Professional Documents
Culture Documents
( )1انظر:المسعودى – التنبيه واإلشراف صـ ،101ط :القاهرة 1001هـ1301 /م ،والقاضى صاعد األندلسى –
طبقات األمم – تحقيق لويس شيخو اليسوعى صـ ،10المطبعة الكاثوليكية – بيروت1311م ،وابن أبى أصيبعة
– عيون األنباء فى طبقات األطباء ج 1صـ 101دار الحياة – بيروت 1391م ،وابن خلكان -وفيات األعيان،
تحقيق د /إحسان عباس جـ 1صـ ،110دار صادر -بيروت – لبنان – طبعة عام 1031هـ 1311 /م.
( )1انظر:القاضى صاعد األندلسى – طبقات األمم صـ ،10وابن خلكان -وفيات األعيان جـ 1صـ110
( )0انظر :عيون األنباء فى طبقات األطباء ج1صـ 101
( )4فيلسوف العرب والمعلم الثانى صـ ،11ط:البابى الحلبى بالقاهرة 1311م.
( )1انظر :الشيخ مصطفى عبد الرازق -فيلسوف العرب والمعلم الثانى صـ ، 11وخالف فى ذلك ابن النديم إذ
يرى ( أن الفارابى من بلدة فارياب من أرض خراسان) -انظر :الفهرست صـ ،190بيروت 1394م .وفيما
ذهب إليه ابن النديم نظر؛ ألن الفارابى لو كان من فارياب لكان اسمه الفاريابى ال الفارابى.
( )9فاراب – والية وراء نهر سيحون فى تخوم بالد الترك .انظر :ياقوت الحموى -معجم البلدان ج 9صـ ،104
دار صادر بيروت – لبنان 1313م.
وكان الفارابى حاد الذهن متوقد الذكاء واسع الثقافة ،فلم يدع علما من
علوم زمانه إال أجاده وبرع فيه ،واشتهر بمعرفة لغات كثيرة كالعربية والتركية
والفارسية ،وكذلك كان موسيقيا تنسب إليه األعاجيب ،كما يعزى إليه اختراع
اآللة المعروفة بالقانون ،وكانت له قوة فى صناعة الطب وعلم باألمور الكلية
منها ،ولكنه لم يباشر أعمالها وال حاول جزئياتها ،فلئن لم يطبب األجسام فحسبه
تطبيب النفوس واألرواح (.)1
لذلك لم يكن عجبا أن يحتل الفارابى المقام األول بين المفكرين
والفالسفة ،مما حدا بالمترجمين إلى وصفه بأنه أكبر فالسفة اإلسالم ،وبأنه
فيلسوف المسلمين على الحقيقة ،وإلى تسميته بالمعلم الثانى ،يعنون أنه يأتى فى
المرتبة الثانية بعد أرسطو(.)2
أعجب بأرسطو فشرح كتبه وال سيما المنطقية منها ،وعلق عليها
وأظهر غامضها ،وقرب متناولها ،ولكن أرسطو لم يصل إليه خالصا وإنما
وصل إليه من خالل األفالطونية المحدثة التى شوهت كثيرا من آراء أرسطو
ونسبت إليه ما ليس له ،وربما كان المنطق وحده هو الذى نجا من هذا التشويه
فوصل خالصا مقتحما جميع العقبات (.)3
وقد عرف الفارابى بأسفاره الكثيرة منذ أن ترك بلدته ( فاراب ) فى
آسيا الوسطى ،وال شك أن هذه األسفار قد أفادت الفارابى كثيرا وساعدت على
بلورة شخصيته الفكرية ،وذلك بما هيأته له من فرص االحتكاك بثقافات جديدة
لم يسبق له االطالع عليها ،ومعاينة أحوال الناس والمجتمعات عن قرب ،مما
سيكون له أكبر األثر فى اهتمامه غير العادى بالسياسة واألخالق والمجتمع،
وكذلك وقبل كل شئ االلتقاء بأساتذة وعلماء فى شتى فنون المعرفة ،ال سيما
وأن جل أسفار الفارابى كانت طلبا للعلم ،فلقد رحل إلى بغداد حوالى عام
313هـ وعمره حينئذ يناهز الخمسين وأقام بها نحو عشرين عاما كانت من
أخصب فترات حياته العقلية ،حيث كتب معظم مؤلفاته ،ثم سافر منها إلى دمشق
ولم يقم بها ،ثم توجه إلى مصر ،وعاد إلى دمشق ،وتوفى بها (.)4
( )1انظر :ابن أبى أصيبعة – عيون األنباء فى طبقات األطباء ج 1صـ ،109وراجع :د /محمد عبد الرحمن مرحبا
– من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة اإلسالمية صـ -010بيروت ،ط:ثانية 1311م.
( )1المرجع السابق
()0انظر:ابن خلكان -وفيات األعيان جـ 1صـ110
( )4انظر :ابن أبى أصيبعة – عيون األنباء ج 1صـ ،109وانظر :د /إبراهيم العاتى – اإلنسان فى فلسفة الفارابى
صـ ،19دار الهادى ،ط:أولى 1400هـ 1003 /م.
أساتذته :
أشار الفارابى إلى بعض أساتذته ممن أفاد منهم ،ثم فاق بعضهم معرفة وعلما
ومن هؤالء-:
يوحنا بن حيالن(ت 813هـ). أ-
طبيب نصرانى منطقى ،كان يسكن مدينة حران ،درس الفارابى على يديه
المنطق(.)1
ب -متى بن يونس ( ت 823هـ ،وقيل 823هـ).
كان متى بن يونس شيخا كبيرا يقرأ الناس عليه فن المنطق ،وله صيت عظيم
وشهرة وافية ،ويجتمع فى حلقته كل يوم عدد كبير من المشتغلين بالمنطق ،وهو
يقرأ كتب أرسطاطاليس فى المنطق ويملى على تالمذته شرحه ،وكان حسن
العبارة فى تأليفه ،لطيف اإلشارة ،وكان يستعمل فى تصانيفه البسط والتذييل،
وقد درس الفارابى على يديه شيئا من الحكمة والمنطق فى بغداد (.)2
تالمذته-:
كان للفارابى تالمذة اشتهروا وعرفوا فى حقول اختصاصاتهم الفلسفية
وسجل لهم تاريخ الفكر لمعات نادرة وآراء جادة نافذة ،ومن هؤالء التالمذة -:
– 1أبو زكريا يحي بن عدى -:يعد هذا التلميذ من أفضل تالمذة الفارابى
ومن نقلة الفكر اليونانى إلى العربية ،وله تصانيف كثيرة ،وكان يشرح كتب
أرسطو ويلخص تصانيف الفارابى ،وقد توفى عام 364هـ(.)3
– 2الشيخ الرئيس ابن سينا -:إذا تركنا التلمذة المباشرة ،فإن ابن سينا الذى
تميز بالذكاء الحاد والفطنة يعد أحد تالمذة الفارابى ،حيث انتفع بكالمه فى
تصانيفه ،بل إن ابن سينا نفسه يعترف للمعلم الثانى باألستاذية ،وقد توفى ابن
()4
سينا عام 424هـ 1331 /م وله من العمر ثمانية وخمسون عاما
( )1انظر :د /محمد عبد الرحمن مرحبا – من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة اإلسالمية صـ ، 010وانظر :د/
إبراهيم العاتى – اإلنسان فى فلسفة الفارابى صـ 19
( )1طبع بصيدا عام 1311م ،ثم نشره د /عثمان أمين فى مصر عام 1301م.
( )0قام المستشرق(ديتريصى) بنشر هذه الرسالة بليدن عام 1130م ،كما طبعت طبعات أخرى منها :طبعة
مطبعة السعادة بالقاهرة عام 1301م.
( )4تم طبعه بحيدر أباد عام 1301م.
(.)3 (.)2
-كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة
ثانيا :أهم شروحه وتعليقاته -:
للفارابى شروح وتعليقات على كتب أرسطو التالية -:
-العبارة البرهان
-الجدل الخطابة
-المغالطة . القياس
()4
-السماء والعالم . المقوالت
وفاته - :
بعد حياة عامرة مليئة بالعلم والعمل توفى الفارابى بدمشق فى شهر رجب عام
333هـ ،وصلى عليه سيف الدولة ( ت 356هـ ) فى خمسة عشر رجال من
خاصته ،ودفن بظاهر دمشق خارج الباب الصغير(.)5
( )1قام المستشرق(ديتريصى) بنشر هذه الرسالة بليدن عام 1130م ،كما طبعت بالقاهرة عام 1301م.
( )1طبع هذا الكتاب ألول مرة فى ليدن عام 1131م ،كما طبع طبعات أخرى منها :طبعة القاهرة عام 1309م.
( )0قام ديتريصى بنشره عام 1130م .راجع فيما سبق:ابن أبى أصيبعة – عيون األنباء ج0صـ 100والدكتور
حسين محفوط باالشتراك مع د /جعفر آل ياسين – مؤلفات الفارابى صـ 491بغداد1311م
( )4انظر :ابن خلكان -وفيات األعيان جـ 1صـ. 111
( )1انظر :ابن أبى أصيبعة -عيون األنباء فى طبقات األطباء صـ ،104وابن خلكان -وفيات األعيان جـ1
صـ ،111وانظر :د /فتح اهلل خليف – فالسفة اإلسالم صـ – 40دار الجامعات المصرية بدون .
المبحث األول
مفهوم العقل ومدلوله
مفهوم العقل فى اللغة -:
العقل لغة مصدر عقل :أى ربط واستمسك ،تقول :عقل بطن المريض بعدما
استطلق :استمسك ،واسم الدواء:العقول ( ،) 1والعقل " الحجر والنهى ،ضد
الحمق ،والجمع :عقول"(.)2
" ورجل عاقل :وهو الجامع ألمره ورأيه ،أخذ من عقلت البعير :إذا جمعت
قوائمه ،وقيل :العاقل :الذى يحبس نفسه ويردها عن هواها ،أخذا من قولهم :
اعتقل لسانه :إذا حبس ومنع الكالم"(.)3
" وعقل البعير ،يعقله عقال ،وعقله واعتقله ،ثنى وظيفه مع ذراعه ،وشدهما
جميعا فى وسط الذراع ،وكذلك الناقة "(.)4
وأطلق العقل على الدية التى تدفع ألهل المقتول ،فيقال-:
" عقل القتيل ،يعقله عقال :وداه ،وعقل عنه"( : )5إذا أدى عنه الدية ،وأصل
ذلك أن الدية كانت إبال تعقل بأفنية البيوت ،ثم كثر فصار كل دية عقال ،وإن
()6
كانت دراهم أو دنانير
ويطلق العقل على قوة الحجة فيقال " :عاقلته :فعقلته ،أعقله بالضم :أى غلبته
بالعقل ...،وتعقل :تكلف العقل ،كما يقال :تحلم وتكيس"(.)1
و"عقل الشئ يعقل عقال ،فهمه ،ويقال :أعقلت فالنا :أى صيرته عاقال "(.)4
ومن ثم يتبين أن العقل يطلق على معان تدور حول المنع والفهم واالستمساك
والربط ،وهذه المعانى من صفات العقل الذى خص اهلل به اإلنسان ،وميزه به
()1انظر :ابن منظور -لسان العرب – تحقيق د /عبد اهلل الكبير ومحمد أحمد حسب اهلل -مادة عقل م4ج 09صـ
، 0049دار المعارف بدون.
