You are on page 1of 11

‫‪ ‬فلسفة الدين وجدل الالهوتي واألنثروبولوجي عند لودفيج فيورباخ[‪]1‬‬

‫‪http://www.mominoun.com/articles/%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9-‬‬
‫‪%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D9%88%D8%AC%D8%AF%D9%84-‬‬
‫‪%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%A7%D9%87%D9%88%D8%AA%D9%8A-‬‬
‫‪%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%86%D8%AB‬‬
‫‪%D8%B1%D9%88%D8%A8%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A-‬‬
‫‪%D8%B9%D9%86%D8%AF-%D9%84%D9%88%D8%AF%D9%81%D9%8A%D8%AC-‬‬
‫‪%D9%81%D9%8A%D9%88%D8%B1%D8%A8%D8%A7%D8%AE-3449‬‬

‫‪ ‬ش ّكلت فلسفة الدين عند‪ ‬لودفيج فيورباخ‪(Ludwig Feuerbach) 1804/1872 ‬مجاالً مركباً‪ ،‬تداخل فيه هاجس بناء تصور جديد حول اإلنسان ونقد‬

‫الدين‪ ،‬إضافة إلى طرح أسس فلسفة جديدة للمستقبل‪ ،‬دون نسيان إرادة تجاوز إرث الفلسفات السابقة عليه مثل‪ :‬فلسفة‪ ‬هيجل‪ .)Hegel( ‬وكان فيورباخ بالفعل‬

‫مؤسّسا ً لفلسفة إنسانية جديدة‪ ،‬راهنت على قلب النظرة للدين‪ ،‬إن على مستوى المنهج‪ ،‬أو المفاهيم‪ ،‬أو القيم العملية‪ .‬من هنا سيحاول هذا الفيلسوف الرائد‪ ،‬في مجال‬

‫فلسفة الدين‪ ،‬تشكيل أنثروبولوجيا فلسفية‪ ،‬ستكون هي الموجّه الفعلي لتصوراته‪ ،‬خصوصا ً فيما يتعلق بعالقة الفلسفة بالالهوت‪ .‬وقد يصنف البعض فيورباخ في‬

‫صنف الملحدين ونفاة هللا‪ ،‬أو ضمن الالدينية‪ .‬لكن تبقى ميزة خطاب فيورباخ حول الدين هي البناء المفاهيمي‪ ،‬الذي اعتمده وطبيعة المقاربة إلشكاالته والرهانات‬

‫العملية التي حاكمته‪ .‬واالنفتاحات التي حققها‪ ،‬وأثر من خاللها فيما بعد‪ ،‬وخصوصا ً فيما يخصّ الموقف من الدين إن في مجتمعات الحداثة‪ ،‬أو بعض البلدان‬
‫اإلسالمية‪ .‬فهل كان فيورباخ يراهن بالفعل على تحويل الالهوت إلى النزعة اإلنسانية؟ ما العالقة التي حددها بين األنتروبولوجي والالهوتي في تفكيره الفلسفي‬

‫حول الدين؟ أو وحدة وجود بين هللا واإلنسان والطبيعة؟ ك ّل هذا ال ينفصل عن مشروع فلسفة الدين واألنثروبولوجيا الفلسفية‪.‬‬
‫ش ّكل كتاب "جوهر المسيحية"[‪ )essence du christianisme( ]2‬ثورة في عالم الفلسفة عامة والفكر الديني خاصة في عصر الحداثة‪ .‬فالمنطق‬

‫المنهجي والقضايا التي تناولها والعمق النظري الذي جسّده‪ ،‬جعلت من فيورباخ مؤسّسا ً فعلياً‪ ،‬ليس لفلسفة الدين وإنما لوظيفتها وموضوعها† ورهاناتها‪ .‬وهو كتاب‬

‫غير مسبوق في تاريخ نقد الدين لحد اآلن‪ .‬وفيه زاوج بين نقد الدين وعالم الالهوت والفلسفة التأملية في آن واحد‪ ،‬وجسّد قطيعة مع السابق‪ ،‬وفتح آفاقا ً لفهم الدين أو‬

‫المساءلة الفلسفية حوله‪ .‬وفصوله األساسية هي‪:‬‬

‫أوالً‪ :‬أنثروبولوجيا الدين (هللا ككائن ينتمي للعقل‪/‬هللا ككائن أخالقي وقانون)‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬علم الهوت الدين‪ ،‬وفيه‪ :‬تناقضات وجود هللا‪ ،‬تناقضات وحي هللا‪ ،‬تناقضات جوهر هللا‪ ،‬تناقضات المذاهب السجالية حول هللا‪ ،‬تناقضات الالمسيحي‪/‬المسيحي‪،‬‬
‫تناقضات اإليمان والحب‪ ،‬ثم إثارة مستقبل الفلسفة في عالقة باإلنسان وأفعاله‪ .‬فالفصل األول يحدده ضمن ما يسميه‪ :‬الماهية الجوهرية‪ †.‬والثاني‪ :‬الماهية الخاطئة‪،‬‬

‫دون نسيان إحاالت عميقة لتاريخ األديان والفلسفات‪ .‬فالكتاب أصالً في فلسفة الدين‪ ،‬من منطلق حواري مع الفلسفة والدين والالهوت‪.‬‬

‫فكتاب "جوهر المسيحية" يتخذ وضع مقاربة متشعبة ومركبة† وعميقة يتداخل فيها نقد الفلسفة بنقد الدين‪ ،‬ويتتبع فهم الفلسفة داخل الفكر الديني‪ ،‬وداخل الفلسفة‬

‫القديمة والتأملية‪ .‬وهذا ما جعله يعيد قراءة تاريخ الدين‪ ،‬وتصور الشعوب القديمة والفلسفات اليونانية للدين‪ ،‬ت ّم تناوله للمسيحية األصلية‪ ،‬والكنسية واليهودية‬
‫والبروتستانتية‪ .‬وك ّل هذا من زاوية أساسية وهي‪ :‬كشف الجوهر األنثربولوجي لماهية المسيحية‪ .‬وهو ما يبين ّ‬
‫أن مقاربته للدين ليست مجردة‪ ،‬بل تمارس في عمق‬

‫اإلحالة لشواهد تاريخية واجتماعية‪ †،‬ومواقف‪ ،‬إضافة إلى تأويالت الفالسفة لماهية الدين وهللا واإلنسان في ارتباط بالوجود‪ .‬من هنا قيمة نقد الدين في فلسفة‬

‫فيورباخ‪ :‬كمشروع† فكري فلسفي متكامل‪ ،‬تناول فيه فيورباخ الدين‪ ،‬ليس كمسألة تأمل‪ ،‬بل موضوع قراءة جذرية‪ ،‬غير مسبوقة في تاريخ الفلسفة وعلم الالهوت‪.‬‬

‫وإذا كان من الصعب فهم مسارات نقد الدين‪ ،‬وكذلك فلسفة الدين‪ ،‬دون العودة لمساهمات فيورباخ‪ ،‬حيث قدم نظرية جذرية‪ ،‬من خالل هاته التجربة‪ ،‬وتهم عالقة‬

‫الدين باإلنسان والمجتمع‪ ،‬والتمثالت والوهم والمستقبل‪ ،‬وخصوصا ً ما يتعلق بعالقة اإلنسان باهلل‪ .‬والدين بالتاريخ لصالح ما يُس ّمى بدين اإلنسان ال إنسان الدين‪.‬‬

‫إن نقد الدين هو أساس ك ّل نقد يه ّم مسلمات أساسية هي‪ :‬اإلنسان أوالً‪ ،‬الواقع المادي ثانياً‪ ،‬التاريخ أو زمان المستقبل ثالثاً‪ ،‬متابعا ً مسار تناول‬
‫وكان فيورباخ يقول ّ‬

‫الظاهرة الدينية في عصر الحداثة‪ ،‬لكن بشكل مغاير للتأصيل الالهوتي للدين المسيحي‪ ،‬أو مقاربة الدين من خارجه‪ ،‬أو إعالن عدمية† مطلقة تجاه الدين‪ .‬والمنطلق‬

‫األساسي لهذه الفلسفة هو مبحث األنثروبولوجيا الفلسفية الموجهة‪ ،‬لمقاربة فيورباخ للدين عامة‪ ،‬والالهوت المسيحي خاصة‪.‬‬
‫‪ -1‬فلسفة الدين واألنثروبولوجيا الفلسفية‬

‫يُعتبر فيورباخ من المؤسسين الفعليين لمبحث األنثروبولوجيا الفلسفية‪ ،‬كمجال فلسفي أصيل يبحث في اإلنسان وقدراته واستعداداته الذاتية‪ ،‬في عالقة بذاته‬
‫وإمكاناته في التقدم والتطور‪ ،‬وفق شروطه الذاتية‪ .‬وقد كان اإلنسان هو المدخل األساسي لفلسفته بشكل عام‪ ،‬أو مشروع نقده وتأمالته الجذرية في الدين‪ّ .‬‬
‫إن ماهية‬

‫اإلنسان ال تفهم وال تشتق إال من اإلنسان‪ ،‬لكن هل من الممكن فهم وإقرار ماهية اإلنسان دون تناول ماهية هللا‪ ،‬ثم الدين؟ وبالتالي كشف ما الذي يجعل اإلنسان ال‬

‫يرى ذاته بذاته‪ ،‬بل يحاول إسقاط ذاته على ذات أخرى هي هللا؟ فالسؤال حول الدين وماهيته هو‪ :‬أساس أنثروبولوجي للفلسفة األنثروبولوجية عند فيورباخ وأسسها‬

‫النظرية‪ .‬وحتى مقاربته للدين هي مقاربة أنثروبولوجية في منطلقها‪ ،‬وغايتها اإلنسان‪ .‬وبالتالي تغدو األنثروبولوجيا الفلسفية هي أنثروبولوجيا لإلنسان الديني ودين‬
‫إن اإلنسان هو عالمه الذاتي الجوهري‪ †،‬وليس كائنا ً[‪ ]3‬علوياً‪ .‬إنه ليس إنسان الخطيئة (أوغسطين وباسكال(‪ ،‬ولكنه اإلنسان الواقعي والتاريخي الذي‬
‫اإلنسان‪ّ .‬‬

‫يعيش في العالم الملموس‪.‬‬


‫ّ‬
‫إن األنثربولوجيا الفلسفية تستند إلى السؤال األنواري األساسي‪ :‬ما هو اإلنسان؟ من هنا العودة إلى إشكال الطبيعة اإلنسانية‪ ،‬في عالقة بالذات‪ ،‬والوعي‪ ،‬والعالم‬

‫الرمزي‪ †،‬والحياة اإلبداعية‪ ،‬مقارنة بالحيوان‪ .‬في هذا السياق يتحدد اإلنسان‪ ،‬مقارنة مع عالم الطبيعة وفي عالقة بالتقدم‪ †،‬وبعيداً عن الثنائية الديكارتية (اإلنسان‬
‫روح وجسد)‪ .‬هكذا سيتم تناول اإلنسان في كليّته وشموليته‪ ،‬كما فعل المؤسس الفعلي لهذا المبحث الفلسفي ماكس شيلر (‪ .)Scheler‬ولعل فيورباخ كان وريثا ً‬

‫شرعيا ً ومبدعاً‪ †،‬فيما يخصّ توجيه األنثروبولوجيا الفلسفية وجهة جديدة‪ ،‬وهي مقاربة الدين بشكل جذري‪ ،‬يه ّم التأمل في الطبيعة اإلنسانية‪ .‬وأكثر من هذا‪ ،‬التأمل‬

‫العقالني في عالقة الطبيعة اإلنسانية بالدين‪ ،‬كمنظومة رمزية‪ ،‬ما دام اإلنسان وحده‪ ،‬يمتلك الدين مقارنة مع الحيوان‪ ،‬كما يقول فيورباخ نفسه‪.‬‬

