء حسن فإاد
ٔ99
(ٖٔ)
سترانا كما نراها قفـــارا ودٌــار كانت قدٌما دٌــارا
ُ
آه ٌا مصر!
رجحت كفة ملكٌة األراضً فً االحتبلل الٌونانً لصالح الملكٌة العامة الحكومٌة عن ملكٌة األفراد،
وملكٌة اإلؼرٌق عن بقٌة السكان ،أما االحتبلل الرومانً فشجع الملكٌة الخاصة الواسعة "الرأسمالٌة"
واالستثمار فً األراضً ،وباع جز ًء كبٌرا من أراضً الدولة للمستثمرٌن األجانب المقٌمٌن أو الوافدٌن
الجدد ،وهو النظام الذي عُرؾ فٌما بعد فً العالم باسم نظام الخصخصة.
فً هذا التوقٌت انتشر أكثر نظام "الوسٌة" ،وهً كلمة رومانٌة ،األوسٌة Ousiaتبٌعها الحكومة أو
تمنحها لؤلؼنٌاء من الرومان واإلؼرٌق لٌستثمروا أموالهم فً الزراعة ،باعتبارها المصدر األول للثروة
والؽذاء فً اإلمبراطورٌة ،ومن هنا بدأت تتشكل الرأسمالٌة الخاصة الزراعٌة ،حتى وصل أن الملكٌات
الخاصة وصلت ألكثر من نصؾ أمبلك الدولة(ٖٖ).
ومن قواٌم أسماء أصحاب الوسٌات ٌتضح أن كلهم من أصحاب السلطان ،إما األباطرة أنفسهم ،أو عٌلة
اإلمبراطور ،أو أصفٌابه ،أو وزرابه ،أو زعماء المجتمع السكندري من اإلؼرٌق والجالٌات األجنبٌة ،أو
(ٖٔ)
-قصٌدة "هذه لٌلتً" ،كلمات جورج جرداق ،ألحان محمد عبد الوهاب ،ؼناء أم كلثوم
(ٕٖ)
-متون هرمس الحكمة الفرعونٌة المفقودة ،مرجع سابق ،ص ٖٖ٘ٙ -
(ٖٖ)
-مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً ،مرجع سابق ،ص ٖٕٕٗ٘٘ -
ٕٓٓ
المحررٌن من عبٌد اإلمبراطور ،ولكبر مساحتها تعتبر الوسٌات وحدات اقتصادٌة فً الرٌؾ ،وؼالبا
ٌدٌرها وكبلء عن أصحابها الذٌن ٌقٌمون عادة فً اإلسكندرٌة أو روما.
وللنظام الرأسمالً وشٌوعه عٌوب طالت األسعار ووفرة االنتاج ،ألن المستثمر وصاحب الوسٌة فضَّل
توجٌه الزراعة بما ٌخدم مصالحه ولٌس الصالح العام ،ومن ذلك ما تحدث عنه المإرخ سترابون بقوله:
"هناك فبة ممن ٌرٌدون زٌادة دخولهم ...ولذا ال ٌسمحون بنمو البردي فً مواضع كثٌرة؛ مما ٌإدي إلى
ندرته التً ٌنتج عنها ارتفاع أسعاره ،وبذلك تزداد دخولهم ،بٌنما هم ٌسٌبون إلى الصالح العام(ٖٗ)".
وأمام تضخم الملكٌات الخاصة لئلقطاعٌٌن وتدخلهم فً شبون الحكم ضعفت السلطة المركزٌة ،بحٌث
أصبح لمبلك الوسٌات قوة طاؼٌة فً المدن التً تحوي أمبلكهم ،ومعظم أراضً مصر ملكٌة خاصة
لمجموعة من األفراد األجانب ،وهو ما أدى لقٌام اإلمبراطور أحٌانا ،بمصادرة وسٌات.
وبمرور السنٌن ،وبعد بدء تحلل الدولة ،ظهرت إقطاعٌات مثل إقطاعٌات أوروبا فً العصور الوسطى،
بحٌث أن فرد واحد ٌمكنه أن ٌملك قرى ومدن بحالها ،وهذا المالك هو صاحب األمر والنهً فٌها ولٌس
الحكومة ،وهو القابم على حفظ النظام واألمن وإدارة االقتصاد وجباٌة الضراٌب ،بل وصل األمر إلى
تكوٌن جماعات مسلحة "ملٌشٌات" خاصة به ،وسجون تابعة له ،ونشبت الخبلفات والمنافسات بٌن كبار
المبلك ،مستقوٌٌن بالقوة المسلحة التً فً ٌد كل منهم ،وأصبح عدد القرى الحرة ،أي التً بقٌت على نظام
صؽار المبلك وتدفع الضراٌب للحكومة مباشرة قلٌلة العدد ،إضافة إلى قرى تابعة ألمبلك كنٌسة
اإلسكندرٌة التً تضخمت بالمنح واألوقاؾ من الحكام واألفراد(ٖ٘) بعد اعتماد المسٌحٌة دٌنا رسمٌا.
وزاد من قوة اإلقطاعٌٌن أن اإلمبراطور جستنٌان فً عام ٖ٘8م -بعد بدء انفبلت األمور من ٌد
الحكومة المركزٌة -قسم مصر إلى ٘ أقسام ،وأعطى حاكم كل قسم السلطة المدنٌة والعسكرٌة فٌه لٌمكنه
من السٌطرة وفرض النظام به ،وتسمى كل حاكم باسم "دوق" ،وهذه األقسام هً اإلسكندرٌة ،شرق الدلتا،
ؼرب الدلتا ،مصر الوسطى ،مصر العلٌا ،وتعامل كل دوق مع كل قسم كؤنه دوٌلة خاصة به ،خاصة وأن
اإلمبراطور فً السنوات األخٌرة لبلحتبلل لم ٌهتم إال بؤن ٌجبً له "الدوق" الجزٌة والضراٌب من
المزارعٌن ،سواء بطرٌقة عادلة أم ال( ،)ٖٙما سٌكون له أكبر األثر فً سقوط اإلمبراطورٌة.
وبحسب الدكتورة زبٌدة عطا فً كتابها القٌم "الفبلح المصري بٌن العصر القبطً والعصر اإلسبلمً"
فإنه فً بداٌة القرن الرابع سمحت اإلمبراطورٌة بتملك األراضً للفبلحٌن ،فاستطاع بعض المصرٌٌن أن
ٌكونوا من مبلك األرض ،وظهر فٌهم أؼنٌاء ،مثل عابلة القدٌس أنطونٌو الذي وهب أمبلكه البالؽة ٖٓٓ
فدان للكنٌسة قبل انخراطه فً الرهبنة وعابلة أبٌون (.)ٖ9
أما من أصبحوا من صؽار المبلك فؤثقل ظهرهم كثرة الضراٌب التً ُتفرض علٌهم أكثر مما ُتفرض
على األؼنٌاء ،والوسابل القاسٌة فً جمعها ،ووجدوا أال فابدة تجنى من امتبلك أراضٌهم ،فلجؤوا لحٌلة
(ٖٗ)
-انظر :المرجع السابق ،ص ٖٕٕٗ٘٘ -
(ٖ٘)
-انظر المرجع السابق ،ص ٕٕٖٖٕٗ -
()ٖٙ
-انظر :نفس المرجع ،ص ٖٔ9 -ٖٔٙ
()ٖ9
-الفبلح المصري بٌن العصر القبطً والعصر اإلسبلمً ،زبٌدة عطا ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،ٔ99ٔ ،ص ٓ٘٘٘ -
ٕٔٓ
مإلمة تنجٌهم من مسبولٌة دفع الضراٌب ،وهً طلب حماٌة أحد كبار المبلك من أصحاب النفوذ ،على
أساس أن ٌتنازل له المالك الصؽٌر عن أرضه ،وٌتولى المالك الكبٌر دفع الضراٌب للدولة ،وهكذا تحول
من مالك حر إلى تابع ٌستؤجر من سٌده األرض التً كان ٌمتلكها ،وعرؾ هذا النظام باسم "نظام
الحماٌة"( ،)ٖ8وسعت حكومة االحتبلل إللؽابه ببل جدوى.
وظهرت الرأسمالٌة الخاصة بشدة فً التجارة أٌضا مع كثرة نقل البضاٌع من الهند وجزٌرة العرب
وأفرٌقٌا من البحر األحمر إلى البحر األبٌض ،أو "البحر المصري" كما كان ٌُسمى وقتها ،وبعض أنواع
التجارة عبارة عن مواد خام كالتوابل ُتصنع فً مصر ،وٌُعاد تصدٌرها عن طرٌق اإلسكندرٌة ،فؤصبحت
مصر بشكل أكبر مهبطا أساسٌا للتجار والسماسرة من كل ملة لعقد الصفقات ،وحدث انتعاش تجاري واسع،
ازداد على حسه األجانب فً مصر ثراء بشكل فاحش.
وهذا الثراء الفاحش واحتكار أنواع من التجارة شجع الرأسمالٌٌن وأصحاب الوسٌات أن ٌحلموا بنفوذ
سٌاسً فً الحكم ٌحمً أموالهم ،وٌسٌر قرارات الدولة لصالح تجارتهم ،حتى أن بعضهم تمكن من شق
طرٌقه إلى أرقى المناصب فً القصر اإلمبراطوري ،وفً المقابل استؽل آخرون نفوذه فً محاربة
اإلمبراطور نفسه ،مثل "فٌرموس" الذي سلَّح جٌشا بؤسره من تجارة البردي والصمػ العربً لمساعدة
زنوبٌا ملكة تدمر السورٌة فً حربها ضد اإلمبراطور(.)ٖ9
ورؼم مظالم اإلقطاع الرومانً إال أن الدكتورة زبٌدة عطا بعد تفنٌدها العدٌد من البردٌات المحلٌة
والقرارات الصادرة عن األباطرة الرومان تلفت النظر إلى أن الفبلح المصري حاله أفضل من المزارعٌن
فً أوروبا نفسها القرٌبة من اإلمبراطور ،وذلك أن الفبلح المصري لم ٌكن عبدا وال قنا كما كان
المزارعون فً اإلقطاعٌات األوروبٌة التً ٌُباع وٌُشترى المزارع مع األرض ،وأن العبلقة بٌن الفبلح
ومتملك األرض المحتل فً مصر هً عبلقة إما مستؤجر منه األرض أو أجٌر ،وفً كلتا الحالتٌن فله أن
ٌشكو المتملك إلى الحكومة إذا تجاوز فً حقه ،ولٌس لمتملك األرض والٌة على مٌراثه أو أهل بٌته كما
كان لئلقطاعً األوروبً على العاملٌن فً أرضه ،وبعض األباطرة مثل ثٌودسٌوس وجستٌان أصدروا
قرارات إلنصاؾ الفبلح التقاء ثورته ،ولتشجٌعه على استمرار فبلحة األرض وعدم تركهآٗ ،وهذا ٌُحسب
للفبلح المصري أن ثوراته وؼضبه حمته من أن ٌتحول إلى مصٌر الفبلح األوروبً كعبد.
إال أن الموظفٌن ،لم ٌنفذوا قرارات هإالء األباطرة التً ظلت حبرا على ورق ،واستعملوا أسالٌب السرقة
واالختبلس والشدة فً التعامل مع الفبلحٌن ،خاصة وأن كبار الموظفٌن فً الحكومة أساسا هم متملكو
األرض ،فهم القاضً والحكم ،وعبر عن هذا جستنٌان بنبرة ٌؤس أو سخط على دور الموظفٌن فً
استنزاؾ أموال الزراعة فً مرسومه رقم ٖٔ" :إن أموال مصر تستنزؾ عند الجباٌة" وفً رده على
شكوى أحد سكان كوم أشقوة من عسؾ الموظفٌن جباة الضرابب قال إن الجباة أقوى من أوامرهٔٗ.
()ٖ8
-انظر :مصر من اإلسكندر األكبر حتى الفتح العربً ،ص ٕٖٔ ،ٖٕٕ -وهذا سٌتكرر فً احتبلالت أخرى.
()ٖ9
-انظر :نفس المرجعٕٙٙ -ٕ٘9 ،
ٓٗ -انظر :الفبلح المصري بٌن العصر القبطً والعصر اإلسبلمً ،زبٌدة عطا ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،ٔ99ٔ ،ص ٓٔ9ٙ -
ٔٗ -نفس المرجع
ٕٕٓ
❻ -نزح أموال المصرٌٌن جزٌة وضرابب
كما تابعنا فرض أؼسطس الجزٌة على السكان -عدا الرومان واإلسكندرٌٌن ،ولكن ال ُتفرض بنفس
القٌمة ،فكان الفبلحٌن (المصرٌٌن) فً القرى ٌدفعون ٓٗ دراخمة ،فً حٌن أن سكان عواصم النومات
(اإلؼرٌق والمتؤؼرقٌن) ٌدفعون ٕٔ دراخمة ،ورؼم هذا الفرق فً القٌمة إال أن اإلؼرٌق فً النومات
ؼضبوا من أن ٌُفرض علٌهم ضرٌبة تساوٌهم بالمصرٌٌن(ٕٗ) ،كون أن الجزٌة ُتفرض على "المؽلوب".
وبخبلؾ ذلك فُرض على المصرٌٌن ضرٌبة القمح ،وهً شحنات قمح ُترسل إلى روما ومعها أٌضا
الفول والزٌت والبصل والكتان ،وضرٌبة البرسٌم ،وهً قدر من البرسٌم إلطعام خٌول الجٌش ،تحولت
الحقا لضرٌبة نقدٌة ،وضرٌبة مسح األراضً ،وضرٌبة التموٌن العسكري قمح وشعٌر إلطعام الجٌش
الرومانً ،وضرٌبة الكروم وحٌوانات المنزل ،وؼٌرها من ضراٌب وال ٌؤخذ الفبلح مقابلها أي خدمات
صحٌة أو تعلٌمٌة أو سكنٌة ،بل ٌُجبر على السخرة لتقدٌم خدمات مجانٌة فً مشارٌع الحكومة(ٖٗ).
وبعد وفاة أؼسطس خلفه تبٌرٌوس ،فاستمر فً سٌاسته لزٌادة المساحة الزراعٌة فً مصر إلطعام
روما ،وفً عهده بالػ الوالً فً جمع الجزٌة حتى زادت على المبلػ المقدر سنوٌا ،فبلمه على ذلك ،وقال
له كلمته المشهورة "إنما أرسلتك لتجز وبر األؼنام ال لتسلخها"(ٗٗ).
فسلخها سٌإدي إلى قتلها ،وٌتوقؾ إنتاجها ،وتنحرم روما من سلة ؼذابها الشهٌة الثمٌنة.
وكثرت الشكاوى والمقاومة من المصرٌٌن إزاء هذا الظلم ،ولقت التجبر فً مواجهتها حٌنا ،ولقت
استجابة حٌنا ،مثلما أصدر اإلمبراطور سٌودثٌوس فً قانونه سنة ٕٖٓ م أنه بالنسبة لدافعً الضراٌب:
"فلن ٌقاسً أي شخص من أٌد ؼٌر أمٌنة أو أحكام ظالمة ،ولن ٌساق بسوط أو ٌجلد أو ٌتعرض لتعذٌب أو
اضطهاد" ،لكن الموظفٌن لم ٌطبقوا القوانٌن فتحولت -بتعبٌر زبٌدة عطا -لنظرٌات مثالٌة(٘ٗ).
وباء وافد آخر ضرب مصر زمن االحتبلل الرومانً ،وهو نظام البنوك واالقتراض من الخارج ،وهو
تطور لنظام الربا الذي رأٌنا كٌؾ نشره الٌهود واإلؼرٌق فً مصر وؼٌرها قبل ٓٓٗ سنة ،وهذه البنوك
كانت فً ٌد أفراد (قطاع خاص)؛ ما ٌعنً ضعؾ قبضة الحكومة على االقتصاد.
وعُثر على وثابق من القرن ٙتعود ألشخاص تعاقدوا على اقتراض مال من ممولٌن وبنوك فً
القسطنطٌنة (بٌزنطة) ،وٌتفقون على أن ٌكون رد الدٌن فً اإلسكندرٌة؛ ما معناه أن البنوك كانت باالنتشار
والقوة أن لها فروعا ومكاتب فً أرجاء اإلمبراطورٌة ،والقرض بفاٌدة .%8
(ٕٗ)
-انظر :مصر من اإلسكندر األكبر حتى الفتح العربً ،ص ٗٔٙ٘ -ٔٙ
(ٖٗ)
-انظر :مظاهر الحٌاة فً مصر فً العصر الرومانً اجتماعٌا واقتصادٌا وإدارٌا ،آمال الروبً ،مرجع سابق ،ص ٔٓ٘ -97والفالح المصري
بٌن العصر القبطً والعصر اإلسالمً ،مرجع سابق ،ص ٓ7ٔ -7
(ٗٗ)
-مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً ،مرجع سابق ،ص ٔٙ8
(٘ٗ)
-الفبلح المصري بٌن العصر القبطً والعصر اإلسبلمً ،مرجع سابق ،ص ٖ 9و 9ٙ
ٖٕٓ
وما ٌهمنا هنا ،أن هذا النشاط تسبب فً أن هذا الربح السهل والسرٌع ساهم فً ترسٌخ قدم هإالء
الممولٌن المشبوهٌن فً مصر ألنهم استخدموا أرباح الفوابد فً شراء أمبلك مصرٌة ،وٌمكن االستدالل
على هوٌة ومستوى أخبلق هإالء الممولٌن الكبار عبر وصؾ الكاتب سوفردنٌوس للمرابً أجابٌوس
الهلٌنً بؤنه "كان ٌخدم المخلوق ضد الخالق"(.)ٗٙ
واصل الرومان ما بدأه الٌونان من حلب الضرع المصري لئلنفاق على حروبهم التوسعٌة ،خاصة التً
تتعلق بمطامعهم فً السٌطرة التامة على طرٌق التجارة بٌن الهند ومصر ،وهو صراع سٌتجدد بؤطراؾ
أخرى هً إنجلترا وفرنسا فً القرنٌن ٔ8و ،ٔ9وعلى حساب مصر وحرٌتها ومالها أٌضا.
ففً أٌام أؼسطس لم ٌكتؾِ بنجاح الٌونان فً عمل مستوطنات فً الجزر والسواحل الممدودة بٌن مصر
والهند ،وتوثٌقهم العبلقات التجارٌة مع المدن الٌمنٌة المطلة على البحر األحمر والمحٌط الهندي وخلٌج
عدن ،بل طمع فً نزع التجارة من ٌد الٌمنٌٌن تماما ،وأسال رٌقه لهذا الرحالة سترابون حٌن كتب هو
ورحالة إؼرٌق ورومان آخرون عن "ثراء ببلد العرب نتٌجة تحكم السبؤٌٌن والجرهابٌٌن فً تجارة المواد
العطرٌة ،حتى صار الذهب والفضة واألحجار الكرٌمة ٌدخل عندهم فً صناعة األسرَّ ة والموابد الصؽٌرة
واألوانً والكبوس وأبواب وسقوؾ وجدران القصور الزاهٌة األلوان.
صور له أن هذه القباٌل تحصل على األرباح الباهظة وال ٌتركون َّ كما أوؼر سترابون صدره بؤن
للرومان مجاال للثراء ،وهو بذلك قام بنفس الدور الذي قام به رحالة ومستشرقون أوروبٌون بعده بقرون
حٌن تخفوا فً زي سواح ورحالة لٌستكشفوا مصر وببلد الشرق وٌؽروا األوروبٌٌن بإعادة احتبللهم.
وهكذا صدر أمر أؼسطس إلى ناببه الرومانً على مصر آٌلٌوس جاللوس بمهمة إرهاب القباٌل الٌمنٌة
واحتبلل أرضهم بالقوة ،فجهز جاللوس جٌشا من الٌهود والعرب األنباط حلفاء الرومان خرج سنة ٕٗ ق.م
بؤسطول كبٌر قٌل من ٖٓٔ سفٌنة من خلٌج السوٌس نحو الٌمن ،وهبط على أرضها وحارب لفترة ،ؼٌر أن
مهمته فشلت لطبٌعة جؽرافٌة الٌمن وانتشار األوببة وقلة المٌاه(.)ٗ9
أما السخرة لصالح االحتبلل فمن أشد األمور وطؤة على صدور المصرٌٌن ،كان على األهالً أن ٌقوموا
بؤعمال إجبارٌة مجانٌة لصالح المحتل كنوع من أنواع الضراٌب ،تتدرج من تولً وظاٌؾ مختلفة فً
اإلدارة المحلٌة إجبارٌا وببل مقابل ،وتسخٌر ما ٌمتلكه األفراد من دواب لنقل الؽبلل من القرى إلى
اإلسكندرٌة لتشحن فً السفن إلى روما ،حتى تصل إلى القٌام بؤعمال ٌدوٌة شاقة مثل بناء السدود والجسور
وتقوٌة ضفاؾ النٌل وقت الفٌضان ،وكرها دون أجر ،رؼم ثراء الببلد وتحوٌل أموالها إلى الخارج،
وتتوزع على األفراد حسب منزلتهم المادٌة ،فالعمل األسهل لؤلكثر ماال ،والعمل األشقى لؤلكثر فقرا.
()ٗٙ
-انظر :مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً ،مصطفى العبادي ،مرجع سابقٖٖٕ -ٖٕ9 ،
()ٗ9
-تارٌخ شبه الجزٌرة العربٌة فً عصورها القدٌمة ،عبد العزٌز صالح ،مرجع سابق ،ص ٖٓٔٔٓٗ -
ٕٗٓ
وحٌن أهملت الترع والمصارؾ وتعاقبت الفتن والثورات ساءت الزراعة ،ولم ٌقبل األهالً على العناٌة
بؤرضهم لعلمهم بعدم جدوى جهودهم ،وأن ثمرة أعمالهم ستذهب إلى روما ،فهجر بعضهم القرى ،ولجؤوا
إلى المعابد أو تسللوا إلى المدن الكبرى بحثا عن عمل ،فإذا عجزوا عن العمل فٌها لجؤوا إلى حٌاة
اللصوص وقطع الطرق ،ومن أبى ذلك لجؤ إلى أحراش الدلتا ومستنقعاتها لٌحٌا حٌاة تشرد فطري(.)ٗ8
وفً محاولة لردع الفبلحٌن عن الهرب من دفع الضراٌب ،أذاق جامعو الضراٌب أهل المزارعٌن
الفارٌن أسوأ أنواع العذاب لٌعرفوا منهم مكان مخبؤهم أو لٌؤخذوا منهم الضرٌبة ،وٌنقل العبادي من بردٌة
عبارة عن خطاب كتبه صبً فً القرن الثانً علم باعتزام والده الفرار سرا ،فكتب إلى أحد أقاربه ٌطلب
منه أن ٌحصل له من والده على مال ٌمكنه هو أٌضا من الفرار إلى اإلسكندرٌة خشٌة أن ٌنتقم موظفو
اإلدارة منه بعد اختفاء والده(.)ٗ9
وفً نفس الوقت قاوم البعض هذا الظلم بالمواجهة الجماعٌة بدل الهروب ،ففً رسالة موجهة إلى
موظؾ عسكري لقبه سكان قرٌة أهموٌا نٌكوس بالحامً فً القرن الرابع رفضوا االستسبلم إلٌه بدال من
زمبلبهم الذٌن هربوا من أراضٌه" :نحن نرؼب أن ٌعلم سٌدنا نٌكوس أنه فً عهد والدك أو أجدادك لم نسلم
أنفسنا ،وأننا نقدم ما ٌطلب منا سنوٌا ،وال نسلم أنفسنا ألحد(ٓ٘)".
وٌبدو أن من ٌستطٌع من المصرٌٌن السكن باإلسكندرٌة كانوا ؼالبا ٌستخدمون فً األعمال الشاقة التً
ٌتعالى علٌها األجانب ،ففً ٕ٘ٔ م أصدر اإلمبراطور كاراكاال بٌانا بطرد المصرٌٌن من اإلسكندرٌة،
واستثنى من ذلك حرؾ كتجار الخنزٌر ورجال القوارب النٌلٌة وجالبً الحطب لوقود الحمامات ،وٌبدو من
بٌان كاراكاال أن المصرٌٌن القادمٌن من القرى كانوا محتفظٌن بما ٌمٌزهم فً الملبس والعادات التً تدل
على هوٌتهم وعدم اندماجهم بالمحتلٌن ،فقال إنه "من الٌسٌر التمٌٌز بٌن عمال النسٌج المصرٌٌن ]ؼٌر
واضح ٌقصد مصرٌٌن أصلٌٌن احتاجهم سكان اإلسكندرٌة فً صناعة النسٌج أم ٌقصد الجالٌات من ؼٌر
السكندرٌٌن الذٌن ٌسمٌهم الرومان مصرٌٌن[ وبٌن الفبلحٌن المصرٌٌن ]أهل الرٌؾ[ عن طرٌق لؽتهم
ومظهرهم وعاداتهم"(ٔ٘).
وهكذا تشرد الكثٌر من المصرٌون فً ببلدهمٌ ،عٌشون عٌشة المطارٌد والمنفٌٌن ،فبل القرى تكفٌهم ،وال
المدن تؤوٌهم ،إال قلٌبل.
من أسباب كراهٌة المصرٌٌن للهكسوس القدامى هو االختبلؾ فً العقٌدة ،ورأٌنا أٌضا أنه فً زمن
االحتبلل الهكسوسً االستٌطانً الثانً ،الخاسوتٌمً ،أن المحتلٌن تخبوا تماما -ولو فً الظاهر -فً رداء
()ٗ8
-مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً ،مرجع سابق ،ص ٘ ٔ8ٙ -ٔ8ومظاهر الحٌاة فً مصر فً العصر الرومانً اجتماعٌا واقتصادٌا
وإدارٌا ،آمال الروبً ،مرجع سابق ،ص ٓٔٔٔٔٔ -
()ٗ9
-انظر :مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً ،مصطفى العبادي ،ص ٖٕٔ
(ٓ٘)
-الفبلح المصري بٌن العصر القبطً والعصر اإلسبلمً ،مرجع سابق ،ص ٖٗ
(ٔ٘)
-مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً ،مرجع سابق ،ص ٕٕٗٔٔ٘ -
ٕ٘ٓ
المتدٌنٌٌن المصرٌٌن ،وقدسوا المعبودات المصرٌة لكسر حد نفور المصرٌٌن منهم ،وربما ساهم هذا فً
إطالة أمد وجودهم ،وذكر لنا هٌردوت أنه من أسباب نفور المصرٌٌن من التعامل مع الٌونانٌٌن ،أو حتى
استعمال أدواتهم وآوانٌهم ،هو اختبلؾ العادات والتقالٌد ،وحٌن هبط االحتبلل الٌونانً العسكري حافظ على
بعض المعابد المصر ٌة مثل إدفو والكرنك ،بل واخترع معبودا ٌمزج بٌن الدٌن المصري والدٌن الٌونانً
لٌخلق "دٌنا مشتركا" ،هو سرابٌس.
وهذه كلها نبلحظ أنها محاوالت جاءت من المحتل نفسه للتقرب من المصرٌٌن ،أو للتموٌه علٌهم
وتضلٌلهم وكسر حدة نفورهم منه حٌن ٌرونه ٌشاركهم فً دٌنهم.
ولكن أٌام الرومان ت َّكون قٌح فً الشخصٌة المصرٌة ،وهو "تعظٌم" ،و"تقدٌس" المحتل ،وذلك أنه لما
جاءت المسٌحٌة كدٌن من الخارج ،واتبع األباطرة الرومان سٌاسة اضطهاد المسٌحٌٌن ،خالفهم اإلمبراطور
قسطنطٌن لما اعترؾ بالمسٌحٌة دٌنا ضمن أدٌان اإلمبراطورٌة ،فهلل له مسٌحٌون ،وأعلنوه "منقذا" ،بل
و"قدٌسا" مع أمه هٌبلنة.
وعلى هذا سهل تصور خبلفات بٌن مصري مسٌحً وأخٌه المصري الذي ٌتبع الدٌن المصري إذا ما
َّ
عظم األول قسطنطٌن وشتمه الثانً ،فؤحدهما ٌراه قدٌسا مخلِّصا ،والثانً ٌراه محتبل مؽتصبا.
وقسطنطٌن وإن اعترؾ بالمسٌحٌة ،إال أنه فً الحقٌقة لم ٌوقؾ تعذٌب المصرٌٌن على ٌد محتلٌهم
الرومان والجالٌات التابعة لهم الناهشة فً لحمهم ،ولم ٌحقق رسالة المسٌحٌة فً تحرٌر البشر والكؾ عن
الحروب ،فمثبل:
هل قسطنطٌن لؽى الجزٌة عن المصرٌٌن التً تضعهم فً مرتبة حقٌرة أمام الرومان؟ هل قسطنطٌن
لؽى الضراٌب الفجة التً كسرت ظهر المصرٌٌن وألؽى السخرة لصالح مشارٌع االحتبلل؟
هل قسطنطٌن ترك مصر للمصرٌٌن وسحب جٌش االحتبلل الرومانً من أرضها؟ هل قسطنطٌن كان
سٌصمت أمام أي ثورة ٌقوم بها المصرٌون -مسٌحٌون أو ؼٌر مسٌحٌٌن -ضد الرومان رافعٌن مبدأ "مصر
(ٕ٘)
للمصرٌٌن" ٌطالبون بخروج المحتل من أرضهم أم سٌقمعها بؤوحش األسالٌب؟
إذن فربما هذه أول مرة ٌتحول "المخلص" و "المنقذ" و"القدٌس" فً العقٌدة والشخصٌة المصرٌة من
البطل المصري الذي ٌحرر المصرٌٌن من المذلة لؤلجنبً ،وٌبعد عنهم شٌطان االنقسامات والصراعات
مثل منتوحتب الثانً وأحمس إلى أن ٌكون هو "البطل األجنبً" الذي ٌواصل احتبللهم ومذلتهم ،أو ٌناصر
بعض المصرٌٌن على البعض اآلخر ،وٌحدث بٌنهم انشقاقات وصراعات.
كذلك تحول مفهوم "اإلخوة" بٌن المصرٌٌن (بعض من دخل منهم المسٌحٌة حٌنها) ،من أنهم إخوة
األرض المصرٌة وقٌمها ورسالتها "ماعت" ،إلى إخوة الدٌن فقط ،ولو كان معتنق هذا الدٌن من بلد آخر،
(ٕ٘)
-تعلو أصوات مصرٌة فً السنٌن األخٌرة تدعو لمراجعة تقدٌس قسطنطٌن ،وتتشكك فً الرواٌات التً ترفعه لدرجة سامٌة ،ؼٌر أن هذه
الدعوة سببها أمور مسٌحٌة أٌضا ،مثل إساءته لبابا اإلسكندرٌة إثناسٌوس ،ولم تطعن فً تقدٌس قسطنطٌن ألنه أجنبً احتل مصر واستباح
شعبها.
انظر :الباحث رٌاض فارس لـ"روزالٌوسؾ" :قسطنطٌن ..ملك ال ٌستحق لقب القداسة ،روزالٌوسؾٕٓٔ7 -ٕٔ-ٕ ،
ٕٓٙ
وال ٌخفى تؤثٌر المستوطنٌن اإلؼرٌق فً تشجٌع هذا التحول كونهم اعتبروا المسٌحٌة قضٌتهم الخاصة.
وهو تحول فً عقٌدة الشخصٌة المصرٌة لو ٌعلم المصرٌون عظٌم ،بل هو البذرة التً انتفخت وفرَّ خت
فً مصر ما نكابده الٌوم من تنظٌمات إرهابٌة تتاجر بالدٌن ،وتشعل الحروب األهلٌة باسمه ،ومن تنظٌمات
سٌاسٌة (كالشٌوعٌة واللٌبرالٌة والعروبٌة والعولمٌة) التً ٌناصر فٌها المصري األجنبً على أخٌه مدام هذا
األجنبً شٌوعً أو لٌبرالً أو عروبً أو عولمً مثله.
رؼم حزمه اإلداري والعسكري ،إال أن االحتبلل الرومانً واجه صعوبات كبٌرة فً احتبلل مصر،
تسبب فٌها المصرٌون بثوراتهم على مظالم االحتبلل ،وكذلك اإلؼرٌق الذٌن رؼم احتفاظهم بالكثٌر من
االمتٌازات إال أنها شعروا بتراجع مكانتهم أمام الؽاصبٌن الجدد (الرومان) ،وطول الوقت ٌتؽلب علٌهم
شعور أن الرومان اؼتصبوا مصر منهم ،وكذلك شارك فٌها الٌهود الذٌن طمعوا فً أخذ امتٌازات أكبر.
وأولها ثورة ٕ9ق .م؛ فما كاد أؼسطس ٌخلع رجله من مصر وٌبدأ الموظفون ٌجمعون بشؽؾ
الضراٌب الجدٌدة ،حتى اشتعلت نٌران أولى الثورات شرق الوجه البحري واإلسكندرٌة والوجه القبلً،
شارك فٌها مصرٌون وإؼرٌق ،ولكل أسبابه ،وفً الحال قام "كورنٌلٌوس جالوس" ،أول والً رومانً على
مصر ،بإخماد الثورة بعنؾ.
وفً عهد الوالً بتورنٌوس اكتمل مشروع البطالمة السابق فً إضعاؾ نفوذ المعابد المصرٌة ،فصادر
كل أمبلك المعابد ،وأصبحت تحت سٌطرة حكومة روما ،ومن أهداؾ ذلك شل المعابد عن دعم الثورات
ألنها كانت القوة المنظمة المصرٌة الوحٌدة الباقٌة التً ٌستنجد بها األهالً(ٖ٘).
وفً ٕ٘ٔ م ورؼم البطش الرومانً فً إخماد الثورة األولى ،هبَّت ثورة جدٌدة للفبلحٌن ،لٌنفضوا ؼبار
االحتبلل والضٌاع عن أنفسهم ،وتم إخمادها خبلل سنة بتدخل من اإلمبراطور نفسه.
أما الثورة الكبرى فً ذلك العصر فهً ثورة ٕ ٔ9م ،فً عهد اإلمبراطور أورٌلٌوس ،وفٌها استؽل
المصرٌون إرسال الجٌوش الرومانٌة للحرب فً الدانوب وأشعلوا ثورة عنٌفة تحت زعامة أحد رجال الدٌن
فً المعابد اسمه أزٌدور ،مركزها شمال الوجه البحري.
وٌبدو أن الثورة كانت من القوة بحٌث أن القوات الرومانٌة الموجودة فً الببلد عجزت عن مواجهتها
حتى كادت اإلسكندرٌة ذاتها تسقط فً أٌدي الثوار ،وإلنقاذ الموقؾ اضطرت روما إلى إرسال قوات من
سورٌا ٌقودها الحاكم هناك المسمى أفٌدٌوس كاسٌوس الذي علم أنه لن ٌؽلب الثابرٌن بقوة السبلح فً وقت
(ٖ٘)
-انظر :مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً ،مرجع سابق ،ص ٘ٔٙ9 -ٔٙ
ٕٓ7
قصٌر ،فلجؤ للمكٌدة بسٌاسة "فرق تسد" فاستمال بعضهم ،ثم تعقب من تبقى فً شكل جماعات صؽٌرة حتى
قضى على الثورة(ٗ٘).
وعادوا للثورة أٌام مورٌس الذي تولى سنة ٕ ٘8قادها ٖ إخوة (مٌنا وٌعقوب وأباسخرٌوس) فً الوجه
البحري ،اقتربت الثورة من اإلسكندرٌة ،وسٌطرت على سفن قمح ذاهبة إلٌها ،وانتهت بقطع رءوس
اإلخوة(٘٘) ،وأشار إلٌها ٌوحنا النقٌوسً فً كتابه عن تارٌخ مصر.
وفً نهاٌة االحتبلل الرومانً وقع نوع آخر من االضطهاد على ٌد الوالً قٌرس "المقوقس" فً عصر
اإلمبراطور هرقل؛ فسعى المضطهدون للتخلص منه ،واجتمع عدد منهم فً كنٌسة "دفاشٌر" قرب مرٌوط
واتفقوا على قتل المقوقس ،لكن سمع بخطتهم ضابط رومانً اسمه أودوقٌانوس أرسل جنوده وقتلوهم قبل
تنفٌذ الخطة حسبما ذكر ٌوحنا النقٌوسً( ،)٘ٙفكانت ثورة لم ٌُكتب لها البداٌة.
إلى جانب ثورات المصرٌٌن ،اندلعت ثورات ومعارك منفصلة للٌهود واإلؼرٌق ،ولكن ألسباب مختلفة
تتعلق بتنافسهم مع الرومان أو مع بعضهم على النفوذ واالمتٌازات كما ٌحدث دابما مع زرع أعراق
وطوابؾ متناقضة فً مكان واحد ،ورؼم أنها قامت لمصالحهم ولٌس لمصالح المصرٌٌن إال أن المصرٌٌن
اكتووا بنٌرانها الستنزافها اقتصاد البلد وتعطٌل األشؽال والزراعة ،وتؤثٌرها على أحوال األمن.
وتضخمت الجالٌة الٌهودٌة حتى أنها شؽلت حٌٌن أو أكتر من األحٌاء الخمسة لئلسكندرٌة ،بعد ما كانت
تسكن حٌا واحدا هو "دلتا"( ،)٘9وكان هدؾ الرومان استؽبلل الٌهود فً عمل توازن ٌحد من نفوذ
اإلؼرٌق ،وعلى هذا ،ففً سنة ٕ8م وقعت بٌن الٌهود واإلؼرٌق والجالٌات األجنبٌة فتنة اشتهرت باسم
"فتنة سنة ،" ٕ8سببها أن الٌهود شعروا بتعاظم قوتهم ،وأقحموا أنفسهم فً مجالس كانت حكرا على
اإلؼرٌق ،وادعوا أنهم مواطنٌن سكندرٌٌن مثل اإلؼرٌق بسبب االمتٌازات التً أؼدقها اإلمبراطور
الرومانً على الٌهود ،وانتهى الصراع المسلح بٌن كل هإالء بمهاجمة معابد الٌهود ،وقتل الوالً
الرومانً ،فطالب اإلمبراطور الٌهود بالكؾ عن جلب ٌهود جدد من الشام أو من مدن مصرٌة أخرى إلى
اإلسكندرٌة ،وأن ٌكتفوا بما كسبوه من امتٌازات.
وتكررت النزاعات سنة ٖ٘ م وانتهت بمحاكمة زعماء اإلسكندرٌة اإلؼرٌق وإعدامهم ،وتسمٌتهم فً
األشعار اإلؼرٌقٌة بـ "شهداء" كافحوا لحماٌة اإلسكندرٌة من الخضوع للٌهود ،وفً سنة ٙٙم تجددت
الصراعات فً عهد اإلمبراطور "نٌرون" المعروؾ بجنونه وشراسته ،فؤمر بإخمادها بالقوة بقوات من
(ٗ٘)
-انظر :الحٌاة فً مصر فً العصر الرومانً ،نفتالً لوٌس ،ص ،ٕٖٔ -ٕٕ9ومصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً ص ٔ89
(٘٘)
-تارٌخ الكنٌسة القبطٌة ،مرجع سابق ،ص ،ٕ8ٓ-ٕ98و تارٌخ مصرٌ ،وحنا النقٌوسً "رإٌة قبطٌة للفتح اإلسبلمً" ،ترجمة عمر صابر عبد
الجلٌل ،عٌن للدراسات والبحوث اإلنسانٌة واالجتماعٌة ،القاهرة ،ص ٕٔٙٙ -ٔٙ
()٘ٙ
-انظر :تارٌخ مصرٌ ،وحنا النقٌوسً ،ص ٖٕٓ وفتح العرب لمصر ،ألفرٌد بتلر ،ترجمة محمد فرٌد بك أبو حدٌد ،مكتبة مدبولً ،سلسلة
صفحات من تارٌخ مصر ،طٕ ،القاهرة ،ٔ99ٙ ،ص ٖٕٕ
()٘9
-انظر :مصر من االسكندر األكبر حتى الفتح العربً ،مرجع سابق ،ص ٗ ٔٙوٕ٘ٔ
ٕٓ8
الجٌش الرومانً ،وٌقال إنه قُتل فٌها ٓ٘ ألؾ شخص.
وفً ٗٔٔ م انتهز الٌهود فرصة انشؽال اإلمبراطور فً الحرب ضد البارثٌٌن وأشعلوا نار ثورة
جامحة فً مصر وبرقة ،حتى سٌطروا على الببلد بعض الوقت ،وعجزت الجٌوش الرومانٌة عن مواجهة
الموقؾ ،واضطر الوالً إلى تجنٌد األهالً فً فرقة محلٌة فً كل نوموس إلخمادها(.)٘8
وهكذا أدت الصراعات بٌن األعراق والطوابؾ األجنبٌة إلى نشر الفوضى فً الببلد ،واستنزاؾ مزٌد
من خٌراتها ،ومقتل مزٌد من أبناءها ،فً معارك ال تخصهم فً شًء.
وسط دوامة الصراعات واالؼتٌاالت التً ؼرق فٌها الرومان (البٌزنطٌٌن) تعرضت اإلمبراطورٌة
الجتٌاح فارسً سٌطر على الشام ثم مصر سنة ٙٔ8م ،وذلك بعد ٓ٘ 9سنة من االحتبلل الفارسً الثانً
لمصر ،وحكموا مصر ٓٔ سنوات قاسٌة.
وٌقول ألفرٌد بتلر عن دور "خلطة األجناس" باإلسكندرٌة فً تسلٌم مصر للفرس رؼم الحصون
الشهٌرة لئلسكندرٌة التً ظنت أنها "مانعتها" ،أي ستحمٌها" :ولكن أ َّنى لها ذلك وقد َب ُعد عهدها باجتماع
الشمل وتوحٌد الكلمة ،وصار أهلها أخبلطا مضطربة من قبط وروم وسورٌٌن وٌهود وجماعة من طبلب
العلم ،وآخرٌن من البلجبٌن أتوا إلٌها من كل أنحاء الدولة ،فكان القبط والسورٌون ٌكرهون الروم ،وكان
الٌهود ٌمقتون أتباع المسٌح مقتا ال ٌسله من قلوبهم الخطر الداهم علٌهم جمٌعا ،وكانوا جمٌعا ال ٌدركون أن
الواجب علٌهم أن ٌجتمعوا من كل جنس أو طبقة أو مذهب ٌربطهم رباط االشتراك فً الوطن ،وهو
الوسٌلة ال وسٌلة ؼٌرها إلى ضم شملهم ،ما كانوا لٌدركوا معنى لهذا بل كانوا ٌسخرون منه ،فلم ٌكن عجٌبا
مع هذا أن نرى الخٌانة تعمل على وقوع المدٌنة فً ٌد أعدابها"(.)٘9
وكٌؾ ٌعرفون معنى الوطن وهم قادمون من ببلد ما عرفت ٌوما معنى الوطن ،وكٌؾ ٌعرفون معنى
الوطن وما جاءوا لمصر إال للنهب والنفوذ والعمل كمرتزقة ،وكٌؾ ٌعرفون معنى الوطن وكل جالٌة
محتفظة بؤصولها األجنبٌة فٌما مصر بالنسبة لهم لٌست إال "بقرة حاحا"ٌ ،حلبونها حتى ٌجؾ ضرعها.
وانتهى االحتبلل الفارسً بعد ٓٔ سنٌن بحرب قادها اإلمبراطور الرومانً هرقل ،وطردهم من مصر
ٕٙ9م ،ولكن تكالب على هرقل عدو أشد من الفرس ،وهو والٌه على مصر قٌرس "المقوقس" ،فقد كان
فظا ؼلٌظ القلب ،لم ٌستجب لوصاٌا هرقل فً تهدبة ما بٌن المذهبٌن األرثوذكسً والملكانً فً مصر،
وأشعل النار بٌنهما ،واضطهد األرثوذكس ،فؤهاج الناس على هرقل ،وأضعؾ مركزه ،بل وورط هرقل فً
قبول هذا االضطهاد ،وبهذا السبب مجتمعا مع العوامل السابقة كاإلقطاع ،وصعود مراكز القوى التً
ؼرست الضعؾ فً أوصال اإلمبراطورٌة ،والثورات المتتابعة ،وعودة الصراعات والدسابس على
العرش ،وكثرة الخٌانة ،تجهزت اإلمبراطورٌة العجوز للسقوط بمعاول أول قوة فتٌة تظهر على الساحة
()٘8
-لل مزٌد انظر :مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربً ،مصطفى العبادي ،مرجع سابق ،ص ٔ8ٕ -ٔٙ9
()٘9
-فتح العرب لمصر ،ألفرٌد بتلر،مرجع سابق ،ص ٖٔٔ
ٕٓ9
الدولٌة(ٓ.)ٙ
ولم تساعد ثورات المصرٌٌن ضد الرومان فً أن ٌفوزوا ببلدهم حٌن انهارت اإلمبراطورٌة الرومانٌة،
فالقوة المنظمة الخاصة بهم (الجٌش) ما زالت ؼاببة فً جوؾ الزمن ،والمعابد الكبرى أُؼلقت وصودرت
أوقافها واختفى زعماإها ،والكنٌسة لم تتبنَّ مبدأ الثورة القومٌة ،كما أن أتباعها من الٌونان الدخبلء بجانب
المصرٌٌن؛ فضاعت ثوراتهم ودماءهم فً الفراغ لتسقط مصر فً ٌد قوة مسلحة أجنبٌة جدٌدة (العرب)،
وإن بقً لهم شرؾ أنهم سجلوا بهذه الدماء أنهم رؼم كونهم ع َُّزل صرخوا فً وجه االحتبلل الرومانً
هزت أعماق التارٌخ تذكرهم بالخطٌبة الكبرى التً جلبت علٌهم كل هذا الببلء والعقاب صرخات مزلزلة ،و َّ
الطوٌل ،عقاب كفرهم بؤكبر نعم هللا علٌهم ،نعمة مصر ،ونعمة هوٌتهم الخاصة ،ونعمة تعالٌم "ماعت" ،ونعمة
جٌشهم الذي حشوه باألجانب ،ونعمة وصاٌا وعهد األجداد فً حفظ بلدهم من الدخبلء:
"إن البوابات ]الحدود[ التً فوقك كبوابات حامٌة ....إنها سوؾ ال تفتح للؽربٌٌن ،إنها سوؾ ال تفتح
للشرقٌٌن ،إنها سوؾ ال تفتح للجنوبٌٌن ،إنها سوؾ ال تفتح للشمالٌٌن ،إنها سوؾ ال تفتح لهإالء الذٌن
فً وسط األرض ،إنها سوؾ تفتح لحورس(ٔ.")ٙ
(نصوص األهرام)
"إن الذي ٌفعل الماعت فذلك الذي ٌكون بعٌدا عن الضالل"ٌ" ،حل العقاب دابما بالذي ٌتخطى
قواعدها"(ٕ.)ٙ
(ٓ)ٙ
-للمزٌد انظر :فتح العرب لمصر ،ألفرٌد بتلر ،مرجع سابق ،ص ٔٙٔ -ٔٓ9
(ٔ)ٙ
-نصوص األهرام ،القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم ،مرجع سابق ،ص ٕٕ٘ٔٔٙ -
(ٕ)ٙ
-انظر تقدٌم علً رضوان لكتاب "الماعت ..فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة" ،مرجع سابق ،ص ٕٔٔ٘-
ٕٓٔ
ولسة بحلم بٌوم
(ٔ)
-أؼنٌة ولسة بحلم بٌوم ،تؤلٌؾ عبد السبلم أمٌن ،ألحان محمد الموجً ،ؼناء محمد قندٌل
المشهد ٔٔ :االحتالل العربً
ضمت جزٌرة العرب عشرات من القباٌل بعضها ظل فً ترحال ،وبعضها استقر فً ممالك مثل سبؤ
وحمٌر فً جنوبها خبلل النصؾ األول من األلؾ ق.م ،وممالك فً شمالها كالؽساسنة والحٌرة واألنباط فً
النصؾ األول من األلؾ ب.م ،وممالك أو قرى فً وسطها مثل كندة وقرٌش.
ودولٌا ،ارتبطت مملكة الحٌرة التً قامت جنوب شرق العراق بالوالء للفرس الواقعة قرب حدودهم،
فٌما ارتبطت الؽساسنة الواقعة فً بادٌة الشام بالوالء للرومان لقربها من أماكن سٌطرتهم على الشام،
وكذلك مملكة األنباط القرٌبة من الحدود المصرٌة.
وبحسب بحث عبد العزٌز صالح حول تارٌخ جزٌرة العرب ،فإن العرب لم ٌظهروا على الساحة
المصرٌة طوال أزمنة الحكم المصرٌة الخالصة -أي حتى األسرة ٕٓ -إال بشكل عابر ،ولما توسعت
التجارة أٌام تحوتمس الثالث شملت العرب ،فعثر األثرٌون على نص مصري قدٌم ٌسجل وصول وفد من
بحار "الجنبتٌون" (عشاٌر فً جنوب شبه الجزٌرة العربٌة) بمتاجرهم من البلدن والكندر والمر والبخور
إلى مصر فً العام ٕٖ من حكم تحوتمس (حوالً ٔٗ٘8ق .م.).
وبعد هذا العهد ظلت المناظر المصرٌة تصور ضمن تجار الكندر والبلدن والبخور والمر الواردٌن إلٌها
ً
رجاال ذوي مبلمح عن طرٌق البحر األحمر ،اعتبرتهم من وجهة نظرها أتباعًا ٌإدون الجزٌة إلى مصر،
سامٌةٌ ،صلون إلى العاصمة المصرٌة تارة ،وٌقفون عند سٌناء تارة ،وعند بعض موانا البحر األحمر
تارة ،وٌتبادلون المتاجر هنا وهناك مع المندوبٌن المصرٌٌن(ٕ).
وأٌام االحتبلل الٌونانً والرومانً أخذوا فرصتهم فً االستقرار على الحواؾ ،ثم التسلل إلى الداخل
واالستٌطان كبقٌة الجالٌات األجنبٌة التً جاءت فً ذٌل المحتلٌن فً ثوب تجار أو مرتزقة أو عمالة ،ومن
(ٕ)
-للمزٌد عن تارٌخ الجزٌرة العربٌة وقبابلها وممالكها وعبلقتها بالفرس والرومان وعبلقتها بمصر قبل ؼزو العرب لمصر انظر :شبه الجزٌرة
العربٌة فً عصورها القدٌمة ،عبد العزٌز صالح ،مرجع سابق ،ص ٖ8 -ٖ9
ٕٕٔ
هإالء رجل عربً من تجار "معٌن" اسمه زٌد إٌل بن زٌدُ ،دفن فً مصر ،ووجد له تابوت فً منؾ
مكتوب علٌه بحروؾ المسند ما ٌُفهم منه أنه عمل فً خدمة معبد مصري لعله سٌرابٌوم منؾ ،وأخذ فٌه
لقب الكاهن المطهر خبلل فوضى فتح مإسسات الدولة للجالٌات األجنبٌة ،وتولى تورٌد المنتجات العربٌة
إلٌه مثل المر والذرٌرة (قصب الطٌب) على سفٌنة بحرٌة فً مقابل ما ٌصدره إلى بلده من المنسوجات
المصرٌة ،وهذا النص ٌعود إلى االحتبلل البطلمً(ٖ).
ومع أهمٌة القباٌل العربٌة أٌام االحتبلل الرومانً كوسٌط تجاري بٌن مناطق البخور والتوابل والعطور
فً الٌمن ومناطق تصرٌؾ هذه التجارة إلى اإلمبراطورٌة الرومانٌة فً مصر والشام ،تحركت قوافلهم
قرب الحدود المصرٌة للتجارة ،ساعدهم فً هذا حسن عبلقتهم بالرومان عبر مملكتً الؽساسنة واألنباط
الموالٌتٌن لهم ،وتؽلؽلت بعض القباٌل إلى سٌناء ومحافظة الشرقٌة ومدن الوجه القبلً القرٌبة من البحر
األحمر -مثل قنا -حٌث موانا نقل التجارة من الهند والٌمن إلى مصر.
وبجانب التجارة عمل العرب على الحدود كؤدالء فً سٌناء للمارٌن بها ،وصاروا عنصرا هاما فً
مساعدة الجٌوش العابرة لها ،مثلما ساعدوا الفرس والرومان فً السٌر إلى وادي النٌل ،وشارك بعضهم
كمحاربٌن فً جٌش الرومان فً ؼزواته بمصر كما فعل عرب مملكة األنباط المجاورة وقتها لمصر.
والعرب أقل جالٌة أثرا فً مصر قبل االحتبلل العربً ،وأقلهم اختبلطا بالمصرٌٌن أٌضا ،خاصة لتركز
معظم المستوطنٌن منهم على الحواؾ ،ولم ٌكن لهم وجودا ٌُذكر فً اإلسكندرٌة كباقً الجالٌات ،فلسٌناء
وموانً البحر األحمر األولوٌة عندهم لقربهم من مناطق نفوذهم التجاري وطرق القوافل ،كما ارتبطت
صورتهم بالؽارات التً لم ٌكفوا عن شنها على مصر من الحدود الشرقٌة كلما لمسوا ثؽرة أو ضعفا.
حرة؟
♣♣♣ ماذا لو دخل اإلسالم مصر وهً َّ
تابعنا أنه بعد تفكك أوصال اإلمبراطورٌة البٌزنطٌة تحولت مصر لـ"ثمرة دان قطافها" ،سهلة السقوط
أمام الذراع األشد فً حمل السٌؾ؛ فبدأ دبٌب حوافر خٌول الؽازي الجدٌد تعلو ،وفً ٔ8هـ وبعد نجاح
العرب فً فتح الشام التً سلَّم بعض والتها مفاتٌح مدنها للعرب؛ ألنهم أساسا من قباٌل عربٌة استوطنت
الشام ،انفتحت شهٌة جٌش العرب لمصر.
ٌقول الطبري(ٗ) (توفً ٖٓٔ ه) فً كتابه "تارٌخ الرسل والملوك" إن من اقترح فتح مصر أوال هو
عمر بن الخطاب وأمر عمرو بن العاص بذلك ،فٌما ٌقول ابن عبد الحكم (توفً ٕ٘9ه) فً كتابه "فتح
مصر وأخبارها" -وهو أول كتاب ٌضعه عربً عن أحداث فتح مصر -إن من بادر إلى ذلك هو عمرو بن
العاص ،وفً كبل الحالٌن تحمس عمرو بن العاص أشد التحمس لهذه المؽامرة ،وحشد لها كل طاقاته كؤنها
مكسب عمره ،فلماذا؟
(ٖ)
-انظر :نفس المرجع ،ص ٖ8ٗ -8
(ٗ)
-تارٌخ الرسل والملوك (تارٌخ ال طبري) ،محمد بن جرٌر الطبري ،تحقٌق محمد أبو الفضل إبراهٌم ،الجزء الرابع ،ط ٕ ،دار المعارؾ ،ص ٗٓٔ
ٖٕٔ
سبق أن زار عمرو مصر كتاجر قبل البعثة النبوٌة ،وعرؾ طرقها ،ورأى كثرة أموالها ،وخاصة فً
اإلسكندرٌة ذات العمد المرمرٌة والمبانً الشاهقة ،والتجارة الوافرة ما أذهله ،ونقل عنه ابن عبد الحكم
قوله" :ما رأٌت مثل مصر قط وكثرة ما فٌها من األموال" ،وأنه "نظر إلى اإلسكندرٌة وعمارتها وجودة
بنابها وكثرة أهلها وما بها من األموال فازداد عجبا"(٘).
وشوقا إلى هذا النعٌم ،وثقة فً النفس بعد هزٌمة الروم فً الشام ألح عمرو على الخلٌفة عمر بؤمر
الؽزو الذي كان مترددا فٌه ،وقال له عمرو وفق ما نقل ابن عبد الحكم" :إنك إن فتحتها كانت قوة للمسلمٌن
وعونا لهم ،وهً أكثر األرض أمواال ،وأعجزها عن القتال والحرب" ،فتخوَّ ؾ عمر بن الخطاب على
المسلمٌن وكره ذلك ،فلم ٌزل عمرو ٌعظم أمرها عنده حتى أقنعه"(.)ٙ
و أعجزها عن القتال والحرب لضعؾ حال الروم وقتها وتصارعهم ،وافتقاد المصرٌٌن للجٌش الخاص
بهم ،ولكراهتهم للروم ،ولصراعات األعراق المتحكمة فً شبونها فً اإلسكندرٌة ،وكلمة المسلمٌن وقتها
مرادؾ لـ"عرب الجزٌرة" ألنه لم ٌكن استجاب للبعثة النبوٌة بكثافة ؼٌرهم.
ومن األحادٌث المتبادلة بٌن عمر وعمرو عن الهدؾ من فتح مصر لم ٌرد أن الهدؾ نشر اإلسبلم كما
ٌقول البعض اآلن ،كما لم ٌرد أن القبط أرسلوا لعمرو أن ٌؤتً لكً ٌنقذهم من الروم ،فهدؾ الفتح العربً
اقتصادي توسعً بحت مثلهم مثل معظم اإلمبراطورٌات السابقة والبلحقة ،ومن ٌقول بخبلؾ ذلك علٌه أن
ٌتحمل هو نتٌجة القول بؤن المسلمٌن ؼزوا الشعوب األخرى بالسٌؾ إلجبارها على اإلسبلم.
ولٌس فً كبلم عمرو بن العاص وال رسابله المتبادلة مع عمر بن الخطاب أي إشارة إلى أن العرب
دخلوا مصر لـ"تخلٌص وتحرٌر" أهلها من الرومان ،فبل ٌوجد أي رابطة بٌن المصرٌٌن حٌنها وبٌن العرب
لٌضحوا بؤنفسهم لتحرٌر المصرٌٌن ،بل إن عمر بعد مشاورات مع عثمان بن عفان أصابه القلق من فكرة
الفتح خوفا على سبلمة الجنود العرب من لقاء الروم ،فؤرسل لعمرو وهو فً الطرٌق كتابا ٌؤمره بؤنه إن
وصله الكتاب قبل دخول مصر فلٌرجع ،وفق نص الرسالة فً تؤرٌخ ابن عبد الحكم( ،)9فسبلمة بنً جلدته
أهم عنده من المصرٌٌن ،وهذا شعور طبٌعً.
وكٌؾ ٌؤتً العرب لـ"ٌحرروا" المصرٌٌن فً حٌن أنه حٌن ثار المصرٌون على ظلم بعض الوالة
العرب فٌما ٌخص الضرابب الباهظة وسوء المعاملة نكلوا بهم بؤسالٌب وحشٌة كما فعل الٌونان والرومان؟
وكٌؾ ٌضحً العرب وعمرو بن العاص بؤنفسهم فً مواجهات مع الرومان من أجل "تحرٌر" الشعوب،
وهم -أي العرب -من لم ٌتعلموا قبل اإلسبلم أن ٌضحوا بؤنفسهم ألجل بعضهم ،وعاشوا قبابل متناحرة أو
متحفزة ضد بعضها ،وبعد وفاة الرسول (ص) رفعوا السٌوؾ فً وجه بعضهم البعض ،وأراقوا دم
بعضهم ،من أجل كرسً الحكم فً معارك الجمل وصفٌن وفتنة عثمان وؼٌرها ،وحارب عمرو بن العاص
(٘)
-فتوح مصر وأخبارها ،أبو القاسم بن عبد الحكم ،مرجع سابق ،ص ٖ٘٘٘ -
()ٙ
-نفس المرجع ،ص ٘ٙ
()9
-نص الكتاب من عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص ودوافعه ،انظر فً المرجع السابق ،ص ٘8 -٘ٙ
ٕٗٔ
ضد علً بن أبً طالب األقرب إلٌه دما ودٌنا من بقٌة الشعوب؟
أما هاالت التقدٌس والرواٌات حول أن هدؾ فتوحات العرب نشر اإلسبلم وتحرٌر الشعوب من
محتلٌها ،واختبلق حساسٌة فً المعنى بٌن كلمات ؼزو وفتح واحتبلل فهً من صنع أجٌال جاءت بعد هذه
الفتوحات بمبات السنٌن لشرعنة تجدٌد هذه الفتوحات فً مشروعات إمبراطورٌة جدٌدة كما فعل العثمانٌون
والقومٌون العرب وتنظٌمات دٌنٌة عالمٌة ،أو إلضفاء هالة تقدٌس تمنع انتقادها أو مراجعتها ،تماما كالهالة
الموضوعة لئلمبراطور قسطنطٌن المحتل الرومانً أو للمشروع اإلمبراطوري لكنٌسة روما "الفاتٌكان"
الذي تؽطٌه برداء "السبلم".
وفً صفحات الحقة سنتابع أن اإلسبلم انتشر فً مصر "بحكم األمر الواقع" ولٌس بدعوة منظمة من
المسلمٌن القادمٌن ،أي بحكم التوقؾ عن التبشٌر المسٌحً -كما صار مصرٌون مسٌحٌٌن بحكم األمر
الواقع بعد ؼلق المعابد المصرٌة -مع نسٌان المصرٌٌن أصحاب الدٌن القدٌم ما بقً منه ،وإن حافظوا على
طقوسه وروحه ببل وعً وعكسوها فً الدٌن الجدٌد فً انتقال سلس ؼٌر محسوس بٌن الدٌنٌن ،وكؤنه لم
تتؽٌر فٌه إال األسامً ،حتى صار للمسٌحٌة واإلسبلم طقوسا وأعٌادا خاصة بمصر تختلؾ عن بقٌة العالم،
بجانب انتشار المساجد مع القبابل التً استوطنت أطراؾ الرٌؾ لٌإدوا فٌها الصبلة ،ولكون اإلسبلم كان
أحٌانا شرطا لمن ٌتولى وظابؾ هامة ،أو تهربا من دفع الجزٌة.
وهنا وقفة أخرى ..ماذا لو دخلت دعوة اإلسبلم إلى مصر وهً تحت حكم مصري حر خالص ،عبارة
عن مصرٌٌن (كٌمتٌو) فقط ،ال أعراق وافدة وال طوابؾ وثقافات متنافرة ومتنافسة ومتقاتلة؟
كما انعكست روح البؽضاء والتنافر بٌن األعراق األجنبٌة المستوطنة مصر على تشرٌخ الدعوة
للمسٌحٌة إلى مذاهب متصارعة ،فإن العصبٌات القبلٌة والعرقٌة والطابفٌة التً جاء بها العرب ثم الفرس
والترك والشوام والمؽاربة إلى مصر انعكست فً تحوٌل دعوة اإلسبلم إلى مذاهب وطوابؾ -كما سنتابع-
تتحكم فٌها الحمٌة القبلٌة والمذهبٌة وشهوة الحكم ،فٌما كان الحال سٌكون أكثر هدوءا وتوحدا وأقل دموٌة
لو دخل اإلسبلم تحت ظل حكم مصري خالص ،وهو ما ٌإكده الروح الدٌنٌة العذبة البسٌطة التً مارس بها
الفبلحون فً األرٌاؾ -البعٌدون لحد ما عن صراعات ومذاهب العاصمة -اإلسبلم ،الخالٌة من الؽلظة
والجفوة والتعقٌد والشكلٌة التً جاء بها المسلمون الوافدون.
كذلك فإنه حٌن دخل اإلسبلم إلى دول تحكم نفسها بنفسها احتفظت بشخصٌتها ،ومن فتحه العرب سارع
فً استرداد حرٌته ،فمثبل رؼم أن العرب فتحوا فارس أٌام حكم كسرى فإنها بعد فترة من عدم التوازن
والمفاجبة والصمت ،قامت لتحًٌ مجدها القدٌم ،فها هو شاعرها الفردوسً ٌنسج ملحمة "الشاهنامة"
الشعرٌة وباللؽة الفارسٌة فً القرن الرابع الهجريٌ ،تٌه فٌها تمجٌدا وتعظٌما بتارٌخ فارس القدٌم وملوكها
وبالساسانٌٌن ،8واحتفظت فارس بلؽتها بإصرار أهلها على إنتاج اآلداب واألشعار وتسجٌل التارٌخ القومً
-8انظر المزٌد :فراعنة من؟ علم اآلثار والمتاحؾ والهوٌة القومٌة المصرٌة من حملة نابلٌون حتى الحرب العالمٌة األولى ،مرجع سابق ،ص ٖ٘
ٕ٘ٔ
بالفارسٌة ،ومثل ذلك حصل فً معظم ببلد العالم التً دخلها اإلسبلم وأهلها ٌحكمونها فً أفرٌقٌا وأوروبا
وآسٌا؛ فاكتسبوا الدٌن الجدٌد لكنهم حافظوا على وجودهم الممٌز فً الحٌاة ،ولؽتهم وثقافتهم واعتزازهم
بؤنفسهم ،وصار لقبٌلة صؽٌرة فً بطن آسٌا أو بطن أفرٌقٌا مثبل من الحرٌة والشخصٌة الظاهرة ما لٌس
لمصر رؼم عظمتها وطول تارٌخها وكونها أول دولة تصنع شخصٌة ممٌزة متكاملة فً التارٌخ.
أورد عمرو بن العاص فً خطبة بمسجده فً الفسطاط حدٌثا نبوٌا نقله عن عمر بن الخطاب" :إذا فتح
هللا علٌكم مصر فاتخذوا فٌها جندا كثٌفا فذلك الجند خٌر أجناد األرض" ،فقال له أبو بكر" :ولم ٌا رسول
هللا؟" قال :ألنهم وأزواجهم فً رباط إلى ٌوم القٌامة"(.)9
هذا الحدٌث لم ٌطبقه العرب ،وساروا على عادة المحتلٌن فً استبعاد المصرٌٌن ،سواء من أسلم منهم أو
بقً على دٌنه ،من الجٌش خوفا من أن ٌستعٌدوا ببلدهم عن طرٌقه ،إضافة إلى أن انضمامهم للجٌش
سٌساوٌهم فً ا لمزاٌا بالفاتحٌن ،وٌطٌح بالجزٌة ،وهو ما حرص العرب مثل ؼٌرهم على عدم تحقٌقه ،فما
هً المٌزة التً ٌتماٌل بها المحتلون عجبا فً تلك العصور على من ٌحتلونهم أكثر من انفرادهم بالسٌؾ
البلمع وفرضهم الجزٌة وأعباء العمل الشاق علٌهم؟
ومن ذلك ما نقله المقرٌزي أن صاحب "إخنا" سؤل عمرو بن العاص :أخبرنا ما على أحدنا من الجزٌة
فنصٌر له ،فقال عمرو وهو ٌشٌر إلى ركن كنٌسة" :لو أعطٌتنً من األرض إلى السقؾ ما أخبرتك ما
علٌك ،إنما أنتم خزانة لنا :إن كثر علٌنا كثرنا علٌكم ،وإن خفؾ عنا خفننا عنكم"(ٓٔ).
وفً هذا تقول الدكتورة سٌدة كاشؾ" :بعد أن تم للعرب فتح مصر بقى بها جٌش احتبلل عربً ،ولم
ٌشرك العرب المصرٌٌن فً هذا الجٌش ،ولم ٌرد فً صلح بابلٌون أٌة إشارة تدل على السماح للمصرٌٌن
باالشتؽال بالجندٌة ،وربما دعا العرب إلى انتهاج تلك السٌاسة خوفهم من أن ٌحًٌ المصرٌون روح القومٌة
المصرٌة على حسابهم ،وأن ٌقوموا بطردهم من ببلدهم متى حانت لهم الفرصة ،فرأوا أن ٌبعدوهم عن
األعمال الحربٌة وأال ٌتركوا لهم إال األعمال المدنٌة ،وربما كان العرب ٌشكون فً كفاءة المصرٌٌن
الحربٌة؛ إذ كان المصرٌون زمن الفتح قد ؼمرتهم روح التواكل واالستسبلم ،بٌنما كان العرب حٌنذاك شعبا
ٌتقد حماسة وشجاعة(ٔٔ)" ،وهناك سبب آخر ٌوضع فً االعتبار وهو حاجتهم للمصرٌٌن كزراع وصناع
وحرفٌٌن وبناءٌن وموظفٌن.
ؼٌر أنه وجدت فرق ؼٌر نظامٌة تسمى "المطوعة" ربما اشترك فٌها مصرٌون(ٕٔ) ،ولكن أفرادها
لٌسوا مقاتلٌن نظامٌٌن وال أصحاب سلطة أو نفوذ ٌُخشى منه ،ولٌسوا ممن ٌخصص لهم مقادٌر منتظمة من
()9
-فتح مصر وأخبارها ،أبو القاسم بن عبد الحكم ،مرجع سابق ص ٓٗٔٔٗٔ -
(ٓٔ)
-المواعظ واالعتبار بذكر الخطط واآلثار (الخطط المقرٌزٌة) ،تقً الدٌن القرٌزي ،جٔ ،مرجع سابق ،ص ٕٕ٘
(ٔٔ)
-مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة ،ص ٗ9
(ٕٔ)
-انظر :نفس المرجع ،ص ٔ9ٙ
ٕٔٙ
العطاٌا فً الدٌوان تساوٌهم بالعرب.
وكانت أسامً الجند العرب وأسرهم وأعدادهم وأحوالهم ومرتباتهم تدون فً دٌوان اسمه دٌوان الجند،
وٌتم تقسٌمهم فً الجٌش حسب قباٌلهم ،مثلما ٌتم تسكٌنهم فً أحٌاء منفصلة فً الفسطاط وؼٌرها ،على نمط
عٌشتهم فً الجزٌرة العربٌة(ٖٔ).
والجٌش كان عربٌا حتى نهاٌة العصر األموي ،وتبدل فً العصر العباسً لجٌش مرتزقة وعبٌد
ٓٓٔ %بفرس ثم أتراك فً عصر المعتصم ابن هارون الرشٌد من جارٌته التركٌة "ماردة" ،والذي أمر
والٌه على مصر كٌدر نصر بن عبد هللا بإسقاط العرب من الدٌوان وقطع أعطٌاتهم فً سنة ٕٔ8هـ،
وٌصؾ المقرٌزي هذه الحادثة بؤنه "انقرضت دولة العرب من مصر ،وصار جندها العجم والموالً من
ولً األمٌر أبو العباس أحمد بن طولون مصر فاستكثر من العبٌد" ،)ٔٗ(.وقال َ عهد المعتصم ،إلى أن
السٌوطً إن المعتصم اشترى آالؾ األتراك من سمرقند وفرؼانة (آسٌا الوسطى) ،وألبسهم الدٌباج
والذهب ،فكانوا ٌطردون خٌلهم فً بؽداد وٌإذون الناس حتى ضاقت بهم البلد(٘ٔ) ،وبذلك فالمعتصم أول
من أدخل فكرة الممالٌك األتراك فً الخبلفة اإلسبلمٌة ،وفتح الباب لٌحكم مصر والشام العبٌد والجواري.
وهجا شاعر ٌُدعى دعٌل المعتصم بسبب تفضٌله األتراك على العرب بقصٌدة قبل أن ٌهرب منه فً
المؽرب قال فٌها(:)ٔٙ
ورؼم استبعاد المصرٌٌن مسلمٌن ومسٌحٌٌن عن أعمال القتال إال أن العرب اضطروا لبلستعانة بهم فً
بناء الجٌش ذاته ،وخاصة البحرٌة التً ٌجهلها العرب فٌما كانت مصر مشهورة بصناعة السفن التجارٌة
والحربٌة من آالؾ السنٌن.
ومع صناعة السفن اعتمد العرب على المصرٌٌن فً تشؽٌل األسطول والعمل كمبلحٌن وعمال(،)ٔ9
وصار للمصرٌٌن -ومعظمهم خلٌط من المسٌحٌٌن والباقٌن على الدٌن القدٌم -الفضل الكبٌر فً بناء وتجهٌز
السفن لمعارك ذات عبلمات فً التارٌخ مثل معركة ذات الصواري بٌن العرب والروم ،ولكن هذا ال ٌُذكر
إال فً الكتب األكادٌمٌة ،وٌتوه هذا الفضل فً اإلعبلم والمسلسبلت واألفبلم التً تقدم إنجازات الحضارة
فً ذلك الوقت على أنها عربٌة إسبلمٌة خالصة ،وال ٌُذكر المصرٌون إال قلٌبل.
وفً عهد الخلٌفة العباسً المتوكل هاجم الروم سواحل مصر ،ونهبوا دمٌاط ،فاضطر الوالً إلى عمل
سفن كثٌرة لؤلسطول لحراسة السواحل ،وأمر بتجنٌد المصرٌٌن للعمل بها ،حتى من لٌس له خبرة بفنون
(ٖٔ)
-انظر :الخطط المقرٌزٌة ،مرجع سابق ،ص ٕٗ9ٓ -ٕٙ
(ٗٔ)
-نفس المرجع ،ص ٕٔ9
(٘ٔ)
-تارٌخ الخلفاء ،جبلل الدٌن السٌوطً ،دار ابن حزم ،ط ٔ ،بٌروت ،ص ٕٙٙ
()ٔٙ
-نفس المرجع ،ص ٕٙٙ
()ٔ9
-انظر المجتمع المصري فً مصر اإلسبلمٌة من الفتح العربً وحتى العصر العبٌدي ،هوٌدا عبد العظٌم رمضان ،الهٌبة العامة للكتاب ،القاهرة،
ٗ ،ٔ99ص ٖٓ9
ٕٔ7
البحر ،ورؼم عدم معرفتهم بفنون القتال ،ولم ٌقدم لهم السبلح ،إذ كان ٌرؼمهم على شرابه ،كما كان ٌرؼم
المرضى والضعفاء على الخدمة فً األسطول ،و ٌقترون علٌهم فً الطعام(.)ٔ8
كما وقع على عاتق المصرٌٌن بناء القبلع على مدن الشواطا وحفر القنوات الكبٌرة وتعمٌق القناة التً
تحمل المٌاه إلى اإلسكندرٌة ،فوصلت إلٌها المٌاه والسفن ،وزادت الزراعة وراجت التجارة ،وفً ذلك ٌقول
ساوٌرس ابن المقفع فً "تارٌخ البطاركة"" :فلما كثر الصراخ إلى الرب ،نظر إلٌهم ،فعزل الخلٌفة أبو
جعفر المتوكل الوالً الشرٌر ،وعٌن بدال منه ٌزٌد بن عبد هللا ،فخفت حدة التجارب ضد األقباط(.")ٔ9
وبتعبٌر سٌدة كاشؾ ،فإنه إذا كان الفضل لعظمة البحرٌة اإلسبلمٌة ٌرجع إلى الشعوب التً فتحوها
وتعلموا منها هذا الفن واستخدموها فً حاجاتهم البحرٌة فلنا أن نقول ؼٌر مبالؽٌن إن الفضل األكبر واألول
ٌرجع إلى مصر والمصرٌٌن(ٕٓ).
سقط القناع الٌونانً الرومانً من على وجه مصر بؤسرع من هبِّة الرٌح؛ ما أثبت أن ألؾ سنة من
االحتبلل الثقافً والعسكري والعرقً لم ٌنعكس لونه إال على المدن القلٌلة التً استوطنها المحتلون ،ومن
سار فً ركبهم من مصرٌٌن متعلمٌن ،وما أن جاء احتبلل لٌطرد المحتل القدٌم حتى اختفت مبلمحه كما
اختفت األسامً الٌونانٌة للمدن المصرٌة من السجبلت وعادت لها أسامٌها المصرٌة التً ظل الفبلحون
المخلصون لثقافتهم ٌزٌنون بها ألسنتهم.
ولوال البقٌة الصؽٌرة من الٌونانٌٌن والرومان التً وافق العرب على بقابها للعمل فً الدواوٌن -ودخلوا
ضمن أهل البلد منتحلٌن تسمٌة األقباط -النمحى أي وجود ٌونانً ،بل حتى ربما أعاد المصرٌون الحروؾ
المصرٌة إلى اللؽة المصرٌة وطردوا الحروؾ الٌونانٌة التً حولتها إلى مسخ.
وإن كان طرد المحتل القدٌم تم على ٌد مصرٌٌن لعاد وتجلَّى تمام التجلً وجه مصر الصبوح للعالم من
جدٌد ،إال أنه سرعان ما ألصق علٌه قناع جدٌد هو القناع العربً فً المدن التً تركز فٌها.
وكما أخذ الرومان القمة محل الٌونان ،أخذ العرب القمة محل الرومان ،وجلبوا عناصر جدٌدة تعاونهم
فً فرض السٌطرة وعدم ترك أمور الدواوٌن بٌد المصرٌٌن وبقاٌا الرومان والٌونان وحدهم ،فجلبوا قباٌل
جدٌدة لتستوطن داخل الببلد بعد أن كانت القباٌل تفضل سكن األطراؾ ،وجلبوا الحقا الفرس والترك
لخبراتهم اإلدارٌة والقتالٌة.
()ٔ8
-تارٌخ البطاركة ،ساوٌرس بن المقفع ،تلخٌص وتعلٌق مٌخابٌل مكسً إسكندر ،ج ٕ ،مكتبة المحبة ،ص ٖٓٔ
()ٔ9
-المرجع السابق ،ص ٖٓٔ
(ٕٓ)
-مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة ،مرجع سابق ،ص ٘9
ٕٔ8
القناع العربً تصدر بعد اإلؼرٌق والرومان ألنه عبؤ العاصمة وركزت كتب التارٌخ حٌنها على رصد أفعاله وأحواله ال أفعال وأحوال المصرٌٌن فً
األرٌاؾ (المصدر :مشاهد من المسلسبلت التلفزٌونٌة التارٌخٌة ورسوم شابعة على اإلنترنت لعدم توفر رسوم ألشخاص معاصرة لنفس الفترة)
أما عن سكان مصر عموما عند بداٌة االحتبلل العربً فسنرى الحقا عند الحدٌث عن دفع الجزٌة أنه قد
ٌزٌد على ٕٔ ٔ8 -ملٌونا إن صح ما ورد فً تؤرٌخ ابن عبد الحكم أن من أحصاهم عمرو بن العاص من
القبط المفروض علٌهم الجزٌة ما بٌن 8-ٙملٌون شخص ،ومعفً منها الشٌوخ والنساء واألطفال ،وهإالء
جملتهم تكون الضعؾ على األقل ،وإن اعتبر آخرون أن الرقم فٌه مبالؽة.
وبقاٌا الروم والٌونان والٌهود وجنسٌات أخرى باإلسكندرٌة فالمتوسط نصؾ ملٌون؛ حٌث قال العرب
إنهم وجدوا فً اإلسكندرٌة ما بٌنٕٓٓ– ٓٓ ٙألؾ شخص ،ونقل المقرٌزي عن ابن لهٌعة أن عمرو بن
العاص جبى الجزٌة من اإلسكندرٌة ٓٓ ٙألؾ دٌنار؛ ألنه وجد فٌها ٖٓٓ ألؾ من أهل الذمة فرض علٌهم
دٌنارٌن دٌنارٌن(ٕٔ).
أما العرب فبدأ عددهم بـ ٕٔ ألفا هم الجنود الذٌن أتم بهم عمرو بن العاص فتح مصر ،وبقً بعضهم
فٌها ،واتجه آخرون لفتح شمال أفرٌقٌا ،ثم توالى قدوم القباٌل ،وٌقول ابن عبد الحكم إنه فً عهد معاوٌة بن
أبً سفٌان وصل الدٌوان إلى ٓٗ ألفا (ٕٕ) ،وٌقصد ما ٌُحصى من عدد أفراد وعاببلت الجند والقباٌل
المتكفل الدٌوان (الحكومة) بمعٌشتهم ،وهم كل الجالٌة العربٌة بمصر وقتها.
وسار العرب فً القرن األول سٌرة من سبقهم من وافدٌن باالبتعاد عن المصرٌٌن؛ خوفا من نتابج
االحتكاك بهم كونهم ؼرباء ،والختبلؾ الثقافة واللؽة والدٌن والعادات ،إضافة لسعٌهم إلى التمٌز باعتبارهم
القوة الحاكمة ،والفسطاط ثم الجٌزة واإلسكندرٌة هً أول أماكن تقٌم فٌه القباٌل ،ثم تفرقت بعد استقدام
الترك أٌام العباسٌٌن إلى الوجه البحري ،وآخرون إلى الوجه القبلً ،واختاروا العٌش فً أماكن خاصة
ؼٌروا أسامٌها لتحمل أسماء قبابلهم.
وعن تؤثٌر هذا األمر قال المقرٌزي فً كتابه "الخطط المقرٌزٌة"" :ولم ٌنتشر اإلسبلم فً قرى مصر
إال بعد المابة من تارٌخ الهجرة ،عندما أنزل عبٌد هللا بن الحبحاب مولى سلول قٌسا بالحوؾ الشرقً ،فلما
(ٕٔ)
-المواعظ واالعتبار بذكر الخطط واآلثار (الخطط المقرٌزٌة) ،تقً الدٌن القرٌزي ،تحقٌق محمد زٌنهم -مدٌحة الشرقاوي ،مكتبة مدبولً ،القاهرة،
،ج ٔ ،ص ٖٕٓ
(ٕٕ)
-فتوح مصر وأخبارها ،ابن عبد الحكم ،مرجع سابق ،ص ٕٓٔ
ٕٔ9
كان بالمابة الثانٌة من سنً الهجرة كثر انتشار المسلمٌن ]العرب الوافدٌن[ بقرى مصر ونواحٌها(ٖٕ)".
ولكل قبٌلة مخصصات مالٌة من خراج مصرٌ ،ؽنٌها عن العمل فً الزراعة والصناعة ،وٌصلها سواء
عملت فً الحرب أم لم تعمل ،وهكذا ظل العرب لنحو ٕٓٓ عام تؤثٌرهم ضعٌؾ على المصرٌٌن فٌما
ٌخص انتشار اإلسبلم واللؽة العربٌة ،وهذا مما ٌدل أٌضا على أن الفتح العربً لم ٌكن هدفه نشر اإلسبلم،
فقد مرت سنوات طوٌلة دون أن تختلط القباٌل بالمصرٌٌن اختبلطا كثٌفا أو مثمرا ،ولم ٌرد أنها أرسلت
لؤلرٌاؾ قوافل لتعلٌمهم اإلسبلم ،أو عن شخصٌات معٌنة أخذت على عاتقها السٌاحة فً أرض مصر
للتبشٌر بالدٌن الجدٌد.
واستمر امتٌاز منح العرب مخصصات مالٌة من الدٌوان حتى إحبلل الترك محل العرب فً الدٌوان
والجٌش زمن العباسٌٌن ،وقرار المعتصم سنة ٕٔ8هـ بإسقاط العرب من الدٌوان؛ فانقطع عنهم المدد،
واتجهوا للتجارة والزراعة وتملك األراضً(ٕٗ) ،وبعضها حصلوا علٌها كإقطاعات من الوالة ،وبدأ حٌنها
تعامل أوسع مع االمصرٌٌن نتٌجة حاجتهم لهم فً الزراعة والصناعة والمعامبلت التجارٌة ،إال أن الزواج
بٌنهم كان قلٌبل.
ومن اختار االختبلط بالمصرٌٌن بعد ٕٓٓ سنة فترى الدكتورة سٌدة كاشؾ أنه تخلً شٌبا فشٌبا عن
روح العصبٌة القبلٌة ،مستشهدة بؤن بعضهم فً األسماء بات ٌنسب نفسه للمدٌنة ولٌس للقبٌلة ،فنرى فً
معظم شواهد القبور التً اكتشفت حدٌثا فً مقابر أسوان والفسطاط أن اسم المٌت ٌتبع باسم قبٌلته فً خبلل
القرنٌن األولٌن للهجرة ،ولكن فً خبلل القرن الثالث الهجري نجد أن اسم القبٌلة قد حل محله اسم الجهة أو
تنمح العصبٌة القبلٌة
ِ اإلقلٌم الذي ٌنتسب إلٌه المتوفً فٌكتب فبلن األدفوي أو المصري...إلخ(ٕ٘) ،ولكن لم
لدى الكثٌرٌن؛ استنادا المتبلكهم قوة السبلح واعتبار أنفسهم "الفاتحٌن".
ونقطة هامة أشارت إلٌها الراحلة سٌدة كاشؾ تظهر خطؤ تارٌخً فً تحدٌد معنى كلمة المصرٌٌن فً
أمهات الكتب التً تتحدث عن فترة الحكم العربً ،وتصؾ العرب القادمٌن حٌنها لمصر بصفة المصرٌٌن،
فتنسب للمصرٌٌن الحقٌقٌٌن أعماال ومواقؾ لٌس لهم بها أي عبلقة ،وإنما قام بها العرب الذٌن وصفتهم
الكتب بالمصرٌٌن لتحدٌد مكان إقامتهم ولٌس جنسهم وهوٌتهم ،فحٌن تفرقت القبابل العربٌة مع الفتوحات
فً البلدان ،جرى تسمٌة المهاجرٌن باسم البلد الذي ذهبوا إلٌه لتمٌٌزهم عن الباقٌن.
ومثبل ،فإنه بتعبٌر سٌدة كاشؾٌ ،جدر بنا أن نشٌر إلى أن الذٌن اشتركوا فً الفتن والصراعات الخاصة
بكرسً الخبلفة لم ٌكونوا من المصرٌٌن ،وإنما من الجند العرب الذٌن استقروا بمصر أو من األجناد
األخرى الذٌن أتوا إلٌها فً عهد الدولة العباسٌة ،أما المصرٌون أنفسهم فلم ٌشتركوا فً تلك المنازعات،
اللهم إال إذا استثنٌنا معاونتهم إلى حد ما للعباسٌٌن حٌن أسقطوا الدولة األموٌة( )ٕٙعندما ثاروا ضد الوالة
(ٖٕ)
-الخطط المقرٌزٌة ،جٖ ،مرجع سابق ،ص ٕٔ8
(ٕٗ)
-مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة ،سٌدة كاشؾ ،دار المعارؾ ،القاهرة ص ٖٔ8
(ٕ٘)
-انظر :المرجع السابق ،ص ٖٔ9 -ٖٔ9
()ٕٙ
-انظر :مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة ،سٌدة كاشؾ ،مرجع سابق ،ص ٗٙ
ٕٕٓ
األموٌٌن الظالمٌن.
وقبل الؽزو العربً لم ُتستخدم كلمة مصر ومصرٌٌن فً البلد ،فهما كلمتان شاعتا على ألسنة أهل
العراق والشام ،واستخدم حكام آشور كلمة "مصري" و"مسري" ،فً المراسبلت بٌنهم وبٌن حكام مصر فً
عصور سابقة ،حٌن كان االسم األشهر لمصر هو "كٌمة" ،كما وردت فً التوراة باسم "مصراٌم"،ٕ9
وؼالبا قصدوا بها ؼالبا ما بٌن منؾ واإلسكندرٌة بالذات ،ولذا سارع العرب بإطبلق كلمة مصرٌٌن على
من سكن فٌهم مدن مصر ،وكان بدء استٌطانهم فً هذه المساحة ،واشتهرت بهذا االسم (مصر) الفسطاط
وما حولها بعد أن تحولت العاصمة إلى القاهرة ،ثم ع َّم االسم الفسطاط والقاهرة معا.
أما أهل البلد فوصفهم العرب بـ "القبط" عموما ،ولم ٌصؾ العرب أهل البلد بكلمة فبلح فً عصر
الوالة ،فلم تكن منتشرة ،ولكنهم استخدموا كلمة "نبطً" ،وتعنً عندهم مزارع ،وأطلقوها على من ٌفلح
األرض وٌستقر فٌها ،وورد مثبل فً كتاب من قرة بن شرٌك إلى باسٌل صاحب (مسبول) كوم أشقوة قوله:
"من قرة بن شرٌك إلى بسٌل صاحب أشقوة ( )...أما بعد ،فإن مرقس بن جرٌج أخبرنً أنه كان ٌسبل
نبطٌا من أهل كورتك ثلثة وعشرٌن دٌنرا وثلث دنبر ،فٌزعم أن النبطً مات ،وأنه أخذ ماله نبطً من أهل
قرٌته وؼلبه على حقه ،ٕ8)...وربما لها عبلقة بكلمة "األنباط" التً تسمت بها دولة األنباط العربٌة (فً
األردن ) وكان بعض أهلها مستقرون ٌعملون فً الزراعة ،واستخدموها فً وصؾ كلمة "الشعر النبطً"
أي الشعبً أو بلهجات عامٌة ،وفً قرون الحقة حٌن انتشر استخدام كلمة فبلح استخدمها العرب
المستوطنٌن كؤنها " ُسباب" رؼم أنها تعنً صاحب البلد األصلً والذي ٌعٌش بعرقه وساعده فً أرضه
ولٌس من االستٌبلء على أراضً ؼٌره.
أما الفبلح المصري نفسه فً األرٌاؾ فماذا كان ٌسمً نفسه؟ ؼٌر واضح ،فلم تهتم كتب المإرخٌن
المتٌسرة برصد هذا ،فهل مثبل ظل ٌسمً نفسه بكلمة "خٌمتٌو" كما كان أجداده ٌسمون أنفسهم كٌمٌتو؟ -
ألنه ظل ٌسمً مصر "خٌمً" من "كٌمً" رؼم نطق المستوطنٌن اإلؼرٌق لها بـ"إٌجٌبتٌوس" -أم سمى
نفسه قبط كمن ٌعٌشون فً المدن؟ وإن كانت األخٌرة مستبعدة ألن أهل الرٌؾ حتى الٌوم لم ٌشٌع بٌنهم
استخدام كلمة أقباط -سواء مسلمٌن أو مسٌحٌٌن -خاصة فً الوجه القبلً -وحتى وقت قرٌب لم ُتعرؾ كلمة
أقباط إال فً المدن.
مثلما عاون المستوطنون الٌونان اإلسكندر حٌن ؼزا مصر وفتحوا له أبوابها ،ساهم العرب الذٌن أقاموا فً
-ٕ9للمزٌد عن استخدامات الحٌثٌٌن واآلشورٌٌن والٌهود السم مصر انظر :رإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة ،رمضان عبده علً ،وزارة اآلثار،
جٔ ،ص ٖٓ9ٖ -ٖ9
-ٕ8انظر :أوراق البردي العربٌة بدار الكتب المصرٌة ،أدولؾ جروهمان ،ترجمة حسن إبراهٌم حسن ،جٖ ،دار الكتب المصرٌة ،ص ٖٖٓٔ -
ٕٕٔ
سٌناء وعلى األطراؾ الشرقٌة لمصر أٌام الٌونان والرومان فً فتح الطرٌق أمام جٌش عمرو بن العاص
لعلمهم بدروب صحارٌها ومداخل مصر.
فحٌن قاد عمرو الجٌش العربً ،وبدأ الطلعة األولى بـ ٗ آالؾ مقاتل ،أكثرهم من الٌمن ،وخاصة قبٌلة
عك( ،)ٕ9استقبلته فً سٌناء قباٌل مثل لخم ،وأٌضا قباٌل ؼسان وجذام وعاملة(ٖٓ) ،ولٌس متسبعدا أن القباٌل
التً استوطنت شرق قنا على البحر األحمر ساعدت فً تمكٌنه من الوجه القبلً.
بعد حصار وقتال عدة أشهر ،وافق المقوقس على عقد صلح مع عمرو ٌخص األقباطٌ ،نص على فرض
جزٌة مقدارها ٕ دٌنار على كل قبطً ،عدا الشٌخ الفانً والنساء واألطفال ،وأن ٌكون على المصرٌٌن حق
ضٌافة العرب إن نزلوا على قراهم ٖ أٌام ،وذك فً مقابل أن لهم أرضهم وأموالهم ال ٌُعرض لهم فً شًء
منها(ٖٔ) ،وبعضها شروط شبٌهة بالنظام الرومانً الذي فرض الجزٌة على من بلػ الحلم وأعفى النساء
والشٌوخ واألطفال ،وفرض ضرٌبة النزل ،أي ضٌافة الجنود الرومان حٌثما حلوا.
وحصوا عدد القبط الصالحٌن للجزٌة حٌنها فكانوا أكثر من ٙآالؾ ألؾ ( ٙملٌون) ،علٌهم جزٌة ٕٔ
ألؾ ألؾ (ٕٔ ملٌون) بحسب رواٌة ابن عبد الحكم الذي نقل رواٌة أخرى أن عددهم كان 8ملٌون
شخص(ٕٖ) ،ما ٌعنً أن الـ 8 -ٙملٌون كانوا الشباب ،وهذا بخبلؾ الشٌوخ واألطفال والنساء؛ ما ٌعنً أن
عدد سكان مصر كان فوق ٔ8ملٌونا ،معظمهم مصرٌون أقحاح.
أما عن الروم فانتهى أمرهم بعد سقوط اإلسكندرٌة فً ٌد العرب إلى رحٌل جنود الروم ومن أراد من
السكان الروم والجالٌات األجنبٌة من مصر ،واإلبقاء على الٌهود فً اإلسكندرٌة ،والحفاظ على الكنابس،
وفرض جزٌة على من ٌختار البقاء من الروم والٌهود(ٖٖ) ،وٌبلحظ شرط الروم اإلبقاء على الٌهود بالذات
فً مصر ،وكؤنهم اعتبروا الٌهود مشكلة ،وال ٌرٌدون أن ٌنقلوا فتنهم ودسابسهم إلى روما وبٌزنطة ،وآثروا
ابتبلء مصر بهم ،خاصة بعد ما تبٌن من خٌانة الٌهود للروم ودعمهم لفارس خبلل االحتبلل الفارسً الثالث
لمصر.
واختلؾ الخلفاء والوالة فً أسالٌب جمع الجزٌة ما بٌن الشدة واللٌن ،وما بٌن االلتزام بالمفروض على
المصرٌٌن وما بٌن المبالؽة والشطط إلى حد االستنزاؾ والتجوٌع ،وفرض جزٌة على من توفى أو أسلم،
()ٕ9
-فتوح مصر وأخبارها،ابن عبد الحكم ،مرجع سابق ،ص ٘ٙ
* قبٌلة عك صاحبة التلبٌة الشهٌرة فً الحج قبل البعثة النبوٌة ،حٌث كان ٌتقدم موكب حجها عبدان أسودان بلون الؽراب ٌصٌحان :نحن ؼرابا
عك ..فتقول عك بعدهما :عك إلٌك عانٌة ،عبادك الٌمانٌة ،كٌما نحج الثانٌة" ،كتاب األصنام" ،أبو المنذر هشام بن حمد بن السابب الكلبً ،تحقٌق
أحمد زكً باشا ،دار الكتب المصرٌة ،طٖ ،القاهرة ،ٔ99٘ ،ص ،7فهل كانت هذه القبٌلة البسٌطة تظن أن تساهم ٌوما فً فتح دول كمصر؟ ..نعم
إن كانت مصر بشعب بال جٌش ،بعدما ؼفل قبل ذلك وسلم جٌشه للمستوطنٌن األجانب.
(ٖٓ)
-انظر :فتوح مصر وأخبارها ،ص ،٘8وتارٌخ اللؽة العربٌة فً مصر ،أحمد مختار عمر ،عالم الكتب ،ص ٕٔ
(ٖٔ)
-فتوح مصر وأخبارها ،مرجع سابق ،ص ٓ9
(ٕٖ)
-مرجع سابق ،ص ٓ9
(ٖٖ)
-تارٌخ مصر لٌوحنا النقٌوسً "رإٌة قبطٌة للفتح اإلسبلمً" ،مرجع سابق ،ص ٖٕٔ
ٕٕٕ
وذلك بحسب تقدٌر كل خلٌفة ووالً ما إن كانت مصر فُتحت عنوة أو صلحا.
وكتب الخلٌفة عمر بن عبد العزٌز إلى الوالً حٌان بن شرٌح أن ٌجعل جزٌة موتى القبط على أحٌابهم،
وهذا فً رأي المقرٌزي ٌدل على أن عمر كان ٌرى أن أرض مصر فتحت عنوة ،وأن الجزٌة إنما هً
على القرى ولٌست على رإوس الرجال ،فمن مات من أهل القرى كانت تلك الجزٌة ثابتة علٌهم ،وأن موت
من مات منهم ال ٌضع عنهم من الجزٌة شٌبا(ٖٗ).
ونقل ابن عبد الحكم أن بن العاص قال" :لقد قعدت مقعدي هذا وما ألحد من قبط مصر علًَّ عهد وال
عقد إال أهل أنطابلس فإن لهم عهدا ٌوفى لهم به ،إن شبت قتلت وإن شبت خمست وإن شبت بعت(ٖ٘)".
وفً نفس الوقت كتب معاوٌة إلى وردان متولً الخراج ٌؤمره بزٌادة الجزٌة عل القبط فؤجابه أنه ال
ٌستطٌع ألن فٌه نقضا للعهد الذي لهم؛ ما ٌعنً أنها فتحت صلحا(.)ٖٙ
كما أورد الببلذري رواٌة عن أحد ولد الزبٌر أنه قال" :لقد أقمت فً مصر سبع سنوات وتزوجت فٌها
وكان الناس فٌها ٌفرض علٌهم من األموال ما ال طاقة لهم به ،فآذاهم ذلك ،مع أن عمرو بن العاص كان قد
عقد لهم عهدا جعل لهم ،فهً شروطا معلومة"( ،)ٖ9وقال ابن شهاب إن مصر أخذ بعضها عنوة وبعضها
صلحا ،ولكن عمر جعل أهلها جمٌعا ذمة(.)ٖ8
وفً كل األحوال لم ٌمٌز العرب فً جمع الجزٌة بٌن القبط والروم والٌهود ،فلم ٌنفذوا وصٌة الرسول
فً ذلك ،فهم ٌنظرون للجمٌع على أنهم "المؽلوبٌن" أو من دٌن مختلؾ و"أهل ذمة" وسكان البلد المفتوحة
بالقوة ،وٌجب أن ٌعاملوا معاملة المهزومٌن ،حتى من أسلم من القبط لم ٌصلوا به لمكانة العربً المسلم إال
قلٌبل ،وكانوا ٌسمون القبط المسلمٌن بالموالً ،وعادة المحتل فً كل زمان ومكان أن ٌجعل أهل الببلد فً
مرتبة أقل منه لٌظل له مٌزة التفوق والسٌطرة.
وإلى جانب الجزٌة ،واصل المصرٌون دفع الخراج للمحتل الجدٌد ،والجزٌة هً ضرٌبة الرأس،
و ُتفرض على ؼٌر المسلمٌن ،والخراج هو ضرٌبة األرض والعقارات وتفرض على الجمٌع عدا العرب
الحاكمٌن ،وقٌمة الخراج مالٌة وعٌنٌة ،تشمل المال وضرٌبة الطعام ،وهً عبارة عن القمح والعسل
والزٌت إلخ من منتجات األرض والصناعات القابمة علٌها ،وكان ٌُنفق منها على الجند العرب فً مصر،
والباقً ٌُرسل إلى مقر الخبلفة فً الخارج.
وانتقلت مٌزة اإلعفاء من الضراٌب والجزٌة من الرومان والسكندرٌٌن إلى العرب المقٌمٌن ،فكانوا ال
ٌدفعون شٌبا ،وفً المقابل ٌُخصص لهم فً الدٌوان (أي فً الحكومة) مرتبات ومخصصات ٌعٌشون منها،
(ٖٗ)
-الخطط المقرٌزٌة ،الجزء األول ،مرجع سابق ،ص ٕٕٙ
(ٖ٘)
-فتوح مصر وأخبارها ،مرجع سابق ،ص 89
()ٖٙ
-نفس المرجع ،ص 8ٙ
()ٖ9
-فتح العرب لمصر ،بتلر ،ص ٖٗ9
()ٖ8
-فتوح مصر وأخبارها ،ص ٓ9
ٖٕٕ
وذلك حتى قرار تطبٌق الخراج على العرب والمسلمٌن فً زمن الخلٌفة األموي هشام بن عبد الملك بعد أن
تزاٌد تملك العرب لؤلراضً الزراعٌة ،ومع دخول مصرٌٌن فً اإلسبلم ،وهما العامبلن اللذان أدٌا لنقص
الجزٌة والخراج فً البداٌة؛ فتم فرض الخراج على الجمٌع( ،)ٖ9وبقٌت الجزٌة على ؼٌر المسلمٌن.
وٌقول ابن عبد الحكم إن عمرو بن العاص سار فً جمع الخراج على منوال ما كان ٌفعل الرومان(ٓٗ).
وعهد العرب لؤلقباط والجباة السابقٌن بؤمورالجباٌة لمعرفتهم بؤحوال البلد ،وذكر الواقدي أن عمرا عهد
إلى أهل القرى باختٌار جباتهم ،ولم ٌختلؾ هإالء فً أسالٌبهم وطرقهم عما اعتادوه فً العصر البٌزنطً
من عسؾ وجور تجاه األهالً ،مستؽلٌن أن الوالة المسلمٌن ٌهتمون بالحصول على أكبر قدر من الخراج
إلرضاء الخلٌفة وحتى ال ٌتهمهم بالتقصٌر فٌفقدوا مناصبهم ،فسبق أن معاوٌة أراد أن ٌزٌد على المصرٌٌن
قٌراطا فً خراج أراضٌهم فلما رفض وردان عامل خراجه قاببل" :إن عهدكم ٌنص على أال ٌزاد علٌهم"
عزله معاوٌةٔٗ.
واختلفت الرواٌات حول مقدار الخراج الذي جناه العرب من مصر ،ولكنه وصل فً أقصاه إلى ٗٔ
ملٌون دٌنار ،وتظهر كتابات متبادلة بٌن عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص أن الخلٌفة عمر كان ؼٌر
راض عن مقدار الخراج المرسل إلٌه ،وٌنتقد ابن العاص ألن أرض مصر كانت فً السابق تقدم خراجا
أكثر من ذلك ،وفً المراسبلت التً نقلها المقرٌزي حدة واتهامات ،حتى أن عمر ٌقول له" :ولم أقدمك إلى
مصر ألجعلها لك طعمة وال لقومك ،ولكن وجهتك لما رجوت من توفٌرك الخراج وحسن سٌاستك ،فإذا
أتاك كتابً هذا فاحمل الخراج فإنما هو فا المسلمٌن ،وعندي من قد تعلم قوم محصورون ،والسبلم".
فرد عمرو ":معاذ هللا من تلك الطعم ومن شر الشٌم واالجتراء على كل مؤثم ،فامض عملك فإن هللا قد
نزهنً عن تلك الطعم الدنٌة ،والرؼبة فٌها بعد كتابك الذي لم تستبق فٌه عرضا ،ولم تكرم فٌه أخا" ،وطلب
من الخلٌفة أن ٌصبر علٌه حتى تنضج الثمار ،وٌحصد المصرٌون الؽبلل ثم ٌزٌد الخراج؛ حتى ال
ٌضطرهم إلى بٌع ممتلكاتهم(ٕٗ).
وفً تارٌخ الطبري أن عمر بن الخطاب إذا المه أصحابه فً تشدده فً جباٌة الخراج ٌقول لهم" :إنما
أنا تاجر للمسلمٌن(ٖٗ)".
ولكن أكثر من كان ٌستفٌد من هذا الخراج هم المسلمون العرب داخل مصر أو فً الجزٌرة العربٌة
ودمشق وبؽداد ،ألن الخراج كان ٌجبى من السكان األصلٌٌن لٌُوزع على العرب الوافدٌن ثم ٌُحمل الباقً
إلى الحجاز وعواصم الخبلفة ،ولم ٌكن لمنفعة المصرٌٌن مسلمٌن وؼٌر مسلمٌن ،بل كان ٌُشدد وٌُزاد علٌهم
()ٖ9
-انظر :فتوح مصر وأخبارها ،ص ٕٓٔ ،و ملكٌة اإلراضً الزراعٌة فً القرن التاسع عشر (رسالة دكتوراة) ،د .حمدي الوكٌل ،الهٌبة المصرٌة
العامة للكتاب ،القاهرة ،ٕٓٓ9 ،ص ٕ8ٖ -8
(ٓٗ)
-فتوح مصر وأخبارها ،ص ٔ٘ٔ
ٔٗ -اانظر :لفبلح المصري بٌن العصر القبطً والعصر اإلسبلمً ،زبٌدة عطا ،ص ٗ9٘ -9
(ٕٗ)
-انظر :الخطط المقرٌزٌة ،مرجع سابق ،الجزء األول ،ص ٕٕ9 -ٕٕ9
(ٖٗ)
-تارٌخ الرسل والملوك (تارٌخ الطبري) ،أبو جعفر محمد بن جرٌر الطبري ،ج ٖ ،مرجع سابقٖٗ9 ،
ٕٕٗ
فً الضراٌب والمشقات لصالح ؼٌرهم باعتبارهم "المؽلوبٌن".
وفً سنة ٕ٘هـ عٌَّن الخلٌفة عثمان بن عفان مسبوال خاصا لتحصٌل الخراج ،هو عبد هللا بن سعد بن
أبً السرح؛ ما أثار ؼضب عمرو بن العاص الذي كان مسبوال عن اإلدارة والخراج معا ،وقال له" :أنا ًإذا
كماسك البقرة بقرنٌها وآخر ٌحلبها"(ٗٗ) ،ورفض عمرو وترك الوالٌة.
وتولى محله ابن أبً السرح الذي زاد الخراج إلى ٗٔ مٌون دٌنار فافتخر عثمان به وقال لعمروٌ" :ا أبا عبد
هللا درَّ ت اللقحة بؤكثر من درها األول" ،فرد علٌه عمرو رد العالم ببواطن األمور" :أضررتم بولدها" ،أي
أرهقت المصرٌٌن(٘ٗ).
وروى ابن عبد الحكم أن عمرو بن العاص أنذر القبط من أخفى منهم كنزا اقتص منه بالقتل ،فعلم أن
مصرٌا اسمه بطرس ٌكتنز ماال أخفاه عند أحد الرهبان ،فاستخرج الكنز وقتل صاحبه(.)ٗٙ
وٌظهر أن من كان ٌدخل اإلسبلم ال ُترفع عنه الجزٌة فً زمن الخلٌفة األموي عبد الملك بن مروان
على أساس مشورة من الحجاج بن ٌوسؾ الثقفً والٌه فً الشام ،وطبقها عبد العزٌز بن مروان خبلل
والٌته فً مصر ،ورفض هذا األمر عمر بن عبد العزٌز ،وأرسل إلى ابن شرٌح ٌعنفه على أخذ الجزٌة
ممن أسلم بحجة سد النقص فً بٌت المال ،قاببل" :إنما محمد أرسل هادٌا ولٌس جابٌا" ،ولكن فً نفس
الوقت وافق على أنه إذا توفً مسٌحً أو ٌهودي ٌتحمل أهله دفع الجزٌة التً كانت علٌه(.)ٗ9
أما أكثر من تفنن فً فرض الضراٌب فكان أحمد بن مدبر ،والً خراج مصر ،ووصفه المقرٌزي بؤنه
"من دهاة الناس وشٌاطٌن الكتاب" ،وأنه "ابتدع فً مصر بدعا صارت مستمرة من بعده ال تنقض" ،ومنها
ما فرضه على ملح النطرون وحجر علٌه بعد أن كان مباحا لجمٌع الناس ،وقرر على الكؤل (المرعى) الذي
ماال سماه المراعً ،وقرر على ما ٌطعم هللا من البحر ً
ماال وسماه المصاٌد ،إلى ؼٌر ترعاه البهابم ً
ذلك( ،")ٗ8وبتعبٌر سٌدة كاشؾ ،فقد كانت سٌاسة الخلفاء بوجه عام ترمً الى استؽبلل مصر ،وان اختلؾ
بعضهم عن البعض اآلخر من حٌث درجة االستؽبلل ،إذ بٌنما نرى بعض الخلفاء أو والتهم ٌشتط فً جمع
الضراٌب نرى البعض االخر ٌرى أن من مصلحة الراعً أن ٌقص صوؾ ؼنمه ولٌس من مصلحته أن
ٌسلخها ،وذلك كٌبل ٌجؾ معٌن الببلد وتتؤثر بذلك مالٌة الدولة(.)ٗ9
ولعل الخلٌفة األموي سلٌمان بن عبد الملك (99 -9ٙهـ) ٌمثل النظرٌة األولى أبلػ تمثٌل حٌن ٌنقل عنه
(ٗٗ)
-فتوح مصر وأخبارها ،مرجع سابق ،ص ٔ78
*** تولى عمرو بن العاص الوالٌة مرتٌن ،األولى عقب الفتح ثم تركها ؼاضبا لما نزع منه الخلٌفة عثمان مسبولٌة الخراج ،والثانٌة لما أعان
معاوٌة بن أبً سفٌان فً الحرب ضد علً بن أبً طالب فكافبه بالوالٌة على مصر وبؤن تكون " ُطعمة" له ،أي ٌسٌر فً إدارتها وأموالها كٌفما
شاء.
(٘ٗ)
-نفس المرجع ،ص ٔٔٙ
()ٗٙ
-نفس المرجع ،ص 89
()ٗ9
-فتوح مصر وأخبارها ،مرجع سابق ،ص ٗ٘ٔ
()ٗ8
-الخطط المقرٌزٌة ،مرجع سابق ،الجزء األول ،ص ٘٘ٔ
()ٗ9
-مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة ،مرجع سابق ،ص ٖٓ
ٕٕ٘
أبو المحاسن فً كتابه "النجوم الزاهرة" أنه كتب إلى متولً خراج مصر أسامة بن زٌد التنوخً قاببل:
"احلب الدر حتى ٌنقطع ،واحلب الدم حتى ٌنصرم".
أما الخلٌفة األموي عبد الملك بن مروان (٘ 8ٙ -ٙهـ) فٌمثل النظرٌة الثانٌة بتفضٌل عدم المبالؽة فً جمع
الضراٌب ،فنقل الماوردي فً كتابه "األحكام السلطانٌة" أنه كتب إلى الحجاج بن ٌوسؾ عامله على العراق" :ال
تكن على درهمك المؤخوذ أحرص منك على درهمك المتروك ،وابق لهم لحوما ٌعقدون بها شحوما"(ٓ٘) ،وهذه
السٌاسة تذكرنا حرفٌا بما قاله اإلمبراطور الرومانً تبٌرٌوس حٌن بالػ والٌه على مصر فً نزع األموال من
المصرٌٌن ،فبلمه وقال له" :إنما أرسلتك لتجز وبر األؼنام ال لتسلخها".
وشدد قرة بن شرٌك فً كتاب إلى صاحب كورة أشقوة على أال ٌوجد أي مجال للشكوى أو االستٌاء منه
خبلل جمع الجزٌة ،وٌذكره بؤنه مصمم على مكافؤة من ٌسٌر سٌرا حسنا ومعاقبة من "ٌتنكب طرٌق
العدل(ٔ٘)" ،أي أن من ٌحٌد عنه.
وتحكً بردٌة من القرن الثالث الهجري محفوظة بدار الكتب ونشرها أودلؾ جروهمان فً كتابه
"البردٌات العربٌة" الشدة فً جباٌة األموال فً فترتها أنه" :إذا لم ٌإد كل فرد ما علٌه من األموال ٌُضرب
ٓٔ سٌاط ،وٌؽرم فً صلب ماله دٌنارا"(ٕ٘).
حول الفرس ثم الرومان مصر إلى مزرعة وسلة ؼذاء لببلدهم ،فعل كذلك العرب ،فبعد الفتح بقلٌل وكما َّ
أصاب الحجاز قحط عظٌم ومجاعة "عام الرمادة" ،فؤرسل عمر بن الخطاب إلى عمرو ٌقول :من عبد هللا
عمر أمٌر المإمنٌن إلى العاص بن العاص :سبلم علٌك ،أما بعد ،فلعمري ٌا عمرو ما تبالً إذا شبعت أنت
ومن معك أن أهلك أنا ومن معً ،فٌا ؼوثاه ،ثم ٌا ؼوثاه!" ،فرد علٌه عمرو بإرسال المدد" :لقد بعثت إلٌك
بعٌر أولها عندك وآخرها عندي" ،وعادت تلك البعٌر محملة بالخٌرات(ٖ٘).
ولكن عمر أراد أن ٌكون هذا الؽوث دابما ولٌس مإقتا ، ،وٌنقل ابن عبد الحكم عن عمر قولهٌ" :ا
عمرو إن هللا قد فتح على المسلمٌن مصر ،وهً كثٌرة الخٌر والطعام ،وقد ألقً فً روعً -لما أحببت من
الرفق بؤهل الحرمٌن والتوسعة علٌهم -أن أحفر خلٌجا من نٌلها حتى ٌسٌل فً البر ،فهو أسهل لما نرٌد من
حمل الطعام إلى المدٌنة ومكة ،فإن حمله على الظهر ٌبعد وال نبلػ معه ما نرٌد" ،وسعت القباٌل فً مصر
إلفشال الفكرة خشٌة أن ٌإثر هذا المدد الدابم على ما تتنعم به فً مصر ،ولكن بإلحاح عمر رضخوا له،
وأمرهم أن ٌنتهً الخلٌج قبل أن ٌؤتً الحول ،فانصرؾ عمرو وجمع لذك من ال َفعلة ما بلػ منه ما أراد،
واستمر حمل هذه الخٌرات من مصر عبره حتى بعد عصر عمر بن عبد العزٌز(ٗ٘).
وتدل كلمة ابن عبد الحكم ":وجمع لذلك من ال َفعلة ما بلػ منه ما أراد" ،أن من حفره هم المصرٌون،
(ٓ٘)
-المرجع السابق ،ص ٖٓ
(ٔ٘)
-نفس المرجع ،ص ٕٖ
(ٕ٘)
-أحمد بن طولون ،سٌدة كاشؾ ،المإسسة المصرٌة العامة للتؤلٌؾ واألنباء والنشر ،ٔ9ٙ٘ ،ص ٔ99 -ٔ98
(ٖ٘)
-فتوح مصر وأخبارها ،ابن عبد الحكم ،ص ٕٖٓٔٔٓ -
(ٗ٘)
-المرجع السابق ،ص ٖٓٔٔٓٗ -
ٕٕٙ
فالعرب وقتها ال ٌعملون فً الزراعة والصناعة وال ٌعملون إال فً القتال والدٌوان ،كما تإشر لظروؾ
العمل الشدٌدة التً عمل فٌها ال َفعلة لحفر القناة كل هذه المسافة (من النٌل إلى البحر) فً وقت قصٌر.
وسمٌت القناة الجدٌدة باسم خلٌج أمٌر المإمنٌن ،وتمت فً سرعة قٌاسٌة ،إذ كان ٌعمل فٌها عدد عظٌم
من أهل الببلد ٌساقون إلى ذلك كؤنهم أرقاء(٘٘) بتعبٌر ألفرٌد بتلر ،وأشار ٌوحنا النقٌوسً المعاصر للفتح
إلى أن هذا تم بطرٌق ٌشبه االستعباد حتى لقد وصؾ العرب بكبلم ٌنطق مرارة" :وكان نٌرهم على أهل
مصر أشد وطؤة من نٌر فرعون على بنً إسرابٌل ،ولقد انتقم هللا منه انتقاما عادال بؤن أؼرقه فً البحر
األحمر ،وأرسل صنوؾ ببلبه على الناس والحٌوان ،ونسؤل هللا إذا ما حل حسابه لهإالء المسلمٌن أن
ٌؤخذهم بما أخذ به فرعون من قبل(.")٘ٙ
ولكن -فً رأي بتلر -الظاهر أن هذه الشدة إنما جاءت عفوا فً وقت الفتح ولم تكن صفة ثابتة لحكومة
عمرو فً مصر( ،)٘9إال أنه سٌتكرر أمثالها فً عصور والة آخرٌن بعده ،فقد كان عمرو بما أتاه من قسوة
أو لٌن أكثر الوالة دهاء وكٌاسة فً اإلدارة.
وإجماال ،لم ٌكن نظام الجزٌة والخراج ٌختلؾ كثٌرا عما كان علٌه زمن االحتبلل الرومانً ،وإن ألؽى
العرب بعض الضراٌب التافهة التً فرضها الرومان فً بداٌة الفتح ،بحسب سٌدة كاشؾ( ،)٘8إال أنه عاد
بعض الوالة فً التفنن فً فرض الضراٌب وأسالٌب نزع الجزٌة.
وهكذا كما ٌقول المثل المصري الفصٌح كان الحال "ال على حامً وال على بارد".
على مدى آالؾ السنٌن ثبتت عقٌدة المصرٌٌن على أنه حٌن ٌقتحم أبواب مصر ؼازي أجنبً -أٌا كان
جنسه ودٌنه وؼرضه -فإنهم ٌتحدون ضده بقلب واحد ،وٌهوون على رأسه بٌد واحدة.
وتابعنا بذرة هذا طاعون اختبلؾ المواقؾ من المحتل فً تقدٌس بعض القبط لئلمبراطور قسطنطٌن
لمجرد أنه ناصر دٌنهم المسٌحً ،أي تقدٌس المحتل باسم الدٌن ،وهناك سبب آخر الختبلؾ المصرٌٌن
حول الؽازي الجدٌدٌ ،مكن تسمٌته بـ"حكم العادة" ،فطول أمد تعاقب المحتلٌن َّ
هز هذه العقٌدة المقدسة
(الموقؾ الواحد ضد المحتل) ،وأحدث فً الجسد المصري أوراما خبٌثة لم تخطر ببالهم ،وكؤن بعضهم من
كثرة ما رأى مواكب المحتلٌن بٌض وسود وصفر "راٌحة جاٌة" على مصر ببل انقطاع ،سلَّم بؤنه ُكتب على
مصر أن ٌظل حكامها فً المستقبل أجانب ،وأن جٌش مصر لن ٌعود ،وصولجانها سٌظل فً األسر،
وصاروا بعد عدة احتبلالت ما بٌن موقؾ سلبً من المحتل الجدٌد أو ٌختلفون حوله ،فالقابع على عرش
حور "حورس" مؽتصب أجنبً ،والقادم لٌخطؾ منه العرش أٌضا أجنبً ،فعلى أي أساس ٌحددون موقفهم
(٘٘)
-فتح العرب لمصر ،مرجع سابق ،ص ٖٙ8
()٘ٙ
-نفس المرجع ،وتارٌخ مصر لٌوحنا النقٌوسً ،مرجع سابق ،ص ٖٕٔ
()٘9
-فتح العرب لمصر ،مرجع سابق ،ص ٖٙ8
()٘8
-مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة ،مرجع سابق ،ص ٖٗ
ٕٕ7
من هذا وذاك؟
وفً نفس الوقتٌ ،لزم أن نكون حذرٌن ونحن نتحدث عن مواقؾ المصرٌٌن من العرب أو أي احتبلل
آخر ،فمن هم المصرٌون وقتها؟ فتابعنا أن كلمة قبط منذ االحتبلل الرومانً تطلق على المصرٌٌن
الحقٌقٌٌن وعلى ؼٌرهم من جالٌات تسكن خارج اإلسكندرٌة والمدن المخصصة لئلؼرٌق ،وهإالء األخارى
فً موقفهم من الفاتح الجدٌد ال تتحكم فٌهم إال مصالحهم الخاصة ،وفً نفس الوقت هم أكثر المتصدرٌن
للمشهد ألنهم أصحاب المركز األبرز -مقارنة بالمصرٌٌن الحقٌقٌٌن -فً الدواوٌن والمدن؛ أي األسرع
اتصاال بالقادم الجدٌد.
ومن سٌر األحداث ٌمكن توقع أن السكان عموما كانوا إزاء الؽزو العربً على ٗ أحوال :منهم من اتخذ
موقؾ الحٌاد والترقب ،فالمتحاربان االثنان أجنبٌان ،وكبلهما ٌحارب لقنص مصر لنفسه ولٌس ألهلها ،وهم
من دٌن مختلؾ ،ومنهم من انضم لجٌش الروم ضد العرب ،ومنهم من حارب العرب ورفض التسلٌم لهم كما
حدث فً دمٌاط ونقٌوس وبلهٌب وسخا وسلطٌس ومصٌل بالوجه البحري( ،)٘9وكذلك تانٌس وشطا ،وهما
مدٌنتان شهٌرتان بالمنسوجات واألشعال الٌدوٌة ،وسكانها من القبط(ٓ ،)ٙوقال ٌوحنا النقٌوسً إن الوجه البحري
لم ٌسقط فً ٌد عمرو إال بعد عام(ٔ.)ٙ
ومن السكان من انضم للعرب ضد الروم ،ومنهم من أشهر إسبلمه ،وٌقول ابن عبد الحكم إن األنبا
بنٌامٌن ،بابا األقباط ،بعد أن وصله نبؤ قدوم عمرو بن العاص كتب إلى القبط أن ٌساعدوه فصار بعضهم
أعوانا لعمرو(ٕ )ٙفً بناء الجسور واألسواق والطرق لٌتؽلب على الروم مثلما كانوا أعوانا للقادة الرومان
الذٌن كانوا ٌنقلبون على اإلمبراطور الرومانً إذا ما كان هذا اإلمبراطور ٌضطهد القبط.
وباسم الدٌن ،أو االشتراك مع المحتل فً دٌن واحد ،سٌإٌد البعض أٌضا المحتل وٌحاربون إخوتهم،
فٌقول ٌوحنا النقٌوسً عمن أعلنوا إسبلمهم وأسند لهم عمرو مناصب إنهم اشتدوا فً جمع األموال من
المسٌحٌٌن للعرب ،وصار المسٌحٌون ٌسمونهم بـ"أعداء هللا" ،ومنهم من حمل السبلح ضد إخوانهم
المصرٌٌن لصالح العرب(ٖ.)ٙ
والختبلؾ المواقؾ هذا فلٌس كل القبط دخلوا فً الصلح الذي كتبه عمرو عند فتح بابلٌون ،فإن هذا
الصلح دخل فٌه فً البداٌة الموجودون فً الحصن وما حوله(ٗ ،)ٙوانضم البقٌة مرؼمٌن أو مختارٌن إلى
الصلح بعد إتمام الفتح واستقرار الوضع للعرب بعد سٌطرتهم على اإلسكندرٌة والوجهٌن البحري والقبلً.
فً المقابل اختلفت أٌضا معاملة الجٌش العربً للمصرٌٌن ما بٌن الشدة واللٌن ،الشدة مع من قاومهم
()٘9
-فتوح مصر وأخبارها ،مرجع سابق ،ص ٘8
(ٓ)ٙ
-انظر :فتح العرب لمصر ،ألفرد بتلر ،ص ٖ99
(ٔ)ٙ
-تارٌخ مصر لٌوحنا النقٌوسً ،مرجع سابق ،ص ٔ98
(ٕ)ٙ
-فتوح مصر وأخبارها ،ابن عبد الحكم ،مرجع سابق ،ص ٘8
(ٖ)ٙ
-تارٌخ مصر لٌوحنا النقٌوسً ،مرجع سابق ،ص ٕٕٕٕٕٔ -
(ٗ)ٙ
-فتح العرب لمصر ،ألفرٌد بتلر ،مرجع سابق ،ص ٖٓ9 -ٖٓٙ
ٕٕ8
واللٌن مع من سكت عنهم أو عاونهم ،وكذلك بحسب حاجة العرب للمال.
ومن ذلك أورد ٌوحنا النقٌوسً أنه لما طارد العرب الجنود الروم فً نقٌوس فً الوجه البحري دخلوها
فقتلوا كل من وجدوه فً الطرٌق من أهلها ،ولم ٌدعوا رجبل وال امرأة وال طفبل" ،ثم انتشروا فٌما حول
نقٌوس من الببلد فنهبوا فٌها وقتلوا كل من وجدوه بها ،وأسروا األطفال والنساء واقتسموهم ؼنابم ،ونهبوا
األسبلب ،ورفضت دمٌاط التسلٌم لهم ،فٌما أحرقوا مدٌنة "ذات النهرٌن" كما سماها ٌوحنا النقٌوسً بالوجه
البحري(٘.)ٙ
ولما استقر الحال لعمرو ٗٗ ٙم سعى بحنكته لوضع حد للتوتر بٌن المصرٌٌن والعرب ،فخطب فً
مسجده خطبة أوصى فٌها العرب بالقبط قاببل" :واستوصوا بمن جاورتموه من القبط خٌرا" ،مستشهدا
بحدٌث نبوي نقله عن عمر بن الخطاب أنه سمع الرسول ٌقول" :إن هللا سٌفتح علٌكم بعدي مصر
فاستوصوا بقبطها خٌرا فإن لكم منهم صهرا وذمة ،كما أوصاهم باستمرار الٌقظة واالستعداد للحرب لكثرة
الطامعٌن فً مصر "معدن الزرع والمال والخٌر الواسع والبركة النامٌة(.")ٙٙ
ربما لم ٌحصل هذا فً عصر االحتبلل العربً نفسه ،وإنما فً عصور تالٌة ،ولكنه كان المفتاح لهذا
االنحراؾ أو القٌح الكبٌر الذي نشؤ فً شخصٌة بعض المصرٌٌن ،وعللوه بالدٌن ،وهو قبول المحتل
األجنبً مدام من ذات الدٌن.
فتحكً كتب المإرخٌن العرب -ولم ٌرد فً القرآن -أنه حٌن زار إبراهٌم مصر أهداه ملكها جارٌة
مصرٌة اسمها هاجر؛ إكراما له ،ولما عاد إبراهٌم بهاجر إلى فلسطٌن تزوجها وأنجب منها إسماعٌل ،وأنه
حٌن أرسل محمد صلى هللا علٌه وسلم إلى المقوقس ٌدعوه لئلسبلم أرسل له المقوقس جارٌتٌن قبطٌتٌن هما
مارٌة وسٌرٌن.
وإن كان األمر ٌحتاج إلى تدقٌق أو حذر فً تحدٌد ما إن كانت هاجر ومارٌة وسٌرٌن مصرٌات فعبل أم
من الجواري المجلوبٌن والمستوطنٌن األجانب ،خاصة وأنه لم ٌرد فً اآلثار أو تارٌخ المصرٌٌن أن
حكامهم اعتادوا على إهداء بنات بلدهم إلى األجانب ،أو قبولهم أن ٌتحولنَّ إلى جواري وهداٌا للضٌوؾ
األجانبَّ ،إال أن ٌكون حادثة إهداء هاجر ومارٌة وسٌرٌن كجواري جرت فً عصور االحتبلل ،وبالفعل
مارٌة وسٌرٌن تم إ هدابهما كجارٌتٌن على ٌد االحتبلل الرومانً ،وتدور تخمٌنات أن زٌارة إبراهٌم لمصر
جرت أٌام االحتبلل الهكسوسً ،أي أن الملك كان هكسوسٌا؛ فتكون هاجر ممن أسرهم المحتل الهكسوسً
خبلل االجتٌاح ،ولكن لم ٌرد أنه فً زمن االحتبلل الرومانً -خاصة أواخره -أن الرومان ٌؤسرون
وٌستعبدون المصرٌٌن كؤرقاء وجواري ،إال أن ٌكون هذا تم خبلل ثورة من الثورات المصرٌة التً أخمدها
(٘)ٙ
-تارٌخ مصر لٌوحنا النقٌوسً ،مرجع سابق ،ص ،ٔ99 -ٔ98وٕٕ٘ٓٓٙ -
()ٙٙ
-فتح مصر وأخبارها ،أبو القاسم بن عبد الحكم ،مرجع سابق ص ٓٗٔٔٗٔ -
ٕٕ9
الرومان بكل العنؾ ووسابل اإلذالل.
وفً كل األحوال ،فإنه إن كان مصرٌات وقعنَّ فً الذل واألسر وتحولنَّ رؼما عنهن إلى جواري على
ٌد االحتبلل؛ فما مبرر أحفادهنَّ من المصرٌٌن فً عصورنا أن ٌهللوا وٌفرحوا وٌتفاخروا بؤن بعض
جداتهن َّ تحولنَّ إلى جارٌات ٌهدٌهم المحتل لضٌوفه ،وٌتنقلنَّ كالسلع من ٌد لٌد؟
وٌبرر بعض األحفاد هذا ألنفسهم ،وٌمٌتون نخوتهم ،بؤن هاجر ومارٌة وسٌرٌن وقعن كجواري فً ٌد
أنبٌاء ،وأن هذا "شرؾ لهنَّ ".
والسإال :هل األنبٌاء أنفسهم ٌقبلون أن تتحول أمهاتهم وزوجاتهم وبناتهم إلى جواري وهداٌا؟
بالتؤكٌد ال ..فلماذا نقبل على المصرٌات أقل ما ٌلٌق بؤمهات وزوجات وبنات األنبٌاء ،مع العلم أن
المصرٌات هم أبناء األرض التً حملت رسالة العدل والرحمة والعفة والحق وعدم العدوان قبل انتشار
األنبٌاء ،فبل ٌلٌق بهن إال عٌشة المكرمات المُصانات عن كل فعل ٌجرح كبرٌابهن.
والسإال لمن ٌبررون القبول بؤن تتحول المصرٌات إلى جواري وهداٌا مادمنَّ سٌقعن فً ٌد أنبٌاء
وأصحاب األنبٌاء :هل الدٌن جاء لٌحرر العبٌد أم لٌستعبد الناس؟
جاء الدٌن لٌحرر العبٌد ،وٌحث الناس على حفظ كرامة بعضهم وحرٌة بعضهم ،وربما ما َق ِبل أنبٌاء
كإبراهٌم ومحمد (ص) تلقً جواري وعبٌد إال ألنه كان "أمر واقع" فً عصرهم ،ولدوا فوجدوه ،ولكن
المصرٌٌن الذٌن تكبد أجدادهم طوفان العرق والدم لٌحموا مصر والمصرٌٌن أحرارا فً أرضهم ،مصانٌن
فً عرضهم قبل نزول الرساالت السماوٌة المعروفة وبعدها ،بؤي قلب ٌبررون لنخوتهم الفخر بؤن بعض
جداتهن تحولنَّ لجواري وهداٌا؟
وربما ٌعود نشر "الفخر" بهذه الحوادث إلى عصور الحقة حٌن تبنى بعض العرب أو المستعربٌن فً
الشام ما سٌُسمى بالقومٌة العربٌة فً أوابل القرن ٕٓ ،ولٌقربوها للمصرٌٌن ،ولٌقنعوهم زورا بؤنهم عرب
ضخموا من قصة هاجر ،وأنها "أم العرب" ،وأنه ألن هاجر "مصرٌة" إذن فالمصرٌٌن َّ ولٌسوا مصرٌٌن،
عرب -رؼم أن المصرٌٌن كانوا موجودٌن بالمبلٌٌن قبل مٌبلد هاجر ،وقبل معرفتهم بالعرب بآالؾ
السنٌن -وأنه علٌهم أن ٌفتخروا لذلك بـ"العروبة" ،وأن مارٌة المصرٌة تحولت هً أٌضا ألم عربً هو
إبراهٌم ابن الرسول (ص) ،وساهم فً دعاٌة مماثلة تنظٌمات دٌنٌة ،أي هً ضمن دعاٌة سٌاسٌة
ألٌدٌولوجٌات مستحدثة هً "القومٌة العربٌة" وؼٌرها ،كما سنرى الحقا بالتفصٌل.
كما سار اإلؼرٌق فً تقسٌم اإلسكندرٌة والمدن التً خصصوها ألنفسهم على نمط معٌشتهم فً ببلدهم،
بتقسٌمها إلى أحٌاء على األساس القبلً والعرقً ،واستبعاد المصرٌٌن منها إال للضرورة ،فعل العرب ذلك
فً الفسطاط -التً كانت مزارع وفضاء قبل بنابها -وقسموها على نمط معٌشتهم فً جزٌرة العرب ،خطط
ٖٕٓ
(أحٌاء) ،كل حً مخصص لقبٌلة من القباٌل التً صاحبتهم فً الفتح.
كما بنى القبط مسجد عمرو بن العاص ،والمنارة التً هً عنصر هندسً مؤخوذ من شكل برج الكنٌسة،
والمؤخوذ فً األؼلب بدوره من المسلة التً كانت توضع أمام المعابد المصرٌة ،وٌبدو أن المنارة كانت فً
وقت الحق على بناء المسجد ،وفً ذلك قال ابن عبد الحكم إن مسلمة بن مخلد األنصاري استعان بؤهل
مصر لبناء المنار للمساجد سنة ٖ٘ ه()ٙ9ـ
وكل حً داخل الفسطاط له باب مؽلق على أصحابه ،ال ٌدخله اآلخرون إال بإذنهم ،وٌدٌر الحً شٌخ
القبٌلة ،ولها مسلحوها الذٌن ٌحمونها ،خاصة وأن القباٌل دخلت مصر بخصوماتها القبلٌة التً كانت فً
الجزٌرة العربٌة ،وكان صعب علٌهم الخضوع لقانون واحد وقابد واحد ،أو لحكم الدولة المركزٌة.
حافظ العرب على الدواوٌن الحكومٌة كما وجدوها فً مصر ،وأبقوا على من ظل فً مصر من جالٌات
االحتبلل الرومانً فً أشؽالهم بها ،واشتهروا كبقٌة السكان باسم األقباط ،وأسندوا للمصرٌٌن المناصب
والوظابؾ التً خلت برحٌل أصحابها وذلك لعدم سابق معرفة العرب بالعمل الحكومً وأحوال مصر،
واحتفظوا هم بالمناصب العلٌا.
وبالتؤكٌد أن رحٌل أعداد كبٌرة من الرومان والٌونان بعد الؽزو العربً تسبب فً خلو أماكن استفاد منها
مصرٌون كانوا ال ٌجدون هذه الفرص بنفس الشكل فً ظل ازدحام الجالٌات األجنبٌة داخل الدواوٌن،
واستفاد العرب من خبرة المصرٌٌن والباقٌٌن من األجانب فً بناء البٌوت والقصور ومسجد عمرو بن
العاص ،وفً الزراعة وإدارة الدواوٌن وؼٌرها من أمور الفنون والعمران.
وفً بعض الفترات ،استطاع مصرٌون التدرج فً مناصب سٌاسٌة ومالٌة كبٌرة ،ومنها ما جاء فً
كتاب ساوٌرس بن المقفع "تارٌخ البطاركة" -الذي وضعه بعد بنحو ٗ قرون من الفتح -عن أنه فً عهد
العباسٌٌن كان ضمن المرشحٌن لبطرٌركة اإلسكندرٌة رجل ؼنً مدٌر دٌوان الوالً اسمه إسحق السٌد ابن
أندونة( ،)ٙ8كذلك فً عصر الوالة أمثلة كثٌرة لحكام المدن والكور من األقباط ،وفً والٌة عبد العزٌز بن
مروان كان له كاتبان قبطٌان إلدارة الوجهٌن القبلً والبحري ،وفً نهاٌة عهده كان والً الصعٌد قبطٌا،
بحسب سٌدة كاشؾ(.)ٙ9
ثم انقلب الحال فً عهد عمر بن عبد العزٌز ( ٔٓٔ -99هـ) لما سعى إلحبلل المسلمٌن محل المسٌحٌٌن
حتى فً الوظاٌؾ الصؽٌرة ،واستبعد رإساء الكور (المحافظات) المسٌحٌٌن وأحل محلهم المسلمٌن ،ولكن
ٌبدو أن تنفٌذ هذا القرار لم ٌستمر كثٌرا بعد وفاته؛ ألن المسٌحٌٌن ظلوا ٌشؽلون كثٌرا من مناصب الدولة
()ٙ9
-فتوح مصر وأخبارها ،ابن عبد الحكم ،ص ٖٔٔ
()ٙ8
-تارٌخ البطاركة ،ساوٌرس بن المقفع ،مرجع سابق ،ص ٕ9
()ٙ9
-مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة ،سٌدة كاشؾ ،دار المعارؾ ،القاهرة ،ص ٖٔٔ
ٖٕٔ
لخبرتهم فً العمل اإلداري وشبون مصر(ٓ ،)9وطوال العصر األموي تولى مناصب رإساء المالٌة األقباط،
وفً بداٌة العصر العباسً حل محلهم رإساء للمالٌة من المسلمٌن.
خبلل فترة حكم الوالة ،تؤثرت مصر بعنؾ بالحروب والمعارك اللً دارت حول الحكم فً الجزٌرة
العربٌة والشام والعراق ،مثلما حدث فً فتنة عثمان ،ثم فتنة خلق القرآن ،والصراع بٌن آل البٌت
واألموٌٌن ،ثم بٌن األموٌٌن والعباسٌٌن ،وبٌن آل البٌت والعباسٌٌن.
فهذه المعارك انتقل صداها إلى العرب القاطنٌن فً مصر ،فكانوا ٌرسلون أفرادهم للمشاركة فٌها ،أو
ٌؤتً إلٌهم خصومهم من الخارج لمحاربتهم ومطاردة الفارٌن إلى مصر ،وٌسقط بٌن سنابك خٌلهم
مصرٌون ال ذنب لهم فٌها ،بل وال ٌدرون حتى من هم المتحاربون ،وعلى ماذا ٌتحارب هإالء.
وفً نفس التوقٌت بدأ ٌظهر مذهب الشٌعة على ٌد عبد هللا بن سبؤ ،وهو بحسب ما ٌصفه مإرخون
"فارسً الثقافة ٌمنً النشؤة من أهل صنعاء" (وربما فارسً من الفرس الذٌن استنجد به الٌمنً سٌؾ بن
زي ٌزن لٌنصروه ضد الؽزاة ألحباش فانتهزوا الفرصة واستوطنوا الٌمن لٌسٌطروا علٌه ،وأثار حنقهم
سٌطرة العرب على الٌمن وفارس) ،كان ٌلؾ الببلد ٌدعو للثورة على عثمان بن عفان بحجة أنه "اؼتصب"
الخبلفة من علً بن أبً طالب ،وادعى أن جزءا إلهٌا ح َّل فً علً ،ولذا وجب طاعته واألبمة من صلبه
من بعده ،وهنا بداٌة انقسام المسلمٌن إلى بدعة سنة وشٌعة التً حملت طوفان دم لم ٌنقطع حتى الٌوم،
وانكوت به مصر رؼم أنه لٌس لها شؤن فً أطماع وصراعات واختراعات هذا وذاك ،بل إن المسلمٌن من
أهلها حتى ذلك الوقت ندرة ال ُتذكر.
ونجح ابن سبؤ فً تؤلٌب بعض القباٌل والجند العرب ضد عثمان ألسباب كانت مهٌؤة ،أو تم تهٌؤتها
واستؽبللها للثورة الدموٌة(ٔ ،)9ومنها ؼٌرة القباٌل من بنً أمٌة ألنهم فازوا بمعظم المناصب والثروات،
واستؽبلل أخطاء بعض الوالة وأقارب عثمان ،مثل أخطاء أخٌه من أمه الولٌد بن عقبة الذي قٌل إنه كان
ٌصلً وهو سكران ،واتسعت داٌرة الدم والقتال بٌن القباٌل بمقتل الحسٌن بن علً حفٌد الرسول (ص)،
وطمع عبد هللا بن الزبٌر فً أخذ الخبلفة لنفسه ،مستؽبل ؼضب بعض المسلمٌن من زٌد ،فؤلَّب ضده الشام
والعراق والحجاز والٌمن والقباٌل الوافدة فً مصر ،وباٌعته بعضها خلٌفة ،متحدٌن الوالة األموٌٌن فً
مصر وخاصة مروان بن الحكم(ٕ.)9
وقاد الخلٌفة مروان بن الحكم قبل وفاته مع ابنه عبد العزٌز بن مروان جٌشا جرارا إلى مصر لخلع
(ٓ)9
-نفس المرجع ،ص ٔٔ9 -ٔٔ8
(ٔ)9
-انظر :المرجع السابق ،ص ٘ٙ9 -ٙ
(ٕ)7
-انظر :الثورات الشعبٌة فً مصر اإلسالمٌة ،حسٌن نصار ،الهٌبة العامة لقصور الثقافة ،طٕ ،ص ٓٗٗٔ -
*** والخوارج فبة من الناس تخرج فً كل عصر عن الحاكم ،تدعً أنه ظالم وأنها موكلة بتؽٌٌره إلقامة العدل ،وبعد تؽٌٌر الحاكم تسعى لتبدٌله
بحاكم جدٌد بثورة جدٌدة ،وهكذا ،ال ٌستقرون على أحد ،فمثال ،شاركوا فً فتنة عثمان بن عفان ثم فً الثورة ضد علً بن أبً طالب بزعم الثؤر
لدم عثمان ،وبعد قتل ع لً انضموا البنه الحسٌن لتحرٌضه على أخذ الخالفة لنفسه ،وبعد قتله اتجهوا لتحرٌض بن الزبٌر ،وهكذا ..للمزٌد :تارٌخ
الجمعٌات السرٌة والحركات الهدامة فً المشرق ،محمد عبد هللا عنان ،دار البنٌن للنشر والتوزٌع ،ص ٘ٔ
ٕٖٕ
الوالً الذي عٌنه عبد هللا بن الزبٌر بدعم من بعض القباٌل ،وبعد معارك طاحنة مع أنصار بن الزبٌر
الرافضٌن مباٌعة مروان ،تم قتلهم ،وعٌَّن ابنه عبد العزٌز بن مروان والٌا على مصر(ٖ.)9
وفً نهاٌة الخبلفة األموٌة ظهر نوع جدٌد وشدٌد من الصراع ،هو الخبلؾ بٌن األموٌٌن وبنً العباس
بن عبد المطلب ،أوالد عم علً بن أبً طالب ،كان فٌه الطرؾ األخٌر ٌرى أنه األحق بالخبلفة من
األموٌٌن ،لقرب صلته بالرسول وبآل البٌت ،وكلها حجج دٌنٌة ألطماع سٌاسٌة.
ودار العباسٌون فً الببلد ٌنشرون التحرٌض والثورة ضد الحكم األموي ،مستعٌنٌن فً ذلك بالضؽط
على النعرة القبلٌة تارة ،وبالشٌعة والموالً من الفرس تارة ،ففً مصر حرضوا القباٌل العربٌة الٌمنٌة
المناوبة لبنً أمٌة ضد القباٌل العربٌة المضرٌة (نسبة لبنً مضر) المإٌدة لهم ،وبدأ الجند المنتمٌن للقباٌل
المناوبة لبنً أمٌة فً التمرد على الخلٌفة ،وخاصة فً عهد الخلٌفة مروان بن محمد ٕٔ9هـ.
وظهرت من جدٌد حركة الخوارج فً مصر لتهٌٌج القباٌل على بعضها البعض وعلى بنً أمٌة،
وٌطرطشون بسمومهم على المصرٌٌن الذٌن ال مصلحة لهم عند هذا وال ذاك.
ففً سنة ٔٔ9ه خرج وهٌب الٌحصبً من الخوارج الوافدٌن من الٌمن على الوالً الولٌد بن رفاعة
لسماحه للمسٌحٌٌن فً مصر ببناء كنٌسة ،وأتى إلٌه لٌفتك به ،فعاجله بن رفاعة وقتله ،فصارت زوجة
وهٌب تطوؾ على المنازل لٌبل تحرض الناس على طلب دم زوجها ،فخرجوا على الوالً ،واقتتل الفرٌقان
فً جزٌرة الروضة بالمنٌل(ٗ ،)9أما الخلٌفة مروان بن محمد ،الشهٌر بمروان الحمار ،فبعد هزٌمته على ٌد
العباسٌٌن بمعونة الفرس الخرسانٌٌن فً معركة "الزاب" بالعراق فرَّ لمصر ٌحتمً بها ،لكن العباسٌون
تتبعوه وقتلوه فً أبو صٌر(٘.)9
ولنا أن نتخٌل أن كل هذه المعارك ورمح الخٌول وصلٌل السٌوؾ وهً تتعارك داخل القرى والمدن
المصرٌة التً ٌهرب إلٌها المتحاربون ،مع ما ٌترتب على هذا من تخرٌب فً الزرع وفً البٌوت وسقوط
مصرٌٌن قتلى ببل ذنب.
وبهذا أسدل الستار على خبلفة بنً أمٌة داخل مصر ،وبدأ فصل جدٌد من فصول الخبلفة وصراعاتها
وتعذٌب مصر بسببها ،هً الخبلفة العباسٌة.
اندار العباسٌون لمصر ،وقتلوا كثٌرا من أنصار بنً أمٌة ،وأسروا آخرٌن ،وصارت مصر بداٌة من
سنة ٕٖٔهـ 9٘ٓ/م تابعة للخبلفة العباسٌة فً العراق ،واختار الوالً العباسً على مصر ،صالح بن علً،
إنشاء عاصمة جدٌدة سماها العسكر ،شمال شرق الفسطاط ،ألنهم جعلوها مقر عسكر الدولة العباسٌة،
(ٖ)9
-انظر :مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة ،مرجع سابق ،ص 8ٔ -9ٙ
(ٗ)9
-انظر :الثورات الشعبٌة فً مصر اإلسبلمٌة ،مرجع سابق ،ص ٓٗ
(٘)9
-تارٌخ الخلفاء ،جبلل الدٌن السٌوطً ،دار ابن حزم ،ط ٔ ،بٌروت ،ٕٖٓٓ ،ص ٖٕٓ
ٖٖٕ
ومعظمهم من الفرس ثم األتراك(.)9ٙ
وتوصؾ فترة الحكم العباسً لمصر بؤنها "محنة عظمى" ،ألن الوالة العباسٌٌن اشتطوا فً جمع أكبر
كم من المال وإرساله للخلٌفة ،ونشط الخوارج فً زرع القبلقل بالتحرٌض ضد المصرٌٌن ألنهم مسٌحٌون،
وؼرقت مصر فً مستنقع الفتن والمعارك بٌن المتصارعٌن على الحكم.
ومن هذه المعارك ما دار بٌن العباسٌٌن وقباٌل عربٌة ظلت على انتمابها للحكم األموي ،وأشهرها
معركة قادها دحٌة بن مصعب بن األصبػ بن عبد العزٌز بن مروان حٌن أعلن الخروج على الخلٌفة
العباسً الثالث محمد المهدي ،وكان مقٌما فً الوجه القبلً ،وحشد القباٌل التً أقامت هناك حتى امتلكوا
زمام أمره ،وكادوا أن ٌستقلوا به ،وبعد جوالت من القتال نجح والً مصر الفضل بن صالح ،فً عهد
الخلٌفة موسى الهادي ،أن ٌؤسر دحٌة ،وقطع رأسه ،وصلبه ،وأرسل الرأس إلى الخلٌفة(.)99
وفً عهد المتوكل الذي تولى الحكم سنةٕٖٕهـ أمر بإخراج العلوٌٌن (شٌعة) من مصر ،فخرج كثٌر
منهم للعراق والمدٌنة المنورة ،وعاش جزء آخر فً مصر متخفٌا ،ولكنهم استمروا فً مإمراتهم سرا ،وفً
القرن الثالث الهجري خرج علوي شٌعً اسمه ابن األرقط على الحكم العباسً ،فطرده الوالً من مصر،
وبعده ظهر علوي فً الوجه القبلً اسمه "بؽا األكبر" (تركً) ،لكنه هُزم وفر ،وبعده ظهر "بؽا األصؽر"
فً منطقة بٌن اإلسكندرٌة وبرقة لكن أحمد بن طولون قتله ،وفً إسنا بقنا ظهر علوي اسمه ابن الصوفً،
أرسل إلٌه بن طولون بجٌش حاربه ،ففر إلى المدٌنة المنورة(.)98
ومن أشد الفتن أٌضا التً أصاب مصر شررها كانت فتنة األخوٌن األمٌن والمؤمون ،وهً باختصار أن
الخلٌفة هارون الرشٌد أوصى بالخبلفة لؤلمٌن وبوالٌة العهد للمؤمون ،لكن األمٌن لم ٌنفذ وصٌة أبٌه ،وخلع
أخٌه من والٌة العهد ،ومنحها البنه موسى ،فانقسم الوالء فً األمصار بٌن األمٌن والمؤمون.
وفٌما ٌخص مصر ،أرسل األمٌن للقباٌل العربٌة المقٌمة بها ٌطلب مناصرتها ،وفً نفس الوقت أرسل
لها المؤمون ٌطلب مناصرتها ،وانقسمت القباٌل كعادتها بٌن تؤٌٌد هذا وذاك ،وانتقلت الحرب بٌن األخٌن إلى
مصر ،وواجهت القباٌل بعضها بالسبلح ،وكانت تخلع الوالة العباسٌٌن على أساس انتماءاتهم لؤلخٌن ،وظل
الموقؾ ملتهبا حتى قتل المؤمون أخٌه الخلٌفة األمٌن سنة ٔ98هـ ،لكن لم تنته الحرب بٌن أنصار االثنٌن،
فؤنصار األمٌن المقتول سعوا لبلستقبلل بحكم مصر كً ال ٌخضعوا للمؤمون ،وبعضهم سٌطر لفترة على
الوجه البحري بقٌادة عبد العزٌز بن الوزٌر الجوري ،والسٌطرة على الفسطاط والوجه القبلً بقٌادة السري
بن الحكم(.)99
وطالت نار معارك الطمع األسكندرٌة وعنها قال المقرٌزي" :فانتهبت النصارى باإلسكندرٌة وأ ُحرقت
()7ٙ
-راجع تفسٌر د .عبد الجواد مجاهد ألصل كلمة عسكر وعالقتها بالمرتزقة الكا رٌٌن القادمٌن لمصر من آسٌا الصؽرى (تركٌا حالٌا) فً الجزء
الخاص بنتابج االحتالل الخاسوتٌمً بعد األسرة ٕٓ
()99
-انظر :مصر فً عصر الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة ،مرجع سابق ،ص ٘89 -8
()98
-انظر :المرجع السابق ،ص ٓ9ٔ -9
()99
-انظر مصر فً عصر الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة ،مرجع سابق ،ص ٓ9٘ -9
ٖٕٗ
لهم مواضع عدٌدة ،وأ ُحرقت دٌارات وادي هبٌب ونهبت ،فلم ٌبق بها من هربانها إال نفر قلٌل(ٓ.")8
وهكذا تحولت مصر فً العصر العباسً أٌضا إلى جمرة حمراء ومٌدان قتال وفوضى بٌن أحزاب
أجنبٌة فً كافة أرجابها ببل انقطاع ،وكلها ألسباب قبلٌة وسٌاسٌة بحتة ،تسترت بالدٌن ود َّنست راٌته ،فً
صورة مكررة للصراعات بٌن الجالٌات واألعراق والطواٌؾ األجنبٌة أٌام الٌونان والرومان ،ثم تمترست
فً معاركها ضد بعضها بالدٌن أٌضا بعد قدوم المسٌحٌة ،وكل هذا فً تنافر تام مع طبٌعة الفبلحٌن
المصرٌٌن الذٌن لم ترصد اآلثار فً تارٌخهم الطوٌل القدٌم أمثال هذه الصراعات الدامٌة بٌن بعضهم إال
نادرا.
ظهر أٌام االحتبلل الٌونانً والرومانً التمٌٌز بٌن المصرٌٌن ومحتلٌهم واضحا فً تقدٌرات الجزٌة
والضراٌب وأعمال السخرة ،وأٌضا فً المبلمح واللؽة والعادات والمبلبس ،فظلت مبلبس المصرٌٌن -فً
األرٌاؾ -تدل علٌهم ،وال ٌرتدي مبلبس المحتلٌن إال القلٌل ممن ٌجدون فرصة فً العمل أو التعلٌم داخل
الحشد األجنبً بالمدن الكبرى.
وبدخول المسٌحٌة مٌَّز مصرٌون أنفسهم عن إخوتهم الذٌن لم ٌدخلوا المسٌحٌة بؤن اتخذ بعضهم شكل
"القدٌسٌن" فً المبلبس ذات الطابع القادم من ببلد الشام أو الٌونانً والرومانً وتربٌة اللحٌة الكثٌفة التً لم
تكن سمة للوجوه المصرٌة ،بل سمة آسٌوٌة دخٌلة -أو هكذا ظهرت صورهم فً األٌقونات والصورة التً
رُسمت لهم فً عصور الحقة.
أما فً االحتبلل العربً وحتى العثمانلً فشهد تفرٌق بٌن المصرٌٌن فً الملبس بالقانون اإلجباري،
وذلك أن بعض الوالة ألزموا المسٌحٌٌن منهم بلبس عمامة زرقاء وربط زنار فً الوسط ولون معٌن
للحذاء ،وأول من بدأ هذا الخلٌفة عمر بن عبد العزٌز ،فٌقول ابن عبد الحكم إنه كتب لعماله" :ال ٌمشً
نصرانً إال مفروق الناصٌة ،وال ٌلبس قباء ،وال ٌمشً إال بزنار من جلود ،وال ٌلبس طٌلسانا وال سراوٌل
ذات خدمة ،وال نعبل لها عذبة"(ٔ.)8
وقال القلقشندي إن من أشكال التمٌٌز منع ؼٌر المسلمٌن من إرسال الضفابر كما تفعل األشراؾ(ٕ،)8
فاعتبر أن المسلمٌن الوافدٌن من الجزٌرة العربٌة والشام والعراق وفارس والترك هم األشراؾ ،وأوالد البلد
ؼٌر أشراؾ ،برؼم أن الوافدٌن أخذوا البلد بقوة السبلح ال بقوة الشرؾ ،وفً عهد الخلٌفة العباسً المتوكل
على هللا (ٕٖٕ ٕٗ9 -هـ) ،الذي وصفه ساوٌرس ابن المقفع بـ"الشرٌر" وقع اضطهاد منظم ،فقد عٌَّن والٌا
اسمه عبد المسٌح بن اسحق مسبولٌة الخراج ،وهو مسٌحً دخل فً اإلسبلم ،وأمره بؤن ٌهدم الكناٌس،
وٌكسر الصلبان ،وٌمنع الصبلة على المسٌحً المٌت ،وبعدم دق األجراس ،وأال ٌلبس المسٌحٌٌن والٌهود
(ٓ)8
-الخطط المقرٌزٌة ،ج ٖ ،ص 9ٙ9
(ٔ)8
-المجتمع المصري فً مصر اإلسبلمٌة من الفتح العربً وحتى العصر الفاطمً ،مرجع سابق ،ص ٕ9ٖ -9
(ٕ)8
-المرجع السابق ،ص ٘9
ٖٕ٘
مبلبس بٌضاء لٌمكن تمٌٌزهم عن المسلمٌن ،وأن توضع رسوم ساخرة على أبواب المسٌحٌٌن ،وألزم
كثٌرٌن بدخول الدٌن اإلسبلمً ،وأال ٌعمل بالحكومة إال المسلمٌن(ٖ.)8
وبحسب المقرٌزي ،فإنه أٌضا أمر بؤن ٌلبسوا طٌلسانة عسلٌة (الطٌلسان ٌشبه طرحة أو شال ٌلقى على
الكتفٌن أو الرأس) ،وٌلبسون الزنانٌر وحزام خاص بـ "أهل الذمة" ،وٌلبسون دراعتٌن عسلٌتٌن (الدراعة
قمٌص مفتوح من األمام حتى مكان القلب ومزٌن بالزراٌر) ،وأن ٌكون ركوبهم فقط الحمٌر والبؽال ،وأن
ٌضعوا أمام بٌوتهم أعمدة خشب ورسوم شٌطانٌة للتفرٌق بٌنها وبٌن بٌوت المسلمٌن ،وبؤال ٌتعلم أوالد
المصرٌٌن المسٌحٌٌن فً الكتاتٌب مع أوالد المسلمٌن ،وأال ٌعلمهم معلم مسلم ،وأال ٌرفعوا الصلٌب فً
احتفاالتهم الدٌنٌة ،وأمر بتسوٌة قبورهم كً ال تتشابه مع قبور المسلمٌن ،ومنع االحتفال بعٌد الشعانٌن
(رؼم أنه كان عٌدا ٌحتفل به المصرٌون جمٌعهم حتى من ٌدخل اإلسبلم)(ٗ.)8
وبوصؾ بن المقفع" :فترك اإلٌمان كثٌرون من فقراء اإلٌمان من شدة الضٌقات ،ونسوا رحمة هللا ،بٌنما
صرخ ؼٌرهم إلى الرب لٌنقذهم من هذا الكرب" فً إشارة إلى ترك الكثٌرٌن للمسٌحٌة على أثر ذلك.
وأرجع مإرخون ما ٌتعلق بالتضٌٌق فٌما ٌخص المبلبس إلى عهد عمر بن الخطاب ،رؼم أن هذا لم ٌرد
فً القرآن ولم ٌؤمر به النبً (ص) ،فٌنقل المقرٌزي أنه أمر بؤن تختم فً رقاب أهل الذمة بالرصاص
وٌظهروا مناطقهم وٌجزوا نواصٌهم ،وأال ٌتشبهون بالمسلمٌن فً ملبوسهم(٘ ،)8وواضح أن والة توسعوا
بعسؾ فً هذا األمر ،ووالة آخرون لم ٌلتزموا به فً كل األوقات.
واتسم العرب بالبساطة والتواضع فً بداٌة حكمهم إال أنه مع زٌادة الفتوحات وتدفق األموال وشعورهم
بؤنهم تفوقوا على البلدان ذات الحضارات القدٌمة وأن ببلدهم مهبط الدٌن الخاتم ،تضخمت ذواتهم كالٌونان
والرومان وحدث تؽٌٌر واضح فً معاملتهم لؤلهالً -كما ورد فً رصد سٌدة كاشؾ لتطور العبلقة -حتى
نقل المقرٌزي عن معاوٌة بن أبً سفٌان قوله الكرٌه" :وجدت أهل مصر ثبلثة أصناؾ ،فثلث ناس ،وثلث
ٌشبه الناس ،وثلث ال ناس ،فؤما الثلث الذٌن هم الناس فالعرب ،والثلث الذٌن ٌشبهون الناس فالموالً ]أي
ؼٌر العرب ممن دخلوا اإلسبلم[ ،والثلث الذٌن ال ناس فالمسالمةٌ ،عنً القبط" ،وتفننوا فً وصؾ
المصرٌٌن بالجبن والمكر ،فنقل المقرٌزي أٌض عمن اسماه بـ"ابن العربٌة" عن أهل مصر" :عبٌد لمن
ؼلب ،أكٌس الناس صؽارا ،وأجهلهم كبارا" ،وعن ابن عباس" :المكر عشرة أجزاء ،تسعة منها فً القبط،
وواحد فً سابر الناس" ،وعن كعب األحبار أن "خٌر نساء على وجه األرض نساء أهل البصرة ،إال ما
ذكر النبً (ص) عن نساء قرٌش ،وشر نساء على وجه األرض نساء أهل مصر" ،وعن عبد هللا بن عمرو:
"ولما هبط إبلٌس وضع قدمه بالبصرة ،وفرخ بمصر" (.)8ٙ
(ٖ)8
-تارٌخ البطاركة ،مرجع سابق ،ص ٔٓٔ
(ٗ)8
-انظر" :القول اإلبرٌزي للعبلمة المقرٌزي" ،المعروؾ باسم تارٌخ األقباط لصاحبه مٌنا إسكندر ،والجامع لكل ما ذكره المقرٌزي عن األقباط،
دار الفضٌلة ،القاهرة ،ص ٕٖٓٔٔٓ -
(٘)8
-الخطط المقرٌزٌة ،جٔ ،مرجع سابق ،ص ٖٕٕ
()8ٙ
-انظر :مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة ،ص ٗٔٔ ،ٔٔ٘ -والخطط المقرٌزٌة ،جٔ ،ص ٓ٘ٔٔ٘ٔ -
ٕٖٙ
وحدث فً عهد هارون الرشٌد (ٓ ٔ9ٖ -ٔ9ه) أن تحامل القاضً محمد بن مسروق الكندي على أهل
مصر؛ فؤمعنوا الطعن فٌه ودعوا علٌه فً المساجد ،فوقؾ على باب المقصورة وصاح" :أٌن أصحاب
األكسٌة العسلٌة ...؟" ،وربما قصد بقوله "أصحاب األكسٌة العسلٌة" التحقٌر من شؤن المصرٌٌن المسلمٌن
الذٌن انحدروا من أهل الذمة ]أي كانوا مسٌحٌٌن وأسلموا[ والذٌن كانوا ٌتمٌزون عن المسلمٌن بلبس
المبلبس العسلٌة اللون(.)89
فبل كون المصرٌٌن أسلموا أم لم ٌسلموا ٌجعلهم متساوٌن فً نظر الفاتحٌن مع العرب الوافدٌن.
ٌقول المثل المصري الفصٌح" :كتر النواح ٌعلم البكا" ،ونقط المطر مهما كانت صؽٌرة دوام هطولها
على الجبل ستترك فٌه عبلمات وندوب وتشوهات وحفر تكبر مع الزمن.
وتابعنا كٌؾ أن أسالٌب التحقٌر المتعمد التً اتبعها المحتلون السابقون ضد المصرٌٌن فً دٌنهم أو
حضارتهم أو لؽتهم أو مبلبسهم َّأثرت فً بعضهم ،خاصة من ٌتعلم منهم وٌتطلع ألخذ نصٌب من الوظاٌؾ
أو المكانة التً ٌتمتع بها األجانب فً ببلده ،فٌؽٌر من لسانه واسمه ومبلبسه لٌتماشى معهم ،حتى فقدنا
خطوط اللؽة المصرٌة وكثٌر من أصول ثقافتنا ،فٌما ٌجز بقٌة المصرٌٌن على هوٌتهم باألسنان ،خاصة
ؼٌر المتعلمٌن الذٌن لم تلوثهم المطامع فً وظاٌؾ ولم تدفعهم لسلخ أنفسهم من أنفسهم وتحوٌلها إلى
"مسخة".
وحٌن جاء العرب لم ٌختلفوا فً "الدق على راس المصرٌٌن" ،وتقول سٌدة كاشؾ" :والواقع أن
العصبٌة الدٌنٌة تؽلبت على العرب بعد الفتح ،وتؽلب علٌهم الشعور بعزتهم وتفوقهم على ؼٌرهم من
الشعوب بعد أن أنشؤوا إمبراطورٌتهم اإلسبلمٌة بحد السٌؾ ،فرأوا أن ٌتمٌزوا عن ؼٌرهم فً اللباس
والزي والركوب وؼٌر ذلك مما ٌشعر فً الوسط االجتماعً بؤنهم هم السادة وؼٌرهم دونهم ،ولذا نراهم
ٌعاملون أهل الذمة معاملة الطبقات الدنٌا ،مهما كانت ثروتهم أو مراكزهم فً الدولة".
وأثر هذه المعاملة الدونٌة أنها "مما حمل الكثٌر على الدخول فً الدٌن اإلسبلمً رؼبة فً التخلص من
تلك المضاٌقات"( ،)88فدفعهم هذا الضؽط إلى تقلٌد "الخواجة الجدٌد" فً دٌنه وملبسه ولؽته كً ٌتخلص من
عقد الدونٌة المزٌفة ،وزاد األمر حٌن اشترط بعض الخلفاء دخول العاملٌن فً الدواوٌن لئلسبلم إن أرادوا
الحفاظ على وظاٌفهم.
وواضح أنه إن كان مصرٌون متعلمون استسلموا بسهولة لتقلٌد العرب ،فإنه ظل مصرٌون متعلمون
أٌضا ٌحتضنون قدر ما استطاعوا هوٌتهم ،بوجل وفزع علٌها ،خصوصا اللؽة ،وٌظهر هذا فً ؼضب
ربٌس أحد األدٌرة وهو ٌقول محذرا فً إحدى عظاته" :ماذا أقول فً تلك األزمنة ،وعِ َظم الكسل الذي
()89
-مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة ،ص ٔٔ9
()88
-المرجع السابق ،ص ٔٔ8
ٕٖ7
بالهج َرة (المهاجرٌن) فً
َ ٌلحق بالنصارى ،فإنهم فً ذلك الزمان ٌمٌلون كثٌرا عن االستقامة ،وٌتشبهون
أعمالهم ،وٌسموا أوالدهم بؤسمابهم ،وٌتركوا أسماء المبلبكة واألنبٌاء والرسل والشهداء ،تجد النصارى
ٌتركون لؽتهم الحلوة ،وٌفتخرون باللؽة العربٌة وبؤسامٌهم ،أقول لكم ٌا أوالدي :الحقٌقة أن الذٌن ٌتركون
أسماء القدٌسٌن ،وٌسمون أوالدهم باألسماء الؽرٌبة ،الذي ٌفعل هذا ٌكون بعٌدا من بركة القدٌسٌن"(.)89
لكن خاب ظن الواعظ ،فالكنٌسة نفسها انهارت مقاومتها أٌام االحتبللٌن الفاطمً والمملوكً وتبنت اللؽة
العربٌة بدال من اللؽة المصرٌة ،فكانت من أكبر أسباب انزواء لؽة مصر.
وفً العموم ،وجد مصرٌون أن مصلحتهم الدخول فً اإلسبلم والتعرٌب ،إما عن اقتناع ،وإما هربا من
المضاٌقات االجتماعٌة ،أو فرارا من الضراٌب المتزاٌدة ،أو رؼبة فً اإلبقاء على مناصبهم بحسب سٌدة
كاشؾ(ٓ ، )9وٌمكن أن ٌُضاؾ إلى ذلك أن المسٌحٌة لم تكن قد تمكنت بما ٌكفً من نفوس كثٌر ممن
اعتنقوها أٌام الرومان ،خاصة وأن بعضهم أٌضا اعتنقها خوفا وهربا من االضطهاد الذي ٌلقاه من مسٌحٌٌن
أو من االحتبلل الرومانً حٌن تعاملوا مع من ٌبقى على دٌنه القدٌم بؤنه "وثنً خابن" ،والبعض اآلخر
صار مسٌحٌا بحكم األمر الواقع بعد إؼبلق المعابد المصرٌة وؼٌاب المرشدٌن الدٌنٌٌن الخاصٌن بها ،فلم
ٌجدوا حرجا أو مانعا فً التحول من المسٌحٌة إلى اإلسبلم ،هذا بخبلؾ أٌضا المتوقع أنهم ظلوا باقٌن على
أطبلل دٌنهم القدٌم فدخلوا منه إلى اإلسبلم مباشرة دون أن ٌمروا على المسٌحٌة.
اختلؾ شعور المصرٌٌن بالحرٌة الدٌنٌة فً عهد الوالة العرب بحسب صبلح الخلفاء أو الوالة وفسادهم،
واختلؾ فً بداٌة الفتح عما بعده.
فبعد الفتح بدأ عمرو بن العاص عصره بتصرؾ إٌجابً ،أن سعى لتهدبة الحٌاة الدٌنٌة بؤن كتب عهد
أمان بؤن ٌعود البابا بنٌامٌن آمنا من منفاه ،وذلك بعد ٖ سنوات ظل فٌها مختببا بعد الفتح ،وقال له" :جمٌع
بٌعك (كنابس) ورجالك (األساقفة والكهنة) اضبطهم ودبر أحوالهم" ،وطلب منه الدعاء له ،وٌقال إن من نبَّه
عمرو إلى بنٌامٌن شخص ٌدعى سانوتٌوس(ٔ ،)9وكان لعودته رنة فرح وطرب فً مصر ،ولكن من ؼٌر
المفهوم لماذا ظل بنٌامٌن مختببا ٖ سنوات بعد الفتح العربً ،وٌستدل ألفرٌد بتلر باستمرار االختفاء بؤن
القبط لم ٌستدعوا العرب ،وأن البابا انتظر مختببا طوٌبل حتى ٌتؤكد من نواٌاهم(ٕ.)9
وعن أحوال عمرو مع المصرٌٌن بعد ذلك قال ٌوحنا النقٌوسً إنه" :تشدد فً جباٌة الضراٌب التً وقع
االتفاق علٌها ،ولكنه لم ٌضع ٌده على شًء من ملك الكناٌس ،ولم ٌرتكب شٌبا من النهب أو الؽصب ،بل
()89
-راجع مقدمة عبد المجٌد دٌاب فً تحقٌقه لكتاب "القول اإلبرٌزي للعبلمة المقرٌزي" المعروؾ بـ"تارٌخ األقباط ،مرجع سابق ،ص ٘9
(ٓ)9
-انظر :مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة ،مرجع سابق ،ص ٗٔٔ
(ٔ)9
-تارٌخ البطاركة ،ساوٌرس بن المقفع ،مرجع سابق ،ص ٗ8 -ٗ9
(ٕ)9
-فتح العرب لمصر ،ألفرٌد بتلر ،مرجع سابق ،ص ٗ٘8 -ٗ٘9
ٕٖ8
إنه حفظ الكناٌس وحماها إلى آخر مدة حٌاته(ٖ.")9
لكن األمور عادت تضٌق على المصرٌٌن بعد السنوات األولى من الفتح ،ووضعت شروطا حتى أنه مع
الوقت ظنها الناس أصوال فً اإلسبلم ،وهً لٌست كذلك ،ومنها ما قاله المواردي إنه "ال ٌحق ألهل الذمة
أن ٌتخذوا ألنفسهم كنابس أو بٌعا جدٌدة فً دار اإلٍسبلم ،فإذا بنوا ألنفسهم هدم ،ولكن لهم أن ٌعٌدوا بناء ما
تهدم من كنابسهم أو بٌعهم".
ومن أدلة أن ذلك لم ٌكن معموال به فً أول الفتح أنه فً زمن البطرٌرك إسحق ووالٌة عبد العزٌز بن
مروان على مصر أمر عبد العزٌز ببناء كنٌسة فً حلوان(ٗ ،)9وبنٌت كنٌسة فً زمن مسلمة بن مخلد،
فؽضب الجند العرب من ذلك ،ولكنه قال لهم إن الكنٌسة لٌست فً األرض المخصصة للجند فسكتوا(٘.)9
ولكن الحال لم ٌدم طوٌبل ،فقد هدمت كناٌس بؤمر الخلٌفة أحٌانا ،مثلما حدث فً عهد المؤمون حٌن
انتقامه من الثابرٌن المصرٌٌن فً الثورة البشمورٌة ،والتً باع فٌها أٌضا نسابهم وأطفالهم.
وفً ذلك ٌقول المقرٌزي إنه لما ولً مصر عبد هللا بن عبد الملك بن مروان اشتد على النصارى،
واقتدى به قرة بن شرٌك أٌضا فً والٌته على مصر ،وأنزل شدابد لم ٌبتلوا قبلها بمثلها ،وكان عبد هللا بن
الحبحاب -متولً الخراج -زاد على القبط قٌراطا فً كل دٌنار ،فانتفضوا علٌه فً الحوؾ الشرقً،
فحاربهم المسلمون وقتلوا منهم ع َّدة وافرة فً سنة ٔٓ9ه ،واشتد أٌضا أسامة بن زٌد التنوخً -متولً
الخراج -على النصارى ،وأوقع بهم وأخذ أموالهم ،ووسم أٌدي الرهبان بحلقة حدٌد ،فٌها اسم الراهب ،واسم
دٌره وتارٌخه ،فكل من وجد بؽٌر وسم قطع ٌده.
وأضاؾ المقرٌزي أن التنوخً كتب إلى األعمال بؤن من وجد من النصارى ولٌس معه منشور أن ٌإخذ
منه ٓٔ دنانٌر ،ثم كبس الدٌارات ،وقبض على عدة من الرهبان بؽٌر وسم فضرب أعناق بعضهم ،وضرب
باقٌهم حتى ماتوا تحت الضرب ،ثم هدمت الكناٌس ،وكسرت الصلبان ،ومحٌت التماثٌل ،وجرى هذا فً
خبلفة ٌزٌد بن عبد الملك ،فلما تولى هشام بن عبد الملك أوقؾ هذه األمور ،ثم استؤنفها الوالً حنظلة بن
صفوان والً مصر فتشدد على النصارى وزاد فً الخراج وأحصى الناس والبهابم وجعل على كل
نصرانً وسما صورة أسد ،وتتبعهم ،فمن وجده بؽٌر وشم قطع ٌده (.)9ٙ
وأمر الخلٌفة ٌزٌد بن عبد الملك (ٔٓٔ ٔٓ٘ -هـ) فً سنة ٗٓٔ هـ بكسر الصلبان فً كل مكان ،وبمحو
الصور والتماثٌل التً فً الكناٌس ،ولم تن ُج فً هذه الحركة بعض اآلثار المصرٌة القدٌمة .ولذا نرى
ساوٌرس بن المقفع ٌصفه بؤنه سلك طرٌق الشٌطان وحاد عن طرٌق هللا".
وبعد فترة االضطهاد فً عهد ٌزٌد بن عبد الملك ،وبعد ثورة المصرٌٌن ضد العرب المسماة بثورة سخا
(ٖ)9
-نفس المرجع ،ص ٓٗٙ
(ٗ)9
-نفس المرجع
(٘)9
-فتوح مصر وأخبارها ،مرجع سابق ،ص ٖٖٔ
()9ٙ
-انظر :تارٌخ األقباط ،تقً الدٌن المقرٌزي ،مرجع سابق ،ص ٗ9٘ -9
ٕٖ9
وهدم عدة كناٌس ،عاد الوالة للسماح ببناء الكناٌس فً عهد الوالً موسى بن عٌسى بناء على مشورة من
اإلمام اللٌث بن سعد ،وقاضً مصر عبد هللا بن لهٌعة اللذٌن قاال إن بناء الكناٌس من عمارة الببلد ،وإن
الكناٌس التً فً مصر تم بنابها فً عهد الصحابة(.)99
وفً العصر العباسً أراد الخلٌفة إبراهٌم (تولى بعد المؤمون) أن ٌحمل أعمدة ورخام الكناٌس إلى
بؽداد ،ومنها كنٌسة مارمٌنا العجاٌبً (بمرٌوط) ،وتم قلع ببلط الكنٌسة المذكورة بالفعل ،ولكن أعادها البابا
إلى سابق عهدها(.)98
فً البداٌة حصل ازدهار للؽة المصرٌة نتٌجة لتراجع االهتمام باللؽة الٌونانٌة بعد رحٌل معظم الرومان
وذٌولهم من معظم الجالٌات.
كما بدأ ٌختفً من الوثابق الرسمٌة األسامً الٌونانٌة التً أطلقها الٌونان والرومان على المدن
المصرٌة ،فسطعت أسمابها المصرٌة من جدٌد ،والتً حافظ المصرٌون علٌها فً أحادٌثهم ،مثل أخمٌم
محل بانوبولٌس ،واألشمونٌن محل هٌرموبولٌس( ،)99وهكذا.
ولكن بعد ٓ ٙسنة دارت الدابرة على اللؽة المصرٌة لتطحن عظامها من جدٌد وتعود لرحلة التراجع
المإلمة نتٌجة لقرار الخلٌفة األموي الولٌد بن عبد الملك (89هـ 9ٓٙ -م) بتعرٌب الدواوٌن لتسهٌل فهم
األوراق والمعامبلت ،ولتسهٌل تشؽٌل العرب فً الدواوٌن واإلشراؾ علٌها ،فقفزت اللؽة العربٌة إلى مكانة
اللؽة الرسمٌة للبلد بدال من المصرٌة والٌونانٌة ،وانتقلت خبلل التعرٌب مصطلحات وكلمات مصرٌة
وٌونانٌة وفارسٌة للؽة العربٌة ،وفً نفس الوقت بدأت اللؽة العربٌة تتؽلؽل بٌن المصرٌٌن ،خصوصا من
ٌعملون بالدواوٌن الحكومٌة أو المعامبلت المباشرة مع المسبولٌن فً الزراعة والخراج والتجارة ،هذا
بخبلؾ من تعلم العربٌة لقراءة القرآن بعد اعتناقه اإلسبلم.
واألهم ،أمر األصبػ بن عبد العزٌز بن مروان بترجمة اإلنجٌل للعربٌة لمعرفة هل به ما ٌمس اإلسبلم
بسوء؛ ما دفع باللؽة العربٌة إلى الكناٌس ،ولهذا تؤثٌر فً تضٌٌع اللؽة المصرٌة أشد من تؤثٌر تعرٌب
الدواوٌن ،ألن قراءة اإلنجٌل وإلقاء العظات بالمصرٌة هو ما حفظ اللؽة قوٌة أٌام الرومان رؼم تنصٌب
اللؽة الٌونانٌة لؽة رسمٌة للبلد وللدواوٌن ،أما تحوٌل اإلنجٌل إلى العربٌة فمعناه اضطرار المصرٌٌن
المسٌحٌٌن إلى تعلم العربٌة لقراءة اإلنجٌل ولٌس المسلمٌن فقط الذٌن سٌضطرون لها لقراءة القرآن.
وزاد من نشر اللؽة العربٌة أن المصرٌٌن العاملٌن فً الدواوٌن اضطروا لتعلمها لٌحافظوا على
وظابفهم ،فً حٌن أنه أٌام الرومان كان عدد المصرٌٌن العاملٌن بالدواوٌن قلٌل مقارنة بالرومان والٌونان
()99
-تارٌخ األقباط ،مرجع سابق ،ص 99 -98
()98
-تارٌخ البطاركة ،مرجع سابق ،ص ٕ٘ٔٓ -9
()99
-انظر :مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة ،سٌدة الكاشؾ ،مرجع سابق ،ص ٕٔٔ
ٕٓٗ
الذٌن كانوا ٌحكمون الببلد ،فاضطر عدد نادر منهم لتعلم الٌونانٌة ،كما ظلت الدواوٌن فً زمن الٌونان
والرومان تصدر أوراقها أحٌانا باللؽة المصرٌة بجانب الٌونانٌة كما رأٌنا على حجر رشٌد.
وانعكس تراجع اللؽة المصرٌة لصالح العربٌة على األسماء ،فمع اعتناق بعض المصرٌٌن اإلسبلم ،أو
بعملهم فً الدواوٌن تحت سلطة عربٌة ،تسموا بؤسامً عربٌة ،أو ترجموا األسامً المصرٌة إلى نفس
معانٌها لكن بالعربٌة ،مثل "نفرتاري" إلى حبلوتهم ،و"مري إتس" إلى حبٌبة أبوها و"حتشبسوت" إلى
ستهم ،و"نب" إلى السٌد إلخ ،واتخذت بعض المدن والقرى أسماء عربٌة بدال من الٌونانٌة أو المصرٌة،
وذلك بفعل إقامة بعض القباٌل بها ،فتسمت باسمها ،لسهولة نطقها بٌنهم أكثر من األسماء المصرٌة
والٌونانٌة ،ومن باب الشعور بالتفوق ،حتى لو كان عدد العرب بها قلٌل جدا بالنسبة لسكانها ،أو حتى عابلة
عربٌة واحدة ،فكانت تفرض اسمها على القرٌة أو النجع ،فً المقابل ظلت الكثٌر من أسامً المدن والقرى
المصرٌة على حالها للٌوم(ٓٓٔ).
ولكن مع ذلك ظلت اللؽة المصرٌة فً عهد الوالة العرب هً لؽة حدٌث المصرٌٌن ،فخطوات التعرٌب
صارت ببطء السلحفاة ،فٌقول المقرٌزي إنه حٌن قدم المؤمون لمصر إلخمادة ثورة ٕٔ9هـ ،أي قرب نهاٌة
عصر الوالة" ،كان ٌمشً والتراجمة حوله من كل جنس"(ٔٓٔ) ،وساوٌرس بن المقفع ٌقول فً سٌرة ٌوساب
بابا الكنٌسة إنه كان ٌكلم القاضً بالقبطٌة وبعض المسلمٌن جلوس عند القاضً ٌفهمون منه وٌترجمونها
للقاضً ،)ٕٔٓ(،وبعض العرب مثل القاضً خٌر بن نعٌم تعلم القبطٌة فؤورد الكندي أنه "كان ٌسمع كبلم
القبط بلؽتهم وٌخاطبهم بها"(ٖٓٔ) ما ٌإشر إلى أن العرب سعوا من جانبهم لتعلم المصرٌة.
وفً ذات اإلطار ،ظهر فً مصر ما عرؾ بالتقوٌم الهجري لٌحل محل التقوٌم الٌولٌانً الذي ظهر أٌام
االحتبلل الرومانً ،وأصبح المعتمد رسمٌا وإلى جانبه التقوٌم القبطً ألجل الزراعة واألعٌاد واالحتفاالت
سواء القومٌة المرتبطة بالنٌل والحصاد أو المرتبطة بالكنٌسة.
مسلسل نهب اآلثار فً مصر لم ٌتوقؾ طوال فترات الفوضى واالستٌطان األجنبً السابقة كما تابعنا،
ولكن الجدٌد ربما هو محاول هدم األهرام الكبرى.
فٌسجل الرحالة المسعودي المتوفً فً القرن ٗ الهجري فً كتابه "مروج الذهب" عن اهتمام الناس
بالتنقٌب عن آثار مصر التً سموها بـ"المطالب" ،بحثا عن الكنوز فٌقول" :ولمصر أخبار عجٌبة من
الدقابق وما ٌوجد من الدفابن من ذخابر الملوك التً استودعوها األرض" ،وأن والة مصر شؽفوا بالحفر،
ومنهم عبد العزٌز بن مروان ،وفً زمن اإلخشٌدي عثروا قرب األهرام على "مطلب عجٌب" ،عبارة عن
(ٓٓٔ)
ٌ -نادي الٌوم "مثقفون" بتؽٌٌر األسامً المصرٌة للمحافظات والقرى ،مثل المنٌا وسوهاج وأرمنت وبوصٌر ،إلى أسامً عربٌة وأوروبٌة،
بدعوى أن أسامٌها القدٌمة "ؼٌر مفهومة" ،وهم بدال من أن ٌبذلوا جهدا لمعرفة معانٌها المصرٌة ،استسهلوا محوها وتلبٌسها أسامً وافدة.
(ٔٓٔ)
-الخطط المقرٌزٌة ،جٔ ،مرجع سابق ،ص ٕٖ9
(ٕٓٔ)
-تراث األدب القبطً ،شنودة ماهر وٌوحنا نسٌم ٌوسؾ ،مإسسة القدٌس مرقس لدراسات التارٌخ القبطً ،ص ٕ٘
(ٖٓٔ)
-الوالة وكتاب القضاة ،أبو عمر الكندي ،طبعة اآلباء الٌسوعٌٌن ،بٌروت ،ٔ9ٓ8 ،ص ٖٗ9
ٕٔٗ
أقباء وحجارة مجوفة وبداخله تماثٌل خشبٌة ورمم بالٌةٌ ،قصد توابٌت وبداخلها المتوفٌن "المومٌاوات"،
وكسروها بحثا عما بداخلها ،ومعنى كبلمه أنهم عثروا على مقبرة(ٗٓٔ) ،وحكى المإرخ أحمد بن ٌوسؾ
"ابن الداٌة" فً كتابه "المكافبة" أن أحمد بن طولون خصص عماال للحفر حول األهرام(٘ٓٔ).
وعن الهرم األكبر نقل المسعودي فً "أخبار الزمان" أن الخلٌفة المؤمون -لما أتى لقمع الثورة
المصرٌة -أحب أن ٌهدم أحد األهرام لٌعرؾ ما بها فلم ٌقدر ،فاستعاض عن ذلك بالتكسٌر فً جزء منه
لعمل مدخل إلٌها( ،)ٔٓٙوربما هو الثقب الذي ٌدخل إلٌه الناس لهرم خوفو اآلن ،وٌنقل المقرٌزي أن بعد
نقب الهرم "لم ٌجدوا فٌه ؼٌر رمَّة بالٌة قد أتت علٌها العصور الخالٌة ،فعند ذلك أمر المؤمون بالكؾ عن
نقب ما سواه ،وٌقال إن النفقة على نقبة كانت عظٌمة والمإونة شدٌدة"( .)ٔٓ9وستتكرر محاولة هدم األهرام
أٌام األٌوبٌٌن ومحمد علً.
(نظام المقابلة)
حٌن تسلم العرب حكم مصر من الرومان كانت معظم األرض أمبلك وإقطاعات ووسٌات خاصة لحفنة
من الرومان وأتباعهم من بقٌة الجالٌات األجنبٌة ،وقلٌل من المصرٌٌن ،ولما ؼادر معظم الرومان تركوا
أراضً وعقارات واسعة ،وتبٌن من سٌاسة عمر بن الخطاب أنه فً البداٌة لم ٌتم تسلٌم هذه األراضً إلى
األفراد العرب عند دخولهم ،ألنه كان ضد تملٌك الجند والقباٌل لؤلراضً لٌتفرؼوا للحرب واإلدارة ،على
أن ٌكون لهم نصٌبا مفروضا من الخراج ،واستثنى من ذلك ابن سندر بؤن منحه إقطاعا بلػ ألؾ فدان دفعة
واحدة فً منٌة األصبع قرب ضاحٌة الدمرداش الحالٌة ،شرق القاهرة.
وآلت األراضً التً كان ٌتملكها أباطرة الرومان واألجانب الراحلون مع الجٌش البٌزنطً واألراضً
التً هجرها أصحابها أو ماتوا إلى الحكومة العربٌة ،ومن ٌملك من المصرٌٌن واألجانب أراضً بقٌت
معه ،وهو ما ترك متنفسا للمصرٌٌن فً الحركة والرزق ،لكن األمر تؽٌر فً عهد عثمان بن عفان ،وتملك
العرب وموالٌهم الوافدٌن األرض.
وفً عهد بنً أمٌة أقطعوا أراضً بمحافظة الشرقٌة لقبٌلة عربٌة ،وأقطعوا أراضً أخرى لخواص بنً
أمٌة ،واستمرت سٌاسة اإلقطاع فً عصر العباسٌٌن( ،)ٔٓ8أما إقطاع حق االنتفاع ،أو ما سمً بإقطاع
االستؽبلل ،فارتبط بكبار الموظفٌن طوال حٌاتهم فً المنصب ،وال ٌحق لهم التصرؾ فٌه بالبٌع ،وال
ٌُورث ،ولكن فً بعض الفترات صار ٌحق للمنتفع شراءها من الدولة ،وعثمان بن عفان أول خلٌفة ٌلجؤ
(ٗٓٔ)
-مروج الذهب ومعادن الجوهر ،أبو الحسن المسعودي ،المكتبة العصرٌة ،طٔ ،بٌروت ،جٕ ،ص ٗٔٗ ،وجٔ ص ٕ٘9ٙ -ٕ9
(٘ٓٔ)
-المكافؤة وحسن العقبى ،أحمد بن ٌوسؾ الكاتب (ابن الداٌة) ،تحقٌق محمود محمد شاكر ،مطبعة االستقامة ،صٖٕٔ
()ٔٓٙ
-أخبار الزمان ومن أباده الحدثان ،أبو الحسن المسعودي ،ط ٔ ،مطبعة عبد الحمٌد حنفً ،القاهرة ،ص ٖٔ8
()ٔٓ9
-الخطط المقرٌزٌة ،ج ٔ ،مرجع سابق ،ص ٖٖٙ
()ٔٓ8
-انظر :ملكٌة اإلراضً الزراعٌة فً القرن التاسع عشر (رسالة دكتوراة) ،د .حمدي الوكٌل ،مرجع سابق ،ص 99
ٕٕٗ
إلى هذا النوع من اإلقطاع(.)ٔٓ9
وتم إقطاع خراج مصر بكاملها عدة مرات ،وأول من أقطعه فً عصر العرب معاوٌة ل َّما جعل مصر
طعمة لعمرو بن العاص فً والٌته الثانٌة على مصر سنة ٖ8هـ ،ومن سنة ٕٔ8هـ سارت الخبلفة
العباسٌة على إقطاع خراج مصر للقواد الترك ،وأدت كفالة الخراج وإقطاعه لهإالء إلى انهٌار مالٌة مصر
بسبب اهتمام الكفٌل والمقتطع بجمع أكبر قدر من المال ،وإهماله عمارة الجسور والترع(ٓٔٔ).
وفً أثناء ذلك عاد صؽار المبلك إلى نظام مماثل لنظام الحماٌة الذي شاع فً االحتبلل الرومانً لما
زادت علٌهم الضراٌب ،وهو أنهم ألحقوا أراضٌهم بؤراضً كبار المبلك لصد أذى الجباه ،وأطلق على تلك
الوسٌلة اصطبلح "التلجبة" أو "اإللجاء" ،وهو ما أسفر عن أٌلولة تلك األراضً إلى المالك الكبٌر(ٔٔٔ).
وفً العصر العباسً ظهر بقوة نظام التقبٌل ،وهو أن شخصا ٌؤخذ منطقة لمدة ٗ سنٌن ،وٌلتزم بؤن ٌقدم
للوالً مبلؽا كضراٌب علٌها دون أن ٌإثر على هذا المبلػ أن المحصول جاء كثٌرا أو ضعٌفا ،وٌؤخذ هو ما
ٌتبقى من عابد المنطقة بعد دفع ما التزم به.
ومجمله لم ٌكن سوى صورة مماثلة للنظام البٌزنطً ،وزادت وطؤته فً عهد أصحاب إقطاع مصر من
األتراك ،وسماه العرب نظام "قباالت األراضً" أو التقبٌل ،وٌشببه بعد ذلك نظام االلتزام فً االحتبلل
العثمانً ،وهذا االلتزام ٌُعرض فً مزاد فً جامع عمرو بن العاص ،ثم صار ٌقام فً جامع ابن طولون.
وتصاعد األمر -فً العصر العباسً أٌضا -أن صار نظام التقبٌل ٌشمل إسناد الوالٌة كلها للوالً ،بؤن
ٌكون ملزما بتقدٌم مبلػ معٌن سنوٌا ٌشمل ضراٌبها بكل أنواعها بما فٌها الجزٌة ،وٌؤخذ هو ما ٌزٌد علٌه،
وٌتحمل ما ٌنقص(ٕٔٔ) ،ولنا أن نتصور أن الملتزم فً نظام "قباالت األراضً" أو إقطاع الوالٌة كان ٌلجؤ
ألي أسالٌب للضؽط على المزارعٌن وكافة األهالً لكً ٌتحصل على مبلػ أكثر من المبلػ الحكومً المقرر
علٌه لٌفوز بربح وفٌر.
وتطلق علٌه بعض الكتب نظام االلتزامات ،وهو منقول من النظام البٌزنطً الذي سماه"اللٌتورجٌا"،
وٌقضً بؤن كل محافظة (كورة) ملزمة بتقدٌم خدمات البناء فً مشروعات الدولة ،فٌكلؾ أبناء المحافظة
بذلك ،ومن ٌرفض تؤدٌة هذه الخدمة اإلجبارٌة علٌه أن ٌقدم بدال منها أمواال للوالً ،وهذا ٌعنً أنها كانت
تطحن الفقراء.
وأحٌانا ٌلزم الوالً الموظفٌن بعدم قبول المال إلعفاء األشخاص من العمل فً حال ما احتاج المشروع
()ٔٓ9
-انظر :نفس المرجع ،ص 98 -9ٙ
(ٓٔٔ)
-مرجع سابق ،ص 88
(ٔٔٔ)
-نفس المرجع ،ص ٗ9
(ٕٔٔ)
-انظر :مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة ،ص ٖٗ ،ٗٙ -والخطط المقرٌزٌة ،ج ٔ ،ص ٕٗ8 -ٕٖ9
ٖٕٗ
ألٌدي عاملة كثٌرة أو المواد البلزمة ،ولو كان المشروع ٌعود بالمنفعة على المصرٌٌن لربما هان األمر،
ولكن معظم المشارٌع أٌام الرومان أو العرب أو ؼٌرهم من أجانب كانت تصب فً جٌوب الؽزاة.
وفً هذا النظام ثقٌل الوطؤة على النفس والبدن ألزم الفاتح المصرٌٌن بتقدٌم خدمات شاقة فً البناء
واإلنشاءات وشق الطرق وحفر الترع والقنوات ،وصلت أحٌانا لدرجة نزع المصري من بلده وتسفٌره إلى
الخارج للعمل فً بناء المساجد والقصور فً الشام والحجاز(ٖٔٔ).
وٌنقل الدكتور زكً محمد حسن أستاذ الفنون اإلسبلمٌة عن أوراق البردي والمصادر التارٌخٌة أن عمر
بن عبد العزٌز استعان بالفنانٌن القبط فً إعادة بناء المسجد النبوي فً المدٌنة المنورة ،وشٌدوا فٌه أول
محراب فً المساجد ،كما ٌقول ابن دقماق والمقرٌزي(ٗٔٔ) ،واشتركوا فً بناء الجامع األموي وقصر الولٌد
بن عبد الملك فً دمشق ،والمسجد األقصى فً بٌت المقدس(٘ٔٔ) ،ومن ؼٌر المعلوم إن كان جمٌعهم
سافروا مرؼمٌن ومسخرٌن أم كانوا مختارٌن وبمقابل.
فً أول الفتح العربً أخذ المصرٌون هدنة من الضؽوط التً طحنهم فٌها االحتبلل الرومانً ،خاصة مع
سٌاسة عمرو بن العاص المحنكة ،ؼٌر أنه الحقا ض َّج المصرٌون من كثرة الضراٌب التً أثقل األموٌون
ثم العباسٌون كاهلهم بها ،إلى جانب االنحرافات فً تطبٌق الجزٌة واالضطهاد الدٌنً فً بعض الفترات،
ووصل بعض الوالة فً االهتمام بجباٌة األموال بكل قسوة حتى شعر المصرٌون أنهم عادوا لما كانوا علٌه
تحت حكم الروم من أعباء ،وعاد صوت طحن عظامهم ٌرن أل ًما فً القلوب من جدٌد.
وفً البداٌة ،واجه الفبلحون هذا الوضع بطرٌقة تعودوا علٌها سابقا أٌام الروم ،فلجؤوا إلى رفض دفع
الضراٌب ،أو لجؤوا لؤلدٌرة وانخرطوا فً سلك الرهبنة؛ فقابل الوالة ذلك بفرض ضرٌبة دٌنار عن كل
راهب ،بعد أن كان الرهبان معفٌٌن من الضراٌب ،وبالحد من التحاق رهبان جدد باألدٌرة.
فاختار آخرون العٌش "عٌشة المطارٌد" متخفٌا ٌنتقل من مدٌنة إلى أخرى فً خبلفة الولٌد بن عبد الملك
( 9ٙ -8ٙهـ) ،خاصة من رفضوا تؽٌٌر دٌنهم ،فطاردهم والً مصر عبد هللا بن عبد الملك ،أخو الولٌد،
بوسم جباه وأٌدي الذٌن ٌعثر علٌهم فً أماكن لٌست أماكنهم(.)ٔٔٙ
واستمرت حركة التخفً فً عهد الوالً التالً له ،قرة بن شرٌك ،وأخذت شكبل جماعٌا ،بمعنى فرار
العابلة كلها ،رجاال ونساء وأطفاال ،من محافظة إلى أخرى ،وأكثر الفارٌن من المزارعٌن ،وفً خطاب
مرسل من موظؾ كبٌر إلى المسبول عن إقامة من وصفهم باألجانب فً الباجاركٌة ٌقول عن مواطنٌن
جاءوا من الفٌوم وأشمون وقوص لٌقٌموا فً كوم أشقوة (بسوهاج)" :وقد قررت إبعاد األجانب فً
(ٖٔٔ)
-انظر :مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة ،مرجع سابق ،ص ٖٔٗٗ -
(ٗٔٔ)
-بعض التؤثٌرات القبطٌة فً الفنون اإلسبلمٌة ،د.زكً محمد حسن ،المجلة الجدٌدة ،العدد رقم ٖ ،ٔ9ٖ8-ٖ-ٔ ،ص ٕ9 -ٕٙ
(٘ٔٔ)
-الفن القبطً المصري فً العصر الٌونانً الرومانً ،لبٌب ٌعقوب صلٌب ،مطبعة قاصد خٌر ،القاهرة ،ٔ9ٙٗ ،هوامش ص ٔ9
()ٔٔٙ
-انظر :مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة ،ص ٕٕ٘ٔٔٙ -
ٕٗٗ
األجاركٌة وهإالء األجانب ...ببل تؤخٌر ،وأقسمت باهلل وبمشٌبته أننً سؤستبعد أي أجنبً من الباجاركٌة،
وسؤرى إذا كان سٌبقى هناك أم ال ،وسؤخرجه ،فإذا تسلمت خطابً فابحث عن األجانب المقٌمٌن فً
الباجاركٌة الذٌن كتبت أسماإهم ألن بعضهم هرب من خمس عشرة سنة ،وعلى ذلك فؤرسلهم لً بعناٌة مع
رجلً هذا الذي سٌعطٌك الخطاب وسٌسلم هإالء األجانب ولٌرسلوا معه" ،وظهر فً القرنٌن الثانً
والثالث الهجرٌٌن نظام ربط الفبلح بقرٌته ،وأال ٌؽادرها إال بتصرٌح ،وكان هذا من أسباب الثورات .ٔٔ9
وهكذا امتد العقاب التارٌخً للمصرٌٌن أن ٌؤتً األجنبً لٌصؾ المصرٌٌن فً بلدهم بؤنهم "أجانب"،
وٌحدد هو أٌن ٌقٌموا وأن ال ٌقٌموا ،ألنهم قدٌما لم ٌعوا الدرس كامبل حٌن قال إٌبو ور عن أسباب سقوط
األسرة " :ٙوأصبح المصرٌون أجانب وأصبح األجانب مصرٌون فً كل مكان".
وفً خبلفة سلٌمان بن عبد الملك (99 -9ٙهـ) تشدد مسبول الخراج ،أسامة بن زٌد التنوخً ،فً تحصٌل
أكبر كم من الخراج والجزٌة؛ وبحسب المقرٌزي فإنه وسم أٌدي الرهبان بحلقة حدٌد فٌها اسم الراهب ودٌره
وتارٌخه ،فكل من وجده بؽٌر وسم قطع ٌده ،فزادت األعباء وكثرة حركة الفرار ،وللحد منها ،أمر السواحل
والموانً والفنادق بعدم إٌواء الهاربٌن ،ووضع سجبلت لؤلهالً تشبه البطاقات الشخصٌة ،بحٌث أن كل شخص
ٌذهب إلى مكان ٌكون ملزما بتقدٌم بطاقته إلثبات هوٌته ومن أٌن جاء ،ومن ال ٌقدم بٌاناته ٌعاقب(.)ٔٔ8
وبعد فشل محاوالت المصرٌٌن للتهرب من األعباء المالٌة وسوء المعاملة بتقدٌم الشكاوى أو باالختباء
ٌبق سوى الثورة على جبلدٌهم ،فقاموا بـ 8ثورات على األقل خبلل فً األدٌرة أو فً محافظات بعٌدة ،لم َ
ٓٓٔ سنة قبل أن تخمدهم ضربة فوق طاقة البشر وجهها لهم الخلٌفة المؤمون.
نقل المقرٌزي فً خططه أن عبد هللا بن الحبحاب ،متولً خراج مصر فً عهد الخلٌفة هشام بن عبد
الملك ،كتب إلى الخلٌفة بؤن أرض مصر تحتمل الزٌادة ،فزاد على كل دٌنار قٌراطا ،فانتفضت كورة بنو
ونمً وقرٌط وطرابٌة وعامة الحوؾ الشرقً بالوجه البحري سنة ٔٓ9هـ ،فبعث إلٌهم الوالً الحر بن
ٌوسؾ بؤهل الدٌوان (أي قوات االحتبلل العربً) فحاربوهم وقتل منهم بشرا كثٌرا ،وذلك أول انتفاض
القبط بمصر ،على حد تعبٌره ،واستمرت االنتفاضة المصرٌة عدة شهور ،حتى أن الوالً رابط فً دمٌاط
ٖ شهور ،وانتقلت االنتفاضة إلى الصعٌد(.)ٔٔ9
وعقب هذه الثورة أرسل هشام عبد الملك عام ٔٓ9هـ ٖ آالؾ من أفراد قبٌلة قٌس إلى الحوؾ الشرقً-
مركز الثورة -فً محافظة الشرقٌة وسلمهم أرضا لٌزرعوها ،وٌبدو أنه فعل ذلك لٌتقوى بهم العرب ضد
-ٔٔ9الفبلح المصري بٌن العصر القبطً والعصر اإلسبلمً ،زبٌدة عطا ،ص ٕٔ8و ٕٕٔ
()ٔٔ8
-انظر مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة ،ص ٕٔ8 -ٕٔٙوالخطط المقرٌزٌة ،جٖ ،ص 9ٙ9
()ٔٔ9
-الخطط المقرٌزٌة ،مرجع سابق ،ج ٔ ،ص ٖٕٔ
ٕ٘ٗ
المصرٌٌن ،وأن ٌحل العرب محل من ٌموت من المصرٌٌن فً هذه الثورات ،أو من ٌهجر أرضه ،وذلك
حتى ال ٌصٌب الزراعة ضرر ،وأٌضا لعمل توازن بٌن أنواع القباٌل وانتماءاتها(ٕٓٔ).
ونقل الكندي (عاش فً مصر أٌام العباسٌٌن) والمقرٌزي أنه فً ٕٔٔ هـ ثار القبط فً الوجه القبلً
على موظفً الدٌوان وحاربوهم ،فؤرسل إلٌهم الوالً حنظلة بن صفوان جنود الدٌوان فقتلوا منهم ناسا
كثٌرا(ٕٔٔ).
وبعد ٔٔ سنة ،أي سنة ٕٖٔ هـ ،خرج قبطً اسمه ٌحنس فً سمنود فً الوجه البحري ،جمع حوله
جٌشا وعزم على أن ٌقاتل والً مصر ،فبعث عبد الملك بن مروان إلٌهم جٌشا ٌقوده موسى بن نصٌر (فاتح
األندلس) استطاع أن ٌهزمه وٌقتل ٌحنس فً جمع كبٌر من أصحابه(ٕٕٔ) وفق المقرٌزي والكندي.
وفً السنة نفسها ٕٖٔ هـ ،ثار القبط برشٌد على الخلٌفة مروان بن محمد (آخر خلٌفة أموي) ،وكان
دخل مصر فارا من العباسٌٌن ،وعاث جنده فً الببلد فسادا ،فقتلوا جماعة من رجال الدٌن األقباط ،ونهبوا
أموالهم ،وسبوا نسابهم ،كما أحرقوا دٌارات عدة وهدموا كثٌرا من الكناٌس واعتدوا على الراهبات(ٖٕٔ).
بعد سنٌن فقط من بدء عصر العباسٌٌن ،أطلق المصرٌون أولى صرخاتهم فً وجههم بثورة سمنود
ٖ٘ٔ هـ ،واختتموها بكبرى ثوراتهم منذ عصر الرومان ،وهً الثورة البشمورٌة ،وكانت فً ٕٔٙهـ أٌام
الخلٌفة المؤمون الذي استخدم فٌها أبشع وسابل التنكٌل واإلبادة.
ففً ٖ٘ٔ هـ ثاروا بسمنود تحت زعامة أبو مٌنا ،فبعث إلٌهم الوالً جٌشا حاربهم وأخمد ثورتهم(ٕٗٔ).
وفً ٓ٘ٔ هـ ،ثار المصرٌون بسخا فً الوجه البحري ،وطردوا موظفً الوالً ،وساروا إلى شبرا
سنباط ،وانضم إلٌهم أهل البشرود ،واألوسٌة ،والنجوم ،فؤتى الخبر ٌزٌد بن حاتم المهلبً والً مصر ،فعبؤ
جٌشا كثٌفا من أهل الدٌوان وبعثه لمقاتلتهم ،فؤخذهم المصرٌون على ؼرة ،وهزموا جٌش المهلبً ،وقتلوا
(ٕٓٔ)
-انظر مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة ،ص ،ٖٔٙوالخطط المقرٌزٌة ،ج ٔ ،ص ٖٖٕ
(ٕٔٔ)
-الوالة وكتاب القضاة ،أبو عمر الكندي ،مرجع سابق ،ص ٔ ،8والخطط المقرٌزٌة ،جٔ ،ص ٖٕٔ
(ٕٕٔ)
-نفس المرجعٌن ،الكندي ،ص ٓ ،9والخطط المقرٌزٌة ،ج ٔ ،ص ٖٕٔ
(ٖٕٔ)
-الخطط المقرٌزٌة ،جٔ ،ص ٖٕٔ ،ٕٖٕ -ومصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة ،ص ٕٔٔ
(ٕٗٔ)
-الثورات الشعبٌة فً مصر اإلسبلمٌة ،مرجع سابق ،ص ٘ٙ
ٕٗٙ
بعض العرب.
فاضطر الباقون إلى إلقاء النار فً معسكرات المصرٌن لشؽلهم عنهم ،فلما فعلوا انصرؾ الجٌش
العربً المهزوم إلى الفسطاط ،وإذ وصلت األنباء مسامع الخلٌفة وهاله األمر وعزل الوالً ،وولى مكانه
موسى بن علً بن رباح(ٕ٘ٔ) ،وقضى الوالً الجدٌد على الثورة ،وبتعبٌر المقرٌزي فإن النصارى اشتد
الببلء علٌهم واحتاجوا إلى أكل الجٌؾ -ما ٌدل على فرض العرب حصارا شدٌدا علٌهم ،وهدم الوالً
الكناٌس المحدثة ككنٌسة مرٌم وكناٌس حارس قسطنطٌن( ..)ٕٔٙفقام المصرٌون بثورة جدٌدة.
فبعدها بـ ٙسنوات ثار المصرٌون عام ٔ٘ٙهـ فً مدٌنة بلهٌب ،فؤرسل هذا الوالً الجند إلٌهم،
فتمكنوا من إخماد الثورة ،وقتلوا جماعة من القابمٌن بها ،وعفا عن جماعة( ،)ٕٔ9وكانت بلهٌب من المدن
التً رفضت التسلٌم للعرب وقت الفتح ،ودخلت فً قتال مع الجٌش العربً ،وأسروا بعض سكانها.
وهدأت أحوال المصرٌٌن نحو ٓ ٙسنة ،حتى ضجوا فً عام ٕٔٙهـ بعد أن عاث موظفو الوالً
عٌسى بن منصور وأتباعه فسادا فً أرجاء مصر ،وكثر الؽبلء ،حتى باع بعض الناس أطفالهم -بحسب
تعبٌر ساوٌرس ابن المقفع -فثار سكان الوجه البحري جمٌعا ،والبلفت أنه انضم إلى المصرٌٌن من جاورهم
من العرب الذٌن بدأوا ٌعانون من عبء الخراج الذي اضطروا لدفعه حٌن تملكوا األراضً ،وذلك بعد أن
كانوا ٌشاركون هم أنفسهم فً قتل المصرٌٌن إذا ما ثاروا أو احتجوا ضد التحكم العربً.
وأعلن المصرٌون العصٌان وطردوا أتباع الوالً ،واحتشد الثابرون فكثر عددهم ،وساروا لمقاتلة الوالً،
فت جهز عٌسى وجمع العساكر والجند ،ولكنه هاب الثابرٌن وضعؾ عند لقابهم وتقهقهر بمن معه ،فشجع هذا
الثابرٌن على التقدم إلى الفسطاط ،وأخرجوا الوالً منها ،وطردوه هو وصاحب الخراج على أقبح وجه(.)ٕٔ8
ولما بلؽت األنباء الخلٌفة المؤمون ،ابن الجارٌة الفارسٌة مراجل( ،)ٕٔ9أمر قابده التركً "األفشٌن" ،وكان فً
برقة ،أن ٌهاجم المصرٌٌن من الؽرب ،ولكن فٌضان النٌل حال بٌنه وبٌنهم ،وبعد أشهر خرج لشن الحرب من
جدٌد ،وانضم إلٌه عٌسى بن منصور الوالً المطرود ،فكثر عدد عسكر الوالً ،وأعدوا للقتال عدته ،وبدأوا
بمقاتلة أهل تنو وتمً ،وهزموهم وأس روا منهم كثٌرا ،وقتلهم األفشٌن ،ثم مضى إلى أهل الحوؾ فقاتلهم وبدد
جمعهم ،وأسر منهم جماعة كبٌرة.
(ٕ٘ٔ)
-الكندي ،ص ،ٔٔ9 -ٔٔٙوالخطط المقرٌزٌة ،ج ٔ ،ص ٕٖٕ ،والثورات الشعبٌة فً مصر اإلسبلمٌة ،ص ٘ٙ9 -ٙ
()ٕٔٙ
-الخطط المقرٌزٌة ،جٖ ،ص 9ٙ8
()ٕٔ9
-الكندي ،ص ،ٔ9والمقرٌزي ،ص ٕٖٕ ،والثورات الشعبٌة فً مصر اإلسبلمٌة ،ص ٘ٙ9 -ٙ
()ٕٔ8
-المقرٌزي ،الخطط ،جٔ ،ص ٕٖٕ ،والثورات الشعبٌة فً مصر اإلسبلمٌة ،ص ٙ9
()ٕٔ9
-الدولة العباسٌة مراحل تارٌخها وحضارتها ،سوزي حمود ،ط ا ،دار النهضة العربٌة ،بٌروت ،ص ٙ8
ٕٗ7
وأكمل طرٌقه إلى شرقٌون من المحلة الكبرى ،ولقى الثابرٌن بمحلة أبً الهٌثم فاقتتلوا ،وقتل األفشٌن
قابد الثوار ،ثم مضى إلى دمٌرة فقاتل أهلها وانتصر علٌهم ،وفً هذه األثناء خرج عٌسى بن منصور إلى
أهل تمً أٌضا وهزمهم ،ومضى األفشٌن إلى اإلسكندرٌة ،فلقى جماعة من بنً مدنج بخربتا ،فحاربهم
وهزمهم ،ثم لقى جماعة أخرى بمحلة الخلفاء فهزمهم وأسر أكثرهم وضرب أعناقهم.
وبعدها ولَّى وجهه شطر الوجه البحري لٌقاتل أهل البشرود أو البشمورٌٌن فً شماله ،فلم ٌستطع أن
ٌتؽلب علٌهم بسبب كثرة مٌاه ومستنقعات ووحول المنطقة ،والتً ال ٌعرؾ طرقها إال أهلها ،فبقٌت الحرب
سجاال ،وحاول بابا الكنٌسة ،األنبا ٌوساب ،أن ٌتوسط بٌن الطرفٌن لوضع حد للدماء(ٖٓٔ).
وٌحكً ساوٌرس بن المقفع فً "تارٌخ البطاركة" أن البابا "ٌوساب" لما آلمه ما وقع ألولبك الضعفاء
الذٌن ال ٌقدرون على مقاومة الجٌش العباسً ،وأنهم باستمرارهم فً الثورة فإنهم ٌختارون الهبلك ألنفسهم
كتب إلٌهم كتابا مملوءا بالخوؾ علٌهم ،وٌدعوهم للرجوع ،فلم ٌرجعوا ،فظل ٌكتب لهم كل ٌوم وال
ٌستجٌبون ،ورفضوا وساطة األساقفة الذٌن ذهبوا إلٌهم بؤنفسهم ،وقال" :وحزن البابا ٌوساب من حدوث
الوباء والؽبلء وسٌؾ األعداء ،وثار البشمورٌون على الظلم ،وحموا أنفسهم فً المستنقعات الشمالٌة،
ورفضوا نداء الباب بالهدوء ،وكتب لهم بعدم قدرتهم على محاربة الجٌش (العباسً) فلم ٌسمعوا له".
وامتد ؼضب الثابرٌن لؤلساقفة الذٌن طالبهم بالهدوء ،فٌقول ساوٌرس"" :كما ثار شعب تنٌس (بالشرقٌة)
على أسقفهم المدعو إسحق ،لعدم حكمته ،وكذلك ثار شعب مصر (حً مصر القدٌمة حالٌا) على أسقفهم
تادرس"(ٖٔٔ).
فلما تحقق األفشٌن من إصرارهم على القتال ،وفً نفس الوقت عجزه عن النصر السرٌع علٌهم ،طلب
مددا من الخلٌفة المؤمون ،فؤتى الخلٌفة بنفسه على رأس جٌش عرمرم ،وبعث الرسل إلى كل أرجاء مصر
ٌدعو أتباعه فٌها لتتبع الثابرٌن ،وتوجه جٌش المؤمون إلى بطحا وسخا ،وبتعبٌر الكندي فإن المؤمون سخط
على الوالً الذي حمَّل الناس فوق طاقتهم(ٕٖٔ) ،ولكنه فً نفس الوقت َّ
دور سٌؾ القتل فً الثابرٌن.
وفٌما ٌخص البشمورٌٌن ،فقد بدأ باللٌن ،واصطحب معه البطرٌرك لٌهدبهم ،ولكنهم أبوا ،فؤمر بحشد كل
من ٌعرؾ الطرق والمسالك الخاصة بالمنطقة من أهالً المدن والقرى المجاورة ،وهاجمهم واستمات فً
حربهم حتى قضى على ثورتهم ،وأراد المؤمون أن ٌبث الرعب واإلرهاب فً نفوس المصرٌٌن ،حتى ال
ٌعودوا للثورة مرة أخرى ،فؤمر أن ٌُفعل فٌهم أقبح ما ٌتخٌلون ،وهو السبً والنفً ،فبجانب الحكم بقتل
وأسر الرجال حكم ببٌع نساءهم وأطفالهم وفق ما ذكره الكندي والمقرٌزي(ٖٖٔ) ،معتبرا أنهم ؼنٌمة حرب.
وقال ساوٌرس بن المقفع إن المؤمون أٌضا أمر بتخرٌب الكناٌس وهدمها ،ولما رأى المؤمون كثرة القتل
(ٖٓٔ)
-الثورات الشعبٌة فً مصر اإلسبلمٌة ،ص ٘ ،ٙ8 -ٙوتارٌخ البطاركة ،ساوٌرس بن المقفع ،مرجع سابق ،ص ٗ9
(ٖٔٔ)
-تارٌخ البطاركة ،ص ٖ9ٗ -9
(ٕٖٔ)
-الكندي ،مرجع سابق ،ص ٕٔ9
(ٖٖٔ)
-الكندي ،ص ٕ ،ٔ9الثورات الشعبٌة فً مصر اإلسبلمٌة ،ص ،ٙ9الخطط المقرٌزٌة ،ج ٔ ،ص ٕٖٕ
ٕٗ8
أمر برفع السٌؾ ،وإرسال من بقً منهم أسرى من الرجال والنساء إلى بؽداد(ٖٗٔ) ،وأضاؾ أن من تم
اقتٌادهم إلى بؽداد ظلوا فً السجون فترة طوٌلة ،إلى أن أخرجهم إبراهٌم أخو المؤمون ،وبقً منهم البعض
فً بؽداد ،وأنشؤوا بساتٌن هناك إلى الٌوم (ساعة كتابة ساوٌرس لكتابه فً القرن العاشر المٌبلدي) وسموهم
"البشرودٌٌن" ،ورجع ؼٌرهم إلى مصر فٌما بعد(ٖ٘ٔ).
والبلفت أن المقرٌزي فً ختام حكٌه عن الثورة األخٌرة قال متشفٌا" :ومن حٌنبذ أذل هللا القبط فً جمٌع
أرض مصر ،وخذل شوكتهم ،فلم ٌقدر أحد منهم على الخروج وال القٌام على السلطان ،وؼلب المسلمون
على القرى فعاد القبط من بعد ذلك إلى كٌد اإلسبلم وأهله بؤعمال الحٌلة واستعمال المكر(.")ٖٔٙ
فالمقرٌزي -أبوه شامً قدم لمصر من حارة المقارزة ببعلبك للعمل فً مصرٌ -بدو أنه نظر للمصرٌٌن كما
ٌنظر إلٌهم األجانب المستوطنٌن فً كل زمن ،فً أنه لٌس من حقهم الثورة على المحتلٌن والمستوطنٌن
المتنعمٌن فً ظل االحتبلل ،أو المطالبة بحقوقهم ،بالرؼم من أنه اعترؾ فً ثناٌا كتابه عدة مرات بؤن الوالة
حمَّلوا المصرٌٌن ما ال ٌطاق من الضراٌب واالعتداء على األعراض والكناٌس واإلذالل فً هٌبة الزي وؼٌره.
لم تكن سنة ٕٗ٘ هـ هً بداٌة سقوط مصر فً حكم الممالٌك فقط ،بل بداٌة سقوط الدولة العباسٌة
نفسها ،فهً اتبعت أول سطر فً وصفة سقوط الدول ،وهو أنه بعد التوسع المبالػ فٌه ٌجري حشوها
باألجناس واألعراق واألدٌان المتصارعة ،وتسلٌم زمامها إلٌهم.
فتابعنا كٌؾ استعان المعتصم ابن الجارٌة التركٌة بؤخواله محل العرب فً أمور الدولة ،وفً آواخر
الدولة العباسٌة سٌطر المرتزقة الترك الذٌن جلبهم خلفاإه من بطون آسٌا؛ انبهارا بقدراتهم العسكرٌة
واستقواء بهم ضد العرب المنافسٌن ،على مناصبها ،فصار منهم والة األمصار وقادة الجٌوش ،ووصل
نفوذهم لدرجة إرؼام خلفاء على التنازل عن العرش وقتل خلفاء كما فعلوا مع المتوكل والمهتدي(.)ٖٔ9
ومن الوالة األتراك على مصر "باكباك" فؤرسل ناببه التركً أحمد بن طولون ،ومعه جٌش ٌساعده،
وابن طولون أبوه مملوك تركً من منؽولٌا ،رفعته موهبته العسكرٌة لحرس الخلٌفة( ،)ٖٔ8واستفرد أحمد بن
طولون باألمر فً مصر ،مستندا على قوة جٌشه ،وعلى حسن عبلقته برجال الدولة فً بؽداد ألنه ٌرسل
إلٌهم الهداٌا والعطاٌا العظٌمة ،وهً كل ما ٌهمهم من أمر البلد ،وأدار مصر بشكل مستقل ،محافظا على
(ٖٗٔ)
-تارٌخ البطاركة ،ص ٗ9٘ -9
(ٖ٘ٔ)
-حٌن ٌحذر أحد من خطر توطٌن هجرات فً مصر ٌرد آخرون بؤن مصر طول تارٌخها "مالذ آمن للجمٌع" ،وأن هذا من مزاٌاها ،وهم ال
ٌعلمون -أو ٌتجاهلون -أنها ٌوم أن تصبح المالذ للجمٌع فهً بالتاكٌد لن تكون مالذا آمنا ألوالدها هً؛ ألن الهجرات ستتسلط علٌهم ٌوما حتما.
()ٖٔٙ
-الخطط المقرٌزٌة ،ج ٔ ،مرجع سابق ،ص ٕٖٕ
()ٖٔ9
-انظر :أحمد بن طولون ،سٌدة إسماعٌل كاشؾ ،مرجع سابق ،ص ٖ٘٘ٗ -
()ٖٔ8
-نفس المرجع ،ص ٔ9
ٕٗ9
الرباط الظاهري بالخبلفة ،وهو إرسال الجزٌة والخراج وسك العملة باسم الخلٌفة.
كما ساعد بن طولون على التمكٌن لنفسه انشؽال الخلٌفة العباسً بإخماد فتنة كبٌرة ،عُرفت فً التارٌخ
بثورة الزنج (زنوج جلبهم العرب بكثرة من أفرٌقٌا) فً جنوب العراق ،واستؽلهم الشٌعة فً إشعال ثورة
ضد العباسٌٌن انتهت بدماء وأشبلء نحو نصؾ ملٌون قتٌل خبلل ٘ٔ سنة ،وفً ؼمارها اتخذ ابن طولون
لنفسه عاصمة جدٌدة أسماها القطابع بجوار الفسطاط ،وٌرجع االسم إلى أنه اقتطع لكل فبة من جنوده حًٌا
فٌها ألنهم من أعراق مختلفة ،ممالٌك ترك وسودانٌٌن وروم بلؽوا ٓ٘ ألفا ،وأنشؤ فٌها مسجد ابن طولون
الباقً حتى اآلن ،ولنا أن نتخٌل حجم ما أنفقه من أموال المصرٌٌن لشراء هإالء الممالٌك والمرتزقة
لٌصنع لنفسه مجدا ،وكم أنفق لبناء عاصمة جدٌدة ومسجده الفخم وقصوره التً لم ٌشهد الناس مثلها منذ
قصور البٌزنطٌٌن ،وكل ذلك فً زمن قصٌر ،ومن صور بذخه مع ممالٌكه لٌضمن والبهم ما نقله الكندي
من أنه أرسل ألحد قادته "خلعا وطوق من الذهب"(.)ٖٔ9
وقضى على فتن العلوٌٌن الشٌعة المختببٌن بمصر وؼٌرهم مثل بؽا األصؽر وابن الصوفً ،واألخٌر
من نسل علً بن أبً طالب ،والعمري ،وهو من نسل عمر بن الخطاب ،وزعم أنه ٌدافع عن المسلمٌن فً
أسوان ضد النوبٌٌن المسٌحٌٌن ]ؼالبا ٌقصد بالمسلمٌن فً أسوان قبابل عربٌة وفدت مع الفتح[ ،فقتلوا خلقا
كثٌرا فً أسوان وإسنا والمنٌا فً معارك دوافعها قبلٌة احتبللٌة نزفت فٌها مصر المال والدم ألمور ال
تخصها.
واتسمت فترة حكمه بالهدوء ،واكتسب والء بعض القباٌل ،وٌُذكر له أنه أزال عن كاهل المصرٌٌن
جزءا من الضراٌب الفجة التً فرضها أحمد بن المدبر قبله ،واعتنى بالزراعة ،وأشرؾ على مشروعات
تنموٌة ،منها إنشاء بٌمارستان (مستشفى) لعبلج المرضى مجانا ،ؼٌر أنه استمر فً حصد المال وتكنٌزه
حتى أنه أنشؤ فً روضة المنٌل حصنا لتؤوي إلٌه أسرته ومعها االكنوز التً جمعها ،وكان طابش السٌؾ،
ٌقتل وٌحبس الناس بالظن(ٓٗٔ).
ونقل ابن سعٌد األندلسً فً كتاب "الدر المكنون فً حلً دولً بنى طولون" أن من ضمن الثروة التً
تركها ابن طولون ٓٔ ملٌون دٌنار ،وٕٗ ألؾ مملوكا ،و 9آالؾ من الخٌول(ٔٗٔ).
وبعد وفاته تولى ابنه خماروٌه ،وهادن الخلٌفة العباسً المعتضد باهلل لٌتركه مستقبل بمصر والشام ،فزوَّ جه
ً
جهازا وهداٌا بلؽت تكالٌفها عنان ابنته أسماء الشهٌرة باسم قطر الندى ،ولٌشتري سكوت الخلٌفة عنه أرسل معها
السماء ،وكتب المسعودي الذي عاش فً عصر اإلخشٌدي التالً للحكم الطولونً فً كتابه "مروج الذهب":
"وٌٌقال إنه حمل معها جوهرا لم ٌجتمع مثله عند خلٌفة قط" ،ولكثرته اقتطع منه ابن الجصاص المشرؾ على
()ٖٔ9
-انظر :أحمد بن طولون ،مرجع سابق ٘9 -٘ٗ ،وص ٕٖ٘ٔٔٓ -
(ٓٗٔ)
-انظر تارٌخ مصر إلى الفتح العثمانً ،عمر اإلسكندري وأ.ج .سفدج ،ط ٕ ،مكتبة مدبولً سلسلة "صفحات من تارٌخ مصر" ،القاهرة،ٔ99ٙ ،
ص ٕٔٓ ،ٕٓٗ -وأحمد بن طولون ،سٌدة كاشؾ ،مرجع سابق ،ص ٔ 8ٗ -9وٕٓٓ
(ٔٗٔ)
-أحمد بن طولون ،مرجع سابق ،ص ٔ99
ٕٓ٘
موكب الجهاز بعضا منه كان سبب ؼناه ،حتى أن السبح كان ٌنظمها من الجواهر"(ٕٗٔ).
وأصبح الذهب والحرٌر الذي اصطحبته معها ،وصُنعت منهما المجوهرات والمبلبس واألدوات واآلثاث
والسجاجٌد حكاٌات كاألساطٌر ،تتناقلها األجٌال البلحقة بانبهار وافتخار ،وؼنوا لها "الحنة ٌا حنة ٌا قطر
الندى" دون أن ٌسؤلوا أنفسهم من دفع ثمن كل هذا ،وكٌؾ كان حال المصرٌٌن وقتها وأموالهم تتحول إلى
ذهب وحرٌرٌُ ،رسل هداٌا فً حفل للزواج ،وٌبدر على األرض تدوسه أقدام الوالة والخلفاء والعبٌد،
واألؼرب لو أن بعض المصرٌٌن وقتها ٌتراصون على طرٌق موكب الجهاز تؽلً دماءهم وٌتحسرون،
وأحفادهم الٌوم ٌتراصون على حافة جنبات التارٌخ ٌكتبون األشعار وٌؽنون "الحنة ٌا حنة ٌا قطر الندى".
وبهذا كرر خماروٌه ما فعله بطلمٌوس الثانً خبلل احتبلله لمصر حٌن هادن ؼرٌمه أنتٌوخس ملك
فزوجه ابنته برنٌقة ،وكان والد العروسة هو من ٌدفع المهر للعرٌس ،وٌبدو أن مهر برنٌقة كان من
سورٌا َّ
الضخامة بحٌث لقبت بحاملة المهر.
وبعد هذا اإلسراؾ ترك خماروٌه خزانة مصر خاوٌة(ٖٗٔ) ،بحسب سٌدة كاشؾ ،وضٌَّع ثمار مشارٌع
أ بٌه فً الصناعة والزراعة ،وترك الببلد لٌضؽط من ٌؤتً بعده على المصرٌٌن لتمتؤل من جدٌد ،وٌنفقها
على جوارٌه وعبٌده ورشاوٌه وممالٌكه فً جٌش مرتزقة جدٌد.
وٌمر بآذننا فً هذا المشهد أٌضا وبعض المصرٌٌن من أساتذة التارٌخ والشعراء فً الوقت المعاصر
ٌهتفون فً كتبهم لقطر الندى وهً تجر خٌرات مصر للخارج ،وٌمجدون هارون الرشٌد والمؤمون وابن
طولون وؼٌرهم من محتلٌن عرب وترك ،وٌحتفون بحكم الممالٌك للمصرٌٌن األحرارٌ ،مر بآذننا:
حابً:
دٌون:
(ٕٗٔ)
-مروج الذهب ومعادن الجوهر ،أبو الحسن علً المسعودي ،ج ٗ ،مرجع سابق ،ص ٔ89
(ٖٗٔ)
-أحمد بن طولون ،مرجع سابق ،ص ٖٔٔ
ٕٔ٘
ولو استطاع مشى على األهرام(ٗٗٔ) ومشى على تارٌخهم مستهزبا
وبمقتل خماروٌه على ٌد جوارٌه وخلع ابنه "أبو العسكر جٌش" ،استعاد الخلٌفة العباسً المكتفً حكم
مصر ،ولكنه أرسل إلٌها فؤرسل جٌشا بقٌادة محمد بن سلٌمان هزم الجٌش الطولونً ،ودخل القطابع
فدمرها تدمٌرا ،بكل ما تكلفته من عرق وأموال المصرٌٌن ،تاركا فقط الجامع.
ومع ظهور الدولة العبٌدٌة (الفاطمٌة) فً المؽرب وسعٌها من وقت آلخر لبلسٌتبلء على مصر ،بعثت
عٌونها وجواسٌسها فً عباءة الدعاة والتجار والعمال إلى مصر لٌستقوا لها األخبار وٌنشروا الفتن ،حتى
تحٌن لحظة القطاؾ.
أسس تركً آخر هو محمد بن طؽج اإلخشٌدي ما عُرؾ باسم الدولة اإلخشٌدٌة ،لتكون ثانً دولة مستقلة فً
مصر عن الخبلفة بعد الدولة الطولونٌة ،وتوفً اإلخشٌدي ٖٖ9هـ ،موصٌا بالحكم البنه صؽٌر السن ،فصار
كافور الحبشً وصٌا علٌه؛ ما أعطاه فرصة لٌكون الحاكم الحقٌقً لمصر ،وكافور عبد حبشً خصً،
اشتراه اإلخشٌد بـ ٔ8دٌنار ،وتقدٌرا لذكابه وإخبلصه حرره ،وجعله محاربا فً جٌشه.
واستطاع كافور أن ٌضم الشام إلى ملك مصر ،وعبل شؤنه ،وصار ٌُذكر فوق المنابر كالخلٌفة ،وفً
ٖ٘٘ ه أصدر الخلٌفة تكلٌفا رسمٌا لكافور بالوالٌة على مصر ،وتوفً بعد ذلك بسنتٌن(٘ٗٔ).
وخبلل حكم اإلخشٌدي وكافور تعرضت مصر لهجمات من جمٌع النواحً ،فهاجمها السودانٌون (كوش
القدٌمة) من الجنوب ٌشنون الؽارات على أسوان ،وهاجمها العبٌدٌون (الفاطمٌون) من الؽرب بشن الؽارات
على الواحات ،وحاربها الحمدانٌون من الشرق ،وهدد القرامطة الشٌعة قوافل الحج والتجارة فً جنوب
الشام ،وانتهت أؼلب هذه الؽزوات بالصلح ،لكن بموت كافور انفرط العقد ،فتصارع الجند مختلفو األجناس
على الحكم ،وع َّم البلد ضنك العٌشة حٌن ق َّل فٌضان النٌل ..وطابت الثمرة لتسقط فً حجر ؼازي جدٌد..
ٌنتصب بؤظافره الهثا سابل اللعاب على الحدود.
هكذا وصل عقاب التفرٌط فً "ماعت" ،وفً وحدانٌة الشعب المصري ،أن ٌحكم مصر عبٌد وممالٌك
ومرتزقة فٌصٌرون حكاما على أهلها األحرار ....أما آن لهذا العقاب أن ٌنتهً؟
(ٗٗٔ)
-مصرع كلٌوباترة ،أحمد شوقً ،مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة ،القاهرة ،ص ٓٔ
(٘ٗٔ)
-انظر :مصر فً عصر اإلخشٌدٌٌن ،سٌدة إسماعٌل كاشؾ ،مطبعة جامعة فإاد األول ،القاهرة ،ٔ9٘ٓ ،ص ٘٘ ،9ٕ -وتارٌخ مصر إلى الفتح
العثمانً ،عمر اإلسكندري وأ.ج .سفدج ،مرجع سابق ،ص ٕٓ9 -ٕٓٙ
ٕٕ٘
"إن البوابات ]الحدود[ التً فوقك كبوابات حامٌة ....إنها سوؾ ال تفتح للؽربٌٌن ،إنها سوؾ ال تفتح
للشرقٌٌن ،إنها سوؾ ال تفتح للجنوبٌٌن ،إنها سوؾ ال تفتح للشمالٌٌن ،إنها سوؾ ال تفتح لهإالء الذٌن
فً وسط األرض ،إنها سوؾ تفتح لحورس (.")ٔٗٙ
(نصوص األهرام)
"إن الذي ٌفعل الماعت فذلك الذي ٌكون بعٌدا عن الضالل"ٌ" ،حل العقاب دابما بالذي ٌتخطى
قواعدها"(.)ٔٗ9
()ٔٗٙ
-القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم ،مرجع سابق ،ص ٕٕ٘ٔٔٙ -
()ٔٗ9
-انظر تقدٌم علً رضوان لكتاب "الماعت ..فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة" ،مرجع سابق ،ص ٕٔٔ٘-
ٖٕ٘
شاهت وشوشنا ..توهنا بٌن شٌن وزٌن
(ٔ)
-أؼنٌة مقدمة مسلسل أرابٌسك ،كلمات سٌد حجاب ،ألحان عمار الشرٌعً ،ؼناء حسن فإاد
المشهد ٕٔ :االحتالل العبٌدي "الفاطمً"
(الؽزو الشٌعً)
وسط انشؽال الحكام من ممالٌك ومرتزقة بصراعاتهم نهشت المجاعات مصر ،وتخلخلت حدودها،
والنشؽال الدولة العباسٌة أٌضا فً محاربة البٌزنطٌٌن انتهز العبٌدٌون (الفاطمٌون) المتربصون بمصر
الفرصة بعد أن أرسل لهم جواسٌسهم من دعاة وتجار استوطنوا البلد وتؽلؽلوا فً الجٌش وقصور الحكم
ومراكز النفوذ بؤنه حانت لحظة االنقضاض.
وبعثوا جٌشا لؽزو مصر بقٌادة جوهر الصقلً سنة ٖ٘8هـ 9ٙ9 /م ،ومعه سفن حربٌة ،لٌكون ؼزوا
برٌا وبحرٌا ،اقتحم مصر من ناحٌة اإلسكندرٌة ،واستولى علٌها ،ووصل إلى الجٌزة ،وهناك ُهزم الجٌش
اإلخشٌدي ،وسقط الحكم فً حجر العبٌدٌٌن.
وهذا أول احتبلل ٌتملك البلد قادما من الحدود الؽربٌة منذ ؼزوات قباٌل شعوب البحر التً هاجمت
بالسبلح مصر عدة مرات فً األسرتٌن ٔ9وٕٓ ،وفشلت ،لكن انتهى أمرها باحتبلل مصر أٌضا بعد
استٌطانها كؤسرى حرب أو خدم توسلوا لرمسٌس الثالث لٌبقً على حٌاتهم وٌعٌشوا تحت قدمٌه؛ فسمح لهم،
فكان ما هو معروؾ.
ٕ٘٘
واالحتبلل العبٌدي هو الؽزو الشٌعً األول لمصر ألنه سٌؤتً فٌما بعد ؼزوات شٌعٌة أخرى ،ولكن فً
أثواب أخرى ؼٌر الثوب العسكري ،ستظهر لنا فً القرنٌن الـ ٕٓ و ٕٔ ،وستكون األخبث واألخطر ،ألنها
خفٌة لمعظمنا.
واالسم الحقٌقً للفاطمٌٌن هو العبٌدٌون نسبة إلى مإسس دولتهم عبٌد هللا المهدي الذي ا َّدعى أنه اإلمام
المهدي المنتظر ،وأنه من نسل الحسٌن وفاطمة ،ولذا تسموا بالفاطمٌٌن وهً نسبة استؽلوها إلضفاء هالة
على دولتهم التً أقامها فً المؽرب بعد هجرة أتباعه إلٌها فً زي دعاة وتجار أظهروا الورع والتقوى
والشطارة أمام البربر ،ولٌَّنوا قلوبهم ناحٌتهم بسرد قصص االضطهاد وما اعتبروه ظلما تعرضوا له كـ"آل
البٌت" من العباسٌٌن ،حتى حشدوا حولهم األتباع واألموال من القباٌل البربرٌة كقبٌلة كتامة ،واستؽلوها فً
إسقاط حكامهم بحروب أهلٌة تحت خرافة أنهم بهذا ٌنصرون المهدي المنتظر وٌعجلون بنشر العدل فً
الدنٌا ،ونصَّبوا عبٌد هللا إماما ،وحسب المقرٌزي فإنه تلقب بـ"المهدي لدٌن هللا" و"أمٌر المإمنٌن" ،ومن
رفض الدخول فً مذهبه قتله(ٔ).
وكبقٌة الحركات والدول الشٌعٌةٌ ،كتنؾ أصول مإسسً الدولة العبٌدٌة الؽموض ،فمع إدعابهم نسبتهم
إلى آل البٌت ،فإنهم لم ٌتركوا دلٌبل قاطعا حول ذلك ،ونقل المإرخ بن واصل عن مإرخٌن معاصرٌن لهم
أن جدهم ٌهودي ،وآخرون قالوا فارسً ،خاصة وأنهم ٌتوقفون عند ذكر الجد الرابع ،وما قبله ٌسمونهم
"االبمة المستورٌن"(ٕ).
والثابت أنهم ٌنتمون إلى الحركة اإلسماعٌلٌة الشٌعٌة التً اعتمدت فً تؽلؽلها على نشاط مكثؾ لدعاة
سرٌٌن انتشروا بؤعداد قلٌلة ،ولكن نشطة ٌقظة ألهدافها فً أرجاء الببلد ،طوٌلة النفس ،فاستطاعت بؤعداد
قلٌلة إسقاط شعوب كبٌرة ،واشتهر هذا النشاط باسم "تنظٌم الدعاة"ٌ ،لخص هذا ببراعة المثل المصري
الفصٌح" :تبلتة لو اتفقو على بلد خربوها" ،و"الٌد الؽرٌبة تخرب البٌوت العامرة"(ٖ).
وبحسب المقرٌزي فإن عبٌد هللا المهدي أرسل أبا عبد هللا الشٌعً (الحسٌن بن أحمد بن محمد بن زكرٌا)
إلى المؽرب لنشر الدعوة والتمهٌد لوصوله ،ووصفه المقرٌزي بؤنه "أحد رجاالت العالم القابمٌن بنقض
الدول -أي هدمها -وإقامة الممالك العظام من ؼٌر مال وال رجال"(ٗ) ،أي بدون جٌوش تابعة لهم فً
البداٌة ،بل عبر "تنظٌم الدعاة" والتجار ٌحشدون وٌجندون جٌشا من داخل البلد المستهدفة ،من أبنابها ،ومن
أموالها ،وٌكلفهم هم بإسقاط حكوماتهم ،كنهج الشٌعة حتى الٌوم.
وهكذا أقام العبٌدٌون دولتهم فً المؽرب ٕ99هـ 9ٓ8/م -بالتزامن مع حكم الطولونٌٌن فً مصر -بعد
(ٔ)
-انظر :اتعاظ الحنفا بؤخبار األبمة الفاطمٌٌن الخلفا ،المقرٌزي ،تحقٌق جمال الدٌن الشٌال ،طٕ ،المجلس األعلى للشبون اإلسبلمٌة ،ص٘٘ٙ8-
(ٕ)
-مفرج الكروب فً أخبار بنً أٌوب ،جمال الدٌن بن واصل ،تحقٌق جمال الدٌن الشٌال ،دار الكتب والوثابق القومٌة ،القاهرة ،ص ٕٕٗٓٓ٘ -
(ٖ)
-العادات والتقالٌد المصرٌة ،جون لوٌس بوركهارت ،ترجمة إبراهٌم شعبلن ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،طٗ ،ص 99ؤٓ8
(ٗ)
-اتعاظ الحنفا فً أخبار األبمة الفاطمٌٌن الخلفا ،مرجع سابق ،ص ٙ8
طول صبر وأناة ،وتسلٌم داعٌة الراٌة لدعاة آخرٌن من بعده ،جٌل ورا جٌل ،طوال ٓ٘ٔ سنة.
وباتت الخبلفة اإلسبلمٌة منقسمة إلى ٖ خبلفات ما بٌن العباسٌٌن فً العراق والعبٌدٌٌن فً المؽرب
واألموٌٌن فً األندلس ،موزعة ما بٌن سنة وشٌعة ،والسنة منقسمون فٌما بٌنهم (العباسٌٌن واألموٌٌن)
والشٌعة منقسمون على أنفسهم فٌما بعد (قرامطة وفاطمٌٌن وزٌدٌٌن)(٘).
وعلى طرٌقة اختبلؾ اللصوص وقتل بعضهم حتى ال تنكشؾ أسرارهم ،تخلص المهدي من أبً عبد
هللا الشٌعً بعد أن طلب أن ٌشاركه فً الحكم ورفض المهدي ،وبعد أن بدأت قباٌل تشك فً أنه المهدي
المنتظر ،خاصة أنه لم ٌظهر أي كرامات مما شاعها عبد هللا الشٌعً حٌن قال لهم إن المهدي سٌحًٌ
الموتى وٌجعل الشمس تشرق من الؽرب( ،)ٙبحسب المقرٌزي ،فخشى أن ٌستؽل عبد هللا الشٌعً ذلك
وٌكشؾ سره ،فقتله ،وقتل بعده كل من شكك فٌه.
ولمَّا أن تم لهم المؽرب ،ولَّى خلفاء المهدي المزعوم وجههم شطر مصر لكثرة خبلفاتهم مع قباٌل
البربر ،وطمعا فً الؽرؾ من خٌرات مصر ،ولموقعها الذي ٌمكنهم إذا ما أصبحت بها عاصمة دولتهم أن
ٌكونوا فً قلب الببلد المفتوحة فً آسٌا وأفرٌقٌا ،خاصة وأن عٌنهم على بؽداد ،مكررٌن نفس حلم الدولة
الفارسٌة التً أسقطت بابل فً العراق واحتلت مصر لتحقٌق حلم إقامة الحكومة العالمٌة.
واستمر الدعاة ٌبخون فتنهم فً مصر عشرات السنٌن ،حتى قال المإرخ أبو المحاسن بن تؽري بردي
إن الدٌار المصرٌة "اضطربت فً أواخر عهد اإلخشٌدٌٌن بسبب المؽاربة أعوان الخلفاء الفاطمٌٌن
الواردٌن إلٌها من المؽرب" ،واستمال الدعاة نفرا من القواد ووجوه الرعٌة ،،وأرسل إلٌهم المعز لدٌن هللا-
حفٌد المهدي المزعوم الذي مات دون أن تمتؤل األرض عدال أو تظهر عبلمات القٌامة الكبرى -أرسل من
المؽرب تعالٌم وزعوها وسط من استجاب لهم ،وأمرهم أن ٌنشروها عندما تقترب عساكره من مصر(.)9
وٌصؾ المقرٌزي أجواء الفتنة وسط ذلك بؤن عسكر كافور انقسموا على أنفسهم ،وانضم بعضهم إلى
فرٌق الفاطمٌٌن ،فؤرسلوا مكتوبا إلى المعز لدٌن هللا ،وصار الناس فً مصر فً توتر ما بٌن أنباء تصلهم
عن استعداد القرامطة لؽزوهم من الشرق ،واستعداد الفاطمٌٌن لؽزوهم من الشرق ،وإرسال عسكر كافور
اإلخشٌدي رسابل للفاطمٌٌن لٌؤتوا لمصر من أدلة أن من راسلوا المعز لٌؤتً وٌحتل مصر ،ورحبوا به عند
مجٌبه ،كانوا من المرتزقة والمستوطنٌن األجانب ولٌسوا المصرٌٌن والد البلد.
وتزامن ذلك مع انتشار االنحبلل فً الطبقة المسٌطرة على الحكم والثروة ،وضرب المقرٌزي مثاال
بقوله إن ابنة اإلخشٌد اشترت صبٌة مؽربٌة بـ ٓٓ ٙدٌنار لتتمتع بها ،فلما بلػ ذلك المعز اعتبره عبلمة
انتهاء ملك اإلخشدٌٌٌن ،وقال ألصحابه" :إن الؽٌرة قد ذهبت من نفوس الرجال بمصر حتى إن إمرأة من
(٘)
-انظر :الدولة الفاطمٌة تفسٌر جدٌد ،مرجع سابق ،ص ٕٔٔ
()ٙ
-انظر :اتعاظ الحنفا بؤخبار األبمة الفاطمٌٌن الخلفا ،ص ٙ8 -ٙ9
()9
-انظر :الدولة الفاطمٌة تفسٌر جدٌد ،مرجع سابق ،ص ٖٖٓٔٔٔ -
ٕ٘7
بنات ملوكهم تخرج لتشتري لنفسها جارٌة تتمتع بها ،فانهضوا بنا إلٌهم ،فقالوا :السمع والطاعة(.")8
وظهر فً مصر ٌهودي مستوطن قادم من العراق اسمه ٌعقوب بن كلس ،اعتنق اإلسبلم -أو تظاهر به-
ور َّقاه الحكام فً المناصب ،ولما اختلؾ مع الوزٌر ابن الفرات بعد وفاة كافور سافر سرا إلى المؽرب،
وقابل المعز ،ودعاه إلى ؼزو مصر ،وؼالبا كان بن كلس ممن جندهم الدعاة العبٌدٌٌن قبل الؽزو ،وكافبه
المعز بعد احتبلله لمصر بؤن َّ
واله أمر تنظٌم الحكومة والدعوة اإلسماعٌلٌة ،أي أنه تحول أٌضا للمذهب
الشٌعً(.)9
وزٌارة بن كلس للخلٌفة العبٌدي فً المؽرب دلٌل آخر على أن من استدعى االحتبلل العبٌدي ،واستقبلوه
بالراٌات والزٌنة ،كانوا مستوطنٌن أجانب ولٌسوا مصرٌٌن ،فالمصرٌون أوالد البلد لم ٌكونوا ٌعرفون من
هم العبٌدٌن ،وال اتصال وال مصلحة بٌنهم ،ولٌس هناك أي داعً لكً ٌفرحوا بقدومهم لمصر ،وجاء الخلط
بسبب أنه فً كتب المإرخٌن القدامى كانوا ٌقولون كلمة "مصرٌٌن" على أهل الحكم والسٌطرة وسكان
العاصمة (مصر القدٌمة قبل بناء القاهرة) التً تموج باألجانب من كل جنس ،أما أوالد البلد فٌقال عنهم
حٌنها القبط والفبلحٌن.
وفد العبٌدٌون بجٌش من مؽاربة قبٌلتً كتامة وزوٌلة مع الصقالبة الروم ،ولكن العزٌز باهلل أراد الحد
من نفوذ المؽاربة كً ال ٌبتزونه ،خاصة أنه فً األصل لٌس منهم ،فاستورد مرتزقة أتراك لٌزاحموهم
الجٌش والمناصب ،واستجلب المستنصر مرتزقة من السودان ألن أمه جارٌة سودانٌة ،وجلب خلفاء آخرون
بدوا من الحجاز ،وكالعادة خلق هذا صراعات دامٌة بٌن األجناس أهلكت الحرث والنسل ،وصارت
األصول األجنبٌة ألمهات وزوجات الخلفاء تتحكم فً اختٌار تشكٌلة الجٌش.
ووصل تدنً روح المرتزقة الكرٌهة إلى درجة أن الترك بقٌادة ناصر الدولة الحسٌن بن حمدان التؽلبً
فً عهد المستنصر طالبوا الخلٌفة بزٌادة مرتباتهم سنة ٓ ٗٙهـ -رؼم المجاعة اللً كانت تضرب البلد
وقتها -فزودهم من ٕ8ألؾ دٌنار فً الشهر لـ ٓٓٗ ألؾ(ٓٔ) ،ورؼم الزٌادة المهولة ،إال أنهم لم ٌكفوا عن
طلب الزٌادة -كعادة المرتزقة عندما ٌشعرون بؤن لهم الكلمة العلٌا -ونهبوا القاهرة ،فلم ٌجد الخلٌفة فً مٌزانٌة
الدولة ما ٌمنحهم إٌاه ،فؤجبروه على بٌع ثروته ،ووسط ذلك ،استؽل ناصر الدولة ،قابد الترك فً جٌش
العبٌدٌٌن الظروؾ لهدم الدولة العبٌدٌة لصالح العباسٌٌن ،فانكشؾ أمره ،وخاؾ األتراك أن ٌإثر ذلك على
مصٌرهم فً مصر فقتلوه فً منزله هو وأسرته.
ولقهر نفوذ الترك ،رمى المستنصر طوبتهم وطوبة المؽاربة والسودانٌٌن ،واتجه لعرق جدٌد ،فؤرسل سنة
ٗٙٙهـ لبدر الجمالً -مملوك أرمنً تولً قٌادة الجٌوش فً الشام ،-لٌتولى ضبط األمور لما اشتهر به من قوة
()8
-انظر :اتعاظ الحنفا فً أخبار األبمة الفاطمٌٌن الخلفا ،مرجع سابق ،ص ٓٓٔ
()9
-انظر :الدولة الفاطمٌة تفسٌر جدٌد ،أٌمن فإاد سٌد ،ص ٖ٘ٔ
(ٓٔ)
-للمزٌد :انظر الدولة الفاطمٌة تفسٌر جدٌد ،ص ٕٓٓ ٕٓٔ -وٖٙ9ٖ -ٙٙ
ٕ٘8
اإلدارة ،وطلب أن ٌصحب معه عساكره األرمن من الشام لٌتقوى بهم ،فوافق الخلٌفة المكسور ،وسٌؤخذ العبٌدٌون
فً األرمن مقلبا جدٌدا كما أخذوه من الترك ،فلما دخل الجمالً مع عساكره ،عمل حٌلة للتخلص من الترك،
وقتلهم وطرد العبٌد السودانٌٌن من الجٌش وطاردهم فً المحافظات ،وحارب عرب جهٌنة والتعالبة
والجعافرة لمساعٌهم السٌطرة على الوجه القبلً؛ فخلت له ولجنسه الساحة ،وصار المتحكم األول فً رقبة
البلد بعد تولٌه منصب الوزٌر أمام خلفاء ضعاؾ(ٔٔ).
وحمل الجمالً ألقابا أسبؽها علٌه االحتبلل العبٌدي منها "أمٌر الجٌوش ،سٌؾ اإلسبلم ،ناصر اإلمام،
كافل قضاة المسلمٌن ،وهادي دعاة المإمنٌن ،مجدد القاهرة الفاطمٌة" توارثتها أجٌال حتى سماه البعض
"منقذ مصر" ،فصار المحتل ٌوصؾ بـ"المنقذ" ،وما هو إال منقذ دولة االحتبلل العبٌدي من االنهٌار ومن
فقدانها لمصر بعد المجاعات التً ضربتها والفوضى الناجمة عن صراع الجالٌات وإهمال شبون الري.
تبدلت كالعادة الطبقة الحاكمة مع االحتبلل الجدٌد ،فسقط العبٌد السود التابعٌن لكافور لٌحل هجٌن عربً
مؽربً ممثبل فً العبٌدٌٌن وأتباعهم الكتامٌٌن ،ثم انضم لهم األرمن والترك ،فٌما ظل السكان بنفس الحال
التً هم علٌها من قبل ،المصرٌون الحقٌقٌون فً األرٌاؾ الواسعة ،وندرة منهم فً الفسطاط ،أما القاهرة-
العاصمة الجدٌدة -فكانت فً مساحة حً صؽٌر ،ومحرمة علٌهم على ؼٌرهم ممن ال ٌنتمون للطبقة
الحاكمة زمنا طوٌبل.
وكالعادة أٌضا فإن الكتب التً تإرخ لهذه الفترة تركز الضوء على ما ٌجري فً القاهرة والفسطاط
واإلسكندرٌة ذوي األؼلبٌة األجنبٌة من السكان ،وتصؾ جٌش االحتبلل العبٌدي المرتزق بؤنه
"المصرٌٌن" ،والعبٌدٌٌن أنفسهم والجالٌات الملونة فً القاهرة ٌوصفون أٌضا بالمصرٌٌن لمجرد أنهم
ساكنٌن فً مصر ،ونفس األمر على سكان الفسطاط التً تحول اسمها إلى "مصر العتٌقة" ،ثم "مصر
القدٌمة" ،فبل نسمع فً كتب التارٌخ حدٌثا سوا عن العسكر (مرتزقة الجٌش العبٌدي) ،والعرب ،العبٌد
(ٔٔ)
-انظر :نفس المرجع ،ص ٕٓ8 -ٕٓٙ
(ٕٔ)
-أبٌات للمتنب ً خبلل زٌارته لمصر ،انظر :مع المتنبً" ،طه حسٌن ،مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة ،القاهرة ،ص ٕ٘8ٙ -ٕ8
ٕ٘9
الترك ،والكتامٌٌن ،الصقالبة (عبٌد من ببلد روسٌا) ،العجم ،المشارقة (أهل الشام) ،واألرمن ،ومظاهر
الفخامة والتبذٌر فً معاٌشهم ،وصلٌل السٌوؾ بٌنهم فً صراعهم على الؽنابم والمناصب ،وٌرد ذكر
المصرٌٌن الحقٌقٌٌن قلٌبل فً الكبلم عن "القبط"" ،أهل الزراعة"" ،النصارى"" ،العامة" ،وأكثرهم
ٌوصفون بالفقر ،عدا بعض المصرٌٌن ٌعملون فً الدواوٌن والتجارة دخلوا فً زمرة األؼنٌاء.
وٌذكر ابن حوقل فً القرن الرابع الهجري -وهو القرن الذي شهد وفود االحتبلل العبٌدي -أن معظم
رساتٌق (أي سواد وؼالبٌة) مصر وقراها فً الحوؾ والرٌؾ نصارى قبط ولهم البٌع الكثٌرة والعزٌزة
الواسعة ،وأنهم أهل ٌسار وذخابر وأموال.
وذكر أبو الصلت أن "سكان أرض مصر أخبلط من الناس مختلفو األصناؾ واألجناس ،من قبط وروم
وعرب وأكراد ودٌلم وحبشان ،وؼٌر ذلك من األصناؾ ،إال أن جمهورهم ]أكثرهم[ قبط.
أما المقدسً الذي زار مصر حٌنها أٌضا فٌقول" :إن عامة ذمته نصارى ٌقال لهم القبط ،وإن النصارى
ٌشكلون ؼالبٌة سكان القرى فً الصعٌد ،فضبل عن كثٌر من قرى الفٌوم التً ؼلبوا على سكانها".
وفً المراكز الصناعٌة ،نجد أن القبط ؼالبٌة أٌضا .فمدٌنة تنٌس التً ٌقدر الرحالة ناصر خسرو سكانها
بـ ٓ٘ ألؾ نسمة شكل القبط أكثر سكانها ،كما كانت دمٌاط ٌسكنها الكثٌر من القبط الذٌن كانت تقع أكثر
دورهم على شاطا البحر ،أما شطا ،القرٌة الصناعٌة الكبرى بٌن تنٌس ودمٌاط ،فؤكثر سكانها أقباط ،كما
أن مدن الصؽٌد الكبرى كؤسٌوط وأخمٌم على سبٌل المثال ؼالبٌة سكانها من القبط نظرا لما كانت تتمتع به
هذه المدن من أهمٌة صناعٌة وتجارٌة فً مصر فً عهد االحتبلل العبٌدي(ٖٔ).
ومعظم هذه المدن تقوم على الصناعات والحرؾ الٌدوٌة الدقٌقة؛ ما ٌعنً أن معظم الصناعات ظلت بٌد
المصرٌٌن ،فٌما كثر الصناع األجانب فً القاهرة والفسطاط.
وتعنً هذه الشهادات المتنوعة أنه حتى بداٌة االحتبلل العبٌدي كان أكثر المصرٌٌن كانوا على دٌنهم
السابق لدخول العرب ،وإن اختلفت الدكتورة سٌدة كاشؾ مع ذلك وقالت فً كتابها "أحمد بن طولون" إن
أكثر المصرٌٌن صاروا أٌام ابن طولون مسلمٌن ألسباب تخص رؼبتهم فً التخلص من األعباء الضرٌبٌة
أو لبلحتفاظ بالوظابؾ(ٗٔ).
وبعد أن انفتحت القاهرة لسكن بقٌة الجالٌات من ؼٌر العبٌدٌٌن عرفت نظام الحارات مقسمة حسب
األعراق-مثلما فعل العرب بالفسطاط وابن طولون بالقطابع -لعدم قدرتهم على االندماج ،فهناك حارات
للروم وبرجوان والدٌلم واألتراك وكتامة وحلب والشرابٌة إلخ ،والٌهود سكنوا حارة الجودرٌَّة ،أما
(ٖٔ)
-لمزٌد عن تصنٌؾ السكان انظر الفاطمٌون تارٌخهم وآثارهم فً مصر ،أمٌرة الشٌخ رضا فرحات ،كتاب-ناشرون ،ص ٖٔ9 -ٖٔٙ
(ٗٔ)
-أحمد بن طولون ،سٌدة إسماعٌل كاشؾ ،مرجع سابق ،ص ٕٕٗٔٔ٘ -
ٕٓٙ
اإلسكندرٌة فسكنها األجانب المشتؽلون بالتجارة من جالٌات مختلفة ،ولكل جالٌة فندق خاص بها(٘ٔ).
وفً جملة هذه الحارات وتفصٌبلتها المذكورة فً خطط المقرٌزي وؼٌره ال نجد حارة مخصصة ألوالد
البلد الذي بنٌت بؤموالهم المدٌنة وتلك الحارات.
وعن حال معظم المصرٌٌن ساكنً األرٌاؾ ٌقول المقرٌزي" :وٌسمى المزارع المقٌم بالبلد فبلحا قرارا،
فٌصٌر عبدا قنا لمن أقطع تلك الناحٌة ،إال أنه ال ٌرجو قط أن ٌُباع وال أن ٌُعتق ،بل هو قن ما بقً ومن ولد
له كذلك"( ،)ٔٙوهو وصؾ قاسً ألن المصرٌٌن لم ٌكونوا عبٌدا ،لكن ٌظهر أن الثراء والفخفخة التً مٌزت
االحتبلل العبٌدي المستفٌد األكبر منها األجانب ،وقلة من المصرٌٌن العاملٌن فً الدواوٌن ،فٌما تدهورت
أحوال المصرٌٌن فً األرٌاؾ عما كانت علٌه فً االحتبلالت السابقة كؤنه ملفوؾ بمنحنى ال ٌكؾ عن
الهبوط ألسفل.
وفً عبارة المقرٌزي أٌضا وكتاباته عموما ٌظهر أن توصٌؾ أهل الرٌؾ ومن ٌذهب منهم للقاهرة
بكلمة فبلح انتشرت بقوة أٌام االحتبلل المملوكً ،واختفى التعبٌر العربً بكلمة "نبطً".
حٌن أسقط الملك الفارسً كورش بابل واستعد الجتٌاح بقٌة العالم لٌإسس "الحكومة العالمٌة" لم ٌقدم
نفسه على أنه محتل ؼاصب ٌؤخذ ما ال حق له ،بل كمحرر للشعوب المستضعفة من حكامها الظالمٌن-
كنهج الفرس الشٌعة الٌوم -فٌقول فً "أسطوانة كورش" ببابل" :كانت قواتى تجوب بسبلم بابل ،ولم ٌكن
لسومر وأكد ما تخشاه ،حرصت على توفٌر األمان فً المدٌنة وحماٌة مقدساتها ،أما سكان بابل ،الذٌن
عاشوا قهرً ا لم ٌكن ٌجب أن ٌعٌشوه ،فقد هدأت من روعهم وحررتهم وحطمت قٌودهم"(.)ٔ9
ولما اقترب الجٌش العبٌدي الشٌعً من اإلسكندرٌة وأحس الوزٌر فً مصر جعفر بن الفرات بضعؾ
قوته ،خاصة بعد تمرد الجند المرتزقة لقلة أو تؤخر مرتباتهم وسط الؽبلء ،تشاور مع من حوله فً تسلٌم
مصر للعبٌدٌٌن ،وانتهت المفاوضات بٌن ابن الفرات والعبٌدٌٌن بكتابة العبٌدٌٌن عهد أمان.
تضمن عهد األمان أن العبٌدٌٌن جاءوا "إلنقاذ" مصر من الفوضى ،وأنهم سٌعٌدون لها األمن وٌحاربون
الؽش وٌنشرون العدل ،وٌصلحون الحالة االقتصادٌة وٌدفعون مرتبات من انقطعت مرتباتهم وٌعمرون
المساجد ،وأنهم لن ٌفرضوا مذهبهم الشٌعً على الناس.
لكن بعض سكان الفسطاط رفضوا عهد األمان ،وأعلنوا أنه" :ما بٌننا وبٌن جوهر إال السٌؾ" ،ووقع
(٘ٔ)
-للمزٌد انظر الفاطمٌون تارٌخهم وآثارهم فً مصر ،مرجع سابق ،ص ، ٖٔ8 -ٖٔ9والخطط المقرٌزٌة ،جٕ ،ص ٓٗٔ٘ -ٖ9
()ٔٙ
-الخطط المقرٌزٌة ،ج ٔ ،مرجع سابق ،ص ٕٗ8
-انظر :كورش األكبر والتسامح الدٌنً (مقالة) ،موقع "تفانا" (فارسً) ،مشروع التسامح https://tolerance.tavaana.org/ar
()ٔ9
ٕٔٙ
القتال وانتهى بهزٌمة جنود الفسطاط ،فلما وصل الخبر إلى المعز فً المؽرب أنشده شاعر العبٌدٌٌن ابن
هانا مكاٌدة للعباسٌٌن:
فقل لبنً العباس :قد قُضً األمر ٌقول بنو العباس :هل فتحت مصر؟
وكً ال ٌشعر السكان بوطؤة دخول المذهب الشٌعً ترك جامع عمرو بن العاص ٌدرس المذاهب
األربعة كم ا كان ،وأمر ببناء جامع جدٌد لٌكون رمزا للسٌادة العبٌدٌة ومذهبها ،فكان جامع القاهرة الذي
سمى بعد حٌن باألزهر.
وتحقق أمل العبٌدٌٌن فً ضعضعة نفوذ الخبلفة العباسٌة ،ونتٌجة لذلك أمر جوهر الصقلً باالمتناع عن
ذكر اسم الخلٌفة العباسً فً المساجد ،وأن ٌُذكر محله العبٌدي المعز لدٌن هللا ،وصك العملة باسمه ،وعلى
أحد وجهً العملة (الدٌنار) ٌُكتب "ال إله إال هللا محمد رسول هللا أرسله بالهدى ودٌن الحق لٌظهره على
الدٌن كله ولو كره المشركون ،علىّ أفضل الوصٌٌن وزٌر خٌر المرسلٌن" ..وهً صٌاؼة شٌعٌة ،ونقض
جوهر الصقلً عهد األمان الذي أعطاه للناس بعد سنة واحدة ،بؤن سعى لفرض المذهب الشٌعً بتؽٌٌر
قوانٌن المٌراث وإرؼام المساجد على أن تلهج بالدعاء الشٌعً ورفع اآلذان الشٌعً وبتعٌٌن الشٌعة فً
المناصب الكبٌرة ،وخصوصا القضاة ،لٌضعوا األحكام والفتاوى على المذهب الشٌعً ،وبتعٌٌن المؽاربة
والشٌعة عموما مكان بعض الموظفٌن القدامى فً الوظاٌؾ بعد ما عرفوا خباٌاها.
وأمر أن ٌضم فً الخطبة عبارة" :اللهم صلً على محمد النبً المصطفى ،وعلى علًّ المرتضى،
وعلى فاطمة البتول ،وعلى الحسن والحسٌن سبطً الرسول اللذٌن أذهبت عنهم الرجس وطهرتهم تطهٌرا،
اللهم صلً على األبمة الراشدٌن آباء أمٌر المإمنٌن الهادٌٌن المهدٌٌن" ،وأن ٌإذن فً جمٌع المساجد
بـ"حً على خٌر العمل" ..وهً صٌؽة اآلذان عند الشٌعة.
كذلك صارت المساجد الكبٌرة كعمرو بن العاص وابن طولون منارات للدعوة للشٌعة كالجامع األزهر،
وأفرط الشٌعة فً االحتفاالت المستفزة بشعابرهم ،مثل ٌوم عاشورا والضرب بآالت حادة على األجساد
إلسالة الدماء (التطبٌر) الذي ٌخالؾ الفطرة المصرٌة ،واحتفلوا بٌوم الؽدٌر فً ٔ8ذي الحجة والذي ٌدعً
الشٌعة أن الرسول اختار فٌه علً بن أبً طالب خلٌفة له(.)ٔ9
وخبلل هذا وقعت اعتداءات بٌن الشٌعة والسكان بعد أن شعر الشٌعة ،وخاصة المؽاربة ،بعز السلطان
والنفوذ ،فسعوا إلجبار السكان على المشاركة فً احتفاالتهم وطقوسهم ،وٌضربون فً الشوارع من
()ٔ8
-راجع التفاصٌل السابقة فً :اتعاظ الحنفا فً أخبار األبمة الخلفا ،المقرٌزي ،مرجع سابق ،ص 99
()ٔ9
-انظر :الدولة الفاطمٌة تفسٌر جدٌد ،مرجع سابقٔٗٗ -ٔٗٔ ،
ٕٕٙ
ٌرفض ،وأكبر مواجهة حصلت أٌام المعز(ٕٓ) لما نهب المؽاربة أمبلك السكان ،واؼتصبوا دٌارهم،
وأخرجوهم منها عنوة ،فتدخل بعد كثرة شكاوى الناس ،ونقل المؽاربة خارج القاهرة إلى عٌن شمس.
وفً عهد العزٌز باهلل الذي تولى سنة ٘ ٖٙهـ اهتم بالمذهب الشٌعً ،وبؤن تكون المناصب الهامة
قاصرة على الشٌعة ،وإلزام الموظفٌن من ؼٌر الشٌعة فً الوظاٌؾ األقل مكانة بالسٌر على أحكام المذهب
الشٌعً ،وترتب على ذلك دخول البعض فً المذهب الشٌعً لٌصل إلى المراتب العلٌا.
واشتدت المحنة بتولى الحاكم بؤمر هللا ٓ ٖ9هـ ،وهو أكثر تعصبا للشٌعة ممن سبقوه ،فؤمر بنقش سب
الصحابة على جدران المساجد واألسواق والشوارع ،وألؽى صبلة الضحى والتراوٌح ،وألزم المساجد بقول
حً على العمل فً اآلذان ،ولكنه تراجع عن ذلك بعد سنتٌن لما كثرت شكاوى الناس ،فسمح بإنشاء مدرسة
للمذهب "السنً" ،وأصدر مرسوما للتوفٌق بٌن "السنة" والشٌعة فً أحكام صوم رمضان ورإٌة الهبلل،
وبعد ٖ سنٌن من الهدوء ،عاد أدراجه ،فتعصب مجددا للمذهب الشٌعً ،وأبطل صبلة الضحى والتراوٌح
وفرض عبارة حً على العمل فً اآلذان ،وفً عهد الخلٌفة الظاهر والخلٌفة المستنصر اشتدت روح العداء
لؽٌر الشٌعة ،ورجع فرض نقش سب الصحابة فً الشوارع.
واستخدم االحتبلل العبٌدي األعٌاد كسبلح لنشر المذهب الشٌعً ولتحبٌب الناس فً حكمه ،مستؽبل
الخٌرات الوفٌرة فً مصر لئلنفاق علٌها ،حتى سماه البعض "عصر التفارٌح" ،ومنها أعٌاد قومٌة (مصرٌة
بحتة) كعٌد النٌروز (رأس السنة المصرٌة) ،وأعٌاد دٌنٌة وجدوها كعٌدي الفطر واألضحى والقٌامة
والؽطاس ،وأعٌاد أخرى ابتدعوها كالمولد النبوي وموالد فاطمة والحسٌن وعلً ابن أبً طالب وؼٌرهم من
آل البٌت ،وأكثروا من بناء المساجد ،سواء مساجد كؤضرحة آلل البٌت -ألول مرة -لٌتحلق حولها الناس
وٌقتربوا من الفكر الشٌعً ،أو مساجد لتخلٌد أسامً الخلفا؛ فاتخذت مصر "وجها إسبلمٌا" لم تكن قد
اكتسبته بهذا الشكل من قبل.
واشتهر فً تلك األعٌاد أنهم ٌمدون السماط ،وهو موابد الطعام ،بكل األطعمة الفاخرة من الذباٌح
والمشوٌات والحلوىٌ ،نعم بها كبار رجال الحكم العبٌدي ،وٌقول المسبحً إنه فً أزمة سنة ٘ٔٗ ه/
ٕ٘ٓٔ م كبس العامة على القصر ٌوم عٌد النحر صابحٌن :الجوع الجوع ،نحن أحق بسماط موالنا ،ونزل
علٌهم الصقالبة بالضرب ،فلم ٌبالوا ،وتهافتوا على الطعام ٌنهبونه نهبا وٌضربون بعضهم بعضا(ٕٔ).
وهكذا ساهم االحتبلل العبٌدي فً شق المسلمٌن لشٌعً ومسلم كما تسبب االحتبلل الرومانً الٌونانً فً
شق المسٌحٌٌن إلى أرثوذكسً وكاثولٌكً مع ما ٌجلبه هذا من مذابح وخبلفات تعذب األرواح وتفرق
الناس ،ومن فضل هللا أن هذا الشقاق لم ٌتوؼل فً الجسد المصري وظل أثره أشد ما ٌكون على السطح فً
وسط الطبقة الحاكمة والمستوطنٌن الخلٌط من األجناس بالفسطاط والقاهرة.
(ٕٓ)
-من مظاهر الؽفلة التارٌخٌة للمصرٌٌن ترك أكبر شارع فً حً األزهر باسم المعز ،فؽرٌب مثبل أن ٌسعى بعض الناس إلزالة أسماء حكام
مصرٌٌن من المدن مثلما حدث مع الربٌس حسنً مبارك النتشار الفساد فً عصرهم ،فً حٌن نلتزم باإلبقاء على أسماء المحتلٌن.
(ٕٔ)
-للمزٌد انظر :خطط المقرٌزي ،جٔ ،ص ٖ88 -ٖٗ8وٖٗ ،9ٖ8 -9والدولة الفاطمٌة فً مصر تفسٌر جدٌد ،ص ٘9ٔ -٘٘8
ٖٕٙ
ولكن ظلت له ندبات وتقٌحات بشكل آخر ،منها الطرق التً ادعت الصوفٌة وٌشرؾ علٌها أشخاص من
فارس والمؽرب ،تنشر الخرافات والتواكل والطاعة العمٌاء لئلمام ،ممثبل فً شٌخ الطرٌقة ،وتنزع اإلٌمان
الحقٌقً لتؽرس محله القشور والمظاهر ،وتكره الناس فً مقاومة المحتلٌن ،كما سنرى.
اختار جوهر الصقلً تؤسٌس عاصمة جدٌدة لٌكون بعٌدا عن أجناس العرب والترك وؼٌرهم من سكان
الفسطاط والعسكر والقطابع (وسمت هذه المدن على بعضها باسم مصر العتٌقة أو القدٌمة) ،فاختار منطقة
األزهر الحالٌة لتكون سكنا له وللقادمٌن معه ،وتعبؤت بالقصور المنٌفة التً نافست قصور الخلٌفة العباسً
واإلمبراطور البٌزنطً والمساجد الفخٌمة ،فكان بناإها عببا جدٌدا على المصرٌٌن ،استنزؾ أموالهم
وجهدهم فً مدٌنة لم ٌستفٌدوا منها حٌنها شٌبا ،بل كان إقامتهم فٌها شبه مستحٌلة(ٕٕ) ،فالقاهرة طوال القرن
األول من االحتبلل العبٌدي كان محرم دخولها على أفراد الشعب إال بإذن خاص ألؼراض خدمٌة(ٖٕ)،
وحتى بداٌة القرن الـ ٔ9ظ َّل من ٌهرب من المجاعات أو السخرة فً األرٌاؾ وٌتسلل إلى القاهرة معرض
للطرد بقرار رسمً فً أي وقت.
شهد االحتبلل العبٌدي سلسلة مجاعات لم تذق مرارتها مصر منذ مبات السنٌن ،وأشهرها ما سطره التارٌخ
باسم "الشدة المستنصرٌة" ،وهً المجاعة العظمى التً حصلت فً عهد المستنصر ،وظلت 9سنوات بداٌة من
ٗ٘9هـ نتٌجة كثرة الصراعات بٌن األج ناس المختلفة داخل الجٌش والصراع على الحكم داخل القصر ،والؽفلة
عن مشارٌع الري وتخزٌن المحاصٌل ووضع نظام لتوزٌعها وقت األزمات بالعدل.
وقال ابن وصٌؾ شاه فً "جواهر البحور" ،والمقرٌزي فً "إؼاثة األمة بكشؾ الؽمة" انتشر الجوع
حتى بٌع رؼٌؾ الخبر بـ ٘ٔ دٌنارا ،وأ ُكلت الكبلب والقطط ،فبٌع الكلب لٌإكل بـ ٘ دنانٌر ،وزادت الحال
حتى أكل الناس بعضها بعضا ،فكان ٌجلس الناس على سطوح بٌوتهم ومعهم خطاؾ لٌصطادوا المارة
وٌشرحوا لحمهم وٌؤكلونهم ،وتعذر السٌر إال بحراسة ،وباع المستنصر كل ما فً قصره من ذخابر وأُثاث
وسبلح ،وجلس على حصٌر ،وذهب وقاره ،ونساء القصور ٌخرجن ناشرات شعورهن تصحن" :الجوع!
الجوع!".
ووقفت سٌدة فً السوق تسخر من المستنصر وتقول فٌما معناه إنه بفضل حكمه أصبح قرص الخبز
بؤلؾ دٌنار ،فقرر استخدام الشدة مع التجار الذٌن ٌحتكرون القمح ،وهددهم بقطع الرإوس إن استمروا فً
ذلك ،وقطع بالفعل رأس أشخاص أمامهم ،فخافوا وأخرجوا ما فً مخازنهم وعمرت األسواق.
(ٕٕ)
-من عالمات الؽفلة التارٌخٌة أن المسبولٌن اختاروا أن ٌكون العٌد القومً لمحافظة القاهرة هو ٌوم تؤسٌسها ،رؼم أنه ٌعد ٌوم "تثبٌت"
االحتالل العبٌدي لمصر ،وال ٌلٌق االحتفا ل بؤي مناسبة فٌها انتصار لالحتالل ،وكان األولى اختٌار أي مناسبة وطنٌة شهدتها القاهرة مثل ٌوم ثورة
ٔ( ٔ88المشهورة بثورة عرابً) أو ثورة ٔ9ٔ9اللتٌن انطلقتا من القاهرة لتحرٌر البالد من لٌل االحتالالت الطوٌل.
(ٖٕ)
-الدولة الفاطمٌة تفسٌر جدٌد ،مرجع سابق ،ص ٔٗ9
ٕٗٙ
وشرح المقرٌزي أسباب المجاعة ،فهً لٌس لمجرد نقص فٌضان النٌل كما هو شابع ،بل هً أسباب
السقوط والمجاعات فً كل زمن ،وهً كما قال" :ضعؾ السلطنة ،واختبلل أحوال المملكة ،واستٌبلء
األمراء عل ى الدولة ،واتصال الفتن بٌن العربان ،وقصور النٌل ،وعدم من ٌزر ما شمله الري"(ٕٗ) ،إضافة
الحتكار كبار التجار للؽبلل والدقٌق وتخزٌنه لحصد الربح الحرام ،أي أن األسباب الربٌسٌة هً ضعؾ
قبضة الدولة المركزٌة ،وظهور مراكز القوى الذٌن ٌناطحون الحاكم ،والفتن التً ٌنشرها الدخبلء ،وؼفلة
الدولة عن مشروعات الري ومنع االحتكار ،وأخٌرا ٌكون قصور النٌل ،فإذا ما قصر النٌل ووجد هذه
األسباب حصل الخراب والمجاعات.
ولم ٌذكر المقرٌزي بالتفصٌل ما حدث للمصرٌٌن فً األرٌاؾ مثلما وصؾ ما حدث فً القاهرة
والفسطاط ،والمتوقع أنه كان أشد ألؾ مرة ،فإن كان الحاكم العبٌدي بكل ؼناه باع سبلحه وأثاثه وشكت
نساء قصوره الجوع فما المتصور أن ٌكون حصل للفبلحٌن الذٌن ال ٌملكون هذا وال ذاك؟
ؼٌر أنه أشار إشارة عابرة حٌن قال" :وتعطلت األراضً الزراعٌة" ،وما نقله البعض من أن مصر
فقدت فً هذه الشدة ثلث سكانها(ٕ٘) ،وبما أن معظم السكان فً األرٌاؾ فمعظم الضحاٌا مصرٌون.
بتبدل الجالٌات والمحتلٌن ،فإن القادم الجدٌد ٌصدق علٌه المثل المصري "الؽربال الجدٌد له شدة" ،فٌسعى بكل
قوته للتمكٌن لنفسه بكل وسٌلة ،خاصة فً ظل الصراع المحتدم على كعكة الببلد بٌن األعراق واألجناس.
وبجلب األرمن القادمٌن للسٌطرة بدأ ما ٌسمٌه مإرخون "عصر الوزراء" ،جعلوا فٌه نفوذ الوزاء فوق
الخلفاء وٌرون أنفسهم أصحاب الفضل فً مد عمر الدولة العبٌدٌة بعد الفتن والمجاعات التً لطخت عهد
المستنصر ،فباتت االؼتٌاالت والفساد والرشاوى عنوان العصر لحمى التنافس الشدٌد على منصب الوزٌر
صاحب النفوذ ،بل وسادت االؼتٌاالت فً البٌت الحاكم نفسه للتسابق على منصب الخلٌفة ،حتى أن بعض
الخلفاء قتلوا أولٌاء العهد األطفال.
ووصل األمر إلى أن بعضهم استعان بقوى من الخارج ضد الطرؾ اآلخر ،مثل استعانة الخلٌفة العاضد
بنور الدٌن زنكً فً الشام ،واستعانة الوزٌر شاور بالفرنجة المحتلٌن بٌت المقدس.
وتحكم األرمن فً العبٌدٌٌن كما تحكم األتراك فً العباسٌٌن ،فتضخم نفوذ الوزٌر حتى أن األفضل بعد
أن ورث المنصب من أبٌه بدر الجمالً استبعد نزار من الخبلفة بعد وفاة العاضد رؼم مخالفة هذا للمذهب
اإلسماعٌلً الذي ٌعطً العرش لبلبن األكبر ،فتشٌع لنزار البعض ،وترأس شٌعته الحسن بن الصباح الذي
جاء من فارس إلى مصر ألهداؾ مرٌبة أٌام المستنصر ،ودخل فً صراع مع الجمالً فطرده ،وأنشؤ فً
فارس تنظٌما سرٌا دموٌا عُرؾ باسم "الحشاشٌن"ٌ ،عد من أقدم تنظٌمات المسٌخ الدجال المتخفٌة بالدٌن،
(ٕٗ)
-انظر إؼاثة األمة بكشؾ الؽمة ،ص ٔٓٓ -98
(ٕ٘)
-الدولة الفاطمٌة تفسٌر جدٌد ،ص ٕ٘ٓ
ٕ٘ٙ
وعلى فكره وأسلوبه تعٌش تنظٌمات حالٌا ك"اإلخوان المسلمٌن".
وأسس الحسن الصباح أٌضا فرقة شٌعٌة عُرفت باسم النزارٌة احتضنت الهادي بن نزار بعد فراره إلٌها
فً فارس ،وال تعترؾ بشرعٌة حاكم مسلم إال إذا كان من ذرٌة الهادي هذا ،ولها أبمة تقول إنهم من
ذرٌته ،وهم أبمة ظاهرٌن للناس؛ حٌث ال تإمن بمبدأ اإلمام الؽابب ،ومن ذرٌته أؼاخان صاحب المشارٌع
"الثقافٌة" ،و"الخٌرٌة" فً مصر حالٌا والهادفة إلعادة نفوذ الشٌعة اإلسماعٌلٌة وحكم مصر(.)ٕٙ
وبعد وفاة المستعلً باٌع األفضل ابن المستعلً أبو علً فً منصب الخبلفة ولقب باآلمر بؤحكام هللا،
وكان األفضل ال ٌمٌل للمذهب الشٌعً ،فؤلؽى االحتفاالت بالمولد النبوي وموالد فاطمة وعلً إلخ ،لكن
الخلٌفة اآلمر دبَّر مإامرة وقتل األفضل ،وعٌن مكانه عبد هللا محمد بن البطابحً.
وبعد ٓٔ سنٌن توفى اآلمر وابنه ما زال جنٌنا فً بطن أمه ،فاختار الجند المرتزقة أبو المٌمون ابن عم
الخلٌفة وباٌعه كبار القوم كولً للعهد باسم الحافظ لدٌن هللا حتى ٌتضح إن كان المولود ذكرا أم أنثى ،وبعد
أن وضعت الزوجة المولود الذكر اختفت بابنها ،وقٌل إنها فرَّ ت به خوفا من قتله خبلل الصراع على
الحكم ،وفً فترة الحقة وجد الطفل مقتوال.
وتولى الوزارة أحمد بن األفضل الذي منع الحافظ من الحكم وعاش كالسجٌن ،واؼتال ٌانسً األرمنً
بن األفضل ،وأخرجوا الحافظ من محبسه ،وصار هذا الٌوم عٌدا للدولة العبٌدٌة حتى زوالها ،وعٌن الحافظ
ٌانسً وزٌرا ،وقرَّ ب بنً جلدته األرمن فً مناصب الدولة ،واستؤثروا بجانب كبٌر من الثروة ،فثار علٌه
منافسوه من بقٌة األعراق الوافدة ،فهرب إلى أخٌه المقٌم فً الوجه القبلً.
وبعد وفاة الخلٌفة الحافظ تولى ابنه الظافر وعٌن نجم الدٌن بن مصال منصب الوزارة ،وحصل بٌن
رجال الدولة العبٌدٌة صراع على منصب الوزٌر لدرجة أن علً بن السبلر والً اإلسكندرٌة والبحٌرة
توجه بقواته إلى القاهرة لٌستولً على المنصب ،وهرب ابن مصال ثم قتل ،وأخذ بن السبلر مكانه؛ فتآمر
علٌه رجال الخلٌفة وقتلوه ،وعٌن مكانه أبو الفضل عباس الذي تآمر بدوره على الخلٌفة وقتله سنة ٘ٗ9
هـ ،فهاج أنصار الخلٌفة على أبو الفضل العباس فهرب وقُتل(.)ٕ9
وهكذا صار عنوان ذلك العصر متعدد األعراق والملل ..قتل فً قتل ،وؼدر فً ؼدر.
تولى الخبلفة عٌسى الملقب بالفابز بنصر هللا وهو طفل عمره ٘ سنٌن ،أصٌب بالصرع من هول ما
شاهد من مناظر الدماء والقتل فً القصر ،ومات ،وبعد موته تولى العاضد ،وهو آخر الخلفاء العبٌدٌٌن
()ٕٙ
-النزارٌة اإلسماعٌلٌة تنتشر فً الهند وشرق أفرٌقٌا وأوروبا ،وتنشط فً التجارة ،وترصد أمواال لٌكون لها موطؤ قدم فً بلدان بعٌنها،
وخاصة مصر ،مشهور إمامهم بلقب آؼاخان الذي تحمل اسمه مإسسة عالمٌة تدٌر مشروعات ثقافٌة وخٌرٌة فً العالم كقوة ناعمة لهم ،وٌعدونه
"إمام المسلمٌن" ،ونظرا الهتمام اإلسماعٌلٌة بؤن ٌكون لهم قدم راسخة فً القاهرة ،خاصة المناطق المشٌدة خالل االحتالل العبٌدي ،مولت
مإسسة "آؼا خان للعمارة" إنشاء حدٌقة األزهر ،كما ٌحتل آؼاخان الثالث موقعا ممٌزا فً أسوان على النٌل ،شٌد فٌه قبره خالل خضوعه للعالج
فً أسوان ،وٌحصلون على هذه االمتٌازات فً مصر مقابل مشارٌع خٌرٌة وثقافٌة ٌشجعها المسبولون دون التفكٌر فً العواقب أو األهداؾ البعٌدة
لهذه المإسسة التً ترى أن إمامها هو حاكم مصر والعالم.
()ٕ9
-المزٌد انظر :الدولة الفاطمٌة تفسٌر جدٌد ،أٌمن فإاد سٌد ،ص ٕٙ8 -ٕٕٙ
ٕٙٙ
وشهد انهٌار دولة زعم مإسسوها أن جدهم هو اإلمام المهدي المنتظر الذي جاء لٌمبلء الدنٌا عدال ونورا،
فكانت االؼتٌاالت والدماء والفساد والطابفٌة والتنظٌمات السرٌة والمجاعات والفتن أبرز إنجازاتها.
ولنا أن نتخٌل أٌضا أحوال المصرٌٌن فً األرٌاؾ وهذه المطاردات والمعارك تدك قراهم د َّكا ،وتسلب
أموالهم سلبا؛ لتموٌل السبلح وتوزٌع المتحاربٌن الدخبلء الرشاوى لشراء والء المرتزقة فً الملٌشٌا
المتنافسة ،وأبو الهول فً مكانه العالً بالجٌزة ٌطل على هذا المشهد السخٌؾ من عمر مصر ...كؤنه
ٌحترق ألما ،تنتفض الحجارة بداخلهٌ :ا رب ..أما لهذا العقاب من نهاٌة؟
فً كتابه "أحسن التقاسٌم فً معرفة األقالٌم"ٌ ،قول شمس الدٌن المقدسً بعد رحلته إلى مصر أٌام
االحتبلل العبٌدي عما سمَّاه "إقلٌم مصر"" :وعامة ذمته نصارى ٌُقال لهم القبط" ،وعن سكان مصر عموما
من مصرٌٌن وؼٌر مصرٌٌن قال" :لؽتهم عربٌة ؼٌر أنها ركٌكة رخوة ،وذمتهم ٌتحدثون بالقبطٌة"(.)ٕ8
وعلى هذا فإن معظم المصرٌٌن كانوا وقت االحتبلل العبٌدي ٌتحدثون اللؽة المصرٌة ،ومن ٌتحدث
العربٌة ،مصري أو ؼٌر مصري ،فبصورة ركٌكة.
وفً أواخر القرن الرابع الهجري (ٓٔ م) تباعد بعض المصرٌٌن المتعلمٌن عن لؽتهم فً كتاباتهم ،ولو
كانت عن تارٌخهم؛ فنرى ساوٌرس بن المقفع أسقؾ األشمونٌن ٌإرخ للبطاركة بلؽة عربٌة ركٌكة ،وٌجمع
الوثابق الٌونانٌة والوثابق المصرٌة المكتوبة بالحرؾ القبطً لٌترجمها إلى العربٌة ،ما ٌدلنا على أن العربٌة
أصبحت لؽة الكبلم للمتعلمٌن من المصرٌٌن ،خاصة من ٌرٌدون أن ٌكون لهم باع فً الثقافة ،فكانت ثانً
أكبر خطاٌاهم فً حقها بعد خطٌبة ترك عبلمات (حروؾ) اللؽة المصرٌة واستخدام الٌونانٌة.
فإن كانوا ٌتحججون باختٌار اللؽة العربٌة وقتها لؽة للكتابة بؤن التحكم فً مراكز الثقافة صار بٌد الحكام
العرب والمستعربٌن ،إال أنه كان ٌلزم أن ٌؤخذوا كل وسٌلة لحماٌة اللؽة المصرٌة فً نفس الوقت ،مثل
كتابة القصص واألؼنٌات الخاصة بكل المناسبات المصرٌة واألشعار فً كل مجال وأحداث التارٌخ التً
تمر بهم ،لٌستمر إقبال المصرٌٌن علٌها ،وال ٌحبسونها فقط فً الشؤن الدٌنً حتى انزوت فً نصوص دٌنٌة
أو جافة فً الكنٌسة.
فكم من جالٌات أجنبٌة احتفظت بلؽتها رؼم مرور السنٌن علٌها ،ورؼم عدم تبنً الدولة المقٌمٌن فٌها
للؽتهم ،فما بالنا بؤهل البلد ٌهملون لؽتهم لحجج واهٌة ،وخاصة المتعلمٌن منهم المفروض أنهم حراس
الهوٌة ومنها اللؽة ..إنها كما ٌقول المثل المصري الفصٌح "حجة البلٌد".
ٌحكً المسعودي فً "مروج الذهب" أن قبطٌا عمره ٖٓٔ عاما استضافه أحمد بن طولون لما شاع عنه من
معرفة بالتارٌخ ،ومن ضمن ما سإل عنه :ما بال هذه الكتابة التً على األهرام والبرابً (المعابد) ال ُتقرأ؟
()ٕ8
-أحسن التقاسٌم فً معرفة األقالٌم ،المقدسً المعروؾ بالبشاري ،مكتبة مدبولً ،طٖ ،القاهرة ،ٔ99ٔ ،ص ٕٕٕٖٓٓ -
ٕٙ7
"دثر الحكماء وأهل العصر الذٌن كان هذا قلمهم ،وتداول أرض مصر األمم ،فؽلب على أهلها فقالُ :
القلم الرومً ]الٌونانً[ وأشكال األحرؾ للروم ،والقبط تقرإه على حسب تعارفها إٌاه ،وخلطها ألحرؾ
الروم بؤحرفها ،على حسب ما ولَّدوا من الكتابة بٌن الرومً والقبطً األول ،فذهبت عنهم كتابة آبابهم"(.)ٕ9
فذهبت عنهم كتابة آبابهم ..واآلن ٌعضون أصابعهم بالندم ،وٌكتفون باتهام المحتل الٌونانً والعربً
بالمسبولٌة عن كسر لؽتهم ،وٌنسون أنفسهم وتقصٌرهم وإهمالهم واستسهالهم فً تقلٌد األجنبً.
ورؼم ذلك لم تعدم اللؽة أبنابها ،فحصلت صحوة ؼٌورة على اللؽة المصرٌة القرن ٓٔ م أٌضا؛ فكثرت
الكتابة بها خاصة فً الدٌر األبٌض (دٌر األنبا شنودة صاحب الصحوة الؽٌورة على اللؽة المصرٌة أٌضا
وقت االحتبلل الرومانً) ،وعثر فً نفس القرن على مخطوطة منسوبة خطؤ لؤلنبا صوبٌل القلمونً تحث
بشكل مإثر على االهتمام باللؽة القبطٌة(ٖٓ) ،ولكن لم ٌكن هذا كافٌا ،ألن معظم اإلنتاج باللؽة المصرٌة ظل
محصورا فً الشؤن الدٌنً وقواعد اللؽة ،ولم ٌحظ بنفس االهتمام فً تسجٌل لؽة الحٌاة الٌومٌة واألحداث
واألؼانً والمراثً والتارٌخ.
وفً ذلك العصر أٌضا بدأت فً القاهرة بذور ما نسمٌها اآلن اللؽة المصرٌة الحدٌثة أو الدارجة أو
اللهجة المصرٌة ،أو المصرٌة العامٌة أو لهجة القاهرة ،وستؤخذ شكلها الواضح فً االحتبلل المملوكً.
وفً ذلك ورد فً كتاب "اللهجة المصرٌة الفاطمٌة" " :فؤبناء هذا العصر مزاج مشترك من أبناء
الطوابؾ العربٌة والقبابل الوافدة ومن أبناء البٌبة المصرٌة األقباط"(ٖٔ) ،وفٌها أخذت العربٌة من المصرٌة
وأخذت المصرٌة من العربٌة فخرج الشكل الجدٌد.
ومع وجود نظام الملكٌة الخاصة ،فإن الجزء األكبر من األرض تملكته الدولة العبٌدٌة بمرتزقتها ،وزاد
بشكل كبٌر لكثرة األوببة والمجاعات التً حصدت أرواح عدد مهول من المصرٌٌن وؼٌر المصرٌٌن وآلت
أراضٌهم للدولة ،وبخاصة فً عهد المستنصر الذي شهد مجاعتٌن كبٌرتٌن وحروبا طاحنة بٌن عسكره.
كذلك وجد فً ذلك العصر نظام إعطاء الدولة للناس أراضً لٌزرعوها بحق االنتفاع ال التملٌك ،ونظام
تؤجٌر أراضً الدولة لمن ٌزرعها ،ونظام أخذ األرض بوضع الٌد(ٕٖ) ،وتوسع نظام األوقاؾ ،ونظام إقطاع
()ٕ9
-مروج الذهب ومعادن الجوهر ،أبو الحسن علً المسعودي ،ج ٔ ،مرجع سابق ،ص ٖٕٙ
(ٖٓ)
-تراث األدب القبطً ،شنودة ماهر وٌوحنا نسٌم ٌوسؾ ،مإسسة القدٌس مرقس لدراسات التارٌخ القبطً ،ٕٖٓٓ ،ص ٕٙ
(ٖٔ)
-اللهجة المصرٌة الفاطمٌة دراسة تارٌخٌة وصفٌة ،عطٌة سلٌمان أحمد ،ٔ99ٖ ،نسخة إلكترونٌة ،ص ٕٕٓٓٓٔ -
(ٕٖ)
-انظر :الدولة الفاطمٌة تفسٌر جدٌد ،ص ٗ9ٔ -ٗٙ9
ٕٙ8
األرض بنظام التملٌك بدون مقابل ألفراد أدوا خدمات للدولة أو كإقطاعات لكبار رجال الدولة العبٌدٌة (ٖٖ).
وفً نفس الوقت ٌملك الخلٌفة الكثٌر من العقارات والدكاكٌن ،فٌقول ناصر خسرو فً رحلته إن فً
القاهرة ٕٓ ألؾ دكان كلها ملك للسلطان ،بخبلؾ الحمامات(ٖٗ) ...فً القاهرة فقط بخبلؾ ما خارجها.
لما جاء العبٌدٌون أرادوا استؽبلل خٌرات مصر ألقصى حد ،خاصة مع كثرة حروبهم ،ومٌلهم
لئلسراؾ والبذخ والمظهرة وبناء القصور والمساجد فً أفخم صورة ،ففرضوا ضراٌب فادحة اشتهرت
باسم "المكوس" ،بلؽت ٓ 8مكسا بحسب المقرٌزي ،وأبدى الرحالة المقدسً خبلل زٌارته لمصر استؽرابه
من كثرة وثقلة المكوس بها ،وتلؽً الدولة العبٌدٌة المكوس أحٌانا خبلل األزمات االقتصادٌة الطاحنة
كالؽبلء والمجاعات للتخفٌؾ عن الناس ،ثم تعود لفرضها(ٖ٘).
وظهر فً عصرهم نظام "الضمان" ،وهو نظام مالً ؼٌر شرعً أٌضاٌ ،شبه نظام المقابلة أو االلتزام
فً الزراعة ،وٌعنً أن ٌلتزم شخص بتقدٌم مبلػ متفق علٌه للدولة عن قٌمة الضراٌب والمكوس المفروضة
على جهة ما ،وٌؤخذ الباقً لنفسه ،وٌتحمل الفرق إن نقص المبلػ ،وهو ما ٌضع الناس تحت رحمة محصل
الضمان( ،)ٖٙوعلى حس هذه الضراٌب والقباالت واستبثارهم بالجزٌة (اشتهرت باسم الجوالً) والخراج
الذي كان ٌُرسل سابقا للعباسٌٌن ،عاش العبٌدٌون عٌشة فاقت ما شاع عن هارون الرشٌد واألكاسرة
والقٌاصرة ،ونثروا ثروة مصر فً نشر مذهبهم ونفوذهم وملكهم فً الشام والٌمن وعمان والحجاز وبؽداد
والموصل.
ونقل المقرٌزي عن كتاب "الذخابر والتحؾ" للقاضً ابن الزبٌر أن المعز اتخذ لنفسه عرشا فٌه من
الذهب ما ٌزن ٓٔٔ ألؾ مثقال ،وٓ ٔ,٘ٙقطعة من الجواهر مختلفة األلوان ،وحٌن ح َّل المعز لمصر
استقبله جوهر الصقلً بهداٌا وصفها ابن زوالق ،منها ٓ٘ٔ فرسا سروجها ولجامها بعضها مذهب
وبعضها مرصع ،وأوانً الذهب والفضة وٓٓٔ سٌؾ محبلة بالذهب والفضة(.)ٖ9
ومما حازه المستنصر ،وذكره ابن مٌسر والمقرٌزي ،أن ثروته كانت قبل أن ٌبددها األتراك ٖٓ ملٌون
دٌنار من الذهب ،وتحؾ منها سبحة من األحجار الكرٌمة ،وصنادٌق من الجواهر وٕٓٓٔ خاتم مرصع
باألحجار الكرٌمة ،ومقادٌر كبٌرة من أوانً الذهب والصوانً المحبلة بالذهب والمبلبس واألنسجة
المطرزة بالذهب ،والشطرنج المصنوع من الذهب والفضة ،وطاووس من الذهب مرصع بالجواهر النفٌسة،
ودٌك من الذهب مرصع باللإلإ ،بخبلؾ األراضً الواسعة والقصور الفخمة والعبٌد واألسلحة وخزابن
(ٖٖ)
-انظر :ملكٌة األراضً الزراعٌة فً مصر خبلل القرن التاسع عشر ،حمدي الوكٌل ،مرجع سابق ،ص 99 -9ٙ
(ٖٗ)
-الدولة الفاطمٌة تفسٌر جدٌد ،مرجع سابق ،ص ٕ٘9
(ٖ٘)
-نفس المرجع ،ص ٕٔ٘
()ٖٙ
-للمزٌد عن نظام الضراٌب انظر :نفس المرجع ،ص ٕ٘9 -٘ٔ9
()ٖ9
-الفاطمٌون فً مصر وأعمالهم السٌاسٌة والدٌنٌة بوجه خاص ،حسن إبراهٌم حسن ،المطبعة األمٌرٌة ،القاهرة ،ص ٖٖٕٕٖٗ -
ٕٙ9
األثاث والفرش والستابر والسجاجٌد ،وكلها مشحونة بالحرٌر والذهب والجواهر(.)ٖ8
ٌصؾ القاضً الفاضل مملتكات القصر عند سقوط العبٌدٌٌن" :كشؾ حاصل الخزابن الخاصة بالقصر
ما بٌن دٌنار ودرهم ومصاغ وجوهر ونحاس وملبوس وأثاث وقماش وسبلح ما ال ٌفً به ملك األكاسرة،
وال تتصوره الخواطر الحاضرة ،وال ٌشتمل على مثله الممالك العامرة ،وال ٌقدر على حسابه إال من ٌقدر
على حساب الخلق فً اآلخرة"(.)ٖ9
أما عن ثروة الوزراء فٌضرب لنا ابن منجب مثبل بالوزٌر ٌعقوب بن كلس الذي استدعى االحتبلل
العبٌدي ،فٌقول إنه أنفق على زواج ابنته ٕٓٓ ألؾ دٌنار ،ولما مات ترك ثروة بلؽت ٗ ملٌون دٌنار
وٗآالؾ من الؽلمان وٓٓ ٙمحظٌة ،وجواهر ثمٌنة قدرت بـ ٓٓٗ ألؾ دٌنار ومن المصوؼات ما بلػ قٌمته
نصؾ ملٌون دٌنار ،وأرضا أخذها بنظام االلتزام مقدرة ب ٖٓٓ ألؾ دٌنار(ٓٗ).
وبحسب ابن مٌسر ،فإن الوزٌر األفضل بن بدر الجمالً ظل الك َّتاب ٌحصون فً ثروته بعد موته لمدة
شهرٌن ،ووجدوا فٌها ٙملٌون دٌنار عٌنا ،وفً بٌت الخاصة ٖ ملٌون دٌنار ،وفً البٌت البرانً ٖ ملٌون
وربع الملٌون ،وٓ٘ أردبا دراهم ورق ،وٖٓ راحلة من الذهب العراقً ،وٓٔ بٌوت فً كل بٌت منها ٓٔ
مسامٌر ذهب (خاصة بتعلٌق العمابم) ،وٓٓ 9ثوب دٌباج ملون ،ومن األبقار والجاموس واألؼنام والجمال
والضٌاع الكثٌر وحتى دواته مرصعة بالجواهر ،وٓٓ 9طبق فضة وذهب ،وٓ 9ألؾ ثوب عتابً من
الدٌباج ،وٖ خزابن كبٌرة ممتلبة بثٌاب تنٌس ودمٌاط ،وؼٌر هذا ما ٌضٌق به المقام ،ومجلس الشرب
الخاص به فٌه 8تماثٌل لجارٌات متقاببلت مصنوعة من الكافور والعنبر ،ورؼم أنها تماثٌل لكنها ترتدي
أفخر الثٌاب المحبلة بالحلً وتمسك بؤٌدٌها األحجار الكرٌمة ،والشراب ٌؤتً فً صوانً الذهب وأوانً
مملوءة بالجوهر ،ورؼم ذلك ٌصفه معاصروه بـ"العدل وحسن السٌرة"(ٔٗ).
