You are on page 1of 10

‫محمد صفار‬

‫علم السياسة في مصر‪ :‬التاريخ والتوجهات‬

‫تعلق موضوع علم السياسة بدراسة مشكلة السلطة بشكل محوري‪ ،‬وهو موضوغ على درج ة عالي ة‬
‫من الخطورة‪ ،‬ولعل تلك الخط ورة هي م ا يش كل جم ال ه ذا الموض وع وإثارت ه أيض اً‪ .‬إن مش كلة الس لطة‬
‫محفورة في الطبيعة البشرية ومغروس ة بالكينون ة اإلنس انية‪ .‬ولع ل قص ة خ روج آدم من الجن ة تجس د ذل ك‬
‫بأوضح صورة؛ ترى ما الذي كان ينقص آدم في الجنة التي فيها م ا ال عينٌ رأت وال أذنٌ س معت وال خط ر‬
‫على قلب بش ر‪ ،‬بحيث ض حى به ذا كل ه من أجل ه بارتكاب ه الفع ل المح رم؟ وت أتي اإلجاب ة على ذل ك بأن ه‬
‫الش ْي َطانُ َق ا َل َي ا آ َد ُم َه ْل أَ ُدلُّ َ‬
‫ك َعلَ ٰى َش َج َر ِة ْال ُخ ْل ِد َوم ُْل كٍ اَل َي ْبلَ ٰى" س ورة ط ه اآلي ة ‪120‬؛ أي‬ ‫س إِلَ ْي ِه َّ‬
‫" َف َوسْ َو َ‬
‫الس لطان النه ائي واألبدي ة‪ ،‬وكالهم ا يع الج ص ميم الوض ع اإلنس اني‪ ،‬فالف اني دائم ا ً م ا يت وق إلى األبدي ة‪،‬‬
‫والضعيف يسعى أبداً إلى القوة‪ ،‬ومن هنا تجذرت مسألة السلطة في الكيان اإلنساني‪ ،‬األمر الذي يجع ل منه ا‬
‫مسألة حياة وموت‪ .‬ففي لقاء يزعم أنه جرى بين ابن رشد وابن عربي‪ ،‬دار بلغة اإلشارات حول مدى نج اح‬
‫البرهان والعرفان في الوصول إلى الحقيقة‪ ،‬أنهى ابن عربي الحوار بعبارة؛ وبين نعم وال‪ ،‬تطير الرقاب‪ .‬إن‬
‫المعرفة المتعلقة بالسياسة أو الحكمة السياسية بلغة القدماء ال تقل في خطورتها عن المعرفة ال تي دار حوله ا‬
‫اللقاء المزعوم‪ ،‬وإن كانت الرقاب التي تطير في حالة الحكمة السياسية هي جماعات وش عوب وأمم‪ .‬وهن اك‬
‫طرفة وردت في التراث‪ ،‬تبين فداحة ثمن المعرفة السياسية والخطورة الشديدة للجه ل به ا‪ .‬فيحكى أن األس د‬
‫جمع الحيوانات كي يستشيرهم في أحد األمور‪ ،‬فعارضه ذئبٌ وخالفه فيم ا ذهب إلي ه من رأي‪ ،‬فم ا ك ان من‬
‫األسد سوى أن أطارح برأسه‪ .‬وعندها قام حيوانٌ آخر‪ ،‬فأشاد برأي األسد وتبصره وعم ق خبرت ه وحكمت ه‪،‬‬
‫فأعجب األسد بمقاله وسأله من أين تعلمت الحكمة‪ ،‬فأج اب؛ من رأس ال ذئب الط ائر‪ .‬وعلى م ا في خط ورة‬
‫قضية السلطة التي تطيح برؤوس األفراد والشعوب واألمم‪ ،‬فيعب به ا كث يرون‪ ،‬وعلى رأس ه ؤالء دارس و‬
‫السلطة أنفسهم‪ .‬ويذكر أفالط ون في كت اب الق وانين أن هن اك افتتان ا ً يق ع في ه المهتم ون بالكيان ات السياس ية‬
‫الضخمة كاالتحادات بين المدن‪ ،‬التي تعبر عن عالقات سلطة عمالقة‪ ،‬لدرجة تعميهم عن اختالالته ا القيمي ة‬
‫والبنيوية‪.‬‬
‫وح ريٌّ بن ا بن ا بع د اإللم اح إلى خط ورة الموض وع أن نوج ه الح ديث إلى س بب الح ديث عن‬
‫الموضوع‪ ،‬أو باألحرى دواعي الحديث عنه اآلن‪ ،‬في هذه اللحظة الراهنة‪ .‬إن هناك إحساس ا ً عا _ًًّما بقص ور‪،‬‬
‫إن لم يكن بفش ل علم السياس ة في مص ر‪ ،‬رغم (أو ربم ا بس بب) ه ذا الكم من اإلنت اج العلمي على مس توى‬
‫الدراسات النظرية أو التطبيقية‪ .‬وفي الواقع‪ ،‬ليست أزمة هذا العلم وليدة هذه اللحظة الحالي ة ال تي نكاب دها أو‬