‫إن الموضوع الحقيقي لإلنسان‪ ،‬ليس شيئا ً آخر سوى وجوده المتمظهر‪ ،‬الذي أصبح بالنسبة لإلنسان موضوعا ً واقعياً‪ .‬ذلك هو فكر اإلنسان‪ ،‬ذلك هو إلهه‪ .‬وبقدر ما‬
‫ّ‬

‫هناك قيمة لإلنسان‪ ،‬ليس هناك حظوظ إللهه‪ ]4[.‬ووعي اإلنسان حول هللا‪ ،‬هو الوعي الذي يمتلكه حول ذاته‪ .‬ومعرفة† اإلنسان للكائن المتعالي هي المعرفة التي‬

‫يمتلكها عن وجوده‪ .‬فمن خالل اإلنسان نحكم على إلهه[‪ .]5‬فالدين حاضر بقوة داخل الوجود اإلنساني‪ ،‬لكن بصور معكوسة‪†.‬‬
‫ّ‬
‫"إن الدين هو الحلم‪ ،‬هو حلم الفكر اإلنساني‪ .‬ولكن حتى في الحلم فليس في العدم أو في السماء نوجد بل في إمبراطورية الواقع[‪ ،]6‬والتعالي بالدين هو أساس نفي‬

‫واقعية اإلنسان‪.‬‬
‫إن المسيح الديني‪ ،‬كما هو هذا الكائن اإلنساني‪ ،‬الذي ليس إال منتوجا ً وموضوعا ً للخيال اإلنساني أو لخيال اإلنسان[‪ .]7‬وبالتالي ت ّم نفي كينونة اإلنسان‪ .‬إنّه التعالي‬
‫ّ‬

‫الديني باإلنسان‪ّ .‬‬


‫إن الطبيعة اإلنسانية ت ّم نفيها بواسطة الثيولوجيا والسجاالت الدينية‪.‬‬

‫وإذا كان البعض يرى كتاب "جوهر المسيحية" ال دينيا ً وملحداً‪ ،‬فاإللحاد ـ كما يقول فيورباخ ‪ -‬هو س ّر الدين‪ .‬والدين في السطح هو زيف‪ ،‬وفي العمق هو الحقيقة‬

‫(وليس الخيال) الذي يجب كشفه‪ .‬من هنا يقول فيورباخ‪ :‬إنّه ال يعتقد إال في األلوهية الخاصة بوجود اإلنسان‪ .‬إنه كتاب ض ّد ك ّل ما هو غير إنساني‪ ،‬وك ّل ما هو‬
‫مضاد لإلنسان‪ ،‬وليس ك ّل ما هو إنساني في الدين‪ ،‬م ّما جعله يؤكد ّ‬
‫أن مقاربته للدين تتحدد في بعدين‪ :‬بعد يه ّم مقاربة الدين في جوهره وحقيقته‪ ،‬وبعد يه ّم مقاربة‬
‫الدين في تناقضاته‪ .‬من هنا مصادرته األساسية‪ّ :‬‬
‫إن معنى الثيولوجيا متضمن في األنثروبولوجيا بين صفات هللا وصفات اإلنسان‪ ،‬وليس هناك اختالف في الجوهر‪،‬‬

‫فالثيولوجيا هي أنثروبولوجيا‪ ،‬وك ّل الصفات التي تعطيها هلل أو السم هللا‪ ،‬ال تح ّدد وتكشف إال الجوهر الحقيقي لإلنسان والكالم اإلنساني‪ .‬فالمسيحية‪ ،‬بإنزالها هللا‬

‫متعال وعجيب‪ .‬من هنا األنثروبولوجيا هي الهوت معكوس‪ .‬إنها ليست هي فلسفة هيجل ال الفلسفة القديمة‪ ،‬بل هي‬
‫ٍ‬ ‫على اإلنسان‪ ،‬جعلت من اإلنسان إلهاً‪ .‬إنّه إله‬
‫عمق كوني‪]8[.‬‬
‫يرى فيورباخ ّ‬
‫أن فلسفة الدين ليست مختلفة عن السيكولوجيا وعن األنثروبولوجيا[‪ ،]9‬وبالتالي فمدخل قراءة الثيولوجيا هو إعالن ماهيّة الطبيعة اإلنسانية‬

‫أنثروبولوجياً‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫ّ‬
‫"إن الدين يفصل اإلنسان عن ذاته‪ .‬فالفاعلية وعفو هللا ليس سوى فاعلية هللا المستلب‪ .‬اإلنسان المستلب ليس إال اإلرادة الحرة‪ ،‬المؤولة لصالح كائن مختلف عنا"[‬
‫‪.]10‬‬

‫إن هللا حسب فيورباخ هو‪ :‬انعكاس لإلنسان‪ .‬إنّه انعكاس إنساني‪ .‬والتساؤل حول جوهر اإلنسان هو التساؤل حول جوهر هللا‪ .‬وهويّة الروح اإلنسانية أو الوعي‬
‫ّ‬

‫اإلنساني مع اإللهية‪ ،‬حسب الهيجليين‪ ،‬ليست إال هويّة اإلنسان مع ذاته‪ .‬فك ّل ثيولوجيا لها ماهيّة سيكولوجية (‪ )PSYCHOLOGIQUE‬إنّها ألوهية فوق إنسانية‪،‬‬

‫تضمن حقيقة إنسانية معكوسة‪ .‬وفكرة هللا هي تأويل للحياة‪ ،‬وتصور عن الطبيعة‪ .‬والالهوت هو تأليه للطبيعة (‪ )divinisation de la nature‬من هنا‬

‫إن هللا هو ماهيّة أو جوهر اإلنسان‪ ،‬مسقطا ً على الذات اإلنسانية‬


‫يحاول فيورباخ البحث عن الطبيعة الحقيقية للدين‪ .‬فالدين ليس إال طريقة لإلنسان لالرتباط بذاته‪ّ .‬‬

‫من الخارج‪.‬‬
‫لماذا انتقد فيورباخ إذن الفلسفة القديمة والتأملية والهيجلية؟ فحسب فيورباخ األصل عند هيجل‪ ،‬في فلسفته عامة والدينية خاصة‪ ،‬هو مفهوم الجوهر‪ †،‬وهو ذاته هللا‪.‬‬
‫سيقول هيجل‪ّ :‬‬
‫"إن هللا هو كليّته‪ ،‬هو هذا الكلي والذي فيه ال يوجد حد‪ ،‬والذي فيه ال يوجد تنا ٍه‪ ،‬والذي فيه ال توجد جزئية بذاته‪ ،‬هو بألف الم التعريف المطلق‬
‫المكتفي بذاته‪ ،‬هو الواحد بألف الم التعريف المكتفي بذاته األوحد‪ ،‬وما يتواجد له جذره‪ ،‬له بقاؤه في هذا الواحد األوحد"‪ّ  ]11[.‬‬
‫إن فلسفة هيجل المطلقة تجعل من‬
‫إن هللا هو المركز المق ّدس الذي يمأل ك ّل األشياء بالحياة والروح‪ّ .‬‬
‫إن الدين موضوعه† هو ذاته‪ ،‬وهو هللا‪،‬‬ ‫الدين موضوع الوعي اإلنساني‪ .‬فاهلل هو بداية وغاية الكل‪ّ .‬‬

‫أن إله المسيحية هو مرآة اإلنسان‪ ،‬وإسقاط اإلنسان خارج ما هو ذاته هو ض ّد‬ ‫إنّه العالقة بين الوعي اإلنساني وهللا (دروس† حول فلسفة الدين)‪ّ ،‬‬
‫لكن فيورباخ سيرى ّ‬

‫الحريّة‪ .‬من هنا ابتعاد فيورباخ عن هيجل‪ .‬وسيحاول فيورباخ البحث عن الدين األصلي‪ ،‬بل عن البعد األصيل في الدين بعيداً عن التعالي به ض ّد اإلنسان‪ .‬وهو ما‬

‫جعل فلسفة فيورباخ إنسانوية باحثة عن جوهر الدين‪.‬‬


‫تخيل‪ ]13[.‬والماهية‬
‫ٍ‬ ‫"كلما كان الدين أقرب من أصله‪ ،‬كان حقيقيا ً وصادقاً"[‪ ،]12‬أو تجربة فطرية إنسانية‪ .‬فليس هنا فرق بين اإلنسان وهللا‪ .‬فاهلل يظهر كائنَ‬
‫ّ‬
‫ولكن شكلها أو جوهرها المتمظهر (أو الظاهر) هو اختالفهما[‪ .]14‬سيختلف تصور فيورباخ للدين‬ ‫السرية للدين هي الوحدة بين الكائن اإلنساني والكائن اإللهي‪،‬‬

‫وهللا عن تصور أستاذه هيجل‪ ،‬ذلك الفيلسوف الذي رفع الفلسفة إلى مستوى الالهوت‪ ،‬حسب فيورباخ‪ ،‬وأحكم تصوراته من خالل مفهوم الروح المطلق‪ .‬سيقول‬
‫"إن الدين وحده هو المعرفة الحقة بشكل مطلق"[‪" ،]15‬كما ّ‬
‫أن هللا هو الكل ّي‪ .‬هللا يكون من وجهة نظر التطور ما هو تام في ذاته‪ ،‬ما هو وحدة مطلقة مع‬ ‫هيجل‪ّ :‬‬

‫ذاته"[‪ .]16‬من هنا وعي فيورباخ بكون هذا التصور يظهر الهوتا ً جديداً‪ ،‬وإلغاء لإلنسان وتكريسا ً عميقا ً لالغتراب الديني‪ ،‬لم ِ‬
‫يع هيجل مصدره‪.‬‬
‫سيقول فيورباخ في "أطروحات مؤقتة بخصوص إصالح الفلسفة" ّ‬
‫إن الدين المسيحي يجمع اسم اإلنسان واسم هللا في اسم واحد هو‪ :‬اإلنسان ـ اإلله (‬
‫‪ )l’homme–dieu‬واإلنسان اإلله هو هللا حاضر في المسيح‪ .‬من هنا محاولة فيورباخ كشف الجوهر األنثروبولوجي للدين من خالل تقييم الجوهر اإللهي‬

‫لإلنسان‪.‬‬

‫لقد أصبحت الصفات الجوهرية لإلنسان مثالً‪ :‬المعرفة† واإلرادة والقدرة والحرية‪ ،‬من صفات هللا‪ .‬ومعلولها ليس إال قلبا ً لإلنسان لوجوده‪ ،‬لصالح قوى مفارقة‪ .‬هللا‬
‫علة ك ّل شيء‪ ،‬وهو ال متنا ٍه‪ ،‬وصفاته المؤنسنة هي فوق إنسانية وفوق طبيعية‪ .‬من هنا حلل العالقة بين هللا واإلنسان‪ .‬وحسب فيورباخ ّ‬
‫فإن النزعة التشبيهية (‬
‫‪ )l’anthropomorphisme‬هي محاولة إعطاء هللا صفات على غرار صفات اإلنسان‪ .‬والتنزيهية المطلقة ترفع هللا إلى مقام المطلق المختلف بإطالق عن‬

‫الطبيعة والعالم‪ ،‬ولكنها تسقط كذلك في إلغاء استقاللية اإلنسان‪ .‬هكذا يكون فيورباخ قد انتقد أغلب التصورات حول هللا‪ ،‬سواء كانت تشبيهية أو تنزيهية‪ ،‬ما دامت‬
‫قد ركزت على ثنائية‪ :‬الجوهر‪/‬الصفات‪ ،‬وعلى المطلق المتعالي‪ ،‬ولم ت َر اإلنسان كائنا ً في ذاته ولذاته‪ .‬من طبيعة الحال ّ‬
‫أن تاريخية ومادية فيورباخ واتجاهه الحسي‬

