Professional Documents
Culture Documents
أعدها و َّ
علق عليها َّ
حسن معلم داود حاج حممد
2
املقدمة
بسم اهلل الرحمن الرحيم
الحمد هلل رب العالمين ،والصالة والسالم على نبينا محمد األمين ،وعلى آله
وصحبه أجمعين ،ومن اقتدى هبم إلى يوم الدين.
أما بعد ،فإن اهلل تعالى جعل المال قيا ًما للناس ،يقضون به حوائجهم
ويحققون به مصالحهم ويعبدون به خالقهم ،ولذلك كان من أهم وظائف إمام
المسلمين تدبير المال العام وتصريفه يف مصالح المسلمين.
والمال العام ثالثة أقسام:
-1مال بيت المال ،وموارده خمسة :سهم المصالح من ُخمس الغنيمة ،ومن
ُخمس الفيء ،والصدقات ،واإلرثُّ ،
وكل مال ُجهل مال ُكه.
-2واألعيان المشرتكة ،كالمعادن والماء المباح واألرض الموات وما عليها
من الحطب والكأل والخضار ونحوها.
-3ومنافع األعيان المحبوسة على الحق العام ،كالشوارع والمساجد
والمقابر المسبلة وكل ٍ
وقف عا ٍّم. ُ َّ
وهذه األموال العامة يتولى التصرف فيها اإلمام العادل ون َُّوا ُبه ،لكن قد ال
أصال يف بعض األقطار ،وقد يوجد لكنه ال يسوس بالعدل وال يقوم
يوجد إمام ً
بالحق وال يحكم بالشرع ،وذلك كثير يف هذا الزمان.
وهذا الكتاب فيه توضيح أحكام المال العام عند فقد السلطان العادل ،وهو
قسمان:
القسم األول فيه كالم اإلمام عز الدين بن عبد السالم $والتعليق عليه ،وقد
جل جوانبِه ،وب َّين ما يتعلق به من
أبدع العز يف المجال فق َّعد أصوله ،وج َّلى َّ
الشرائع والمصالح.
3
والقسم الثان فيه مسائل مختارة تكون أمثلة موضحة لقاعدة الباب ،انتقيت
فيها عبارات ألئمة أصحابنا الشافعية ،مع التعليق عليها.
وأرجو أن يكون يف هذا الجمع علم له نفع ،وأسأل اهلل أن يرحمني به يوم
الجمع ،وأن يجعل فيه الربكة والفائدة للمجتمع.
وصلى اهلل وس َّلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* * *
4
القسم األول:
كالم العز بن عبد السالم
عز الدين بن عبد السالم :)1($
قال اإلمام شيخ اإلسالم أبو محمد ُّ
5
خاص يف جهاته :أهمها فأهمها(.)1
ٍّ صرف َّ
كل مال ُ -في
ِ
أصلحها -ويصرف ما وجده من أموال المصالح العا َّمة يف مصارفها:
ِ
فأصلحها(.)2
ِ
صرف تلك األموال إلى مستحقيها، مصالح أل َّنا لو منعنا ذلك لفاتت
ُ
وألثِم أئم ُة الجور بذلك وض ِمنُوه ،فكان تحصيل هذه المصالح ودر ُء هذه
المفاسد أولى من تعطيلها(.)3
ِ
وصرف مال الوقف للجهة ِ
المستح َّقة، ( )1وذلك كإعطاء مال الزكاة لألصناف
ِ
الموقوف عليها كوقف المدارس ووقف اللقطاء ووقف األيتام ونحو ذلك.
ومن ذلك أن ُوقوف مساجد القرى يصرفها صلحاء القرية يف عمارة المساجد
ومصالحه ،كما يف الروضة ( ،)7/6وحاشية الشربيني على الغرر البهية
(.)438/3
( ) 2ومن ذلك صرف أموال بيت المال يف مصالح المسلمين ،كأرزاق المقاتلة وعمارة
الحصون والقناطر والمساجد وأرزاق القضاة والعلماء واألئمة والمؤذنين وكل ما
وأهمها سدُّ الثغور وإصالحها .ينظر :روضة الطالبين
ُّ ال بدَّ منه للمسلمين،
( ،)355/6وكفاية األخيار (ص .)506
( )3قال يف موضع آخر ( )146/1يف أمثلة األفعال التي ترتجح مصالحها على
يختص باألئمة مفسدة ،لكنه يجوز يف األموال إذا كان
ُّ مفاسدها« :تولي اآلحاد لما
اإلمام جا ًئرا ال يضع الحق يف مستحقيه ،فيجوز لمن ظفر بشيء من ذلك الحق أن
تحصيال لمصلحة ذلك الحق الذي لو ُدفع إلى اإلمام الجائر
ً يدفعه إلى مستحقيه،
لضاع ،ولكان دف ُعه إليه إعانة على العصيان ،وقد قال اهلل تعالى{ :وال تعاونُوا على
ان}». اإلث ِم والعدو ِ
ِ
ُ
6
ً
أمواال مغصوبة ،فإن عرف مالكيها فلي ُر َّدها عليهم ،وإن لم وإن وجد
تعذرت معرفتهم بحيث يئس من معرفتهم صرفها يف المصالح يعرفهم :فإن َّ
ستقص عنهم على حسب إمكانه ،فإن يئس من ِ العامة .وإن تو َّقع معرفتهم فلي
معرفتهم صرفها يف المصالح العامة :أوالها فأوالها(.)1
وإنما قلنا ذلك؛
-1ألن اهلل تعالى قال{ :وتعاونُوا على البِر والتَّقوى} ،وهذا بِر وتقوى.
واهلل يف عون العبد ما كان العبدُ يف عون أخيه».
-2وقال ﷺُ « :
ٍ
معروف صدقة». كل -3وقال ﷺُّ « :
-4وإذا جوز رسول اهلل ﷺ ٍ
لهند أن تأخذ من ِ
مال زوجها أبي سفيان ما َّ
خاص ًة ،فألن يجوز ذلك يف
َّ يكفيها وولدها بالمعروف ،مع كون المصلحة
المصالح العامة أولى ،وال س َّيما مع غلبة من ِع الظلمة للحقوق.
أتم مِن ترك هذه األموالشك أن القيام هبذه الحقوق والمصالح ُّ -5وال َّ
بأيدي الظلمة يأكلوهنا بغير حقها ،ويصرفوهنا إلى غير مستحقيها.
حد ح ُّقه أن يأخذه مِن مال جاحده إذا ظ ِفر به -6وإذا جوز الشرع لمن ج ِ
ُ َّ
إن كان من جنسه ،وأن يأخذه ويبيعه إن كان من غير جنسه ،مع أن هذه
فجواز ما ذكرناه مع عمومه أولى.
ُ خاصة،
مصلحة َّ
( ) 1األدلة اآلتية ترجع للمسألتين السابقتين :مسألة األموال العامة ،فاألموال المغصوبة
تصير من األموال العامة بشرط اليأس من مالكيها ،وكذلك ُّ
كل مال ضائع كما
أيضا بيان حال من ال يعرف كيفية الصرف يف المصالح العامة.
سيأيت .وسيأيت ً
7
(و ُيحتمل أن يجب ذلك على من ظ ِفر به( ،)1كمن وجد اللقطة يف
م ِضيعة)(.)2
وقد خ َّير بعض أصحاب الشافعي واجد ذلك بين أن يصرفه يف مصارفه،
صرف ذلك يف مصارفه(.)3 ُ وبين أن يحفظه إلى أن يلي المسلمين من هو أهل ي
ظهور إمام ٍ
بوقت ُيتو َّقع فيه وينبغي أن يتق َّيد ما ذكره بعض األصحاب
ُ
واجده أن المأيوس فيه من ذلك فيتع َّي ُن على ِ
ِ عدل ،وأ َّما يف مثل هذا الزمان
ورجح الشيخ الوجوب يف القواعد الصغرى ،وسيأيت نقل عبارته يف المسألة الثالثة،
(َّ )1
وهو المعتمد.
جوز الشرع ،»..وهو هنا
( )2ما بين المعقوفين كان مكتو ًبا يف األصل قبل قوله« :وإذا َّ
أنسب .ويف المصباح المنير« :المضيعة بمعنى الضياع ،ويجوز فيها كسر الضاد
وسكون الياء مثل م ِعيشة ،ويجوز سكون الضاد وفتح الياء وزان مسلمة ،والمراد
هبا :المفازة المنقطعة».
