Professional Documents
Culture Documents
تعلق موضوع علم السياسة بدراسة مشكلة السلطة بشكل محوري ،وهو موضوغ على درج ة عالي ة
من الخطورة ،ولعل تلك الخط ورة هي م ا يش كل جم ال ه ذا الموض وع وإثارت ه أيض اً .إن مش كلة الس لطة
محفورة في الطبيعة البشرية ومغروس ة بالكينون ة اإلنس انية .ولع ل قص ة خ روج آدم من الجن ة تجس د ذل ك
بأوضح صورة؛ ترى ما الذي كان ينقص آدم في الجنة التي فيها م ا ال عينٌ رأت وال أذنٌ س معت وال خط ر
على قلب بش ر ،بحيث ض حى به ذا كل ه من أجل ه بارتكاب ه الفع ل المح رم؟ وت أتي اإلجاب ة على ذل ك بأن ه
الش ْي َطانُ َق ا َل َي ا آ َد ُم َه ْل أَ ُدلُّ َ
ك َعلَ ٰى َش َج َر ِة ْال ُخ ْل ِد َوم ُْل كٍ اَل َي ْبلَ ٰى" س ورة ط ه اآلي ة 120؛ أي س إِلَ ْي ِه َّ
" َف َوسْ َو َ
الس لطان النه ائي واألبدي ة ،وكالهم ا يع الج ص ميم الوض ع اإلنس اني ،فالف اني دائم ا ً م ا يت وق إلى األبدي ة،
والضعيف يسعى أبداً إلى القوة ،ومن هنا تجذرت مسألة السلطة في الكيان اإلنساني ،األمر الذي يجع ل منه ا
مسألة حياة وموت .ففي لقاء يزعم أنه جرى بين ابن رشد وابن عربي ،دار بلغة اإلشارات حول مدى نج اح
البرهان والعرفان في الوصول إلى الحقيقة ،أنهى ابن عربي الحوار بعبارة؛ وبين نعم وال ،تطير الرقاب .إن
المعرفة المتعلقة بالسياسة أو الحكمة السياسية بلغة القدماء ال تقل في خطورتها عن المعرفة ال تي دار حوله ا
اللقاء المزعوم ،وإن كانت الرقاب التي تطير في حالة الحكمة السياسية هي جماعات وش عوب وأمم .وهن اك
طرفة وردت في التراث ،تبين فداحة ثمن المعرفة السياسية والخطورة الشديدة للجه ل به ا .فيحكى أن األس د
جمع الحيوانات كي يستشيرهم في أحد األمور ،فعارضه ذئبٌ وخالفه فيم ا ذهب إلي ه من رأي ،فم ا ك ان من
األسد سوى أن أطارح برأسه .وعندها قام حيوانٌ آخر ،فأشاد برأي األسد وتبصره وعم ق خبرت ه وحكمت ه،
فأعجب األسد بمقاله وسأله من أين تعلمت الحكمة ،فأج اب؛ من رأس ال ذئب الط ائر .وعلى م ا في خط ورة
قضية السلطة التي تطيح برؤوس األفراد والشعوب واألمم ،فيعب به ا كث يرون ،وعلى رأس ه ؤالء دارس و
السلطة أنفسهم .ويذكر أفالط ون في كت اب الق وانين أن هن اك افتتان ا ً يق ع في ه المهتم ون بالكيان ات السياس ية
الضخمة كاالتحادات بين المدن ،التي تعبر عن عالقات سلطة عمالقة ،لدرجة تعميهم عن اختالالته ا القيمي ة
والبنيوية.
وح ريٌّ بن ا بن ا بع د اإللم اح إلى خط ورة الموض وع أن نوج ه الح ديث إلى س بب الح ديث عن
الموضوع ،أو باألحرى دواعي الحديث عنه اآلن ،في هذه اللحظة الراهنة .إن هناك إحساس ا ً عا _ًًّما بقص ور،
إن لم يكن بفش ل علم السياس ة في مص ر ،رغم (أو ربم ا بس بب) ه ذا الكم من اإلنت اج العلمي على مس توى
الدراسات النظرية أو التطبيقية .وفي الواقع ،ليست أزمة هذا العلم وليدة هذه اللحظة الحالي ة ال تي نكاب دها أو
1
محمد صفار
الفترة االنتقالية أو أحداث الثورة ذاتها .بل نشأ اإلحساس بوجود هذه األزم ة في تس عينيات الق رن العش رين.