‫تح ّدد فهمه لما يس ّميه الفلسفة التأملية‪ .‬وبالتالي إرادة تجاوز التعالي اإللهي‪ ،‬والتعالي باإلنسان‪ ،‬إلى اإلنسان المحايث لوجوده الواقعي‪ ،‬أي لصفاته الفعلية والعملية‪.‬‬

‫ففي هذه الفلسفات الالهوتية‪ ،‬اإلنسان أصبح خاضعا ً لما هو فوق اإلنسان المطلق للجوهر الالمتناهي‪ ،‬وليس مرتبطا ً بذاته‪ ،‬بواقعه ثم باآلخرين‪ .‬وكلمة الجوهر‬

‫تختزل هذا النفي لإلنسان‪ ،‬م ّما ألغى بعده األنثربولوجي‪ .‬فالثيولوجيا إذن هي البعد الخفي لإلنثروبولوجيا وللفلسفة التأملية في آن واحد‪ .‬وفلسفة المستقبل هي البحث‬
‫عن هذا المفقود في اإلنسان‪ ،‬الذي أصبح سجين الوهم والخيال‪ ،‬الذي تكرسه الثيولوجيا حسب فيورباخ‪ّ .‬‬
‫إن حقيقة الجوهر اإلنساني هي إعادة اكتشاف هذا المفقود‬

‫في جوهر هللا‪ .‬وداللة الجوهر هنا عميقة‪ ،‬أنطولوجيا ً وثيولوجياً‪ ،‬فهي تد ّل على الثابت والمطلق والالمتناهي‪ ،‬وهو أساس ك ّل شيء مقابل األعراض والمحموالت‪،‬‬
‫كأشكال وجود الجوهر بلغة سبينوزا‪ .‬الذي قال ّ‬
‫إن هللا هو وحده الجوهر والعناصر األخرى تابعة له‪ .‬وقد استعمل الجوهر في الفلسفة القديمة والسكوالئية التابعة‬

‫ألرسطو‪ .‬ومن هنا مشكل العالقة بين هللا واإلنسان‪ ،‬بين هللا كجوهر أول ومطلق وتحديداً هللا‪/‬المطلق‪ .‬واإلنسان ليس جوهراً‪ ،‬ولكنه نمط وشكل لوجود الجوهر‬
‫اإللهي‪ ،‬وهو هللا‪ .‬وهذا هو مدخل فيورباخ لنقد المسيحية‪ ،‬وامتداداتها في الفلسفات الالهوتية‪ .‬والصفة (‪ )attribut‬ال توجد إال كمعلول تابع لفاعل أساسي مستقل‬

‫قائم بذاته وفي ذاته‪ ،‬حسب سبينوزا‪ .‬فالجوهر هو مبدأ الكائن وهو هللا‪ .‬والصفات يدركها الفهم كمحموالت للجوهر‪ ،‬كما يرى هذا الفيلسوف‪ .‬من هنا تركيز فيورباخ‬

‫على سبينوزا وهيجل والمسيحية معاً‪ ،‬في نقده للدين‪.‬‬

‫فما هو الدين عند فيورباخ؟ وما طبيعته؟ ّ‬


‫إن الدين هو حلم الروح‪ †،‬هو وهم ونتاج الخيال‪ .‬وجذوره طبيعية بمعنى الطبيعة هي‪ :‬المبدأ األساسي للدين )الطفولة‬

‫البشرية) وأنثروبولوجية بمعنى األصل في الممارسة والتأويالت الدينية هو‪ :‬أصل إنساني‪ .‬هنا يميز فيورباخ بين الدين األصلي والدين المسيحي‪.‬‬

‫سيعود فيورباخ إلى نظام الطبيعة لكشف أصل الدين‪ .‬وبالفعل كما تقول جاكلين الغريه‪ :‬كان الدين الطبيعي أول األمر سهالً وبسيطاً‪ ،‬وقد جعلته الخرافات غامضاً‪،‬‬
‫وجعلته القوانين مر ّكباً‪ ،‬أو قد ت ّم شحنه شيئا ً فشيئا ً بالذبائح والمشاهد"‪]17[.‬‬
‫إن فيورباخ يحاول كشف األوهام التي علقت بالدين‪ ،‬إلى حد جعلته دراميّاً‪ ،‬ال يؤدي وظيفته الممكنة‪ †.‬من هنا تصنيف جاكلين الغريه‪ّ :‬‬
‫"إن إرادة تقديم تاريخ طبيعي‬ ‫ّ‬

‫للدين يعني أوالً رفض تاريخ ما هو فوق الطبيعي أو المق ّدس"[‪ .]18‬وبالنسبة لفيورباخ سيهتم أساسا ً بالوحي أو ما يُس ّمى بدين الطبيعة (جاكلين)‪ .‬م ّما جعل مقاربته‬

‫فلسفية ـ أنثروبولوجية من زاوية تركيزها على مبدأ اإلنسان وتاريخه‪ ،‬من زاوية ربط جذور اإلنسان والدين بمسار التاريخ البشري واتجاهه نحو المستقبل‪.‬‬
‫وإذا كان مذهب وحدة الوجود (‪ )panthéisme‬يقول بوحدة هللا والطبيعة‪ّ ،‬‬
‫وأن الوجود اإللهي كامن في الطبيعة واإلنسان‪ ،‬وهما من مظاهر هللا وجوهره‪ ،‬ومن‬
‫ث ّمة ك ّل شيء هو هللا في إطار وحدة مثالية‪ ،‬يحضر فيها هللا بقوة في الطبيعة أو يكون جوهراً مطلقا ً حقاً‪ ،‬وهو الموجود بذاته مقابل األغراض أو األحوال‪ّ ،‬‬
‫فإن هذا‬

‫المذهب ال يستقيم ونظرية فيورباخ حول عالقة هللا باإلنسان‪ .‬فمن الصعب الجمع بين هللا والعالم أو بين هللا والطبيعة‪ ،‬مادام† ذلك هو مشكل الالهوت‪ .‬وذلك هو‬
‫مذهب سبينوزا‪ ،‬وهيجل ث ّم المسيحية‪ .‬ومعضلة ك ّل هذا هو االستناد إلى فكرة الجوهر (‪ )substance‬الذي ألحق بالفلسفة وأثر على مقاربة قضايا الالهوت‪.‬‬

‫فسبينوزا عندما يرى هللا والطبيعة شيئا ً واحداً رسالة في الالهوت والسياسة فهو يجعل الطبيعة أو عالم االمتداد (‪ )l’entendue‬صفة مادية هلل‪ ،‬ويق ّر بالتالزم‬

‫بين هللا والطبيعة (حضور هللا في الطبيعة)‪ †،‬ورغم هذا الفتح الفلسفي الذي أنجزه سبينوزا فأزمة† فلسفته حسب (فيورباخ) تكمن في تداعياتها الثيولوجية على‬

‫اإلنسان‪ .‬بل هي مساهمة الهوتية في تحييد اإلنسان من داخل الفلسفة والتاريخ معاً‪.‬‬

‫وإذا كان الجوهر حسب سبينوزا هو "ما هو في ذاته وما يتصور من ذاته‪ ،‬أي ما هو على ذاته وال يحتاج ليكون إلى غيره الجوهر‪ ،‬ال ينطبق إال على هللا‪ ،‬إنّه هللا‪.‬‬
‫وصفاته هي ما يفهمه الذهن باعتباره ماهيّة الجوهر"[‪ ،]19‬من هنا فلسفة الجوهر هي أساس خفي للثيولوجيا كأنثروبولوجيا معكوسة‪.‬‬

‫"إن فلسفة المستقبل هي فلسفة الفعل الحر‪ ،‬المرتبط باإلنسانية المستقلة‪ ،‬ض ّد الفلسفة التأملية‪ّ .‬‬
‫إن الفلسفة الجديدة هي فلسفة اإلنسان‪ ،‬من أجل اإلنسان‪ .‬من هنا نقده‬ ‫ّ‬

‫المباشر لهيجل وكشفه تناقضاته‪ ،‬كما يقول‪ّ :‬‬


‫إن الوعي الذي نمتلكه عن هللا هو الذي يملكه هللا عن ذاته (يقول هيجل)‪ ،‬وهي قضية تستند على أساس سبينوزا نفسه‪:‬‬
‫ّ‬
‫"إن الممتد (‪ )l’entendue‬أو المادة هو صفة (‪ )attribut‬للجوهر (‪ ،")substance‬ومعنى ذلك‪ :‬الوعي هو صفة هللا‪ .‬هللا هو األنا أو الوعي هو موجود‬

‫إلهي‪.‬‬

‫كما ّ‬
‫أن مصادرة سبينوزا تعني بشكل بسيط المادة هي جوهر إلهي"[‪ .]20‬يكشف فيورباخ الخلفية الفلسفية للفلسفة الالهوتية‪ ،‬أو العمق الالهوتي لفلسفات حول الدين‬

‫(مثالً فلسفة هيجل أو سبينوزا) فبقي اإلنسان غائبا ً داخلها‪ .‬فالفلسفة الجديدة تراهن على كشف األنثروبولوجي‪ ،‬داخل الثيولوجيا المتوارية في الفلسفات القديمة‬
‫أن هيجل م ّزق الوحدة أوجوهر الوحدة بين الطبيعة واإلنسان‪ .‬فكانت فلسفته آخر مالذ ونقطة ارتكاز عقالني للثيولوجيا"‪ ]21[.‬ففي‬
‫والتأملية‪ .‬من هنا يرى فيورباخ ّ‬

‫فكره الفلسفي يكون جوهر اإلنسان موضوعا ً خارجه‪ ]22[.‬وحسب سبينوزا ال ب ّد من قلب المعادلة ليصبح اإلنسان جوهر المعرفة‪ †،‬وهو موضوع ذاته‪ .‬وبالتالي‬

‫التحرّر من سلطة الثيولوجيا‪ .‬وهذا هو رهان فلسفة المستقبل‪ ،‬وشرطها اإلنساني هو اإلنسان مدخل ك ّل نقد‪ .‬من هذه الزاوية يتابع فيورباخ نقده لهيكل‪ ،‬من خالل‬
‫نقده للثيولوجيا الفلسفية‪ .‬فجوهر الثيولوجيا هو الكائن اإلنساني المتعالي‪ ،‬مموضعا ً خارجياً‪ .‬وجوهر المنطق هو الفكر المتعالي‪ ،‬وجوهر اإلنسان يقع خارج ذاته"[‬
‫‪ .]23‬فالثيولوجيا تجعل اإلنسان تابعا ً لجوهرمطلق‪.‬‬

‫وال ننسى انتقاد فيورباخ لإلنسان الديني عامة‪ ،‬باعتباره تعبيراً عن حالة الذوبان المطلق فيما هو ألوهي‪ ،‬بعيداً عن األنسنة‪ .‬ويح ّدد الفيلسوف والعالمة مارسيا إلياذ‬
‫مفهوم اإلنسان (‪ )l’homme religieux‬قائالً‪:‬‬

‫"بالنسبة لإلنسان الديني‪ ،‬الطبيعة ليست أبداً طبيعية (‪ :)naturelle‬إنما دائما ً مح ّملة بقيمة دينية (‪ .)valeur religieuse‬وهذا يفسّر نفسه‪ ،‬مادام العالم‬
‫المغلق (الكوسموس) هو إبداع إلهي‪ :‬خرج من يد اآللهة"[‪ .]24‬وحتى الزمان والمكان هما امتداد للمق ّدس واأللوهي‪ .‬فأين هي مظاهر األنسنة؟‬

