Professional Documents
Culture Documents
فلسفة الدين وجدل اللاهوتي والأنثروبولوجي عند لودفيج فيورباخ
فلسفة الدين وجدل اللاهوتي والأنثروبولوجي عند لودفيج فيورباخ
http://www.mominoun.com/articles/%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9-
%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D9%88%D8%AC%D8%AF%D9%84-
%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%A7%D9%87%D9%88%D8%AA%D9%8A-
%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%86%D8%AB
%D8%B1%D9%88%D8%A8%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A-
%D8%B9%D9%86%D8%AF-%D9%84%D9%88%D8%AF%D9%81%D9%8A%D8%AC-
%D9%81%D9%8A%D9%88%D8%B1%D8%A8%D8%A7%D8%AE-3449
ش ّكلت فلسفة الدين عند لودفيج فيورباخ(Ludwig Feuerbach) 1804/1872 مجاالً مركباً ،تداخل فيه هاجس بناء تصور جديد حول اإلنسان ونقد
الدين ،إضافة إلى طرح أسس فلسفة جديدة للمستقبل ،دون نسيان إرادة تجاوز إرث الفلسفات السابقة عليه مثل :فلسفة هيجل .)Hegel( وكان فيورباخ بالفعل
مؤسّسا ً لفلسفة إنسانية جديدة ،راهنت على قلب النظرة للدين ،إن على مستوى المنهج ،أو المفاهيم ،أو القيم العملية .من هنا سيحاول هذا الفيلسوف الرائد ،في مجال
فلسفة الدين ،تشكيل أنثروبولوجيا فلسفية ،ستكون هي الموجّه الفعلي لتصوراته ،خصوصا ً فيما يتعلق بعالقة الفلسفة بالالهوت .وقد يصنف البعض فيورباخ في
صنف الملحدين ونفاة هللا ،أو ضمن الالدينية .لكن تبقى ميزة خطاب فيورباخ حول الدين هي البناء المفاهيمي ،الذي اعتمده وطبيعة المقاربة إلشكاالته والرهانات
العملية التي حاكمته .واالنفتاحات التي حققها ،وأثر من خاللها فيما بعد ،وخصوصا ً فيما يخصّ الموقف من الدين إن في مجتمعات الحداثة ،أو بعض البلدان
اإلسالمية .فهل كان فيورباخ يراهن بالفعل على تحويل الالهوت إلى النزعة اإلنسانية؟ ما العالقة التي حددها بين األنتروبولوجي والالهوتي في تفكيره الفلسفي
حول الدين؟ أو وحدة وجود بين هللا واإلنسان والطبيعة؟ ك ّل هذا ال ينفصل عن مشروع فلسفة الدين واألنثروبولوجيا الفلسفية.
ش ّكل كتاب "جوهر المسيحية"[ )essence du christianisme( ]2ثورة في عالم الفلسفة عامة والفكر الديني خاصة في عصر الحداثة .فالمنطق
المنهجي والقضايا التي تناولها والعمق النظري الذي جسّده ،جعلت من فيورباخ مؤسّسا ً فعلياً ،ليس لفلسفة الدين وإنما لوظيفتها وموضوعها† ورهاناتها .وهو كتاب
غير مسبوق في تاريخ نقد الدين لحد اآلن .وفيه زاوج بين نقد الدين وعالم الالهوت والفلسفة التأملية في آن واحد ،وجسّد قطيعة مع السابق ،وفتح آفاقا ً لفهم الدين أو
أوالً :أنثروبولوجيا الدين (هللا ككائن ينتمي للعقل/هللا ككائن أخالقي وقانون).
ثانياً :علم الهوت الدين ،وفيه :تناقضات وجود هللا ،تناقضات وحي هللا ،تناقضات جوهر هللا ،تناقضات المذاهب السجالية حول هللا ،تناقضات الالمسيحي/المسيحي،
تناقضات اإليمان والحب ،ثم إثارة مستقبل الفلسفة في عالقة باإلنسان وأفعاله .فالفصل األول يحدده ضمن ما يسميه :الماهية الجوهرية †.والثاني :الماهية الخاطئة،
دون نسيان إحاالت عميقة لتاريخ األديان والفلسفات .فالكتاب أصالً في فلسفة الدين ،من منطلق حواري مع الفلسفة والدين والالهوت.
فكتاب "جوهر المسيحية" يتخذ وضع مقاربة متشعبة ومركبة† وعميقة يتداخل فيها نقد الفلسفة بنقد الدين ،ويتتبع فهم الفلسفة داخل الفكر الديني ،وداخل الفلسفة
القديمة والتأملية .وهذا ما جعله يعيد قراءة تاريخ الدين ،وتصور الشعوب القديمة والفلسفات اليونانية للدين ،ت ّم تناوله للمسيحية األصلية ،والكنسية واليهودية
والبروتستانتية .وك ّل هذا من زاوية أساسية وهي :كشف الجوهر األنثربولوجي لماهية المسيحية .وهو ما يبين ّ
أن مقاربته للدين ليست مجردة ،بل تمارس في عمق
اإلحالة لشواهد تاريخية واجتماعية †،ومواقف ،إضافة إلى تأويالت الفالسفة لماهية الدين وهللا واإلنسان في ارتباط بالوجود .من هنا قيمة نقد الدين في فلسفة
فيورباخ :كمشروع† فكري فلسفي متكامل ،تناول فيه فيورباخ الدين ،ليس كمسألة تأمل ،بل موضوع قراءة جذرية ،غير مسبوقة في تاريخ الفلسفة وعلم الالهوت.
وإذا كان من الصعب فهم مسارات نقد الدين ،وكذلك فلسفة الدين ،دون العودة لمساهمات فيورباخ ،حيث قدم نظرية جذرية ،من خالل هاته التجربة ،وتهم عالقة
الدين باإلنسان والمجتمع ،والتمثالت والوهم والمستقبل ،وخصوصا ً ما يتعلق بعالقة اإلنسان باهلل .والدين بالتاريخ لصالح ما يُس ّمى بدين اإلنسان ال إنسان الدين.
إن نقد الدين هو أساس ك ّل نقد يه ّم مسلمات أساسية هي :اإلنسان أوالً ،الواقع المادي ثانياً ،التاريخ أو زمان المستقبل ثالثاً ،متابعا ً مسار تناول
وكان فيورباخ يقول ّ
الظاهرة الدينية في عصر الحداثة ،لكن بشكل مغاير للتأصيل الالهوتي للدين المسيحي ،أو مقاربة الدين من خارجه ،أو إعالن عدمية† مطلقة تجاه الدين .والمنطلق
األساسي لهذه الفلسفة هو مبحث األنثروبولوجيا الفلسفية الموجهة ،لمقاربة فيورباخ للدين عامة ،والالهوت المسيحي خاصة.
-1فلسفة الدين واألنثروبولوجيا الفلسفية
يُعتبر فيورباخ من المؤسسين الفعليين لمبحث األنثروبولوجيا الفلسفية ،كمجال فلسفي أصيل يبحث في اإلنسان وقدراته واستعداداته الذاتية ،في عالقة بذاته
وإمكاناته في التقدم والتطور ،وفق شروطه الذاتية .وقد كان اإلنسان هو المدخل األساسي لفلسفته بشكل عام ،أو مشروع نقده وتأمالته الجذرية في الدينّ .
إن ماهية
اإلنسان ال تفهم وال تشتق إال من اإلنسان ،لكن هل من الممكن فهم وإقرار ماهية اإلنسان دون تناول ماهية هللا ،ثم الدين؟ وبالتالي كشف ما الذي يجعل اإلنسان ال
يرى ذاته بذاته ،بل يحاول إسقاط ذاته على ذات أخرى هي هللا؟ فالسؤال حول الدين وماهيته هو :أساس أنثروبولوجي للفلسفة األنثروبولوجية عند فيورباخ وأسسها
النظرية .وحتى مقاربته للدين هي مقاربة أنثروبولوجية في منطلقها ،وغايتها اإلنسان .وبالتالي تغدو األنثروبولوجيا الفلسفية هي أنثروبولوجيا لإلنسان الديني ودين
إن اإلنسان هو عالمه الذاتي الجوهري †،وليس كائنا ً[ ]3علوياً .إنه ليس إنسان الخطيئة (أوغسطين وباسكال( ،ولكنه اإلنسان الواقعي والتاريخي الذي
اإلنسانّ .