‫‪1‬‬
‫محمد صفار‬

‫الفترة االنتقالية أو أحداث الثورة ذاتها‪ .‬بل نشأ اإلحساس بوجود هذه األزم ة في تس عينيات الق رن العش رين‪.‬‬
‫فلم يس تطع علم السياس ة في مص ر إف ادة الواق ع من خالل القي ام بوظ ائف العلم في المج ال السياس ي وهي‬
‫التحليل والتفسير والتنبؤ والتقويم‪ .‬فمنذ تسعينيات القرن المنصرم‪ ،‬أعلن باحثون كبار وبارزون عج زهم عن‬
‫معرفة جوهر الواقع السياسي وآليات التغيير فيه‪ ،‬ناهيك عن اتجاهات التغيير في المستقبل‪ .‬لقد كان المستقبل‬
‫الوحيد المطروح آنذاك‪ ،‬ولقرابة عقد من الزمان هو توريث السلطة من األب إلى االبن‪ ،‬وجرى تصوير ه ذا‬
‫السيناريو على أنه القدر المقدور‪ .‬ورغم أن المستقبل كما شاهدنا كحاضر معاش زخر باحتماالت شتى‪ ،‬غير‬
‫أن كبار األساتذة لم يتخيل وا إمكاني ة تحققه ا‪ ،‬ب ل وص ادر الكث يرون منهم على أي احتم ال بخالف اس تمرار‬
‫الوضع القائم‪ .‬‬
‫ولو عدنا إلى عام ‪ ،2005‬أكان من الممكن آنذاك تخيل سقوط حكم رئيس اس تمر لم دة ثالث ة عق ود‬
‫وركن إلى إمكانية نقل السلطة إلى ولده؟ أكان من الممكن أن تصل الجماع ة المحظ ورة إلى س دة الحكم وأن‬
‫يصبح الحزب الحاكم محظوراً؟ أك ان من الممكن تص ور فش ل حكم أول رئيس م دني منتخب ت دخل الجيش‬
‫لإلطاحة به وبنظامه ليوضع في قفص االتهام مع الرئيس األسبق ونجليه؟ ب الطبع لم يكن من الممكن تص ور‬
‫ك ل ه ذا وذاك وقت ذاك‪ .‬ويقين ا ً لم يكن أي من أس اتذة علم السياس ة ي زعم وقته ا أن ه يس تطيع أن ي رى تل ك‬
‫االحتماالت بظهر الغيب‪ .‬ومع ذلك العجز‪ ،‬استمر أساتذة العلوم السياسية كحالهم قبل الث ورة‪ ،‬يلعب ون أدواراً‬
‫سياسية مختلفة‪ ،‬مباشرة وغير مباشرة‪ ،‬لكن تقديراتهم جميعها قد فش لت‪ ،‬وب ل وس قطت رهان اتهم السياس ية‪،‬‬
‫ووجدناهم إما يتعلقون بأهداب سلطة مضى عهدها أو سلطة يبزغ نجمها أو يتبدلون ويتلونون مع كل عص ر‬
‫وسلطة‪ .‬ولما كان كل هؤالء يختلف ون في خلفي اتهم الثقافي ة واالجتماعي ة والسياس ية والديني ة‪ ،‬وك ان القاس م‬
‫المشترك فيما بينهم هو أنهم أه ل تخص ص واح د‪ ،‬فإن ه من الممكن أن ن زعم أن األزم ة ال تي يجس دونها أو‬
‫يعبرون عنها إنما تتعلق بذلك التخصص أو ببنية علم السياسية أو بتقليد علم السياسة في مصر‪ .‬ومن هنا لزم‬
‫علينا أن نعود إلى الوراء قليالً إللقاء الضوء على تاريخ هذا الحقل المعرفي في الماضي القريب والبعيد‪ .‬‬
‫في الماضي القريب‪ ،‬شهدت أخريات الق رن التاس ع عش ر وأوائ ل الق رن العش رين ثالث مح اوالت‬
‫لتأسيس علم السياس ة في مص ر‪ ،‬وق د نبعت ك ل محاول ة في لحظ ة تاريخي ة معين ة حملت ك ل منه ا س مات‬
‫مشتركة مع لحظتنا الراهنة‪ ..‬ظهرت المحاولة األولى على ي د الش يخ محم د عب ده في أواخ ر الق رن التاس ع‬
‫عشر‪ ،‬حيث شهدت مصر اضطرابات سياسية واجتماعية فيما عرف بالثورة العرابية‪ ،‬أو هوجة عرابي كم ا‬
‫عرفت في ذلك الوقت‪ ،‬وكان أن تعثر الحكم الديمقراطي الذي أفرزته األحداث ثم سقط وسقطت مص ر مع ه‬
‫باالحتالل العسكري األجنبي‪ .‬في تلك اللحظة‪ ،‬دعا محمد عبده عند تفسيره لآلية ‪ 137‬من سورة آل عم ران‬
‫ان َعاقِ َب ُة ْال ُم َك ِّذ ِب َ‬
‫ين" إلى تأس يس علم يس عى إلى‬ ‫ْف َك َ‬
‫انظرُوا َكي َ‬ ‫ت مِن َق ْبلِ ُك ْم ُس َننٌ َفسِ يرُوا فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ض َف ُ‬ ‫" َق ْد َخلَ ْ‬