‫لقد جسّد فيورباخ الالهوت السلبي‪ ،‬دون السقوط في نظرة عديمة من الدين‪ ،‬أو إعالن موت هللا‪ .‬ولكن حاول كشف تناقضات الفكر الديني المسيحي‪ .‬وقد س ّمى‬
‫البعض فلسفته في الدين إلحادية مقنعة‪ .‬لكن ما يه ّم هو نزعته اإلنسانية المرتبطة بفلسفة اإلنسان الواقعي‪ ،‬البعيد عن مفهوم الجوهر المتعالي‪ّ .‬‬
‫إن الوعي والمعرفة†‬

‫باهلل هي العمق كشفا ً لما هو أنثروبولوجي في الوجود اإلنساني‪ .‬وقد انتقد فيورباخ الفلسفة الالهوتية (ومنها فلسفة هيجل(‪ ،‬ألنها حطّت من شأن الطبيعة‪ †،‬ور ّكبت‬

‫بشكل هجين بين معطيات فلسفية والدين‪ ،‬من دون النفاذ إلى جوهر اإلنسان‪ .‬من هنا محاولة فيورباخ إرجاع اإلنسان إلى المحايث والمحسوس‪ ،‬وتلك هي مغامرة‬

‫مشروعه األنثروبولوجي الفلسفي وأساسه‪ :‬الفاعل اإلنساني‪.‬‬

‫‪ -2‬الالهوتي واإلنساني عند فيورباخ‬


‫إن معادلة فيورباخ‪ ،‬التي شكلت انقالبا ً فلسفيا ً في تاريخ تناوله لفلسفة الدين‪ ،‬هي العالقة بين ما هو أنثروبولوجي وما هو ثيولوجي في الفكر الديني‪ .‬وهي الخالصة‬
‫ّ‬

‫الجذرية والعميقة لج ّل إسهامات هذا الفيلسوف في فلسفة الدين‪ .‬وهي معادلة إجرائية‪ ،‬قابلة ألن تكون آلية فحص وتفكيك لتاريخ األديان والتصورات الدينية‪ .‬ينتقد‬

‫فيورباخ فلسفة هيجل الذي حاول الفصل بين اإلنسان وتاريخه‪ ،‬وبالتالي أحدثت شقاقا ً بين اإلنسان وعالمه الواقعي‪ .‬لقد قارب هيجل اإلنسان‪ ،‬حسب فيورباخ‪ ،‬من‬

‫إن هيجل هو فيلسوف حسب هذا المنظور‪ †،‬الهوتي في ثوب متفلسف حول الدين‪ .‬وظّف الفلسفة لبناء الالهوت‪ ،‬وأعطى االعتبار هلل‬
‫دون تناول العالم المحسوس‪ّ .‬‬

‫كفكرة مطلقة في نسقه الديني‪ ،‬وأرجع الالمتناهي اإللهي والديني وعالم األفكار المطلقة‪ ،‬على حساب واقعية اإلنسان‪ّ .‬‬
‫إن "اإلنسان خلق هللا في صورته" عكس ما‬

‫أن اإللهي هو اإلنسان معكوساً‪ †،‬أو منعكسا ً في الماوراء (‬


‫إن "هللا خلق اإلنسان في معزل عن سياقه ووجوده األنثروبولوجي"‪ .‬يرى فيورباخ ّ‬
‫قالت المسيحية‪ّ :‬‬

‫‪ .)l’au-delà‬وخصائص اإلله هي خصائص اإلنسان‪ ،‬مثالً‪ :‬الحياة والحكمة والعدالة‪ .‬والنوع اإلنساني من دونها‪ †،‬ال قيمة لما هو أنثروبولوجي في اإلنسان‪.‬‬
‫فاإلنسان هو الصورة اإللهية لإلنسان‪ .‬وفلسفة الدين أهميتها تكمن في كشف هذا البعد األنثروبولوجي لإلنسان‪ّ ،‬‬
‫إن الدين هو حلم الفكر اإلنساني؛ وبالتالي يجب نقله‬

‫من الخيال إلى الواقع‪ ،‬فالكائن اإللهي‪ ،‬باعتباره متميزاً عن جوهر الطبيعة واإلنسانية (ماهيّة اإلنسان عامة(‪ †،‬يفترض فهم أبعاده الخاصة‪ ،‬التي تدرك خارج ماهيّة‬
‫اإلنسان‪ّ .‬‬
‫إن الدين له قاعدة أساسية هي االختالف الجوهري الذي يوجد بين اإلنسان والحيوان‪ :‬فالحيوانات ليس لها دين"[‪ ،]25‬من هنا أهمية فهم طبيعة العالقة‬
‫التي نسجها اإلنسان مع الدين‪ ،‬منذ انفصاله عن الطبيعة‪ّ .‬‬
‫إن اإلنسان هو بداية الدين وبالتالي فمركز† الدين هو اإلنسان‪ ،‬وهو غاية الدين[‪.]26‬‬

‫هكذا تداخل الوحي مع اإلنسان‪ ،‬فاإلنسان يتحدد بواسطة اإلنسان‪ ،‬باعتباره أساس التجديد بواسطة هللا‪ .‬فالوحي ليس إال فعالً منتجا ً بواسطة اإلنسان حول اإلنسان‪.‬‬
‫وبالتالي جعل من هللا حداً أوسط (‪ )médiateur‬بين نفسه وطبيعته الخاصة‪ .‬فاهلل هو عملية شخصية للرابطة الموجودة بين النوع والفرد‪ ،‬بين الطبيعة اإلنسانية‬
‫والوعي اإلنساني"[‪( ]27‬ميالد االغتراب(‪.‬‬
‫ّ‬
‫إن هاته الثيولوجيا العجيبة ليست إال أنثروبولوجيا"[‪ ]28‬في البدء‪ .‬لقد حاول فيورباخ نقد الفلسفة التأملية في أعمق بُعد‪ ،‬هو محاولتها االتفاق واالنسجام مع‬

‫الالهوت والدين‪ .‬وبالتالي نقده المباشر للفلسفة الهيجلية في أصولها ومنطقها‪ ،‬مدافعا ً عن اإلنسان الواقعي‪ ،‬الكامل والملموس ض ّد التوافق بين الفلسفة والدين‪ ،‬على‬
‫أساس التصورات فوق الطبيعية وفوق اإلنسانية‪ .‬ويرى فيورباخ ّ‬
‫أن فلسفته تتكلم فيما يخص الوجود‪ .‬والحديث خاصة بلغة إنسانية وليس لغة من دون اسم أو واقع‪.‬‬

‫وك ّل هذا من أجل فلسفة حقيقية‪ .‬إنها فلسفة ال تتخذ من مبدأ‪ ،‬سواء كان جوهر سبينوزا‪ ،‬أو أنا كانط‪ ،‬أو مطلق هوية شلينغ‪ ،‬أو الروح المطلق لهيجل‪ ،‬وبكلمة واحدة‬
‫ي كائن فكري أو متخيل‪ ،‬ولكن الكائن الواقعي (‪]29[".)un être réel‬‬
‫أ ّ‬

‫إن المشروع ليس نقد الدين فقط‪ ،‬بل كذلك عالم الفلسفة التأملية‪ ،‬وعالقتها بالدين واإلنسان وهللا أساساً‪ .‬من هنا تتخذ عالقة الفلسفة بالدين قوة نظرية داخل مشروع‬
‫ّ‬

‫أن الدين نفسه يقول ّ‬


‫إن هللا هو إنسان‪،‬‬ ‫فيورباخ الفكري‪ .‬وهاجسه كشف الفلسفة التأملية في ثوبها الالهوتي‪( ،‬وهي في األصل الهوت)‪ .‬من هنا يرى فيورباخ ّ‬

‫اإلنسان‪/‬اإلله وليس أنا الذي أقول ذلك‪ ،‬بل فقط كشفت أعجوبة المسيحية‪ ،‬من أجل تحريرها من الكذب والتناقضات واإليمان الزائف الذي حاولت الثيولوجيا‬
‫إخفاءه"[‪.]30‬‬

‫‪ -3‬فلسفة الدين بين اإليمان والحب‪( :‬مسألة األخالق(‬


‫في إطار نقده للمسيحية‪ ،‬عمل فيورباخ على إثارة مسألة األخالق‪ ،‬مبينا ً كيف ّ‬
‫أن الدين المتوارث ال يؤسس األخالق‪ ،‬وإن أسعد اإلنسان في الظاهر‪ .‬من هنا الثنائية‬

‫الشهيرة اإليمان‪/‬والفضيلة (األخالقية(‪ ،‬التي يحاول فيورباخ نقد الفهم المسيحي لها‪ ،‬لصالح اإلنسان‪.‬‬

‫يرى فيورباخ ّ‬
‫أن اإلنسان يوجد من أجل أن يعرف‪ ‬وأن يريد‪ ،‬ولكن ما غاية العقل‪ ،‬غير الحب واإلرادة والحرية؟ إننا نعرف من أجل المعرفة‪ †،‬ونحب من أجل‬
‫المحبة‪ ،‬ونريد من أجل اإلرادة‪ ،‬أي أن نكون أحراراً‪ .‬فليس هناك كائن حقيقي‪ ،‬إال الكائن المفكر المحب والمريد‪ .‬ليس هناك حقيقي‪ ،‬كامل‪ ،‬إلهي (‪ )le divin‬إال‬
‫ما يوجد في ذاته ولذاته‪ .‬ولكن أيضا ً هو الحب والعقل واإلرادة"[‪ ]31‬فما معنى األخالق خارج الوجود اإلنساني والجماعة اإلنسانية؟ لقد رفض فيورباخ تنميط‬

‫الدين المسيحي لألخالق‪ ،‬وإحالة القيم اإلنسانية األساسية لما هو إلهي أو فوق إنساني‪ ،‬كما انتقد جعل المسيحية اإليمان أساس القيم األخالقية العملية‪ .‬من هنا صعوبة‬

‫تأسيس األخالق من خالل االحتماء باإليمان‪.‬‬

‫وتحت عنوان "التناقض بين اإليمان والحب" يقول فيورباخ‪" :‬الحبّ يكشف لنا عن الجوهر الحميمي‪ ،‬اإليمان يكشف الظاهر‪ ،‬الحب بما هو بين هللا واإلنسان‪،‬‬
‫ويوجد بين الناس‪ .‬واإليمان يفصل اإلنسان عن هللا‪ ،‬والناس فيما بينهم‪ّ ،‬‬
‫ألن هللا ليس إال الفكرة الغامضة حول النوع‪ ،‬حول اإلنسانية لفصلها عن اإلنسان‪.‬‬

‫هنا تدخل ضرورة فصل اإلنسان عن أشباهه‪ ،‬في تدمير الرابطة االجتماعية ( ‪ )lien social‬بالنسبة لإليمان‪ ،‬فالدين يكون في تناقض مع العقل‪ ،‬مع األخالقية (‬
‫‪ ،)moralité‬مع المعنى الحقيقي لإلنسان‪ ]32[.‬من هنا ينتقد فيورباخ دوغمائية الكنيسة‪ ]33[ ،‬ألنها د ّمرت األخالقية األصلية المسيحية من جهة‪ ،‬وأخالقيات‬
‫اإلنسان العاقل والطبيعي‪ ،‬ويرفض ك ّل تمييز بين اإلنسان والمؤمن† من جهة أخرى‪ .‬وبشكل حاسم يقول فيورباخ‪ :‬بقدر ما يكون هللا فوق اإلنسان بقدر ما تكون‬
‫الواجبات تجاه هللا فوق الواجبات تجاه اإلنسان‪ ،‬وهذه الواجبات تدخل ضرورة في صراع فيما بينها"[‪ ]34‬م ّما يولد تناقضات في الوعي األخالقي الديني‪ .‬وبشكل‬