الرمزي †،والحياة اإلبداعية ،مقارنة بالحيوان .في هذا السياق يتحدد اإلنسان ،مقارنة مع عالم الطبيعة وفي عالقة بالتقدم †،وبعيداً عن الثنائية الديكارتية (اإلنسان
روح وجسد) .هكذا سيتم تناول اإلنسان في كليّته وشموليته ،كما فعل المؤسس الفعلي لهذا المبحث الفلسفي ماكس شيلر ( .)Schelerولعل فيورباخ كان وريثا ً
شرعيا ً ومبدعاً †،فيما يخصّ توجيه األنثروبولوجيا الفلسفية وجهة جديدة ،وهي مقاربة الدين بشكل جذري ،يه ّم التأمل في الطبيعة اإلنسانية .وأكثر من هذا ،التأمل
العقالني في عالقة الطبيعة اإلنسانية بالدين ،كمنظومة رمزية ،ما دام اإلنسان وحده ،يمتلك الدين مقارنة مع الحيوان ،كما يقول فيورباخ نفسه.
إن الموضوع الحقيقي لإلنسان ،ليس شيئا ً آخر سوى وجوده المتمظهر ،الذي أصبح بالنسبة لإلنسان موضوعا ً واقعياً .ذلك هو فكر اإلنسان ،ذلك هو إلهه .وبقدر ما
ّ
هناك قيمة لإلنسان ،ليس هناك حظوظ إللهه ]4[.ووعي اإلنسان حول هللا ،هو الوعي الذي يمتلكه حول ذاته .ومعرفة† اإلنسان للكائن المتعالي هي المعرفة التي
يمتلكها عن وجوده .فمن خالل اإلنسان نحكم على إلهه[ .]5فالدين حاضر بقوة داخل الوجود اإلنساني ،لكن بصور معكوسة†.
ّ
"إن الدين هو الحلم ،هو حلم الفكر اإلنساني .ولكن حتى في الحلم فليس في العدم أو في السماء نوجد بل في إمبراطورية الواقع[ ،]6والتعالي بالدين هو أساس نفي
واقعية اإلنسان.
إن المسيح الديني ،كما هو هذا الكائن اإلنساني ،الذي ليس إال منتوجا ً وموضوعا ً للخيال اإلنساني أو لخيال اإلنسان[ .]7وبالتالي ت ّم نفي كينونة اإلنسان .إنّه التعالي
ّ
وإذا كان البعض يرى كتاب "جوهر المسيحية" ال دينيا ً وملحداً ،فاإللحاد ـ كما يقول فيورباخ -هو س ّر الدين .والدين في السطح هو زيف ،وفي العمق هو الحقيقة
(وليس الخيال) الذي يجب كشفه .من هنا يقول فيورباخ :إنّه ال يعتقد إال في األلوهية الخاصة بوجود اإلنسان .إنه كتاب ض ّد ك ّل ما هو غير إنساني ،وك ّل ما هو
مضاد لإلنسان ،وليس ك ّل ما هو إنساني في الدين ،م ّما جعله يؤكد ّ
أن مقاربته للدين تتحدد في بعدين :بعد يه ّم مقاربة الدين في جوهره وحقيقته ،وبعد يه ّم مقاربة
الدين في تناقضاته .من هنا مصادرته األساسيةّ :
إن معنى الثيولوجيا متضمن في األنثروبولوجيا بين صفات هللا وصفات اإلنسان ،وليس هناك اختالف في الجوهر،
فالثيولوجيا هي أنثروبولوجيا ،وك ّل الصفات التي تعطيها هلل أو السم هللا ،ال تح ّدد وتكشف إال الجوهر الحقيقي لإلنسان والكالم اإلنساني .فالمسيحية ،بإنزالها هللا
متعال وعجيب .من هنا األنثروبولوجيا هي الهوت معكوس .إنها ليست هي فلسفة هيجل ال الفلسفة القديمة ،بل هي
ٍ على اإلنسان ،جعلت من اإلنسان إلهاً .إنّه إله
عمق كوني]8[.
يرى فيورباخ ّ
أن فلسفة الدين ليست مختلفة عن السيكولوجيا وعن األنثروبولوجيا[ ،]9وبالتالي فمدخل قراءة الثيولوجيا هو إعالن ماهيّة الطبيعة اإلنسانية
أنثروبولوجياً ،يقول:
ّ
"إن الدين يفصل اإلنسان عن ذاته .فالفاعلية وعفو هللا ليس سوى فاعلية هللا المستلب .اإلنسان المستلب ليس إال اإلرادة الحرة ،المؤولة لصالح كائن مختلف عنا"[
.]10
إن هللا حسب فيورباخ هو :انعكاس لإلنسان .إنّه انعكاس إنساني .والتساؤل حول جوهر اإلنسان هو التساؤل حول جوهر هللا .وهويّة الروح اإلنسانية أو الوعي
ّ
اإلنساني مع اإللهية ،حسب الهيجليين ،ليست إال هويّة اإلنسان مع ذاته .فك ّل ثيولوجيا لها ماهيّة سيكولوجية ( )PSYCHOLOGIQUEإنّها ألوهية فوق إنسانية،
تضمن حقيقة إنسانية معكوسة .وفكرة هللا هي تأويل للحياة ،وتصور عن الطبيعة .والالهوت هو تأليه للطبيعة ( )divinisation de la natureمن هنا
من الخارج.
لماذا انتقد فيورباخ إذن الفلسفة القديمة والتأملية والهيجلية؟ فحسب فيورباخ األصل عند هيجل ،في فلسفته عامة والدينية خاصة ،هو مفهوم الجوهر †،وهو ذاته هللا.
سيقول هيجلّ :
"إن هللا هو كليّته ،هو هذا الكلي والذي فيه ال يوجد حد ،والذي فيه ال يوجد تنا ٍه ،والذي فيه ال توجد جزئية بذاته ،هو بألف الم التعريف المطلق
المكتفي بذاته ،هو الواحد بألف الم التعريف المكتفي بذاته األوحد ،وما يتواجد له جذره ،له بقاؤه في هذا الواحد األوحد"ّ ]11[.
إن فلسفة هيجل المطلقة تجعل من
إن هللا هو المركز المق ّدس الذي يمأل ك ّل األشياء بالحياة والروحّ .
إن الدين موضوعه† هو ذاته ،وهو هللا، الدين موضوع الوعي اإلنساني .فاهلل هو بداية وغاية الكلّ .
أن إله المسيحية هو مرآة اإلنسان ،وإسقاط اإلنسان خارج ما هو ذاته هو ض ّد إنّه العالقة بين الوعي اإلنساني وهللا (دروس† حول فلسفة الدين)ّ ،
لكن فيورباخ سيرى ّ
الحريّة .من هنا ابتعاد فيورباخ عن هيجل .وسيحاول فيورباخ البحث عن الدين األصلي ،بل عن البعد األصيل في الدين بعيداً عن التعالي به ض ّد اإلنسان .وهو ما
وهللا عن تصور أستاذه هيجل ،ذلك الفيلسوف الذي رفع الفلسفة إلى مستوى الالهوت ،حسب فيورباخ ،وأحكم تصوراته من خالل مفهوم الروح المطلق .سيقول
"إن الدين وحده هو المعرفة الحقة بشكل مطلق"[" ،]15كما ّ
أن هللا هو الكل ّي .هللا يكون من وجهة نظر التطور ما هو تام في ذاته ،ما هو وحدة مطلقة مع هيجلّ :
ذاته"[ .]16من هنا وعي فيورباخ بكون هذا التصور يظهر الهوتا ً جديداً ،وإلغاء لإلنسان وتكريسا ً عميقا ً لالغتراب الديني ،لم ِ
يع هيجل مصدره.