()1المرجع السابق
()0المرجع السابق بتصرف يسير
()4المرجع السابق
()1المرجع السابق
()9المرجع السابق
()1الجوهرى – الصحاح – تحقيق د /أحمد عبد الغفور – مادة عقل ج 1صـ -1111دار العلم للماليين بيروت
لبنان ،ط :رابعة 1330م.
( )1ابن منظور :لسان العرب -مادة عقل ج 11صـ 413
عن سائر الحيوان ،فهو الذى يمنع صاحبه عن التورط فى المهالك ،ويرد
النفوس عن هواها ،وهو الذى يميز به اإلنسان بين الخير والشر ،وبين النافع
والضار" وبهذه الداللة يتجلى العقل العملى ،الذى يعقل النفس ويمنعها عن
التصرف على مقتضى الطباع ،فالعقل ضد الطبع" (.)1
وعلى هذا فإن العقل فى مدلول لفظه العام يطلق على"تلك الملكة التى يناط بها
الوازع األخالقى ،أو المنع عن المحظور والمذكور ،ومن هنا كان اشتقاقه من
مادة(عقل )التى يؤخذ منها العقال ،وتكاد شهرة العقل بهذه التسمية أن تتوارد فى
اللغات اإلنسانية الكبرى التى يتكلم بها مئات الماليين من البشر" (.)2
مفهوم العقل فى القرآن والسنة -:
أوال :مفهوم العقل فى القرآن الكريم -:
لم يرد لفظ العقل فى القرآن الكريم مصدرا قط ،وإنما ورد فى صيغة الفعل :
عقل ،يعقل ،نعقل ،فى الماضى والمضارع والمفرد والجمع ،وورد بعضها
مسبوقا بالحث على العقل أو االستفهام أو االستنكار أو النفى ،ومن ذلك -:
-1قوله تعالى "-:يسمعون كالم اهلل ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه"(.)3
-2قوله تعالى ":وتلك األمثال نضربها للناس وما يعقلها إال العالمون"(.)4
-3قوله تعالى ":إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون"(.)5
فمعنى ( عقلوه ،يعقلها ،تعقلون ) هو:علموه وتعلمون أو تعرفون أو
تفهمون ،مما يدل على أن العقل يعنى -:العلم والمعرفة والفهم(.)6
ثانيا :مفهوم العقل فى السنة -:
ورد لفظ العقل فى السنة النبوية المطهرة فيما يقرب من ثالثمائة مرة
بالصيغتين االسمية والفعلية ومن ذلك -:
أ -ما ورد من وصف المصطفى صلى اهلل عليه وسلم النساء بأنهن " ناقصات
عقل ودين " ( )1فقد جاء العقل فى الحديث بالصيغة االسمية ،واعتبر النسيان من
نقصان ملكة العقل عند المرأة.
()1البخارى فى صحيحه -تحقيق د /مصطفى ديب البغا – كتاب الحيض – باب ترك الحائض الصوم ج 0صـ
19حديث رقم 40دارابن كثير ط1401 0:هـ 1311 /م.
()1البخارى فى صحيحه – كتاب الوضوء -باب حبب النبى صلى اهلل عليه وسلم وضوءه على المغمى عليه ج1
صـ 11حديث رقم 131
()0مسلم فى صحيحه – كتاب الصالة -باب تسوية الصفوف وإقامتها ج 1صـ 0حديث رقم 1000در الجيل
بيروت بدون .
()4اإلمام النووى – شرح صحيح مسلم ج 1صـ 111
()1قيل إن اسمه :المنذر بن حارث ،وقيل المنذر بن عائذ وقيل غير ذلك.
-انظر :اإلمام النووى – شرح صحيح مسلم ج 1صـ 113
( )9مسلم فى صحيحه– كتاب اإليمان -باب األمر باإليمان باهلل ورسوله ج 1صـ 09حديث رقم 111
( )1د /محمد زاهد الكوثرى – مقدمة كتاب العقل لعبد اهلل بن محمد صـ ،4بدون .
إدراك األشياء والمفاضلة بين األمور ،وأوغلوا فى تحكيمه ،وغالوا فى قبول ما
قبله ورد ما رده ،وجعلوه ال يخطئ ،وتكلفوا فى رد بعض األحاديث واآلثار
الثابتة إذا خالفت – فى حكمهم وحسب مفهومهم – العقل ،فكان ذلك إسرافا منهم
ال ريب فيه"(.)1
ويضاف إلى ما تقدم أخذ الفالسفة المسلمين عن الفلسفة اليونانية نظرية
العقل األول والعقل الفعال ،وغير ذلك مما يخالف اإلسالم مخالفة صريحة.
مفهوم العقل لدى الفالسفة -:
للعقل لدى الفالسفة تعريفات متعددة منها -:
"(.)2
أنه " جوهر بسيط مدرك لألشياء بحقائقها
وقيل إن العقل هو ":قوة النفس التى بها يحصل تصور المعانى وتأليف القضايا
واألقيسة " (.)3
وقيل هو ":قوة طبيعية للنفس متهيئة لتحصيل المعرفة العلمية"(.)4
مفهوم العقل لدى الفارابى-:
يميز الفارابى فى رسالته – فى العقل – بين ستة من أنواع العقول هى -:
األول :العقل عند الجمهور-:
وهو العقل الذى ينعت به الجمهور -أى عامة الناس لدى الفارابى -اإلنسان
بأنه عاقل وفاضل ،والعاقل " محتاج إلى دين ،والدين عندهم هو الذى يظنون
أنه هو الفضيلة ،وهؤالء إنما يعنون بالعاقل من كان فاضال جيد الروية فى
استنباط ما ينبغى أن يؤثر من خير أو يجتنب من شر ،ويمتنعون أن يوقعوا هذا
االسم على من كان جيد الروية فى استنباط ما هو شر ،بل يسمونه ماكرا أو
داهيا وأشباه هذه األسماء" (.)5
إن العقل عند الجمهور فيما يرى الفارابى مرتبط بالمعيار الخلقى ،لذا
كان الشرير غير عاقل ،وهذا العقل سماه أرسطو طاليس " التعقل "(.)6
( )1د /صالح الدين المنجد – اإلسالم والعقل صـ ، 40دار الكتاب الجديد بيروت لبنان ،ط :ثانية 1319م.
( )1الكندى – رسالة فى حدود األشياء ورسومها ( ضمن رسائله الفلسفية) تحقيق د /محمد عبد الهادى أبوريدة
صـ -110دار الفكر العربى بالقاهرة ط :ثانية 1093هـ1310 /م .
( )0جميل صليبا – المعجم الفلسفى ج 1صـ – 14دار الكتاب اللبنانى بيروت 1311م.
( )4المرجع السابق
( )1الفارابى – مقالة فى معانى العقل (ضمن الثمرة المرضية) صـ ،03نشر ديتريصى ،ليدن1131م.
( )9انظر :أرسطو– النفس -نقله إلى العربية د /أحمد فؤاد األهوانى ك 0ف 4صـ -101البابى الحلبى بالقاهرة
ط :أولى 1343م ،وانظر :د/مصطفى غالب -الفارابى صـ –10دار الهالل – ط1331 :م.
الثانى -:العقل عند المتكلمين-:
عرف علماء الكالم العقل بأنه عبارة عن :غريزة يتبعها العلم بالضروريات
عند سالمة اآلالت ،والنائم لم يزل فى عقله وإن لم يكن عاقال(.)1
ويبدو وضوح أثر الفكر اليونانى على المتكلمين فى هذا التعريف ؛ ألنه قريب
مما ذكره أرسطو فى كتاب البرهان بأن العقل هو القوة التى تحصل لإلنسان
بالفطرة والطبع(.)2
بينما يحدد الفارابى مفهوم العقل عند المتكلمين قائال "-:أما العقل الذى
يردده المتكلمون على ألسنتهم فيقولون فى الشئ :هذا مما يوجبه العقل ،أو ينفيه
العقل ،أو يقبله العقل ،أو ال يقبله العقل ،فإنما يعنون به المشهور فى بادئ الرأى
عند الجميع ،فإن بادئ الرأى المشترك عند الجميع أو األكثر يسمونه العقل،
وأنت تتبين ذلك متى استقريت كالمهم شيئا شيئا مما يتخاطبون فيه وبه أو مما
يكتبونه فى كتبهم ويستعملون فيه هذه اللفظة"(.)3
لكن الفارابى يكر على المتكلمين ؛ ألنهم – من وجهة نظره – يقولون بشئ
ويعملون بشئ آخر ،ذلك أنهم " يظنون بالعقل الذى يرددونه فيما بينهم أنه هو
العقل الذى ذكره أرسطو طاليس فى كتاب البرهان ،ونحو هذا يؤمون ،ولكن إذا
استقريت ما يستعملونه من المقدمات األولى تجدها كلها مأخوذة من بادى الرأى
المشترك ،فلذلك صاروا يؤمون شيئا ويستعملون غيره"(.)4
الثالث :العقل الفطرى-:
وهو العقل الذى يصفه أرسطو طاليس بأنه القدرة على استيعاب مبادئ
القياس األولى ،وذلك بمجرد الطبع والفطرة (.)5
الرابع :العقل الناشئ عن التجربة-:
وهو العقل الذى جاء فى المقالة السادسة من كتاب "األخالق" أنه ضرب من
االعتياد الذى يتم بالتجربة واالختبار ،وهذا العقل يمكن التوصل به إلى أحكام
صائبة فى باب الخير والشر.والعقل بهذا المعنى يتطابق مع داللته األولى.
يقول الفارابى عن هذا العقل :إنه " جزء النفس الذى يحصل بالمواظبة على
اعتياد شئ مما هو فى جنس من األمور وعلى طول تجربة شئ شئ مما هو فى
جنس من األمور على طول الزمان ،اليقين بقضايا ومقدمات فى األمور اإلرادية
( )1انظر :اإليجى – المواقف صـ 149مكتبة المتنبى – القاهرة بدون ،وفخر الدين الرازى -محصل أفكار
المتقدمين والمتأخرين صـ ، 14القاهرة 1090هـ.
( )1انظر :أرسطو – منطق أرسطو – التحليالت الثانية – المقالة الثانية تحقيق د /عبد الرحمن بدوى ف 13ب
11صـ – 490دار الكتب المصرية 1343م.