وحرص العبٌدٌون على إظهار ثرابهم فً كسوة الكعبة ،فكانت من الدٌباج األحمر ،وفً حافتها ٕٔ هبلال
ذهبٌا ،وداخل كل واحد منها ٓ٘ درة فً حجم بٌضة الحمام وٌاقو أحمر وأصفر وأزرق ،ونقش حافات اآلٌات
بحروؾ الزمرد األخضر ،وزٌن الكتابة بالجواهر الثمٌنة(ٕٗ) ،متخٌلٌن أن هللا سٌقبل هذا البذخ الذي جُمع بؤسالٌب
ٌدل علٌها الحال الموجع لمعظم الفبلحٌن فً األرٌاؾ.
مرَّ علٌنا أن الطابع المصري الممٌز فً فنون العمارة والزخرفة والرسم اختفى كثٌر منه بؽلق المعابد
الراعٌة للفنون ،لٌطل الطابع الٌونانً والرومانً برأسه بشكل بارز ،ؼٌر أن البصمة المصرٌة فً العمارة
والفنون لم ُتباد ،بل ظلت تتردد فً عمارة الٌونان والرومان ،وحٌن جاء العرب أخذت مساحة أوسع
()ٖ8
-انظر المرجع السابق ،ص ٖٕٕ٘٘9 -
()ٖ9
-نفس المرجع ،ص ٕ٘9
(ٓٗ)
-نفس المرجع ،ص ٕٖ8
(ٔٗ)
-الفاطمٌون فً مصر وأعمالهم السٌاسٌة والدٌنٌة بوجه خاص ،مرجع سابق ،ص ٕٕٕٓٗٗ -
(ٕٗ)
-نفس المرجع ،ص ٖٕ٘
ٕٓ7
للظهور لقلة خبرتهم بالعمارة والفنون ،ؼٌر أنه بتولً العبٌدٌٌن الحكم ،فإن إسرافهم فً المشارٌع العمرانٌة
وخاصة القصور والمساجد واألسوار جعلهم ٌجلبون مزٌدا من الحرفٌٌن والصناع المهرة من مختلؾ
البلدان لٌضموا إلى القصور والمساجد أبدع ما جاد به الزمان فً كل مكان ،فشاع فً منشآت وآثار ذلك
العصر اللون الفارسً والسامرابً واألفرٌقً إلى جانب القبطً والبٌزنطً.
ؼٌر أن العمارة المصرٌة ظل لها تؤثٌرها البارز ،فدخلت القباب على المساجد ،وأول مسجد زٌن بالقباب
مسجد الحاكم بؤمر هللا ،وفٌه ٖ قباب ،والقباب فن مؤخوذة من الفن المصري الذي شاع فً بناء الكناٌس
والمقابر أٌام االحتبلل الرومانً ،ومن هنا نرى أن القباب التً تزدان بها أفخم وأعظم كنابس الدنٌا مثل
كنٌسة آٌا صوفٌا فً القسطنطٌنٌة ومسجد الحاكم بؤمر هللا اقتبسها الفنانون من الفن القبطً(ٖٗ) ،وله جذور
فً العمارة المصرٌة األقدم خاصة تصمٌمات ما داخل المقابر ،مثل القبب النصفٌة فً مقابر بنً حسن
بالمنٌا التً تعود للدولة الوسطى.
وأؼرى الثراء الفادح الخلفاء العبٌدٌٌن وأعوانهم إلؼراق األسواق بالبضاٌع األجنبٌة الكمالٌة من كل
لون؛ مع ما هو معروؾ من تؤثٌره على مراكز الصناعة المصرٌة ،فظهر نوع جدٌد من األقمشة منها
العتابً القادم من بؽداد والسفبلطون القادم من ببلد الروم ٌنافس صناعة النسٌج المصرٌة.
وفً المقابل ،اشتط العبٌدٌون فً تحصٌل الضراٌب من أصحاب مصانع النسٌج بمصر حتى أنه فً ٌوم
حصلت من تنٌس واألشمونٌن ودمٌاط ٕٓٓ ألؾ دٌنار ،فقال المقرٌزي" :وهذا شًء لم ٌُسمع قط بمثله فً
بلد" ،وكثر توافد التجار األجانب من الشام والعراق والمؽرب وإٌطالٌا ،وسكنوا الفسطاط والقاهرة
واإل سكندرٌة ،وتضخم نظام الوكاالت التجارٌة األجنبٌة الذي نقله إلى مصر المستوطنون اإلؼرٌق فً
األسرة ٕٙكما تابعنا ،ومؤل هإالء مصر بصنوؾ من البضاٌع الؽرٌبة استؽبلال لجشع رجال الحكم فً
اقتناء كل ما هو طرٌؾ ،فٌقول ناصر خسرو إن سوق القنادٌل بالفسطاط "ال ٌُعرؾ سوقا مثله فً أي بلد،
وفٌه كل ما فً العالم من طرابؾ".
ولم ٌكتؾ التجار الوافدون بحصد الثروات ،فتطلعت أعٌنهم لحصد المناصب لتحصٌن ثرواتهم ،فبعض
الشوام عملوا بالقضاء والتجارة معا وورثوا المناصب ألبنابهم ،وتٌسر لهم هذا بامتٌازات قدمها الحكام
العبٌدٌون ،فٌقول ابن المؤم ون إن الوزٌر البطابحً أمر ببناء دار وكالة بالقاهرة لمن ٌصل من الشام
والعراق من التجار ،وهو ما ٌوفر لهم تسهٌبلت فً عملهم ال ٌجد مثلها التجار المصرٌون ،وأتاح لهم هذا
القدرة على الوصول لمناصب خطرة سرٌعا ،مثل قاضً قضاة مصر(ٗٗ).
ما سبق عرضه هو كؤنه سطر من أطنان كتب تكشؾ كٌؾ جرى نهب مصر على ٌد محتلٌها
(ٖٗ)
-الفن القبطً المصري فً العصر الٌونانً الرومانً لبٌب ٌعقوب صلٌب ،مطبعة قاصد خٌر ،القاهرة ،ٔ9ٙٗ ،ص ٗ9٘ -9
(ٗٗ)
-للمزٌد عن الصناعة والتجارة انظر :الدولة الفاطمٌة تفسٌر جدٌد ،مرجع سابق ،ص ٕ٘ٓٓ -ٗ9
ٕٔ7
ومستوطنٌها األجانب فً ذلك العصر ،وأسالٌب الدعاٌة الماهرة التً نشرها الشٌعة لتبرٌر احتبللهم لمصر،
مدعٌن أنهم نشروا فً مصر الفخامة والعمارة والفنون واألعٌاد واالحتفاالت ،وال ٌؤتون على ذكر أن هذا
كان ٌخص قصور الحكم وأعوانها ،فٌما المصرٌون فً األرٌاؾ ٌجري تجاهلهم واستنزافهم سوا على
أرض الواقع أو فً تجاهل تسجٌل أحوالهم وآرابهم فٌما ٌجري فً كتب التارٌخ.
ومع هذا ،تتقافز على اإلنترنت هذه األٌام مواقع وصفحات تدعو إلى عودة "الفاطمٌٌن" (وبرعاٌة دولٌة
من إٌران وجهات فً شمال أفرٌقٌا) الحتبلل مصر ،وبعض أساتذة التارٌخ واإلعبلمٌٌن المتولٌن مهمة
تمجٌد االحتبلل العبٌدي ٌمؤلون الشاشات ،بل نقلوا هذا التلمٌع إلى مسلسبلت تحبب المصرٌٌن فٌه ،مثل
مسلسل "األزهر الشرٌؾ منارة اإلسبلم(٘ٗ)" المصروؾ علٌه من أموال المصرٌٌن لتمجٌد من احتلهم.
حابً:
دٌون:
(٘ٗ)
" -األزهر منارة اإلسبلم" ،تؤلٌؾ أمٌنة الصاوي ،إخراج أحمد طنطاوي ،تمثٌل نخبة من الفنانٌن ،إنتاج التلفزٌون المصري
()ٗٙ
-مصرع كلٌوباترة ،أحمد شوقً ،مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة ،القاهرة ،ص ٓٔ
ٕٕ7
ٌصرفه المضلِّلل كٌؾ شاء(ٔ) هداك هللا من شعب برئ
(ٔ)
-مصرع كلٌوباترا ،أحمد شوقً ،مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة ،القاهرة ،ص ٔٔ
المشهد ٖٔ :االحتالل األٌوبً
٘ٙ9هـٔٔ7ٖ/م
(المحتل بطال؟)
سقطت الدولة العبٌدٌة من علٌابها لتتحطم قطعا متناثرة تحت ضربات المذابح واالؼتٌاالت والفساد
ومإامرات المرتزقة متعددي األجناس ،وخاتمة فصولها الصراع بٌن شاور والً الصعٌد وضرؼام أحد
قادة الجند على منصب الوزارة؛ وعجَّ ل بنهاٌتهما لجوبهما إلى االستعانة بؤعداءهم الخارجٌٌن؛ فاستعان
شاور بنور الدٌن محمود حاكم دمشق التابع للخلٌفة العباسً ،طالبا منه أن ٌرسل له قوات تساعده على
استرجاع نفوذه فً مقابل أن ٌعطٌه ثلث خراج مصر ،وقال له" :أكون ناببك بها ،وأقنع بما تعٌّن لى من
الضٌّاع والباقى لك".
ووافق نور الدٌن محمود الذي وجدها فرصة سانحة لٌضم مصر إلى الشام ،وأرسل حملة ٌقودها
الكردي أسد الدٌن شٌركوه ،فحاربت ضرؼام وقتلته ،وأعادت شاور لمنصبه.
لكن شاور خالؾ وعده لنور الدٌن ،وطلب من شٌركوه أن ٌرجع للشام ،واستقوى بالروم بؤن بعث لـ
"أمارٌك" ملك بٌت المقدس ٌطلب منه التحالؾ ضد نور الدٌن زنكً ،وٌخوفه من أنه لو نور الدٌن سٌطر
على مصر فإن نفوذه سٌكبر وٌطرد الفرنجة من بٌت المقدس ،واستجاب له أمارٌك ،وبعث قوات أرؼمت
شٌركوه على العودة للشام ،فرد نور الدٌن بحملة ثانٌة لمصر سنة ٕ ٘ٙهـ بقٌادة شٌركوه اصطحب فٌها
ابن أخٌه صبلح الدٌن بن أٌوب.
واستنجد شاور بالفرنجة مرة أخرى ،فؤرسلوا له قوات ،ودارت معارك طاحنة على أرض مصر انتهت
بانتصار شٌركوه ،وعٌَّن صبلح الدٌن والٌا على اإلسكندرٌة.
ودخول الفرنجة لمصر هٌَّج فً صدورهم ذكرٌات سٌطرتهم علٌها أٌام االحتبلل الرومانً ومشاهد
خٌراتها الوفٌرة ،وطٌب العٌش فً مدنها الساحرة ،فقرروا العودة ،متشجعٌن بالصراع بٌن من ٌحتلونها،
فعاد أمارٌك على رأس حملة لمصر ،ولكن هذه المرة لصالحه ولٌس لصالح شاور ،ونهب بلبٌس وسبى
أهلها ،فلما قربت من الفسطاط أخبلها شاور من السكان وأحرقها حتى ال تكون مؤوى للفرنجة(ٕ) ،وحاصر
(ٕ)
-للمزٌد :الفاطمٌون فً مصر وأعمالهم السٌاسٌة والدٌنٌة بوجه خاص ،حسن إبراهٌم حسن ،المطبعة األمٌرٌة ،ص ٖ ٖٓ9 -ٕ9والدولة الفاطمٌة
فً مصر تفسٌر جدٌد ،مرجع سابقٖٓٓ -ٕ8ٓ ،
ٕٗ7
الفرنجة القاهرة أٌضا ،وضٌقوا على سكانها ،فؤرسل شاور والخلٌفة العاضد ٌستنجدون بنور الدٌن
عارضٌن علٌه أن ٌؤخذ ثلث أرض مصر مقابل ذلك ،بخبلؾ إقطاعات لعسكر شٌركوه(ٖ) ،بحسب ما أورده
ابن واصل مإرخ بنً أٌوب.
ففً البداٌة كان المزاد منصوبا لمصر فٌما ٌخص خراجها ،وعرض شاور على نور الدٌن محمود زنكً
ثلث الخراج ،وفً المرة الثانٌة عرضوا علٌه أرض مصر نفسها!
وافق نور الدٌن خاصة مع خوفه إن وقعت مصر فً ٌد الفرنجة فلن تبقى إماراته فً الشام بعٌدةعنهم؛
فؤرسل حملة جدٌدة وحاربوا الفرنجة وانتصروا علٌهم ،وانسحب الفرنجة(ٗ) ،وبزوال الخطر انفض التحالؾ
بٌن شاور وشٌركوه ،وعادا لمحاربة بعضهما ،وانتهى األمر بقتل شاور وتولً شٌركوه الوزارة ،لكنه توفً
بعد ٖ شهور ،فولَّى الخلٌفة العاضد محله صبلح الدٌن ،واستمال صبلح الدٌن من حوله بالعطاٌا ،ووزع
المناصب على أتباعه الكرد والترك القادمٌن معه حتى استفرد باألمر.
اعتمد صبلح الدٌن على بنً جنسه فً الجٌش والحكم ،فصارت نٌابة السلطنة وإمارات الوالٌات وقٌادة
الجٌوش فً ٌد الكرد واألتراك ،ومال كثٌر منهم إلى العٌش المترؾ ،وؼالوا فً استعمال الذهب والجواهر
والفضة ،كما اعتمد على العربان ،بحسب المقرٌزي فً كتابه الخطط ،وقامت فً المقابل جماعة أخرى من
العربان بالتعاون مع اإلفرنج ضد األٌوبٌٌن ،وهاجات بالسلب والنهب فً الببلد ،فصادر صبلح الدٌن
إقطاعاتهم(٘) ،ولكن كان الجٌش أقل فً تشكٌلة األعراق من زمن العبٌدٌٌن؛ فقلت الصراعات بٌن أفراده،
على األقل فً عهد صبلح الدٌن.
وبعد ٔٔ سنة خرج صبلح الدٌن من مصر لٌقاتل الفرنجة وٌطردهم من الشام سنة ٘98هـ ،وهزمهم
فً معركة حطٌن ،وفً الشام توفى ودفن ،وتوزعت الدولة األٌوبٌة على أهله ،العزٌز حكم مصر،
واألفضل حكم دمشق ووسط سورٌا ،والظاهر حكم حلب ،أما العادل أخو صبلح الدٌن فحكم العراق فً
حالة شبٌهة بتوزٌع اإلمبراطورٌة التً تركها اإلسكندر بٌن قادته.
وكعادة تلك العصور ،دبَّ الصراع بٌن اإلخوة وبٌن األبناء على السلطة ،وسعى بعضهم لبلستقواء
بالعناصر األجنبٌة لعدم ثقته بعابلته ،حتى أن الكامل استقوى بالفرنجة على أخٌه ،وتنازل لهم فً المقابل
عن بٌت المقدس ،فكانت بداٌة نهاٌة األٌوبٌٌن وفاتحة عصر الممالٌك عندما فتح نجم الدٌن أٌوب حاكم
مصر باب شراء صؽار السن من وسط آسٌا ،وبؤعداد كبٌرة ،لٌربٌها على عٌنه وعلى الوالء التام له.
(ٖ)
-مفرج الكروب فً أخبار بنً أٌوب ،جمال الدٌن بن واصل ،تحقٌق جمال الدٌن الشٌال ،ج ٔ ،دار الكتب والوثابق القومٌة ،ص ٔ٘9 -ٔ٘8
(ٗ)
-تتفنن أفبلم ومسلسبلت ومناهج الدراسة فً تقدٌم نور الدٌن محمود وشٌركوه ممن كانوا ٌتعاملون بهذا الشكل مع مصر على أنهم أبطال ٌجب
على المصرٌٌن تمجٌدهم ولٌس على حقٌقتهم كمجرد طامعٌن فً أرضها كؤي احتبلل سبقهم ولحقهم.
(٘)
-انظر :الحٌاة االجتماعٌة فً مصر خبلل العصر األٌوبً ( ٙٗ8-٘ٙ9هـٕٔ٘ٓ -ٔٔ9ٔ /م) ،مرجع سابق ،ص ٓ٘ و 99و99
ٕ٘7
ولم ٌكتؾِ بؤن جعلهم جٌشه ،بل وزع علٌهم مناصب الدولة ،فصار العبٌد أثرى الناس فً مصر ،حتى
تفاخروا ب ؤنهم عبٌد! ،وعزلوا أنفسهم عن السكانٌ ،تكبرون علٌهم وال ٌختلطون بهم ،وال ٌتزاوجون منهم،
وحرَّ موا على المصرٌٌن ركوب الخٌل بزعم أن ركوبها قاصر على الفرسان والمحاربٌن(.)ٙ
وبعد وفاة نجم الدٌن انتفخ طموح زوجته الجارٌة األرمنٌة شجرة الدر لحكم مصر فتآمرت مع الممالٌك
على قتل ابنه توران شاه ،وتزوجت من األمٌر المملوكً عز الدٌن أٌبك لما رفض الخلٌفة العباسً تولٌة
امرأة ،وارتفع أٌبك لعرش السلطان ،ولكنها قتلته لما علمت أنه سٌتزوج ابنة أمٌر الموصل(.)9
وانتقاما منها قتلها بعض جواري زوجته أم ابنه وخلٌفته علً المنصور ،وهكذا انتهت الدولة األٌوبٌة
بنفس الطرٌقة التً انتهت بها الدولة العبٌدٌة وهً حٌاة البذخ الشدٌد والصراع الدموي على الحكم،
واالستعانة بالمرتزقة ،وبخطٌبة االستعانة بالدول األجنبٌة.
لم ٌطرأ تؽٌٌر كبٌر على السكان عما كان علٌه فً االحتبلل العبٌدي ،إال بطرد األرمن والسود ،واستٌبلء
عرق جدٌد على قمة السلطة والجٌش هو األكراد وأعوانهم الؽز ،فظل الفبلحون السواد األعظم من السكان،
خاصة فً الرٌؾ الواسع ،الفقر ٌؽلب على معظمهم ،فٌما برز قلٌل منهم فً دواٌر السلطة ،خاصة من
اشتهروا بـ"قبط الدواوٌن" فً المحاسبة وشبون الزراعة التً لم ٌستطع االستؽناء عن مهارتهم فٌها أي
احتبلل سابق أو الحق ،فطبقة المحتلٌن تتؽٌر فٌما هم مستمرون فتراكمت لدٌهم الخبرة.
وممن برز منهم ابن ممَّاتً ربٌس دٌوانً الجٌش والمال أٌام صبلح الدٌن ،وبرز أٌضا فً األدب ،فهو
صاحب كتاب "الفاشوش فً حكم قراقوش" ساخرا فٌها من قراقوش وزٌر صبلح الدٌن بعد خبلؾ بٌنهما،
ونسج فٌها نوادر مرحة منحت قراقوش السمعة المعروؾ بها اآلن( ،)8لكنه اصطدم بمنافسٌه وفقد مناصبه.
كما تولى شبون الدواوٌن نهاٌة عصر األٌوبٌٌن هبة هللا صاعد الفابزى ،وكان طبٌبا مسٌحٌا اسمه
تادرس ،وؼٌَّر اسمه لما أسلم( ،)9وبحسب الزركلً والمقرٌزي تدرج حتى أصبح أول وزٌر قبطً ،وكان له
ذلك زمن السلطان المملوكً عز الدٌن أٌبك ،وساٌر الممالٌك فً ظلم واعتصار األهالً بالمكوس ،وبعد
قتل أٌبك قبض علٌه سٌؾ الدٌن قطز لخبلؾ بٌنه وبٌن ممالٌك المعز ،ومات مخنوقا(ٓٔ).
ولفت الرحالة عبد اللطٌؾ البؽدادي الشهٌر بؤبو اللباد وزار مصر فً بداٌة الحكم األٌوبً فً مإلفه
"اإلفادة واالعتبار فً األمور المشاهدة والحوادث المعاٌنة بؤرض مصر" مقارنة سرعٌة تظهر الفرق بٌن
()ٙ
-انظر :الخطط المقرٌزٌة ،ج ٖ ،مرجع سابق ،ص ٕٕٕٖٔٔ -
()9
-انظر :تارٌخ دولة المم الٌك فً مصر ،ولٌم موٌر ،ترجمة محمود عابدٌن وسلٌم حسن ،ط ٔ ،مكتبة مدبولً ،سلسلة صفحات من تارٌخ مصر،
القاهرة ،ٔ99٘ ،ص ٖٗ ،والخطط المقرٌزٌة ،ج ٖ ،ص ٕٕٗٔٔ٘ -
()8
-الفاشوش فً حكم قراقوش البن مماتً ،عبد اللطٌؾ حمزة ،كتاب الٌوم ،ص ٖٙ -٘9
()9
-تارٌخ الكنٌسة القبطٌة ،منسً ٌوحنا ،مكتبة المحبة ،القاهرة ،ص ٖٗ8 -ٖٗ9
(ٓٔ)
-األعبلم قاموس تراجم ،خٌر الدٌن الزركلً ،ج ،8دار العلم للمبلٌٌن ،ص ٕ ،9والخطط المقرٌزٌة ،ج ٖ ،ص ٕٕٗٔٔ٘ -
ٕ7ٙ
حال المحتلٌن والمستوطنٌن وحال معظم المصرٌٌن والد البلد فً صورة األكل ،فٌصؾ أكل األثرٌاء بقوله
إن مما ٌشمله أنواع الدجاج ،وهرٌسة الفستق ،ورؼٌؾ الصٌنٌة وهو خبز محشً وهو نً بلحم الخرفان
والدجاج والبٌض ولحم مدقوق وفستق مهروس واألعشاب العطرٌة والسنبوسك ،ثم ٌوضع فً التنور حتى
ٌنضج الخبز والحشوة.
وعن بقٌة الناس ٌقول" :وأما عوامهم فقلما ٌعرفون شٌبا من ذلك ،وأكثر أؼذٌتهم الصٌر والصحناه
والدلٌنس والجبن والذٌدة ونحو ذلك ،وشرابهم البوظة وهو نبٌذ ٌتخذ من القمح" ،والصحناة والدلٌنس هما
الملوحة وأم الخلول ،كما أشار النتشار أكل السمك والرز فً وجه بحري(ٔٔ).
والفبلحون بجانب الزرع عملوا حٌنها فً الصناعات وبناء المشارٌع العمبلقة ،أحٌانا بالسخرة ،فكانوا
مسخرٌن فً بناء القلعة (قلعة صبلح الدٌن) وأسوار القاهرة(ٕٔ).
أما األجانب فكانوا الٌهود والترك والعربان والفرس والشوام والكرد والروم والمؽاربة فً معظمهم،
ومنهم الوزراء وعلماء الدٌن والمحتسبٌن ،والقضاة ،وأشهرهم القاضً الفاضل والقاضً بن شداد ،كما
عمل األجانب فً الصناعات كالنسٌج واألؼذٌة ،وتركزوا فً القاهرة والفسطاط واإلسكندرٌة(ٖٔ).
واستمر أٌضا الخطؤ فً توصٌؾ كلمة مصري ،فٌذكر ابن شداد رفٌق صبلح الدٌن فً "النوادر
السلطانٌة" جٌش صبلح الدٌن بؤنه "العسكر المصري"(ٗٔ) ،وما كان مصرٌا بل خلٌطا من ممالٌك الترك
مع الكرد والعربان ،وإن كانت نفقته ومبونته من العروق المصرٌة.
بالتؤكٌد لم ٌسحب شٌركوه وصبلح الدٌن ممالٌكهم وعاببلتهم إلى مصر إلنقاذ أهلها من المذهب الشٌعً
أو االحتبلل العبٌدي ،وإنما لبلستحواذ علٌها وإسقاط المذهب المنافس للخبلفة العباسٌة المدٌنٌن لها بالوالء،
ولكن هذه الخطوة جاءت بالفاٌدة فً مصر ألن إلؽاء صبلح الدٌن العمل بالمذهب الشٌعً سنة ٘ٙ9هـ/
ٔ ٔٔ9م ،جمَّد مشروع العبٌدٌٌن إدخال مصر فً سرداب مذهبهم المصطنع ،وإن لم ٌجفؾ صبلح الدٌن
منابع هذه المشروع تماما ،فبقً فً عصره فرق شٌعٌة وافدة مثل اإلمامٌة والزٌدٌة واإلسماعٌلٌة
والنصٌرٌة ،بخبلؾ تشجٌعه الطرق الصوفٌة.
ونصبت األعبلم السود على منابر المساجد ولبس الخطباء اللون األسود ،رمز بنً العباس ،وأسس
(ٔٔ)
-انظر :اإلفادة واالعتبار فً األمور المشاهدة والحوادث المعاٌنة بؤرض مصر ،ط ٕ ،عبد اللطٌؾ البؽدادي ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،ص
،ٕٖٔ -ٔٔ8والمجتمع المصري فً مصر اإلسبلمٌة من الفتح العربً وحتى العصر الفاطمً ،ج ٕ ،مرجع سابق ،ص ٓ8
(ٕٔ)
-الحٌاة االجتماعٌة فً مصر خبلل العصر األٌوبً ( ٙٗ8-٘ٙ9هـٕٔ٘ٓ -ٔٔ9ٔ /م) ،مرجع سابق ،ص ٙ9
(ٖٔ)
-انظر :نفس المرجع ،ص ٖٗ ،ٗ9 -و٘٘
(ٗٔ)
-النوادر السلطانٌة والمحاسن الٌوسٌفٌة ،بهاء الدٌن (ابن شداد) ،تحقٌق محمد محمود صبح ،مطابع دار الكتاب العربً ،ص ٖٗ9
ٕ77
صبلح الدٌن مدرسة لتدرٌس المذهبٌن الشافعً والمالكً ،وعزل قضاة الشٌعة ،وأمر بالدعاء للخلٌفة
العباسً فً خطبة الجمعة محل الخلٌفة العبٌدي ،فكانت هذه إشارة النهاٌة للدولة العبٌدٌة.
كان الخلٌفة العاضد ٌراقب ذلك وهو ٌشعر بقلة الحٌلةٌ ،شاهد ال ُملك الذي شٌده أجداده ٌنهار وٌصٌر
ركاما ،وحلم العبٌدٌٌن بالقضاء على العباسٌٌن ٌنقلب إلى العكس ،فتوفً محسورا ،وانهار االحتبلل العبٌدي
وخرافة إمامهم المهدي بعد حكم ٕٓٔ أعوام(٘ٔ) ،أما االحتبلل األٌوبً فدام ٓ 9سنة ،وهو بذلك من أقصر
االحتبلالت لمصرٌ ،قترب فً مدته االحتبلل اإلنجلٌزي.
واتبع صبلح الدٌن إجراءات شدٌدة لقلع بذرة العبٌدٌٌن من مصر مُلكا ونسبل ،فبعد خطواته المشار إلٌها
فً محو المذهب الشٌعً من أركان الدولة ،استولى على قصور العبٌدٌٌن وفرقها بٌن عابلته التً استدعاها
من الشام ،وبٌن رجاله ،وأخرج منها عابلة الخلٌفة ،وفرَّ ق بٌن رجالها ونسابها كً ال ٌتناسلوا( ،)ٔٙوواجه
صبلح الدٌن تمرد الجنود السودانٌة والتركمان (األتراك) وؼٌرهم من أتباع العبٌدٌٌن ،وأسرة شاور وأسرة
رزٌك ،وحاول عبٌدي اسمه عمارة الٌمنً -قادم من الٌمن التً بث فٌها العبٌدٌون سموم دعوتهم -إحٌاء
الحكم العبٌدي ،وقٌل إنه استقوى بالفرنجة ،وانتهت المعارك بشنق عمارة وعدد كبٌر من أتباعه ،وكً
آخرٌن بالنار فً صدورهم ووجوههم.
وقامت ثورات أخرى ضد األٌوبً منها ثورة رجل ٌدعً الكنز فً الصعٌد ،ووصؾ ابن شداد فً كتابه
"النوادر السلطانٌة" ،حماسة جٌش العادل أخً صبلح الدٌن فً إخماد هذه الثورة رؼم قوتها بؤن هذا
الجٌش "ممن ذاقوا حبلوة الببلد المصرٌة ،وخافوا على فوت ذلك منهم"؛ أي خافوا على ضٌاع حكمها
وخٌراتها من أٌدٌهم ،وهو الحكم الذي لم ٌكونوا ٌحلمون به من سنوات قلٌلة ،فؤخذ الثابرٌن وصلب ٖ آالؾ
منهم بعمابمهم وطٌالسهم على األشجار بحسب وصؾ المقرٌزي.
وهكذا توالت الثورات التً كدرت الحال على صبلح الدٌن ،ولم تهدأ إال بعد أن أخرج الفرنجة من بٌت
المقدس ،فقدمته هذه المعركة كبطل نصر اإلسبلم(.)ٔ9
ولم ٌتضح فً رصدها موقؾ المصرٌٌن منها ،وهل أٌدوا الثابرٌن ضد بنً أٌوب وساعدوهم ،أم
خالفوهم ،أم تركوا األؼراب من الجانبٌن ٌطحنون بعضهم بعضا ،خاصة بعد شدة اإلرهاق الذي أصاب
الرٌؾ من توالً المجاعات والصراعات.
أما ما ٌخص عبلقة االحتبلل األٌوبً بالمصرٌٌن واألجانب الؽٌر مسلمٌن فشاعت إجراءات توصؾ
بالمرونة ،خاصة فً عهد الكامل ،وأخرى بالتشدد موروثة عن عصور سابقة.
(٘ٔ)
-انظر :الخطط المقرٌزٌة ،ج ٖ ،ص ٕٔٔ ،ٔٔٗ -والسلوك لمعرفة دولة الملوك ،المقرٌزي ،تحقٌق سٌد عبد الفتاح عاشور ،دار الكتب والوثابق
القومٌة ،ج ٔ ،ص ٕ٘ٔ ،ووالدولة الفاطمٌة تفسٌر جدٌد ،ص ٖٓ9 -ٕ89
()ٔٙ
-انظر :الخطط المقرٌزٌة ،ج ٔ ،مرجع سابق
()ٔ9
-انظر :قٌام الدولة األٌوبٌة فً مصر والشام ،وفاء محمد علً ،ط ٔ ،دار الفكر العربً ،القاهرة ،ص 9ٗ -ٙ9
ٕ78
فمما أبقوا علٌها من عصور سابقة إلزام المسٌحٌٌن بشكل محدد من المبلبس ،منها أن ٌشد المسٌحً
الزنار على وسطه ،وٌلبس عمامة زرقاء ،وٌعلق الصلٌب على صدره ،والنساء تتبع ألوان محددة أٌضا،
وفً قدمٌها تلبس حذا ًء فً قدم باللون األبٌض والثانً باللون األسود لتمٌٌزها عن المسلمات ،كذلك ٌُحرم
على المسٌحً والٌهود ركوب الخٌل وامتضاء السٌؾ ،وتوضع عبلمات خشبٌة على بٌوتهم لتمٌٌزها عن
بٌوت المسلمٌن ،ولكن هذا كان ال ٌتم دابما ،وإنما حسب مواقؾ وأمزجة الحكام(.)ٔ8
واستبعد صبلح الدٌن الموظفٌن الؽٌر مسلمٌن من الدواوٌن ،ثم عاد وأبقى على بعضهم( ،)ٔ9بحسب
المقرٌزي ،ومنهم ابن مماتً ،ربما خشٌة أن ٌتوقؾ دٌوان العمل ،فٌما أبقى على الكتاب "ال ُؽز" التابعٌن له-
بتعبٌر المقرٌزي -أي الترك فً الدواوٌن -وهو ما ٌعنً تضاإل عدد المصرٌٌن فً الدواوٌن سوا مسلمٌن
أو مسٌحٌٌن ولٌس فقط المسٌحٌٌن -وكلمة ال ُؽز شاعت بٌن الناس ،لوصؾ الترك حتى وقت قرٌب ،ومنها المثل
المصري "آخرة خدمة الؽز علقة" ،داللة على الؽدر المتؤصل فٌهم.
وهكذا ظل المصرٌون -الندرة منهم التً تستطٌع الوصول لمنصب -على جمرة نار وقلقة من أنها ٌمكن أن
ُتطرد فً أي وقت ،وٌحل محلها الدخٌل األجنبً بمجرد أن ٌعقد الحاكم األجنبً ما بٌن حاجبٌه ؼضبا من
المصري ألتفه سبب.
واصل األٌوبٌون مسلسل نهب اآلثار المصرٌة ومحاوالت هدم األهرام الكبٌرة ،وكؤن استنزاؾ آثار
وحضارة مصر وأدلة تمٌزها ٌورثها محتل إلى محتل آخر كما ٌورثه عرش مصر وأموالها.
وإن حصلت اعتداءات وسرقات لآلثار والمقابر فً أزمنة الحكم المصري القدٌم ،إال أن الفرق أنه حٌنها
اعتبرت من الجرابم الكبرىٌ ،خضع أصحابها لحساب عسٌر ،فتكون قلٌلة ،أما فً عصور االحتبلالت
فاعتبر المحتلون والمستوطنون اآلثار ضمن "ؼنابم الحرب واالستٌطان" ،و"مشروعة" رسمٌا ،بل عمل
ٌرصد له األباطرة والخلفاء الجهد والوقت إلنجازه؛ فشاعت بشكل ال ٌستوعبه عقل.
فٌحكً عبد اللطٌؾ البؽدادي فً كتابه "اإلفادة واالعتبار" أن صبلح الدٌن وقراقوش هدما كثٌرا من
األهرام الصؽٌرة ]وهً ؼٌر األهرام الثبلثة الشهٌرة وأهرام زوسر وسنفرو[ الستخدام كسوتها الحجرٌة
فً بناء قلعة الجبل ]قلعة صبلح الدٌن[ وسور القاهرة وقناطر الجٌزة ،وبقً من األهرام المهدومة قلبها
وحشوتها ،وهً ردم وحجارة صؽار ال تصلح للقناطر فتركوها ،وكثٌر منها حالٌا فً الجٌزة(ٕٓ).
سول له هذا "جهلة أصحابه"وسعى الملك العزٌز (ابن صبلح الدٌن) فً أن ٌهدم األهرام الكبٌرة بعد أن َّ
بتعبٌر البؽدادي الذي كان فً مصر حٌنها ،وأضاؾ أن العزٌز بدأ بالهرم الصؽٌر األحمر ،فجمع النقابٌن
()ٔ8
-انظر :الحٌاة االجتماعٌة فً مصر خبلل العصر األٌوبً ،رشا خلٌل علً (ماجستٌر) كلٌة الدراسات العلٌا ،الجامعة األردنٌة ،ص 89 -8ٙ
()ٔ9
-انظر :السلوك لمعرفة دولة الملوك ،المقرٌزي ،تحقٌق محمد عبد القادر عطا ،جٔ ،طا ،دار الكتب العلمٌة ،بٌروت ،ص ٖ٘ٔ
(ٕٓ)
-اإلفادة واالعتبار فً األمور المشاهدة والحوادث المعاٌنة بؤرض مصر ،مرجع سابق ،ص 9ٓ -89
ٕ79
والحجارٌن وجمع عظماء دولته وأمر الصناع بخرابه ،وأقاموا نحو 8أشهر بخٌلهم ورجلهم ٌهدمون كل
ٌوم بعد بذل الجهد حجرا أو حجرٌن ،فإذا سقط الحجر "سُمع له جلبة عظٌمة من مسافة بعٌدة حتى ترجؾ
له الجبال ،وتزلزل األرض ،وٌؽوص فً الرمل" ،فلما طال بهم الوقت وكثرت النفقات "كفوا محسورٌن
مذمومٌن لم ٌنالوا بؽٌة وال بلؽوا ؼاٌة" إال أنهم "شوهوا الهرم" وذلك فً سنة ٖ ٘9هـ.
ولكنه لم ٌوضح لماذا أقدم العزٌز على هذا ،وسؤل مقدم الحجارٌن" :لو بذل لكم ألؾ دٌنار على أن
تردوا حجرا واحدا إلى مكانه هل كان ٌمكنكم ذلك؟ فؤقسم باهلل عالى أنهم لٌعجزون عن ذلك ولو بذل لهم
أضعافه"(ٕٔ).
وؼٌر واضح ماذا ٌقصد بـ"الهرم الصؽٌر األحمر" ،هل هرم منكاورع أم هرم سنفرو المعروؾ حالٌا
بـ"الهرم األحمر" ،وهو فعبل بجانبه اآلن عدة أحجار كؤنها سقطت بفعل زلزال أو بفعل محاوالت ؼٌر
مسبوقة لنزعها منه ،وهذه ثانً مرة ٌرد فٌها اعتداء بهذه الصورة على األهرام الكبٌرة بعد محاولة المؤمون
حٌن جاء لقمع ثورة ٕٔ9ه ،وحاول هدم هرم خوفو ،ونجَّ اه هللا من بٌن ٌدٌه.
وأورد البؽدادي حكاٌات كثٌرة فً كتابه عن جماعات متخصصة فً تخرٌب اآلثار واستخراج جثث
الموتى "المومٌا" وبٌعها فً األسواق لبلستفادة مما بداخلها.
ومما تمٌز به البؽدادي فً وصفه لآلثار أنه لم ٌردد الخرافات التً ذكرها المإرخون والرحالة العرب
القدامى عن األهرام ،بل نظر لها نظرة علمٌة ونسبها لبشر عظماء ،فقال" :فإنك إذا تبحرتها وجدت األذهان
الشرٌفة قد استهلكت فٌها ،والعقول الصافٌة قد أفرؼت علٌها مجهودها ،واألنفس النٌرة قد أفاضت علٌها
أشرؾ م ا عندها ،والملكات الهندسٌة قد أخرجتها إلى الفعل مثبل هً ؼاٌة إمكانها حتى أنها تكاد تحدث عن
قومها ،وتخبر بحالهم ،وتنطق عن علومهم وأذهانهم وتترجم عن سٌرهم"؛ ولذا "صبرت على مر الزمان،
بل على مرها صبر الزمان"(ٕٕ).
(اإلقطاع المملوكً)
ألؽى صبلح الدٌن نظام القبالة (االلتزام) أو (الضمان) وأحل محله اإلقطاع الخراجً الذي اعتاد علٌه
أفراد جٌشه األكراد واألتراك خبلل عمله مع السبلجقة فً الشام ،وعٌرؾ باسم إقطاع الجند ،فوزع مدن
مصر وقراها على عابلته واألمراء والجند وكبار موظفٌه كؤنها ساندوٌتشات أو حلوى توزع فً احتفال
توزٌع الؽنابم ،وٌعنً اإلقطاع أن ٌستلم المقتطع جزء من األرض وٌكون مسبوال عن تحصٌل خراجها،
واإلنفاق منها على بعض الجند وعلى مشارٌع الري الخاصة به ،ثم ٌؤخذ حصته ،فكان األٌوبٌون هم فاتحة
هذا النظام الكبٌب والذي سٌستمر علٌه الحال فً االحتبلل المملوكً على ٌد الممالٌك "تربٌة إٌدٌهم"،
(ٕٔ)
-نفس المرجع ،ص ٗ9٘ -9
(ٕٕ)
-المرجع السابق ،ص ٓ9ٔ -9
ٕٓ8
واستمر نظام الملكٌة الفردٌة إلى جانب اإلقطاعات(ٖٕ).
وبدأ صبلح الدٌن بتوزٌع اإلقطاعات فً مصر منذ كان ناببا عن نور الدٌن ،ففً ٘ ٘ٙهـ ٔٔ9ٓ /م
استقدم والده نجم الدٌن أٌوب من دمشق فؤقطعه اإلسكندرٌة ودمٌاط والبحٌرة ،وكان دخل البحٌرة وحدها
ٓٓٗ ألؾ دٌنار ،وأقطع أخاه شمس الدولة تورانشاه قوص وأسوان وعٌذاب والجٌزة وسمنود ،وأقطع ابن
أخٌه تقً الدٌن عمر بعساكره الخمسمابة البحٌرة والفٌوم والواحات لسد نفقاتهم وأقطع جزٌرة الذهب لضٌاء
الدٌن الشهرزوري(ٕٗ).
أسقط صبلح الدٌن المكوس الثقٌلة الموروثة من العبٌدٌن ،لكن أعاد خلفاإه فرض مكوس جدٌدة ،ومنها
رسوم شد األحباس وشد المعٌن ورسم الجرارٌؾ إلصبلح الترع والجسور ورسوم الحصاد والكٌالة
والخفارة التً توالها البدو العربان وجعلت لهم شوكة وسطوة على الفبلحٌن ببل وجه حق(ٕ٘).
وعاد ثقل آخر على المصرٌٌن لما عادت تسمى والٌة تابعة للخبلفة الخارجٌة ،حٌث قام صبلح الدٌن
باستكمال نقل خٌراتها إلى الخلٌفة العباسً ونور الدٌن محمود فً الخارج ،وعن هذا قال المقرٌزي فً
كتابه "السلوك لمعرفة دولة الملوك"" :وعمت بلوى الضابقة بمصر ألن الذهب والفضة خرجا منها وما
رجعا ،وعدما فلم ٌوجدا ،ولهج الناس بما عمهم من ذلك ،وصاروا إذا قٌل دٌنار أحمر فكؤنما ذكرت حرمة
الؽٌور له ،وإن حصل فً ٌده فكؤنما جاءت بشارة الجنة له(.)ٕٙ
ٌحكً عبد اللطٌؾ البؽدادي فً "اإلفادة واالعتبار" عن مجاعة وقعت لمصر خبلل زٌارته ،حكً عنها
المقرٌزي أٌضا فً "السلوك لمعرفة دولة الملوك" وهً أبشع صور عن مجاعة شهدتها مصر ،لدرجة تهتز
لها األعصاب وٌرتجؾ القلب ،فسبحان من أبقى من ذرٌة المصرٌٌن أحٌاء رؼم كل ما حصلهم من إبادات
بٌد البشر أو الطبٌعة.
فبعد وفاة صبلح الدٌن سنة ٘٘9هـ دبَّ الصراع بٌن ولدٌه الملك العزٌز والملك األفضل وعمهم الملك
العادل استؽرق سنٌن وسط كر وفر بٌن مصر التً ٌحكمها العزٌز والشام التً ٌحكمها األفضل والعادل،
وانتهى األمر بفوز العادل بحكم مصر.
ووسط ؼبار المعارك وانشؽال األٌوبٌٌن بها عن تدبٌر االقتصاد هبط النٌل إلى أقل من ٕٔ ذراعا ،فع َّم
(ٖٕ)
-انظر :الدولة الفاطمٌة تفسٌر جدٌد ،ص ٕٓ٘ ،ٕ٘ٔ -وملكٌة األرض الزراعٌة فً مصر خبلل القرن التاسع عشر ،ص ٔ 8و89
(ٕٗ)
-السلوك فً لمعرفة دولة الملوك ،مرجع سابق ،ج ٔ ،ص ٖ٘ٔ ،والحٌاة االقتصادٌة فً مصر فً العصر األٌوبً ،فوزي خالد علً الطواهٌة،
(دكتوراة) ،الجامعة األردنٌة ،ٕٓٓ8 ،ص 9ٓ -89
(ٕ٘)
-انظر :ملكٌة اإلراضً الزراعٌة فً القرن التاسع عشر ،ص 8ٙ
()ٕٙ
-السلوك لمعرفة دولة الملوك ،مرجع سابق ،ص ٕ٘ٔ
ٕٔ8
القحط والجدب والؽبلء ٖ سنٌن ورا بعض ،وٌقول البؽدادي والمقرٌزي إن أهل الرٌؾ هجروا قراهم إلى
القاهرة ومصر ،ومؤلوا الشوارع ٌتساقطون فً أرجابها وأزقتها موتى ،واشتد بالفقراء الجوع حتى أكلوا
المٌتة والجٌؾ والكبلب والبعر والروث ،وتعدى األمر ذلك إلى أن أكل سكان القاهرة والفسطاط األطفال؛
فكثٌرا ما ٌُعثر علٌهم ومعهم صؽار مشوٌون أو مطبوخون ،فٌؤمر صاحب الشرطة بإحراق الفاعل.
وٌضٌؾ البؽدادي" :ورأٌت صؽٌراً مشوٌا فً قفة ،وقد أُحضر إلى دار الوالً ومعه رجل وامرأة ٌزعُم
ورأٌت صبٌا نحو الرهاق مشوٌا ً وقد أخذ به شابان أقرَّ ا بقتله وشٌِّه
ُ الناس أنهما أبواه فؤمر بإحراقهما...
وأكل بعضه" ،وحكت له سٌدة أنها "بٌنما تمشً على الخلٌج أنقضَّ علٌها رجل جاؾ ٌنازعها ولدها، ِ
فترامت على الولد نحو األرض حتى أدركها فارس وطرده عنها".
وٌتشكك الدكتور عبد الرحمن عبد هللا الشٌخ ،المشرؾ على إصدار طبعة الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب
من كتاب "اإلفادة واالعتبار" ،فً جنسٌة من أشاعوا فكرة أكل لحوم البشر فً مصر ،خاصة وأنها شاعت
أوال فً القاهرة والفسطاط المكتظتٌن باألجانب ،ومنهم القادمون من داخل أفرٌقٌا المعروفة بوجود قباٌل
تؤكل البشر ،واستدل على ذلك بعبارة وردت على لسان البؽدادي أن امرأة "تجرٌة" ضمن من أكلوا لحوم
الناس فً المجاعة ،وقباٌل التجرٌٌن قباٌل سوداء من أطراؾ الحبشة ،ولكن البؽدادي لم ٌهتم بتقصً
أعراق كافة من شاهدهم العتٌاد الرحالة على كثرة األجانب فً القاهرة والفسطاط ،بل كانتا مدٌنتات
لؤلجانب والمصرٌون فٌهما ٌسمون بالؽرباء والرعاع(!)ٕ8
وقد ٌإٌد ما ذهب إلٌه الدكتور عبد الرحمن أن ما حكاه المقرٌزي أٌضا عن خطؾ الناس وأكلهم بعد
قتلهم فً الشدة المستنصرٌة كان ٌجري فً القاهرة المكتظة باألجانب والعبٌد المجلوبٌن من مجاهل أفرٌقٌا
وآسٌا ،فٌما لم ٌورد شٌبا من هذا فً األرٌاؾ على ٌد مصرٌٌن (قبط/فبلحٌن).
كذلك حٌن تحدث "إٌبو ور" عن الصور الموجعة آلثار المجاعة التً ضربت مصر بعد تفكك الحكم
المركزي نهاٌة األسرة ،ٙفإنه على قدر بشاعتها لم ٌورد فٌها أن المصرٌٌن لجؤوا ألكل لحوم البشر.
وٌواصل البؽدادي مشاهداته أنه "وجد بؤطفٌح عند عطار عدة خوابً مملوءة بلحم اآلدمً وعلٌه الماء
والملح فسؤلوه عن علة اتخاذه واالستكثار منه ،فقال :خفت إذا دام الجدب أن ٌهزل الناس ...وكان عند جامع
ٌتخطفون الناس" ،كما شاع نبش القبور وأكل الموتى ،وشاع القتل خصوصا فً طرٌق َّ ابن طولون قوم
()ٕ9
-اإلفادة واالعتبار فً األمور المشاهدة والحوادث المعاٌنة بؤرض مصر ،عبد اللطٌؾ البؽدادي ،مرجع سابق ،ص ٕٖٖٔٔٙ -
()ٕ8
-انظر :المرجع السابق ،ص ٔ9
ٕٕ8
الفٌوم واإلسكندرٌة ( )...ومن كثرة الموتى ال ٌجدون من ٌوراٌهم الثرى ،فبقوا حٌثما ماتوا".
ً
قاطبة ّإال ما شاء هللا، وحٌن ٌنتقل لرصد األرٌاؾ فبل ٌورد شٌبا عن أكل لحوم البشر" :فإنه هلك أهلها
وبعضهم انجلى عنها اللهم إال األمهات والقرى الكبار كقوص واألشمونٌن والمحلة ونحو ذلك ..والقرٌة التً
كانت تشتمل على زهاء ٓٔ آالؾ نسمة تمرُّ علٌها فتراها دمنة وربما وجد فٌها وربما لم ٌوجد ،والفبلح
ٌموت فوق محراثه...وإن المسافر لٌمر بالبلدة فبل ٌجد فٌها ناف ُخ ضرمة وٌجد البٌوت مف َّتحة وأهلها موتى
متقابلٌن ( )...فتجد ساكنً كل دار موتى فٌها الرجل وزوجته وأوالده ،قال :ثم انتقلنا إلى بل ٍد آخر ذكر لنا
أنه كان فٌه أربعمابة د ّكان للحٌاكة فوجدناها كالتً قبلها فً الخراب ،وأن الحابك مٌت وأهله موتى حوله"،
كما ٌقول إنه انعدم الدجاج والبقر والحمٌر ،واستؽل تجار الفرصة فاشتروا الدجاج من الشام بؤسعار زهٌدة
وباعوه فً مصر بؤضعاؾ ،ولما عاد النٌل للزٌادة بعد ٖ سنٌن لم ٌوجد الفبلحٌن واألبقار والثٌران الكافٌة
للزرع ،وإن بعض الناس الذٌن فروا إلى الشام قتلهم من ساعدوهم على الخروج فً الطرٌق(.)ٕ9
فصدق فً المصرٌٌن قول عٌسى بن دأب ،أحد أدباء عصر الخلٌفة الهادي العباسً ،حٌن سؤله أن ٌحكً
له مزاٌا مصر وعٌوبها ،فقال له إن من عٌوب مصر أنها "تمٌر وال تمتار ،فإذا أجدبوا هلكوا"(ٖٓ) ،أي تنقذ
الببلد من المجاعات وال ٌنقذها أحد.
وهو تمجٌد ال نرمً به الفبلحٌن المصرٌٌن وقتها ،ولم ٌظهر فً ذلك العصر بقدر ما ظهر فً العصور
الحدٌثة ،بل إن أكثر صناعه لٌسوا بمصرٌٌن بل شخصٌات عربٌة وكردٌة ،ولكن استسلم بعض المتعلمٌن
لفكرة أنه مدام من ٌحتل ببلدي ٌشترك معً فً اللؽة أو الدٌن "فؤهبل مرحب" ،وإن استباح أرضً وجعلنً
فً الدرك األسفل أو مذلوال وكؤقل من العبٌد و"كل األجناس".
حظً صبلح الدٌن األٌوبً بتقدٌر بٌن المسلمٌن ألنه حقق أكبر نصر على الفرنجة فً عصره ،وساهم
فً هذا بكتبهم معاصرو األٌوبٌٌن مثل وزٌره القاضً الفاضل ومإرخه ابن شداد ،ولكن لم ٌقفز لدابرة
األسطورة مثلما قفز مع بروز التنظٌمات العالمٌة الساعٌة إلعادة نظام الخبلفة اإلسبلمٌة فً القرن ٕٓ،
وتحبٌب المسلمٌن فٌها ،وتقدٌمها مخلصا لهم من االحتبلل األوروبً ،مثل تنظٌم اإلخوان المسلمٌن
والجماعات السلفٌة ،ولمحاربة الروح القومٌة الوطنٌة التحرٌرٌة التً شاعت فً مصر وؼٌرها ضد
الخبلفة العثمانلٌة وتركٌا وأي احتبلل آخر ،كذلك بالػ فً تمجٌده بعض صناع القومٌة العربٌة -حتى أنهم
قدموه عربٌا أكثر منه كردٌا -كرمز لقضٌة فلسطٌن -ثم انزلق مصرٌون فً تمجٌده كـ"بطل محرر" فً
فٌلم السٌما الشهٌر "الناصر صبلح الدٌن" ،ولم ٌكن معظم المصرٌٌن ٌعرفونه قبل هذا الفٌلم.
والفكرة فٌما ٌخص مصر ،أنه إن كان إزاحة ٌد الفرنجة عن مصر أو القدس أمرا طٌبا للمصرٌٌن
()ٕ9
-المرجع السابق ،ص ٔٗٔ -ٖٔ8
(ٖٓ)
-مروج الذهب ومعادن الجوهر ،أبو الحسن علً المسعودي ،ج ٕ ،طٔ ،ص ٕٗ9
ٖٕ8
لوجود مقدسات دٌنٌة فٌها ،فبالتؤكٌد إزاحة المحتل األجنبً (أٌا كان دٌنه) عن مصر نفسها أمر أطٌب وأكثر
أولوٌة ،فما معنى أن ٌؤتً شخص ٌسترد القدس من الفرنجة فً حٌن ٌضع ٌدٌه وقدمٌه فوق بلدي؟
وٌحكمنً بما ٌوافق مصالح عشٌرته ومرتزقته وخلٌفته ولٌس مصلحة الشعب المصري المكدود؟
إن صبلح الدٌن -مثله مثل قسطنطٌن الرومانً حٌن اعترؾ بالمسٌحٌة ،وتٌودٌوس الرومانً حٌن أوقؾ
اضطهاد المسٌحٌٌن فً مصر ،أو عمرو بن العاص حٌن أزاح الرومان عن مصر ،وؼٌرهم من حكام
أجانب وفاتحٌن ،لم ٌقدموا للمصرٌٌن حرٌة بلدهم فً المقابل ،لم ٌتركوها لهم ٌدٌرونها ،لم ٌتركوا لهم
ثروتها ،لم ٌعٌدوهم فٌها أسٌادا على كل أجنبً ،بل جعلوا كل أجنبً سٌدا علٌهم ،بما فٌهم العبٌد والجواري،
فما أزاحوا احتبلال إال لٌحلوا محله بؤسالٌب معظمها ال ٌختلؾ عن اآلخر.
وهل ٌصح أن ٌقبل المصرٌون مثبل أن تحرر إٌران أو تركٌا أو العراق مثبل القدس وتحتل مصر؟
وٌستبٌحوا بمٌلٌشٌاتهم وأجناسهم وتكبرهم أرض مصر وأهل مصر ،وتؤتً أجٌال تسخر أموالنا وسٌاسٌٌنا
وفنانٌنا لصنع أفبلم سٌما تخلد "الخمٌنً" ،و"أردوؼان" كـ"أبطال محررٌن" لمصر ....المنكوبة!
حابً:
دٌون:
(ٖٔ)
-مصرع كلٌوباترة ،أحمد شوقً ،مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة ،القاهرة ،ص ٓٔ
ٕٗ8
حكموكى ما حكموكى
"لعنك هللا ،ولعن الٌسرجً الذي جاء بك ،ومن باعك ،ومن اشتراك ،ومن جعلك أمٌرا"(ٕ)
(ٔ)
-مقدمة مسلسل "علً الزٌبق" ،كلمات :عبدالرحمن األبنودى ،ألحان :إبراهٌم رجب ،ؼناء :المجموعة
(ٕ)
-الشٌخ األزهري علً الصعٌدي لؤلمٌر المملوكً ٌوسؾ بٌك نابب محمد أبو الدهب فً نهاٌة القرن ،ٔ8عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار ،عبد
الرحمن الجبرتً ،تحقٌق عبد العزٌز جمال الدٌن ،الجزءٕ ،الهٌبة العامة لقصور الثقافة ،القاهرة ،ٕٕٓٔ ،ص ٘88
المشهد ٗٔ :االحتالل المملوكً
بدأ االحتبلل المملوكً الثانً لمصر -لو اعتبرنا أن الحكم الطولونً واإلخشٌدي والكافوري هو أول
حكم الممالٌك -بتولٌة عز الدٌن أٌبك حكم مصر بعد زواجه بشجرة الدر التً تآمرت على قتله فتسلم الحكم
تلمٌذه قطز لٌقتله زمٌله بٌبرس البندقداري ،وٌواصلوا دوامة الدماء واالؼتٌاالت التً ٌعتبرونها عنوان
بطولتهم و"فروسٌتهم".
فدستورهم هو أن العرش لصاحب السٌؾ المقطر بدماء زمبلبه ،وؼاٌتهم فً الحٌاة القفز قبل اآلخر
للعرش ،ولٌس مثلهم من طبَّق مبدأ "الؽاٌة تبرر الوسٌلة" دون أن ٌرمش لهم جفن ،وهو ما سٌكون له أقبح
األثر فً حٌاة المصرٌٌن حتى الوقت الحاضر.
فبعد مقتل قطز على ٌد زمٌله بٌبرس فً طرٌق عودتهم من حرب التتار ،وصل الممالٌك إلى الصالحٌة
شرق القاهرة ،وٌروي المقرٌزي فً "السلوك لمعرفة دول الملوك" ،أن األمٌر أقطاي المستعرب األتابك
قال لؤلمراء عند حضورهم" :من قتله منكم؟" فقال بٌبرس" :أنا قتلته" ،فقال أقطايٌ" :ا خوند! اجلس فً
مرتبة السلطنة مكانه" ،فجلس بٌبرس وباٌعه أقطاي وحلؾ له وتبعه بقٌة الممالٌك(ٖ) ...هكذا ،حتى دون
سإاله لماذا قتلته وهو المنتصر على التتار ومُنقذ الممالٌك أنفسهم من الفناء!
وٌزول العجب إذا ما عُرؾ أن قطز وبٌبرس كانا فً سباق على من ٌقتل اآلخر ،خاصة وأن االثنٌن
ٌنتمٌان لفرقتٌن من الممالٌك أعداء لبعضهما ،فٌنتمً قطز لفرقة المعز أٌبك ،وبٌبرس لفرقة فارس الدٌن
أقطاي ،وشارك قطز فً قتل أقطاي بقلعة الجبل رؼم أن أقطاي أنقذ الممالٌك من هجوم تحالؾ القباٌل
العربٌة علٌهم لمجرد أن شؤنه عبل فوق شؤن أمٌره أٌبك ،فٌنقل المقرٌزي أنه لما استدعى أٌبك األمٌر
أقطاي بخدعة إلى القلعة" :أؼلق باب القلعة ،ومُنع ممالٌكه من العبور معه ،فخرج علٌه جماعة بالدهلٌز قد
أُعِ دوا لقتله :وهم قطز وبهادر وسنجر الؽنمً ،فهبروه بالسٌوؾ حتى مات"(ٗ) ،فلٌس بعجٌب أن ٌقتل
بٌبرس قطز ؼدرا كما قتل قطز أمٌره أقطاي ؼدرا ،خاصة لما رأى بٌبرس أن شؤن قطر عبل فوقه ،وكما
سٌقتل الممالٌك بن قبلوون أٌضا رؼم انتصاره على الفرنجة.
(ٖ)
- -السلوك لمعرفة دولة الملوك ،تقً الدٌن المقرٌزي ،ج ٔ ،تحقٌق سٌد عبد الفتاح عاشور ،مرجع سابق ،ٔ99ٕ ،ص ٕٓ٘
(ٗ)
-السلوك لمعرفة دول الملوك ،تقً الدٌن المقرٌزي ،ج ٔ ،ص ٖٗ8
ٕ8ٙ
و صنؾ مإرخون بٌبرس على أن من أفضل الحكام الممالٌك ،فكان أنه خفؾ الضراٌب التً فرضها من
قبله ،واهتم بمشارٌع الري وكري الترع ،إضافة لبلهتمام المملوكً المعروؾ ببناء المساجد والمدارس
الدٌنٌة ،وخاض معارك مع الفرنجة "الصلٌبٌٌن" والمؽول كان النصر حلٌفه فً معظمها ،وأعاد تشؽٌل
الجامع األزهر بعد أن تعطل ٓٓٔ سنة منذ سقوط العبٌدٌٌن(٘).
لكنه ال ٌتوانى عن الؽدر واالستهانة باألرواح واألنفس -كطبٌعة جنسه -مثلما فعل مع قطز ،ومع الخلٌفة
العباسً المستنصر لما تركه للمؽول خشٌة أن ٌطمع فً مصر ،وما فعله بمؽٌث األٌوبً ،حاكم الكرك
بالشام ،بؤن تركه ٌموت جوعا فً القاهرة بعد أن أعطاه المواثٌق واألٌمان المؽلظة على أن ٌعطٌه األمان
إذا جاءه( ،)ٙووصفه شمس الدٌن الذهبً بقوله" :كان الملك الظاهر نعم الملك ،لوال ما كان فٌه من الظلم
وأخذ أموال الرعٌة بؽٌر الحق"(.)9
وٌجٌب على هذا المقرٌزي حٌن أفتى علماء بحرمة التدرٌس والصبلة فً المدرسة المنصورٌة ألن
َّ
وسخر الصناع بالقهر فً بنابها وهدم قلعة السلطان المملوكً قبلوون أخذ أرضها ؼصبا من أسرة أٌوبٌة
الروضة التً بناها األٌوبٌون لٌبنً بؤعمدتها المدرسة ،فقال المقرٌزي إن ما فعله قبلوون من ظلم وؼصب
هو نفس ما فعله األٌوبٌون ،فإنه "ما القوم إال سارق من سارق ،وؼاصب من ؼاصب" ،وأما عن "عسؾ
العمال وتسخٌر الرجال ...باهلل عرفنً ،فمن منهم لم ٌسلك فً أعماله هذا السبٌل؟؟ ؼٌر أن بعضهم أظلم
من بعض(.")8
تكون الجٌش أٌام االحتبلل المملوكً من الممالٌك فقط ؼالب الوقت ،فهم فقط من ٌُسمح له بصفة
"الفرسان" ،وحٌن تشتد الحروب بٌن الممالٌك ٌلجؤ بعضهم لؤلعراب -كونهم الجالٌة األكثر تسلٌحا بعد
الممالٌك وتملك الخٌول والجمال -لٌحاربوا مع عصابة مملوكٌة ضد العصابة المملوكٌة األخرى ،أو
ٌستعٌنون بهم أحٌانا حٌن ٌهجم على البلد ؼزو جدٌد ،وهو ما انعكس علٌهم باالبتزاز من األعراب ،فكانت
تتحول الحرب إلى ما بٌن الممالٌك وبٌنهم.
وفً حال تعرض الببلد لؽزو خارجً تعدى بالفعل حدود البلد ٌلجؤون أٌضا لبقٌة السكان ،سواء
المصرٌٌن الفبلحٌن أو الجالٌات ،كمقاومة شعبٌة لصد الؽزو كما حدث فً صد حملة الفرنجة "الصلٌبٌة"
على دمٌاط والمنصورة ،بخبلؾ استخدامهم للصناٌعٌة فً إنشاء وتدبٌر أمور القبلع والحصون وؼٌرها.
(٘)
-بدابع الزهور فً وقابع الدهور ،محمد بن إٌاس الحنفً ،تحقٌق محمد مصطفى ،ط ٕ ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،ص ٕٖٔ
()ٙ
-انظر :تارٌخ دولة الممالٌك فً مصر ،ولٌم موٌر ،مرجع سابق ،ص ٘ٓ -ٗ9
()9
-بدابع الزهور فً وقابع الدهور ،مرجع سابق ،ص ٖٖ9 -ٖٖٙ
()8
-الخطط المقرٌزٌة ،ج ٖ ،مرجع سابق ،ص ٕٓ٘٘٘٘ -
ٕ87
نقش ألمنحتب الثانً ٌتدرب على الرماٌة (موسوعة سلٌم حسن جٗ) ورسم لمملوك ٌتدرب على الرماٌة (مجهول المصدر) ،فحٌن تساهلت أجٌال
سابقة فً تسلٌم السبلح لجنود أجانب من المستوطنٌن تلقؾ السهم كل هكسوسً لٌحكم مصر وٌرمٌها به
(تؽٌٌر القناع)
أتاح طول الفترة التً احتل فٌها الممالٌك مصر (حوالً ٖٓٓ سنة منفردٌن عسكرٌا ثم ٖٓٓ باالشتراك
مع العثمانلٌة) فً رسم مبلمح قناع تركً زحزح القناع العربً إلى حد ما عن وجه العاصمة ،فرؼم
استمرار العربٌة اللؽة الرسمٌة -قبل أن تكون التركٌة هً لؽة الدواوٌن أٌام االحتبلل العثمانلً -إال أن
الممالٌك ٌتكلمون مع بعضهم بالتركٌة ،وٌعٌشون بطابع العنؾ والصراع التركً ،وانتشرت ألفاظ وألقاب
تركٌة ومؽولٌة قحة أو مؤخوذة عن الفارسٌة فً المعامبلت الرسمٌة والتجارٌة وأسامً األدوات واألكبلت
واألشخاص وؼٌرها لتمتزج بوضوح بما بقى من اللؽة المصرٌة وباللؽة العربٌة ،مثل كلمات أستاذ ،أؼا،
أسطول ،حرافٌش ،أالطٌش ،أوضة ،أورطة ،بازار ،بقشٌش ،البلص ،تختروان ،شاوٌش ،بكباشً ،خواجا،
خازندار ،سلحدار ،شادر ،طبنجة ،9والمبلبس المزركشة الملونة المناسبة لبطون آسٌا تدل على أصولهم.
إال أنه ال ٌوجد ممالٌك ظلوا ٌعٌشون فً مصر طوٌبل ،فمعظمهم ٌفنون فً الحروب الطاحنة بٌنهم ،أو
ٌنفٌهم السلطان المملوكً الجدٌد ،أو ٌهربون منه إلى الشام أو السودان وؼٌر ذلك ،وٌُجلب ؼٌرهم صؽارا،
وال ٌتزوجون إال من الجواري الترك والشركس ،وقلٌل منهم ٌحبذ اإلنجاب.
وح َّل الممالٌك محل األٌوبٌٌن لٌكونوا الطبقة األولى ،والطبقة التالٌة هً الجالٌات األجنبٌة المشكلة وقتها
من عرب وشوام ومؽاربة وٌهود وأروام وفرس والسود (من السودان والحبشة) ،وظلت كل جالٌة معروفة
أصلها فً الوجوه والمبلبس واألسماء واللهجات والمهن ،واحتكرت مناصب القضاة ومشاٌخ األزهر
وشٌوخ الطوابؾ المهنٌة والتجارٌة واستمروا لفترة ٌحتكرون منصب شٌخ القرٌة ،باإلضافة الحتكار
السٌطرة على األرض ،والطبقة الثالثة هً الجواري والعبٌد الذٌن تتملكهم الطبقتان األولتان.
-9لممزيد عن ىذه األلفاظ واأللقاب انظر :معجم األلفاظ التاريخية في العصر الممموكي ،محمد أحمد دىمان ،دار الفكر ،ط ،1دمشق1991 ،
ٕ88
أما المصرٌون الحقٌقون (الفبلحون) فٌشكلون الؽلبة فً العدد ،ولكن تصنفهم الطبقات السابقة كؤقل ناس
فً البلد مكانة ،وٌعلو علٌهم فً الثروة والنفوذ الجواري والرقٌق ،وال ٌتزاوج المصرٌون بهذه الجالٌات
والطبقات إال نادرا ،فظل لهذا السبب الدم المصري نقٌا فً عروق معظمهم.
وعلى هذا الوصؾ ظلت مصر مثل بقٌة عصور االحتبلل ،مقسمة الثنٌن ،الول شعب أصلً بلون
واحد ،والثانً مجتمع برَّ انً متعدد األلوان والراٌات ،األول صاحب البلد ،نسٌج واحد متآلؾ "السواد
األعظم"(ٓٔ) ،معظمهم محجوبون فً األرٌاؾ ،وقلٌل فً حارات المدن ،والثانً مجتمع أجنبً مقسم
لطبقات تعٌش فً المدن وحواؾ بعض القرى ،منفصلة عن بعضها ،لكل منها منطقة أو حارة تسمى
باسمها ،وال ٌحدث االختبلط بٌن األعراق األجنبٌة إال فً الشوارع والمساجد والمعامبلت التجارٌة ،وهذا
المجتمع الخلٌط هو الذي ٌتقافز فً كل صفحات كتب التارٌخ المعاصرة لذلك الوقت ،وأكثر من ٌرصد
حالهم الرحالة والمإرخون وٌقدمونهم على أنهم "المصرٌون" ،وقلٌل ما ٌُرصد حال المصرٌٌن الحقٌقٌٌن
الذٌن سموهم فقط بالفبلحٌن وأهل الرٌؾ والقبط.
ورسمٌا ،ظلت القاهرة ومصر القدٌمة شبه محرمة على المصرٌٌن ،إال لو احتاجهم سكان القاهرة
والحكام األجانب فً مصالح كالبناء والحفر وبٌع سلع األرٌاؾ ووظابؾ الدٌوان ،وبخبلؾ ذلك ؼٌر
مُرحب بهم ،ورؼم ذلك لما كان الضٌق ٌبلػ آخره بالفبلحٌن فً القرى خبلل المجاعات أو ضؽط الجباٌة
وعنؾ الممالٌك والعربان ٌطفش بعضهم إلى القاهرة وٌتحاٌل للبقاء ،وٌسمٌهم الحكام والمستوطنون
بـ"الؽرباء" ،و"العامة" ،و"الزعر" و"الحرافٌش" ،وكل فترة ٌسعون إلخراجهم.
وعنهم قال المقرٌزي فً كتابه "السلوك لمعرفة دول الملوك" ،إنه فً سنة 8ٕ9ه "نودي بخروج أهل
الرٌؾ من القاهرة ومصر (أي الفسطاط) إلى ببلدهم ،فلم ٌُعمل بذلك"(ٔٔ) ،وهذا فً وقت كانت المدٌنتان
مفتوحتان لؤلجانب من كل جنس.
جنس
ِ حالل للطٌر من كل أحرام على بالبله الدوح
رجس
ِ خبٌث من المذاهب كل دار أحق باألهل إال فً
ومع اهتمام المإرخٌن المعاصرٌن لذلك الزمن برصد مبلبس األفراد فً المدن الكبرى ،وظهر أنها تنوعت
بشكل مبالػ فٌه ،حتى أصبح من السهل على أي زابر للقاهرة أن ٌحكم على الشخص وحرفته ودٌانته
وطبقته االجتماعٌة وبلده األصلً من مبلبسه ،وٌنقل د .سعٌد عاشور أستاذ تارٌخ العصور الوسطى عن
كتب ذلك العصر أن موفد من تٌمولنك للسلطان برقوق أخذ ٌنظر إلى الناس فً شوارع القاهرة فلقً أقواما
وخلقا كثٌرا مختلفً الهٌبات والملبوس فسؤل عنهم فسموا له كل طابفة فتعجب من ذلك وقال" :نحن فً
ببلدنا ملبوس السلطان واألمٌر والخدم والفبلحٌن هٌبة واحدة" ،أما عن مبلبس القرى فبل ٌستبعد عاشور أن
(ٓٔ)
-انظر :المجتمع المصري فً عصر سبلطٌن الممالٌك ،د .سعٌد عبد الفتاح عاشور ،دار النهضة العربٌة ،ٔ99ٕ ،ص ٘ٙ
(ٔٔ)
-السلوك لمعرفة دولة الملوك ،تقً الدٌن المقرٌزي ،جٗ قٕ ،تحقٌق سعٌد عبد الفتاح عاشور ،دار الكتب ،القاهرة ،ص ٕٙ9
ٕ89
تكون هً ما علٌه فً عصور الحقة ،وهً اللبدة فوق رأسه والجبلبٌة الزرقاءٕٔ ،خاصة وأن الممالٌك ومن
بعدهم العثمانلٌة والقبابل العربٌة على الحدود ترفض أن ٌرتدي الفبلح مبلبسهم معتبرٌن أنها نوع من
"التفوق" و"التمٌز"ٌ ،تعالون بها علٌه كما ٌتعالون ..بالنهب والسٌؾ.
الزي األشير لمفالح المصري (الكيمتي) طوال تاريخو حتى اليوم ،والطاقية كأنيا حمت محل الباروكة المصرية القديمة لحماية رأسو من الشمس واألتربة،
فمم ير ِتد الزي اليوناني ولروماني وال العقال والزي العربي وال التركي إال ندرة ممن تعمموا أو عمموا في الحكومة (مصدر الصورة الممتقطة نياية القرن 19
موقع )Gettyimage
وٌرجع باحثون ارتداء الفبلح للجبلبٌة إلى تؤثره بمبلبس العرب الفضفاضة أوإلى القمٌص الرومانً
والٌونانً ،إال أن النقوش المصرٌة القدٌمة تظهر أن الجبلبٌة الفبلحً التً نعرفها الٌوم ،الفضفاضة فً
أسفلها ،سواء ذات األكمام الواسعة أو األكمام الضٌقة ،والقصٌرة أو الطوٌلة ،ارتداها األجداد أٌضا ،ولم
تكن جدٌدة على الفبلح.
مبلبس المصرٌٌن بداٌة من األسرة ٔ9وفٌها عناصر الجبلبٌة الفبلحً الحالٌة (المناظر الثبلثة من ٌمٌن الناظر إلى الٌسار :نقش لرجل ٌسمى سوبك
حتب من األسرة ٔ8موجود بالمتحؾ البرٌطانً ،مقبرة كنرو األسرة ،ٔ9مقبرة أمون إم ونٌت األسرة )ٔ9
ٕٔ -المجتمع المصري فً عصر سبلطٌن الممالٌك ،مرجع سابق ،ص ٖٕٕٖٔ9 -
ٕٓ9
وعن حال اللؽة المصرٌة ،فإنها عفٌة فً بعض األماكن فً مصر ،وخاصة الوجه القبلً ،فٌقول
المقرٌزي فً كتابه "الخطط" الذي كتبه فً القرن ٘ٔ المٌبلدي ،أي نهاٌة االحتبلل المملوكً ،عن أدٌرة
درنكة فً أسٌوط ":واألؼلب على نصارى هذه األدٌرة معرفة القبطً الصعٌدي ،وهو أصل اللؽة القبطٌة،
وبعدها اللؽة ال قبطٌة البحرٌة ،ونساء نصارى الصعٌد وأوالدهم ال ٌكادون ٌتكلمون إال بالقبطٌة الصعٌدٌة،
ولهم أٌضا معرفة تامة باللؽة الرومٌة ]الٌونانٌة["ٖٔ.
ؼٌر أن كثرة المعارك والصراعات أٌام الممالٌك ومن قبلهم نجم عنه حرق وهدم عدد كبٌر من عمارة
مصر ،ومنها األدٌر والكنابس ،فضاعت كنوز من المخطوطات القبطٌة ،وقلت فرص انتشار وثبات
اللؽةٗٔ ،إضافة إلى أن ذلك العصر شهد تزاٌدا فً دخول المصرٌٌن لئلسبلم طوعا أو كرها ،وترتب علٌه
تحدثهم بالعربٌة باعتبارها مظهر من مظاهر اإلسبلم وقتها ،وذلك بالرؼم من أن الممالٌك أنفسهم احتفظوا
بلؽتهم وظلوا ٌتحدثون معظم الوقت بالتركٌة.
ومع هذا سعى مصرٌون للتحوٌط على لؽتهم قبل سرسبتها من بٌن إٌدٌهم بعمل قوامٌس وكتب لتعلٌم
اللؽة المصرٌة وحفظ كلماتها ،فصدرت مإلفات بالعربٌة تشرح قواعد اللؽة القبطٌة اسمها "مقدمات" ،وفً
القرن ٖٔ كتب أبو إسحق بن العسال "السلم المقفً والذهب المصفً" ،وهو قاموس هجابً للؽة ،وأخوه أبو
الفرج بن العسال كتب "قواعد اللؽة القبطٌة" ،وفً القرن ٗٔ كتب القس أبو البركات قاموس "السلم الكبٌر"
للكلمات القبطٌة وما ٌقابلها بالعربٌة ،وكتب األنباء أثناسٌوس أسقؾ قوص "قبلدة التحرٌر فً علم التفسٌر"
وهو مقدمة باللهجة البحٌرٌة وأخرى بالصعٌدٌة.
والقدٌس برسوم العرٌان الذي تنٌح (توفً) سنة ٖٔٔ9م كتب المصرٌون سٌرته بالقبطٌة الصعٌدٌة،
وعُثر على قصٌدة شعرٌة طوٌلة بالقبطٌة الصعٌدٌة سنة م ٕٕٖٔ مع ترجمة لها بالعربٌة٘ٔ.
ورؼم ذلك ترسخت فً هذه الفترة بوضوح ما نصفه اآلن بـ"اللهجة أو اللؽة القاهرٌة أو المصرٌة
الدارجة التً ظهرت بوادرها وقت االحتبلل العبٌدي واألٌوبً ،وهً مزٌج من الكلمات المصرٌة والعربٌة
مع تؤثٌرات تركٌة وفارسٌة ،وانتشر شعر بهذه الشكل الجدٌد الممٌز للؽة ،وٌتضح هذا فً قول أحد شعراء
ذلك العصر:
ٔٙ
ٌا مشؽول بهم الناس همك لٌه خلٌته
ٕٔ9
وانتشرت فً ذلك العصر أمثلة ما زالت حتى اآلن ،وردت فً مخطوطة شرؾ الدٌن بن أسد المصري،
وٌقول د .إبراهٌم شعبلن المتخصص فً األدب الشعبً إنها تعود إلى صدر الحكم المملوكً ،ومنها" :على
عٌنك ٌا تاجر"" ،الحٌطان لها ودان"" ،نواٌة تسند الزٌر"ٌ" ،اكل وٌتنقور"" ،نقبه طلع على شونة"،ٔ9
وٌظهر فٌها بوضوح اللؽة المصرٌة كما ننطقها اآلن.
وبرز فً دنٌا العلم والمناصب من المصرٌٌن المفضل المصري ابن أبً الفضابل ،صاحب "كتاب النهج
السدٌد والدر الفرٌد فٌما بعد تارٌخ ابن العمٌد" ،روى فٌه تارٌخ الممالٌك من عهد بٌبرس إلً الناصر بن
قبلوون ،واألنبا ٌوساب صاحب كتاب "تارٌخ اآلباء البطاركة" ،وابن الراهب صاحب كتاب "التوارٌخ"،
وعبد الكرٌم بن هبة هللا بن السدٌد المصري الشهٌر بؤبو الفضابل ووصل لمنصب مدبر دولة الناصر
قبلوون ،وٌبلحظ أن أكثرهم من المصرٌٌن المسٌحٌٌن لسهولة اتصالهم بالدواوٌن ،وؼٌروا أسامٌهم للعربٌة
على النمط واأللقاب السابدة.
فً كتابه القٌم "تراث العبٌد فً حكم مصر المعاصرة" حول تؤثٌر حكم الممالٌك وصفاتهم على سلوكٌات
المصرٌٌن حالٌا ٌقول صاحبه الذي وقعه بإمضاء (دكتور ع.ع) إنه لم ٌحدث أن حكم العبٌد شعبا حرا إال
فً مصر وبعض الدول اإلسبلمٌة األخرى كالشام والعراق ،فتفردوا بهذا النظام الؽرٌب "الرقٌق حاكم
ألحرار" ،أو "الرقٌق مسترق األحرار" فً حٌن أن العبٌد فً أمرٌكا وأوروبا مثبل ٌكلفون باألعمال الشاقة،
()ٔ8
ومقامهم فً مرتبة وضٌعة ،بل إن العبد المملوك فً مصر والشام ٌؤبى أن ٌكون حاكمه حرا !
وإن كان استمرار الصراعات الطابفٌة والعرقٌة بٌن الشوام مثبل وعدم تمتعهم فً تارٌخهم القدٌم بدولة
وطنٌة حقٌقٌة هو السبب فً انحدارهم إلى هذا المصٌر ،فما هو سبب انحدار مصر صاحبة الشعب الواحد
المتحاب المتعاون ،العاشق لبلده وحرٌته؟
ٌبدو أن التهاون فً مراجعة التارٌخ مع ترك الحدود مفتوحة أمام الجمٌع واالستٌطان للجمٌع ال ٌقل فً
خطره على الدولة مهما كان شعبها واحدا ومتماسكا عن خطر الصراع والتقاتل فً شعوب أخرى ،فكبلهما
منفذ للمحتل لٌسلك طرٌقه وٌعتلً رءوس أهل البلد ..حتى وإن كان المحتل عبدا مملوكا ..فقد نامت عن
مصر نواطرها (حراسها).
أو خانه فله فـً مصـر تمهٌـد أكلما اؼتال عبـد السـوء سٌـده
ٕٕ9
فالحر مستعبد والعبد معبــود صار الخصً إمـام اآلبقٌن بها
()ٔ9
فقد بشمن وما تفنى العناقٌـــد نامت نواطٌر مصر عن ثعالبها
إن كانت االحتبلالت السابقة اعتمدت على المرتزقة فً حكم مصر ،فمؤلوا األرض فسادا ودما َء ،فإن
حكم الممالٌك هو أن المرتزقة أنفسهم وزعماء الملٌشٌات هم من ٌصبحون سبلطٌن.
فلكل أمٌر مملوكً ملٌشٌا خاصة ٌكونها هو بؤن ٌشتري الممالٌك صؽار السن (عرفوا باسم الترابٌة)،
وٌربٌهم على الوالء الخاص له ال للدولة وال السلطان ،وٌكونوا عدته فً التخلص من أي مٌلٌشٌا أخرى
تسعى للتقلٌل من نفوذه ،وعدته فً القفز إلى كرسً السلطان حٌن تحٌن الفرصة.
وعلى هذا وجد فً االحتبلل المملوكً ما سُمً بـ"الممالٌك المعزٌة" ،أي الموالٌن لؤلمٌر معز الدٌن
أٌبك ،والممالٌك القاسمٌة نسبة لزعٌمهم قاسم ،والفقارٌة نسبة لزعٌمهم ذو الفقار إلخ.
وال تتحد ملٌشٌات الممالٌك إال فً استثناء واحد إذا ما واجهت ؼزوا قادما من الخارج فٌخشون أن ٌطٌح
بهم أجمعٌن ،فٌتحدون ضده فً لحظة حتى ٌهزمونه ،وقبل أن تجؾ دماء المعركة ٌؽرقون الببلد بدماءهم
هم فً حرب االستحواذ على الحكم بعد النصر ،فٌقتلون السلطان المنتصر وٌبددون شمل ممالٌكه إن
استطاعوا حتى ال ٌعلو شؤنهم فوق بقٌة الممالٌك ،كما فعلوا مع قطز وقبلوون وعلً بك الكبٌر ،ولذا فإن
صاحب كتاب "تراث العبٌد فً حكم مصر المعاصرة" فً تحلٌله للقبابح التً تركها حكم الممالٌك الطوٌل
على الشخصٌة المصرٌةٌ ،رى أن التآمر على الناجحٌن الذي ٌلوث بعض النفوس والجماعات حالٌا هو
نتٌجة من نتاٌج حكم الممالٌك الطوٌل.
وٌضرب أمثلة على ذلك بؤن انقبلب تنظٌم اإلخوان المسلمٌن على الربٌس جمال عبد الناصر رؼم أنه
حقق مطالب الشعب ،والتً كان ٌتحدث عنها اإلخوان أنفسهم قبل ثورة ٕ٘ ،ٔ9ومحاولة اؼتٌاله وهو
منتصر عقب توقٌعه اتفاقٌة الجبلء مع اإلنجلٌز ،واؼتٌال الربٌس السادات على ٌد تنظٌم "الجهاد" فً ٌوم
االحتفال بالنصر على إسرابٌل ،هو حالة مملوكٌة ،مثلها مثل قتل بٌبرس لقطز فور فوزه على التتار ،وقتل
الممالٌك لسلطانهم خلٌل قبلوون بعد عودته منتصرا على الصلٌبٌٌن فً عكا ٓ ٙ9ه ،حتى أنهم وضعوا
السٌؾ فً دبره ضمن توحشهم المشهور فً التعذٌب واإلهانة حتى فً سكرات الموت وبعد الموت ،وقال
إن حتى عمل الملٌشٌات فً صورة الجماعات اإلرهابٌة المسلحة هو أٌضا تراث مملوكً.
ورأى أن انتشار الشلل و"الرُ بطٌات" داخل الحكومة ٌستقوي بها مسبول ضد مسبول أحٌانا هً أٌضا
"تراث مملوكً" ،وصورة من صور العصابات التً ٌجمعها كل مملوك حوله ٌستقوي بها على منافسٌه.
()ٔ9
-نواطرها أي حراس أرضها ومكانتها ،والثعالب هم اللصوص ،وبشمن أي عبؤوا من كنوزها حتى الثمالة ،وما تفنى العناقٌد أي خٌر مصر ال
ٌفنى فتظل الثعالب حابمة حوله ،انظر " :مع المتنبً" ،طه حسٌن ،مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة ،القاهرة ،ص ٕٗ8٘ -ٕ8
ٖٕ9
وإن كانت هذه األسالٌب لٌست جدٌدة مع الممالٌك ،بل ذقنا مرَّ ها مع احتبلالت سابقة ،إال أن طول أمد
ُ
والزنب ضد الناجحٌن) االحتبلل المملوكً ،ثم تسرب هذه األسالٌب (الشلل والرُ باطٌات واألحزاب والكٌد
إلى الجهاز الحكومً حٌن أدخل محمد علً بواقً الممالٌك واألتراك فً الجهاز الحكومً واإلداري بصفة
"مدٌرٌن" ،و"موظفٌن" ،نقل هذه األسالٌب الخبٌثة إلى أسالٌب التعامل الحكومً ،وانتقلت من موظفٌن إلى
وأثرت فً بعض المصرٌٌن(ٕٓ).موظفٌن جٌل بعد جٌلَّ ،
من أفضل ما قٌل فً وصؾ الشخصٌة المصرٌة الحقٌقٌة هً أن المصرٌٌن ال ٌحبون أن ٌروا أكثر من
راٌة ترفرؾ فوق رءوسهمٌ ،قلقون منها وٌتشاءمون ،فلم ٌتعودوا إال على راٌة واحدة تعلو بلدهم وتحمل
اسما واحدا هو كٌمة (وفً وقت الحق عرفها باسم راٌة مصر).
وحٌن تسلل المستوطنون األجانب وجلبوا األعراق واالحتبلالت أدخلوا لمصر طاعون تعدد الراٌات
واأللوان ،وال تتعدد الراٌات وألوانها إال وتعددت االنتماءات ،وما تعددت االنتماءات إال وظهرت األحزاب
والجماعات المتصارعة ،وما ظهرت تلك إال وظهرت الملٌشٌات ،وما ظهر كل هذا إال وتحولت مصر
لبركة دماء فً حرب قذرة ال تعرؾ معنى الشرؾ ،ال تخص مصر وال المصرٌٌن.
وشاهدنا هذه الحزبٌة وتعدد االنتماءات والراٌات والحروب الداخلٌة زمن االحتبلل الخاسوتٌمً القبلً،
وبشكل أوضح بتعدد الجالٌات زمن االحتبلالت الٌونانٌة والرومانٌة والعربٌة والعبٌدٌة واألٌوبٌة ،ولكنها
ستصل إلى أقصاها على ٌد االحتبلل المملوكً الملٌشٌاوي.
فانقسم الممالٌك منذ أٌام األٌوبٌٌن وطوال تارٌخهم بعد ذلك إلى فرق ،كل فرقة تبع سلطان أو أمٌر
مملوكً تناصره على اآلخر ،وتسمت على اسمه ،فٌوجد الممالٌك الصالحٌة والممالٌك الكاملٌة والممالٌك
لمعزٌة والممالٌك القاسمٌة وهكذا ،وال ٌحكمهم انتماء لوطن أو دٌن ،وإنما حكم الؽلبة والسٌؾ.
مع تمٌز عصر الممالٌك بكثرة المساجد والتكاٌا ،كما لم ٌحدث فً أي عصر سابق ،إال أن وراء هذه
المساجد ذات الجدران الشاهقة والفخامة الساحرة ٌتخفى انحبلل خلقً وأمراض خبٌثة تثٌر القرؾ ناتجة
عن التكوٌن الخبٌث لهذه الفبة منزوعة الضمٌر واألصول.
فمن سماتها انتشار اللواط والفجور ،أو ما ٌسمٌه اإلعبلم حالٌا مداراة لحقٌقته "الشذوذ الجنسً"،
تتفش كما تفشت بٌن الممالٌك والعثمانلٌة.
َ و"المثلٌة" ،التً لم
وأمهات الكتب المعاصرة لهم مشحونة بحكاٌات فجور الممالٌك واألتراك عموما ،بما فٌهم الحكام رؼم
(ٕٓ)
-تراث العبٌد فً حكم مصر المعاصرة ،مرجع سابق ،ص ٕٗ ؤٖٖٔٔٙ -
ٕٗ9
كثرة ما بٌن أٌدٌهم من الجواري الحسان ،منها ما أورده المإرخ ابن إٌاس عن الخلٌل قبلوون الذي رؼم أنه
صاحب االنتصار الكبٌر فً إسقاط آخر حصون الفرنجة فً الشام وهو عكا ،منهٌا ما عرؾ بالحمبلت
الصلٌبٌة إال أنه اتصؾ بكل صفات القبح المملوكً ،ومنها اللواط.
فٌقول ابن إٌاس إن الخلٌل قبلوون بعد تولٌه كان شدٌدا مع أصدقاء والده؛ فؤبعدهم وزج بهم فً السجون،
وقتل كثٌرٌن ،وتؽطرس على بقٌة الممالٌك ،واشتهر بؤنه فاسد األخبلق ،واتهمه ممالٌكه بؤنه ٌؽرق فً
الشهوات مع الؽلمان باللواط فً قصره ،فقتله ناببه بٌدرا وهو فً رحلة صٌد فً النٌل.
وحٌن ه َّم أتباع السلطان بقتل المتآمرٌن صاح أحدهم وهو ٌقولٌ" :برر عملنا دعارة السطان وانؽماسه
فً الشهوات واللذات مع من حوله من الفتٌان ،وعكوفه على معاقرة الخمر حتى فً شهر الصٌام ،هذا إلى
وحشٌته فً معاملة أصدقاء والده وزجه فرٌقا منهم فً أعماق السجون ،ثم القضاء علٌهم".
والصحٌح أنهم قتلوه لشدته معهم ولٌس لفساده ،فمعظمهم فاسدون ،وبقٌت جثته ملقاة على الشاطا ٌومٌن
فوارها الثرى أحد أبناء القرى قبل أن ٌنقلها أتباعه للدفن فً القاهرة ،وقال ابن إٌاس إن أتباعه قتلوا بٌدرا
وقطعوا لحمه بالسٌؾ وأخرجوا كبده وأكلوها(ٕٔ) ،وهذا من فحش الممالٌك فً االنتقام.
ولم ٌتورعوا عن ارتكاب الفواحش أمام الناس ،فٌحكً المقرٌزي فً كتاب السلوك إن السلطان برقوق-
الذي وصفه المإرخون بحب الخٌر والعلم واحترام الفقهاء -لم ٌتحرج من ارتكاب الفواحش وتقرٌب
"الممالٌك الحسان لعمل الفاحشة فٌهم" ،وفً رأي د.سعٌد عاشور فً كتابه "المجتمع المصري فً عصر
الممالٌك" ،فإنه كان لوقاحتهم فً الجهر بالفحشاء أثره فً تقلٌد بعض الناس لهم.
وأضاؾ أن الممالٌك أحضروا معهم اللواط (الفجور) وأشاعوه ،حتى أنه عندما عاب أحد مشاٌخ مصر
على شٌخ أندلسً فً القرن السابع الهجري أن أهل األندلس ٌشربون الخمر وٌحبون الشباب ،رد علٌه
الشٌخ األندلسً قاببل" :أما الشباب فما أشك أن أهل مصر أفسق منا!"(ٕٕ) ومن ٌعرؾ تركٌبة المجتمع وقتها
ٌعرؾ أن المقصود بؤهل مصر فً كبلمه سكان القاهرة ومصر القدٌمة وأكثرهم الممالٌك والجالٌات.
وانتشر هذا الطاعون بٌن قضاة وبٌن الصوفٌة الذٌن سموا أنفسهم زورا "الفقراء" بحسب ابن حجر فً
"الدرر الكامنة" ،وكل هإالء فً ذلك التوقٌت مستوطنٌن من الشرق والؽرب ،وعن جذر هذا الطاعون
ٌقول أبو المحاسن إنه انتشر فً الشرق منذ دخول الخراسانٌة إلى العراق سنة ٕٖٔ ه ،وٌفسر الجاحظ ذلك
بؤن العباسٌٌن منعوا خروج النساء مع الجنود فً الؽزوات وسمحوا بخروج الصبٌان الصؽار ،فاستعاض
هإالء بالصبٌان.
وفً عصر االحتبلل األٌوبًٌ ،قول القاضً الفاضل إنه رأى بمصر "من البؽً ومن المعاصً ومن
الجهر بالفسق والزنا واللواط وشهادة الزور وشرب الخمر ما لم ٌُسمع أو ٌُعهد مثله" وكان ذلك فً أواخر
(ٕٔ)
-بدابع الزهور فً وقابع الدهور ،مرجع سابق ،ص ٖ٘99 -ٖ9
(ٕٕ)
-المجتمع المصري فً عصر سبلطٌن الممالٌك ،سعٌد عبد الفتاح عاشور ،دار النهضة العربٌة ،ٔ99ٕ ،ص ٕٗ8 -ٕٗ9
ٕ٘9
عهد صبلح الدٌن(ٖٕ) ،ومعلوم أن جٌش صبلح الدٌن أكثره من األكراد والممالٌك األتراك.
وهذه اآلفات لٌست جدٌدة بالتؤكٌد على العالم ،ولكن المفجع أن أصبح األمر علنا ومحل مباهاة وله أماكنه
العلنٌة ،وأحٌانا المرخصة من السلطات ،فً العواصم التً نزل بها وباء الممالٌك واألتراك.
ومن مواطن هذا الطاعون أٌضا المرتزقة الترك الذٌن أسسوا السلطنة العثمانٌة ،وأرسلته إلى مصر
وؼٌرها من البلدان مع عسكرها ،فٌذكر ابن حجر فً حدٌثه عن ببلد "ابن عثمان" أن الزنا واللواط وشرب
الخمر والحشٌش كان فاشٌا فٌها ،وأٌام الممالٌك اعترؾ الحكام ألول مرة بالبؽاٌا ،وفرضت علٌهن ضراٌب
وخصص لهن حارات فً عدة مدن، كما قال المقرٌزي ،حتى وقفت البؽاٌا فً األسواق جهرا تطلب المارةُ ،
وإن خالؾ ذلك بعض الممالٌك مثل بٌبرس الذي سعى لمنع البؽاء وتزوٌج العامبلت فٌه(ٕٗ).
وتعلٌقا ٌقول صاحب كتاب "تراث العبٌد" إنه فً مجتمع العبٌد البٌض (الممالٌك) شاعت اإلشارات
الجنسٌة فً المداعبة والمزاح "إنه مجتمع (العزاب) المجالٌب األؼراب" ،ؼٌر أنه لفت إلى أن األمر لم
ٌتوقؾ عند اللهو ،بل استؽلوا هذا الطاعون كعقاب وإذالل للخصوم ،فمن أسالٌب الممالٌك إذا ما انتصروا
أن ٌذلوا المجموعة المملوكٌة المهزومة بممارسة اللواط مع أفرادها باإلجبار ،أي اؼتصابا ،واإلذالل هنا
عندهم لٌس فً فعل الفاحشة نفسها ،ولكن ألنها تتم بالجبر والقهر ولٌس باالختٌار(ٕ٘).
وعلى هذا فإنه على من ٌلجؤ إلى هذه الوسٌلة ،اؼتصاب النساء أو الرجال ،إلذاللهم فً السجون أو فً
الخصومات ،أن ٌفتش بداخله عن أصل مملوكً له ،أو أن ٌعتبر نفسه منزوع األصل والوطن واآلدمٌة
مثلهم ،وأنه اختار بكامل إرادته أن ٌكون "عبدا مملوكا".
أول عهد مصر بالمخدرات والحشٌش كان أٌام الممالٌك ،وٌقول المقرٌزي إن أهل الخبلعة تعاطوه "من
ؼٌر احتشام" ،وفرض الممالٌك علٌه ضرٌبة فً البداٌة ،ووصل الحال ببعض العلماء والصوفٌة أن أشاعوا
بٌن الناس أن الحشٌش حبلل ،ونسج أدباء قصابد فً فوابده ،وربط أحد الكتاب بٌن الحشٌش والتصوؾ
وزرع الحشٌش فً أرض الطبالة بالقاهرة وباب قاببل إن الظاهرتٌن سارتا فً مصر جنبا إلى جنب ،بل ُ
اللوق ،ودخل مصر كذلك األفٌون( ،)ٕٙوكؤنه "لٌهٌموا سكارى فً الملكوت" ،وٌتوهمون أنه "هٌام ربانً"،
ودخل مصر فً توقٌت حساس ،فؤقبل علٌه كثٌرون هروبا من مشاعر الضنك.
وبحسب الجبرتً فإن أول من أدخل الحشٌش إلى مصر هم تجار ٌنتمون للصوفٌة( -)ٕ9بواقً العبٌدٌٌن-
وفً دفاع أحد الشٌوخ وهو علم الدٌن بن الصاحب عن الحشٌش قال(:)ٕ8
(ٖٕ)
-انظر :نفس المرجع ،ص ٕٕ٘ -ٕٗ8
(ٕٗ)
-المرجع السابق ،ص ٕٗ9 -ٕٗ8
(ٕ٘)
-تراث العبٌد فً حكم مصر المعاصرة ،مرجع سابق ،ص ٕٕٕٔ -
()ٕٙ
-المجتمع المصري فً عصر سبلطٌن الممالٌك ،مرجع سابق ،ص ٕٕٕٖ٘٘ -
()ٕ9
-عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار ،عبد الرحمن الجبرتً ،ج ٕ ،مرجع سابق ،ص ٕ٘98 -ٖ9
()ٕ8
-انظر :النجوم الزاهرة فً ملوك مصر والقاهرةٌ ،وسؾ بن تؽري بردي ،تقدٌم وتعلٌق محمد حسٌن شمس الدٌن ،ج ،9طٔ ،ص ٕٖٔ
ٕ9ٙ
فـاللــهو منه الفـــتى ٌعــــٌش ٌانفس مــــٌلى إلى التـصـابى
وتفشت فٌهم الخمور علنا كما لم ٌحدث من قبل؛ فشاعت حتى صارت من متممات األفراح ،وقٌل إن
السلطان فرج بن برقوق شق شوارع القاهرة ال ٌكاد ٌثبت على فرسه من شدة السكر ،والمنصور بن
قبلوون ٌعكؾ على الشرب مع ندمابه حتى ال ٌكادون ٌفٌقون ساعة ،ورؼم هذا ٌبدو أن الحال كان أقل من
ببلد أخرى ،حتى أن ابن دانٌال الموصلً ٌقول إنه عند حضوره إلى مصر أواخر القرن السابع الهجري
وجد "مواطن األنس ؼٌر آنسة" من خمر وحشٌش وؼٌرها ،فساءه ذلك مما ٌدل على أنها "تؤخرت" عن
الببلد المجاورة فً مضمار الفساد(.)ٕ9
قبل حكم الممالٌك كانت المناصب أحٌانا تإخذ بالرشوة كما تإخذ بالسٌؾ ،وإن كانت الرشوة مؽلفة
باسم "هدٌة" و"عطاٌا" ،أما فً حكم الممالٌك منزوع الحٌاء فً كل شًء فإن شراء المناصب أصبح جهرا
وعبلنٌة ،وبات وكؤنه عُرفا مقبوال.
ٌقول المقرٌزي فً "إؼاثة األمة" عن شراء المناصب بالرشوة التً سموها "البراطٌل" إن أصل الفساد
فً عصره هو تحكم الرشوة فً شراء المناصب حتى القضاء والوزارة ووالٌة األقالٌم والحسبة ومشٌخة
التصوؾ وسابر األعمال "بحٌث ال ٌمكن التوصل إلى شًء منها إال بالمال الجزٌل" ،وخضعت لشكل
المزادٌ ،شتري مثبل المحتسب (القابم على مراقبة األسواق واألسعار ومنع الؽش) منصبه بالمال ،فإذا
عرض شخص آخر مبلؽا أكبر بعد شهور ٌحصل على المنصب لنفسه ،وفً نفس الوقت ٌقبل المحتسب
رشوة من التجار فبل ٌبلػ عن بضابعهم المؽشوشة(ٖٓ).
س َّنة األربعة)
❼ تورم جدٌد للمذهبٌة (صراع مذاهب ال ُ
َّ
وؼذاها تابعنا أن المذهبٌة الدٌنٌة الدموٌة ظهرت فً مصر فً أبشع صورها أٌام انتشار المسٌحٌة،
حٌنها الٌهود والرومان والٌونان وبقٌة الجالٌات التً رأت فً المسٌحٌة فرصة للتخلص من الدٌن المصري
حورت فٌها فشرختها إلى أرثوذكسٌة وكاثولٌكٌة.
القدٌم ،أو تلك التً رفضت المسٌحٌة ذاتها ،أو َّ
كما ظهرت المذهبٌة الدٌنٌة أٌام االحتبلل العربً على ٌد من سعوا لشرخ اإلسبلم إلى سُنة وشٌعة
ألسباب سٌاسٌة كالخوارج وخبلل ما سُمً بفتنة خلق القرآن ،وأصاب مصر منها نصٌب حٌن هبط على
أرضها الطٌبة فِرق سود من الخوارج والشٌعة.
أما أٌام الممالٌك فظهر نوع جدٌد من المذهبٌة ،وهو الخاص بالتعصب للمذاهب األربعة (الشافعٌة،
()ٕ9
-انظر :المجتمع المصري فً عصر سبلطٌن الممالٌك ،ص ٕ٘٘ -ٕٗ8
(ٖٓ)
-نفس المرجعٕ٘8 -ٕ٘ٙ ،
ٕ97
الحنفٌة ،المالكٌة ،الحنبلٌة) ،انتقل لمصر من أرض العراق والحجاز على جناح األٌوبٌٌن حٌن أسس صبلح
الدٌن مدرسة لتدرٌس المذهبٌن الشافعً والمالكً بدال من اختٌار مذهب واحد للبلد ،أو اختٌار أقرب ما فً
كل مذهب لما ٌناسب طبٌعة مصر ،فصار خرٌج كل مدرسة ٌتعصب لمذهبه.
واتخذ بٌبرس قرارا عمَّق التحزب المذهبً بحسب ما ابن إٌاس ،وذلك أنه رسمٌا كان ٌُفتً فً مصر
بالمذهب الشافعً ،وٌتواله قاضً مخصص له ،فإذا به ٌعٌن قاضٌا لئلفتاء بالمذهب الحنفً وآخر للمذهب
الحنبلً وثالث للمذهب المالكً ورابع للشافعً ،فتبع هذا تفرق كلمة العلماء وتشاحنهم وتنافسهم فً جذب
الحكام والناس عامة لمذاهبهم ،حتى شاع أن بٌبرس رأى فً منامه الشافعً ؼاضبا ٌقول له" :بهدلت
مذهبً وفرقت كلمة المسلمٌن"(ٖٔ).
"أبجنً تجدنً" ،هو مثل مصري ٌُطلق على الخونة والمرتزقة الذٌن ال مبادئ لهم ،وال ٌتحكم فً
قرارهم شرٌعة سماوٌة أو قوانٌن مشروعة ،شرٌعتهم المال والمناصب ،وهو أشد ما ٌنطبق على الممالٌك.
وشاع هذا فً العالم قبل األتراك ،فهو دستور قدٌم قدم الشٌطان ،ورأٌناه عند المرتزقة الٌونان حٌن
استعانت بهم األسرة ٕٙالخاسوتٌمٌة فً الجٌش محل المصرٌٌن ،ورأٌناهم خبلل الحروب حٌن ٌنهزم
الجٌش ٌنتقلون بكل بساطة إلى صفوؾ الجٌش المعادي المنتصر مثلما حصل فً الؽزو الفارسً وانتقلوا
لصفوؾ الفرس ىٌحاربوا معهم ضد مصر ،ورأٌنا ذلك ٌحدث من البلجبٌن الٌهود فً مصر لما أعانوا
الفرس ضدها ،ورأٌناه من المرتزقة الترك فً جٌش العبٌدٌٌن (الفاطمٌٌن) حٌن ضعفت شوكة العبٌدٌٌن
فسعوا لتسلٌم مصر إلى خصومهم العباسٌٌن.
ؼٌر أنه فً أٌام االحتبلل المملوكً صار هذا الوباء "أبجنً تجدنً" دستور الحكم نفسه ،ولٌس فقط
المرتزقة الذٌن ٌستعٌن بهم الحاكم ،وهو أمر متوقع لنظام حكم ٌعٌش فً حالة "البلدٌن والبلوطن".
فمثبل حٌن قتل المعز أٌبك خصمه فارس الدٌن أقطاي ،فرَّ ممالٌك أقطاي إلى الشام عند خصمهم السابق
الناصر ٌوسؾ صاحب دمشق -الطامع فً مصر -لٌكونوا له أعوانا رؼم أنه لم ٌكن مر شهور على دخولهم
فً حرب ضده لمَّا حاول ؼزو مصر ،واتجه جزء منهم إلى سلطان الروم رؼم أنه لم ٌكن مرت شهور
أٌضا على دخولهم فً حرب ضد الروم فً معركة المنصورة.
وفً هذا ٌقول المقرٌزي إن أٌبك أرسل إلى سلطان الروم ٌخوفه من هإالء الممالٌك كً ال ٌستخدمهم
ضده قاببل" :البحرٌة (أي الممالٌك البحرٌة) قوم مناحٌس أطراؾ ،ال ٌقفون عند األٌمان ،وال ٌرجعون إلى
كبلم من هو أكبر منهم ،وإن استؤمنتهم خانوا ،وإن استحلفتهم كذبوا ،وإن وثقت بهم ؼدروا ،فتحرر منهم
على نفسك ،فإنهم ؼ َّدارون مكارون خوانون ،وال آمن أن ٌمكروا علٌك" ،فخاؾ سلطان الروم منهم وكانوا
(ٖٔ)
-انظر :بدابع الزهور فً وقابع الدهور ،محمد بن إٌاس ،مرجع سابق ،ج ٔ ،ق ٔ ،ص ٕٖٖٕٕٔ -
ٕ98
ٖٓٔ فارسا ،فاستدعاهم وقالٌ" :ا أمراء ما لكم وألستاذكم؟" ،فتقدم سنجر الباشقردي وقالٌ" :ا موالنا من
هو أستاذنا؟" ،قال" :الملك المعز صاحب مصر" ،فقال الباشقرديٌ" :حفظ هللا موالنا السلطان! إن كان
الملك المعز قال فً كتابه أنه أستاذنا فقد أخطؤ ،إنما هو خوشداشنا ونحن ولٌناه علٌنا(ٕٖ)" ،كذلك األمر حٌن
باع محمد أبو الدهب حاكمه علً الكبٌر للسلطان العثمانلً بعد أن وعده األخٌر بؤن ٌولٌه على مصر.
وهل وجود أحزاب ومنظمات تسٌر الٌوم فً مصر بحسب التموٌبلت والوعود التً تؤتٌها من الخارج،
ال حسب مصالح البلد ،ببعٌد عن تؤثٌرات هذا التراث المملوكً والجالٌاتً المتقٌح؟
لم ٌقنع الممالٌك بؤسالٌب العقاب التقلٌدٌة الشابعة فً وقتهم كالحبس واإلعدام والرجم ،وإنما تمتعوا بؤن
ٌتفننوا فً أسالٌب تعذٌب وتشوٌه وإذالل خصومهم فً السجون أو خارجها ،لم ٌُسمع عنها من قبل.
وكما مر علٌنا فإن من هذه األسالٌب اإلذالل الجنسً ،أي االؼتصاب ،ونسمع اآلن من المإرخٌن
المعاصرٌن لهم أسالٌب أخرى ال تقل عنها شناعة فً مجتمع "البلدٌن والبلوطن" ،أي حٌاة الممالٌك.
فٌقول ابن إٌاس والمقرٌزي إنه بعد أن قتل الممالٌك سلطانهم "الجٌن" وهو ٌلعب الشطرنج فً اللٌل
لٌعٌدوا العرش إلى الناصر قبلوون ،فإن قبلوون لما عاد انتقم من خصومه الذٌن أزاحوه عنه أبشع انتقام،
بالضرب بالسٌاط والخنق وتركهم ٌتضورون جوعا ،حتى قٌل إن األمٌر المملوكً "السبلر" فً محبسه
أكل ٌدٌه من شدة الجوع ،وأرسل إلٌه الناصر أطباقا ظنها طعاما ،ولما رفع الؽطاء وجد جواهر ،فً رسالة
تشفً من الناصر بؤن الكنوز التً جمعها حٌن كان ٌزدري السلطان وهو صؽٌر السن لم تنفعه ،ومات فً
السجن جوعا(ٖٖ).
وانقضى نسل قبلوون من الحكم بخنق الممالٌك البنه السلطان شعبان الذي شهده عصره مجاعة
مصحوبة بوباء التهم الكثٌر من السكان(ٖٗ) ،فانقضى حكم الممالٌك األتراك البحرٌة ،وبدأ حكم الممالٌك
الشراكسة البرجٌة بحكم السلطان برقوق ،وبعده برسباي وفً عهده كان الممالٌك ٌختطفون النساء واألطفال
من الشوارع ،وهاجم الببلد طاعون قتل ٖٓٓ ألؾ من سكانها ،وأصٌب برسباي بمرض فلما عجز طبٌباه
عن عبلجه قطع رأسٌهما(ٖ٘) ،ووصفه المقرٌزي بؤنه كان قاسً جشع ؼشوم.
وفً عهد عابلة برسباي أخذت أحزاب الممالٌك ألقاب السبلطٌن الموالٌن لهم ،مثل الظاهرٌة واألشرفٌة
والمإٌدٌة ،وتناحروا وملبوا الشوارع بؤصوات السٌوؾ ،ال ٌحرك قلوبهم صٌاح وتوسبلت الناس التً
ُتنهب أرزاقهم أمام أعٌنهم؛ فذاقت منهم الرعٌة ما ذاقه منهم منافسوهم على السلطة.
(ٕٖ)
-انظر :السلوك لمعرفة دول الملوك ،المقرٌزي ،جٔ ،ص ٘ٗ8
(ٖٖ)
-بدابع الزهور فً وقابع الدهور،ص ٗٓٓ -ٖ99والخطط المقرٌزٌة،ج ٔ ،ص ٕٗ٘ ،ٕ٘٘ -تارٌخ دولة الممالٌك فً مصر،ص 88 -89
(ٖٗ)
-المزٌد عن هذه المجاعة انظر إؼاثة األمة بكشؾ الؽمة ،المقرٌزي ،ص ٖٔٔٔٔٗ -
(ٖ٘)
-تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر ،ص ٘ ،ٕٙ8 -ٕٙوتارٌخ دولة الممالٌك فً مصر ،ص ٕ٘ٔ
ٕ99
ومن شواهد ؼلظة هإالء الناس واختبلؾ طبابعهم عن المصرٌٌن أن "شٌخو" أكبر األمراء الممالٌك فً
عصر األسرة القبلوونٌة أمر بعمل نقرات فً رأس أحد خصومه ،ثم وضع على كل نقرة حشرة سامة
تتوؼل فٌها وهو حً( ،)ٖٙهذا بخبلؾ أسالٌبهم فً قتل الخصوم ذبحا وحرقا وسحبل فً الشوارع وتهشٌم
الرءوس بالحجارة والتقطٌع إربا أو خنقا أو باإلؼراق فً النٌل ،واألسلوبان األخٌران سمة ممٌزة للممالٌك،
استمرت تستعملهما األسرة العلوٌة حتى أٌام الخدٌوي إسماعٌل ،وهو األسلوب الذي ٌرجح مإرخون أنه
تخلص به من وزٌره إسماعٌل المفتش مثبل.
وتولى بعد قاٌتباي ممالٌك اشتهر بعضهم بالمجون والخبلعة والسطو باللٌل على بٌوت الناس وأخذ
أموال االؼنٌاء بعد تعذٌبهم بالكً والحرق وإؼراق الخصوم فً النٌل ،ومنهم السلطان محمد الثانً ابن
قاٌتباي الذي قتله ربٌس المالٌة بتمزٌقه إربا وتركه فً الشارع(.)ٖ9
ثم تولى طومان باي األول وبدأ عهده كعادة الممالٌك بقتل وإؼراق خصومه ومطاردتهم ،ولقسوته
تآمروا علٌه فهرب ،وتولى بعده قانصوه الؽوري الذي بدأ عهده بفرض ضراٌب جدٌدة لٌمؤل الخزانة التً
أفر ؼها الممالٌك قبله ،ففرض ضراٌب على األمبلك والؽبلل وحتى البطٌخ ،وعلى الموتى ،حتى صارت
كلمة "موت وخراب دٌار" ٌذوق مرارها كل من توفً له إنسان ،وثار الناس على الممالٌك ،ورموا
محصلً الضراٌب فً الشوارع بالحجارة ،فخفؾ بعض هذه الضراٌب فً نهاٌة عهده.
فؤشار علٌه أحد رجاله بفرض ضراٌب على الممالٌك ،ألول مرة ،فثاروا علٌه ،ولم ٌتحمل ثورة
الممالٌك ،فؤمر بقطع لسان من أشار علٌه بذلك ،وتجرٌده من مبلبسه والتشهٌر به فوق جمل ،ثم جلده
ورجمه تمشٌا مع ؼلظة كبد الممالٌك ووحشٌتهم(.)ٖ8
وفً الحادثة المشهورة ،مقتل شجرة الدر ،فإنها بعد أن تآمرت مع الممالٌك على قتل زوجها أٌبك خنقا
فً الحمام ،أرسلها ممالٌكه إلى ضرتها ،فضربها الجواري بالقباقٌب حتى الموت ،وألقوها من سور القلعة
ولٌس علٌها سراوٌل وقمٌص ،وتركوها فً العراء أٌاما حتى نتنت ،فحُملت فً قفة إلى تربتها(ٓٗ).
وأهمٌة معرفة هذه األمور ،هو أن ٌدرك حالٌا كل من ٌلجؤ إلى وسابل التعذٌب البعٌدة عن الروح
المصرٌة ،أو ٌنشر تعلٌم مثل هذه األسالٌب االنتقامٌة كؤنها سلوكٌات عادٌة فً األفبلم والمسلسبلت -كما
()ٖٙ
-تارٌخ دولة الممالٌك فً مصر ،هامش ص ٖٔٔٔٔٗ -
()ٖ9
-تارٌخ دولة الممالٌك فً مصر ،ص ٔ98 -ٔ99
()ٖ8
-نفس المرجع ،ص ٔٔ8ٕ -ٔ8
()ٖ9
-بدابع الزهور فً وقابع الدهور ،ابن إٌاس ،مرجع سابق ،ص ٗٔ
(ٓٗ)
-السلوك فً معرفة دول الملوك ،المقرٌزي ،جٔ ،ص ٗٗ9
ٖٓٓ
ٌحدث بإلحاح ومنهجٌة فً السنٌن األخٌرة -لٌتعود علٌها المصرٌون وتنتشر بٌنهم ،والمسبول الذي ٌسكت
على هذا ،علٌه أن ٌفتش عن روح العبد المملوك الكامن بداخله وما زال ٌحكمه ،وٌسؤل نفسه :كٌؾ رضً
أن ٌحل بداخله روح العبد المملوك الفاجر محل المصري الحر النبٌل؟
شهد االحتبلل العبٌدي واألٌوبً الؽارات وأعمال السلب والنهب على ٌد مرتزقة الجٌش العبٌدي وممالٌك
األٌوبٌٌن ،وعلى ٌد العربان ،ؼٌر أنها فً أٌام الممالٌك صار السلب والنهب على مستوى الحكام أنفسهم
ولٌس فقط مرتزقتهم وجالٌاتهم ،وذلك رؼم أن الممالٌك والعربان ٌعتبرون أنفسهم "الفرسان" و"األشراؾ"
فً المكانة مقارنة بالفبلحٌن.
ٌقول المقرٌزي إنه بعد انتهاء معركة المنصورة ضد الفرنجة "الصلٌبٌٌن" أتى الممالٌك برباسة فارس الدٌن
أقطاري وبٌبرس البندقداري وبلٌان الرشٌدي "من النهب والخطؾ ما ال ٌجرإ الفرنجة أنفسهم على فعله:
"كثر ضرر الممالٌك البحرٌة بمصر ،ومالوا على الناس ،وقتلوا ونهبوا األموال ،وسبوا الحرٌم ،وبالؽوا فً
الفساد ،حتى لو ملك الفرنج ما فعلوا فِعلهم"(ٔٗ).
وشرٌكهم فً السلب والنهب العربان ،وهم قباٌل عرب (قادمة من الشرق) وبربر (قادمة من المؽاربة)
تؽٌر كالرٌاح السموم الملتهبة على القرى من وراء الحدود فوق ظهور الخٌول والجمال ،مثلمٌن أحٌانا،
ٌسلون سٌوفهم -وفً وقت الحق بنادقهم -على رءوس وصدور الفبلحٌنٌ ،فرضون علٌهم اإلتاوات
وٌنهبون األراضً والمحاصٌل والمواشً ،وأحٌانا البنات ،وٌقتلون الفبلح إذا رفض تزوٌج ابنته لهم،
ٌستقوون بسبلحهم على من ال سبلح له(ٕٗ) ،ومن أشهر قباٌل العربان وقتها العبابدة والهنادي والمعازة
والطرابٌن والقطاوٌة وأوالد علً والهوارة ،وقوَّ ى شوكتهم صبلح الدٌن وخلفاإه لما استعانوا بهم كمرتزقة
فً الحروب ،ولم ٌنخرط بعضهم فً التحضر إال مإخرا.
وانكسرت شوكة العربان بداٌة االحتبلل المملوكً ،وذلك أنهم فً حكم عز الدٌن أٌبك رفضوا الخضوع
للممالٌك سنة ٖٕ٘ٔ م ،وقالوا "نحن أصحاب الببلد(ٖٗ)" ،و"إنا أحق بالملك من الممالٌك ،وكفى أنا خدمنا بنً
أٌوب وهم خوارج خرجوا على الببلد" ،وامتنعوا عن دفع الخراج ،وجمع كبٌرهم حصن الدٌن ثعلب ٕٔ ألؾ
مقاتل ،قطعوا الطرق برا ونهرا ،ومكاٌدة فً الممالٌك بعثوا لخصمهم األٌوبً الملك الناصر حاكم دمشق لٌتحالفوا
معه ضدهم ،لكن الممالٌك بقٌادة أقطاي هزموهم ،وقال المقرٌزي "فؤوقعوا بهم ،وسبوا حرٌمهم ،وقتلوا الرجال،
وتبدد شمل عرب مصر ،وخمدت جمرتهم من حٌنبذ"(ٗٗ).
(ٔٗ)
-نفس المرجع ،ص ٕ ،ٗ9والخطط المقرٌزٌة،ج ٖ ،مرجع سابق ،ص ٕٗٔ
(ٕٗ)
-للمزٌد انظر :المجتمع المصري فً عصر سبلطٌن الممالٌك ،سعٌد عبد الفتاح عاشور ،مرجع سابق ،ص ٙٗ -٘9
(ٖٗ)
-كل من احتل مصر فترة من الزمان ٌظن أنها صارت أسٌرته لؤلبد ،وكل من احتل مصر ما زال ٌحلم بالرجوع لحكمها.
(ٗٗ)
-السلوك لمعرفة دول الملوك ،مرجع سابق ،ج ٔ ص ٗ8ٓ -ٗ99
ٖٔٓ
الممالٌك والعربان لم ٌكفوا عن تعببة الرٌؾ بالخراب والصراخ والدماء فً صراعهم على الؽنٌمة المصرٌة (المصدر :رسم المملوك لوحة لـ كارل
فٌرنٌه رسمها فً أول القرن ٔ9ورسم العربانً مجهول المصدر)
وأٌام الناصر قبلوون ٖٔٓٔ م فرض العربان إتاوات على الناس فً أسٌوط ومنفلوط ،ومنعوا الخراج،
وأخرجوا أهل السجون؛ فدبر الممالٌك حصارا لهم كحلقة الصٌد من كل الجهات فً الوجه القبلً ،وأطلقوا
فٌهم السٌؾ ،وسبوا نسابهم ،وإذا ادعى أحد أنه حضري قٌل له قل" :دقٌق" فإن قالها بقاؾ العرب قتلوه،
ومن تخبى فً مؽارات الجبال أوقدوا علٌه النار ،واستولوا على آالؾ رإوس األبقار والخٌول والؽنم
والجمال والسٌوؾ والحبوب واألموال(٘ٗ) ،وهذا كله مما نهبه العربان من الفبلحٌن.
ولكنهم استمروا فً الؽارات على القرى وأطراؾ المدن ونهب الؽلة والمواشً وقطع طرٌق الحجاج،
وبتعبٌر ابن حجر فً "أنباء الؽمر" كانوا ٌذبحون الفبلحٌن ذبح المواشً لنهب محاصٌلهم( ،)ٗٙوقال أبو
المحاسن فً "حوادث الدهور" :وفعلوا بالفبلحٌن "ما ال تفعله الخوارج وال الكفرة"( ،)ٗ9فلم ٌكن ٌحكمهم
دٌن وال مبدأ إال بلطجة السٌؾ ،واستؽل العربان سطوتهم فً تحوٌل مٌاه الري وقطع الجسور فً الوقت
المبلبم لهم ،ؼٌر عاببٌن بمصالح جٌرانهم ،وأكثر ما ٌإلم أن هذا شحن صراعات بٌن الفبلحٌن أنفسهم على
حصة المٌاه القلٌلة ،ووقعت خناقات انتهت بنزٌؾ الدم المصري جرٌا وراء حصة من الري(.)ٗ8
تنتعش الحركات السرٌة فً أي بلد فً مناخ االحتبلل والفساد وتفكك الحكومة وضعؾ الروح الدٌنٌة
والوطنٌة ،وتجاور أعراق وطواٌؾ ال ٌجمعهم ضمٌر واحد وال تبلحم وشفقة وال دستور إال "اخطؾ
واجري" ،أو "استؽل الفراغ وسٌطر".
وذلك أن االحتبلل وكذلك األعراق والطوابؾ المتعالٌة على أهل البلد ،تسعى بؤي طرٌقة إلى التمٌز
(٘ٗ)
-بدابع الزهور فً وقابع الدهور ،ابن إٌاس ،مرجع سابق ،ص ٕٔ9ٕٖ -9
()ٗٙ
-المجتمع المصري فً عصر سبلطٌن الممالٌك ،مرجع سابق ،ص ٔٙ
()ٗ9
-نفس المرجع ،ص ٘9
()ٗ8
-للمزٌد انظر الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر ،عبد الرحٌم عبد الرحمن عبد الرحٌم ،مرجع سابق ،ص ،ٔٙ8 -ٕٔ9و ٔ9ٙ
ٕٖٓ
واقتناص الفرص ،والعمل السري واحد من الوسابل لهذا ،خاصة إذا ما تخفى فً رداء الدٌن.
وأقدم اإلشارات إلى هذه الحركات فً مصر أٌام استٌطان اإلؼرٌق وبقٌة المرتزقة والجالٌات من
الكارٌٌن والفرس والٌهود واآلرامٌٌن وؼٌرهم ،ومن أمثلتها حركة الؽنوصٌٌن والحركة المانوٌة ،ثم ظهرت
فً ثوب الخوارج والشٌعة بعد االحتبلل العربً ،وحكمت الحركات السرٌة مصر رأسً ا ألول مرة فً توب
االحتبلل العبٌدي (الفاطمً) ،فهو ذاته لٌس إال إفراز حركة سرٌة ضخمة -الحركة اإلسماعٌلٌة -ما زالت
تنتج حركات شٌعٌة بؤسامً عدة فً أرجاء العالم.
وحٌن خلع األٌوبٌون قدم االحتبلل العبٌدي من مصر لم ٌكن خلعا كامبل ،فقد ترك ندباته وتقٌحاته على
الجسد المصري فً صورة حركات سمت نفسها بالصوفٌة أو محبً آل البٌت ،واتخذت من أضرحة آل
البٌت التً بناها العبٌدٌون لنشر مذهبهم نواة أو مؽناطٌس ٌجذبون إلٌه فرابسهم ،شاحنٌن العواطؾ
بحكاٌاتهم الدرامٌة عن كرامات آل البٌت أو اضطهادهم ،والجنة الزاهٌة المتشوقة إلى من ٌحب آل البٌت
وٌضحً من أجلهم ،فتلٌن العقول وتخضع لطلب شٌوخ الحركات الصوفٌة من هإالء المحبٌن بؤن ٌقدموا
لهم "الطاعة العمٌاء " ،وٌقسموا ٌمٌنا خاصا بالوالء ،حتى ٌصٌر مال المحب وأهل بٌته وأسراره ملك ٌمٌن
شٌخ الطرٌقة ،ثم ٌوجهه بعد سلب إرادته كٌفما شاء ،أو ٌستؽله لتزوٌد جمهوره وشعبٌته لٌصنع لنفسه نفوذا
ٌحوله لقوة ضؽط على الحكام؛ فٌهابونه ،وٌخشون تؤثٌره على الناس ،وٌقدموا له المال والتقدٌس طابعٌن
فً صورة "تبرعات" و"أوقاؾ" طلبا لبركة آل البٌت واألولٌاء.
وقاد هذا األمر أؼراب جدد وفدوا على مصر من فارس والحجاز والمؽاربة ،فإذ فجؤة وكؤن مجهوال
صاح فً بوق ٌنادي فتداعى إلٌه شخصٌات مجهولة لٌست ذات شؤن فً ببلدها ،ما أن ٌهبطوا مصر حتى
ُتنسج حولهم القصص والحكاوي عن "كراماتهم" التً تفوق كرامات األنبٌاء ،بل تتساوى أحٌانا مع اإلله،
كؤنهم آلهة جدد ،وكلها ال تتصل بإصبلح أحوال الناس أو حثهم على مقاومة الجهل والفقر والمحتلٌن ،بل
تشجعهم على محبة الجهل واالستزادة من الفقر ،وترك األرض والمال للمحتلٌن بدعوى أن هذا هو الزهد.
ولم ٌكتفوا بؤضرحة آل البٌت التً تركها العبٌدٌون ،بل بنوا أضرحة جدٌدة ألشخاص مجهولٌن ،نشروها
فً كل مدٌنة وقرٌة وركن؛ إلحكام السٌطرة على كل رقعة فً مصر ،وادعوا أنهم أولٌاء هللا الصالحٌن
مدعومٌن بشبكة دعاٌة فً كل مكان ،ومنهم أحمد البدوي ،وأبو الحسن الشاذلً ،والمرسً أبو العباس،
والرفاعً ،وإبراهٌم الدسوقً والتركروي (الدكروري) ،وأقاموا لهم مساجد كبرى فً المحافظات ،بحٌث
صار مسجد "الولً" هو المسجد الربٌسً بها ،وٌصله معظم النذور والتبرعات والزكاة وعطاٌا الممالٌك
أنفسهم الذٌن ٌرٌدون الحصول على "البركة" ،أو ٌرٌدون أن ٌشعروا األهالً بؤنهم أهل تقوى وورع ،ٗ9أو
ٌستؽلوا فتاوى الصوفٌٌن فً إقناع الناس بعدم مقاومة الظلم والظالمٌن ،باعتبار أن الظلم "قدر هللا" ،ومن
الكفر معاندة قدر هللا ،والمسامحة والعفو عن الظالمٌن تقرب العبد إلى الجنة ال مقاومتهم.
-ٗ9راجع نشؤة الصوفٌة من أٌام األٌوبٌٌن وتوؼلهم أٌام الممالٌك فً :القرٌة المصرٌة فً عصر سبلطٌن الممالٌك ( 9ٕٖ -ٙٗ8هـٔ٘ٔ9 -ٕٔ٘ٓ /
م) ،مجدي عبد الرشٌد بحر ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرة ،ٔ999 ،ص ٕ9ٕ -ٕ88
ٖٖٓ
ومثال على خرافاتهم ما شاع عن أحمد البدوي الذي توفً فً عهد بٌبرس ،قدم من الحجاز وأقام فً
طنطا معتزال الناس ،صامت معظم الوقت ،أشاع ناس أنه ال ٌنام ،وأنه ٌحضر أسرى المسلمٌن من عند
الفرنج بقوته الخفٌة ،وٌصوم ٓٗ ٌوما ال ٌؤكل وال ٌشرب(ٓ٘) ،ألن بعض األولٌاء ٌشتركون مع هللا فً
صفة أنه "ال تؤخذه سنة وال نوم" ،بل إن عٌسى بن نجم فً نواحً البرلس مكث ٔ9سنة لم ٌؽمض له فٌها
جفن ،وأنه كما أن هللا ٌعلم ما ظهر وما بطن وٌعلم الخواطر ،فإن المرٌد ٌكشؾ عالم الؽٌب المحجوب-
وربما منها جاءت الكلمة التً نرددها أن فبلن "مكشوؾ عنه الحجاب" -وٌدرك أسرار الحٌوانات
والحشرات ،وٌمشً على الماء وٌطٌر فً الهواء وٌقتحم النٌران وٌفعل كل ماال ٌقوى علٌه البشر ،وسموا
هذا بـ"علم األسرار" ،و"العلم البلدنً" كما ٌقول الشعرانً فً كتابه" الجواهر والدرر" (ٔ٘) ،وسماه آخرون
بالباطنٌة والحركات أو الشبكات الخفٌة السرٌة.
ولمست هذه الحكاٌات الوتر فً صدور بعض المصرٌٌن ،فهً جاءت فً أحلك وقت ومرحلة حساسة
فً عمرهم ،هم أشد ما ٌكونوا شوقا ألبطال أطهار خارقً القوة ٌخرجوهم من واقعهم التعٌس ،خاصة
وأنهم فاقدو ن للهدؾ من حٌاتهم ،فإذن لٌس لهم هدؾ إال التفكٌر فً أقصر طرٌق للجنة ورضا هللا حسب
الطرٌقة المتاحة لهم ،وذهبت لهم حتى بٌوتهم ،وهً الطرق الصوفٌة ،واستؽلت األخٌرة هذا جٌدا؛ كون
معظم فقهاء الرٌؾ فً المساجد لم ٌكونوا على درجة من العلم الحقٌقً ،وعملٌة تحول عدد كبٌر من أهل
الرٌؾ إلى اإلسبلم لم تتم على ٌد من ٌفقه جوهر الدٌن ،وانشؽلوا بتعلٌم الطقوس عن تربٌة النفوس.
وأشهرها القادرٌة نسبة لعبد القادر الجٌبلنً ،والرفاعٌة نسبة ألحمد الرفاعً ،والشاذلٌة نسبة لـ الشاذلً،
واألحمدٌة نسبة ألحمد بدوي ،والبرهامٌة نسبة إلبراهٌم الدسوقً ،والنقشبندٌة نسبة لمحمد النقشبندي،
والمولوٌة نسبة للشاعر الفارسً جبلل الدٌن الرومً ،ومنهم من ادعوا نسبتهم لسبللة أتقٌاء المسلمٌن مثل
كبار الصحابة والخلفاء الراشدٌن ،وتسمى بـ"القطب"(ٕ٘).
ونبلحظ أن ما ٌسمونهم باألقطاب األربعة أضرحتهم موزعة فً طول مصر ،من كفر الشٌخ إلى قنا،
لتجمع حولها أكبر عدد من الناس فً كل بر مصر ،وأكثرهم أجانب طازة أو بؤنساب أجنبٌة ٌفتخرون بها،
حتى لتكاد السخرٌة نفسها تسخر وتسـؤل" :أال ٌوجد فبلح مصري ٌصلح أن ٌكون قطبا وولٌا كبٌرا من
أولٌاء هللا الصالحٌن" فً مصر ..أم فقط دور الفبلحٌن أخذ البركة والطاعة ..والدفع؟
وٌجٌب عبد الوهاب الشعرانً ،إمام التصوؾ فً عصره ،وهو ٌهاجم طابفة من المتصوفة فً زمانه ادعت
الوالٌة الكبرى بؤن الفبلحٌن أقرب إلى هللا من هإالء المضللٌن ،ألنهم -أي الفبلحٌنٌ -قضون العمر فً نفع
العباد ،وأما هإالء فٌقضونه فً ضرر الناس"(ٖ٘).
وشجع معظم الممالٌك هذه الخرافات ،فنجد الناصر قبلوون ٌرعى بناء خانكاه فٌها ٓٓٔ خلوة لـ ٓٓٔ
(ٓ٘)
-انظر :بدابع الزهور فً وقابع الدهور ،محمد بن إٌاس ،ج ٔ ،ق ٔ ،ص ٖٖٖٖ٘ٙ -
(ٔ٘)
-انظر :التصوؾ فً مصر إبان العصر العثمانً ،د .توفٌق الطوٌل ،مكتبة اآلداب بالجمامٌز ،القاهرة ،ص ٙ9ؤ99 -ٔ9ٙ ،
(ٕ٘)
-المرجع السابق ،ص ٔ9ٕ -9
(ٖ٘)
-نفس المرجع ،ص ٔ89نقبل عن رسالة ردع الفقراء عن دعوة الوالٌة الكبرى للشعرانً
ٖٗٓ
صوفً ال ٌعملون شٌبا ،وقال المقرٌزي فً خططه إن الناصر أمر بصرؾ لحم ضؤن مطبوخ شهً لكل
صوفً ،ورطلٌن زٌت زٌتون ،ورطلٌن صابون ،وصرؾ الفواكه والسكر واألدوٌة ،وثمن كسوة سنوٌة،
وتوسعة فً رمضان واألعٌاد ،وطباخ وحبلق لتدلٌك أبدانهم "مساج" وحلق رءوسهم لٌتفرؼوا للعبادة(ٗ٘).
أي عبادة هذه التً تصنع من العواطلٌة أولٌاء ،ولماذا ٌتفرؼون للعبادة وهللا خلق اإلنسان لٌعبده بتعمٌر
األرض ومحاربة الشر ولٌس فقط للركوع والسجود ،وماذا ٌستفٌد الشعب الذي ٌإخذ من دمه لٌؤكل هإالء
العواطلٌة أفخر الطعام ،وٌدلكون بدنهم بالمساج ،ثم ٌعتبرون أنفسهم أتقى من هذا الشعب؟
وعلى طرٌقة الممالٌك واألحزاب فً تمٌٌز أنفسهم بؤلوان وراٌات ٌتعالوا بها على السكان ،ارتدت
األحمدٌة األحمر والبرهامٌة األخضر والرفاعٌة األسمر ،واختاروا ألوانا لعمابمهم أٌضا تمٌزهم.
وٌؤخذون البٌعة للمرشد (شٌخ الطرٌقة) كؤنها بٌعة هلل نفسه ،فؤورد كتاب "األصول المرعٌة فً قواعد
الطرٌقة الرفاعٌة" ،أن الشٌخ ٌؤمر الطالب أن ٌتوضؤ وٌصلً ركعتٌن بنٌة التوبة ،ثم ٌجلس المرشد مستقببل
القبلة جاثٌا على ركبتٌه باألدب والخشوع ،وٌجلس الطالب أمامه الصقا ركبٌته ،وٌقرأ الفاتحة ثبلثا ،وٌؤخذ
المرٌد بعده وٌقرأ قوله تعالً "إن الذٌن ٌباٌعونك إنما ٌباٌعون هللا ٌد هللا فوق أٌدٌهم فمن نكث فإنما ٌنكث
على نفسه" ،أي ٌرهبونه من عاقبة مخالفة المرشد وكؤنه ٌخالؾ هللا نفسه ،ثم ٌؤمره أن ٌقول" :استؽفر هللا-
استؽفر هللا العظٌم الذي ال إله إال هو الحً القٌوم وأتوب إلٌه ،تبت إلى هللا ورجعت إلى هللا ونهٌت نفسً
عما نهى هللا ،ورضٌتك شٌخا لً ومرشدا لطرٌقة الرفاعً"(٘٘) ،كؤنما ٌتوب من حٌاته السابقة للدخول فً
الطرٌقة ،وكؤنها قبلها كانت حٌاة جاهلٌة.
وفوق هذا ،كسرت هذه الطرق ما بقً من رمق لمقاومة المحتلٌن ،فعلَّمت أتباعها أنه حسب اإلنسان من
حٌاته العبادة ،والعبادة من مستلزماتها التواضع حتى لتهون على اإلنسان كرامته ،وتسقط عزة نفسه،
وٌسهل علٌه التمرغ تحت أقدام الناس والرضا بظلم الظالمٌن ،وبؽً المعتدٌن ،واالؼتباط بالذل والهوان،
فإن احتمال الظلم رضاء بقضاء هللا وعقابه للمظلوم على سوء ما قدمت ٌداه ،ولماذا ٌثور المظلوم فً وجه
ظالم؟ ثم إن الظالم ال ٌقدم على ظلم أحد من الناس إال وهو فً ؼفلة من ربه ،ومثل هذا أحوج إلى عطؾ
المظلوم ومرثاته منه إلى سخطه وؼضبه ..هكذا ٌقولون.
وبتعبٌر توفٌق الطوٌل فً كتابه المرجع "التصوؾ فً مصر إبان العصر العثمانً" فإنه بهذه العٌن الكلٌلة
أحالوا الدنٌا إلى مقبرة واسعة النطاق تضم مبلٌٌن المخلوقات ،وحولوا الحٌاة إلى موت تتخلله الحركة
وٌشوبه الكبلم ،ووضعوا هذه التعالٌم التً ال تبلبم إال الضعفاء والجبناء والكسالى وفقراء النفوس ومرضى
العقول وساقطً الهمة ،وفً اإلجمال تسببوا فً حالة "شلل عقلً" ،وقبول الذل ،بل و"السعً إلى الذل"،
حتى أنهم أباحوا الشحاتة والتسول بحجة أنهم ٌحملون الحسنات للناس ،وشجعوهم على اصطناع الهوان
(ٗ٘)
-السلوك لمعرفة دول الملوك ،جٕ ،ق ٔ ،ص ٔ ،ٕٙوهوامش ص ٕٕٙ
(٘٘)
-التصوؾ فً مصر إبان العصر العثمانً ،مرجع سابق ،ص 99و 89
ٖ٘ٓ
وإن لم ٌكن اإلنسان حقا فً مهانة وفقر(.)٘ٙ
ٌربً شٌخ الطرٌقة أتباعه على "الطاعة العمٌاء" ،وٌرونه هو أول المستحقٌن للوالء ،وراٌته -راٌة
الطرٌقة الصوفٌة التً ٌرأسها -هً األحق بالسٌر ورابها -وٌشترط على أتباعه أحٌانا عدم التصرؾ فً
أموالهم أو شبون بٌوتهم إال بإذنه ،وذلك رؼم أن هإالء الشٌوخ أكثرهم أجانب ودخبلء دما وفكرا.
بل إنه بتعبٌر الطوٌل" :والؽرٌب أن روح العصر كانت ال تسمح بؤن ٌكون الحاكم واحدا من أهل
البلد!"( ،)٘9وانطبع هذا على شٌخ الطرٌقة ،فهو إما فارسً أو مؽربً أو حجازي مثل أحمد البدوي
(حجازي) وٌوسؾ العجمً (فارسً) وإما مولود فً مصر أو عابلته لها كذا جٌل فٌها ولكنه ٌتفاخر بؤنه
من خارجها وبؤن عابلته أصبل أجنبٌة عنها مثل الشعرانً (من المؽرب) والسادات والبكري (من الحجاز).
ورصد أن التصوؾ فً بداٌته بمصر قام به الؽرباء حتى أن الخوانق والربط والزواٌا نشؤت فً بداٌة
أمرها خصٌصا للوافدٌن من الببلد األجنبٌة ،حتى أصبحت مصر محط المتصوفة (العواطلٌة) من أهل
المؽرب وتركٌا وفارس والشام ،ضاربا مثبل عن استهداؾ مصر بؤعداد كبٌرة منهم بؤن القاسم المؽربً
دخل مصر وفً صحبته ٓٓ٘ فقٌر (كلمة فقٌر أطلقها الصوفٌة على أعضاء حركتهم) ،حتى أن استخبلص
العناصر المصرٌة بٌن المتصوفة أمر عسٌر كما اكتشؾ فً دراسته ،وما أطال أمد هذه الطرق أن
مإسسٌها ٌرثون مشٌختها جٌبل بعد جٌل ،وٌحرصون على توسعة نفوذهم بشبكة عالمٌة ،حتى ٌقول الطوٌل
كان شٌخ الطرٌقة ٌموت فً مصر ف ُتقام له صبلة الؽابب فً األقطار اإلسبلمٌة النابٌة ،ولهذا ذاللته
ومؽزاه( ،)٘8من داللته أنهم ال ٌتمصرون مهما مرَّ ت السنٌنٌ ،عٌشون بروح حركة عالمٌة لها سدنتها
وكهنتها وأسرارها وعبلقاتها الداخلٌة والخارجٌة الخاصة.
وساهم انتشار الطرق الصوفٌة على أٌدي شخصٌات ال تعرؾ الطبٌعة المصرٌة ،أو تعرفها وترٌد
()٘9
مسحها ،فً انتشار عادات وسلوكٌات همجٌة ،وأحٌانا دموٌة فً الموالد ،وظهور ما سمى بـ"الدراوٌش"
نشروا الخرافات ،وقدموا المجاذٌب والنصابٌن والدجالٌن على أنهم قدٌسٌن وأولٌاء ،وحرصوا على أن
ٌكونوا من المجاهٌل كً ٌسهل نسج األساطٌر حول صفاتهم وطهارتهم وأصولهم ونسبتهم إلى آل البٌت.
وٌنبه عبد الرشٌد بحر فً دراسته لحال التصوؾ فً الرٌؾ فً ذلك العصر إلى أنه "ٌجدر بنا أن نشٌر
إلى أن موقؾ الفبلحٌن فً القرى من حركة التصوؾ هذه لم تتجاوز االعتقاد فً األولٌاء والدراوٌش
والتماس بركاتهم ومعجزاتهم ودعواتهم فً حٌاتهم وزٌارة أضرحتهم بعد وفاتهم لبلستعانة بهم فً قضاء
()٘ٙ
-نفس المرجع ،ص ٕٕٕٔٔٔ -
()٘9
-نفس المرجع ،ص ٖٖٔ
()٘8
-نفس المرجعٔٗ -ٖٔ ،
()٘9
-ضمن خرافاتهم ما اشتهر ب"الدوسة" ،وفٌها ٌنبطح أتباع الطرٌقة على األرض ممدٌن ومتجاورٌن ،وٌجري فوق أجسادهم بسرعة دابة
ٌركبها شٌخ الطرٌقة ،متعمما بعمامة خضراء ،فمن تنؽرس فً جسده حوافرها الحادة وتسٌل دمابه فهذه إشارة إلى نقص إٌمانه ،وكؤنها اختبار
والء وإٌمان ،وهم ال ٌدرون أن من نجا من اإلصابة لٌس ألنه قو ي اإلٌمان ،ولكن ألن سرعة جري الدابة ال تسمح بإصابة الجمٌع ،انظر :مصر
وكٌؾ ؼدر بها ،ألبرت فارمان ،ترجمة عبد الفتاح عناٌت ،الزهراء لإلعالم العربً ،طٔ ،ص ٔ77 -7
ٖٓٙ
حوابجهم ثم المشاركة فً موالدهم ،فً حٌن لم ٌنخرطوا فً الطرق ،بمعنى أن السواد األعظم منهم لم
ٌكونوا أتباع طرق" ،خاصة أن أتباع الطرق حٌنها ٌتطلب اعتزال العمل لبلنقطاع للعبادةٓ ٙوهو ما ال
ٌتوفر للفبلحٌن المعتمدٌن فً سد رمقهم على سواعدهم ،وانتشرت أضرحة األولٌاء المجاهٌل فً القرٌة أو
المركزٌ ،شخص إلٌها الناس كؤنهم ٌجدون فٌها سلوى عن فقدان حكومتهم وقواتهم والقانون العادل.
كالعادة ،فإن صناعة الوالء لؤلجنبً ال تتحقق إال بنزع الوالء لؤلرض ،أي للوطن ،بتارٌخه ورموزه
وروحه ،وشهد عصر الممالٌك تكرٌها للناس فً التارٌخ المصري القدٌم وآثاره لم ٌحدث مثلها من قبل،
واستؽل البعض الحروب مع الفرنجة فٌما سمً بالحمبلت الصلٌبٌة وؼٌرها فً القرنٌن الثالث والرابع
عشر لشحن الناس ضد كل ما هو ؼٌر مسلم ،ومنه ما وصفها باألوثان ،وكان للطرق الصوفٌة الوافدة
دورها الرابد فً هذا ،فحطم البعض تمثال إٌسة "إٌزٌس" فً الفسطاط ،وانتزعوا حجارة من معبد فً منؾ
لبناء تكٌة للمتصوفة ،وهدموا معبد أخمٌمٔ ،ٙورؼم أن العرب منذ الفتح لم ٌلجؤوا لهدم اآلثار باعتبارها
"منكرا" وإنما باعتبارها موردا للحجار لبناء المبانً الضخمة أو طمعا فً الكنوز بداخلها ،بل وأشادوا
ببراعة وعلوم من بنوا األهرام وأبو الهول ،فإنه أٌام الممالٌك اتهم المقرٌزي رجبل ٌدعى صابم الدهر ،قال
إنه من صوفٌة الخانقاه الصالحٌة ،بؤنه فً ٓ 98هـ وبحجة "تؽٌٌر أشٌاء من المنكرات" فإنه "سار إلى
وشوه وجه أبً الهول وشعثه" ،وأن هذا أثار ؼضب أهالً الجٌزة ،وٌبدو أنه األمر أثار أسى َّ األهرام
ٕٙ
المقرٌزي أٌضا الذي ردد شعر ظافر الحداد مادحا األهرام وأبو الهول :
ورث االحتبلل المملوكً نظام توزٌع اإلقطاعٌات من األٌوبٌٌن ،فالسلطان ٌستؤثر بؤجود األراضً ،ثم
تلٌها فً الجودة أراضً األمراء ،ثم الجند والقضاة و"األشراؾ" (من ٌنتسبون آلل البٌت والصحابة) وكبار
شٌوخ األزهر ودخل شٌوخ الطرق الصوفٌة لٌؤخذوا نصٌبا من الكعكة "اللً كؤنها مالهاش صحاب".
ٌتراوح اإلقطاع بٌن نصؾ قرٌة وٌصل إلى ٓٔ قرى ،وٌُرد اإلقطاع إلى السلطان فً حاالت عزل
األمٌر أو تقاعده أو الوفاة ،وشاع الفساد فً هذا األمر ،فكان المملوك مثبل ٌسجل نفسه على أنه أمٌر
ٓ -ٙالقرٌة المصرٌة فً عصر سبلطٌن الممالٌك ( 9ٕٖ -ٙٗ8هـ ٔ٘ٔ9 -ٕٔ٘ٓ /م) ،مجدي عبد الرشٌد بحر ،ص ٕٕ9
ٔ -ٙفراعنة من؟ علم اآلثار والمتاحؾ والهوٌة القومٌة المصرٌة من حملة نابلٌون حتى الحرب العالمٌة األولى ،ص ٖ٘
ٕ -ٙالخطط المقرٌزٌة ،جٔ ،مرجع سابق ،ص ٖٗ9 -ٖٗ8
ٖٓ7
ومملوك سلطانً وجندي فً نفس الوقت ،فٌؤخذ ٖ إقطاعات دفعة واحدة(ٖ ،)ٙومارس الممالٌك منتهى
القسوة فً تحصٌل الخراج ،وانفرد كل منهم بدابرة إقطاعه الخراجً وبفبلحٌها ،وساموهم سوء العذاب،
واعتبر نفسه المالك الفعلً لؤلرض وما علٌها من بشر ،وأهدر آدمٌتهم ،وجمع ما شاء من مال بجانب
الخراج والجزٌة ،فٌما الفبلحٌن فً أفخر مؤكوالتهم ال ٌؤكلون إال الشعٌر والجبن القرٌش والبصل،
وأوصلوا الفبلحٌن لحالة جعلت ابن خلدون ٌصؾ مهنة الفبلحة وأهلها بؤنها "معاش المستضعفٌن"(ٗ.)ٙ
ولم ٌعد الفبلحون ممن تحت أٌدٌهم قطع صؽٌرة من األرض ٌحصلون إال على القلٌل؛ فلما تكالبت علٌهم
هموم األرض وزراعتها ودفع المال وجبروت المملوك تركها بعضهم؛ فانطمست حقوقه فٌها(٘.)ٙ
وهكذا تكررت مؤساة الفرار والتشرد فً أنحاء البلد من االحتبلل الرومانً للعربً للمملوكً.
وعلى هذا ،انتفى فً ذلك العصر نهابٌا فكرة الحكومة والدولة ،فهً إقطاعٌات موزعة بٌن أمراء حرب
أو مرتزقة ،أسوأ حاال من إقطاعٌٌن أوروبا فً العصور الوسطى ،الضراٌب لٌس لها نظام ،بل حسب ما
ٌفرضه صاحب اإلقطاع ،والجٌش لٌس له نظام ،بل مجموعة ملٌشٌات تتقاتل على النهب والسلب ،وقتل
الناس ٌتم فً الشوارع ببل محاكم وقضاء ،والبلد ببل رأس ،وال كؤنها هً البلد التً اخترعت للعالم الدولة
والحكومة والنظام ،وجسدت أرقى نظم اإلدارة التً على أساسها تعلم العالم الحكومة والنظام ...وال كؤن !
حسبما تابعنا ٌقدر سكان مصر عند بداٌة االحتبلل العربً بـ ٕٔ ٔ8 -ملٌون ،وحتى من رأى فً الرقم
مبالؽة ففً النهاٌة بالتؤكٌد أن المصرٌٌن كانوا مبلٌٌن كثٌرة ،والمصرٌون معروفون بكثرة اإلنجاب ،ورؼم
ذلك فالعدد منذ ذلك التارٌخ لم ٌزد ،بل نجد أنه عند تولً محمد علً فً أول القرن ٔ9هبط سكان مصر
لٌكون عددهم ما بٌن ٕ ٖ -ملٌون.
وهنا ٌقفز السإال :أٌن ذهب مبلٌٌن المصرٌٌن فً الفترة من االحتبلل العربً وحتى العثمانلً؟
رأٌنا أنه فً فترة االحتبلل العبٌدي فقدت مصر ،بحسب المقرٌزي ،خبلل مجاعة الشدة الستنصرٌة ثلث
سكانها ،ثم فقدت آخرٌن فً مجاعات أخرى فً نفس العصر وفً االحتبلل األٌوبً ،وتسابقت المجاعات
أٌضا على حصد المصرٌٌن أٌام االحتبلل المملوكً ثم العثمانً؛ لتصبح أكثر فترات التارٌخ التً ٌتقلب
فٌها المصرٌون بٌن المجاعات واألوببة "ورا بعض ورا بعض" ،ما كان له تؤثٌره فً إبادة مبلٌٌن
المصرٌٌن ونزول عدد السكان إلى هذا الرقم الصادم الهزٌل فً أول عصر محمد علً.
هذا بخبلؾ تدوٌر السٌوؾ فٌهم حٌن كانوا ٌقومون بؤي احتجاج لرفض دفع الخراج الباهظ واالعتداء
على أعراضهم ،أو ُتزهق أرواحهم خبلل المعارك التً تدور فً الرٌؾ بٌن المتصارعٌن على الحكم من
(ٖ)ٙ
-للمزٌد انظر ملكٌة األراضً الزراعٌة فً القرن التاسع عشر ،حمدي الوكٌل ،مرجع سابق ،ص ٓ9ٖ -9
(ٗ)ٙ
-المجتمع المصري فً عصر سبلطٌن الممالٌك ،مرجع سابق ،ص ٘8
(٘)ٙ
-انظر المرجع السابق ،ص ٘9
ٖٓ8
العرب أو األتراك أو العبٌدٌٌن واألٌوبٌٌن ثم الممالٌك ،أو خبلل ؼارات العربان ،ومن أشهر المجاعات
واألوببة فً وقت الممالٌك ما وقع سنة ٕٔ9ٙم حٌنما انخفض فٌضان النٌل عن مستواه فٌموت كل ٌوم
آالؾ من الناس ،ووباء سنة ٖٔٗ9م ،وفً عهد قاٌتباي وحده انتشر الطاعون ٖ مرات ،أشهرها سنة
ٕ ٔٗ9م ،وفً عهد السلطان كتبؽا حصل ؼبلء شدٌد بعد هبوط الفٌضان وهبوب رٌاح ترابٌة من الؽرب
أجهزت على الزرع ،وخربت قرى بؤكملها من كثرة الموتى(.)ٙٙ
وفً كتابه "إؼاثة األمة بكشؾ الؽمة" الخاص بإحصاء المجاعات فً مصر طول تارٌخها حتى االحتبلل
المملوكً سعى المقرٌزي للوصول إلجابة عن سبب كثرة الطواعٌن والمجاعات والؽبل أٌام الممالٌك ،ولخصها
فً فساد الممالٌك حتى جعلوا الوصول للمناصب بالرشوة ،فبل ٌهتم أصحابها بصالح الناس ،وال ٌقضون مصالح
الناس إال بالرشوة واإلتاوات ،فطفش كثٌر من الفبلحٌن من قراهم وتشردوا وقل الزرع ،فٌما ؼرق الممالٌك فً
عٌشة الترؾ وجمع المال ،وصك العملة من ؼٌر الذهب والفضة والؽش فٌها(.)ٙ9
وعن دور السخرة فً إهبلك عدد ؼٌر قلٌل من المصرٌٌن قال المقرٌزي عن حودث 9ٔٙه" :انقطع الجسر
المجاور للقناطر األربعٌن بالجٌزة ،فنقص ]الماء[ عدة أصابع ،وجمع لسده خلق كثٌر ،ؼرق منهم نحو ثبلثٌن
رجبل فً ساعة واحدة انطبق علٌهم الجسر .ثم جمع من مصر رجال كثٌرة ،وكتفوا وأنزلوا فً مركب وعدتهم
سبعون رجبل ،فانقلبت بهم المركب فؽرقوا بؤجمعهم"(.)ٙ8
وٌقول ابن تؽري بردي فً "النجوم الزاهرة" عن حوادث 9ٖ8ه إن الناصر محمد بن قبلوون أمر والً
القاهرة بتسخٌر العامة فً مشروع خاص به ،ولما جاء المسخرون" :فج َّدوا فً العمل لٌبل ونهار ،واستحثهم أقبؽا
المذكور بالضرب ،وكان ظالما ؼشوما ،فعسؾ بالرجال وكلفهم السرعة فً أعمالهم من ؼٌر رخصة ،وال مكنهم
]من[ االستراحة ،وكان الوقت صٌفا حارا فهلك جماعة كثٌرة منهم فً العمل لعجز قدرتهم عما ُكلفوه ،ومع ذلك
كله والوالة ُتسخر من تظفر به من العامة ،وتسوقه إلى العمل ،فكان أحدهم إذا عجز ]و[ ألقى بنفسه إلى األرض،
رمى أصحابه علٌه التراب فٌموت لوقته ،هذا والسلطان ٌحضر كل ٌوم حتى ٌنظر العمل" ،ولم ٌُخفؾ عنهم إال
حٌن استؽاثوا باألمٌر ألطبؽا الذي توسط لهم عند السلطان حتى خفؾ األمر ،ثم تكرر األمر عند حفر خلٌج
وإنشاء جسر" :وزادوا فً ذلك حتى صارت الناس ُتإخذ من المساجد والجوامع واألسواق ،فتستر الناس ببٌوتهم
خوفا من السخرة ،ووقع االجتهاد فً العمل ،واشتد االستحثاث ،حتى إن الرجل كان ٌخر إلى األرض وهو ٌعمل
لعجزه عن الحركة فتردم رفقه علٌه الرمل فٌموت من ساعته ،واتفق هذا لخبلبق كثٌرة(.")ٙ9
ولجؤ الكثٌرون للمقاومة أو لبلختباء للنجاة من السخرة ،أما من ؼلبه الممالٌك بؤسلحتهم ومرتزقتهم فمن
طرٌؾ ما فعلوا أن ٌلجؤوا لحٌلتهم المصرٌة المعروفة لٌخففوا عن أنفسهم ،وهً الؽناء ،فٌروي ابن إٌاس وابن
تؽري بردي أنهم ٌصطحبون معهم الدفوؾ والمزامٌر ،وٌنشدون أؼانً العمل ،وروي أن بعض العمال لم
()ٙٙ
-انظر :إؼاثة األمة بكشؾ الؽمة ،المقرٌزي ،مرجع سابق ،ص ٔٔٓ -ٔٓ8
()ٙ9
-انظر :المرجع السابق ،ص ٘ٔٔٔٗٙ -
()ٙ8
-السلوك لمعرفة دول الملوك ،تقً الدٌن المقرٌزي ،ج ٕ ق ٔ ،محمد مصطفى زٌادة ،لجنة التؤلٌؾ والترجمة والنشر ،القاهرة ،ص ٘ٔٙ
()ٙ9
-النجوم الزاهرة فً ملوك مصر والقاهرةٌ ،وسؾ بن تؽري بردي ،ج ،9طٔ ،مرجع سابق ،ص ٗ99 -9
ٖٓ9
ٌستطٌعوا جر عمودٌن ضخمٌن أثناء تشٌٌد مبنى تحت القلعة ،فرددوا أؼانٌهم الحاثة على العمل حتى جرَّ وا
العمودٌن ،فؤطلقت النساء الزؼارٌد ابتهاجا بذلك ،واشتهرت تلك األؼنٌة حتى تداولتها األلسنة لفترة طوٌلة(ٓ.)9
بعد تمكن قبابل الؽز التركٌة من القسطنطٌنٌة وما حولها ،تطلعت بؤطماعها إلى أؼنى الببلد ،وهً
مصر ،وإلى الببلد التً بها الحرمٌن الشرٌفٌن ،وهً الحجاز ،كً تلبس لباس الخبلفة اإلسبلمٌة بعد
سٌطرتها علٌهما ،واستؽلت فً ذلك التناحر التقلٌدي بٌن الممالٌك ،فٌما كان العثمانٌون فً عز فتوتهم
وتماسكهم ،واستمالوا إمارات وقباٌل فً شمال الشام ومنها إمارة أبناء ذي الؽادر(ٔ.)9
وجهز السلطان المملوكً قنصوه الؽوري جٌشا لمحاربة العثمانٌٌن ،ولكنه جٌش لٌس كما ٌجب ،فقد
تخلى عنه كثٌر من الممالٌك بحجة قلة المرتبات بعد قطع العثمانلٌة طرق التجارة وهبوط الموارد المالٌة،
وهذا ما كان ٌهدؾ إلٌه العثمانٌٌون لما ضربوا قوافل التجارة والرقٌق ،كما قٌل إن هإالء كانوا ساخطٌن
من قنصوه الؽوري ألنه ٌعطً الممالٌك أتباعه ،من ملٌشٌاه الخاصة الذٌن رباهم بنفسه ،مخصصات أكثر
من بقٌة الممالٌك ...وهكذا هو حال عدٌمً الوطن فً كل زمان.
واتفق أٌضا العثمانٌون مع بعض نواب قنصوه الؽوري فً الشام على أن ٌعملوا لصالحهم مقابل أن
ٌعطوه م مزاٌا فً حكم مصر إن احتلها العثمانٌون ،وممن استجاب لهم خاٌر بك نابب الؽوري على حلب،
وجان بردي الؽزالً ناببه على حماة ،وهو ما ٌذكرنا بالمٌتانٌٌن والحٌثٌٌن الذٌن عاشوا فً نفس المنطقة
قبل ٖٓٓٓ سنة وحرضوا اإلمارات الشامٌة على مصر زمن تحوتمس الثالث ورمسٌس الثانً.
وانتهت المعارك بهزٌمة الممالٌك وتسلٌم حلب للعثمانلٌة ،وانضم للجٌش العثمانً خاٌر بك وؼٌره من
الممالٌك الخونة ،وبسرعة البرق ؼٌَّروا فً شكل لحاهم لتتماشى مع العثمانٌٌن ،ولبسو لبس العثمانٌٌن،
واستسلمت له كل مدن الشام حتى وصل إلى مصر التً احتلوها بعد هزٌمة الممالٌك وقابدهم طومان باي
فً معركة الرٌدانٌة (العباسٌة حالٌا) شرق القاهرة(ٕ.)9
ومن الحوادث الؽرٌبة التً أوردها ابن إٌاس الذي حضر الؽزو أن طومان باي طلب من التجار
المؽاربة المسموح لهم بحمل السبلح فً مصر أن ٌجهزوا له ألؾ شخص لٌحاربوا مع الممالٌك فرفضوا،
وقالوا" :نحن ما نقاتل إال الفرنج ،ما نقاتل مسلمٌن" ،وأظهروا التعصب البن عثمان ،فهددهم إن لم ٌفعلوا
لٌقتل كل مؽربً فً مصر" )9ٖ(،فكان موقفهم ؼرٌبا ،فلماذا ٌرفضون القتال ضد العثمانٌٌن بزعم أنهم
"مسلمٌن" فً حٌن ٌقبلوا أن ٌظلوا متفرجٌن على العثمانٌٌن وهم ٌقتلون المسلمٌن أٌضا فً مصر وٌؽزون
البلد التً آوتهم وأكرمتهم وجعلتهم ٌؽتنون بها؟
(ٓ)9
-أحوال العامة فً مصر فً عصر الممالٌك البرجٌة ،أحمد ماجد الجبوري( ،ماجستٌر) جامعة آل البٌت ،بؽداد ،ٕٓٔ٘ ،ص ٕٔٙ
(ٔ -)9تؤسست على أنقاض دولة تترٌة ،وامتدت فً أرمٌنٌا وكردستان ودٌار بكر ،وتنصٌب حاكمها ٌتم بؤمر من الممالٌك فً مصر
(ٕ -)9انظر :تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر ،عمر اإلسكندري وسلٌم حسن ،ٔ9ٔٙ ،ص ٕ8 -
(ٖ -)9بدابع الزهور فً وقابع الدهور ،ابن إٌاس ،الجزء ٘ ،ص ٖٔ9
ٖٓٔ
كذلك نقل ابن إٌاس أنه أشٌع أن ابن عثمان عقد صفقة مع شٌخ العرب فً الشرقٌة أحمد بن بقر ،وٌبدو
أن العربان انقسموا فً الموقؾ من العثمانلٌة ،فساندهم البعض ،فٌما حاربهم آخرون ،ولما فرَّ طومان باي
إلى البحٌرة ،وطلب من شٌخ أعرابً سبق أن أحسن إلٌه التخفً عنده ،واسمه حسن بن مرعً ،فؤعطاه
األمان ،ولكن خانه ،وبلَّػ عنه العثمانلٌة ،فقبضوا على طومان باي فً مشهد تفوح منها أنتن روابح الؽدر،
وانتهت أٌامه مشنوقا على باب زوٌلة وجسده ٌترنح أمام الناس ٖ أٌام(ٗ.)9
ومن هذه السنة السوداء ٔ٘ٔ9 ،م9ٕٖ/هـ ،فتح التارٌخ لمصر صفحة هً أسود صفحات كتابها ،أسود
من عصر حكم الممالٌك االنفرادي نفسه ،وكؤن وحش مخٌؾ حدفها فً كهؾ بارد مظلم ،مكفن بالدم
والسُخرة والفقر والمذلة والجهل والدجل لمدة ٖٓٓ سنة ،ؼلب فٌها ال ُؽز العثمانلً االحتبلالت السابقة فً التفنن
فً إذالل المصرٌٌن ،ونهب حضارتهم ،ومص دمابهم ،وإبادتهم ،ومحو ذاكرتهم.
وٌجري هذا فٌما أوالد البلد ٌنكبون مرؼمٌن على زراعة أراضٌهم لؽٌرهم ،وبناء القصور والتكاٌا
للؽزاة األوباش والعبٌد والجواري ،والمستوطنٌن األجانب ،وتماثٌل األجداد تراقبهم وهً تبكً فً صمت.
تبكً بلدا و ُملكا ُحرا كرٌما عزٌزا ،بناه بؤؼلى القٌم والعرق الرجال ،ودافع عنه بؤعز
الدماء الرجال ،وحافظ علٌه بؤخلص القلوب الرجال ،وضٌعه بؤعجب ؼفلة وسقطة ..أٌضا
الرجال.
"إن البوابات ]الحدود[ التً فوقك كبوابات حامٌة ....إنها سوؾ ال تفتح للؽربٌٌن ،إنها سوؾ ال تفتح
للشرقٌٌن ،إنها سوؾ ال تفتح للجنوبٌٌن ،إنها سوؾ ال تفتح للشمالٌٌن ،إنها سوؾ ال تفتح لهإالء الذٌن فً
وسط األرض ،إنها سوؾ تفتح لحورس(٘( .")9نصوص األهرام)
"إن الذي ٌفعل الماعت فذلك الذي ٌكون بعٌدا عن الضالل"ٌ" ،حل العقاب دابما بالذي ٌتخطى
قواعدها"(( )9ٙبتاح حتب)
(ٗ)9
-انظر المرجع السابق ،ج ٘ ،ص ٘٘ٔ وٗٔ99 -ٔ9
(٘)9
-القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم ،نجبلء فتحً شهاب ،مرجع سابق ،ٕٕٓٔ ،ص ٕٕ٘ٔٔٙ -
()9ٙ
-انظر :تقدٌم علً رضوان لكتاب "الماعت ..فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة" ،مرجع سابق ،ص ٕٔٔ٘-
ٖٔٔ
ٖٕٔ
وسمع أحدهم قاربا ٌقرأ" :ؼلب الترك فً أدنى األرض"
ا
( -)1النوادر الشعبية المصرية ،إبراىيـ شعالف ،ج ،1الييئة المصرية العامة لمكتاب ،القاىرة ،2112 ،ص 155
المشهد ٘ٔ :االحتالل العثمانلً
ٔ9ٔٗ -ٔ٘ٔ7م
(الهمج)
العثمانلٌة قبابل تركٌة اسمها "األوؼوز" -جاء منها اسم ال ُؽز -موطنها األصلً المناطق الجبلٌة الوعرة
بوسط آسٌا ،عرق ٌنتسب لعرق أكبر هو المؽولً الذي ٌنتسب له أٌضا الصٌنٌون وكثٌر من سكان شرق
ووسط آسٌا(ٕ).
وتارٌخ الترك مع مصر هو تارٌخهم مع جٌرانها؛ فهم قباٌل رحل ،كثرة تنقلهم وقسوة جبالهم جعلت
رسالتهم فً العالم هً السٌؾٌ ،حترفون القتال والؽزو والسطو على خٌرات ؼٌرهم ،ومهرة فً الحرب
وصنع السبلح ،وموردا للمرتزقة الذٌن استعانت بهم الدول التوسعٌة كالعباسٌة والعبٌدٌة واألٌوبٌة
والسبلجقة ،وقذفوهم إلى مصر؛ فذاقت منهم سوء العذاب ،ودابما ما كانوا "وش النحس" على الدول التً
استعانت بهم ،وسبب انهٌارها بؽدرهم بحكامها واسٌتبلبهم على الحكم بعد استٌطانهم فٌها كما تابعناهم فً
الدول العباسٌة والعبٌدٌة واألٌوبٌة ،ولما انهارت دولة السبلجقة التً استعانت بهم وأعطتهم أراضً أقاموا
علٌها أول كٌان مستقر لهم ،وكانت مجاورة لبٌزنطة ،سال رٌقهم للسٌطرة على بٌزنطة ،وفتحوها واستولوا
على عاصمتها القسطنطٌنٌة سنة ٖ٘ٗٔ.
وفً نهاٌة "االحتبلل المملوكً" تابعنا الظروؾ التً ساعدت العثمانٌٌن على ؼزو مصر وإسقاط حكم
الممالٌك ،وبعد شنق طومان باي على باب زوٌلة ،بقً سلٌم األول فً مصر 8شهور ٌرتب لتمكٌن الحكم
العثمانلً بها ،فعٌن المملوك الخابن خٌر بك والٌا علٌها ،والمملوك الخابن اآلخر جان بردي الؽزالً والٌا
على الشام ،فً ذلك قال مإرخ هذا العصر ابن إٌاس" :ومن العجابب أن مصر صارت نٌابة ]أي تابعة
لدولة أخرى[ بعد أن كان سلطان مصر أعظم السبلطٌن فً سابر الببلد قاطبة ،ألنه خادم الحرمٌن
الشرٌفٌن ،وحاوي ملك مصر" ،وعن سلٌم قال" :ولكن ابن عثمان انتهك حرمة مصر وما خرج منها حتى
ؼنم أموالها وقتل أبطالها وبدد أحوالها" ،وأنه فعل فٌها ما لم ٌفعله الخوارج.
وٌصؾ أخبلق وطباٌع العثمانٌٌن وصفا ٌكشؾ ما شاع عنهم فً ذلك الزمان ،فقال إن سلٌم شاه لم
ٌنصؾ مظ لوما من ظالما ،ولم ٌكن له كلمة وال عهد ،وال ٌُرى إال عند سفك دماء الممالٌك الشراكسة،
(ٕ)
-انظر :تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر ،عمر اإلسكندري وسلٌم حسن ،مرجع سابق ،ص ٕٕٕٔ -
ٖٗٔ
وؼرق فً اللهو ،ومن عادته ٌعطً األمان لؤلمراء والممالٌك ثم ٌؽدر فً أمانه فً الحال.
ووصؾ عساكره بؤنهم "جٌاعٌن العٌن ،نفسهم قذرةٌ ،ؤكلون األكل وهم راكبون خٌولهم فً األسواق،
وعندهم عفاشة فً أنفسهم زابدة ،وقلة دٌنٌ ،جاهرون بشرب الخمور فً األسواق" ،وأنهم "لم ٌكن عندهم
أدب وال حشمة ولٌس لهم نظام ٌعرؾ ،وهم همج كالبهابم" ،وما فعلوه فً مصر ال ٌساوٌه إال ما فعله
بختنصر البابلً فً تخرٌب القدس والتتار فً تخرٌب بؽداد(ٖ).
عٌَّن السبلطٌن العثمانلٌة حامٌة عسكرٌة فً مصر ،ما بٌن 9 -ٙأوجاقات ،أي فرق ،من العثمانلٌة،
وصل عدد مقاتلٌها فً عهد سلطانهم سلٌمان القانونً إلى ٕٓ ألفا.
وهذه الفرق هً :متفرقة ،جاوٌشان ،مستحفظان ،عزبان ،جملٌان ،تفكٌان ،الجراكسة ،والثبلثة األخٌرة
تسمى السباهٌة العثمانلٌة(ٗ) ،وهً أشنع الفرق بالنسبة للفبلحٌن ألنها تتواجد فً الرٌؾ لحفظ األمن ،فإذا
بها تكون خٌر تعبٌر عن المثل المصري "حامٌها حرامٌها" ،وربما بسببهم خلق هذا المثل ،فوصؾ البكري
الصدٌقً صاحب مخطوطة "كشؾ الكربة فً رفع الطلبة" ،عن حوادث عام ٔٓٔ9هـ ٔٙٓ8 /م عسكر
العثمانلٌة بؤنهم "الجند األشقٌا اللٌام" ،الذٌن تسببوا فً "األهوال العظام والضرر العام(٘)".
وكشاهد عٌان ،وصؾ البكري الحال" :وقد كانت مصر قبل اآلن قد اختل أمرها ،وضاقت معٌشة أهلها،
وكثر شرها ،وخربت قراها ،وضعفت فبلحٌها ،وانفصمت عراها ،وانقلبت أحوالها ،وخست أموالها،
ونقصت ؼبللها ،لما أراد هللا تعالى لها فً القدم ،من نقلها من الوجود إلى العدم ،وخراب الببلد ،وهبلك
العباد ،وجبلء الفبلحٌن ،وازدراء الشرع المبٌن".
وٌكمل" :وقد اتسع الخرق ،وازداد الحرق ،وأصل ذلك كله قٌام طابفة من الجند المكتوبٌن فً ببلد
األرٌاؾ ]السباهٌة العثمانلٌة المكلفٌن بإقرار األمن فً األرٌاؾ[ مع كشاؾ األقالٌم ،فؤظهروا العناد ،وسعوا
فً األرض الفساد ،وأحدثوا شٌبا سموه الطلبة على الفبلحٌن والمزارعٌن فً ساٌر األقالٌم ،وعلى العمالٌن
والبطالٌن ،وصاروا ٌضاعفونها فً كل سنة من السنٌن إلى أن زادت على أموال المقاطعات ،بل عمت
وطمت ،ولم ٌقدر أحد على المرافعات ،وذلك ؼٌر ما صدر منهم من األمور الشنٌعة واألفعال المنكرة
الفظٌعة من الزنا واللواط جهارا ،وافتضاض األبكار نهارا ،ال ٌتناهون عن منكر فعلوه ،وال ٌؤتمروا بؤمر
والتهم وال ٌمتثلوه".
كما "صار لهم أسمطة وأطعمة ؼالٌة المقدار ،تحمل إلى خٌامهم أناء اللٌل وأطراؾ النار ،وتهدٌد
الكشاؾ بما فٌه القتل إن قصروا عن ذلك ،بل وٌسلكون بهم أسوأ المسالك ،وصار المسلمون معهم فً أمر
(ٖ)
-بدابع الزهور فً وقابع الدهور ،محمد بن إٌاس ،ج ٘ ،مرجع سابق ،القاهرة ،ص ٕٓ8 -ٕٓٙ ،ٔٙٓ ،ٔ٘9
(ٗ)
-انظر :الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر ،مرجع سابق ،ص ٔ8ٔ -9
(٘)
-مخطوطة كشؾ الؽمة فً رفع الطلبة ،محمد بن أبً السرور البكري الصدٌقً ،مرجع سابق ،ص ٖٓ9
ٖ٘ٔ
مرٌج ،لٌس لهم منه خبلص ،بل أضحوا فً ؼاٌة التعوٌج ،صار أرذل الجند وأقلهم مقلدا بالسٌوؾ
المسقطة ،والسروج بالذهب المنقطة والخٌول المسومة ،والعدد المقومة ،والمراد الجمٌلة المزٌنة بؤنواع
الزٌنة المكملة ،راكبٌن خلفهم أجود الخٌول فً لهو وفرح ال ٌزول ،وإن وجدوا أٌضا ولدا مقبول الصورة
أخذوه من والده بالسٌؾ ،وقد حصل منهم ؼاٌة الحٌؾ ،مع الفسق بنساء الفبلحٌن ،وافتضاض أبكار بنات
المسلمٌن ،بل قتل بعضهم وسلب ما معه ،وؼٌر ذلك من القباٌح المنكرة ،والحوادث الشنٌعة المتكررة(.")ٙ
وفً ذلك تجري علٌهم النادرة الشعبٌة التً شاعت فً ذلك الزمان ،وتقول :سمع أحدهم قاربا ٌقرأ:
"ؼلبت الترك فً أدنى األرض" ،فقال له :إنما هً "ؼلبت الروم فً أدنى األرض" ،فقال القارئ" :كلهم
أعداإنا قاتلهم هللا"(.)9
وإضافة لهإالء حمل السبلح فً مصر أٌضا الممالٌك الذٌن أبقاهم العثمانلٌة ،ولكنهم صارو أشد قسوة
فً استعماله عما كانوا ،وأطلقوا لسٌوفهم وخٌولهم العنان أكثر فً النهب والقتل والؽصب كما سنرى.
ٌوصؾ االحتبلل العثمانً بؤنه احتبلل مركب ،عثمانً ومملوكً ،وٌمكن أن نقول علٌه إنه احتبلل
ثبلثً ،عثمانً ومملوكً وجالٌاتً (الجالٌات المستوطنة) ،وهو ما زاد من مساحة النهب من مصر بإضافة
عنصر احتبلل جدٌد دون إزاحة االحتبلل القدٌم ،فزاد بالتالً من الدوس على صدور المصرٌٌن.
فمن قبل الخضوع من الممالٌك للسلطان العثمانً استعان بهم كبكوات للسناجق ،أي مدٌرٌن للمحافظات،
ومصر وقتها مقسمة إلى ٕٗ مدٌرٌة ،ونشر الترك فً مصر ألقابا جدٌدة تخص الحكم وتزٌد فً تمٌٌز ال ُؽز
والممبللٌك عن المصرٌٌن ،مثل الباشا (الوالً العثمانً) ،وأول من حمله فً مصر مصطفى باشا ،ولقب
األؼا (الشٌخ والسٌد ،والرجل المخصً العامل فً الحرملك( ،)8وقابد فً الجٌش) ،ولقب بك (محافظ
المدٌرٌة وتطور لصاحب األطٌان) واللقب قاصر على الممالٌك ،و"الكاشؾ" ،فٌقال كاشؾ الؽربٌة ٌعنً
محافظها ،وكان من األجانب عموما ،ومن الممالٌك خصوصا.
وانتشرت كلمة المصرلٌة لتشٌر للممالٌك لتمٌٌزهم عن جنود العثمانلٌة "العسكر" ،وأٌضا سكان القاهرة
لشهرتها باسم مصر؛ لذا ٌلزم الحرص عند تفسٌر كلمة المصرلٌة والمصراوٌة والمصرٌٌن فً ذلك
الزمان ،وكان المصرٌون الحقٌقٌون ٌُطلق علٌهم العثمانٌون والمإرخون وقتها كلمة الفبلحٌن أو ٌدخلونهم
ضمن كلمة الرعٌة( ،)9واقتصرت كلمة قبطً على المسٌحٌٌن منذ االحتبلل المملوكً ،فٌما تطلق كلمة
فبلحٌن على المصرٌٌن المسلمٌن ،وٌدخل فً جعبتهم أٌضا المسٌحٌٌن عند التعمٌم على أهل الرٌؾ.
()ٙ
-مخطوطة كشؾ الؽمة فً رفع الطلبة ،مرجع سابق ،ص ٖٓٔ ،ٖٔٔ -والرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر ،مرجع سابق ،هوامش ص ٗ9
()9
-النوادر الشعبٌة المصرٌة ،إبراهٌم شعبلن ،ج ٔ ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرة ،ٕٕٓٔ ،ص ٘٘ٔ
()8
-قاموس الشتابم المصرٌة (أصول وحكاٌات الشتابم) ،عمرو المنشاوي ،إبداع للترجمة والنشر ،القاهرة ،ص 99 -99
()9
-راجع أٌضا :عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار ،ج ٖ ،هوامش المبلحق ،ص ٕ9ٙ
ٖٔٙ
وعلى منوال االحتبلل المملوكً انفصلت الفبة الحاكمة وحاشٌتها عن بقٌة السكان بلؽة خاصة،
فاستمرت تتحدث ب التركٌة ،لؽة الوالً العثمانلً وحاشٌته وكبار اإلقطاعٌٌن والممالٌك ،وحتى من كان
ٌتحدث منهم العربٌة فكانت مشوبة بالتركٌة "عربٌة مكسرة"ٓٔ.
وحٌنها تسلط على رقبة المصرٌٌن شاهرا سكٌنه وظاٌؾ جدٌدة مرتبطة بنظام الخراج العثمانلً ،مثل
الملتزم ،والصراؾ ،والشاهد ،ومعظمهم ممالٌك أو أؼراب من الجالٌات المستوطنة.
❶ الوالً (الباشا)
وتكسب الوالً لنفسه أمواال طابلة من وراء الفبلحٌن والمتاجرة فً األرض واالمتٌازات ،ومنها امتٌاز
االلتزام الذي حل محل اإلقطاع المملوكً ،فهو ٌشرؾ على عملٌات بٌع االلتزامات أو إسقاطها ،وٌتقاضى
حلوانا (عمولة أو سمسرة) علٌها.
وٌهم الممالٌك بعزل الوالً لو طلع فرمان على ؼٌر هواهم ،وٌبلؽونه رؼبتهم فً عزله بالقول" :إنزل
ٌا باشا" فٌفقد بذلك حق التصرؾ فً منصبه ،وعبَّر السلطان العثمانلً أحمد الثالث (ٖٓ )ٔ9ٖٓ -ٔ9عن
ضٌقه من هذا بقوله للوفد الذي أرسله محمد بك جركس ٌطلب تؽٌٌر الوالً محمد باشا" :التمسوا لكم باشا
من خشب لتصنعوه على حسب أهوابكم"(ٔٔ).
كان فً الؽالب من مشاٌخ العرب لٌعززوا به سلطانهم على الفبلحٌن فً القرى ،وقال الشاعر الشعبً
"أبو شادوؾ" على لسان أم مرعوبة على ابنها من قسوة شٌخ البلد عموما:
وكتبو فً التمابم" :ارحل أٌها النمل كما رحلت الرحمة من قلوب شٌوخ القرى(ٕٔ)".
❸ الصراؾ
-11المسمسالت واألفالـ التي تتناوؿ االحتالليف الممموكي والعثمانمي بعضيا ُيظير جميع السكاف يتحدثوف العربية الفصحى ويرتدوف الزي العثمانمي
والممموكي (مسمسؿ الفرساف) ،وىذا خطأ تاريخي ،وبعضيا يجعؿ الجميع يتحدث بالشكؿ المصري (مسمسؿ الزيني بركات /عمي الزيبؽ) ،وىذا خطأ
تاريخي ،وأحيانا نادرة يجعموف مف الفئة الحاكمة كالمماليؾ والعثمانمية يتحدثوف بالتركية أو بمغة ىجيف بيف التركية والعربية ويرتدوف زييـ األجنبي،
والمصرييف يتحدثوف بالشكؿ المصري أي الفالحي ويرتدوف الزي الفالحي (مسمسؿ مارد الجبؿ) ،وىذا ىو األقرب لمواقع ،ويظير االنفصاؿ والتناقض
الحقيقي الذي كاف بيف المصرييف ومحتمييـ.
(ٔٔ)
-انظر :الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر ،عبد الرحٌم عبد الرحمن عبد الرحٌم ،مرجع سابق ،ص 9ٔ -ٙ9
(ٕٔ)
-المرجع السابق ،ص ٔٗ
ٖٔ7
وهو المكلؾ بجمع أموال الضراٌب المستحقة على الفبلحٌن ،وعبر الشٌخ ٌوسؾ الشربٌنً ،المعاصر
لتلك األٌام فً كتابه "هز القحوؾ فً قصٌدة أبً شادوؾ" ،عن الخوؾ من الصراؾ بشعره الذي اتسم
بالقسوة والفظاظة فً الكبلم عن المصرٌٌن وهً سمة معاصرٌه:
وأصبحت عبارة "نزلة الصراؾ" ،أي هبوطه على البلد لجمع الضراٌب ،مصدر فزع للفبلحٌن ،وهو ما
ٌكشؾ سوء العبلقة بٌن الفبلحٌن وأجهزة اإلدارة التً ٌتعاملون معها(ٖٔ).
❹ الكاشؾ (البك)
بمثابة المحافظ حالٌا ،ونزلة الكاشؾ المملوكً مرعبة أٌضا للفبلحٌن؛ ألن نزوله للقرٌة هو وأتباعه
نذٌر شوم بفرض التزامات جدٌدة ،بخبلؾ الضراٌب ،وهً االلتزامات الخاصة بتقدٌم األكل وأمور المعٌشة
للجماعة النازلة معه وتسمى "ضرٌبة الوجبة" ،ومثلها مثل ما كان مفروضا علٌهم عن نزول جنود رومان
أو العرب لقراهم فً عصور سابقة ،وعبَّر الشاعر الشعبً عن ضٌق الفبلح من نزلة الكشاؾ بقوله:
(ٗٔ)
وصار لقلبً لوعة ورجٌؾ ومن نزلة الكشاؾ شابت عوارضً
❺ الخولً
مكلؾ باإلشراؾ على زراعة ومسح أراضً الوسٌة الخاصة بالملتزم -والوسٌة حٌنها ؼٌر أراضً االلتزام
فهً أرض ٌعود عابدها كله لجٌب الملتزم -وتوزٌع األرض على الفبلحٌن لزراعتها بالسخرة أو بؤجر(٘ٔ).
❻ المشد
لقب ٌطلق على المرشد ،وهو الذي ٌبلػ أوامر الملتزم للفبلحٌن ،وٌشدهم إلى دار شٌخ البلد لٌدفعوا
الفلوس هناك ،ولو بالقوة واإلهانة ،وذكر الجبرتً أن المشد "ٌسحب الفبلح الذي ٌتؤخر عن العونة
]السخرة[ من شنبه وٌشبعه سبا وشتما وضربا" ،وذكر صاحب كتاب "هز القحوؾ" أن كل "من تراخى أو
تكاسل عن السروح أخذه المشد ،وعاقبه ،وؼرمه دراهم معلومة" ،وفٌما ٌخص السخرة إذا احتاج األمر
لشٌل الطٌن من اآلبار ولحفر القنوات أو ضم الزرع أمر المشد رجبل ٌقال له الؽفٌر فٌنادي" :العونة ٌا
فبلحٌن العونة ٌا بطالٌن" ٌعنً الخالٌٌن من العمل ،فٌخرجون عند صبٌحة النهار جمٌعهم وٌسرحون
للحفر ،أو لكل ما ٌؤمرهم به كل ٌوم من ؼٌر أجرة إلى أن ٌفرغ الحفر.
(ٖٔ)
-نفس المرجع ،ص ٗٗ و ٗٙ
(ٗٔ)
-المرجع السابق ،ص ٙ9
(٘ٔ)
-نفس المرجع ،ص ٗ9 -ٗٙ
ٖٔ8
واستخرج د .عبد الرحٌم عبد الرحمن عبد الرحٌم فً رسالته للدكتوراة التً ضمنها فً كتابه "الرٌؾ
المصري فً القرن الثامن عشر" من وثابق المحكمة الشرعٌة أن العربان قاموا بدور الؽفٌر ،وأسمتهم
الوثابق الرسمٌة بالعرب المدركٌن "أي أصحاب الدرك" ،وتخصص لهم نظٌر قٌامهم بعملٌة الخفارة قدر
من المال على كل فدان أو حصة ٌنص علٌه فً عقد اإلٌجار المكتوب بٌن الملتزم والفبلحٌن ،وفً إحدى
الحجج التً من هذا النوع نص على أن إٌجار الفدان ٖٙ9نصؾ فضة ٖٙٓ :للملتزم وٗ أنصاؾ للشاهد
و٘ أنصاؾ للعرب المدركٌن نظٌر ؼفرهم لطٌن الحصة.
ولم ٌتوقؾ الحال عند ذلك ،بل صار العربً هو أٌضا ٌفرض إتاوات وضراٌب على األهالً ،وسجل
الجبرتً أن عرب الجباٌة الذٌن بٌدهم خفارة الشطٌن الشرقً والؽربً من بوالق إلى دمٌاط استؽلوا نفوذهم
وفرضوا الضراٌب والعواٌد الشهرٌة والسنوٌة على سكان هذه المناطق(.)ٔٙ
واستعانة الوالً العثمانلً والممالٌك بالعربان فً مهنة الؽفر والحراسة لٌتقوا شر إؼارتهم على القرى
أشبه بمن ٌدفع األموال للبلطجً لٌكؾ آذاه عن الحارة بدال من معاقبته وإجباره على كؾ آذاه عن الناس.
وٌعٌد هذا األمر لذاكرتنا ؼفلة رمسٌس الثالث وؼٌره حٌن استعان بالقباٌل التً تؽٌر على الحدود
الؽربٌة ،وترك لهم مهمة حراستها وصد القباٌل المؽٌرة الجدٌدة ،فاكتسبت "شرعٌة" وجود فً مصر،
واستؽلت هذا فً تحقٌق مكاسب خاصة بها ،وحٌن دب الضعؾ فً الدولة صاروا ؼزاة ومحتلٌن.
وبذلك أصبح الفبلح ملزما بدفع أمواله وعافٌته وما فً داره من طٌور أو محاصٌل للسلطان ،وللوالً،
وللمملوك ،وللعربان ،وقال صاحب "هز القحوؾ" مواال عن هذا على لسان الفبلح(:)ٔ9
فً هم دي البطن اللً ما ترٌح حد ٌا دنٌة الشوم طول عمري وأنا أشتد
أقوم فً الصبح ألقى ما بنٌتو أضال أبنً وآجً بعد العشا أتمـد
وعلى هذا ظل السكان كسابق االحتبلالت نوعان :أصٌل وبرَّ انً ،األصٌل هو المصرٌٌن (الفبلحٌن)
السواد الكاسح ،وظلوا هم أبناء إٌسة وأوزٌر وحور ومٌنا ومنتوحتب وأحمس وتحوتمس ،فلم ٌعمل
المملوكً والتركً والشركسً والشامً والمؽربً والرومانً والٌهودي والفارسً واألعرابً إلخ فبلحٌن
ٌزرعون األرض بؤٌدٌهم أو ٌبنون السدود ،أو ٌحفرون الترع ،أو ٌقاسون السخرة ،فظل المصرٌون
معروفون بمبلمحهم المصرٌة ومهنهم وأرٌافهم وحتى من ٌتسلل منهم للمدن ٌظل معروفا.
والبرَّ انً هو األجنبً من تشكٌلة الممالٌك والمؽاربة والٌهود والشوام واألرمن واألعراب وسودان
وروم ،ومعظمهم فً المدن والقلٌل فً األرٌاؾ.
ومن الكتب التً كتبت أٌام العثمانلٌة عن الفبلحٌن كتاب "هز القحوؾ فً شرح قصٌد أبً شادوؾ" لـ
()ٔٙ
-انظر "الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر" مرجع سابق ،ص ٕٓ٘ٔٔ٘-
()ٔ9
-حواشً المرجع السابق ،ص ٔ٘ٙ
ٖٔ9
ٌوسؾ الشربنً ،وهو أول كتاب معلوم مخصص لرصد حٌاة الفبلح ،وٌنقل شكاوٌه على لسانه ،وكؤنه
ٌحكً معنا ،وإن تعمد الكتاب تحقٌر الفبلح وطرٌقته فً الكبلم واألكل والزواج وحتى األسامً بمبالؽة
كارٌكاتٌرٌة ،وسجل بعض ما ٌجري فً الرٌؾ أٌضا كتاب "كشؾ الؽمة فً رفع الطلبة" لـ محمد بن أبً
السرور البكري الصدٌقً فً القرن ،ٔ9أما أهم مصدر فهو أرشٌؾ المحاكم الشرعٌة والمعامبلت
الحكومٌة فٌما ٌخص الضرٌب وعقود اإلٌجار وااللتزام التً ٌجتهد باحثون حالٌا الستخراجها من ركام
السنٌن؛ فتكشؾ أحوال السكان ،ومن هذه المصادر تظهر الصورة التالٌة للفبلحٌن(.)ٔ8
عاش الفبلحون فً القرى عٌشة ؼاٌة فً البساطة والفقر (معظمهم) ،فً بٌوت مبنٌة من الطوب النً،
وؼالبا من دور واحد ،أما أكلهم فؤكثره عٌش البتاو من الدرة والشعٌر ،والبصل ،والكشك ،الفول المدمس،
والعدس ،البٌسارة ،الوٌكة ،الملوخٌة ،الفسٌخ ،الجبن القرٌش ،والمش والبصل ،أما الجبن الطرٌة فٌشترٌها
لٌقدمها لموظفً حكومة العثمانلً ضمن ضرٌبة الوجبة ،واللحوم والطٌور فؤكلها عند الفبلح ٌعد عٌدا،
وٌنقل صاحب كتاب "هز القحوؾ" أنه فً الرٌؾ أكبلت مثل طاجن مشكشك والفطٌر والمفروكة واللبن مفتوت
فٌه العٌش السخن والفسٌخ والحمام وطاجن السمك فً الفرن والرز باللبن ،لكنها تظهر فً المواسم واألفراح.
وكانت مبلبسه كذلك بسٌطة من صنع ٌده ،أو من صنع المناسج المحلٌة المنتشرة فً القرى ،وتنسجها
من القطن أو الصوؾ بعد ؼزلهما ،والفبلح ٌعد نفسه سعٌدا إذا حاز شٌبا من صنع المدٌنة.
واستمر الفبلح -رؼم هذا -هم المنتج رقم (ٔ) فً البلد ،من بٌن ٌدٌه تتفجر معظم ثروات مصر ،وإن
كان المحتلون والجالٌات األجنبٌة تتخطفها من الفبلحٌن كما ٌتخطؾ الطٌر الحبوب ،وٌتركون معظمهم
ببطون خاوٌة أو شبه خاوٌة ،ومن ٌستطع أن ٌكتنز بعض المال ،أو ٌؽتنً لبعض الوقتٌ ،سارع العربان
وصور صاحب كتاب "هز القحوؾ" َّ لخطفه منه فً الؽارات ،وٌتفنن عسكر العثمانلٌة والممالٌك إلفقاره،
حٌاة الفبلح ،فٌقول" :فهم دابما فً انقباض ،وطرد ،وجري ،وكر وفر وحبس وضرب ،ولعن وسب وهوان
وشجار وشٌل تراب وحفر آبار ،وخروج للعونة على جهة السخرة ،وتعب شدٌد ببل أجرة ،وإذا كان ذو
فضل ضاع فضله ،أ و ذو عقل ذهب عقله ،أو ذو مال أؼروا علٌه الحكام ،أو ذو تجارة نهبوه فً
الظبلم"(.)ٔ9
ومن مبلمح البٌبة المصرٌة وقتها أن كان الفبلح ٌزرع القمح واألرز والكتان والعصفر والنٌلة ،ولكن
()ٔ8
-ا ستخرج بعضها ونشره د .عبد الرحمن عبد الرحٌم عبد الرحمن فً" :الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر" ،وهو ما ننقل منها الفقرات
التالٌة ،انظر ،ص ٔ9وصٔٗ9
()ٔ9
-انظر :الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر ،المرجع السابق ،ص ٕ٘ٔٔ٘ٗ -
ٕٖٓ
القمح معظم الفبلحٌن ال تستفٌد منه ،فهً تؤكل الذرة (ٌسمى عٌش البتاو فً بعض القرى) ،أما القمح فٌُدفع
كجزء من الضراٌب ،أو ٌباع ؼذاء لؤلجانب المستوطنٌن وٌشتري بثمنه حاجات أكثر أولوٌة ،أو ٌُقدم ضمن
ما ٌجبر الفبلح على تقدٌمه لموظفً العثمانلٌة فً ضرٌبة "الوجبة" ،أو ٌتم تصدٌره للخارج مثل المعونات
التً ُترسل للحجاز ،وصدق على المصرٌٌن فً ذلك القول "ماله وال ٌهناله".
واهتم الفبلح بتربٌة الدجاج والحمام والحٌوانات بكثرة لسد رمقه لبٌعها فً السوق ،وأحٌانا كان عابد هذه
الدواجن على الفبلح تافها ،وأحٌانا ٌربٌها لٌقدمها هداٌا لرجال اإلدارة وٌؽذٌهم بها وقت حلول الوجبة
وطلوع الدٌوان ونزلة الكشاؾ على القرى(ٕٓ) ،ولو حل بهذه الطٌور مرض أو موت ٌبكً وٌصرخ كؤنهم
من عٌاله؛ ألنه كما قال الجبرتً "هذه الحٌوانات فً نظره علٌها مدار عمار العالم".
وجنب شؽل الزراعة وتربٌة الحٌوانات والطٌور كانت الستات واألطفال ٌعملون فً مهن أخرى
لمساعدة األب ،منها الؽزل فً المنازل ،وبٌع المؽزول لتجار المدن ،وعملوا فً صنع الحصر والبسط
والفخار والطوب والبناء وتفرٌخ الفراخ والنجارة والحدادة وتربٌة النحل وتبٌٌض النحاس إلخ.
وسعى تجار المدٌنة -وأؼلبهم من الشوام والمؽاربة والٌهود ،الستؽبلل الفبلحٌن بدورهم ،وتشٌر
المصادر إلى أنهم أصبحوا ٌوظفون أموالهم فً الرٌؾ ،مستؽلٌن جهل أصحابه ورضاهم بالقلٌل ،وذلك
بتقدٌم المواد الخام لتصنٌعها بؤٌدي الفبلحٌن والفبلحات تبعا لمواصفات معٌنة ٌضعونها لهم ،ولم ٌكن األجر
الذي ٌدفعونه لهم ٌتناسب والجهد المبذول فً تصنٌع هذه المواد ،وٌشتري التجار كذلك حاصبلت الفبلحٌن
منهم قبل أوان نضجها بسعر أرخص استؽبلال لسوء حالتهم االقتصادٌة(ٕٔ).
ومن النوادر أن نرى مصرٌا صار من الملتزمٌن (أصحاب أراضً االلتزام) ،أو من أصحاب العزوة،
وكانت تتم بالصدؾ ،ومن ذلك قصة طرٌفة رواها الجبرتً عن صالح الفبلح ،وقال إنه كان فً قرٌة
الراهب فً المنوفٌة ملتزم اسمه علً كتخدا الجلفً أخذ طفل اسمه صالح رهٌنة من أبٌه حتى ٌجبره على
سداد الضراٌب ،فلما رأى الطفل مستوى العٌشة فً قصر الملتزم بهره الحال ،ورفض أن ٌعود مع أبٌه بعد
أن سدد ما علٌه ،واختار أن ٌخدم فً بٌت الملتزم ،ومع الوقت استؽل خفة روحه وحركته فً التنقل من
مستوى لمستوى حتى أصبح من أصحاب األموال ،بل واشترى ممالٌك وجواري ،واشترى لهم بٌوتا
وأدخلهم فً األوجاقات والبلوكات عبر دفع الرشاوى ألرباب الحل والعقد ،ووصل به النفوذ إلى أن ممالٌكه
صاروا أصحاب نفوذ وأتباع ،ووصفه الجبرتً بؤنه "كان من نوادر الزمن".
وٌستعرض الرحالة الفرنسً قسطنطٌن فولنً فً كتابه "الرحلة إلى مصر وسورٌا" سنة ٖٔ98
مشاهداته عن مصر قبل سنٌن قلٌلة من الؽزو الفرنسً ،فٌصؾ أحوال الفبلحٌن بعبارات ُتظهر أنها لم
تختلؾ عما هً علٌه من مبات السنٌن ،فٌقول تحت عنوان "حال الشعب فً مصر" أنه فً حٌن أن "معظم
أراضٌها ]مصر[ فً ٌد البكوات والممالٌك ورجال الشرٌعة" ،فإن "الفبلحون آالت مؤجورة ال ٌُترك لهم
(ٕٓ)
-انظر المرجع السابق ،ص ٕٔٓ ،ٕٓ9 ،ٔ٘9
(ٕٔ)
-المرجع السابق ،ص ٖٕٔ9 -ٕٔ8 ،ٕٖٔ ،ٔٙ
ٕٖٔ
للمعاش إال ما ٌقٌهم الموت" ،و"ما ٌحصدونه من أرز وحنطة ٌذهب إلى موابد أسٌادهم ،فٌما ٌحتفون الذرة
وٌصنعون منها خبزا ببل خمٌر ،ال طعم له إذا كان بارداٌ ،ختبزون فً ملة وقدها من ورث الجوامٌس
والبقر ]الجلة[ ،فهذا الخبز مضافا إلى الماء والبصل النًء قوتهم طوال العام ،وٌحسبون سعداء إذا تخلل
طعامهم هذا شًء من العسل والجبن واللبن الرابب والتمر ،أما اللحم والشحم فمادتان ٌرؼبون فٌهما كثٌرا،
ولكن ال أثر لهما فً مؤكلهم فً ؼٌر األعٌاد الكبرى".
وٌرتدون زٌا ٌمٌزهم عن أي أجناس مقٌمة فً مصر ،وهً" :ملبسهم كله عبارة عن قمٌص من الخام
األزرق وجبة سوداء من نسٌج خشن ،وتعلو رإوسهم قلنسوة ]الطاقٌة[ من الكتان ٌطوقونها بمندٌل من
الصوؾ األحمر" ،و"مساكنهم أكواخ ترابٌة ٌضٌق الصدر من قٌظها ودخانها ،وتحاصرهم فٌها األمراض
الناشبة عن األوساخ والرطوبة والؽذاء الردئ ،أضؾ إلى هذه األدواء الجسدٌة ما ٌنتابهم من خوؾ الؽزو
والنهب ]من البدو العرب[ وزٌارات الممالٌك ،واالنتقامات العابلٌة ،ومشاؼل الحرب األهلٌة المستدٌمة .هذه
هً صورة تنطبق على كل القرى"(ٕٕ).
وعن ضآلة عد الممالٌك قال إن عددهم سواء أمراإهم أو عبٌدهم وكشافة أو معتقٌن ٌدور حول ٓٔ
آالؾ ،مبات منهم فً القرى واآلالؾ فً القاهرة ،فٌما العسكر العثمانلً نحو ٕٓ ألفا ،وال ٌُرى المملوك إال
راكبا فرسه؛ ألنه ٌظن أن السٌر على القدمٌن حط من شؤنه؛ لذا حرموا على سكان القاهرة ركوب الخٌل،
وال تراهم ٌنتقلون من مكان لمكان وإن كانا متجاوران إال على الخٌل ،واصفا إٌاهم بؤنهم "ٌنطوون على
نفوس عبٌد فً أثواب ملوك" ،وأنهم "ؼرباء عن بعضهم ال تربطهم العواطؾ الطبٌعٌة التً تجمع بٌن سابر
الناس ،ولما كانوا ال أهل لهم وال أوالد ،فبل الماضً فعل شٌبا فً سبٌلهم ،وال هم ٌفعلون شٌبا فً سبٌل
المستقبل ،وتراهم جهلة تعودوا الخرافات بحكم التربٌة ،والشراسة عن طرٌق القتل ،والعصٌان عن طرٌق
االضطرابات ،والخٌانة عن طرٌق الدسابس" ،وهم "بصورة خاصة مستسلمون لهذا النوع المخزي الذي
طالما كان رذٌلة الٌونان والتتر ]اللواط[ ،وهً األمثولة التً ٌتلقونها من أسٌادهم فً السبلح" ،متعجبا من
أنه "هذا هو نوع الناس الذٌن ٌتحكمون الٌوم فً مقدرات مصر وٌرأس الحكومة رجال من هذا
الطراز"(ٖٕ).
ولم ٌقتصر انؽماس الممالٌك فً الترؾ على البكوات ،بل إن ممالٌكهم الذٌن لم ٌرتقوا إلى الرٌاسة لهم
ركاببهم مزٌنة بؤفخر الحرابر ومرقشة من كل جانب بالذهب والفضة ،وعومل أهل البلد كؤنهم العبٌد
الحقٌقٌٌن والممالٌك هم السادة؛ إذ استولى الممالٌك على جمٌع األمبلك ،إال ما كان منها موقوفا على
األعمال الخٌرٌة فً وصاٌة العلماء ،وتشعث حالة الفبلح حتى صار رثا فً ملبسه ومسكنه ومؤكله ،ال ٌكاد
ٌفٌق من دفع ضرٌبة شرعٌة أو ؼٌر شرعٌة حتى ٌُطالب بدفع أخرى ،وإذا امتنع عن الدفع ضرب وعذب
(ٕٕ)
-عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار ،عبد الرحمن الجبرتً ،جٕ ،مرجع سابق ،ص ( 9ٔ9 -9ٔ8نص رحلة قسطنطٌن فولنً أورده المحقق
عبد العزٌز جمال الدٌن ضمن مبلحق الكتاب)
(ٖٕ)
-نفس المرجع ،ص ٖٔ9ٔ8 -9
ٕٕٖ
حتى ٌدفع ،وربما قُتل من أجل ذلك(ٕٗ).
وكثرت أٌام العثمانلً الهجرات البدوٌة -بعد أن انكسرت أٌام الممالٌك -التً تسللت للسكن على حواؾ
القرى ،مستؽلة أن مصر صارت محكومة من الخارج ،وأفراد الحكومٌة الداخلٌة (الوالً والممالٌك)
مشؽولون فً معاركهم.
لما أوشكت معرفة الناس باللؽة المصرٌة الموروثة على الزوال فً القرن ٔ8كتبوا اللؽة المصرٌة
بالحروؾ العربٌة بدال من الٌونانٌة فً خطوة وصفها أندرٌاس المقاري بؤنها "آخر خطوة فً حٌاة اللؽة"ٕ٘،
فهذا تكرار للخطٌبة األولى أٌام الرومان حٌن تم محً الحروؾ المصرٌة العرٌقة وإلصاق الحروؾ
الٌونانٌة محلها على وجه اللؽة المصرٌة ،ولهذا أثره فً تحرٌؾ نطق اللؽة الحقٌقٌة واالرتباط القلبً بها،
وبكتابتها بالحروؾ العربٌة انفتح الباب الستسهال إقحام ألفاظ عربٌة إلٌها ،وضاعت فً مقابلها ألفاظ
مصرٌة.
ولكن ظل التؤثٌر متبادال أٌضا ،فاخترقت اللؽة المصرٌة لؽة سكان المدن ،حتى أن مإلفات كبار
المإرخٌن مثل ابن إٌاس والجبرتً مزٌنة بكلمات مثل "بتاع"" ،مفٌش" ،وتخففت من ثقل النطق أحٌانا
بإزالة الهمزة على نبرة من الكبلم ،فٌقول ضراٌب بدل ضرابب ،وعجاٌب بدل عجابب.
وتطعمت اللؽة فً القاهرة بشكل أوسع بكلمات فبلحٌة مع كثرة هجرة الفبلحٌن إلٌها ،حاملٌن معهم
الكلمات والتعبٌرات واألمثال المصرٌة األصٌلة ،واألسلوب الفبلحً فً النطق والتؤدٌة ،وٌتضح هذا فً
الكلمات الواردة فً كتاب "المقتضب فٌما وافق لؽة أهل مصر من لؽة العرب" ،البن أبو السرور البكري،
المكتوب فً بداٌة القرن ٔ9وفٌها سعى المإلؾ لمعرفة أصول الكلمات التً تمٌز أهل مصر عن بقٌة
الشعوب ،وسرد التعبٌرات الممٌزة لهم ،وأظهر التؤثٌر العربً فً اللؽة المصرٌة ،لكن أوقعه جهله باللؽة
المصرٌة إلى نسب بعض ألفاظها إلى أصول عربٌة لمجرد الشبه ،وحٌن ٌحتار فً نسبة لفظ ،مثل كلمة
"برة" وهً مصرٌة قحة ٌقول" :ولم أعرؾ لها أصبل".ٕٙ
وأما فً القرى فظلت حصٌلة الكلمات المصرٌة األصٌلة أؼنى وأوفر كما ٌتضح فً كتاب "هز القحوؾ
فً قصٌدة أبً شادوؾ" للشربٌنً المكتوب فً ذات القرن.
(ٕٗ)
-انظر ال رٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر ،مرجع سابق ،ص ٖٕٕٖٓٔ -
-25قواعد المغة القبطية ،الراىب أندرياس المقاري ،ج ،1ط ،4مطبعة دير القديس أنبا مقار ،القاىرة ،2113 ،ص 3
-26راجع المقتضب فيما وافق لغة أىل مصر من لغة العرب ،أبن أبي السرور البكري ،تحقيق ىشام عبد العزيز وعادل العدوي ،أكاديمية الفنون،
القاىرة
ٖٕٖ
ونبلحظ فً فً "هز القحوؾ" أن الشربٌنً قال إنه وضعه لٌشرح لسكان القاهرة المعانً فً قصٌدة الفبلح
أبو شادوؾ وؼٌرها التً ٌصؾ بها حال الرٌؾ و أسامً الفبلحٌن وأكبلتهم وطرٌقة كبلمهم ،ما ٌعنً أنها كانت
محتفظة بوفرة من اللؽة المصرٌة صعب على سكان القاهرة فهمها بدون شرح.
ومنها أبٌاتها رثاء والد أبو شادوؾ والدعاء بؤن ٌكون شٌخ البلد:
ومن أسامً المصرٌٌن فً الرٌؾ التً أوردها :محٌلبة ،دعموم ،شبلطة ،لهاطة ،محمدٌن ،مخمٌر ،حنٌن،
خنافر ،وطٌؾ ،جُنجٌل ،جُلجٌل ،عفر ،دعمومُ ،زعٌط ،مُعٌط ،قُسٌط ،شقلٌط ،مقلٌط ،ص ّفار ،بهوار ،جعمار،
شحٌبر ،بُعٌبر ،وٌستعملون ألقاب أبو قادوس ،أ بو شادوؾ ،أبو جاروؾ ،أبو مطر ،أبو جرٌدة ،أبو طعٌمة ،أبو
زؼلول ،أبو سٌسً ،أبو شعٌشع ،أبو صابر ،أبو هوٌر ،أبو عوكل ،أبو دشٌشة ،أبو قلّوط ،ومن أسامً الستات
حوٌطة ،حلٌوة ،شلباٌةَ ،شبارة ،شمّة ،هدٌة ،معٌكة ،زرارة ،ٕ8واترٌق علٌهم الشربٌنً -كعادة السخرٌة من
الفبلحٌن فً تلك العصور -أن أسامهٌم "كؤسماء العفارٌت" ،ومنها أسامً ما زلنا نستعملها ،ومنها أسامً عربٌة،
وأكثرها أسامً تبدو محورة عن األسامً المصرٌة األصٌلة القدٌمة ،ولكن لقلة االعتناء باللؽة المصرٌة تاهت
معانٌها ونطقها الصحٌح وصار هذا نطقها ،ومٌزتها أنها ظلت تمٌز المصرٌٌن عن بقٌة أشكال األسامً للخلٌط
متعدد الجنسٌات الذي ٌحتل ببلدهم.
وٌقول عالم المصرٌات جوستان ماسبٌرو فً محاضرة ألقاها فً القاهرة ٔ9ٓ8عن "صلة المصرٌٌن
األقدمٌن بالمصرٌٌن الحالٌٌن" إن سكان الصعٌد ظلوا ٌتكلمون وٌكتبون باللؽة المصرٌة حتى السنٌن األولى
من القرن ٔٙ؛ أي أول حكم العثمانلً ،وأنه فً القرن ٔ9قُدم لسابح فرنساوي آخر كاهن قبطً ٌتكلم
باللؽة القبطٌة -أي بشكل كامل بعٌد عن العربٌة -والمرأة العجوز التً تنازعه ذلك االمتٌاز المحزن.ٕ9
وٌرى زكً شنودة صاحب كتاب "تارٌخ األقباط والمسٌحٌة" أن اللؽة بدأت تضمحل من القرن التاسع
المٌبلدي (أٌام اإلخشٌدي) ،ولكن ظلت لؽة تخاطب فً الصعٌد حتى القرن ( ٔ9أٌام العثمانلً) ،وظلت
تنازع الروح حتى أزهقتها فً القرن .ٖٓٔ9
-27ىز القحوف في شرح قصيد أبي شادوف" يوسف بن محمد بن خضر الشربيني ،المطبعة األميرية ،ط 1318 ،2ه ،ص 91
-28نفس المرجع ،ص 8
-ٕ9تراث األدب القبطً ،شنودة ماهر وٌوحنا نسٌم ٌوسؾ ،مرجع سابق ،ص ٖٗ
-31تاريخ المغة العربية في مصر والشرق األدنى ،أحمد مختار عمر ،عالم الكتب ،القاىرة ،ص 69
ٕٖٗ
كما ظل استخدام اللؽة فً الكتابة الدٌنٌة ،فمثبل نسخة من كتاب دٌنً مسٌحً محفوظة فً المتحؾ
القبطً بالقاهرة مإرخة بسنة ٖ٘ ٔٙم مكتوب بالقبطٌة والعربٌة ،فصفحة مكتوبة بالعربٌة والصفحة
المقابلة لها نفس النص بالقبطٌةٖٔ.
ولم ٌتحدث المصرٌون -حتى من أخذ قسطا من التعلٌم منهم فً األزهر والكتاتٌب -باللؽة العربٌة
الفصحى فً حٌاتهم الٌومٌة أبدا ،وإن حدث فٌكون بٌن األزهرٌٌن وبعضهم أحٌانا ،أي فً دابرة مؽلقة.
ولذا ال ٌمشً مع أحداث التارٌخ اتهام بعض "المثقفٌن" الؽٌورٌن على اللؽة العربٌة الفصحى للمصرٌٌن
الذٌن ما زالوا ٌعتزون بالحدٌث باللؽة المصرٌة الحدٌثة (المشهورة بالعامٌة أوالدارجة) ،بؤنهم السبب فً
"دهورة وبوظان حالة اللؽة العربٌة".
فالمصرٌون لم ٌتحدثوا فً حٌاتهم اللؽة العربٌة الفصحى ،مطلقا ،بل إن ألفاظ اللؽة العربٌة هً وفدت
على اللؽة المصرٌة ،وهً التً تسللت إلٌها شٌبا فشٌبا ،ثم تسللت ألفاظ تركٌة وقبل هذه وتلك ألفاظ ٌونانٌة،
وأسقطت الكلمات الوافدة فً المقابل الكلمات المصرٌة المقابلة لها ،حتى تكونت اللؽة التً ٌتكلمها
المصرٌون اآلن ،خلٌط من الباقً من اللؽة المصرٌة وما دخل علٌها من العربٌة ثم لؽات أخرى ،مع
احتفاظها الممٌز بطرٌقة النطق والتؤدٌة المصرٌة الموافق لطبٌعة الجهاز الصوتً الفطري للمصرٌٌن
(الكٌمتٌٌن) ،فهً نتاج هذه الموجات المتبلحقة من اللؽات ،ولم تكن ٌوما لؽة عربٌة فصحى ثم تحولت إلى
لهجة عامٌة ،والسبب الكبٌر لهذا التوهان و"الخناقة المنصوبة" بٌن المتخصصٌن فً اللؽة حول أصول
اللؽة المصرٌة بشكلها الحالً هو الجهل باللؽة المصرٌة وتطورها ،فلن ٌخرج حكم صحٌح على لؽة مصر
اآلن إال على ٌد متخصصٌن فً اللؽة المصرٌة واللؽة العربٌة معا ،مع دراٌة كافٌة بكبلم األرٌاؾٕٖ.
وال ننسى أن أؼلب القبابل العربٌة التً جاءت مع عمرو بن العاص والتً استوطنت مصر بعد ذلك
ٌمنٌة وبدوٌة ،لهم لهجاتهم ،ولم ٌتكلموا باللؽة العربٌة الفصحى كما نراها فً القرآن أو الكتب العتٌقة.
واإلصرار على إلؽاء ما تبقى من األلفاظ المصرٌة من على ألسنة المصرٌٌن بحجة أنها لؽة "هابطة"،
لٌس إال جهل بتارٌخ اللؽة المصرٌة ،وجرٌمة ترتكب فً حق المصرٌٌن فً اؼتٌال آخر ما تبقى لهم من
مبلمح للؽتهم التً تمٌزهم عن بقٌة الشعوب وتفسح لهم المجال للتعبٌر بحرٌة وبصدق ودؾء عن أفكارهم
ومشاعرهم دون تكلؾ ،وهً جرٌمة أٌضا فً حق فطرة هللا تعالى فً اختبلؾ األلسن "ومن آٌاته خلق
السماوات واألرض واختبلؾ ألسنتكم وألوانكم إن فً ذلك آلٌات للعالمٌن"ٖٖ.
-31انظر عجايب اآلثار في التراجم واألخبار ،الجبرتي ،ج ،2المالحق ،مرجع سابق ،ص 513
ٕٖ -للتعرؾ على األصول المصرٌة القدٌمة لكثٌر من ألفاظ اللؽة حالٌا انظر التحلٌل العام للؽة العوام ،أٌوب فرج إبراهٌم ،طٔ ،مطبعة قاصد خٌر،
وأصل األفاظ العامٌة من اللؽة المصرٌة القدٌمة ،سامح مقار ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،ومجموع األلفاظ القبطٌة المتداولة باللهجة العربٌة
العامٌة ،أقلودٌوس ي .لبٌب ،مطبعة عٌن شمس ببطربكخانة األقباط األرثوذكس
-33سورة الروم ،اآلية 22
ٕٖ٘
❶ االفتتاحٌة ...مذبحة الـ ٓٔ آالؾ
ارتكب العثمانلٌة مذبحة من أكبر المذابح فً تارٌخ مصر أول ما دنسوا ترابها بؤقدامهم ،قتلوا فٌها ٓٔ
آالؾ ما بٌن رجال ونساء وأطفال وشٌوخ ،وبوصؾ ابن إٌاس الذي حضر أحداث الؽزو فإن "العثمانٌة
طفش فً العوام والؽلمان من الزعر وؼٌر ذلك ،ولعبوا فٌهم بالسٌؾ ،وراح الصالح بالطالح ،وربما عوقب
من ال جنى ،فصارت جثثهم مرمٌة على الطرقات من باب زوٌلة إلى الرملة ،ومن الرملة إلى الصلٌبة إلى
قناطر السباع إلى الناصرٌة إلى مصر العتٌقة ،فكان مقدار من قُتل فً هذه الواقعة من بوالق إلى الجزٌرة
الوسطى إلى الناصرٌة إلى الصلٌبة فوق العشرة آالؾ إنسان فً مدة هذه األربعة أٌام ،ولوال لطؾ هللا
تعالى للعب السٌؾ فً أهل مصر قاطبة(ٖٗ)" ،وهذا بخبلؾ من قطعوا رأسه من الممالٌك.
ومن ٌصفهم بـ"العوام والؽلمان من الزعر" ،أؼلبهم من الفبلحٌن الذٌن ال مؤوى وال نصٌر لهمَ ،هجُّ وا
من ظلم وضراٌب الممالٌك وؼارات العربان فً الرٌؾ ،فتلقتهم سٌوؾ العثمانلٌة فً شوارع القاهرة.
وٌواصل ابن إٌاس" :وصارت أهل مصر تحت أسرهم" ،و"انفتحت للعثمانٌة كنوز األرض بمصر من
نهب قماش وسبلح وخٌول وبؽال وجوار وعبٌد وؼٌر ذلك من كل شًء فاخر ،واحتووا على أموال وقماش
ما فرحوا بها قط فً ببلدهم ،وال أستاذهم الكبٌر" ،وبكى القاضً أبو الفتح السراجً أحد المعاصرٌن لهذه
المآسً منشدا(ٖ٘):
من حادث عمت مصٌبته الورى نوحوا على مصر ألمر قد جرى
لم ٌذكروا فٌها بؤعجب ما جرى ولقد وقفت على توارٌخ مضت
ونفى سلٌم كل أبناء السبلطٌن الممالٌك واألمراء وأكثر علماء األزهر والقضاة وكل من له مكانة وعلم
من مصر للقسطنطٌنٌة كً ٌضمن عدم وجود زعماء وقادة ٌحرضون الناس ضد االحتبلل العثمانً من
جهة ،ولٌنتفع بخبراتهم فً بناء وتنظٌم شبون الدولة العثمانٌة من جهة ،واصطحب معه الخلٌفة العباسً
محمد المتوكل من القاهرة أسٌرا ،وأرؼمه على التنازل له عن الخبلفة.
وارتكب زعٌم الهمج "مذبحة الصناعات" أو "مذبحة الحرؾ" ،وهً أنه أمر بلم كل رإساء الصناعات
والحرؾ المشهورٌن بؤنهم ماهرون و"إٌدٌهم تتلؾ فً حرٌر" فً كل المهن ،بل حتى فنان األراجوز ،فنقل
(ٖٗ)
-بدابع الزهور فً وقابع الدهور ،ج٘ ،مرجع سابق ،ص ٔ٘ٙ
(ٖ٘)
-المرجع السابق ،ص ٔ٘ٔ وٕٓٓ -ٔ98
ٖٕٙ
ألؾ صانع وخبٌر للقسطنطٌنٌة لٌنشروا فٌها تلك الصناعات والفنون التً ال ٌعرفها العثمانٌون ،وٌساهموا
فً بناء المساجد والمدارس القصور والقبلع ،وهو ما تسبب فً تعطل ٓ٘ حرفة فً مصر ،بحسب إحصاء
ابن إٌاس( ،)ٖٙفكانت من أكبر جراٌ م التجرٌؾ فً تارٌخ مصر ،وتؤخرت العلوم والفنون فٌها بعد حرمانها
من ٌدها الماهرة ،ووصؾ ابن إٌاس ما حدث بؤنه كان عملٌة "أسر".
وخرج من مصر ومعه ألؾ جمل محملة ما بٌن ذهب وفضة ،بخبلؾ ما ؼنمه من التحؾ والسبلح
والصٌنً والنحاس المكفت والخٌول والبؽال والجمال ،حتى نقل منها الرخام الفاخر ،وأخذ من كل شًء
أحسنه "ما ال فرح به أباإه وال أجداده من قبله أبدا" بتعبٌر ابن إٌاس ،وكذلك ما ؼنمه عسكره الذٌن أطلق
ٌدهم ٌنهبون الناس كٌفما شاءوا ،فؤخذوا حتى الحمٌر ،وانتهكوا حرمات المساجد ،وسرقوا منها حتى
القنادٌل والشموع مثلما فعلوا فً مسجد السٌدة نفٌسة ،وقتلوا من وجدوه من الممالٌك فً رحابها(.)ٖ9
لم ٌكتؾِ سلٌم األول بما ورثه من حضارة وآثار بٌزنطة ،بل نقل بعض آثار مصر إلى القسطنطٌنٌة،
ومنها معظم اآلثار والكنوز التً فً القلعة وقصور السبلطٌن واألمراء والمساجد والزواٌا ،وحتى الكتب
وأعمدة الرخام.
وفً ذلك ..فإنه من نفس المكان (بٌزنطة) ،نفذ نفس الجرٌمة التً سبق وأن نفذها البٌزنطٌون ،أي نهب
آثار مصر ،حٌنما قام إمبراطورهم الرومانً تٌودٌسٌوس األول بسرقة مسلة تحوتمس الثالث ونقلها إلى
بٌزنطة ،لٌرثها من بعده -بؽٌر حق لبلثنٌن -سلٌم األول ،وٌستكمل مسلسل نهب مصر ،فبل رحم مصر من
كان بٌزنطٌا مسٌحٌا ،وال عربٌا أو تركٌا مسلما.
برز فً ذلك العصر الشوام والمؽاربة فً التجارة والفقه بشكل ؼٌر مسبوق ،خاصة أنهم اعتمدوا على
نظام التورٌث ،أي تورٌث المهن والمناصب التً ٌقتنصونها فً مصر ،ونظام االحتكار ،أي احتكار عٌلة
شامٌة أو مؽربٌة لتجارة أو سلعة معٌنة ،ونظام التكتبلت ،أي التعاون فٌما بٌن أبناء الجالٌة بنظام المشاركة
فً العمل ،أو خلط رأس المال ،أو عمل الجمعٌات ،أو القروض ،والتربٌط بٌن التجار المستوطنٌن بمصر
()ٖٙ
-كثٌر من الحرؾ والفنون التً نقلها المصرٌون إلى األستانة ،وتعطلت لفترة من الزمن ونسٌها الناس ،عادت لمصر فً عصور الحقة ،ولكن
باسم أنها صنعة أو فن "تركً" أو "عثمانلً" ،وهو فً األصل مصري ،مثل فن الشفتشً ،وهو شؽل من النحاس والذهب بشكل مفرغ تشبه شكل
الدانتٌل ،وٌصنع به القنادٌل ومصابٌح اإلضاءة واألباجورات والحلً.
()ٖ9
-مرجع سابق ،ص ٕٗ٘ٔٓ9 ،ٔ99 ،
()ٖ8
-شعر بدر الدٌن الزٌتونً المعاصر لؤلحداث نقله ابن إٌاس فً مإلفه "بدابع الزهور فً وقابع الدهور" ،ج ٘ ،ص ٔٗ9
ٖٕ7
وبنً جلدتهم فً ببلدهم األصلٌة أو ببلد أخرى فً االستٌراد والتصدٌر لتستحوذ على أكبر نصٌب من
التجارة أو المناصب كما ظهر فً وثابق المحكمة الشرعٌة بشؤن العقود التجارٌة الوارد أمثلة لها فً كتاب
"الشوام فً مصر منذ الفتح العثمانً حتى أوابل القرن التاسع عشر" (.)ٖ9
فمثبل سٌطر إلٌاس مٌخابٌل الحلبً على تجارة الجوخ واحتكروا تجارة البن والقماش والحرٌر والتوابل
والسكر والفواكه القادمة من الشام والخرز وسم الفٌران والزجاج والحبوب والمشمش وقمر الدٌن والٌامٌش
واللحوم والجلود والسجاد والذهب واللإلإ وتجارة الرقٌق والصابون ،وانشروا بشكل خاص فً القاهرة،
وخاصة حً األزهر وخان الخلٌلً ،ودمٌاط واإلسكندرٌة ،وحملت عاببلتهم اسم التجارة التً احتكروها أو
سٌطروا علٌها مثل الحرٌري ،أو اسم المدٌنة القادمٌن منها مثل النابلسً والبعلبكً والطرابلسً والحلبً
والشامً والؽزي ،وحملوا لقب الخواجة الذي ٌطلق حٌنها لٌس على اإلفرنجً فقط بل على التجار الكبار،
ومنهم الخواجة إسماعٌل أبو طاقٌة الذي وصل نفوذه لٌكون شهبندر التجار فً مصر فً القرن .ٔ9
ولعبوا األدوار التً خلقها اإلؼرٌق والٌهود فً مصر فً نشر الوكاالت التجارٌة الدولٌة التً تمكنهم من
احتكار السلع القادمة من الخارج ،وكذلك السمسرة والوسٌط التجاري والصرافة ،وبرز منهم ابن السقا
الحموي شٌخ طابفة الداللٌن والسماسرة ،ووصل نفوذهم إلقراض رجال الحكومة واألوجاقات العسكرٌة،
مثلما أقرض الشهبندر أبو طاقٌة حكام أقالٌم المنوفٌة والؽربٌة والدقهلٌة أو عمل شراكة معهم(ٓٗ) مع ما لهذا
من تؤثٌر على قرارات الحكام فً منحهم االمتٌازات.
َّ
الوزان واألثاث والحبلقة والصرماتً وعملوا فً كل المهن ،من أبسطها إلى أكبرها ،كالقبانً أي
والخٌاطة والخبازٌن والمكارٌة (سابقً الحمٌر) والسقا والتحقوا بالوظابؾ الحكومٌة؛ فوصلوا بذلك أن
صاروا شٌوخ معظم طوابؾ الحرؾ الكبٌرة والصؽٌرة ،واستؽلوا ثرواتهم فً شراء العقارات وااللتزامات
والحوانٌت واألراضً الزراعٌة فً عدة محافظات(ٔٗ) فصاروا مجتمعا خاصا بؤنفسهم ٌجدون فٌه كل
احتٌاجاتهم ،ما زاد من الطبقٌة واألعراق المتمٌزة عن بعضها البعض فً المدن.
وعلى حس المسٌحٌٌن منهم انتشر عدد ونفوذ كنابس الكاثولٌك عامة المنافسة للكنٌسة المصرٌة
األرثوذكسٌة ،وأسس أنطون فرعون أول كنٌسة للروم الكاثولٌك فً مصر(ٕٗ) ما تسبب فً زٌادة الطوابؾ
والمذاهب وصراعاتها.
أما المؽاربة فجلبهم إلى مصر االحتبلل العبٌدي (الفاطمً) حٌن جاء بقبٌلتً كتامة وزوٌلة ،وزالت
سطوتهم بعد أن فضّل األتراك علٌهم ،فاتجهوا للحرؾ والتجارة فً القاهرة والفسطاط واإلسكندرٌة،
وبحسب ما أورده كتاب "المؽاربة فً مصر فً العصر العثمانً" برزوا فً تجارة السكر واالزٌوت
()ٖ9
-انظر :الشوام فً مصر منذ الفتح العثمانً حتى أوابل القرن التاسع عشر ،السٌد سمٌر عبد المقصود ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرة،
ٖٕٓٓ ،ص ،ٔٔٓ -ٔٓٙوٗٔٔ
(ٓٗ)
-نفس المرجع ،ص ،ٔٓ٘ -ٔٓٗ -99و ،ٕٔٙو ٗٔٔٔٔٙ -
(ٔٗ)
-نفس المرجع ،ص ٕ٘ٔ ٕٔٙ -وٓ٘ ؤٖ8 -ٖٔٙ
(ٕٗ)
-نفس المرجع ،ص ٔٗ9 -ٔٗٙ
ٖٕ8
واألقمشة والسبلح وامتبلك العقارات وشراء حصص التزام األراضً الزراعٌة وعمل بٌوت الصرافة،
واشتهر منهم أسرة الخواجة الدادي الشراٌبً والسقاط ،وفعلوا كالشوام أنهم أقرضوا رجال الحكم لٌتحكموا
فً قرار اتهم أو لتهدٌدهم ،وتصاهروا معهم ،وبعضهم عمل ملٌشٌات مثل الشراٌبً الذي وسع داٌرة الربا
فً مصر أٌضا.
واعتمدوا على العصبٌة فً الشؽل ،بحٌث ٌفضلون تشؽٌل المؽاربة أمثالهم ،وٌحرصون على عدم
تسرب أسرار المهنة لبقٌة السكان بما فٌهم المصرٌٌن حتى ال ٌنافسهم أحد ،وعملوا طواٌؾ للمهن خاصة
بهم ألجل هذا(ٖٗ) ،وحرصوا على إضافة صفة "المؽربً" ألسامٌهم ،واشتؽلوا كالشوام فً كل الحرؾ
والمهن حتى ال ٌحتاجون لؽٌرهم- ،فهم من ٌنتجون السلعة ومن ٌبٌعونها ومن ٌدللون علٌها ،فكؤنهم دوٌبلت
داخل الدولة-أو فوقها -ولذا كان من تضرب بلده األزمات أو المجاعات وٌفر إلى مصر ٌجد الطرق ممهدة
له سوا بنفوذ أبناء جلدته المستوطنٌن بها أو بتساهل السلطات الحاكمة معهم.
واتخذ المؽاربة مصدر قوة جدٌد لهم من العصبٌة القبلٌة بقدوم قباٌل مؽربٌة جدٌدة أٌام الممالٌك
والعثمانلٌة مثل قباٌل هوارة وأوالد علً وزناتة وسلٌم وبنً هبلل ،عاشت على السلب والنهب لزمن طوٌل
على أطراؾ القرى والمدن قبل أن تستقر فً الداخل بعد أن قنصت حصص من صكوك االلتزام
واألراضً حتى صاروا أصحاب النفوذ فً الصعٌد كهوراة وعرب طه ،وهو نفوذ لم تصل له جالٌة أجنبٌة
أخرى هناك ،وكذلك نفوذ فً البحٌرة وؼرب اإلسكندرٌة والمنٌا ألوالد علً وعربان محارب ،ومن اختار
عٌشة السلب والنهب منهم نظروا للفبلحٌن على أنهم "ولدوا خصٌصا إلنتاج طعام العربان" ،وأنه "ال توجد
مهنة أكثر نببل من أن تعٌش من خٌرات الؽٌر دون مشقة" بالتعبٌر الذي أورده أحد علماء الحملة الفرنسٌة،
وعاٌروا الفبلحٌن ،وقابل الفبلحون هذا بثورات ومعارك ضد العربان واجهها العربان بشن ؼارات فجابٌة
"كالقضا المستعجل" لتدمٌر القرى وقتل أهلها(ٗٗ) ،فطفش بعض الفبلحٌن منها وجرى علٌهم بٌت الشعر:
حقا ،خانتها عٌناها فً زٌؾ وفً كذب حٌن صدقت مصر منذ مبات السنٌن توسبلت ووعود األؼراب لما
ألقوا السبلح وطلبوا االستٌطان والعمل فٌها وأوهموها أنهم حابط صد على الحدود ...فؽدروها.
ورؼم أن الفبلح هو األصل الحضاري فً البلد ،والمنتج األول ،واألكثر تحضر ورقً فً سلوكٌاته
(ٖٗ)
-انظر :المؽاربة فً مصر فً العصر العثمانً ،عبد الرحٌم عبد الرحمن عبد الرحٌم ،منشورات المجلة التارٌخٌة المؽربٌة ،ص ٓ٘ ٙ9 -و-99
ٓ ،8وٖ8
(ٗٗ)
-انظر :المرجع السابق ،ص ٕٖ ٖ9 -ؤٖٕ
ٖٕ9
رؼم فقره وجهله ،إال أن المحتلٌن والمستوطنٌن والمتعلمٌن الذٌن داروا فً فلكهم استمروا فً التفنن فً
وصفه بؤشنع الصفات ،إلحساسهم من داخلهم بؤنه صاحب األرض ،األصٌل الوحٌد فٌها ،وحتى ال ٌتجرأ
على المطالبة بطردهم أو الثورة علٌهم ،وخاطب العثمانلً الفبلح بقوله" :فبلح خرسٌس".
وفً ذلك ٌقول الدكتور سعٌد عاشور فً كتابه "المجتمع المصري فً عصر سبلطٌن الممالٌك" إن
جمٌع مإلفات ذلك العصر تصؾ الفبلح بالجهل والتؤخر وخشونة الطبع وقذارة المنظر وبالرذٌلة ،وكتبوا
القصص الطوٌلة إلثبات أن هذه الصفات متؤصلة فً الفبلح كما فعل ٌوسؾ الشربٌنً فً كتابه "هز
القحوؾ فً قصٌدة أبً شادوؾ" ،وأبو شادوؾ إشارة للفبلح(٘ٗ).
وإذا صادؾ أن التقى مملوك رجبل أصله من الرٌؾ وصل إلى وظٌفة كبٌرة ؼضب الممالٌك وصاحوا:
"ما كان فً ممالٌك السلطان من ٌعتمد علٌه إال هذا الفبلح!" ،وإذا تجرأ من ٌسمونهم بالعوام على الممالٌك
صاحوا فٌه" :اخرس ٌا فبلح ٌا كلب" ،وإذا ولى أمٌر مملوكً من المتشددٌن بعض األقالٌم ال ٌسمح
للفبلحٌن بلبس مبزر أو ركوب الخٌل أو تقلد السٌؾ أو حتى ٌحمل عصا مجلبة بالحدٌد(.)ٗٙ
وٌزٌدوا من تحقٌر الفبلح إذا أبدى مقاومة لمن ٌستؽلوه وثار علٌهم ،فورد فً "هز القحوؾ":
وقال:
ٌبدو الصٌاح بال ضرب وال ألم سود الوجوه إذا لم ٌظلموا ظلموا
فاستكثر علٌهم الضجٌج بالشكوى ،واستكثر علٌهم مقاومة الؽاصب ،وكان إذا تفنن الفبلح فً إخفاء ماله
حتى ال تنزعه منه أٌادي العثمانلٌة والممالٌك والعربان الدموٌة وصفوه باللإم وبؤسوأ الصفات ،وربما منها
جاءت كلمة "لإم الفبلحٌن" ،وهً مٌزة لهم ولٌست عٌبا ،فهً وسٌلة من وساٌله فً المقاومة وحماٌة
أرزاق أوالده قدر ما ٌستطٌع من ؼلظة قلوب وأكباد المحتلٌن.
ولم ٌقؾ األمر بالشاعر عند هذا الحد ،وإنما حذر من ٌرٌد العبل من المعٌشة فً الرٌؾ قاببل:
(٘ٗ)
-المجتمع المصري فً عصر سبلطٌن الممالٌك ،سعٌد عبد الفتاح عاشور ،مرجع سابق ،ص ٘9
()ٗٙ
-المرجع السابق ،ص ٘9
ٖٖٓ
والشاعر ال تعجبه عٌشة الرٌؾ ألن أهله ٌشتؽلون بمهنة الزراعة الشرٌفة ،ولكنه ال ٌحرج من أن ٌمد
ٌدٌه لٌنزع منهم ما لذ وطاب من نتٌجة عرقهم ،وال تعجبه سٌرة العلؾ والمحراث التً اختارها الفبلح من
آالؾ السنٌن وسٌلة حضارته بدال من أن ٌؤخذ سٌفه وٌدور ٌعتدى على ببلد ؼٌره كالمرتزقة والعربان.
وقسى الشٌخ حسن حجازي على الفبلحٌن حٌن اعتبر أجهزة اإلدارة من المصاٌب التً حلت بهم نتٌجة
لما حووه من قبٌح الفعال ،وزاد على ذلك قوله:
()ٗ9
مع اسوداد الوجه هذا النكال وفقرهم ما بٌن عٌنٌهم
فبل ٌعجبه سمرة الوجوه التً صبؽتها بهم الشمس وهم ٌكدحون تحتها ،فٌخرج من بٌن أٌدٌهم وأرجلهم
المؽروسة فً الطٌن ما ٌؤخذه الشٌخ وؼٌره بكل قسوة حتى قبل أن ٌتذوقوه هم.
وٌبدو أن طول زمان هذه المعاملة أثرت فً نفوس بعض أهل الرٌؾ حتى أصٌبوا بشعور زابؾ
بالنقص -وهم األعلون -ومن ذلك أن أحد علماء األزهر تزوج قاهرٌة (أي ؼالبا من المستوطنٌن األجانب
فً ذلك الوقت) فلما قدمت أمه من الرٌؾ لزٌارته تنكر لها لببل تعرؾ زوجته أن أمه فبلحة ،وهددها
بالضرب إن علم أحد أنها أمه ،كما ذكر زكً مبارك فً كتابه "التصوؾ"(.)ٗ8
وقبل ٖ آالؾ سنة كتب ملك بابل "كادا شمال إنلٌل األول" إلى الملك أمنحوتب الثالث ٌرجوه بؤن ٌزوجه
من ابنته ،فاعتذر أمنحوتب بحجة أنه "لم ٌسبق أن أرسلت أمٌرة مصرٌة إلى أي إنسان"(.)ٗ9
فماذا حصل لبنات المصرٌٌن بعد أن ؼفل بعض أجدادهم عن مإامرات أعادٌهم ،وتركوا مصر لتكون
"وطنا" لكل أجنبً مدام ال ٌرفع السبلح؟
صرنَّ "نهٌبة" لمن رفع السبلح ومن لم ٌرفعه ،فقد أعطى العربان ألنفسهم حق الزواج من بنات
الفبلحٌن ،حفٌدات أمنحوتب الثالث ،وإذا منع فبلح ابنته عمن ٌطلبها من العربان فمصٌره القتل على حد
تعبٌر الرحالة إدوارد ولٌم لٌن ،وعلى العكس لم ٌسمح أعرابً لفبلح بالزواج من ابنته(ٓ٘) ،وأطلقوا المثل:
"أرمٌها للتمساح وال أعطٌها لفبلح" ،وأحٌانا ٌُزوجون ابنة الفبلح رؼما عن أبٌها مقابل دٌون تراكمت
علٌه ،كما سنرى فً شهادة الشعرانً.
وٌك ّل العقل فً تصور كٌؾ تحمل المصرٌون (الكٌمتٌون) كل هذه األعباء والتهدٌدات من العثمانلً
والممالٌك والملتزمٌن والعربان فً وقت واحد ،وظل الكثٌر منهم -رؼم تؤثر البعض -محافظا على أخبلقه
المصرٌة الرفٌعة ووداعته وسبلمة فطرته والحضارة الكامنة بداخله حتى عادت لتضا الدنٌا فٌما بعد.
()ٗ9
-انظر :الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر ،المرجع السابق ،ص ٗٔٙ
()ٗ8
-انظر :المجتمع المصري فً عصر سبلطٌن الممالٌك ،مرجع سابق ،ص ٘9
()ٗ9
-الشرق األدنى القدٌم (مصر والعراق) ،عبد العزٌز صالح ،مرجع سابق ،ص ٕٔٙ
(ٓ٘)
-انظر :الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر ،المرجع السابق ،ص ٔٔ89 -ٔ8
ٖٖٔ
نقش لمممؾ حور محب مف مقبرتو بسقارة ..ىكذا رأى حكاـ مصر قيمة الفالحة (روح مصر) فاعتزو بتصوير أنفسيـ مزارعيف يمسكوف المحراث خمؼ البقروىـ
آنذاؾ عظماء األرض ،إشارة لدورىـ الخالد في عمار األرض ،فيما أياـ االحتالالت صار ىمج األرض يحقروف مكانة الفالح المصري (النقش اآلف في متحؼ بولونيا
األثري بإيطاليا)
ٌشتري الوالة مناصبهم بالمزاد فً دار السلطنة العثمانلٌة ،وٌترتب على هذا استحبللهم ارتكاب كل
الجرابم ضد الناس النتزاع مال ٌعوضهم عما اشتروا به المنصبٌ ،ؽتصبون وٌختلسون ،وال ٌخجل
السلطان أن ٌطالب الوالً بالسداد إن تؤخر فً دفع ثمن المنصب؛ فمثبل أمر السلطان مراد والٌه على الشام
أحمد كوجك بؤن ٌدفع للسلحدار ٕٓ ألؾ لٌرة المتبقٌة علٌه فً الحساب لٌبقى فً منصبه(ٔ٘).
وٌنقل عبد الرحمن الرافعً عن "دي ماٌٌه" قنصل فرنسا فً مصر ٕ ٔ99أن "الوالً ٌشتري والٌته
بثمن ٌتراوح بٌن ٓٓٗ ٘ٓٓ -ألؾ لاير ،وال ٌوفق إلى تجدٌد والٌته سنة أخرى إال إذا أرسل لؤلستانة هداٌا
تزٌد على ٓٓٔ ألؾ لاير ،وعلٌه أن ٌرسل الخراج السنوي وقدره ٓٓ ٙألؾ لاير ،وأن ٌبعث بهداٌا من
السكر والبن واألرز والشراب والحلوى والؽبلل ال تقل قٌمتها عن ٓٓ ٙألؾ لاير ،وذلك عدا نفقات الحج
والجنود فً مصر" ،وفً المقابل ٌحصل الوالً على ٕٔ ملٌون فرنك سنوٌا ،وإلٌه تإول تركات المتوفٌن
ببل عقب ،وٌكثر دخله من هذه الناحٌة إذا وقع وباء فً الببلد" ،أي كلما حلت مجاعة أو وباء حصد آالفا
من الناس ،وما أكثر المجاعات واألوببة فً عصرهم ،فٌذهب إلٌه وإلى أمثاله أمبلك الناس(ٕ٘).
(ٔ٘)
-النكبات ،أمٌن الرٌحانً ،المطبعة العلمٌة لٌوسؾ صادر ،بٌروت ،ٔ9ٕ8 ،ص ٗ8
(ٕ٘)
-تارٌخ الحركة القومٌة وتطور نظام الحكم فً مصر ،عبد الرحمن الرافعً ،جٔ،مطبعة النهضة ،طٔ ،ٔ9ٕ9 ،ص ٖٕٕٗ -
ٕٖٖ
تابعنا فً الحدٌث عن تفشً وباء اللواط والفجور أن من أول وأكثر من حولوا هذا إلى ظاهرة ،وعلنا
ببل خشى أو حٌاء ،هم األتراك ،وظهر هذا من وقت االستعانة بهم مرتزقة ،وتفشى حٌن أصبحوا ممالٌك
حكام وقت االحتبلل المملوكً ،وأن دولة آل عثمان (تركٌا حالٌا) كان لها صٌ ًتا عالمٌا فٌه.
وٌسجل ابن إٌاس حوادث عسكر سلٌم األول فً هذا الوباء حٌن اجتاحوا مصر فٌقول" :ولما أقام سلٌم
شاه بالقلعة نصب وطاق عسكره بالرملة من باب القرافة إلى سوق الخٌل ،ثم إن العثمانٌة نصبوا خٌمة فً
وسط الرملة وجعلوا فٌها أدنان بوزة ،وخٌمة أخرى فٌها جفن حشٌش ،وخٌمة أخرى فٌها صبٌان مردة
ٌحارفون كعادتهم فً ببلدهم"(ٖ٘).
ووصؾ البكري الصدٌقً صاحب مخطوطة "كشؾ الكربة فً رفع الطلبة" ،عن حوادث سنة ٔٓٔ9
هـ ٔٙٓ8 /م التً عاصرها ،فُحش عسكر العثمانلٌة وممالٌكهم فً هذا بؤن قال بعد أن ع َّدد جرابمهم فً
الرٌؾ" :وذلك ؼٌر ما صدر منهم من األمور الشنٌعة واألفعال المنكرة الفظٌعة من الزنا واللواط جهارا،
وافتضاض األبكار نهارا ،ال ٌتناهون عن منكر فعلوه ،وال ٌؤتمروا بؤمر والتهم وال ٌمتثلوه".
كما "وإن وجدوا أٌضا ولدا مقبول الصورة أخذوه من والده بالسٌؾ ،وقد حصل منهم ؼاٌة الحٌؾ ،مع
الفسق بنساء الفبلحٌن ،وافتضاض أبكار بنات المسلمٌن ،بل قتل بعضهم وسلب ما معه(ٗ٘)".
تؤثر الرٌؾ بالصراعات القبلٌة كما تؤثر بالصراعات الحزبٌة المملوكٌة ،فبسببها انتشر السبلح والعنؾ
فً الرٌؾ المصري المستقر الودٌع ،وارتج القرن ٔ8بالصراعات القبلٌة التً أثرت على الرٌؾ فً الوجه
البحري فً ظل ؼٌاب حكومة مركزٌة قوٌة ،ومن أشهرها الصراع بٌن قبٌلة سعد وقبٌلة حرام.
وقال ٌوسؾ الشربٌنً فً "هز القحوؾ" عن المناخ القبلً الدموي الذي أشاعتاه القبٌلتان:
(ٖ٘)
" -بدابع الزهور فً وقابع الدهور" ،ابن إٌاس ،ج ٘ ،ص ٕٖٔٙ -ٔٙ
(ٗ٘)
-مخطوطة كشؾ الؽمة فً رفع الطلبة ،محمد بن أبً السرور البكري الصدٌقً ،تحقٌق عبد الرحٌم عبد الرحمن عبد الرحٌم ،المجلة التارٌخٌة
المصرٌة ،المجلد ٖٕ ،سنة ٔ99ٙص ٖٓٔ ،ٖٔٔ -والرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر ،مرجع سابق ،هوامش ص ٗ9
ٖٖٖ
أما فً الوجه القبلً فنشب الصراع بٌن صوامعة ووناتنة فً طهطا بسوهاج.
وحجم الدور الذي لعبته القباٌل العربٌة فً حٌاة الرٌؾ المصري كبٌر على الحٌاة االقتصادٌة
واالجتماعٌة حتى انقسم السكان من الفبلحٌن إلى عصبٌات تبعا لعصبٌات هذه القباٌل"(٘٘) ،ولهذا تؤثٌره
الخطر ع لى هوٌة مصر الواحدة فٌما بعد ،وهو ما أوجد فً مصر ما ٌسمى الٌوم بـ"عادة أخد التار" بٌن
بعض العاببلت ،خاصة فً قرى كانت تحت سٌطرة هذه القباٌل وورثتها منها ،فٌما لم ٌكن قبل االحتبلالت
للمصرٌٌن طرٌقا ألخذ حقوقهم سوى الطرٌق الشرعً الذي خطته لهم "ماعت" لٌظلوا أمة متحضرة ،وهو
طرٌق قوانٌن الدولة ومحاكمها.
وتقبٌل وتحزٌب وتقسٌم أهل مصر ظهرت بوادره كما تابعنا -ونكرر التذكٌر ألهمٌة الربط -مع استٌطان
تحالؾ القباٌل الخاسوتٌمٌة واحتبللها لمصر بعد األسرة ٕٓ ،ألنها قباٌل متنافرة وؼرٌبة عن بعضها،
وانتقلت بصراعاتها إلى مصر ،وفً االحتبلل الٌونانً والرومانً أخذ إلى جانب ذلك صورة عصبٌة
الجالٌات.
وفً االحتبلل العربً جاءت القباٌل العربٌة كذلك بصراعاتها وتحزباتها؛ فنشرت -على قلة عددها-
الفتن والدماء على خلفٌة عرقٌة أو سٌاسٌة أو دٌنٌة ،واستفحل األمر بقباٌل العربان التً وط َّنها فً مصر
الممالٌك والعثمانلٌة -ثم محمد علً فٌما بعد -وال تعرؾ ؼٌر السٌؾ لؽة للحٌاة أو معنى للشرؾ ،ومع
ؼٌاب نظام قضابً شامل للدولة وملزم للجمٌع ،انعكس هذا على بعض المصرٌٌن الذٌن انضم بعضهم-
برؼبة منهم أو بالؽصب -لمعسكر هذه القبٌلة أو تلك ،وإن لم ٌشمل هذا الجمٌع.
وقام على نشر هذه التحزبات والعصبٌات مشاٌخ القرى ،وأكثرهم مشاٌخ عرب ،فٌجبرون الفبلحٌن
المتحكمٌن فً أرزاقهم على اتباعهم ومساعدتهم حٌن ٌواجهون قبٌلة منافسة فً قرٌة أخرى ،وزاد فً
االحتبلل العثمانلً القباٌل فً بحري وقبلً ،وأصبحوا أهل زرع وماشٌة وفبلحة وضرع ومشاٌخ القرى
وخفرابها ،وصار لهم مزارع واسعة ،ومنهم قضاة وفقهاء ،بحسب المقرٌزي ،عبر صفقات عقدوها مع
السلطان جسدها "قانون سلٌمان نامة" أحٌانا ومع خصومهم الممالٌك أحٌانا أخرى لٌناصروا فرٌق مملوكً
على آخر ،فؤخذوا أراضً التزام(.)٘ٙ
وساهم هذا فً أن شٌخ منهم وهو همام زعٌم قبٌلة هوارة سٌطر لفترة على الصعٌد ،وهوارة من القباٌل
التً قدمت إلى مصر فً االحتبلل المملوكً ،واستقرت سنة ٓ ٖٔ8م ،وأخذت أراضً كثٌرة منتفعٌن من نظام
االلتزام الظالم ،وبعد الؽزو العثمانلً أقرهم السلطان على إمارة الصعٌد مقابل أن ٌجمعوا له المال والؽبلل من
الفبلحٌن وٌسٌطروا على بقٌة القباٌل لتتوقؾ عن النهب والسلب ،وظل هذا سارٌا حتى سنة ٔ٘9ٙلما صدر أمر
سلطانً بإقصابهم عن إمارة الصعٌد وتسلٌمها للممالٌك ،لكن استؽلت هوارة ضعؾ الحكم المركزي فً القرن
ٔ8وسٌطرت على الصعٌد من جدٌد ،بل وكونوا جٌشا خاصا ،وجعلوا للصعٌد دواوٌن فً أٌدٌهم ،وحكم
(٘٘)
-انظر :الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر ،عبد الرحٌم عبد الرحمن عبد الرحٌم ،مرجع سابق ،ص ٔ٘8 ،ٔٙ9
()٘ٙ
-انظر :المرجع السابق ،ص ٔ9٘ -ٔٙ9
ٖٖٗ
خاص به ٌملكونه بتعبٌر الجبرتً( ،)٘9ونصبوا أنفسهم أسٌادا ،فً تكرار لما حدث نهاٌة األسرة ٙحٌن
سٌطر المحافظون على حكم المحافظات لما ضعفت السلطة المركزٌة ،واستعانوا باألجانب المستوطنٌن،
فتمكن األجانب من الببلد ،وصار بتعبٌر الحكٌم "إٌبو ور"" :األجانب مصرٌٌن والمصرٌٌن أجانب" ،أي
نصب األجانب أنفسهم أصحابا للببلد؛ ما كان سببا فً إحدى أكبر سقطات التارٌخ.
وبالمثل فإن الفبلحٌن فً وجه بحري عانوا من هجمات العربان؛ ما اضطر السلطة -بدال من ردع
العربان -أن تسند للعربان مهمة الخفارة (الحراسة) فشاركوا فً فرض اإلتاوات على الفبلحٌن ،مثلهم مثل
الملتزمٌن والمم الٌك ،ومنها ضراٌب البرانً ،وفوق ذلك باتوا ٌعاٌرون الفبلحٌن بؤنهم من "ٌحمونهم" من
بقٌة العربان ،فصاروا كبلطجً الحارة ٌفرض على أهلها إتاوات لٌكفٌهم شر نفسه وشر أمثاله ،ومع ذلك
استمرت جرابمهم؛ فنهب عربان العبابدة فً ٔ988م قافلة تجار وحجاج ،ووصؾ الجبرتً أفاعٌل العربان
فً بؤنها "عربدة"" :وعربدت العربان وقطعوا الطرق وعملوا خٌاناتهم".
وانتهكوا حرمة رمضان ،فحكى الجبرتً عن أنه فً رمضان ٕٗٔٔهٌ -ناٌر ٓٓٔ8م حصل "وقوؾ
العرب وقطاع الطرٌق بجمٌع الجهات القبلٌة والبحرٌة والشرقٌة والؽربٌة والمنوفٌة والقلٌوبٌة والدقهلٌة
وسابر النواحً ،فمنعوا السبٌلَ ،ولَ ْو بالخفارة ،وقطعوا طرٌق الس ّفار ،ونهبوا المارٌن من أبناء السبٌل
والتجار ،وتسلطوا على القرى والفبلحٌن وأهالً الببلد والحرؾ بالعرى والخطؾ للمتاع والمواشً من
البقر والؽنم والجمال والحمٌر ،وإفساد المزارع ورعٌها ،حتى كان أهل الببلد ال ٌمكنهم الخروج ببهابمهم
إلى خارج القرٌة للرعً أو للسقً لترصد العرب لذلك ،ووثب أهل القرى على بعضهم بالعرب فؤخلوهم
وتطاولوا علٌهم ،وضربوا علٌهم الضراٌب".
وضاق العثمانلً فً النهاٌة بهم فتوالت أوامر السبلطٌن إلى والتهم بالقضاء على العربان ،وبخاصة
المتجولٌن ،وإجبلبهم عن مصر ،ومنهم عربان عبد هللا بن وافً المؽربً الذٌن طاردوهم فً الصحراء
الؽربٌة ،وقال عنهم ٌوسؾ الملوانً فً كتابه "تحفة األحباب بمن ملك مصر من الملوك والنواب":
"وأوقعهم هللا تعالى فً النكال والخسران بما فعلوه فً سالؾ األزمان".
وكسرة العربان الكبٌرة جاءت على ٌد علً بك الكبٌر بعد أن تحالفوا مع خصومه وسعى إلبادتهم لوال
تؽلب ناببه محمد بك أبو الدهب علٌه.
خبلل االحتبلل العثمانلً استكمل المتعصبون للمذاهب األربعة (الحنفً والشافعً والمالكً والحنبلً)
تمكٌنها فً أروقة األزهر ،واشتدت المعارك بٌن المتعصبٌن لكل منها ،وبات كل منهم ٌلزق بجانب اسمه
صفة "الشافعً" أو "الحنفً" إلخ ،فٌقال مثبل فبلن ابن فبلن الشافعً ،أو فبلن ابن فبلن المالكً ،وكؤنها
راٌة وعلم ٌمٌز نفسه به ،ولم تفرض السلطنة العثمانلٌة مذهبها الرسمً (الحنفً) إال فً الوظاٌؾ الهامة،
()٘9
-للمزٌد انظر عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار ،ج ٕ ،المبلحق ،مرجع سابق ،ص ٖٕٙٗ -٘9
ٖٖ٘
فٌما كانت تشجع المعارك بٌن أهل المذاهب من باب "فرق تسد" ،ورفضت عدة محاوالت قام بها علماء
لتنقٌة المذاهب وتوحٌدها على مذهب واحد(.)٘8
وصارت العصبٌة تكون مركبة فً شخصٌة الفقٌه أو التاجر أو القاضً الواحد ،فٌقال مثبل فبلن النابلسً
الشافعً ،أو المؽربً المالكً ،أي ٌحتفظ بتعصبه لبلد أجنبً وٌضٌؾ له تعصبه للمذهب.
مع نشر التعصب والفرقة المذهبٌة بٌن المسلمٌن ،حملت الرٌاح السموم إلى مصر بداٌة من أٌام
العثمانلٌة عودة التعصب والفرقة المذهبٌة بٌن المسٌحٌٌن ،وكانت خ َّفت برحٌل معظم الكاثولٌك الرومان
أٌام االحتبلل العربً.
فالقرن ٔ9شهد وفود البعثات التبشٌرٌة إلى مصر استؽبلال لعقد اتفاقٌات بٌن السلطنة العثمانلٌة
وأوروبا ،على رأسها بعثة "الكابوسٌن" سنة ،ٔٙٓ9وهدفها األول لٌس كما ٌعتقد معظم الناس تحوٌل
المسلمٌن إلى المسٌحٌة (التنصٌر) ،بل هدفها األول تحوٌل المصرٌٌن األرثوذكس إلى المذهب الرومانً
الكاثولٌكً ،لٌكسبوا أرضا ودعما بداخل مصر لم ٌجدوه خبلل حمبلت الفرنجة "الصلٌبٌة" الختبلؾ
المذهب ،وٌكونوا طابفة لهم تصبح مبررا للقناصل األجانب للتدخل فً شبون مصر(.)٘9
رؼم أن الممالٌك فً االحتبلل العثمانلً ظلوا أصحاب النفوذ الحقٌقٌٌن إال أنهم ظلوا ٌشعرون فً قرارة
أنفسهم بؤنهم ؼرباء عن الببلد وأهلها ،ومن أصول منبوذة.
وهً نفس نظرة السكان لهم ،ومنهم علماء األزهر الذٌن بدأوا ٌؤخذون تقدٌرا واسعا فً القرن ،ٔ8فنجد
الشٌخ علً الصعٌدي ٌقول عبلنٌة لؤلمٌر ٌوسؾ بك نابب محمد أبو الدهب حٌن طلب منه فتوى تخالؾ
الشرع" :لعنك هللا ،ولعن الٌسرجً الذي جاء بك ،ومن باعك ،ومن اشتراك ،ومن جعلك أمٌرا"(ٓ.)ٙ
وهذه النظرة جعلتهم ٌحاولون تعوٌض النقص بإظهار أنفسهم أهل بر وإحسان وتقوى ،فزادوا من بناء
المإسسات الدٌنٌة والمساجد واألسبلة والكتاتٌب والتكاٌا وأعمال البر والعناٌة بالقرآن ،ونافسهم فً ذلك
الباشوات األتراك فؤوقؾ بٌرام باشا والً مصر فً القرن ٔ9خمس جزر اشتراها من طرح النٌل من
الروزنامة على مسجد وكتاب وتكٌة الكلشنٌة وتكٌة المولوٌة ،وأحد الباشوات أوقؾ 9ببلد اشتراها من
"المحالٌل" فً إقلٌم البحٌرة على تكٌة.
وٌعلق الجبرتً ساخرا بؤن األمٌر رضوان كتخدا "كان مولعا بحٌاة النعٌم والترؾ والخبلعة وإنشاء
()٘8
-عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار ،ج ٕ ،المبلحق ،ص ٗٓ8 -ٖ99
()٘9
-انظر :مصر فً كتابات الرحالة الفرنسٌٌن فً القرنٌن السادس عشر والسابع عشر ،إلهام محمد ذهنً ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،ص ٔٗ
(ٓ)ٙ
-عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار ،عبد الرحمن الجبرتً ،تحقٌق عبد العزٌز جمال الدٌن ،جٕ ،مرجع سابق ،ص ٘88
ٖٖٙ
القصور الفاخرة ،وٌجاهر بالمعاصً والراح والوجوه المبلح ،ومع ذلك فإنه كان ٌبذل الكثٌر على وجوه
الخٌر وإقامة المإسسات الدٌنٌة".
فكؤنهم ٌسكتون ضمابرهم عن سماع صرخات الناس بتلك األعمال ،وصدق علٌهم القول إنهم كمن ٌؤخد
مال شخص ثم ٌتصدق علٌه بلقمة منه ،وٌنتظر منه الشكر ،فإن لم ٌشكره اتهمه بالجحود ونكران الجمٌل
كما رأٌنا صاحب كتاب "هز القحوؾ" ٌقول(ٔ:)ٙ
فكؤن المتحدث ٌرٌد أن ٌضلل الناس عن أن هإالء الفبلحٌن ٌنفرون من الممالٌك والعربان والعثمانلٌة
ألنهم ٌعلمون تمام العلم أن هإالء "المتصدقٌن" هم لصوص أرضهم وؼاصبٌها.
وٌعلق عبد الوهاب الشعرانً فً كتابه "الدرر والُلمع" فً القرن ٔٙعلى كٌؾ كان الحكام ومشاٌخ
العرب ٌنزعون المال ظلما من الفبلحٌن ثم ٌنفقونه على التكاٌا لٌؤخذوا الثواب" :وسمعت سٌدي علٌَّا
الخواص ٌقول :إٌاكم وقبول هداٌا ال ُكشاؾ ومشاٌخ العرب من ضحاٌا وسمن وعسل وؼٌر ذلك ،فقد صاروا
ٌؤخذونها قهرا من رعاٌاهم وٌجمعونها ثم ٌفرقونها على من ٌعتقدون فٌه العلم والصبلح ،فٌقبلها ذلك الشٌخ،
وٌقول :األصل الحِل مع أنه شاع وذاع ومؤل األسماع أخذهم مثل ذلك من رعٌتهم ظلما وعدوانا" ،وأنه "من
شك فً قولً فلٌسافر إلى ببلد الؽربٌة أو المنوفٌة أو البحٌرة وٌسؤل الفبلحٌن فً الببلد فإنهم ٌخبرونه بما
قلناه"(ٕ.)ٙ
وعلى حس التكاٌا والشعوذة والطرق الصوفٌة اشتهر فقهاء األحجبة والتمابم بل والمفاسد؛ استؽبلال
لنشفان رٌق الناس لمن ٌرشدهم للطرٌق الصح ،وسبٌل النجاة ،خاصة وأن مناصب الفقها والفتاوى احتكرها
أتراك وشوام ومؽاربة وعرب ،ولم ٌهتم معظمهم بما ٌرشد الفبلحٌن لكٌفٌة إزاحة الظلم عن كاهلهم ،أو
مقاومة محتلٌهم إال قلٌل منهم فً نهاٌة القرن ٔ8لما اشتد عسؾ الممالٌك على الجمٌع.
ومما أضعؾ مقاومة المصرٌٌن للمظالم حٌنها أن الطرق الصوفٌة تحت شعار السبلم والحب والصفاء
ارتدت مسوح الراهب الودٌع ،وحملت ؼصن الزٌتون ،تطوؾ داعٌة إلى الوبام بٌن الطواٌؾ ،وتطالب
مرٌدٌها باحتمال األذى والصبر على االضطهاد أمبل فً نٌل الثواب ورؼبة فً اكتساب الصفاء النفسً
الذي ٌإدي إلى حضرة هللا ،وطالبت المظلوم بالرضا عن ظلمه ،وشكر هللا على ما أصابه ،بل وعذر من
أقدم على إهانته؛ ألنه لم ٌفعل ذلك إال ألنه ؼافل ال ٌذكر أن المعتدي علٌه واحد من عباد هللا(ٖ ،)ٙوهذا
انعكس على الموقؾ من المحتلٌن الحاكمٌن الظالمٌن ،وكؤن مقاومتهم تحدي إلرادة هللا.
وهذه الطرق الصوفٌة شرخت شرخا جدٌدا فً الجسد المصري ،فكما سعت المذاهب الدٌنٌة إلى تفرٌق
(ٔ)ٙ
-انظر الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر ،مرجع سابق ،ص ٖٕٕٖٓٔ -
-الدرر واللُمع فً بٌان الصدق فً الزهد والورع ،عبد الوهاب الشعرانً ،تحقٌق أحمد فرٌد المزٌدي ومحمد عبد القادر نصار ،طٔ ،دار الكرز
(ٕ)ٙ
ٖٖ7
المصرٌٌن أحزابا تكفر بعضها البعض ،وتسببت القباٌل فً نشر القبلٌة بضم بعض المصرٌٌن إلٌها ضد
القباٌل المنافسة ،تسببت الطرق الصوفٌة فً تقسٌم بعض المصرٌٌن إلى أتباع للشٌخ فبلن والشٌخ عبلن،
وٌقدمون له الطاعة العمٌاء ،وقد ٌشتبكون مع بعضهم نصرة لهذه الطرٌقة أو تلك.
وفً حٌن ال ٌجد المصرٌون علما لبلدهم ٌمشون ورابه ،تعددت الراٌات فوق رءوس المصرٌٌن
وألوانها ،لكل طرٌقة راٌة ٌتبعونها ،وقال المقرٌزي عن هإالء المشاٌخ فً كتابه "الخطط" ،نافرا من
بدعهم السٌبة وطرٌقة معٌشتهم وتخارٌفهم" :ال ٌُنسبون إلى علم دٌانة ،وإلى هللا المشتكى".
ووصل عدد الطرق ألكثر من ٓ 8طرٌقة ،توؼلت فً عروق مصر ومفاصلها ،فلكل طرٌقة معسكر أو
مقر فً القرى باسم خانقاه وزاوٌة ،بخبلؾ ضرٌح الولً المزعومٌ ،نشر الدجل والشعوذة والتواكل
والضعؾ ،وٌشفط أموال الفبلحٌن باسم حجاب وتمٌمة وندر وهداٌا ووجبات وموالد وأوقاؾ.
وشاعت على ألسنة هإالء المدعٌن فً ذلك العصر إجابات توحً للناس بؤنه لٌس من حقهم مناقشة
أمورهم ،وأصبحوا ٌجٌبون على كل سإال ٌوجه إلٌهم بقولهم "دع الخلق للخالق ،وال تعترض على شًء".
وضاق بعض المعاصرٌن بهم ذرعا بما ٌفعلونه من افتراءات على الدٌن ونهب لؤلموال ،وسعوا
(ٗ)ٙ
لمقاومتهم ،فمنهم من أطلق علٌهم سبلح الشعر لفضح حقٌقتهم ،مثل قصٌدة حسن الحجازي
ولم ٌقؾ بهم األمر عند هذا الحد ،ففرضوا ألنفسهم على الفبلحٌن المنتمٌن إلى طرقهم عادات وإتاوات
ٌؤخذونها منهم متى حلوا علٌهم ،وزادوا بؤن خولوا ألنفسهم أخذ أموال الناس بالباطل فً مناطق نفوذهم،
كما كان ٌفعل أتباع الطرٌقة األحمدٌة فً الؽربٌة ،قابلٌن إن الؽربٌة ببلد السٌد البدوي ،ونحن من فقرابه،
فكل ما نؤخذه حبلل لنا ،فظهر هدفهم الحقٌقً من تقدٌس هإالء ،وفوق ذلك ،اشتهر أتباع هذه الطرق
بارتكاب الفحشاء مع النساء البلتً ٌؤخذن العهد (البٌعة) علٌهن ،بل وٌرتكبون الفاحشة مع الؽلمان ،وبعض
الطرق كانت فً حقٌقتها إلحاد وكفر بالجنة وبالنار(٘.)ٙ
وهاجمهم عبد الوهاب الشعرانً رؼم أنه من الصوفٌة ،ولكنه ٌرى أن لٌس كل المتصوفة سواء ،وقال
إن طابفة من الفقراء (صفة ادعتها طرق صوفٌة ألتباعها) "سموا أنفسهم بالصوفٌة ،وادعو الوالٌة الكبرى،
(ٗ)ٙ
-للمزٌد انظر :الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر ،عبد الرحٌم عبد الرحمن عبد الرحٌم ،مرجع سابق ،ص ٖٕٕٖٓ9 -
(٘)ٙ
-انظر :المرجع ص ٕٓٗ
ٖٖ8
وهم أضل من األنعام ،فصار كل من أذن له شٌخه بؤن ٌستفتح الذكر بجماعةٌ ...جمع له جماعة من العوام
من أهل الصنابع وؼٌرهم ...وٌكلؾ العباد فً هذه األٌام الكدرة النكدة على الخاص والعام ،وهو مع هذا
ٌدعً أنه قابم فً الخلق مقام نبٌهم صلى هللا علٌه وسلم ،كفى بذلك كفرا وجهبل وسوء أدب".
والكدرة والنكدة ٌقصد بها تكلٌؾ الناس بمد موابد الطعام والعسل والجبن واألؼنام والسمن إلخ فً
الحضرات والوالبم لمشاٌخ الطرق.
وانتشرت خرافات العبلج الروحانً والسحر وتدبٌر مكاٌد للؽٌر ،وخلق هذا العداوات بٌن األسر فً
الرٌؾ ومشاكل اجتماعٌة كان لها تؤثٌرها فً جرح ألفة األخوة بٌن المصرٌٌن(.)ٙٙ
وبحسب د .عبد الرحٌم عبد الرحمن عبد الرحٌم فإنه من أشنع ما تركته هذه الطرق من شروخ فً
الشخصٌة المصرٌة أنها طبعت حٌاة بعض الفبلحٌن بطابع االتكالٌة واالستسبلم للمظالم ،ألنهم وجدوا لدى
شٌوخهم الصوفٌة أقواال تسوغ لهم الصبر علٌها ،وتقنعهم بؤن هذه المظالم لٌست إال اختبارا من هللا لقدرتهم
على اإلٌمان ،مثل "واللً انكتب على الجبٌن ال بد نصبر له"(.)ٙ9
ساد فً ذلك الزمن ما ساد فً احتبلالت سابقة من إسناد مساحة أرض أو قرى لشخص ٌلتزم بسداد
خراجها وٌحتفظ بالباقً ،وسُمً فً أٌام العثمانلً بـ"نظام االلتزام".
وهو ٌختلؾ عن نظام اإلقطاع المملوكً الذي ألؽاه العثمانلٌة فً أن اإلقطاع المملوكً ٌوزعه الممالٌك
على أنفسهم وأتباعهم من المقاتلٌن كؤنه ملكٌات خاصة (كاإلقطاعات األوروبٌة والوسٌات الرومانٌة) ،أما
نظام االلتزام فإن األرض توزع على الممالٌك والسلطان وحاشٌتهم وكبار المشاٌخ والتجار ،ولكن ال
ٌتملكونها ،بل تظل "ملكا للسلطان" ،والملتزم ٌستفٌد بؤنه ٌجمع الخراج وكافة الضراٌب المشروعة وؼٌر
المشروعة من أرض االلتزام -بؤي طرٌقة كانت -وٌلتزم بدفع مبلػ معٌن من الخراج للسلطان وٌحتفظ
بالباقً فً جٌبه ،أي كؤن مهمته جامع للضرابب مع احتفاظه بحصة منها ،والملتزم من الممالٌك ورجال
األوجاقات ومشاٌخ العرب وكبار التجار والمسبولٌن والعلماء وأعضاء نقابة األشراؾ ،ونساء تبع هإالء
ونساء من الجواري ،وٌُسمح له بؤن ٌجبر الفبلحٌن على زرع أراضً له بببلش "السخرة" فٌما اشتهر
بالوسٌة ،وٌورث منصبه ألوالده.
واشتهر من الملتزمٌن التجار الخواجة أحمد حدق المؽربً تاجر البن ،ومن علماء األزهر محمد األمٌر
(من المؽرب) ،نزل أهله األول فً الصعٌد وملكوا نفوذا بسرعة ،وتعلموا فً األزهر وأخذوا مناصب،
وورثوا االلتزام ،ومن أوابل العلماء الذٌن أخذوا االلتزام الشٌخ ٌوسؾ الحنبلً (من فلسطٌن) حضر من
()ٙٙ
-انظر :المرجع السابق ،ص ٕٕٔٗٗ8 -
()ٙ9
-انظر :نفس المرجع ،ص ٕ٘٘ -ٕٗ9
ٖٖ9
نابلس إلى القاهرة ودرس على شٌوخها ثم تصدى للتدرٌس باألزهر(.)ٙ8
فالؽرٌب ٌؤتً لٌجد من حكومة االحتبلل ما ٌإهله لٌؽتنً فً سنٌن قلٌلة ،وٌشتري أو ٌُمنح المناصب
الهامة ،وقد ٌورثها ألوالده ،وٌسٌطر على مساحات واسعة من األرض ،وٌتحكم فً رقاب الناس وأرزقاهم،
كما ٌصبح من كبار علماء األزهر فٌتحكم فً فتاواهم ودٌنهم بخلفٌاته الطابفٌة والعرقٌة والمذهبٌة القادم بها
من بلدهٌ ،ساعده فً هذا شبكة من المهاجرٌن السابقٌن لمصر من بنً جنسه أو طابفته ومذهبه ،ألنه حرفٌا
كانت مصر ُتعامل على أنها "مالهاش صحاب".
وبجانب نظام االلتزام وجد نظام تؤجٌر األراضً ،ونظام االنتفاع ،واألوقاؾ ،واختفت الملكٌة الخاصة
ألن السلطان العثمانلً سار على فكرة أن األرض كلها ملك للسلطان(.)ٙ9
عٌنة لتوزٌعة أراضً مصر بنظام االلتزام على المحتلٌن من عسكرٌٌن ومستوطنٌن (نقبل عن كتاب
"الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر" د .عبد الرحٌم عبد الرحمن عبد الرحٌم(ٓ))9
اعتبر الرومان مصر "سلة ؼذاء" اإلمبراطورٌة ،واعتبرها العرب "المٌرة والمؽٌث" ،واعتبرها الترك
"مال السلطان" ،واعتبرها اإلنجلٌز "مزرعة القطن" لمصانع النكشاٌر ،بخبلؾ أن كل هإالء اعتبروها
"ممول" ربٌسً لحروبهم.
()ٙ8
-الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر ،مرجع سابق ،هوامش ص ،ٔٓ9ؤٕٔ -ٔٓ8
()ٙ9
-لمزٌد عن توزٌعة األراضً على المحتلٌن والمستوطنٌن انظر :المرجع السابق ،ص من 99 -9٘ ،9ٔ– 8ٙ
(ٓ)9
-نفس المرجع ،ص ٔٓ8 -ٔٓٙ
ٖٓٗ
وأٌام العثمانلٌة تلونت أنواع الجباٌات على الفبلحٌن أكثر مما سبق ،فضراٌب خاصة بالسلطان اسمها
المٌري (الجزٌة والخراج ونفقات حروبه مع أوروبا وفتوحاته) ،وضراٌب وإتاوات ابتدعها الممالٌك لتموٌل
معاركهم الخاصة ،وإتاوات ونفقات ٌفرضها العربان ومشاٌخ طرق صوفٌة وشٌوخ المنصر.
▼ الضراٌب الرسمٌة
(المٌري)
فرض العثمانلً على مصر خراجا سنوٌا ٌُرسل لؤلستانة ،وٌشمل ضراٌب األمبلك واألراضً ،تسمى
بالمال المٌري ،وشملت :ضرٌبة األرض ،المضاؾ ،البرانً ،الفاٌض ،الكشوفٌة
وفً الرٌؾ موكل للمتلزم جمعها من الفبلحٌن ،وعرفها الفبلحون باسم "مال السلطان" ،وموعد سدادها
مهوال عندهم للقسوة التً تتبع فً جمعها.
وذكر الشربٌنً فً كتاب "هز القحوؾ" فً شرحه لحال الفبلح ٌوم تحصٌل هذه الضرٌبة" :وهو أن
النصرانً(ٔ )9إذا حضر إلى القرٌة أو ال َكفر وفرد المال على الفبلحٌن حكم الحوالً والقوانٌن التً جرت
بها العادة وشرع فً أخذها فٌكثر الخوؾ والحبس والضرب لمن ال ٌقدر على ؼبلق المال ،فمن الفبلحٌن
من ٌقترض الدراهم بزٌادة ]أي بالربا[ ،أو ٌؤخذ على زرعه إلى أوان طلوعه بناقص عن بٌعه فً ذلك
الزمن ،أو ٌبٌع بهٌمته التً تحلب على عٌاله ،أو ٌؤخذ مصاغ زوجته ٌرهنه ،أو ٌتصرؾ فٌه بالبٌع ولو
قهرا علٌها ،وٌدفع الثمن للنصرانً ،أو لمن هو متولً قبض المال".
"وإن لم ٌجد شٌبا وال ٌرى من ٌعطٌه وخشً الملتزم أو المشد من خرابه (هروبه) من البلد أخذ ولده
رهٌنة عنه حتى ٌؽلق ]ٌدفع[ المال ،أو ٌؤخذه أخاه إن لم ٌكن له ولد ،أو أحدا من أقاربه ،أو ٌوضع فً
الحبس للضرب والعقوبة ،حتى تنفذ فٌه أحكام هللا تعالى ،ومنهم من ٌنجو بنفسه فٌهرب تحت لٌله فبل ٌعود
إلى بلده قط ،وٌترك أهله ووطنه من هم المال وضٌق المعٌشة؛ فبلبد على كل حال من تؽلٌق المال ،ولو
حصل من ذلك الهم والنكال كما فً المثل الذي اشتهر وع ّم "مال السلطان ٌخرج من بٌن الظفر واللحم" وما
دام الفبلح شًء من المال فهو فً هم شدٌد وٌوم السداد عند الفبلح عٌد(ٕ ،")9وسجل الشاعر الشعبً أبو
شادوؾ على لسان الفبلح:
(ٔ)7
-كان الصراؾ ٌُختار من المسٌحٌٌن ،ربما تقلٌدا لما كان قبل وبعد الؽزو العربً ولمهارتهم فً الحساب ،وفً ؼالب الظن أن كثٌرا منهم من
ذراري اإلؼرٌق والرومان الذٌن فضلوا البقاء فً مصر بعد زوال االحتالل الرومانً وأبقاهم العرب فً اإلدارة المحلٌة و فً الدواوٌن التً كانوا
مسٌطرٌن علٌها قبل مجا العرب ،خاصة مع اتقانهم اللؽة الٌونانٌة ،لؽة الدواوٌن وقتها ،وبانخراطهم وسط المصرٌٌن بعد االحتالل العربً،
وحسبهم العرب على األقباط ،لكن بعضهم تكتل على نفسه وم ٌَّزها عن بقٌة المصرٌٌن (مسلمٌن ومسٌحٌٌن) كعادتهم أٌام الرومان ،واحتفظوا
ألنفسهم بؤسرار مهن الدواوٌن وتوارثوها ،وٌدل على هذا قسوتهم الشدٌدة فً تحصٌل الضراٌب مع المصرٌٌن فً األرٌاؾ مسلمٌن ومسٌحٌٌن،
وانعزالهم عن قضاٌا الفالحٌن ،بل مساهمتهم فً معاناتهم ،واهتمامهم بالعمل الحكومً والتجاري دون الفالحة ،وتوارث هذه المهن والثروة حتى
عصر عٌلة محمد علً ،ووجود السحنة الرومانٌة والٌونانٌة على وجوه ذرارٌهم حتى الٌوم ،ولو كانوا مصرٌٌن خالصٌن النخرط فً هذه المهنة
بقٌة المصرٌٌن من مسلمٌن ومسٌحٌٌن ،ولما انحصرت المهن ومظاهر الؽنى المتوارث فٌهم أٌام االحتالالت فً فبة وعابالت معدودة منهم مقارنة
بالمصرٌٌن الفالحٌن . .وهذا احتمال ٌحتاج مزٌد من الدراسة من المتخصصٌن فً البردٌات.
(ٕ)9
-انظر :الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر ،ص ٕٕٓٔٔٙ -
ٖٔٗ
ما انفك من الوجبة لما ٌجً مال السلطــــان هم الفالحة حٌرنً وكل ساعة فً نقصــــــان
(المضاؾ)
وفق دفاتر االلتزام فهً ضرٌبة تضاؾ للمٌري فً حالة حدوث عجز فً مبلػ الخراج المرسل للسلطان
بسب فساد اإلدارة ،أو فً حالة دخول السلطنة فً حرب أو قٌامها بفتح بلد جدٌد ،أو لو قصر الممالٌك فً
دفع ضراٌب االلتزام المفروضة علٌهم الستخدامها فً حروبهم الداخلٌة فٌكلفون الفبلحٌن بتسدٌد النقص.
(الفاٌض)
وهً الفرق بٌن إٌجار األرض والضرٌبة المٌري األساسٌة المفروضة علٌها ،وفً أؼلب األحٌان ٌؤخذه
الملتزم لنفسه ،ووصل الحال فً القرن ٔ8أنها صارت أكبر من الضرٌبة المٌري نفسها.
(البرانً)
هو األكل الذي ألزمت اإلدارة الفبلحٌن أن ٌقدموه لموظفٌها العاملٌن فً القرى ،كالسمن والعسل والجبنة
والحبوب والدجاج والؽنم وؼٌرها من خٌرات الرٌؾ ،وكان الفبلح ٌسمٌها "الوجبة" ،وقال عنها ٌوسؾ
الشربٌنً فً شرحه لبٌت أبً شادوؾ:
علً ٌحٌؾ
َّ ٌوم تجً الوجبة وال ضرنً إال ابن عمً محٌلبة
ولو كان فقٌرا ألزموه بذلك قهرا وإال حبسه المشد ،وضربه ضربا موجعا ،وربما هرب ،فٌرسل المشد
إلى أوالده وزوجته ٌهددهم وٌطلب منهم الضرٌبة ،فربما رهنت المرأة شٌبا من مصاؼها أو ملبوسها على
دراهم وأخذت بها الدجاج واللحم وأطعمتهم ،وحرمت أوالدها من األكل منه خوفا من أال ٌكفً الضرٌبة.
وأضاؾ الشربٌنً أن الفبلح قد ٌربً الدجاج فبل ٌؤكل منه شٌبا وٌحرم نفسه وعٌاله من خوفه من
الضرب والحبس ،ومثل الدجاج السمن والدقٌق فٌبقٌه ألجل هذه البلٌة ،وٌطبخ بالشٌرج "زٌت السمسم"،
وٌؤكل الخبز الشعٌر ،وٌصنع لهم القمح الزرٌع ،وٌؤكل الجبن القرٌش المالح وٌتكلؾ شراء الجبن الطري
الحلو وٌرسله فً الوجبة؛ فهً من أنواع الظلم والكل منها حرام.
وألؾ المإرخ ابن إٌاس مواال ٌطابق هذا الحال قال فٌه:
رحل وولى علٌنا كل صاحب حٌـــــؾ كان بن عثمان مزجا مصر كالضٌؾ
(ٖ)9
أطراؾ أقالمهم تفعل فعال السٌؾ مباشرٌن ٌجورو فً الشتا والصٌؾ
(الكشوفٌة)
(ٖ)9
بدابع الزهور فً وقابع الدهور ،ج ٘ ،محمد بن إٌاس الحنفً ،مرجع سابق ،ص ٖٕٕ
ٕٖٗ
ضرٌبة مخصصة لسد نفقات اإلدارة المحلٌة فً األقالٌم ،مثل مرتب الكاشؾ التركً (المحافظ) وترمٌم
الجسور وشق الترع ومرتبات العسكر الترك المحلٌٌن.
وبسبب كثرة ثورات أو هروب الفبلحٌن من القرى رفضا لهذه الحمول وطرق اإلهانة فً جمعها،
اضطر بعض الملتزمٌن نهاٌة القرن ،ٔ8إلى تخفٌؾ بعض الضراٌب ،وصارت الضراٌب الملزمة
للفبلحٌن هً المٌري والفاٌض ،وكما وضح من وثابق المحكمة الشرعٌة أصبح الملتزم ٌشترط على نفسه
فً عقد اإلٌجار بؤنه رفع عن كاهل مشاٌخ وفبلحٌن األربع حصص (الخاصة به) كامل السمن والدجاج
معتاد الشادٌة وسمن الشادٌة وعواٌد الصراؾ والنحرة والعونة وتقادم الملتزم وكامل ما ٌتعلق بالمتلزم من
مصروؾ وؼنم وضٌافة وؼٌر ذلك الرفع الكلً ،وأن ٌكون جرؾ الجسور بؤثوار الوسٌة.
وكان هذا تخفٌفا ؼٌر مسبوق على الفبلحٌن منذ زمن طوٌل ،اضطر المتلزمون له اضطرارا بعد رفض
الكثٌر من الفبلحٌن العمل فً الؽٌطان؛ احتجاجا على سوء المعاملة وكثرة الضراٌب(ٗ.)9
ما فات هو الضراٌب الرسمٌة المسجلة ،ورؼم أنها كفٌلة بكسر ظهر الفبلح ،لكن الملتزمٌن أضافوا
علٌها ضراٌب أخرى ال تصل إلى الخزانة أو األستانة ،وهً :ال ِفرد (جمع ِفردة) ،والكلؾ (جمع كلفة)،
والطلبة (حق الطرٌق) ،والعونة ،والسخرة.ُ والمؽارم ،ورفع المظالم،
وتكفً اإلشارة إلى ما حدث بٌن إبراهٌم بك ومراد بك من جهة ،وإسماعٌل بٌك الكبٌر وحسن باشا
الجزاٌري قابد الحملة التً أرسلها السلطان عبد الحمٌد األول ٔ989لتضع حدا للفوضى التً تمر بها
الببلد من جهة أخرى كمثال على طرقهم فً فرض ضراٌب وإتاوات ؼٌر رسمٌة على الفبلحٌن ،فدار
صراع مرٌر بٌن الجبهتٌن ،وقع العبء األكبر فٌها على الرٌؾ ،وكثرت الفرد والكلؾ على القرى ،فكلما
وطا أحد الفرٌقٌن منطقة قرر فردة جدٌدة ،حتى أن بعض القرى ما تكاد تخلص من تسدٌد فردة ألحد
الفرٌقٌن حتى تفاجا برجال الفرٌق اآلخر ٌطلبون منها فردة تخصه.
واستؽل الكشاؾ حالة الفوضى هذه وفرضوا مظالم أخرى على أهل الرٌؾ ،حتى أن الجبرتً ذكر أن
"ما فعله كشاؾ األقالٌم فً القرى القبلٌة والبحرٌة من المظالم والمؽارم وأنواع الفرد والتساوٌؾ فشًء ال
تدركه األفهام وال تحٌط به األقبلم ،وخصوصا سلٌمان كاشؾ البواب بالمنوفٌة" ،وٌعلق على ذلك بقوله
"فنسؤل هللا العفو والعافٌة وحسن العاقبة فً الدٌن والدنٌا واآلخرة".
(ال ُطلبة)
ضرٌبة فرضها العسكر العثمانلٌة "السباهٌة" على الناس بؤنه كلما احتاجوا المال اصطنعوا أي تهمة
للشخص وطالبوه بدفعها تكفٌرا عنها ،وبدأت فً البداٌة باسم حق الطرٌق.
(ٗ)9
-للمزٌد عن هذه الضراٌب ومعاناة المصرٌٌن فً األرٌاؾ انظر :الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر ،ص ٖٖٔ -ٕٔٙ
ٖٖٗ
وكتب محمد أبً السرور البكري فً كتابه "النزهة الزكٌة فً والة مصر والقاهرة المعزٌة" تجربته
الشخصٌة وعن حوادث تصرخ لها السموات السبع كان علٌها شاهد عٌان مع ضرٌبة" ،الطلبة" فً سنة
،ٔٙٓ8فقال:
"والطلبة معناها أي الؽز ] األتراك[ ٌؤتون لكاشؾ اإلقلٌم فٌقولون له اكتب لنا على الناحٌة الفبلنٌة كذا،
مما ٌرٌدون مثبل ،فٌقول بؤي طرٌقة اكتب لكم ذلك ،فٌقولون اكتب أن فبلنا اشتكى فبلنا من أهالً الناحٌة
الفبلنٌة ،فٌؤمر الكاشؾ بكتابة ما ٌقولون وٌكتب لهم حق الطرٌق بقولهم ،سواء كان له صحة أو ال ،والؽالب
أن جمٌع ما ٌقع من مثل ذلك ٌكون ال أصل له ،بل الجمٌع ال أصل له ،فهذا معنى الطلبة".
وحكى تجربة له" :كان لً بلدة بالمنوفٌة ومالها ماٌة ألؾ نصؾ فضة؛ فؽرمت أنا وأهالٌها فً الطلبة
مابتً ألؾ نصؾ فضة ،وقد جاء لبلدتنا المذكورة شخص من العسكر بطلبة مذكور فٌها أن كرم الناحٌة
اشتكى من المادٌن تحت وحق الطرٌق ألؾ نصؾ فضة ،فحٌن جاء إلى الناحٌة فرَّ أهلها جمٌعا ،فرأى
إمرأة لها ولدٌن فؤخذهم منها ،ووضعهما فً الخرج ،فحٌن رأت المرأة ذلك ذهب عقلها ،فجاءت له
بمصاؼها وقالت له هذا ٌساوي زٌادة عن ألؾ نصؾ ،أخذ المصاغ منها ،وأخرج الوالد من الخرج ،فإذا
هم مٌتٌن ،فانظروا إلى هذا التجري الذي ما ٌفعله كافر بخبلؾ المسلم ،فبل حول وال قوة إال باهلل العلً
العظٌم(٘.")9
وواضح أن هذه الفترة شاع الرعب فً عموم البلد ،وسمٌت بحوادث الفتنة ،حتى إنه أرَّ خ لها إضافة
للبكري الصدٌقً كل من محمد البرلسً السعدي ،القاضً الشرعً باألسكندرٌة ودمٌاط ورشٌد فً مإلفه
"بلوغ األرب برفع الطب" ،ومنهم من أرَّ خ لها بالشعر مثل عبد الواحد البرجً ،والشٌخ عبد المنعم الماطً
الذي قال سنة :ٔ٘89
وصار فً أرضها القاطن بها محـروم نظام مصر العزٌزة قد ؼدا مخروم
()9ٙ
ل َّما بتارٌخها جارت علٌها الـــــــــــــروم وذل َّ فٌها العزٌز الفاضل المكروم
وكان قلٌل من الوالة من عنده الشجاعة لٌقؾ قصاد توحش الممالٌك وفرقة السباهٌة العثمانلٌة فً فرض
نفوذهم على الرٌؾ وفرض ضراٌب خاصة بهم كالطلبة ،ومن وقؾ ضدهم من الوالة ثار علٌهم الممالٌك
وأوجاقات السباهٌة العثمانلٌة وتآمروا علٌهم ،لدرجة القتل ،كما قتلوا الوالً إبراهٌم باشا وأمٌر معه سنة
ٗٓ ٔٙم ،وطافوا برأسٌهما فً شوارع القاهرة وعلقوها على باب زوٌلة ،حتى جاء محمد باشا لٌتسلم
منصب الوالً فً ٔٔ ٔٙم ،ف تلقى شكاوى من األهالً من ظلم السباهٌة ،وكان مدركا لما حدث لمن قبله،
فاصطحب عند قدومه لمصر قوات قتلت كثٌرا من الممالٌك ،ونفى المبات للٌمن ،فكان ٌوم فرح ،وتسمى بـ
(٘)9
-النزهة الزكٌة فً والة مصر والقاهرة المعزٌة ،محمد بن أبً السرور البكري ،ص ٘ ٔ8عن حوادث سنة ٔٙٓ8م ،تحقٌق عبد الرازق عبد
الرازق عٌسى ،العربً للنشر والتوزٌع ،ط ٔ ،القاهرةٔ998 ،
()9ٙ
-انظر مخطوطة كشؾ الكربة فً رفع الطلبة ،مرجع سابق ،ص ٖٓٔ ،ٖٔ8 ،ٖٕٔ-هوامش ،ٖٓ9والرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر،
مرجع سابق ،ص ،ٖٔ9 -ٖٔٙ ،9٘ -ٗ9والروم مقصود بها سلطنة العثمانلٌة كونها قامت على أرض الروم أي بٌزنطة
ٖٗٗ
"مبطل الطلبة" و"معمر مصر"(.)99
(العونة)
ضرٌبة تدفع لٌس ماال أو من منتجات الرٌؾ ولكن من جسد اإلنسان بالعمل فً أرض الملتزم وحفر
القنوات وشٌل الطٌن من اآلبار بدون أجر ،وبالؽصب.
وٌقول الجبرتً عنها" :إن العونة إنما تكون فً ببلد الملتزمٌن التً فٌها األوسٌة ]الوسٌة[ وبعض الببلد
تكون العونة فٌها على رجال معروفٌن بالبٌوت مثبل ،فٌقولون ٌخرج من بٌت فبلن شخص واحد ومن بٌت
فبلن شخصان بحسب ما تقرر علٌهم قدٌما وحدٌثا ،فبل ٌنفك من علٌه العونة منها ،وإن مات جعلوها على
ولده ،وهكذا؛ فهً داهٌة كبرى على الفبلحٌن ومصٌبة عظمى على البطالٌن(.")98
(السخرة)
وإن كانت العونة هً العمل بببلش فً أرض الملتزم ،فالسخرة هً العمل بببلش فً أرض ومشروعات
الحكومة مثل جرؾ الجسور السلطانٌة وؼٌرها.
وشاع نظام السخرة فً زمن العثمانلً بؤقبح شكل ،فٌُجبر الفبلح على زراعة األراضً الموقوفة على
المساجد والمدارس وؼٌرهما من المشارٌع الخٌرٌة بببلش ،فً تناقض تام مع الهدؾ منها ،فالبرؼم من أنها
مشارٌع هدفها تخفٌؾ العبء عن الناس بزٌادة المساجد والمدارس ،إال أنها تهلك مقابل هذا أرزاق وحقوق
وأجساد وأرواح اآلالؾ عنوة وؼصبا ،وٌذهب خٌرها لؤلؼنٌاء ولدراوٌش الصوفٌة العواطلٌة.
ورفض الكثٌر من الفبلحٌن القٌام بالعونة والسخرة ،ولذا عٌَّن الممالٌك لهم أشخاصا ؼبلظ القلب
مخصصٌن لنزع الفبلحٌن من دٌارهم بالسبلح حٌن ٌرفضون الذهاب.
وٌصؾ الجبرتً مشهد اقتحام عسكر العثمانلٌة لمنازل الفبلحٌن" :ووجه (إسماعٌل بك الكبٌر) على
الناس قباح الرسل والمعٌنٌن من السراجٌن والدالة وعسكر القلٌونجٌة ،فٌدهمون اإلنسان ،وٌدخلون علٌه فً
بٌته مثل التجردٌة الخمسة والعشرة بؤٌدٌهم البنادق واألسلحة ،بوجوه عابسة ،فٌشاؼلهم وٌبلطفهم وٌلٌن
خواطرهم باإلكرام ،فبل ٌزدادون إال قسوة وفظاظة ،فٌعدهم على وقت آخر ،فٌدخلون الدار ولٌس فٌها إال
النساء ،وٌحصل منهم ماال خٌر فٌه ،من الهجوم علٌهم ،وربما نططن من الحٌطان أو هربن إلى بٌوت
الجٌران ،وسافر رضوان بك قرابة على بك الكبٌر إلى المنوفٌة ،وأنزل بها كل بلٌة وعسؾ بالقرى عسفا
عنٌفا قبٌحا بؤخذ البلص (الرشاوى) والتساوٌؾ ،وطلب الكلؾ الخارجة عن المعقول إلى أن وصل إلى
رشٌد ،ثم رجع إلى مولد السٌد البدوي بطندتا (طنطا) ثم عاد وفً كل مرة من مروره ٌستؤنؾ العسؾ
والجور ،وكذلك قاسم بك بالشرقٌة وعلً بك الحسنً بالؽربٌة".
()99
-الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر ،مرجع سابق ،ص ٘9ٙ -9
()98
-المرجع السابق ،ص ٕ٘9
ٖ٘ٗ
وبحسب الجبرتً أٌضا الذي عاصر هذه األحداث ،فإن األعباء التً أصبح الفبلح ملزما بها "ٌكل القلم
عن تسطٌرها ،وٌستحً اإلنسان من ذكرها ،وال ٌمكن الوقوؾ على بعض جزبٌاتها ،حتى خربت القرى،
وافتقر أهلها ،وجلوا عنها(.")99
كان القضاة وال ُكشاؾ ٌحطون علٌه ،وٌطالبونه بدفع الضراٌب واإلتاوات ،فإن عجز عن الدفع انتزعوا
منه أرضه ،وأذاقوه العذاب ألوانا وأشكاال :بالمقارع والكسارات وعصر الرأس وإمرار الطونس على
ظهره وإدخال البوص بٌن الظفر واللحم ،والتعلٌق ،ووضع الخوذة المحماة بالنار على الرأس(ٓ.)8
(ضرٌبة السوق)
كعادة المصرٌٌن طول التارٌخ ،لكل قرٌة ٌوم فً األسبوع ٌسمى "ٌوم السوق" ٌبٌعون فٌه محاصٌلهم
وطٌورهم وحٌواناتهم والمشؽوالت الٌدوٌة ،وله نصٌب من ضراٌب العثمانلٌة ،وٌتولى جمعها ملتزم
ٌختص بكل سوقٌ ،شبه ملتزم األراضً الزراعٌة.
وشارك تجار فً عملٌة االستنزاؾ ،فكانوا ٌستخدمون نوعٌن من المكاٌٌل ،مكاٌٌل كبٌرة لما ٌشتري من
الفبلح ،ومكاٌٌل صؽٌرة لما ٌبٌع ما اشتراه منه ،ونفس الموضوع فً الموازٌن ،فٌوفر لنفسه ربحا كبٌرا،
ونفس الموضوع ٌعمله بعض الصٌارفة لما ٌكٌلوا المحاصٌل من الفبلح بمكاٌٌل أكبر من الشون األمٌرٌة،
وٌحتفظ هو بالفرق.
واألسواق لم تسلم من عملٌات الكر والفر والمعارك بٌن الممالٌك ،فالجبرتً ٌقول ضمن أحداث صفر
ٕ٘ٓٔ ه – أكتوبر ٓ ٔ99م إن أحمد بك كاشؾ (محافظ) الدقهلٌة وأتباعه أصبحوا "ٌخطفون دواب الناس
من األسواق وخٌول الطواحٌن ،ولما سرحوا فً الببلد حصل منهم ما ال خٌر فٌه من ظلم الفبلحٌن مما هو
معلوم من أفعالهم".