فلم يس تطع علم السياس ة في مص ر إف ادة الواق ع من خالل القي ام بوظ ائف العلم في المج ال السياس ي وهي
التحليل والتفسير والتنبؤ والتقويم .فمنذ تسعينيات القرن المنصرم ،أعلن باحثون كبار وبارزون عج زهم عن
معرفة جوهر الواقع السياسي وآليات التغيير فيه ،ناهيك عن اتجاهات التغيير في المستقبل .لقد كان المستقبل
الوحيد المطروح آنذاك ،ولقرابة عقد من الزمان هو توريث السلطة من األب إلى االبن ،وجرى تصوير ه ذا
السيناريو على أنه القدر المقدور .ورغم أن المستقبل كما شاهدنا كحاضر معاش زخر باحتماالت شتى ،غير
أن كبار األساتذة لم يتخيل وا إمكاني ة تحققه ا ،ب ل وص ادر الكث يرون منهم على أي احتم ال بخالف اس تمرار
الوضع القائم .
ولو عدنا إلى عام ،2005أكان من الممكن آنذاك تخيل سقوط حكم رئيس اس تمر لم دة ثالث ة عق ود
وركن إلى إمكانية نقل السلطة إلى ولده؟ أكان من الممكن أن تصل الجماع ة المحظ ورة إلى س دة الحكم وأن
يصبح الحزب الحاكم محظوراً؟ أك ان من الممكن تص ور فش ل حكم أول رئيس م دني منتخب ت دخل الجيش
لإلطاحة به وبنظامه ليوضع في قفص االتهام مع الرئيس األسبق ونجليه؟ ب الطبع لم يكن من الممكن تص ور
ك ل ه ذا وذاك وقت ذاك .ويقين ا ً لم يكن أي من أس اتذة علم السياس ة ي زعم وقته ا أن ه يس تطيع أن ي رى تل ك
االحتماالت بظهر الغيب .ومع ذلك العجز ،استمر أساتذة العلوم السياسية كحالهم قبل الث ورة ،يلعب ون أدواراً
سياسية مختلفة ،مباشرة وغير مباشرة ،لكن تقديراتهم جميعها قد فش لت ،وب ل وس قطت رهان اتهم السياس ية،
ووجدناهم إما يتعلقون بأهداب سلطة مضى عهدها أو سلطة يبزغ نجمها أو يتبدلون ويتلونون مع كل عص ر
وسلطة .ولما كان كل هؤالء يختلف ون في خلفي اتهم الثقافي ة واالجتماعي ة والسياس ية والديني ة ،وك ان القاس م
المشترك فيما بينهم هو أنهم أه ل تخص ص واح د ،فإن ه من الممكن أن ن زعم أن األزم ة ال تي يجس دونها أو
يعبرون عنها إنما تتعلق بذلك التخصص أو ببنية علم السياسية أو بتقليد علم السياسة في مصر .ومن هنا لزم
علينا أن نعود إلى الوراء قليالً إللقاء الضوء على تاريخ هذا الحقل المعرفي في الماضي القريب والبعيد .
في الماضي القريب ،شهدت أخريات الق رن التاس ع عش ر وأوائ ل الق رن العش رين ثالث مح اوالت
لتأسيس علم السياس ة في مص ر ،وق د نبعت ك ل محاول ة في لحظ ة تاريخي ة معين ة حملت ك ل منه ا س مات
مشتركة مع لحظتنا الراهنة ..ظهرت المحاولة األولى على ي د الش يخ محم د عب ده في أواخ ر الق رن التاس ع
عشر ،حيث شهدت مصر اضطرابات سياسية واجتماعية فيما عرف بالثورة العرابية ،أو هوجة عرابي كم ا
عرفت في ذلك الوقت ،وكان أن تعثر الحكم الديمقراطي الذي أفرزته األحداث ثم سقط وسقطت مص ر مع ه
باالحتالل العسكري األجنبي .في تلك اللحظة ،دعا محمد عبده عند تفسيره لآلية 137من سورة آل عم ران
ان َعاقِ َب ُة ْال ُم َك ِّذ ِب َ
ين" إلى تأس يس علم يس عى إلى ْف َك َ
انظرُوا َكي َ ت مِن َق ْبلِ ُك ْم ُس َننٌ َفسِ يرُوا فِي اأْل َرْ ِ
ض َف ُ " َق ْد َخلَ ْ
2
محمد صفار
فهم عالقات السلطة في المجتمع استناداً إلى مفهوم السنن المشار إليه في اآلية الكريمة ،وذلك بأي اسم يشاؤه
المرء سواء كان علم السنن أو علم االجتماع الديني أو علم السياسة المدنية .