( )0الفارابى – مقالة فى معانى العقل صـ 40
( )4المرجع السابق
( )1انظر :أرسطو – النفس ك 0ف 1صـ 111
التى شأنها أن تؤثر أو تجتنب...وهذا العقل ...يتزايد مع اإلنسان طول عمره ،
فيتمكن فيه تلك القضايا ،ويضاف إليها فى كل زمان قضايا لم تكن عنده فيما
تقدم من قبل ،ويتفاضل الناس فى هذا الجزء من النفس الذى سماه – أرسطو –
عقال ،تفاضال متفاوتا ،ومن تكاملت فيه هذه القضايا فى جنس ما من األمور
صار ذا رأى فى ذلك الجنس ،ومعنى ذى الرأى هو الذى أشار بشئ قبل رأيه
ذلك من غير أن يطالب بالبرهان عليه وال يراجع ،وتكون مشورته مقبولة وإن
لم يقم على شئ منها برهانا .ولذلك قلما يصير اإلنسان بهذه الصفة إال إذا شاخ
ألجل حاجة هذا الجزء من النفس إلى طول التجارب الذى ليس يكون إال بطول
زمان ،وألن يتمكن فيه من تلك القضايا (.)1
الخامس :العقل النظرى-:
وهو العقل الذى ورد ذكره فى المقالة الثالثة من كتاب " النفس " ألرسطو ،
وعليه أسس المعلم الثانى نظريته فى العقل(..)2
وتقال لفظة عقل بالمعنى الخامس على مستويين هما -:
أ-المستوى األول -:هو العقول المفارقة وتقع فى ثالث مراتب على التوالى،
وهى-:
المرتبة األولى -:يشغلها العقل األول ( اهلل ).
المرتبة الثانية -:وتحتلها العقول الثوانى التسعة.
المرتبة الثالثة -:هى العقل الفعال ،ومرتبته من العقول المفارقة هى
(.)3
المرتبة العاشرة
ويالحظ الباحث على هذه المراتب أنها مرتبة من األعلى إلى األدنى.
ب -المستوى الثانى -:هو العقل النظرى ،ويميز فيه الفارابى بين ثالثة أنواع
من العقل الموجود فى النفس اإلنسانية ،وتقع فى ثالث مراتب أيضا ،هى -:
المرتبة األولى -:العقل بالقوة.
المرتبة الثانية -:العقل بالفعل.
(.)4
المرتبة الثالثة -:العقل المستفاد
إذن فالعقل لدى المعلم الثانى يقال على أربعة أنحاء ،هى عقل بالقوة ،وعقل
(.)5
بالفعل ،وعقل مستفاد ،والعقل الفعال
( )1انظر :اإلسكندر األفروديسى – رسالة فى العقل على رأى أرسطو طاليس ،ترجمة إسحاق بن حنين ،ضمن
شروح على أرسطو ،مفقودة فى اليونانية ورسائل أخرى ،حققها وقدم لها :د /عبد الرحمن بدوى صـ ،01دار
المشرق بيروت بدون.
( )1الفارابى – مقالة فى معانى العقل صـ ، 49وانظر له أيضا :آراء أهل المدينة الفاضلة ،تقديم وتعليق د/
ألبير نصرى نادر صـ ،101بيروت ط :سابعة ، 1339وانظر :د /أحمد فؤاد األهوانى – فى عالم الفلسفة صـ
،101مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة بدون.
( )0اإلسكندر األفروديسى من أشهر شراح اإلغريق للفلسفة األرسطوطاليسية.
-انظر:د /محمود قاسم – فى النفس والعقل لفالسفة اإلغريق واإلسالم صـ 109
حصلت ،فإن هذه القوة جزء ما فى النفس يحصل لها المعرفة األولى ال بفكر
وال بتأمل أصال ،واليقين بالمقدمات والتى هى مبادئ العلوم النظرية (.)1
– 2العقل الذى يذكره فى المقالة السادسة من كتاب األخالق ،فإنه يريد به
جزء النفس ،الذى يحصل اليقين بقضايا ومقدمات فى األمور اإلرادية التى من
شأنها أن تؤثر أو تجتنب(.)2
– 3العقل الذى ذكره أرسطو طاليس فى كتاب النفس والذى جعله على أربعة
أنحاء -:
أ – العقل بالقوة -:ويقصد به االستعداد النتزاع ماهيات الموجودات كلها
وصورها دون موادها ،فتجعله كلها صورة لها ،ويسمى أيضا بالعقل القابل أى
المستعد لقبول صور الموجودات(.)3
ب – العقل بالفعل -:وهو حصول صور الموجودات ،فإذا حصلت فيه
المعقوالت التى انتزعها من المواد صارت تلك المعقوالت معقوالت بالفعل ،وقد
كانت قبل أن تنتزع عن موادها معقوالت بالقوة(.)4
ج – العقل المستفاد -:إن العقل بالفعل متى عقل المعقوالت التى هى صور له
من حيث هى مقولة بالفعل ،صار العقل الذى كان يسمى بأنه العقل بالفعل هو
العقل المستفاد ،وهذا العقل بعد أن يخرج إلى الفعل يحفظ صورة الموضوع
الذى تعقله ،ويستطيع أن يستعيدها ،فهو باإلضافة إلى هذه االستعادة بقوة أقرب
إلى الفعل من القوة األولى السابقة على العلم ،وحينئذ يسمى عقال بالملكة (.)5
د – العقل الفعال -:وهو الذى جعل المعقوالت التى كانت معقوالت بالقوة
معقوالت بالفعل(.)6
ثانيا :أنواع العقول لدى اإلسكندر األفروديسى-:
– 1العقل الهيوالنى(أو المادى ) -:هو القابل للتعيينات ومستعد النتزاع
ماهيات الوجودات كلها وصورها دون موادها ،وهو ليس بذى صورة ،ولكنه
يمكن أن يصير أى صورة ،كما أنه ليس مخلدا ،بل يندثر مع اندثار اإلنسان ،
( )1انظر :اإلسكندر األفروديسى – رسالة فى العقل صـ ،01وانظر :د /عبد الرحمن بدوى – موسوعة الفلسفة
ج 1صـ – 11ط :أولى 1314م.
( )1المرجع السابق
( )0انظر :د /عبد الرحمن بدوى – موسوعة الفلسفة ج 1صـ11
( )4انظر :اإلسكندر األفروديسى – رسالة فى العقل صـ 01
( )1انظر :الفارابى -فلسفة أرسطو طاليس صـ 111وما بعدها
المبحث الثانى
أسس النظرية لدى الفارابى.
بداية نقول :إن من أهم مشكالت الفلسفة مشكلة الكثرة والوحدة ،وأن هذه
المشكلة عاناها الفكر الفلسفى اليونانى منذ نشأته ،فقد عالج الفيثاغوريون هذه
المشكلة بأسلوبهم الرياضى ،ثم انتقلت هذه المشكلة بعد ذلك إلى أكاديمية
أفالطون ،وأنها أحدثت أزمة فى الفكر األفالطونى ،فقد تساءل سقراط فى
محاورة ( برميندس ) كيف تظهر كثرة محسوسة عن وحدة ؟ ثم ال يلبث أن
يتجه إلى حل هذه المشكلة بعد أن يفترض وجود مثل رياضية تقول :إن ثمة
مثل عليا هى األعداد المثالية من واحد إلى عشرة ،وهذه األعداد مبدؤها الواحد
أو األول ثم يبدأ التكثر عند االثنينية ،ويستمر التكثر إلى ماال نهاية ،ثم انتقلت
هذه المشكلة وهى محتفظة بطابعها الرياضى إلى مدرسة اإلسكندرية الفلسفية
مارة بالمدارس الهللينية ،وقد تبلورت فى تاسوعات أفلوطين (263م ) فى
نظرية تقول بصدور الموجودات عن الواحد ،هذه الموجودات العليا الصادرة
عن الواحد هى هذه النظرية الكونية ،وقد انتقلت فكرة هذه العقول الكونية التى
أشارت إليها مدرسة أفلوطين بكاملها مع ما لحق بها من رواسب إلى الفكر
اإلسالمى وظهرت فى فلسفة الفارابى.
فلسفته إذن هى المركز الذى صبت فيه تيارات الفلسفة العقلية عن الوحدة
والكثرة ،وقد صاغ الفارابى هذه النظرية فى نظرية العقول العشرة(.)1
( )1راجع :د /محمد على أبو ريان -تاريخ الفكر الفلسفى فى اإلسالم صـ .141
أنه واجب الوجود بذاته معرفة أولية من غير اكتساب ،فإنا نقسم الوجود إلى
الواجب والممكن ،ثم نعرف أن واجب الوجود لذاته يجب أن يكون واحدا" (.)1
فمعانى " الوجود والواجب واإلمكان من المعانى التى تتصور ال بتوسط تصور
آخر قبلها ،بل هى معان واضحة فى الذهن ،وإن عرفت بقول فإنما يكون على
سبيل التنبيه عليها ال على سبيل أنها تعرف بمعان أظهر منها " (.)2
ومن ثم فقد ذهب الفارابى إلى القول بثنائية الوجود من حيث تقسيمه إلى
واجب وممكن
فاألول :إذا اعتبرنا ذاته وجب كونه موجودا ،وال يجوز أن يعدم ،أو يتصور
عدمه ،وهذا ما يسمى بواجب الوجود ،ولذا يقول الفارابى-:
" الموجودات على ضربين ...الثانى :إذا اعتبر ذاته وجب وجوده ،ويسمى
واجب الوجود"(.)3
ويضيف قائال "-:هو السبب األول لوجود سائر األشياء كلها ،وهو برئ من
جميع أنحاء النقص ،وكل ما سواه فليس يخلو أن يكون فيه شئ من أنحاء
النقص ،أما األول ...فوجوده أفضل وجود ،وأقدم الوجود ،وال يمكن أن يكون
أفضل وال أقدم من وجوده وهو فضيلة الوجود فى أعلى أنحائه ومن كمال
الوجود فى أرفع المراتب...ال يمكن أن يكون له سبب "(.)4
ومن تمام الوجود الواجب فى نظر الفارابى أنه " ليس بمادة " ،ولذا يقول-:
" ليس هو بمادة وال قوامه فى مادة ،وال فى موضوع أصال ،بل وجوده
خلو من كل مادة ومن كل موضوع ،وال أيضا له صورة؛ ألن الصورة ال يمكن
أن تكون إال فى مادة ،ولو كانت له صورة لكانت ذاته مؤتلفة من مادة وصورة،
ولو كان كذلك لكان قوامه بجزئيه اللذين منهما ائتلفت ،ولكان لوجوده سبب ،فإن
كل واحد من أجزائه سبب لوجود جهته ،وقد وصفنا أنه سبب أول "(.)5
ويرى الباحث أن الفارابى قد قرر أن واجب الوجود ليس فى موضوع
حفاظا منه على معنى التنزيه الذى تصوره وآمن به ،لكن فى قوله نظر؛ ألنه
يؤدى إلى أن يكون واجب الوجود فكرة ذهنية فقط وليس له تحقق فى الخارج،
وهذا ما جعل ابن تيمية يقرر خطأ فالسفة اإلسالم فى هذا المقام -والفارابى
( )1الفارابى – التعليقات صـ ، 1طبعة حيد آباد ،الهند 1049هـ .