ورصد الجبرتً فً حوادث ٕٔٔ8ه -الموافق ٖٓ ٔ8م" :وٌترصدون لمن ٌذهب إلى األسواق مثل
سوق أنبابه ]إمبابة[ فً ٌوم السبت لشراء الجبن والزبد واألؼنام واألبقار ،فٌؤخذون ما معهم من الدراهم ثم
ٌذهبون إلى السوق وٌنهبون ما ٌجلبه الفبلحون من ذلك للبٌع ،فامتنع الفبلحون عن ذلك إال فً النادر خفٌة،
وقل وجوده ،وؼبل السمن ،حتى وصل إلى ثلثمابة وخمسٌن نصؾ فضة العشرة أرطال قبانً ،وأما التبن
فصار أعز من التبر ،وبٌع قنطاره بؤلؾ نصؾ فضة إن وجد ( )...ووقفت األرنإوود ]العسكر األرناإوط[
لخطؾ ذلك من الفبلحٌن ،فكانوا ٌؤتون بذلك فً أواخر اللٌل وقت الؽفلة وٌبٌعونه بؤؼلى األثمان ،وعلم
األرنإود ذلك ،فرصدوهم وخطفوهم ووقع منهم القتل فً كثٌر من الناس ،حتى فً بعضهم البعض،
وؼالبهم ]األرناإوط[ لم ٌصم رمضان ،ولم ٌعرؾ لهم دٌن ٌتدٌنون به ،وال مذهب وال طرٌقة ٌمشون
علٌها ،أباحٌة أسهل ما علٌه قتل النفس ،وأخذ مال الؽٌر ،وعدم الطاعة لكبٌرهم وأمٌرهم ،وهم أخبث منهم،
()99
-انظر المرجع السابق ،ص ٖٔ9 -ٖٔ8
(ٓ)8
-التصوؾ فً مصر إبان العصر العثمانً ،مرجع سابق ،ص ٖ٘ٔٔ٘ٗ -
ٖٗٙ
فقطع هللا دابر الجمٌع(ٔ.")8
وسجَّ ل عبد الوهاب الشعرانً مشهدا نستنتج منه أنه حتى األوقاؾ المفروض أنها مرصودة للفقراء
وأعمال الخٌر فإن الفبلح كان ٌُجبر أحٌانا أن ٌقدم "ضٌافة" لناظر الوقؾ ،وأنه كان فً زمن سابق على
االحتبلل العثمانلً ٌجد أحٌانا نظار وقؾ فً قلوبهم رحمة ٌردوا له محل "الضٌافة" بؤحسن منها ،ولكن
تؽٌر الحال فً أوابل عهد العثمانلٌة.
فٌقول فً كتابه "الدرر واللُمع" إن نظار الوقؾ كانوا ٌعطون الفبلح األرز المفلفل والحلو وكساوى له
عز فً نظار األوقاؾ فً هذا ولعٌاله إذا جاءهم بالضٌافة فكان ذلك من باب المكارمة" :وهذا أمر قد َّ
الزمان ،فقل َّ ناظر ٌفعل مع الفبلح شٌبا مما ذكرناه ،بل رأٌت شخصا من أهل العلم جاءته ضٌافة من ببلد
بعٌدة فٌها أوزة عرجاء ،فردها على فبلحه ،وقال له :خذها معك إلى بلدك وأرسل لنا ؼٌرها ،فحملها الفبلح
ثانٌة إلى بلده ورد له ؼٌرها ،هكذا حكى لً الفبلح ،وقال" :إنها أوزة ابن أخً الٌتٌم".
ولم ٌرد الضٌافة التً هً أوزة الٌتٌم وتكبد الفبلح كذا مشوار لٌحضرها لناظر الوقؾ إال بطعام الفول:
"وذكر لً أنه ؼ َّدى الفبلح فوال حارا بخبز ٌابس من خبز الخانقاه"(ٕ.)8
وهذا مع أن الخانقاه "التكٌة" تنفق أحلى الطعام والكساء للعواطلٌة القابعٌن بها تحت اسم العبَّاد الزهاد
الدراوٌش الذٌن ٌتفنون فً صنع الخرافات لرسم قداسة حول أنفسهم ،وهذه النفقات ٌنزعها الممالٌك والوالة
والمشرفون على األراضً نزعا من دم الفبلح لٌنفقوها على الخانقاه بدعوى التقرب إلى هللا.
ضربت مصر فً االحتبلل العثمانلً مجاعات وأوببة فتكت بالكثٌر من الناس ،منها طاعون سنة ٖٓٔٙ
م ،وطاعون سنة ٔٙٔ9م ،ووباء سنة ٕٔٔٙم الذي ظل ٌفتك بالبلد ٖ شهور ،ومعه ؼبلء فاحش ،ووباء
ٕ٘ ٔٙوفٌه استولى الوالً قرة مصطفى باشا على أموال الضحاٌا المتوفٌن كؤنها ملكه الخاص ،وأشدهم
كان سنة ٕٗٔٙم الذي حصد أرواح أكثر مما سبقوه ،حتى أنه من كثرة الموت دفن الناس ذوٌهم من ؼٌر
صبلة علٌها ،وخربت ٖٕٓ قرٌة ،وجاء بعده قحط وؼبلء ،ووباء سنة ٓٔ99م الذي لم ٌن ُج منه حتى
األؼنٌاء ،فحصد فً طرٌقه أسرة إسماعٌل بك شٌخ البلد (حاكم القاهرة) ،وهو ما خفض سكان مصر
كثٌرا(ٖ.)8
وكشاهد عٌان ٌنقل الرحالة فولنً صور للمجاعة التً عمَّت البلد بعد نقص النٌل ٗ ٔ98بؤنه متوقع أن
البلد فقدت سدس سكانها فً أحوال "تقشعر من وصفها األبدان ،وتطبع فً النفس تؤثٌرات من الهول والكآبة
ال تمحى ،فقد كانت الشوارع والساحات العامة -على نحو ما حصل إبان مجاعة البنؽال لسنوات خلت-
(ٔ)8
-الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر ،مرجع سابق ،ص ٖٕٕٕٕ٘ -
-الدرر واللُمع فً بٌان الصدق فً الزهد والورع ،عبد الوهاب الشعرانً ،مرجع سابق ،ص ٘8ٙ -8
(ٕ)8
(ٖ)8
-تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر ،سلٌم حسٌن وعمر اإلسكندري ،مكتبة مدبولً ،ط ٕ ،ص 8ٗ ،98
ٖٗ7
مزدرعة بهٌاكل منهوكة القوى تستجدي بؤصواتها الواهنة شفقة عابري السبل ،ولكن على ؼٌر طابل ،ألن
خوؾ الخطر المشترك حجَّ ر القلوب ،فكان هإالء التعساء ٌلفظون آخر أنفاسهم ،فٌما هم مستلقون
بظهورههم على منازل البكوات التً ٌعرفون أنها تزخر بالحنطة واألرز ،وكثٌرا ما كان صراخهم ٌزعج
الممالٌك فٌطاردونهم بؤعقاب العصى(ٗ.")8
صحٌح أن األوببة والمجاعات كانت وقتها تضرب العالم ولٌس مصر فقط ،ؼٌر أنه لو وجدت حكومة
مصرٌة مركزٌة ،ال تعمل إال لصالح أهلها ،وال تتفرغ فً صراعات قبلٌة وعرقٌة ومذهبٌة ،وال تسلم
الجٌش واإلدارة ألجانب ،التخذت االحتٌاطات البلزمة من مشارٌع للصحة وللري وتخزٌن وتدبٌر الحبوب
والعدالة فً توزٌعه تخفؾ كثٌرا جدا من وطؤة هذه النكبات.
هذا العنوان قابلناه خبلل االحتبللٌن الرومانً والعربً ،وٌتردد صداه فً أنحاء البلد أٌضا خبلل
االحتبللٌن المملوكً والعثمانلً ،الشتراك الجمٌع فً األسالٌب.
حط االحتبلل العثمانلً على مصر كانت مشكلة هجر الفبلحٌن قراهم على أشدها ،حتى وٌبدو أنه حٌن َّ
أن قانون "نامة سلطان" الذي أصدره السلطان العثمانلً سنة ٕ٘٘ٔ ،فٌه فقرة تلزم مشاٌخ القرى بؤن ٌحلوا
المشاكل التً أجبرت الفبلح أن ٌهجر القرٌة ،وٌحصوا القرى التً أصبحت خاوٌة على عروشها وٌبحثوا
عن أصحابها وٌعٌدوهم إلٌها ،وأن مشاٌخ القرى ملزمٌن بإلزام الفبلح بزراعة األرض .ولهذا ضرورة
ملحة حتى تتلقؾ خزانة السلطان العثمانلً خراجا ثرٌا من عمل الفبلحٌن.
وصور ٌوسؾ الملوي صاحب"تحفة األحباب" مشهد هجر القرى بعد إحدى أزمات انخفاض النٌل، َّ
فقال" :وجاءوا (الفبلحٌن) من ببلدهم ،وأتوا مصر (القاهرة) ،وامتؤلت حارات مصر (القاهرة) وأزقتها،
وهلك أهل القرى حتى صار المسافر ٌمر بالقرٌة فبل ٌجد فٌها من أهلها إال القلٌل".
ومن أسباب الطفشان صراعات الممالٌك داخل الرٌؾ ،وٌضرب الجبرتً أمثلة ،فٌقول وقعت "حرب
بٌن العسكر ]الفرق التركٌة[ والمصرلٌة ] الممالٌك[ والعربان ...عند الخصوص وبهتٌم ،وجبل أهل تلك
القرى ،وخرجوا منها ،وحضروا إلى مصر بؤوالدهم وقصاعهم ،فلم ٌجدوا لهم مؤوى ،ونزل الكثٌر منهم
بالرمٌلة".
وصور الجبرتً هذه األزمة أٌضا" :وجلت الفبلحون من ببلدهم من الشراقً والظلم ،وانتشروا فً َّ
المدٌنة بنسابهم وأوالدهم ٌصٌحون من الجوع ،وٌؤكلون ما ٌتساقط فً الطرٌق من قشور البطٌخ وؼٌره،
وال ٌجد الزبال شٌبا ٌكنسه ،واشتد بهم الحال حتى أكلوا المٌت من الخٌل والحمٌر ،فإذا خرج حمار مٌت
تزاحموا علٌه وقطعوه وأخذوه ،ومنهم من ٌؤكله نٌبا من شدة الجوع ،ومات كثٌر من الفقراء بالجوع .هذا
(ٗ)8
-عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار ،عبد الرحمن الجبرتً ،جٕ ،مرجع سابق ،مبلحق الكتاب ،ص 9ٕٓ -9ٔ9
ٖٗ8
والؽبلء مستمر واألسعار فً الشدة ،وعز الدرهم والدٌنار من أٌدي الناس .وق َّل التعامل إال فٌما ٌإكل،
وصار سمر الناس وحدٌثهم فً المجالس ذكر المؤكل والقمح والسمن ونحو ذلك ال ؼٌر".
كونوا الحارات التً اشتهرت باسم "الحارات واألحٌاء الشعبٌة" ،ألنها مكونة من
وؼالبا هإالء هم الذٌن َّ
المصرٌٌن والد البلد فً القاهرة ومصر القدٌمة منذ القرن الـ ،ٔ8وباتت معروفة بؤصالة تقالٌدها المصرٌة
وبؤنها حارات والد البلد بعد أن كانت المدٌنتان مقسمتان لحارات خاصة باألجانب.
وأحٌانا ٌتجمع أهالً عدة قرى فً قرٌة واحدة لٌبتعدوا عن الجند المكلفٌن بجمع الفِرد ،وما ٌكاد هإالء
الجند ٌإمون هذه القرى التً تجمع فٌها الفبلحون حتى ٌلحقها الخراب وٌتركها الفبلحون إلى ؼٌرها ،ومن
نتابج هذا األسلوب أن إقلٌما مثل إقلٌم المنوفٌة مثبل لم ٌبق به فً سنة ٗٓ ٔ8إال ٕ٘ قرٌة فٌها بعض
سكان ،وباقً قراه أصبحت خرابا لٌس فٌها دٌَّار وال نافخ نار على حد تعبٌر الجبرتً(٘.)8
وفً بداٌة تطبٌق نظام االلتزام لما ألزمت اإلدارة العثمانلٌة مشاٌخ القرى بإعادة الفبلحٌن إلى أراضٌهم
لزراعتها ،سمحت لهم باستخدام أعنؾ الوسابل ،ووصؾ هذا الجبرتً" :وكان إذا تؤخر الفبلح فً دفع
الضرٌبة جروه من شنبه ،وبطحوه ،وضربوه بالنبابٌت رجال الملتزم ،هذا عدا ما كان ٌراه من عسؾ
الصراؾ النصرانً من مماطلة فً استخراج ورقة الخبلص ،وكذلك الشاهد والشاوٌش الذٌن كانوا ٌسٌمونه
أنواع العذاب".
ولم ٌرضخ كل الفبلحٌن لؤلسالٌب الخبٌثة للطرق الصوفٌة الداعٌة إلى االستسبلم واالستكانة أمام هذه
المظالم ،بل نقرأ فً المصادر -حسبما ٌنقل د.عبد الرحٌم عبد الرحمن عبد الرحٌم عن وثابق العصر -أن
بعضهم قتل المعٌنٌن لجمع المؽارم والكلؾ والفرد ،ولم ٌرضخوا لهذه المظالم ،وٌعلق بؤنه إن كانت هذه
الحاالت لم تكن ظاهرة عامة ،وإنما لها مؽزاها الذي ٌدل على أن الفبلح مهما هجر قرٌته فهو مطارد بهذه
المظالم من أصحاب النفوذ ،ولذا فإنه فضل فً بعض األحٌان اللجوء للقتل لٌفرج عن مكنون ذات صدره،
وتعبٌرا عن عدم رضاه عن األسالٌب ؼٌر اإلنسانٌة التً ٌتبعها المحتل فً معاملته(.)8ٙ
وٌسجل الشعرانً حٌنها مشهدا من مشاهد تشرد الفبلحٌن داخل ببلدهم" :فصار الٌوم كل فبلح خرج من
بلده ٌذوب كما ٌذوب الملح فً الماء ( )...ال ٌجد أحدا ٌؤوٌه ،ثم إذا رجع بعد طول الؽربة ٌرجع كلحانا
كالقط األجرب ال ٌجد أحدا ٌسعى فً رده إلى وطنه ،فبل حول وال قوة إال باهلل العلً العظٌم"(.)89
ٖٗ9
()88
والؽدر حطم أمالً العرٌضا ِ
ت أصٌـح والسٌؾ مزروع بخاصرتً
لمَّا ٌضع الواحد نفسه محل أجداده هإالء ٌسؤل نفسه كٌؾ كانوا ٌنظرون لحٌاتهم ،لسبب وجودهم،
ولماذا ٌعٌشون؟ فهم إن ثاروا مُزقوا تمزٌقا ،وإن سكتوا مُزقوا تمزٌقا ،وال أمل لبل رٌقهم وتطبٌب جراحهم
تحمله أي رٌاح.
محرومون من أؼلب المتع ،محرومون من متعة األكلٌ ،ؤكلون نوعا واحد أو نوعٌن ثبلثة من الطعام
طول السنة (الخبز والبصل والجبن) ،ال ٌبدلونه إال فً الفرح والعٌد ،هل إذن لمتعة اللبس والمظهر
الحسن؟ إنهم محرومون أساسا من اللبس ومعظمهم ال ٌملك أكثر من جبلبٌتٌن ،هل لمتعة الطموح والترقً
فً المناصب أو التملك والؽنى؟ هم أساسا محرومون من المناصب ومن الؽنى ،هل طٌب لمتعة العلم
واالستكشاؾ؟ هم أساسا محرمون من كل أنواع العلم التً فٌها استكشاؾٌ ،مكن لمتعة ممارسة المواهب
واإلبداع؟ هم أساسا محصورون فً أنواع معٌنة من المهن وال ٌتوفر لهم جو اإلبداع وتنمٌته وتنمٌة
المواهب إال قلٌبل ،وٌجترون المهارات التً ورثوها من حضارتهم وعصورهم الماضٌة ،إذن لماذا ٌعٌشون
وٌتحملون وهم األشراؾ أوالد األشراؾ هذا الذل من الهمج والحبللٌؾ والفجرة والساقطٌن؟! ما منعهم من
عمل حفبلت انتحار جماعً؟
َ
ٌتبق إذن من متع الحٌاة لهم إال ثبلث نعم لم ٌنزعها منهم الهكسوس ،متعة اإلٌمان باهلل ،ومتعة لم
االرتباط بالبلد رؼم التشرد ،ومتعة الزواج واإلنجاب ودؾءاألسرة ،األولى حفظته من االنتحار ،والثانٌة
والثالثة حفظتاه من االندثار ،وبجانبهم روح التكافل المصرٌة القدٌمة التً تجعلهم ٌعٌنون بعضهم بعضا
بؤقل القلٌل ،والنخلة والجمٌزة والنبقة وحشٌش األرض كالخبٌزة ٗ ،نباتات ساعدت ثمارهم المجانٌة-
أحٌانا -فً سد رمق المعدمٌن وصلب عودهم بدل الموت جوعا ،نبات نعمة فً رٌؾ مصر طعام ربانً،
بهذه النعم فقط نجا المصري من اإلبادة ،بهذه النعم فقط تحمل رذاٌل الهمج والحبللٌؾ ،وكؤن بداخله نداء
ٌقول له:
" َ
ابق ..فسترجع ٌوما تطفو على السطح ،وٌسقط القناع ،وتعلو بجناحً حور فوق رءوس الكل ،فوق كل
ابق ..فظهرك ملا بمن سٌخرجون منه وٌرفعون اسمك هإالء الهكسوس الطواعٌن الذٌن ٌنهشونك اآلنَ ..
ورسمك من جدٌد فوق األمم ،وٌلتقطون الصولجانَ ..
ابق" ..إحنا راجعٌن" ...وهذا وعد".
()88
-قصٌدة أنا ولٌلى ،كلمات حسن مروانً ،ألحان وؼناء كاظم الساهر
ٖٓ٘
الفبلح المقاتل رمسٌس الثانً ..سنعود
(ٓ)9
جنة ترعاها الخنازٌر (الحاللٌؾ)
تعودت الحبللٌؾ الرعً فً الزبالة ،علٌها تتؽذى ومنها تخرج لحومها التً اعتبرها األجداد زبالة أٌضا،
وأؼلب من اعتدوا على مصر وأذلوها حبللٌؾ تعودوا على عٌشة الزبالة ،أي أكل الحرام وحقوق الؽٌر،
وؼفلة المصرٌٌن القدٌمة وهبتهم فرصة أن ٌرعوا فً الجنة ألول مرة ..فً مصر.
ووصفت عشرات الكتب فً عصور االحتبلل مصر وتؽنت بثرابها ومناخها ونٌلها وزرعها وما تتفرد به
وسط العالمٌن من صنع هللا أو صنع أهلها ،ومن ٌقرأها ٌحس أن كل من على أرضها ٌتقلب فً النعٌم ،ال
فقر فٌها وال ضنى ،فكٌؾ كانت حال مصر وسط ما كان أؼلب أوالدها ٌقاسون ما قاسوا فً االحتبلالت؟
ٌقول ابن زوالق والسٌوطً والبؽدادي وؼٌرهم من مقٌمٌن فً مصر أو رحالة زابرٌن(ٔ )9إن خٌرات
مصر تنوعت ،فمن ؼبللها ونباتاتها :القمح والشعٌر والذرة واألرز والقطن والكتان والبرسٌم والرٌحان،
ومن فواكهها وحلوها :التٌن والدوم والموز واللٌمون والبلح والخوخ والتفاح والكمثرى والبرقوق والموز
والرمان والعنب وقصب السكر والبطٌخ والشمام وقرع العسل والجمٌز والنبق والخروب ،ومن خضرواتها
وبقولها :الباذنجان والعدس والفول والبصل والثوم والبسلة واللفت والجزر والفجل والقنبٌط واللوبٌا
والحمص والقرطم والعصفر وأعشاب الدواء ،ومن أخشابها :األبنوس وخشب اللنج والسنط ،ومن زهورها:
البنفسج والٌاسمٌن والنٌلوفر والبشنٌن والنرجس والورد.
()89
-قصٌدة ضحكة المساجٌن ،تؤلٌؾ :عبد الرحمن األبنودي
(ٓ)9
-مثل مصري انتشر أٌام الممالٌك والعثمانلٌة عن الست الحلوة لما تتجوز راجل وحش ،انظر :العادات والتقالٌد المصرٌة من األمثال الشعبٌة
فً عهد محمد علً ،جون بوركهارت ،ترجمة إبراهٌم شعالن ،ط ٖ ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،ص ٖٔٔ
(ٔ)9
-لمراجعة األوصاؾ السابقة عن مصر واالستزادة انظر :حسن المحاضرة فً تارٌخ مصر والقاهرة ،جالل الدٌن السٌوطً ،تحقٌق محمد أبو
الفضل إبراهٌم ،ج ٕ ،ط ٔ ،دار إحٌاء الكتب العربٌة ،ص ٔ ،ٗٗ8 -ٖ9وفضابل مصر وأخبارها وخواصها البن زوالق ،تحقٌق علً محمد عمر،
الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،ص ،ٖٔٓ -97و اإلفادة واالعتبار فً األمور المشاهدة والحوادث المعاٌنة بؤرض مصر ،عبد اللطٌؾ البؽدادي ،ط
ٕ ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،ص ٔ ٕٔٓ -ٙوص ٕٖٔ -ٔٔ8
ٖٔ٘
ومن أسماكها :أم الخلول والبلطً والبوري والبسارٌا وسمك موسى واألبرمٌس ،ومن طٌورها :الدجاج
والحمام والوز والبط والسمان ،ومن طٌور زٌنتها :الكروان والقمري والعصافٌر ،ومن حٌواناتها :البقر
والجاموس والخراؾ والماعز والجمال والخٌل ولٌس مثلها فً الدنٌا ،وٌروي بن زوالق أنه لفخامتها كان
الخلفاء ٌفضلون ركوبها.
كذلك من حٌواناتها :النعام واألرانب والؽزالن والزرافة والحمٌر ،وأعجب البؽدادي بالحمٌر فً مصر
لسرعتها ورشاقتها حتى قال فً كتابه "اإلفادة واالعتبار" إنها لو جرت مع الخٌل النفٌسة لعلها تسبقها،
وأعجب بنوع بقر اسمه الخٌسٌة عظٌمة القرون ؼزٌرة اللبن ،وتصدر للخارج.
ومن أكبلتها :الكباب ومكفن بالصلصة ،والدجاج بالسكر والمسك ،والفسٌخ واألجبان واأللبان والرز المفلفل
والمتوكلٌة والنٌدة (فطاٌر) والكنافة والزالبٌة والقطاٌؾ والفالوذج (حلوى من عسل ونشا) والعدس
والمدمس والصحناة والدلٌنس (الملوحة وأم الخلول) والعصٌدة وعٌش الكعكا والقنود (كٌزان العسل)
والحمص المسلوق والهرٌسة بالفستق ورؼٌؾ الصٌنٌة المحشً بلحم الخراؾ والسنبوسك والوٌكة
والملوخٌة والقلقاس ،ومن شرابها :شربات العسل ،وبحسب ابن زوالق كان الخلفاء ٌطلبونه من والة مصر،
وشربات الزبٌب واللٌمون والبوظة وشراب البنفسج ،وقٌل ٌوجد فً مصر كل وقت من الزمان من المؤكول
والمؤدوم والمشموم وساٌر القول والخضر جمٌع ذلك فً الصٌؾ والشتاء ،ال ٌنقطع من شًء لبرد وال
لحر.
ومن صناعاتها :النسٌج فً دمٌاط وتنٌس واإلسكندرٌة وأخمٌم والبهنسا كالستور ،والكوفٌة ،والتطرٌز،
وتصدر هذا برة حتى قٌل "لٌس فً الدنٌا ملك جاهلً وال إسبلمً ٌلبس خواصه وحرمه ؼٌر ثٌابها"
والمفروشات ،والسجاد ،والتلً فً أخمٌم ،وصناعة القراطٌس (البردي) وال توجد إال فً مصر ،والسكر،
والسبلح من سٌوؾ ورماح ،الزجاج وفنون الخشب ،والسفن ،وؼٌرها ،وبجبالها الذهب والفضة والٌاقوت
والزمرد ولٌس فً الدنٌا زمرد مثله إال فً مصر.
وبها من أنواع المدارس والخوانق والزواٌا والعماٌر الجلٌلة معدومة المثال ،المسقوفة باألخشاب،
والمدهونة الملمعة بالذهب والبلزورد ،المفروش ؼالبها بالرخام ،حتى حماماتها فً األسواق بالرخام من
كثرته ،حتى حرص الفاتحون على اقتبلعه لحمله لببلدهم كما فعل سلٌم العثمانلً.
وعن فرحة العٌن طوال فصول السنة لما تراه من جمالها ،قالوا إن نٌلها ٌطبقها (ٌؽطٌها فً الفٌضان)
فتصٌر كؤنها فضة بٌضاء ،ثم ٌنضب عنها (بعد الفٌضان) فتصٌر مسكة سوداء ،ثم تزرع فتصٌر زبرجدة
خضراء ،ثم تستحصد فتصٌر ذهبة صفراء.
وحكى ابن زوالق فً كتابه "فضابل مصر وأخبارها وخواصها" عن أعجوبة أن مناخ مصر وأرضها
جعلوا وكؤن كل األشٌاء فً الدنٌا من زرع وصحاري ومراعً وجبال وسهول تتجمع فٌها فً مساحة
صؽٌرة فً أي مكان فً وادٌها ،فٌقول إن أمٌر مصر (الوالً) موسى بن عٌسى وقؾ بالمٌدان عند بركة
ٕٖ٘
الحبش بالفسطاط ،فالتفت ٌمٌنا وشماال ،وقال لمن معه من جنده :أترون ما أرى؟
قال :أرى عجبًا ،ما فً شًء من الدنٌا مثله ،أرى مٌدان أزهار ،وحٌطان نخل ،وبستان شجر ،ومنازل
سكنى ،وجبانة أموات ،ونهرً ا عجاجً ا ،وأرض زرع ،ومراعً ماشٌة ،ومرابط خٌل ،وساحل بحر ،وقانص
وحش ،وصابد سمك ،ومبلح سفٌنة ،وحادي إبل ،ورمبل وسهبل وجببل ،فهذه سبعة عشر؛ مسٌرها فً أقل
من مٌل فً مٌل.
أما آثارها التً تركها األقدمون فتعلو على الوصؾ ،وقال الحكماء إنها معدن الحكمة التً انتشرت فً أٌدي
الناس ،ولخص أبو بكر بن سبلر هذا فً أشعاره:
واألسمى من نعم الجنات والبطون والمساكن ،نعمة السكٌنة والطمؤنٌنة التً كانت تعمر صدور أهلها ،وقٌم
ماعت وحكمتها المسطورة فً الدولة القوٌة الحامٌة ،قبل االنزالق فً جهنم االحتبلالت.
فً هذه الجنة التً خلقتها بعد هللا أٌدي أبنابها ،من حكمة وزرع وحٌوان وجواهر وصناعات وآثار ومن كل
خٌر مختلؾ األلوانٌ ..رعى فٌها األؼراب ،المحتلون السفاحون ،فؤكلوا وجاع أهلها ،ولبسوا وتعرى أهلها،
وسكنوا وتشرد أهلها ،وسرقوا حكمتها ونسٌها أهلها ،ودخلوها آمنٌن وفزع أهلها...
حٌن نسوا وصٌة حور ،وثٌقة العهد ،وصٌة األجداد األزلٌة األبدٌة:
"إن البوابات ]الحدود[ التً فوقك كبوابات حامٌة ....إنها سوؾ ال تفتح للؽربٌٌن ،إنها سوؾ ال تفتح
للشرقٌٌن ،إنها سوؾ ال تفتح للجنوبٌٌن ،إنها سوؾ ال تفتح للشمالٌٌن ،إنها سوؾ ال تفتح لهإالء الذٌن
فً وسط األرض ،إنها سوؾ تفتح لحورس(ٕ.")9
فاستحقت أبناإها حٌن فرَّ طوا فٌها عقاب اإلله وتحذٌر بتاح حتب:
"إن الذي ٌفعل الماعت فذلك الذي ٌكون بعٌدا عن الضالل"ٌ" ،حل العقاب دابما بالذي ٌتخطى
قواعدها"(ٖ.)9
(ٕ)9
-نصوص األهرام ،القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم ،مرجع سابق ،ص ٕٕ٘ٔٔٙ -
(ٖ)9
-انظر تقدٌم علً رضوان لكتاب "الماعت ..فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة" ،مرجع سابق ،ص ٕٔٔ٘-
ٖٖ٘
▲▲▲ أٌن الثورات الكبرى؟
ثار المصرٌون ثورات ضخمة وصلت لحروب كما تابعنا ضد الفرس وآشور والٌونان والرومان
والعرب ،وآخر الثورات الكبرى الثورة البشمورٌة سنة ٕٔٙهـ (ٖٔ 8م) فً عصر الخلٌفة المؤمون،
أظهر فٌها المصرٌون قدرة على الصمود والمواجهة لشهور أذهلت الجمٌع ،حتى عجز أمامهم جنود الوالً
فاستؽاثوا بالمؤمون الذي فزع بنفسه من بؽداد واجتاح أرض النٌل بجٌش جدٌد لقمع الفبلحٌن.
ولمدة ألؾ سنة لم تحدث ثورة بحجمها رؼم المظالم والمذابح التً تعرض المصرٌون لها ،وإن كان
الفبلحون لم ٌقفوا جامدٌن أمام هذه اإلهانات ،فكانت ثوراتهم تؤخذ شكل المعارك الفردٌة أو على مستوى
انتفاضة قرٌة أو معارك مع موظفً وقوات اإلدارة المحتلة والعربان المعتدٌن ،أو التحاٌل فً تخببة أموالهم
إن وجدت ،أو المقاومة السلبٌة بالهروب من القرى إلى قرى أخرى أو إلى المدن ،أو حرق محاصٌل من
ظلمهم ،أو االمتناع عن العمل ،أو الشكوى إلى الوالً وشٌوخ األزهر.
ومن ذلك اقتحامهم سجن الكشوفٌة بمدٌنة المنصورة إلطبلق سراح المقبوض علٌهم ظلما سنة ٓ،ٔٙ8
وفً السنببلوٌن بالدقهلٌة قبض العسكر الترك خبلل جوالتهم لتؽرٌم القرى على فبلحٌن فتصدت البلدة لهم
ودارت معارك عنٌفة بالعصى والنبوت والسبلح األبٌض ،قتل فٌها وجرح عدد كبٌر من الطرفٌن ،وانتهت
باقتحام المرتزقة القرٌة وفرار أهلها وهدم أسوارها عقابا لها ،وتكرر األمر ،وصار الملتزمون معرضون
للسب والشتم ]من الفبلحٌن الساخطٌن[ ،وحتى القتل أحٌانا(ٗ.)9
وفً ٔ998امتنع الفبلحون فً طهطا بالوجه القبلً عن دفع الضراٌب ،فتوحد ال ُكشاؾ (الممالٌك حكام
المحافظات) ضدهم إلخماد تمردهم ،لكن الفبلحٌن انتصروا علٌهم ودمروا قوتهم العسكرٌة التً جاءت
للقضاء علٌهم ،وارتفعت الروح المعنوٌة ،وتكرر مثل هذا فً قرى أخرى(٘.)9
ٔ -من بعد االحتبلل العبٌدي أصبح معظم المصرٌٌن مسلمٌن ،وتمكنت منهم -فكرة "شرعٌة" الخبلفة
اإلسبلمٌة وأن الخروج علٌها ٌقوي أعداء اإلسبلم؛ فمعظم ثورات المصرٌٌن ضد الفرس والرومان
والعرب إلخ كان المحتل ٌخالفهم فً الدٌن أو المذهب ولٌس له سلطة دٌنٌة ،كما أن اآلتٌن بالمسٌحٌة
واإلسبلم إلى مصر ألنهم أجانب فلم ٌحملوا معهم تعزٌزا لفكرة الوطن واالستقبلل ،بل كان ٌهمهم أن ٌكون
والء المصرٌٌن للحاكم أو البابا المسٌحً المتوافق فً المذهب أٌام الرومان والحاكم أو الشٌخ المسلم أٌام
العرب ولو كان أجنبٌا ،فتراجع أن ٌكون الدٌن حافزا من حوافز التحرر مثلما كان علٌه قبل هذا.
(ٗ)9
-سقط الكرباج التركً ورفع الفبلح رأسه فً السنببلوٌن ،موقع عثمانلً دوت كومٕٓٔ8 -ٔٔ -ٕ9 ،
(٘)9
-األرض والفبلح فً صعٌد مصر فً العصر العثمانً ،جمال كمال محمود ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرة ،ٕٓٔٓ ،ص ٕٔٙ
ٖٗ٘
واستؽل األٌوبٌون والممالٌك والعثمانلٌة حمبلت الفرنجة لؽزو مصر والشام لدعم الفكرة ،وأنهم ُ
"خ َّدام
اإلسبلم لحماٌة دٌار اإلسبلم من الصلٌبٌٌن الكفرة" ،وذلك بالرؼم من أنهم أنفسهم كانوا ٌتحالفون مع
الفرنجة لحماٌة عروشهم ،مثلما تحالؾ الملك األٌوبً الكامل مع فردرٌك ملك الفرنجة وسلمه القدس،
وتحالؾ الممالٌك مع اإلنجلٌز والفرنسٌٌن ،وتحالؾ العثمانلٌة مع اإلنجلٌز والفرنسٌس والروس واأللمان،
وهً تحالفات كانت ضد المسلمٌن.
ٕ -ضٌاع الهدؾ من المصرٌٌن ،ظل ٌلوح للمصرٌٌن -ربما حتى االحتبلل العربً -ضً ماضٌهم
العرٌق ،أنهم أصحاب هذا البلد وحكامه الحقٌقٌون ،وٌطوون صدورهم على حلم طفوهم على السطح
واسترداد صولجانهم ،وبهذه الروح قاوموا المحتلٌن السابقٌن ،ولكن ربما مع إسدال ستارة قرن ورا قرن
من الزمان على ما بٌنهم وبٌن ماضٌهم أبعد عنهم صورتهم كحكام لبلدهم.
ٖ -اإلنهاك واإلرهاق واإلفقار الذي أهلك المصرٌٌن لما تكالبت علٌهم تشكٌلة أعداء بكرابٌجهم وسٌوفهم
وخناجرهم وضراٌبهم وإتاواتهم فً وقت واحد :المحتل الربٌسً (العبٌدي ،األٌوبً ،المملوكً ،العثمانً)
والمحتلون التابعون كالعربان والممالٌك وبقٌة الجالٌات األجنبٌة ،فكان المصرٌون ٌنتقلون مع كل عصر
لحال أفقر من السابق ،واتنحل الوبر ،وٌضاؾ لهذا الطواعٌن والمجاعات التً ضربت المصرٌٌن ببل
رحمة "ورا بعض ورا بعض" ،وخسفت بعدد وصحة السكان وما ٌملكونه األرض.
ٗ -النشاط اللحوح من الطرق الصوفٌة فً كل قرٌة لشل إرادة المصرٌٌن وتعجٌزهم عن المقاومة بحجة أن
مظالم االحتبلل ببلء وقضا ،بل نعمة ،وأن من اإلٌمان الرضا بالقضا ولو كان أشنع الظلم ،وأن المسلم
الربانً "ٌتطهر" بكثرة الببلء.
٘ -تقطٌع أوصال المصرٌٌن باإلقطاعات وااللتزام ،فتحولت مصر إلى مناطق نفوذ موزعة على المحتلٌن،
فهذه القرى أو المدن تبع المملوك فبلن ،وهذه القرى تبع شٌخ العرب تبلن ،وهذه القرى تبع التاجر الشامً
أو المؽربً سبلن وهكذا ،وانتقال المصري من مكان آلخر كان بإذن أو بشكل عسٌر ،فانشلت حركة
المصرٌٌن داخل بلدهم ،وانحصر اهتمام أهل القرٌة علٌها وعلى القرى القرٌبة ،وقلت فرص االتصال
والتنسٌق بٌنهم فً بر مصر للقٌام بثورة أو أي عمل جماعً ٌنجٌهم من المحتل أو ٌشكل لهم قٌادة واحدة.
-ٙمع هذا اإلرهاق واإلفقار المنظم واإلبادة المتواصلة للمصرٌٌن كان االحتبلل ٌجدد نفسه وٌنشط ،فٌكون
قمعه لل مقاومة دابم الشدة ،بمعنى أن المصرٌٌن ثابتون فً األرض ،فً حٌن المحتل إذا ضعؾ جاء محتل
آخر أزاحه وحل محله بكل نشاط وفتوة ٌفرغ شروره وعطشه الشدٌد لخٌرات مصر على الفبلحٌن.
-9ؼٌاب الزعامة والقٌادة التً تجمع شتات ؼضب المصرٌٌن فً قبضة واحدة وتوجهه لهدؾ واحد،
فالمصرٌون ٌصنعون أعظم إنجازاتهم بالعمل الجماعً المنظم ،وألنهم الشعب الذي اخترع الدولة والقٌادة
الجامعة ،وأٌام الثورات ضد الفرس وآشور والٌونان والرومان كان المعبد هو الزعٌم وهو القٌادة ،وتوارى
دور الكنٌسة أٌام االحتبلل العربً ولكن لما ظهرت قٌادات مثل ٌحنس تفجرت ثورة ٕٔٙهـ الكبرى -رؼم
ٖ٘٘
عدم تحمس الكنٌسة لها -فقتله المؤمون ،وعلى هذا تبدو كل األسباب السابقة "مُهبطة" ولكنها فً الحقٌقة
لٌست "مانعة" لقٌام الثورات الكبرى ،بدلٌل أن الؽضب والمقاومة كانت تحدث فعبل ولكن على مستوى
القرى ،وفقط تنتظر القٌادة الجامعة التً ال تتحدث إال باسم وقلب المصرٌٌن (الكٌمتٌٌن) ،ووقتها ستسقط
كل األسباب المهبطة وٌخرج أعتى أنواع المقاومة من الصدور المصرٌة ،وهو ما سٌثبت حٌن ظهور قٌادة
تعمل للناس ال للممالٌك والسفاحٌن مثل عمر مكرم وعرابً وسعد زؼلول وؼٌرهم فً مستقبل األٌام.
و سإال ؼٌاب الثورات الكبرى شؽل بال رحالة تجولوا فً مصر زمنً الممالٌك والعثمانلٌة ،ومنهم
الفرنسً فولنً الذي زار مصر ٘ ،ٔ98ونفى ما تناقله رحالة آخرون عن أن الفبلحٌن المصرٌٌن طبعهم
"االستسبلم للعبودٌة" ،وأرجع "استكانة المصرٌٌن لئلرهاق" بحسب قوله ،وإلى أسباب أخرى هامة ،منها
تعاقب االحتبلالت على الفبلح بحٌث لم ٌؤخذ فرصة لملمة صفوفه ،ودابما تسبب االحتبلل فً وجود
جماعات متنافرة المصالح ]الجالٌات[ ،وأن المحتل استعان بطبقة جماعات مصالح وموظفٌن نشرها -على
قلة عددها -فً كل قرٌة ،إلرهاب أهلها ،تنشر الخصومة والمنافسة والبؽضاء بٌن أهل القرٌة ،وتجذب إلٌها
عددا منهم تربط مصالحهم بمصالحها لٌكونوا عونا لها ضد البقٌة ،كما أن المصرٌٌن حُرموا التدرب على
السبلح وحمله ،والثورة على الممالٌك الذٌن حرفتهم القتال تحتاج من الثابرٌن التمرس فً القتال ،واألهم أن
"ما ٌكبت شجاعة المصرٌٌن" ،ما ٌظهر من "انعدام المروءة والثقة بالنفس" ،بحسب تعبٌره.
كما أورد سببا جؽرافٌا وهو أن الطبٌعة المسطحة لمصر تجعل مناورات وحركة الثابرٌن صعبة ،ألنها
مكشوفة ،وسهل إخماد أي ثورة ،عكس الببلد الجبلٌة.
و رؼم ما سبق إال أنه الحظ أن الفبلحٌن فً القرى رؼم ضٌق الحال لكنهم لم ٌستسلموا لـ"التخنٌث" مثل
أهل المدن ،فٌتمٌزون بحٌوٌة فً النشاط والحركة وقوة تحمل المشاق والعناد؛ ما ٌظهر فً "ثاراتهم
وشراستهم فً اقتتالهم قرٌة وأخرى ،وتمسكهم بشرؾ المحافظة على السر برؼم ضربات العصى،
ووحشٌتهم فً معاقبة نسابهم وبناتهم ألقل إخبلل بالعفاؾ ،فً كل ذلك دلٌل على أنه إذا كانت العادة قد
أٌقظت فٌهم النخوة فً بعض النواحً ،فإن هذه النخوة ال ٌعوزها إال التوجٌه حتى تصبح شجاعة رهٌبة،
إن الفتن التً ٌثٌرونها آونة بعد أخرى ،وقد عٌل صبرهم -فً مدٌرٌة الشرقٌة خاصة -تدل على نار تحت
الرماد تنتظر لبلنفجار ٌد تعرؾ كٌؾ تحركها"( .)9ٙفً إشارة منه إلى أن تؤثرهم بروح العنؾ والتحزبات
القبلٌة والثارات التً نشرها وسطهم القباٌل والممالٌك ٌمكن بسهولة أن تنصرؾ عن إٌذاء بعضهم إلى
تفرٌؽها ضد المحتلٌن حال وجدوا من ٌوحدهم فً الثورة.
وفً سنة ٘ ٔ99حدث تطور الفت فً طرق احتجاج المصرٌٌن ،وهو اللجوء إلى شٌوخ األزهر الذٌن
رأوا فٌهم زعامة ٌفتقدونها بعد أن قوٌت شوكة الشٌوخ أمام الممالٌك المتفككٌن حٌنها ،وذلك أن أهالً قرٌة
فً بلبٌس حضروا إلى الشٌخ محمد الشرقاوي ٌشكون ظلم ممالٌك محمد األلفً لهم وكثرة الجباٌات ،فنقل
الشرقاوي الشكوى لمراد بك وإبراهٌم بك ،ولم ٌنصفا الناس ،فجمع الشرقاوي كبار شٌوخ األزهر وأؼلقوا
()9ٙ
-عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار ،عبد الرحمن الجبرتً ،جٕ ،نص الرحلة فً مبلحق الكتاب ،مرجع سابق ،ص ٕٓ9ٕٕ -9
ٖ٘ٙ
أبوابه ،وطلبوا من الناس اإلضراب بإؼبلق دكاكٌنهم ،ولما بلػ مراد أمر اإلضراب أرسل لهم من ٌسؤلهم
عن مطالبهم ،فقالوا نرٌد العدل ووقؾ المكوس التً ابتدعتموها ،فرفض مراد مطالبهم.
وتحرك المشاٌخ ،ومن بٌنهم عمر مكرم ،والناس إلى األزهر وباتوا فٌه ،فخاؾ مراد وإبراهٌم قٌام ثورة
ٌتزعمها المشاٌخ ووافقوا على إبطال بعض المكوس ووقؾ السلب والنهب ،أحضر المشاٌخ حجة (وثٌقة)
وطلبا من مراد وإبراهٌم الختم علٌها كً تكون حجة علٌهما أمام الناس ،فختما ،واستبشر الناس ،وانفك
اإلضراب ،والتزم الممالٌك بوعدهم لمدة شهر واحد ،وعاد األمر لما كان علٌه وزٌادة بتعبٌر الجبرتً(،)99
وهذه نقضة المطر التً ستتفجر ورابها السحب لتنهمر هبَّات وثورات مصرٌة مفاجبة ..بداٌة من الهبَّات
ضد الفرنسٌس" ..الدواعش البٌض".
()99
-انظر :نفس المرجع ،ج ٖ ،الهٌبة العامة لقصور الثقافة ،ص ٘٘99 -٘9
ٖ٘7
"ال تنتظر أن ٌمنحك الفرنجة الحرٌة"
(ٔ)
لورد باٌرون
(ٔ)
-التارٌخ السري الحتبلل اإلنجلٌزي لمصر -رواٌة شخصٌة لؤلحداث ،ولفرٌد سكاون بلنت ،ترجمة صبري محمد حسن ،مقدمة المراجع د.أحمد
زكرٌا الشلق ،المركز القومً للترجمة ،القاهرة ،ٕٓٔٓ ،ص 9
المشهد :ٔٙاالحتالل الفرنساوي
ٔ8ٓٔ -ٔ798
(الدواعش البٌض)
عاش الفرنسٌس فً مصر فوق بركان ثابر ،لم ٌهدأ ٌوما ولم ٌخبُ لحظة ،وهذا هو الذي عجل بطردهم
وعودتهم من حٌث أتوا ٌجرون أذٌال العار والهزٌمة على الرؼم من أنهم كانوا فً ذلك الوقت فً أوج
مجدهم الحربً ،وٌقودهم قابدهم الكبٌر نابلٌون بونابرت(ٕ).
هذه كلمات محمد عطا ،فً مقدمة كتاب "النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة" للمقدم محمد فرج،
لخصت حال الفرنسٌس فً آخر أٌامهم فً مصر ،أٌامهم التعٌسة ،وهً أٌام وإن كانت كذلك تعٌسة على
المصرٌٌن ،بل علقم وحنظل ،لكنها كالنار التً خرج من وسطها المعدن المصري البراق بعد طول خفاء،
دون أن ٌقصد المحتل خروجه ،فسلسلة عملٌات المقاومة ضد الفرنسٌس أحٌت فٌهم قدرتهم على العمل
الجماعً من جدٌد ،والثورة الجماعٌة ضد المحتل من جدٌد.
وفً كبلمه عن سبب تؤلٌؾ كتابه قال محمد فرج" :وأدركت من الحقابق التارٌخٌة أن الشعب المصري
كان أكثر شعوب العالم تعرضا لمطامع االستعمار والمستعمرٌن ،وأكثر هذه الشعوب مقاومة لها(ٖ)".
الحملة الفرنسٌة على مصر مرحلة من مراحل الطمع الرومً (األوروبً) الدابم فً مصر ،فتابعنا أنه
بعد طرد العرب للرومان من مصر ،كانت السفن الرومانٌة تؤتً من بٌزنطة لتهاجم اإلسكندرٌة بٌن الحٌن
والحٌن ،ثم هبَّت مرحلة حروب الفرنجة "الصلٌبٌة" مستعٌنة بالتجار الفرنجة المقٌمٌن فً مصر ،خاصة
دمٌاط واإلسكندرٌة ،وفً 9أبرٌل ٕٓ٘ٔ لقٌت فرنسا نهاٌة "عفشة" فً مصر حٌن تعرض ملك فرنسا
لوٌس التاسع لهزٌمة مدوٌة فً معركة المنصورة ،وقع فً األسر وحُبس فً دار ابن لقمان ،وشاهد مقتل
وإصابة جنوده وؼرق بعضهم فً البحر(ٗ).
وعادت فً زمن االحتبلل العثمانً بشكل ناعم وراء ستارة اإلرسالٌات التبشٌرٌة الكاثولٌكٌة (خاصة
(ٕ)
-النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة ،محمد فرج ،الدار القومٌة للطباعة والنشر ،القاهرة ،ص ٗ
(ٖ)
-نفس المرجع ،ص ٘
(ٗ)
-حولت ثورة ٕ٘ ٔ9دار ابن لقمان إلى متحؾ افتتحه الربٌس جمال عبد الناصر سنةٓ ٔ9ٙلحفظ الذاكرة
ٖ٘9
الٌسوعٌة) التً ترعاها فرنسا -أكبر رعاة حروب الفرنجة حتى ذلك الوقت -وزرعت جواسٌسها فً مصر
باسم تجار ومبشرٌن ،حتى تحٌنت اللحظة المناسبة ،وبالفعل ،أصبح التجار الفرنسٌس الـ ٘ ٙالساكنٌن فً
القاهرة واإلسكندرٌة ورشٌد ودمٌاط -إضافة للقناصل الفرنسٌس فً القاهرة واإلسكندرٌة ورشٌد -أكبر
عون للحملة الفرنسٌة بتقارٌرهم عن أحوال مصر ،عززوها بإرسال شكاوى عن تعرضهم لسوء المعاملة،
لتكون أحد مبررات فرنسا للتدخل أمام حلٌفها التركً(٘).
ولعب نابلٌون بحرفٌة بورقة حماٌة األجانب ،ففً منشوره الذي أرسله للمصرٌٌن حول أهداؾ الحملة
جاء فٌه" :من زمان مدٌد والسناجق ٌتسلطون فً الببلد المصرٌة ،وٌتعاملون بالذل واالحتقار فً حق الملَّة
الفرنسٌة ،وٌظلمون تجارها بؤنواع اإلٌذاء والتعدي ،وحانت اآلن ساعة عقوبتهم"(.)ٙ
أٌضا اشتدت الرؼبة فً إعادة احتبلل مصر بعد سٌطرة المحافل الماسونٌة على فرنسا إثر الثورة
وؼذى شهوة الؽزو التنافس مع برٌطانٌا على البحار وطرق التجارة ،وح َّفز َّ الفرنسٌة الدموٌة ،ٔ989
نابلٌون جنوده" :إذا أردنا أن نهاجم إنجلترا فعلٌنا أن نهاجمها فً مصر" ،وخاطب جنوده لٌمؤلهم باإلٌمان
بفكرة احتبلل مصر فً ٓٔ مارس " ٔ999إن أعبلم فرنسا تخفق ألول مرة على ضفاؾ األدرٌاتٌك على
مقربة من مقدونٌا القدٌمة التً نبت فٌها اإلسكندر واتجه إلى مصر ،وإن مهمة كبٌرة تنتظركم(.")9
وهذه المرة ..تعزز الؽزو بؤحبلم السٌطرة على الحضارة المصرٌة نفسها ولٌس فقط األرض المصرٌة،
وهً األحبلم التً زرعها المستشرقون والتجار الذٌن أتوا لمصر سابقا ،وبعضهم ربما كانوا جواسٌس
لدراسة أحوال مصر وآثارها ،ونشروها فً كتب الرحالة التً أثارت لعاب الساسة واألثرٌاء فً فرنسا،
وهو ما ظهر فً اإلعداد "العلمً" الجٌد للحملة ،وما كان معها من علماء فً كل المجاالت.
ومعلوم أن المحافل الماسونٌة تنسب نفسها زورا للحضارة المصرٌة ،وتحلم بالسٌطرة على مصر
وامتبلك آثارها ورموزها العرٌقة ،ومؽرمة بتسمٌة محافلها بؤسامً مصرٌة مثل "أوزٌرٌس" ،و"إٌزٌس".
الماسونٌة هً االسم القدٌم لـ"العولمة" حالٌا ،وهً تٌار أجنبً ٌنتمً لصفة "العالمٌة" ،وٌعنً أنه لٌس
بٌن الببلد حدود ،زرعها شٌطان االحتبلل بالعنوة فً أرض مصر ،وتقوم على الوالء لشً واحد ،هو
المحفل الماسونً ،وأن "اإلخوة" تكون فقط بٌن أعضابه ،واسمهم "اإلخوان الماسون" ،وال والء لوطن أو
دٌن أو أي شًء آخر بجانب المحفل ومبادبه وإخوانه ،بل وكل من هم لٌسوا أعضاء المحفل اسمهم
"أجانب" ،و"خوارج" ،وعضو المحفل الماسونً فً فرنسا أو ألمانٌا أو سورٌا مثبل هو أقرب لعضو
(٘)
-انظر :بونابرت فً مصر ،كرستوفر هٌرولد ،مرجع سابق ،ص ٕٕٕٔ -
()ٙ
-انظر :عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار ،عبد الرحمن الجبرتً ،مرجع سابق ،ج ٗ ،ص ٙ9 -ٙٙ
()9
-انظر :النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة ،ص ٔٔٔ٘ -
ٖٓٙ
المحفل الماسونً فً مصر من المصرٌٌن(.)8
ومثل التنظٌمات والدول التً ترٌد احتكار مصر لها بنسؾ أصول المصرٌٌن ونسب حضارتهم لها ،فإن
الماسونٌة ت َّدعً أن أصولها نشؤت فً مصر؛ وأنهم تسموا بالماسون (أي البناءٌن) نسبة إلى المهنة التً
برع فٌها المصرٌون وكانوا رقم (ٔ) فٌها فً الدنٌا كلها وهً البناء والعمارة؛ ولذا ٌحرص الماسون على
إقحام رموز حضارة مصر ،مثل أوزٌر وإٌسة وعٌن حور "وجات" والهرم فً طقوسها.
حلَّت المحافل الماسونٌة فً مصر مع الؽزو الفرنسً سنة ،ٔ998ودورها ضم أصحاب الجاه والتؤثٌر
من سٌاسٌٌن وتجار وأطباء ومعلمٌن لٌكونوا عونا بنفوذهم للفرنسٌس فً مصر ،وعن هذا ٌقول جورجً
زٌدان -وهو ماسونً لبنانً هاجر إلى مصر فً القرن -ٔ9فً كتابه "تارٌخ الماسونٌة العام"" :وتفصٌل
ذلك أن نابلٌون بونابرت لما جاء الدٌار المصرٌة وافتتحها كان فً معٌته نخبة من رجال فرنسا ،وفٌهم
الجنرال كبلبر ]كلٌبر[ المشهور ،فلما وصلوا القاهرة اتفق بونابرت والجنرال كبلبر وعدة من الضباط-
وكانوا من اإلخوة الماسونٌٌن -على تؤسٌس محفل ٌجتمعون إلٌه ،فؤسسوه فً أؼسطس من تلك السنة فً
مدٌنة القاهرة ،ودعوه "محفل إٌزٌس" ،وهو ٌشتؽل على طرٌقة دعاها نابلٌون طرٌقة ممفٌس ]نسبة
لـ"منؾ"[ ولعلهم قصدوا بذلك مقصدا سٌاسٌا؛ ألنهم أدخلوا فٌه كثٌرا من عمد الببلد ورجالها ،والظاهر أن
نابلٌون بونابرت كان ٌفعل مثل ذلك حٌثما نزل مفتتحا تمكٌنا لقدمه( ،")9أي لٌساعده كبار القوم هإالء فً
قمع المقاومة باعتبار أن هذا األجنبً مدام ماسونٌا مثلهم فبل ٌجوز مقاومته ،بل وفرٌضة علٌهم كسر أي
مقاومة له ،خاصة واألجنبً ٌرفع شعار "الحرٌة واإلخاء والمساواة".
وما أكثر ما ٌمكن أن تجدهم المحافل لٌقوموا بهذا الدور ،أوال ألن معظم "عمد الببلد" ،أي أؼنٌاإها
وأصحاب المراكز من المستوطنٌن األجانب ،وثانٌا أن ضمهم لٌكونوا جز ُء من "تنظٌم عالمً"ٌ ،عطٌهم
"أهمٌة عالمٌة" ،هو إحساس مؽري لهم ،خاصة مع الضجة التً أحدثتها الثورة الفرنسٌة وقتها(ٓٔ).
ولكن نشؤة المحافل الماسونٌة عندنا سبقها زٌارات شخصٌات ماسونٌة إلى مصر ،وكؤنها من باب
االستطبلع وتجهٌز األرض ،منها شباتاي تسٌفً ،الٌهودي المولود فً تركٌا من أبوٌن مهاجرٌن من إسبانٌا
(األندلس) ،وكان ٌمارس السحر وطقوس الكاباال(ٔٔ) ،وادعى أنه المسٌح المنتظر ،جاء إلى مصر بعد سنة
ٔٙٙٙوقابله روفابل ٌوسؾ جلبً ربٌس الطابفة الٌهودٌة ومدٌر الخزانة المصرٌة ،وعبؤ له من خزابن
مصر أمواال طابلة توجه بها إلى فلسطٌن ،وهناك أعلن تقسٌم العالم إلى ٖ8منطقة ،وعٌَّن لكل منطقة حاكم
(ملك) ،وهو نفس التقسٌم القابمة علٌه الماسونٌة حتى اآلن(ٕٔ) ،وأندٌة الروتاري واللٌونز التً حلت محل
المحافل الماسونٌة فً مصر مإخرا.
()8
-انظر :تارٌخ الماسونٌة العام ،جرجً زٌدان ،مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة ،القاهرة ،ص ٗٗ
()9
-نفس المرجع ،ص ٔٔ8 -ٔٔ9
(ٓٔ) -انظر :الماسونٌة والماسون فً مصر ،ٔ9ٙٗ -ٔ998وابل إبراهٌم الدسوقً ،دار الكتب والوثابق القومٌة ،القاهرة ،ص ٖٔ9
(ٔٔ)
-الكاباال تسمى بالتصوؾ الٌهودي وهً علم باطنً ألسرار التفسٌر الٌهودي للتوراة بطرٌقة الرموز والحروؾ الؽامضةٌ ،تناقلونه شفهٌا،
وتهتم بالمسٌح الٌهودي المنتظر الذي تقول إنه سٌظهر آخر الزمان لٌحكم العالم وٌجعل الٌهود ملوك البشر ،انظر :موسوعة المصطلحات الدٌنٌة
الٌهودٌة ،رشاد الشامً ،المكتب المصري لتوزٌع المطبوعات ،القاهرة ،ص ٖٔٔ -ٕٔ9
(ٕٔ)
-انظر :الماسونٌة والماسون فً مصر ،ٔ9ٙٗ -ٔ998مرجع سابق ،ص ٕٕٕٔ -
ٖٔٙ
ؼٌر أن محفل "إٌزٌس" "تفركش" لما اضطرت الحملة الفرنسٌة للجبلء عن مصر بعد ٖ سنٌن ،وستعود
المحافل الماسونٌة بؤسنان حادة بعد قلٌل كما سنتابع عند الحدٌث عن االحتبللٌن العلوي واإلنجلٌزي.
دراسة نابلٌون لمصر وعاداتها وأحوال أهلها جعلته ٌرى أن مفتاح الدخول للمصرٌٌن هو النفاق والمدٌح
لهم ولبلدهم ،والحدٌث عن أحقٌتهم بحكم بلدهم ،خاصة وأنه اكتشؾ المرار الذي بداخلهم من سوء معاملة
العثمانٌٌن والممالٌك وتكبرهم علٌهم ،وجاء لمصر مسرشدا بكتاب الرحالة فولنً الذي وصؾ معاناة
المصرٌٌن وأنهم بانتظار "أٌدي تحرك" الثورة فً نفوسهم ضد الممالٌك ،فقرر تقدٌم نفسه لهم بصفته
"المخلص والمنقذ" ،وعمل التالً:
وزع منشورات على جنوده وصاهم فٌها باحترام مشاعر المصرٌٌٌن وشعابرهم الدٌنٌة ،وعدم التعرض
لنسابهم وأموالهم وبٌوتهم ،وهدد من ٌخالؾ هذا بالعقاب الشدٌد.
ومنها منشور أذاعه على الجنود فً ٌ ٕ8ونٌو ٔ998قال فٌه" :أٌها الجنود إنكم ستخوضون ؼمار حملة
لها آثار ال تحصى فً حضارة العالم وتجارته ،وستنالون إنجلترا بضربة هً أشد ما ٌصٌبها فً الصمٌم...
إن الشعب الذي سنتصل به ٌدٌن بدٌن اإلسبلم ،وأول أركانه شهادة أن ال إله إال هللا وأن محمد رسول هللا؛
فبل تعارضوهم فً دٌنهم ،وعاملوهم كما عاملتم الٌهود ،وكما عاملتم اإلٌطالٌٌن ،واحترموا مشاٌخهم
وأبمتهم ..،وستجدون هناك عادات تختلؾ عن عادات أوروبا فعلٌكم أن تؤلفوها .وإن الشعب الذي سنقٌم
بٌنه ٌعامل النساء على ؼٌر عاداتنا ،واالعتداء على أعراض النساء جرٌمة ال ٌقدم علٌها إال الوحوش...
واعلموا أن النهب ال ٌعود بالنفع إال على طابفة قلٌلة من الناس ،ولكنه ٌدنس شرفنا ،وٌقضً على مواردنا،
وٌجلب علٌنا كراهٌة الشعوب التً تقضً مصلحتنا بؤن نكسب ودها".
وزاد الفرنسٌس فً التودد للمصرٌٌن بؤنه فً اإلسكندرٌة أصدر كلٌبر -أحد قواد الحملة -تهدٌدات بتنفٌذ
عقوبة اإلعدام على الجنود الذٌن ٌعتدون على حرمات البٌوت أو المساجد ،أو ٌتسلق البٌوت ،أو لو صاد
الحمام باآلالت النارٌة وتسبب فً تعرٌض حٌاة األهالً للخطر ،وهذا خوفا من ؼضب األهالً وانتفاضهم
ضد الفرنسٌس ،وعارض كلٌبر نابلٌون لما فكر فً فرض ضراٌب على تجار اإلسكندرٌة(ٖٔ).
وهذا هو األسلوب الجدٌد لبلحتبلالت التً ستطبق على رقبة مصر منذ ذلك التارٌخ وما بعده ،بل
والعالم كله ،فهو لٌس أسلوب فرض القوة والسبلح المباشر وحده -فً البداٌة -بل المحتل ٌزحؾ مقدما نفسه
فً ثوب "المنقذ" ،و"ناصر دٌن أهل البلد" ،ومن ٌحمل لها "اإلخاء" و"الحرٌة".
لعب نابلٌون على وتر ضٌق المصرٌٌن من استبعادهم من المناصب والثروات ،فقال فً منشوره
للمصرٌٌن" :هذه الزمرة من الممالٌك المجلوبٌن من جورجٌا والقوقاز ٌفسدون فً اإلقلٌم الحسن األحسن
(ٖٔ)
-النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة ،مرجع سابق ،ص ٕٕٓٔ -
ٕٖٙ
الذي ال ٌوجد فً كرة األرض كلها ..أٌها المصرٌون قولوا للمفترٌن أننً ما قدمت إلٌكم إال ألخلص حقكم
من ٌد الظالمٌن ..ماذا ٌمٌزهم عن ؼٌرهم حتى ٌستوجبوا أن ٌتملكوا مصر وحدهم وٌختصوا بكل شًء
أحسن فٌها من الجواري الحسان والخٌل العتاق والمساكن المفرجة ،فإذا كانت األرض المصرٌة التزاما
للممالٌك فلٌقدموا لنا الحجة التً كتبها هللا لهم ،ولكن رب العالمٌن رإوؾ وعادل وحلٌم ،ولكن بعونه تعالى
من اآلن فصاعدا ال ٌٌبس أحد من أهالً مصر من الدخول فً المناصب السامٌة ،وعن اكتساب المراتب
العالٌة؛ فالعلماء والفضبلء والعقبلء بٌنهم سٌدبرون األمور ،وبذلك ٌصلح حال األمة كلها".
ٌنس األسلوب القدٌم وهو اللعب بورقة الدٌن؛ فتودد للمصرٌٌن باسم اإلسبلم ،حتى إنه فتح أول أٌضا لم َ
منشور ٌخاطب المصرٌٌن بعبارات "بسم هللا الرحمن الرحٌم ،ال إله إال هللا ال ولد له ،وال شرٌك له فً
ملكه" ،وقال "إننً أكثر من الممالٌك أعبد هللا سبحانه وتعالى واحترم نبٌه والقرآن العظٌم(ٗٔ)".
واعترؾ نابلٌون وهو فً منفاه فً سانت هٌبلنة فٌما بعد بؤنه فعل ذلك تؤثرا بما فعله اإلسكندر ،فً
إشارة إلى تودد اإلسكندر للمصرٌٌن من بوابة الدٌن ووالبه آل َّمون ،فقال" :كان ٌفعل هذا وهو على وعً
تام بعقلٌة هإالء الناس ...وقد حقق بعمله هذا من حٌث تثبٌت دعابم فتحه للببلد أكثر مما كان ٌحققه لو بنى
ٕٓ حصنا وعزز جٌشه بـ ٓٓٔ ألؾ من المقاتلٌن المقدونٌٌن"(٘ٔ).
واعترؾ أٌضا فً منفاه بؤن هذا المنشور كان "قطعة من الدجل ،ولكنه دجل من أعلى طراز" ،وقال:
"ع َّل اإلنسان أن ٌصطنع الدجل فً هذه الدنٌا ألنه السبٌل الوحٌد إلى النجاح( ،")ٔٙهكذا فكر أبناء الثورة
الفرنسٌة التً قالوا إنها قامت لتنشر فً العالم احترام العقل وحرٌات الشعوب.
كان هذا المنشور ونابلٌون قادم فً البحر ،أما حٌن اقترب أزٌر سفنه من السواحل ووجدت مقاومة من
اإلسكندرٌة ترجم الفرنسٌس معانً "اإلخاء" و"الحرٌة" ،و"المساواة" للسكان بالتحٌة التالٌة.
ٌحكً الكولونٌل سلكوسكً فً مذكراته ،وهو ضابط فً الحملة ،إنه لما احتل الفرنسٌس مالطة وصل الخبر
للمصرٌٌن "وعندما الح األسطول الفرنسً ،وأصبح فً حدود النظر ،أرسل السٌد كرٌم (محمد كرٌم) ٖٔ ساعٌا
إلى القاهرة لٌنبا المسبولٌن بوصول الفرنسٌٌن ،وبذله معه أهل اإلسكندرٌة كل ما فً استطاعتهم لمقاومة الؽزو
وللدفاع عن المدٌنة ،وحصنوا األسوار ،وأمدوا القبلع بالذخٌرة ،وأعدوا السبلح ،وحمله القادرون منهم ،ووضعوا
المدافع فً أماكنها على أسوار المدٌنة ،وجهزوا جماعة من الفرسان لتقوم بمناوشة الفرنسٌٌن عند نزولهم ،ووقؾ
األهالً محتشدٌن حاملٌن السبلح مشاة وركبانا ،رجاال ونساء ،صؽارا وكبارا ٌطلقون النٌران ،وٌقاومون الؽزو،
إال أن الفرنسٌس استطاعوا أن ٌتؽلبوا علٌهم لكثرة عدتهم ولتمٌز سبلحهم(.")ٔ9
(ٗٔ)
-نص الرسالة كامل فً عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار ،عبد الرحمن الجبرتً ،مرجع سابق ،ج ٗ ،ص ٙ9 -ٙٙ
(٘ٔ)
-بونابرت فً مصر ،كرستوفر هٌرولد ،مرجع سابق ،ص ٔ97وٕٓٓ
*وهذا نفس أسلوب الربٌس األمرٌكً باراك أوباما عندما ألقى خطابا فً جامعة القاهرة ٕٓٓ9أشاد فٌه باإلسالم وبدأ كلمه بـ"السالم علٌكم" ،وما
بٌن التارٌخٌن الفٌصل هو ذاكرة الشعوب.
()ٔٙ
-المرجع السابق8ٔ ،
()ٔ9
-النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة ،مرجع سابق ،ص ٖٓ
ٖٖٙ
وٌحكً الجندي "مٌٌه" الذي اشترك فً القتال فً اإلسكندرٌة فً مذكراته" :ظننا أن المدٌنة استسلمت،
وأشد ما أدهشنا أن ٌنهال علٌنا رصاص البنادق ونحن نمر أمام المساجد ،فؤمرنا قابد اتفق وجوده هناك أن
نقتحم باب المسجد ،وال نبقً على أحد فٌه ،وهكذا هلك الرجال والنساء واألطفال ..بحد السناكً ]ذبحا[،
ولكن لما كانت العواطؾ اإلنسانٌة أقوى من االنتقام ،فقد توقفت المذبحة حٌن تعالت أصواتهم طلبا للرحمة،
فاستحٌٌنا ثلثهم" ،أي قتلوا الثلثٌن ومنهم نساء وأطفال وأبقوا الثلث إلظهار الرحمة.
وهذه أول تحٌة فرنساوٌة لمصر ،الدم والدعشنة والؽدر ،وأول تحٌة بمصر للفرنسٌس الرفض.
و سط هذا وقعت حادثة تظهر األسلوب الفرنسً الفرٌد فً اللعب على كل األوتار فً وقت واحد ،فلكً ٌرسل
رسالة تإكد "عدله ورحمته" ،أمر بإطبلق الرصاص على جندي فرنسً انتزع خنجر من "عربً مسالم"،
وعندما ألقى كلٌبر القبض على محمد كرٌم ،حاكم اإلسكندرٌة الذي رفض تسلٌمها ،أجبرت شجاعته نابلٌون
أن ٌقول له فً مجلس من أعٌان المدٌنة" :لقد أخذتك والسبلح فً ٌدك ،وكان لً أن أعاملك معاملة األسٌر،
ولكنك استبسلت فً الدفاع ،والشجاعة متبلزمة مع الشرؾ ،لذلك أعٌد إلٌك سبلحك" (.")ٔ8
لكن الفرنسٌس اتهموه بتهمة ؼرٌبة تدل على انقبلب المعاٌٌر عندهم وهً "خٌانة الفرنسٌس"؛ فاعتبروا
مقاومة الؽزاة "خٌانة" ،فحكموا علٌه باإلعدام علنا فً مٌدان القلعة بالرصاص فً ٙدٌسمبر ،ٔ998
ومصادرة أمبلكه ،وقطعوا رأسه ،وطافوا بها فً الشوارع وعلٌها ورقة مكتوب علٌها أن هذا جزاء من
ٌخالؾ الفرنسٌس وٌعمل "جاسوسا" ضدهم.
وصور "تٌبودو" فً كتابه "تارٌخ نابلٌون" أثر إعدام كرٌم بقوله "إن إعدام هذا الشرٌؾ هو أول عمل
من التصرفات المتعددة التً وجهت فٌها التهم إلى نابلٌون فً أثناء حملة مصر ،فإن النفوس الحساسة قد
تؤثرت للخاتمة المحزنة التً انتهت بها حٌاة ذلك الشرٌؾ النزٌه الذي أعدم بؤمر القابد العام(.")ٔ9
تابعنا لمحات من مساعً المحتلٌن لتحوٌل مصر إلى دولة "لكل األجناس" -عدا أهلها -أو أن ٌكون أهلها
"خدم لكل األجناس" ،سوا باالحتبلل المباشر وتوطٌن الجالٌات األجنبٌة المتعددة التً تخدمه مثلما حصل
فً األسرة ٕٙالخاسوتٌمٌة ثم االحتبلل الٌونانً ،وحتى تفشً الطرق الصوفٌة القابمة على فكرة التنظٌم
العالمً ،ووصلنا اآلن إلى محطة مهمة فً هذا المشوار ،وهً قدوم تنظٌم عالمً أكثر تنظٌما وإحكاما ،بل
وٌمتلك وسابل العلم الحدٌث ،لٌكون أكثر إؼراء لؤلجٌال التً ستنشؤ وسط عالم جدٌد مختلؾ عن عالم
االحتبلالت السابقة ،وهو تنظٌم الماسونٌة وما سٌتفرع عنه من تٌارات أخرى فً مصر.
ٌقول نابلٌون وهو ٌروي قصة حملته فً سانت هٌبلنه" :ما الذي ٌمكن عمله فً هذا البلد الجمٌل
()ٔ8
-النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة ،مرجع سابق ،ص 99 -98وٕٕ
()ٔ9
-المرجع السابق ،ص ٖ٘
*** بعد ثورة ٕ٘ ،ٔ9وضمن سٌاسة الدولة لتكرٌم الزعماء والشهداء ،وضعت صورة محمد كرٌم مع صور محافظً اإلسكندرٌة فً مبنى
المحافظة ،وأطقت اسمه على شارع ومدرسة ومسجد باإلسكندرٌة ،وصنعت تمثال للشهٌد نصبته فً حدٌقة الخالدٌن بالمحافظة.
ٖٗٙ
(مصر) خبلل ٓ٘ عاما من الرخاء والحكم الصالح؟ إن الخٌال لٌرتع فً هذا المنظر الساحر ،فإن ألؾ
بوابة من بوابات الري ستضبط فٌضان النٌل وتوزع مٌاهه على كل بقعة فً الببلد ،وستشق القنوات لتحمل
الببلٌٌن الثمانٌة أو العشرة من ٌاردات الماء المكعبة إلى الواحات ،بل وأبعد منها ؼربا ،وسٌتضاعؾ
السكان ٗ مرات بفضل المهاجرٌن الكثٌرٌن من أعماق أفرٌقٌا وببلد العرب وسورٌا والٌونان وفرنسا
وإٌطالٌا وبولنده وألمانٌا ،وتعود التجارة مع الهند إلى طرٌقها القدٌم ..فتتحقق سٌادة فرنسا على الهند
بسٌادتها على مصر" ،بل "وٌحكم العالم من اإلسكندرٌة"(ٕٓ).
وهكذا من جاء ٌبشر المصرٌٌن بؤنه جاء لـ"ٌحررهم" من حكم الممالٌك فٌعود ألهل البلد عرشها
وخٌراتها ،كان ٌخطط إذا ما تمكن من رقبة مصر أن ٌعبؤها بؤعداد رهٌبة من األجانب من ٖ قاراتٖ ،
أضعاؾ عدد المصرٌٌنٌ ،عنً أن ٌكون المصرٌٌن مجرد ربع عدد السكان ،وبالتؤكٌد كان سٌستمر
المصرٌون "خدما لكل األجناس" مقابل أن تتحول بلدهم إلى بلد "ملا بمشارٌع الزراعة والعمران" على
النمط الفرنسً الحدٌث ..إذن فً حجر من ستسقط ثمار هذه المشروعات المؽرٌة وقتها؟
وبخبلؾ التدوٌل البشري االستٌطانً تبنى األوروبٌون والجالٌات األجنبٌة المتحالفة معهم تدوٌل مصر
فً تمٌٌع ومحو الجنسٌة المصرٌة من األساس ،وهو ما سنتابعه عند الحدٌث عن أول قوانٌن تم وضعها
للجنسٌة المصرٌة ،والتنظٌمات والتٌارات العالمٌة التً هبطت على مصر فٌما بعد.
ٌمكن ل محتلٌن أن ٌقام فً عهدهم مشروعات صناعٌة وزراعٌة وثقافٌة واسعة ،وتوصؾ بالنهضة،
ولكنها نهضة جوفاء ،ألن هدفها توفٌر مصادر دخل جدٌدة لبلحتبلل ،وتسهٌل حٌاته فً البلد المحتل ،أو
تحوٌلها لجوهرة تاج إمبراطورٌة مشعة ٌتربع على عرشها المحتل والجالٌات ،وٌلم أهل البلد من حولهم
الفتات ،إال إذا اقتنص أهل البلد الفرصة وحولوا الشراب المر لشراب حلو بالمقاومة التً تطرد المحتل،
وتستفٌد من أي محاوالت تطوٌر تمت فً عهده ،من باب "رب ضارة نافعة" و"اللً ٌٌجً منه أحسن منه".
وبدأ الفرنسٌس فً إجراءات عملٌة لتطوٌر اإلدارة والصناعة وتنظٌم المدن لتزٌد ثروة مصر؛ فتزداد
الفرصة التً ٌحقق به نابلٌون حلمه فً تكرار إمبراطورٌة اإلسكندر ،وٌعبر عن هذا الرحالة الفرنسً
أولٌفٌه وهو ٌحث حكومته على ؼزو مصر بعد الثورة الفرنسٌة فٌقول" :ستصبح مصر أؼنى دولة فً
العالم ،وفً نفس الوقت سٌضٌؾ الؽزو مجدا عسكرٌا لفرنسا ،وسوؾ ٌنظر إلٌنا الشعب المصري على أننا
محرروه ..ال بد من إحبلل أمة جدٌدة حرة تفتح أبوابها أمام التجارة وتعمل على تطوٌر الصناعةٌ ،جب أال
نترك مصر ؼارقة فً ٌد البرابرة(ٕٔ)".
وبدأ نابلٌون تنظٌم اإلدارة التً أفسدها الممالٌك والعثمانلٌة فً صراعاتهم ،فؤنشؤ دٌوان القاهرة (اإلدارة
(ٕٓ)
-بونابرت فً مصر ،كرستوفر هٌرولد ،ص ٕ9 -ٕٙ
(ٕٔ)
-مقدمة المحقق عبد العزٌز جمال الدٌن للجزء الرابع من كتاب "عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار" للجبرتً ،ص ٖ9
ٖ٘ٙ
الحكومٌة) وعٌن فٌه ٓٔ علماء ،هم :خلٌل البكري ،مصطفى الدمنهوري ،سلٌمان الفٌومً ،مصطفى
الصاوي ،محمد المهدي ،أحمد العرٌشًٌ ،وسؾ الشبراخٌتً ،محمد الدواخلً ،موسى الشرسً ،عبد هللا
الشرقاوي ،وفً ٌده ظلت السلطة العسكرٌة الكاملة.
وهدفه ،إلى جانب تسهٌل إدارته للببلد ،أن ٌوهم المصرٌٌن أنه جاء إلى مصر لنشر الحضارة والتقدم،
وٌؽفلون عن مشروعه االحتبللً الكبٌر ،وحاول أن ٌرؼم علماء األزهر على لبس الطٌلسان الفرنسً،
وعموم الناس على وضع شارة الفرنسٌس (العلم) ،ولكنهم رفضوا ،ومع الوقت حشر فرنسٌٌن فً الدٌوان
العام ،وفً رسالة وجهها لهم قال لقوادهٌ" :جب أن ُتفهما األعضاء أننا ال نقصد إال توفٌر السعادة والرفاهٌة
للببلد التً تشكو من سوء نظام الضراٌب الحالً ،كما تشكو من طرٌقة تحصٌلها(ٕٕ)".
وأنشؤوا مصنعا للجوخ عمل فٌه الفرنسٌس فقط خوفا من تسرب أسرار الصناعة الفرنسٌة للمصرٌٌن،
بل واعتزموا حال فشل الحملة تدمٌره وإرجاع آالته لفرنسا ،واهتموا بالمشارٌع الصحٌة والصناعٌة التً
تخدم األؼراض الحربٌة للجٌش الفرنسً فً المقام األول فٌما ٌخص أسلحته ومبلبسه وصحته وطعامه
ونظافته وتسهٌل طرق مواصبلته وتنقبلته ،فؤسسوا محاجر صحٌة ومستشفٌات ،ووضعوا لوابح النظافة
العامة للحد من أسباب انتشار الطواعٌن واألمراض ،وسعوا إلنشاء طواحٌن الهواء ومصنع للبارود،
ومصنع لدبلػ الجلود ،ومصنع للنجارة ومصنع للصابون من الزٌوت المصرٌة(ٖٕ) ،وأقاموا الجسور،
ورتبوا الشوارع ،وؼرسوا على جوانبها األشجار ،وأطلقوا مشروعا إلحصاء الموالٌد والوفٌات ودفاتر
الجواز ومسح األطٌان ألجل الضراٌب ،وأقاموا المسارح لتمثٌل الرواٌات.
ولكن اعترؾ فرنسٌون ،مثل المسٌو مارتان من مهندسً الحملة ،بعجزهم عن إؼراء الناس بهذه
المشروعات حٌن قال" :بالرؼم من احتبلل الفرنسٌٌن لعاصمة مصر ،فإنهم لم ٌستقر لهم قرار فً الببلد،
وكان مركزهم فٌها مزعزعا ومحفوفا بالمتاعب ،ولم ٌترك األهالً وسٌلة لمقاومة السلطة الفرنسٌة إال
أتبعوها ،وقد ذهب كثٌر من الفرنسٌٌن ضمن هذه المقاومة".
وردا على رسابل نابلٌون للمصرٌٌن بؤن الفرنسٌس جاءوا من آخر الدنٌا لكً "ٌحرروا" المصرٌٌن،
و"ٌسعدوهم" ،و"ٌنشروا التقدم" قال المسٌو رٌبو" :من الصعب أن توجد أمة تبلػ بها السذاجة مبلؽا أن تنتظر
الخٌر من جٌش ٌركب متن البحار ،وٌستهدؾ لؤلخطار ،وٌحتل ببلدها ،وٌخوض فٌها ؼمار الحرب لمجرد
الدفاع عن مصالحها ،وال ٌمكن أن تإثر المنشورات والكلمات الفخمة فً تؽٌٌر حالة الشعب النفسٌة(ٕٗ)".
ورؼم هذا استمروا فً إرسال الكبلم الحلو للمصرٌٌن ألن هذه سٌاسة فرنسٌة راسخة" ..السكٌنة جنب
الوردة" ،أو "العصا والجزرة".
(ٕٕ)
-النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة ،مرجع سابق ،ص ٖ٘ و .ٕٙ
(ٖٕ)
-الحرؾ والصناعات فً عهد محمد علً ،د .صبلح أحمد هرٌدي ،دار المعارؾ ،القاهرة ،ٔ98٘ ،ص ٕٔٔٔٔ٘ -
(ٕٗ)
-انظر :االنضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة ،مرجع سابق ،ص ٕٕ٘8 -
ٖٙٙ
وسط فوضى الدماء والفزع التً أشاعها الفرنسٌس فً طول مصر وعرضها -كما سنرى -مستقوٌٌن
بوهم أنهم صاروا بثورتهم الفرنسٌة أعظم الحضارات ،صدمهم معبد دندرة فً األقصر ،فش َّل حركة
أسلحتهم بعض الوقت ٌلتقط فٌه األهالً األنفاس.
فخبلل مطاردتهم للمملوك مراد بك وصلوا فً قنا عند معبد دندرة (معبد حتحور) على شاطا النٌل
الشرقً ،وٌتذكر العالم "دٌنون" المصاحب للحملة" :ودون أن تصدر إلٌهم أو ٌتلقوا أي أوامر ،ترك كل
ضابط وجندي الطرٌق واندفع إلى تنتٌرة (دندرة) ،وتلبث الجٌش كله هناك بقٌة الٌوم من تلقاء نفسه ،وٌاله
من ٌوم!".
وعن مشاعره الشخصٌة كفنان نسخ الرسوم والنقوش من المعبد حٌنها ،فقد اضطر لنبذ ما عرفه عن
القواعد الكبلسٌكٌة لؤلسالٌب الدورٌة واألٌونٌة والكورنثٌة ،وقال عن مدرسة الفن المصري الماثلة بشموخ
وبساطة أمامه" :لن تجد أبسط وال أحسن حسابا من الخطوط القلٌلة التً تؤلؾ منها هذا المعمار،
فالمصرٌون الذٌن لم ٌستعٌروا شٌبا من ؼٌرهم من األمم لم ٌضٌفوا زخرفا دخٌبل واحدا ،وال حشوا واحدا
ال لزوم له إلى الخطوط التً أملتها الضرورة ،والنظام والبساطة مبدأهما اللذان سموا بهما إلى الذروة ()...
وحذار من خطؤ شابع هو االعتقاد أن المعمار المصري ٌمثل هذا الفن ]العمارة[ فً مهده ،واألصح أن
نقول إنه الصورة القٌاسٌة لهذا الفن(ٕ٘)".
وفً المساء ذهب إلٌه أحد الضباط وقال له" :منذ الٌوم الذي حضرت فٌه إلى مصر كنت أحس أننً خدعت
خداعا تاما ،وكنت على الدوام مبتبسا مرٌضا ،ولكن دندرة أبرأتنً ،فما رأٌته الٌوم عوضنً عن كل تعاستً"،
وبعد أن ارتووا من سكٌنة وعذوبة دندرة ،واصلوا طرٌقهم ،فبلحت لهم على جانبً النهر مشاهد واسط
(طٌبة القدٌمة) كاملة ،بما احتوته من معابد األقصر والكرنك ،ووقفت الفرقة كلها من تلقاء نفسها ،وصفق
أفرادها استحسانا.
وٌصؾ دٌفرنوا" :ودون أن ٌصدر أمر للرجال وقفوا فً طوابٌرهم وأدوا التحٌة العسكرٌة على قرع
الطبول وعزؾ الموسٌقى" ( ،)ٕٙكانت تحٌة عظمى لعبقرٌة اإلنسان ..الفبلح.
وإضافة إلى استكشاؾ المعابد ونقش ما علٌها وتسجٌله ،وضعت الحملة الفرنسٌة موسوعتها الشهٌرة
"وصؾ مصر" ،جمعت فٌها كل ما ٌخص الحٌاة فً مصر ،تارٌخٌة وحاضرة ،البشر والنبات والطٌر
والحٌوان ،جؽرافٌا ،ثروات ،خصابص السكان ،الفنون والعلوم ،بهدؾ معرفة مصر تمام المعرفة لٌسهل
إدارتها وتحوٌلها إلى مستعمرة فرنسٌة تحقق حلم نابلٌون فً أن تكون قاعدة إمبراطورٌته فً الشرق.
كذلك عثر الفرنسٌون صدفة على حجر رشٌد "مرسوم كانوب" الذي كتبه رجال المعابد عن إجراءات
بطلمٌوس الخامس تجاه ثورة ٕٔ9ق.م ،والطرٌؾ أنه عن طرٌق الخط الهٌروؼلٌفً الذي أصر رجال
(ٕ٘)
-بونابرت فً مصر ،هٌرولد ،ص ٖٗٙ
()ٕٙ
-انظر نفس المرجع ،ص ٖ٘ٙ
ٖٙ7
الدٌن على استخدامه فً تدوٌن اإلجراءات إلى جانب الخط الدٌموطٌقً واللؽة الٌونانٌة تمكن شامبلٌون من
فك رموز اللؽة المصرٌة؛ وكؤنها هدٌة من الثوار المصرٌٌن ألحفادهم ،وكؤن حجر رشٌد تجلً من تجلٌات
الثورة وموجات تٌارها التً وصلتنا لتكون مفتاح العودة إلى الحضارة المصرٌة من جدٌد.
وفً الوقت الذي اهتم به الفرنسٌس بالحضارة المصرٌة من ناحٌة (ألهداؾ علمٌة أو ماسونٌة) ،كانوا
ٌهدمون آثارا مصرٌة أٌضا حٌن تقؾ عقبة فً طرٌقهم ،فؤسرؾ الفرنسٌس فً هدم القاهرة لبناء قبلع جدٌد
وسور لتحصٌنها؛ ما أضاع منها كنوزا أثرٌة فً العمارة وفنون األرابٌسك والزجاج المعشق وأشؽال
النحاس والنسٌج ،فهدمت األٌادي السوداء بٌوتا كثٌرة وجوامع لٌؤخذوا خشبها ومواد البناء ،كجامع
الجنببلطٌة والسبع سبلطٌن والشركسً والروٌعً والبنهاوي ،وهدموا أحٌاء كاملة كالحسٌنٌة والخروبً
وبركة الفٌل ،ومصاطب المحبلت الستعمال حجارتها بحجة توسٌع الشوارع واألزقة ،فً حٌن كان الهدؾ
استعمالها كمتارٌس إذا ما قامت ثورة ضدهم ،ومنها مصطبة درب الجمامٌز ودرب سعادة وباب خلق(.)ٕ9
رؼم كبلم نابلٌون عن عدم إرهاق المصرٌٌن بالضراٌب ،لكن فً التطبٌق العملً فرض ضراٌب شدٌدة
لم ٌتحملها األهالً المذبوحٌن أساسا من الضراٌب الموروثة من الممالٌك والعثمانلٌة واألعراب المناكٌد.
ومن وسابل الفرنسٌس لجمع ضراٌب جدٌدة أنهم أسسوا فً كل مدٌرٌة مكتبا لتسجٌل العقود ،وقالوا إن
حكومة الفرنسٌس لن تعترؾ بملكٌة أحد ألرضه إال إذا سجل الملكٌة بعقود ،وفرضوا الرسوم على
التسجٌل ،ولم تكن هذه الرسوم موجودة ،كما قالوا إن األرض التً ال ٌسجل صاحبها ملكٌتها خبلل ٖٓ
ٌوما ُتنتزع منه و ُتصادر لصالح جمهورٌة فرنسا ،وكانت هذه وسٌلة الحتبلل أرض مصر "بالقانون"،
وتحوٌلها إلى فرنسٌة.
كما فرضوا رسوما على عقود البٌع والبدل والتنازل والهبة ،و ُتسجل خبلل ٓٔ أٌام ،وإال ُتعتبر عقودا
باطلة ،وذك إلجبار األهالً على سرعة سداد الرسوم ،وفرضوا ضراٌب سنوٌة جدٌدة على جمٌع أصحاب
الحرؾ والصناعات ،ووصفها الجبرتً بؤنها "تحاٌل على أخذ األموال".
وأول ما أحرق اإلنجلٌز أسطول بونابرته فً أبو قٌر فرض ضرٌبة فادحة فً شكل سلفة إجبارٌة
بخمسابة ألؾ لاير على التجار ،فحكى دٌبلجو نكٌٌر إن نابلٌون ففرض ٖٓٓ ألؾ فرنك على تجار اإلسكندرٌة
وٓٓٔ ألؾ على تجار رشٌد و ٔ٘9ألؾ على تجار دمٌاط ،وٕٓٓ ألؾ على تجار البن والبهار بالقاهرة ،وٓٓٔ
ألؾ على تجار خان الخلٌلً ،وهكذا.
وألنهم بلد الفن كما ٌُقال ،تفنن الفرنسٌس فً ابتزاز األموال حتى أن نابلٌون فرض على نساء البكوات
الممالٌك أن تصالح كل منهن عن نفسها وأتباعها بمقدار من المال ،كما سمح لهن بسكن بٌوتهن نظٌر مبالػ
()ٕ9
-النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة ،ص ٔٓ9 -ٔٓٙ
ٖٙ8
من المال ،فمثبل أصدر فً أؼسطس ٔ998أمرا بؤن تدفع نفٌسة زوجة مراد بك ٓٓ ٙألؾ فرنك عن
نفسها وعن نساء أتباع زوجها ،وقٌل إنها باعت وجواهرها لتدفع حصتها فً الؽرامة( ،)ٕ8وكلها أموال
نزعها الممالٌك من الفبلحٌن نزعا.
ومن أسوأ أشكال التعسؾ مصادرة المنازل وهدم المبانً واآلثار والمساجد ،فؤخرج الفرنسٌون كثٌرا من
األهالً من بٌوتهم بدعوى الحاجة إلٌها ،ومن أجل ترمٌم القلعة هدموا جمٌع البٌوت المحٌطة بها بعد أن
أفرؼوها من السكان ،وامتد هدمهم إلى المساجد القرٌبة؛ ما شحن مشاعر المصرٌٌن(.)ٕ9
حٌن ثار المصرٌون على هذه اإلهانات فً ثورة القاهرة األولى والمحافظات أظهر نابلٌون وجهه
الحقٌقً ،وصدرت األوامر مشددة إلى نوابه فً المدٌرٌات باستعمال منتهى القسوة من قتل وتخرٌب وحرق
وسلب ونهب؛ لضمان إذعان األهالً ،وكتب إلى أحد قواده ٌقول" :إنً هنا أقتل كل ٌوم ثبلثة ،وآمر بؤن
ٌطاؾ برإوسهم فً شوارع القاهرة ،وهذه هً الطرٌقة الوحٌدة إلخضاع الناس(ٖٓ)".
وفً هذا قال الجنرال بلٌار فً ٌومٌاته" :إن روح التذمر سابدة فً الجٌش ،والضباط لعدم اكتراثهم
بالواجب تركوا الجنود ٌجوبون القرى ٌنهبون كل ما تصل إلٌه أٌدٌهم".
وجاء فً ٌومٌات الجنرال لوجٌٌه" :وصلنا ٌوم ٗٔ من ٌولٌو إلى قرٌة النخٌلة فً حٌن كان جنود
الجنرالٌن بون وفٌان ٌنهبونها ،وكان صٌاح األهالً وبكاء النساء ونحٌبهم ٌصم اآلذان" ،وفً ٌومٌات
الكابتن سافاي" :صادرنا بعض المواشً التً وجدناها فً طرٌقنا ،وبٌنما كانوا ٌقٌدونها كان الجنود ٌنهبون
هذه القرٌة (الطرانة) وٌخربونها ...وإن فرقتنا لم تكن تعمل سوى إتمام خراب القرى التً ٌمر بها
الجٌش(ٖٔ)".
ولذا بدأت المعارك ضد الفرنسٌس فً الوجه البحري ،وانتقلت منه كانسٌاب مٌاه الفٌضان من محافظة
لمحافظة حتى عمَّت الوجه القبلً لحد أسوان ،وربما هً المرة األولى منذ الثورة البشمورٌة تتوحد فٌها
الببلد فً مقاومة الؽازي من اإلسكندرٌة إلى أسوان ،وسنحاول استكشاؾ السبب فً صفحات قادمة ،كما
أن دور الفبلحٌن فٌها فاق دور الممالٌك رؼم عدم تدربهم على القتال.
والمعارك بٌن المصرٌٌن والفرنسٌس أكثر مما ٌمكن حصرها فً هذا الكتاب ،فلم تخ ُل منها مدٌنة أو
قرٌة فً بر مصر ،ومضطرٌن لبلكتفاء بؤمثلة لتساعدنا فً معرفة سبب تفجر ثورة المصرٌٌن الكبرى هذه
المرة ،وسنتفاجا أنه ما ترك الفرنسٌس جرٌمة الدواعش اآلن إال وعملوها فً مصر ،وشاركهم فً هذا
()ٕ8
-النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة ،ص ٖٗ وٖٙ
()ٕ9
-نفس ما ٌفعله اإلسرابٌلٌون فً إجبار فلسطٌنٌٌن على إخالء منازلهم ،ونظن أنه لم ٌعانً أحد مثلهم ،وننسى أن معظم تارٌخ المصرٌٌن مع
المحتلٌن اكتووا فٌه بهذه الممارسات أكثر من ؼٌرهم.
(ٖٓ)
-المرجع السابق ،ص ٖ ،ٙ٘ -ٙوٌستحق نابلٌون بما فعله من جرابم إرهابٌة لقب كبٌر ومعلم دواعش العصر الحدٌث
(ٖٔ)
-المرجع السابق ،ص ٖٗ
ٖٙ9
ممالٌك وعسكر عثمانلٌة وعربان ،ومثل من سبقهم من محتلٌن ،رؼم دعاوى الحرٌة واإلخاء والمساواة
التً حملوها ...فكلهم ٌا عزٌزي إذا تمكنوا من مصر ...دواعش.
♣ (معركة شبراخٌت)
وفٌها بدأ ظهور الممالٌك ألول مرة بقٌادة مراد بك فً مواجهة الفرنسٌس بعد أن تخلوا عن اإلسكندرٌة،
ورؼم أن الفبلحٌن األقل تسلٌحا ،لكنهم األكثر عددا فً المعارك ،واألكثر شهداء ومعاناة.
ضرب
وخبلل زحفهم من شبراخٌت ،قال الجاوٌش فرانسوا إن قرٌة رفضت إمداد الفرنسٌٌن بالبضابع "ف ُ
أهلها بحد السٌؾ وأحرق بالنار ،وذبح وأحرق ٓٓ 9رجل وامرأة وطفل لٌكونوا عبرة لشعب همجً نصؾ
متوحش(ٕٖ)".
وقال الجبرتً عن سرٌان روح المقاومة إن "جمٌع الناس بذلوا وسعهم ،وفعلوا ما فً مقدورهم
وطاقتهم ،وسمحت نفوسهم بإنفاق أموالهم ،فلم ٌشح أحد فً ذلك الوقت بشًء ٌمتلكه(ٖٖ)".
♣ (معركة إمبابة )
فً كتابه "مذكرات ضابط فً الحملة الفرنسٌة على مصر" قال الضابط مورٌٌه ،ومثله قال الجنرال
برتٌٌه فً كتابه عن حروب بونابرت" :استولى الفرنسٌون على قرٌة إمبابة بعد أن دافع عنها نحو ٓٓ٘ٔ
مملوك ومثلهم من الفبلحٌن دفاع األبطال ،ورفضوا التسلٌم فماتوا قتلى وؼرقى" ،وسجل تٌٌرس فً كتابه
تارٌخ الثورة الفرنسٌة أرقاما أخرى ،أن قوة من الفبلحٌن تبلػ ٕٗ ألفا دافعت عن إمبابة(ٖٗ).
وبعد معركة إمبابة هرب مراد بك للوجه القبلً والمملوك إبراهٌم بك لسورٌا ،وسابوا المصرٌٌن
للفرنسٌس ،ودخل الفرنسٌس بعد المعركة إلى القاهرة التً باتت خاوٌة تقرٌبا بعد أن هجرها الممالٌك
وزوجاتهم وجوارٌهم وأؼنٌاإها ،والبلفت أن أول من خرج مهلبل للفرنسٌس هم المستوطنون األوروبٌون
الشاكرٌن للفرنسٌٌن إنقاذهم إٌاهم ،وتلقى صٌدلً إٌطالً الجاوٌش فرانسوا قابد الفرنسٌٌن لٌطلعه على
أحوالها(ٖ٘) ،وفتح لهم األروام ]الٌونان[ المطاعم لٌقدموا لهم الطعام حسب عادات ببلدهم(.)ٖٙ
♣ (معركة الجمالٌة)
كشاهد عٌان قال جازالس من ضباط كتٌبة داماس إنه فً معركة الجمالٌة على الشاطا الؽربً من بحر
أشمون بالمنوفٌة" :فوجبت السفن التً تقل الجنود بعاصفة من األحجار والرصاص انهالت من أسوار البلدة
(ٕٖ)
-بونابرت فً مصر ،هٌرولد ،مرجع سابق ،ص ٘ٓٔ
(ٖٖ)
-االنضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة ،مرجع سابق ،ص ٖٔ
(ٖٗ)
-المرجع السابق ،ص ٕٖ ،ومذكرات ضابط فً الحملة الفرنسٌة على مصر ،جوزٌؾ ماري موارٌه ،ترجمة كامٌلٌا صبحً ،المجلس األعلى
للثقافة ،القاهرة ،ٕٓٓٓ ،ص ٗ9
(ٖ٘)
-بونابرت فً مصر ،مرجع سابق ،ص ٔٙ9 -ٔٙ8
()ٖٙ
-عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار ،مرجع سابق ،ص 89
ٖٓ7
وبٌو تها ،وفً الوقت نفسه رأٌنا جموعا كثٌرة من العرب والممالٌك والفبلحٌن مسلحٌن بالبنادق والسٌوؾ
والعصً تهرع من الجهات المجاورة إلى مهاجمتنا ،وكان بعضهم ممتطٌا الخٌل وأكثرهم مشاة ،فدهشنا
لهذه الهجمة العنٌفة".
وفً هذا قال زاجبلس" :ونزلت الجنود حاملة سبلحها إلى البر الشرقً المقابل للقرٌة ،وتؤهبوا للقتال
منتظرٌن قدوم األهالً ،فرأٌنا أكثرهم شجاعة ٌؽامرون بؤنفسهم ،وٌهجمون إلى أن ٌصبحوا فً وسط
جنودنا ،وقد رأٌت نفسً جماعة من الفبلحٌن لٌس بٌدهم سبلح سوى العصً ٌهاجموننا بحماسة(.")ٖ9
حاول الجنرال مٌنو فً ٕٔ سبتمبر أن ٌقوم بجولة فً شمال الدلتا ،وعند قرٌة شباس عمٌر خرج
األهالً ٌقاومون كتٌبته ،وأطلقوا علٌها الرصاص ،وقتل الفنان جولً ،وتراجعت الكتٌبة ،ثم عادت لتدور
معركة شدٌدة بٌن الجانبٌن ،وأدرك مٌنو خطورة الموقؾ وخاصة أن رصاصة أصابت جواده ،فؤمر جنده
بإضرام النار فً القرٌة ،وجاء أهالً القرٌة المجاورة ٌنجدون إخوانهم ،حتى بلؽت الجموع ٖ آالؾ من
الفبلحٌن ،وتحت الضؽط العنٌؾ عاد مٌنو بكتٌبته بعد أن فقد عددا من رجاله(.)ٖ8
اصطدم الفرنسٌس بؤهالً ؼمرٌن وتتا فً الؽربٌة ،واستمر القتال حتى تؽلبت القوة الفرنسٌة ،فعاود
األهالً القتال فً "تتا" وتؽلبت قوة الفرنسٌٌن ،ورؼم ذلك أشعلوا النار فً القرٌتٌن ،ووصؾ الكابتن
"فٌروس" القتال الذي دار فً القرٌتٌن "أن عددا من النساء كن ٌهاجمن جنودنا بكل بسالة وإقدام(.")ٖ9
♣(معركة المنصورة)
المنصورة على موعد جدٌد لهزٌمة الفرنسٌس بعد معركتها مع لوٌس التاسع ،وٌصفها "مورشون"
الناجً الوحٌد من الحامٌة الفرنسٌة فً المعركة فٌقول إن األهالً قتلوا ٖ جنود فتحصن البقٌة فً بٌت،
فهاجمهم الفبلحون وقتلوا منهم ،8وقُتل أحد الفبلحٌن ،وبقً على الحٌاة ٕ٘ جندٌا ،وفرغ رصاصهم ،فآثر
ٓٔ جرحى منهم على االنتحار ؼرقا من الوقوع فً األسر ،فبقً ٘ٔ ،وألقى حشد من الفبلحٌن الهابجٌن
بؤنفسهم علٌنا ،وجردونا من ثٌابنا ،وقتلونا بالشوم ،وبقٌت أنا لما ألقٌت نفسً فً النٌل(ٓٗ).
♣ (معركة سوهاج)
()ٖ9
-النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة ،مرجع سابق ،ص ٕٖٗٗ -
()ٖ8
-نفس المرجع ،ص ٖ8
()ٖ9
-المرجع السابق ،ص ٓٗ
(ٓٗ)
-بونابرت فً مصر ،هٌرولد ،مرجع سابق ،ص ٕ٘ٔ
ٖٔ7
وفً الوجه القبلً قابل الجنرال "دافو" فً ٌناٌر ٔ999آالؾ من الفبلحٌن وٓٓ 9من فرسان الممالٌك
وبدو من جزٌرة العرب اتفق معهم مراد بك ،وأطلق علٌهم نٌرانه فاستشهد من المقاومٌن ٓٓ ،8فٌما تحدث
الضابط موارٌه عن معركة بسوهاج وطهطا قتل الفرنسٌس خبللها أكثر من ٕٓٓٓ شخص(ٔٗ).
♣ (معركة فٌلة)
قصد الجنرال "بلٌار" جزٌرة فٌله فً أسوان فً ٙفبراٌر لمطاردة الممالٌك الذٌن فروا للحدود الجنوبٌة،
ولما حب ٌعبر النٌل إلٌها على مراكب األهالً رفض األهالً أن ٌسلموا مراكبهم للفرنسٌس فرجع ألسوان.
وبعد أٌام حاول مرة ثانٌة ،ورفض األهالً مرة ثانٌة ،فضرب علٌهم النار ،وقال "بلٌار" فً ٌومٌاته:
"حمل األهالً أسلحتهم وصاحوا صٌحات القتال ،ورأٌنا النساء ٌنشدن أناشٌد الحرب ،وٌحثون التراب فً
وجوهنا ،أما الرجال فؤطلقوا الرصاص على رجالنا الذٌن ركبوا البحر" ،و"كنت أحضرت معً مدفعا
إلخضاعهم ،فدعوتهم إلى الصلح والسبلم فكان جوابهم أنهم ال ٌقبلون منا كبلما ،وإنهم ال ٌفرون من أمامنا
كما ٌفر الممالٌك(ٕٗ)".
واقتحم بلٌار الجزٌرة ودهم النساء ،أما ردة فعل الناس فٌصفها دٌنون" :ألقى الجمٌع -الرجال والنساء
واألطفال -بؤنفسهم فً النهر ،وكنت ترى النساء الثابتات على فطرتهن الوحشٌة ٌؽرقن األطفال الذٌن ال
ٌستطعن حملهم معهن وٌشوهن بناتهم حماٌة لهن من اؼتصاب المنتصرٌن ،ووجدت فتاة فً السابعة أو
الثامنة خٌطت بطرٌقة منعتها من قضاء الضرورة العاجلة وسببت لها تشنجات رهٌبة(ٖٗ)".
ولكن استطاع بلٌار فً النهاٌة أن ٌحتل المدٌنة ،معتمدا على قوة نٌرانه ..ولما علم بلٌار بتوجه المملوك
مراد ألسٌوط ترك أسوان ،وفً الطرٌق سمح لجنود بممارسة هواٌتهم السوداء فً اؼتصاب النساء وحرق
المحاصٌل ،معتبرا أن هذا "لرفع معنوٌاتهم(ٗٗ)"!
♣ (معركة الروسٌة)
وفً ٔٔ فبراٌر اصطدم الجنرال "دافو بمجموعة مقاومٌن فً الروسٌة بإدفو فً معركة دارت رحاها ٖ
ساعات ،استخدم فٌها المقاومون السبلح األبٌض ،واشتبكوا مع الفرنسٌس ،وجها لوجه وخسر الفرنسٌس
ٖ9من قواتهم بٌنهم ضابط اسمه "فونتت"(٘ٗ) ،وهً من المعارك التً ٌقؾ أمامها التارٌخ مذهوال ،أنه
كٌؾ لفبلحٌن ٌحاربون بؤخؾ سبلح أن ٌتؽلبوا على الفرنسٌس الذٌن ٌحاربون بؤحدث وأبشع سبلح.
(ٔٗ)
-انظر :النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة ،ص ٖ٘ ،ومذكرات ضابط فً الحملة الفرنسٌة على مصر ،ص ٔٓ8 -ٔٓ9
(ٕٗ)
-النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة ،ص ٘٘
(ٖٗ)
-بونابرت فً مصر ،هٌرولد ،ص ٕٙ9
(ٗٗ)
-انظر :نفس المرجع
(٘ٗ)
-النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة ،مرجع سابق ،ص ٘ٙ
ٕٖ7
هً من أصعب المعارك على نفس نابلٌون ..والسبب محبوبته "إٌتالٌا" ،ففً ٖ مارس ،ٔ999وعلى
مقربة من قرٌة "بارو" بقنا هاجم األهالً السفن ،وأطلقوا علٌها الرصاص ،فؤجابتهم بإطبلق مدافعها،
واستطاع األهالً بعد أن ألقوا بؤنفسهم فً المٌاه وسبحوا فً النٌل أن ٌستولوا علٌها ،ثم امتطوها وقصدوا
بها إلى السفٌنة الحربٌة "إٌتالٌا"؛ ففكر قابد السفٌنة فً االنسحاب حٌنما وجد أن جنوده أثخنتهم الجراح ،وأن
جموعا من األهالً تحفزت على الجانب اآلخر للنٌل للهجوم علٌه ،وتدخل عامل الطبٌعة فعاكست الرٌح
السفٌنة فجنحت وأسرع إلٌها األهالً وصعدوا على ظهرها ،ولكن "موراندي" برؼم ما أحاط به من الخطر
أبى االستسبلم ،ولجؤ إلى خدٌعة إذ أشعل النٌران فً مستودع البارود ،وألقى بنفسه ورجاله فً النٌل،
وانفجر مستودع البارود ونسفت السفٌنة ،فقتل عددا كبٌرا من األهالً.
وبذلك ..فإن الحملة الفرنسٌة أول من أذاق المصرٌٌن االستشهاد وتمزٌق الجسد بالمتفجرات.
واندفع من بقً من األهالً إلى النٌل ٌنتقمون ،وتمكنوا من قتل الفرنسٌٌن جمٌعا ،بما فً فٌهم "موراندي"،
وكارثة فرنسا فً السفٌنة "إٌتالٌا" فً قرٌة بارو شدٌدة جدا؛ ألنها السفٌنة اللً تقود األسطول الفرنسً إلى
الوجه القبلً وتحمل الذخٌرة والمإن ،ولها ؼبلوة خاصة عند نابلٌون ،لدرجة أنه اعتبر فقد "إٌتالٌا" بداٌة
ألفول نجم فرنسا ،وقال لمن حوله :إن فرنسا قد فقدت "إٌتالٌا" ،إن شعوري ال ٌكذبنً" ،وكان ٌقصد الببلد
اإلٌطالٌة التً تحتلها ببلده لتشابه األسماء( ،)ٗٙوبالفعل خسرت فرنسا بعد ذلك األراضً اإلٌطالٌة.
منذ هزٌمتهم أمام العثمانلٌة تحول الممالٌك فً مواجهة العدو الخارجً إلى "سٌؾ مصدي" ،أما فً
مواجهة المصرٌٌن فٌصدق علٌهم المثل "أس ُد علٌَّا وفً الحروب نعامة" ،فؤظهر الممالٌك أمام الفرنسٌس
جب ًنا وخساسة ساهما فً زٌادة جراح األهالً ،فمراد بك هرب للصعٌد بعد موقعة إمبابة فً إمبابة،
واقتصر دوره هناك على جباٌة المال بقوة السبلح من األهالً من ناحٌة ،وتحمٌسهم للقتال ضد "الكفار"،
وتصدٌرهم كدروع بشرٌة فً مقدمة المعارك مع الفرنسٌس من ناحٌة ،فإذا الحت الهزٌمة فر ومن معه
كالبرق إلى قرى أخرى أوالصحاري ،وتركوا األهالً لجحٌم الفرنسٌس.
فمثبل لما وصل الفرنساوٌة إلى الفشن فً بنً سوٌؾ ،تراجع مراد قبل أن ٌدركه الجٌش ،وتعقبه
الفرنساوٌة ٖ أٌام وهو ٌنسحب من قرٌة إلى قرٌة دون أن ٌواجههم فً معركة فاصلة ،وقال عنهم دٌزٌٌه:
"إن الممالٌك على جانب عظٌم من الحذر والحرص ،فهم ال ٌستهدفون للقتل ،بل ٌعرضون ؼٌرهم
للخطر( ،")ٗ9وفً النهاٌة ذهب مراد للفرنسٌس واتفق على الصلح مع كلٌبر عام ٓٓ ٔ8مقابل أن ٌكون
رجلهم فً مصرٌ ،جبً لهم األموال وٌقمع ثورة الناس؛ فنصبوه حاكما على الوجه القبلً.
وكان حٌن هرب بعد معركة إمبابة إلى الصعٌد ٌجبى الضراٌب من الفبلحٌن بالقوة ،فثاروا علٌه
()ٗٙ
-المرجع السابق ،ص ٘ٙ
()ٗ9
-نفس المرجع -ٗ8 ،ص ٕ٘
ٖٖ7
واشتبكوا معه فً بلدة صنبو ،وقتلت ملٌشٌاته ٓ 8فبلحا وقتل الفبلحون 8ممالٌك منهم خازن مراد ،وقال
بلٌار فً ٌومٌاته إن القرٌة أرسلت للجنرال دٌزٌه لٌتصدى للممالٌك ،ولكن بدال من ذلك طلب دٌزٌه أٌضا
منهم الضراٌب ،ولم ٌستجب أحد لتوسبلتهم أن ٌعفوهم منها ألنهم دفعوها فعبل لمراد ،وبذلك دفعت القرى
الضراٌب مرتٌن فً سنة واحدة ،وبعضها بات ٌصارع الفرنسٌس والممالٌك معا.
وأضاؾ أن القابد دٌنون بدأ ٌرثى لحال األهالً "الذٌن أتٌنا إلى مصر لنحقق لهم الرفاهٌة" ،فإذا هم
ٌُ جبرون إذا تركوا قراهم وقت االجتٌاح فإنه عند عودتهم ال ٌجدون سوا حٌطان الطٌن "فؤدواتهم ومحارٌثهم
وأبوابهم وسقوؾ بٌوتهم نستعملها وقودا لطهً حساءنا ،وقمحهم ٌإكل ودجاجهم وحمامهم ٌشوى ،وفً
طرٌق عودتهم وهم ٌمسكون عصٌانهم تشتبه القوات فً نواٌاها فتطلق علٌهم النار لٌسقط بعضهم قتلى،
فٌدفنون موتاهم ونظل أصدقاء حتى ٌجدوا الفرصة للثؤر دون أن ٌتعرضوا للخطر".
واختتم" :صحٌح لو ظلوا فً قرٌتهم ودفعوا المٌري لما خسروا كل ذلك ،والؼتصبنا عددا أقل من
زوجاتهم وبناتهم ،ولكن هذا كان ٌعد جرٌمة تعاون معنا(.")ٗ8
♣ (معركة دمنهور)
وتبلورت ثورة جدٌدة فً رشٌد بسبب السلفة اإلجبارٌة اللً فرضها علٌها الفرنسٌس ،فضرب الفرنسٌس
قرى ومدن حولها مثل شباس عمٌر والسعدة وبرنبال وهدموها ،وٌصؾ "رٌبو" دخول الجنرال "النوس"
دمنهور بؤنه كان لٌنتقم منها أشد انتقام؛ ألنها من المدن التً ثارت بشدة ضد الفرنسٌس ،وهزموهم فً كذا
معركة "فؤحرقوا مساكنها بالنار ،وقتلوا كل من وجدوه من الشٌوخ والنساء واألطفال بحد السٌؾ ،وفً
الٌوم التالً كانت دمنهور ركاما من األحجار السوداء ،اختلطت بها أشبلء الجثث ودماء القتلى" ،وٌصؾ
الجنرال "النوس" بنفسه ما ارتكبه من فظابع فً دمنهور فً خطاب إلى دٌجا" :إن دمنهور زالت من
الوجود ،وقد أحرق أو ضرب بالنار ٕٓٓٔ ٔ٘ٓٓ -من أهلها(.")ٗ9
♣ الطفل األسطورة
من أعجب حوادث الوجه القبلً ما حصل فً قرٌة النعناعً فً بنً سوٌؾ ،وحكاه القابدان دٌنون
وبلٌار.
أنه فً هذه القرٌة عسكر الفرنسٌس فً انتظار قدوم المدفعٌة ،وتؽلؽل فً داخل المعسكر طفل ما بٌن
ٔٓ-8سنوت ،استولى على بندقٌة ،وخرج ٌجري بسرعة ،فلمحه جندي وتعقبه ،ولم ٌتوقؾ الصبً إال بعد
أن أصابه الجندي بالسٌؾ فً ذرعه ،وساقه جرٌحا إلى الجنرال دٌزٌٌه.
واستجوب الجنرال الصبً ،فؤذهلته حماسته ورباطة جؤشه؛ فكان ٌجٌب عن أسبلته بثبات وقدرة،
()ٗ8
-بونابرت فً مصر ،هٌرولد ،مرجع سابق ،ص ٖ٘ٙ
()ٗ9
-بونابرت فً مصر ،ص هٌرولد ص ٖٖٓ
ٖٗ7
وتعجب الفرنسٌس حٌن سؤلوه عمن حرضه؛ فؤجابهم ناظرا إلى السماء إن هللا أمره أن ٌفعل ذلك.
وقال لدٌزٌٌه افعل بً ما تشاء ،ثم خلع طاقٌته وأعطاها للجنرال ،وطلب منه أن ٌفصل فً مصٌره،
وظل طول الوقت هادبا هدوءا عجٌبا وأبدى قوة خلق نادرة ،أما الجنرال فراعى صؽر سنه وخضوعه
لحكمه ،ؼٌر أنه لم ٌتخ َّل عن قسوته تماما ،فحكم علٌه بالجلد ٖٓ جلدة ،وانحنى الصبً طواعٌة وتلقى
الجلدات على ظهره دون صوت أو دمعة ،حتى أن "بلٌار" وهو ٌقص حكاٌته قال" :إن هذا الؽبلم إذا عنً
بتربٌته كان ذا شخصٌة نادرة المثال(ٓ٘)".
وتواصلت المعارك حتى وصفها الجنرال "رٌبو" بقوله" :كانت الثورة كحٌة ذات ٓٓٔ رأس ،كلما
أخمدها السٌؾ والنار فً ناحٌة ظهرت من ناحٌة أخرى أقوى وأشد مما كانت ،فكؤنما كانت تعظم وٌتسع
مداها ،كلما ارتحلت من بلد إلى آخر" ،وقال فً موضع آخر" :فوجبت مصر بالحملة الفرنسٌة؛ فؤخذت
تنتفض وتتجاذب لتتخلص من قبضة الفاتح الحدٌدٌة ،وعلى الرؼم مما بذلناه من الجهود لٌقبلنا الشعب كما
ٌتقبل محررٌه ،فقد قامت سلطتنا على القوة ال على اإلقناع ،وكانت سٌاستنا قابمة على إكراه الشعب على
اإلذعان بالحزم مرة وبالقوة مرة أخرى(ٔ٘)".
وفً وصفه لمشاعر المصرٌٌن قال المسٌو بوسلٌج" :إن الشعب المصري ٌكرهنا وهٌهات أن ٌحبنا ،مع
أننا نعامله بؤحسن ما ٌمكن أن تعامل ببلد محتلة ،إنهم ٌمقتون حكم الممالٌك ،وٌرهبون نٌر األستانة ،وال
ٌحبون حكمها ،ولكنهم ال ٌطٌقون حكمنا وال ٌصبرون علٌه إال بؤمل التخلص منه(ٕ٘)".
خبلل اشتعال الثورة فً األرٌاؾ كانت تتحضر الثورة فً القاهرة أٌضا ،رؼم مهادنة بعض سكانها
وعلمابها للفرنسٌس ،فصارت مصر من أقصاها ألقصاها شعلة من النٌران.
ففً ٕٔ أكتوبر ٔ998عقد ٖٓ من المشاٌخ واألعٌان اجتماعا اتفقوا فٌه على إؼبلق الحوانٌت والسٌر
فً مظاهرة كبٌرة إلى القٌادة الفرنسٌة إلببلؼها رؼبات الناس وعرض وجهات النظر فٌما ٌتعلق بالضراٌب
وبؤعمال الهدم التً تقوم بها القوات الفرنساوٌة ،ورؼم معاناتهم فً قراهم ،جاء الفبلحون أٌضا ومعهم
عرب من الضواحً والببلد القرٌبة ،وٌصؾ "رٌبو" الحالة فٌقول" :سادت الجلبة ،واختلطت األصوات،
وعلت الصٌحات ،فكان هذا المنظر ٌبعث الرهبة فً نفوس أشجع الناس ،ولم ٌعد هناك شك فً أن الثورة
قد بدأت(ٖ٘)" ،وخرج الجنرال "دٌبوي" ٌستطلع األمر ،وفجؤة ..أطلق تاجر من األروام (ٌونانً) اسمه
برتملً ٌ َّنً -كان ٌتخفى فً مهنة صاحب محل قوارٌر قبل الؽزو -الرصاص على الناس ،فرد الناس
(ٓ٘)
-بونابرت فً مصر ،هٌرولد ،ص ٕ٘٘ ،والنضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة ،ص ٔ٘
(ٔ٘)
-النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة ،ص ٕٗ
(ٕ٘)
-انظر :النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة ،ص 9ٕ -89
(ٖ٘)
-المرجع السابق ،ص ٘ٙ
ٖ٘7
بهجوم بالعصٌان والحجارة والسٌوؾ والرماح والسهام ،وقتلوا الجنرال "دٌبوي" نفسه(ٗ٘).
وكان لقتل "دٌبوي" دفعة فً عروق الناس؛ فتحمسوا ،وسٌطروا على مواقع استراتٌجٌة كباب الفتوح
وباب النصر وباب الشعرٌة وباب زوٌلة ،وتجمع ٘ٔ ألؾ من الناس فً األزهر وحوله ،مسلحٌن بالبنادق
والعصٌان ،فً حٌن الفرنسٌس ٌرابطون متحفزٌن أمام مدافع نصبوها فوق أماكن عالٌة كالقلعة كما قال
الجنرال "دٌتروا" فً ٌومٌاته ،وأمر نابلٌون الجنرال "دومارتان" بنصب مدافعه فوق المقطم لتتعاون مع
المدافع المنصوبة فً القلعة فً ضرب الناس المتجمعٌن فً األزهر.
وفً ٕٕ أكتوبر ٔ998بدأ الصدام ،وقتل الثابرون الجنرال "سلكوسكً"ٌ ،اور نابلٌون ،المكلؾ بصد
الفبلحٌن من أن ٌؤتوا إلى القاهرة ،وهتؾ الناس "نصر هللا دٌن اإلسبلم" ،فً المقابل ،أصدر الشٌخ أحمد
العرٌشً والسادات ،وكانا ما زاال فً مهادنة مع الفرنسٌس ،منشورا لتهدبة الناس ،وصؾ ما ٌجري بؤنه
"فتنة وفوضى" صنعها "األشرار" ،ومدح فً نابلٌون ألنه منع جنوده من إحراق القاهرة بؤكملها ،واتهم
الممالٌك بؤنهم وراء إثارة "الفتنة" ،ألنهم ال ٌرٌدون أن ٌؤخذ الفرنساوٌة مصر منهم ،وٌرٌدون استعادة
حكمهم الؽابر ،فٌدفعوا الناس لـ"الهبلك" (٘٘).
فً الٌوم الثانً لثورة القاهرة تلقى "بون" أوامر القابد العام نابلٌون" :علٌكم أن تهاجموا لفوركم معسكر
الثابرٌن ،وأن تضربوا األزهر بالمدافع ،ولتكن المدافع فً أصلح موقع لٌكون الضرب أشد أثرا ،بلؽوا
الجنرال "دومارتان" أن ٌفعل مثل ذلك ،وعلٌكم أن تقتلوا األهالً ،وأن كل المنازل التً تلقى منها الحجارة
تحرق حاال بالنار ،وعلٌكم أن تقتلوا كل من فً المسجد".
وفً الساعة ٗ عصرا بدأت المدافع ترمً القنابل وسط الناس فً األزهر ،وأصوات القنابل جدٌدة على
آذان الناس؛ فصمت آذانهم وزلزلت قلوبهم ،وانهالت كتابب الفرنسٌس تحتل الشوارع الموصلة لؤلزهر،
فبقى الناس بٌن نار المدافع من المرتفعات ونار الكتابب التً تصطادهم فً الشوارع ،ووصؾ "رٌبو" اثار
ضرب األزهر" :أوشك الجامع األزهر أن ٌتداعى من شدة الضرب ،فٌدفن تحت أنقاضه الجماهٌر الحاشدة
فٌه ،وأصبح الحً المجاور لؤلزهر صورة من الخراب ،فلم ٌكن ٌرى فٌه إال بٌوتا مدمرة ودورا محترقة،
ومات تحت األنقاض آالؾ من السكان اآلمنٌن ،وكان ٌسمع لهم أنٌن مزعج وصٌحات مرعبة(.")٘ٙ
ولما استمر الضرب والهدد والقتل حسَّ الناس أن المدٌنة ستتدمر نهابٌا ،وتروح آالؾ األرواح األخرى
(ٗ٘)
-قتلت االحتجاجات فً أنحاء مصر عدة جنراالت فرنسٌس ،مثل دٌبوي (مسبول القاهرة) وسلكوسكً ٌاور بابلٌون (بونابرت فً مصر ص
،) ٕٓ8ولٌس فقط كلٌبر الذي أخذ قتله حظا من الشهرة أكثر من ؼٌره ،ربما ألنه خلٌفة نابلٌون فً قٌادة الفرنسٌس ،أو ألن القاتل اسمه صار
معروفا وهو سلٌمان الحلبً ،فً حٌن أن الذٌن قتلوا جنراالت وقٌادات فرنسٌة أخرى ؼفل التارٌخ أسماءهم.
(٘٘)
-انظر :المرجع السابق ،ص ،ٙ8 -ٙٙوعجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار ،ج ٗ ،ص ٕٕٔ ،ٕٔ9 -ؤٗ9 -ٔٗٙ
()٘ٙ
-انظر :النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة ،مرجع سابق ،ص ٙ9 -ٙ8
هذه المشاهد المفجعة وؼٌرها طوال التارٌخ وقعت للمصرٌٌن بال مؽٌث من منظمات دولٌة أو هالل وصلٌب أحمر ،وبال إعالم ٌنقل للعالم ما جرى
لهم بصدق ،وبال تعوٌضات وال تبرعات ،وبال أي بواكً علٌهم.
ٖ7ٙ
تحت البٌوت المحترقة ،ووافقوا على التفاوض ،فطالبهم الفرنسٌس بتسلٌم السبلح ،ولكن الفرنسٌس لم
ٌحفظوا عهد التفاوض ،فنفذوا سلسلة مذابح انتقاما من األهالً كً ال ٌفكروا مرة أخرى فً الثورة.
وعن هذا كتب الجنرال "دٌتروا" فً ٌومٌاته أنه راح ضحٌتها منٓٓ 8ٓٓ-9قتٌل ،وقال نابلٌون فً تقرٌر
لحكومة فرنسا إنهم من ٕٓٓٓ ،ٕ٘ٓٓ-وكذلك قالت "كورٌٌه دي لٌجٌبت" ،أما الجنرال "بلٌار" فؤحصاهم ٗ
آالؾ قتٌل ،وذلك فً ساعات معدودة( ،)٘9وكؤن زلزال ضرب مصر بؤقصى درجاته أو بركانا انفجر.
و شهد المسٌو "بورٌٌن" سكرتٌر نابلٌون الخاص فً مذكراته متباهٌا بنفسه" :سٌق المسجونون إلى
القلعة ،وكنت أتولى فً مساء كل ٌوم كتابة األوامر القاضٌة بإعدام ٕٔ سجٌنا كل لٌلة ،وكانت جثث القتلى
توضع فً زكابب وتؽرق فً النٌل ،واستمر ذلك لٌالً عدة" ،و"كتب الجنرال "برتٌٌه" إلى الجنرال
"دوجا" قومندان المنصورة ٌقول له" :لقد نكلنا بالثابرٌن فً مذبحة رهٌبة ،فسادت السكٌنة ،وقد قتلنا منهم
ألفٌن أو ثبلثة آالؾ" ،وكتب نابلٌون إلى "رٌنٌه"" :عادت السكٌنة إلى القاهرة ،وفقد الثابرون نحو ألفً
قتٌل ،وفً كل لٌلة نقطع رإوس نحو ٖٓ من الرجال وكثٌر من زعماء األهالً ،وأظن أن هذا سٌكون
درسا قاسٌا لهم(.")٘8
وقبض على الزعماء أعضاء لجنة الثورة ،وحُكم علٌهم باإلعدام ،ومنهم الشٌوخ إسماعٌل البراوي
وٌوسؾ المصٌلحً وعبد الوهاب الشبراوي وسلٌمان الجوسقً (شٌخ العمٌان) ،وبحسب مذكرات نابلٌون
كانوا ٓ 8شخصا ،وفً ٌوم ٖ نوفمبر ٔ998تلى علٌهم حكم اإلعدام بالرصاص دون محاكمات ،ومن نفذ
حكم اإلعدام كان "برتلمً ٌ َّنً" الرومً (الٌونانً) ،وبعد أن قتلوهم ألقوا بهم من فوق السور خلؾ القلعة،
وأصدر الجنرال "برتٌٌه" أوامر بقطع رإوس كل المساجٌن الذٌن ضبطوا بسبلح ،ورمً جثثهم فً النٌل،
حتى ال ٌتم تسلٌمها ألهالٌهم ،فٌكون عقابا لهم وألهالٌهم ،وحٌن تزاٌدت حاالت اإلعدام فً القلعة
بالرصاص قال نابلٌون ببرود الحبللٌؾ :إنً أرٌد أن أعٌن جبلدا (لقطع الرإوس) لٌحل محل فرقة إطبلق
النار ،وفً هذا توفٌر للذخٌرة وتخفٌؾ للضجة(.")٘9
فكانت المذابح الفرنسٌة فً قرى ومدن مصر من أكبر مذابح العصر الحدٌث ،وبعد هذا بـ ٙأٌام أمر
نابلٌون باجتماع للمجمع العلمً للبحث فً األمور العلمٌة ،فما أؼربها من طبٌعة فرنسٌةٌ ،قطع رإوس
األبرٌاء والعلماء بٌد ،وٌمجد العلم بٌد أخرى.
وفوق هذا كاٌدوا الناس أكثر بانتهاك حرمة األزهر فاجتاحوه كؤنهم "جنود إبلٌس" ،بحسب وصؾ
الجبرتً ،ووطؤوه بالخٌول ،وتؽوطوا فٌه ،وشربوا الخمر ،وكسروا القنادٌل والسهارات فً الشوارع،
وهشموا خزابن الطلبة فً األزهر والمجاورٌن والمكتبة ،حتى أنهم نهبوا ما لقوه من متاع وأوانً فً
الدوالٌب ،وكان الناس خزنوا فً األزهر الحاجات التً ٌخافون علٌها ،ظانٌن أن الفرنسٌس لن ٌتجرأوا
()٘9
-انظر :هوامش المحقق فً كتاب "عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار" ،مرجع سابق ،ص ٖٕٕٔٔ٘ -
()٘8
-انظر :النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة ،ص ،7ٔ -ٙ9و"عجاٌب اآلثار" ،ج ٗ ،ص ،ٖٔٔ -ٕٔ7وقطع الرإوس بهذا الشكل الداعشً
أمر اعتاد علٌه الفرنسٌس فً قطع رءوس خصومهم خالل الثورة الفرنسٌة رؼم شعاراتها "اإلنسانٌة".
()٘9
-بونابرت فً مصر ،ص ٖٖٔ
ٖ77
وٌدخلوه ،ورمى الفرنسٌس الكتب والمصاحؾ على األرض ،وداسوها بنعالهم ،وقتلوا من علماء األزهر
ٖٔ عالما.
وألن حملة نابلٌون درست جٌدا كتب المستشرقٌن والرحالة عن الحال فً مصر قبل ؼزوها ،فٌبدو أنها
كانت تعلم ما للطرق الصوفٌة من تؤثٌر على المصرٌٌن؛ فاتبع أسلوبها كوسٌلة أخرى -بجانب العنؾ -لكسر
حدة مقاومتهم؛ ولذا لبس قناع الدراوٌش إلرهاب الناس عن مقاومته بؤن ا َّدعى أنه ٌعلم ما تخفً النفوس،
وأن احتبلل الفرنسٌس لمصر "أمر إلهً" ،وٌكاد ٌقول إنه تلقً الوحً كاألنبٌاء ،بل إنه إله ،فؤصدر بٌانا
فً ٕٔ دٌسمبر ٔ998هدد فٌه الناس بؤن "الذي ٌعادٌنً وٌخاصمنً ال ٌجد ملجؤ مخلصا ٌنجٌه منً فً
هذا العالم ..واعلموا أنً أقدر على إظهار ما فً نفس كل واحد منكم ،ألنً أعرؾ أحوال الشخص ،وما
انطوى علٌه ،بمجرد ما أراه ،وإن كنت ال أتكلم ،وال أنطق بالذي عنده".
وأرجع احتبلل مصر ألسباب وردت فً القرآن ورؼبة سماوٌة فقال" :قدر فً األزل أنً أجً من
الؽرب إلى أرض مصر ،وإجراء األمر الذي أمرت به ،وال ٌشك العاقل أن هذا كله بتقدٌر هللا وإرادته
وقضابه ،واعلموا أٌضا أن القرآن العظٌم صرح فً آٌات كثٌرة بوقوع الذي حصل ،وكبلم هللا فً كتابه
صدق وحق ال ٌتخلؾ"(ٓ.)ٙ
أما الٌونانً برتلمً ٌ ِّنً ،الذي كان ٌتخفى فً شكل تاجر القوارٌر ،فعٌَّنه الفرنسٌس فور دخولهم القاهرة
ناببا لمحافظها ،ما ٌإشر إلى أنه كان جاسوسا لهم لٌمدهم بالمعلومات البلزمة للؽزو ،ونراه ٌطلق أعوانه
للقبض على الناس فً الشوارع ،وٌزج بهم فً السجون وٌطٌح فٌهم دواعشه ضربا وإهانة.
وأشار الجبرتً إلى دور للشوام واألروام فقال" :وتحزبت نصارى الشوام ،وجماعة أٌضا من األروام
الذٌن انتهبت دورهم بالحارة الجوانٌة لٌشكو لكبٌر الفرنسٌس ما لحقهم من الرزٌة ،واؼتنموا الفرصة فً
المسلمٌن ،وأظهروا ما هو بقلوبهم كمٌن ،وضربوا فٌهم المضارب ،وكؤنهم شاركوا اإلفرنج فً النواٌب،
وما قصدهم المسلمون ونهبوا ما لدٌهم إال لكونهم منسوبٌن إلٌهم ،مع أن المسلمٌن الذٌن جاوروهم نهبهم
الزعر أٌضا وسلبوهم".
و أمر الفرنسٌس بتؤلٌؾ كتٌبة من األروام المقٌمٌن فً القاهرة ورشٌد ودمٌاط ،،وانضم لهم جزابرٌون
ومؽاربة ،وترأس الكتٌبة برتلمً ٌ ِّنً ،ومهمتها حراسة السفن فً النٌل بسبب كثرة مهاجمة األهالً للسفن
التً ٌستخدمها الفرنسٌس ،وقال الجبرتً عن فرقة المؽاربة ،إن شخصا ٌدعى عمر القلقجً جمع مؽاربة
الفحامٌن وعرضهم على صاري عسكر (نابلٌون) ،فدربهم على القتال بالطرٌقة الفرنساوٌة ،وأرسلهم إلى
الوجه البحري الذي لقً فٌه الجنود الفرنساوٌة القتل على ٌد األهالً ،فؤراد تصدٌر المؽاربة ،فذهبوا،
(ٓ)ٙ
-النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة ،محمد فرج ،ص 99 -9ٙ
ٖ78
ونهبوا منازل األهالً وبهاٌمهم ،وقتلوا ابن شعٌر ،أحد كبٌر الجهات هناك ،وقتلوا إخوته وأوالده(ٔ.)ٙ
كذلك انضم الكثٌر من الٌونانٌٌن الذٌن ٌعملون على سفن الممالٌك خبلل معركة بالمنٌا فً دٌسمبر
ٔ998إلى الفرنسٌس(ٕ ،)ٙومثلهم فعل التركً مصطفى أؼا الذي جعله نابلٌون محافظا للقاهرة ،وأشرؾ
على ذبح الكثٌر من المصرٌٌن وإلقاء جثثهم فً بحر النٌل ،حتى وصفه الجبرتً بؤنه "اللعٌن األؼا" ،وقال:
"مات فً هذٌن الٌومٌن وما بعدهما أمم كثٌرة ال ٌحصى عددها إال هللا".
وفً نفس الوقت انضم مؽاربة وأتراك للمقاومة ضد الفرنسٌس تحزبا للسلطنة العثمانلٌة أو ألسباب
دٌنٌة.
احتبلل الببلد ال ٌكون عسكرٌا فقط ،وال اقتصادٌا فقط ،بتملك األجانب األرض والمال ،وال جسدٌا فقط،
بتوطن األجانب فً الببلد وتنصٌبهم طبقة علٌا فوق رأس أهلها ،لكن األشنع هو االحتبلل الفكري ،احتبلل
العقل الوطنً وتحوٌره وخداعه واستعباده لٌعمل لصالح المحتل ظ ًنا منه أنه بهذا ٌخدم بلده.
وفٌما ٌخص االحتبلل الفرنسً ظهرت أمثلة لتبرٌر التعاون مع المحتل مثل بعض علماء األزهر
الرافضٌن لظلم الممالٌك والعثمانلٌة ورأوا أن الفرنسٌس أخؾ منهم وطؤة ،كذلك من مسٌحٌٌن ممثلٌن فً
كون فرقة مسلحة من "فرقة الجنرال ٌعقوب" ،وهو مصري اسمه ٌعقوب حنا ،من التجار األؼنٌاءَّ ،
المصرٌٌن المسٌحٌٌن لدعم الفرنسٌس الذٌن خلعوا علٌه لقب جنرال.
ٌقول عنه الجبرتً فً حوادث سنة ٕٕٔٔ ه (ٓٓ ٔ8م) إن الفرنسٌس "طلبوا عسكرا من القبط فجمعوا
منهم طاٌفة وزٌوهم بزٌهم ،وقٌدوا بهم من ٌعلمهم كٌفٌة حربهم وٌدربهم على ذلك ،وأرسلوا إلى الصعٌد
فجمعوا من شبانهم نحو األلفٌن وأحضروهم إلى مصر ،وأضافوهم إلى العسكر".
وأن "ٌعقوب القبطً لما تظاهر مع الفرنساوٌة وجعلوه ساري عسكر القبطة جمع شبان القبط وحلق
لحاهم ،وزٌاهم بزي مشابه لعسكر الفرنساوٌة ممٌزٌن عنهم بقبع ٌلبسونه على روسهم مشابه لشكل
البرنٌطة" ،وحٌن سلَّط نصوح باشا العثمانلً بعض المسلمٌن على قتل النصارى من قبط وشوام وأروام
خبلل الثورة استؽل ٌعقوب فرقته فً حماٌة القبط الموجودٌن بالقاهرة ووضعهم فً قلعة باألزبكٌة.
ووفق الجبرتً أٌضا ،فإنه عند جبلء الفرنسٌس خرج معهم ٌعقوب وجماعة من المسٌحٌٌن قبط وشوام
مثل ٌوسؾ الحموي ووإفرنج وأروام -منهم السفاح برتملً ٌ ِّنً -ومسلمٌن أٌضا مثل عبد العال األؼا الذٌن
(ٔ)ٙ
-عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار ،ج ٗ ،ص ٕٖٔ ،ٖٖٔ -وبونابرت فً مصر ،ص ،ٔ٘9والنضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة ،ص ٗ-9
٘9
(ٕ)ٙ
-عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار ،مرجع سابق ،جٕ ،المبلحق التً أوردها المحقق عبد العزٌز جمال الدٌن ،ص ٓٓٗ
ٖ79
أٌدوا الفرنسٌس ،فٌما رفض كثٌر ممن كانوا فً الفرقة مؽادرة مصر(ٖ.)ٙ
ولم ٌترك ٌعقوب ،الذي مات فً السفٌنة اإلنجلٌزٌة قبل وصوله لفرنسا -أوراقا ٌشرح فٌها بنفسه
مبرراته لتشكٌل فرقة مسلحة لمعاونة الؽازي.
ولكن نقل عنه صدٌق له اسمه السكارٌاسٌ ،قال إنه من فرسان مالطة الذٌن انضموا لنابلٌون بعد ؼزوه
مالطة وأتى معه لمصر ،كان ذو طموح كبٌر وٌسمً نفسه "رجل المشروعات" ،وٌتضح من حٌاته أن من
مشروعاته هذه تخلٌص ببلد مثل مصر وجبل لبنان من االحتبلل العثمانلً والمملوكً لتستقل ولكن تحت
رعاٌة أو حماٌة أوروبٌة.
وكشفت وثابق عثر علٌها د .شفٌق محمد ؼربال فً بداٌة القرن ٕٓ فً أرشٌؾ وزارتً الخارجٌة
اإلنجلٌزٌة والفرنسٌة النور قلٌبل ،منها رسالة من القبطان جوزٌؾ إدموندس ربان السفٌنة "باالس" التً
كان علٌها ٌعقوب والسكارٌاس إلى لورد البحرٌة اإلنجلٌزٌة ٌنقل له فٌها خبلصة حدٌثه مع ٌعقوب قبل
موته عن رؼبته فً الحصول على دعم برٌطانً الستقبلل مصر ،وذلك بعد أن فقد ٌعقوب الثقة فً فرنسا،
و"أنه انضم للفرنسٌٌن تلبٌة لباعث وطنً علَّه ٌخفؾ عن مواطنٌه ما قاسوه ،وأن الفرنسٌٌن خدعوهم ،وأن
المصرٌٌن فً الوقت الحاضر ٌحتقرونهم كما كانوا ٌحتقرون الترك" ،ولكنه "لم ٌفقد بعد أمله فً خدمة
ببلده ،وأن ارتحاله لفرنسا قد ٌمكنه من هذا".
أما مكاتبات السكارٌاس -الذي صاحب ٌعقوب على متن نفس السفٌنة -إلى القبطان فتحمل تبرٌرا بؤن
وجود ٌعقوب والوفد المصري فً فرنسا سٌمكنهم من التواصل مع الحكومات األوروبٌة لتحقٌق فكرة
استقبلل مصر ،وٌتمنى من برٌطانٌا أن ٌكون هذا االستقبلل محور مفاوضاتها مع فرنسا حول مستقبل
مصر بعد إتمام الجبلء الفرنسً ،وفً المقابل تكون مصر المستقلة صدٌقة لبرٌطانٌا(ٗ.)ٙ
فٌما نقل ٌعقوب روفٌلة فً كتابه "تارٌخ األمة القبطٌة" الذي وضعه نهاٌة القرن ٔ9عن معمرٌن
قرٌبٌن من عصر ٌعقوب أن الكنٌسة لم تكن راضٌة عن تصرفاته ،وأنه خالؾ أبناء ملته "فً الزي
والحركات" بل و"اتخذ له إمرأة من ؼٌر جنسه بطرٌقة ؼٌر شرعٌة" ،فً إشارة لزواجه من مسٌحٌة
شامٌة ،واألؼلب أنها كاثولٌكٌة "وسمعت من بعض شٌوخ األقباط المسنٌن أن البطرٌرك نصحه المرات
العدٌدة بالعدول عن هذه الخطة ،وأن ٌعٌش كسابر إخوانه فلم ٌقبل ،وعاوده بالنصٌحة مرة أخرى فجاوبه
جوابا عنٌفا فسخط علٌه ،وسمعت من آخر أٌضا والعهدة علٌه أن ما كان بٌنه وبٌن البطرٌرك من المنازعة
والمشاحنة دفعه إلى التجارئ على الدخول فً الكنٌسة مرة راكبا جواده ورافعا سبلحه(٘ ،)ٙوربما فً هذا
إشارة إلى تحوله للمذهب الكاثولٌكً الذي تتبناه فرنسا وسعت لنشره فً مصر منذ القرن .ٔٙ
واختلفت اآلراء حول نواٌا ٌعقوب وتقٌٌمها ،ما بٌن من رآه صاحب أول مشروع مصري استقبللً مثل
(ٖ)ٙ
-عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار ،مرجع سابق ،ج٘ ،ص ٘ و ٕ٘ وٗٔ9٘ -ٔ9
(ٗ)ٙ
-الجنرال ٌعقوب والفارس السكارٌاس ومشروع استقبلل مصر فً ٔٓ ،ٔ8د .شفٌق ؼربال ،دار الشروق ،طٔ ،ص ٙٓ -٘9
(٘)ٙ
-تارٌخ األمة القبطٌةٌ ،عقوب نخلة روفٌلة ،طٕ ،مإسسة مار مرقص لدراسات التارٌخ القبطً ،القاهرة ،ٕٓٓٓ ،ص ٕ9ٓ -ٕ89
ٖٓ8
شفٌق ؼربال ،ومن رآه متعاونا مع االحتبلل ،مثلما اختلفوا حول بعض شٌوخ األزهر الذٌن رفضوا ثورة
المصرٌٌن على الفرنسٌس ما بٌن أنهم سعوا لحماٌة المصرٌٌن العزل من التهلكة فً ثورات ٌقودها
الممالٌك لصالحهم ،وما بٌن من رأوهم ٌعملون لصالح االحتبلل.
وما بٌن هذا الرأي وذاك ٌبقى الٌقٌن أن شرخا اتسع فً جسد مصر حول الموقؾ من الؽزاة منذ
االحتبلل الرومانً ،وتسبب كثرة تعرض البلد الحتبلل ورا احتبلل ببل هوادة ،وظهور أنواع من االحتبلل
والتنظٌمات تبرره للمصري المسلم والمسٌحً باسم الدٌن ،وأخٌرا باسم الحرٌة ،هذا الشرخ زاد اتساعا
وأشبع العقل المصري ..توهانا.
شبت فً مارس ٓٓ ٔ8فً بوالق ،ظهرت لها زعامات من الصؾ األول من المشاٌخ ،وشجعها هذه
المرة العثمانلٌة باتفاق مع إنجلترا ،وق َّدر كلٌبر الموقؾ ،خاصة بعد سٌطرة الثابرٌن على مبلحة النٌل،
فحاصر القاهرة لتجوٌعها ،فانشرت المجاعات وؼلت األسعار ،وأمر المدفعٌة أن تصلً المدٌنة نارا حامٌة
بالقذابؾ الملتهبة ،فقصفوا المنازل التً رصدوا بها المقاومٌن ،بمن فٌها من نساء وأطفال ،فانتشر الصراخ
والهلع ،على حد وصؾ الجبرتً.
فً المقابل قضى الناس على كتٌبة من فرقة الجنرال "رٌنٌه" وقتلوا ضباطها ،ودخلت الكتٌبة الثانٌة،
فخلعت المتارٌس التً ٌتحصن الناس ورابها ،ففروا للتحصن فً أماكن جدٌدة ،فطاردتهم كتابب الفرنسٌس،
وولعت النار فً البٌوت ،واستمر الكر والفر من ٘ ٔٓ -أبرٌل.
والعجٌب أنه وسط هذه المآسً أطلق الكاتخدا العثمانلً عسكره ٌنهبون ما بقً من منازل ومحبلت
عامرة ،وٌبتزون الناس لبٌع ما لدٌهم وإعطابهم المال ،وذلك بالرؼم مما هم فٌه من الببلء وشقاء الحال،
واستؽل العربان الرحل الفوضى فً فرض فرد وإتاوات جدٌدة ونهب الؽٌطان حتى وصفهم الجبرتً بؤنهم
"المبلعٌن األعراب ،الذٌن هم أقبح األجناس ،وأعظم ببل محٌط بالناس".
وبدأ كلٌبر ٌؤخذ خطوات عنٌفة للقضاء على الثورة ،خصوصا أن العثمانلٌة أٌضا رفضوا الصلح (بدافع
تحالفهم مع إنجلترا) ،وفً ٗٔ أبرٌل هاجمت قواته حً بوالق بالمدفعٌة ،وحرقوا البٌوت ،وتنقلت النار بٌن
البٌوت والمحبلت ،وتدمر الحً كله ،ومات الكثٌر من العاببلت تحت األنقاض ،أو أكلتهم النار ،و"صارت
القتلى مطروحة فً الطرقات واألزقة" ،بتعبٌر الجبرتً ،ونفس الرواٌة قالها المسٌو جاالن الذي عاش
األحداث فً بوالق ،فقال" :أنذرت بوالق بالتسلٌم فرفض أهلها كل إنذار ،وأجابوا بإباء وكبرٌاء أنهم
ٌتبعون مصٌر القاهرة ،وأنهم إذا هوجموا فهم مدافعون عن أنفسهم حتى الموت ،وأخذ الجنرال "فرٌان"
ٌحاصر المدٌنة ،وٌصب علٌها من المدافع ضربا شدٌدا ،أمبل منه فً إجبار األهالً على التسلٌم ،فهرب
بعضهم وصمد آخرون وأجابوا بضرب النار ،وأسلم الفرنساوٌة المدٌنة للنهب ،وصار أهلها عرضة لبطش
الجنود وتنكٌلهم ،فجرت الدماء أنهارا فً الشوارع ،واشتملت النار أحٌاء بوالق من أقصاها إلى أقصاها..
ٖٔ8
فلٌس فً اإلمكان أن نخطو خطوة إال على كثبان من الخرابب واألتربة ،وكانت رابحة العفونة تنبعث من
الرمم المدفونة تحت الهدم".
ولما اضطر أهل بوالق بعد تمام الخراب لبلستسبلم لم ٌرحمهم الفرنسٌس ،ففرضوا علٌهم ؼرامات
شدٌدة ٕٓٓ ،ألؾ لاير ،مع ٖٓٓ ألؾ لاير سكر وبن وزٌت ،واألبشع أنهم لما قبضوا على مصطفى
البشتٌلً ،أحمد زعماء الثوار ،طلبوا من أتباعه أن ٌقتلوه بؤنفسهم ،فضربوه بالعصى حتى مات ،مما ٌدل
على أن ؼلظة كبد الفرنساوٌة لم تفرق شٌبا عن ؼلظة كبد الممالٌك ،وقال الجبرتً عن الخراب" :وصارت
كلها تبلال وخرابب كؤنها لم تكن مؽنى صبابات وال مواطن أنس ونزاهات ( )...صارت كلها خرابب
متهدمة محترقة تسكب عند مشاهدتها العبرات"(.)ٙٙ
وأرسل السادات كتابا إلى عثمان كتخدا محمبل العثمانلٌة جزءا من مسبولٌة الخراب والدم ،بدأه
بـ":حسبنا هللا ونعم الوكٌل" ،وقال إنه سلط عسكره كً ٌنبهوا أموال الناس" :عسكركم الذي أوقع بالمإمنٌن
الذل والمضرات ،بلػ فً النهب والفساد ؼاٌة الؽاٌات وأخفتم البلد بعد أمنها وأشعلتهم نار الفتنة بعد طفٌها،
ثم فررتم فرار الفٌران من السنور ،وتركتم الضعفا متوقعٌن أشنع األمور"(.)ٙ9
وفً ٗٔ ٌونٌو ٓٓ ٔ8قتل شاب من حلب اسمه سلٌمان الحلبً كلٌبر بطعنات فً قلبه ،وحكم علٌه
بحرق ٌده الٌمٌن وإعدامه على الخازوق وترك جثته ٌؤكلها الطٌر ،قال خبلل محاكمته بحسب ما أورد
الجبرتً وهٌرولد عن دوافعه للقتل إن من أؼراه بهذا الضابط التركً أحمد أؼا بعد أن وعده بتخفٌؾ
الضراٌب الباهظة التً فرضها والً حلب على أبٌه تاجر السمن ،ولم ٌوافق الشاب إال بعد مقابلتٌن
أخرٌٌن ،وأمده بالمال ،ونفذ مهمته(.)ٙ8
وبتولى مٌنو انتهى األمر بتجرعه الهزٌمة فً اإلسكندرٌة بعد معركة جدٌدة مع األسطول اإلنجلٌزي،
ورحل الفرنسٌس فً ٔ8أكتوبر ٔٓ ٔ8بعد أن اكتوى بنارهم البشر والحٌوان والنبات والحجر(.)ٙ9
وبسماع الخبر السعٌد ..خرج الناس للشوارع ٌطٌرون من الفرحة ،كالطٌور الحرة الجرٌحة ،تحمل على
رٌشها بقاٌا دمابهاٌ ،دق قلبها بالثقة فً نفسها واألمل فً الؽد ،كما ٌدق بالقلق والترقب ..فمصر ال زالت
تحت االحتبلل وأسٌرة فً سجون مرتزقة األرض.
حاولنا معرفة إجابة لماذا لم نثر ثورة كبٌرة على مستوى البلد كلها خبلل االحتبلل المملوكً والعثمانً
()ٙٙ
-انظر :النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة ،ص ،ٔٓٔ -99وعجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار ،ص ٕٖٖٖ٘٘ -
()ٙ9
-انظر :النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة ،محمد فرج ،ص ٕٓٔ ،وعجاٌب اآلثار ،ج ٗ ،ص ٖٖٖ٘9ٖ -
()ٙ8
-انظر :عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار ،الجبرتً ،ص ٘ ،٘9 -وبونابرت فً مصر ،هٌرولد ،ص ٖ8ٓ -ٖ9ٙ
()ٙ9
-انظر النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة ،ص ٔٓ9 -ٔٓ9
ٕٖ8
فً نهاٌة فصل االحتبلل العثمانلً ،وٌبدو أن عوامل استجدت مع الفرنسٌس ساعدت فً انتشار الثورات
أٌامهم ،ومنها أن:
ٔ -الفرنسٌس من دٌن مختلؾ ،واستفاد العثمانٌون والممالٌك من ذلك فً نشر فتاوى بوجوب محاربة
"الكفار القادمٌن لهدم الدٌن" ،وساهم الفرنسٌس فً ذلك بقصؾ األزهر وقتل علمابه ،فكان العامل الدٌنً له
سحره ،بالرؼم من أن العثمانٌٌن أنفسهم متحالفٌن مع اإلنجلٌز "الكفار" بتعبٌر ذلك الزمان.
ٕ -توفرت القٌادة للثورة ،سواء من علماء األزهر ومشاٌخ القرى أو من بعض الممالٌك بل وفً مرحلة
الحقة أٌدها السلطان العثمانً ،وإن كان لكل أسبابه ،والبلفت أنه أحٌانا كانت الثورة أٌضا ضد الممالٌك كما
رأٌنا فً بعض القرى التً انتفضت ضد الممالٌك حٌن تركوا قتال الفرنسٌس وتفرؼوا للم اإلتاوات.
وأٌا ما كان السبب الصحٌح ...فتجربة الثورة المصرٌة ضد الفرنسٌس أحٌت روح الجندٌة فً صدور
المصرٌٌن ،ووفرت تجربة ظهرت ثمارها الحلوة فً إثبات المصرٌٌن لقدرتهم الحربٌة حٌن استعان بهم
محمد علً فً إعادة بناء الجٌش بعد هذه األحداث المُرَّ ة بـ ٕ٘ سنة ،أما الثورة المصرٌة "على حق"
فستعود وتفاجا العالم فً ٔ ٔ88أٌام عرابً وما بعده ،وقتها سٌظهر المصرٌون وكؤنهم فً حربهم مع
الهكسوس تحت قٌادة أحمس وتحوتمس ورمسٌس ،بوعً وطنً صافً -ولٌس فقط معتمدا على االختبلؾ
مع العدو فً الدٌن -ؼلى فً عروقهم وكؤنه لم ٌفصل بٌنهم وبٌن الزمن العظٌم ٖ آالؾ سنة.
(ٓ)9
-انظر :تقدٌم الدكتور علً رضوان لكتاب "الماعت ..فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة" ،مرجع سابق ،ص ٕٔٔ٘-
ٖٖ8
أٌام ورا أٌام ورا أٌام
(ٔ)
-أؼنٌة مقدمة مسلسل "األٌام" ،كلمات سٌد حجاب ،ألحان عمار الشرٌعً ،ؼناء علً الحجار
المشهد :ٔ7االحتالل العلوي
(قبضة روتشٌلد)
تشكلت السلطنة العثمانلٌة من شعوب مختلفة ،بؤدٌان متباٌنة ونحل متصارعة وجٌش مرتزقة؛ فدخل
إلٌها الضعؾ واالختبلل الذي بلػ أقصاه فً عصر محمد علً.
وقبل ظهور محمد علً تفككت عرى جمٌع أجزاء السلطنة بالثورات علٌها أو بٌن الفرق التً تتقاسم
الحكم كالممالٌك ،فمصر واألناضول والشام كانت فً فتن وقبلقل ،وببلد العرب مع العثمانلٌة فً حرب
عوان ،والجٌش العثمانلً مإلؾ من رعاع الناس وسفلتهم ]معظمهم مرتزقة[ ،والسلطان أشبه بسجٌن أو
ألعوبة فً ٌد وزرابه وعساكره االنكشارٌة ،والوزراء ٌتهددهم الخطر فً كل الحظة ،كل منهم ٌتحٌن
الفرص الؼتٌال خصومه والسعً فً عزل السلطان وتولٌة ؼٌره لٌكون هو الصدر األعظم الجدٌد(ٕ).
وبعد جبلء الفرنسٌس عن مصر اشرأبت أعناق الممالٌك مرة أخرى للقبض على زمام األمور ،فً حٌن
العثمانلً ٌطمح لطرد الممالٌك من مصر ،لكن المقادٌر جاءت بعكس ما أمل الفرٌقان ،إذ أراد هللا أن ٌكون
الحكم لشخص كان وقتها للجمٌع مجهوال هو محمد علً الذي جاء على رأس فرقة مرتزقة أرناإوط (ألبان)
تابعة للجٌش العثمانلً لمحاربة الفرنسٌس.
واشتعلت حرب الممالٌك مع بعضهم وحرب الممالٌك مع اإلنكشارٌة(ٖ) واألتراك مع محمد علً ،وكل
هإالء أشعلوا سوٌا حربا على الفبلحٌن باستخدم أقسى الوسابل فً انتزاع أكبر كم من عرق أجسادهم
لتموٌل معاركهم وطموحاتهم بثمنه.
وبعد أن ساهم محمد علً فً التخلص من والة العثمانلً وبعض كبار الممالٌك انقلب على حلٌفه
البردٌسً مستؽبل عجزه عن سداد مرتبات ممالٌكه وفرضه ضراٌب على الناس الذٌن لم ٌرتاحوا من
(ٕ)
-انظر :مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر ،عمر اإلسكندري وسلٌم حسن ،مرجع سابق ،ص ٔٔٔ
(ٖ)
-اإلنكشارٌة فرقة عسكرٌة كونها العثمانلٌة من صبٌان المسٌحٌٌن الذٌن قُتل أباإهم فً الحروب ،وٌعلمونهم اإلسالم والحرب وٌرقونهم ألعلى
المناصب ،حتى انتهزوا الفرصة وطؽوا فً الدولة قبل أن ٌبٌدهم السلطان محمود الثانً ( ٔ8ٕٙتارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت
الحاضر ،عمر اإلسكندري وسلٌم حسن ،ص ٗٔ)
ٖ٘8
ضراٌب الفرنسٌس ،وقتل أحٌانا من رفض أو عجز عن السداد ،حتى تظاهر ضده الناس فً الشوارع
هاتفٌن" :إٌش تاخد من تفلٌسً ٌا بردٌسً".
فلما تؤكد محمد علً أن البردٌسً وؼٌره من الممالٌك صاروا فً نظر السلطان العثمانلً عصاة
واألهالً ٌتمنون الخبلص منهم انتهز الفرصة وانسلخ من البردٌسً ،وتظاهر باستٌاءه لجمع هذه الضراٌب
الفادحة ،ووعد األهالً بمناصرتهم ،فمال إلٌه الناس ،ولما وثق من أنهم ٌإٌدونه ،حاصر سنة ٗٓ ٔ8قصر
البردٌسً المحصن بالمدافع ،ورشا محمد علً الممالٌك من رجال مدفعٌة البردٌسً فحولوا مدافعهم على
سٌدهم -كعادة الممالٌك "أبجنً تجدنً" -إال أن البردٌسً وإبراهٌم بك الكبٌر فرا إلى سورٌا ،فصفا الجو
عندبذ لمحمد علً.
أظهر المصرٌون الؽضب والكراهٌة للعثمانلٌة فٌما سبق ،لكنه كان ؼضبا مبعثرا ؼٌر منظم وؼٌر
مإثر؛ ألسباب منها ؼٌاب القٌادة وؼٌاب البدٌل ،وحٌن ظهرت القٌادة ممثلة فً األزهر انتظم الؽضب فً
ثورة واضحة.
بعث السلطان العثمانً والٌا جدٌدا هو خورشٌد باشا ،وٌحكً الجبرتً أن خورشٌد هذا جلب من الشام
عسكر مرتزقة من الدالة (خلٌط من البوسنة والصرب واأللبان مشهورون بالوحشٌة) لٌساعدوه ،وفرض
على الببلد فِردة جدٌدة لدفع مرتباتهم ،فجعل على كل بلد فول وخرفان وسمن وبن وعٌش ورز وبرؼل
بخبلؾ األموال ،ونزل "الدالة" البساتٌن ومصر القدٌمة وما حولهما؛ فؤكلوا زرع الناس وخطفوا ما فً
أٌدٌهم ،وخطفوا النساء واألوالد ،والطوا بالرجال كبار السن ،وطردوا الناس من منازلها ،وذهبوا قلٌوب
فاستولوا على بٌوتها وفرضوا فردة على أهلها ،وأخذوا النساء والبنات واألوالد وباعوهم فٌما بٌنهم ]كما
ٌفعل الدواعش[ ،وتصدى لهم أهالً قرٌة أبو الؽٌط ورفضوا إعطابهم أي ف َِرد ،وتركوا القرٌة ،فقتل
"الدالة" ٓٓٔ فبلح ،فضج الناس وفزعوا إلى مشاٌخ األزهر الذٌن طالبوا خورشٌد بوقؾ المظالم فلم ٌرد
علٌهم ،فؤضربوا عن الدروس باألزهر وأؼلقوه ،وطاؾ األوالد الصؽار فً الشوارع ٌصرخون "ٌارب ٌا
متجلً أهلك العثمانلً ،و"ٌا لطٌؾ" ،وٌطلبون من الناس ؼلق الدكاكٌن(ٗ).
وأمام هذا محمد علً ٌتفرج علٌهم ،وال ٌقوم بما ٌردعهم ،لٌزٌد سخط الناس على خورشٌد ،واستمر
اإلضراب فً القاهرة ،ومظاهرات األطفال تجري فً الشوارع ،واجتمع المشاٌخ وذهبوا إلى محمد علً
وقالوا :له "إنا ال نرٌد هذا الباشا حاكما علٌنا وال بد من عزله" ،فرد بخبث" :ومن ترٌدون أن ٌكون والٌا؟"
فجاءته ا إلجابة المنتظرة" :ال نرضى إال بك ،وتكون والٌا علٌنا بشروطنا لما نتوسمه فٌك من العدالة
والخٌر" ،فتم َّنع أوال ثم رضى ،وأحضروا له كركا وعلٌه قفطان ألبسه له عمر مكرم والشٌخ الشرقاوي،
ولكن بعد أن أخذوا علٌه العهد أن ٌقٌم العدل بٌن الناس ،وأال ٌفرض علٌهم ضراٌب ظالمة ،ونادوا فً
(ٗ)
-عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار ،الجبرتً ،ج ،ٙالهٌبة العامة لقصور الثقافة ،ص ٖ98 -ٖ99وٗٓٗ -ٖ99
ٖ8ٙ
الناس بالخبر ،وأرسلوا لخورشٌد لٌترك مكانه فقال خورشٌد" :إنً مولَّى من طرؾ السلطان فبل أعزل بؤمر
الفبلحٌن"(٘).
فتجمع المشاٌخ مع من وصفهم الجبرتً بالعامة وبؤٌدٌهم األسلحة والعصً والنبابٌت ،والزموا السهر
باللٌل فً الشوارع والحارات ٌسرحون فً نوبات حراسة لحماٌتها من عسكر خورشٌد وؼٌره ،ومجموعة
تطوؾ الشوارع بالمشاعل ،بل وقرروا محاصرة القلعة التً ٌتحصن بها خورشٌد لٌجبروه على الرحٌل،
وعملوا المتارٌس ،واشتركت عساكر محمد علً فً الحصار ،أما عساكر خورشٌد فركبوا فوق األسوار
ٌرمون الناس برصاص البنادق ،وعمر مكرم ٌطوؾ وٌجمع ناس جدٌدة لتشدٌد الحصار.
وتحدث حسن باشا -أحد رجال السلطان -لعمر مكرم حدٌثا ٌظهر تخصص العثمانلٌة فً تفسٌر الدٌن
حسب مصالحهم" :كٌؾ تعزلون من َّ
واله السلطان علٌكم وقد قال هللا تعالى أطٌعوا هللا وأطٌعوا الرسول
وأولً األمر منكم؟" ،فرد علٌه" :أولو األمر السلطان العادل والعلماء وهذا الرجل ظالم ،وجرت العادة أن
الناس تعزل الوالً الظالم حتى لو كان الخلٌفة والسلطان" ،ففوجا حسن باشا ،فساق االستعطاؾ كعادة
األتراك حٌن ٌجدون خصمهم أقوى منهم" :وكٌؾ تحصروننا وتمنعون عنا الماء واألكل وتقاتلوننا؟ نحن
كفرة حتى تفعلوا معنا ذلك؟" ،فرد عمر مكرم بإصرار" :نعم قد أفتى العلما واالقاضً بجواز قتالكم ألنكم
عصاة" ،فقال له حسن باشا" :إن هذا القاضً كافر" ،فرد عمر مكرم بحكمة وسخرٌة" :إن كان قاضٌكم
كافر فكٌؾ بكم؟!"(.)ٙ
وٌقول الجبرتً إن من وصفهم بالعامة اشتد إصرارهم على عزل خورشٌد حتى أن الفقٌر منهم كان ٌبٌع
مبلبسه أو ٌستدٌن لكً ٌشتري سبلحا ٌشارك به فً حصار القلعة ومطاردة جند العثمانلٌة ،وشارك معهم
العربجٌة والفعلة لٌنقلوا للناس المرابطٌن حول القلعة الماء والطعام ،وفً المقابل ،فإنه مع مرور الوقت لم
ٌتحمل عسكر محمد علً األرناإوط الرباط؛ فطلبوا منه ماال ،فؤجابهم بؤن اصبروا حتى ٌنزل خورشٌد ،فلم
ٌقبلوا وتركوا المتارٌس ،وانفضوا عن الحصار ،فح َّل األهالً محلهم وتترسوا فً مواقعهم(.)9
وفوق هذا انقلب األرناإوط على الثوار فطاحوا فً األهالً فً الشوارع ،وخطفوا أسلحتهم ،وصرخوا:
"اقتلوا الفبلحٌن" ،فجمع حجاج الخضري من كبار رملة بوالق وإسماعٌل جودة األهالً و"نزلوا ضرب" فً
األرناإوط وقتلوا عددا منهم.
ولم ٌتص َّد محمد علً لجرابم قومه األرناإوط ،ولكنه أعطاهم عطاٌا وكساوى وأرسلهم إلى محاربة
محمد األلفً ،وفً طرٌقهم إلٌه أفحشوا فً نهب الببلد "ما لم ٌسمع بمثله" ،بحسب تعبٌر الجبرتً المعاصر
لهمٌ ،قتلون وٌنهبون وٌفسقون بالنساء واألوالد ،ولم ٌذهبوا لمقاتلة األلفً(.)8
(٘)
-انظر :نفس المرجع ،الجبرتً ،ص ٘ٓٗ ،ٗٓ8 -ومصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر ،ص ٘ٔٔٔٔ9 -
()ٙ
-المرجع السابق ،الجبرتً ،ص ٖٓٔٗٗٔ -
()9
-المرجع السابق ،ص ٖٔٗٗٔٗ -
()8
-نفس المرجع ،ص ٗٔٗٗٔ9 -
ٖ87
فً المقابل ،استمر المصرٌون الثابرون ورجال األزهر فً تعرٌض أرواحهم للخطر لٌزٌحوا خورشٌد
وٌولوا محمد علً ،واستمروا فً حصار القلعة وعساكر خورشٌد ترمً الناس بالقنابل من المدافع ،وأرسل
العلماء للسلطان ٌلتمسون منه تعٌٌن محمد علً ،فلما وصله أخبار صمود الناس فً الحصار اضطر أن
ٌرسل رسوال "قابجً" إلى مصر بعزل خورشٌد وتولٌة محمد علً ،ففرح الناس وأقاموا االحتفاالت ،فٌما
استمر عسكر المرتزقة ٌنهبون الشوارع ،فقاد الحجاج الخضري األهالً لمطاردتهم وقتلهم(.)9
وبهذا حقق ثوار القاهرة ،سواء من الفبلحٌن الذٌن وصفهم الجبرتً بالعامة والعربجٌة والفعلة ،أو من
مشاٌخ وتجار بعضهم مصري وبعضهم من المستوطنٌن أول نصر صادح على السلطنة العثمانلٌة بإرؼامها
على الخضوع إلرادتهم رؼم قلة أسلحتهم ،متوجٌن سلسلة من انتصارات ضٌقة حققها فبلحون خبلل
ثوراتهم فً القرى على عسكر العثمانلٌة والممالٌك رفضا ألسالٌبهم الهمجٌة فً تحصٌل الضراٌب.
هذا السإال ٌسؤله الكثٌر منا وٌحٌرنا ،وهو :بعد كل ما مر به المصرٌون من ظلم الممالٌك والعثمانلٌة،
وكل ما شعروا به من ثقة فً أنفسهم وقدرتهم على المقاومة خبلل بسالتهم فً تصدٌهم ألعتى أسلحة فرنسا
ولعسكر خورشٌد بشا ،لماذا اختاروا رجبل أجنبٌا من المرتزقة أٌضا لٌحكمهم ،وهو محمد علً؟
ٌٔ -صعب القول إن االختٌار كان مصرٌا جماعٌا ،وإنما من كان منهم فً القاهرة وما حولها ،وثوار
القاهرة وافقوا على محمد علً بعد أن اختاره زعٌمهم عمر مكرم ،فهم فً الحقٌقة ساروا وراء عمر مكرم
الذي شجع محمد علً على التقدم محل الوالً العثمانً ،شرط تطبٌق العدل ،ولكن لماذا لم ٌختاروا عمر
مكرم نفسه حاكما؟
ٕ -أعٌان القاهرة حٌنها -بما فٌهم عمر مكرم -كانوا ما بٌن علماء األزهر وتجار ،واالثنان لٌسا من
رجال الحرب والقتال والجٌش ،والعرؾ فً ذلك الزمان أن الحاكم -فً كل الدنٌاٌ -جب أن ٌكون مقاتبل
ومن رجال الجٌش واإلدارة ،فنابلٌون مثبل ضابط ،وهو ما كان مطلوبا أٌضا فً مصر لٌستطٌع التصدي
للممالٌك المسلحٌن المقاتلٌن وللعسكر العثمانلً.
ٖ -المصرٌون وأعٌان القاهرة ال ٌملكون قوة مسلحة منظمة ٌعتمدون علٌها فً مواجهة العسكر
العثمانلً والممالٌك ،أما محمد علً فقابد لفرقة مسلحة وقادر على ضم فرق أخرى له بنظام شرا المرتزقة.
ٗ -الناس فً ذلك الوقت كانوا ما زالوا متؤثرٌن بالفكرة الخاطبة بؤنه مدام الحاكم "مسلما" فٌمكن أن
ٌكون شرعٌا مهما كان من أي دولة أجنبٌة ،خاصة بعد ما تفنن محمد علً فً تقدٌم نفسه فً صورة
"العطوؾ" ،وساعد على هذا أن معظم من بٌده األمر فً مصر هم أساسا من مستوطنٌن أجانب ،بما فٌهم
كثٌر من علماء األزهر الذٌن ٌصدرون الفتاوى بهذا الشؤن.
()9
-نفس المرجع ،ص ٕٗ9 -ٗٔ9
ٖ88
٘ -إضافة لما سبق ،كان لما أظهره محمد علً من دهاء فً تقدٌم نفسه على أنه المنقذ لسكان مصر من
عسؾ الممالٌك والعثمانلٌة ،وتصدٌه فعبل للممالٌك ،أثره فً قدرته على تولً الحكم ،فهو إن كان أجنبٌا
مثل الممالٌك والعثمانلٌة ،ولكنهم ظنوا أنه ٌنطبق علٌه المثل المصري "قضا أخؾ من قضا".
-ٙفرضا لو تقدم فبلح مصري لتولً الحكم -دون أن ٌسنده قوة مسلحة حٌنها -من كان سٌُم َّكنه من
ذلك؟ هل كان أعٌان البلد األجانب سٌسمحون البن البلد أن ٌستردها وٌتحكم فٌهم وٌعٌد مناصب ومال
الدولة إلى أصحابها؟ اإلجابة بالطبع معلومة ...إن كلمة "الفبلحٌن" فً الحقٌقة ترعب المستوطنٌن
األجانب -رؼم تعالٌهم على الفبلحٌن -أكثر مما كان ٌرعبهم الؽازي الجدٌد القادم من الخارج.
الؽازي الج دٌد ٌمكن التوابم معه بصفقات توزٌع وتوازن النفوذ ..أما الفبلح ابن البلد فهل قام لٌثور
لٌقتسم البلد مع أجانب مستوطنٌن؟ سإال مرعب بالنسبة لهم.
دبَّر محمد علً مكٌدة مذبحة الممالٌك بعد دعوتهم لحفلة "العشاء األخٌر" فً القلعة مارس ٔٔ ٔ8ألنهم
القوة المسلحة الوحٌدة المنافسة له ،وٌتصفون بعدم الطاعة ،ومبدأهم الؽدر ،وجرب ذلك حٌن حاولوا اؼتٌاله
فجز بنو جنسه األرناإوط رءوس فً احتفال فتح الخلٌج ،وحٌن تحالفوا مع البدو ضده فً الوجه البحريَّ ،
ٓٓ٘ من أمراء الممالٌك ،بما فٌهم كبٌرهم شاهٌن بك ،وتعامل محمد علً مع جثثهم معاملة عادة أمثاله فً
هذا الوسط الداعشً ،حٌث سلخ رءوس بعضها ومؤلها بالتبن.
وبعد نجاح تدبٌره أصدر أوامره لحكام المدٌرٌات بقتل من ٌعثرون علٌه من الممالٌك ،فكان مجموع من
قتل منهم بالقاهرة والمدٌرٌات ٌزٌد على األلؾ ،وهكذا سقطت هذه الطابفة التً عاثت فً األرض فسادا
أكثر من ٙقرون أذاقت خبللها المصرٌٌن كل صنوؾ الذل والعذاب.
وبذلك تبدلت الطبقة الحاكمة المعاصرة للمصرٌٌن ،فصارت مكونة من محمد علً وجنسه األرناإوطً،
مستقوٌٌن بما بقً من صؽار الممالٌك ممن أظهروا له الطاعة والوالء ،ومن اشتراهم من ممالٌك جدد
ٌربٌهم بطرٌقته ،ثم طرأ تؽٌٌران على السكان ،خاصة فً القاهرة واإلسكنرٌة ،عما كانت علٌه قبل محمد
علً مع زٌادة عدد الفرنجة وأصدقابهم؛ أي األرمن والشوام الذٌن دربتهم مدارس اإلرسالٌات التبشٌرٌة فً
الشام وأرسلوهم إلى مصر مسلحٌن بالعلوم األوروبٌة واللؽات وخطط للتمكٌن ،فلبست القاهرة واإلسكندرٌة
شٌبا فشٌبا قناعا أوروبٌا.
ونشر الرحالة إدوارد ولٌم لٌن الذي عاش فً مصر أٌام محمد علً فً كتابه "عادات المصرٌٌن
المحدثٌن وتقالٌدهم -مصر ما بٌن ٖٖ "ٔ8ٖ٘ -ٔ8إحصا ًء فٌه تقدٌر مبدبً تم حٌنها فً مصر لعدد
السكان وأجناسهم ،قدرهم بنحو ٕ ملٌون ،وورد نصا كما ٌلً بهذا التصنٌؾ:
ٖ89
ٓٓٓٔ٘ٓ, المسٌحٌون المصرٌون (األقباط)
ٕٓٓٓ, األرمن
ٓٓٓ٘, الٌهود
وأما ما تبقى من السكان (العرب وعرب شمالً أفرٌقٌا (المؽاربة) والنوبٌٌن والعبٌد الزنوج والممالٌك
]أو العبٌد البٌض[ والجارٌات البٌض والفرنجة -بحسب تصنٌفه -فقدر نسبتهم بـ ٓ 9ألفا ،وقال إن عرب
الصحارى المجاورة ال ٌدخلون فً تعداد سكان مصر (ٓٔ).
أي أن المصرٌٌن (مسلمٌن ومسٌحٌٌن) ملٌون وٓٓ 9ألؾٌ ،عنً السواد األعظم بنسبة أكثر من ٘،%9
ٌكاد ال ٌذكرهم أحد فً كتب التارٌخ إال ضمن الحدٌث عن جمع الضراٌب وتكالٌؾ السخرة ،والبقٌة من
األجناس الذٌن ٌمؤلون كتب التارٌخ بؤخبارهم وضجٌجهم وحكمهم للبلد وصراعاتهم وقصورهم وألوانهم
المزركشة وجواهرهم وجوارٌهم وقراراتهم ،وٌتصدرون الشاشة فً المسلسبلت واألفبلم التً تتحدث عن
هذه الفترة أقل من ٓٓٔ ألؾ من األتراك والممالٌك والٌونانٌٌن واألرمن والشوام والٌهود والعرب
والمؽاربة واألفارقة ،إلخ ..وهكذا كان ٌُكتب التارٌخ.
"أال تعلم أن رعاع الؽزاة انتهبوا فً الماضً أراضٌنا بحكم الؽزو؟ وها هم أوالء ٌكونون طبقة عالٌة
ممتعة بالجاه والسإدد واالمتٌازات ال حصر لها"(ٔٔ).
و ٌتضح أنه لم ٌظهر فٌه من األوروبٌٌن ؼٌر الٌونانٌٌن (األروام) ،فً إشارة إلى ضآلة عدد الفرنسٌس
والبرٌطانٌٌن حتى نصؾ فترة حكم محمد علً ،قبل تفجر سلسلة المشروعات الكبٌرة ،وٌستضاعؾ هذا
العدد بشكل مهول فً عهد أوالده لٌصل إلى عشرات اآلالؾ ،وبعد أن كانت الطبقة المتصدرة فً الحكم
ودور العلم فً القرن ٌ ٔ8ؽلب علٌها اللون العثمانلً حتى فً الهٌبة واللبس واللؽة ،صارت فً القرن ٔ9
ٌزاحمها اللون اإلفرنجً ،سواء من اإلفرنج نفسهم أو من ٌقلدونهم.
وتواصل التشوٌه فً توصٌؾ "المصري" بؤن انضم لهذا التوصٌؾ الفضفاض أرمن وأوروبٌون لمجرد
(ٓٔ)
-انظر :عادات المصرٌٌن المحدثٌن وتقالٌدهم (مصر ما بٌن ٖٖ ،)ٔ8ٖ٘ -ٔ8إدوارد ولٌم لٌن ،،ترجمة سهٌر دسوم ،ط ٕ ،مكتبة مدبولً،
القاهرة ،ٔ999 ،ص ٖٖٗ9 -
(ٔٔ)
-خان الخلٌلً ،نجٌب محفوظ ،مكتبة مصر ،ط ،ٙص ٕ ،ٙومصر فً قصص كتابها المعاصرٌن ،محمد جبرٌل ،ج ٖ ،ص ٕٗٔ
ٖٓ9
إقامتهم فً مصر ولو لمدة قصٌرة ،فمثبل حٌن أسست الجالٌة األوروبٌة "الجمعٌة المصرٌة" ٔ8ٖٙ
للرحالة والمهتمٌن بمجال اآلثار قصرت عضوٌتها على األوروبٌٌن ،وحٌنما فتحت العضوٌة فٌما بعد
للمصرٌٌن ضمت سلٌمان الفرنساوي باعتباره قابد الجٌش المصري (من الفرنسٌس) ،وحككٌان وأنستاسً
(أرمن) ٕٔ ،وهإالء من وصفتهم بالمصرٌٌن الذٌن لهم حق االنتماء لجمعٌة تهتم بآثار مصر فً وقت كانت
الدول األوروبٌة تتشدد جدا فً منح جنسٌتها لؤلجانب مهما طالت إقامتهم فٌها.
فً المقابل ظل التوصٌؾ األساسً للمصرٌٌن الحقٌقٌٌن ما بٌن كلمتً فبلح وقبطً.
واشتهرت مصر حٌنها بؤنها "جنة األؼراب" ،و"جنة ٌرعى فٌها الخنازٌر" ،وإن كان هذا لٌس جدٌدا،
فقد شاع فً احتبلالت سابقة مثل ٌقول "دٌار مصر خٌرها لؽرٌبها"(ٖٔ) ،ولكن فً القرن ٔ9صارت جنة
لؤلوروبٌٌن وأتباعهم بشكل أكبر ،ومصبا لكل جنسٌاتهم ،الجٌد منهم والردئ ،الصالح والمجرم ،وحتى
العصابات الدولٌة ،مستقوٌٌن باالمتٌازات األجنبٌة التً حمتهم من عقاب ورقابة الحكام.
وفً النصؾ الثانً من عهد محمد علً ،تدفق الفرنسٌس بوجه آخر ،بوجه خبراء وموظفٌن -كعادة أن
"من ال ٌقدر على مصر بالسبلح ٌقدر علٌها بالسبلم" -وتبلهم األرمن والبرٌطان والٌونان واإلٌطالٌٌن
والشوام خرٌجً اإلرسالٌات األجنبٌة للمشاركة فً ذات المشروعات ،وجاء المشروع األضخم ،قناة
السوٌس ،لٌكون أداة جذب آالؾ أخرى من األجانب ،خاصة بعد ؼلق عباس حلمً األول معظم المدارس
والمصانع التً تخرج الكفاءات والصناٌعٌة المصرٌٌن فً الصناعات البحرٌة والمبلحٌة؛ فتوسع مجال
العمل لؤلجانب ،وصار وجه مصر المتصدر للعالم -ما فً العاصمة واإلسكندرٌة -خلٌطا ؼٌر متجانس
ومشوه من عدة أعراق ،بواقً العثمانلً والعربان واألوروبٌٌن والعبٌد األفارقة والؽجر والٌهود والشوام
والجواري البٌض من األرمن والشركس ،وكل ما تقذفه البحار والصحاري وكؤن مصر بلد ببل حدود.
ٕٔ -انظر :فراعنة من؟ علم اآلثار والمتاحؾ والهوٌة القومٌة المصرٌة من حملة نابلٌون حتى الحرب العالمٌة األولى ،دونالد مالكوم رٌد ،ص 99
(ٖٔ)
-العادات والتقالٌد المصرٌة من األمثال الشعبٌة فً عهد محمد علً ،مرجع سابق ،ص ٕٔ9
ٖٔ9
الفبلحون المصرٌون فً محافظات قبلً وبحري وحارات القاهرة من القرنٌن ٔ9وأول الـ ٕٓ تظهر التجانس بٌنهم فً المبلمح والمبلبس والمعاناة
والشقاء فً العمل ،وال ٌختلفون عن وصؾ الرحالة والمإرخٌن لحال ومبلبس الفبلح فً قرون سابقة (موقع + getty imageبوابة األهرام)
أجناس شكلت قناعا مزٌفا على وجه مصر من عثمانلٌة وعربان وؼجر وجواري بٌض وعبٌد أفارقة وبواقً ممالٌك وأوروبٌٌن وؼٌرهم فً صور
ملتقطة و مرسومة فً القرن ٌ ،ٔ9شتركون فً حٌاة الرؼد والنهب ،وهإالء من سماهم البعض بالمصرٌٌن وتصدرهم الدراما والسٌنما الٌوم على أنهم
ٌعبرون عن المصرٌٌن فٌما ال ٌتناولون حٌاة وآراء المصرٌٌن حقا وقتها إال نادرا ( + getty imageلوحات المستشرق فرٌدرٌك برٌدجمان)
ٕٖ9
ومع تسلل القناع األوروبً (القناع الرابع) على المدن الكبرى بتضخم عدد األوروبٌٌن والمتؤوربٌن كان
ٌجري تكتٌؾ الحدود والرٌؾ بحزام عربانً بعد تضخم عدد العربان بشكل ؼٌر مسبوق فً تارٌخ مصر
بسبب توطٌن محمد علً وأوالده لقباٌلهم فً أطراؾ الرٌؾ لٌكفوا عن السلب والنهب ،وخاصة حدود
محافظات الشرقٌة والفٌوم والمنٌا والبحٌرة ،ولكنهم لم ٌقنعوا بالمساحات الشاسعة التً أخذوها من مصر
ببل حق أو تعب ،ولم ٌتمصروا؛ فواصلوا هواٌتهم فً التسلط على الفبلحٌن ،وجلب عشابرهم من ببلدهم
األصلٌة كل فترة ،وخٌر ما ٌمثل سطوتهم وشراستهم فً الرٌؾ فٌلم "شًء من الخوؾ"(ٗٔ) ،فعترٌس
وعشٌرته رؼم ما كنزوه من أموال ظلوا ٌتلذذون بالؽاراتٌ ،قتحمون كالعاصفة بٌوت الفبلحٌنٌ ،سرقون
موا شٌهم ،وٌضعون أٌدٌهم على ما ٌحلو لهم من أشٌابهم ،ومن امتنع إما ٌُقتل أو ٌمنعوا مٌة الري عن
أرضه حتى تتشقق شراقً من العطش ،وإن أعجبهم بناتهم ٌخطفونهم أو ٌتزوجونهم قهرا واؼتصابا.
وحقا "جواز عترٌس من فإادة باطل" ،أٌا كانت جنسٌة ودٌن عترٌس.
لما رجع محمد علً من جزٌرة العرب لمصر قرر تؤسٌس جٌش كالفرنسٌس ،لتؤثره بما رآه من تنظٌم
وطاعة وتسلسل للقٌادة ٌحترمه الجمٌع فً جٌشهم ،وما رآه من كثرة تمرد وعصٌان ومطالب المرتزقة
األرناإوط "األلبان" والدالة والممالٌك.
لكن األرناإوط رفضوا أن ٌنتظموا فً سلك الجٌش المنظم ،وعاثوا فً القاهرة بؤعمال السلب والنهب
حٌن كانت ال ترضٌهم المرتبات ،أو ٌرٌدون الضؽط علٌه فً أي شًء ،فؤبعد جزء منهم عن مصر،
والجزء اآلخر كان ٌصدره فً الصفوؾ األمامٌة فً حروبه بالجزٌرة العربٌة والسودان إلبادتهم(٘ٔ).
وساعده الحظ أن فً هذه الفترة كانت تدور طاحونة الحرب األهلٌة واإلرهاب فً فرنسا عقب الثورة
الفرنسٌة ،وكثٌر من الكفاءات الفرنسٌة تبحث عن فرص فً الخارج ،ولم ٌجدوا فرصا مؽرٌة كتلك التً
فً خٌرات مصر ،وأؼرى كثٌر منهم محمد علً بمشروعات وأفكار ٌشرؾ الفرنسٌس على تنفٌذها.
وعلى هذا تؤسست مدرسة للحربٌة فً أسوان أدارها سٌؾ (سلٌمان الفرنساوي) ،ضباطها من الممالٌك
الصؽار واألتراك سنة ٕٓ ،ٔ8أما الجنود فعرؾ أنه ال ٌمكن االعتماد على األتراك وال األرناإوط والدالة،
فاستقدم ٖٓ ألفا من كردفان وسنار بالسودان ،هلك اآلالؾ منهم بسب األمراض وعدم تؤقلمهم مع المناخ،
فخاطر بتجنٌد المصرٌٌن ،على حد وصؾ كلوت بك(.)ٔٙ
وبذلك ٌكون محمد علً ظل حتى ذلك الوقت ٌفعل كل شًء كً ال ٌجند المصرٌٌن؛ خوفا من أن
ٌستعٌدوا حكم بلدهم إذا امتلكوا الجٌش ،ولحاجته لهم فً مشارٌع الزرع والبناء ،ولكن لم ٌبق أمامه سواهم،
(ٗٔ)
" -شًء من الخوؾ" (إنتاج ،) ٔ9ٙ9تؤلٌؾ ثروت أباظة ،إخراج حسٌن كمال ،تمثٌل شادٌة ومحمود مرسً وٌحًٌ شاهٌن
(٘ٔ)
-أقباط ومسلمون من الفتح العربً إلى عام ٕٕ ،ٔ9جاك تاجر ،مإسسة هنداوي ،القاهرة ،ص ٔٔٙ
()ٔٙ
-لمحة عامة إلى مصر ،كلوت بك ،ترجمة محمد مسعود ،دار الكتب والوثابق القومٌة ،القاهرة ٕٓٔٔ ،ص ٘ٓٓ -ٗ99
ٖٖ9
فاضطر لتجنٌدهم ،ووجد صعوبة فً ذلك ألسباب ،منها ؼٌاب الدافع الوطنً ،فمعلوم للمصرٌٌن أن معظم
الحروب المملوكٌة والتركٌة لؽٌر صالح المصرٌٌن ،وتخص صراعاتهم ومطامعهم فً الداخل والخارج،
كما أن محمد علً جعل مدة التجنٌد مفتوحة ،تستؽرق عمر المجند فٌترك ورابه أسرة تتضور جوعا وال
تعرؾ مصٌره ،وأرضا تضٌع أو تبور ،وبالرؼم من ذلك استطاع تجنٌد أعداد كبٌر بداٌة من ٖٕ ،ٔ8وقال
كلوت بك فً كتابه "لمحة إلى مصر" إن عدد الجٌش وصل فً مرحلة ٕ9ٙألؾ ما بٌن جنود نظامٌٌن
وباشبزق "مرتزقة" ومهندسٌن وبحرٌة(.")ٔ9
والتجنٌد هو الفابدة الوحٌدة للمصرٌٌن من الجٌش حٌنها؛ فؤحسوا من جدٌد بؤنهم رجال حرب كما أنهم
رجال بناء وزراعة وصناعة ،ولكن دفعوا الثمن فادحا ،فكافة الحروب التً خاضها محمد علً وأسرؾ فً
إنفاق األرواح واألموال علٌها لم ٌكن للمصرٌٌن فٌها أي مؽنم ،مجرد استنزاؾ جدٌد لهم ،تمثل فً ضراٌب
وضؽوط ودماء جدٌدة.
ومثال على مقدار ما استنزفته حروب محمد علً التوسعٌة ،أو تلك التً جامل بها السلطان العثمانلً فً
إرسال قوات لتشارك فً حروب خاصة بالسلطان ،فإن دخل مصر عام ٖٖ ٔ8كان ٘ ٕ,ملٌون جنٌه،
معظمها وارد الزراعة والضراٌب ،صرؾ منها ملٌون وٓٓ ٙألؾ على تجهٌزات الجٌش( ،)ٔ8وهذه
المٌزانٌة ال ٌصل منها للجندي المصري إال فتات ،فٌما ٌُكال جزء كبٌر منها لؤلتراك والممالٌك واأللبان،
فٌقول كلوت بك فً كتابه "لمحة عامة إلى مصر" إن مرتب الجندي ٘ٔ قرشا ،فٌما المبلزم األول ٖٓ٘
قرشا ،والٌوزباشً ٓٓ٘ والقابمقام ٖ آالؾ ،واألمٌراالي 8آالؾ ،وهكذا ،مبررا الفرق الخٌالً بٌن ما
ٌؤخذه المصري وما ٌؤخذه األجانب بؤن "سمو الوالً كان ٌرٌد استمالة األتراك إلى النظام الحدٌث فً
الجٌش على أثر ما أبدوه من النفور الشدٌد منه"(.)ٔ9
ومعظم الـ ٓٓٗ ألؾ الباقٌة من المٌزانٌة العامة بالتؤكٌد صرؾ منها على شبون رفاهٌته وقصوره
وعشٌرته التً استقدمها والمحظوظٌن ..فكم بقً للفبلح المصري؟
واألهم من النزح المالً هو استنزاؾ البشر ،فٌقول كلوت بك فً فصل "األسلوب المتبع فً التجنٌد" إن
الباشا اتبع أسلوبا عشوابٌا وحشٌا فً التجنٌد "مخالفا لطبٌعة البشر" ،وإن العسكر األتراك ٌنقضون على
القرى فجؤةٌ ،ختطفون الذكور جمٌعا ،وٌسوقونهم مصفدٌن فً األؼبلل إلى عاصمة المدٌرٌة ،وعند ذلك
تشهد منظرا تنخلع له القلوب ،فؤمهاتهم وأزواجهم ٌندبونهم صابحات مولوالت ٌهرولن ورابهم ،وفً
المركز ٌنتخب الطبٌب من ٌراه منهم صالحا للجندٌة ،هذه هً طرٌقة التجنٌد حٌنها فً مصر ،وهً طرٌقة
عاقبتها إبادة األمة ،وفً البداٌة لم ٌكن هناك حساب للسن ،وال لؤلسر التً تجد نفسها فً مهاوي الخراب
()ٔ9
-تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر ،مرجع سابق ،ص ٖٔٙ
()ٔ8
-تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر ،مرجع سابق ،ص ٖ ٔٙوص ٘ٔٙ
()ٔ9
-لمحة إلى مصر ،كلوت بك ،مرجع سابق ،ص ٘ٓٙ
ٖٗ9
والبإس(ٕٓ) ،فٌؤخذون الطفل والشاب والشٌخ ،وٌستؽرق التجنٌد سنوات العمر كله أحٌانا.
وبرر مقربون منه ومإرخون هذا بؤنه اضطر ألن المصري كان نسً الجندٌة منذ زمن طوٌل ولن
ٌرضى باالنتظام بها باالختٌار ،كما أنه كان ٌحتاج لبناء مشروعات فً زمن قصٌر ،وهً مبررات ٌُرد
علٌها بؤنه ول َم لم ٌجرإ على استخدام هذه الضؽوط مع المرتزقة من األجناس المستوردة؟ ،وبؤن حسن
المعاملة وتقصٌر فترة التجنٌد وتعمٌم خٌرات المشروعات على الفبلحٌن كان سٌكون له مفعول أفضل من
هذه الوحشٌة ،وأن حماٌة حٌاة الفبلحٌن التً ٌُخاطر بها فً الوسابل الوحشٌة تستحق أن ٌجعل مشروعاته
على مراحل ،فالمبرر األرجح هو لهاثه وراء استؽبلل الفرصة لبلستقبلل بمصر عن العثمانلٌة فً أقصر
وقت ،وبؤي ثمن.
والفبلح المجند بذلك ٌترك ورابه فراؼا فً أرضه ،وأحٌانا حٌن تجد اإلدارة أن ال أحد قادر على
زراعتها فً أسرته تسلمها لؽٌره ،فٌجتمع على األسرة ألم فقد األحبة ومرارة قطع األرزاق(ٕٔ) ،ولم ٌتم
حفظ حق المجند فً التصرؾ فً أرضه خبلل فترة تجنٌده إال فً ٘.ٔ8ٙ
وأجبر هذا األمهات على تشوٌه خلقة أبنابهن لٌصبحوا ؼٌر صالحٌن للتجنٌد ،مثل فقؤ العٌن أو قطع
أصبع السبابة ،وقابل الباشا هذا بسن عقوبة مملوكٌة على األمهات بقتلهن عبر إؼراقهن فً الترعة(ٕٕ)،
وحٌن تخفً األم أو الزوجة مكان رجل الدار -ألنها لن تراه ثانٌة إذا ذهب للتجنٌدٌ -علقهن عسكر إبراهٌم
باشا من شعورهن ،وٌُضربن بالسٌاط حتى ٌضطررن لبلعتراؾ(ٖٕ) قبل أن تنسلخ جلود رءوسهن من
التعلٌق ،وجلود ظهورهن من الكرباج.
ورؼم هذا استمرت األمهات بعناد فً عملٌة التشوٌه ،فؤمر الباشا بتجنٌد حتى المشوهٌن ،فكان الفبلحون
ٌحفرون خنادق بجوار المقابر والمستنقعات ،أو ٌفرون إلى الصحاري ٌختببون عدة أشهر تاركٌن زرعهم
ٌٌبس فوق ؼصونه ،للهرب من موظفً الباشا حٌن ٌبحثون عنهم ،ومنهم من كان ٌرشً شٌخ البلد حتى ال
ٌسلمه لئلدارة ،وبذلك كان من ٌذهب للتجنٌد هم أفقر الناس والمؽضوب علٌهم(ٕٗ).
تحسنت أحوال الفبلحٌن فً الجٌش لحد ما زمن سعٌد ،فٌذكر له أحمد عرابً أنه اهتم بتصعٌد الفبلحٌن
من أبناء شٌوخ البلد والعمد إلى مراتب ضباط بعد أن كان استخدامهم قاصرا على التجنٌد.
وخطوة هامة أخرى ،أن سعٌد ألؽى الجزٌة المفروضة على المسٌحٌٌن سنة ٘٘ ،)ٕ٘(ٔ8وقرر تجنٌدهم،
ولكن ظلت مصر تدفع جزٌة إلى األستانة سنوٌا ،ومن العجب أنه رؼم أن ضمن المبررات الخاطبة لفرض
الجزٌة على المصرٌٌن هو "إعفاءهم" من الجندٌة ،فإن الجزٌة العثمانلٌة استمرت مفروضة رؼم تجنٌد
(ٕٓ)
-انظر :المرجع السابق ،ص ،ٖ٘8وصفحة من تارٌخ مصر فً عهد محمد علً الجٌش المصري البري والبحري ،ص ٕٔٓ -ٔٔ9
(ٕٔ)
-انظر :ملكٌة األراضً فً مصر فً القرن التاسع عشر ،مرجع سابق ،ص ٕٕٓٔٔٔ -
(ٕٕ)
-المرجع السابقٕٔ٘ -ٕٕٔ ،
(ٖٕ)
-مصر الحدٌثة ،اللورد كرومر،المركز القومً للترجمة ،ترجمة صبري محمد حسن ،جٕ ،طٔ ،القاهرة ،ٕٓٔٗ ،ص ٖ٘ٙ
(ٕٗ)
-ملكٌة األراضً فً مصر فً القرن التاسع عشر ،ص ٕٔٓ ،والجٌش المصري البري والبحري ،ص ٕٔٔ
(ٕ٘)
-أقباط ومسلمون منذ الفتح العربً إلى عام ٕٕ ،ٔ9جاك تاجر ،مرجع سابق ،ص ٕٓٓ
ٖ٘9
المصرٌٌن مسلمٌن ومسٌحٌٌن ،فً حٌن أعفت المسٌحٌٌن والٌهود األجانب من الجزٌة بموجب االمتٌازات
األجنبٌة( ،)ٕٙوٌبرر العثمانلٌة أخذ الجزٌة من المصرٌٌن فً كل األحوال بؤنها بموجب "حق الفتح".
وبعد أن كان التجنٌد قاصرا على أبناء القرى ،قرر سعٌد فً ٗ٘ ٔ8أن ٌكون التجنٌد لكافة أبناء الشعب فً
القرى والمدن ،ؼٌر أنها كانت مساواة صورٌة( ،)ٕ9ألنه سُمح لؤلؼنٌاء وأبناء العمد بتقدٌم "بدل شخصً"
عنهم للتجنٌد ،أي شخص بدٌبل لهم ،فٌرسلوا فً ذلك ؼالبا العبٌد ،ثم وضع االحتبلل اإلنجلٌزي البدل
النقدي ،وكان نظاما مرٌرا فً الحلق ألنه ٌفرق فً خدمة الوطن بٌن األؼنٌاء والفقراء فٌلزم بها الفقراء
فقط ،وٌفرغ الجٌش من مضمونه وهدفه القومً الوطنً السامً(.)ٕ8
وقامت الثورات فً جهات متعددة ضد التجنٌد القابم على المساوئ المذكورة ،إال أنها قمعت ،وانتهى
األمر بالفبلح أن ٌرضى بحالته الجدٌدة وٌتعودها بعد أن رأى ما ٌُعامل به من الرعاٌة وحسن العناٌة،
وٌتؽذون وٌ لبسون أحسن مما كانوا فً بٌوتهم ،وانتهى األمر بهم إلى اعتٌاد حٌاتهم الجدٌدة واالؼتباط
بها( ،)ٕ9بحسب تعبٌر كلوت بك.
ورؼم هذا الظلم إال أن المصرٌٌن أبدوا تفوقا مذهبل مقارنة باألتراك فً أول اختبار لهم فً الحرب ،تدل
على ترسخ نبل الجندٌة فً دمابهم ،فٌورد كلوت بك أمثلة فً حرب الشام ،منها أن جندي اسمه منصور
انتزعت ذراعة من جسمه بقنبلة أثناء معركة حمص فلم ٌرض أن ٌنسحب من مٌدان القتال" ،بل تقدم رجال
كتٌبته حامبل على العدو بؤشد ما ٌكون من البؤس والبسالة ،وظل ٌحارب إلى أن مات" ،وخبلل الحرب ضد
العثمانلٌة فً قونٌة سنة ٕٖ ٔ8ترك جمٌع الجرحى الذٌن كانوا ٌستطٌعون حمل السبلح أسرتهم فً
المستشفى قاصدٌن إلى مٌدان القتال "لمشاركة إخوانهم مجد االنتصار أو شرؾ الموت".
وفً معركة أخرى دارت الدابرة على فرقة المشاة الـ ٘ٔ وأصٌب من بٌنهم فتً عمره ٓٔ سنٌن ٌعمل
على دق الطبول ،فلما رأى رفاقه ٌفرون استمر ٌقرع الطبل وهو معرض لوابل من الرصاص ٌمطره
وٌمطر الجنود ،فدبت الحماسة فً رفاقه ،وخجلوا إذ رأوا صبٌا ٌقدم لهم مثاال من البطولة ،وعادوا أدراجهم
إلى القتال لٌنتقموا لشرفهم الذي انتهكه العدو ،ورفض سلٌمان الفرنساوي االستعانة بجندي عمره ٔٙسنة
ألن جسده نحٌل جدا وعلى وجهه عبلمات المرض ،اسمه الحاج علً ،فتضاٌق الشاب من سبب الرفض،
وقال له إنه -أي سلٌمان -سٌعرؾ خطؤ سوء ظنه فٌه حٌن تحٌن الفرصة ،وخبلل حصار الجٌش لعكا
تعرضت األورطة الثامنة لهزٌمة من حامٌة عكا؛ فتقدمت األورطة الثالثة التً بها الحاج علً ،وانتصرت
على حامٌة عكا ،ولم ٌكتؾ الحاج علً بالمشاركة فً هذا النصر ،بل أنقذ ٌوزباشً كان على وشك الوقوع
فً أسر العدو ،كما أسر ضابطا تركٌا ،وجاء باالثنٌن إلى سلٌمان باشا ٌقول له" :أال تزال تعتقد أننً جندي
()ٕٙ
-انظرٌ :هود مصر (ٕٕ ،)ٔ9٘ٙ -ٔ9رشاد رمضان عبد السبلم ،دار الكتب والوثابق القومٌة ،القاهرة ،هامش رقم ٕ ص ٔ99
()ٕ9
-انظر :ملكٌة األراضً الزراعٌة فً مصر فً القرن التاسع عشر ،ص ٕٕٕٔٔٔ -
()ٕ8
-انظر :الجٌش المصري فً القرن التاسع عشر ،محمد محمود السروحً ،دار المعارؾ ،القاهرة ،ص ،8ٓ -9ٙومقدمات ثورة ٖٕ ٌولٌو
ٕ٘ ،ٔ9عبد الرحمن الرافعً ،ط ٖ ،دار المعارؾ ،القاهرة ،ص ٕٔٙ
()ٕ9
-لمحة عامة إلى مصر،كلوت بك ،ص ٓٓ٘ ،مرجع سابق ،ص ٓٓ٘
ٖ9ٙ
ال أصلح لشًء؟"(ٖٓ).
وبتعبٌر كلوت بك ،فقد "أزاحت هذه المعارك عن أعٌن األتراك ما كانوا ٌحتقرونه من المصرٌٌن ،فقد
ظلوا زمنا طوٌبل ٌعتقدون أنهم ال ٌعادلونهم كفاٌة ،فعلمتهم هذه الحرب أن هذا الشعب الذي ضعضعته
المظالم ،وحطت من قدره ،وزرعت فً قلبه المخاوؾ ،فً استطاعته أن ٌسترد مجده التالد ،وأن ٌقارعهم
فً مواقؾ القتال ،بل وٌسمون علٌهم فً القوة إذا أحسنت قٌادتهم وعببوا للحرب بالطرٌقة الفنٌة(ٖٔ).
وفً هذه الكلمات إشارة إلى أن من ٌعٌش فً مصر لفترة مثل كلوت بك ٌدرك جٌدا الفرق بٌن
المصرٌٌن الحقٌقٌٌن وبٌن المستوطنٌن األجانب ،وأنه ٌرى فً الفبلحٌن امتدادا دما ولحما لتارٌخ مصر
القدٌم ،وأنه كامنة بداخلهم كافة جذور استعادة مجده ،رؼم كل ما هم فٌه وقتها من فقر وجهل وإذالل.
وبهإالء الجنود استطاع إبراهٌم باشا فتح عكا الحصٌنة ،وهزٌمة العثمانٌٌن فً ساحة الحرب على ٌد
مصرٌٌن ألول مرة ،وهذا هو الفبلح الذي طالما أشاع التركً والمملوكً واألعرابً أنه ال ٌصلح
للفروسٌة.
هذا عن التجنٌد ،أما وظابؾ الضباط فٌنقل عمر طوسون عن المارشال الفرنسً مارمون ،وهو قابد
سابق فً الحملة الفرنسٌة واستعان محمد علً بآرابه فً إعادة بناء الجٌش ،أنها "ظلت مقصورة على
ٌرد أن ٌجعل نفسه فً متناول الشعب المصري ،ولكن لما توطدت سلطتهاألتراك والممالٌك ألن الباشا لم ِ
أدخل المصرٌٌن فً وظابؾ الضباط الصؽٌرة (صؾ ضباط) فؤظهر هإالء الصؾ الضباط ذكا ًء فابق
الحد ،ونشاطا عظٌما حتى أن الضباط الذٌن انتخبوا من بٌنهم صاروا بعد وقت ٌسٌر أحسن وأفضل من
األتراك ،ولٌس أمامهم أي عابق لشؽل الوظابؾ العلٌا".
وٌرى كلوت بك أن محمد علً كان ٌخشى من أنه إذا وصل المصرٌون إلى مناصب قٌادٌة أن ٌتمردوا
علٌه ،ولذا أبعدهم عن القٌادة فً الجٌش ،وعلل األمر بسبب آخر وهو أن المصرٌٌن ٌجٌدون القتال وهم
جنود أما إذا ترقوا لمناصب عالٌة فبل ٌكونون فً نفس الكفاءة (ٖٖ) ،وثبت أن هذا لٌس صحٌحا حٌن صار
المصرٌون ضباطا وقٌادات فً حروب الحقة ،وأثبتوا كفاءتهم.
ؼٌر أن ابنه سعٌد خطا خطوة ترقٌة الفبلحٌن -من أبناء العمد -إلى رتب الضباط عام ٗ٘ ٔ8لكراهته
(ٖٓ)
-المرجع السابق ،ص ٕٗ ،ٖٗ -ولمحة عامة إلى مصر ،ص ٘ٓ8 -٘ٓٙ
(ٖٔ)
-نفس المرجعٌن ،األول ص ٖٗ ،والثانً ص ٘ٓ8
(ٕٖ)
-أؼنٌة دوال مٌن ،كلمات أحمد فإاد نجم ،ألحان كمال الطوٌل ،ؼناء سعاد حسنً
*** كتبها الشاعر بعد نصر أكتوبر ٖ ٔ97الذي حققه الجنود الفالحون بعد أن مألت إسرابٌل العالم ضجٌجا عن أن المصرٌٌن ال ٌصلحون للحرب
ولن ٌجرأوا على اس تعادة سٌنا مرة أخرى ...فالحرب النفسٌة من األعادي واحدة فً كل زمان.
(ٖٖ)
-صفحة من تارٌخ مصر فً عهد محمد علً الجٌش المصري البري والبحري ،ص 9و ٘ٗ
ٖ97
سٌطرة األتراك على الجٌش ،فؤمر بانتظام أوالد العمد ومشاٌخ البلد فً سلك الجٌش وترقٌة رتبهم من
جندي تحت السبلح إلى ضباط ،ولكنها ترقٌة تتنفس فً جو ثقٌل من النفوذ التركً والشركسً الذي
تضاعؾ فً عهد إسماعٌل(ٖٗ) ،وترقٌة من تحت السبلح ،أي ٌدخل الفبلح الجٌش من بوابة التجنٌد فقط ،أما
المدرسة الحربٌة فظلت قصرا على األتراك والشراكسة(ٖ٘) حتى ٌظل فرق فً الرتب بٌن المصري وبٌنهم،
رؼم فرق األصول بٌن المصري الحر ابن البلد وبٌن الترك والشراكسة أبناء الممالٌك والمرتزقة..ولكن
هكذا الحال مع من ٌتعاملون بـ"حق الفتح".
وللجنود المصرٌٌن دورهم المشهود -ولكنه ؼٌر مشهور -فً حفر مشارٌع الري والقنوات وتشٌٌد
المبانً الفخٌمة فً وسط القاهرة.
فبعد أن ألؽى إسماعٌل استخدام الفبلحٌن فً السخرة لحفر قناة السوٌس لجؤ الستخدام المجندٌن؛ فساهم
الجٌش فً بناء القصور الملكٌة وحفر الترع وتجمٌل القاهرة وؼٌرها ،وإن كانوا حصلوا على نظام ؼذابً
أفضل من فبلحٌن السخرة قبلهم ،تضمن رز وعدس ولحم ،وبذلك حمل الجٌش ،خاصة من أبناء الفقراء،
عبء حماٌة الببلد ،وعبء رفع السخرة عن أهلها فً بعض المشروعات( )ٖٙوإن بقت السخرة فً
مشروعات أخرى.
ووصل عدد الجٌش أٌام إسماعٌل إلى ٓٗ ألفا وقت السلم و٘ ٙألفا 8ٖ -ألفا وقت الحرب ،هذا بخبلؾ
قوات اإلمدادٌة (االحتٌاطً) والبولٌس ،ثم هبطت بشكل صادم بوصٌة لجنة التحقٌق األوروبٌة فً األزمة
المالٌة ٔ899بتخفٌض الجٌش إلى ٖٙألفا ،ثم بالتدرٌج خفضوه إلى ٔ8ألفا ،وبعد تولً توفٌق فً نفس
السنة أوصت بتنزٌله إلى ٕٔ ألفا ،وهو ما كان مإشرا الستعداد برٌطانٌا للتدخل العسكري فً مصر بعد
ضمان تآكل الجٌش.
ولم تكتؾِ الوزارة األوروبٌة بقٌادة نوبار بتخفٌض العدد ،ولكن تعمدت تؤخٌر المرتبات لشهور طوٌلة،
وخفضت األكل المخصص للجنود بحجة األزمة المالٌة ،حتى اضطر الضباط لبلقتراض من األهالً ،ثم
وصل بعضهم للعجز عن االقتراض من كثرة ما استدان ،فمد أهالٌهم أٌدٌهم للسإال حتى صار ٌضرب
بعوزهم المثل ،وظهروا أمام األهالً فً أسمال بالٌة؛ فاستحقوا الرثاء ،فٌما مرتبات الضباط والموظفٌن
األجانب ٌتم صرفها ،والجزٌة ترسل للسلطان العثمانً ،وكوبونات الدٌن لبنوك روتشٌلد وإخوانه ُتدفع فً
مواعٌدها قهرا(.)ٖ9
وٌقول عرابً فً مذكراته إنه عند توجٌه االتهام له أمام المجلس العسكري بؤن جنود اآلالي التابع له
اشتركوا فً مظاهرة قام بها ضباط ضد نوبار باشا والقنصل اإلنجلٌزي ،أجاب عرابً" :إنه لو فرض
(ٖٗ)
-انظر :الجٌش المصري فً السٌاسة (ٕ )ٔ9ٖٙ-ٔ88عبد العظٌم رمضان ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،ص ٔ8
(ٖ٘)
-نفس المرجع ،ص ٔ9
()ٖٙ
-الجٌش المصري فً القرن التاسع عشر ،مرجع سابق ،ص 89 -88وٗ9٘ -9
*** وبذلك حٌن ٌنظر المصري إلى المبانً الحكومٌة والعمارات والقصور الفخٌمة فً القاهرة واإلسكندرٌة الموروثة من تلك الفترة ٌنطبع فً
ذهنه فورا صور أجداده وهم ٌكابدون فً بنابها ،ومن عرقهم فً األرض ترتفع شاهقة ،فً حٌن كانت تخصص لألجانب وحاشٌة الخدٌوي
()ٖ9
-انظر نفس المرجع ،ص ٖ ٖ8ٙ -ٖ9و ٕٗ٘
ٖ98
وجود أحد منهم ...فهو ؼٌر ملوم ألن نساء الضباط وأوالدهم فً العباسٌة ببل مؤوي وال دراهم فً أٌدٌهم
ٌنفقون منها على عاببلتهم ،وال خبز وال تعٌٌن ٌصرؾ لهم".
وظهرت نواٌا التدخل العسكري البرٌطانً بوضوح حٌنها على لسان ورفرز ولسون بؤن عدد الجٌش
المصري "أكثر مما ٌجب" ،ألن مصر حسب قوله "تحت الحماٌة األوروبٌة" ،القادرة عل الدفاع عنها إذا
ما تعرضت لعدوان ،ولذا "استقر الرأي على إلؽاء البحرٌة تماما ،وتخفٌض عدد الجٌش إلى 9آالؾ"(.)ٖ8
هذا عن عودة الفبلح للعمل كمقاتل ،أما دوره كصانع فً الصناعات الحربٌة فإنه منذ البداٌة كان قوام
العمال والصناع فً دار صناعة السفن الحربٌة التً تؤسست باإلسكندرٌة ٖٗ" ٔ8الترسانة البحرٌة"
مصرٌون قادمون من الرٌؾ ،كما أشار لذلك المارشال مارمون ،ووصفهم بالنشاط والنباهة واتقان الصنعة
الدقٌقة فً زمن قصٌر ،حتى البوصلة والمناظٌر.
وقال فً كتابه "رحلة المارشال مارمون"" :وشاهدت الصناع الذٌن ٌصنعونها بدقة عجٌبة وهم لم
ٌقضوا فً تعلمهم ؼٌر عامٌن ،فكان عجبً من ذلك عظٌما ،ألن العامل األوروبً من أي جنسٌة كانت ال
ٌمكن أن ٌصل إلى هذه الدرجة المدهشة ،خصوصا إذا أُخذ من بٌن الفبلحٌن كما هو الحال مع هإالء
العمال المصرٌٌن(.")ٖ9
ومعظم البحارة على السفن مصرٌون من نوتٌة مراكب النٌل ،وتعلموا أٌضا بسرعة فابقة ،وعلى أٌدٌهم
عوض محمد علً السفن التً خسرها فً موقعة نوارٌن ،واستؽنى عن استٌراد السفن من الخارج(ٓٗ). َّ
وسجل كلوت بك أن البحرٌة قبل بناء ترسانة اإلسكندرٌة اعتمدت على استٌراد سفنها وأدواتها من
الخارج ،وكان ٌدٌر صٌانة هذه السفن وتسلٌحها اثنان ،األول مصري اسمه الحاج عمر ،لم ٌدخل المدارس،
ولكن مهر فً صنعته بالتمرٌن والمواهب الذاتٌة ،والثانً مهندس تركً كان عنوان للؽباوة والجهل؛ ففصله
مسٌو دي سرٌزي المشرؾ على تؤسٌس الترسانة من الخدمة"(ٔٗ).
وعن مستوى الترسانة بعد تؤسٌسها قال إنها استطاعت مباراة جمٌع الترسانات فً العالم وهو البرهان
الساطع على القوى الكامنة لدى المصرٌٌن التً ٌمكن استخدامها واالنتفاع بها ،وإن أبناء الشعوب
األوروبٌة لٌعجزون أن ٌؤتوا بنتابج باهرة فً مثل الزمن الذي أتى المصرٌون فٌه بهذه النتابج(ٕٗ).
وهذه شهادة أخرى تضاؾ للفبلح ،فهو فً أرضه المزارع األول ،وحٌن عاد للجندٌة ثبت أنه المقاتل
من الطراز األول ،ولما عاد للصناعات الدقٌقة ثبت أنه الصانع األول فً أول تجربة ٌختبرونه فٌها ،وأثبت
()ٖ8
-نفس المرجع ،ص ٕ٘٘ و ٘ٗ9
()ٖ9
-نفس المرجع ،ص 99 -98
(ٓٗ)
-نفس المرجع ،ص 8ٙؤٕٖ
(ٔٗ)
-لمحة إلى مصر ،كلوت بك ،مرجع سابق ،ٕٓٔٔ ،ص ٘ٔٙ
(ٕٗ)
-نفس المرجع ،ص ،ٕ٘9والجٌش البري والبحري ،عمر طوسون ،ص ٔٓ8 -ٔٓ9
ٖ99
نفس األمر حٌن عاد إلى الطب والهندسة والموسٌقى والؽناء والنحت إلخ ،وهكذا هو كالذهب الذي أزٌح من
علٌه التراب فً كل حرفة؛ ولذا فبالمصرٌٌن نجحت مساعً محمد علً ومن جاءوا بعده لتحدٌث مإسسات
الدولة ،ولو كان فً ببلد أخرى لما نجح مشروعه فً هذا الوقت القٌاسً ولو جمع له كل علماء وخبراء
الدنٌا.
نبَّهت الحملة الفرنسٌة عقل إنجلترا لخطورة موقع مصر على مصالحها ،فحضَّرت نفسها لتحل محل
فرنسا فً احتبللها ،وما كادت دماء المصرٌٌن تجؾ على األرض من جراح مدافع الجٌش الفرنسً حتى
تبلطمت أمواج سواحل رشٌد معلنة عن قدوم الؽازي اإلنجلٌزي ممثبل فً "حملة فرٌزر" سنة .ٔ8ٓ9
وهنا اهتزت أعصاب محمد علً والممالٌك لما خبروه من صبلبة جٌش اإلنجلٌز فً حربه مع
الفرنسٌس "وتخبطت الركب" ،وٌصؾ حالهم الجبرتً بؤنهم تسابقوا فً بٌع ممتلكاتهم وآثاثهم وتحوٌله إلى
ذهب وأموال لٌسهل حمله استعدادا للهرب من مصر ،واستعد محمد علً للهرب إلى الشام إذا ما احتل
اإلنجلٌز القاهرة ،ولكن لما وصلتهم البشاٌر من رشٌد تحمل رإوس القتلى اإلنجلٌز واألسرى اطمبنت
نفوسهم.
فعلى عكس جبن هإالء ،تلقت رشٌد اإلنجلٌز بالحٌلة الشهٌرة ،وأربكت صفوفهم ،وشارك عمر مكرم
فً حشد المقاومة ضد اإلنجلٌز ،كما فعل سابقا فً حشدها ضد الممالٌك والوالً العثمانلً والفرنسٌس،
حتى أن الجبرتً ٌقول" :نبَّه السٌد عمر النقٌب على الناس ،وأمرهم بحمل السبلح والتؤهب لجهاد اإلنجلٌز،
حتى مجاوري األزهر أمرهم بترك حضور الدروس ،وكذلك أمر المشاٌخ بترك إلقاء الدروس".
ومن مشاهد ندالة المرتزقة أن رشٌد أرسلت تستؽٌث بالقاهرة بعد تؤخر المدد ،فؤظهر األتراك وفرق
المؽاربة والدالة والممالٌك استعدادهم للذهاب ومحاربة اإلنجلٌز ،وجمعوا أمواال كثٌرة فً شكل تبرعات
من الناس ،وخرجوا من القاهرة ،ولكن لم ٌتجهوا إلى رشٌد ،بل توزعوا بٌن المنوفٌة والؽربٌة وبوالق
وشبرا لـ "ٌجمعوا من الناس المال والمؽارم والكلؾ ،فخطفوا البهاٌم قهرا من أصحابها ،وخطفوا النساء
والبنات والصبٌان ،وفجروا بالنساء وافتضوا األبكار والطوا بالصبٌان ،وأخذوهم وباعوهم فٌما بٌنهم حتى
باعوا البعض بسوق مسكة" كما قال الجبرتً ،وهكذا فعل من ٌدعون حماٌة المسلمٌن بالمسلمٌن وقت
الحرب.
وعلق الجبرتً على هذه الجرابم ساخرا" :وهكذا تفعل المجاهدٌن" ،مشٌرا إلى أن كثٌرا من الناس من
كثرة قهرهم مما حدث "تمنوا مجا اإلفرنج من أي جنس كان وزوال هإالء الطواٌؾ الخاسرة الذٌن لٌس
لهم ملة وال شرٌعة" ،بل كان كلما صرخ األهالً وهم ٌمنعونهم مما ٌفعلونٌ" ،زاداد حقدهم وعداوتهم ]أي
حقد ملٌشٌات األتراك والمؽاربة والممالٌك على المصرٌٌن[ ،وٌقولون :أهل هذه الببلد لٌسوا مسلمٌن ألنهم
ٓٓٗ
ٌكرهونا وٌحبون النصارى ،وٌتوعدونهم إذا خلُصت لهم الببلد".
وٌعلق الجبرتً بسخرٌة مرة أخرى" :وال ٌنظرون لقبح أفعالهم"؛ أي أن هإالء المرتزقة ٌؤتون بكل
أشكال الفجور والرزاٌا وال ٌشعرون أن هذا شًء ٌستحق المبلمة.
وهكذا فعل المملوك ٌاسٌن بك وعساكره فً الوجه القبلً بالفٌوم وأطفٌح وؼٌرهما ،ؼٌر عاببٌن بما فٌه
الناس من ضٌق أو فٌه البلد من خطر اإلنجلٌز ،وإذا قاومهم أهل قرٌة أوقدوا فٌهم النٌران ،وحرقوا جرونهم
ونهبوهم أكثر كما فعلوا فً أطفٌح.
ولما انتصرت رشٌد وحماد ،وجبل اإلنجلٌز ،نزل األتراك على حمَّاد وما جاورها "واستباحوا أهلها
ونساءها وأموالها ومواشٌها ،زاعمٌن أنها صارت دار حرب بنزول اإلنجلٌز علٌها وتملكها" ،كما قال
الجبرتً ،وبعدها "نزلوا على رشٌد وضربوا على أهلها الضراٌب ،وطلبوا منها األموال والكلؾ الشاقة"
فثار علٌهم كبٌرها حسن كرٌت وقال" :أما كفانا ما وقع لنا من الحروب وهدم الدور وكلؾ العسكر
ومساعدتهم ومحاربتنا معهم ومعكم ،وما قاسٌناه من التعب والسهر وإنفاق المال ،ونجازى منكم بعدها بهذه
األفاعٌل؟!" ،واضطر كثٌر من أهالً رشٌد وحماد للطفشان منهما إلى القاهرة هربا من هذا الشٌطان
العثمانً المملوكً الرجٌم(ٖٗ).
قطؾ محمد علً ثمار النصر -رؼم وقوفه متفرجا على المناضلٌن ضد اإلنجلٌز واستعداده للهرب -بؤنه
بعد انسحاب اإلنجلٌز لئلسكندرٌة مخذولٌن و َّقع معهم معاهدة دمنهور وبموجبها تم الجبلء اإلنجلٌزي فً
ٔ9سبتمبر ،ٔ8ٓ9فصارت له نفوذ استقوى به أمام السلطان العثمانلً والممالٌك.
إن انتفاضة ٗٓ ٔ8تكسب أهمٌتها فً التارٌخ المصري من أن الناس ثاروا ضد والً السلطان
العثمانلً ،أي تحدوا السلطان وش لـ وش رؼم مكانته الدٌنٌة المصطنعة ،بؤمل إزالة مظالم الـ ٓٓ ٙسنة
من حكم الممالٌك والـ ٖٓٓ سنة من حكم ال ُؽز العثمانلٌة ،وتوهم ثوارها أن الرحمة والحرٌة ستؤتً ممن
ضحوا ألجله ،من محمد علً ،لكنهم فوجبوا بالحقٌقة.
أخلؾ محمد علً وعده مع عمر مكرم والمشاٌخ ،ففرض ضراٌب شدٌدة على الناس لتموٌل معركته مع
الممالٌك ،وفوجا الناس بقسوته التً خببها حتى ٌتمكن من الحكم ،وفً ٔ8ٓ9هاج الناس وذهبوا إلى عمر
مكرم والمشاٌخ ٌشكون ما فرضه محمد علً من ضراٌب جدٌدة فً أراضً الوسٌة واألوقاؾ ،وعلم محمد
علً باجتماعهم فؤرسل لهم دٌوان أفندي لٌدعوهم للقاءه ،فؤجابوا" :ال نذهب إلٌه أبدا ما دام ٌفعل هذه
الفعال ،فإن رجع عنها وامتنع عن إحداث البدع المظالم عن خلق هللا رجعنا إلٌه وترددنا علٌه كما كنا فً
السابق؛ فإننا باٌعناه على العدل ال على الظلم والجور"؛ فؤخذ الباشا محمد علً ٌدبر فً تفرٌق كلمة العلماء
(ٖٗ)
-لمراجعة ما سبق ومزٌد من تفاصٌل هذه األٌام انظر :عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار ،ج ٗ ،تحقٌق عبد الرحٌم عبد الرحمن عبد الرحٌم،
دار الكتب والوثابق القومٌة ،ٔ998 ،ص ٖ9ٕ -9
ٔٓٗ
وقلوبهم ،وبتعبٌر الجبرتً" :أخذ الباشا ٌدبر فً تفرٌق جمعهم وخذالن السٌد عمر لما فً نفسه منه من عدم
إنفاذ أؼراضه ومعارضته له فً ؼالب األمور ،وٌخشى صولته وٌعلم أن الرعٌة والعامة تحت أمره إن شاء
جمعهم وإن شاء فرقهم ،وهو الذي قام بنصره وساعده وأعانه وجمع الخاصة والعامة حتى ملَّكه اإلقلٌم".
وتحقق له هذا ،خاصة لما ٌحمله بعض المشاٌخ من ضؽٌنة على عمر مكرم ،فذهب بعضهم إلى الباشا
فً القلعة ،فً حٌن امتنع عمر مكرم وآخرون ،وقال لهم محمد علً شاكٌا عمر مكرم" :فً كل وقت
ٌعاندنً وٌبطل أحكامً وٌخوفنً بقٌام الجمهور ،فقال الشٌخ المهدي هو لٌس إال بنا وإذا خبل عنا فبل ٌسوى
بشًء" ،فواصل محمد علً مستقوٌا بهذا الصدع" :وأما ما تفعلونه من التشنٌع واالجتماع باألزهر فهذا ال
ٌناسب منكم ،وكؤنكم تخوفونً بهذا االجتماع وتهٌٌج الشرور وقٌام الرعٌة كما كنتم تفعلون فً زمان
الممالٌك ،فؤنا ال أفزع من ذلك ،وإن حصل من الرعٌة أمر ما فلٌس لهم عندي إال السٌؾ واالنتقام".
" وإن حصل من الرعٌة أمر ما فلٌس لهم عندي إال السٌؾ واالنتقام" !
ولما عاد العلماء إلى عمر مكرم وهو ممتلا ؼٌظا من خطوتهم االنفرادٌة بالذهاب لمحمد علً تحججوا
بما علموه من محمد علً ،وأنه "ال نحب ثوران الفتن" ،ثم قاموا منصرفٌن "واستمر القال والقٌل ،وكل
حرٌص على حظ نفسه وزٌادة شهرته وسمعته ومظهر خبلؾ ما فً ضمٌره" ،بتعبٌر الجبرتً ،وفً
مواجهة أخرى بٌنهم مع استمرار محمد علً فً ابتداع ألوان الف َِرد صاح فٌهم عمر مكرم" :فقد عاد وزاد
وأنتم توافقونه وتساٌرونه وال تصدونه وال تصدعونه بكلمة ،وأنا الذي صرت وحدي مخالفا وشاذا ،ووجَّ ه
علٌهم اللوم فً نقضهم العهد واألٌمان".
وفرض محمد علً أمواال جدٌدة بحجة إقامة سد ترعة الفرعونٌة وحفر الخلجان والترع وعمارة القلعة
وتكملة ما نقص من المال المٌري بسبب شراقً األرض ،وبعث إلى عمر مكرم لٌوافقه على هذا وٌهدأ
هٌاج الناس ،فامتنع وقال" :أما ما صرفه على سد الترعة فإن الذي جمعه وجباه من الببلد ٌزٌد على ما
صرفه أضعافا كثٌرة ،وأما ؼٌر ذلك فكله كذب ال أصل له ،وإن وجد من ٌحاسبه على ما أخذه من القطر
المصري من الفرض والمظالم لما وسعته الدفاتر" ،فما كان من محمد علً إال أن عزل عمر مكرم من
منصب نقٌب األشراؾ ومنحه للسٌخ السادات ،وأمر بنفً مكرم إلى دمٌاط ،وقرَّ ب إلٌه من وجد فً نفسه
طمع من المشاٌخ(ٗٗ) ،وهكذا شتت شمل القوة التً ساعدت فً رفعه ،والقوة الوحٌدة التً ٌلجؤ إلٌها الناس
إلنصافهم منه ،فتفشكلت صبلبة الجمع ،وانفرد بالناس.
∎ (الحكم المركزي)
اختلؾ محمد على عمن قبله من الممالٌك فً أنه رؼم احتفاظه بوسابل الممالٌك والمرتزقة فً نزع
(ٗٗ)
-راجع تفاصٌل األزمة بٌن محمد علً وعمر مكرم والناس فً :عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار ،ج ،ٙص ٕ8ٓٓ -99
ٕٓٗ
المال بكل أسالٌب شٌطانٌة من عروق المصرٌٌن ،وأسالٌب التعذٌب والعقاب الداعشٌة مع الفبلحٌن
وخصومه ،وأن مجده الشخصً فوق الجمٌع ،إال أن هذا المال لم ٌنفقه كله على مشارٌع مظهرٌة مثل بناء
المساجد الفخٌمة أو القبلع الخاصة والقصور فقط ،وإنما بجانب هذا أنفق على إعادة بناء مإسسات الدولة
على الطراز العلمً؛ متؤثرا فً هذا بالفرنسٌس ونابلٌون كقدوة له ،بل معظم مشارٌعه التحدٌثٌة هً مشارٌع
الحملة الفرنسٌة فً األساس ،وإن كانت ستقوم بها لصالح جٌش الفرنسٌس وتوسعه اإلمبراطوري.
واستلم محمد علً مصر "وهً جاٌبة آخرها" بعد سنٌن طوٌلة من تسٌٌر البلد ببل حكومة حقٌقٌة،
تحكمها عصابات مملوكٌة تتصارع مع بعضها ومع الوالً العثمانلً والعربان وبقٌة الجالٌات على النفوذ
والمال دون اهتمام كافً بالزرع والتعلٌم والصحة ،فقرر أن تكون زمام األمور كلها فً ٌد واحدة ،والعودة
لنظام الحكومة المركزٌة ،باعتبارها أول خطوة تساعده لبلنطبلق باطمبنان للمشارٌع الكبٌرة.
وبعد مذبحة القلعة ،لملم ملكٌة األراضً فً ٌده وحده لٌقصقص رٌش من تبقى من الممالٌك وكبار
األؼنٌاء بإلؽاء نظام االلتزام ٗٔ ٔ8لٌقطع عنهم مصدر قوتهم وتموٌلهم وهو األراضً ،وهو ٌعلم أن
مشارٌعه لن تظهر ثمارها سرٌعا ،ورؼم هذ استمر فٌها ،واتضح أنه كان ٌنتوي تحوٌل الحكم إلى وراثً
لصالح ذرٌته وٌبنً هذا لهم ،ف ُنقل عنه" :إن ثمرة ؼرسً سٌجنٌها أحفادي من بعدي ،ألن ببلدا ع َّم فٌها
االرتباك وساد ،ودرست (انداست) فٌها معالم الحكومة وآثارها ،وأصبح أهلها فً الدور األول من النشء،
وبلؽوا من الجهل درجة ال ٌتسنى لهم معها أن تقوم بعمل نافع :ال ٌدخلها التمدٌن إال ببطء(٘ٗ)".
وإن كان خاب ظن محمد علً فً أن التمدٌن سٌدخل مصر ببطء ،فمن تعلم من المصرٌٌن دخله
استوعب التطور بؤسرع مما ظن ،فبمجرد اتصالهم بالعلوم الحدٌثة خبلل البعثات خرج منهم األفذاذ من أول
مرة ،مثل رفاعة الطهطاوي وعلً مبارك ،ولم ٌستؽرق الموضوع أجٌاال مثلما حدث مع دول أخرى،
فكانوا كقطع الذهب المخفً تحت أكوام التراب ،بمجرد أن زال التراب ،ظهر الذهب سلٌما والمعا.
ولم ٌستطع أن ٌبدأ كل إصبلحاته فً وقت واحد ،فاستؽرق أول ٙسنٌن من حكمه فً التخلص من
مراكز القوى حتى مذبحة ٔٔ ،ٔ8أما اإلصبلح اإلداري فبدأ ٔ8ٕٙلٌرمم اإلدارة المفككة ،واقتدى بنظام
الدٌوان الذي أقامه نابلٌون ،فعمل دٌوانا جدٌدا ،ومجلس شورى أسماه "مجلس المشاورة الملكً" ،أعضاإه
من اختٌاره ،وأنشؤ دواوٌن متخصصة بمثابة الوزارت ،كدٌوان التجارة ،ودٌوان الترسخانة "الصناعة"،
ومجلس المشاورة العسكرٌةٌ ،دٌر كل هذا بنفسه ،وٌتصرؾ فً مالٌة البلد منفردا(.)ٗٙ
علم الباشا الجدٌد أن مشارٌعه االقتصادٌة وتؤسٌس جٌش نظامً ،إضافة إلى الهداٌا الضخمة للسلطان،
ٌحتاجون أمواال ضخمة ،ولن ٌتسنى له جمعها إال بؤن تكون ثروة الببلد كلها تحت ٌده.
فبعد نزع السٌطرة على معظم األراضً وإلؽاء نظام االلتزام أصبح هو المالك األوحد لها تقرٌبا ،بما
(٘ٗ)
-انظر :مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر ،مرجع سابق ،ص ٔٗٔ
()ٗٙ
-انظر :نفس المرجع ،ص ٖٗٔٔٗٗ -
ٖٓٗ
فٌها األوقاؾ اللً أصبحت تحت رعاٌته وتصرفه بدال من العلماء ،واستخدم فً ذلك الشدة أحٌانا واإلقناع
أحٌانا ،وجمع كل حجج المِلكٌة من المبلك بطرٌق الحٌلة وأعدمها ،ولم ٌستطع الوقوؾ أمامه القضاة ،وال
لقٌت شكاوى الناس مجٌبا ،وسمح لعدد قلٌل باالستحواذ على أراضً ،خاصة األمراء من عابلته وأصحاب
الحظوة عنده ،والموظفٌن األجانب الذٌن استجلبهم من أوروبا والشام.
وعن التصرؾ فً المحصول نصَّب محمد علً نفسه التاجر األكبر والمحتكر األوحد للمحاصٌل ،فجزء
من المحصول الذي ٌنتجه المزارع ٌإخذ منه كضراٌب ،والباقً ٌشترٌه هو ،ومنعهم من بٌعه للتجار ،ثم
ٌبٌعه لتجار األجانب بثمن أؼلى وتصرفه على المشروعات وتجهٌز الجٌش.
وكان ممكن أن تعود هذه اإلصبلحات بتعدٌل حٌاة الفبلحٌن والتخفٌؾ عنهم ،لكن العكس هو ما حصل؛
ألن الفبلحٌن تحملوا فً هذا مؽارم كبٌرة؛ إذ كانت تشترى محاصٌلهم بؤثمان بخسة وموازٌن مؽشوشة،
فضبل عن أنهم ال ٌؤخذون ثمنها نقدا ،بل معظم األحٌان ٌجبرون على أن ٌبادلوا بها مصنوعات معامل
الحكومة تروٌجا لها ،بحسب وصؾ صاحبً كتاب "مصر من الفتح العثمانً حتى قبٌل الوقت الحاضر"
الصادر ،ٔ9ٔٙوأضافا أنه ساعده فً إجبار الفبلحٌن على هذا أنه ٌترك لعمدة كل قرٌة توزٌع األراضً
على الفبلحٌن حسب اختٌاره ،و"ما أشبه الفبلح فً هذه الحالة بالحٌوان تحت رحمة العمدة ،أما العمدة فكان
مثله كمثل السوط فً ٌد المدٌر الذي كان صاحب البؤس والسطوة ال ٌسٌطر علٌه إال الوالً مالك مصر
الوحٌد"(.)ٗ9
ومع هذا ،بالػ فً فرض الفرد واإلتاوات على الناس ،مرة بحجة تقدٌم مرتبات العسكر ،ومرة بحجة
تموٌل الحمبلت على الوهابٌٌن ،حتى قلت المواشً واأللبان واللحوم ،وترك عسكره األرناإوط ٌتخطفون
من أٌدي الفبلحٌن الجبن والسمن والبٌض القلٌل الذي معهم وهم ٌبٌعونه فً سوق إنبابه ،وٌسخر الجبرتً
من األرناإوط بعد أن لبسوا المبلبس الفخٌمة وركبوا الخٌول المسومة بالسروج المذهبة وحولهم العبٌد
والخدم بقوله" :ووصل كل صعلوك منهم لما ال ٌخطر على باله أو ٌتوهمه أو ٌتخٌله وال فً عالم الرإٌا"،
واصفا إٌاهم بالجهل واالنحراؾ وعدم الدٌن(.)ٗ8
()ٗ9
-انظر :المرجع السابق ،ص ٘ٗٔٔٗ8 -
()ٗ8
-عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار ،ج ،ٙص ٗ٘ٗٗ٘٘ -
ٗٓٗ
الضخمة(.)ٗ9
اهتم إسماعٌل بعده بالزراعة؛ فاستصلح الفبلحون مساحات واسعة حتى زادات مساحة األراضً
الزراعٌة ٖٓ ،%وحفروا ٕٓٓ ترعة ،ومدوا آالؾ األمٌال من الطرق الزراعٌة ،وأنشؤوآٓ٘ كوبري
أشهرها كوبري قصر النٌل ،وخط حدٌدي من القاهرة ألسٌوط لتسهٌل حركة نقل المحاصٌل ،وزادت
زراعة القصب والقطن خصوصا وقت الحرب األهلٌة األمرٌكٌة اللً منعت قطن أمرٌكا عن العالم ،فزادت
أسعار القطن زٌادة ؼر متوقعة(ٓ٘).
ومن أسوأ ما فعله إسماعٌل فً الزراعة هو جشعه فً تملك األراضً ،واؼتصابها من أصحابها بطرق
ملتوٌة ،فتملك ُخمس أراضً مصر الزراعٌة ،وتجرع القهر من ورابه الفبلحون الذٌن كدحوا طوٌبل حتى
ٌصبحوا أصحاب أمبلك صؽٌرة أو مستؤجرٌن ،وٌوضح ذلك عبد هللا الندٌم فً مقالة بصحٌفة "الطابؾ"
بتارٌخ ،ٔ88ٕ -٘ -ٙتحت عنوان "الفصل الثالث فً سلب األمبلك"" :كان ٌتلذذ بؤنٌن المظلومٌن وحنٌنهم
وتضرعهم وتؤوهم وتضجرهم ،وٌبتهج بتمثٌل ذلك وتصور وقوعه فً المستقبل".
وٌتابع" :فبث أعوانه أهل السوء فً الجهات ٌتخٌرون له األرضً الجٌدة للتربة الخصبة الطٌنة القرٌبة
من المٌاه الوافرة الحاصٌل؛ فانتشروا فً األنحاء تحت اسم العمال المؤمورٌن ،وهم اللصوص السارقون من
كل صخري الفإاد ،ردئ المنبت ،فانتقوا له خٌر البقاع فً أفضل المواقع ،وكلما أنبؤه أحدهم بشًء من ذلك
طلب إلٌه أهل البلد التابعة له األرض وألزمهم بالبٌع له قهرا على شرط أن ٌقولوا طوعا ،فإن لم ٌفوهوا بها
اختٌارا ،أكرهوا علٌها ،ثم ٌجٌا بالمشاٌخ أهل البلد وجٌرته ،وٌحضروا لدى القاضً ألداء الشهادة بالمباٌعة
وإسقاط المنفعة على مبلػ معلوم من النقود ال ٌساوي معشار القٌمة الحقٌقٌة ،وٌسجل ذلك فً المحكمة
الشرعٌة على أنهم قبضوا الثمن ،فكان الفدان الذي ٌساوي ٓ 9جنٌها أو ٌٓ 8ؤخذه من أربابه بـ ٓٔ أو 8
جنٌهات بالرؼم عنهم ،ثم ال ٌسلم إلٌهم النقود ،بل ٌنظر فً شؤنهم فإن كان علٌهم متؤخرات من األموال
والمقابلة أو أي نوع من أنواع الضراٌب أقٌم ما لهم من الثمن فٌما علٌهم من المتؤخر ،وذهبت األرضً من
أٌدٌهم بدون عوض ،فإن لم ٌكونوا كذلك أعطٌت لهم األراضً (أي التً أخذت منهم) ،باإلٌجار فً السنة
التً انتقل فٌها الملك" ،وبمثل هذه الممارسات "ٌخرجون من ملكهم كؤن لم ٌكونوا مالكٌه !".
وضرب أمثلة" :هكذا كان ٌفعل فً جمٌع الجهات التً حدد فٌها ملكا فً األراضً الزراعٌة آلل بٌته،
ولقد فعل فً أرض الشباسات وقوتة والبكدوش وسخا وقلٌن وما واالها من الببلد فعبل وحشٌا ،وهو أنه بعد
ما نهبها من أصحابها قلب من أراضً القمح وهو متهٌا إلخراج السنابل ما أراد أن ٌزرعه قطنا ،وأجَّ ر
الباقً ألربابه كل فدان ٙجنٌه ،وخصم بقٌة الثمن فٌما كان علٌهم من أموال تلك السنة ،وقس على ذلك
أراضً الساقٌة وكفر البطٌخ وكفر الحمام وهٌا وأبً كبٌر والقرشٌة وؼٌرها من أراضً فً الوجه القبلً
التً اؼتصبها من مبلكها ثم أعدمهم فً زراعتها ببل أجرة".
()ٗ9
-انظر :مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر ،مرجع سابق ،ص ٖٓ٘ٔٔ٘ -
(ٓ٘)
-انظر :تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر ،المرجع السابق ،ص ٕٖ8 -ٕٖٙ
٘ٓٗ
و"مثل ذلك كان ٌعمل إسماعٌل فً العقارات التً ٌرٌد أن ٌمتلكها لٌنشًء فٌها عمارات وسراٌات كما
فعل فً جزٌرة العبٌد المجاورة لقصر النٌل (أرض الجزٌرة حالٌا) وؼٌرها من األماكن ،حتى صار له
بط رٌق الملك فً الدٌار المصرٌة مالم ٌكن لسلطان قبله فضبل عن أمٌر كما ٌُعلم من االطبلع على سجبلت
األمبلك التً امتلكها ،وآل إلٌه ملٌون فدان وكسور من أجود األراضً وأخصبها".
وطرٌقة أخرى هً التطفٌش ،بمعنى أن من عودهم وعودوه على الفساد "كانوا ٌكلفون األهالً بؤداء ما
لم ٌكن علٌهم من الضراٌب والرسوم فً ؼٌر وقتها ،أو باختراع أعمال تضطرهم على القٌام بها لتكون
وسٌلة الستعمال وسابل اإلذالل والتضٌٌق حتى ٌحتاج األهالً إلى مفارقة أوطانهم والتخلً عن أمبلكهم
وتقدٌمها إلى حضرته بزهٌد الثمن ودنا القٌمة".
وٌتابع" :وال تنسى ما أصٌب به كثٌر من المبلك فً أطراؾ القاهرة عند انتزاع أمبلكهم؛ إذ خرجوا من
أماكنهم مكرهٌن قبل أن ٌجدوا لهم مسكنا ٌؤوون إلٌه ،فؤقاموا أٌام بل أسابٌع فً جوانب الطرق والجسور
مع نسابهم وأبنابهم وأثاث بٌوتهم على حال ٌنفطر لها الجماد!"(ٔ٘).
وفً الصناعة ،قامت أٌام محمد علً معامل (مصانع) للؽزل ونسج القطن والحرٌر والكتان والصوؾ
والجوخ والطرابٌش وللسكر والزٌت ،إضافة للمصانع الحربٌة كالمسابك ولوازم األسطول ،بضؽط شدٌد
العتصار الفبلحٌن حتى آخر قطرة ،لٌنجز أكبر عدد منها فً أقل وقت ،وخدمة توسعات الجٌش ،وبعض
هذه الصناعات كانت موجودة قبل محمد علً ،لكن القابمٌن علٌها كبَّروها ونشروا مصانعها ،أو حسَّنوا
إنتاجها ،وساعدته وفرة االنتاج فً الصرؾ على فتوحاته ،وإرضاء إسطنبول بالمال الوفٌر.
وكثٌر من المصانع توقفت وأؼلقت أبوابها فً آواخر حٌاته بسبب الحصار الذي فٌرض علٌه من
السلطان العثمانلً بالتحالؾ مع اإلنجلٌز رؼم كل األموال التً أرسلها له كجزٌة وهداٌا ورشاوى ،حتى قال
مهندس إنجلٌزي زار دار الصناعة ببوالق عقب وفاته إنه وجد فٌها من اآلالت المهملة ما ال تقل قٌمته عن
ملٌون وٕٓٓ ألؾ جنٌه(ٖ٘) ...شقا الفبلحٌن.
(ٔ٘)
-عبد هللا الندٌم خطٌب الثورة العرابٌة ،نجٌب توفٌق ،مكتبة الكلٌات األزهرٌة ،القاهرة ،ص ٓٔ8ٕ -ٔ8
*** مسلسل بوابة الحلوانً (تؤلٌؾ محفوظ عبد الرحمن وإخراج إبراهٌم الصحن) قدم إسماعٌل فً صورة الحاكم الوطنً وخفٌؾ الدم بشكل حبب
مشاهدٌن كثٌرٌن فٌه ،ولم ٌتعرض كما ٌجب لجراٌ مه فً نهب األراضً وتسخٌر واستنزاؾ الفالحٌن رجال ونساء وأطفال وطردهم من أراضٌهم
لٌوزعها على خاصته أو ٌبنً فوقها قصورا وعمارات ٌسكنها المستوطنون األجانب ،وال فً تفضٌله الشركس على المصرٌٌن فً الجٌش ،وال
إنفاقه دٌون مصر على مشارٌع معظمها انتفع به األجانب أكثر من المصرٌٌن حتى كاد ٌعلن اإلنجلٌز إفالسها ،وال تعرض لثروته الطابلة التً جعلته
قارون العصر واستحوذ علٌها بالحرام ،وذلك رؼم أن جراٌمه موثقة على ٌد المعاصرٌن له من مصرٌٌن وأجانب ،بما فٌهم مقربٌن منه.
(ٕ٘)
-قصٌدة أنا ولٌلى ،كلمات حسن مروانً ،ألحان وؼناء كاظم الساهر
(ٖ٘)
-مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر ،مرجع سابق ،ص ٔ٘ٓ-ٔٗ9
ٗٓٙ
ولما تولى حفٌده عباس األول الحكم عام ٔ8ٗ8أؼلق معظم ما تبقى من مصانع ومدارس ،وخ َّفض
الجٌش من ٔ8ألفا إلى 9آالؾ ،وأظهر مٌله للنظم التركٌة أكثر من الؽربٌة ،وطرد معظم الموظفٌن
الؽربٌٌن ،ولم ٌكن مٌاال للمؽامرات(ٗ٘) ،لكن عهده لم ٌخ ُل من بعض المشروعات ،ففٌه م َّد أول خط حدٌدي
سنة ٕ٘ ٔ8بٌن القاهرة واإلسكندرٌة بتشجٌع من اإلنجلٌز لٌسهل حركة نقل تجارتهم وبرٌدهم القادم من
الهند إلى اإلسكندرٌة ،إضافة إلى تنفٌع مصانع إنجلترا التً اشترى منها عباس عربات القطارات ،واستقدام
خبراء إنجلٌز بمرتبات ضخمة للعمل بها وإدارتها ،أما مصر فلم ٌكن لها فابدة كبٌرة منه حٌنها ،وانتهت
حٌاة عباس بالقتل فً قصره ٗ٘.ٔ8
ولم ٌخ ُل عهد خلفه سعٌد من مشارٌع كبٌرة ،فتواصل مشروع السكة الحدٌد وحفر الترع وؼرس
األشجار ،ورؼم قٌادة األجانب لهذه المشارٌع ،إال أنها قامت على أكتاؾ المصرٌٌن أٌضا ،ففً مشروع
السكة الحدٌد مثبل بٌن القاهرة واألسكندرٌة شارك ٕٓ ألؾ عامل مصري ٌقومون باألعمال الشاقة ،إضافة
إلى ٓٓ٘ عامل برٌطانً وٓٓ٘ عامل أوروبً ،و ٔ8مهندسا برٌطانٌا ،وقٌل إنه استعان أٌضا بالمصرٌٌن
المهندسٌن خرٌجً البعثات إلى أوروبا فً زمن أبٌه.
وسعت برٌطانٌا بكافة الطرق لشراء السكة الحدٌد مقابل بعض الدٌون على مصر ولكنها فشلت ،وإن
استولوا على المناصب الهامة فٌها رؼم أن الكثٌر منهم ؼٌر كؾء لها ،حتى أنه فً ٌولٌو ٔ8ٙ9تم رفت
ٕ8مهندس برٌطانً لكثرة الشكوى منهم(٘٘).
∎ (تحدٌث التعلٌم)
وصؾ جمال حمدان حال المصرٌٌن بعد ٖٓٓ عام من حكم العثمانلٌة بؤنهم خرجوا منه كما خرج فتٌة
أهل الكهؾ من كهفهم المظلم لٌفاجبوا بعالم جدٌد وؼرٌب.
ولوال التراث الحضاري الكامن فً المصرٌٌن وترجموه فً الحرؾ التً ظلوا ٌبدعونها فً كل عصور
االحتبلالت (ما زالت الرموز المصرٌة كزهرة سشن "اللوتس" والجعران خبر والخراطٌش وكرانٌش
المعابد وعبلمة عنخ (مفتاح الحٌاة) ولفة شعر حتحور ورع المجنح والصقر حور تظهر فً أعمال النجارة
والحدادة والحلً الرٌفً والنسٌج الٌدوي حتى الٌوم على سبٌل المثال) ،ولوال القٌم األصٌلة (ماعت) التً
حافظت على كثٌر منها عزلتهم داخل األرٌاؾ ،لما بقً من هوٌة مصر شًء.
فلما أراد محمد علً التحدٌث أرسل بعثات إلى أوروبا ،أولها إلٌطالٌا ٖٔ ٔ8ثم لفرنسا ،ٔ8ٔ8وتلقاها
جومار ،وهو كما ٌقول عمر طوسون ،حفٌد محمد علً ،كان عضوا فً حملة نابلٌون على مصر ،وشارك
فً كتاب "وصؾ مصر" ،وأقنع طبلب البعثة وخاصة عثمان نور الدٌن المقرب من محمد علً بؤن ٌرسل
بعثات أكبر لفرنسا( ،)٘ٙوٌُفهم من ذلك أن مشروع السٌطرة الذي فشل نابلٌون فً فرضه على مصر
(ٗ٘)
-انظر :نفس المرجع ،ص ٖٕٓ
(٘٘)
-انظر :الجالٌة البرٌطانٌة فً مصر (٘ٓ ،)ٔ88ٕ -ٔ8ناهد السٌد علً زٌان ،دار الكتب والوثابق القومٌة ،القاهرة ،ص ٕٔ9 -ٕٔ9
()٘ٙ
-انظر :البعثات التعلٌمٌة فً عهد محمد علً ثم فً عهدي عباس األول وسعٌد ،عمر طوسون، ،مطبعة صبلح الدٌن ،اإلسكندرٌة ،ص ٔٔ -ٙ
ٗٓ7
بالسبلح سعى الفرنسٌس لفرضه بجذب وجدان حكام مصر الجدد والمتعلمٌن إلى فرنسا بؤن ٌتعلموا فٌها،
فٌرتبطون بثقافتها ،وٌنشروها فً مصر ،فٌكون لها السٌطرة من وراء الستار بتوجٌه "النخبة" لما ترٌده
هً ..حتى تحٌن لها الفرصة ذات ٌوم لتعود بدعم "أصحاب الثقافة الفرنسٌة" كتجربتها فً احتبلل لبنان.
وبعثة سنة ٔ8ٕٙلفرنسا هً األكبر فً عدد التبلمٌذ ،وربما األكبر فً عدد المصرٌٌن ،ألن أكثر
الطبلب فً بقٌة البعثات السابقة من األرمن والترك والجورجٌٌن وعٌلة محمد علً وؼٌرهم من
مستوطنٌن.
وفً هذه البعثات بزغ من المصرٌٌن رفاعة رافع الطهطاوي الذي صار رابدا فً علوم اللؽة والسٌاسة
والتعلٌم ،وعلً باشا مبارك رابد التعلٌم والجؽرافٌا ،و محمد علً البقلً الذي صارا مدٌرا لمدرسة الطب
(عمٌدا) ،وأصدر أول مجلة طبٌة باللؽة العربٌة هً "الٌعسوب".
ونبوغ هإالء فً علوم متقدمة بشكل حدٌث ،وبلؽة لم ٌسمعوها من قبل ،وهً الفرنسٌة ،وفً ببلد لم
ٌطؤوها من قبل معجزة فً حد ذاتها ،تحدث عنه الفرنسٌون أنفسهم الذٌن درسوا للبعثة ،ومنهم المسٌو
جومار ،وتعجبوا من سرعة استٌعابهم السرٌع للعلوم الجدٌدة.
وداخلٌا ،سعى محمد علً لتعلٌم المستوطنٌن األجانب وعدد من المصرٌٌن ،فهو وإن كان ٌرى أن
األوروبٌٌن أكثر علما فً زمانه ،إال أنه ٌعلم أٌضا أن ال مؤمن لهم ،وٌعرؾ الطمع الفرنسً واإلنجلٌزي فً
مصر ،فبل ٌرٌد أن ٌترك لهم األمور لوحدهم ،فشجع أولٌاء األمور على التعلٌم بالتكفل بالصرؾ على
التبلمٌذ وأكلهم وإعطابهم رواتب شهرٌة ،وإذا رفض األهالً إرسال أبنابهم للمدارس ٌؤخذهم ؼصبا،
وٌقٌدهم بالسبلسل ،وتؤسست ٓ٘ مدرسة ابتدابً تعلم فٌها ٔٔ ألؾ تلمٌذ ،وخصص مدرسة لتعلٌم أوالده
وأوالد األؼنٌاء واألجانب تعلم فٌها ٓٓ٘ تلمٌذ.
وتؤسست مدارس للطب سنة ٔ8ٕ9لتخرٌج أطبا الجٌش كان لها دور فً لفت نظر المصرٌٌن لخطورة
التمابم واألحجبة التً أؼرقتهم فً االحتبلل المملوكً والعثمانلً ،وتؤسست مدارس للطب البٌطري
والهندسة والموسٌقى والتعلٌم الفنً واأللسن ،ومدرسة األلسن شار علٌه بها رفاعة الطهطاوي لتستؽنً بها
مصر عن األجانب عندما ٌصبح المصرٌون قادرون على الترجمة ونقل العلوم ،وظهرت نجابة التبلمٌذ فً
االختبارات رؼم حداثة رجوع المصرٌٌن للتعلٌم.
لكن عباس توقؾ عن إرسال البعثات ،وكذلك سعٌد الذي أهمل التعلٌم؛ ألنه اعتقد أن فتح المدارس ٌنبه
عقول عامة الناس فٌجعل قٌادتهم أمرا عسٌرا(.)٘9
فلما استلم إسماعٌل حكم مصر كانت معظم المدارس مقفولة مثل المصانع ،ففكر فً العودة لتعلٌم أهل
الببلد ،وساعده فً ذلك "خصب مدارك المصري وقوة حافظته التً ال تضارع فً أكثر الشعوب ،ولما له
()٘9
-مصر من الفتح العثمانً إلى ما قبٌل الوقت الحاضر ،مرجع سابق ،ص ٘٘ٔ ،ٔ٘8 -وٕٓ9
ٗٓ8
من المجد األثٌل والباع الطوٌل والمٌل القدٌم للعلوم والمعارؾ" ،بحسب تعبٌر مإلفً كتاب " مصر من
الفتح العثمانً إلى ما قبٌل الوقت الحاضر" ،ووصل عدد التبلمٌذ إلى ٔٗٓ,999ألفا ،وعدد المدارس
،ٗ8ٔ9بخبلؾ األزهر الشرٌؾ والمدارس الحربٌة والمدارس األجنبٌة ،وزادت مٌزانٌة التعلٌم إلى ٓٗ
ألفا ،و أنشؤ علً مبارك دار الكتب جمع فٌها كتب التراث ،واشترى كثٌرا من نفابس الكتب( ،)٘8وشجع
إسماعٌل المدارس التابعة للكنٌسة المصرٌة ،وأمر بتخصٌص بعض المال الحكومً ألجلها( )٘9لتنافس
مدارس اإلرسالٌة اإلنجٌلٌة التابعة إلنجلترا بعد تدهور عبلقته بها.
بعث محمد علً جٌشا من 8آالؾ مرتزق ألبانً معززا بؤسطول بحري ،تكلؾ الكثٌر من دم وعرق
المصرٌٌن فً حرب لٌست حربهم ،محاربة الوهابٌٌن سنة ٔٔ ٔ8لصالح السلطان العثمانلً لٌكسب محمد
علً رضاه عن والٌته مصر ،لكن انهزموا ،وقتل العرب منهم ٗ آالؾ ،وهرب الباقً ،فكانت نكبة قرر
بعدها محمد علً نفً صالح قوج ربٌس األلبان (األرناإوط) من مصر بعد ما أظهره جنوده من جبن.
وأرسل جٌشا آخر للجزٌرة بقٌادة ابنه طوسون وفشل أٌضا ،فراح للجزٌرة بنفسه ،وانتصر على عبد هللا
بن سعود فً معركة بٌصل سنة ٘ٔ ،ٔ8خاصة وأن سعود بطل الوهابٌٌن مات وهو هناك(ٓ.)ٙ
أما بعد أن نجح فً تكوٌن جٌش نظامً ،إضافة لنجاحاته فً مشارٌع الصناعة وتوسٌع الزراعة ،ومع
مع زٌادة الصراعات داخل السلطنة العثمانٌة وقلقه من ؼدر السلطان ،فكل هذا أؼراه بعمل فتوحات لنفسه،
فؽزا الشام ثم تركٌا نفسها ،وأوشك جٌش محمد علً بقٌادة ابنه إبراهٌم أن ٌصل لؤلستانة لوال أن هرول
العثمانلً لئلنجلٌز والروس وبروسٌا (ألمانٌا فٌما بعد) والنمسا لٌنجدوه ،فعرضوا على محمد علً أن ٌكتفً
بمصر والشام ،لكنه رفض وأصر على استمرار قتال السلطنة ،خصوصا بعد أن سلَّم أحمد باشا قابد
البحرٌة العثمانلٌة األسطول لمحمد علً لخبلفات بٌنه وبٌن خسرو باشا الصدر األعظم(ٔ.)ٙ
وبعد رفض محمد علً -اعتمادا على وعود فرنسٌة بمساعدته ضد تركٌا وإنجلترا -تدخلت إنجلترا فً
تؤلٌب القباٌل الشامٌة علٌه ،واستؽلوا أن إبراهٌم فرض نزع سبلح القباٌل وتجنٌد أوالدهم فً الجٌش وكثرة
الضراٌب فانضموا إلنجلترا ضده ،واستؽلو حصار أساطٌل الحلؾ اإلنجلٌزي الروسً النمساوي لسواحل
الشام فً ضرب الجٌش داخل الشام(ٕ ،)ٙفكان تؤثٌر ثورة الشوام أكبر من تؤثٌر جٌوش الحلفاء ،وتسببت فً
خسارة جٌش محمد لحوالً ثلثً عدد الجنود ،وبذلك خذله الجمٌع ،بما فٌهم فرنسا التً انتطر دعمها.
()٘8
-مصر من الفتح العثمانً إلى ما قبٌل الوقت الحاضر ،مرجع سابق ،ص ٕٕ٘
()٘9
-أقباط ومسلمون من الفتح العربً إلى عام ٕٕ ،ٔ9جاك تاجر ،مإسسة هنداوي ،القاهرة ،ص ٕٔٓ
(ٓ)ٙ
-انظر :مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر ،مرجع سابق ،ص ٖٔٔ -ٕٔٙ
*** تقع كتب فً خطؤ إطالق صفة "الجٌش المصري" على الجٌش الذي أرسله محمد علً لمحاربة الوهابٌٌن ،واألصح أن ٌُقال قوات محمد علً،
أو األرناإوط ،ألنه لم ٌكن بها مصري واحد ،فتجنٌد المصرٌٌن فً العصر الحدٌث لم ٌبدأ قبل ٕٗ ،ٔ8وقبل ذلك كان كل الجٌش ممالٌك وألبان ومن
السودان وأجانب آخرٌن ،انظر :لمحة عامة إلى مصر ،كلوت بك ،مرجع سابق ،ص ٘ٓٓ -ٗ99
(ٔ)ٙ
-انظر :تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر ،مرجع سابق ،ص ٔٔ89 -ٔ9
(ٕ)ٙ
-تفرق كلمة الشام سالح ٌجٌد استخدامه دابما أعداء مصر ضدها ،سواء وهً حرة أو محتلة ،كما تابعنا فً أمثلة تارٌخٌة أٌام تحوتمس
ورمسٌس ،وما حدث مع محمد علً حلقة من حلقات مستمرة حتى اآلن.
ٗٓ9
وهذا هو أول تحالؾ دولً ضد مصر فً العصر الحدٌث ،وسٌستمر للوقت الحاضر ،بل لٌوم القٌامة،
مشترك فٌه العربً والعجمً ،الجار والبعٌد ،المسلم والمسٌحً والٌهودي والملحد ،من ٌقول إنه حامً
اإلسبلم ومن ٌهتؾ بعبادة الشٌطان...من ٌقول إنه صدٌق أو حلٌؾ أو ٌجهر بعداوته.
وانسحب الجٌش موزعا ٖ فٌالق بقٌادة إبراهٌم وسلٌمان الفرنساوي وأحمد المنكلً ،ووقع االنسحاب فً
ٓٗ ٔ8بؤشنع طرٌقة ،عدد الجٌش ٓ 9ألفاٌ ،تبعهم آالؾ األفراد من األسر المصاحبة لموظفٌن وؼٌرهم،
قطعوا مسافات شاسعة قاسوا فٌها وٌبلت الجوع والعطش والتعب ،تتبلقاهم فً كل منطقة ٌصلون إلٌها
هجمات القباٌل ،فتساقط كثٌر منهم موتى فً الطرٌق ،وخسر فٌلق المنكلً نصؾ رجاله جوعا وعطشا
وتحت ضربات العربان ،وفقد فٌلق الفرنساوي ٓٓ٘ٔ ،ومات عدد كبٌر من فٌلق إبراهٌم من الجنود
والنساء واألطفال ،وعاد إلى مصر ٓٗ ألفا فقط ،أي فقد ٖٓ ألؾ جندي فً االنسحاب ،بخبلؾ المدنٌٌن
الذٌن لم ٌشملهم حصر دقٌق ،وأورد مورٌٌه إحصاء مختلفا مروعا قال فٌه إن عدد أفراد الجٌش والعاببلت
المصاحبة لهم ٕٓٓ ألؾ شخص ،لم ٌرجع منهم سوى ٓ ٙألفا ،أي استشهد ٓٗٔ ألفا ،وعلَّق على هذا
االنسحاب وضحاٌاه بؤنه من أفظع ما روي عن فجابع تقهقر الجٌوش فً التارٌخ(ٖ.)ٙ
اضطر محمد علً لقبول عرض جدٌد عرؾ بمعاهدة لندن سنة ٔٗ ٔ8سحبت امتٌازات من العرض
األول ،وتضمن أن أوالد محمد علً ٌتوارثون حكم مصر ،وفرض علٌه شروطا تإكد تبعٌته وذرٌته
لؤلستانة ،منها أن ٌذهب كل والً جدٌد إلى القصر السلطانً الستبلم فرمان التعٌٌن ،وأن تقدم مصر خراجا
سنوٌا ،وتلتزم باالتفاقٌات الخاصة بتركٌا مع الدول األجنبٌة ،وأن ٌنخفض الجٌش إلى ٔ8ألفا.
وفً أٌام عباس األول ،وكان موالٌا للسلطان العثمانً ،أرسل حملة من الجٌش إلى ثلوج القرم لنجدة
السلطان سنة ٖ٘ ٔ8بناء على طلب العثمانً فً حرب القرم بٌن تركٌا وروسٌا ،والؽرٌب أن السلطان
العثمانً كان استعان بروسٌا نفسها ضد جٌش محمد علً فً ٖٔ ٔ8خبلل حروب الشام.
والمصرٌون أول من عبروا نهر الدانوب سباحة إلى مٌدان القتال لبلشتباك مع الروس ،وكانوا ٓٗ
مصرٌا ،وقتلوا ٓٔ جنود روس ،وتبعهم الجنود األلبان ،وفً اآلخر عبر الجنود األتراك(ٗ.)ٙ
وقال األمٌرال اإلنجلٌزي سلٌد الذي شارك فً هذه الحرب فً كتابه "تركٌا وحرب القرم" عن الجنود
المصرٌة" :هإالء هم الجنود الذٌن ألقً القبض علٌهم بؽلظة وانتزعوا من عقر دورهم وصٌاح أوالدهم من
حولهم ٌطن فً آذانهم ،وانتقلوا من ضفاؾ فروع النٌل المضٌبة بنور الشمس إلى ؼدران نهر الدانوب
القاتمة ،ومع هذا ظلوا إلى نهاٌة الحرب محتفظٌن ببسالتهم وقوة روحهم العسكرٌة ،وامتازوا دوما سواء
أكان ذلك فً بلؽارٌا أم ؼٌرها فً الحروب ،وأظهروا فً كل وقت وآن جلدا وصبرا عند التعب والحرمان،
(ٖ)ٙ
-عصر محمد علً ،عبد الرحمن الرافعً ،مرجع سابق ،ص ٖٖٖٓٓٗ -
*** معظم اإلعالم ٌتناول ما ٌصفها بإنجازات محمد علً فً الفتوحات الخارجٌة بالمدح واالفتخار ،وال ٌظهرون للناس الفواجع التً حصدت أرواح
المصرٌٌن وأموالهم فٌها ،وخاصة أنها لم تكن أولوٌة للمصرٌٌن أساسا ومجرد مطمع شخصً لمحمد علً ،فما رأت الدنٌا نخبة مسلطة على
شعبها فً تلمٌع األجانب والمحتلٌن على حساب روحه وأرضه مثل هإالء الؽارقٌن فً بتمجٌد جرابم األجنبً مهما كانت.
(ٗ)ٙ
-الجٌش المصري فً الحرب الروسٌة المعروفة بالقرم (ٖ٘ ،)ٔ8٘٘ -ٔ8عمر طوسون ،ص ٖٖٔٔ -ٖٔٓ ،ٔٓٙ ،9ٗ -9
ٓٔٗ
ؼٌر أنه وٌاللحسرة والندم ،نصفهم ألقى آخر نظرة إلى مصر لدى سفره منها(٘.")ٙ
وهذا ٌعنً استشهاد اآلالؾ من المصرٌٌن ودفنهم فً الثلوج أو ترك جثثهم عراة فً تلك الحرب القذرة
التً لٌس للمصرٌٌن فٌها أي مصلحة ،فعدد من أرسلهم عباس ومن بعده سعٌد لثلوج القرم ٔ٘ ألؾ ضابط
وجندي ،بخبلؾ السفن والمعدات والذخٌرة واألموال التً أرسلت باسم تبرعات ،وإضافة لشهداء مصر فً
مٌدان القتال ؼرقت سفٌنتان علٌها ٕٓ ٔ9من رجال الجٌش ،ولم ٌن ُج منهم إال ٖٓٔ(.)ٙٙ
ولما استكمل إسماعٌل خطٌبة سعٌد فً استمرار االقتراض بنهم ألجل المشارٌع االستثمارٌة ،أؼرته هذه
المشروعات ومدٌح القناصل له أن ٌكون من "الفاتحٌن" مثل قادة أوروبا ،ومثل محمد علً ،فتوؼل فً
السودان توؼبل شدٌدا حتى وصل للصومال ،وضم أرٌترٌا بعد ما اشترى بعض مدنها من السلطان
العثمانلً ،وأهدر مزٌدا من المال والقروض ،واألهم أهدر الرجال.
وسعى لضم الحبشة ،لكن صعوبة تضارٌسها ساعدت النجاشً فً عمل كمابن تسببت فً استشهاد كثٌر
من جنود الجٌش وكفاءاته ،ومن بٌن من استشهدوا طبٌب الجٌش محمد علً البقلً باشا سنة ٔ89ٙالذي
تعلم فً إحدى بعثات محمد علً وصار أنبػ جراحً عصره ،حتى أنه حصلت منافسة بٌنه وبٌن األطباء
األوروبٌٌن فتسببوا فً نقله من القصر العٌنً قبل أن ٌعود مرة أخرى وٌترأسه(.)ٙ9
فلم ٌتراجع إسماعٌل عن حلمه بالسٌطرة على الحبشة ،وأرسل حمبلت أخرى تعرضت لنفس المصٌر،
وقُتل آالؾ المصرٌٌن ،خاصة وأن الجٌش لم ٌكن مدربا على الحرب فً هذه الببلد ،ولم ٌكن واضحا
الهدؾ الوطنً من ورابها ،وضمن ضباط هذه الحرب العبثٌة أحمد عرابً ،وتركت فٌه أثرها.
وحرب الحبشة من أسباب ضٌاع حصة مصر فً قناة السوٌس لما م َّد إسماعٌل عٌنه الطامعة للخارج
فضٌع الداخل ،وذلك أنه عند تجهٌز الحملة الثانٌة كان مركز مصر المالً فً منتهى الخطورة ،ورؼم هذا
تفاوض مع بنك روتشٌلد -المعروفة عابلته حتى الٌوم بؤنها "قرون الشٌطان" ،على قرض جدٌد بل وعلى
بٌع أسهم قناة السوٌس ،وخبلل ٖ أٌام سقطت األسهم فً ٌد إنجلترا (بنك روتشٌلد)( ،)ٙ8فالمستشارٌن
األجانب ٌزٌنون للخدٌوي المشارٌع والمؽامرات التً تتطلب القروض الباهظة ،والدول والبنوك الخارجٌة
تظهر فً ساعة الصفر للم الحصاد.
وبذلك ٌكون المصرٌون خاضوا أٌام محمد علً وحتى إسماعٌل حروبا فً الشام والقرم (روسٌا)
والسودان والحبشة ،بخبلؾ دفع تكالٌؾ حروب المرتزقة والسودان فً الجزٌرة العربٌة والٌونان
والمكسٌك.
(٘)ٙ
-نفس المرجع ،ص ٕٕٕٕ٘ٙ -
()ٙٙ
-نفس المرجع ،ص ٔ9ٔ ،ٕٗٙ
()ٙ9
-عصر محمد علً ،عبد الرحمن الرافعً ،ط ٘ ،دار المعارؾ ،القاهرة ،ٔ98٘ ،ص ٔٗ9ٕ -ٗ9
()ٙ8
-مصر وكٌؾ ؼدر بها ،ألبرت فارمان ،ترجمة عبد الفتاح عناٌت ،الزهراء لئلعبلم العربً ،طٔ ،القاهرة ،ٔ99٘ ،ص ٕٕٕٕٕٔ -
ٔٔٗ
فالفبلح المقاتل مونتو( ،)ٙ9عاد له سبلحه ،وعاد لساحة القتال ،فلتفرحً ٌا سخمت(ٓ ،)9وصبً ؼضبك
على أعدابه ...ولكن "استنً" ..فـ مونتو أرسلوه إلى ساحة ؼٌر ساحته ،بل ساحة محتلٌه ،لمصالحهم هم
ولٌس لمصلحة مصرٌ ،ستنزفون دماءه فً المٌدان كما استنزفوا عرقه فً الؽٌطان ..ولكن ع َّل وعسى
تكون "رب ضرة نافعة" ..فمدام عاد له سبلحه ،فستعود له ساحته ٌوما ..وٌرقص قلب ماعت من جدٌد.
ٌقولون اآلن :بنى محمد علً القناطر وشق الترع ،وحفر سعٌد القناة ومد السكة الحدٌد ،وأقام إسماعٌل
المبانً الفخٌمة واستصلح األراضً ...وال ٌقولون أن من بنى وشق وحفر وأقام واستصلح ذاك الفبلح
المنفً فً بلده على ٌد االحتبلل ..ومنفً من ذاكرة أحفاده على ٌد الؽفلة والنكران.
ٌسجل صاحبا كتاب "مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر" أن مشروع حفر وبناء القناطر
الخٌرٌة الذي بدأ ٖٖ ٔ8قام على أكتاؾ الفبلحٌن بنظام السخرة ،وخبلل العمل الشاق انتشر بالبلد وباء
ٖ٘ ٔ8ففتك بعدد كبٌر من العمال المصرٌٌن ،وتكلؾ حفر القناطر ٗ ملٌون جنٌه وفق تقدٌر السٌر
"ول ُككس"(ٔ ،)9ومن أسباب هذا األجور الضخمة التً أخذها المهندسون الفرنساوٌون ،فً حٌن ٌعمل معظم
المصرٌٌن بالسخرة.
وتوأم هذا المشروع هو حفر ترعة المحمودٌة ،ووصؾ الجبرتً عملٌة جمع الناس بؤن محمد علً "أمر
حكام الجهات بجمع الفبلحٌن ،فكانوا ٌربطونهم قطارات بالحبال ،وٌنزلون بهم المراكب ،وتعطلوا عن زرع
الدراوي ]الدرة[ الذي هو قوتهم ،وقاسوا شدة بعد رجعوهم ،ومات الكثٌر منهم من البرد والتعب ،وكل من
سقط أهالوا علٌه تراب الحفر ولو فٌه الروح" (كما روى ابن تؽري بردي عن دفنهم أحٌاء تحت التراب
خبلل العمل بالسخرة فً بناء المبانً الفخمة أٌام االحتبلل المملوكً) فلٌس عند الباشا وقت لعبلجهم أو
إرجاعهم لببلدهم ٌقضون اللحظات األخٌرة وسط أهلهم وٌدفنون بجانبهم.
أما من عاد لببلده فتلقاه الخراب لطول ؼٌابه عن زرعه ،ولم ٌرحمهم جامع الضراٌب فـ"طولبوا بالمال وزٌد
علٌه عن كل فدان حمل بعٌر من التبن وكٌلة قمح وكٌلة فول وأخذ ما ٌبٌعونه من الؽلة بالثمن الدون"(ٕ.)9
وكشاهد عٌان قال القنصل الفرنسً وقتها مانجان إنه مات من الفبلحٌن فً حفر ترعة المحمودٌة ٕٔ ألؾ
()ٙ9
-مونتو هو رب الحرب ورمز المقاتل الشجاع فً الحضارة المصرٌة ،وعلى اسمه تسمى منتوحتب الثانً (أي مونتو راضً) الزعٌم المصري
العظٌم الذي أعاد للبالد األمن والسكٌنة بعد أن حررها من أعدابها وأعاد لهما حكمها المركزي فً األسرة ٔٔ فً الدولة الوسطى.
(ٓ)7
-سخمت (سخمة) من رموز الحرب أٌضا ،ودورها أن تنزل بلعناتها من األو ببة والؽضب والهزٌمة على أعداء مصر ،وهً الصورة أو النسخة
سخام".
المحاربة لحتحور وإٌسة (إٌزٌس) ،وربما من اسمها أخذنا الدعوة" :جاك ُ
(ٔ)7
-مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر ،مرجع سابق ،ص ٘٘ٔٔ٘ٗ -
***إحقاقا للتارٌخ نذكر أن محمد علً هو صاحب مشروع القناطر الخٌرٌة وترعة المحمودٌة وأنهما مشروعان جٌدان ،وإحقاقا للتارٌخ نقول إن
مصر لم تكن تحتاج الحتالل حتى تقوم بمشارٌع ري ممٌزة ،فهً أجادت الكثٌر منها وهً حرة ،وإحقاقا للتارٌخ أٌضا وإنصافا لألجداد نذكر فضل
األجداد فً المشروعات التً قامت أٌام االحتالل ،فتحت حجارة ومٌاه هذه المشارٌع راح عدد كبٌر منهم شهدا ومصابٌن فً العمل الشاق ،وحتى
عواٌد المشارٌع استفاد منها األجانب ،ولم ٌستفد منها المصرٌون إال نادرا أو فً وقت متؤخر بعد قٌامهم بالثورات ،ومن أكبر وصمات العار فً
جبٌن المصرٌٌن أن تظل هذه المشارٌع بؤسامً من احتلوهم.
(ٕ)9
-عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار ،ج ،9ص ٕٕ٘ وٕٗ٘ ،ٕ٘٘ -وٗٔ ،ٙٔ٘ -ٙو ،ٙٔ9 -ٙٔ8و ٕٙ9
ٕٔٗ
فً مدة ٓٔ شهور فقط من قلة الزاد والمبونة أو من شدة التعب وسوء المعاملة التً عاملهم بها عسكر
الوالً إلجبارهم على العمل من الفجر حتى ٌرخً الظبلم ستاره ،ولم ٌبذل الباشا جهدا فً إعادتهم ألهلهم
لٌدفنوهم ،فدفنوا تحت أكداس التراب الذي كانوا ٌرفعونه من قاعها ،واشتؽل فٌها ٖٖٔ ألؾ فبلح(ٖ ،)9وهو
عدد ضخم مقارنة بعدد السكان وقتها ،وبمجرى أرواحهم المعذبة إلى السماء جرت مٌاهها إلى اإلسكندرٌة،
وأورقت من دماهم وعرقهم أشجار العمار الكبٌر الذي شهدت اإلسكندرٌة والبحٌرة ،بعد أن تسهَّل وصول
الماء والمبلحة إلٌها ،وانتعش تجارها ،لكن الفضل -كالعادة -منسوب إلى األجانب الذٌن تمتعوا هم بمعظم
هذا العمار ال الفبلحٌن ،فٌقال اآلن إن األجانب "عمروا" اإلسكندرٌة.
ولكن قال الرافعً إن" :الفضل فً ذلك العمران ٌرجع لمن حفروا بؤٌدٌهم ترعة المحمودٌة ،وبذلوا دمهم
وأرواحهم حتى جرى ماء النٌل فً تلك النواحً حامبل إلى الخبلبق والناس واألراضً عناصر الخصب
والحٌاة ،فإذا تؤملت فً كل ذلك فاذكر تضحٌات اآلباء واألجداد ،ومبلػ ما بذلوه فً سبٌل رفاهٌة األجٌال
األعقاب ،وتمهل فً سٌرك قلٌبل ،واستمطر الرحمة على من استشهد فً سبٌل ذلك العمران(ٗ.")9
(ٖ)9
-عصر محمد علً ،عبد الرحمن الرافعً ،ط ٘ ،دار المعارؾ ،القاهرةٗ9ٔ -ٗ88 ،
(ٗ)9
-نفس المرجع
(٘)9
-تتر مقدمة مسلسل "الناس ي كفر عسكر" ،كلمات محمود عبد الظاهر ،ألحان محمد علً سلٌمان ،ؼناء علً الحجار
ٖٔٗ
المحمودٌة "ترعة الشهداء" فً ٓ ٔ89على جانبٌها البٌوت واألشجار طارحة من أجساد الفبلحٌن (الصورة :مكتبة الكونجرس())9ٙ
وواصل بعض خلفابه "المشروعات الكبرى" دون حساب تؤثٌرها على أهل البلد ومستقبلهم ،وأشهرها
حفر قناة السوٌس ،وبدأ حفرها ٔ8٘9بؤٌدي مبات آالؾ الفبلحٌن من قبل حفر الترعة البلزمة إلمدادتهم
بمٌاه عذبة لسقاٌتهم ،مثلما حدث وأخذوا لحفر ترعة المحمودٌة دون توفٌر ماء الشرب البلزم لهم.
وللتسرٌع فً إنجاز الحفر ،حث دٌلٌسبس الوالً سعٌد على اإلكثار من العمال المسخرٌن بدون مراعاة لعدد
معٌن؛ فصار ٌساق إلى القناة ٕ٘ ألؾ فبلح وبعد ٖ أشهر ٌحل محلهم ٕ٘ ألفا آخرٌن وهكذا ،بدون أجر،
ٌشتؽلون طول الٌوم تحت مراقبة حراس مسلحٌن بالسٌاط ،عاشوا على الشظؾ ،وتساقطوا شهداء ٌقاسون
الجوع والظمؤ والعري وحر الصٌؾ وقر الشتاء وإجهاد الجسم والبإس ،وكلما هلك منهم أحد أتوا بؽٌره،
ولو تم مشروع حفر الترعة على حسب االتفاق األصلً لسبب نقصا عظٌما فً تعداد سكان الببلد ،بتعبٌر
عمر اإلسكندري وسلٌم حسن(.)99
وتابعا أنه شاع هذا األمر وأصبح من الفضاٌح حتى فً مصر ،وتناولته ألسنة المعارضٌن لحفر القناة
وخاصة إنجلترا ،وكان اللورد بالمرستون ربٌس الوزارة اإلنجلٌزٌة فً ذاك الحٌن ٌعارض أمر تسخٌر
الفبلحٌن ألنه نوع من االسترقاق ،والحقٌقة ٌعارضه ألنه ال ٌرٌد أن ٌرى النفوذ الفرنسً ٌسود فً مصر،
لذلك أوعز إلى السفٌر اإلنجلٌزي فً القسطنطٌنٌة أن ٌحتج على تسخٌر األهالً فً األراضً العثمانٌة
لفابدة شركة أجنبٌة(.)98
()99
-انظر :مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر ،مرجع سابق ،ص ٕٕٖٓٔٔ -
()78
-انظر :المرجع السابق ،ص ٖٕٔ ،ومصر وكٌؾ ُؼدر بها ،ألبرت فارمان ،مرجع سابق ،ص ٕٕٕٕٕ8 -
*** عرض التلفزٌون المصري (ال أتذكر التارٌخ بالٌوم ولكنه بعد ٕٗٔٓ ) فٌلما وثابقٌا عن تارٌخ العالقات بٌن مصر وفرنسا بمناسبة زٌارة
متبادلة بٌن ربٌسً البلدٌن ،قدم فٌها الحملة الفرنسٌة وحفر قناة السوٌس على أنهما "فضل" من فرنسا على مصر ،ولم ٌتعرض بؤي شكل لجرابم
الفرنسٌس فً الحملة وال إهالك المصرٌٌن فً حفر قناة السوٌس والظلم الشدٌد فً عقد الشركة ،ولم ٌتعرض لدور فرنسا فً عدوان ،ٔ9٘ٙكما
نشرت "األهرام" مقاال بعنوان "حكاٌات من أوراق قدٌمة سعٌد باشا وطبق المكرونة الشهٌر" ،بتارٌخ ،ٕٓٔ7-9 -ٕ9العدد ،ٗ7779دافع عن
ٗٔٗ
وتكلؾ تطهٌر الترع تسخٌر ٖٓٓ ألؾ فبلح أٌام سعٌد الذي استخدم السخرة أٌضا فً مد الخط الحدٌدي
من كفر الزٌات إلى القاهرة ،ثم عبر الصحراء إلى السوٌس ،وبنٌت القلعة السعٌدٌة بالسخرة( ،)99وتوفً
سعٌد سنة ٖ ٔ8ٙتاركا على مصر دٌونا بلؽت ٓٔ ملٌون من الجنٌهات(ٓ ،)8وآالؾ األرواح ُتزهق كلما
زاد عمق حفر القناة ،من بٌنهم أطفال مسخرٌن لنقل التراب من شاطا القناة إلى األماكن العالٌة.
وٌرى مإرخون أن إسماعٌل قام بعمل إنسانً حٌن أمر بتوقؾ السخرة فً قناة السوٌس ،لكن ٌلزم جنب
كلمة "عمل إنسانً" ،أن ٌضاؾ إلٌها ما أورده القنصل األمرٌكً فً عصره ألبرت فارمان من أن هذا تم
بعد أن كانت مرحلة الحفر على الناشؾ انتهت وبدأت مرحلة التكرٌك(ٔ ،)8وما قاله الدكتور أنور لوقا فً
تقدٌمه لكتاب جون نٌنٌه السوٌسري -الذي عمل مزارعا وتاجرا للقطن فً مصر من أٌام محمد علً إلى
توفٌق" -رسابل من مصر" أن إسماعٌل "بذرٌعة إنسانٌة سحب من دلٌسبس األٌدي العاملة الوفٌرة التً كان
ٌحتاجها لزٌادة محاصٌله بصفته المالك األكبر لؤلراضً الزراعٌة ،بعد أن سال لعابه بسبب "االنفجار
القطنً"(ٕ ،)8فنقل الفبلحٌن من قناة السوٌس إلى مزارعه حتى ٌستفٌد من فرقعة أسعار القطن فً العالم.
والبلفت أن دٌلٌسبس ممثبل لشركة القناة طالب مصر بتقدٌم تعوٌض للشركة عن توقفها عن إرسال
العمال للحفر بالسخرة قدره ٖ8ملٌون فرنك ،ودفعه إسماعٌل من دماء ذات الفبلحٌن ،وفً سنة ٔ8ٙ9
وحدها استلزمت المشروعات العامة أٌام إسماعٌل تسخٌر ٘8ألؾ فبلح(ٖ.)8
وضمن مشارٌع السخرة التً استخدم فٌها الفبلحٌن أٌام إسماعٌل حفر الترعة اإلبراهٌمٌة لخدمة أراضٌه
الخاصة التً احتكر فٌها زراعة قصب السكر ،وكانت تمتد من القاهرة ألسٌوط (نحو ٓٓٗ كم) ،وهً
مسافة توضح كم كان أمر حفرها مهوال فً شدته على الفبلحٌن ،وفوق هذا كان معظم العمال الذٌن
ٌشتؽلون فً معامل السكر ٌجبرون على العمل وٌتقاضون أجورهم إما من السكر أو العسل(ٗ.)8
وٌنقل تقرٌر دوفرٌن (الذي جاء لتنظٌم أمور االحتبلل اإلنجلٌزي بعد ذبح ثورة ٔ )ٔ88عن شخص
ٌدعى فالٌري ستٌوارت ما شاهده من أحوال الفبلحٌن فً السخرة ،فٌقول إنهم ٌعملون من الشروق حتى
الؽروب ببل انقطاع ،ما عدا فترة قلٌلة عند الظهر ٌؤكلون فٌها خبزهم المؽمس بماء النٌل ،وهو نفس
طعامهم قبل بداٌة العمل ،بعضهم ٌملك فإسا ٌحفر بها ،وآخرون ال ٌملكون إال أٌدٌهم ،فٌما ٌوجد فً الردم
حجارة حادة من الصوان ،والرمد منتشر جدا بٌنهم ،ورؼم شدة القٌظ ٌقبض النظار على العصً ٌضربون
سعٌد ودٌلٌسبس ولمع صورتٌهما وختم المقال بعبارة "هللا هللا على مصر زمان" ،ولم ٌتعرض بؤي شكل للقهر الذي تجرعه المصرٌون فً ذاك
الزمان ،وال لفضل المصرٌٌن على الجمٌع ،وخطورة هذا األكبر أنها تصدر عن مإسسات حكومٌة.
()99
-تطور ملكٌة األرض الزراعٌة ٖٔ ٔ9ٔٗ -ٔ8وأثره على الحٌاة السٌاسٌة ،د .علً بركات ،دار الثقافة الجدٌدة ،القاهرة ،ص ٖٕٗ
(ٓ)8
-تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر ،مرجع سابق ،ص ٕٓ8
(ٔ)8
-مصر وكٌؾ ؼدر بها ،مرجع سابق،ص ٖٕٕٖٖٓ -
(ٕ)8
-رسابل من مصر ( ،)ٔ88ٕ -ٔ899جون نٌنٌه ،ترجمة فتحً العشري ،طٔ ،المجلس األعلى للثقافة ،القاهرة ،ٕٓٓ٘ ،ص ٖ٘
(ٖ)8
-تطور ملكٌة األرض الزراعٌة ٖٔ ٔ9ٔٗ -ٔ8وأثره على الحٌاة السٌاسٌة ،مرجع سابق ،ص ٖٖٗ
(ٗ)8
-انظر :تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر ،المرجع السابق ،ص ٕٖ8 -ٕٖٙ
*أمر شبٌه بما فعله محمد علً حٌن كان ٌحرم الفالحٌن أحٌانا من أخذ ثمن محاصٌلهم نقودا لٌوفر المال لبقٌة مشارٌعه ،وٌجبرهم على أخذ الثمن
فً شكل منتجات المصانع التً تؤسست فً عصره ،دون مراعاة لما ٌحتاجونه أو ال ٌحتاجونه.
٘ٔٗ
بها األنفار دون سبب ظاهر(٘.)8
صورة لظروؾ عمل الفبلحٌن ونومهم فً الحر والبرد فً أرض العمل معبرة عن حالهم نتٌجة عصور االحتبلالت (بوابة األهرام())8ٙ
وفٌما كان ٌعمل هإالء بالسخرة أو بمقابل هزٌل ،كان إسماعٌل ٌعمل بكل العزم فً بناء أفخم القصور
له وألوالده وللجواري ولؤلجانب ،وال تهتز شعرة فً رأس أحدهم إذا ما أمر بهدم قصر تكلؾ أطنان من
المال لمجرد أن ٌقٌم قصرا آخر محله لٌكون على طراز معماري جدٌد رآه فً أحد سٌاحاته األوروبٌة.
ٌقول أحمد شفٌق باشا ،أحد شهود العصر وربٌس الدٌوان الخدٌوي فً عهد عباس الثانً ،فً مذكراته
الصادرة ٖٗ ،ٔ9إن إلسماعٌل ولع خاص ببناء المنشآت البارٌسٌة والقصور التً مؤلها بؤسراب الجواري
الحسان ،فشٌد قصر الجزٌرة على مثال قصر الحمراء فً األندلس ،وأودع فً حدٌقته البدٌعة الحٌوانات
الكاسرة ،وأقٌم فً أٌامه قصر الجٌزة -مكانه اآلن جنٌنة الحٌوانات -وقصورا أخرى ألوالده فً الجٌزة،
وسراي القبة لولً عهده ،وقصرا فً اإلسماعٌلٌة خصٌصا إلقامة الحفبلت الفاخرة فً افتتاح قناة السوٌس،
ووسع قصر عابدٌن ،وٌُشاع أن فلكً نصحه باستمرار البناء طوال حكمه حتى ال ٌُنتزع العرش منه،
وعرض شفٌق باشا مشاهد من الحٌاة داخل القصور مدعمة بالصور ،وبخبلؾ بذخ عٌش الحكام وزوجاتهن
فٌها واألكل والشرب فً أوانً الذهب والفضة ،عرض لطرٌقة حٌاة الجواري الفخٌمة ،حتى قال إن الزوار
حٌن ٌرونهم ٌتساءلون :هل حقا هإالء مملوكات؟(.)89
ونقل أن إسماعٌل فً زٌارته لؤلستانة ٖ ٔ89دعا السلطان عبد العزٌز لمؤدبة أعدها له فً قصر
مٌركون على ضفة البوسفور ،استعمل فٌها أوانً من الذهب أرسلها للسلطان هدٌة بعد المؤدبة ،وروى بارو
باشا الفرنسً ربٌس الدٌوان األفرنجً فً عصره أن إسماعٌل فً إحدى زٌاراته لبارٌس سمع بجمال قصر
ألحد أؼنٌاءها ،أراد زٌارته هٌاما بالفن الجمٌل ،فلما علم صاحبه دعاه لمؤدبة ،وكانت له فتاة جمٌلة أعجب
بها الخدٌوي ،وبعد الفراغ من الطعام سؤل إسماعٌل صاحب القصر عما إذا كان ٌرؼب فً بٌعه ،ولم ٌكن
(٘)8
-تطور ملكٌة األرض الزراعٌة ٖٔ ٔ9ٔٗ -ٔ8وأثره على الحٌاة السٌاسٌة ،مرجع سابق ،ص ٖٖٖٖ٘ٙ -
()8ٙ
-إذا كنت ممن ٌعتقدون أن مصر كانت جنة قبل ثورة ٌولٌو ..تعرؾ على تلك الحقابق قبل أن تحكم ،بوابة األهرامٕٓٔ٘ -9 -ٕٖ ،
()89
-مذكراتً فً نصؾ قرن ،أحمد شفٌق باشا ،طٔ ،مطبعة مصر ،القاهرة ،ٔ9ٖٗ ،ص ٕٔ ،ٕٗ -و ٕ8ٖ -8
ٗٔٙ
الرجل ٌود التفرٌط فٌه ،ففكر فً الخبلص من المؤزرق بؤن طلب لقصره ثمنا باهظا قدره ٘ مبلٌٌن فرنك،
وبُهت بؤن الخدٌوي قبل الثمن ،وأمر بكتابة العقد ،وبُهت الرجل أكثر حٌن رأى الخدٌوي وهو ٌُملً اسم
المشتري بؤنه ٌشٌر بؤصبعه البنة صاحب القصر الحسناء قاببل" :مدموازٌل ،"...وبذا عاد البنة صاحبه،
وؼرم إسماعٌل ثمنه الباهظ(.)88
وبمعنى أصح ؼرمه ذلك الٌتٌم المنحنً ظهره على بعد آالؾ األمٌال فً الرٌؾ المصري ٌفلح األرض
المؽصوبة ..للؽاصبٌن ...حتى ٌؤتً حفٌده بعد ٓٓٔ سنة ٌكتب أن مصر "بلد الكرم" ،التً "ال ترد من ٌدق
بابها" ،و"ٌعٌش أهلها مع كل األجناس فً وبام ،وانصهار تام" ،و"ما أحلى تلك األٌام" ،و"ما أجهله أبً،
كٌؾ ثار وطرد األجانب وحرمنا من أن ٌُقال إن مصر لؤلجانب أرض األمان؟".
وتوفً موظؾ فرنسً تاركا زوجته ببل معاش ،وعلم إسماعٌل أن حالتها تسوء ،فؤمر بارو باشا بؤن
ٌكتب للمالٌة لٌرسل لها ألؾ جنٌه ،ولكنه عاد واستدعى بارو إلى خزانته الخاصة قاببل" :الصراؾ احضر
لً اآلن نقودا ذهبٌة ،وال ضرروة للكتابة إلى المالٌة اختصارا للوقت ،ثم أخذ ٌقبض بٌده بضع قبضات
متعاقبة من الذهب وٌضعها فً مندٌل بارو باشا ،لٌرسلها إلى الزوجة الفرنسٌة( ...")89حتى ال تعٌش فً
ضٌم فً مصر ..ما أشد عطفه!
وٌختتم شفٌق باشا بالتعلٌق بؤنه فً الوقت الذي كان ٌنفق بهذا الشكل ،فإنه كان ٌقترض بالربا الفاحش،
وأثقل كاهل األهالً بمختلؾ الضراٌب والجباٌات ،وعصفت بهم الفاقة ،وبلػ البإس بالفبلحٌن أن كانوا
ٌنزلون عن أطٌانهم فرارا من الضراٌب المتوالٌة(ٓ.)9
ٌقول عمر السكندري ود .سلٌم حسن إنه رؼم كل مشارٌع محمد علً التحدٌثٌة ،ظلت حالة الفبلح
المصري ؼاٌة فً الشقاء والبإس ،إذ أثقل عاتقه بالضراٌب وبتسخٌره فً حفر الترع وجره فً حروب
خارجٌة ،فؤثرت هذه العوامل فٌه تؤثٌرا سٌبا ،فكان ٌهلك من المصرٌٌن اآلالؾ فً حفر الترع وتحت
تعذٌب محصلً الضراٌب ،ومع خسارة محمد علً لمكتسباته فً الشام كانت مصر وصلت لحالة بإس
شدٌد ،لما حل بؤهلها من المصابب من جراء كل هذه الحروب التً قاموا بؤعبابها ،وأنفقوا علٌها من دمابهم
وأموالهم "حتى أصحبت الببلد فً حالة ٌرثى لها"(ٔ.)9
وزاد على هذا أن انتشر طاعون الماشٌة ،وتبعه هبوط النٌل ،واجتاح الجراد زراعة الببلد "فتركها قاعا
صفصفا" ،وأصبحت "على حافة الخراب" ،واستولى الرعب والوجل على قلوب الناس؛ فاجتمع مجلس فً
القاهرة وكتب تقرٌرا عن سٌر األحوال وما آلت إلٌه ،كما استولى الخوؾ على محمد علً أن ابنه إبراهٌم
()88
-نفس المرجع ،ص ٕٕٗ٘ -
()89
-نفس المرجع ،ص ٕ٘
(ٓ)9
-نفس المرجع ،ص ٕ9
(ٔ)9
-انظر :نفس المرجع مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر ،مرجع سابق ،ص ٘ٔ99 -ٔ89 ،ٔ9ٖ ،ٔٙ
ٗٔ7
سٌستؽل الفرصة وٌخلعه وٌتولى مكانه ،لكن األحوال تحسنت بالتدرٌج ،وسافر هو لتركٌا ومكث فترة،
استقبله السلطان بشكل جٌد ،لكن فً النهاٌة تعامل رجال القصر بقسوة معه ،فرجع كشبح إنسان(ٕ.)9
أما الخراب األشد الذي ٌسلخ ما بقً من لحم ظهر الفبلح فحٌن تسقط خزٌنة مصر فً ٌد روتشٌلد.
ال ٌُعرؾ عن مصر أنها لجؤت لبلستدانة من الخارج طوال تارٌخها قبل االحتبلل العلوي سوى مرة فً
التارٌخ القدٌم حٌن استدان الملك الٌونانً بطلمٌوس الثانً عشر لما اقترض من الرومان لئلنفاق على
صراعاته مع عابلته على الحكم ،وأجبره الرومان على تعٌٌن رابٌرٌوس الرومانً وزٌرا للمالٌة فً مصر،
وكانت التجربة "فال نحس" ،استؽلها الرومان البتزاز البطالمة حتى سقطت دولتهم واحتل الرومان مصر.
وألن التارٌخ دواٌر مملة لمن ال ٌتعلم ،فإن األمر تكرر فً االحتبلل العلوي ..وانتهى لنفس السقوط.
ٌقول عمر اإلسكندري وسلٌم حسن ،إنه حٌن تولى سعٌد سنة ٗ٘ ٔ8كان اقتصاد البلد فً حالة حسنة
خالٌة من الدٌون األجنبٌة ،دخلها السنوي البالػ ٖ ملٌون جنٌه كافً لسد حاجاتها ،والتجارة متقدمة،
واألراضً الزراعٌة آخذة فً االزدٌاد ،واحتاج هذا إلى الحاكم الذي ٌحافظ على هذا االستقرار ،ولم ٌكن
سعٌد هذا الحاكم؛ فارتمى فً أحضان األجانب من إنجلٌز وفرنسٌس ،وألؽى المجلس الخصوصً (مجلس
النظار) ،ولم ٌدرب أحدا من أبناء األمة على شإون اإلدارة حتى ٌكون له عونا ،وانؽمس فً اللذات فاعتل
نظام الحكومة(ٖ.)9
ومن أبشع قرارات سعٌد ،بل من أبشع النكبات فً تارٌخ مصر كلها ،أنه أدخل مصر فً دابرة القروض
والدٌون فً السنة الحزٌنة ٕ ٔ8ٙلما مضى عقد أول قرض دولً فً لندن مع بٌت مال "فرهلنج جوشن"
بمبلػ ٓٓ ٖ,ٕ9ٕ,8جنٌه لحفر قناة السوٌس ،برؼم عدم حاجة مصر وقتها للقناة فً أي شًء ،ووافق أن
ٌكون المستفٌد من خٌرها لمدى 99عاما هم األجانب ولٌس المصرٌٌن.