سيقول فيورباخ في "أطروحات مؤقتة بخصوص إصالح الفلسفة" ّ
إن الدين المسيحي يجمع اسم اإلنسان واسم هللا في اسم واحد هو :اإلنسان ـ اإلله (
)l’homme–dieuواإلنسان اإلله هو هللا حاضر في المسيح .من هنا محاولة فيورباخ كشف الجوهر األنثروبولوجي للدين من خالل تقييم الجوهر اإللهي
لإلنسان.
لقد أصبحت الصفات الجوهرية لإلنسان مثالً :المعرفة† واإلرادة والقدرة والحرية ،من صفات هللا .ومعلولها ليس إال قلبا ً لإلنسان لوجوده ،لصالح قوى مفارقة .هللا
علة ك ّل شيء ،وهو ال متنا ٍه ،وصفاته المؤنسنة هي فوق إنسانية وفوق طبيعية .من هنا حلل العالقة بين هللا واإلنسان .وحسب فيورباخ ّ
فإن النزعة التشبيهية (
)l’anthropomorphismeهي محاولة إعطاء هللا صفات على غرار صفات اإلنسان .والتنزيهية المطلقة ترفع هللا إلى مقام المطلق المختلف بإطالق عن
الطبيعة والعالم ،ولكنها تسقط كذلك في إلغاء استقاللية اإلنسان .هكذا يكون فيورباخ قد انتقد أغلب التصورات حول هللا ،سواء كانت تشبيهية أو تنزيهية ،ما دامت
قد ركزت على ثنائية :الجوهر/الصفات ،وعلى المطلق المتعالي ،ولم ت َر اإلنسان كائنا ً في ذاته ولذاته .من طبيعة الحال ّ
أن تاريخية ومادية فيورباخ واتجاهه الحسي
تح ّدد فهمه لما يس ّميه الفلسفة التأملية .وبالتالي إرادة تجاوز التعالي اإللهي ،والتعالي باإلنسان ،إلى اإلنسان المحايث لوجوده الواقعي ،أي لصفاته الفعلية والعملية.
ففي هذه الفلسفات الالهوتية ،اإلنسان أصبح خاضعا ً لما هو فوق اإلنسان المطلق للجوهر الالمتناهي ،وليس مرتبطا ً بذاته ،بواقعه ثم باآلخرين .وكلمة الجوهر
تختزل هذا النفي لإلنسان ،م ّما ألغى بعده األنثربولوجي .فالثيولوجيا إذن هي البعد الخفي لإلنثروبولوجيا وللفلسفة التأملية في آن واحد .وفلسفة المستقبل هي البحث
عن هذا المفقود في اإلنسان ،الذي أصبح سجين الوهم والخيال ،الذي تكرسه الثيولوجيا حسب فيورباخّ .
إن حقيقة الجوهر اإلنساني هي إعادة اكتشاف هذا المفقود
في جوهر هللا .وداللة الجوهر هنا عميقة ،أنطولوجيا ً وثيولوجياً ،فهي تد ّل على الثابت والمطلق والالمتناهي ،وهو أساس ك ّل شيء مقابل األعراض والمحموالت،
كأشكال وجود الجوهر بلغة سبينوزا .الذي قال ّ
إن هللا هو وحده الجوهر والعناصر األخرى تابعة له .وقد استعمل الجوهر في الفلسفة القديمة والسكوالئية التابعة
ألرسطو .ومن هنا مشكل العالقة بين هللا واإلنسان ،بين هللا كجوهر أول ومطلق وتحديداً هللا/المطلق .واإلنسان ليس جوهراً ،ولكنه نمط وشكل لوجود الجوهر
اإللهي ،وهو هللا .وهذا هو مدخل فيورباخ لنقد المسيحية ،وامتداداتها في الفلسفات الالهوتية .والصفة ( )attributال توجد إال كمعلول تابع لفاعل أساسي مستقل
قائم بذاته وفي ذاته ،حسب سبينوزا .فالجوهر هو مبدأ الكائن وهو هللا .والصفات يدركها الفهم كمحموالت للجوهر ،كما يرى هذا الفيلسوف .من هنا تركيز فيورباخ
البشرية) وأنثروبولوجية بمعنى األصل في الممارسة والتأويالت الدينية هو :أصل إنساني .هنا يميز فيورباخ بين الدين األصلي والدين المسيحي.
سيعود فيورباخ إلى نظام الطبيعة لكشف أصل الدين .وبالفعل كما تقول جاكلين الغريه :كان الدين الطبيعي أول األمر سهالً وبسيطاً ،وقد جعلته الخرافات غامضاً،
وجعلته القوانين مر ّكباً ،أو قد ت ّم شحنه شيئا ً فشيئا ً بالذبائح والمشاهد"]17[.
إن فيورباخ يحاول كشف األوهام التي علقت بالدين ،إلى حد جعلته دراميّاً ،ال يؤدي وظيفته الممكنة †.من هنا تصنيف جاكلين الغريهّ :
"إن إرادة تقديم تاريخ طبيعي ّ
للدين يعني أوالً رفض تاريخ ما هو فوق الطبيعي أو المق ّدس"[ .]18وبالنسبة لفيورباخ سيهتم أساسا ً بالوحي أو ما يُس ّمى بدين الطبيعة (جاكلين) .م ّما جعل مقاربته
فلسفية ـ أنثروبولوجية من زاوية تركيزها على مبدأ اإلنسان وتاريخه ،من زاوية ربط جذور اإلنسان والدين بمسار التاريخ البشري واتجاهه نحو المستقبل.
وإذا كان مذهب وحدة الوجود ( )panthéismeيقول بوحدة هللا والطبيعةّ ،
وأن الوجود اإللهي كامن في الطبيعة واإلنسان ،وهما من مظاهر هللا وجوهره ،ومن
ث ّمة ك ّل شيء هو هللا في إطار وحدة مثالية ،يحضر فيها هللا بقوة في الطبيعة أو يكون جوهراً مطلقا ً حقاً ،وهو الموجود بذاته مقابل األغراض أو األحوالّ ،
فإن هذا
المذهب ال يستقيم ونظرية فيورباخ حول عالقة هللا باإلنسان .فمن الصعب الجمع بين هللا والعالم أو بين هللا والطبيعة ،مادام† ذلك هو مشكل الالهوت .وذلك هو
مذهب سبينوزا ،وهيجل ث ّم المسيحية .ومعضلة ك ّل هذا هو االستناد إلى فكرة الجوهر ( )substanceالذي ألحق بالفلسفة وأثر على مقاربة قضايا الالهوت.
فسبينوزا عندما يرى هللا والطبيعة شيئا ً واحداً رسالة في الالهوت والسياسة فهو يجعل الطبيعة أو عالم االمتداد ( )l’entendueصفة مادية هلل ،ويق ّر بالتالزم
بين هللا والطبيعة (حضور هللا في الطبيعة) †،ورغم هذا الفتح الفلسفي الذي أنجزه سبينوزا فأزمة† فلسفته حسب (فيورباخ) تكمن في تداعياتها الثيولوجية على
اإلنسان .بل هي مساهمة الهوتية في تحييد اإلنسان من داخل الفلسفة والتاريخ معاً.
وإذا كان الجوهر حسب سبينوزا هو "ما هو في ذاته وما يتصور من ذاته ،أي ما هو على ذاته وال يحتاج ليكون إلى غيره الجوهر ،ال ينطبق إال على هللا ،إنّه هللا.
وصفاته هي ما يفهمه الذهن باعتباره ماهيّة الجوهر"[ ،]19من هنا فلسفة الجوهر هي أساس خفي للثيولوجيا كأنثروبولوجيا معكوسة.
"إن فلسفة المستقبل هي فلسفة الفعل الحر ،المرتبط باإلنسانية المستقلة ،ض ّد الفلسفة التأمليةّ .