أما المحاولة الثانية ،فكانت على يد عبد الرحمن الكواكبي في بداية القرن العشرين ال ذي ش هد تف اقم
أزمة الدولة العثمانية واقترابها من النهاية ،مع خنقها ألية محاوالت نقدية راقية لإلصالح من خالل االعتقال
واالضطهاد .ولما كان الكوكبي يعتبر أن االستبداد هو الداء العضال ،فقد اقترح تأسيس علم للسياس ة ،ي راكم
على جهود رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي ،ويرك ز على موض وع واح د وه و االس تبداد ،ومن هن ا
أتى عنوان كتابه الش هير (طب ائع االس تبداد ومص ارع االس تعباد) .وك انت المحاول ة الثالث ة على ي د المفك ر
الليبرالي الشهير أحمد لطفي السيد ،في العقد الثاني من القرن العش رين .وك انت مص ر ،م ع ان دالع الح رب
العالمية األولى ،مع وضعها تحت الحماية البريطانية ( )1914قد انفصلت رسم ّيا ً عن الدولة العثمانية للم رة
األولى ،وشهدت أيام الحرب استباحة القوات الغازية لكافة مواردها ومرافقها من أجل دعم المجهود الحربي.
وأخيراً تفجرت ثورة ،1919كثورة مجتمعية اشتركت فيها كافة طوائف الشعب المصري وريفه وحض ره،
أفرزت الثورة نظاما ً سياس ّيا ً يمكن أن نطلق عليه ببعض التجاوز نظاما ً ديمقراط ّيا ً برلمانيّاً .ولم ا ك ان لطفي
السيد على علم بأن الممارسة السياسية في ظل النظام الجديد تستلزم وجود معرفة بالمفاهيم والتقاليد النظري ة
السياسية الغربية ،التي اعتبر أن مصدرها األساسي هو كتابات أرس طو ،فق د ق ام بترجم ة كتاب ْي ه "األخالق"
و"السياسة" من أجل ذلك .
قد تكون هن اك مح اوالت أخ رى ،ال علم لي به ا بش أن تأس يس علم للسياس ة في مص ر ،ولكن تل ك
المحاوالت المذكورة كانت أبرزها .ولعل السؤال األهم ال يتعلق بعدد هذه المحاوالت وإنم ا بمق دار تأثيره ا.
والحقيق ة أن ه ذه المح اوالت لم تثم ر ش يئاً؛ فعن د تأس يس أقس ام العل وم السياس ية في مص ر في أواخ ر
الخمسينيات ،تمت االستعانة بكتاب في مقدمة العلوم السياسية لكاتب كن دي ،ومحتوي ات ه ذا الكت اب وتقس يم
موضوعات العلم فيه ،منبتة الصلة بالواقع الفكري -السياسي الذي أف رز تل ك المح اوالت الم ذكورة ،بعب ارة
أخرى ،لم يتم البناء على أية محاولة من هذه المحاوالت أو توظيف الجهد الفك ري المب ذول فيه ا في اإلنت اج
المعرفي النظري أو العملي لعلم السياسة في الجامعات المصرية .وإنما جرى وضعها في مجال تاريخ الفكر
السياسي المصري أو العربي ،باعتبارها مجرد حاالت دراسية تاريخية .
ولكن إذا جاز لن ا اإلف ادة من ه ذه المح اوالت في لحظتن ا الراهن ة ،فيمكنن ا أن نس تدل منه ا أن علم
السياسة ليس جسداً مقدسا ً ال يمس؛ إنه ليس ك ذلك ،اآلن ولم يكن في ي وم من األي ام ك ذلك .وبالت الي ،ينبغي
تعديل ه وإص الحه ب ل ح تى هدم ه وإع ادة بنائ ه (إذا تطلب األم ر) في ك ل مرحل ة وفي ك ل حقب ة بحس ب
متطلباته ا من أج ل أن يتمكن من القي ام بوظ ائف العلم بالنس بة للقض ية مح ل الدراس ة وهي في حال ة علم
3
محمد صفار
السياسة الوجود السياسي أو االجتماعي للسياسي .ويضاف إلى ذلك ،أنه في لحظتن ا الراهن ة ،إذا ك ان هن اك
مسعىً حقيقيا ً لمراجعة حالة العلم ،لم يعد من الممكن أن نتجاهل المحاوالت أو أن نلقي بها جانب اً .س واء من
ناحية األسئلة التي حفزتها أو من حيث األجوبة التي قدمتها .إن شدة تعق د الوج ود المجتمعي الح الي يس تلزم
تعبئة كافة الموارد الفكرية والجهود العلمية على اختالف خلفياتها ،إذ إننا لسنا في ترف إهدار هذه ال ثروات،
فنتيجة ذلك تطاير الرقاب كما ذكرنا في البداية .