‫‪2‬‬
‫محمد صفار‬

‫فهم عالقات السلطة في المجتمع استناداً إلى مفهوم السنن المشار إليه في اآلية الكريمة‪ ،‬وذلك بأي اسم يشاؤه‬
‫المرء سواء كان علم السنن أو علم االجتماع الديني أو علم السياسة المدنية‪ .‬‬
‫أما المحاولة الثانية‪ ،‬فكانت على يد عبد الرحمن الكواكبي في بداية القرن العشرين ال ذي ش هد تف اقم‬
‫أزمة الدولة العثمانية واقترابها من النهاية‪ ،‬مع خنقها ألية محاوالت نقدية راقية لإلصالح من خالل االعتقال‬
‫واالضطهاد‪ .‬ولما كان الكوكبي يعتبر أن االستبداد هو الداء العضال‪ ،‬فقد اقترح تأسيس علم للسياس ة‪ ،‬ي راكم‬
‫على جهود رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي‪ ،‬ويرك ز على موض وع واح د وه و االس تبداد‪ ،‬ومن هن ا‬
‫أتى عنوان كتابه الش هير (طب ائع االس تبداد ومص ارع االس تعباد)‪ .‬وك انت المحاول ة الثالث ة على ي د المفك ر‬
‫الليبرالي الشهير أحمد لطفي السيد‪ ،‬في العقد الثاني من القرن العش رين‪ .‬وك انت مص ر‪ ،‬م ع ان دالع الح رب‬
‫العالمية األولى‪ ،‬مع وضعها تحت الحماية البريطانية (‪ )1914‬قد انفصلت رسم ّيا ً عن الدولة العثمانية للم رة‬
‫األولى‪ ،‬وشهدت أيام الحرب استباحة القوات الغازية لكافة مواردها ومرافقها من أجل دعم المجهود الحربي‪.‬‬
‫وأخيراً تفجرت ثورة ‪ ،1919‬كثورة مجتمعية اشتركت فيها كافة طوائف الشعب المصري وريفه وحض ره‪،‬‬
‫أفرزت الثورة نظاما ً سياس ّيا ً يمكن أن نطلق عليه ببعض التجاوز نظاما ً ديمقراط ّيا ً برلمانيّاً‪ .‬ولم ا ك ان لطفي‬
‫السيد على علم بأن الممارسة السياسية في ظل النظام الجديد تستلزم وجود معرفة بالمفاهيم والتقاليد النظري ة‬
‫السياسية الغربية‪ ،‬التي اعتبر أن مصدرها األساسي هو كتابات أرس طو‪ ،‬فق د ق ام بترجم ة كتاب ْي ه "األخالق"‬
‫و"السياسة" من أجل ذلك‪ .‬‬
‫قد تكون هن اك مح اوالت أخ رى‪ ،‬ال علم لي به ا بش أن تأس يس علم للسياس ة في مص ر‪ ،‬ولكن تل ك‬
‫المحاوالت المذكورة كانت أبرزها‪ .‬ولعل السؤال األهم ال يتعلق بعدد هذه المحاوالت وإنم ا بمق دار تأثيره ا‪.‬‬
‫والحقيق ة أن ه ذه المح اوالت لم تثم ر ش يئاً؛ فعن د تأس يس أقس ام العل وم السياس ية في مص ر في أواخ ر‬
‫الخمسينيات‪ ،‬تمت االستعانة بكتاب في مقدمة العلوم السياسية لكاتب كن دي‪ ،‬ومحتوي ات ه ذا الكت اب وتقس يم‬
‫موضوعات العلم فيه‪ ،‬منبتة الصلة بالواقع الفكري‪ -‬السياسي الذي أف رز تل ك المح اوالت الم ذكورة‪ ،‬بعب ارة‬
‫أخرى‪ ،‬لم يتم البناء على أية محاولة من هذه المحاوالت أو توظيف الجهد الفك ري المب ذول فيه ا في اإلنت اج‬
‫المعرفي النظري أو العملي لعلم السياسة في الجامعات المصرية‪ .‬وإنما جرى وضعها في مجال تاريخ الفكر‬
‫السياسي المصري أو العربي‪ ،‬باعتبارها مجرد حاالت دراسية تاريخية‪ .‬‬
‫ولكن إذا جاز لن ا اإلف ادة من ه ذه المح اوالت في لحظتن ا الراهن ة‪ ،‬فيمكنن ا أن نس تدل منه ا أن علم‬
‫السياسة ليس جسداً مقدسا ً ال يمس؛ إنه ليس ك ذلك‪ ،‬اآلن ولم يكن في ي وم من األي ام ك ذلك‪ .‬وبالت الي‪ ،‬ينبغي‬
‫تعديل ه وإص الحه ب ل ح تى هدم ه وإع ادة بنائ ه (إذا تطلب األم ر) في ك ل مرحل ة وفي ك ل حقب ة بحس ب‬
‫متطلباته ا من أج ل أن يتمكن من القي ام بوظ ائف العلم بالنس بة للقض ية مح ل الدراس ة وهي في حال ة علم‬
‫‪3‬‬
‫محمد صفار‬