إن الفلسفة الجديدة هي فلسفة اإلنسان ،من أجل اإلنسان .من هنا نقده ّ
إلهي.
كما ّ
أن مصادرة سبينوزا تعني بشكل بسيط المادة هي جوهر إلهي"[ .]20يكشف فيورباخ الخلفية الفلسفية للفلسفة الالهوتية ،أو العمق الالهوتي لفلسفات حول الدين
(مثالً فلسفة هيجل أو سبينوزا) فبقي اإلنسان غائبا ً داخلها .فالفلسفة الجديدة تراهن على كشف األنثروبولوجي ،داخل الثيولوجيا المتوارية في الفلسفات القديمة
أن هيجل م ّزق الوحدة أوجوهر الوحدة بين الطبيعة واإلنسان .فكانت فلسفته آخر مالذ ونقطة ارتكاز عقالني للثيولوجيا" ]21[.ففي
والتأملية .من هنا يرى فيورباخ ّ
فكره الفلسفي يكون جوهر اإلنسان موضوعا ً خارجه ]22[.وحسب سبينوزا ال ب ّد من قلب المعادلة ليصبح اإلنسان جوهر المعرفة †،وهو موضوع ذاته .وبالتالي
التحرّر من سلطة الثيولوجيا .وهذا هو رهان فلسفة المستقبل ،وشرطها اإلنساني هو اإلنسان مدخل ك ّل نقد .من هذه الزاوية يتابع فيورباخ نقده لهيكل ،من خالل
نقده للثيولوجيا الفلسفية .فجوهر الثيولوجيا هو الكائن اإلنساني المتعالي ،مموضعا ً خارجياً .وجوهر المنطق هو الفكر المتعالي ،وجوهر اإلنسان يقع خارج ذاته"[
.]23فالثيولوجيا تجعل اإلنسان تابعا ً لجوهرمطلق.
وال ننسى انتقاد فيورباخ لإلنسان الديني عامة ،باعتباره تعبيراً عن حالة الذوبان المطلق فيما هو ألوهي ،بعيداً عن األنسنة .ويح ّدد الفيلسوف والعالمة مارسيا إلياذ
مفهوم اإلنسان ( )l’homme religieuxقائالً:
"بالنسبة لإلنسان الديني ،الطبيعة ليست أبداً طبيعية ( :)naturelleإنما دائما ً مح ّملة بقيمة دينية ( .)valeur religieuseوهذا يفسّر نفسه ،مادام العالم
المغلق (الكوسموس) هو إبداع إلهي :خرج من يد اآللهة"[ .]24وحتى الزمان والمكان هما امتداد للمق ّدس واأللوهي .فأين هي مظاهر األنسنة؟
لقد جسّد فيورباخ الالهوت السلبي ،دون السقوط في نظرة عديمة من الدين ،أو إعالن موت هللا .ولكن حاول كشف تناقضات الفكر الديني المسيحي .وقد س ّمى
البعض فلسفته في الدين إلحادية مقنعة .لكن ما يه ّم هو نزعته اإلنسانية المرتبطة بفلسفة اإلنسان الواقعي ،البعيد عن مفهوم الجوهر المتعاليّ .
إن الوعي والمعرفة†
باهلل هي العمق كشفا ً لما هو أنثروبولوجي في الوجود اإلنساني .وقد انتقد فيورباخ الفلسفة الالهوتية (ومنها فلسفة هيجل( ،ألنها حطّت من شأن الطبيعة †،ور ّكبت
بشكل هجين بين معطيات فلسفية والدين ،من دون النفاذ إلى جوهر اإلنسان .من هنا محاولة فيورباخ إرجاع اإلنسان إلى المحايث والمحسوس ،وتلك هي مغامرة
الجذرية والعميقة لج ّل إسهامات هذا الفيلسوف في فلسفة الدين .وهي معادلة إجرائية ،قابلة ألن تكون آلية فحص وتفكيك لتاريخ األديان والتصورات الدينية .ينتقد
فيورباخ فلسفة هيجل الذي حاول الفصل بين اإلنسان وتاريخه ،وبالتالي أحدثت شقاقا ً بين اإلنسان وعالمه الواقعي .لقد قارب هيجل اإلنسان ،حسب فيورباخ ،من
إن هيجل هو فيلسوف حسب هذا المنظور †،الهوتي في ثوب متفلسف حول الدين .وظّف الفلسفة لبناء الالهوت ،وأعطى االعتبار هلل
دون تناول العالم المحسوسّ .
كفكرة مطلقة في نسقه الديني ،وأرجع الالمتناهي اإللهي والديني وعالم األفكار المطلقة ،على حساب واقعية اإلنسانّ .
إن "اإلنسان خلق هللا في صورته" عكس ما
.)l’au-delàوخصائص اإلله هي خصائص اإلنسان ،مثالً :الحياة والحكمة والعدالة .والنوع اإلنساني من دونها †،ال قيمة لما هو أنثروبولوجي في اإلنسان.
فاإلنسان هو الصورة اإللهية لإلنسان .وفلسفة الدين أهميتها تكمن في كشف هذا البعد األنثروبولوجي لإلنسانّ ،
إن الدين هو حلم الفكر اإلنساني؛ وبالتالي يجب نقله
من الخيال إلى الواقع ،فالكائن اإللهي ،باعتباره متميزاً عن جوهر الطبيعة واإلنسانية (ماهيّة اإلنسان عامة( †،يفترض فهم أبعاده الخاصة ،التي تدرك خارج ماهيّة
اإلنسانّ .
إن الدين له قاعدة أساسية هي االختالف الجوهري الذي يوجد بين اإلنسان والحيوان :فالحيوانات ليس لها دين"[ ،]25من هنا أهمية فهم طبيعة العالقة
التي نسجها اإلنسان مع الدين ،منذ انفصاله عن الطبيعةّ .
إن اإلنسان هو بداية الدين وبالتالي فمركز† الدين هو اإلنسان ،وهو غاية الدين[.]26
هكذا تداخل الوحي مع اإلنسان ،فاإلنسان يتحدد بواسطة اإلنسان ،باعتباره أساس التجديد بواسطة هللا .فالوحي ليس إال فعالً منتجا ً بواسطة اإلنسان حول اإلنسان.
وبالتالي جعل من هللا حداً أوسط ( )médiateurبين نفسه وطبيعته الخاصة .فاهلل هو عملية شخصية للرابطة الموجودة بين النوع والفرد ،بين الطبيعة اإلنسانية
والوعي اإلنساني"[( ]27ميالد االغتراب(.
ّ
إن هاته الثيولوجيا العجيبة ليست إال أنثروبولوجيا"[ ]28في البدء .لقد حاول فيورباخ نقد الفلسفة التأملية في أعمق بُعد ،هو محاولتها االتفاق واالنسجام مع
الالهوت والدين .وبالتالي نقده المباشر للفلسفة الهيجلية في أصولها ومنطقها ،مدافعا ً عن اإلنسان الواقعي ،الكامل والملموس ض ّد التوافق بين الفلسفة والدين ،على
أساس التصورات فوق الطبيعية وفوق اإلنسانية .ويرى فيورباخ ّ
أن فلسفته تتكلم فيما يخص الوجود .والحديث خاصة بلغة إنسانية وليس لغة من دون اسم أو واقع.
وك ّل هذا من أجل فلسفة حقيقية .إنها فلسفة ال تتخذ من مبدأ ،سواء كان جوهر سبينوزا ،أو أنا كانط ،أو مطلق هوية شلينغ ،أو الروح المطلق لهيجل ،وبكلمة واحدة
ي كائن فكري أو متخيل ،ولكن الكائن الواقعي (]29[".)un être réel
أ ّ
إن المشروع ليس نقد الدين فقط ،بل كذلك عالم الفلسفة التأملية ،وعالقتها بالدين واإلنسان وهللا أساساً .من هنا تتخذ عالقة الفلسفة بالدين قوة نظرية داخل مشروع
ّ
اإلنسان/اإلله وليس أنا الذي أقول ذلك ،بل فقط كشفت أعجوبة المسيحية ،من أجل تحريرها من الكذب والتناقضات واإليمان الزائف الذي حاولت الثيولوجيا
إخفاءه"[.]30
الشهيرة اإليمان/والفضيلة (األخالقية( ،التي يحاول فيورباخ نقد الفهم المسيحي لها ،لصالح اإلنسان.