والمسألة المقيس عليها اختلف فيها األصحاب ،والمعتمد أن من غلب على ظنه ضياع
غيره ،وجب عليه التقاطها ،كنظيره يف الوديعة ،بل
اللقطة لو تركها ولم يكن ث َّم ُ
وخص الغزالي الوجوب بما إذا لم يكن عليه تعب غير
َّ أولى؛ ألن تلك بيد مالكها،
معتاد يف حفظها .وال ضمان على تارك االلتقاط وإن أثم .ينظر :هناية المحتاج
( ،)427/5وحاشية ابن قاسم على تحفة المحتاج (.)318/6
( )3ينظر :التنبيه (ص ،)154والشرح الكبير ( ،)540/12والروضة (.)199/11
8
ِ
وحرمان مستحقيه يصرفه على الفور يف مصارفه( ،)1ل ِما يف إبقائه من التغرير به
ماس ًة إليه بحيث يجب على ِ
من تعجي ِل أخذه ،وال س َّيما إن كانت الحاجات َّ
اإلمام تعجي ُلها.
* * *
فصل :فيما جيوز أخذه من مال بيت املال
ٍ
إنسان شي ًئا(،)2 إذا قال قائل :إذا دفع الظلم ُة مما بأيديهم من األموال إلى
فهل يجوز له ُ
أخذه منهم أم ال؟
قيل له:
ُ
المبذول له َّ
أن ما ُيدفع له مغصوب فله حاالن: -1إن علِم
( )1نقل كالم العز هذا اب ُن حجر يف الفتاوى الفقهية الكربى ( ،)357/4وقال« :وبه
جزم ابن سراقة يف التلقين» ،وينظر :حاشية الرملي على أسنى المطالب
(.)444/2
وابن سراقة هو محمد بن يحيى بن ُسراقة العامري البصري ،تلميذ الدارقطني ،من كبار
األصحاب المتقدمين ،وله تصانيف يف الفقه والفرائض والحديث ،تويف يف حدود
سنة .410ينظر :المهمات ( ،)234/1وتاريخ اإلسالم (.)172/9
( ) 2وكذلك إذا لم يدفعوا له المال لكن ظفر به ،وكذلك الظفر بالمال يف مكان ال يوجد
أصال ،وهذا التعميم تدل عليه ترجمة الشيخ للفصل ،فمقصود السؤال
ً فيه إمام
يدخل فيه ُّ
كل من وجد ً
ماال ضائ ًعا :هل يأخذه لنفسه أو يجب حفظه لمستحقه؟
وماذا يفعل به إن لم يعرف مستحقه؟
9
الحال األولى :أن يكون ممن ُيقتدى به ،ولو أخذه لفسد ظ ُّن الناس فيه،
أخذه ،ل ِما يف أخذه من فساد
بحيث ال يقتدون به وال يقبلون ُفتياه ،فال يجوز له ُ
اعتقاد الناس يف صدقه ِ
ودينه ،فال يقبلون له ُفتيا ،فيكون قد ض َّيع على الناس
شك أن حفظ تلك المصالحِ العام ِة الدائمة أولى من ِ
أخذه مصالح الفتيا ،وال َّ
َّ
والح َّكام ،ما لم يصرحوا بأهنم المغصوب لير َّده على صاحبه .وكذلك ُّ
الشهود ُ
أخذوه للرد على مالكه(.)1
حرم عليه، ُ
المبذول له كذلك ،فإن أخذه لنفسه ُ الحال الثانيةَّ :أال يكون
وإن أخذه لير َّده على مالكه جاز ذلك.
وإن ج ِهل مالكه بحث عنه إلى أن يعرفه ،فإن َّ
تعذرت معرف ُته صرفه يف
المصالح العا َّمة :أهمها فأهمها ،وأصلحها فأصلحها.
فإن لم يعرف تلك المصالح دفعه إلى من يعرفها( ،)2فإن لم يجد من
فيتعرفها منه ،أو يدفعها إليه؛ ليصرفها يف
َّ يعرفها تر َّبص هبا إلى أن يجده،
مصارفها إن كان ً
عدال.
( )1يف تحفة المحتاج ( )180/7وهناية المحتاج (« :)174/6يجوز األخذ من الحرام
حاكما أو شاهدً ا ،فيلزمه التصريح بأنه
ً بقصد رده على مالكه ،إال إن كان مفت ًيا أو
إنما يأخذه للرد على مالكه؛ لئال يسوء اعتقاد الناس يف صدقه ودينه ،فيردون فتياه
وحكمه وشهادته» .وهذا ال ينفي أن األخذ المذكور واجب على من تع َّين له بأن لم
يوجد غيره ،كما أشار إليه بعض المحشين؛ ألن الجواز بعد المنع يصدُ ق
بالوجوب ،وقد ُيراد بالجائز ما ليس بحرام.
( )2بشرط كونه ً
عدال ،كما يأيت يف كالمه.
10
-2وإن كان المال الذي يبذلونه مأخو ًذا ٍّ
بحق(:)1
خاص ٍة كالزكاة ألرباهبا ،والخمس ألربابه،
َّ -فإن كان المال لمصالح
المبذول له مِن أهل ذلك المال
ُ والفيء لألجناد على قول( ،)2فإن كان
الخاص :فإن ُأعطي قدر حقه فليأخذه( ،)3وإن ُأعطي زائدً ا على حقه فليأخذ
ُ
ويكون حكم الزائد على حقه كما ذكرناه يف المال المغصوب(.)1 قدر حقه،
11
فيكون مغصو ًبا ،وألن الزكاة تتعلق بالمال تع ُّلق شركة ،والمال المشرتك يقسمه
قهرا إذا امتنع بعض الشركاء ،وال يجوز لبعضهم االستبداد بقسمته .ينظر:
اإلمام ً
فتح الوهاب ( ،)282/2 ،137/1وهناية المحتاج مع حاشية الشرباملسي
(.)291/8 ،124/3
( )1ومن مال المصالح الخاصة ما ُأفرز من بيت المال لجهة معينة كاأليتام أو الجند أو
نص األصحاب على أن «من سرق مال بيت القضاة أو المؤذنين أو المدارس ،وقد َّ
المال ،إن ُأفرز لطائفة ليس هو منهمُ ،قطع» ،كما يف المنهاج ،ويدخل يف ذلك «إذا
أفرز اإلمام مِن سهم المصالح لطائفة من العلماء أو القضاة أو المؤذنين شي ًئا من
أيضا أن من أفرز له
ذلك» ،كما يف حاشية أسنى المطالب ( ،)140/4وذكروا ً
أيضا
السلطان عطا ًء يستحقه ورضي به ،ملكه وجاز له بيعه ،كما يف الروضة ً
اختص هبا.
َّ ( ،)512-511/3وأسنى المطالب ( .)84/2فظهر أن ما ُأفرز لجهة
ويدخل يف هذا ما تبنيه الدولة بالمال العام من المباين لمصلحة جهة من الجهات
المستحقة ،فمنافعها لتلك الجهة إن ُوجدت ،فإن لم توجد عادت المباين إلى
المال العام .ومن كان مِن أهلها فله االنتفاع هبا ولو بغير إذن اإلمام إن لم تحصل
بذلك فتنة؛ ألنه كالظفر بالمال العام وسيأيت .ويحرم على من ليس مِن أهلها أن
يستويف منفعتها بسكنى أو غيرها؛ ألنه غصب ،فإن فعل فعليه أجرة مثلها و ُتصرف
للمستحقين ،كما سيأيت يف المسألة الخامسة .وعلى ما سبق فلو ُعين بعض العقار
لمستحق بعينه ،فإنه يملك منفعته وال يجوز لغيره سب ُقه إليه ،فإن فعل ٍّ العام
ِ
للمستحق المع َّين. واستوىف منفعته فعليه أجرة المثل ُيعطيها
ومن ملك منفعة عقار عام غير موقوف كالذي تبنيه الدولة وتعينه لشخص ،جاز له
استيفاؤها بأي وجه مباح وإن خالف الغرض المسمى عند اإلعطاء ،ما لم يلزم منه
ُ
إلحاق ضرر بالرقبة أو تصرف يف الرقبة لغير مصلحة عامة كإحداث بناء خاص ،أو
ُّ
12
وإن كان ذلك من األموال العامة ،فليأخذه إن لم ت ُفت بأخذه مصلح ُة
ِ
أصلحها فأصلحها(.)1 الفتيا ،وليصرف ُه يف المصارف العامة:
وإن لم يكن من أهل ذلك ،فعل ما ذكرناه يف المال المغصوب.