( )1الفارابى -تجريد رسالة الدعاوى القبلية صـ ،1حيدر أباد ،الهند،ط :أولى 1049هـ.
( )0عيون المسائل صـ ،11ضمن(الثمرة المرضية) نشرة ديتريصى ،ليدن 1131م.
( )4الفارابى – آراء أهل المدينة الفاضلة صـ 10باختصار
( )1الفارابى – آراء أهل المدينة الفاضلة صـ 10
على رأسهم – ألن المبالغة فى التنزيه عندهم قد أوقعتهم فى هذا الخطأ من
حيث ال يشعرون ،وفى نظره أن هؤالء لو تصوروا المفارقة الحقيقية بين
المولى سبحانه وتعالى وبين مخلوقاته لما عنوا أنفسهم بهذا الجهد العقلى
المسرف الذى يصطدم مع حقائق العقل الصريح والنص الدينى الصحيح (.)1
والثانى :إذا نظرنا إليه باعتبار ذاته فقط من غير اعتبار آخر بان لنا أنه ال
يجب وجوده بل يجوز أن يكون معدوما ،وهذا ما يسمى بممكن الوجود ،ويجوز
لممكن الوجود بالنظر إلى ذاته أن يصير واجب الوجود بغيره ،أما واجب
الوجود فال يكون كذلك ،ولذا يقول الفارابى -:
" الموجودات على ضربين :أحدهما :إذا اعتبر ذاته لم يجب وجوده ويسمى
ممكن الوجود(.)2
ويضيف قائال "-:ممكن الوجود إذا فرضناه غير موجود لم يلزم منه
محال ،فال غنى لوجوده عن علة ،وإذا وجب صار واجب الوجود بغيره ،فيلزم
من هذا أنه كان فيما لم يزل ممكن الوجود بذاته واجب الوجود بغيره ،وهذا
اإلمكان إما أن يكون شيئا فيما لم يزل ،وإما أن يكون فى وقت دون وقت،
واألشياء الممكنة ال يجوز أن تمر بال نهاية فى كونها علة ومعلوال ،وال يجوز
كونها على سبيل الدور بل البد من انتهائها إلى شئ واجب هو الموجود
األول...ال علة لوجوده ،وال يجوز كون وجوده بغيره ،وهو السبب األول
لوجود األشياء"(.)3
فالنص سالف الذكر يكشف عن طبيعة كل من الواجب والممكن ،وفى
الوقت نفسه عن طريق االستدالل عليهما ،كما يكشف من جانب آخر عن مدى
تأـثر الفارابى فى هذا المقام بفلسفة أرسطو فى مسألة الوجود كما سيأتى.
وتجدر اإلشارة إلى أن الفارابى قد استخدم فى النص السابق مبدأ العلية
إلثبات تناهى الموجودات إلى الواحد الواجب الوجود ،حيث ذكر أن الممكنات ال
( )1انظر :ابن تيمية -درء تعارض العقل والنقل ج 1صـ ،141القاهرة 1391م ،وانظر له أيضا :منهاج السنة
النبوية – تحقيق د /محمد رشاد سالم ج 1صـ ،110القاهرة 1409هـ1319 /م ،وانظر :د /إنشاد محمد على–
موقف المشائية اإلسالمية من النص الدينى صـ ،109ط1331 :م.
( )1عيون المسائل صـ ، 11وانظر له أيضا :شرح رسالة زينون الكبير صـ ، 4حيدر أباد ،الهند ،ط1043 :هـ
،وانظر له أيضا – كتاب الحروف – تحقيق وتقديم د /محسن مهدى صـ 110وما بعدها -بيروت ،ط :ثانية
1330م.
( )0المرجع السابق صـ 11باختصار ،وانظر له أيضا :رسالة فى السياسة – تحقيق :األب لويش شيخو صـ
،910بيروت 1301م.
يمكن أن تستمر فى الوجود إلى ما ال نهاية( ،)1بل البد لها من سبب أول تنتهى
إليه ؛ ألنها حتى وإن كانت غير متناهية فهى تبقى ممكنة الوجود بذاتها فال
تستطيع أن تعطى ذاتها الوجود ،بل تحتاج إلى فاعل آخر خارج عنها يمنحها
الوجود ،وهذا الفاعل هو البارى جل فى عاله.
وهنا نتساءل :لماذا فرق الفارابى بين الواجب والممكن ؟.
والجواب يتمثل فى أن الفارابى إذا كان ينظر إلى الممكن على أنه ال
يستقل فى أمر وجوده بنفسه بل يحتاج إلى غيره ليصير به موجودا ،أو كما
يقول :ليدخل ( أى هذا الغير ) الهوية على الماهية ،والعالم عنده ممكن ،
فالفارابى إذا كان ينظر إلى الممكن هكذا فإن هذا العالم ال يستقل بأمر نفسه فى
الوجود ،ومن ثم فهو يحتاج إلى الموجد.
األسباب التى دعت الفارابى إلى القول بواجب الوجود-:
إن األسباب التى دفعت الفارابى إلى القول بواجب الوجود هى أسباب
تختلف اختالفا بينا فى روحها وتفاصيلها عن األسباب الدينية التى جاءت فى
الكتب السماوية مبينة أن لهذا الكون خالقا ،كما تختلف أيضا عن األسباب التى
قال بها علماء الكالم ،وفيما يلى بيان هذه األسباب بإيجاز وشمول-:
.1واجب الوجود ال ماهية له-:
يرى الفارابى أن واجب الوجود ال ماهية له مثل ماهية الجسم ،ومن ثم فال
يمكن البرهنة على وجوده بخالف وجود األشياء ،فهو " ال برهان عليه بل هو
برهان على جميع األشياء"( ،)2ومعنى ذلك :أن إثبات واجب الوجود والقول
()3
بوجوده لن يبدأ عند الفارابى من المخلوقات كما هو شائع عند المتكلمين
( )1استحالة التسلسل فى العلل والمعلوالت كما أوضحها الفارابى مبنية على أساس أرسطى مفاده :أن ما ال نهاية
له ال يوجد بالفعل ،أى ال يدخل كله مجتمعا فى الوجود ألن ما ال نهاية له ال يعد وال يحصى ،فلو فرضنا أن العالم
حادث أو متحرك وله محرك ،فإذا كان هذا المحدث له محدث وتسلسل المحدثون إلى ما ال نهاية ،لم يكن أن يوجد
هذا العالم ،ألن وجوده ال يتم إال بعد وجود ما ال نهاية له من العلل والمعلوالت ،ولما كان العالم موجودا لزم
القول بوجود محدث أول ال محدث له ،فوجود المحرك األول الذى ال يتحرك عند أرسطو مستند إلى هذا المبدأ،
وقد استخدمه المتكلمون والفالسفة إلثبات جملة قضايا منها وجود اهلل.انظر :أرسطو -فى النفس صـ ،000
وراجع :د /جمال المرزقى – الفلسفة اإلسالمية بين الندية والتبعية هامش صـ ،39دار الهداية للطباعة والنشر،
ط :أولى لعام 1411هـ 1001 /م.
( )1الفارابى -عيون المسائل صـ ، 11وانظرله أيضا – رسالة فى فصوص الحكم صـ ،99القاهرة 1301م.
( )0انظر :القاضى عبد الجبار – شرح األصول الخمسة – تحقيق د /عبد الكريم عثمان صـ ،31القاهرة ط :أولى
1391م ،وانظر :األشعرى – اللمع فى الرد على أهل الزيغ – تحقيق وتعليق د /محمود غرابة صـ ،10ط :مجمع
البحوث اإلسالمية 1311م ،وانظر :الشهرستانى – الملل والنحل ج 1صـ ،34القاهرة 1391م.
()1
– كأستاذه أرسطو -ألن وجود العالم الحق على وجود والفالسفة الطبيعيين
البارى جل فى عاله.
أضف إلى ذلك أن أدلة المتكلمين والفالسفة الطبيعيين تستدل بالمعلول على
العلة على حين " أن أولى البراهين بإعطاء اليقين هو االستدالل بالعلة على
المعلول؛ ألنه أوثق وأشرف ؛ وألن عكس ذلك – أى االستدالل بالمعلول على
العلة – ربما ال يعطى اليقين ،خاصة إذا كان للمطلوب علة لم يعرف إال
بها "(.)2
ومن ثم يكون الفارابى قد ثار على البراهين التقليدية ألنها تبدأ من العالم
وتنتهى إلى إثبات وجود اهلل عز وجل ،وهذا خطأ من وجهة نظره ؛ ألن وجود
البارى سابق على وجود العالم.
– 2الصورة التى بها خلق العالم -:
السبب الثانى الذى دعا الفارابى إلى الحديث عن واجب الوجود فهو
يتعلق بالصورة التى بها خلق العالم عنده ،فهو يرى أن واجب الوجود " خير
محض وعقل محض ومعقول محض وعاقل محض ،وهذه األشياء الثالثة كلها
فيه واحد ،وهو حكيم وحى وعالم وقادر ومريد وله غاية الجمال والكمال
والبهاء ،وله أعظم السرور بذاته ،وهو العاشق األول والمعشوق األول"(.)3
فهذه الصفات التى وصف بها الفارابى واجب الوجود تؤكد أن عالقة
واجب الوجود بالموجودات ليست عالقة إيجاد بل هى عالقة علم من ناحية
وعالقة خير من ناحية أخرى ،وكل هذا من أجل أن ينفى عن البارى صفة
اإلرادة التى قال األشاعرة إنها قديمة ،فأدى قولهم هذا إلى الوقوع فى إشكاالت
كثيرة منها :كيفية خلق األشياء الحادثة بإرادة قديمة ،ومنها :ما الذى يوجب
أن تكون هذه اإلرادة القديمة سببا فى وجود فعل من األفعال فى وقت دون وقت
آخر ؟ إلى غير ذلك من اإلشكاالت التى أثارها فى وجههم ابن رشد(.)4
ومن ثم يتبين أن وجود األشياء وصدورها عن البارى فى نظر
الفارابى ال عن جهة قصد منه يشبه قصودنا ،وال يكون له قصد األشياء عنه
على سبيل الطبع من دون أن يكون له معرفة ورضا بصدورها وحصولها،
هـ– التقدم بالرتبة الحسية أو العقلية:كتقدم اإلمام على المأموم،والجنس على النوع.
-انظر :فخر الدين الرازى– األربعين فى أصول الدين صـ -1حيدر أباد 1010هـ.
( )1فصوص الحكم صـ 91
( )1الفارابى – تجريد رسالة فى الدعاوى القلبية صـ 1
بإطالق( أى بالذات والزمان ) كما يقول الدين ،وإنما هو حادث بالذات فقط دون
الزمان– على معنى أنه معلول وأثر لعلته – وقديم فى الزمان فقط دون الذات؛
ألن تصور وجوده مرتبط بتصور الواجب.