يرى فيورباخ ّ
أن اإلنسان يوجد من أجل أن يعرف وأن يريد ،ولكن ما غاية العقل ،غير الحب واإلرادة والحرية؟ إننا نعرف من أجل المعرفة †،ونحب من أجل
المحبة ،ونريد من أجل اإلرادة ،أي أن نكون أحراراً .فليس هناك كائن حقيقي ،إال الكائن المفكر المحب والمريد .ليس هناك حقيقي ،كامل ،إلهي ( )le divinإال
ما يوجد في ذاته ولذاته .ولكن أيضا ً هو الحب والعقل واإلرادة"[ ]31فما معنى األخالق خارج الوجود اإلنساني والجماعة اإلنسانية؟ لقد رفض فيورباخ تنميط
الدين المسيحي لألخالق ،وإحالة القيم اإلنسانية األساسية لما هو إلهي أو فوق إنساني ،كما انتقد جعل المسيحية اإليمان أساس القيم األخالقية العملية .من هنا صعوبة
وتحت عنوان "التناقض بين اإليمان والحب" يقول فيورباخ" :الحبّ يكشف لنا عن الجوهر الحميمي ،اإليمان يكشف الظاهر ،الحب بما هو بين هللا واإلنسان،
ويوجد بين الناس .واإليمان يفصل اإلنسان عن هللا ،والناس فيما بينهمّ ،
ألن هللا ليس إال الفكرة الغامضة حول النوع ،حول اإلنسانية لفصلها عن اإلنسان.
هنا تدخل ضرورة فصل اإلنسان عن أشباهه ،في تدمير الرابطة االجتماعية ( )lien socialبالنسبة لإليمان ،فالدين يكون في تناقض مع العقل ،مع األخالقية (
،)moralitéمع المعنى الحقيقي لإلنسان ]32[.من هنا ينتقد فيورباخ دوغمائية الكنيسة ]33[ ،ألنها د ّمرت األخالقية األصلية المسيحية من جهة ،وأخالقيات
اإلنسان العاقل والطبيعي ،ويرفض ك ّل تمييز بين اإلنسان والمؤمن† من جهة أخرى .وبشكل حاسم يقول فيورباخ :بقدر ما يكون هللا فوق اإلنسان بقدر ما تكون
الواجبات تجاه هللا فوق الواجبات تجاه اإلنسان ،وهذه الواجبات تدخل ضرورة في صراع فيما بينها"[ ]34م ّما يولد تناقضات في الوعي األخالقي الديني .وبشكل
حاسم يرى أنّه إذا كان اإليمان يجعل اإلنسان سعيداً فيقينا ً لن يجعله أخالقياً ]35[.هنا التناقض بين اإليمان الديني واألخالق حسب فيورباخ ،فاإليمان ليس له قيمة
يخلط الفكر المسيحي بين فكرة الفضيلة (( vertuوفكرة التضحية ( )sacrificeفي شكل تعويضّ .
إن هللا ضحّى من أجل اإلنسان ،واآلن يجب على اإلنسان أن
يضحي من أجل هللا ]38[.ويراجع فيورباخ قيم اإلنسان األساسية ،مثالً المحبة والصداقة والتضحية والفضيلة ،منتقداً أوغسطين ،وحتى الفلسفة اليونانية في شخص
إن الدين المسيحي حطّم نواة األخالق في الصميم لنزعه البعد اإلنساني الواقعي منها .من هنا تركيز
أرسطو ،وفهمه أو تصوره للعالقة بين العبد والسيدّ ]39[.
فيورباخ على المحبة أو الحب ،وكما يقول :في الحب وفي العقل تختفي الحاجة لشخص وسيط ))personneintermédiaireوالجماعة اإلنسانية ،ليست
فكرة خالصة ،إنها ال توجد إال في اإلحساس ،في طاقة الحب"[.]40
إن الدين ليس له وعي بالنزعة اإلنسانية الموجودة فيه ،إنه ينفي أن يكون إنسانياً .من هنا ضرورة عصر جديد ،يفتتح فيه الفكر اإلنساني الجديد ،فيه يكون الوعي
ّ
ّ
بأن هللا أو الوعي باهلل ،ليس إال وعي الكائن النوعي ،وهو اإلنسان .وبالتالي تكون العالقة مع الدين ليست عالقة نفي بل نقد ،أ ّ
ي فصل للحقيقي عن الخاطئ[.]41
المسيحية ،القوانين األخالقية تفهم باعتبارها وصايا هللا ]43[.لقد ت ّم نفي المصدر الواقعي واإلنساني األخالقي ،وتأويل األخالق باسم هللا.
"إن األخالق هي قوة إلهيةّ ،
ألن الحب الديني ال يحب اإلنسان إال من أجل هللا ،أي يحب اإلنسان في المظاهر وهللا في الحقيقة ]44[.والتضحية اإلنسانية تأتي من ّ
جوهر الدين عامة .والتضحيات الدامية هي ظواهر تعطيها الطابع الدراميّ ]45[.
إن اإلنسان هو أساس األخالق.
يرى فيورباخ في محاولته ضبط االختالف بين الدين واألخالق أنه :إذا كان هللا غير موجود ،وليس هناك اختالف بين الخير والشر ،بين النزوة والفضيلة ،فهذا
االختالف إذن يتأسس كليّة على الوجود اإللهي ،والفضيلة ليست شيئا ً من خالل ذاتها ،وليس لها حقيقة إال داخل كائن خارجي (ّ .)être extérieure
إن وجود
الفضيلة هو إذن مرتبط بوجود هللا ]46[.في لحظة يجعل فيورباخ من علم األخالق الفضائل اإلنسانية على أساس الفعل والتمثل الحقيقي ال الوهمي ،وممارسة†
اإلنسان وجوده وفق سلوكه العقالني ،ونوازعه الذاتية .فالفضيلة هي مشروع أخالقي عملي يتحدد بالعقل واإلرادة داخل المجتمع.
سيفصل فيورباخ ،إذن ،بين الدين ومبحث األخالق ،كقيم مالزمة† لإلنسان وبعده األنثروبولوجي ،لكنها وفق تصوره ت ّم إسباغها وإحالتها إلى هللا وصفاته .من هنا
ضرورة إعادة األخالق إلى بعدها األنثروبولوجي لتصبح الفضيلة إنسانية ،ويكون األنثروبولوجي هو معيار تحديد الخير والشر والفصل والتمييز بينهما.
ّ
إن أزمة األخالق عند فيورباخ هي أزمة أنثروبولوجية ،بمعنى أزمة إحالتها إلى أنثروبولوجية معكوسة هي الالهوت .وهذا الالهوت ينزع عن اإلنسان إنسانيته
بالكامل †،ففي الدين اإلنسان يبحث عن إشباع رغباته ،والدين هو خيره األسمى[( ]47عالقة الرغبة بالدين( ،واإلنسان الديني ينفصل عن الواقعّ ،
ألن هللا ذاته هو
كائن في الخارج وفوق العالم .وهللا ككائن متميز عن الطبيعة ليس شيئا ً أخر إال الوجود ذاته لإلنسان سحب من ذاته ،ويعيش فوق الجميع ]48[.واإلنسان في الدين
إن اإليمان بالوحي ،ال يضر فقط بالمعنى ،أو الذوق األخالقي ( )le gout moralوجمالية الفضيلة ،ولكنّه يس ّمم
يدافع عن وجوده في الكائن اإللهيّ ]49[.