-3وإن ُب ِذل له المال من جهة مجهولة(:)2
فإن يئس من معرفة مستحقيه فقد صار باليأس للمصالح العامة ،فليأخذه
ويصرف ُه فيها.
13
وإن تو َّقع معرفة مستحقيه فليأخذه بنية البحث عن مستحقيه ،فإن َّ
تعذرت
معرف ُتهم بعد البحث التام صار كمال المصالح العامة(.)1
انتهى كالم اإلمام عز الدين بن عبد السالم . $
* * *
14
القسم الثاني:
مسائل يف التصرف يف املال العام
15
واملر ُء «يأخذ ما أخذه من السلطان؛ ليتصدق به على الفقراء أو يفرقه على
المستحقين؛ فإن ما ال يتعين مالكه هذا حكم الشرع فيه .فإذا كان السلطان إن
لم يأخذ منه لم يفرقه واستعان به على ظلم ،فقد نقولُ :
أخذه منه وتفرق ُته
أولى مِن تركه يف يده»(.)1
ويف فتاوى البغوي« :مسألة :المال الضائع الذي ُيصرف إلى المصالح إذا
وقع يف يد إنسان ،وهو ال يظفر بإمام( )2يدفعه إليه ،فصرف ُه الذي وقع يف يده
األهمُ ،
مثل أن كان يف البلد من يحتاج إلى َّ إلى نوع من المصالح ،غير أنه ترك
ٍ
مسجد ونحوه ،هل يجزئه ذلك؟ ِ
عمارة كسوة ولباس ،وهو صرف ُه إلى
مستحق وثمة من هو أشدُّ
ٍّ أجاب :يجوز وال يأثم ،كالزكاة إذا صرفها إلى
استحقا ًقا جاز ،وإن ترك فهو أولى»(.)3
وقال الرافعي« :وأما ما ال يتع َّين له مالك أو حصل اليأس من معرفته،
فذكر بعضهم أن له أن يبيعه ويصرف ثمنه إلى المصالح ،وأن له أن يحفظه».
المحكي عن بعضهم متعين ،وقد قاله جماعة ،وال
ُّ «قلت :هذا
ُ قال النووي:
نعرف خالفه ،واهلل أعلم»(.)4
16
قال اإلسنوي« :وقريب من هذه المسألة :ما إذا كان عنده مال لشخص،
تعذر تصدَّ ق به ٍ
قاض يثق به ،فإن َّ وغاب المالك وانقطع خربه ،فإنه يدفعه إلى
على الفقراء بنية الغرامة له إن وجده»(.)1
ِ
كمال بيت قال ابن حجر« :ف ُعلِم أن المال الضائع عند اليأس يكون
المال( ،)2وإن أوهم كالم العز بن جماعة تغايرهما( ،)3وكالمه صريح يف أن
17
مر مِن كونه يدفعه إلى اإلمام؛ مح ُّله إن كان ً
عادال أو له نائب كذلك، َّ
محل ما َّ
قال« :وإال س َّلمه لرجل عالم معروف موثوق به ،وأعلمه بالحال؛ ليصرفه يف
مصارفه ،وللعال ِم أن يصرفه إليه( )1إن كان ممن يجوز الصرف إليه ،وله هو أن
يصرفه مِن نفسه لنفسه إن كان هبذه الصفة وهو عالم باألحكام الشرعية »
()3( )2
له كذلك فليسلمه إليه وليعرفه الحال فيه ،فهو مال ضائع عند طائفة من الشافعية،
ومال بيت المال يف ِ
قول آخرين ،وهو المختار .فإن لم يكن يف الوقت من هو هبذه
الصفة س َّلمه إلى رجل عالم موثوق به» إلخ ما نقله ابن حجر.
( )1أي :إلى نفسه ،وقوله اآليت( :وله هو) أي :من كان المال يف يده.
صرح هبا ابن جماعة هنا،
( )2جواز األخذ للنفس بشرط االستحقاق ،مسألة مهمة َّ
وسيقررها ابن حجر يف كالمه اآليت يف المسألة الثانية .وينظر :الحاوي للفتاوي
للسيوطي (.)148/1
يرتجى معرفة مستحقها فليعزم على
( )3هداية السالك (ص ،)405وأضاف« :وإن كان َّ
أنه متى قدر عليه أوصلها إليه».
( )4الفتاوى الفقهية الكربى ( ،)357/4ثم ذكر خالصة فتوى البغوي السابقة ،وكالم
ابن حجر جواب عن سؤال عمن حصل يف يده مال من حرام ،ثم جهل مالكه ولم
يتوقع معرفته ،فما حكمه؟
( )5ويف التحفة ( )204/6أن المال الضائع «أمره لإلمام يف حفظه ،أو ِ
بيعه وحفظ ثمنه، ُ
18
وإن أيس منها( - )1أي :عاد ًة ،كما هو ظاهر -صارت من أموال بيت
المال؛
التصرف فيها بالبيع ،وإعطائها لمستحق شيء من بيت
ُ -فلمتوليه
المال(.)2
-وللمستحق أخذها ظف ًرا.
-ولغيره ُ
أخذها ليعطيها للمستحق( ،)3كما هو ظاهر .ثم رأيت ابن
صرحوا بذلك»(.)4
جماعة وغيره َّ
* * *
أو استقراضه على بيت المال ،إلى ظهور مالكه إن ُرجي ،وإال كان مل ًكا لبيت
المال» .قال يف الفتاوى (« :)234/2وحينئذ فلِمن يستحق يف خمس المصالح
شي ًئا أن يتم َّلكها بطريق الظفر ،إذا لم يتمكن من الوصول إلى حقه من بيت المال».
( )1قال الشرباملسي على النهاية (« :)187/5قوله( :وإن أيس منها) أي :المعرفة.
وليس من هذا ما ُيقبض بالشراء الفاسد من جماعة ،بل يتصرف فيه من باب الظفر؛
ألنه دفع يف مقابلته الثمن ،وتعذر عليه اسرتجاعه ،مع أنه ال مطالبة به يف اآلخرة
ألخذه برضا مالكيه».
( ) 2هذا ظاهر يف جواز اإلعطاء لشخص من المستحقين وإن كان يمكن أن غيره أحوج
منه ،وسيأيت بحثه .وفيه جواز إعطاء كل المال لهذا المستحق ،أي :إن كان بقدر
حاجته َّ
فأقل.
( )3قال الشرواين« :فيه أن الكالم هنا فيما إذا لم ُيعرف المالك ،فكان المناسب أن
يقول :وصر ُفه للمستحق ،وكذا للصارف نفسه إن كان من المستحقين».
( )4تحفة المحتاج ( ،)45/6ومثله يف هناية المحتاج (.)187/5
19
املسألة اثلانية :يف قدر ما جيوز أخذه من املال العام وصفة أخذه
مستحق ،فهل يجوز
ٍّ كلقال الغزالي« :السلطان إذا لم ُيعمم بالعطاء َّ
للواحد أن يأخذ منه ،فهذا مما اختلف العلماء فيه على أربع مراتب:
كل ما يأخذه فالمسلمون ك ُّلهم فيه شركاء ،وال
-1فغال بعضهم وقالُّ :
يدري أن حصته منه دانِق أو ح َّبة ،فليرتك َّ
الكل.
-2وقال قوم :له أن يأخذ قدر ِ
قوت يومه فقط؛ فإن هذا القدر يستح ُّقه
لحاجته على المسلمين.