دعا للمشروع وتواله دٌلسبس ]المشهور بؤنه سمسار دٌون[ بما كان له من المكانة عند سعٌد ،وبما كان
ٌعده به من الفوابد التً ستعود على مصر من المشروع ،مع قلة النفقات التً ستتحملها -حسب كبلمه
وقتها -وأن تكالٌؾ الحفر ستكون من فرنسا(ٗ ،)9وسٌتضح أن وعود الداهٌة دٌلسبس كانت تخدٌرا وأوهاما،
ومعظم نفقات القناة نزعوها من دماء وأرواح الفبلح المصري ،وما كان دور دٌلسبس إال سمسارا لتنفٌذ
مشروع فرنسا الذي كان ٌعتزمه نابلٌون بحفر القناة والسٌطرة على حركة التجارة العالمٌة ،وسمسارا أٌضا
لبٌوت المال العالمٌة التً تسعى لتكبٌل الدول بالقروض والدٌون فً مشروعات تحتاجها أو ال تحتاجها
(ٕ)9
-نفس المرجع ،ص ٔ98 -ٔ99
(ٖ)9
-انظر :تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر ،مرجع سابق ،ص ٕٓ9
(ٗ)9
-نفس المرجع ،ص ٕٓ8 -ٕٓ9
ٗٔ8
لتحكمها من وراء ستار.
كان ؼرٌبا جدا قبول سعٌد للشروط التً وضعها دٌلٌسبس فً عقد حفر القناة ،ومعظمها شروط ال ٌوافق
علٌها إال شخص مهزوم فً حرب شدٌدة ،ولٌس رجل ٌحكم بلد مكتفٌة ذاتٌا من كل شًء ،والشروط فً
العقد الموقع ٌناٌر ٔ8٘ٙهً:
ٌ -حفر دٌلسبس ترعة تستمد ماءها من النٌل إلى اإلسماعٌلٌة ،وٌُمنح فً مقابل ذلك كل األراضً
البلزمة لؤلبنٌة واألعمال بدون مقابل خالٌة من كل الضراٌب.
ٌ -كون له الحق فً أخذ أجر من المبلك الذٌن ٌنتفعون بالماء العذب الذي ٌإخذ من هذه الترعة (رؼم
أن حفر الترعة ال ٌكلفه شٌبا ألنه بالسخرة).
ٌ -كون للشركة الحق فً تعدٌن كل مناجم الحكومة ومحاجرها بدون ثمن أو ضراٌب.
ٌ -نتهً المشروع خبلل ٙسنٌن إال إذا حصلت عوابق ال ٌمكن تبلفٌها.
-رسوم المرور فً القناة ٓٔ فرنكات على كل مسافر ومثلها على كل طن من حمولة السفن.
-تقسم األرباح (بعد أن ٌخصم منها فابدة ألموال المساهمٌن بنسبة ٔ٘ %ومثلها للمال االحتٌاطً) على
الترتٌب اآلتً %ٔ٘ :للحكومة المصرٌة %ٔٓ ،لمإسسً الشركة %9٘ ،للمساهمٌن والمدٌرٌن
والموظفٌن (وكان معظمهم فً البداٌة من فرنسا وتركٌا).
-بعد انتهاء المدة المقررة ( 99عاما) تصٌر القناة وكل مشتمبلتها ملكا للحكومة المصرٌة.)9٘(.
تولى إسماعٌل سنة ٖ ،ٔ8ٙوكان ممتعضا من شروط عقد قناة السوٌس ،وٌراها مجحفة بحق مصر
وبسٌادته كحاكم لها ،وسعى إللؽاء بعضها ،مستعٌنا بالسلطان العثمانلً عبر الرشاوى ،وبالتزامن شجعت
برٌطانٌا السلطان على تقلٌل االمتٌازات الممنوحة لشركة القناة مكاٌدة فً فرنسا ،وهو ما ساعد إسماعٌل،
فهدد الشركة بؤنها إن لم ترد األراضً التً أخذتها من سعٌد فإنه سٌوقؾ الحفر ،كما سعى لتقلٌل عدد
العمال المسخرٌن.
(٘)9
-انظر :مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر ،مرجع سابق ،ص ٕٕٖٓٔٔ -
ٗٔ9
ولكن دٌلٌسبس بخبث طلب من إسماعٌل االحتكام لئلمبراطور نابلٌون الثالث ،ابن أخ بونابرته ،فكؤنما
ٌحتكم للثعلب أو بلطجً الحارة ،فكوَّ ن نابلٌون لجنة ألزمت إسماعٌل بدفع ؼرامة للشركة ٖ ملٌون ونصؾ
ملٌون جنٌه بحجة إخبلله بشروط االتفاق األصلً بشؤن أعمال السخرة ،رؼم أن من أخ َّل بالشروط هً
الشركة لمّا أخذت عددا من العمال أكبر من المتفق علٌه ،وتركتهم للجوع والعطش.
وفوق ذلك أخذت الشركة -بحسب حكم لجنة نابلٌون الثالث -تعوٌضا عن األراضً اللً استردها
إسماعٌل ،وثمن حفر ترعة اإلسماعٌلٌة رؼم أن حفرها كان واجبا على الشركة ،وفعبل دفع إسماعٌل المبلػ
سنة ،ٔ8ٙ9ووصؾ ألبرت فارمان قنصل أمرٌكا فً مصر حٌنها فً كتابه "مصر وكٌؾ ُؼدر بها" أن
هذا المبلػ أخذه نابلٌون الثالث "ظلما وعدوانا" على مصر ،وبـ "خدعة مشٌنة"(.)9ٙ
وبعد ما كان إسماعٌل ضد مشروع حفر القناة والتوؼل األجنبً باسم استثمارات بدأ ٌتفاخر بهذا
المشروع قصاد العالم ،وٌسعد بالقول إنه الرجل القابم على أكبر مشروع فً القرن ،ٔ9وأسكرته عبارات
المدٌح التً أؼدقتها علٌه الصحؾ األجنبٌة والدبلوماسٌون األجانب بؤنه صاحب النهضة والمشروعات
العظمى ،لٌؽروه بالموافقة على مشروعات جدٌدة ،وقروض جدٌدة.
نتٌجة لهذا ،وافق أن ٌدفع أمواال ضخمة لشركة القناة بحجة تعوٌضها عن بعض المبانً واألراضً
التً أخذتها الحكومة من الشركة ،وعند االفتتاح فً نوفمبر ٔ8ٙ9كان حفل االفتتاح على شاطا القناة هو
األفخم فً زمانه ،تتراقص موجاتها مع رقصات المحتفلٌن على هٌاكل وجماجم ودماء ضحاٌا أكبر مشروع
استثماري فً العالم.
وتكلؾ حفر القناة حسب المدون فً دفاتر الشركة ٕ ٖٕٗ,8ٓ9,88ملٌون فرنك (حوالً
ٓٓٓ ٔ9,٘ٓٓ.ملٌون جنٌه) ،رؼم أن رأس المال كان فقط ٕٓٓ ملٌون فرنك ،صرفت مصر منهم
ٓٓٓ ٔٙ,ٓٓٓ,ملٌون جنٌهٌ ،عنً مصر صرفت نفقات أكثر من ٓ %9من عملٌة الحفر رؼم أن حصتها
فً األسهم ٘ٔ %فقط.
ولم ٌقؾ عذاب الفبلحٌن عند االستشهاد والمرض خبلل حفر القناة ،ولكنه امتد إلى إنشاء المبانً
ُدع لحضوره.
والمشارٌع الخاصة باحتفال االفتتاح ..االحتفال الذي لم ٌُكرم فٌه ،بل لم ٌ َ
فلكً ٌبهر إسماعٌل األوروبٌٌن بالمدن المصرٌة ،لتكتمل صورته كـ"حاكم عصري على النمط
األوروبً" أمر بؤن ٌنتهً الفبلحون من إنشاء وتعبٌد طرٌق األهرام فً أقل من ٙأسابٌع ،وشارك فً ذلك
نحو ٓٔ آالؾ عامل ،لكً تسٌر علٌه اإلمبراطورة الفرنسٌة أوجٌنً -خطٌبة دٌلٌسبس السابقة وزوجة
نابلٌون الثالث الذي خدعه -عند زٌارتها لؤلهرام ،كما أمر بسرعة إنهاء بناء دار األوبرا لٌكتمل أمام
الضٌوؾ اللصوص "الوجه األوروبً" لمصر.
()9ٙ
-مصر وكٌؾ ؼدر بها ،ص ٕٕ٘ ،ومصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر ،ص ٖٕٔ
ٕٓٗ
وتكالٌؾ قدوم الضٌوؾ من أوروبا وعودتهم إلٌها على نفقة مصر ،وبلػ مجموع ما أنفق على هذا
االحتفال نحو ٓٓٓ ٔ,ٗٓٓ,جنٌه( ،)99وبتعبٌر صاحبً كتاب "تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل
الوقت الحاضر" فإنه "مما ٌإسؾ له أن مصر لم تستفد من نجاح ترعة قناة السوٌس مطلقا ،فإنه فوق
خسارتها القناطٌر المقنطرة من األموال وإرهاقها الفبلحٌن المصرٌٌن إرهاقا عظٌما ،وفضبل عن تحول
التجارة المارة بٌن أوروبا والهند من داخل مصر إلى طرٌق القناة مما أحدث نقصا كبٌرا فً دخل سكك
حدٌد الحكومة ،تنازلت للشركة الفرنسٌة فً سنة ٕٔ99هـ (ٓٔ88م) عما كان ٌخصها من أرباح الشركة
وقدره ٘ٔ %فً مقابل مبلػ حقٌر قدره ٓٓٓ 9ٓٓ,جنٌه كانت الحكومة قد اقترضته من تلك الشركة ولم
تقدر على سداده ،فحرمت بذلك مصر من مصدر دخل عظٌم ،ولم ٌتم لوالة مصر من إنشاء الترعة شًء
مما كان ٌمنٌهم به دٌلٌسبس من توطٌد دعامة حكمهم واتساع جاههم وسلطانهم ،فترى مما تقدم كله أنه لم
ٌخسر من وراء إنشاء هذه الترعة إال األسرة المحمدٌة العلوٌة ومصر والفبلحون(.")98
وفً المقابل كان المكسب لفرنسا وبرٌطانٌا وبٌوت المال العالمٌة الشٌطانٌة مثل روتشٌلد وجوشن.
فلمَّا كثرت الدٌون األوروبٌة على مصر وأوشكت موارد الضمان التً ٌمكن تقدٌمها أن تنفذ ،أصبح من
الصعب اقتراض دٌون جدٌدة ،وما أمكن اقتراضه منها كان بؤرباح باهظة جدا لم ٌسبق لها مثٌل ،ومن ذلك
أن إسماعٌل اقترض فً جمادي الثانٌة سنة ٓ ٕٔ9هـ (ٌونٌو سنة ٖ )ٔ89دٌنا قدره ٓٓٓ ٖٕ,ٓٓٓ,جنٌها
لٌسدد به جمٌع الدٌون السابرة ،فلم ٌتمكن من عقد القرض إال فً ماٌو ٗ ،ٔ89فكان مجموع ما قبضته
الحكومة بالفعل من هذا الدٌن بعد طرح جمٌع أنواع النفقات والخصم (السمسرة) ٌبلػ ٓٓٓ ٕٓ,ٕٓٙ,جنٌها
فقط ،أي بنقص %ٖ9عن مقدار ما حسب دٌ ًنا على الحكومة ،فضبل عن أن المبلػ الذي قبضته الحكومة لم
ٌدفع كله نقدا ،بل كان منه ٓٓٓ 9,ٓٓٓ,جنٌه من سندات الخزانة المصرٌة ،ومعنى ذلك أن الحكومة نظٌر
حصولها على ٓٓٓ ٔٔ,ٓٓٓ.جنٌها نقدا فقط زادت دٌنها بقدر ٓٓٓ ٕٖ,ٓٓٓ.جنٌها(.)99
وإضافة للدٌون الضخمة البرانٌة (الخارجٌة) تورط فً الدٌون الداخلٌة ،فبدأ ٌقترض من األثرٌاء،
ومعظمهم أجانب ،فصارت الحكومة مدٌنة لؤلجانب فً الداخل والخارج(ٓٓٔ) ،وألن المرابٌن داٌرة واحدة
توصل لبعضها ،فإن الحكومة مثبل حٌن تعجز عن سداد قرض لبنك خارجً ،تلجؤ لبنك داخلً أجنبً لسداد
الدٌون للبنك الخارجً ،وكل هذه البنوك فً دابرة تنظٌم واحد ،فمثبل ٌروي عرابً أنه فً أٌام إسماعٌل
عُهد إلٌه بمؤمورٌة تسلٌم ٓٓ 9ألؾ أردب قمح وفول وشعٌر إلى بنك منشا وقطاوي ،وبنك إٌجٌون
(ٔٓٔ)
وإبراهٌم بٌجة باألسكندرٌة ،سدادا لدٌن اقترضته الحكومة منهما لسداد بعض أقساط دٌن بنك روتشٌلد
وأصبح أجانب الداخل أداة ابتزاز جدٌدة للحكومة مقابل دٌونهم علٌها فً تكرار لما فعله التجار الشوام
والمؽاربة وربما الٌهود فً تقدٌم القروض للمالٌك والعثمانلٌة بمصر لٌرسخوا وجودهم بكل وسٌلة وتؤثٌرهم
()99
-تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر ،عمر اإلسكندري وسلٌم حسن ،ص ٕٗ9 -ٕٗٙ
()98
-المرجع السابق ،ص ٕٕ٘ٔٔٙ -
()99
-نفس المرجع ،ص ٕٗ8
(ٓٓٔ)
-انظر المرجع السابق ،ص ٕٗ9 -ٕٗ8
(ٔٓٔ)
-مذكرات الزعٌم أحمد عرابً ،دراسة وتحقٌق عبد المنعم الجمٌعً ،مجلد ٔ ،دار الكتب والوثابق القومٌة ،القاهرة ،ٕٓٓ٘ ،ص ٕٖٔ
ٕٔٗ
على صناعة القرار ،وكذلك ما ٌُتوقع أن فعله المستوطنون األجانب من قباٌل شعوب البحر وأسرى الحرب
لما تمكنوا من اقتصاد مصر والمعابد وأوقافها فً إقراض الحكومة المصرٌة وهً تترنح من الضعؾ نهاٌة
القرن ٕٓ حتى سقط العرش فً أٌدي "أصحاب القروض" المنزوعة أساسا من أرض مصر.
وفً ٘ ٔ89شدت األزمة ،وصدرت سندات على خزابن الحكومة بقٌمة تقل كثٌرا عن قٌمتها االسمٌة،
فعرضت الحكومة ما لها من أسهم القناة للبٌع( ،وعددها ٕٓ )ٔ9ٙٙفاشترتها الحكومة اإلنجلٌزٌة بثمن
بخس ٌقل عن ٓٓٓ ٗ,ٓٓٓ,جنٌه ،ولم ٌفرج ذلك شٌبا من األزمة ،وصار ٌخشى كل ٌوم من تدخل أوروبا
فً شإون مصر محافظة على األموال التً أقرضها رعاٌاها للحكومة المصرٌة.
وبحلول ٘ ٔ89كان الدٌون على مصر ساٌرة وثابتة ٓ 9ملٌون جنٌهٌ ،عنً 9أضعاؾ الدٌن الذي تركه
سعٌد ،وحصة مصر من القناة بٌعت إلنجلترا ،وصارت الدولة تسٌر مثقلة كاألسٌرة بؤؼبلل تسدٌد أقساط
القروض ،وفوابدها المتزاٌدة ،واألجور الباهظة لؤلجانب مدٌري ومشؽلً المشارٌع ،وتتفنن حكومة
إسماعٌل فً فرض ضراٌب جدٌدة على الفبلحٌن لتضمن سداد فواٌد الدٌن فً موعدها(ٕٓٔ).
واستمر هذا التوؼل األوروبً بالرؼم من أنه على حد معلومات القنصل األمرٌكً فً عهد إسماعٌل
ألبرت فارمان" :كانت مصر فً سنة ٕ ٔ88سددت كل األموال التً تسلمتها فعبل من بٌع السندات ،بما فً
ذلك فابدة سنوٌة قدرها ،%ٙوهذه القروض تشمل الدٌون المختلفة من أٌام سعٌد باشا وقدرها ٓ٘ ملٌونا
من الدوالرات ،كما تشتمل على تلك المبلٌٌن العدٌدة التً أخذتها شركة قناة السوٌس نتٌجة للتعوٌض الذي
حكم به نابلٌون الثالث ،أما الـ ٗ٘ ملٌونا من الدوالرات المدٌنة بها مصر اآلن ]وقت صدور كتاب فارمان
الذي توفً ٔٔ [ٔ9والفابدة التً ُتدفع علٌها منذ سنة ٕ ٔ88والتً ٌبلػ مقدارها نفس مقدار الدٌن األصلً
فكلها من قبٌل الربا دون أي وجه حق".
وإضافة إلى أن مصر من بعد سنة ٕ ٔ88كانت تدفع "الربا الفاحش" رؼم سداد جمٌع دٌونها ،فقد اعتبر
فارمان هذه األموال التً تخرج من مصر لبرٌطانٌا وبنوك روتشٌلد وؼٌره من الممولٌن الٌهود العالمٌٌن
"جزٌة مكشوفة ُتدفع ألوروبا ألجل ؼٌر محدود ،قد ٌمتد إلى أجٌال".
كما قال" :وتنحصر الجرٌمة الحقٌقٌة التً ارتكبها إسماعٌل فً أنه وضع نفسه تحت نفوذ ٌهود لندن
وبارٌس ،هإالء الذٌن كان معظمهم من الممولٌن الٌهود ،وكانت لدٌهم القوة الكافٌة لتوجٌه حكومتً إنجلترا
وفرنسا وحثهما على ابتداع سابقة جدٌدة خاصة بتدخل الدول رسمٌا فً جمٌع الدٌون المبرمة طبقا لعقود،
وحتى الدٌون التً ال ترتكز على أي التزام أدبً".
وإنه "من أجل جمع هذه الدٌون التً تمٌزت بهذا الطابع ،والتً مكنت بنوك روتشٌلد ،وأبنهاٌم،
وجوشن ،وؼٌرها من البٌوت المالٌة أن تجنً ثمار مؽامراتها المالٌة ،قامت الدولتان الكبرٌتان ببذل
(ٕٓٔ)
-المرجع السابق ،ص ٕ٘ٓ -ٕٗ8
*** فكر ومهمة صندوق الدٌن هو ما تم على أساسه تؤسٌس صندوق النقد الدولً وبرامجه الخاصة بـ"اإلصبلح االقتصادي" التً ٌتحكم بها فً
اقتصاد الدول عقب إنشاء األمم المتحدة ٘ٗٔ9
ٕٕٗ
معونتهما الرسمٌة أوال ،ثم قامت إنجلترا بعد ذلك بتقدٌم معونتها العسكرٌة(ٖٓٔ)".
والمعونة كلمة ساخرة من القنصل األمرٌكً الراحل ٌقصد بها التدخل االقتصادي بالدٌون ثم االحتبلل
العسكري ،وطالب دولته (الوالٌات المتحدة) بؤال تنجر فً ٌوم من األٌام للسٌاسات األوروبٌة القابمة على
تكبٌل الدول بالدٌون وإؼرابها بمشروعات استثمارٌة تكون وسٌلتها لبلحتبلل تلك الدول ،واستشهد بكلمة
وزٌر الخارجٌة األمرٌكٌة وقتها ،إلٌهو روت ،فً خطابه فً األرجنتٌن" :إن الوالٌات المتحدة لم تستخدم
ولن تستخدم قط جٌشها أو بحرٌتها فً جمع دٌون تعاقدت علٌها حكومات أو أفراد....مثل هذه اإلجراءات
تإدي إلى المضاربة وهً قابمة على أؼراض دنٌبة(ٗٓٔ)" ،ولكن أمل فارمان فً تجنب ببلده الوقوع فً
هذه المخططات الخبٌثة لم ٌتحقق كما نعلم.
وبنفس تعبٌر فارمان عن الجزٌة لبنوك أوروبا قال البرٌطانً إلٌنور بٌرتز إنه "فً أثناء القرن ()ٔ9
أتى مصر سٌد جلٌل أعلى فً شكل الممول األجنبً ،سٌد ٌطلب جزٌة هو اآلخر (إضافة للجزٌة التركٌة
التً بلؽت عام ٖ ٔ89مبلػٓٓ٘ٙ9جنٌه) ،ولكنها جزٌة متزاٌدة على مر األٌام ،وقد حدث أول تؽلؽل عظٌم
لرأس المال البرٌطانً فً الخمسٌنات ]من القرن [ٔ9ببدء العمل فً قناة السوٌس"(٘ٓٔ).
فجؤة ..امتدت شبكة من عناكب الربا على كامل النسٌج المصري ،كامل القرى ،جحافل من عناكب
الٌهود والٌونانٌٌن والسورٌٌن وؼٌرهم هبطت علٌها كنزلة الجراد تمتص بكل خفة وهدوء المال واألبقار
والجوامٌس والبٌوت واألراضً من عروق الفبلحٌن( ..)ٔٓٙمن أٌن وكٌؾ أتى هإالء؟
التعامل المباشر مع بنوك روتشٌلد وجوشن جرى على مستوى الدولة ،ورؼم أن حكومة االحتبلل
العلوي لم تتؤخر فً نبش أظافرها فً عروق المصرٌٌن لسداد الدٌون وفواٌدها لهذه البنوك ،إال أن البنوك
لم تشبع ،فسلَّطت رسلها ونوابها لٌجوبوا األرٌاؾ وٌبرموا عقودا فردٌة بٌن كل مرابً وفبلح لٌنزعوا منه
أي قرش أو قٌراط تبقى له.
كان منظرا مؤلوفا أن ٌُرى مؤموري التحصٌل مصحوبٌن بحملة الفلقة والكرابٌج وفً ذٌلهم المرابٌن،
ٌهوي المؤمور على جسد الفبلح بالكرابٌج أو ٌربطه بالفلقة ،وإذا فشل الكرباج مع الفبلح ٌقول له المؤمور:
"كل هذا الضرب وال تقر بما عندك من نقود؟!" فٌجٌبه بالنفً ،فٌقول له" :اقترض ،فٌرد :من ٌقرضنً؟
وهنا ٌظهر المرابً فً المكان وقد درس حالة الفبلح وما عنده ،فٌقرضه دون سإال ،وٌقبل الفبلح بؤي
فوابد ،وٌتضح فً النهاٌة أن المرابً والمؤمور متفقٌن على هذا ،وٌؤخذ المؤمور حصته ،حتى وصلت دٌون
(ٖٓٔ)
-مصر وكٌؾ ُؼدر بها ،ألبرت فارمان ،مرجع سابق ،ص ٖٖٗٔٔ٘ -
(ٗٓٔ)
-نفس المرجع ،ص ٖٔٙ
(٘ٓٔ)
-دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً ،أحمد رشدي صالح مترجما لكتاب "االستعمار البرٌطانً فً مصر" للبرٌطانً إلٌنور بٌرتز ،مرجع
سابق ،ص ٘9-
()ٔٓٙ
-انظر :رسابل من مصر ،جون نٌنٌه ،مرجع سابق ،ص ٕٕٗ
ٖٕٗ
الفبلحٌن بحلول ٕ ٔ88حوالً ٘ٔ ملٌون جنٌه(.)ٔٓ9
وٌصؾ محمد عبده ما رآه متؤلما" :المرابٌن من أعظم أعوان الظلم وأشد أنصاره؛ فإذ رأوا حاجة
األهالً إلٌهم تدللوا وتمنعوا لعلمهم أن الكرباج وراءهم فبل قدرة لهم على الصبر ،وال سبٌل إلى التخلص
من ألم العذاب ولو مإقتا إال بالرضا بكل ما ٌرسمون علٌهم من الفابدة" ،وأن "التجار وأرباب البنوك
]المرابٌن[ الؽرماء الدخبلء الذٌن انتشروا بٌن أبناء الببلد انتشار الذباب بٌن األؼنام؛ فؤثقلت كواهل
الفبلحٌن بالدٌون الهابلة ،واضطرهم العجز لبٌع أمبلكهم ورهن عقاراتهم وأراضٌهم أو االنسبلخ منها
بالكلٌة ،فؤحاط بهم الفقر وأصبحوا فً أسوأ حال"(.)ٔٓ8
ومع صدور البلبحة السعٌدٌة سنة ٔ8٘9أقبل الٌهود ،مثل بقٌة األجانب ،على تملك األرض
والعقارات ،فٌقدموا القروض للمزارعٌن ،وفً حالة عجزهم عن السداد ٌدخل المرابً ٌكوش على األرض
أو البٌت ،وفً ٓ ٔ8ٙسمح لؤلجانب أن ٌقٌموا محالج للقطن فً المزارع التً ٌؽتصبونها ،وفً سنة
ٔ8ٙ9أصدرت الدولة العثمانٌة قانونا خاصا بتملٌك األجانب للعقارات فً مصر أصبح بمثابة تؤكٌد على
خطوات التملٌك التً اتخذها سعٌد ،وفً ٔ ٔ89أنشبت بورصة العقود باإلسكندرٌة ،وٕ ٔ89أنشبت
بورصة مٌناء البصل باإلسكندرٌة أٌضا(.)ٔٓ9
وهكذا بدأ بالتدرٌج السٌطرة األوروبٌة والٌهودٌة على أعمدة االقتصاد ،بل وأراضً وعقارات
المصرٌٌن بشكل مباشر أو بالحٌل والنهب أو بنقل االختراعات المالٌة االستنزافٌة التً نشرها الٌهود فً
أوروبا ونقلوها لمصر كالبورصات والبنوك والرهونات والتؤمٌن إلخ.
ولخدمة تجارتهم أنشؤ الٌهود مطبعتٌن باإلسكندرٌة ،واحتكروا على حس ذلك تجارة الورق،
والمصرٌون فً ؼفلة ال ٌدرون ما ٌجري خلؾ ظهورهم من مكاٌد ومإامرات لحسن نٌتهم ،ومن ناحٌة
أخرى لضحالة ثقافتهم؛ فهم حدٌثً عهد بمثل هذه األمور ،وأٌضا لعزوفهم عن العمل فً هذه المجاالت،
بتعبٌر الدكتور حسٌن كفافً فً كتابه عن الٌهودي هنري كورٌٌل أشهر من نشر الشٌوعٌة فً مصر(ٓٔٔ).
وقسم المرابون األجانب مصر قطعا بٌنهم (مناطق نفوذ) ،كل مرابً له منطقة ال ٌتعدى زمٌله علٌها؛
فانتشروا فً مصر من أقصاها إلى أدناها...كما تنتشر خٌوط العنكبوت(ٔٔٔ) ،وسٌطروا على تجارة القطن
()ٔٓ9
-تطور الرأسمالٌة المصرٌة ،مجموعة باحثٌن ،دار الكتب والوثابق القومٌة ،القاهرة ،ٕٓٔٔ ،ص ٗ8
()ٔٓ8
-المرجع السابق ،ص ٗ9 -ٗ8
()ٔٓ9
-انظر :هنري كورٌٌل -األسطورة والوجه اآلخر ،حسٌن كفافً ،الهٌبة العامة للكتاب ،القاهرة ٖٕٓٓ ،ص ٕٗ
(ٓٔٔ)
-المرجع السابق ،ص ٕ٘
*** تنبه طلعت حرب فً القرن ٕٓ لخطورة سٌطرة األجانب على صناعة الورق والثقافة ،وكان من دوافعه لبناء اقتصاد خالص للمصرٌٌن هو
الحد من احتكار األجانب لهذه الصناعة ،فؤنشؤ شركة الورق لتوفٌره للمصرٌٌن لنشر كتبهم ومنشوراتهم الوطنٌة دون تحكم من الشركات األجنبٌة
فٌها ،إلى جانب إن شابه استودٌو مصر وشركة السٌنما لنشر الثقافة المصرٌة بطرق أخرى.
(ٔٔٔ)
-انظر :المرجع السابق ،ص ٖٕ
ٕٗٗ
ألرباحه السرٌعة والثرٌة ،وكونه سلعة استراتٌجٌة للجمٌع ،فقد ظل هو البترول األبٌض لفترة من الزمان.
تابع جون نٌنٌه باعتباره تاجرا للقطن ومتملكا ألراضً فً عصر إسماعٌل المرابٌن الصؽار ٌتجولون
بؤكٌاس النقود كثعالب باحثة عن فرابسها فً القرى" :إن وضع الفبلح المصري ؼٌر محتمل ،فعما قرٌب
لن ٌستطٌع هذا الفبلح أن ٌقترب من محاصٌله" ،ألنه" :من ناحٌة هناك المدٌرون ومحصلو األموال الذٌن
ٌطالبونه مسبقا بالرسوم والضراٌب ،ومن ناحٌة أخرى هناك المرابون الٌونانٌون والسورٌون ،مسٌحون
وٌهود ،الذٌن ٌقرضونه المال الذي ٌحتاجه بشدة" ،وذلك بفابدة تتراوح بٌن ٘ %ٔٓ -%ٕ,شهرٌا ،وقد
ٌفاجا الفبلح بضراٌب جدٌدة ٌفرضها علٌه الخدٌوي "إذن تنهال ضربات الكرباج ،و ُتتفح سجون المدٌرٌن،
وتبكً النساء واألطفال" ،فٌعجز عن سداد القرض ،وهنا "ٌجد المزارع المسكٌن نفسه وعابلته وقد ألقً بهم
على الطرٌق" ،ونابب الملك (الخدٌو) "ال ٌشؽله األمر فلدٌه مشاؼله الخاصة وهً القبض والمطالبة
والقبض دابما!"(ٕٔٔ) ،والمرابون األجانب ،تقع فً أٌدٌهم الرهونات من أراضً وبٌوت ومواشًٌ ،زدادون
ؼنى وٌتمتعون بالحماٌة عندما ٌؤخذون الرعوٌة من سفارة أجنبٌة.
وعبر عن هذا أبلػ تعبٌر الفبلح فً مواوٌله التً تحكً مرارة حاله وانتشرت قبل ثورة ٔ:ٔ88
تمٌزت العبلقات االقتصادٌة بٌن مصر والخارج فً تارٌخها الحُر (أزمنة الحكم المصري القدٌم)
باالقتصار على التبادل التجاري ،بضاعة قصاد بضاعة ،والدولة هً المشرؾ األول على العملٌة ،لكن
حٌن تسلل إلٌها االستٌطان اإلؼرٌقً والٌهود ظهر فٌها مشارٌع أجنبٌة هً "الوكاالت األجنبٌة" ،كالشركات
متعددة الجنسٌات اآلن ،لكن نشاطها ظل أٌضا تبادل تجاري ،وظلت العبلقات تبادل سلع بٌن الدول فً
عصور الحقة.
أما فً االحتبلل العلوي فظهر فً مصر ما ٌُسمى بـ"مشارٌع التنمٌة" باستثمارات أجنبٌة أو بإشراؾ
***ومعظم من تسللوا لمصر فً ثوب الجا وعامل وتاجر بعد ٕٔٔٓ ٌعملون بنفس الطرٌقة االحتكارٌة ،بداٌة بالعمل فً أكثر وأسرع المجاالت
ربحا ،وهً الصرافة وتجارة العملة والمط اعم وبٌع أدوات الزٌنة والعطور ،وصوال لعماد وأعصاب االقتصاد كصناعة الؽزل والنسٌج واألدوٌة
والصرافة واإلعالم والفنون وتجارة التهرٌب إلخ.
(ٕٔٔ)
-رسابل من مصر ( ،)ٔ88ٕ -ٔ899جون نٌنٌه ،مرجع سابق ،ص ٕٔٔٔٔٔ -
- 113األغنية الوطنية من عرابي إلى عبد الناصر ،السيد زىرة ،مجمة أدب ونقد ،ع ،246القاىرة ،فبراير ،2116ص 51
ٕ٘ٗ
أجنبً ،مثل قناة السوٌس وشركات االستصبلح الزراعً والسكك الحدٌد نتٌجة لظهور الرأسمالٌة العالمٌة
فً أوروبا التً اتخذت االستثمار وسٌلة للهٌمنة واالنتشار االحتبللً فً الخارج بدٌبل عن االحتبلل بالسبلح
أو سابقة له.
فً البداٌة كان األمر خطره بسٌط ،ألن محمد علً كان "حوٌط" عن أوالده ،جلب الخبراء األجانب
لعمل مشارٌعه التنموٌة فً الصناعة والزارعة والجٌش والصحة وؼٌرها ،لكن حرص أن ٌكون بؤموال
مصرٌة والملكٌة تخص الحكومة ،وال ٌتملك أجنبً أي مشروع ،عدا خطٌبته فً تقدٌم تسهٌبلت لخاصته
األجانب فً تملك أرض ،أما أوالده بداٌة من سعٌد فـ"اندلقوا" على األجانب ،وقبلوا أن ٌفتحوا لهم حدود
الببلد بدون ضابط ،وأن ٌتسلموا مشارٌع كبرى باسم "استثمار أجنبً"ٌ ،تملكون فٌها معظم األسهم
وٌدٌرونها وحدهم ،وٌختارون المشارٌع التً تخدم مصالح وتجارة الدول األجنبٌة وجالٌاتها ،سواء كانت
مصر تحتاج هذه المشارٌع فعبل أو ال تحتاجها ،وبدأت بقناة السوٌس.
واتسع الفخ لما قرر إسماعٌل إحٌاء مشارٌع جده محمد علً ،وكان لبعضها تؤثٌره الطٌب فً المستقبل،
إال أن اعتماده على عملها عن طرٌق القروض الضخمة ،واستجبلب طوفان األجانب لٌتولوا أمرها تماما
ولٌس فقط كخبراء مإقتٌن ،وإصراره على تنفٌذ أكبر كم من المشروعات فً وقت قصٌر مها تكلفت من
دٌون ،وكسره لظهر الفبلحٌن بكل وحشٌة ،كل هذا تسبب فً أن نفس المشارٌع من شركات ومرافق
وعمارات وقصور ،إضافة لقناة السوٌس ،سقطوا كالثمرة الناضجة فً حجر احتبلل أجنبً جدٌد ،هو
اإلنجلٌز وجالٌاتهم الذٌن تراصوا فوق ظهر مصر إلى جوار االحتبللٌن العثمانلً والعلوي.
فؤٌام إسماعٌل تم بناء وتوسٌع ٘ٔ مٌناء على البحرٌن األحمر والمتوسط ،بإٌعاز أوروبً ألهمٌة هذه
الموانً فً تسٌٌر وتسرٌع نقل تجارة ومصالح أوروبا ،إضافة إلى أنها توفر فرصا لزٌادة القروض
المصرٌة ،ولزٌادة فرص العمل لؤلجانب ،وفرص شراء منتجات المصانع األجنبٌة البلزمة للموانً.
وفعبل ،أسند العمل فً مٌناء السوٌس إلشراؾ فرنسً ،ومٌناء اإلسكندرٌة إلشراؾ إنجلٌزي بمبلػ ٕ
ملٌون ونصؾ ملٌون جنٌه ،واعترؾ السٌر رفرز ولسون ،أحد المسبولٌن اإلنجلٌز فً الحكومة المصرٌة
فً عهد إسماعٌل ،بؤن هذا االتفاق مجحؾ بمصر ،وأن المٌناء لم ٌنفق علٌه أكثر من ملٌون ونصؾ؛ ُ
فخدع
إسماعٌل فً هذا العقد كما ٌخدع قبله سعٌد باشا فً عقد قناة السوٌس ،وهذا فً الحقٌقة َمثل من كثٌر من
أنواع االتفاقات التً كان ٌُخدع فٌها إسماعٌل وٌضٌع من جرابها األموال الطابلة(ٗٔٔ).
هذا بخبلؾ أن األعمال الشاقة من البناء والنقل فً هذه الموانً كان ٌقع على عاتق الفبلحٌن ،ومعروؾ
أنه كان ال ٌصلهم من األموال المنفقة علٌها إال الفتات ،بالرؼم من أنها ٌتقام بقروض ُتسدد من عرقهم
ودمابهم ،وٌؤخذ الموظفون األجانب مرتبات خٌالٌة.
وعن هذا قال جنكس فً كتابه "ارتحال رأس المال البرٌطانً" :اآلن امتؤلت الببلد بالمهندسٌن
(ٗٔٔ)
-تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر ،مرجع سابق ،ص ٕٖ9
ٕٗٙ
البرٌطانٌٌن ٌفٌضون بمشروعات لمد رحاب الرقً والمدنٌة ،وفً اإلسكندرٌة كانت إحدى شركات
المقاولٌن اإلنجلٌز تقوم بؤعمال البناء فً المٌناء لقاء مبلػ (ٕ ملٌون ونصؾ الملٌون جنٌه) فً حٌن أن هذه
األعمال تكلفها حوالً ٓٓٓ ٔ,ٗٓٓ,جنٌها (ملٌون وٓٓٗ ألؾ جنٌه)(٘ٔٔ)".
وفوق الدفع المباشر للمشارٌع االستثمارٌة األجنبٌة كانت مصر تؤخذ نصؾ ما تطلبه من الدٌون ،فً
حٌن أنها عند السداد تسددها كاملة إضافة للفواٌد ،وهو ظلم ما بعده ظلم ،وفً ذلك قال البرٌطانً إلٌنور
بٌرتز فً كتابه "االستعمار البرٌطانً فً مصر" ،صدر ضمن أبحاث حزب العمال البرٌطانً عن مصر
" :ٔ9ٕ8 -ٔ9ٕ9كانت مصر فً الواقع مدٌنة مرة أخرى بنصؾ ما اقترضته بالفعل ،فإذا أدخلنا فً
اعتبارنا أن معظم المال المستدان كان ٌدفع للمقاولٌن البرٌطانٌٌن ،وهم الذٌن حصلوا على أرباح طابلة،
فإنه ٌكون من المشكوك فٌه كل الشك أن ٌمثل ما أنفق على الصناعة المصرٌة والنقل ثلث الدٌن".
وأضاؾ أنه "لٌس عجٌبا إذن أن تنزلق مالٌة مصر فً فترة وجٌزة إلى إفبلس ال أمل معه ،وأن ٌصبح
من الممكن أن تدفع فوابد الدٌن وأن تإدي أقساطه بطرٌق واحد هو عقد قروض جدٌدة ،ولم ٌكن مثار
للدهشة بعد أن فحص تفاصٌل الدٌون أن تنتوي الحكومة البرٌطانٌة أمرا أخطر من التدخل(.")ٔٔٙ
وبقلب وبلسان فبلح فصٌح عبَّر عبد هللا الندٌم عن رأي الفبلحٌن فً هذا الحال ساخرا(:)ٔٔ9
فلم ٌكن ؼرٌبا أمام هذا المشهد أن تنتظر مصر احتبلال جدٌدا ...فوق االحتبلالت الثبلثة.
وإضافة إلى جزٌة القروض والفواٌد ،نبَّه بٌرتز لتؤثٌر آخر مدمر لطوفان االستثمار األجنبً قاببل إن
السٌد الجلٌل "ما لبث أن تدفق بعد االحتبلل فً شكل استثمار خاص ،ولٌس من شك فً أن تصدٌر رأس
المال والمنتجات الجاهزة من الببلد الصناعٌة إلى مصر هو الظاهرة الجوهرٌة لبلستعمار األجنبً ،وال
شك أٌضا أن تصدٌر السلع الفابضة من هذه الببلد إلى مصر لم ٌربطها إلى الببلد المنتجة كما ربطها
تصدٌر رأس المال الفابض إلٌها".
فٌوضح أن الرأسمالٌٌٌن البرٌطانٌٌن ٌقترحون المشروعات على الخدٌوي ،وٌعقدون معه الصفقات
لٌنفذوها ،ثم ٌقرضونه المال الذي ٌدفعه للمقاولٌن ،أي لهم هم أنفسهم ،ولنا أن نتصور أن المثل الذي أورده
(٘ٔٔ)
-دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً ،أحمد رشدي صالح ،الفصل الخاص بترجمة كتاب االستعمار البرٌطانً فً مصر للبرٌطانً إلٌنور
بٌرتز ،الصادر عام ٔ9ٕ9ببرٌطانٌا ،الهٌبة العامة للكتاب ،سلسلة تارٌخ المصرٌٌن ،القاهرة ،ص 9
()ٔٔٙ
-المرجع السابق ،ص 8-9
()ٔٔ9
-عبد هللا الندٌم ،صحٌة التنكٌت والتبكٌت ،العدد ،9بتارٌخ ٔ88ٔ -ٙ -9
ٕٗ7
جنكس لم ٌكن استثنابٌا ،فبلبد أن هذه الصفقات كانت تصفً أرباحا طابلة ،والبد أن الممولٌن كانوا ٌطالبون
بعمولة باهظة(.)ٔٔ8
حذر منه عباس العقاد فً كتابه "سعد زؼلول سٌرة وتحٌة" عن عادة األجانب فً وٌذكرنا هذا بما َ
عصر واستنزاؾ اإلنسان المصري ،فٌقول" :وجاءه المرتزقة من أبناء األمم المتشتؽلة بالتجارة وتروٌج
السلع الؽرٌبة؛ فؤحوجوه مرة أخرى إلى الحٌطة والٌقظة واجتناب الؽفلة ،ألنهم كانوا جمٌعا قناص كسب ،ال
ٌتورعون عن خطفه واختبلسه بكل وسٌلة مٌسورة ،وال ٌزالون محمٌٌن مرعٌٌن ]باالمتٌازات األجنبٌة
والحماٌة من الحكام األجانب[ ،وهو بٌنهم فرٌسة مباحة الذمار ،ال تؤوى إلى حماٌة وال تعدل على رعاٌة".
وضرب مثبل بؤنه زار مصر إنجلٌزي هو روبرب كرزون صاحب كتاب "األدٌرة والمعابد" (فً القرن
،)ٔ9فوصؾ أخبلق بعض الباعة المخادعٌن الذٌن ابتلٌت بهم مصر ،ذاكرا منهم األتراك واألرمن
والفرنجة والٌهود واإلؼرٌق (الٌونانٌٌن) ،فقال إنهم "على الجملة أنذال ٌتفاخرون بالختل واالختٌال ،وإن
هناك بٌانا صحٌحا لنصٌب كل طابفة من القدرة على الؽش والسرقة ٌدل علٌه هذا التقدٌر" ،وذكرنا العقاد
بؤن "هإالء كلهم كانوا فً العصور الوسطى وما بعدها مسلطٌن على المصري األعزلٌ ،زٌفون له
البضابع الؽرٌبة ،وٌخدعونه عن قٌمتها وعن درجتها وعن ثمنها وعن حاجته إلٌها"(.)ٔٔ9
والمخدوع ٌدفع الثمن ..والثمن فً مصر -كالعادة -ؼالٌا ،بل وهذه المرة سرٌعا ،خاصة أن المخدوع
هذه المرة هم حكام قساة ألقوا بمصر كلها فً فم الؽول ،فكان العقاب التارٌخً ،وهو احتبلل جدٌد.
وٌقال إن من أسباب استٌطان الهكسوس القدماء فً مصر أن التجار ٌؤتون من الشام محملٌن ببضاٌع
وسلع ؼرٌبة على المصرٌٌن ،منها أدوات للزٌنة وؼٌرها ،وكان المصرٌون وقتها أٌام الدولة الوسطى فً
حالة مادٌة مزدهرة ،فؤؼراهم حب تجربة الؽرٌب والعجٌب من البضاٌع رؼم عدم حاجتهم إلٌها ،ورؼم أن
لدٌهم األفضل منها.
وفً حدٌث لتاجر سوري مع برنامج "صاحبة السعادة" على فضابٌة "سً بً سً" ٖٓ ،ٕٓٔ8-ٗ -قال
إن من أسباب انتشار مطاعم األكل السوري فً مصر هو حب المصرٌٌن لتجربة كل جدٌد ،وتقٌٌمه
صحٌح ،فنظرة إلى شوارع مصر -بما فٌها القرى اآلن -لمتابعة كمٌة المطامعم المخصصة لؤلكبلت
األجنبٌة ،والمبلبس األجنبٌة (بما فٌها الهندٌة واإلٌرانٌة) ،وؼٌرها من بضاٌع لسنا بحاجة لها ،وتنتشر رؼم
كثرة الدٌون على مصر ،والشكوى الدابمة من األسعار ،والمخاطر التً تواجه الببلد حال كثرة ؼسٌل
األموال الممكن أن تتستر تحت االستثمار األجنبً والبضاٌع المؽرٌة باسم مطاعم ومحبلت وشركات،
تعطً مإشرا لما ٌمكن أن ٌنتج عن هذا فً المستقبل.
()ٔٔ8
-دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً ،أحمد رشدي صالح مترجما لكتاب "االستعمار البرٌطانً فً مصر" للبرٌطانً إلٌنور بٌرتز ،ص ٘9-
()ٔٔ9
-سعد زؼلول ،سٌرة وتحٌة ،عباس محمود العقاد ،الهٌبة العامة للكتاب ،ٕٓٔ9 ،ص ٖٖٕٔ -
ٕٗ8
اعتبر االحتبلل العثمانلً أن األرض كلها ملك للسلطان "بحق الفتح"ٌ ،وزعها كٌفما شاء كالتزامات أو
أوقاؾ ،ومنع تملكها ألشخاص ،وحٌن ألؽى محمد علً االلتزام وقتل أو طرد معظم المسٌطرٌن الكبار على
األرض ،ونزع الحٌازات من الباقٌن (الممالٌك والمشاٌخ وكبار التجار) ،وزعها على عٌلته وخاصته
وموظفٌه ،ولكن لم ٌسمح بالملكٌة الخاصة فً معظم عصره إال له ولعابلته وبعض المنعم علٌهم.
وسُمٌت األراضً التً تملكتها األسرة الحاكمة بـ"الجفالك" و"الشفالك" ،وفٌوقت الحق بـ"الدابرة السنٌة"
و"الدابرة الخاصة" ،وأعفاها من الضراٌب ،وهً مساحات شاسعة ألخصب األراضً اختارها بنفسه،
وصل مجموعها سنة ٔ8ٗ8إلى ٖٖٗ ألؾ فدان ،وضم إلٌها قرى بؤكملها ،وزاد عباس من مساحتها
باستصبلح أراضً جدٌدة على ٌد الفبلحٌن بنظام السخرة ،فٌما مارس إسماعٌل نشاطا محموما فً ضم
األراضً لنفسه وأسرته حتى وصلت سنة ٔ898ألكثر من ٓٔ 9ألؾ فدان ،أي حوالً ملٌون فدان ،بما
ٌساوي خمس األرض المصرٌة المزروعة ،وأخصبها(ٕٓٔ) ،بخبلؾ ما هو معطى لبقٌة عٌلة محمد علً،
فكان بحق "قارون العصر".
وأبقى محمد علً على األبعدٌات فً ٌد المنعم علٌهم وورثها لذوٌهم ثم وهب لهم تملٌكها ،وبقٌة
األراضً ٌزرعها الناس بنظام حق االنتفاع ،أما الوسٌات التً كانت فً ٌد الملتزمٌن -ومعظمهم أجانب من
شوام وترك وعربان وأرناإوط إلخ -فؤبقاها بؤٌدٌهم بنظام االنتفاع أٌضا ،ثم سمح إسماعٌل بتملٌكها لهم
ولذرٌتهم مقابل دفع ضراٌب ٙسنوات مقدما فٌما ٌُعرؾ بنظام المقابلة(ٕٔٔ) ،وأضافوا علٌها أراض أخرى،
ومن صلب كل هذا األصناؾ خرج ما عرفناهم فً القرن ٕٓ باسم "اإلقطاعٌٌن" ،وأخضعت ثورة ٖٕ
ٌولٌو ٕ٘ ٔ9ما بٌدهم من أرض لقانون "اإلصبلح الزراعً" باعتبارها أراضً أُخذت من الشعب بطرق
ظالمة ،وفً وقت احتبلل ،ورؼم هذا أعطتهم الثورة مقاببل مادٌا لما أخذته منهم من أراضً ،وتركت لهم
مساحات واسعة !
وكان سعٌد تخلى قبله عن احتكار ملكٌة األرض ،وفتح باب الملكٌة الفردٌة للناس ،وهو ما سٌكون له
عواقب طٌبة وسٌبة فً نفس الوقت؛ ألنه أباحها للمصرٌٌن ولؽٌر المصرٌٌن ،ففً ٔ8٘8أصدر قانون
األراضً الشهٌر باسم "البلبحة السعٌدٌة" سمح فٌه للشخص بتملك األرض التً ٌزرعها ،فانتعشت أحوال
البعض ،وخلقت منهم أؼنٌاء خاصة العمد(ٕٕٔ).
ولكنه فً نفس الوقت سمح بتمل ٌك األجانب ،ولذا فمن ؼٌر المستبعد أن ٌكون القانون صدر بإٌعاز من
األجانب المحٌطٌن به ،فبهذا القانون أصبح األوروبٌون وؼٌرهم ألول مرة أصحاب وسٌات وإقطاعٌات،
وهذا من أبشع قراراته بعد قراري فتح باب الدٌون وحفر قناة السوٌس لصالح األجانب.
ومعرفة كٌؾ جرى توزٌع أراضً مصر فً ذلك العصر تعطً صورة عن جذور الثراء الفاحش الذي
(ٕٓٔ)
-ملكٌة األراضً الزراعٌة فً مصر خبلل القرن التاسع عشر ،حمدي الوكٌل ،مرجع سابق ،ص ٕٓٓ -ٔ9ٙ
(ٕٔٔ)
-انظر المرجع السابق ،ص ٔٔ8ٕ -ٔ8
(ٕٕٔ)
-انظر :مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر ،مرجع سابق ،ص ٕٓ9
ٕٗ9
تمٌزت به بعض العاببلت فٌما ،فمن اؼتنى فً ذلك العهد هم أؼنٌاء العهد التالً.
وبموجب هذا التوزٌع وأسالٌبه تركزت ثروة األطٌان والثروة العقارٌة فً ٌد :أسرة محمد علً ،كبار
الموظفٌن من عدة جنسٌات ،األوروبٌون ،شٌوخ البدو ،ندرة من المصرٌٌن ،وفق ما سجلته سجبلت
الروزنامة ووثابق الملكٌة الزراعٌة وتراجم األعٌان فً ذلك الوقت ،ونقلتها المراجع المذكورة فً
الهوامش.
تابعنا كٌؾ وزع محمد علً أخصب أراضً مصر على نفسه وأسرته -كقطع الجاتوه -وتابع أبناإه نفس
النظام ،فحٌن تولى عباس أؼدق الهبات من األراضً على األسرة الحاكمة ،فمنح لكل زوجة من زوجات
محمد علً وإبراهٌم ٘ آالؾ فدان فوق ما لهن من أمبلك ،ومنح أبناء وبنات أحمد باشا ٌكن (جد عدلً ٌكن
ربٌس الوزراء فٌما بعد) وإبراهٌم ٌكن -وهم من أقارب األسرة الحاكمة ٔٔ,٘ٓٓ -فدان بواقع ألؾ فدان
لكل ولد وٓٓ٘ فدان لكل بنت(ٖٕٔ).
واستولى سعٌد على مساحات من األراضً البور الستصبلحها ،وضم ألبعادٌاته من البحٌرة ٙآالؾ
فدان من األطٌان الخراجٌة التً تركها الفبلحون تخلصا مما علٌهم من أعباء مالٌة ،وصاروا هم ببل أرض،
كما استولى على أراضً بعض األفراد بحجة تداخلها فً أراضٌه وأعطى لهم بدال منها أراضً أخرى من
البور الخارجة عن الزمام ،وبلؽت أطٌان دابرته عند وفاته ٖٔ,ٔٔ9فدان ،وابنه وزوجاته ٌمتلكون
ٓ ٔ9,ٔ9فدان من أجواد األراضً الزراعٌة بالدلتا(ٕٗٔ).
وكثٌرا ما كان الفبلحون ٌجبرون أٌام سعٌد على التنازل عن أراضٌهم ألفراد األسرة الحاكمة الراؼبٌن
فً ضمها لمزارعهم ،سوا عوضوا أصحابها بؤراضً أقل خصوبة أو لم ٌعوضوهم ،والجلد جزاء من
ٌرفض التنازل عن أرضه ،فتحكً وثابق "معٌة تركً محفظة ٙ9وثٌقة ٕٕٕ" أنه فً سنة ٔ ٔ8ٙطلب
سعٌد من فبلحٌن ٌملكون ٖٓٓ فدان مجاورة ألبعادٌة عبد الحلٌم ابن محمد علً بالمطاعنة فً قنا أن
ٌشترٌها لٌلحقها بؤبعادٌته ،فرفضوا ،فؤمر بجلدهم ،ووافق أصحاب 89فدان من الفبلحٌن بٌع أطٌانهم
ورفض البقٌة -رؼم الجلد -البٌع للباشا ،مما دفع مدٌر قنا لرفع أمرهم إلى سعٌد لٌؤمر بما ٌُتبع بشؤنهم(ٕ٘ٔ).
أما إسماعٌل فلم ٌكتؾِ بإجبار الفبلحٌن على بٌع األراضً "اللً بتطلع علٌها عٌنه" ،ولكن أجبر أٌضا
أفراد عٌلته ،فؤرؼم عمه عبد الحلٌم باشا وأخاه مصطفى فاضل باشا على أن ٌبٌعاه دابرتٌهما اللتٌن بلؽت
مساحتهما ٘ 9ألؾ فدان ،واستولى على مساحات واسعة من األراضً المتروكة -أي تركها الفبلحون
لعجزهم عن تكالٌفها -واألراضً المستبعدة ،بعضها ٌُزرع لحسابه وبعضها أجرَّ ها لفبلحٌن ،وأنعم على
(ٖٕٔ)
-كبار المبلك والفبلحٌن فً مصر من ، ٔ9ٕ٘ -ٔ8ٖ9رإوؾ عباس وعاصم الدسوقً ،نسخة إلكترونٌة على موقع المإرخ د.رإوؾ عباس،
ص ٓ9ٔ -9
(ٕٗٔ)
-نفس المرجع
(ٕ٘ٔ)
-المرجع السابق ،ص ٔ9
ٖٓٗ
أوالده وبناته زوجاته وجوارٌه بمساحات واسعة من األطٌان ،واشترى أراضً سدد أثمانها من خزانة
الدولة ،وسخر الفبلحٌن لحفر ترعة اإلبراهٌمٌة لري مزارع القصب التً تملكها فً أسٌوط والمنٌا ،حتى
بلؽت األراضً المملوكة له وألسرته نحو ملٌون فدان ،بخبلؾ ما ٌملكه بقٌة أسرة محمد علً(.)ٕٔٙ
ولم ٌحد هذه الملكٌات الخارجة عن العقل إال إجباره على ٌد صندوق الدٌن التنازل عنها لصالح سداد
الدٌون ،وجرى بٌعها بالتقسٌط لنفس العاببلت الثرٌة فزادت ثراء ،واشترى أٌضا أجانب جدد فزادوا فً
البلد تملكا ،ثم عاد استحواذ األسرة العلوٌة على األراضً لٌظهر "قارون" جدٌد هو فإاد األول.
هم الرقم الثانً فً كبار المتملكٌن بعد أن أنعمت علٌهم أسرة محمد علً بهبات واسعة من األراضً
لٌخلصوا لها ،ومعظمهم ٌنتمً للمجموعة التركٌة التً عرَّ فها ملنر فً كتابه "إنجلترا فً مصر" بؤنها تضم
أخبلطا من أتراك آسٌا الصؽرى والمؽرب وتونس والشراكسة واألكراد والشوام واألرمن ،وتلتزم بؤسالٌب
الحٌاة التركٌة واللؽة التركٌة ،وانضم لهإالء الموظفٌن عدد محدود من المصرٌٌن الذٌن هٌؤت لهم إجادتهم
للتركٌة فرصة ولوج الوظابؾ الكبرى ،وزوجهم الحكام بتركٌات وشركسٌات من جوارٌهم المعتقات لٌؤلفوا
الحٌاة التركٌة(.)ٕٔ9
وبداٌة وهب محمد علً ما بٌن ٓٓٔ ٖٓٓٓ -آالؾ فدان للموظؾ مثلما أنعم على مصطفى باشا محافظ
كرٌت ب ٖ آالؾ فدان ،وبعض ضباط الجٌش األتراك بما بٌن ٕٓٓ ٘ٓٓ -فدان ،وهو ما واصله عباس
الموالً لؤلتراك؛ فوزع مثبل ٓ٘ 8فدانا إلبراهٌم أدهم وٖٓ٘ لخورشٌد باشا ،وهكذا ،وأسرؾ إسماعٌل فً
منح األراضً لكبار الموظفٌن ما بٌن ٓٓٔ ٔٓٓٓ -فدان.
وتضخمت ثروات كبار الموظفٌن الذٌن عاصروا عدة حكام بشكل خرافً ،فمثبل شرٌؾ باشا الذي تولى
وظابؾ منذ أٌام محمد علً تجمع فً ٌدٌه من اإلنعامات المتتالٌة حتى عهد إسماعٌل ٗ ٕٓ,ٔٙفدان سنة
ٓ ،ٔ89وملك حسن المانسترلً ٗٓ ٕٙفدان ،وهكذا( ،)ٕٔ8وٌسمونها هبات وهً أموال حرام منزوعة من
الفبلحٌن ،وانطبق على أسرة محمد علً القول الذي اشتهر عن آرثر بلفور صاحب وعد بلفور الشهٌر
للمستوطنٌن الٌهود بتملك فلسطٌن "أعطى ما ال ٌملك لمن ال ٌستحق".
وتوقؾ منح الهبات مع اشتداد األزمة المالٌة ثم قدوم االحتبلل اإلنجلٌزي ،وحل محلها كوسٌلة لتضخم
الثروات شراء األراضً المٌري بؤبخس األثمان استؽبلال لنفوذهم داخل الحكومة ،حتى اشترى إسماعٌل
باشا راؼب مثبل لوحده ،وهو مفتش الحسابات باألقالٌم ٖٕٗ٘ ،فدانا من أطٌان المٌري بالؽربٌة(.)ٕٔ9
وبنظام "البٌع والشراء" ترسخت ملكٌة األراضً فً أٌدي المستوطنٌن األجانب؛ بمعنى أنهم صاروا
()ٕٔٙ
-نفس المرجع ص ٔ9ٖ -9
()ٕٔ9
-كبار المبلك والفبلحٌن فً مصر من ،ٔ9ٕ٘ -ٔ8ٖ9مرجع سابق ،ص 9ٙ
()ٕٔ8
-نفس المرجع ،ص ٓ9
()ٕٔ9
-نفس المرجع ،ص 99
ٖٔٗ
ٌتوارثونها وٌتصرفون فٌها كٌفما شاءوا ،وال ٌحق للحاكم نزعها منهم مثل الهبات ،فتكون فً مصر طبقات
حدٌدٌة من كبار متملكً األراضً واألؼنٌاء الذٌن ال ٌتؽٌرون وال ٌتزحزحون ،حتى بالثوارات وبتؽٌر
الحكام ،واستؽلوا هذا فً أنهم قفزوا على المناصب البرلمانٌة والحكومٌة وصاروا أٌضا ٌتوارثونها
كعاببلت وأصهار حتى ثورة ٕ٘ -ٔ9خاصة بعد حصولهم على الجنسٌة المصرٌة بقانون سًء السمعة -بل
وبعضهم ما زال ٌتوارث األمبلك والمناصب حتى الٌوم.
النوع الرابع لمن صاروا من كبار متملكً األراضً هم شٌوخ البدو ،كانوا حتى ذلك الوقت ٌنظرون
للمصرٌٌن بتكبر وقسوة ألن عادتهم فً ضم األراضً وتحصٌل المال كانت بالسبلح إلرهاب الفبلحٌن
وفرض إتاوت علٌهم ،أو بالصراع مع الممالٌك حتى الحصول على التزام مساحات شاسعة من األراضً،
وفً عهد محمد علً اعتمد سٌاسة توطٌن البدو فً الوجه البحري والقبلً لٌكفوا عن السلب والنهب حتى
تقلد بعضهم أرفع المناصب فً المدٌرٌات المستوطنٌن بها.
ومن مشاٌخ البدو المستفٌدٌن من التملٌك وقتها آل مناع من قبٌلة أوالد ٌحًٌ فً قنا التً وصل ابنها
عمر لمنصب مدٌر جرجا ثم أسٌوط فً عصر إسماعٌل ،وسموا بلدة باسمهم ،وأبو كرٌشة الذٌن استوطنوا
نجوع فً جرجا وسموا قرٌة باسمهم واستولوا على مساحة ٔٙألؾ فدان ،وعٌلة أبو دومة فً جرجا الذي
عٌنه محمد علً فً وظٌفة ناظر قسم وأصبح ابنه عبد الرحمن من أعضاء مجلس شورى النواب،
واشتهرت العابلة بالثراء الواسع والسطوة على الفبلحٌن ،وعابلة آل أباظة بالشرقٌة ،وٌقول عنهم علً
مبارك إنهم من عشابر قبٌلة العابد التً نزلت مصر فً القرن ٗٔ م واستوطنت الشرقٌة واستولت على
أراضً بعض القرى وسخروا الفبلحٌن فً زراعتها ،وبقوا على بداوتهم فترة طوٌلة حتى تولى محمد علً
وخٌرهم بٌن أن ٌُعاملوا معاملة الفبلحٌن فٌكون لهم ما لهإالء من حقوق وعلٌهم ما علٌهم من واجبات وبٌن
أن ٌعاملوا معاملة البدو فٌنزع ما تحت أٌدهم من أطٌان استولوا علٌها بدون وجه حق ،فقبلوا أن ٌعاملوا
معاملة الفبلحٌن حتى اعتادوا االستقرار والخضوع للسلطة ،وجمعوا فً ٌدهم آالؾ األفدنة ،ثم تولوا
مناصب فً الحكومة.
وعابلة آل الشواربً من قبٌلة فً الحجاز نزحت لمصر فً القرن ٖٔ م وأنعم علٌهم الظاهر بٌبرس
بؤطٌان فً قرٌة البرادعة ،وترقت فً الوظابؾ زمن محمد علً وخلفابه فً قلٌوب ومع نهاٌة القرن ٔ9
كانت تمتلك %٘8من زمام قلٌوب وجمٌع حوانٌت البلدة ووكاالتها وبساتٌن الفاكهة ومضخات الري(ٖٓٔ).
وزرع االحتبلل العلوي نوعا آخر من القباٌل التً تتخذ من الؽارات على القرى وسٌلة للتكسب،
فؤعطاهم أبعادٌات معفاة من الضراٌب دون تقاسٌط تثبت حٌازتهم لها ،على أن ٌعفٌهم من السخرة والخدمة
العسكرٌة -هذا فٌما ٌستمر فرض الضراٌب والسخرة على الفبلحٌن وكؤنه ٌكافا المجرم وٌعاقب صاحب
(ٖٓٔ)
-كبار المبلك والفبلحٌن فً مصر من ،ٔ9ٕ٘ -ٔ8ٖ9مرجع سابق ،ص ٘89 -8
ٕٖٗ
األرض -ورؼم هذه العطاٌا ظلوا ٌستبدون بالفبلحٌن وٌسطون على أراضٌهم ومحاصٌلهم ببلطجة السبلح
واإلرهاب ،خاصة أنهم أخذوا مناصب شٌوخ القرى والعمد ،وعاندوا أحٌانا الحكومة ،فجرد سعٌد باشا
الحمبلت العسكرٌة علٌهم وصادر ما تحت أٌدٌهم وطاردهم فً الصحرا الؽربٌة ،ولم ٌبقً إال على من قبل
الدخول ف ً طاعة الحكومة وفبلحة األرض بنفسه ،ومنهم آل الطحاوي من قبٌلة الهنادي ،وصار بعض
الشٌوخ أصحاب آالؾ األفدنة(ٖٔٔ).
فً البداٌة كان للٌونانٌٌن نصٌب األسد فً تملك األراضً ،واحتموا بالقضاء القنصلً الذي ٌحمٌهم من
نزع الدولة لؤلرض التً ٌتملكونها ،وكونوا شركات الستصبلح األراضً ،وتملكوا أبعادٌات ،وزادت
األراضً التً ٌتملكونها بشدة بسبب نظام الرهونات األجنبً الذي تسبب فً خسارة الكثٌر من الفبلحٌن
ألراضٌهم وأٌلولتها إلى األجنبً صاحب الرهن(ٕٖٔ).
ومع تزاٌد تدفق األوروبٌٌن على مصر وتبعٌاتهم من شوام وٌهود ومؽاربة أصبح األوروبٌون رقما ظاهرا
فً خرٌطة األثرٌاء بمصر؛ وبدأوا رحلة الثراء السرٌع باألبعادٌات التً منحها محمد علً لكبار الموظفٌن
األجانب العاملٌن فً مشارٌعه ،وتملكوا هذه األراضً فً فبراٌر ٕٗ ٔ8بشكل ؼٌر رسمً ،وحصلوا على
عدد من القرى بحق االنتفاع ،والدفعة الكبٌرة لهم فً ابتبلع أراضً وعقارات مصر كانت على ٌد سعٌد
لما سمح لهم بؤخذ مساحات واسعة من أطٌان "المتروك" الخاصة بالفبلحٌن ،ولجؤوا لوسٌلة لبٌمة لوضع
الٌد على مزٌد من األرض وهً إقراض الفبلحٌن المال ثم االستٌبلء على أراضً من ٌعجزون عن السداد
من دٌون وفوابد ،وما كان أكثر هإالء(ٖٖٔ).
وساعدهم فً اكتناز األراضً والعقارات أنهم أسسوا مكتبا لتسجٌل العقود الناقلة لملكٌة األطٌان والعقارات
وعقود الرهونات ٌتبع القنصلٌات األجنبٌة ال القوانٌن المصرٌة؛ فبات أي خبلؾ لهم مع األهالً ٌنتهً فً
الؽالب لصالح األجانب حتى تؤسست المحاكم المختلطة ،وتحت حماٌة االمتٌازات األجنبٌة تهرب كثٌر منهم
من دفع الضراٌب(ٖٗٔ).
بل ٌتحاٌل بعض األجانب على فبلحٌن مٌسورٌن ألخذ أموال منهم تحت أي اسم ،وٌتحاٌلون كً ال ٌردوه،
ففً سنة ٓ ٔ88رفع ٖ فبلحٌن دعوة فً المحاكم المختلطة على مسر كوترٌللً مهندس الري بؤنه لهم دٌن
علٌه ،فحكمت المحكمة لصالحه وعلى الفبلحٌن بدفع تعوٌض ،وبعدها قابلوه وهددوه إن لم ٌرد إلٌهم الدٌن
سٌقتلونه ،فنصحه القنصل بترك مصر(ٖ٘ٔ).
وعلى هذا ،بلؽت مساحة ما ٌملكه األجانب (األوروبٌون) من األطٌان الزراعٌة فً مصر ٔ ٕٕ٘,ٔ8أي
(ٖٔٔ)
-انظر :نفس المرجع ،ص 88 -89
(ٕٖٔ)
-ملكٌة األراضً الزراعٌة خبلل القرن التاسع عشر ،مرجع سابق ،ص ٕٖٖٕٔ9 -
(ٖٖٔ)
-كبار المبلك والفبلحٌن فً مصر من ،ٔ9ٕ٘ -ٔ8ٖ9مرجع سابق ،ص ٖ9ٗ -9
(ٖٗٔ)
-نفس المرجع ص ٘9
(ٖ٘ٔ)
-الجالٌة البرٌطانٌة فً مصر (٘ٓ ،)ٔ88ٕ -ٔ8ناهد السٌد علً زٌان ،دار الكتب والوثابق القومٌة ،القاهرة ،ص ٕٖٖ
ٖٖٗ
نحو ربع ملٌون فدان حتى عام ،ٔ889أي فً فترة قصٌرة جدا ،وزادت للضعؾ خبلل ٓٔ سنوات حتى
بلؽت ٘9ٖ,8ٔ9سنة ٔ89ٙثم ٕٕ٘ ٕٕٙ,فً ،ٔ9ٓٙأي نحو ٔٔ %من أراضً مصر الزراعٌة
وخاصة فً وجه بحري وما حول القناة بسبب تراكم أراضً المصرٌٌن فً أٌدي الدابنٌن األجانب ،ومن
أمثلة أصحاب الملكٌات الكبٌرة جانكلٌس وبٌراركوس الٌونانٌٌن اللذٌن تملكا 9آالؾ فدان فً البحٌرة،
وأرمانت السندرٌنً اإلٌطالً تملك أكثر من ٕٓٓٗ فدان ،والحكٌمباشً ٌوركر بك الذي أنعم علٌه إسماعٌل
بـ ٓٓ٘ فدان من أطٌان األبعادٌة وباولٌنو بك كبٌر الصٌادلة الذي حصل على ٘ ٔٗ8فدان بالبحٌرة،
ودرانت باشا مدٌر األوبرا الخدٌوٌة الذي بلػ ما تحت ٌده من أراضً ٕٔ ألؾ فدان مطلع القرن ٕٓ
بعضها إنعامات من إسماعٌل(.)ٖٔٙ
والجانب األكبر من ملكٌة األجانب نتجت عن فتح الباب أمامهم لبلستثمار فً استصبلح األراضً؛ فؤسسوا
شركات أراضً مثل شركة الكوم األخضر الزراعٌة الفرنسٌة وشركة ري البحٌرة اإلنجلٌزٌة التً اشترت
مساحات شاسعة من األراضً البور بثمن بخس ،أو حصلت علٌها كمنحة من الخدٌوي ،وبعد استصبلحها
تبٌعها للؽٌر بثمن ؼالً وتزرع بعضها اآلخر(.)ٖٔ9
وشارك بعض الشوام والٌهود واألتراك األوروبٌٌن فً هذه الؽنٌمة عبر حصولهم على جنسٌات أوروبٌة
لٌستفٌدوا من االمتٌازات األجنبٌة التً تحمً ثرواتهم من المصادرة وتساعدهم على التهرب من الضراٌب،
وتزود صفقاتهم؛ فظهرت مساحات ملكٌاتهم ضمن ملكٌات األجانب ،ومنهم سلٌم بك شدٌد الذي تملك ٖٖ
ألؾ فدان بعد حصوله على الجنسٌة البرتؽالٌة ،ورزق هللا بك شدٌد الذي تملك ٔٙألؾ فدان بعد أن انتمى
أللمانٌا ،وسكاكٌن باشا وحبٌب لطؾ هللا الذٌن تملكا آالؾ األفدنة بجنسٌتهما الفرنسٌة ،والتركً علً باشا
شرٌؾ الذي تملك ٖٔ ألفا من أجود األراضً الزراعٌة محتمٌا بالجنسٌة اإلٌطالٌة ،بل وصار ربٌسا
لمجلس شورى القوانٌن(.)ٖٔ8
وإذا كانت ملكٌات المصرٌٌن تقسم إلى صؽٌرة وكبٌرة فإن ملكٌات األجانب كانت كبٌرة دابما( ،)ٖٔ9بسبب
اإلنعامات أو ما فً أٌدٌهم من رإوس أموال وامتٌازات أجنبٌة ودعم قنصلً ٌتٌح لهم ضم أراضً كثٌرة،
بخبلؾ التخصص فً الربا وإقراض الفبلحٌن ،ثم نزع أراضٌهم.
♦♦♦ (المصرٌون)
وهم األقل عددا بٌن المبلك ،وقبل محمد علً كان من ٌصل إلى درجة الؽنى الواسع من المصرٌٌن
ؼالبا من المصرٌٌن المسٌحٌٌن المتوارثٌن أعمال الدواوٌن ،واستمروا فً االحتبلل العلوي هم األكثر قدرة
من بٌن المصرٌٌن على الوصول للثراء أٌضا؛ فؤخذ حصة مما تسمى بـ"اإلنعامات" سبللة من عاببلت
"قبط الدواوٌن" مثل باسٌلٌوس بن المعلم ؼالً ربٌس الروزنامجة (أي الدواوٌن) الذي وصل لٌده من
()ٖٔٙ
-كبار المبلك والفبلحٌن فً مصر من ،ٔ9ٕ٘ -ٔ8ٖ9مرجع سابق ،ص 9ٙ
()ٖٔ9
-المرجع السابق
()ٖٔ8
-نفس المرجع ،ص 98
()ٖٔ9
-المرجع السابق ،ص 99
ٖٗٗ
"إنعامات" محمد علً ٕٓٓٓ فدان ،ودوس طوبٌا والمعلم رزق الذي ظلت أطٌان كفور رزق بالدقهلٌة ملكا
ألوالده وأحفاده حتى القرن ٕٓ(ٓٗٔ).
االمتٌازات األجنبٌة وسٌلة أخرى من وسابل ثراء بعض المصرٌٌن الذٌن اختاروا أن ٌدخلوا فً عباءة
سفارات أجنبٌة لٌُعاملوا معاملة مختلفة عن بقٌة المصرٌٌن بمباركة من الدول األجنبٌة مقابل أن ٌرعوا
مصالحها داخل مصر ،فؤسندت لهم القنصلٌات وسٌلة هامة من وسابل الثراء السرٌع وهً توكٌبلت البٌوت
التجارٌة األجنبٌة أو تولً منصب القنصل ،فمثبل واصؾ جرٌس من عابلة جرٌس الثرٌة بالوجه البحري
تولى منصب قنصل البرتؽال بالمنصورة ،وأندراوس بشارة عمل قنصبل إلٌطالٌا وبلجٌكا باألقصر وتولى
تجارة بضاٌع الشرق األقصى ،واشترى جراء ذلك ألؾ فدان دفعة واحدة ،وزادت أمبلكه إلى ٙآالؾ فدان
فً ٓٔ سنوات فقط ،وعابلة وٌصا بقطر بؤسٌوط التً اشتؽلت بالتجارة وعمل قنصبل ألمرٌكا وهولندا
بؤسٌوط حتى وصلت األراضً فً ٌده إلى ٕ8ألؾ فدان بخبلؾ مصنع للسكر وأمبلك أخرى ،وعابلة
مٌخابٌل بؤسٌوط التً عملت بالتجارة ومنصب قنصل روسٌا بؤسٌوط حتى أصبح من كبار المبلك ،وأنشؤ
مصرفا بؤسٌوط إلقراض الفبلحٌن وهو بنك البكوات بشرى وسٌنوت حنا ،واحتمى هإالء وفق تبعٌاتهم
األجنبٌة بالمحاكم المختلطة لتبعد ثرواتهم عن مصادرة الحكام لها(ٔٗٔ).
وأتاح اضطرار محمد علً وبعض أبنابه لبلستعانة بمصرٌٌن فً البعثات الدراسٌة فرصة للوصول
إلى مناصب أخذوا على حسها "إنعامات" ،ومنهم علً باشا مبارك الذي أعطاه عباس األول ٖٓٓ فدان من
أراضً الدقهلٌة ،ورفاعة الطهطاوي الذي أعطاه محمد علً أبعادٌة مساحتها ٓ٘ٔ فدانا من أراضً
أسٌوط وسعٌد أعطاه ٕ٘ ٙمن أطٌان جرجا وأسٌوط ،وأضاؾ علٌهم ٔ 99اشتراها من أراضً المٌري فً
عهد إسماعٌل(ٕٗٔ) ،وهذه النوعٌة التً تصل لمكانة رفٌعة بجهدها وعلمها كانت األراضً المعطاه لهم أقل
فً مقدارها من األتراك والشركس والعربان وؼٌرهم من رعاٌا العثمانلٌة ،وفرصتهم فً الثراء ظلت أقل.
وحصل على األطٌان أٌضا العمد بطرق ٌبٌحها قانون االحتبلل وقتها وأخرى ال ٌبٌحها ،منها السٌطرة
على أراضً المتوفٌن بدون أن ٌتركوا ورٌثا ،واالستٌبلء على أراضً الفبلحٌن التً ٌهجرونها لعدم
قدرتهم على سداد الضراٌب والمستحقات أو من شدة قسوة العمد فً معاملتهم وفرض السخرة علٌهم
وؼٌرها من أشكال الظلم ،وتسمت بـ"أراضً المتروك" ،أو ما أخذوه كـ"إنعامات" من الحكام ،أو بشراء
أراضً المٌري واألطٌان العشورٌة بتسهٌبلت ٌعجز عن الحصول علٌها معظم الفبلحٌن ،وتورٌد بضابع
كالزٌوت والقطن للحكومة ،ومن أشهر العاببلت التً أثرت من عمل العمودٌة عابلة على البدراوي وعابلة
سٌد زؼلول فً الؽربٌة ،والشندوٌلً فً جرجا ،وحسن أبو سلٌمان فً المنٌا(ٖٗٔ).
أما بقٌة المصرٌٌن فما بٌن قلة ملكت مساحة قلٌلة وذاقت ألول مرة طعم الكفاٌة -خاصة بعد رواج
(ٓٗٔ)
-انظر :كبار المبلك والفبلحٌن فً مصر من ،ٔ9ٕ٘ -ٔ8ٖ9مرجع سابق ،ص ٔ9
(ٔٗٔ)
-انظر :نفس المرجع ،ص ٔ9ٖ -9
(ٕٗٔ)
-انظر :نفس المرجع ،ص 99 -98
(ٖٗٔ)
-انظر :نفس المرجع ،ص ٔ8ٗ -8
ٖ٘ٗ
تجارة القطن عالمٌا -وما بٌن أؼلبٌة ال ٌملك الواحد فٌهم أحٌانا العمامة -خاصة فً السنوات االستنزافٌة فً
عصر إسماعٌل -وال ٌملك سوى جلباب ،ولو ملك عمامة وأكثر من جلباب ٌخفً ذلك حتى ال ٌطارده
الصرافون وٌطالبونه بالضراٌب باعتبار أن امتبلكه أكثر من جلباب دلٌل رفاهٌته ،وكانت النساء تبٌع
حلٌهن ذهبٌة أو فضٌة وحتى مبلبسهن ،وٌُساق الناس أطفال ونساء وشباب ومسنٌن بالكرباج إلى مشارٌع
إسماعٌل العامة أو الخاصة(ٗٗٔ).
وٌثبت هذا الحال "سكاون بلنت" بالمشاهد التً صادفها أثناء جولته فً الرٌؾ سنة " :ٔ89ٙكانت المجاعة
تدق أبواب الفبلحٌن ،وق َّل فً تلك األٌام أن ٌُرى رجل فً حقله وهو ٌضع عمامة على رأسه ،أو أكثر من
قمٌص واحد ٌستر به جسمه" ،وفً األسواق "تعج بالنساء البلتً كن ٌبعن مبلبسهن ومصاؼاتهن الفضٌة
للمرابٌن الٌونانٌٌن نظرا ألن جباة الضراٌب كانوا فً القرٌة وسٌاطهم فً أٌدٌهم" ،و"انضمننا (بلنت
وزوجته) إلٌهن فً لعنهن وقذفهن فً حق الحكومة التً كانت تعرٌهن(٘ٗٔ)".
هذه هً الطرق التً سقطت بها أراضً مصر بنظام التملٌك ألول مرة فً أٌدي حفنة قلٌلة ،معظمها أجانب
طازة أو مستوطنٌن ٌعٌشون بروح وتوب الؽزاة ،ولم ٌشعروا بؤي تؤنٌب للضمٌر فً اتباع هذه الطرق
للثراء ،فكؤن "الحرام" صار هو قانون الثراء الوحٌد؛ وكلهم ما بٌن من ٌبرر لهذا بؤنه "حق الفتح" ،ومنهم
من ٌبرره بؤنه ٌعٌش فً عباءة أصحاب "حق الفتح" ،أو بـ"حق التفوق" العثمانلً والعربانً واألوروبً
ومن كل ملة أو بحق "اإلنعامات".
"هللا ٌلعنك ٌا زمانٌ ،اللً خلٌت للندل كبلم ،وجبت اللً ورا قدام ،وخلٌت السٌد خدام"(.)ٔٗٙ
مثل شعبً فصٌح ..لكن هل الزمان من ٌستحق اللعنة ..أم ذاكرة شعب تصفر فٌها الرٌح !
منذ أن خالؾ المصرٌون وصٌة حور وماعت وكل شعوب األرض تنظر إلى مصر على أنها "نهٌبة
الدنٌا" ،الشاطر من ٌمد ٌده لـ"ٌكبش" منها بكل قوته ،وبكل وسٌلة ،مهما كانت حراماٌ ،رون أن شعبها-
الذي لم ٌكؾ عن الكد والكدح -هو الوحٌد الذي لٌس له الحق فٌها ألنه "فبلح" ،وألن أرضه سُلبت منه
بالسٌؾ (الفتح) ،ثم ابتدعوا وسٌلة سلب األرض المصرٌة بالقانون والرهن والربا واالستثمار والتجنٌس أو
الزواج من عاببلت من ٌؽتنً من المصرٌٌن وأخذ أرضهم بالتورٌث.
فً عهد الوالً سعٌد تلقت اللؽة المصرٌة طعنة جدٌدة حٌن وافق بابا الكنٌسة المصرٌة كٌرلس الرابع (
تولى ما بٌن ٗ٘ )ٔ8ٙٔ -ٔ8على مشروع لتوحٌد نطق اللؽة بٌن الكنٌسة القبطٌة والكنٌسة الٌونانٌة،
لتستمر لعنة البصة الٌونانٌة على لؽة مصر منذ االحتبلل الٌونانً القدٌم.
(ٗٗٔ)
-األرض والفبلح ..المسؤلة الزراعٌة فً مصر ،إبراهٌم عامر ،الدار المصرٌة للطباعة والنشر والبحوث والحسابات العلمٌة ،ص ٗ9
(٘ٗٔ)
-التارٌخ السري الحتبلل اإلنجلٌزي لمصر -رواٌة شخصٌة لؤلحداث ،ولفرٌد سكاون بلنت ،مرجع سابق ،ص ٘٘
()ٔٗٙ
-موسوعة األمثال الشعبٌة المصرٌة ،د .إبراهٌم شعبلن ،جٔ ،طٔ ،دار األفاق العربٌة ،القاهرة ،ٕٖٓٓ ،ص ٔٔ8
ٖٗٙ
وأصل الموضوع ٌرجع إلى أن اللؽة المصرٌة لها لهجات -مثلما ننطق لهجات حتى الٌوم -هً البحٌري
والصعٌدي والفٌومً والبشموري واإلخمٌمً ،وفً القرن ٔٔ م أٌام االحتبلل العبٌدي قرر البابا
خرٌستوذولس توحٌد كل هذه اللهجات أو إقرار اللهجة البحٌرٌة لكل الكناس ،وإن ظل الكثٌر من المصرٌٌن
ٌتحدثون بلهجاتهم الموروثة خارج الكناٌس ،وحٌن جاء البابا كٌرلس الرابع أٌام سعٌد رأت الكنٌسة إزاحة
النطق البحٌري نفسه واالستعانة بالنطق الٌونانً ،وتعم َّم هذا على كل الكناٌس والكتب الصادرة عنها.
وٌرى علماء للؽة القبطٌة مثل القس شنودة ماهر أن هذا خلق خطؤ كبٌرا فً نطق اللؽة المصرٌة،
وشوه نطقها لٌبلبم النطق الٌونانً الدخٌل ،وتم هذا على ٌد المعلم عرٌان أفندي جرجس مفتاح بالتعاون مع
مدرس ٌونانً ،وبرعاٌة كٌرلس ،حتى انتهً اللفظ القدٌم ،ومن هذا إدخال أصوات لم تكن على ألسنة القبط
مثل الثاء والذال وصوت مماثل لـ Vاإلنجلٌزي( ،)ٔٗ9وهو ما جعلها لؽة ثقٌلة ولٌست سلسلة النطق كاللؽة
المصرٌة الحقٌقٌة.
وٌبرر آخرون ما فعله البابا بؤنه "إصبلح" ،فٌقول األب بٌجول باسٌلً إن البابا أراد تنقٌة اللؽة المصرٌة
مما دخل علٌها من نطق عربً ،وكذلك ما دخل على النطق البحٌري من اللهجات الباقٌة كالصعٌدي
والفٌومً منعا لحدوث "بلبلة" فً اللؽة( ،)ٔٗ8إال أنه ؼٌر معلوم ؼٌر ٌُراد تنقٌة اللؽة المصرٌة من النطق
العربً فً حٌن تلجؤ للنطق الٌونانً ،ألٌس هذا دخٌل وهذا دخٌل؟
ولوحظ وقتها أن اإلرسالٌات التبشٌرٌة فً خطابها للمصرٌٌن شجعت استخدام اللؽة العربٌة فً الكناٌس
أكثر من اللؽة القبطٌة ،كما فعلت فً الشام حٌن أماتت اللؽة السرٌانٌة لصالح العربٌة فً كناٌس الشام،
وهذا لٌس حبا فً العربٌة ،ولكن تموٌتا لهوٌات وحضارات هذه الببلد ،وهو ما سٌتضح عند الحدٌث عن
صناعة "القومٌة العربٌة".
وتعبٌرا عن ازدواج الشخصٌة الذي أصاب المصرٌٌن ،فً أنهم ٌفعلون الشًء وعكسه ،فإنه فً نفس
الوقت شهد القرن ٔ9صحوة جدٌدة إلحٌاء اللؽة القبطٌة ،فؤطلق البابا كٌرلس الرابع نفسه نداء لجمع
تبرعات لبناء معهد علمً إلحٌاء اللؽة القبطٌة ،قاببل إنه ال ٌجوز أن الؽرب ٌعرفها أكثر من المصرٌٌن،
فً إشارة الهتمام أوروبا وقتها بالبردٌات واللؽة القبطٌة ،وامتنع عن دفع رواتب القساوسة إال من ٌقدم
القداس بالقبطٌة.
واتضح أن تمسك عاببلت بلؽة األجداد ظل ٌعافر حتى ذلك الوقت ،فسجل كوبٌل سنة ٔٓ ٔ9أن
المرسل األمرٌكً دٌفٌد سترانج فً بنً سوٌؾ أخبره أنه عندما وصل لمصر قبل ٖٓ عاما سمع من رجل
اسمه إتفانوس أنه وهو صبً كان ٌسمع والدٌه وقلٌلٌن من كبار السن فً قوص ونقادة ٌتحدثون معا
بالقبطٌة ،و ٌسجل ورل (أستاذ اللؽة القبطٌة فً جامعة مٌتشجان األمرٌكٌة جاء لمصر لبحث اللؽة القبطٌة
()ٔٗ9
-تراث األدب القبطً ،شنودة ماهر وٌوحنا نسٌم ٌوسؾ ،مرجع سابق ،ص ٕٗ و٘ٓ -ٗ8
http://www.copts-
()ٔٗ8
مصرٌة". "دراسات موقع باسٌلً، بٌجول والحدٌث، القدٌم بٌن ما -
united.com/C_U/Branches_CPTS/Egyptian_Studies/Egy_Coptic_Lang/Abouna_Pigol_Part ٔ.htm
ٖٗ7
سنة )ٔ9ٖٙأن القساوسة فً فرشوط بؤسٌوط قالوا إنه حتى ٓ٘ عاما مضت ،أي فً القرن ،ٔ9لم ٌكونوا
ٌتكلمون داخل هٌكل الكنٌسة سوى بالقبطٌة ،واألطفال كانوا ٌتؤثرون بسماع هذه اللؽة التً ٌعتقدون أنها
سرٌة وٌشتهون تعلمها ،وظل حتى وقت قرٌب عاببلت بعض القساوسة ٌتحدثون بالقبطٌة ،وكؤنهم ٌمسكون
بتبلبٌبها(.)ٔٗ9
فً نفس الوقت ،تم اعتماد اللؽة العربٌة كلؽة رسمٌة للببلد من جدٌد أٌام إسماعٌل بعد عقود من اعتماد
اللؽة التركٌة ،وتكثؾ االهتمام ببعث العربٌة الفصحى ،وتسربت كلمات جدٌدة منها إلى ألسنة أهل الرٌؾ
مع تزاٌد دخول أبنابهم للمدارس وتعلمهم لؤلدب العربً وكثرة الكتاتٌب وانتشار الصحؾ ،وتبلشت أمامها
نظٌرتها المصرٌة ،وفً خط معاكس ،زاد تطعٌم لؽة القاهرة واإلسكندرٌة بالكلمات المصرٌة لكثرة هجرات
أهل الرٌؾ إلٌها إما طفشانا من كثرة الضراٌب واإلتاوات وال ِفرد ،أو الذٌن أخذهم محمد علً للعمل فً
مشارٌعه ،فظلت إذن العبلقة بٌن اللؽتٌن المصرٌة والعربٌة عبلقة تؤثٌر متبادل ،لكن مع سلخ المتعلمٌن من
هوٌتهم وابتعداهم عن صفة "الفبلح" ،وتعمدهم الحدٌث بالفصحً كً ال ٌقال علٌهم "فبلحٌن" ،فالؽلبة تسٌر
فً جلباب العربٌة الفصحى.
التورٌث ..كلمة لها دالالت ثقٌلة فً عهد االحتبلل العلوي ،فهً تعنً -ألول مرة -تورٌث األرض
لعاببلت ولؤلجانب عبر التملٌك ،وتورٌث المناصب والوزارات ونٌابة البرلمان أٌضا لهذه العاببلت بقوة
المال والنسب العابلً أو الحزبً ،لتتكون ما تسمى بـ"طبقة اإلقطاعٌٌن" الذٌن ٌملكون وٌحكمون بؤجٌال
تسلم أجٌال.
وأٌضا قبل عصر محمد علً كان الوالة ال ٌورثون الحكم ،بل ٌتولى الباشا لمدة محددة ثم ٌترك الحكم
بانتهاء المدة أو باإلقالة أو الموت ،ولم ٌتو َّل أبناءهم الحكم إال استثناء ،أما محمد علً فاستطاع رؼم هزابمه
األخٌرة أن ٌنتزع من السلطان العثمانلً وحلفابه اإلنجلٌز مرسوما رسمٌا بتورٌث الحكم ألبنابه.
وعلى هذا صار حكام األسرة العلوٌة ٌظنون أنهم "أصحاب مصر" ولٌس مجرد والة لهم مدة حكم
وٌؽادرون ،تماما كاألجانب الذٌن ظنوا أنفسهم "أصحاب األرض" لما تملكوها بقانون التملٌك بعد أن كانت
ُتعطى لهم كالتزامات وإقطاعٌات مإقتة ،والحق أن كبلهما أخذ هذا وذاك بقانون "من ال ٌملك أخذ ما ال
ٌستحق".
وورث إسماعٌل عن جده حب االستحواذ ،فقرر أن ٌحصر العرش فً نسله؛ فسعى عند السلطان
العثمانلً لٌوافق على تؽٌٌر نظام تسلٌم العرش ،بحٌث ٌكون فً أكبر أبناء إسماعٌل فقط ولٌس أبناء األسرة
العلوٌة كما كانت تنص معاهدة لندن ٔٗ ،ٔ8إضافة لتحوٌل لقبه من والً إلى خدٌوي ،وهً كلمة فارسٌة
تعنً أمٌر ،وبعد إلحاح وافق السلطان ..ولكن مقابل ماذا؟
()ٔٗ9
-انظر :تراث األدب القبطً ،مرجع سابق ،ص ٖ٘ ٖ9 -وٗ9 -ٗ9
ٖٗ8
مقابل زٌادة حلب دم الفبلحٌن بزٌادة الجزٌة المفروضة على مصر من ٕٖٓ ألؾ جنٌه إلى ٓٓ ٙألؾ
بداٌة من سنة ،ٔ8ٙٙبخبلؾ الهداٌا التً لم تنقطع للسلطان ،وفً ٖ ٔ89بعث المال والهداٌا للسلطان ألخذ
امتٌاز آخر وهو االستقبلل فً إدارة شبون مصر الداخلٌة ،وزٌادة عدد الجٌش بشرط أال ٌكون فٌه
مدرعات ،والمقابل زٌادة الجزٌة إلى ٘ ٙٙألؾ(ٓ٘ٔ).
بعد مذبحة الممالٌك وإعادة تؤسٌس الجٌش النظامً ق َّل سماع المصرٌٌن فً األرٌاؾ ألصوات صهٌل
الخٌول الهاٌجة ،وصلٌل السٌوؾ الؽادرة ،وخطوات سنابك الخٌل المرعبة التً كانت تصم آذانهم ،وتسفك
دمابهم ،وتنهب محاصٌلهم خبلل معارك الممالٌك مع بعضهم أو مع العربان.
ولكن لم تتوقؾ صرخات المصرٌٌن ترَّ ج الجبلٌن الواقفٌن متجمدٌن على جانبً الوادي ألن النزٌؾ استمر
بخنجر التجوٌع والسخرة واألوببة ،وال ٌمكن أن ٌقال عن استشهاد اآلالؾ فً مشارٌع مثل ترعة
المحمودٌة وقناة السوٌس والقناطر الخٌرٌة وأراضً التً تسٌطر علٌها العٌلة العلوٌة وؼٌرها خبلل العمل
بالسخرة والقهر إال أنها "مذابح" مع سبق اإلصرار والترصد ،خاصة مع اشتداد إسماعٌل فً جمع األموال
والمحاصٌل من الفبلحٌن لسداد الدٌون.
كتب مراسل "التاٌمز" فً ٌ ٕ9ونٌو سنة ٌ ٔ899قول" :إن هذا المحصول كله عبارة عن ضراٌب
عشرٌة أداها الفبلحون ،فإذا اعتبر اإلنسان حال الفبلحٌن الذٌن أدمتهم الفاقة وأرهقهم الطلب أولبك الذٌن ال
ٌتوفر لهم الكفاؾ من العٌش فً حظابرهم البابسة ،والذٌن ٌعملون مبكرٌن وممسٌن لٌملبوا جٌوب الدابنٌن،
إذا تدبر اإلنسان هذا كله بدا له أن أداء الكوبونات ]كوبونات سداد الدٌون[ فً مواعٌدها لم ٌمكن مما ٌؽتبط
به كل االؼتباط(ٔ٘ٔ).
وتحالؾ طاعون الماشٌة سنة ٔ898مع نقص المحصول والفٌضان وأحدثا مجاعة سنة ٔ899أزهقت
أرواح ٓٔ آالؾ فبلح فً الوجه القبلً ،وآالؾ آخرٌن مثلهم سقطوا موتى من المرض والتعب ،ولم تسمح
الحكومة البرٌطانٌة ولو بمجرد تؤجٌل دفع فوابد الدٌن(ٕ٘ٔ).
ووصفت "التاٌمز" فً ٖٔ مارس ٔ899الحال بؤن الضراٌب تجمع فً وقت "ٌموت فٌه الناس على
قارعة الطرٌق ،ومساحات واسعة من الرٌؾ ال تزرع بسبب ثقل االلتزامات المالٌة ،والفبلحون باعوا
ماشٌتهم والنساء حلٌهن ،والمرابون ٌملبون مكاتب الرهون بصكوكهم والمحاكم بقضاٌا المصادرة"(ٖ٘ٔ).
والمفاجبة ..أن الباشوات واألعٌان لم ٌكونوا ٌدفعون أي ضراٌب لٌتحملوا جز ُء من أعباء الدٌون التً
استفادوا هم منها ،فٌقول جون نٌنٌه متعجبا ،إن الوزٌر اإلنجلٌزي فً الحكومة وٌلسون اكتشؾ أنهم كانوا
(ٓ٘ٔ)
-تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر ،المرجع السابقٕٕٓ -ٕٔ9 ،
(ٔ٘ٔ)
-دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً ،مرجع سابق ،ص 9
(ٕ٘ٔ)
-نفس المرجع ،وانظر الجٌش المصري فً القرن التاسع عشر ،محمد السروحً ،دار المعارؾ ،القاهرة ،ٔ9ٙ9 ،ص ٘ٗ٘
(ٖ٘ٔ)
-دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً ،مرجع سابق ،مترجم عن كتاب االستعمار البرٌطانً فً مصر إللٌنور بٌرتز ،ص 9
ٖٗ9
ٌتفقون مع المحاسبٌن على تحمٌل ضراٌب أراضٌهم الخاصة على األراضً العامة التً ٌزرعها الفبلحون،
فٌدفع الفبلحون الضراٌب كاملة ،وفوق هذا "فً المدٌرٌات كان المزارعون المساكٌن الذٌن ٌسلبهم السٌد
كل شًء ٌُضربون كل ٌوم على ظهورهم وبطون أقدامهم من أجل النقود".
ولٌخلص المبانً المرهونة لدى عابلة روتشٌلد مقابل الدٌون ،فرض إسماعٌل ضرٌبة وقتٌة جدٌدة على
كل فدان ،لم ٌكن ٌؤبه بؤي صراخ من الضحاٌا الفبلحٌن ،ونقل عنه جون نٌنٌه قوله عن الفبلحٌن" :إن
أكٌاس الدقٌق هذه ملٌبة كانت أم فارؼة ال بد أن ٌخرج منها شًء ما عند ضربها"(ٗ٘ٔ).
وٌقؾ ضباط الجٌش وجنوده الفبلحون ٌراقبون هذه المذابح ،وأهلهم ٌتساقطون أمام أعٌنهم ،والجٌش
نفسه ٌتعرض لمذبحة تسرٌح المصرٌٌن منه ،واألجانب ٌزدادون تطاوال ،وهم كاظمون الؽٌظ ..حتى حٌن.
وصفها الكاتب البرٌطانً جون مارلو فً كتابه "تارٌخ النهب االستعماري لمصر" بؤنها منحت األجانب
"الحكم الذاتً" فً مصر؛ بدأت فً عصر السلطان العثمانلً سلٌمان القانونً وتعززت فً عصر محمد
علً ،وحصل بها األجانب على ما لم ٌحصلوا علٌه فً ببلدهم ذاتها(٘٘ٔ).
ولكن الصح أنها أعطتهم فوق "الحكم الذاتً" ..أعطتهم مصر بحذافٌرها ،وخلقوا نظام فصل عنصري
"أبارتهاٌد" ،لٌس فقط بٌن األجانب وبٌن المصرٌٌن فهذا معتاد فً االحتبلالت السابقة ،بل وبٌنهم وبٌن
السلطة الحاكمة نفسها بعد أن صاروا فوقها حتى قبل هبوط الجٌوش اإلنجلٌزٌة.
ومدخل األجانب النتزاع االمتٌازات هو التحجج بؤنهم ٌرٌدون بٌبة آمنة إلقامتهم واستثماراتهم ،وقوانٌن
خاصة للفصل فً نزاعاتهم؛ كون أن دٌاناتهم وأعرافهم تختلؾ عما ٌسود الببلد التً ٌحكمها العثمانلً.
وهذه هً مجاالت تطبٌق االمتٌازات األجنبٌة ،فلٌتؤمل كل قارئ فٌها ،وٌضع لها الوصؾ المناسب:
-إعفاء األجنبً من القبض علٌه أو تفتٌش بٌته أو محل عمله إال بحضور القنصل.
-إعفاء األجنبً -حال القبض علٌه -من المحاكمة أمام محاكم مصرٌة أو بالقانون المصري ،بل ٌُحاكم
أمام المحاكم القنصلٌة بقوانٌن بلده هو رؼم أنه على أرض مصر.
-إعفاء األجنبً من الضراٌب بكل أنواعها ومن الجزٌة والسخرة بكل أنواعها ،مهما طال بقاإه.
-حرٌة الحركة المطلقة فً التنقل داخل البلد والخروج من والدخول إلى البلد ولو ببل وثابق ،وتحرٌم
(ٗ٘ٔ)
-رسابل من مصر ( ،)ٔ88ٕ -ٔ899جون نٌنٌه ،مرجع سابق ،ص ٖٓٔ ؤٓ9
(٘٘ٔ)
-انظر :تارٌخ النهب االستعماري لمصر ،ٔ88ٕ -ٔ998جون مارلو ،ترجمة عبد العظٌم رمضان ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،ص -99
99
ٓٗٗ
إبعاده من مصر ولو كان مجرما إال بموافقة القنصل (.)ٔ٘ٙ
ولذا صارت من أبرز وسابل جذب األجانب لمصر ،حتى وصفت بؤنها "أرض األحبلم" لؤلجانب (جنة
ٌرعى فٌها الخنازٌر)؛ ألنها بشهادة األجانب أكثر بلد ٌمنح حكامه امتٌازات لؤلجانب وحصانة فً الجراٌم
والمحاكمات ،فاألجنبً ٌنهب وٌسرق وٌقتل وٌنشر الرذابل والفجور دون محاكمةٌ ،ؽتنً وٌكتنز دون دفع
ضراٌب أو جزٌة أو محاسبة ،لٌس علٌه أي واجبات ،هو فقط ٌؤخذ وال ٌعطًٌ ،ؤتً عارٌا حافٌا منبوذا من
ببلده لٌعتلً فً لمح البصر أكبر المناصب والوظابؾ وٌتملك أخصب األراضً ،وٌجد "شعبا ٌتٌما" ٌؤمر
وٌتؤمر علٌه فً "نهٌبة الدنٌا".
ولخص عبد هللا الندٌم وهو ٌتجول فً مصر حٌنها هذا شعرا ساخرا(:)ٔ٘9
ٌقول الدكتور عبد الرازق السنهوري فً مقدمته لكتاب "االمتٌازات األجنبٌة" الذي أصدره محمد عبد
الباري سنة ٖٓ" :ٔ9فبعد أن كان األصل أن صاحب البلد ٌمتاز على األجنبً ،انقلبت اآلٌة فً مصر،
وأصبح األجنبً هو الممتاز ،والمصري هو الذي ٌنادي بوجوب المساواة بٌنه وبٌن األجنبً".
وبتعبٌر مإلؾ ذات الكتاب" :كان المصرٌون إزاءهم ]إزاء األجانب[ أكثرٌة تسعى وراء وقاٌة نفسها
من أقلٌة أجنبٌة متحكمة"(.)ٔ٘8
وفً رسالتها للماجستٌر عن الجالٌة البرٌطانٌة فً مصر فً القرن ٔ9قالت الباحثة ناهد زٌان إن هذه
االمتٌازات سلبت حق الحكومة فً مصر إبعاد األجنبً إذا ثبت أنه خطر على األمن العام أو أن إقامته
مخالفة ،وال ٌكون الطرد إال بموافقة القنصل الخاص به ،وهو من ٌصدره بعد تقدٌم الحكومة طلبا بذلك،
وبعد تحكٌم من 9قناصل ،قبل أن ٌعود األمر للحكومة مع المحاكم المختلطة .)ٔ٘9( ٔ89ٙ
()ٔ٘ٙ
-للمزٌد عن شرور االمتٌازات األجنبٌة انظر :االمتٌازات األجنبٌة ،محمد عبد الباري ،مطبعة االعتماد ،القاهرة ،ٔ9ٖٓ ،ص ٖ٘ٓ-
()ٔ٘9
-قصٌدة نشرها عبد هللا الندٌم فً مجلة "التبكٌت والتنكٌت"ٔ88ٔ-ٔٓ -9 ،
()ٔ٘8
-االمتٌازات األجنبٌة ،مرجع سابق ،ص ٗ و ٖٔ8
()ٔ٘9
-الجالٌة البرٌطانٌة فً مصر (٘ٓ ،)ٔ88ٕ -ٔ8ناهد السٌد علً زٌان ،مرجع سابق ،حواشً رقم ٗ ،ٔٙص ٔ9
ٔٗٗ
وبجانب االمتٌازات األجنبٌة التً ٌستفٌد منها جنسٌات ٔ9دولة ؼربٌة وجنسٌات أخرى تابعة لرعوٌة
قناصلها ،توجد االمتٌازات المماثلة التً ٌتمتع بها األسرة العلوٌة الحاكمة المحصنة ،والباشوات وأبناء
العاببلت المستوطنة وأتباعهم ،ونوع آخر من طرق الحصول على االمتٌازات هو بلطجة السبلح ،كؤن تؤتً
قبٌلة عربان فتنهب القرى وتحارب النظام الحاكم القابم وٌحاربها ،ثم ٌنتهى األمر إلى صفقة بٌنهما وتستولً على
أراضً ومناصب وإعفاءات ،والوحٌد الذي لٌس له امتٌازات فً البلد هو الفبلح المصري.
ولم ٌشبع األجانب من االمتٌازات والطلبات ،فطالب القناصل من الوالً سعٌد بعمل قوة أمن خاصة
لحماٌة األجانب ومناطق معٌشتهم ،فؤسس ضبطٌة (شرطة) أجنبٌة فً اإلسكندرٌة والقاهرة من جنسٌات
أجنبٌة(ٓ ،)ٔٙفاكتملت بذلك أركان الدولة األجنبٌة االستٌطانٌة المستقلة بداخل مصر؛ فلؤلجنبً قوانٌن
ومحاكم خاصة به (القنصلٌة ثم المختلطة) ،واقتصاد خاص به (الشركات والبنوك األجنبٌة واألراضً التً
تملكوها) ،ومدن خاصة به (اإلسكندرٌة ومدن القناة ومدن أخرى كانت فً الطرٌق) وإعبلم خاص به
(الصحؾ األجنبٌة الصادرة داخل مصر) ،وسلطة دٌنٌة خاصة به (الكناٌس والجمعٌات الخاضعة
لئلرسالٌات األجنبٌة) ،ومدارس خاصة به (مدارس الجالٌات واإلرسالٌات) ،وجٌش خاص به (جٌش
االحتبلل) ،وشرطة خاصة به (قوة األمن األوروبٌة داخل المدن المصرٌة).
سإل هولندي وقت احتبلل هولندا ألندونٌسٌا :أصحٌح أن أبناء وطنك فً جاوة (بؤندونٌسٌا) ٌجبرون
الجاوٌٌن فً الطرق على أن ٌمدوا ظهورهم فٌركبوها كما ُتركب البهابم؟
قال :صحٌح ..وإذا نحن امتنعنا من هذا ال ٌستقٌم أمرنا هناك ألننا قلة تضٌع فً الكثرة"(ٔ.)ٔٙ
وهكذا هو االستٌطان االحتبللً فً كل زمان ومكان -خاصة بعد التمكٌن والسٌطرة على االقتصاد
والمشروعاتٌ -مدون ظهور أصحاب الببلد األصلٌٌن مهما كان عددهم كبٌرا لٌشعرونهم بالدونٌة؛ فبل
ٌرفعون رأسهم أمام األجنبً مهما ق َّل عدده ،وركوب الظهر هذا أخذ فً بعض الببلد اسم "االمتٌازات
األجنبٌة" ،وحالٌا ٌسمى بـ"قوانٌن تشجٌع االستثمار األجنبً وحماٌة األجانب".
بفتح االحتبلل العلوي الباب لتطبٌق االمتٌازات األجنبٌة فً مصر لمجاملة القناصل األجانب والموظفٌن
األجانب ،جرى االعتراؾ بقضاء أوروبً بدأ بما اشتهر باسم "المحاكم القنصلٌة" ،وهً التً تحاكم
رعاٌاها من أوروبٌٌن وؼٌرهم كؤنهم فً أوروبا وبقوانٌن أوروبا ولٌس بقوانٌن مصر ،فبل سلطان لقانون
أو حاكم فً مصر علٌهم.
ومن اإلصبلحات التً نفذها إسماعٌل لترسٌخ سٌادته واستقبلله فً حكم الببلد هو محاولة كسر نفوذ هذه
المحاكم بمساواة المصرٌٌن باألجانب فً التقاضً ،لكن أفسد األمر سوء التطبٌق ،فبدال من المحاكم
(ٓ)ٔٙ
-نفس المرجع ،ص ٘8
(ٔ)ٔٙ
-المذكرات ،محمد كرد علً ،مطبعة الترقً ،دمشق ،ٔ9ٗ8 ،ص ٕ ،ٔٔ9وهو سإال وجهه المإلؾ بنفسه للهولندي
ٕٗٗ
القنصلٌة تؤسست محاكم مختلطة عام ٌُ ٔ8ٙ9حاكم فٌها المصرٌٌن واألجانب ،اتضح أنها لم تحفظ حق
سٌادة الدولة ،فرؼم خضوع األجنبً لمحاكم مصرٌة إال أنه كان ٌُحاكم أٌضا بقانون مختلؾ عن قانون
مصر ،والقضاة الـ ٕٔ أكثرٌتهم أجانب ،وقلٌل منهم مصرٌون ،وهم من ٌضعون القوانٌن ،ورأي حكومة
إسماعٌل استشاري فقط ،ووصل األمر إلى أن هذه المحاكم تفصل فً قضاٌا الحكومة بحسب مصالح الدول
األجنبٌة ،فظلت أٌضا دولة فوق الدولة.
واإلٌجابً فً األمر للمصرٌٌن هو أنه أصبح لهم حق التقاضً فً المحاكم بعد أن كان نصٌبهم محاكم
األقسام ،وٌقوم بدور القاضً فٌها ناظر القسم ،وٌستخدم السوط أحٌانا فً التعامل مع األهالً ،وأحٌانا ال
ٌعرؾ الفصل فً القضاٌا ألنه ؼٌر مإهل(ٕ.)ٔٙ
وجاء على لسان ألبرت فارمان ،الذي عمل كؤحد قضاة المحاكم المختلطة أٌام توفٌق بعد انتهاء عمله
قنصبل أمرٌكٌا أٌام إسماعٌل ،فً شهادته عن هذه الفترة أنه "لم تتواضع األمم المسٌحٌة (األوروبٌة) فً
طلباتها الخاصة باالمتٌازات األجنبٌة ،وحٌنما سنحت الفرصة حصلوا على امتٌازات إضافٌة فً المدن
الربٌسٌة بمصر ،وخاصة فً اإلسكندرٌة ،حتى أصبح الناس ٌتساءلون ما إذا كانت الحكومات األجنبٌة أم
السلطة المحلٌة هً الحاكمة .هذه االمتٌازات األجنبٌة التً طالبت بها الدول األجنبٌة وتمتعت بمزاٌاها نجم
عنها وجود سلطات عدٌدة فً مصر" ،أي صارت دوال مستقلة داخل مصر.
ولتحوٌل النظام من المحاكم القنصلٌة إلى المحاكم الدولٌة "المختلطة" ،نقل أنه ٌقال أن هذا لم ٌحدث إال
عن طرٌق مفاوضات شاقة طوٌلة ،كما ٌقال أن الخدٌوي استخدم أمواال كثٌرة فً القسطنطٌنٌة ]إسطنبول[
وفً صحافة لندن وبارٌس ]رشاوى لئلعبلمٌٌن[ فً إنشاء هذه المحاكم(ٖ.)ٔٙ
ووقتها ،كان ٌقٌم فً مصر عام ٔ898ثبلثون ألفا من الٌونانٌٌن ،وعشرة آالؾ من اإلٌطالٌٌن ،وكثٌر
ؼٌرهم من جنسٌات أخرى ،وأصحاب البنوك وجزء كبٌر من التجار الكبار وؼٌرهم من رجال األعمال فً
الببلد من األجانب ،وأؼلب المشارٌع التجارٌة فً أٌدٌهم ،والقاضً األجنبً ٌتقاضى مرتبا ضخما ال ٌوازي
العمل الذي ٌقوم به رؼم أنه ٌحصل على أجازة سنوٌة تبلػ مدتها ثبلثة أشهر ونصؾ شهر ،وهً شهور
الحرارة من ٌونٌو إلى أكتوبر(ٗ ،)ٔٙوهذه شهادة من فارمان الذي عمل قاضٌا فً هذه المحاكم.
وٌنقل "سكاون بلنت" أن نوبار األرمنً -ربٌس النظارة (الوزارة) -صدٌق طبقة التجار األجانب فً
اإلسك ندرٌة اشتهر لدى الفبلحٌن باعتباره صاحب فكرة المحاكم المختلطة ،وأنها لصالح األجانب فً حٌن
كرهها الفبلحون ألنها وضعتهم فً قٌود وأؼبلل المرابٌن الٌونانٌٌن بعد أن جعلت الفبلح مجبرا على رفع
القضاٌا فً خبلفه مع األجنبً أمام محاكم ٌدٌرها أٌضا عدد من القضاة األجانب وإجراءات أجنبٌة ،وأصبح
كل فبلح ممن ٌوقعون على أوراق القروض للمرابٌٌن ٌُسلب منه أرضه دون أن ٌُعطى أدنى فرصة للدفاع
(ٕ)ٔٙ
-انظر :تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر ،مرجع سابق ،ص ٖٕٕٕٕٗ -
(ٖ)ٔٙ
-مصر وكٌؾ ُؼدر بها ،ألبرت فارمان ،مرجع سابق ،ص ٖٕٓ -ٖٔ9
(ٗ)ٔٙ
-نفس المرجع ،ص ٕٖٓ
ٖٗٗ
عن نفسه إذا ما كان رجبل فقٌرا أو كانت الورقة مزورة أو جرى تؽٌٌر أرقامها(٘ ،)ٔٙألن المرابً الٌونانً
والقاضً األجنبً ٌستؽبلن جهله بإجراءات الدعوى وبالقراءة والكتابة.
استؽل المستوطنون األجانب جهلهم بالقراءة والكتابة لٌمضوهم على مبالػ ٌفقدون بسببها أراضٌهم
لتسقط فً حجر الخواجة ،كما استؽل من سبقوهم جهل أجدادهم بدروس التارٌخ ،لتسقط فً حجرهم مصر
كلها جٌل ورا جٌل.
وتعلٌقا على ما تابعه مدة ٓٗ سنة من تعمد األجانب سوا العٌلة الخدٌوٌة أو الباشوات أو منادٌب
روتشٌلد فً مصر أو الموظفٌن األجانب فً عمل انحرافات دون أن ٌحاسبهم أحد قال جون نٌنٌه فً
" :ٔ899ما أكثر الحماقات التً ارتكبت أو التً سُمح بارتكابها فً مصر ،إنه أمر ٌكاد ال ٌُصدق"(.)ٔٙٙ
شهد عصر محمد علً حتى الخدٌوي توفٌق نقضة مضٌبة -مقارنة باالحتبلالت السابقة -فٌما ٌخص أنه
أخؾ وطؤة فٌما ٌخص معاملة المصرٌٌن المسٌحٌٌن ،فؤزال أشكاال من المعاملة تسببت سابقا فً حزازٌات
بٌنهم وبٌن إخوتهم المصرٌٌن المسلمٌن ،رؼم أن المصرٌٌن المسلمٌن أٌضا عانوا االضطهاد المنظم من كل
االحتبلالت.
ففً النصؾ الثانً من حكم محمد علً اختفى ما كان مفروضا على المسٌحٌٌن من زي ،وهو األزرق
واألسود ،وباتوا قادرٌن على ركوب الخٌل ،بحسب الجبرتً ،وجرى إلؽاء الجزٌة( )ٔٙ9فً عهد سعٌد
والتساوي بٌن المصري المسلم والمصري المسٌحً فً التجنٌد.
ولم ٌفرق قانون ٔ8ٙٙإلنشاء مجلس الشورى بٌن المسلمٌن والمسٌحٌٌن ،فسمح بانضمام مصرٌٌن
مسٌحٌٌن ،ومن أشهر باشوات العصر بطرس ؼالً -وحصل على الرتبة بقرار من الوزارة التً شكلتها
ثورة ٔ ٔ88حرصا من الثورة على عدم التفرٌق بٌن المصرٌٌن كما قال أحمد عرابً فً مذكراته(-)ٔٙ8
وقال إسماعٌل للكاتب الفرنسً جبرابٌل شارم عن نفسه متفاخراٌ" :عٌش المسٌحٌون فً تركٌا فً جوا من
التسامح مشوب باالحتقار ،فٌما ٌعٌشون فً مصر فً جو من التسامح المقرون باالحترام".
وبات الرأي العام متقببل لهذا بعد فترة من االستؽراب أو الضٌق فً عصر محمد علً ،فتقول الكاتبة
اإلنجلٌزٌة لوسً دوؾ جوردون إن "أهالً ببا ،ومعظمهم من المسلمٌن ،انتخبوا جرجس القبطً عمدة لها،
وأنهم كانوا ٌقبلون ٌده طابعٌن بٌنما كنا نمر فً طرقات القرٌة" ،وأضافت أنه" :مما أثار إعجابً روح
(٘)ٔٙ
-التارٌخ السري الحتبلل اإلنجلٌزي لمصر -رواٌة شخصٌة لؤلحداث ،ولفرٌد سكاون بلنت ،ص 89
()ٔٙٙ
-رسابل من مصر ( ،)ٔ88ٕ -ٔ899جون نٌنٌه ،ص ٔٓ9
()ٔٙ7
-ألؽٌت الجزٌة عن المصرٌٌن المسٌحٌٌن ولكن ظل العثمانلً ٌؤخذ جزٌة على مصر كلها بمبلػ سنوي محدد ،وٌتزاٌد حسب األحوال ،باعتبار
أن مصر فتحت بالسٌؾ حسب تبرٌره االحتاللً.
()ٔٙ8
-مذكرات الزعٌم أحمد عرابً ،ج ٔ ،ص ٔٗ8
ٗٗٗ
التسامح التً أجدها ي كل مكان ،وٌظهر أن المسلمٌن واألقباط على وبام تام"(.)ٔٙ9
وجرى هذا فً حٌن كانت الحزازٌات والحروب الدٌنٌة بٌن المسلمٌن والمسٌحٌٌن على أشدها فً الشام،
أشهرها الحرب األهلٌة سنة ٓ ،ٔ8ٙوالؽرٌب أن بعض الشوام ممن هربوا من وجه هذه الجو الساخن
لٌحتموا بؤمان مصر ،جاءوا ٌحملون لها النٌران ممثلة فً مشروعات لصنع حزازات دٌنٌة جدٌدة بٌن
المصرٌٌن ،وأولبك من جاءوا فً ركب المحافل الماسونٌة واإلرسالٌات التبشٌرٌة مسٌحٌة وإسبلمٌة،
وسٌنتج عنها خلق ما سٌُعرؾ فٌما بعد بتنظٌم اإلخوان المسلمٌن ،وحركات القومٌة العربٌة ،وتقوٌة نفوذ
مذاهب مسٌحٌة منافسة للكنٌسة المصرٌة ،كما سنرى.
ٌحم إسماعٌل من مصٌر أسود ٌتبربص به مشارٌعه العظمى ،وال طوفان المداٌح الذي أؼراه به لم ِ
األجانب فً أول حكمه ،وال مبات آالؾ األفدنة من أرض مصر التً اؼتصبها ،وال الجالٌات األجنبٌة
الكثٌفة التً استقدمها لتعطً القاهرة "مظهرا أوروبٌا ال مصرٌا" ،وال الممالٌك الشركس الذٌن اشتراهم
ورفع قدرهم فوق قدر المصرٌٌن فً الجٌش ..وال صحوته المتؤخرة ،فسقطت البلد ومشارٌعه فً حجر
جٌش اإلنجلٌز لٌكون االحتبلل الرابع المتراص بجانب العثمانلً والعلوي والجالٌات فوق ظهر مصر.
وحٌن بدأ زبٌر سفن االحتبلل ٌصل لمسامعه بدأ إسماعٌل ٌفوق ،بؤسلوب الصدمة ،فها هو الذي أقام كل
هذه المشارٌع لٌصبح "كملك أوروبً معاصر بدولة مستقلة"ٌ ،جد نفسه ٌرزح تحت أقدام األوروبٌٌن،
والدولة ٌنفضونها من خٌراتها كؤنهم ٌفرؼون شوال قطن فً مصانع النكشاٌر ،وأصوات أقدامهم المزعجة
تقترب من مصر لتحكمها مباشرة ،وٌعاملون إسماعٌل كؤنه مجرد ختم حكومً ،وظٌفته ٌختم بالموافقة على
أوامرهم.
فً البداٌة رفض إسماعٌل التجاوب مع التوصٌات البرٌطانٌة ،وفً أبرٌل ٔ89ٙتوقؾ عن صرؾ
قٌمة سندات الخزانة المصرٌة ،فؽضبت الدول األوروبٌة ،وأظهرت أنها قلقة على أموال رعاٌاها (الدٌون)
فتشكل فً ٕ ماٌو ٔ89ٙلجنة باسم "صندوق الدٌن" مكونة من مندوبً الدول صاحبة القروض (من بٌنهم
اللورد كرومر) ،وٌُعهد إلٌها إدارة شإون الدٌن وتدبٌر ما ٌجب النتظام تسدٌده ،وفً 9ماٌو أمر بتوحٌد
جمٌع الدٌون المصرٌة من سابرة وؼٌر سابرة ،وأصبحت دٌنا واحدا بلػ ٔ 9ملٌون جنٌه ،بفاٌدة %9
(ٓ)ٔ9
وٌنتهً تسدٌده فً ٘ ٙسنة (أي ٔٗ.)ٔ9
وفً وقت الحق ،صارت السٌطرة على صندوق الدٌن فً ٌد مندوبٌن فقط ،هما مندوب إنجلترا المستر
جوشن (المرابً السابق ومن عابلة جوشن صاحبة بٌت المال الذي قدم أول قرض لمصر فً عهد سعٌد)،
ومندوب فرنسا المسٌو جوبر ،فٌما عرؾ باسم "المراقبة الثنابٌة" ،وأدخلوا على االتفاق بنودا تجعل
()ٔٙ9
-أقباط ومسلمون من الفتح العربً إلى عام ٕٕ ،ٔ9مرجع سابق ،ص ٘ ٔ99 -ٔ9و ٕٕٕٓٓٗ-
(ٓ)ٔ9
-تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر ،مرجع سابق ،ص ٕ٘ٓ -ٕٗ9
٘ٗٗ
المشارٌع الضخمة التً فرح بها إسماعٌل وأؼرته أوروبا بها رهٌنة لفرنسا وإنجلترا ،وتوشك على السقوط
فً أٌدٌهما ،وذلك بالنص على تقدٌم عواٌد السكة الحدٌد ومٌناء اإلسكندرٌة والدابرة السنٌة كضمانات
وتسدٌد للدٌون.
كما نص على وضع السكة الحدٌد ومٌناء اإلسكندرٌة تحت رقابة أجنبٌة بحجة مراقبة الواردات
وحماٌتها من السرقة والفساد الحكومً ،وزود عدد الموظفٌن األجانب بحجة أنهم خبراء متخصصون
لئلشراؾ على اإلصبلحات وتنظٌم المٌزانٌة ،فؤطاح هذا بؤحد أهداؾ التعلٌم فً عهدي محمد علً
وإسماعٌل ،وهو توفٌر كوادر محلٌة تتسلم تلك المشارٌع بدال من الموظفٌن األوروبٌٌن(ٔ.)ٔ9
لكن اإلصبلحات التً وضعها جوشن وجوبر لم تإ ِد ألي إصبلح أو تخفٌؾ للدٌون -فلم ٌكن هذا هدفها
فً األصل -واضطرت الحكومة إلى أن تلجؤ لجمع الضراٌب من الناس قبل موعدها ،وقبل حتى أن ٌبٌعوا
المحاصٌل الذي تساعدهم على دفعها ،وذلك لتسدد الفوابد للوحوش األوروبٌة فً موعدها.
فطلب صندوق الدٌن من إسماعٌل عمل لجنة جدٌدة للتحقٌق فً أسباب تعثر الحكومة ،وبعد فترة من
التبرم وافق على تشكٌلها فً ٗ أبرٌل ٔ898باسم لجنة دٌوان التحقٌق ،وصار لها الحق المطلق فً إجراء
كل ما ترٌد من التحرٌات والتحقٌقات ،وعُهدت رٌاسة اللجنة إلى "دٌلٌسبس" -رأس المصٌبة من البداٌة-
وجُعل رٌاض باشا والسٌر رفرز ولسن وكٌلٌن لها ،وجعل مندوبً الدٌن أعضاء فٌها(ٕ.)ٔ9
وبهذا فإن دٌلٌسبس كالقط الذي أخذ مفتاح الكرار ،و"خربها وقعد على تلها" ،وفوق هذا صار مسبوال
عن انتزاع أموال الفواٌد والقروض من الضحاٌا الذٌن ٌؤنون تحت أطبلل الخراب.
وبدأت اللجنة فً فحص كل ما ٌخص اقتصاد مصر ،سواء فً النظام اإلداري أو الضراٌب إلخ،
وأعطت نفسها حق مساءلة موظفً الحكومة بحجة توجٌه الحكومة كٌؾ تتصرؾ لتسدد الدٌون فً
مواعٌدها ،وكلما أرادت اللجنة االستفسار عن أمر حكومً تطلب من شرٌؾ باشا الحضور لئلجابة على
أسبلتها ،وهو وزٌر الحقانٌة وأعظم الوزراء مكانة وقتها ،فٌرفض الذهاب حفاظا على كرامته ،وعرض أن
ٌرد على أسبلتهم كتابة بما ٌلٌق بمكانة الحكومة ،فرفضت اللجنة إال أن ٌقدمها بنفسه ،فاستعفى(ٖ.)ٔ9
ورؼم ظهور فشل لجنة المراقبة الثنابٌة فً تحقق الهدؾ المعلن من إنشابها وهو مساعدة الحكومة على
تدبٌر دفع فواٌد القروض واإلصبلح االقتصادي ،إال أنها استمرت فً تحمٌل الحكومة المسبولٌة عن الفشل
(ٔ)ٔ9
-انظر المرجع السابق ،ص ٕٔ٘
*** هً شروط شبٌهة بشروط اإلص الح االقتصادي الذي شهدته مصر باسم الخصخصة نهاٌة القرن ٕٓ ،والتً أقنع فٌها خبراء أجانب وصندوق
النقد الدولً المسبولٌن المصرٌٌن بؤن تحقٌق اإلصالح وإنهاء الفساد لن ٌكون إال بتحوٌل ملكٌة وإدارة شركات وأصول الدولة إلى القطاع الخاص،
وبالذات األجنبً ،مع ما تطلبه هذا من استٌراد خبراء وموظفٌن أجانب ،وشركات أجنبٌة ،بحجة أنهم األقدر على إدارتها ،فتسبب هذا فً زٌادة
األسعار بمعدالت ؼٌر مسبوقة ،وارتفاع التضخم ،واحتٌاج مصر لقروض جدٌدة ،واإلسراؾ فً استٌراد البضابع األجنبٌة ،فخربت بعض الصناعة
وجرت هذه االنقالبات االقتصادٌة أزمات اجتماعٌة وأخالقٌة وسٌاسٌة وأمنٌة تفجرت فً فوضى ٕٔٔٓ ،وأجبرت الربٌس َّ المصرٌة والزراعة،
حسنً مبارك على الرحٌل ،تماما كما تم إجبار إسماعٌل ،ورؼم أن التارٌخ أكبر معلم ،ولكنه ٌحتاج لمن ٌرٌد أن ٌتعلم.
(ٕ)ٔ9
-انظر :نفس المرجع ،ص ٕٕ٘
(ٖ)ٔ9
-نفس المرجع
ٗٗٙ
من باب "اللً فٌه ٌجٌبه فٌك" ،وزادت بؤن أوؼلت فً استنزاؾ أموال مصر فطلبت من الخدٌوي التنازل
عن كل ممتلكاته للحكومة لتسدد منها الفواٌد ،وٌعٌش هو من مرتب سنوي ٌخصص له.
ووافق إسماعٌل على ذلك ،كما وافق على مطلب سبق اإلشارة إلٌه وهو أن ٌتنازل عن بعض صبلحٌاته
للحكومة ،وأن ٌصبح للوزراء سلطة اتخاذ قرارات دون الرجوع إلٌه بحجة أن هذا هو التمدن والتحضر،
فشكل وزارة مستقلة برٌاسة األرمنً نوبار باشا فً ٖٕ أؼسطس ،ٔ898ودخل فٌها الوزراء األجانب
بالصبلحٌات المستقلة الجدٌدة ،وهما السٌر رفرز ولسن والمسٌو دي بلنٌٌر ،فؤصبح لؤلوربٌٌن وزٌران ،أي
مشاركة رسمٌة فً حكم مصر ،فكان هذا هو االحتبلل السٌاسً بعد إتمام خطة االحتبلل االقتصادي ،ولم
ّ
ٌبق األمر صعبا أن تمد برٌطانٌا قدمها بالخطوة األخٌرة وهً ..االحتبلل العسكري.
وفً أكتوبر من نفس السنة تنازل الخدٌوي عن أطٌان األسرة الخدٌوٌة للحكومة كضمان لدٌن جدٌد
اقترضته الحكومة "المستقلة" بـ 8ملٌون ونصؾ ملٌون جنٌه بحجة أن الحكومة تحتاجه لتسدٌد الدٌون
الثابتة (الخاصة بالسندات) ،وهو الدٌن الذي عُرؾ بـ"دٌن روتشٌلد" نسبة للبنك الذي سلفه للحكومة(ٗ.)ٔ9
فب هذه الخطوات األوروبٌة التً فاقت الخٌال فً تجبرها ،وفً قبول إسماعٌل لها ،بدأت معالم الفوضى
والسخط الشعبً سواء فً مإسسات الحكومة أو فً الشارع ،واألهالً ٌراقبون األجانب ٌتمرؼون فً نعٌم
المشارٌع التً بقروض وضراٌب ُتنزع من عروق الفبلحٌن نزعا ،وتتحول إلى أحٌاء سكنٌة جدٌدة فخٌمة
ووقصور وعمارات وسط البلد (التً سُمٌت فً وقت الحق بالقاهرة الخدٌوٌة) والمرتبات الضخمة فً
السكك الحدٌد والموانا والمصانع ،فٌما كان معظم األهالً محرم علٌهم االقتراب من هذه األماكن إال
كموظفٌن صؽار أو عمالة بالسخرة أو بمرتبات باهتة.
وفً حٌن كانت مالٌة مصر تنهار لحد اإلفبلس ،وٌنفتح الباب واسعا للتدخل األجنبً بحجة "إنقاذ
مصر" ،حصلت خطوات أخرى لتسهٌل االحتبلل ،منها "خفض عدد الجٌش ،وإنقاص عدد موظفً
الحكومة ،وباتت المهاٌا ]المرتبات[ متؤخرة جمٌعا ،وأخذ الضجر ٌنتشر بٌن الطبقات المالكة ،وٌسري بٌن
الضباط والموظفٌن والمزارعٌن(٘)ٔ9؛ فتحرك بعض الضباط وتجمهروا أمام وزارة المالٌة لبلحتجاج،
وقبضوا على األرمنلً نوبار باشا ورفٌقه اإلنجلٌزي رفرز ولسن وأهانوهما ،فاستدعى المسبوالن الخدٌوي
إسماعٌل الذي أمر الضباط باالنصراؾ ،فانصرفوا؛ فظن المسبولون األجانب أن حركة الضباط هذه كان
هو من سلطهم علٌها.
تقوَّ ى إسماعٌل بهذا ،وانتهز الفرصة لٌضؽط على األجانب ،بؤن بلؽهم أنه ال ٌجوز تحمٌله مسبولٌة
األزمات واالضطرابات فً البلد وهو مسحوبة منه معظم صبلحٌاته التً باتت فً ٌد حكومة ٌسٌرها
(ٗ)ٔ9
-انظر :المرجع السابق ،ص ٕٗ٘ ،وملكٌة األراضً الزراعٌة فً مصر خبلل القرن التاسع عشر ،مرجع سابق ،ص ٕٓ9
(٘)ٔ9
-دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً ،أحمد رشدي صالح ،الفصل الخاص بترجمة كتاب االستعمار البرٌطانً فً مصر للبرٌطانً إلٌنور
بٌرتز ،الصادر عام ،ٔ9ٕ9مرجع سابق ،ص 9
ٗٗ7
األجانب ،وعلى هذا األساس أقال نوبار باشا والوزٌرٌن األجنبٌٌن وعٌَّن شرٌؾ باشا التركً ربٌسا للنظار.
ؼادر نوبار األرمنً مصر إلى أوروبا وحول نفسه أداة لزٌادة السخط األوروبً على إسماعٌل ،والتؤكٌد
على عدم صبلحٌته للحكم مع كل من ٌلقاه من السٌاسٌٌن هناك ،بحسب شهادة أحمد شفٌق باشا المعاصر له
فً مذكراته( ،)ٔ9ٙوكؤنه المتحدث باسم المصرٌٌن وهو ٌسعى لجلب احتبلل جدٌد لهم.
وظهر تعمد صندوق الدٌن فً إٌصال مصر لئلفبلس فً أنه فً أبرٌل ٔ899لم تستطع الحكومة تدبٌر
ت باإلصبلح المنتظر،المبلػ المستحق علٌها ،فاعتبر إسماعٌل أن هذا عار ،وأن التدخل األجنبً لم ٌؤ ِ
خاصة عندما نما لعلمه أن لجنة تشكلت للتحقٌق وضعت تقرٌرا تعلن فٌه إفبلس مصر رسمٌا ،فخشى أن
ٌكون هذا مبررا لتدخل أجنبً أوسع ،وسعى السترداد نفوذه.
ولما ؼٌَّر إسماعٌل الوزارة ؼضبت الدول األوروبٌة خشٌة انهٌار مخططها ،وقررت أال ٌستمر
إسماعٌل فً الحكم ،خاصة بعد أن انضم إلٌه األعٌان ،ومبلحظة تزاٌد السخط الشعبً( ،)ٔ99فطلبت إنجلترا
من إسماعٌل أن ٌستقٌل لكنه رفض ،وبعث باألمر للسلطان عبد الحمٌد ،ظنا منه أنه سٌثور لكرامة السلطنة
العثمانلٌة وٌرفض أن ٌتحكم األوروبٌون فً تعٌٌن أو عزل الوالة التابعٌن له ،ولكن خاب ظنه ،فقد نسى أن
العثمانلٌة هذه ذاتها هً من تعاونت مع إنجلترا لكسر جده محمد علً ،وبالفعل أصدر عبد الحمٌد الثانً
أمرا بعزل إسماعٌل بناء على طلب إنجلترا ،وتعٌٌن ابنه توفٌق محله فً ٌ ٕٙونٌو .ٔ899
وبحسب شهادة أحمد شفٌق باشا ،فإن إسماعٌل فكر فً إعبلن استقبلله التام عن السلطنة العثمانلٌة،
واالستعداد لمواجهة الضؽوط األوروبٌة بالقوة ،إال أن شرٌؾ باشا نصحه بؤال ٌفعل؛ تحسبا ألن ٌفشل،
وٌؽٌر السلطان فرمان التولٌة لٌعود لما كان علٌه ألكبر أوالد العٌلة العلوٌة سنا ،فٌنحرم منه توفٌق وٌقع فً
ٌد حلٌم ابن محمد علً ،فؤذعن إسماعٌل( ،)ٔ98فاألمر بالنسبة له كرامة شخصٌة له وألسرته ولٌس كرامة
لمصر؛ وأجرى حساباته حسب ما ٌضمن بقاء العرش فً ٌدها.
لكنه لم ٌخرج خالً الوفاض ،فمع ضمان عرش مصر البنه خرج محمبل بما بقً من كنوزها رؼم
إعبلن إفبلسها ،فٌقول عرابً إن الخدٌوي توفٌق قال بحضوره وحضور خٌري باشا ربٌس الدٌوان
الخدٌوي فً إفطار رمضانً أن أبٌه أخذ معه أوراق مالٌة (بون) بمبلػ ٖٔ ملٌون جنٌه ،وأنهٌ" :ا لٌته ترك
للحكومة ولو ٙمبلٌٌن إلصبلح شؤنها"( ،)ٔ99وقال أحمد شفٌق باشا إن إسماعٌل أخذ معه اآلوانً الذهب
التً كانت فً بعض المخازن.
خرج إسماعٌل من مصر فً ٖٓ ٌونٌو على ٌخت المحروسة ،مذموما مدحورا ،هابما على وجهه فً
عرض البحر أٌاما ال ٌعرؾ إلى أن ٌتجه بعد أن رفض عبد الحمٌد الثانً استقباله ،حتى وافقت إٌطالٌا على
()ٔ9ٙ
-مذكراتً فً نصؾ قرن ،أحمد شفٌق باشا ،طٔ ،مطبعة مصر ،القاهرة ،ٔ9ٖٗ ،ص ٖ8
()ٔ99
-تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر ،مرجع سابق ،ص ٕٕ٘٘٘ٙ -
()ٔ98
-مذكراتً فً نصؾ قرن ،أحمد شفٌق باشا ،جٔ ،مرجع سابق ،ص ٗٓ -ٖ9
()ٔ99
-مذكرات الزعٌم أحمد عرابً ،مرجع سابق ،ص ٖٔ9
ٗٗ8
استقباله نظٌر عبلقات مادٌة كانت تجمعهما.
ورحل إسماعٌل محمبل بكنوز مصرٌة ٌفترشها فً قصور إٌطالٌاٌ ،سطر له التارٌخ إنجازات كبٌرة،
وخطاٌا أكبر ،وحروبا حمقاء ،ألقت بالمصرٌٌن ألفخاخ ؼابات الحبش ،تاركا ورابه خزٌنة فارؼة ،وجبال
دٌون على أكتاؾ المصرٌٌن ،وقناة السوٌس ساقطة بالكامل فً ٌد األجانب ،وجالٌات أجنبٌة تتحكم فً
اقتصاد وقرار الببلد ،وجٌشا ٌتحكم فٌه العبٌد الشركس ،ومبلٌٌن الناس تبن من وطؤة السُخرة والمرابٌن،
ولعناتهم للخدٌوي تشق عنان السماء ،وكٌؾ ال ٌلعنونه وهو من لؾَّ الحبال حول رقابهم وسلمهم كاألسارى
ألوروبا وبنوكها الشٌطانٌة ،واستنزؾ دماءهم وعرقهم وأراضٌهم لٌبنى بلدا ٌلٌق بإقامة األجانب أكثر مما
ٌتسع ألهله؟ وصدق علٌه المثل "ٌبنً قصر وٌهدم مصر" ،وهو مثل شاع فً عهد محمد علً للسخط على
اهتمامه ببناء القصور والفٌبلت له ولؤلجانب فً الوقت الذي ٌعانً فٌه الفبلحون األمرٌن(ٓ.)ٔ8
وفٌما تبتعد مركب "المحروسة" نحو إٌطالٌا كانت أساطٌل برٌطانٌا تدوي بصفٌرها المزعج ،تستعد
لبلنطبلق نحو مصر واستكمال الحلقة األخٌرة من االحتبلل.
هذه حالة مصر قبل الثورة التً تفجرت فً ٔ ،ٔ88حالة تحرك الحجر قبل البشر ،فكانت الثورة
الشعبٌة بقٌادة ضباط الجٌش كإشراقة لـ "ماعت" تعلن بها وجودها ،ورفرفة لـ حور الجرٌح ..رفرفة لم
تكتمل فً علوها ،ولم تتمكن من فرد جناحاتها فً كبد السماء ..لكنها طمبنتنا ..ما زلنا هنا.
ولٌس ذلك ألن الثورة على الظلم فقط ،ولكن ألنه ألول منذ زمن طوٌل قاد الثورة ضد األجانب من
ٌصدح بؤن "مصر للمصرٌٌن" ،وتكون الثورة لٌس لمجرد طرد أجنبً لصالح أجنبً آخر مثلما حدث فً
الثورة ضد الفرنسٌس لتقع مصر مجددا فً ٌد السلطان العثمانلً أو وضد خورشٌد باشا لتقع فً ٌد الوالً
العثمانلً محمد علً ،وال ألسباب دٌنٌة فقط ،بل لتمكٌن المصرٌٌن من حكم ببلدهم بعد أن أحس
المصرٌون منذ عصور مدٌدة بؤن لهم زعٌما ٌفخر بؤنه منهم ،وٌتكلم من وجدانهم.
"سادتً ..أنا أخوكم فً الوطنٌة واسمً أحمد عرابً"(ٔ ..)ٔ8عرابً بادبا خطبته أمام األهالً المستقبلٌن له
فً محافظة الشرقٌة ٌهنبونه بعد وقفة عابدٌن المشهودة ..هو أول مسبول فً الجٌش -المخطوؾ من
األجانب منذ مبات السنٌنٌ -قول للمصرٌٌن "سادتً" ،و"إخوانً" ،ال ٌنظر إلٌهم على أنه "الفاتح" وهم
"المؽلوبٌن" ،وال أنه المستوطن األجنبً المتمكن وهم المستباحٌن ،أول مسبول كبٌر فً الجٌش ٌقول
للمصرٌٌن "أخوكم فً الوطنٌة" ،لم ٌقل أخوكم فً اإلسبلم أو المسٌحٌة فقط ،وال فً القبٌلة وال فً العشٌرة
الحاكمة ..أول مسبول كبٌر فً الجٌش ٌعٌد أخوة الوطن وهو ٌخاطب المصرٌٌن.
أحس المصرٌون أنه عاد لهم السٌؾ والفارس وكٌان منظم مسلح ٌقود ؼضبهم وٌنظم ثورتهم المخنوقة.
(ٓ)ٔ8
-العادات والتقالٌد المصرٌة من األمثال الشعبٌة فً عهد محمد علً ،جون لوٌس بوركهارت ،مرجع سابق ،ص ٕٔٙ
(ٔ)ٔ8
-مصر للمصرٌٌن ،سلٌم النقاش ،ج ٗ ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرة ،ٔ998 ،ص 99
ٗٗ9
وسبقت اإلشارة إلى أن صوت أوالد البلد اختفى طوال عصور االحتبلالت ،أو صار ٌُكتب عنهم ،أي أن
كتب المإرخٌن والرحالة كانت إما تتجاهلهم تماما وتكتفً بنقل أحوال وآراء المستوطنٌن األجانب فً
العاصمة والمدن الكبرى وتقدمهم للتارٌخ على أنهم هم "المصرٌون" ،أو أحٌانا تنقل أحوال الفبلحٌن -كما
فعل المقرٌزي أو الجبرتً -لكن من وجهة نظر هذا المإرخ ال على لسان المصرٌٌن الحقٌقٌٌن أنفسهم ،وهم
مإرخون من المستوطنٌن األجانب أٌضا ولٌسوا من المصرٌٌن ،ونظروا للفبلح نظرة من أعلى ،ال انتماء
فٌها له وال أخوة وال مودة.
َّ
وشذ عن هذا مإلفون نادرون نقلوا قصابد قالوا إنها على لسان الفبلح تظهر آرابه فً الحٌاة والحكم مثل
الشربٌنً لما نقل قصٌدة أبو شادوؾ فً كتابه "هز القحوؾ" فً وقت مبكر من االحتبلل العثمانلً ،ولكنه
نقلها أٌضا بروح متعالٌة على الفبلح ،ال مودة فٌها وال عطؾ أخوة.
أما كتابات المإرخٌن المصرٌٌن مثل ساوٌرس ابن المقفع فكتاباتهم ركزت على أحوال الناحٌة الدٌنٌة
المسٌحٌة وما ٌتعلق بتارٌخ الكنٌسة أكثر ما ركزت على أحوال البلد والفبلحٌن عامة.
وعلى هذاٌ ،صعب أن نعرؾ فً تلك العصور صورة مصر ومعنى الوطن فً صدور المصرٌٌن
الحقٌقٌٌن المكدسٌن فً األرٌاؾ ،أهً ذات الصورة المقدسة التً ضمتها ضلوعهم وحناٌاهم طوال آالؾ
السنٌن فً أزمنة الحكم المصري القدٌم ،أم تجرحت وتبددت بطول الزمان ،وبؽٌاب الزعامة الوطنٌة
والمإسسات التً ترعى هذه الروح ،وبتعدد الراٌات الوافدة ،وبكثرة المرارات التً تجرعوها فً احتبلل
ورا احتبلل على هذه األرض المكدودة؟
إال أنه بداٌة من رفاعة الطهطاوي بدأنا نسمع صوت الفبلح المصري ،ذاك الرٌفً الذي قادته الصدفة
إلى بارٌس فً بعثات محمد علً؛ فعاد منها لٌس أكثر انبهارا باألجنبً ،بل أكثر انبهارا بالوطن ،وزاده
العلم حبا لمصر ،وبحثا فً تارٌخها القدٌم المهمل استفادة من اكتشافات الفرنسٌس فً المصرٌات وقتها،
وعاد لٌكتب عن تلك الكلمة المقدسة التً ؼابت فً مجاهل االحتبلالت واإلمبراطورٌات المتعاقبةٌ ،كتب
عن "الوطنٌة" ،و"حب الوطن".
وربما كان لكتابات رفاعة دور فً تحرٌك مشاعر المصرٌٌن المتعلمٌن والضباط وقتها أٌضا ،فهو من
أوابل من تحدثوا عن القومٌة المصرٌة ،وتمٌز الشخصٌة المصرٌة فً كتابٌه "مناهج األلباب المصرٌة فً
مباهج اآلداب العصرٌة" ،و"المرشد األمٌن للبنات والبنٌن" بعد أن كان المدٌح فً الكتب واألشعار فً
أزمان سابقة ٌُكال لؤلتراك والممالٌك أو العرب من مستوطنٌها ،وحٌن الكبلم عن مصر ٌكون للتؽزل فً
خٌراتها ،فٌما ٌُكال الذم والشتاٌم والتحقٌر لعصبها وروحها ،وهو الفبلح المصري نفسه.
فجاءت كلمات الطهطاوي كهالة نور عادت من سفر بعٌد لتتركز من جدٌد على وجوه المصرٌٌن
والشخصٌة المصرٌة ،وتبرز أحلى ما فٌها ،وتعٌد لها الثقة.
ٓ٘ٗ
ففً كتاب " المرشد األمٌن للبنات والبنٌن" كان دابم التكرار لكلمة "مصرنا"(ٕ ،)ٔ8وقال إن مصر "أول
وطن من أوطان الدنٌا ٌستحق أن تمٌل إلٌه قلوب بنٌه"(ٖ )ٔ8وفً كتاب "مناهج األلباب المصرٌة فً مباهج
اآلداب العصرٌة" أسهب تحت عنوان "حضارة مصر القدٌمة" فً اإلشادة بالحكم المصري العادل قدٌما،
ومدح أخبلق األجداد وتمدنهم وقوانٌنهم المهذبة وعذوبة نفوسهم(ٗ -)ٔ8بعد أن كان ٌُقال عنهم فً أوقات
سابقة الفراعٌن الكفرة والمساخٌط -فشحن نفوس المصرٌٌن بؤن لكم مجدا عرٌضا ٌقوي ضهركم.
وتؽنى فً "منهاج األلباب" بـ "حب الوطن" و"واإلخوة الوطنٌة"( ،)ٔ8ٙفتحت عنوان "حب الوطن" قال
إن "إرادة التمدن للوطن ال تنشؤ إال عن حبه من أهل الفطن" ،وأعاد اللحمة بٌن الدٌن والوطن بقوله "حب
الوطن من اإلٌمان"( ،)ٔ89فؤنشد كؤنه ٌؽنً(:)ٔ88
مذهب
دور
لطبعنا تالبم فً السر أو فً العلن شدت بها العزابم نٌطت بها التمابم
(ٕ)ٔ8
-المرشد األمٌن للبنات والبنٌن ،رفاعة رافع الطهطاوي ،الهٌبة العامة لقصور الثقافة ،القاهرة ،ٕٓٔ8 ،ص ٖ٘ٔ
(ٖ)ٔ8
-نفس المرجع ،ص ٖ٘ٔٔ٘ٗ -
(ٗ)ٔ8
-مناهج األلباب المصرٌة فً مباهج اآلداب العصرٌة ،رفاعة الطهطاوي ،الهٌبة العامة لقصور الثقافة ،القاهرة ،ص ٖٕٕٓٓٙ -
(٘)ٔ8
-عصر محمد علً ،عبد الرحمن الرافعً ،مرجع سابق ،ص ٖ٘ٗ
()ٔ8ٙ
-مناهج األلباب المصرٌة فً مباهج اآلداب العصرٌة ،مرجع سابق ،ص ٔٔ9 -ٔٔ8
()ٔ89
-نفس المرجع ،ص ٖٖٖٔ -
()ٔ88
-عصر محمد علً ،عبد الرحمن الرافعً ،مرجع سابق ،ص ٕ٘ٗٗ٘٘ -
ٔ٘ٗ
وردد قول الشاعر:
وأن ال أرى ؼٌري له الدهر مالكا ولً موطن آلٌت أال أبٌعه
هل كان الطهطاوي متؤثرا بؤحادٌث الوطنٌة التً رآها فً فرنسا -كما ٌقول البعض -أم أنه مجرد
مصري وجد فرصته أخٌرا أن ٌعبر عما ٌجٌش فً صدور المبلٌٌن المخفً صوتها من مبات السنٌن؟
الفبلح عبل صوته وسٌجٌب بنفسه فً السطور واألحداث القادمة.
من وسط ؼبار دخان الفرن التً ٌعمل فٌها أبوه خبَّازا خرج عبد هللا الندٌم ٌقود شعبه وٌهز فٌه الوطنٌة
َّ
هزا ،لم ٌؽادر الندٌم مصر ٌوما لفرنسا لتعلمه الوطنٌة ولم ٌعرؾ لؽتها ،ساقته فطرته -قبل الثورة -لٌتبنى
قضٌة واحدة ،إنصاؾ الفبلح المصري ،وهو ٌلؾ القرى ٌتابع إذالله وهو الكرٌم بن األكارم على ٌد
إسماعٌل والمرابً الٌونانً والٌهودي والسوري ومن كل ملة ،وٌفتش عن وسٌلة انتشاله ،وجدها فً الروح
الوطنٌة ،فكتب فً صحٌفته "التنكٌت والتبكٌت" التً أصدرها لهذا خصٌصا ٌدعو للتركٌز علٌها فً
المدارس" :أن ٌعرؾ التلمٌذ أصل نشؤة جنسه ،ومقدار ما وصل إلٌه من العزة والقوة والثروة ،واألسباب
التً تحل عروة الجنسٌة وتضعؾ قوتها ،وٌحذره من االختبلؾ والتحاسد والتقاعد عن دعوة االتحاد
واأللفة" ،وأن تقدم المدارس للتبلمٌذ "معنى الوطنٌة فً صورة ؼذاء ٌُنتفع به جمٌع الجسم بحٌث ال ٌترك
عرقا من عروقه إال وقد أجرى فٌه ماء الوطنٌة التً هً حفظ الببلد ولؽتها وعاداتها الجمٌلة"(،)ٔ89
وانتشرت صحٌفته انتشارا واسعا بٌن الضباط والمصرٌٌن المتعلمٌن اآلخرٌن ،بل انتشر الندٌم نفسه
وسطهم ٌخطب وٌحفز.
سبب آخر لصعود إحساس "مصر للمصرٌٌن" هو ظهور عدد كبٌر من الرموز المصرٌة الناجحة ،فإلى
جانب عرابً ومحمد عبٌد وعلً فهمً وعبد العال حلمً وؼٌرهم فً الجٌش ،سبقهم ظهور قٌادات نبؽت
فً علوم الدٌن والدنٌا مثل رفاعة الطهطاوي وعلً مبارك وبطرس ؼالً وعبده الحامولً وعبد هللا الندٌم
ومحمد علً البقلً ،ما أعطاهم الثقة فً قدرتهم للتمٌز فً كافة المجاالت.
وإلى جانب هذا ذاق الجنود المصرٌون طعم تمٌزهم أٌضا فً الحروب التً خاضوها فً الشام وروسٌا
حٌن تفوقوا على محتلٌهم من الضباط األتراك والممالٌك وؼٌرهم من جنسٌات أجنبٌة ،وثبت أنهم أكثر
كفاءة منهم ،خاصة إذا ما توفرت لهم القٌادة الماهرة الواعٌة ..فلماذا إذن ٌتحملون عنجهٌتهم الفارؼة التً
ٌعتبر بالنسبة لها أبو جهل وأبو لهب مبلكٌن بجناحٌن؟
إنه ٌبدو نفس الشعور الذي سرى فً عروق األجداد فً ٕٔٙق.م بعد خوضهم معركة رفح مع
اإلؼرٌق ،وأظهروا تفوقا علٌهم ..فقرروا أنهم األولى ببلدهم ...وقرروا الثورة.
وبدا أن من أسباب علو الروح الوطنٌة فً ٔ -ٔ88وعدم االكتفاء بشعارات دٌنٌة تقلٌدٌة -هو الحب
( -)ٔ89درس تهذٌب تحاور به تلمٌذ مع ندٌم ،عبد هللا الندٌم ،التنكٌت والتبكٌت ،العدد ٗ ،السنة األولى ،ٔ88ٔ -9 -ٖ ،ص ٗ٘ ،٘٘ -ومن تراث
عبد هللا الندٌم ،التنكٌت والتبكٌت ،دراسة تحلٌلٌة د .عبد المنعم الجمٌعً ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرة ٗٔ99
ٕ٘ٗ
الؽرٌزي لمصر فً عروقهم ،رؼم ما قاسوه فٌها من جوع وقهر ومذابح على ٌد المحتلٌن ،فٌقول كلوت بك
سنة ٓٗ ٔ8تحت عنوان" :حب المصرٌٌن أوطانهم"" :ال ٌوجد بٌن مخلوقات هللا من ٌذهب المذهب البعٌد
فً حب مسقط رأسه كالمصرٌٌن(ٓ ،")ٔ9فما أن وجدوا من ٌهتؾ باسم مصر والمصرٌٌن حتى هرعوا
إلٌه ....كؤنهم على معٌاد.
ٌعلق جون نٌنٌه فً مراسبلته للصحؾ الفرنسٌة والسوٌسرٌة فً ٕ فبراٌر ٔ ٔ88على تعجب المفكرٌن
الكبار فً أوروبا من موقؾ الضباط المصرٌٌن المتحد فً حادثة قصر النٌل ،ولماذا لم ٌحصل بٌنهم قتال،
قال" :قتال ماذا؟ ومع ماذا؟ إن الجٌش المصري هو دماء الشعب النٌلً الذي لم تفسده الرذٌلة ونبات
األبسنت والخطابات والسٌاسة الخداعة ،الشعب طاهر من هذا الدنس ،وال ٌتقاتل مع نفسه ضد الشعب ،بٌن
المحراث المحبوب والبندقٌة التً أُجبر على حملها ٌوجد اتحاد أخوي ،وكل الوزارات وكل الدبلوماسٌٌن فً
العالم سوؾ ال ٌنجحون فً قطع هذه الصلة العجٌبة(ٔ."")ٔ9
فً نفس الوقت ،أٌد عرابً الصالحون والطالحون ،المصرٌون ومستوطنون أجانب ،الوطنٌون
والخابنون ،فهرع إلٌه الفبلحون المنكوبون باإلتاوات والسخرة وعبء تسدٌد دٌون إسماعٌل لروتشٌلد
ودٌونهم الشخصٌة للمرابٌن ،والمتعطشٌن لمن ٌُعلٌهم وٌُعلً مصر فوق الجمٌع ،وهرع إلٌه كبار المبلك،
أو "الملوك الصؽار" على حد تعبٌر إلكسندر شولش(ٕ ،)ٔ9الذٌن أؼراهم الؽنى الطاؼً والنفوذ االقتصادي
لٌكونوا أصحاب نفوذ سٌاسً ٌشارك الخدٌوي الحكم وٌمنع قدوم منافس أجنبً جدٌد لهم ،وهرع إلٌه علماء
األزهر والكنسٌة ،وهرع إلٌه كبار التجار مصرٌون أو مستوطنون ضٌقا من تحكم التجار األوروبٌٌن فً
الصادر والوارد ،بل وهرع إلٌه فرٌق من العابلة الحاكمة منهم إخوة لمحمد علً مثل زٌنب هانم وابناء
لمحمد علً مثل حلٌم باشا رفضا لوالٌة توفٌق؛ ألنهم ٌرون أن أبٌه إسماعٌل اؼتصب له العرش اؼتصابا
برشوة السلطان العثمانلً لٌجعل الحكم فً أكبر أبنابه وحده وحرم حلٌم من العرش ،وأٌده السلطان -فً
البداٌة -أمبل فً إلؽاء االمتٌازات التً أخذها منه إسماعٌل بالرشوة.
وبتعبٌر إلٌنور بٌرتز" :أصبح عرابً محور االضطراب من أجل االستقبلل ،وهو ما أٌدته تؤٌٌدا واسعا
فبات مختلفة ،أٌده كبار مبلك األرض الذٌن قاوموا االستؽبلل األجنبً لمرافق مصر المستجدة ،وأٌده
العساكر الذٌن جندوا من طبقة الفبلحٌن المرهقٌن إرهاقا متزاٌدا لتسدٌد الدٌن األجنبً"(ٖ.)ٔ9
الشرارة األولى للثورة أطلقها ظلم إسماعٌل للضباط المصرٌٌن بترك ناظر الجهادٌة (وزٌر الحربٌة)
(ٓ)ٔ9
-لمحة عامة إلى مصر ،كلوت بك ،مرجع سابق ،ص ٕ89
(ٔ)ٔ9
-رسابل من مصر ،جون نٌنٌه ،مرجع سابق ،ص ٖٕٕٖ٘ٙ -
(ٕ)ٔ9
-مصر للمصرٌٌن أزمة مصر االجتماعٌة والسٌاسٌة ،ٔ88ٕ -ٔ898ألكسندر شولش ،ترجمة رءوؾ عباس حامد ،ص ٔ8ٙ
(ٖ)ٔ9
-دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً ،مرجع سابق ،ص ٔٔ
ٖ٘ٗ
الشركسً عثمان رفقً وبنً جنسه العبٌد ٌتكبرون على المصرٌٌن "فً الراٌحة والجاٌة" ،ال محترمٌن أنهم
أبناء البلد وال أنهم زمبلءهم ،حتى أنهم كانوا ٌسخرون من الضباط المصرٌٌن بقولهمٌ" :ا مقطؾ" ،إشارة
إلى أعمال الزراعة التً ٌقوم بها الفبلحون حاملٌن المقطؾ والفاس.
وبجانب هذا تؤثر الجٌش بالتدخل المباشر للوزارة األوروبٌة فً أمور الجٌش والبلد ككل ،فٌقول سلٌم
النقاش فً كتابه الصادر ٗ" ٔ88مصر والمصرٌٌن" ،وهو ما أٌده عرابً ونقله فً مذكراته" :وكان من
أهم أسباب االختبلل إذ ذاك عسر المالٌة وتداخل األجانب فً أمور الببلد ،واستبثارهم بها على عهد
الوزارة الوٌلسونٌة فً مدة إسماعٌل ،واشتداد وطؤتهم على العسكرٌة ،وطموح أبصارهم إلى ما أوجب
ٌومبذ استحكام الضؽابن فً صدور الجهادٌة عموما ،واستٌابهم من األجانب بسبب قطع مرتباتهم" ،ورؼم
أن توفٌق سعى إلصبلح الحال المالٌة فور تولٌه ،إال أنه "بقً فً نفوس الجهادٌة أثر سًء بعثهم على
اؼتنام فرصة للتخلص من ربقة األجنبً ،ومن أهمها أٌضا ما كان من بعض األجانب أو أكثرهم من
استخفافهم باألهالً واألعراض عن مصالحهم وتداخلهم فً اإلدارات وأمور الببلد إجحافا بحقوق األمة،
(ٗ)ٔ9
فؤعٌا ذلك رجال العسكرٌة ،وخافوا زٌادة االستبثار؛ فنفورا إلى إنقاذ الببلد من تداخل األجانب".
كما ٌشٌر أحمد شفٌق باشا -كشاهد عٌان حٌث كان وقتها موظفا بالمجلس الخصوصً بالداخلٌة -إلى أن
من أسباب السخط التوقؾ عن دفع مرتبات الضباط والموظفٌن عموما ٔ8شهرا حتى ساءت حالهم ،وأنه
مما صعد بؽضب الضباط أنه فً الوقت الذي ٌجري تسرٌح الضباط المصرٌٌن وتعطٌل مرتبات الباقٌن
علموا باستدعاء الضباط اإلنجلٌز من الهند(٘ ،)ٔ9وبحسب نٌنٌه فإن "رٌفرز وٌلسون طرد الضباط بدون أن
ٌدفع رواتبهم متخٌبل أنه ٌتعامل مع عبٌد زنوج"(.)ٔ9ٙ
وٌقول عرابً إن عثمان رفقً آل على نفسه أن ٌعمم سلطة الشراكسة على حساب المصرٌٌن؛ فؤصدر
قانونا ٌمنع الجنود المصرٌٌن تحت السبلح من الترقً لرتبة الضباط ،وأزاح قٌادات مصرٌة مثل عبد العال
حلمً وأحمد عبد الؽفار وعٌن محلهم شراكسة ،فاجتمع الضباط وهم فً هٌاج فً بٌت عرابً ٌطلبون منه
التصرؾ ،ونصبوه زعٌما لهم ،خاصة وأنهم علموا أن الشراكسة ٌجتمعون فً بٌت خسرو باشا ،كبٌر
الشراكسةٌ" ،تذاكرون فً دولة الممالٌك فً كل لٌلة بحضور عثمان باشا رفقً ،وٌلعنون خٌري بك لتسلٌمه
وإذعانه بالطاعة إلى السلطان سلٌم ،وٌقولون إنه قد حان الوقت لرد بضاعتنا ،وأنهم ال ٌؽلبون من قلة،
وظنوا أنهم ٌملكون مصر وٌستبدون بها كما فعل أولبك الممالٌك من قبلهم"(.)ٔ99
وهكذا ..فكل من شرب من احتبلل مصر راجع ٌشرب تانً ،كل من احتل مصر ٌوما ٌحلم بالعودة
الحتبللها ،ال ٌردعه فً هذا قلة عدده ،وال قبح أفعاله ،وال طول زمان سقوطه من على عرشها المؽصوب،
أٌا كانت لؽته ،دٌنه ،جنسه.
(ٗ)ٔ9
-مذكرات الزعٌم أحمد عرابً ،جٔ ،ص ٖ٘ٔ ،ٖٔٙ -ومصر للمصرٌٌن ،سلٌم النقاش ،جٗ ،ص ٘ٙ-
(٘)ٔ9
-مذكراتً فً نصؾ قرن ،أحمد شفٌق باشا ،طٔ ،مطبعة مصر ،القاهرة ،ٔ9ٖٗ ،ص ٖٔ -ٕ9
()ٔ9ٙ
-رسابل من مصر ،جون نٌنٌه ،مرجع سابق ،ص ٕٕ٘
()ٔ99
-مذكرات الزعٌم أحمد عرابً ،مرجع سابق ،ص ٕٕ9 -ٕٕٙ
ٗ٘ٗ
فقرر الضباط ،ومنهم أحمد عرابً وعبد العال حلمً وطلبة عصمت وعلً فهمً ومحمد عبٌد اتباع
الطرٌق القانونً برفع عرٌضة إلى ربٌس النظار (ربٌس الوزراء) رٌاض باشا (ومختلؾ حول أصله ما
بٌن ٌهودي أو تركً( ))ٔ98فً ٖٓ ٌناٌر ٔ ٔ88تشكو من عثمان رفقً من أنه "ٌعامل ضباط العسكرٌة
بالذل واالحتقار" ،وتشكو من إحالة الضباط الوطنٌٌن ،أي المصرٌٌن ،إلى االستٌداع دون ؼٌرهم من
الضباط من بنً جنسه( ،)ٔ99وتطلب عزل رفقً ،وتعٌٌن وزٌر حربٌة مصري ،ورفع عدد الجٌش إلى ٔ8
ألفا (وكان نزل إلى ٓٔ آالؾ).
ورؼم أن العرٌضة لٌس فٌها أي إساءة للخدٌوي وال مبالؽة فً المطالب ولكن توفٌق اعتراه القلق أن
ٌتضرر العرش "لو استتب أمر هذه العصابة واستفحل عملها" ،فقرر هو ورٌاض التخلص من القٌادات
المصرٌة بحركة ؼدر ،وهم علً بك فهمً المشهور بالدٌب ،ربٌس جند الحرس الخدٌوي ،وأحمد عرابً
بك أمٌر جند العباسٌة ،وعبد العال بك حلمً المعروؾ بؤبً حشٌش أمٌر الجند السودانً المعسكر بطرة،
الموقعة أسمابهم على العرٌضة ،فؤرسل عثمان رفقً إلٌهم أن ٌحضروا اجتماعا فً دٌوان الجهادٌة (وزارة
الحربٌة) فً قصر النٌل للترتٌب للفرقة الحربٌة التً ستصحب جمٌلة هانم -أخت توفٌق -خبلل زفافها ،لكن
الضباط شموا رٌحة الؽدر العلوي الشهٌر ،واتفقوا مع زمبلبهم على أنه لو تؤخروا ٌؤتوا إلنقاذهم ،وصدق
ظنهم ،فوجدوا أن أوامر تنتظرهم بالقبض علٌهم وتقدٌمهم لمحاكمة عسكرٌة عاجلة ،والجلسة منعقدة ،فلما
تؤخروا اقتحم الضباط المصرٌون اآلخرون مع حشد من الجنود بقٌادة البكباشً محمد عبٌد الدٌوان وهاجوا
على الشراكسة ،وكسروا األبواب والشبابٌك ،وخلصوا زمبلبهم من أٌدٌهم وهاجموا عثمان رفقً الذي فرَّ
كالفؤر من أمام القطط الؽاضبة ،وقفز من الشباك حٌث خبؤه ربٌس ورشة الترزٌة فً الدٌوان داخل كٌس
مبلبس ،وهرب كل الشراكسة الذٌن كانوا محتمٌٌن فً طبنجاتهم قبل ساعات قلٌلة ،واشتهرت هذه الوقابع
باسم "حادثة قصر النٌل"(ٕٓٓ) ،فكان أول نصر معلوم للضباط المصرٌٌن فً وجه محتلٌهم والممالٌك منذ
إعادة تؤسٌس الجٌش.
ٌقول عرابً إنه حٌن القبض علٌه هو وزمٌلٌه وإدخالهم فً قصر النٌل وجدوا الدٌوان محتشدا بالشراكسة
من رتبة مبلزم إلى فرٌق ،وبؤٌدٌهم الطبنجات ،مصطفٌن على الجنبٌن ونحن نسٌر أمامهم "وهم فً ؼاٌة
الفرح والمرح" ،سعداء بالقبض على المصرٌٌن ،وخسرو باشا ٌهزأ بالضباط المصرٌٌن بقوله لهم" :إٌه
زنبللً هارؾ ال" ،أي "فبلحٌن شؽالٌن بالمقاطؾ(ٕٔٓ)".
ٌهزأ بهم ألنهم شؽالٌن بالمقاطؾ بعرقهم وفً بلدهم ٌبدرون الخٌر ،وال ٌهزأ بنفسه ألنه شؽال مرتزق
()ٔ98
اإلسكندرٌة. لمكتبة التابع المعاصرة مصر ذاكرة موقع -
http://modernegypt.bibalex.org/Types/Persons/Details.aspx?type=minister&ID=e ٗEEDٙHD8Byir9vnNnٙZ9w:ٖD:
ٖD
وٌقول جون نٌنٌه فً مراسالته للصحؾ الفرنسٌة والسوٌسرٌة بتارٌخ ٕ فبراٌر ٔ ٔ88إن "رٌاض باشا نفسه خارج من أسرة ٌهودٌة حٌث ٌكون
الجٌل الثالث" ،وأمه شركسٌة ،وأرجع إلى هذا التكوٌن العابلً ما وصفها بـ"القوة الهمجٌة فٌه" وتفضٌل الشراكسة على المصرٌٌن فً الجٌش:
رسابل من مصر ،جون نٌنٌه ،مرجع سابق ،ص ٖٖٕٕٖٗ -
()ٔ99
-مصر للمصرٌٌن أزمة مصر االجتماعٌة والسٌاسٌة ،ٔ88ٕ -ٔ898ألكسندر شولش ،مرجع سابق ،ص ٔ99
(ٕٓٓ)
-انظر :المرجع السباق ،ص ،ٔ98 -ٔ99ومذكرات الزعٌم أحمد عرابً ،تحقٌق عبد المنعم الجمٌعً ،ص ٕٖٕٕٖٖ -
(ٕٔٓ)
-مذكرات الزعٌم أحمد عرابً ،ص ٖٕٓ
٘٘ٗ
بالسٌؾ فً بل بلد شارك فً اؼتصابها وٌبدر الدم والشر ..وهكذا ورث الؽزاة استهزاء الشٌطان بالصالحٌن
فً االستهزاء بؤوالد البلد األصلٌٌن.
زادت حركة الؽدر الضباط إصرارا على أخذ حقوقهم فكانت وقفة عابدٌن األولى (مشهورة باسم حادثة
السبلملك) ،وهً أنهم توجهوا بقٌادة عرابً وخضر خضر إلى ساحة قصر عابدٌن فً ٔ فبراٌر ٔٔ88
وعرضوا على الخدٌو وسط حشد كبٌر من الجنود والمتفرجٌن من األهالً واألجانب مطالبهم ،وأمام
ؼضبهم لم ٌجد توفٌق إال الموافقة(ٕٕٓ) فٌما ٌخص إقالة رفقً وتعٌٌن محمود سامً البارودي محله ،فكان
ثانً نصر للضباط المصرٌٌن.
ٌعلق نٌنٌه كشاهد عٌان على األحداث" :كان نابب الملك (الخدٌوي) خابفا ،وكان وزٌره (رٌاض) ٌرتعد
بشدة بالرؼم من حذلقته"؛ ولذا لم ٌستطع أن ٌمارس ما كان ٌمارسه من قبل مع الفبلحٌن ،وهو السجن
والضرب بالعصا والنفً(ٖٕٓ) ،لقد انسخط المحتلون إلى أصلهم ،إلى أخبلق الؽزاةٌ ،ستؤسدون على من
ٌخشاهم وتسقط ثقته فً نفسه ،وٌنسحقون فبرانا إذا ما الحت لمعة التحدي والثبات والثقة فً عٌون
أصحاب الحق.
واستجاب البارودي لطلب رفع مرتبات الجٌش التً قال عرابً إنها لم ُترفع منذ أٌام محمد علً ،وأقام
لهم حفل تكرٌم فً نفس مكان اعتقال العقداء الثبلثة بالدٌوان فً قصر النٌل ،والبارودي من أصل شركسً،
لكنه فلتة من فلتات جنسه ،من ندرة أخلصت للبلد الذي آواها ،ورأت أن أهله المصرٌٌن أولى به ،تضامن
مع الضباط الفبلحٌن ،بل وتطوع أن ٌكون رجلهم داخل الحكومة ٌنقل لهم ما ٌدبره الخدٌوي والشراكسة
ضدهم ،وتؤٌٌدا ألن "مصر للمصرٌٌن" ،حث عرابً على أن ٌتولى حكم مصر ،ولكن عرابً رفض(ٕٗٓ).
وعاد الضباط لثكناتهم فرحٌن بتخفٌؾ الضٌق عن زمبلبهم ،ولكن وهم متوجسون من الخدٌوي رؼم
أنهم لم ٌكونوا ٌنتوون عمل أي تحرك جدٌد طالما استمرت اإلصبلحات ،هرع الخدٌو الستدعاء القناصل،
سؤلوه إن كان لدٌه قوات ٌواجه بها قوات الفبلحٌن ،أجاب :ال ،فنصحوه بؤن ٌستسلم ،صاح رٌاض:
(ٕ٘ٓ)
سادتً ..ؼدا سوؾ ٌجبرنا الجٌش على حرق كتاب الدٌَن العام ،كٌؾ ٌصبح رعاٌاكم ودابنً مصر؟
وأظهر توفٌق لعرابً أنه معهم ،وعقدا اجتماعات سرٌة ،وٌقول المراسل السوٌسري جون نٌنٌه فً برقٌة
بعثها للصحؾ األوروبٌة ٔٔ مارس ٔ ٔ88إن الفٌالق كانت تصٌح بٌن حٌن وآخر أمام عابدٌنٌ" :حٌا
توفٌق ،تحٌا مصر ،وتسقط الوزارةٌ ،سقط رٌاض(.")ٕٓٙ
هل حقا سطع هتاؾ "تحٌا مصر" فً تلك األٌام كما نقلها نٌنٌه؟ لو ص َّح هذ فإنها أول "تحٌا مصر" تنطق
فً التارٌخ الحدٌث ،وأول إشارة لعودة النشٌد الوطنً إلى مصر.
(ٕٕٓ)
-انظر :مصر للمصرٌٌن ،سلٌم النقاش ،ج ٗ ،ص ٘8ٙ -8
(ٖٕٓ)
-رسابل من مصر ،جون نٌنٌه ،مرجع سابق ،ص ٕٖ9 -ٕٖٙ
(ٕٗٓ)
-انظر شهادة عرابً حول هذا فً مذكرات الزعٌم أحمد عرابً ،جٔ ،مرجع سابق ،ص ٖٖٖ
(ٕ٘ٓ)
-انظر :رسابل من مصر ،جون نٌنٌهٕٖ8 ،
()ٕٓٙ
-نفس المرجع ،ص ٕٗ9
ٗ٘ٙ
تحٌة لكِ ٌا عٌن حور
وفجؤة صدر قرار من توفٌق -كؤنه ٌدفع الضباط للثورة دفعا -بإقالة البارودي وبإخراج اآلالي الذي
ٌقوده عرابً واآلالي الذي ٌقوده عبد العال حلمً من القاهرة إلى الشرقٌة ودمٌاط ،فؤحسوا أنها عملٌة
تصفٌة جدٌدة ،وعفو الخدٌوي عن الضباط الثابرٌن فً قصر النٌل لم تكن إال "مطاطٌة للرٌح" ،وشاع أن
الخدٌوي هدفه إؼراقهم كما حصل فً حادثة األمٌر حلٌم واألمٌر كمال حٌن سقط بهما القطار على كوبري
كفر الزٌات فً النٌل وظن كثٌرون أن سعٌد من أوعز بإؼراقه ،فرفضوا تنفٌذ األمر ،وحتى ال ٌعد
عصٌانا ،سلك عرابً وصحبه طرٌقا شرعٌا وهو الذهاب إلى عابدٌن لمقابلة توفٌق ،وهً الوقفة العظمى
المشهورة باسم "وقفة عابدٌن" فً 9سبتمبر ٔ.ٔ88
وقبلها ،نشرت صحٌفة األهرام فً ٌ 9ونٌو ٔ ٔ88أن قناصل الدول التقوا بالخدٌوي وحدثوه عن شابعات
"بخصوص حركات جدٌدة من الضباط بمصر مما ٌخل بالراحة العامة ،وأنهم مستعدون ألن ٌعلنوا ذلك
لدولهم حتى ترى فً الطرق المناسبة لئلسكان والراحة" ،ورد الخدٌوي بؤنه سٌبذل كل جهده "فً إزالة كل
إشكال من هذا القبٌل".
وفً هذه األثناء ظهر عبد هللا الندٌم وسط الضباط حامبل صوت بقٌة الشعب لما تؤكد اإلحساس بخٌانة
الخدٌوي والتنسٌق مع األجانب ،وحمل الندٌم على كتفٌه عبء أن ٌكون حلقة الوصل بٌن الضباط وبٌن بقٌة
الشعب( ،)ٕٓ8وٌالها من مهمة وضع رقبته ثمنا لها ،خاصة فً زمن كان القتل ألهون سبب.
فوزع منشورا ٌطلب فٌه من الشعب إنابة عرابً فً المطالبة بحقوقه والتحدث باسمه ،وجمع التوقٌعات
علٌه لتكون هذه هً أول "حركة توكٌبلت شعبٌة" فً تارٌخ مصر ل ُتنصب زعٌما مصرٌا بإرادة مصرٌة
حرة ،وٌعقبها بعد ذلك "حركة توكٌبلت" قادها الصحفً أحمد حلمً سنة ،ٔ9ٓ8ثم "حركة توكٌبلت"
لصالح سعد زؼلول .ٔ9ٔ9
فً هذه األثناء كانت فرنسا احتلت تونس ،وهو ما فتح عٌون المصرٌٌن على نواٌا األوروبٌٌن ،وأرسل
عرابً رسالة للسلطان عبد الحمٌد ٌحذره من أن برٌطانٌا قد تحتل مصر لتحقق توازن قوى فً المنطقة مع
فرنسا ،فٌما اقترح راؼب باشا على عرابً أن ٌؽتال توفٌق بؤورطة من الجنود لٌتولى الزعامة ،فرفض
()ٕٓ9
-القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم ،مرجع سابق ،ص ٕ٘ٔ
()ٕٓ8
-انظر :مصر للمصرٌٌن أزمة مصر االجتماعٌة والسٌاسٌة ،ٔ88ٕ -ٔ898ألكسندر شولش ،ص ٔ8ٔ -ٔٙ9و ٕٔٓ
ٗ٘7
عرابً تماما( ، )ٕٓ9لم ٌكن عرابً ٌرٌد دما ،كما لم تكن مشكلته فً البداٌة مع توفٌق ،بل ظل ٌنادٌه بموالي
وكل ألفاظ التبجٌل حتى قرب النهاٌة ،كانت مطالب عرابً فً البداٌة شدٌدة التواضع ،بل حتى ال ترقى
لمرتبة الثورٌة ،وهً أن "ٌتساوى" المصرٌون باألجانب فً الوظابؾ والمرتبات والحقوق والواجبات،
وكؾ األوروبٌٌن عن التدخل فً توجٌه أمور الببلد ،وعمل دستور وبرلمان ..هكذا كان أمل المصرٌٌن أن
"ٌتساووا" فً بلدهم باألجنبً ،مع أن الطبٌعً أن ٌكونوا فوقه.
أرسل عرابً خطابا فً صباح 9سبتمبر لوزٌر الجهادٌة داود ٌكن بؤن الضباط قرروا مقابلة الخدٌوي فً
نفس الٌوم لوضع النقاط فوق الحروؾ ،وأرسل رسالة للقنصل البرٌطانً ٌعلمه بالمظاهرة وأنها لحماٌة
الضباط الذٌن تعرضوا لتهدٌدات منذ فبراٌر حتى ال ٌتخذها ذرٌعة لنشر إشاعات أن الجٌش ٌقوم بعصٌان
وٌهدد سبلمة الرعاٌا األجانب ،وسعى توفٌق لمنع وصول اآلالٌات إلى القصر بكل وسٌلة ،وبتعبٌر مٌخابٌل
شاروبٌم فً كتابه "الكافً فً تارٌخ مصر القدٌم والحدٌث" الصادر سنة ٔ898فإنه راح العباسٌة لٌمنع
الجنود من التحرك لعابدٌن فلم ٌجد فٌها الجنود ،فضرب كفا على كؾ ومبلبسه امتؤلت عرقا وترابا ،فكرَّ
على عابدٌن ،فٌما كانت اآلالٌات وراء عرابً تقترب من القصر وهم ٌنفخون فً البوق وٌجرون ٕٕ مدفعا
من الطراز الكبٌر ،والنساء ورابه ٌؽنٌن األؼانً الرٌفٌة ،وٌهتفن" :هللا ٌنصرك ٌا عرابً ٌا سند الوالٌا هللا
ٌنصرك"(ٕٓٔ).
انضم حرس الخدٌوي فً القصر بقٌادة علً فهمً إلى عرابً ،والجماهٌر محتشدة فً المٌدان حول
الجٌش ،والناس تراقب من األسطح والشبابٌك ،واألجانب ٌتفرجون بدورهم ،لحظة صمتت أمامها الدنٌا،
صار الخدٌوي ببل حول وال قوةٌ ،صطؾ فً جانب وبجواره األمرٌكً إستون ربٌس أركان الجٌش،
وكوكسن القنصل البرٌطانً فً األسكندرٌة ،وكولفن المراقب البرٌطانً فً الوزارة ،واألتراك
والشراكسة ،فٌما ٌصطؾ فً الجانب الثانً أمامهم جٌش متحد قوي العزٌمة ٌرابض عند أبواب القصر
وخلفه األهالً ،إنه فصل جدٌد من فصول معركة الخٌر والشر ،الحق "ماعت" والباطل "إزفت" على أرض
مصر.
()ٕٓ9
-المرجع السابق ،ص ٔٔ8
(ٕٓٔ)
-انظر :الكافً فً تارٌخ مصر القدٌم والحدٌث ،مٌخابٌل شاروبٌم ،مكتبة مدبولً ،ط ٕ ،القاهرة ،ٕٓٓٗ ،ص ٖٖٕ٘ٓٔ -
ٗ٘8
ٌمٌن الناظر عرابً والمصرٌون فً ظهره وعلى الشمال الخدٌوي واألوروبٌون والترك فً ظهره (مصدر الصورة :األهرام(ٕٔٔ))
الحق فٌها هذه المرة نشط ٌقظ لٌس مقهورا ،وماعت تترقب ،توجه عرابً إلى الخدٌوي وخلفه ٖٓ ضابطا
سٌوفهم مسلولة بؤٌدٌهم وعرابً أمامهم راكبا حصانه وسٌفه فً ٌده ،ولما طالبه الخدٌوي بؤن ٌترجل وٌؽمد
سٌفه نفذ األمر حتى ال ٌتكهرب الجو ،وإعماال لمبدأ طاعة الجندي لقابده األعلى ،قبل أن ٌستمع توفٌق
للمطالب أمر الضباط بالعودة لمعسكراتهم فرفضوا تنفٌذ األمر هذه المرة ألنه هدم لما جاءوا ألجله،
وانتظروا إشارة عرابً ،ودار الحوار الشهٌر بٌن عرابً والخدٌوي:
عرابً :جبنا ٌا موالي لنعرض علٌك طلبات األمة والجٌش وكلها طلبات عادلة
عرابً :إسقاط الوزارة المستبدة ،وتشكٌل مجلس نواب على النسق األوروبً ،وزٌادة عدد الجٌش إلى القدر
المعٌن فً الفرمانات السلطانٌة ،والتصدٌق على القوانٌن العسكرٌة السابق أمركم بوضعها.
الخدٌوي :كل هذه الطلبات ال حق لكم فٌها ،وأنا ورثت ملك هذه الببلد عن آبابً وأجدادي وما أنتم إال عبٌد
إحساناتنا.
عرابً :نحن خلقنا هللا أحرارا ولم ٌخلقنا تراثا وعقارا ،فوهللا الذي ال إله إال هو إننا ال نورث وال نستعبد
بعد الٌوم.
حٌنها ..طلب كولفن من توفٌق ان ٌؤمر بقتل عرابً ،فرفض خوفا الجٌش المحٌط بالقصر قاببل" :ألم تنظر
إلى من حولنا من العساكر؟" ،فطلب كولفن منه الدخول على أن ٌتولى هو المفاوضة مع عرابً حتى ال
(ٕٔٔ)
-الزعٌم أحمد عرابى رحلة كفاح من أجل الوطن ..من الثورة إلى المنفى ،األهرام ،ٕٓٔٙ -9 -9 ،السنة ٔٗٔ العدد ٗٗ9ٖ9
ٗ٘9
ٌبدو الخدٌوي مستسلما لما ٌملٌه علٌه الثوار أمام المؤل ،وتابع األهالً انسحاب الخدٌو من نوافذ وأسطح
المنازل المحٌطة بالمٌدان(ٕٕٔ).
وهدد المسبول البرٌطانً عرابً باللجوء للسلطان العثمانلً والدول األجنبٌة ،وأصر عرابً على أن الجٌش
ال ٌرٌد إال ضمان الحقوق والحرٌات للمصرٌٌن ،فاضطر المفاوض اإلنجلٌزي للقبول باستقالة الوزارة فً
الحال بشروط عرابً ،وهً أال ٌشارك أحد من األسر الحاكمة فً الوزارة وال ٌعٌن شركسً ناظرا
للجهادٌة ،وأن تكتب وثٌقة تكلٌؾ الوزارة الجدٌدة قبل أن ٌؽادر ،فكتبها الخدٌوي المختبا بالداخل وقرأها
حاملها بصوت عالً أمام الناس فصدحت الموسٌقى وصٌحات االبتهاج فً أرجاء المٌدان ،وبعدها أطل
الخدٌوي من شرفة القصر ،ورؼبة فً عدم التصعٌد أكد عرابً لتوفٌق الوالء بعد أن أطل علٌهم من شرفة
القصر ،وانسحب الجنود بنظام تام(ٖٕٔ).
لماذا لم ٌقتل عرابً توفٌق؟ لماذا لم ٌنتهز فرصة احتشاد الجٌش والجماهٌر ورابه ،وانحسار الخدٌوي
كالفؤر المبلول مع كبار عابلته فً قصره لٌتخلص منه ،أو على األقل ٌعتقله وٌخلعه؟ إنه أجنبً استقوى
بؤجانب ضد مصر وٌحتمً بالدبلوماسٌٌن األجانب فً مواجهة جٌش البلد الذي ٌحكمه "عٌنً عٌنك"! إن
عابلته قتلت عشرات آالؾ المصرٌٌن فً السخرة وفً حروب أرادوا بها أن ٌكونوا أباطرة وفً قمع
ثوراتهم الصؽٌرة فً القرى ،وقتلوهم ألما وكمدا من سحب أراضٌهم أو جلد ظهورهم النتزاع الضراٌب
الظالمة ،وتوفٌق عنده استعداد أن ٌقتل عشرات آالؾ آخرٌن -وسٌفعل -لماذا إذن تركه عرابً ولم ٌنتهز
الفرصة وٌخلع هذا الحكم الدموي وٌعلن حكما مصرٌا؟
سإال حٌَّر مإرخٌن أوروبٌٌن ولٌس فً مصر وحدها ،لو أي ثورة وقع بٌن ٌدٌها الحكم الكارهة له ما
تركوه ،الثورة الفرنسٌة والروسٌة واإلنجلٌزٌة علَّقت العاببلت الحاكمة فوق المشانق بكل انشكاح ،لماذا لم
ٌفعلها عرابً إذن؟ هل ألن المصرٌٌن طابعهم لٌس دموٌا؟ هل ما ٌسمى بالتسامح المصري الزابد عن الحد
مع الؽزاة الذي ٌنسى اإلساءة بسرعة البرق؟ أم أن طموحه لم ٌكن وصل إلى أن ٌدفعه لٌزٌح هذه العابلة
وٌتسلم الحكم مصرٌون ،أم أنه خاؾ من أنه لو فعلها لهاج علٌه السلطان العثمانلً واألوروبٌون فٌتخذوها
فرصة الجتٌاح مصر بجٌوشهم؟
وبعد وقفة عابدٌنٕٗٔ عاشت مصر ٖ شهور وصفها ولفرٌد سكاون بلنت -السٌاسً والرحالة البرٌطانً
الذي كان فً مصر وقتها -فً كتابه "التارٌخ السري لبلحتبلل اإلنجلٌز لمصر" بؤنها "أسعد األوقات
السٌاسٌة التً شهدتها مصر ،وأنا سعٌد ألنً شهدت هذه الفترة بعٌنًّ ،األمر الذي ٌجعلنً أقول :إنً لم
أسمع عن هذه الفترة ،أو أشك فً حقٌقتها ،كانت الجماعات الوطنٌة كلها ،بل وكل سكان القاهرة كانوا
(ٕٕٔ)
-مصر للمصرٌٌن أزمة مصر االجتماعٌة والسٌاسٌة ،ٔ88ٕ -ٔ898ألكسندر شولش ،ص ٗ ،ٔ8ومذكرات الزعٌم أحمد عرابً ،ص ٖٗ-
،ٖٙوص ٖٓٓ -ٕ98
(ٖٕٔ)
-انظر :مصر للمصرٌٌن أزمة مصر االجتماعٌة والسٌاسٌة ،ٔ88ٕ -ٔ898مرجع سابق ،ص ٗٔ8
-214يحاوؿ البعض اليوـ إنكار حدوث وقفة عابديف ،ومواجية عرابي لتوفيؽ طالبا الحرية ألىؿ بمده ،ولكف ىذه الوقفة وأقواؿ عرابي مسجمة في
عدة مراجع ل شخصيا عاصرتو ،ومنيا "رسائؿ مف مصر" لجوف نينيو ،و"التاريخ السري لالحتالؿ اإلنجميزي لمصر" ،أللفريد سكاوف بمنت ،و"مذكرات
محمد عبده" تحقيؽ طاىر الطناحي ،وكرومر في كتابو "مصر الحديثة" ،وغيرىا ،فضال عف مذكرات عرابي نفسو.
ٓٗٙ
جمٌعا متحدٌن فً مسؤلة تحقٌق الفكرة الوطنٌة العظٌمة ( )...وفً سابر أنحاء مصر انتشر الفرح والسرور
على نحو لم ٌسبق أن رآه أحد من أبناء النٌل منذ مبات السنٌن ،ومن الصحٌح أٌضا أن الناس فً شوارع
القاهرة كانوا ٌستوقفون بعضهم بعضا ،على الرؼم من عدم تعارفهم ،لكً ٌتعانقوا وٌفرحوا وٌبتهجوا لذلك
الحكم الحر الجدٌد المدهش الذي بدا بصورة مفاجبة مثل فجر بعد لٌل طوٌل مخٌؾ(ٕ٘ٔ)".
وفً شهادة فارمان قال إن عرابً أصبح هو القوة الحاكمة ،ولم ٌتدخل عرابً فً اإلٌرادات المخصصة
لدفع فواٌد الدٌن العمومً ،ولم ٌصدر منه أي خطر حقٌقً فً سٌاسته سوى أنه قلل من هٌبة القوات
األجنبٌة ما ربما ٌإدي -إذا استمرت الحال على هذا الموال -إلى استقبلل مصر مرة أخرى.
ووصؾ فارمان ،شاهد العٌان على األحداث أٌضا ،عرابً بؤنه "كان معبود الشعب ،وقلما كان ٌوجد
وطنً محبوب لدى الجمهور المصري كعرابً باشا ،وظهوره باإلسكندرٌة أصبح مناسبة الحتفاء شعبً لم
ٌسبق له مثٌل بٌن أفراد هذا الشعب ،وجعله هذا موضع سخط هإالء الذٌن كانوا ٌملون على الحكومة
سٌاستها ،وكثٌرا ما تساعد المطامع الشخصٌة إلى درجة ما على إثارة الحركة الوطنٌة ،ولكن الحقابق أثبتت
فٌما بعد أن ما م ن وطنً كان بعٌدا عن الدوافع الشخصٌة مثل عرابً .والواقع أنه بعد التحقٌق الدقٌق لم
ٌمكن العثور على أي دافع لدٌه (سوى الرؼبة الجامحة فً التحرر من سٌطرة أجنبٌة ؼاشمة)(.")ٕٔ9
وارتعب الشٌطان القابع فً بنوك روتشٌلد وجوشن وأوبنهاٌم فً لندن وؼٌرها من أن مخططه البتبلع
مصر سٌفشل ،فبدأ ٌخطو خطواته السوداء لكسر الفرحة المصرٌة ،بسبلحً الرشوة واإلرهاب.
ٌقول سلٌم النقاش فً كتابه "مصر للمصرٌٌن" إن روتشٌلد حٌن تولى توفٌق منصبه ٔ899سارع
إلرسال تهنبة له تقول إن "هذا التؽٌٌر قد أزال الكثٌر من المصاعب التً حالت دون نفوذ شروط المٌثاق
المبرم بٌنهم وبٌن الحكومة المصرٌة متعلقا بقرض األمبلك الموهوبة"( ،)ٕٔ8لكن روتشٌلد فوجا بالجٌش
المصري ٌقفز للمشهد.
ونشر ولفرٌد سكاون بلنت أن "بتون" (لم ٌتضح منصبه) أبلؽه أن روتشٌلد عرض على عرابً ٗ آالؾ
جنٌه إنجلٌزي فً العام مدى لحٌاة إذا ما ؼادر مصر ،وكان هذا فً ٌونٌو ٕ ،ٔ88أي قبل الؽزو بشهر.
وحٌن سؤل بلنت عرابً عن األمر بعد سنوات ،قال له إنه عقب إنذار ماٌو الذي وجهته أوروبا لمصر
(ٕ٘ٔ)
-التارٌخ السري لبلحتبلل اإلنجلٌزي لمصر (رواٌة شخصٌة لؤلحداث) ،ولفرٌد سكاون بلنت ،مرجع سابق ،ص ٕٓٓ -ٔ99
()ٕٔٙ
-نوت فً الحضارة المصرٌة هً قبة السماء الظاهرة ،وفً فكرة الخلق المصرٌة فإن نوت كانت منطبقة على جب (األرض) فؤمر اإلله الخالق
بانفصالهما عن بعضهما ،فرفع الرب شو (الهوا) نوت إلى أعلى ،وبذلك توفر مناخ لظهور الحٌاة على األرض.
()ٕٔ9
-مصر وكٌؾ ُؼدر بها ،ألبرت فارمان ،مرجع سابق ،ص ٖٕ8 -ٖٕ9
()ٕٔ8
-مصر للمصرٌٌن ،سلٌم النقاش ،جٗ ،مرجع سابق ،ص 9
ٔٗٙ
قبل ضرب اإلسكندرٌة ،زاره القنصل ،عارضا علٌه ٓٓ٘ جنٌه مصري شهرٌا من الحكومة الفرنسٌة
مقابل أن ٌؽادر مصر إلى بارٌس ،وٌُعامل هناك مثلما حدث مع عبد القادر الجزابري ،ولكن عرابً رفض
رفضا باتا ،ؼٌر أنه -والحدٌث لعرابً -لم ٌسمع قط عن معاش معروض علٌه من آل روتشٌلد(.)ٕٔ9
وبالربط بٌن رواٌتً عرابً و"بتون" فاالحتمال أن العرض الفرنسً هو بإٌحاء من بٌوت مال روتشٌلد.
فؤرسل قنصل برٌطانٌا فً مصر إدوارد مالٌت ببلؼا إلى جرانفٌلد وزٌر خارجٌة برٌطانٌا فً حكومة
جبلدستون ٌقول فٌه" :لن نستطٌع استرداد سٌادتنا حتى ٌُقضً على السٌطرة العسكرٌة التً تثقل كاهل
مرض للمسؤلة
ٍ الببلد اآلن ،وإنً ألعتقد أنه ال بد وأن تطرأ مشكلة حادة قبل أن نستطٌع الوصول إلى حل
المصرٌة ،وإنه من الخٌر أن نتعجلها (أي المشكلة الحادة) بدل أن نحاول تؤخٌرها(ٕٕٓ)".
وجاء هذا فً كتاب "دمار مصر" الذي أصدره تٌودور روذستٌن ،مراسل صحٌفة إٌجٌبشٌان استاندارد،
سنة ٓٔ ،ٔ9واعتبر ألكسندر شولش أن التروٌج للدٌكتاتورٌة العسكرٌة أو العداء لؤلجانب كان "أسطورة
دعابٌة لتبرٌر التدخل" ،بل كان األجانب ٌعٌشون فً مصر فً ظروؾ ال ٌتمتعون بها فً ببلدهم(ٕٕٔ).
وهكذا ،أصبح مقضٌا أن تقع المشكلة الحادة ،وهٌؤت صحؾ أجنبٌة األجواء لتبرٌر وجودها ،نشرت وكالتا
روٌترز وهافاس انتقادات ألداء الحكومة التً بها عرابً ،وأظهرت الوكالتان "القلق على الشعب"،
وطرحت ورقة المقٌمٌن األجانب على طاولة المضاربٌن الخضراء ألجل مصلحة السماسرة المالٌٌن،
بتعبٌر جون نٌنٌه الذي سخر من األكاذٌب التً تبثها الوكالتان وهو ٌعلم كذبها بحكم عمله كمراسل على
األرض.
وٌضٌؾ" :إذا قرأتم البرقٌات المؽرضة التً برق بها ٌومٌا مراسلو "الدٌلً نٌوز" وصحؾ كبٌرة أخرى
إنجلٌزٌة سوؾ تثٌر ازدراءكم لها ،وكل ذلك من أجل البورصةٌ ،جب خفضها من أجل رفعها ،على حساب
حرٌة أمة ،ودماء آالؾ األفراد ،ولم ال! المصالح فوق العدالة ،هكذا ٌرٌد تقدم التقدم "القوة فوق الحق"،
وحرصت صحؾ على وصؾ عرابً بـ"الدٌكتاتور المصري".
فً المقابل ٌصؾ هو المشهد حٌنها فً برقٌات بتارٌخ ٕٓ ٖ -ؤٕ ٔ88ٕ -٘ -إلى صحٌفته" :أظهر
الجٌش التبعٌة والصبر ،فلم ٌفهموه وال سمعوه ،أرادوا فصل الشعب عن الرٌؾ الذي خرج منه ،الجٌش
الذي هو مشكل منه ،هنا ٌكون الخطؤ وسٌنبؽً اآلن اإلصؽاء إلٌه"ٌ" ،ا له من شعب ٌثٌر اإلعجاب ،هإالء
المصرٌون! ٌتخذون ما هو فوق طاقتهم ،وأن ٌتحملوا فً أنفسهم ،وال ٌبالون بشًء(ٕٕٕ)".
وشاع أن الضباط الشراكسة بتحرٌض من إسماعٌل تآمروا على قتل عرابً وصحبه ،ووشى بهم إلى
عرابً زمٌل لهم؛ فؤلقى القبض على الضباط المسبولٌن ،وحكم علٌهم بعقوبات مختلفة ،خففها الخدٌو
()ٕٔ9
-التارٌخ السري لبلحتبلل اإلنجلٌزي لمصر ،مرجع سابق ،ص ٖٗ8
(ٕٕٓ)
-دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً ،مرجع سابق ،ص ٕٔ
(ٕٕٔ)
-مصر للمصرٌٌن أزمة مصر االجتماعٌة والسٌاسٌة ،ٔ88ٕ -ٔ898ألكسندر شولش ،مرجع سابق ،ص ٖٕٕٗٗٗ -
(ٕٕٕ)
-رسابل من مصر ( ،)ٔ88ٕ -ٔ899جون نٌنٌه ،مرجع سابق ،ص ٕٕ٘ و٘ ٖ9ٙ -ٖ9ؤٓٗ
ٕٗٙ
بضؽط من القنصل البرٌطانً ،وبالتوازي أشهرت برٌطانٌا وفرنسا سبلح التدخل صراحة بؤن أرسلتا فً
ماٌو ٕ ٔ88ثبلث سفن حربٌة إلى اإلسكندرٌة (بحجة المحافظة على أرواح رعاٌاهما) ،وأوصى ممثلو
فرنسا وإنجلترا فً مصر الخدٌوي أن ٌقٌل الوزارة الوطنٌة ،وأن ٌنفى عرابً من مصر ،وأن ٌبعد قابدٌن
وطنٌٌن آخرٌن إلى الداخل ،وبالفعل أقٌلت الوزارة ،ولكن ما لبث احتجاج حامٌة اإلسكندرٌة أن أجبرت
الخدٌوي على إعادة الوزارة إلى الحكم.
وأثارت تحركات األسطول البرٌطانً وخنوع السلطان العثمانلً عبد الحمٌد الثانً إلنجلترا قلق بقٌة
الدول الكبرى الرافضة ألن تستفرد برٌطانٌا بمصر ،فدعوا لمإتمر سداسً تتمثل فٌه الدول الستة صاحبة
المصالح فً مصر ،أي صاحبة الدٌون ،وهً برٌطانٌا وفرنسا وإٌطالٌا وألمانٌا والنمسا وروسٌا ،والتبم
المإتمر فً إسطنبول ٌونٌو ٕ.ٔ88
وفٌه اتفقوا على تقسٌم النفوذ فً مصر عبر مٌثاق مضت علٌه الدول الست بعدم التدخل ،بما فٌها
برٌطانٌا ،ونص على "أال تسعى هذه الدول للحصول على مؽانم إقلٌمٌة أو على امتٌازات أٌا كان نوعها أو
على أٌة مٌزة تجارٌة لرعاٌاها أكثر مما ٌستطٌع رعاٌا الدول األخرى الحصول علٌه بالتساوي".
كما اتفقوا على أن أي دولة من الدول العظمى ال تقوم بعمل انفرادي فً مصر ،إال كما قال اإلنجلٌز فً
حالة "الضرورة االستثنابٌة"(ٖٕٕ).
وألن برٌطانٌا متربصة من سنٌن الحتبلل مصر (منذ حملة فرٌزر ٔ8ٓ9على األقل) ،تفننت فً عمل
الخدع التً تتؽلب بها على المنافسة الدولٌة على مصر ،ومنها حشر كلمة "إال فً حالة الضرورة
االستثنابٌة" فً مٌثاق الدول الستة ،وبدأت تخلق هذه الضرورة ،فكانت أحداث الشؽب بٌن المصرٌٌن
واألجانب فً اإلسكندرٌة.
فً ذلك الوقت كانت الحكومة التً بها عرابً تملك زمام الحكم ،واإلجراءات الحكومٌة مقنعة ومرضٌة
للجمٌع ،فٌما عدا األجانب الذٌن لم ٌكن لهم رؼبة سوى حكم الببلد لمصلحتهم ،وهإالء الذٌن لم ٌكونوا
ٌجرأون على عصٌان أوامرهم(ٕٕٗ) ،وفً نفس الوقت بدأ القناصل ،خاصة اإلنجلٌزي والٌونانًٌ ،بذرون
بذور األحداث الدموٌة بٌن المصرٌٌن واألجانب ،ولصقها بالجٌش المصري فً محاولة لتبرٌر االحتبلل
المخطط له ...واختاروا مكان الفوضى والشؽب ..اإلسكندرٌة.
وٌواصل فارمان -الذي كان موجودا فً اإلسكندرٌة وقتها -قاببل إنه بالرؼم من أن "السبلم كان ٌسود
بٌن مختلؾ طبقات الشعب إال أن القنصلٌن اإلنجلٌزي والٌونانً فً اإلسكندرٌة كانا ٌمدان المالطٌٌن
والٌونانٌٌن بالسبلح سرا ،وهكذا مدت أخطر طبقة وأكثرها فوضى بالوسابل التً أضفت على المشاؼبات
طابعها الدموي".
(ٖٕٕ)
-دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً ،مرجع سابق ،ص ٕٖٔٔ -
(ٕٕٗ)
-مصر وكٌؾ ُؼدر بها ،مرجع سابق ،ص ٖٖٙ
ٖٗٙ
لكن بعض قناصل الدول األخرى أحسوا بالخطر من تسلٌح الرعاٌا الٌونانٌٌن والمالطٌٌن ،إما خشٌة على
مصالحهم أو كً ال تؤخذه برٌطانٌا مبررا لفرض احتبللها لمصر ،وعلى هذا عقدوا اجتماعا صباح األحد
ٔٔ ٌونٌو ٕ( ٔ88الذي سٌشهد وقوع الشؽب) ،وتحدثوا عن أن التسلٌح هو "أخطر طرٌق ٌمكن اتباعه،
ومن المحتمل أن ٌإدي إلى تصادم فً أٌة لحظة" ،وأبلػ هذا القرار إلى القنصل اإلنجلٌزي ،وعقب تسلمه
بساعتٌن كان الشؽب والهٌاج على أشدهما(ٕٕ٘).
وتدفقت السفن الحربٌة لفرنسا وإٌطالٌا والٌونان إلى مٌناء اإلسكندرٌة لمراقبة الوضع ،احتشد األسطول
اإلنجلٌزي لٌمنع انفكاك أسر مصر من قٌودها ،واحتشدت ورابه أساطٌل بقٌة الدول لتتؤكد أنه لن ٌؤخذ
مصر أسٌرة له وحده ،جاءوا على أمل أن ٌتقاسموها.
وٌحكً فارمان أنه كان هناك قلٌل من الود بٌن الطبقات الدنٌا من الٌونانٌٌن فً اإلسكندرٌة وبٌن
األهالً ،ولكن وجود البواخر الٌونانٌة جرح كبرٌاء المصرٌٌن وأثار حفٌظتهم ،كما أثار كراهٌة الٌونانٌٌن
بالمثل ،وقد زاد توتر الشعور العام ،وأصبحت جمٌع الطبقات فً حالة من االضطراب لم تكن لتوجد لوال
وجود السفن الحربٌة العدٌدة فً المٌناء ،ولكان الهدوء التام قد ساد لو أن هذه السفن لم تصل(.)ٕٕٙ
شعر المصرٌون أن الٌونانٌٌن لٌسوا مجرد جالٌة أو تجار وباعة ،ولكنهم فً ساعة الصفر تآمروا مع
بلدهم ومع إنجلترا ضد مصر.
ورصد جون نٌنٌه فً رسالة إلى صحٌفته فً ٖٕ ٔ88ٕ -٘ -أن إرسال الٌونان سفٌنتٌن حربٌتٌن أثار
دهشة عامة ،فٌما رحب بها الٌونانٌون والسورٌون ،وٌفسر نٌنٌه سبب الترحٌب" :الشعب ٌتسامر حول
وجود الباخرتٌن الٌونانٌتٌن الصؽٌرتٌن ،المعروؾ أن المرابٌن السورٌٌن والٌونانٌٌن ٌبؽضون عرابً على
وجه الخصوص ،الذي ٌراقبهم فً القرى ]أي ٌحارب انتشارهم كمرابٌن فً القرى ٌستنزفون أموال
وأراضً الفبلحٌن[ .الٌونانٌون لمقتهم للمسلمٌن الذٌن أخرجتهم أوروبا من رق العثمانٌٌن ،والتً أنفقت من
أجل ذلك المبلٌٌن التً لم ترد إلٌها ،الٌونانٌون الذٌن كان لهم شرؾ إنجاب بعض أكابر الوطنٌٌن الذٌن
إلٌهم ٌدٌنون بالكثٌر ٌنكرون على الشعب الفبلح تفوقه فً بعض األمور ،الحق أنه فكر فً رجل ٌعمل
خصٌصا من أجل مصر ،مع زمبلبه(.")ٕٕ9
إذن اجتمع فً الٌونانٌٌن كراهٌتهم القدٌمة للفبلح المصري المتفوق علٌهم حضارٌا حتى وصفوه وقت
االحتبلل البطلمً بـ"البربري المنحط" ،ثم كرهوه ألن بلده مسلم وحمَّلوه وزر احتبلل العثمانٌٌن لهم (رؼم
أن الٌونانٌٌن أنفسهم ٌعشقون احتبلل ببلد ؼٌرهم) ،ثم كرهوه ألنهم هم اضطروا لبلستعانة بؤوروبا
لتخلصهم من االحتبلل العثمانلً فً حٌن أن المصرٌٌن أخرجوا رجبل ،بل جٌشا منهم ٌطالب بحقوقهم
وحرٌتهم -مثلما حقدوا على المصرٌٌن أنهم تصدوا لقباٌل شعوب البحر أٌام رمسٌس الثالث فٌما تخرَّ بت
(ٕٕ٘)
-المرجع السابق ،ص ٖٖٙ
()ٕٕٙ
-المرجع السابق ،ص ٖٕ9
()ٕٕ9
-رسابل من مصر ،جون نٌنٌه ،مرجع سابق ،ص ٖٓ8
ٗٗٙ
وسقطت أمامهم بعض جزر الٌونان -ثم كرهوه ألن هذا الجٌش ٌنوي تخلٌص شعبه من الربا الٌونانً
والٌهودي والسوري وٌقول "مصر للمصرٌٌن" ،إذن هً كراهٌة رباعٌة.
كان ٌسكن شرق اإلسكندرٌة عدد كبٌر من األوروبٌٌن واألؼنٌاء من المصرٌٌن (أو المستمصرٌن) وفً
ؼربها ٌسكن الفقراء سواء من المصرٌٌن أو األجانب ،وضمنهم ٌونانٌون ومالطٌون معروفون بمٌلهم
للشؽب وبسوء الخلق ،وكانت برٌطانٌا تعتبرهم رعاٌاها رؼم أنهم لٌسوا إنجلٌزا لٌكونوا عونا لها ،وفجؤة-
ٌحكً فارمان -تشاجر مالطً من الٌونانٌٌن مع مصري على مبلػ من الفلوس ،وسحب الٌونانً ،الذي ٌُقال
كان مخمورا ،السكٌن وضرب بها المصري فً بطنه ،وتسبب منظر المصري وهو ٌنزؾ الدم ومحموال
على ٌدي أصحابه ؼٌرة وؼضب األهالً الذٌن تجمعوا ودخلوا فً عراك مع الٌونانٌٌن والمالطٌٌن.
لم ٌكن المصرٌون ٌملكون إال النبابٌت والعصً ،وفجؤة دوى صوت الرصاص ،فقد فوجا المصرٌون
بؤن األجانب ٌملكون أسلحة نارٌة ،وٌطلقون الرصاص على المصرٌٌن العزل من أماكن عالٌة كالشبابٌك
واألسطح ،فثار لذلك ؼضب المصرٌٌن أكثر ،وقُتل فً الشؽب ٓ ٙأوروبٌا ،وأضعافهم من المصرٌٌن،
وافتحر أحد الٌونانٌٌن فً الٌوم التالً بؤنه قتل خمسة أفراد(.)ٕٕ8
لم ٌكن مصرحا لؤلهالً بحمل السبلح ،فلم ٌملكوا إال الهروات ،وفً المقابل ٌختزن الٌونانٌون أسلحة
نارٌة بإذن من القنصل بحجة أنها ضرورٌة لحماٌة أنفسهم ،ونتٌجة إلطبلق النار جن جنون المصرٌٌن
وتدفقوا إلى هذا الجانب من المدٌنة ٌقتلون بهراواتهم كل أوروبً ٌعثرون علٌه فً الطرٌق.
واضطر الجٌش المصري للتدخل ،فنزل جنود من القبلع الموجودة فً جزٌرة فاروس ودخلوا أحٌاء
اإلسكندرٌة ،وبمجرد نزولهم خؾ الشؽب بطرٌقة سحرٌة ,وهذه هً الرواٌة الصحٌحة ،بقدر اإلمكان ،لما
أطلق علٌه المإرخون مذبحة المسلمٌن للمسٌحٌٌن فً اإلسكندرٌة ...فً حٌن لم ٌطلق علٌها أحد فً األٌام
الثبلثة أي اسم سوى أنها كانت هٌاجا مإسفا خطٌرا بدأه أحد األجانب(.)ٕٕ9
ٌقصد فارمان أن من بعض الصحؾ األجنبٌة ؼٌرت الحقابق بعد وقت قصٌر ،فؤلقت بالذنب على
المصرٌٌن ،وصورتها على أنها همجٌة من المصرٌٌن ضد األجانب ،رؼم أن ما حدث هو العكس ،ورؼم
أن الحكومة بقٌادة عرابً سعت لوقؾ أي شحن بٌن المصرٌٌن واألجانب ،لكن الصحافة أصرت على
اختبلق حجج تبرٌر االحتبلل.
وٌضرب مثبل بؤن ظهرت هذه الفقرة فً جرٌدة الدٌلً نٌوز"" :أطلق األوربٌون النار من النوافذ ،وقتلوا
عددا كبٌرا من العرب الذٌن أحدثوا بدورهم أضرارا جسٌمة بٌن األوروبٌٌن فً الشوارع"(ٖٕٓ) ،ولكن بعد
أٌام قلٌلة بدأ تزوٌر التارٌخ واألحداث لتبرٌر التدخل اإلنجلٌزي ،فعندما عاد المراسلون األوروبٌون -الذٌن
()ٕٕ8
-مصر وكٌؾ ُؼدر بها ،مرجع سابق ،ص ،ٖٖٔ -ٖٕ9وأورد جون نٌنٌه فً برقٌاته لصحؾ أوروبٌة وقتها رواٌة مشابهة :انظر :رساٌل من
مصر ،جون نٌنٌه ،مرجع سابق ،ص ٖٖ8ٗ -ٖ8
()ٕٕ9
-مصر وكٌؾ ُؼدر بها ،مرجع سابق ،ص ٖٖٔ
(ٖٕٓ)
-نفس المرجع ،ص ٕٖٖ
٘ٗٙ
كانوا حضروا إلى مصر مع األساطٌل األجنبٌة -سرعان ما أصبح ٌطلق على الشؽب اسم "مذبحة" ٌرجع
السبب فٌها إلى تعصب المسلمٌن (أي المصرٌٌن) ،ولقد اشتطوا فً قولهم إلى حد اتهام عرابً ،دون أي
داع ،بؤنه هو الذي أوعز بهذا الشؽب إلى الؽوؼاء ،كما عمل على تنظٌمه.
وبحسب فارمان "اعتقد األوربٌون ]المقٌمون فً مصر[ األكثر ذكاء ،والذٌن كانوا ٌعرفون الحقابق ،أن
مصالحهم سوؾ ٌخدمها االحتبلل األجنبً ،ولذا شجعوا نشر هذه األنباء دون أن ٌنشروا على المؤل أي
اعتراض من جانبهم .وهكذا ٌُصنع التارٌخ"(ٖٕٔ).
ومن أدلة تعمد اإلعبلم األوروبً تضلٌل الرأي العام رواٌة ٌتذكرها القنصل األمرٌكً أنه بعد حدوث
الشؽب بؤسبوع قرأ "رواٌة ؼٌر صحٌحة بالمرة عن الحادث فً إحدى الصحؾ المشهورة فً لندن .ولما
كنت على معرفة بسٌطة بمراسل تلك الصحٌفة فقد سمحت لنفسً أن انتقد رواٌته هذه .وسؤلته :لِ َم أخفى
جزءا من الحقابق ووصؾ الشؽب بؤنه مذبحة دبرها المسلمون ]المصرٌٌن[ سلفا للمسٌحٌٌن ]األوروبٌٌن[
على حٌن أنه ٌعلم أن أحد الرعاٌا اإلنجلٌز قد بدأها ،وأن عدد القتلى من األهالً ٌفوق عدد األجانب"؟.
ولم تبدر أقل بادرة من اضطراب على المراسل .وأجاب فً برود إنه "فً مصر لؽرض ما ،وهو بهذا
ٌإدي الؽرض من مهمته .ثم ابتسم ورفع ٌدٌه فً وضع شخص ٌمسك بصحٌفة وٌقرإها ،وأضاؾ قاببل
وهو ٌمزح" :إننً أرسل برقٌة كل ٌوم إلى لندن ،وفً الصباح التالً ٌقرإها المشتركون فً الصحٌفة فً
جمٌع أنحاء إنجلترا وهم ٌحتسون قهوتهم بكل جد وثقة كما لو كانوا ٌقرأون اإلنجٌل(ٕٖٕ)".
قال الصحفً األوروبً إنه فً مصر "لؽرض ما" ،وهكذا دابما معظمهم فً مصر "لؽرض ما"،
وٌواصل فارمان ،أنه جرت محاولة جدٌة فً ذلك الوقت للحصول على دلٌل ٌبرهن على أن عرابً باشا
كان مسإوال عن حدوث هذا الشؽب ،وأنه نتٌجة لخطط رسمها هو وشركاإه ،وكان لدى الحكومة
اإلنجلٌزٌة من األسباب السٌاسٌة ما ٌجعلها ترؼب فً إثبات بعض األعمال اإلجرامٌة ضد هإالء ،ولذا
عٌنت محامٌا من اإلسكندرٌة وحصلت على بعض المعلومات ؼٌر الموثوق فٌها والملٌبة بالمتناقضات،
وخاصة من المالطٌٌن والٌونانٌٌن ،ودون أن تعثر على أي شًء ٌبرهن على هذا.
ووجه لورد جرانفٌل فً رسالة بعث بها نظر العمبلء البرٌطانٌٌن إلى الحصول على دلٌل ٌدٌن عرابً
والذٌن ٌعملون تحت إمرته ،ولكنهم عجزوا عن ذلك فتخلوا عن المهمة(ٖٖٕ).
فً المقابل ،رؼبت الحكومة فً مصر فً الحصول على تحقٌق فً الموضوع ،فكونت لجنة تحقٌق،
وعٌنت إنجلترا محامٌا إنجلٌزٌا لٌمثل حكومته فٌها ،وبمجرد أن ُعرؾ هذا النبؤ فً لندن بعث اللورد
(ٖٕٔ)
-المرجع السابق ،ص ٕٖٖٖٖٖ -
(ٕٖٕ)
-المرجع السابق ،ص ٖٖٖ
*** نفس األمر فً تزوٌر الحقابق فعلته الصحافة األجنبٌة فً الحدٌث عن ثورة ،ٔ9ٔ9وثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘ ،ٔ9ثم فً تزوٌر األحداث خالل
فوضى ٌناٌر ٕٔٔٓ حٌن اتهمت الجٌش والداخلٌة المصرٌٌن فً أحداث العنؾ التً وقعت حٌنها ،وفً ٌوم وقوعها وقبل أي تحقٌقات ،وكؤن
التقارٌر كانت معدة سلفا
(ٖٖٕ)
-مصر وكٌؾ ُؼدر بها ،ألبرت فارمان ،مرجع سابق ،ص ٖٖٕ
ٗٙٙ
جرانفٌل بتعلٌمات بؤن "ٌبتعد الممثلون اإلنجلٌز عن هذه اللجنة ،وانسحب الممثل الفرنسً كذلك ،وبدون
معونة هاتٌن الحكومتٌن لم ٌكن فً اإلمكان إنجاز أي شًء ،بحسب فارمان(ٖٕٗ).
وبسبب االمتٌازات األجنبٌة التً ٌتمتع بها األجانب لم ٌكن من المستطاع االستشهاد بؤجنبً أمام اللجنة،
كما لم ٌكن من المستطاع تفتٌش منازل األجانب للبحث عن األشٌاء المسروقة أثناء فترة الشؽب دون موافقة
القناصل ،ورفض القناصل إعطاء هذا اإلذن ،وهكذا منع اللورد جرانفٌل الوصول إلى مزٌد من التحقٌق فً
الموضوع.
وخبلل مرور شهر على الشؽب ،كان األجانب ٌهجرون المدٌنة ،وٌصعدون إلى أساطٌل ببلدهم
المرابطة عى الساحل بناء على نصابح قناصلهم الذٌن توقعوا ضربها بقنابل األسطول اإلنجلٌزي ،فً حٌن
ُترك المصرٌٌن فً المدٌنة "على عماهم" ولمصٌرهم دون تحذٌر.
وضرب األسطول البرٌطانً الراقد اإلسكندرٌة بالفعل بالمدافع فً ٔٔ ٌولٌوٕ ،ٔ88وتحجج اإلنجلٌز
بؤنهم اضطرو لهذا لعلمهم أن المصرٌٌن ٌصلحون الطوابً فً القبلع ،فظنوا أن المصرٌٌن سٌبدأون
بالهجوم وٌضربون األسطول ،وأنهم خافوا على الجالٌات األجنبٌة فً مصر من الجٌش المصري(ٖٕ٘).
كانت القبلع واالستحكامات المصرٌة على الشواطا قدٌمة ،معظمها ؼٌر معد لصد آالت الحرب
الحدٌثة ،وبعضها مبنً من الحجارة بحٌث أنها فً حد ذاتها خطر على الرجال الواقفٌن ورابها فً حالة أن
قذفت القنابل تلك الحجارة فتنهد علٌهم ،فً المقابل ٌقؾ فً البحر أقوى أسطول تجمع الرتكاب أعمال
عدوانٌة حتى وقتنا هذا ،كان هناك 8مدرعات و٘ سفن مبنٌة من الخشب ،والسفن مسلحة بمدافع زنة كل
منها ٓ 8طنا ،وتستطٌع أن تقذؾ قنابل تزن ٓ ٔ9رطبل مدى خمسة أمٌال(.)ٕٖٙ
هرع إلى الحصون "عدد وفٌر من الشباب وأطفال البلد المتطوعٌن بدافع من حب الوطن وكراهٌة
األجنبً ،مفعمون باإلرادة القوٌة والمهارةٌ ،قومون بواجبهم كالجنود الفعلٌٌن"(.)ٕٖ9
وفً الساعة 9صباحا انطلقت إشارة بداٌة الضرب اإلنجلٌزي ،وردت علٌها القبلع بإطبلق النار على
الفور ،وٌضٌؾ فارمان وهو ٌستعٌد المشهد حٌن كان على متن إحدى السفن التً احتمى بها األجانب على
الساحل" :كان الخبراء العسكرٌون ٌتوقعون إسكات المدافع المصرٌة خبلل ساعة واحدة ،وكان من المعتقد
أنه من المستحٌل بالنسبة ألٌة قوات تقبع فً مثل هذه االستحكامات أن تتحمل ،ولو لفترة وجٌزة ،مثل هذا
السٌل الجارؾ من القنابل التً تلقٌها سفن األسطول علٌهم ،وخبلل حدٌث دار بٌنً وبٌن الجنرال ستون منذ
أٌام خلت ،سؤلته عن الوقت البلزم لؤلسطول إلسكات مدافع القبلع ،وبعد تفكٌر دام بضع لحظات أجاب
قاببل" :حوالً ثبلثٌن دقٌقة" .ولكن الجمٌع منو بخٌبة األمل".
(ٖٕٗ)
-نفس المرجع ،ص ٖٖٗ
(ٖٕ٘)
-دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً ،أحمد رشدي صالح ،الفصل الخاص بترجمة كتاب االستعمار البرٌطانً فً مصر،مرجع سابق ،ص ٗٔ
()ٕٖٙ
-مصر وكٌؾ ُؼدر بها ،مرجع سابق ،ص ٖٖٕٔٗٗ -
()ٕٖ9
-رسابل من مصر ،جون نٌنٌه ،ص ٕٖ9
ٗٙ7
فقد أمطرت الـ ٖٔ سفٌنة الرجال البواسل فً قبلعهم بوابل من القنابل المتفجرة حتى وصل عددها إلى
أكثر من ٖ آالؾ قنبلة ،وكان فً مقدرونا أن نرى االنفجارات بوضوح ،وكنا نراقبها فً شؽؾ من سفننا،
وكانت تنفجر أحٌانا فً الهواء قبل مٌعادها ،وأحٌانا كان تنفجر فوق رءوس العرب فً االستحكامات فتبعثر
أشبلبهم فً كل مكان ,وكان البعض اآلخر ٌدخل فً األرض على عمق كبٌر أو فً البناء ،ثم ٌنفجر هناك،
فٌرسل بسحب من الؽبار واألنقاض تاركا خلفه أخادٌد كبٌرة ،لقد أذهلتنا شجاعة العرب ]المصرٌٌن[ وهو
ٌصوبون مدافعهم؛ إذ بعد أن ٌنقشع الؽبار والدخان المتصاعد من القنابل المتفجرة التً تترك كل ما حولها
حطاما كانت تتصاعد سحابات صؽٌرة من الدخان من فوهة مدفع قرٌب ٌدل على أن األحٌاء من الجنود ما
زالوا متشبثٌن بمراكزهم(.)ٕٖ8
واستمر القتال من الساعة 9الصبح لحد الساعة ٘ فً اللٌل ،أي ٓٔ ساعات ،بعد ما كان القابد
اإلنجلٌزي ٌتوقع أن تسكت المدافع المصرٌة خبلل نصؾ ساعة فقط.
تسببت القنابل اإلنجلٌزٌة الحدٌثة فً إبادة بعض القبلع بما فٌها من الجنود ،مثل قلعة عدا ،وظلت
المدافع اإلنجلٌزٌة تضرب القبلع المصرٌة لمدة ساعة إضافٌة لتتؤكد أنه لم َ
ٌبق جندي حً ،وجاءها الرد
بالسكوت من بعد الساعة ٘ على مدافعها وهً ترمً القنابل على القبلع المدمرة.
وكان ٌوجد فً القبلع حوالً ٓٓ٘ٔ مقاتل ،مات ]استشهد[ أؼلبهم فً مراكزهم( ،)ٕٖ9وفً المقابل قتل
من اإلنجلٌز ٙأشخاص وأصٌب ٕ9بسبب قوة تحصٌناتهم فً السفن والمدرعات.
وعلق فارمان على فرحة اإلنجلٌز بهذا "اإلنجاز" الدموي بقوله ":لٌس هناك من شك فً شجاعة القوات
اإلنجلٌزٌة ،ولكن متى وأ َّنً وقفوا عند مدافعهم لكً ٌُذبحوا كما وقؾ هإالء الرجال؟(ٕٓٗ)" ،فً إشارة إلى
ثبات الجنود المصرٌٌن لساعات طوٌلة.
وٌبدي جون نٌنٌه تعجبه" :شاهدت كل ما ٌجري ( )...ولكن أعتقد ما ال ٌمكن وصفه هو القصؾ
الوحشً ،وبدون حاجة إلٌه ،على قبلع ُدمرت منذ وقت طوٌل ولم تعد صالحة ألي شًء"(ٕٔٗ).
ال داعً للدهشة ٌا نٌنٌه :إنه الؽل األسود ..كٌؾ ٌجرإ الفبلح على رفع رأسه ثم رفع سبلحه لٌخلص
مصر (كلمة الحق المجسدة على األرض) من قرون الشٌطان ..فٌعود الفبلح سٌدا!
باإلضافة إلبادة مبات الجنود فً القبلع شقت القنابل طرٌقها لداخل أحٌاء اإلسكندرٌة ،وأحرقت الكثٌر
من مبانٌها ودمرتها ،وبعدها اشتعل حرٌق آخر ،وانتشر النهب ،وكان ضرب اإلسكندرٌة بالقنابل "إحدى
()ٕٖ8
-مصر وكٌؾ ؼدر بها ،مرجع سابق ،،ص ٕٕٖٖٗٗ -
()ٕٖ9
-نفس المرجع ،ص ٖٖٗ
(ٕٓٗ)
-نفس المرجع ،ص ٖٗٙ
(ٕٔٗ)
-رسابل من مصر ،جون نٌنٌهٖ89 ،
ٗٙ8
النكبات الكبرى فً القرن التاسع عشر" ،وطبقا لما نشرته التقارٌر الرسمٌة ُقتل حوالً ٕٓٓ من السكان
العزل من السبلح بواسطة هذه القنابل ،ولم ٌدرك الفقراء الخطر الذي ٌحٌق بهم إال حٌنما بدأت القنابل
الطابشة تتساقط فً وسطهم ،وحٌنبذ شرعوا فً الهروب ،وسرعان ما عمت حركة الهجرة من المدٌنة ،وقد
تشبث الكثٌرون حتى فً هذه الساعة الرهٌبة بحمل ممتلكاتهم الضبٌلة(ٕٕٗ).
فرَّ المصرٌون مشتتٌن كؤنهم فً ٌوم القٌامةٌ ،جرون بهلع وسط القنابل وأصواتها الشٌطانٌة التً تزلزل
المدٌنة وٌسمعونها ألول مرة ،كؤنها القارعة ،والنساء واألطفال ٌصرخون ،والمرضى وكبار السن
والحوامل ٌتساقطون ،وتتعثر األم التً تحمل رضٌعها على كتفها ،وذلك دون أن ٌوفر لهم أحد وسابل
المواصبلت المناسبة ،أو ٌهٌؤ لهم مبلجاٌ ،هتفون "الموت لئلنجلٌز" ،واحتشد معظمهم فً صحراء ضاحٌة
الرمل لمدة ٙأٌامٌ ،كتوون بحرارة رملها فً عز شمس ٌونٌو ،وٌنقل جون نٌنٌه -كشاهد عٌان -مشاهد
لبعضهم ممن تراصوا عند ترعة المحمودٌة" :بعد ظهر ٌوم ٖٔ توجهت إلى اإلسكندرٌة فً الننش بخاري
بحصبة حراسة ألن هٌجان الشعر المعسكر بدون مؤوى ،وبدون خبز على ضفاؾ قناة المحمودٌة ال ٌبعث
على الطمؤنٌنة ،مذابح كثٌرة ومشاجرات عدٌدة ،البد من أن تحدث" ،أما عن المبانً" :أجمل الشوارع
وأجمل القصور التً شٌدها أكبر المالٌٌن إلسماعٌل باشا أصبحت أطبلال ٌنعبث منها الدخان"(ٖٕٗ).
تراصوا على ضفة ترعة المحمودٌة المدفون تحت ترابها آالؾ من آبابهم خبلل حفر الترعة أٌام محمد
علً ،والقصور التً بناها محمد علً وأبناإه من أموالهم انهارت ترابا ،لكً ٌؤخذ المحتل الجدٌد من
عروقهم دماء وأموال جدٌدةٌ ،سلمونها إلى شركات المقاوالت األجنبٌة من جدٌدٌ ،بنون بها قصورا جدٌدة
باإلسكندرٌة باسم "إعادة اإلعمار" ..هذه الكلمة التً ستتردد كثٌرا فً العالم فٌما بعد كلما دمَّر االحتبلل
والمؽتصبون مدٌنة ما -عمدا -ثم ٌسلم عقود "إعادة اإلعمار" لشركات تابعة له ..فبل تتوقؾ مصانع السبلح،
وال مصانع األسمنت.
وٌسجل عرابً فً مذكراته أن حكومة الثورة رؼم انشؽاالتها بصد الؽزاة إال أنها بذلت وسعها للتخفٌؾ
عن المصرٌٌن المشردٌن ،فصرفت لهم الجراٌات والقمح ومرتبات ٌومٌة ،وفتح لهم بعض األعٌان منازلهم
لمن توجه منهم إلى األرٌاؾ ،وأنه تسابق الناس على إعانة إخوانهم المهاجرٌن(ٕٗٗ).
وعند رجوع األهالً من الصحراء كانوا عبارة عن سٌل متدفق من اإلنسانٌة المعذبة ،وكلهم ٌرتدون
مبلبس بسٌطة تعلوها القذارة والؽبار ،حفاة األقدام شبه عراة ،والنسوة ٌحملن أطفالهن الرضع بٌن
أذرعهن ،بٌنما أطفالهن ٌسٌرون متثاقلٌن وهم نصؾ عراة بجوارهن ،والرجال والنساء الشٌوخ والشباب
ٌحملون ما بقً لهم من متاع(ٕ٘ٗ).
وٌصور شولش الموقؾ" :ؼادر الكثٌر من األوروبٌٌن مصر ،واستعد الشوام والشراكسة واألتراك وبعض
(ٕٕٗ)
-المرجع السابق ،،ص ٘ ،ٖ89 -ٖ8مصر وكٌؾ ؼدر بها ،ألبرت فارمان ،ص ٖ٘ٗ و ،ٕٗ9ؤٖ٘
(ٖٕٗ)
-رساٌل من مصر ،جون نٌنٌه ،ص ٖ88 -ٖ89
(ٕٗٗ)
-مذكرات الزعٌم أحمد عرابً ،جٕ ،مرجع سابق ،ص ٙٗ9
(ٕ٘ٗ)
-مصر وكٌؾ ؼدر بها ،مرجع سابق ،ص ٕٖ٘
ٗٙ9
األعٌان للفرار ،ففر عبد السبلم الموٌلحً "البطل القومً ومٌرابو مصر" إلى سورٌا ،أما المصرٌون فقد
بقوا فً ببلدهم(.)ٕٗٙ
كان فً سفٌنة أعدها لها قابد األسطول اإلنجلٌزي سٌمور ،قضى أصعب األٌام فً حماه ،ثم عاد إلى
قصر رأس التٌن فً حً الرملٌ ،قول نٌنٌه إنه سمع هتافات من مهاجرٌن بإساء حٌن كان ٌمر توفٌق
أمامهم فٌصٌحونٌ" :عٌش عرابً وٌسقط توفٌق"(.)ٕٗ9
وأصدر أوامره لعرابً بالتصدي لئلنجلٌز وبؤال ٌسمح لهم بالنزول لئلسكندرٌة -وهو ما وصفه عرابً
فٌما بعد بؤن موقؾ توفٌق المعادي لئلنجلٌز كان خدعة -وبعد ما فعل عرابً ما فً وسعه لمنع ذلك ،اعتبره
الخدٌوي السبب فً االحتبلل ألنه لم ٌقاوم األسطول اإلنجلٌزي كما ٌجب ،وأصدر السلطان عبد الحمٌد
الثانً قراره باعتبار عرابً "خابنا" ،فً حٌن أن كل من الخدٌوي والسلطان لم ٌسعٌا لمقاومة االحتبلل
اإلنجلٌزي بخطوات جدٌة كما فعل عرابً والجٌش والمصرٌٌن عموما ،بل إن كان قرار عبد الحمٌد بؤن
عرابً "خابن" للخلٌفة وشرٌعة اإلسبلم بتحرٌض اإلنجلٌز أنفسهم ،فمن ٌكون الخابن؟
وفً هذا ٌقول فارمان" :ثم بذل اإلنجلٌز جهودا عنٌفة فً كل من القسطنطٌنٌة ومصر لكً ٌُعلن رسمٌا
أن عرابً خابن ،وكان هذا فً رأٌهم ضرورٌا لئلبقاء على أسطورة صداقتهم للخدٌوي ،وأنهم قد جاءوا
لتؤٌٌده.
انشؽل عرابً والجٌش فً مواجهة الجٌش اإلنجلٌزي فً كفر الدوار لمنع تقدمه إلى القاهرة ،حٌنها،
ٌقول جون نٌنٌه " :أسمع من حولً لعنات تنصب على توفٌق الذي تسبب فً هجرة ٓ ٙألفا من سكان
اإلسكندرٌة ٌعٌشون على كرم الفبلحٌن! فلٌشنقوه! صاحت النساء بذلك ،وهن نابمات فً الطرٌق ،وهن
مجردات من كل شًء ،سمع عرابً باقتراحهن ،فً ٌوم الجبلء عن اإلسكندرٌة ،بٌنما الخدٌو ٌلوذ محتمٌا
فً الرملة كان ٌسهل أسره! كبل اتركوه لمصٌره ،نحن مصرٌون فبلحون وجنود ،ولسنا مؽتالٌن أو
سفاحٌن"(.)ٕٗ8
أضاع عرابً فرصة جدٌدة للتخلص من الدمٌة الحمقاء ..األولى فً وقفة عابدٌن حٌن كان توفٌق ٌقؾ
مذعورا وسط حامٌته من القناصل ،والثانٌة وهو فً قصر رأس التٌن -خصوصا قبل أن ٌنزل اإلنجلٌز
لئلسكندرٌة ...لماذا دابما نترك المحتلٌن "لمصٌرهم" حٌن ٌقعون فرٌسة فً أٌدٌنا؟ ها نحن نترك توفٌق
لمصٌره ،وكذلك سنترك ابن أخٌه فاروق ..لم نعاقب محتبل عقابا حقٌقٌا منذ أن طردنا الهكسوس ..توقفنا
من ٌومها عن أن نكون مقبرة للؽزاة ..صرنا مؽنما وفرصة لؤلجانب فً االحتبلل والنهب والقتل
واإلذالل ..ثم النجاة.
()ٕٗٙ
-مصر للمصرٌٌن أزمة مصر االجتماعٌة والسٌاسٌة ،ٔ88ٕ -ٔ898ألكسندر شولش ،مرجع سابق ،ص ٕٕ9
()ٕٗ9
-رسابل من مصر ،جون نٌنٌه ،ص ٖ88
()ٕٗ8
-رسابل من مصر ،جون نٌنٌه ،ص ٖ٘9
ٓٗ7
فً كل األحوال ،هذه اللحظات رفرفة أخرى لـ ماعت ،صحٌح لحظات ستكون قصٌرة ،لكنها ؼالٌة جدا،
أول مرة منذ األسرة ٕٔ تحكم مصر نفسها ،إن من ٌقودها حقا فً هذه اللحظات هم من أبناءها الذٌن ال
ٌضعون فً اعتبارهم شٌبا إال إرادة الفبلح المصري ،ال ٌنتظرون إذنا وال أمرا من خدٌوي أو والً فً
الداخل وال سلطان أو إمبراطور أو خلٌفة فً الخارج ،مصر فً هذه اللحظات حرة ...تتنفس هواءها.
ٌقول نٌنٌه حٌنها" :مصر تنقاد بمفردها ،بحكمة ونزاهة ،بداٌة من حدودها هذه وحتى السودان(.")ٕٗ9
من ٖٓٓ٘ سنة وصؾ أحمس تبلحم المصرٌٌن مع جٌشهم فً حرب التحرٌر لطرد الهكسوس خبلل
المعارك النهرٌة وكٌؾ كان الناس على الضفتٌن الشرقٌة والؽربٌة للنٌل ٌتطوعون بكل شًء لتحرٌر
مصر" :لقد هبطت النٌل بقوتً لطرد اآلسٌوٌٌن بؤمر آمون ذي الرأي السدٌد ،كان الشرق والؽرب
ٌحضرون الدهن والنبٌذ ،والجٌش ٌزود باإلمدادات من كل مكان"(ٕٓ٘).
ٌقول عرابً إن الحرب لما قامت لم ٌكن فً خزابن الحكومة درهم وال دٌنار؛ ألن المراقب اإلنجلٌزي
كولفن أخذ األموال الموجودة فً الخزنٌة وأنزلها الدونمة اإلنجلٌزٌة قبل إعبلن الحرب بؤٌام ،وكذلك
األموال الموجودة فً صندوق الخزٌنة العمومً حملها أعضاء قومسٌون الصندوق إلى المراكب الحربٌة.
ففرض المجلس الوطنً الذي شكله قادة الثورة على كل فدان ٓٔ قروش لتموٌل الحرب ،ومن شاء أن
ٌتبرع بشًء إعانة إلخوانهم المجاهدٌن للدفاع عن الوطن ٌكون مشكورا ،فإذا باألمة تؤتٌه بالمال والؽبلل
والنخٌل والجمال واألبقار والجوامٌس واألؼنام والفاكهة والخضروات حتى حطب الحرٌق ،و"منهم من
تبرع بنصؾ ما ٌمتلكه من الؽبلل والمواشً ،ومنهم من خرج عن جمٌع ما ٌمتلكه ،ومنهم من عرض
أوالده للدفاع عن الوطن العزٌز لعدم قدرته على القتال بنفسه ،وفً الجملة فإن األمة المصرٌة قدمت من
التبرعات والكرم وأظهرت من الؽٌرة الوطنٌة ما لم ٌسبق له مثٌل فً القرون الخالٌة"(ٕٔ٘).
وٌعلق د .عبد المنعم الجمٌعً ،محقق مذكرات عرابً ،بؤنه "األمة المصرٌة أمدت ثوارها بسخاء من مال
وعتاد ورجال ،وق َّل أن نجد فً تارٌخ الحروب حربا كهذه الحرب التً لم ٌُنفق فٌها قرش واحد من خزابن
الدولة ،وقامت على ما بذله الشعب طابعا من أقواته وأمواله ودماء رجاله(ٕٕ٘)".
ولم تكن الخزٌنة خالٌة من المال فقط ،بل إن الجٌش شبه خالً من الجنود المدربٌن مقارنة بجٌش اإلنجلٌز،
فكان فٌه قبل الحرب ٓٔ آالؾ ،فاستنفر عرابً الناس بمنشور لٌمدوا الجٌش بالرجال باسم "الخدمة
()ٕٗ9
-رسابل من مصر ،جون نٌنٌه ،ص ٖ٘9
(ٕٓ٘)
-نفس المرجع ،ص ٖٙ
(ٕٔ٘)
-مذكرات الزعٌم أحمد عرابً ،جٕ ،مرجع سابق ،ص ٗٓٙ
(ٕٕ٘)
-نفس المرجع ،هوامش ص ٗٓٙ
ٔٗ7
الوطنٌة الشرٌفة"(ٖٕ٘).
ٌسجل نٌنٌه إنه "مع قصؾ اإلسكندرٌة استٌقظت األمة المصرٌة ،ولم تكن هناك إال صرخة واحدة على
مدى ٓٗ ٌوما ضد الخدٌو الذي استسلم لؤلجانب ،مبلٌٌن العمال المتطوعٌن أقاموا خطوط دفاع ونفذوا
بحماس استثنابً أعماال هابلة ( )...لم ٌكن أحمد عرابً مرهقا ،فً المدٌرٌات تتوالى التطوعات بمحض
اإلرادة ،والجنود القدماء انضموا إلى فرقهم ،كانت الهبات كلها عٌنٌة تنهمر من كل نوع ،خٌول وبؽال
ودواب باآلالؾ ،وأكثر من ربع ملٌون قنطار من الؽبلل ،وصلت ٖ مبلٌٌن فرنك من الذهب إلى وزارة
الحربٌة بالقاهرة ( )...فً دمنهور ٌوجد ٖٓ ألؾ من الفرق النظامٌة من كل األسلحة وعدد من البدو مشاة
وفرسان ( )...أرسل أحد األعٌان المسٌحٌٌن ٓٓٔ حصان و ٕٓٓ٘ أردب قمح ،وأرسل األكلٌروس القبطً
إلى نجاشً الحبشة وفدا ٌطلب منه عدم قبول أي تحالؾ ٌعرضه علٌه اإلنجلٌز ،تعاون بعض تجار دمنهور
فً إرسال قافلة من ٓٓ٘ حصان إلى وزٌر الحربٌة ،أجرٌت تحصٌنات هابلة حول دمنهور وكفر الدوار
والزقازٌق وبنها ،فً القاهرة العمل ٌجري على قد وساق ،قام ٘ٔ ألؾ من صؽار الفبلحٌٌن ،منهم صبٌة
وبنات ،لمدة 9أٌام فً إقامة التحصٌنات فً بوالق والجٌزة وشبرا والمقطم والعباسٌة وعٌن شمس ،وتم
تسلٌحها بمدافع كروب ذات عٌار كبٌرٌ ،ثق الشعب فً عرابً ورجاله ثقة عمٌاء ،بالرؼم من الضرابب
ك أحد ولم ٌتنصل أحد ولم التً تشكل عببا ثقٌبل وتثقل كاهل الشعب والتً أعاقت تجارته وصناعته ،فلم ٌش ُ
ٌنس أحد أن هناك تضحٌات البد من تحملها ،وآالم قاسٌة من أجل تحقٌق هذا الهدؾ ،فً كل مكان
الموضوع الذي ٌتحدث فٌه الناس هو حرب اإلنجلٌز وطاعة محرري الوطن ،فً قلعة القاهرة ٌستمر العمل
لٌبل ونهارا ،حوالً ألفً عامل ٌقومون بصناعة الخراطٌش ،سبك المدافع ،ولسوء الحظ فإن القطع التً
ٌتسنى لسبلح المدفعٌة صناعها ضعٌفة العٌار ،ثكنات العباسٌة حافلة بالمتطوعٌن ٌتدربون ٌومٌا فً المٌدان
الفسٌح للمناورات ،وطلبة جامع األزهر كلهم تقرٌبا متطوعون وٌقٌمون فً ثكنات جزء فً قصر النٌل
واآلخر فً القلعة ( )...هإالء الذٌن رأوا منذ ٙأشهر الشعب المصري الطٌب جدا ،الصبور جدا ،ال
ٌعرفونه الٌوم"(ٕ٘٘).
ما هذا؟ وكٌؾ هذا؟ ألٌس هذا الشعب هو من كان ٌفقؤ عٌنه وٌقطع إصبعه كً ال ٌذهب للتجنٌد؟ ألٌس هو
من ٌتحمل سلخ ظهره حتى ال ٌُخرج قرشا ٌنزعه جباة الضرابب ظلما منه؟ ألٌس هو الذي كان ٌختبا فً
المقابر والجبال حتى ال ٌذهب للعمل فً السخرة ببل أجر؟ كٌؾ إذن ٌقدم قروشه الكثٌرة أو القلٌلة وٌتطوع
(ٖٕ٘)
-نفس المرجع ،ص ٕٓٙ
(ٕٗ٘)
-األؼنٌة الوطنٌة الشعبٌة ،عصام ستاتً ،موقع مجلة روزالٌوسؾٕٓٔٗ -9 -ٗ ،
(ٕ٘٘)
-رسابل من مصر ،جون نٌنٌه ،ص ،ٖ98 -ٖ9ٙوٕٓٗٗٓٗ -
ٕٗ7
بإراداته للجٌش اآلن؟ كٌؾ ٌهرول الفتٌات والصبٌان للقٌام بؤعمال شاقة تطوعٌة فً بناء الحصون والقبلع
وٌرفضون أن ٌؤخذوا أجرا إذا عُرض علٌهم؟ ..هنا الثورة المصرٌة إذن ..لقد وجد روحه ،وجد قضٌته
وكٌانه وكبرٌاءه ..وجد مصرٌته.
أمٌرات عابلة الخدٌوي وسٌدات العاببلت الكبٌرة بعضهن انضممن للعمل فً تضمٌد جراح المصابٌن،
ووالدة إسماعٌل قدمت الخٌول ،أمراء أعلنوا أنهم موالون للحزب الوطنً ،وأدوا ٌمٌن الوالء علنا لحكومة
الدفاع الوطنً أمام جمع ؼفٌر ،وأرسل األمٌر حلٌم باشا من القسطنطٌنٌة انضمامه إلى لجنة القاهرة
المركزٌة( . .)ٕ٘ٙهإالء ٌؤملون أن انتصار عرابً ٌإدي لخلع توفٌق ...ال لٌؤتً الفبلحون حكاما ،ولكن
بعضهم على أمل أن ٌؤتً حلٌم الذي نفاه إسماعٌل ،والبعض اآلخر على أمل أن ٌتهٌؤ الجو لعودة إسماعٌل
نفسه ..كل ٌؽنً على لٌبله.
الدوار كشؾ توفٌق انحٌازه لئلنجلٌز ،أرسل لعرابً منشورا بؤنه السبب فً حرق
فً عز معركة كفر َّ
ونهب اإلسك ندرٌة ،وأن اإلنجلٌز لم ٌخطبوا بضربها بل كان رد فعل على أفعال عرابً ،ثم عزله ،وبعث
لمدٌري المدٌرات بالكؾ عن إرسال الجند والمإن والضراٌب لعرابً ،ومن ٌفعل هذا ٌُعاقب ،ومن ٌدفع
لعرابً ضرٌبة لن ٌُعترؾ بها وستإخذ منه ضراٌب مساوٌة لها ،أرسل عرابً المنشور إلى ناببه ٌعقوب
سامً فً القاهرة ،وطلب منه جمع العلماء ورإساء األزهر والكنٌسة والتجار واألعٌان للتشاور ،شكلوا
مجلسا إلدارة الببلد بعد أن رفض الخدٌوي ومجلس النظار العودة للقاهرة ،وطلب الشٌخ محمد عبده عزل
الخدٌوي ،فانقسمت اآلراء ،معظم من فً المجلس أتراك وشراكسة ،نادر منهم من قبل عزل الخدٌوي،
والبقٌة تحدثوا عن "الشرعٌة" -هكذا ورد باللفظ -أي شرعٌة الخدٌو وأنه ال ٌُعزل إال بؤمر السلطان،
وتمسك محمد عبده والضباط المصرٌون بـ"الشرعٌة الثورٌة" وعزل الخدٌوي.
نما لعلم عرابً أن االجتٌاح الحقٌقً للقوات اإلنجلٌزٌة سٌكون من الشرق ،معززٌن بمدد كبٌر من
القوات الهندٌة القادمة لتعبر قناة السوٌس إلى القاهرة ،بعث قوة تسعى لصد هذا الؽزو ،وأرسل عرابً عدة
رسابل إلى دٌلٌسبس ]سمسار الدٌون[ بشؤن ردم قناة السوٌس لؽلق الطرٌق أمام االجتٌاح اإلنجلٌزي ،ولكن
دٌلٌسبس أخبره بؤن القناة "محاٌدة" ،وال ٌمكن لئلنجلٌز أن ٌعبروها(.)ٕ٘9
ولزٌادة التؤمٌن كلؾ عرابً أحد ضباطه ،وٌدعى علً ٌوسؾ الخنفسٌ ،روح التل الكبٌر إلقامة
االستحكامات فً المكان الذي ٌعتبر أسهل نقطة لمرور االحتبلل إلى القاهرة من جهة القناة ،لكن بعد أن
وصلت أخبار استسبلم الخدٌوي لئلنجلٌز ظهرت خٌانة من ذلك الضابط الذي أرسل لئلنجلٌز فً
()ٕ٘ٙ
-المرجع السابق ،ص ٖ99
()ٕ٘9
-نصوص الرسابل المتبادلة بٌن عرابً ودٌلٌسبس موجودة فً كتاب "التارٌخ السري لبلحتبلل اإلنجلٌزي لمصر ..رواٌة شخصٌة لؤلحداث"،
ولفرٌد سكاون بلنت ،مرجع سابق ،ص ٖٙ99 -ٙ9
ٖٗ7
اإلسكندرٌة بؤنه مستعد أن ٌُخلً مركزه فً التل الكبٌر ،وقدم لهم معلومات عن حالة االستحكامات ،وهرب
عن طرٌق قناة السوٌس.
لم ٌكن خنفس وحده الخابن ،ففً عز التحام المصرٌٌن مع اإلنجلٌز فً موقعة القصاصٌن ٕ8أؼسطس
السابقة على التل الكبٌر أرسل السلطان عبد الحمٌد الثانً بتحرٌض من دوفرٌن سفٌر إنجلترا فً األستانة
منشورا بؤن عرابً ومن معه "عصاة لٌسوا على طاعة الدولة العلٌة السلطانٌة"؛ ألنه "استبد برباسة
العساكر المصرٌة بدون حق" ،و"تهدد أساطٌل دولة حلٌفة للدولة العلٌة السلطانٌة" ،أي األسطول
اإلنجلٌزي ،وأن "الوكٌل الشرعً" للسلطان فً مصر هو توفٌق ،وعلى "سكان األقطار المصرٌة حال
كونهم رعٌة موالنا وسٌدنا الخلٌفة األعظم أن ٌطٌعوا أوامر الخدٌو المعظم الذي هو فً مصر وكٌل
الخلٌفة" ،وتلقفه توفٌق لٌصدر منشورا بؤن اإلنجلٌز لم ٌؤتوا لحرب على مصر ،فبل داعً لمحاربتهم ،بل
جاءوا لمساعدة الخدٌوي نابب السلطان ضد العصاة ،وسٌؽادرون ،فوهنت عزابم البعض ،وأرسل توفٌق
وسلطان باشا وعلً لطفً وؼٌرهم أتباعهم بمبات آالؾ المنشورات ٌوزعونها بٌن الضباط والجنود وفً
األرٌاؾ ،وقال عرابً" :وانضم إلٌهم فً هذه الخٌانة السٌد أفندي الفقً من مدٌرٌة المنوفٌة ،وأحمد أفندي
عبد الؽفار عمدة تبل ومحمد الشواربً (ناببان فً مجلس النواب) وؼٌرهم ممن "خفقت قلوبهم من منشور
السلطان" ،وأنه بتعمٌم هذه المنشورات فً معركة التل الكبٌر وقرأها الضباط والجنود "ضعفت عزابمهم
ووهنت قواهم فعم االختبلل وساد على عقولهم االرتباك".
وألحوا بهذه المنشورات على كبار رجال الجٌش للضؽط النفسً علٌهم ،فقد صار بذلك السلطان
العثمانلً والخدٌوي وأكابر أعضاء مجلس النواب الذي استبشر به الناس وكانوا مع عرابً ،كل هإالء
صاروا ضده ،وأثر هذا على أداء بعض الضباط فً معركة التل الكبٌر ،فمنهم من ارتبك ولم ٌتح له تسارع
األحداث وحالة المٌدان أن ٌصل لرأي ،ومنهم من استخسروا أرواحهم فً أن تموت "عاصٌة" ،وبعض
ضعاؾ النفوس سال لعابهم للمكافبات المنتظرة لمن ٌستجٌب للسلطان والخدٌو.
وٌواصل عرابً أن ممن تؤثروا علً ٌوسؾ (الخنفس) وأحمد عبد الؽفار قومندان السواري وعبد
الرحمن حسن وحسن رأفت ،وأشاع الخنفس فً ٌوم ٖٔ سبتمبر أن جواسٌسه أخبروه أن اإلنجلٌز لن
ٌخرجوا الٌوم من مراكزهم ،فلم ٌقوم باالستحكامات التً أمره بها علً الروبً ،فً حٌن كانت عساكر
اإلنجلٌز تتقدم ومعهم ضباط أركان حرب انحازوا للخدٌوي وعربان الهنادي ٌرشدونهم للطرٌق ،وتركهم
الخنفس ٌمرون ببل مانع ٌمنعهم ،وسلمهم خرٌطة أماكن تمركز عرابً والجنود ،وانهالوا على الجنود
والضباط الراقدٌن لٌبل بالمدافع(.)ٕ٘8
واستٌقظ عرابً والجنود فجؤة على صوت المدافع ،وقابلها الجنود قلٌلً العدد بطلقات الرصاص
الضعٌفة ،ورؼم هذا قتلوا من اإلنجلٌز ٘8شخصا ،بٌنهم ضباط ،وفً المقابل استشهد من المصرٌٌن
()ٕ٘8
-مذكرات الزعٌم أحمد عرابً ،جٕ ،مرجع سابق ،ص ٗ 9ٓ٘ -ٙ8ؤٖ9
ٗٗ7
ٕٕٓٓ جندٌا ومتطوعاُ ،ذبحوا دون تمٌٌز بواسطة القوات الهندٌة( ،)ٕ٘9بخبلؾ عدد كبٌر استشهد متؤثرا
بجروحه فً وقت الحق ،ولم ٌكن من العجٌب أن تلتزم التقارٌر الرسمٌة اإلنجلٌزٌة التً نشرت الصمت
إزاء الخسابر من األهالً ،ذلك أنها كانت مذبحة ال معركة(ٓ.)ٕٙ
قاتل محمد عبٌد وسط جنوده حتى استشهد ،واستحق البطولة بدفاعه فً التل الكبٌر ،بعد أن كان سببا فً
أول نصر لجٌش الفبلحٌن الحدٌث على أعدابه حٌن خلَّص عرابً وعلً فهمً وعبد العال حلمً من قبضة
الشراكسة فً قصر النٌل ،وكما لم ٌتؤثر بتهدٌدات الشراكسة ،لم ٌتؤثر بمنشورات العثمانلً وال الخدٌوي،
وقاتل اإلنجلٌز قتاال مجٌدا على رأس آالٌٌن من الجنود حتى قُتل معظمهم وقتل هو معهم ،فختم حٌاته
بصفحة مشرفة فً تارٌخ الثورة ،وٌلً محمد عبٌد فً البسالة حسن رضوان قومندان الطوبجٌة الذي أصلى
اإلنجلٌز نارا حامٌة بمدافعه(ٔ.)ٕٙ
شوؾ البطل
وثبت البعض مثل عبٌد ومن معه ،لكن تشتت كثٌرون ،وٌقول عرابً إنه ظل ٌنادٌهم وٌذكرهم بشرؾ
الدفاع عن الدٌن والوطن ،فلم ٌسمعوا له ،خشوا أن ٌكونوا من "العصاة" ،وٌموتوا على ؼٌر اإلسبلم!
اشتهرت هذه العبارة بعد "الكسرة التقٌلة" فً التل الكبٌر ،وربما كلمة "ولس" ،جاءت من الكلمة الشعبٌة
()ٕ٘9
*** -ربما من هنا جاء فً أؼنٌة "مصر تتحدث عن نفسها" التً ألفها حافظ إبراهٌم وشدت بها أم كلثوم:
أمضً من كل أبٌض هـندي إنمـا الحــق قــوة من قـوى الدــٌان
أي الحق أقوى من كل إنجلٌزي وهندي ،فً إشارة للهجوم اإلنجلٌزي الهندي على المصرٌٌن خبلل الؽزو اإلنجلٌزي( .مجرد استنتاج)
(ٓ)ٕٙ
-مصر وكٌؾ ؼدر بها ،ص ٖ٘9 -ٖ٘8
(ٔ)ٕٙ
-انظر :مذكرات الزعٌم أحمد عرابً ،هوامش المحقق ص ٕٓ ،7والثورة العرابٌة واالحتالل اإلنجلٌزي ،عبد الرحمن الرافعً ،دار المعارؾ،
طٗ ،ٔ98ٖ ،ص ٗٙٓ -ٗ٘9وتعجب الرافعً ؼاٌة التعجب من أنه لٌس لعبٌد والشهداء المصرٌٌن فً التل الكبٌر مقابر فً المدٌنة رؼم أنهم
باآلالؾ ،فً حٌن أن الجنود البرٌطانٌٌن القتلى فٌها مشٌد لهم هناك مقابر! فٌا من تسٌر فً أرض المعارك ،فً القصاصٌن والتل الكبٌر:
األرض إال من هذه األجساد خؾ الوطؤ ما أظن أدٌم
هــــــوان اآلبـــــاء واألجـــــداد وقبٌح بنا وإن قدم العهد
(ٕ)ٕٙ
-مصر المصرٌة بتؽنً ،فإاد حداد ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،مكتبة األسرة ،القاهرة ،ٕٕٓٓ ،ص ٖٓ -ٕ9
٘ٗ7
"ٌوالس"ٌ ،عنً ٌخون أو ٌتآمر فً الشر ،وفً ثورة ٔ ٔ88ألؾ ولس وولس ،وكٌؾ ال وهً لم تكن ثورة
عادٌة ضد حاكم ظالم ،بل ثورة شعبٌة ضد تنظٌم الشر العالمً (روتشٌلد وأخوانه والدول األوروبٌة التً
ٌدٌرها) ،وضد تحالؾ المحتلٌن (االحتبلل العثمانلً واالحتبلل العلوي واالحتبلل الجالٌاتً) ،وإن نجحت
لكان شرارة الحرٌة الحقٌقة فً العالم أجمع.
❶ الولس الروتشٌلدي
ورد فً الصفحات السابقة لمحات من تدخبلت روتشٌلد وشركاه وإنجلترا وفرنسا وؼٌرهم والتً انتهت
باحتبلل مصر عسكرٌا بعد احتبللها سٌاسٌا واقتصادٌا قبل الثورة ،وفً فصل قادم سنعرض لمحات أخرى.
❷ الولس العثمانلً
خذالن عبد الحمٌد الثانً لعرابً بعد أن أظهر له الرضا ،ومنشور السلطان عن "عصٌان" عرابً فً
عز ما كان ٌجاهد عرابً لصد االحتبلل اإلنجلٌزي.
استقواء الخدٌوي بالقناصل ضد الجٌش المصري ،منشور الخدٌوي بالكؾ عن الحرب مع اإلنجلٌز رؼم
نزولهم لئلسكندرٌة ،تحمٌل الجٌش المصري كل أسباب األزمة وحرٌق وضرب اإلسكندرٌة ،تهدٌد الشعب
المصري كله بالعقاب إن استمر فً دعم عرابً.
وقابل الفبلحون خٌانة توفٌق بمواوٌلهم وأؼانٌهم ٌفرؼون بها بعض نار صدورهم:
❹ الولس الجالٌاتً
دور الجالٌات األجنبٌة فً مذبحة اإلسكندرٌة ،دور الجالٌات األجنبٌة فً حرٌق اإلسكندرٌة ،تهلٌل
الجالٌات األجنبٌة لؤلسطول اإلنجلٌزي ،دور العربان الذٌن لم ٌتمصروا من بدور الحدود الشرقٌة والؽربٌة
فً إرشاد ودعم اإلنجلٌز ،دور من تؽلؽل من البدو فً النسٌج المصري ،لكنه ظل نتوءا به ولم ٌتمصر حقا
مثل بدو الطحاوٌة وسلطان باشا والشواربً (من بدو الحجاز الذٌن قدموا لمصر قبل محمد علً ،وظلوا
عربانا ،وحصلوا على إنعامات من العٌلة العلوٌة مكنتهم من آالؾ الفدادٌن المصرٌة ببل وجه حق).
ٌقول عرابً فً مذكراته تحت عنوان أسباب الخذالن أن منها إرسال الخدٌوي رسابل إلى كبراء
-263األغنية الوطنية من عرابي إلى عبد الناصر ،السيد زىرة ،مرجع سابق ،ص 53
ٗ7ٙ
الضابط بالوعد والوعٌد ،وبؤن الجٌش اإلنجلٌزي لم ٌحضر إال بؤمر من السلطان" :وكانت توزع تلك
الرسابل بواسطة محمد باشا أبً سلطان ربٌس مجلس النواب ومن معه الذٌن هم من اإلنجلٌز فً
اإلسماعٌلٌة بؤمر الخدٌوي وبواسطة الجواسٌس من (المصرٌٌن) كؤحمد عبد الؽفار عمدة تبل والسٌد الفقً
العضوٌن فً مجلس النواب عن مدٌرٌة المنوفٌة" ،فتسبب هذا فً أن بعض الضباط لم ٌقوموا بعمل
االستحكامات البلزمة التً أمرهم بها علً الروبً ،وأنه حٌن سار عساكر اإلنجلٌز كان ٌتقدمهم" :بعض
ضباط أركان حرب من المصرٌٌن الذٌن انحازوا إلى الخدٌوي بطرؾ اإلنكلٌز ،وأمامهم عربان الهنادي
ٌرشدونهم إلى الطرٌق" ،وأورد سلٌم النقاش فً "مصر للمصرٌٌن" أن محمد سلطان كان ٌوالً الخدٌوي
بتلؽرافات عن سٌر المعارك فً التل الكبٌر وفوز اإلنجلٌز ،مما ٌثبت خٌانته التً كوفا علٌها ،كما كافا
الخدٌوي الشٌخ حمد أبو سلطان وأخوته من عربان الهنادي بؤن أقطعهم خمسة آالؾ فدان فً رأس الودي
"مكافبة لهم على خٌانتهم للدٌن والوطن الذٌن نشؤوا فً خٌراتهٗ "ٕٙبتعبٌر عرابً.
وتكونت الحكومة والبرلمان فً أكثرهما من شركس وأتراك وأكرادا وشخصٌات من أصول بدوٌة
وعربانٌة لم تتخ َّل عنها ،ومبدأها "مطرح ما تكون المصلحة الشخصٌة والنفوذ أكون" ،وعلى هذا ساروا مع
عرابً حتى حصدوا بقوة الجٌش وثورة الفبلحٌن مجلس النواب والدستور الذي مكنهم من أال تقر الحكومة
ضراٌب إال بموافقة أعضاء البرلمان (وكلهم من األؼنٌاء ومعظمهم من المستوطنٌن األجانب) ،وأن ٌكون
لهم مناقشة المٌزانٌة قبل إقرارها ،أي ما ٌتعلق بحفظ المصالح االقتصادٌة لهإالء ،حتى ال ٌتكرر لهم ما
عانوه من إسماعٌل من ضراٌب واحتماالت مصادرة األراضً المسٌطرٌن علٌها ،أما حٌن بدأ الحدٌث عن
إمكانٌة مطالبة الفبلحٌن بإعادة توزٌع األراضً (بذور اإلصبلح الزراعً) واحتمال سٌر عرابً واء
الفبلحٌن ألنه ٌرى نفسه مفوضا منهم ،انقلبوا على الثورة تمام االنقبلب(٘ ،)ٕٙكما سٌنقلب أوالدهم على
ثورة ٔ9ٔ9وأحفادهم على ثورة ٕ٘ ،ٔ9فكلهم من نفس العاببلتٌ ،سلموا راٌة قبلٌتهم وتعالٌهم على
الفبلحٌن وتمسكهم بؤن ٌكونوا طبقة فوقهم وٌؤكلوا حقوقهم جٌل وراء جٌل.
❺ الولس المحلً
مثل علً خنفس الذي خان فً معركة التل الكبٌر وعلً مبارك وبطرس ؼالً اللذٌن تراصا بجانب
الخدٌوي واإلنجلٌز والمستوطنٌن األجانب فً األسكندرٌة بعد معركة كفر الدوار ،وفً كل بلد وزمان هناك
ولس محلًٌ ،ظهر انحٌازه للعدو وقت األزمة ،إال أن هذا الولس بالتؤكٌد سٌكون خطره ضعٌفا وٌسهل
محاصرته أو عبلجه إن لم ٌكن محاطا فً الداخل بولس قادم من الخارج ،فالولس الداخلً ٌستقوي بالوافد،
والعكس ،وٌتؽذى علٌه ،وٌكثر عدده فً ظل وجوده مثلما ٌكثر عدد الذباب على سطح المستنقع كلما زادت
مساحة المستنقع.
-264مذكرات الزعيـ أحمد عرابي ،ج ،3تحقيؽ عبد المنعـ الجميعي ،مرجع سابؽ ،ص 712 -711
(٘)ٕٙ
-انظر :تطور الرأسمالٌة المصرٌة ،دار الكتب والوثابق القومٌة ،مرجع سابق ،ص ٔ9
ٗ77
وهذا الولس التارٌخً هو أخطر من كل ولس مما سبق ،فلوال هذا الولس التارٌخً ما تمكن أي ولس من
رقبة مصر بهذا الشكل ،وحتى وإن تمكن لضخامة إمكانٌاته الدولٌة لنهضت مصر فً أسرع وقت لتثؤر
لنفسها.
والمقصود بالولس التارٌخً هو "حرامً الذاكرة" ،هو ؼفلة المصرٌٌن عن تارٌخهم الحقٌقً ،وعن
الصورة الكاملة لهوٌتهم المصرٌة ،وعن من هم أعدابهم ،وهذه الؽفلة هً ما تسببت فً موجات من
"اللخبطة" اجتاحت الضباط والعلماء المصرٌٌن ،فؤربكت صفوفهم فً اللحظات الحرجة ،فمثبل رؼم دوي
"مصر للمصرٌٌن" فً أنفسهم إال أن معنى "المصرٌٌن" تلطخ بؤن ضموا لها مستوطنٌن أجانب سورٌٌن
وعربانا وأتراكا ومؽاربة لمجرد أنهم ٌعٌشون فً مصر ،ورؼم كراهٌتهم لكل ما هو تركً إال أن بعضهم
ظل متمسكا بؤن السلطان العثمانلً له "حق" السٌادة فً مصر ،وبرر هذا طلبة عصمت وعبد هللا الندٌم
وعبد العال حلمً بالحاجة للوحدة اإلسبلمٌة فً ظل المخاطر األوروبٌة التً تهدد ببلد المسلمٌن(،)ٕٙٙ
وبعضهم رؼم علمه بؤن األسرة العلوٌة لٌست مصرٌة حقا إال أنه ظل مقتنعا بؤنه لها "شرعٌة" الحكم ،ولم
تظهر مطالب ثابتة بؤن ٌتولى حكم مصر حاكم مصري حقٌقً رؼم إعبلنهم فً األٌام األخٌرة خلع
الخدٌوي توفٌق ..ففقد مبدأ "مصر للمصرٌٌن" جوهره دون قصد منهم.
فلنتخٌل لو أن جمٌع المصرٌٌن وقتها على قناعة بؤنه ال ٌوجد أي بلد أو جنس أجنبً فً العالم له الحق
فً حكم مصر ،سوا ألسباب دٌنٌة أو ؼٌرها ،فهل كانت االنقسامات التً صدعت الثورة فً األٌام األخٌرة
حصلت حٌن ورد مرسوم السلطان العثمانلً بؤن عرابً مخالؾ للشرٌعة ألنه خالؾ السلطان المسلم "حامً
الشرٌعة"؟
ولنتخٌل لو أن المصرٌٌن جمٌعا وقتها على قناعة بؤن الجالٌات الناطقة بالعربٌة فً مصر ،وما زالت
محتفظة بانتماءاتها البدوٌة والشامٌة والمؽاربٌة والتركٌة إلخ ،لٌسوا مصرٌٌن حقا ،وإال ما احتفظوا
واعتزوا بثقافة وانتماء أجنبً ،وما رفضوا وصؾ نفسهم بالفبلحٌن وما أذلوا الفبلحٌن ونهبوا أراضٌهم،
فهل كانوا سلموا لهم أمورا حساسة فً الثورة ثم اكتووا بخٌانتهم؟
امتطى عرابً جٌشه وولَّى وجهه شطر القاهرة أمبل فً تحصٌنها قبل وصول اإلنجلٌز ،وعقد اجتماعا
مع المجلس التنفٌذي ،تناقشوا هل نقاوم أم نستسلم ،اتفقوا على المقاومة ،ذهب إلى ثكنات العباسٌة ٌتفقد
القوات الباقٌة ،لم ٌجد إال أقل من ألؾ رجل معظمهم أصبل خفراء ،عاد وبلػ الزمبلء ،بعضهم كمحمود
سامً البارودي اقترح إؼراق القلٌوبٌة والدقهلٌة لمنع اإلنجلٌز من التقدم ،واالنسحاب للوجه القبلً إلعادة
تجهٌز الجٌش ،ورفض عرابً خوفا على أهالً المدٌرتٌن من الخراب ،كما لمس بنفسه عدم ثبات كثٌر من
الضباط والجنود بعد منشورات السلطان والخدٌوي ،وأرسل بمشورة من المجلس للخدٌو ٌإكد له توقؾ
()ٕٙٙ
-انظر كلمات الزعماء الثبلثة فً :مذكرات الزعٌم أحمد عرابً ،مرجع سابق ،ص ،ٖٕٖ -ٖٔ9وهوامش المحقق ص ٔٓٗ
ٗ78
القتال وٌطلب منه عدم السماح بدخول اإلنجلٌز للقاهرة ،لكن الجٌش اإلنجلٌزي دخل بإرشاد من "الولس"،
واستدعى قابده عرابً للقابه ،وسؤله المراسل السوٌسري جون نٌنه هل ستهرب؟ رفض عرابً الهروب،
لكنه استجاب لنصٌحة من نٌنٌه بؤنه حٌن ٌصل إلى القابد اإلنجلٌزي ٌسلمه هو وزمبلبه أنفسهم كؤسرى
حرب.
هل كان محقا فً االستسبلم؟ هل ٌلٌق به؟ هل االستسبلم نهاٌة تلٌق بقابد شعب من أصحاب الجبللٌب
الزرقاء الممزقة واألرجل التً شققها الفقر لكنه وقؾ صلبا فً وجه روتشٌلد والعثمانلً واإلنجلٌزي
والٌونانً والفرنسً واألرمنً والٌهودي ومن كل ملة؟ لماذا لم ٌتركهم ٌؤتون للقبض علٌه أو حتى ٌقتلونه؟
ألٌس االستشهاد أفضل من االستسبلم وهو الذي عرض نفسه للخطر عشرات المرات دون أن ٌخشى
الموت؟ ورفض كل الرشاوى واإلؼراءات ،هل كثرة وتسارع الصدمات والخٌانات َّأثرت على نفسٌة
عرابً وقتها فلم ٌؤخذ القرار الصحٌح؟ هل كان فً لحظة ارتباك فوق طاقة البشر؟
لقد كان فً شهر أؼسطس والجمٌع حوله روحه وروح الثورٌٌن المصرٌٌن ٌنطبق علٌها األؼنٌة
المصرٌة "طار بٌا األمل بجناحه ولمست النجوم بإٌدٌا"؛ وإذ فجؤة فً سبتمبر ٌنفض معظم الكبار الذٌن
أظهروا له التؤٌٌد ،بل وٌطعنوه ،وتصدر فتاوى تشتت الجٌش ،وٌنهار كل شًء فً لمح البصر !
انتقلت قوة من الفرسان الهنود إلى اإلسكندرٌة كحرس شرؾ لحراسة الخدٌوي إلى محطة السكة الحدٌد،
ممتطٌن صهوة خٌولهم ومرتدٌن مبلبسهم الوطنٌة (الهندٌة) الزاهٌة؛ فبدوا فً صورة بهٌجة ،هذا العرض
كان الؽرض منه التؤثٌر فً نفوس األوربٌٌن واألهالً لكً ٌثبتوا فً أذهانهم فكرة وجود قوة احتٌاطٌة
كبٌرة لئلمبراطورٌة اإلنجلٌزٌة فً قلب الهند ،وحٌنما ركب الخدٌوي محاطا بهذه الثلة من الجنود إلى جوار
السٌر إدوارد مالٌت ،الممثل السٌاسً والقنصل العام اإلنجلٌزي ،مخترقٌن الشارع الربٌسً الذي اصطؾ
األهلون على جانبٌه ،لم ٌصفق الناس ولم ٌبدوا أي مظهر من مظاهر الفرح( ،)ٕٙ9عدا من هم من الجالٌات
األجنبٌة واألتباع.
وفً ٌوم ٕ٘ سبتمبر ٕ ٔ88بدا كؤنه الؽزو الثانً ألسرة محمد علً لمصر ،فكما دخلها محمد علً تحت
اسم السلطان العثمانلً"الفاتح" ،فإن توفٌق دخل القاهرة واستقبله على المحطة رٌاض باشا وسلطان باشا
هاتفٌن "فلٌعش الجناب العالً مإٌدا بالنصر واإلجبلل" ،وصعد إلى مركبة على ٌساره فٌها الدوق أؾ
كنوت ابن الملكة فٌكتورٌا ،وأمامه الجنرال ولسلً قابد جٌش اإلنجلٌز ،ومالٌت قنصل اإلنجلٌز ،وسارت
ورابه فرسان اإلنجلٌز ،وتبعه النظار وأمراء العٌلة الخدٌوٌة ،والمحطة مفروشة بالبسط والرٌاحٌن
والراٌات وعلى الصفٌن جنود اإلنجلٌز( ..)ٕٙ8دخلها فً موكب "اإلنجلٌزي الفاتح" ،ومن ٌومها وعٌلة محمد
علً تحكم بـ"حق الفتح اإلنجلٌزي".
وكتبت صحؾ تابعة لبلحتبلل فً مصر فٌما بعد عن "الترحٌب المصري" بالفتح اإلنجلٌزي ،وكتب
()ٕٙ9
-المرجع السابق ،ص ٖٓٙٔ -ٖٙ
()ٕٙ8
-انظر وصؾ الموكب كامبل فً مذكرات الزعٌم أحمد عرابً ،مرجع سابق ،جٕ ،ص ٘ٔ 9والهوامش
ٗ79
()ٕٙ9
كرومر "رحب بمقدم ذلك اإلنجلٌزي وبشًء من الفرح الحكام الشرعٌون وجماهٌر الشعب المصري"
كما كتب مإرخون فً عصور سابقة عن "الترحٌب المصري" بالفتح المقدونً (اإلسكندر) وبالفتح العربً
وبالفتح العبٌدي (الفاطمً) إلخ ،وصورة رٌاض الٌهودي/الشركً ،ونوبار األرمنً ،وشرٌؾ التركً،
ومصطفى فهمً التركً ،وسلطان باشا البدوي ،والخدٌوي األرناإوطً ،وأدٌب إسحق السوري ،وندرة من
المصرٌٌن مثل علً مبارك ،متراصٌن فً استقبال "الفاتح اإلنجلٌزي" ،والجالٌات األجنبٌة على الصفٌن
ترمً علٌهم الزهور والورود ٌمكن أن تجٌب لنا عن سإال" :أي مصرٌٌن هإالء الذٌن اصطفوا على باب
مصر لٌرحبوا بالفتوحات الماضٌة".
ففً خطفة زمن هبت ومدت قدمها لتعبر ،وعبرت لحد ما ،عبرت من المقاومة الفردٌة أو القروٌة إلى
المقاومة الوطنٌة الجماعٌة من جدٌد ،وعبرت التعود على الحاكم األجنبً إلى حقها فً أن تحكم نفسها
وٌجلس الفبلح على عرشها ،وؼٌر ذلك ،لكن لم ٌكتمل العبور ،ألنها لم تسترد بعد االسم وكامل العناوٌن.
وهنا لحظة فاصلة ..إن رحلة تصفٌة مبدأ "مصر للمصرٌٌن" ستبدأ فصولها ونتابع من اآلن بعنؾ ..من
إخفاء عرابً وصحبه بالقتل أو النفً فً ٕ ،ٔ88وتستمر بمحو أو"هلفتة الشخصٌة المصرٌة"(ٓ، )ٕ9
تصفٌة متعمدة وبكل األسلحة واأللوان؛ بمعنى أنه طوال مبات االحتبلالت السابقة كان التعامل مع مصر
ملخصا فً "االستنزاؾ المادي والحضاري" ،أي السٌطرة على األرض ،وتسخٌر المصرٌٌن لزراعتها،
وسرقة اآلثار المصرٌة ،ونقل الحضارة المصرٌة إلى المحتل الجدٌد أو حضارات أخرى ونسبها إلٌها.
أما بداٌة من االحتبلل اإلنجلٌزي ،فإن الثروة واآلثار لٌست هً الهدؾ وحدها ،سٌكون الفبلح المصري
نفسه هو الهدؾ ،أي شخصٌته وهوٌته وأخبلقه ،فهذا الفبلح اكتشؾ المحتلون الجدد أنه لٌس مجرد "ثٌران
فً الساقٌة" ٌفلح لهم األرض ،بل إنه ما زال ذلك المصري القدٌم الذي ٌثق بنفسه ،ومرتبط بؤرضه لحد
الشهادةٌ ،عرؾ جٌدا موقعه فً معركة الخٌر والشر ،وأن عروقه لم تتفرغ من الشهامة والنخوة المصرٌة،
وأنه رؼم الؽٌوم التً تؽطً ذاكرته وتخفً عنه حقٌقة جدوره وماضٌه ،ورؼم مظهره الممزق المكدود ،إال
أنه ٌحمل فً أعماقه ٌقٌنا بؤنه فوق كل هإالء المحتلٌن ،وأفضل منهم ،فعاد لٌثور وٌنتقم.
()ٕٙ9
-مصر الحدٌثة ،كرومر ،جٕ ،ص ٓ ،ٔٙووصؾ -كعادة المعتدٌن -إنجلترا بـ "المنقذ لمصر" ،و"تحمل الخٌر لمصر" ،ص ٔٔٙ
(ٓ)ٕ9
" -هلفتة الشخصٌة المصرٌة" تعبٌر قرأته على من موقع "توٌتر" ،وهو أدق وصؾ لما استهدؾ الشخصٌة المصرٌة منذ نهاٌة القرن ٔ9
ٓٗ8
إذن ،فإنهاك جسد هذا الفبلح أو قتله لٌس كافٌا ،بل محو شخصٌته تماما ،بؤال ٌكون فبلحا ،ال ٌعتز أساسا
بؤنه مصري وفقط ،بل ٌذوب فً تقلٌد ؼٌره من العرب أو العجم ،واألهم أال ٌكون شعبا واحدا ،بل أجزاء
وأحزاب وأدٌان وأعراق وطواٌؾ وفرق وتنظٌمات كالحطب تؤكل بعضها بعضا.
فلٌتعلم المصرٌون ،ولتنتشر المدارس ،لكنها لن تكون إال مفرخة أحزاب وتنظٌمات وهوٌات عكس
بعضها البعض ،ولٌفتح كرومر لهم باب التوظٌؾ الحكومً أكثر لكن لن ٌكونوا إال موظفٌن كالخشب
المسندة ،أختام تإشر على ما ٌرٌده محركوها من األجانب ،الحاكمٌن لها مباشرة ،أو من وراء ستار.
من أدوات التصفٌة أنه بدال من أن تحاكم الثورة أعداء األمة حاكم األعداء الثورة ،هو قانون الهرم
المقلوب الذي ٌحكم مصر منذ سقوطها فً االحتبلالت واالستٌطان األجنبً ،أن ٌعلو األجنبً على
المصري ،أن ٌحكم المرتزق والعبد وعربان الجبال أهل الفبلحة والفبلح ،أن تعلو قٌم الؽزاة والنهب
والسلب واالؼتصاب وتنخفض قٌم رد األرض والحقوق ألصحابها ،أن ٌُحاكم ابن البلد الثابر بتهمة الخٌانة
وٌُكافا الخابن والؽازي بحجة أنه "صاحب الحق والفضل".
انعقدت محاكمة عرابً وٖٓ ألفا من الثوار بـ"تهمة" إشعال الثورة فً دٌسمبر ٕ ،ٔ88وانتهت بؤحكام
اإلعدام ،ثم ُخفضت إلى نفً عرابً وعبد العال حلمً وعلً فهمً ومحمود سامً البارودي وٌعقوب سامً
إلى جزٌرة سٌبلن ،وهو كان حبل أفضل لبلحتبلل حتى ال تزٌد الشهادة إذا أعدموه هالة عرابً فً نظر
الشعب المتعطش لزعٌمه.
وهذه التصفٌة للثورة تكرار للتصفٌة التً نفذها محمد علً ضد ثورة ٗٓ ٔ8التً قادها عمر مكرم لخلع
خورشٌد باشا ،فسار توفٌق على درب جده محمد علً الذي قال لشٌوخ األزهر كما تابعنا ردا على السخط
الشعبً من عدم تنفٌذه للوعود بالحد من الضراٌب" :وكؤنكم تخوفونً بهذا االجتماع وتهٌٌج الشرور وقٌام
الرعٌة كما كنتم تفعلون فً زمان الممالٌك ،فؤنا ال أفزع من ذلك ،وإن حصل من الرعٌة أمر ما فلٌس لهم
عندي إال السٌؾ واالنتقام"(ٔ.)ٕ9
فقد كان عرابً أول مصري ٌخاطب النفس المصرٌةٌ ،خاطب ابن الشعب ،متجاهبل ابن الحكومة
التركً ،كان أول رسمً ]مسبول[ مصري ٌعتز بلقبه المصري ]أي الفبلح[ وٌصر على استعماله ،لقد كان
قومٌا مصرٌا صمٌما ،وٌقول البرٌطانً ستٌوارت فً كتابه "تارٌخ الشرق األوسط الحدٌث" إن "عرابً
أول فبلح مصري ٌقؾ فً وجه الحاكم منذ ألفً سنة وربما خمسة آالؾ ...ومن ورابه ومعه اندفع جمهور
المصرٌٌن العادٌٌن المعدمٌن المضطربٌن أول مرة منذ أٌام الفراعنة نحو الحكم الذاتً"(ٕ.)ٕ9
ولذا؛ كان أهم ما ٌحرص علٌه اإلنجلٌز والخدٌوي فً المحاكمة نزع صفة الشعبٌة عن الثورة ،وأن
(ٔ)ٕ9
-عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار ،ج ،ٙالجبرتً ،ص ٕ8ٓٓ -99
(ٕ)ٕ9
-الحركة القومٌة العربٌة فً القرن العشرٌن ،هانً الهندي ،مركز دراسات الوحدة العربٌة ،طٕ ،بٌروت ٕ٘ٔٓ ،ص ٘٘ٔ
ٔٗ8
ٌسجلها القضاء والتارٌخ على أنها "تمرد" من أشخاص "خابنة" ،و"طامعة فً الحكم" ،وعلى هذا تضمنت
عرٌضة االتهام بنودا منها :ممارسة أعمال العصٌان العامة والتمرد على الخدٌوي والسلطان فً حادث
قصر النٌل ومظاهرة عابدٌن ،ترقٌة الضباط المصرٌٌن وإحالة الضباط الشراكسة للمعاش ،الخروج عن
األدب فً مخاطبة الخدٌو فً مناقشة موضوع الشراكسة ،ترمٌم الطوابً فً اإلسكندرٌة،إشعال الحرب فً
أرض السلطان ،القٌام بمذبحة اإلسكندرٌة.
فً المقابل تضمنت مذكرة الدفاع الذي قاده بلنت وبرودلً عن عرابً ورفاقه بنودا أبرزها" :نقاء
وأمانة أفكار عرابً وأهدافه ،شعبٌة الحركة الوطنٌة وعمومٌتها ،طبٌعة عرابً اإلنسانٌة ؼٌر العادٌة،
تعرض عرابً وزمبلبه للتعدي ،وتعاونه مع السلطان وتوفٌق حتى ٕٔ ٌولٌو(ٖ ،")ٕ9لكن برودلً أقنع
عرابً باالعتراؾ بتهمة العصٌان.
وفً ٕ8سبتمبر صدر ما ٌسمى بـ"قومسٌون التحقٌق" لتتبع أي شخص ساند الثورة المصرٌة ،أي شخص،
واتهامه بجرٌمة العصٌان وإهانة الذات الخدٌوٌة ،وتشكلت من أشد كارهً الثورة المصرٌة ،فربٌسها
إسماعٌل أٌوب( ،مملوك شركسً) ،وأعضاإها من الشركس والسورٌٌن واألرناإوط والٌونانٌٌن ،وأورد
عرابً منهم :علً باشا ؼالب (شركس)ٌ ،وسؾ باشا شهدي (شركس) ،محمد زكً باشا (أرناإوط)،
وسعد الدٌن بك (رومً أي ٌونانً) ،و(محمد حمدي بك العظم (سوري) ،ومصطفى بك راؼب (تركً)،
و"سلٌمان بك ٌسري (كردي) ،ومصطفى بك خلوصً (فارسً) ومحمد بك مختار (تركً) ،ومن العجاٌب
أن األجانب ٌحاكمون أبناء البلد بتهم "العصٌان" ..ولكن هذا دابما هو قانون الشٌطان ..الهرم المقلوب.
وصدر قرار تشكٌل محكمة عسكرٌة لمن ٌوجه القومسٌون لهم االتهامات ،أحكامها ؼٌر قابلة لبلستبناؾ
وتشكلت :الربٌس محمد باشا رءوؾ (كردي) ،األعضاء :إبراهٌم باشا الفرٌق (رومً أي ٌونانً)،
وإسماعٌل كامل الفرٌق (شركس) ،وحسن باشا عاصم (شركس) ،وخورشٌد باشا (شركس) ،سلٌمان نٌازي
(أرناإوط) ،عثمان باشا لطٌؾ (شركس) سلٌمان بك نجاتً (شركس) ،أحمد حسانٌن باشا (مصري)،
وتشكلت لجانا أخرى فً المحافظات لنفس الؽرض(ٗ )ٕ9وأعضاإها أٌضا جنسٌات أجنبٌة فً معظمها.
وسهل تصور المرارة فً حلق المصرٌٌن حٌن ٌستجوبهم ،وبتكبر وشماتة ،أجانب فً أمر ٌخص بلدهم.
و ورد فً كتاب "التارٌخ السري لبلحتبلل اإلنجلٌزي لمصر" لـ ولفرٌد سكاون بلنت شهادات عن
"بٌمان" مترجم "مالٌت" وعن الشٌخ محمد عبده -أحد المقبوض علٌهم -أن توفٌق كان ٌرسل زبانٌته من
األجانب فً الحكومة والقصر إلى عرابً وإخوانه فً الزنانزٌن لٌبل لٌقوموا بالتؾ (البصق) على
وجوههم ،وشتمهم بؤقبح األلفاظ ،ولعنهم ،وإهانتهم للتشفً فٌهم ،وإشعارهم باإلهانة جزاء على تجرأهم
كفبلحٌن على الخدٌوي والعناصر األجنبٌة الحاكمة ،وذلك بالرؼم من أن عرابً حرص على عدم استخدام
العنؾ ضد الخدٌوي أو تلك الجالٌات طوال الثورة.
(ٖ)ٕ9
" -التارٌخ السري لبلحتبلل اإلنجلٌزي لمصر..رواٌة شخصٌة لؤلحداث ،ص ،٘ٔ8مذكرات الزعٌم أحمد عرابً ،جٔ ،ص ٙٗ -٘9
(ٗ)ٕ9
-مذكرات الزعٌم أحمد عرابً ،تحقٌق عبد المنعم الجمٌعً ،ج ٕ ،ص 9ٕٖ -9ٔ9
ٕٗ8
ونقل أن رٌاض باشا (الٌهودي/الشركسً) الذي وصفه مسبول أجنبً بؤنه "ٌقوم بدور الشٌطان فً
مصر" ،كان ٌقول إن المصرٌٌن "مثل الثعابٌن ،وطرٌقة منع الثعابٌن من االنتشار تتمثل فً سحقها
باألقدام ،وسوؾ أسحق المصرٌٌن بهذه الطرٌقة"(٘.)ٕ9
ولزٌادة المكاٌدة أٌضا ،أرسلت السلطات عساكر أتراك وشراكسة إلى منازل قادة الثورة التً تم
مصادرتها ،واقتحموها دون أن ٌراعوا حرمة النساء فٌها ،بل ومنعوا أهل البٌت من الدخول والخروج
بحسب ما ورد فً شكاوى عرابً وعلً فهمً ونشرها برودلً فً كتابه.ٕ9ٙ
وألقت سلطات الخدٌو ٖٓ ألؾ شخص ساندوا الثورة فً سجون القاهرة والمحافظات ،ما بٌن المزارعٌن
والعمد وعلماء األزهر وتجار وأعٌان وؼٌرهم ،حتى المراسل السوٌسري جون نٌنٌه ألنه ساند الثورة.
ورؼم هذا اإلرهاب تجمع بعض المصرٌٌن الحقٌقٌٌن حول سجن عرابً وأصحابه ،فٌقول برودلً مندهشا
واصفا المشهد الذي كان علٌه شاهد عٌان" :ظل الشعب على وفابه ولم ٌتؽٌر ...حتى ٌوم رحٌل الزعماء
ؼلى المنفى ،ظلت الجماهٌر الحاشدة تتجمع طوال اللٌل والنهار رجاال ونساء وأطفاال حل سجن االستبناؾ
كما ٌفعلون حول أضرحة األولٌاءٌ ..بكون ،وٌرددون نشٌد الثورة ،وٌصرون على تردٌدهٌ ..ارب انصر
عرابً".ٕ99
ومن االنتقام أن سعى المحتلون لقطع أي لسان ٌكشؾ حقٌقة ما جرى ،فبعد الحبس والقتل والنفً لمن
شارك فً الثورة منعوا الصحؾ الوطنٌة من الظهور؛ فصدر أمر من رٌاض بإلؽاء جرٌدتً "الزمان"
و "السفٌر" بحجة أنها تهٌج الخواطر وألن أصحابهما من "العصابة الثابرة" ،أما صحٌفة "الطابؾ" لعبد هللا
الندٌم فتوقفت بدخول الندٌم فً المنفً الداخلً( ،)ٕ98ولم ٌبق أمام الناس ولتسجٌل التارٌخ -أو ظنوا هذا-
سوى الصحؾ صنٌعة األجانب مساندي اإلنجلٌز وقتها ،مثل "األهرام" ،و"المقطم" ،و"المقتطؾ"
و"األعبلم" التً أسسها وٌدٌرها شوام ومؽاربةٌ ،قدمونها على أنها "صحؾ مصرٌة" ،وأنهم هم
"المصرٌون" ،وٌعبرون عن "الرأي المصري" ،وركزت على اتهام عرابً بؤنه السبب وراء االحتبلل
اإلنجلٌزي ،وهً التهمة التً باتت تطارد عرابً حتى الٌوم.
وخرجت "األهرام" فً ٘ٔ سبتمبر ٕ ٔ88بعنوان " :البشرى الكبرى"" ،الجٌش اإلنجلٌزي قبض على
العاصً عرابً" ،وفً ٘ دٌسمبر ٕ ٔ88على لسان صاحبها بشارة تكبل تسخر من عرابً وأصحابه عند
قرب نفٌهم إلى سٌبلن بقوله هإالء" :سٌإلفون هناك مستعمرة مصرٌة عاصٌة"ٌ ،شمت فً المصرٌٌن
(٘)ٕ9
" -التارٌخ السري لبلحتبلل اإلنجلٌزي لمصر ..رواٌة شخصٌة لؤلحداث ،ولفرٌد سكاون بلنت ،مرجع سابق ،ص ٗٓ٘٘ٔٓ -
" -276كيف دافعنا عن عرابي وصحبو" ،برودلي ،مرجع سابق ،ص 326
-277األغنية الوطنية من عرابي إلى عبد الناصر ،السيد زىرة ،مرجع سابق ،ص 53
()ٕ98
-انظر :مذكرات الزعٌم أحمد عرابً ،مرجع سابق ،جٕ ،ص ،9ٔ8والهوامش
ٖٗ8
بؤنهم سٌإلفون "مستعمرة مصرٌة عاصٌة"( ،)ٕ99فرحا بؤنه وأمثاله جاءوا لمصر "ٌإلفون مستعمرة شامٌة
الهٌة" ،وٌتعاملون مع مصر كؤنها بلدهم هم ،ال بلد المطالبٌن بـ"مصر للمصرٌٌن".
تبدو هً المرة الثانٌة منذ انحبلل الجٌش المصري بعد األسرة ٕٓ وإحبلل أبناء القباٌل الخاسوتٌمٌة ثم
المرتزقة اإلؼرٌق والكارٌٌن محل الفبلحٌن المصرٌٌن ..فبدون هذا ما بقوا فً مصر كل هذه القرون.
ولذا؛ ففور اعتقال عرابً وصحبه كان أول قرار لتوفٌق بتحرٌض إنجلٌزي فً ٔ9سبتمبر ٕ ٔ88من ٖ
كلمات "حل الجٌش المصري" ..التوقٌع محمد توفٌق(ٓ ،)ٕ8وبسرعة محمومة جرى حبس الضباط
المصرٌٌن ومحاكمة المدافعٌن منهم عن الببلد بصفتهم "عصاة" ،وإلؽاء الرتب العسكرٌة المعطاة لهم فً
أٌام الثورة.
ومن صور االنتقام إعدام ضابط الجٌش ٌوسؾ أبو دٌة ،علنا وأمام عابلته -ألنه وبخ الشركً إبراهٌم أدهم
مدٌر الؽربٌة حٌن ترك جرابم القتل تدور بٌن المصرٌٌن واألجانب وقت الثورة ،وقرار بإعدام ضابط
الشرطة نده خطاب ألنه ارتدى مبلبس المدنٌٌن لٌحصل على أخبار اإلنجلٌز فً اإلسكندرٌة وٌوصلها إلى
جٌش المصرٌٌن ،فاعتبروه جاسوسا لصالح المصرٌٌن(ٔ ... )ٕ8ال عجب ،فهذا قانون المملوك إذا ؼلب.
❹ مكافبة "الولس"
فً المقابل ،كافؤ الخدٌوي سلطان باشا بعشرة آالؾ جنٌه على ما قام به من "الخدمات النافعة" وبالنٌشان
المجٌدي من الدرجة األولى ،وقال توفٌق" :حٌث أنه بالنظر إلى ما أظهره سعادة محمد سلطان باشا من
الصداقة لحكومتنا الخدٌوٌة ومعارضته للعصاة فً جمٌع أمورهم وعزابمهم بالمخاطرة بحٌاته ،وإلى ما
حصل له بسبب ذلك من الضرر والتعدي منهم على شخصه وأقربابه وموجوداته ومقدار جسٌم من
مزروعاته قد استحق المكافؤة من الحكومة".
ولم ٌكتفٌا بؤخذ هذه المبالػ الضخمة من عروق الفبلحٌن المكلومٌن ،لكن أٌضا أخذوا أمواال اشترى بها
سلطان باشا وأحمد السٌوفً وؼٌرهما أسلحة فاخرة محبلة بالجواهر الثمٌنة هدٌة لسٌمور قابد األسطول
اإلنجلٌزي الذي دمَّر األسكندرٌة ،وولسلً قابد الجٌش اإلنجلٌزي الذي قتل وأصاب آالؾ المصرٌٌن فً
التل الكبٌر ،وتسمت بؤنها "هدٌة من أهل البلد" حسب ما وصفها سلٌم النقاش فً "مصر للمصرٌٌن"(ٕ.)ٕ8
وٌقول شفٌق باشا إن توفٌق كافا الكثٌرٌن ومنهم هو رؼم أنه موظؾ صؽٌر" :فلما عدنا من اإلسكندرٌة
إلى القاهرة بمعٌة الجناب الخدٌوي كنت بٌن الذٌن كوفبوا على والبهم لسموه أٌام الثورة ،فزٌد مرتبً إلى
()ٕ99
-األهرام دٌوان الحٌاة المعاصرة ،دٌ ,ونان لبٌب رزق ،ج ٔ ،مركز تارٌخ األهرام ،القاهرة ،ص ٖٕٕ وٕٖٕ
(ٓ)ٕ8
-مصر الحدٌثة ،اللورد كرومر ،جٕ ،مرجع سابق ،،ص ٕ٘ٙ
(ٔ)ٕ8
-انظر :مذكرات الزعٌم أحمد عرابً ،ج ٕ ،ص ٔ٘9ٕٗ -9ٕٖ ٕٙ٘ -ٙ
(ٕ)ٕ8
-المرجع السابق ،ص 9ٔٙو 9ٔ9مع الهوامش
ٗٗ8
عشرٌن جنٌها ،ومنحت النٌشان المجٌدي من الدرجة الرابعة ،والنجمة المصرٌة التً صٌؽت بؤمر خدٌوي
لتووزٌعها على أنصاره والذٌن أخلصوا له إبان الثورة العرابٌة ،وعلى ضباط وأفراد الجٌش
اإلنجلٌزي(ٖ.")ٕ8
وفً هذا الخضم الهابج ،هذا الهرم والمٌزان المقلوب ..انتزع االحتبلل حلم مصر" ،عرابً" ورفاقه
المخلصٌن لها ،من أرضها ،زجوا بهم فً السفن إلى الببلد المجهولة ،مصحوبٌن بنحٌب ودموغ إٌسة
"إٌزٌس" ونبت حت "نفتٌس" ،وقلوب المصرٌٌن تلهج هلل بؤن تصب سخمت ؼضبها ولعناتها علٌهم ،حتى
ٌظهر حور (حورس) مرة أخرى؛ لٌكمل مسٌرة عودة ماعت ،وٌخلص مصر.
❶ تعلم مصرٌون أن تكون ثورتهم ودماءهم ألجل أن تعود ببلدهم إلٌهم ،ال أن ٌحموها من محتل جدٌد
لتعود للمحتل القدٌم بعد أن وصل عرابً فً النهاٌة لمرحلة األمل فً خلع أسرة محمد علً كلها.
❷ عادت الثقة لبعض المصرٌٌن بؤنهم قادرون على الوقوؾ فً وجه السلطان العثمانلً "الخلٌفة" حٌن
رفض عرابً ومحمد عبٌد وعبد العال حلمً وعلً فهمً فً معركة التل الكبٌر االنصٌاع لمنشور
العصٌان الصادر من األستانة (رؼم استمرار اعتقادهم فً شرعٌة الخبلفة) ،وتهدٌد محمد عبده بؤن
الفبلحٌن سٌواجهون الجنود األتراك لو بعث السلطان جٌشا إلى مصر.
❸ تجلت ثقة المصرٌٌن فً أنفسهم كمصرٌٌنٌ ،عتزون بلقب الفبلحٌن ،خاصة مع مواكبة الثورة
النتشار اكتشافات أثرٌة فً العالم تتحدث عن مجد مصر القدٌم ،وعظمة المصرٌٌن ،وكٌؾ كانت مصر
ست الدنٌا وهً حرة مستقلة ٌحكمها أبناإها فقط.
❹ ثمرة فً ظاهرها حلوة ،وفً باطنها مرة ،فقد تحققت مطالب الجٌش فٌما ٌخص أول مجلس نواب
منتخب ،ووضع دستور ،لكن حصد إٌجابٌاتها نفس العاببلت القلٌلة المسٌطرة من الترك والعربان والعمد
الحاصدٌن الثروات بالطرق الظالمة فً معظمها ،فٌقول د.عبد المنعم الجمٌعً إن نظرة على أسماء أعضاء
مجلس النواب تظهر أنها من نفس التركٌب الطبقً الذي كان فً مجلس شورى القوانٌن أٌام إسماعٌل،
ومنهم عبد السبلم الموٌلحً ،أحمد السٌوفً ،محمد الشواربً ،السٌد الفقً ،سلٌمان أباظة ،أحمد الصباحً،
عباس الزمر ،خلٌفة الهواري ،السٌد الرٌدي ،محمد سلطان ،علً شعراوي ،حسن الشرٌعً ،محمود
سلٌمان ،عبد السبلم خفاجً ،السٌد الؽرٌانً (ٗ ،)ٕ8وستتكرر نفس العاببلت لعصور قادمة.