وهذه المحاولة فيها إرضاء للفلسفة على حساب الدين؛ ألنها اعتراف
صريح بقدم العالم من حيث الزمان – بمعنى عدم أسبقية الوجود بالعدم – وهذا
ما يصطدم مع النصوص الصريحة فى ذلك ،وتأويلها بما يتفق مع فكرة القدم
الزمانى تحميل لها فوق ما تحتمله.
إن االرتباط الضرورى بين العلة والمعلول – التى بنى عليها القول
بالقدم – فكرة منطقية ذهنية ،أما إذا خرجت إلى الوجود والتحقق فإن العقل
يجوز وجود العلة بدون المعلول ،ال سيما إذا كانت العلة ذات إرادة فى أن تفعل
وأال تفعل.
ويبدو أن الفارابى ما كان يغيب عن ذهنه هذا الفرق لوال سيطرة فكرة التوفيق
على ذهنه ،وذلك بصرف النظر عن النتائج التى تترتب عليه (.)1
ويظهر أن للتعريف الفلسفى للزمان دخال فى هذه المسألة ( مسألة القول
بقدم العالم قدما زمانيا ) ذلك ألن الفالسفة – وبخاصة أرسطو – يرون أن
الزمان هو مقدار حركة الفلك ،ويترتب على هذا أننا لو تصورنا جدال أن العالم
قد وجد فى مدة سبقت بالعدم ،فما هو الوعاء اآلنى الذى يمكن به أن نفسر هذه
المدة ؟.
إن ما ينبغى أن يكون واضحا عند التعرض لمثل هذه المسائل هو أال
تطبق مقوالت الفلسفة على نصوص الدين؛ ألن لكل منهما منهجا فى الوصول
إلى القضايا التى يريد إثباتها ،وال يكون للموفقين الحق فى اعتبار آرائهما هى
النهائية فى المسائل موضوع البحث(.)2
ثالثا :الواحد ال يصدر عنه إال واحد-:
ذهب الفارابى إلى أن اهلل واحد من كل وجه ،وال يقبل الكثرة بحال ،ولو
صدرت عنه الكثرة بفعل مباشر لكانت مؤدية إلى كثرة من جهة الفاعل ،وهذا
محال على البارى جل فى عاله ،ولذا يقول -:
()1انظر:د /محمد عبد الستار نصار -فى الفلسفة اإلسالمية فى المشرق ج 1صـ 30
( )1انظر :المرجع السابق
" الالزم عن األول يجب أن يكون أحدى الذات؛ ألن األول أحدى الذات من كل
جهة ،ويجب أن يكون هذا األحدى بالذات أمرا مفارقا"(.)1
إذن فالواحد ال يصدر عنه إال واحد؛ إذ لو صدرت الكثرة عنه تعالى لكان
مصدر كل واحد من هذه الكثرة غير مصدر اآلخر ،فيؤدى هذا إلى التركيب فى
الذات اإللهية ،وهذا ال يجوز فى حقه تعالى؛ ألنه تعالى منزه عن التركيب
والكثرة واالنقسام واالحتياج إلى الغير والمماثلة...إلخ.
لقد قال الفارابى بنظرية العقول العشرة ؛ حتى ال يصدر عن الواحد إال واحد،
وهو العقل األول ،ومن هذا العقل تبدأ الكثرة حينما يعقل(موجده) وهو( األول)
فيصدر عنه عقل آخر ،ويدرك ذاته فيصدر عنه وجود السماء األولى ،وهكذا
حتى العقل العاشر وفلك القمر ،أى أن الكثرة تبدأ من العقل األول ،حيث يتم
الخلق على مراحل وبشكل تدريجى(.)2
مدى تأثر الفارابى بفالسفة اليونان فى فكرة عدم صدور الكثرة عن الواحد-:
تأثر الفارابى بأفلوطين فى قوله بأن الواحد ال يصدر عنه إال واحد ،فقد ذكر
أفلوطين أن " كل ما كان بعد األول -يقصد المولى تعالى -فهو من األول
اضطرارا ،إال أنه :إما أن يكون منه سواء بال توسط ،وإما أن يكون منه
بتوسط أشياء أخرى هى بينه وبين األول فيكون إذن لألشياء نظام وشرح وذلك
أن منها ما هو ثان بعد األول ،ومنها ثالث ،أما الثانى فيضاف إلى األول ،وأما
الثالث فيضاف إلى الثانى"(.)3
أما هو فقد تأثر به ابن سينا حيث ذهب أيضا إلى القول بأن الواحد من
حيث هو واحد إنما يوجد عنه واحد( ،)4ويدلل على ذلك بأن " مفهوم أى علة ما
يجب عنها " أ " غير مفهوم أن علة ما بحيث يجب عنها " ب " ،وإذا كان
الواحد يجب عنه شيئان فمن حيثيتين مختلفتين فى المفهوم والحقيقة ...فكل ما
يلزم عنه اثنان معا ليس بتوسط اآلخر ،فهو منقسم الحقيقة"(.)5
( )1انظر :د /حسام الدين األلوسى – دراسات فى الفكر الفلسفى اإلسالمى صـ 119
( )1الفارابى – عيون المسائل صـ .11
( )0انظر:المرجع السابق
( )4انظر :الفارابى – عيون المسائل صـ ،13ود /جعفر آل ياسين – فيلسوفان رائدان الكندى والفارابى صـ
،110دار األندلس ،ط :ثانية 1310م.
ومن األول( اهلل) يفيض وجود ثان ( عقل أول ) وهو جوهر غير
متجسم أصال وال هو فى مادة ،وهو يعقل ذاته ويعقل األول ،فبما يعقل من
األول يلزم عنه وجود ثالث( عقل ثان) ،وبما يعقل من ذاته يلزم عنه وجود
السماء األولى ( أو الفلك المحيط أو الفلك األعلى ).
وهذا الوجود الثالث هو أيضا ال فى مادة ،وهو بجوهره عقل ( العقل
الثانى)وهو يعقل ذاته ويعقل األول ،فبما يعقله من األول يلزم عنه وجود رابع
( عقل ثالث) ،وبما يعقله من ذاته يلزم عنه وجود كرة الكواكب الثابتة أو فلك
الثوابت.
وهذا الوجود الرابع (العقل الثالث ) هو أيضا ال فى مادة ،وهو بجوهره
عقل ،وهو يعقل ذاته ويعقل األول ،فبما يعقله من األول يلزم عنه وجود
خامس(عقل رابع) ،وبما يعقله من ذاته يلزم عنه وجود كرة أو فلك زحل.
وهذا الوجود الخامس هو أيضا ال فى مادة ،وهو بجوهره عقل ( العقل
الرابع) وهو يعقل ذاته ويعقل األول ،فبما يعقله من األول يلزم عنه وجود
سادس( عقل خامس) ،وبما يعقله من ذاته يلزم عنه وجود كرة أو فلك
المشترى.
وهذا الوجود السادس هو أيضا ال فى مادة ،وهو بجوهره عقل ( العقل
الخامس) وهو يعقل ذاته ويعقل األول ،فبما يعقل من األول يلزم عنه وجود
سابع( عقل سادس) ،وبما يعقله من ذاته يلزم عنه وجود كرة المريخ.
وهذا الوجود السابع هو أيضا ال فى مادة ،وهو بجوهره عقل ( العقل السادس)
وهو يعقل ذاته ويعقل األول ،فبما يعقل من األول يلزم عنه وجود ثامن
(عقل سابع) ،وبما يعقل من ذاته يلزم عنه وجود كرة الشمس.
وهذا الوجود الثامن هو أيضا ال فى مادة ،وهو بجوهره عقل ( العقل السابع)
وهو يعقل ذاته ويعقل األول ،فبما يعقله من األول يلزم عنه وجود
تاسع( عقل ثامن) ،وبما يعقله من ذاته يلزم عنه وجود كرة الزهرة.
وهذا الوجود التاسع هو أيضا ال فى مادة ،وهو بجوهره عقل ( العقل
الثامن) وهو يعقل ذاته ويعقل األول ،فبما يعقله من األول يلزم عنه وجود
عاشر( عقل تاسع) ،وبما يعقله من ذاته يلزم عنه وجود كرة عطارد.
وهذا الوجود العاشر( العقل تاسع) هو أيضا ال فى مادة ،وهو يعقل
ذاته ويعقل األول ،فبما يعقله من األول يلزم عنه وجود حادى عشر( عقل
عاشر) ،وبما يعقله من ذاته يلزم عنه وجود القمر.
وهذا الوجود الحادى عشر هو آخر العقول الثوانى وعاشرها ،وهو
العقل الفعال ،أو عقل فلك القمر ،إنه يدبر عالم ما دون فلك القمر ،عالمنا
األسفل ،عالم الكون والفساد ،وهو أيضا وجوده ال فى مادة ،وهو يعقل ذاته
(.)1
ويعقل األول ،ولكن عنده ينتهى وجود األجساد السماوية
مدى تأثر الفارابى فى عدد العقول بفالسفة اليونان -:
بداية نتساءل :لماذا أوصل الفارابى الصادرات عن األول إلى عشرة عقول
بتوابعها المعروفة ولم يجعلها تتجاوز هذا العدد أو تقل عنه ؟
والجواب يتمثل فى أن اختيار الفارابى للعشرة له أصول فيثاغورية قديمة ترتبط
بصفة الكمال لهذا العدد واعتباره وحدة متتابعة فى النظام الرياضى تتفق مع
الصورة الهندسية الجميلة التى أبدعها الفارابى لعالم الفيض وسلطان اهلل فى
ملكوته األعلى ،وكل اتساق هندسى فهو دليل على وحدة الموضوع ،وغاية
(.)2
لتحقيق العدل السماوى المرغوب فيه
والفاارابى حااريص كاال الحاارص علااى هاذا التنساايق والتنظاايم سااواء فااى
العالم العلوى أو فى العالم السفلى ،حيث قرر بالنسبة لعالم الحس ترابط أعضااء
الجسد بين رئيس ومرؤوس حتى تنتهى إلى الارئيس الحقيقاى وهاو القلاب ،ومان
ثمة عكس هذا التخطيط أيضا على القوى النفسية التاى تنتهاى إلاى القاوة الناطقاة
الرئيسة ،ولم يكتف بذلك فرسم لمدينته الفاضلة صاورة تشابه هاذه الرؤياة وضاع
فاااى أعالهاااا الااارئيس الفاضااال أو اإلماااام العاااادل ،وال نعااادم أصاااول هاااذا الفكااار
الرياضى الذى تأثر به الفارابى منقوال عن أفالطون فى جمهوريته ونواميسه(.)3
وهكذا يتبين أن العقول قد وقفت عند هذا العدد لدى الفارابى؛ " ألن أفالك
الكواكب المتحركة عند أرسطو سبعة ،فإذا أضفنا إليها فلك الكواكب الثابتة والفلك
الخالى الذى هو فوقه والذى تأثر الفارابى فى القول به ببطليموس تبين لنا أنها يجب
()4
أن تكون عشرة لتحقق إدارة كل عقل للفلك الذى صدر عنه"
( )1انظر:الفارابى – آراء أهل المدينة الفاضلة صـ ، 91وراجع :د /محمد مرحبا – من الفلسفة اليونانية إلى
الفلسفة اإلسالمية صـ 410
( )1انظر :د /ماجد فخرى -تاريخ الفلسفة اإلسالمية صـ -191بيروت 1314م.