ويقتل المعنى األكثر ألوهية في اإلنسان ،أي معنى الحقيقة ،والشعور بالحب والحقيقي[.]50
إن فكرة هللا هي المبدأ األسمى ،النقطة المركزية للسفسطة المسيحية .هللا هو الكائن اإلنساني بامتياز ،ولكن أصبح مختلفا ً عن اإلنسان وفوقه .إنّه الكائن الخالص
ّ
الكوني ،فكرة التمييز نفسه ،ولكن يجب أن يكون شخصا ً وفرداً]51[†.فاألنثروبولوجيا متضمنة في الثيولوجيا ،والفكرة الدينية فيها تناقض .فاهلل ال يوجد إذن إال من
أجل اإلنسان وباإلنسان .من هنا تولد النزعات التشبيهية ( )les anthropomorphismesالتي هي تشابهات بين هللا واإلنسان ،فصفاتها ليست واحدة،
ْ
ولكن هناك تشابه متبادل[ .]52بالنسبة لإلنسان الديني ( )l’homme religieuxعلى العكس ،هو إنسان يمثل صورة هللا[ ]53وبالتالي هناك استقاللية هلل
وتبعية لإلنسان .وكالهما† يشكالن كائنا ً مشتركاً .واإليمان بالوحي يكشف الطريقة الخاصة المرتبطة بوهم الوعي الديني (l’illusion de la conscience
.)religieuseواإلنسان هنا ال ينفي إال ذاته[ .]54من هنا مفهوم االغتراب.
تناول لماهية الدين أو المسيحية هو إبراز لجوهر اإلنسان ،وسقوطه في االغتراب الديني .سيعلن فيورباخ بقوة ّ
أن اإلنسان هو الفاعل األساسي في الوجود †،بل هو
الذي خلق هللا .والنتيجة هي إصباغ ك ّل القيم اإلنسانية عليه .فجوهر اإلنسان أصبح من جوهر هللا ،وبالتالي ت ّم تعيين اإلنسان لذاته في عمق جوهر هللا .وهذا هو
عمق االغتراب الذي يعانيه اإلنسان .وبالتالي يجسّد هللا انعكاسا ً مرآويا ً للكينونة اإلنسانية في الصفات والتمثالتّ .
إن االغتراب الديني هو اغتراب اإلنسان عن ذاته.
وهي قضية جذرية ستجعل فيورباخ يميل إلى مركزية† إنسانية ،تراهن على استقاللية اإلنسان عن الماوراء †،ولقد كان االستالب عند أستاذه هيجل يعني اغتراب
الوعي عن ذاته ،وإغراقه في الموضوع †،وفقدانه إطالقيته .لقد ألغى المطلق اإلنسان وك ّل خصائصه الجوهرية †،وبالنسبة لفيورباخ :اإلنسان فقد وجوده واستقالليته
يتساءل فيورباخ :هل الحقيقة اإلنسانية لها أهميّة أكبر من الحقيقة اإللهية؟ أم ّ
أن حرية اإلنسان ت ّم القطع معها في الخطاب حول هللا؟[ ]55ويحاول الفيلسوف كشف
حقيقة اإلنسان كحرية ملغاة داخل الخطاب المسيحي .في لحظة ال ب ّد من إبراز منطق العالقة بين هللا واإلنسان .يرى فيورباخ :ليس هناك إذن بين الوحي اإللهي
وعقل اإلنسان سوى اختالف وهم ّي .فمضمون األول وعقله ذو أصل إنساني ]56[.فاإلنسان يعيش لذاته بعيداً عن فوق/اإلنساني ،أو فوق/الطبيعيّ .
إن اإلنسان
بواسطة الخيال يتوجه ال إراديا ً إلى إله ،أي إلى الكائن الحميمي الذي يجيبه من خارج ،هذا الكائن المتموضع والمشخص في ذاته (أي اإلنسان) بواسطة قوة الخيال،
كقانون ألفكاره وأفعاله ،هذا الكائن هو هللا[ .]57يرى الفيلسوف الكبير سيشرون cecronالدين هو اهتمام بطبيعة ما هو أسمى من اإلنسان ،قوى تسمى إلهيّة،
وقد يق ّدم عبادة لهاّ ]58[.
إن حقيقة اإلنسان هي نتاج إلخضاعه لقوى خارجية تقلص محدوديته †،وتلك هي النتيجة المحتومة للدين المسيحي.
إن الوحي ليس إال فعالً أنتج من طرف اإلنسان حول اإلنسان .فقط أصبح المح ّدد الفعلي لإلنسان هو كائن أخر ،هو إله .هكذا جعل اإلنسان من هللا وسيطا ً بينه وبين
ّ
ذاته ،وطبيعته الخاصة .فاهلل عمليا ً هو شخصنة الرابط الموجود بين النوع والفرد ،وبين الطبيعة اإلنسانية[ .]59وذلك هو جوهر االغتراب الديني الذي يؤزم
فيما بعد "اعتماد اغتراب اإلنسان معتمداً على اإلله فحسب اعتماداً ذليالً ،بل يجعله شريراً أيضاً ،إذ يصبح إنسانا ً بال ثقة في إخوته البشر وفي نفسه ،بال تجربة
كحبّه الخاص ،وقوة عقله الخاصة ،...ونتيجة لهذا يحدث االنفصال بين "المق ّدس" و"الدنيوي" ،ويتصرف اإلنسان في مناشطه الدنيوية بال حب" ]60[.وسيواصل
التحليل الماركسي تطوير فلسفة فيورباخ حول االغتراب من منظور نقدي واقتصادي .من هنا التساؤالت الخاصة باالغتراب والهيمنة واألزمة االجتماعية ،هي
عناصر وتساؤالت أساسية في التحليل الماركسي .إنّه االغتراب بجانب مسألة التشوهات واالنحرافات المختلفة ،التي تتدخل في رؤية العالم االجتماعي الذي يشكله
الفاعلون ]61[.مقال( :مالئمة وحدود التحليل الماركسي للدين(.
ّ
إن جذور االغتراب عند فيورباخ دينية ،وهو ما يس ّميه االغتراب الديني عند اإلنسان ،كنتاج حتمي لتبعية األنثروبولوجي لإللهي ،أوذوبان اإلنسان أو النوع
اإلنساني في الوجود اإللهي .وهذا االغتراب يعبّر عن فقدان اإلنسان صفاته األصلية ،وبالتالي حريته .إنّه الدليل على انفصام الذات اإلنسانية .لقد كان ماركس،
وريث فيورباخ ،يؤكد ّ
أن الدين كحالة اغتراب ،تعتم وتحجب إدراك وفهم العالم االجتماعي الديني كعامل إلضفاء الشرعية على الهيمنة الدينية ،والذي يتخلله
ويتقاطع معه صراع الطبقات]62[.
ّ
إن االغتراب الديني هو تعبير عن صورة معكوسة† لإلنسان الذي فقد فعاليته ،وأصبح يرى ذاته في الوجود األسمى ،المفارق أو فوق الطبيعي واإلنساني .يقول
أن العودة إلى الدين هي اإلجابة ،ال بوصفها فعالً من أفعال اإليمان ،بل الهرب من شك ال سبيل إلى احتماله[ .]63من هنا نفهم توجّه
فروم :يعتقد بعض الناس ّ
فيورباخ إلى إعادة الديني إلى اإلنسان ،حيث معنى التيولوجي هو مضمون األنثروبولوجيا ،في إطار التوافق بين صفات هللا وصفات اإلنسا"]64[.