‫حاسم يرى أنّه إذا كان اإليمان يجعل اإلنسان سعيداً فيقينا ً لن يجعله أخالقياً‪ ]35[.‬هنا التناقض بين اإليمان الديني واألخالق حسب فيورباخ‪ ،‬فاإليمان ليس له قيمة‬

‫ولم يجعل اإلنسان خيراً‪]36[.‬‬


‫ي معنى فاضل (‪sens‬‬ ‫ّ‬
‫إن نقد فيورباخ اإليمان‪ ،‬في المعتقد الديني المسيحي‪ ،‬هو بناء جديد ألخالق النزعة اإلنسانية الجديدة‪ ،‬من هنا فاإليمان ليس له إذن أ ّ‬
‫إن اإلنسان هو قاعدة األخالق التي هي أساس أفعاله‪ .‬وغالبا ً ما‬
‫إن الفضيلة ال توهب دينيا ً بل تؤسّس عملياً‪ ،‬ومن خالل الفعل اإلنسان"‪ّ .‬‬
‫‪ّ .]37[)vertueux‬‬

‫يخلط الفكر المسيحي بين فكرة الفضيلة ((‪ vertu‬وفكرة التضحية (‪ )sacrifice‬في شكل تعويض‪ّ .‬‬
‫إن هللا ضحّى من أجل اإلنسان‪ ،‬واآلن يجب على اإلنسان أن‬
‫يضحي من أجل هللا‪ ]38[.‬ويراجع فيورباخ قيم اإلنسان األساسية‪ ،‬مثالً المحبة والصداقة والتضحية والفضيلة‪ ،‬منتقداً أوغسطين‪ ،‬وحتى الفلسفة اليونانية في شخص‬

‫إن الدين المسيحي حطّم نواة األخالق في الصميم لنزعه البعد اإلنساني الواقعي منها‪ .‬من هنا تركيز‬
‫أرسطو‪ ،‬وفهمه أو تصوره للعالقة بين العبد والسيد‪ّ  ]39[.‬‬

‫فيورباخ على المحبة أو الحب‪ ،‬وكما يقول‪ :‬في الحب وفي العقل تختفي الحاجة لشخص وسيط ‪ ))personneintermédiaire‬والجماعة اإلنسانية‪ ،‬ليست‬
‫فكرة خالصة‪ ،‬إنها ال توجد إال في اإلحساس‪ ،‬في طاقة الحب"[‪.]40‬‬

‫إن الدين ليس له وعي بالنزعة اإلنسانية الموجودة فيه‪ ،‬إنه ينفي أن يكون إنسانياً‪ .‬من هنا ضرورة عصر جديد‪ ،‬يفتتح فيه الفكر اإلنساني الجديد‪ ،‬فيه يكون الوعي‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫بأن هللا أو الوعي باهلل‪ ،‬ليس إال وعي الكائن النوعي‪ ،‬وهو اإلنسان‪ .‬وبالتالي تكون العالقة مع الدين ليست عالقة نفي بل نقد‪ ،‬أ ّ‬
‫ي فصل للحقيقي عن الخاطئ[‪.]41‬‬

‫لكن المسيحية جعلت من اإلنسان كائنا ً فوق طبيعي‪ .‬وفي‬


‫والحقيقة هي الوعي األولي لإلنسان بذاته‪ .‬فالديانات مق ّدسة ألنها هي تقاليد هذا الوعي البدائي[‪ّ .]42‬‬

‫المسيحية‪ ،‬القوانين األخالقية تفهم باعتبارها وصايا هللا‪ ]43[.‬لقد ت ّم نفي المصدر الواقعي واإلنساني األخالقي‪ ،‬وتأويل األخالق باسم هللا‪.‬‬
‫"إن األخالق هي قوة إلهية‪ّ ،‬‬
‫ألن الحب الديني ال يحب اإلنسان إال من أجل هللا‪ ،‬أي يحب اإلنسان في المظاهر وهللا في الحقيقة‪ ]44[.‬والتضحية اإلنسانية تأتي من‬ ‫ّ‬

‫جوهر الدين عامة‪ .‬والتضحيات الدامية هي ظواهر تعطيها الطابع الدرامي‪ّ  ]45[.‬‬
‫إن اإلنسان هو أساس األخالق‪.‬‬

‫يرى فيورباخ في محاولته ضبط االختالف بين الدين واألخالق أنه‪ :‬إذا كان هللا غير موجود‪ ،‬وليس هناك اختالف بين الخير والشر‪ ،‬بين النزوة والفضيلة‪ ،‬فهذا‬
‫االختالف إذن يتأسس كليّة على الوجود اإللهي‪ ،‬والفضيلة ليست شيئا ً من خالل ذاتها‪ ،‬وليس لها حقيقة إال داخل كائن خارجي (‪ّ .)être extérieure‬‬
‫إن وجود‬
‫الفضيلة هو إذن مرتبط بوجود هللا‪ ]46[.‬في لحظة يجعل فيورباخ من علم األخالق الفضائل اإلنسانية على أساس الفعل والتمثل الحقيقي ال الوهمي‪ ،‬وممارسة†‬

‫اإلنسان وجوده وفق سلوكه العقالني‪ ،‬ونوازعه الذاتية‪ .‬فالفضيلة هي مشروع أخالقي عملي يتحدد بالعقل واإلرادة داخل المجتمع‪.‬‬

‫سيفصل فيورباخ‪ ،‬إذن‪ ،‬بين الدين ومبحث األخالق‪ ،‬كقيم مالزمة† لإلنسان وبعده األنثروبولوجي‪ ،‬لكنها وفق تصوره ت ّم إسباغها وإحالتها إلى هللا وصفاته‪ .‬من هنا‬
‫ضرورة إعادة األخالق إلى بعدها األنثروبولوجي لتصبح الفضيلة إنسانية‪ ،‬ويكون األنثروبولوجي هو معيار تحديد الخير والشر والفصل والتمييز بينهما‪.‬‬

‫ّ‬
‫إن أزمة األخالق عند فيورباخ هي أزمة أنثروبولوجية‪ ،‬بمعنى أزمة إحالتها إلى أنثروبولوجية معكوسة هي الالهوت‪ .‬وهذا الالهوت ينزع عن اإلنسان إنسانيته‬
‫بالكامل‪ †،‬ففي الدين اإلنسان يبحث عن إشباع رغباته‪ ،‬والدين هو خيره األسمى[‪( ]47‬عالقة الرغبة بالدين(‪ ،‬واإلنسان الديني ينفصل عن الواقع‪ّ ،‬‬
‫ألن هللا ذاته هو‬

‫كائن في الخارج وفوق العالم‪ .‬وهللا ككائن متميز عن الطبيعة ليس شيئا ً أخر إال الوجود ذاته لإلنسان سحب من ذاته‪ ،‬ويعيش فوق الجميع‪ ]48[.‬واإلنسان في الدين‬
‫إن اإليمان بالوحي‪ ،‬ال يضر فقط بالمعنى‪ ،‬أو الذوق األخالقي (‪ )le gout moral‬وجمالية الفضيلة‪ ،‬ولكنّه يس ّمم‬
‫يدافع عن وجوده في الكائن اإللهي‪ّ  ]49[.‬‬

‫ويقتل المعنى األكثر ألوهية في اإلنسان‪ ،‬أي معنى الحقيقة‪ ،‬والشعور بالحب والحقيقي[‪.]50‬‬

‫إن فكرة هللا هي المبدأ األسمى‪ ،‬النقطة المركزية للسفسطة المسيحية‪ .‬هللا هو الكائن اإلنساني بامتياز‪ ،‬ولكن أصبح مختلفا ً عن اإلنسان وفوقه‪ .‬إنّه الكائن الخالص‬
‫ّ‬

‫الكوني‪ ،‬فكرة التمييز نفسه‪ ،‬ولكن يجب أن يكون شخصا ً وفرداً‪]51[†.‬فاألنثروبولوجيا متضمنة في الثيولوجيا‪ ،‬والفكرة الدينية فيها تناقض‪ .‬فاهلل ال يوجد إذن إال من‬

‫أجل اإلنسان وباإلنسان‪ .‬من هنا تولد النزعات التشبيهية (‪ )les anthropomorphismes‬التي هي تشابهات بين هللا واإلنسان‪ ،‬فصفاتها ليست واحدة‪،‬‬
‫ْ‬
‫ولكن هناك تشابه متبادل[‪ .]52‬بالنسبة لإلنسان الديني (‪ )l’homme religieux‬على العكس‪ ،‬هو إنسان يمثل صورة هللا[‪ ]53‬وبالتالي هناك استقاللية هلل‬

‫وتبعية لإلنسان‪ .‬وكالهما† يشكالن كائنا ً مشتركاً‪ .‬واإليمان بالوحي يكشف الطريقة الخاصة المرتبطة بوهم الوعي الديني (‪l’illusion de la conscience‬‬
‫‪ .)religieuse‬واإلنسان هنا ال ينفي إال ذاته[‪ .]54‬من هنا مفهوم االغتراب‪.‬‬

‫‪ -4‬فلسفة الدين ومفهوم االغتراب الديني‬


‫من الصعب تناول فلسفة الدين عند فيورباخ خارج المفهوم† األساسي‪ ،‬وهو االستالب الديني‪ ،‬والذي حاول من خالله رسم تصور للدين‪ ،‬ونمط العالقة بين اإلنسان‬
‫وهللا‪ ،‬بخصوص ماهيّة وأصل الدين‪ ،‬متجاوزاً في ذلك أستاذه هيجل‪ ،‬فيما يخصّ طرحه لالستالب من زاوية فكرية تأمليّة محضة‪ .‬لقد حاول فيورباخ إبراز ّ‬
‫أن‬
‫إن الدين جسّد عمق االغتراب اإلنساني‪ .‬وك ّل بحث في ماهيّة اإلنسان يؤدي إلى كشف هذا االغتراب‪ ،‬كما ّ‬
‫أن ك ّل‬ ‫أصل اغتراب اإلنسان يعود إلى عالقته بالدين‪ّ .‬‬

‫تناول لماهية الدين أو المسيحية هو إبراز لجوهر اإلنسان‪ ،‬وسقوطه في االغتراب الديني‪ .‬سيعلن فيورباخ بقوة ّ‬
‫أن اإلنسان هو الفاعل األساسي في الوجود‪ †،‬بل هو‬

‫الذي خلق هللا‪ .‬والنتيجة هي إصباغ ك ّل القيم اإلنسانية عليه‪ .‬فجوهر اإلنسان أصبح من جوهر هللا‪ ،‬وبالتالي ت ّم تعيين اإلنسان لذاته في عمق جوهر هللا‪ .‬وهذا هو‬
‫عمق االغتراب الذي يعانيه اإلنسان‪ .‬وبالتالي يجسّد هللا انعكاسا ً مرآويا ً للكينونة اإلنسانية في الصفات والتمثالت‪ّ .‬‬
‫إن االغتراب الديني هو اغتراب اإلنسان عن ذاته‪.‬‬

‫وهي قضية جذرية ستجعل فيورباخ يميل إلى مركزية† إنسانية‪ ،‬تراهن على استقاللية اإلنسان عن الماوراء‪ †،‬ولقد كان االستالب عند أستاذه هيجل يعني اغتراب‬

‫الوعي عن ذاته‪ ،‬وإغراقه في الموضوع‪ †،‬وفقدانه إطالقيته‪ .‬لقد ألغى المطلق اإلنسان وك ّل خصائصه الجوهرية‪ †،‬وبالنسبة لفيورباخ‪ :‬اإلنسان فقد وجوده واستقالليته‬