( )0انظر :د /جعفر آل ياسين – فيلسوفان رائدان الكندى والفارابى صـ 110
( )4د /محمد غالب– مشكلة األلوهية صـ ، 44دار إحياء الكتب العربية ط :ثانية 1011هـ 1311 /م.
المبحث الثالث
العقل الفعال وعالقته بالعالم
بداية نقول :ما من قضية أثارت جدال وخالفا على صعيد الفكر الفلسفى
قديمه ووسيطه كما أثارته قضية العقل الفعال ،وبخاصة عند اإلسالميين ،
وكانت بداية تلك المشكلة إشارة مختصرة لهذا العقل الفعال ال تخلو من
الغموض ،جاءت فى قول أرسطو "-:وهذا العقل هو المفارق الالمنفعل غير
الممتزج ،من حيث إنه بالجوهر فعل؛ ألن الفاعل دائما أسمى من المنفعل... ،
وال نستطيع أن نقول إن هذا العقل يعقل تارة وال يعقل تارة أخرى ،وعندما
يفارق فقط يصبح مختلفا عما كان بالجوهر ،وعندئذ فقط يكون خالدا وأزليا" (.)1
وقد سلك شراح أرسطو مسالك شتى فى تأويل قوله السابق؛ ألنهم
وجدوا فى قوله بعقل مفارق حى أزلى ما يدعم عقيدتهم فى خلود النفس ،وما
يترتب عليه من عقائد تخص العالم اآلخر ،وأهمها عقيدة الثواب والعقاب ،كذلك
فإنهم وجدوا فيها الطريقة المثلى للجمع بين االتجاه األرسطى واالتجاه
األفالطونى القائم أساسا وبخاصة فى صورته األفالطونية المحدثة على فكرة
خلود النفس ،وكان التوفيق بين أفالطون وأرسطو هو االتجاه الغالب فى فلسفة
الشراح المتأخرين من أمثال االسكندر وثامسطيوس( ت 344م ) والقديس توما
االكوينى ( 1214م ) وغيرهم ،وفى الفلسفة اإلسالمية أيضا وبخاصة عند
الفارابى الذى كانت له محاوالت كثيرة فى هذا االتجاه ،لعل كتابه فى الجمع بين
رأيي الحكيمين خير دليل على ذلك( ، )2وفيما يلى يلقى الباحث نظرة موجزة
على مفهوم العقل الفعال وعالقته بالعالم لدى المعلم الثانى-:
أوال – مفهوم العقل الفعال-:
العقل الفعال هو نوع من العقل المستفاد ،وصورة مفارقة لم تكن فى مادة
وال تكون أصال ،ولذا يقول الفارابى ":العقل الفعال هو نوع من العقل المستفاد،
وصور الموجودات التى هى فيه لم تزل وال تزال إال أن وجودها فيه على
ترتيب غير الترتيب الذى هى موجودة عليه فى العقل الذى هو بالفعل" (.)3
( )1أرسطو – النفس ك 0ف 1صـ ،111وانظر :د /محمود قاسم – فى النفس والعقل لفالسفة اإلغريق واإلسالم
صـ 131
( )1أرسطو – النفس ك 0ف 1صـ111
إله متعال ؛ألنه يأبه بشأن العالم السفلى بينما العقل الفعال حال فى النفس وهو
مبدأ تحقيق إمكاناتها اإلدراكية (.)1
رأى الفارابى -:يبدو أن االحتمال الثانى هو األصح لدى الفارابى والذى قال
بمفارقة العقل الفعال للنفس اإلنسانية وأنه يطرأ عليها كلما لزم األمر ذلك ،ولذا
يقول-:
" ومن قوى النفس العقل العملى وهو الذى يتم به جوهر النفس ،ويصير
جوهرا عقليا بالفعل ،ولهذا العقل مراتب يكون مرة عقال هيوالنيا ،ومرة عقال
بالملكة ،ومرة عقال مستفادا ،وهذه القوى التى تدرك المعقوالت جوهر بسيط
ليس بجسم وال تخرج من القوة إلى الفعل ،وال تصير عقال تاما إال بسبب عقل
مفارق وهو العقل الفعال الذى جعل العقل بالقوة عقال بالفعل بما أعطاه من ذلك
المبدأ ،وبذلك صارت المعقوالت معقوالت بالفعل "(.)2
وتجدر اإلشارة إلى أن العقل الفعال لم يكن له دور فى حركة األفالك
والكواكب لدى الفارابى ؛ ألن هذا العقل يعنى بعالم ما تحت فلك القمر ،أى
بعالم الكون والفساد.
وهذا العقل لدى الفارابى هو ":سبب وجود األنفس األرضية من وجه ،
وسبب وجود األركان األربعة ( الماء – الهواء – التراب – النار ) بوساطة
األفالك من وجه آخر"()3؛ وذلك أن من تحرك األفالك ومماسة بعضها لبعض
تحصل العناصر األربعة وتمتزج امتزاجات مختلفة النسب والحركات وتحصل
عنها األجسام ،ولهذه " األجسام الكائنة من األركان األربعة قوى تعطيها
االستعداد لقبول الفعل وهى الرطوبة واليبوسة " ( )4ولكنها كلها مركبة من
هيولى وصورة.
" والصورة قوامها بالمادة ،والمادة موضوعة لحمل الصور ،فإن
الصور ليس لها قوام بذواتها وهى محتاجة إلى أن تكون موجودة فى موضوع ،
وموضوعها المادة ،والمادة إنما وجودها ألجل الصور"( )5لكن المادة ال
تحصل على الصورة وال تنتقل من صورة إلى أخرى إال تحت تأثير فاعل
( )1راجع :د /إبراهيم العاتى– اإلنسان فى فلسفة الفارابى صـ ،119وانظر :د /ماجد فخرى – أرسطو طاليس(
المعلم األول) صـ 11
- 1الفارابى– مقالة فى معانى العقل صـ ، 44وراجع:د /سامى لطف– نماذج من فلسفة اإلسالميين ( حكماء
المشرق اإلسالمى ) ج1صـ ،111ط:أولى بالقاهرة 1311م.
- 0الفارابى – عيون المسائل صـ 11
- 4الفارابى – المرجع السابق
- 1الفارابى – السياسات المدنية ،تحقيق وتقديم وتعليق د /فوزى مترى نجارصـ ،09المطبعة الكاثوليكية
بيروت 1394م.
خارج عنها ،وهذا الفاعل هو العقل الفعال الذى يسميه الفارابى " واهب
الصور"(.)1
أقسام الموجودات ومراتبها -:
يرى الفارابى أن الموجودات تنقسم إلى قسمين:
القسم األول :الموجودات الروحية-:
للموجودات الروحية ست مراتب عظمى ،كل مرتبة منها تحوز صنفا منها :
أ -السبب األول ( اهلل) فى المرتبة األولى.
ب -العقول المفارقة ،أو ما يسمى لدى الفارابى باألسباب الثوانى فى المرتبة
الثانية ،وهى التى بسببها تتحرك األفالك الثمانية فتدور حول األرض الثابتة فى
المركز وتكون حركتها مستديرة وأزلية.
ت -العقل الفعال فى المرتبة الثالثة.
ث -النفس اإلنسانية فى المرتبة الرابعة.
ج -الصورة فى المرتبة الخامسة ،والصورة قوامها بالمادة – كما مر -والمادة
موضوعة لحمل الصور ،فإن الصور ليس لها قوام بذواتها وهى محتاجة إلى
أن تكون موجودة فى موضوع ،وموضوعها المادة ،والمادة إنما وجودها
ألجل الصور(. )2
ح -المادة فى المرتبة السادسة ،فما فى المرتبة األولى منها ال يمكن أن يكون
كثيرا بل واحدا فردا فقط ،وأما فى كل واحدة من سائر المراتب فهو كثير،
وإلى هذا أشار الفارابى قائال-:
" وثالثة منها -يقصد المبادئ -ليست هى أجساما وال هى فى أجسام وهى
السبب األول والثوانى والعقل الفعال ،وثالثة هى فى أجسام وليست ذواتها
أجساما وهى النفس والصورة والمادة"(.)3
القسم الثانى :الموجودات المادية-:
وتتمثل فيما يلى -:الجسم السماوى ،والحيوان الناطق ،والحيوان الغير ناطق،
والنبات ،والجسم المعدنى ،واألسطقسات األربع (.)1
- 1انظر :د /خليل الجر وحنا الفاخورى – تاريخ الفلسفة العربية ج 1صـ ،111دار الجيل بيروت لبنان،
ط:ثانية 1311م.
( )1انظر :الفارابى – السياسات المدنية صـ ، 09ود /عبده الشمالى – دراسات فى تاريخ الفلسفة العربية
اإلسالمية وآثار رجالها صـ ،111دار صادر بيروت ،ط :خامسة 1033هـ1313 /م.
( )0الفارابى – السياسات المدنية صـ 01
فاألول هو السبب فى وجود األسباب الثوانى ،وعن كل من األسباب الثوانى
يحصل وجود فلك من األفالك – كما مر – وعن األخير يحصل وجود الكرة
التى فيها القمر ،وعن العقل الفعال يحصل وجود ما دون فلك القمر ،ويسمى
الفارابى األول " اهلل " ويسمى الثوانى بالروحانيين والمالئكة وما أشبه ذلك ،
(.)2
ويسمى العقل الفعال بالروح األمين وروح القدس
أثر الفكر اليونانى على الفارابى فى بيان أقسام الموجودات ومراتبها-:
يبدو األثر األرسطاطاليسى هنا واضح على فكر الفارابى حيث استفاد
الفارابى فى ذلك من نظرية ( المحركين الثوانى ) أو ( العقول المفارقة )
ألرسطاطاليس ،وهو بذلك يوفق بين الدين والفلسفة ليرض الدين اإلسالمى من
ناحية ويرضى الفلسفة وبخاصة فلسفة أرسطاطاليس من ناحية أخرى حيث
اعتبر المحركين الثوانى أو العقول المفارقة المالئكة (.)3
كيفية االتصال بالعقل الفعال-:
يرى الفارابى أن هناك طريقان لالتصال بالعقل الفعال هما طريق الفيلسوف
والنبى ،وفيما يلى الحديث عنهما بإيجاز-:
أوال :طريق الفيلسوف -:
يرى الفارابى أن طريق الفيلسوف هو طريق البحث والدراسة والنظر
والتأمل ،وبفضل التأمالت العقلية يستطيع اإلنسان أن يصعد إلى منزلة العقول
العشرة ،ويترقى إلى درجة العقل المستفاد وحيث يتقبل األنوار اإللهية ،إال أن
النفوس ليست كلها قادرة على ذلك االتصال ،إنما هذه الدرجة خاصة باألرواح
القدسية التى تستطيع أن تخترق حجب الغيب وتدرك عالم النور وال يستغرقها
الحس ،وقد يتعدى تأثيرها من بدنها إلى أجسام العالم وما فيه ،وتقبل المعلومات
من الروح والمالئكة بال تعليم من الناس ،فهذه درجة الحكيم الذى بوسعه
االتصال بالعقل الفعال(.)4
( )1األسطقسات :جمع أسطقس وهى العناصر البسيطة التى تتكون منها األجسام المركبة وهى أربعة بنظر
الفارابى ( الماء والهواء والتراب والنار)انظر:الفارابى – إحصاء العلوم – تقديم وشرح د /على بوم لحم – دار
الهالل ط :أولى 1339م.