حق
كل يوم عسير ،وهو ذو ٍّ قوت ٍ
سنة؛ فإن أخذ الكفاية َّ -3وقال قوم :له ُ
يف هذا المال ،فكيف يرتكه؟
-4وقال قوم :إنه يأخذ ما ُيعطى ،والمظلوم هم الباقون .وهذا هو
القياس؛ ألن المال ليس مشرت ًكا بين المسلمين كالغنيمة بين الغانمين وال
كالميراث بين الورثة؛ ألن ذلك صار ملكا لهم ،وهذا لو لم يتفق قس ُمه حتى
الحق غير
مات هؤالء لم يجب التوزيع على ورثتهم بحكم الميراث ،بل هذا ُّ
متعين ،وإنما يتعين بالقبض .بل هو كالصدقات ومهما ُأعطي الفقراء حصتهم
من الصدقات وقع ذلك مِل ًكا لهم ،ولم يمتنع بظلم المالك بقية األصناف
بمن ِع حقهم.
20
كل المال ،بل ُصرف إليه من المال ما لو ُص ِرف
هذا إذا لم ُيصرف إليه ُّ
إليه بطريق اإليثار والتفضيل مع تعميم اآلخرين لجاز له أن يأخذه ،والتفضيل
جائز يف العطاء»(.)1
أقره النووي(.)2
وهذا التقرير َّ
أحوج
ُ فيتفرع عليه جواز األخذ ظف ًرا ،سواء أكان هناكقال ابن حجرَّ « :
صرح ابن الفركاح
َّ
()1
منه كما اقتضاه كالم البغوي أم ال خال ًفا للسبكي( ،)3وبه
( )1إحياء علوم الدين ( .)141/2وقوله« :هذا إذا لم ُيصرف إليه كل المال» ،لم ينقله
مر النووي ،ولعل المراد به إذا كان المال فوق حاجته ،وإال فله ُ
أخذ كله ،كما َّ
وسيمر ،وهذا المعنى يشير إليه قول ابن حجر اآليت قري ًبا« :واقتصر على ما يليق أن
ُّ
ُيصرف إليه من ذلك».
( )2المجموع (.)350/9
( )3سبق كالم البغوي يف المسألة األولى ،ويف فتاوى السبكي (« :)450/1اإلمام ال
يجوز له تقديم غير األحوج على األحوج ،ولو لم يكن إمام فهل لغير األحوج أن
يتقدَّ م بنفسه فيما بينه وبين اهلل إذا قدر على ذلك؟ ومِل ُت إلى أنه ال يجوز،
واستنبطت ذلك من قوله ﷺ« :إنما أنا قاسم والمعطي اهلل» ،وجه الداللة أن
التمليك واإلعطاء إنما هو من اهلل ال من اإلمام ،فليس لإلمام أن يملك أحدً ا إال ما
م َّلكه اهلل تعالى ،وإنما وظيفة اإلمام القسمة ،والقسمة ال بدَّ أن تكون بالعدل ،ومن
العدل تقديم األحوج والتسوية بين متساويي الحاجة ،فإذا قسم بينهما ودفعه
إليهما علمنا أن اهلل م َّلكهما قبل الدفع ،وأن القسمة إنما هي معينة لما كان ً
مبهما»،
وينظر :األشباه والنظائر للسيوطي (ص .)122-121
ويصرح باعتبار األحوجية قول عز الدين يف أول هذا الكتاب« :فليص ِرفه إلى مستحقيه
21
وابن جماعة حيث قال يف المال الضائع« :ولمن كان يف يده إذا ُع ِدم الحاكم
العادل أن يصرفه لنفسه إذا كان هبذه الصفة ،وهو عالم باألحكام الشرعية»(،)2
أي :واقتصر على ما يليق أن ُيصرف إليه من ذلك.
صرح األذرعي بح ًثاً ،
قياسا على مال الغريم ،قال« :بل أيضا َّ
وبالجواز ً
أولى» ،و ُن ِقل عن محقق عصره الجالل المحلي ما يقتضي الجواز ً
أيضا(،)3
22
فهو المعتمد(.)1
أيضا قول ابن عبد السالم« :إن قيل :الجزية لألجناد على قول،
ويدل له ً
أو المصالح العامة على قول ،وقد رأينا جماعة من أهل العلم والصالح ال
يتورعون عنها ،وال يخرجون من الخالف فيها مع ظهوره .فالجواب أن الجند
َّ
وغيرهم ممن
ُ قد أكلوا من مال المصالح التي يستح ُّقها ُ
أهل العلم والورع
( )1قال يف التحفة (« :)110/5و ُيغتفر اتحاد القابض والمقبض هنا للضرورة»؛ ألن
مال بيت المال لمستحقه عند عدم العدالة ،كالدَّ ين لصاحبه عند ُّ
تعذر أخذه
بالقضاء ،فله ُ
أخذه إن ظفر به .وهذا بخالف ما لو ُدفع شيء لشخص وقيل له:
فقيرا؛ فإنه وكيل وال ضرورة إلى
تصدَّ ق به على الفقراء ،فال يأخذ منه شي ًئا وإن كان ً
اتحاد القابض والمقبض .ينظر :حاشية الشرواين.
قال ابن قاسم على المنهج« :وينبغي أن يجوز أن يأخذ منه لنفسه وعياله ما يحتاجه،
وانظر مقدار حاجته :هل سنة أو ُّ
أقل أو أكثر؟» .قال الشرباملسي على النهاية
(« :)12/6وينبغي أن يقال :يأخذ ما يكفيه بقية العمر الغالب [أي :ينشئ منه
أحوج منه؛ ألن هذا
ُ مصدر تجارة أو غلة كما يف الزكاة] ،حيث لم يكن ث َّم من هو
القدر يدفعه له اإلمام العادل» .وكالمهما نقله الجمل على المنهج (،)11/4
وأقراه ،والشرواين علىوالبجيرمي عليه ( )349/3وعلى الخطيب (َّ )313/3
التحفة ( )392/6وقال« :وسكت شيخنا و«سم» عن قيد الحيثية فل ُيراجع» .قلت:
يعني بقيد الحيثية اعتبار األحوج ،وقد سبق الكالم عليه.
ويف حاشية الجمل ( )264/2والبجيرمي ( )37/2على شرح المنهج« :قال بعضهم:
ويجوز لواجده أن ي ُمون منه نفسه ومن تلزمه مؤنتُه ،حيث كان ممن يستحق يف بيت
المال» ،قال الشرواين (« :)290/3أي :كما هو قياس نظائره».
23
قصاصا ببعض ما أخذوه
ً يجب تقديمه أكثرها ،فيؤخذ من الجزية ما يكون
وأكلوه ،فتصير كمسألة الظفر»( )1اهـ.
ظفرا من بيت المال(،)2
فما نقله عنه الزركشي من إطالق منع األخذ ً
ُيحمل على ما إذا كان اآلخذ غير عالم باألحكام الشرعية ،أو أخذ فوق حقه،
وإال فإطال ُقه ضعيف وإن اقتضى كالم السبكي يف فتاويه الميل إليه( ،)3ويف
بعض كتب الحنفية( )4أن من له حظ يف بيت المال فظ ِفر بما هو لبيت المال فله
24
ُ
أخذه ديان ًة»(.)1
* * *
القدر الذي يجوز لهم أخذه هو كفايتهم .قال« :ألن بيت المال يف زماننا غير منتظم،
ولو ر َّد ما وجده إلى بيت المال لزم ضياعه لعدم صرفه اآلن يف مصارفه .ولو
ُجهلت أصحاب الحقوق وانقطع الرجاء من معرفتهم صار مرجعها إلى بيت
المال ،وانقطعت الشركة الخاصة ،وصارت من حقوق بيت المال ،كسائر أموال
بيت المال المستح َّقة لعامة المسلمين استحقا ًقا ال بطريق الملك؛ ألن من مات وله
حق يف بيت المال ال ُيورث ح ُّقه منه ،وحيث صار مرجعها بيت المال فلمن يستحق
ملخصا.