‫متعال‪ .‬إنّه التالشي المطلق لإلنسان‪.‬‬


‫ٍ‬ ‫في هللا‪ ،‬وبالتالي أعطى اإلنسان فعاليته وقيمه وصفاته الجوهرية هلل ككائن‬

‫يتساءل فيورباخ‪ :‬هل الحقيقة اإلنسانية لها أهميّة أكبر من الحقيقة اإللهية؟ أم ّ‬
‫أن حرية اإلنسان ت ّم القطع معها في الخطاب حول هللا؟[‪ ]55‬ويحاول الفيلسوف كشف‬

‫حقيقة اإلنسان كحرية ملغاة داخل الخطاب المسيحي‪ .‬في لحظة ال ب ّد من إبراز منطق العالقة بين هللا واإلنسان‪ .‬يرى فيورباخ‪ :‬ليس هناك إذن بين الوحي اإللهي‬
‫وعقل اإلنسان سوى اختالف وهم ّي‪ .‬فمضمون األول وعقله ذو أصل إنساني‪ ]56[.‬فاإلنسان يعيش لذاته بعيداً عن فوق‪/‬اإلنساني‪ ،‬أو فوق‪/‬الطبيعي‪ّ .‬‬
‫إن اإلنسان‬

‫بواسطة الخيال يتوجه ال إراديا ً إلى إله‪ ،‬أي إلى الكائن الحميمي الذي يجيبه من خارج‪ ،‬هذا الكائن المتموضع والمشخص في ذاته (أي اإلنسان) بواسطة قوة الخيال‪،‬‬
‫كقانون ألفكاره وأفعاله‪ ،‬هذا الكائن هو هللا[‪ .]57‬يرى الفيلسوف الكبير سيشرون ‪ cecron‬الدين هو اهتمام بطبيعة ما هو أسمى من اإلنسان‪ ،‬قوى تسمى إلهيّة‪،‬‬
‫وقد يق ّدم عبادة لها‪ّ  ]58[.‬‬
‫إن حقيقة اإلنسان هي نتاج إلخضاعه لقوى خارجية تقلص محدوديته‪ †،‬وتلك هي النتيجة المحتومة للدين المسيحي‪.‬‬

‫إن الوحي ليس إال فعالً أنتج من طرف اإلنسان حول اإلنسان‪ .‬فقط أصبح المح ّدد الفعلي لإلنسان هو كائن أخر‪ ،‬هو إله‪ .‬هكذا جعل اإلنسان من هللا وسيطا ً بينه وبين‬
‫ّ‬

‫ذاته‪ ،‬وطبيعته الخاصة‪ .‬فاهلل عمليا ً هو شخصنة الرابط الموجود بين النوع والفرد‪ ،‬وبين الطبيعة اإلنسانية[‪ .]59‬وذلك هو جوهر االغتراب الديني الذي يؤزم‬

‫االنسان‪ .‬سيقول المفكر إيريك فروم‪:‬‬

‫فيما بعد "اعتماد اغتراب اإلنسان معتمداً على اإلله فحسب اعتماداً ذليالً‪ ،‬بل يجعله شريراً أيضاً‪ ،‬إذ يصبح إنسانا ً بال ثقة في إخوته البشر وفي نفسه‪ ،‬بال تجربة‬
‫كحبّه الخاص‪ ،‬وقوة عقله الخاصة‪ ،...‬ونتيجة لهذا يحدث االنفصال بين "المق ّدس" و"الدنيوي"‪ ،‬ويتصرف اإلنسان في مناشطه الدنيوية بال حب"‪ ]60[.‬وسيواصل‬

‫التحليل الماركسي تطوير فلسفة فيورباخ حول االغتراب من منظور نقدي واقتصادي‪ .‬من هنا التساؤالت الخاصة باالغتراب والهيمنة واألزمة االجتماعية‪ ،‬هي‬

‫عناصر وتساؤالت أساسية في التحليل الماركسي‪ .‬إنّه االغتراب بجانب مسألة التشوهات واالنحرافات المختلفة‪ ،‬التي تتدخل في رؤية العالم االجتماعي الذي يشكله‬
‫الفاعلون‪ ]61[.‬مقال‪( :‬مالئمة وحدود التحليل الماركسي للدين(‪.‬‬

‫ّ‬
‫إن جذور االغتراب عند فيورباخ دينية‪ ،‬وهو ما يس ّميه االغتراب الديني عند اإلنسان‪ ،‬كنتاج حتمي لتبعية األنثروبولوجي لإللهي‪ ،‬أوذوبان اإلنسان أو النوع‬

‫اإلنساني في الوجود اإللهي‪ .‬وهذا االغتراب يعبّر عن فقدان اإلنسان صفاته األصلية‪ ،‬وبالتالي حريته‪ .‬إنّه الدليل على انفصام الذات اإلنسانية‪ .‬لقد كان ماركس‪،‬‬
‫وريث فيورباخ‪ ،‬يؤكد ّ‬
‫أن الدين كحالة اغتراب‪ ،‬تعتم وتحجب إدراك وفهم العالم االجتماعي الديني كعامل إلضفاء الشرعية على الهيمنة الدينية‪ ،‬والذي يتخلله‬
‫ويتقاطع معه صراع الطبقات‪]62[.‬‬
‫ّ‬
‫إن االغتراب الديني هو تعبير عن صورة معكوسة† لإلنسان الذي فقد فعاليته‪ ،‬وأصبح يرى ذاته في الوجود األسمى‪ ،‬المفارق أو فوق الطبيعي واإلنساني‪ .‬يقول‬
‫أن العودة إلى الدين هي اإلجابة‪ ،‬ال بوصفها فعالً من أفعال اإليمان‪ ،‬بل الهرب من شك ال سبيل إلى احتماله[‪ .]63‬من هنا نفهم توجّه‬
‫فروم‪ :‬يعتقد بعض الناس ّ‬

‫فيورباخ إلى إعادة الديني إلى اإلنسان‪ ،‬حيث معنى التيولوجي هو مضمون األنثروبولوجيا‪ ،‬في إطار التوافق بين صفات هللا وصفات اإلنسا"‪]64[.‬‬
‫وإذا كانت النزعة التشبيهية (‪ )anthropomorphisme‬تعكس إعطاء خصائص إنسانية هلل‪ ،‬أو إحالة القيم اإلنسانية للكائنات اإللهية‪ّ ،‬‬
‫فإن هذه األخيرة‬

‫تتمظهر من خالل الخصائص اإلنسانية‪ .‬وجوهر ذلك المماثلة بين هللا واإلنسان‪ .‬من هنا حمل هللا عواطف اإلنسان وقيمه وأفعاله‪ ،‬والقضية هي "اإلنسان خلق هللا‬

‫في صورته"‪ ،‬فما هي تداعيات ذلك على عالقة الالهوتي باألنثروبولوجي؟ ينبغي أاّل ننسى نقد فيورباخ مذهب وحدة الوجود لدى سبينوزا‪ ،‬وهو مذهب (‬
‫‪ )panthéisme‬يرى ّ‬
‫أن ك ّل ما هو موجود يتماهى مع هللا‪ ،‬فاهلل يتمظهر في ك ّل الوجود والطبيعة أو العالم‪ .‬ومن هنا‪ ،‬ما موقع اإلنسان في هذه الثيولوجيا‬
‫المقنعة من وراء الفلسفة‪ ،‬إن لم يكن االغتراب أو الغياب؟ ّ‬
‫إن التشبيهية عندما تعطي صفات اإلنسان هلل تلغي كينونة اإلنسان واستقالليته‪.‬‬
‫فاإلنسان إذن يجب أن يؤسس حقيقته من خالل الوعي النقدي والتاريخي‪ ،‬بماهيته األصلية في ذاته وعالمه† الواقعي‪ ،‬وبالتالي القطع مع أصل االغتراب‪ ،‬وهو الوهم‬

‫الديني‪ .‬لقد أصبح الدين سببا ً في إعاقة حريّة اإلنسان وإمكاناته في إدراك قيمه األساسية‪ ،‬مثل‪ :‬اإلرادة والعقل والمحبّة والعدالة والمعرفة‪†.‬‬

‫لقد ع ّمق فيورباخ مفهوم االغتراب‪ ،‬لينقله من عالم الفكر إلى الممارسة العملية‪ ،‬وبالتالي كان أساس نقده للفلسفة والدين معاً‪ ،‬في عالقة باهلل واإلنسان معاً‪ .‬وأزمة‬

‫الممارسة† الدينية تترجم بالفعل هذا االغتراب‪ .‬إنّها أزمة الممارسة التأملية لفلسفة الهوتية‪ ،‬لم تق ّدم جوابا ً فعليا ً عن اإلنسان الواقعي‪/‬العقالني‪ ،‬وبالتالي عن أسباب‬

‫ومصدر االغتراب الذي يؤدي فعالً إلى فقدان الحريّة‪ .‬في هذا اإلطار يكمن إدراك فيورباخ ضرورة إرجاع االغتراب لما هو الهوتي‪ ،‬وضمان التحرر داخل ما‬
‫هو إنساني‪ّ .‬‬
‫إن الدين (كحصيلة للوهم والعجز والخوف‪ ،‬والعالقة األولية والطفولية مع الطبيعة) ال ينفصل عن كيفية تحويل اإلنسان لذاته إلى عالم من التمثالت‪،‬‬

‫تح ّد من فعاليته ووعيه بالحرية‪ ،‬أو أسباب انعدامها‪.‬‬

‫إن االغتراب عند هيجل هو اغتراب الوعي والفكر في الموضوع‪ †.‬والفكر قبل أن يغترب كان مطلقاً‪ ،‬وعليه أن يم ّر بمرحلة النفي ‪ négation‬إلى اإلثبات‪.‬‬
‫ّ‬

‫ويصبح اإلنسان إذن غريبا ً عن ذاته‪ ،‬فاقداً إلرادته‪ ،‬ليس له هويّة‪ ،‬بل يعيش وضعيته الالهوتية‪ .‬وينقسم بين عالم المحسوس وذاته من دون حريّة‪ .‬وهذا ما يرفضه‬

‫فيورباخ‪ ،‬خصوصا ً عندما يربط ذلك بالدين‪ .‬فاإلنسان يسقط خصائصه على هللا‪ ،‬فينزع من النوع اإلنساني ماهيته‪ ،‬وبالتالي يحيل القيم األساسية مثل الحب واإلرادة‬

‫والعدالة إلى هللا‪ .‬وبهذا المعنى خلق اإلنسان هللا على صورته‪ †،‬وليس العكس‪ .‬فاإلنسان اغتراب في فكرة هللا‪ ،‬ويغادر عقله وإرادته لصالح اآللهة وخصائصها‪ .‬وفي‬

‫العمق ما يعلنه هللا عن اإلنسان‪ ،‬بل عن هللا‪ ،‬يحيل إلى الطبيعة اإلنسانية المستلبة‪ .‬فاالغتراب إذن ليس لحظة نفي ألجل إثبات‪ ،‬حسب الجدل الهيجلي‪ ،‬أي نفي‬

‫إلثبات‪ ،‬بل هي إنهاء لفعالية اإلنسان وإرادته‪ .‬ليصبح فعل اإلنسان محدداً من خارج‪ .‬وذلك هو نفي الحرية‪ ،‬وعنوانه‪ :‬االغتراب الديني‪ ،‬أي اغتراب اإلنسان عن‬
‫ذاته‪ ،‬وتعين ماهيته في كائن هو هللا‪ ،‬كموضوع† لإلنسان الذي يتموضع خارجه‪ّ .‬‬
‫إن الذات تفتقد ذاتها لتتحول إلى تابع لما هو فوق طبيعي وفوق إنساني‪ .‬لقد أصبح‬

‫جوهر هللا (عند هيجل وسبينوزا وكذلك المسيحية) أساس تبعية اإلنسان للمفارق والمتعالي‪ .‬وك ّل الصفات اإلنسانية ما هي إال أعراض أو محموالت للجوهر‬