‫السياسة الوجود السياسي أو االجتماعي للسياسي‪ .‬ويضاف إلى ذلك‪ ،‬أنه في لحظتن ا الراهن ة‪ ،‬إذا ك ان هن اك‬
‫مسعىً حقيقيا ً لمراجعة حالة العلم‪ ،‬لم يعد من الممكن أن نتجاهل المحاوالت أو أن نلقي بها جانب اً‪ .‬س واء من‬
‫ناحية األسئلة التي حفزتها أو من حيث األجوبة التي قدمتها‪ .‬إن شدة تعق د الوج ود المجتمعي الح الي يس تلزم‬
‫تعبئة كافة الموارد الفكرية والجهود العلمية على اختالف خلفياتها‪ ،‬إذ إننا لسنا في ترف إهدار هذه ال ثروات‪،‬‬
‫فنتيجة ذلك تطاير الرقاب كما ذكرنا في البداية‪ .‬‬
‫في حقيقة األمر‪ ،‬ال يمكن القول إننا نبدأ من فراغ في دراس ة قض ية الس لطة‪ ،‬فهن اك تقالي د تاريخي ة‬
‫لدراسة قضية السلطة في الحضارة اإلسالمية ال تي تش كل األف ق الت اريخي لن ا‪ ،‬بع د انفص النا لغويّا ً وثقافيّا ً‬
‫ودين ّيا ً عن الطبقات األخرى المكونة للت اريخ المص ري؛ الفرعوني ة‪ ،‬والهلينس تية والقبطي ة والروماني ة‪ .‬وإن‬
‫كان ال يعني هذا برأينا إغالق المجال البحثي عن تقاليد دراسة الس لطة في تل ك األحق اب التاريخي ة واإلف ادة‬
‫منه‪ ،‬لما في ذلك من إثراء للموارد الفكرية المتاحة أمامنا‪ .‬وأول تقليد ه و سياس ة الفقه اء ال تي ع رفت باس م‬
‫السياسة الشرعية‪ ،‬وكانت تلك محاولة من قبل الفقهاء لالجته اد فيم ا ليس في ه نص مم ا يتعل ق ب أمور الحكم‬
‫أص ل‬
‫واختصاصات الحاكم‪ ،‬ولكن في إطار مبادئ الشريعة‪ .‬ويستند ذلك إلى فكرة المص الح الش رعية ال تي ّ‬
‫لها اإلمام الشاطبي في كتابه الشهير (الموافقات في أصول الشريعة)‪ .‬أما التقليد الثاني فهو سياسة الكتّاب أو‬
‫أرباب القلم أو ما عرف بأدب النص يحة‪ ،‬وفي الغ رب‪ ،‬باس م مراي ا األم راء‪ .‬وه و محاول ة من قب ل الكتّاب‬
‫العاملين بخدمة الدولة بلورة فن إدارة شؤون الحكم اس تناداً إلى التقالي د الفكري ة والسياس ية للبالط الفارس ي‪.‬‬
‫وقد أخذ هذا التقليد صورة نصائح ُتقدم إلى الح اكم ح ول كيفي ة الحكم بم ا يحف ظ الس لطة ويعطي له ا وجه ا ً‬
‫أخالق ّياً‪ .‬ويعتبر كتاب (اآلداب الس لطانية) للم اوردي المث ال الكالس يكي له ذا الل ون من الكتاب ة‪ ،‬وال يحت اج‬
‫المرء خياالً عظيما ً ليدرك أن كتاب األمير لمكيافيللي ينتمي إلى ه ذا التقلي د أيض اً‪ .‬وك ان التقلي د الث الث ه و‬
‫ً‬
‫(نسبة إلى المدينة كنم وذج للمجتم ع السياس ي)‪ ،‬وق د ح اول الفالس فة من‬ ‫سياسة الفالسفة أو السياسة المدنية‬
‫خالل استلهام أو تكييف التقاليد الكالسيكية لعلم السياسة أو الفلس فة السياس ية ألفالط ون وأرس طو‪ ،‬من خالل‬
‫الجمع بين آراء الحكيمين أن يصلوا إلى معرفة ج وهر السياس ة ومن ثم نظ ام الحكم األمث ل كمعي ار لتحلي ل‬
‫وتفسير وتقييم وتغي ير الواق ع السياس ي‪ .‬وق د ب دأت ه ذه المح اوالت م ع الف ارابي ال ذي أدخ ل علم السياس ة‬
‫األفالطوني إلى الحيز المعرفي اإلس المي ووص لت ذروته ا م ع ابن رش د ال ذي ق دم في ش رحه لجمهوري ة‬
‫أفالط ون محاول ة فكري ة وسياس ية إلص الح واقع ه السياس ي في األن دلس في إط ار االنقالب على حاكم ه‬
‫المستبد‪ .‬‬
‫على ضوء هذه الخلفية‪ ،‬يمكننا استعراض االتجاهات السائدة في علم السياس ة في مص ر في اللحظ ة‬
‫الراهنة مثلما تتبدى في قسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة‪ .‬وال شك أن في هذه الرؤي ة ال تي نق دمها درج ة‬
‫‪4‬‬
‫محمد صفار‬

‫كبيرة من المركزية‪ ،‬إذ إنها تعتبر أن كافة أقسام العلوم السياسية بالجامعات المصرية األخرى إما أنها صور‬
‫مستنسخة من القسم األم أو ال ترقى إلى مستوى وجود اتجاهات نظرية للعلم بها وال يعدو محص ولها العلمي‬
‫إن وجد‪ ،‬نو ًعا من اإلمبريقية الخام‪ .‬وإذا كان األمر كذلك‪ ،‬فيمكننا القول إن هناك ثالث ة اتجاه ات نظري ة في‬
‫الحقل‪ ،‬أحدها رئيسي واآلخران فرعيان وربما هامشيان‪ .‬أما االتجاه األول فه و االتج اه الس لوكي الوض عي‪،‬‬
‫واآلخران هما االتجاه المعرفي اإلسالمي والتأويلي ما بعد الحداثي‪ .‬‬
‫واالتجاه السلوكي الوضعي هو االتجاه الرئيسي الغالب وه و يجس د نوع ا ً من الس لطة المعرفي ة‪ ،‬أو‬
‫لنقل اإلمبريالية النظرية التي تحدد من خالل السلطة اإلدارية في لجان مناقش ة الرس ائل أو الس يمنار العلمي‬
‫والترقيات‪ ،‬والسلطة المعرفية في تحديد مقررات التدريس والرسائل العلمية واألبحاث الدورية م ا ي دخل في‬
‫نطاق العلم وما ال يدخل في نطاق ه أي ح دود الحق ل‪ ،‬وك ذلك الموض وعات الج ديرة ب البحث والت دريس أي‬
‫األجندة العلمية‪ .‬وقد استطاع هذا االتجاه من خالل استيراد التقالي د العلمي ة للمدرس ة الس لوكية األمريكي ة أن‬
‫يؤسس علم السياس ة في مص ر بص ورته ال تي نعرفه ا‪ ،‬إذ أنش أ التخصص ات الرئيس ية والفرعي ة من خالل‬
‫اإلشراف العلمي والتدريس والتأليف‪ .‬غير أن هذا االتجاه يعاني من نفس عيوب المدرسة الس لوكية واالتج اه‬
‫الفلسفي الوضعي بوجه عام‪ ،‬كما بينت األحداث السياس ية في العق ديْن الماض ييْن‪ ،‬رغم إنك ار الق ائمين علي ه‬
‫ذلك‪ .‬إن الوضعية التي يقوم عليها علم السياسة السلوكي تق وم على نظ رة للعلم والك ون مس تلهمة من العل وم‬
‫الطبيعية قد تجاوزتها في إطار نقلة براديمية ‪ Paradigmatic Shift‬تسببت فيها نظرية النس بية ونظري ة‬
‫الكوانتم؛ فقد سقطت الحتمية لتح ل محله ا االحتمالي ة وتب دلت حدي ة الحقيق ة لتح ل محله ا درج ٌ‬
‫ات للحقيق ة‪.‬‬
‫وهناك ثالثة عيوب جوهرية في التقاليد السلوكية؛ أولها اس تناد فك رة العلمي ة إلى المنهج وح ده األم ر ال ذي‬
‫يؤدي إلى استبعاد موض وعات أو أبع اد هام ة ت ؤثر في موض وع الس لطة لمج رد أنه ا غ ير قابل ة للدراس ة‬
‫بالمنهج المستورد من العلم الطبيعي‪ .‬ويعمي هذا التقديس العلمي للوسيلة الباحث عن الواقع‪ .‬يضاف إلى ه ذا‬
‫إلى أن فكرة السلوك الظاهر كوحدة للتحليل تختزل الحقيقة اإلنسانية إلى مجرد منبه واستجابة (كما هي حالة‬
‫كلب بافلوف) ويستبعد العناصر القيمية والبنيوية من التحليل‪ .‬أخيراً؛ لم تؤد فكرة الحياد القيمي ال تي ش وهها‬
‫تالكوت بارسونز بنقله إياها عن م اكس في بر إلى اس تبعاد القيم من التحلي ل‪ ،‬وإنم ا فتحت الب اب الخلفي أم ام‬
‫القيم لتتسرب مرة أخرى إلى التحليل دون دراستها عمل ّياً‪ ،‬كم ا ه و الح ال في التقالي د العلمي ة األرس طية في‬
‫كتاب األخالق‪ .‬وتحت ستار الموضوعية‪ ،‬يتمكن الباحث السلوكي من تهريب قيمه الخاصة للتحلي ل وال زعم‬
‫أن نتائج ه تنب ع من الواق ع‪ ،‬في حين أنه ا تمث ل تفض يالته الفكري ة والقيمي ة وق د ت دثرت بعب اءة الس لطة‬
‫األكاديمية‪ .‬وهكذا يهبط الباحث السلوكي بمكانة علم السياسة من معلم للمش رع والح اكم إلى مج رد كالكتّاب‬
‫الفرس في البالط العباسي‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫محمد صفار‬

‫أتى االتجاه المعرفي اإلسالمي كردة فعل على طغي ان االتج اه الس لوكي تدريس ا ً وبحث اً‪ .‬وينب ع ه ذا‬
‫االتجاه من إدراك أن للسياق الحضاري والتاريخي والمجتمعي أثره في صياغة المفاهيم الكلي ة ال تي يتأس س‬
‫عليها العلم‪ ،‬أي علم نظري وعملي‪ ،‬وأن التقاليد الوضعية هي نتاج تط ور فلس في ارتب ط بظ روف المجتم ع‬
‫الصناعي الغربي العلماني‪ ،‬وهي وإن جرى تصديرها باعتبارها عالمية وتمث ل أعلى م ا توص ل إلي ه الفك ر‬
‫اإلنساني‪ ،‬غير أنها في حقيقتها ال تعدو إال أن تكون مجرد تط ور ثق افي وفك ري غ ربي ج رى فرض ه على‬
‫البلدان المستعمرة‪ .‬ويبشر هذا االتجاه بإحداث نقلة برادايمية تعيد تأس يس علم السياس ة على أس اس المف اهيم‬
‫والخبرات التاريخية اإلسالمية‪ ،‬فيما يعرف بإسالمية المعرفة أو المنظور الحضاري اإلسالمي‪ .‬ورغم وجود‬
‫إنتاج معرفي حقيقي وأعمال تأسيسية لهذا االتجاه إال أن ه يع اني من الح يرة بين التقالي د اإلس المية أي تقالي د‬
‫المدرسة الشرعية وآداب النصيحة وتقاليد الفكر الغربي‪ .‬وبرأينا المتواضع‪ ،‬فإن هذا االتج اه يع اني من ع دم‬
‫تعمقه النظ ري في القض ايا األنطولوجي ة (المتعلق ة بمف اهيم الوج ود بش كل ع ام‪ ،‬والوج ود اإلنس اني بش كل‬
‫خاص) واالبستيمولوجية (المتعلقة بمص ادر المعرف ة وح دودها وماهيته ا ودرجاته ا)‪ .‬ونتيج ة ذل ك‪ ،‬أن م ع‬
‫استخدام هذا االتجاه للمفاهيم اإلسالمية (القرآنية والتاريخية) كديباجات تحليلية‪ ،‬فإنه يعجز عن توظيفه ا على‬
‫مس توى بن اء المف اهيم ووح دات التحلي ل واالقتراب ات‪ .‬ويتم االلتف اف على ه ذا القص ور النظ ري باس تيراد‬
‫المفاهيم الغربية وهي التي يبشر هذا االتجاه بإح داث قطيع ة معه ا‪ ،‬م ع تلبيس ها بالمف اهيم اإلس المية‪ ،‬وذل ك‬
‫بنفس الروح الوضعية التي ي رغب في منافحته ا‪ .‬وم آل ه ذا االتج اه‪ ،‬إذا لم يتعم ق في الخ برة الفلس فية ه و‬
‫االنحسار في شكل دراسات مناطق تتخذ من العالم اإلسالمي أو األمة اإلسالمية كوحدة للتحليل وترك ز على‬
‫قضايا ومشكالت المسلمين على المستوى الدولي‪ .‬‬
‫ويعتبر االتجاه التأويلي ما بعد الحداثي متأخراً زمنيّا ً على ه ذيْن االتج اهيْن‪ ،‬وي أتي ك رد فع ل على‬
‫تعثر مسيرتهما ويحاول ه ذا االتج اه فتح طري ق جدي د أم ام علم السياس ة في الح يز المع رفي المص ري من‬
‫خالل استلهام تقاليد النق د الحداثي ة وم ا بع د الحداثي ة وتوظيفه ا في دراس ة قض ايا الواق ع السياس ي الفك ري‬
‫والحركي باستخدام اقترابات تحليل الخطاب والتفكيك وجينالوجيا السلطة‪ ،‬ورغم إدراك هذا االتج اه أن النق د‬
‫ما بعد الحداثي يستند إلى تقاليد فكرية تعود بج ذورها إلى ال تراث اليون اني والروم اني والمس يحي اليه ودي‬
‫والح داثي‪ ،‬وأنه ا نبعت في مجتمع ات بلغت فيه ا مع دالت التح ديث مس تويات عالي ة‪ ،‬بحيث تب دلت طبيع ة‬
‫المشكالت ومكونات الواقع السياسي واالجتماعي فيها عن الواقع المصري‪ ،‬رغم هذا كله‪ ،‬عجز هذا االتج اه‬
‫عن تكييف هذه التقاليد المستوردة بما يؤدي إلى إزالة التناقض بين مسلماتها الفلسفية والتقاليد الثقافية المحلية‬
‫أو ح تى إح داث إزاح ة وتب دل داللي في بني ة تل ك المف اهيم لتتناس ب ك أدوات للتحلي ل م ع الواق ع السياس ي‬
‫المستورد‪ .‬ومن دون حل هذه اإلشكاليات النظرية‪ ،‬س يكون م آل ه ذا االتج اه (إن اس تمر) ه و تق ديم أبح اث‬
‫‪6‬‬
‫محمد صفار‬