( )1انظر :الفارابى – السياسات المدنية صـ 01
( )0انظر :أرسطو – النفس ك 0ف 1صـ 111
( )4انظر :الفارابى – آراء أهل المدينة الفاضلة صـ 100
ثانيا :طريق النبى -:
ذهب الفارابى إلى القول بأن طريق النبى هو طريق المخيلة الذى عن
طريقها يكون االتصال بالعقل الفعال ،والوحى الذى ينزل على األنبياء هو أثر
من آثار المخيلة ،ولذا يقول -:
" إن القوة المخيلة إذا قويت فى اإلنسان وتخلصت من مشاغل المحسوسات
ومن خدمتها للقوة الناطقة استطاعت أن تؤدى وظيفتها فى وقت اليقظة مثل
حالها عند تحللها من هذه المشاغل عند النوم ،فال يمتنع أن يكون اإلنسان إذا
بلغت قوته المتخيلة نهاية الكمال أن يقبل فى يقظته عن العقل الفعال الجزئيات
الحاضرة والمستقبلة أو محاكياتها من المحسوسات ،ويقبل محاكيات المعقوالت
المفارقة وسائر الموجودات الشريفة ويراها ،فيكون له بما قبله من المعقوالت
"(.)1
نبوة باألشياء اإللهية
وعلى هذا فإن فى مقدور المخيلة أن تصعد إلى العقل الفعال وأن تتلقى
عنه الحقائق ،وذلك عن طريق الوحى أو الرؤيا الصادقة ،وهذا االتصال يكون
لألنبياء فى حال النوم وحال اليقظة ،لكن هذا ليس أمرا ميسورا لكل الناس؛ لذا
فإن الفارابى يذكر تفاوت الناس فى االتصال عن طريق المخيلة ،فهناك من
الناس من لديهم قوة فى المخيلة يستطيعون االتصال بالعقل الفعال ،لكن هؤالء
دون األنبياء إذ أن اتصالهم يكون فى المنام فقط ،على العكس من األنبياء فإن
اتصالهم يكون فى اليقظة وحال النوم أيضا ،ودون هؤالء يكون العامة ،وهم
ضعيفو المخيلة ،ليست لديهم القدرة على االتصال بالعقل الفعال ،وإلى هذا أشار
الفارابى قائال-:
" ودون هذا من يرى جميع هذه فى نومه فقط ،وهؤالء تكون أقاويلهم التى
يعبرون بها أقاويل محاكية ورموزا وألغازا وابداالت وتشبيهات ثم يتفاوت
هؤالء تفاوتا كثيرا ،فمنهم من يقبل الجزئيات ويراها فى اليقظة فقط وال يقبل
المعقوالت ،ومنهم من يقبل المعقوالت ويراها فى اليقظة وال يقبل الجزئيات،
ومنهم من يقبل بعضها ويراها دون بعض ،ومنهم من يرى شيئا فى يقظته وال
يقبل بعض هذه فى نومه ،ومنهم من ال يقبل شيئا فى يقظته بل إنما يقبل ما يقبل
فى نومه فقط ،فيقبل فى نومه الجزئيات وال يقبل المعقوالت ،ومنهم من يقبل
شيئا من هذه وشيئا من هذه ،ومنهم من يقبل شيئا من الجزئيات فقط ،وعلى هذا
يوجد األكثر "(.)2
( )1انظر :أرسطو -المقالة الثانية عشرة من الميتافيزيقا -ترجمة د /ماجد فخرى – أرسطو المعلم األول صـ ،119
بيروت -ط :ثانية 1311م ،وانظر :الفارابى – آراء أهل المدينة الفاضلة صـ 31
( )1سورة الحج آية 11
( )0صحيح مسلم – كتاب الفضائل – باب فضل نسب النبى صلى اهلل عليه وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة ج1
صـ 11حديث 9011
( )4اآلمدى:غاية المرام فى علم الكالم – تحقيق د /حسن الشافعى صـ –011ط :المجلس األعلى للشئون
اإلسالمية 1031هـ ،وانظر:القاضى عبد الجبار – المغنى فى أبواب التوحيد والعدل ،تحقيق محمود الخضيرى ،
مراجعة د /إبراهيم مدكور ،ج 11صـ ، 3طبعة دار الكتب المصرية عام 1011هـ 1390 /م.
" وال يشترط فى اإلرسال شرط من األعراض واألحوال المكتسبة
بالرياضيات والمجاهدات فى الخلوات واالنقطاعات ...بل اهلل تعالى يختص
برحمته من يشاء من عباده ،فالنبوة رحمة وموهبة متعلقة بمشيئته فقط ،وهو
أعلم حيث يجعل رسالته"(.)1
يقول صاحب الجوهرة -:
ولو رقى فى الخير أعلى درجة ولم تكن نبـوة مـكتسبة
()2
جـل اهلل واســـع النعـم . بل فضل اهلل يؤتيه من يشاء
موقف أبى البركات البغدادى( )8من العقل الفعال-:
لقد رأى البغدادى أنه ال داعى لفكرة العقل الفعال من أصلها ،فالنفس
اإلنسانية عنده تتصل مباشرة بالشئ المعروف وتعرفه ،فالمعرفة مواجهة بين
المدرك والمدرك ،والنفس اإلنسانية تدرك معارفها بذاتها دون حاجة إلى
ضرورة فرض احتياجها إلى العقل وحده ،فقد تحتاج إليه وإلى غيره ،وقد
تستفيد منه ومن غيره ،وقد ال تستفيد منه وال من غيره.
وال يرتضى البغدادى فكرة وجود عقل فعال واحد لكل النفوس اإلنسانية
مع ما يرى من كثرة هذه النفوس واختالف طبائعها ومنازعها ،ولذا يقول ":أما
من قال بأن علتها واحدة ،وهى الذى سماه بالعقل الفعال فيكفى فى رد قوله اآلن
()4
ما ثبت من اختالف الطبائع باختالف األحوال واألفعال" .
ويضيف قائال ":يقولون إن هذا العقل الفعال هو العلة القريبة التى عنها
صدور وجود النفوس اإلنسانية وبحسب ذلك يرونها واحدة بالنوع والماهية
والطبيعة والغريزة ال تختلف فى جواهرها وإنما تختلف فى حاالتها العرضية
التى تلحقها من جهة األبدان وأمزجتها والعادات والتعاليم ،ونحن فقد أوضحنا
بطريق النظر االستداللى من أحوالها وأفعالها اختالف جواهرها وماهياتها
بالنوع والطبيعة فهى عن علل كثيرة ال عن علة واحدة ،ولم يبق بحسب ذلك
()5
. النظر شك فى كثرتها بالماهية والطبيعة والنوع ويبقى شك فى كثرة عللها "
( )1اإلمام الغزالى :هو( محمد بن محمد بن أحمد الغزالى الطوسى ،كنيته أبو حامد ،ولد بمدينة طوس من مدن
خراسان سنة 410هـ ،أشعرى المعتقد ،صوفى المسلك ،له العديد من اآلثار كالوسيط وإحياء علوم الدين ،وغير
ذلك ،توفى سنة 101هـ ).
جـ 11صـ ،99دار إحياء -انظر:ابن خلكان -وفيات األعيان جـ 0صـ ،010وانظر :كحالة -معجم المؤلفين
التراث العربي بيروت.
( )1اإلمام الغزالى – تهافت الفالسفة صـ ،13بيروت ،ط 4 :لعام 1330م
بذلك أنه يحل مشكلة صلة القديم بالحادث ومشكلة الزمان والحركة
والهيولى...الخ...والصعوبة هى ليست فى استحالة حل كهذا يجمع بين الحدوث
والقدم ،بل فى أمور أخرى أهم مثل صدور الكثرة عن الواحد( ،)1فإذا قيل
للفارابى إن العالم قديم مخلوق ،أو قديم محدث وعنى بالمخلوق والمحدث ما
يعنيه هو بأنه معلول ،جزم بتناقض هذا الكالم (.)2
وتجدر اإلشارة إلى أن تفريق الفارابى بين التقدم بالذات والتقدم بالزمان فيه
نظر؛ ألنه ال تقدم حقيقى إال بالزمان ،ولذا يقول ابن تيمية ":ما يذكرونه –
يقصد الفالسفة ومنهم الفارابى -من أن التقدم والتأخر يكون بالذات والعلة
كحركة اإلصبع ،ويكون بالطبع كتقدم الواحد على االثنين ،ويكون بالمكانة
كتقدم العالم على الجاهل ...كالم مستدرك ،فإن التقدم والتأخر المعروف هو
التقدم والتأخر بالزمان ،فإن " :قبل" و"بعد" و"مع"معانيها الزمة للتقدم والتأخر
الزمانى ،وأما التقدم بالعلية أو الذات مع المقارنة فى الزمان فهذا ال يعقل البتة
وال له مثال مطابق فى الوجود بل هو مجرد تخيل ال حقيقة له"(.)3
ومن ثم يتبين أن كون الشئ معلوال لشئ ال يفهم منه إال أن يكون المعلول
متأخرا فى وجوده ال فى رتبته فقط عن العلة ،أما ما يدعيه الفارابى من أن
اتصاف البارى بالجود يقتضى أن يلزم عنه العالم أزال ففيه نظر ؛ ألن الفعل
إنما امتنع فى األزل ال لمعنى يرجع إلى الفاعل بل لمعنى راجع إلى نفس الفعل
،حيث لم يتصور وجوده ،فإن الفعل ما له أوله ،واألزل ما ال أول له ،واجتماع
ما ال أول له مع ما له أول محال ،فهو تعالى جواد حيث يتصور الجود وال
يستحيل الموجود(.)4
المحور الثانى :نقد مبدأ ال يصدر عن الواحد إال واحد-:
ذهب الفارابى إلى القول بأنه ال يصدر عن الواحد إال واحد ،لكن
الغزالى يكر على هذا األساس فيرى أنه يستحيل كون العالم فعال هلل على أصل
الفارابى ؛ ألنه قال ال يصدر عن الواحد إال واحد والمبدأ واحد من كل وجه ،
والعالم مركب من مختلفات ،فال يتصور أن يكون فعال هلل بموجب أصل
الفارابى سالف الذكر.