❺ علو الصوت عن حقوق األمة بعد أن ظل لمبات السنٌن الكبلم فقط عن "حقوق" للمحتلٌن
والمستوطنٌن األجانب ،وأن الفبلح (األمة الحقٌقٌة) ،ما ُخلق إال لٌزرع لٌؤكل الؽزاة.
(ٖ)ٕ8
-مذكراتً فً نصؾ قرن ،جٔ ،شفٌق باشا ،مرجع سابق ،ص ٔ8
(ٗ)ٕ8
-مذكرات الزعٌم أحمد عرابً ،جٔ ،مرجع سابق ،ص ٖٖٔ٘ٙٔ -
٘ٗ8
❻ صمدت مصر سنة أمام مخططات روتشٌلد وشركاه والقناصل األجانب والخدٌوي والترك
والشراكسة وأمثالهم ،بمواردها الذاتٌة -رؼم أن معظمها منهوب -وكلما مر شهر تتحسن إدارتها وتقوى
معنوٌاتها وتصدر قوانٌن لتحسٌن أحوالها ،فؤصدرت فً سنة واحدة الحكومة التً بها عرابً وزٌرا قوانٌن
حسنت أحوال رجال الجٌش والموظفٌن المصرٌٌن ،واعتزمت تقلٌل عدد األجانب فً الحكومة ،ومحاربة
االمتٌازات األجنبٌة ،وتمصٌر القضاء ،وجهزت الثورة لتؤسٌس بنك مصري ٌحمً الفبلحٌن من المرابٌن
شعاره "مساعدة الفبلح ورفع فاحش الربا عنه" ،وتؤسست "الجمعٌة الصناعٌة المصرٌة" ،وأطلقت صحٌفة
"التنكٌت والتبكٌت" حملة "ال تلبس إال من صنع ببلدك" ،وسعى محمد عبده وعبد هللا الندٌم وعرابً لتعمٌم
التعلٌم ،وكلها مشارٌع هدفها فً األساس -وألول مرة منذ مبات السنٌن -خدمة الفبلح المصري ال أن ٌكون
هو لها مجرد خادم ،حتى قال برودلً وؼٌره إن برنامج اإلصبلح الخاص بالثورة لم ٌكن أقل من برامج
اإلصبلح األوروبً كفاءة(٘ ،)ٕ8فؤثبتت ثورة مصر أن قرون الشٌطان مهما كثرت واشتدت سمومها إال أن
القوة الذاتٌة للحق إذا ما توحدت وفهمت وصمدت قادرة على تحدٌها وصدها ،ولوال "الولس" بؤنواعه
لصمدت أكثر ،وربما نجت ،لكن جاءت المعركة ومصر مكلبشة بـ"الولس" وخصوصا "الهكسوس"
المستوطنٌن من كل ناحٌة.
❼ كتب التارٌخ أن مصر لم ٌجتاحها االحتبلل بسهولة مدام فٌها جٌش ٌحمل أبناإها فٌه السبلح ،كتب
التارٌخ أن االحتبلل لم ٌتمكن من مصر إال على جثث رجالها حاملٌن البندقٌة والعصاٌة والفاس ،فاالحتبلل
اإلنجلٌزي "كان جاي جاي" لمخططات إنجلترا القدٌمة والنتشار "الولس" فً مصر ،وفرق أن ٌؤتً وأهلها
صامتون ،وبٌن أن ٌفعل رجالة البلد مدام ملكوا السبلح كل ما بٌدهم لمنعه حتى آخر نفس.
❽ ترعرعت شجرة الوطنٌة فً النفوس مجددا ،مرتوٌة بالدماء ،والمصري عاد لٌكون ضمن كفاحه
كلمات "الؽٌرة الوطنٌة" ،و"الدفاع عن الوطن" ،و"الوطنٌة الشرٌفة" ،و"حرٌة مصر" ،محتضنا بعٌنٌه
وقلبه ودمه مصر كلها ،بعد أن اختزلت االحتبلالت حٌاته ووعٌه فً القرٌة فقط.
وفً ختام شهادته على األحداث ،خاصة بعد سرد نهاٌتها الحزٌنة ،وفً رده على سإال طرحه على
نفسه حول "ما الذي ٌحمله المستقبل لمصر" ،قال "بلنت" إن اإلنجلٌز بما فعلوه "مكنوا سكان النٌل
الوطنٌٌن من الوقوؾ فً وجه األجنبً باعتباره مالكا لؤلرض ،وما بقً هذا اإلحساس ،وما بقٌت هذه
الوقفة ،ستبقى األمة حٌة ،وسٌؤتً الٌوم الذي سٌعود فٌه الحكم الذاتً إلى الفبلحٌن ،وعندها ٌتبدى لهم أن
الصراع المسلح الذي دار فً عام ٕ ٔ88كان فً حقٌقة األمر بداٌة لحٌاة وطنٌة لهم ،تلك الحٌاة التً
ستمجدها حولٌات هإالء الفبلحٌن .سوؾ أعلق أمالً كلها على مجا ذلك الٌوم الذي ٌتحقق فٌه التحرر
النهابً(.")ٕ8ٙ
(٘)ٕ8
-راجع القوانٌن وبرنامج الحزب الوطنً ومطالب محمد عبده فً مذكرات الزعٌم أحمد عرابً ،جٔ ،ص ٖٔٙ -ٖٓ9و ،ٖ99وٕٖٗ و٘ٓٗ-
،ٗٓٙودعوات التعلٌم والصناعة وإنشاء بنك مصري فً :تطور الرأسمالٌة المصرٌة ،مرجع سابق ،ص ،9ٔ -ٙ8ووثٌقة عرابً إلصبلح حال
مصر فً "كٌؾ دافعنا عن عرابً وصحبه" ،برودلً ،ص ٕٖ88 -ٖ8
()ٕ8ٙ
-التارٌخ السري لبلحتبلل اإلنجلٌزي لمصر ..رواٌة شخصٌة لؤلحداث ،مرجع سابق ،ص ٖ٘٘
ٗ8ٙ
وبحزم قال عرابً بعد عودته من المنفى ٔٓ" :ٔ9مصر للمصرٌٌن ،إن لم ٌكن الٌوم فؽدا"(.)ٕ89
"إن صالح األرض (مصر) ٌنحصر فً تطبٌق الماعت"( ...)ٕ88المٌزان والهرم المعدول.
()ٕ89
-مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن ،محمد جبرٌل ج ٕ ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ٕٓٓ9 ،ص ٕ٘ٙ
()ٕ88
-تقدٌم علً رضوان لكتاب "الماعت ..فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة" ،مرجع سابق ،ص ٕٔٔ٘-
ٗ87
واخز الشٌطان(ٔ)"
ِ "قل الحقٌقة
إنهم ٌنتظرون المسٌخ الدجال فً آخر الزمان ...آال ٌعلمون أنه مرافق لإلنسان منذ نزال سوٌا إلى األرض
من بداٌة الزمان! ..
(ٔ)
-الشٌطان أمٌر العالم ،ولٌم جاي كار ،ترجمة عماد إبراهٌم ،األهلٌة للنشر والتوزٌع ،األردن ،ٕٓٔٗ ،ص 9
المشهد :ٔ8الشٌطان ٌحكم العالم وٌؤسر مصر
(المسٌخ الدجال)
امتؤلت الصفحات السابقة -بداٌة من االحتبلل العلوي بالكبلم عن عاببلت وبٌوت مال باسم "روتشٌلد"،
و"جوشن" و"أوبنهاٌم" ،و"التنظٌم العالمً" الذي أؼرق مصر بالدٌون والجالٌات األجنبٌة الجدٌدة حتى
أوقعها فً حبال أساطٌله الحربٌة واالحتبلل اإلنجلٌزي ،فمن هإالء؟ وما مصدر قوتهم؟ وما عبلقتهم
بمصر؟ وما دورهم فً إؼراق مصر بالهجرات األجنبٌة لكتم وحدانٌتها وتحوٌلها أعراقا وأحزابا وشٌعا؟
الصفحات القلٌلة القادمة تستقً اإلجابة من كتابات أوروبٌة قدٌمة وحدٌثة ،ودراسات ووثابق مصرٌة،
حول هإالء ،وضرورة استعراضها هو أنها مفتاح لنفهم كل األحداث القادمة فً مصر ،بل وحتى ٌوم
القٌامة ،ألنها تكشؾ أسباب كثٌر من الحروب واالحتبلالت والقرارات والثورات فً مصر والعالم ،بل
ٌصعب أن نفهم ما ٌجري فً مصر إن لم نفهم ما هً بٌوت المال العالمٌة واألٌدٌولوجٌات التً تتحكم فً
العالم ،وما عبلقة هذا بتمٌٌع الهوٌة المصرٌة ،وتخرٌب معنى الجنسٌة المصرٌة ،وتكدٌس مصر بالجالٌات
واألعراق األجنبٌة ،وحشوها بالتنظٌمات العالمٌة كالشٌوعٌة واللٌبرالٌة الرأسمالٌة وتنظٌم اإلخوان
المسلمٌن والقومٌة العربٌة وخرافة المواطن العالمً وؼٌرها.
وكما نبَّهنا الدكتور جبلل أمٌن فً كتابه "قصة االقتصاد المصري من عهد محمد علً إلى عهد
مبارك" ،فإنه لنفهم ما ٌجري فً مصر ٌجب أن نوسع نظرتنا لما ٌجري فً العالم ،ولنفهم محنة مصر ٌلزم
فهم دورة رأس المال فً العالم ،ومن ٌدفع مصر إلى "االنفتاح االقتصادي" وٌهٌل على أرضها الجالٌات
األجنبٌة لؽرؾ خٌراتها(ٕ).
والنبش وراء ظهور هذه التنظٌمات السوداء فً العالم -وهو ما اجتهدت فٌه مشكورة أجٌال قبلنا -وكٌفٌة
ؼزوها مصر ،ربما ٌكشؾ لنا إجابات عزٌزة عن أسبلة حٌرتنا وعذبتنا أجٌال ورا أجٌال حول سبب انتشار
اإلرهاب ،وظهور جماعات فً مصر تتفاخر بخٌانة بلدها ومعاداة المإسسات الوطنٌة ،وسبب الدعوة
اللحوحة إلزالة الحدود الجؽرافٌة ،وتجنٌس األجانب ،وسبب استمرار عقدة الخواجة وتحقٌر الذات
المصرٌة الشرٌفة ،وظهور المنظمات الحقوقٌة ،وانجراؾ مصرٌٌن للؽربة برة ،ومسح مبلمح الباقً من
هوٌة مصر ببل هوادة ،وسبب كعبلة مصر وجرها للوراء كلما انتصرت فً ثورة أو حرب وعلت برأسها
(ٕ)
-انظر :قصة االقتصاد المصري من عهد محمد علً إلى عهد مبارك ،د .جبلل أمٌن ،دار الشروق ، ،القاهرة ،ٕٕٓٔ ،ص ٕٕٖٔ -
ٗ89
كزهرة اللوتس من قاع المحٌط األزلً إلى السما من جدٌد.
كذلك ربما نجد السبب وراء شكوانا من أن "النخبة" -وخاصة اآلن -معظمها ال تعبر عنا ،وتقودنا
للمهالك ،وتمسح عٌوبها بكل وقاحة فً المصرٌٌن ،حتى ظهر بعد فوضى ٕٔٔٓ تعبٌر "نخبة النكبة".
وما سبق ٌلزمه عرض نبذة مختصرة عن مصنع هذه التنظٌمات والتٌارات العالمٌة ،ومصنع االحتبلالت
والحروب األهلٌة والعالمٌة ،منجم الشر ،المتحكم األول فً االقتصاد والرأي العام العالمً ،العاشق األول
لسفك الدم ،الكاره األول للحضارات ،وخاصة حضارة مصر (كلمة الحق) ،صاحب سٌاسة "الهرم
المقلوب" وهو ما سمته الكتب األوروبٌة واألمرٌكٌة فً الـ ٕٓٓ سنة الماضٌة بـ"تنظٌم النورانٌٌن"،
وكشؾ بعض أسراره أعضاء سابقون فٌه ،ومحققو أجهزة مخابرات فً جرابمه ،وباحثون منقبون فً
التارٌخ.
"ألن أٌدٌكم قد تنجست بالدم ،وأصابعكم باإلثم .شفاهكم تكلمت بالكذب ،ولسانكم ٌلهج بالشر .لٌس من
ٌدعو بالعدل ،ولٌس من ٌحاكم بالحقٌ .تكلون على الباطل ،وٌتكلمون بالكذب .قد حبلوا بتعب ،وولدوا إثما.
فقسوا بٌض أفعى ،ونسجوا خٌوط العنكبوت .اآلكل من بٌضهم ٌموت ،والتً تكسر تخرج أفعى .خٌوطهم ال
تصٌر ثوبا وال ٌكتسون بؤعمالهم .أعمالهم أعمال إثم ،وفعل الظلم فً أٌدٌهم .أرجلهم إلى الشر تجري،
وتسرع إلى سفك الدم الزكً .أفكارهم أفكار إثم .فً طرقهم اؼتصاب وسحق .طرٌق السبلم لم ٌعرفوه،
ولٌس فً مسالكهم عدل .جعلوا ألنفسهم سببل معوجة .كل من ٌسٌر فٌها ال ٌعرؾ سبلما"( .سفر إشعٌا-
اإلصحاح .)٘9
أشد ما ٌصدق هذا الكبلم على التنظٌمات التً انتشرت فً العالم خبلل الـ ٕٓٓ سنة الماضٌة،
وشعاراتها( :ال دٌن ،ال وطن ،ال دولة ،ال أخبلق ،ال عابلة ،ال سبلم ،ال طاعة ألحد ...إال إلبلٌس).
ٌقول ضابط المخابرات الكندي ولٌام جاي كار الذي خدم فً سبلح البحرٌة والمخابرات مع دول الحلفاء
فً الحربٌن العالمٌتٌن األولى والثانٌة فً كتابه المشهود "أحجار على رقعة الشطرنج" الصادر سنة ٔ9٘8
وأحدث دوٌا ما زالت أصداإه ترن حتى اآلن" :شرعت فً العمل منذ عام ٔٔ ٔ9مستهدفا الوصول إلى
كنه السر الخفً الذي ٌمنع الجنس البشري من أن ٌعٌش بسبلم وٌنعم راؼدا بالخٌرات الوثٌرة التً منحها
هللا لنا ،ولم استطع النفاذ إلى قلب هذا السر أخٌرا حتى عام ٓ٘ ،ٔ9فعرفت أن الحروب والثورات التً
تعصؾ بحٌاتنا ،والفوضى التً تسٌطر على عالمنا لٌست جمٌعا -دونما أي سبب آخر -سوى نتاج مإامرة
شٌطانٌة مستمرة".
وٌعٌد جذور هذه المإامرة إلى الصراع بٌن الخٌر والشر الذي نشؤت على أساسه الدنٌا لما أعجب إبلٌس
بنفسه ؼاٌة اإلعجاب بعد أن منحه هللا سلطانا فوق المخلوقات ،وجعله أجملهم وأذكاهم ،فؤحس أنه "مالوش
كبٌر" ،حتى أنه لما أمره هللا أن ٌسجد آلدم رفض ،مندهشا كٌؾ ٌكون آدم كبٌرا علٌه ولو بؤمر إلهًٌ ،عنً
ٓٗ9
رفض أن ٌكون هللا نفسه كبٌرا علٌه؛ فتحداه ،وأعلن بوقاحة أنه سٌثبت هلل أنه "أخطؤ" فً خلق آدم وفً ثقته
فٌه ،وأن بنً آدم لن ٌكونوا إال عصاة له ،وسٌعبدون فً النهاٌة آلهة أخرى ؼٌر هللا ،وسٌنتهً الزمان بؤال
ٌكون بٌنهم مإمنٌن إال قلٌبل ،فقبل هللا التحدي ،وتحدد مٌعاد إعبلن النتٌجة بٌوم القٌامة ،ومن ٌومها
والشٌطان ٌكد بكل نشاط وتركٌز فً تضلٌل البشر عن الحق ،وباعتباره "أول المتمردٌن على الحق"،
فسبلحه فً هذا تهٌٌج التمرد فً النفوس ضد كل حق وكبٌر ،تهٌٌج األجٌال على بعضها ،والشعوب على
أوطانها ،والشعوب على حكامها المخلصٌن ؼٌر التابعٌن لدول وتنظٌمات عالمٌة ،وتهٌٌج البشر على هللا
واألخبلق الحسنة ،وتهٌٌج الببلد ضد بعضها بزرع مطامع الؽزو واالحتبلل لنهب خٌراتها؛ فتستمر
الحروب والمذابح وٌكفر وٌفسد الناس من كثرة المعاناة.
وبدأ بآدم نفسه وحواء ،فاهلل تعالى وهبهما الجنة بحالهاٌ ،جرون وٌمرحون وٌتمتعون فٌها "براحتهم" ،ال
تعب وال خوؾ وال موت ،فقط أمرهما أن ٌتركا شجرة واحدة ال ٌمساها ،شجرة واحدة من كل أشجار الجنة
الباسقة ،فتسحب الشٌطان كاألفعى وؼذى فٌهما الطمع والتمرد على أوامر هللا ،ووسوس لهما بؤن هللا منعها
عنهما ألن فٌها خٌر كبٌر ،فتمردا على أوامر اإلله الحق (كبٌرهم) ،ورضخا للشٌطان وأكبل منها ،فعاقبهما
هللا بتنزٌلهما للدنٌا الشقٌة ،وكان هذا أول نصر للشٌطان على آدم ،بسبلح تهٌٌج التمرد على الحق (هللا)،
وجهز نفسه لل مهمة األكبر وهً تضلٌل بقٌة نسله بؤن ٌؽذي فٌهم أٌضا فكرة أن اإلنسان الحر هو "اللً
مالوش كبٌر" فً عابلة أو وطن أو دٌن ،وٌؽذي شعور التمرد هذا بزؼزؼة عطش كل إنسان ألن ال ٌخضع
ألي حساب فً الدنٌا واآلخرة ،فهم حٌن ٌحطمون كل كبٌر وكل األصول فسٌنجون من كل حساب وعقاب،
فعبلم سٌُحاسبون إن لم ٌكن هناك أصول معروفة بٌن الناس؟ ومن سٌحاسبهم إن كان ال ٌوجد إله ،أو أن
الناس ال ٌتفقون على كبٌر فً عابلة أو وطن أو دٌن؟
ولكن ماذا ٌفعل إبلٌس لتنفٌذه وعده وتحدٌه هلل الوارد فً اإلنجٌل والقرآن بؤنه سٌضل أبناء آدم ،هل
سٌكتفً بالوسوسة لهم فً آذانهم من طرؾ خفً؟
أم سٌسعى لتجنٌد أشخاص منهم ٌعبدونه من دون هللا ،وٌنشؤون المنظمات والمحافل التً تنشر أفكاره
الخبٌثة ضد هللا واألوطان واألخبلق والفطرة اإللهٌة فً كل شًء ،وتؤخذ أسامً براقة تجذب المبلٌٌن
إلٌها ،شاطرة فً الدعاٌة ،تقدم الحق على أنه الباطل والباطل على أنه الحق (وظٌفة المسٌخ الدجال)،
فٌنفذون أجندة الشٌطان ،حتى دون علمهم بؤنه قابع لهم ورا الستارة؟
ورد فً القرآن :إذ قال ربك للمبلبكة إنً خالق بشرا من طٌن (ٔ )9فإذا سوٌته ونفخت فٌه من روحً
فقعوا له ساجدٌن (ٕ )9فسجد المبلبكة كلهم أجمعون (ٖ )9إال إبلٌس استكبر وكان من الكافرٌن (ٗ )9قال
ٌا إبلٌس ما منعك أن تسجد لما خلقت بٌدي أستكبرت أم كنت من العالٌن (٘ )9قال أنا خٌر منه خلقتنً من
نار وخلقته من طٌن ( )9ٙقال فاخرج منها فإنك رجٌم ( )99وإن علٌك لعنتً إلى ٌوم الدٌن ( )98قال
رب فؤنظرنً إلى ٌوم ٌبعثون ( )99قال فإنك من المنظرٌن (ٓ )8إلى ٌوم الوقت المعلوم (ٔ )8قال
فبعزتك ألؼوٌنهم أجمعٌن (ٕ )8إال عبادك منهم المخلصٌن (ٖ )8قال فالحق والحق أقول (ٗ )8ألمؤلن
ٔٗ9
جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعٌن (٘( ..)8سورة الحجر)
ٌقول ولٌام جً كار إن الكتب المقدسة "أخبرتنا كٌؾ انتقلت المإامرة الشٌطانٌة من جنات عدن إلى
عالمنا األرضً .وكانت الحقابق والبدٌهٌات المتناثرة التً عثرت علٌها فً كل أرجاء العالم متقطعة
الحلقات ال ٌمكن تنسٌقها ،واستمر ذلك حتى وصلت إلى الحقٌقة ،وأدركت أن معركتنا لٌست مع مخلوقات
عادٌة من لحم ودم ،بل مع القوى الروحٌة والفكرٌة التً تعمل فً الظبلم ،وتسٌطر على معظم هإالء الذٌن
ٌشؽلون المراكز العلٌا فً العالم بؤسره.
إن وجود آدم فً األرض حقٌقة ،كذلك وجود الشٌطان (المسٌخ الدجال) حقٌقة ،أحدهما ظاهر ،واآلخر
خفً ،وكما آلدم معابده وكتبه المقدسة وذرٌة ،كذلك للشٌطان معابده وكتبه وأتباع "إنه ٌراكم وقبٌله من
حٌث ال ترونهم" (سورة األعراؾ ،اآلٌة )ٕ9
وٌنبه جً كار" :إن الكتاب المقدس ٌذكر لنا -وهذا ما ٌنساه معظمنا -أن الشٌطان كان من أكبر سكان
الفردوس ذكاء ودهاء ومقدرة ،وأن روحه باقٌة لم تفن ،وكٌؾ خرج وأتباعه على قواعد الدستور اإللهً
( )...ولٌست التوارة فً الواقع سوى قصة الشٌطان حٌن أصبح سٌد العالم ،وجعل أجدادنا األولٌن ٌحٌدون
عن جانب الحق؛ فتؤسس كنٌس الشٌطان على األرض ،ثم تخبرنا التوراة كٌؾ شرع هذا الكنٌس منذبذ فً
التآمر لمحاربة الدستور اإللهً"(ٖ).
وفً رأي جً كار فإن المسٌح بُعث فً الوقت الذي بلؽت فٌه المإامرة مرحلة أصبح الشٌطان فٌها
المسٌطر على كل هإالء الذٌن ٌشؽلون المراكز العلٌا فً العالم ...ففضح المسٌح كنٌس الشٌطان وهاجم
أتباع الكنٌس مسمٌا إٌاهم (أبناء الشٌطان) ،وأن المسٌح أخبرنا فً اإلنجٌل بؤنهم َمن "ٌقولون إنهم ٌهود...
ولٌسوا ٌهودا...بل ٌكذبون" (سفر رإٌا ٕ 9:وٖ.)9:
وقال المسٌح للٌهود" :أنتم من أب هو إبلٌس ،وشهوات أبٌكم ترٌدون أن تعملوا .ذاك كان ق َّتاال للناس من
البدء ،ولم ٌَثبُت فً الحق ألنه لٌس فٌه حق .متى تكلم بالكذب فإنما ٌتكلم مما له ،ألنه كذاب وأبو
الكذاب"(.إنجٌل ٌوحنا )ٗٗ :8
أي أن الشٌطان وأتباعه مهمتهم نشر القتل والحروب وتزوٌر الحقابق إلرهاب وتضلٌل الناس ،لكنهم
على قدر ما ٌبدون من قوة فهم ضعاؾٌ ،ظهر ضعفهم عند ظهور الحق ..وصاحب الحق.
واعتبر جً كار أن المسٌح قدم للناس الخبلص من حبابل الشٌطان بؤن ٌكشفوا مإامرته لكل الناس؛ ألن
معرفة الحقٌقة ستحررنا من ربقة المإامرة ،ولكن لما أهمل الصالحون القٌام بهذا الواجب استمرت
المإامرة ،وأخذت الفرصة لتتطور بحسب تطورات العصور ،وهً اآلن تدخل مرحلتها قبل النهابٌة(ٗ).
(ٖ)
-انظر أحجار على رقعة الشطرنج ،ولٌم جاي كار ،ترجمة سعٌد جزابرلً ،دار النفابس ،ط ٔ ،ٔ99ٓ ،ص 8-9
(ٗ)
-المرجع السابق ،ص 9 -8
ٕٗ9
أي أنه طالما الناس واعٌة لمإامرة إبلٌس وأتباعه الداعٌن لوضع نظام عالمً ٌخالؾ الفطرة السلٌمة،
فإنهم سٌكونون بمؤمن عنها ،ألنهم لن ٌقعوا فً حبابل دعاة الفتن والفجور ،سٌكتشفونهم بسرعة مهما تخفوا
فً أشكال حدٌثة ،أما الؽفلة عنها ستمكن أعدابهم من النفاذ إلى عقولهم والسٌطرة علٌها بسهولة.
وهذا الوصؾ المستخلص من الكتب المقدسة ٌعنً أن الشر -كالخٌر -ال نهاٌة له ،وهو نفس الفكر
المصري القدٌم ألساس الحٌاة الدنٌا ،فاآلثار تخبرنا بؤن العقٌدة المصرٌة تقوم على أننا فً معركة خٌر
وشر ،تؤخذ مصر فٌها جانب الخٌر ،وتمسك بالسبلح فً وجه الشر ،والفنان المصري ٌصور مناظر
الصراع بٌن الخٌر (المصرٌٌن) وبٌن الشر (الثعبان المسمى عبَّ ،أو سٌد قشطة ،فكبلهما رمز الشر
عنده) ،وتنتهً بؤن المصري ٌطعن بسبلحه رمز الشر ،فٌشل حركته وٌكسر سمه لٌعجز عن كسر اإلنسان،
لكن لم ٌصوره على أنه مات نهابٌا ،ألن المصري بفطرته ٌعرؾ أن الشر سٌظل قابما مدامت الحٌاة ،ألن
الحٌاة على األرض فً األساس قابمة على تحدي الخٌر والشر ،ووظٌفة الخٌر شل حركة الشر وتعجٌزه
لٌنجً نفسه منه حتى إعبلن انتصار كلمة هللا وعباده فوق كلمة الشٌطان.
وهو أمر مستوحى من قصة حور وسٌت ،فـ حور انتصر على سٌت ،وكسره ،لكن سٌت لم ٌمت،
فسٌظهر مرة أخرى فً شكل رجل فاسد أو احتبلل وؼزاة أو فتنة؛ فٌفوز فً معركة ضد الخٌر حور؛
فٌشحذ الخٌر أسلحته من جدٌد ،وهً :الحق (ماعت) ووحدانٌة الشعب المصري والٌقظة والقوة ،وٌنتصر
من جدٌد ،وهكذا ..حتى الٌوم الموعود(٘).
والمهم أن الخٌر ٌنتصر فً النهاٌة فً العقٌدة المصرٌة ،هكذا نرى أن رع فً صورة الشمس وهو ٌسبح
بمركبته فً السماء ٌقضً اللٌل ٌعافر وٌتعارك مع عبّ (الثعبان رمز الفوضى وإزفت ومعروؾ فً الكتب
األثرٌة بالنطق الٌونانً أبو فٌس) ،ألن عبَّ ٌرٌد أن ٌقلب المركب "ٌعطل المراكب الساٌرة" وٌمنع رع من
أن ٌصل إلى الشرق وتشرق الشمس من جدٌد وتعٌد النور للناس بعد الظبلم (الحق بعد الباطل) ،لكن فً
نهاٌة المعارك ٌنتصر رع وٌعود النور وٌختفً الظبلم.
(٘) -عن قصة حور وست أنظر :تطور المثل العلٌا فً مصر القدٌمة ،محمد علً سعد هللا ،مإسسة شباب الجامعة للطباعة والنشر ،ص ٖٔٔ -99
ٖٗ9
حور برأس الصقر مرتدٌا تاج مصر وهو ٌطعن بالحربة سٌد قشطة "أحد رموز الشر" (معبد إدفو) وحارس مصري ٌمسك الحربة استعدادا لطعن
الثعبان عبَّ "أبو فٌس" رمز الشر وإزفت الذي ٌرٌد منع شروق الشمس كل ٌوم (مقبرة رمسٌس األول)
ولذا فلٌس بعجب أن مصر هً "كلمة الحق المجسدة فً وطن" على األرض.
لٌس فقط فً قٌم الخٌر المؤلوفة التً تتبناها ،وفً أنها أول شعب تخلص من الهمجٌة المسلحة والفرقة
القبلٌة وٌسلم سبلحه وإدارته إلى جهة واحدة (الحكومة) ونظام واحد (ماعت) لٌإسس الدولة المتحضرة،
لكن فً أنها ربما الحضارة الوحٌدة التً نجت من الطمع الشٌطانً فً شجرة ؼٌرها ،وال ترٌد أن تعطل
مراكب ؼٌرها مدامت ال تضرها ،بمعنى أنها رفعت من بدء وجودها كدولة مبدأ "نسالم من ٌسالمنا ونعادي
من ٌعادٌنا" ،فلم تخرج من حدودها إال لترد من سبق واعتدى علٌها ،ولم تفتح بلدانا أو تحتلها إال ردا على
قدوم احتبلل إلى مصر من جوؾ هذه الببلد ،كما حصل باحتبلل الشام والسودان ردا على تحالفهما فً
االحتبلل الهكسوسً ضد مصر.
وال ٌخص مصر قٌام من احتلوها مثل الٌونانٌٌن والرومان والعرب والممالٌك ومحمد علً باالعتداء
على من لم ٌعت ِد علٌهم ،فلم تكن مصر هً التً تحكم من األساس ،بل هً نفسها كانت محتلة منهم.
وكونت
وبهذا فإن مصر/ماعت من البداٌة (حٌن أقامت دولة وطنٌة لها حدود ثابتة وبحكم مركزيَّ ،
شعبا وحدانٌا بهوٌة خاصة تحمٌه من التمزق ،وشبعان بما فً أرضه ،أخذت جانب الخٌر ضد الشر ،رفعت
مبدأ نسالم من ٌسالمنا ونعادي من ٌعادٌنا) فهً بذلك تهدد األسس التً ٌعتمد علٌها الشٌطان وأتباعه لتضلٌل
الشعوب وفرض سٌطرته على العالم باسم "العالمٌة/العولمة".
ووفق ما ٌردد حزب الشٌطان الٌوم بعد أن كشفوا وجوههم ،فإن مهتهم تحقٌق أن "الشٌطان هو الذي
سٌحرز النصر على هللا فً آخر الزمان" كما ورد فً الوصاٌا العشر فً كتاب "اإلنجٌل األسود" ألنطونً
لٌفً الذي أعلن صراحة ما وصفها بعبادة الشٌطان فً الوالٌات المتحدة سنة ،ٔ9ٙٙوأنشؤ لها كنٌسا(.)ٙ
()ٙ
-انظر :عبادة الشٌطان وسلطان القدٌسٌن ،حلمً القمص ٌعقوب ،كنٌسة القدٌسٌن مارمرقس الرسول ،اإلسكندرٌة ،ص 88
ٗٗ9
وما حركة الثورة العالمٌة المتجددة ضد كل األصول الربانٌة (العابلة والوطن والدٌن واألخبلق والحٌاء
إلخ) ،أو بالمصري "الماعت" ،إال تنفٌذ لما سماها جاي كار بعد جولته فً الوثابق الخاصة بالتنظٌمات
العالمٌة بـ"ثورة الشٌطان" على هللا ،وهً بالمصري "الزفتة" ،أي الفوضى.
وٌحكً "جً كار" بداٌة العثور على أدلة مكتوبة عن المإامرة تثبت دورها فً الثورات األوروبٌة ما
بٌن القرنٌن ،ٕٓ-ٔ9ثم الحروب العالمٌة ،وصوال إلى تؤسٌس األمم المتحدة ،رأس الشٌطان ،نقبل عن كتب
نشرها أعضاء سابقون فً تنظٌم ٌدعى "النورانٌٌن" أو "المتنورٌن" Illuminatiففً ٗ" ٔ98ضربت ٌد
هللا ضربتها" ،وعثرت الحكومة البافارٌة (مملكة أوروبٌة تحولت إلى مقاطعة حالٌا فً ألمانٌا) على أوراق
بحوزة شخص كان ٌعبر بجواده الحدود من ألمانٌا إلى فرنسا مرسلة من آدم واٌزهاوبت إلى أعضاء محفل
الشرق األكبر ،وهو اسم المحفل الماسونً األشهر فً فرنسا وقتها ،تتضمن خطة إشعال الثورة الفرنسٌة
وتمكٌن النورانٌٌن من حكم فرنسا تحت شعار "التنوٌر".
والنورانٌون ،وفً قول آخر التنوٌرٌون ،اسم مؤخوذ من "حامل النور" وهو من ألقاب الشٌطان عندهم،
وٌشٌعون أنهم هم حملة النور والتحضر للعالم ،وأن رسالتهم التنوٌر ونشر الحداثة( ،)9وسٌرا على نظام
الكتاب فً تسمٌة األسماء بمسٌاتها ،وبما أن الشٌطان تفاخر أمام هللا بؤنه مخلوق من نار قبل أن ٌخدع
البشر بؤنه هو "رب النور" ،فإن الكتاب سٌسمً هإالء باسم "النارٌون" ،ولٌس "النورانٌون" المضللة
والتً تحجب حقٌقتهم كعادة وأسلوب المسٌخ الدجال منذ القدم.
وواٌزهاوبت عمل أستاذا لبلهوت فً جامعة أنجولد شتات بؤلمانٌا ،ولكنه ارتد عن المسٌحٌة لٌعتنق
المذهب الشٌطانً "الناري" ،وفً عام ٓ ٔ99استؤجره المرابون الذٌن أسسوا فٌما بعد مإسسة روتشٌلد،
إحدى أشهر بٌوت المال العالمٌة ،لمراجعة وتنظٌم بنود الخطة التً ٌسٌر علٌها أتباع الشٌطان منذ العصور
القدٌمة ،وٌدفعون بها الشعوب إلى الحروب والرذابل والفتن الكبرى ،لكً ٌح ِّدثها وفقا لتطور الظروؾ
السٌاسٌة فً العالم خبلل القرن ،ٔ8وأتم عمله فً ٔ ماٌو عام ٔ99ٙالذي اتخذه الشٌوعٌون -أحد فروع
تنظٌم النارٌٌن -فٌما بعد عٌدا لهم تحت اسم عٌد العمال(.)8
وكان الروم الكاثولٌك ٌحتفلون فً ٔ ماٌو منذ قرون بعٌد أم المسٌح ،ولهذا اختاره واٌزهاوبت ،وهو
ٌسوعً مرتد ،لٌعلن فٌه لرفاقه من عبدة الشٌطان عن خطته المعدلة لتدمٌر المسٌحٌة وإحداث ما أسماه
نٌتشه فٌما بعد "موت الرب"( ،)9فٌكون تحول من ٌوم لتمجٌد المسٌح إلى ٌوم االحتفال بخطة "تدمٌره".
()9
-أنظر :الشٌطان أمٌر العالم ،ولٌم جاي كار ،ترجمة عماد إبراهٌم ،األهلٌة للنشر والتوزٌع ،األردن ،ٕٓٔٗ ،ص ٖٓ
()8
-أحجار على رقعة الشطرنج ،مرجع سابق ،ص ٔٔ
()9
-نفس المرجع ،ص ٔٔ9
*** الٌسوعٌون ،رهبنة أو منظمة تابعة لكنٌسة روما الكاثولٌكٌة "الفاتٌكان" ،نشؤت فً القرن ،ٔٙواهتمت باالنتشار فً العالم عبر إنشاء
المدارس والجمعٌات الخٌرٌة والمستشفٌات والجامعات ،كجامعة جورج تاون بؤمرٌكا وجامعة القدٌس ٌوسؾ ببٌروت ،ومزجوا بٌن التعلٌم الدٌنً
والدنٌوي الحدٌث والفنون فبهروا الناس ،ونقلوا المسٌحٌة إلى األمرٌكتٌن والصٌن.
٘ٗ9
ووفق نفس الدراسة فإن "النورانٌة تمارس داخل نظام الٌسوعٌة تحت اسم الكمالٌة" ،بمعنى محاولة
الوصول لئلنسان إلى الكمال ،فتخطؾ هذه األسماء وشعاراتها البراقة األبصار ،وتوقع الشخصٌات
المستهدفة فً حبابلها ،وهناك مثل مؤثور ٌقول "إن الطرٌق إلى جهنم ممهد بالنواٌا الحسنة(ٓٔ)".
وقال واٌزهاوبت فً رسالة إلى أحد رفاقه اسمه الحركً ""كاتو" سنة " :" ٔ998بواسطة هذه الخطة
سنقوم بإدارة كل الجنس البشري ،وبهذه الطرٌقة وبؤبسط الوسابل سنجعل الجمٌع فً حركة وهٌاج ( )...لقد
أخذت باالعتبار كل شًء إلى درجة أنه إذا انهار النظام الٌوم سؤعٌد إنشاءه فً سنة لٌعود أروع من أي
وقت مضى(ٔٔ)".
ولخص واٌزهاوبت وسابل حركة الثورة العالمٌة للوصول إلى الدمار الشامل للبشر ،بحٌث ال ٌبقى إال
نخبة الشٌطان واألتباع المستسلمٌن لها لٌعلن بهم "انتصاره" على هللا فً ٙنقاط:
ٔ -إلؽاء جمٌع الحكومات الوطنٌة (أي التً لٌس لها جذور ووالءات خارجٌة)
٘ -إلؽاء المسكن العابلً والحٌاة العابلٌة اللً قامت علٌها الحضارة
(ٕٔ)
-ٙإلؽاء جمٌع األدٌان تمهٌدا إلحبلل األٌدٌولوجٌة النورانٌة (النارٌة الشٌطانٌة) محلها بالقوة
واعتمد واٌزهاوبت النجمة السداسٌة شعارا للنارٌٌن ،لٌس ألنها نجمة داود ،ولكن ألن برنامجه هذا الذي
ٌتؤلؾ من النقاط الستة.
وعن سٌطرة "النارٌٌن" على تشكٌل وعً ووجدان الشعوب جاء فً رسالة واٌزهابت إلى رفٌق آخر له
وتكاد تكون أول تنظٌم دولً ٌتبع سٌاسة االنتشار من بوابة العمل الخٌري والمدارس والجامعات والخالٌا الثقافٌة والفنٌة ،وٌكون له أذرع
وإمبراطورٌة اقتصادٌة فً كل قارات العالم ،وتخرٌج شخصٌات ٌكون لها التؤثٌر فً الرأي العام فً بالدها ،ما أثار حولها الكثٌر من التساإالت
حول أهدافها الحقٌقٌة.
ورسالة الٌسوعٌة األساسٌة إخضاع بقٌة المذاهب والكنابس فً العالم -بما فٌهم الكنٌسة المصرٌة -إلى كنٌسة روما ،أو ما تسمٌه "االتحاد" ،كما
لها اهتمام خاص بدعم األجانب والالجبٌن فً أي بلد ،وخصصت لهم "الهٌبة الٌسوعٌة لخدمة االجبٌن"؛ ما ٌربط انتماءاتهم بؤهدافها فً تؽٌٌر
هوٌة الشعوب والسٌطرة علٌها بربطها بالفاتٌكان أو بتسلٌمها لألجانب المستوطنٌن.
وٌتصؾ أعضاء التنظٌم بالطاعة الشدٌدة ل قادتهم ،وأول مرة ٌصل أحد من أعضابها إلى بابوٌة روما هو البابا الحالً فرنسٌس سنة ٖٕٔٓ ،وعلى
مثلها ستتكون تنظٌمات كالفرنسٌسكان واإلخوان المسلمٌن وؼٌرها.
(ٓٔ)
-الشٌطان أمٌر العالم ،مرجع سابق ،ص ٓٗٔ
(ٔٔ)
-نفس المرجع ،ص ٘ٔ9
(ٕٔ)
-أحجار على رقعة الشطرنج ،ولٌام جً كار ،مرجع سابق ،ص ٕٕ٘ٙ -
ٗ9ٙ
اسمه "فٌلو"ٌ" :جب أن نكتسب سٌطرة على عامة الناس فً كل مكان ،وذلك عن طرٌق المدارس،
وبطرٌقة مشابهة ٌجب أن نحاول أن نكسب األكادٌمٌات العسكرٌة ودور النشر وباعة الكتب والمتجر
ورجال الكنٌسة ونإثر علٌها ،وباختصار فً كل المواقع ،وحتى فً توجٌه عقل اإلنسان ٌعتبر الرسم
والنحت جدٌران باهتمامنا(ٖٔ)" ،أي كل ما ٌقع فً داٌرة اإلعبلم والتعلٌم والفن وما ٌإثر فً الرأي العام.
ولم ٌتضح ماذا كانت البنود القدٌمة فً الخطة قبل أن ٌحدثها واٌزهاوبت التً جرى تسرٌبها وسمٌت
الحقا ببروتوكوالت صهٌون أو البروتوكوالت الٌهودٌة ،ولكن جً كار ٌفضل وصفها ببروتوكوالت أو
خطة الشٌطان ،ألن الصهٌونٌة والٌهود الحقٌن لها ،وهم مجرد أدوات مستحدثة.
وتقوم الخطة المعدلة على أن مهمة الحركات المتفرعة من تنظٌم "النارٌٌن" هً تدمٌر جمٌع الحكومات
واألدٌان ،وتقسٌم العالم إلى معسكرات متنابذة متصارعة حول مشاكل ٌتم اصطناعها بشكل متواصل،
وتسلٌح هذه المعسكرات ،ثم تدبٌر حوادث لخلق حرب وراء حرب ،فتضعؾ الدول الوطنٌة ،وٌدمر البشر
أنفسهم بؤنفسهم فً الحروب ،وٌدمرون فً نفس الوقت شرابع هللا والقوانٌن االجتماعٌة األخبلقٌة التً
توارثوها ،وبعد نشر الرذابل والمذابح والحروب المتبلحقة ٌتبقى منهم أعداد قلٌلة ال تجد لها سندا إال أن
تسلم نفسها لعبادة الشٌطان ،فٌعلن أمام هللا فً ٌوم القٌامة "انتصاره".
وفً ٔ99ٙقدم واٌزهاوبت تنظٌم "النارٌٌن" على أنه "المنقذ للبشرٌة" ،وأن هدفه الوصول إلى
(حكومة عالمٌة واحدة) تتكون من أصحاب القدرات الفكرٌة الخارقة ،وأذكٌاء ونجوم العالم ،إلدارة العالم
بشكل أفضل ،واستطاع بذلك أن ٌضم إلى التنظٌم ما ٌقرب من ألفٌن من أبرز المتفوقٌن فً الفنون واآلداب
والتعلٌم والعلم واالقتصاد والصناعة فً أوروبا؛ باعتبارهم "النخبة" ،وأسس عندبذ محفل الشرق األكبر
بفرنسا لٌكون مركزا تنطلق منه أوامر رجال المخطط الجدٌد(ٗٔ).
ولهذا ،أصبح التنظٌم هو القابد للمحافل الماسونٌة التً مهمتها جذب المتفوقٌن ونجوم المجتمع تحت
شعارات الحداثة ونشر السبلم ،وكانت منتشرة قبل وضع مخطط واٌزهاوبت ،ولكن المخطط جعل منها
"موردا" للشخصٌات التً ٌثبت سهولة تطوٌعها ألهدافه ،فلٌس كل أعضاء المحافل الماسونٌة أعضاء فً
التنظٌم ،فؤعضاإه عددهم محدود ،وال ٌعرفهم معظم الماسون ،بل ال ٌعرفون بوجود هذا التنظٌم أساسا ،وال
ٌعرفون أنه من ٌدٌر اقتصاد العالم وٌدبر حروبه ،وأعضاء تلك المحافل لٌسوا إال أدوات بٌده.
ووضع واٌزهاوبت ألتباعه تعلٌمات لجذب أؼنٌاء ونجوم المجتمع وقادة الحكومات والمتفوقٌن أصحاب
التؤثٌر بٌن شعوبهم ،وهً:
ٔ -الرشوة بالمال والجنس للسٌطرة على األشخاص الذٌن ٌشؽلون المراكز الحساسة فً الحكومات
(ٖٔ)
-الشٌطان أمٌر العالم ،ولٌام جً كار ،مرجع سابق ،ص ٔ99
(ٗٔ)
-أحجار على رقعة الشطرنج ،مرجع سابق ،ص ٔٔ
ٗ97
ومختلؾ المجاالت ،ثم ابتزازهم بفضحهم إذا ما أبدوا مقاومة لتنفٌذ المهام المكلفٌن بها(٘ٔ).
ٕ -على النارٌٌن الذٌن ٌعملون أساتذة فً الجامعات أن ٌولوا اهتمامهم للطبلب المتفوقٌن والمنتمٌن إلى
أسر محترمة لٌولدوا فٌهم االتجاه نحو األممٌة العالمٌة ]العولمة فٌما بعد[ ،وٌرسخ فً أذهانهم أن تكوٌن
حكومة واحدة فً العالم هو الطرٌقة الوحٌدة للخبلص من الحروب والكوارث المتوالٌة ،وأن لهم الحق
باعتبارهم األكثر ذكاء فً مجتمعاتهم أن ٌقودوها إلى اإلصبلح والتؽٌٌر.
وٌتم هذا بدعم الطبلب المختارٌن بمنح دراسٌة تسٌر بهم فً هذا االتجاه بمناهج تتحدث عن قبول اآلخر
والتعاون والسبلم الدولً وفتح الحدود والعالم المفتوح واالنفتاح وتجاوز عنصرٌة األوطان إلخ.
ٖ -مهمة الشخصٌات ذات النفوذ التً تسقط فً شباك النارٌٌن والطبلب الذٌن تلقوا التدرٌب الخاص هً
استخدامهم كعمبلء ،وإحبللهم فً المراكز الحساسة خلؾ الستار لدى جمٌع الحكومات بصفة خبراء أو
مستشارٌن ،بحٌث ٌمكنهم تقدٌم النصح إلى كبار رجال الدولة وتوجٌههم العتناق سٌاسات من شؤنها ،بعد
أمد طوٌل ،أن تخدم المخططات السرٌة لمنظمة العالم الواحد.
وٌتمثل فً اقتراحهم لمشروعات قوانٌن تحت اسم اإلصبلح االقتصادي أو اإلصبلح السٌاسً أو
اجتماعً ،لكن تؤثٌرها بعد ٓ٘ عاما أو حتى ٓٓٔ عام ستإدي للتدمٌر والتفكٌك.
ٗ -على النارٌٌن الوصول إلى السٌطرة على كل أجهزة اإلعبلم ،بحٌث ٌنتهً األمر بالشعوب الخاضعة
لها إلى االعتقاد بؤن تكوٌن حكومة أممٌة واحدة هو الطرٌق الوحٌد لحل مشاكل العالم(.)ٔٙ
وعندما استلم مازٌنً فً إٌطالٌا راٌة إدارة برنامج واٌزهاوبت للحروب والثورات سنة ٖٗ -ٔ8بعد
موت األخٌر -كرر ما قاله واٌزهاوبت فً هذا الشؤن ،ونقتبس ما ٌلً" :إن مساندة أصحاب النفوذ هو
ضرورة ال ؼنى عنها إلحداث إصبلحات فً بلد إقطاعً".
وفً مصطلحات زعماء الحركة الثورة العالمٌة كلمة "إصبلحات" هذه تعنً "إخضاع" ونحن نرى فً
هذه األٌام (أي وقت نشر كتاب أحجار على رقعة الشطرنج )ٔ9٘8أن أصحاب النفوذ مثل األمٌر برنارد
فً هولندا واألمٌر فٌلٌب فً برٌطانٌا ناشطان فً مجموعة بٌلدربٌرج وفً ؼٌرها من المجموعات
الدولٌة(.")ٔ9
(٘ٔ)
-من األمثلة على هذا سلسلة فضابح شخصٌات برٌطانٌة ،منها وزٌر حربٌة برٌطانٌا بروفومٌو مع فتٌات صؽٌرات ،منهم فتاة لعوب اسمها
كرٌستٌن كٌلر ،واكتشفوا أن الدكتور "وارد" وهو شخصٌة اجتماعٌة متخصصة فً صنع العالقات مع كبار رجال الدولة كان المدٌر لهذا التشبٌك
مع الفتٌات ،ونفس المنوال بعد حرب السوٌس (العدوان الثالثً على مصر )ٔ9٘ٙهزت بارٌس فضٌحة تورط شخصٌات فرنسٌة كبٌرة ،منها
ربٌس البرلمان "لوتروكٌه" ،فً لٌالً حمراء مع مراهقات عارٌات( .مترجم كتاب أحجار على رقعة الشطرنج هامش ص ٕٔ)
()ٔٙ
-انظر :أحجار على رقعة الشطرنج ،ص ٖٔٔٔ -
()ٔ9
-الشٌطان أمٌر العالم ،مرجع سابق ،ص ٘ٗٔ
*** والمقصود مجموعة بٌلدربٌرج الدولٌة ( )Bilderberg Groupو ُتعرؾ باسم مإتمر أو نادي بٌلدربٌرج ،وهو اجتماع سنوي ؼٌر رسمً
ٌحضره فً سرٌة مجموعة من ٓٓٔ ٔ٘ٓ -شخص من رجال السٌاسة واألعمال والبنوك األكتر نفوذا فً العالم لبحث تطورات العالم فً كافة
المجاالت ،ورسم السٌاسات الخاصة بالشركات متعددة الجنسٌات والبنوك العالمٌة لتوجٌه العالم وفق مصالح تنظٌمهم ،وتنشر وسابل اإلعالم حالٌا
ٗ98
ورأى نٌستا وٌبستر فً كتابه "الجمعٌات السرٌة والحركات التخرٌبٌبة" secret societies and
subversive movementsالصادر ٕٗٔ9أن واٌزهاوبت هو مإلؾ الكتابات األصلٌة ألخوٌة
وطابفة النارٌة فً القرن ،ٔ8لكن جاي كار ال ٌتفق معه فً هذه النقطة ،وٌقول" :لقد أقنعتنً دراساتً
وأبحاثً أن واٌزهاوبت قام فقط بتعدٌل وتحدٌث بروتوكوالت مذهب عبادة الشٌطان من أجل تمكٌن كنٌس
الشٌطان من االستفادة بشكل كامل من التقدم الذي تم إحرازه فً العلوم التطبٌقٌة والظروؾ االجتماعٌة
والسٌاسٌة واالقتصادٌة الدٌنٌة اآلخذة فً التؽٌر بسرعة ،ولم ٌقم هو بإنشاء النورانٌة ،ولكن النورانٌة
موجودة منذ أن انشق قابٌل عن الرب ،وتمت كتابة البروتوكوالت مباشرة بعد أن أتقن اإلنسان مهارة
التعبٌر عن أفكاره وتسجٌل خططه بالكتابة على مواد ٌمكن حفظها ،وقبل أن ٌكون أحد قد سمع بكلمة
صهٌون"(.)ٔ8
وكل فترة من الزمن ٌجري تنقٌح وتعدٌل هذه البروتوكوالت أو الخطة بحسب التطورات فً العالم.
والٌومٌ ،جري تعزٌز نسخة واٌزهاوبت المحدثة على ٌد مفكرٌن ٌشكلون القوة المسٌطرة فً مجموعة
"بٌلدبٌرج" والحركة االتحادٌة العالمٌة ومجلس العبلقات الخارجٌة المتواجد فً مبنى هنري برات فً
نٌوٌورك ،و ُتجبر هذه المجموعات الضاؼطة الحكومات الوطنٌة وممثلٌها فً منظمة األمم المتحدة على
تعزٌز فكرة "حكومة عالمٌة واحدة" التً ٌنوي أتباع مذهب عبادة إبلٌس االستحواذ على السلطة فٌها(.)ٔ9
هذا الكتاب تم نشره ،ٔ9٘8وٌنقل هذا الكبلم عن كتب ووثابق مكتوبة قبله بعشرات السنٌن ،من القرون
ٔ8و ٔ9وٕٓ ،وٌتردد صداها اآلن فً ظهور مإسسات مخصوصة فً الوالٌات المتحدة وأوروبا وروسٌا
وتركٌا وإٌران ومالٌزٌا وؼٌرهم لتقدٌم منح دراسٌة لطبلب ٌتخرج الكثٌر منها وهم ٌدعون إلى النظام
العالمً الواحد ممثبل فً "العولمة" ،أو"الشٌوعٌة" ،أو "الخبلفة اإلسبلمٌة" ،ومفتونٌن بالمنظمات العالمٌة
ونظرٌات اإلصبلح االقتصادي والسٌاسً واالجتماعً التً ٌسعون لتطبٌقها فً ببلدهم ،بؽض النظر عن
إن كانت تتوافق مع طبٌعة شعوبهم واحتٌاجاتهم أم ال.
كما ٌنتشر على ألسنة هإالء "المثقفٌن المختارٌن" عبارات ُتحمل الفقراء واألمٌٌن مسبولٌة كافة أزمات البلد،
من فقر وتؤخر وإرهاب وتلوث ووجود نظام حكم ال ٌروق لهم؛ إلجبارهم على تلقً نصابح وبرامج هإالء
"المثقفٌن" بدون نقاش ،ألن الفقراء واألمٌٌن مستودع األصول واألخبلق الخاص بكل بلد لقلة اتصالهم بالخارج.
وعن هذا ٌقول ولٌام جً كار ،إن من عادة النارٌٌن ومسإولً الحركة الثورٌة العالمٌة وجمعٌاتها
موعد انعقاده كل سنة ،ولكن ال تعلم ما ٌدور فٌه ،واالسم منسوب لفندق بٌلدربٌر ج فً هولندا الذي شهد أول اجتماع لسادة المال والنفوذ هإالء
سنة ٗ٘ ٔ9وكان األمٌر الهولندي بٌرنارد أول ربٌس له.
انظر الخبر التالً :اجتماع "بٌلدٌبٌرغ" المثٌر للجدل ٌُعقد الٌوم ..فما هً تفاصٌله؟ ،موقع ٌورو نٌوزٕٓٔ8 -ٙ -7 ،
()ٔ8
-الشٌطان أمٌر العالم ،مرجع سابق ،ص ٖٔ9
()ٔ9
-نفس المرجع ،ص ٘ٗٔ
*** تعزٌز فكرة "حكومة عالمٌة واحدة" بتورٌط الحكومات فً اتفاقٌات التجارة العالمٌة وقوانٌن دولٌة خاصة باألسرة والثقافة والهجرة
والالجبٌن إلخ
ٗ99
السرٌة "إلقاء مسإولٌة أفعالهم الشٌطانٌة على كواهل ؼٌر كواهلهم(ٕٓ).
أول الساقطٌن فً فخ الثورات المسلحة فً القرون الثبلثة األخٌرة هً إنجلترا التً ؼٌَّر الٌهود وحلفابهم
نظامها الحاكم بحرب أهلٌة ،وأوقعوها فً ٌد أسرة مالكة أجنبٌة (هولندٌة) وأسقطت اقتصادها فً ٌد تنظٌم
النارٌٌن األجنبً حٌن أنشؤوا بنك إنجلترا -أحد المتورطٌن فً تكتٌؾ مصر بالدٌون زمن سعٌد وإسماعٌل
وذبح ثورة ٔ -ٔ88فكانت إنجلترا مٌدان االختبار إلسقاط الدول فً قبضتهم وتحوٌل العالم إلى "قرٌة
صؽٌرة" ال تعترؾ بالحدود ،وعلى نمط واحد وفكر واحد بشعارات ثورٌة.
وفً زمن واٌزهاوبت -أي بعد ٓٓٔ سنة -كانت فرنسا الهدؾ التالً ،فؤمر أتباعه فً المحافل الماسونٌة
أن ٌثٌروا ثورة كبرى إلنهاك فرنسا وتحوٌلها إلى مركز لنشر أفكار النارٌٌن باسم العلمانٌة والتنوٌر
والحرٌة والمساواة وحقوق اإلنسان ،وعهد إلى األلمانً "تسفاك" بؤن ٌجمع كتابات واٌزهاوبت فً كتاب
عنوانه" :المخطوطات األصلٌة الوحٌدة" لٌوزعه على الموثوق بهم فً فرنسا ،إال أن نسخة منه سقطت فً
ٌد حكومة بافارٌا ،فسارعت إلؼبلق المحفل الماسونً القابم بها ،وأعلنت جماعة النارٌٌن جماعة خارجة
عن القانون ،وفً ٔ989نشرت تفاصٌل المإامرة بعنوان "الكتابات األصلٌة لمذهب ومنظمة النورانٌٌن"،
أرسلت نسخا منها إلى الحكام والكنٌسة بؤوروبا ،ولكن تؽلؽل النارٌٌن كان من القوة بحٌث ُتجوهل هذا
النذٌر كما تجوهلت قبله تحذٌرات المسٌح إلى العالم.
هذا اإلهمال فً تتبع هذه الجماعة أعطى الفرصة لواٌزهاوبت للخروج بخطة بدٌلة لبلنتشار عبر التسلل
إلى صفوؾ الجمعٌات الماسونٌة السرٌة "الماسونٌة الزرقاء" فً توب أهل البر واإلحسان ،ونشر فكر
األممٌة أو العالمٌة ،وممن سعوا إلٌه الماسونً جون روبسون أستاذ الفلسفة فً جامعة أدٌمبرج ،ولكنه لم
ٌصدق األهداؾ التً ٌعلنها "العالمٌون" للناس ،إال أنه احتفظ بشكوكه ،وعهد إلٌه النارٌون بنسخة منقحة
من مخطط واٌزهاوبت لدراسته ،وفً ٔ989تفجرت الثورة فً فرنسا بسبب رضوخ رجال الدولة
والكنٌسة فٌها لنصابح من رجال "نارٌٌن" ،فتؤكد روبنسون من شكوكه ،وخشى امتداد الخطر إلى بدان
أخرى ،فنشر سنة ٔ998كتاب "أدلة المإامرة لتدمٌر كافة الحكومات واألدٌان" Proofs of
Conspiracy against all the religions and governments of Europe
،carried on in the secret meetings of free masons, Illuminatiلتوعٌة الناس،
ولكن تحذٌره ٌتجوهل أٌضا ،فانتشر لهٌب الحروب األهلٌة والثورات فً أوروبا بعد ذلك حتى القرن (ٕٔ).
ٓٓ٘
وقبل الوصول إلى الثورة الفرنسٌة -نجمة ثورات أوروبا -نلقً نظرة مع مإرخً أوروبا على الثورة
اإلنجلٌزٌة ( )ٔٙ88التً سبقتها بـ ٓٓٔ عام ،وكانت حقل التجارب لسلسلة ثورات هدفها كسر الحدود
الوطنٌة أمام التجارة العالمٌة لبٌوت المال النارٌة ،ولملمة العالم فً بوتقة أفكار واحدة تسهل لملمته فً ٌد
حاكمة واحدة ،ونعرؾ الفرق الهابل بٌن الثورات والحروب التً نظمها النارٌون فً أوروبا وبٌن الثورات
والحروب المصرٌة النبٌلة "ثورة الحق" التً قامت ضد هذا التنظٌم الممثل لـ "ثورة الشٌطان".
بدأ األمر عل ى ٌد البلجبٌن الٌهود ،فنظرا لدورهم فً تكنٌز المال والذهب للتحكم فً االقتصاد (من أٌام
اإلؼرٌق والرومان) ،ودورهم فً نشر الفتن ،وتقدٌم أنفسهم على أنهم المضطهدٌن من الحكومات دابما،
طردت برٌطانٌا و فرنسا وأسبانٌا ودول أوروبٌة أخرى الٌهود عدة مرات فً القرون الوسطى ،وكانوا كلما
استقروا فً مكان تكتلوا فً أماكن سمٌت بـ"الجٌتو"ٌ ،بخون فٌها سمومهم فً صدور األجٌال الجدٌدة ضد
الحكومات البتزازها.
ولٌعودوا إلى المناطق التً طردوا منها فً أوروبا ،أنشؤ بارونات الربا والمال العالمٌة شبكات للهجرة
ؼٌر الشرعٌة تساعدهم على التسلل عبر الحدود ،كما أنشؤوا ما عرؾ باسم السوق السوداء ألنهم كانوا ال
ٌستطٌعون العمل فً النور(ٕٕ) ،وبدأت العصابات الٌهودٌة فً مسلسل تدمٌر الحكومات التً وقفت ضدها،
ففً إنجلترا زرعت الخبلفات بٌن الملك وحكومته بحجة مقاومة االستبداد ،وبٌن أصحاب العمل والعمال،
وبٌن الدولة والكنٌسة حول المذهب الكاثولٌكً المتمسكة به الدولة والبروتستانتً الخاص بالكنسٌة عبر نشر
آراء ونظرٌات متناقضة لحل المشكبلت ،ثم ٌتصارع حولها الجمٌع.
ولم تلبث إنجلترا أن وجدت نفسها مقسمة إلى معسكرات وأحزاب ٌتحفز كل منها لبلنقضاض على
اآلخر ،فانقسم الشعب اإلنجلٌزي إلى معسكرٌن بروتستانتً وكاثولٌكً ،ثم انقسم البرتستانتً إلى طابفتً
"الملتزمون" و"المستقلون" ،وانهمر الذهب فً ذلك كله من جهات مجهولة على المحرضٌن.
انتهى الصراع فً اآلراء إلى صراع مسلح فً عهد الملك شارل األول بٌن قوات تناصر الملك
وعصابات تناصر البرلمان وما تصفها بالحرٌات بتحرٌض وتموٌل من مناسح بن إسرابٌل (أحد كبار
المرابٌن العالمٌٌن فً هولندا) ،والزعٌم الٌهودي المشهور فرناندٌز كارفاجال ،اللذٌن استماال القابد
اإلنجلٌزي الشهٌر أولٌفر كروموٌل لئلطاحة بعرش الملك ،وكونوا ملٌشٌات تسمت بالـ"الرإوس
المستدٌرة" ،أمدوها بمبات المرتزقة فً ثوب ثورٌٌن مدربٌن قادمٌن من الخارج كمتطوعٌن لدعم "حرٌة"
الشعب اإلنجلٌزي ،وانضم لها الخبلٌا الٌهودٌة الفوضوٌة وشرع الجمٌع فً نشر اإلرهاب وتروٌع السكان،
حتى مرحلة الصدام مع قوات األمن والجٌش.
وساهم السفراء الٌهود المعتمدون لدى إنجلترا ،مثل مٌلخور دي سالم سفٌر فرنسا فً دعم وإٌواء زعماء
(ٕٕ)
-انظر أحجار على رقعة الشطرنج ،مرجع سابق ،ص ٙ8
*** وألن التارٌخ ٌعٌد نفسه فإن نفس شبكات الهجرة ؼٌر الشرعٌة أُعٌد تشؽٌلها لتهرٌب الٌهود ألمرٌكا ثم لفلسطٌن باسم الجبٌن فارٌن من
المذابح ،وحالٌا تعمل على تهرٌب السورٌٌن والعراقٌٌن واألفؽان واألفارقة باسم الجبٌن أٌضا ،وتوزٌعهم على بلدان مستهدفة على رأسها مصر.
ٔٓ٘
الفوضى فً األوقات الحرجة ،وتدرٌبهم ،حتى قال الثري الٌهودي إسحق دزرابٌلً (والد ربٌس وزراء
برٌطانٌا بنٌامٌن دزرابٌلً صاحب صفقة شراء نصٌب مصر فً أسهم قناة السوٌس فٌما بعد) فً كتابه
"الملك شارل الثانً" إنه حصل على معظم المعلومات من سجبلت مٌلخور دي سالم ،وتكلم عن التشابه بٌن
ظروؾ وأسالٌب الثورة اإلنجلٌزٌة والثورة الفرنسٌة(ٖٕ).
وأثار تدفق المهاجرٌن الفوضوي إلى إنجلترا عن طرٌق التهرٌب بحجة دعم "الثوار األحرار"،
واستخدام المخربٌن المدربٌن لتكوٌن المنظمات اإلرهابٌة ،وتموٌل العملٌة كلها بذهب المرابٌن العالمٌٌن،
وتكرر هذا فً حروب وثورات الحقة؛ مما أثار فضول الباحثٌن الذٌن ٌتتبعون الخطوط المتشابه ،وبتعبٌر
جً كار فهذا األسلوب اتبعته المإامرة دابما فً كل التارٌخ(ٕٗ).
وحقا ،فً حروب وثورات العالم الدموٌة ٌكون المهاجرون سببا ربٌسٌا فٌها منذ التارٌخ القدٌم ..ألم ٌشر
إلٌهم "إٌبو ور" فً بردٌته عن انتشار الفوضى "إزفت" فً األسرة ٙوقال" :انظر! ال صانع ٌعمل ،والعدو
ٌحرم الببلد حرفها"" ،وأصبح األجانب مصرٌٌن فً كل مكان"؛ أي تجرأوا على أن ٌضعوا أنفسهم موضع
المصرٌٌن فً هذا االنقبلب العام ،و"(والببلد) مؤلى بالعصابات ،وٌذهب الرجل لٌحرث ومعه درعه ...حقا
فإن الوجه قد شحب ،وحامل القوس ]تعبٌر مصري ٌقال على األجنبً محترؾ القتال[ أصبح مستعدا،
والمجرمون فً كل مكان ،وال ٌوجد رجل من رجال األمس ...حقا إن الناهبٌن فً كل مكان(ٕ٘)".
وفً النهاٌة قتلت تلك العصابات الملك شارل األول وكافة رجال الدولة المعادٌن للثورة فً ،ٔٙٗ9
وأنشؤت بنك إنجلترا (كبنك خاص رؼم أنه ٌقوم بدور البنك المركزي فً الببلد) ٌدار من بارونات بٌوت
المال ،وصار المتحكم األول فً اقتصاد إنجلترا وبالتالً سٌاستها ،وهو أول من أدخلها فً دابرة االقتراض
منه لتكون أسٌرة له ،وأدخل فً العالم ما عرؾ فٌما بعد بالقروض الدولٌة والحكومٌة الخارجٌة.
فلم ٌكن االنتقام من ملوك إنجلترا هو الهدؾ الحقٌقً للمرابٌن العالمٌٌن الٌهود فً عملٌاتهم هذه ،فهم
ٌعلمون أنهم صناع الفتن التً دفعت الملوك إلى مطاردتهم ،وأنهم لٌسوا بمظلومٌن حقا ،ولكن هدفهم
السٌطرة على اقتصادٌات إنجلترا ومقالٌد األمور فٌها ،ثم إثارة الحروب بٌنها وبٌن أوروبا ُتستنزؾ فٌها
األموال واألخبلق واألرواح ،وتخضع الحكومات لبارونات المال ،وٌُباد مبلٌٌن البشر( ،)ٕٙوفً نفس الوقت
ٌُشعر الحكومات أنه صاحب الفضل فً وجودها.
ف بعد اإلطاحة بملك إنجلترا الجدٌد جٌمس الثانً نصب الثوار الدوق الهولندي ولٌام أوؾ أورانج ملكا
على الببلد بعد تزوٌجه بابنة الملك لٌؤخذ "شرعٌة" حكم ،و إجبار األخٌر على التنازل عن الحكم والرحٌل
لفرنسا ،وتحولت إنجلترا من الكاثولٌكٌة إلى البروتستانتٌة (اإلنجٌلٌة) وهو المذهب المناصر لحركات
(ٖٕ)
-انظر المرجع السابق ،ص ٓ9ٗ -9
(ٕٗ)
-نفس المرجع ،ص ٕ9
(ٕ٘)
-موسوعة مصر القدٌمة ،سلٌم حسن ،الجزء ،ٔ9الهٌبة العامة للكتاب ،مشروع مكتبة األسرة ،ٕٓٓٓ ،ص ،ٕ99وٕٖٖٖٓٓ -
()ٕٙ
-انظر :أحجار على رقعة الشطرنج ،مرجع سابق ،ص ٔ9ٙ -9
*** وامتدت نٌران السٌاسة اإلنجلٌزٌة التً ٌدٌرها بنك إنجلترا إلى مصر بإؼراء سعٌد وإسماعٌل بالقروض كما رأٌنا ثم شد الحبل على رقبة مصر
واحتاللها ،ولوال احتاجوا المصرٌٌن كؤٌدي عاملة فً الزراعة والبنٌة التحتٌة للمشارٌع ألبادوا معظم المصرٌٌن.
ٕٓ٘
التمرد ،واقترض الملك للخزانة اإلنجلٌزٌة ٓٓٓ ٔ,ٕ٘ٓ,جنٌها إسترلٌنٌا من الٌهود المرابٌن الذٌن نصبوه
فً مكانه ،وضمن لمدٌري بنك إنجلترا الحق فً وضع سعر الذهب والتحكم فً العملة ،وهً القرارات
التً شاعت فً بعض كتب التارٌخ بعد ذلك زورا باسم "إصبلحات" إٌجابٌة للثورة التً اشتهرت
بـ"المجٌدة".
وتكرر هذا فً عدة دول أوروبٌة ،حتى قال آمشل مابلو باور "روتشٌلد" ( ٖٗ" :)ٔ8ٕٔ -ٔ9دعنا نتولى
إصدار النقد فً أمة من األمم واإلشراؾ علٌه ،وال ٌهمنا بعد ذلك من الذي ٌسن قوانٌن هذه األمة(.")ٕ9
كارٌكاتٌر نشرته الصحافة فً فرانكفورت ٌ ٔ8ٗ8صور روتشٌلد وورابه أكٌاس الذهب المكدسة ،وأمامه ملوك أوروبا راكعٌن ٌتوسلون لٌعطٌهم
قروضا لتموٌل حروبهم أوإعادة إعمار ببلدهم المدمرة (المصدر :كتاب "مخلوق من جزٌرة جٌكل وتموٌل المإامرة" إلدوارد جرٌفٌن)
ونتٌجة هذه "اإلصبلحات" تورطت برٌطانٌا بالفعل فً حروب مع إسبانٌا وفرنسا وؼٌرهما ،ترتب
علٌها اضطرارها لقروض جدٌدة حتى وصلت عام ٘ٗ ٔ9إلى ٕ ٕٕ,ٖ٘ٓ،ٖٕ٘،ٖ9جنٌها إسترلٌنٌا (ٕٕ
ملٌار جنٌه إسترلٌنً)( ،)ٕ8أما فً ٕٓٔ9فؤعلن مكتب اإلحصاء الوطنً البرٌطانً ارتفاع دٌون القطاع
العام لٌصل إجمالً دٌن الدولة إلى أكثر من ٖ ٔ.99ترٌلٌون جنٌه ،وهً تعادل % 88من إجمالً الدخل
السنوي العام للببلد( ،)ٕ9ولم ٌحمها من هذه القروض كل نظرٌات جون لوك والرأسمالٌة واللٌبرالٌة
ومظاهر التقدم المادٌة ،ولوال احتبلالتها للدول واستنزاؾ أموالها وخٌراتها ألكل شعبها بعضه بعضا.
فً عصور قدٌمة اشتهرت عاببلت ٌهودٌة بؤنها "بٌوت للربا" وصلت فً نفوذها إلى أن تقرض الحكومات
()ٕ7
-انظر المرجع السابق ،ص ٔ 8ٖ -8و ٘7 -٘ٙ
*** ولهذا سارعت إنجلترا لتؤسٌس البنك األهلً المصري ٔ898بعد احتاللها لمصر وأصبح له حق إصدار العملة ،وكان حٌنها بنكا خاصا بعٌدا
عن الحكومة ،لٌسهل تحكم بنك إنجلترا فٌه ،وأممت الحكومة المصرٌة البنك سنة ٔ ٔ9ٙلٌصبح بنكا حكومٌا تجارٌا ،وأسست البنك المركزي فً
ذات العام لتحقٌق االستقالل االقتصادي.
()ٕ8
-نفس المرجع ،ص ٗ8٘ -8
()ٕ9
-دٌون برٌطانٌا تتعدى الترٌلٌون جنٌه إسترلٌنً ،موقع سكاي نٌوز عربًٕٓٔ9- 9 -ٕٕ ،
ٖٓ٘
وتمول حروبها ،منها -كما تابعنا -فً بابل بٌت آل أجٌبً وبٌت آل موراشو حتى أفقرا أهل بابل وتسببا فً
تسلٌمها لبلحتبلل الفارسً فً القرن ٙق.م ،وآل فنحاس (ٌوسؾ بن فنحاس) وآل عمران (هارون بن
عمران) فً بؽداد ،حتى اقترض منهما الخلٌفة المقتدر لما انحنى ظهر الدولة العباسٌة أمام كثرة الحروب
الداخلٌة والخارجٌة بفابدة ٕٓ ،)ٖٓ(%وفً أوروبا القرن ٔ8اشتهر آل روتشٌلد وعاببلت أخرى ،واشتهروا
عمن سبقهم من بٌوت ربا فً أنهم صاروا إخطبوطا ٌمد أذرعه لٌسٌطر على كل العالم ولٌس فقط
اإلمبراطورٌة الموجودة بها.
(ٖٔ)
كارٌكاتٌر فً الصحافة األوروبٌة ٌٗ ٔ89ظهر أحذ أذرع أخطبوط عٌلة روتشٌلد ٌصل مصر باحتبللها
ٌقول جون نٌنٌه فً رسالة بعثها من مصر لصحؾ أوروبٌة فً ٔ88ٔ-ٔ-ٕ9مستعرضا دور روتشٌلد فً
تخرٌب مصر بالدٌون ودعم الخدٌوي ضد الثورة المصرٌة الرافضة لسٌطرة األجانب" :إن عابلة روتشٌلد
لٌس لها أٌة جنسٌة فً الحقٌقة ،ولكن ٌمكن أن ٌكونوا إنجلٌزا وفرنسٌٌن وألمانا ونمساوٌٌن ،سٌكون لدٌهم
ببل شك ذات مرة فرصة االختٌار من أجل أن ٌعملوا على مٌل المٌزان السٌاسً لصالح إحدى هذه القوى
حسب السعر الذي سٌكون مدفوعا لهم ،وسبق أن نصؾ أسهم قناة السوٌس انتقل بواسطة تدخلهم
وبتحرٌض اللورد بٌكونسفٌلد (دذرابٌلً) إلى أٌدي البٌوت فً القسطنطٌنٌة"(ٕٖ).
مإسس األسرة هو آمشل موس باور ،مرابً ٌهودي ،عمل فً صاؼة الذهب ،معدنهم المفضل ،وبعد
تجوال طوٌل فً أوروبا الشرقٌة (مقر مملكة ٌهود الخزر البابدة) استقر سنة ٖٗ ٔ9فً فرانكفورت
األلمانٌة ،وأسس مركزا للمعامبلت المالٌة ،وبعد وفاته خلفه ابنه آمشل ماٌر باور الذي حفظ أسرار أبٌه فً
الربا والذهب واألحبلم ،وحمل لقب روتشٌلد ،وتوزع األبناء واألحفاد على ٘ مناطق هً (إنجلترا ،ألمانٌا،
فرنسا ،النمسا ،الفاتٌكان) ،وحملوا جنسٌات هذه الدول لتكون ورقة مرورهم للمناصب والتحكم بداخلها،
فكانوا كالقبٌلة التً تتفرع بطونها على عدة دول تحمل جنسٌتها ووالبهم الحقٌقً للقبٌلة ،وهو نفس فكر
(ٖٓ)
-تارٌخ التمدن اإلسبلمً ،جٕ ،جرجً زٌدان ،مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة ،القاهرة ،ص ٗٓٔ
English octopus cartoon ٔ89ٗ -
(ٖٔ)
/https://atlanticsentinel.com/ٕٓٔ9/ٓ8/the-octopus-in-political-cartoons/ٔ89ٗ-english-octopus-cartoon
(ٕٖ)
-رسابل من مصر ( ،)ٔ88ٕ -ٔ899جون نٌنٌه ،مرجع سابق ،ص ٕٕ9
ٗٓ٘
التنظٌمات العالمٌة التً تتفرع كاإلخطبوط فً كل دولةٌ ،دعً كل ذراع فٌها أنه من الدولة ،وٌتجنس
بجنسٌتها ،وما هو إال ذراع تحتكر الدولة وتطوٌها لتسلمها إلى رأس األخطبوط ،وربما لخدمة هذا الهدؾ
ساهمت الثورة الفرنسٌة فً نشر فكر "تجنٌس األجانب" فً العالم.
وفً ٖ ٔ99استضاؾ آمشل ماٌر باور (روتشٌلد األول) ٕٔ من أرباب المال العالمٌٌن فً فرانكفورت
فً مإتمر لتؤسٌس احتكار عالمً ٌضخم سلطانهم المالً وإمكانٌات كل منهم التً تضخمت باالستٌبلء على
برٌطانٌا وإشعال حروب أوروبٌة ،وكان بداٌة نظام االقتصاد العالمً الجاري فرضه على الجمٌع ،وتناول
المإتمر الدور الٌهودي فً تدبٌر الثورة اإلنجلٌزٌة ،وكٌفٌة تبلفً األخطاء فً الثورات المقبلة.
ومن هذه "األخطاء" بطء التنفٌذ وعدم السٌطرة الكاملة؛ ما ترك شخصٌات وطنٌة فً إنجلترا تقؾ مع
الملك والحكومة وتعرقل خططهم؛ فاستؽرقت الثورة سنوات طوٌلة ،واتفقوا على أنه فً الثورات القادمة
ٌلزم التخلص الكامل من كافة الشخصٌات الوطنٌة ولو بإبادة جماعٌة ،وفرض السٌطرة على الجماهٌر ولو
باإلرهاب ،وهو ما تم تنفٌذه فً الثورة الفرنسٌة ،أكثر ثورات أوروبا دموٌة ووحشٌة وإرهابا(ٖٖ).
اعتمد مخطط تثوٌر فرنسا على استؽبلل خطاٌا النظام القابم وخلق ظروؾ اقتصادٌة أخرى مشبعة
بالقلق ،وتورٌط فرنسا فً الدٌون والحروب؛ بحٌث تتفشى البطالة بٌن الشعب الفرنسً وتلقً بهم إلى شفا
المجاعة ،واستعرض روتشٌلد أمام المرابٌن العالمٌٌن تفاصٌل اإلعداد للثورة الفرنسٌة ثم السٌطرة على
العالم عند تقدٌمها كمنوذج ٌحتذى.
وعرض فً ذلك وصاٌا للسٌطرة على العالم عبر شلل من الفسدة والخونة أو من ٌتم إفسادهم عن عمد،
واستخلص ولٌام جاي كار بنودها من وثابق قال إنها فً حوزته تشمل ٕٗ نقطة ،ومن هذه الوصاٌا :أن ما
ٌفرض النظام واالستقرار ألي مجتمع هو أن تمتلك السلطة الحاكمة القوة ،وعلى هذا ٌلزم تجرٌدها من هذه
القوة تحت دعاوى الحرٌة السٌاسٌة ،فتنتشر الفوضى ،وتسقط السلطة ،ثم ٌنصب بارونات الثورات العالمٌة
الحكومة الخاضعة لهم.
والقوة الثانٌة التً تنظم صفوؾ المجتمع وتحفظ تماسكه هً الدٌن ،وعلى هذا أوصى بنشر فكرة التحرر
من الدٌن ،باعتباره قٌد ،أو اإلكثار من المذاهب الدٌنٌة المختلفة بدعوى حرٌة االعتقاد ،فتكثر المذاهب تبعا
لهذا التحرر فتزٌد االنقسامات داخل المجتمع الواحد.
وقال المرابً روتشٌلد إن القوة الوحٌدة التً ٌجب أن تحل محل السطة الوطنٌة والدٌن هً "قوة المال"
الذي ٌتدفق من بارونات بٌوت المال العالمٌة على من ٌثٌرون الصراعات األهلٌة ،فً إشارة إلى نشر
الفساد والوالء للخارج.
ومن أشكال اإلفساد األخرى التً أوصى بنشرها المشروبات الكحولٌة ،المخدرات ،االنحبلل الجنسً
(ٖٖ)
-انظر أحجار على رقعة الشطرنج ،مرجع سابق ،ص 9ٓ -88
٘ٓ٘
خاصة بٌن صؽار السن ،الرشوة ،والزج بالعمبلء المدربٌن لٌعملوا كؤساتذة ومعلمٌن وحتى مربٌٌن وعمالة
داخل بٌوت الشخصٌات المستهدفة.
ولم ٌتضح فً هذا البند المقصود به تماما ،ولكن من الممارسات التً تمت فً حروب وثورات أشرؾ
علٌها بارونات المال ٌتضح أن المقصود زرع أقلٌات وأعراق وتٌارات دخٌلة تخلق صراعات فً
المستقبل ،مثلما تم نقل الٌهود بٌن دول أوروبا وروسٌا بؤسلوب الهجرة ؼٌر الشرعٌة ،أو ألمرٌكا باسم
الجبٌن ،أو بتؤسٌس منظمات تحرض المجتمع بعضه على بعض باسم منظمات حقوقٌة أو دعم األقلٌات.
واختار روتشٌلد فً هذا المإتمر شعار "الحرٌة والمساواة واإلخاء" لرفعه فً الثورة الفرنسٌة وؼٌرها من
ثورات ،رؼم قوله إن هذه الشعارات ال مكان لها ،ولكنها وسٌلة لتهٌٌج الشعوب حتى "ترددها كالببؽاوات".
وعن نشر الحروب بٌن الدول ،قال إنها ضرورٌة إلؼراقها فً الدٌون وتكبٌلها ،ثم ُتعقد بها مإتمرات
للسبلم إلعادة تشكٌل وجه العالم بما ٌناسب المرحلة الجدٌدة من مراحل إحكام سٌطرة قوة واحدة علٌه ،وهو
ما تم تنفٌذه على سبٌل المثال فً مإتمر الصلح ببارٌس لتوزٌع ؼنابم الحرب العالمٌة األولى ،ٔ9ٔ9ثم
مإتمر طهران بٌن الوالٌات المتحدة واالتحاد السوفٌتً ٘ٗ ٔ9لتوزٌع ؼنابم الحرب العالمٌة الثانٌة ووضع
نظام عالمً جدٌد معدل.
ومن وسابل السٌطرة الداخلٌة أٌضا الهٌمنة على االنتخابات وتعٌٌنات المناصب العامة ،وأشار فً هذا
لنقطة خطٌرة ،وهً أن ٌتم إعداد شخصٌات للمناصب الهامة "منذ الطفولة(ٖٗ).
كذلك أوصى بالسٌطرة التامة على وسابل إعبلم الجماهٌر ،وقال حرفٌا" :سوؾ نحوز بفضل امتبلكنا
الصحافة على سبلح ذهبً ،وال أهمٌة لكوننا لن نصل إلى السٌطرة على هذا السبلح إال بعد أن نخوض
بحارا من دماء ودموع الضحاٌا"؛ ألنه -بحسب روتشٌلد -بزٌادة وطول أمد اإلرهاب سٌصل الشعب
ل ئلعٌاء الشدٌد ،بل واالنهٌار ،خاصة بعد أن ٌكتشؾ خدعة شعارات الحرٌات والمساواة ،حتى إذا ما تقدم
إلٌهم رجالنا لٌعدوهم باالستقرار وإعادة النظام ٌهرعون إلٌهم ببل تفكٌر.
وانتقل الحدٌث إلى دور الدبلوماسٌة ،فؤجمع المإتمرون على أنه البد فً أعقاب أٌة حرب من إعمال
الدبلوماسٌة السرٌة ،والسبب حسب تعبٌر روتشٌلد الحرفً" :لكً تتمكن المنظمة من إحبلل خبرابها فً
المراكز الحساسة االقتصادٌة والسٌاسٌة والمالٌة متنكرٌن على شكل مستشارٌن مثبلٌ ،ظهرون على
المسرحٌن الداخلً والدولً بحٌث ٌقومون بتنفٌذ المهمات التً تعهد لهم بها السلطة الخفٌة المسٌطرة من
وراء الستار دون أن تخشى التعرض ألنظار المؤل.
(ٖٗ)
-عبر التنظٌمات التً ٌتزاوج أعضابها من بعضهم وٌنجبون أطفاال ٌربونهم منذ نعومة أظافرهم على فكرهم ،كحركات الٌسوعٌة واإلخوانٌة
والشٌوعٌة والشٌعٌة إلخ ،أو عبر مدارس تتبع تلك التٌارات تتولى تربٌة األجٌال منذ الحضانة وكذلك المدارس األجنبٌة.
٘ٓٙ
وذ َّكر روتشٌلد المإتمرٌن عندبذ بالهدؾ النهابً :وهو السٌطرة على العالم بؤسره ،وفً الطرٌق إلى هذا
الهدؾ" :سٌكون من الضروري إنشاء احتكارات عالمٌة ضخمة تدعمها ثرواتنا المتحدة بمجموعها بحٌث
تصل هذه االحتكارات إلى درجة من السلطان والهٌمنة ال ٌمكن ألي ثروة وطنٌة ٌمتلكها "الجوٌٌم" -أي
الشعوب من ؼٌر النارٌٌن -إال أن تقع تحت وطؤة هذه االحتكارات ،وعندما ٌحٌن الحٌن الذي نضرب فٌه
اقتصاد تلك األمة الضربة القاضٌة تتهاوى هذه األمة اقتصادٌا وسٌاسٌا ،وتتهاوى معها جمٌع الثروات
الوطنٌة فٌها(ٖ٘).
وانتقل الحدٌث بعد ذلك إلى األرض نفسها ،أراضً "الجوٌٌم" ،وانتزاع ملكٌاتها الزراعٌة والعقارٌة
والصناعٌة بافتعال ظروؾ ٌسود معها الظلم فً المنافسة االقتصادٌة الداخلٌة ،وإضعاؾ المصانع الوطنٌة
بتنظٌم اإلضرابات العمالٌة الدابمة ،وكلما حصل العمال على أجور أعلى ٌفاجبون بزٌادة فً األسعار
فٌعودون لئلضرابات وهكذا ،فٌتم التحجج بسوء اإلدارة واستمرار الخسارة ل ُتباع تلك المصانع والشركات
وؼٌرها للجاهز بالمال.
وخصص مإتمر روتشٌلد هذا المنعقد سن ٖ ٔ99جانبا مهما للحدٌث عن الشباب ،قاببل إنه ٌلزم إفساد
الشباب بصورة منظمة بتعمٌم الرذٌلة واألفكار الفاسدة ومحاربة األدٌان السماوٌة.
وأضاؾ المبلحظة التالٌة" :لعلكم تظنون أن الجوٌٌم لن ٌسكتوا بعد هذا ،بل سٌهبون لبلنقضاط علٌنا،
ولكن هذا خطؤ ..سٌكون لنا فً البلدان واألقطار التً تمك َّنا من تدمٌر نظامها الشرعً وتمسكها بالدٌن
واألخبلق منظمة كفٌلة بتدارك هذا االحتمال ،وستكون منظمة على درجة من القوة ،رهٌبة ،بحٌث تتخاذل
القوى األخرى مرعوبة أمامها ،ولها أفرع فً كل مدٌنة(.)ٖٙ
بالتزامنٌ -قول دونالد سترومبرج -إنه فً ذات القرن جرى تحوٌل برٌطانٌا إلى نظام "التجارة الحرة"،
عبر إسقاط سٌطرة الحكومة على الصادر والوارد ،وخرج البرجوازٌون (رجال األعمال والنواب
والمفكرون التابعون لفكر بٌوت المال العالمٌة) ٌسخرون من حجة "حماٌة المنتج الوطنً" و"األمن القومً"
و"األمن الؽذابً للشعب" ،وطالبوا بفتح حدود أوروبا للتجارة ببل قٌود أمام التجارة الدولٌة (التً ٌسٌطرة
علٌه حفنة من رجال األعمال والشركات) بحجة أنها السبٌل لمنع الحروب ،ولتحوٌل هذا إلى "علم اقتصاد"
ٌدرس فً الجامعات لتطبقه كل حكومات العالم أخرجوا نظرٌات تقننه كنظرٌة الرأسمالٌة آلدم سمٌث،
افترض فٌها أن الدولة هً منبع الشرور والمفاسد فً االقتصاد ،وأن األفراد -رجال األعمال طبلَّب
الثروات الباهظة -هم من ٌبحثون عن العدل والصالح العام ،وقال" :فلتتوقؾ الحكومة عن تقدٌم المساعدات
(ٖ٘)
-عبر إلزام الدول بفتح أسواقها للتجارة الحرة حتى للسلع الؽٌر ضرورٌة ،وعبر الشركات المتعددة الجنسٌات القادرة على ابتالع السوق
المحلً ،وتصفٌة الشركات الوطنٌة ،وتملك المستثمر األجنبً قطاعات الكهرباء والماء والمرافق وؼٌرها من عروق الدولة ،فٌسهل ش َّلها فً أي
وقت.
()ٖٙ
-وصاٌا روتشٌلد وخطته المإلفة من ٕ٘ نقطة واردة بالتفصٌل فً الصفحات ما بٌن ٔ ٔٓٓ-9فً كتاب "أحجار على رقعة الشطرنج"،
والكاتب ولٌام جً كار ٌذكر أن روتشٌلد ألقاها فً مركز مإسسة روتشٌلد فً شارع "بوندن شتراس بمدٌنة فرانكفورت سنة ٖ ،ٔ77وللمزٌد عن
هذه البروتوكوالت وتطبٌق ما ورد فٌها على ما ٌحدث اآلن فً العالم فً كل المجاالت انظر :بروتوكوالت حكماء صهٌون ،فكتور ماسدون ،الحرٌة
للنشر والتوزٌع ،القاهرة ،والخطر الٌهودي بروتوكوالت حكماء صهٌون ،ترجمة محمد خلٌفة التونسً ،ط ٗ ،دار الكتاب العربً ،القاهرة
٘ٓ7
للمشروعات ،وعن الضبط والتنظٌم ،وعندبذ ستختفً المظالم وٌنتفً الجور(.")ٖ9
وجاءت الرأسمالٌة االقتصادٌة ثمرة لما سبقها من نظرٌات اللٌبرالٌة السٌاسٌة والنفعٌة التً وضعها
جون لوك وجون ستٌوارت مٌل ودٌفٌد هٌوم وتسٌر فً اتجاه الفردٌة األنانٌة ،وأن ٌكون الحكم فً ٌد
أفراد ،مثل نواب البرلمان ،ولٌس الحكومات( ،)ٖ8مع ما هو معلوم أن أسرع من ٌصل للبرلمان هم رجال
األعمال أو من ٌموله رجال األعمال من أعضاء التنظٌمات العالمٌة الهادفة للسٌطرة على الحكم.
وقوبلت هذه النظرٌات برفض من مفكرٌن أوروبٌٌن كبنٌامٌن نلسون الذي حذر من أن "المجتمع الذي ٌقوم
على األنانٌة البحتة سٌتفتت حتما إلى ذرات ،وسٌعٌش أفراده حاالت شاذة من البلانتماء" ،وجوزٌؾ دي
مستر الذي قال إن عصر التنوٌر هو من سمم جسد فرنسا ،واعتبر أن فولتٌر وأتباعه من "عتاة
المجرمٌن" ،وفولتٌر ٌتبع "طقوس عبادة الشٌطان" ،وفً أحسن األحوال فهو وأمثاله من فبلسفة كـ جون
لوك ودٌفٌد هٌوم "ضالون الضبلل الرهٌب المرعب" ،وتخوؾ آخرون من أن هذه النظرٌات الطفٌلٌة
"تقتلع جذور األمة" ،و"تقضً على حكمة األجٌال السابقة(.)ٖ9
ولمَّا تشبعت أوروبا من البضاٌع مع كثرة المصانع توجهوا لكسر الحدود أمام تجارتهم فً العالم ،ورأٌنا
نصٌب مصر من هذا حٌن تآمرت برٌطانٌا مع السلطان العثمانلً ضد محمد علً إلنهاء االحتكار وحماٌة
المنتج المصري بمعاهدة بلطة لٌمان ،ٔ8ٖ8وجرى فً مصر ما علمنا من إؼراق فً الدٌون.
وهنا جاء اختبار تطبٌق ما سبق ،ونتابع ما جاء حول هذه الثورة فً كتاب "أحجار على رقعة الشطرنج".
قامت الثورة على ٌد أفسد أهل فرنسا والمتسللٌن األجانب ،استؽلوا ظروفا اقتصادٌة وسٌاسٌة سٌبة،
وأضافوا علٌها ظروفا أشد مصطنعة ،وتفننوا فً حرب اإلشاعات للطعن حتى فً شرؾ الملكة ،وأشرؾ
على تؤجٌجها "األستاذ األعظم"(ٓٗ) لمحافل الشرق العظمى الماسونٌة فً فرنسا وهو الدوق دورلٌان ،ابن
عم الملك لوٌس السادس عشر ،الذي صوّ ت على إعدامه بعد الثورة طمعا فً تولً العرش مكانه.
ومساعد دورلٌان كان الكونت دي مٌرابو الذي وجد فٌه المرابون مٌبل كبٌرا للفساد واالنحراؾ ،وفً
نفس الوقت خطٌبا بلٌؽا قادرا على توصٌل األفكار الثورٌة للناس ،وجرى تورٌطه فً الدٌون ،ثم ظهر له
الماسونٌون كمنقذٌن له من الدٌون بعرض أموال علٌه ببل حساب ،حتى ؼرق فٌها لحلقومه وصار طوع
أٌدٌهم ،وقذفوه المرأة ٌهودٌة هً مدام هٌوز مشهورة فً بارٌس بفتنتها الطاؼٌة ،فتلطخت سمعته.
حول قصر
ونفس األمر جرى مع الدوق أورلٌان بجره إلى مستنقع الرذٌلة والدٌون الباهظة ،حتى َّ
()ٖ7
-تارٌخ الفكر األوروبً الحدٌث (ٔٓ ،)ٔ977 -ٔٙدونالد سترومبرج ،ترجمة أحمد الشٌبانً ،طٖ ،دار القارئ العربً ،القاهرة ،ٔ99ٗ ،ص
ٕٖٙو ٖٔٗ و ٖٗ8و7ٕ8
()ٖ8
-أصول التارٌخ األوروبً الحدٌث ،أشرؾ صالح ،دار ناشري للنشر اإللكترونً ،طٔ ،الكوٌت ،ٕٓٓ9 ،ص ٔ9ٓ -ٔٙ9
()ٖ9
-تارٌخ الفكر األوروبً الحدٌث (ٔٓ ،)ٔ999 -ٔٙدونالد سترومبرج ،ص ٖٖٖٖٓٙ -
(ٓٗ)
-األستاذ األعظم لقب الربٌس األكبر لهذه المحافل ،وسٌظهر أٌضا مع تنظٌمات أخرى إخوانٌة وشٌعٌة إلخ
٘ٓ8
"البالٌه روٌال" الملكً إلى محل لممارسة الرذٌلة ،وبعد أن نضج االثنان فً إناء الفساد عرض النارٌون
لهما جانبا صؽٌرا من أهدافهم ،وأخذوا منهما ٌمٌن الوالء ،ومن ٌخالؾ مصٌره الموت.
لم ٌكن الفسدة من أهل البلد كافٌا ،فكان السبلح القدٌم وهو االستعانة باألجانب ،ففً ذلك الوقت انتشرت
فً أوروبا القصص اإلباحٌة لٌهودي من إسبانٌا ،كودبرلوس دي الكلو ،مثل قصة "العبلقات الخطٌرة"،
وصار فً فرنسا مشرفا على قصر "البالٌه روٌال" وأٌضا ٌهودي آخر من إٌطالٌا ٌدعى كالبسترو ،واسمه
كون شبكة جواسٌس فً كل مكان لتتبع انحرافات الشخصٌات العامة وتسرٌبها األصلً "جوزٌؾ بالساموَّ ،
للعامة لنشر السخط.
وأدرك المإرخ البرٌطانً األشهر السٌر والتر سكوت الدور الذي لعبته القوى الخفٌة وراء واجهة
الثورة الفرنسٌة ،فً مإلفه الضخم "حٌاة نابلٌون" -الصادر عام ٕٗ -ٔ8حٌن تساءل باستؽراب لماذا كانت
معظم وجوه الثورة الفرنسٌة وجوها أجنبٌة عن فرنسا؟!
ونشرت اللٌدي كونبسبورو زوجة اللورد كوبنسبورو ومإلفة كتاب "حكم الكهنوت الخفً" خبلصة
مطبوعة قدٌمة اسمها "العداء للسامٌة" كتبها سنة ٔ8ٗ9الٌهودي بنٌامٌن جولد شمٌد تحكً أنه وأخاه
إبراهام جولد شمٌد وشرٌكهما موسى مٌكاتا وابن أخ هذا األخٌر الذي حصل على لقب نبٌل إنجلٌزي فٌما
بعد وأصبح اسمه موسى مونتٌفٌور(ٔٗ) وكلهم من كبار الممولٌن فً إنجلترا ،ساعدوا فً تموٌل الثورة
الفرنسٌة ،وعلق والتر سكوت على ذلك بؤن الممولٌن العالمٌن كانوا ٌقرضون األموال لفرنسا بٌد ،وٌجنون
أرباح هذه القروض الفاحشة بٌد أخرى ،حتى تسببوا فً إنهاك الخزٌنة.
وانتهى األمر بقبول لوٌس الرابع عشر شرطا بتعٌٌن رجلهم السوٌسري جاك نٌكر وزٌرا مطلق
الصبلحة للشإون المالٌة ،مع حملة دعابٌة ضخمة أنه القادر على البرنامج اإلصبلحً البلزم إلنقاذ
فرنسا(ٕٗ) ،وٌصؾ المإرخ اإلنجلٌزي الكابتن "آ.رامزي" الوضع فً كتابه "حرب دون اسم" كما ٌلً:
"كانت الثورة الفرنسٌة ضربة انقضت على جسم مشلول" ،لكثرة الفساد األخبلقً وسٌطرة المرابٌن على
اإلعبلم.
وكان ٌجري إعداد الهجوم على سجن الباستٌل الشهٌر إلطبلق سراح المجرمٌن المهٌبٌن لخلق جو ٌإدي
لتروٌع الناس وخلق حكم إرهابً ،ووضع قوابم سوداء لمن ٌُراد التخلص منهم(ٖٗ).
(ٔٗ) -موسى مونتٌفٌور ثري ٌهودي مشهور من برٌطانٌا ،عرض على محمد علً خالل حكمه الشام أن ٌسمح للٌهود بالهجرة لفلسطٌن بحجة
االستثمار ،وهو من أول المرابٌن الذٌن كونوا مستوطنات للٌهود بفلسطٌن بداٌة من ٓٗ ،ٔ8وله حً باسمه فً إسرابٌل ،وشجع عابلة محمد علً
أٌضا على منح امتٌازات للٌهود فً مصر لم ٌحلموا بها فً أي دو لة أخرى ،وجعلتهم ٌتخذوا من مصر قاعدة آمنة لتدرٌب العصابات الصهٌونٌة
وتكوٌن الجماعات اإلسرابٌلٌة وجمع األموال الضخمة من الربا وؼٌره وإرسالها للٌهود بفلسطٌن.
انظر هنا الشكر الذي ٌرسله ربٌس الوزراء اإلسرابٌلً بنٌامٌن نتنٌاهو إلى عابلتً مونتٌفٌور وروتشٌلد على دورهما فً تكوٌن إسرابٌل:
ربٌس الوزراء ٌدشن الطاحونة التً أعٌد ترمٌمها فً حً "مشكنوت شؤنانٌم" فً أورشلٌم القدس ،موقع دٌوان رباسة الوزراءٕٕٓٔ -8 -ٕ8 ،
(ٕٗ) -كما حدث مع الملك البطلمً بطلمٌوس الثانً عشر فً مصر حٌن كبلته روما بالدٌون ثم أرسلت له رابٌرٌوس كوزٌر للمالٌة ،وحدث مع
الخدٌوي إسماعٌل بإرسال نظام المراقبة الثنابٌة األجنبٌة.
(ٖٗ)
-نفس مشهد إطالق سراح المساجٌن فً ٕٔٔٓ ،واعترفت اإلعالمٌة جمٌلة إسماعٌل ،إحدى الوجوه البارزة فً احتجاجات ذلك الوقت ،فً
برنامج "ساعة حساب" بقناة "بً بً سً" العربٌة فً 7فبراٌر ٖٕٔٓ ،بدور من وصفتهم بـ"الثوار" فً حرق األقسام واقتحام السجون.
٘ٓ9
وبعد اندالع الثورة جاءت الفترة المعروفة فً تارٌخ فرنسا باسم" حكم اإلرهاب"؛ حٌث كان الضحاٌا ٌساقون
فٌها إلى المقصلة ٌومٌا بالمبات ،سواء من العابلة الحاكمة أو كبار رجال الدولة أو المواطنٌن الرافضٌن لهذه
الفوضى ،ومن أشهر مذابح ذلك العصر تلك التً وقعت سنة ٕ ٔ99بقتل اآلالؾ داخل السجون.
وفً كتابه ألفه جً .رٌنٌه بعنوان "حٌاة روبسبٌر" قال إن حكم اإلرهاب بلػ ذروته القصوى فً الفترة
بٌن ٕ9أبرٌلٌ ٕ9 -ولٌو ٗ ،ٔ99ففً هذا الٌوم األخٌر ُخذِل روبسبٌر أمام الجمعٌة الوطنٌة؛ فؤلقى خطابا
شن فٌه هجوما عنٌفا على من أسماهم ب"اإلرهابٌٌن المتطرفٌن" قال فٌه" :إننً ال أجرإ على تسمٌتهم فً
هذا المكان وفً هذا الوقت ..كما أننً ال استطٌع كشؾ الحجاب الذي ٌؽطً هذا اللؽز فً الثورات منذ
أجٌال سحٌقة ..ؼٌر أننً أستطٌع أن أإكد ،وأنا واثق كل الوثوق ،أن بٌن مدبري هذه المإامرة عمبلء َّأثر
فٌهم ذلك المنهج القابم على الفساد والرشوة ..وهما أكثر وسٌلتٌن فعالٌة بٌن جمٌع الوسابل التً اخترعها
أجانب عندنا لتفسٌخ هذه الدولة ،وأعنً بهإالء كهنة اإللحاد والرذٌلة الدنسٌن".
وهذه شهادة من أحد قادة الثورة أنفسهم بدور األجانب وأعوانهم فً نشر اإلرهاب والفوضى والرذٌلة،
بالرؼم من أنه هو نفسه ممن شاركوا فً هذا اإلرهاب(ٗٗ).
وبعد الصعود القوي لنجم نابلٌون بونابرت ،استؽل المرابون العالمٌون عشقه للحروب ولذاته فً مرمؽة
فرنسا فً مزٌد من الحروب الستنزافه من ناحٌة ولنشر أفكار الثورة الفرنسٌة من ناحٌة ،وظهرت الحروب
باعتبارها "تجارة رابحة" احتكرت شركات بارونات البنوك العالمٌة بسبب صناعات السبلح والدواء
والكٌماوٌات والحدٌد واألسمنت ،بخبلؾ اإلعبلم.
ومن رحم كل هذا ،خرجت مشاعل فكرة المواطن العالمً ،وخلط الشعوب عبر الهجرات تحت اسم
قبول اآلخر واإلخاء ،وتٌارات العلمانٌة واللٌبرالٌة والشٌوعٌة واإللحاد وتقدٌس الحرٌة الفردٌة واإلباحٌة
والحرٌات المطلقة التً تنسؾ كل األصول الدٌنٌة والوطنٌة(٘ٗ) ،وستطٌر بؤجنحتها السوداء كالطٌور
الجارحة إلى مصر ٌوما لتنهش فً ما بقً من ماعت فٌها.
تطبٌقا لبند تحوٌل العالم إلى معسكرات متنابذة متصارعة ،وكل منها ٌدعً أنه المنقذ وأنه األجدر بقٌادة
العالم ،ورفضا لترك كل دولة تصنع لنفسها طرٌقها الخاص فً الحكم والحٌاة ،فإنه بعد تؤسٌس معسكر
العالم الرأسمالً اللٌبرالً باإلطاحة بنظم الحكم العتٌقة فً برٌطانٌا وفرنسا وبلع اقتصادها ،بدأ التؤسٌس
لمعسكر الشٌوعٌة ،ومعسكر النازٌة ،ومعسكر الفاشٌة ،وأخٌرا معسكر الدول والحركات المتمسحة فً
اإلسبلم ،كجماعات السلفٌة و"اإلخوان المسلمٌن" ونظم الحكم الشٌعٌة كالتنظٌمات اإلٌرانٌة.
(ٗٗ)
-ومعروؾ أنه فً تارٌخ مصر دخول أشنع الجرابم والرذابل ٌـتم على ٌد أجانب ،كالدعارة والربا والمخدرات وتجارة البشر وتجارة األعضاء،
والجهر بالفجور (الشذوذ الجنسً وؼٌره) والفساد الممنهج ،وهً الجرابم الت ً تخلؾ عددا كبٌرا من الضحاٌا فً وقت قصٌر ،وتتعدى على كافة
الحرمات والفطرة ،أما المجتمع المصري الطبٌعً فكانت الجرابم به تقلٌدٌة كالسرقة أو الرشوة أوالقتل الفردي وما شابه ذلك ،ونسبتها قلٌلة،
خاصة فً فترات قوة الحكم المركزي وااللتزام بـ "ماعت".
(٘ٗ)
-ما سبق فٌما ٌخص الثورة الفرنسٌة ملخص لما جاء فً "أحجار على رقعة الشطرنج" ،ولٌام جً كار ،ص ٖٔٔ -ٕٔ9
ٓٔ٘
ففً الوقت الذي كان كارل ماركس -تحت إشراؾ جماعة اإلخوان النارٌٌن (اإلخوان النورانٌٌن)ٌ -كتب
البٌان الشٌوعً سنة ،ٔ8ٗ9أي بعد ٘8سنة من الثورة الفرنسٌة ،كان كارل رٌتر األستاذ فً جامعة
فرانكفورت األلمانٌة ٌكتب سنة ٔ8ٗ9النظرٌة المعاكسة للشٌوعٌة -تحت إشراؾ جماعة أخرى من
النارٌٌن أنفسهم -بحٌث ٌكون ،كما سٌتبٌن فً المستقبل ،فً مقدرة رإوس المإامرة العالمٌة استخدام
النظرٌتٌن المتعاكستٌن فً خلق حروب بٌن الشعوب المنتمٌة لتلك األٌدٌولوجٌات.
وتقوم نظرٌة كارل رٌتر على تفوق الجنس الجرمانً (األلمانً) على ما سواه ،وذلك ردا على ما كشفه
كتاب جون روبسون "المإامرة على كافة الحكومات واألدٌان" عن فكر النارٌٌن الذي ٌتحدث عن تفوق
الٌهود ،فدعت نظرٌة رٌتر إلى القضاء على كافة بٌوت المال الٌهودٌة لنزع سٌطرتها على اقتصاد العالم،
ولكن لٌس لٌتحرر العالم ،وإنما لٌخضع لسٌطرة جدٌدة ،هً سٌطرة الجرمان.
فدعا إلى أن ٌسٌطر األلمان على حكم العالم وحدهم ،و ُترؼم كافة الشعوب على نبذ حكوماتها الوطنٌة،
وعلى الوالء لحاكم واحد فً العالم هو الحاكم األلمانً ،وهو ما تولد عنها ما عُرؾ فٌما بعد بالنازٌة (الدولة
األلمانٌة العالمٌة) ،واقتدت به إٌطالٌا فظهرت الفاشٌة ،ورأى رٌتر أن الشٌوعٌة التً دعا لها كارل ماركس
ابن العابلة الٌهودٌة ٌقؾ وراءها جماعة النارٌٌن وبٌوت المال العالمٌة ،لذا دعا لمحاربتها ،رؼم أنه فً
نفس الوقت كان ٌنفذ أٌضا ما تملٌه علٌه ذات الجماعة ،وهو سٌطرة جنس أو مجموعة معٌنة على العالم
واستعباده.
وأوصى بإنشاء طابور خامس نازي ٌواجه الطوابٌر الشٌوعٌة وتنظٌماتها السرٌة ،وٌشتؽل على إقناع
المستوٌات الوسطى والعلٌا فً الببلد التً تنوي ألمانٌا إخضاعها بؤن النازٌة هً الوسٌلة الوحٌدة لردع
الشٌوعٌة ،وٌجهزوا الساحة الستقبال جٌوش ألمانٌا باعتبارها جٌوش صدٌقة ولٌست احتبلل(.)ٗٙ
وأكمل مشروع رٌتر ألمانً آخر هو نٌتشة ،مإسس المذهب الفلسفً (النٌتشٌٌزم) أو فلسفة نٌتشه الملحدة
الذي ٌروج إلى أن كل خٌر فً الدٌنا ضعؾ ،وأن كل شر هو مصدر قوة اإلنسان "السوبر".
وبعد مرحلة ؼرس األٌدٌولوجٌات المتصارعة ،بدأت المرحلة الثانٌة وهً تسلٌح كل من المعسكرٌن،
ودفعه لبلنقضاض على اآلخر ،ولو بعد حٌن ،وهذه المذاهب الثبلثة هً التً أتاحت للنارٌٌن عن طرٌق
عمبلبهم إشعال نٌران الحربٌن العالمٌتٌن األولى والثانٌة(.)ٗ9
وبعد انتقال مقر قٌادة النارٌٌن إلى الوالٌات المتحدة ،صارت بٌوت المال فٌها صاحبة دور كبٌر فً
تؽذٌة جٌوب الشٌوعٌٌن ،على عكس العداء الظاهر بٌن المعسكرٌن.
فٌتحدث المخرج والكاتب األمرٌكً ماٌرون فاجان فً كتابه "مخطط النورانٌٌن" -الصادر -ٔ9ٙ9عن
()ٗٙ
-المرجع السابق ،ص ٕٔٗٗ -
*** وتركٌز مشروع كارل رٌتر على تجنٌد النخبة فً كل بلد هو تنفٌذ لبند ورد أٌضا فً توصٌات تنظٌم النارٌٌن
()ٗ9
-المرجع السابق ،ص ٔ8 -ٔ9
ٔٔ٘
جذور عبلقة أمرٌكا بنشؤة الشٌوعٌة ،قاببل إنه فً خمسٌنٌات القرن ٔ9اجتمع النورانٌون فً نٌوٌورك،
وقرروا توحٌد جماعتً العدمٌٌن "النهلستً" Nihilistو"الملحدٌن" Atheistمع كل الجماعات المدمرة
فً جماعة عالمٌة ٌُطلق علٌها اسم الشٌوعٌٌن ،تحمل الرعب والعمل المسلح للعالم.
وتولى كلٌنتون روزفلت ،أحد أسبلؾ فرانكلٌن روزفلت ،وهوارس جرٌلً ،وتشارلز دانا ،أشهر ناشري
الجرابد فً ذلك الوقت ،مهمة جمع المال لتكوٌن التنظٌم الجدٌد ،وبالطبع فإن معظم التموٌبلت جاءت من
عابلة روتشٌلد ،واستخدموا األموال فً دعم كارل ماركس وإنجلز أثناء كتابتهما لكتاب "الرأسمالٌة" وكتاب
"البٌان الشٌوعً فً سوهو بإنجلترا ،وصار لٌنٌن وتروتسكً وستالٌن الشٌوعٌٌن خلفاء لٌمً فً قٌادة
الحركة الثورٌة العالمٌة ،واعتبر فاجان أنه بهذا فالشٌوعٌة لٌست أٌدٌولوجٌة كما ٌسمونها ،بل هً سبلح
سري وكلمة مرعبة تقال كً تخدم ؼاٌات النارٌٌن(.)ٗ8
لما كثرت الكتابات التً تكشؾ نشاط الماسونٌٌن األحرار والنارٌٌن فً أوروبا بعد الثورة الفرنسٌة،
وخاصة بعد النشاط الثوري الذي أشاعه مازٌنً (خلٌفة واٌزهاوبت فً قٌادة النورانٌٌن) فً إٌطالٌا ،بدأ
النورانٌون ٌنقلون -بالتدرٌج -نشاطهم إلى البلد النابً البعٌد عن الشبهات حٌنها ،أي الوالٌات المتحدة.
وفً العالم الجدٌد ،كان توماس جٌفرسون -الربٌس الثالث ألمرٌكا (ٔٓ -)ٔ8ٓ9 -ٔ8تلمٌذا لواٌزهاوبت،
وأشد المدافعٌن عنه عندما أعلنته حكومة ببلده خارجا على القانون ،وعن طرٌق جٌفرسون ،الشهٌر بؤنه "نصٌر
الحرٌات والمساواة" ،تؽلؽل النارٌٌن الجدد فً المحافل الماسونٌة بؤمرٌكا ،ومن ثم سٌطروا علٌها(.)ٗ9
وهنا ظهر دور الهجرات األجنبٌة المنظمة تحت اسم الجبٌن أو مستثمرٌن مجددا كما ظهرت فً
الثورتٌن اإلنجلٌزٌة والفرنسٌة ،فبعد أن كانت أمرٌكا تفضل الهجرات القادمة فقط من ؼرب أوروبا (البٌض
البروتستانت) ،توؼل "النارٌون" مدعومٌن بتوطٌن هجرات ٌهودٌة كثٌفة استقدموها من روسٌا وشرق
أوروبا فً شكل الجبٌن ،وتمكٌنهم من اقتصاد أمرٌكا ومإسساتها باسم مستثمرٌن ثم نواب وحزبٌٌن
لتطوٌق رقبتها ،وسٌطروا فعبل من بوابة االستثمار والخصخصة ،فاشتروا شركات عمبلقة تابعة للحكومة
أو ؼٌرها من األمرٌكٌٌن مثل "هاٌنز -مورز" الخاصة بالسفن ومصانع الحدٌد واحتكرتها شركات
"مورجان" و"درٌكسٌل" العاملتان تحت مظلة روتشٌلد(ٓ٘).
ومن األسماء التً ٌتوارى ورابها "النارٌون" حدٌثا فً أمرٌكا بعد اكتشاؾ أمر محافلهم القدٌمة مجلس
العبلقات الخارجٌة Council of Foreign Relationواختصارا معروؾ ب CFRوتؤسس
ٕٔ ،ٔ9وهو الفرع السٌاسً لجماعة النارٌٌن فً الوالٌات المتحدة ،وأخوه فً برٌطانٌا المعهد البرٌطانً
()ٗ8
" -مخطط المتنورٌن" ،ماٌرون فاجان ،ترجمة عبلء الحلبً ،سورٌا ،ص ٘ٔ( ،ٕٓ-صفحات الوثٌقة المترجمة على اإلنترنت ؼٌر مرقمة ،وهذا
أرقام نسخة PDFالمنشورة بنفس العنوان)
()ٗ9
-نفس المرجع ،ص ٘ٔ
(ٓ٘)
-الشٌطان أمٌر العالم ،مرجع سابق ،ص ٔٗ9
ٕٔ٘
للعبلقات الخارجٌة British Institute of International Affairsوٌوجد مثله فً فرنسا
وألمانٌا إلخ.
تؤسس المجلس كرد فعل على فشل النارٌٌن فً إجبار الكونجرس على قبول انضمام أمرٌكا لعصبة األمم
بعد الحرب العالمٌة األولى ،ألن الكونجرس كان ما زال فٌه نواب والبهم ألمرٌكا؛ فتؤسس المجلس لتخرٌج
من سٌصبحون نوابا ووزراء ومستشارٌن للحكومة ورإساء.
وبالتزامن ،قام النارٌون والهٌبات التعلٌمٌة فً الكلٌات والجامعات بدعم الطبلب الذٌن ٌتمٌزون بذكاء
عال أو ٌنتمون لعاببلت مرموقة عبر المنح التعلٌمٌة ،ومن أشهر من حصلوا على منحة وٌلٌام جً
فولبراٌت ،والذي بعد سنوات خصص منحة باسمه "منحة فولبراٌت" تقدم لدول العالم لتخرٌج "طبلب
دولٌٌن"ٌ ،إمنون بفكرة الحكومة العالمٌة ،وٌعمل بعضهم فٌما بعد مستشارٌن حكومٌٌن وخبراء ٌوجهون
المسبولٌن نحو الوجهة التً تإدي بعد حٌن إلى دمار الحكومات واألدٌان(ٔ٘).
ولمنحة فولبراٌت فرع فً مصر ،إلى جانب منح منظمات أجنبٌة أخرى ،ونقبل علٌها كلنا -وكنت أنا
ممن ٌسعون إلٌها قبل اكتشاؾ أمرها -دون أن نسؤل أنفسنا عن أهداؾ هذه الدول من توفٌر "منح مجانٌة"
ألبناء ببلد معلوم أنها تطمع فً السٌطرة علٌها.
أما اإلعبلم فهو البوابة األسرع للتحكم فً الرأي العام ،ولكننا فً مصر دابما نسمع أن أمرٌكا هً مثال
لئلعبلم الحر ،وأننا فً مصر ٌجب أن نقلدها ونلؽً اإلعبلم الحكومً ونسلم اإلعبلم لرجال األعمال
مصرٌٌن أو أجانب ،فهل اإلعبلم فً أمرٌكا والؽرب عموما حر؟
ٌجٌب فاجان" :هل تعلمون من ٌملك وٌتحكم بوسابل اإلعبلم األمرٌكٌة؟ سوؾ أخبركم :كل استودٌوهات
تصوٌر األفبلم هولٌوود تملكها عابلة لٌمان ،وشركة كون ولوٌب وشركابهم ،وعابلة جولدمان ساتش
وؼٌرهم من بٌوت المال العالمٌة ،وكذلك كل محطات الرادٌو والتلفاز المشهورة على نطاق الوالٌات
المتحدة ٌملكها وٌتحكم بها هإالء أٌضا ،والحالة نفسها مع كل سبلسل الجرابد والمجبلت الرفٌعة مثل
"واشنطن بوست" و"نٌوزوٌك" ،ووكاالت األنباء مثل أسوشٌتدبرس وٌوناٌتدبرس انترناشونال إلخ(ٕ٘).
أي أن "حرٌة اإلعبلم" فً أمرٌكا وأوروبا هً أن ٌكون حرا من الحكومة والدولة والمصلحة الشعبٌة لٌقع
فً ٌد التنظٌم الناري "النارٌٌن األحرار" ،أي كانها "حرٌة الشٌطان".
وعن طرٌق اإلعبلم وتوزٌع ملكٌته وانتماءاته على عدة تٌارات انتشر التحزب وتقسٌم المجتمع
األمرٌكً لطوابؾ متخاصمة من الٌمٌن إلى الٌسار ،وانتشر -بحسب فاجان -الخبلعة والشذوذ الجنسً
(الفجور)(ٖ٘) ،وكما قال أحدهم" :امنحنً جٌبل واحدا من الشباب وأنا سؤؼٌر كل العالم"؛ فإصبلح أو إفساد
(ٔ٘)
-انظر "مخطط المتنورون ،فاجان ،ص ٔٔ
(ٕ٘)
-المرجع السابق ،ص ٔٔ
(ٖ٘)
-انظر :نفس المرجع ،ص ٖٙ
ٖٔ٘
جٌل واحد قادر على إصبلح أو إفساد األجٌال البلحقة ،ألنه من سٌضع القوانٌن التً تشكل المستقبل.
وبعد تمكن النارٌٌن فً الوالٌات المتحدة تولى قٌادتهم هناك جنرال أمرٌكى ٌدعى ألبرت باٌك ،صاحب
التمثال الشهٌر فً الساحة العامة بواشنطن.
(ٗ٘)
) تمثال ألبرت باٌك نصبه الماسون األحرار فً واشنطن ٔٓ( ٔ9صحٌفة واشنطن بوست
وكرر باٌك مهمة واٌزهاوبت ،وهً تحدٌث البروتوكوالت لتناسب تطور األحداث ،فإن كان على ٌد
واٌزهابت قامت الثورة الفرنسٌة واألٌدٌولوجٌة الشٌوعٌة والنازٌة ،فعلى ٌد مخطط باٌك قامت الثورة
الروسٌة والثورة اإلسبانٌة ،وأٌدٌولوجٌة الصهٌونٌة والحربان العالمٌتان األولى والثانٌة وٌعدون للثالثة.
فقام مشروع باٌك -بحسب رسالة مإرخة بـ ٘ٔ أؼسطس ٔ ،ٔ89وأبلؽها لمازٌنً -على أن ٌشعل
مدٌرو الحركة الثورٌة العالمٌة ٖ حروب عالمٌة وٖ ثورات كبرى للحط من الحكومات المتبقٌة لتصل إلى
اإلنهاك فاالنهٌار االقتصادي ،وتتشوق شعوبها لحكومة عالمٌة بوصفها الحل الوحٌد لمشاكلهم الكثٌرة.
وبعد الحروب العالمٌة الثبلثة وثورتٌن ستبقى الوالٌات المتحدة القوة العالمٌة الوحٌدة ،ولكن فً الثورة
الثالثة ،التً وصفها باٌك بؤنها أعظم كارثة اجتماعٌة ستمر على العالم ،ستتفكك الوالٌات المتحدة بؽدر من
الداخل ،وستقع فً أٌدي أتباع إبلٌس "مثل فاكهة شدٌدة النضج".
أما الحرب األولى فستكون إلخضاع روسٌا وتحوٌلها لمعقل للشٌوعٌة الملحدة ونشرها فً العالم،
والحرب الثانٌة تنشا كٌانا للٌهود (إسرابٌل) وتنشر الصهٌونٌة التً على ٌدها ستقوم الحرب العالمٌة الثالثة
A homeless Confederate? Albert Pike’s complicated legacy leaves statue in limbo,Washington post, ٖٓ-ٔٓ- -
(ٗ٘)
ٕٓٔ9
ٗٔ٘
بالتركٌز على تؽذٌة الصراع بٌن إسرابٌل ودول الشرق األوسط(٘٘) ...هذا الكبلم قٌل ٔ! ٔ89
وتؤسس المذهب الجدٌد ،أي الصهٌونٌة ،فعبل نهاٌة القرن ٔ9وإعبلنه فً مإتمر بازل بسوٌسرا سنة
ٔ899والممٌز فٌه عن بقٌة المذاهب أن معظمها ،اللٌبرالٌة الرأسمالٌة والشٌوعٌة ،تسابقت لخطب وده.
ومن أدلة صحة وجود هذا المخطط ونسبة ما حدث من حروب وثورات عالمٌة له ،ما ٌتعلق بالثورة
الثالثة التً قال إنها ستفتك بؤمرٌكا من داخلها عبر الهجرات األجنبٌة ،وهو ما أشار إلٌه بعد ٖٓٔ سنة من
وضع مخطط باٌك الباحث األمرٌكً صموٌل هنتنجتون صاحب كتاب "صراع الحضارات" ،ففً كتاب
آخر له باسم "من نحن؟" (منشور ٕٗٓٓ) حذر من استمرار فتح أبواب أمرٌكا أمام الهجرات قاببل إن كثرة
األعراق والثقافات والدٌانات ستمحو الهوٌة األمرٌكٌة األنجلو بروتستانتٌة ،ولؽتها اإلنجلٌزٌة ،وستخلق بكل
تؤكٌد صراعات بٌن هذه الثقافات واألعراق تفتك بالوالٌات المتحدة من الداخل(.)٘ٙ
فٌا ترى ماذا سٌكون نصٌب مصر من هذه الثورة الثالثة الكبرى؟
ألنه بالتؤكٌد لن تشمل الوالٌات المتحدة وحدها ،فإن كانت ستفجر الوالٌات المتحدة وهً قطب النارٌٌن
الباقً ،فبالتؤكٌد سٌكون تم تفجٌر بقٌة الببلد قبلها لتفرغ الساحة لمن تبقى من الشعوب لٌستعبدهم حفنة
"النارٌٌن" وحكومتهم الوحٌدة ،فهل سٌكون تفجٌر مصر من الداخل عبر األمواج التً تتدفق علٌها
بالمبلٌٌن من البشر من مختلؾ األعراق واألدٌان والثقافات باسم الجبٌن ومستثمرٌن وعمالة وفنانون
وراقصات وأزواج وزوجات أجانب إلخ ،وذلك بعد تفكٌك وجدان الشعب ما بٌن إخوانً وشٌوعً ولٌبرالً
وعروبً وملحد ووو إلخ ،وبعد ؼرس مصر ألقصى قاع الدٌون والقروض واالستثمارات العالمٌة؟
وإن كان واٌزهاوبت أسس "محافل الشرق األعظم" الماسونٌة فإن باٌك أسس مجالس الطقس الباالدٌنً
الجدٌد أو المعدل ( )Palladian Rite N.P.Rمع احتفاظه بمنصب الحبر األعظم للماسونٌة العالمٌة
والقابد األعلى الفخري للمجالس العلٌا فً مصر والبرازٌل وتونس وفرنسا وبلجٌكا وإٌطالٌا وإسبانٌا
وإنجلترا ووٌلز وإٌرلندا وأسكتلندا والٌونان إلخ ،وسافر إلى بعض هذه البلدان الفتتاح المجالس بها(.)٘9
وفعبل فإنه فً ذلك التوقٌت -سبعٌنات وثمانٌنات القرن -ٔ9شهدت انتشارات واسعا للمحافل الماسونٌة،
وعلنا ،فً مصر على ٌد مستوطنٌن أجانب أو وافدٌن جدد من الشوام والٌونانٌٌن والٌهود وإنجلٌز وؼٌرهم
تحت دعاوى أنها جمعٌات خٌرٌة وتنوٌرٌة تصل مصر بمنابع الثقافة فً أوروبا.
ٌقول ولٌم جً كار إن مازٌنً وباٌك اتفقا سنة ٓ ٔ89على وضع دستور ماسونٌة علٌا مركزٌة ،وفٌما
تولى باٌك منصب الحبر األعظم للماسونٌة العالمٌة تولى مازٌنً منصب ربٌس العمل السٌاسًٌ ،عنً
(٘٘)
-انظر الشٌطان أمٌر العالم ،مرجع سابق ،ص ٕٓ9ٕ -ٕ9
()٘ٙ
-راجع "من نحن؟" ،صموٌل هنتنجتون ،ترجمة أحمد مختار الجمال ،المركز القومً للترجمة ،ط ٔ ،القاهرةٕٓٓ9 ،
()٘9
-انظر الشٌطان أمٌر العالم ،مرجع سابق ،ص ٕٖ8 -ٕٖ9
٘ٔ٘
ربٌس الحركة الثورٌة العالمٌة ،ووضع باٌك الطقس الببلدٌنً المعدل ،وأبرز أشكال التعدٌل فٌه هو تسمٌة
"قداس قتل أدوناي".
وٌسمً "النارٌون " هللا بـ"أدوناي" مثل الٌهود ،وخبلل طقوس الدرجات العلٌا فً محافلهم ٌقٌمون قداسا
النتهاكات حرمات هللا وممارسة كل ما ٌؽضبه ،كانتهاك األعراض ،وتعذٌب النساء ،وقتل األطفالٌ ،سمونها
"قتل أدوناي" ،أي انتهاك شرٌعته وسلطانه على الخلق ،وٌصبون فٌها كراهٌتهم للمسٌح الذي كشؾ أمرهم ،وبعد
تجنٌد أعضاء جدد فً الماسونٌة ،وخاصة فً الدرجات العلٌا فً المجالس الباالدٌنٌةٌ ،سمى األعضاء
"إخوة" أثبتوا أنهم انشقوا عن الرب والمسٌحٌة(.)٘8
وفً ٕ٘ ٔ9نشر الكاردٌنال "كارو أي رود رجز" أسقؾ سانتٌاجو عاصمة تشٌلً كتابا باسم "سر الماسونٌة
بعد نزع النقاب عنه" شرح كٌؾ نشؤ النارٌون ،فقال إنهم جمٌعة سرٌة فً قلب جمعٌة سرٌة أكبر هً الماسونٌة،
واستدل على ذلك بؤن الماسونٌٌن من الدرجات ٕٖ و ٖٖ العلٌا ال ٌعرفون ما ٌدور فً المحافل التً تدرب
النساء على كٌفٌة التسلل لنجوم المجتمع وكبار رجال الدول من بوابة العبلقات ؼٌر المشروعة(.)٘9
وٌجري استقطاب نجوم المجتمع هإالء من بوابات أخرى ؼٌر النساء ،كالمشاركة فً مبادرات نشر
المحبة والسبلم العالمً والتآخً والعمل الخٌري والتنوٌر ودعم البلجبٌن والحوار مع اآلخر.
وٌتفاخر النارٌون "بؤنه ال ٌمكن وضع ولو جزء صؽٌر من أي تشرٌع من خبلل أي برلمان دون أن
ٌكون لدٌهم معرفة كاملة عنه ،وبدون إعطاء موافقتهم علٌه(ٓ.")ٙ
كما أن الماسون المختارٌن لٌكونوا فً الدرجات األعلى ،أي النارٌٌنٌُ ،جردون من كل انتماء دٌنً -بما فٌهم
الٌهود ال ٌصبحون ٌهودا -ولكن الجمٌع أتباع وعبٌد للشٌطان فقط ،مثل "لٌمً" الذي اختاره الجنرال باٌك لخبلفة
مازٌنً فً إدارة حركة الثورة العالمٌة وتجرد لعبادة الشٌطان بعد أن كان حاخاما ٌهودٌا(ٔ.)ٙ
هإالء من قال عنهم اإلنجٌل (سفر رإٌا ٖ :)9 :هنذا أجعل الذٌن من مجمع الشٌطان ،ومن القابلٌن إنهم
ٌهود ولٌسوا ٌهودا ،بل ٌكذبون.
وقال عنهم القرآن (البقرة آٌة ٗٔ) :وإذا لقوا الذٌن آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شٌاطٌنهم قالوا إ َّنا معكم
إ َّنما نحن مستهزبون.
وهنا نعود إلى شهادة المخرج األمرٌكً ماٌرون فاجان الذي تعرؾ على دور توطٌن البلجبٌن بؤمرٌكا
()٘8
-نفس المرجع ،ص ٕٕ8
()٘9
-انظر أحجار على رقعة الشطرنج ،ص ٕ٘
(ٓ)ٙ
-الشٌطان أمٌر العالم ،ص ٕٗ8
(ٔ)ٙ
-أحجار على رقعة الشطرنج ،ص ٕ٘
٘ٔٙ
فً نشر وتمكٌن تنظٌم النارٌٌن فٌها ،وبدأ الموضوع معه حٌن حضر واقعة فتحت له باب التساإالت،
وكرَّ س حٌاته بعد ذلك لكشؾ هذا التنظٌم وخطره على أمرٌكا فً اإلعبلم ومن خبلل أعماله الفنٌة.
ففً سنة ٘ٗ ٔ9حضر فاجان بناء على دعوة من المإلؾ جون.ت .فلٌن اجتماعا فً واشنطن ،وشاهد
مجموعة أفبلم سرٌة جدا عن االجتماعات السرٌة اللً تمت فً "ٌالتا" بٌن الربٌس األمرٌكً فرانكلٌن
روزفلت والسوفٌتً جوزٌؾ ستالٌن لتقسٌم العالم بعد الحرب العالمٌة الثانٌة ،وكان من نصٌب السوفٌت
أوروبا الشرقٌة والبلقان وبرلٌن ،فً إطار رسم مبلمح النظام العالمً الجدٌد(ٕ.)ٙ
وبسبب ما عرفه فاجان فً هذا االجتماع واألفبلم كتب مإلفه "مخطط النورانٌٌن" أو فً بعض
الترجمات "مخطط المتنورٌن" ،وأسس جمعٌة السٌنما للتثقٌؾ والتعلٌم )Cinema )CEG
Educational Gildسنة ٔ9ٗ9لنشر التحذٌرات وكشؾ الشخصٌات المتورطة.
فشرح فاجان كٌؾ أرسلت عابلة روتشٌلد صنٌعتها الٌهودي جاكوب شٌؾ إلى الوالٌات المتحدة لٌستكمل
مسٌرة زرع فكر النارٌٌن فً مراكز القرار األمرٌكً ،فسٌطر على الشركات الضخمة أوال ،ومن بوابة
ا القتصاد والرشاوى سٌطر على الحزبٌن الجمهوري والدٌمقراطً ،وساعد شٌؾ فً ذلك تدفق الٌهود من
أوروبا وروسٌا إلى الوالٌات المتحدة باسم الجبٌن مضطهدٌن.
وبدأت الحكاٌة بؤنه لتحقٌق تواجد رسمً للنارٌٌن داخل أروقة الكونجرس والبٌت األبٌض -بعد السٌطرة
على البنك االحتٌاطً كما سٌطروا سابقا على بنك إنجلترا -كان مطلوبا السٌطرة على أحد الحزبٌن،
الجمهوري أو الدٌمقراطً ،ألنه عن طرٌق النواب سٌكون لهم صوت رسمً فً الكونجرس وعن طرٌق
مرشح الحزب للرباسة سٌكون لهم وجود رسمً فً البٌت األبٌض.
ووقع االختٌار على الحزب الدٌمقراطً ألنه الحلقة األضعؾ واألقدر على السٌطرة علٌه ألسباب ،منها
فقر الحزب فً عدد الناخبٌن ،وعلى هذا قرر شٌؾ ،مد الحزب بؤعداد كافٌة للمنافسة وموالٌة للنارٌٌن،
فجلب هذه األعداد من الخارج على شكل الجبٌن ومهاجرٌن(ٖ.)ٙ
ووقع اختٌاره على العجٌنة الطٌعة فً هذا األمر ،الٌهود ،ألنهم من أكثر الطوابؾ قدرة على التكتل فً
هدؾ واحد ،وتنفٌذ المهام الموكلة لها مهما طال أمدها ،ومن أكثرها حبا للتسلط على ؼٌرها.
وتطلب هذا صناعة أحداث مإلمة تهدد وجود الٌهود فً عدة دول لٌتشجعوا على الهجرة ،وفجؤة فً سنة
ٓ ٔ89اندلعت فً روسٌا سلسلة مذابح جماعٌة قُتل فٌها آالؾ الٌهود ،رجال ونساء وأطفال ،على ٌد شعب
الكوساك ،وحصلت مذابح مماثلة فً بولندا ورومانٌا وبلؽارٌا ،وجمٌع هذه المجازر بتحرٌض من عمبلء
"روتشٌلد"؛ فتدفق البلجبون الٌهود من هذه الببلد إلى الوالٌات المتحدة ،واستمر األمر على هذه الحال مدة
(ٕ)ٙ
-النظام العالمً الجدٌد كلمة ظهرت منذ ٕٓ٘ ٖٓٓ -سنة ،وتتكرر كل فترة بنفس الكلمات كؤنها كلمة السر لبدء مرحلة جدٌدة من مخطط
النارٌٌن ،فهً بعد ٓ٘ سنة ظهرت على لسان الربٌس األمرٌكً جورج بوش األب بعد إسقاط االتحاد السوفٌتً لما أدى الؽرض منه لالشارة إلى
إعادة تنظٌم العالم بعد التخلص من القطبٌة الثنابٌة والدخول فً مرحلة القطب الواحد كمرحلة من مراحلة الحكومة العالمٌة الواحدة.
(ٖ)ٙ
-انظر "مخطط المتنورٌن" ،ماٌرون فاجان ،مرجع سابق ،ص ٕٔ٘ -
٘ٔ7
ما بٌن ٕٓ ٖٓ -عاما بسبب استمرار المذابح(ٗ.)ٙ
تلقفت الجمعٌات الخٌرٌة التابعة لمإسسات "شٌؾ" و"روتشٌلد" وعمبلبهم البلجبٌن ،ووزعتهم بخرٌطة
مدروسة فً المدن األمرٌكٌة ،وخاصة شٌكاؼو وبوسطن وفٌبلدلفٌا وودٌتورٌت ولوس أنجلوس ،وهً
المدن التً بها كثافة تصوٌتٌة ضعٌفة للحزب الدٌمقراطً(٘.)ٙ
وبمرور الوقت أصبح هإالء البلجبون "مواطنٌن عادٌٌن" ،وتم تثقٌفهم وإرشادهم لٌسجَّ لوا تحت اسم
الدٌمقراطٌٌن ،وأصبحت هذه األقلٌات تجمعات من الناخبٌن ترهن صوتها للممولٌها وأولٌاء نعمتها(،)ٙٙ
وبعد فترة قصٌرة أصبحوا جماعات ضؽط "لوبٌهات" تقود الحٌاة السٌاسٌة ألمرٌكا ،وتجرها لصناعة حرب
وراء حرب وفرض نموذج واحد على العالم فً الحٌاة ،خاصة بعد أن أصبحت مقرا لؤلمم المتحدة.
وإضافة لهدؾ صنع تكتبلت انتخابٌة موجهة لصالح الحزب الدٌمقراطً ،كان لجلب المهاجرٌن الجدد
هدؾ آخر وهو" القضاء على وحدة الشعب األمرٌكً" التً بدأت تتشكل بعد حرب االستقبلل.
وفً ذلك ٌقول فاجان إن جاكوب شٌؾ سعى لذلك عن طرٌق خلق األقلٌات والنزاع العنصري ،فؤدخل
إلى الوالٌات المتحدة أقلٌة متكتلة مثل الٌهود ،مع تحرٌض أقلٌة أخرى هً "المواطنٌن السود" ،واللعب
على وتر أن كل منهما "مضطهدة" ،وبذلك أمكن استخدام هاتٌن األقلٌتٌن بشكل جٌد لخلق الصراع األكبر
فً أمرٌكا ،وهذا ما تحتاجه جماعة النارٌٌن إلنجاز مهمتها.
وبدأت االحتكاكات العرقٌة والكبلم عن اضطهاد المهاجرٌن والسود باحتكاكات فً الجامعات والكلٌات
المحمٌة بقرارات إٌرل وورن ، Earl Worrenولتؽذٌة الشعور العرقً واألقلٌات أسس "شٌؾ" جمعٌة
مدنٌة ٔ9ٓ9باسم "الجمعٌة الوطنٌة لرعاٌة المواطنٌن الملونٌن" NAACPبحجة رعاٌة المضطهدٌن
والمهمشٌن وحقوق السود والٌهود المهاجرٌن ،وادعى أن تخصٌص جمعٌات لهم ٌقوي الوحدة الوطنٌة
بضمان حقوقهم ،لكن الحقٌقة هدفها كان تؽذٌة مشاعر االنفصال العرقً أو الطابفً عن المجتمع والتمٌز
واالضطهاد بداخلهم ،وساعدوا فً إبراز شخصٌات مثل مارتن لوثر كٌنج ،وستوكلً كارمٌشٌل ،وبارنارد
روستن( ،)ٙ9وكلهم باسم المساواة وحقوق اإلنسان.
(ٗ)ٙ
-انظر المرجع السابق ،ص ٕٕ٘ٙ -
(٘)ٙ
-الجمعٌات الخٌرٌة المكلفة بتوطٌن الالجبٌن تبلورت فٌما بعد فً المفوضٌة العلٌا لشبون الالجبٌن فً األمم المتحدة التً تدعم توزٌع الالجبٌن
على الدول المستهدفة كل فترة ،إضافة لسلسلة أخرى من الجمعٌات مثل "الهٌبة الٌسوعٌة لخدمة الالجبٌن" ومنظمة كارٌتاس الكاثولٌكٌة وؼٌرها،
وكثٌر منها له نشاط فً مصر ،إضافة لجمعٌات خٌرٌة محلٌة.
فحٌن تدفق مالٌٌن الالجبٌن على مصر من بعد ٕٔٔٓ ،وهو عدد ؼٌر مسبوق فً تارٌخنا ،تلقفتهم بسرعة عجٌبة تنظٌمات وجمعٌات خٌرٌة
محلٌة ودولٌة ،ووزعتهم بطرٌقة مدروسة على المحافظات ،ودعمت إٌجاد فرص عمل وصار لهم أعمال تجارٌة ثرٌة فً كل شارع وحارة بسرعة
البرق ،وبطرٌقة تدعو للتساإل ،وكؤن هذه الجمعٌات كانت فً انتظارهم فً وقت معلوم.
()ٙٙ
-المرجع السابق ،ص ٕٙ
***وحتى اآلن تقوم سٌاسة الحزب الدٌمقراطً على فتح امرٌكا أمام الهجرات من كل جنس؛ ألن أؼلب داعمٌه من المهاجرٌن ،وأصبح هذا موضع
خالؾ حاد بٌنه وبٌن الحزب الجمهوري ،خاصة بعد تولً دونالد ترامب الحكم ،ورفعه شعار "أمرٌكا أوال" ،ووضعه قٌودا على الهجرة.
()ٙ7
-المرجع السابق ،ص ٕ7
*** هذا النموذج كرروه فً عدة دول ،وفً مصر ٌإسس من ٌصفون أنفسهم بالحقوقٌٌن المدعومٌن من الخارج جمعٌات وحركات لما تصفه بدعم
المهمشٌن والمسٌحٌٌن والنوبٌٌن وأهالً سٌناء والالجبٌن والمجنسٌن إلخ
٘ٔ8
وفً ٖٔ ٔ9بدأت المرحلة التالٌة لمرحلة الوجه "الخٌري" لهذه الجمعٌات العرقٌة والطابفٌة ،وهو الوجه
المسلح لبدء عملٌات الصدام.
وملحوظة هامة ،أنه فً وسط تجمعات المهاجرٌن الٌهود القادمٌن من روسٌا بنٌوٌورك -قبل الثورة
الروسٌة -عاش القٌادي الشٌوعً تروتسكً كبلجا لٌتدرب وسط عصاباتهم على أعمال اإلرهاب التً
نشرها الشٌوعٌون فً روسٌا خبلل الثورة ،وأنفق بسخاء على التدرٌبات رؼم أنه لم ٌكن ٌعمل ،فً داللة
على أنه ٌتلقى تموٌبل خفٌا ،وسافر مع ٖٓٓ من المجرمٌن المدربٌن لٌقابل فبلدٌمٌر لٌنٌن فً سوٌسرا على
متن سفٌنة ممولة من شٌؾ ومعهم ٕٓ ملٌون دوالر أمرٌكً ذهبً لتموٌل الثورة الروسٌة(.)ٙ8
فتحت ستارة "البلجبٌن" و"المهاجرٌن" ُتبتلع أكبر األمم ،وتسقط أقوى الحكومات ،قالها األجداد فً
أمثالهم الفصٌحة التً لم ٌتعظوا بها" :تبلتة لو اتفقو على بلد خربوها" ،و"الٌد الؽرٌبة تخرب البٌوت
العامرة"(.)ٙ9
وأقام لٌنٌن وستالٌن فً سوٌسرا لفترة ،حٌث المؤوى اآلمن للنارٌٌن وأموالهم وخططهم ،ومن سوٌسرا
شحنوا عصابات البلجبٌن فً قطارات إلى روسٌا ،لٌقوموا بمهمتهم فً نشر الحرابق والمذابح التً تم
نسبها لقٌصر روسٌا رومانوؾ ،ثم قتله هو وعابلته حتى ال ٌطالب أحد منهم بالعرش مستقببل(ٓ.)9
كشفت الشهادات السابقة أن وراء ؼبار المعارك والصراعات السٌاسٌة واالقتصادٌة والفكرٌة بٌن
الشٌوعٌة الروسٌة الشرقٌة والرأسمالٌة األنجلوأمرٌكٌة الؽربٌة ٌختبا سر كبٌر مضحك جدا ،ومر جدا،
وهو أن الشٌوعٌة تمولها أساسا البنوك الؽربٌة الرأسمالٌة فً برٌطانٌا وفرنسا وألمانٌا والوالٌات المتحدة.
وشاع وسط الجماهٌر أن الشٌوعٌة حركة عمالٌة قامت لتدمٌر الرأسمالٌة ،ولكن ضباط المخابرات فً
كل من الوالٌات المتحدة وبرٌطانٌا حصلوا على وثابق أصلٌة تبرهن أن الرأسمالٌٌن العالمٌٌن هم الذٌن
مولوا كبل المعسكرٌن المتحاربٌن فً كل الحروب والثورات ،بحسب أحد هإالء الضباط ولٌام جً كار(ٔ.)9
وخٌط الثورة الروسٌة قدٌم جدا ،ومرتبط بحركة الهجرة واللجوء أٌضا التً ٌدور حولها هذا الكتاب ،فقد
شهد القرن 8المٌبلدي هجرات قباٌل الخزر التركٌة من بطن آسٌا إلى شرق أوروبا ،قمعت السكان
()ٙ8
" -مخطط المتنورٌن" ،ماٌرون فاجان ،مرجع سابقٖٓ -ٕ9 ،
()ٙ9
-العادات والتقالٌد المصرٌة ،جون لوٌس بوركهارت ،ترجمة إبراهٌم شعبلن ،مرجع سابق ،ص 99ؤٓ8
(ٓ)9
" -محطط التنوٌرٌن" ،مرجع سابق ،ص ٖٔ
(ٔ)9
-انظر :أحجار على رقعة الشطرنج ،مرجع سابق ،ص ٕٕ
٘ٔ9
األصلٌٌن لتكون مملكة الخزر التً استمرت ٓٓ٘ سنة ،ولسبب ؼٌر معروؾ اعتنق حكام ونخبة هذه
القباٌل الٌهودٌة بدال من المسٌحٌة السابدة فً أوروبا(ٕ )9رؼم عدم محبة الٌهود العتناق ؼٌرهم لدٌانتهم.
بعد ٖ قرون تسللت هجرات روسٌة لنفس المناطق ،وتصارعت مع مملكة الخزر حتى سٌطر الروس
وضموها لروسٌا ،لكن ظل حاخامات الخزر ٌوقدون صدور القباٌل على روسٌا وتحٌن فرصة لبلنتقام.
واستؽلوا فترة قوة الدولة الروسٌة فً تكوٌن نفوذ اقتصادي لهم ،بكنز الذهب والفضة بطرقهم الملتوٌة
فً الربا واالحتٌال ،مع نشر الفتن والكراهٌة بٌن أهل البلد ،وافتعال مشاكل تدفع السلطات إلصدار قوانٌن
لمعاقبة الٌهود ،فٌستؽلونها لنشر قصص أنهم مضطهدٌن ،حتى أضعفوا الدولة.
وفً النصؾ الثانً من القرن -ٔ9بعد خلق الشٌوعٌة على ٌد ماركس خلقو روابط تنتشر بٌن العمال
والمزارعٌن تحرضهم ضد القٌاصرة مستؽلٌن سوء أحوالهم ،ومدعومٌن بتموٌل من بارونات المال ،وأشهر
قادة هذه الروابط ستالٌن وتروتسكً وفبلدٌمٌر لٌنٌن ،حتى أشعلوا ثورة ٔ9ٔ9الشٌوعٌة.
وبالتزامن -وعلى طرٌقة الثورة الفرنسٌة -جري نشر الخبلٌا الفوضوٌة عبر نظرٌة "النهلستٌة"،
والمواخٌر وبٌوت الدعارة التً تستقطب رجال الحكم والجٌش والعابلة الحاكمة ونجوم المجتمع بقٌادة
الشهوانً الشهٌر راسبوتٌن ،وتكبٌل الدولة فً قروض بعد تورٌطها فً حروب خارجٌة ،وتقرٌب أجانب
من دوابر الحكم باسم خبراء ومستشارٌن(ٖ.)9
وسبق أن تحدث القٌصر إسكندر الثالث عقب صدور قوانٌن ماٌو ٔٓ ٔ9فً بٌان رسمً عن أن
الفوضوٌٌن والٌهود هم السبب األول فً األزمات االقتصادٌة والفوضى التً حلت بببلده.
وبالفعل كانت معظم أسماء الحركات الفوضوٌة التً قادت الثورة الروسٌة هً من األجانب ومنهم الٌهود
مثل جولٌوس تسٌدٌر بهلوم قابد حزب المنشفٌك ،وفبلدٌمٌر لٌنٌن ،وتروتسكً ،وروزا لكسمبورج ربٌسة
الحزب الشٌوعً البولونً ،وروفابٌل إبراهٌموتموفٌتش ربٌس الحزب الشٌوعً األلمانً(ٗ.)9
انتهت الثورة إلى إعدام القٌصر وعابلته بما فٌها من أطفال ،وإشعال حرب أهلٌة عن عمد -على نمط
الثورة الفرنسٌة -أزهقت أرواح مبات اآلالؾ ،بما فٌهم من أطفال ونساء ،وإعدامات ببل محاكمات ،بخبلؾ
مبلٌٌن الفقراء ماتوا تحت وطؤة المجاعات واألوببة والفوضى ،لم ٌهنؤوا بالشعارات التً رفعتها الشٌوعٌة
عن أنها قامت "لنصرة" الضعفاء ،ثم تحولت روسٌا إلى "االتحاد السوفٌتً" راعً صناعة الثورات
(ٕ)7
-انظر :مملكة الخزر الٌهودٌة وعالقتها بالبٌزنطٌٌن والمسلمٌن فً العصور الوسطى ،محمد عبد الشافً المؽربً ،ص ٖٔ -9
*** والخزر كلمة تعنً ضٌق العٌن جدا مثل عٌون الصٌنٌٌن والٌابانٌٌن وشعوب شرق آسٌا (نفس المرجع)
(ٖ)7
-النهلستٌة مبدأ فوضوي انتشر فً روسٌا وأوروبا القرن ٌ ،ٔ9نكر كل سلطة على اإلنسان ،سواء األدٌان أو الحكومات أو األخالق أو
المجتمع أو العادات والتقالٌد ،وٌدعو لتكون الفوضى أسلوب الحٌاة.
*** وجرٌجوري راسبوتٌن ( )ٔ9ٔٙ -ٔ8ٙ9هرب من قرٌته بعد اتهامه بسرقة جواد ،فالتحق بؤحد األدٌرة متخفٌا باسم راهب ،وعاش حٌاة
بوهٌمٌة ال ٌؽتسل باألشهر ،والتحق بمنظمة متطرفة "خالٌستً" تشجع على الفجور الجنسً ،واتبع مذهبا شٌطانٌا ٌوهم الناس بؤن التقرب إلى هللا
ٌلزمه أوال أن ٌقوم اإلنسان بالفواحش والرذابل بوعً كامل منه ثم ٌتوب عنها.
(ٗ)9
-من نشروا الفكر الشٌوعً والفوضً فً مصر أٌضا ٌهود ،وعلى رأسهم هنري كورٌٌل كما سٌتضح فً فصل الحق.
ٕٓ٘
المسلحة وقلب نظم الحكم فً العالم بشبلالت دم وحروب أهلٌة أؼرقت دوال فً آسٌا وأفرٌقٌا وأمرٌكا
البلتٌنٌة وشرق أوروبا لتنصٌب حكومات شٌوعٌة لٌس لها والء لوطن ،بل تضم ببلدها إلى طرٌق إعبلن
"دولة البرولٌتارٌا االشتراكٌة العالمٌة" ،وأنصارها حتى الٌوم من أكبر مشجعً الهجرات وخلط الشعوب.
فً نفس الوقت الذي كان ٌجري إعداد وتنفٌذ الثورة الروسٌة ،كانت تدور الحرب العالمٌة األولى
العالمٌة ٗٔ ،ٔ9ٔ8 -ٔ9لٌعٌش العالم بؤسره السنٌن األربع الرهٌبة فً طوفان دم لؾ العالم كله بشكل لم
تشهد اإلنسانٌة له مثٌبل من قبل ،ودارت مصانع األسلحة تطحن وتبٌد مبلٌٌن الناس ،وتعبؤ الدوالرات فً
بٌوت المال العالمٌة ،وانقسم العالم لمحاور من ؼٌر أي سبب مقنع للحرب التً أعلنت انتصار الصهٌونٌة
والشٌوعٌة واللٌبرالٌة الرأسمالٌة على حد سواء ،وبدأ تنفٌذ مشروع إسرابٌل بوعد بلفور الذي كتبه اللورد
روتشٌلد نفسه منتشٌا سنة ٔ9ٔ9الخاص بدعم برٌطانٌا إلقامة وطن للٌهود بفلسطٌن تتوٌجا لنشاط إرسال
الهجرات الٌهودٌة إلى هناك منذ سنة ٓٗ ٔ8باسم مستثمرٌن والجبٌن ومهاجرٌن.
وأعلنت الدول المنتصرة -رافعة شعار الحرٌة -موافقتها على إعبلن الحماٌة البرٌطانٌة على مصر
ؼصبا عن مصر ،وظهرت عصبة األمم كؤول كٌان تطبٌقً لمشروع "حكومة العالم الواحد" ،وصارت
الصناعات االستراتٌجٌة البلزمة لصناعة السبلح فً زمن الحرب مثل الحدٌد والصلب واألسمنت
والكٌماوٌات فً ٌد بارونات المال مثل فردٌرك ناتان ،ربٌس الوكالة الٌهودٌة فً فلسطٌن فٌما بعد؛ ولذا
نفهم لماذا سعوا إلؼبلق مصانع الحدٌد والصلب والكٌماوٌات واألسمنت التً أنشؤتها ثورة ٖٕ ٌولٌو
ٕ٘ ٔ9فً مصر ،أو على ا ألقل نزعها من ٌد الدولة وخصخصتها ببٌع بعضها لؤلجانب ووضع بعض آخر
فً ٌد رجال أعمال ٌسهل التحكم فٌهم من الخارج.
وفً سفره الضخم بعنوان "عبر ثبلثٌن عاما" أقر وٌكهام ستدي ربٌس تحرٌر "التاٌمز" بالنفوذ الخفً
لسادة المال العالمٌٌن وقال فً الصفحة ٖٔٓ" :ٖٕٓ -إننً ألح بصورة خاصة فً القول بؤن الذٌن
ٌسٌطرون على القضاٌا العالمٌة هم سادة المال العالمٌٌن ،وبؤنهم هم محركو األحداث بصورة خاصة" ،وفً
المإتمر الصهٌونً العام الذي انعقد فً المجر ٔ9ٔ9قال أحد الخطباء" :إننا نحن الذٌن خلقنا عصبة األمم،
وسوؾ نتابع السٌر وراء السلطة المرشدة ..أما أهدافنا ومهمتنا فهً محددة سلفا"(٘.)9
ولم ٌكد العالم ٌفٌق من جراح الحرب العالمٌة الفاجرة األولى حتى تم جره للحرب الفاجرة الثانٌة
( )ٔ9ٗ٘ -ٔ9ٖ9بتؽذٌة الصراع بٌن النازٌة والٌهود والشٌوعٌة وإشعال حرب جدٌدة حصدت أرواح ٓ٘
ملٌونا لتتفوق على الحرب السابقة فً أنها أبشع مجزرة فً التارٌخ تحقق آمال إبلٌس فً الحد والحط من
الجنس البشري ،وانتهت إلى :إعبلن قٌام إسرابٌل ،تؤسٌس األمم المتحدة ،وضع قوانٌن دولٌة لمنح حقوق
لبلجبٌن تذكرنا باالمتٌازات األجنبٌة فً زمن االحتبلل بهدؾ توطٌنهم لٌحكموا الببلد من داخلها ،وتقسٌم
(٘)9
-أحجار على رقعة الشطرنج ،مرجع سابق ،ص ٔ99
ٕٔ٘
العالم لمعسكرٌن متصارعٌن هما الشٌوعً والرأسمالً ،لفترة مإقتة ،انتهت فً ٔ989بإسقاط االتحاد
السوفٌتً بعد أن أدى دوره فً إنهاك العالم بدعم الثورات المسلحة ،لٌبدأ عصر القطب الواحد ،وحروب
اإلرهاب "الدٌنً" ،وتهٌؤة العالم إلعبلن الحكومة العالمٌة الواحدة رسمٌا.
أما الحرب العالمٌة الثالثة المخطط لها أن تكون الطرٌق إلى ظهور هذه الحكومة ،وساحتها الشرق
األوسط ،وسبلحها هو الجماعات اإلرهابٌة "الدٌنٌة" ،فسٌتم اإلشارة إلى تفاصٌلها وعناصرها وأماكنها-
المذكورة فً "الوثٌقة الكندٌة" عن فحوى ما دار فً المإتمر االستثنابً "للجنة الطوارئ لحاخامً أوروبا"
المنعقد فً بودابس ٕٔ ٌناٌر ٕ٘ -ٔ9وموضع مصر منها فً الجزء الثانً إن شاء هللا.
فً عام ٔ9ٙٙجهرت جماعة فً الوالٌات المتحدة بعبادة الشٌطان وتؤسٌس كنٌس له (مجمع الشٌطان)
فً والٌة كالٌفورنٌا بموجب قانون ٌتٌح حرٌة األدٌان فً الوالٌة صدر فً نفس السنة(.)9ٙ
وأصدروا كتابهم المسمى بـ"اإلنجٌل األسود" ٌحتوي على عقٌدة إبلٌس ،وملخصها أن كل ما ٌرضً هللا
ٌؽضب إبلٌس ،وكل ما ٌؽضب هللا ٌرضً إبلٌس؛ ولذا فإن انتشار المذابح فً الحروب والجماعات
اإلرهابٌة والفوضى الجنسٌة والفجور "الشذوذ الجنسً" فً اإلعبلم ،والجهر والتفاخر بالرذٌلة والخٌانة،
واستؽبلل النساء واألطفال فً الجرابم القذرة ،واللعب فً الجنس البشري عبر الهندسة الوراثٌة
واالستنساخ ،والسخرٌة من الرموز الوطنٌة والدٌنٌة هو دٌنهم الذي ٌنشرونه فً كل مكان ،وسٌكون لمصر
منه نصٌبا عبر فروعهم التنظٌمٌة وتبلمٌذهم الذٌن ٌنشرون هذا تحت اسم "إقامة الشرٌعة اإلسبلمٌة"،
أو"حرٌة التعبٌر واالعتقاد".
إن ٌدعون من دونه إال إناث وإن ٌدعون إال شٌطانا مرٌدا ( )ٔٔ9لعنه هللا وقال ألتخذنَّ من عبادك
نصٌبا مفروضا ( )ٔٔ8وألضل َّنهم وألمنٌ َّنهم وآلمر َّنهم فلٌُبت ُكنَّ آذان األنعام وآلمر َّنهم فلٌُؽٌرنَّ خلق هللا ومن
الشٌطان ولٌا من دون هللا فقد خسر خسرانا مبٌنا (( )ٔٔ9النساء)(.)99 َ ٌتخذ
وفً مجامع الشٌطان ،المعلن منها والسري ،فإن عبادتهم تسمى بـ"القداس األسود"ٌ ،مثل الكهنة دور
الشٌطان ،وٌنتهكون حرمات النساء وأجسادهن وكرامتهن بشكل ال ٌطاق ،تنفر منه الوحوش الهابمة على
وجهها فً الصحاري ،إضافة لذبح الصؽار كقرابٌن للشٌطان ،كرمز لقتل "أدوناي" ،إي إله "الجوٌٌم"(.)98
()7ٙ
-فً الدساتٌر الحدٌثة توجد عبارات مثل "المساواة التامة بٌن المواطنٌن" ،وااللتزام بتوفٌر حرٌة العقٌدة وحق المواطنٌن فً ممارسة
شعابرهم" ،وذلك دون تقٌٌد ،وهو ما ٌستؽله أصحاب المذاهب المشبوهة إلجبار الحكومات على أن تتٌح لها مساحة تواجد "شرعً".
()77
ٌ -ؽٌرن خلق هللا ،أي تؽٌٌٌر فطرة هللا فً الجسد واألخالق واألشكال واألدوار والعالقات ،وأن ٌسعى الرجل لٌكون كالمرأة أو تسعى المرأة
لتكون كالرجل( .تفسٌر الشعراوي فً برنامج خواطر الشعراوي على التلفزٌون المصري)
()98
-الشٌطان أمٌر العالم ،مرجع سابق ،ص ٓ٘ٔ
ٕٕ٘
ونشر بٌترٌم سوروكٌن من جامعة هارفارد كشفا لهذا الجانب فً كتاب عنوانه "الثورة الجنسٌة
األمرٌكٌة" The American Sex Revolutionبٌَّن فٌه أن السلوكٌات الجنسٌة المنحرفة تلعب
دورا ربٌسٌا فً الحٌاة السٌاسٌة األمرٌكٌة الحدٌثة ،وأن الرشوة الجنسٌة واالبتزاز الجنسً متفشٌان بقدر
تفشً الفساد المالً"(.)99
وبعد ٖٓ سنة من الجهر بعبادة الشٌطان فً أمرٌكا انتقلت إلى مصر عام ،ٔ999لتنفخ فً البوق أن
الخطر اقترب من مصر بقوة.
بدأت القصة فً قصر البارون فً القاهرة آواخر التسعٌنات ،تحولت لقضٌة رأي عام ثم تجسدت فً
أفبلم سٌنما قدمت للمشاهد الفواحش بما فٌها اللواط والسحاق والفجور علنا ("عمارة ٌعقوبٌان"" ،حٌن
مٌسرة" كؤمثلة) ،واهتمت بنشر الؽل والدم والقبح وتموٌت الحٌاء والنخوة بالتمعن فً مشاهد االؼتصاب
والقتل والذبح (طقوس القداس األسود وقتل أدوناي) باسم حرٌة الفن والتعبٌر ،وبعد فوضى ٕٔٔٓ ظهرت
فً أثواب جدٌدة ،على األرض وفً اإلنترنت ،وحطمت عقول وقلوب عدد كبٌر من أوالد مصر ،وما
ماتت النخوة فً شعب إال مات الوطن ،وسلموه كسلعة من السلع ألقرب مشتري ،بل لمحل نخاسة ٌُباع فٌه
بٌع الرقٌق تحت أي اسم براق ،مثل تشجٌع االستثمار ،أو منح وبٌع الجنسٌة واألرض للخروج من أزمة،
أو لقبول اآلخر وحق االختبلؾ وتحقٌق السبلم العالمً.
بحسب ما سبق ،فإن تدمٌر العالم ٌكون بنزع الوطنٌة والدٌن واألخبلق منه ،وتحوٌله إلى معسكرات
وتٌارات متصارعة ،كل معسكر ٌرى أنه األحق بقٌادة العالم ،ولكن الحقٌقة الساخرة أنه لن ٌظفر أي منهم
بقٌادة العالم ،سٌهدمون بعضهم بعضا ،وٌحطمون الببلد ،لٌتسلم التنظٌم األكبر العالم ببل مقاومة.
ولذا فً كتابه "الشٌطان أمٌر العالم" ٌقول جً كار إنه تبٌن دابما أن الثورات التً وقعت فً أوروبا
وروسٌا والحروب العالمٌة كان مخططا لها قبلها بسنوات طوٌلة ،وعلى هذا فإن اللوم فٌما ٌجري فً العالم
ال ٌنصب على الشٌوعٌة والرأسمالٌة والنازٌة وبارونات المال العالمٌٌن وحدهم ،بل ما وراء كل هذا ،وهو
الشٌطان نفسه ،والسبٌل لهزٌمته ،هو كشؾ مخططاته ،وعدم اإلنجرار وراء دعوات الثورات المسلحة
والحروب والصدامات المسلحة(ٓ.)8
ولذا انتقد الحكومة البافارٌة أنها لما اكتشفت وثٌقة وشخصٌات مإامرة واٌزهاوبت لم تحرق جذور
الشجرة الخبٌثة ،بل قلمت أفرعها فقط بحبس أو حظر أو نفً أعضابها ،وكان ٌلزم قلع الجذور وحرقها،
مستشهدا بقول اإلنجٌل" :كل شجرة ال تضنع ثمرا جٌدا ُتقطع و ُتلقى فً النار" (متى ،)ٔ9:9فواٌزهاوبت
*** ومن هنا تشجٌع هولٌوود وشركات اإلنتاج الفنً حول العالم اإلساءة للنساء بتقدٌمهن بشكل رخٌص فً المسلسالت واألفالم واألؼانً
واإلعالنات ،والتفنن فً مشاهد اؼتصابهن أو المشاهد الجنسٌة عامة ،ألنه بموت احترام النساء فً النفوس ٌموت احترام األمومة واألسرة،
ووقتها سٌموت احترام األرض والعرض ،فٌكون التسلٌم إلبلٌس سهال.
()99
-المرجع السابق ،ص ٔ9ٓ -ٔ89
(ٓ)8
-الشٌطان أمٌر العالم ،مرجع سابق ،ص ٘ٔ
ٖٕ٘
وأتباعه ظلوا أحٌاء ٌبخون سمومهم وٌبتكرون فً سوٌسرا وإٌطالٌا وألمانٌا وبرٌطانٌا ثم أمرٌكا أثوابا
جدٌدة ٌظهرون بها ،وصحٌح أن الشر ال نهاٌة له ،لكن إذا حدث وأحرقت شجرة هإالء لكان ما بقً منه
أهون بكثٌر مما تعانٌه البشرٌة اآلن ،فالشر درجات.
وهذه نفس خطٌبة مصر فً معظم جوالتها مع الشٌطان والشعوب التً دفعها الشٌطان دفعا الحتبلل مصر،
فلم تنتقم مصر منها االنتقام البلبق ،فكم تسامحت مصر مع شعوب احتلتها وذبحتها ونكلت بها ،فعادت وقبلت
استٌطانها فً مصر ،وتسامحت مع تنظٌمات فرَّ قت بٌن أبنابها كتنظٌم اإلخوان المسلمٌن ،وسلمت اقتصادها لنفس
من نهبوها واحتلوها وذبحوها؛ أي بٌوت مال روتشٌلد العالمٌة وإخوانه ،ممثلة الٌوم فً صندوق النقد الدولً
وتحالفات المستثمرٌن األجانب وخبراإهم ومستشارٌهم ومنظماتهم الدولٌة ،لٌس كمصر دولة تقطع من تارٌخها
الصفحات السوداء مع أعدابها كؤن لم تكن ،فتظل تدور فً نفس دابرة االحتبلل والتوهان أجٌال ورا أجٌال ،ما
تكاد تفوق وتتحرر من كبوة أو احتبلل حتى تنزلق قدمها فً وحل احتبلل جدٌد.
وبببلغ الحقٌقة الكاملة لعامة الناسٌ ،قول جً كار ،فإن معرفة الحقٌقة (حقٌقة وأسالٌب الصراع القدٌم
المتجدد بٌن الخٌر والشر) ستجعل بالتؤكٌد الؽالبٌة ٌشؽلون أنفسهم بإنقاذ ببلدهم وأرواحهم ،وسوؾ تضع
حدا للخمول والبلمباالة ،وكما أخبرنا السٌد المسٌح ،الحقٌقة سوؾ تحررنا (روحٌا) من األؼبلل التً ٌتم
شد وثاقها علٌنا أكثر وأكثر كل ٌوم بواسطة قوى الظبلم الروحٌة(ٔ.)8
وبالمثل ٌقول القرآن :فإذا قرأت القرآن فاستعد باهلل من الشٌطان الرجٌم ( )98إنه لٌس له سلطان على
الَّذٌن آمنوا وعلى ربهم ٌتوكلون ( )99إ َّنما سلطانه على الَّذٌن ٌتولَّونه والَّذٌن هم به مشركون (ٓٓٔ)
(سورة النحل).
ولهذا استعرضنا ما سبق حول المسٌخ الدجال وتنظٌماته فً هذا الكتاب ،ألن هذه التنظٌمات الهكسوسٌة
حطت كلها فً أرض مصر الطٌبة فً باختبلفاتها الظاهرٌة ،وبؤرواحها الشرٌرة ،وهدفها النهابً الواحدَّ ،
القرن ،ٔ9وتوؼلت وتؽلؽلت فً القرن ٕٓ مع تؽلؽل االحتبلل اإلنجلٌزي والجالٌاتً ،وتجنً اآلن ثمارها
خططها فً القرن ٕٔ؛ فكان ٌلزم معرفة خطوط عرٌضة عنها لنحاول أن نفهم ونرى ماذا جرى للفبلحٌن،
ومن ٌؤخذهم وٌفرؼهم من فبلحٌتهم المقدسة لٌكونوا مسخا مضحكا ،ومن ٌدٌر أمورهم فً هذا العصر
الصعب المش َّبر ..ربما حٌنها ،ربما ،ننجو من اإلبادة القادمة.
ٌقول المسٌح لعبٌد الشٌطانٌ" :ا أوالد األفاعً ،كٌؾ تقدرون أن تتكلموا بالصالحات وأنتم أشرار؟" (متى ٕٔ:
ٖٗ)
إن الشٌطان وأتباعه بضاعتهم الكذب ،قلب الحقاٌق ،قلب الهرم رأسا على عقب ،الحرٌة عندهم احتبلل
(ٔ)8
-المرجع السابق ،ص 99
ٕٗ٘
واالحتبلل حرٌة ،والظالم ٌسمونه عادال والعادل ٌسمونه ظالما ،واستقبلل الدولة برأٌها واقتصادها ٌسمونه
استبدادا وتسلٌم نفسها للعالم ٌسمونه نجاحا وانفتاحا ،وثورة الخٌر ٌسمونها انقبلبا دٌكتاتورٌا ،واإلصبلح
تخرٌب والتخرٌب إصبلح ،وثورة الشر ٌسمونها ثورة الحرٌة ،والنصر هزٌمة والهزٌمة نصر ،والوطنٌة
ٌسمونها عنصرٌة كرٌهة وتمكٌن األجانب ٌسمونه احترام اآلخر ،حماٌة وحدانٌة الوطن ٌسمونها إقصاء،
وتفتٌت الوطن إلى هوٌات وطوابؾ وفصابل ٌسمونها تسامح مع حق االختبلؾ ..إنه "قاموس المسٌخ
الدجال" ،التصنٌؾ ٌكون حسب ما إن كان الحدث مع أو ضد المسٌخ الدجال.
فإذا كان الشٌطانٌون (النارٌون) مكشوفون فً الكتب المقدسة وكتب التارٌخ القدٌم والحدٌث إلى هذه
الدرجة كما رأٌنا فلماذا ٌنجحون فً جوالت كثٌرة؟ حتى أنهم باتوا ٌتحدثون عن مخططاتهم علنا؟ لماذا
وصلوا إلى أن سٌطروا على العالم حتى وقعت فً براثنهم مصر نفسها ،عدوة الشٌطان األولى فً العالم؟
ٌسار الناظر عملة أصدرها أؼسطس علٌها التمساح رمز مصر ومكتوب "فتح مصر" ابتهاجا باحتبلل الرومان لها بعد إؼراقها بالدٌون (المتحؾ
البرٌطانً) ،وعلى الٌمٌن روتشٌلد ٌقدم شرابا مؽرٌا "الدٌون" للتمساح حتى سكر واحتلت برٌطانٌا مصر ٕٔ88
( )www.rothschildarchive.orgفهكذا حٌن تضعؾ ذاكرة الدولة وتنسى أسالٌب عدوها وتفقد هدفها تقع فً نفس الفخ مرة وراء مرة
تحدى إبلٌس هللا "قال فبعزتك ألؼوٌ َّنهم أجمعٌن" (سورة ص ،)8ٕ :فمن هذه الجرأة ٌؤخذ أتباع كل
تنظٌم عالمً جرأتهم فً الباطل طالما ال ٌجدون نفس قوة التحدي فً أهل الخٌر لنصرة هللا وبلدهم.
أتباع التنظٌمات العالمٌة مستمرون ألنهم ٌرون هدفهم النهابًٌ ،علمون أن كل شخص منهم جندي فً
الطرٌق الطوٌل إلٌهٌ ،نفذ خطوة من الخطوات ،ولذا ال ٌملون وال ٌٌؤسون ،لدٌهم اطمبنان أن جهودهم
سٌكون لها ثمرات ،ألن أعدابهم (أهل الخٌر) ال هدؾ لهم ،و"بٌعٌشو الٌوم بٌومه" ،وال ٌربطون بٌن
األحداث ،وال ٌشعرون بؤنهم فً حرب دابمة مع الشر ،فخطواتهم قصٌرة ومشتتة ،وال ٌطمحون إلنجاز
كبٌر ،وإذا فازوا على الشٌطان (فساد أو احتبلل) فً معركة أسكرتهم الفرحة ،وتراخت إرادتهم ،وظنوا
أنهم "خلصوا على الشر لؤلبد" (كما حدث لمصر بعد انتصارها على قباٌل شعوب البحر فً األسرة ٕٓ أو
بعد انتصار أكتوبر ٖ ٔ99مثبل).
ٌترجم لٌنٌن هذا فً قوله إنه ربما ٌحتاج األمر إلى ٖ آالؾ سنة قبل أن تصل الحركة الثورٌة العالمٌة
إلى مرحلتها النهابٌة ،ولٌقووا فً نفسهم األمل دابما وٌعملوا بجد وهم سعداء وبؤعصاب هادٌة فإن شعارهم
ٕ٘٘
"وحٌث أنه ال ٌجب ألي شًء أن ٌجعلنا نحٌد عن خطتنا المرسومة فإنه ٌتعٌن علٌنا أن نخوض فً عملنا
الذي بدأناه حدٌثا كما لو أن الؽد سٌجلب لنا النجاح"(ٕ.)8
ولكن هذا ال ٌعنً أن الشٌطان وأالطٌشه مشٌبتهم نافذة ،وأن قوتهم ببل حدود ،فالحقٌقة أنهم ضعاؾ
كلوح الزجاج المكسور ،ومصدر قوتهم الوحٌد أن أهل الخٌر ضعاؾ الذاكرة ،ال ٌرونهم ،وأحٌانا إذا رأوهم
ٌحبطون أنفسهم عن مواجهتهم وٌستسلمون لؤلمر الواقع بحجة أنهم "مش قدهم".
أما حٌن ٌخرج من أهل الخٌر أصبلب قوٌة تعرؾ أن دورها وشرفها فً الحٌاة هو محاربة الشٌطان
وأالطٌشه ،وٌتبعون األسباب ،فإنهم ٌحققون انتصارات مدوٌة تهز الشر كؤنه شجرة خاوٌة أمام العاصفة
العاتٌة ،مثلما فعل المصرٌون حٌن التزموا بؤصول الخٌر "ماعت" ،وحاربوا بها الشر وسط همجٌة العالم
فً الزمن القدٌم ،فؤخرجوا لنا أعذب وأنبل حضارات الخٌر ،وكما حاربوه مجسدا فً الهكسوس بؤنواعهم
قدٌما وفً ٔ9٘ٙوٖ ،ٔ99وكما فاجبوا الشر فً ثورات ٔ ٔ88و ٔ9ٔ9و ٕ٘ ٔ9التً قامت ضد الشر
وتنظٌماته وتٌاراته ،على عكس الثورات اإلنجلٌزٌة والفرنسٌة والروسٌة التً قامت لتمكٌن هذا الشر
وبنوكه وتنظٌماته وتٌاراته.
ثورة ٔ( ٔ88هبت فً وجه بنوك روتشٌلد وجٌوشه وأعادت لمصر شعار مصر للمصرٌٌن ووحدت
المصرٌٌن حول زعٌم منهم) ،ثورة ( ٔ9ٔ9هبت وزلزلت جٌٌش االحتبلل الروتشٌلدي ،وؼرست شعار
مصر للمصرٌٌن فً الفن واألدب واالقتصاد والسٌاسة والدٌن) ،ثورة ٕ٘( ٔ9أتمت إجبلء جٌش االحتبلل
الروتشٌلدي وبنوكه ومعظم جالٌاته ،واستردت حرٌة قرار وأرض واقتصاد مصر للمصرٌٌن ،ورفضت
الشٌوعٌة والرأسمالٌة واإلخوان المسلمٌن معا).
ولذا وصؾ اإلعبلم األجنبً الذي ٌدٌره بارونات المال ثورات مصر هذه بؤنها "انقبلبات دٌكتاتورٌة
على الشرعٌة" ،أي انقبلب على الشٌطان واالحتبلل ،فٌما وصفوا الثورات اإلنجلٌزٌة والفرنسٌة والروسٌة
بؤنها "ثورات مجٌدة ونصٌرة للحرٌة" ،أي حرٌة الشٌطان وحرٌة األجانب فً االحتبلل والسٌطرة على
ؼٌرهم.
الخبلصة ..أهل الشر ال ٌنتصرون علٌنا لذكابهم ،وال لكثرة مالهم ،وال لعنؾ إرهابهم ،ولكن ألنهم شعب
"م َُخطِ ط" ،أي ٌجٌد وضع الخطط والصبر علٌها ،وتعدٌلها حسب الظروؾ الدولٌة ،وتوجٌه الرأي العام بما
ٌخدمها ،وٌحفظون تارٌخهم وتارٌخ ؼٌرهم جٌدا.
أما مصر -منذ ضاعت منها ماعت ووصٌة العهد الحارسة -فتسٌر بعشوابٌة ،خطواتها مرتبكة مشتتة،
خطوة للٌمٌن وأخرى للٌسار ،وخطوة للخلؾ وأخرى لؤلمام ،ال ترى هدفها النهابً ،ال تضع هدؾ أساسا،
ال ترى الشمس رؼم أنها بنت الشمس (رع) ،تتخبط فً الظبلم ،حجبها عنها حسن نواٌاها بالؽٌر ،ونسٌانها
تارٌخها ودروسه ،وكثرة االحتبلالت التً رمت على عٌنٌها التراب ،ومجامبلتها الحالٌة لبعض الدول
(ٕ)8
-الشٌطان أمٌر العالم ،ولٌام جً كار ،ص ٕ٘ٔ و ٕٔ9
ٕ٘ٙ
بحجة روابط إسبلمٌة أو عربٌة أو إنسانٌة وسٌاسٌة ،رؼم أنهم جمٌعا ال ٌرعون فٌها َّإال وال ذمة ،ولو
وجدوا الفرصة فٌها التهموها ،كما فعلوا سابقا مرارا.
وعلى هذا ،ستفوز مصر فً هذا السباق الشرس وتحمً نفسها من اإلبادة ،حٌن تعود أمة "م َُخطِ طة"..
تتذكر وظٌفتها ووصٌة العهد ،واعٌة بتارٌخها كله متصبل ال مجزءا ،وبتارٌخ ؼٌرها من األمم ،لتكون
"على نور" ،تعرؾ ماضٌها الحق ،ترى مستقبلها وخطط أعدابها بوضوح ،وتشلها وتكسر سمها ،كما فعل
حور (حورس) مع الشٌطان ،وتسقً هذا كله ألبنابها فً المدارس والؽٌطان والورش وكل مكان جٌل ورا
جٌل.
فً فٌلم "موعد مع إبلٌس" (إنتاج ٘٘ )ٔ9تخفى إبلٌس فً شكل إنسان طٌب وحنون وناجح هو د.نبٌل
(محمود الملٌجً) ل ٌتقرب من اإلنسان الؽافل الدكتور رجب (زكً رستم) مستؽبل حسن نواٌاه التً أعمته
عن أن ٌشك فٌه ،وحرَّ ك فٌه الطمع للمال مستؽبل فقره ،وجرَّ ه الرتكاب الخطاٌا لٌقع أسٌرا له ..ووقع -كما
وقعت مصر -لكن فً لحظة صحوة ضمٌر بداخله وؼضبة "ماعت" من هذا الذل ،انتفض رجب ،ورفض
إؼراءات إبلٌس ،فلما هدده األخٌر استعاذ باهلل فً وجهه ،وأكد إٌمانه وإصراره على الخٌر ،ألقى فً وجهه
بالثروة الحرام ،فؤفلت من إؼراءاته وتهدٌداته ...ونجا من الفخ.
(ٖ)8
-تقدٌم علً رضوان لكتاب "الماعت ..فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة" ،مرجع سابق ،ص ٕٔٔ٘-
ٕ٘7
صبحت بالدنا للمؽشوش مورد
وصانعها ظمآن
(ٕٓٗٔ)
شرم برم ..حالً ؼلبان
(ٕٓٗٔ)
-عبد هللا الندٌم ،صحٌة التنكٌت والتبكٌت ،العدد ،9بتارٌخ ٔ88ٔ -ٙ -9
المشهد :ٔ9االحتالل اإلنجلٌزي
(ٕ)ٔ9ٕ٘ -ٔ88
باالحتبلل اإلنجلٌزي أصبحت مصر تؤنّ تحت ٗ احتبلالت (احتبلل رباعً) ،االحتبلل العثمانلً،
واالحتبلل العلوي ،واالحتبلل اإلنجلٌزي ،واالحتبلل الجالٌاتً ،أي من الجالٌات األجنبٌة الذراع القوٌة
والسند لبلحتبلالت الثبلثة.
فتابعنا أنه بهذا الذراع ٌسٌطر االحتبلل العسكري على معظم المناصب والثروة والفنون واإلعبلم؛ مما
ٌساعد فً استمرار إزاحة أوالد البلد عنها بحجة أنهم ؼٌر كؾء ،كما أن كل احتبلل من االحتبلالت الثبلثة
لم ٌكن له من جنسه جالٌة بؤعداد تسمح له بقبض الزمام على مفاصل الحٌاة فً مصر ،فكان ٌستعٌن فً
ذلك بالجالٌات األجنبٌة المستوطنة وٌمنحها االمتٌازات لتكون فوق المصرٌٌن ،وٌستقدم جالٌات جدٌدة.
وتبدلت الطبقة الحاكمة ،وإن لم ٌكن هذه المرة تبدال تاما ،لم تكن عملٌة الكشط كاملة ،لكن أضٌؾ
اإلنجلٌز بجانب العٌلة العلوٌة والسلطان العثمانلً ،وإن كان المنتدب البرٌطانً هو الحاكم الحقٌقً وقتها،
إضافة لجعل األوروبٌٌن رقم ٔ فً المناصبٌ ،لٌهم الشوام والٌهود واألتراك والشركس والعربان.
أما ما تم كشطه كامبل ..فهو الجٌش المصري من أول قابده العام (أحمد عرابً) وحتى الجنود ،بروح
االنتقام الهكسوسٌة الهمجٌة ،فقد تؤكدوا أنه بوجود هذا الجٌش جسدا ورأسا فً ٌد مصرٌٌن والبهم لبلدهم
لٌس إال ،فلن ٌبقى لكل المذكور أعبله (إنجلٌز وعثمانلٌة وأسرة علوٌة وجالٌات) سلطة فً مصر.
تابعنا أن أول قرار اتخذه توفٌق عقب االحتبلل هو تسرٌح الجٌش المصري الذي أظهر مقام الفبلح من
جدٌد ،وأعقب هذا إجراءات لتحوٌل إلى جٌش ال ٌصل فٌه الفبلح إلى مرتبة الضابط.
وٌحكً تقرٌر بعثة اللورد دوفرٌن ،التً جاءت عقب االحتبلل لتنظٌم أمور االحتبلل فً مصر ،أنه تناقش
مع الخدٌوي وشرٌؾ باشا (تركً) حول مصٌر الجٌش ،واتفقوا جمٌعا على أال ٌكون مصرٌا خالصا،
وبتعبٌر كرومر ،فإنهم باستعراض مسٌرة الجٌش المصري ،وأن قدرته الذاتٌة على القتال تزداد إذا كان
الجندي تحت إمرة ضابط مصري ،فإنهم توصلوا إلى أن "وجود جٌش مصري تحت قٌادة ضباط مصرٌٌن
ٕ٘9
كان أسوأ من السوء نفسه" -بالنسبة للقوة األجنبٌة الحاكمة -وتشاورا هل إذن ٌجلبون مرتزقة من كل
األجناس (مثلما كانت خطة نابلٌون لصناعة جٌش فً مصر حال استقر االحتبلل الفرنسً) ،أم ٌكون من
األتراك والشركس والكرد والمشردٌن الذٌن ال مؤوى لهم من حوض البحر المتوسط ،أو أن ٌصرفوا النظر
عن إنشاء جٌش من األساس وٌكتفون بالقوات البرٌطانٌة.
واقترح الجنرال اإلنجلٌزي فالنتٌن بٌكر أنه بعد إبعاد الضباط المصرٌٌن المشتركٌن فً ثورة ٔ ٔ88التً
وصفها بؤنها "ؼٌر وطنٌة"ٌ ،جري تجنٌد مسلمً البوسنة وألبانٌا وبلؽارٌا على أن ٌكون الضباط من
اإلنجلٌز؛ منعا لتكرار الثورة(ٕٔٗٔ) ،وانتهوا إلى تكوٌن جٌش ،أو ما ٌشبه الجٌش ،جنوده من الفبلحٌن،
وضباطه من العاببلت األجنبٌة -المجنسة فٌما بعد -كالتركٌة والشركسٌة والكردٌة ،والقٌادة وكبار الضباط
والقابد العام "السردار" من اإلنجلٌز(ٕٕٗٔ).
وٌقضً الجندي ٙسنوات خدمة ،عدا ٙأخرى ٌقضٌها فً االحتٌاط أو البولٌس ،وبرر اإلنجلٌز طول
الخدمة بؤنه لتزوٌدهم بالتدرٌب البلزم ،والجهاز اإلداري بكامله فً ٌد ضباط وموظفٌن إنجلٌز(ٖٕٗٔ) ،ولم
ٌكتفوا بذلك ،فؤقام دوفرٌن جٌشا موازٌا اسمه "الجندرمة" لمراقبة وقمع الجٌش النظامً ،أي ملٌشٌا مسلطة
على رقبة الجٌش.
وبرر ذلك بؤن" :إٌجاد قوة مدنٌة موالٌة ٌمكن االعتماد علٌها عند اللزوم لقمع أولى بوادر أي ثورة
عسكرٌة" ،كما تحجج بالحاجة لها فً صد ؼارات البدو ،وأفرادها متطوعون ولٌسوا مجندٌن لٌسهل فرزهم
وتحدٌد والءاتهم ،وجعل مرتباتها أعلى من الجنود ،وتخضع لقٌادة أوروبٌة ،وجعل البولٌس ٓٓٔٙ
شخص ،وسلمه لقٌادة أوروبٌة بدوره بحجة طمؤنة األوروبٌٌن بعد مذبحة اإلسكندرٌة(ٕٗٗٔ).
وفوق هذا ألؽى اإلنجلٌز التجنٌد اإلجباري بؤن وضعوا سنة ٔ88ٙنظام البدل النقدي لئلعفاء من التجنٌد
للحد من عدد جنوده وتفرٌؽه من قومٌته وروحه الوطنٌة ،فبهذا النظام صار التجنٌد مختصا بالفقراء،
وتحول األمر كؤنه عب وسخرة لصالح األجنبً ،وحُرمت الببلد من روح الجندٌة الحقة وما ٌستتبعها من
شعور التضامن بٌن أبناء الوطن بتعبٌر الرافعً ،كما حُرم الجٌش من المصرٌٌن المتعلمٌن(ٕ٘ٗٔ).
أما الشرطة ،فعٌنوا مفتشا أوروبٌا صار له الكلمة العلٌا على وزٌر الداخلٌة ،ومفتشٌن إنجلٌز فً المدٌرٌات
صارت لهم السلطة الفعلٌة ال المدٌرٌن ،وهو ما تسببت فً صراع مع نوبار األرمنً ،وزٌر الداخلٌة فٌما
بعد( ،)ٕٔٗٙحٌن تفرؼوا لصراع السلطات واقتسام الؽناٌم.
(ٕٔٗٔ)
-الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي ،د .سامً عزٌز ،ٕ٘9 -ٕ٘8 ،ومصر الحدٌثة ،كرومر ،جٕ ،ص ٘ٙ9
(ٕٕٗٔ)
-انظر :الجٌش المصري فً السٌاسة (ٕ ،)ٔ9ٖٙ-ٔ88عبد العظٌم رمضان ،مرجع سابق ،ص ٖ9 -ٖٙو98
(ٖٕٗٔ)
-نفس المرجع ،ص 98
(ٕٗٗٔ)
-انظر نفس المرجع ،صٖٓٗٗ -
(ٕ٘ٗٔ)
-انظر :مقدمات ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘ ،ٔ9عبد الرحمن الرافعً ،ط ٖ ،دار المعارؾ ،ص ٕ ،ٔٙومصر الحدٌثة،جٕ ،ص ٓ٘9
()ٕٔٗٙ
-انظر :مصر الحدٌثة ،اللورد كرومر ،جٕ ،مرجع سابق ،ص ٘88 -٘99
ٖٓ٘
جاء فً كتاب "مصر للمصرٌٌن" لسلٌم النقاش أن قرار حل الجٌش المصري ٔ9سبتمبر ٕ" ٔ88قصد به
صرؾ العساكر التً جاهرت بالعصٌان ،واالكتفاء بمحاكمة الضباط وكبار قادة الجٌش"(.)ٕٔٗ9
لك ن الواقع أنهم لم ٌكتفوا بمحاكمة الضباط وكبار القادة ،والحكم علٌهم بالقتل والحبس والنفً والتشرٌد،
وإبعاد الفبلحٌن عن رتبة الضابط ،ولكن انداروا أٌضا على الجنود الفبلحٌن أبناء الثورة لٌنتقموا منهم
بالتشرٌد والنفً والقتل الجماعً ...فً ؼابات السودان.
كتب دوفرٌن إلى وزٌر خارجٌة ببلده جرانفٌل فً ٔ8نوفمبر ٕ ،ٔ88أي بعد شهرٌن من االحتبلل ،أن
الجنود المصرٌٌن الذٌن ساعدوا عرابً وجرى تسرٌحهم سٌجرى إرسالهم إلى السودان للتخلص منهم
باألمراض واألوببة()ٕٔٗ8؛ فلملم الجنود المسرحٌن وبعثهم هناك لكً ال ٌنشروا الفكر الوطنً وحقابق ما
جرى وسط قراهم.
وعن حالة الجنود لما وصلوا إلى السودان قال الكولونٌل ستٌوارت الذي أرسلته برٌطانٌا للسودان لتقدٌم
تقرٌر عن الجنود فٌما بٌن دٌسمبر ٕ ٔ88ومارس ٖ" :ٔ88لم ٌكونوا ٌشعرون بؤن هناك واجبا مقدسا
ٌقتضٌهم الدفاع عن سلطان الحكومة الشرعً فً الوقت الذي ٌحتل العسكر األجنبً ببلدهم ،وٌسود بٌنهم
االعتقاد بؤن الخدٌوي إنما أرسلهم إلى السودان لٌلقوا فٌه حتفهم(.")ٕٔٗ9
وحصل فعبل ما بات ٌُعرؾ باسم "إبادة الجٌش العرابً فً شٌكان" ،أنه فً نوفمبر ٖ ٔ88وفً حملة
مشبومة على كردفان كان 9آالؾ من المشاة المصرٌٌن على األقل بٌن ٓٔ آالؾ أبٌدوا بالكامل فً ؼابة
على ٌد الدراوٌش (أنصار المهدي المزعوم فً السودان) ،ولم ٌنج إال ٓٓ ،ٙوذلك ألن البرٌطانٌٌن زجوا
بهم بدون سبلح وال تدرٌب فً الؽابات ،وهً قواعد المهدي الحصٌنة ،ورفض اإلنجلٌز أن ٌبقى الجنود فً
الخرطوم لصد الهجوم علٌها ،وأصرت على أن ٌُلقى بهم فً الؽابات (ٖٓٗٔ).
وباإلضافة إلى معارك أخرى ٌتبٌن أنه أبٌد ٕٖ ألؾ مصري فً الحلفاٌة والقطٌنة والحرٌؾ وأبو حراز
والخرطوم وكسبل وستار من سنة ٗ ،)ٖٔٗٔ(ٔ88٘ -ٔ88لٌس عن ضعؾ منهم أو جبن ،ولكن لتعمد عدم
تدرٌبهم وتسلٌحهم بما ٌكفً ورمٌهم فً ؼابات مجهولة ،واختٌار الضابط الؽٌر كؾء هكس قابدا ،وهذا
الرقم ٌعنً أن عملٌة التجنٌد لم تتوقؾ ،فكلما أُبٌد آالؾ ٌرسل الخدٌوي توفٌق والبرٌطانٌون آالفا أخرى،
وكؤن هدفهم إبادة أكبر كم من الشباب المعروؾ أنه كان فً ثورة ٔ.ٔ88
وفً بعض المعارك التً ٌلزم فٌها انسحاب الجنود ،كانت برٌطانٌا تصدر لهم األوامر باالنسحاب دون
ؼطاء ٌحمٌهم ،وترفض إرسال المدد والنجدة لهم ،فؤبٌد جراء ذلك أعداد كبٌرة ،بما فٌهم نساء وأطفال كانوا
مع مصرٌٌن مقٌمٌن هناك ضمن الجٌش.
()ٕٔٗ9
-الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي ،د .سامً عزٌز ،مرجع سابق ،ص ٕ٘8
()ٕٔٗ8
-انظر :الجٌش المصري فً السٌاسة (ٕ ،)ٔ9ٖٙ-ٔ88مرجع سابق ،ص ٗ٘
()ٕٔٗ9
-نفس المرجع ،ص ٘٘
(ٖٓٗٔ)
-انظر :المرجع السابق ،ص ٖ٘٘9 -
(ٖٔٗٔ)
-انظر :راجع إحصابٌات عدة معارك فً نفس المرجع ص ٖٓٙ -ٙ
ٖٔ٘
ٌقول الرافعً" :وكان ؼرض اإلنجلٌز من إنفاذ هذ الجٌش هو التخلص منه فً حروب السودان ،وقد تم لهم
ما دبروه ،إذ أبٌد معظمه فً واقعة شٌكان" ،وفٌما بعد علق الجنرال جوردون" :كلما فكر إنسان فً فداحة
الخسابر فً األرواح فً السودان منذ سنة ٓ ٔ88ال ٌمتنع عن أن ٌتمنى إعدام السٌر أوكلن كولفن والسٌر
إدوار مالٌت والسٌر شارلس دٌلك"(ٕٖٗٔ) ،إنه مدبحة دنشواي العظمى ،فصل من فصول إبادة اإلنجلٌز
للهنود الحمر فً أمرٌكا ،فصل ما زال ٌقطر دما من عروق الفبلح ال ٌراه المصرٌون ،حجب أخباره عنهم
وقتها سٌطرة االحتبلل الحدٌدٌة على الصحافة ،فمرت المذبحة العظمى دون ثورة أو ؼضب ٌلٌق بضخامة
الحدث.
وبتعبٌرات أوضح وصؾ بردولً -كبٌر محامًٌ عرابً وأصحابه -إبادة الجٌش المصري المتعمدة فً
السودان بقوله" :ولم ٌكفهم نفً "عرابً" وتجرٌده من رتبه ،بل قالوا إنعار وخزي الزعٌم ٌجبؤن ٌشاركه
فٌه كل ضابط مرءوس له ،بل وكل نفر فً الجٌش كان ٌحارب تحت الراٌة التً كان ٌحملها" ،وجاءت
الفرصة بالتمرد الذي قاده محمد المهدي فً السودان"وأمكن جمع ما ٌمكن جمعه بقدر كاؾ من الجند
المسرحٌن والمهانٌن لٌنضموا تحت لواء الكولونٌل هكس ،وقد شاهدت بنفسً نواة فرقة السودان وهً
تؽادر القاهرة فً طرٌقها إلى السوٌس ،لقد كان مشهدا مإسفا ال ٌمكن أن ٌنسى ،إذا وضع الجنود المصرٌة
فً عر بات نقؾ وعربات نقل المواشً ،كما لو كانوا حٌوانات ،لقد ؼادروا العاصمة عزال من السبلح
كمساجٌن مهانٌن بكل صور اإلهانة ،أما ضباطهم الوطنٌون فقد اختٌروا من بٌن من كانوا أكثر كراهٌة
لنظام الحكم الجدٌد ،وكان نفس تعٌٌنهم إجراء جهروا به وأعلنوه على أنه بمثابة عقوبة وقمع لهم"
فً المقابل ،فإنه عندما احتاجت برٌطانٌا تشدٌد قبضتها على السودان ،لجؤت هذه المرة إلى تسلٌح الجنود
المصرٌٌن وتدرٌبهم لتوفر لهم أسباب النصر ،ففً سنة ٔ89ٙومع الزحؾ الطلٌانً والفرنسً على أفرٌقٌا
قررت استعادة السودان كاملة ،واستعادته فعبل سنة ٔ899كامبل الجنود المصرٌٌن الذٌن رفضت نجدة
إخوتهم قبل ذلك.
وأثارت عملٌات المصرٌٌن حٌنها إعجاب اإلنجلٌز أنفسهم ،فقد هزم المصرٌون عبد الرحمن النجومً
بشكل ساحق فً عدة معارك منها طوشكً أؼسطس ،ٔ889وقتلوا ٕٓٓٔ شخصا وأسرو اٗ آالؾ آخرٌن
مقابل ٕ٘ شهٌدا مصرٌا وٓٗٔ جرٌحا ،وأزالوا خطر كوش (االسم القدٌم للسودان وما ورابها فً التارٌخ
المصري القدٌم) عن مصر ألول مرة منذ ٘ ،ٔ88فعلق كرومر حٌنها بؤن االنتصار أعطى الثقة للجٌش
المصري وللشعب المصري وألوروبا(ٖٖٗٔ).
ومما شجع اإلنجلٌز على إعادة تسلٌح الجٌش فً هذه المعارك أنهم ظنوا أنه لم ٌعد هناك حركة وطنٌة
ٌخشونها بعد أن قاموا بتصفٌة من شاركوا فً الثورة ،ؼٌر أنهم أبقوا على الجٌش المصري بؤسره (تقرٌبا)
(ٕٖٗٔ)
-مقدمات ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘ ،ٔ9عبد الرحمن الرافعً ،ط ٖ ،دار المعارؾ ،القاهرة ،ص ٓ ،ٔٙٔ -ٔٙوتفاصٌل فً :مصر والسودان فً
أوابل عهد االحتبلل ،عبد الرحمن الرافعً ،دار المعارؾ ،طٗ ،ص ٔ8 -ٔٙ
(ٖٖٗٔ)
-انظر :الجٌش المصري فً السٌاسة (ٕ ،)ٔ9ٖٙ-ٔ88مرجع سابق ،ص 9ٙ
ٕٖ٘
فً السودان حتى ال تإدي "استعادة الثقة بالنفس" إلى التفكٌر مجددا فً الثورة على االحتبلل(ٖٗٗٔ).
وشارك المصرٌون فً حرب جدٌدة فً السودان سنة ٔ9ٔٙلصد حركة السلطان دٌنار ،واحتلوا دارفور
وقضوا على دٌنار ،فاضطر حاكم السودان اإلنجلٌزي أن ٌشٌد بالمصرٌٌن فً احتفال رأس السنة الهجرٌة
ٖٖ٘ٔ هٔ9ٔٙ -م بؤنه ٌسجل "بمزٌد من الفخر واإلعجاب الخدمة العظٌمة التً قام بها الجٌش المصري
وضباطه البواسل فً دارفور رؼم الصعاب العظٌمة التً كانت تعترضه من رمل وقلة مٌاه وصعوبات
جبلٌة"(ٖ٘ٗٔ).
أما مستقبل الجٌش بعد هذا التارٌخ ،ومالذي أجبر اإلنجلٌز وأسرة محمد علً على قبول دخول الفبلحٌن إلى
الكلٌة الحربٌة والتخرج كضبابط بداٌة من ،ٔ9ٖٙفسنعرفه فً الكبلم عن نتاٌج انتفاضة ٖ٘.ٔ9
حتى االحتبلل اإلنجلٌزي ظلت كلمة "فبلح" هً الفٌصل بٌن المصري الحقٌقً الذي ال ٌعرؾ له
أصل -أو ال ٌرٌد أن ٌعرؾ -إال األرض وبٌن المستوطنٌن المتمسكٌن بؤصول أجنبٌة دخٌلة فً المعامبلت
بٌن الناس وبعضهاٌ ،عرفون بعضهم بشكل أصدق مما تنطق به األوراق الرسمٌة.
وفً ختام هذه الرحلة الطوٌلة المرهقة مع االحتبلالت الطوٌلة للبحث عن مصر الحقٌقٌة وأبنابها ،نقرأ
هذه الكلمات لباحث ٌبدو أنه مر برحلة شبٌهة بها ،وهو هنري حبٌب عٌروط الذي ٌسجل فً كتابه
"الفبلحون" الصادر أول طبعة ٔ9ٖ8بعد جولته بٌن الورق فً كتب التارٌخ والرحالة وبٌن الفبلحٌن فً
جوالته على األرض بٌن القرى المصرٌة" :نحن نعرؾ ٌقٌنا أن سكان مصر الحالٌٌن الفبلحٌن منهم على
األقل ٌنحدرون من المصرٌٌن القدماء من عهود الفراعنة ،وٌتصل نسلهم بدون انقطاع مدة خمسٌن قرنا لم
ٌختلطوا خبللها باألجناس األخرى تقرٌبا" ،ورؼم استٌطان العربان على حواؾ القرى إال أن االمتزاج كان
محدودا ،و"الفبلحون ،وسكان الرٌؾ على األخصٌ ،حتفظون بمبلمحهم وأشكالهم التً تمٌزهم على
العناصر المتعددة اآلتٌة من مختلؾ ببلد الشرق األدنى" ،وإن "الفبلحٌن ٌزٌد عددهم عن ثبلثة أرباع
مجموع السكان ،فهم بهذا العدد ،وبما هم علٌه من وحدة العنصر وأصالته ٌعتبرون هم األمة نفسها ،ال طبقة
من طبقاتها االجتماعٌة ،هم األمة بخصابصها وممٌزاتها القومٌة ،تلك األمة التً أنتجت أول حضارة عرفها
التارٌخ".
وٌتابع" :إن هذا الشعب العظٌم ،خلدت صفاته وممٌزاته ،ومضت األجٌال وهو هو لم ٌتؽٌر من صفاته
شًء ،رؼم ما تعاقب فوق أرضه من حكام ودٌانات وثقافات ومدنٌات ولؽات منذ عصور الفراعنة" ،ورؼم
توالً الفرس واإلؼرٌق والرومان والعرب والترك والفرنسٌٌن واإلنجلٌز إال أن "قوة األمة وأصالتها كانت
أقوى من الزمن ،وأصلب من أحداثه" ،وأنه رؼم الصراعات التً جاء به محتلوه إال أنه كان "هادبا ثابتا
(ٖٗٗٔ)
-انظر :نفس المرجع ،ص 99 -9ٙ
(ٖ٘ٗٔ)
-انظر نفس المرجع ،ص ٕٓٗٔ ٕ٘ٔ
ٖٖ٘
كقاع البحر تحت األمواج الثابرة" ،ورؼم أن كثرة الصراعات واالحتبلالت أبادت أو حولت تركٌبة وجنس
ببلد كثٌرة حوله (وٌضرب أمثلة) ،إال أن "مصر من بٌن جمٌع الببلد حدث لها ما حدث لؽٌرها ]من
احتبلالت وصراعات[ ،ولكن شٌبا من ثبات الطبٌعة وعمق الكٌان فً مصر وفبلحها لم ٌمسه التؽٌٌر
والتحول ..لقد كان الفبلح ٌصمد لؤلحداث التً تجري حوله ،وٌقهرها بثباته ،وٌصبر لها حتى تمر وتنتهً
وهو ثابت ثبات الصخر ،وكم بادت شعوب وانقرضت ولم ٌبق منها إال األطبلل ( )....لكن الفبلح المصري
ظل ٌتحدى الزمن وٌؽالب أحداثه ،وٌصارع عوامل الفناء واالنقراض فٌصرعها وٌبقى هو شامخ الكٌان
على مر األجٌال".
فإن "تفاصٌل حٌاته الٌومٌة كما تدل علٌها نقوش المقابر الفرعونٌة أو األساطٌر القبطٌة أو كتابات
مإرخً العرب أو المعلقون والسواح األوروبٌون ٌخٌل إلٌنا أنها حلقات من سلسلة أو فصول من كتاب
واحد ،وإن هذه األزمان التً تفصلها عن عصرنا لم تإثر فً أشكالها أو تؽٌر من مبلمحها" ،وإننا "لنلمح
الفبلح المعاصر نفسه فً عاداته وكثٌر من تقالٌده من خبلل الصور التً ٌروٌها هٌرودوت وتٌودور
الصقلً وسترابون والمقرٌزي وفانسٌلت واألب سٌكار وفولنٌٌه وؼٌرهم ،الفبلح القدٌم الذي ٌتحدث عنه
هإالء هو فبلح الٌوم ،بدون تطور أو تحول" ،ولٌس هذا فً صفاته األخبلقٌة وعاداته وتقالٌده فقط ،بل فً
جنسه أٌضا "وهنا ٌخطر لنا هذا السإال وهو :كٌؾ حدث هذا الثبات الجثمانً وذلك التوازن النفسانً
واالجتماعً ،وهذا السمو المعنوي العجٌب لشعب من الشعوب ،والجواب على ذلك هو أثر األرض
المصرٌة والبٌبة المصرٌة ..نعم هذا هو الجواب على ذلك السإال".
بٌنهم ٖٓٓ٘ سنة ،نفس المبلمح ،نفس العزم ،نفس عذوبة البسمة وسماحة الوجه ،والؽصن األخضر فً ٌده وحوله لم ٌسقط منه أبدا (النقش المصري
القدٌم من معبد الدٌر البحري ،والصورة الحدٌثة من اإلنترنت)
وإضافة للتفسٌر الجؽرافً ٌضٌؾ هنري عٌروط تفسٌرا آخر لكلمة أثر األرض المصرٌة وهو التصاق
الفبلح بؤرضه" :والفبلح بحكم وضعه الؽرٌب بٌن المالك واألرضٌ ،جد نفسه بٌن المطرقة والسندان،
ولكنه أقرب إلى األرض منه إلى المبلك ،وكلما ألحت علٌه ضربات المالك ازداد لصوقا باألرض"،
وحصل ما ٌقوله سولً برودوم "زواج سابق على التارٌخ بٌن شعب وحقل قد صنعا نفسٌهما فٌما بٌنهما"،
وانعكس هذا على ثبات ما بٌن الفبلحٌن المصرٌٌن من أقصى مصر ألدناها "من تناسق وتجانس وخصوبة"
ٖٗ٘
مثل األرض المصرٌة الملتصقٌن بها وذات صفات واحدة على طول امتدادها على ضفتً النٌل.
وبجانب االلتصاق باألرض ومنهة الزراعة وجؽرافٌة مصر ،أرجع أسباب عٌروط احتفاظ المصرٌٌن
الحقٌقٌٌن بوجودهم أؼلبٌة إلى نفور الفبلحٌن من الزواج من البدو واألجانب عموما ،وٌرونها "فضٌحة"،
كما أن البدو واألجانب تعالوا فً الزواج واالختبلط التام بالفبلحٌن ،فلم ٌحصل إال نادرا ،إضافة إلى عامل
الخصوبة وكثرة اإلنجاب بٌن الفبلحٌن ،وقلة أعداد المهاجرٌن مقارنة بعدد المصرٌٌن ،وتفضٌل الؽزاة
والمهاجرٌن العٌشة فً المدن ال فً الرٌؾ "وعلى هذا فالعنصر المصري ٌحافظ دابما على سبلمته بٌن
األقباط والمسلمٌن على السواء"(.)ٖٔٗٙ
وربما سبب آخر ٌضاؾ إلى ما عدده هنري عٌوط ،وهو األمٌة ،أي احتفاظ الفبلحٌن بؤمٌتهم المؽلقة
على مدرستهم الكبرى مما توارثوه من حكمة وعادات وأخبلق ومعارؾ ،ولم ٌختلطوا بثقافات محتلٌهم إال
نادرا؛ وٌقوي هذا الفرض التؽٌر المخٌؾ الذي بدا فً الشخصٌة المصرٌة جسمانٌا وأخبلقٌا حٌن خرجت
من أمٌتها الرٌفٌة لتتعلم ،ال لتتعلم هوٌتها ومصرٌتها ،ولكن تتعلم ثقافات أجنبٌة تركها محتلوها ،وتقبل على
الزواج باألجانب ،فبدأ التحول الكبٌر الخطٌر من الشخصٌة المصرٌة الفبلحٌة إلى الشخصٌة "المرقعة" ،فً
القرن ٕٓ وحتى الٌوم.
ومبلحظات أخرى أوردها الرحالة والدبلوماسً األسبانً إدواردو تودا فً كتابه " عبر وادي النٌل"،
قنصل أسبانٌا فً مصر ٗ ،ٔ88ٙ -ٔ88وتبرز كٌؾ ٌعٌش المصرٌون الحقٌقٌون واألجانب عٌشة منفصلة
حتى أن أي زابر للبلد ٌستطٌع بسهولة التفرٌق بٌنهم ،وأن األجانب بؤنواعهم ظلوا محتفظٌن بهوٌاتهم ولم
ٌتمصروا ،بل وكل عنصر أجنبً منفصل وممٌز عن بقٌة العناصر األجنبٌة األخرى ،وهو ما ٌذكره فً
الفروق بٌن المدن والقرى ،كما ٌظهر بٌن الفبلحٌن العاملٌن داخل المدن نفسها كاإلسكندرٌة وبٌن المقٌمٌن
األجانب فٌها ،فٌقول" :إن مظهر المدن المصرٌة كلها لجد عجٌب لتنوع البشر الذٌن ٌجوبون شوارعها،
فؤقل الزوار ألمعٌة ٌمكنه عند وصوله إلى اإلسكندرٌة مبلحظة أن األفراد ذوي األصول المختلفة ٌختلطون،
وأن صفاتهم لم ٌمحها الزمن ،وال كثرة العٌش مختلطٌن فً قومٌة واحدة ،إن الدراسة المتؤنٌة بعض الشًء
للعادات المصرٌة تكشؾ عن فروق جوهرٌة بٌن تلك األقلٌات ،ولنقل إن كل سبللة من سبللتها تختص
بشًء معٌن ،وأن لها هدفنا معٌنا تسعى إلى تحقٌقه ،أو أنها تسٌر على صراط خطة لها القدر دون أن تضله
ألي سبب كان".
وبعد إسهابه فً الحدٌث عن تكوٌن السكان فً مصر حٌنهاٌ ،قول عن الفبلح" :الفبلح ،وهو االسم الذي
ٌطلق على كل مصري ٌعٌش فً الرٌؾ وٌعمل بالزراعة ،وٌعرؾ بقامته القصٌرة وخشونته وعصبٌته
وقوته وبشرته الزٌتونٌة وشعره القصٌر وارتفاع عٌنٌه إلى أعلى عند األطراؾ ،وهو بذلك ٌمثل جنسا
وسطا بٌن المنؽولً واآلري ،أما انفه وفمه فهما صؽٌران ،وأسنانه ناصعة البٌاض ،وتؽطً رأسه طاقٌة
()ٖٔٗٙ
-الفبلحون ،هنري حبٌب عٌروط ،ترجمة محًٌ الدٌن اللبان وولٌم داوود مرقص ،المركز القومً للترجمة ،ص ٖ٘ ،ٗٔ -و ٕ٘ٔٔ٘ٗ -
ٖ٘٘
من اللبد مصنوعة من وبر الجمال تؤخذ شكل الرأس ،وٌرتدي عباءة بٌضاء من القطن ٌُشد علٌها حزام أو
حبل فً الوسط أحٌانا ،أما ساقه وقدمه فهما عارٌتان ،وٌرتدي الحذاء التونسً الضخم (البلؽة) فً
المناسبات المهمة فقط" ،وهذا النوع من الفبلحٌن ال ٌتؽٌر فً مصر سواء فً السهول الرطبة الندٌة من
الدلتا أو فً مناطق مصر الوسطى الدافبة أو سهول الشبلل األول البور الشاسعة شدٌدة الحرارة ،وكما أن
التؽٌرات الجؽرافٌة لم تإثر فٌه ،فبل الزمان وال الحضارة أثرا فٌه على اإلطبلق ،ونراه فً النقوش على
جدران المقابر القدٌمة مرسوما بإتقان ،وهو نفس العامل الذي نتؤمله الٌوم عندما نتجول فً ضواحً
اإلسكندرٌة" ،واعتبر أن "الفبلح هو أصل السكان فً مصر" ،مستعٌنا فً هذا بؤبحاثه التارٌخٌة.ٖٔٗ9
"هو كما كان مرسوما بإتقان فً نقوش المقابر القدٌمة ،وهذا النوع من الفبلحٌن ال ٌتؽٌر فً مصر سواء فً السهول الرطبة الندٌة من الدلتا أو فً
مناطق مصر الوسطى الدافبة أو سهول الشبلل األول البور الشاسعة شدٌدة الحرارة" (إدواردو تودا) (مصدر الصور :مقبرة مننا باألقصر ،موقع
جٌتً إماج ،النت)
وعلى هذا اتضح أن الشكل اإلفرنجً (األوروبً) الذي تلونت به أحٌاء فً القاهرة واإلسكندرٌة ومدن
قناة السوٌس فً المبانً وعادات الحٌاة واألكل والمبلبس والمحبلت والثقافة وبعض السكان منذ عهد
إسماعٌل لم ٌكن إال قناعا ألصق إلصاقا وؼصبا على وجه مصر ،مزحزحا لحد كبٌر القناع التركً ،وال
ٌعبر بؤي حال عن حقٌقة مصر أرضا وسكانا وهوٌة ،فقد جرى تحدٌث هذه األحٌاء خصٌصا للقادمٌن
الجدد من األوروبٌٌن والجالٌات السابرة فً ذٌلهم كالٌهود وبعض الشوام والمؽاربة واألرمن.
ونلقً نظرة على تعدادات السكان فً عصر االحتبلل العلوي واإلنجلٌزي ،لتتبع أعداد المصرٌٌن
والمستوطنٌن األجانب ،ومراحل تؽٌر تعرٌؾ المصرٌٌن فً األوراق الرسمٌة أٌام االحتبلل.
أجرت الحكومة 9إحصاءات للسكان زمن االحتبلل اإلنجلٌزي ،سنذكرها ببعض التفصٌل ألهمٌتها فً
معرفة طبٌعة سكان مصر بعد ٖ آالؾ عام من االحتبلالت والهجرات ،وهل حقا ذابت الهجرات جمٌعا فً
مصر أم ظل كثٌر منها منفصبل عن أوالد البلد لٌحصدوا المزاٌا التً ٌهبها المحتل لؤلؼراب وٌحموا أنفسهم
من األعباء المفروضة على أوالد البلد كالعونة والسخرة والعمل الشاق والضراٌب الفاحشة والحرمان من
المناصب العلٌا.
-1437عبر وادي النيل ،إدواردو تودا ،ترجمة السيد محمد واصل ،المركز القومي لمترجمة ،ط ،1القاىرة ،2111 ،ص 55 -53
ٖ٘ٙ
❶ (تعداد ٕ)ٔ88
أول تعداد جرى سنة ٕ ،ٔ88وأصدرته الحكومة فً كتاب بعنوان "الكشاؾ للدٌار المصرٌة وعدد
نفوسها" ،وبلػ السكان ٔ ٙ,8ٓٙ,ٖ8نفسا ،أي حوالً 9ملٌون ،منهم:
ٙ,ٗٙ9,9ٔٙأهالً مقٌمون
9ٓ,88ٙأجانب
وكان الحال على ما هو علٌه فً السابق ،وهو أن األؼلبٌة الكاسحة من السكان هم المصرٌون "أوالد
البلد" ،وٌتركزون فً األرٌاؾ والمدٌرٌات ،وبعضهم فً القاهرة واإلسكندرٌة ،أما األجانب من كذا جنسٌة
فٌتركزون فً القاهرة واإلسكندرٌة ومدن قناة السوٌس ،والعربان على أطراؾ القرى والمدن.
وٌبلحظ فً هذا اإلحصاء أن أكثر المحافظات سكانا لم تكن القاهرة ،بل الدقهلٌة فً الوجه البحري،
ٖٖٓ ،٘8ٙ,ثم مدٌرٌة جرجا فً الوجه القبلً ،٘98,ٔٗٗ ،فٌما بلؽت القاهرة -ٖٕ٘,ٗٔٙمذكورة فً
اإلحصاء باسم مدٌنة مصر المحروسة ولٌس القاهرة -وهو ما ٌعنً أن عدد الفبلحٌن أي أوالد البلد
المتمركزٌن فً األرٌاؾ كان الؽالبٌة الكاسحة(.)ٖٔٗ8
❷ (تعداد )ٔ897
ثانً اإلحصاءات جرى فً ٌونٌو ٔ899وبلػ سكان مصر ٘ٓٗ 9,9ٖٗ,نفسا؛ أي بزٌادة حوالً ٖ
ملٌون عن السابق ،وهو أكثر تفصٌبل من سابقه ،ألنه شمل إحصاء السكان على أساس الجنسٌات والدٌانة
والمذاهب والمهن والذكور واإلناث ،وقسم السكان إلى مصرٌٌن وعربان وأجانب.
واستخدم كلمة "مصرٌٌن" ،بعد أن استخدم اإلحصاء الذي جرى فً إحصاء ٕ ٔ88كلمة "أهالً
مقٌمون" ،ولكنه قسم كلمة مصرٌٌن إلى ٖ أقسام :مصرٌون أصلٌون +رعاٌا الدولة العثمانٌة (أتراك،
شوام ،عرب ،مؽاربة ،أرمنٌ ،ونان إلخ) +العربان.
ٔ -المصرٌون األصلٌون ،وهم من وصفوا نفسهم فً التعداد بؤنهم مصرٌون ولم ٌنسبوا أنفسهم ألصل
آخر 8,98ٓ,ٕ98 :بنسبة ٕ٘.% 9ٕ,
ٖ -األتراك ورعاٌا الدولة العثمانٌة من شعوب عربٌة وؼٌر عربٌة ٗٓ,ٕٔٙ :ألفا بنسبة ٔٗ.%ٓ,
()ٖٔٗ8
-الكشاؾ للدٌار المصرٌة وعدد نفوسها ،نظارة الداخلٌة إدارة التعداد ،تعداد السكان ٘ٔ جمادي الثانً ٕٔ99هـ (ٖ ماٌو ٕ ٔ88م) ،ج ٕ،
مكتبة قصر عابدٌن المودعة حالٌا بدار الكتب.
ٖ٘7
أما من صنفهم على أنهم أجانب فهم :األوروبٌون واألمرٌكٌون والروس والجنسٌات العربٌة وؼٌر
العربٌة التً ٌعتبرونها رعاٌاهم بموجب االمتٌازات األجنبٌة الممنوحة لهم ٕٔٔ,٘9ٗ :بنسبة .% ٔ,ٔٙ
وفً هذا اإلحصاء ٌُبلحظ أن القاهرة -ألول مرة -تصبح األكثر عددا فً السكان بٌن المحافظات؛ لكثرة
الهجرة من األرٌاؾ للعمل فً المصانع والمشروعات الجدٌدة وتحتاج أٌدي عاملة رخٌصة األجر ،مع
زٌادة الهجرات األجنبٌة إلٌها أٌضا(.)ٖٔٗ9
كما ٌُبلحظ زٌادة كبٌرة فً األوروبٌٌن والعربان الستمرار اإلنجلٌز فً فتح حدود البلد ببل ضوابط،
وجرى تعرٌؾ العربان فً اإلحصاء كـ"مصرٌٌن" ألول مرة.
❸ (تعداد )ٔ9ٓ7
اإلحصاء الثالث جرى سنة ،ٔ9ٓ9وبلػ مجموع نفوس الدٌار المصرٌة ٔٔ,ٔ89.998بزٌادة ملٌون
ونصؾ عن اإلحصاء السابق ،وصدر تفصٌل ذلك فً كتاب "تعداد سكان القطر المصري لسنة ٕٖ٘ٔ
هجرٌة -سنة ٔ9ٓ9مٌبلدٌة".
وصنؾ السكان هذه المرة إلى مصرٌٌن (وقسمهم إلى وطنٌٌن -أي أهل البلد األصلٌٌن -وإلى عربان،
وعثمانٌٌن (أتراك وسورٌون وحجازٌون وأرمنٌون وسودانٌون إلخ) ،ثم الجالٌات األوروبٌة :إنجلٌز،
فرنساوٌونٌ ،ونانٌون ،إٌطالٌون ،نمساوٌون ،ألمان ،بلجٌك ،إلخ ،وظل المصرٌون األصلٌون (الوطنٌون)
كالعادة هم الؽالبٌة الكاسحة ،وجاء فٌه:
-الوطنٌونٔٓ,ٖٙٙ,ٓٗٙ :
ولم ٌتناول اإلحصاء العربان الرحل ولكن نقل عن العمد تقدٌرهم بـ ٔ99,ٖ8
وٌُبلحظ فً هذا اإلحصاء زٌادة الٌونانٌٌن واإلٌطالٌٌن والعثمانٌٌن للضعؾ مقارنة باإلحصاء السابق ،فٌما ظل
عدد العربان واإلنجلٌز والفرنسٌس شبه ثابت(ٓٗٗٔ).
❹ (تعداد )ٔ9ٔ7
()ٖٔٗ9
-لمزٌد من المعلومات انظر تعداد سكان القطر المصري ٖ٘ٔٔ ه ٔ899 /م ،المطبعة األمٌرٌة ببوالق مصر المحمٌة ،القاهرة ،ٔ899 ،ص
ٔٔ ،ٖٔ -مودع بدار الكتب ،وتعداد سكان القطر المصري ،نظارة المالٌة إدارة التعداد لسنة ،ٔ899ص ٕٔ ،ٕ٘ -مودع بدار الكتب
(ٓٗٗٔ)
-لمزٌد من المعلومات انظر تعداد سكان القطر المصري فً سنة ٕٖ٘ٔ ه -سنة ٔ9ٓ9م ،نظارة المالٌة ،المطبعة األمٌرٌة بمصر،ٔ9ٓ9 ،
مودع بدار الكتب
ٖ٘8
بلػ السكان ،ٕٔ,9ٔ8,ٕ٘٘ :بزٌادة ملٌون ونصؾ فقط عن السابق ،رؼم مرور ٓٔ سنوات.
وهو أول تعداد بعد استقبلل مصر عن السلطنة العثمانلٌة ،وفٌه اتخذ تصنٌفا جدٌدا لسكان مصر،
فصنفهم إلى رعاٌا الحكومة المحلٌة ،ورعاٌا الحكومة العثمانلٌة ،ورعاٌا الحكومة البرٌطانٌة ،ورعاٌا
الحكومة الفرنسٌة ،ورعاٌا الحكومة اإلٌطالٌة ،ورعاٌا الحكومة األمرٌكٌة ،لكثرة االمتٌازات األجنبٌة التً
حصل بموجبها مستوطنون على رعوٌة حكومات أجنبٌة من ؼٌر ببلدهم ،وجاء فٌه:
ٔ -رعاٌا الحكومة المحلٌة ،وهم معظم السكان ( )ٕٔ,ٖٕٔ,ٖٓٙوقسمهم إلى( :مصرٌون ،وعرب،
وبدو ،وأرمن ،وٌونانٌون ،وأتراك ،وسورٌون ،وسودانٌون ،وٌهود ،وبرابرة ،وجنسٌات أخرى ،والمقصود
بهم المسبولون أمام الحكومة المصرٌة وال ٌدخلون فً تبعٌة حكومات أجنبٌة)
المصرٌونٔٔ,ٕٓٙ,9ٕٓ :
عربٖ8,99ٙ :
بدوٗٔ9,ٖٔٗ :
أرمنٖ,ٗ9ٗ :
ٌونانٌونٔ9,ٕٕٙ :
برابرة9ٓ,ٗٗ9 :
سودانٌونٖٙ,9ٔ9 :
أتراكٔ9,9ٖٓ :
وٌُبلحظ هنا أن المصرٌٌن لهم الؽلبة الكاسحةٌ ،لٌهم البدو (العربان) ثم العرب (أبناء الجزٌرة العربٌة)
والسودانٌون فالترك والٌونانٌون كالشذرات.
ٕ -رعاٌا الحكومة البرٌطانٌة ،أي حكومة االحتبلل ،وهم( :برٌطانٌون ،أسترالٌون ،إسرابٌلون ،كندٌون،
مصرٌونٌ ،ونانٌون ،مالطٌون ،هنود ،إلخ) ٖٗ٘ ،ٕٗ,والبرٌطانٌون منهم ٕٗٓ 9,فقط والباقون وهم
األؼلبٌة أتباع.
ٖ -رعاٌا الحكومة الفرنسٌة (فرنسٌس ،جزابرٌون ،إسرابٌلٌون ،مراكشٌون ،سورٌون ،تونسٌون،
ٖ٘9
مصرٌون ،إلخ) ٕٓٔ ،ٕٔ,بٌنهم 8,8ٔٙفرنسٌا فقط واألؼلبٌة من األتباع.
ٗ -رعاٌا الحكومة اإلٌطالٌة (إٌطالٌونٌ ،ونانٌون ،إسرابٌلٌون ،أرٌترٌٌون ،طرابلسٌون ،مصرٌون إلخ)
ٗٓ,ٔ98بٌنهم ٖٕ,٘ٔ9إٌطالٌا واألقلٌة من األتباع.
ودخول مصرٌٌن ضمن أتباع حكومات أجنبٌة ناجم عن وجود أجانب حصلوا على الجنسٌة المصرٌة
واحتفظوا بتبعٌتهم لقنصلٌة البلد األصلً ،أو مصرٌٌن اختاروا تقدٌم خدمات للقنصلٌات األجنبٌة مقابل أن
تظللهم بمظلة االمتٌازات األجنبٌة وكؤنهم أجانب ،وأصبحوا على حس هذا من ذوي الثروات الطابلة.
٘ -رعاٌا الحكومة العثمانٌة (أتراك ،عرب ،سورٌون ،أرمن وٌونانٌون ،إسرابٌلٌون ،إلخ) ،ٖٓ,ٕ99
بٌنهم ٔ 8,ٗ9تركٌا فقط ،واألؼلبٌة من األتباع.
-9الٌونانٌون٘ٙ,9ٖٔ :
-8جنسٌات ؼٌر تابعة لحكومة معٌنة وهم( :عرب وحبش ومجرٌون وبلجٌكٌون ودنماركٌون
وبلؽارٌون ،وفرس ،وروس) إلخ ومعظم هإالء أعداد قلٌلة ما بٌن عشرات أو مبات لكل جنسٌة(ٔٗٗٔ).
وفً اإلجمال ،إذا طرحنا مجموع المصرٌٌن من إجمالً السكان ،سٌظهر أن عدد المصرٌٌن ٕٓ،ٔٔ,ٕٓٙ,9
مقابل ٖٖ٘ ٔ,99ٔ,لبقٌة األعراق والجنسٌات ،أي ٔٔ ملٌون مصري مقابل نحو ملٌون وٓٓ 8ألؾ خلٌط أجنبً
من العرب والعجم ،وهو فارق شاسع ٌجعل الخلٌط األجنبً عددٌا ؼٌر مإثر رؼم أنه أعلى عدد لؤلجانب عرفته
مصر فً تارٌخها ،ولكنه صار مإثرا ألنه المتصدر للثروة وتملك األراضً والمناصب والسكن فً واجهات
المدن ،والتعلٌم ،والمالك للسبلح ،والمتملك األكبر للصحافة.
"أال تعلم أن رعاع الؽزاة انتهبوا فً الماضً أراضٌنا بحكم الؽزو؟ وها هم أوالء ٌكونون طبقة عالٌة
ممتعة بالجاه والسإدد واالمتٌازات ال حصر لها".
❺ (تعداد )ٔ9ٕ7
وقسم السكان بنفس تقسٌمة إحصاء ،ٔ9ٔ9أي رعاٌا الحكومة المحلٌة ،ورعاٌا الحكومة البرٌطانٌة،
ورعاٌا الحكومة الفرنسٌة واإلٌطالٌة واألمرٌكٌة وٌونانٌون إلخ ،ولكن اختفى التصنٌؾ الخاص بـ "رعاٌا
(ٔٗٗٔ)
-األرقام السابقة للمصرٌٌن واألجانب من كتاب تعداد السكان لعام ،ٔ9ٔ9إصدار وزارة المالٌة ،الجزء الثانً ،الجدول الثامن ،مكتبة جهاز
التعببة العامة واإلحصاء ،ص ٖ٘ٓ -٘ٔ9
ٓٗ٘
الدولة العثمانٌة" ،وذلك لزوال السلطنة العثمانٌة سنة ٖٕ ،ٔ9وظهرت تركٌا ،فلم ٌعد الٌونانٌون واألرمن
والشوام مثبل من رعاٌاها ،فحل محل هذا التصنٌؾ بند "أتراك" ،وألحق بتصنٌؾ األجانب.
ورعاٌا الحكومة المحلٌة بلؽوا ٗ ،ٖٔ,9ٕ٘,ٕٙوالمصرٌون منهم ٕٕ٘ ،ٖٔ,٘9ٕ,فٌما الرعاٌا ؼٌر
المصرٌٌن من عرب وأتراك وسورٌٌن وسودانٌٌن وٌونان وأرمن إلخ بلؽوا ٕٔٓ ٖ8ٓ,شخص.
واختفى عمل تصنٌؾ خاص للعربان ،فٌما ظهر تصنٌؾ "عرب" ضمن رعاٌا الدولة المصرٌة من
األجانب ،وبلؽوا ٔٗ ٔ8ٔ,9ألفا.
وبلؽت جملة التبعٌات األجنبٌة األوروبٌة واآلسٌوٌة واألمرٌكٌة واألفرٌقٌة من كل الجنسٌات بمن فٌهم
األتراك ٓٓ ٕٕ٘,ٙنسمة(ٕٗٗٔ) ،وإذا أضفنا هذا العدد على عدد رعاٌا الدولة المصرٌة من ؼٌر المصرٌٌن
بلػ عموم األجانب من كل الجنسٌات ٕٔ ،ٙٓ٘,ٙفً تراجع حاد لعددهم عن التعداد السابق.
ومبلحظة هامة فً ذلك اإلحصاء ،أن المصرٌٌن ما بٌن عمر ٓ٘ ٙٓ -عاما بلػ ٗ 9ٖ٘,ٖٙأي ثبلثة
أرباع الملٌون فقط من جملة الـ ٘ ٖٔ,ملٌون مصري ،وهو مإشر محزن ألنه ٌعنً أن معظم المصرٌٌن
كانوا ٌتوفون قبل بلوغ الـ ٓ٘ عاما.
❻ (تعداد )ٔ9ٖ7
بلػ عدد السكان ككل ٗ ٔ٘,9ٕٓ,ٙ9بزٌادة ملٌون وثبلثة أرباع الملٌون عن اإلحصاء السابق.
أما تبعٌات الحكومات األجنبٌة (برٌطانٌون ،أتراك ،فرنسٌون ،إٌطالٌونٌ ،ونانٌونٌ ،هود ،سورٌون،
فلسطٌنٌون ،سودانٌون ،عرب إلخ) فبلؽت ٘ٔ٘ ٔ8ٙ,بنقص حوالً ٓٗ ألفا عن اإلحصاء السابق.
وإذا ضممنا عدد رعاٌا الحكومات األجنبٌة إلى األجانب من رعاٌا الحكومة المصرٌة فٌصٌر عدد كافة
األجانب فً مصر وقتها ٖ8ٔ,98ٙألفا.
وظهر تدنً عدد األجانب فً المحافظات حتى أنه فً محافظة المنٌا مثبل لم ٌكن بها من األجانب (بما فٌهم
من أتراك وأوروبٌٌن وٌونان وسورٌٌن وسودانٌٌن وعرب إلخ) سوى ٕ ٔٓ9وفً سوهاج ،ٕ٘9وقنا ٖٖ٘،
وفً الوجه البحري بلػ فً المنوفٌة مثبل ٕ ،ٗ9وفً الؽربٌة (كانت تضم الؽربٌة وكفر الشٌخ) ،ٕ98ٙأما
تركٌزهم األكبر فظل فً اإلسكندرٌة فبلؽوا ٖٔ٘ 88,و القاهرة ٕٖ ٙٓ,8ومدن القناة الثبلثة .ٕٔ,999
(ٕٗٗٔ)
-تعداد سكان القطر المصري لسنة ،ٔ9ٕ9وزارة المالٌة ،مكتبة جهاز التعببة العامة واإلحصاء ،جدول ٕٙو ،ٕ8ص ٖٕٖٗ -ٔ9
ٔٗ٘
وفً هذا اإلحصاء اختفى -ألول مرة -تصنٌؾ كلمة ٌهودي وإسرابٌلً فٌما ٌخص الجنسٌات ،وصار الٌهودي
ًٌذكر بالجنسٌة الملحق بها(ٖٗٗٔ) ،فطوال التارٌخ وحتى ٔ9ٕ9كان الٌهود ٌعاملون كجنسٌة مستقلة بنفسهم ،فقط
ٌُقال ٌهودي ،ال ٌُنسب لمصر وال إٌطالٌا وال فلسطٌن وال تركٌا إلخ ،وهم راضون بذلك ولذلك ال ٌجوز احتسابهم
حٌنها مواطنٌن أو من جملة أهل البلد.
وٌبلحظ استمرار تراجع عدد األجانب فً هذا اإلحصاء بفضل مساعً الحكومة تطبٌق مبدأ ثورة ٔ9ٔ9
"مصر للمصرٌٌن" ودستور ٖٕ ٔ9الذي نص على قصر الوظابؾ على المصرٌٌن ،ومساعً إلؽاء
االمتٌازات األجنبٌة ،وإن كان هذا تم بالتدرٌج البطا ،ومقدمات الحرب العالمٌة الثانٌة التً دفعت
برٌطانٌٌن وفرنسٌٌن وٌهود إلخ للرحٌل خوفا من ؼزو األلمان لمصر ،وكان هذا الرحٌل خٌر لمصر،
إضافة لدخول بعض األجانب فً الجنسٌة المصرٌة بموجب قوانٌنها سٌبة السمعة.
❼ (تعداد )ٔ9ٗ7
وذكر اإلحصاء أن هذا اإلجمالً ال ٌشمل العربان الرحل المقدر عددهم ب ٖ ٘٘ٓ9ألفا.
وهذا اإلجمالً صنفه التعداد إلى مصرٌون بلؽوا ٕ٘ ٔ8,8ٕٓ,8نسمة ،فٌما األجانب (عرب وعجم)
ٕٔ ٔٗ٘,9نسمة ،وبذلك ٌكون نقص المصنفون أجانب إلى أقل من النصؾ مقارنة بالتعداد السابق الذي
بلػ فٌه األجانب ٖ8ٔ,98ٙألفا(ٗٗٗٔ) ،وٌعود هذا أٌضا لفرار أجانب من وجه ألمانٌا وإٌطالٌا خبلل الحرب
العالمٌة الثانٌة ،وتراجع االمتٌازات األجنبٌة وزٌادة إجراءات التمصٌر.
ونبلحظ أنه بداٌة من إحصاء ٔ9ٔ9توقؾ تصنٌؾ المصرٌٌن إلى "وطنٌٌن" أو "أصلٌٌن" ،وأعراق
أخرى كالعربان ،والعثمانلٌة (أتراك وسورٌون وحجازٌون وأرمنٌون وسودانٌون إلخ) ،بل اعتبرهم عرق
واحد أو تصنٌؾ واحد وهو "مصرٌون" ،أما العثمانلٌة من األعراق األخرى ولم ٌتجنسوا بالجنسٌة
المصرٌة فجرى تصنٌفهم كرعاٌا أجانب ،منهم ما ٌتبع رعوٌة الدولة المصرٌة ومنهم من ٌتبع دول أجنبٌة.
وبعد حصر األعداد ،تستحق الجالٌات فً عصر االحتبلل اإلنجلٌزي أن نفرد لها مساحة خاصة
بتصنٌؾ كل جالٌة؛ لما أحدثته من شروخ ما زالت تتسع فً الجسد المصري بما نزحته من أموال ،وبما
زرعته من تٌارات "النتش والنعكشة" (تٌارات ومذاهب دٌنٌة وسٌاسٌة وثقافٌة هدفها فشكلة الهوٌة
(ٖٗٗٔ)
-تعداد سكان القطري المصري لسنة ،ٔ9ٖ9جٕ ،الجدول ٕ8و ،ٕ9وزارة المالٌة ،مكتبة جهاز التعببة العامة واإلحصاء ،ص ٕٗ9 -ٕٔ9
(ٗٗٗٔ)
-التعداد العام للسكان لسنة ،ٔ9ٗ9جٕ ،وزارة المالٌة واالقتصاد (مصلحة اإلحصاء والتعداد) ،جداول أرقام ٔ و ٖٙو ٖ9ص ٕ و-ٖٙٙ
ٖ ،ٖ9المطبعة األمٌرٌة ،القاهرة ،ٔ9ٖ٘ ،مودع بدار الكتب
ٕٗ٘
المصرٌة) ،وما نشرته وأدخلته لمصر من جرابم وعادات ما زالت أنٌابها تنهش فً جسد األمن بمصر.
ونعرضها هنا مع نبذة تارٌخٌة عن تسلسل وجودها فً مصر تلخٌصا لما ورد عنها فً الفصول السابقة
لتكتمل الصورة.
❶ (الٌونانٌون)
اشتهروا باسم "األروام" لكونهم الجالٌة األجنبٌة األكثر عددا وقت االحتبلل الرومانً لمصر ،وهو لفظ
ظل ٌمٌزهم عن بقٌة األوروبٌٌن الذٌن عرفهم المصرٌون بـ"الفرنجة" ،واشتهروا أٌضا باسم "جرٌجً".
وكما تابعنا فً العصور السابقة ظهر الٌونان فً مصر ألول مرة كجالٌة زمن االحتبلل الخاسوتٌمً
كتجارومرتزقة،وفً زمن االحتبلل الٌونانً صاروا األكثر ؼنى فً الببلد ،واحتكروا اإلسكندرٌة ونقراش
(نوكراتٌس) والمنشاة (بطلمٌة) وخصوها بامتٌازات وجنسٌة لهم استمروا محتفظٌن بمعظمها زمن االحتبلل
الرومانً ،ولما ثار المصرٌون ضدهم عدة مرات أعملوا فٌهم السٌؾ ،ولما أزاح االحتبلل العربً الرومان
رحل بعضهم عن مصر وبقً آخرون للعمل فً الدواوٌن مع العرب والتجارة ،ولعل لهم نصٌب فٌما عرؾ
بـ"قبط الدواوٌن" ،ومنهم من انزوى على نفسه.
وطوال االحتبلالت التالٌة توقؾ قدوم الٌونانٌٌن إلى مصر ،ولم ٌظهر للٌونانٌٌن جالٌة جدٌدة إال زمن
االحتبلل العثمانلً الذي جلب ٌونانٌٌن معه إلى مصر بعد أن احتل الٌونان وصار الٌونانٌون من الرعاٌا
العثمانلٌة ،وانزووا فً حارات كحارة األروام ،ودار عددهم حول ٘ آالؾ ،ولم ٌقفز هذا العدد بشكل كبٌر
إال بحكم محمد علً الذي استكثر منهم هو وبنوه ،واحتلوا اإلسكندرٌة من جدٌد على حس ما استنزفه
االحتبلل العلوي من عرق ودم المصرٌٌن فً مد ترعة المحمودٌة إلٌها وعمل الموانً ،فً تعداد ٔ9ٗ9
وصلت الجالٌة الٌونانٌة ألقصى عدد لها وهو 9ٖ,ٙ٘ٙشخصا ،خاصة مع األزمات التً ضربت الٌونان،
وكما عبرت عن الحال رواٌة "السمان والخرٌؾ" لنجٌب محفوظ فإنه حتى األعوام األولى من ثورة ٖٕ
ٌولٌو كانت الوجوه الٌونانٌة تطارد المرء فً اإلسكندرٌة أٌنما كان ،فً الشرفات والنوافذ ،وعلى قارعة
الطرٌق ،حتى سوق الخضار والدكاكٌن كانت تحتلها الوجوه الٌونانٌة(٘ٗٗٔ)".
وكوَّ ن الٌونانٌون ثروات باهظة بعملهم فً كل فروع التجارة مشروعة وؼٌر مشروعة ،صؽٌرة وكبٌرة،
بداٌة من البارات ونوادي القمار والبؽاء والربا والمقاهً وبٌع الخضروات واألجبان وحتى الشركات
الكبرى ،وحافظوا على هٌبتهم وانتمابهم اإلؼرٌقً ولؽتهم وتزاوجهم من بعضهم ،وصبؽوا مبانً
اإلسكندرٌة بطابعهم ،مثلما كانوا أٌام االحتبللٌن الٌونانً والرومانً ،حتى أن فكري أباظة عاب علٌهم
تحوٌل مدٌرٌات مصرٌة (محافظات) إلى مستعمرات رومٌة ،بعد أن أصبحوا فٌها هم المبلك وهم
المزارعون ،وهم دون ؼٌرهم أصحاب المصالح ،وحققوا هذا بعد أن كانوا مجرد تجار إسفنج وسردٌن
على شواطا البحر عن طرٌق عملهم فً الربا وإؼراء "البسطاء واألؼبٌاء" بالدٌون ،معتبرا أن احتبلل
(٘ٗٗٔ)
-مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن ،محمد جبرٌل ،مرجع سابق ،ج ٖ ،ص 99
ٖٗ٘
األروام أدهى وأمر من احتبلل اإلنجلٌز(.)ٔٗٗٙ
وعبر عن هذا روذاكٌس فً رواٌة "أودٌسا العصر الحدٌث" للٌونانً مٌشٌل بٌرٌذٌس بقوله" :إننا ننتمً
إلى أصل واحد ،وحققنا فً مصر ما عجزنا عن تحقٌقه فً ببلدنا ،أنشؤنا وطنا واحدا لكل الٌونانٌٌن(،")ٔٗٗ9
فالٌونان فً ببلدهم معظم التارٌخ لم ٌتكتلوا فً كٌان واحد ،كانوا دوٌبلت ال دولة ،فهم أهل شقاق وحروب
ضد بعضهم ،وهو ما جعلهم مهاجرٌن للخارج معظم تارٌخهم ،وٌعملون كمرتزقة وقراصنة ،ولكنهم فً
مصر توحدوا لٌكونوا كٌانا قوٌا ضد المصرٌٌن ،وأٌضا ضد الجالٌات األخرى المتصارعة معهم على كعكة
النفوذ فً مصر "نهٌبة الدنٌا".
وحٌن ؼزا الفرنسٌس مصر كانوا عونا لهم فً احتبللها وتعرٌفهم بؤسرارها بكتٌبة األروام ،وهو نفس
الدور الذي لعبوه مع االحتبلل البرٌطانً؛ فساعده بعضهم فً احتبلل اإلسكندرٌة عبر مشاركتهم فً أعمال
الشؽب المدبرة ٔٔ ٌونٌو ٔ ٔ88وقتل المصرٌٌن العزل بالرصاص.
وخبلل الحرب العالمٌة الثانٌة شكلوا تنظٌما مسلحا لدعم برٌطانٌا فً الحرب ،وأمدوها بالتبرعات
المادٌة ،ولم ٌخ ُل األمر من تشجٌع ٌونانٌٌن آخرٌن للحركة الوطنٌة ،حتى أن بعضهم مشى فً
مظاهراتها( )ٔٗٗ8ضد برٌطانٌا وإن كان معظم هإالء فعلوها ألنهم كانوا شٌوعٌٌن معادٌن للرأسمالٌة
البرٌطانٌة ولٌس تضحٌة ألجل مصر ذاتها.
وٌصؾ أحمد لطفً السٌد فً عصره أحد طرقهم فً نزح ثروة المصرٌٌن بصورة مختصرة دامعة
وبلٌؽة فٌقول إن "الرومً ٌجًء به طلب الرزق إلى مصر منفرداٌ ،دخل إحدى قراها البعٌدة عن مراكز
الحكومة فٌتزلؾ إلى كبار أهلها ،فٌفسحون له فً مساكنها ملجؤ ٌؤوي إلٌه ،فبل ٌزال بتجارته الرابحة من
بٌع الزٌتون والجبن بؤضعاؾ القٌمة بثمن آجل ]التقسٌط والربا[ حتى ٌصبح ذا مال ٌقرضه إلى الفبلحٌن
بالربا الفاحش ،وال ٌلبث على هذه الحال قلٌبل من الزمان إال وهو دابن ألؼلب أهل البلدٌ ،نزع ملكٌة
أرضهم وٌستخدمهم فٌها عماال بسطاء"(.)ٔٗٗ9
وهذه األٌام ٌتابع الناس فً األفبلم القدٌمة مشاهد لحانات خمور والنادل "الجارسون" األجنبً ٌخدم
مصرٌٌن سكارى فٌها ،فٌشٌر لهم بعض المصرٌٌن أمام الشاشات ببراءة طفولٌة ٌقولون" :شوؾ إزاي كنا
زمان؟ كان الخواجات بٌصبولنا الكاسات وٌخدمونا" ،والبرئ ؼفبلن عن ثمن "الصبة" و"خد اشرب ٌا
خبٌبً وانسى" ،وهً تسكٌر المصري لشفط جٌوبه وتهرٌب ماله برَّ ة ،وٌكون الٌونانً فً مصر "السٌد"،
والمصري فً الدرجة العاشرة "سكران" ،لما نسً تحذٌرات عبد هللا الندٌم من هذا المصٌر(ٓ٘ٗٔ):
()ٔٗٗٙ
-نفس المرجع ،ج ٕ ،ص ٕٔٔ
()ٔٗٗ9
-نفس المرجع
()ٔٗٗ8
-نفس المرجع ،ص ج ٖ ،ص ،99وج ٕ ،ص ٕٔٔ
()ٔٗٗ9
-قصة حٌاتً ،أحمد لطفً السٌد ،مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة ،مرجع سابق ،ص ٖٗٗٗ -
(ٓ٘ٗٔ)
-عبد هللا الندٌم خطٌب الثورة العرابٌة ،مرجع سابق ،ص ٕٗٗ
ٗٗ٘
والبٌه صبح باع األلماس ..فً حب الكاس ..والبٌت وساعته والؽٌطان
اسؤل بقى جرجً وٌ ِّنً(ٔ٘ٗٔ) ..مش تسؤلنً ..تلقى الفلوس راحت الٌونــــان
ٌا مٌــت خســارة وندامــة ..وهللا ؼرامة ..نبٌع بكاس خمرة األوطـــــــــــان
فوقو بقى ٌا والد الٌوم ..من دي النوم ..إال العزٌز منكم ٌنهـــــــــــــــــان
❷ (الٌهود )
كما فً بقٌة العالم ،لم ٌعتبر الٌهود أنفسهم من أبناء الوطن فً أي عصر قدموا فٌه إلى مصر ،وفً
عقابدهم ٌتعلمون أن الدٌن والجنس عنصران متبلزمان ال فاصل بٌنهما(ٕ٘ٗٔ) فمهما طال بهم المقام ٌتكتلون
محتفظٌن بؤن دٌنهم ووطنهم هو "الٌهودٌة" ،وٌؤخذون صؾ االحتبلل ضد أبناء البلد إذا كان هذا فً
مصلحتهم ،وبشكل أعمق وصفهم كارل ماركس ،وهو من عابلة ٌهودٌة" :والجنسٌة الوهمٌة للٌهودي هً
جنسٌة التاجر ،جنسٌة رجل المال"(ٖ٘ٗٔ).
وكما رأٌنا فً فصول سابقة ،أول ظهور تعرفه اآلثار للٌهود فً مصر حٌن جاءوها الجبٌن فارٌن من
البطش البابلً زمن األسرة ،ٕٙورؼم هذا باعوا مصر للؽزو الفارسً ،وفً زمن االحتبلل الٌونانً
والرومانً كثر عددهم فً اإلسكندرٌة ،ومع االحتبلل العربً كان من شروط المقوقس فً الصلح مع
عمرو بن العاص بقاء الٌهود فً مصر ،وبقوا ٌعملون فً التجارة والطب والصرافة والربا والذهب،
ولسبب ؼٌر معلوم تناقص عددهم بشكل حاد حتى ظهروا فً تقدٌر عدد السكان زمن محمد علً ٘ آالؾ
ٌهودي ،ثم عادوا للزٌادة كالطوفان بفعل المحافل الماسونٌة وقانون تملٌك األراضً لؤلجانب واالمتٌازات
األجنبٌة.
وأخذوا -مثل بقٌة األجانب -موقعا متمٌزا داخل مصر لم ٌحلموا بمثله فً العالم ،ومن أوابل من سعى
لضم الٌهود للحماٌة واالمتٌازات األجنبٌة هو الثري الٌهودي موسى مونتٌفوري حٌن تدخل لدى محمد علً
لٌسمح بؤن ٌكونوا تحت الحماٌة البرٌطانٌة وٌتم إعفاإهم من بعض الضراٌب(ٗ٘ٗٔ).
وفً ،ٔ89ٙقبل المإتمر الصهٌونً فً بازل بسنة واحدة ،جاء لمصر جوزٌؾ ماركو باروخ ،لٌإسس
جمعٌة صهٌونٌة فً مدٌنة القاهرة حملت اسم باركو خابا ،أجرت اتصاال بتٌودور هرتزل الذي حضر إلى
اإلسكندرٌة والقاهرة فً ٖٕ مارس ٖٓ ،ٔ9واإلسكندرٌة حٌنذاك مركزا لتجمع الٌهود ،فقد تمركز فٌها
(ٔ٘ٗٔ)
-جرجً وٌ ّنً من األسامً الشهٌرة المعروؾ بها الٌونانٌون
(ٕ٘ٗٔ)
-الٌهود فً مصر فً عصري البطالمة والرومان ،مصطفى كمال عبد العلٌم ،مكتبة القاهرة الحدٌثة ،ط ٔ ،ٔ9ٙ8 ،ص ٕ98
(ٖ٘ٗٔ)
-كارل ماركس أو فكر العالم سٌرة حٌاة ،جاك أتالً ،ترجمة محمد صبح ،دار كنعان ،طٔ ،دمشق ،ٕٓٓ8 ،ص ٕ9
(ٗ٘ٗٔ)
-الجالٌة البرٌطانٌة فً مصر ٘ٓ ،ٔ88ٕ -ٔ8ناهد السٌد علً زٌان ،مرجع سابق ،ص ٕ ٖٙهامش رقم ٖٗ٘
٘ٗ٘
٘ٗ %من عددهم فً مصر(٘٘ٗٔ) ،وتمتع هرتزل بحرٌة الحركة.
وبسبب االمٌتازات األجنبٌة وحماٌة المحافل الماسونٌة والقنصلٌات ،وؼفلة المصرٌٌن المحٌطٌن ،ؼزا
الٌهود كل المجاالت؛ إذ كسر الٌهود خصوصٌة وقٌود حارة الٌهود التقلٌدٌة إلى درجة لم ٌكن لها مثٌل فً
العالم ،فتسللوا لنسٌج المجتمع موزعٌن بدرجات فً أحٌاء الجمرك والعطارٌن والرمل وباكوس وكرموز
واللبنان ومحرم بٌك والمنشٌة وحً مٌنا البصل وحً المٌناء(.)ٔٗ٘ٙ
ومن قابمة الجمعٌات اإلسرابٌلٌة ٌتضح أنهم كانوا مإسسٌن دولة داخل الدولة ،تضم شبكة مصالح
ومإسسات تقدم لهم كافة الخدمات ،كالمدارس والمستشفٌات والصحؾ والجمعٌات الخٌرٌة واالستثمارٌة،
والمعلن منها اتخذ طابعا خٌرٌا لحماٌة الٌهود من العوز ،مثل جمعٌة "أزرات" تؤسست ٘ ٔ88لمساعدة
الشحاتٌن الٌهود ،وجمعٌة "بٌكور هولٌم" تؤسست ٔ9ٓ9لمساعدة المرضى ،وجمعٌة "هٌد فٌمٌت" تؤسست
ٖٓ ٔ9لبناء دور العجزة ،والمستشفى اإلسرابٌلً فً سٌدي جابر ،ومستشفى إسرابٌلً فً سبورتنج،
وجمعٌة قطرة اللبن لمساعدة التبلمٌذ الٌهود الفقراء ،وهذه األنشطة تمؤل سماء اإلسكندرٌة ،أما الجمعٌات
السرٌة التً تمارس نشاطها السٌاسً تحت األرض ،فؤكثر من هذا بكثٌر ،وتسري بخٌوط عنكبوتٌة ال
ُترى ،ومن ثمرة نش اطهم السري إنشاء "الفٌلق الٌهودي" خبلل الحرب العالمٌة األولى على ٌد الٌهودٌٌن القادمٌن
من روسٌا فبلدٌمٌر جابوتسكً وجوزٌؾ ترمبلدور ،وبدأ تحت ستارة تشكٌل قوة بولٌسٌة "لحفظ النظام بٌن
المهاجرٌن الجدد(.)ٔٗ٘9
وبعد زمن طوٌل من إظهار الوجه الثقافً واالقتصادي والخٌري ،ظهر الوجه الملٌشٌاوي للجمعٌات
الٌهودٌة بعد أن استقوت بوعد بلفور ٔ9ٔ9؛ فظهرت فرق مسلحة بوضوح فً شوارع اإلسكندرٌة التً
باتت شبه مستوطنة لهم ،واستعرضت قوتها فً عروض مسلحة سارت بها من الوردٌان وحتى المعبد
الٌهودي قبل أن ٌنضموا للقتال مع برٌطانٌا فً الحرب ،وأسسوا مكتبا لتشجٌع الهجرة لفلسطٌن وتكونت
لجنة باسم "اللجنة المشاٌعة لفلسطٌن" وزعت منشورات فً اإلسكندرٌة تطالب باالكتتاب لجمع التبرعات
من أثرٌاء الٌهود وإرسالها لفلسطٌن إلقامة مستعمرات زراعٌة للٌهود باسم استثمارات.
وإضافة لبلحتكار الثقافً واالقتصادي ص َّدر الٌهود وجها آخر ودودا للمصرٌٌن ،خاصة بعد ثورة
ٔ9ٔ9التً أعلت مبدأ "مصر للمصرٌٌن" ،لسهولة معرفة أسرار البٌوت ،فكانوا ٌعٌشون متجاورٌن مع
المصرٌٌن فً ود وحب بالؽٌن ،فالٌهود فً حٌاتهم الٌومٌة ودودون ٌحافظون على الجٌرة ،وخصوصا أن
المرأة الٌهودٌة لها دور مهم فً حٌاة األسرة والمجتمع المحٌط بها ،وكل من عاصر تواجد الٌهود فً مصر
(٘٘ٗٔ)
-هنري كورٌٌل -األسطورة والوجه اآلخر ،الدكتور حسٌن كفافً ،مرجع سابق ،ص ٕ9
()ٔٗ٘ٙ
-المرجع السابق ،ص ٖٓ -ٕ9
()ٔٗ٘9
-المرجع السابق ،ص ٖٖٓٔ -
*** والشًء بالشًء ٌُذكر ،فإن أشهر عصابات الوالٌات المتحدة حالٌا ،وأكثرها همجٌة ،وهً عصابة "إم إس ٖٔ" ،نشؤت فً ثمانٌنات القرن
ٕٓ أٌضا بحجة أنها مجرد حراسة لتجمعات المهاجرٌن من السلفادور ،باعتبارهم بنً جلدتهم وأدرى بطبابعهم ،وتسعى لتخفٌؾ األعباء عن
الشرطة ،ثم ظهر السبب الحقٌقً بتحولها ألكبر العصابات إجراما ،ومصدرا للمرتزقة فً العالم ،فهو ذات األسلوب المكرر.
٘ٗٙ
ٌذكر هذا ،فالمرأة عندهم محور كل شًء(.)ٔٗ٘8
ولعب الٌهود دورا وحاسما فً خروج المرأة المصرٌة بالمدن إلى مٌادٌن عمل ؼٌر معهودة ،وتؽٌٌر
الحٌاة االجتماعٌة ،ولكن لٌس بشكل ٌحفظ هوٌة وسمات وكرامة الست المصرٌة ،فالٌهودٌات خرجن قبلها
للعمل بالمتاجر وتقلٌد الرطانة بالكلمات األجنبٌة ،والدخول فً المؽامرات العاطفٌة ،وشجعن المصرٌات
على الحٌاة التً وصفت بالعصرٌة ،فحتى وجودهن فً الترام ٌستؽل َّنه فً التحدث مع من ٌجلسن بجوارهن
عن بارٌس وأزٌاءها وحٌاة النساء فً أوروبا والرقص الحدٌث عن المؽامرات العاطفٌة ،وكثٌر من
الٌهودٌات ٌفرضنَّ أنفسهنَّ على الشباب المصري المجاور لهنَّ فً العمل أو السكن ،ومعظم أبناء جٌل
العشرٌنٌات والثبلثٌنٌات تعرفوا على حٌاة العاطفة والجنس من خبلل ٌهودٌات (.)ٔٗ٘9
وأبدع األدٌب صالح مرسً فً مسلسله التلفزٌونً الشهٌر "رأفت الهجان" فً التعبٌر عن هذا ،فهذه
سارة تنسج خٌوط العبلقة المحرمة مع عدلً ظابط الشرطة لتعرؾ منه المعلومات التً تجمعها الشرطة
عن الٌهود ،وذاك الصاٌػ بنٌامٌن حنانٌا ٌتحدث عنه جٌرانه بكل ود لمعاملته الطٌبة معهم ،وهم "زي
األطرش فً الزفة" ٌجهلون ما بٌن الٌهود والصهٌونٌة.
وفً عشرٌنات القرن ٕٓ أصبح الٌهود رقما صعبا فً السٌطرة على اقتصاد مصر ،فصاروا ضمن
المحتكرٌن لصناعات الصحافة والنشر والطباعة وتجارة الورق والسٌنما والفنادق وتجارة القطن والؽزل
والنسٌج ،ومعظم الشركات بداٌة من مالكها حتى كاتب اآللة الكاتبة من الٌهود ،و %98من العاملٌن فً
البورصة ٌهود ،وأنشؤوا شركة التصدٌر الشرقٌة للسٌطرة على االستٌراد والتصدٌر سنة ٕٓ ،ٔ9وامتلكوا
سلسلة المحبلت التجارٌة الكبرى لتوزٌع منتجاتهم الداخلٌة أو المستوردة ،ومن أشهرها عمر أفندي وهانو وبٌن
صهٌون -بن زٌون (بنزاٌون) وشٌكورٌل وشمبل والصالون األخضر وداود عدس ،وفً البنوك أسسوا بنكً
مواصٌري وزلٌخة ،هذا بخبلؾ بٌوت وبنوك الرهونات ،وحتى فً بنك مصر لهم عضوان فً مجلس
إدارته ،وٌساوي خطورتهم فً السٌطرة على البنوك سٌطرتهم على تجارة الذهب والفضة والماس.
وللسٌطرة على سوق العقارات أسسوا شركات عقارٌة مثل شركة مصر الجدٌدة ،وشركة المعادي،
وشركات وادي كوم إمبو ،وشركة مساهمة البحرٌة ،واشتروا األراضً الزراعٌة والسكنٌة ،حتى أن حً
سموحة بحاله فً اإلسكندرٌة كان جزء مما تملكه الملٌونٌر الٌهودي سموحةٌ ،عنً باختصار كانت مصر
فً جٌبهم(ٓ ،)ٔٗٙوأكبر مُعٌن لهم فً هذه السٌطرة الرهٌبة هو الربا والرهونات والتسهٌبلت التً حصدوها
من االمتٌازات األجنبٌة والمحتلٌن ،واألهم هو توهان المصرٌٌن عن خطرهم.
وعلى أساس أن الثقافة فً خدمة االقتصاد ،أنشؤوا مطبعتٌن ،وهكذا انتهزوا أي فرصة لنشر الثقافة-
الكتب التً ٌرٌدون تسوٌق أفكارها -خبلل الصحافة والمطابع وتجارة الورق التً ٌسٌطرون علٌها تماما،
()ٔٗ٘8
-نفس المرجع ،صٕٖ وٖ٘
()ٔٗ٘9
-انظر مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن ،محمد جبرٌل ،ج ٖ ،مرجع سابق ،ص ٗ89 -ٗ8ٙ
(ٓ)ٔٗٙ
-هنري كورٌٌل األسطورة والوجه اآلخر ،حسٌن كفافً ،مرجع سابق ،ص ٕ9 -ٕٙوٗ٘٘٘ -
٘ٗ7
وبتعبٌر حسٌن كفافً فالمصرٌون حٌنها فً ؼفلة ال ٌدرون ما ٌجري خلؾ ظهورهم من مكابد ومإامرات
لحسن نٌتهم ،ومن ناحٌة أخرى لضحالة ثقافتهم وقلة تعلٌمهم ،فهم حدٌثً عهد بمثل هذه األمور من التعلٌم
والثقافة ،وأٌضا لعزوفهم عن العمل فً هذه المجاالت(ٔ.)ٔٗٙ
وألن اإلعبلنات من وسابل السٌطرة على الرأي العام ،استولت شركة اإلعبلنات الشرقٌة التً ٌدٌرها الٌهودي
هنري حاٌٌم على معظم اإلعبلنات ،ومدٌر عام اإلعبلنات فً "األهرام" و"دار الهبلل" ٌهودٌان(ٕ ،)ٔٗٙوؼزوا
السٌنما فور أن حطت رحالها فً مصر ،وأبرز ٌهود هذه الصناعة توجو مزراحً وإٌلً درعً وٌوسؾ
موصٌري صاحب شركة جوزٌؾ فٌلم ،ولم ٌنكسر احتكار الٌهود للسٌنما إال على ٌد طلعت حرب حٌن
أسس شركة مصر للتمثٌل والسٌنما واستدٌو مصر ،وأرسل بعثات لتعلم السٌنما فً الخارج على حساب بنك
مصر ،وكذلك كان لٌوسؾ وهبً دور مشهود فً تمصٌر السٌنما.
وساهم تحكم الٌهود فً البضاٌع الداخلة والخارجة لمصر والثقافة والفن فً أن ٌتٌسر لهم التدخل فً
رسم الذوق المصري ،والتحكم فً األسعار.
ونصل للخط األحمر ،للهدؾ األكبر ..دخل الٌهود مخادع الحكم ،فكانت واحدة من عابلة قطاوي وصٌفة
الملكة نازلً ،ووصلوا الختراق الجٌش عبر زواج ضباط فً الجٌش ،منهم عاملون فً إدارة المخابرات،
بٌهودٌات -كعادة كافة التنظٌمات السرٌة الهادفة للسٌطرة -ومنهم دٌدار فوزي بنت الملٌونٌر الصهٌونً
داوود عدس تزوجت الرابد فً الجٌش عثمان فوزي ،وهً من جرَّ ته إلى الشٌوعٌة؛ ألنها صدٌقة لهنري
كورٌٌل(ٖ ،)ٔٗٙولنتخٌل لو هذا الضابط صار ألي سبب ربٌسا لمصر فتكون تلك الدخٌلة والصهٌونٌة
"السٌدة األولى لمصر"!
ومعظم العاببلت الٌهودٌة التً سٌطرت على االقتصاد وافدة حدٌثا إلى مصر ،وخاصة خبلل القرن ٔ9
فً عهد حكم عٌلة محمد علً ،ولٌسوا مصرٌٌن كما ٌقول البعض -إال أن بعضهم حصل على الجنسٌة
المصرٌة بموجب القوانٌن المشبومة الخاصة بالتجنٌس بداٌة من أول القرن ٕٓ ،ولٌتؽلبوا على شعار
"مصر للمصرٌٌن " ،ولكن لم ٌعتبروا أنفسهم سوا خدام لمشروع تنظٌماتهم الخاصة ،ولم ٌشذ عن هذه
القاعدة إال القلٌل ،ولذا من أكبر األخطاء التارٌخٌة أن ٌقال أنه كان ٌوجد فً مصر فً أي عصر "ٌهود
مصرٌون" ،بل الواقع أنهم "ٌهود فً مصر" ،و"جالٌة ٌهودٌة" ،وكتب التارٌخ القدٌمة نفسها ال تصفهم بؽٌر
هذه الصفة التً عرفتهم بها األجٌال السابقة فً كل بلد ..أنهم ؼرباء دخبلء.
وتزاٌدوا بشكل كبٌر خبلل الحربٌن األولى والثانٌة بعد وفودهم باسم الجبٌن من أوروبا وروسٌا ،ففً
اإلسكندرٌة وحدها وصل فً أول األربعٌنات الٌهود إلى ما بٌن ٖٓ ٗٓ-ألؾ نسمة(ٗ ،)ٔٗٙوفً ذلك ٌقول
حسٌن كفافً فً "هنري كورٌٌل األسطورة والوجه اآلخر" ،إنه فً ظل ما أسماه بالتسامح الدٌنً "كان
(ٔ)ٔٗٙ
-نفس المرجع ،ص ٕ٘
(ٕ)ٔٗٙ
-نفس المرجع ،ص ٕٔ9
(ٖ)ٔٗٙ
-مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن ،ج ٖ ،ص ،ٗ9ٙوهنري كورٌٌل األسطورة والوجه االخر ،ص ٕٓ8
(ٗ)ٔٗٙ
-هنري كورٌٌل األسطورة والوجه اآلخر ،ص ٕ8
٘ٗ8
الٌهود ٌعٌشون بٌن ظهرانٌنا كجزء من الشعب المصري ،وكجزء من األمة العربٌة ،إن كانوا فً مصر أو
لبنان أو سورٌا أو الٌمن أو العراق أو فلسطٌن ،أمبلكنا بجوار أمبلكهم ٌشترون منا ونشتري منهم ،وٌبٌعون
لنا ونبٌع لهم ،وما ٌحدث فً مصر فً المقابل كان ٌحدث أٌضا فً فلسطٌن ..هم ٌحفرون وٌخططون
وٌتآمرون وٌزرعون العمبلء هنا وهناك ،وٌلجمون هنا وٌتركون اللجام على الؽارب هناك ،والعرب فً
ؼٌبوبة ،وسببها أن ثقتنا فً الٌهود كانت مفرطة"(٘.)ٔٗٙ
والؽفلة لفت حتى الحكومة واألحزاب ،فلما حصل الخبلؾ بٌن مصطفى النحاس ومكرم عبٌد حول إدارة
حزب الوفد أصدر عبٌد "الكتاب األسود" ٌتهم النحاس أنه هضم حقوق "األقلٌات" لما اشترى من داود
عدس الٌهودي عزبة فً البحٌرة بسعر بخس ،ورد علٌه النحاس بؤن السعر مناسب ،وعدس ألح علٌه ألنه
ٌرٌد أن ٌشتري بثمنها عزبة فً فلسطٌن( ،)ٔٗٙٙفانشؽل عبٌد والنحاس بخبلفاتهما حول ثمن العزبة ،ولم
ٌنشؽبل بمصدر أموال عدس ،وال لماذا اختار شراء عزبة فً فلسطٌن.
وانتشر الٌهود تحت الجلدٌ ،شكلون أعٌنا ترصد أي حركة ،وصارت تجمعاتهم مراكز لدوامات بث
اإلشاعات والفكر الهدام وإفشاء الرذٌلة وخلق بلبلة ودوامات الجدل ،محرفٌن الكلم عن مواضعه ،ومن ذلك
أنهم سوقوا لفكر كارل ماركس حول ازدراء الدٌن ،فٌما الٌهود فً بٌوتهم ٌعبدون هللا سرا ،وٌحافظون على
تراثهم ،وٌحٌون لؽتهم بعد أن كانت لؽة مٌتة ،وروجوا لفكر نٌتشة ودارون وعالم النفس الٌهودي سٌجموند
فروٌد ،تنفٌذا لكتاب بروتوكبلوت صهٌونٌ" :جب أن نعمل لتنهار األخبلق فً كل مكان فتسهل سٌطرتنا
على العالم ،إن فروٌد منا وسٌظل ٌعرض العبلقات الجنسٌة فً ضوء الشمس ،ولكً ال ٌبقى فً نظر
الشباب شًء مقدس ،وٌصبح همه األكبر هو أرواء ؼرابزه الجنسٌة ،وعندبذ تنهار أخبلقه" وذلك فً الوقت
الذي كانوا ٌجمعون الشباب الٌهودي على صعٌد واحد هو الصهٌونٌة(.")ٔٗٙ9
ولم تتقلص الهٌمنة الٌهودٌة على اقتصاد مصر إال بعد ٖ عودات ٌهودٌة إلى الخارج ،األولى ما بٌن
الحربٌن العالمٌتٌن ،والثانٌة بعد حرب ٔ9ٗ8وقٌام إسرابٌل ،والثالثة بعد العدوان الثبلثً الذي شاركت فٌه
إسرابٌل ٔ9٘ٙواكتشاؾ تورط ٌهود فً عملٌات إرهابٌة وتفجٌرات بالقاهرة.
وبعد ..ففً برنامج تلفزٌونً سنة ٕٓٔ8تفاخر موسٌقار شهٌر بؤنه عاش طفولته قبل ثورة ٕ٘ٔ9
والقاهرة معبؤة باألجانب ،وأنه سكن فً عمارة بها ٌهود "طٌبٌن" ،وأن وجود هذه الجالٌات -ومنها الٌهود-
متراصة بجانب المصرٌٌن "فخر لمصر" ..هكذا! ٌبدو أن للفخر معانً أخرى.
❸ (الشوام)
عرفنا منهم فً تارٌخنا القدٌم من اشتهروا باسم "الرتنو" ،و"العامو" ،وظهروا "محبٌن" لمصر وقت
قوتها" ،ؼادرٌن" بمصر وقت ضعفها ،ومحاوالت قبابل الشام وشمال شرق الجزٌرة العربٌة المجاورة لها
(٘)ٔٗٙ
-نفس المرجع ،ص ٕٔ9
()ٔٗٙٙ
-المرجع السابق ،ص ٖٔٓ -ٕٔ9
()ٔٗٙ9
-انظر :نفس المرجع ،ص ٕ9 -ٕ9
٘ٗ9
لبلعتداء على الحدود المصرٌة والتسلل لداخل مصر لؽرؾ خٌراتها لم تتوقؾ طوال التارٌخ.
وفشلها أو نجاحها فً هذا توقؾ على الصحوة المصرٌة من عدمها ،فرأٌناهم لما ؼفل حكام مصر نهاٌة
الدولة القدٌمة تسللوا وعملوا فً بعض المهن ونشروا الفتن حتى ساهموا فً إسقاط األسرة ٙونشر
الفوضى "الزفتة" ،وطاردهم لخارج مصر حكام األسرات ٓٔ ؤٔ ؤٕ ،ؼٌر أنه فً نهاٌة األسرة ٕٔ
عادت الؽفلة بؤن تسللوا مع هجرات أخرى فً شكل تجار وعمالة ومهاجرٌن بٌن بلدٌن "صدٌقٌن" استؽبلال
للعبلقات التجارٌة القوٌة بٌنهما وقتها ،حتى ضعفت مصر مجددا فً األسرة ٖٔ فاحتلوا أراضً بالوجه
البحري وعشنا محنة مصر معهم باسم "الهكسوس" ،وتكرر األمر فً الدولة الحدٌثة بطردهم ثم عودتهم
باسم أنهم "أبناء الببلد المفتوحة" حتى سٌطرت عابلة "إرسو" السورٌة على أمور الببلد فً نهاٌة األسرة
ٔ9قبل أن ٌقضً علٌها ست نخت والد رمسٌس الثالث.
واختفوا من المشهد حتى ظهروا بعد األسرة ٕٙضمن المرتزقة والتجار الذٌن استعانت بهم هذه
األسرة ،واستمروا على هذا الحال أٌام الٌونان والرومان باسم كنعانٌٌن وفٌنٌقٌٌن وآرامٌٌن ،وخؾ تواجدهم
أٌام العرب ألن الكوفة ودمشق وبؽداد أصبحوا العواصم األكثر جاذبٌة فً الفرص ،ثم عادوا للهجرة إلى
مصر أٌام الممالٌك فارٌن من وجه التتار لما هزموهم ،وأخذوا فرصتهم أكثر أٌام العثمانلً فشاركوا فً
نهب مصر أرضا وتجارة وعقارات ومناصب فً القضاء واألزهر.
وفً أٌام محمد علً ،ظهر نوعٌة جدٌدة من الشوام ،هً المتؤوربون ،أي من أتوا فً زي أوروبً من
خرٌجً مدارس اإلرسالٌات التبشٌرٌة وٌتحدثون بؤلسنة أوروبا وعملوا لصالح القناصل األوروبٌة خاصة
فرنسا ثم برٌطانٌا خبلل االستعانة بهم فً مشارٌع الوالً وأوالده.
وإلى جانب التجارة ،ر َّكزوا على الثقافة والصحافة والمسرح والسٌنما ونشر المحافل الماسونٌة؛ فكانت
األنشطة التً برعوا فٌها هً األكثر شبها بؤنشطة وتوجهات الٌهود ،ونشر جزء منهم فكرة القومٌة العربٌة،
والجزء اآلخر زرع فكر السلفٌٌن واإلخوان المسلمٌن.
وحام عدد الشوام أٌام االحتبلل اإلنجلٌزي والجالٌاتً حول ٖٓ ألفاٌ ،قل أو ٌزٌد حسب الظروؾ ،متفرقٌن فً
تبعٌتهم بٌن رعاٌا للحكومة المصرٌة أو للسلطنة العثمانٌة أو برٌطانٌا وفرنسا.
ومثل ؼٌرهم ،تراجع وجود الشوام فً االقتصاد والعدد بعد ثورة ٕ٘ ٔ9وقرارات التؤمٌم ،وإن بقً لهم وجود
فً السٌنما والؽناء ،مع االبتعاد -ظاهرٌا -عن التدخل فً شبون الببلد؛ نظرا للقبضة القوٌة التً كانت للدولة
المصرٌة ،إال أنه ظل لمثقفٌهم وفنانٌهم سٌطرة فً سحب مصر إلى الفكر العروبً ومؽامراته الفاشلة كما سنرى،
واقتنص بعضهم الجنسٌة المصرٌة باستٌطانهم فً مصر أٌام الوحدة المشبومة مع سورٌا.
❹ (اإلٌطالٌون)
منذ رحٌل الرومان (أجداد اإلٌطالٌٌن) عن مصر لم ٌؤتوها إال كتجار أٌام العبٌدٌٌن أو األٌوبٌٌن،
ٓ٘٘
واشتهروا باسم البنادقة ،وتركزوا فً اإلسكندرٌة ،وكانوا عٌونا لحمبلت الفرنجة "الصلٌبٌة" ،واستمروا
ٌفدون بعدد قلٌل ومتقطع فً ثوب التجار فً العصور البلحقة.
أما فرصتهم الذهبٌة فهً االحتبلل اإلنجلٌزي -العلوي -الجالٌاتً ،متمتعٌن بفرص العمل التً فتحتها لهم
مشارٌع وقصور محمد علً وأوالده ،محمٌٌن بمظلة االمتٌازات األجنبٌة ،حتى شكلوا ثانً أكبر جالٌة
أوروبٌة بعد الٌونان ،خاصة وأن بلدهم وقتها ٌؽلً من األزمات االقتصادٌة.
وزاول اإلٌطالٌون مهن التجارة والصناعات الكهربابٌة والموسٌقى وهندسة المبانً ،وبصمات أصابعهم
الفنٌة فً المبانً الفخمة لذلك العصر ،وترددوا فً القصور معلمٌن للموسٌقى أو اإلتٌكٌت واللؽات وخدم،
ونشطوا فً العمل السٌاسً والطابفً ،مثل نشر الشٌوعٌة فً مصر ،وخبلل الحرب العالمٌة الثانٌة انقسموا
بٌن المعادٌن للفاشٌة أو المإٌدٌن لها الذٌن كانوا ٌتمنون أن تؽزو إٌطالٌا مصر لٌحكمها موسٌلٌنً كما
حكمها من قبل ٌولٌوس قٌصر( ،)ٔٗٙ8وٌتعطشون الستقبال الجنود اإلٌطالٌٌن الذٌن هتفوا والسفن تنقلهم
لؽزو الحبشة" :بعد الحبشة سٌؤتً دور مصر"(.)ٔٗٙ9
واختلؾ موقؾ اإلٌطالٌٌن من الحركة الوطنٌة فً مصر ،ففً حٌن أٌدها بعضهم ،خاصة خبلل ثورة
ٔ9ٔ9مثل نادي خرٌجً الجامعات والمدارس اإلٌطالٌة ،عادها البعض اآلخر(ٓ ،)ٔٗ9بل فقد الموسٌقار
اإلٌطالً مارانجونً حٌاته فً صدام مع القوات البرٌطانٌة ،وخطب إٌطالٌون فً األزهر خبلل ثورة
، ٔ9ٔ9وذلك ألن منهم شٌوعٌون ضد برٌطانٌا مثل روزنتال أحد مإسسً الحزب االشتراكً فً مصر،
ومنهم من كان ؼاضبا من تمٌز البرٌطانٌٌن عن بقٌة الجالٌات األوروبٌة ،ففً الواقع ٌعتبروا وقفوا مع
بلدهم أو مذهبهم ضد برٌطانٌا ولٌس مع مصر ،وفً المقابل كان هناك إٌطالٌون مع االحتبلل البرٌطانً
ضد مصر مثل "الفٌدرالٌٌن اإلٌطالٌٌن(ٔ.")ٔٗ9
ومثل بقٌة الجالٌات ،تدرب اإلٌطالٌون على حمل السبلح وعمل الملٌشٌات ،خاصة وقت الحرب العالمٌة
الثانٌة ،وكؤنهم ٌهٌبون مصر لحروب ومعارك داخلٌة فً حال ما دخل األلمان واإلٌطالٌون لمصر بٌن
الفرٌق المإٌد لذلك منهم والفرٌق الرافض ،وارتدى مناصرو موسٌلٌنً القمصان السوداء ،رمز الفاشٌست،
وعملوا بها استعراضات حماسٌة فً الشوارع(ٕ.)ٔٗ9
وكبقٌة الجالٌات أٌضا ،ش َّكل اإلٌطالٌون جمعٌات خاصة بهم ثقافٌة وإعبلمٌة ومدارس خاصة لترسٌخ
هوٌتهم ومذاهبهم ،بما فٌها الهدامة كالشٌوعٌة والفاشٌة ،وحٌن شبت الحرب العالمٌة الثانٌة بلػ عدد الجالٌة
اإلٌطالٌة ما بٌن ٓ 9ٓ-ٙألفا ،اعتمدت فً نفوذها على انتشارها فً النواحً الثقافٌة واالقتصادٌة ،إضافة
()ٔٗٙ8
-مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن ،محمد جبرٌل ،مرجع سابق ،ج ٖ ،ص 78 -7ٙ
*** كل من ذاقوا المجد والثروة خالل احتاللهم لمصر ٌتوقون إلعادة احتاللها ،وتكتلهم فٌها باسم جالٌات أو استثمارات خطوة فً هذا الطرٌق.
()ٔٗٙ9
-حقٌقة االنقبلب األخٌر فً مصر ،رشدي البراوي ،مكتبة النهضة المصرٌة ،ط ٕ ،ٔ9ٕ٘ ،ص ٔ٘8
(ٓ)ٔٗ9
-مصر والحرب العالمٌة الثانٌة ،محمد جمال الدٌن المسديٌ ،ونان لبٌب رزق ،عبد العظٌم رمضان ،مركز الدراسات السٌاسٌة واالستراتٌجٌة
باألهرام ،القاهرة ،ص 9ٙ
(ٔ)ٔٗ9
-انظر :األجانب فً مصر ٕٕ ٔ9ٕ٘ -ٔ9دراسة فً تارٌخ مصر االجتماعً ،مرجع سابق ،ص ٖٗٔٔٗٗ -
(ٕ)ٔٗ9
-مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن ،مرجع سابق ،ج ٖ ،ص 98 -99
ٔ٘٘
لوجود أذرع لها داخل القصر الحاكم ،حٌث كانت جزءا هاما من الحاشٌة التً تحٌط بالملك فاروق ،مثل
أنطون بوللً ،وكانوتشً(ٖ.)ٔٗ9
وتصدر اإلٌطالٌون مع الٌونانٌٌن واألرمن نسبة األجانب المتورطٌن فً نشر الجرٌمة فً مصر ،خاصة
الجرابم الكبرى كالمخدرات والدعارة وتزٌٌؾ العملة والقمار والؽش التجاري ،وتمٌزوا مثل الٌونانٌٌن
بالتواجد فً الرٌؾ والحواري على شكل محبلت بقالة ،ما ٌسهل لهم التعرؾ على أحوال الناس وٌكون لهم
فً كل مكان عٌون ،والتسوٌق لبضابعهم المشروعة أو الفاسدة (كالخمر والقمار والربا) فً كل مكان.
❺ (األرمن)
عرفت مصر األرمن خبلل االحتبلل العبٌدي (الفاطمً) قادمٌن من الشام لما استعان بهم العبٌدٌون
كمرتزقة فً جٌشهم ضد المؽاربة والترك والسودانٌٌن ،وتراجع وجودهم وقت االحتبلل المملوكً الذي
كان الجٌش فٌه مكونا من الممالٌك المجلوبٌن من بطون آسٌا وشرق أوروبا.
ثم عبل نجمهم مرة أخرى وتوافدوا على مصر أٌام محمد علً ضمن الخبرات األجنبٌة التً استعان بها فً
مشروعاته ،ومنهم ٌوسؾ بوؼوص الذي صار ربٌسا لدٌوان التجارة ،وٌعقوب آرتٌن ،ورفع شؤنهم الخدٌوي
إسماعٌل بؤن جعلوا من أحدهم ،وهو نوبار ،أول ربٌس وزراء فً تارٌخ مصر الحدٌث مدعوما من برٌطانٌا
التً ساعدها فً احتبلل مصر اقتصادٌا ثم سٌاسٌا وعسكرٌا.
وخبلل الحرب العالمٌة األولى هبطت على مصر موجة جدٌدة هم الفارون من معارك العثمانلٌة ،واستقبلهم
بنو جلدتهم المقٌمٌن فً مصر وهٌؤوا لهم سبل المعٌشة ،وأكرمتهم الحكومة كبلجبٌن فً الوقت الذي كان أهل
الببلد ٌعانون من النهب المنظم والتش رد على ٌد الجٌش البرٌطانً وبقٌة الجالٌات بما فٌها األرمن القدامى ،فكان
مشهد من أسخؾ مشاهد التارٌخ ،المصرٌون ٌسوقهم الجٌش البرٌطانً كعمال سخرة ورابه فً الشام وأوروبا
والعراق لٌساعدوه فً الحرب ،ومن ٌفر من السخرة ٌتشرد من قرٌة لقرٌة ،وإذا عثر علٌه ٌحترق ظهره جلدا أو
ٌُحبس أو ٌقٌد لٌلقى به فً السخرة ،فً حٌن أهالً الببلد المشتعلة فٌها الحرب ٌؤتون لمصر وتستقبلهم الحكومة
والجالٌات مكرمٌن آمنٌن وٌنزع لهم المال من عروق المصرٌٌن باسم "تبرعات".
ورؼم هذا اإلكرام انضم أرمن إلى االحتبلل البرٌطانً فً محاولة قمع ثورة ٔ9ٔ9مقابل مكافآت مالٌة،
ألنهم كانوا ٌرون أن برٌطانٌا هً مصدر حماٌتهم وضمان بقابهم ،وأطلق بعضهم الرصاص على المتظاهرٌن
المصرٌٌن؛ فرد متظاهرون بالهجوم على محبلت ومنازل من وصفوهم بـ"ناكري الجمٌل"(ٗ.)ٔٗ9
ؼٌر أن آخرون سعوا للتخفٌؾ من حدة الوضع بإظهار التضامن مع الحركة الوطنٌة ،حتى أن بعضهم شارك
(ٖ)ٔٗ9
-مصر والحرب العالمٌة الثانٌة ،مرجع سابق ،ص ٘9ٙ -9
(ٗ)ٔٗ9
-مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن ،مرجع سابق ،ج ٕ ،ص ٕٓ9
ٕ٘٘
فً استقبال سعد زؼلول حٌن عاد من المنفى ،وأسسوا "االتحاد القومً لؤلرمن المصرٌٌن"(٘.)ٔٗ9
وكالٌونانٌٌن ،عملوا فً كل المجاالت ،من المهن البسٌطة وحتى المناصب الحكومٌة الكبٌرة،
ضخمت ثرواتهم ،ومهروا فً صناعات ،وعملوا بالسٌنما والؽناء َّ واالستحواذ على التوكٌبلت التجارٌة التً
والرقص وبٌوت الدعارة والمقار والخمور ،ونشروا أنواع جدٌدة من المخدرات كالهٌروٌٌن.
والشؽل الشاؼل لهم هو ما ٌسمونه بـ"قضٌة األرمن"( ،)ٔٗ9ٙورؼم انتهاء أزمة ببلدهم "أرمٌنٌا" منذ
سنوات طوٌلة إال أن بعضهم باقون فً مصر ،وحرٌصون على استمرار كونهم عرق مختلؾ عن
المصرٌٌن فً ثقافتهم وطرٌقة معٌشتهم وأسماءهم وٌحتفظون بلؽتهم وٌورثون هذا لؤلجٌال ،ولهم نوادٌهم،
مثل "چوچانٌان" و"هوسابٌر" ،ومدارسهم وكنابسهم ووسابل إعبلمهم الخاصة بلؽتهم مثل "أرٌؾ"
و"هوسابٌر"( ،)ٔٗ99مما ٌساهم فً تجزبة سكان مصر ووالءاتهم ،وبات ٌحسبهم البعض على المصرٌٌن
لكن كطابفة ،فٌُقال طابفة األرمن المصرٌٌن (فٌما صفة مصري الحقٌقٌة ال تقبل شرٌك بجانبها) فتتحول
مصر مع الوقت لبلد "طوابؾ وأعراق" توسع الشروخ و"البعكشة" فً الجسد المصري الواحد ،خاصة وأن
منهم من بات ٌلتحق بالجٌش كجنود بعد حصولهم على الجنسٌة المصرٌة ،فٌها والءهم باقً ألرمٌنٌا.
وٌشكو األرمن من أنهم تعرضوا إلبادة على ٌد العثمانٌٌن -وحولها جدل -وفً نفس الوقت ٌمارسون هم
جرٌمة اإلبادة للهوٌة المصرٌة ،فؤي جالٌة أجنبٌة تؤتً لمصر وتعتزم االستٌطان الدابم بها وال تصبح
مصرٌة ظاهرا وباطنا ،وتحتفظ باسم خاص بها وهوٌة ولؽة وقضٌة خاصة بها هً تساهم فً تبدٌل هوٌة
مصر وتجزبتها ،بمحو مساحة من هذه الهوٌة وتعببتها بلون وطابفة دخٌلة ،فتصبح مصر كالثوب المرقع،
مختلؾ االنتماءات ،مكون من طوابؾ متصارعة ،المصرٌون بٌنها مجرد "مكون" من "المكونات" ،وهذا
سٌظهر خطره بوضوح إذا ما سقطت الحكومة المصرٌة الخالصة ٌوما ما ،وإعادة توزٌع األدوار والمؽانم
كما حدث فً مصر أٌام االحتبلالت ،وٌحدث فً سورٌا والعراق حالٌا ،ووقتها لن تكون سقطة مصر
كالسقطات السابقة ..هذه المرة إبادة.
❻ (األتراك)
عرفت مصر األتراك ألول مرة على ٌد الخبلفة العباسٌة أٌام أحمد بن طولون ،وازدادوا كمرتزقة أٌام
العبٌدٌٌن واألٌوبٌٌن والممالٌك ،حتى احتلوا بنً عثمان مصر ،وفً عصر محمد علً وأوالده استمر
االستعانة بممالٌك أتراك وشركس حتى أٌام إسماعٌل ،وتولت العاببلت التركٌة المناصب الهامة فً الببلد
بالمشاركة مع األرمن والٌونان من الموصوفٌن بالرعاٌا العثمانلٌة.
(٘)ٔٗ9
-انظر :المرجع السابق ،ص ٗ8
()ٔٗ7ٙ
-قضٌة األرمن تتعلق بمذابح قال األرمن إن العثمانٌٌن ارتكبوها ضدهم خالل الحرب العالمٌة األولى ،ورؼم أن تارٌخ العثمانٌٌن ملا بالمذابح
ضد المصرٌٌن والشوام والعراقٌٌن أٌضا ،إال أن اهتمام األرمن بإحٌاء الحدٌث عن المذابح التً تعرضوا لها سنوٌا ،واستخدامهم لألرمن
المتواجدٌن حول العالم بمثابة شبكة عالمٌة تضؽط على حكومات الدول ال متواجدٌن فٌها لالعتراؾ بؤن ما حدث لهم جرٌمة إبادة جعل مذبحتهم هً
الظاهرة عما سواها ،وٌتخذونها وسٌلة لتعاطؾ العالم معهم ،وقبول استمرار استٌطانهم فً بالد معٌنة منها مصر ،وتوحٌد األرمن فً العالم مثلما
ٌفعل الٌهود بما ٌسمونها الهولوكوست.
()ٔٗ99
-انظر :األرمن فً مصر ،شٌري عبد المسٌح ،تحقٌق صحفً بجرٌدة "وطنً"ٕٓٔ٘ -ٗ -ٕٗ ،
ٖ٘٘
وظل هإالء فبة منفصلة عن المصرٌٌن كالماء والزٌت ،تنظر لهم بتعالً أحمق ،وتعتبر كلمة "فبلح"
شتٌمة ولٌس أنه صاحب الفضل علٌها والوحٌد صاحب األصل العرٌق فً البلد ،فٌما ٌنظر لهم الفبلح على
أنهم "ال ُؽز" األؼراب ؼبلظ األكباد ،حتى عبل نجم بعض المصرٌٌن وتقلدوا وظابؾ علٌا وأصبحوا من
ذوات األمبلك ،فكان الحكام ٌزوجونهم بتركٌات وشركسٌات لٌتطبعوا بالثقافة التركٌة وتنتقل أموالهم
لؤلتراك بالمٌراث ،وال ٌنقلون الطابع المصري الوطنً لئلدارة.
وتراجع التدفق التركً على مصر بعد عصر إسماعٌل الذي أوقؾ جلب ممالٌك جدد بعد آخر دفعة
جلبها من الشركس ،وانحسر طابع الحٌاة التركٌة فً عابلة محمد علً وعاببلت تركٌة أو مهجنة(.)ٔٗ98
ورؼم زوال االحتبلل العثمانلً عن مصر ٗٔ ٔ9إال أن العاببلت العثمانلٌة ظل لها حظوة فً مناصب
البرلمان والوزارة والجٌش حتى الثبلثٌنات بسبب احتفاظهم بالنفوذ واألراضً التً تملكوها بموجب قوانٌن
عٌلة محمد علً ،وحتى لما نصَّ دستور ٖٕ ٔ9تحت ضؽط مبدأ ثورة " ٔ9ٔ9مصر للمصرٌٌن" على أن
ٌنحصر تقلد المناصب فً المصرٌٌن ،اقتنص األتراك المناصب بحصولهم على الجنسٌة المصرٌة بالقوانٌن
المشبومة مثل عابلة أحمد زٌور باشا وعدلً ٌكن باشا وحسٌن رشدي وؼٌرهم.
وفٌما ذابت قلة منهم بٌن المصرٌٌن وصاروا منهم ،ظل آخرون -حتى اآلن -لم ٌندمجوا إال بورقة
الجنسٌةٌ ،تباهون بؤصولهم وتارٌخ وأسامً عاببلتهم التركٌة رؼم سوء سمعة هذه األصول وما جلبته على
مصر من رزاٌا وهمجٌة وسفك للدماء.
فً نفس الوقت اتجهت عاببلت تركٌة افتقرت بسبب الدٌون أو ألي سبب آخر إلى الزواج بفبلحٌن أثرٌاء
بداٌة من العمد وحتى الباشوات المصرٌٌن لبلستفادة من ثرواتهم.
وعبرت عن ذلك أفبلم مثل "ابن الحداد" لٌوسؾ وهبً (إنتاج ٗٗ )ٔ9وفٌه تزوجت أسرة تركٌة أوشكت على
اإلفبلس من مصري كوَّ ن ثروة كبٌرة من ورشة الحدادة حتى أصبح صاحب مصنع للحدٌد والصلب ،وظلت فترة
"تتعنظز" علٌه وعلى أهله بعد الزواج منه ،وأٌضا مسلسل "الشهد والدموع" للكاتب أسامة أنور عكاشة بزواج
دولت بنت العابلة التركٌة بحافظ الفبلح ألن أبٌه صار حلوانٌا ؼنٌا ،وكؤنها "صفقات" ؼٌر معلنةٌ ،ؤخذ التركً
المال والمركز مقابل أن ٌستفٌد الفبلح بالصٌت الذي كان لؤلتراك وٌفرح بكلمة "اتجوز بنت باشوات"؛ فظل
األتراك ٌكسبون من المصرٌٌن طوال الوقت ،سواء بالسبلح فً زمن االحتبلل العثمانلً أو بالزواج والجنسٌة
المصرٌة والمٌراث بعد زواله ،ولم ٌتم عقابهم على ما فعلوه بمصر من نهب وإذالل واؼتصاب وكرابٌج ومذابح.
أما إن كان المصري فقٌرا فٌرفضون أن ٌقترب منهم ،مثلما صرخ شوكت باشا (زكً رستم) فً وجه أنور
العامل الفقٌر (أنور و جدي) حٌن دافع عن زواجه من لٌلى (لٌلى مراد) حفٌدة الباشا التركً ورفض إرجاعها
لجدها ،وقال له" :دي مراتً" ،فرد الباشا بعنؾ" :اخرس ٌا كلب ،أوعى تقول الكلمة دي تانً ،إنت مٌن علشان
تتجوز لٌلى حفٌدة شوكت باشا السنجهدار بن عاصم باشا؟!" (بنت األكابر إنتاج ٖ٘.)ٔ9
()ٔٗ98
-انظر :كبار المبلك والفبلحٌن من ،ٔ9ٕ٘ -ٔ8ٖ9رءوؾ عباس وعاصم الدسوقً ،مرجع سابق ،ص ٕٓٓٔٔٓ -
ٗ٘٘
وا لمتوقع أن أبطال الفٌلم بدال من أن ٌردوا علٌه كما ورد بكبلم من عٌنة أن الناس سواسٌة واألخبلق هً
الفٌصل أن ٌكسروا ؼطرسته بقولهم" :على أساس تتكبر على المصرٌٌن ،إنت ما تعرفش مصدر الثروة اللً
بتعاٌرنا بٌها إٌه وال أجدادك جاٌٌن منٌن وعملوا فً مصر إٌه؟" ..وٌجعل الذٌن ما زالوا ٌتباهون علٌها بؤصول
أجنبٌة احتبللٌة ٌفوقوا ،فإما ٌعٌشوا مصرٌٌن ال ٌعتزون إال بمصر وفبلحها وأرضها وأصلها وأهلها ،وإما
ٌعودوا إلى الببلد التً ٌتباهون بها ،لكن خلت األفبلم المصرٌة وقتها من هذا الرد التارٌخً الذي ٌعٌد لمصر ذرة
من حقها بسبب قوانٌن رقابة السٌنما الصادرة ٔ9ٗ9ونصت على"عدم التعرٌض باأللقاب أو الرتب أو
النٌاشٌن" ،وعدم التعرٌض بالوزراء والباشوات ومن فً حكمهم ورجال القانون والدٌن واألطباء ورجال
الجٌش والبولٌس( ،)ٔٗ99وكثٌر من هإالء كانوا من عاببلت تركٌة ومملوكٌة.
وحتى الخمسٌنات ظل بعضهم متمسكا بلؽته القدٌمة وٌفضح أصلهم التركً لهجتهم(ٓ ،)ٔٗ8أما عددهم
ففً ذروة نفوذهم فً مصر لم ٌتعدَ ٖٓ ألفا من األتراك والرعاٌا العثمانٌٌن من دول أخرى.
❼ (العربان)
كلمة عربان تطلق حتى أول القرن ٕٓ على القباٌل البدوٌة والعربٌة والبربرٌة القادمة من الجزٌرة
العربٌة والشام شرقا أو من نواحً لٌبٌا ؼربا ،واحتفظوا بعاداتهم وتقالٌدهم وؼاراتهم وؼلظتهم.
وتارٌخ مصر ملا بمحاوالت الؽزو القبلً لمصر من الجهتٌن كما تابعنا فً الفصول السابقة ،وكان
الجٌش المصري ٌصدها ذات الٌمٌن وذات الٌسار ،وال تنجح فً االستٌطان على األطراؾ إال فً أوقات
الؽفلة المصرٌة القاتلة ،ثم تعود مصر لتطردها ،حتى جاء االحتبلل الٌونانً الذي أتاح لقبابل عربٌة وشامٌة
االستٌطان باطمبنان على أطراؾ الوجه القبلً قرب البحر األحمر وأطراؾ محافظة الشرقٌة لٌخدموا
حركة التجارة الدولٌة ما بٌن الهند وجزٌرة العرب والبحر المتوسط والشام.
وجاء عدد محدود من بطون القبابل مع الؽزو العربً وبعده ،وزوال الحكم العربً وتراجع سلطانهم
ذابت قلة منهم وسط المصرٌٌن فٌما ظلت البقٌة محافظة على تورٌث أصولها األجنبٌة ألبنابها لٌظلوا
منفصلٌن عن الفبلحٌن فً الروح والمكان ،وحاصدٌن للمزاٌا التً ٌوفرها المحتلون لؽٌر المصرٌٌن،
وٌستقوون على الفبلحٌن ببلطجة السبلح ،وأذاقوهم كل ألوان العذاب فً األرض والرزق والعرض ،خاصة
أٌام الممالٌك والعثمانلٌة ،وسلمتهم أسرة محمد علً أراضً والتزامات مقابل الكؾ عن السلب والنهب،
فصاروا من كبار متملكً األراضً وأصحاب سطوة فً مناطق استٌطانهم وبعضهم انخرط فً المناصب
الحكومٌة مثل عاببلت محمد سلطان وأباظة ومحمد محمود وعبد الرحمن عزام.