‫تفكك الواقع وتسهم في تحلله‪ ،‬وه و واق ع مه ترئ ومتش ٍّظ من األس اس‪ ،‬من دون أي ة ق درة على التجدي د أو‬
‫إعادة البناء‪ .‬‬

‫ماذا بعد؟‬
‫إن هذه هي األرضية التي يقف عليها الباحث في علم السياسة في اللحظة الراهن ة‪ ،‬وال يمكن ه س واء‬
‫علم أم لم يعلم‪ ،‬ش اء أم أبى أن يتج اوز الواق ع السياس ي أو األك اديمي أو القف ز من فوق ه عن طري ق ح رق‬
‫المراحل التاريخية كما ذهب لذلك الماركسيون قديماً‪ .‬وال يعني هذا االستسالم إلى ذلك الواقع‪ .‬وال يعني ه ذا‬
‫بأي حال من األحوال أيضا ً االستسالم لهذا الواقع أو الركون إلي ه‪ ،‬وإنم ا ض رورة الب دء من ه في أي مس عى‬
‫نظري أو عملي سواء أكان المقصود ه و الحف اظ علي ه أو إص الحه أو تغي يره أو تط ويره أو هدم ه وإع ادة‬
‫بنائه‪ .‬‬
‫إن الدعوة إلى التجديد في علم السياسة وفتح آفاق جديدة لهذا الحقل المعرفي في المس تقبل‪ ،‬إنم ا هي‬
‫دعوة دائمة ال تتوقف وال تقتصر على جيل دون جي ل‪ ،‬وإنم ا يش ارك فيه ا الجمي ع كهم ورس الة مش تركين‪.‬‬
‫ومن أج ل ذل ك‪ ،‬ال ينبغي أن تتلبس ه ذه ال دعوة ش كل التم رد الطف ولي على منج زات األجي ال الس ابقة في‬
‫الماضي القريب أو البعيد أو حتى السحيق؛ فإنما المقصد هو إعادة تدوير وتوظيف هذه الجهود واللبن ات من‬
‫أجل التجديد المستمر في بناء العلم وليس تحطيمه‪ .‬وال يح ول ه ذا دون التخلص من العناص ر الفكري ة ال تي‬
‫تحدث الجمود الفكري وتعرقل التغيير تحت أي زعم‪.‬‬
‫وال يمكن لعلم السياسة أن ينفصل عن القاعدة القيمية تحت أي زعم؛ فال بد أن تك ون القيم واالل تزام‬
‫القيمي حاضراً وموجها ً للبحث في كل خطواته‪ ،‬ولكن تسانده في ذل ك األمان ة العلمي ة واالس تقامة المنهاجي ة‬
‫التي تجعل من الشك المحرك لكل مسعى علمي إنما يتح رك في إط ار حب الوص ول إلى الحقيق ة مهم ا بل غ‬
‫العنت أو التضحية أو المشقة‪ .‬ذلك ألن الفصل بين الحقيقة والقيم إنما يفقد الب احث ال دافع والمحف ز لمواص لة‬
‫السير في الطريق الوعر والصخري للعلم‪ ،‬بتعبير ماركس‪ ،‬ويجعله أداة طيعة‪ .‬ولهذا فإن علم السياس ة ال ذي‬
‫ال يستطيع أن يدين نظام الحكم االستبدادي تماما ً مثلما يصف علم الطب السرطان على أنه مرضٌ خ ٌ‬
‫بيث‪ ،‬ال‬
‫يستحق وصفه بالعلم‪ ،‬على حد قول لي و ش تراوس ويمكن أن نض يف أن المش تغل به ذا الل ون من العلم ليس‬
‫بعالم‪ .‬‬
‫أخيراً وليس آخراً‪ ،‬برغم ضرورة اقتراب باحث العلوم السياسية من الواقع ليجعل عالقته ب ه عالق ة‬
‫مباشرة بال حجاب من الوسائط المفاهيمية والفكرية‪ ،‬بل يس تلهم قض اياه وتوجه ه النظ ري ومنهج ه من ذل ك‬
‫الواقع‪ ،‬إال أن ه ال يجب أن يخ وض غم ار العم ل السياس ي كأح د الفرق اء المتص ارعين أو كردي ف ألي من‬
‫‪7‬‬
‫محمد صفار‬