وإذا كانت النزعة التشبيهية ( )anthropomorphismeتعكس إعطاء خصائص إنسانية هلل ،أو إحالة القيم اإلنسانية للكائنات اإللهيةّ ،
فإن هذه األخيرة
تتمظهر من خالل الخصائص اإلنسانية .وجوهر ذلك المماثلة بين هللا واإلنسان .من هنا حمل هللا عواطف اإلنسان وقيمه وأفعاله ،والقضية هي "اإلنسان خلق هللا
في صورته" ،فما هي تداعيات ذلك على عالقة الالهوتي باألنثروبولوجي؟ ينبغي أاّل ننسى نقد فيورباخ مذهب وحدة الوجود لدى سبينوزا ،وهو مذهب (
)panthéismeيرى ّ
أن ك ّل ما هو موجود يتماهى مع هللا ،فاهلل يتمظهر في ك ّل الوجود والطبيعة أو العالم .ومن هنا ،ما موقع اإلنسان في هذه الثيولوجيا
المقنعة من وراء الفلسفة ،إن لم يكن االغتراب أو الغياب؟ ّ
إن التشبيهية عندما تعطي صفات اإلنسان هلل تلغي كينونة اإلنسان واستقالليته.
فاإلنسان إذن يجب أن يؤسس حقيقته من خالل الوعي النقدي والتاريخي ،بماهيته األصلية في ذاته وعالمه† الواقعي ،وبالتالي القطع مع أصل االغتراب ،وهو الوهم
الديني .لقد أصبح الدين سببا ً في إعاقة حريّة اإلنسان وإمكاناته في إدراك قيمه األساسية ،مثل :اإلرادة والعقل والمحبّة والعدالة والمعرفة†.
لقد ع ّمق فيورباخ مفهوم االغتراب ،لينقله من عالم الفكر إلى الممارسة العملية ،وبالتالي كان أساس نقده للفلسفة والدين معاً ،في عالقة باهلل واإلنسان معاً .وأزمة
الممارسة† الدينية تترجم بالفعل هذا االغتراب .إنّها أزمة الممارسة التأملية لفلسفة الهوتية ،لم تق ّدم جوابا ً فعليا ً عن اإلنسان الواقعي/العقالني ،وبالتالي عن أسباب
ومصدر االغتراب الذي يؤدي فعالً إلى فقدان الحريّة .في هذا اإلطار يكمن إدراك فيورباخ ضرورة إرجاع االغتراب لما هو الهوتي ،وضمان التحرر داخل ما
هو إنسانيّ .
إن الدين (كحصيلة للوهم والعجز والخوف ،والعالقة األولية والطفولية مع الطبيعة) ال ينفصل عن كيفية تحويل اإلنسان لذاته إلى عالم من التمثالت،
إن االغتراب عند هيجل هو اغتراب الوعي والفكر في الموضوع †.والفكر قبل أن يغترب كان مطلقاً ،وعليه أن يم ّر بمرحلة النفي négationإلى اإلثبات.
ّ
ويصبح اإلنسان إذن غريبا ً عن ذاته ،فاقداً إلرادته ،ليس له هويّة ،بل يعيش وضعيته الالهوتية .وينقسم بين عالم المحسوس وذاته من دون حريّة .وهذا ما يرفضه
فيورباخ ،خصوصا ً عندما يربط ذلك بالدين .فاإلنسان يسقط خصائصه على هللا ،فينزع من النوع اإلنساني ماهيته ،وبالتالي يحيل القيم األساسية مثل الحب واإلرادة
والعدالة إلى هللا .وبهذا المعنى خلق اإلنسان هللا على صورته †،وليس العكس .فاإلنسان اغتراب في فكرة هللا ،ويغادر عقله وإرادته لصالح اآللهة وخصائصها .وفي
العمق ما يعلنه هللا عن اإلنسان ،بل عن هللا ،يحيل إلى الطبيعة اإلنسانية المستلبة .فاالغتراب إذن ليس لحظة نفي ألجل إثبات ،حسب الجدل الهيجلي ،أي نفي
إلثبات ،بل هي إنهاء لفعالية اإلنسان وإرادته .ليصبح فعل اإلنسان محدداً من خارج .وذلك هو نفي الحرية ،وعنوانه :االغتراب الديني ،أي اغتراب اإلنسان عن
ذاته ،وتعين ماهيته في كائن هو هللا ،كموضوع† لإلنسان الذي يتموضع خارجهّ .
إن الذات تفتقد ذاتها لتتحول إلى تابع لما هو فوق طبيعي وفوق إنساني .لقد أصبح
جوهر هللا (عند هيجل وسبينوزا وكذلك المسيحية) أساس تبعية اإلنسان للمفارق والمتعالي .وك ّل الصفات اإلنسانية ما هي إال أعراض أو محموالت للجوهر
منذ عالقته األولى بالطبيعة .وكان هذا اإلنسان تابعا ً للطبيعة ،وهذه التبعية هي أساس ميالد الدين (إضافة إلى العجز(ّ .
إن تبعية اإلنسان للطبيعة هي أساس ميالد
فكرة هللا .وازدواجية هللا/الطبيعة حاضرة بقوة في اإلنسان األول ،واإلنسان الحالي المغترب .وف ّ
ك االرتباط بين اإلنسان واإلنسان ،يكمن في إرجاع اإلنسان إلى
الطبيعة (األصل( ،وتمثله لذاته خارج مركزية† هللا ،ث ّم التوجه نحو المستقبل .لقد عاد الكثير من الفالسفة إلى الطبيعة ،لتناول داللة الدين وجذوره ،أو للدفاع عن
لكن تصور فيورباخ يبقى رهينا ً بمدى محاولته تحرير اإلنسان من تبعيته للمفارق.
أطروحة الدين الطبيعيّ .
يقول فيورباخ :اإلنسان ال يمكن أن يقوم بشكل فعّال خارج الطبيعة أو من دونها .والطبيعة ال تمتلك شيئا ً روحيا ً من دون اإلنسان .اإلنسان هو الطبيعة .وكالهما (هللا
إن اإلنسان البدائي حسب فيورباخ مصدره الطبيعة ،وكان إنسانا ً طبيعيا ً بسيطاً ،ولكنه ليس هو اإلنسان التاريخي .فاإلنسان هو
والطبيعة) في حاجة لألخر[ّ .]65
نتاج اإلنسان ،للثقافة والتاريخ .هكذا تحوّل المق ّدس إلى الكائن المحايث لذاتهّ .
إن فلسفة الدين عند فيورباخ تقوم على تحرير الدين من سلطة التأويالت السائدة ،من
أجل أنسنة الدين وإعادته إلى أصوله اإلنسانية .وهو ما يهم ربط الدين باإلنسان المحايث ال المتعالي .من هنا التالزم عنده بين الدين اإلنساني والدين الطبيعي ،خدمة
لخيار حرية االعتقاد ،وليس اإللحاد .لقد وضع فيورباخ يده على جرح الهوتي ،يعانيه اإلنسان (كما يقول) ،مهّد من خالله لمقاربة أعتى اإلشكاالت التي تؤرق
حتى ممارسة السياسة والسلطة في عالقة بالدين ،وهي :مفارقة اإلنساني/الالهوتي .في هذا اإلطار وجه الفلسفة ،نحو موضوع أساسي هو عالقة الفلسفة بالدين،
كموضوع مركزي† لك ّل فلسفة دين ممكنة .لم يد ُ
ع فيورباخ إلى اإللحاد أو الالدينية ،بل دافع عن مشروع فلسفة الدين ،وعن اإلله الطبيعي والدين اإلنساني ،أي الدين
الذي يصالح اإلنسان مع ذاته .كما أنّه آمن بإنسان يقرأ الدين بحرية ،وبمعيار األنسنة المطلقة.
إن الدين هو حلقة أساسية في حياة اإلنسان وماهيته ،ولكن ال ب ّد من مقاربته تاريخيا ً وأنثروبولوجيا ً من أجل كشف طبيعة الخطاب الثيولوجي ،واستعادة اإلنسان من
ّ
إن الدين اإلنساني هو روح الطبيعة األصلية لإلنسان .والعودة بالدين إلى الطبيعي تمثل كشفا ً لجوهر اإلنسان الطبيعي ،ال المغترب والمستلب وسط
عالم االغترابّ .