واختلؾ عددهم فً اإلحصاءات بحسب ظروفهم فً االستقرار أو الترحل ،وبحسب قبول الحكومة لهم
فً أوقات طردهم فً أوقات ،وقدم تعداد ٔ9ٓ9أكبر رقم لهم من مقٌمٌن ورحل ،ودار حول ٓٓٙ
()ٔٗ99
-السٌنما والدولة فً الوطن العربً" ،سمٌر فرٌد ،مرجع سابق ،ص ٔٓٙ
(ٓ)ٔٗ8
-مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن ،مرجع سابق ،ج ٖ ،ص ٗٙ
٘٘٘
ألؾ(ٔ ،)ٔٗ8وظلوا -كبقٌة األجانب -فبة خاصة لٌست محسوبة على المصرٌٌن ،وٌُدرجوا فً إحصاءات
السكان بشكل منفصل حتى نهاٌة القرن ٔ9وأوابل القرن العشرٌن(ٕ ،)ٔٗ8فبحسب قوانٌن الجنسٌة الصادرة فً
ذلك التوقٌت اعتبرهم القانون مصرٌٌن ،ونفضوا بعضهم عن كاهله البداوة والعنؾ ،وإن ظل بعضهم ٌُفاخر
بؤصوله القبلٌة األجنبٌة حتى الٌوم ،متعالٌا على الهوٌة المصرٌة العرٌقة التً فً أرضها أصبح ذا شؤن بعد حٌاة
التشرد والسطو والجاهلٌة.
❽ (الفرنسٌس)
للفرنسٌس دور حٌوي فً إرسال حمبلت الفرنجة "الصلٌبٌة" على مصر ،ورؼم فشلها ظلت شرارات
الطمع تصوب من أعٌنهم على مصر؛ فكونوا جالٌة بها مع بداٌة االحتبلل العثمانلً من عشرات التجار
تسكن حً اإلفرنج بالقاهرة والوكاالت باإلسكندرٌة ،إضافة لنشاطهم اللحوح كإرسالٌات تبشٌرٌة
(كاثولٌكٌة) ورحبلت المستشرقٌن التً قامت بدور المخابرات فً نقل أخبار مصر لبارٌس حتى ؼرست
الحملة الفرنسٌة أسنانها فً مصر ،ورؼم رحٌلها تركت أقدامها فً مصر من علماء وضباط أؼروا محمد
علً باالستعانة بهم لتنفٌذ المشارٌع التً لم ٌطل بالحملة الوقت لتنفٌذها ،فساهموا فً تحدٌث الجٌش والطب
والهندسة ونظم الري وإدخال صناعة الصحؾ ،وصبؽوا بعض عمارة القاهرة وقصورها بلونهم(ٖ.)ٔٗ8
ووصل شؽؾ الفرنسٌس أن النساء فً فرنسا بداٌة القرن ٔ9ارتدوا وزرات (قطعة قماش ملفوفة حول
الوسط) مكتوب علٌها "العودة إلى مصر"(ٗ ،)ٔٗ8ضمن الشؽؾ بالحضارة المصرٌة والرؼبة فً إعادة
االحتبلل الرومانً لها.
ورؼم أن االحتبلل العسكري لمصر بداٌة من ٕ ٔ88إنجلٌزي ،إال أن االحتبلل الثقافً كان فرنسٌا،
فالعاببلت الؽنٌة تتطبع بالحٌاة الفرنسٌة فً المبلبس وعادات الطعام والشراب وحتى الكبلم والتحٌات
(بونجور ،بنسورا ،أورٌفورا ،باردون ،مٌرسً إلخ) ،واألهم هو االنجذاب لؤلفكار التحررٌة التً نشرتها
الثورة الفرنسٌة خبلل المحافل الماسونٌة والصالونات أو بتعلم أبناء األؼنٌاء والبعثات فً جامعات فرنسا.
واهتم الفرنسٌس اهتماما خاصا باآلثار -امتدادا للنشاط الماسونً فً هذا األمر -فكثرت بعثاتهم التنقٌبٌة
وساهموا فً تؤسٌس المتحؾ المصري ،وسعوا مع اإلنجلٌز بكل الطرق لمنع سٌطرة المصرٌٌن علٌه
لٌظلوا محتكرٌن لعلم المصرٌات(٘ ،)ٔٗ8واهتمو بالتعلٌم لنشر ثقافتهم عبر مدارس الراهبات واإلرسالٌات،
وركزوا فً تجارتهم على الرهونات والبنوك واالستثمار العقاري كما فعل الٌهود والبرٌطان والٌونان
لكونها األنشطة األكثر نزحا لجٌوب المصرٌٌن ،واألسرع طرٌقا لوضع الٌد على أمبلكهم.
(ٔ)ٔٗ8
-تعداد سكان القطر المصري فً سنة ٕٖ٘ٔ ه -سنة ٔ9ٓ9م ،نظارة المالٌة ،المطبعة األمٌرٌة ،ٔ9ٓ9 ،مودع بدار الكتب
(ٕ)ٔٗ8
-كبار مبلك األراضً الزراعٌة ودورهم فً المجتمع المصري (ٗٔ ،)ٔ9ٕ٘ -ٔ9عاصم الدسوقً ،دار الثقافة الجدٌدة ،القاهرة ،ٔ99٘ ،ص
ٕ9 -ٕ8
(ٖ)ٔٗ8
-انظر :الجالٌة الفرنسٌة فً مصر (ٕ ،)ٔ9٘ٙ -ٔ88نورٌس محمد سٌؾ الدٌن ،دار الكتب والوثابق القومٌة ،ص ٕٔ -ٔ9
(ٗ)ٔٗ8
-الماسونٌة والماسون فً مصر ،ٔ9ٙٗ -ٔ998مرجع سابق ،ص ٕٗ٘
(٘)ٔٗ8
-انظر :تؤسٌس المدرسة الوطنٌة لعلم المصرٌات ،وابل إبراهٌم الدسوقً ،موقع األهرام -بوابة الحضاراتٕٓٔٙ -9 -ٖٔ ،
٘٘ٙ
وصل أكبر عدد للفرنسٌس إلى ٕٗ ٕ٘ -ألؾ شخص فً تعداد ٔ9ٕ9ثم بدأ فً التناقص كؽٌرهم(،)ٔٗ8ٙ
وجاهروا بتؤٌٌدهم لدول الحلفاء التً تضم بلدهم فرنسا ،واستؽلوا أموالهم وإعبلمهم لتنفٌذ تنفٌذ تعلٌمات
فرنسا لهم داخل مصر ،فكونوا "الفرقة الفرنسٌة المحاربة فً الشرق" ،وأنشؤت فروعا لها فً المدن
المصرٌة الكبرى( )ٔٗ89التً تحولت لساحة ملٌشٌات على جمرة ساخنة ،وكافة الجالٌات األجنبٌة مسلحة،
تنتظر ساعة الصفر لتفجر معاركها مع خصومها.
❾(اإلنجلٌز)
ظهروا كجالٌة مع االحتبلل العثمانلً معتمدٌن على االمتٌازات األجنبٌة التً أخذوها منه فً القرن ٔٙلتفتح
حركة التجارة ،ولكن ظل عددها دون العشرات لشدة المعاملة التً ٌلقونها من الممالٌك والسكان عامة ،فلم تكن
صورة اإلفرنج الؽزاة فً الحمبلت "الصلٌبٌة" ؼادرت األذهان بعد ،حتى جاء محمد علً كمكسب ؼٌر متوقع
لهم فً ترحٌبه باألوروبٌٌن ومعاقبة من ٌسًء لهم ،حتى سموه "حامً حمى األجانب ضد التعصب
األعمى"( -)ٔٗ88كعادتهم فً تفخٌم الحكام الذٌن ٌفضلونهم على أهل البلد -وبعثت إنجلترا اإلرسالٌات اإلنجلٌزٌة
البروتستانتٌة "اإلنجٌلٌة" ،ودف عت بنوك روتشٌلد وإخوانه المسٌطرة على الحكومة اإلنجلٌزٌة رجال األعمال
والمرابٌن إلى مصر للعمل فً البنوك وشراء األراضً ،ونهب اآلثار وإؼراء إسماعٌل بالمشارٌع والقروض
وتمكٌن جالٌات أخرى بعٌنها كالٌهود والشوام.
وعلى ٌد الجالٌة جرى اؼتٌال صناعات مصرٌة ممٌزة كالمنسوجات بمعاهدة "بلطة لٌمان" التً أبرمتها
إنجلترا سنة ٔ8ٖ8مع العثمانلٌة ،فمنحت المعاهدة البرٌطانٌٌن إدخال بضابعهم ولو على حساب المنتج
المصري ،والتعامل المباشر مع التجار المحلٌٌن ،وعدم دفع رسوم جمركٌة مما جعل البضابع اإلنجلٌزٌة أرخص
من المصرٌة ،ومع االحتبلل اإلنجلٌزي تملكت الجالٌة مكابس ومحالج القطن لتصدٌر منتجاته بؤرخص األسعار
لمصانع برٌطانٌا( ، )ٔٗ89وساهمت فً تحسٌن زراعة قصب السكر وإنتاج السكر وزراعة القطن ومشارٌع الري،
أما الصناعات التً تنافس االقتصاد البرٌطانً كالؽزل والنسٌج فوقفت لها بالمرصاد.
كذلك كان لهذه الجالٌة -إضافة للجالٌات األخرى -دورها الملحوظ فً نزح اآلثار المصرٌة بؤسالٌب جدٌدة
تحت اسم "البحث العلمً" إلى الخارج لتكوٌن المتاحؾ األوروبٌة الشهٌرة حالٌا ،كما سٌرد ذكره فً محله.
ورؼم قلة عددهم لكنهم أصبحوا من أكثر الجالٌات انتشارا فً ربوع مصر لكثرة أنشطتهم التجارٌة
وسٌطرتهم على المناصب الحكومٌة فً الوزارات والشركات والموانا والمدارس وتملكهم عزب وأراضً،
فانتشروا فً القاهرة واإلسكندرٌة ومدن القناة واألقصر والقلٌوبٌة ،ومعظمهم ٌعٌشٌون فً شبه عزلة ال
ٌختلطون باأل هالً إال قلٌبل؛ فالبرٌطانً ال ٌؤنس إال بؤبناء جنسه ،وٌسكنون أحٌاء خاصة تظهر فٌها الفروق
()ٔٗ8ٙ
-الجالٌة الفرنسٌة فً مصر (ٕ ،)ٔ9٘ٙ -ٔ88مرجع سابق ،ص ٕٗ
()ٔٗ89
-انظر :مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن ،محمد جبرٌل ،ج ٖ ،مرجع سابق ،ص ٓ8
()ٔٗ88
-انظر :الجالٌة البرٌطانٌة فً مصر (٘ٓ ،)ٔ88ٕ -ٔ8مرجع سابق ،ص ٘ٔ ٗ8-و٘ٙ
()ٔٗ89
-انظر :نفس المرجع ،ص 98و ٖٔ9ؤٕٔ
٘٘7
الطبقٌة بٌن أؼنٌابهم وفقرابهم ،وٌمتازون بمساعدة بعضهم فً توفٌر الفرص(ٓ.)ٔٗ9
وخبلل مقاومة المصرٌٌن للنفوذ البرٌطانً ،كما حدث فً ٔ ٔ88و ،ٔ9ٔ9سعت الصحافة البرٌطانٌة
الصادرة فً مصر مثل "إٌجٌبشٌان جازٌت" فً تضلٌل الرأي العام بوصؾ المصرٌٌن بؤنهم عنصرٌٌن،
وأن دافعهم لرفض البرٌطانٌٌن هو "التعصب الدٌنً" ،ولٌس الدافع الوطنً(ٔ ،)ٔٗ9وهً تهمة"عصرٌة"
معتادة اخترعتها أوروبا -أو محافلها "النارٌة" ضد من ٌرفض سٌطرة األجنبً.
❿ (السودانٌون)
طول التارٌخ وحتى القرن ٔ9فإن كلمة السودان ال تعنى البلد الذي نعرفه بحدوده الحالٌة جنوب مصر،
لكنه ٌعنً القباٌل السود من السودانٌٌن الحالٌٌن والحبش والزنوج واألرٌترٌٌن والصومالٌٌن وكل األفارقة
من بعد الشبلل الثانً للنٌل بعد الحدود المصرٌة الجنوبٌة.
وتطلق علٌهم المراجع التارٌخٌة األجنبٌة كلمة "السود" ،أو "العبٌد" ،وأخرى "األثٌوبٌٌن" وأخرى
توسعت فً كلمة النوبٌٌن لتشمل كل هإالء أٌضا ولٌس النوبة بمعناها الذي نعرفه كمصرٌٌن اآلن وهً
التً بٌن الشبللٌن األول والثانً.
أما مصر فسمتهم فً تارٌخها القدٌم "كاش" ،أو "كوش" وهم الشعوب التً تعٌش ما بعد الشبلل الثانً،
أما النوبة فً أسوان فسماها المصرٌون "الواوات" و"بانحسً" وهً ضمن الحدود المصرٌة ،وكان
الكوشٌون فً حالة عدوان دابم على الحدود المصرٌة بؽزواتهم اللحوحة وسبلحهم الشهٌر (السهام) ،ؼٌر
أنه فً معظم أزمنة الحكم المصري القدٌم كانت الؽلبة لنا فً ردهم خاببٌن ،ووضع سنوسرت الثالث فً
األسرة ٕٔ حدودا محصنة لمصر مع كوش عند الشبلل الثانً قرب وادي حلفا ،ولم ٌسمح لهم بتعدٌها إال
للتبادل التجاري فً سوق أسوان ثم ٌعودون لببلدهم ،وبعد تحالؾ كوش مع الهكسوس ضد مصر ؼزاهم
الجٌش المصري لٌشل حركتهم وحكمهم لمبات السنٌن اصطبؽت فٌها كوش بصبؽة مصرٌة لحد ما فً
الدٌن والثقافة والعمارة.
ولما نكبت مصر نفسها بفتح حدودها لؤلجانب وتوطٌنهم نهاٌة الدولة الحدٌثة واحتلتها قبابل شعوب البحر
المستوطنة فقدت السٌطرة على كوش التً استؽلت الصراع بٌن هذه القباٌل على عرش مصر واحتلتها فً عهد
الكوشً بعنخً ،وأزاح األشورٌون بدورهم االحتبلل الكوشً ،وعادت كوش إلى عادتها القدٌمة فً اإلؼارة من
حٌن آلخر على أسوان ،و ُتقابل بالهزٌمة فً معظم األحٌان خبلل االحتبلالت التالٌة ،وأسمت هذه االحتبلالت من
بعد االحتبلل الٌونانً كوش بـ"النوبة" ،ح تى جاء محمد علً وؼزا كوش الستجبلب المقاتلٌن والذهب وتنشٌط
التجارة ،وما كانت إال ممالك وقبابل متصارعة ولٌس بدولة كالٌوم ،وعاد إسماعٌل لؽزو السودان -رؼم الدٌون
التً ترزح تحتها مصر -وأهلك عشرات اآلالؾ من الجنود المصرٌٌن لٌكون "إمبراطور أفرٌقٌا" ،وامتدت
(ٓ)ٔٗ9
-المرجع السابق ،ص ٖٔٙ
(ٔ)ٔٗ9
-نفس المرجع ،ص ٕ98
٘٘8
فتوحات ه لتصل إلى أوؼندا ،وكل هذا (من أسوان إلى أوؼندا) أسموه "السودان" ،وباتت تحت سٌطرة مصر مإقتا
حتى احتلها اإلنجلٌز فعلٌا ومصر اسمٌا باتفاقٌة .ٔ899
وكجالٌة داخل مصر ،عرفناهم كؤعداء وأسرى حرب وتجار ودافعً الجزٌة خبلل أزمنة الحكم
المصري القدٌم ،وظهروا كعبٌد أٌام الٌونان والرومان والعرب ،ثم مرتزقة فً الجٌش أٌام ابن طولون
وكافور الحبشً ،واستكثر منهم العبٌدٌون (الفاطمٌون) كمرتزقة وعبٌد ،وعادوا لمكانة العبٌد والجواري
دون المشاركة فً الجٌش أٌام الممالٌك والعثمانلٌة ،ثم بجوار العبٌد عادوا للجٌش كمقاتلٌن أٌام محمد علً
وأوالده واإلنجلٌز.
ولم تظهر مسمٌات "أشقاء" و"إخوة" ،وأن مصر والسودان "شقٌقتان" إال أوابل القرن ٕٓ خبلل
مكافحة االحتبلل اإلنجلٌزي للبلدٌن من باب توحٌد الجهود ضد االحتبلل وحماٌة حقوق مصر فً مٌاه
النٌل -رؼم أن السودانٌٌن رأوا أن مصر بلد احتبلل كبرٌطانٌا -كما اعتزمت ثورة المهدي احتبلل مصر-
ثم ما تبع هذا من تؽلؽل خٌوط القومٌة العربٌة القادمة من الشام ،والتً اعتبرت أن كل الببلد الناطقة
بالعربٌة "أشقاء".
وبعد إلؽاء تجارة العبٌد أٌام إسماعٌل ظهر السودانٌون فً مصر كجالٌة تبحث عن فرص عمل فً البلد
الؽنً اآلمن المتساهل ،وبلػ أقصى عدد لهم فً تعداد ٔ9ٔ9حوالً ٖ9ألؾ شخص.
ظلت مصر كما هً طوال االحتبلالت كؤنها بلدٌن فً بلد واحد ،بلد مكون من أعراق متعددة ومتنافرة
األجناس والمبلمح والطباع واللؽات والمصالح ،ترفل وسط األحٌاء الؽنٌة والمبانً الشاهقة والفنادق ،من
ٌراه ٌعتقد أنه بٌن أؼنى شعوب العالم ،وبلد آخر عبارة عن أهالً ٌبدون كؤنهم من دم واحد ،روح واحدة،
مبلمح وطباع متجانسة ،ومبلبس متشابهة أشهرها الجبلبٌة الفبلحً والطاقٌة "اللبدة"ٌ ،ؽطون المساحات
الشاسعة من الرٌؾ ومن الحارات فً المدنٌ ،سمٌهم األجانب بكلمة الفبلحٌن وأوالد البلد ،وهم أنفسهم
ٌصفون أنفسهم بالفبلحٌن وال ٌعلم لها معنى إلى أنه "ابن األرض" ،ومن ٌتجول بٌنهم ٌرى معظم بٌوتهم
فقٌرة وأزقتهم الضٌقة ومعظمهم مبلبسهم رثة؛ فٌشعر كؤنه بٌن واحدة من أفقر ببلد العالم.
وشهد على ذلك فارمان المتوفً فً ٓٔ ٔ9بقوله إن الفنادق الحدٌثة الفاخرة ،وزٌادة وسابل الرفاهٌة،
وقضاء شتاء ممتع فً العاصمة أو فً الوجه القبلً ]مثل فنادق ومشتى األجانب فً أسوان[ فً مجتمع
قوامه أناس مثقفون مهذبون وضباط إنجلٌز مإدبون لما ٌخلب لب السابح الذي ٌعلم عن طرٌق العدد الوفٌر
من الكتب اإلنجلٌزٌة والتصرٌحات الشفوٌة أن هناك تؽٌرا عجٌبا فً مصر ،وهو ٌعٌد هذا القول على
مسامع أصدقابه وٌجعله أساسا لمقاالته فً الصحؾ والمجبلت والكتب ،ولكن من النادر أن ٌدخل هإالء
السابحون كوخا من أكواخ الفبلحٌن ،أو ٌدققوا البحث فً األحوال الحقٌقٌة التً تعٌش فٌها هذه
٘٘9
الطبقة(ٕ.)ٔٗ9
وقبل ذلك كانت إصبلحات إسماعٌل تترك هذا األثر فً نفس السابح حٌنما ٌرى التؽٌر العجٌب الذي
جعل الناس فً أوروبا ٌسبحون بحمده ،ولكن اإلصبلحات المدهشة التً قام بها هو وخلفاإه -بحسب تعبٌر
فارمان -لم تؽٌر حال الفبلحٌن ،فلسوؾ تجدهم إذا شبت أن تتعرؾ على أحوالهم ٌعٌشون فً نفس األكواخ،
وفً نفس البإس الذي كانوا ٌعٌشون فٌه فً سالؾ العصر ،بل وأشد.
وأرجع ذلك إلى أن نظام فرض الضراٌب الذي طبقته برٌطانٌا "كان كطاحونة تطحن بدقة ،وتحصل
على كل ما ٌمكن من الدقٌق ،وال ٌبقى لهإالء الذٌن ٌنتجون ثروة الببلد بكدهم سوى النزر الٌسٌر مما تؽله
األرض ،وال تترك لهم فرصة لزٌادة نصٌبهم ،ولذا كثٌرا ما تحدث المجاعة إذا تلؾ المحصول(ٖ.")ٔٗ9
وعن تؤثٌر هذه الجالٌات مستقببل نقرأ كلمات صالح جودت صاحب كتاب "مصر فً القرن التاسع
عشر" المنشور سنة ٗٓ" : ٔ9وال ننكر أن مصر نالت فً هذا القرن درجة من التمدن لم تسبقها إلٌها ببلد
شرقٌة ،فمدت بها الخطوط الحدٌدٌة ،فسهلت المواصبلت وشقت الترع ونظمت الشإون العمومٌة ،ولكن
بفضل مزاحمة األجنبً كان الخٌر من كل ذلك لؽٌر ساكنٌها ،وإن من ٌدرس أخبلق المصري وٌعلم ما
طبعت علٌه نفسه من التسلٌم والوداعة وحسن الظن ال ٌبعد علٌه معرفة كٌؾ تسلط األجنبً على ماله ،وكاد
ٌستؤثر بببلده فٌجعله فٌها ؼرٌبا".
وٌنهشه القلق وهو ٌشاهد لهث مصرٌٌن متعلمٌن وراء األوروبٌٌن فً لؽتهم ومبلبسهم وعٌشتهم بعد أن
سبق وقلدوا الٌونان والرومان والعرب فقال إنه ٌخشى أن ٌكون قد قُضً على مصر "بؤال تصٌر مصرٌة
أبدا"(ٗ.)ٔٗ9
إن كان الخطوة األولى التً سارع المحتلون لتنفٌذها لتطمبن قلوبهم هً تصفٌة الجٌش المصري من
جنود الثورة ،فإن الخطوة الثانٌة هً تصفٌة الشخصٌة المصرٌة نفسها من مصرٌتها ،وحشوها بعادات
وتقالٌد وأفكار دخٌلة تجعلها مسخا مضحكا ،أو بحسب أحد التعبٌرات "هلفتة الشخصٌة المصرٌة" ،بحٌث ال
تعرؾ لها شخصٌة.
إن أرض مصر الطٌبة ال تخلق الشر ..ولكن حٌن ٌؽفل حور وٌتحكم الهكسوسٌ ،هاجر إلٌها وٌرتع الشر.
(ٕ)ٔٗ9
-مصر وكٌؾ ُؼدر بها ،مرجع سابق ،،ص ٖٓ9
(ٖ)ٔٗ9
-المرجع السابق ،ص ٖٓ9ٔ- ٖ9
*** هذا شبٌه بما تقوم به وسابل إعالم وصفحات إنترنت بنشر صور الفنادق والمبانً الفاخرة واألحٌاء الؽنٌة وؼٌرها من مظاهر الحٌاة الثرٌة فً
زمن إسماعٌل أو توفٌق أو فاروق ،وٌقول للناس إن هذه هً "مصر زمان" ،وهكذا كانت "حٌاة المصرٌٌن" ،وقتها ،وٌجهل أن هذا كان معظمه
ٌتمتع به األجانب من عجم وعرب ومجنسٌن ،ولم ٌكن مسموحا لمعظم المصرٌٌن بالعٌش فٌه ،أو على األقل ؼٌر قادرٌن على ذلك.
(ٗ)ٔٗ9
-مصر فً القرن التاسع عشر ،صالح جودت ،مطبعة الشعب ،القاهرة ،ٔ9ٓٗ ،ص 8 -ٙ
(٘)ٔٗ9
-صدر فً ٕ ٔ88كتاب بعنوان "إفساد المصرٌٌن -قصة العار" ،للبرلمانً األسكتلندي سٌمور كار ،حكى قصة إفساد األوروبٌٌن لسعٌد
وإسماعٌل بتعوٌدهم على الدٌون لتسهٌل احتالل مصر ،أما إفساد المص رٌٌن الحقٌقً فهو ما سٌطلق صفارته كرومر وهدفه المصرٌٌن الحقٌقٌٌن
وشخصٌتهم ..لٌستمر احتالل مصر ولو بدون جٌش أجنبً.
ٓ٘ٙ
وطوال االحتبلالت ،من الخاسوتٌمً إلى العلوي ،تركز النزح األجنبً على الثروة والعرق والدم ،أي
فرض السٌطرة بالسٌؾ وتسخٌر المصرٌٌن فً الزراعة والبناء ،وأحٌانا نزح دماءهم بحدفهم فً حروب
ؼٌرهم.
وكونه ٌوجد حٌنها فً مصر أؼلبٌة فبلحٌة أصٌلة تتبع األرض وأقلٌة خلٌطة دخٌلة تتبع المحتل ،ترتب
على هذا أن فً مصر مدرستان:
▲المدرسة الكبرى :المدرسة المصرٌة المتربعة فً األرٌاؾ تقتات على ما ترثه من قٌم ماعت ٌنقلها
الفبلحون ألوالدهم شفهٌا باألخبلق واألفكار والتقالٌد واألؼانً واألمثال الشعبٌة الموروثة جٌبل بعد جٌل.
▼ومدرسة صؽرى :هً المدرسة الؽازٌة المتربعة فً المدن الكبرى ،لٌس لها منهج محدد ،بل ألؾ منهج
وألؾ دٌن وعقٌدة ألن لكل جالٌة منهجها.
والحظنا أنه لم ٌذهب المحتلون خبلل تلك العصور إلى المصرٌٌن فً األرٌاؾ عن عمد لتؽٌٌر شخصٌتهم،
أو تحوٌلهم إلى شًء آخر ؼٌر أنهم أوالد البلد الفبلحٌن ،ولم ٌرؼبوا فً أن ٌحولوهم إلى ٌونان أو رومان
أو عرب أو ممالٌك أو أتراك ،بل اهتم المحتلون باالنعزال عن المصرٌٌن ،واإلبقاء علٌهم فبلحٌن بصفة
"مؽلوبٌن" ،حتى فً القوانٌن واألوراق الرسمٌة كما رأٌنا فً تفرٌق القوانٌن الٌونانٌة والرومانٌة والعربٌة
واإلنجلٌزٌة إلخ فً المعاملة والتصنٌؾ بٌن الجالٌات التابعة لهذه الهوٌات وبٌن الفبلحٌن ،وإذا ما قام
الفبلحون بثورات ٌكون قمعها مادٌا ،أي بالسبلح.
وأي عادات سٌبة دخٌلة أو تقٌحات انتقلت من األجانب إلى الشخصٌة المصرٌة هً نتٌجة لؤلوقات التً
تعٌش فٌها الجالٌات األجنبٌة بجانب المصرٌٌن حٌن ٌصعب علٌها اإلقامة فً المدن مثلما فعلت القباٌل
والعربان ،أو حٌن ٌتسرب بعض المصرٌٌن للمدن ،أو ٌنالون قسطا من التعلٌم األجنبً ووظابؾ ،ولم
ٌظهر شًء منظم ٌُراد به محاصرة الهوٌة المصرٌة الفبلحٌة إال فً قرار ؼلق المعابد المصرٌة وقمع الدٌن
المصري القدٌم ،والتؽلؽل المتعمد من الطرق الصوفٌة فً الرٌؾ.
إال أنه بداٌة من االحتبلل اإلنجلٌزي أصبح إفساد الفبلحٌن سٌاسة رسمٌة ،لها كتبها ،وتقارٌرها الدورٌة
للمتابعة من المندوب البرٌطانً ،وخططها المرحلٌة ،بهدؾ تصفٌة الشخصٌة المصرٌة تماما ،بحٌث ال
ٌظل الفبلح فبلحا ،بل مسخا بواحا ..وكما قال حافظ إبراهٌم لعمٌد هذا اإلفساد كرومر:
وإذن ..لماذا لجؤ االحتبلل اإلنجلٌزي إلى اإلفساد المنظم لشخصٌة مصر؟
()ٔٗ9ٙ
-قصٌدة "مصر تشكو االحتبلل" فً دٌوان حافظ إبراهٌم ،جمع وشرح :أحمد أمٌن ،أحمد الزٌن ،إبراهٌم اإلبٌاري ،الهٌبة المصرٌة العامة
للكتاب ،القاهرة ،ٔ989 ،ص ٖٖ9
ٔ٘ٙ
فوجا اإلنجلٌز أنه برؼم ؼرق األرٌاؾ فً الجهل والخرافات والفقر المدقع واإلذالل ،ورؼم كل التقٌحات
التً نخرت جلدها من االحتبلالت ،إال أن هذا النخر لم ٌتع َّد الجلد إلى العظم والنخاع ،فظل العظم والنخاع
والروح فً سبلمة كبٌرة ،كالشجرة المباركة ،جدرها فً األرض سلٌم وعفً ،وإن اصفرت األوراق
وتشرخت الفروع الظاهرة فوق األرض لكثرة ما تعرضت له من إهمال وعطش وهواء فاسد.
وأعلنت هذه الجدور المباركة عن نفسها فً الثورة التً زلزلت العالم حقا وحكامه روتشٌلد وإخوانه ،ثورة
ٔ.ٔ88
إن أبناء إٌسة وأوزٌر ما زالوا بالمبلٌٌن لحما ودما ،هإالء الفبلحٌن ما زالوا ٌشعرون أنهم أصحاب
األرض ،وأنهم الشعب السٌد الواحد ..ما زالوا ٌحبون بعضهم بعضا حتى فوجبنا بؤنهم لما عادوا للجٌش
عاد الؽٌط والجٌش جسدا واحدا ،إنهم ما زالوا متعلقٌن باألرض وٌعرفون معنى الدٌن والوطن ،إنهم ما
زالوا رؼم كل اإلذالل لهم ٌرون فً أنفسهم شخصٌة ممٌزة حرة تستحق أن تحكم نفسها بنفسها ،عادوا
لٌقولوا مصر للمصرٌٌن ،إنه ما زالوا ٌرفضون الؽرٌب ،وما زال فٌهم الشهامة التً جعلتهم ٌضحون بما
عندهم لٌسترد لهم جٌشهم بلدهم ،إنهم ما زالوا ٌرون أنفسهم أشرؾ من محتلٌهم ،إنهم ما زالوا ٌنبضون:
تحٌة لكً ٌا عٌن حور.
معنى هذا ،أنهم سٌثورون مرات أخرى ،وستفلت مصر من االحتبلل (المسٌخ الدجال) ٌوما ،ستقلدها بقٌة
الشعوب ،وٌحفظ كل شعب أرضه من السقوط فً فخ التنظٌمات العالمٌة واإلمبراطورٌة ،وهذا لن ٌتناسب
مع خطط الحرب العالمٌة الثالثة والثورة الثالثة ،لن ٌكفً تصفٌة رجال الثورة والجٌش ،بل تصفٌة وتفرٌػ
الشخصٌة المصرٌة ذاتها ،كشوال دقٌق طاهر ٌتصفى بالتدرٌج لٌُعبؤ على مهل ..بؤي قمامة.
فاتجه النزح ،لٌس فقط إلى المال والدم والعرق ،بل لتخرٌب المدرسة المصرٌة الكبرى ...حتى النخاع،
خاصة أنه ٌصعب إبادة المصرٌٌن كبشر فً الوقت الحاضر -آنذاك -ألنه لن ٌوجد أصبر وال أمهر منهم فً
زراعة المساحات الواسعة أو التعامل مع النٌل وشبكة الري ،وتشٌٌد المبانً العمبلقة ،وال أقنع منهم فٌما
ٌخص األجر ،كما أنه كان انتهى زمن استٌراد العبٌد الستخدامهم فً العمل الشاق بعد إبادة الشعوب
األصلٌة كما جرى فً أمرٌكا وأسترالٌا.
فلٌبق المصرٌون إذن -مإقتا -مدام ٌمكن تصفٌة ما ٌُخٌؾ فً شخصٌتهم ،وتحوٌلهم إلى مجرد أحجار على َ
رقعة شطرنج ،ونستفٌد من عرقهم ودمهم ومهاراتهم ،وهو ما ٌتبع أٌضا منهج اإلفساد العالمً الذي تابعنا
خٌوطه فً خطة تنظٌم "النارٌٌن" لتسهٌل إحكام سٌطرة فبة قلٌلة على العالم.
ٌقول الدكتور سامً عزٌز بعد ؼوصه الطوٌل فً الصحافة الصادرة فً مصر عقب االحتبلل اإلنجلٌزي،
ولخصها فً كتابه "الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي" إنه بعد أن تم االحتبلل ٕ:ٔ88
"كثرت المحاوالت التً تستهدؾ خلق مجتمع جدٌد تتؽٌر فٌه القٌم المادٌة والمعنوٌة والمثل التً ٌسترشد
بها الشعب ،ال فً األوضاع السٌاسٌة فحسب ،بل فً كافة نواحً الحٌاة األخرى".
ٕ٘ٙ
وباتت الصحافة أهم أدوات هذا التؽٌٌرٌ ،واصل عزٌز" :إذ استخدمها العهد الجدٌد إلحداث "تؽٌرا فً
العقابد المذهبٌة والسٌاسٌة ،ومحاولة إحداث تؽٌرات متبلحقة فً كٌان الشعب ،وهز مقوماته التً رسخت
حتى تسهل زحزحتها ،ثم دكه بعد ذلك إلرساء مقومات أخرى جدٌدة تتفق وأهداؾ الحاكم الجدٌد
واتجاهاته"( ..)ٔٗ99أال ٌكونوا مصرٌٌن.
وصراحة تحدث كرومر( )ٔٗ98عن هذا فً كتابه "مصر الحدٌثة" ،وأنه ال ٌخشى منافسة أوروبا لبرٌطانٌا فً
مصر ،ولكن ما ٌهمه هو صنع الثقة بٌن ببلده وبٌن المصرٌٌن ،فٌقول" :كان على اإلنجلٌز مهمة كبرى هً
محاولة ربط مصر بهم ،وصبؽها بصبؽتهم أو بالصبؽة التً ترضً فٌما بعد أن تكون الببلد جزءا ال ٌتجزأ
من الدولة البرٌطانٌة ،كل هذا دون إثارة إحدى الدول ،ودون عنؾ ،ودون اتخاذ إجراءات قاسٌة ،ولكن
بهدوء وصبر وطول أناة"(.)ٔٗ99
أول ما فعله االحتبلل الجدٌد فً هذا الطرٌق هو إخراس الصحافة الوطنٌة بتصفٌتها ،وإنشاء عدد أكبر من
الصحؾ ؼٌر المصرٌة ،واستٌراد وتشجٌع الشوام والٌهود والمؽاربة واألرمن على إصدار صحؾ تعبر
عن أفكار ؼٌر مصرٌة إلؼراق السوق واألفكار بهم ،فلم ٌكن فً مصر وقتها عدد ٌكفً من المثقفٌن
المصرٌٌن المتشبعٌن باألفكار األجنبٌة المسمومة لٌنشروها.
واستدل سامً عزٌز على هذا بعدد ونوعٌة الصحؾ التً تفجرت فً زمن االحتبلل اإلنجلٌزي" :وتإٌد
هذه الفكرة كثرة عدد الصحؾ والمحبلت التً تناولت كافة نواحً النشاط البشري فهناك صحؾ للزراعة
وأخرى للطب وللعلوم والقضاء والسٌاسة واألدب ،لكن "كل منها ٌحاول تعمٌق مفاهٌم جدٌدة فً أذهان
المصرٌٌن لم ٌكن لهم بها عهد".
وفً مقابل مطاردة الصحفٌٌن المصرٌٌن -مثل عبد هللا الندٌم -وكسر أقبلمهم واالستٌبلء على أمبلكهم ،فإن
الصحؾ الشامٌة التً اضطرت لمؽادرة مصر خبلل ثورة ٔ ،ٔ88عادت بعد موقعة التل الكبٌر ،لٌسٌطروا
على الساحة ،وحصل أصحاب جرٌدة "األهرام" على ٓ ٔ8ألؾ فرنك عن مطبعتهم التً راحت فً حرٌق
اإلسكندرٌة فً حٌن أن المطبعة ال تساوي أكثر من ٓٓ٘ فرنك ..انظر للفارق ،كما حصل سلٌم النقاش
على ٓٗ ألؾ فرنك "تعوٌضا" عن احتراق المطبعة أٌضا(ٓٓ٘ٔ).
ولبلقتراب مما ٌحتوٌه قلب هذه الصحؾ وأصحابها لمصر نقترب مما حواه قلب مإسس جرٌدة "األهرام"
بشارة تقبلٌ ،قول عرابً فً خطاب منه إلى محامٌه اإلنجلٌزي برودلً عن صور اإلهانة التً تعمد
()ٔٗ99
-الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي ،مرجع سابق ،ص ٘ٙ -
()ٔٗ98
-اسمه فً األساس إٌفلن بٌرنج وعابلته من أصل ألمانً أسست بنكا فً لندن مثل عابلة روتشٌلد ،ورؼم ضعؾ كفاءته فً بداٌة حٌاته إال
أنه بالواسطة والمحسوبٌة الخاصة بعابلته تدرج فً وظابؾ دبلوماسٌة هامة فً الهند ،وانتقل لمصر لٌعمل عضوا بصندوق الدٌن المشبوم ،ثم
تولً لمدة ٖٕ سنة منصب القنصل أو المندوب البرٌطانً من ٖ ،ٔ9ٓٙ -ٔ88وؼادر مصر بضؽط من الرأي العام لدوره فً مدبحة دنشواي،
أصدر كتابه "مصر الحدٌثة" ٌمجد فٌه االحتالل اإلنجلٌزي وٌزعم أنه صاحب "فضل" على مصر وٌصؾ المصرٌٌن بـ"نكران الجمٌل" ،ألنهم ثاروا
فً وجه االحتالل (انظر :مقدمة د .أحمد زكرٌا الشلق لكتاب مصر الحدٌثة ،اللورد كرومر ،المركز القومً للترجمة ،ط ٔ ،ترجمة صبري محمد
حسن ،القاهرة ،ٕٓٔٗ ،ص )ٖ9 -ٔ9
()ٔٗ99
-الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي ،مرجع سابق ،ص ٕٕٗ
(ٓٓ٘ٔ)
-المرجع السابق ،صٓ 9نقبل عن صحٌفتً "الفبلح" ٔ ،ٔ89و"الوقابع المصرٌة" ٖٔ88
ٖ٘ٙ
الخدٌوي وأتباعه إرسالها للمصرٌٌن فً المعتقل" :وبعد ساعة ُفتح الباب ،وإذا بمحرر جرٌدة األهرام اسمه
(بشار تقله) فظننت أنه جاء لٌزورنً وٌهون علً المصاب لكونه كان معنا قبل الحرب ،وكان ٌحلؾ بدٌنه
وشرفه أنه كواحد منا ،وأنه من دعاة الحرٌة ،وكنا نجله ونكرمه ،وإذا به أتى بوقاحته لٌشمت بنا ،وقال لً
بنفور :عرابً أي شًء سوٌت ،رأٌت أي شًء صار لك ،فعلمت أنه ذو وجهٌن ،وأنه ال شرؾ له ،فلم
أجاوبه"(ٔٓ٘ٔ).
وعلم كرومر تؤثٌر الصحافة على المصرٌٌن ،سواء من ٌقرأون أو من تتلى علٌهم ما فً الصحؾ فً العٌلة
أو القرٌة أو الحارة ،فقال" :إن السواد األعظم من المصرٌٌن من أعظم الناس تصدٌقا لما ٌقال" ،وٌإرخ
الصحفً الشامً فارس نمر (من صناع القومٌة العربٌة األوابل) لصدور جرٌدة "المقطم" سنة ٔ889بؤنه
حضر من الشام مع زمٌلٌه ٌعقوب صروؾ وشاهٌن مكارٌوس (مإسس محفل اللطابؾ الماسونً) تلبٌة
لدعوة كبراء مصر (اإلنجلٌز والخدٌو) الذٌن اقترحوا علٌهم إصدار صحٌفة فً مصر ،وأنه "استدعٌت إلى
الداخلٌة فوجدت اهتماما ملحوظا وعناٌة تامة ،وطلبت اسم "المقطم" ولما سبلت عن السبب فً اختٌار هذا
االسم بالذات قلت ألنه الجبل الذي بنٌت من حجارته األهرام الثبلثة"(ٕٓ٘ٔ).
فهل كان احتفاإه ببناء األهرام أم حلما بهدم الفبلح الذي بنى األهرام؟
وهنا مبلمح سرٌعة للمجاالت التً نخر بها االحتبلل فً عضم ونخاع المصرٌٌن ،وهدم المدرسة المصرٌة
الكبرى (ماعت) ،وإدخال الفبلحٌن -ألول مرة -مدرسة المسٌخ الدجال ،ووسابله فً هذا :الصحافة،
المدارس ،السٌنما ،األحزاب ،التٌارات والمذاهب األجنبٌة ،الدمج بالجالٌات األجنبٌة.
❶ (عبادة االحتالل)
تابعنا أن تمجٌد االحتبلل ظهر فً مصر على نطاق ضٌق جدا ،أٌام االحتبلل الرومانً ،وإن كان فً
حقٌقته لٌس تمجٌدا لبلحتبلل ذاته ،بل لبعض الحكام الرومان الذٌن ساعدوا على إفساح المجال النتشار
المسٌحٌة ،حتى مجد بعض المتعلمٌن قسطنطٌن مثبل؛ فكان تمجٌدا للدٌن فً األصل ،والخطٌبة كانت الخلط
بٌن الدٌن وبٌن المحتل ،وكذلك فعلوا حٌن مجد بعضهم احتبلل مصر باسم الخبلفة اإلسبلمٌة.
أما االحتبلل اإلنجلٌزي فسٌسٌر على نظام المحافل الماسونٌة التً أتى بها نابلٌون الستقطاب والء
المصرٌٌن باسم "اإلخاء العالمً" ،وذلك بؽرس تمجٌد االحتبلل ذاته كاحتبلل -ألول مرة فً التارٌخ-
كؤجانب ٌحكمون البلد ،أٌا كان دٌنهم أو لؽتهم أو جنسهم ،بؤن ٌربط بٌن تقدم مصر وتحضرها وبٌن وجود
هذا األجنبً.
وبتعبٌر سامً عزٌز فإنه "ٌعتبر إصدار المقطم الحلقة الثالثة من حلقات إحكام الحصار حول الرأي العام
فً مصر؛ إذ كان أصحابه الثبلثة ٌصدرون مجلة "المقتطؾ" العلمٌة فً مصر منذ ٘ ،ٔ88ثم أصدر
(ٔٓ٘ٔ)
-كٌؾ دافعنا عن عرابً وصحبه ،أ.م .برودلً ،ترجمة وتحقٌق عبد الحمٌد سلٌم ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،ص ٕٗٔ
(ٕٓ٘ٔ)
-الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي ،مرجع سابق ،ص 9ٙ
ٗ٘ٙ
شاهٌن مكارٌوس مجلة "اللطابؾ" األدبٌة االتجاه عام ،ٔ88ٙثم صدر "المقطم" الذي اختص بالنواحً
السٌاسٌة" ،وجمٌعها تدعو لمحبة االحتبلل والفرنجة بٌن المصرٌٌن ،ومحاربة مبدأ مصر للمصرٌٌن.
وفً أول عدد لها عقب موقعة التل الكبٌر خرجت "المقتطؾ" لترسل تهنبة فً افتتاحٌة عدد نوفمبر ٕٔ88
على "خمود نٌران الثورة المصرٌة ،ورجوع ماء مصر إلى مجارٌها ،وانكساؾ شمس باؼٌها ،وال عجب
أن حدا إلٌها حادي العمل وأوى إلٌها طابر السبلم".
وعن سبب اختٌار هإالء الشوام الثبلثة ،وؼٌرهم من شوام جاءوا قبلهم أو بعدهم وسٌطروا على الصحافة
فً مصر ٌقول عزٌز "وقد نشؤ أصحاب المقطم فً أكبر مدرسة ؼربٌة تؤسست فً الشرق ،وهً الكلٌة
األمرٌكٌة فً بٌروت ،وعرفوا التمدٌن العصري وبرعا فً العلم الجدٌدة ،وقد اقترن فارس نمر فً ٔ888
بابنة قنصل إنجلترا السابق فً األسكندرٌة ،ثم سافر إلى لندن واجتمع فٌها بكبار السٌاسٌٌن ،وال ؼرابة إذن
فً أن ٌصؾ نمر وجود اإلنجلٌز فً مصر بؤنه "كان أكبر نعمة ،وسوؾ ٌستمر كذلك لهذا القطر"(ٖٓ٘ٔ).
وقالت عنهم صحٌفة "األستاذ" التً أصدرها عبد هللا الندٌم بعد انتهاء فترة نفٌه إن الصحفٌٌن الشوام الثبلثة:
"التزموا فً جرٌدتهم الٌومٌة تنفٌر األمة ،وتحسٌن االعتراؾ بسلطة الؽٌر" ،أي قبول االحتبلل والتخلص
من الحمٌة والؽٌرة الوطنٌة.
وال ٌجد كرومر حرجا فً أن ٌصؾ "المقطم" بؤنها "موالٌة لئلنجلٌز" ،كما قال مارتن هارتمان الذي أرَّ خ
هذه الفترة فً كتابه "الصحافة العربٌة فً مصر" إن اإلنجلٌز ٌدفعون مبلؽا ضخما من المال لـ"المقطم"،
وٌفسر هذا بقوله "فهو لسان حالهم ،وٌحاول اإلنجلٌز استخدامه فً مصر كوسٌلة إلفساد الرأي العام ،فكان
أصحابه أكبر المدافعٌن عن مصالح إنجلترا ،وال شك فً أنهم كانوا رجال أعمال من الطراز األول".
وتدفق التموٌل على أصحاب "المقطم" من الخزٌنة المصرٌة -جٌوب الفبلحٌن -من أوسع أبوابها ،فاختارت
السلطات الحاكمة مطبعة المقطم لتطبع مطبوعاتها الحكومٌة بدال من المطبعة األهلٌة ،وعلقت صحٌفة
"البسفور إجبسٌان" الصادرة فً مصر بالفرنسٌة" :وهكذا اكتشفت طرٌقة جدٌدة على حساب مصر لزٌادة
مكافؤة تلك الصحٌفة العربٌة التً تعمل جاهرة لخدمة اإلنجلٌز" ،كذلك علقت صحٌفة "الفبلح" بؤن وزارة
الداخلٌة تطبع فً مطبعة "المقطم" جرنال "وقابع البولٌس" بمبلػ ٓٓ٘ جنٌة فً السنة ،فً حٌن أنه لو طبع
فً مطبعة أخرى لم ٌكلؾ أكثر من ٓ٘ جنٌها ،كذلك اختارت حكومة االحتبلل الصحٌفة الشامٌة لطبع ما
ٌخص المحاكم ،وتحدث كرومر عن مصادر أخرى للتموٌل حٌن أشاد بؤن "المقطم" تطبع تقارٌره السنوٌة
باللؽة اإلنجلٌزٌة عن أحوال مصر وتترجمها للعربٌة والفرنسٌة وتوزعها على المشتركٌن.
ولكً تصل الصحٌفة إلى أكبر عدد فً أقصى أرٌاؾ مصر ،فإنه إضافة لكثرة مطبوعاتها واألعداد التً
تطبعها ،فإن إنجلترا خصصت لها مطبعة خاصة تصدرها فً شكل ٌسهل طٌه إلى طٌات صؽٌرة ٌسهل
حملها فً جٌوب العمد ومشاٌخ الببلد ،حتى تسمىت هذه المطبعة بـ"مطبعة حجم المقطم" ،وأصبحت
(ٖٓ٘ٔ)
-المرجع السابق ،ص ٙٙو99
٘٘ٙ
الصحٌفة المناصرة لبلحتبلل توزع ضعؾ أو ثبلثة أمثال عدد نسخ صحٌفة "المإٌد" المعادٌة لبلحتبلل
على سبٌل المثال(ٗٓ٘ٔ).
أما ما سجلته للتارٌخ واألجٌال المعاصرة لها والمقبلة -مقدمة نفسها على أنها مصرٌة وتتحدث بلسان
المصرٌٌن -خاصة أن نادرا من الناس من ٌعرؾ حقٌقة وجنسٌة من وراء الصحؾ ،وٌتصورون أن هذا
هو "كبلم المصرٌٌن المتعلمٌن المتنورٌن" فٌقلدونهم ،فإنها بررت وقوفها مع االحتبلل بقولها" :لما نال
مصر من خٌر على ٌدٌه" ،وفً ٔ889وما تبلها نشرت مقاالت منها ما عنوانه "هل مصر فً تقدم؟" لترد
بؤن مصر "تقدمت وتتقدم وهً اآلن فً تقدم ال ٌنكره إال طامع بنا أو ذو رؼبة ،كٌؾ ال ،وهً رابعة فً
ظل خدٌوٌها ووزٌرها ،وآمنة بهمة أعوانها اإلنجلٌز من كل طارق" ،وعن تحسن األحوال المالٌة قالت:
"ٌطول بنا تعداد الفوابد الجمة التً أدخلت علٌها".
ودعت لزٌادة األجانب فً القضاء المصري" :كذلك تحسنت المحاكم األهلٌة ،ولكنها تحتاج إلى زٌادة
التدقٌق فً انتقاء القضاة ،وال بد من زٌادة اإلنجلٌز عما هم علٌه اآلن" ،كذلك ما ٌخص التعلٌم:
"والضرورة تقتضً إبقاء زمام التعلٌم بؤٌدي األساتذة األوروبٌٌن" ،وفً ٓ ٔ89ؤ ٔ89وصفت ثورة
مصر بؤنها "الببلء الذي نزل بالببلد فً عام ٕ ٔ88وكٌؾ صال شٌطان الفوضى" ،مقدمة الشكر لئلنجلٌز
ألن ٌدهم "أرجعت المٌاه إلى مجارٌها ،وشٌدوا دعابم الحضارة ،فهل ُنبلم إذا شكرناهم وفاء للدٌن
الجمٌل"(٘ٓ٘ٔ) ...وبالطبع لم ٌكن هناك جمٌل لبلحتبلل إال على هذه الصحؾ وأصحابها الهكسوس.
وفً ٔ9أبرٌل ٓ ٔ89نشرت مقاال وصفه سامً عزٌز بؤنه "األشد قسوة على الشعور الوطنً" ،حول
مطالب المصرٌٌن بجبلء اإلنجلٌز ،قال فٌه أصحاب "المقطم" (صناع القومٌة العربٌة) ،أنكروا فٌه حق
المصرٌٌن فً الحرٌة التامة ،وسخرت من تارٌخهم القدٌم" :العاقل ٌرى أتباع سٌاسة المحاسنة والموادعة،
ثم ما هو االستقبلل الذي ٌبكونه والحرٌة التً ٌندبونها؟ ففً زمان أي اآلباء والجدود تمتعوا باستقبلل
وحرٌة حرموهما اآلن؟ ومتى كان زمام الببلد فً قبضة ٌدهم وسلب اآلن منهم؟ وأي شًء تؽٌر علٌهم،
وما ضرهم إذا انفردت بالنفوذ دولة واحدة بٌنهم ال سبع عشرة دولة أجنبٌة ،وأي خسارة خسروها بتقلٌد
رجال من اإلنجلٌز وظابؾ كان ٌتقلدها ؼٌرهم من سابر األجانب ،وما ضرهم وجود فرقة من الجنود
اإلنجلٌزٌة لزٌادة توطٌد األمن ،ومشاورة دولة واحدة ال مرضاة سبع عشرة دولة ،لهذا كله ال نزال نتبع
سٌاسة المحاسنة ونحض على ترك سواها ،فهً النافعة لهذا القطر والكافلة لتؤٌٌد االستقبلل".
وبعد ٗ أٌام كتبت فً صفحتها األولى "علمنا أن ما كتبناه تحت عنوان االحتبلل واالستقبلل ح َّل لدى
العقبلء محل القبول لمطابقته مصلحة الببلد وأحكام العقول" ،أما حٌن رفض المصرٌون ما جاء فٌها
وصفتهم بـ"األعداء" الذٌن حاولوا "كسر أقبلمها" ،وشكرت كرومر على دفاعه عن الصحٌفة "فحال اللورد
(ٗٓ٘ٔ)
-المرجع السابق ،ص 99 -98
(٘ٓ٘ٔ)
-نفس المرجع ،ص ٓٓٔٔٓٔ --
٘ٙٙ
كرومر بٌنهم وبٌن ما ٌشتهون"(.)ٔ٘ٓٙ
هكذا من فروا من وجه االحتبلل العثمانلً فً ببلدهم بالشام ،واخترعوا "القومٌة العربٌة" ،لٌختلقوا "قومٌة
ومجدا" لبلدهم ٌحاربون به االحتبلل العثمانلً ،جاءوا إلى مصر لٌضللوا أهلها وٌقنعوهم بـ"مزاٌا االحتبلل"
اإلنجلٌزي وضرورة القبول به ونبذ القومٌة المصرٌة األصٌلة ،مدام االحتبلل لٌس عثمانٌا.
وحاربت صحٌفة "البال مال جازٌت" مبدأ "مصر للمصرٌٌن" قابلة إنه "ال ٌصح أن تكون سٌاسة إنجلترا
مبنٌة على البلبحة الوهمٌة وهً مصر للمصرٌٌن".
فسخر ألكسان صرافٌان صحٌفة "الزمان" للدعوة لبلحتبلل ،وعلق َّ ودخل على الخط صحفٌٌن أرمن،
قسطاكً الحلبً فً كتابه "تارٌخ صدور الصحؾ"" :إن االحتبلل راق لؤلرمنً ألكسان فصدر جرٌدة
الزمان ،وصار ٌتؽنى على صفحاتها بمزاٌا هذا االحتبلل ،وٌتمناه لعاصمة بنً عثمان لراحة بنً
جنسه"( ،)ٔ٘ٓ9فاتخذ شوام وأرمن من مصر قاعدة لتصفٌة حسابات "بنً جسنهم" مع العثمانلٌة ،عبر محاربة
العثمانلٌة باعتباره "احتبلال" ،فً حٌن ٌإٌدون إنجلترا باعتبارها "نعمة لمصر".
وحتى صحٌفة "البرهان" العثمانلٌة الصادرة فً مصر حاربت "مصر للمصرٌٌن" ،لما عادت للصدور،
فكتبت فً ٖ ٔ88عن الدعوة إلى "المسالمة والتوفٌق بٌن القلوب ببل نظٌر للجنسٌة والمعتقد ،وقد جمعت
إنجلترا من جنودها ما ٌكفً لردع العصاة الذٌن تمزقت قوتهم بعد ٖٓ دقٌقة"( ،)ٔ٘ٓ8فً سخرٌة من
المصرٌٌن فً موقعة التل الكبٌر.
وٌرصد الخدٌوي عباس حلمً الثانً فً مذكراته -وكان فً بداٌة حكمه رافضا لبلحتبلل اإلنجلٌزي -أن
"الصحافة المصرٌة كانت فً تلك الفترة إلى حد ما فً أٌدي أجانب أو فرٌق من األمة ٌإثر إرضاء
مطامحه على المحافظة على مصلحة مصر".
وٌعلق حٌنها الصحفً المصري سبلمة موسى على كثرة الصحؾ األجنبٌة فً مصر بقوله" :وكان عارا
علٌنا أن ٌوكل تكوٌن الرأي العام المصري إلى أقبلم ؼٌر مصرٌة ،ؼرٌبة عنا فً المزاج ،ال ٌشؽل قلوب
أصحابها ما ٌشؽل قلوبنا من أمانً وآمال ،وكان علٌنا جمٌعا أن نقرأ كل ٌوم ما ٌكتبه لنا الصحفٌون ؼٌر
المص رٌٌن فٌما ٌجب علٌنا وما ال ٌجب أن نتبعه فً سٌاسة ببلدنا من الخطط ،وكانت الصحؾ والمجبلت
ؼٌر المصرٌة (األجنبٌة) تنساب بٌن العامة كؤنها الحٌات السامة ،وبها هذر وهذٌان وسخؾ لتسمٌم العامة
وإضعاؾ عقولها"(.)ٔ٘ٓ9
وضمن حاشٌة االحتبلل اإلنجلٌزي أو العثمانلً الصحفٌة كان مؽاربة ،منهم محمد بٌرم الخامس هرب من
تونس من وجه االحتبلل الفرنسً إلى األستانة ،ومنها جاء لٌجاهد ضد االحتبلل الفرنسً من مصر ،فكان
()ٔ٘ٓٙ
-الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي ،سامً عزٌز ،ص ٕٖٓٔٔٓ -
()ٔ٘ٓ9
-نفس المرجع ،ص ٗٓٔٔٓ٘ -
()ٔ٘ٓ8
-نفس المرجع ،ص ٔٓٙ
()ٔ٘ٓ9
-المرجع السابق ،ص ٔٔٔ ،نقبل عن كتاب سبلمة موسى "الصحافة حرفة ورسالة"
٘ٙ7
"جهاده" مناصرة االحتبلل اإلنجلٌزي باعتبار أن اإلنجلٌز أعداء فرنسا ،ولم ٌهتم بمصلحة مصر التً
"ٌجاهد" من فوق أرضها ومن خٌراتها ،وكان من أوابل من مزج الدٌن بالسٌاسة إلقناع المصرٌٌن بعبادة
االحتبلل عبر صحٌفته "األعبلم" ،وذلك بؤن دعت إلى أن أوامر الدٌن تقضً باتباع الحاكم (توفٌق التابع
لئلنجلٌز حٌنها) ،فتقول الصحٌفة" :فالخدٌو توفٌق منذ صعد منصة الخدٌوٌة كان أول خطاب له مإذن
بإجراء الحرٌة ،ومن فروعها حرٌة المطبوعات ،ولقد رأٌنا إصدار جرٌدتنا تنحو "منحى" المبلءمة بٌن
الشرٌعة والسٌاسة" ،وأنه "لذلك أسسناها لتعضٌد سٌاسة حكومتنا السنٌة".
واستدعت من التارٌخ أحداثا تخص مسلمٌن وفصلتها تفصٌبل جدٌدا لتبرر بها تؤٌٌد اإلنجلٌز ،فقالت فً
٘( ٔ88بعد ٖ سنٌن من كسر ثورة ٔ" : )ٔ88إن الرسول أمر جمعا من أصحابه وفٌهم ابنته باالحتماء
بملك الحبشة وهو نصرانً من ظلم مشركً العرب ،وأقاموا عنده مدة ،وهذا دلٌل لجواز االحتماء بؽٌر
المسلم ،وقد استدل به الفقهاء فً األفراد والعلة جارٌة فً الكل ،والحالة الراهنة شاهدة به ،فإن لم ٌكن تسلط
اإلنجلٌز الذي هو عبارة عن حراسة فقط مع بقاء األمور على مجراها كان تسلط ؼٌرهم وحالة الذٌن تحت
أٌدٌهم معلومة ولو مع أبناء ملتهم" ،وٌلقح بهذا الكبلم أن اإلنجلٌز أفضل من العثمانلٌة(ٓٔ٘ٔ).
ومن صحافة التجارة بالدٌن صحٌفتً "االعتدال" ،و"البرهان للمؽربً حمزة فتح هللا لصالح السلطان
العثمانلً ،وصب نارا على عرابً وكل المصرٌٌن فً عز احتدام المعارك مع اإلنجلٌز ،فظل ٌفسر اآلٌات
واألحادٌث بما ٌعنً أن عرابً مذنبا ،وشكا منه عرابً فً مذكراته وأورد أجزءا مما كتبه.
ثم تحولت جرٌدة "البرهان" ومعها "الزمان" العثمانٌتٌن لدعم اإلنجلٌز ضد أي حركة وطنٌة جدٌدة تتنفس
بعد االحتبلل ،داعٌة المصرٌٌن إلى االستكانة ،قالت "الزمان" فً صفحتها األولى" :االعتدال أسلم فلم تمر
بك األٌام التً تنسٌك هذه الؽصص والصروؾ التً جلبتها أعوان الحماقة" ،فً إشارة إلى ثورة ٔ،ٔ88
وطالبت "البرهان" ٖ ٔ88بتشكٌل لجنة من اإلنجلٌز والمصرٌٌن لتتبع الوطنٌٌن بعد ظهور أخبار عن
تشكل جمعٌات سرٌة تسعى الستكمال طرٌق ثورة ٔ ٔ88ضد اإلنجلٌز" :حتى ٌطهر القطر من رجس
المفسدٌن" ،كاشفة عن تخوفها من صحوة فبلحٌة جدٌدة " :فكنا قد ظننا أنه ال ٌجرأ أحد من أبناء الببلد على
هذا السعً الممقوت ؼٌر أن شواهد األحوال نبؤتنا بؽٌر ما كان فً الحسبان" ،معتبرة أن كل مصري ٌقاوم
اإلنجلٌز "خابن أثٌم".
وفً ٗ ٔ88دعت صحٌفة "الزمان" المصرٌٌن إلى النوم وترك السٌاسة لمن ٌفهم فٌها ،خصوصا أن هللا
"أرسل إنجلترا لتساعد المصرٌٌن"(ٔٔ٘ٔ):
أمر آخر مدهش جدا ،أن الٌهود والشوام المسٌحٌٌن دخلوا على خط الطرق الصوفٌة الشابع منذ االحتبلل
(ٓٔ٘ٔ)
-المرجع السابق ،ص ٕٕ٘ٔٔٙ -
(ٔٔ٘ٔ)
-نفس المرجع ،ص ٕٖٖٔٔ8 -
٘ٙ8
المملوكً فٌما ٌخص بث روح "الرضا بالظلم" ،وكراهٌة أي مال أو منصب -ولو كان قلٌبل -حتى ٌموت
أي دافع لمقاومة النهب األجنبً لثروة البلد ،فنجد الحاخام الٌهودي مزراحً صاحب جرٌدة "الحقٌقة" ٌكتب
مقاالت فً ٓ ٔ89ضد المال!" :وكم من الناس سفكوا الدماء حبا بالمال ،وكم انصرفوا بعٌدا عن األحبة
واألصدقاء طمعا فٌه ،ومحبو المال كاألسرى فً أٌدي الشٌاطٌن ،ثم إن المال ٌحمل صاحبه على الظلم"
وذلك "بعكس الفقٌر ،فهذا بالكاد ٌسند رأسه عل مخدة النوم فٌرقد مسترٌحا ،أما ذاك (الؽنً) فٌحٌا اللٌل
تابها فً بٌداء األفكار" ،ولم ٌخبر الكاتب الٌهودي القراء هل هو وبنو ملته تنازلوا عن أطنان المال
والذهب التً جمعوها فً مصر أم ال؛ لٌصبح "مرتاح البال".
بالمثل فعلت صحٌفة "المقطم" فتقول" :فالقنوع من ربَّى نفسه على الرضا والسرور ،فٌرى البهجة والحبور
فً نور الشمس وضٌاء القمر وتؤللإ الكواكب"(ٕٔ٘ٔ).ولٌسرح المصرٌون مع الكواكب بعٌدا عن سبب الكدر
األساسً وهو االحتبلل وأعوانه.
ودخلوا على خط الرواٌات فً تزوٌر التارٌخ لؤلجٌال المعاصرة والقادمة ،فكتب إسكندر شاهٌن (ابن أخ
مكارٌوس شاهٌن) رواٌة ؼرامٌة باسم "تحفة العصر أو اإلنجلٌز فً مصر" ٌعدد فٌها محاسن اإلنجلٌز فً
مصر وأشكال االرتباط بٌنهم وبٌن المصرٌٌن وتعرض لثورة ٔ ،ٔ88وخصصت وزارة المعارؾ جوابز
.
(ٖٔ٘ٔ)
على من ٌفوز من المصرٌٌن بمعرفة اللؽة اإلنجلٌزٌة
وٌصؾ سعد زؼلول -وهو أحد المشاركٌن فً ثورة ٔ -ٔ88لمحمد عبده متحسرا على االضطرابات
والتقلبات التً لعبت فً الرأي العام بعد سنٌن قلٌلة من الثورة" :الناس أخذوا فً نسٌان ما فات من الحوادث
وأهوالها ،وقلت قالتهم فٌها ،وخفت شماتة الشامتٌن منهم ،وأصبح المادحون لئلنجلٌز من القادحٌن فٌهم،
وبالعكس" ،وسعى إلصدار صحٌفة باسم "العدالة" لٌرد فٌها على مشاعر االستكانة واألكاذٌب التً تروجها
صحٌفة "المقطم" لكن اختٌاره قاضٌا أوقفه عن االستمرار.
أما محمد عبده نفسه فبعد حبسه ثم نفٌه عقابا على اشتراكه فً الثورة ،فإنه حٌن قبلت حكومة االحتبلل
عودته من المنفى اشترطت علٌه عدم العمل فً الصحافة(ٗٔ٘ٔ).
وبذلك سارت الحٌاة رتٌبة هانبة لبلحتبلل فً سنواته األولى ،حتى عاب حافظ إبراهٌم على الشباب التفاهة
وتجاهل المثل العلٌا ،مع االهتمام بالؽرٌب أكثر من أهله المصرٌٌن ،وقال فً ٗٓ:ٔ9
حب الؽربا
ضها األهل َ و ُ
بؽ ُ أمة قد َف َّ
ت فى ساعـدها
٘ٙ9
(٘ٔ٘ٔ)
أم بها صرؾ اللٌالى لعبـا ال تبالى لعب القــوم بها
وظلت الحركة الوطنٌة خافتة مطمورة تحت الرماد حتى فجرتها مرة أخرى مدبحة دنشواي.
وٌعترؾ كرومر بؤنه رؼم هذا الضؽط الصحفً لكن "الوطنٌة الحقٌقٌة استمرت حٌة طوال االحتبلل ،ولو
أن صوتها كان خافتا إلى حد كبٌر" ،وٌستدل سامً عزٌز على استمرار جذوة ثورة ٔ ٔ88وتعلق الناس
بها باستمرار اشتداد الصحؾ العربٌة والتابعة لئلنجلٌز والعثمانلٌة وفرنسا فً تحقٌر شؤن عرابً
والفبلحٌن ،فحٌن تردد أن عرابً قد ٌعود لمصر ٘ ٔ88تصدت جرٌدة "المحروسة" لصاحبها الشامً
خلٌل النقاش بنصح ملك إنجلترا" :أن ال تؤذن لزعٌم القتلة المخربٌن اآلثمٌن فً ٕ ٔ88أن ٌرجع مارا
باألسكندرٌة أو مصر فإن فً هاتٌن المدٌنتٌن نساء ورجاال وأطفاال قد فجعوا بؤفبلذ أكبادهم بسبب زعٌم
العصابة" .وقد تقصد بهإالء العاببلت األجنبٌة التً مات بعض أفرادها خبلل األحداث.
ولما ناقش مجلس العموم البرٌطانً عودة عرابً من المنفى ألن المسؤلة بٌنه وبٌن برٌطانٌا مسؤلة سٌاسٌة
انزعجت "المقطم" فً ٓ ٔ89لتقول" :هل اؼتصاب الببلد وسفك دماء العباد واهتضام الحقوق مسؤلة
سٌاسٌة"( .)ٔ٘ٔٙفاعتبرت أن عرابً والفبلحٌن "اؼتصبوا" مصر ،كؤنها تقرأ فً قاموس المسٌخ الدجال ،من
ٌحرر ببلده "مؽتصب" ،ومن ٌحتل ببلد ؼٌره بالسبلح أو بالصحافة "محرر".
وحاربت "المحروسة" القومٌة المصرٌة ،فكانت اتجاهاتها لدعم السلطان العثمانلً وفً نفس الوقت دعم
الثقافة الفرنسٌة ونشر صالوناتها( ،)ٔ٘ٔ9وٌقول الشامً فارس نمر إن "المصرٌٌن عندما ٌتحدثوا عن
االستقبلل إنما ٌعنون حالة مشابهة لما علٌه تركٌا من سوء إدارة وإرهاب وبربرٌة فً كل صورها"(،)ٔ٘ٔ8
أي ال ٌصلحون لبلستقبلل.
وكان لصحافة الشوام فً مصر ٖ أفرع :األول آداة تابعة النجلترا تدعو لبلحتبلل اإلنجلٌزي وتهاجم
السلطان العثمانلً ومنها "المقطم"" ،المقتطؾ"" ،اللطابؾ"" ،االتحاد المصري".
والثانً أداة تابعة لفرنسا تدعو للثقافة والنفوذ الفرنسً فً مصر ،وتإٌد أحٌانا السلطان العثمانلً ومنها
"المحروسة"" ،مصر"" ،التجارة"" ،األهرام".
والثالث سٌظهر فً وقت متؤخر وهو تابع للجماعات الساعٌة إلحٌاء الخبلفة اإلسبلمٌة عقب خلع السلطان
عبد الحمٌد الثانً ،ٔ9ٓ8ومنها "المنار" و"الفتح" ،وسٌكون لها دورها فً تكوٌن تنظٌم اإلخوان
المسلمٌن.
واألفرع الثبلثة ،مع محاربتهم لبعضهم ،إال أنهم متفقون على كراهٌة ثورة ٔ ٔ88ومحو "مصر
(٘ٔ٘ٔ)
-انظر المرجع السابق ،ص ٔٗٔ ،وقصٌدة "ؼادة الٌابان" فً دٌوان حافظ إبراهٌم ،مرجع سابق ،ص ٕٖٔ
()ٔ٘ٔٙ
-الصحافة المصرٌة ومواقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي ،سامً عزٌز ،ص ٖٖ٘ٔٔٙ -
()ٔ٘ٔ9
-جرٌدة المحروسة..صفحات من تارٌخ مصر السٌاسً واألدبً ،تحقٌق بجرٌدة الشرق األوسط ،العدد رقم ٓ٘ ،ٔٗٙبتارٌخ ٕٓٔ9 -ٔ -9
()ٔ٘ٔ8
-الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي ،مرجع سابق ،ص ٖٔ9
ٓ٘7
للمصرٌٌن" ،وتمزٌق الوحدانٌة المصرٌة بانتماءات مسمومة لدول ومذاهب أجنبٌة وعبادة األجنبً.
واشتعلت نٌران صحٌفة "الوطن" على عبد هللا الندٌم ألنه من المصرٌٌن القبلبل الذٌن قدموا صحافة
مصرٌة حقٌقٌة ،مع ما هو معروؾ عنه من دور جلٌل فً ثورة ٔ ،ٔ88فاعتبرته ال ٌصلح صحفٌا،
وبكبلمه عن تحرٌر مصر من اإلنجلٌز ٌتدخل فٌما ال ٌعنٌه" :وخطؤ هإالء الناس تصدٌهم مما ال ٌعنٌهم
وحشر أنفسهم فً زمرة السٌاسٌٌن( ،")ٔ٘ٔ9مع أن الندٌم من زعماء ثورة ٔ.ٔ88
ومن المإلم أن صحٌفة "الوطن" صاحبها "مصري" ،هو مٌخابٌل عبد السٌد ،وإن كان العجب ٌقل إذا علمنا
أن صاحبها خرٌج مدارس األمرٌكان التبشٌرٌة بالقاهرة ،ذات المدارس التً تخرج منها الصحفٌون الشوام
فً ببلدهم ،مدارس اإلرسالٌات التبشٌرٌة فً الشام ،وكان له صدقاته الوطٌدة بهم.
وصارت هذه الصحؾ وؼٌرها ال تذكر عرابً والفبلحٌن المتمسكٌن بالثورة إال بكلمة "العصاة"،
"الطاعون"" ،الطؽاة البؽاة"ـ "العصابة"" ،الفبة الباؼٌة"" ،األشقٌاء المفدسٌن المتمردٌن" ،وتصؾ الخدٌو
واإلنجلٌز ومن سار ورابهم بؤنهم "أصحاب المروءة" ،و"المحررٌن" ،و"المصلحٌن"(ٕٓ٘ٔ).
وخبلل تنظٌمه ألمور احتبلل مصر أوصى دوفرٌن فً تقرٌره بؤنه "ٌلزم لجعل هذه النظم مثمرة وفعالة أن
تمنح الصحافة حرٌة تامة" ،لكن حرٌة لمن؟ فعقب هذه الكلمة لقٌت الصحؾ المصرٌة حتفها واحدة وراء
األخرى كالـ"الطابؾ" ،و"المفٌد" ،و"السفٌر" ،و"النجاح" ،ومنتشٌا قال فارس نمر إن الحرٌة المعطاة
للصحافة فً مصر أوسع نطاقا من حرٌة الصحافة فً فرنسا ذاتها ،فٌما قال حسن حسنً صاحب صحٌفة
"النٌل" (صاحبها عثمانلً مإٌد لئلنجلٌز) إن "الحرٌة المعطاة لجرابدنا المصرٌة هً فوق الكفاٌة" ،وٌصؾ
الصحفٌون الشوام مصر بؤنها "مصر الحرة" ،التً اتخذها "األحرار"ٌ ،قصد الشوام "موطنا لهم" ،وأنها
انتفعت بهم كما انتفعوا بها ،وٌعلق على هذا سامً عزٌزٌ" :تبٌن أن حرٌة الصحافة فً عهد كرومر إذن
كانت أسطورة ضخمة كثر الحدٌث عنها"(ٕٔ٘ٔ).
لٌس شًء ٌربط بٌن أبناء الشعب وبٌنهم وبٌن وطنهم مثل وجود أشٌاء متماثلة بٌنهم فً الفكر واألكل
والكبلم والعادات والتقالٌد واللبس والسلوكٌات ،ألنها تصنع األلفة وشعور الوحدانٌة ،ولٌس ٌربط شعب
بؤمة أجنبٌة مثل أن تتحول هذه األشٌاء من وطنٌة إلى تقلٌد األمة األجنبٌة ،فبل ٌرى لنفسه معنى وال قٌمة
إال حٌن ٌلبس وٌؤكل وٌشرب وٌفكر وٌتكلم وٌعٌش مثلها ،حتى ٌتمسك بها تمسك الرضٌع بؤمه ،وإن كانت
احتبلال فتاكا.
ولوحظ أن الصحؾ التً أصدرها الشوام على أنها صحؾ حقوقٌة أو زراعٌة أو علمٌة أو أدبٌة تسخر هذه
()ٔ٘ٔ9
-نفس المرجع ،ص ٖٔٙ
(ٕٓ٘ٔ)
-المرجع السابق نقبل عن جولة فً "األهرام"" ،المقتطؾ"" ،المحروسة""" ،الوطن" ،وؼٌرها
(ٕٔ٘ٔ)
-نفس المرجع ،ص ٘ 99 -9وٗٔ8
ٔ٘7
المجاالت لتملٌع االحتبلل أٌضا -ولٌس فقط الصحؾ السٌاسٌة -وإؼراء المصرٌٌن بالبعد عن كل ما هو
مصري ،فمثبل "المقتطؾ" العلمٌة حٌن تصدر مقاال علمٌا عن تكوٌن الثروة فً برٌطانٌا تشٌد بطرق
برٌطانٌا فً تكوٌن الثروة وأنها قدوة لؤلمم ،ومجلة "الحقوق" القضابٌة لصاحبها شبلً شمٌل (خرٌج
مدرسة األمرٌكان ببٌروت) تكتب أن مصر "لم ترتع منذ قرون عدٌدة بما ترتع به فً األزمنة الحاضرة من
بحابح األمن والعدالة" ،وصحٌفة "اللطابؾ" األدبٌة لصاحبها شاهٌن مكارٌوس قدمت الملكة فكتورٌا -التً
تم فً عهدها احتبلل مصر -بؤن من مآثرها أنها أسست فً" الشعب اإلنجلٌزي حب االستعمار" ،وهكذا
جرى حصار الوعً المصري فً الحاضر والمستقبل فً كل االتجاهات ،ومداومة االطبلع على مثل هذا
المحتوي "ستتكون منه رواسب ترسخ بمرور الوقت حتى تصبح ٌقٌنا"(ٕٕ٘ٔ) ولٌس صعبا اختبار صحة هذا
الكبلم ،فإن طاعون تمجٌد االحتبلل الذي نراه فً كثٌر من المصرٌٌن المتعلمٌن الٌوم وإشادتهم بعصور
االحتبلالت أكبر برهان.
ومن وساٌل تكرٌه المصري فً أي شًء ٌخص الفبلح المصري ،حتى قٌمه ،هو ربط كل خلق حمٌد
بؤوروبا ولٌس بمصر ،حتى لو ٌوجد مثله أو أفضل منه فً القٌم المصرٌة ،فاهتمت صحؾ الحزب
الفرنساوي الشامٌة مثل "المحروسة" ،و"األهرام" بتسوٌق كل ما هو فرنسً فً األدب والسلوكٌات
والعادات وطرق الكبلم ،ودعت صحؾ الحزب اإلنجلٌزي كـ "المقطم" ،و"اللطابؾ" و"االتحاد المصري"
لبلقتداء بالملوك واألدباء اإلنجلٌز ،فمثبل تقول الصحٌفة األخٌرة" :ما من شًء ٌفضً إلى الملل نظٌر
ال حدٌث المكرر حتى ولو كان قابله من فطاحل الرجال ،ولو اقتدى هإالء باإلفرنج واقتصروا على إظهار
أفكارهم باختصار ألراحوا الناس" ،رؼبة فً إشعار الفبلح بؤنه متخلؾ ال نجاة له إال أن ٌكون مسخا
أوروبٌا.
وأشهر مظاهر تقلٌد المصرٌٌن -بعض المتعلمٌن -ألوروبا استسهال شرب الخمر ،القمار ،ترك الجبلبٌة
الفبلحً والتباهً بالموضة األوروبً ،استخدام التحٌات والتعبٌرات األجنبٌة ،استسهال العبلقات المحرمة
بٌن شباب وشابات وٌسمونها "شقاوة" ،أو "حٌاة عصرٌة"" ،حفبلت الرقص الؽربً"" ،تصمٌم المنازل
واختٌار أثاثها على الطراز الفرنسً واإلٌطالً ،االتجاه للزواج باألجانب ،تسمٌة األسامً األجنبٌة ،سباقات
الخٌل ،انزالق بعض المصرٌٌن إلى المذاهب الؽربٌة الدٌنٌة الوافدة كالبروتستانت والكاثولٌك ،والمذاهب
السٌاسٌة كاللٌبرالٌة الرأسمالٌة باعتبار أن الحزبٌة رؼم ما تجلبه من فرقة وخصومة هً األساس الصحٌح
لحٌاة دٌمقراطٌة ،انتعاش التفكٌر المادي ،اعتبار كل األخبلق المصرٌة "دَقة قدٌمة" ،تفضٌل اآلداب
والرواٌات األوروبٌة ،اختصار كلمة حضارة فً أوروبا ،إلخ.
وعلى حد وصؾ أحد الكتاب الفرنسٌٌن وقتها فإن "االحتبلل لن ٌؤتً بشعب جدٌد إلى مصر ،ولكنه ٌعمل
بصبر على تؽٌٌر األسس التً تقوم علٌها مقومات الشعب"(ٖٕ٘ٔ).
(ٕٕ٘ٔ)
-المرجع السابق ،ص ٕٔٔ -ٔٔٙ
(ٖٕ٘ٔ)
-الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي ،مرجع سابق ،ص ٖٕٗ
ٕ٘7
هزا قبل نفٌه األخٌر ٌقول إن تفرنج الببلد ٌمحو التقالٌدوهز قومه المصرٌٌن َّ َّ ولمس هذا عبد هللا الندٌم،
المصرٌة والعادات المصرٌة ،وٌضعؾ اإلٌمان بالخلق اإلسبلمً نفسه إلى األبد(ٕٗ٘ٔ) ،كما رصده طه حسٌن
فً كتابه "مستقبل الثقافة فً مصر" ،وأن البلد تحولت فً التعلٌم ونظام الحكم إلى النمط األوروبً" :ما
فً ذلك شك وال نزاع ،نحن كون أبناءنا فً مدارسنا األولٌة والثانوٌة والعالٌة تكوٌنا أوروبٌا ال تشوبه
شاببة"(ٕ٘٘ٔ)" ،وإن كان هذا لم ٌتع َّد األؼنٌاء والمتعلمٌن.
وصرح كرومر فً كتابه "مصر الحدٌثة" بؤن الشرط األساسً لتوظٌؾ المصرٌٌن "تشبعهم بالحضارة
األوروبٌة ،وأن ٌكونوا قد حصلوا على التعلٌم البلزم لتطبٌق النظرٌات الؽربٌة فً النظم الحكومٌة"،
وبالمثل ٌقول ألفرٌد ملنر فً كتابه "إنجلترا فً مصر" ،إن "هدؾ االحتبلل لم ٌكن نجلزة أصحاب السلطة
المصرٌٌن من ناحٌة المبادئ السٌاسٌة ،لكن كان الهدؾ نجلزتهم من الناحٌة المعنوٌة حتى ٌإدوا مهامهم
بنفس الروح التً ٌإدٌها بها الفرد اإلنجلٌزي".
وباطمبنان توقع كرومر نجاحه وهو ٌقول عن المصرٌٌن" :فهم مؽرمون بالتقلٌد" ،وأنه "طالما بقً
اإلشراؾ اإلنجلٌزي فً الببلد فإن المصرٌٌن سٌحاولون تقلٌد كل ما ٌقوم به اإلنجلٌز ،وهكذا لن تكون هنك
حاجة كبرى إلى استخدام عدد ضخم من اإلنجلٌز فً المناصب الصؽٌرة"(.)ٕٔ٘ٙ
وشعر بوطؤة هذا صبحً حمٌدة فً كتابه القٌم "فً أصول المسؤلة المصرٌة" فً األربعٌنات -أي بعد
نضج سٌاسة كرومر لحد ما -ونهض ٌحذر قومه المصرٌٌن" :وبذلك ٌتولى اإلشراؾ على أحوال مصر
على وجه العموم العناصر الفتٌة التً نالت نصٌبا من التربٌة الؽربٌة دون أن ٌكون لها حظ كبٌر من الثقافة
الشرق ٌة الصحٌحة ،وٌدفع بها التٌار الؽربً إلى أجهزة الحكم دون العناصر التً كان ٌحق للمجتمع بتكوٌنه
الزراعً الدٌنً أن ٌرسلها إلٌها (المتمسكٌن بؤنهم فبلحٌن) لو لم ٌكن هذا التٌار الؽربً بمقتضٌاته
االجتماعٌة ونفوذه السٌاسً ،والجو الؽربً الذي ٌنفذ على هذا النحو إلى حٌاتنا العامة والخاصة جمٌعا ٌدفع
بظواهرها إلى النضوج العاجل ،ولكنه ٌضعؾ فً نفس الوقت من حٌوٌتها وٌمٌل بها عن مجراها الطبٌعً،
وتصاب بالسطحٌة واالضطراب والسقوط فً التقلٌد"(.)ٕٔ٘9
وإلى جانب تسلٌم الصحافة والتعلٌم ألجانب ،اهتم اإلنجلٌز بالدفع بعدد كبٌر من الجالٌات األجنبٌة إلى مصر
باسم عمالة أو الجبٌن فارٌن من الحروب ،فارتبطوا بالمصرٌٌن جٌرانا وزمبلء عمل وفً األسواق
والمواصبلت وحولوا المحبلت إلى أوروبٌة للمنتجات األوروبٌة والسلع األوروبٌة واللبس األوروبً
واألكل األوروبً ،لنشر الذوق األوروبً فً كل أمر ،ثم تعزز هذا بالسٌنما( ،)ٕٔ٘8وتحول قلب القاهرة
"وسط البلد" بؤسامً محبلتها األجنبٌة "شٌكورٌل ،هانو ،رٌفولً ،تسٌباس ،جروبً ،إلخ" بما تحوٌه من
بضاٌع أجنبٌة وموظفٌن أجانب ،ولؽة أجنبٌة إلى قطعة من أوروبا ،حتى سخر الصحفً محمد التابعً فً
(ٕٗ٘ٔ)
-نفس المرجع ،ص ٕٕ٘
(ٕ٘٘ٔ)
-مستقبل الثقافة فً مصر ،د .طه حسٌن ،طٕ ،دار المعارؾ ،القاهرة ،ص ٔ8 -ٔٙوٖٗ
()ٕٔ٘ٙ
-الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي ،مرجع سابق ،ص ٖٕٗ
()ٕٔ٘9
-نفس المرجع ،صٕٖٕ
()ٕٔ٘8
-انظر :الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي ،مرجع سابق ،ص ٕٕ8
ٖ٘7
مقالة بمجلة "آخر ساعة" سنة ٌٕٗ ٔ9طالب بافتتاح سفارة مصرٌة فً وسط القاهرة(.)ٕٔ٘9
وعن اقتبلع الجذور قال كرومر ما ٌعنً أنه ال ٌهمه أن ٌتحول المصرٌون المسلمون إلى مسٌحٌٌن ،أو أن
ٌتحول المصرٌون المسٌحٌون األرثوذكس إلى المذهب البروتستانتً اإلنجلٌزي ،لكن المهم أن ٌتخلص من
جذور شخصٌته المصرٌة وما ٌرتبط بها من إسبلم أو مسٌحٌة ،فٌجد نفسه متقلدا للحضارة األوروبٌة،
وبمعنى أصح هدفه أن ٌكون تابعا ،وٌقول" :فالحضارة األوروبٌة تقضً على دٌن دون أن تستبدل به
ؼٌره ،فالمصري الذي قد نطلق علٌه "صاحب التفكٌر الحر" ٌجد نفسه فً خضم هابل دون مرشد أو هاد،
إنه ال ٌجد من تارٌخه الماضً وال من ظروفه الحاضرة سندا أخبلقٌا ٌعتمد علٌه ،إنه ٌرى دٌنه راؼبا عن
التجدٌد ،أما الدٌن الذي ٌقبل اإلصبلح والتجدٌد فهو دٌن آخر ،لذلك فإنه ٌتجه إلى ترك الدٌن جانبا ،وهذا
فإ نه بحرمان نفسه من عقٌدته لن ٌجد رادعا أخبلقٌا ،وفً الوقت نفسه ٌحاول تقلٌد األوروبً ،وال ٌترك هذا
المصري عقدٌته خلؾ ظهره فحسب ،بل إنه ٌترفع عنها وٌزدرٌها ،وهكذا ٌندفع مؽمض العٌنٌن بٌن
أحضان الحضارة األوروبٌة ؼٌر مدرك لحقٌقة هامة ،هً أن ما ٌراه لٌس سوى المظهر الخارجً لتلك
الحضارة ،بٌنما تستقر المعنوٌات المسٌحٌة ]البروتستانتٌة األوروبٌة[ تحت هذا المظهر وتتحكم فً
تحركاته ،وٌصعب على مقلد الحضارة األوروبٌة أن ٌحصل علٌها".
وسمى هذا النوع من المصرٌٌن بـ"المسلمٌن األحرار" ،الذٌن "تركوا ماضٌهم وتارٌخهم ،وأصبحوا ال
ٌك ترثون لشبون دٌنهم الذي ولدوا فٌه ،وال ٌهابون التصرٌح باإللحاد" ،و"اعتزم األحرار المسلمون اتخاذ
القواعد التً جرى علٌها الؽرب فً تقدمه ورقٌه واتخاذها أساس لما أنشؤوه من إصبلحات"(ٖٓ٘ٔ).
إن هذا الكبلم حرفٌا هو ما رسمته ٌد واٌزهاوبت وباٌك وبروتوكوالت تنظٌم "النارٌٌن" عن زعزعة إٌمان
الشعوب بؤصولها وحضارتها ودٌنها وقٌمها لقلع جذورها فتصبح "رٌشة فً هوا" مهزوزة وسهلة التسٌٌر
من الخارج ...هو نفس الكبلم حرفٌا.
ففً كتابه الشهٌر "أحجار على رقعة الشطرنج" ،نقل ولٌام جً كار أنه فً ٘ٔ أؼسطس ٔ ٔ89أخبر
الجنرال باٌك ناببه مازٌنً فً رسالة بعد عرض مراحل تدمٌر األدٌان والحضارات القدٌمة أنه نتٌجة لذلك
"ستكون هذه الجماهٌر بحاجة متعطشة إلى أٌة عقٌدة وإلى من تتوجه إلٌه بالعبادة ،فتبلقً عندبذ النور
الحقٌقً ..من عقٌدتنا نحن -عقٌدة النورانٌٌن الشٌطانٌة التً ستصبح ظاهرة عالمٌة ،وستقدم آنبذ وأخٌرا إلى
الجماهٌر بصورة علنٌة..وسٌكون تولد هذه الظاهرة نتٌجة لرد الفعل العام لدى الجماهٌر تتبع مباشر تدمٌر
المسٌحٌة واإللحاد معا وفً وقت واحد"(ٖٔ٘ٔ).
مصرٌون لٌسوا بمصرٌٌن ،ومسلمون لٌسوا بمسلمٌن ،ومسٌحٌون لٌسوا بمسٌحٌٌن ،حتى الملحدٌن
()ٕٔ٘9
-تطور الرأسمالٌة المصرٌة ،نخبة من الباحثٌن ،دار الكتب والوثابق القومٌة ،مرجع سابق ،ص ٕٙ
(ٖٓ٘ٔ)
-الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي ،مرجع سابق ،ص ٕٖٓ
(ٖٔ٘ٔ)
-أحجار على رقعة الشطرنج ،ولٌام جً كار ،مرجع سابق ،ص ٕٔ
ٗ٘7
سٌفاجبون بؤنهم لٌسوا بملحدٌن ..جمٌعهم بٌن قرون الشٌطان راكعٌن.
وتولت صحؾ شامٌة تطبٌق هذه السٌاسة ،فتبنت "المقتطؾ" الدعوة للتحلل من الدٌن ،وٌقول المإرخ
لصحافة ذلك العصر قسطاكً الحلبً إن "كلمة المقتطؾ قد ترجع بداهة لذهن القراء اقتطاؾ ما فٌه نفع
الناس من العلوم ،ولكن أصحاب هذه المجلة جعلوا جُل اقتطاؾ المقتطؾ على كل بدعة ظهرت على وجه
األرض بشكل أن ال تعرؾ أصل مبتدع البدعة ،كالشك فً كل شًء دون أن ٌقولوا هذه بدعة ،وكذلك
التهكم على األدٌان دون أن ٌذكروا فولتٌر وروسو وماركس وأناتول فرانس ،بل وبالنؽمة التً اعتادوا
علٌها وهً :هذا ٌقبله العقل وهذا ٌرفضه؛ تضلٌبل للبسطاء وسلٌمً النٌة ،وفً نفس الوقت ٌؽدقون المدح
فً "عظمة العظماء وجبابرة العقول" الملحدٌن وكارهً األدٌان ودعاة المجون وٌضعونهم أو ٌسلمونهم
للناس كؤنهم فبلسفة وحكماء ،وٌنشرون أقوالهم كتعالٌم أحق أن تتبع؛ فٌرددها الناس دون أن ٌعرفوا حقٌقة
أصحابها وأهدافهم ،كذلك تقدٌم هللا على أنه "ؼٌر عادل" بسبب وجود أؼنٌاء وفقراء(ٕٖ٘ٔ).
فً نفس الوقت سوقت "المقتطؾ" لنظرٌة داروٌن ،لٌس من باب الشرح واإلطبلع على علوم اآلخرٌن،
لكن من باب التسوٌق لها كؤنها دٌن وهم دعاته ،وهً نظرٌة تقوم على زرع النفعٌة واألنانٌة فً النفوس،
وكراهة األخبلق والتضحٌة ألجل اآلخرٌن ،فتقول "البقاء لؤلقوى" ،والضعٌؾ البد أن ٌضمحل ،وهو
"مذهب حٌوانً صرؾ" ،وبما أن اإلنجلٌز "أقوى األمم" ،وقد احتلوا مصر الضعٌفة فعلٌهم أن ٌتمتعوا
بخٌراتها -وعلى الشعب المصري الضعٌؾ أن ٌشكر لهم صنٌعهم وٌباشر زرع أراضٌه بكل اطمبنان(ٖٖ٘ٔ).
هً لب عقٌدة كل احتبلل ومعتدي ،أنه "صاحب الحق فً مصر ألنه صاحب حق فتحها بالسٌؾ" ،أي
بالقوة فالبقاء لؤلقوى ،وتتمم مذهب آدم سمٌث بؤن األقدر على كسب الثروة -بؤي طرٌق-فهو أحق بثروة
األمم ..فلماذا نقاوم االحتبلل إذن؟ ولماذا ال تترك الشعوب أوطانها وثرواها فً المستقبل تدٌرها حكومة
عالمٌة واحدة ..إن قدمت نفسها على أنها األقوى؟
كذلك ٌقدس مذهب دارون المادة من ناحٌة أخرى حٌن ٌقول إن الكون كله أصله المادة ،وال شًء وراء
المادة (ال إله وال جنة وال آخرة) وحتى الفكر والعاطفة مجرد مظهر من مظاهر المادة ،فبل نفس وال روح
وال دٌن وال إله ،وقدمت "المقتطؾ" المذهب فً 8صفحات ،وقالت إنه "انحاز إلٌه كافة العلماء" ،وعكؾ
شبلً شمٌل ،صحفً شامً هاجر لمصر ،على التسوٌق لكتاب داروٌن ،وحرصت الصحؾ على أن ٌكون
مذهبه أداة جدل ومناقشة ،ودعم الجهر باإللحاد ألنه "على أساس علمً".
وتقول "المقتطؾ" عن أهدافها من عرض مثل هذه النظرٌات وعن سبب تخصصها فً العلوم من أساسه:
"إن المطلع على أحوال المجبلت العلمٌة "ٌحكم بؤن أتعابها تزٌد على أرباحها ،والذٌن ٌنشبونها فً الشرق
(ٕٖ٘ٔ)
-الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي ،سامً عزٌز ،ص ٕٖٓ
(ٖٖ٘ٔ)
-انظر :نفس المرجع ،ص ٖٖٓ
٘٘7
ٌخطبون أكبر خطؤ إذا اتخذوها وسٌلة الكتساب المال ،والمقصد األول من المقتطؾ ترؼٌب القراء فً
العلوم والمعارؾ وتربٌة ذوقهم علٌها"(ٖٗ٘ٔ) ،هل ٌعنً هذا أنها لملمت ثوبها وتركت الشام إلى مصر لتعلم
المصرٌٌن النظرٌات العلمٌة حتى لو خسرت من أجلهم المال؟!
جاءت اإلجابة من الجمعٌة البرٌطانٌة الفلسفٌة (مجمع فٌكتورٌا) برسالة تمدحها فٌها وتقول" :علم مجمعنا
من المصادر الصادقة بؤعمالكم المفٌدة والفوابد العدٌدة الصادرة عن المقتطؾ فً نشر العلوم والمعارؾ
وبث روح البحث والمطالعة فً مصر خصوصا والشرق عموما ،لذلك ندعوكم إلى عضوٌة مجمعنا إذ
ؼاٌتنا االتحاد مع من ٌسعى هذا المسعى الحمٌد فً أقطار العالم"(ٖ٘٘ٔ) .فلماذا مجمع فٌكتورٌا التً احتلت
مصر فً عهدها وجلس ابنها بجانب توفٌق فً موكب "نصر الفتح اإلنجلٌزي" ،حرٌصة على "نشر
المعارؾ" فً مصر؟ وأي معارؾ هً المقصودة؟
تؤتً اإلجابة هذه المرة من كرومر وهو ٌتحدث عن إٌمانه "بؤن التقدم المادي الذي سٌنتج بعد االحتبلل
سٌكون سببا فً خلق رأي عام ٌتفاعل مع االحتبلل وٌتعاون معه فً شبون الحكم ،وٌمنع األهالً من
االتجاه نحو معادة اإلنجلٌز".
وٌشخص كرومر ببصره فً المستقبل ثم ٌعود إلى عصره مطمبنا ،ومركزا على الفبلحٌن المصرٌٌن،
مخزن الحضارة والروح الطاهرة" :األجٌال القادمة من الفبلحٌن المصرٌٌن سٌنظرون بعٌن التقدٌر إلى أن
ما ٌنالهم من خٌر هو نتٌجة للسٌاسة البرٌطانٌة فتتدفق علٌهم الخٌرات المادٌة التً تؤتً فً أثر الحضارة
األوروبٌة وتفتح أمامهم الطرٌق للتقدم المعنوي ورفع المستوى الفكري" ،وٌإكد أن هذا االعتقاد سوؾ ٌدوم
" ،وأنه "لٌس هناك أدنى شك فً أن هذه السٌاسٌة سوؾ تتحقق"(.)ٖٔ٘ٙ
ومن أول مظاهر هذا التحقق -إضافة الكتساب عادة الجدل والمنظارة ألجل المؽالبة ال المناقشة ،والتشكك
فً كل شًء -أخذ بعض المصرٌٌن ٌستبلدون بالقدٌم الذي كانوا علٌه الجدٌد الذي وصل بلدهم على أٌدي
األوروبٌٌن"؛ فالقروش القلٌلة التً استطاع بعضهم توفٌرها حٌن انتهت الضراٌب العشوابٌة الموروثة من
أٌام إسماعٌل وتوفٌق صاروا ٌدفعونها فً أنواع من األكل واألثاث والمبلبس والفسح والمطاعم لم ٌكونوا
محتاجٌن لها ،ولم تضؾ لهم شًء سوى "التلذذ بإحساس أنه ٌعٌش زي األوروبٌٌن" ،وقال عبد هللا الندٌم
فً جرٌدة "األستاذ" ٕ ٔ89محذرا من هذا الؽزو إنه" :زمن هجمت فٌه جٌوش األزٌاء والتقالٌد فانتزفت دم
ثروتنا" ،وعززت الصحؾ الشامٌة هذا اإلحساس بتلخٌص إحساس التفوق عند المصري فً اتباع العادات
األوروبٌة.
وكصدى للنظرٌات المادٌة حرصت الصحؾ التابعة لئلنجلٌز على تربٌة "روح المرتزقة" عند
المصرٌٌن ،بمعنى أ نه مدام االحتبلل ٌؤتً لً بمصلحة مادٌة فإن "األصلح" هو التمسك باالحتبلل ،بؽض
(ٖٗ٘ٔ)
-المرجع السابق ،ص ٖٖٖٓٓٗ -
(ٖ٘٘ٔ)
-نفس المرجع ،ص ٖ٘ٓ
()ٖٔ٘ٙ
-نفس المرجع ،ص ٖ٘ٓ ٖٓٙ -نقبل عن كتاب جون مارلو "تارٌخ العبلقات المصرٌة البرٌطانٌة ٓٓ)ٔ9ٖ٘ -ٔ8
٘7ٙ
النظر عن الكرامة والشرؾ واالعتماد على النفس ،فتقول "المقطم" فً ٔ ٔ89مثبل" :إذ ال ٌخفى أن أكثر
صادرات القطر المصري ترسل إلى إنجلترا ،والتجار ال ٌبعثون بحاصبلتهم إلى إنجلترا إال ألن سوقها فٌها
أحسن من ؼٌرها ،ولو حدث حادث ٌمنع إرسال الحاصبلت المصرٌة إلى ببلد اإلنجلٌز ]كثورة أو مقاومة
أو مقاطعة[ لخسرت الدٌار المصرٌة خسارة ال تقدر ،أفبل ٌلٌق بهذا القطر أن ٌحافظ على سوق ال ؼبن فٌها
وال مشقة مهما بذل من الجهد فً ذلك"(.)ٖٔ٘9
وٌرصد معاصرون مظاهر هذه الدفقة الؽزٌرة والملحة من الثقافة األجنبٌة ،أن شاع شًء آخر جدٌد جدا
هو ظهور "صراع األجٌال" ،فٌقول لوثروب ستودارد إنه فً فترة صؽٌرة جدا فإن التباٌن العقلً
واألخبلقً أخذ ٌتسع بٌن أفراد الجٌل الواحد ،وحدث سوء الفهم بٌن اآلباء واألبناء ،وتنكر األبناء آلبابهم،
واشتد التنافر بٌن القدٌم والجدٌد( ،")ٖٔ٘8فاالبن ٌرى نفسه "شاب عصري" ،وأبٌه "موضة قدٌمة".
وٌصؾ عبد الرحمن الرافعً المعاصر لهذا الوقت الحال" :وأصبح سبٌل النجاح سواء فً المناصب أو
الحٌاة االجتماعٌة هو الوالء لبلحتبلل والزراٌة بالمبادئ الوطنٌة وقلة اإلخبلص للببلد ،ودرج الناس على
هذه الحالة وألفوها ،حتى عدوها كؤنها حالة عادٌة ،وكان الخروج علٌها ضرب من السخؾ أو الجنون،
وهكذا ٌمسخ الحكم األجنبً نفسٌة األمة ،وٌفقدها الروح القومٌة والكرامة"(.)ٖٔ٘9
ورفعت صحٌفة "اآلداب" لصحابها علً ٌوسؾ صوتها برفض ما ٌجري أن األجانب "تسوروا ببلدنا،
ونصبوا لنا شباكا لٌستنزفوا ماء الثروة ،وٌمتصون عروق الحٌاة" ،وتحاول إحٌاء الؽٌرة الوطنٌة فً روح
المصري" :فٌا أٌها المؽرور المصري أخبرنً ،هل كان أولبك الناس ٌتكبدون المشاق من األماكن الشاسعة
شفقة علٌك ورؼبة فٌك لٌكسبوك درهما أو ٌمنحوك دٌنارا؟" ،وتنبه إلى أن األجانب اتخذوا من القمار
حرفة عن عمد فً مصر لكثرة أرباحها" :أحببت أن أذكر السبب الذي دفع الناس إلى ؼرس هذه الثمرة فً
أرض مصر التً أصبحت بفضل همتهم هشٌما تذروه الرٌاح" ،وٌصدق على كبلمه عبد هللا الندٌم فً
"األس تاذ" بؤنه" :لو نوفر القرشٌن اللً معانا نشتؽل بٌهم فً تجارة علشان نصبح أؼنٌاء وتفضل البلد ماسكة
حٌلها شوٌة" ،وٌعطً أمثلة على ما فعله الربا والخمر والقمار حتى فً األؼنٌاءٌ" :زرع المابة فدان وال
تراه إال مقترضا ال ٌجد من القوت إال الضروري" ،وقوبلت صحٌفة "اآلداب" بمتاعب عطلت صدورها
حتى تركها علً ٌوسؾ لٌصدر "المإٌد"(ٓٗ٘ٔ).
وٌعلق عبد هللا الندٌم ساخرا فً "األستاذ"" :وهكذا أصبحت الببلد مسرحا لجرابد كثٌرة تتكلم بما ترٌد
وتتصرؾ فً أفكارها كٌؾ تشاء ،هذه تقول أنا وطنٌة ،وهذه تدعو لئلنجلٌز أو لفرنسا ،وهذه مذبذبة ،وهذه
علمٌة ،وهذه تورد لهم من مصادرات األدٌان ما ٌوقعهم فً الشك والتردد ،وهذه دٌنٌة ،وهذه حقوقٌة ،وهذه
طبٌة ،وتركت إنجلترا للجرابد أن تخوض فً المواضٌع المتضادة ،وتلعب باألفكار الجامدة ،ونحن فً بحار
()ٖٔ٘9
-انظر :الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي ،سامً عزٌز ،مرجع سابق ،ص ٖٓ9 -ٖٓٙ
()ٖٔ٘8
-نفس المرجع ،ص ٖٓ9 -ٖٓٙنقبل عن كتاب ستودارد" :حاضر العالم اإلسبلمً" الصادر ٕٔٔ9
()ٖٔ٘9
-نفس المرجع ،ص ٔ٘ٔ
(ٓٗ٘ٔ)
-المرجع السابق ،ص ٖٖٓ -ٖٕ8
٘77
اللهو ؼارقون"(ٔٗ٘ٔ) ..وسبق أن حذر الندٌم من هذا قبل الؽزو الجدٌد(ٕٗ٘ٔ):
وصانعها ظمآن
وفرَّ ق االحتبلل تصنٌفاته على الصحافة ،فكما اعتبر الوطنٌٌن "عصاة" ،وأتباع االحتبلل "شرعٌٌن"،
صنؾ الصحؾ التابعة لبلحتبلل بـ"المعتدلٌن" ،والصحؾ المعادٌة له بـ"المتطرفٌن" ،وهو تصنٌؾ ما زال
ٌُستخدم حتى اآلن فً تصنٌؾ الوطنٌٌن وؼٌر الوطنٌٌن.
صحٌح أن مصر لو كانت حرة وقتها من أي احتبلل عسكري واستٌطانً لكانت وصلتها الرٌاح السموم
من الخارج أٌضا ،لكن صحٌح أٌضا أنه لو وصلتها وهً حرة فً قرارها ،حرة فً تشكٌل ثقافتها ،تحفظ
عهد ماعت وقٌمها ،صاحٌة لدورها فً العالم ،لكان تلقؾ هذه األفكار الجدٌدة أبناءها المخلصون أصحاب
السٌطرة على اإلعبلم والسٌنما والتعلٌم ،ووزنوها بمٌزان ماعت والقٌم المسٌحٌة واإلسبلمٌة الصافٌة،
ولتعاملوا معها معاملة من ٌتعرؾ على البضاعة الجدٌدة فٌؤخذ منها أحسنها وٌرمً الردئ -مثلما حاول
الندٌم ومحمد عبده وؼٌرهم -والحتمى المجتمع بقٌمه الخالدة ،ولكانت المضار أقل بكثٌر(ٖٗ٘ٔ).
ورؼم كل ما سبق ظل المصرٌون الحقٌقٌون ٌتكالبون على الصحؾ التً ٌرونها وطنٌة حقا ،مثل
"األستاذ" للندٌم التً كانت أحٌانا تنافس فً توزٌعها صحؾ كاألهرام والمقطم(ٗٗ٘ٔ) ،وبعد أن اشتد هجوم
الندٌم على صحٌفة "المقطم" ودورها التخرٌبً ،توعدته الصحٌفة الشامٌة بالنفً من ببلده ،وحٌنها ٌقول
الندٌم متعجبا فً ٖ ٔ89عن أصحاب "المقطم" وؼٌرها" :الذٌن صادؾ دخولهم مطرودٌن من وطنهم ؼٌبة
طبقة المنشؤٌن المصرٌٌن إذ ذاك كمحمد عبده وحسن حسنً وإبراهٌم اللقانً والهلباوي وحسن الشمسً
وأحمد سمٌر ووفا محمد وسعد زؼلول ،فما لبثوا أن كفروا بالنعمة ،وأنكروا المعروؾ ،وانحازوا للؽٌر،
وأًحبوا أعداء هللا ونبٌه والسلطان والخدٌو و ،"...أي جاءوا من الشام واستؽلوا خلو الساحة من مإسسً
الصحافة من المصرٌٌن الذٌن طاردهم اإلنجلٌز لٌفرضوا أنفسهم على الساحة المصرٌة.
فسعت الصحافة الدخٌلة للتخلص من عبد هللا الندٌم أٌضا ،وكادوا له عند كرومر ،وطلب كرومر من
الخدٌو عباس حلمً نفً الندٌم من الببلد ،وعلم الندٌم بهذا وأشار له فً العدد األخٌر من صحٌفة "األستاذ"
الذي ودع فٌه المصرٌٌن على أمل العودة لبلده مرة أخرى ،وأؼلقت صحٌفة "األستاذ" أبوابها مكلومة ،أكثر
ٌضح أحد ،لٌبقى فطرد من مصر ابنها الذي ضحى ألجلها كم لم الصحؾ تعبٌرا عن نبض الفبلح وحبا لهُ ،
ِ
(ٔٗ٘ٔ)
-نفس المرجع ،ص ٔٗ8
(ٕٗ٘ٔ)
-عبد هللا الندٌم ،صحٌة التنكٌت والتبكٌت ،العدد ،9بتارٌخ ٔ88ٔ -ٙ -9
(ٖٗ٘ٔ)
-قارن بٌن مستوى الفنون المصرٌة كالدراما وبرامج التلفزٌون والسٌنما وهً تحت سٌطرة الدولة وبٌن مستواها لما تركتها تماما لشركات
إنتاج أجنبٌة أو مشتركة أو لشخصٌات مستوردٌن للنظرٌات واألفكار األجنبٌة بال تمٌٌز.
(ٗٗ٘ٔ)
-انظر إحصابٌة توزٌع الصحؾ فً الصحافة المصرٌة وموقعها من االحتبلل اإلنجلٌزي ،مرجع سابق ،ص ٖٕٔ
٘78
ٌضح أحد ،وٌتوفى الندٌم مكمودا بعٌدا عن ببلده وٌدفن ؼرٌبا ،فٌما
ِ فٌها األجنبً ٌضحً بها كما لم
األؼراب ٌدفنون فً مصر ،وٌقدمهم مإرخون لؤلجٌال على أنهم "أصحاب الفضل والنعمة" على
المصرٌٌن فً تنشٌط الصحافة والثقافة.
اتهمت "المقطم" مرارا المصرٌٌن بالعجز عن إدارة بلدهم ،وأن هذا "العجز" ٌلزمهم باإلبقاء على
االحتبلل" :ألن مصر لم تتعلم أن تدبر أمورها بنفسها ،بل إن اإلنجلٌز ٌدٌرون مالٌتها ،وفً ٖ ،ٔ88بعد
موقعة التل الكبٌر ،خرجت صحٌفة "البرهان" لصاحبها المؽربً حمزة فتح هللا تقول" :إن إنجلترا أنفقت
نقودا عظٌمة وأراقت دماء كثٌر من رجالها ،ولٌس مقابل ذلك -كما ٌقول الجاهلون -هو توظٌؾ رجالها فً
اإلدارات والمصالح حتى تكون الببلد كؤنها ببلدهم ،كبل ،فإن توظٌؾ رجالها كؽٌرهم من رجال بقٌة الدول
لٌس إال لعدم كفاءة أبناء الببلد للقٌام بكل األعمال".
وٌقول سامً عزٌز" :وهكذا تحولت القضٌة إلى مناقشة مدى الكفاءة المصرٌة وعدم قدرة المصرٌٌن على
القٌام باألعمال والمهام ،وأًصبح الدفاع عن تعٌٌن اإلنجلٌز فً المناصب المختلفة مادة تتبارى فٌها الصحؾ
على اختبلؾ نزعاتها.
ولوحظ أنه لعدة سنوات بعد مجا اإلنجلٌز تزاٌد معدل الجرابم فً مصر بشدة ،وركزت صحؾ اإلنجلٌز
مثل "المقطم" على نشر الحوادث بشكل شبه ٌومً ،وتحدثت فً ٔ ٔ89عن "عجز المصرٌٌن عن ردع
المعتدٌن واللصوص" ،وأسهبت فً نشر شكاوى الناس من اختبلل األمن ،وبذلك مهدت السبٌل إلى اعتناق
بعض األهالً فكرة االستعانة باألجانب إلعادة األمن العام ،وتؤكد هذا حٌن هللت "المقطم" لتعٌٌن كتشنر
مفتشا عاما للبولٌس فً مصر ،وتقافزت سطورها من الفرحة لتقول" :هذا أهم ما ٌتحدث به الناس فً هذه
األٌام ،فهو الذي سٌجدد نظام البولٌس وٌؽٌر ترتٌبه وٌدبر أموره على خٌر وجه" ومؤلت ذات العدد بؤعمدة
تتكلم عن خصاله وكفاءته ،داعٌة إلى أال ٌتعجل الناس النتابج ،بل أن ٌبقى كتشنر فً منصبه سنٌن حتى
ٌؤخذ فرصته فً إعادة األمن(٘ٗ٘ٔ).
ولم ٌهتم فارس نمر صاحب "المقطم" بإبراز ضٌق المصرٌٌن من تحكم األجانب فً وظاٌؾ البلد وأخذ
مرتبات أضعاؾ مرتبات المصرٌٌن ،بل ٌقول"" :الجانب األعظم من المصرٌٌن إذا لم نقل كلهم راض
بنتابج األعمال التً تمت فً مصر منذ االحتبلل اإلنجلٌزي".
(٘ٗ٘ٔ)
-الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي ،مرجع سابق ،ص ٕٗ9 -ٕٗ9
٘79
عن أي مصرٌٌن ٌتحدث الشامً فارس نمر؟ ذاك الذي جاء لمصر طرٌدا لٌتمتع باالحتبلل وٌتملك بجانب
الصحؾ مبات األفدنة من أرض المصرٌٌن بتسهٌبلت من االحتبلل ،منها ٕٓ9فدان فً المنٌا اشتراهم
دفعة واحدة سنة ٔ898من أراضً الداٌرة السنٌة (التً كان ٌتملكها إسماعٌل وبٌعت لسداد الدٌون) ،وهً
أساسا أراضً الفبلحٌن التً استولى علٌها الخدٌوي بكل أنواع القهر.
()ٔ٘ٗٙ
وعبر عن زور ما ٌقوله فارس نمر شاعر النٌل حافظ إبراهٌم فً رواٌته "لٌالً سطٌح" ،مسجبل ضٌق
المصرٌٌن من الهجمة الشامٌة على ببلدهم ،فٌقول إنه "تخطى أهالً الشام العمل فً الصحافة فً مصر
إلى التجارة ثم إلى المناصب الحكومٌة؛ فضٌقوا الباب أمام الناشبة المصرٌة وهً الراؼبة فً ذلك العمل
تصرؾ إلٌه همها وتقؾ علٌه علمها"( ،)ٔ٘ٗ9ولٌس ذلك لمهارة زابدة عند الشوام ،فلم ٌقدم أحدهم ما قدمه
رفاعة الطهطاوي وعبد هللا الندٌم ومحمد عبده وأحمد حلمً وطه حسٌن وعباس العقاد وؼٌرهم من صحافة
وثقافة تقوي عزم مصر ،وتقوي اإلنسان فً وجه الشٌطان ،وإنما سٌطروا ألنه توفر لهم فرص وتموٌل
سخً من حكومة االحتبلل والسفارات األجنبٌة ،بخبلؾ اشتؽال بعضهم بالربا وتجارة األراضً ،وما قدمته
لهم اإلرسالٌات األجنبٌة من تدرٌب.
وساعد كرومر فً التسوٌق لـ"شطارة" الشوام ،مقابل تحقٌره لكفاءة المصرٌٌن ،وذلك أنه لما أراد
إسماعٌل تحوٌل مصر لـ"قطعة من أوروبا" ،وتلبٌسها البرنٌطة اشتد الطلب على موظفٌن ٌتقنون اللؽة
الفرنسٌة إلى جانب العربٌة ألن معظم أعمال اإلدارة بالفرنسٌة ،فٌقول كرومر" :ولم ٌكن هناك كبٌر أمل
فً قٌام المصرٌٌن المسلمٌن أو األقباط بذلك ،ومن ثم اشتدت الحاجة إلى العنصر السوري ،وكانت فرصة
اهتبلها أهل الشام ،فهم ٌملكون كل ما تستلزمه اإلدارة فً مصر :إتقان العربٌة والفرنسٌة وشؽؾ بالعمل
والطموح" ،و"عندما استولى اإلنجلٌز على شبون اإلدارة فً مصر واتت الظروؾ السورٌٌن مرة أخرى،
فاإلنجلٌز ٌجهلون اللؽة العربٌة ،وال ٌعرفون سوى القلٌل من الفرنسٌة ،ولم تكن هناك فابدة كبرى ترجى
من وراء استخدام مسلمً مصر وأقباطها ،وهكذا لم ٌكن هناك سوى السورٌٌن الذٌن كانوا فً نظر
اإلنجلٌز أرقى من المصرٌٌن سواء منهم من أخذ بالتمدن أم لم ٌؤخذ" ،وكان للسورٌٌن دورهم فً تثبٌت
االحتبلل فً بداٌته بحسب كرومر أٌضا" :وعلى أٌة حال فقد خدم السورٌون فً اإلدارة المصرٌة تحت
اإلشراؾ اإلنجلٌز وكان لذلك نتابج طٌبة وخاصة فً بداٌة االحتبلل"(.)ٔ٘ٗ8
وتسبب هذا فً النفور بٌن المثقفٌن المصرٌٌن والسورٌٌن ،وبررت صحٌفة "االتحاد المصري" التً
أسسها لبنانٌون للشوام التدخل فً شبون مصر بؤنهم أول من أسسوا الجرابد العربٌة (كانت الصحافة فً
مصر موجودة على ٌد رفاعة الطهطاوي وؼٌره قبل أن ٌؤتٌها الشوام) وردت على جرٌدة "المإٌد"" :ألن
صاحبه ٌعٌرنا بلبنانٌ ،عٌرنا بجبل رفٌع الشؤن فً التارٌخ ،أتعامى عن أن اللبنانٌٌن هم السابقون على إنشاء
()ٔ٘ٗٙ
-راجع جدول ٌضم أسماء الشخصٌات التً اشترت أراضً الداٌرة السنٌة بالتقسٌط ،وكثٌر منهم أتراك وشركس وألبان وشوام وٌهود
ووعربان وأرمن إلخ فً :تطور ملكٌة األرض الزراعٌة ٖٔ ٔ9ٔٗ -ٔ8وأثره على الحٌاة السٌاسٌة ،د .علً بركات ،دار الثقافة الجدٌدة،
القاهرة ،ص ٗ7ٙ
()ٔ٘ٗ9
-انظر :الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي ،مرجع سابق ،ص ٕٔ٘ و٘ٓٔ
()ٔ٘ٗ8
-نفس المرجع ،ص ٔٓ9 -ٔٓٙ
ٓ٘8
الجرابد العربٌة ومنها النجاح والمقتطؾ واألهرام والطبٌب والشفاء والمقطم واللطابؾ والحقوق
والمحروسة ،فؤصحابها من أهالً لبنان"( ،)ٔ٘ٗ9فاستخدمت الصحٌفة سبلح الدعاٌة وتزوٌر التارٌخ ،فقدمت
نفسها كـ"أصحاب فضل" ،متجاهلة أن معظم الصحؾ الشامٌة تعمل فً مصر إما لصالح إنجلترا أو فرنسا،
وتنفق على نفسها ببذخ من الخزٌنة المصرٌة ،ومن دعم االحتبلل ..أي تستحق معاملة المحتل الؽاصب.
وإلخفاء صفة المحتل الؽاصب عن نفسها ،ردت أٌضا الصحٌفة على من ٌرفض تدخلهم فً الشؤن
المصري بتمٌٌع معنى الوطنٌة ،والضرب فً "مصر للمصرٌٌن" ،بتمٌٌع كلمة المصرٌٌن نفسها لتشمل كل
األجناس الخاضعة لبلحتبلل العثمانلً -رؼم كراهة الكثٌر من الشوام لبلحتبلل العثمانلً.
فٌقول صاحب "االتحاد المصري" سنة ٓ" :ٔ89وتعرٌفات الوطنٌة كلها تنطبق على حالة المصرٌٌن
والسورٌٌن؛ فهً تتناول كل فرد من أفراد الرعٌة على شرط أن ٌكون خاضعا لشرابع الدولة ،وهل
السوري واألرمنً وؼٌرهم من العثمانٌٌن ٌعتبرون أنفسهم ؼرباء والحكومة عثمانٌة أم ٌعدون أنفسهم
عثمانٌٌن والحكومة أجنبٌة ،وإذا أرٌد االقتصاد على القانون العثمانً كان لجمٌع السورٌٌن المقٌمٌن فً
مصر حق الظهور لدى الحكومة بمظهر المصرٌٌن جنسا وواجبا وحقا" ،ثم أوردت أقوال القانون الدولً
فً الوطنٌة والجنسٌة لتؤٌٌد رأٌها ..وهنا لجؤت لحجة أنهم تبع "الرعٌة العثمانلٌة" لتبرٌر أن ٌتحكموا فً
مصر كؤنهم "مصرٌٌن" ،وبعد سقوط السلطنة العثمانلٌة ستظهر كتابات شامٌة تبرر هذا بـ"القومٌة
العربٌة".
وحٌن أصدر رٌاض فً ٓ ٔ89قرارا بوقؾ توظٌؾ الشوام فً الحكومة ،تدخل كرومر وأصدر أمرا
للوزارة بؤنه" :طالما كان هناك جندي برٌطانً واحد فً شوارع القاهرة فلن ٌصدر قرار ٌفرق بٌن الناس
على أساس الجنسٌة أو الدٌن"؛ فرفعت الصحٌفة آٌات الشكر إلى السٌر بارنج (كرومر) "بلسان المصرٌٌن
والسورٌٌن واجب الشكر (فهو) صاحب الفضل الذي ال ٌعبؤ بتفاوقت المذاهب واختبلؾ المشارب ،بل
ٌقابلها بكرامة الطبع واستقبلل الضمٌر ،وشهد هللا أن السورٌٌن كإخوانهم المصرٌٌن ال ٌنكرون منافع
اإلصبلح الظاهرة على ٌدٌه ،وال ٌملون من توجٌه الثناء إلٌه ،ومصر فً نظر اإلنجلٌز بلد أراقوا فً
نجاتها من الفوضى الدماء ،وكانت لدٌهم بعد متاعبهم ؼالٌة ال ٌهون علٌهم أن ٌخرجوا منها لمجرد طلب
لدولة ؼرٌبة قبل أن ٌتموا مشروعاتهم ووقاٌة مصالحهم"(ٓ٘٘ٔ) .فتحدثوا من جدٌد باسم المصرٌٌن.
ثم صدر القانون فً نفس السنة -ٔ89ٓ -بمنح السوري الذي عاش فً مصر ٘ٔ سنة الحق فً التوظؾ
لدى حكومة مصر(ٔ٘٘ٔ) ،وبعدها بسنٌن قلٌلة أخذوا فً قانون الجنسٌة سًء السمعة فً حمل الجنسٌة
المصرٌة باعتبارهم من الرعٌة العثمانلٌة ،وذلك فً أول قانون للجنسٌة المصرٌة.
وأراحت "المقطم" المصرٌٌن من عناء الحلم بإدارة ببلدهم والمناصب الكبٌرة ،بؤن تقول لهم إنهم ال
()ٔ٘ٗ9
-نفس المرجع ،ص ٔٓ8
(ٓ٘٘ٔ)
-المرجع السابق ،ص ٔٓ9 -ٔٓ8
(ٔ٘٘ٔ)
-نفس المرجع
ٔ٘8
ٌستحقون وال ٌصلحون إلدارة بلدهم قبل "مرور أٌام طوٌلة وتوالً األعقاب؛ لذلك فإن إعداد األمة ال ٌتم
فً زمان قصٌر بل ال بد له من زمان كاؾ ،وهذا لٌس من أقوال اإلنجلٌز ،بل هو مبنً على أقوال علماء
مشهورٌن من المصرٌٌن ،واإلٌطالٌٌن والفرنسٌٌن"(ٕ٘٘ٔ).
بالتزامن كان ٌجري تفلٌس وتطفٌش المصرٌٌن أصحاب ورش ومحبلت وإجبارهم على إؼبلقها بشكل
مباشر أو ؼٌر مباشر لتنفسح الساحة للمستوطنٌن األجانب ،فإلى جانب إؼبلقها ألن بعضهم عاجز عن دفع
الضراٌب– الؽٌر ملتزم بها األجنبً مما ٌتٌح له فرصة منافسة المصري فً األسعار -فإن قدرة الشركات
األجنبٌة على تسوٌق منتجاتها عبر الصحؾ التً تملكها أو تملك دفع مبالػ اإلعبلنات الباهظة فٌها لتلمٌع
منتجاتها كان له دور أٌضا فً المنافسة.
ٌقول المإرخ االقتصادي شارل عٌساوي فً ٔ9ٗ9إن هجرة الفنٌٌن والعمال األجانب إلى مصر أدت-
مع الكساد -إلى اختفاء ؼالبٌة الصناعات المحلٌة بسبب المنافسة األجنبٌة(ٖ٘٘ٔ) ،وتلقى الحرفٌون المصرٌون
الفقراء ضربة شدٌدة عندما توافد الحرفٌون األجانب (ترزٌة -ساعاتٌة -صناع أحذٌة إلخ)(ٗ٘٘ٔ) المحمٌٌن
بقناصلهم ،وجذبهم للزباٌن بما شاع وقتها من تسوٌق للبضاٌع والصناٌع األجنبٌة.
وألن الجٌل -أي الجٌل الذي حضر ثورة ٔ -ٔ88ما زال فٌه الرمق والوطنٌة وكراهٌة اإلنجلٌز ،فإن
"المقطم" واإلنجلٌز من وراءها نشرت فً ٓ ٔ89مقالة تؤمل أن ٌطول االحتبلل حتى ٌنتهً هذا الجٌل
وٌؤتً الجٌل القادم على اساس تربٌة إنجلٌزي ومحبة لبلحتبلل" :ال ٌوافق مصلحة إنجلترا أن تترك لهم
الببلد حتى ٌمضً هذا الجٌل ،وٌقوم بعده جٌل آخر رُبً على الثقة باإلنجلٌز ،واعتبار أعمالهم لٌحفظ لهم
عهد الوالء ،وٌقٌم على وداد منهم متى ؼادروا الببلد"(٘٘٘ٔ).
وٌرسم الشامً فارس نمر لئلنجلٌز سٌاسة لتربٌة النشء المصري لٌتربى موالٌا لئلنجلٌز واألجانب بعد
انتهاء الجٌل الحالً ،بدال من اإلقصاء التام للمصرٌٌن عن الوظابؾ الذي طالبت به أصوات أخرى؛ فٌحث
اإلنجلٌز على دراسة أخبلق وشخصٌة المصرٌٌن وعواٌدهم و"أن ٌعاملوهم وٌقدروهم حق قدرهم فٌكسبون
حبهم لهم ،وأنا واثق أنه متى رقً النابؽون من شبان المصرٌٌن إلى المناصب العلٌا وسلموا زمام المهام فً
ببلدهم ورأوا موظفً اإلنجلٌز ٌعاملونهم بحسب ما هم أهله وما تستحقه كفاءتهم ٌنبت المٌل إلى اإلنجلٌز
فً أفبدة المصرٌٌن متنقبل من فرٌق إلى فرٌق حتى ٌعم جمهور المصرٌٌن"(.)ٔ٘٘ٙ
وعن خلخلة الجهاز الحكومً لٌكون "إنجلٌزٌا" ،حتى وإن كان موظفوه مصرٌٌن ٌقول عباس حلمً الثانً
فً مذكراته إنه عجز عن معرفة أؼوار سٌاسة نجلزة اإلدارة المصرٌة" :فكان ٌلزمنً كً أتبٌن مدى
الجرأة التً زعزعت بها حكومة اللورد كرومر مقومات الحٌاة المصرٌة أن أؼرق فً تٌه اإلدارة
(ٕ٘٘ٔ)
-نفس المرجع ،ص ٕٕ٘
(ٖ٘٘ٔ)
-التحلٌل االقتصادي واالجتماعً لمصر ،شارل عٌساوي ،ترجمة د .محمد مدحت مصطفى ،بوب بروفٌشنال برس ،القاهرة ،ص ٖٙ
(ٗ٘٘ٔ)
-تطور الرأسمالٌة المصرٌة ،نخبة من الباحثٌن ،دار الكتب والوثابق القومٌة ،مرجع سابق ،ص ٕ٘
(٘٘٘ٔ)
-الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي ،مرجع سابق ،ص ٕٕ٘
()ٔ٘٘ٙ
-المرجع السابق ،ص ٕٕ٘
ٕ٘8
المصرٌة ،ولم ٌكن ذلك باألمر السهل المٌسور ،وال ٌسعنً أن أصور بدقة سٌاسة النجلزة عمٌقة األسس"،
واعتبر كرومر فً "مصر الحدٌثة" أنه نجح فً تحقٌق هدفه بعد ٓٔ سنوات فقط من معركة التل
الكبٌر(.)ٔ٘٘9
وعلى هذا فإن من ٌرٌد عبلج مشاكل الجهاز الحكومً المصري المعاصر له أن ٌبحث فً دهالٌز أسالٌب
تكوٌنه أٌام اإلنجلٌز ،بخبلؾ ما تركته علٌه بصمات االحتبلل العثمانلً وإدارته المملوكٌة.
ٌعتبر مإرخون أن كرومر والمفتش اإلنجلٌزي لوزارة المعارؾ دانلوب أفسدا التعلٌم فً مصر ..لكن
السإال :ومتى كان التعلٌم فً "مصر المحتلة" صالحا حتى ٌُفسده كرومر ودانلوب؟ هل ٌوجد فً مصر
تعلٌم مصري من األساس؟
كرومر ودانلوب ربما األصح أن ٌقال زادا فً إفساد التعلٌم ..أما نقطة البداٌة فهناك ..بعٌدة بعٌدة ،قبل
ٓٓ ٔٙسنة ،عند اإلمبراطور الرومانً تٌودٌوس حٌن أمر سنة ٘ ٖ9م بؽلق المعابد المصرٌة ..بٌوت العلم
والفن واألدب والحكمة والمدرسة المصرٌة الصمٌمة.
ٔ -التعلٌم الٌونانً :المعاهد ذات الثقافة اإلؼرٌقٌة أٌام االحتبلل الٌونانً والرومانً.
ٕ -التعلٌم العربً/الشٌعً (العبٌدي) /العثمانلً :المساجد والمدارس الفقهٌة والزواٌا الصوفٌة والجمعٌات
المسٌطر علٌها الثقافة العربٌة والشٌعٌة والصوفٌة والعثمانلٌة من االحتبلل العربً وحتى الٌوم.
ٖ -التعلٌم الفرنسً واإلنجلٌزي :المدارس الحدٌثة منذ االحتبلل العلوي على ٌد مناهج ومدرسٌن أجانب
واإلرسالٌات األجنبٌة.
ٗ -التعلٌم البزرمٌط (مرقع) :الحكومً من نهاٌة القرن ٔ9وحتى الٌوم ،خلٌط من كل ما سبق ،مناهجه
موروثة من ثقافات تركتها االحتبلالت أو موضوعة بناء على نظرٌات حدٌثة أجنبٌة أٌضا ،وٌزاحمه تعلٌم
أجنبً آخر من المدارس اإلنجلٌزٌة والفرنسٌة والٌونانٌة واألمرٌكٌة والتركٌة والٌابانٌة.
هل منهم تعلٌم ٌعلَّم المصري الثقافة المصرٌة؟ أو االعتزاز بتارٌخه المصري القدٌم والحدٌث فوق كل
تارٌخ؟ أو علَّمه كراهٌة االحتبلل أٌا كان دٌنه أو جنسه؟ أو أنه من العار أن ٌضٌؾ أي هوٌة دخٌلة إلى
جانب مصرٌته؟ هل ٌتعلم أن ٌعتز بؤنه فبلح مصري؟ أو ٌدرس الحكمة والفلسفة المصرٌة وأخبلق أجداده
()ٔ٘٘9
-نفس المرجع ،ص ٕ٘ٙ
ٖ٘8
الراقٌة؟ وٌكتشؾ ما هو موصول بٌنها وبٌن المسٌحٌة واإلسبلم بعٌدا عن التشوٌهات التً ألصقتها المذاهب
والثقافات األجنبٌة بالمسٌحٌة واإلسبلم؟ أو ٌمجد األكل المصري واللبس المصري والعمارة المصري
واألعٌاد المصري؟ أو أن ٌحب إخوته المصرٌٌن ألن اإلخوة المصرٌة مقدمة على كل شًء؟
هل فً أي مدارس فً مصر تعلٌم ٌعلم المصرٌٌن حقٌقة ما عانوه من كل االحتبلالت السابقة؟ كلها بما
فٌها العربً والٌونانً واألٌوبً والمملوكً والفاطمً ولٌس االكتفاء بذم احتبلالت وتمجٌد احتبلالت
أخرى؟
هل توجد مدارس تعلم المصرٌٌن االعتماد على النفس ولٌس االنبهار باألجنبً؟ وأن فً شخصٌته
وأرضه من اإلمكانٌات ما تجعله حاجته للخارج فً أضٌق الحدود؟ هل ٌعلمون المصري أنه إنما خلق ب َّناء
لحضارة لها شخصٌتها الخاصة جدا ،وأن سبب تعلٌمه أن ٌضع طوبة فً بنابها الشامخ أٌا كانت مهنته
فٌعٌش بإحساس الهمة والمسبولٌة والروح العالٌة؟ هل ٌعلمونه أن ٌتبنى "قضٌة مصر"؟ هل ٌوجد فً
التعلٌم الجاري فً مصر شًء اسمه "قضٌة مصر" من األساس؟
هل ٌشرحون للمصرٌٌن حقٌقة الخطط العالمٌة التً تستهدفهم والتٌارات والمذاهب والجالٌات التً تتؽلؽل
وسطهم؟ هل فٌهم تعلٌم ٌشرح للمصرٌٌن أسباب صعودهم وأسباب سقوطهم عبر التارٌخ؟ هل ٌتعلم
المصري أنه إنما ُخلق لٌكون جندٌا فً معركة الخٌر ضد الشٌطان ،ولن ٌكون كذلك طالما ٌعٌش تابعا؟
أما ما فعله كرومر فهو زٌادة تتوٌه المصري ،وفرض الثقافة اإلنجلٌزٌة والوالء لها لتعلو فوق أنواع
التعلٌم والثقافات األخرى المنافسة له أو مدارس الكنٌسة واألزهر ،وبداٌة ألؽت حكومة االحتبلل الجدٌد ما
كان مٌسرا من تعلٌم مجانً ،وبرر كرومر هذا بؤن هدفه تشجٌع التعلٌم "ذلك ألن من ٌرٌد أن ٌتعلم علٌه أن
ٌثبت ذلك بدفع نفقات تعلٌمه" ،ودافع عنها األرمنً ٌعقوب أرتٌن وكٌل وزارة المعارؾ بؤن عدد الطلبة
الذٌن ٌتعلمون المجانٌة من األفضل أن ٌقل ،وإلؽاء أي مدارس تجهٌزٌة خارج العاصمة ،وأؼلقت معظم
المدارس ،واكتفوا بالكتاتٌب ،حتى أن عدد التبلمٌذ االبتدابً كان فً ٖ ٔ89حوالً ٓٓٔ ألؾ تلمٌذ وكان
عدد السكان ٘ ملٌون نسمة ،وبعد ربع قرن من االحتبلل اإلنجلٌزي انخفض عدد التبلمٌذ االبتدابً إلى ٔٙ
ألؾ رؼم أن السكان وصل عددهم ٔٔ ملٌون وتفاخرت الصحؾ التابعة لبلحتبلل مثل "المقطم" الشامٌة
ب"التقدم" الذي حققه االحتبلل فً التعلٌم بؤن تورد إحصابٌات عن زٌادة عدد الكتاتٌب ،دون أن تشٌر إلى
حال المدارس الثانوٌة والعالٌة(.)ٔ٘٘8
وصراحة قال كرومر" :لقد اعتبرنا أن توفٌر مستوى موحد للتعلٌم ]تعلٌم كرومري[ هو الضمان الوحٌد
ضد قٌام الدٌماجوجٌٌن الذٌن قد ٌعملون على إثارة الشعب ضد الحكام األجانب" ،واكتفى بتخرٌج طبلب
سطحٌٌن ٌتسلمون وظابؾ الحكومة ٌتعاملون معها بنفس السطحٌة دون حمٌة وإبداع وإحساس بالمسبولٌة،
وفً نفس الوقت أسرؾ كرومر فً إحضار مدرسٌن من أوروبا بحجة "تحسٌن التعلٌم" ،فً حٌن الؽرض
()ٔ٘٘8
-الصحافة المصرٌة وموقفها من ااالحتبلل اإلنجلٌزي ،سامً عزٌز ،ص ٕٔ9
ٗ٘8
هو تشرٌب الجٌل الجدٌد من المصرٌٌن الروح األوروبٌة ،ومدحت صحٌفة "الوطن" ،هذا االتجاه ،فً
ٓ ،ٔ89خاصة حٌن جرى تعٌٌن دنلوب مفتشا لوزارة المعارؾ -أي المسبول األول عنها -واعتبرت أن
تعلٌم التبلمٌذ اللؽة اإلنجلٌزٌة وبمدرسٌن إنجلٌز ال عبلقة له بالنواحً السٌاسٌة ،بل إنه ٌهدؾ إلى تخرٌج
شبان ٌتعلمون كٌؾ ٌكونون مصرٌٌن !.
وتعترؾ مضابط مجلس شورى القوانٌن فً جلسة ٕٗ ٔ89ٗ -ٕٔ -بإهمال التعلٌم وٌقرر أن "نشر التعلٌم
قد تقهقهر تقهقرا كلٌا عما كان علٌه قبل ذلك ،وأن القابضٌن على زمام نظارة المعارؾ قد سعوا بكل
اجتهاد إلى طرق تقلٌل التعلٌم وسد أبوابه بكل حٌلة فً وجه األمة" ،وٌقول الرافعً إن الحكومة مسخت
ب رامج التعلٌم وحرصت على استبعاد التارٌخ القومً الصحٌح من المناهج لكً تنشؤ األجٌال جاهلة بتارٌخ
ببلدها ،محرومة من ؼذاء النفوس فً الوطنٌة؛ فبل ٌفرقون بٌن االحتبلل واالستقبلل(.)ٔ٘٘9
وبدال من أن ٌتعلم األجنبً لؽة البلد دعت الصحؾ التابعة لبلحتبلل أهل البلد لبلستؽراق فً تعلم لؽة
األجنبً المحتل ،فقالت صحٌفة "االتحاد المصري" الشامٌة وهً تدعً أنها تتكلم باسم المصرٌٌن" :وقد
قضت عبلقتنا باإلنجلٌز وهم بجانبنا أن نحسن التكلم بلسانهم فضبل عن درس عاداتهم وأخبلقهم" ،وتحولت
مناهج التعلٌم إلى اللؽة اإلنجلٌزٌة ،وحتى اللؽة العربٌة دعت صحٌفة "المقتطؾ" الشامٌة إلى كتابتها
بحروؾ التٌنٌة ،وٌقول محمد حسٌن هٌكل إن سٌاسة االحتبلل بهذا أحرزت نجاحا فً زعزعة العقٌدة
الدٌنٌة واقتبلع مقومات الوطن والوطنٌة ،مستدال على أنه بعد ٖٓ سنة فقط من االحتبلل "الناشبة لم تكن
تؤخذ بحظ عملً فً التوجٌه السٌاسً ،بل كانت عاكفة عكوفا تاما على الدرس ،ولم ٌكن ٌدور بخلد أحد فً
المدارس تبلمٌذ وأساتذة أن ٌدعو إلى إضراب لؽرض سٌاسً ،ومن ذا ٌدعو وكثرة األساتذة كانت من
اإلنجلٌز(ٓ.")ٔ٘ٙ
ٌنطل كبلم كرومر على الجمٌع ،فصاح حافظ إبراهٌم فً وجهه سنةِ ورؼم أجهزة دعاٌته الضخمة لم
وطور الزراعة وأصلح التعلٌم ،وأنه "مصلح مصر"،
َّ ٔ9ٓ9ساخرا من كبلمه أنه نشر فً مصر الحرٌة
إنه ٌمن علٌنا بؤنه أجدب الشخصٌة المصرٌة(ٔ:)ٔ٘ٙ
وأن أصبح المصري حرا منعما تمن علٌنا الٌوم أن أخصب الثرى
فإنً رأٌت ال َمنَّ أنكى وآلمـــا أعِ د عهد إسماعٌل جلدا وسخرة
واقتحم المهاجرون الشوام -بعد وفاة رفاعة الطهطاوي -حركة الترجمة ،خاصة فً اآلداب ،ولم ٌسٌروا
()ٔ٘٘9
-نفس المرجع ،ص ٕٕ99 -ٕ9
(ٓ)ٔ٘ٙ
-المرجع السابق ،ص ٕ8ٔ -ٕ99
(ٔ)ٔ٘ٙ
-من قصٌدتا "مصر تشكو االحتبلل" ،و"وداع اللورد كرومر فً دٌوان حافظ إبراهٌم ،مرجع سابق ،ص ٖٕٗ -ٖٖ9
٘٘8
سٌرة الطهطاوي وتبلمٌذه فً ترجمة المفٌد حقا للمصرٌٌن من علوم وفنون تناسب شخصٌتهم وتقوي
عزمهم فً المقاومة ،فٌقول سامً عزٌز إن اختٌار هإالء الشوام المتشبعٌن بالثقافة األوروبٌة وجاءوا
متحالفٌن مع االحتبلل لم تكن عشوابٌة؛ فاختاروا ترجمة ُتخضع الشخصٌة المصرٌة ألوروبا ،مثل ترجمة
"المقطم" لرواٌة "الشهامة والعفاؾ" ،نقبل عن رواٌة لئلنجلٌزي ولتر سكوت تقدم اإلنجلٌز على أنهم فرسان
ذوو شهامة وعفة نفس ،وصدرت مجلة الراوي األدبٌة لصاحبها اللبنانً خلٌل زبنٌة ،وأؼلب مقاالتها صدى
لنفوس ضعٌفة مهزومة ،وتتحدث عن التعساء واألمانة ،وموضوعات تشؾ عن القلق والهوان
والعذاب(ٕ ،)ٔ٘ٙوتسبب هذا فً تسهٌل وإؼراء المصرٌٌن فً الجري وراء االقتباس من اآلداب األجنبٌة أكثر
من أن ٌإلفوا الرواٌ ات التً تعبر عن الحال الصمٌمة لمصر ،ومنها انتشرت أفكار وقٌم ما كان ٌدور فً
الخلد أن ٌإمن بها مصرٌون ،وإن تصدى لهذا الؽزو كتاب مصرٌون مثل حسٌن هٌكل وتوفٌق الحكٌم
وٌحًٌ حقً إلخراج رواٌات من صلب األرض المصرٌة.
وجاء الكتاب الشوام والمؽاربة وأمثالهم "ٌمؤلهم الؽرور" بتعبٌر سامً عزٌز ،كؤنهم هم من ٌعلمون
المصرٌٌن اآلداب والفنون -متجاهلٌن كل الرواد المصرٌٌن -وكتاباتهم "ال تستطٌع أن تدرك إحساسات
الشعب األصٌلة ،فتشحذها وتنمٌها ،وتضٌؾ إلٌها كل ما من شؤنه أن ٌدفع بالببلد إلى طرٌق الرقً فً
مختلؾ النواحً ،بل كانت الكتابات بعٌدة كل البعد عن مثل ذلك ،مما كان له أثر فً توجٌه مٌول بعض
القراء باألسالٌب المقنعة إلى اإلنتاج الرخٌص والثقافة السطحٌة"(ٖ.)ٔ٘ٙ
وتسبب هذا التحول السرٌع فً لؽة التعلٌم والثقافة إلى "تخلخل ثقافً" ،و"زلزال عقلً ووجدانً"(ٗ،)ٔ٘ٙ
وٌمكن فهم أثره لو تذكرنا أنه ثانً تحول عنٌؾ فً اللؽة والثقافة عند المصرٌٌن فً تارٌخهم بعد أن
تحولوا إلى اللؽة العربٌة ،وإن كانوا فً التحول للعربٌة تحولوا بالبطًء جدا ،حتى اختمرت العربٌة فً
ثوب وروح فبلحٌة حلوة ممٌزة بسبب ما بقً من اللؽة المصرٌة فً النطق واأللفاظ والتركٌب والقٌم
واألفكار ،لكن الثقافة األوروبٌة ولؽاتها جاءت جرعات سرٌعة متدفقة إجبارٌة فً المدارس ،وٌلزم
المصري باعتناقها ونطقها كما هً ،وبكل ما فٌها من قٌم وأفكار واستخدامها كما هً ،ببل تحرٌؾ أو
تؽٌٌر ،وإال ضحكوا علٌه ألنه "فبلح ال ٌعرؾ التمدن واللؽات" ..وبهذا كان الزلزال الوجدانً أشد.
"أشبع جوفها ،واستر ظهرها ،وعطر بشرتها بالدهن العطر ،فالدهن ترٌاق لها ...واسعدها ما حٌٌت،
فالمرأة حقل نافع لولً أمرها ،وال تتهمها عن سوء ظن ،وامتدحها تضعؾ شرها ،فإن نفرت راقبها،
واستمل قلبها بعطاٌاك تستقر فً دارك ،وسوؾ ٌكٌدها أن تعاشرها ضرة فً دارها".
(ٕ)ٔ٘ٙ
-الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي ،مرجع سابق ،ص ٕٗ8٘ -ٕ8
(ٖ)ٔ٘ٙ
-نفس المرجع ،ص ٕٗ8
(ٗ)ٔ٘ٙ
-نفس المرجع ،ص ٕ8ٙ
٘8ٙ
(الحكٌم بتاح حتب ٕ9ٓٓ ..ق.م(٘))ٔ٘ٙ
لم تكن الست المصرٌة تحتاج إلى أجنبً كً "ٌحررها" ،احتاجت فقط ،هً ومصر كلها ،أن ٌرحل
األجنبً عن أرضها وسماها ،بجٌوشه وعاداته وتقالٌده وهوٌاته وقٌمه وجالٌاته وعقده وتكبره وشروره
وكرابٌجه ،وحٌنها تنقشع الؽٌوم ،وتعود القٌم المصرٌة لعرشها ،وكل شًء ألصله.
وضمن مشروع المحتلٌن لـ"تمدٌن مصر" ظهر ما اشتهر باسم "قضٌة المرأة" ،مستؽلٌن بعض العادات
السٌبة التً أدخلتها قباٌل بدوٌة وعثمانلٌة فً النظرة للمرأة وتقٌٌدها فً "الحرملك" بؤن تبنى اإلنجلٌز
والمؽرمون بتقلٌدهم ما سموها بـ"تحرٌر المرأة" ..أي تحرٌر؟ ومما؟
وإن انضم لهإالء مصرٌون بحسن نٌة ،فإن البعض انجرفوا ببل بصٌرة ،ومجموعة تعمدت أن ٌكون
"التحرٌر" هو نزعها من سمات الست المصرٌة األصٌلة وحٌاتها الفبلحٌة التً حفظت -رؼم االحتبلالت-
فً ا ألرٌاؾ تماسك األسرة وربطت أوالدها بؤرضهم وقٌمهم ماعت/مصر للمصرٌٌن ،لتتحول لمسخ
أوروبً مضحك ٌنشًء أجٌاال تتمرغ فً تراب األجانب.
ٌقول كرومر فً كتابه "مصر الحدٌثة" ،وتقارٌره الدورٌة التً ٌرسلها لببلده عن الحال فً مصر "الكتاب
األزرق"" :إن الوضع العام للمرأة فً مصر ٌقؾ عقبة فً سبٌل الوصول إلى أي تقدم فً الفكر والعقل،
وهو ما ٌجب أن ٌصاحب الحضارة األوروبٌة إذا أردنا أن نجنً فوابدها فً مصر" ،والعبلج فً نظر
كرومر هو العمل على تعلٌم المرأة "فإن هذا التعلٌم سٌعمل على تؽٌٌر العادات واألفكار فً الببلد ،وإن
الجٌل الناشً ء فً مصر سٌتطلب فً المرأة شٌبا آخر ٌؽاٌر نظام الحرٌم ،فهو ٌرجو أن ٌجد زوجته على
قدر من المعرفة ،ولٌس هناك من شك فً استطاعة المرأة التؤثٌر فً الرجل ،وهً إذا اتخذت مظاهر
الحضارة األووبٌة سٌكون تؤثٌرها قوٌا على الرجل ،فعاطفتها تفوق عاطؾ الرجل وهً أشد منه
انفعاال"(.)ٔ٘ٙٙ
والتعلٌم كلمة مؽرٌة وجمٌلة والكل ٌنشدها ،لكن حٌن تخرج من محتل أو متؤثر بالمحتل ٌلزم أن نتوقؾ
لنسؤل :أي تعلٌم؟ أي مناهج وأفكار؟ وألي هدؾ؟
وٌمزج كرومر بٌن تعلٌم المرأة وهز معتقداتها؛ فهً "بحكم ضعؾ عقٌدتها الدٌنٌة عن الرجل ستكون أقدر
على تخلٌص نفسها من األفكار والعبلقات التً أحاطت بها منذ مولدها" ،وفً نفس الوقت ٌطالب بؤن
ٌستمر تعلٌم الفتاة المصرٌة مدة طوٌلة "وإذا لم ٌستطع رجل اإلصبلح األوروبً أن ٌثبت جدارته ال فً
تعلٌم الفتاة فحسب بل وكذلك فً رفع مستواها ،إذا لم ٌحدث ذلك فإنه لن ٌنجح فً بث الثقافة والتعلٌم
األوروبٌٌن بٌن الرجال".
ومباشرة تحدث عن أن هدؾ التعلٌم األوروبً للمرأة هو الهدؾ الذي أعلنه من التعلٌم عموما فً مصر،
(٘)ٔ٘ٙ
-األسرة فً المجتمع المصري القدٌم ،د .عبد العزٌز صالح ،دار القلم (وزارة الثقافة) ،القاهرة ،ٔ9ٙٔ ،ص 9
()ٔ٘ٙٙ
-الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي ،مرجع سابق ،ص ٕ99 -ٕ9ٙ
٘87
إخراج المصري من مصرٌته لٌكون أوروبٌا بالتدرٌج" :ومن الشواهد على ذلك تعلٌم الفتاة ،فإن الرأي العام
المصري تؽٌر تؽٌرا شامبل فً هذا المجال ،وإن نهضة تعلٌم الفتاة سٌكون لها تؤثٌرها فً الجٌل المقبل من
المصرٌات ،وفً أخبلقهن ومكانتهن ،وهٌهات أن ٌتشرب المقلدون المصرٌون روح التمدن األوروبً إذا
لم ٌحدث تؽٌر تدرٌجً فً مقام المرأة المصرٌة"(.)ٔ٘ٙ9
والتعلٌم المصري السلٌم ال ٌفصل بٌن المرأة والرجل ،ال ٌجعل لهذا قضٌة وذاك قضٌة ،بل ٌعالج األمور
كقضٌة عابلة ووطن ،أما التعلٌم األوروبً فسعى فً االنفصال واالنقسام بما سماه بـ"قضٌة المرأة"،
وشحنها بكل ما تعادي به الرجل بتقدٌمها أنها "مضطهدة" دابما منه ومن المجتمع كله.
ومنه ما اختصر "قضٌة المرأة" ،فً أن تعٌش "الؽرام" ،قبل زواجها ،فاختزل دورها كست مصرٌة
ودورها الوطنً فً مشاعر من نوع واحد ،وشجع هذا نوعٌة معٌنة من الرواٌات والسٌنما.
وممن تزعم حركة "تحرٌر" المرأة مجلة "الراوي" لصاحبها اللبنانً فً ،ٔ888التً بدأت "التمدٌن"
بالكبلم عن الحب فً حٌاة المرأة ،وأنها "إذا كانت خالٌة من العمل فارؼة الفإاد من حب زوج ٌكون كبح
لجماح شهواتها فبل تؤمن من ؼابلة هواجسها" ،وؼصت الصحؾ بإعبلنات عن سٌدات (شامٌات وجنسٌات
أخرى) على استعداد لتقدٌم دروس فً الجؽرافٌا واللؽات واآلداب االجتماعٌة( ،)ٔ٘ٙ8وأصبح من معالم "البٌت
العصري" فً بٌوت األؼنٌاء استحضار مدرسٌن لتعلٌم الفتٌات ،لٌس ما ٌخص الثقافة والحضارة المصرٌة
واالعتزاز بها ،لكن تعلم مزٌكا أجنبً على البٌانو ولؽة أوروبٌة ترقع بها لسانها ،وقراءة الرواٌات
األوروبٌة ،واألكل بالشوكة والسكٌن ،واللبس على الموضة األوروبٌة وؼٌرها من سلوكٌات أجنبٌة ،مع
السخرٌة من الست الفبلحة قدر المستطاع.
وصدرت أول صحٌفة مخصصة للمرأة على ٌد اللبنانٌة هند نوفل وهً مجلة "الفتاة" سنة ٕ ،ٔ89فعلى
حد وصؾ هارتمان كان الباب مفتوحا ألن المرأة المسٌحٌة السورٌة "تتمتع بجرأة ؼٌر عادٌة" ،وقوبلت
بترحٌب شدٌد من صحٌفتً "المقطم" الشامٌة و"النٌل" لصاحبها العثمانلً ،وأفردت الصحٌفة عددها األول
لئلشادة بـ"جبللة ملكة إنجلترا فٌكتورٌا المعظمة"" ،حامٌة الدٌن واإلٌمان وإمبراطورٌة الهند" ،وتخصصت
فً تقدٌم الرجل والمرأة اإلنجلٌزٌٌن كقدوة ،وأن كل سلوك متحضر ٌجب أن ٌإخذ منهما ،فحتى الحٌاء
والشهامة جعلوها إنجلٌزٌة" :فالحٌاة من أجل الصفات المعتبرة فً النساء ،وحسبنا شاهدا ما نراه من
التقلٌدات اإلنجلٌزٌة ،فإن الرجل منهم ال ٌقدر أن ٌؤتً بؤي عمل ٌإول بتكدٌر حاسات النساء ،وال أن ٌتلفظ
بؤقل كلمة ذات معان كثٌرة احتراما وإجبلال لهن"(.)ٔ٘ٙ9
والبلفت أن من وضع فً أٌدٌهن فً البداٌة معظم صحؾ وأنشطة "تحرٌر المرأة" ،هن نساء -إضافة إلى
أنهن أجنبٌات -فإنهن مختلفات فً الدٌن ،مسٌحٌات ٌخالفن المصرٌات المسلمات فً دٌنهن ،ومسٌحٌات
()ٔ٘ٙ9
-المرجع السابقٕ99 -ٕ9ٙ ،
()ٔ٘ٙ8
-الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي ،مرجع سابق ،ص ٕ9ٙ
()ٔ٘ٙ9
-نفس المرجع ،ص ٖٓٓ -ٕ98
٘88
كاثولٌك أو بروتستانت مخالفات للمصرٌات المسٌحٌات األرثوذكس؛ لٌخرج من تحت أٌدٌهن "المسخ"،
الذي قال عنه كرومر صراحة" :مسلمون ولٌست فٌهم خواص إسبلمٌة ،وأوروبٌون ولٌست فٌهم خواص
أوروبٌة"(ٓ )ٔ٘9وبالطبع مصرٌون ولٌست فٌهم خواص مصرٌة.
وساعد اإلنجلٌز على إحراز بعض النجاح(ٔ )ٔ٘9أنهم ٌعرفون خطتهم ،وأهدافها ،ومداها ،والصبر علٌها ولو
طالت السنٌن ،تقوم على تنفٌذها حكومة وتنظٌمات ،والصحؾ التابعة لهم تسٌر فٌها ٌومٌا ،فٌما بقٌة
الصحؾ والشخصٌات الوطنٌة المعادٌة لئلنجلٌز جهودهم ذاتٌة من قلوب مخلصة ،لٌس ورابهم حكومة ،بل
ؼالبا تطاردهم الحكومة التابعة لبلحتبلل(ٕ.)ٔ٘9
ورؼم هذا حصل العجب ،بقً لهم سحرهم فً حفظ ماعت متقدة فً النفوسٌ ،ؽذٌها ظهرها -سلٌم الفطرة
لحد كبٌر -وهو الرٌؾ ،ال سند لهم إال رابطة األرض والسماء ،بل المعجزة أن مصر بعد ثورة ٔٔ88
ظهرت أكثر عملقة أوالدها الحقٌقٌٌن بدافع الوطنٌة الثورٌة فً كل المجاالت ،فمن وسط الحصار الصحفً
والتعلٌمً والسٌاسً واالقتصادي خاضوا حرب إنشاء الجامعة المصرٌة ،رؼم أنؾ كرومر ،ونجحوا،
وخاضوا معركة أن ٌكون صوت المصري الحقٌقً مسموعا ،بمواهب مثل طه حسٌن والعقاد وتوفٌق
الحكٌم وحافظ إبراهٌم وسٌد دروٌش وأم كلثوم المعتزٌن بفبلحٌتهم ،وخاضوا معركة أن تظل المصرٌة
فبلحة مصرٌة مهما عبل نجمها ونجحوا ،وخاضوا معركة إعادة الفبلحٌن كضباط فً الجٌش بداٌة من
ٔ9ٖٙونجحوا ،وخاضوا معركة إثبات أن المصري صانع ماهر بمشارٌع بنك مصر ونجحوا ،وخاضوا
معركة أن المصري عالم بارع مثل د .علً إبراهٌم ود .مصطفى مشرفة ونجحوا ،وخاضوا معركة النخوة
باستمرار كراهٌة االحتبلل ونجحوا..
ٌقول ٌعقوب النداو ،مإلؾ "تارٌخ ٌهود مصر فً الفترة العثمانٌة " :"ٔ9ٔٗ -ٔ٘ٔ9كان الماسون ٌمارسون
اإلجرام فً المدن المصرٌة ،وتجد فً المحافل الحماٌة والعون"(ٖ.)ٔ٘9
ولٌس الماسون فقط من ٌجدون الحماٌة والعون ،بل معظم الجالٌات ،فً االمتٌازات األجنبٌة وفً حماٌة
بعضهم لبعض مستؽلٌن نفوذهم االقتصادي والسٌاسً والثقافً ،إضافة إلى أن بعض األجانب ٌجدون براحا فً
ارتكاب الجرٌمة ألنهم ؼٌر معروفٌن وسط المجتمع ،ال ٌخشون اللوم وال ٌحكمهم الحٌاء.
(ٓ)ٔ٘9
-نفس المرجع ،ص ٖٓٓ
(ٔ)ٔ٘7
-أكبر نجاح مستمر لسٌطرة الصحؾ التابعة لإلنجلٌز والعثمانلٌة وفرنسا هو أن بعض المصرٌٌن ٌظنون حتى الٌوم أن عرابً هو سبب
احتالل اإلنجلٌز لمصر ،ولٌس أنه والشعب كله حاولوا إنقاذ مصر من السٌطرة األوروبٌة بعد سٌطرة اإلنجلٌز والفرنسٌس على الحكومة
واالقتصاد ،وحاولوا منع الؽزو المعد له مسبقا ،بل إن من أسباب الثورة التخفٌض األوروبً الحاد فً عدد الجٌش المصري كً تكون البلد بال
حامً.
(ٕ)ٔ٘9
-نفس المرجع ،ص ٕ٘9
(ٖ)ٔ٘9
-الماسون والماسونٌة فً مصر ،ٔ9ٙٗ -ٔ998ص ٔٗ9
٘89
ولكثرة العدد وتنوع الجنسٌات واألدٌان والتٌارات والتنظٌمات امتؤلت مصر بؤشكال من الفساد والجرابم
والصراعات بؤشكال جدٌدة وكثٌفة ،ووصلت لعمق المحافظات مع انتشار هإالء خارج القاهرة واإلسكندرٌة،
ومما ساعدهم أٌضا فً اإلحساس باألمان وهم ٌنشرون العصابات المنظمة فً مصر أن جهاز البولٌس كان ٌفتقد
لوسابل البحث الجنابً الحدٌثة مقابل مهارة المجرمٌن القادمٌن من الخارج فً ابتكار وسابل جدٌدة للجرٌمة
.
(ٗ)ٔ٘9
والهروب وجلب األدوات الحدٌثة البلزمة الرتكاب جرابمهم
▼ (المخدرات)
قبل هذا االحتبلل الجالٌاتً كان فً مصر الحشٌش -وهو كما تابعنا دخل مصر على ٌد تجار تابعٌن
للطرق الصوفٌة بحسب ما أخبرنا الجبرتً -وهم أجانب أٌضا -وبعد الحرب العالمٌة األولى وتدفق األجانب
بكثرة جاءوا بالكوكاٌٌن والهٌروٌٌن األكثر تدمٌرا حسب تقارٌر وزارة الداخلٌة سنة .)ٔ٘9٘(ٔ9ٕ8
وهربوا من العقاب باالمتٌازات األجنبٌة فكان القبض على تاجر مخدرات ٌلزمه الحصول على إذن قنصله
أو عدة قناصل لو الشبكة متعددة الجنسٌات ،وأن ٌذهب القناصل مع البولٌس لحظة القبض ،وقد ٌتباطبون
فٌفلت المجرم من العقاب ،وفً ذلك قال توماس رسل ،حاكم بولٌس القاهرة (من )ٔ9ٗٙ -ٔ9ٔ9فً مذكراته
إن العدو األكبر لمصر هو تاجر المخدرات األجنبً بسبب ما ٌتحصن به من امتٌازات أجنبٌة(.)ٔ٘9ٙ
وقاد شبكات المخدرات فً مصر الٌونان واإلٌطالٌون واألرمن ،وشارك فً جلب وتوزٌع المخدرات
جنسٌات أخرى كالسورٌون والمؽاربة والٌهود والتونسٌون واألحباش ،خاصة المنطوٌٌن تحت لواء
قنصلٌات تحصنهم باالمتٌازات األجنبٌة أٌضا ،وبحسب "رسل" فتركٌا والٌونان كانتا مصدر عصابات
تهرٌب المخدرات لمصر(.)ٔ٘99
▼ (انتشار الدعارة)
فً األسرة -ٔ9خاصة مع انفناح مصر أٌام الدولة الحدٌثة بشدة أمام الشعوب األخرى -أوصى الجد الحكٌم
"آنً" المصرٌٌن بقوله" :احذر المرأة األجنبٌة التً ال ُتعرؾ فً بلدتها ]ال ٌعرؾ أهل البلدة المقٌمة فٌها
من هً ومن أٌن أتت[ ،وال تنظرن إلٌها ،وال تعرف َّنها فً جسدها ،ألنها فٌضان (من الشر) عظٌم وعمٌق،
ال ٌعرؾ الرجل دورانه"(.)ٔ٘98
وفً عصرنا ٌحكً توفٌق الحكٌم أنه لما اشتعلت الحرب العالمٌة األولى فرَّ كثٌر من األوروبٌٌن
لمصر ،وأقدمت بعض نساءهم على الدعارة ،وصرنَّ أداة لنزح جٌوب المصرٌٌن الذٌن اؼتنوا من السوق
السوداء وأسعار القطن فً الحرب ،مثل العمد الذٌن ٌحضرون من الرٌؾ خصٌصا لئلنفاق على
(ٗ)ٔ٘9
-انظر :مجتمع القاهرة السري (ٓٓ ،)ٔ9ٖ٘ -ٔ9عبد الوهاب بكر ،العربً للنشر والتوزٌع ،القاهرة ،ص ٙ
(٘)ٔ٘9
-األجانب فً مصر ٕٕ ٔ9ٕ٘ -ٔ9دراسة فً تارٌخ مصر االجتماعً ،محمود محمد سلٌمان ،عٌن للدراسات والبحوث اإلنسانٌة واالجتماعٌة،
ط ٔ ،القاهرة ،ٔ99ٙ ،ص ٖٔ9
()ٔ٘9ٙ
-نفس المرجع ،ص ٕٖٓ
()ٔ٘99
-نفس المرجع ،ص ٖٕٖ
()ٔ٘98
-فجر الضمٌر ،هنري برٌستٌد ،ترجمة سلٌم حسن ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرة ،ٕٓٔٔ ،ص ٖٔٔ
ٓ٘9
هإالء( ،)ٔ٘99وأطرؾ تمثٌل لهذه الحالة مسرحٌة "إش" لنجٌب الرٌحانً عن العمدة كشكش بٌه الذي أتى من
القرٌة لٌمطر األجنبٌات فً أوكار الخمر والقمار بماله وعرق الفبلحٌن حتى فقد ماله ،واضطر لبٌع أمبلكه
فً مزاد ومد ٌده ألخذ قرض من الخواجة(ٓ.)ٔ٘8
وأقدم ظهور منظم معروؾ لبٌوت البؽاء فً القاهرة أٌام األٌوبٌٌن ،وزاد أٌام الممالٌك والعثمانلٌة،
وسموها "بٌوت الخواطً" أي الخاطبات ،تعمل بها الجواري والؽجرٌات ،لكنها كانت مستنكرة ،وأسست
نظؾ محمد علً القاهرة من هذه البٌوت لكنه ألقى حملة نابلٌون بٌوت بؽاء للجنود الفرنسٌس ،ثم َّ
بالداعرات إلى الوجه القبلً ،وبتدفق عشرات آالؾ األجانب -نسبة كبٌرة منهم حثالة وصناع جرٌمة -فً
عهد خلفابه انتشرت تلك البٌوت تحت ظل االمتٌازات األجنبٌة واالحتبلل اإلنجلٌزي(ٔ.)ٔ٘8
ٌقول المراسل جون نٌنٌه فً برقٌته للصحؾ األوروبٌة سنة ٓ ٔ88إن الٌونانٌٌن واألرمن من أشهر من
عمبل فً "البؽاء"ٌ ،وقعون فً شباكهم اإلماء والجواري الذٌن ٌستؽنً عنهم أسٌادهم ألسباب مالٌة أو
لؽٌره ،فمثبل فً المقهى الكبٌر لحدٌقة األزبكٌة المدار بواسطة ٌونانً ما بٌن ٓ٘ ٔٓٓ -امرأة تركٌة
وشابات وجمٌبلت ومزٌنات جالسات كل مساء حول تربٌزات وهن ٌتناولن مشروبات على صوت
الموسٌقى فً انتظار مندٌل العاشقٌن(ٕ ،)ٔ٘8وهذا بخبلؾ من ٌتسرب إلى القرى من ؼجرٌات وؼٌرهن باسم
ؼوازي.
وٌقول توماس رسل إنه عندما ذهب البولٌس للقبض على رٌفون الفرنسٌة بصحبة القنصل الفرنسً قالت
إنها باعت بٌت الدعارة لجنتلً اإلٌطالٌة ،ولما استدعوا القنصل اإلٌطالً قالت إنها باعته ألجنبً آخر،
وهكذا كانوا ٌجٌدون التبلعب بالقانون استنادا على االمتٌازات األجنبٌة(ٖ.)ٔ٘8
وفً البداٌة كانت بٌوت الدعارة ؼٌر رسمٌة ،ثم انتزع األجانب بدعم من قناصلهم تصارٌح رسمٌة لخدمة
جنودهم وجالٌاتهمٌ ،قوم علٌها ٌونان وأرمن وإٌطالٌون وفرنسٌون إلخ ،وصار لها شوارع مشهورة فً
القاهرة وبعض المحافظات ،وهذا بخبلؾ صٌد الشباب فً الشوارع ،فلم ٌتركوا األمر اختٌارا للفاسد الذي
ٌذهب إلى أوكارهم بقدمٌه ،ولكن ٌؽرون وٌصطادون من هم فً الشوارع ،وبعد تفاقم األمر وزوال
االمتٌازات األجنبٌة أصدرت الحكومة القرار رقم 9ٙلسنة ٔ9ٗ9بإؼبلق بٌوت الدعارة(ٗ.)ٔ٘8
ولم ٌقتصر انتشار الدعارة على المواخٌر ،فجرى نقلها بفعل فاعل إلى شاشات السٌنما لتنتشر أوسع،
فساهمت أفبلم ورواٌات فً اإلقبال على أوكار الخمر والفسوق بنشر التعاطؾ مع الداعرات عبر تصوٌر
الداعرة (محور الفٌلم) فً شكل المظلومة التً دفعها الفقر أو قسوة أفراد األسرة إلى بٌع جسدها مقابل
المال ،وهو أمر لم ٌكن له ظل فً الواقع ،كما سبقت اإلشارة ،ولكنه فكر أجنبً دخٌل على مصر لتشجٌع
()ٔ٘99
-توفٌق الحكم فً حوار ببرنامج "النهر الخالد" ،إنتاج التلفزٌون المصري ،تقدٌم سعد الدٌن وهبة
(ٓ)ٔ٘8
-مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن ،ج ٕ ،مرجع سابق ،ص ٕ٘ٓ
(ٔ)ٔ٘8
-انظر :مجتمع القاهرة السري (ٓٓ ،)ٔ9ٖ٘ -ٔ9مرجع سابق ،ص ٕٔٔٗ -
(ٕ)ٔ٘8
-رسابل من مصر ،جون نٌنٌه ،مرجع سابق ،ص ٕ٘ٔ
(ٖ)ٔ٘8
-األجانب فً مصر ٕٕ ٔ9ٕ٘ -ٔ9دراسة فً تارٌخ مصر االجتماعً ،مرجع سابق ،ص ٕٖ٘
(ٗ)ٔ٘8
-نفس المرجع ،ص ٖٕٙ
ٔ٘9
مصرٌات على االنزالق فً هذا الببر النتن ،وتبرٌر الجرابم مهما قبحت ،وإسكات الضمٌر أمامها ،فٌسهل
اإلقبال علٌها والمجرم ٌتوهم أنه ضحٌة ولٌس مجرما ..وهكذا ٌتجرد المصري من الشهامة والنخوة.
وهنا مبلحظة تستلزم وقفة ،إن معظم األفبلم قدمت أن من أسسن بٌوت الدعارة وٌعملن فٌها "مصرٌات"،
وكذلك الراقصات وصاحبات بٌوت القمار ،وزعماء العصابات والمجرمٌن مصرٌٌن ،وال تشٌر إلى دور
األجانب واالحتبلل فً هذا ،فكؤن الجرابم أنشؤها ونشرها مصرٌون ،حٌث كانت السٌنما تتحسس من أن
توجه لها تهم اإلساءة لؤلجانب؛ وهو ما ضلل األجٌال المقبلة التً ظنت أن األخبلق السٌبة كانت اختصاص
مصري فً حٌن األجانب لم ٌكونوا إال "خٌر" على مصر.
وٌروي المخرج محمد كرٌم فً مذكراته مثاال أن جرٌدة "البورص" نشرت فً ٕٖ ٔ9تطالب بمنع فٌلم
"أوالد الذوات" ،وترجمت "المقطم" نص المقال الذي جاء فٌه" :فقد أرادوا به أن ٌروجوا الدعوة لدى
المصرٌٌن لكراهٌة المرأة األوروبٌة" ،وكٌؾ ٌخرجون فً مصر فٌلما كهذا مبنٌا على التعصب دون أن
ٌكون حتى على شًء من الفن؟" ،وقالت "المقطم" إن أجانب قدموا شكوى لوزارة الداخلٌة لمنع الفٌلم،
ومنعته الوزارة فً البداٌة ثم أجازت عرضه ألن اللجنة المنتدبة وجدت أنه لٌس فٌه ما ٌسًء للمرأة
األوروبٌة(٘ ،)ٔ٘8وبهذا ُتحفظ سمعة المرأة األوروبٌة رؼم جرابمها ،و ُتترك سمعة الست المصرٌة وكافة
المصرٌٌن نهبا مستباحة للشعوب والتارٌخ المزور بالصوت والصورة.
▼ (نوادي القمار)
ٌقول كلوت بك إنه فً زمن محمد علً كان قلٌل من المصرٌٌن ٌعرفون الكوتشٌنة ،وبالتالً ال ٌعرفون
األلعاب المترتبة علٌها أساسا ،ومنها القمار(.)ٔ٘8ٙ
وبالتدفق األوروبً انتشر القمار فً المقاهً والمنازل والكازٌنوهات ،محمٌٌن أٌضا باالمتٌازات األجنبٌة
وشرط أخذ إذن القناصل وصحبتهم لحظة اقتحام أوكار القمار ،وإضافة للشكل التقلٌدي له ظهرت أنواع
أخرى للمقامرة مثل رهانات سبق الخٌل أٌام إسماعٌل بدعوى أنها من "مظاهر التمدن".
كذلك انتشر ما ٌسمى باأللعاب األمرٌكٌة ،واستؽل األجانب فٌها المقاهً فً صٌد زبابنهم وأصبح لهم
العدٌد من المقاهً والكازٌنوهات منذ ،ٔ9ٕ9وهً عبارة عن صندوق مؽلق ٌلقً البلعب فٌه عملة معدنٌة
ثم ٌحرك ٌدا خاصة باللعبة تمنح البلعب قطعة حلوى أو قطع نحاسٌة ٌدفعها ثمن للمشارٌب أو ال تمنحه
شٌبا ،وشفطت هذه اللعبة نقود الصبٌة والشباب( ،)ٔ٘89فكانت نوادي القمار وسباقات الخٌل لنزح أموال
األؼنٌاء ،وألعاب المقاهً لنزح أموال الفقراء ...حلب البقرة حتى آخر نقطة دم.
ولتتحول مصر إلى ما وصفه حافظ إبراهٌم وهو ناقم على حال مصر فً قصٌدته التً وجهها إلى كرومر
(٘)ٔ٘8
" -السٌنما والدولة فً الوطن العربً" ،سمٌر فرٌد ،ضمن أبحاث كتاب "الهوٌة القومٌة فً السٌنما العربٌة ،ص ٖٓٔ
()ٔ٘8ٙ
-لمحة إلى مصر ،كلوت بك ،ترجمة محمد مسعود ،دار الكتب والوثابق القومٌة ،القاهرة ،ٕٓٔٔ ،ص ٖٓٗ
()ٔ٘89
-األجانب فً مصر ٕٕ ٔ9ٕ٘ -ٔ9دراسة فً تارٌخ مصر االجتماعً ،مرجع سابق ،ص ٖٕٙ
ٕ٘9
عقب مدبحة دنشواي ،متحسرا على حال األمة التً أوصلتها إلى المدبحة(:)ٔ٘88
السرقة موجودة فً المجتمع المصري وؼٌره منذ نشؤة البشر ،فهً والقتل والنصب والرشوة أقدم الجرابم،
ولكن ازدادت خطورتها فً مصر زمن االحتبلالت بعد أن قام علٌها عصابات دولٌة متعددة الجنسٌات،
تبدع أسالٌب للنصب والسرقة لم ٌكن ٌعرفها المصرٌون ،ومسلحٌن بؤحدث أدوات تساعدهم على عملهم.
وساهمت االمتٌازات األجنبٌة فً كثرتها وتنوعها ،وهو ما أشارت إلٌه صحٌفة "األهرام" فً عددها ٗ
ماٌو ٕٗ ٔ9حٌن تحدثت عن صعوبة ترحٌل اللصوص األجانب المتناع القنصلٌات التابعٌن لها عن التؤشٌر
على جوازات سفر هإالء األجانب كً ٌحموا ببلدهم من جرابمهم ،وفً نفس الوقت ٌصعب عقابهم داخل
مصر ،وقاد العصابات ٌونان وأرمن وإٌطالٌون وروس ومالطٌون وجنسٌات أخرى(.)ٔ٘89
وحٌن ٌكون المجرمون أجانب تزداد صعوبات مكافحة الجرٌمة أمام رجال األمن لسبب آخر ،أنه ؼٌر
متوفر ملفات كافٌة عنهم ،وؼٌر معروؾ أصلهم وفصلهم ،ولهم تشعبات فً الخارج تسهل هروبهم.
بانتشار العمبلت الورقٌة محل المعدنٌة ،انفتح الباب واسعا لظهور عصابات تزٌٌؾ العملة من الٌونان
واألرمن واإلٌطالٌٌن والروس وجنسٌات أخرى ،مع ما لهذا من تؤثٌر فً نهب مال المصرٌٌن ،محتمٌٌن
أٌضا باالمتٌازات األجنبٌة(ٓ ،)ٔ٘9وقلدهم فٌما بعد مصرٌون ضعاؾ نفوس ضموهم إلى عصاباتهم.
أما الؽش التجاري فانتعش بتزاٌد تدفق البضابع واالستثمارات األجنبٌة ،ومنها وضع السلع على أنها
مستوردة وهً محلٌة للمؽاالة فً ثمنها أو أن ٌبٌع السمن الصناعً على أنه طبٌعً ،حسب ما أوردت
صحٌفة "المصور" فً ماٌو ٓٗ ٔ9أو بٌع بضابع مقلدة على أنها أصلٌة ،ورفضت المحاكم المختلطة قانونا
لمكافحة الؽش التجاري ولم ٌطبق إال بإلؽاء هذه المحاكم سنة .)ٔ٘9ٔ(ٔ9ٗ9
وروت جرٌدة "الجمهور المصري" أن محاكم القاهرة نظرت خبلل سنة ٓ٘ ٔ9ثبلثة آالؾ قضٌة من
قضاٌا الؽش :ؼش الدقٌق والمواد الدهنٌة والجبن والحلوى واللبن والكحول إلخ ،وقالت إن سوس االنحبلل
واالنهٌار ٌنخر فً جسد الدولة ،وعللت السبب فً أن الوزراء هم من ذوي األطٌان ،ومعظم أعضاء
البرلمان من أصحاب العقارات ومن الممولٌن والمستوردٌن والمصدرٌن ومن أصحاب النفوذ ،وأصحاب
()ٔ٘88
-دٌوان حافظ إبراهٌم ،مرجع سابق ،ص ٖٖ9
()ٔ٘89
-األجانب فً مصر ٕٕ ٔ9ٕ٘ -ٔ9دراسة فً تارٌخ مصر االجتماعً ،مرجع سابق ،ص ٖٕٙ
(ٓ)ٔ٘9
-المرجع السابق ،ص ٖٕ9
(ٔ)ٔ٘9
-نفس المرجع ،ص ٖٕ8
ٖ٘9
رءوس األموال ٌسٌطرن على الحكومة ،وكبار الموظفٌن هم ذوو نفوذ فً مختلؾ الدوابر الرسمٌة ،ومن
هإالء جمٌعا تتؤلؾ القوة الحاكمة التً تسٌطر على مفاتٌح الدولة ،ومن العادة أن أمثال هإالء المتؽلبٌن من
أرباب السلطان ال ٌهتمون لؽٌر مصالحهم الخاصة(ٕ ،)ٔ٘9ومعظم من أشارت لهم الجرٌدة ما بٌن أجنبً طازة
ومجنس ومستمصر وبعض المصرٌٌن.
▼ (حانات الخمرة)
رؼم أن شرب الخمر لٌس جدٌدا ولكنه أخذ شكبل جدٌدا بانتشار الحانات علنا على ٌد الحملة الفرنسٌة،
ومع فتح الباب للجالٌات األوروبٌة زمن عابلة محمد علً انتشرت فً القاهرة واإلسكندرٌة ومدن القناة
بحجة توفٌر نمط حٌاة لؤلجانب كما تعودوا علٌه فً ببلدهم ،ثم انتشرت فً مدن أخرى وبعض القرى على
ٌد الخواجات ،وإن تخفت وراء اسم مقاهً فً القرى ،وأصبحت تجارة كبٌرة هدفها إفساد المصرٌٌن،
واإلثراء السرٌع ،ونزح األموال للخارج.
وباالحتبلل اإلنجلٌزي انتشرت كما لم ٌحدث من قبل ،وبتصارٌح ،اإلعبلنات فً الصحؾ الشامٌة عن
الخمور تبٌن ممزٌات "الصنؾ العالً" وارد فرنسا وإٌطالٌا والٌونان ،)ٔ٘9ٖ(،ثم جاءت السٌنما لتشجع
المصرٌٌن على "القربعة" ،وتصور -زورا -كؤنه ال بٌت "متحضر" ٌخلو من الخمر ،وأن لشاب إذا أهمه
شًء فلٌذهب إلى "الخمارة" ،فهً ملجؤه ومسبله ومتواه والصدر الحنٌن "عشان ٌنسى".
وٌإكد السٌاسً والرحالة اإلنجلٌز سكاونت بلنت دور إنجلترا فً هذا ،فٌتحدث فً كتابه "مذكراتً" عن:
"نعمة االحتبلل على الٌونانٌٌن أصحاب الحانات الذٌن أخذوا ٌنتشرون فً القرى ،وال شك أن الفبلح الذي
ٌتعاطى الخمر سٌفقد استقبلله االقتصادي فٌمد ٌده لبلقتراض ثم ال ٌلبث أن ٌنزلق فً مهاوي الرذٌلة" ،وأنه
لما أثار الموضوع "مرارا مع بارنج ،ووعد باتخاذ اإلجراءات البلزمة ،وكانت النتٌجة التً وجدتها بعد
فترة هً زٌادة عدد الحانات"(ٗ.)ٔ٘9
فالٌونانً كؤنه رسول إبلٌسٌ ،نزل القرٌة فً ٌده زجاجة خمر ٌؽري الفبلح المٌسو لحد ما بؤنها ستنسٌه
الهم ،وفً الٌد الثانٌة كٌس المال لتكتٌفه بالربا لٌسدد دٌونه التً اقترضها "علشان ٌقربع" الخمر ،وٌهمل
عمله وٌفقد حذره ،وٌنتهى به األمر فً النهاٌة إلعطاء مواشٌه وداره للٌونانً مقابل الدٌن.
ومنعت الحكومة الترخٌص للمصري بفتح حانات وسمحت لؤلجنبً فً األحٌاء ذات الكثافة األوروبٌة التً
تسمى بالحً األوروبً ،ولكن انجرَّ مصرٌون ضعاؾ النفوس للعمل فً هذا المجال بؤن ٌفتح حانة
بترخٌص ٌحمل اسم شخص أجنبً وٌتفق معه على أخذ مبلػ أو اقتسام األرباح ،وبذلك ٌستفٌد من
االمتٌازات األجنبٌة ،وعلى هذا وصل وباء الحانات لمساحة واسعة فً مصر ،فلجؤت الحكومة للحد من
(ٕ)ٔ٘9
-المذكرات ،محمد كرد علً ،مطبعة الترقً ،دمشق ،ٔ9ٗ8 ،ص ٓٔٔ9
(ٖ)ٔ٘9
-الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي ،سامً عزٌز ،مرجع سابق ،ص ٕٕٕٕ٘ٙ -
(ٗ)ٔ٘9
-نفس المرجع
ٗ٘9
انتشارها بمنع إضافة شوارع جدٌدة لؤلحٌاء المسماة حٌنها باألوروبٌة(٘.)ٔ٘9
وقدم عبد هللا الندٌم المعاصر النتشار حانات الخمر صورة عما فعلته من خراب فً بعض المصرٌٌن
وضٌاع أرضهم وأموالهم وهٌبتهم حٌن نقلها الخواجات للقرى ،فٌقول(:)ٔ٘9ٙ
عجب عجب حتى التخرٌؾ ..وصل الرٌؾ ..والخمرة تشر على الكٌمان
تلقى ال ُعمد قبل اإلمساك ..شربو الكنٌاك ..فانظر صٌام من بات سكران
ومع مبلحظة أن الٌونان واإلٌطالٌٌن واألرمن والمالطٌٌن لهم الحضور األقوى فً كافة أنواع الجرابم من
قمار وؼش وسرقة ودعارة ومخدرات وخمور ٌمكن تفسٌر لماذا كان بعض هإالء أكثر انتشارا من بقٌة
الجالٌات فً ربوع المحافظات واألرٌاؾ ،وٌتسترون فً شكل أصحاب مقاهً ودكاكٌن.
واختصرت رواٌات مصرٌة صورة كل ما سبق بشكل بلٌػ ،فشرحت رواٌة "قلوب خاوٌة" أحد طرق
الخواجات للثراء فً مصر ،وهً عن الخواجة مٌشو أخذ من مهنة الحلوانً ستارة لعمله الحقٌقً وهو
الربا ،فٌسلؾ الجنٌه بلاير لحد ما عمل فلوس اشترى بها األرض ،وفً رواٌة "الماء العكر" هبط الخواجة
خرٌستو على الرٌؾ فً بحر شبٌن وفتح قهوة كستارة ٌبٌع فٌها ألهل البلد كل شًء وٌؽرٌهم بالقروض
حتى كتؾ معظم أهل البلد بالدٌون ،وأوصل قهر الفبلحٌن من الخواجات وتحكمهم فٌهم فً عقر دارهم
حتى خسروا أراضٌهم أن قتل فبلح الخواجة الٌونانً بضربة فاس على رأسه ،كما فً رواٌة "طرح
النهر"( ، )ٔ٘99ولم ٌكن هذا من خٌال األدباء بل قتل الفبلحون بالفعل مرابٌا ٌونانٌا وهددوا مرابٌن ٌهود بالقتل
فً عدة حوادث خبلل ثورة ٔ.)ٔ٘98( ٔ88
▼ (النزح والتهرٌب)
نشطت الجالٌات األجنبٌة فً نزح األموال التً تكسبها فً مصر إلى خارجها بؤشكال مشروعة أو ؼٌر
مشروعة لتصب فً بلدانهم األصلٌة أو البنوك العالمٌة ،أو لتموٌل تنظٌمات معٌنة ،أو فً شكل فتح
مشروعات وفروع لهم فً الخارج باسم استثمار ،فصارت مصر بحسب وصؾ وزٌر االقتصاد األسبق
عبد الجلٌل العمري "زي البقرة اللً ضرعها ممدود لبرة وبٌتحلب برة".
(٘)ٔ٘9
-األجانب فً مصر ٕٕ ٔ9ٕ٘ -ٔ9دراسة فً تارٌخ مصر االجتماعً ،مرجع سابق ،ص ٖٕ9 -ٖٕ8
()ٔ٘9ٙ
-عبد هللا الندٌم خطٌب الثورة العرابٌة ،نجٌب توفٌق ،مرجع سابق ،ص ٕٗٗ
()ٔ٘99
-مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن ،محمد جبرٌل ،ج ٕ ،مرجع سابق ،ص ٕ٘ٓ
()ٔ٘98
-الفبلحون بٌن الثورة العرابٌة وثورة ،ٔ9ٔ9علً بركات ،المجلة التارٌخٌة المصرٌة ،المجلد ٕٕ ،ٔ99٘ ،ص ٕٔ9
٘٘9
وطبٌعً أن ٌتسبب اندفاع األموال المصرٌة للخارج فً خفض قٌمة الجنٌه المصري فً األسواق
العالمٌة ،نتٌجة مباشرة لزٌادة عرضه للبٌع عند إجراء التحوٌل من مصر إلى الخارج(.)ٔ٘99
وزادت وتٌرة تهرٌب الثروات مع الحرب العالمٌة الثانٌة ،فمثبل كان الٌهود ٌحولون أموالهم من مصر
إلى السودان استفادة من انعدام الرقابة الجمركٌة بٌن البلدٌن ،ومن هناك تحول إلى أحد البنوك فً الخارج
لتشتري بضابع وأسلحة ٌجري تصدٌرها إلى إسرابٌل ،وتقدمت عابلة ٌهودٌة -أثناء حرب -ٔ9ٗ8بطلب
تحوٌل مبلػ ٌزٌد على ٖٓ ألؾ جنٌه ،ولما طالبت مراقبة النقد مستندات إثبات ملكٌة األموال المطلوب
تحوٌلها رد البنك القابم بدور الوسٌط فً عملٌة التحوٌل بؤن أصحاب الطلب سحبوا أموالهم وؼادروا الببلد
نهابٌا ،وكانت العابلة نجحت بالفعل فً الهجرة وتهرٌب كل أموالها عن طرٌق السوق السوداء التً ٌدٌرها
الٌهود أٌضا(ٓٓ.)ٔٙ
وبذلك فإن معظم أموال األجانب -وبعض األثرٌاء المستمصرٌن والمصرٌٌن والعابلة الحاكمة -تم
تهرٌبها للخارج قبل ٕ٘ ،ٔ9فما أممته ثورة ٖٕ ٌولٌو ال ٌساوي نقطة فً بحر ما هربوه من مصر.
وبجانب الٌهود نشط فً هذا الجال البرٌطانٌون والمالطٌون ،واألخطر من ذلك هو النشاط المحموم
وؼٌر المسبوق فً تهرٌب اآلثار والذهب لخارج مصر ،وفً المقابل تهرٌب البضابع المحظورة والخطرة
من الخارج إلى داخل مصر كالمخدرات والبارود(ٔٓ )ٔٙلنشر الضٌاع والعنؾ بٌن الناس ،فٌنزحون من مصر
إلى الخارج الخٌر وٌهربون إلى داخلها الشر.
بجانب تمٌٌع وتدمٌر األخبلق والقٌم ذاته ،فإن تصفٌة الشخصٌة المصرٌة تضمنت هتك قدسٌة كلمة
"مصري" و"ابن البلد" بعد أن بدأت تعود لوضعها فً ثورة ٔ ،ٔ88بل تفرٌؽها من قدسٌة أن ٌكون حاملها
مصرٌا خالصا ،لٌس له أي انتماء فً الجنسٌة أو العرق أو المذهب ألي بلد آخر.
وتابعنا أنه فً عصور االحتبلالت جرى السطو على صفة "مصري" لٌتسمى بها المحتلون أحٌانا ،رؼم
انفصالهم التام عن المصرٌٌن الحقٌقٌٌن (الفبلحٌن) ،ورؼم احتفاظهم باالنتماء ألعراق وببلد أخرى ،بل
حتى الممالٌك وصفهم المقرٌزي والجبرتً بـ"المصرلٌة" ،وهم ال ٌنتمون إال لنفسهم.
()ٔ٘99
-مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن ،محمد جبرٌل ،ج ٖ ،ص ٗ9ٙ
(ٓٓ)ٔٙ
-المرجع السابق ،ص ٗ99
*** من األعمال الفنٌة التً تعرضت لهذا التارٌخ مسلسل "رأفت الهجان" للكاتب صالح مرسً فً الجزء األول وأوضح نشاط الٌهود فً تهرٌب
األموال من مصر إلى الخارج لدرجة أنهم أصبحت "حرفة" للكثٌر منهم وٌؤخذون علٌها سمسرة
(ٔٓ)ٔٙ
-انظر الجالٌة البرٌطانٌة فً مصر (٘ٓ ،)ٔ88ٕ -ٔ8مرجع سابق ،ص ٖٖٗ
(ٕٓ)ٔٙ
-عبارة قٌلت عن وزٌر الخارجٌة البرٌطانً آرثر بلفور لما أصدر وعدا بتقدٌم فلسطٌن وطنا للٌهود ،ومنح الجنسٌة المصرٌة لؤلجانب هً تقدٌم
مصر ألجانب ٌتحكمون فً مصٌرها وٌشتركون فً ثروتها وٌملكون مناصبها عبر التجنٌس ..فبل ٌفرق األمر شٌبا عن طرٌقة أخذ الٌهود لفلسطٌن
باالستٌطان وبوعد بلفور.
٘9ٙ
ومع ارتفاع صحٌة "مصر للمصرٌٌن" ،وعودة كلمة مصرٌٌن لحقٌقتها وأهلها ،ورؼبة المصرٌٌن
الحقٌقٌٌن فً إنهاء تحكم التركً والشركسً والٌونانً والسوري والٌهودي والعربانً إلخ فً ببلده خبلل
الثورة فً ٔ ،ٔ88ظهر إلحاح فً تسمٌة األجانب بـ"المصرٌٌن" من بوابة القانون واألوراق الرسمٌة ،أو
ما عُرؾ بالتجنٌس ،بحٌث ٌحمل الجنسٌة المصرٌة أجناس أخرى بمجرد الوالدة فً مصر أو إلقامتهم فٌها
لسنوات محددة ،وبموجب هذا ال ٌصبح من حق المصري الحقٌقً االعتراض على وجود األجنبً المجنس
فً الحكومة وكل المجاالت ..فقد ح َّل االحتبلل بالقانون محل االحتبلل بالسٌؾ.
ففً عهد الخدٌوي عباس حلمً صدر قانون ٌسمح بمنح الجنسٌة المصرٌة لؤلجانب -بعد أن سمح سعٌد
بتملٌكهم األرض -فؤسقط من ٌد المصري حجته فً طرد المحتل أنه "أجنبً" ،ولكن القصة جذورها تمتد
إلى عصر إسماعٌل بصدور قانون الجنسٌة العثمانٌة ،ومنه نتتبع مسٌرة قوانٌن الجنسٌة المصرٌة.
أصدره السلطان العثمانلً على نسق التشرٌعات األوروبٌة ،وبه أصبح كل من ٌقٌم فً الوالٌات العثمانٌة
ٌُسمى عثمانً ،فاستقلت الجنسٌة بذاتها وانقطعت صلتها بالدٌن ،وأصبح كل الرعاٌا من مسلمٌن وؼٌر
مسلمٌن ٌتمتعون بما لهم من حقوق سٌاسٌة ومدنٌة على السواء(ٖٓ ،)ٔٙوإن كان هذا نظرٌا ولم ٌطبق حقا،
خاصة بالنسبة للمصرٌٌن الذٌن لم ٌؤخذوا حقوقا تساوٌهم بالوافدٌن والمستوطنٌن العثمانٌٌن.
وبتحقٌق إسماعٌل استقبلال ذاتٌا إلى حد ما ظهرت الرعوٌة المحلٌة ،أي االعتراؾ بشخصٌة خاصة
بسكان مصر تمٌزهم عن العثمانٌٌن الوافدٌن ،وأصبحت تظهر فً قوانٌن مثل الخدمة العسكرٌة المقتصرة
على من ٌقٌم بمصر من العثمانلٌة إضافة للمصرٌٌن ،وإن ظل للعثمانٌٌن المستوطنٌٌن تمٌزا على
المصرٌٌن فً المناصب والثروة.
فً ٌ ٔ9ونٌو ٓٓ ٔ9أٌام عباس حلمً الثانً صدر قانون ٌحدد من هم المصرٌون الذٌن ٌحق لهم انتخاب
مجلس شورى القوانٌن ،فجاء فٌه :عند إجراء العمل بقانون االنتخابات الصادر فً أول ماٌو سنة ٖٔ88
ٌعتبر من المصرٌٌن اآلتً بٌانهم:
ٔ-المتوطنون فً القطر المصري قبل ٔ8ٗ8بصفة دابمة ،وأرٌد بهم أهل البلد األصلٌون ولم ٌبرحوا أرضهم.
ٕ -رعاٌا الدولة العثمانٌة المولودون فً مصر من أبوٌن مقٌمٌن فً مصر دابما إلمكان توطن هإالء
واالندماج مع أهل البلد.
ٖ -رعاٌا الدولة العثمانٌة المولودون فً مصر وقبلوا بدخول الجٌش أو دفع البدلٌة.
(ٖٓ)ٔٙ
-انظر :األجانب فً مصر ٕٕ ٔ9ٕ٘ -ٔ9دراسة فً تارٌخ مصر االجتماعً ،محمود محمد سلٌمان ،مرجع سابق ،ص ٘ٔ
٘97
ٗ-اللقطاء.
وأجاز للرعاٌا العثمانٌة المقٌمٌن بمصر منذ أكثر من ٘ٔ سنة التجنس أٌضا إذا رؼبوا فً ذلك(ٗٓ.)ٔٙ
وبذلك دخل منذ ٓٓ ٔ9اآلالؾ لصفة مصري ولم ٌكونوا كذلك ،والرعاٌا العثمانٌون مقصود بهم كل
شخص تابع لبلد ٌحكمها السلطان العثمانً كالتركً والعراقً والسوري والحجازي والجزابري والتونسً
واألرمنً إلخ ،أما األجنبً فهو كل من لٌس من والٌة عثمانٌة ،وسبب إدخال هإالء فً كلمة "مصري"،
أن كثٌرا من أعضاء مجلس شورى القوانٌن وأعضاء الحكومة أساسا من هإالء العثمانلٌة الوافدٌن ،فطبٌعً
أن ٌحشروا أنفسهم فً صفة "مصري" لٌحتفظوا باحتكارهم للمناصب والثروة.
وهو أول قانون ٌصدر باسم الجنسٌة المصرٌة بسبب سقوط السلطنة العثمانٌة ،وصدر فً ٕٙماٌو ٔ9ٕٙ
إلعادة تحدٌد من ٌحمل الجنسٌة المصرٌة ،ولكن القانون لم ٌقره البرلمان لما رأوا فٌه من توسٌع مبالػ فٌه
فً منح الجنسٌة ،وألؽوه سنة .ٔٙٓ٘ٔ9ٕ8
ظل العمل بالقانون العثمانلً حتى صدور قانون مارس ،ٔ9ٕ9وٌعتبر أول قانون مصري ٌنظم حالة
الجنسٌة ،وفٌه حدد من هو المصري وفصله عن العثمانلً.
ٕ -كل من ٌعتبر عند نشر القانون مصرٌا بحسب المادة األولى من األمر العالً الصادر ٌ ٕ9ونٌو سنة
ٓٓ( ٔ9أي السكان القدماء).
ٖ -من عدا هإالء من الرعاٌا العثمانٌٌن المقٌمٌن عادة فً القطر المصري حتى ٘ نوفمبر ٗٔ ٔ9وحافظوا
على اإلقامة حتى نشر هذا القانون.
ثانٌا :من ولد فً القطر المصري أو فً الخارج من أم مصرٌة مدامت نسبته ألبٌه لم ٌثبت قانونا (أبناء
(ٗٓ)ٔٙ
-انظر نفس المرجع ،ص ٘ٔٔ9 -
٘ٓ -ٔٙاألجانب فً مصر ٕٕ ٔ9ٕ٘ -ٔ9دراسة فً تارٌخ مصر االجتماعً ،مرجع سابق ،ص ٔ8
٘98
العبلقات الؽٌر شرعٌة؟)
ثالثا :من ولد فً القطر المصري أو فً الخارج من أبوٌن مجهولٌن وٌعتبر لقٌطا ما لم ٌثبت العكس.
رابعا :من ولد فً القطر المصري أو فً الخارج ألب أجنبً أٌضا إذا كان هذا األجنبً ٌنتمً بجنسه
لؽالبٌة السكان فً بلد لؽته العربٌة أو دٌنه اإلسبلم.
ووسعت المادة 8باب التجنٌس بإتاحة التجنٌس لحالة جدٌدة ،وهً من أقام بمصر ٓٔ سنوات وتوافر فٌه
حسن السٌر والسلوك وله مصدر رزق وٌعرؾ العربٌة( ،)ٔٙٓٙفصار التجنٌس "لكل من هب ودب".
فهو أوال أكد على لصق العٌلة العلوٌة بالجنسٌة المصرٌة رؼم استمرار اعتزازهم بؤصولهم األجنبٌة وتعالٌهم
على الفبلح وانفصالهم عنه (وذلك بعد تعالً أصوات تطالب بإنهاء حكمها باعتبارها عابلة أجنبٌة مثل مقاالت
الصحفً أحمد حلمً والتً سُجن بسببها بتهمة اإلساءة للذات الخدٌوٌة الفخٌمة سنة ،)ٔ9ٓ9وجامل العثمانٌٌن،
خاصة أن كثٌرا من النواب وكبار المبلك الذٌن وضعوا القانون هم أصبل من العثمانٌٌن ورعاٌاهم الذٌن
استوطنوا مصر كاألتراك والٌونان واألرمن والعرب والشوام ،وٌرٌدون الحصول على صفة مصري للوصول
إلى الوظابؾ المدنٌة والحربٌة والمناصب الهامة بعد أن نص دستور ٖٕ ٔ9على أن تكون هذه الوظابؾ
للمصرٌٌن فقط ،وأٌضا لٌتماهوا مع المجتمع وٌقدموا له مبررا قانونٌا لتملكهم معظم أراضً الببلد بعد ارتفاع
صوت "مصر للمصرٌٌن" من جدٌد بثورة .ٔ9ٔ9
وثانٌا فتح الباب واسعا لؤلوروبٌٌن واألمرٌكٌٌن والروس واألفارقة إلخ للتسمً بتسمٌة مصري ألول مرة
بالمادة الخاصة بتجنٌس من أقام فً مصر ٓٔسنوات أو ولد فً مصر ،أو ولد فً بلد ٌتحدث العربٌة ودٌنه
اإلسبلم ،وبهذا صارت كل األجناس لها فرصة احتبلل مصر ..بالقانون.
ومثال لهذا مصوراتً روسً اسمه سبلمون أوشٌرؾ طلب الجنسٌة سنة ٖٔ ٔ9بحجة أنه فً مصر منذ
أكثر من ٓٔ سنوات وٌعرؾ العربٌة -طبٌعً أن ٌتقنها فً هذه المدة -وله حرفة ،وحصل علٌها بالفعل
بحسب مذكرات وزارة الداخلٌة المودعة بدار الوثابق القومٌة بالقلعة(.)ٔٙٓ9
وإن كان فتح باب التجنٌس للعثمانٌٌن ورعاٌاهم سببه أن كثٌر من النواب وكبار المبلك منهم ،فؽٌر مفهوم
فتح الباب على مصراعٌه هكذا أمام بقٌة األجانب إال خضوع من وضعوا هذا القانون لضؽوط أو صفقات
مع الجالٌات األجنبٌة أو االحتبلل اإلنجلٌزي ،لٌكون امتدادا لبلمتٌازات األجنبٌة التً تعطً لؤلجانب مزاٌا
لٌست لهم ،وتطبٌقا -مقصود أو ؼٌر مقصود -لمشروع كرومر وملنر بالتدوٌل.
وبالفعل ،فإنه مع التطبٌق العملً لهذا القانون ظهرت عٌوبه ،خاصة وأنه صدر ومصر ؼٌر كاملة السٌادة،
وتحت االحتبلل وٌعتبر امتدادا لبلمتٌازات األجنبٌة ،فقد بلػ عدد المجنسٌن ٕٓٔ ٖٔ,أجنبٌا دفعة واحدة فً
()ٔٙٓٙ
-المرجع السابق ،ص ٕٓ -ٔ9
()ٔٙٓ9
-المرجع السابق ،ص ٕٓ
٘99
لتظل حٌل المسٌخ الدجال مستمرة لسلب تعداد ٔ9ٗ9من عدة جنسٌات ،أكثرهم من الٌونان واألرمن
()ٔٙٓ8
لزم صدور قانون جدٌد ومصر فً حالة السٌادة (الشكلٌة بعد معاهدة )ٔ9ٖٙومختلفة عن عام ٔ9ٕ9؛
وكانت االمتٌازات األجنبٌة انتهت تماما سنة ،ٔ9ٗ9على أن ٌوزن التشرٌع بمٌزان مصلحة الدولة العلٌا،
فصدر القانون رقم ٓ ٔٙلسنة ٓ٘.ٔ9
و اختلؾ عما سبقه فً أنه لؽى تجنٌس من ولد فً مصر ألجنبً ولد أٌضا فً مصر مدام ٌعرؾ العربٌة
ومسلم ،ولؽى فكرة وحدة الجنسٌة فً العابلة ،بمعنى أنه لؽى دخول الزوجة األجنبٌة تلقابٌا فً جنسٌة
الزوج بمجرد زواجها ،بل ٌلزم األمر تقدٌمها طلبا وتوافق علٌه الدولة( )ٔٙٓ9إال أن معظم بقٌة المواد تبقً
على مساوئ ما مضى رؼم المطالب بؤن ٌبتعد عن االنفتاح المهٌن فً التجنٌس.
فهو جمع المواد من ٔ ٘-فً مادة واحدة هً المادة األولى ،بل وأضاؾ مٌزة للرعاٌا العثمانٌٌن السابقٌن وهً
منح الجنسٌة لمن لم ٌحافظ على إقامة دابمة فً مصر بعد ٘ نوفمبر ٗٔ ٔ9حتى ٔ9ٕ9لو طلبوا خبلل سنة من
هذا التارٌخ دخولهم فً الجنسٌة المصرٌة ،ووافق وزٌر الداخلٌة على هذا الذي ٌتضح أٌضا أنه لم ٌكن إال
مجاملة لصالح عاببلت من أصول أجن بٌة من رعاٌا عثمانلٌة سابقٌن وبقاٌا أقاربهم وبنً جلدتهم من الوافدٌن
الجدد.
والمقصود فً هذه المرة بالرعاٌا العثمانٌٌن من لم ٌختاروا الجنسٌة التركٌة أو أي بلد آخر استقل عن تركٌا
بعد معاهدة لوزان سنة ٖٕ ،)ٔٙٔٓ( ٔ9أي ٌكون تركٌا أو سورٌا أو عراقٌا أو حجازٌا أو جزابرٌا إلخ ،ولكنه
لم ٌحصل على جنسٌة هذه الببلد ،فؤعطوه الجنسٌة المصرٌة بدال من أن ٌعود إلى بلده األصلً أو ٌسعى
لٌتجنس بجنسٌتها ،وذلك بالرؼم من أنه بداٌة من ذلك التارٌخ بدأت الدراسات تظهر لتحذر من زٌادة عدد
السكان فً مصر.
إنها صناعة من حلم بهم كرومر :مسلمون ولٌسوا بمسلمٌن ،مسٌحٌون ولٌسوا بمسٌحٌٌن ،مصرٌون
ولٌسوا بمصرٌٌن" ..ولٌس الجنسٌة المصرٌة أو الدٌن عندهم إال كلمة فً خانة على ورقة.
"قالت األعراب آم َّنا قل لم تإمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمَّا ٌدخل اإلٌمان فً قلوبكم" (الحجرات اآلٌة ٗٔ)
()ٔٙٓ8
-نفس المرجع ،ص ٙ8
()ٔٙٓ9
-المرجع السابق ،ص ٕٕ
(ٓٔ)ٔٙ
-نفس المرجع ،ص ٕٕٕٔ -
ٓٓٙ
ما سبق ٌصب ،أو هو نتٌجة وصدى ،لمشروع تدوٌل مصر كما جاء على لسانً ملنر وكرومر.
ٌقول ألفرد ملنر ،وزٌر المستعمرات البرٌطانً وقت ثورة ٔ9ٔ9عن التؤثٌر المستقبلً لبلمتٌازات
األجنبٌة بانشكاح" :لٌس فً الشرق ببلد كمصر ٌكثر فٌها النزالء األوروبٌون وٌتمتعون بمزاٌا خصوصٌة،
وٌحتلون مراكز مهمة فً التجارة والتعلٌم والصناعات العلمٌة واألدبٌة والهٌبة االجتماعٌة ودواوٌن
الحكومة أٌضا" ،وأن "المدن المصرٌة الكبٌرة ،وال سٌما اإلسكندرٌة ،أصبحت مدنا أوروبٌة من وجوه
كثٌرة" ،وأعرب عن عشمه فً أن مصر ستظل "ببلدا دولٌة على الدوام بمعنى ما" ،ألنه اعتبر أن "ال حل
للقضٌة المصرٌة ٌدوم طوٌبل ما لم ٌراع فٌه ضمان المصالح األوروبٌة العظٌمة الحصٌنة فً وادي
النٌل(ٔٔ ،")ٔٙأي لن ٌخفوا ضؽطهم عن مصر إال بتعهد مصر باستمرار أن تكون "دولٌة للجمٌع" ،ولٌس
"للمصرٌٌن" ،فٌما ٌمكن وصفه بـ"تدوٌل مصر".
وسبقه كرومر فً أحد تقارٌره المرسلة إلنجلترا عن مصر ضمن "الكتاب األزرق" فً ٗٓ ٔ9أنه
خطط لنظام حكم تشترك فٌه الجالٌات األجنبٌة فً مصر فً الحكم ،وٌكون صوتهم مسموعا ،مبررا ذلك:
"إذ أن األجانب المقٌمٌن فً مصر ال ٌمكن اعتبارهم أجانب بالمعنى الذي ٌنصرؾ إلى الفرنسً المقٌم
بإنجلترا أو اإلنجلٌزي المقٌم فً فرنسا؛ وتقتضً السٌاسة الصحٌحة والعدل أن ٌعد هإالء األجانب
مصرٌٌن"(ٕٔ ..)ٔٙولقً هذا قبوال واسعا عند الجالٌات األجنبٌةـ دعَّم ما ادعته إنجلترا لنفسها من أنها فً
مصر من أجل "حماٌة األجانب واألقلٌات".
وهذه الطرٌقة "إشراك األجانب فً حكم مصر" عبر مشروع كرومر تم ترجمتها فً وقت الحق عبر
القوانٌن سٌبة السمعة الخاصة بالجنسٌة المصرٌة "االحتبلل المقنع" ،وإدخال أجانب فً البرلمان.
وفً هذا الجو المسموم ،اشتدت مطالب المصرٌٌن بالكؾ عن االمتٌازات األجنبٌة التً جعلت مصر بلد
أجانب ال بلد مصرٌٌن ،وأظهر محمد عبد الباري فً كتابه "االمتٌازات األجنبٌة" سنة ٖٓ ٔ9بحقابق
التارٌخ والقانون فساد الحجج التً ٌتذرع بها األجانب الستمرار هذه االمتٌازات وكؤنها صارت "حق
مكتسب" ،ومنها حجة أن "مصر منشؤ االمتٌازات" -أي هً السبَّاقة فً منح االمتٌازات لؤلجانب منذ قرون
طوٌلة -وسبقت حتى تضمٌنها فً معاهدات مع السلطنة العثمانلٌة ،وأنه حتى لو ألؽت السلطنة هذه
المعاهدات أو تحررت مصر من السلطنة فإن مصر ٌجب أن تلتزم بمنح هذه االمتٌازات لؤلجانب بموجب
"العرؾ والعادة"(ٖٔ.")ٔٙ
وهذا كبلم حٌن ٌتجرأ األجنبً على النطق بهٌ ،متؤل الحلق مرارة أن ٌفكر األجانب بؤننا بهذا الهوان
لدرجة أن ٌرى تمٌٌزه فوق المصرٌٌن هو "حق بحكم العرؾ والعادة" ،لكن هذا "الهوان" له جذور بعٌدة،
فطوال التارٌخ -فً عصور أزمنة الحكم المصري الحرة أو عصور االحتبللٌ -جد فً مصر معاملة ممٌزة
(ٔٔ)ٔٙ
-انظر :الصراع االجتماعً والسٌاسً فً مصر منذ قٌام ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘ ٔ9إلى نهاٌة أزمة مارس ٗ٘ ،ٔ9عبد العظٌم رمضان ،مكتبة
مدبولً ،ط ٕ ،القاهرة ،ص ٘ٗٗٙ -
(ٕٔ)ٔٙ
-الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي ،سامً عزٌز ،مرجع سابق ،ص ٕٕ٘ٔٔٙ -
(ٖٔ)ٔٙ
-انظر :االمتٌازات األجنبٌة ،محمد عبد الباري ،مرجع سابق ،ص ٖٖٖٗ -
ٔٓٙ
ال ٌجدونها فً ببلدهم وال ببلد ؼٌرهم ،وإن كانوا أسرى حرب وعبٌد ،وٌضًء وجه حكامها حٌن ٌوصؾ
أحدهم بؤنه "حامً حمى األجانب" ،وٌحكم "بلد التسامح" و"بلد الفرص".
وكعادة المحتل فً تقدٌم كل خطوة ٌفعلها كـ"جمٌل" على رقبة أهل البلد ،فإنه حتى حٌن أبدى كرومر
مٌبل إلنهاء االمتٌازات األجنبٌة إلزاحة مزاحمة الدول األوروبٌة لبرٌطانٌا خرجت صحٌفة "االتحاد
المصري" الشامٌة التابعة له لتهلل أن معجزة ستتحقق بؤن المصري سٌتساوى فً بلده باألجنبً" :فإذا لم
ٌكن لئلنجلٌز عمل ٌحمد فً هذه الدٌار شكرا لهم سعٌهم المتواصل فً محو آثار االمتٌازات القدٌمة حتى
ٌصبح الوطنٌون مساوٌٌن لؤلجنبً"(ٗٔ.)ٔٙ
وصورة أخرى من صور االمتٌازات األجنبٌة التً نشطت زمن االحتبلل اإلنجلٌزي هو تحوٌل مصر
إلى "شركة متعددة الجنسٌات" ،فبمفهوم ملنر ،فإن تدوٌل مصر ٌعنً أن تكون مصر شركة تشترك فً
استٌطانها وإدارتها دول أوروبٌة عبر جالٌاتها ،تجمعهم مصالح فً السٌطرة على مصر ،ولٌس هذا رأي
الؽرب فقط ،بل رأي شخصٌات وتنظٌمات من الشرق أٌضا ترٌد أن ٌكون لها أسهم فً هذه "الشركة".
فحصل أنه فً الوقت الذي ٌجذب الؽرب مصر من ذراعها بكل قسوة نحوهٌ ،جذب العرب أٌضا مصر
من ذراعها الثانً بكل قسوة نحو ""التدوٌل" ،وهً على وشك التمزق بٌن هذا القلب الجاحد وذاك.
فتحدث ش وام صراحة أن مصر بلد "دولٌة" ،ال تخص أبنابها فقط ،وكتب أحد صناع القومٌة العربٌة فً
أول القرن العشرٌن ،محمد كرد علً ،مإسس أول مجمع للؽة العربٌة ومقره دمشق ،مقالة فً مجلة أسسها
فً مصر اسمها "المقتبس" بعنوان "الهجرة إلى مصر" سنة ،ٔ9ٓ9عرض فٌها للهجرات التً هبطت
على مصر فً عصور االحتبلالت ،ودعا كافة الجنسٌات للهجرة مجددا إلى مصر بحجة أن "مصر من
حٌث هً مهاجر األرض فهً دولٌة كما ٌقول الساسة أو مشتركة بٌن أجناس وأدٌان شتى".
وتفاخر بؤن بنً جنسه الشوام ٌحصدون فٌها الثروة الباهظة ،وأنه "قدرت ثروة السورٌٌن فٌها بخمسٌن
ملٌون جنٌه؛ أي بعشر ثروة القطر ،وهكذا سابر األمم والسٌما الروم والطلٌان والفرنسٌس ،فإن فٌها من
هذه األجناس ألوفا ً اؼتنموا من خٌراتها واتخذوها دار هجرتهم وطنا ً ثانٌا ً لهم"(٘ٔ ،)ٔٙمتجاهبل أن هذا تسبب
فً أن ٓ %9من أصحابها الحقٌقٌٌن ال ٌملكون ٓٔ %من ثروة بلدهم.
جنس
ِ حالل للطٌر من كل أحرام على بالبله الدوح
ومحمد كرد علً قال هذا فٌما ٌعلم أنه هو وشوام آخرون ٌهربون من الشام إلى مصر فرارا من
الصراعات والمذابح الطابفٌة والعرقٌة الناتجة عن تعدد الهجرات واختبلؾ األعراق والطوابؾ فً الشام،
(ٗٔ)ٔٙ
-الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي ،سامً عزٌز ،مرجع سابق ،ص ٕٔ9
(٘ٔ)ٔٙ
" -الهجرة إلى مصر" ،محمد كرد علً ،مجلة المقتبس ،العدد ،ٔ8بتارٌخ ٘ٔٔ9ٓ9 –9 -
ٕٓٙ
فكؤنهم لما عجزوا عن التوفٌق بٌن هذه األعراق والطوابؾ اختاروا أن تكون مصر "الوطن االحتٌاطً" لهم
ولؽٌرهم ،فٌوعزوا ألهلها بقبول هذا ألنها "بلد لكل األجناس"ٌ ،لجؤ إلٌها الشامً والؽربً والشرقً عموما
لٌؤخذ فٌها ما عجز أن ٌؤخذه فً بلده ،فٌرتاح المهاجر إلٌها من تمزق ببلده ،وٌكابد المصري من تكالب
الطوابؾ واألعراق على بلده.
ورؼم أنه من أنصار تٌار "الجامعة اإلسبلمٌة" ،أو"الجامعة العثمانٌة" ،إال أن مصطفى كامل سخر من
الصحؾ التً تقول إن مصر بلد "لكل األجناس" ،فٌتعجب فً جرٌدة اللواء سنة ٕٓ ٔ9ممن "ٌقول
للمصرٌٌن إن مصر لٌست وطنا لكم بل وطن للعالم أجمع"(.)ٔٙٔٙ
باب آخر اتخذه الؽرب والشرق حجة للتدوٌل أٌام اإلنجلٌز ،هو قناة السوٌس.
فبعد إلؽاء معاهدة ٔ9ٖٙجن جنون البرٌطانٌٌن وفقدوا صوابهم ،وأعلنت الوزارة اإلنجلٌزٌة الجدٌدة-
رؼم انتمابها لحزب العمال الذي ٌقول إنه نصٌر الشعوب والحرٌات -على لسان وزٌر الخارجٌة هربرت
مورٌسون أن "برٌطانٌا ستقابل القوة بالقوة إذا اقتضى األمر لبقاء قواتها فً منطقة قناة السوٌس ،وأن
الحكومة البرٌطانٌة لن تذعن لمحاولة مصر تمزٌق المعاهدة(.")ٔٙٔ9
وألقى تشرشل زعٌم المحافظٌن خطابا فً البرلمان ٌإٌد حكومة العمال ،فاجتمع الحزبان ضد مصر،
كما اجتمعا ضدها فً االحتبلل ،وقال تشرشل إن "إقدام حكومة مصر على إجبلء اإلنجلٌز عن منطقة قناة
السوٌس والسودان ضربة أخطر وأكثر مهانة للكرامة من اضطرارها إلى الجبلء عن عبدان بإٌران(.")ٔٙٔ8
وقبل اللجوء للقوة ،تحا ٌلت برٌطانٌا بؤمر جدٌد ٌحل محل المعاهدة ،وٌنبا عن أنها تعتزم أال ترد قناة
السوٌس إلى مصر عقب انتهاء فترة االمتٌاز سنة ،ٔ9ٙ8وهو ماعرؾ بمقترحات الدول األربعة.
والدول األربعة هً برٌطانٌا والوالٌات المتحدة وفرنسا وتركٌا ،وقدموا مقترحات للحكومة المصرٌة فً
أكتوبر ٔ٘ ٔ9لمعاهدة للدفاع المشترك مع الدول األربعة ،تحل محل معاهدة ،ٔ9ٖٙتقضً بؤن تكون
حماٌة قناة السوٌس منوطة بقوات دولٌة تشترك فٌها مصر وبرٌطانٌا وأمرٌكا وفرنسا وأسترالٌا ونٌوزٌلندا
وجنوب أفرٌقٌا ،وٌكون لجزء من هذه القوات حق البقاء فً مصر حتى فً حالة السلم ،ثم استمرار الحكم
البرٌطانً فً السودان مع إنشاء رقابة دولٌة صورٌة ال تحد من سٌطرة اإلنجلٌز فٌه ،وجعل عبلقة مصر
بالسودان عبلقة مٌاه فحسب(.)ٔٙٔ9
والستنزاؾ مصر كما حدث فً الحرب العالمٌة األولى ،فإن المعاهدة الدولٌة المقترحة تطالب مصر
بتقدٌم األموال والتسهٌبلت لئلنفاق على القوات الدولٌة الجدٌدة فٌما ٌخص القوات العسكرٌة والمواصبلت
والموانً إلخ ،سواء وقت الحرب أو وقت السلم بحجة أن هذه هً تكالٌؾ "حماٌتها" ،أي "حماٌة" مصر.
()ٔٙٔٙ
-الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي ،مرجع سابق ،ص ٕ٘9
()ٔٙٔ9
-مقدمات ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘ ،ٔ9مرجع سابق ،ص ٖٗ
()ٔٙٔ8
-نفس المرجع ،ص ٖ٘
()ٔٙٔ9
-مقدمات ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘ ،ٔ9مرجع سابق ،ص ٖٖ٘ٙ -
ٖٓٙ
كما تضمنت تحوٌل القاعدة البرٌطانٌة فً قناة السوٌس إلى قاعدة للتحالؾ الدولً؛ مما ٌصعب المهمة
على الجٌش المصري فً استردادها ٌوما ما ،ووضعها بعٌدا عن أي دابرة تفاوض.
وقدمت لمصر "إؼراء" فً سبٌل قبولها المعاهدة الجدٌدة ،وهو أن التحالؾ الدولً سٌشارك فً تدرٌب
الجٌش المصري ورفع كفاءته ،وٌوافق على أن ٌكون لمصر منصب كبٌر فً التحالؾ ،ولكن القٌادة العلٌا
ستكون للحلفاء ولٌس للجٌش المصري.
وبذلك ٌعود الجٌش المصري تحت قٌادة إنجلٌزٌة كما كان قبل معاهدة .ٔ9ٖٙ
ولعبت برٌطانٌا فً المقترحات الجدٌدة بورقة مٌاه النٌل حٌن تكلمت عن عمل سلطة خاصة لمشروعات
النٌل بمساعدة البنك الدولً تشمل ضمانا دولٌا التفاقٌات مٌاه النٌل(ٕٓ)ٔٙ؛ أي ٌضعوا روح مصر وسر حٌاتها
فً ٌد بنوك روتشٌلد وتنظٌم النارٌٌن بتدوٌل نهر النٌل من المنبع ،وبذلك ٌتحول االحتبلل البرٌطانً إلى
احتبلل دولً ٌصعب المهمة أمام الشعب المصري فً مواجهته ،ألنه سٌواجه عدة دول لها قوات ومصالح
فً مصر ،وبالطبع جالٌات.
قوبلت هذه المقترحات بالرفض حٌنها ...لكنها عادت بعد ٗ ٔ99ثم ٕٔٔٓ بصور أخرى ،أشد قوة.
تعالوا نبحث سوٌا عن اإلجابة العزٌزة لسإال أدٌبنا الحابر صبلح عبد الصبور" :ال أدرى كٌؾ ترعرع
فى وادٌنا الطٌب هذا القدر من السفلة واألوؼاد" ،وإن كان أدٌبنا قصد بالسإال شٌبا آخر إال أننا نرٌد معرفة
اإلجابة على نفس السإال لو أشرنا إلى ظهور التنظٌمات اإلرهابٌة والجمعٌات السرٌة فً مصر واختبلل
القٌم والمعاٌٌر -خاصة عند بعض المتعلمٌن -وظهور "مصرٌٌن" ٌجهرون بكراهٌتهم لمصر وحضارتها
وحبهم لبل حتبلل ،بل ورؼبتهم فً إعادة مصر لبلحتبلل سوا األوروبً أو العثمانلً أو العربً أو أٌا من
كان تحت أسامً "اإلسبلم هو الحل" ،و"إحٌاء الخبلفة" ،و"الوحدة العربٌة" ،و"اإلخاءاإلنسانً"،
و"الحرٌات" ،و"الدٌمقراطٌة" ،و"االنفتاح على العالم" ،وؼٌرها.
فؤرض مصر الطٌبة -كما تابعنا -ال ٌطرح طٌنها الشر منذ ؼلب حور ست ،ولكنها -فً وقت ؼفلتها
وؼٌاب ماعت تستقبل الشرور الوافدة ،وتجد لها مكانا بمعونة الؽرباء األوؼاد.
وإن ما سبق كله من مخططات وقوانٌن (عبادة االحتبلل ،نشر الجرٌمة المنظمة ،التدوٌل ،التجنٌس،
شحن الجالٌات إلى أرض مصر ،تحقٌر قٌمة المصري ،وؼٌرها) ،لم ٌكن لٌجد له إثمار واستمرار فً
مصر بدون أن تتلقفه محافل ومذاهب تحارب الهوٌة المصرٌة والوطنٌة ،وتتماهى وتندمج مع هوٌات
أجنبٌة فٌنقسم المصرٌون إلى أحزاب تحارب بعضها ،وتسلم بلدها طوعا لبلحتبلالت "دون شعور بؤن ما
تفعله خٌانة" ،بل خدمة للدٌن ،أو للعروبة ،أو لئلخاء اإلنسانً والسبلم العالمً.
(ٕٓ)ٔٙ
-نصوص اتفاقٌة تدوٌل مصر منشورة كاملة فً :مقدمات ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘ ،ٔ9عبد الرحمن الرافعً ،مرجع سابق ،ص ٖ9
ٗٓٙ
وفترة االحتبلل الرباعً (اإلنجلٌزي ،العلوي ،العثمانلً ،الجالٌاتً) على قصرها (ٓ 9سنة) لكنها
أخصب فترات تارٌخ مصر فً زرع هذه المحافل من كل لون ،وما زالت تدنس أرض مصر ،وما زالت
تفرخ أشخاصا ٌؤخذون مصر إلى طرٌق السقوط النهابً -اإلبادة -ومنها (الماسونٌة ،الشٌوعٌة ،السلفٌة
واإلخوان المسلمٌن ،القومٌة العربٌة ،اللٌبرالٌة الرأسمالٌة ،اإلرسالٌات التبشٌرٌة) ،وهً "تٌارات
الهكسوس" الجدٌدة التً أضٌفت للتٌار القدٌم (الطرق الصوفٌة).
هكذا حال مصر منذ بدأ أوالد البلد ٌعودون للحٌاة من جدٌد ،تتخطفها تٌارات أجنبٌة "تشوه وشها"
و"تتوهها بٌن شٌن وزٌن" ،و"تطرطش نظرٌات الؽش علٌها" ..كالنداهة.
و"النداهة" حكٌوة تراثٌة مصرٌة عن امرأة أجنبٌة عن القرٌة ،تقؾ لرجالة القرٌة فً الطرٌق المظلم،
وتتلوى لهم كالحٌَّة ،تبهرهم بجمالها ،وتندهم بؤسامٌهم كؤنها تعرفهم ،وتؽوٌهم بكبلم معسول
َّ تتسحب
ٌشعرهم بذاتهم ورجولتهم ،فٌسٌل رٌق الرجل ،وتتخدر أعصابه ،ال ٌترك الفرصة لعقله ٌسؤل من هذه
الؽرٌبة وماذا ترٌد ،وٌجري نحوها فً الظبلم ...وإذ فجؤة تشد قبضتها علٌه وتؽوص به فً الترعة أو فً
أي مكان مجهول ،وبعد أٌام ٌفاجا به أهل القرٌة مرمٌا على نفس الطرٌق مقتوال ،أو مجنونا ،خاصة لو
عرؾ أسرار عالمها الذي خطفته إلٌه ،والعجٌب أنه رؼم تكرار حكاٌتها لكن ٌنسى الرجالة وٌقعون فً فخ
النداهة رجل وراء رجل ..وٌقول حكماء القرٌة إن النجاة من النداهة بذكر هللا ورش ملح نحوها وعدم الرد
علٌها لما تندهٕٔ.ٔٙ
وهكذا حٌن خرج بعض المصرٌٌن -ممن أخذوا قسطا من التعلٌم -من تحت الركام واألطبلل التً هالتها
علٌه االحتبلالت الطوٌلة لٌبصروا الحٌاة من جدٌد فً القرن ،ٔ9خرجوا من تحتها بجسد تملإه التقٌحات،
وذاكرة مفقودة ،وعٌون تتحسس خطواتها من بعد طول الظبلم ،وقفوا على ركام هذه االحتبلالت ٌتلفتون
حولهمٌ ،سؤلون :أٌن نحن؟ من نحن؟ إلى أٌن نسٌر؟ وأمامهم ألؾ طرٌق وطرٌق ،على ناصٌة كل طرٌق
تقؾ النداهة ،تؽرٌهم وتمنٌهم بالجنة فً نهاٌة الطرٌق ،فاختارت كل مجموعة منهم أن تسٌر وراء نداهة فً
طرٌق ،فتشتت بالمصرٌٌن السبل ،وتفرقوا ،وتحولوا من أن ٌكون هدفهم أن ٌجدوا طرٌق مصر السلٌم
الذٌن ٌحضنهم جمٌعا ،إلى خصوم ،وبدال من أن ٌناصروا مصر وحدها لتكون طرٌقهم إلى السماء ،باتوا
ٌناصرون أعداءها !
وهذه هً بالحرؾ حكاٌة أهل الشر مع المصرٌٌن بداٌة من االحتبلل الفرنساوي وحتى اآلن ،ال ٌكتفون
بالسبلح كما كانوا فً االحتبلالت السابقة ،بل ٌؽوون مصر بالكبلم المعسول عن جمالها ومكانتها ،وعن أنهم هم
منقذوها من ظالمٌها ومحتلٌها ومن الجهل والتخلؾ ،فإذا ما صدقهم مصري وجرى إلٌهم وقع فً الفخ واتشقلب
كٌانه ،وانتهى به الحال لو طال بهم المقام إلى قتٌل ،أو مجنون ،أو عمٌل خاٌن ،أو دلدول ،أو مسخ ،وفً أحسن
األحوال تاٌه تمزقه الحٌرة.
ٕٔ -ٔٙحكاٌات من ندهتهم "النداهة" من أهل مصر ،نورهان فتحً وسارة دروٌش ،موقع صحٌفة الٌوم السابعٕٓٔ٘ -ٕٔ -٘ ،
٘ٓٙ
▼▼▼ الؽزو الماسونً لمصر (العولمة)
حلَّت المحافل الماسونٌة فً مصر مع الفرنسٌس سنة -ٔ998كما تابعنا فً الكبلم عن االحتبلل
الفرنساوي -ورصد الدكتور وابل إبراهٌم الدسوقً فً رسالته للماجستٌر من جامعة عٌن شمس عن
الماسونٌة فً مصر تطورها منذ ذلك الحٌن وأشكالها وتؤثٌراتها على المصرٌٌن حتى صدور قرار الربٌس
جمال عبد الناصر بؽلق المحافل الماسونٌة ٗ ،ٔ9ٙونعرض أجزاء منها هنا ،ومن دراسات أخرى مصرٌة
وأجنبٌة حول نفس األمر.
ٌ َّدعى الماسون أن دٌانتهم هً الدٌانة المصرٌة ،وأماكن إقامتهم بمثابة المعابد المصرٌة ،وهم أنفسهم
بمثابة رجال الدٌن المصرٌٌن(ٕٕ ،)ٔٙوالنتٌجة أنهم ٌعتبرون أنفسهم الحكام الحقٌقٌٌن لمصر!
وبحسب ما ذكره الماسونً الشامً والكاتب الشهٌر جرجً زٌدان الذي جاء لٌقٌم فً مصر خبلل القرن
ٔ9فً كتابه "تارٌخ الماسونٌة العام" فإنه بعد رحٌل الحملة الفرنسٌة وؼلق محفل "إٌزٌس" الذي أسسه
كلٌبر أسس إٌطالٌون استقدمهم محمد علً لمشارٌعه محفبل فً اإلسكندرٌة على الطرٌقة األسكتلندٌة سنة
ٖٓ ،ٔ8ثم توالت المحافل فً المحافظات وصارت بالعشرات ،وتمتع أعضابها بحماٌة االمتٌازات األجنبٌة
التً تكفل لهم حرٌة الحركة والحماٌة من المحاسبة والرقابة.
كما تمتعت المحافل الماسونٌة برعاٌة محمد علً وأوالده من بعده ،وخضعوا لها تحت إؼراء الخبراء
الذٌن بقوا من مخلفات الحملة الفر نسٌة أو جلبهم لتنفٌذ مشارٌع تحدٌث الصناعة والتعلٌم ،وما ٌرفعونه من
شعارات الحداثة والتطوٌر واإلنسانٌة والعمل الخٌري ،فانضم للمحافل األمٌر حلٌم ابن محمد علً،
والخدٌوي توفٌق وابنه محمد علً ،وعمر طوسون (حفٌد الوالً سعٌد) كمظهر من مظاهر ارتباطهم
بـ"التحضر األوروبً" كما توهموا ،وأصبح الماسون فً مراكز القرار؛ ما أكسب المحافل "شرعٌة" أمام
الناس ،وٌخفً وجهها الحقٌقً كؤوكار للجاسوسٌة وإضعاؾ العقٌدة الوطنٌة والدٌنٌة.
وتفرعت المحافل لفرنسٌة وإٌطالٌة وٌونانٌة وبرٌطانٌة وأمرٌكٌة إلخ ،فصار لكل دولة ذراع فً مصر
باسم محفل ماسونً ،وأشهرها المحفل األكبر الوطنً المصري التابع لفرنسا برباسة إدرٌس راؼب
(مستوطن ٌونانً)(ٖٕ ،)ٔٙورفع هذا المحفل تقرٌرا فً ٖٔ مارس ٖٖ ٔ9للملك فإاد ٌفخر فٌه بؤنه صار له
ٗ8محفبل فً مصر تعمل جاهدة على نشر الماسونٌة فً ربوع الببلد دون كلل(ٕٗ.)ٔٙ
تهافت المستوطون األجانب من أصحاب المناصب الهامة والنفوذ االقتصادي وقلٌل من المصرٌٌن
األؼنٌاء على االنضمام للمحافل الماسونٌة التً باتت األماكن والصالونات األكثر "رقٌا" للتجمع فً نظرهم،
وتعطً "الوجاهة" ،كما أنها أماكن جٌدة لصنع الصفقات المالٌة والسٌاسٌة ،وتربٌط العبلقات.
(ٕٕ -)ٔٙالماسونٌة والماسون فً مصر ،ٔ9ٙٗ -ٔ998د .وابل إبراهٌم الدسوقً ،دار الكتب والوثابق القومٌة ،القاهرة ،ص ٕٕٕ٘٘ٗ -
(ٖٕ)ٔٙ
-إدرٌس راؼب ابن إسماعٌل ٌ ّنً (الشهٌر بإسماعٌل راؼب) مملوك الٌونانً اشتراه محمد علً وجلبه من تركٌا ومنحه ٓٓ٘ فدان تضاعفت
إلى ٖٔ ألؾ فدان بخبل ؾ ثروة من الذهب ،وتولى مناصب خطرة كوزارة الجٌش والخارجٌة والمالٌة ثم رباسة الوزارة أٌام عرابً سنة ٕ( ٔ88موقع
ذاكرة مصر المعاصرة التابع لمكتبة اإلسكندرٌة)
(ٕٗ)ٔٙ
-انظر :الماسونٌة والماسون فً مصر ،ٔ9ٙٗ -ٔ998مرجع سابق ،ص ٖٖٔ٘ -
ٙٓٙ
وألن المحافل الماسونٌة هً الدرجات الدنٌا لتنظٌم "النارٌٌن" السري ،فهً تسٌر على طقوسه ،ومنها أن
ٌحلؾ العضو وهو معصوب العٌنٌن ٌمٌن الوالء المطلق لربٌس المحفل الذي ٌجهل من هو أحٌانا ،وٌجهل
هل هو خٌر أم شرٌر ،وٌتعهد بكتم أسرار ما ٌحدث بداخله ،وقبول التعرض للموت بؤبشع الطرق إن خالؾ
ذلك ،ونظام الترقٌة داخل المحفل على أساس الدرجات ،وما ٌعنٌنا هو أن ٌكون العضو مإٌدا للفكر األممً
(الدولً) الذي ٌعلٌه فوق الوطن وفوق الدٌن تحت مبرر"اإلخاء اإلنسانً".
فرفعت المحافل الماسونٌة شعار الثورة الفرنسٌة "إخاء ،حرٌة ،مساواة" ،والمقصود باإلخاء هو تآخً
أعضاء المحفل فً نفس الهدؾ ،وأن تصبح الماسونٌة "عشٌرتهم" ومصلحتها فوق مصلحة الوطن حتى أن
شخصا ٌدعى حسٌن نور الدٌن فً محفل "صبلح الدٌن" بالمنصورة قال" :لو لم أكن ماسونٌا لوددت أن
أكون ماسونٌا" ،والحرٌة والمساواة مقصود بهما إزالة الفروق الوطنٌة والدٌنٌة بٌن كافة البشر ،وهً فكرة
لتسهٌل حركة األجانب داخل البلد المستهدؾ ،حتى أنها أول من تصدت لما سمته بـ"كراهٌة األجانب" فً
الوقت الذي كان المصرٌون ٌسعون لتحرٌر ببلدهم من االحتبلل الجالٌاتً.
وبعد فترة من التخفً وراء وجه العمل الخٌري والحداثة كشفت الماسونٌة وجهها العسكري ،فاخترقت
الجٌش الختراق الحركة الوطنٌة ،خاصة فً عصر إسماعٌل ،وضمت لها عدد من الضباط تحت إؼراء
شعارات الحرٌة وكحلقة وصل بالحضارة األوروبٌة ،ولكن انقطعت صلة ضباط الجٌش المصرٌٌن
بالماسونٌة بعد االحتبلل فً عام ٕ ٔ88وحتى أوابل العشرٌنٌات من القرن العشرٌن ،وبناء على ما ذكره
الخدٌوي عباس حلمً فً مذكراته لم ٌنتسب الضباط الوطنٌٌن إلى المحافل الماسونٌة لتشككهم فً طبٌعة
ونواٌا تلك المحافل التً امتدت إلى الجٌش(ٕ٘.)ٔٙ
وخصص كتشنر ،المندوب السامً البرٌطانً ،سنة ٔ9ٓ9محفبل تسمى باسمه ،محفل كتشنر رقم
ٕٖٓٗ ،هدفه رصد ما ٌجري داخل الجٌش ،وجذب الضباط له وألهداؾ برٌطانٌا من ورابه.
وعلى ذات النمط اخترقت الماسونٌة االقتصاد فخصصت محافل لتجار القطن باإلسكندرٌة ،مثل محفل
"اإلسكندرٌة رقم ٗ "ٗٔ8سنة ٕٔ ،ٔ9وبعد العدوان الثبلثً ٔ9٘ٙفتشت قوات األمن المحفل ووجدت ما
ٌدل على أنه وكر للتجسس والنشاط الصهٌونً بحسب ما نشرت مجلة "آخر ساعة" حٌنها ،كما تخصص
محفل "السٌرابٌوم رقم ٕٖٔ٘" سنة ٖٔ ٔ9للعاملٌن فً قناة السوٌس من كل الجنسٌات(.)ٕٔٙٙ
ومن أشكال االختراق لقصور الحكم تدخل المحافل فً الصراع بٌن إسماعٌل وحلٌم حول العرش(،)ٕٔٙ9
وناصر ماسون شوام وإٌطالٌون وفرنسٌون وٌهود حلٌم البتزاز إسماعٌل حٌن ٌرفض بعض مطالبهم.
وبالرؼم من من أن الماسونٌة تعمل على عزل الحكام فً السر ،فإنها تنافقهم وتهادنهم فً العلن لٌتركوا
(ٕ٘)ٔٙ
-المرجع السابق ،ص ٔٔ8
()ٕٔٙٙ
-نفس المرجع ،ص ٘9 -٘ٙ
()ٕٔٙ9
-لما أجبر إسماعٌل عمه حلٌم على ترك مصر كً ال ٌنازعه العرش ذهب لؤلستانة وهناك ترأس محفل "مجلس عال تركً" الماسونً مدى
الحٌاة .انظر" :تارٌخ الماسونٌة العام" ،جورجً زٌدان ،مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة ،القاهرة ،ص ٖٔٔ
ٙٓ7
لمحافلها حرٌة العمل واالنتشار ،وإعطابها الشرعٌة عندما ٌرى الناس أن الحاكم نفسه ٌدعمها ،فتكررت
رسابل الماسونٌة بالنفاق للحكام من محمد علً لعباس وسعٌد وإسماعٌل وتوفٌق وعباس وحسٌن كامل
وفإاد وفاروق وعبد الناصر ،ومن رسابل المداهنة أن وفدا ماسونٌا زار توفٌق بعد تولٌه الحكم ،وخطبوا
بٌن ٌدٌه ٌطلبون الرعاٌة الخدٌوٌة ،وٌحثونه على االستمرار فً عضوٌة الماسونٌة ألن االنتماء لها
"شرؾ" ٌجب على كل الملوك الحصول علٌه "لما تعطٌه من الرفعة والعزة لصاحبها" ،ورد علٌهم توفٌق
بوعدهم برعاٌة محافلهم؛ ألن المحافل مرجو منها المساهمة فً "تمدن" المجتمع(.)ٕٔٙ8
ومن خبثها فإنها تملقت فً نفس الوقت الحركة الوطنٌة الختراقها وتضلٌلها ،فؤظهرت دعمها لعرابً
وسعد زؼلول ومحمد فرٌد ،ووصلت فً اختراقها للحركة أٌام محمد فرٌد لدرجة إقناع محٌطٌن به بتؤسٌس
حركة سرٌة هً تنظٌم "التضامن األخوي" ،اعتمدت العمل المسلح ولو ضد المصرٌٌن أنفسهم بحجة
الخٌانة ،وهو أمر دخٌل على المصرٌٌن ،وطقوس االنضمام إلٌها مشابهة لطقوس االنضمام للماسونٌة،
فالعضو ٌقدم البٌعة لربٌس التنظٌم فً ؼرقة مظلمة معصوب العٌنٌن ،وٌقسم على الطاعة العمٌاء واضعا
ٌده على المصحؾ والسٌؾ ،ولو حنث بالقسم ٌقبل اإلعدام.
ونفذت الجمعٌة اؼتٌاالت جاءت بالضرر لمصر ،ألنها لم تلتزم بخطة العمل الوطنً الذي تزعمه سعد
زؼلول ،واستهدؾ بعضها شخصٌات مصرٌة مثل اؼتٌال ربٌس الوزراء بطرس ؼالً ٓٔ ٔ9على ٌد
إبراهٌم الوردانً عضو الجمعٌة ،الذي مع نبل مقصده فً إنقاذ قناة السوٌس من الضٌاع بعد أن وافق ؼالً
على تمدٌد امتٌازها لئلنجلٌز ،إضافة لدوره فً إصدار أحكام مذبحة دنشواي ،إال أن فتح باب اؼتٌال
الشخصٌات المصرٌة ٌفتح على مصر نار حرب أهلٌة ،وكل شخص له خصومة مع أحد ٌقتله بحجة أنه
خابن ،وهو ما كان سٌعصؾ بالحركة الوطنٌة عصفا ،وهذا الهدؾ األساسً للماسونٌة.
كما تسببت الجمعٌة فً خسارة كبٌرة لمصر حٌن اؼتالت السٌرلً ستاك اإلنجلٌزي عام ٕٗ ٔ9فً
ؼمرة مفاوضات سعد زؼلول مع اإلنجلٌز حول الجبلء ،واستؽل اإلنجلٌز الحادثة لكسر ثورة .ٔ9ٔ9
وملفت أن بعض أعضاء جمعٌة "التضامن األخوي" كانوا منضمٌن كذلك للطرق الصوفٌة ،وٌجمع بٌن
هذه الطرق والماسونٌة فكرة الطاعة العمٌاء لربٌس المحفل أو شٌخ الطرٌقة؛ ما ٌإشر إلى أن كل
التنظٌمات السرٌة من النوع "العالمً" ،بالبلدي الفصٌح "منفدة على بعضها".
وتنفٌذا لوصاٌا زعمابها واٌزهاوبت وباٌك ،فً االهتمام باإلعبلم لنشر أفكارهم اعتمدت المحافل على
الصحافة ،فؤسست صحؾ "المٌثاق" و"اللطابؾ" و"الماسونٌة" و"النصوح" و"األخبار الماسونٌة" و"المجلة
الماسونٌة" ،و"المقطم" ،وؼٌرها( ،)ٕٔٙ9وأكثرها موالً بكل جرأة لبلحتبلل اإلنجلٌزي ،وفً ذلك ٌقول
دسوقً إن االحتبلل البرٌطانً لم ٌكتؾِ فً تلك المرحلة "بالوصول إلى األرض والرزق والكبرٌاء الوطنً
()ٕٔٙ8
-انظر الماسونٌة والماسون فً مصر ،وابل إبراهٌم الدسوقً ،دار الكتب والوثابق القومٌة ،مرجع سابق ،ص ٕ٘ٔٔ٘٘ -
()ٕٔٙ9
-الماسونٌة فً مصر ،علً شلش ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرة ،ٔ99ٖ ،ص ٖ ،8والماسون والماسونٌة فً مصر ،ٔ9ٙٗ -ٔ998
وابل إبراهٌم الدسوقً ،مرجع سابق ،ص ٘8
ٙٓ8
فقط ،وإنما أخذ ٌزحؾ أٌضا إلى صمٌم رقعة الفكر ذاتها".
ومن مبلمح تلك الدولة الروتشٌلدٌة العنكبوتٌة ما الحظته دراسة دسوقً أن الصحؾ الماسونٌة لم
تتعرض لئلٌقاؾ أو الحظر على النشر فً أوقات الطوارئ وفرض األحكام العرفٌة التً فرضها الخدٌوي
أو اإلنجلٌز ،فً حٌن كان ٌتم تطبٌق هذا الحظر والؽلق على الصحؾ المصرٌة(ٖٓ.)ٔٙ
وإن كان األوروبٌون أؼلبٌة فً هذه المحافل ،فقد حل فً المرتبة بعدهم الترك والشركس(ٖٔ ،)ٔٙودبج
الشعراء الماسون فً الماسونٌة قصابد الؽزل للدعاٌة لها ،وتقدٌمها للناس على أنها رأس الفضٌلة ،كعادة
المسٌخ الدجال فً تقدٌم الباطل حقا والحق باطبل ،ومنها الشاعر محمود رمزي نظٌم(ٕٖ:)ٔٙ
ودعمت المحافل من بعد الحرب العالمٌة األولى الصهٌونٌة بجمع التبرعات لها واحتضان الحركات
اإلرهابٌة الوافدة باسم الجبٌن وتجار وعمالة ،أو بضم صهاٌنة كؤعضاء ٌتمتعون بحماٌة هذه المحافل،
وأشهر العاببلت الٌهودٌة الثرٌة التً انضمت لها عاببلت قطاوي وشٌكورٌل وموصٌري وروصانو
وشمبل ،وكلها عاببلت أجنبٌة وافدة فً القرنٌن ٔ9وأول القرن ٌٕٓ ،جمعون األموال بشراهة وبكل
الوساٌل من جٌوب المصرٌٌن ،فكؤن الفبلح المصري صار دون أن ٌدري من أكبر ممولً الصهٌونٌة
واإلرهاب.
ومن أمثلة احتضان المحافل والعاببلت للحركات الصهٌونٌة أن محامٌا ٌهودٌا اسمه لٌون كاسترو وفد
على مصر مبعوثا من المنظمة الصهٌونٌة العالمٌة لٌإسس فرعا لها فً القاهرة ( ٔ9ٔ9فً سنة وعد
بلفور) ،وفً فترة صؽٌرة جدا وحَّ د صفوؾ الخبلٌا الصهٌونٌة المتناثرة ،وكوَّ ن الفرع ،وأصدر المجلة
الصهٌونٌة سنة ،ٔ9ٔ8بل وتسلل إلى صفوؾ حزب الوفد واكتسب ثقة سعد زؼلول حتى ترأس تحرٌر
صحٌفة La Liberteلسان حال الوفد ،واستثمر وجوده داخل صفوؾ الحركة الوطنٌة المصرٌة لصالح
الحركة الصهٌونٌة حتى منتصؾ األربعٌنات ،وأسس الٌهودي ألبٌر ستراسلسكً بعد عام ٖ٘ ٔ9منظمة
صهٌونٌة فً مصر باسم "حزب التصحٌحٌٌن" ،ودعمته عابلة موصٌري الٌهودٌة الثرٌة.
وفً ٕٕ ،ٔ9وبعد أن بدأ الفلسطٌنٌون ٌشعرون بخطر البلجبٌن الٌهود وتقع احتكاكات بٌنهم ،أصدر
المحفل األكبر الوطنً المصري برباسة إدرٌس راؼب نداء للفلسطٌنٌٌن بعدم االعتداء على الٌهود ،وأن
ٌقبلوا بتوطٌنهم فٌما وصفه بـ"الوطن المشترك" باسم "الحرٌة واإلخاء والمساواة"(ٖٖ.)ٔٙ
(ٖٓ)ٔٙ
-الماسون والماسونٌة فً مصر ،ٔ9ٙٗ -ٔ998ص ٘8وٕ٘8
(ٖٔ)ٔٙ
-المرجع السابق ،ص ٘ٗٔ
(ٕٖ)ٔٙ
-الماسونٌة فً مصر ،علً شلش ،مرجع سابق ،ص ٔ8
(ٖٖ)ٔٙ
-انظر :الماسون والماسونٌة فً مصر ،ٔ9ٙٗ -ٔ998ص ٗٓٔٔٔٓ -
ٙٓ9
ومثلها مثل اإلرسالٌات التبشٌرٌة اهتمت المحافل الماسونٌة بنشر المدارس األجنبٌة فً مصر والحد من
نفوذ التعلٌم الحكومً ،فكانت عبر صحفها دابمة التدخل فً التعلٌم وطرح آرابها بشؤنه ،ومعظم األوقات
تركز على السٌا فٌه وال تبرز اإلٌجابٌات؛ لكً تضعؾ ثقة الحكومة المصرٌة فً نفسها وتجعلها طٌعة
أمام نصابح واستشارات المحافل الماسونٌة أو الخبراء الذٌن تقدمهم لها ،فكتبت صحٌفة "األخبار الماسونٌة"
مقاال بعنوان "التعلٌم فً مصر -الحالة المحزنة للمدارس المصرٌة" ،وتعللت فً تدخلها بذلك بؤنها تحمل
أمانة تربٌة أوالد المصرٌٌن ،وتسابقت إلنشاء المدارس األهلٌة (الخاصة) ومنها مدرسة "االجتهاد
الوطنً" ،وكذلك المدارس الحرفٌة(ٖٗ.)ٔٙ
أما عن وظٌفتها األساسٌة فً إلؽاء فكرة الحدود والوطنٌة فً العقول والصدور ،فكشؾ جورجً زٌدان
فً "تارٌخ الماسونٌة العام" أن "البحة ٌورك" -موضوعة 9ٕٙم -التً تنظم عمل الماسون وعبلقتهم
ببعضهم وبالعالم جعلت من معاونة الماسون الوافدٌن ركنا أساسٌا فً نشاطهم ،فتقول المادة ٘ٔ من
البلبحة" :وعلى الماسون أن ٌترحبوا بالرفاق الذٌن ٌؤتون إلٌهم من ببلد بعٌدة ،بعد أن ٌعطوهم اإلشارة
الماسونٌة ،وأن ٌهتموا بمصالحهم ،وأن ٌساعدوا جمٌع اإلخوان عندما ٌعلمون باحتٌاجهم إلى المساعدة إذا
كانوا على مسافة ربع ساعة"(ٖ٘.)ٔٙ
وقادت المحافل الماسونٌة وصحفها الترحٌب باألجانب فً مصر ،تقدم لهم الرعاٌة واالمتٌازات فوق
أهل البلد ،فالمحافل نفسها متمتعة بحماٌة القناصل وتنقل هذه الحماٌة ألعضابها ،مبررة ذلك بؤن شعارات
"الحرٌة واإلخاء والمساواة" ال تفرق بٌن جنسٌة وأخرى( ،)ٖٔٙٙبالرؼم من أن الماسون أنفسهم ٌفرقون بٌن
الماسون وؼٌرهم ،فٌنقل زٌدان عن البحة ٌورك موادا بهذا المعنى منها المادة " :ٔٙال ٌنبؽً ألحد اإلخوة
الماسون أن ٌسمح بدخول أحد إلى المحفل إذا لم ٌتؤكد كونه ماسونٌا؛ لكً ال ٌطلع على صناعة النحت
والمربعات والفادن"(.)ٖٔٙ9
وبسبب هذه الفرصة الواسعة فً الحماٌة والمزاٌا التً أؼدقتها الماسونٌة على الوافدٌن ،تزاٌدت هجرة
األجانب لمصر ،وردوا الجمٌل بؤن صاروا أكبر معٌن لتلك المحافل ،ففً نهاٌة الحرب العالمٌة األولى فتح
ربٌس الوزراء حسٌن رشدي (تركً) الباب لبلجبٌن جدد من أوروبا وروسٌا ،ونظمت لهم الحكومة
عملٌات الؽوث ،ووفرت لهم السكن والمؤوى باإلسكندرٌة ،وأمر السلطان حسٌن كامل بصرؾ إعانة مالٌة
كبٌرة لهم ،وتبرع لهم األثرٌاء ،ودعمت ذلك المحافل الماسونٌة -تنفٌذا لتعلٌمات "البحة ٌورك" -ثم
استقطبت منهم الكثٌر لخدمة أهدافها(.)ٖٔٙ8
ومن دلٌل كذب حدٌثهم عن "اإلخاء اإلنسانً والمساواة" أن عملٌة االحتضان واإلؼاثة هذه لبلجبٌن
(ٖٗ)ٔٙ
-نفس المرجع ،ص ٕٔ9ٖ ،ٕ9
(ٖ٘)ٔٙ
-تارٌخ الماسونٌة العام ،جورجً زٌدان ،المرجع السابق ،ص ٗ9
()ٖٔٙٙ
-نفس الفكر االحتاللً المعادي لمبدأ أن الوطن ملك أبنابه فقط ،وهو الفكر الذي ٌؤخذ ثوب دٌنً فً التنظٌمات الدٌنٌة أو ثوب شٌوعً أو
ثوب لٌبرالً أو إنسانً باسم العولمة واالندماج العالمً ،وحالٌا ٌتبناه فنانون والعبو كرة قدم أٌضا.
()ٖٔٙ9
-تارٌخ الماسونٌة العام ،جورجً زٌدان ،مرجع سابق ،ص ٗ9
()ٖٔٙ8
-انظر :الماسون والماسونٌة فً مصر ،ٔ9ٙٗ -ٔ998ص ٕٔٓٔٔٓ -
ٓٔٙ
الفارٌن من الحرب إلى مصر تجري جنبا إلى جنب مع عملٌة نزح المٌزانٌة المصرٌة وبٌوت الفبلحٌن
الذٌن انقضَّ االحتبلل اإلنجلٌزي على محاصٌلهم ومواشٌهم ،وترحٌل المصرٌٌن صؽارا وكبار مقٌدٌن
إجبارٌا للعمل فً معسكرات الحرب بؤوروبا والعراق الشام ،وترك آالؾ العاببلت المصرٌة الفقٌرة ورابهم
دون معٌل( )ٖٔٙ9وذلك تحت عٌن ذات الحكومة التً استقبلت البلجبٌن باسم "اإلخاء اإلنسانً".
ومارست المحافل الماسونة أسلوبها المعتاد فً تخدٌر الحكام بؤن أرسلت رسالة مدح للسلطان ووزاربه
على إؼاثة البلجبٌن ،وكتب الماسونً إدجار ساوٌرس ،ربٌس الٌهود فً اإلسكندرٌة ،شاكرا حسٌن رشدي
ربٌس الوزراء ٌقول" :لقد أثبتم مرة أخرى تحرر هذا البلد وضٌافته الكرٌمة ،وإن طابفتنا لعلى ثقة فً هذه
المناسبة بؤنها تعبر عن عرفان ٌهود العالم للحكومة المصرٌة على اإلجراءات السرٌعة الفعالة التً اتخذتها
لمساعدة هإالء المطرودٌن البإساء"(ٓٗ.)ٔٙ
وضم األجانب للمحافل الماسونٌة هدؾ استراتٌجً ،فهً تضمن أن والبهم صرؾ لها ،ولن تحركهم فً
ٌوم من األٌام نزعة وطنٌة تجعلهم ٌنقلبون علٌها أو ٌتركونها مثلما فعل بعض المصرٌٌن الذٌن اكتشفوا أنهم
انخدعوا فٌها ،هذا بخبلؾ أن كثرة األجانب واختبلطهم بؤهالً الببلد ٌكسر الحواجز وٌضعؾ الشعور
الوطنً لدى أبناء الوطن األصلٌٌن ،خاصة لمَّا ترتبط مصالحهم بؤعمال ومشارٌع أجنبٌة.
وأٌام الملك فإاد رسخت أقدامهم فً الببلد أكثر وفً وقت قٌاسً بفتح األبواب أمامهم فً كل المجاالت
حتى تولى الٌهودي الماسونً ٌوسؾ قطاوي باشا وزارة المالٌة ،أي وضع ٌده على خزانة مصر بحالها
وأسرارها ،واعتبر تعٌٌنه فً هذا المنصب تقدٌرا وتكرٌما للطابفة الٌهودٌة.
و احتل نواب الٌهود مقاعد فً مجلسً الشٌوخ والنواب ،وتؤسست لهم محافل ماسونٌة فً القاهرة
واإلسكندرٌة وعواصم األقالٌم المختلفة ساهمت فً مساعدة الٌهود البلجبٌن ،أشهرها محفل "ابن
مٌمون"(ٔٗ ،)ٔٙوكثرت المعابد الٌهودٌة فً مصر ،ووصلت فً النصؾ األول من القرن العشرٌن فً القاهرة
إلى ٕ9معبدا وفً اإلسكندرٌة ٕٓ معبدا وؼٌرهم فً بورسعٌد والمنصورة وباقً المحافظات.
وتؤسس الجمعٌات الثقافٌة ومنها "الجماعة الفنٌة الٌهودٌة" بالقاهرة ٕٔ ٔ9كما أنشبت جمعٌة "بخور
حولٌم" ٔ9ٓ9و"االتحاد اإلسرابٌلً" بهلٌوبولٌس ٕٕ ٔ9وجمعٌة مصر للدراسات التارٌخٌة الٌهودٌة
ٕ٘ "ٔ9إلخ ،وتؤسست الصحؾ الٌهودٌة مثل النهضة الٌهودٌة والمجلة الصهٌونٌة ومجلسة إسرابٌل ومجلة
الشمس والكلٌم والفجر(ٕٗ ،)ٔٙوبالمثل حدث من بقٌة الجالٌات والبلجبٌن من أوروبا وروسٌا فً عمل
مجتمعات ومإسسات خاصة بهم ،فصارت الببلد بشكل أكبر كؤنها عدة دول ،خاصة فً المدن.
()ٖٔٙ9
-تزخر وسابل التواصل االجتماعً فً السنٌن األخٌرة بمدح الحكومة التً قامت بـ"احتضان" الالجبٌن الفارٌن من الحرب العالمٌة ،وٌعدون
هذا عالمة ازدهار ورخا ء كبٌر لمصر وقتها ،وال ٌظهرون الوجه الثانً لألمر أن الحكومة فعلت ذلك بضؽط من االحتالل وصمتت أمام تعذٌب
المصرٌٌن ورمٌهم فً نار الحرب وسرقة أموالهم ومحاصٌلهم ومواشٌهم ،فآوت وحمت األجانب ،وشردت وعذبت المصرٌٌن.
(ٓٗ)ٔٙ
-انظر :المرجع السابق ،ص ٕٓٔ
(ٔٗ)ٔٙ
-حاٌٌم واٌزما ن الصهٌونً وأول ربٌس إلسرابٌل فٌما بعد كان ربٌسا شرفٌا لمحفل ابن مٌمون فً مصر.
(ٕٗ)ٔٙ
-انظر :الماسون والماسونٌة فً مصر ( ،)ٔ9ٙٗ -ٔ998مرجع سابق ،ص ٕٔ9
ٔٔٙ
وامتد تؤثٌر هذا إلى نزح مال المصرٌٌن بتهرٌبه للخارج ،فهذه الجالٌات لها عاببلت ومصالح فً ببلدها
األصلٌة ترسل إلٌها بالمال ،أو تسعى لتخزٌنه فً مكان آمن من المصادرة خارج مصر ،وتزاٌد النزح باسم
التبرعات للخارج ،ففً ٔ9ٔ8وبعد صدور وعد بلفور أعلن البارون فلٌكس دي منشة ،من كبار الماسون
فً اإلسكندرٌة ،تكوٌن لجنة لجمع التبرعات لتوطٌن الٌهود فً فلسطٌن وتؤسٌس الجامعة العبرٌة بالقدس،
واسمها "اللجنة المشاٌعة لفلسطٌن(ٖٗ ،)ٔٙولم ٌقل حٌنها المشاٌعة إلسرابٌل لصرؾ النظر عن أهدافهم
الحقٌقٌة ،وعدم استفزاز ؼٌر الٌهود الذٌن ٌتم تحصٌل التبرعات منهم.
كذلك كان لبعض الشوام دور ٌلً الدور الٌهودي فً نشر هذه المحافل؛ فقد التقى الشاعر السوري أدٌب
إسحق بجمال الدٌن األفؽانً ،وكانا فً محفل ماسونً واحد فً مواجهة الخدٌوي إسماعٌل ،وأظهر الوقوؾ
مع عرابً فً البداٌة ثم انقلب علٌه وانضم لتوفٌق واإلنجلٌز.
وأتى ٌعقوب صروؾ وشاهٌن مكارٌوس بماسونٌتهم من الشام ،وسرعان ما لحق بهم جورجً زٌدان
مإسس مجلة "الهبلل" وإبراهٌم الٌازجً وخلٌل مطران الملقب بشاعر القطرٌن وملحم شكور ونعوم شقٌر،
ولم تكد تمضً ٖ سنٌن حتى كان صروؾ وفارس نمر وشاهٌن مكارٌوس دعموا صلتهم باالحتبلل،
فتزوج فارس نمر ابنة القنصل اإلنجلٌزي ثم زوج ابنته للسكرتٌر الشرقً للسفارة اإلنجلٌزٌة(ٗٗ.)ٔٙ
ومن دوافع اعتماد المحافل الماسونٌة واالحتبلل على بعض الشوام فً نشر أفكارها فً مصر معرفتهم
باللؽة العربٌة فٌكونوا أقدر على التواصل مع المصرٌٌن ،وتلقٌهم تعلٌما أوروبٌا فً مدارس اإلرسالٌات
التبشٌرٌة فً الشام ،ومنها الكلٌة السورٌة البروتستانتٌة األمرٌكٌة ببٌروت (الجامعة األمرٌكٌة) ،وتدرٌبهم
على إنشاء الصحؾ والمسارح؛ ولذا كان لهم أٌضا دور فً نشر المذاهب الكنسٌة األجنبٌة كاإلنجٌلٌة
والكاثولٌكٌة التً استهدفت إضعاؾ الكنٌسة المصرٌة األرثوذكسٌة.
فما ٌفرؼون من حط رحالهم من الشام إلى مصر حتى ٌلقوا بؤنفسهم فً أحضان القنصلٌات األجنبٌة
والمحافل لٌتمتعوا بحماٌة األجانب ،بتعبٌر الدسوقً.
واختلفت دوافع االنضمام للماسونٌة ما بٌن الشرٌرة والخٌرة ،فانضم لها أشخاص بحسن نٌة انخدعوا فً
شعاراتها البراقة ،أو للحصول على الوجاهة االجتماعٌة باعتبار هذه المحافل مراكز اإلشعاع وتجمع نجوم
المجتمع ،ومنهم من انضم كوسٌلة للترقً ألنه سٌقابل فٌها الوزراء ،أو للتجسس على األعضاء ،أو لعقد
الصفقات ،أو للحصول على االمتٌازات األجنبٌة ،أو استمتاع البعض بؤنه صار "مواطن عالمً" ،خاصة
لما أفهموه أن التمسك بالوطنٌة "عنصرٌة وتعصب مكروه".
(ٖٗ)ٔٙ
-انظر :نفس المرجع ،ص ٗٓٔ
(ٗٗ)ٔٙ
-انظر :نفس المرجع ،ص ٗٔٔ
(٘ٗ)ٔٙ
-انظر نفس المرجع ،ص ٘ٔٔٔٔٙ -
ٕٔٙ
▼▼▼ الؽزو اللٌبرالً لمصر
اللون اللٌبرالً هو األقرب للون الذي ظهرت به الماسونٌة فً مصر ،رافعا مثلها شعار "الحرٌة"،
الحرٌة لرأس المال من أي مصدر ،والحرٌة لحركة التجارة الدولٌة على حساب الصناعة الوطنٌة ،الحرٌة
الستٌراد عادات وتقالٌد وثقافات أجنبٌة مخالفة لهوٌة الشعب ،الحرٌة لئللحاد ،الحرٌة ألي مذاهب دٌنٌة
جدٌدة ،الحرٌة لتوطٌن األجانب ،الحرٌة لبلحتبلل واعتباره "منقذا مصلحا" ،وكل هذا مجسد فً الشعار
الشهٌر للٌبرالٌة والرأسمالٌة لؽزو العالم وهو "اتركه ٌعمل اتركه ٌمر".
نبعت اللٌبرالٌة السٌاسٌة من نظرٌة "المذهب الفردي" التً وضعها جون لوك فً القرن ٔ9عن
التسامح والدٌمقراطٌة -رؼم أنه تاجر عبٌد فً أمرٌكا -وركزت نظرٌاتها االقتصادٌة على "التجارة الحرة"،
ومبؤ ٌ تجسد فً لفظة "األنانٌة" ،فهً وإن كانت تتحدث عن "الحرٌات للجمٌع" ،و"الدٌمقراطٌة" ،لكن فً
التطبٌق فهً استبدادٌة بشكل مطلقُ ،تخضع الجمٌع لـ"التاجر الدولً" ،و"البنك األجنبً" ،و"الحزب
اللٌبرالً" ،و"التنظٌم الدولً" ،و"المحفل الدولً" ،وهإالء -فقط -من ٌطبق علٌهم ولهم "الحرٌة" ،وؼٌرهم
ٌطلق علٌه صفتً االستبداد واالحتكار.
وفً القرن ٔ8ظهرت مجموعة اقتصادٌٌن فرنسٌٌن ،سموا أنفسهم "الفٌزٌوقراطٌٌن" ٌقودهم فرانسوا
كٌنٌه ،وضعوا ما عُرؾ بنظام "الحرٌة االقتصادٌة" ،معتمدٌن على مقولة فٌنسان دي كورناي "دعه ٌعمل،
دعه ٌمر" ،وهدفه كسر القٌود التً وضعتها الحكومات على حركة التجارة بٌن الببلد لحماٌة صناعتها
الوطنٌة ،فٌتركز التحكم فً تجارة العالم وأرزاقه وإرادته فً أٌادي قلٌلة تقود العالم.
وتبع هذا نشر قٌم االنحبلل والمادٌة واألنانٌة المعادٌة للوطنٌة وللدٌن والتراحم ،فٌقول الفٌزٌوقراطً
كوٌسنً فً كتابه "اللوابح االقتصادٌة" سنة ٔ9٘8إن "اإلنسان االقتصادي" ٌإمن بؤن السعادة الدنٌوٌة هً
ؼاٌة الحٌاة" ،ورأى معاصرون له من علماء االقتصاد أن اإلنسان الفرد المستقل والمتحرر من شتى
المجموعات إنها هو النموذج الذي ٌحتذى به ،وأخرج برنارد مندفٌل مقولته" :إن الرذابل الخاصة هً
فضابل عامة ،وإن البشر وهم ٌكافحون من أجل جنً األرباح وٌتشهون طمعا الحٌاة المترفة إنما ٌوفرون
العمل للفقراء وٌزٌدون فً ثروة األمة"(.)ٔٙٗٙ
وفً القرن ٔ9وضع آدم سمٌث كتابه الشهٌر "ثروة األمم" افترض فٌه أن الدولة هً منبع الشرور
والمفاسد فً االقتصاد ،وأن كل األفراد -خاصة رجال األعمال وطبلَّب الثروات الباهظة -مبلبكة وأخٌار
ٌبحثون عن نشر العدل والصالح العام ،فقال" :فلتتوقؾ الحكومة عن تقدٌم المساعدات للمشروعات ،وعن
الضبط والتنظٌم ،وعندبذ ستختفً المظالم وٌنتفً الجور ،ولتوسع فً نطاق نشاطات الفرد ،آنذاك ستنطلق
الطاقات وسٌتقدم االقتصاد ،وستتحسن أوضاع الجماعة كلها ،وأما اإلشراؾ على المإسسات الصناعٌة
الخاصة وتوجٌهها الوجهة التً تإمن للمجتمع أؼزر الفوابد فهذا ٌنبؽً أال ٌكون من مسبولٌات الدولة،
()ٔٙٗٙ
-انظر :تارٌخ الفكر األوروبً الحدٌث (ٔٓ ،)ٔ999 -ٔٙدونالد سترومبرج ،مرجع سابق ،ص ٖٕٕٖٕٓ -
ٖٔٙ
فلتدافع الدولة عن شواطا شعبها ،ولتكتؾ بإدارة المكاتب البرٌدٌة وإقامة العدل بٌن الناس ،وما عدا ذلك
فلتترك لكل فرد أن ٌبحث عن مصالحه الخاصة ،حٌث إنه أفضل من ٌعرفها وٌعرؾ السبٌل إلى تنمٌتها،
فالدول ال تصلح أبدا للقٌام بوظابؾ اقتصادٌة"( ،)ٔٙٗ9وزعم أن "الدولة زارع سًء ،وصانع سًء ،وتاجر
سًء" ،وردا على أن هذا سٌجعل االقتصاد فً ٌد مجموعة من األفراد وٌنحرم بقٌة الشعب رد بؤن "الٌد
الخفٌة" هً الكفٌلة بالتنسٌق آلٌا بٌن مصالح األفراد لتحقٌق المصلحة العامة(.)ٔٙٗ8
ورؼم ما روجته لنفسها فً العالم إال أن الحال بداخل برٌطانٌا ٌكشؾ عن زٌؾ ما أشاعوه فً العالم لنزح
ثرواته والتحكم فٌها ،فرؼم قٌام الثورة اإلنجلٌزٌة ٓٗ ،ٔٙورؼم تبنٌها النظام اللٌبرالً الرأسمالً ،ظلت
الفوارق الحادة فً برٌطانٌا حتى ٗٔ ٔ9وجاء نقبل عن أحد تبلمٌذ جورج برنارد شو" :كانت إنجلترا قبل
عام ٗٔ ٔ9بلدا تسوده ال مساواة اجتماعٌة واقتصادٌة كرٌهة وفظة ،حٌث كان ترؾ القلة من الناس
وتفاخرهم ٌستثٌران فقر األكثرٌة وبإسها".
وأُجبرت األحزاب اللٌبرالٌة الحاكمة فً برٌطانٌا جبرا على التخفٌؾ من حدة أنانٌتها تحت وطؤة أنشطة
الحركة الؽابابٌة االشتراكٌة التً ظهرت نهاٌة القرن ،ٔ9ولجوء الحركة لنقل حقابق ما ٌجري فً المصانع
من مظالم ،فاستطاعت أن ترؼم الحاكمٌن بقبول مبادئ الخدمات االجتماعٌة ،بل وتؤمٌم المرافق ذات النفع
العام ،مثل مرفقً الؽاز والماء ،ووضع قوانٌن الضمان الصحً والتقاعد والشٌخوخة ،حتى قال لورد
برٌطانً" :لقد أصبحنا اآلن جمٌعا اشتراكٌٌن" ،وفً ألمانٌا قال بسمارك فً خطبته الكبرى أمام
الراٌخستاج وهو ٌقدم مشروع الضمان االجتماعً" :إن الدولة ال تستطٌع أن تتخلى عن كل مسبولٌاتها إلى
صالح العمال من المواطنٌن وسعادتهم"(.)ٔٙٗ9
كذلك تلقت هذه النظرٌات األنانٌة المادٌة ضربة قاصمة أظهرت عٌوبها فً األزمة االقتصادٌة سنة
ٔ9ٕ9وطوابٌر الجوعى والعاطلٌن تسد شوارع وتؽطً أرصفة أوروبا وأمرٌكا؛ فاضطرت حكوماتهم
للتدخل فً االقتصاد والتدخل لصالح المجموع لحد ما ،بل واتخذت قرارات أخرى لتؤمٌم مصالح وشركات
خاصة فً فرنسا وبرٌطانٌا فً األربعٌنات لتكون ملكا للدولة.
هبَّت رٌاح "اللٌبرالٌة والرأسمالٌة" بزبٌرها المدوي على مصر أٌام إسماعٌل حٌن فتح الحدود لكل أنواع
الرٌاح العالمٌة ،ممثلة فً االستثمار األجنبً الرأسمالً فً التجارة والعقارات والمشروعات العامة ،ورأٌنا
كٌؾ حاولوا تحوٌل ملكٌتها جمٌعا إلى ملكٌة خاصة ،ونجحوا وجنوا الثمار بوضوح فً عصر توفٌق
وعباس حلمً الثانً ،وبالتدرٌج تحول القطاع الخاص إلى المالك األول فً الدولة.
أما سٌاسٌا فظهرت اللٌبرالٌة فً مساعً كبار متملكً األراضً "الملوك الصؽار" ألن ٌصبحوا ملوكا
كبار ،بؤن ٌقلدوا تجربة اإلنجلٌز فً أن ٌكونوا هم األؼنٌاء وفً نفس الوقت أصحاب أحزاب سٌاسٌة
()ٔٙٗ9
-المرجع السابق ،ص ٕٖٙ
()ٔٙٗ8
-عملٌة الخصخصة :الضرورة والمحاذٌر والمتطلبات ،د .محمد عبد الشفٌع عٌسى ،مجلة بحوث اقتصادٌة عربٌة ،مج ٖٔ ،ع ،ٖ9 ،ٖٙ
القاهرة ،ٕٓٓٙ ،ص ٕٔ9
()ٔٙٗ9
: -تارٌخ الفكر األوروبً الحدٌث (ٔٓ ،)ٔ999 -ٔٙدونالد سترومبرج ،مرجع سابق ،ص ٗٙ8 -ٗٙٙ
ٗٔٙ
وأصحاب كراسً البرلمان فتسقط السلطة التشرٌعٌة والتنفٌذٌة فً أٌدٌهم؛ فٌحكمون الببلد بما ٌناسب حماٌة
ثرواتهم وتكثٌرها ،والتمتع بالنفوذ السٌاسً اآلمر الناهً ،وهو ما دفع كما رأٌنا كثٌر من كبار العاببلت
لمساندة عرابً حتى تحقق لهم وجود دستور وبرلمان ،وبعدها انقلب معظمهم علٌه خوفا من أن ٌنازعهم
السلطة إذا ما تبنى حقوق الفبلحٌن الذٌن فوضوه التصرؾ باسمهم.
ولم ٌكن لهإالء األؼنٌاء بعد أن حملوا لقب "نواب البرلمان" برامج لتحقٌق الحرٌة والكفاٌة والكرامة
للشعب ،وإنما برامجهم هً الوصول للوزارة ،وحماٌة األراضً المسٌطرٌن علٌها من المصادرة ومن
فرض ضراٌب كبٌرة والحد من تدخل الخدٌو أمورهم ،ولم ٌتمتعوا بهذه الفرصة كثٌرا لما زاحمهم المحتل
اإلنجلٌزي والتجار األجانب فً الكعكعة؛ فاشتركوا فً ثورة ٔ9ٔ9وساندوا سعد زؼلول للحد من سلطة
اإلنجلٌز والملك فإاد على رقابهم ،وبعد حصولهم على بعض المكاسب بوضع دستور ٖٕ ٔ9وبإجراء
االنتخابات وتشكٌل البرلمان من جدٌد والسماح لهم بعمل أحزاب ،انشؽلوا عن قضٌة تحرٌر الببلد وتنمٌتها
بمإامرات وصراعات األحزاب ،مستكفٌٌن فٌما ٌخص قضٌة التحرٌر بؤسلوب المفاوضات المستكٌنة حتى
ال ٌفقدوا بؤي ثورة جدٌدة مكاسبهم.
وفٌما ٌخص األحزاب وصحفها فإن معنى اللٌبرالٌة عندهم هو "عاش الحزب وزعٌمه" ،ولٌس الحرٌة
للجمٌع ،بل دخلت معارك طاحنة ضد من ٌخالفون زعٌم الحزب كما سنرى ،سواء داخل حزب الوفد الذي
انشط ر ألحزاب ،أو بٌن األحزاب وبعضها ،مقتدٌن فً هذا بجون لوكٌ ،مؤل العالم ضجٌجا عن الحرٌة
واللٌبرالٌة وهو ال ٌقصد بها إال الساسة األؼنٌاء مثله ،فً حٌن حرَّ مها على ؼٌره باستمراره المشاركة فً
تجارة العبٌد ووضع شرابع تبٌح لمالك العبد أن ٌقلته إذا عصاه(ٓ٘.)ٔٙ
وفً النهاٌة حصد المصرٌون من اللٌبرالٌة الرأسمالٌة زٌادة الفجوة والؽربة بٌن الؽنً والفقٌر ،وبٌن
المتعلم وؼٌر المتعلم ،وبٌن الرٌؾ والحضر ،وزٌادة الحزبٌة البعٌدة عن الوطنٌة ،وتحمٌل الفقٌر مسبولٌة
فقره بالقول إنه كسبلن ٌرٌد العٌش على قفا األؼنٌاء ،رؼم أن الرخاء الذي ٌتنعم فٌه "اللٌبرالٌون" األؼنٌاء
ثمرة نشاطه وكده.
من أقدم النصوص التً ذكرت كلمة "اإلخوان" فً الحركات السرٌة هو ما ٌخص جماعة "إخوان
الصفا" التً نشؤت فً القرن الرابع الهجري /العاشر المٌبلدي ،فً عصر الدولة العباسٌة ،بعد سٌطرة
البوهٌون (شٌعة إسماعٌلٌة) على الحكم فعلٌا فٌما كان العباسٌون ٌحكمون اسمٌا.
ورؼم االختبلؾ حول هوٌة هذه الجماعة ،وهل هً شٌعٌة أم ال ،فإنه مما عُرؾ عنها أن أعضابها
ٌسمون مذهبهم بالمذهب "الكامل" الجامع ألفضل ما فً العلوم والفنون واآلداب فً العالم ،وهو نفس ما
ٌدعٌه تنظٌم النارٌٌن لنفسه ،والٌسوعٌون ،وتنظٌم اإلخوان المسلمٌن ،والماسون ،خاصة وأنه ٌنتقً من
(ٓ٘)ٔٙ
-حول تناقضات جون لوك انظر :جون لوك ..مإسس العبودٌة وتاجرها ،سلطان عامر ،صحٌفة الحٌاة اللندنٌةٕٖٓٔ -ٕ -ٔ9 ،
٘ٔٙ
أعضابه األنبه واألمهر فً كل مجال ،وٌسخر لهم اإلمكانٌات لٌزدادوا تؤلقا.
ولجماعة إخوان الصفا شروط للعضوٌة ،والعضو فٌها ٌحمل لقب "أخ" ،وتعتمد على الفكر الباطنً،
ٌعنً العمل السري ،ومبدأ التقٌة ،أي تقول للناس فً العلن عكس ما تخفٌه ،وأعضاإها ٌعتبرون رسابلهم
مقدسة ،وهً نفس األمور التً شاعت فً التنظٌمات السرٌة الحدٌثة.
وأخفى "إخوان الصفا" أسماء وهوٌات قادتهم الكبار ،لكن قالوا فً رسابلهم إنهم متؽلؽلون فً كل الدول
وبٌن كل الناس ،فً بٌوت الحكام والعلماء والصناع والفنانٌن وكل المستوٌات؛ أي اعتمدت مبدأ العالمٌة
واالختراق ،وهو ما تكرر الحقا فً التنظٌمات السرٌة بؤنواعها(ٔ٘.)ٔٙ
،
وبحسب رسابلهم فإن من نشاطهم أن ٌحثوا الحكام على ؼزو الببلد األخرى تحت إؼراء تحقٌق المجد
وهو ما ٌتوافق مع الرؼبات المحمومة فً إشعال العالم بالحروب دابما ،وتحوٌل العالم لؽالب ومؽلوب.
وفً رسالته اللً وجهها جمال الدٌن األفؽانً إلى أرباب المجمع المقدس الماسونً فً مصر ٌطلب
انضمامه لهم قال" :أرجو من إخوان الصفا ،واستدعً من خبلن الوفا ،أعنً أرباب المجمع المقدس
الماسون ،الذي هو عن الخلل والزلل مصون ،أن ٌمنوا علًَّ ،وٌتفضلوا إلًَّ بقبولً فً ذلك المجمع
المطهر ،وإدخالً فً سلك المنخرطٌن فً ذلك المنتدى المفتخر"(ٕ٘ ،)ٔٙومن ؼٌر الواضح هل اختار
األفؽانً كلمة "إخوان الصفا" كمجرد وصؾ بالصدفة ،أم تؤثرا بتلك الجماعة ،خاصة أنه ضمن االختبلؾ
حول أصوله ٌقال إنه قادم من ببلد األفؽان القرٌبة من فارس ،والتً تبنت فكر تلك الجماعة.
و ٌبلحظ التشابه فً االسم بٌن "إخوان الصفا" و"اإلخوان المسلمٌن" ،و"اإلخوان الماسون" وبٌن رسابل
إخوان الصفا ،ورسابل حسن البنا ،وتضمن االثنٌن الحث على "الفتوحات" و"الؽزو".
وتعنً "األخ" أي العضو فً المحفل الماسونً ،وكل أعضاء المحفل "إخوان" وهم أٌضا "الصفوة" فً
العالم مهما اختلفت جنسٌاتهم ودٌاناتهم ،وكل من هم خارج المحفل "جوٌٌم" أي ؼرباء ورعاع ،حتى وإن
كانوا أبناء الدولة التً فٌها المحفل ،وبجانب "اإلخوان" فً المحافل ظهرت كلمة "األستاذ األعظم".
ففً رسالة لتصفٌة خبلؾ بٌن المحفل األكبر الوطنً المصري والشرق األكبر المصري(ٖ٘ )ٔٙجاء" :أبلػ
كاتم السر األعظم عبد المجٌد ٌونس (إخوته الماسون) أن (حضرة األخ كلً االحترام األستاذ األعظم) أحمد
ماهر أصدر أمرا عالٌا بالعفو الشامل عن جمٌع األخوان الموقوفٌن والمشطوبٌن"(ٗ٘.)ٔٙ
وؼنً عن البٌان أن لصق كلمة المصري فً "المحفل األكبر الوطنً المصري" ،و"الشرق األكبر
(ٔ٘)ٔٙ
-انظر :رسابل إخوان الصفا وخبلن الوفا ،مج ٔ ،مكتب اإلعبلم اإلسبلمً ،قم بإٌران ٔٗٓ٘ ،هـ ،ص ٕ٘ٓ-
(ٕ٘)ٔٙ
-الماسون والماسونٌة فً مصر ( ،)ٔ9ٙٗ -ٔ998مرجع سابق ،ص ٓ٘ٔ
(ٖ٘)ٔٙ
-الفرق بٌن المحفل والمجمع والمحفل األعظم والشرق أن المحفل هو الوحدة األولى للماسونٌة ،أي الخلٌة األولى الشتراك األعضاء،
والمجمع ٌتكون من عدة محافل فً منطقة داخل الدولة الواحدة ،والمحفل األعظم هو الهٌبة التً تشرؾ على كل المحافل والمجامع داخل الدولة،
أما الشرق فهو الهٌبة التً تشرؾ على عدة محافل عظمى ومجامع فً عدة دول (انظر الماسونٌة فً مصر ،علً شلش ،ص ٖٕٔ)ٕٔ٘ -
(ٗ٘)ٔٙ
-الماسون والماسونٌة فً مصر ( ،)ٔ9ٙٗ -ٔ998وابل إبراهٌم الدسوقً ،مرجع سابق ،ص ٗ9
ٙٔٙ
المصري" ،ال تختلؾ كثٌرا عن لصقها لجٌوش وجالٌات أٌام االحتبلالت لمجرد وجودها فً مصر ،فً
حٌن ال تعبر عن مصر وال المصرٌٌن دما وال لحما وال فكرا وال انتماء.
وفً قرار من القطب األعظم للماسونٌة بمصر أحمد ماهر بإنشاء المحفل األكبر الوطنً اللبنانً
السوري ورد فً نصه سنة " ٔ9ٖ8إلى جمٌع الشروق والمحافل الكبرى واألخوان ...وبعد سرد القرار
ٌختتمه بالقول :إن األستاذ األعظم لهذه السلطة هو الكلً االحترام األخ عطا بك األٌوبً ربٌس الوزراء
سابقا ،والسكرتٌر األعظم هو الكلً االحترام األخ نسٌب بك البكري محافظ جبل الدروز سابقا ،وإننا نرجو
جمٌع السلطات االعتراؾ بهذا المحفل األكبر السوري واالتصال به مباشرة لما فٌه خٌر للعشٌرة"(٘٘.)ٔٙ
وٌخطًء من ٌحدد ظهور تنظٌم "اإلخوان المسلمٌن" فً مصر بسنة ،ٔ9ٕ8فهذا تارٌخ رفع ٌافطة
مكتوب علٌها "اإلخوان المسلمٌن" فوق مبنى بروضة المنٌل بالقاهرة ،ولكنه لٌس تارٌخ التؤسٌس للتنظٌم
ودخول هذا الفكر الفاسد لمصر ،فمع تضعضع السلطنة العثمانلٌة وخلخلة أعمدتها ،سارع السلطان عبد
الحمٌد الثانً إلى حشد المسلمٌن فً العالم حوله لٌعٌد إلٌها قوتها ،وأخذ فً هذا شعارات تتمحور حول
"دعم دولة اإلسبلم ضد الكفار" ،ومسوقا لفكرة أن محاوالت أوروبا إلسقاط السلطنة العثمانلٌة هدفه الحقد
على اإلسبلم وإزالة "الدولة الحامٌة له"؛ كً ٌُنسً المسلمٌن ما ذاقوه من مذلة ومرارة وفقر مدقع تحت
كرابٌج ووحشٌة العثمانلٌة ،وٌحول مشاعرهم إلى "دعم اإلسبلم" ،و"الخبلفة اإلسبلمٌة".
ومما تبنى هذه الفكرة -سواء بتنسٌق مع عبد الحمٌد الثانً أو بدون -جمال الدٌن األفؽانً الذي هبط على
مصر حاشدا الناس ضد اإلنجلٌز من ناحٌة وحول الخبلفة اإلسبلمٌة التً أسماها "الجامعة اإلسبلمٌة" ،من
ناحٌة ،مإكدا على أن الرابطة الوحٌدة بٌن المسلم وؼٌره هً رابطة الدٌن ولٌس الوطن.
وحتى ثورة ٔ ٔ88لم ٌكن فً مصر جمعٌات خاصة لها صبؽة دٌنٌة (مسلمة أو مسٌحٌة) نشٌطة وذات
طابع سري أحٌانا وعالمً سوى الطرق الصوفٌة واإلرسالٌات التبشٌرٌة.
وبتؤثٌر األفؽانً ظهرت الدعوة لـ"الجامعة اإلسبلمٌة" سنة ٗ ٔ88على صفحات جرٌدة "العروة الوثقى"
تابعة لـ"جمعٌة العروة الوثقى" ،وهً تنظٌم سري ثوري هدفه إثارة المسلمٌن فً مصر والهند والسودان
إلخ وتحرٌضهم على أي حكم أوروبً وااللتفاؾ حول الحكم اإلسبلمً( ،)ٔٙ٘ٙثم ظهرت "الجمعٌة الشرعٌة"
السلفٌة على ٌد الشٌخ محمود محمد خطاب السبكً ٕٔ.ٔ9
وجاء هتاؾ ثورة ٌ" ٔ9ٔ9حٌا الهبلل مع الصلٌب" و"مصر للمصرٌٌن" وهو ٌدوي من قلوب وحناجر
المصرٌٌن ،ومن األزهر والكنٌسة ،وٌشق عنان السماء ٌنعش قلوب األحرار والنبات والحجر ،وحتى
العصافٌر فوق الشجر ،وفً نفس الوقت ٌهز أركان دولة الشٌطان وفروعها المتجسدة فً االحتبلل
البرٌطانً ،والمستوطنٌن األجانب ،والشٌوعٌة ،والصهٌونٌة ،والماسونٌة ،وكل دعوة عالمٌة ضد فطرة
(٘٘)ٔٙ
-نفس المرجع ،ص ٖٙ
()ٔٙ٘ٙ
-تطور الحركة الوطنٌة فً مصر ( ،)ٔ9ٖٙ -ٔ9ٔ8عبد العظٌم رمضان ،مكتبة مدبولً ،طٕ ،ص ٖٔ ،ٕ9
ٙٔ7
الوطن وضد تفضٌل أبناء الوطن عمن سواهم.
بالتفرٌق بٌن المصري المسلم والمصري المسٌحً من جدٌد ،وشق ما بٌن األزهر والكنٌسة فً مقابل
تحبٌب المصري فً الوالء لؤلجانب ،وربطه بتنظٌمات بعٌدة عن األزهر والكنٌسة المصرٌة وبعٌدة عن
مصر نفسها ،فلجؤت برٌطانٌا والجالٌات األجنبٌة المسلمة من شوام ومؽاربة التً خافت على مكتسباتها فً
مصر إلى تؤسٌس كٌان موازي لؤلزهر ،ومنافس له.
وعلى هذا ،تؤسست تنظٌمات دٌنٌة تنسب نفسها -وحدها -لئلسبلم ،وتهاجم المسٌحٌٌن -خاصة المصرٌٌن
منهم -وتهاجم الهوٌة المصرٌة ،وتفصل بٌن المسلم والمسٌحً ،بل وتفضل المسلم األجنبً على المسلم ابن
البلد ،وتطالب بإحٌاء الخبلفة وإقامة دولة إسبلمٌة عالمٌة على أنقاض مصر.
وفجؤة ..تفجرت سلسلة جمعٌات أخرى وصفت نفسها باإلسبلمٌة ،منها "جمعٌة أنصار السنة المحمدٌة "
السلفٌة التً أسسها محمد حامد الفقً ،ٔ9ٕٙوجمعٌة "مكارم األخبلق اإلسبلمٌة ،و"جمعٌة نشر الفضابل
اإلسبلمٌة" ،و"جمعٌة اإلخاء اإلسبلمً"( ،)ٔٙ٘9و فً ذٌلها ظهرت صحؾ "دٌنٌة" تخدم أهدافها ،مثل صحٌفة
"المنار" للبنانً رشٌد رضا ،و"الفتح" للسوري محب الدٌن الخطٌب ،و"الهداٌة اإلسبلمٌة" للمصري محمد
خضر حسٌن ،و"هدى اإلسبلم" لمحمد الصٌرفً ،وفً فترة قصٌرة كانت كل جماعة تنشًء عشرات
المساجد والمدارس ذات الصبؽة الدٌنٌة والجمعٌات والورش والمشارٌع االقتصادٌة.
ولم ٌدر ببال الكثٌرٌن وقتها أن ٌسؤل من أٌن تدفقت األموال على هذه الجمعٌات الكثٌرة ،ولماذا تتابع
ظهورها هكذا سرٌعا ،خاصة وأنها اتخذت طابعا عالمٌا ،وجمعت التبرعات لئلنفاق على الطلبة الوافدٌن
وإرسال أخرى للمسلمٌن فً الخارج لٌنشروا نفس أفكارها.
وأرسلت تبرعات للثورة السورٌة (ٕ٘ )ٔ9ٕ9 -ٔ9بحجة دعم حق سورٌا فً االستقبلل( ،)ٔٙ٘8وذلك فً
الوقت الذي كان المصرٌٌن هم األولى بالدعم خبلل مواجهتهم لبلحتبلل اإلنجلٌزي ،وم َّكنت شخصٌات
شامٌة مثل محب الدٌن الخطٌب ورشٌد رضا لنفسها فً مصر برفعها شعارات محاربة اإلرسالٌات
التبشٌرٌة ،وإعادة "وحدة المسلمٌن" بعد سقوط السلطنة العثمانلٌة ٕٕ ،ٔ9وأسس الخطٌب بالتعاون مع عبد
الحمٌد سعٌد "جمعٌة الشبان المسلمٌن" سنة ٔ9ٕ9ونشرت بٌن المصرٌٌن فكر "الجهاد المسلح" لنصرة
المسلمٌن فً الخارج ،ونزح أموال المصرٌٌن باسم التبرعات لصالح المسلمٌن فً الخارج ،وبعدها بسنة
واحدة فقط ،أي ،ٔ9ٕ8أسست فرعا لها فً فلسطٌن ترأسه عز الدٌن القسام الذي تسمى الجناح العسكري
لملٌشٌا حركة حماس باسمه فٌما بعد.
وهنا ..نضجت الساحة وتهٌؤت لرفع ٌافطة على مبنى مكتوب علٌها "جماعة اإلخوان المسلمٌن" كحصاد
()ٔٙ٘9
-مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن ،محمد جبرٌل ،ج ٖ ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،ص ٘99
()ٔٙ٘8
-الحركة القومٌة العربٌة فً القرن العشرٌن ،هانً الهندي ،مركز دراسات الوحدة العربٌة ،طٕ ،بٌروت ٕ٘ٔٓ ،ص ٕٗ9
ٙٔ8
لكل ما سبق ،وكإشارة لتحقٌق الهدؾ إلى من ٌهمه األمر.
انضم الشاب (المختلؾ حول أصوله) حسن البنا إلى جمعٌة الشبان المسلمٌن لمدة سنة ،ثم تركها لٌإسس
تنظٌم "اإلخوان المسلمٌن" سنة ،ٔ9ٕ8وذلك ألن "جمعٌة الشبان المسلمٌن" اختارت أن تنفذ أهدافها من
بوابة العمل الخٌري والدعوي حتى ال تتعرض لتضٌٌق الحكومة ،فً حٌن أراد البنا -أو من ورابه -اقتحام
مجال السٌاسة والبرلمان والعمل المسلح ،وتظل جمعٌة الشبان المسلمٌن له ظهٌرا.
وعن اإلسم قال حسن البنا" :نحن أخوة فً خدمة اإلسبلم ،فنحن إذن اإلخوان المسلمون".
وخبلل سنٌن قلٌلة من إنشابها كان لجماعة اإلخوان ٓٓ٘ معهد للثقافة العامة ،وأكثر من ٕٓ نادٌا،
ومدرستٌن ابتدابٌتٌن ،وٕٓ مكتبا أولٌا لتفٌظ القرأن ،وٓٔ مصانع ٌدوٌة للنسٌج ،وٓٔ جمعٌات تعاونٌة،
وعٌادتٌن مجانٌتٌن ،ولجنة للمصالحات بٌن األسر واألفراد ،والعدٌد من المساجد( ،)ٔٙ٘9وٓ٘ فرقة جوالة
روجت لها الجماعة على أنها نشاط رٌاضً ،لكن تم استعمالها للتدرٌب على العنؾ والسبلح ،وأعلن "اإلخوان"
أنهم مصدر الشفاء الوحٌد لؤلمة "أطباء األمة" ،وأن اإلسبلم هو الوطن والجنسٌة ،وتناصحوا بعدم التعامل
مع ؼٌر المسلمٌن ،خاصة فً البٌع والشراء(ٓ.)ٔٙٙ
ورفعت جماعة اإلخوان شعار محاربة برٌطانٌا لتبرٌر حملها للسبلح ،ولكن ظهر أن أي مواجهات مع
االحتبلل استؽلتها لتدرٌب أعضابها على ما كانت تنتوٌه لقلب نظام الحكم واالستٌبلء علٌه -مثل اشتراك
الشٌوعٌٌن فً أي حروب خارجٌة باسم التطوع بهدؾ التدرٌب على شن الحروب األهلٌة واالنقبلبات
المسلحة داخل ببلدهم -ولكن الهدٌة األكبر لجماعة "اإلخوان" كانت قضٌة فلسطٌن التً استؽلتها أكبر
استؽبلل لتكون أقوى أسباب وجودها.
وعن سبب مشاركتهم فً حرب -ٔ9ٗ8الفخ الذي تم نصبه للجٌش المصري ؼٌر المدرب وؼٌر
الواعً وقتها -قال أحمد حسٌن مإسس حزب مصر الفتاة وآخرون إن معركة فلسطٌن كانت فرصة ذهبٌة
لحشد السبلح والتمرن علٌه بدعوى أنه من أجل فلسطٌن ،أما الهدؾ الحقٌقً فهو إحداث انقبلب فً مصر
بالقوة(ٔ.)ٔٙٙ
ثم هادن اإلخوان اإلنجلٌز حتى أنهم تراجعوا عن المشاركة فً المقاومة الشعبٌة ضد اإلنجلٌز فً القنال
ٔ٘ ،ٔ9ٕ٘ -ٔ9وقال مرشدهم العام مؤمون الهضٌبً إنه "ضد العنؾ" ،وهو ما رد علٌه الكاتب خالد
محمد خالد بمقالة فً مجلة روزا الٌوسؾ بعنوان "أبشر بطول سبلمة ٌا جورج" ،وروى علً عشماوي،
أحد قادة التنظٌم الخاص لجماعة اإلخوان فً مذكراته ،أن السبلح الذي ساهمت فً شرابه القوى الوطنٌة
()ٔٙ٘9
-مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن ،ج ٖ ،مرجع سابق ،ص ٘99
(ٓ)ٔٙٙ
-نفس المرجع ،ص ٘99
(ٔ)ٔٙٙ
-نفس المرجع ،ص ٖٕٙ
ٙٔ9
لمعارك القنال "ما لبث أن اختفى فً سرادٌب اإلخوان المسلمٌن(ٕ.")ٔٙٙ
وفً ذات الوقت ،وعلى طرٌقة االختراق الماسونً ،اهتموا بالتقرب من الجٌش ،فزرعوا ضباطا فٌه من
أعضابهم ،أو ضموا ضباطا ،مستؽلٌن أن فً تلك الفترة ماجت مصر بالتٌارات المتعارضة والمتصارعة
بعد ضٌاع زعامة ونقاء حزب الوفد ،والشباب داخل الجٌش ،مثله مثل بقٌة الشباب المتعلمٌ ،بحث عن
النجاة وعن المنقد والمخلص ،فٌجرب فً هذا التٌار أو ذاك.
ومن أشهر اإلخوان فً الجٌش عبد المنعم عبد الرإوؾ ،وتحدث الربٌس أنور السادات فً مذكراته
"البحث عن الذات" عن حرص اإلخوان على اختراق الجٌش بؤن حسن البنا ذهب بنفسه إلى الوحدة التً
كان بها السادات سنة ٓٗ ٔ9طالبا أن ٌخطب فً الجنود بمناسبة المولد النبوي ،وبعد أن لمس إعجاب
السادات بشخصٌته دعاه لزٌارته فً مكتبه عدة مرات فً محاولة لتجنٌده ،ولكنه فطن لهدفه ،كما أشار إلى
العبلقة الوثٌقة التً الحظ أنها تربط بٌن البنا وعزٌز المصري الذي تولى قٌادة الجٌش(ٖ.)ٔٙٙ
ووصفهم السادات فً كتابه اآلخر "أسرار الثورة المصرٌة" بالؽموض ،وقال إن البنا كان شخصٌة
ؼامضة جدا وإنه "ٌعتمد على قوة كبٌرة مختفٌة مجهولة" ،ولكنه "قادر على إقناعك بؤن تإمن بهذه القوة
دون أن تعرؾ عنها أي شًء(ٗ.")ٔٙٙ
هذه القوة المجهولة لمَّح لها علً عشماوي أحد قادة التنظٌم الخاص فً مذكراته "التارٌخ السري لجماعة
اإلخوان المسلمٌن" بقوله إن اإلخوان درسوا جمٌع التنظٌمات العالمٌة ،وانبهروا بالتنظٌمات صاحبة الفكر
الباطنً كالشٌعٌة ،وخاصة فرقة الحشاشٌن التً أسسها حسن الصباحً ،وخاصة أسلوبها فً فرض السمع
والطاعة على األعضاء حتى لو أمرهم زعٌمها بقتل أنفسهم ،كما أن اإلخوان درسوا أسالٌب الصهٌونٌة
العالمٌة والمافٌا فٌما ٌخص إخضاع الخصوم وتصفٌتهم(٘.)ٔٙٙ
وكشؾ أن قٌادات جماعة اإلخوان مخترقة من األجهزة الؽربٌة ،خاصة اإلنجلٌزٌة ،وأن سٌد قطب
أخبره بذلك ،وضمن عمبلءهم عبد الرحمن السندي صاحب خطة اؼتٌال محمود فهمً النقراشً ،ووصؾ
المنتمٌن لئلخوان وما ٌماثلها بؤنهم "مخلصون وقادتهم عمبلء ،وٌستعملونهم فً ؼٌر طاعة هللا"(.)ٔٙٙٙ
وانطبقت طقوس االنضمام إلى اإلخوان مع طقوس االنضمام للمحافل الماسونٌة ،مثل البٌعة والطاعة
العمٌاء لـ"األستاذ األعظم" ،وعدم النقاش والمجادلة ،والقسم على السبلح (بجانب المصحؾ) ،وأال ٌكون
هناك والء لوطن وال عابلة وال أي شًء فوق التنظٌم.