‫هؤالء‪ ،‬ألن مهمته أسمى من ذلك بكثير‪ .‬إن الفيلسوف السياسي ال يعني فقط بدراسة المسائل الجزئي ة للحكم‪،‬‬
‫وإنما بالصورة الكلية للوجود السياسي وما ينبغي أن يك ون علي ه‪ ،‬فه و يق دم مع ايير الحكم على األش ياء في‬
‫عالم الواقع‪ ،‬فيما يتصل بإشكالية السلطة‪ .‬ول و اس تعدنا تص ور أفالط ون ل دور ع الم السياس ة‪ ،‬لج از لن ا أن‬
‫نقول‪ :‬إن عالم السياس ة ه و أس مى بكث ير من ه ؤالء المتن ازعين على الس لطة أو الممس كين بزمامه ا؛ ألن ه‬
‫معلمهم وهاديهم وليس خبيراً أجيراً لديهم‪.‬‬

‫علم السياسة في مصر والتقاليد السلوكية‬

‫يبدو علم السياسة في مصر وكأن لديه إدرا ًكا واضحً ا ل ُكل شيء‪ ،‬فنجد أسماء المنتمين ل ه ب ارز ًة في‬
‫المقاالت الصحفية‪ ،‬والنشرات اإلخبارية التحليلية‪ ،‬والبرامج التليفزيونية‪ ،‬والمناصب السياس ية الرفيع ة‪ .‬لكن‬
‫ما يقبع تحت السطح في حقيقة األمر مُختلف تمامًا‪ .‬لم يفش ل علم السياس ة في مص ر فق ط في التنب ؤ بانهي ار‬
‫النظام السياسي‪ ،‬لكنه أي ً‬
‫ضا‪ ،‬وهو األمر األشد خطورة‪ ،‬فشل في حمأة اللحظة أن يتعرّ ف على حقيقة الث ورة‪.‬‬
‫يُضاف إلى ذلك أنه كان ع ً‬
‫اجزا عن تق ديم تفس ير للث ورة‪ ،‬كم ا لم يس تطِ ع تق ديم ب دائل مُجدي ة إلدارة الف ترة‬
‫كل من الحُكم العسكري والمدني‪ .‬يُفاقم «ورم علم اء السياس ة الخ بيث» المستش ري في كاف ة‬
‫االنتقالية تحت ٍ‬
‫الوضع المعت ّل للبالد‪ .‬لذا تسعى تلك المقالة للنظر في التباين بين انتش ار َمن‬
‫َ‬ ‫أرجاء الجسد السياسي المصري‬
‫ُفترض أنهم خبراء الفن الملكي وتدهور األوضاع السياسية للبالد‪.‬‬
‫ي َ‬

‫في يوني و‪/‬حزي ران ‪ ،2012‬نش رت «ل يزا أندرس ون»‪ ،‬وهي الرئيس ة الس ابقة للجامع ة األميركي ة‬
‫بالقاهرة‪ ،‬دراسة عن مشكالت علم السياس ة‪ ،‬ذهبت فيه ا إلى أن تزاي د انتش ار وس ائل التواص ل االجتم اعي‬
‫ومحرك ات البحث تس بّب في إيج اد مش اكل لعلم اء السياس ة‪ ،‬حيث أنهى احتك ارهم للحق ائق والمعلوم ات‪.‬‬
‫ودفعت بأن علماء السياسة بحاجة إلى إعادة تشكيل هُويتهم باعتبارهم مُمارسين فاعلين يتشاركون في ح وار‬
‫مع الطالب وصناع السياسة‪ .‬إن حُجة أندرسون‪ ،‬والتي ُتعتبر بمثابة صدى متأخر لمفهوم آلفين توفلر الش ائع‬
‫«اإلغراق المعلوماتي»‪ ،‬جا َن َبها الصواب تمامًا‪ .‬مشكلة علم السياسة ال تعود إلى إنت اج وتوزي ع المعلوم ات‪،‬‬
‫بل على العكس من ذلك‪ ،‬تتوقف المشكلة على غي اب أُط ر تحليلي ة ذات مص داقية تعم ل على ترش يح ت دفق‬
‫عصر وف ًقا لمعاييره الخاصة‪ .‬وللمفارقة‪ ،‬ففي فصل الخري ف الدراس ي لع ام‬
‫ٍ‬ ‫المعلومات‪ ،‬التي وُ ِجدَت في كل‬

‫‪8‬‬
‫محمد صفار‬

‫‪ ،2012‬شهدت الجامعة األميركية بالقاهرة مشه ًدا ثور ًّيا متأخرً ا‪ ،‬األمر الذي واجهت ه أندرس ون بح ٍ‬
‫زم ع بر‬
‫إغالق بوابات الجامعة وتعليق أنشطة الحرم الجامعي‪.‬‬