ً من بيت المال أن يتم َّلكها لنفسه» اهـ
( )1الفتاوى الفقهية الكربى (.)235-234 /2
25
املسألة اثلاثلة :يف مصف تركة من ال وارث هل
قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي« :فإن لم يكن وارث انتقل ما ُله إلى بيت
ُ
المال أن المال ميرا ًثا للمسلمين ،فإن لم يكن سلطان عادل كان لمن يف يده
يصرفه يف المصالح ،أو أن يحفظه إلى أن يلي سلطان عادل»(.)1
وذكر الشيخ عز الدين أن من مات وترك ً
ماال« :فإن ُعرف ُو َّراثه روجعوا
تعذر معرفتُهم و ُيئس منها فقد صار لمصالح يف ذلك ،وإن ُجهلوا بحيث َّ
المسلمين العامة ،فيصرفه من هو يف يده فيها مبتدئًا بما تجب البداية به يف
مثله ،وينزل منه منزلة اإلمام العادل ،فليلزم أن يصرفه يف أهم المصالح التي
يصرف اإلمام مثله فيها :أهمها فأهمها( ،)2وال ُّ
يحل له غير ذلك إال أن يكون
عامال بكتاب اهلل وسنة رسوله ﷺ ،فيلزم أن
ً ً
عادال متولي أمور المسلمين
يدفعه إليه؛ ليقوم اإلمام بما وضعه اهلل( )3عليه فيه.
( )1التنبيه (ص .)154قال ابن الرفعة يف كفاية النبيه (« :)518/12ألن اإلمام نائب
عن المسلمين ووكيل لهم ،فجاز الدفع إلى الموكل بالصرف يف مصالحهم ،وجاز
الصرب حتى يدفع إلى نائبهم» ،وقد سبق أن الصرب مق َّيد بحال تو ُّقع ظهور إمام
عادل.
( )2قال ابن رسالن يف آخر نظم الزبد:
إِن لـــــم ي ُكـــــن فأعطِهـــــا لِل ُفقـــــرا فـــإِن يمــ ـت فهــ ـي ِلــ ـو ِار ٍ
ث ُيــ ـرى ُ
................................. مــــع نِ َّيــــ ِة ال ُغــــر ِم لــــ ُه إِذا حضــــر
وذكر الغرم تنبيه مهم ،وقد سبق يف المسألة األولى.
( )3يف المطبوع :ليقوم لإلمام بما وصفه اهلل.
26
وإن تو َّقعنا معرفة الوارث ومراجعته وجب حف ُظه إلى أن يظهر ف ُيراجع
فيه ،أو ُيوأس( )1من ظهوره فيرجع إلى المصالح العامة»(.)2
وقرر األصحاب أن تركة المسلم الذي ال وارث له ُتصرف إلى بيت َّ
المال إذا انتظم ،فإن لم ينتظم «بأن ُفقد اإلمام أو انتفت أهلي ُته كأن جار»(،)3
ٍ
قاض أمين :فإن ٍ
قاض أمين ُدفع المال إليه ،وإن لم يكن نُظر :فإن كان يف البلد
كان الذي يف يده المال أمينًا صرفه بنفسه إلى المصالح ،وإن لم يكن أمينًا
ٍ
ألمين عارف(.)4 فوضه
َّ
واستشهد المتأخرون يف ذلك بعبارة عز الدين يف القواعد الصغرى حيث
قال« :إذا جار الملوك يف مال المصالح وظ ِفر به أحد يعرف المصارف ُمقدَّ مها
و ُم َّ
ؤخرها ،أخذ ُه وصرف ُه يف أولى مصارفه فأوالها ،كما يفعله اإلمام العادل،
وهو مأجور بذلك ،والظاهر وجوبه»(.)5
27
الشبرامل ِسي« :الرتكات التي تؤول لبيت المال ،من ظفر بشيء
وقال علي َّ
منها جاز له أن يأخذ منه قدر ما كان ُيعطاه من بيت المال ،وهو يختلف
باختالف كثرة المحتاجين وقِ َّلتهم فيجب عليه االحتياط ،فال يأخذ إال ما كان
أيضا أن
يستحقه لو صرفه أمي ُن بيت المال على الوجه الجائز( .)1ويجوز له ً
يأخذ منه لغيره ممن عرف احتياجه ما كان يعطاه» .
()2
قال« :وال يجب على المباشر لذلك صر ُفه على أهل مح َّلته فقط ،بل لو
رأى المصلحة يف صرفه يف مح َّل ٍة بعيدة عن مح َّلته وجب نق ُله إليها»(.)3
* * *
على األسنى إلى تصحيح الوجوب ،ويف حاشية الجمل (« :)11/4قوله( :والظاهر
وجوبه) هو المعتمد».
( ) 1وما وقع بيده قد ال يزيد على ذلك ،فيجوز له االنفراد به ،وقد ذكر الشرباملسي يف
موضع آخر من حاشيته ( )434/2أن من وقع يف يده مال ضائع وغلب على ظنه أن
متولي بيت المال ال يصرفه على مستحقيه ،يصرفه هو على المستحقين ،وإذا كان
له استحقاق يف بيت المال «يجوز له االستقالل به والتصرف فيه لكونه من
المستحقين».
( )2حاشية هناية المحتاج (.)136/6
( )3حاشية هناية المحتاج ( .)12/6واألحكام المذكورة هنا ليست خاصة برتكة من ال
أصال إال
وارث له ،بل هي واردة يف كل مال عا ٍّم ،بل إن هذه المسائل لم أذكرها ً
تمثيال لقاعدة المال العام ،وقد ن َّبه على ذلك ابن حجر يف قوله اآليت قري ًبا:
ً
«والحاصل أن هذا مال ضائع».
28
ُ
املسألة الرابعة :يف مصف الوديعة إذا جهل مالكها
قال عز الدين« :إذا يئس من معرفة مالك الوديعة( )1بعد البحث التام
ِ
ومسيس فليصرفها يف أهم مصالح المسلمين فأهمها( ،)2وليقدم أهل الضرورة
الحاجة على غيرهم ،وال يبني من ذلك مسجدً ا ،وال يصرفها إال فيما يجب
على اإلمام العادل صر ُفها فيه ،فإن ج ِهل ذلك فليسأل عنه أورع العلماء
ِ
الواجبة التقديم ،واهلل أعلم»(.)3 وأعرفهم بالمصالح
قال ابن حجر« :والحاصل أن هذا مال ضائع:
( )1قال ابن حجر يف تحفة المحتاج (« :)127/7ويظهر أن يلحق هبا لقطة الحرم».
أما لقطة غير الحرم المكي ،فتفرتق عن عموم المال الضائع بأمور ،منها :جواز استقالل
الواجد بتوليها مع وجود اإلمام العادل ،ووجوب تعريفها سنة ،سواء أأخذها لحفظ
أم لتم ُّلك ،وجواز تم ُّلكها بعد ذلك من غير اليأس مِن مالكها ،وتم ُّلكها من غير
حاجة إليها.
ٍ
لقاض ( )2يف تحفة المحتاج (« :)127/7قال األذرعي :وكالم غيره يقتضي أنه يدفعها
أمين ،ولعله إنما قال ذلك لفساد الزمان .قال -كالجواهر :-وينبغي أن يعرفها
كاللقطة؛ فلعل صاحبها نسيها ،فإن لم يظهر صرفها فيما ذكر».
( )3الفتاوى لعز الدين (ص ،)52وهذه الفتوى نقلها ابن حجر يف التحفة (،)127/7
والرملي يف النهاية ( ،)132/6ونص السؤال المجاب عنه« :شخص عنده وديعة
من مدة مديدة ،وما يعلم صاحبها أين هو وال من هو ،وال سبيل له إلى ذلك ،فما
الذي يخلصه يف هذا الوقت الذي ال يجد فيه من يقوم بالواجب بكل األمور؟
أيجوز له صر ُفها إلى الفقراء أو إلى الحاكم؟».
29
فمتى لم ييأس من مالكه :أمسكه له أبدً ا مع التعريف ند ًبا ،أو أعطاه
للقاضي األمين ،فيحفظه له كذلك.