وهكذا ٌتضح أن تنظٌم اإلخوان المسلمٌن لٌس تنظٌما مصرٌا ،ونشؤته لٌست مصرٌة ،لم تخرجه هذه
(ٕ)ٔٙٙ
-التارٌخ السري لجماعة اإلخوان المسلمٌن ،علً عشماوي ،ط ٕ ،مركز ابن خلدون للدراسات اإلنمابٌة ،القاهرة ،ص ٔ ،9ومصر فً قصص
كتابها المعاصرٌن ،جٖ ،مرجع سابق ،ص ٘9ٙ
(ٖ)ٔٙٙ
-البحث عن الذات ،محمد أنور السادات ،المكتب المصري الحدٌث ،طبعة خاصة ،القاهرة ،ٔ98ٓ ،ص ٖٖٔ٘ -
(ٗ)ٔٙٙ
-مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن ،جٖ ،ص ٘8ٙ
(٘)ٔٙٙ
-التارٌخ السري لجماعة اإلخوان المسلمٌن ،علً عشماوي ،مرجع سابق ،ص 9 -8
()ٔٙٙٙ
-نفس المرجع ،ص ٔٔ
ٕٓٙ
األرض الطٌبة أبدا ،بل هو امتداد لفكر عالمً قدٌم ،وبلوره فً شكل تنظٌمً واضح مستوطنون أجانب
مثل األفؽانً ثم رشٌد رضا ومحب الدٌن الخطٌب وؼٌرهم ،وتورط فً حباله مصرٌون تابهون عن هوٌتهم
الحقٌقة ،فبعد أن كانت هوٌتهم (أي المصرٌة) التً نبتتها األرض المصرٌة تقضً بؤن قدسٌة وعمار مصر
هو طرٌق إلى هللا ،وبعدم العدوان على أراضً وحضارات الؽٌر ما لم تعت ِد على مصر ،هانت علٌهم
أنفسهم لٌنضوا إلى تنظٌم ٌقوده شخصٌة مثل حسن البنا ٌتعامل مع مصر كمجرد والٌة تابعة ،وٌقول فً
"رسابل البنا" تحت عنوان "حق اإلنسانٌة" إن تنظٌم اإلخوان مؤمور بنشر دعوته بٌن الناس بالحجة
والبرهان "فإن أبوا إال العسؾ والجور والتمرد فبالسٌؾ والسنان" ،مرددا بٌت الشعرر(:)ٔٙٙ9
ال تبتعد الشٌوعٌة عن الماسونٌة واللٌبرالٌة والطرق الصوفٌة واإلرشالٌات التبشٌرٌة وتنظٌم اإلخوان
المسلمٌن ،بل هً مثلهما صورة من صور تنظٌمات السٌطرة على العالم لصالح فبة قلٌلة تفرض نفسها
على بقٌة الشعوب بكل وسٌلة.
فتشترك الشٌوعٌة مع التنظٌمات السابقة فً :فكرة العالمٌة ،التنظٌم فوق الوطن ،الطاعة العمٌاء لزعماء
التنظٌم ،العمل المسلح إن لزم األمر ،تفضٌل األجانب على أوال البلد إن كان األجنبً من نفس التنظٌم،
ؼرس الصراع بٌن أبناء البلد ،وإن كانت تستخدم كلمة "رفٌق" بدال من "األخ" فً وصؾ أعضاء التنظٌم،
وتختلؾ عنهم فً أن المحافل الماسونٌة واللٌبرالٌة مخصصة لمخاطبة الحكام واألؼنٌاء ونجوم المجتمع،
والتنظٌ مات السلفٌة واإلخوان المسلمٌن مخصصة لمخاطبة ذوي النزعة الدٌنٌة فقراء كانوا أم أؼنٌاء ،أما
الشٌوعٌة فمخصصة لمخاطبة الفقراء والعمال والمزارعٌن ومن تصفهم بالمهمشٌن.
والشٌوعٌة كما رآها كارل ماركس تقوم على خلق أو استؽبلل الصراع بٌن الطبقات ،وفً رأٌه أن
العالم منذ نشؤته قابم على الصراع بٌن أبناء المجتمع ولٌس التكامل ،وأن الحرٌة فً "التخلص من كل
األدٌان ،ومن كل األمم أٌضا" إلقامة أمة واحدة( ،)ٔٙٙ8وهو فً ذلك ٌمثل "إزفت" أو الثعبان عبّ (أبو فٌس)-
أي الصراع والفوضى -المناقضة تماما لفكرة الدولة المصرٌة والمجتمع المتعاون المتآلؾ (ماعت).
وعلى هذا نشرت الشٌوعٌة مصطلحات ،الصراع بٌن األجٌال ،الصراع بٌن العامل وصاحب العمل،
الصراع بٌن الفقٌر والؽنً ،الصراع بٌن األدٌان ،الصراع بٌن الشعب والدولة ،إلخ ،لخلق مناخ الكراهٌة
والفرقة البلزم إلشعال العمل المسلح ،وبحسب تعبٌر ورد فً حوار داخل رواٌة "الحصاد" فالشٌوعٌون
"سٌاستهم هً أن ٌضعوا إصبعهم فً أي ثقب ٌجدونه لٌوسعوه ،وأن ٌسكبوا الزٌوت على نار أٌة فتنة
-رسابل حسن البنا ،موقع إخوان وٌكً (الموقع الرسمً لتارٌخ اإلخوان المسلمٌن) http://www.ikhwanwiki.com
()ٔٙٙ9
()ٔٙٙ8
-للمزٌد عن آراء ماركس عن الدٌن والدولة والحضارات القدٌمة انظر :كارل ماركس ،جاك أتالً ،مرجع سابق
ٕٔٙ
مشتعلة ،ال تتحقق أهدافهم إال إذا عمَّت الفوضى"(.)ٔٙٙ9
ؼرست الشٌوعٌة بذورها فً مصر على ٌد فرنسٌٌن من تنظٌم "سان سٌمونٌن" جاءوا كعمال وخبراء
أٌام محمد علً ،ثم تنظٌم الكاربوناري المسلح الذي جاء من إٌطالٌا بعد فشله فً إشعال ثورة بها ،وفً
أواخر عصر إسماعٌل تؤسست فً اإلسكندرٌة -التً عاش بها أعضاء الكاربوناري -جمعٌة "مصر الفتاة" -على
ؼرار "إٌطالٌا الفتاة" التً أسسوها فً ببلدهم -وأؼلب أعضابها أجانب ،إضافة إلى مصرٌٌن ،ؼرضها القضاء
على إسماعٌل القضاء المبرم -رؼم أنها جمعٌة أجنبٌة -ومارست دورها تحت ستارة محاربة االستبداد والفساد
وحكم الفرد واالقتداء بالثورة الفرنسٌة.
وفً ٔ898هبط على اإلسكندرٌة جوزٌؾ روزنتالٌ ،هودي من روسٌا ،اشتؽل فً الذهب ،وشارك مع
حسنً العرابً فً تؤسٌس الحزب الشٌوعً ٖٕ ٔ9مستؽبل زٌادة عدد العمال فً مصر مع كثرة المشارٌع
األجنبٌة ،سوا عمال مصرٌٌن ٌعانون المظالم ،أو عمال أجانب ٌطمعون فً أخذ امتٌازات أكبر مما وفرتها
لهم قناصل دولهم ،كما استؽل الحزب معاناة الفبلحٌن من بطش المستولٌن على األراضً ،وقدم نفسه
محاربا لبلحتبلل الرأسمالً المستؽل ،وأظهر الحزب تبعٌته لبلتحاد السوفٌتً ومشروع الدولة االشتراكٌة
العالمٌة صراحة بؤن أعلن قادته سنة ٕٕ ٔ9حٌن كان ٌحمل اسم الحزب االشتراكً انضمامه
لـ"الكومنترن" (تنظٌم ٌضم فً عضوٌته كل األحزاب الشٌوعٌة فً العالم لتوحٌد سٌاساتها) ،وفً برنامجه
التؤسٌسً وضع بند صرٌح بـ":االعتراؾ بحكومة الجمهورٌة الروسٌة" ،ولم ٌتضمن دوال ؼٌرها فً القسم
الخاص بالعبلقات الدولٌة(ٓ.)ٔٙ9
فلمس الحزب المشاعر المعذبة للفبلحٌن فجذب إلٌه مصرٌٌن مخلصٌن ٌسعون فعبل لتخلٌص الفبلحٌن
من محتلٌهم ،وهم ال ٌدركون أن من وراء الستار ٌقبع محتل جدٌد ٌنتظرهم وهو المحتل السوفٌتً أو أي
كٌان ٌمثل دولة االشتراكٌة العالمٌة ،ومن ورابها تنظٌم النارٌٌن والحكومة العالمٌة الواحدة.
ومن أشهر الشخصٌات األجنبٌة المستوطنٌة التً نشرت الفكر الشٌوعً فً مصر هنري كورٌٌل ،وهو
شق طرٌقه بٌن المصرٌٌن من بوابة إعبلنه مناصرة الحركة الوطنٌة ضد اإلنجلٌز.
وٌسلط كتاب "هنري كورٌٌل -األسطورة والوجه اآلخر" للدكتور حسٌن كفافً الضوء على مشوار هذا
الوافد الؽامض ،أظهر األسالٌب الخبٌثة اللً اتبعها كورٌٌل فً نشر أفكاره وسط المصرٌٌن ،وٌعترؾ بؤنه
استؽل وطنٌتهم ألؼراضه الصهٌونٌة ،وٌقول إن هنري ابن الملٌونٌر دانٌال كورٌٌل من أسرة ٌهودٌة منسوبة
إلٌطالٌا ،هبطت على مصر كبلجبة فً عهد محمد علً ،واستفادت من االمتٌازات األجنبٌة ومن ولع بعض حكام
األسرة العلوٌة بكل ما هو أوروبً ،وصارت من كبار المرابٌن الٌهود (من أتباع روتشٌلد) ،حتى أسست بنكا
خاصا هو بنك الرهونات الشهٌر فً شارع الشواربً وسط القاهرة ،مستؽلة انتشار الٌهود تحت الجلد،
()ٔٙٙ9
-انظر :مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن ،محمد جبرٌل ،ج ٖ ،مرجع سابق ،ص ،ٙٓ9ورواٌة الحصاد تؤلٌؾ عبد الحمٌد جودة السحار
(ٓ)ٔٙ9
-لمزٌد من المعلومات عن نشؤة الحزب الشٌوعً انظر :تارٌخ الحركة الشٌوعٌة فً مصر من ٓٓ ،ٔ9ٗٓ -ٔ9رفعت السعٌد ،والحركة
الشٌوعٌة فً مصر من ٕٔ ٔ9إلى ثورة ٌناٌر ٌٕٔٔٓ ،وسؾ محمد ،كتاب إلٌكترونً https://www.slideshare.net/thisispyramid/ss-
ٖ9ٔ٘ٗ9ٖ9
ٕٕٙ
ٌشكلون أعٌنا ترصد أي حركة(ٔ.)ٔٙ9
وفً هذا الجو ولد هنري كورٌٌل ٗٔ ٔ9وعاش فً قصر والده المنٌؾ فً حً الزمالك ،المبنً من
الربا المنزوع من الفبلحٌن ،والملًء بالخدم والحشم ،وفً نفس الوقت ٌتقرب من الفقراء المصرٌٌن وٌذهب
لقراهم وحاراتهم بالرؼم من أنه ورث مهنة والده فً بنك الرهونات ،فكان ٌصادقهم وٌواسٌهم ،فؤسر قلوب
الكثٌر من أبناء الطبقة الكادحة التً توهمت فٌه التواضع والتمصر(ٕ ،)ٔٙ9واستؽل قصرا آخر لوالده فً
عزبة بٌن محافظتً بنً سوٌؾ والفٌوم فً عمل االجتماعات السرٌة بعٌدا عن أعٌن األمن.
فً ذلك الوقت ،كان الشباب المتعلم المصري ٌتلطم فً خضم أمواج بحر الحٌرة العاتٌة القاسٌة ،بسبب
كثرة التٌارات التً تضرب أمواجها عقله فً الجامعة والمساجد والصالونات والصحؾ والمظاهرات،
خاصة بعد وفاة القدوة سعد زؼلول وتفرغ حزب الوفد للمناكفات الحزبٌة مع منافسٌه ،فانجذب بعضهم
لدعوة أن الرجوع لمنابع حضارة مصر هو المخلص ،وبعضهم جذبه فكر اإلخوان "المسلمٌن" بؤن الرجوع
للخبلفة اإلسبلمٌة هو المخلص ،والبعض ذهب إلى أن التفاوض مع اإلنجلٌز والضؽط علٌهم بالمظاهرات
هو المخلص ،وانجذب آخرون لفكرة أن الشٌوعٌة التً تحارب الرأسمالٌة واإلمبرٌالٌة بتحرٌك الفقراء
والكادحٌن وبالعمل المسلح هً المخلص.
والتٌار األخٌر هو مهمة كورٌٌل ،فش َّك ل الخبلٌا الشٌوعٌة فً سرٌة تامة ،خبلٌا للعمال وخبلٌا للطلبة وخبلٌا
للموظفٌن وخبلٌا للضباط ،بل وش ًّكل خبلٌا مخصوصة للنوبٌٌن (تؤمل!) ،وكل خلٌة ال تعرؾ أسماء الخبلٌا
األخرى"(ٖ .)ٔٙ9والهدؾ مزدوج ،وهو نشر الفكر الشٌوعً الهدام بٌن المصرٌٌن ،وابتزاز اإلنجلٌز كً ال
ٌتراجعوا عن دعم الصهٌونٌة أو إقامة دولة إسرابٌل ،فكورٌٌل من رعاة الحركات الصٌهونٌة اإلرهابٌة مثل
"اشترن" و"الهجاناه" الذٌن تسرب أعضاءهم لمصر باسم الجا وعامل ومهاجر ،وقال عنهم كفافً إنهم
كانوا ٌتدربون فً صحراء حلوان وٌتابعهم كورٌٌل.
وٌصؾ الكاتب األسلوب الناعم لكورٌٌل فً تجنٌد الشباب المصري فً قصر والده وهو ٌقول إنه نصب
الشباك الصطٌاد أعضاء جدد لٌسقطوا فٌها كالؽزالن الودٌعة ،واعتمد فً صٌده هذا على مخاطبة فرابسه
بشعارات نشر السبلم ،والتروٌج ألنشطة حركة "أنصار السبلم" ،والتحرٌر من ربقة االحتبلل ،وتقدٌم نفسه
محبا للوطن (مصر) ،وهذا فٌما كان ٌصؾ نفسه فً األوراق التً كتبها و ُنشرت بعد وفاته بؤنه "ٌهودي
إٌطالً" ،وفرنسا التً تلقى تعلٌمه بها هً "الوطن الوحٌد الذي أشعر باالرتباط به"(ٗ.)ٔٙ9
ومن بصمات الفكر الٌهودي على الحركة الشٌوعٌة أنه رؼم استهدافها العمال والبسطاء إال أنها جلبت
إلٌهم داء اإلؼراق فً المناقشات النظرٌة ،والدخول فً خبلفات أٌدٌولوجٌة مصطنعة لم ٌتعودها
(ٔ)ٔٙ9
-انظر :هنري كورٌٌل -األسطورة والوجه اآلخر ،د .حسٌن كفافً ،مرجع سابق ،ص ٕ8 -ٕ9
(ٕ)ٔٙ9
-نفس المرجع ،ص 8-9
(ٖ)ٔٙ7
-انظر :المرجع السابق ،ص 9
*** وكان ؼرٌبا أن ٌتجه فً ذلك إلى النوبٌٌن وٌتعامل معهم فً كٌان بعٌد عن بقٌة المصرٌٌن ،و ٌُالحظ اتجاه الحركات الحقوقٌة والٌسارٌة إلى
النوبة إلثارة سخطها على المجتمع والحكومة حتى الٌوم كما ظهر قبل وبعد فوضى ٕٔٔٓ.
(ٗ)ٔٙ9
-نفس المرجع ،صٔٔ وٖٗ
ٖٕٙ
المصرٌون (على نمط دوامات الجدل النظري اإلؼرٌقً والبٌزنطً) دون االهتمام بالنضال السٌاسً بشكل
حقٌقً ،حتى ٌبدو األمر كله -بتعبٌر كفافً -كؤنه سٌنارٌو معد مسبقا.
وأنشؤ مكتبة المٌدان سنة ٔٗ ٔ9لٌروج عبرها للكتب الشٌوعٌة والصهٌونٌة ،لٌزٌد من شوشرة العقل
المصري ،وأسس مع زمبلبه الٌهود الحركة المصرٌة للتحرٌر الوطنً "حمتو" والحركة السودانٌة للتحرر
الوطنً "حستو" ،رافعا شعار مكافحة اإلمبرٌالٌة ،وأسس ٌهودي آخر هو مارسٌل إسرابٌل ٔٗ ٔ9منظمة
"تحرٌر الشعب" ،والٌهودي القادمة أسرته من رومانٌا هلل شوارتز باسم الجبٌن فارٌن من الحرب العالمٌة
األولى أسس تنظٌم "إسكرا" ،أي الشرارة(٘.)ٔٙ9
وٌبدو أن انضمام بعض المتعلمٌن المصرٌٌن إلى الشٌوعٌة جاء بعد أن أعجبتهم "الرطانة الماركسٌة"-
بحسب تعبٌر كفافً -والتعبٌرات الجدٌدة مثل برولٌتارٌا وبرجوازٌة ،أو من باب الخروج عن روتٌن
حٌاتهم الطبقٌة واالستمتاع برٌاضة ذهنٌة جدٌدة ،وكفرصة لبللتحاق بالجالٌات األجنبٌة التً كانوا ٌنبهرون
بها( ،)ٔٙ9ٙواألخطر أن الشعارات الشٌوعٌة جذبت بعض ضباط الجٌش ،مثل أحمد حمروش ،وخالد محًٌ
الدٌن ،وٌوسؾ صدٌق ،خاصة بعد رفعها شعارات رفض االحتبلل اإلنجلٌزي(.)ٔٙ99
ؼٌر أن أعضاء مصرٌون لمسوا التناقض بٌن شعارات الشٌوعٌة عن الفقراء وتحرر الشعوب ،وبٌن
تشجٌع القٌادات الشٌوعٌة للسٌطرة األجنبٌة الٌهودٌة فً مصر ،فبتشكٌل االتحاد الشٌوعً من التنظٌمات
الشٌوعٌة المتفرقة رأى شهدي الشافعً أنه لٌس من المنطقً أن تكون قٌادة التنظٌم المفروض أنه ٌخدم
الحركة الوطنٌة أجنبٌة ،بل ومن الٌهود ،فطرده كورٌٌل ٔ9ٗ8هو وآخرٌن اتفقوا مع رأٌه ،ووصفهم
بـ"الشٌفونٌة" ،وقبض البولٌس على شهدي ،وتحوط الشكوك بدور لكورٌٌل فً القبض علٌه(.)ٔٙ98
مدح إبراهٌم طالب األزهر أمه فً القرٌة بؤبٌات شعر بالعربٌة الفصحى لم تفهم منها شٌبا ..فقالت له:
-حاضر ٌامَّه
(٘)ٔٙ9
-انظر :هنري كورٌٌل -األسطورة والوجه اآلخر ،حسٌن كفافً ،مرجع سابق ،ص ٔ٘ ٕ٘ -ؤ ٙوٕ9
()ٔٙ9ٙ
-انظر :نفس المرجع ،ص ٓ9ٔ -9
()ٔٙ77
-تشتت بعض ضباط الجٌش ما بٌن الشٌوعٌة و"اإلخوان المسلمٌن" والماسونٌة والقومٌة العربٌة ،إضافة إلى من كان فٌهم منتمٌا ألحزاب
كالوفد أو ألحزاب تابعة للملك ،وهو ما كان ٌهدد بتمزٌق وحدة الجٌش وتحوٌله إلى جماعات وأحزاب متناحرة ال تجمعها مصلحة الوطن ،لوال قٌام
ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘ ٔ9التً أوقفت لحد كبٌر هذه الشروخات.
()ٔٙ78
-هنري كورٌٌل -األسطورة والوجه اآلخر ،نفس المرجع ،ص ٔٔ8 -ٔٔ7
*** والشٌوفنٌة كلمة ٌطلقها التابعون لتٌارات تدعو لفكرة الحكومة العالمٌة على اإلنسان حٌن ٌكون وطنٌا وٌرى أن وطنه فوق الجمٌع ،وٌرفض
سٌطرة األجانب علٌه ،مثلما تصفهم الماسونٌة بالعنصري والمتعصب وضٌق األفق إلرهابه وإسكاته عن الدفاع عن وطنه ،وذلك بالرؼم من أن هذه
التٌارات نفسها تقوم على فكرة "الو الء التام" من أعضابها للحزب أو التنظٌم الخاص بها لدرجة قد تصل لقتل أو حبس من ٌتمرد علٌها ،وتلقٌنهم
أن هذا التٌار هو "الوحٌد" الذي ٌستحق الوجود وحكم العالم.
ٕٗٙ
ومدحها بالفبلحً ،ففهمت ،وفرحت ،ودعت له(.)ٔٙ99
لم ٌكن عدم فهم أم إبراهٌم الرٌفٌة للؽة العربٌة الفصحى -فً النصؾ األول من القرن العشرٌن -ألنها
"جاهلة" كما ٌصفها البعض ،بل ألنها كانت ال تزال على فطرتها الفبلحً ،وتتحدث بما بقً على لسانها من
لؽتها المصرٌة األصلٌة ،وما تكالب علٌها من ألفاظ جلبتها جٌوش االحتبللٌ ،ونانً ورومانً وعربً
وفارسً وعثمانً ،ولم تكن تعرؾ العربٌة الفصحى ،تلك التً ظلت قاصرة على دوابر الحكم والمعامبلت
التجارٌة فً المدن ثم فً األزهر لمبات السنٌن قبل أن تعشش فً الرٌؾ فً وقت متؤخر.
فلما جاء تٌار القومٌة العربٌة لٌقول للمصرٌٌن إنكم عرب بدلٌل تحدثكم باللؽة العربٌة لم ٌكن ٓ %9من
المصرٌٌن ٌفهمون العربٌة الفصحى ،بل وال معنى كلمة العربٌة الفصحى نفسها ،وٌسمونها "النحوي" ،وما
ٌعتبره لؽة عربٌة هً لؽته الفبلحً (العامٌة المصرٌة) ،وما سواها أجنبً.
وفً فٌلم "السفٌرة عزٌزة" ،تكلم األزهري األستاذ َح َكم مع الجزار عباس باللؽة العربٌة الفصحى،
فصرخ عباس فً وجههٌ" :ا جدع إنت كلمنً بالعربً" ،فرد األزهري" :وهل أتحدث بالبلوندي؟!(ٓ.")ٔٙ8
وانطوى النصؾ األول من القرن العشرٌن ومعظم أهل الرٌؾ ال ٌعرفون لكلمة عرب معنى إال هإالء
العربان الذٌن كانوا ٌهاجمون بؤسلحتهم وخٌولهم وجمالهم وسط عاصفة من التراب ،ملثمٌن أحٌانا ،قراهم
الودٌعة كقطٌع الذباب الجابعةٌ ،نهبون محصولها وحٌواناتها وٌقتلون رجالها لو قاوموهم ،أو هإالء العربان
الذٌن ما زالوا ٌجوبون صحارى مصر بحثا عن ؼنٌمة هنا أو هناك ،أو العرب المستوطنٌن من العمد
ومشاٌخ القرى الذٌن كان بعضهم -حتى ذلك الوقتٌ -سٌبون للفبلحٌن ،وٌتسلطون علٌهم ببلطجة السبلح
والسلطة ،وٌترفعون عن وصؾ نفسهم بكلمة فبلح ،مستندٌن على الثروة الفاحشة واألرض الشاسعة التً
نهبوها فً عصر سابق بصفقات مع الوالً أو الخدٌوي ،وبعضهم مستوطن منذ أمد طوٌل ،لكنهم -بتعبٌر
طه حسٌن كما سنرى -ما زالوا ٌعٌشون بروح الؽزاة.
كانت حركة تؽٌٌر هوٌات الدول على أشدها فً بداٌة القرن ٕٓ كما رأٌنا فً صفحات سابقة ،ورؼم أنه
ٌطلق على تلك الفترة "عصر نضوج القومٌات" فً أوروبا ،فإنه الواقع ٌقول إنها عصر "تذوٌب القومٌات"
فً مصر والشرق األوسط ،وإفشال االستقبلل الحقٌقً لكل دولة بربطها بتٌارات عالمٌة أو إقلٌمٌة ،ومنها
القومٌة العربٌة.
أعلن صناع القومٌة العربٌة أن هدفهم أن تصٌر المنطقة "تكتبل قوٌا" ضد االستعمار ،ولكن اتضح أن
الهدؾ الحقٌقً أال تقوم لبلدان المنطقة قومة أبدا ،ألن شعوبها باتت مشتتة بٌن عدة تٌارات متصارعة ،كلها
تدعوها للتكتل والعالمٌة ،وانتهى األمر بؤن معظمها ال أصبح دولة قومٌة لها شخصٌة قوٌة وواضحة ،وال
أصبح ضمن تكتل إقلٌمً أو عالمً قوي وواضح.
()ٔٙ79
-مشهد من مسلسل "أدٌب" تؤلٌؾ طه حسٌن ،سٌنارٌو وحوار محمد جالل عبد القوي ،إخراج ٌحًٌ العلمً ،تمثٌل :نور الشرٌؾ ،أمٌنة
رزق
(ٓ)ٔٙ8
-فٌلم السفٌرة عزٌزة ،تؤلٌؾ أمٌن ٌوسؾ ؼراب ،إخراج طلبة رضوان ،تمثٌل :شكري سرحان ،سعاد حسنً ،عدلً كاسب ،عبد المنعم إبراهٌم
ٕ٘ٙ
ورد أحمد لطفً السٌد على دعاة الوحدة اإلسبلمٌة والعربٌة فً عصره بقوله" :لم ٌؤت لنا الماضً بمثل
واحد ٌدلنا على أن أمة من أمم العالم ساعدت مصر وحمتها من المصابب التً كان ٌجرها علٌها طمع
األقوٌاء فً ثروتها وفً مركزها الجؽرافً النادر المثال"(ٔ.)ٔٙ8
و رؼم مبات الكتب حول تارٌخ هذه الدعوة ،إال أن كثٌرا منا ما زال ٌنسبها إلى الربٌس جمال عبد الناصر،
وٌمدحه فً هذا أو ٌذمه ،وٌحملونه كافة التبعات التً حلت بمصر والمنطقة بسببها.
والذي حصل أن عبد الناصر وجٌله لم ٌكونا إال "ضحٌة لها" ،و"ورٌث" لمٌراث "عروبً" بدأ قبل
ناصر بـ ٓٓٔ سنة ،أقحمه الشوام فً مصر وتبناه حزب الوفد ومثقفون فً الثبلثٌنات؛ فتسببوا فً انحراؾ
ثورة ٕ٘ ٔ9عن مسارها المؤمول ،مسار استكمال كفاح األجداد فً أن تعود "مصر للمصرٌٌن".
أما خطٌبة عبد الناصر وجٌله فهً أنهم ضاعفوا هذا المٌراث الثقٌل ونشروه فً كل األرجاء؛ ظنا أن
القومٌة العربٌة وسٌلة لتقوٌة شعوب المنطقة ضد الكتلتٌن الشرقٌة (االتحاد السوفٌتً) والؽربٌة (أوروبا
وأمرٌكا) ،ولم ٌعطوا ألنفسهم فرصة للبحث عن حقٌقة هذه الدعوة وأصولها األجنبٌة وأهدافها البعٌدة.
وبحسب اللبنانً جورج أنطونٌوس -وهو من مإسسً القومٌة العربٌة وٌُعرؾ بؤنه أول مإرخ لها -فً كتابه
"ٌقظة العرب :تارٌخ حركة القومٌة العربٌة" الصادر أول طبعة ٔ9ٖ9فإن أول جهد منظم لهذه الدعوة بدأ
٘ ٔ89كحركة مضادة لبلحتبلل العثمانلً حٌن تؤسست جمعٌة سرٌة فً بٌروت من ٘ مسٌحٌٌن درسوا فً الكلٌة
البروتستانتٌة السورٌة ببٌروت (بعثة تبشٌرٌة أمرٌكٌة تحولت إلى الجامعة األمرٌكٌة) ،ثم أدركوا أهمٌة ضم
طوابؾ أخرى كالمسلمٌن والدروز ،واستعانوا بالمحفل الماسونً هناك(ٕ.)ٔٙ8
بٌن األقارب واستعانوا فً نشر أفكارهم بلصق المنشورات لٌبل على الجدران ،ونشر الدعوة همسا
أحد مإسسً واألصدقاء وفً التجمعات؛ خوفا من عٌون العثمانلً ،ونقل أنطونٌوس هذه المعلومات عن
وفٌها أصدر الجمعٌة السرٌة وهو فارس نمر (صهر أنطونٌوس) ،وهاجر نمر إلى مصر سنة ٖ،ٔ88
كان مإسسو صحٌفة "المقطم" لسان حال االحتبلل اإلنجلٌزي ،وصحٌفة "المقتطؾ" -كما تابعنا -وهكذا
حركة القومٌة العربٌة هم أنصار للماسونٌة واالحتبلل البرٌطانً فً مصر.
ومنذ ذلك التارٌخ ومصر بالنسبة للقومٌٌن العرب من الشام مشروع تجاري رابح لخدمة أهدافهم هم
ومن ٌحركهم ،فإن كان تؤٌٌدهم لمصر ضد احتبلل ما (كالعثمانلً) ٌفٌدهم أٌدوها ،وإن كان بٌع مصر
لبلحتبلل (كاإلنجلٌزي) ٌفٌدهم باعوها.
واقتصرت منشورات الحركة فٌما ٌخص مفهوم "القومٌة العربٌة" على المناطق الشامٌة ،داعٌة إٌاها
للوحدة على أساس الهوٌة العربٌة للتخلص من العثمانلً ،وتذكٌر العرب بؤمجادهم ،وبؤن األتراك اؼتصبوا
(ٔ)ٔٙ8
-مبادئ فً السٌاسة واألدب واالجتماع ،أحمد لطفً السٌد ،تعلٌق طاهر الطناحً ،دار الهبلل ،القاهرة ،ٔ9ٖٙ ،ص ٕٔ8 -ٕٔ9
(ٕ)ٔٙ8
-انظرٌ" :قظة العرب -تارٌخ حركة العرب القومٌة" ،جورج أنطونٌوس ،ترجمة ناصر الدٌن األسد وإحسان عباس ،ص ٕٔ٘ -ٔٗ9
ٕٙٙ
منهم الخبلفة ،والدعوة إلى االتحاد بٌن سورٌا وجبل لبنان(ٖ ،)ٔٙ8ثم تطورت فً نهاٌة القرن ٔ9وأوابل الـ
ٕٓ إلى االتحاد بٌن سورٌا ولبنان والعراق ،وفً مرحلة أخرى بٌن هإالء والحجاز ،وفً النهاٌة شملت كل
هإالء ومصر وشمال أفرٌقٌا.
فالحركة العربٌة فً بداٌتها كانت تركز على إحٌاء "مجد" الشام الؽابر حٌن كانت الخبلفة فً دمشق،
وذلك للتحرر من نٌر االحتبلل العثمانلً ،وهو المجد الذي كان قابما على احتبلل العرب لبقٌة ببلد المنطقة،
ومنها مصر ،ال بوحدة اختٌارٌة وإنما الضم بالسٌؾ ،هدفها لٌس تقوٌة بعض ،بل نزح الثروات ،وعومل
فٌها المصرٌٌن كمؽلوبٌن أمام الؽازي الؽالب ،وتسموا بؤهل الذمة وبالموالً ،ولٌس إخوة متساوٌن مع
الؽازي فً الحقوق والواجبات.
وعرض مإرخو القومٌة العربٌة أسبابا أخرى الختٌار الشام بالذات لرمً بذور دعوة القومٌة العربٌة
فٌها ،منها :نشاط اإلرسالٌات األوروبٌة واألمرٌكٌة التبشٌرٌة فٌها الهادفة إلى ضم الشام إلى النفوذ الؽربً
بعد استقبللها عن العثمانٌٌن ،ووجود نسبة كبٌرة من المسٌحٌٌن بٌن السكان المحتقنٌن من معاملتهم كؤهل
ذمة فً ظل االحتبلل العثمانلً ،وافتقاد الشام لهوٌة وطنٌة واحدة لتعدده ما بٌن عربً وكردي وسرٌانً
وأعراق أخرى ،ومسلم ومسٌحً ودرزي ،وتارٌخ ورابهم لٌس فٌه وحدة وطنٌة ،بل إمارات متنافسة
ومنفصلة طوال التارٌخ ،فبحثوا عن ثوب ٌلبسونه جمٌعا ٌؽطً ؼٌاب الروح الوطنٌة فوجدوه فً اختراع
سموه "العروبة".
وفٌما ٌخص دور اإلرسالٌات التبشٌرٌة ،قال أنطونٌوس إن البعثتٌن التبشٌرٌة الفرنسٌة الكاثولٌكٌة
الٌسوعٌة واألمرٌكٌة البروتستانتٌة (اإلنجٌلٌة) قُدر لهما أن "تحضنا البعث العربً وترعٌاه(ٗ.)ٔٙ8
وبفعل بعثات التبشٌر البروتستانتٌة فً الشام تم تعرٌب اإلنجٌل بترجمته للؽة العربٌة فً القرن ،ٔ9
وصارت الصلوات تتلى فً الكناٌس بالعربٌة ،وهذا بعدما كانت بالسرٌانٌة ،وذلك إلبادة اللؽات القومٌة
المحلٌة ودمج أهل الشام فً لؽة تخدم هدؾ القومٌة العربٌة وهً اللؽة العربٌة الفصحى.
واعتبر العراقً -السوري هانً الهندي ،من رواد الجٌل الثالث أو الرابع للقومٌة العربٌة ،فً كتابه "الحركة
القومٌة العربٌة فً القرن العشرٌن" أ ن هذا "أول انتصار فعلً للقومٌة العربٌة؛ إذ أصبحت العربٌة لؽة الصبلة".
وضمن الشوام المسٌحٌٌن الذٌن أخذوا على عاتقهم التؽنً باألمجاد واللؽة العربٌة بطرس البستانً
( ،)ٔ88ٖ -ٔ8ٔ9وناصٌؾ الٌازجً (ٓٓ ،)ٔ89ٔ -ٔ8وخاطب ابنه إبراهٌم الٌازجً المسلمٌن
والمسٌحٌٌن بحماسة تخطؾ القلوب ،وهو ٌلقً قصٌدته "أفٌقوا ٌا عرب" ،داعٌا إٌاهم أن ٌتركوا التعصب
الدٌنً وٌكونوا "إخوانا متآلفٌن" بتراثهم "العربً المشترك" ،وجاء بروح التعرٌب هذه لٌبثها فً عروق
مصر سنة ٗ ٔ89رؼم أن مصر لم تكن مشكلتها طابفٌة وعرقٌة حٌنها كمشاكل الشام ،بل مشكلتها أن
(ٖ)ٔٙ8
-انظر :المرجع السابق ،ص ٖ٘ٔٔ٘٘ -
(ٗ)ٔٙ8
-نفس المرجع ،ص 99
ٕٙ7
قومٌتها التارٌخٌة مختنقة تحت ضؽط االحتبلالت.
أما البستانً فلقبه "المعلم" ألنه أول من أنشؤ قاموسا عربٌا عصرٌا ،هو "محٌط المحٌط" ،وأول من وضع
دابرة معارؾ ب العربٌة ،واالثنان مدعومان من البعثات التبشٌرٌة األمرٌكٌة والٌسوعٌٌن الفرنسٌٌن بحسب هانً
الهندي(٘ ،)ٔٙ8وعن دوافع انضمام المسلمٌن -الحقا -لهذه الحركة فً الشام ثم العراق وجزٌرة العرب ،فمنها
استعادة المجد الؽابر لببلدهم فً زمن الخبلفة ،مستقوٌٌن فً ذلك بؤن الرسول كان عربٌا.
ولم ٌكن لمصر اهتمام بالثورة العربٌة هذه ،بل كان ٌنمو فٌها األمل فً إحٌاء القومٌة المصرٌة على ٌد
طه حسٌن وأحمد لطفً السٌد ومحمد حسٌن هٌكل وؼٌرهم ،وفً مقابلها تنشط الدعوة للخبلفة الذي ؼذاه
شوام مسلمون ومستوطنون عرب مثل عبد الرحمن عزام ،إلنقاذ العثمانلٌة من السقوط.
وبفشل إقامة الدولة العربٌة الكبرى بنظام الضربة الواحدة لما ؼدرت برٌطانٌا بحسٌن الهاشمً ،بدأ نشر الفكر
العروبً بٌن الناس بنظام النقاط والنفس الطوٌل عبر التنظٌمات السرٌة والمعلنة.
فبحسب اللبنانً شفٌق جحا -أحد رواد القومٌة العربٌة وأحد مإسسً هذه التنظٌمات -فً كتابه "الحركة
العربٌة السرٌة ٖ٘" ٔ9ٗ٘ -ٔ9فقد تبلور أول شكل تنظٌمً لذلك سنة ٖٖ ٔ9حٌن اجتمعت نخبة من
شباب لبنان وسورٌا وفلسطٌن والعراق لعقد مإتمر بحث القضٌة العربٌة بشكل سري فً بلدة قرناٌل بقضاء
المتن األعلى فً لبنان ،وتمخض عن تشكٌل "عصبة العمل القومً" ،ومقرها دمشق ،واصطدمت العصبة
مع حزب "الكتلة الوطنٌة" المناصر للقومٌة السورٌة؛ ما أضعؾ المقاومة الوطنٌة لبلنتداب الفرنسً(،)ٔٙ8ٙ
مصداقا لتحذٌر أحمد لطفً السٌد من أن إقحام تٌارات أممٌة على الحركة الوطنٌة ٌفسدها وٌخدم االحتبلل.
وتزعم السوري قسطنطٌن زرٌق واألخوان اللبنانٌان كاظم وتقً الدٌن الصلح مهمة تحوٌل تٌار "القومٌة
العربٌة" إلى العمل التنظٌمً ،أي تؤسٌس أحزاب وحركات تنشر هذا التٌار داخل الشام والعراق ،وهم
ضمن من وضعوا التعرٌفات والمبررات الحدٌثة والمصطنعة لمعنى كلمة عرب وتوسٌع نطاقها جؽرافٌا
من جزٌرة العرب لتشمل دول أخرى لم تعرؾ من قبل بؤنها عربٌة ،وحاربوا الوطنٌة والحدود ،وٌُبلحظ
أنهم أٌضا على صلة مستمرة بنشاط اإلرسالٌات التبشٌرٌة ،وكؤنها تفرزهم جٌبل ورا جٌل ،فكان األوالن
أستاذٌن بالجامعة األمرٌكٌة (الكلٌة السورٌة البروتستانتٌة) فً بٌروت ،وتقً الدٌن الصلح أستاذا فً
مدرسة البعثة العلمانٌة الفرنسٌة "مدرسة البلٌٌك" فً بٌروت ،وصار ربٌسا لوزراء لبنان فٌما بعد.
(٘)ٔٙ8
-انظر :الحركة القومٌة العربٌة فً القرن العشرٌن ،هانً الهندي ،مرجع سابق ،ص ٗٔ8ٙ -ٔ8
()ٔٙ8ٙ
-انظر :الحركة العربٌة السرٌة ٖ٘( ٔ9ٗ٘ -ٔ9جماعة الكتاب األحمر) ،شفٌق جحا ،الفرات للنشر والتوزٌع ،طٔ ،ص ٖٗ
ٕٙ8
واهتم زرٌق ،وهو أستاذ تارٌخ ،بإحٌاء التراث العربً ،وأسس مع كاظم وتقً الدٌن الصلح تنظٌما
عُرؾ الحقا باسم "الحركة العربٌة السرٌة" أو "حركة الكتاب األحمر" عام ٖ٘ ،ٔ9اعتمدت العمل السري
لمدة ٓٔ سنوات ،وكانت هً القوة الدافعة فكرٌا وتنظٌمٌا لنشر تٌار القومٌة العربٌة بشكله المكتمل
المعروؾ به الٌوم ،وزرعه بؤسلوب االختراقات السرٌة فً عروق الجٌوش واألحزاب والحكومات
والمإسسات الثقافٌة والفنٌة والجامعات ،ولوالها ما وصل هذا التٌار المصطنع لما وصل إلٌه.
ووضعوا لها دستورا ،على أمل أن ٌكون هو دستور الدولة العربٌة الكبرى التً خططوا لها ،وعنوانه
"القومٌة العربٌة :حقابق وإٌضاحات ومناهج" فً جو من السرٌة المطلقة ،وظلت السرٌة أساس الحركة.
ووفق ما أورده أحد مإسسً هذه الحركة ،وهو شفٌق جحا ،خرٌج الجامعة األمرٌكٌة ببٌروت ،فً كتابه
"الحركة العربٌة السرٌة ٖ٘( ٔ9ٗ٘ -ٔ9جماعة الكتاب األحمر)" ،فقد دعا هذا الدستور للعلمانٌة ،ولدولة
حرة مستقلة ،وإحٌاء "المجد الؽابر للحضارة العربٌة"(.)ٔٙ89
واصطنعت الحركة فً دستورها تعرٌفا لٌس له ظل على الواقع أو التارٌخ ،وهو أن "العرب أمة واحدة"
حٌن قالت فً تعرٌفها لكلمة العرب إن "العرب أمة واحدة ..هم من كانت لؽتهم العربٌة ،أو من ٌقطنون
الببلد العربٌة ،ولٌست لهم فً الحالتٌن أٌة عصبٌة تمنعهم من االندماج فً القومٌة العربٌة"(.)ٔٙ88
فالتارٌخ ٌحكً أن كلمة العرب حتى عصر الفتوحات العربٌة ُتقال فقط على سكان جزٌرة العرب وقبابل
استوطنت بادٌة الشام وجنوب العراق ،وبعد الفتوحات حملت بعض القباٌل المهاجرة منها إلى مصر
وؼٌرها كلمة "عربٌة" معها ،ولكن اقتصرت على هذه القباٌل نفسها ،فٌما ظلت الشعوب ُتعرؾ بهوٌتها
التارٌخٌة مثل الفبلحٌن/القبط فً مصر ،والزنج فً وسط أفرٌقٌا والبربر فً شمال أفرٌقٌا ،وظل الفرق
واضحا جدا بٌنهم وبٌن القباٌل العربٌة المستوطنة ،وتتعمد هذه القبابل استمرار هذه الفرق.
وحتى من كان ٌشهر إسبلمه من أهل هذه الببلد وٌتحدث العربٌة لم ٌكونوا ٌسمونه "عربٌا" ،بل أطلقوا
علٌه صفة "الموالً" ،وهً صفة تعنً التبعٌة وتجعلهم فً درجة أقل من العرب( ،)ٔٙ89حتى ال ٌتساوى
المؽلوب (ابن الببلد المفتوحة) بالؽالب (الؽازي) ،ولم ٌُطلق على مصرٌٌن كلمة عرب أو أبناء العرب إال
فً مرحلة متؤخرة من االحتبلل العثمانلً لٌفرقهم عن األتراك كما ورد فً بعض كتب الرحالة األجانب.
وتتضح محاولة لًّ حقابق التارٌخ والجؽرافٌا فً أن ببلدا صار ٌُطلق علٌها كلمة عرب فً السنٌن
األخٌرة لمجرد انضمامها للجامعة العربٌة ،مثل الصومال الذي انضم للجامعة سنةٓ ،ٔ99وقبل هذا التارٌخ
لم ٌكن ٌُقال علٌه أنه عربً ،فٌما متوقؾ تعرٌؾ أرٌترٌا على أنها عربٌة أو ؼٌر عربٌة على أساس هل
ستنضم للجامعة أم ال ،ونفس األمر على دولة جنوب السودان الناشبة عام ٕٔٔٓ ذات األؼلبٌة الزنجٌة.
()ٔٙ89
-انظر :المرجع السابق ،ص ٖ9 -ٖٙ
()ٔٙ88
-نفس المرجع ،ص ٖ9
( -)ٔٙ89معجم مصطلحات التارٌخ والحضارة اإلسبلمٌة ،أنور محمود زناتً ،ط ٔ ،دار زهران للنشر والتوزٌع ،عمَّان ،ص ٖ89
ٕٙ9
وللخروج من المؤزق التارٌخً الذي ٌإكد عدم وحدة شعوب المنطقة كـ"عرب" فً ٌوم من األٌام،
جعلت الحركة فً دستورها اللؽة العربٌة هً مقٌاس تعرٌؾ العرب حٌن قالت إن" :الببلد العربٌة هً
جمٌع األراضً التً تتكلم أو ٌتكلم سكانها اللؽة العربٌة فً آسٌا وأفرٌقٌا"(ٓ.)ٔٙ9
وهنا ٌواجهها أٌضا مؤزق ..فهل الدول التً احتلتها فرنسا وصارت تتحدث الفرنسٌة حتى بعد االستقبلل
مثل بوركٌنا فاسو وساحل العاج فً أفرٌقٌا صارت دوال فرنسٌة؟ والدول التً تحدثت اإلنجلٌزٌة بسبب
احتبلل برٌطانٌا لها كجنوب أفرٌقٌا صارت دوال برٌطانٌة؟ وهل لو كان الٌونان اختلطوا بالمصرٌٌن
وتحدث المصرٌون اللؽة الٌونانٌة تصبح مصر ٌونانٌة؟
بل إن معظم الدول التً صار ٌسمونها عربٌة لم تتمكن اللؽة العربٌة الفصحى من كل سكانها األصلٌٌن
إال خبلل المابة سنة األخٌرة.
والبلفت أن الحركة فً دستورها ضمت الدول الواقعة فً أفرٌقٌا إلى تعرٌؾ كلمة "عرب" ،وهذا ألول
مرة ،وبالرؼم من أن القابمٌن على وضع الدستور كانوا من الشام والعراق ،ولم تشترك دولة أفرٌقٌة فً
وضع هذا الدستور ،ولم تكن معنٌة به ،ولم ٌدر فً خاطرها حٌنها أساسا الدخول فً "وحدة عربٌة".
ومثل بقٌة الحركات العالمٌة واإلقلٌمٌة ،أسست "الحركة العربٌة السرٌة" فروعا سرٌة ،فً سورٌا
ولبنان والعراق والكوٌت وألمانٌا (ؼٌر واضح لماذا ألمانٌا ،ربما لتوجه القومٌٌن العرب للتحالؾ معها فً
الثبلثٌنات بعد أن خذلتهم برٌطانٌا) ،وأطلقوا على كل فرع اسم معتمدٌة ،ونشروا خبلٌا سرٌة فً أنحاء كل
بلد ،كل خلٌة تتكون من ٘ ٔٓ-أفراد ،وٌصل عقاب إفشاء أسرارها إلى الموت ،حسب ما نقل مالك
المصري (فلسطٌنً) عن تجربته فً الخلٌة السرٌة التً انتسب إلٌها وهو فً الجامعة األمرٌكٌة ببٌروت،
وسجلها شفٌق جحا فً كتابه.
وأعضاء الحركة -مثلهم مثل إخوان الصفا والنارٌٌن والماسون واإلخوان المسلمٌنٌ -عرفون أنفسهم
بكلمة "اإلخوان" ،وٌتكلم كل عضو عن زمٌله بصفة "األخ" ،وبات عندهم الكتاب األحمر بمثابة "دستور
الحركة وقرآنها الذي ٌجب حفظه وتفسٌره" ،حسب تعبٌر شفٌق جحا ،وفور قبول العضو ٌُع َطى نسخة من
الكتاب األحمر بعد أن ٌقسم الٌمٌن بؤن ال ٌبوح بكل ما سمع وقرأ ورأى عن هذا الحزب ألي كان ،وٌجري
تكرٌسه عضوا نظامٌا فً حفل حزبً محدود ٌحضره ممثل عن القٌادة والعضوان اللذان سعٌا إلدخاله.
وٌصؾ زهٌر عسٌران (لبنانً) فً كتابه "زهٌر عسٌران ٌتكلم" ما جرى فً حفل تكرٌس العضو
الجدٌد فً مذكراته بؤن القسم ٌتم على طاولة علٌها قرآن كرٌم للمسلمٌن وإنجٌل للمسٌحٌٌن ومسدس(ٔ.)ٔٙ9
وأورد كتاب "أوراق كاظم الصلح" نص القسم كالتالً ،ونورده هنا إلظهار حجم التشابه بٌنها وبٌن
الحركات المتفرعة عن التنظٌمات العالمٌة األخرى ،ومنها تنظٌم اإلخوان المسلمٌن:
(ٓ)ٔٙ9
-انظر :الحركة العربٌة السرٌة ٖ٘( ٔ9ٗ٘ -ٔ9جماعة الكتاب األحمر) ،شفٌق جحا ،مرجع سابق ،ص ٓٗ
(ٔ)ٔٙ9
-انظر الحركة العربٌة السرٌة ٖ٘( ٔ9ٗ٘ -ٔ9جماعة الكتاب األحمر) ،شفٌق جحا ،مرجع سابق ،ص ٕ٘٘٘ -
ٖٓٙ
"أقسم باهلل وبشرفً وبؤمتً العربٌة ،وأقسم برجولتً وبمصٌري وبإنسانٌتً ،وأقسم بذكرى أمواتً
وشهدابً ،وبحٌاتً وبحٌاة كل عزٌز حبٌب إلىّ ،اآلن وقد أصبحت ركنا فً الحزب ،أقسم على أن استمر
خا دما نشٌطا مخلصا لحزبً هذا وحده ،وأن أتقٌد بقراراته وأنظمته وقوانٌنه ،وأنفذ ما ٌؤمر وأمتنع عما
ٌنهى ،وأن أذٌب مٌولً وشهواتً وجهودي فً سبٌله ،فؤقاتل ما ٌقاتل ،وأخالص ما ٌخالص ،وأن أكون
صدٌقا نافعا وعونا صدوقا لكل عضو ٌوآخٌنً فً شرؾ االنتماء إلى الحزب ،وأن أكتم كل ما أعرؾ أنه
سر من أسرار الحزب ،وما أتلقاه كسر من أسراره ،فبل أبوح بشًء منه ،وأجهد كل الجهد كً أحول دون
إطبلع أي من الناس علٌه ،أفعل ذلك".
وعلى كل عضو أن ٌدفع ٓٔ %من دخله السنوي للحركة ،والعضوٌة تتبع مبدأ التدرج ،بداٌة من رتبة
"متدرج" إلى رتبة "عون" ومن رتبة "عون" إلى رتبة ركن" ،ولكل عضو اسم رمزي "حركً" جنب اسمه
الحقٌقً ،وملزم بالكشؾ عن مصادر دخله وحجم ثروته للحركة(ٕ.)ٔٙ9
وٌقول مالك المصري (فلسطٌنً) بحسب ما ورد فً كتاب "مالك المصري ،نابلسً فً الجامعة
األمرٌكٌة" إن خلٌته فً الجامعة األمرٌكٌة تراقب بقٌة الحركات فٌها ،سواء عروبٌة أو وطنٌة "فنإٌد هذا
المرشح ونحارب ذاك ،ونشارك فً هذه المظاهرة مإٌدٌن إن كانت تتفق مع أهدافنا ،أو نعترض مظاهرة
أخرى ونعارضها إن كانت مناوبة لؽاٌاتنا"(ٖ ،)ٔٙ9وهكذا فكل ما هو وطنً عندهم "عدو".
واألعضاء العروبٌٌن الذٌن لقبوا أنفسهم أٌضا بـ"اإلخوان" ٌتبادلون الرسابل بنظام الشفرة ،وكل خلٌة
تجهل الخلٌة الثانٌة نهابٌا ،ووصلت درجة السرٌة أن كل عضو ٌخبا نفسه عن أهله.
وألن الحركة سرٌة لم ٌكن لها مقر معروؾ ،واعتمدت على خبلٌاها "نقاط االعتماد" المنتشرة فً
األندٌة واألحزاب المنافسة والمحافل والصالونات األدبٌة والجمعٌات االجتماعٌة والجامعات والفرق الكشفٌة
والتنظٌمات شبه العسكرٌة لتنشر دعوتها بنظام التبشٌر و"الزن على الودان" ،حتى ٌصل أعضاإها إلى
مراكز صناع القرار ،عبر االنتخابات أو ؼٌره ،وهنا ٌوجهون قٌادة النادي أو الحزب أو الجمعٌة حسبما
ٌرٌدون فً االتجاه العروبً ،دون أن ٌمسك علٌهم أحد أنهم تبع تنظٌم مختلؾ(ٗ.)ٔٙ9
ووصلت درجة االختراق أنه مثبل فً هٌبة النادي العربً فً دمشق سٌطر العروبٌون على األعضاء
حتى انتخبوا عضو الحركة سعٌد فتاح اإلمام ربٌسا للنادي ،وفً العراق اخترقوا هٌبة "نادي المثنى"
وسٌطروا علٌه ،واخترقوا الحزب السوري القومً والحركات الكشفٌة مثل منظمة الكشاؾ المسلم فً
(ٕ)ٔٙ9
-انظر :المرجع السابق ،ص ٘٘٘8 -
*** شبٌه ببٌعة تنظٌم اإلخوان "المسلمٌن" الذي نصه" :أعاهد اهللا العظٌم على التمسك بؤحكام اإلسالم والجهاد فً سبٌله ،والقٌام بشروط
عضوٌة جماعة اإلخوان المسلمٌن وواجباتها ،والسمع والطاعة لقٌادتها فً المنشط والمكره -فً ؼٌر معصٌة -ما استطعت إلى ذلك سبٌالً ،وأباٌع
على ذلك ،واهللا على ما أقول وكٌل" ،وٌقسم على المصحؾ والمسدس .انظر :المادة ٗ من الباب الثالث لالبحة العالمٌة لجماعة اإلخوان المسلمٌن
الموضوعة عام ٗ ،ٔ99موقع "نافذة مصر" التابع للجماعة/https://www.egyptwindow.net :
(ٖ)ٔٙ9
-الحركة العربٌة السرٌة ٖ٘( ٔ9ٗ٘ -ٔ9جماعة الكتاب األحمر) ،مرجع سابق ،ص ٖ٘
(ٗ)ٔٙ9
-انظر المرجع السابق ،ص ٘ٙ9 -ٙ
ٖٔٙ
لبنان(٘ ،)ٔٙ9ومن أنشطة الحركة السرٌة توجٌه المظاهرات واالحتجاجات فً الجامعات وؼٌرها ضد
الحكومات الوطنٌة بحجة أنها عمٌلة لبلستعمار.
وبذلك تكون سارت بنفس نهج جماعة اإلخوان المسلمٌن فً "اختراق الجمٌع" ،ولٌس االقتصار على
اختراق األؼنٌاء واألجانب مثل المحافل الماسونٌة التقلٌدٌة مثبل؛ ألنها هدفها "تعرٌب" الجمٌع.
وفً محاربتها للقومٌات الوطنٌة قالت "الحركة العربٌة السرٌة" فً حدٌثها عن القومٌة العربٌة فً
دستورها "الكتاب األحمر" المادة ٘ تحت عنوان "لزوم العصبٌة العربٌة وحدها" إنهٌ" :حرم العربً
العصبٌات التً تضعؾ العصبٌة العربٌة :كالعصبٌات الطابفٌة والعنصرٌة والطبقٌة واإلقلٌمٌة والقبلٌة
والعابلٌة وأشباهها( .")ٔٙ9ٙواإلقلٌمٌة المقصود بها الوطنٌة ،أي من ٌقول أنا مصري ،أنا عراقً إلخ.
وتحت عنوان "تحتٌم االنتظام والجهاد" ورد فً المادة 9أن" :قعود الفرد العربً وإحجامه عن االنتظام
فً مواكب المجاهدٌن عار وضبلل ٌشبهان الخٌانة".
فصار كل من ٌرفض االنضمام لـ"العروبة" خابنا ،مثلما أن من ال ٌنضم لتنظٌم اإلخوان "المسلمٌن" أو
ٌإٌدهم كافرا أو عاصٌا ،ومن ال ٌنضم لئلرسالٌات التبشٌرٌة ومشروع كنٌسة روما العالمً ضاال ،ومن ال
ٌنضم للمحافل الماسونٌة جاهبل ومن الرعاع "الجوٌٌم" ،ومن ال ٌنضم للتنظٌمات الشٌوعٌة رؼبة فً
احتفاظه بوطنٌته شوفٌنٌا وشعوبٌا عنصرٌا.
واعتمد التننظٌم العمل المسلح فٌما وصفه بـ"الجهاد" لتحرٌر ما وصفها باألمة العربٌة حٌن تحدث فً
المادة 9من المٌثاق عن أن كل "مٌسور عربً" ملزم بـ"الجهاد بالٌد" إن استطاع ،فإن لم ٌستطع فبلسانه،
فإن لم ٌستطع فبجنانه(.)ٔٙ99
ولم ٌقصر "الجهاد" على أمر معٌن ،االحتبلل األجنبً مثبل؛ ما ٌعنً استؽبلله ضد خصومه ،أٌا كانوا،
وبالفعل ،كان من أنشطة الحركة "التدرٌب على استعمال السبلح"(.)ٔٙ98
وفً باب الثقافة العربٌة قال دستور الحركة إن "كل علم أو فن أو أدب ٌرمً إلى الشعوبٌة والمٌعان
األممً والرخاوة فً العصبٌة العربٌة مفسدة لكٌانهم ،فهم حرب علٌه"( ،)ٔٙ99بمعنى أن كل عمل وإبداع
ٌرسخ االعتزاز بالهوٌة الوطنٌة أو التارٌخ الوطنً لكل شعب (كالشعب المصري أو الشعب العراقً إلخ)
هو بمثابة عمل "من أعمال الحرب"ٌ ،ضع صاحبه تحت طابلة العقاب.
وبذلك محت الحركة آالؾ السنٌن من عمر حضارة مصر والحضارات األخرى ،وحددت لهم أن بداٌتهم
ُتحسب منذ بدء انطوابه تحت االحتبلل العربً منذ ٓٓ٘ٔ سنة فقط ،وقصر مصادر أدبهم وثقافتهم قبل هذا
(٘)ٔٙ9
-انظر :نفس المرجع ،ص ٙ9 -ٙ8
()ٔٙ9ٙ
-انظر :نفس المرجع ،ص ٖ٘8
()ٔٙ99
-الحركة العربٌة السرٌة ٖ٘( ٔ9ٗ٘ -ٔ9جماعة الكتاب األحمر) ،شفٌق جحا ،مرجع سابق ،ص ٖ88
()ٔٙ98
-انظر نفس المرجع ،ص ٘8
()ٔٙ99
-نفس المرجع ،ص ٖٓٗ
ٕٖٙ
التارٌخ على أدب وتارٌخ جزٌرة العرب مثل تارٌخ عنترة وامرإ القٌس وحروب براقش.
وفً باب الثقافة أٌضا شن دستور الحركة حربا على كافة القومٌات الخاصة بقوله" :تفرض القومٌة
العربٌة أن ال ٌقٌم فً الوطن العربً جماعات ذات عنصرٌة أجنبٌة تتحسس بعصبٌة ؼٌر العصبٌة العربٌة
على الرؼم من حملها جنسٌة الدولة ،فعلى هذه الجماعات أن تتعرب إذا شاءت أن تبقى فً هذا
الوطن"(ٓٓ.)ٔ9
وهذ بند خطٌر ،ألن معناه لو المصري تمسك بمصرٌته فً الثقافة الشعبٌة والحضارة وطرٌقة الكبلم ونظام
الحٌاة فمن حق المس بول عن الدولة العربٌة المزعومة أن ٌطرده من مصر بتهمة خٌانة العرب!
واعتبرت أن المصري فً بلده "أجنبٌا" ،مدام لٌس عروبٌا ،مثلما اعتبرت محافل الماسون أن من هم ؼٌر
ماسون "خوارج" ،و"أجانب" ،وكذلك اعتبرت جماعة إخوان الصفا و"اإلخوان المسلمٌن" و"الشٌوعٌة" إلخ كل
من ال ٌنتمً إلى فكرهم المصطنع.
وفً تناقض صارخ ٌإكد روحها االحتبللٌة قال فً المادة ٕ8تحت عنوان "دوام الصلة الوطنٌة مع
العرب المؽتربٌن"ٌ" :جب أن تقوم الثقافة العربٌة بقسطها فً إبقاء العروبة على أبنابها الذٌن هاجروا إلى
الدٌار األجنبٌة فً طلب الرزق أو دفع الظلم حتى تحبب إلٌهم العودة إلى الوطن فٌشتركوا بتعمٌره والدفاع
عنه ،أو تظل صلتهم به ناهضة متٌنة فٌخدموا أمتهم من منازل هجرتهم"(ٔٓ.)ٔ9
ففً الوقت الذي أعلن الحرب على أي شخص فً دول المنطقة ٌرفض التعرٌب والوالء للدولة العربٌة،
طالب "العرب" المؽتربٌن بؤن ٌحافظوا على "عروبتهم" وال ٌذوبوا فً هوٌة بلدان المهجر.
وعن تعرٌؾ القومٌة والجنسٌة طالب قسطنطٌن زرٌق فً كتابه "الوعً القومً" شعوب المنطقة بترك
أصولهم الوطنٌة وترك الفخر بؤجدادهم ،وؼالبا ٌقصد إذا لم ٌكونوا عربا ،ودعاهم لمحو ماضٌهم كامبل،
والتطلع للمستقبل" :أكثر ما نتجه عند تفكٌرنا فً المسابل القومٌة إلى الماضً ،ال إلى المستقبل ،نتجادل فً
أصلنا ،وجنسنا ،وما كان علٌه أجدادنا ،وما حدث بٌن أقطارنا من العبلقات التارٌخٌة ،إلى ؼٌر هذا مما
نفكر ونقول ونحن ملتفتون إلى الوراء ،وبدال من أن نكون متطلعٌن إلى األمام(ٕٓ.")ٔ9
وهنا دلٌل آخر على تناقض فكرة القومٌة العربٌة ،أو كذبها ،ففً الوقت الذي تدعو فٌه "الحركة العربٌة
السرٌة" ومثٌبلتها شعوب المنطقة لمحو ماضٌها الوطنً بعدم النظر للوراء ،تطالبها فً موضع آخر بالتفاخر
بـ"األمجاد العربٌة" القدٌمة ،أي أن تنظر إلى الوراء ،ولكن فً اتجاه الجزٌرة العربٌة ودمشق وبؽداد (فقط)؛
لحفظ "الصبلت التارٌخٌة العربٌة" ،وهذا ٌعنً حفظ الماضً والتارٌخ ألبناء الجزٌرة العربٌة وبنً أمٌة
والعباسٌٌن فً الشام والعراق ونسؾ تارٌخ مصر نسفا بحجة أنه لم ٌكن ناطقا بالعربٌة أو أنه كان له شخصٌته
(ٓٓ)ٔ9
-نفس المرجع ،ص ٗٓٗ
(ٔٓ)ٔ9
-انظر المرجع السابق ،ص ٕٓٗ
(ٕٓ)ٔ9
-انظر :المرجع السابق ،ص ٕ9
ٖٖٙ
المختلفة عنها.
ومن أشكال اإلبادة الثقافٌة فً مٌثاق الكتاب األحمر رفضه لما ٌسمى باللؽة العامٌة الخاصة بكل شعب،
ففً المادة ،ٖٙوبعد الكبلم عن تقدٌس اللؽة العربٌة ولزوم إنشاء المجامع العربٌة والقوامٌس للمحافظة
علٌها ،طالب بـ "تقرٌب العامٌة من الفصحى لٌنشؤ جٌل ٌكتب كما ٌنطق وٌنطق كما ٌكتب ،على أن ٌإخذ
من العامٌة ما هو موحد فً جمٌع األقطار العربٌة أو ما هان توحٌده(ٖٓ.")ٔ9
فتولت الحركة العربٌة مواصلة مهمة االحتبلالت السابقة فً تحقٌر لؽة كل وطن ،وإدعاء أنها مجرد
تحرٌؾ للؽة العربٌة ،بالرؼم من أنها لٌست كذلك ،ووصؾ من ٌتحدث بها بؤنه "جاهل" ،ولٌس من فبة
"المثقفٌن الراقٌن" ،أو تتهمه بالتآمر على اللؽة العربٌة لصالح األعداء.
ونشطت الحركة العربٌة السرٌة فً القرى تحت ستار مشارٌع تنمٌة الرٌؾ ،ونشطت فً تكوٌن نقابات،
فؤسست نقابة المعلمٌن فً المدارس الخاصة فً لبنان على ٌد تقً الدٌن الصلح وشفٌق جحا(ٗٓ ،)ٔ9مستفٌدٌن
من أسلوب الشٌوعٌة فً هذا الجانب.
وساهموا مع بقٌة التٌارات فً أن حالة التشتت واالنقسام فً لبنان وصلت إلى المهن نفسها ،فصار مثبل
هناك مدرس عروبً وآخر ٌساري وآخر إسبلمً وآخر مسٌحً وآخر شٌوعً إلخ ،وال ٌؤخذون خطوة فً
مهنتم ونقابتهم إال بتوجٌه التٌار التابعٌن له.
وكعادة التٌارات العالمٌة المعادٌة للدولة الوطنٌة ،فإن الجٌوش هدؾ أساسً لها ..ألنه طالما الدولة لها
جٌش وطنً ومن أبنابها المخلصٌن لوطنهم فقط فلن تقع فً براثن هذا التنظٌمات.
فبعد أن توجهت الحركة العربٌة السرٌة إلى العراق اخترقت الجٌش العراقً عن طرٌق المبلزمٌن صبلح
الدٌن الصباغ وفهمً سعٌد حتى وصل عدد "العروبٌٌن" بالجٌش إلى ٕٓٔ ضابطا ،وكونوا تنظٌما باسم
"التشكٌل القومً" العسكري سنة ،ٔ9ٕ9هدفه تكوٌن "إمبراطورٌة عربٌة مركزٌة فً المشرق العربً ،تبدأ
بالعراق وسورٌا ولبنان وفلسطٌن واألردن ،وتشكل اللبنة األولى فً الوحدة العربٌة الشاملة(٘ٓ.)ٔ9
ثم جاء االختراق الثانً على ٌد "الحركة العربٌة السرٌة" فً الثبلثٌنات ،وهدفها أال ٌكون العراق هو
زعٌم الدولة العربٌة الكبرى المزعومة ،ولكن أن تكون الحركة السرٌة -أو من ورابها من تنظٌم أو دول أو
شخصٌات خفٌة -هً المسٌطرة على العراق ،وتم هذا بالتسلل إلى العراق فً شكل زٌارات طبلبٌة،
ومدرسٌن ،والجبٌن فلسطٌنٌٌن ،ولبنانٌٌن ،وسورٌٌن ،وهم ٌخفون األهداؾ الحقٌقٌة ورابهم.
وهنا ظهر مجددا دور المهاجرٌن والمستوطنٌن األجانب فً زرع التنظٌمات العالمٌة واإلقلٌمٌة
والحروب األهلٌة أو الثورات الخاصة بمصالحهم ولٌس مصالح الوطن المزروعٌن فٌه.
(ٖٓ)ٔ9
-انظر :نفس المرجع ،ص ٖٔٗ
(ٗٓ)ٔ9
-انظر :المرجع السابق ،ص ٘ٔٔ
(٘ٓ)ٔ9
-انظر :المرجع السابق ،ص ٕٕٔٗ٘ٓ -
ٖٗٙ
فقد استقبلتهم العراق استقباال حسنا ،وألحقتهم بوظابؾ فً المدارس والمعاهد العراقٌة ،فتولى البلجبون
والعاملون تشكٌل فرع الحركة العربٌة السرٌة ،ثم اخترقوا صفوؾ الجٌش والدوابر الحكومٌة واألطباء إلخ،
وانضم لهم كوادر عراقٌة ،منها عبد السبلم عارؾ ،ربٌس العراق فٌما بعد(.)ٔ9ٓٙ
وسٌطر البلجبون والوافدون على تنظٌم صبلح الدٌن الصباغ بالجٌش ،بؤن صاروا مستشارٌنه المقربٌن،
وسٌطروا على اإلعبلم تماما ،كما ذكر كاظم الصلح متفاخرا ،إضافة للسٌطرة على نادي المثنى صاحب
التؤثٌر فً الرأي العام وقادة الفكر ،وجمعٌة الجوال العربً ،وزاد من تضخٌم نشاط البلجبٌن هناك انتقال
القٌادي الفلسطٌنً المفتً أمٌن الحسٌنً من لبنان للعراق هو وأنصاره ،وتوافد أنصار جدد إلٌها سنة
،ٔ9ٖ9وصاروا ٌوجهون األمور فً العراق لصالحهم تحت شعار إنقاذ فلسطٌن ودعم العراق فً التحرر
من االحتبلل البرٌطانً( ،)ٔ9ٓ9وانضم لهم ربٌس الوزراء رشٌد الكٌبلنً ،ولكن شنت برٌطانٌا حربا على
العراق ،وفشل الجٌش العراقً والكتابب السورٌة والفلسطٌنٌة واللبنانٌة المتطوعة معه فً صدها ،فهرب
فً لٌلة ٖٓ ماٌو ٔٗ ٔ9معظم المسبولٌن السٌاسٌٌن والعسكرٌٌن الكبار "العروبٌون" سوا من كبار
البلجبٌن مثل أمٌن الحسٌنً أو من العراقٌٌن مثل الكٌبلنً ،وتركوا بؽداد وأهلها لئلنجلٌز ،وبعد الهروب
الكبٌر ،تمكنت المخابرات البرٌطانٌة واألمن العراقً من تعقب الهاربٌن ،وأعدمت عددا منهم ،واعتقلت
آخرٌن ،فكانت ضربة قاصمة للحركة العربٌة السرٌة ،وانفكت عراها ،بتعبٌر شفٌق جحا(.)ٔ9ٓ8
وبحث الباقون من قٌاداتها المقٌمٌن فً الشام عن بدابل الستمرار نشر "القومٌة العربٌة" ،فؤنشؤ
قسطنطٌن زرٌق "النادي الثقافً العربً" لٌنظم الندوات لطبلب الجامعة األمرٌكٌة من الشوام والوافدٌن،
وتخرج من هذه الندوات قٌادات مثلت الجٌل الرابع للقومٌٌن العرب ،مثل الفلسطٌنً جورج حبش مإسس
الجبهة الشعبٌة لتحرٌر فلسطٌن الٌسارٌة فٌما بعد ،فٌما أسس كاظم الصلح حزب النداء القومً على نمط
أفكار الحركة العربٌة السرٌة ،ولكنه كان علنا ،وتفرع منه أحزاب على شاكلته فً عدة دول( ،)ٔ9ٓ9وخرج
من عباءة حبش "حركة القومٌٌن العرب" التً سٌكون لها شؤن فً استمالة جمال عبد الناصر فً مصر قبل
أن ٌكتشؾ زٌفهم متؤخرا فٌنقلبوا علٌه.
ووفق شفٌق جحا ،فإن الحركة العربٌة السرٌة حتى ذلك الوقت -أي سنة ٓٗ -ٔ9لم تكن انتشرت خارج
الشام والعراق ،لكنه نقل رواٌات عن وجود "ؼٌر مإكد" لخبلٌا الحركة فً مصر ،ممثلة فً أفراد قلٌلٌن،
واستدل على هذا بقول عضو الحركة محمد علً حمادة فً حدٌث لمجلة "الشراع" ٔٔ أبرٌل ٖ ٔ98إن
"اتصاالتنا بمصر كان مع أعضاء ٌنتمون إلى خلٌة تابعة للكتاب األحمر ،منهم محمد صبلح الدٌن الذي
()ٔ9ٓٙ
-انظر :نفس المرجع ،ص ٕ٘ٙ -ٕٗ9
()ٔ9ٓ9
-انظر المرجع السابق ،ص ٕ٘8 -ٕ٘ٙ
()ٔ7ٓ8
جرتها الحركة والالجبون على العراق ،واختراقهم مإسسات الدولة ،انظر الحركة العربٌة السرٌة ٖ٘ٔ9ٗ٘ -ٔ9 -للمزٌد عن األزمات التً َّ
(جماعة الكتاب األحمر) ،شفٌق جحا ،مرجع سابق ،ص ٖٕٕ -ٕ8ٙ
*** قارن بٌن هذا الهروب الكبٌر وبٌن صمود المصرٌٌن وقٌاداتهم الوطنٌة فً ثورتً ٔ ٔ88و ٔ9ٔ9رؼم التهدٌدات واإلؼراءات ،ولم ٌتركها
بعضهم وقت الحرب إال لما أبعدهم اإلنجلٌز بالقوة إلى المنفى ،ونفس األمر فً عدم هروب القٌادة فً عدوانً ٔ9٘ٙو ،ٔ9ٙ7وهذا من خصابص
الهوٌة المصرٌة "ماعت" ،ونذكر أن األدب المصري القدٌم خ َّلد قصة ندم "سنوحً" على تركه مصر إلى بالد الشام وقت المحنة.
()ٔ9ٓ9
-انظر نفس المرجع ،ص ٖٗ9
ٖ٘ٙ
أصبح وزٌرا للخارجٌة فٌما بعد(ٓٔ.")ٔ9
وهكذا ٌتضح أن الدعوة للوحدة العربٌة نبعت من األماكن الثبلثة التً شهدت الخبلفة العربٌة ،وهً:
الحجاز (موضع الخبلفة األولى حتى عثمان بن عفان) ،والشام (موضع الخبلفة األموٌة بدمشق) ،والعراق
(موضع الخبلفة العباسٌة ببؽداد) ولم ٌكن هدفها "وحدة تعاون" ،بل رجوع عبلقة الؽالب والمؽلوب.
والبلفت أنه كما لم ٌوجد وحدة عربٌة بٌن العرب الحقٌقٌٌن أنفسهم قدٌما ،وتجلى هذا حتى بعد اإلسبلم
فً الصراع بٌن األموٌٌن والعباسٌٌن والقباٌل العربٌة حول الحكم و"الزعامة" ،واستعانوا بالترك والفرس
ضد بعضهم البعض(ٔٔ ،)ٔ9فإنه أٌضا عاد الصراع بٌنهم (فً العراق وسورٌا والحجاز) على الزعامة عقب
فشل "الثورة العربٌة الكبرى" ،ٔ9ٔٙوما زال الصراع قابما كما نراه ٌتجدد كل فترة بٌن هذه الدول-
وٌستقوي بعضهم ضد بعض بتركٌا أو إٌران كما فعلوا أٌام الخبلفة أو بؤوروبا وأمرٌكا -فً مساعً كل
منهم للحصول على "الزعامة" ،وٌعتبرون مصر مجرد مورد لنزح الثروة البشرٌة والمادٌة والحضارٌة.
وعن مصر أٌضاٌ ،لوح أمامنا المقولة التالٌة" :قبط مصر أكرم األعاجم كلها ،وأسمحهم ٌدا ،وأفضلهم
عنصرا ،وأقربه رحما بالعرب عامة ،وبقرٌش خاصة ،ومن أراد أن ٌذكر الفردوس أو ٌنظر إلى مثلها فً
الدنٌا فلٌنظر إلى أرض مصر حٌن تخضر زروعها وتنور ثمارها".
وورد هذا عن عبد هللا بن عمرو بن العاص فً كتاب "فتوح مصر وأخبارها" لعبد الرحمن بن عبد
الحكم(ٕٔ -)ٔ9وهو من القبلبل ،بل النوادر الذٌن تكلموا عن القبط بطرٌقة حسنة فً عصره -فكان العرب أنفسهم
ٌرون أن المصرٌٌن "أعاجم" ولٌسوا عربا ،وأن الرابط الوحٌد بٌنهم وبٌن العرب هو ما أشار إلٌه الرسول
صلى هللا علٌه وسلم حول زواج هاجر بإبراهٌم ومارٌة بالرسول ،وهو نسب ال ٌؽٌر فً هوٌة شعب وال
أصوله ،وٌحدث بٌن كل الشعوب ٌومٌا ،فهل لو صح مثبل أن الحسٌن بن علً حفٌد الرسول تزوج بابنة
كسرى فارس هل ٌصٌر الفرس بذلك عربا؟
وكم من مصرٌة منذ أٌام االحتبلالت وحتى اآلن تزوجت من أجانب ،عرب وشوام وترك ولٌبٌٌن
وفلسطٌنٌٌن وبرٌطانٌٌن وإٌطالٌٌن وأمرٌكٌٌن إلخ ،فهل تتؽٌر هوٌة مصر "زي ألوان اللبان السحري" ،كلما
تزوجت مصرٌة بؤجنبً على حسب هوٌة بلد الزوج؟
(ٓٔ)ٔ9
-انظر المرجع السابق ،ص ٖٖٓ
(ٔٔ)ٔ9
-حول هذه الصراعات وتؤثٌرها على مصر راجع الفصل الخاص باالحتبلل العربً
(ٕٔ)ٔ7
-فتوح مصر وأخبارها ،عبد الرحمن بن عبد الحكم ،مرجع سابق ،ص ٘
*** وهكذا لم ٌرد فً أمهات الكتب عن تارٌخ مصر عقب الفتح العربً أي وصؾ للمصرٌٌن بؤنهم "عرب" ،بل الصفة بؤنهم قبط وبؤنهم أعاجم،
وفً فترة الحقة فالحٌن ،خاصة من ٌدخل منهم فً اإلسالم
ٖٙٙ
الموالً ،والعربً والفارسً والتركً مكرم فً مصر بمراتب أعلى من المصرٌٌن أوالد البلد ،ومن سمحوا
له من المصرٌٌن بؤخذ مناصب هامة كانوا قلة وبسبب حوجة العرب لهم ألنهم أدرى بشبون الزراعة
والمحاسبة ،ومن اعترض فٌهم على زٌادة فً الضراٌب أو سوء المعاملة سحلوه وباعوه فً األسواق.
وكما كانت مصر هً الجوهرة فً إمداد العرب بالحضارة والثروة فً زمن الخبلفة ،توجهت أعٌن
القومٌٌن العرب إلى مصر أٌضا فً العصر الحدٌث ،ال لتشاركهم "المجد" المنتظر ،ولكن لٌكون ؼزوا
عربٌا جدٌداٌ ،نزحوا به نهضتها الجدٌدة وثرواتها ،وهذه المرة لٌس بالسٌؾ ،فهً عادت أقوى منهم ولها
جٌش ،فٌكون السبٌل أن ٌتم هذا برضا منها عبر إٌهامها بؤنها منهم وأنها "عربٌة" ،وأن "دورها التارٌخً"
هو توحٌد العرب.
شهادة أخرى توضح هذا األمر ،فً كتاب لواحد من أبرز رموز الجٌل الرابع من قٌادات القومٌة
العربٌة ،هو هانً الهندي ،تخرج هانً من الجامعة األمرٌكٌة ببٌروت (مفرزة رواد القومٌة العربٌة على
مدى أجٌال) عام ٘ٗ ،ٔ9وانضم لجورج حبش فً "حركة القومٌٌن العرب" ،واهتم بنشر الفكر القومً
العربً بإصدار الكتب التً تصنع مبررات "للعروبة" فؤسس "مإسسة األبحاث العربٌة" فً بٌروت،
وسجل شهادته ،ورؼم أنه متمسك فً هذا الكتاب بـ"القومٌة العربٌة" ،إال أنه ٌظهر ما ٌدل على ؼٌاب أي
دلٌل تارٌخً على ما سماه القومٌون العرب بـ"عروبة مصر".
ٌقول الهندي إنه فً القرنٌن ٔ8ومطلع ٔ9كان مفهوم الهوٌة العربٌة ؼاببا عن معظم شعوب المنطقة،
فٌما ٌنتشر مفهوم االنتساب إلى "الدولة الحاكمة" ،فكانت الهوٌة "عثمانٌة" بالنسبة إلى ؼالبٌة سكان المشرق
العربً (الشام والعراق) ،أو االنتساب إلى الدٌن (مسلمٌن أو مسٌحٌٌن أو دروز أو ٌهود) ،بل حتى إلى
الطابفة ،وكانت كلمة "العرب" ال ُتستعمل كثٌرا ،وؼالبا ما كان المقصود بها "البدو" سكان البادٌة فً بلدان
المشرق العربً(ٖٔ.)ٔ9
واعترؾ السوري ساطع الحصري ،أحد رواد الجٌل الثانً للقومٌٌن العرب ،وأحد أشد كارهً الحضارة
المصرٌة ،أٌضا بؤن هدؾ القومٌٌن العرب من ضم مصر لحركتهم هو استنزافهان فقال إن مصر كانت
ُعرضة عن فكرة العروبة وال تهتم بما ٌجري حولها فً الشام والعراق ،فٌما كان أبناء البلدٌن ترنو م ِ
أبصارهم إلى مصر لتكون مبلذا ألحبلمهم(ٗٔ.)ٔ9
ومع ثورة ٔ ٔ88وما بعدها علت فً مصر روح القومٌة المصرٌة والدولة الوطنٌة باعتبارها الخبلص
من االحتبلل ومن التشوٌهات واإلذالل الذي تعمد المحتلون ممارسته على المصري الفبلح وهوٌته،
ووصلت هذه الروح ألعبلها فً ثورة ،ٔ9ٔ9وعلى صداها نشطت حركات المقاومة الوطنٌة فً ببلد
أخرى محٌطة رأت فً الوطنٌة منجاتها الوحٌدة من االحتبلل ومن التشرذم الطابفً والعرقً.
(ٖٔ)ٔ9
-الحركة القومٌة العربٌة فً القرن العشرٌن ،هانً الهندي ،ص 89
(ٗٔ)ٔ9
-انظر نفس المرجع ،ص ٕٔٔ
ٖٙ7
وعن رسوخ العقٌدة الوطنٌة فً مصر حٌنها قبل أن تهبط علٌها القومٌة العربٌةٌ ،قول المإرخ العراقً
عبد العزٌز الدوري" :فً مصر ظهرت أفكار الوطن والوطنٌة والحرٌة والمساواة قبل مناطق الوطن
الكبٌر".
ولما بدأ التحول بفكرة القومٌة العربٌة لمصر عبر الشوام المهاجرٌن لمصر وجدت معارضة من معظم
المثقفٌن والزعماء المصرٌٌن ،وهو ما قابله القومٌون العرب الشوام والعراقٌٌن بحمبلت هجوم حادة ضد
المصرٌٌن الرافضٌن لهذه الهوٌة المصطنعة الوافدة ،وكرَّ س ساطع الحصري جزءا من نشاطه لتحقٌر
الحضارة المصرٌة وتجرأ على وصفها بـ"المٌتة"؛ كً ٌبرر نظرٌته التً اسماها بـ"عروبة مصر"(٘ٔ.)ٔ9
كما برز الكبلم فً أول القرن ٕٓ عن "ظاهرة تعرٌب مصر"؛ ما ٌإكد وعً رواد القومٌة العربٌة
وقتها بؤن مصر لٌست عربٌة فً الحقٌقة ،ولكن سٌجعلونها هم "عربٌة" بتزوٌر التارٌخ لٌؽزونها ؼزوا
ناعما.
وقال عنها الكاتب البحرٌنً -خرٌج الجامعة األمرٌكٌة البروتستانتٌة فً بٌروت -محمد جابر األنصاري إن
"ظاهرة تعرٌب مصر حقل نموذجً لتبٌن تبادل التفاعل بٌن العروبة واإلسبلم خبلل هذه الفترة" ،وإن القومٌٌن
العرب اهتموا بـ "ضم أكبر قوة إلى "دار العرب" الجدٌدة ،بل وجعلها مركز الثقل فً هذه الدار ،بعد أن كان
االمتداد المكانً للفكر القومً (العربً) ال ٌتجاوز آسٌا العربٌة" ،أي جزٌرة العرب والشام والعراق(.)ٔ9ٔٙ
واختمرت الفكرة أكثر بعد أن فشلوا فً تحقٌق "الدولة العربٌة الكبرى" منفردٌن بدون مصر فً زمن
حسٌن الهاشمً ،ثم فً العراق خبلل ثورة رشٌد الكٌبلنً.
وٌبدي القومٌون العرب ،ومنهم أنٌس الصاٌػ (سوري) فً كتاباتهم دهشتهم من أنه لماذا ظلت مصر
حتى سنة ٕٓ ٔ9بعٌدة عن فكرة "العروبة"؟ ،وٌجٌبون بؤن ذلك ألن االستعمار البرٌطانً استهدؾ إبعادها
عن هذه الفكرة(.)ٔ9ٔ9
ولم ٌكن هذا حقٌقٌا ،فالقومٌون العرب أنفسهم ٌقولون إن مصر قبل االستعمار البرٌطانً لم تكن تعرؾ
شٌبا عن العروبة ،وظلت حتى القرن ٕٓ ترفض االنضمام لقافلة القومٌة العربٌة ،كما أن االستعمار الؽربً
هذا هو نفسه الذي شجع فكرة العروبة فً القرن ٔ9بإرسالٌاته التبشٌرٌة فً الشام ،وفً ٔ9ٔٙبدعمه
"الثورة العربٌة الكبرى" ،وفً تمكٌنه القومٌٌن العرب الوافدٌن لمصر ،وهو ذاته الذي دعم تؤسٌس الجامعة
العربٌة سنة ٘ٗ ،ٔ9وأنه فً ذلك الوقت كان ٌشجع أي تٌار ٌنزع عن المصرٌٌن روح المقاومة الوطنٌة،
وٌشتتهم وٌخلق منهم شٌعا متحاربٌن ،بل لم تحارب برٌطانٌا القومٌة العربٌة إال لما تبناها جمال عبد
الناصر ألسباب سنعرفها -إن شاء هللا -فً الجزء الثانً.
(٘ٔ)ٔ7
-ساطع الحصري فٌلسوؾ القومٌة العربٌة نافخ الروح فً معهد الدراسات ،مجلة األهرام العربً ،سهٌر عبد الحمٌدٕٓٔ٘ -ٖ -7 ،
*** الحصري (ٓ ) ٔ9ٙ8 -ٔ88مختلؾ حول أصله من كثرة تنقالته الؽامضة بٌن البالد ،وٌقول إنه من أسرة ٌمنٌة سكنت سورٌا ،وكان مإٌدا
للتترٌك قبل سقوط الخالفة العثمانلٌة ثم تحول للعروبة وألؾ ٓ٘ كتابا حشاها بنظرٌاته المصطنعة حولها.
()ٔ9ٔٙ
-الحركة القومٌة العربٌة فً القرن العشرٌن ،هانً الهندي ،مرجع سابق ،ص ٖٓ
()ٔ9ٔ9
-المرجع السابق ،ص ٔٙ8
ٖٙ8
وإضافة إلى المهاجرٌن الشوام األوابل من دعاة الجٌل األول للقومٌة العربٌة إلى مصر ،كان لعبد
الرحمن الكواكبً من دعاة الجٌل الثانً بعد هجرته أٌضا من الشام إلى مصر سنة ٔ899دور فً نثر
بذور القومٌة العربٌة ،معتبرا أن رابط اللؽة أعلى من رابطة القومٌة الوطنٌة والجنس ،وكان لكبلمه صدى،
خاصة أنه ٌمزج الدعوة للقومٌة العربٌة بمكافحة االستبداد والظلم العثمانً الذي عانى منه الجمٌع(،)ٔ9ٔ8
ولكن ظل تؤثٌره على أفراد معدودٌن من المصرٌٌن ولٌس جماعات.
وفً مرحلة تالٌة نشط الكبلم عن القومٌة العربٌة فً مصر بعد سٌطرة الشوام على قطاع كبٌر من الصحؾ
وروجت
فً مصر التً تنشر أفكارهم ،ثم بدأوا فً عمل التنظٌمات مثل جمعٌة الشورى التً أنشؤها شوام َّ
للقومٌة العربٌة فً الفترة بٌن الحربٌن العالمٌتٌن(.)ٔ9ٔ9
أما من كان ال ٌستجٌب لدعوتهم القومٌة العربٌة وٌكشؾ زٌفها فكانوا ٌطبقون علٌه ما ورد فً دستور
ومٌثاق "الحركة العربٌة السرٌة" من أنه عدو ٌجب شن الحرب علٌه وهزٌمته.
ففً الؽزو العربً األول حٌن كان المصرٌون ٌثورون على التواجد أو الظلم العربً فً زمن الخبلفتٌن
األموٌة والعباسٌة كان جٌش الخلٌفة ٌرد علٌهم بالسبلح ،بالقتل والحرق والسبً ،وذلك ألنه األقوى حٌنذاك،
أما لما تبدل الحال وصارت مصر هً األقوى فلجؤوا إلى ؼزوها بوسٌلتٌن :األولى هً التودد للمصرٌٌن
للقبول بالقومٌة العربٌة ،والثانٌة هً اإلرهاب واالؼتٌال المعنوي بتهدٌد المصرٌٌن الرافضٌن لهذه الدعوة
بؤنه م عمبلء لبلحتبلل وأعداء العرب وعنصرٌون ولو استطاعوا الحقوهم فً أرزاقهم أو هددوا حٌاتهم
وشوهوا سمعتهم مثلما فعلوا مع طه حسٌن ولطفً السٌد ،فٌما ٌشبه أسلوب الٌهود فً وصؾ من ٌرفضون
تؽلؽلهم بؤنهم "معادون للسامٌة" و"عنصرٌون".
وٌشٌر لطفً السٌد لمثال من مرحلة التودد حٌن كان التٌار العروبً ما زال ضعٌفا ولٌس له أنصار
ٌُذكرون من المصرٌٌن فً كتابه "قصة حٌاتً" أنه "فً سنة ٔٔ ٔ9ظهرت ألول مرة بوادر ما ٌسمونه
"البنارابٌزم" أو الجامع ة العربٌة ،وفً هذا الحٌن وفد على مصر رجبلن من أعٌان الشام ولبنان ،هما السٌد
شكري العسلً من دمشق والسٌد ثابت من أعٌان بٌروت ،والؽرض هو ضم سورٌة إلى مصر ولقٌانً
ضمن من لقٌا من المشتؽلٌن بالسٌاسة وأهل الرأي ،ولم أكن متفقا معهما فً هذا الرأي ،ال لتعذر هذا الطلب
فحسب ،بل ألنً لم أره فً مصلحة مصر" ،وحٌن لمسا رفضه هو وآخرٌن لطلبهما قاال" :مصر فٌها مال
وسورٌا فٌها رجال!"(ٕٓ.)ٔ9
وهً عبارة تكشؾ عن نواٌاهم أن مصر بالنسبة لهم مصدر لنزح المال ،وأنهم ٌعتبرون أن "الرجال"
الذٌن لهم حق السٌطرة فً النهاٌة بعد التمكن من مصر هم السورٌون ،وأنهم امتداد لفكر العربان الذٌن
نظروا للمصرٌٌن وهم ٌنهبونهم فً الؽارات على أنهم "ولدوا خصٌصا إلنتاج طعام العربان" ،وأنه "ال
()ٔ9ٔ8
-انظر نفس المرجع ،ص ٔ99 -ٔ9ٙ
()ٔ9ٔ9
-انظر نفس المرجع ،ص ٕٕٗٔٔ٘ -
(ٕٓ)ٔ9
-قصة حٌاتً ،أحمد لطفً السٌد ،مرجع سابق ،ص ٗ8
ٖٙ9
توجد مهنة أكثر نببل من أن تعٌش من خٌرات الؽٌر دون مشقة".
وبعد خذالن برٌطانٌا لـ "الثورة العربٌة الكبرى" ٔ9ٔٙزاد تودد القومٌٌن العرب للمصرٌٌن بالتوجه
لزعٌم الثورة المصرٌة الصاعدة آنذاك ،سعد زؼلول ،والمخترق األعظم للساحة المصرٌة وقتها بالفكر
العروبً -إلى جانب الشوام -هو عبد الرحمن عزام -مإسس جامعة الدول العربٌة -الذي دعا سعد زؼلول
إلقامة وحدة بٌن مصر والببلد العربٌة ،ولكن سعد زؼلول حدد هوٌة الثورة حٌن اتصل به بعض الساسة
العرب وهو فً بارٌس ،وعرضوا علٌه توحٌد جهودهم ضد االستعمار ،فقال لهم سعد :إن قضٌتنا مصرٌة
ولٌست عربٌة"(ٕٔ.")ٔ9
ولنا أن نتخٌل مصٌر ثورة ٔ9ٔ9إذا ما تشتت قادتها وانخرطوا فً قضاٌا الصراعات الداخلٌة للشام
والعراق ،وتاهوا وسط تعدد والءات قٌادات تلك الشعوب بٌن برٌطانٌا وفرنسا وألمانٌا واألتراك والعرب.
وانتبه كثٌر من المصرٌٌن وقتها لخطورة المستوطنٌن الوافدٌن الذٌن جاءوا لفرض هوٌتهم على مصر
بدال من أن ٌتبنوا هم هوٌة مصر مداموا اختاروا االستٌطان فٌها ،ولعبلقات بعضهم مع االحتبلل ،ووصؾ
محمد جبرٌل فً كتابه "مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن" المشاعر بٌن المصرٌٌن وتلك الجالٌات وقتها
بـ"العزلة" ،قاببل إن "مبعث اإلحساس بالعزلة بٌن الشعب المصري والجالٌات العربٌة من سورٌٌن ولبنانٌٌن
ومؽاربة وتونسٌٌن وؼٌرهم أنهم كانوا ٌتمتعون باالمتٌازات نفسها التً كانت تتمتع بها الجالٌات األجنبٌة
األخرى ،وأن تلك االمتٌازات كانت هً الجرح األكبر فً جسد الشعب المصري".
وأضاؾ أنه للحق فإن احتبلل العناصر الشامٌة مناصب الدولة شكل جزءا من الدافع الثوري عند
المثقفٌن المصرٌٌن ،ومع ذلك فإن الخبلفات ثارت بٌن المثقفٌن المصرٌٌن والمثقفٌن من الشوام؛ ألن
المصرٌٌن كانوا ٌستندون إلى عدالة قضٌتهم الوطنٌة ،وحق مصر فً االستقبلل ،بٌنما الذ ؼالبٌة الشوام
بسلطات االحتبلل كحلٌؾ فً الصراع ضد الوطنٌٌن ،ولعلنا نذكر الدور الذي أداه أصحاب صحٌفة المقطم
(الشوام) فً دعم االحتبلل ،وهو دور لم ٌكن هٌنا على اإلطبلق ،وكانوا سببا فً نفً عبد هللا الندٌم للمرة
الثانٌة(ٕٕ.)ٔ9
كذلك تزاٌدت كراهٌة المصرٌٌن للشوام نتٌجة لؤلرباح الطابلة التً حققها التجار الشوام بوسابل لم
ٌراعوا فٌها المصرٌٌن ،وٌستكمل جبرٌل رصده لتلك الفترة بؤن الفبلح تعامل مع تجار ومرابٌن ٌتحدثون
العربٌة ،لكنهم ٌسلبونه حقوقه وأرضه وماله ،وٌستندون لجدار االمتٌازات األجنبٌة ،وزاد من تلك الكراهٌة
أن الشوام كانوا ٌحصلون على فرص أفضل فً الوظابؾ اإلدارٌة ،وبلػ األمر حد مهاجمة مصطفى كامل
للشوام ،ونعتهم بالدخبلء فً مصر ،وإن أعلن ،فٌما بعد ،أنه كان ٌعنً الشوام الموالٌن لبلحتبلل.
فرؼم أن الشوام عددهم قلٌل فً مصر ،إال أنهم كانوا الفبة الثانٌة من األجانب بعد األوروبٌٌن التً أسبػ
(ٕٔ)ٔ9
-مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن ،ج ٕ ،مرجع سابق ،ص ٙٗ9
(ٕٕ)ٔ9
-مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن ،جٕ ،ص ٓ٘ٙ
ٓٗٙ
علٌها االحتبلل البرٌطانً رعاٌته وامتٌازاته ،وقال كرومر عنهم "إن السورٌٌن كانوا ٌحتلون إلى حد كبٌر
فً مصر المركز الذي ٌحتله الٌهود فً أوروبا" ،و"فً كل قرٌة من قرى مصر ،البد من وجود مرابً،
وأن هذا المرابً إذا لم ٌكن ٌونانٌا فهو سوري" ،واعترؾ بؤن االحتبلل أزاح المصرٌٌن المسٌحٌٌن من
عمل الكتبة الذي كانوا متخصصٌن فٌه من قبل فً الحكومة ،وأح َّل محلهم السورٌٌن بحجة أن النظام
الحسابً للمصرٌٌن صارا "عتٌقا وبالٌا"؛ ما "تسبب فً قدر كبٌر من السخط والتذمر بٌن أفراد المجتمع
القبطً" ،وأنه فً العموم "تنظر أؼلبٌة السكان إلى السورٌٌن نظرة كراهٌة واستٌاء" ،خاصة وأن "المرابً
السوري ٌشتهر بجشعه للربح وبقسوتهٌ ،زاد على ذلك أن ابتزاز المرابً السوري لؤلموال تسهل بفضل
تقدم مسٌرة الحضارة فً مصر"(ٖٕ.)ٔ9
كما عبر الشاعر حافظ إبراهٌم فً كتابه "لٌالً سطٌح" عن النظرة التً ٌنظر بها المصري إلى الشوام
الطامعٌن فً بلده" :إننً ال أكذب هللا ،لقد أكثرتم من التداخل فً شبونهم فعز علٌهم ذلك من أقرب الناس
إلٌهم ،نزلتم ببلدهم فنزلتم رحبا ،وتفٌؤتم ظبللها فؤصبتم خطبا ،ثم فتحتم لهم أبواب الصحافة فقالوا أهبل،
وحللتم معهم فً دور التجارة فقالوا سهبل ،ولو أنكم وقفتم عند هذا الحد لرأٌتم منهم ودا صحٌحا وإخبلصا
صرٌحا ،ولكنكم تخطٌتم ذلك إلى المناصب ،فسددتم طرٌق الناشبٌن ،وضٌقتم نطاق االستخدام على
الطالبٌن(ٕٗ.")ٔ9
وقاد الكاتب سبلمة موسى عام ٖٓ ٔ9حملة بعنوان ضد "النفوذ العربً فً مصر" فً الثبلثٌنات دعا
فٌها إلى أدب مصري ٌخاطب المصرٌٌن بلؽتهم ،وٌحرك فً نفوسهم األمانً المصرٌة.
وقال" :ولن ننتظر من الصحفً السوري أن ٌإدي لنا هذا الواجب ،بل هو ال ٌستطٌعه لو أراده ،ألن
نفسه ؼٌر أنفسنا؛ فلسنا ننتظر من الجرابد والمجبلت السورٌة أن تطالبنا بدرس الحضارة الفرعونٌة كما
ف عل الدكتور هٌكل (محمد حسٌن هٌكل) ،وأن ٌثبت على هذه الدعوة ،بٌنما المجبلت السورٌة تتهمه باإللحاد
من أجلها ،ولسنا ننتظر منها أن تدعونا إلى وطنٌة مصرٌة مقصورة على حدود مصر الجؽرافٌة كما فعل
األستاذ لطفً السٌد فً "الجرٌدة" مع اإلهانات المتكررة التً لقٌها من العامة على ذلك ،والخبلصة أن
الصحٌفة التً ٌقرأها المصري ٌجب أن تكون مصرٌة بالدم والروح والمزاج ،ألنها مرآة نفسه فً الٌوم
والؽد ،تمثل رجاءه فً االستقبلل والحرٌة ،وتنشد له أدبا مصرٌا ٌتفق ومزاجه ولؽته وبٌبته ومصرٌته".
وشاور سبلمة موسى على رشٌد رضا القادم من الشام لٌهاجم المصرٌٌن الذٌن رفضوا فكرة "الجامعة
اإلسبلمٌة" ،ووصفهم بـ"العمبلء لبلحتبلل" ،فقال موسى عنه" :السوري القح الذي لٌس فً دمه قطرة
واحدة من دماء المصرٌٌن" ،وتساءل" :لماذا ال تكون ببلده األصلٌة أولى منا بخدمته وحماسته ،إن وطنه
األصلً قد ٌحترق باالستعمار ،وقد ٌعٌش فً فوضى وشقاق ،لكنه ال ٌؽار علٌه ،بل ٌؽار على المصرٌٌن
وهو لٌس منهم".
(ٖٕ)ٔ9
-انظر تطور الحركة الوطنٌة فً مصر ( ،)ٔ9ٖٙ -ٔ9ٔ8عبد العظٌم رمضان ،مكتبة مدبولً ،طٕ ،ص ٗ ،9ٙ -9و"مصر الحدٌثة"،
كرومر ،جٕ ،المركز القومً للترجمة ،ترجمة صبري محمد حسن ،مرجع سابق ،ص ،ٕ٘8وٕٕٖٙ -ٕٙ
(ٕٗ)ٔ9
-انظر مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن ،ج ٕ ،ص ٓ٘ٙ
ٔٗٙ
وباألسلوب نفسه قال عن السوري محب الدٌن الخطٌب" :انزح إلى ببلدك وهلم بؽٌرتك هذه للدفاع عن
وطنك األصلً" ،وانتقد كذلك مصطفى صادق الرافعً مإكدا خلو دمه من المصرٌة ،فهو مصري الرعوٌة
ولكنه سوري األصل ،ونصحه بالرحٌل إلى وطن آبابه.
وعن اآلفات والفتن التً صاحبت كثرة الشوام قال سبلمة موسى" :وبعد ،فنحن نقول لهإالء السورٌٌن،
سواء تمصروا أم لم ٌتمصروا ،إنه ال ٌلٌق بهم أن ٌدخلوا ببلدنا وٌعٌشوا باإلفساد والوقٌعة بٌن أبنابها
المسلمٌن والنصارى والشبان والشٌوخ ،وشبابنا ال ٌرؼب فً الفساد أو الكفر أو الشٌوعٌة(ٕ٘.")ٔ9
ورؼم وعً هإالء الزعماء والمثقفٌن المصرٌٌن بخطر القومٌة العربٌة ،إال أنها وجدت لها سبٌبل بٌن
مثقفٌن مختلفٌن ،مستؽلة أجواء التعاطؾ مع ثورة عمر المختار ضد اإلٌطالٌٌن فً لٌبٌا ،والثورة السورٌة
ضد الفرنسٌٌن ،والثورة العراقٌة ضد اإلنجلٌز ،والقصص اللً ُتحكى عن وحشٌة المحتلٌن وعن بطوالت
العرب ،حتى جاءت قضٌة فلسطٌن لتجعل من التعاطؾ مع "العروبة" تٌارا ربٌسٌا ضمن التٌارات التً
تتناطح فً مصر وتتسابق على خطفها فً الثبلثٌنات واألربعٌنات.
ولذا تعتبر الصهٌونٌة ومشروع دولة إسرابٌل "فاتحة خٌر" للقومٌٌن العرب الستخدام "قضٌة فلسطٌن"
فً شحن مشاعر المصرٌٌن للتحول عن هوٌتهم المصرٌة ومبادئ ثورة ٔ9ٔ9إلى الهوٌة العربٌة ومبادئ
الحركة العربٌة السرٌة ،مستؽلٌن العامل الدٌنً فً القضٌة كالقدس والمسجد األقصى ،بالرؼم من أن
الحركة القومٌة العربٌة علمانٌة ،لكن استخدمت النؽمة الدٌنٌة للشحن على النمط المكٌافٌلً ،وصنع فكرة أن
إنقاذ فلسطٌن وتحرٌر كافة دول المنطقة من االستعمار لن ٌكون إال بالتكتل فً "الوحدة العربٌة".
وفً هذا ٌقول محمد جابر األنصاري فً كتابه "تحوالت الفكر والسٌاسة فً الشرق العربً ٖٓ-ٔ9
حول السٌاسٌٌن المصرٌٌن نحو سٌاسة عربٌة شاملة"،
ٓ" :"ٔ99لقد كانت فلسطٌن هً العامل الحاسم الذي َّ
وكان ثمرة ما سماه "تعرٌب مصر سٌاسٌا" فً الفترة من ٖٓ.)ٔ9ٕٙ(ٔ9ٖٙ -ٔ9
وساهم التٌار السلفً فً جر مصر للتعرٌب بنشاط محموم ،وسبلحه فً هذا الجمعٌات واإلعبلم ،فقامت
الصحؾ السلفٌة ،خاصة التً أنشؤها شوام سلفٌٌن مثل رشٌد رضا ومحب الدٌن الخطٌب ،بمهمة توجٌه
المصرٌٌن لقضاٌا خارجٌة ،فؤبرزت الحدٌث عن الثورة السورٌة فً العشرٌنات ضد الفرنسٌس وحق
الشعب السوري فً االستقبلل وجمعت التبرعات لمنكوبً الثورة(.")ٔ9ٕ9
وازدحمت القاهرة بالمإتمرات وراء المإتمرات ،والندوات وراء الندوات ،والصحافة والصالونات
المسٌطر علٌها من الشوام مشتعلة بالدعوة لمناصرة فلسطٌن والتوحد العربً ضد االستعمار إلنقاذ فلسطٌن،
وأن من ٌتهاون فً ذلك أو ٌصر على مبدأ مصر للمصرٌٌن فهو "عمٌل للصهاٌنة".
(ٕ٘)ٔ9
-مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن ،محمد جبرٌل ،ج ٕ ،ص ٔ٘ٙ
()ٔ9ٕٙ
-الحركة القومٌة العربٌة فً القرن العشرٌن ،مرجع سابق ،ص ٕ٘ٗ
()ٔ9ٕ9
-انظر :نفس المرجع ،ص ٕٗ9
ٕٗٙ
وقام الفلسطٌنً محمد علً الطاهر بدور فً شحن عواطؾ المصرٌٌن ناحٌة فلسطٌن بتؤسٌس جرٌدة
"الشورى" و"الشباب" فً القاهرة ٌتكلم فٌهما عن التدمٌر والقتل الذي تمارسه العصابات الصهٌونٌة ضد
الفلسطٌنٌٌن()ٔ9ٕ8؛ وترك هو فلسطٌن والجهاد فٌها لكً ٌجاهد فً مصر.
وفً ٔ9ٖ8بدأت القاهرة استضافة مإتمرات تؤخذ صفة "عربٌة" ،وهو أمر لم ٌكن مؤلوفا ،فشهدت
مإتمرا برلمانٌا للشعوب العربٌة ،وفً نفس العام عقد المإتمر النسابً العربً فً القاهرة بدعوة من هدى
شعراوي -ربٌسة االتحاد النسابً المصري -للنظر فً تطورات أوضاع فلسطٌن ،كما شاركت مصر مع
العراق والسعودٌة والٌمن وشرق األردن فً مإتمر المابدة المستدٌرة الذي دعت إلٌه برٌطانٌا فً ٔ9ٖ9
بلندن لدراسة القضٌة الفلسطٌنٌة ،وهو أول مإتمر تحضره مصر بصفة رسمٌة حول فلسطٌن(.)ٔ9ٕ9
وبالتزامن ،ظهرت السٌنما والمسرح كسبلح هام فً ٌد القومٌٌن العرب والشوام الوافدٌن ،ومن تؤثر بهم
فٌما بعد من المصرٌٌن.
ففً األربعٌنات ومطلع الخمسٌنات تم حشو األفبلم بؤوبرٌتات وقصص بدوٌة وشامٌة ومؽربٌة ،تفوح
منها أجواء الشام ولبنان والحجاز وببلد المؽرب ،خاصة وأن كثٌرا من منتجً األفبلم أو الممثلٌن
والمطربٌن كانوا من هذه الببلد ،مثل فرٌد األطرش وأسمهان أصحاب األوبرٌتات العربٌة والبدوٌة
الشهٌرة ،وفجؤة ..حولوا صورة الرجل البدوي بعقاله البدوي الذي ٌحمل ذكرٌات األطماع والؽارات
واالعتداءات المرَّ ة فً صدور المصرٌٌن إلى صورة الرجل البطل المؽوار الذي ٌحمل كل صفات البطولة
والحرٌة ،وٌلزم أن ٌقلده المصرٌون وٌفخرون بؤن ٌحملوا هوٌته.
وفً فٌلم "ؼرام وانتقام" ( إنتاج عام ٗٗ ..)ٔ9مشاهد ال ُتنسى ..ألنها لم تكن عشوابٌة.
تعرض سهٌر (أسمهان) على جمال (ٌوسؾ وهبً) أن ٌضع موسٌقى استعراض ؼنابً لحفل خٌري.
المشهد:
سهٌر متحمسة :موضوع التابلوه جدٌد من نوعه ،هٌعجبك ،سمٌته مصر الفرعونٌة.
جمال مبتسما :فكرة وجٌهة ٌا هانم ..ولكن مش مبتكرة ،ألنه ؼٌرنا سبقنا فٌها.
هكذا ..اعتبر واضع الفٌلم أن الهوٌة المصرٌة األصٌلة "موضة قدٌمة" ،وٌلزم السٌر وراء "الموضة
()ٔ9ٕ8
-انظر نفس المرجع ،ص ٖٗٙ
()ٔ9ٕ9
-انظر نفس المرجع ،ص ٓٗٗ
ٖٗٙ
الجدٌدة" فً ذلك الوقت ،وهً القومٌة العربٌة ،لنخلق "مصر الحدٌثة" ،وكؤن هوٌات األوطان وفطرة هللا
فً البشر تخضع لـ"الموضة" مثل تسرٌحة الشعر أو أنها تتبدل بمرور السنٌن.
وبالفعل ،تم نقل الكامٌرا إلى الشام لتصوٌر جزء من الفٌلم هناك ،فً ؼٌر ضرورة درامٌة لذلك ،وتؽنً
سهٌر أؼانً شامٌة وسط أجواء بدوٌة ،وبعدها ٌلقً الدكتورة بشارة (بشارة واكٌم) خطبة عصماء باللهجة
الشامٌة ترحٌبا بسهٌر ،تقول:
ت وجاع المرضان تحٌا الشهامة المصرٌة ،شامً "ٌا بنت مصر ولبنان ٌا نجمة األمة العربٌة ،خفف ِ
َّ
وهبل بالفكر الراقً فلسطٌنً وعراقً وابن الببلد النٌلٌة ،نسب صاٌرله زمان باقً والد عموم بالجنسٌة،
حتصٌروا وحدة عربٌة" ..وصفق الجمٌع منشكحٌن.
والبلفت أن الفٌلم من إنتاج ستدٌو مصر الذي أسسه طلعت حرب بروح ثورة ٔ9ٔ9لٌجعل السٌنما
سخر شبابه لٌقدم مسرحا مصرٌا بعدمصرٌة وتخدم الهوٌة المصرٌة ،وبطل الفٌلم هو ٌوسؾ وهبً الذي َّ
أن كان األوروبٌون والشوام ٌسٌطرون على هذا المجال ،فكان هذا من عبلمات قوة تؤثٌر القومٌٌن العرب
رؼم قلة عددهم على المصرٌٌن.
وكما ٌقول المثل المصري الفصٌح "الزن على الودان أمر من السحر" ،فكثرة األنشطة الثقافٌة والضؽط
العاطفً الذي مارسه القومٌون العرب الوافدون فً مصر وربطهم للوحدة العربٌة بالتحرر من االحتبلل
األوروبً والقضاء على الصهٌونٌة أفرز هذا التحول.
واشتهرت أوبرٌتات فرٌد األطرش العروبٌة ،وأهمها "بساط الرٌح" (فٌلم آخر كدبة إنتاج عام ٓ٘،)ٔ9
الذي ٌنتقل من بلد إلى بلد فً المنطقة ٌعرض مزاٌاها بلهجة أهلها وأزٌاءهم ،سورٌا ولبنان والعراق
وتونس ،ثم ٌحط رحاله فً مصر ..ولم تكن هذه الجولة لتقرٌب تلك البلدان إلى المصرٌٌن عشوابٌة.
ولوحظ هذا أٌضا فً اختٌار قصص أفبلم اعتمدت على تسوٌق األدب العربً وقصص شخصٌات لٌست
مصرٌة ،بل عربٌة ال تنتمً للمصرٌٌن دما وال روحا وال تارٌخا ،وال تفٌدهم فً قضٌة التحرر من
االحتبلل ،ومن ذلك فٌلم "سبلَّمة" (٘ٗ )ٔ9من تؤلٌؾ أحمد علً باكثٌر (ٌمنً عاش فً مصر) وتمثٌل أم
كلثوم ،وٌقوم على قصة جارٌة فً الحجاز خبلل العصر األموي ،وتدور المشاهد فً أجواء وبلهجة ال
تخص المصرٌٌن بصلة ،وفٌلم "رابحة" (٘ٗ )ٔ9تؤلٌؾ بٌرم التونسً وتمثٌل كوكا ومحمد الكحبلوي،
وفٌلم "عنتر وعبلة" (٘ٗ ،)ٔ9عن قبٌلة بنً عبس ،بطولة سراج منٌر وكوكا ،وفٌلم "لٌلى العامرٌة"
( ) ٔ9ٗ8عن قصة قٌس ولٌلى إنتاج الشركة السورٌة اللبنانٌة للسٌنما ،وتمثٌل ٌحٌى شاهٌن وكوكا ،وكوكا
أخذت على عاتقها تقدٌم األفبلم باللهجة البدوٌة ،وتقدٌم قصص وافدة من بطن جزٌرة العرب.
وفً األفبلم التً تتحدث عن زواج مصرٌٌن ببنات البدو البد أن ٌُظهروا المصرٌة فً صورة تمثل
العار والخبلعة ،والبدوٌة فً صورة الشرٌفة بنت األشراؾ ،تقؾ لتلقً على سمع المصرٌة عبارات
لتعلمها الشرؾ والعفة ،مثل فٌلم "رابحة" ،وفٌلم ""طرٌق الشوك" (إنتاج ٓ٘ )ٔ9لحسٌن صدقً والمطربة
ٗٗٙ
التونسٌة حسٌبة رشدي ،وٌقول الظابط مجدي (حسٌن صدقً) لبنت القبٌلة" :إنتً عربٌة وفٌكً شرؾ
العرب ،ومقامك ؼالً عندنا" ،وفً ذات الفٌلم قال لزوجته المصرٌةٌ" :ارٌت أخبلقك زي أخبلق بنات
العرب" ،ولم ٌقدم الفٌلمان نموذجا لمصرٌة شرٌفة ...والمثٌر للعجب أن الفتاتٌن العربٌتٌن فً الفٌلمٌن
ٌنتمٌان لقبٌلتٌن ظهرتا تحترفان السلب والنهب والسطو على الؽٌر ،ورؼم هذا قدمهم على أنهم "أشرؾ"
من المصرٌٌن ونموذج ٌُحتذى.
إنه قاموس المسٌخ الدجال ..تورط فٌه مصرٌون متعلمون دون وعً ،وسٌكونون أدواته الطٌعة لسنٌن
طوٌلة.
فمنذ الثبلثٌنات استهدفت حملة تعرٌب مصر األدب والسٌنما لتصل إلى كل مصري ولو فً أقصى
الرٌؾ ،واشتد الزن فً األربعٌنات ،ولم تكن قصص زواج المصرٌٌن بالبدو فً أفبلم مثل "رابحة"
وؼٌرها سوى تزوٌج قسري لمصر بالقومٌة العربٌة.
وٌشرح الكاتب المصري محمد جبرٌل فً "مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن" كٌؾ بعد أن نجح
الشوام فً إقناع بعض المثقفٌن المصرٌٌن بـ"القومٌة العربٌة" فً الثبلثٌنات ،ومنهم زعماء بحزب الوفد،
بدأ سعً محموم لتعزٌز ذلك فً الصحؾ ،وحتى السٌنما لٌصل إلى كل الناس ،وٌضٌؾ" :ولعل األفبلم
المصرٌة أسهمت فً تعمٌق المعنى من خبلل التكلم باللهجات العربٌة ،وتقدٌم الرقصات واألؼنٌات العربٌة،
واالستعراضات التً تإكد عروبة المنطقة وتوافق ظروفها (ٖٓ.")ٔ9
و حشر اللؽة والمبلبس والهوٌة البدوٌة والشامٌة صار من األربعٌنات كؤنه فرٌضة على األفبلم حتى لو
لم تتناول قصة بدوٌة وشامٌة ،مثلما نرى فً فٌلم "أنا قلبً دلٌلً" (إنتاج )ٔ9ٗ9بحشر أؼنٌة شامٌة "ٌا
بنت اإلٌه قتلتٌنً" للمطرب اللبنانً محمد سلمان فً الفٌلم الذي ٌتكلم عن قصة مصرٌة صرفة ،وحشر
أؼنٌة شامٌة للفنان السوري إلٌاس مإدب فً أوبرٌت "حبٌبً المجهول" فً فٌلم "عنبر" (إنتاج ،)ٔ9ٗ8
وتخصٌص أؼنٌة وأوبرٌتان كامبلن لؤلؼانً والرقصات والمبلبس الشامٌة فً فٌلم "لٌلة العٌد" (إنتاج
)ٔ9ٗ9منهم أوبرٌت اسمه "أنا قلبً جامعة دول عربٌة" لشادٌة وإلٌاس مإدب ٌظهر فٌه الزواج بٌن
الشامً والمصرٌة ،وانتهى بإزالة اسم "المصرٌة" لتصبح "العربٌة" ،وهً إشارة واضحة المؽزى.
ومبلحظ أن منتج أو مخرج معظم هذه األفبلم أنور وجدي ،وهم من أب سوري ،وٌظهر أنه بدل أن
َّ
وسخر فنه لتحقٌقها. ٌستكمل تمصٌر نفسه فً مصر راقت له فكرة تعرٌب أو سورنة مصر،
ومن هذه األفبلم الكثٌر ،ولم ٌكن لهذا تفسٌر إال تقرٌب وتحبٌب اللهجة والثقافة الشامٌة والبدوٌة
للمصرٌٌن تمهٌدا لقبول القومٌة العربٌة وتؽٌٌر جلدهم ،ومحو الذكرٌات الكبٌبة لمناظر ؼارات العربان على
قراهم ،وتسلط وتجبر الشوام والمؽاربة على الفبلحٌن ،أو تعاونهم مع المحتلٌن ضدهم ،ولكً ٌفقدوا سبلمة
موسى ومن مثله حجتهم فً االختبلؾ الثقافً واللؽوي بٌن المصرٌٌن والشوام حٌن قال"" :هإالء وؼٌرهم
(ٖٓ)ٔ9
-مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن ،محمد جبرٌل ،ج ٕ ،مرجع سابق ،ص ٓٙ9
٘ٗٙ
من ذوي األصل العربً هم فً نظر الفبلحٌن المصرٌٌن أجانب بسحنتهم ولون بشرتهم ولهجتهم ،ولو وقؾ
الشٌخ رشٌد رضا أو محب الدٌن الخطٌب بٌن جماعة من الفبلحٌن لما استطاع أحدهما أن ٌتفاهم وإٌاهم
بكبلم مفهوم"(ٖٔ.)ٔ9
ووضع عبد الرحمن عزام -المتمسك بؤصوله القبلٌة العربٌة -تبرٌرا لما وصفها بعروبة مصر ٌلوي به
التارٌخ فٌقولَ " :ق ِبل المصرٌون دٌن العرب ،وعادات العرب ،ولسان العرب ،وحضارة العرب ،وأصبحوا عربا
فً طلٌعة العرب(ٕٖ ،")ٔ9وتجاهل عزام أن قبول الدٌن ال عبلقة له بالهوٌة الوطنٌة ،فالدٌن المسٌحً لٌس دٌنا
فلسطٌنٌا أو آرامٌا لمجرد أنه نزل فً فلسطٌن وبلؽة أهلها ،والٌهودٌة لٌست دٌنا مصرٌا لمجرد أنهم ٌقولن إن
التوراة نزلت فً مصر ،وال المصرٌٌن المسٌحٌٌن صاروا فلسطٌنٌٌن ألن المسٌحٌة نزلت فً فلسطٌن ،فكذلك
اإلسبلم لٌس دٌنا عربٌا لمجرد أنه نزل فً جزٌرة العرب وبلؽتهم ،ولٌس المسلم بالضرورة ٌصبح عربٌا ألنه
قبل اإلسبلم أو تعلم اللؽة العربٌة ألجل فهم القرآن.
ولم ٌُفهم أي "حضارة عربٌة" قبلها المصرٌون؟ فالعرب استفادوا من الحضارة المصرٌة أكثر بكثٌر
فلماذا لم ٌصبحوا هم مصرٌون؟ واستفاد العرب من حضارة الٌونان فلماذا لم ٌصبحوا ٌونانٌون؟ والكثٌر
من العادات العربٌة التً دخلت مصر كانت تحت رعاٌة االحتبلل ،أي مفروضة فرضا بواقع االحتبلل،
فهل ألن الفرنسٌٌن فرضوا لؽتهم أو عاداتهم على الجزابر تكون الجزابر فرنسٌة؟
وزاد على ذلك بمؽالطات علمٌة حٌن قال" :وإن أكثرٌة دماء المصرٌٌن ترجع إلى العرق العربً ،وإن
فردا واحدا من ٓ %9من سكان مصر ال ٌستطٌع أن ٌنكر أن عروقه تجري فٌها الدماء العربٌة".
وأي فحص فً أوراق التارٌخ ٌُظهر أن الفبلحٌن الذٌن تجري فً عروقهم دماء وطٌن مصر دابما هم
السواد األعظم فً ببلدهم ،بمتوسط ما بٌن ٘ %8على األقل طوال أٌام االحتبلالت وحتى االحتبلل
اإلنجلٌزي ،كما رأٌنا فً الفصول السابقة ،بل وكان العرب أحرص ما ٌكون على قلة الزواج بالفبلحٌن،
وفً الحاالت التً حصل فٌها زواج ،فلماذا ال ٌقول إن العرب الذٌن استوطنوا مصر وتزوجوا من بناتها
اختلطت دمابهم بالدماء المصرٌة فحقا علٌهم أن ٌعتبروا أنفسهم مصرٌٌن هوٌة وثقافة؟ خاصة وأنهم هم
الوافدون على مصر ال العكس ،ولماذا المصرٌون فقط هم من وجب علٌهم تؽٌٌر هوٌتهم وهم بداخل ببلدهم
وٌصبحوا عربا لمجرد أن قلة منهم تزوجت بعرب وافدٌن؟ ولماذا ال ٌصبحون ٌونان أو أتراكا أو إنجلٌز
بما أن قلة منهم أٌضا تزوجت من هإالء؟ لماذا ٌؽٌر ابن البلد هوٌته وال ٌؽٌرها الوافد؟ أم هو قانون
االحتبلل هو الذي ما زال ٌسري فً عروق ودماء عبد الرحمن عزام؟
ولوحظ أن عبد الرحمن عزام سعى بكل قوته إلبعاد نفسه فعبل عن الدماء المصرٌة ،فهو إضافة ألصوله
(ٖٔ)ٔ9
-انظر :نفس المرجع ،ص ٔ٘ٙ
(ٕٖ)ٔ9
-انظر :الحركة القومٌة العربٌة فً القرن العشرٌن ،مرجع سابق ،ص ٖٔٗ
ٙٗٙ
القبلٌة العربٌة الوافدة حرص فً زواجه على أن ٌتزوج مرتٌن من قباٌل عربٌة تعٌش فً لٌبٌا لٌخرج أبنابه
أنقٌاء الدم العربً ،وزاد على ذلك بؤن كرَّ س حٌاته إلٌهام المصرٌٌن بؤنهم لٌسوا مصرٌٌن ،وهو ما ٌضع
حوله دابرة ملٌبة بعبلمات االستفهام.
فلٌس من الواضح مثبل أنه مادام عزام ٌعتز كل هذا االعتزاز بعروبته القدٌمة ،ولم ٌحب أن ٌكون
مصرٌا ،فلماذا عاش فً مصر ولم ٌذهب للعٌش فً الحجاز لٌكون عربٌا خالصا دما وإقامة ،لماذا ٌشد
توب العروبة شدا من الحجاز ولٌبٌا وإلباسه لمصر ،أم أنه تعامل مع مصر كؽنٌمة حرب؟
واستدل آخرون على ما ٌصفونها بـ "عروبة مصر" بوجود قباٌل عربٌة فً مصر قبل وصول عمرو
بن العاص استوطنت شرق الوجه القبلً أو حواؾ محافظة الشرقٌة أٌام االحتبلل الرومانً ،ولكنهم ال
ٌفسرون لماذا إذن ال نقول إن مصر ٌونانٌة أو رومانٌة ألن الٌونان والرومان استوطنوها ألؾ سنة؟
واحتلوا مدنا أو قلب مدن كاملة ،وأعدادهم كانت أضعاؾ عدد العرب؟ ولماذا ال نقول إن مصر ٌهودٌة
والٌهود استوطنوها أٌضا فً ظل ذلك االحتبلل مبات السنٌن؟ فمصر وقت االحتبلل الٌونانً والرومانً
كانت تزخر -خاصة فً المدن -بؤعراق مستوطنة كثٌرة ،ولم ٌحق لواحدة منها أن تفرض جنسٌتها وعرقها
على مصر ،واألولى أن من ٌستوطن مكانا هو الذي ٌصطبػ بهوٌته ال أن ٌصطبػ المكان بهوٌته األجنبٌة
فٌرتكب عملٌة إبادة جماعٌة للشعب المصري كاملة األركان ،وتخالؾ فطرة هللا فً اختبلؾ هوٌات
الشعوب "وجعلكم شعوبا وقبابل لتعارفوا" (الحجرات اآلٌة ٖٔ) ،وقال لتعارفوا ،أي تعاونوا ،ال لٌمحً
شعب شعبا آخر جسدٌا أو حضارٌا لمجرد أنه احتله واستوطنه.
وبجانب سبلح تزوٌر التارٌخ تفنن القومٌون العرب أٌضا فً سبلح الترؼٌب ،أقوى سبلح فً السٌطرة
على المصرٌٌن ،وإن لم ٌفلح هذا السبلح مع سعد زؼلول لقوة شخصٌته ومصرٌته ،فإنه أفلح مع قٌادات
مصرٌة أخرى ،فحٌن سافر مكرم عبٌد ،القٌادي البارز بحزب الوفد ،إلى الشام سنة ٖٔ ،ٔ9التؾ حوله
خطباء الشام فً حفل تكرٌمً له ،دعا فٌه الزعٌم السوري لطفً الحفار إلى زعامة مصر للببلد العربٌة،
ولكنه وضع شروطا ،وهً أن "تكونوا معنا عربا ال شرقٌٌن وال فراعنة".
وكان رد عبٌد صادما وسرٌعا لما قال" :إن المصرٌٌن عرب ...وأقصد بقولً المصرٌٌن عرب هو هذه
الوشابج وتلك الصبلت التً لم تفصمها الحدود الجؽرافٌة ولم تنل منها األطماع السٌاسٌة مناال" (ٖٖ.")ٔ9
فانجرَّ حزب الوفد وراء نؽمة زعامة مصر للمنطقة العربٌة ،رؼم أن مصر لم تكن لتحتاج استٌراد هوٌة
عربٌة لتكون زعٌمة ،بل ألنها هً الزعٌمة والرابدة تكالب علٌها هإالء لتنضم إلى مشروعهم ،ولم ٌنتبه
إلى أنه حٌن رمى له الحفار طعم "زعامة مصر للعرب" بشرط تخلٌها عن "هوٌتها المصرٌة" ،فهو فً
الحقٌقة ٌجردها من زعامتها الفطرٌة ،وأنه ٌجرها جرا لتكون مجرد "والٌة" ،أو "محافظة" ،فً الدولة
العربٌة الكبرى المنتظرة ،والتً إن قامت فلن ٌُسمح للمصرٌٌن إال أن ٌكونوا "فواعلٌة" لبقٌة الشعوب فٌها.
(ٖٖ)ٔ9
-مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن ،محمد جبرٌل ،ج ٕ ،مرجع سابق ،ص ٙٙ8
ٙٗ7
وانضم لرفع لواء العروبة فً مصر كذلك األدٌب زكً مبارك واألدٌب أحمد حسن الزٌات الذي عمل
مدرسا فترة فً العراق ،وتؤثر بالقومٌٌن العرب الناشطون هناك فً تجنٌد الوافدٌن ،فعاد "عروبٌا".
وحٌن أحست القومٌة العربٌة بؤنها وضعت لها قدما فً مصر فً الثبلثٌنات أخرجت من شنطتها سبلح
االؼتٌال المعنوي واإلرهاب الذي تحدث عنه دستورها "الكتاب األحمر" ،فؤمعن "القومٌون العرب" الطعن
فً رافضٌهم ومنهم طه حسٌن رؼم أنه لم ٌدعً لقطٌعة مع العرب ،بل وهو وزٌر للمعارؾ قدم مساعدات
لدول عربٌة مثل الكوٌت كإرسال معلمٌن على حساب الخزانة المصرٌة بعد أن رفض المعلمٌن الفلسطٌنٌٌن
التدرٌس هناك لضعؾ األجر -قبل تدفق البترول -ورؼم أنه عاشق لؤلدب العربً لدرجة أنه ال ٌتحدث إال
بالعربٌة الفصحى ،ولكن جرٌمته عندهم أنه أراد االحتفاظ لمصر بمصرٌتها وأن ٌكون والء المصري
لمصر وال ٌقبل احتبللها من عربً أو عجمً(ٖٗ.)ٔ9
وذلك أن طه حسٌن تحدث عن الظلم الذي عاناه المصرٌون من االحتبلل العربً ضمن ؼٌره من
االحتبلالت لما كتب فً جرٌدة "كوكب الشرق" سنة ٌٖٖ ٔ9قول" :إن المصرٌٌن قد خضعوا لضروب من
البؽض وألوان من العدوان جاءتهم من الفرس والٌونان ،وجاءتهم من العرب والترك والفرنسٌٌن"(ٖ٘.)ٔ9
ورفض طه حسٌن شرخ الشخصٌة المصرٌة وجعلها مصرٌة وعربٌة فً آن واحد فانتقد من انحرؾ من
المصرٌٌن وسار وراء "القومٌٌن العرب" ،وقال عنهم تحت عنوان "المصرٌة والمجادلون"" :زعموا أنهم
قادرون على أن ٌكونوا مصرٌٌن محتفظٌن بمصرٌتهم ،حرٌصٌن على شخصٌتهم ،وأن ٌكونوا عربا
ٌنتمون إلى عدنان وقحطان ،وٌلجون فً الفن بهذا النسب والحرص علٌه والرؼبة فً مواطنه القدٌمة ،أي
أنهم قادرون على أن ٌكونوا مصرٌٌن وحجازٌٌن أو ٌمنٌٌن فً وقت واحد ،كؤن الوطنٌة لعبة فً أٌدٌهم
أر عقوال بلؽت من القدرة علىشدٌدة المرونةٌ ،عطونها ما أحبوا من الصور ،وما شاءوا من األشكال ،ولم َ
التوفٌق بٌن هذه النقابص كعقول أصحابنا هإالء الذٌن ٌرٌدون أن ٌحتفظوا بشخصٌة مصر والحجاز
والٌمن ،أي ٌجعلوا الوطنٌة أمرا شابعا ،ثم ٌزعمون بعد ذلك أنهم وطنٌون".
وبشكل أكثر جرأة ٌلمس طه حسٌن الجرح حٌن ٌنتقد من ٌتمسكون بؤصول قبلٌة عربٌة وٌسعون
لفرضها على مصر" :ولو أنهم عقلوا ما ٌقولون وفهموا ما ٌذهبون إلٌه لقالوا ؼٌر خابفٌن وال وجلٌن إنهم
ال ٌزالون ٌعتبرون أنفسهم فً مصر فاتحٌن ٌإٌدهم السٌؾ ،وتبصرهم السنان ،جناٌة لٌس أكبر منها ،وذنب
لٌس أعظم منه خطرا على مصر ،فإنهم ٌرٌدون بعد ثبلثة عشر قرنا مضت على الفتح أن ٌقسموا
المصرٌٌن بعروبتهم الكاذبة إلى ؼالب ومؽلوب ،ومع أنهم ٌعلمون أن مزٌة الفتح والتؽلب قد ذهبت من
أٌدٌهم منذ زمن بعٌد إن صح أنهم من نسل الفاتحٌن حقا ،وقد أصبحوا اآلن مؽلوبٌن قد فتحت علٌهم
ببلدهم ،وأصبحت حقوقهم السٌاسٌة العامة فً أٌدي ؼٌرهم بحكم القوة والقانون والتارٌخ معا ..إن الوٌل
لمصر إذا لم تكن قد استطاعت أن تصبػ هإالء الفاتحٌن بصبؽتها الخاصة فً ثبلثة عشر قرنا من
(ٖٗ)ٔ9
-السفٌر عاطؾ :االستثمارات الكوٌتٌة فً مصر تبلػ نحو ٘ٔ ملٌار دوالر ،موقع صحٌفة الراي الكوٌتٌةٕٓٔٙ -ٖ -ٖٓ ،
(ٖ٘)ٔ9
-الحركة القومٌة العربٌة فً القرن العشرٌن ،هانً الهندي ،مرجع سابق ،ص ٕٗ8
ٙٗ8
الزمان(.")ٔ9ٖٙ
نعم الوٌل لمصر ٌا طه حسٌن ..الوٌل لها ممن ال ٌزالون ٌخدرونها وٌضللونها بؤن كل الهجرات
واالحتبلالت "ذابت" فً مصر و"تمصرت" ،وفً نفس الوقت ٌطالبون مصر بؤن تلبس هً لبس وقناع
الهوٌات والهجرات من كل صنؾ ،والتً ادعوا أنها "تمصرت" ،وعادوا الٌوم لفتحها بهجرات جدٌدة
تشتاق لعصور احتبللها لمصر..
وعلى إثر مقالة طه حسٌن الكاشفة للجرح ولؤلقنعة ولَّعت المعركة بٌن مصر والعروبٌٌن ،فاحتشد فرٌق
للدفاع عن طه ،وعلى رأسهم سبلمة موسى ،وفرٌق ضده وعلى رأسهم عبد الرحمن عزام( ،)ٔ9ٖ8واستعمل
العروبٌون سبلح اإلرهاب ضد المصرٌٌن ،فنشرت صحٌفة "المقطم" الشامٌة أن مقاطعة الكتب "ستتبع مع
كل كاتب مصري ٌطعن فً القومٌة العربٌة وٌشجع الروح الشعوبٌة(.")ٔ9ٖ9
وبالفعل ،أحرقت "عصبة العمل القومً" كتب طه حسٌن فً مٌدان عام بالعاصمة السورٌة دمشق فً
ٖٖ ،ٔ9وتجرأت على الحضارة المصرٌة قابلة إن طه حسٌن "واحد من الذٌن ٌهونون أمر العرب،
وٌصؽرون من شؤنهم ،وٌرفعون الصوت بالدعوة التً ٌكرهونها مُرَّ الكراهٌة ،أال وهً الفرعونٌة(ٓٗ.")ٔ9
فاتهموا طه حسٌن وؼٌره من مصرٌٌن بؤنهم ٌصؽرون من أمر العرب لمجرد اعتزازهم بمصرٌتهم ،فً
حٌن ال ٌعتبر هإالء العروبٌون خطتهم للسطو على مصر وكراهٌتهم للقومٌة المصرٌة وحضارتها
ومساعٌهم للتصؽٌر من شؤنها مقابل تمجٌد العرب والشوام تهمة أو جرٌمة ..ولماذا ٌا ترى ٌكرهون الدعوة
للقومٌة المصرٌة "مُرَّ الكراهٌة" !
وٌعد هذا تنفٌذا حرفٌا لما ورد فً دستور "الحركة العربٌة السرٌة" (الكتاب األحمر) عن أن كل من
ٌرفض العروبة وٌتمسك بهوٌته الوطنٌة ٌكون قد ارتكب "عمبل من أعمال الحرب" ووجب معاقبته.
وبعد االطمبنان لوجود مكان لهذا التٌار فً الحكومة وبٌن المثقفٌن بدأت مرحلة جدٌدة وهً تؤسٌس
الجامعة العربٌة ،وجاءت فً وقت حرج لمصر ،فالحكومة واألحزاب مطحونة فً خبلفاتها الداخلٌة مع
()ٔ9ٖٙ
-انظر :مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن ،ج ٕ ،مرجع سابق ،ص ٕ٘ٙ
()ٔ9ٖ9
-أؼنٌة مقدمة مسلسل أرابٌسك ،كلمات سٌد حجاب ،ألحان عمار الشرٌعً ،ؼناء حسن فإاد
()ٔ9ٖ8
-الحركة القومٌة العربٌة فً القرن العشرٌن ،مرجع سابق ،ص ٕٗ8
()ٔ7ٖ9
-نفس المرجع ،ص ٖٔٗ
*** الشعوبٌة أو الشعبوٌة مصطلح سٌاسً ٌستخدمه دعاة تكوٌن اإلمبراطورٌات أو الحكومات اإلقلٌمٌة والعالمٌة لوصؾ وإرهاب المتمسكٌن
بهوٌة شعوبهم وأوطانهم وبحدودها ،والرافضٌن للتدخالت األجنبٌة ،مثلما ٌرهبونهم بمصطلح شوفٌنٌة وعنصرٌة.
(ٓٗ)ٔ9
-مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن ،ج ٕ ،مرجع سابق ،ص ٘٘ٙ
ٙٗ9
بعضها أو مع الملك ،فٌما الشعب ٌطالبهم بالتوحد إلجبار برٌطانٌا على الجبلء ،والبلد بحاجة إلى روح
ثورة ،ٔ9ٔ9وجدان واحد وشعب واحد بشعار واحد تحت راٌة واحدة ،ال أن ٌتم تقسٌمه بٌن ألؾ راٌة.
وتجا هل عبد الرحمن عزام كل هذا ،وطاؾ فً رحبلت مكوكٌة السعودٌة وبلدانا أخرى إلقناعهم بفكرة
الجامعة ،وتم توقٌع مٌثاقها فعبل فً ٕٕ مارس ٘ٗ ،ٔ9وقامت أول مإسسة توصؾ مصر فٌها بشكل
"رسمً" بؤنها عربٌة ،ألول مرة فً التارٌخ المدٌد ،ولتصبح مجبرة "بالقانون" على تشتٌت جهودها فً
قضاٌا المنطقة فً الوقت الذي تحدده الجامعة أو "الشعوب العربٌة".
وتٌسر للقومٌٌن العرب هذه الؽنٌمة على ٌد الملك فاروق ،ففاروق فشل فً أن ٌكون زعٌما للمصرٌٌن،
فلم ٌخرج منه موقؾ مشهود ضحى فٌه ألجلهم ،وانكسرت صورته بعد حادث ٗ فبراٌر ٕٗ ٔ9الذي تؤكد
فٌه من جدٌد أن العٌلة العلوٌة تدٌن بتولٌها العرش لئلنجلٌز ،وبجانب فساده الشخصً كان دابم الصراع مع
الوزارات ،وخاصة وزارة حزب الوفد ،فتاق للزعامة من باب آخر ،وهو زعامة المنطقة وتبنً قضٌة
فلسطٌن ،فساعد على إنشاء الجامعة العربٌة وتورٌط الجٌش فً فخ .ٔ9ٗ8
وكان مثٌرا لئلشفاق أنه فً حٌن انجرفت الحكومة فً مصر لهذا التٌار ،كانت حكومات الببلد العربٌة
األصل حقا (السعودٌة) وحكومات الببلد التً خرجت منها دعوة القومٌة العربٌة (سورٌا ولبنان والعراق)
تتباعد عنه حٌن لم تجد نفسها ستكون زعٌمة للعرب ،حتى قال مصطفى النحاس إنه "أثناء المشاورات التً
أجراها سنة ٗٗ ٔ9بخصوص الوحدة لم ٌجد حكومة عربٌة واحدة مستعدة للتنازل عن ذرة من سٌادتها
واستقبللها لجامعة الدول العربٌة التً ٌُراد إنشاإها ،أو ألٌة هٌبة عربٌة سواها(ٔٗ.")ٔ9
ومع ذلك لم تٌؤس التنظٌمات والشخصٌات العروبٌة ،وظلت تضؽط نفسٌا لفرض هذا التٌار وإقناع
الحكومات به ،لدرجة وصفوا من ٌتمسك بقومٌته الوطنٌة كـ "المصرٌة" أو ما ٌطلق علٌها "الفرعونٌة" فً
مصر ،و"الفٌنٌقة" فً لبنان بؤنه ٌؤتً بـ "بدعة" ،مع أن الهوٌة الوطنٌة -خاصة فً مصر -هً األصل
طوال آالؾ السنٌن ،والقومٌة العربٌة هً الطاربة منذ وقت قرٌب.
ورؼم تؤسٌس الجامعة العربٌة فإنها لم تحقق األهداؾ المعلنة ،فقد كان االتفاق بٌن تنظٌمات القومٌة
العربٌة هو إقامة دولة عربٌة من الخلٌج للمحٌط ،فً حٌن اختلفوا على الصٌؽة وآلٌة التنفٌذ ،هل تكون
فٌدرالٌة أم كونفٌدرالٌة ،ملكٌة أم جمهورٌة ،علمانٌة أم دٌنٌة ،رأسمالٌة أم اشتراكٌةٌ ،مٌنٌة أم ٌسارٌة ،وهل
تتحالؾ مع الكتلة الشٌوعٌة وال الرأسمالٌة ،وبسبب هذه الخبلفات أصبح هدؾ حركة القومٌة العربٌة شعارا
فارؼا بدون مضمون ،واألمل بالوحدة حلما متعذر التحقٌق ،بتعبٌر شفٌق جحا(ٕٗ.)ٔ9
أما الخبلؾ األكبر فكان سٌظهر إذا ما وصلوا لخطوات ملموسة فً طرٌقة "الوحدة" ،وٌخص من
سٌكون الحاكم ،وأٌن ستقع العاصمة ،هنا ستهوى كل األعمدة التً أقاموها على الرمل ،وتنهار أمام تفجر
(ٔٗ)ٔ9
-انظر :الحركة العربٌة السرٌة ٖ٘( ٔ9ٗ٘ -ٔ9جماعة الكتاب األحمر) ،شفٌق جحا ،مرجع سابق ،ص ٕٖ
(ٕٗ)ٔ9
-انظر نفس المرجع ،ص ٖٖ
ٓ٘ٙ
المطامع والجري وراء اصطٌاد الزعامة لشعوب كثٌر منها لم ٌتفق ٌوما على هدؾ واحد داخل حدود بلده،
وهو ما رأٌناه حٌن نسؾ السورٌون تجربة الوحدة المشبومة مع مصر بعد أن كانوا هم أنفسهم دعاتها،
وشنوا على مصر حربا ببل هوادة ألن عبد الناصر لم ٌسمح بؤن تكون مصر خاضعة لهم ..فهل اختلقوا
القومٌة العربٌة وحاربوا الحضارة المصرٌة ،بل اسم مصر نفسه ،لتكون مصر زعٌمة لهم حقا كما خدعوا
حزب الوفد وفاروق ثم عبد الناصر؟ ٌا تعس من ال ٌزال ٌرددها.
ٌظن بعضنا أن اإلرسالٌات التبشٌرٌة تستهدؾ اإلسبلم بتحوٌل المسلمٌن إلى المسٌحٌة ،ولكن هذا لٌس
هدفهم األول ،خاصة فً مصر.
فهدفهم األول -المرتبط بمشروع السٌطرة على العالم -هو تحوٌل المصرٌٌن المسٌحٌٌن من المذهب
األرثوذكسً (الذي ٌجعل الكنٌسة المصرٌة هً مرجعٌتهم الدٌنٌة الوحٌدة) إلى المذهب الكاثولٌكً (الذي
ٌجعل كنٌسة روما هً مرجعٌتهم) ،أو إلى المذهب البروتستانتً "اإلنجٌلً"(ٖٗ( )ٔ9الذي ٌجعل الكنٌسة
اإلنجلٌزٌة أو المشٌخٌة اإلنجٌلٌة فً الوالٌات المتحدة هً المرجعٌة) ،وبذلك تكون مرجعٌة المصرٌٌن
المسٌحٌٌن خارج بلدهم؛ مع ما لهذا من خطر حٌن تتدخل كنابس روما وبرٌطانٌا وأمرٌكا فً األمور
السٌاسٌة لصالح دولها ومشارٌعها القدٌمة المتجددة.
ونشط هذا الهدؾ خاصة بعد أن أظهرت الكنٌسة المصرٌة (األرثوذكسٌة) نفورا من حمبلت الفرنجة
(الصلٌبٌة) ،ولم تتعاون معها ،وكانت تلك الحمبلت تحت رعاٌة كنٌسة روما (الكاثولٌكٌة).
سعت كنٌسة روما إلخضاع كنٌسة مصر ،لتكون لها عونا وقت الحاجة تحت ستارة االتحاد الدٌنً
والخبلص ،باإلقناع واإلؼراء بعد أن فشلت فً إخضاعها بالسٌؾ ،وحانت لها الفرصة حٌن صدرت
االمتٌازات األجنبٌة فً االحتبلل العثمانً فً القرن ٔٙالتً منحت حماٌة وحصانة للتجار الروم بحجة
تسهٌل انتقاالتهم وحماٌتهم من االعتداءات ،فبدأت كنٌسة روما ترشق عٌناها نحو مصر من جدٌد.
ٌقول الدكتور جٌفري برون فً مإلفه "تارٌخ أوروبا الحدٌث" إن كنٌسة روما (الفاتٌكان حالٌا) فً
محاولة فرض نفسها على المسٌحٌٌن فً العالم كانت "تعتمد على ما ٌُشاع ]وٌخالفها فٌه األرثوذكس[ من
أن المسٌح أسند إلى بولس الرسول حكم مملكته من بعده ،وبولس أحد حوارًٌ المسٌح ،وٌزعم بابا الفاتٌكان
أنه خلٌفته ،وفً نفس الوقت قامت طوابؾ أخرى باسم الدٌن المسٌحً ابتلعتها الكنٌسة الكاثولٌكٌة بسرعة،
وأوقفت نموها ،مدعٌة أنها هً المإسسة الوحٌدة التً لها السلطة على الناس ،فقد منحها المسٌح ورسوله
من بعده هذه السلطة التً تمركزت فً أٌدي بطاركة روما الذٌن ٌعرفون بالباباوات ،ومن الكفر أن ٌقوم لها
(ٖٗ -)ٔ9الجالٌة البرٌطانٌة فً مصر (٘ٓ ،)ٔ88ٕ -ٔ8ناهد السٌد علً زٌان ،دار الكتب والوثابق القومٌة ،القاهرة ،ٕٓٔٔ ،ص ٕٕ٘
ٔ٘ٙ
منافس فً أي من البقاع األخرى ...وال خبلص لهم إال بطاعتها(ٗٗ.)ٔ9
كما ابتدع بابا كنٌسة روما جٌبلسٌوس األول "نظرٌة السٌفٌن" تتحدث عن وجود قوتٌن تتقاسمان العالم،
السلطة السٌاسٌة (سلطة اإلمبراطور) ،والسلطة الدٌنٌة (سلطة البابا) ،والثانٌة عنده أهم وأجَّ ل من األولى،
فالملوك واألباطرة -حسب النظرٌة -هم أبناء الكنٌسة ،وعلى هذا فالعالم كله ٌجب إخضاعه للكنٌسة (٘ٗ،)ٔ9
والبلفت أنه نفس فكر تنظٌم اإلخوان المسلمٌن وبنفس الشعار "السٌفٌن المتقاطعٌن".
ولتحقٌق هذا الهدؾ التوسعً ،وبعد فشل تحقٌقه بالحروب المسماة بالصلٌبٌة ،ظهر فً أوروبا بعد القرن
ٖٔ تنظٌمات تتبع كنٌسة روما ،هدفها االنتشار فً العالم عبر العمل الخٌري والثقافً ،لتنشر اإلٌمان
بحسب مذهبها ،وللتخدٌم على األهداؾ االحتبللٌة ألوروبا ،ومنها الٌسوعٌٌن والفرنسٌسكان والدومنٌكان،
وبثتهم فً العالم تحت اسم إرسالٌات تحمل للعالم الهداٌة والعمل الخٌري والعلوم الحدٌثة.
وبحسب دراسة نشرتها مجلة "المشرق" فً لبنان بعنوان "بعثتا الٌسوعٌٌن لدى أقباط مصر (ٔ-ٔ٘ٙ
ٖ ٔ٘ٙوٕ ،)ٔ٘8٘-ٔ٘8فإن الٌسوعٌٌن أرسلوا أولى بعثاتهم التبشٌرٌة عام ٔ ،ٔ٘ٙو ضمن أعضابها
ٌوحنا المعمدان إلٌانو ،كان ٌهودٌا ،إلقناع كنٌسة مصر باالتحاد مع كنٌسة روما "الذي ال بد منه لنٌل
الخبلص األبدي" ،وباعتبار أن بابا روما هو "نابب المسٌح حقا وخلٌفة القدٌس بولس" ،وأنه المخول له
قٌادة الشعوب المسٌحٌة والبت فً أحكام الكتاب المقدس؛ ولذا وجب على الجمٌع "الخضوع" لكنٌسة روما
(.)ٔ9ٗٙ
لكن تجرعوا الخٌبة ،فرؼم استمرار البعثة 9شهور ،وحسن الضٌافة المصرٌة الذي أؼرى الٌسوعٌٌن
بؤن رسالتهم ستلقى قبوال ،إال أنهم تلقوا رسابل من البابا المصري ملخصها "لٌسوا مستعدٌن لبلتحاد".
تحاٌلت كنٌسة روما على استقطاب الكنٌسة المصرٌة من باب آخر فعرضت على البابا أن ٌرسل الشبان
إلى روما "لٌحصلوا فٌها على تربٌة وثقافة متٌنة" ،فكانت ردود البابا "ما ألفناه" -بحسب تعبٌر الكاتب لٌبوا
الٌسوعً" -الموافقة المبدبٌة وتؤجٌل التنفٌذ لخوفه الشدٌد من ؼٌر المإمنٌن".
وكان الفتا أنه حٌن زارت البعثة دٌر األنبا أنطونٌوس -أقدم األدٌرة المصرٌة قرب البحر األحمر-
تشاجر الرهبان والبعثة الٌسوعٌة ،وتبادال السباب" ،وأكد األقباط أنهم سٌحافظون على إٌمان آبابهم بكامله،
كما هو مدون فً كتبهم ،وأنهم لن ٌقدموا الخضوع لروما ،مفضلٌن أن ُتقطع رإسهم على تؽٌٌر أي شًء
(ٗٗ)ٔ7
-تارٌخ أوروبا الحدٌث ،جٌفري برون ،ترجمة علً المزروقً ،األهلٌة للنشر والتوزٌع ،طٔ ،ع َّمان ،ٕٓٓٙ ،ص ٖ٘
*** والبابا فً عرؾ كنٌسة روما هو نابب المسٌح باعتباره خلٌفة بطرس ،وهو معصو م ال ٌجوز نقده وال مخالفته ،وٌشبه فً هذا عقٌدة الولً
الفقٌه عند الشٌعة الذي ٌدعً أنه نابب المهدي المنتظر ،وٌمثل هذا اإلدعاء حالٌا المرشد األعلى إلٌران.
(٘ٗ)ٔ9
-نفس المرجع ،ص ٙٓ -٘9
()ٔ9ٗٙ
" -بعثتا الٌسوعٌٌن لدى أقباط مصر (ٖٔٔ٘ٙ -ٔ٘ٙو ٕ ،)ٔ٘8٘-ٔ٘8شارل لٌبوا الٌسوعً ،مجلة "المشرق" ،العدد ٌٔ ٔ ،ناٌر ٔ ،ٔ99ص
ٖ9
ٕ٘ٙ
فً إٌمانهم" ،ور َّدت الكنٌسة هداٌا بابا روما إلٌها ،وهو ما ردت علٌه البعثة فً رسابلها بوصؾ الرهبان
بؤنهم فً "ضبلل هابل" ،و"جهل مطبق" ،ووصؾ كنٌسة مصر بؤنها "ناكرة للجمٌل"(.)ٔ9ٗ9
واستمرت البعثات تؤتً بتشجٌع من قنصل فرنسا فً مصر ،مارٌانً( ،)ٔ9ٗ8واستخدم القنصل نفوذه فً
الضؽط على بابا مصر ،وإن نجحت البعثة الثانٌة التً قادها أٌضا ٌوحنا المعمدان إلٌانو فً استمالة بعض
األشخاص للكاثولٌكٌة ،ولكنها انتهت بالفشل فً إقناع الكنٌسة المصرٌة بالتوقٌع على وثابق الخضوع
للكنٌسة روما التً تحملها فً جعبتها.
بحث الٌسوعٌون عما ٌصفونها بـ"التناقضات" فً عقٌدة الكنٌسة المصرٌة لٌقنعوها بتركها و"الخضوع"
لروما ،ؼٌر أنهم اكتشفوا أن هذا االتجاه العدابً تسبب فً نفور المصرٌٌن منهم ،فلجؤوا إلى األسلوب
األنجح مع مصر ،وهو الدحلبة والتسلل والتودد ،بالتركٌز على أوجه الشبه بٌن الكنٌسة المصرٌة وكنٌسة
روما ،وأوجه االلتقاء بٌنهما ،لٌكون ذلك تبرٌرا أكبر لبلتحاد أو "الخضوع(.")ٔ9ٗ9
وجاء حكم محمد علً كفرصة من ذهب لكنٌسة روما ،خاصة بعد استعانته بعدد كبٌر من الفرنسٌس
واألوروبٌٌن واألرمن فً مشروعاته ،وبنوا مدارس وكنابس كاثولٌك لهم بحجة حاجة أبناء العاملٌن لها.
وإضافة إلى البعثات القادمة رأسا من أوروبا ،توافدت بعثات متمثلة فً الشوام خرٌجً المدارس التبشٌرٌة
الٌسوعٌة فً الشام ،لٌكونوا لهذه اإلرسالٌات عونا ،وكانت اإلرسالٌات الٌسوعٌة وصلت لبنان قبل أن تصل
إلى مصر بـ ٓٓٔ سنة ،واستهدفت الطابفة المارونٌة لتوثٌق عبلقتها بكنٌسة روما ،وبفرنسا ،وحسَّنت من
مستوى تعلٌم ومعٌشة المارون مقارنة ببقٌة السكان ،واقتنص الملك الفرنسً لوٌس الرابع عشر من
السلطان العثمانً الموافقة على وضع المارون تحت حماٌة فرنسا ،ومنحهم االمتٌازات األجنبٌة كنوع من
االحتبلل المعنوي الذي ساعدها على احتبللها العسكري الرسمً للبنان وسورٌا فً القرن ٕٓ ،وتصؾ
لٌلى الصباغ فً كتابها "الجالٌات األوروبٌة فً ببلد الشام فً العهد العثمانً فً القرنٌن السادس عشر
والسابع عشر" هذه اإلرسالٌات بؤنها الطبلبع األولى لبلستعمار الحدٌث على األرض العربٌة ،ألن تلك
اإلرسالٌات مصحوبة بجالٌات أوروبٌة كونت مستوطنات ونفوذا اقتصادٌا ،وتوؼلت فً أسرار الببلد،
فكانت مراكز الؽزو األولى التً استقبلت الجٌوش األوروبٌة الحتبلل سورٌا ولبنان(ٓ٘.)ٔ9
وبالقٌاس فهذا ما خططت له فً مصر ،أن ٌتحول المصرٌون المسٌحٌون -أو أجانب مجنسٌن بالجنسٌة
المصرٌة -إلى "مسمار جحا" ألوروبا فً مصر ،وسنارة االحتبلل.
ولٌنتشروا فً مصر اعتمدوا ٗ وسابل :اللؽة الفرنسٌة +الكنٌسة +المدرسة +المستشفىٌ ،نشرون هذه
الرباعٌة أٌنما حلوا الستقطاب المسلم والمسٌحً بوجه "تنوٌري وإنسانً وخٌري" ،حتى وصلوا الوجه
()ٔ9ٗ9
-انظر المرجع السابق ،ص ٗٔٓ9 -9
()ٔ9ٗ8
-منذ حمبلت الفرنجة (الصلٌبٌٌن) لم تتوقؾ مساعً فرنسا -التً تزعمت تلك الحمبلت -لوضع موطؤ قدم لها فً مصر وراء أي ستار.
()ٔ9ٗ9
-انظر :المرجع السابق ،ص ٔٓٙ
(ٓ٘)ٔ9
-انظر :الجالٌات األوروبٌة فً ببلد الشام فً العهد العثمانً فً القرنٌن السادس عشر والسابع عشر ،لٌلى الصباغ ،مإسسة الرسالة ،بٌروت،
،ٔ989ص 989و 9ٔٓ -9ٓ9
ٖ٘ٙ
القبلً مثل المنٌا وأسٌوط ،وأبرز مدارسهم الفرنسٌسكان والفرٌر والجزوٌت وسان جوزٌؾ والراعً
الصالح والقلب المقدس(ٔ٘ ،)ٔ9والستقطاب الناس حتى من ؼٌر المتعلمٌن أنشؤوا المستوصفات ،كالمستشفى
اإلٌطالً والٌونانً ،والمبلجا لتربٌة أٌتام ٌخرجون منتمٌن لهم ،وأظهروا للناس معاملة راقٌة وحانٌة جدا،.
وبالتدرٌج أخذوا لهم مكانا فً مصر وقدموا أنفسهم على أنهم "طابفة" لها حقوق وواجبات؛ ما ساهم فً
تشرٌخ الجسد المصري وإدخاله فً فخ الطوابؾ وتعدد االنتماءات الذي ال ٌلٌق به.
كما أن وجود اللٌبرالٌة الرأسمالٌة الزم لتبرٌر وجود الشٌوعٌة بحجة محاربة الرأسمالٌة المتوحشة،
ووجود الشٌوعٌة الزم لتبرٌر وجود اللٌبرالٌة بحجة محاربة الدٌكتاتورٌة ،ووجود تنظٌمات "اإلخوان
المسلمٌن" والسلفٌة واللٌبرالٌة الزم لتبرٌر وجود القومٌة العربٌة بحجة محاربة الدولة الدٌنٌة واإلمبرٌالٌة،
ووجود القومٌة العربٌة واإلرسالٌات المسٌحٌة الزم لتبرٌر وجود التنظٌمات اإلسبلمٌة بحجة محاربة أعداء
اإلسبلم ،ووجود كل هإالء الزم لتبرٌر وجود المحافل الماسونٌة واللٌبرالٌة بحجة محاربة التعصب الدٌنً
والقومً ،وهكذا ،كل تٌار ٌلزم وجود نقٌض له لتبرٌر وجوده ،كذلك فداخل التٌار الواحد ٌوجود تٌارات
نقٌضة لبعضها لزٌادة تبرٌر وجوده ،فمثبل بجانب اإلرسالٌات الكاثولٌكٌة توجد اإلرسالٌات البروتستانتٌة
المنافسة ،وهكذا تتحول مصر من مصر الواحدة إلى أرض المتناقضات والممالك التً تمسك فً خناق
ورقاب بعضها بعضا بعد حٌن ،وٌكونون ثعابٌن عبَّ (أبو فٌس) التً تعطل مركب رع الساٌرة.
فبعد الكاثولٌك جاء البروتستانت ،وهم طابفة مستحدثة ،ظهرت فً القرن ٔٙبؤوروبا حٌن انشقت
جماعة بقٌادة مارتن لوثر عن كنٌسة روما ،وٌعنً اسمهم "المحتجون" ،واشتهروا باسم "اإلنجٌلٌٌن"،
وكنابسها الربٌسٌة فً إنجلترا والوالٌات المتحدة ،وهدفه التحرر من التقالٌد الكنسٌة ،وآمنوا بالمسٌح فقط،
ورفضوا تبجٌل القدٌسٌن ،وتركوا لكل شخص أن ٌفسر الكتاب المقدس حسب رأٌه الخاص ،وفً كل مكان
ٌذهبون إلٌه ٌمٌلون إلى دعم الحركات االحتجاجٌة والتمرد على أي سلطة دٌنٌة أو سٌاسٌة ،خاصة لو
كانت وطنٌة أو منافسة لهم.
وحتى منتصؾ القرن ٔ9اقتصر وجود هذا المذهب فً مصر على التابعٌن للقنصلٌات األجنبٌة ،ولكن
فً سنة ٓ٘ ٔ8استصدروا قرارا هماٌونٌا ،أي فرمان عثمانلً ،بؤنهم أقلٌة مسٌحٌة فً مصر ومن حقهم أن
ٌعقدوا اجتماعات فً كنابس خاصة بهم ،وهكذا أضٌفت طابفة جدٌدة مصطنعة ودخٌلة لمصر.
واالحتبلل البرٌطانً ٕ ٔ88هو فرصتهم الذهبٌة لبلنتشار فً ربوع مصر وبناء كنابس لهم ألن
برٌطانٌا بروتستانتٌة ،وبسبب تدفق األوروبٌٌن الذٌن استقدمهم االحتبلل للعمل بمشارٌعه فً مصر
واالستقواء بهم ضد المصرٌٌن ،وجاء أكثر البروتستانت من إنجلترا والوالٌات المتحدة والشام ،وأظهروا
اهتماما شدٌدا بالنظافة واألناقة ،وتعلموا الطرٌقة المصرٌة فً الكبلم؛ لٌسهل علٌهم الوصول للناس بسرعة
(ٔ٘)ٔ9
-انظر :الجالٌة الفرنسٌة فً مصر (ٕ ،)ٔ9٘ٙ-ٔ88نورٌس سٌؾ الدٌن ،دار الكتب والوثابق القومٌة ،القاهرة ،ص ٕٕٗٙ -
ٗ٘ٙ
فً القرى والنجوع.
ومن عوامل انتشارهم أنهم "مبحبحٌن"ٌ ،بٌحون الطبلق والزواج بٌن المذاهب ،وأخذوا امتٌازا ؼرٌبا
وهو إعفاء المصرٌٌن الملتحقٌن بهم من العمل الشاق الذي ٌُخصص له المصرٌٌن فً السكك الحدٌد
والطرق واإلعفاء من االلتحاق بالجٌش ،فجذبوا إلٌهم مسلمٌن ومسٌحٌٌن.
ورؼم هذه اإلؼراءات ،فإنهم مثل الكاثولٌك ،وجد البروتستانت معارضة قوٌة من الكنٌسة المصرٌة،
فلما حاولوا "إخضاع" البابا كٌرلس الخامس وطلبوا منه االلتحاق بحماٌة ملك برٌطانٌا ،سؤلهم" :هل ٌموت
ملككم؟ فقالوا :نعم ،فقال لهم" :إننا تحت حماٌة ملك ال ٌموت" ،وأٌده الخدٌوي إسماعٌل فً صموده(ٕ٘ )ٔ9بعد
اشتداد خبلفه مع برٌطانٌا.
وقابل البروتستانت ذلك باتهام المصرٌٌن بـ"التعصب" ،ورهبان دٌر وادي النطرون بـ"الجهل"(ٖ٘،)ٔ9
مثلما فعل الكاثولٌك سابقا حٌن رفضت كنٌسة مصر "الخضوع" لبابا روما ،فرؼم أنهم جاءوا ٌبشرون بما
ٌسمونه اإلخاء والتسامح ،إال أنهم ٌشترطون لوصؾ الناس بالتسامح والتنوٌر أن ٌلتحقوا بهم ،أو ٌتركوهم
ٌتوؼلوا فً البلد ،فإن رفضوا صار الرافض "متعصبا وجاهبل وعنصرٌا" ..قاموس المسٌخ الدجال.
وفً هذه النقطة تجلى الهدؾ الحقٌقً لئلرسالٌات التبشٌرٌة ،وهو إلحاق المصرٌٌن بالتبعٌة ألوروبا
وتفتٌت وحدتهم من باب الدٌن ،فعاطفة التبعٌة الدٌنٌة تجلب ورابها تبعٌة سٌاسٌة ،وتكسر مقاومة المصرٌٌن
للمحتل األوروبً أو األمرٌكً لو كان الكنٌسة األجنبٌة التابعٌن لها تإٌدهم.
وٌُبلحظ أن اإلرسالٌات البروتستانتٌة قامت فً مصر بنفس الدور الذي قامت به من قبل فً الشام ،وهو
المساهمة فً إضعاؾ اللؽة األصلٌة للبلد ،فكما نشرت اللؽة العربٌة فً كنابس الشام بدال من السرٌانٌة،
كذلك فعلت فً مصر بتشجٌع إلقاء العظات فً الكناٌس بالعربٌة أو بالمصرٌة الدارجة بدال من اللؽة
المصرٌة القدٌمة (القبطٌة) ،وحكى القمص بولس جورج فً سلسلة مقاالت على موقع "األنبا تكبل
هٌمانوت" عن تارٌخ اإلرسالٌات التبشٌرٌة أنهم ٌلقون العظة بؤسلوب مإثر وعاطفً جدا ،وباللؽة المصرٌة
الدارجة ،فكانوا ٌصلون إلى الناس أسرع من الكاهن األرثوذكسً المصري ،ألن الكناٌس المصرٌة وقتها
كانت ما تزال تلقً العظات بالقبطٌة(ٗ٘.)ٔ9
وإلى جانب اإلرسالٌات التً تستهدؾ المصرٌٌن كثرت الكناٌس التابعة للٌونانٌٌن واألرمن؛ ما ٌتٌح
الفرصة لحكومات أجنبٌة للتدخل فً مصر من بوابة حماٌة الكناٌس التابعة لجالٌاتها و"األقلٌات"(٘٘.)ٔ9
٘٘ٙ
إن كان معظم التٌارات والتنظٌمات السابقة هبطت بثقلها على صدر مصر فً القرن ،ٔ9وركز أكثرها
على المتعلمٌن والمدن ،فإن التنظٌم الصوفً (شبكة الطرق الصوفٌة) الذي ظهر فً قرون سابقة ،استمر
تؤثٌره فً القرن ٔ9وٕٓ متوؼبل فً األرٌاؾ -بجانب المدن -فكان صاحب التؤثٌر األكبر -واألسوأ -حتى
ذلك الوقت -على المصرٌٌن الحقٌقٌٌن (الكٌمتٌٌن).
ومما ٌتسع له المقام هنا هو ما ٌخص تؤثٌرها على المقاومة الوطنٌة التً تفجرت فً ثورتً ٔ ٔ88و
ٔ9ٔ9ونصٌبها فً إضعافها بعد وصولها للذروة.
بداٌة نتذكر قول الدكتور توفٌق الطوٌل فً فصل تحت عنوان" :أثر التصوؾ فً توجٌه الحٌاة
المصرٌة" إن "التصوؾ الذي قام بٌن المصرٌٌن كان -فٌما ٌرجح على الظن -أقوى الحركات الدٌنٌة
توجٌها لهم وأعظمها أثرا فً حٌاتهم؛ ألنه كان فً عرؾ الناس زبدة الدٌن وخبلصته"؛ ولهذا فإن "الحٌاة
المصرٌة ال ُتفهم على وجهها الصحٌح" إال بعد دراسة دقٌقة مفصلة للحركات الدٌنٌة وبخاصة التصوؾ
الذي وضع فٌه شٌوخ الطرق أنفسهم فً مكانة عند الناس فوق األنبٌاء ،بل فوق هللا نفسه.
فاستمروا فً التسوٌق لنزع تعلق الناس بؤرضها ،ومن ذلك تكرٌه الناس فً ملكٌة األرض ،والقصاص
من سارق أمبلك ؼٌره ،فؤشاعوا -ما سار علٌه تنظٌم اإلخوان المسلمٌن أٌضا -عبارات "المال مال هللا"،
و"األرض أرض هللا" ،وأشاعوا العفو عن السارق ،ورفض القصاص ،وذلك فً الوقت الذي كان بعض
الشٌوخ أنفسهم ٌتملكون مساحات شاسعة من األراضً وٌستبٌحون ألنفسهم أخذ المال من كل طرٌق.ٔ9٘ٙ
واستمرواأٌضا فً محاولة اؼتٌال روح المقاومة الوثابة فً النفوس كلما بدت إشارة لها ،كؤن ٌنشرون
أن هللا ال ٌبتلى الناس بالظلم والضنك إال عقابا على تفرٌطهم فً الدٌن ،ولذا فالحل لٌس مقاومة هذا الظلم
(وهو آنذاك االحتبلل وجرابم وتسلط الجالٌات األجنبٌة) وإنما هو الؽرق فً التقرب من هللا ،والذي كان فً
عرفهم الموالد والخضوع بٌن ٌدي شٌخ الطرٌقة لتلقً أوامره ،وتردٌد الورد الذي ٌلزمه به من األذكار.
ومن البلفت هنا حادثة وقعت خبلل الحرب فً ٕ ،ٔ88فٌحكً سلٌم النقاش فً كتابه "مصر
للمصرٌٌن" أنه بعد أن أرسل علً ٌوسؾ "الخنفس" ٌخدع عرابً بؤن اإلنجلٌز لن ٌتحركوا إلى التل الكبٌر
هذه اللٌلة -فً حٌن كان ٌقودهم بالفعل إلى أماكن تمركز الجٌش المصري -أصدر عرابً أمره إلى الجٌش
باالستراحة ،وعزم الشٌخ عبد الجواد على إحٌاء تلك اللٌلة باألذكار( ،ج٘ ص )ٕٗ9وٌإكد هذا محمود
فهمً فً مذكراته "البحر الزاخر" أن عرابً جلس مع الفقراء (دراوٌش المتصوفة) مع أوالد الشٌخ عبد
الجواد فً صٌوان ٌذكرون هللا إلى آخر النصؾ األخٌر من اللٌل ،وعند الفجر ناموا جمٌعا ولم ٌستٌقظوا إال
على إطبلق المدافع والبنادق".
-1756انظر :التصوف في مصر إبان العصر العثماني ،توفيق الطويل ،مرجع سابق ،ص 215 -195
ٙ٘ٙ
وٌحكً عرابً نفسه فً مذكراته عن موقعة التل الكبٌر أنه فً ٖٔ سبتمبر ٕ" :ٔ88كنت فً صبلة
الفجر إذ سمعت ضرب المدافع والبنادق بشدة فخرجت ونظرت فوجدت ضرب النار على طول خط
االستحكام ورأٌت بطارٌة طوبجٌة سواري على مرتفع من األرض ٌبعد عن الخٌمة التً كنت فٌها بنحو
ستمابة متر ،وصبت مقذوفاتها على مركزنا العمومً ،وكان مركزنا المذكور خلؾ االستحكامات بؤربعة
آالؾ متر ،ولم ٌكن هناك إال األهالً المتطوعٌن مع الشٌخ محمد عبد الجواد ،وأخٌه الشٌخ أحمد عبد
الجواد وجابر بك من بندر ببا بمدٌرٌة بنً سوٌؾ ،وكانوا نحو ألفٌن فدعوناهم للهجوم معنا على تلك
ا لبطارٌة فامتنعوا ودهشوا ،فذكرناهم بحماٌة الدٌن والعرض والشرؾ والوطن ولم ٌجد ذلك نفعا ،بل تفرقوا
فرارا" ،ٔ9٘9فكانوا من عوامل تثبٌط الهمم فً الوقت الحرج.
وكما كانت الصحؾ التابعة لئلنجلٌز تحث المصرٌٌن على ترك المقاومة بحجة أنها طابفٌة وإرهاب،
وترك التفكٌر فً تمصٌر االقتصاد ،نجد أن أحد شٌوخ األزهر المخترق من المتصوفة ٌدرس "الجؽرافٌا
سخراالقتصادٌة" بعد ثورة ٌ ٔ9ٔ9قول لطلبته فً مذكرات مطبوعة" :إن من نعم هللا على المصرٌٌن أن َّ
لهم األجانب ٌقومون عنهم باألعمال االقتصادٌة والمالٌة حتى ٌتفرؼوا هم (المصرٌون) لعبادة هللا.
وٌعلق الطوٌل على هذا ساخرا" :فهذا الشٌخ -عفى هللا عنهٌ -عتبر من نعم هللا على المصرٌٌن قٌام
األجانب عنهم بالشبون المالٌة فً بلدهم واستحواذهم على شركات المٌاه والنور والمواصبلت ومختلؾ
مرافق الحٌاة االقتصادٌة ،وذلك لكً ٌنقطع المصرٌون لعبادة هللا فً عصر بلؽت فٌه زحمة الحٌاة والتكالب
حدهما األقصى !!..ولست أدري ماذا تكون لعنة هللا ونقمته من الشعوب إذا كانت سٌطرة األجنبً على
مرافق الحٌاة االقتصادٌة فً عصر تستعبده المادة ٌعتبر نعمة ٌحمد اإلنسان ربه من أجلها إال إذا كان المراد
أن ٌحمد هللا الذي ال ٌُحمد على مكروه سواه !..
وٌرى الطوٌل أٌضا أن تؤثٌر الطرق الصوفٌة التً تشجع على الزهد أو عدم الملكٌة أو عدم المنافسة أو
المقاومة هو من أسباب ضعؾ المصرٌٌن فً التجارة والكسب ،وذلك مقارنة بتفنن األجانب فً التكسب
وابتداع أنواع التجارة ،وٌضرب أمثاال فً الرٌؾ وفً األحٌاء الوطنٌة بالقاهرة للفبلحٌن الذٌن ٌفتحون
محبلت للتجارة ،لكن ٌمكثون أعمارهم ال ٌؽٌرون نوع البضابع أو ٌطورون فً أسالٌبهم.ٔ9٘8
واإلٌحاء للمصرٌٌن بحمد هللا على وجود األجانب وسٌطرتهم على االقتصاد وكل مجال شعار ٌرفعه-
كما تابعنا -الماسون واللٌبرالٌون واإلخوان المسلمٌن والشٌوعٌٌن ،ولكل مبرره ،ولكل منهم نوعٌة األجانب
التً تخصه ،فتعددت أسبابهم وأسمابهم ..وطرٌقهم إلى احتبلل مصر واحد ...الحرب على "مصر
للمصرٌٌن".
-1757حقائق األخبار عن دول البحار ،إسماعيل سرىنك ،ج ،2ط ،1المطبعة األميرية ،ص ،415ومذكرات عرابي ج ،2ص 711وىوامش ص
715 -714
-1758التصوف في مصر إبان العصر العثماني ،مرجع سابق ،ص 215 -214
ٙ٘7
وفً النهاٌة...
ٌقول أتباع الحكومة اإلسالمٌة العالمٌة إن األرض حق لإلسالمٌٌن فحالل لهم كٌفما شاءوا
وٌقول أتباع الشٌوعٌة العالمٌة إن األرض حق للعمال "البرولٌتارٌا" ،فحالل لهم كٌفما شاءوا
وٌقول أتباع الصهٌونٌة العالمٌة إن األرض حق للٌهود فحالل لهم كٌفما شاءوا
وٌقول أتباع تنظٌم النارٌٌن إن األرض حق للشٌطان فحالل ألتباعه كٌفما شاءوا
وٌقول صناع القومٌة العربٌة إن األرض حق للقومٌٌن العرب فحالل لهم كٌفما شاءوا
وٌقول أتباع فكر كنٌسة أوروبا "اإلمبراطوري" إن األرض حق ألتباع المسٌح فحالل لهم كٌفما
شاءوا
وٌقول أتباع الطرق الصوفٌة إن األرض حق أولٌاء هللا وشٌوخ الطرق فحالل لهم كٌفما شاءوا
وٌقول أتباع حكومة الشٌعة العالمٌة (فارس) إن األرض حق لشٌعة آل البٌت ،فحالل لهم كٌفما شاءوا
وكلهم دٌنهم الحقٌقً أنه (ال وطن ،ال حدود ،ال حقوق أصٌلة ألصحاب بلد فً بلدهم ،الؽاٌة تبرر
الوسٌلة) ،فمألوا العالم حروبا وأطماعا وفقرا وصراخا وأشالء ودماء وصلٌل سٌوؾ وزلزالت قنابل..
وقهقهات الشٌطان.
وتقول مصر على لسان "ماعت" إن كل وطن أحق بؤهله ،وال اعتداء إال على من اعتدى ،ولٌتفرغ كل
أهل بلد لحماٌة وعمار بلدهم وهوٌتهم ،ال ٌمدون عٌونهم ألوطان ؼٌرهم ،وال ٌفرض ؼرٌب هوٌته على
بلد ؼٌره ،ولتتقدس الحدود ،ولتتعارؾ البالد والشعوب ،ولتتعاون على البر والتقوى؛ فتتراجع الحروب،
وتعمر البالد ،وتهدأ اإلنسانٌة المضللة.
والحق ٌلزمه قوة وعً تحمٌه ،وٌشٌر لها أحمد لطفً السٌد حٌن دعا المصرٌٌن للعروة الوثقى "سما
تاوي"( )ٔ9٘9التً تحمٌهم من مشارٌع اإلمبراطورٌات االحتبللٌة بكل أنواعها:
"إن الوطن وورباط األرض فقط ٌجب أن ٌكونا أساس كل الجهود السٌاسٌة والفكرٌة ،فآالؾ السنٌن من عبق التارٌخ
()ٔ7٘9
-سماتاوي كلمة مصرٌة مكونة من "سما" أو صما أي ٌوحد و"تاوي" أي الوجهٌن القبلً والبحري ،فمعناها "توحٌد الوجهٌن" ،وهً
شعٌرة ًتقام فً االحتفاالت القومٌة المصرٌة ،بؤن ٌقوم اثنان ٌمثالن حور وست بالربط بٌن اللوتس (عالمة على الوجه القبلً) والبردي (عالمة
على الوجه البحري) بإحكام ،كنوع من االحتفال بوحدانٌة األمة المصرٌة ،وتذكٌرا بقصة أوزٌر وست التً انتهت إلى تسلٌم مصر بحكم مركزي
قوي وروح واحدة إلى ٌد قابدها حور ،وهً تعبر عن وحدانٌة روحٌة أكثر منها أرضٌة ،فل وال وحدانٌة الروح المصرٌة لما تحققت وحدانٌة أرضها
آالؾ السنٌن.
ٙ٘8
المصري القدٌم مزجت مع أحداث التارٌخ المصري الحدٌث لتكون شخصٌة مصر الفرٌدة"(ٓ.)ٔ9ٙ
بناء على ما سبق من تمٌٌع القومٌة المصرٌة وربط المتعلمٌن المصرٌٌن بمشارٌع إمبراطورٌة خارجٌة،
ظهرت -ألول مرة -فً تارٌخ مصر ظاهرة "الجهاد والتطوع فً الخارج".
فطوال االحتبلالت كان خروج المصرٌٌن من بلدهم للعمل أو للحرب فً الخارج ٌتم بقوة االحتبلل نفسه
الذي ٌشفطهم إلى عاصمته لبنابها وتحدٌثها ،وكما أجبرت األسرة العلوٌة والسلطنة العثمانلٌة المصرٌٌن
على الحرب لصالح طموحاتهم التوسعٌة فً السودان والحبشة والقرم والشام.
ولكن بداٌة من القرن ٕٓ ،وبتؤثٌر االحتبلل الجالٌاتً االستٌطانً ،بدأت ظاهرة لها بصماتها الخطٌرة
على مستقبل مصر ،وهً سفر المصرٌٌن إلى الخارج للعمل أو القتال ،بإرادتهم ،وبدت ظاهرة أن مصري
"ٌتطوع" من نفسه فً كتابب أو ما ٌسمى مقاومة شعبٌة لصالح شعوب أخرى مرٌبة ،خاصة وأنها كانت
بذرة تكوٌن التنظٌمات اإلرهابٌة فً وقت الحق.
بدأ "الخروج األسود" سنة ٔٔ ٔ9ٕٔ -ٔ9قبل الحرب العالمٌة األولى عندما ش َّكل عبد العزٌز زكً
علً (الشهٌر بعزٌز المصري) متطوعٌن مصرٌٌن لٌحاربوا مع السنوسٌٌن اللٌبٌٌن لصالح تركٌا ضد
االحتبلل اإلٌطالً ألسباب دٌنٌة.
ولعزٌز المصري تركٌبة ؼرٌبة ،فهو شركسً ولد فً القاهرة ،تخرج من األكادٌمٌة العسكرٌة العثمانٌة
بتركٌا ،وشارك فً حروب لدعم الجٌش العثمانً فً لٌبٌا إلى جانب السنوسٌٌن ٕٔ ٔ9حتى انقلب علٌه
السنوسٌون أو انقلب هو علٌهم وقاتلوا بعضهم البعض ،وفرَّ لؤلستانة وسماه األتراك هناك (قاهرة لً عزٌز
علً) أي (عزٌز علً المصري) ،وشارك مع كمال أتاتورك وجمعٌة االتحاد والترقً فً عزل عبد الحمٌد
الثانً ،ٔ9ٓ8وأصبح والبه مزدوج للعرب والترك وأن تقوم دولة ٌشارك الترك والعرب فً حكمها معا،
وعندما بدت كراهٌة أتاتورك للعرب وحكم علٌه الترك باإلعدام نادى بدولة عربٌة مستقلة وأسس جمعٌة
سرٌة عسكرٌة اسمها "العهد" ٖٔ ،ٔ9وشارك مع دعاة القومٌة العربٌة مثل العراقً نوري السعٌد فً
تشكٌل حركات الختراق الحكومات المناهضة للقومٌة العربٌة ،وتحالؾ مع اإلنجلٌز -رؼم احتبللهم لمصر-
حٌن شارك فً الثورة العربٌة التً نشبت فً الحجاز والشام ٔ9ٔٙضد الحكم التركً حتى انقلب على قابد
الثورة حسٌن الهاشمً أو انقلب حسٌن علٌه وحكم علٌه باإلعدام(ٔ ،)ٔ9ٙوهكذا حٌاته تحالفات وانقبلبات ال
ٌحكمها والء واضح.
(ٓ)ٔ9ٙ
-أحمد لطفً السٌد ،معاركه السٌاسٌة واالجتماعٌة ،عواطؾ سراج الدٌن ،نهضة مصر ،طٔ ،القاهرةٕٓٔٔ ،
(ٔ)ٔ9ٙ
-انظر :موسوعة هذا الرجل من مصر ،لمعً المطٌعً ،دار الشروق ،ط ٕ ،القاهرة ،ٔ999 ،ص ٖٖٓٗٗ8 -
ٙ٘9
أما مصر التً ٌنتسب إلٌها باالسم فكانت آخر ما ٌشؽل اهتمامه طوال شبابه ،رؼم ما كانت تقاسٌه من
االحتبلل البرٌطانً ،بل كان حرٌصا على نزح أبنابها فً حروب تطوعٌة بالخارج.
وحٌن ضاق به الترك والعرب لم ٌجد له مؤوى إال مصر ،فعاد لها من مؽامراته ،وتزوج أمرٌكٌة،
وتولى فً الثبلثٌنات منصبا خطٌرا هو مفتش عام الجٌش المصري فً وزارة علً ماهر رؼم أنه خرٌج
كلٌة عسكرٌة أجنبٌة ولم ٌعمل فً الجٌش المصري من قبل ،وكما جاء فً رسالة السفٌر البرٌطانً فً
مصر ماٌلز المبسون إلى حكومته عن تقٌٌم الموقؾ آنذاك فً البلد فقد تسبب هذا التعٌٌن فً تذمر داخل
الجٌش ،ألن عزٌز المصري لٌس من رجاله(ٕ.)ٔ9ٙ
وصار من أكبر دعاة تٌار القومٌة العربٌة ،حتى أؼوى ضباط فً الجٌش المصري لدعم ثورة رشٌد
الكٌبلنً فً العراق ٔٗ ٔ9وأن ٌُهربوه بطابرة تبع الجٌش إلى العراق لٌشارك فٌها ،ولما فشل فً الهرب
ساهم فً تدرٌب المقاومة الشعبٌة ضد اإلنجلٌز فً القناة ٓ٘ ،ٔ9٘ٔ -ٔ9ودعم فكرة التخلص من االحتبلل
اإلنجلٌزي والعابلة الحاكمة(ٖ )ٔ9ٙبعد أن أصبح موالٌا أللمانٌا وٌدعم ؼزوها لمصر بحجة تحرٌرها من
اإلنجلٌز ،واخترق الجٌش المصري لٌقنع ضباطه بالوالء أللمانٌا بزعم أنها المساعد األكبر فً التخلص من
اإلنجلٌز -حلفابه السابقٌن -أي ٌحبب الضباط فً فكرة الترحٌب بؽزو أجنبً ،ورؼم مشاركته فً إسقاط
الخبلفة العثمانلٌة لكنه صار مقربا من تنظٌم "اإلخوان المسلمٌن".
فهو تركٌبة شاذة مشتتة االنتماءات كثٌرة االنقبلبات مجهولة األهداؾ ،وتسبب فً تشتٌت عقل مصر فً
أحوالها الداخلٌة وعبلقاتها الخارجٌة ،والبلفت أن ٌُطلق علٌه األب الروحً لحركة الضباط األحرار،
وٌُمجد فً كل كتاب ،رؼم أنه لم ٌساهم فً عمل ٌخص مصر إال فً نهاٌة رحلته ،ولٌس ألجل مصر نفسها
بل لصالح حلفابه من ألمان وقومٌٌن عرب ٌسعون لـ"النط" مكان اإلنجلٌز ،وأٌضا ساهم فً تشتٌت مسٌرة
الضباط ،فبعد أن كانت قضٌتهم مصر فقط ،أدخل فٌهم فكرة القومٌة العربٌة ،وبعد ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘،ٔ9
ورؼم إكرام الثورة له ،إال أنه دعَّم ضدهم الضابط اإلخوانً عبد المنعم عبد الرءوؾ لما طردته الثورة من
الجٌش ألنه من كوادر "اإلخوان المسلمٌن" قاببل للكاتب لمعً المطٌعً إن "شخصا واحدا ٌحوز تقدٌره
وإعجابه" من الضباط األحرار هو عبد المنعم عبد الرءوؾ ولٌس جمال عبد الناصر كما ٌُشاع(ٗ.)ٔ9ٙ
عاش شعلة نار هدفها إٌقاد الثورات والحروب فً أي مكان ،ال ٌعرؾ العٌش بعٌدا عن صوت
الرصاص ورٌحة الدماء ،ال وطن له ،بلده هً الحرب أو الثورة والتنظٌمات المسلحة ،فؤٌنما كانت الحرب-
عادلة أو ؼٌر عادلة -فهناك بلده ..فالصح أن ٌسموه عزٌز الشركسً أو عزٌز زكً (اسمه الحقٌقً) ولٌس
عزٌز المصري ،فمصر لٌست عنده إال محطة من محطات ،أو عزٌز األلمانً ألنه لم تتوثق عبلقة له بؤحد
مثلما توثقت باأللمان الذٌن أرسلوه للعمل وسط معظم األحداث.
(ٕ)ٔ9ٙ
-انظر :مصر والحرب العالمٌة الثانٌة ،محمد جمال الدٌن المسديٌ ،ونان لبٌب رزق ،عبد العظٌم رمضان ،مرجع سابق ،ص ٙ9
(ٖ)ٔ9ٙ
-للمزٌد :مقال "عزٌز المصري سندباد العسكرٌة األب الروحً للضباط األحرار" ،حمد أبو العٌنٌن ،صحٌفة األهرامٕٖٓٔ -ٗ -٘ ،
(ٗ)ٔ9ٙ
-راجع حدٌث المطٌعً عن حواره مع عزٌز زكً (عزٌز المصري) فً "هذا الرجل من مصر" ،مرجع سابق ،ص ٖٖٓٗٗٔ -
ٓٙٙ
وتوأمه فً هذا التشتٌت لوجدان ودماء وثروات المصرٌٌن عبد الرحمن عزام ،ساهم بقوة فً دفع المصرٌٌن
للحرب فً الخارج لصالح ؼٌرهم ،فشارك مثل عزٌز الشركسً فً الحرب لدعم السنوسٌٌن وتركٌا فً لٌبٌا،
وساعد اللٌبٌٌن مع محمد صالح حرب واللٌبً أحمد الشرٌؾ السنوسً الحتبلل الواحات المصرٌة بحجة اتخاذها
قاعدة لمهاجمة اإلٌطالٌٌن ،فسلَّم أرض البلد ألجانب ،ودون تنسٌق مع الحكومة القابمة.
ومحمد صالح حرب كان حٌنها قابدا فً الجٌش المصري ،ورؼم جرٌمته هذه تولى منصب وزٌر الحربٌة
سنة ٔ9ٖ9ثم ربٌسا لجمعٌة الشبان المسلمٌن ،فتلمٌذا لئلخوانً حسن البنا.
كما ذهب عبد الرحمن عزام لٌحارب مع تركٌا فً حرب البلقان ٗٔ ،ٔ9وعندما عاد انضم لحزب
الوفد -بؤسلوب االختراق -وآل على نفسه نشر فكر الخبلفة اإلسبلمٌة والعروبة فً صفوؾ الحزب الذي قام
أساسا إلحٌاء القومٌة المصرٌة ،وواضح أنه نجح فً تؽٌٌر مٌول مصطفى النحاس ومكرم عبٌد اللذٌن تبنٌا
معه فكرة إقامة الجامعة العربٌة و"تعرٌب" مصر سٌاسٌا وثقافٌا.
وعمل على "شعشعة" تولً الخبلفة اإلسبلمٌة فً عقل أسرة محمد علً ،وذكر عزام فً مذكراته أنه أرسل
لفإاد وهو ما زال أمٌرا بؤن ٌكون ملكا على ألبانٌا ،وأن ٓٓٔ ألؾ مسلم فً ألبانٌا ٌإٌدون أي أمٌر مسلم
من أسرة محمد علً ،ودعمت إٌطالٌا الفكرة التً فشلت بتدخل النمسا(٘ ،)ٔ9ٙوبعد سقوط السلطنة العثمانلٌة
ٖٕ ٔ9تطلع فإاد إلى أن تكون مصر مقرا للخبلفة ،وانعقد مإتمر إسبلمً بالقاهرة للتروٌج للفكرة ولكنه
فشل لخبلفات الجنسٌات الوافدة من ببلد أخرى حول حقٌقة الخبلفة ومن ٌكون خلٌفة(.)ٔ9ٙٙ
وأكمل عزام مهمته هذه مع فاروق وهو ٌؽرٌه بؤن ٌكون خلٌفة للمسلمٌن وزعٌما للعرب؛ ما دفعه للموافقة
على إنشاء الجامعة العربٌة على حساب الهوٌة المصرٌة -كمرحلة إلى الخبلفة -وتحوٌل جزء من مٌزانٌة
مصر للجامعة ولفلسطٌن ،وتورٌط رجالها لٌنزفوا الدم فً فخ حرب .ٔ9ٗ8
وقبل الحرب العالمٌة الثانٌة أقنع باالشتراك مع عزٌز الشركسً ربٌس الوزراء علً ماهر بتؤسٌس كٌان
مسلح شعبً خارج نطاق الجٌش باسم "الجٌش المرابط" بحجة مقاومة اإلنجلٌز ،واتضح فٌما بعد أنه أراد
بهذا الكٌان إحٌاء فكرة الجهاد الشعبً للتطوع فً الخارج ،وأنه استؽل هإالء المقاتلٌن للتؽرٌر بهم فً
فلسطٌن عامً ٔ9ٗ9و ٔ9ٗ8على ؼرار الكتابب التً أسسها فً نفس الوقت تنظٌم "اإلخوان المسلمٌن"
الذي ٌلتقً معه عزام فً حلم الحكومة اإلسبلمٌة العالمٌة.
َّ
وسخر لهذا الهدؾ كتابه "الرسالة الخالدة" الذي كال فٌه المدٌح لبلحتبلل العثمانلً ووصفه بـ"الرحٌم
العادل" ،وأشاد بالعرب الذٌن "أخلصوا للعثمانٌٌن" أكثر مما أخلصوا ألهلهم العرب ،ومجَّ د الحروب
التوسعٌة وامتبلك العالم بحجة رد البشرٌة إلى الحق ونصرة المظلوم ،وؼلفها باسم "اإلخوة اإلنسانٌة"،
(٘)ٔ9ٙ
-المرجع فً تارٌخ مصر الحدٌث والمعاصر ،نخبة من أساتذة التارٌخ ،المجلس األعلى للثقافة ،القاهرة ،ٕٓٓ9 ،ص ٗٙ8
()ٔ9ٙٙ
-انظر :نفس المرجع ،ص ٔٗ9ٕ -ٗ9
ٔٙٙ
وحارب الوطنٌة قاببل إنها "شر" و"سبب االضطراب العالمً"( ،)ٔ9ٙ9داعٌا لتشكٌل هٌبة تمهد للنظام العالمً
الجدٌد وإعبلن الحكومة العالمٌة الواحدة التً تقدم لها كل الشعوب الوالء( ،)ٔ9ٙ8وما هذا إال ترجمة لمشروع
تنظٌم النارٌٌن ولكن بلون إسبلمً ،كما أن الصهٌونٌة ترجمة له بلون ٌهودي ،واإلرسالٌات التبشٌرٌة
ترجمة له بلون مسٌحً.
ولو قرأ أحد كتاب الرسابل لحسن البنا وكتاب الرسالة الخالدة لعبد الرحمن عزام ألحس أن من كتبهما
شخص واحد ،حتى تحتار هل البنا هو أستاذ عزام أم عزام هو أستاذ البنا ،فهما نفس األسلوب واألفكار،
ٌصبػ معظم حدٌثه بؤدلة عن الرحمة ومحاسن األخبلق فً اإلسبلم بطرٌقة تدؼدغ المشاعر ،وٌفخخ هذه
الرسابل بالهدؾ الحقٌقً وهو جر المسلمٌن وراء فكرة الحكومة اإلسبلمٌة العالمٌة على أنقاض األوطان
وعلى حساب ؼٌر المسلمٌن من أبناء األوطان ،وشعارهما السٌؾ لمن عارض إقامتها.
وتولى عبد الرحمن عزام مناصب حساسة فً الدولة كوزارتً األوقاؾ ومسبول بدرجة وزٌر فً
الخارجٌة ،استؽلها فً شحن موارد مصر لمناصرة القضٌة الفلسطٌنٌة والقومٌة العربٌة ونشط فً هذا أكثر
لما بات أول أمٌن عام للجامعة العربٌة ٘ٗ.ٔ9
وانطبلقا من إٌمانه بالخبلفة اإلسبلمٌة لم ٌقصر عمل الجامعة على العرب ،بل شحن مصر والجامعة
العربٌة لتقدم التبرعات والمتطوعٌن لدعم أندونٌسٌا فً كفاحها ضد االحتبلل الهولندي ،وذلك فً الوقت
الذي لم ٌكن كثٌرا من الحكام والمثقفٌن ٌعرفون أٌن تقع أندونٌسٌا على الخرٌطة أصبل.
ولذا لم ٌكن ؼرٌبا أن ٌسٌر حفٌده أٌمن الظواهري ،زعٌم تنظٌم "القاعدة" اإلرهابً ،وحفٌدته مها عزام
المنتمٌة لجماعة "اإلخوان المسلمٌن" فً طرٌق شحن الشباب المصري لعمل ملٌشٌات إرهابٌة فً الداخل
والقتال باسم الجهاد فً الخارج بحجة مناصرة قضاٌا المسلمٌن والخبلفة اإلسبلمٌة ،فذلك هو الطرٌق الذي
صنعه جدهما جنبا إلى جنب مع عزٌز الشركسً وشوام مهاجرٌن لمصر.
ولما أقنع عزام الحكومة وفاروق بحدؾ المصرٌٌن ،سواء من الجٌش أو المتطوعٌن ،ببل رحمة لفخ
حرب ٔ9ٗ8بحجة الدفاع عن العروبة واإلسبلم ،كان ٌعلم فرق التسلٌح وعدم التدرٌب وما علٌه الجٌش
المصري من إهمال من جانب اإلنجلٌز والملك على حد سواء ،ووقع خبلؾ فً البداٌة بٌنه وبٌن النقراشً
باشا وإسماعٌل صدقً حول الحرب ،ولكن أسلحته السحرٌة وؼفلة المصرٌٌن مكنته من هدفه.
فهكذا كان عبد الرحمن عزام وعزٌز الشركسً (عزٌز المصري) ،ال ٌنتمٌان لمصر ال بالدم وال
بالوالء ،وسخرا نفسٌهما لنزع الحرٌة والعزة واالستقبلل من نفوس المصرٌٌن لٌزرعا بدال منهم مشاعر
الخنوع والخضوع والوالء لؽٌرهم سوا للعرب أو للترك أو األوروبٌٌن ،أو أٌا من كان ،المهم أال ٌكون
()ٔ7ٙ7
-الوطنٌة الحقة لم تكن أبدا سببا الضطراب العالم ،فهً تدعو إلى أن ٌحمً الشعب بلده من المعتدٌن ،وأال ٌعتدي على بلد لم ٌسبق أن
اعتدى علٌه ،فلو التزمت الشعوب بهذا لما حصلت الحروب ،وإنما الحروب تتفجر حٌن تطمع الشعوب فً بالد ؼٌرها كً تقٌم إمبراطورٌة تعلً بها
عرقها أو دٌنها على بقٌة الشعوب ،وتتوسع ل تحكم العالم ،فلم ٌعرؾ العالم عدوا كمشارٌع اإلمبراطورٌات العالمٌة بؤي شكل كانت.
()ٔ9ٙ8
-انظر :الرسالة الخالدة ،عبد الرحمن عزام ،المجلس األعلى للشبون اإلسبلمٌة ،القاهرة ،ص ٖٗ ؤ ،ٔٓٓ -9وٖ٘ٔ ،وٕٕ٘ٓٓ8 -
ٕٙٙ
مصرٌا !
وال ٌعٌش الهكسوس -بشرا أو فكرا كالتٌارات السابقة -إال إذا ماتت الروح والشخصٌة الوطنٌة لٌفسحوا
لنفسهم مكانا فً البلد ،وعلى هذا الحظنا أن كل تٌار هكسوسً مما سبق ٌحقر الوطنٌة والقومٌة المصرٌة
وٌعتبرها نوعا من العنصرٌة المكروهة أو من التخلؾ وضٌق األفق ،أو حتى من الكفر.
أما فٌما ٌخص هكسوس البشر فٌقول الصحفً األمرٌكً " وٌلتون واٌن" -عاش فً مصر آواخر
االحتبلل اإلنجلٌزي -فً سرده للمزاٌا التً تمرغ فٌها األجانب فً مصر حٌنها واستؽبللهم هذا فً كسر
خواطر المصرٌٌن" :كانوا ٌعٌشون فً مصر فً مستوى من الٌسر واألناقة لم ٌكن ٌستطٌع أن ٌعٌش فٌه
من الؽرب إال أؼنى األؼنٌاء ،مثل هإالء األجانب لم ٌكونوا ٌحترمون المصرٌٌن وال الثقافة المصرٌة،
وقلٌل منهم تعلم اللؽة العربٌة ،أما النساء فقد تعلمن منها ما ٌكفٌهن لتوبٌخ أحد الخدم ،وأما الرجال فلكً
ٌشتموا سابق سٌارة ،ولكن كان من النادر أن تجد مقٌما أجنبٌا ٌتعلم قراءة اللؽة العربٌة الصعبة أو التكلم بها
إلى درجة التحدث على مستوى مقبول .كان مجتمعهم ٌعتبر اللؽة العربٌة لسانا خاما مبتذال ال ٌصلح إال
كلؽة شارع وبٌن طبقة الخدم"(.)ٔ9ٙ9
وظلت كلمة "ابن األصول" ،و"ابن عابلة عرٌقة" ،و"ابن األكابر" ،و"ابن الذوات" ،و"ابن ناس" ،شبه
محتكرة على األجنبً من أي جنسٌة كان -ولو كان فً بلده ال ٌساوى مندٌبل متسخا ملقى على الرصٌؾ-
وسلٌل العبٌد والمرتزقة والمحتلٌن والعاببلت المستوطنة التً لم تتمصر إال فً شهادة الجنسٌة ،وحرَّ موا
هذه الكلمة على المصرٌٌن الذٌن ظلوا ٌحصرونهم فً كلمة "فبلح" و"الشعبً" و"ابن البلد" و"الخدام"،
مهما وصل بعضهم لمناصب ،رؼم أن الحقٌقة أن "ابن األصول" و"ابن العاببلت العرٌقة األصول" هو ابن
األرض ،الموصولة عروقه بؤعمق أعماقها ،مهما كان فقٌرا ،ال ٌحمل لونا وال هوٌة إال لون وهوٌة األرض
التً ٌعٌش علٌها ،ولٌس الدخٌل أو المتمسك بلون أراضً أجنبٌة ،ورؼم أن "ابن األكابر" هو ابن من
ٌحافظون على استقبلل هذه األرض وحرٌتها من الدخبلء لٌظل كل أهلها أكابر بالنسبة لؤلجانب ،ولٌس
األجنبً الذي اؼتصبها بالؽزو أو البلطجة أو النصب أو االمتٌازات األجنبٌة ،ورؼم أن "ابن الناس" هو ابن
الناس الكرام الذٌن احتفظوا بؤحلى ما فً "الناس" وهو عدم العدوان على ؼٌرهم وعدم إذالل من لم ٌعت ِد
علٌهم ،ولٌس األجانب الذي انحدروا من مستوى "الناس" إلى مستوى الشٌاطٌن بالعدوان على أراضً
ؼٌرهم وإذالل أهلها المسالمٌن.
فظلت المعاٌٌر "مقلوبة" ،خاضعة للتزوٌر ،مثلما قال "إٌبو ور" منذ ٓٓ٘ٗ سنة متحسرا على حال
المصرٌٌن بعد تمكن المستوطنٌن األجانب من بلدهم نهاٌة األسرة " :ٙتخربت األقالٌم ،وتوافدت قبابل
قواسة ؼرٌبة إلى مصر ،ومنذ أن وصلوا لم ٌستقر المصرٌون فً أي مكان ( )...وأصبح األجانب
()ٔ9ٙ9
-عبد الناصر ..قصة البحث عن الكرامة ،وٌلتون واٌن ،مكتبة مدبولً ،ط ٔ ،القاهرة ،ٕٓٔٓ ،ص ٕٓ
ٖٙٙ
مصرٌٌن فً كل مكان ...وأولبك الذٌن كانوا مصرٌٌن أصبحوا أؼرابا وأهملوا جانبا(ٓ.")ٔ99
ووصل األمر لمنتهاهٌ ،واصل "إٌبو ور" مدهوشا ملتاعا" :لقد تجاسر بعض الخوارج فحرموا الببلد
الملكٌة (الحكم المركزي) ..انظر! إن سر األرض (مصر) الذي ال ٌعرؾ أحد حدوده قد أفشً ،وأصبح
مقر الملك رأسا على عقب ..انظر! إن مصر قد أصبحت تصب الماء ]لؽٌرها[(ٔ.")ٔ99
❹❶ توزٌع أرض مصر على المحتلٌن والمستوطنٌن (بالتملٌك /الرهن /التجنٌس)
فً تمثٌلٌة "فكرة خاطبة" حسنٌن (محمود عبد الؽفار) ٌشكر صاحبه جبلل (صبلح قابٌل) أنه وفر له
عمل فً تجارته ،فٌقول له" :لوالك كان زمانً لسة بشتؽل بكٌلتٌن درة فً السنة" و "بشتؽل بلقمتً".
وفً فٌلم "الحرام"ٌ ،قضً الفبلحون ستات ورجالة ٌومهم فً الؽٌط منكبٌن على وجههم فً العمل
الشاق ،تنزل على ظهورهم عصاٌة الخولً إذا حاول أحدهم أن ٌرتاح قلٌبل ،وفً وقت األكل ٌفرد الشؽٌلة
منادٌلهم لتكشؾ عن كسرة خبز جافة وبصلة ٌلتهمونها لتقوي بدنهم النحٌل ،وفً نهاٌة الٌوم تنضم أٌدٌهم
"المشققة" على مبللٌم قلٌلة ٌفرحون بها لٌسدوا جوع من ٌنتظرونهم فً البٌت(ٕ.)ٔ99
هذه الكلمات والمشاهد تمر على مبلٌٌن المتفرجٌن دون أن ٌدركوا معناها ،ومرارتها ،وبعضنا ٌظنها
مبالؽات ،أو من زمن قدٌم جدا ،وال ٌدرك ظلت لزمن قرٌب جدا إال من نشؤ فً قرٌة حكى له أهلها ما كان
فٌها ،أو من قرأ جٌدا عن توزٌعة أرض مصر فً أٌام االحتبلل.
ترسخ الحال فً توزٌعة األراضً على ما تابعناه فً زمن االحتبلل العلوي بٌن (العٌلة األرناإوطٌة
الحاكمة ،والموظفٌن الكبار شراكسة وأتراك وأرمن وٌونان وشوام وٌهود وأوروبٌٌن وؼٌرهم ،وشٌوخ
البدو ،وندرة من المصرٌٌن) ،أما بعد دخول شرٌك جدٌد فً نزع الثروة وهو االحتبلل اإلنجلٌزي فقد
تضخم نصٌب األوروبٌٌن ورعاٌاهم فً كعكة األرض.
ٌقول ألبرت فارمان عن الحال بعد مرور ٕ٘ سنة من االحتبلل اإلنجلٌزي" :أما األراضً فٌمتلكها
األجانب بسرعة ،وقد أصبحت بعض الشركات اإلنجلٌزٌة وبعض األفراد مبلكا لمساحات كبٌرة من
األرض ،ولكن بصرؾ النظر عمن ٌمتلك التربة ،سواء كان أوروبٌا أو تركٌا أو من األهالً ،فإن حالة
هإالء الذٌن ٌعزقونها ،وٌحفرون القناة وٌطهرونها ،وٌقٌمون الجسور على النٌل ،وٌقومون بالجزء األكبر
من العمل الذي ٌتطلبه الري ،لن ٌتؽٌر من الناحٌة المادٌة(ٖ.")ٔ99
(ٓ)ٔ99
-الشرق األدنى القدٌم -مصر والعراق ،عبد العزٌز صالح ،مرجع سابق ،ص ٖٓٙ
(ٔ)ٔ99
-موسوعة مصر القدٌمة ،سلٌم حسن ،مرجع سابق ،ص ٖٓ9
(ٕ)ٔ99
-مسلسل "فكرة خاطبة" قصة رسمً فارس ،إخراج أحمد صبلح الدٌن ،بطولة صبلح قابٌل ومحمود عبد الؽفار ،وفٌلم "الحرام" قصة ٌوسؾ
إدرٌس ،إخراج هنري بركات ،بطولة فاتن حمامة
(ٖ)ٔ99
-مصر وكٌؾ ُؼدر بها ،ألبرت فارمان ،مرجع سابق ،ص ٙٙ
ٗٙٙ
وبسبب تدفق الجالٌات األجنبٌة على مصر ،وفتح باب بٌع أراضً مصر واسعا وبشكل متسارع ؼٌر
مسبوق لؤلجانب ارتفعت أسعارها ألرقام خٌالٌة ،وبالتالً صار األمر أصعب بالنسبة للمصري الساعً ألن
ٌشتري هو أٌضا قطعة أرض أو بٌت.
وسمح القانون حٌنها بنزع ملكٌة األرض من الفبلح ،ولو كانت فدانا واحدا ،لو عجز عن تسدٌد دٌون
الربا ،فتسبب هذا فً زٌادة ضم األوروبٌٌن والٌونان والشوام والٌهود العاملٌن فً الربا والرهونات لمزٌد
من األمبلك المصرٌةٌ ،ضمونها بشؽؾ إلى صدورهم ؼنٌمة جدٌدة من أرض مصر ،فٌما ٌتحول مالك
األرض المصري إلى مستؤجر لها أو أجٌرا.
وتخفؾ هذا سنة ٖٔ ٔ9حٌن أصدر المعتمد البرٌطانً كٌتشنر ما عُرؾ باسم "قانون الخمس فدادٌن"
الذي ٌُحرم نزع ملكٌة أقل من ٘ أفدنة بسبب الدٌون؛ ما حفظ الفرصة لبعض المصرٌٌن لٌكونوا من مُبلك
األرض ..ولكن لماذا اختار القانون ٘ أفدنة فقط ،فً حٌن سمح بنزع ملكٌة ما فوق ذلك؟
رمت سٌاسة االحتبلل إلى خلق طبقة من صؽار المبلك المصرٌٌن ٌستفٌد منها؛ ألن وجودها ٌجعلها
صمام أمان ٌمنع حدوث ثورات على االحتبلل ،ألنها وإن كانت فقٌرة لكنها لٌست معدمة(ٗ ،)ٔ99كما أن بقاء
مال فً ٌدها ٌتسبب فً زٌادة استهبلك الخدمات والسلع التً تصدرها أوروبا لمصر ،وفً نفس الوقت
تظل طبقة ؼٌر مإثرة فً النفوذ ألنها تسٌطر على القلٌل من األرض.
وبعد أن كانت أراضً الدولة هً األراضً الزراعٌة والبور ،أصبح خبلل ٓٓٔ سنة من حكم أسرة
محمد علً ثم االحتبلل اإلنجلٌزي معظم األرض الزراعٌة مملوكة لعدد محدود من األفراد ،ومعظم أمبلك
الدولة من األراضً البور.
وتقسمت الملكٌات الزراعٌة إلى ٖ فبات ،كبار المبلك وهم من معهم ٓ٘ فدانا فما فوق (حتى عشرات
اآلالؾ من األفدنة) ،وتصنٌؾ آخر جعلهم من ٌملكون ٓٓٔ فدان فؤكثر ]وهً نفس العاببلت الوافدة فً
معظمها التً أثرت وتملكت األراضً بقوانٌن مخصوصة وإنعامات أٌام محمد علً وإسماعٌل[،
ومتوسطً المبلك وهم من معهم من ٘ ٘ٓ -فدان ،وصؽار المبلك وهم من معهم أقل من ٘ فدادٌن ،وهم
أؼلبٌة المبلك ،أما أؼلبٌة أهل الرٌؾ فمن مستؤجري األراضً والعاملٌن بؤجرة من عمال التراحٌل ،أي ال
ٌملكون قٌراطا وال سهما(٘.)ٔ99
وفً تقرٌر لجنة الشبون المالٌة بمجلس النواب عام ٘ٗ ،ٔ9ونشرته جرٌدة أخبار الٌوم -9 -9
٘ٗٔ9جاء أن الملكٌات الكبٌرة تستؽرق ربع المساحة المنزرعة ،وبلػ عدد المعدمٌن ٔٔ ملٌون نسمة من
(ٗ)ٔ99
-الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي ،د.سامً عزٌز ،ص ٕٖٙ
(٘)ٔ99
-للمزٌد عن توزٌعة األراضً ونزع الملكٌة من الفبلحٌن انظر :تارٌخ العمال الزراعٌٌن فً مصر (ٗٔ ،)ٔ9ٕ٘ -ٔ9فاطمة علم الدٌن عبد
الواحد ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،سلسلة تارٌخ المصرٌٌن ،القاهرة ،ٔ999 ،ص ،8وكبار مبلك األراضً الزراعٌة ودورهم فً المجتمع
المصري (ٗٔ ،)ٔ9ٕ٘ -ٔ9عاصم الدسوقً ،مرجع سابق ،ص ٕ9 -ٕ8
٘ٙٙ
بٌن ٔ9ملٌون نسمة (اإلحصاء التقرٌبً لسكان مصر عام ٘ٗ.)ٔ99ٙ()ٔ9
وأوردت مصلحة اإلحصاء الجدول التالً عن توزٌعة ملكٌة األراضً الزراعٌة لحد دٌسمبر .)ٔ999(ٔ9ٗٙ
وفٌه ٌتضح بؤرقام تقرٌبٌة أنه حتى قبل ٙسنٌن من قٌام ثورة ٕ٘ ٔ9فإن من ٌتملكون أراضً زراعٌة فً
مصر وقتها هم أكثر بقلٌل من ٕ ملٌون وٓٓ ٙألؾ من إجمالً عدد السكان حٌنها البالػ ٔ9ملٌونا ،أي أن
٘ٔ %فقط من السكان ٌملكون أراضً ،ومعظم هإالء المبلك ٌملك الواحد منهم أقل من فدان واحد ،بما
ٌساوي ٕٔ %من األراضً ،فٌما تملك فبة قلٌلة جدا معظم األراضً ،ومنهم ٕٗ شخصا الواحد منهم ٌملك
أكثر من ألفٌن فدان.
فمن ٌملكون نصؾ فدان فؤقل حوالً ملٌون و ٓٓٗ ألؾ ،ومن ٌملكون من نصؾ فدان إلى فدانٌن حوالً
نصؾ ملٌون شخص ،وهذه مساحة ال تكفً صحابها المعٌشة طوال العام ،وٌلجؤ معظم أصحابها وأوالدهم
()ٔ99ٙ
-تارٌخ العمال الزراعٌٌن فً مصر (ٗٔ ،)ٔ9ٕ٘ -ٔ9مرجع سابق ،ص ٖٔ
()ٔ999
-بٌان عن مصلحة اإلحصاء نشره عبد الرحمن الرافعً المإرخ وعضو مجلس الشٌوخ قبل ثورة ٖٕ ٌولٌو فً كتابه "فً أعقاب الثورة
المصرٌة ثورة ،"ٔ9ٔ9جٕ ،دار المعارؾ ،طٖ ،القاهرة ،ٔ988 ،ص ٖٙ9وأول طبعة له صدرت .ٔ9ٗ9
ٙٙٙ
للعمل فً أرض الؽٌر باألجرة أو ألي عمل آخر للوفاء بالحاجات األساسٌة للعٌشة.
ومن ٌملكون ما بٌن ٖ ٘ -أفدنة -وهو أقل معدل مناسب لسد االحتٌاجات األساسٌة طوال العامٌ -بلػ حوالً
ٖ ٕٙألؾ ،ومن ٌملكون ما بٌن ٘ أفدنة إلىٓ٘ فدان حوالً ٘ٗٔ ألفا.
أما من ٌملك الواحد منهم ملكٌات كبٌرة بٌن ٓ٘ فدان وٓٓٗ فدان فهم ٔٔ ألؾ شخص فقط ،ومن ٌملك
الواحد منهم ملكٌات أكبر ما بٌن ٓٓٗ إلى ألؾ فدان فهم ٓٓ 9شخص فقط ،أما من ٌملك الواحد منهم
ملكٌات مهولة وهً من ألؾ إلى ألفٌن فدان فهم ٕ٘ٓ شخص فقط ،ومن ٌملك الواحد منهم ملكٌات فوق
العقل وهً أكثر من ألفٌن فدان فهم ٕٗ شخصا ٌتحكمون فً األرض ومن علٌها وفً سٌاسة البلد كلها.
وبذلك ٌكون من ٌملكون ٓ٘ فدان فما فوق أقل من نصؾ %من المبلك ،و% ,ٓ9من إجمال السكان.
ومن ٌملكون ٓٓٗ فدان فما فوق ٖٓ %,من مجموع المبلك ،و٘ٓٓ %,من عدد السكان ككل ،وهما ما
ٌصطدم بكل مقاٌٌس العقل ،فالفروق بٌن الناس والفقر والؽنى موجود وفطرة من هللا فً كل زمان ومكان،
ولكن أن تكون الفروق بهذا الشكل وكؤنها الفرق بٌن السماء السابعة واألرض السابعة فٌعبر عن منتهى
الظلم ،خاصة وأن معظم هذه األراضً وصلت إلى أصحابها -ومعظمهم دخبلء -بطرق ؼٌر شرعٌة
هضمت حقوق بقٌة أهل الببلد ،وبقوانٌن وتسهٌبلت من االحتبلل ،وهو ما تابعناه فً كٌفٌة حصول كبار
المتملكٌن على تلك األراضً بالنهب أو كهبات ٌؽدقها الحاكم على نفسه وأفراد عابلته وكبار الموظفٌن
واألجانب ،أو أخذها باالمتٌازات األجنبٌة ،أو عبر استنزاؾ الفبلحٌن بالروهونات والقروض ،أو بنظام
العهدة والوسٌة ،أو ببلطجة السبلح مثل قبابل العربان ،أو بتسهٌبلت فً البٌع والشراء تتوفر ألفراد العابلة
الحاكمة وكبار الموظفٌن واألجانب دون بقٌة الناس.
وحٌلة أخرى لبلستحواذ على أراضً الدولة ابتدعها المستثمرون األجانب ،وهً إقناع الحكومة بعدم
جدوى أن تكون الدولة مالكا لؤلرض ،وأنه األفضل بٌع أراضً الدولة جمٌعها لؤلفراد ٌستثمرونها فٌما
تتفرغ الدولة لشبون أخرى ،حتى باعت الحكومة لهم حوالً نصؾ ملٌون فدان فً الفترة من ٗٔ-ٔ9
،ٔ9ٗ9خاصة فً البحٌرة والؽربٌة والشرقٌة ،وقع أؼلبها فً ٌد كبار المتملكٌن ،خاصة وأن بعضهم كان
مشاركا أساسا فً السلطة بصفة وزٌر أو مدٌر مدٌرٌة أو نواب بالبرلمان ،كما سعوا لئللؽاء مصلحة
األمبلك األمٌرٌة ،أي إللؽاء أن تملك الدولة أراضً من أساسه ،ولكن لم ٌفلحوا فً ذلك بشكل كامل(.)ٔ998
وظل الحاكم األرناإوطً وعابلته المتملك األكبر لؤلرض فً مصر حتى سنة ٕ٘ ،ٔ9سوا عبر ما ورثه
من الحاكم السابق ،أو بالسطو والتحاٌل ،إضافة لما استحدثه عباس الثانً من حصٌلة بٌع النٌاشٌن واأللقاب
(الباشا والبك) ،واستصبلح أراضً جدٌدة على نفقة أجهزة الدولة ،وهذا بخبلؾ المرتب السنوي
والمخصصات الملكٌة.
()ٔ998
-انظر :كبار المبلك والفبلحٌن من ،ٔ9ٕ٘ -ٔ8ٖ9رإوؾ عباس وعاصم الدسوقً ،مرجع سابق ،ص ٔٙٙ -ٙ
ٙٙ7
فالملك فإاد تسلم الحكم فً ٔ9ٔ9وبحوزته ٓٓ 8فدان وتضاعفت بسرعة نفخ البالونة إلى ٕ8ألؾ فدان
حتى سنة وفاته ،ٔ9ٖٙوتضاعفت هذه األرض بؤسلوب نفخ البالونة السرٌع أٌضا إلى حوالً ٗ9ألؾ
فدان فً ٌد فاروق وأمه وإخوته الخمسة ،أي أضافوا ٕٔ ألؾ فدان على ما ورثوه من أبٌه خبلل ٔٙسنة
فقط( ،)ٔ999هذا بخبلؾ المجوهرات واألموال المكدسة فً البنوك داخل وخارج مصر واألوقاؾ إلخ،
وبخبلؾ ما تملكه بقٌة فروع عابلة محمد علً من آالؾ األفدنة األخرى.
أدى تدهور مستوى مٌعشة السكان فً الرٌؾ وزٌادة عدد المعدمٌن والعاطلٌن والسخط المنتشر ضد
الحكومة وكبار المستولٌن على األرض إلى ظهور مبادرات إلصبلح حال الفبلح.
الوزراء إسماعٌل صدقً سنة ومنها مبادرة تخفٌض اإلٌجار للتخفٌؾ عن الفبلحٌن ،وقادها ربٌس
تكالٌؾ األرض خبلل األزمة ٕٖ ٔ9للحد من أزمة تدهور أسعار القطن وعجز الفبلحٌن عن سداد
فً تمرٌرها وتخفٌض اإلٌجار االقتصادٌة العالمٌة الشهٌرة ،ورفض ؼالبٌة النواب المبادرة ،ولكنه نجح
صفوؾ المعارضة وٌقود حملة بنسبة ٖٓ)ٔ98ٓ(%؛ وذلك خبلل التنافس بٌنه وبٌن حزب الوفد الذي كان فً
فً القرى ضد صدقً وأسالٌبه فً البطش.
ونسمع فً ذلك مبررات الرافضٌن من النواب أصحاب الملكٌات الرهٌبة ،وكٌؾ نظروا إلى الفبلحٌن
سواء من المستؤجرٌن أو األجرٌة كما وردت فً محضر جلسات مجلس النواب رقم ٕ9فً ٗ أبرٌل
ٕٖ ٔ9لنستوضح أي نوعٌة من الشخصٌات كانت تقدم نفسها على أنهم "نواب األمة".
فرأى النابب إبراهٌم الهبللً أن قانون تخفٌض اإلٌجارات قانون "جابر ظالم" ،و"ما كان ٌحق للمجلس
أن ٌنظر فً هذا المشروع أو ٌعٌره جانبا من االلتفات" ،وقال" :أرٌد أن أإدي واجب الدفاع عن المبلك،
وعجٌب أن ٌكون المزارع الذي تكفٌه قطعة من الخبز وقلٌل من الجبن أجدر بالعطؾ من المالك المرهق
بالنفقات الذي ألؾ عٌشة البذخ والترؾ هو وأسرته" ،وأٌده النابب السٌد عبد السبلم رجب بقوله" :أما فٌما
ٌختص بالمستؤجر الصؽٌر فمثله كمثل الفؤر ٌكفٌه من القوت قلٌل من الذرة ٌتلمسه فً جوانب الؽٌط"(ٔ.)ٔ98
هكذا ورد بالنص ! وهكذا كان تقٌٌمهم للفبلح الذي على كتفٌه قامت ثورتا ٔ ٔ88و ٔ9ٔ9اللتان صنعتا
لهم هذا البرلما ن الذي ٌتحدثون فٌه ،وخاض معارك مع اإلنجلٌز سالت فٌها دماإه واحترق محصوله لكً
تجري انتخابات تؤتً بمن ظنهم "نواب الشعب" إلى البرلمان ،ولٌحققوا له شعار الثورة "مصر
المصرٌٌن" ،الذي فسره بعض هإالء النواب بؤن مصر للمصرٌٌن المجنسٌن من أصول ؼٌر مصرٌة ،أو
فقط من هم من فطاحل متملكً األرض ،أما ؼٌر ذلك فمجرد "فبران ٌكفٌها من القوت قلٌل من الذرة فً
جوانب الؽٌط".
()ٔ999
-انظر :كبار مبلك األراضً الزراعٌة ودورهم فً المجتمع المصري (ٗٔ ،)ٔ9ٕ٘ -ٔ9عاصم الدسوقً ،مرجع سابق ،ص ٓ٘
(ٓ)ٔ98
-تارٌخ العمال الزراعٌٌن فً مصر (ٗٔ ،)ٔ9ٕ٘ -ٔ9فاطمة علم الدٌن عبد الواحد ،مرجع سابق ،ص ٘ٔ
(ٔ)ٔ98
-المرجع السابق ،ص ٗ9 -ٗ8
ٙٙ8
ونشرت "األهرام" فً ٖ نوفمبر ٔ9ٖٙتحقٌقا صحفٌا عن أحوال المستؤجرٌن ،ومنهم فبلح باع
جاموسته لسداد اإلٌجار ألنه بسبب تكالٌؾ الزراعة ،ورؼم عمله هو وأوالده طوال العام فً األرض ،لم
ٌكفه الربح أن ٌسدد اإلٌجار فضبل عن أن ٌضمن عٌشه لمدة عام قادم(ٕ.)ٔ98
وبعد هذا التارٌخ لم تجرإ أي وزارة على تحقٌق مطالب أخرى بتخفٌض القٌمة اإلٌجارٌة ،حتى عندما
أبادت المبلرٌا والكولٌرا عشرات اآلالؾ من المصرٌٌن بعد ذلك بسبب سوء التؽذٌة الناجم عن إجهاد
الجسم بالعمل مع قلة الؽذاء والرعاٌة الصحٌة ،فكانت أشبه بوباء مقترن بمجاعة.
فحٌن انتشر وباء المبلرٌا سنة ٕٗ ٔ9فً مدٌرتً قنا وأسوان وأصاب أكثر من ربع ملٌون شخص توفً منهم
ٕٓ ألفا أؼلبهم من األجرٌة والفقراء ،واتضح أن ارتفاع عدد الوفٌات ٌرجع لسوء التؽذٌة ،ومما كشؾ الحال أكثر
أنه لما أرسلت الحكومة األطباء واألدوٌة للمرضى رفض بعضهم قبول العبلج قاببل إن العبلج ٌتطلب األكل
الكافً ولٌس الدواء ،وعلق عبد الواحد الوكٌل وزٌر الصحة آنذاك بقوله" :إن اإلصبلح الحق لهذه الحالة التعسة
إنما ٌكون بتعدٌل النظام االجتماعً تعدٌبل ٌسمح برفع مستوى المعٌشة بٌن الفبلحٌن ،وٌمكنهم من العٌش عٌشة
إنسانٌة ٌحصلون منها على أبسط مطالب الحٌاة اآلدمٌة".
وقال مصطفى النحاس ،ربٌس الوزراء ،فً نفس السنة فً بٌانه أمام البرلمان عن المبلرٌا إن "العٌب
الكبٌر الذي أدى إلى فقر أؼلبٌة السكان هو كثرة الملكٌات الزراعٌة الكبٌرة(ٖ.")ٔ98
ومتفقا معه قال مكرم عبٌد فً مجلس النواب سنة ٕٗ ٔ9أٌضا" :الحق أنً مررت بقرٌة من قرانا،
ورأٌت الفبلح ٌكاد ٌؤكله العمل ،وؼٌره ٌؤكل ،وٌلبسه العري وؼٌره ٌرفل ،وٌضنٌه العٌش القذر والمؤوى
القذر ،حتى لكؤن المسكٌن ٌخرج من الجنة لكً ٌدعنا نحن ندخلها(ٗ.")ٔ98
ورؼم هذا لم ٌجرإ حزب الوفد على المساس بالملكٌات الكبٌرة -فكثٌر من أعضابه من أصحاب هذه
الملكٌات ،واكتفى بمصمصة الشفاة وكلمات اإلشفاق على الفبلحٌن واقتراحات لئلصبلح تضمنت وضع حد
أدنى ألجور العمال الزراعٌٌن ٌكفً المستوى البلبق للمعٌشة ،وتعمٌم المٌاه الصالحة للشرب فً القرى،
وبٌع أراضً الحكومة المستصلحة والبور لصؽار المزارعٌن مع توفٌر وسابل الري والصرؾ(٘.)ٔ98
ولكن لم تعدم مصر فً آواخر األربعٌنات من ٌعلن سخطه على هذا الوضع وٌطالب بوضع حد البتبلع
األؼنٌاء مزٌدا من األرض ،فظهرت مبادرات لوضع قوانٌن تفرض بالقوة الجبرٌة على هإالء الكؾ عن
ضم وشراء مزٌد من األرض عبر تحدٌد الملكٌة.
ومن دوافع المطالبٌن بتحدٌد الملكٌة أن من كان قادرا على شراء أرض فً ذلك الوقت هو من عنده
أرض أصبل ،فسدوا الطرٌق أمام معظم الفبلحٌن مهما وفروا من أموال فً شراء أراضً ،كما أن زٌادة
(ٕ)ٔ98
-نفس المرجع ،ص ٘ٔ
(ٖ)ٔ98
-األرض والفبلح ..المسؤلة الزراعٌة فً مصر ،إبراهٌم عامر ،مرجع سابق ،ص ٕٔٔ
(ٗ)ٔ98
-نفس المرجع ،ص 99
(٘)ٔ98
-انظر :تارٌخ العمال الزراعٌٌن فً مصر (ٗٔ ،)ٔ9ٕ٘ -ٔ9مرجع سابق ،ص ٓٗٔٔٗٔ -
ٙٙ9
عدد السكان مع الثبات النسبً لمساحة األرض زاد من سعر األرض من ناحٌة ،وزاد البطالة من ناحٌة؛
ألن الباشوات ٌفضلون السٌطرة على األراضً الخصبة أكثر من استصبلح األراضً جدٌدة ،فتقل فرص
العمل أمام العمال الزراعٌٌن ،كما ٌرفض معظم الباشوات استثمار أموالهم فً عمل مصانع تفتح فرص
عمل جدٌدة للناس.
ففً ٘ٗ ٔ9تقدم محمد خطاب ،عضو حزب الهٌبة السعدٌة والنابب فً مجلس الشٌوخ ،بمشروع قانون
لوضع حد أعلى للملكٌة الزراعٌة قدره ٓ٘ فدان ،وأقرت لجنة الشبون االجتماعٌة المشروع بعد رفعه الحد
األقصى إلى ٓٓٔ فدان ،على أال ٌسري هذا على المبلك الحالٌٌن وورثتهم ،ومع ذلك رفضه المجلس ألن
معظم نوابه أٌضا من كبار المبلك( )ٔ98ٙالطامعٌن فً ضم مزٌد من األرض.
وتحول الهجوم على خطاب فً المجلس إلى "هدٌر وزبٌر"( )ٔ989بحسب تعبٌره ،فاستقال من الحزب
الذي رفض المشروع ،وحٌن انتهت عضوٌته فً مجلس الشٌوخ ،وكان عضوا معٌنا ،رفض النقراشً
(ربٌس الحزب وربٌس الوزارة وقتها) إعادة تعٌٌنه ،فرشح نفسه للعضوٌة بداٌرة عابدٌن فحاربته الحكومة
وسقط فً االنتخابات ،وقال ربٌس مجلس الشٌوخ فً تصرٌح لمجلة المصور "إن مجلس الشٌخ وجد لٌحد
من المشروعات الثورٌة ومن الطفرات التً ٌندفع إلٌها تطرؾ اآلراء باسم التقدم الذي ال ٌتفق وشرع
الببلد" ،لكن خطاب لم ٌٌؤس وكرر تقدٌم المشروع للمإتمر الزراعً الثالث ٔ9ٗ9وفً ٓ٘ ٔ9مإكدا أن
السبب فً انخفاض مستوى معٌشة أؼلب السكان وفقرهم هو الملكٌات الزراعٌة الكبٌرة(.)ٔ988
وبدال من تحدٌد الملكٌة ظهر اقتراح بٌع أراضً -لٌست من األراضً الخصبة التً ٌهٌمن علٌها رابطة
المتملكٌن الكبار -ولكن أراضً مستصلحة ،ولكن هذه أٌضا سٌقع أكثرها فً ٌد القادر على الشراء من
المٌسورٌن واألجانب ،ولٌس أؼلب السكان األجرٌة أو المستؤجرٌن أو المالكٌن ألقل من فدان ٘ -فدادٌن.
وضرب البلد وباء جدٌد سنة ٔ9ٗ9هو الكولٌرا حصد أرواح أكثر من ٓٔ آالؾ نفس ؼالبٌتهم من
فقراء الفبلحٌن أٌضا(.)ٔ989
وفً محاضرة ألقاها وكٌل وزارة الشبون االجتماعٌة المساعد فً فبراٌر ٔ9ٗ8ونشرتها مجلة المصور -ٔ8
ٕ ٔ9ٗ8-حاول تهدبة حدة المطالبة باإلصبلح مبرءا الحكومة بؤن "الواقع أن الفبلحٌن المصرٌٌن ٌكونون ثبلثة
أرباع السكان ،وحالتهم لٌست بالحالة الطاربة التً ٌمكن عبلجها عبلجا سرٌعا حاسما ،بل هً نتٌجة عدة عوامل
سٌاسٌة واجتماعٌة واقتصادٌة تضافرت منذ أجٌال لتصل بهم إلى هذه الحالة(ٓ.")ٔ99
وأثناء انتخابات ٔ9ٗ9البرلمانٌة طالب 9ٙمرشحا مستقبل بتحدٌد الملكٌة الزراعٌة وزٌادة الضراٌب
()ٔ98ٙ
-انظر :األرض والفبلح ..المسؤلة الزراعٌة فً مصر ،مرجع سابق ،ص ٕٔٔ ،ومقدمات ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘ ،ٔ9عبد الرحمن الرافعً ،ط ٖ،
دار المعارؾ ،القاهرة ،ص ٔٔ9٘ -ٔ9
()ٔ989
-الصراع اإلجتماعً والسٌاسً فً مصر منذ قٌام ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘ ٔ9إلى نهاٌة أزمة مارس ٗ٘ ،ٔ9مرجع سابق ،ص ٖ9
()ٔ988
-كبار مبلك األراضً الزراعٌة ودورهم فً المجتمع المصري (ٗٔ ،)ٔ9ٕ٘ -ٔ9عاصم الدسوقً ،مرجع سابق ،ص ٕٖٖٔٔٗ -
()ٔ989
-انظر :تارٌخ العمال الزراعٌٌن فً مصر ،مرجع سابق ،ص ٕٔ و ٔٙوهوامش المقدمة ص ٕٕٕٖ -
(ٓ)ٔ99
-نفس المرجع ،ص ٗٔ
ٓٙ7
"حتى ٌحوِّ ل مبلك األرض استثماراتهم للصناعة" لٌتوقفوا عن ضم مزٌد من األرض ،وطالب الدكتور
راشد البراوي فً السنة نفسها بتعدٌل نظام حٌازة األرض بما ٌإدي إلى تعمٌم الملكٌات الصؽٌرة والملكٌات
المتوسطة ،وطالب الدكتور أحمد سحٌن بمشروعات "تساعد على نشر الملكٌات العابلٌة الصؽٌرة ،وتنظٌم
العبلقة بٌن المالك والمستؤجر ووضع حد أدنى ألجور العمال الزراعٌٌن" ،ونادى إبراهٌم شكري عضو
مجلس النواب ٓ٘ ٔ9بتحدٌد الملكٌة بؤال تزٌد عن ٓ٘ فدانا للمالك ،وأعلن النابب علً الشٌشٌنً مشروعا
لتحدٌد الملكٌة ب ٓٓٔ فدان مع زٌادة ٓ ٙفدانا للولد وٖٓ فدانا لكل من البنت والزوجة(ٔ.)ٔ99
وبذلك دارت مقترحات اإلصبلح حول الحد من تضخم الملكٌات الكبٌرة القابمة -دون المساس بها -ومنع
تكون ملكٌات كبٌرة جدٌدة ،ولم ٌتطرق أحد إلى عدم شرعٌة الملكٌات الكبٌرة القابمة من األساس ،وأنها
حق للدولة وللفبلحٌن ألن معظمها أُخذ بطرق ؼٌر مشروعه أو بمعونة المحتلٌن وبتسخٌر الفبلحٌن وسلب
حقوقهم ،سوى إشارة بسٌطة وردت بفرض ضرٌبة إضافٌة على األراضً التً تملكها أصحابها بالمنح
والهبات تمٌٌزا لها عن األراضً التً تملكها أصحابها بالشراء إلحداث التوازن االجتماعً(ٕ.)ٔ99
ومن التطورات اإلٌجابٌة أٌضا أنه بعد الحرب العالمٌة الثانٌة علت أصوات بتحرٌم تملٌك األجانب
لؤلراضً المصرٌة ،فقدم المإرخ والنابب فً مجلس الشٌوخ عبد الرحمن الرافعً سنة ٔ9ٗ8مشروع
قانون ٌحظر على األجانب تملك األراضً الزراعٌة وأراضً البناء والعقارات المخصصة للسكن ،مستدال
على خطر تملك األجانب لؤلراضً والعقارات بإحصاء صدر ٔ9ٗٙأظهر أن األجانب ٌملكون
ٕ ٖ٘9,ٔ9فدانا من األراضً الزراعٌة البالؽة ٖٗٔ ،٘,9ٖٓ,إضافة لما لهم من أمبلك عقارٌة على جزء
كبٌر من األراضً المملوكة للمواطنٌن ،وأن ٔ9أجنبٌا ٌملك الواحد منهم أكثر من ألؾ فدان ،واستمرار
هذا األمر خطر على الكٌان القومً(ٖ ،)ٔ99وإذا وضعنا فً حسابنا أن معظم كبار متملكً األراضً أساسا
من عاببلت تركٌة وشركٌة وٌونانٌة وعربان ،حصلوا على الجنسٌة المصرٌة حدٌثا بموجب قوانٌن
التجنٌس سٌبة السمعة الصادرة بداٌة القرن ٌٕٓ ،تبٌن أنه فً الحقٌقة فإن معظم كبار متملكً األراضً
والعقارات هم عاببلت أجنبٌة.
ولما أحس كبار المبلك بكثرة المطالب ووعً الفبلحٌن بها لجؤوا إلى حٌلة بٌع أراضٌهم ألوالدهم
(ٗ)ٔ99
وفً كتابها الصادر سنة ٔ9ٖٙبعنوان "الرٌؾ المصري" تتحدث الدكتورة عابشة عبد الرحمن "بنت
الشاطا" ملتاعة عما شاهدته فً قرٌة مكثت فٌها فترة لبلستشفاء ،ورأت أن طعام معظم أهلها أرؼفة الذرة الجافة
وبضعة أعواد من حشابش األرض كالجعضٌد ،وشربتهم مٌاه ملوثة تسري فٌها الجراثٌم والدٌدان ،ومبلبسهم
"أحٌانا ال تكفً ستر العورة" ..ألٌست هذه نفس الحال التً ٌصفها المإرخون والرحالة عن حٌاة المصرٌٌن
(ٔ)ٔ99
-األرض والفبلح ..المسؤلة الزراعٌة فً مصر ،مرجع سابق ،ص ٕٕٕٖٔٔ -
(ٕ)ٔ99
-انظر هذه اإلشارة فً :كبار المبلك والفبلحٌن من ،ٔ9ٕ٘ -ٔ8ٖ9مرجع سابق ص ٕٖٖٔٔٗ -
(ٖ)ٔ99
-انظر :فً أعقاب الثورة المصرٌة ثورة ،ٔ9ٔ9عبد الرحمن الرافعً ،جٕ ،مرجع سابق ،ص ٖٖٔٓٓٗ -
(ٗ)ٔ99
-انظر :األرض والفبلح ..المسؤلة الزراعٌة فً مصر ،مرجع سابق ،ص ٖٕٔ
ٔٙ7
الحقٌقٌٌن فً كل عصور االحتبلالت؟ أٌن نتابج المشارٌع الكبرى للمحتلٌن إذن؟ من حلب خٌرها؟
وتعجبت بنت الشاطا ممن ٌؽنون للنٌل وال ٌهتمون بالفبلح الذي ٌستخرج الحٌاة من النٌل ،وقالت إنه لٌس من
العدل أن ٌزرع هو وٌحصد ؼٌره وحدهم ،وٌشقى هو لٌإخذ الخٌر من ٌدٌه لعمارة وتزٌٌن وتنظٌؾ المدٌنة
وحدها ،ساردة مشاهد آلباء وأمهات ٌعصرهم األلم وهم ٌحملون القمح القلٌل الذي زرعوه أو الطٌور التً ربوها
لٌبٌعوها فً السوق وٌشتروا بضابع ضرورٌة كالزٌت والذرة دون أن ٌتركوا منها شٌبا ألطفالهم ٌتذوقوه،
وصرخت فً وجه الحكومة وكل من ٌتجاهل الفبلح أو ٌسخر منه بوصفها لهم إنهم من "الجاحدٌن" وٌؤخذون ما
ال حق لهم ،مختتمة بكلمات شبٌهة بكلمات الحكٌم إٌبو ور وهو ٌؤمل فً قدوم المخلص الذي ٌعدل الحال" :فلٌت
شعري ،أٌة ٌد رحٌمة حازمة تلك التً ستوقظ األمة من تؽافلها وتنبهها إلى واجبها؟!(٘.")ٔ99
أما من ٌهرب من الرٌؾ لقلة العابد وٌذهب إلى المدٌنة للعمل فواعلً فً بناء القصور ومنشآت الحكومة
فبعضهم ٌتؽٌر حاله لؤلحسن ،وبعضهم ال ٌجد حظا أحسن من حظ أخٌه فً الرٌؾ لسخافة األجور التً ٌجدونها
ٌوما وال ٌجدونها أٌاما ،وٌنطق بحالهم حسٌن (محمد الدفراوي) الذي ٌقوم بدور فواعلً فً فٌلم "كل هذا
الحب" (إنتاج " :)ٔ988وإٌه ذنبنا نبٌع عمرنا وشبابنا عشان ناكل عٌش وبصل ونشرب شاي؟" ،فرد علٌه
صاحبه ناصر (ٌحًٌ شاهٌن)" :ذنبنا إننا دخلنا البندر ومفٌش على راسنا طرابٌش وال برانٌط".
ولم تكن هذه الحالة تمر على الفبلح دون أن ٌعبر عن أنفته وؼضبه وٌسعى ألخذ ثؤره ،وإن كان متؤخرا
وعلى فترات متباعدة رؼم الؽٌظ والنار التً تؽلً فً صدورهم بسبب ما وصفه الدكتور عبد العظٌم
رمضان بتشتت أفراد الفبلحٌن ومعتقداتهم االستسبلمٌة وعدم وجود شكل منظم لهم(.)ٔ99ٙ
وكانت الؽضبة الكبرى هً ثورة ٔ9ٔ9التً حملها الفبلحون على أكتافهم ورووها بدمابهم قبل أن
ٌختطفها اإلقطاعٌون وٌحصدون بها مكاسب جدٌدة لهم فً البرلمان والحكومة وضم المزٌد من األرض.
وفٌما ٌتمنع اإلقطاعٌون المسٌطرون على البرلمان والحكومة عن اتخاذ خطوات تنصؾ الفبلح بعد
الثورة ،أخذ هو ٌقوم باحتجاجاته التقلٌدٌة فً شكل االمتناع عن دفع الضراٌب واإلٌجار ،التوقؾ عن حصد
المحاصٌل ،هجر األرض التً ٌستنزفه فٌها الباشا ،التحاٌل على إجراءات الحجز على محاصٌل الفبلح
وممتلكاته المنزلٌة وماشٌته ،وأحٌانا ٌصل به المدى للعنؾ مثل حرق المزروعات قبل حصدها أو حرقها
فً األجران بعد حصدها لبلنتقام من المتملكٌن األجانب أو ؼٌرهم.
وفً سنة ٔ٘ ٔ9سطر الفبلحون مبلحم رفض الخضوع ألوامر متملكً األرض فً استنزافهم وإهانتهم
كما حصل فً أراضً ٌتملكها البدراوي بقرٌة بهوت وأمٌرا العٌلة الحاكمة ٌوسؾ كمال ومحمد علً
(٘)ٔ99
-الرٌؾ المصري ،بنت الشاطا ،مكتبة ومطبعة الوفد ،القاهرة ،ٔ9ٖٙ ،ص ٕٔٗ-
()ٔ99ٙ
-الصراع اإلجتماعً والسٌاسً فً مصر منذ قٌام ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘ ٔ9إلى نهاٌة أزمة مارس ٗ٘ ،ٔ9مرجع سابق ،ص ٗ9
ٕٙ7
والخاصة الملكٌة وفإاد سراج الدٌن وعبد اللطٌؾ طلعت(.)ٔ999
وظهر استمرار تحكم روح الؽزاة فً ردود فعل هإالء على احتجاجات الفبلحٌن ،فلم تختلؾ عن أسالٌب
آبابهم وأجدادهم الذٌن استولوا على هذه األراضً تحت ظل سٌؾ االحتبلل ،وال عن أسلوب اإلنجلٌز فً
دنشواي ،ففً قرٌة بهوت سنة ٓ٘ ٔ9رفض الفبلحون دفع اإلٌجار ،فوضعهم اإلقطاعٌون فً السجون،
و حُ كم علٌهم بعقوبات قاسٌة ،وفً قرٌة "كفور نجم" التً بها أراضً ٌتملكها محمد علً – ولً العهد قبل
مٌبلد أحمد فإاد ،قام الفبلحون باحتجاجات قوبلت بالعنؾ ،واستشهد الفبلح عواد وهو ٌقول" :إن األرض
أرضنا ،ولنا فٌها أكثر مما لصاحب السمو ولً العرش(.")ٔ998
"لكً تدفع مصر" ..هو عنوان فصل ورد فً كتاب "االستعمار البرٌطانً فً مصر" بقلم إلٌنور بٌرتز،
الصادر ،ٔ9ٕ9وأظهر أن سٌاسة االحتبلل هدفها األول "استنزاؾ وابتزاز" مصر آلخر قطرة.
وٌقول إن أهداؾ خطة "بٌرنج إخوان" ]شركة تابعة لعابلة كرومر[( )ٔ999فً مصر هً عٌنها أهداؾ
خطة فروهلنج وجوشن ]بٌوت المال العالمٌة[ ،وهً أن ٌعتصر رأس المال البرٌطانً ربحا متزاٌدا تبتزه
الطبقة الحاكمة المصرٌة من الفبلحٌن الكادحٌن ،وأن تزداد طاقة مصر االنتاجٌة حتى ٌمكن الحصول على
أعظم النتابج من اعتصار طبقة الفبلحٌن ،ثم إخضاع الطبقة الحاكمة المصرٌة بشكل مباشر بعد أن ضُربت
اإلسكندرٌة بالقنابل ،وتحطمت الحركة الوطنٌة بقٌادة عرابً ،واحتلت القوات البرٌطانٌة مصر ،وأُدخل
الموظفون البرٌطانٌون فً جمٌع المصالح الهامة ،وخاصة فً وزارة المالٌة ،وفً الجٌش(ٓٓ.)ٔ8
وفً دٌسمبر ٘ ٔ88فً أٌام توفٌق ( )ٔ89ٕ -ٔ899استدانت الحكومة مبلؽا باهظا جدا ،هو 8ملٌون
جنٌه ونصؾ ملٌون جنٌه لدفع تعوٌضات اإلسكندرٌة لؤلجانب ،وسداد العجز الحاصل فً إٌرادات السنة
الماضٌة ،ثم استدانت ملٌونٌن آخرٌن تحت بند إصبلح الري(ٔٓ.)ٔ8
وكانت مهمة سٌر إفلٌن بٌرنج (كرومر) المباشرة هً أن ٌضمن دفع فوابد الدٌن القابمة دفعا منتظما،
وٌفتح مصر سوقا لمنتجات الصناعة البرٌطانٌة التً أخذت تحس وطؤة منافسة الصناعة األلمانٌة المتطورة
بسرعة(ٕٓ.)ٔ8
()ٔ999
-انظر :األرض والفبلح ..المسؤلة الزراعٌة فً مصر ،مرجع سابق ،ص ٖٖٔٔٔٔ -
()ٔ998
-انظر :الممٌزات العامة للتركٌب الطبقً فً مصر عشٌة ثورة ٌولٌو ٕ٘ ،ٔ9جمال مجدي حسنٌن ،مجلة الطلٌعة ،س ،9ع ٗ ،القاهرة،
ٔ ،ٔ99ص ٙٓ -٘9
()ٔ999
-أحد شركات أو بٌوت المال تؤسست فً لندن ٖ ،ٔ9ٙوتتبع عابلة "إٌفلٌن بٌرنج" الذي عُرؾ باسم اللورد كرومر.
(ٓٓ)ٔ8
-دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً ،مرجع سابق ،ص ٘ٔ
(ٔٓ)ٔ8
-مصر فً القرن التاسع عشر ،صالح جودت ،مكتبة الشعب ،القاهرة ،ٔ9ٓٗ ،ص ٗ9
(ٕٓ)ٔ8
-دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً ،مرجع سابق ،ص ٘ٔ
ٖٙ7
قرر كرومر زٌادة مساحة زراعة القطن لصالح مصانع النسٌج فً النكشاٌر ببرٌطانٌا على حساب
المحاصٌل الؽذابٌة ،وٌمكننا أن نعرؾ نتٌجة هذه السٌاسة من الحقٌقة التالٌة.
كانت صادرات القطن فً السنوات السابقة لنظام "بٌرنج إخوان" ملٌونً قنطار فً العام ،قٌمتها 8
مبلٌٌن من الجنٌهات ،ثم أصبحت فً نهاٌة الفترة ]بعد ٕ٘ عاما من حكم كرومر[ 9مبلٌٌن قنطار تساوي
أكثر من ٖٓ ملٌونا من الجنٌهات ،فهً زٌادة عظٌمة فً الدخل.
ولكن ،فً ذات الوقت تحولت مصر من بلد كان ٌعتمد على نفسه فً إنتاج حاجاته الؽذابٌة إلى بلد
مستورد لها ،ربما ألول مرة فً تارٌخه ،وبعد أن كانت مزرعة القمح لئلمبراطورٌة الرومانٌة القدٌمة
صارت مستوردة للقمح بفضل اإلمبراطورٌة الرومانٌة الجدٌدة وأعوانها فً االحتبلل العلوي والجالٌاتً.
ففً سنة ٔ9ٓ8استوردت مصر موادا ؼذابٌة بما قٌمته أكثر من ٘ ملٌون جنٌه ،وهذه المواد ٌضطر
الناس لشرابها بؤسعار أؼلى منها فً الببلد األوروبٌة ،فمثبل كان سعر القمح فً مصر فً ذلك العام ٌزٌد
ٓ٘ %المابة عن سعر القمح فً إنجلترا.
النتٌجةٌ ،قول إلٌنور بٌرتز ،أن هذه السٌاسة جعلت المصرٌٌن أكثر اعتمادا على مستؽلٌهم ،فبدال من أن
ٌبٌعوا الفابض من محصول القطن ال ؼٌر ،أصبحوا اآلن ٌعتمدون أكثر ما ٌعتمدون على بٌع القطن ،ثم
تمشٌا مع التؽٌٌر أصبحوا مجبرٌن على شراء الؽذاء المستورد المنقول من أماكن سحٌقة؛ فؤصبحوا واقعٌن
فً ٌد الوسطاء مرتٌن(ٖٓ.)ٔ8
وإضافة لذلك ،خلقت سٌاسة تنمٌة إنتاج القطن لسد حاجة المصانع اإلنجلٌزٌة "سوقا رابجة لمنتجات
الصناعة البرٌطانٌة ،والضراٌب ٌتم تحصٌلها من الفبلحٌن "لتدفع للمقاولٌن األجانب نظٌر قٌامهم بمد
السكك الحدٌدٌة أو بؤعمال الري أو بؤعمال عمرانٌة أخرى ،وبهذه الطرٌقة ضمنت سوقا دابمة للمصنوعات
البرٌطانٌة الثقٌلة أو المصنوعات الخاضعة للسٌطرة البرٌطانٌة".
وٌتفاخر كرومر بهذه المشروعات فً كتابه "مصر الحدٌثة" ،وبؤنه بٌن سنة ٔ9ٓٗ -ٔ888صرؾ من
االحتٌاطً ٔٙونصؾ ملٌون جنٌه على األعمال العامة بما فٌها أعمال الري والسكك الحدٌد وإصبلح
الموانا"(ٗٓ ،)ٔ8وٌقدم هذا على أنه جمٌل على مصر ،رؼم أنها مشروعات منتقاة بعناٌة لخدمة حركة تجارة
وصناعة ونقل بضابع االحتبلل.
وفً ٔ898تعاقدت الحكومة مع جون إٌرد وشركاه على مقاولة لبناء خزان أسوان بمبلػ ملٌونً جنٌه
(ٖٓ)ٔ8
-المرجع السابق ،ص ٔ9 -ٔٙ
(ٗٓ)ٔ8
-نفس المرجع ،ص ٔ8
ٗٙ7
إنجلٌزي(٘ٓ )ٔ8لزٌادة المحاصٌل فٌزٌد العابد ،وٌشٌر لهذا ملنر ،وزٌر المستعمرات ،وهو ٌقول" :إذا كان البد
من إدخال إصبلح دابم فً مصر فؤول األمور هو أن نجعلها قادرة على الدفع(.")ٔ8ٓٙ
ولتجمٌع أي أرباح تسقط فً ٌد الجالٌات األجنبٌة أو المصرٌٌن تؤسس البنك األهلً المصري وعضو
لجنته اللندنٌة كان أحد أقارب إٌفلٌن بٌرنج (كرومر)( ،)ٔ8ٓ9واألخطر أنه أخذ من الحكومة امتٌاز إصدار
العملة المصرٌة ،رؼم أنه بنك خاص وإدارته أجنبٌة ،ومسٌطر علٌه من بنك إنجلترا الخاص أٌضا الواقع
تحت إدارة روتشٌلد وإخوانه من بٌوت المال العالمٌة.
وفً ظل تدفق المال فً ٌد االحتبلل والجالٌات نشؤت شركات رأسمالها برٌطانً وأجنبً الحتكار
السوق المصري ،ومنها شركة مصر لحبلجً األقطان المتحدٌن ،شركة سٌنا للتعدٌن ،شركة األراضً
الم تحدة المصرٌة ،شركة سكة حدٌد الدلتا ،شركة إنجلو إٌجٌبشٌان أوٌل فٌلد لٌمتد وشركة شل للبترول،
وشركات سجابر برٌطانٌة ثانوٌة كثٌرة أو شركات محلٌة للمٌاه والنور وشركات النقل البحري وشركات
التموٌن بالفحم التً تعمل فً الموانا وشركات التؤمٌن على الحٌاة ،وبحسب موري هارٌس فً كتابه
"مصر تحت حكم المصرٌٌن" فإن ٓ %9من أعمال التؤمٌن فً مصر فً ٌد منشآت برٌطانٌة(.)ٔ8ٓ8
كان طرٌق المال بٌن مصر وبرٌطانٌا فً اتجاهٌن ،األول من مصر لبرٌطانٌا وهو خٌرات مصر من
محاصٌل ومواد خام ونقود ،ومن برٌطانٌا إلى مصر وهً رأس المال الفاٌض فً بنوكها الذي جمعه
روتشٌلد وشركاه ،وٌؤتً لمصر فً صورة استثمار خاص (ؼسٌل أموال) ،ولكن فً مجاالت تزٌد من
إحكام الخناق على رقبة مصر ،وفً نفس الوقت أرباحها سرٌعة وخٌالٌة ،فاستثمروا فً الرهونات
والعقارات واألراضً الزراعٌةٌ ،متلكون أكبر قدر من أمبلك مصر ،وٌوجهون السٌاسة الزراعٌة
والصناعٌة كٌفما ٌشاءون فً نوعٌة المحاصٌل والمنتجات بما ٌتوافق مع حاجات مصانع أوروبا ،وفً نفس
الوقت تزٌد أسعار األراضً والمساكن فً مصر( ،)ٔ8ٓ9وهو ما ٌمثل عببا على المصرٌٌن الذٌن ال ٌكادون
ٌبلحقون الزٌادات فً األسعار مثل األجانب ،وتؽرٌهم شركات الرهن والبنوك األجنبٌة باالقتراض لتنمٌة
أراضٌهم أو مشارٌعهم ،وحٌن ٌتعثرون تقع هذه األمبلك فً ٌد األجانب.
وفً ذلك قال حافظ إبراهٌم سنة ٔ9ٓ9متحسرا على سقوط أمبلك مصر بٌد األجانب باسم استثمار،
وما هً إال شرك (فخ) ٌصطاد ضحاٌاه ،وهو نفس ما حذر منه عبد هللا الندٌم من قبل(ٓٔ.)ٔ8
(٘ٓ)ٔ8
-مصر فً القرن التاسع عشر ،مرجع سابق ،ص ٓٙ
()ٔ8ٓٙ
-الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي ،د.سامً عزٌز ،مرجع سابق ،ص ٖٕٗ
()ٔ8ٓ9
-انظر :دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً ،مرجع سابق ،ص ٕٓٙٙ ،
()ٔ8ٓ8
-المرجع السابق ،ص ٘٘
()ٔ8ٓ9
-المرجع السابق ،ص ٔٙ8 -ٙ
(ٓٔ)ٔ8
-دٌوان حافظ إبراهٌم األعمال الكاملة ،حافظ إبراهٌم ،مإسسة هنداوي ،القاهرة ،ص ٖٔ8ٗ -ٔ8
٘ٙ7
سوى شِ ـــرك ٌلقى به من تصٌـدا وما الشركات السود فً كل بلدة
ربما أول نوع من الخصخصة فً تارٌخ مصر ،وتسلٌم اقتصاد الدولة لٌد حفنة من األفراد األجانب،
كان فً فترة االستٌطان اإلؼرٌقً ثم االحتبلل الرومانً حٌن تسلم حفنة تجار أجانب مصر بجانب
أراضٌها ،وأنشؤوا وكاالت تجارٌة متعددة الجنسٌات كما تابعنا.
وفً عهد سعٌد ُزرعت بوادر خصخصة أمبلك مصر بالسماح بتملك األجانب لؤلراضً والعقارات من
جدٌد ،ولكن تعذر علٌهم تملك مشروعات الدولة مثل السكة الحدٌد ،ؼٌر أن كثرة الدٌون وفرت لهم الفرصة
فً عهد إسماعٌل وتوفٌق ثم عباس حلمً الثانً ،فحٌنها أهدرت الحكومة كثٌرا من أراضً ومشروعات
الدولة والمرافق العامة واألصول ببٌعها رسمٌا إلى األجانب ،وبثمن بخس.
ففً ٗ ٔ89با عت الحكومة قدرا عظٌما من أطٌان الوجه البحري "تفتٌش بسندٌلة" لشركة أجنبٌة بثمن
بخس ،ولم تعطها لشركة وطنٌة سعت لشرابها(ٔٔ ،)ٔ8وفً ٔ899تنازلت الحكومة عن حق استخراج الملح
والنطرون لشركة أجنبٌة ،وفً ٔ898باعت إلى شركة إنجلٌزٌة "بواخر البوسطة" الخدٌوٌة بمبلػ ال
ٌتجاوز ٓ٘ٔ ألؾ جنٌه ،واعترض السلطان العثمانلً رسمٌا على هذا البٌع ،وكثرت أقوال الناس لما فٌه
من الؽبن الظاهر على الحكومة(ٕٔ ،)ٔ8وفً ٔ898عقدت الحكومة اتفاقٌة مع شركة مختلطة لبٌع أطٌان
الدابرة السنٌة لهذه الشركة بمبلػ ٓٓ٘ ٙ,ٖٗٔ,جنٌه(ٖٔ.)ٔ8
▼ (مدبحة دنشواي)
أصدر االحتبلل قانونا سنة ٘ ٔ89بتوجٌه من كرومر ٌنص على عرض قضاٌا المنازعات بٌن األهالً
وجٌش االحتبلل على محاكم نصؾ عسكرٌة ال ُتستؤنؾ أحكامها بعد تؤكده من استمرار سخط الفبلحٌن علٌه
رؼم ما وصفها بـ"اإلصبلحات" ،وفً ظل هذا القانون تمت محاكمة دنشواي ،ٔ9ٓٙوهً على حد تعبٌر
إلٌنور بٌرتز فً كتابه "االستعمار البرٌطانً فً مصر"" :واحدة من أبشع ما روى التارٌخ من مظالم
العدالة البرٌطانٌة الشابنة ضد شعب مستعمر(ٗٔ ،")ٔ8كان هدفها معاقبة الفبلح أن رفع رأسه ورفع عصاه
على جنود االحتبلل من جدٌد بعد ثورة ٔ.ٔ88
والقصة أن جماعة من ضباط اإلنجلٌز خبلل صٌدهم للحمام فً قرٌة دنشواي بالمنوفٌة ،فً الٌوم
التعٌس ٔٔ ٌونٌو ٔ9ٓٙ؛ فؤصابوا الفبلحة أم محمد بنٌرانهم وتسببوا فً حرق جرن القمح ،فثارت ؼٌرة
(ٔٔ)ٔ8
-مصر فً القرن التاسع عشر ،مرجع سابق ،ص ٗ٘
(ٕٔ)ٔ8
-المرجع السابق ،ص ٓٙ
(ٖٔ)ٔ8
-المرجع السابق ،ص ٔٙ
(ٗٔ)ٔ8
-نفس المرجع ،ص ٕٔ
ٙ7ٙ
أهالً القرٌة ،ونادوا" :الخواجة حرق الجرن وقتل أم محمد".
وأطلق اإلنجلٌز الرصاص الحً فؤصابوا شٌخ الؽفر عامر عدس ،وشحاتة داود ،وعلً الدبشة ،وطارد
الفبلحون الؽاضبون الضباط اإلنجلٌز بالعصً والحجارة.
وخبلل هروب الضباط أصٌب أحدهم "الكابتن بول" بضربة شمس ومات ،وتركه زمبلبه وهربوا،
فتجمع حوله األهالً ،ولما عاد بعض الضباط اتهموهم بؤنهم سبب قتله ،وطاردوا األهالً ،وقبضوا على
بعضهم ،وهرب أحدهم وهو سٌد أحمد سعٌد فً بطن طاحونة ،وقتله فٌها اإلنجلٌز بؤبشع وسٌلة ،انهالوا
علٌه ضربا بالسونكً حتى قطعوه إربا.
وانعقدت محاكمة سرٌعا ،ومما ٌُدمً القلب تورط قضاة "مصرٌٌن" -بجانب اإلنجلٌز -فً هذه المحكمة
ٌرأسهم بطرس ؼالً ومن أعضابها فتحً زؼلول ،وفً المقابل ترأس فرٌق الدفاع عن الفبلحٌن أحمد
لطفً السٌد أحد حاملً لواء "مصر للمصرٌٌن".
وانتهت المهزلة إلى شنق واستشهاد ٗ من األهالً هم دروٌش زهران ،حسن محفوظ (٘ ٙسنة)ٌ ،وسؾ
سلٌم ،والسٌد عٌسى سالم ،وجلد 9آخرٌن ،وحبس ٕٔ ما بٌن سنة والمإبد مدى الحٌاة فً ٌوم ٌ ٕ8ونٌو
،ٔ9ٓٙوذلك بالرؼم من أن تقرٌر األطباء اإلنجلٌز أثبت أن وفاة الضابط بول سببها ضربة الشمس ولٌس
إصابة على ٌد األهالً ،ولكن هذه األحكام لم تكن عقابا على جرٌمة قتل ،ولكن على جرٌمة أشنع فً رأي
إنجلترا ،وهً تجرإ المصرٌٌن على أن ٌتحدوا اإلنجلٌز وٌرفضوا تدخلهم فً قرٌتهم.
ونكاٌة فً األهالً ،قرر اإلنجلٌز تنفٌذ األحكام وسط القرٌة وحشود األهالً وأقارب المحكوم علٌهم
ٌراع فً ذلك الستات أو األطفال أو األباء أو
ِ باإلعدام والجلد لٌشاهدوا قتل وجلد أحبابهم بؤعٌنهم ،ولم
األمهات ،و ُنفذ الحكم وسط وصرخات األهالً التً شقت عنان السماء.
أبطال دنشواي فً ثٌابهم الدالة على حالتهم من الفقر فً طرٌقهم للجلد والشنق عقابا على أن الفبلح رفع رأسه وعصاه على الؽازي
أول المشنوقٌن أكبرهم سنا وهو حسن محفوظ ،فاضت روحه وهو ٌدعو على عمدة القرٌة ألنه شهد
ضده ،وثانً المشنوقٌن أصؽرهم سنا ،وهو ٌوسؾ سلٌم ،صاح قبل أن ٌتؤرجح جسده الطاهر على الحبل
أمام أهله" :اللهم انتقم من الظالمٌن ..اللهم انتقم من الظالمٌن".
ٙ77
وعملٌة الشنق تجري كانت بجوارها عملٌة الجلد ،وإبراهٌم السٌسً ٌصرخ والكرباج ذي الثمانٌة أفرع
ٌنهال على ظهره العاري" :سقت علٌكم النبًٌ ،ا هو ،اشنقونً أحسن" ،حتى سقط مؽشٌا علٌه ،والكرباج
ٌستمر فً سلخ ظهره...ومجلود آخر هو عزب محفوظ ،لم ٌقل شٌبا ولحم ظهره ٌتقطع ،ولكن سمعوا له
صوتا كنباح الكلب ،وكؤنه فقد عقله من األلم.
آخر المشنوقٌن محمد دروٌش زهران ،وهو أكثرهم ثباتا ،حتى أنه لما تؤخرت عملٌة الشنق دقابق،
صاح فً الش َّناق" :شهل ٌا أخً شهل" ..وبعد لحظة ..هوى جسد زهران ،وهوت معه -كما قالت صحٌفة
"المإٌد" -قلوب الستات المتجمعات ،ولطمن الخدود ،و ُترك فترة فً الهواء ٌتؤرجح ٌمٌنا وشماال ،زٌادة فً
مكاٌدة األهالً.
وٌصؾ عباس محمود العقاد هول الحادثة على المصرٌٌن" :كنا أربعة نقرأ وصؾ التنفٌذ فً أسوان،
فؤؼمى على واحد منا ،ولم نستطع إتمام القراءة ،إال بصوت متهدج تخنقه العبرات"(٘ٔ.)ٔ8
وٌصفها األدٌب أحمد أمٌن" :وأذكر أنً قرأت الجرابد ٌوم محاكمة بعض أهالً دنشواي ،وكنت معزوما
فً اإلسكندرٌة على العشاء ،فبكى الحاضرون جمٌعا وتركوا مكانهم من ؼٌر عشاء"(.)ٔ8ٔٙ
وهكذا تزلزلت أرواح وعروق المصرٌٌن ،وخنقهم البكاء ،من أسوان إلى اإلسكندرٌة ،فً وقت واحد،
على الوطن الواحد الذي ٌُشنق أمامهم فً ٌوم الزلزلة العظٌم ،وبهزات لم تبارح وجدانهم حتى الٌوم.
وسرى نبؤ زهران وإخواته سرٌان مٌة الفٌضان فً أرض مصر الطٌبة ،فنسج له األدب الشعبً شعرا
تدفق من عروق المصرٌٌن الموصولة باستشهاد أوزٌر مظلوما وتصمٌم حور على أخد تاره من أهل
الشر ،فؽ َّنوا ملتاعٌن:
نفذ أهل الشر حكم الشنق والجلد والحبس فً ٖٕ مصرٌا شرٌفا لتهمة ؼٌر موجودة ،فً حٌن لم ٌتم
محاكمة الضابط الذي أصاب الفبلحة بالرصاص ،أو من قتلوا الفبلح فً بطن الطاحونة وجعلوا أكبر حتة
(٘ٔ)ٔ8
-التفاصٌل المذكورة حول الحادثة وأكثر منها فً كتاب "حكاٌات من دفتر الوطن" ،صبلح عٌسى ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،مشروع
مكتبة األسرة ،ٔ998 ،ص .ٖ٘ٗ -ٖٓ9
()ٔ8ٔٙ
-قاموس العادات والتقالٌد والتعابٌر المصرٌة ،أحمد أمٌن ،مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة ،ص ٔ٘8 -ٔ٘9
()ٔ8ٔ9
-مقدمة فً الفولكلور القبطً ،عصام ستاتً ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرة ،ص ٓٓٔٔٓٔ -
ٙ78
من جسده فً حجم القرش تعرٌفة ،بحسب وصؾ بعض المجبلت المعاصرة للمذبحة(.)ٔ8ٔ8
ولم تمر مذبحة دنشواي مرور الكرام كما مرت مذابح سابقة ُنصبت للمصرٌٌن خبلل الؽارات
والتحصٌل الظالم لئلتاوات وخبلل مقاومتهم لمظالم الممالٌك والترك وعٌلة محمد علً؛ فالمصرٌون بات
عددهم أكبر فً الصحافة ،والصحؾ انتشرت تحمل معها أخبار المذابح بعد أن كانت تجري وال ٌعلم
المصرٌون عما ٌحدث لبعضهم شٌبا ،وكثر عدد المصرٌٌن فً الحكومة لتدرجهم فً التعلٌم والوظابؾ،
سواء من عاببلت مٌسورة استطاعت إلحاق أوالدها بالتعلٌم العالً مثل سعد زؼلول ومصطفى كامل وأحمد
لطفً السٌد ،أو الفقراء الذٌن شقوا طرٌقهم بصعوبة فً سلك التعلٌم مثل أحمد حلمً وعباس العقاد ،جعلوا
ألسنتهم هً الكرابٌج التً ٌردون بها على كرابٌج االحتبلل بعد أن فقدوا مجددا الدرع والسٌؾ (الشرطة
والجٌش).
بدأ العقاب بداٌة من مقاطعة واحتقار من شاركوا اإلنجلٌز فً المذبحة مثل إبراهٌم الهلباوي الذي عانى
من احتقار المصرٌٌن له ،واعترؾ بذلك فً مذكراته()ٔ8ٔ9؛ فشعر بجرٌمته الشنٌعة ،وسعى لٌكفر عنها،
و ٌذكر دابما االحتبلل اإلنجلٌزي ،حتى فً وجه القادة اإلنجلٌز ،بـ"المؽتصب" ،و"الكرٌه" ،وأنهم لم ٌفٌدوا
مصر بشًء ،بل ؼدروا بها كؤكبر ؼدر حصل ألمة فً ذلك الزمان ،ودافع عن قتلة السردار اإلنجلٌزي
السٌر لً ستاك سنة ٕٗ.)ٔ8ٕٓ( ٔ9
ورؼم ذلك مات الهلباوي سنة ٓٗ ٔ9تشٌعه أبٌات حافظ إبراهٌم ٌقول عنه فٌها(ٕٔ:)ٔ8
قد لبسنا على ٌدٌك الحــدادا أنت جالدنــــا فال تنس أ َّنــــــــــــــا
َ
وٌحكً ٌحٌى حقً أن الهلباوي خطب بعد سنوات من المحاكمة فً سرادق لحزب األحرار الدستورٌٌن
ٌدعو لتخلٌص البلد من االحتبلل ،وقوبل بتصفٌق ،وفجؤة هتؾ شخص "ٌسقط جبلد دنشواي" ،فكؤنه أعاد
مشهد المذبحة للوجدان كؤنه الٌوم ،فإذا الناس ،بما فٌهم المقربٌن من الهلباويٌ ،هتفون ورابه بصوت
.
(ٕٕ)ٔ8
كالرعد "ٌسقط جبلد دنشواي" ،وكؤنه صوت مصر ٌنطلق من حلوقهم على رؼم إرادتهم
هناك مذابح فً التارٌخ على بشاعتها تضٌع وسط ؼبار التارٌخ وكثرة أحداثه ،هً أشد فً هولها وعدد
شهدابها من دنشواي ،ٔ9ٓٙمنها المذبحة التً نزؾ فٌها آالؾ المصرٌٌن الدم فً مصر والشام وأوروبا فً
()ٔ8ٔ8
-إن كانت جرابم اإلبادة الجماعٌة ال تسقط بالتقادم فؤٌن مقاضاة برٌطانٌا على مذابح دنشواي وقالع اإلسكندرٌة وؼٌرها من مذابح أجرتها
فً ثورة ٔ9وما بعدها؟
()ٔ8ٔ9
-مذكرات إبراهٌم الهلباوي ،تحقٌق عصام ضٌاء الدٌن ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرة ،ٔ99٘ ،ص ٕٔ8
(ٕٓ)ٔ8
-المرجع السابق ،ص ،ٔ98 -ٔ99ؤ8ٙ
(ٕٔ)ٔ8
-دٌوان حافظ إبراهٌم ،مرجع سابق ،ص ٓٔ8
(ٕٕ)ٔ8
-حكاٌات من دفتر الوطن ،مرجع سابق ،ص ٖ٘ٙٙ -ٖٙ
ٙ79
حرب لٌس لهم فٌها مصلحة ،كما نزفت عرقهم ،لما أعاد اإلنجلٌز السخرة والكرباج وحولوا اقتصاد مصر لحنفٌة
تمول الجٌش اإلنجلٌزي طوال الحرب من ٗٔ.ٔ9ٔ8 -ٔ9
و ٌؤتً الحدٌث عن ألوان قتل وخطؾ وأسر وتسخٌر المصرٌٌن فً هذه الحرب فً الحدٌث عن عودة
نظام السخرة لصالح الحرب.
من أعلى سٌتً األول ٌعبر طرٌق حور (حورس) الحربً فً سٌناء قادما من فلسطٌن منتصرا ٌقود أمامه األعداء أسرى ،ومن أسفل اإلنجلٌز ٌقودون
أمامهم المصرٌٌن كؤسرى حرب للعمل فً جر تنكات المٌاه وتمهٌد المكان للعدو اإلنجلٌزي عند طرٌق حور فً الحرب العالمٌة األولى ..نفس
الطرٌق ،مع اختبلؾ المصٌر ..شهقة التارٌخ ..فٌما أذنبنا ،فٌما قصرنا؟ (مصدر الصور :معبد الكرنك ،وموقع australian war
(ٖٕ)ٔ8
) memorial
تباهى كرومر بؤنه ألؽى السخرة والكرباج ،وحصل إلؽاء السخرة بالتدرٌج ال دفعة واحدة ،ؼٌر أنه ظهر
أنه مجرد إلؽاء مإقت لتهدبة خواطر المصرٌٌن بعد االحتبلل وألسباب أخرى ،فقد أعاد االحتبلل السخرة
بؤلعن أشكالها مثبل لحفر القنوات والخنادق والعمل بالمعسكرات البرٌطانٌة خبلل الحرب العالمٌة األولى.
وبتعبٌر بٌرتز فإن من المستحٌل أن نعطً فً مساحة ضٌقة صورة كاملة عما فعله البرٌطانٌون فً
مصر أثناء الحرب ،ولكن لعل بعض األمثلة توضح الحالة التً أثارت كراهٌة الحكم البرٌطانً كراهٌة
ٓٙ8
عامة ،كما أثارت ضده الضجر الواسع وخلقت التؤٌٌد العام للحركة الوطنٌة فً .)ٔ8ٕٗ(ٔ9ٔ9
ففً إحصابٌة نشرها لٌفتننت كولونٌل إلجود ( Elgoodكومندان الجٌش اإلنجلٌزي ببورسعٌد) عام
ٕٗ ٔ9فً كتابه "مصر والجٌش" برر إعادة السخرة سنة ٔ9ٔٙبؤنه بدونها لن تتوفر اإلمدادات البلزمة
للفرق االحتٌاطٌة وخاصة فً أعمال حفر الخنادق ونقل المإن.
كان الحصار ٌضرب على جموع الرٌفٌٌن أثناء ذهابهم إلى األسواق ،ثم ٌرسلون إلى أقرب "نقطة
عمل" ،وبٌنما األؼلبٌة تقابل مصٌرها بالتسلٌم قاوم البعض ،وآخرون فروا إلى المناطق المجاورة رجاء
السبلمة ،ولكن كانت نهاٌة هإالء جمٌعا واحدة؛ فالمقاومة تخمد ،وٌقبض على الفارٌن ،ثم ٌسلمون إلى
ضباط القرعة ،وفً ٔ9ٔ9و ٔ9ٔ8الضؽط ٌزٌد وٌزٌد كلما اتسعت المعارك وطالت ،فقد دلت التجربة
على أنه لٌس هناك عمال أفضل من المصرٌٌن فً إقامة الجسور ومد السكك الحدٌدٌة على السواء ،وبدأ
الفبلحون ٌفرون من بعض القرى(ٕ٘.)ٔ8
وبهذا عادت "عٌشة المطارٌد" للمصرٌٌن لٌنضم االحتبلل البرٌطانً إلى ما قبله فٌها ،فلم ٌكن تخفٌؾ
قبضته عن الفبلحٌن فً بعض األوقات إال فترة استرخاء.
وبحسب إلٌنور بٌرتز أٌضا ،استولى السماسرة على الحمٌر والجمال التً ال تقوم بؽٌرها الزراعة،
واستولى مكتب اإلمدادات بنفس الطرق على المحاصٌل(.)ٔ8ٕٙ
وٌصؾ سعد زؼلول بدوره ما حصل فً مذكراته ،وٌقول إن المسبولٌن عن جمع الناسٌ" :تخطفون
الناس فً األسواق ،ومن الطرقات ،ومن المساكن فً القرى ،وٌحملونهم على أن ٌكتبوا طلبا بالتطوع فً
الحملة! ومن أبى من المخطوفٌن أن ٌختم ضُرب حتى ٌختم!" ،وٌضرب مثاال بؤنه فً أطسا" :جاءتهم قوة
من العساكر والخفراء ،وسقتهم إلى المركز مكبلٌن فً الحدٌد ،وهناك ضُربوا حتى ختموا!" ،وعدى الفُجر
كل الحدود بؤن "بعض األهالً فً فارسكور امتنعوا ،وقامت بٌنهم وبٌن العساكر مشاجرة ،أدت إلى إطبلق
النار علٌهم ،وقتلت ثبلثة نسوة فٌهم"(.)ٔ8ٕ9
وقاوم الفبلحون االنقٌاد للسخرة بكل وسٌلة؛ فٌما عاود اإلنجلٌز استعمال الكرابٌج ضد الرافضٌن،
وأخذوهم تحت تهدٌد السبلح ،بما فٌهم أطفال وشٌوخ فً السبعٌن ،بعد أن تباهوا أمام العالم بؤنهم ألؽوا
الكرباج( ،)ٔ8ٕ8ومنذ بداٌة الحرب تعالت الصٌحات فً طلب العمال المصرٌٌن ،لٌس فقط من الجبهة
المصرٌة ،بل من جبهات الحرب األخرى ،وذلك بعد أن أظهرت فرقة عمال مصرٌة أرسلت إلى
"مدروس" بالٌونان ٘ٔ ٔ9بناء على طلب قٌادة جٌش البحر المتوسط من الكفاءة ما سرى صٌته فً جمٌع
(ٕٗ)ٔ8
-دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً ،مرجع سابق ،ص ٕٙ
(ٕ٘)ٔ8
-نفس المرجع ،ص ٕ9 -ٕٙ
()ٔ8ٕٙ
-نفس المرجع ،ص ٕ9
()ٔ8ٕ9
-مذكرات سعد زؼلول ،تحقٌق عبد العظٌم رمضان ،ج ،8الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،ٔ989 ،ص ٔ89
()ٔ8ٕ8
-تطور الحركة الوطنٌة فً مصر ( ،)ٔ9ٖٙ -ٔ9ٔ8عبد العظٌم رمضان ،مكتبة مدبولً ،طٕ ،ٔ98ٖ ،ص ٙ9
ٔٙ8
المٌادٌن ،حسب اللورد لوٌد( ،)ٔ8ٕ9وذلك أٌضا بعد أن تفنن اإلنجلٌز وصحافتهم فً الحط من كفاءة المصرٌٌن
المصرٌٌن فً أعمال تخص تعمٌر بلدهم.
وباإلضافة إلى الفرق اإلضافٌة ،ج َّند االحتبلل ٓ ٔ9ألؾ مصري فً فرق المواصبلت بالجمال ،وقُدر
مجموع المصرٌٌن المجندٌن فً مختلؾ القوات بحوالً ملٌون مصري ،وهو عدد ضخم جدا.
واختطفت قوات االحتبلل عشرات اآلالؾ من المصرٌٌن تحت اسم زابؾ وهو "متطوعٌن" وشتتهم فً
عدة قارات ،فؤلقت بهم فً المعارك فً شبه جزٌرة جالٌوبلً على ضفة الدردنٌل عند تركٌا ،وفً العراق
وفلسطٌن وبلجٌكا وفرنسا إلخ ،فً أسوأ الظروؾ الصحٌة والؽذابٌة والمناخٌة وقلة التدرٌب(ٖٓ ،)ٔ8وتفرق
المصرٌون ،وتوفً وأصٌب الكثٌر منهم بالسبلح أو من المرض والكدح واإلهمال ،وؼاصت أجسادهم
الطاهرة لتدفن ٌتٌمة فً ثلوج فرنسا وأحراش العراق وجبال الشام.
ومن ؼٌر المعروؾ على وجه الدقة عدد الضحاٌا والمصابٌن المصرٌٌن فً الحرب أو بسوء المعاملة،
ومن القلٌل المنشور ٖٔ 9شهٌدا فً فرق المواصبلت بالجمال بسبب انعدام الوقاٌة(ٖٔ.)ٔ8
وٌحفظ لنا التارٌخ أنٌن األمهات والزوجات على هإالء فً نواحهم اآلسر الذي نقله ٌونس القاضً وسٌد
دروٌش من أفواههم فً القرى "ٌا عزٌز عٌنً"(ٕٖ:)ٔ8
وصارت مصر أسٌرة حرب بكل معنى الكلمة ،بناسها وزرعها وصناعتها وموانٌها ومواصبلتها ،وربع
ملٌون جندي برٌطانً وهندي وأسترالً ونٌوزٌلندي ٌدنسون أرضها ،بخبلؾ تسكٌن وإطعام وتشؽٌل
طوفان األوروبٌٌن والشوام واألرمن واللٌبٌٌن الفارٌن من ببلدهم خبلل الحرب ،وكثٌر منهم استؽل ستارة
اللجوء لنشر الجرابم والكبش والؽرؾ من "نهٌبة الدنٌا" مصر.
()ٔ8ٕ9
-نفس المرجع ،ص ٙ9
(ٖٓ)ٔ8
-انظر :تارٌخ الطبقة العاملة المصرٌة من ،ٔ9ٕ9 -ٔ9ٔ9أمٌن عز الدٌن ،دار الشعب ،القاهرة ،ص ٘ٙ -
(ٖٔ)ٔ8
-دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً ،مرجع سابق ،ص ٕ9
(ٕٖ)ٔ8
-أؼنٌة ٌا عزٌز عٌنً ،كلمات محمد ٌونس القاضً ،ألحان وؼناء سٌد دروٌش
ٕٙ8
ٌمٌن الناظر رسم للعمال المصرٌٌن ٌمهدون الطرق الوعرة فً صحاري مٌادٌن الحرب ،وعلى الشمال مصرٌون ٌتولون العمل الشاق فً معسكرات
(ٖٖ)ٔ8
) الحرب بفرنسا (المصدر :مكتبة الكونجرس ومتحؾ الحرب اإلمبراطوري
البلجبون األرمن ٌتدفقون وٌؽرسون أقدامهم فً مصر لٌحٌٌوا فً أمان وثراء فً الوقت الذي تنخلع أقدام المصرٌٌن منها لتحارب بدال عنهم فً
أوروبا خبلل الحرب العالمٌة األولى ،والجبون أوروبٌون ٌلهون آمنٌن بعد أن تدفقوا على مصر فً الحرب العالمٌة الثانٌة رؼم األزمة االقتصادٌة
(ٖٗ)ٔ8
)auroraprize التً خنقت المصرٌٌن حٌنها (الصور :صحٌفة دٌلً مٌل البرٌطانٌة وموقع
فى مذكرات د .عصمت سٌؾ الدول شهادة فبلح ممن عملوا فى الجبهة الفرنسٌةٌ ،حكى ٌونس عبد هللا
من قرٌة الهمامٌة مركز البدارى أسٌوط أنه سافر لفرنسا مع أكثر من ٓٓ٘ ،قسموهم إلى فرق لحفر
ً
متجمدا من البرد فحملته عربة ٌجرها بؽل إلى مكان مجهول، الخنادق تحت المطر والثلج ،ومات أحدنا
فؤضرب الفبلحون عن العمل ،وأخبروا ضابط مؽربً ٌشرؾ علٌهم بؤنهم ٌرٌدون العودة لببلدهم ،حضرت
قوة فرنسٌة ٌقودها جنرال قال لهم" :نحن نحارب وأوالدنا تموت وأنتم ترفضون العمل ..نحن نعرؾ
حالتكم قبل أن تحضروا إلى هنا ..حقٌقة أنكم متعبون لكنكم تعٌشون عٌشة اآلدمٌٌن ً
بدال من عٌشة الكبلب
التى كنتم تعٌشونها" ...عندبذ ثار أحدهم وضرب الجنرال الفرنسى بالكورٌك فشق صدره ،وفى لحظة
فتحت القوة الفرنسٌة النار على المجموعة فماتوا جمٌعًا ،عدا ٌونس الذي ظل أسبوعا ٌُعالج من جرحه بعد
(الرابط اإللكترونً فً قابمة المراجع)(ٖٖEgyptian labour corps, repairing the nebi Mosa rooad -)ٔ8
(Egyptian labor on dock in Franceالرابط اإللكترونً فً قابمة المراجع)
(ٖٗ( )ٔ8الرابط اإللكترونً فً قابمة المراجع)ARMENIANS THANK PEOPLES OF THE MIDDLE EAST -
Egyptian camp during World War II,Dailymailonline,ٔٔ- ٙ- ٕٓٔ9
ٖٙ8
أن أقنع الضابط المؽربً الفرقة الفرنسٌة بتركه(ٖ٘.)ٔ8
"التبرعات" ..بداٌة من االحتبلل اإلنجلٌزي ستكون آداة من أدوات نزح المٌزانٌة والجٌوب المصرٌة،
إما جبرً ا مثل األموال التً ٌؤخذها االحتبلل ؼصبا من الحكومة باسم تبرعات خبلل حروبه ،أو اختٌارا
بتسلٌط العاطفة على المصرٌٌن لٌتبرعوا للٌبٌا وفلسطٌن وسورٌا وأندونٌسٌا واألرمن وأوروبا وكل من
كان.
وبحسب إلٌنور بٌرتز ،أجبر االحتبلل الحكومة على أن تدفع ٘ ٖ,ملٌون جنٌه ،مساهمة منها ]إتاوة[ فً
نفقات الحرب العالمٌة األولى ،وسلم مبلػ ٓٓ ٙألؾ جنٌه إلى الصلٌب األحمر البرٌطانً ،وهو مبلػ فرض
إجبارٌا على القرى فً مصر والسودان( ،)ٔ8ٖٙوهذه األموال ٌشٌع البعض اآلن أنها "تبرعات" طوعٌة من
مصر لدول الحلفاء حتى ال تطالب بها ،ولتبٌٌض وجه االحتبللٌن اإلنجلٌزي والعلوي بؤن المصرٌٌن كانوا
مرتاحٌن وعندهم فابض من األموال فً عصرهم لدرجة التبرع ألوروبا ،وكذلك أن مشاركة المصرٌٌن فً
الحرب لم ٌكن جبرا تستحق مصر علٌه تعوٌضات ،وٌستحق اإلنجلٌز العقاب ،بل كان "تطوعا".
وأكد نفس المعلومات سعد زؼلول كشاهد عٌان فً مذكراته عن حوادث ماٌو ٗٔ ،ٔ9وأضاؾ أن
الحكومة بعد أن "سلبت من األمة ٘ ٖ,ملٌون جنٌه وقدمتها هدٌة للحكومة اإلنجلٌزٌة" ،سلمت األمة للفقر
وؼبلء األسعار ،فحددت أسعار القطن والمحصوالت بؤبخس األثمان -أي صاروا ٌبٌعون بؤقل أسعار -وفً
نفس الوقت حظرت علٌهم التصرؾ فً محصوالتهم قبل أن تؤخذ السلطة منها احتٌاجاتها ،وسلطت الحكام
]المسبولٌن[ على الناس ٌجمعون منهم األموال تحت أسماء التبرع للهبلل األحمر ،وٌوم فرنسا ،ومنكوبً
الحجاز ،وؼٌر ذلك ..واختتم "إن الناس حٌارى فً أمرهم وهللا لطٌؾ بهم"(.)ٔ8ٖ9
إذن ٌنزعون من عروق المصرٌٌن المال واألرواح والرجال بالكرباج والقتل إلؼاثة منكوبً برٌطانٌا
وفرنسا والحجاز وكل من كان ..فمن لمنكوبً مصر؟
وٌكتب زؼلول متعجبا ومتحسرا أن السلطان أحمد فإاد والوزراء برروا تقدٌم هذه المبلٌٌن لبرٌطانٌا
باسم تبرعات بؤنها "اعترافا بجمٌل برٌطانٌا العظمى التً حمت الببلد من الؽارات!" ،وأن الشعب لما علم
بذلك "استنزل علٌهم اللعنات"( ،)ٔ8ٖ8فقد سلبوا قوت الشعب وفً نفس الوقت طوقوا رقبته بجمٌل للؽازي.
(ٖ٘)ٔ8
-حول مصر والحرب العالمٌة األولى ،أحمد جمال ،صحٌفة األهرام ،السنة ٖٗٔ ،العدد ،ٗ8ٔ98بتارٌخ ٕٕٕٓٔ8 -ٔٔ -
*** أبناء هإالء الفالحٌن منذ ٕٗٔٓ بدأوا ٌحتفلون رسمٌا مهللٌن بمشاركة أجدادهم فً الحربٌ ،عدونها افتخارا كبٌراٌ ،فتخرون بؤن أجدادهم
ساقهم عدوهم كؤسرى حرب إلى جبهات قتال فً حرب فاجرة ،حرب باطل مع باطل ،ومن ٌرفع رأسه محتجا على هذا االستعباد ُتزهق روحه و ٌُلقى
جسده فً مدافن مجهولةٌ ،فتخر بعض األ حفاد بهذا وال ٌتجرأون خالل "االحتفال" على انتقاد برٌطانٌا وفرنسا أو مطالبتهما باإلقرار بالذنب
واالعتذار والتعوٌضاتٌ ! ...ا أمة ضحكت من جهلها األمم ..رؼم أنها جوهرة األمم.
()ٔ8ٖٙ
-دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً ،مرجع سابق ،ص ٕ9
()ٔ8ٖ9
-مذكرات سعد زؼلول ،تحقٌق عبد العظٌم رمضان ،ج ،8مرجع سابق ،ص ٔ89 -ٔ8ٙ
()ٔ8ٖ8
-نفس المرجع ،ص ٕٔٔٙ -ٔٙ
ٗٙ8
كما استولت برٌطانٌا على الرصٌد الذهبً لمصر ،فقصرت التداول على األوراق النقدٌة (الجنٌه الورق)
وألؽت العملة الذهبٌة ،وبُهت الناس وهم ٌرون العمبلت الذهبٌة تختفً من السوق وٌجبرون على استعمال
ورق ،واعتبروا ساخرٌن وهو ٌقلبون األوراق النقدٌة فً أٌدٌهم أن "الدنٌا قلت بركتها" ،فً حٌن كان ذهب
مصر محبوسا فً بنك إنجلترا التابع له حٌنها البنك األهلً المصري؛ فارتفعت األسعار أضعافا ،وزاد
الؽبلء( ،)ٔ8ٖ9خاصة وأن ؼذاء الفبلحٌن من محاصٌل ومواشً وردته برٌطانٌا لجٌوشها.
تابعنا كٌؾ استنزفت إنجلترا عشرات آالؾ الرجال من المصرٌٌن فً توسعاتها فً السودان ،كما
استنزفت أموالهم إلقامة مشارٌعها هناك ،وكٌؾ نزحت الرجال والمال خبلل الحرب العالمٌة األولى،
ونصل اآلن إلى فخ ..ٔ9ٗ8فكٌؾ تورطت مصر فً هذا الفخ؟
القصة تتضح أكثر ونحن نلمس تؽلؽل فكر تنظٌم اإلخوان المسلمٌن والقومٌة العربٌة فً مصر وإقناع
المصرٌٌن بتسخٌر بلدهم رجاال وماال لقضاٌا ؼٌرهم ،والتؾ دعاة المذهبٌن حول األحزاب والحكومة،
مستؽلٌن أحبلم حزب الوفد وفاروق فً زعامة العرب والمسلمٌن ،فقررت فً ٕٔ ماٌو ٔ9ٗ8قذؾ
الجٌش فً ساحة فلسطٌن ،وبدأت الحرب فعبل فً ٗٔ ماٌو.
أي أن إعداد الجٌش للحرب لم ٌؤخذ أكثر من ٌومٌن...فً حٌن أن األسرة المصرٌة "لما تحب تتفسخ فً
جنٌنة الحٌوانات" ٌلزمها أسبوع لتجهٌز نفسها.
وبحسب أحمد حمروش ،أحد قٌادات حركة الضباط األحرار ،فإنه قبل هذا التارٌخ لم ٌكن اتفاق بٌن
القوى السٌاسٌة حول دخول الحرب بالجٌش النظامً ،بل األرجح المشاركة بحرب عصابات من
المتطوعٌن ٌعاونهم رجال الجٌش بشكل ؼٌر نظامً ،باعتبار أن اإلسرابٌلٌٌن مجرد عصابات.
وعارض بعض الساسة ،ومنهم ربٌس الوزراء السابق إسماعٌل صدقً ،قذؾ الجٌش إلى الحرب ،قاببل
إنه ؼٌر مستعد وؼٌر مسلح بما ٌكفً ،وفً فلسطٌن سٌواجه العالم الؽربً الذي ٌدعم اإلسرابٌلٌٌن ،وبالمثل
كان موقؾ ربٌس الوزرا وقتها محمود فهمً النقراشً ..ولكن فجؤة ؼٌَّر النقراشً موقفه فً ٔٔ ماٌو،
وطلب عقد جلسة سرٌة للبرلمان لمناقشة األمر فً ٕٔ ماٌو ،وٌقول حمروش إنه لما اعترض فإاد سراج
الدٌن ،زعٌم المعارضة الوفدٌة فى مجلس الشٌوخ ،وإسماعٌل صدقً ،خشٌة أن ٌتعرض الجٌش للطعن من
الخلؾ ،طمؤنهما النقراشً بؤن العصابات الٌهودٌة ضعٌفة ،واإلنجلٌز ٌإٌدون الحرب علٌها ،وسٌكون األمر
للجٌش "نزهة"(ٓٗ.)ٔ8
وعلق نجٌب محفوظ على ذلك وهو ٌستعٌد الذكرى المرَّ ة بؤن الدافع األكبر للحرب كان المظاهرات
()ٔ8ٖ9
-انظر :الحركة القومٌة العربٌة فً القرن العشرٌن ،هانً الهندي ،مرجع سابق ،ص ٗ ،ٔٙوموقع البنك المركزي المصري على اإلنترنت:
"نبذة تارٌخٌة عن تطور النقود فً مصر"
(ٓٗ)ٔ8
-انظر :أسرار دخول مصر حرب فلسطٌن "الحلقة األولى" ،محمود صبلح ،مجلة األهرام العربًٕٓٔ9-ٔٓ-ٕ8 ،
٘ٙ8
والتؤجٌج والتعببة النفسٌة التً ضؽطت لدخول الحرب ،معتبرا أن الحكومة "خدعت الشعب" ،وهً تطمؤنه
بؤن الجٌش قادر على دحر هذه العصابات ،رؼم عدم تؤهٌله بؤي شكل من األشكال.
وٌصؾ حمروش حال الجٌش حٌنها بؤنه ٌعانى من نقص التسلٌح ،فلم تكن برٌطانٌا أمدته باألسلحة التى
طلبها ،وهو بعٌد عن خوض المعارك منذ سنوات طوٌلة ،لٌس به نظام التشكٌبلت ،أي أن أسلحته منفصلة
ال تنسٌق بٌنها ،وتدرٌبه على المناورات قاصر ،ومنذ أن سٌطر اإلنجلٌز على الجٌش لم ٌرى الناس طوابٌر
الجٌش إال فى مواكب المحمل النبوى والجنازات ،ورؼم ذلك نجحت الدعاٌة الجارفة فً إشعال الحماس
للقتال(ٔٗ.)ٔ8
وال ٌخفى أن المظاهرات والتعببة والدعاٌة كان ٌقودها الجمعٌات والصحؾ السلفٌة واإلخوانٌة
والقومٌون العرب ،وانجرؾ لها الؽافلون.
والحرب جاءت على هوى فاروق ،فقد ٌنتصر الجٌش وٌصبح زعٌما ،وٌسكت تلك المظاهرات التً
تدوي منذ أشهر فً الشوارع تحتج على فساد رجال الحكم والؽبلء الذي دفع بعض الجنود إلى وضع أرؼفة
الخبز على سناكى بنادقهم أثناء المظاهرات(ٕٗ.)ٔ8
وقضت الخطة العربٌة بؤن ٌتقدم الجٌش المصري بسرعة حتى ٌافا فً فلسطٌن على بعد ٕٓ كم من تل
أبٌب ،وهناك تلتقً الجٌوش العربٌة القادمة من الشرق (األردنٌة والعراقٌة) ،ومن الشمال (السورٌة
واللبنانٌة) ،وبذلك تكون تل أبٌب محاصرة و ُتجبر على التسلٌم وطرد قواتها وتنصٌب الحكومة الفلسطٌنٌة
الشرعٌة التً تشكلت قبل قرار الحرب.
ولكن ..لم تنفذ معظم الجٌوش الخطة الطموحة ،أما الجٌش المصري فنفذ دوره فٌها ،وتوؼلت قواته
بسرعة فً فلسطٌن مستخدمة الطرٌق الساحلً لتستولً على المستعمرات الٌهودٌة(ٗٗ ،)ٔ8واتضح فٌما بعد
أن حكام سورٌا والعراق وحتى عبد الرحمن عزام أمٌن عام الجامعة العربٌة لم ٌكونوا متفقٌن على خطة
وال قرار سٌاسً ٌحدد الهدؾ من الحرب ،وتركوا الجٌش المصري لمصٌره.
وفً مذكراته ،قال المشٌر طه الهاشمً إنه خبلل اجتماعه فً دمشق دٌسمبر ٔ9ٗ9مع اللوء إسماعٌل
صفوت قابد القوات العربٌة المقرر مشاركتها فً الحرب ،تساءل :أنا ال أدري ما هً المهمة التً أنٌطت
بً؟ هل القصد إشعال النار فً فلسطٌن حتى ال تنطفا لؽرض سٌاسً ،أم القصد القضاء على الصهٌونٌة
(ٔٗ)ٔ8
-انظر :نفس المرجع
(ٕٗ)ٔ8
-انظر :المرجع السابق
(ٖٗ)ٔ8
-مصرع كلٌوباترا ،أحمد شوقً ،مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة ،القاهرة ،ص ٔٔ
(ٗٗ)ٔ8
-هنري كورٌٌل -األسطورة والوجه اآلخر ،د.حسٌن كفافً ،مرجع سابق ،ص ٗٗٔٔٗ٘ -
ٙ8ٙ
فً فلسطٌن؟
وهنا اختلفت اإلجابات ،ففً حٌن قال ربٌس الوزراء السوري وأحد القومٌٌن العرب ،جمٌل مردم ،إن
الهدؾ األول هو المقصد ،احتج على ذلك الربٌس السوري شكري القوتلً -من القومٌٌن العرب أٌضا-
وطالب بالهدؾ الثانً الذي تم إعبلنه لشعوب المنطقة ،وفً اجتماع آخر فً دار عزت دروزة ]المفكر
الفلسطٌنً وأحد القومٌٌن العرب المتبنٌٌن السخرٌة من الحضارة المصرٌة لصالح القومٌة العربٌة[ فً
فبراٌر ٔ9ٗ8كرر إسماعٌل صفوت نفس السإال أمام أمٌن الحسٌنً وعبد الرحمن عزام ،فلم ٌعطه األخٌر
جوابا شافٌا(٘ٗ.)ٔ8
وهكذا كان من اصطنعوا القومٌة العربٌة ،ثم سوقوها للناس خبلل الثبلثٌنات واألربعٌنات على أن من
أهدافها إنقاذ فلسطٌنٌ ،لقون بالجنود والشعوب الؽافلة عامة فً أتون معركة لٌس لها هدؾ سوا إشعال
األوضاع لمصالح وحسابات خاصة بهم هم ومن ورابهم من تنظٌمات سرٌة عالمٌة.