‫المطلق‪ .‬وذلك هو العمق الثيولوجي لهاته الفلسفات الثيولوجية‪.‬‬

‫متعال‪ .‬وهو ما‬


‫ٍ‬ ‫فاهلل والطبيعة عند فيورباخ مفهومان مترابطان‪ .‬ففي إطار مقاربته لماهية الدين وأصله‪ ،‬حدد فيورباخ الطبيعة كأصل للدين‪ ،‬وحتى تمثل هللا ككائن‬
‫جعله في نهاية المطاف يميل إلى نزعة طبيعية‪ ،‬أو ما يُس ّمى بالمذهب الطبيعي (بدل اإلنساني) فيما يخص نقده وقراءته الفلسفية للدين‪ .‬لقد كان هللا منتوجا ً إنسانيا ً‬

‫منذ عالقته األولى بالطبيعة‪ .‬وكان هذا اإلنسان تابعا ً للطبيعة‪ ،‬وهذه التبعية هي أساس ميالد الدين (إضافة إلى العجز(‪ّ .‬‬
‫إن تبعية اإلنسان للطبيعة هي أساس ميالد‬
‫فكرة هللا‪ .‬وازدواجية هللا‪/‬الطبيعة حاضرة بقوة في اإلنسان األول‪ ،‬واإلنسان الحالي المغترب‪ .‬وف ّ‬
‫ك االرتباط بين اإلنسان واإلنسان‪ ،‬يكمن في إرجاع اإلنسان إلى‬

‫الطبيعة (األصل(‪ ،‬وتمثله لذاته خارج مركزية† هللا‪ ،‬ث ّم التوجه نحو المستقبل‪ .‬لقد عاد الكثير من الفالسفة إلى الطبيعة‪ ،‬لتناول داللة الدين وجذوره‪ ،‬أو للدفاع عن‬

‫لكن تصور فيورباخ يبقى رهينا ً بمدى محاولته تحرير اإلنسان من تبعيته للمفارق‪.‬‬
‫أطروحة الدين الطبيعي‪ّ .‬‬

‫يقول فيورباخ‪ :‬اإلنسان ال يمكن أن يقوم بشكل فعّال خارج الطبيعة أو من دونها‪ .‬والطبيعة ال تمتلك شيئا ً روحيا ً من دون اإلنسان‪ .‬اإلنسان هو الطبيعة‪ .‬وكالهما (هللا‬
‫إن اإلنسان البدائي حسب فيورباخ مصدره الطبيعة‪ ،‬وكان إنسانا ً طبيعيا ً بسيطاً‪ ،‬ولكنه ليس هو اإلنسان التاريخي‪ .‬فاإلنسان هو‬
‫والطبيعة) في حاجة لألخر[‪ّ .]65‬‬

‫نتاج اإلنسان‪ ،‬للثقافة والتاريخ‪ .‬هكذا تحوّل المق ّدس إلى الكائن المحايث لذاته‪ّ .‬‬
‫إن فلسفة الدين عند فيورباخ تقوم على تحرير الدين من سلطة التأويالت السائدة‪ ،‬من‬

‫أجل أنسنة الدين وإعادته إلى أصوله اإلنسانية‪ .‬وهو ما يهم ربط الدين باإلنسان المحايث ال المتعالي‪ .‬من هنا التالزم عنده بين الدين اإلنساني والدين الطبيعي‪ ،‬خدمة‬

‫لخيار حرية االعتقاد‪ ،‬وليس اإللحاد‪ .‬لقد وضع فيورباخ يده على جرح الهوتي‪ ،‬يعانيه اإلنسان (كما يقول)‪ ،‬مهّد من خالله لمقاربة أعتى اإلشكاالت التي تؤرق‬

‫حتى ممارسة السياسة والسلطة في عالقة بالدين‪ ،‬وهي‪ :‬مفارقة اإلنساني‪/‬الالهوتي‪ .‬في هذا اإلطار وجه الفلسفة‪ ،‬نحو موضوع أساسي هو عالقة الفلسفة بالدين‪،‬‬
‫كموضوع مركزي† لك ّل فلسفة دين ممكنة‪ .‬لم يد ُ‬
‫ع فيورباخ إلى اإللحاد أو الالدينية‪ ،‬بل دافع عن مشروع فلسفة الدين‪ ،‬وعن اإلله الطبيعي والدين اإلنساني‪ ،‬أي الدين‬

‫الذي يصالح اإلنسان مع ذاته‪ .‬كما أنّه آمن بإنسان يقرأ الدين بحرية‪ ،‬وبمعيار األنسنة المطلقة‪.‬‬

‫إن الدين هو حلقة أساسية في حياة اإلنسان وماهيته‪ ،‬ولكن ال ب ّد من مقاربته تاريخيا ً وأنثروبولوجيا ً من أجل كشف طبيعة الخطاب الثيولوجي‪ ،‬واستعادة اإلنسان من‬
‫ّ‬

‫إن الدين اإلنساني هو روح الطبيعة األصلية لإلنسان‪ .‬والعودة بالدين إلى الطبيعي تمثل كشفا ً لجوهر اإلنسان الطبيعي‪ ،‬ال المغترب والمستلب وسط‬
‫عالم االغتراب‪ّ .‬‬

‫اإللهي‪ .‬لقد بين فيورباخ ّ‬


‫أن الصفات الجوهرية لإلنسان ت ّم تغييبها داخل تأويالت الهوتية‪ ،‬في الفكر المسيحي وبعض الفلسفات التأملية‪ ،‬ومن ث ّمة إعطاؤها للمفارق‪.‬‬

‫وبلغة فيورباخ المباشرة‪ :‬لقد أعطى اإلنسان صورته هلل‪ ،‬م ّما أنتج إنسانا ً متعاليا ً وفصامياً‪ .‬من هنا هاجس تحويل الدين إلى نزعة إنسانية‪ ،‬حتى ال يبقى الدين هو‬
‫اإلحساس بالعجز‪ ،‬أو مرتبطا ً بالشر والخوف‪ ،‬بدل السعادة والحرية والخلود‪ .‬وألجل منظور إيجابي ألخالقيات الدين‪ .‬من هنا أصبحت الثنائية األساسية عند‬

‫فيورباخ هي‪ :‬اإلنسان‪/‬الطبيعة وليس اإلنسان‪/‬هللا‪ .‬وك ّل هذا من أجل أخالق الحب والعطاء‪ ،‬ض ّد ك ّل اغتراب في هللا أو تجسّد الدين في المسيح (اإلنسان‪/‬اإلله)‪.‬‬

‫خاتمة‬

‫لقد تبين م ّما سبق‪ ،‬التقاطع بين ما هو فلسفي وما هو منهجي‪ ،‬بخصوص مقاربة الدين ضمن مشروع فكري نقدي‪ ،‬حول مركزية† الدين كقضية فلسفية في فكر‬
‫فيورباخ‪ّ .‬‬
‫إن مقاربة هذا الفيلسوف النوعيّة للديني أعطت قيمة كبرى لما هو أنثروبولوجي‪ ،‬في إطار نزعة إنسانية جديدة‪ .‬وقد حاول فيورباخ أن ينظر إليها من‬

‫خالل فلسفة المستقبل‪ .‬ولعل المتتبع لمسار نظرية فيورباخ حول الدين‪ ،‬يالحظ الجمع بين التحليل والنقد والتصور التاريخي‪ ،‬والتأويل العميق للنصوص والرموز‬
‫الدينية‪ ،‬دون نسيان ربطه الديني وبعض التصورات في الفلسفة الالهوتية أو التأملية‪ ،‬بالسياسة واالجتماع‪ .‬من الواضح‪ ،‬إذن‪ّ ،‬‬
‫أن الدين أصبح عند فيورباخ قضية‬
‫أنثروبولوجية‪ ،‬من خاللها نفذ إلى أعمق قضية راهنة وهي‪ :‬العالقة بين الدين واالغتراب‪ ،‬بين الدين والحرية واإلرادة‪ ،‬بين الدين والعالقات اإلنسانية‪ّ .‬‬
‫لكن تحوالت‬

‫في الفكر العلمي والفلسفي تحتم تطوير المقاربة الفلسفية للدين‪ ،‬على خالف ما كان في السابق‪ .‬فقد حصلت ثورة منهجية ومعرفية† في الفلسفة المعاصرة وعلومها‪†،‬‬

‫إضافة إلى القفزة النوعية اإلبستمولوجية للعلوم اإلنسانية وإنجازاتها‪ ،‬فيما يخصّ المسألة الدينية‪ .‬دون نسيان أزمة النزعة المادية والوضعانية‪ ،‬فيما يتعلق بالدين‬

‫ونظامه المعقد‪.‬‬

‫ّ‬
‫إن عودة الدين اآلن‪ ،‬فرضت تحديات كبيرة على الفلسفة والعلوم‪ ،‬وبالتالي ضرورة تطوير مبحث فلسفة الدين‪ ،‬بما يتالءم ومستجدات العصر‪ .‬وبقدر ما عكس‬

‫فيورباخ وبروح إبداعية عصره وثورة الفلسفة األلمانية‪ ،‬وتراكمات عصر اإلصالح الديني والتنوير الفلسفي‪ ،‬يكون من الضروري إعادة قراءة خطابه وخطاب‬

‫ورثته حول الدين (ماركس‪ †،‬فرويد‪ ،‬نيتشه‪ ،‬فروم‪ ،‬أنفراي‪ ،‬فيري)‪ ،‬وفق لغة ومنطق جديدين‪ .‬وال ننسى الشروط التاريخية المؤطرة لسؤال الدين‪ ،‬اآلن‪ ،‬كتعقد‬

‫النظام االقتصادي الرأسمالي‪ ،‬وطفرة التقنية‪ ،‬وتصاعد األصوليات‪ ،‬والهويّات الدينية المتطرفة‪ ،‬ك ّل هذا يقتضي قراءة نوعية لخطاب فيورباخ (كنموذج) حول‬

‫الدين‪ .‬وبالنسبة إلينا نحن العرب والمسلمين لم يحضر فيورباخ بالشكل المطلوب داخل الخطاب العربي واإلسالمي‪ ،‬ليست فقط للممانعة† العقائدية ض ّد فلسفة‬

‫الحداثة‪ ،‬وخصوصا ً عالقتها بالدين‪ ،‬بل للتبعية اإليديولوجية للخطاب الماركسي (إ ّما مع أو ضد‪ ،‬أو فهمه بشكل مشوّه ومبتور)‪ ،‬دون التنبه إلى مستجدات فلسفة‬

‫فيورباخ‪ ،‬فيما يخصّ العالقة بين الثيولوجي واألنثروبولوجي في اإلسالم وتجربته المعرفية† والتاريخية‪.‬‬

‫أن الفكر الفلسفي الغربي المعاصر أعاد تقييم تجربة المق ّدس‪ .‬فرغم الخروج عن الدين (بلغة مارسيل كوشيه) ليس هناك قطع مع المق ّدس‪ .‬وفي‬
‫لكن من الواضح‪ّ ،‬‬

‫أن الكثير من الفلسفات الحداثية السياسية‪ ،‬رغم أنّها أسست للعقالنية والعلمنة‪ ،‬إال أنها اعتبرت الدين ضرورة‬
‫هذا السياق تطرح مسألة المعنى (‪ ،)le sens‬كما ّ‬

‫اجتماعية ومدنية أو ضمان االستقرار وصمام أمان (روسو‪ ،‬ميكيافلي‪ ،‬هوبز‪ .(...‬فالدين أصبح في مجتمعات الحداثة أساس الدولة المدنية (رمزياً)‪ ،‬حسب تعبير‬