وبلغة فيورباخ المباشرة :لقد أعطى اإلنسان صورته هلل ،م ّما أنتج إنسانا ً متعاليا ً وفصامياً .من هنا هاجس تحويل الدين إلى نزعة إنسانية ،حتى ال يبقى الدين هو
اإلحساس بالعجز ،أو مرتبطا ً بالشر والخوف ،بدل السعادة والحرية والخلود .وألجل منظور إيجابي ألخالقيات الدين .من هنا أصبحت الثنائية األساسية عند
فيورباخ هي :اإلنسان/الطبيعة وليس اإلنسان/هللا .وك ّل هذا من أجل أخالق الحب والعطاء ،ض ّد ك ّل اغتراب في هللا أو تجسّد الدين في المسيح (اإلنسان/اإلله).
خاتمة
لقد تبين م ّما سبق ،التقاطع بين ما هو فلسفي وما هو منهجي ،بخصوص مقاربة الدين ضمن مشروع فكري نقدي ،حول مركزية† الدين كقضية فلسفية في فكر
فيورباخّ .
إن مقاربة هذا الفيلسوف النوعيّة للديني أعطت قيمة كبرى لما هو أنثروبولوجي ،في إطار نزعة إنسانية جديدة .وقد حاول فيورباخ أن ينظر إليها من
خالل فلسفة المستقبل .ولعل المتتبع لمسار نظرية فيورباخ حول الدين ،يالحظ الجمع بين التحليل والنقد والتصور التاريخي ،والتأويل العميق للنصوص والرموز
الدينية ،دون نسيان ربطه الديني وبعض التصورات في الفلسفة الالهوتية أو التأملية ،بالسياسة واالجتماع .من الواضح ،إذنّ ،
أن الدين أصبح عند فيورباخ قضية
أنثروبولوجية ،من خاللها نفذ إلى أعمق قضية راهنة وهي :العالقة بين الدين واالغتراب ،بين الدين والحرية واإلرادة ،بين الدين والعالقات اإلنسانيةّ .
لكن تحوالت
في الفكر العلمي والفلسفي تحتم تطوير المقاربة الفلسفية للدين ،على خالف ما كان في السابق .فقد حصلت ثورة منهجية ومعرفية† في الفلسفة المعاصرة وعلومها†،
إضافة إلى القفزة النوعية اإلبستمولوجية للعلوم اإلنسانية وإنجازاتها ،فيما يخصّ المسألة الدينية .دون نسيان أزمة النزعة المادية والوضعانية ،فيما يتعلق بالدين
ونظامه المعقد.
ّ
إن عودة الدين اآلن ،فرضت تحديات كبيرة على الفلسفة والعلوم ،وبالتالي ضرورة تطوير مبحث فلسفة الدين ،بما يتالءم ومستجدات العصر .وبقدر ما عكس
فيورباخ وبروح إبداعية عصره وثورة الفلسفة األلمانية ،وتراكمات عصر اإلصالح الديني والتنوير الفلسفي ،يكون من الضروري إعادة قراءة خطابه وخطاب
ورثته حول الدين (ماركس †،فرويد ،نيتشه ،فروم ،أنفراي ،فيري) ،وفق لغة ومنطق جديدين .وال ننسى الشروط التاريخية المؤطرة لسؤال الدين ،اآلن ،كتعقد
النظام االقتصادي الرأسمالي ،وطفرة التقنية ،وتصاعد األصوليات ،والهويّات الدينية المتطرفة ،ك ّل هذا يقتضي قراءة نوعية لخطاب فيورباخ (كنموذج) حول
الدين .وبالنسبة إلينا نحن العرب والمسلمين لم يحضر فيورباخ بالشكل المطلوب داخل الخطاب العربي واإلسالمي ،ليست فقط للممانعة† العقائدية ض ّد فلسفة
الحداثة ،وخصوصا ً عالقتها بالدين ،بل للتبعية اإليديولوجية للخطاب الماركسي (إ ّما مع أو ضد ،أو فهمه بشكل مشوّه ومبتور) ،دون التنبه إلى مستجدات فلسفة
فيورباخ ،فيما يخصّ العالقة بين الثيولوجي واألنثروبولوجي في اإلسالم وتجربته المعرفية† والتاريخية.
أن الفكر الفلسفي الغربي المعاصر أعاد تقييم تجربة المق ّدس .فرغم الخروج عن الدين (بلغة مارسيل كوشيه) ليس هناك قطع مع المق ّدس .وفي
لكن من الواضحّ ،
أن الكثير من الفلسفات الحداثية السياسية ،رغم أنّها أسست للعقالنية والعلمنة ،إال أنها اعتبرت الدين ضرورة
هذا السياق تطرح مسألة المعنى ( ،)le sensكما ّ
اجتماعية ومدنية أو ضمان االستقرار وصمام أمان (روسو ،ميكيافلي ،هوبز .(...فالدين أصبح في مجتمعات الحداثة أساس الدولة المدنية (رمزياً) ،حسب تعبير
هوبز .وحتى بعض الفوضويين الماركسيين كان يقول :إذا كان هللا غير موجود فيجب اختراعه من أجل ضبط المجتمع .من هنا يمكن تقديم قراءة جديدة راهنية
لمتن فيورباخ الفلسفي ،وبالتالي تدعيم مشروعه† األنثروبولوجي الفلسفي ،بمستجدات األنثروبولوجية السياسية والدينية في هذا المجال .وال ننسى ّ
أن خطاب
فيورباخ لم يكن قطيعة مع علوم عصره ،بقدر ما كان تعبيراً عن نوع من التيولوجيا ( )théosophieتجاه المسألة الدينية .والسؤال هو :كيف السبيل لعقلية
عالقتنا بالنص الديني اإلسالمي ،وكشف جوهره بخصوص التباس العالقة بين الالهوتي واألنثروبولوجي؟ والقضية األساسية في هذا السياق هي :إشكالية السلطة
وكيفية الفصل داخلها ،وداخل تاريخ اإلسالم بين اإلنساني واإللهي ،بين الديني والدنيوي ،بين المطلق والنسبي ،بين المتعالي والتاريخي المحايث .وبالتالي طرح
إشكال العلمنة ،خدمة لحرية االعتقاد ،والدين اإلنساني ،وقيمه الكونية ،بعيداً عن االستبداد أو عبادة األشخاص باسم القداسة .لقد كان نيتشه يقول (وهو ناقد
لفيورباخ) :كان أقوى رجال الدين ،ينحنون دوما ً أمام القديس ،كما ينحنون أمام لغز ما ،لغز االنتصار التام على الذات ،لغز حرمان النفس األخير(.فريدريك نيتشه:
ما وراء الخير والشر ،ترجمة حسان بورقية ،إفريقيا الشرق .المغرب .ط .2006ص.)62
باللغة الفرنسية:
Ludwig FEUERBACH: essence du christianisme (introduction de l’allemand par Josh roy.librairie -
:باللغة العربية
† مكتبة دار الكلمة القاهرة، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، فلسفة الدين3 ج، محاضرات في فلسفة الدين: فريدريك هيجل-
2009 سنة1 ط، المنظمة العربية للترجمة، كتاب األخالق ترجمة جالل الدين سعيد: سبينوزا-
1993 بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ترجمة منصور الصافي، الدين الطبيعي: جاكلين الغريه-
1998 سنة1 ترجمة فؤاد كامل ط، مكتبة غريب، الدين والتحليل النفسي: إيريك فروم-
2005 سنة1 ط، مصر، المجلس األعلى للثقافة، ترجمة درويش الحلوحي، سوسيولوجيا الدين: جان بول ويليام، دانييل هيرفيه ليجيه-
2006 † ط، المغرب، إفريقيا الشرق، ترجمة حسان بورقية، ماوراء† الخير والشر: فريدريك نيتشه-
.Ludwig Feuerbach: essence du christianisme. traduction de l’allemand par Joseph roy. Paris 1864 -]1[
.Ludwig Feuerbach: essence du christianisme. traduction de l’allemand par Joseph roy. Paris 1864 -]2[
Philippe stabat: l’anthropologie comme philosophie. l’homme de la religion et la religion du l’homme selon Ludwig -]3[