وكم هو مثٌر لئلشفاق والؽٌظ منظر الجنود والمتطوعٌن المصرٌٌن وهم ٌمرون بجانب القوات
البرٌطانٌة التً تحتل ببلدهم وٌتركونها خلفهم قابعة فوق أرضهم لٌذهبوا إلى فلسطٌن ٌهبونها دمابهم
وشبابهم ..وكم هو مثٌر لئلشفاق وخبط الكؾ على الكؾ منظر الشباب المصري وهو ٌترك بلده ومستقبله
لكً ٌنقذ فلسطٌن ،فً الوقت الذي تترك طوابٌر الشباب الفلسطٌنً بلدها لبلحتبلل اإلسرابٌلً وتذهب إلى
مصر تختبا بداخلها وتتنعم بثرواتها وأمانها ،ثم ٌهزأ البعض وٌسخر من الشباب المصري بعد الحرب
بحجة أنهم "الجٌش المهزوم" ،وأنهم "من ضٌع فلسطٌن".
فلٌس كلمات تصؾ هذه المشاهد الخارجة عن المنطق سوا أن النكبة الحقٌقٌة لم تكن نكبة فلسطٌن التً
وجد أبناإها ممن تركوها ألؾ بدٌل لها ،ومن بداخلها وجدوا ألؾ معٌن لهم ،بل هً نكبة جدٌدة لمصر،
والعقاب الذي ح َّل بها مرة أخرى لما ضٌَّع بعض أبناإها -خاصة المتعلمٌن -نعمة الشفاء والنهوض
وشروق ماعت التً هٌؤها لها هللا فً ثورة ٔ9ٔ9لتعالج جراحها وتعٌدها لطرٌق النور الصحٌح الذي
ضاع منها منذ توطٌن قبابل شعوب البحر قبل ٖ آالؾ عام.
فتشتتوا فً ألؾ طرٌق ،وسلموا بؤٌدٌهم مصر أسٌرة مرة أخرى لآلخرٌنٌ ،متصون خٌرها ودمابها
وذاكرتها ،وٌتركونها تبكً وحٌدة فً نهاٌة المشوارٌ ،ضحك حولها من استنزفوها ،منها وعلٌها ،وهم
ٌجلدونها بكرابٌجهم ،وٌصرخون فً وجهها :أنتً من ضٌعتٌنا وأنتً الواجب علٌكً أن تفعلً لنا كذا وكذا،
وأنتً وأنتً وأنتً !...
قالها المتنبً بعد زٌارته لمصر( ،)ٔ8ٗٙوسخر فٌها من اإلخشٌدٌٌن والمستوطنٌن فً مصر ،وإن ما ٌصدق
(٘ٗ)ٔ8
-انظر :الحركة القومٌة العربٌة فً القرن العشرٌن ،هانً الهندي ،مرجع سابق ،ص ٗ98 -ٗ9ٙ
()ٔ8ٗٙ
-مع المتنبً ،طه حسٌن ،مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة ،القاهرة ،ص ٕ98
ٙ87
على المصرٌٌن فً هذه الحرب التً ٌإخذ فٌها دمهم ومالهم وأرضهم طوعا -باسم الدٌن والعروبة -بعد أن
كانت تإخذ ؼصبا ،فٌجري االستعباد بالمزاج بعد أن ٌكان ٌجري بسٌؾ اإلجبار ،ربما أن ٌكون البٌت:
نهضت اللؽة العربٌة على ٌد أزهرٌٌن وأدباء مثل محمود سامً البارودي وحافظ إبراهٌم وأحمد شوقً
وطه حسٌن ،فٌما سماه أهل األدب "اإلحٌاء والبعث" ،حتى انتشرت بشكل لم ٌحدث من قبل فً مصر ،وفً
المقابل تراجعت خطوات جدٌدة اللؽة المصرٌة تحت وطؤة انتشار التعلٌم وكثرة الملتحقٌن بالمدارس
والجامعات التً ن َّفرت طبلبها من استخدام "العامٌة المصرٌة" ،وصار من ٌحب االحتفاظ بما بقى من
اللس ان المصري وكلماته الراسخة فً األرٌاؾ والحارات ٌنهره "المثقفون" ،لٌقولوا له إن هذا كبلم
"الرعاع " ،و"الفبلحٌن" ،و"الجهلة" ،و"الناس البلدي" ،رؼم أنه أعذب الكبلم وأسرعه فً الوصول لؤلفهام
والقلوب والتعبٌر عن المعنى المقصود.
وكلما سار مشوار التعلٌم ،كلما سقطت فً الطرٌق كلمات مصرٌة لتحل محلها كلمات عربٌة فصحى أو
كلمات إنجلٌزٌة أو فرنسٌة من باب إظهار "التمدن" ،و"الثقافة".
بل حتى لو نطق المصري كلمات عربٌة بالفصحى أو كلمات إنجلٌزٌة أو فرنسٌة بطرٌقة تناسب مخارج
الحروؾ الفطرٌة فً حلقه سخروا منه ،بالرؼم من أن العربً أو اإلنجلٌزي أو الفرنسً إن نطق الكبلم
المصري بطرٌقة ؼٌر صحٌحة بما ٌناسب مخارج الحروؾ الفطرٌة فً حلقه ال نسخر منه ،بل نرحب بؤنه
مجرد عرؾ الكبلم المصري وتحدث به ..فلماذا نسخر من أنفسنا ونجبر حلوقنا أن تتلوى لتنطق لؽات
ؼٌرنا بطرٌقتهم ال بطرٌقتنا فً حٌن لهم الحرٌة لٌنطقوا كبلمنا بطرٌقتهم؟
هو مشوار اضطهاد واؼتٌال لؽة ..وإبادة هوٌة ...على ٌد أهلها قبل أعدابها.
واختلق مثقفون عرب ومصرٌون ما اشتهر باسم "المعركة بٌن اللؽة العربٌة واللؽة العامٌة" بٌن أدباء ال
ٌعترفون بؤدب إال لو كان بالعربٌة الفصحى ،وبٌن من ٌرون أنه ال وصول حقٌقً للمصرٌٌن وال تعبٌر
سلٌم عن حٌاتهم وما فً صدورهم إال بالمصرٌة الدارجة ،وهً صورة من الصراع القابم بٌن الهوٌة
المصرٌ ة وتٌار القومٌة العربٌة لمسناه فً دستور "الحركة العربٌة السرٌة" (الكتاب األحمر) وهو ٌدعو إلى
محاربة كل من ٌتحدث بالعامٌة.
وبالتزامن ،بقصد أو بدون ،هبط التقوٌم القبطً بما ٌحمله من شهور مصرٌة عرٌقة من مكانته الرسمٌة-
ألول مرة فً التارٌخ -فبعد أن معتمدا رسمٌا إلى جانب التقوٌم الهجري ح َّل فً ٓٓ ٔ9محله التقوٌم
اإلفرنجً المٌبلدي من جدٌد ،وأصبح استخدام الشهور المصرٌة قاصرا على أهل الرٌؾ الرتباطه
بالزراعة واألعٌاد القومٌة القدٌمة كشم النسٌم وعٌد رأس السنة المصرٌة "النٌروز" ،وكذلك داخل الكنٌسة.
ٙ88
❹❷ عقدة الخواجة "طالع نازل"
واصلت فتنة عقدة الخواجة نشر خبلٌاها السرطانٌة فً الجسد المصري أٌام اإلنجلٌز ،خاصة مع تزاٌد
عدد المتعلمٌن والمبتعثٌن للخارج ،ووصول التؤثٌرات األجنبٌة إلى األرٌاؾ ،وجرى مثبل ما رأٌناه فً
رواٌة "قندٌل أم هاشم" لٌحًٌ حقً حٌن عاد الدكتور إسماعٌل من بعثته فً ألمانٌا ساخطا متؤففا من أهل
حارته فً حً السٌدة زٌنب ،قبل أن ٌعود لصوابه وٌعرؾ أن دوره بعد أن صار متعلما أن ٌساهم فً ترقٌة
الحارة وٌعالج مشكبلتها بعلمه ال أن ٌحقر من شؤنها ،وآخرون لم ٌفعلوا مثله ،بل ترفعوا عن أهلهم
وانخرطوا فً "التفرنج" وصاروا كالمسخ.
فً المقابل زادت صبلبة مصرٌٌن آخرٌن وتمسكهم بمصرٌتهم لما اطلعوا على حٌاة األجانب داخل أو
خارج مصر ،وسخروا ما استفادوه من علم ومكانة لصالح المصرٌٌن ،مثلما فعل رفاعة الطهطاوي وعبد
هللا الندٌم ،من قبل ،ومثلما فعل بعد االحتبلل اإلنجلٌزي محمد حسٌن هٌكل الذي دفعه حنٌنه لوطنه وهو
ٌدرس الدكتوراة فً بارٌس إلى أن ٌكتب رواٌة "زٌنب" لتكون أول رواٌة حدٌثة تعلو بالفبلحٌن على
السطح ،ونشرها ٗٔ ٔ9بإمضاء "مصري فبلح" ،وبرر فً مقدمة الرواٌة سبب اختٌار هذه الصفة بؤنه
كان ٌشعر بؤن "أبناء الذوات" ]العاببلت التركٌة وؼٌرها من أصول أجنبٌة[ ممن ٌزعمون ألنفسهم حق
حكم مصر ٌنظرون إلٌنا جماعة المصرٌٌن وجماعة الفبلحٌن بؽٌر ما ٌجب من االحترام ،فؤردت أن
استظهر على ؼبلفة الرواٌة التً قدمتها للجمهور ٌومبذ ،والتً قصصت فٌها صورا لمناظر رٌؾ مصر
وأخبلق أهله أن المصري الفبلح ٌشعر فً أعماق نفسه بمكانته ،وبما هو أهل له من االحترام ،وأنه ال
ٌؤنؾ أن ٌجعل المصرٌة والفِبلحة شعارا له ٌتقدم به للجمهورٌ ،تٌه به وٌطالب الؽٌر بإجبلله
واحترامه(.")ٔ8ٗ9
ووصلت أعلى درجات تحدي الفبلحٌن ممن نجوا من السقوط فً فتنة "عقدة الخواجة" فً ثورة ،ٔ9ٔ9
واعتزاز سعد زؼلول بؤنه فبلح ،وجسدت السٌنما حالة المصرٌٌن الثابتٌن والمصرٌٌن التاٌهٌن فً فٌلم
"األفوكاتو مدٌحة" (إنتاج ٓ٘ )ٔ9عبر محمد (ٌوسؾ وهبً) الذي رؼم أنه حصل على تعلٌم عال لكنه ظل
ٌفخر بؤهله فً القرٌة وأصله الفبلحً وٌخدمهم بعلمه ،فً مقابل أخته مدٌحة (مدٌحة ٌسري) التً حولها
اختبلطها باألؼنٌاء والمتفرنجٌن فً الجامعة إلى ناقمة على القرٌة قبل أن تعود إلى صوابها وأصلها الطٌب
حٌن تخلى عنها المتؤوربون فً محنتها واحتضنها أبناء القرٌة.
ربما لم نشعر كمصرٌٌن حتى الٌوم بحجم المفاجبة التً زلزلت االحتبلل اإلنجلٌزي وجالٌاته حٌن هبَّت
ثورة ٔ9ٔ9من إسكندرٌة إلى أسوان ،بنفس صٌحات ثورة ٔ ٔ88مصر للمصرٌٌن ل ُتسقط كل جهوده فً
فحولته هشٌما تذروه الرٌاح.
تصفٌة الثورة األولى والشخصٌة المصرٌة كتمثال هش سقط على أرض صلبة َّ
()ٔ8ٗ9
-زٌنب ..مناظر وأخبلق رٌفٌة (رواٌة) ،محمد حسٌن هٌكل ،دار المعارؾ ،ط ٘ ،القاهرة ،ٔ99ٕ ،ص 8
ٙ89
فنعم َّأثرت الحمبلت ضد ثورة ٔ ٔ88فً بلبلة األفكار ،وتورط مصرٌون فً تحمٌل عرابً مسبولٌة
االحتبلل اإلنجلٌزي ،نعم تورط مصرٌون فً التقلٌد األعمى للفرنجة بسبب تحكم المحتلٌن فً التعلٌم
والصحافة ،لكن لم ٌكن هذا النوع من الثقافة المسمومة ؼطى مساحات واسعة من مصر ،فبقً منها من
تملإه النخوة لٌقول لبلحتبلل :ال ،وتملإه القومٌة المصرٌة لٌقول :مصر للمصرٌٌن.
ولعل السر أٌضا فً "الزعٌم" ،فطوال تارٌخ االحتبلالت والشعب المصري "مطلوقة فً عروقه النار"،
ٌفور وٌقاوم أحٌانا ،وٌخمد أحٌانا ،وأعلى درجات الفوران تلك التً ٌجد فٌها زعٌما من روحهٌ ،تصدر
المشهدٌ ،نظم الصفوؾ ،وٌقود شعبه بكل جسارة ،ال ٌنتظر من المحتل وعدا وال ٌخشى منه وعٌدا.
بدأت الحكاٌة بؤنه بعد إعبلن الهدنة التً أطفؤت نٌران الحرب العالمٌة ٔ9ٔ8وإعبلن الربٌس األمرٌكً
وودرو وٌلسون مبدأ حق تقرٌر المصٌر اقترح رشدي باشا ،ربٌس الوزراء ،أن ٌذهب إلى لندن لعقد
اجتماع مع وزارة الخارجٌة البرٌطانٌة وتقدم مطلب االستقبلل بعد أن قدمت لها مصر الؽالً والنفٌس فً
الحرب ،فلحس البرٌطانٌون -كالعادة -كبلمهم عن تقدٌر دور مصر فً الحرب ،ورفضوا االقتراح؛ فتشكل
وفد ؼٌر حكومً برباسة سعد زؼلول ،وهو وقتها نابب ربٌس الجمعٌة التشرٌعٌة المعطلة (البرلمان)،
لعرض مطالب مصر فً االستقبلل على مإتمر الصلح (مإتمر بارٌس للسبلم) الذي عقده المنتصرون سنة
ٔ9ٔ9لتقسٌم ؼنابم الحرب ،ووضع أسس النظام العالمً الجدٌد تحت رعاٌة بٌوت المال العالمٌة التً
أججت الحرب.
لكن بدأ اإلنجلٌز فً التضٌٌق علٌه لمنع سفره بؤن رفضوا إعطاء الوفد جوازات السفر ،واعتبروه ال
ٌمثل المصرٌٌن ،وردا على الحمق اإلنجلٌزي احتشد المصرٌون فً كل حارة وقرٌة لجمع توقٌعات تإكد
أنهم ٌكلفون أعضاء الوفد بؤن ٌكونوا وكٌبل عنهم فً الحدٌث أمام المإتمر ،وجمعوا التبرعات إلعانة الوفد؛
تكرارا لما فعلوه عند تفوٌض أحمد عرابً أمام الخدٌوي.
وجاء فً نص الورقة الموقع علٌها" :نحن الموقعٌن على هذا أنبنا حضرات سعد زؼلول باشا ،وعلى
شعرواى باشا ،ومحمد محمود باشا ،وعبد العزٌز فهمى بك ،ومحمد على بك ،وعبد اللطٌؾ المكباتى بك،
وأحمد لطفى السٌد بك ،ولهم أن ٌضموا إلٌهم من ٌختارون ،فى أن ٌسعوا بالطرق السلمٌة المشروعة حٌثما
وجدوا للسعى سبٌبل ،فى استقبلل مصر استقبلال تاما(.")ٔ8ٗ8
وتقدم مصرٌون مسٌحٌون بقابمة أسماء منهم لٌنضموا إلى سعد وٌشاركوا الشرؾ الوطنً -كً ال
ٌتخذها االحتبلل حجة أن المسٌحٌٌن قابلٌن باالحتبلل -ومنهم واصؾ ؼالً ابن بطرس ؼالً الذي اؼتٌل
فً ٓٔ ،ٔ9وكان واصؾ فً بارٌس ،فذهب إلٌه سفٌر برٌطانٌا ببارٌس خصٌصا لٌنزع الصفة الوطنٌة
الجامعة عن تحرك المصرٌٌن ضد االحتبلل ،وقال له" :كٌؾ تضع ٌدك فً ٌد من قتلوا أباك؟ فقال
()ٔ8ٗ8
-ثورة ٔ9بعد تسعٌن عاما ،األقباط والثورة ،جابر عصفور ،جرٌدة الشروقٌ ٔ8 ،ونٌو ٕٓٓ9
ٓٙ9
واصؾ :هذا خٌر لً من أن أضع ٌدي فً ٌد من قتلوا وطنً"(.)ٔ8ٗ9
أرسل وزٌر الخارجٌة البرٌطانً آرثر بلفور إلى المندوب البرٌطانً وٌنجت فً مصر رسالة فً ٖٕ
نوفمبر ٌ ٔ9ٔ8طالبه بمنع الوفد الشعبً من السفر لبارٌس بؤٌة وسٌلة ،وباستخدام الشدة ،واصفا طلبات
الوفد باالستقبلل التام بؤنها "متطرفة" ،واعتبر أن المصرٌٌن ؼٌر مإهلٌن للحكم ،وبالفعل نفذت القوات
البرٌطانٌة وعٌده فحاصرت الوفد لمنع التوكٌبلت وهددت العمد واألعٌان الذٌن ٌجمعونها(ٓ٘ ،)ٔ8حتى وصلت
إلى سفك الدماء ببل هوادة لما انفجرت الحركة الوطنٌة بعد ذلك.
ولجؤوا لوسٌلة أخرى لوأد الحركة الولٌدة وهً إخفاء زعمابها ،فقبض اإلنجلٌز على زؼلول وٖ من
أعضاء الوفد ونفوهم إلً مالطة فً 8مارس ،ٔ9ٔ9وكتموا الخبر عن الشعب بتحكمهم فً الصحافة حتى
ٌوم ٔٔ مارس كً ال ٌثور ؼضبه عند عملٌة النفً.
بدأت النشر صحٌفة "اإلٌجٌبشٌان مٌل" ،وبعده نشر اإلنجلٌز تحذٌرا للشعب فً الصحافة من أن "الببلد
ال تزال تحت الحكم العسكري (المعلن منذ ٗٔ)ٔ9؛ ولن ٌُسمح باالجتماعات أو االحتجاجات العامة،
و ُسٌعاقب كل من خرج على هذا األمر" ،وبعد ٌومٌن صدر أن "أي شخص ٌتلؾ أو ٌخرب أو ٌعطل بؤٌة
وسٌلة السكك الحدٌدٌة أو المواصبلت التلٌفونٌة والتؽرافٌة أو ٌحاول أن ٌرتكب فعبل من هذه األفعال
بعرض نفسه ألن ٌُرمً بالرصاص(ٔ٘.")ٔ8
ورؼم ذلك عرض الشعب نفسه للرصاص ،خرجوا فً المظاهرات ،وأضرب موظفو الحكومة
والعاملون فً المهن األخرى ،وقطع ؼاضبون السكك الحدٌدٌة خبلل نقلها جنودا برٌطانٌٌن ،ووقعت
حوادث هجوم ضد جنود االحتبلل ،لقد ثارت جمٌع الناس فً كل مكان.
قتلت برٌطانٌا فً األٌام األولى للثورة ٓٓٓٔ مصري ،واجتاحت بؤسلحتها عدة قرى ،حتى جاء فً
الكتاب الذي أصدره زؼلول والوفد المصري فً بارٌس أن قرى أبٌدت عن بكرة أبٌها ،واعترؾ
س.هارمزورت أحد المتحدثٌن بلسان الحكومة البرٌطانٌة فً مجلس العموم بؤن من قُتل من المصرٌٌن
بلؽوا حوالً األلؾ ،وفً ٕٔ مارس نشر الجنرال بلفٌن تحذٌرا للمصرٌٌن فً منشورات أسقطتها
الطابرات أنه سٌعاقب على كل تخرٌب أو تدمٌر للسكك الحدٌدٌة بؤن ُتحرق القرى المجاورة لمكان
التخرٌب(ٕ٘ ،")ٔ8وأحرق فعبل عدة قرى فً تكرار لحرق القرى زمن االحتبلالت العربً والمملوكً
()ٔ8ٗ9
-مذكرات فخري عبد النور :ثورة ،ٔ9ٔ9دار الشروق ،طٔ ،القاهرة ،ٔ99ٕ ،ص ٕٔ
(ٓ٘)ٔ8
-دار المندوب السامً فً مصر ،ماجدة محمد حمود ،ج ٕ ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرة ،ص ٖٕٕ٘ -
*** ٌشتهر بلفور بٌن المصرٌٌن بؤنه صاحب الوعد المشبوم بعمل "وطن" للٌهود فً فلسطٌن ،لكن معظمنا ٌجهل دوره فً تقدٌم مصر "وطن"
لإلنجلٌز والجالٌات األجنبٌة باستمرار احتاللها واؼتٌال أي حركة وطنٌة تطالب باستقاللها حتى ؼاصت ٌداه وقدماه فً دماء المصرٌٌن خالل ثورة
، ٔ9ٔ9وهذا مما ٌجب أن نراجع أنفسنا فٌه أنه :لماذا نحفظ تارٌخ ؼٌرنا أكثر مما نحفظ تارٌخنا؟ فلماذا نعرؾ دور بلفور فً احتالل فلسطٌن وال
نعرؾ دوره المشبوم فً احتالل مصر؟
(ٔ٘)ٔ8
-دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً ،أحمد رشدي صالح ،فصل ترجمة كتاب االستعمار البرٌطانً فً مصر إللٌنور بٌرتز ،ص ٕ8
(ٕ٘)ٔ8
-نفس المرجع ،ص ٕ9
ٔٙ9
والعثمانً والفرنساوي.
وأعلن ببلغ رسمً آخر أنه "تقرر أن تزور القوات الحربٌة األجزاء القصوى فً الببلد لتعٌد تنظٌم
السلطات المدنٌة ،وتقبض على المعتدٌن ،وتتخذ أٌة خطوات تراها الزمة إلعادة النظام إلى نصابه" ،وفً
هذا إشارة إلى أن الثورة تلتهب فً كل قرى الببلد من أقصاها إلى أقصاها.
ونشرت "إٌجٌبشٌان مٌل" أنه فً ٕٗ مارس ألقٌت القنابل بالفعل على قرى ؼربً مدٌرٌة البحٌرة ،وفً
أول أبرٌل كانت ٔٙفرقة متحركة تعمل فً وجه بحري ،وحكم على ٔ٘ مصرٌا باإلعدام ونفذ الحكم فً
ٕ8منهم التهامهم بقتل ضابطٌن وخمسة جنود(ٖ٘ ،)ٔ8فً دنشواي جدٌدة وأكثر عنفا من سابقتها ،ونصبت
قوات االحتبلل مشانق المحاكم العسكرٌة فً أرجاء البلد ،ولم ٌفلت منها حتى رجال الشرطة الذٌن ساعدوا
الثوار ،ففً أسٌوط حكم باإلعدام على البكباشً محمد كامل محمد مؤمور البندر ،ونفذ فٌه الحكم ٓٔ ٌونٌو
،ٔ9ٔ9وحكم على ثابرٌن آخرٌن باألشؽال الشاقة(ٗ٘.)ٔ8
وهنا ..نتوقؾ عند واقعة مهمة تذكرنا بما حصل فً مذبحة اإلسكندرٌة ٔٔ ٌونٌو ٕ ٔ88التً هدفت
لتبرٌر وجود االحتبلل بؤنه لحماٌة األجانب من المصرٌٌن ،فإنه فً ٕٕ و ٕٗ ماٌو ٕٔ ٔ9حدثت
مصادمات بٌن المتظاهرٌن والبولٌس المحكوم إنجلٌزٌا والقوات البرٌطانٌة ،وداخل األحٌاء التً ٌسكنها
اإلٌطالٌون والٌونانٌون فوجا المصرٌون باإلٌطالٌٌن والٌونانٌٌن ٌطلقون علٌهم النٌران ،فوقعت اشتباكات
بٌنهم استشهد فٌها ٖٗ مصرٌا وقتل ٕٔ ٌونانٌا وٖ من جنسٌات أوروبٌة أخرى ،وبحسب فخري عبد
النور -أحد أعضاء الوفد حٌنها -فإن الشكوك تحٌط بؤن الضابط اإلنجلٌز "انجرام" مؤمور الضبط
باإلسكندرٌة له أصابع فً هذا الصدام ،خاصة وأن ونستون تشرشل تحجج بهذه الحادثة لتبرٌر استمرار
االحتبلل بقوله إن ببلده لو سحبت الجٌش البرٌطانً من القاهرة واإلسكندرٌة لتم القضاء على الجالٌات
األوروبٌة هناك(٘٘ ،)ٔ8وهكذا تتكرر أالعٌب االحتبلل وٌستمر فً استؽبلل المستوطنٌن األجانب سبلحا ضد
أهل البلد ،ومبررا لقتلهم واحتبللهم.
وكادت المذابح تصل لرقاب وصدور قادة الثورة ،فٌنقل عباس العقاد عن السفٌر األمرٌكً األسبق فً
مصر ،موتون هول ،ما ورد من شهادة له فً كتابه "مصر ماضٌا وحاضرا ومستقببل" ،إن اللبنً خطط لقتل
سعد زؼلول ورفاقه بإعدامهم بتهمة الثورة والخٌانة العظمى ،إال أنه من الواضح أن برٌطانٌا رفضت خطته
لحساب ما ،واكتفت بعملٌة النفً(.)ٔ8٘ٙ
وهو نفس ما جرى مع عرابً ..نفس الخطة ،نفس التهمة ،نفس المصٌر ،لنفس السبب ،أن كبل منهما قاد
الفبلحٌن أوالد الشمس لٌقولوا للمحتلٌن أوالد الظبلم ...ال.
(ٖ٘)ٔ8
-نفس المرجع
(ٗ٘)ٔ8
-مذكرات فخري عبد النور :ثورة ،ٔ9ٔ9مرجع سابق ،ص 9ٙ
(٘٘)ٔ8
-نفس المرجع ،ص ٕ٘ٔ ؤ٘8
()ٔ8٘ٙ
-سعد زؼلول سٌرة وتحٌة ،محمود عباس العقاد ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرة ،ٕٓٔ9 ،ص ٔٔٗ
ٕٙ9
استمرت االحتجاجات بؤشكالها المختلفة من إضرابات ومظاهرات من حٌن آلخر حتى نهاٌة ٕٔ،ٔ9
وقام اللنبً بمحاولة نهابٌة لٌحمل الحكومة المصرٌة على توقٌع معاهدة ،ولكنه فشل فً محاولته ،ومنع
اللنبً سعد زؼلول من أن ٌعقد اجتماعات سٌاسٌة ،أو أن ٌستمر فً نشاطه السٌاسً ،وهدده بالنفً ،وفً
ٖٕ دٌسمبر ألقى القبض علٌه ،ورحل إلى السوٌس لٌبعث إلى سٌبلن ،منفى عرابً الشهٌر.
وحٌن بلػ الخبر الناس ،احتشدوا فً مظاهرات حول بٌت األمة بالقاهرة ،ففرقها البولٌس المحكوم
بضباط إنجلٌز بعد استشهاد اثنٌن وإصابة ،9وقبض على ٘ من قٌادات الوفد منهم مصطفى النحاس.
ورؼم كل شًء ،ظلت الثورة "قاٌدة نار" ٖ سنٌن ،ففً ٕ٘ دٌسمبر ٕٔ ٔ9أرسل اللورد اللنبً التقرٌر
التالً إلى لورد كٌرزون" :القاهرة جمٌع المدارس مضربة ،إضراب موظفً الحكومة عام اآلن ،عدد القتلى
المصرٌٌن فً القاهرة ٔٔ ،وفً ٌوم ٖٕ قتلت الجماهٌر كهربابٌا أوروبٌا فقٌرا ٌسكن األحٌاء الفقٌرة ،عدد
المقبوض علٌهم حتى اآلن ،ٔ8ٙاإلسكندرٌة لم ٌحدث تؽٌٌر ،الموقؾ فً ٌدنا .بلػ المقبوض علٌهم حتى
اآلن ٕ89منهم ٕٖٕ صبٌا .وصل مندوبو حكومة جبللة الملك .منطقة القنال حدثت مظاهرات عنٌفة هذا
الصباح ،وسلمت المدنٌة آخر األمر إلى السلطات الحربٌة التً اضطرت إلى أن تطلق النار على الجموع
التً رفضت أن تنصرؾ ،الخسابر قتٌل وٖ جرحى مصرٌون ،وٌإٌد القوات الحربٌة ٓ ٙمن البسً الستر
الزرقاء من حرس السفن"(.)ٔ8٘9
بتعبٌر ٌحًٌ حقً لبرنامج "شرٌط الذكرٌات" فً التلفزٌون المصري فإن ثورة ٔ9ٔ9هً ثورة
االستقبلل فً كل شًء ،ولٌس فقط االستقبلل الحربً ،فقد سعى كافة المصرٌٌن فً كل المجاالت لتؤكٌد
هذا االستقبلل ،وإثبات جدارتهم إلدارة ببلدهم فً كافة النواحً.
ونلتقط أمثلة من هذا بما ٌسمح به المجال فً استعراض لمحات من نتابج الثورة على حٌاة مصر.
عرابً هو أول وزٌر حربٌة مصري منذ مبات السنٌن بفضل ثورة ٔ ،ٔ88وصار بطرس ؼالً أول
ربٌس وزراء مصري ،ولكن تعٌٌنه بعد حادثة دنشواي التً ترأس محكمتها الهمجٌة جعلت تعٌٌنه ٌظهر
كمكافبة من االحتبلل ،خاصة وأنه عمل سنٌدا لبلحتبلل منذ اصطؾ لجانبه فور معركة التل الكبٌر.
أما الوزارة التً جاءت بسعد زؼلول ربٌسا لها فالجدٌد أنها لٌست مصرٌة فقط فً ربٌسها ،ولكن األهم
أنها اختٌار مصري محض ،جاءت بها ثورة الشعب ولٌس اإلنجلٌز أو الخدٌوي األرناإوطً ،وجاءت بؤول
انتخابات حرة ،رأي الفبلحٌن فٌها واضح وحاسم ،فانتخبوه ربٌسا للوزارة بعد أن انتخبوه بدمابهم قبل
أحبارهم فً توكٌبلت التفوٌض له ربٌسا للوفد المتحدث باسم مصر فً مإتمر الصلح ببارٌس ،وٌشببها فً
()ٔ8٘9
-دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً ،مرجع سابق ،ص ٖٖٓٔ -
ٖٙ9
ذلك انتخابهم المباشر لعرابً حٌن فوضوه لٌطالب بحقوقهم أمام الخدٌوي األرناإوطً.
فرؼم كل ما فعلته برٌطانٌا من قتل ونفً وحبس وتقسٌم وإرهاب على مدى ٘ سنٌن ،إال أنه فً أول
انتخابات برلمانٌة تجري فً مصر ٌناٌر ٕٗ ٔ9فاز الوفد بؤؼلبٌة المقاعد ،وبرهنت جموع الناخبٌن أنها
كانت تشد أزر سعد زؼلول حتى ذلك المدى(.)ٔ8٘8
خرجت برٌطانٌا من الحرب العالمٌة األولى منتصرة ،فازداد بطشها بطشا ،وؼرورها ؼرورا ،وظنت
أن مصر دانت لها لؤلبد ،وتكتلت معها دول ؼربٌة فً الموافقة على فرض حماٌتها على مصر؛ ففوجبت
بانفجار ثورة ٔ9ٔ9التً أجبرتها على سحب الحماٌة المزعومة.
جاءت ثورة ٔ9ٔ9بؤول برلمان منتخب شعبٌا حقا فً انتخابات ٕٗ ٔ9التً جاءت بسعد زؼلول ربٌسا
للوزراء.
❹ دستور ٖٕٔ9
كان دستور ٕ ٔ88ثمرة من ثمرات ثورة ٔ ٔ88كؤحد مطالبها التً أصرت علٌها ،وهو تطور هاٌل
وقتها ،لكنه لم ٌركز على الحقوق الخاصة بالشعب المصري ،بل ركز على حقوق وواجبات نواب مجلس
النواب ،ومعظمهم ؼٌر مصرٌٌن فً الحقٌقة ،وطلبوا هذه الحقوق والواجبات لحماٌة نفوذهم ومنع الحاكم
من مصادرة األراضً التً سقطت فً حجورهم ،وجاء دستور ٖٕ ٔ9بعٌدا عن الطموحات الشعبٌة
الحقٌقٌة أٌضا ،وجرى تفصٌله ووسعد زؼلول فً المنفى ،إال أنه تضمن مٌزة أنه نص على أن مصر دولة
مستقلة ،وهو إن كان استقبلال صورٌا ،ولكنها المرة األولى التً ٌُعترؾ فٌها بؤن مصر دولة ؼٌر تابعة منذ
مبات السنٌن.
فقد نصت مادته األولى على :مصر دولة ذات سٌادة ،وهً حرة مستقلة ،ملكها ال ٌجزأ وال ٌنزل عن
شًء منه ،وحكومتها ملكٌة وراثٌة ،وشكلها نٌابً(.)ٔ8٘9
نشؤت المدارس أٌام محمد علً بشكلها الحدٌث ،وزادت أٌام إسماعٌل ولكن توفٌر التعلٌم ظل حسب
مزاج الحاكمٌ ،وفره أحٌانا وٌؽلق المدارس أحٌانا ،فؤلزم دستور ٖٕ ٔ9الدولة بتوفٌر التعلٌم األساسً
بصفة داٌمة وبالمجان ،وكان هذا هدؾ من أهداؾ بعض قادة ثورة ٔ.ٔ88
()ٔ8٘8
-انظر :دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً ،مرجع سابق ،ص ٕٖ
()ٔ8٘9
-راجع ظروؾ وضع دستوري ٖٕ ٔ9وٖٓ ٔ9فً :تارٌخ الدساتٌر المصرٌة ،وقع الهٌبة العامة لبلستعبلمات
ٗٙ9
فنصت المادة ٔ9على" :التعلٌم األولى إلزامً للمصرٌٌن من بنٌن وبنات ،وهو مجانً فً المكاتب العامة"،
ولكن ألن واضعً الدستور وضعوا المادة فقط لضمان التؤٌٌد الشعبً للدستور ،دون رؼبة حقٌقٌة فً تعلٌم
الشعب حتى ال ٌنافسهم فً المناصب والثروات وٌطالب بحقوق المصرٌٌن ،فإن تطبٌق هذا المادة لم ٌتم إال
بالتدرٌج البطا جدا ،فلم تنشر الحكومة المدارس الكافٌة لتصل للناس فً األرٌاؾ ،ولم تصدر قانونا بتطبٌق
المادة الدستورٌة ،وعافر طه حسٌن ونجٌب الهبللً بمبادرات فردٌة إللزامها بتطبٌقه حتى تم هذا لبلبتدابً سنة
ٖٗ ٔ9وصدر قانون للثانوي ٓ٘ ،ٔ9ولكن ظلت تماطل فً بناء المدارس البلزمة لتوصٌل المجانٌة لؤلرٌاؾ،
وٌستدل على هذا من مناقشات النواب فً مجلس النواب فً جلستً ٖٕ ٔ9ٖٖ -٘ -و ٌ ٔ9ٖ9 -ٙ-9طالبون
فٌها بعدم التوسع فً إنشاء المدارس خوفا من أن تحدث "ثورات نفسٌة حٌن ٌتعلم ابن الصراؾ وابن الساعً"
بتعبٌر النابب وهٌب دوس ،وأنه ٌكفً تعلٌم أبناء الفقراء القراءة والكتابة والحساب ألن الهدؾ من تعلٌمهم "لٌس
إعداد محامٌن" بتعبٌر النابب عبد هللا لملوم ،وأن تعرض أبناء الرٌؾ للتعلٌم وحٌاة المدٌنة جعلهم ٌلبسون
"الببلطً والجوارب واألحذٌة وٌحملون أدوات العمل على أكتافهم وهم ركوب فوق الدراجات" وٌخرجون
بـ"الجبللٌب المكوٌة" ،ولو استم ر الحال على ذلك "سٌؤتً بعدهم قوم ٌركبون السٌارات ال ٌزعم وازع وال ٌدفعهم
إلى حقولهم دافع" ،وٌتحول "أصحاب الجبللٌب الزرقاء إلى أصحاب الجبللٌب المكوٌة" بتعبٌر النابب محمد
عزٌز أباظة(ٓ ،)ٔ8ٙمع اإلشارة إلى أن معظم النواب إضافة إلى أنهم وصلوا لمنصب النابب على أكتاؾ صاحب
الجبللٌب الزرقاء فإن كثٌرا منهم مستوطنٌن قدمت عاببلتهم لمصر مشردة أو من بطون الجاهلٌة بالؽارات أو
التسلل أو على كتؾ احتبلل ،وبدال من أن ٌتمصروا حقا عاشوا ٌعاملون الفبلح ابن الحضارة بروح الؽزاة
الؽالبٌن.
ومن مكاسب ثورة "مصر للمصرٌٌن" فً دستور ٖٕ ٔ9أن تقتصر الوظابؾ العامة العسكرٌة والمدنٌة على
المصرٌٌن فقط (المادة ٖ) ،وٌشكل الوزارة مصري (المادة ،)٘8ولٌس أحدا من العابلة المالكة (المادة ..)٘9
ولكن بدا التمصٌر شكلٌا ،فقد أحدثت كلمة "مصري" خبلفا ،فبٌنما أراد المكباتً أن من ٌتولى الوزارة ٌكون
"مولودا مصرٌا" ،أصر حسٌن رشدي (التركً) على أن ٌكون فقط "مصري" (مجنس) ،لٌتسنى الفرصة لبنً
جلدته الحصول على هذه المناصب ،فظل ٌتسلل للمناصب الهامة مستوطنون أجانب ،مثل أحمد زٌور باشا
الذي صار ربٌسا للوزراء (من عابلة شركسٌة تحمل الجنسٌة الٌونانٌة) ،وهكذا ظلت معظم مناصب الدولة
العلٌا فً الحقٌقة مصرٌا اسمها ،أجنبٌة واقعا .كما ماطل األوروبٌون فً ترك الوظاٌؾ التً أخذوها بعد
االحتبلل ،وآخرون تحاٌلوا بالرجوع لنفس الوظاٌؾ بنظام العقود بعد خروجهم منها.
.
(ٔ)ٔ8ٙ
دٌن مصر العام وقتها ٔ 9ملٌون جنٌه ،تدفع الخزانة ٖ ملٌون ونصؾ ملٌون فوابد سنوٌة
(ٓ)ٔ8ٙ
-كبار مبلك األراضً الزراعٌة ودورهم فً المجتمع المصري (ٗٔ ،)ٔ9ٕ٘ -ٔ9عاصم الدسوقً ،ص ٖٖٗٓٓٙ -
(ٔ)ٔ8ٙ
-دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً ،ترجمة كتاب االستعمار البرٌطانً فً مصر للبرٌطانً إلٌنور بٌرتز ،مرجع سابق ،ص ٕ٘
٘ٙ9
وٌدمً القلب أن ٌ ُرى الفبلحون أمام محبلت الربا والبنوك األجنبٌة ٌلحون علٌها أن تصبر علٌهم عند
عجزهم عن سداد دٌونهم ،أو ٌ ُرى مبلمح القهر فً وجوههم حٌن ٌخسرون أراضٌهم ومنازلهم لعجزهم عن
سداد الدٌون وحجم الفوابد التً تفرضها القلوب األجنبٌة الؽلٌظة علٌهم.
فاعتزم طلعت حرب انشاء بنك مصري ٌمول الفبلحٌن دون ابتزازهم -وهً فكرة بدأ عرابً وآخرون
تنفٌذها فً ثورة ٔ ٔ88ولم ٌطل بالثورة العمر الستكمالها -فكان بنك مصر الذي أنشؤه عبر حملة لشراء
األسهم ،ساهم فٌها األؼنٌاء والفقراء ،كل بما ٌقدر علٌه من جنٌهات كثرة أو قلت.
ولم ٌتوقؾ البنك عند هذا الحد ،لكن أرسى سلسلة شركات ومصانع هدفها لٌس فقط الربح ،ولكن توفٌر
الصناعات المصرٌة لتقلٌل اعتماد المصرٌٌن على السلع األجنبٌة ،ولتوفٌر فرص عمل للمصرٌٌن فً
أماكن مصرٌةٌ ،شعرون فٌها بكٌانهم وحرٌتهم ،بعٌدا عن تحكم صاحب رأس المال األوروبً.
ففً ٔ9ٕٙأنشا بنك مصر ٗ شركات مصرٌة أكبرها تعمل فً الؽزل والنسٌج؛ فقل استٌراد المصرٌٌن
للمنسوجات والمبلبس ،وفً نفس السنة اشترت شركة مصرٌة أكبر مصانع السجابر فً مصر ،وفً
ٔ9ٕ9صدر قانون الشركات وٌنص على أن ٌكون فً كل شركة مدٌران مصرٌان على األقل ،وأن ٌحتفظ
بنسبة معٌنة من رأسمالها للمصرٌٌن ،وصدر قانون فً سبتمبر ٔ9ٕ9بإعطاء امتٌازات خاصة للجمعٌات
التعاونٌة التً ٌكون جمٌع أعضابها مصرٌٌن(ٕ.)ٔ8ٙ
ورؼم كل وساٌل األجانب لتحطٌم ثقة المصرٌٌن بمهاراتهم ،انطلقت حمبلت تشجع شراء المنتج
المصري ومقاطعة اإلنجلٌزي ،ساعد فٌها الشعراء والمطربون بتحمٌس الناس ،ومنهم ٌونس القاضً وسٌد
دروٌش وصوته ٌلعلع بكلمات شبٌهة بكلمات عبد هللا الندٌم وهو ٌدعو خبلل ثورة ٔ ٔ88لدعم المنتج
المصري:
وقال:
(ٖ)ٔ8ٙ
إمتى بقى نشوؾ قرش المصري ٌفضل فً بلده وال ٌطلعشً
❽ تمصٌر الفن
فً معظم االحتبلالت ،وبعد ؼلق المعابد المصرٌة ومنع معظم االحتفاالت المصرٌة القدٌمة الرسمٌة،
(ٕ)ٔ8ٙ
-المرجع السابق ،ص ٘8 -٘9
(ٖ)ٔ8ٙ
-سٌد دروٌش فنان الشعب والثورة الدابمة ،السٌدة زهرة ،مجلة أدب ونقد ،العدد ،ٕٗ9القاهرة ،مارس ،ٕٓٓٙص ٓ9
ٙ9ٙ
اختفت الفنون المصرٌة من الساحة العامة ،وخاصة المدن التً ٌستوطنها األؼراب ،وؼاصت مع
المصرٌٌن بٌن الحقول فً األرٌاؾٌ ،زٌنون بها مناسباتهم الشعبٌة والخاصة ،وال ٌسمعها إال هم.
على الجانب اآلخر ،كانت الجزر المنعزلة ،أي المستوطنات األجنبٌة ؼارقة فً الفنون األجنبٌة الخاصة
بها ،وحتى ما استفادت به من الفنون المصرٌة ال ٌكون معلنا أنه من الفنون المصرٌة.
ولكن الفرصة التً توفرت لبعض المصرٌٌن الموهوبٌن فً التوجه إلى العاصمة واالقتراب من أهل
السلطة أخرجت بعض الفن المصري من عقاله ،وتمثل هذا فً عبده الحامولً ،ومحمد المسلوب ،ومحمد
عثمان القادمٌن من المحافظات واألرٌاؾ بروحهم المصرٌة وما فً وجدانهم من نؽمات وكلمات مصرٌة،
فزحزحت الركاد العثمانلً والمستورد فً بحٌرة الفن بموجات مصرٌة عذبة.
وشاعت عن طرٌقهم األؼنٌات بالكبلم المصري ،وتراجع لحد ما الكبلم العثمانلً ،حتى لقب عبده
الحامولً كان مصرٌا ،فناداه معاصروه باللقب المصري العرٌق "سً" (وهً كلمة مصرٌة قدٌم خالصة
ومإنثها ست) وأصبح "سً عبده" ،وألماظ تسمت بـ"الست ألماظ" ،ولم ٌنادٌهم الناس بؤفندي وهانم.
هذه الدفعة هً األرضٌة التً تلقفتها ثورة ٔ9ٔ9مجسدة فً سٌد دروٌش الذي عمل وسط العمال
والمزارعٌن ،فنقل نؽماتهم ووجدانهم وتعبٌراتهم المصرٌة الحلوة إلى أؼانٌه لٌصبح "فنان الشعب" وٌؽنً
آالم وآمال الشعب ولٌس الحاكم األجنبً ،فؤكمل إعادة الفن المصري إلى عرشه ،ولٌمجد قٌمة أوالد البلد،
فؽنى للمزارعٌن والعمال والزعما الوطنٌٌن والصناٌعٌة والست المصرٌة ولصنع فً مصر وشرؾ األصل
المصري وحضارة األجداد.
ولمع حٌنها رواج أؼنٌات تشدو بحب مصر ،فٌما عرؾ باألؼانً الوطنٌة ،فلم ٌكن شابعا فً الساحة
دروٌش بكلماته وكلمات ٌونس
َ العامة فً فترات االحتبلالت أن ٌشدو مطربا مشهورا بحب مصرّ ،
فهز سٌد
القاضً وعبد البدٌع خٌري وبٌرم التونسً الوجدان بؤؼانً مثل "قوم ٌا مصري" ،و"أنا المصري كرٌم
العنصرٌن" ،وأٌضا "ببلدي ببلدي لكً حبً وفإادي" المؤخوذة من نبضات مصطفى كامل.
ومع سٌد دروٌش وبعده ،سار على نفس الخطى أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وزكرٌا أحمد وؼٌرهم
ممن كانت المصرٌة عنوانهم األول كلمة ولحنا وأداء.
وفً النحت ،تراجع صنع التماثٌل المصرٌة مع االحتبللٌن الٌونانً والرومانً ،وحلت محلها التماثٌل
الٌونانٌة والرومانٌة ،ولم ٌشجع العرب والممالٌك النحت ،ثم جاء األوروبٌون زمن محمد علً لٌشٌدوا
تماثٌل بطرٌقتهم للحكام األرناإوط ،فجاءت ثورة ٔ9ٔ9بمحمود مختار من على شط الترعة فً عمق
الرٌؾ لٌكون أول مصري ٌلتقط اإلزمٌل الذي سقط من ٌد أجداده -حسب التعبٌر البلٌػ الشابع عنه -وٌعٌد
به اإلعجاز المصري فً إنطاق األحجار لتتكلم من جدٌد بالمصري؛ فٌصنعها مصرٌون بمبلمح مصرٌة
لشخصٌات مصرٌة ،فشاع فً أعماله تماثٌل المزارعٌن ،والعمال ،وزعماء األمة مثل سعد زؼلول ،وأشهر
أعماله تمثال "نهضة مصر" الذي جسد فً صورة الفبلحة مع أبو الهول آمال األمة فً التحرٌر والفخر
ٙ97
بكل ما هو مصري من فن ومبلبس ومبلمح وأسامً ،وشمخت الفبلحة بمبلبسها الرٌفٌة منصوبة الضهر
وسط العاصمة ألول مرة منذ االحتبلالت.
وفً المسرح ،قدمت المعابد المصرٌة أول مسرح ،هو تمثٌل حكاٌة إٌسة "إٌزٌس" وأوزٌر "أوزٌرٌس"
وحكاٌة حور (حورس) وست فً االحتفاالت الرسمٌة والدٌنٌة سنوٌا(ٗ ،)ٔ8ٙوتوقؾ كؽٌره من فنون مصرٌة
مع صاعقة االحتبلالت ،ولما عاد المسرح لمصر بصورته التقلٌدٌة فً القرن ٔ9كان المسٌطرون على
ساحته الٌهود والشوام واألوروبٌون إلمكانٌاتهم المادٌة ،وتدرٌبهم على ٌد األوروبٌٌن ،وكان مبتذال فً
أكثره ،وإن سعى عبد هللا الندٌم إلعادة المسرح المصري الراقً عبر المدرسة حٌن كان ٌعمل مدرسا قبل
ثورة ٔ ،ٔ88وكتب وقدم مسرحٌات ،منها "الوطن".
ومن بعده قلٌل من المصرٌٌن من استطاع أن ٌنضم للمسرح قبل ثورة ،ٔ9ٔ9ومنهم علً الكسار ،وبعد
الثورة انتقلت روح الفخر بالهوٌة المصرٌة إلى المسرح ،وتلقفها ٌوسؾ وهبً بفرقة "رمسٌس" ،وساهم فً
تمصٌر المسرح سٌد دروٌش ونجٌب الرٌحانً وبدٌع خٌري ،فكرا ولؽة ،و ُنقل عنه الرٌحانً قوله" :عاٌزٌن
مسرح مصري ،مسرح ابن بلد ،فٌه رٌحة الطعمٌة و"الملوخٌة ،مش رٌحة البطاطس المسلوقة والبفتٌك".
وبعد دخول السٌنما لمصر وسٌطرة الٌهود واألجانب عموما علٌها بؤفكارهم المسٌبة ،سعى طلعت حرب
لتمصٌرها بتؤسٌس شركة مصر للتمثٌل والسٌنما واستدٌو مصر؛ إلٌمانه بؤن االقتصاد لٌس هدفا فً حد ذاته ،بل
هو وسٌلة لخدمة الشعب بتعلٌمه القٌم التً ترسخ اعتزازه بنفسه وتحفظ هوٌته ،وأوفد بعثات لتعلٌم فنونها فً
الخارج ،والتزمت بعض األفبلم قضاٌا نصرة الفبلح وابن الحارة وتشجٌع الصناعة المصرٌة مثل فٌلمً
"بٌومً أفندي" و"العزٌمة".
❾ تمصٌر األدب
قبل ثورة ٔ9ٔ9كانت معظم أعمال الشعر والرواٌات والكتب تؤخذ طابعا عربٌا إسبلمٌا ،سواء فً
المضمون أو اللؽة العربٌة الرصٌنة باستثناء قلٌل ٌجسده عبد هللا الندٌم الذي تجرأ وقدم أعماال باللؽة
المصرٌة الحدٌثة تدور فً أجواء الحارة والرٌؾ ومحمد حسٌن هٌكل الذي قدم رواٌة "زٌنب" ٗٔ ٔ9عن
الرٌؾ ،ووقعها باسم "مصري فبلح" ،وبعد ثورة ٔ9ٔ9دبت روحها فً أوصال األدباء ،فتدفقت األعمال
األدبٌة العاشقة للقومٌة المصرٌة ،وسخروها للبٌبة المصرٌة ،ومنهم توفٌق الحكٌم وٌحًٌ حقً ونجٌب
محفوظ وٌوسؾ وهبً الذي كتب أفبلما تمجد أهل الحارة والرٌؾ ،و"ابن الحداد" و"لٌلى بنت الرٌؾ".
بعد مبات السنٌن من الرزوح تحت حكم أباطرة رومان أعلوا شؤن المسٌحً -وخاصة لو أجنبً -على
ابن البلد ،ثم الخبلفة اإلسبلمٌة التً أعلت شؤن المسلم -وخاصة لو أجنبً -على ابن البلد لؾَّ الثوب الوطنً
(ٗ)ٔ8ٙ
-تارٌخ المسرح عبر العصور ،مجٌد صالح ،الدار الثقافٌة للنشر ،طٔ ،القاهرة ،ٕٕٓٓ ،ص ٘ٔ
ٙ98
المصرٌٌن خبلل ثورة ٔ ،ٔ88وبشكل أوضح ظهر هذا فً ثورة ٔ9ٔ9فهتؾ الشٌخ أمٌن الخولً خبلل
مظاهرات ٔ9ٔ9بؤعلى صوته إن "المصري النصرانً أقرب لً من المسلم التركً" ،وفً قول آخر" :إن
ما بٌن مسلمً مصر وأقباطها أقرب مما بٌنهم وبٌن المسلمٌن األتراك" ،فكان محوا لمبات السنٌن من
التفرٌق الشٌطانً بٌن المصرٌٌن.
لنجدتها سٌان مرقس أو عمرو إذا ما دعت مصر ابنها نهض ابنها
وخرج األزهرٌون والقساوسة ممسكٌن بؤٌدي بعضهم ،متراصٌن األكتاؾ فً الشوارعٌ ،واجهون
رصاص االحتبلل هاتفٌن "تحٌا مصر"ٌ" ،حٌا الهبلل مع الصلٌب" ،وظهرت الدعوة إلى أن ٌتبنى األزهر لٌس
فقط قضاٌا المسلمٌن ،بل هوٌة مصر أٌضا ،وتدعٌم أركان الشخصٌة المصرٌة ،كما جاء فً كتاب طه حسٌن
"مستقبل الثقافة فً مصر" ،وكتابات الشٌخ أمٌن الخولً.
ومن البلفت أن ممن خطبوا فً األزهر القس سرجٌوس ،وكان قبل ثورة ٔ9ٔ9دابم الشكوى من
تدهور أحوال المصرٌٌن المسٌحٌٌن منذ دخول العرب لمصر ،ولكن حٌن حانت اللحظة الفارقة فً حٌاة
مصر كلها ،انضم للشٌخٌن الخطٌبٌن محمود أبو العٌون ومصطفى القاٌاتً لتحمٌس الناس على الجهاد ضد
اإلنجلٌز ،وقال قولته المشهورة من فوق منبر األزهر" :إذا كان اإلنجلٌز ٌتمسكون ببقابهم فى مصر بحجة
حماٌة القبط فؤقول لٌمت القبط ولٌحٌا المسلمون أحرارا" ،و"إذا كان استقبلل المصرٌٌن ٌحتاج إلى
التضحٌة بملٌون قبطى ،فبل بؤس بهذه التضحٌة(.")ٔ8ٙٙ
وخبلل وضع دستور ٖٕ ،ٔ9كانت المواطنة من المبادئ التً استؽرقت مناقشات كبٌرة ،وارتفع شعار
"الوطنٌة دٌننا" ،ورفض المصرٌون المسٌحٌون أن ٌكون للمسٌحٌٌن نصٌبا "كوتة" فً المقاعد بالتعٌٌن
لتسد النقص فً حال عدم انتخاب عدد مبلبم منهم ،وقالوا ،وفق ما نقل سبلمة موسى ،إننا أمة مواطنة،
وٌ جب أن ٌتساوى الجمٌع فً االنتخاب ،وال ٌكون هناك تمٌٌز بٌن المواطنٌن ،وال ٌكون هناك مزٌة ألحد
على بقٌة أبناء الوطن(.)ٔ8ٙ9
ونختتم هذه اللمحات من ثورة ٔ9ٔ9ودورها كخطوة عزٌزة فً مشوار تحرٌر مصر من أسرها
وسجنها بقول سعد زؼلول وهو فً منفاه فً مالطة ٌتابع أخبار الثورة التً تفاجا بها شخصٌا:
"فحٌا هللا األمم إذا عرفت واجبها ،وحٌاها إذا اتحدت على المطالبة ،وحٌاها إذا هً أبناإها خاطروا بؤنفسهم فً سبٌل
(٘)ٔ8ٙ
-شعراء الوطنٌة فً مصر ،عبد الرحمن الرافعً ،دار المعارؾ ،طٖ ،ص ٖٕ٘
()ٔ8ٙٙ
-ثورة ٔ9بعد تسعٌن عاما ،األقباط والثورة ،جابر عصفور ،جرٌدة الشروق ٕٓٓ9 -ٙ -ٔ8 ،
()ٔ8ٙ9
-نفس المرجع
ٙ99
استقبللها"(.)ٔ8ٙ8
وكشاهد عٌان عاصر الثورة المصرٌة قال توفٌق الحكٌم فً كتابه "فن األدب":
"لقد انكشفت لعٌنً وقلبً معجزة مصر عام ، ٔ9ٔ9ورأٌت الثورة فً كل مراحلها تسفر عن روح خفٌة باقٌة أبد الدهر,
نابضة تسعؾ مصر بٌن حٌن وحٌن"(.)ٔ8ٙ9
مثل ثورة ٔ ،ٔ88قامت ثورة ٔ9ٔ9والبلد ٌحكمها وٌتولى أعلى مناصبها وٌتحكم فً ثروتها المستوطنون
تسع للتخلص من هإالء (الترك َ األجانب ،القدامى منهم والقادمون طازة ،ومثل ثورة ٔ ٔ88فإنها لم
والشركس والٌهود والشوام واألرمن والٌونان وقبابل البدو المحتفظة بانتماءاتها األجنبٌة إلخ) ،خاصة أن
بعضهم أظهر مساندة الثورة فً البداٌة حتى ٌلدؼونها اللدؼة الممٌتة فً اللحظة الفارقة ،وٌفرقوا كلمتها،
مستؽلٌن نفوذهمٌ ،تبعهم عدد قلٌل من المصرٌٌن التاٌهٌن ،لكن مإثرٌن ،وٌتحدث هإالء باسم المصرٌٌن،
فٌُنحى الزعماء الحقٌقٌون ،وٌسٌر الؽرباء ومن تبعهم بالثورة بعٌدا عن مجراها ،كالثعلب ٌهرب بفرٌسته
منتشٌا.
وسقطت ثورة ٔ9ٔ9أٌضا فً خطٌبة ثورة ٔ ٔ88وهً أن بعض قادتها فسروا "مصر للمصرٌٌن" بؤن
ٌتساوى المصري بالمستوطنٌن األجانب ،ال أن ٌعلو وٌكون له السٌادة وحده ..أي أنها ثورة ناقصة.
واستخدم المحتلون لتصفٌة الثورة نفس األسلحة التً استخدموها فً ٕ ٔ88مع أسلحة أخرى جدٌدة.
()ٔ8ٙ8
-مذكرات سعد زؼلول ،ج ،9مرجع سابق ،ص 88
()ٔ8ٙ9
-فن األدب ،توفٌق الحكٌم ،دار مصر للطباعة ،القاهرة ،ص ٗ9
(ٓ)ٔ89
-انظر :مقدمة علً رضوان لكتاب "الماعت ..فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة" ،مرجع سابق ،ص ٕٔٔ٘-
(ٔ)ٔ89
-نفس المرجع
ٓٓ7
معظم المتظاهرٌن كانوا الفبلحٌن فً القرى والمدن ،بمبلبس بالٌة وأقدام حافٌة ٌحتضنون حلمهم بمصر حرة وهم أعزاء حكام لبلدهم ،حتى اختطؾ
(ٕ)ٔ89
) ثورتهم من جدٌد الؽزاة القدامى والجدد (الصور :الجامعة األمرٌكٌة ،وموقع King’s College London
ٌقول ٌحًٌ حقً" :بدأت الناس تؤلؾ ألول مرة كلمة "الشعب" ،تنطقها بكسر الشٌن ،ال بؤس ،فلم تكن
ثورة مثقفٌن وحدهم أو فبلحٌن وحدهم أو عمال وحدهم ،بل ثورة الشعب كله اتحد فً عجٌنة واحدة ،ولم
تعد كلمة "فبلح" سبة".
ولكن كعادتها سعت برٌطانٌا للحط من قدر الفبلحٌن ،ونزع صفة الوطنٌة عنهم ،أنكرت حقهم فً أن
ٌكون لهم أرض ووطن ٌدافعون عنه من األساس ،فصدرت صحفها تصؾ الثابرٌن بالؽوؼاء والرعاع،
ولكن هذا الوصؾ لم ٌحبطهم ،بل زادت تحدٌهم لبلنتقام لكرامتهم.
وعبر عن هذا االنتقام المصري جنازة الشهٌد ابن القباقٌبً ،فالصبً ابن القباقٌبً (ٗٔ سنة) هو ممن
تصفهم صحافة أوروبا بـ"الرعاع" ،ولكنه وهو الفقٌر ،ابن حً السٌدة زٌنب ،ووحٌد أبٌه الذي ٌعمل معه
فً الدكان ،وٌسٌر حافٌا رؼم أن والده مهنته عمل القباقٌب ،ثار فً وجه برٌطانٌا ،أعزال من كل سبلح،
عدا كرامته ووطنٌته والقبقاب الذي رفعه فً وجه االحتبلل ،استشهد البطل المجهول اسمه ،وسقط بٌن
أٌدي أبناء وطنه الثابرٌن ،فصنعوا له جنازة عظٌمة ،سار فٌها األؼنٌاء جنب الفقراء ،والمستشارون
والمحامون والقضاة ،والطلبة والتبلمٌذ ،وسموها جنازة "ابن القباقٌبً" ،كؤنهم ٌبعثون بها رسالة إلى
أوروبا" :انظري الرعاع ٌشٌعون بطل الرعاع" ،ولم تشبهها جنازة أخرى طوال الثورة(ٖ.)ٔ89
وحرص سعد زؼلول على إعادة االعتبار للفبلحٌن األصحاب الحقٌقٌٌن لهذا الوطن المؽتصب ،فٌقول على
(ٕ)ٔ89
-الجامعة األمرٌكٌة بالقاهرة توثق رقمٌا مجموعة من الصور النادرة لتارٌخ مصر من ٖٔٔ9ٕٔ -ٔ9
ٔhttps://www.aucegypt.edu/index.php/ar/node/998
Telegraphing Revolt: Protest Diffusion in the ٔ9ٔ9 Egyptian Revolution
https://www.kcl.ac.uk/events/telegraphing-revolt-protest-diffusion-in-the-ٔ9ٔ9-egyptian-revolution
(ٖ)ٔ89
-صفحات من تارٌخ مصرٌ ،حًٌ حقً ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،ٔ989 ،القاهرة ،ص ٖٕٕٖٗ٘ -
ٔٓ7
رءوس األشهاد فً خطبه إن الفبلحٌ" :خفً تحت الثٌاب الزرقاء نفسا أبٌة وقلبا طاهرا"(ٗ.)ٔ89
كما حرص على أن ٌكون ممثبل للفبلحٌن فً روح اإلباء هذه فً وجه المحتلٌن -بعد أن فوضوه
باستعادة حرٌتهم -فٌقول عبد العزٌز فهمً (عضو الوفد قبل أن ٌنضم لحزب األحرار الدستورٌٌن) لسعد
وهو ٌصر على االستقبلل التام" :إننً أالحظ أنك تتكلم مع وزٌر خارجٌة برٌطانٌا بلهجة عنٌفة ..تذكر إننا
شحاذون ،نشحذ استقبللنا" ،فقال له سعد" :أنا ال أشعر أبدا أمامهم أننً "شحاذ" بل أشعر أننً صاحب حق
ٌواجه لصا سرق ببلده ،وٌطالبه بإعادتها إلى أبنابها!"(٘.)ٔ89
فً المقابل فإن عدلً ٌكن (ألبانً قرٌب محمد علً) بعد أن استولى على أن ٌكون هو المفاوض "باسم
المصرٌٌن" ،فإنه خبلل مفاوضاته مع كٌرزون لم ٌصر على تحرٌر حقٌقً لمصر ،بل أراد "استقبلال
ظاهرٌا"ٌ ،سد "أفواه المشاؼبٌن والؽوؼاء من الوفد وخبلفه" ،وقال" :بالطبع نحن ال نطالب بجبلء برٌطانٌا
الناجز عن مصر ،إن ببلدنا ال زالت فً حاجة ماسة إلى رعاٌتكم ،ولكن عظمة السلطان ؼٌر مطمبن من
ناحٌة الخدٌوي السابق وفرنسا ،وهو ٌرجو أن تمنحوه الفرصة لٌثبت لكم أنه كفٌل بالمحافظة على مصالح
اإلنجلٌز واألجانب فً مصر إذا وافقتم على نقل بعض سلطات دار المندوب السامً إلٌه!"(.)ٔ89ٙ
فبمثل هذا األجنبً الذي ٌتحدث بصفته "مصري" ،وباسم "المصرٌٌن" ...جرى اؼتٌال ثورات الحرٌة
فً مصر ..وإطالة أمد أسرها.
كادت ثورة ٔ9ٔ9أن تصل لهدفها النهابً ،وهو تحرٌر مصر حقا ،فبعد أٌام اقترح اللورد على
حكومته أن تعلن بشكل رسمً "انتهاء الحماٌة واالعتراؾ بمصر دولة مستقلة ذات سٌادة" ،وأن تستبقً
بعض التحفظات دون أن ٌنتظر حتى ٌتم توقٌع معاهدة ،وذلك بعد أن وصله ما وصل سلفٌه نابلٌون وكلٌبر
من مشاعر العداء المصري وعدم االستقرار فً ظل الثورة المتؤججة.
وألح فً برقٌة أرسلها فً ٕٔ ٌناٌر ٕٕ ٔ9أن بدٌل ذلك سوؾ ٌكون" :إما ضم بلد معا ٍد أشد ما ٌكون
العداء نضطر أن نحكمه بالقوة ،وإما أن تسلم حكومة صاحب الجبللة بكل شًء .لقد اعتدنا أن نتوقع من
العالم أن ٌعجب بعملنا فً مصر ،وإنً ال أتصور خاتمة أشد نكرا من التً أراها اآلن".
ولكنه فً نفس الوقت اقترح خطة لئلبقاء على نفوذ لبرٌطانٌا داخل دوابر الحكم فً مصر ،حتى لو
رحلت ،بسٌاسة فرق تسد وتمزٌق وتحطٌم الحركة الوطنٌة.
فقال إن عبد الخالق ثروت (تركً) على استعداد أن ٌإلؾ وزارة على أساس التصرٌح المقترح
(تصرٌح ٕ8فبراٌر) ،وأن هذه السٌاسة جعلت من الممكن لنا "أن نكسب إلى جانبنا عضوا أو عضوٌن من
(ٗ)ٔ89
-انظر :مذكرات فخري عبد النور ،مرجع سابق ،ص ٔٓٙ
(٘)ٔ89
-نفس المرجع ،ص ٔٙ
()ٔ89ٙ
-باشوات وسوبر باشوات ،د .حسٌن مإنس ،الزهراء لئلعبلم العربً ،ط ٕ ،القاهرة ،ٔ988 ، ،المقدمة ؼٌر مرقمة
ٕٓ7
قادة حزب سعد زؼلول؛ فٌضعؾ تؤثٌره إضعافا عظٌما( ،")ٔ899وساعده فً ذلك بدء الخبلفات فعبل بٌن
أعضاء الوفد حول التفاوض مع برٌطانٌا أم استمرار الثورة.
وإضافة لهذا ،شنت برٌطانٌا حربا نفسٌة على المصرٌٌن بإبعاد الزعٌم وصحبه من جدٌد "لٌوقع الٌؤس
فً قلوبهم وقلوب المصرٌٌن من كل مستقبل مرجو لهإالء القوم المبعدٌن فً السٌاسة المصرٌة" بحسب
تعبٌر عباس العقاد ،ولكن الحرب فشلت ،وانسابت كلمات زؼلول إلى الشعب تهدئ خاطره وتشد أزره وهو
ٌقول لهم قبل ترحٌله إلى سٌشل" :إنكم أنبل الوارثٌن ألقدم مدنٌة فً العالم ،وقد حلفتم أن تعٌشوا أحرارا أو
تموتوا كراما ،فبل تدعوا التارٌخ ٌقول ٌوما فٌكم :أقسموا ولم ٌبروا بالقسم"(.)ٔ898
وصدر تصرٌح ٕ8فبراٌر ٕٕ ،ٔ9من طرؾ واحد ،هو برٌطانٌا ،فً ؼٌاب سعد ،ونص على:
ٔ -إنهاء الحماٌة البرٌطانٌة على مصر وأن تكون دولة ذات مستقلة سٌادة.
ولكن مع هذٌن البندٌن وضعت برٌطانٌا ٗ شروط ،سمتها "التحفظات" ،هً فً حد ذاتها نسؾ للبندٌن
السابقٌن ،وتقول الشروط:
ٖ -إلى أن ٌحٌن الوقت إلبرام االتفاقٌات بٌن البلدٌن تنظم األمور اآلتٌة ،تحتفظ برٌطانٌا بتولً أمور:
وبهذا أؼتصبت برٌطانٌا لنفسها الحق فً السٌطرة على قناة السوٌس ومدنها والموانا المصرٌة األخرى
تحت بند "تؤمٌن مواصبلت اإلمبراطورٌة" ،واالستمرار فً السٌطرة على الجٌش كإدارة وقٌادة وتسلٌح
تحت بند "الدفاع عن مصر ضد االعتداءات الخارجٌة" ،والتدخل فً شبون مصر تحت بند "حماٌة
المصالح األجنبٌة واألقلٌات ،واحتفظت لنفسها بإدارة السودان بموجب اتفاقٌة ٔ899التً جعلت إدارة
مصر له اسمٌة واإلدارة الفعلٌة برٌطانٌة.
وٌعلق على ذلك البارون فان دن بوش البلجٌكً فً كتابه "عشرون سنة بمصر" واصفا احتفاال أقٌم فً
()ٔ899
-دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً ،مرجع سابق ،ص ٖٖٓٔ -
()ٔ898
-سعد زؼلول سٌرة وتحٌة ،محمود عباس العقاد ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرة ،ٕٓٔ9 ،ص ٗٓ9و ٖ98
( -)ٔ899المرجع فً تارٌخ مصر الحدٌث والمعاصر ،مرجع سابق ،ص ٓٗٙٔ -ٗٙ
ٖٓ7
اإلسكندرٌة بـ"االستقبلل" عقب صدور التصرٌح ،وفٌه قام البعض لٌخطب وٌهلل بالعهد الجدٌد ،ثم قال:
"إال أن رجبل قصٌرا على رأسه طربوشه المنحرؾ تقدم فً مشٌة إبلٌسٌة ورفع ٌده فً وقار وعٌناه تلمعان
ثم نادى :لٌحٌا االستقبلل التام! فهبطت كلماته فً وسط سكوت مكروب.)ٔ88ٓ("..
وٌعلق العقاد :أٌن االستقبلل؟ ال أحد ٌصدق أنه االستقبلل ،حتى المبتهجٌن بٌوم االسقبلل!!
ربحــت مـن التصـرٌح أَن قٌودهـا قـد صرنَّ مـن ذهـب وكنّ حدٌدا
(ٔ)ٔ88
وبالتزامن مع نفً سعد زؼلول ورفاقه ،ومحاولة تفتٌت حزب الوفد من الداخل ،أقام االحتبلل حكومات
صورٌة تخضع لدٌكتاتورٌة اللنبً فٌما ٌتعلق بمفاوضات وضع الدستور الجدٌد وقانون االنتخابات(ٕ،)ٔ88
وأقرت الدستور أبرٌل ٖٕ ٔ9دون مشاركة سعد زؼلول.
إنهم هم أنفسهم ،نفس النوعٌة ،وبعضهم أبناء أو أقارب نفس الشخصٌات التً خانت عرابً أمثال محمد
سلطان ،بل خانت مصر كلها فً ٕ ٔ88حٌن أخذوا من الثورة ما أرادوا (مجلس النواب والدستور الحافظ
لنفوذهم) ثم تراصوا بجانب الجٌش اإلنجلٌزي كالمرتزقة ،وصفقوا والجنود المصرٌٌن ٌتساقطون بمدافع
اإلنجلٌز فً القصاصٌن والتل الكبٌر ،تراصوا أٌضا بجانب اإلنجلٌز بعد أن أخذوا ما أرادوا من ثورة
( ٔ9ٔ9عودة البرلمان والدستور وبنفوذ أقوى لهم) ،وسٌكون لهم دورهم أٌضا فً ضرب ثورة ٕ٘،ٔ9
سلسال مخلوق ضد حرٌة الفبلح ،ولم ٌخسر شٌبا ،لم ٌدفع ثمن خٌانته حتى الٌوم.
ٌقول د.علً بركات فً كتابه "تطور الملكٌة الزراعٌة فً مصر من ٖٔ ٔ9ٔٗ -ٔ8وأثره على الحٌاة
السٌاسٌة " بعد أن استعرض مواقؾ كبار متملكً األرض أعضاء المجالس النٌابٌة والمحلٌة من االحتبلل
اإلنجلٌزي منذ استتب سنة ٕ" :ٔ88وبتداخل موقؾ كبار المبلك من السلطة مع موقفهم من االحتبلل،
وكبلهما ٌبدأ من التسلٌم بوجود االحتبلل أساسا ،وعلى هذا فالخبلؾ بٌن كبار المبلك واالحتبلل لٌس خبلفا
حول وجود االحتبلل ،وإنما هو خبلؾ حول المشاركة فً السلطة" ،وضرب مثبل" :فمجلس شورى
القوانٌن الذي احتج سنة ٔ89ٙعلى عدم استشارته فً المبالػ التً صُرفت على حملة السودان ]ألنها
ستإخذ من محاصٌل األراضً المستولٌن علٌها[ لم ٌحتج على الوحشٌة التً صدرت ونفٌذت بها أحكام
دنشواي"(ٖ ،)ٔ88ولم ٌتخذ موقفا البقا إزاء حل الجٌش ثم إبادة جنوده فً السودان ،وال نزع الفبلحٌن من
(ٓ)ٔ88
-سعد زؼلول سٌرة وتحٌة ،مرجع سابق ،ص ٓٔٗٗٔٔ -
(ٔ)ٔ88
-دٌوان الشوقٌات ،أحمد شوقً ،كلمات عربٌة للترجمة والنشر ،القاهرة ص ٓ٘ٔ
(ٕ)ٔ88
-دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً ،مرجع سابق ،ص ٕٖ
(ٖ)ٔ88
-تطور ملكٌة األرض الزراعٌة ٖٔ ٔ9ٔٗ -ٔ8وأثره على الحٌاة السٌاسٌة ،مرجع سابق ،ص ٖ٘ٗٗ٘ٗ -
ٗٓ7
بلدهم لٌتفرقوا على جبهات القتال األجنبٌة فً الحرب العالمٌة األولى.
وعلى هذا فإن مشاركة معظمهم مع سعد زؼلول فً بداٌة ثورة ٔ9ٔ9كان احتجاجا وضؽطا على
اإلنجلٌز الذٌن استؤثروا بمحصول القطن وكلفوهم دفع جزء من تكالٌؾ الحرب العالمٌة وحلوا البرلمان
الذي جاءت به ثورة ٔ ،ٔ88أما حٌن َّلوح لهم اإلنجلٌز بإعادة البرلمان والسماح لهم باألحزاب للمشاركة
فً السلطة تفلتوا وانسلوا من حول سعد كما تنسل اإلبرة من العجٌن ،والحجة أنه "متطرؾ" فً طلب
االستقبلل وفً المفاوضات مع اإلنجلٌز.
وٌبدو أن الوفد حمل فً جنباته أسباب ضعضعة الثورة ،فمعظم قادته من كبار متملكً األرض ،ولٌسوا
جمٌعهم سعد زؼلول ،أي لٌسوا جمٌعهم هإالء المستعدٌن للتضحٌة بنفوذهم وأموالهم وأعمارهم مقابل إعادة
مصر ألهلها وحرٌتها ،فً تكرار لخطؤ عرابً حٌن وثق فً كبار متملكً األراضً وأبناء العٌلة العلوٌة
َّ
ٌتبق حول الذٌن احتشدوا حوله ،وكان احتشادهم لٌنتزع لهم سلطات من الخدٌو ،وحٌن جاءت القارعة لم
عرابً إال الفبلحٌن وقلٌل جدا من هإالء األؼنٌاء ،واندار الباقً لتصفٌة الثورة مع اإلنجلٌز.
وٌرصد د.عاصم الدسوقً فً دراسته "كبار مبلك األراضً الزراعٌة ودورهم فً المجتمع المصري
(ٗٔ ")ٔ9ٕ٘ -ٔ9أن "اللجنة المركزٌة التً شكلت لقٌادة الثورة من ٖٗ عضوا كان عدد كبار المبلك
المشتركٌن فٌها ٖٙعضوا" ،وتسبب بعضهم فً أول انشقاق داخل الوفد بؤن خرجوا لتؤسٌس حزب
األحرار الدستورٌٌن فً ٕٕ ٔ9ترأسه عدلً ٌكن(ٗ )ٔ88األلبانً والعضو باألسرة الحاكمة فً انحراؾ خطٌر
لمعنى مصر للمصرٌٌن ،وشد هذا الحزب الثورة إلى الخمود عبر سلك طرٌق المفاوضات بشروط ال
تناسب التضحٌات التً بُذلت فٌها ،ومن المإلم أن انجر ورابهم فً الحزب مصرٌون مثل أحمد لطفً السٌد
ثم محمد حسٌن هٌكل رؼم اعتزازهم بفبلحٌتهم وكراهٌتهم لبلحتبلل؛ توهما بؤن البرلمان والدستور سٌؤتً
للببلد بؤفضل مما ستؤتً لها به الثورة.
وحٌن طالب سعد زؼلول بؤن تضع الدستور جمعٌة وطنٌة منتخبة من الشعب ،رفض عبد الخالق ثروت
(تركً) ،متحججا بؤن الدساتٌر فً إٌطالٌا والٌابان والنمسا وضعها ملوكها(٘ ،)ٔ88وترأس لجنة الدستور
حسٌن رشدي (تركً) ،وكبلهما من أشد كارهً ثورة ٔ9ٔ9والفبلحٌن؛ ولم ٌشترك فً اللجنة حزب
الوفد وال الحزب الوطنً (الذي أسسه مصطفى كامل) احتجاجا على طرٌقة تشكٌلها ،فاستحقت صفة "لجنة
األشقٌاء" التً وضعت دستورا جاء على خلفٌة ثورة شعبٌة دامٌة بدون أن ٌشارك الشعب فً وضعه،
ووضعه ؼرباء فً ؼٌبة زعمابه.
وبالطبع لم ٌقترب الدستور أو القوانٌن المنبثقة عنه من األراضً التً استول علٌها العاببلت المعروفة
منذ القرن ،ٔ9ولم تتضمن أي خطوات -بخبلؾ التعلٌم -لتحسٌن حٌاة الفبلحٌن وإعادة حقوقهم المؽصوبة
لهم.
(ٗ)ٔ88
-انظر :كبار مبلك األراضً الزراعٌة ودورهم فً المجتمع المصري (ٗٔ ،)ٔ9ٕ٘ -ٔ9مرجع سابق ،ص ٖٕٕٕٕٙ -
(٘)ٔ88
-نفس المرجع ،ص ٕٗ9
٘ٓ7
ربما من أخطاء ثورة ٔ9ٔ9أنها لم تجعل صٌحتها ضد اإلنجلٌز والعٌلة الحاكمة معا ،ألن كلٌهما
باطل ،ووقتها ما كان لمثل عبد الخالق ثروت وحسٌن رشدي وعدلً ٌكن شرعٌة فً حكم مصر أو وضع
دستورها ،ولكانوا فروا فرارا من مصر كما فعل بعض أمثالهم فً ثورة ٔ ٔ88حٌن خشوا انتقام الفبلحٌن،
وإن كان فً ضمٌر سعد زؼلول أن ٌتحرك إلى هذه الخطوة -إزالة عٌلة محمد علً -إن استمرت الثورة،
فقد طالب فً ذروتها بؤن ٌكون من حق الشعب االختٌار ما بٌن الحكم الملكً أو الجمهوري ،وكلؾ عبد
العزٌز فهمً بوضع مشروع دستور لمصر إذا ما أسفرت الثورة -كما ٌتعشم -عن استقبللها ،فكتب فهمً
فً المادة األولىٌ" :كون الملك فإاد ملكا لمصر ،وٌخلفه صاحب السمو األمٌر فاروق".
وٌقول عبد العزٌز فهمً إن سعد زؼلول ألقى فً وجهه مشروع الدستور وقال له" :موش كفاٌة جاٌب
لنا الملك فإاد ..تجٌب لنا كمان فاروق!"(.)ٔ88ٙ
وأطاح االنشقاق الذي حصل من بعض أعضاء الوفد ،وتولً عدلً ٌكن المفاوضات وتشكٌل الوزارة
بآمال زؼلول العرٌضة ..وظل جاثما على صدر مصر اإلنجلٌز وعٌلة محمد علً وخلفاء محمد سلطان.
مع سعٌها لشق صؾ الحركة الوطنٌة ،سعت برٌطانٌا لتشوٌه صورة الزعٌم ،بل حتى التشكٌك فً
مصرٌته ،بإرجاع أصله إلى تونس أو المؽول أو الترك أو العربان ،المهم أن تقول إنه لٌس فبلحا أصوله
متجذرة فً األرض.
وٌنقل عباس العقاد الجدل الذي ثار حول األمر فً فصل عنوانه "أصل سعد" من كتابه سعد زؼلول
سٌرة وتحٌة" ،شرح أن من أسباب انتشار هذا الجدل أنه حتى ذلك التارٌخ كان السابد فً مصر أن أصحاب
المناصب الكبرى ٌكونون من ؼٌر المصرٌٌن ،أو من ؼٌر األصول المصرٌة البعٌدة ،وأنه من باب الطعن
فً األمة المصرٌة كلها ،وإلبقاء أبنابها بعٌدٌن عما ٌستحقون من مكانة شاع أن الفبلح ال ٌستطٌع أن ٌكون
من ال نوابػ أو أصحاب المناصب الكبرى ،حتى انتشر مثل ؼرٌب ٌقول "الفبلح لو اتمدن ٌجر على أهله
داهٌة" ،فعندما وصل سعد زؼلول لمناصب علٌا كوزٌر للمعارؾ ونابب ربٌس الجمعٌة التشرٌعٌة ،بل
وٌتزعم األمة ،استكثروا علٌه هذا ،فطعنوا فً نسبه لطٌنة مصر وللفبلحٌن.
وٌضٌؾ أنه سؤل سعدا عن حقٌقة نسبه ،فضحك وقال له إن ما شاع عن أن له أصبل قدٌما من ببلد
المؽرب كان حٌلة وضعها المحامً الذي دافع عن سعد خبلل اعتقاله فً بداٌة االحتبلل؛ إذ أنه كان معروفا
أن الرعاٌا األجانب لهم امتٌازات تعجل باإلفراج عنهم ،وكانت فرنسا بعد احتبللها لتونس أعلنت أن
التوانسة فً مصر من رعاٌاها ،فكتب هذه النسبة الملفقة لً لٌُعجل بؤمر خروجً ،ورؼم ذلك خرجنا لسبب
ؼٌر هذا ،ولم أعلم باألمر إال بعد اإلفراج عنا ،فتلقؾ البعض هذه الخدعة ونسج حولها األقاوٌل.
()ٔ88ٙ
-مذكرات فخري عبد النور :ثورة ،ٔ9ٔ9مرجع سابق ،ص ٔٙ
7ٓٙ
وفً رأي العقاد ،فإنه حتى فً حال إن كان لسعد أصل أجنبً قدٌم فٌكفٌه أنه ال ٌعٌره اهتماما ،وال ٌتفاخر به،
وٌرى أن فخره وعزه أن ٌكون فبلحا ابن فبلح ،خرج من وسط أصحاب الفاس والجبللٌب الزرقا(..)ٔ889
المصرٌٌن الحقٌقٌٌن.
التشكٌك فً أن للفبلح وطن وأرض له حق أن ٌرفض نهب األجنبً لها ،والتشكٌك فً مصرٌة سعد زؼلول،
هما مجرد صدى لما ٌرٌده االحتبلل -كل احتبلل -فً األساس ،وهو أال ٌعود للحٌاة الدولة الشامخة التامة
المصرٌة ..مصر (كٌمة).
ٌحكً توفٌق الحكٌم كمعاٌش لثورة ٔ9ٔ9الدوافع وراء مشاركته فً حملة إزالة األقنعة وإعادة الوجه
المصري الحقٌقً لمصر بعد ٔ9ٔ9فٌقول إنه حٌن توجه سعد زؼلول ورفاقه إلى المندوب البرٌطانً
لبحث وضع مصر بعد نهاٌة الحرب العالمٌة األولى "سؤلهم هل ستعودون إلى سٌادة الدولة العثمانٌة
المهزومة؟ فقالوا :ال ،بل تعود مصر إلى مصر ..فدهش اإلنجلٌز وسؤلوا" :وما هً مصر؟! إننا ال نعرؾ
شٌبا اسمه مصر ،ولكن فقط مجرد قطر اسمه "القطر المصري" كما هو موجود على الخرابط الرسمٌة..
ٌتبع سٌاسٌا الدولة العثمانٌة ،وحضارٌا "الحضارة العربٌة" حسب اللؽة والدٌن ..أما مصر ،فؤٌن هً؟ وما
هً مقوماتها؟ ..وما هً شخصٌتها؟ وكانت اإلجابة عسٌرة".
"وعندبذ ]ٌواصل توفٌق الحكٌم[ قام رجال الفكر والفن واالقتصاد ٌجٌبون عن السإال وٌبحثون عن
مصر ..قام طلعت حرب بإنشاء بنك باسم مصر ..ونهض رجال األدب والفن ٌصورون "مصر" وٌعبرون
عنها ..كل ذلك لٌجٌبوا عن سإال اإلنجلٌز وٌقولوا لهم :ها هً ذي "مصر" التً نرٌد لها االستقبلل
بؤرضها ..فالبحث إذن فً العشرٌنات عن "شخصٌة مصر" و"روح مصر" لم ٌكن المقصود به كما حدث
أخٌرا مجرد موضوع ٌستهدؾ الدراسة والكتابة والتؤلٌؾ ..بل كان فً أعقاب ٔ9ٔ9أمرا حٌوٌا خارجا
من ضرورة ملحة ..من صمٌم كٌاننا ..وهو إقناع من ٌنكر علٌنا وجودنا وحقنا فً هذا الوجود ..وهذا كان
شعوري الخاص ٌوم كتبت فً العشرٌنٌات؛ أي بعد قٌام ثورة ٔ9ٔ9بنحو سبع سنوات رواٌة "عودة
الروح" ،أي روح مصر ..لم ٌكن قصدي تؤلٌؾ رواٌة ..بل إقناع نفسً بؤنً أنتمً إلى بلد له كٌان محدد
مستقل وتارٌخ طوٌل ،نمنا فٌه ،وآن لنا أن نستٌقظ ،وتعود إلٌنا الروح التً اختفت عنا وعن اآلخرٌن تحت
تراب الزمن"(.)ٔ888
الروح التً اختفت عنا وعن اآلخرٌن تحت تراب الزمن ،هً ومعظم الجسد ،ولم ٌظهر من مصر سوى
ذلك القناع االصطناعً الذي ٌلصقه على وجهها ؼصبا االحتبلل تلو االحتبلل.
هذه الروح الناهضة التً لمسها الحكٌم بفبلحٌته وتربٌته الرٌفٌة لم ٌُكتب لها -حتى الٌوم -النهضة
()ٔ889
-سعد زؼلول سٌرة وتحٌة ،عباس محمود العقاد ،مرجع سابق ،ص ٖٗ -ٖ9
()ٔ888
-مصر بٌن عهدٌن ،توفٌق الحكٌم ،مكتبة مصر ،القاهرة ،ٔ98ٖ ،ص ٖٔٔ٘ -
7ٓ7
الكاملة ،تلقت ضربة جدٌدة على رأسها أخمدتها تحت تراب الزمن من جدٌد ..إلى حٌن.
فهنا جاء دور التٌارات التً أخرجتها معامل ومحافل الشٌطان (المسٌخ الدجال) التً تناولناها باختصار
فً صفحات سابقة ،صحٌح أنها تكونت قبل الثورة ،لكن وظٌفتها ظهرت جدا بعدها ،وتملكتها حمى هرولة
فً العشرٌنات والثبلثٌنات واألربعٌنات لفرض نفسها على المصرٌٌن ،لٌتشتتوا وٌضلوا الطرٌق ،وٌتفرقوا
وٌتؽربوا فً جزر بعٌدة عن نهرهم الخالد.
فؤنت حٌن تقول إن مصر شٌوعٌة تكون قد حققت كلمة اإلنجلٌز الساخرة "وهل توجد دولة اسمها
مصر؟ "؛ ألن كلمة شٌوعٌة تجردها من معنى الوطن والحدود بل هً مجرد والٌة فً دولة االشتراكٌة
العالمٌة ،وحٌن تقول إن مصر إسبلمٌة -على الفهم اإلخوانً والسلفً -فمعناها أن مصر مجرد والٌة فً
الحكومة اإلسبلمٌة العالمٌة ،كذلك حٌن تقول مصر لٌبرالٌة رأسمالٌة ،فهً والٌة تبع الحكومة العالمٌة التً
تبنٌها العولمة ،وحٌن تقول مصر عربٌة فهً والٌة تبع الحكومة العربٌة ،ودلٌل ما سبق أنه حٌن انضمت
لؤلخٌرة مثبل أول شًء حصل محو اسم مصر وسموها "الجمهورٌة العربٌة المتحدة" ،وهكذا.
وفً الوقت الذي تجندت فٌه الصحافة والجمعٌات والتنظٌمات والتموٌبلت والجالٌات لنصرة هذا التٌار
أو ذاك ،ظلت الهوٌة المصرٌة األقل دعاٌة -رؼم جهود رواد الدفاع عنها مثل طه حسٌن وأحمد لطفً
السٌد وتوفٌق الحكٌم وسٌد دروٌش -فكل الجالٌات تكالبت ضدها ،وكل التٌارات المتصارعة تحالفت إلخماد
صوتها ،وتعاملوا معها على أنها مجرد تٌار من التٌارات ،وأضعؾ التٌارات ،ولٌس أنها األصل الثابت وهم
الطوارئ الشاذون.
وهذه أشد ضربة تلقتها ثورتا ٔ ٔ88و ،ٔ9ٔ9وفٌما بعد ثورة ٕ٘ ،ٔ9أن ٌتشتت المصرٌون عن
مصرٌتهم ،التً قامت الثورات لنصرتها فً األساس ،وٌتفرؼوا للنزاع مع بعضهم بدال من الجهاد لطرد
المحتلٌن وهوٌاتهم.
وعبر أدق تعبٌر عنها الرواي فً قصة "العسكري األسود" فٌقول" :تفتقت عنا الحرب العالمٌة الثانٌة
لنجد أنفسنا هكذا زمبلء فً كلٌة أو جامعة واحدة ،بنزعات سٌاسٌة وآراء فً الناس والحٌاة ال ٌمكن أن
ٌربط بٌنها رابط" ،وذلك بعد أن "كنا جمٌعا نإمن -برؼم اختبلؾ طرقنا ووسابلنا -أن لنا رسالة واحدة نحن
مبعوثو العناٌة لتحقٌقها :إنقاذ ببلدنا وتؽٌٌر مصٌر شعبنا تؽٌٌرا جذرٌا ،وإلى األبد(.")ٔ889
عادت النداهة ...رسول المسٌخ الدجال ..مؤلت أركان مصر ،وسممت منازل الوادي الطٌب.
()ٔ889
-انظر :مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن ،محمد جبرٌل ،مرجع سابق ،ج ٖ ،ص ٗٗ9
7ٓ8
تقلب ساعات على ح ٌَّة
وبعد الجولة السرٌعة مع ثورة ٔن 9ٔ9نستكمل نتابج االحتبلل اإلنجلٌزي التً لم تؤخذ الثورة فرصتها
لمحاربتها:
الحزبٌة لص الوطنٌةٌ ..بدو أنه لٌس للحزبٌة فً تارٌخ مصر تعرٌؾ آخر ..بل فً كل العالم.
لما هلَّت ثورة ٔ9ٔ9انضم المصرٌون لهٌبة واحدة تتكلم باسمهم ،كانت بمثابة جمعٌة عمومٌة للشعب
المصري كله ،تشكلت تلقابٌا ،ومثلت الزعامة الجامعة ،وهً الوفد.
لم ٌكن الوفد وقتها حزبا بمفهوم األحزاب السٌاسٌة المتصارعة الوافدة من أوروبا ،ولكنه المظلة
والزعامة الجامعة التً تتشوق لها األرض لتلملم ؼضب الفبلحٌن المتناثر فً القرى فً هبَّة واحدة ترفع
راٌة "مصر للمصرٌٌن" ،و"الكل فً واحد" ،و"مصر فوق الجمٌع" ،وحسَّ فٌها المصرٌون بدولتهم
وحكومتهم الوطنٌة الؽاببة عنهم منذ مبات السنٌن.
وبعد ما أدى حزب الوفد مهمته األولى فً تجمٌع المصرٌٌن تحت راٌة واحدة لقٌادة دفة التحرٌر
ضربته االنشقاقات لٌتشظى إلى أحزاب (حزب الوفد ،حزب الهٌبة السعدٌة ،حزب األحرار الدستورٌٌن،
الطلٌعة الوفدٌة) ٌؤكل بعضها بعضا وٌكٌد بعضها لبعض ،وال ٌرعون فً الشعب ّإال وال ذمة ،بفعل من
االحتبلل والسراٌا وأطماع بعض أعضابه ..فض َّج الناس ،ودقت القلوب بعنؾ من الخوؾ وهً ترى
منجزات ثورة ٔ9ٔ9تتهاوى ،والملك وإسماعٌل صدقً ٌلؽون الدستور ،واالحتبلل ٌستؽل خناقات
(ٓ -)ٔ89أؼنٌة نهاٌة مسلسل الناس فً كفر عسكر ،كلمات محمود عبد الظاهر ،ألحان محمد علً سلٌمان ،ؼناء علً الحجار
*** وحامً العهد فً ضمٌرنا وتارٌخنا هو "حور" وكل مصري ٌحفظ عهده فً حماٌة هوٌة مصر وحدود مصر وحرٌة مصر.
7ٓ9
األحزاب والسراٌا لـ"ٌتمطع" ،و"ٌبرطع" وٌرفض البوح بكلمة الجبلء فً المفاوضات ..فكانت انتفاضة سنة
ٖ٘.ٔ9
وصفها المإرخ عبد الرحمن الرافعً بقوله" :كانت مظاهرات الطلبة فً نوفمبر ودٌسمبر من تلك السنة
مظاهرات سلٌمة ف ً تكوٌنها برٌبة فً مقصدها؛ إذ كانوا مدفوعٌن بشعور وطنً عام ٌهدؾ إلى تحقٌق
مطالب الببلد ،ولم ٌكن موعزا إلٌهم من أحد(ٔ.")ٔ89
هذه االنتفاضة الؽاببة عن الذاكرة المصرٌة لوالها لتم وأد ثورة ،ٔ9ٔ9وبدأت موجات االنتفاضة تعلو
منذ ٖٓ ٔ9لما خرجت مظاهرات تطالب إسماعٌل صدقً بإعادة العمل بدستور ٖٕ ٔ9الذي ألؽاه الملك
فإاد واستخدم الرصاص فً مواجهة المظاهرات الرافضة لقراره.
ومع الحرب اإلٌطالٌة فً الحبشة ٖ٘ ٔ9تضخم عدد الجٌش البرٌطانً فً مصر ،واحتل موانٌها-
بخبلؾ األماكن المتمركز فٌها من قبل -وبات ٌتصرؾ فً مصر كؤنه لم ٌحدث فٌها ثورة ،ٔ9ٔ9وال
صدر تصرٌح ٕ8فبراٌر ،ووزارة محمد نسٌم الظوؼلً (تركً) موالٌة لئلنجلٌز وفاقدة الشعبٌة ،فظهرت
مطالب بعمل معاهدة مع إنجلترا تحجمها وتضع النقاط فوق الحروؾ بشؤن العبلقة بٌن البلدٌن(ٕ.)ٔ89
وعبَّر عباس العقاد -وهو من حزب الوفد -عن سخطه من انصراؾ الحزب عن قضٌة الجبلء لصالح
تمكٌن نفسه فً السلطة ،وشن حملة ضارٌة فً صحٌفة "روزالٌوسؾ" ضد الحزب ،ورد علٌه الحزب بؤن
ٌكؾ عن النقد ،فكتب العقاد فً 9سبتمبر ٖ٘(ٔ9الموافق لذكرى ثورة ٔ )ٔ88مقاال بعنوان "الوزارة
والنقد" قال فٌه" :فالذٌن ٌرٌدون من األقبلم أن تسكت أو تنقد -كما ٌحبونٌ -رٌدون أمرا ؼٌر معقول ،ولٌس
له سابقة فً نظام الوزارات واألحزاب" وفً مقالة أخرى اعتبر أن "السكوت على ذلك إجرام" ورد الوفد
علٌه فً صحٌفة الجهاد بوصفه أنه من "الحاقدٌن" ،وسٌَّر مظاهرة تهاجم "روزالٌوسؾ" فرد العقاد بمقالة
نارٌة" :الربٌس الجلٌل مكرم عبٌد ٌسوق الببلد بدسابسه إلى هاوٌة الخراب لسر لو طال احتجابه فبلبد له
من ظهور" ،وترك حزب الوفد(ٖ.)ٔ89
وتجرأ الجٌش اإلنجلٌزي بعمل استعراض عسكري فً مٌدان محمد علً باإلسكندرٌة؛ ما أعاد
للمصرٌٌن ذكرٌات انتشار قواته سنة ٗٔ ٔ9بحسب تعبٌر "األهرام" ،وٌعلق العقاد فً "رزوالٌوسؾ"
موجها كبلمه للنحاس بسخرٌة مرٌرة ":فً مصر وزارة تشهد العرض العسكري شهود الؽرٌب فً بلد
اإلنجلٌز".
وحذرت مجلة "آخر ساعة" فً ٕ9سبتمبر ٖ٘ ٔ9من أن العالم مقبل على حرب ،ولو انتصرت
إنجلترا سترفع أنفها متؽطرسة فً وجه المصرٌٌن ،وإن خسرت ستقع مصر فً ٌد محتل جدٌد؛ ولذا البد
أن نصل مع إنجلترا لنتٌجة صرٌحة ،أما الوعود فقد شبعنا منها ،وعندنا منها أكثر من ٓ ٙوعدا ٌتوجها
(ٔ)ٔ89
-الدستور واالستقبلل والثورة الوطنٌة ٖ٘ ،ٔ9ضٌاء الدٌن الرٌس ،جٕ ،مإسسة دار الشعب ،ص ٗٔ
(ٕ)ٔ89
-انظر :نفس المرجع ،ص ٖ9
(ٖ)ٔ89
-المرجع السابق ،ص ٗ9
ٓٔ7
القسم بشرؾ التاج البرٌطانً!"(ٗ.)ٔ89
وردت برٌطانٌ ا بؤن أوعزت لوكالة "روٌترز" أن تنشر بوقاحة" :إن المقامات الرسمٌة البرٌطانٌة ترى
من الكوارث الكبرى أن تحاول مصر استؽبلل الحال الحاضرة إلكراه الحكومة البرٌطانٌة على االرتباط
بتعهدات أو التزامات فً وقت ال شك أنه ؼٌر مناسب(٘.")ٔ89
فنشرت "األهرام" مقالة لمواطن بإمضاء رمزي (أ.م.ؾ) ٌهاجم األحزاب المتصارعة جاء فٌها" :تجتاح
مصر الٌوم أزمة من األزمات المعدودة فً تارٌخها ،استولت فٌها برٌطانٌا على موانٌها ومطاراتها وأصبح
االستقبلل حبر على ورق ،وصرنا فً نظر ساستهم كؤسترالٌا ونٌوزٌلندة ،فهل لهذه النتٌجة المحزنة ثرنا
فً سنة ٔ9ٔ9وضحٌنا بدمابنا وأموالنا؟" ،وٌحث األحزاب على ترك الصراع" :هل نسً الزعماء
المحترمون أحقاد النفوس وشهوة الحكم؟" وٌبحث عن المخلص كما تبحث مصر عنه فً كل لحظة حرجة:
"أٌن رجل الساعة فٌدق ناقوس الخطر وٌمسك بٌده راٌة الوطن؛ فٌلتؾ حوله األسود واألشبال للذود عن
حقوق مصر من ؼاصبٌها وعن حدود مصر من العدو المتربص الذي ٌكاد ٌؽٌر علٌها؟(.")ٔ89ٙ
وظهر رجل الساعة فً شباب األمة المنزهٌن عن الشهوة الحزبٌة ،فثار طلبة الجامعات والعمال فً انتفاضة
بدأت ٖٔ نوفمبر ٖ٘ ٔ9بعد انطبلق الشرارة التً فجرت ؼٌظ الجمٌع ،وهً تصرٌح وزٌر خارجٌة برٌطانٌا
صموٌل هور 9نوفمبر قال فٌه" :أجل ،إننا عندما استشارونا أشرنا بعدم إعادة دستوري سنة ٖٕ ٔ9وسنة
ٖٓ ،"ٔ9فجاء هذا تؤكٌدا للشكوك بؤن وزارة نسٌم تنسق سرا مع اإلنجلٌز ،وكان التصرٌح لحظة صلؾ برٌطانٌة
شبه صلفها لما منعت الوفد من السفر سنة ٔ9ٔ9؛ فتحركت الروح المصرٌة ووقع االنفجار ،وسمع صداه
العالم(.)ٔ899
واستعدت الحكومة واإلنجلٌز لهذا الٌوم الذي أعلن موعده طبلب جامعة القاهرة بنشر البولٌس والجٌش،
وعبرت عناوٌن "األهرام" عن بعض ما حدث فً ذلك الٌوم الرهٌب ،ومنها" :إضراب الطلبة واصطدامهم
مع رجال البولٌس"" ،ضباط البولٌس من اإلنجلٌز"" ،إطبلق الرصاص على المتظاهرٌن"" ،إصابات كثٌرة
من الطلبة والبولٌس"" ،االعتداء على قنصلٌة إنجلترا".
وفً المظاهرات تعاهد طبلب الجامعات والمدارس أن ٌكون الشباب أول من ٌضحً فً سبٌل مصر،
ورددوا" :مصر فوق الجمٌع"" ،نحن فداإك ٌا مصر"" ،فلٌسقط االستعمار"" ،فلٌسقط تصرٌح هور"،
(ٗ)ٔ89
-انظر نفس المرجع ،ص ٘8 -٘ٙ
*** رصدت وزارة الخارجٌة المصرٌة عشرات الوعود البرٌطانٌة الكاذبة عن عدم نٌتها احتالل مصر من سنة ٖ ٔ87وحتى احتاللها مصر
ٕ ،ٔ88ثم وعودا كاذبة بعدم فرضها الحماٌة على مصر والتً فرضتها فعال ٗٔ ،ٔ9كما وعدت كثٌرا بالجالء ولم تحققه إال بقوة ثورة ٖٕ ٌولٌو
ٕ٘ ،ٔ9ما ٌفرغ برٌطانٌا من معانً الشرؾ أو الوفاء بوعد ،ونشرتها فً كتاب "وزارة الخارجٌة المصرٌة :القضٌة المصرٌة ٕ،"ٔ9٘ٗ -ٔ88
المطبعة األمٌرٌة بالقاهرة.
(٘)ٔ89
-نفس المرجع ،ص ٔٙ
()ٔ89ٙ
-انظر المقالة كاملة فً :الدستور واالستقبلل والثورة الوطنٌة ٖ٘ ،ٔ9ص ٙ9 -ٙ9
()ٔ899
-نفس المرجع ،ص ٓ9ٗ -9
ٔٔ7
وبعدها زحفوا للقاهرة لزٌارة بٌت األمة وضرٌح سعد زؼلول(.")ٔ898
كانت مطالب المتظاهرٌن استقالة وزارة نسٌم المهادنة لئلنجلٌز وأن ٌعٌد الملك الدستور ،فؤمر المٌراالي
لوكاس بك مساعد حكمدار العاصمة بإطبلق النار ،ولكنهم استمروا فً المظاهرات ،وأقسموا بخشوع على
التضحٌة لمصر وحدها( ،)ٔ899فقابلتهم كونستببلت اإلنجلٌز على كوبري عباس بالرصاص ،وتلقى محمد عبد
المجٌد مرسً طالب كلٌة الزراعة أولى الرصاصات فً صدره استشهد على إثرها ،وأرسلت الحكومة قوة
إلى المستشفى استولت على الجثة ونقلتها لٌبل إلى أهله فً اإلسكندرٌة لتمنع الطلبة من إقامة جنازة مهٌبة
له ،فسافر وفد من الطلبة لتعزٌة أبٌه.
وبعده تلقى طالب كلٌة اآلداب محمد الجراحً ٖ رصاصات فً صدره ،ظل ٌؽالب الموت أٌاما والناس
تتابع أخباره بشجن من الصحؾ ،وكتب على سرٌره خطابا إلى بلدوٌن ربٌس الحكومة اإلنجلٌزٌة ٌقول فٌه:
"إلى برٌطانٌا روح الشر" ،وذكر ظلمها وعدوانها على الشعوب ،وتنبؤ بزوال إمبراطورٌتها ،وطلب ورقة
وكتب لزمبلبه هذه الرسالة" :إخوانً األعزاء :إنً أشكر لكم شعوركم السامً بالنسبة لما أدٌته ،واعتبره
أقل من الواجب فً سبٌل البلد الذي وهبنا الحٌاة ،بل وهب الحضارة للعالم(ٓٓ ،")ٔ9وفاضت روحه السامٌة،
واهتزت قلوب األمة ،ففً المستشفى انكب علٌه من حوله ٌقبلون جسده المسجى وهم ٌهتفون للحرٌة
وشهدابها ،وأحاطت الممرضات بالسرٌر ٌبكٌنه ،ومشى الحزن بٌن األطباء ،واستحال قصر العٌنً إلى
مؤتم ،والطلبة ال ٌفارقون المكان خوفا من أن تهرب الحكومة الجثة كما فعلت مع الشهٌد محمد عبد المجٌد
مرسً ،وعند خروجه من المستشفى أطل زمبلإه الجرحى من الشبابٌك ٌهتفون" :نموت فً سبٌل مصر
الخالدة".
وٌوم تشٌٌع جنازته من األٌام المشهودة ،خرج الشعب لوداعه فً موكب مهٌب ،وصارت جنازته رمزا
للمؤساة التً ٌجتازها الشعب ،مؤساة الحزن على المصٌر الذي آل إلٌه الوطن؛ فما زال اإلنجلٌز ٌحكمونه
وجهود السنٌن راحت هباء وزعماإه متصارعون ،وأثر هذا الحزن حتى فً الزعماء الذٌن شعروا بما أدت
إلٌه أعمالهم -أو تصور الناس ذلك -فجاءوا لٌشتركوا فً تشٌٌع الشهٌد ،ورآهم الناس ٌبكون من فرط
التؤثرٌ ،تقدمهم مصطفى النحاس وإسماعٌل صدقً وأحمد ماهر ،إضافة لمدٌر الجامعة أحمد لطفً السٌد
وأساتذة الجامعة والكادر الطبً للقصر العٌنً والعلم المصري ٌقود الموكب ،والطلبة والطالبات ٌسرن
خلؾ العلم حاملٌن أكالٌل الزهور ،وبعد الصبلة علٌه فً مسجد السٌدة زٌنب هتؾ الناس بؤلم ٌشق السماء
"العزاء ٌا مصر"" ،فلٌسقط االستعمار"" ،مصر فوق الجمٌع" "،فلٌسقط الظلم وأنصار الظلم"" ،فلٌسقط
القتلة" ،والستات ٌنوحون علٌه من الشبابٌك خبلل سٌر الجنازة بكلمات زادت من بكاء المشٌعٌن(ٔٓ.)ٔ9
وهكذا تكون مصر كتلة للمحبة وااللتحام والصفاء والوطنٌة الخالصة حٌن تنبذ عنها الحزبٌة وتتحد حول
()ٔ898
-المرجع السابق ،ص 99 -99
()ٔ899
-الدستور واالستقبلل والثورة الوطنٌة ٖ٘ ،ٔ9مرجع سابق ،ص88
(ٓٓ)ٔ9
-نفس المرجع
(ٔٓ)ٔ9
-الوصؾ الكامل للجنازة وتؤثٌرها الوطنً من أقوال الصحؾ فً المرجع السابق ،ص ٖ9٘ -9
ٕٔ7
رمز واحد ال ٌخص إال مصر وحدها.
واضطرت "روٌترز" أن تتحدث عن مهابة الجنازة وتعترؾ بؤن ضابط برٌطانً أطلق النار على الجراحً،
واستمر الؽضب ،فؤعلن عن إضراب ٕٔ نوفمبر احتجاجا على ضرب المتظاهرٌن وحدادا على الشهداء،
واحتجبت الصحؾ ،وأؼلق التجار محبلتهم ،وأضرب المحامون ،واستمرت فً نفس الوقت المظاهرات،
وأرسلت هٌبات األطباء وأساتذة الجامعة والقضاة احتحاجات للملك وربٌس الوزارة ،واعتبر محمد محمود،
.
(ٕٓ)ٔ9
ربٌس حزب األحرار الدستورٌٌن ،فً خطاب أن ما فعله الشباب رفع مكان مصر فً العالم
ولكن محمد محمود وؼٌره من القٌادات السٌاسٌة لم ٌتخلوا عن حزبٌتهم حقٌقة ،فدخل حزبه فً معركة
مع حزب الوفد حول هل نعٌد الدستور أوال أم نتفاوض مع برٌطانٌا على الجبلء أوال ،وتحولت لمعركة فً
أروقة األحزاب وصحفها وانتقلت للجامعة لتنشر بٌن الطبلب الحزبٌة واالنقسام حول هذا وذاك بعد
الوحدانٌة التً أظهرتها انتفاضة ٖ٘ ،ٔ9وخبلل مإتمر طبلبً طعنوا فً بعضهم البعض مثل الشٌوخ،
والصحؾ األجنبٌة ومن ورابها حكوماتها تتابع ما ٌجري بسعادة ،حتى قال مراسل "األوبزرفر" فً ٖٓ
نوفمبر إن "المساعً التً بذلت لتؤلٌؾ جبهة متحدة من العناصر السٌاسٌة المختلفة إزاء خطة برٌطانٌا نحو
مصر فشلت فشبل تاما ،ولم تكن نتٌجتها سوى إظهار الطباع المتنافرة التً جبل علٌها الوفدٌون واألحرار
الدستورٌون وإحٌاء المنازعات الحزبٌة" ،ثم ٌختتم بتشفً" :فإذا كانت مصر عاجزة بهذه الصورة الجلٌة
الواضحة عن أن تقرر ما هً فً حاجة إلٌه حقٌقة ،فإنه ٌلوح من ؼٌر المعقول أن ٌتوقع المرء أن تبدي
برٌطانٌا من جانبها إشارة ٌحتمل أن تخفؾ وطؤة القلق الحالً".
وعلقت الصحؾ فً مصر معربة عن خٌبة أملها من شٌوخ الزعماء فقالت "روزالٌوسؾ" ٕ8نوفمبر:
ولتشق مصر"(ٖٓ.)ٔ9
َ "ٌتراشقون وبٌزنطة تحترق"" ،فلٌنعم اإلنجلٌز
لكن األنقٌاء من الطبلب بدافع وطنً صمٌم طردوا شٌطان الحزبٌة من نفوس زمبلبهم ،وبعد مناقشات
وتهدبة للخواطر اتفقوا على التوقؾ عن التحزب ،وساعدهم القدر بؤن صموٌل هور أصدر تصرٌحا مستفزا
آخر بعد اطمبنانه للنزاع الحزبً داخل مصر ،فقال فً مجلس العموم إن برٌطانٌا لن تقبل أن تفاوض
مصر فً الظروؾ الحاضرة ،فزاد دافع الطلبة للتوحد من جدٌد وهم ٌرون الببلد تتسرب من بٌن أصابع
أبنابها لؤلبد ،بل وطافوا فً مظاهرات على مقار األحزاب ٌطالبون زعمابها بالتوحد فً جبهة وطٌنة،
وٌجبرونهم لو لزم األمر ،وأنه ال ٌوجد دستور أوال واستقبلل أوال ،بل ٌصرون على االثنٌن معا(ٗٓ.)ٔ9
و"اسبهل" اإلنجلٌز ،وصباح السبت 9دٌسمبر خرجت الصحؾ بهذه المانشٌتات المفاجبة" :روزالٌوسؾ":
"الطلبة ٌصدرون قرارا وطنٌا رابعا ٌزول به انقسامهم"" ،الجهاد" :بٌان هام من لجنة الطبة التنفٌذٌة العلٌا عن
(ٕٓ)ٔ9
-انظر :نفس المرجع ،ص 99 -9ٙ
(ٖٓ)ٔ9
-انظر نفس المرجع ،ص ٕٕٓٔٔٔ -
(ٗٓ)ٔ9
-انظر :المرجع السابق /ص ٖٓٔٔٗٗ -
ٖٔ7
توحٌد صفوفهم" ،األهرام" :توحٌد كلمة الطلبة"(٘ٓ.)ٔ9
انزعج اإلنجلٌز أشد االنزعاج من هذا االلتحام السرٌع بحسب ما نشرته "اإلٌجٌبشٌان جازٌت"،
واستقالت وزارة نسٌم ،وأبلػ المندوب السامً المبسون الحكومة بقبول عودة الدستور ،وانتصرت األمة
على الحزبٌة وعلى برٌطانٌا روح الشر فً جولة الدستور(.)ٔ9ٓٙ
اما الجولة الثانٌة فتولتها األحزاب ،فانعكست فٌها روح ضعؾ فٌهم ال تلٌق بروح مصر الشابة الثابرة،
وظهر الوهن الذي أنهكهم بسب صراعاتهم مع بعض ومع القصر وقلق كل منهم على مركزه ،فلم ٌطلب
كتاب االستقبلل الذي أرسلوه للمندوب البرٌطانً االستقبلل بشكل مباشر وحاسم ،بل تحدثوا عن تعاون بٌن
البلدٌن فً زمن السلم والحرب ،وأقروا بالسماح بوجود قوات برٌطانٌة فً األراضً المصرٌة ألجل ؼٌر
محدد بحجة التحالؾ فؤزالوا عنها صفة االحتبلل ،ما تسبب فً خروج معاهدة ٔ9ٖٙباستقبلل منقوص،
وإن حملت مزاٌا فٌما ٌخص زٌادة عدد الجٌش وتمصٌره وإلؽاء االمتٌازات األجنبٌة تدرٌجٌا(.)ٔ9ٓ9
وحام شٌطان الحزبٌة بسواده ثانٌة على األحزاب بعد تولً فاروق الحكم ،فانطوت األحزاب الصؽٌرة
تحت جناحه لتحارب باألمل فً شعبٌته شعبٌة حزب الوفد ،وانقسم الطلبة مجددا بسبب انحرافات األحزاب
بعد أن سٌَّر حزب الوفد مظاهرات تهتؾ بحٌاة الوفد والنحاس ،والملك ٌسٌر مظاهرات تهتؾ بحٌاته(،)ٔ9ٓ8
وانتشر بقوة نشاط اإلخوان المسلمٌن والشٌوعٌٌن الذٌن سٌَّروا مظاهرات أٌضا وشفطوا إلٌهم مجموعة من
الطلبة باسم الدٌن وحقوق العمال والفقراء ،وكانوا بداٌة صراعات الطبلب فً الجامعات واإلرهاب.
وأحس بعض الوزراء بؤن "تحزٌب" المصرٌٌن كؤنه سٌاسة متعمدة ،وٌنطق بهذا خطاب االستقالة الذي
تقدم به مصطفى مرعً من وزارة حسٌن سري باشا فً ٔٙأكتوبر ٌ ٔ9ٗ9قول فٌه:
"حضرة صاحب الدولة ربٌس مجلس الوزراء ،تحٌة وبعد ،فإنك تعلم كما ٌعلم ؼٌرك أنً إنما اشتركت
فً حكومتك على أمل فً أن لك ؼاٌة هً جمع الكلمة وتوحٌد الصفوؾ ،وأن لك هدفا ،هو االستعانة
بالقوى المإتلفة على مواجهة الخطٌر من مشاكلنا الداخلٌة والخارجٌة ،وقد تبٌن أنك ال تتؽٌا(؟) هذه الؽاٌة،
وال تتوسل بوسابلها ،بل إنك تبدو كما لو كنت مسلطا لتجعل من كل حزب حزبٌن ،ومن كل فرقة فرقتٌن،
وقد رأٌتك بنفسً ترى الرأي للحق وتنقضه للباطل ،وتقول الكلمة وتنكرها ،ولم ٌقع ذلك مرة واحدة ،بل
وقع مرارا فً الخطٌر من شبون الدولة ،أما لفظك وأما عباراتك ،وأما أسلوبك فً إدارة مناقشات مجلس
الوزراء ،فقد أصبح هذا كله مضرب األمثال ،وموضع التندر فً كل مكان .لهذا أحٌطك علما باعترالً
(٘ٓ)ٔ9
-انظر :المرجع السابق ،ص ٔ٘9 -ٔٗ8وٕ ،ٔٙٗ -ٔٙومن بٌن الطبلب الذٌن شاركوا فً هذه المظاهرات فً عدة مدن الطالب جمال عبد
الناصر حٌنها ،ربٌس مصر بعد ٕٔ سنة :انظر "ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘ ،ٔ9تارٌخنا القومً فً 9سنوات" ،عبد الرحمن الرافعً ،دار المعارؾ ،ط ٕ،
،ٔ989ص ٕ٘ٙ
()ٔ9ٓٙ
-انظر :الدستور واالستقبلل والثورة الوطنٌة ٖ٘ ،ٔ9مرجع سابق ،ص ٕٔ9ٔ -ٔٙ
()ٔ9ٓ9
-انظر :المرجع السابق ص ٕٔ98 -ٔ9
()ٔ9ٓ8
-انظر نفس المرجع ،ص ٕٕٗٔٔ٘ -
ٗٔ7
العمل فً الوزارة ،وهللا المسإول أن ٌدفع عن ببلدنا السوء ،وأن ٌقٌها ؼوابل الفساد"(.)ٔ9ٓ9
بعد ثورة ٔ9ٔ9أصبح تسلٌح وتمصٌر كافة وظابؾ ورتب الجٌش من أهم بنود المفاوضات بٌن زعماء
الثورة واإلنجلٌز.
وخبلل مفاوضات عدلً -كٌرزون سعى األخٌر الختبلق الحجج لعدم الموافقة على تسلٌم زمام الجٌش
للمصرٌٌن ،فشكك فً استعداد المصرٌٌن من األساس للقتال ،وقال إن مصر لٌس بها نزعة حربٌة ،فهً
فٌها خٌر فبلحٌن لؤلرض ،ولكن لما نزلت مصر شاهدت أهل الجندي ٌشٌعونه بالعوٌل فً القرعة
العسكرٌة ،فرد علٌه عدلً ٌكن -ربٌس الوزراء حٌنها -بؤن ذلك حدث ألن نظام القرعة كان ممقوتا
والجندي عندما ٌإخذ ال ٌعد ٌصلح لعمل شًء آخر(ٓٔ ،)ٔ9فً إشارة لطول مدة التجنٌد.
وتفننت برٌطانٌا -كعادتها -فً الحط من مستوى الجٌش؛ ألنه لو ارتفع لن ٌكون هناك مبرر لبلحتبلل
وحجة حماٌة قناة السوٌس ،والجٌش فً العشرٌنات ٌطلق علٌه جٌش من باب التجاوز ،عدده ٓٔ آالؾ
فقط ،ولم ٌكن به سبلح للطٌران وال بحرٌة ،وقال تقرٌر لجنة المالٌة بالبرلمان إن البطارٌات قدٌمة وال
ٌمكن إصبلحها ،والمدافع قلٌلة وعتٌقة ال تصل إال خردة ،وسعت الحكومة لشراء مدافع فٌكرز وهوٌدزر
ولكن برٌطانٌا عطلت وصولها(ٔٔ.)ٔ9
أما المٌزانٌة فمعظمها ٌذهب مرتبات لكبار الضباط من اإلنجلٌز والمستمصرٌن ذوي األصول التركٌة
والشركسٌة إلخ ،أما الجنود المصرٌٌن فٌدفعون من مرتباتهم الزهٌدة للعبلج ،وٌحصلون على وجبتٌن فقط
فً قروانات ،خالٌتٌن من الحلوى والفاكهة ،وال ٌحصلون على مبلبس شتوٌة ،وٌنامون على أسرة خشب
فً الدور األرضً أو على األرض فً الدور العلوي(ٕٔ.)ٔ9
وللعجب ،فإن مساعً البعض حٌنها لتقوٌة الجٌش لم تكن تشمل تحسٌن ظروؾ الجنود ،رؼم أن الثورة
رواها الفبلحون بدماءهم إلنصاؾ هإالء ومبلٌٌن الفبلحٌن المهضومة حقوقهم ،فعندما طرح نابب استجوابا
عن سوء حالة الجنود قال له ربٌس مجلس النواب بالنٌابة" :وهل فاتنا من أٌن ٌؤتً العساكر؟ (ٌقصد أنهم
ٌؤتون من الرٌؾ ومعتادون على الحرمان) فرد النابب" :نرٌد أن نتقدم كباقً األمم" ،فقال الربٌس" :إذا
تعود العسكري ما ترٌده له من المعٌشة المرفهة فماذا ٌصنع إذا عاد إلى بلده؟ وذلك حسبما ورد فً
مضبطة البرلمان لجلسة .)ٔ9ٖٔ(ٔ9ٕٙ-9-ٙ
ولكن أفلحت بعض المحاوالت للتخفٌؾ عن الجنود بخفض البرلمان مدة التجنٌد إلى ٖ سنوات سنة ،ٔ9ٕ9
()ٔ9ٓ9
-المذكرات ،محمد كرد علً ،مرجع سابق ،ص ٕٔ٘8
(ٓٔ)ٔ9
-انظر :الجٌش المصري فً السٌاسة (ٕ ،)ٔ9ٖٙ-ٔ88مرجع سابق ،ص ٘ٗٔ
(ٔٔ)ٔ9
-انظر :نفس المرجع ،ص ٕٔ9 -ٕٔٙو ٕٕ8
(ٕٔ)ٔ9
-انظر نفس المرجع ،ص ٕٕٕٕٕٖ -
(ٖٔ)ٔ9
-انظر نفس المرجع ،ص ٖٕٕٕٕٗ -
٘ٔ7
أما "النقلة" العظٌمة فجاءت على صدى انتفاضة ٖ٘ ٔ9فمعاهدة ٔ9ٖٙنصت على سحب البرٌطانٌٌن من
الجٌش ،وزٌادة عدد ضباطه ،وعلى حس الحاجة ألعداد كبٌرة من الضباط انفتح الباب أمام الفبلحٌن لدخول
الكلٌة الحربٌة والترقً فً رتب الضباط بعد أن ظلت حكرا على أبناء العاببلت المجنسة ،وهذا فتح مبٌن
فً تارٌخ الجٌش ،فهذه أول مرة منذ عودة المصرٌٌن للتجنٌد ٌدخلون الكلٌات الحربٌة ،ألنه حتى حٌن
أصبحوا ضباطا أٌام الوالً سعٌد كانت الترقٌة من تحت السبلح.
وأول دفعة بها فبلحٌن دخلت الكلٌة الحربٌة سنة ،ٔ9ٖٙوالبلفت أنه منها تكونت حركة "الضباط
األحرار" ،فقد كانوا ٌحملون فً قلوبهم وعقولهم هموم وشكاوى وأحبلم أهالٌهم البسطاء فً الرٌؾ
والحواري(ٗٔ ،)ٔ9وبعضهم كان مشاركا فً انتفاضة ٖ٘ ٔ9مثل جمال عبد الناصر ،وهو أمر له مؽزى
كبٌر ،أن أول دفعة مصرٌة تصبح من الضباط من تحت السبلح تقوم بثورة ٔ ،ٔ88وأول دفعة مصرٌة
تصبح من الضباط بدخولها الكلٌة الحربٌة تقوم بثورة ٕ٘ ،ٔ9واضعٌن أرواحهم ومستقبلهم الزاهً
والمكاسب التً حصلوا علٌها من رتب الضباط فً مهب الرٌح؛ فكؤن المصري الحق ال ٌضٌق مدام حمل
السبلح أن ُتذل مصر لؤلجنبً ،موقنا بؤن الجٌش ما ُخلق إال لتعٌش حرة.
هكذا علمهم حور الفبلح المقاتل ،أول المنتصرٌن على الؽاصبٌن :تحٌة لكً ٌا عٌن حور.
ورؼم فتح الباب فلم ٌكن دخول الفبلحٌن للجٌش هٌنا ،فالكلٌة الحربٌة اشترطت -صراحة -أن ٌؤتً المتقدم
بواسطة ،فٌقول أنور السادات حاكٌا تجربته فً دخول الكلٌة " :ٔ9ٖٙولكن رؼم هذه التسهٌبلت الجدٌدة
التً واكبت رؼبتً فً دخول الكلٌة الحربٌة لم ٌكن التحاقً بهذه الكلٌة -وهو منتهى أملً حٌنذاك -باألمر
السهل ،صحٌح أنهم سمحوا ألبناء الطبقة المتوسطة والفقٌرة بدخول الكلٌة ،ولكن كان باستمارة الدخول
شرطان :دخل األب وثروته ثم الواسطة ..وفً كشؾ الهٌبة كان ٌُنادى رسمٌا علٌنا ..فبلن ابن فبلن..
وواسطته فبلن(٘ٔ.")ٔ9
وبذلك فالكلٌة المست الفبلحٌن ،لكن اشترطت الدخل الثابت -أي ٌكون األب موظفا أو ٌمتلك أرضا تدر
دخبل ثابتا -إضافة للواسطة ،فظل العدد األكبر من الفبلحٌن وهم األجرٌة فً األرض وعمال التراحٌل
والعاملٌن بالٌومٌة فً الورش والمحبلت والحرفٌٌن مثبل خارج القبول رؼم أحقٌتهم.
ما تعددت األعراق والجالٌات والهوٌات ،واألحزاب ،والراٌات ،إال تخلقت وتحكمت العصابات
(ٗٔ)ٔ9
-انظر :المرجع فً تارٌخ مصر الحدٌث والمعاصر ،نخبة من أساتذة التارٌخ ،المجلس األعلى للثقافة ،،ص ٘ٙ7
*** فً إحدى الجلسات سخر زمٌل صحفً من ثورة ٖٕ ٌولٌو ومن فٌلم "رد قلبً" الذي ٌظهر مظالم ما قبل ٕ٘ ٔ9قابال كٌؾ كان الملك ظالما
فً حٌن ٌدخل علً ابن الجناٌنً الكلٌة الحربٌة؟! وهو ال ٌعلم أن دخول الفالحٌن للكلٌة لم ٌكن بفضل الملك ،ولكن بفضل الدماء والتضحٌات التً
قدمها الفالحون أنفسهم فً ثورتً ٔ ٔ88و ٔ9ٔ9وانتفاضة ٖ٘ ٔ9اللتٌن أجبرتا اإلنجلٌز والملك على التفاوض وخرجت معاهدة ٔ9ٖٙالتً
نصت على زٌادة عدد الجٌش؛ وألن عدد العابالت التركٌة والؽنٌة عموما ال ٌفً بالعدد الذي ٌتطلبه الجٌش فاضطر الملك واإلنجلٌز اضطرارا لفتح
ال باب أمام الفالحٌن فً الكلٌة الحربٌة ،مشترطٌن رؼم هذا وجود واسطة من باشا فما فوق ،ولو األمر بٌد الملك واإلنجلٌز وحدهما ما انفتح هذا
الباب أبد ا ،وحبس ونفً وقتل الضباط وإبادة الجٌش بعد ثورة ٔ ٔ88خٌر شاهد.
(٘ٔ)ٔ9
-البحث عن الذات ،محمد أنور السادات ،المكتب المصري الحدٌث ،طبعة خاصة ،القاهرة ،ٔ98ٓ ،ص ٕٕ
7ٔٙ
والملٌشٌات.
لم نر فً مصر طوال أزمنة حرٌتها فً الحكم المصري القدٌم أنها بلد ملٌشٌات ،عدا فترات تعتبر
شذوذا عن طبٌعة مصر ومخالفة للعهد حٌن انحرفت وؼفلت الحكومة عن دورها ،فسقطت فً الهاوٌة كما
حصل فً فترات الفوضى "إزفت" ،ورأٌنا دور المستوطنٌن األجانب خبللها فً نشر الملٌشٌات واإلرهاب.
ولم تصبح الملٌشٌات عادة إال أٌام االحتبلالت ،وصناع الملٌشٌا هم المحتلون والمستوطنون لٌتقووا بها ضد
المصرٌٌن أو ضد بعضهم أو ضد السلطة ،فمؤلوا مصر ببرك دماء ال تجؾ وؼبار معارك ال ٌنقشع إال قلٌبل.
وفً العصر الحدٌث قلَّت ظاهرة الملٌشٌات بعد مذبحة الممالٌك وظهور الجٌش النظامً أٌام محمد علً
وحتى أٌام إسماعٌل -عدا ملٌشٌات العربان -ثم عادت فً األفق مرة ثانٌة باالحتبلل اإلنجلٌزي بؤن انتشرت
مجددا بٌن الجالٌات بؤن تسلح الٌهود والٌونان والطلٌان والفرنسٌس ،بل واتخذت الملٌشٌات شكبل "قانونٌا"
بعمل شرطة أوروبٌة مخصوصة لؤلحٌاء التً ٌسكنها األوروبٌون.
أما الجدٌد فً هذا االحتبلل أن مصرٌٌن انسلخوا من ماعت وتورطوا فً عمل ملٌشٌات لقتل إخوتهم
المصرٌٌن وهم "مقتنعون" أنها لٌست ملٌشٌا ،بل وسٌلة "شرعٌة" لنصرة الدٌن أو الفقراء أو اإلنسانٌة بعد
أن خطفتهم "النداهة" من تٌار إخوانً وشٌوعً أو تؤثرا بالفاشٌة والنازٌة مثل التنظٌم الخاص التابع
لئلخوان المسلمٌن ،وملٌشٌا جند محمد المنشق عنه ،وملٌشٌا القمصان الخضر التابعة لـ"مصر الفتاة"،
وملٌشٌا القمصان الزرق التابعة لحزب "الوفد" ،بل ودخل الملك فاروق حلبة الصراع بملٌشٌا "الحرس
الحدٌدي" ،وهذه الملٌشٌات لم تكن موجهة لبلحتبلل اإلنجلٌزي فً األساس ،بل لصدور المصرٌٌن ،كل
حزب صنع ملٌشٌا لٌرهب خصومه.
وأول تنظٌم ملٌشٌاوي كبٌر ٌوجه سبلحه لصدور المصرٌٌن هو ملٌشٌا "التنظٌم الخاص" التابع ل،
"اإلخوان المسلمٌن" ،صاحب الٌد السودا فً اؼتٌال أحمد الخازندار ورجال أمن وحتى ربٌس الوزراء
محمود فهمً النقراشً ،كما كان للتنظٌم ملٌشٌا أخرى من فرقة الجوالة تلبس "القمصان الكاكً".
وبالتزامن كوَّ ن حزب "مصر الفتاة" بقٌادة أحمد حسٌن ملٌشٌا "القمصان الخضر" فً الثبلثٌنات ،وأطلق
على أعضابه اسم "المجاهدون" ،وبعد تصاعد الخبلؾ بٌن "مصر الفتاة" وحزب الوفد أطلق عز الدٌن عبد
القادر عضو "مصر الفتاة" النار على مصطفى النحاس سنة ٔ9ٖ9انتقاما من منع حكومته إقامة معسكر
لتدرٌب زمبلبه.
وٌقول الدكتور عاصم الدسوقى ،أستاذ التارٌخ المصري المعاصر بجامعة حلوان ،إن ظاهرة تسلٌح
األحزاب لمواجهة بعضها البعض انتقلت إلى مصر من التجربتٌن األلمانٌة واإلٌطالٌة ،فمن أجل مواجهة
التٌارات الدٌمقراطٌة والشٌوعٌة كون هتلر فرقة ترتدى قمصانا بنٌة وموسٌلٌنى كون فرقة ترتدى القمصان
7ٔ7
السوداء( ،)ٔ9ٔٙوانتقل األمر لمصر بسبب ضعؾ الدولة المفروض أنها المحتكر الوحٌد للسبلح .
وانزلق حزب الوفد رؼم بداٌته المشرفة فً هوة الفخ المستورد ،وش َّكل مصطفى النحاس فً الثبلثٌنات
ملٌشٌا "القصمان الزرق" ،لبلستقواء بها ضد خصومه وضد الملك رؼم أنه كان ٌتولى الوزارة من حٌن
آلخر ،ولنا أن نتخٌل أن حكومة ٌكون لها ملٌشٌا ترهب بها خصومها من بقٌة األحزاب والحركات أو أي
شخصٌات معارضة لها رؼم أن وظٌفة الحكومة هً منع التحارب بٌن أبناء الوطن ،وفوق هذا أنفق الحزب
على هذه الملٌشٌا من بند المصروفات السرٌة لوزارة الداخلٌة ،أي من مال الشعب الكادح( )ٔ9ٔ9الذي ٌتوق
لصرؾ هذا المال على تقوٌة الجٌش والداخلٌة فً مواجهة االحتبلل والفسدة ال فً صراعات األحزاب على
الحكم ونشر اإلرهاب.
وسعى الوفد لرفع عدد أعضاء هذه الملٌشٌا الوباء إلى ٓٓٔ ألؾ ،وهو عدد أضخم من عدد الجٌش
نفسه ،تقسم قسم والء لمصطفى النحاس ذاته ،ونص القسم" :أقسم باهلل أن أظل مجاهدا لوطنً تحت لواء
زعٌمً مصطفى النحاس آلخر رمق من حٌاتً"(.)ٔ9ٔ8
ففً األربعٌنات اشتد الخبلؾ بٌن فاروق وعدة أحزاب خاصة حزب الوفد بعد حادثة ٗ فبراٌر ٕٗٔ9
التً كاد اإلنجلٌز ٌجبرونه فٌها على ترك الحكم ،فاستقطب عددا من ضباط الجٌش ،على رأسهم الضابط
الطبٌب ٌوسؾ رشاد ،لعمل تشكٌل هدفه التخلص من خصوم الملك سوا حزب الوفد أوؼٌره ،إضافة إلى
عمل مناوشات مع اإلنجلٌز.
ولم ٌكن ٌوسؾ رشاد بالطبٌب أو الضابط العادي ،فقد بدأت عبلقته بالملك سنة ٖٗٔ9حٌن نجح فً عبلجه
من حادثة مرور وقعت لسٌارته فً القصاصٌن باإلسماعٌلٌة ،فنقله للعمل كطبٌب خاص فً القصر ومعه زوجته
التركٌة ناهد رشاد وجعلها وصٌفة أخته فاٌزة ،فاكتسبا ثقة الملك ،وبتكلٌؾ من فاروق أقنع ٌوسؾ رشاد ٙضبا
بعمل التشكٌل المسلح على أساس أن قٌادات حزب الوفد "خونة" لسكوتهم على ما فعله اإلنجلٌز بحصار
قصر عابدٌن فً ٗ فبراٌر ٕٗ ،ٔ9ونفذوا كذا محاولة لم تنجح الؼتٌال مصطفى النحاس بالتفجٌرات أمام
منزله فً ٔ9ٗ8أو بنسؾ قطار ٌستقله إلى الصعٌد( ،)ٔ9ٔ9كما حاولوا اؼتٌال رفٌق الطرزي ،أحد قٌادات
الوفد الشابة ،واؼتالوا الوزٌر من حزب الوفد أمٌن عثمان.
وبجانب استهداؾ المصرٌٌن ،استهدؾ تنظٌم "الحرس الحدٌدي" خصوم الملك من الشٌوعٌٌن ،مصرٌٌن
وأجانب ،وبعض اإلنجلٌز ،وٌصؾ سٌد جاد ،أحد أعضاء التنظٌم ،فً مذكراته التً حملت اسم "الحرس
()ٔ9ٔٙ
-قبل ٖٕ ٌولٌو اختلفت األلوان والهدؾ واحد! ،موقع جرٌدة المال ،بتارٌخ ٖٕٖٔٓٔ -ٔ -
()ٔ9ٔ9
-انظر :أصحاب القمصان الملونة ..األمة تستخدم الشرطة علً األمن العام ال إلخضاعها إدارة األمن العامٌ ،ونان لبٌب رزق ،صحٌفة
األهرام ،العدد ٔ ،ٖٕٗ9بتارٌخ ٕٓٓ٘ -ٙ -ٔٙ
()ٔ9ٔ8
-انظر :تارٌخ الوزارات المصرٌة ٌ ،ٔ9ٖ٘ -ٔ898ونان لبٌب رزق ،مرجع سابق ،ص ٗٓٓ -ٖ9ٙ
()ٔ9ٔ9
-الحرس الحدٌدي كٌؾ كان الملك فاروق ٌتخلص من خصومه ،سٌد جاد ،الدار المصرٌة اللبنانٌة ،ص ٔ٘
7ٔ8
الحدٌدي كٌؾ كان الملك فاروق ٌتخلص من خصومه" بعض أعضاء التنظٌم بـ"التطرؾ" ،و"ناهد رشاد"
بؤنها "الملكة السرٌة والحقٌقٌة" لمصر؛ لتؤثٌرها على الملك لما تولت منصب كبٌرة الوصٌفات(ٕٓ.)ٔ9
وتسبب اختبلؾ انتماءات األعضاء السٌاسٌة ،ما بٌن موالً للملك أو شٌوعً أو موالً لتنظٌم اإلخوان
المسلمٌن أو مقربٌن من النازٌة خبلل الحرب العالمٌة أو ببل انتماء ،فً فشل معظم عملٌاتهم ،ثم بدأت
االنشقاقات داخل التنظٌم ما بٌن موالً بشكل تام للملك وما بٌن معارض له ،ودخلوا فً مرحلة تصفٌة بعضهم
.
(ٕٔ)ٔ9
فً أتفه خبلؾ ولو كان على حب امرأة
وساءت العبلقة بٌن التنظٌم وفاروق لما أصابه الضجر واإلحباط بعد تمكن حزب الوفد من الحكم،
ورأى كل طرؾ أن اآلخر عبء علٌه ،حتى أن بعض أعضاء التنظٌم مثل مصطفى كمال صدقً دعا لقتل
فاروق ،ومنه من هدده لما "كره مصر والمصرٌٌن والحرس الحدٌدي وقبل لقب جنرال فخري" فً الجٌش
اإلنجلٌزي -بتعبٌر سٌد جاد -ونفذ فعبل حسن فهمً عبد الحمٌد محاولة اؼتٌال له من أعلى منزل ٌطل على
القصر(ٕٕ.)ٔ9
وبذلك دخل الملك مرحلة أبشع فً إساءة استخدام منصبه ،فبعد أن تورط فً صنع ملٌشٌا ،ورَّ ط ضباطا
فً الجٌش والداخلٌة لبلشتراك فٌها ،ثم دفعهم لرفع السبلح على بعض لٌضع البلد على حافر االنفجار
وحرب أهلٌة لو توسع األمر.
واعترؾ سٌد جاد أنه كان ٌخطط لتوسٌع "الحرس الحدٌدي" حتى ٌكون مجرد إرسال بطاقة للشخص
المستهدؾ كافٌة إلعادته للخط الملكً ،وإال ٌكون فً انتظاره مدافع "األشمٌزر" ،واألخطر أنه كان ٌخطط
لتشكٌل حرس حدٌدي لئلسبلم وحرس حدٌدي للعرب -بحسب تعبٌره -فإذا خرج أحد الرإساء عن الصؾ
اإلسبلمً أو العربً اخترقت جثته رصاصات "األشمٌزر"(ٖٕ ،)ٔ9وهو ما ٌشبه فً الوقت الحالً ملٌشٌا
(ٕٗ)ٔ9
الحرس الثوري اإلٌرانً التً ٌستخدمها النظام اإلٌرانً فً إرهاب خصومه فً الداخل والخارج
وتصبح مصر دولة إرهابٌة ..فإلى أٌن كان هإالء الناس ٌنوون أن ٌذهبوا بمصر؟!
وهكذا ..لكل جالٌة ملٌشٌا تتحفز لؤلخرى ،وللمعارضة والحكومة واألحزاب والتنظٌمات الدٌنٌة
ملٌشٌات ،وللملك ملٌشٌا ،ورواٌح اإلرهاب األحمر تفوح من كل شارع ،والجٌش والداخلٌة ٌتفتت والبهما
بٌن مصر والملك واألحزاب والملٌشٌات وتٌارات الهكسوس ،ومعظم الشباب ضاٌع وحاٌر ..و"ماعت"
تختنق.
(ٕٓ)ٔ9
-نفس المرجع ،ص ٘ٔ
(ٕٔ)ٔ9
-نفس المرجع ،ص ٕٕ٘ٙ -
(ٕٕ)ٔ9
-المرجع السابق ،ص ٕٕ ؤ 9ؤٗ8
(ٖٕ)ٔ9
-الحرس الحدٌدي ..كٌؾ كان الملك فاروق ٌتخلص من خصومه ،سٌد جاد ،مرجع سابق ،ص ٕٕ٘ٙ -
(ٕٗ)ٔ9
-ملٌشٌا الحرس الثوري أنشؤها الخمٌنً عقب الثورة اإلٌرانٌة ٔ979لتكون تنظٌما موازٌا للجٌش ٌستخدمه ضد خصومه وٌمنع الجٌش من
أن ٌؽٌر نظام الحكم الثوري الذي ٌصفه الخمٌنً باإلسالمً ،وله دور فً دعم الجماعات اإلرهابٌة فً البلدان التً تستهدؾ إٌران السٌطرة علٌها
مثل مصر والعراق والٌمن ولبنان وسورٌا ونٌجٌرٌا ،ومن أذرعه حركات حماس والصابرٌن والجهاد اإلسالمً بفلسطٌن وجماعة حزب هللا بلبنان
وٌتحالؾ مع تنظٌم اإلخوان المسلمٌن وتنظٌمات إرهابٌة أخرى فً مصر.
7ٔ9
❼❷ (ٔ )7وزارة فً (٘ )7سنة
حٌن أراد المإرخ المصري مانٌتون أن ٌصؾ الفوضى التً ضربت البلد فً "الزفتة األولى" بعد تفرد
بعض المحافظٌن بإدارة المحافظات وثرواتها بعٌدا عن الحكومة المركزٌة ونشر األجانب الفتن فٌها؛ ما
أدى لسقوط األسرة ٙقال إنه لم ٌستقر فً مصر حاكم ٌلتؾ حوله الناس ،حتى أنه حكمهآ 9ملكا فً ٓ9
ٌوما ،وٌبدو أنها صٌؽة مبالؽة للتعبٌر عن عدم االستقرار.
ومنذ ،ٔ9ٖ٘ -ٔ898أي خبلل ٘ 9سنة بداٌة من أول وزارة فً تارٌخ مصر الحدٌث وحتى سقوط
عابلة محمد علً ،شهدت مصر ٔ 9وزارة ،بمتوسط وزارة كل عام ،وفً عهد فاروق وحده (٘ٔ سنة)
تولت ٖٕ وزارة(ٕ٘ ،)ٔ9وهذا أٌضا عدد مهول ٌدل على عدم االستقرار فً ظل الروح الحزبٌة.
فتعبؤت فترة حكم فاروق بضجٌج حزبً وصراعات محمومة بٌن األحزاب وبعضها أو بٌن األحزاب والملك،
أو داخل الحزب الكبٌر نفسه (الوفد) ،وتؽٌر سرٌع فً الوزارات التً لم ٌدم بعضها إال أٌاما؛ ما أدى لعدم إنجاز
مشارٌع تنمٌة واسعة وحقٌقٌة ،بل إن بعض الوزارات تعمدت إٌقاؾ مشارٌع وزارات سابقة حتى ال ٌُحسب
نجاحها للحزب المنافس الذي كان ٌشكل تلك الوزارات.
اتسمت معظم األحزاب بالطبقٌة ،فمثبل حزب "األحرار الدستورٌٌن" تبع كبار متملكً األرض ،وحزب
"الهٌبة السعدٌة" تبع الطبقة البرجوازٌة ،وفً وقت سابق كان ٌوجد حزبا "االتحاد" و"الشعب" تبع الملك
مباشرة -حل محلهما الحرس الحدٌدي فٌما بعد -فٌما كان حزب الوفد الوحٌد "للكل" ،قبل أن ٌتشظى إلى
أحزاب وٌتحول بدوره إلى حزب لكبار المتملكٌن ولٌس للشعب بداٌة من الثبلثٌنات ،وهو ما جعل األحزاب
تستعلً على الشعب مثلما حدث فً مواقفها المتعنتة إزاء الملكٌة الزراعٌة وأحوال الفبلحٌن وجنودهم،
وٌرى بعضها أنه ٌكفٌهم عٌشة أكل العٌش الناشؾ والبصل وسكن األكواخ.
وٌعرض المإرخ الشهٌر الدكتور ٌونان لبٌب رزق فً كتابه الجامع "تارٌخ الوزارات المصرٌة -ٔ898
ٖ٘ "ٔ9مبلمح هذا االضطراب الكبٌر.
ومنها أنه بعد تولً فاروق الحكم سنة ٔ9ٖ9تفجرت أول مواجهة بٌنه وبٌن وزارة حزب الوفد حٌن
طلب الملك أن ٌكون قسم الجٌش على الوالء للملك ،فٌما طلب الوفد أن ٌكون قسم الجٌش على الوالء
للدستور؛ كً ٌترك للجٌش مساحة التحرك ضد الملك إذا واصل سٌرة أسبلفه فً اإلخبلل بالدستور،
وحاول أن ٌحد من صبلحٌات الوزارة التً ٌطمع الوفد فً أن ٌتوالها معظم األوقات.
واستعرض كل منهما قوته على اآلخر ،فسٌَّر حزب الوفد مظاهرات ضد الملك تهتؾ "النحاس أو
الثورة" ٌقودها ملٌشٌا القمصمان الزرق ،وسٌَّر الملك مظاهرات من طلبة األزهر تهتؾ له وهو ٌخرج
ٌحٌٌها ،وتدخل اإلنجلٌز على خط األزمة فؤبلػ السفٌر البرٌطانً الملك فً لقاءه ٌوم ٕٓ دٌسمبر ٔ9ٖ9
(ٕ٘)ٔ9
-راجع تارٌخ الوزارات المصرٌة ٌ ،ٔ9ٖ٘ -ٔ898ونان لبٌب رزق ،مركز الدراسات السٌاسٌة واالستراتٌجٌة باألهرامٔ99٘ ،
ٕٓ7
بؤنه قد ٌفقد ثقة برٌطانٌا إذا ما استمر فً سٌاسته ،وأنه بذلك ٌعرض عرشه للخطر(.)ٔ9ٕٙ
وتوصل الوفد والملك إلى صفقة بؤن ٌوافق الوفد على قسم الجٌش بالوالء للملك ولٌس الدستور ،وأن
ٌحل الوفد ملٌشٌا القمصان الزرق ،مقابل أن ٌترك الملك للوفد تعٌٌن أعضاء مجلس الشٌوخ وسن قوانٌن
دون الرجوع للملك ،وتعٌٌن أو فصل الموظفٌن بكل درجاتهم(.)ٔ9ٕ9
وؼٌَّر فاروق فً شعار الجٌش من (هللا ،الوطن ،الملك) إلى (هللا ،الملك ،الوطن) تعالٌا على مصر ،فجعل
نفسه أكبر منها ومقدما علٌها(.)ٔ9ٕ8
ؼٌر أن الصدامات استمرت ،خاصة بعد تدخل أحزاب المعارضة وأحمد ماهر ربٌس مجلس النواب على
الخط وشن حملة على وزارة الوفد تتهمها بؤنها "أفسدت األمن والتعلٌم وخنقت الحرٌات" ،وانتهى األمر بإقالة
الوزارة.
واستمر هذا النوع من المكاٌدات فً إقالة وتعٌٌن الوزارات حتى تولد عن هذا الجو حادث ٗ فبراٌر
ٕٗ ٔ9البؽٌض ،تحركت الدبابات البرٌطانٌة إلى سراٌا عابدٌن فً قلب القاهرة لتجبر الملك على اإلتٌان
بخصمه اللدود حزب الوفد--الذي ٌراه الملك التهدٌد الوحٌد لنفوذ عابلة محمد علً منذ عرابً -وقدم السفٌر
البرٌطانً المبسون للملك ورقة التنازل عن العرش إذا لم ٌكلؾ مصطفى النحاس بالوزارة( .)ٔ9ٕ9فؤذعن
فاروق كعادة آبابه.
وبتعبٌر ٌونان لبٌب رزق ،فهذا الحادث بداٌة النهاٌة لحزب الوفد ،وبداٌة النهاٌة للملك أٌضا ،أي سحب
الشعبٌة من كل منهما ،فخصوم حزب الوفد أظهروه بمظهر من أتى على دبابات اإلنجلٌز ،والملك ظهر
بمظهر الضعٌؾ الذي ال ٌستطٌع أن ٌكلؾ أو ٌقٌل الوزارة إال برضا االحتبلل ،وفً ذات الوقت أعطى هذا
الفراغ فً الزعامة الفرصة لعلو نجم الشٌوعٌٌن وتنظٌم "اإلخوان المسلمٌن" ،وبدأت تتبلور نواة تنظٌم
الضباط األحرار داخل الجٌش(ٖٓ )ٔ9ؼضبا من أن تصل المهانة بالبلد إلى حد أن ٌظل ،بعد كل هذا الكفاح،
من ٌحكمها ٌعٌنه اإلنجلٌز.
وأتاح هذا التفكك للجالٌات التدخل لدى برٌطانٌا لتعٌٌن أو إقالة الوزراء حسب مصالحها ،مثلما حدث
حٌن تدخلت برٌطانٌا فً التعدٌل الوزاري فً وزارة النحاس ٖٗ ٔ9بؤن طلبت سحب وزارة الشبون
االجتماعٌة من عبد الحمٌد عبد الحق ألنه أصدر بٌانات "أزعجت" الجالٌة األجنبٌة(ٖٔ.)ٔ9
أما شعبٌا ،فالشارع ٌؽلً من كذا اتجاه ،إما لدوافع وطنٌة بحتة تطالب بالجبلء وتهاجم األحزاب والفساد
والؽبلء ،أو بدوافع من تنظٌم اإلخوان والشٌوعٌٌن الذٌن ٌرٌدون ملء الفراغ ،فتحركت مثبل مظاهرات
()ٔ9ٕٙ
-المرجع السابق ،ص ٕٖٓٗٗٓ -
()ٔ9ٕ9
-نفس المرجع ،ص ٕٖٓٗٗٓ -
()ٔ9ٕ8
-انظر :مقدمات ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘ ،ٔ9عبد الرحمن الرافعً ،ط ٖ ،دار المعارؾ ،القاهرة ،ٔ989 ،ص ٗٔ9
()ٔ9ٕ9
-انظر المرجع السابق ،ص ٕٖ٘ٗٗٙ -
(ٖٓ)ٔ9
-تارٌخ الوزارات المصرٌة ،ٔ9ٖ٘ -ٔ898مرجع سابق ،ص ٖٗ9 -ٖٗٙ
(ٖٔ)ٔ9
-نفس المرجع ،ص ٖ٘ٗ
ٕٔ7
الطلبة الشهٌرة ٕٔ فبراٌر ٔ9ٗٙمن جامعة القاهرة باتجاه مٌدان اإلسماعٌلٌة (التحرٌر) ،وبحركة ؼادرة
انفتح كوبري عباس لٌتساقط الطلبة شهداء ؼرقى فً مٌاه النٌل األسمر الذي احتضنهم باكٌا -كما احتضن
أوزٌر من قبل -أن ٌكون هذا مصٌرهم بعد الثورات التً قامت بها البلد لتعود مصر إلى حرٌتها وتكون هً
فوق الجمٌع.
وشاركت السٌارات البرٌطانٌة فً دهس المتظاهرٌن خبلل مسٌراتهم(ٕٖ)ٔ9؛ ما زاد من عدد الشهداء
لٌصل إلى العشرات ،ونظمت الجامعات والمدارس والمحبلت إضرابات وتظاهرات تحٌة للشهداء ،وأصبح
هذا الٌوم فٌما بعد ٌوم الطالب العالمً.
تحت هذه الضؽوط فتحت الحكومة جولة جدٌدة من المفاوضات مع برٌطانٌا على الجبلء ،وش َّكل
النقراشً من حزب الهٌبة السعدٌة فرٌق التفاوض ،فٌما رفض حزب الوفد المشاركة فً الفرٌق بعد رفض
شرطه بؤن ٌكون نصؾ األعضاء من حزبه وأن ٌرأس الفرٌق(ٖٖ ،)ٔ9فهو أراد ترإسه حتى إذا ما أحرز
المفاوضون نصرا ٌُنسب للوفد ال للهٌبة السعدٌة ،حتى أنه لما لجؤ النقراشً لمجلس األمن الدولً لحل
القضٌة المصرٌة أرسل الوفد برقٌة إلى المجلس ٌقول فٌها" :الحكومة المصرٌة التً رفعت دعوى أمام
مجلس األمن ال تمثل على أي وجه شعب وادي النٌل"(ٖٗ.)ٔ9
حركة ؼدر فً الصمٌم ..فكٌؾ لحزب أن ٌحرج حكومة ببلده أمام العالم وهً تطالب االحتبلل بالجبلء
عن بلدها وتشحذ همة العالم لٌناصرها فً ذلك ،وٌقول إنها ال تمثل الشعب لمجرد منافسات حزبٌة على
الحكم؟ ولكن هكذا ،إذا ما تمكنت الحزبٌة الدخٌلة من النفوس هانت بداخلها األوطان.
وواجه النقراشً أسالٌب التحاٌل والكذب التً تسلحت بها برٌطانٌا لتتبرأ من أي وعود بالجبلء ،حتى
ض َّج النقراشً ووصؾ اإلنجلٌز بالقراصنة فً خطابه أمام مجلس األمن ٔ9ٗ9-8-ٕ8قاببل عن معاهدة
ٔ9ٖٙإنها لٌست إال "أثر من آثار أٌام القراصنة التً ٌجهد العالم فً نسٌانها"(ٖ٘.)ٔ9
وانتهت هذه الجولة باؼتٌال النقراشً فً ٔ9ٗ9على ٌد تنظٌم اإلخوان المسلمٌن بحجة الرد على
قراره بحل التنظٌم ،وإن كانت أصابع برٌطانٌا ٌمكن أال تكون بعٌدة عن األمر ،خاصة أنه بعد عودته أعلن
أن خطة وزارته تجاهل إنجلترا تجاهبل تاما و"أننا سنولً وجهنا شطر الجٌش المصري سٌاج الوطن،
فنقوٌه بزٌادة عدده واالستعانة بالدول األخرى لجلب عِ دده والخبراء والمستشارٌن البلزمٌن له ،وسندعم
اإلصبلح الداخلً ما فً وسعنا(.")ٔ9ٖٙ
وتجمعت السحب السودا فً سماء مصر مع ازدٌاد الؽلٌان ،حتى سعت األحزاب فً ٓ٘ ٔ9لؽسل ٌدها مما
(ٕٖ)ٔ9
-المرجع السابق ،ص ** * ٗ88حادثة تشبه ما تردد عن مشاركة سٌارات دبلوماسٌة لبعض السفارات فً دهس المتظاهرٌن سنة ٕٔٔٓ
(ٖٖ)ٔ9
-انظر نفس المرجع ،ص ٗ88
(ٖٗ)ٔ9
-المرجع فً تارٌخ مصر الحدٌث والمعاصر ،نخبة من أساتذة التارٌخ ،المجلس األعلى للثقافة ،ص ٘ٗ9
(ٖ٘)ٔ9
-فً أعقاب الثورة المصرٌة ثورة ،ٔ9ٔ9عبد الرحمن الرافعً ،جٖ ،دار المعارؾ ،طٖ ،ص ٕٖٙ
()ٔ9ٖٙ
-انظر :المرجع فً تارٌخ مصر الحدٌث والمعاصر ،ص ٘ٗ8
***والنقراشً هو صاحب قرار إنهاء وجود البعثة البرٌطانٌة العسكرٌة من الجٌش المصري ،ٔ9ٗٙوسبق هذا رفض الضباط المصرٌٌن بإباء
تنفٌذ أوامر الجٌش البرٌطانً تسلٌمهم األسلحة التً وزعها علٌهم خالل الحرب العالمٌة للدفاع عن مرسى مطروح من هجوم األلمان.
ٕٕ7
ٌنتظر البلد ،فؤرسلت أحزاب األحرار الدستورٌٌن والهٌبة السعدٌة والحزب الوطنً وؼٌرهم -عدا الوفد
الذي كان فً الوزارة -كتابا مشهورا لفاروق ٌحذر من أنه "فً الحاشٌة الملكٌة أشخاص ال ٌستحقون هذا
الشرؾ ،فؤساءوا النصح وأساءوا التصرؾ" ،وأن "النظام النٌابً قد أضحى حبرا على ورق" بتدخبلت
الملك ،وتنبؤوا بقٌام ثورة شعبٌة قابلٌن إن "احتمال الشعب مهما ٌطل فهو البد منته إلى حد ،وإننا لنخشى أن
تقوم فً الببلد فتة ال تصٌبن الذٌن ظلموا وحدهم ،بل تتعرض فٌها الببلد إلى إفبلس مالً وسٌاسً وخلقً
فتنتشر فٌها المذاهب الهدامة بعد أن مهدت لها آفة استؽبلل الحكم أسوأ تمهٌد" ،وأنه بسبب هذا االستؽبلل
"استفحل الؽبلء إلى حد لم ٌسبق له مثٌل ،وحرموا الفقٌر قوته الٌومً" ،وطالبوه بتصحٌح األوضاع
الدستورٌة "تصحٌحا شامبل وعاجبل"(.)ٔ9ٖ9
وٌقول محمد حسٌن هٌكل ،ربٌس حزب األحرار الدستورٌٌن ،فً مذكراته إن الملك ؼضب ؼضبا شدٌدا
على الذٌن أرسلوا الكتاب واحتفظ بؤسمابهم فً حافظته ٌخرجها بٌن الحٌن واآلخر حتى ال ٌؽفر لهم
أبدا(.)ٔ9ٖ8
وتحركت الرمال تحت أقدام الجمٌع ..فتوالت بشكل سرٌع الوزارات ،وزارة إبراهٌم عبد الهادي ،ثم
وزارة حسٌن سري باالتفاق مع تشابمان أندروز أحد مسبولً الخارجٌة البرٌطانٌة ،وهكذا ظلت ٌد برٌطانٌا
تتدخل فً اختٌار الوزارة حتى قبٌل ثورة ٖٕ ٌولٌو( ، )ٔ9ٖ9ثم وزارة الوفد سنةٓ٘ ٔ9فعلً ماهر فوزارة
الهبللً ،فحسٌن سري ،ثم من جدٌد الهبللً لمدة ٌوم ،وهو ٌوم ٕٕ ٌولٌو ٕ٘.ٔ9
وصلت نار االضطرابات إلى األزهر ،فعزلت الوزارة شٌخ الجامع األزهر عبد المجٌد سلٌم بعد ؼضب
الملك علٌه ألنه فً حدٌث لمجلة "آخر ساعة" انتقد الفساد وقال" :تقتٌر هنا وإسراؾ هناك".
وشهدت المرحلة صفقة بٌن الملك والوفد لتوازن السلطات ،حتى أن وزارة الوفد نصبت نفسها محامٌة
عن الملك فً االتهامات الموجهة لمن حوله ،وٌضرب محمد حسٌن هٌكل فً مذكراته مثال على ذلك من
موقعه كربٌس لمجلس الشٌوخ أنه لما قدم مصطفى مرعً استجوابا حول ما تردد عن استٌبلء كرٌم ثابت
(لبنانً) المستشار الصحفً للملك على ٘ آالؾ جنٌه من أموال جمعٌة المواساة ،وعن العبث فً صفقات
األسلحة والذخابر الفاسدة المستوردة من أوروبا للجٌش فً حرب ٔ9ٗ8دافع فإاد سراج الدٌن ،وزٌر
الداخلٌة العضو بحزب الوفد ،عن ثابت ،ونفى التهمة عن األسماء المذكورة ،وهم رجال الملك(ٓٗ.)ٔ9
وسط هذا كله ،ماذا كان ٌا ترى ٌدور فً نفوس وعقول المصرٌٌن منذ الثبلثٌنات حتى ثورة ٖٕ ٌولٌو
وهم ٌعٌشون هذه األحداث والصراعات ،وكٌؾ كانوا ٌنظرون للمستقبل؟
كان لتحوٌل األحزاب والملك الحركة الوطنٌة من "معركة تحرر شعبٌة" إلى صراعات على النفوذ
()ٔ9ٖ9
-انظر :تارٌخ الوزارات المصرٌة ،ٔ9ٖ٘ -ٔ898مرجع سابق ،ص ٗٔ٘ ،ومقدمات ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘ ،ٔ9عبد الرحمن الرافعً ،مرجع
سابق ،ص ٕٔٔ -ٕٓ9
()ٔ9ٖ8
-تارٌخ الوزارت المصرٌة ،ٔ9ٖ٘ -ٔ898مرجع سابق ،ص ٗٔ٘
()ٔ9ٖ9
-انظر :نفس المرجع ،ص ٓٗ98 -ٗ9
(ٓٗ)ٔ9
-انظر :نفس المرجع ،ص ٘ٓ٘٘ٓٙ -
ٖٕ7
تؤثٌره المدمر على نفسٌة الشباب الذي ؼرق فً مشوار البحث عن الذات وعن المخلص ،وتقاذفته أمواج
تٌارات الهكسوس والنظرٌات األجنبٌة المتطرفة فً كل المجاالت ،وانجذب للزعامات األجنبٌة الصاعدة
كهتلر وموسٌلٌنً بعد ؼٌاب الزعامة الوطنٌة(ٔٗ.)ٔ9
وفً رواٌة عنوانها معبر هً "نفوس مضطربة" صدرت عام ٔٗ ٔ9ألحمد زكً مخلوؾٌ ،قول
الراوي" :لقد زهق الشباب من جدل األحزاب وهذه الفتنة الضاربة بٌن الزعماء ،لماذا توجد فً الببلد
أربعة أو خمسة أحزاب؟ لماذا ٌكون عشرة أو عشرون زعٌما؟ وما هً سٌاسة كل حزب؟ وما هدؾ كل
زعٌم؟ ال أحب تكوٌن األحزاب بحالتها الراهنة ،إذ ال مبادئ مرسومة لها ،وال سٌاسة موضوعة ،وال
برامج لئلصبلح االجتماعً ،إنما هو زعٌق وصٌاح وسباب" (ٕٗ.)ٔ9
ولخص المشهد والتؤفؾ الشعبً من التعددٌة المرٌضة شهدي باشا فً رواٌة "الرجل الذي فقد ظله"
لفتحً ؼانم" :البلد فٌها دلوقت شٌوعٌٌن وإشتراكٌٌن وإخوان مسلمٌن وعفارٌت زرق ،ما كناش بنسمع
عنهم قبل الحرب" ،و"أتلفت األحزاب كل شًء فً البلد" بحسب تعبٌر أحمد حسٌن فً كتابه "إٌمانً"،
بالرؼم من أنه هو نفسه كان ربٌسا لحزب "مصر الفتاة"(ٖٗ.)ٔ9
وبتعبٌر ٌونان لبٌب رزق فإن النظام القدٌم -األحزاب والعٌلة العلوٌة -تآكل ،وصار المناخ مهٌؤ فً
انتظار قوى سٌاسٌة جدٌدة تنقض علٌه وتنهً استمراره الذي أصبح عببا على األمة(ٗٗ.)ٔ9
وهذه القوة إما "اإلخوان" المدعومٌن ؼربٌا أو الشٌوعٌٌن المدعومٌن شرقٌا ..أو الجٌش.
أما أسوأ ما فً األمر فهو أن عدوى التحزب انتقلت للجٌش ،فصار به خبلٌا إخوانٌة وخبلٌا شٌوعٌة
وخبلٌا وفدٌة وخبلٌا فاروقٌة (والبها لفاروق شخصٌا) ،بل وتشكل داخل الجٌش خلٌه صوفٌة عسكرٌة
بحسب ما سجله الضابط سٌد جاد أحد أعضاء ملٌشٌا الحرس الحدٌدي التابعة للملك فاروق فً كتابه(٘ٗ،)ٔ9
وهذا ٌذكرنا بؤن أعضاء تنظٌم "التضامن األخوي" الذي قتل بطرس ؼالً كان بعضهم أعضاء فً طرق
صوفٌة أٌضا؛ ما ٌفتح باب البحث فً األهداؾ الحقٌقٌة لهذه الطرق بداٌة من االحتبلل العبٌدي وحتى الٌوم.
و وزٌر الحربٌة ٌُختار بحسب االنتماء الحزبً للوزارة الحاكمة أو تبعا لوالبه للملك شخصٌا ،وكل خلٌة
إخوانٌة وشٌوعٌة ووفدٌة وصوفٌة تستؽل موقعها فً الجٌش لتخدم تٌارها ..وهكذا كان الجٌش -لو استمر
الحال سنوات قلٌلة أخرى -فً طرٌقه لٌكون أحزابا وشٌعا تصارع بعضها ال تصارع االحتبلل ،ووالبها
لؤلجانب ال للوطن ،فً صورة مرعبة تشبه الجٌوش المرتزقة والطابفٌة فً دول أخرى.
(ٔٗ)ٔ9
-انظر :مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن ،محمد جبرٌل ،مرجع سابق ،ج ٖ ،ص ٖٗ9
(ٕٗ)ٔ9
-المرجع السابق ،ص ٗٗ9
(ٖٗ)ٔ9
-انظر :مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن ،محمد جبرٌل ،مرجع سابق ،ج ٖ ،ص ٗ99
(ٗٗ)ٔ9
-تارٌخ الوزارت المصرٌة ،ٔ9ٖ٘ -ٔ898مرجع سابق ،ص ٖٔ٘
(٘ٗ)ٔ9
-الحرس الحدٌدي كٌؾ كان الملك فاروق ٌتخلص من خصومه ،مرجع سابق ،ٔ99ٖ ،ص ٔٔ9و ٖٔ8ؤٗ9
ٕٗ7
تحولت مصر ألحد أكبر مراكز التجسس والمإامرات والمكابد فً العالم بعد تحولها ألكبر مصب
لبلجبٌن والمجرمٌن والجالٌات األجنبٌة من كل الجنسٌات.
فهذه الجالٌات تنتمً لطوابؾ وتٌارات متصارعة كالمارون والشٌعة والكرد واإلخوان والقومٌون العرب
والشٌوعٌٌن والٌهود والفاشٌٌن واألرمن إلخ ،كما تنتمً لدول متحاربة ضد بعضها كفرنسا وروسٌا
وبرٌطانٌا وإٌطالٌا وألمانٌا وتركٌا والشام ولٌبٌا والٌونان.
كل هإالء ٌتجسسون على بعضهم البعض ،وٌكٌدون لبعضهم البعض؛ ما دفع النتشار ظاهرة الملٌشٌات
وتسلٌح كل طابفة وعرقٌة ،وتحولت مصر بعد انتشار الجٌش البرٌطانً فً أرجابها إلى سجن كبٌر،
خاصة فً فترتً الحربٌن العالمٌتٌن ،بما ارتبط بذلك من أحكام عرفٌة ومحاكمات عسكرٌة ونزح مالً فً
إعادة لمشهد انتشار الجٌش الرومانً فً مصر بكثافة لقمع الثورات المصرٌة.
وبلػ الجٌش البرٌطانً قبل ثورة ٖٕ ٌولٌوٕ٘ ٔ9بؤٌام ٘ 8ٓ -9ألؾ جندي ،فً مخالفة وقحة لمعاهدة
ٔ9ٖٙالتً نصت على أال ٌزٌد عن ٓٔ آالؾ من القوات البرٌة وٓٓٗ طٌار وموظفٌن إدارٌٌن( ،)ٔ9ٗٙبل
واستعد لجلب قوات أمرٌكٌة وتركٌة بحجة اضطراب األوضاع فً مصر والحاجة لتؤمٌن قناة السوٌس،
ووصِ ؾ حٌنها الوجود البرٌطانً بمصر بؤنه أكبر قاعدة عسكرٌة فً العالم.
وفً عز هذا المناخ المخٌؾ الذي ٌنبا بؤن مصر تمشً فً اتجاه سقوط كبٌر جدٌد على ٌد من ٌدعون
أنهم نخبة األمة وحكامها ومساعً برٌطانٌا والجالٌات إلى "البقاء لؤلبد" مرَّ ت ٌد هللا الحانٌة على مصر
ٌحول دفة السبلح المصري إلى صدر العدو ال إلى الصدر المصري. تهدئ روعها وترسل لها ما َّ
فبعد فشل المفاوضات بٌن وزارة الوفد وبرٌطانٌا ٔ٘ ٔ9لتعدٌل معاهدة ،ٔ9ٖٙفاجا ربٌس الوزارة
مصطفى النحاس المصرٌٌن والعالم ٌوم 8أكتوبر ٔ٘ ،ٔ9وفً مشهد تارٌخً وسط البرلمان بقوله إنه "من
أجل مصر" وقع معاهدة ،ٔ9ٖٙو"من أجل مصر أٌضا" ٌلؽً هذه المعاهدة(.)ٔ9ٗ9
أشرق وجه البلد بالفرحة والحماسة ،وأبدى الناس استعدادهم للبذل والتضحٌة ،فكانت المقاومة الشعبٌة
ضد القوات البرٌطانٌة على ضفاؾ القنال(.)ٔ9ٗ8
وهنا نتوقؾ قلٌبل عند مشاهد سرٌعة خبلل المقاومة ،ففً السوٌس مشهد ؼفلت عن تجسٌده شاشات
السٌنما والتلفزٌون رؼم ما به من أحداث تختصر معنى االحتبلل ،وذلك أن أرسكٌن ،القابد العام للقوات
البرٌطانٌة فً القناة ،طلب من محافظ السوٌس إخبلء حً أحمد عبده ،وفٌه ٖٓٓ أسرة ،بحجة شق طرٌق
()ٔ9ٗٙ
-مقدمات ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘ ،ٔ9عبد الرحمن الرافعً ،مرجع سابق ،ص ٖٖ٘ٙ -
()ٔ9ٗ9
-الثورة المضادة فً مصر ،ؼالً شكري ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرة ،ص ٔٔ9
()ٔ9ٗ8
-الثورة المضادة فً مصر ،ؼالً شكري ،مرجع سابق ،ص ٔٔ9
ٕ٘7
بٌن وابور تكرٌر المٌة ومعسكرات اإلنجلٌز فً ٘ دٌسمبر ٔ٘ ،ٔ9بعد شهرٌن من إلؽاء معاهدة ،ٔ9ٖٙ
فرفض المحافظ وبلػ وزارة الداخلٌة التً أمرته بعدم تنفٌذ أوامر االحتبلل وطالبته بمقاومته.
وبعد ٌومٌن فً 9دٌسمبر حشد االحتبلل قوة من ٙآالؾ جندي ،ب ٕٓ٘ دبابة وٓٓ٘ مصفحة وبؽطاء
من الطابرات الحربٌة ،وطوقت الحً فً اللٌل ،وهددت السكان باالقتحامٌ ،عزز إرهابها زمجرة البوارج
البرٌطانٌة فً المٌنا وهً مصوبة مدافعها ناحٌة المدٌنة فً حالة تؤهب لقصفها بالقنابل عند أول إشارة ،فً
نفس مشهد محاصرة البوارج البرٌطانٌة لئلسكندرٌة سنة ٕ ،ٔ88وفً المقابل كان السكان عزال ،وقوة
البولٌس فً المدٌنة ٓٓٗ جندي مسلحٌن بالبنادق ال ؼٌر ،فما كان من المحافظ إال أنه اضطر لمخالفة
وزارة الداخلٌة خوفا على السكان من سقوط البٌوت فوق رإوسهم حال قصؾ المدٌنة ،فؤخلى السكان الحً
حاملٌن القلٌل مما قدروا علٌه ،وخرجوا للمجهول ،ودمرت الدبابات الحً وحولته خرابا( ..)ٔ9ٗ9نفس ما فعلته
االحتبلالت السابقة ببل استثناء ،فكلهم ٌا عزٌزي إذا تمكنوا من مصر دواعش.
وفً قرٌة القرٌن بمحافظة الشرقٌة لما رأى رجالها الخطر ٌقترب ظلوا ساهرٌن لٌلهم حاملٌن سبلحهم
على عواتقهم ،فلما أؼار علٌهم اإلنجلٌز استشهد ٘ فبلحٌن فً حٌن قتلوا ٕٓ إنجلٌزٌا ،وكم كان األثر عمٌقا
فً النفوس أن ٌشهد العالم جنازة تضم ٘ شهداء فً موكب مهٌب ومن حولهم جموع الهاتفٌن مكبرٌن،
وأمامهم سارت الموسٌقى تعزؾ لحنا حزٌنا ،وأجراس الكناٌس تدق عالٌا وأصوات المإذنٌن تهلل وتكبر،
وما إن بلؽت الجنازة مقرها األخٌر حتى ارتفعت أصوات النساء ٌزؼردن فً فرح ال فً مؤتم ،ومن
الشهداء شهٌد لم ٌبلػ الحُلم فاستقبله رفاقه الصؽار عند القبر هاتفٌن باسمه "إلى جنة الخلد"(ٓ٘.)ٔ9
وفً اإلسماعٌلٌة ،التً شالت عببا ضخما فً المقاومة الشعبٌة؛ ألن قٌادة جٌش االحتبلل فٌها ،تكررت
استفزازات االحتبلل لؤلهالً ،واستعرض عضبلته على قوات األمن المصرٌة باالعتداء على ثكناتها من
ؼٌر سبب كالوحش الجابع ،وفً لٌل ٕٗ ٌناٌر ٕ٘ ٔ9احتشدت قوات ضخمة من البرٌطان بالدبابات
ومدافع المٌدان ،وطوقت مبنى المحافظة وثكنات بلوكات النظام (قوات الداخلٌة) بشكل مفاجا.
وفً الصبح ٕ٘ ٌناٌر أرسل البرٌجادٌر أكسهام قابد القوات البرٌطانٌة فً اإلسماعٌلٌة إنذارا لقابد
بلوكات النظام اللواء أحمد رابؾ ٌطلب منه تسلٌم كل أسلحة قوات البولٌس ،وجبلء رجال البولٌس عن
ثكناتهم ومنطقة القناة كلها ،مجردٌن من السبلح ،فرفض قابد البولٌس اإلنذار الوقح ،خاصة بعد االتصال
بوزٌر الداخلٌة فإاد سراح الدٌن الذي أٌده فً رفض اإلنذار ،فكرر أكسهام إنذاره وهو ٌهدد بنسؾ الثكنات
ومبنى المحافظة ،فؤصر القابد المصري على الرفض ،فنفذ أكسهام إنذاره ورمت المدافع الثقٌلة المحافظة
بطوفان القنابل ،فرد الجنود المصرٌون على الضرب بؤسلحتهم البسٌطة -بنادق -فً معركة ؼٌر متكافبة
استمرت ساعتٌن ،وخبللها استشهد ٓ٘ من رجال البولٌس وأصٌب ٓ 8آخرٌن ،وخسر اإلنجلٌز ٖٔ قتٌبل
على األقل ،وتحققت كلمة القابد المصري بؤن قوات االحتبلل لن تؤخذ المحافظة إال ورجال البولٌس مقدمٌن
()ٔ9ٗ9
-انظر :الكتاب األسود لبلستعمار البرٌطانً فً مصر ،مرجع سابق ،ص ٕٕٓ -ٕٔ9
*** نفس مشهد إخبلء اإلسرابٌلٌٌن لبعض الفلسطٌنٌٌن من منازلهم ...ولكن مصر ال بواكً لها
(ٓ٘)ٔ9
-مذكراتً فً السٌاسة والثقافة ،ثروت عكاشة ،مرجع سابق ،ص 899 -89ٙ
7ٕٙ
كل ما عندهم ،بما فٌه أرواحهم ،حتى انحنى لهم أكسهام محٌٌا شجاعتهم(ٔ٘.)ٔ9
أشعل "مجهولون" القاهرة بشكل مفاجا نهار ٌ ٕٙناٌر ٕ٘ ،ٔ9بعد ٌوم واحد من معركة اإلسماعٌلٌة،
ومصر لم تدفن بعد شهدابها ،ولم ٌُعرؾ على وجه الٌقٌن حتى اللحظة من هو "اللهو الخفً" الذي أحرق
العاصمة ،مثلما لم ٌُعرؾ من هو "اللهو الخفً" الذي دمَّر عشرات الكناٌس فً طول مصر وعرضها فً
وقت واحد أٌام السلطان المملوكً الناصر محمد بن قبلوون فً "واقعة الكناٌس" التً أعقبها الحرٌق األول
.
(ٕ٘)ٔ9
للقاهرة
وسارعت الحكومة بإعبلن األحكام العرفٌة ،وانتهز الملك الفرصة وأقال وزارة النحاس ،وفً نفس
الوقت ٌجهز نفسه لترك مصر إذا ما تصاعدت األمور(ٖ٘ ،)ٔ9مثلما جهز جده محمد علً نفسه للهروب إلى
الشام حٌن ؼزت مصر حملة فرٌزر ،ٔ8ٓ9وأقام فً ٌ ٕٙناٌر ٕ٘ ،ٔ9الٌوم الثانً لمعركة اإلسماعٌلٌة،
حفلة كبٌرة دعا لها كبار رجال الدولة لبلحتفال بمولد ولً العهد أحمد فإاد ،ولم ٌشارك الشعب مشاعر
الحداد(ٗ٘ ، )ٔ9تماما كما احتفل جده توفٌق بتثبٌته على العرش فً موكب "نصر الفتح اإلنجلٌزي" ،فٌما جثث
اآلالؾ من المصرٌٌن متناثرة فً التل الكبٌر والشوارع ،والبلد ٌلفها السواد.
حقق حرق القاهرة أهدافه ،فصرؾ نظر المصرٌٌن والعالم عن الكفاح الكبٌر فً القناة والشرقٌة ضد
االحتبلل ،وع َّتم على معركة اإلسماعٌلٌة ،ونقل المصرٌٌن فً اإلعبلم الدولً من كونهم مقاومٌن للمحتل
إلى "ظالمٌن" وهمج" نشروا الفوضى ،فكانت ضربة كبٌرة للمقاومة شؽلت الجمٌع.
وفً هذا قال جمال عبد الناصر فٌما بعد ،وكان هو وضباط آخرون ٌشاركون فً المقاومة الشعبٌة
بصورة سرٌة فً معارك القناة" :حُ ِرقت القاهرة وحرق معها كفاحنا فً القنال ،ومن ذلك الٌوم ٌ ٕٙناٌر
سنة ٕ٘ ٔ9بدأنا نفقد الصبر ،وبدأنا نفكر فً العمل اإلٌجابً ،وآثرنا أن نصرع الفساد قبل أن ٌصرعنا،
وأن نحطم الطؽٌان قبل أن ٌحطمنا(٘٘ ،")ٔ9وهو ما كان بعد ٙشهور.
(ٔ٘)ٔ9
-انظر الكتاب األسود لبلستعمار البرٌطانً فً مصر ،ص ٕٕٕٕٕٓ -
(ٕ٘)ٔ9
-فً ٌوم جمعة من سنة ٕٔ 7ه ٖٕٔٓ /م أٌام الناصر قالوون ظهر فجؤة رجل مجذوب (أو ٌصطنع أنه كذلك) ٌصرخ وسط جامع قلعة الجبل
عقب الصالة " :اهدموا الكنٌسة التً فً القلعة ..اهدموها" ،وأكثر الصٌاح ،وفً نفس الوقت ظهر رجل فً الجامع األزهر من الفقراء (ٌطلق حٌنها
هذا الل فظ على الصوفٌة) وصاح" :اهدموا كنابس الطؽٌان والكفرة .نعم .هللا أكبر .فتح هللا ونصر" ،واستؽرب الناس أمرهما ولكن لم ٌعثرا لهما
على أثر ،وفجؤة انتشر من وصفهم المقرٌزي بؽوؼاء العامة وهدموا كنٌسة الزهري وقتلوا من فٌها ونهبوها ،وهدموا كنٌسة بومٌنا فً الحمراء
ونهبوها وتسارع األمر حتى هدموا ٙكنابس وسبوا البنات ،وتتابعت أخبار هدم كنابس أخرى فً الفسطاط وسط هرج ومرج فؤرسل قالوون
قواته لكؾ الن ًّهابة عما ٌفعلون ،واتضح أنه شاع بٌنهم أن السلطان أمر بذلك ،وما أمر بشًء ،وهم ذهول جاءهم أخبار بهدم ٗ كنابس باألسكندرٌة
وكنٌستٌن فً البحٌرة وأٌضا هدم ٙكنابس فً ساعة واحدة بقوص فً الوجه القبلً ثم كنابس دمٌاط وؼٌرها وؼٌرها من أقصى مصر إلى
أقصاها ،وبنفس تحرٌض هإالء المجاذٌب الذٌن ٌظهرون فجؤة وٌختفون فجؤة ،فؤمر السلطان بقتل الن َّهابٌن ،وبعد شهر وقع حرٌق بالقاهرة
والفسطاط أتى على الكثٌر من البٌوت والمحالت والمراكب واستمر ٗ أٌام ،وعلم أن ورابه بعض الرهبان لالنتقام مما حصل للكنابس ،فؤحرق
السلطان عددا منهم ،وبقً حتى الٌوم لؽز المجاذٌب والمتصوفة الذٌن حرضوا الجهلة على هدم الكناٌس فً عدد من مدن مصر فً وقت واحد خفٌا
(انظر" :تارٌخ األقباط المعروؾ بالقول األبرٌزي للعالمة المقرٌزي" ،تحقٌق عبد المجٌد دٌاب ،دار الفضٌلة ،القاهرة ،ص )ٕٓ9 -ٔ97
(ٖ٘)ٔ9
-الحرس الحدٌدي كٌؾ كان الملك فاروق ٌتخلص من خصومه ،سٌد جاد ،مرجع سابق ،ص ٖٖٔٗ -
(ٗ٘)ٔ9
-انظر :مقدمات ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘ ،ٔ9ص ٕٗٔ
(٘٘)ٔ9
-مقدمات ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘ ،ٔ9عبد الرحمن الرافعً ،مرجع سابق ،ص ٕٔ9
7ٕ7
مٌن اللً قال مكتوب علٌنا الهوان
()ٔ9٘ٙ
-آن األوان ،تؤلٌؾ سٌد حجاب ،ألحان عمار الشرٌعً ،ؼناء هشام عباس ،أؼنٌة مقدمة مسلسل "أمٌرة فً عابدٌن"
7ٕ8
"أال تعلم أن رعاع الؽزاة انتهبوا فً الماضً أراضٌنا بحكم الؽزو؟
وها هم أوالء ٌكونون طبقة عالٌة ممتعة بالجاه والسإدد واالمتٌازات ال حصر لها(.")ٔ9٘9
()ٔ9٘9
-رواٌة خان الخلٌلً ،نجٌب محفوظ ،مكتبة مصر ،ط ،ٙالقاهرة ،ص ٕٙ
المشهد ٕٓ :هل كان لتوطٌن األجانب إٌجابٌات؟
ٌرى باحثون أنه كما كان لؤلجانب -سواء احتبلل عسكري أو استٌطانً كل هذه الرزاٌا والنكبات التً
حلت على مصر فإنه لهم أٌضا "إٌجابٌات" و"إنجازات" ،وٌصل األمر بؤن ٌقولوا أن لهم "فضل" على
مصر.
وأصدروا كتبا وسطروا مقاالت لئلشادة بدور الٌونانٌٌن والرومان والممالٌك والعرب واألسرة العلوٌة
واإلٌطالٌٌن والٌونانٌٌن واألرمن واإلنجلٌز والفرنسٌس والترك والشوام ،وحتى الٌهود ،و ُكل ٌرى هذا
"الفضل" على مصر حسب معتقداته وانتماإه ،فمنهم من ٌرى "الفضل" فً المزج بٌن الحضارة المصرٌة
واألوروبٌة عبر االحتبلل الٌونانً والرومانً فً القدٌم ،وتحدٌث مصر على الطرٌقة األوروبٌة باالحتبلل
الفرنسً واإلنجلٌزي ،ومنهم من ٌراه فً نقل اإلسبلم واللؽة العربٌة إلٌها عبر االحتبلل العربً ،ومنهم من
ٌراه فً "تخلٌص" و"تحرٌر" مصر من احتبلل سابق ،مثل ما ٌقولون إن اإلحتبلل الٌونانً "حرر" مصر
من الفرس ،والعربً "حرر" مصر من الرومان ،واألٌوبً والمملوكً "أنقذ" مصر من الفرنجة
"الصلٌبٌٌن" والتتار ،والعثمانلً "حمى" مصر من البرتؽال ،والعلوي "حرر" مصر من االحتبلل
المملوكً -العثمانلً ،وبالطبع فإن من ٌإمنون بهذه األشٌاء ٌرفضون وصؾ هذه االحتبلالت بؤنها احتبلل
من األساس.
كذلك ٌشٌرون إلى "اإلنجازات" المادٌة أو الثقافٌة والعمرانٌة التً تمت فً عصور هذه االحتبلالت بؤنها
دلٌل "فضل" هإالء على مصر ،مثل مكتبة اإلسكندرٌة والنهضة الحضارٌة فً اإلسكندرٌة أٌام الٌونان،
والمساجد واألسبلة والعمابر الفخٌمة أٌام االحتبلل المملوكً ،وموسوعة وصؾ مصر وأفكار التحدٌث التً
جاء بها االحتبلل الفرنسً ،وتحوٌل هذه األفكار لمشروعات فً الصناعة والتعلٌم والزراعة إضافة لتجنٌد
المصرٌٌن أٌام االحتبلل العلوي ،والعمابر الفخٌمة ومشروعات النقل والمواصبلت والبنوك وانتشار
الصحؾ والسٌنما زمن االحتبلل اإلنجلٌزي ،أما الجالٌات األجنبٌة (االحتبلل الجالٌاتً واالستٌطانً)
فٌذكرون لها أن هذه المشروعات كلها كان لها فٌها من التخطٌط والتنفٌذ نصٌب كبٌر.
منهم أبناء هذه االحتبلالت ،أي من جاءوا فً موكبها ،وما زالوا مقٌمٌن فً مصر ،لكنهم لم ٌتمصروا حقا
رؼم كرور السنوات إال بورقة الجنسٌة ،فٌسخرون حٌاتهم لوضع كتب أو قصص تمجد االحتبلالت المنتمً
لها أجداد قدامى لهم إلعطابها شرعٌة ،مثل بعض المنتمٌن للٌونانٌٌن أو األرناإوط أو األرمن أو قباٌل
عربٌة أو الترك أو الممالٌك إلخ ،وكذلك باحثٌن ٌونانٌٌن أو فرنسٌس أو إنجلٌز أو أرمن أو عرب أو أتراك
ٖٓ7
إلخ صرؾ ٌعٌشون فً بلدانهم فٌكتبون من باب االعتزاز بالفتوحات أو األنشطة الخاصة بها.
ومنهم أبناء تٌارات الهكسوس ،أي المرتبطٌن بتٌار الخبلفة اإلسبلمٌة (تنظٌم اإلخوان والسلفٌٌن) ،أو تٌار
اللٌبرالٌة الرأسمالٌة أو الشٌوعٌة أو الصوفٌة أو الماسونٌة أو القومٌة العربٌة أو اإلرسالٌات التبشٌرٌة ،وكل
أبناء تٌار من هإالء مرتبط باحتبلل معٌن ٌجهد لٌعطٌه شرعٌة ،مثل ارتباط تٌار الخبلفة بالعرب
والعثمانلٌة ،أو ارتباط تٌار الرأسمالٌة واإلرسالٌات بالفرنسٌس واإلنجلٌز والجالٌات األوروبٌة ،أو ارتباط
القومٌة العربٌة بالعرب ،وهكذا.
ومنهم من لٌس بداخله ؼرض سًء ،ولكنه من المتلقٌن للمعلومات التً تقدمها المدارس فً مصر
(حكومٌة أو أجنبٌة) ووسابل اإلعبلم ببرامجها ومسلسبلتها وأفبلمها ،وٌشكل آرابه منها فقط.
والسإال..
جٌش اإلسكندر لما هزم الفرس واحتل مصر ،هل بذلك حررها أم تخلص من منافس له لٌحتلها هو؟
جٌش الرومان لما هزم البطالمة واحتل مصر ،هل بذلك حررها أم تخلص من منافس له لٌحتلها هو؟
وجٌش العرب لما هزم الروم واحتل مصر ،هل حررها أم تخلص من منافس له لٌحتلها هو؟
جٌش العبٌدٌٌن (الفاطمٌٌن) لما هزم العرب (الخبلفة العباسٌة) واحتل مصر ،بذلك حررها أم تخلص من
منافس له لٌحتلها هو؟
وجٌش األٌوبٌٌن لما هزم العبٌدٌٌن واحتل مصر ،هل بذلك حررها أم تخلص من منافس له لٌحتلها هو؟
الممالٌك لما هزموا األٌوبٌٌن واحتلوا مصر ،بذلك حرروها أم تخلصوا من منافس لهم لٌحتلوها هم؟
وجٌش العثمانلٌة لما هزم الممالٌك واحتل مصر ،بذلك حررها أم تخلص من منافس له لٌحتلها هو؟
جٌش الفرنسٌس حٌن هزم الممالٌك واحتل مصر ،بذلك حررها أم تخلص من منافس له لٌحتلها هو؟
ومحمد علً مدعوما بالثورات الشعبٌة على الفرنسٌس والوالً العثمانلً لما هزم الممالٌك والعثمانلٌة
واحتل مصر ،هل بذلك حررها أم تخلص من منافس له لٌحتلها هو؟ بل وتخلص من قادة الثورات لٌنفرد
بالحكم.
وجٌش اإلنجلٌز حٌن كسر ثورة التحرٌر المصرٌة ٕ ٔ88ثم هزم السلطنة العثمانلٌة فً الحرب العالمٌة
األولى واحتل مصر ،هل بذلك حررها أم تخلص من منافس له لٌحتلها هو؟
ٖٔ7
هل محتل واحد من هإالء حٌن طرد المحتل السابق له وقؾ وسلَّم مصر ألهلها؟
هل محتل واحد من هإالء قال لقد "حررناكم" أٌها األحبة المصرٌون وهاكم صولجان حكم مصر وعرشها
وثرواتها تعود لكم هنٌبا مرٌبا ونحن عابدون لببلدنا و"نشوؾ وشكو على خٌر" و"ربنا ٌدٌم المعروؾ"؟
هل محتل واحد من هإالء حٌن تمكن من حكم مصر أعاد المصرٌٌن لمكانتهم األصلٌة ،أن ٌكونوا األسٌاد
فً بلدهم ،أم أبقوا علٌهم مسخرٌن وخادمٌن للمحتل الجدٌد والجالٌات األجنبٌة وفً أسفل الدرجات؟
هل محتل واحد من هإالء حرص على أن ٌكون الجٌش مصرٌا خالصا؟ المناصب مصرٌة خالصة؟ أو
أعاد توزٌع الثروة واألرض على أصحابها المصرٌٌن الحقٌقٌٌن؟
هل محتل واحد أو جالٌات أجنبٌة أنصؾ ثورة قامت تنادي" :مصر للمصرٌٌن"؟
وكدلٌل على ما ٌعتبرونه "فواٌد" االستٌطان الجالٌاتً فً مٌادٌن العمارة والفنون والزراعة والصحافة
والصناعة واألدبٌ ،ضرب باحثون أمثلة منها ما شهدته مصر فً العصر الحدٌث:
ففً الصناعة :ساهمت الجالٌات األجنبٌة منذ محمد عً وحتى ثورة ٕ٘ ٔ9فً تطوٌر صناعات قدٌمة
مثل السكر وتبٌٌض األرز والتعدٌن والنسٌج ،وإدخال صناعات جدٌدة أو إحٌاء صناعات اندثرت أو قلَّت
مثل صناعة الثلج والمٌاه المعدنٌة وصناعة السفن وسباكة الحدٌد(.)ٔ9٘8
وفً الزراعة :ساهمت الجالٌات األجنبٌة واستثماراتها فً توسٌع رقعة األراضً الزراعٌة عبر شركات
استصبلح األراضً والسدود وتوسٌع زراعة القطن حتى باتت مصر رقم (ٔ) فٌه عالمٌا.
وفً العمارة :نشروا الطابع األوروبً فً العمارة ،الفرنسً واإلٌطالً والٌونانً ،خاصة فً اإلسكندرٌة
ووسط القاهرة ومدن القناة ،حتى باتت بعض األحٌاء تتفوق فً جمالها على أحٌاء أوروبا.
وفً الثقافة :انتشرت المدارس الحدٌثة والصحؾ والمجبلت وعاد المسرح لمصر بعد طول ؼٌاب،
وظهرت السٌنما فً مصر مبكرا مقارنة بمعظم الدول ،وانتشر علم المصرٌات واآلثار والمتاحؾ.
وفً النقل واالتصاالت :صارت مصر من أوابل دول العالم التً ظهر فٌها السكك الحدٌدٌة والتلٌفونات
والبرٌد وأحدث السٌارات ،وتملك أهم ممر مبلحً عالمً وهو قناة السوٌس.
-هل المصرٌون طوال تارٌخهم القدٌم المدٌد ناس "كتعة"ٌ ،عنً عجزوا عن إدارة بلدهم واختراع
()ٔ9٘8
-انظر الجالٌة البرٌطانٌة فً مصر (٘ٓ ،)ٔ88ٕ -ٔ8مرجع سابق ،ص ٕٖٔٔٔٓ -
ٕٖ7
وتطوٌر أرقى الفنون والعلوم أم كانوا مثاال لتقدٌم حضارة مشهودة أضاءت العالم وكانت له المنارة؟
-هل لو لم تقع مصر فً االحتبلل العسكري واالستٌطانً كانت ستتوقؾ عن اإلبداع أم كانت ستبدع
دورات حضارٌة جدٌدة كعادتها -مثل النهضة والوالدة الجدٌدة بعد الزفتة األولى والزفتة الثانٌة فً التارٌخ
القدٌم -ال تقل رقٌا وإبداعا عما ورد إلٌها على ٌد االحتبلل االستٌطانً والعسكري ،بل تفوقها كماال وجبلال،
واألهم أنها ستحتفظ بطابع وهوٌة مصرٌة تكون لنا َعلَما أمام العالم بدال من أن نتفاخر بؤن عمابر بلدنا
وثقافتنا صارت "ٌونانٌة" و"عربٌة" و"فرنسٌة" و"إٌطالٌة" ،و"فرنسٌة" و"إنجلٌزٌة" ،كؤ َّنا لمن نكن ٌوما
صناع حضارة ،أو كؤ َّنا لم نكن ٌوما من األساس شعبا له بصمته وشخصٌته.
-هل البلد التً بنت منؾ وأون وواسط (طٌبة) وساٌس وأبجو (أبٌدوس) وؼٌرها عشرات المدن
الشامخة كانت تنتظر أن ٌؤتٌها اإلؼرٌق لٌعلموها بناء المدن فنقول إن لهم فضل فً بناء اإلسكندرٌة؟
-هل األفضل أن تؤتً إلٌنا احتبلالت عسكرٌة واستٌطانٌة فتصب على رأسنا وأرضنا صبا هوٌتها
وثقافتها و ُتلزمنا بها ،أم أن نظل أحرارا ،ال ٌملك بلدنا سوانا ،وننتج ما ٌعبر عن دمنا وروحنا ودورنا فً
الحٌاة ،ونتفاعل مع الحضارات والشعوب األخرى تفاعل "التعاون" ،و"تبادل الخبرات" ،ال الفرض والقهر؟
-لمن كانت هذه المشروعات التً جرت أٌام االحتبلالت وشارك فٌها مستوطنون أجانب؟ هل
للمصرٌٌن أم لؤلجانب فً األساس؟ ولصالح تحرٌر واستقبلل مصر وإعادتها لمكانتها وهوٌتها األولى أم
لصالح ترسٌخ االحتبلل وأن تكون مصر مشاعا لكل األجناس؟
-كم من المصرٌٌن استفادوا من األراضً المستصلحة أو ملكوها مقارنة بما تملكه منها األؼراب؟
-كم مصري من والد البلد استطاع أن ٌسكن العمارات الفخٌمة المزخرفة فً اإلسكندرٌة ووسط البلد
ومدن القناة التً كانت شبه حكر على األجانب؟
-هل معظم الزرع والحفر والبناء كان بسواعد المصرٌٌن أم األجانب؟ وكم تكلؾ المصرٌون من عرق
وسخرة لتظهر مثبل السكك الحدٌدٌة والعمارات الفخٌمة وقناة السوٌس والشوارع الممهدة على األرض؟
-هل الصحافة والمدارس التً أسسها األجانب كانت تكتب وتعلم لصالح مصر أم لصالح األجنبً؟
وتنشر األخبلق واألصول المصرٌة أم تسعى لتعلٌم المصرٌٌن محبة المحتل وتلبسهم هوٌة من أذلوهم؟
-كم طابفة ومذهب ؼرسته الجالٌات فً جسد مصر لٌشرخوه وٌخلقوا صراعات بٌن المصرٌٌن؟
-هل كان ٌستطٌع اإلؼرٌق بناء اإلسكندرٌة واإلنفاق علٌها كل البذخ الذي كان ،وهل كانت ستظهر
الفسطاط والقاهرة والكناٌس واألسبلة والمساجد والقصور والقبلع الممٌزة فً عصر الخبلفة اإلسبلمٌة،
وهل كان محمد علً وأوالده واإلنجلٌز وكافة الجالٌات قادرون على تنفٌذ قناة السوٌس والسكك الحدٌد
وتشٌٌد العمارات والقصور الفخٌمة والمصانع بدون أموال وعرق وشقا وأٌدي الفبلحٌن ،بل وبدون ما
ٖٖ7
ورثه العالم من علوم وفنون وعمارة وإدارة مصرٌة؟
-ولماذا نجحت أسرة محمد فً مصر وفشلت فً الشام ،ولماذا ازدهرت مشارٌع الفرنسٌس واإلنجلٌز
والجالٌات األجنبٌة فً مصر أكثر من دول أخرى احتلوها فً المنطقة إن لم ٌكن الفضل األول فً ذلك
ألبناء مصر وكدهم؟
-لماذا تحول بعض من أتوا من أوروبا وجزٌرة العرب والشام والمؽرب من الشًء أو حٌاة البداوة إلى
أؼنٌاء وأسماء معروفة ومراكز مرموقة فً الفن والسٌاسة واالقتصاد إن لم ٌكن الفضل لمصر ال لهم؟
-هل تساوي كل اإلنجازات المنسوبة لؤلجانب منظر المصرٌٌن ٌساقون أسرى فً الحبال لٌزرعوا
وسٌة الرومانً فبلن والٌونانً عبلن والعربً سبلن واإلنجلٌزي تبلن إلخ؟
-هل تساوي االنجازات المنسوبة لؤلجانب منظر المصرٌٌن أطفال وكبار سن وستات ٌتساقطون موتى
من اإلعٌاء واإلرهاق فً العمل أو الضرب بالكرابٌج أو من البرد أو العطش كما حدث فً مشارٌع عدة
أٌام العرب والممالٌك والعثمانلٌة ومحمد علً واإلنجلٌز وؼٌرهم؟
-هل تساوي منظر المصرٌٌن ٌختطفهم االحتبلل وأعوانه من الشوارع والبٌوت هم ومحاصٌلهم
وحٌواناتهم لٌحاربوا بالسخرة فً حروب العثمانلً واإلنجلٌزي ومحمد علً وإسماعٌل وؼٌرهم؟
-هل تساوي منظر المصرٌٌن وهم ٌفاجبون "كل ٌوم والتانً" بذباب العربان الجوعى تنقض على
قراهم وتنهش أموالهم وأجسادهم وأعراضهم ومحاصٌلهم وأراضٌهم؟
-هل تساوي منظر المصرٌٌن وهم كاألٌتام بٌن اللبام بعد فقد الحكومة والجٌش والداخلٌة التً منه
فٌتحكم فٌه العربً والعجمً فً قرٌته وٌتسلط وٌعامله معاملة العبٌد وٌتحجج بؤنه "بٌحمٌه"؟
-هل تساوي سرقة تعب وفن وفكر المصرٌٌن الذي أصبح منسوبا للٌونان أو الرومان أو العرب أو
العبٌدٌٌن وؼٌرهم ،فٌقال فن ٌونانً ورومانً وعربً وفاطمً وإسبلمً وال ٌُذكر نصٌب المصرٌٌن فٌه
وكؤن مصر ماتت مع مجا االحتبلل اإلؼرٌقً؟
-هل تساوي أن تارٌخ مصر بداٌة من االحتبلل الخاسوتٌمً وحتى االحتبلل العثمانلً ال ٌكتبه تقرٌبا
إال المحتل والجالٌات األجنبٌة ،فٌظهر لنا أحوال و"إنجازات" األجانب فً مصر ،فً حٌن نكاد ال نسمع
صوتا للمصرٌٌن وال نعرؾ آرابهم وأحوالهم من ألسنتهم كؤنهم ؼٌر موجودٌن؟
-هل تساوي سرقة صفة "المصرٌٌن" من أوالد البلد ،ولصقها بالجالٌات األجنبٌة من مستوطنً مصر،
فٌكاد من ٌقرأ كتب المإرخٌن والرحالة ال ٌعرؾ عند كبلمهم عن "المصرٌٌن" من ٌقصد بالضبط؟
-هل تساوي عقد الخواجة "اللً راكبة معظم المتعلمٌن" وانحناءة الضهر وركوع النفس أمام "اللً
ٖٗ7
ٌسوى وما ٌساوش" من األجانب بعد تعود هإالء المتعلمٌن على أن ٌسٌروا وراء األجانب؟
-هل تساوي اإلنجازات المنسوبة لؤلجانب حرمان المصرٌٌن من متعة الطموح والترقً والعلم وحرٌة
الحركة و حتى متعة األكل مبات السنٌن وهو ٌراقبون كل سفٌه ووضٌع ٌدخل بلدهم فٌتحول فً لحظة
لصاحب جاه وٌؤمر وٌتؤمر علٌهم؟
-هل تساوي أن ٌملك أرضنا األجانب سوا بالؽصب أو بالربا أو من الحكومة بالشرا والهبات وٌصبح
األجنبً "صاحب أرض المصرٌٌن" ،وهم الذٌن ٌتوسلون إلٌه لٌسمح لهم بؤن ٌعملوا فٌها أو ٌسكنوا؟!
-هل تساوي أن ٌتحول الشعب الواحد الوحٌد فً العالم إلى شعب مؽروس بالطوابؾ والمذاهب والقبابل
واألعراق األجنبٌة تنهش بعضها بعضا وتحول المصرٌٌن لفرق تقتل بعضها بعضا؟
-هل تساوي أن ٌتحول جزء من المصرٌٌن إلى "خونة دون وعً"ٌ ،ستحلوا بٌع بلدهم للتنظٌمات
الدولٌة والببلد األجنبٌة بعد أن نسوا أصولهم المصرٌة الشرٌفة وارتموا فً أحضان الشٌوعٌة والماسونٌة
واإلخوان المسلمٌن واللٌبرالٌة واإلرسالٌات والروح القبلٌة والحزبٌة؟
-هل تساوي أن تظل مصر مبات السنٌن خٌرها لؽرٌبها ومرها ألوالدها؟
-هل تساوي أن ننسى حضارتنا وٌشوهها العالم وتشنع علٌنا الشعوب التً احتلتنا واستوطنتنا أننا كنا
شعب من الكفرة والفسقة رؼم أننا كنا من أعظم -إن لم نكن أعظم -شعب وأكثره تدٌنا مقارنة بهم؟
-هل تساوي أن تتجرأ الشعوب التً نهبت ببلدنا أن تتكبر علٌنا وتقول نحن من حررناكم من االحتبلل
كما ٌقول العرب إنهم "حررونا" من االحتبلل الرومانً ،وأسرة محمد علً أنهم "حررونا" من االحتبلل
المملوكً إلخ ،واألدهى أن مصرٌٌن ٌكررون ورابهم نفس الكبلم؟
-هل تساوي أن ٌُساق المصرٌون رجال وستات وأطفال للبٌع فً أسواق الرقٌق كما بهم فعل العربان
والممالٌك والعثمانلٌة داخل مصر أو ٌتجرجروا لبٌعهم فً أسواق الحجاز كما فعل عمرو بن العاص أو فً
بؽداد كما فعل الخلٌفة المؤمون؟
-هل تساوي أن ُتساق كفاءات المصرٌٌن فً كل صنعة وحرفة وفن مقٌدٌن لٌبنوا ببلد آشور وفارس
وإسطنبول حٌن احتلنا تلك الببلد ،فٌما ٌتركون مصر قاعا صفصفا؟
-هل تساوي اؼتصاب ستات مصر وبالجملة أمام أهالٌهنَّ أو على الطرقات أو ٌُساقوا إلى بٌوت
المؽتصبٌن على ٌد العربان والممالٌك والعثمانلٌة والفرنسٌس المسلحٌن خبلل هجماتهم على القرى،
وٌشاهدنَّ آبابهنَّ العُزل ٌقتلون أمامهنَّ وهم ٌدافعون عنهنّ ؟
-هل تساوي أن ٌتعطل المصرٌون كل فترة لٌقوموا بثورات رهٌبة ضد المحتلٌن تستمر شهورا أو
ٖ٘7
سنوات لٌتخلصوا منه ،ثم تنزؾ أرواحهم باآلالؾ حٌن ٌقابلها المحتل بسٌوؾ مرتزقة وأوباش األرض؟
-هل تساوي أن ٌحكم مصر العبٌد والجواري والمرتزقة وٌذلوا الفبلحٌن األحرار؟
-هل تساوي أن المصرٌٌن بعد أن كانوا النجوم البلمعة فً سماء الدنٌا آالؾ السنٌن ٌصبحون مجرد
خدم وفواعلٌة ،بل مسخرٌن ببل أجر لٌس فً مشارٌع تخدم بلدهم حقا ،بل عند المستوطنٌن األجانب؟
-هل تساوي منظر المصري الحُر ،ابن األرض ،وابن ماعتٌ ،نحنً لٌقبل ٌد المستوطن األجنبً -جبرا
أو اختٌارا -باعتباره "السٌد" متملك األرض التً فٌها رزقه ،لٌكسب رضاه أو لٌإجل له مٌعاد دفع اإلتاوات
والضراٌب أو لٌرد له أوالده وزوجته الذٌن أخذهم رهنا عنده حتى ٌدفع المعلوم؟
-هل تساوي أن ٌكون ترتٌب الطبقات فً معظم عصور االحتبلالت هو :الطبقة األولى المحتل
العسكري ،الطبقة الثانٌة الجالٌات األجنبٌة ،الطبقة الثالثة العبٌد والجواري ،الطبقة الرابعة المصرٌٌن ،أي
أننا فً بلدنا أقل من العبٌد والجواري؟
-هل تساوي أنه من كثرة معاٌشتنا لؤلجانب وكثرة فرضهم ألذواقهم علٌنا أصبحت مصر بلد "مرقعة"،
كل حاجة فٌها تبع هوٌة وتبع بلد ،سوا العمارة أو اللبس أو اللؽة أو المدارس أو الفنون أو حتى فرش بٌوتنا
وأكلنا وأسامٌنا وأسامً شوارعنا ومدننا ،وكؤننا بلد "ال جدر لها وال أصل"؟
-هل ٌساوي اإلنجازات المنسوبة لؤلجانب سرقة ما تم سرقته من اآلثار المصرٌة منذ االحتبلل
األشوري وحتى اآلن.
-هل تساوي فقدان المصرٌٌن للسانهم المصري البلٌػ ،اللؽة المصرٌة ،روح حضارتهم ،فٌتجرأ علٌنا
الشعوب وتقول :لو كنتم حقا حضارة عظٌمة ما فقدتم لؽتكم وما أصبحتم منقادٌن لثقافات ؼٌركم؟
-هل تساوي أن تتجرأ علٌنا الشعوب لتقول إنكم شعب خلٌط من الؽزاة ولستم مصرٌٌن ،فبل هوٌة لكم،
وٌتخذوا هذا حجة لتحقٌق مشروع تدوٌل مصر لكل األجناس ولكل الهوٌات والثقافات بعد أن كانت هً
صانعة أول وأبهى هوٌة وطنٌة؟
-هل تساوي أن الٌوم ٌتجرأ علٌنا ٌهودي وزنجً وسودانً وأوروبً وعربً وأمازٌؽً وألبانً بل
حتى الؽجر (كما سنرى إنشاء هللا فً الجزء الثانً) لٌقولوا إنهم من صنع حضارة مصر لمجرد أن بعضهم
سكن فٌها لفترة كؽزاة أو عبٌد أو أسرى حرب أو حتى لم ٌسكنها ،وأن من فً مصر الٌوم ؼزاة،
وٌخططون بمساعدة تنظٌمات دولٌة للنزاع معنا على مصر بحجة أن لهم فٌها حقوقا تارٌخٌة؟
-هل األصح واألعدل واألنسب مع ما جرى فً التارٌخ أن ٌقال للؽزاة وجالٌاتهم "فضل" على مصر،
أم أن لمصر "حقوقا" عندهم لم ُتفتح ملفاتها بعد؟ وإن علٌهم أن ٌتحدثوا مع مصر معتذرٌن محنً الرءوس
على ارتكبوه فً حقها من جراٌم ونهب وقتل وإذالل ال أن ٌتمادوا فً الظلم والكذب والحدٌث بلسان المسٌخ
7ٖٙ
الدجال وٌطلبوا منها أن تشكرهم هً.
إن برٌطانٌا أرؼمت مصرٌٌن تحت إرهاب السبلح أن ٌوقعوا على أنهم ذهبوا للمشاركة فً الحرب
العالمٌة األولى كـ"متطوعٌن" ولٌس مسخرٌن مؽصوبٌن ،وأرؼمت الحكومة أن تحسب المبلٌٌن التً نهبتها
برٌطانٌا من خزنة مصر للحرب على أنها "تبرعات" ،ولٌست سرقات أو دٌون ،وذلك كً ال نطالبها ٌوما
بحقوق دماءنا وعرقنا واحتبللها لنا ،فهل من ٌرفعون فً وجهنا كلمة "فضلهم" على مصر ٌرٌدون هم
أٌضا أال ٌفتح أي جٌل مصري حقٌقً ملفات حقوق مصر على هإالء؟
فً النهاٌةٌ ..شهد التارٌخ أنه ال ٌوجد فً تارٌخ االحتبلالت أي مشروعات ٌسمٌها البعض "إنجازات"
إال وفعلته مصر فً أزمنة حرٌتها قبل أن ٌدنسها المحتلون ،بل وفاقتهم عظمة وجماال وإجبلال ،فً
العمارة ،مشارٌع الري ،تطوٌر الزراعة ،الصناعات ،الفنون بكل ألوانها ،اآلداب واألخبلق والحكمة،
القوانٌن ،النظام ،تخطٌط المدن البدٌعة ،المكتبات العامرة التً ٌسٌل لها رٌق طبلب العلم فً الدنٌا،
مإسسات التعلٌم ،تؤسٌس أعظم الجٌوش ،الحكم الرشٌد ،وؼٌرها ..لم نكن نحتاج لبلحتبلل والذل كً تفعلها
لنا شعوب أخرى عرفت الحضارة بعدنا ..لم نكن نحتاج أبدا ،فما لهذا ُخلقنا.
إن لمصر وجه واحد فقط ،لٌست دولة متعددة األوجه وال مرقعة ،فمن استوطن مصر وضم نفسه لهذا
الوجه بكل مبلمحهٌ ،نظر خلفه وأمامه فبل ٌرى إال أرض مصر ،وٌفخر بلقب الفبلح ،ذاك هو المتمصر،
وما ٌلبس أن ٌكون حقا مصرٌا ،وال ٌورث أوالده أساسا ذكرى أن لهم أجدادا أتوا ٌوما من بلد أجنبً ،أما
ذاك الذي ٌؤتً لمصر بروح الؽزاة أو الطمع والسٌطرة ،وٌجتهد لٌضٌؾ وجها جدٌدا أو رقعة أجنبٌة فوق
وجه مصر ،وٌعٌش بثقافة البلد التً أتى منها ظاهرا أو باطنا ،فبل ٌفرق شٌبا عن الؽازي المسلح الذي ٌؤتً
لٌسرق مصر أرضا وهوٌة ..حتى لو حمل الجنسٌة ،وحتى لو عاش فً مصر ألؾ سنة.
لو تمصرت ما سقطنا فً ببر احتبلالت ٖ آالؾ سنة؛ ألنها بعدم تمصرها صار الجٌش حكرا على
األجانب ،والمستوطنون ٌعاونون المحتل الجدٌد ،ولو تمصرت ما شربنا كإوس الذل والمذابح واإلفقار
ألوانا ما خطرت على قلب بشر ،وما بات ٌُنظر إلى تارٌخ مصر على أنه فترات منفصلة ألن كل هجرة
كبٌرة أو احتبلل صبػ علٌها لونه بدالمن أن ٌكتسً هو بلون مصر.
لو تمصرت الهجرات األجنبٌة حقا ما وجدنا طوال عصور االحتبلل أن المستوطنٌن األجانب هم
"أؼنٌاء البلد" ،وأصحاب المناصب الكبرى ،والمسٌطرٌن على الجٌش والداخلٌة والمالٌة واألرض العزٌزة
وكل أمر ،فٌما المصرٌون الحقٌقٌون ٌُنظر لهم على أنهم المسخرٌن إلنعاش حٌاة هإالء.
7ٖ7
لو تمصرت حقا ما احتفظ المستوطنون بلؽاتهم ولما تؽٌرت لؽة مصر الرسمٌة مرتٌن ،ولما طؽت
الثقافة الٌونانٌة والعربٌة على ساحة الثقافة ،وباتت الثقافة المصرٌة الشعبٌة ٌُنظر لها نظرة متدنٌة.
لو تمصرت ما دار بٌننا سإال عن "الهوٌة" ،وما عانى المثقفون من البحث فً "أزمة الهوٌة".
لو تمصرت الهجرات حقا ما شهق الزمان مفجوعا بنكبة أن العبٌد وقطاع الطرق وأهل ؼارات
الصحاري ٌحكمون األحرار ،فحكم هإالء مصر.
لو تمصرت حقا ما كنا رأٌنا مدنا (كاإلسكندرٌة والقاهرة) فً بعض العصور مؽلقة على المستوطنٌن
األجانب والمصرٌون محرم علٌهم دخولها ،ولو عاشوا فٌها فٌُنظر لهم على أنهم "ؼرباء" أو"رعاع".
لو تمصرت الهجرات حقا ما وجدنا الفصل الواضح بٌن المصرٌٌن والمستوطنٌن حتى القرن ٕٓ فً كل
شًء ،بل حتى قٌام ثورة ٕ٘ ٔ9كان سهل معرفة المصري من الٌونانً من الشامً من األرمنً من
اإلنجلٌزي من اإلٌطالً من العربانً من السودانً من التركً ،سوا بسبب األسماء أو المبلمح أو أماكن
اإلقامة أو المهن المشهورٌن بها أو اللؽة واللهجة أو احتفاظ وافتخار المستوطن بؤصله األجنبً أو بالمواقؾ
المتباٌنة إزاء مصر فً أوقات المحن.
لو تمصرت حقا ما ظلت عاببلت -حتى الٌوم -تسقً أوالدها مع الرضاعة أن عابلتهم أصلها من تركٌا
أو الحجاز أو المؽرب أو الشام أو األرمن إلخ ،فٌشب الفتى مشتت االنتماء ما بٌن أنه مصري حسب شهادة
المٌبلد وما بٌن أنه فً األصل من بلد آخر أو قبٌلة ٌحفظ له نصٌبا من المحبة والوالء.
وفً نفس الوقت ..تمصر فعبل بعض المستوطنٌن ،ولكن ما أقلهم ،بل ما أندرهم مقارنة بطوفان
المستوطنٌن الذٌن تلذذوا بعٌشة المتسٌد فوق رقاب أهل البلد والمتلذذ باحتفاظه بؤصله األجنبً ،وهإالء
الذٌن تمصروا حقا نذكرهم بكل الخٌر ،وربما ألنهم تمصروا حقا من قلبهم وبكل عروقهم عاشوا فً وجدان
المصرٌٌن بؤعمالهم ،عاشوا مصرٌٌن مثلهم مثل أي مصرٌٌن ،ألنهم هم احترموا وافتخروا بؤن ٌكونوا
مصرٌٌن وفقط ،بل قدموا أعمالهم وحٌاتهم خدما لمصر وأهلها ،للفبلحٌن ،وعاشوا مصرٌٌن ال قبل هذه
الكلمة صفة وال بعدها صفة ،ال قبلها نسب وال بعدها نسب.
ومن هإالء مثبل عبد البدٌع خٌري (عابلة أبٌه تركٌة وأمه مصرٌة) ،ونجٌب الرٌحانً (عابلة أبٌه
عراقٌة وأمه مصرٌة) ،لٌلى مراد (عابلتها ٌهودٌة) ،فتش فً أعمال هإالء ومواقفهم ،هل ترى فٌها لونا
ؼٌر لون مصر؟ هل ترى فٌها أي ذكر أو تفاخر بالبلد األجنبً الذي قدمت منها عاببلتهم؟ بل العكس،
الرٌحانً مثبل أخذ على عاتقه حٌنما كان المسرح ٌطؽى علٌه اللون األجنبً أن ٌقدم فنا مصرٌا خالصا
ٌعبر عن آالم وآمال الفبلحٌن والحارات ،وعبد البدٌع خٌري أخذ على عاتقه أن ٌعٌد باالشتراك مع سٌد
دروٌش العزة الحضارٌة فً عروق المصرٌٌن وباالعتزاز بؤجدادهم المصرٌٌن ،ولوال حدٌث مإرخٌن عن
وجود أجداد أجانب لهإالء ما شعرنا لثانٌة واحدة أنهم من عاببلت تنتمً لبلد أجنبً.
7ٖ8
ولكن كم من المستوطنٌن كان لدٌه نفس الروح ونفس التمصر الحقٌقً ..وهل من تمصر كانوا صدفة
وحاالت فردٌة أم القاعدة ،إن أ َّنات األجداد المعبؤ بها صدر التارٌخ مما كابدوه من توالً المحتلٌن
والمستوطنٌن ،والتقٌحات العمٌقة فً الجسد المصري ،والشروخ فً الوجدان والعقل المصري ،بل
اإلرهاب الذي ٌنشر الٌوم الدم فً كل مكان وٌجد من بٌن سكان مصر مبلٌٌن تبرره ،تجٌب بصدق و"ببل
زواق" ،و"ببل تزوٌر" عن هذا السإال ..رؼم كل الكتب وكل األفبلم وكل المسلسبلت التً وضعها
المستوطنون وأحفادهم الذٌن لم ٌتمصروا إلى الٌوم ،وبعض المإرخٌن ،لمدح المحتلٌن وتوطٌن األجانب
فً مصر.
حابً:
دٌون:
بل مشوا على األهرام ،بل حاولوا تدمٌرها ،بل سخطوا فكرة الهرم وصارت مصر هرما مقلوبا لما نسٌت
وصٌة الهرم:
"إن البوابات ]الحدود[ التً فوقك كبوابات حامٌة ....إنها سوؾ ال تفتح للؽربٌٌن ،إنها سوؾ ال تفتح
للشرقٌٌن ،إنها سوؾ ال تفتح للجنوبٌٌن ،إنها سوؾ ال تفتح للشمالٌٌن ،إنها سوؾ ال تفتح لهإالء الذٌن
فً وسط األرض ،إنها سوؾ تفتح لحورس(( .")ٔ9٘9نصوص األهرام)
"إن الذي ٌفعل الماعت فذلك الذي ٌكون بعٌدا عن الضالل"ٌ" ،حل العقاب دابما بالذي ٌتخطى
قواعدها(ٓ( .")ٔ9ٙالحكٌم بتاح حتب)
()ٔ9٘9
-الوصٌة الواردة فً نصوص األهرام ،القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم ،ص ٕٕ٘ٔٔٙ -
(ٓ)ٔ9ٙ
-تقدٌم علً رضوان لكتاب "الماعت ..فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة" ،مرجع سابق ،ص ٕٔٔ٘-
7ٖ9
المراجع العربٌة والمترجمة مرتبة بترتٌب أحداث الزمن
ٔ -الشرق األدنى القدٌم (الجزء األول مصر والعراق) ،عبد العزٌز صالح ،مكتبة األنجلو ،طٕ منقحة ،القاهرةٔ99ٖ ،
ٕ -حضارة مصر القدٌمة وآثارها -جٔ ،عبد العزٌز صالح ،مكتبة األنجلو ،القاهرةٕٓٓٙ ،
ٖ -موسوعة مصر القدٌمة ،سلٌم حسن ،الجزء ،ٔ9الهٌبة العامة للكتاب ،مشروع مكتبة األسرة ،القاهرةٕٓٓٓ ،
ٗ -مصر الفرعونٌة ،أحمد فخري ،الهٌبة العامة للكتاب ،مشروع "مكتبة األسرة" القاهرةٕٕٓٔ ،
٘ -الفن المصري القدٌم :سٌرٌل ألدرٌد ،ت .أحمد زهٌر ،وزارة الثقافة ،هٌبة اآلثار المصرٌة ،القاهرةٔ99ٓ ،
-ٙتارٌخ الفن فً العالم القدٌم ،علً رضوان ،ط ٕ ،دار شركة الحرٌريٕٓٓٗ ،
-9األسرة فً المجتمع المصري القدٌم ،عبد العزٌز صالح ،دار القلم (وزارة الثقافة) ،القاهرةٔ9ٙٔ ،
- 8تارٌخ مصر القدٌمة ،نٌكوال جرٌمال ،ت .ماهر جوٌجاتً ،دار الفكر لدراسات والنشر والتوزٌع ،طٕ ،القاهرةٔ99ٖ ،
" -9الحضارة المصرٌة من عصور ما قبل التارٌخ حتى نهاٌة الدولة القدٌمة" ،سٌرٌل ألدرٌد ،ت .مختار السوٌفً ،الدار
المصرٌة اللبنانٌة ،القاهرة ،طٖٔ99ٙ ،
ٓٔ -فجر الضمٌر ،جٌمس هنري برٌستٌد ،ت .سلٌم حسن ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرةٕٓٔٔ ،
ٔٔ -قصة الحضارة ،جٌمس هنري برٌستٌد ،ت .أحمد فخري ،المركز القومً للترجمة ،القاهرةٕٓٔٔ ،
-تطور الفكر والدٌن فً مصر القدٌمة ،جٌمس برٌستٌد ،ت .زكً سوس ،دار الكرنك للنشر والتوزٌع ،القاهرةٔ9ٙٔ ،
ٕٔ -مصر الفراعنة ،آالن جاردنر ،ت .نجٌب مٌخابٌل إبراهٌم ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرةٔ99ٖ ،
ٖٔ -األهرامات المصرٌة ،أحمد فخري ،مكتبة األنجلو ،القاهرةٔ9ٖٙ ،
ٗٔ -ماعت فلسفة العدالة فً مصر القدٌمة ،أ َّنا مانسٌنً ،ت .محمد رفعت عواد ،الهٌبة العامة للكتاب ،القاهرةٕٓٓ9 ،
٘ٔ -الوعً السٌاسً عند قدماء المصرٌٌن ،فاٌز أنور عبد المطلب ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرةٕٖٓٔ ،
-ٔٙالخطاب السٌاسً فً مصر القدٌمة ،مصطفى النشار ،دار قباء للطباعة والنشر ،ط ٔ ،القاهرةٔ998 ،
-ٔ9تطور المثل العلٌا فً مصر القدٌمة ،محمد علً سعد هللا ،مإسسة شباب الجامعة للطباعة والنشر ،اإلسكندرٌةٔ989 ،
-ٔ8الحكم واألمثال والنصابح عند المصرٌٌن القدماء ،محرم كمال ،ط ٕ ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرةٔ998 ،
-ٔ9اللؽة المصرٌة القدٌمة ،عبد الحلٌم نور الدٌن ،دار األقصى للطباعة والنشر ،ط ،9القاهرةٕٕٓٔ ،
ٕٓ -القومٌة وتعبٌراتها عند المصري القدٌم حتى نهاٌة التارٌخ المصري القدٌم ،نجبلء فتحً شهاب ،رسالة دكتوراة ،كلٌة
اآلثار جامعة القاهرة ٕٕٔٓ
ٕٔ -الشرطة واألمن الداخلً فً مصر القدٌمة ،بهاء الدٌن إبراهٌم ،هٌبة اآلثار المصرٌة ،القاهرة( ،ؼٌر مإرخ)
ٕٕ -حكام األقالٌم فً مصر الفرعونٌة (دراسة فً تارٌخ األقالٌم حتى نهاٌة الدولة الوسطى) ،حسن محمد محًٌ الدٌن
السعدي ،دار المعرفة الجامعٌة ،اإلسكندرٌةٔ99ٔ ،
ٖٕ -مجموعة الملوك المسماة "سوبك حتب" فً األسرة ٖٔ ،أحمد محمود صابون ،دار المعرفة الجامعٌة ،اإلسكندرٌة،
(ؼٌر مإرخ)
ٕٗ -معجم المعبودات والرموز فً مصر القدٌمة ،مانفرٌد لوكر ،ت .صبلح الدٌن رمضان ،مكتبة مدبولً ،القاهرةٕٓٓٓ ،
ٕ٘ -الفكر الفلسفً فً مصر القدٌمة ،مصطفى النشار ،الدار المصرٌة السعودٌة للنشر والتوزٌع ،طٔ ،القاهرةٕٓٓٗ ،
-ٕٙرإى جدٌدة فً تارٌخ مصر القدٌمة ،رمضان عبده علً ،وزارة اآلثار ،المجلس األعلى لآلثار ،القاهرة (ؼٌر مإرخ)
-ٕ9المإسسة العسكرٌة المصرٌة فً عصر اإلمبراطورٌة ٓ ٔ٘9ق.م ،ٔٓ98 -أحمد قدري ،ت .مختار السوٌفً ،محمد
العزب موسى ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرةٕٓٔٗ ،
-ٕ8مواقع اآلثار المصرٌة القدٌمة ،جٔ ،عبد الحلٌم نور الدٌن ،ط ،8الخلٌج العربً للطباعة والنشر ،القاهرةٕٓٓ9 ،
-ٕ9المتحؾ المصري ،محمد صالح علً وهوورٌج سوروزٌان ،المجلس األعلى لآلثار ،القاهرة( ،ؼٌر مإرخ)
ٖٓ -متون هرمس الحكمة الفرعونٌة المفقودة ،تٌموثً فرٌك وبٌتر ؼاندي ،ت .عمر الفاروق عمر ،المجلس األعلى للثقافة،
القاهرةٕٕٓٓ ،
ٖٔ -انتصار الحضارة ،جٌمس هنري برٌستد ،ت .أحمد فخري ،المركز القومً للترجمة ،القاهرةٕٓٔٔ ،
ٕٖ -إخناتون ،عبد المنعم أبو بكر ،دار القلم (وزارة الثقافة) ،القاهرةٔ9ٙٔ ،
ٓٗ7
ٖٖ -أخناتون ذلك الفرعون المارق ،دونالدرٌد فورد ،ت .بٌومً قندٌل ،دار الوفاء لدنٌا الطباعة والنشر ،اإلسكندرٌةٕٓٓٓ ،
ٖٗ -رسابل عظماء الملوك فً الشرق األدنى القدٌم ،ترٌفور براٌس ،ت .رفعت السٌد علً ،دار العلوم للنشر والتوزٌع ،طٔ،
القاهرةٕٓٓٙ ،
ٖ٘ -الفرعون األخٌر رمسٌس الثالث :أو زوال حضارة عرٌقة ،فرانسٌس فٌفر ،ت .فاطمة البهلول ،دار الحصاد ،دمشق،
(ؼٌر مإرخ)
-ٖٙمصر واألجانب فً األلفٌة األولى قبل المٌبلد ،جونتر فٌتمان ،ت .بعد الجواد مجاهد ،المركز القومً للترجمة ،القاهرة،
ٕٓٓ9
-ٖ9هٌردوت ٌتحدث عن مصر" ،ت .محمد صقر خفاجة ،المركز القومً للترجمة ،القاهرةٕٓٓ9 ،
-ٖ8مختصر تارٌخ العراق (تارٌخ العراق القدٌم) ،علً شحٌبلت وعبد العزٌز إلٌاس الحمدانً ،ج٘ ،طٔ ،دار الكتب
العلمٌة ،بٌروتٕٕٓٔ ،
-ٖ9مصر من اإلسكندر األكبر حتى الفتح العربً ،مصطفى عبادي ،مكتبة األنجلو المصرٌة ،القاهرةٔ999 ،
ٓٗ -الحٌاة فً مصر فً العصر الرومانً ،نافتالً لوٌس ،ت .آمال الروبً ،دار عٌن للدراسات والبحوث اإلنسانٌة
واالجتماعٌة ،ط ٔ ،القاهرةٔ999 ،
ٔٗ -مظاهر الحٌاة فً مصر فً العصر الرومانً اجتماعٌا واقتصادٌا وإدارٌا ،آمال الروبً ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب،
القاهرةٔ99٘ ،
ٕٗ -تارٌخ مصر فً عصري البطالمة والرومان ،أبو الٌسر فرج ،عٌن للدراسات والبحوث اإلنسانٌة واالجتماعٌة ،طٕ،
القاهرةٕٕٓٓ ،
ٖٗ -الفكر المصري فً العصر المسٌحً" ،رأفت عبد الحمٌد ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرةٕٓٓٓ ،
ٗٗ -الفبلح المصري بٌن العصر القبطً والعصر اإلسبلمً ،زبٌدة عطا ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرةٔ99ٔ ،
٘ٗ -الفن القبطً المصري فً العصر الٌونانً والرومانً ،لبٌب ٌعقوب صلٌب ،مطبعة قاصد خٌر ،القاهرةٔ9ٙٗ ،
-ٗٙالٌهود فً مصر فً عصري البطالمة والرومان ،مصطفى كمال عبد العلٌم ،مكتبة القاهرة الحدٌثة ،ط ٔ ،القاهرة،
ٔ9ٙ8
-ٗ9تارٌخ مصر فً عصري البطالمة والرومان ،محمد إبراهٌم السعدنً ،مكتبة األنجلو ،القاهرة( ،ؼٌر مإرخ)
-ٗ8تارٌخ الكنٌسة القبطٌة ،منسً ٌوحنا ،مكتبة المحبة ،القاهرة( ،ؼٌر مإرخ)
-ٗ9حضارة مصر فً العصر القبطً ،مراد كامل ،مطبعة دار العالم العربً ،القاهرة( ،ؼٌر مإرخ)
ٓ٘ -تارٌخ األمة القبطٌةٌ ،عقوب نخلة روفٌلة ،طٕ ،مإسسة مار مرقص لدراسات التارٌخ القبطً ،القاهرةٕٓٓٓ ،
ٔ٘ -تارٌخ اللؽة القبطٌة ،كمال فرٌد إسحق ،مإسسة بٌتر للطباعة والتورٌدات ،القاهرة( ،ؼٌر مإرخ)
ٕ٘ -مصرع كلٌوباترة ،أحمد شوقً ،مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة ،القاهرة( ،ؼٌر مإرخ)
ٖ٘ -فتوح مصر وأخبارها ،أبو القاسم بن عبد الحكم ،مكتبة مدبولً ،سلسة صفحات من تارٌخ مصر ،القاهرةٔ999 ،
ٗ٘ -فتح العرب لمصر ،ألفرٌد بتلر ،ت .محمد فرٌد بك أبو حدٌد ،مكتبة مدبولً ،طٕ ،القاهرة ٔ99ٙ
٘٘ -تارٌخ شبه الجزٌرة العربٌة فً عصورها القدٌمة عبد العزٌز صالح ،مكتبة األنجلو ،القاهرةٕٓٔٓ ،
-٘ٙكتاب األصنام ،أبو المنذر هشام الكلبً ،تحقٌق أحمد زكً باشا ،دار الكتب المصرٌة ،طٖ ،القاهرةٔ99٘ ،
-٘9تارٌخ الرسل والملوك (تارٌخ الطبري) ،محمد بن جرٌر الطبري ،تحقٌق محمد أبو الفضل إبراهٌم ،ج ٗ ،ط ٕ ،دار
المعارؾ ،القاهرة( ،ؼٌر مإرخ)
-٘8تارٌخ مصر لٌوحنا النقٌوسً "رإٌة قبطٌة للفتح اإلسبلمً" ،عمر صابر عبد الجلٌل ،عٌن للدراسات والبحوث اإلنسانٌة
واالجتماعٌة ،القاهرةٕٖٓٓ ،
-٘9الوالة وكتاب القضاة ،أبو عمر محمد ابن ٌوسؾ الكندي ،طبعة اآلباء الٌسوعٌٌن ،بٌروتٔ9ٓ8 ،
ٓ -ٙأحسن التقاسٌم فً معرفة األقالٌم ،المقدسً المعروؾ بالبشاري ،مكتبة مدبولً ،طٖ ،القاهرةٔ99ٔ ،
ٔ -ٙالدولة العباسٌة مراحل تارٌخها وحضارتها ،سوزي حمود ،ط ٔ ،دار النهضة العربٌة ،بٌروتٕٓٔ٘ ،
ٕ -ٙالثورات الشعبٌة فً مصر اإلسبلمٌة ،حسٌن نصار ،الهٌبة العامة لقصور الثقافة ،طٕ،القاهرةٕٕٓٓ ،
ٖ -ٙتارٌخ البطاركة ،ساوٌرس بن المقفع ،تلخٌص وتعلٌق مٌخابٌل مكسً إسكندر ،مكتبة المحبة ،القاهرة( ،ؼٌر مإرخ)
ٗ -ٙمروج الذهب ومعادن الجوهر ،أبو الحسن علً المسعودي ،المكتبة العصرٌة ،ط ٔ ،بٌروتٕٓٓ٘ ،
٘ -ٙأخبار الزمان ومن أباده الحدثان ،أبو الحسن المسعودي ،ط ٔ ،مطبعة عبد الحمٌد حنفً ،القاهرةٔ9ٖ8 ،
-ٙٙأحمد بن طولون ،سٌدة إسماعٌل كاشؾ ،المإسسة المصرٌة العامة للتؤلٌؾ واألنباء والنشر ،القاهرةٔ9ٙ٘ ،
-ٙ9مصر فً عصر اإلخشٌدٌٌن ،سٌدة إسماعٌل كاشؾ ،مطبعة جامعة فإاد األول ،القاهرةٔ9٘ٓ ،
-ٙ8أوراق البردي العربٌة بدار الكتب المصرٌة ،أدولؾ جروهمان ،ترجمة حسن إبراهٌم حسن ،دار الكتب المصرٌة ،القاهرةٔ9٘٘ ،
-ٙ9مع المتنبً" ،طه حسٌن ،مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة ،القاهرة( ،ؼٌر مإرخ)
ٓ -9المكافؤة وحسن العقبى ،أحمد بن ٌوسؾ الكاتب (ابن الداٌة) ،تحقٌق محمود محمد شاكر ،مطبعة االستقامة ،القاهرة،
ٓٗٔ9
ٔ -9اللهجة المصرٌة الفاطمٌة دراسة تارٌخٌة وصفٌة ،عطٌة سلٌمان أحمد ،ٔ99ٖ ،نسخة إلكترونٌة ؼٌر مذكور اسم الناشر
ٔٗ7
ٕ -9المواعظ واالعتبار بذكر الخطط واآلثار (الخطط المقرٌزٌة) ،تقً الدٌن المقرٌزي ،تحقٌق محمد زٌنهم -مدٌحة
الشرقاوي ،مكتبة مدبولً ،القاهرةٔ998 ،
ٖ -9إؼاثة األمة بكشؾ الؽمة ،تقً الدٌن المقرٌزي ،تحقٌق كرم حلمً فرحات ،عٌن للدراسات والبحوث اإلنسانٌة
واالجتماعٌة ،ط ٔ ،القاهرةٕٓٓ9 ،
ٗ -9الفاشوش فً حكم قراقوش البن مماتً ،عبد اللطٌؾ حمزة ،كتاب الٌوم ،القاهرة( ،ؼٌر مإرخ)
٘ -9اإلفادة واال عتبار فً األمور المشاهدة والحوادث المعاٌنة بؤرض مصر ،عبد اللطٌؾ البؽدادي ،ط ٕ الهٌبة المصرٌة
العامة للكتابٔ998 ،
-9ٙتارٌخ الجمعٌات السرٌة والحركات الهدامة فً المشرق ،محمد عبد هللا عنان ،دار البنٌن للنشر والتوزٌع( ،ؼٌر مإرخ)
-99رسابل إخوان الصفا وخبلن الوفا ،المجلد األول ،مكتب اإلعبلم اإلسبلمً ،مدٌنة قم بإٌران ٔٗٓ٘ ،هـ
-98تارٌخ األقباط ،المقرٌزي ،تحقٌق عبد المجٌد دٌاب لكتاب القول اإلبرٌزي للعبلمة المقرٌزي لصاحبه مٌنا إسكندر
الجامع لما ذكره المقرٌزي عن األقباط ،دار الفضٌلة ،القاهرة
-99مصر فً عهد الوالة من الفتح العربً إلى تارٌخ الدولة الطولونٌة ،سٌدة الكاشؾ ،دار المعارؾ (ؼٌر مإرخ)
ٓ -8تراث األدب القبطً ،شنودة ماهر وٌوحنا نسٌم ٌوسؾ ،مإسسة القدٌس مرقس لدراسات التارٌخ القبطً ،القاهرة،
ٖٕٓٓ
ٔ -8فضابل مصر وأخبارها وخواصها البن زوالق ،تحقٌق علً محمد عمر ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرة،
ٔ999
ٕ -8حسن المحاضرة فً تارٌخ مصر والقاهرة ،جبلل الدٌن السٌوطً ،تحقٌق محمد أبو الفضل إبراهٌم ،ج ٕ ،ط ٔ ،دار
إحٌاء الكتب العربٌةٔ9ٙ8 ،
ٖ -8المجتمع المصري فً مصر اإلسبلمٌة من الفتح العربً وحتى العصر الفاطمً ،هوٌدا عبد العظٌم رمضان ،الهٌبة
المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرةٔ99ٗ ،
ٗ -8تارٌخ مصر إلى الفتح العثمانً ،عمر اإلسكندري وأ.ج .سفدج ،ط ٕ ،مكتبة مدبولً ،القاهرةٔ99ٙ ،
٘ -8الفاطمٌون تارٌخهم وآثارهم فً مصر ،أمٌرة الشٌخ رضا فرحات ،كتاب-ناشرون ،بٌروتٕٖٓٔ ،
-8ٙالدولة الفاطمٌة -تفسٌر جدٌد ،أٌمن فإاد سٌد ،الدار المصرٌة اللبنانٌة ،طبعة خاصة عن الهٌبة العامة للكتاب لمشروع
مكتبة األسرة ،طٕٕٓٓ9 ،
-89الفاطمٌون فً مصر وأعمالهم السٌاسٌة والدٌنٌة بوجه خاص ،حسن إبراهٌم حسن ،المطبعة األمٌرٌة ،القاهرةٔ9ٖٕ ،
-88اتعاظ الحنفا فً أخبار األبمة الفاطمٌٌن الخلفا ،تقً الدٌن المقرٌزي ،تحقٌق جمال الدٌن الشٌال ،طٕ ،المجلس األعلى
للشبون اإلسبلمٌة ،القاهرةٔ99ٙ ،
-89السلوك لمعرفة دولة الملوك ،تقً الدٌن المقرٌزي ،تحقٌق سٌد عبد الفتاح عاشور ،دار الكتب والوثابق القومٌة ،القاهرة،
ٕٔ99
ٓ -9السلوك لمعرفة دول الملوك ،المقرٌزي ،تحقٌق محمد عبد القادر عطا ،ج ٔ ،طٔ ،دار الكتب العلمٌة ،بٌروتٔ999 ،
ٔ -9السلوك لمعرفة دول الملوك ،تقً الدٌن المقرٌزي ،ج ٕ ق ٔ ،محمد مصطفى زٌادة ،لجنة التؤلٌؾ والترجمة والنشر،
القاهرةٔ9ٖٙ ،
ٕ -9السلوك لمعرفة دولة الملوك ،تقً الدٌن المقرٌزي ،جٗ قٕ ،تحقٌق سعٌد عبد الفتاح عاشور ،دار الكتب ،القاهرة،
ٕٔ99
-89النجوم الزاهرة فً ملوك مصر والقاهرةٌ ،وسؾ بن تؽري بردي ،تقدٌم وتعلٌق محمد حسٌن شمس الدٌن ،ج ،9طٔ،
دار الكتب العلمٌة ،بٌروتٔ99ٕ ،
ٖ -9تارٌخ الخلفاء ،جبلل الدٌن السٌوطً ،دار ابن حزم ،ط ٔ ،بٌروتٕٖٓٓ ،
ٗ -9قٌام الدولة األٌوبٌة فً مصر والشام ،وفاء محمد علً ،ط ٔ ،دار الفكر العربً ،القاهرة ٔٗٓ9 ،ه
٘ -9الحٌاة االجتماعٌة فً مصر خبلل العصر األٌوبً ( ٙٗ8-٘ٙ9هـٕٔ٘ٓ -ٔٔ9ٔ /م) ،رشا خلٌل أحمد علً ،ماجستٌر،
كلٌة الدراسات العلٌا ،الجامعة األردنٌة ،ماٌو ٕٓٔٓ
-9ٙالحٌاة االقتصادٌة فً مصر فً العصر األٌوبً ( ٙٗ8-٘ٙ9هـٕٔ٘ٓ -ٔٔ9ٔ /م) ،فوزي خالد علً الطواهٌة،
(دكتوراة) ،الجامعة األردنٌةٕٓٓ8 ،
-99مفرج الكروب فً أخبار بنً أٌوب ،جمال الدٌن بن واصل ،تحقٌق جمال الدٌن الشٌال ،دار الكتب والوثابق القومٌة،
القاهرة( ،ؼٌر مإرخ)
-98النوادر السلطانٌة والمحاسن الٌوسٌفٌة ،بهاء الدٌن (ابن شداد) ،تحقٌق محمد محمود صبح ،مطابع دار الكتاب العربً،
القاهرةٔ9ٕٙ ،
-99تارٌخ دولة الممالٌك فً مصر ،ولٌم موٌر ،ت .محمود عابدٌن وسلٌم حسن ،ط ٔ ،مكتبة مدبولً ،القاهرةٔ99٘ ،
ٓٓٔ -المجتمع المصري فً عصر سبلطٌن الممالٌك ،سعٌد عبد الفتاح عاشور ،دار النهضة العربٌةٔ99ٕ ،
ٔٓٔ -القرٌة المصرٌة فً عصر سبلطٌن الممالٌك ( 9ٕٖ -ٙٗ8هـ ٔ٘ٔ9 -ٕٔ٘ٓ /م) ،مجدي عبد الرشٌد بحر ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب،
القاهرةٔ999 ،
ٕٗ7
ٕٓٔ -تراث العبٌد فً حكم مصر المعاصرة ،دراسة فً علم االجتماع التارٌخً" ،دكتور ع.ع ،المكتب العربً للمعارؾ،
القاهرة( ،ؼٌر مإرخ)
ٖٓٔ -أحوال العامة فً مصر فً عصر الممالٌك البرجٌة ،أحمد ماجد عبد هللا الجبوري( ،رسالة ماجستٌر) جامعة آل البٌت،
بؽدادٕٓٔ٘ ،
ٗٓٔ -بدابع الزهور فً وقابع الدهور ،محمد بن إٌاس الحنفً ،تحقٌق محمد مصطفى ،ط ٕ ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب،
القاهرةٔ98ٗ ،
ٓٓٔ -تارٌخ مصر من الفتح العثمانً إلى قبٌل الوقت الحاضر ،عمر اإلسكندري وسلٌم حسن ،ٔ9ٔٙ ،مكتبة مدبولً ،ط ٕ،
القاهرةٔ99ٙ ،
٘ٓٔ -التصوؾ اإلسبلمً فً األدب واألخبلق ،زكً مبارك ،ج ٔ ،ط ٔ ،مطبعة الرسالة ،القاهرةٔ9ٖ8 ،
-ٔٓٙالبحر المورود فً المواثٌق والعهود ،عبد الوهاب الشعرانً ،مكتبة الثقافة الدٌنٌة ،طٔ ،القاهرةٕٓٓٗ ،
-ٔٓ9الدرر واللُمع فً بٌان الصدق فً الزهد والورع ،عبد الوهاب الشعرانً ،تحقٌق أحمد فرٌد المزٌدي ومحمد عبد القادر
نصار ،طٔ ،دار الكرز للنشر والتوزٌع ،القاهرةٕٓٓ٘ ،
-ٔٓ8األعبلم قاموس تراجم ،خٌر الدٌن الزركلً ،ج ،8دار العلم للمبلٌٌن ،بٌروتٕٕٓٓ ،
-ٔٓ9مصر فً كتابات الرحالة الفرنسٌٌن فً القرنٌن السادس عشر والسابع عشر ،إلهام محمد ذهنً ،الهٌبة العامة للكتاب،
القاهرةٔ99ٔ ،
ٓٔٔ -الجالٌات األوروبٌة فً ببلد الشام فً العهد العثمانً فً القرنٌن السادس عشر والسابع عشر ،لٌلى الصباغ ،مإسسة
الرسالة ،بٌروتٔ989 ،
-األرض والفبلح فً صعٌد مصر فً العصر العثمانً ،جمال كمال محمود ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرةٕٓٔٓ ،
ٔٔٔ -الشوام فً مصر منذ الفتح العثمانً حتى أوابل القرن التاسع عشر ،السٌد سمٌر عبد المقصود ،الهٌبة العامة للكتاب
(سلسلة تارٌخ المصرٌٌن) ،القاهرةٕٖٓٓ ،
ٕٔٔ -المؽاربة فً مصر فً العصر العثمانً ،عبد الرحٌم عبد الرحمن عبد الرحٌم ،منشورات المجلة التارٌخٌة المؽربٌة،
ٕٔ98
ٖٔٔ -كشؾ الؽمة فً رفع الطلبة ،محمد بن أبً السرور البكري الصدٌقً ،تحقٌق عبد الرحٌم عبد الرحمن عبد الرحٌم،
المجلة التارٌخٌة المصرٌة ،المجلد ٖٕ ،سنة ٔ99ٙ
ٓٗٔٔ -النزهة الزكٌة فً والة مصر والقاهرة المعزٌة ،محمد بن أبً السرور البكري ،ص ٘ ٔ8عن حوادث سنة ٔٙٓ8
م ،تحقٌق عبد الرازق عبد الرازق عٌسى ،العربً للنشر والتوزٌع
٘ٔٔ -الرٌؾ المصري فً القرن الثامن عشر ،عبد الرحٌم عبد الرحمن عبد الرحٌم ،مكتبة مدبولً ،ط ٕ ،القاهرةٔ98ٙ ،
-ٔٔٙملكٌة األراضً الزراعٌة فً القرن التاسع عشر (رسالة دكتوراة) ،د .حمدي الوكٌل ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب،
القاهرةٕٓٓ9 ،
-ٔٔ9النوادر الشعبٌة المصرٌة ،إبراهٌم شعبلن ،ج ٔ ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرةٕٕٓٔ ،
-ٔٔ8موسوعة األمثال الشعبٌة المصرٌة ،د .إبراهٌم شعبلن ،جٔ ،طٔ ،دار األفاق العربٌة ،القاهرةٕٖٓٓ ،
-ٔٔ9العادات والتقالٌد المصرٌة من األمثال الشعبٌة فً عهد محمد علً ،جون لوٌس بوركهارت ،ترجمة إبراهٌم شعبلن،
ط ٖ ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرةٕٓٓٓ ،
ٕٓٔ -عجاٌب اآلثار فً التراجم واألخبار ،عبد الرحمن الجبرتً ،تحقٌق عبد العزٌز جمال الدٌن ،الهٌبة العامة لقصور
الثقافة ،القاهرةٕٕٓٔ ،
ٕٔٔ -النضال الشعبً ضد الحملة الفرنسٌة ،المقدم محمد فرج ،الدار القومٌة للطباعة والنشر ،القاهرة( ،ؼٌر مإرخ)
ٕٕٔ -بونابرت فً مصر ،كرستوفر هٌرولد ،ت .فإاد أندراوس ،الهٌبة العامة للكتاب ،القاهرةٔ998 ،
ٖٕٔ -مذكرات ضابط فً الحملة الفرنسٌة على مصر ،جوزٌؾ ماري موارٌه ،ت .كامٌلٌا صبحً ،المجلس األعلى للثقافة،
القاهرةٕٓٓٓ ،
ٕٗٔ -الجنرال ٌعقوب والفارس السكارٌاس ومشروع استقبلل مصر فً ٔٓ ،ٔ8شفٌق ؼربال ،دار الشروق ،طٔ ،القاهرة،
ٕٓٓ9
ٕ٘ٔ -تارٌخ أوروبا الحدٌث ،جٌفري برون ،ت .علً المزروقً ،األهلٌة للنشر والتوزٌع ،طٔ ،عمَّانٕٓٓٙ ،
-ٕٔٙالبعثات التعلٌمٌة فً عهد محمد علً ثم فً عهدي عباس األول وسعٌد ،عمر طوسون ،مطبعة صبلح الدٌن،
اإلسكندرٌةٔ9ٖٗ ،
-ٕٔ9عصر محمد علً ،عبد الرحمن الرافعً ،ط ٘ ،دار المعارؾ ،القاهرةٔ98٘ ،
-ٕٔ8عادات المصرٌٌن المحدثٌن وتقالٌدهم (مصر ما بٌن ٖٖ ،)ٔ8ٖ٘ -ٔ8إدوارد ولٌم الٌن ،،ت .سهٌر دسوم ،ط ٕ،
مكتبة مدبولً ،القاهرةٔ999 ،
-ٕٔ9النكبات (خبلصة تارٌخ سورٌة منذ العهد األول بعد الطوفان إلى عهد الجمهورٌة بلبنان) ،أمٌن الرٌحانً ،المطبعة
العلمٌة لٌوسؾ صادر ،بٌروتٔ9ٕ8 ،
ٖٓٔ -لمحة إلى مصر ،كلوت بك ،ت .محمد مسعود ،دار الكتب والوثابق القومٌة ،القاهرةٕٓٔٔ ،
ٖٗ7
ٖٔٔ -الحرؾ والصناعات فً عهد محمد علً ،صبلح أحمد هرٌدي ،دار المعارؾ ،القاهرةٔ98٘ ،
ٕٖٔ-صفحة من تارٌخ مصر فً عهد محمد علً الجٌش المصري البري والبحري ،عمر طوسون ،مكتبة مدبولً ،القاهرة،
ٔ99ٙ
ٖٖٔ -الجٌش المصري فً الحرب الروسٌة المعروفة بالقرم (ٖ٘ ،)ٔ8٘٘ -ٔ8عمر طوسون ،مطبعة المستقبل باإلسكنرٌة،
ٔ9ٖٙ
ٖٗٔ -الجٌش المصري فً القرن التاسع عشر ،محمد محمود السروحً ،دار المعارؾ ،القاهرةٔ9ٙ9 ،
ٖ٘ٔ -مصر والسودان فً أوابل عهد االحتبلل ،عبد الرحمن الرافعً ،دار المعارؾ ،طٗ ،القاهرةٔ98ٖ ،
-ٖٔٙمناهج األلباب المصرٌة فً مباهج اآلداب العصرٌة ،رفاعة رافع الطهطاوي ،الهٌبة العامة لقصور الثقافة ،القاهرة،
ٕٓٔ8
-ٖٔ9المرشد األمٌن للبنات والبنٌن ،رفاعة رافع الطهطاوي ،الهٌبة العامة لقصور الثقافة ،القاهرةٕٓٔ8 ،
-ٖٔ8مصر وكٌؾ ُؼدر بها ،ألبرت فارمان ،ت .عبد الفتاح عناٌت ،الزهراء لئلعبلم العربً ،طٔ ،القاهرةٔ99٘ ،
-ٖٔ9من تراث عبد هللا الندٌم :التنكٌت والتبكٌت ،دراسة تحلٌلٌة عبد المنعم الجمٌعً ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب،
القاهرةٔ99ٗ ،
ٓٗٔ -رسابل من مصر ( ،)ٔ88ٕ -ٔ899جون نٌنٌه ،ت .فتحً العشري ،طٔ ،المجلس األعلى للثقافة ،القاهرةٕٓٓ٘ ،
ٔٗٔ -مذكرات الزعٌم أحمد عرابً ،دراسة وتحقٌق عبد المنعم إبراهٌم الجمٌعً ،مجلد ٔ ،دار الكتب والوثابق القومٌة،
القاهرةٕٓٓ٘ ،
ٕٗٔ -مصر للمصرٌٌن ،سلٌم النقاش ،ج ٗ ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرةٔ998 ،
ٖٗٔ -مصر للمصرٌٌن أزمة مصر االجتماعٌة والسٌاسٌة ،ٔ88ٕ -ٔ898ألكسندر شولش ،ت .رءوؾ عباس حامد ،عٌن
للدراسات والبحوث اإلنسانٌة واالجتماعٌة ،ط ٔ ،القاهرةٔ999 ،
ٗٗٔ -الكافً فً تارٌخ مصر القدٌم والحدٌث ،مٌخابٌل شاروبٌم ،مكتبة مدبولً ،ط ٕ ،القاهرةٕٓٓٗ ،
٘ٗٔ -الثورة العرابٌة واالحتبلل اإلنجلٌزي ،عبد الرحمن الرافعً ،دار المعارؾ ،طٗ ،القاهرةٔ98ٖ ،
-ٔٗٙكٌؾ دافعنا عن عرابً وصحبه ،أم.م .برودلً ،ت .عبد الحمٌد سلٌم ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرةٔ989 ،
-ٔٗ9التارٌخ السري الحتبلل اإلنجلٌزي لمصر -رواٌة شخصٌة لؤلحداث ،ولفرٌد سكاون بلنت ،ت .صبري محمد حسن،
المركز القومً للترجمةٕٓٔٓ ،
-ٔٗ8مصر المصرٌة بتؽنً ،فإاد حداد ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،مكتبة األسرة ،القاهرةٕٕٓٓ ،
-ٔٗ9تارٌخ النهب االستعماري لمصر ،ٔ88ٕ -ٔ998جون مارلو ،ت .عبد العظٌم رمضان ،الهٌبة المصرٌة العامة
للكتاب ،القاهرةٔ99ٙ ،
ٓ٘ٔ -فراعنة من؟ علم اآلثار والمتاحؾ والهوٌة القومٌة المصرٌة من حملة نابلٌون حتى الحرب العالمٌة األولى ،دونالد
مالكوم رٌد ،ت .عبد الرءوؾ عباس ،المجلس األعلى للثقافة ،القاهرةٕٓٓ٘ ،
ٔ٘ٔ -تطور الرأسمالٌة المصرٌة ،مجموعة باحثٌن ،دار الكتب والوثابق القومٌة ،القاهرةٕٓٔٔ ،
ٕ٘ٔ -مذكراتً فً نصؾ قرن ،أحمد شفٌق باشا ،طٔ ،مطبعة مصر ،القاهرةٔ9ٖٗ ،
ٖ٘ٔ -االمتٌازات األجنبٌة ،محمد عبد الباري ،مطبعة االعتماد ،القاهرةٔ9ٖٓ ،
ٗ٘ٔ -الكشاؾ للدٌار المصرٌة وعدد نفوسها ،نظارة الداخلٌة إدارة التعداد ٖ( ،ماٌو ٕ ٔ88م) ،ج ٕ ،القاهرة
٘٘ٔ -تعداد سكان القطر المصري ٖ٘ٔٔ ه ٔ899 /م ،المطبعة األمٌرٌة ببوالق مصر المحمٌة ،القاهرة
-ٔ٘ٙتعداد سكان القطر المصري ،نظارة المالٌة إدارة التعداد لسنة ،ٔ899القاهرة
-ٔ٘9تعداد سكان القطر المصري فً سنة ٕٖ٘ٔ ه -سنة ٔ9ٓ9م ،نظارة المالٌة ،المطبعة األمٌرٌة بمصر
-ٔ٘8تعداد السكان لعام ،ٔ9ٔ9إصدار وزارة المالٌة ،جٕ،الجدول الثامن،مكتبة جهاز التعببة العامة واإلحصاء ،القاهرة
-ٔ٘9تعداد سكان القطر المصري لسنة ،ٔ9ٕ9وزارة المالٌة ،مكتبة جهاز التعببة العامة واإلحصاء ،القاهرة
ٓ -ٔٙتعداد سكان القطري المصري لسنة ،ٔ9ٖ9جٕ ،وزارة المالٌة ،مكتبة جهاز التعببة العامة واإلحصاء ،القاهرة
ٔ -ٔٙالتعداد العام للسكان لسنة ،ٔ9ٗ9جٕ ،وزارة المالٌة واالقتصاد (مصلحة اإلحصاء والتعداد) ،المطبعة األمٌرٌة،
القاهرة
ٕ -ٔٙمصر فً القرن التاسع عشر ،صالح جودت ،مطبعة الشعب ،القاهرةٔ9ٓٗ ،
ٖ -ٔٙقاموس الشتابم المصرٌة (أصول وحكاٌات الشتابم) ،عمرو المنشاوي ،إبداع للترجمة والنشر والتوزٌع ،القاهرة،
ٕٓٔ9
ٗ -ٔٙالجالٌة البرٌطانٌة فً مصر (٘ٓ ،)ٔ88ٕ -ٔ8ناهد السٌد علً زٌان ،دار الكتب والوثابق القومٌة ،القاهرةٕٓٔٔ ،
٘ -ٔٙالجالٌة الفرنسٌة فً مصر (ٕ ،)ٔ9٘ٙ -ٔ88نورٌس محمد سٌؾ الدٌن ،دار الكتب والوثابق القومٌة ،القاهرةٕٕٓٔ ،
-ٔٙٙأقباط ومسلمون منذ الفتح العربً إلى عام ٕٕ ،ٔ9جاك تاجر ،مإسسة هنداوي ،القاهرة( ،ؼٌر مإرخ)
-ٔٙ9حكاٌات من دفتر الوطن ،صبلح عٌسى ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،مشروع مكتبة األسرة ،القاهرةٔ998 ،
-ٔٙ8مقدمة فً الفولكلور القبطً ،عصام ستاتً ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب (مكتبة األسرة) ،القاهرةٕٓٔٗ ،
-ٔٙ9دراسات فً تارٌخ مصر االجتماعً ،أحمد رشدي صالح ،الهٌبة العامة للكتاب ،القاهرة( ،ؼٌر مإرخ)
ٗٗ7
ٓ -ٔ9مذكرات إبراهٌم الهلباوي ،تحقٌق د.عصام ضٌاء الدٌن ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتابٔ99٘ ،
ٔ -ٔ9سعد زؼلول ،سٌرة وتحٌة ،عباس محمود العقاد ،الهٌبة العامة للكتابٕٓٔ9 ،
ٕ -ٔ9مذكرات سعد زؼلول ،تحقٌق عبد العظٌم رمضان ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرةٔ989 ،
ٖ -ٔ9قصة حٌاتً ،أحمد لطفً السٌد ،مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة ،القاهرة( ،ؼٌر مإرخ)
ٗ -ٔ9صفحات من تارٌخ مصرٌ ،حًٌ حقً ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرةٔ989 ،
٘ -ٔ9األهرام دٌوان الحٌاة المعاصرةٌ ،ونان لبٌب رزق ،ج ٔ ،مركز تارٌخ األهرام ،القاهرة( ،ؼٌر مإرخ)
-ٔ9ٙدٌوان حافظ إبراهٌم األعمال الكاملة ،حافظ إبراهٌم ،مإسسة هنداوي ،القاهرة( ،ؼٌر مإرخ)
-ٔ99دٌوان حافظ إبراهٌم ،جمع وشرح :أحمد أمٌن ،أحمد الزٌن ،إبراهٌم اإلبٌاري ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرة،
ٔ989
-ٔ98دٌوان الشوقٌات ،أحمد شوقً ،كلمات عربٌة للترجمة والنشر ،القاهرة( ،ؼٌر مإرخ)
-ٔ99فن األدب ،توفٌق الحكٌم ،دار مصر للطباعة ،القاهرة( ،ؼٌر مإرخ)
ٓ -ٔ8الماسونٌة والماسون فً مصر ،ٔ9ٙٗ -ٔ998وابل إبراهٌم الدسوقً ،دار الكتب والوثابق القومٌة ،القاهرةٕٓٔ٘ ،
ٔ" -ٔ8تارٌخ الماسونٌة العام" ،جورجً زٌدان ،مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة ،القاهرة( ،ؼٌر مإرخ)
ٕ -ٔ8الماسونٌة فً مصر ،علً شلش ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرةٔ99ٖ ،
ٖ -ٔ8أحجار على رقعة الشطرنج ،ولٌم جاي كار ،ت .سعٌد جزابرلً ،دار النفابس ،ط ٔٔ99ٓ ،
ٗ -ٔ8الشٌطان أمٌر العالم ،ولٌم جاي كار ،ت .عماد إبراهٌم ،األهلٌة للنشر والتوزٌع ،األردنٕٓٔٗ ،
٘ -ٔ8مخطط المتنورٌن ،ماٌرون فاجان ،ت .عبلء الحلبً ،سورٌا ،نشر إلكترونً
-ٔ8ٙعبادة الشٌطان وسلطان القدٌسٌن ،حلمً القمص ٌعقوب ،كنٌسة القدٌسٌن مارمرقس الرسول ،اإلسكندرٌة( ،ؼٌر
مإرخ)
-ٔ89بروتوكوالت حكماء صهٌون ،فكتور ماسدون ،الحرٌة للنشر والتوزٌع ،القاهرة( ،ؼٌر مإرخ)
-ٔ88الخطر الٌهودي بروتوكوالت حكماء صهٌون ،ت ,محمد خلٌفة التونسً ،ط ٗ ،دار الكتاب العربً ،القاهرةٔ9٘ٔ ،
-ٔ89مملكة الخزر الٌهودٌة وعبلقتها بالبٌزنطٌٌن والمسلمٌن فً العصور الوسطى ،محمد عبد الشافً المؽربً ،دار الوفاء
لدنٌا الطباعة والنشر ،اإلسكندرٌة( ،ؼٌر مإرخ)
ٓ -ٔ9موسوعة المصطلحات الدٌنٌة الٌهودٌة ،رشاد الشامً ،المكتب المصري لتوزٌع المطبوعات ،القاهرةٕٕٓٓ ،
ٔ -ٔ9من نحن؟ ،صموٌل هنتنجتون ،ت .أحمد مختار الجمال ،المركز القومً للترجمة ،ط ٔ ،القاهرةٕٓٓ9 ،
ٕ -ٔ9مصر الحدٌثة ،اللورد كرومر،المركز القومً للترجمة ،ت .صبري محمد حسن ،جٕ ،طٔ ،القاهرةٕٓٔٗ ،
ٖ -ٔ9كبار المبلك والفبلحٌن من ،ٔ9ٕ٘ -ٔ8ٖ9رإوؾ عباس وعاصم الدسوقً ،النسخة اإللكترونٌة المنشورة على موقع
الدكتور رإوؾ عباس
ٗ -ٔ9كبار مبلك األراضً الزراعٌة ودورهم فً المجتمع المصري (ٗٔ ،)ٔ9ٕ٘ -ٔ9عاصم الدسوقً ،دار الثقافة
الجدٌدة ،طٔ،القاهرةٔ99٘ ،
٘ -ٔ9دار المندوب السامً فً مصر ،ماجدة محمد حمود ،ج ٕ ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرةٔ999 ،،
-ٔ9ٙمذكرات فخري عبد النور :ثورة ،ٔ9ٔ9دار الشروق ،طٔ ،القاهرةٔ99ٕ ،
-ٔ99فً أصول المسؤلة المصرٌة ،صبحً وحٌدة ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرة ٕ٘ٔٓ
-ٔ98شعراء الوطنٌة فً مصر ،عبد الرحمن الرافعً ،دار المعارؾ ،طٖ ،القاهرة( ،ؼٌر مإرخ)
-ٔ99فً أعقاب الثورة المصرٌة ثورة ،ٔ9ٔ9عبد الرحمن الرافعً ،جٕ ،دار المعارؾ ،طٖ ،القاهرةٔ988 ،
ٕٓٓ -تارٌخ الحركة القومٌة وتطور نظام الحكم فً مصر ،عبد الرحمن الرافعً ،جٔ،مطبعة النهضة ،طٔ ،القاهرة،
ٔ9ٕ9
ٕٔٓ -تطور الحركة الوطنٌة فً مصر ( ،)ٔ9ٖٙ -ٔ9ٔ8عبد العظٌم رمضان ،مكتبة مدبولً ،طٕٔ98ٖ ،
ٕٕٓ -باشوات وسوبر باشوات ،د .حسٌن مإنس ،الزهراء لئلعبلم العربً ،ط ٕ ،القاهرةٔ988 ، ،
ٖٕٓ -الجٌش المصري فً السٌاسة (ٕ ،ٔ9ٖٙ-ٔ88عبد العظٌم رمضان ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتابٕٕٓٓ ،
ٕٗٓ -مبادئ فً السٌاسة واألدب واالجتماع ،أحمد لطفً السٌد ،تعلٌق طاهر الطناحً ،دار الهبلل ،القاهرةٔ9ٖٙ ،
ٕ٘ٓ -أحمد لطفً السٌد ،معاركه السٌاسٌة واالجتماعٌة ،عواطؾ سراج الدٌن ،نهضة مصر ،طٔ ،القاهرةٕٓٔٔ ،
-ٕٓٙتارٌخ الطبقة العاملة المصرٌة من ،ٔ9ٕ9 -ٔ9ٔ9أمٌن عز الدٌن ،دار الشعب ،القاهرةٔ99ٓ ،
-ٕٓ9خان الخلٌلً ،نجٌب محفوظ ،مكتبة مصر ،ط ،ٙالقاهرة( ،ؼٌر مإرخ)
-ٕٓ8مصر فً قصص كتابها المعاصرٌن ،محمد جبرٌل ،الهٌبة العامة للكتاب ،القاهرة ٕٓٓ9
-ٕٓ9مصر بٌن عهدٌن ،توفٌق الحكٌم ،مكتبة مصر ،القاهرةٔ98ٖ ،
ٕٓٔ -قاموس العادات والتقالٌد والتعابٌر المصرٌة ،أحمد أمٌن ،مإسسة هنداوي للتعلٌم والثقافة ،القاهرة( ،ؼٌر مإرخ)
ٕٔٔ -هنري كورٌٌل -األسطورة والوجه اآلخر ،حسٌن كفافً ،الهٌبة العامة للكتاب ،القاهرة ٖٕٓٓ
ٕٕٔ -الحركة القومٌة العربٌة فً القرن العشرٌن ،هانً الهندي ،مركز دراسات الوحدة العربٌة ،طٕ ،بٌروت ٕ٘ٔٓ
ٖٕٔ -الحركة العربٌة السرٌة ٖ٘( ٔ9ٗ٘ -ٔ9جماعة الكتاب األحمر) ،شفٌق جحا ،الفرات للنشر والتوزٌع ،طٔ ،بٌروت،
٘ٗ7
ٕٗٓٓ
ٌٕٗٔ -قظة العرب -تارٌخ حركة العرب القومٌة ،جورج أنطونٌوس ،ت .ناصر الدٌن األسد وإحسان عباس ،دار العلم
للمبلٌٌن ،بٌروت ،ط ٔ989 ،8
ٕ٘ٔ -التارٌخ السري لجماعة اإلخوان المسلمٌن ،علً عشماوي ،ط ٕ ،مركز ابن خلدون للدراسات اإلنمابٌة ،القاهرة،
ٕٓٓٙ
-ٕٔٙكارل ماركس أو فكر العالم سٌرة حٌاة ،جاك أتالً ،ت .محمد صبح ،دار كنعان ،طٔ ،دمشقٕٓٓ8 ،
-ٕٔ9الحركة الشٌوعٌة فً مصر من ٕٔ ٔ9إلى ثورة ٌناٌر ٌٕٔٔٓ ،وسؾ محمد ،كتاب إلٌكترونً
-ٕ8موسوعة هذا الرجل من مصر ،لمعً المطٌعً ،دار الشروق ،ط ٕ ،القاهرةٔ999 ،
-ٕٔ9الرسالة الخالدة ،عبد الرحمن عزام ،المجلس األعلى للشبون اإلسبلمٌة ،القاهرةٔ9ٙٗ ،
ٕٕٓ -مستقبل الثقافة فً مصر ،طه حسٌن ،طٕ ،دار المعارؾ ،القاهرة( ،ؼٌر مإرخ)
ٕٕٔ -تارٌخ ال لؽة العربٌة فً مصر والمؽرب األدنى ،أحمد مختار عمر ،عالم الكتب ،القاهرة( ،ؼٌر مإرخ)
ٕٕٕ -تارٌخ المسرح عبر العصور ،مجٌد صالح ،الدار الثقافٌة للنشر ،طٔ ،القاهرةٕٕٓٓ ،
ٖٕٕ -السٌنما والدولة فً الوطن العربً" ،سمٌر فرٌد ،ضمن أبحاث كتاب "الهوٌة القومٌة فً السٌنما العربٌة ،مركز
دراسات الوحدة العربٌة ،ط ٔ ،بٌروتٔ98ٙ ،
ٕٕٗ -معجم مصطلحات التارٌخ والحضارة اإلسبلمٌة ،أنور محمود زناتً ،ط ٔ ،دار زهران للنشر والتوزٌع ،عمَّان،
ٕٔٔٓ
ٌٕٕ٘ -هود مصر (ٕٕ ،)ٔ9٘ٙ -ٔ9رشاد رمضان عبد السبلم ،دار الكتب والوثابق القومٌة ،القاهرةٕٓٔٗ ،
-ٕٕٙتارٌخ العمال الزراعٌٌن فً مصر (ٗٔ ،)ٔ9ٕ٘ -ٔ9فاطمة علم الدٌن عبد الواحد ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب،
ٔ999
-ٕٕ9األرض والفبلح ..المسؤلة الزراعٌة فً مصر ،إبراهٌم عامر ،الدار المصرٌة للطباعة والنشر والبحوث والحسابات
العلمٌةٔ9٘8 ،
-ٕٕ8الكتاب األسود لبلستعمار البرٌطانً فً مصر ،شحاتة عٌسى إبراهٌم ،الهٌبة العامة لقصور الثقافة ،القاهرة( ،ؼٌر
مإرخ)
-ٕٕ9األجانب فً مصر ٕٕ ٔ9ٕ٘ -ٔ9دراسة فً تارٌخ مصر االجتماعً ،محمودمحمد سلٌمان ،عٌن للدراسات والبحوث
اإلنسانٌة واالجتماعٌة ،ط ٔ ،القاهرةٔ99ٙ ،
ٖٕٓ -الصحافة المصرٌة وموقفها من االحتبلل اإلنجلٌزي ،سامً عزٌز ،دار الكتاب العربً ،القاهرةٔ9ٙ8 ،
ٖٕٔ -مجتمع القاهرة السري (ٓٓ ،)ٔ9ٖ٘ -ٔ9عبد الوهاب بكر ،العربً للنشر والتوزٌع ،القاهرةٕٓٓٔ ،
ٕٖٕ -تطور ملكٌة األرض الزراعٌة ٖٔ ٔ9ٔٗ -ٔ8وأثره على الحٌاة السٌاسٌة ،علً بركات ،دار الثقافة الجدٌدة ،القاهرة،
(ؼٌر مإرخ)
ٖٖٕ -التحلٌل االقتصادي واالجتماعً لمصر ،شارل عٌساوي ،ت .محمد مدحت مصطفى ،بوب بروفٌشنال برس ،القاهرة،
ٕٕٔٓ
ٖٕٗ -المذكرات ،محمد كرد علً ،مطبعة الترقً ،دمشقٔ9ٗ8 ،
ٖٕ٘ -أصول التارٌخ األوروبً الحدٌث ،أشرؾ صالح ،دار ناشري للنشر اإللكترونً ،طٔ ،الكوٌتٕٓٓ9 ،
-ٕٖٙتارٌخ الفكر األوروبً الحدٌث (ٔٓ ،)ٔ999 -ٔٙدونالد سترومبرج ،ت .أحمد الشٌبانً ،طٖ ،دار القارئ العربً،
القاهرةٔ99ٗ ،
-ٕٖ9زٌنب (رواٌة) ،محمد حسٌن هٌكل ،دار المعارؾ ،ط ٘ ،القاهرةٔ99ٕ ،
-ٕٖ8الرٌؾ المصري ،بنت الشاطا ،مكتبة ومطبعة الوفد ،القاهرةٔ9ٖٙ ،
-ٕٖ9الفبلحون ،هنري حبٌب عٌروط ،ت .محًٌ الدٌن اللبان وولٌم داوود مرقص ،المركز القومً للترجمة ،القاهرة،
ٕٓٓ9
ٕٓٗ -الحرس الحدٌدي كٌؾ كان الملك فاروق ٌتخلص من خصومه ،سٌد جاد ،الدار المصرٌة اللبنانٌة ،القاهرةٔ99ٖ ،
ٖٖٕ -مذكراتً فً السٌاسة والثقافة ،ثروت عكاشة ، ،ط ٖ ،دار الشروق ،القاهرةٕٓٓٓ ،
ٕٔٗ -الصراع االجتماعً والسٌاسً فً مصر منذ قٌام ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘ ٔ9إلى نهاٌة أزمة مارس ٗ٘ ،ٔ9عبد العظٌم
رمضان ،مكتبة مدبولً ،ط ٕ ،القاهرة
ٕٕٗ -قصة االقتصاد المصري من عهد محمد علً إلى عهد مبارك ،جبلل أمٌن ،دار الشروق ،القاهرةٕٕٓٔ ،
ٖٕٗ -مصر والحرب العالمٌة الثانٌة ،محمد جمال الدٌن المسديٌ ،ونان لبٌب رزق ،عبد العظٌم رمضان ،مركز الدراسات
السٌاسٌة واالستراتٌجٌة باألهرام ،القاهرة (ؼٌر مإرخ)
ٕٗٗ -تارٌخ الوزارات المصرٌة ٌ ،ٔ9ٖ٘ -ٔ898ونان لبٌب رزق ،مركز الدراسات السٌاسٌة واالستراتٌجٌة باألهرام،
القاهرةٔ99٘ ،
ٕ٘ٗ -المرجع فً تارٌخ مصر الحدٌث والمعاصر ،نخبة من أساتذة التارٌخ ،المجلس األعلى للثقافة ،القاهرةٕٓٓ9 ،
-ٕٗٙالدستور واالستقبلل والثورة الوطنٌة ٖ٘ ،ٔ9ضٌاء الدٌن الرٌس ،جٕ ،مإسسة دار الشعب ،القاهرة( ،ؼٌر مإرخ)
7ٗٙ
-ٕٗ9مقدمات ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘ ،ٔ9عبد الرحمن الرافعً ،ط ٖ ،دار المعارؾ ،القاهرةٔ989 ،
-ٕٗ8حقٌقة االنقبلب األخٌر فً مصر ،رشدي البراوي ،مكتبة النهضة المصرٌة ،ط ٕٔ9ٕ٘ ،
-ٕٗ9عبد الناصر ..قصة البحث عن الكرامة ،وٌلتون واٌن ،مكتبة مدبولً ،ط ٔ ،القاهرةٕٓٔٓ ،
ٕٓ٘ -ثورة ٖٕ ٌولٌو ٕ٘ ،ٔ9تارٌخنا القومً فً 9سنوات" ،عبد الرحمن الرافعً ،دار المعارؾ ،ط ٕٔ989 ،
ٕٔ٘ -الثورة المضادة فً مصر ،ؼالً شكري ،الهٌبة المصرٌة العامة للكتاب ،القاهرة( ،ؼٌر مإرخ)
ٕٕ٘ -البحث عن الذات ،محمد أنور السادات ،المكتب المصري الحدٌث ،طبعة خاصة ،القاهرةٔ98ٓ ،
ٕٖ٘ -Alan Gardiner, Egyptian grammar, ٖ edition, Griffith institute Ashmolean
٘٘٘ museum, Oxford, page
الدورٌات والصحؾ:
ٔ -فلسفات نشؤة الوجود فً مصر القدٌمة ،عبد العزٌز صالح ،مجلة المجلة (الهٌبة المصرٌة العامة للتؤلٌؾ والنشر) ،س ٖ،
ع ،ٕٙالقاهرة ،ٔ9٘9 ،ص ٖٖٗٙ -
ٕ -الفكاهة والكارٌكاتٌر فً الفن المصري القدٌم ،عبد العزٌز صالح ،مجلة "المجلة" ،العدد رقم ،88بتارٌخ ٔ،ٔ9ٙٗ- ٗ-
القاهرة
ٖ -ببلد النوبة :تارٌخها وآثارها ،عبد المنعم أبو بكر ،مجلة المجلة ،سٖ ،ع ،ٕ8الهٌبة المصرٌة العامة للتؤلٌؾ والنشر،
القاهرةٔ9٘9 ،
ٗ -اللؽة المصرٌة لؽة الببلد األصلٌة ،جرجس فٌلناإس عوض ،مقال بمجلة الكرمة ،العدد ،9س ،9بتارٌخ ٔ،ٔ9ٕٖ -9 -
القاهرة
٘ -الفبلحون بٌن الثورة العرابٌة وثورة ،ٔ9ٔ9علً محمد بركات ،المجلة التارٌخٌة المصرٌة ،المجلد ٕٕ ،القاهرةٔ99٘ ،
-ٙســـــٌناء تراب وتراث مصر مــــنذ األزل ،علً رضوان ،صحٌفة األهرام ،العدد ٖٕ٘ٓٗٗٓٓ8- ٖ -ٕٙ ،
" -9بعثتا الٌسوعٌٌن لدى أقباط مصر (ٖٔٔ٘ٙ -ٔ٘ٙو ٕ ،)ٔ٘8٘-ٔ٘8شارل لٌبوا الٌسوعً ،مجلة "المشرق" ،العدد ٔ،
ٔ ٌناٌر ٔٔ99
" -8الهجرة إلى مصر" ،محمد كرد علً ،مجلة المقتبس ،العدد ،ٔ8بتارٌخ ٘ٔٔ9ٓ9 –9 -
-9بعض التؤثٌرات القبطٌة فً الفنون اإلسبلمٌة ،زكً محمد حسن ،المجلة الجدٌدة ،العدد رقم ٖٔ9ٖ8-ٖ-ٔ ،
ٓٔ -درس تهذٌب تحاور به تلمٌذ مع ندٌم ،عبد هللا الندٌم ،التنكٌت والتبكٌت ،العدد ٗ ،السنة األولىٔ88ٔ -9 -ٖ ،
ٔٔ -الزعٌم أحمد عرابى رحلة كفاح من أجل الوطن ..من الثورة إلى المنفى ،األهرام ،ٕٓٔٙ -9 -9 ،السنة ٔٗٔ العدد
ٗٗ9ٖ9
ٕٔ -سٌد دروٌش فنان الشعب والثورة الدابمة ،السٌدة زهرة ،مجلة أدب ونقد ،العدد ،ٕٗ9القاهرة ،مارس ٕٓٓٙ
ٖٔ -ثورة ٔ9بعد تسعٌن عاما ،األقباط والثورة ،جابر عصفور ،جرٌدة الشروق ٌ ٔ8ونٌو ٕٓٓ9
ٗٔ -جون لوك ..مإسس العبودٌة وتاجرها ،سلطان عامر ،صحٌفة الحٌاة اللندنٌةٕٖٓٔ -ٕ -ٔ9 ،
٘ٔ -ثورة ٔ9بعد تسعٌن عاما ،األقباط والثورة ،جابر عصفور ،جرٌدة الشروقٌ ٔ8 ،ونٌو ٕٓٓ9
-ٔٙحول مصر والحرب العالمٌة األولى ،أحمد جمال ،صحٌفة األهرام ،السنة ٖٗٔ ،العدد ،ٗ8ٔ98بتارٌخ ٕٕ-ٔٔ -
ٕٓٔ8
" -ٔ9عزٌز المصري سندباد العسكرٌة األب الروحً للضباط األحرار" ،حمد أبو العٌنٌن ،صحٌفة األهرام ٘ ،أبرٌل ٖٕٔٓ
-ٔ8أسرار دخول مصر حرب فلسطٌن "الحلقة األولى" ،محمود صبلح ،مجلة األهرام العربًٕٓٔ9-ٔٓ-ٕ8 ،
-ٔ9أصحاب القمصان الملونة ..األمة تستخدم الشرطة علً األمن العام ال إلخضاعها إدارة األمن العامٌ ،ونان لبٌب رزق،
صحٌفة األهرام ،العدد ٕٔٓٓ٘ -ٙ -ٔٙ ،ٖٕٗ9
ٕٓ -الممٌزات العامة للتركٌب الطبقً فً مصر عشٌة ثورة ٌولٌو ٕ٘ ،ٔ9جمال مجدي حسنٌن ،مجلة الطلٌعة ،س ،9ع ٗ،
القاهرةٔ99ٔ ،
ٕٔ -قبل ٖٕ ٌولٌو اختلفت األلوان والهدؾ واحد! ،موقع جرٌدة المال ،بتارٌخ ٖٕٖٔٓٔ -ٔ -
ٕٕ -ساطع الحصري فٌلسوؾ القومٌة العربٌة نافخ الروح فً معهد الدراسات ،مجلة األهرام العربً ،سهٌر عبد الحمٌد-9 ،
ٖٕٓٔ٘ -
ٖٕ -األرمن فً مصر ،شٌري عبد المسٌح ،تحقٌق صحفً بجرٌدة "وطنً"ٕٓٔ٘ -ٗ -ٕٗ ،
ٕٗ -عملٌة الخصخصة :الضرورة والمحاذٌر والمتطلبات ،محمد عبد الشفٌع عٌسى ،مجلة بحوث اقتصادٌة عربٌة ،مج ٖٔ،
ع ،ٖٙ،ٖ9القاهرةٕٓٓٙ ،
المواقع اإللكترونٌة:
7ٗ7
موقع ذاكرة مصر المعاصرة،سٌرة محمد رٌاض ربٌس الوزراء
http://modernegypt.bibalex.org/Types/Persons/Details.aspx?type=minister&ID=e
ٗEEDٙHD8Byir9vnNnٙZ9w:ٖD:ٖD
ٔ9ٕٔ -ٔ9ٖٔ الجامعة األمرٌكٌة بالقاهرة توثق رقمٌا مجموعة من الصور النادرة لتارٌخ مصر من
https://www.aucegypt.edu/index.php/ar/node/998ٔ
:ً كورش األكبر والتسامح الدٌن،موقع التسامح
https://tolerance.tavaana.org/ar/content/%D9:8ٖ:D9:88%D8:Bٔ:D8:Bٗ-
%D8:A9:D9:8ٗ:D8:Aٖ:D9:8ٖ:D8:A8:D8:Bٔ-
%D9:88:D8:A9:D9:8ٗ:D8:AA%D8:Bٖ:D8:A9:D9:8٘:D8:AD-
%D8:A9:D9:8ٗ:D8:AF%D9:8A%D9:8ٙ:D9:89
، بوابة الحضارات، موقع األهرام، عبد العزٌز جمال الدٌن،ً األهلى والزمالك فً عصر الجبرت..صراع األحمر واألبٌض
ٕٓٔ8-ٔ -ٙ
http://hadarat.ahram.org.eg/Articles/%D8:AA%D8:Bٔ:D8:A9:D8:AB/%D8:A9:D9
:8ٗ:D8:Aٖ:D9:89:D9:8ٗ:D9:89-
%D9:88:D8:A9:D9:8ٗ:D8:Bٕ:D9:8٘:D8:A9:D9:8ٗ:D9:8ٖ-%D9:8ٔ:D9:8A-
%D8:B9:D8:B٘:D8:Bٔ-%D8:A9:D9:8ٗ:D8:AC%D8:A8:D8:Bٔ:D8:AA%D9:8A-
ٕ9ٓ9ٔ٘
ً بٌجول باسٌل، ما بٌن القدٌم والحدٌث-
http://www.copts-
united.com/C_U/Branches_CPTS/Egyptian_Studies/Egy_Coptic_Lang/Abouna_Pi
gol_Partٔ.htm
بوابة، أ ش أ، العلماء ٌثبتون أن الملك رمسٌس الثالث قتله متآمرون وذبحوه بسكٌن حاد.. بعد دراسة استؽرقت عامٌن-
ٕٕٓٔ -ٕٔ -ٔ9 ،األهرام
http://gate.ahram.org.eg/News/ٕ8ٗ٘ٔ٘.aspx
قبل ٖٕ ٌولٌو تعددت األلوان والهدؾ واحد-
http://www.almalnews.com/Story/ٖٓ8ٕٔ/ٔ9/%D9:8ٕ:D8:A8:D9:8ٗ-
%D9:8A%D9:88:D9:8ٗ:D9:8A%D9:88-ٔ9ٕ٘---
%D8:A9:D8:AE%D8:AA%D9:8ٗ:D9:8ٔ:D8:AA-
%D8:A9:D9:8ٗ:D8:Aٖ:D9:8ٗ:D9:88:D8:A9:D9:8ٙ-
!%D9:88:D8:A9:D9:8ٗ:D9:89:D8:AF%D9:8ٔ-%D9:88:D8:A9:D8:AD%D8:AF
ٕٓٔٙ -9 -ٖٔ ، بوابة الحضارات- موقع األهرام،ً وابل إبراهٌم الدسوق، تؤسٌس المدرسة الوطنٌة لعلم المصرٌات-
http://hadarat.ahram.org.eg/Articles/%D8:Aٖ:D9:8ٔ:D9:8ٖ:D8:A9:D8:Bٔ/%D8:A
A%D8:Aٖ:D8:Bٖ:D9:8A%D8:Bٖ-
%D8:A9:D9:8ٗ:D9:8٘:D8:AF%D8:Bٔ:D8:Bٖ:D8:A9-
%D8:A9:D9:8ٗ:D9:88:D8:B9:D9:8ٙ:D9:8A%D8:A9-
%D9:8ٗ:D8:B9:D9:8ٗ:D9:8٘-
%D8:A9:D9:8ٗ:D9:8٘:D8:B٘:D8:Bٔ:D9:8A%D8:A9:D8:AA-ٔٓٓ9ٔٙ
) موقع إخوان وٌكً (الموقع الرسمً لتارٌخ جماعة اإلخوان المسلمٌن، رسابل حسن البنا-
http://www.ikhwanwiki.com/index.php?title=%D8:Bٔ:D8:Bٖ:D8:A9:D8:Aٙ:D9:8
ٗ_%D8:A9:D9:8ٗ:D8:A٘:D9:8٘:D8:A9:D9:8٘_%D8:A9:D9:8ٗ:D8:Bٗ:D9:89:D9
:8A%D8:AF_%D8:AD%D8:Bٖ:D9:8ٙ_%D8:A9:D9:8ٗ:D8:A8:D9:8ٙ:D8:A9#.D8.
AD.D9.8ٕ_.D8.A9.D9.8ٗ.D8.A٘.D9.8ٙ.D8.Bٖ.D8.A9.D9.8ٙ.D9.8A.D8.A9
: موقع "نافذة مصر" التابع للجماعة،ٔ99ٗ البلبحة العالمٌة لجماعة اإلخوان المسلمٌن الموضوعة سنة-
/https://www.egyptwindow.net
ٕٓٔٙ -ٖ -ٖٓ ، موقع صحٌفة الراي الكوٌتٌة، االستثمارات الكوٌتٌة فً مصر تبلػ نحو ٘ٔ ملٌار دوالر: السفٌر عاطؾ-
http://www.alraimedia.com/Home/Details?Id=٘٘9c9baa-ٖ9bٔ-ٖٖٗٓ-a٘ٗ8-
dfٖٓ8eٕٕٗٔc9
ٕٓٔ9 -ٕٔ-ٕ ، روزالٌوسؾ، ملك ال ٌستحق لقب القداسة.. قسطنطٌن:" الباحث رٌاض فارس لـ"روزالٌوسؾ-
https://www.masress.com/rosadaily/ٕٔٓ9٘9ٔ
7ٗ8
موقع دٌوان رباسة، ربٌس الوزراء ٌدشن الطاحونة التً أعٌد ترمٌمها فً حً "مشكنوت شؤنانٌم" فً أورشلٌم القدس-
ٕٕٓٔ -8 -ٕ8 ،)ًالوزراء (اإلسرابٌل
http://www.pmo.gov.il/Arab/MediaCenter/Events/Pages/eventtahanaٕ8ٓ8ٕٔ.aspx
موقع البنك المركزي المصري،" "نبذة تارٌخٌة عن تطور النقود فً مصر-
https://www.cbe.org.eg/ar/BankNote/Pages/HistoricalOverview.aspx
موقع األنبا تكبلهٌمانوت، القمص بولس جورج،تارٌخ دخول الطوابؾ (الكاثولٌك والبروتستانت) فً مصر وهدفها
https://st-takla.org/articles/fr-boles-george/nondenominational/history.html
الهٌبة العامة لبلستعبلمات، تارٌخ الدساتٌر المصرٌة-
http://www.sis.gov.eg/section/ٔٓ/ٕٕٔ8?lang=ar
https://www.rothschildarchive.org/exhibitions/rothschild_in_caricature/feeding_ti
me
NATIVES OF THE EGYPTIAN LABOUR CORPS MOVING A WATER-TANK AT EL
FERDAN
https://www.awm.gov.au/collection/Cٗٓ98
Egyptian labour corps, repairing the nebi Mosa rooad
https://www.iwm.org.uk/collections/item/object/ٔ8ٓ9ٖ
Egyptian labor on dock in France
http://www.loc.gov/pictures/resource/ggbain.ٕ٘99ٖ/?co=ggbain
ARMENIANS THANK PEOPLES OF THE MIDDLE EAST
https://auroraprize.com/en/aurora/article/multimedia/ٔٓ٘ٔٗ/armenians-thank-
peoples-middle-east-ٓ
Incredible images show the everyday life of thousands of Yugoslavian refugees
who spent ٔ8 months at an Egyptian camp during World War II
https://www.dailymail.co.uk/news/article-ٗ٘9ٖٔٔٗ/Images-Yugoslavians-Egyptian-
refugee-camp-WWII.html
Telegraphing Revolt: Protest Diffusion in the ٔ9ٔ9 Egyptian Revolution
https://www.kcl.ac.uk/events/telegraphing-revolt-protest-diffusion-in-the-ٔ9ٔ9-
egyptian-revolution
English octopus cartoon ٔ89ٗ -
https://atlanticsentinel.com/ٕٓٔ9/ٓ8/the-octopus-in-political-cartoons/ٔ89ٗ-
/english-octopus-cartoon
7ٗ9
الفهرس
المشيد :1فوؽ التؿ األ زلي (في البدء كانت الكممة ..وجاءت مصر 15 ...............................................
المشيد :6سقوط الدولة المركزية (الزفتة الثانية) مصر تدفع الجزية 75 ..............................................
ٔ٘7
▼▼▼ونسيت مصر 4 ..أفػخػاخ98 ................................................................................
▼▼▼ طاعوف قبائؿ شعوب البحر "نا خاسوت با يَّـ" 112 .........................................................
الفصل الثانً :الهكسوس ٌشعلون نٌران ٖ آ الؾ سنة احتبلل (مصر أسٌرة حرب ٔٓٙ9ق.مٕٔ8)ٔ9ٕ٘ -
ٕ٘7
الخاسوتيمي 134 ........................................................
َ ♦♦♦ السكاف ومف ىو المصري في االحتالؿ
ٖ٘7
❸ -تهجٌر المواهب المصرٌة للخارج ؼصبا ٔ٘9 ..........................................................................
المشيد :9االحتالؿ اإلغريقي (النكبة الثانية) مصر تمبس القناع 164 ................................................
ٗ٘7
▲▲▲ سقوط دولة الدـ واالنقالبات 183 ..........................................................................
٘٘7
▼▼▼ الجيش في االحتالؿ العربي (عرب /مرتزقة الفرس والترؾ) 216 .............................................
♣♣♣ السكاف وتعريؼ المصري في االحتالؿ العربي (تبدؿ القناع) 218 ...............................................
▼▼▼ سقوط مصر تحت حكـ المماليؾ العبيد ألوؿ مرة 249 .......................................................
-1االحتالؿ الطولوني 254ىػ 293 -ىػ 868 /ـ915 -ـ 249 ....................................................
7٘ٙ
♣♣♣ السكاف وتعريؼ المصري في االحتالؿ العبيدي 259 ...........................................................
▼▼▼ الجيش في االحتالؿ األيوبي (مماليؾ -كرد -ترؾ -عرباف) 275 ............................................
المشيد :14االحتالؿ الممموكي (حكـ العبيد والجواري الثاني /القناع الثالث) 286 .....................................
7٘7
▼▼▼ نتائج االحتالؿ الممموكي الثاني لمصر 292 ................................................................
7٘8
❺ -تحقٌر الفبلح لكسر عٌنه وروحه ٖٕ9 ...................................................................................
❻ تضخم جرٌمة بٌع المناصب ٖٖٕ .........................................................................................
❼ العثمانلٌة ..صٌت عالمً فً الفجور واللواط ٖٖٕ .......................................................................
❽ من أٌن جاءت عادة "أخد التار" بٌن العاببلت؟ ٖٖٖ .....................................................................
❾ زٌادة نشر العصبٌة المذهبٌة بٌن المسلمٌن ٖٖ٘ ..........................................................................
❿ فتح الببلد لئلرسالٌات التبشٌرٌة المعادٌة للكنٌسة المصرٌة ٖٖٙ ........................................................
➀ تضخم الطرق الصوفٌة والدجل لكسر إرادة مقاومة األجنبً ٖٖٙ ......................................................
➁ توزٌع أرض مصر على المحتلٌن والمستوطنٌن ٖٖ9 ...................................................................
➂ نزؾ المصرٌٌن الجزٌة والخراج والسخرة لؤلجنبً ٖٗٓ ...............................................................
➃ حصد أرواح المصرٌٌن بالمجاعات واألوببة ٖٗ9 .......................................................................
➄ تشرد المصرٌٌن فً عٌشة المطارٌد ٖٗ8 ................................................................................
7٘9
▼▼▼ شرخ جديد في الجسد المصري ..فرقة يعقوب 379 ..........................................................
▲▲▲ ثورة ..1814فضؿ المصرييف المنسي عمى محمد عمي 386 ..............................................
♦♦♦ الجيش في االحتالؿ العموي (مصريوف -مماليؾ جدد ومرتزقة) 393 .............................................
ٓ7ٙ
❼❶ التخفٌؾ من الحزازٌات بٌن المصرٌٌن (مسلمٌن ومسٌحٌٌن) ٗٗٗ .................................................
❽❶ السقوط فً حجر اإلنجلٌز ...االحتبلل الرابعٗٗ٘ ...................................................................
▲▲▲ ثمرات أوؿ ثورة لػ"مصر لممصرييف" في العصر الحديث 485 ................................................
المشيد :18الشيطاف يحكـ العالـ ويأسر مصر (المسيخ الدجاؿ) 489 ...............................................
ٔ7ٙ
▼▼▼ الثورة اإلنجلٌزٌة ٘ٓٓ ...............................................................................................
▼▼▼ آؿ روتشيمد واخوانيـ (ال وطف ليـ ،ويممكوف كؿ الجنسيات) 513 ...........................................
المشيد :19االحتالؿ اإلنجميزي (ىمفتة الشخصية المصرية /القناع الرابع) 529 ......................................
ٕ7ٙ
❻ (األتراك) ٖ٘٘ .............................................................................................................
❼ (العربان) ٘٘٘ .............................................................................................................
❽ (الفرنسٌس) ٘٘ٙ ...........................................................................................................
❾(اإلنجلٌز) ٘٘9 ..............................................................................................................
❿ (السودانٌون)٘٘8 ..........................................................................................................
ٖ7ٙ
❻❶ استٌراد القمح بعد تسخٌر األرض للقطن ٙ9ٖ .......................................................................
❼❶ استمرار عصر مصر بمشارٌع االستثمار األجنبً ٙ9ٗ .............................................................
❽❶ ظهور الخصخصة فً العصر الحدٌث ٙ9ٙ ..........................................................................
❾❶ استمرار سفك الدم المصري فً المذابح ٙ9ٙ ........................................................................
▼ (مدبحة دنشواي) ٙ9ٙ ......................................................................................................
▼(مذبحة الحرب العالمٌة األولى) ٙ99 .......................................................................................
⓿❷ نزؾ المصرٌٌن فً السخرة لؤلجنبً ٙ8ٓ ...........................................................................
❶❷ نزح مصر باسم "التبرعات" لؤلجنبً (ألوروبا ،ألفرٌقٌا ،للعرب) ٙ8ٗ ...........................................
❷❷ نزح مصر فً حروب لٌست حروبها ٙ8٘ ...........................................................................
❸❷ اضطهاد لؽة الفبلحٌن فً معركة "العامة والعربٌة" ..الخنجر السابع ٙ88 .........................................
❹❷ عقدة الخواجة "طالع نازل" ٙ89 ......................................................................................
ٗ7ٙ
المشيد :21ىؿ كاف لتوطيف األجانب إيجابيات؟ 731 ................................................................
♦♦♦ ىؿ حقا ىناؾ جيش أجنبي "حرر" مصر ،و"أنقذ" مصر؟ 731 ...................................................
♦♦♦ متى احتاجت مصر في أي عصر ىجرات أجنبية لتبني نفسيا ؟ 732 ............................................
٘7ٙ