ومتى أيس منه -أي :بأن يب ُعد يف العادة وجوده فيما يظهر -صار من
جملة أموال بيت المال:
-فيصر ُفه يف مصارفها من هو تحت يده ،ولو لبناء نحو مسجد .وقوله:
أهم منه ،وإال فقد
«وال يبني هبا مسجدً ا» لعله باعتبار األفضل ،وأن غيره ُّ
صرحوا يف ِ
مال من ال وارث له بأن له بناءه. َّ
-أو يدف ُعه لإلمام ما لم يكن جائ ًرا فيما يظهر»(.)1
فالقاعدة« :أن ما لبيت المال ،لإلمام ومن دخل تحت يده صر ُفه لمن له
حق فيه كالفقراء»(.)2
* * *
30
املسألة اخلامسة :يف ضمان منافع عقار املصلحة العامة
قال ابن حجر« :ومنفعة المسجد والرباط والمدرسة كمنفعة الحر( ،)1فإذا
ِ
جميعهُ ،تصرف لمصالحه ،فإن لم ُيغلقه وضع فيه متاعه وأغلقه لزمه أجر ُة
ض ِمن أجرة موض ِع متاعه فقط ،وإن ُأبيح وض ُعه ،أو لم يكن فيه تضييق على
مهجورا ال يصلي أحد فيه ،على ما اقتضاه إطالقهم(.)2 ً المصلين ،أو كان
وكذا الشوارع وعرفة ومنى ومزدلفة وأرض ُوقِفت لدفن الموتى.
وإطالقهم ذلك كله مشكل ِجدا ،فالذي ي َّتجه أنه ينبغي أن ُيق َّيد ما ُذكر يف
نحو المسجد بما إذا شغله بمتاع ال يعتاد الجالس فيه وضعه فيه( ،)3وال
مصلحة للمسجد يف وضعه فيه ،زمنًا لمثله أجرة ،بخالف متا ٍع يحتاج ُ
نحو
31
ِ
المعتكف لوضعه .ويف نحو عرفة بما إذا شغله وقت احتياج المصلي أو
وأضرهم به.
َّ الناس له يف النسك بما ال يحتاج إليه البتة حتى ض َّيق على الناس
وحينئذ يصرف اإلمام أو نائبه ما لزمه يف مصالح المسلمين ،إال يف
ِ
ونحو الرباط فيما يظهر(.)1 األرض الموقوفة للدفن فلمصالحها ،كالمسجد
ِ
غرس الشجرة يف جمعت يف «شرح العباب» بين إطالق جم ٍع حرمة
ُ وقد
ِ
وإطالق آخرين كراهته ،بحمل األول على ما إذا غرس لنفسه أو المسجد
أضر بالمسجد أو ض َّيق على المصلين ،والثاين على ما إذا انتفى ذلك(.)2
َّ
( )1قال اإلمام النووي يف الفتاوى (ص « :)152وإن شغل بالغ َّلة جان ًبا من المسجد
ولم ُيغلقه ،لزمه أجر ُة ما شغله ،و ُتصرف األجرة يف مصالح المسجد» .وأفتى ابن
رزين بأهنا لمصالح المسلمين ،و ُغلط يف ذلك ،والخالف راجع إلى أن وقف
المسجد ونحوه من باب التحرير كما هو المعتمد ،أو من باب الوقف العام الذي
يملك المسلمون منفعته ،وهو اختيار جماعة .وأما نحو الشارع وعرفة فتُصرف
أجرته لمصالح المسلمين بال خالف ،إال إن احتيجت يف مصالحه .ينظر :حاشية
الشهاب الرملي على أسنى المطالب ( ،)363/2وحاشية ابن قاسم على الغرر
البهية (.)252/3
( ) 2أما غرس الشجرة يف الشارع فإن قصد به مصلحة عموم المسلمين جاز ،وإن قصد
به مصلحة نفسه لم يجز وإن اتسع الطريق وأذن اإلمام وانتفى الضرر؛ ألن ذلك
يمنع ا لطروق ،وألنه إذا طالت المدة يصير الموضع شبه مملوك وينقطع أثر
استحقاق الطروق فيه .ينظر :تحفة المحتاج ( ،)202/5وهناية المحتاج
( ،)397/4واعتمد الرملي حرمة الغرس يف الشارع مطل ًقا ولو لمصلحة عامة.
32
وصرح الغزالي فيما ُمنع مِن غرسها بأنه يلزمه أجر ُة مِثلها ،وظاهره أن ما
َّ
ُأبيح ُ
غرسها ال أجرة فيها.
أيضا -يف
وذكر الرافعي يف «تاريخ قزوين» ما هو صريح -كما ب َّين ُته ث َّم ً
جواز وضع ُمجاوري الجامع األزهر خزائنهم فيه التي يحتاجوهنا لكتبهم ول ِما
يضطرون لوضعه فيها( )1مِن حيث اإلقامة لتو ُّقفها عليه ،دون التي يجعلوهنا
ألمتعتهم التي يستغنون عنها( .)2وإطالق بعض المتأخرين الجواز ردد ُته
أيضا.
عليهم ث َّم ً
ويؤخذ مما ُذكر عن الغزالي أنه ال أجرة عليهم ل ِما جاز وض ُعه ،وأنه
يلزمهم األجرة ل ِما لم يجز وض ُعه.
ويؤخذ من ذلك أن كل ما جاز وضعه ال أجرة فيه ،وكل ما لم يجز وضعه
فيه األجرة ،وبه يتأ َّيد ما ذكر ُته فتأ َّمله ،وقِس به ما ذكر ُته يف نحو عرفة؛ فإن
( )1قال الشربامسي (« :)172/5وقوله( :ولما يضطرون) إلخُ ،يعلم منه أنه ال يجوز
وض ُعها إلجارهتا ولو لمن يحتاج إليها ،وإن وقع ذلك ال يستحق األجرة على
الساكن ،ألهنا موضوعة بغير حق».
( )2قال الرافعي يف التدوين يف أخبار قزوين (« :)53/1ويف وضع الصناديق يف
المسجد نظر للفقيه ،وكذا يف وضع المنابر الكثيرة ،لِما فيه من شغل الموضع
والمن ِع من الصالة ،و ُيشبِه أن يقال :إذا لم يكثر أو كان يف المسجد سعة وأذن فيه
ُ
وإطباق وضع رسول اهلل ﷺ المنرب يف المسجد،
ُ السلطان فال بأس به ،ويدل عليه
المسلمين على نصب المنابر ووض ِع الكتب يف المواضع المه َّيأة لها يف جوامع
المسلمين ،وعُدَّ ذلك من شعائر الدين».
33
ذلك ُم ِهم»(.)1
* * *
34
املسألة السادسة :يف وجوب نصب القايض عند فقد اإلمام
سئل اإلمام أبو الحسن األصبحي عما إذا ُعدم يف ُقط ٍر ذو شوكة وحاكم،
ولم يوجد للمرأة ولي وال لألطفال وصي ونحوه ،فهل لجماعة من أهل
تنصيب فقيه يتعاطى األحكام يف األبضاع واألموال؟
ُ البالد
فأجاب بقوله« :نعم ،إذا لم يكن رئيس يرجع أمرهم إليه ،اجتمع ثالثة مِن
أهل الحل والعقد ،ونصبوا قاض ًيا صف ُته صفة القضاة ،ويشرتط يف الثالثة صف ُة
الكمال كما يف نصب اإلمام».
قال السيد السمهودي يف فتاويه« :ووجهه أن الميسور ال يسقط
نصب القاضي وجب؛ ألن الضرورة
ُ بالمعسور ،فحيث َّ
تعذر اإلمام وأمكن
داعية إليه ،فيأثم أهل تلك البالد برتكه .وقوله« :صف ُته صفة القضاة» ،أي:
التي يمكن وجودها يف زماهنم ،فكما يجوز لإلمام تولية المقلد للضرورة،
يتع َّين على هؤالء تولي ُته .فإذا اجتمع جماعة مِن أهل الحل والعقد
حكمه،
ُ تم ذلك ونفذ ِ
نصب مقلد قاض ًياَّ ، الموصوفين بصفة الكمال على
فيحكم بينهم بما يعلمه من مذهب إمامه.
تعم
وبالجملة فالتمادي على ترك إقامة قاض يف قطر من األقطار معصية ُّ
أهله ،وقد علمت أن إقامته ليست متوقفة على وجود اإلمام الذي يعسر
عليهم ،وال على المجتهد ،بل الضرورة مقتضية لما ذكرناه».
وقال الشيخ نصر المقدسي يف «اإلشارات»« :إذا اجتمع ُ
أهل بلد على أال
35
يلي أحد فيهم القضاء أثِموا( ،)1ل ِما ُروي أن النبي ﷺ قال« :إن اهلل ال يقدس
ُأ َّم ًة ليس فيهم من يأخذ للضعيف ح َّقه».