‫هوبز‪ .‬وحتى بعض الفوضويين الماركسيين كان يقول‪ :‬إذا كان هللا غير موجود فيجب اختراعه من أجل ضبط المجتمع‪ .‬من هنا يمكن تقديم قراءة جديدة راهنية‬
‫لمتن فيورباخ الفلسفي‪ ،‬وبالتالي تدعيم مشروعه† األنثروبولوجي الفلسفي‪ ،‬بمستجدات األنثروبولوجية السياسية والدينية في هذا المجال‪ .‬وال ننسى ّ‬
‫أن خطاب‬
‫فيورباخ لم يكن قطيعة مع علوم عصره‪ ،‬بقدر ما كان تعبيراً عن نوع من التيولوجيا (‪ )théosophie‬تجاه المسألة الدينية‪ .‬والسؤال هو‪ :‬كيف السبيل لعقلية‬

‫عالقتنا بالنص الديني اإلسالمي‪ ،‬وكشف جوهره بخصوص التباس العالقة بين الالهوتي واألنثروبولوجي؟ والقضية األساسية في هذا السياق هي‪ :‬إشكالية السلطة‬

‫وكيفية الفصل داخلها‪ ،‬وداخل تاريخ اإلسالم بين اإلنساني واإللهي‪ ،‬بين الديني والدنيوي‪ ،‬بين المطلق والنسبي‪ ،‬بين المتعالي والتاريخي المحايث‪ .‬وبالتالي طرح‬

‫إشكال العلمنة‪ ،‬خدمة لحرية االعتقاد‪ ،‬والدين اإلنساني‪ ،‬وقيمه الكونية‪ ،‬بعيداً عن االستبداد أو عبادة األشخاص باسم القداسة‪ .‬لقد كان نيتشه يقول (وهو ناقد‬

‫لفيورباخ)‪ :‬كان أقوى رجال الدين‪ ،‬ينحنون دوما ً أمام القديس‪ ،‬كما ينحنون أمام لغز ما‪ ،‬لغز االنتصار التام على الذات‪ ،‬لغز حرمان النفس األخير‪(.‬فريدريك نيتشه‪:‬‬

‫ما وراء الخير والشر‪ ،‬ترجمة حسان بورقية‪ ،‬إفريقيا الشرق‪ .‬المغرب‪ .‬ط ‪ .2006‬ص‪.)62‬‬

‫‪ ‬مراجع أساسية معتمدة‪:‬‬

‫باللغة الفرنسية‪:‬‬
‫‪Ludwig FEUERBACH: essence du christianisme (introduction de l’allemand par Josh roy.librairie -‬‬

‫‪.internationale Paris 1864‬‬


MIRCEA ELIADE: le sacre et le profane. Folio essai Gallimard; paris 1995 -

:‫باللغة العربية‬

‫† مكتبة دار الكلمة القاهرة‬،‫ ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد‬،‫ فلسفة الدين‬3 ‫ ج‬،‫ محاضرات في فلسفة الدين‬:‫ فريدريك هيجل‬-

2009 ‫ سنة‬1‫ ط‬،‫ المنظمة العربية للترجمة‬،‫ كتاب األخالق ترجمة جالل الدين سعيد‬:‫ سبينوزا‬-

1993 ‫ بيروت‬،‫ المؤسسة العربية للدراسات والنشر‬،‫ ترجمة منصور الصافي‬،‫ الدين الطبيعي‬:‫ جاكلين الغريه‬-

1998 ‫ سنة‬1 ‫ ترجمة فؤاد كامل ط‬،‫ مكتبة غريب‬،‫ الدين والتحليل النفسي‬:‫ إيريك فروم‬-

2005 ‫ سنة‬1‫ ط‬،‫ مصر‬،‫ المجلس األعلى للثقافة‬،‫ ترجمة درويش الحلوحي‬،‫ سوسيولوجيا الدين‬:‫ جان بول ويليام‬،‫ دانييل هيرفيه ليجيه‬-

2006 ‫† ط‬،‫ المغرب‬،‫ إفريقيا الشرق‬،‫ ترجمة حسان بورقية‬،‫ ماوراء† الخير والشر‬:‫ فريدريك نيتشه‬-

.Ludwig Feuerbach: essence du christianisme. traduction de l’allemand par Joseph roy. Paris 1864 -]1[
.Ludwig Feuerbach: essence du christianisme. traduction de l’allemand par Joseph roy. Paris 1864 -]2[
Philippe stabat: l’anthropologie comme philosophie. l’homme de la religion et la religion du l’homme selon Ludwig -]3[

Feuerbach. in methodos.devres.org (320)


.Ludwig Feuerbach: essence du christianisme. traduction de l’allemand par Joseph roy. Paris 1864. P: 36 -]4[
.Ludwig Feuerbach: essence du christianisme (préface) P: 13 -]5[
.Ludwig Feuerbach: essence du christianisme (préface) P: 14 -]6[
.Ludwig Feuerbach: essence du christianisme. (ibid.) P: 51 -]7[
.Ludwig FEUERBACH: essence du christianisme. (préface) P: 10 -]8[
Ludwig FERERBACH: ESSENCE DU CHRISTIANISME (ibid.) P: 275 -]9[
Ludwig FERERBACH: ESSENCE DU CHRISTIANISME (ibid.) P: 282 -]10[
15 ‫ ـ‬14 ‫ ص ص‬،‫ القاهرة‬،2002 ‫سنة‬1‫ ط‬،‫ ترجمة مجاهد‬،‫ مكتبة كلمة‬،‫ فلسفة الدين‬3 ‫ ج‬،‫ محاضرات في فلسفة الدين‬:‫]ـ فريدريك هيجل‬11[
.Ludwig FEUERBACH: essence du christianisme (ibid.) p: 238 -]12[
.Ludwig FEUERBACH: essence du christianisme (ibid.) p: 279 -]13[
.Ludwig FEUERBACH: essence du christianisme (ibid.) p: 288 -]14[
13 ‫ ص‬،‫ القاهرة‬،‫ مكتبة دار الكلمة‬،‫ ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد‬،‫ فلسفة الدين‬3 ‫ ج‬،‫ محاضرات في فلسفة الدين‬:‫]ـ فريدريك هيجل‬15[
14 ‫ ص‬،‫ المرجع نفسه‬،‫]ـ فريدريك هيجل‬16[
68 ‫ ص‬،1993 ،‫ بيروت‬،‫ المؤسسة العربية للدراسات والنشر‬،‫ ترجمة منصور الصافي‬،‫ الدين الطبيعي‬:‫]ـ جاكلين الغريه‬17[
80 ‫ ص‬،‫ المرجع نفسه‬،‫]ـ جاكلين الغريه‬18[
31 ‫ ص‬،2009 ‫ سنة‬1‫ ط‬،‫ المنظمة العربية للترجمة‬،‫ ترجمة جالل الدين سعيد‬،‫ كتاب األخالق‬:‫]ـ سبينوزا‬19[
.Ludwig FEUERBACH: essence du christianisme (ibid.) p: 387 -]20[
.Ludwig FEUERBACH: essence du christianisme (ibid.) p: 379 -]21[
.Ludwig FEUERBACH: essence du christianisme (ibid.) p: 380 -]22[
.Ludwig FEUERBACH: essence du christianisme (ibid.) p: 380 -]23[
MIRCEA ELIADE: le sacre et le profane. Folio essai Gallimard; paris 1995, p: 101 -]24[
LUDWIG FEUERBACH: essence du christianisme (introduction) (ibid.) p: 10 -]25[
LUDWIG FEUERBACH: essence du christianisme (ibid.) p: 248 -]26[
LUDWIG FEUERBACH: essence du christianisme (ibid.) p: 249 -]27[
LUDWIG FEUERBACH: essence du christianisme (ibid.) p: 249 -]28[
Ludwig FEUERBACH: essence du christianisme (introduction de l’allemand par Joseph roy. Paris 1864. Préface. p: 11 -]29[
LUDWIG FEUERBACH: essence du christianisme (introduction (préface) p: 12 -]30[
:LUDWIG FEUERBACH: essence du christianisme (introduction) p 23/24 -]31[
LUDWIG FEUERBACH: essence du christianisme (ibid.) p: 288 -]32[
Ludwig FEUERBACH: essence du christianisme (ibid.) p: 292 -]33[
Ludwig FEUERBACH: essence du christianisme (ibid.) p: 300/301 -]34[
LUDWIG FEUERBACH: essence du christianisme (ibid.) p: 302 -]35[
Ludwig FEUERBACH: essence du christianisme (ibid. (p: 303 -]36[
LUDWIG FEUERBACH: (ibid.) p: 303 -]37[
Ludwig FEUERBACH: (ibid.) p: 307/ 308 -]38[
Ludwig FEUERBACH: (ibid.) p: 309 -]39[
LUDWIG FEUERBACH: (ibid) P: 200 -]40[
LUDWIG FEUERBACH: essence du christianisme (ibid.) p: 310 -]41[
LUDWIG FEUERBACH: (ibid.) p: 311 -]42[
LUDWIG FEUERBACH: (ibid.) p: 312 -]43[
LUDWIG FEUERBACH: (ibid.) p: 315 -]44[
LUDWIG FEUERBACH: essence de christianisme (ibid.) p: 368 -]45[
LUDWIG FEUERBACH: essence du christianisme (ibid) p: 243 -]46[
LUDWIG FEUERBACH: essence du christianisme (ibid.) p: 73 -]47[
LUDWIG FEUERBACH: essence du christianisme (ibid.) p: 95 -]48[
LUDWIG FEUERBACH: essence du christianisme (ibid.) p: 212 -]49[
LUDWIG FEUERBACH: essence du christianisme (ibid.) p: 252 -]50[
LUDWIG FEUERBACH: essence de christianisme (ibid.) p: 255 -]51[
LUDWIG FEUERBACH: (ibid.) P: 265 -]52[
LUDWIG FEUERBACH: (ibid.) P: 265 -]53[
LUDWIG FEUERBACH: (ibid.) P: 248 -]54[
LUDWIG FEUERBACH: essence du christianisme (ibid.) P: 254 -]55[
LUDWIG FEUERBACH: essence du christianisme (ibid.) P: 249 -]56[
LUDWIG FEUERBACH: essence du christianisme (ibid.) P: 251 -]57[
8 ‫ ص‬،1993 ‫ سنة‬1‫ ط‬،‫ بيروت‬،‫ ترجمة منصور القاضي المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر‬،‫ الدين الطبيعي‬:‫]ـ جاكلين الغريه‬58[
LUDWIG FEUERBACH: essence du christianisme (ibid.) p: 248 -]59[
49 ‫ ص‬1998 ‫ سنة‬1 ‫ القاهرة ط‬،‫ ترجمة فؤاد كامل‬.‫ مكتبة غريب‬.‫ الدين والتحليل النفسي‬:‫]ـ إيريك فروم‬60[
15 ‫ ص‬،2005 ‫ سنة‬1‫ ط‬،‫ مصر‬،‫ المجلس األعلى للثقافة‬،‫ ترجمة درويش الحلوحي‬.‫ سوسيولوجيا الدين‬:‫ جان بول ويليام‬.‫]ـ دانييل هيرفيه ليجيه‬61[
16 ‫ ص‬،‫ المرجع نفسه‬،‫ سوسيولوجيا الدي الدين‬:‫ وجان بول ويليام‬،‫]ـ دانييل هرفيه ليجيه‬62[
9 ‫ ص‬،1998 ‫ سنة‬1 ‫ ط‬،‫ القاهرة‬،‫ مكتبة غريب‬،‫ ترجمة فؤاد كامل‬:‫ الدين والتحليل النفسي‬:‫]ـ إيريك فروم‬63[
Ludwig FEUERBACH: essence du christianisme (ibid). préface. p: 9 -]64[
LUDWIG FEUERBACH: essence du christianisme. Traduction du l’allemand par joseph roy.librairie internationale. -]65[

Paris. 1864. p: 318

You might also like