( )1هو(محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن على التيمى البكرى الطبرستانى األصل الرازى المـولد ،ولد سنة خمسمائة
وأربع وأربعين من الهجرة ،توفى عام 909هـ عن عمر يناهز اثنين وستين عاما) -.انظر :الوافى بالوفيات -تحقيق أحمد
األرناؤوط– تركى مصطفى حـ 4صـ 111دار إحياء التراث العربى– بيروت لبنان ط:أولى 1410هـ 1000-م ،والداوودى-
طبقات المفسرين جـ 1صـ – 111دار الكتب العلمية– بيروت لبنان ،ط:أولى 1400هـ 1310 /م ،وابن األثير -الكامل فى
التاريخ جـ 11صـ 11دار صادر بيروت 1011هـ 1391 -م.
( )1انظر :فخر الدين الرازى – المحصل صـ ،101وانظر له أيضا :األربعين فى أصول الدين صـ ، 103وانظر
له أيضا – لباب اإلشارات والتنبيهات صـ ،109القاهرة 1010م ،واإلمام الشهرستانى – نهاية اإلقدام فى علم
الكالم صـ 19
( )0انظر :ابن رشد – تهافت التهافت صـ 119وما بعدها ،بيروت 1300م.
( )4راجع :د /حسام الدين األلوسى – دراسات فى الفكر الفلسفى اإلسالمى صـ 113
وإذا انتقلنا إلى ابن تيمية فى نقده لنظرية العقول العشرة نرى أنه قد
استفاد من موقف أبى البركات سالف الذكر ،حيث ذهب إلى القول بأن المتفلسفة
– ومنهم الفارابى – الذين ذهبوا إلى القول بأن الوحد ال يصدر عنه إال واحد قد
أخطأوا ؛ألن كل معلول البد وأن يقترن بعلة ،فالتسخين مثال ال يكون إال بين
شيئين الفاعل كالنار والمنفعل كالجسم ،والموجد إذا كان واحدا فال يكون علة،
أما التولد فيكون عن طريق زوجين ،فتعالى البارى جل فى عاله أن يكون علة
أو أن يكون عنه تولدا ،ولهذا قال مجاهد وذكره البخارى فى صحيحه فى الشفع
والوتر أن كل شئ خلق اهلل شفع السماء واألرض والبر والبحر والجن واإلنس
والشمس والقمر ونحو هذا ،والوتر هو اهلل الذى ال شبيه له (.)1
فقال :أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة ؟ وذلك أن اآلثار الصادرة عن العلل
المتولدات فى الموجودات البد فيها من شيئين :أحدهما يكون كاألب ،واآلخر
يكون كاألم القابلة ،وقد يسمون ذلك الفاعل القابل كالشمس مع األرض والنار
مع الحطب ،فأما صدور شئ واحد فهذا ال وجود له فى الوجود أصال(.)2
كما انتقد ابن تيمية أساليب التشبيه واالستعارة التى استخدمها المتفلسفة
– ومنهم الفارابى – فى كيفية صدور األشياء عن الواحد فقال-:
" وأما تشبيههم ذلك بالشعاع مع الشمس ،وبالصوت – كالطنين – مع
الحركة والنقر فهو أيضا حجة هلل ورسوله والمؤمنين عليهم ،وذلك أن الشعاع
إن أريد به نفس ما يقوم بالشمس :فذلك صفة من صفاتها ،وصفات الخالق
ليست مخلوقة ،والهى من العالم الذى فيه الكالم ،وإن أريد بالشعاع ما ينعكس
على األرض :فذلك البد فيه من شيئين ،وهو الشمس التى تجرى مجرى األب
الفاعل واألرض التى تجرى مجرى األم القابلة ،وهى الصاحبة للشمس ،وكذلك
الصوت ال يتولد إال عن جسمين يقرع أحدهما اآلخر أو يقلع عنه فيتولد الصوت
الموجود فى أجسام العالم عن أصلين يقرع أحدهما اآلخر أو يقلع عنه ،فمهما
احتج وا به من القياس فالذى جاء اهلل به هو الحق وأحسن تفسيرا ،وأحسن بيانا
وإيضاحا للحق وكشفا له"(.)3
ومن ثم يتبين بطالن نظرية العقول العشرة ؛ ألنها – كما مر -تقيد
قدرة البارى جل فى عاله على الخلق واإليجاد وتجعله عاجزا عن أن يصنع
الكثرة الكونية إال فى وجود العقول وبدونها ال يوجد كون ،وهذا يتعارض مع
( )1البخارى فى صحيحه – كتاب األنبياء – باب خلق آدم صلوات اهلل عليه وذريته ج 4صـ 111حديث 11
( )1انظر :ابن تيمية – مجموع فتاوى ابن تيمية ج 4صـ ،101مجمع الملك فهد 1419هـ 1331 /م.
( )0ابن تيمية – مجموع فتاوى ابن تيمية ج 4صـ 101
قول اهلل عز وجل ":وكان اهلل على كل شئ مقتدرا"( ،)1وقوله ":إن اهلل على كل
شئ قدير"( ،)2وغيرها من اآليات.
المحور الثالث:نقد مبدأ التوحيد بين إرادة اهلل وقدرته وعلمه وإيجاده
األشياء-:
يتمثل الرد على الفارابى فى هذا المحور من خالل النقاط التالية -:
أوال -:الرد على ادعاء الفارابى أن القول بحدوث العالم يتطلب حدوث إرادة
البارى عز وجل -:
ذهب الفارابى إلى أن تأخر العالم عن البارى جل فى عاله يتطلب حدوث
إرادة لم تكن ،فاإلرادة منفية عن البارى عز وجل؛ ألنها تسبق بشوق ،والشوق
فى حقه محال ،وفيما ذهب إليه الفارابى نظر؛ إذ ما الذى يمنع من أن يكون
العالم قد حدث بإرادة البارى القديمة التى اقتضت وجوده فى الوقت الذى وجد
فيه وعلى الوجه الذى وجد عليه ؟ وأنه كان ممتنعا قبل خلق اهلل له ألنه لم يكن
مرادا له عز وجل ،يقول الغزالى-:
" لم تنكرون على من يقول :إن العالم حدث بإرادة قديمة اقتضت وجوده فى
الوقت الذى وجد فيه ،واقتضت أن يستمر العدم إلى الغاية التى استمر إليها ،وأن
يبتدئ الوجود من حيث ابتدأ ،وأن الوجود قبله لم يكن مرادا فلم يحدث لذلك،
وأنه فى وقته الذى حدث فيه مراد باإلرادة القديمة فحدث ذلك ،فما المانع من
هذا االعتقاد وما المحيل له ؟"(.)3
وإذا قال الفارابى :لماذا تختار اإلرادة وقتا دون وقت لتوجد فيه العالم مع أن
األوقات كلها متساوية ؟
فإن اإلمام الغزالى يجيب على هذا من جانبين-:
األول -:إن هذا التخصيص هو شأن اإلرادة وحقيقتها ،وكما ال يقال" لم اقتضى
العلم اإلحاطة بالمعلوم" ؟ ألن هذه وظيفته ،كذلك ال يقال ":لم خصصت اإلرادة
وقتا دون غيره" ؟ فالتخصيص هو وظيفة اإلرادة.
الثانى -:يرى الغزالى أن الفارابى ومن على شاكلته إن كان يمنع هنا تخصيص
اإلرادة القديمة الشئ عن مثله فإنه قد قال بتخصيص الشئ عن مثله مرتين-:
األولى -:زعمه أن حركة األفالك تتم من المشرق إلى المغرب :فى بعضها ،
وفى البعض اآلخر العكس...لماذا ؟ ما المخصص ؟ ال يجيب رغم أن الجهات
كلها بالنسبة لألفالك متساوية.
( )1االقتصاد فى االعتقاد صـ ، 31وانظر له أيضا :تهافت الفالسفة صـ 101وما بعدها ،وراجع :د /الدقيقى –
التصور الفلسفى لنشأة الكون صـ 013
( )1سورة الشورى آية 11
( )0فخر الدين الرازى -المحصل صـ. 191
( )4المرجع السابق صـ. 191
( )1المرجع السابق صـ. 191
وهما بخالف المقدورية ،لكن اإلمكان وصف مشترك فيه بين الممكنات ،فيكون
الكل مشتركا فى صحة مقدورية اهلل تعالى ،فلو اختصت قادريته بالبعض افتقر
إلى المخصص ،فإذا ثبت أنه قادر على جميع الممكنات وجب أال يوجد شئ من
الممكنات إال بقدرته "(.)1
ومن ثم يتبين بطالن نظرية العقول العشرة ؛ ألنها تقيد قدرة البارى
جل فى عاله على الخلق واإليجاد وتجعله عاجزا عن أن يصنع الكثرة الكونية
إال فى وجود العقول وبدونها ال يوجد كون.
ثالثا -:الرد على دعوى التوحيد بين إرادة البارى عز وجل وبين إيجاده
األشياء-:
هناك فرق أيضا بين إرادة اهلل عز وجل وبين إيجاده األشياء ؛ ألنه" ال مانع
من أن تكون اإلرادة واحدة والمتعلقات متعددة ،وذلك على نحو تعلق الشمس بما
قابلها واستضاء بها ،فإنه وإن كان متعددا ال يوجب تعددها فى نفسها وإن
أوجب تعدد متعلقاتها"(.)2
رابعا -:الرد على الفارابى فى جمعه بين نفى اإلرادة ونفى الطبع -:
ذهب الفارابى إلى نفى اإلرادة عن البارى عز وجل – كما مر – ألنها
تسبق بشوق ،والشوق فى حقه تعالى محال ،ونفيه لإلرادة جعله ينفى القول
بالطبع فى نظرية العقول العشرة ،وفى هذا نظر؛ فقد استدل علماء الكالم على
إثبات اإلرادة هلل عز وجل بإثبات التخصيص والترجيح فى الممكنات " فحصول
أفعاله فى أوقات معينة مع جواز حصولها قبلها وبعدها يستدعى مخصصا ،
وليس هو القدرة ،ألن شأنها اإليجاد الذى نسبته إلى كل األوقات على السواء،
وال العلم ألنه تابع للمعلوم ،فال يكون مستتبعا له المتناع الدور ،وظاهر أن
سائر الصفات ال يصلح لذلك سوى اإلرادة فالبد من إثباتها " (.)3
بمعنى أن بعض أفعاله عز وجل متقدماة وبعضاها متاأخرة ،ماع أن ماا تقادم
يجااوز عقااال أن يتااأخر ،ومااا تااأخر يجااوز عقااال أن يتقاادم ،فيحتاااج ذلااك التقااديم
والتااأخير إلااى ماارجح ومخصااص ،وال يصاالح لااذلك سااوى اإلرادة فالبااد ماان
إثباتها.
وأما عدم صالحية القدرة للتخصيص :ألن نسبتها إلى جميع الممكنات فى
جميع األوقات على السواء ،فيمكن أن يقع بها كل ممكن فى أى وقت بدون
تمييز بين ممكن وآخر ،ولما كان العلم تعلقه عام يتناول كل شئ من شئون