وقال الشيخ ابن ناصر يف بعض أجوبته« :إن البلد الذي ال حاكم فيه تجب
الهجرة منه ،لقولهم يف باب اإلمامة :ال بدَّ للناس من حاكم يأخذ على يد
الظالم للمظلوم ،وينصف الناس بعضهم من بعض»(.)2
وذكر القاضي جمال الدين بن ظهيرة أن كبار أهل القرية الذين يملكون
الحل والعقد فيهاُ ،يشرع لهم «أن ُيو ُّلوا قاض ًيا يف القرية يحكم بين الناس ،وإذا
َّ
وصح تزويجه للمجنونة وغيرها ،ويبيع مال
َّ صح ونفذت أحكامه،
فعلوا ذلك َّ
المديون عند امتناعه ،ويحفظ مال اليتيم ويتصرف فيه ،ويحفظ أموال
الح َّكام(.)3 الغائبين ،ويتولى جميع ما َّ
يتواله ُ
وكذا لو كان للقرية شيخ يرجعون إليه يف أمورهم ،ويقدمونه عليهم على
حاكما يحكم بين أهل القرية كما ينصبه اإلمام
ً عادة العرب ،فله أن ينصب
ونائ ُبه ،وال يشرتط يف الشيخ المذكور أن يكون ً
عدال.
بل لو لم يكن ألهل القرية شيخ وال كبير يرجعون إليه ،فلهم أن ينصبوا
( )1قال ابن حجر يف الفتاوى (« :)299/4وما ُذكر مِن تأثيم جميع أهل الحل والعقد
برتك نصب حاكم يحكم بين الناس يف بالدهم ،متجه».
( )2قال ابن حجر يف الفتاوى (« :)299/4وما ُذكر من وجوب الهجرة من بلد ال
حاكم فيه ،يؤيده قول الغزالي :ال تجوز اإلقامة ببلد ال مفتي فيه».
( )3هذا التعميم يشمل الحدود والتعازير ،ولم أر بعد البحث أحدً ا استثناها هنا ،كما
استثنوها يف حق المح َّكم.
36
قاض ًيا يقضي بينهم ،ويصح ذلك منهم وتنفذ أحكامه عليهم.
وقد أفتى بذلك كله الشيخ اإلمام ابن ُعجيل اليمني فيما وقفت عليه له،
وهو ظاهر.
و ُيشرتط يف المنصوب المذكور ما يشرتط يف القاضي ،والشروط المعتربة
مفقودة يف هذا الزمان ،بل مِن قبله بدهر طويل .وقد ذكر الغزالي يف وسيطه -
المحرر -أن من َّ
واله ذو الشوكة َّ وحكاه عنه الرافعي يف الشرح وجزم به يف
جاهال أو فاس ًقا للضرورة .وهذا هو الالئق هبذا
ً نفذ حكمه وإن كان
الزمان»(.)1
قال اإلمام الماوردي« :إن لم يمكنهم أن ينصروه على تنفيذ أحكامه كان
نصره وتقوي ُة يده كان
باطال لقصوره عن قوة الوالة( ،)2وإن أمكنهم ُ
تقليدهم له ً
جميع أهل
ُ جائزا؛ حتى ال يتغالبوا على الحقوق ،إذا اجتمع على تقليده
تقليده ً
اجتماع أهل االختيار كلهم،
ُ االختيار منهم ،وإن لم يتع َّين يف تقليد اإلمام
اجتماع
ُ والفرق بينهما أن والية اإلمام عامة يف جميع البالد التي ال يمكن
أهلها على االختيار ،فسقط اعتبار اجتماعهم لتعذره ،ووالي ُة القاضي خاصة
على بلد واحد يمكن اجتماع أهل االختيار عليه ،فلزم اعتبار اجتماعهم
( )1النقول السابقة كلها موجودة يف الفتاوى الفقهية الكربى البن حجر (،297/4
.)327-326
( )2أفتى الشيخ شهاب الدين بن ظهيرة بأنه إذا ق َّلد أهل االختيار قاض ًيا جاز ،إذا
والذب عنه ،وإال فال .كما يف الفتاوى الفقهية
ُّ أمكنهم نصرته وتنفيذ أحكامه
الكربى (.)298 /4
37
إلمكانه.
فعلى هذا إن ق َّلده ُ
بعض أهل االختيار منهم ُنظر يف باقيهم :فإن ظهر منهم
صح التقليد ،وصاروا بالرضا كالمجتمعين
الرضا بالسكوت وعدم االختالف َّ
عليه؛ ألنه ال يمكن أن يباشره جميعهم .وإن ظهر منهم اإلنكار بطل التقليدُ
لعدم شرطه يف االجتماع.
صح
فإن كان للبلد جانبان فرضي بتقليده أهل أحد الجانبين دون اآلخرَّ ،
تقليده يف الجانب المرتضى فيه ،وبطل يف الجانب المكروه فيه؛ ألن تم ُّيز
الجانبين كتم ُّيز البلدين.
فإذا صحت والية هذا القاضي نفذت أحكامه ولزمت طو ًعا وجربًا
حكما نفذ على الصحة ،وله
ً النعقاد واليته ،فإن تجدَّ د بعده إمام لم ين ُقض له
عز ُله وإقراره ،ولم يجز للقاضي أن يستأنف النظر إال بعد إذن اإلمام»(.)1
َّ
وتعذر جاهال
ً ويف «الكايف» أن المتغلب على إقليم لو نصب فاس ًقا أو
ُ
احتمال رفعه ،ففي نفوذ أحكامه من التزويج والتصرف يف أموال األيتام
التحاكم إلى من هو أهل ،فإن َّ
تعذر ُ وجهين ،فعلى المنع أن طريق الناس
نفذت أحكامه للضرورة ،وقال بعض المتأخرين يتعين على السلطان يف هذه
األزمنة أن يولي من اتصف بصفة العلم بمذهب إمام(.)2
38
وغيره( ،)1ويوافقه ِ
وأقره ابن الرفعة ُ
لما علمت أنه مذكور يف حاوي الماورديَّ ،
كالم صاحب «الكايف» ،وكفى باعتماد هؤالء المفتين له ،وهو الالئق بقاعدة
ِ
وغيرهما. أن المشقة تجلب التيسير ،وأن الضرورات تبيح المحظورات،
فإذا خلت بلد أو ُقطر عن نفوذ أوامر السلطان فيها ل ُبعدها وانقطاع
أخبارها عنه وعدم انقياد أهلها ألوامره لو بلغتهم فلم يرسل لهم قاض ًيا،
وجب على كرباء أهلها أن يو ُّلوا من يقوم بأحكامهم ،وال يجوز لهم أن يرتكوا
الناس فوضى؛ ألن ذلك يؤدي إلى ضرر عظيم.
جميع أحكامه وصار يف حقهم كالقاضي ،وال ُ فإذا و َّلوا ً
عدال نفذت
ُيشرتط فيه اجتهاد؛ ألن غايته أنه كالمح َّكم ،والمح َّكم ال يشرتط فيه االجتهاد
فقده فيجوز تحكيم العدل ،لكن ال بدَّ من إال مع وجود القاضي ،وأما مع ِ
( )1ينظر :بحر المذهب للروياين ( ،)50/11وكفاية النبيه البن الرفعة (.)56/18
( )2الفتاوى الفقهية الكربى ( )299-298/4باختصار.
39
مات القاضي ،فتعطلت أمور الناس بانتظاره ،أن ألهل الحل والعقد تولية من
ظاهرا وباطنًا للضرورة»(.)1
ً يقوم بذلك إلى حضور المتولي ،وينفذ حكمه
وورد إلى ابن حجر سؤال من أحد علماء الشافعية يف أرض اليمن(،)2
قاض منصوب منٍ يقول فيها :إ َّنا يف أرض ب ِ
جيلة ،وليس عندنا سلطان وال
وغيرهم من القبائل
ُ جهة السلطان ،وأهل بجيلة وناصرة وزهران وغامد
ير ُّدون أمورهم وأحكامهم وفتواهم إلينا ،ويرفعون إلينا قضاياهم العرفية
والشرعية ،ويروننا نصلح لذلك ،فهل يا شيخ اإلسالم إذا اجتمع بعض
شيوخهم ونصبونا نحكم بينهم بحكم اهلل يجوز لنا ذلك ،وينفذ منا ما ينفذ من
القاضي من جهة السلطان مِن تزويج المجنونة ،وبيع مال المديون لحق
الغرماء ،وحفظ أموال األيتام والسعي لهم والشراء بالمصلحة ،وإنكاح من
ِ
وغير ذلك مما يفعله القاضي؟ أم ال يجوز لنا ذلك؟ ثم نقل عضل ول ُّيها،
السائل الفتاوى السابقة.