‫إن مشكلة علم السياسة في مصر‪ ،‬والتي تتسع لتشمل نظيره في الواليات المتحدة‪ ،‬ترج ع إلى هيمن ة‬
‫ِص ر النظ ر – إن لم يكن العمى – المس تفحلة ل دى علم اء السياس ة‪،‬‬
‫التقليد السلوكي‪ ،‬الذي يقف وراء حالة ق َ‬
‫فرغم أن العالم قد مضى قُدمًا وذهب إلى أبعد من الس لوكية بكث ير‪ ،‬ال ي زال‬
‫سواء المصريين أم األميركيين‪َ .‬‬
‫علم اء السياس ة يتش بثون به ا بطريق ة تش به االعتق اد ال ديني تحت ذريع ة زائف ة بأنه ا «اللعب ة الوحي دة في‬
‫المدينة»‪ .‬ومن ث ّم يتوجّ ب علينا مناقشة بعض معتقدات التقليد الس لوكي في علم السياس ة من أج ل دحض م ا‬
‫أفقدته األحداث مصداقيته بالفعل‪ .‬يُعد الخواء القيمي أو الحياد األخالقي العامل األساس بالنسبة للسلوكية‪ ،‬م ا‬
‫يعني أن الفراغ األخالقي هو الشرط الذي ال غنى عنه لعالِم السياسة كي يص ل للحقيق ة عم ا يق وم بدراس ته‪.‬‬
‫‪.‬ويمكن أن ي تر ّتب على اعتي اد الحي اد بين الخ ير والش ر آث ار خط يرة على علم اء السياس ة‪ .‬وبعب ارة لي و‬
‫شتراوس‪« ،‬كلما كنا – نحنُ دارسي العلوم االجتماعية – أكثر جدية؛ طوّ رن ا ب داخلنا حال ة من الالمب االة…‬
‫أو حالة من التشتت واالنحراف‪ ،‬حالة يمكن تسميتها بالعدمية»‪ .‬ونتيجة لذلك‪ ،‬سيقوم ع الِم السياس ة ب ازدراء‬
‫كافة االعتبارات ذات الصلة بالعام أو الخاص‪ ،‬وسيتعيّن علي ه اللج وء إلى «قيم ة» الحي اد القيمي‪ .‬وبع د أن‬
‫الم السياس ة ع ً‬
‫اجزا عن التمي يز بين األش كال الجي دة والس يئة للحكوم ة‬ ‫خسر هامشه األخالقي‪ ،‬لن يك ون ع ِ‬
‫ضا‪ ،‬واألكثر أهمية‪ ،‬سيُصبح منفصاًل عن واقعه السياسي‪ .‬تلك العالقة المباشرة مع واقعه هي‬
‫فحسب‪ ،‬لكنه أي ً‬
‫ُفترض لها أن تزوده بأسئلة رئيسية وتوجيه نظري ومنظومة مفاهيمية ومنهج ووظيف ة‪ .‬وم ا ه و‬
‫التي كانت ي َ‬
‫رض باس تثناء الحف اظ على أمن‬ ‫أكثر خطورة‪ ،‬أن ممارسة علم السياسة على هذا النحو ستفقد أي هد ٍ‬
‫ف أو غ ٍ‬
‫عالِم السياسة الشخصي‪ ،‬إلى جانب دخله ووجاهته االجتماعية ونفوذه‪.‬‬

‫وسوف تتحول الخبرة والمهارات العلمية إلى سلعة للبيع في السوق السياس ي ل َمن ي دفع أعلى س عر‪.‬‬
‫ال يسع المرء سوى أن يذهب إلى ما ذهب إليه ليو شتراوس ب أن علم السياس ة ال ذي ال ي رى االس تبداد ش رً ا‬
‫وخطرً ا‪ ،‬بنفس الطريقة التي يرى بها الطبيب الس رطان‪ ،‬ال يس تحق أن يُس مى عل ًم ا في المق ام األول‪ .‬يُمكن‬
‫للمرء أن يُدرك حجم التشويه‪ ،‬بل حتى اإلفس اد‪ ،‬ال ذي ألحق ه التقلي د الس لوكي بعلم السياس ة عن دما نس تدعي‬
‫المفهوم األفالطوني عن «السفسطائي»‪ .‬ينظر أفالطون إلى السفسطائيين باعتبارهم أف را ًدا مرتزق ة يقوم ون‬
‫بتدريس آراء الجماهير ويطلقون على تلك اآلراء حكمة‪ .‬بل إنه يذهب خطوة أبعد من ذلك من أج ل توض يح‬
‫وجهة نظره عبر وضعهم في مقارنة مع رجل يدرس بعناية شديدة طب اع ورغب ات وحش ش رس‪ .‬مث ل ه ذا‬
‫الرجل يعلم جي ًدا كيف يتعامل مع الوحش‪ ،‬ومتى يقترب منه‪ ،‬ولم اذا يص بح خطِ رً ا أو هاد ًئ ا‪ ،‬ويمكن ه ً‬
‫أيض ا‬

‫‪9‬‬
‫محمد صفار‬

‫تفسير معنى صرخات الوحش‪ ،‬كما يعلم األص وات ال تي يجب إص دارها من أج ل تهدئت ه أو إث ارة غض به‪.‬‬
‫بسبب كثرة التعامل مع الوحش‪ ،‬أصبح الرجل يقوم بمهامه الصعبة بكفاءة‪ ،‬ما يُبرر بالنسبة له أن يُطلق على‬
‫معرفته بالوحش “حكمة”‪ ،‬وأن يصنع منها حتى «نظامًا» ُي درَّ س‪ .‬ه ذا الرج ل‪ ،‬كم ا يُخبرن ا أفالط ون‪ ،‬ليس‬
‫لديه أية مبادئ ُتمكنه من التمييز بين الخير والشر‪ ،‬ومن َثم فهو يُسمي الصالح والط الح‪ ،‬أو الع ادل والظ الم‪،‬‬
‫أوالشريف والوض يع من األم ور وف ًق ا ل ذوق وطب اع ال وحش‪ .‬لس نا بحاج ة ألفالط ون كي يخبرن ا‪ ،‬أن ه ذا‬
‫السفسطائي لن يسعى للحقيقة أب ًدا وليس لديه أي غرض آخر من معرفته سوى امتطاء ذلك الوحش‪ .‬كما أنن ا‬
‫ال نحتاج لتبرير لماذا ينبغي على المرء أال يثق في نزاهة ووالء مثل هذا الشخص‪.‬‬

‫باألخذ في االعتبار تشبيه أفالط ون عن السفس طائيين‪ ،‬ف إن علم اء السياس ة في ال وقت الحاض ر في‬
‫مصر جز ٌء من المشكلة وليس الحل‪ .‬ليسوا هم العالج للجسد السياسي المعت لّ‪ .‬ب ل إن وج ودهم يُع د َع َر ً‬
‫ضا‬
‫صارخا لمرضه‪ .‬إذا كان أفالطون لم يجد بدياًل عن طرد الشعراء من «جمهوريته» خو ًفا من ت دمير أسس ها‬
‫ً‬
‫األخالقية‪ ،‬فلنفس السبب ال ينبغي أن ندخر وس ًعا من أجل أن يحظى علماء السياسة بنفس المعاملة‪.‬‬

‫‪10‬‬

You might also like