فأجاب ابن حجر بقوله« :إذا تأملت هذه األجوبة وجدت فيها شرو ًطا ال
توجد فيك وال يف المولين ،فال حاجة بك إلى الدخول يف ورط ِة ذلك؛ فإن
الذين يو ُّلونك ليسوا أهل شوكة ،وال يقدرون على تنفيذ أحكامك ،وإنما
يأخذون منها ما وافق أغراضهم ،وما ال يوافقها أعرضوا عنه ،ويستحيل فيهم
اجتماعهم على كلمة الحق ،كما هو مشاهد من أهل بجيلة
ُ بمقتضى العادة
40
ونواحيها.
فالحذر أن تدخل يف أمورهم إال دخول السالمة ،بأن تكون ُمص ِل ًحا ،أو
يحكمك الخصمان يف أمر ظاهر معلوم من المذهب بالضرورة ،فال بأس
بحكمك بينهم حينئذ .وأما ما عدا ذلك فاحذر الدخول فيه إن أردت السالمة ُ
لدينك ،واهلل سبحانه وتعالى يوف ُقنا وإياك لمرضاته»(.)1ِ
41
ويراجع العلماء ،ومعلوم أنه يشرتط يف غير األهل معرفة طرف من األحكام.
ِ
شوكة موليه ،لزوال والمقلد أو الفاسق إذا َّ
واله ذو شوكة ينعزل بزوال
السبب المقتضي لنفوذ قضائه ،إال إن كان الفاسق حيث ال مجتهد ،والفاسق
حيث ال عدل ،فال تزول واليتهما بزوال الشوكة ،لعدم توقفها عليها.
وصرح جمع متأخرون بأن قاضي الضرورة -وهو من ُفقد فيه بعض َّ
الشروط -يلزمه بيان مستنده( )1يف سائر أحكامه ،وال يقبل قوله« :حكمت
بكذا» من غير بيان لمستنده فيه ،وكأنه لضعف واليته ،ومث ُله المح َّكم بل أولى
(.)2
* * *
( )1أي :إذا سئل عنه ،والمراد بمستنده :ما استند عليه مِن بينة أو نكول أو نحو ذلك.
فجوزه ابن حجر
اهـ رشيدي .واختلف يف قاضي الضرورة هل له أن يحكم بعلمهَّ ،
وغيره ،ومنعه الرملي .ينظر :التحفة ( ،)148/10والنهاية (.)259/8
( )2تحفة المحتاج ( ،)115-113/10وهناية المحتاج (.)241-240/8
42
أسئلة الكتاب
هذه أسئلة تتضمن محتوى الكتاب ،وهي من مهمات العلم العملي التي تشتدُّ
الحاجة إلى معرفتها يف هذا الزمان .وكتبتها هنا؛ ألن استخالص أجوبتها يعين على فهم
ما سبق واإلحاطة به وتثبيته.
وهذه األسئلة ك ُّلها واردة عند فقد السلطان أو فقد عدالته ،فليكن جواهبا على
حسب ذلك.
-1هل يتولى اآلحاد عمل السلطان؛ فيكون من وقع بيده المال العام كالسلطان؟
-2وما هي شروط من يحق له التصرف يف المال العام؟
-3وما هي أدلة جواز تصرف اآلحاد يف المال العام؟
-4وما هي المصارف الشرعية للمال العام التي يجب صرفه فيها؟ وماذا يفعل من
عنده المال إذا لم يعرف مصارفه؟
-5وهل يجب صرف المال العام إلى أحوج المستحقين ،أو يجوز دف ُعه لبعضهم
أهم منه؟
وإن كان هناك أحوج أو ُّ
-6وهل يجوز للمستحق أن يأخذ لنفسه وعياله بعض المال العام إذا ظفر به؟ وما
هو قدر ما يجوز له ُ
أخذه؟ وكيف يأخذه؟
-7وهل يجوز للمستحق قبض قدر حقه من السلطان الجائر الذي بيده حالل
وحرام؟
المرصد لمصالح جهات خاصة دون عموم المسلمين
-8وماذا ُيفعل بالمال ُ
كالجند واأليتام والمؤذنين والمدارس؟
-9وما حكم االستفادة من العقار الذي تبنيه الدولة بالمال العام لمصلحة جهة
معينة إذا ُعدمت تلك الجهة؟ وهل يجوز االنتفاع هبذا العقار بغير إذن اإلمام؟
وماذا يجب على من ليس مِن أهله إذا استوىف منفعته؟
43
-10وما حكم االستبداد بمنافع العقار العام كالمسجد والشارع أو استيفائها على
غير الوجه المباح؟ وكيف ُتضمن منافعه؟ وإذا وجب مال يف ضماهنا فهل
يصرف يف مصالح العقار أو يف مصالح المسلمين؟
لمستحق بعينه ،فهل يجوز لغيره سب ُقه إليه؟
ٍّ -11وإذا ُعين بعض العقار العام
وماذا يجب عليه إن فعل؟
-12وما حكم استعمال العقار العام على وجه يخالف الغرض الذي هيئ له؟
وإذا َّ
تعذر الغرض األصلي فيه كيف يتصرف فيه؟
-13ومن جاور يف المسجد الجامع هل يجوز له أن يضع فيه كتبه وأغراضه؟
وهل يتق َّيد ذلك بقدر الحاجة؟ وهل يجوز أن يوضع يف المسجد خزانة
لإلجارة؟
-14وما حكم غرس شجرة يف المسجد أو يف الشارع لمصلحة خاصة أو عامة؟
-15ومن وجد ماال ضائ ًعا ولم يعرف مستحقه ماذا يفعل؟ وهل يجوز أن يأخذه
لنفسه؟
-16وماذا ُيفعل باألموال المغصوبة إذا لم ُيعرف مالكوها؟ وكذلك من ظلم ً
ماال
ثم تاب ولم يجد صاحب المال وال وار ًثا له ،ماذا يفعل به؟
-17وما حكم قبض المال الحرام من األمراء الظلمة ونحوهم بنية رده لمالكه؟
وهل يجوز ذلك للمفتي ونحوه إذا كان يرتتب عليه إساءة الظن به واهتا ُم دينه؟
-18وإذا َّ
تعذرت معرفة مالك الوديعة ،هل ُيتصرف فيها بصرفها للفقراء أو بناء
المساجد ونحو ذلك؟
-19ومن كان مستحقا للزكاة فظفر بمال من وجبت عليه الزكاة وامتنع مِن دفعها،
هل يجوز له ُ
أخذ قدرها منه؟
44
-20وإذا مات شخص ولم يكن له وارث وال رحم ولم ينتظم بيت المال ،فأين
ُتصرف تركته؟ وهل يجوز للمسلم المحتاج أن يأخذ منها قدر حاجته ،وأن
يأخذ منها لغيره من المحتاجين ولو كانوا يف بلد آخر؟
نصب فقيه يقوم
ُ قاض ،فهل يجب على أهل الشوكة فيه ٍ -21وإذا خال بلد عن
ونصرهم له؟ وهل تنفذ أحكامه
ُ بأعمال القاضي؟ وهل يشرتط اجتماعهم عليه
وإن كان مقلدً ا أو فاس ًقا؟ وهل يجوز لشيخ القبيلة وإن لم يكن ً
عدال تولي ُة من
ُذكر؟
وباهلل التوفيق ،وصلى اهلل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ،وآخر دعوانا
أن الحمد هلل رب العالمين.
وكتبه:
حسن بن المعلم داود بن الحاج محمد
بالمدينة النبوية يف 13جمادى اآلخرة 1441
45
قائمة حمتويات الكتاب
46