في حقيقة األمر ،ال يمكن القول إننا نبدأ من فراغ في دراس ة قض ية الس لطة ،فهن اك تقالي د تاريخي ة
لدراسة قضية السلطة في الحضارة اإلسالمية ال تي تش كل األف ق الت اريخي لن ا ،بع د انفص النا لغويّا ً وثقافيّا ً
ودين ّيا ً عن الطبقات األخرى المكونة للت اريخ المص ري؛ الفرعوني ة ،والهلينس تية والقبطي ة والروماني ة .وإن
كان ال يعني هذا برأينا إغالق المجال البحثي عن تقاليد دراسة الس لطة في تل ك األحق اب التاريخي ة واإلف ادة
منه ،لما في ذلك من إثراء للموارد الفكرية المتاحة أمامنا .وأول تقليد ه و سياس ة الفقه اء ال تي ع رفت باس م
السياسة الشرعية ،وكانت تلك محاولة من قبل الفقهاء لالجته اد فيم ا ليس في ه نص مم ا يتعل ق ب أمور الحكم
أص ل
واختصاصات الحاكم ،ولكن في إطار مبادئ الشريعة .ويستند ذلك إلى فكرة المص الح الش رعية ال تي ّ
لها اإلمام الشاطبي في كتابه الشهير (الموافقات في أصول الشريعة) .أما التقليد الثاني فهو سياسة الكتّاب أو
أرباب القلم أو ما عرف بأدب النص يحة ،وفي الغ رب ،باس م مراي ا األم راء .وه و محاول ة من قب ل الكتّاب
العاملين بخدمة الدولة بلورة فن إدارة شؤون الحكم اس تناداً إلى التقالي د الفكري ة والسياس ية للبالط الفارس ي.
وقد أخذ هذا التقليد صورة نصائح ُتقدم إلى الح اكم ح ول كيفي ة الحكم بم ا يحف ظ الس لطة ويعطي له ا وجه ا ً
أخالق ّياً .ويعتبر كتاب (اآلداب الس لطانية) للم اوردي المث ال الكالس يكي له ذا الل ون من الكتاب ة ،وال يحت اج
المرء خياالً عظيما ً ليدرك أن كتاب األمير لمكيافيللي ينتمي إلى ه ذا التقلي د أيض اً .وك ان التقلي د الث الث ه و
ً
(نسبة إلى المدينة كنم وذج للمجتم ع السياس ي) ،وق د ح اول الفالس فة من سياسة الفالسفة أو السياسة المدنية
خالل استلهام أو تكييف التقاليد الكالسيكية لعلم السياسة أو الفلس فة السياس ية ألفالط ون وأرس طو ،من خالل
الجمع بين آراء الحكيمين أن يصلوا إلى معرفة ج وهر السياس ة ومن ثم نظ ام الحكم األمث ل كمعي ار لتحلي ل
وتفسير وتقييم وتغي ير الواق ع السياس ي .وق د ب دأت ه ذه المح اوالت م ع الف ارابي ال ذي أدخ ل علم السياس ة
األفالطوني إلى الحيز المعرفي اإلس المي ووص لت ذروته ا م ع ابن رش د ال ذي ق دم في ش رحه لجمهوري ة
أفالط ون محاول ة فكري ة وسياس ية إلص الح واقع ه السياس ي في األن دلس في إط ار االنقالب على حاكم ه
المستبد .
على ضوء هذه الخلفية ،يمكننا استعراض االتجاهات السائدة في علم السياس ة في مص ر في اللحظ ة
الراهنة مثلما تتبدى في قسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة .وال شك أن في هذه الرؤي ة ال تي نق دمها درج ة
4
محمد صفار
كبيرة من المركزية ،إذ إنها تعتبر أن كافة أقسام العلوم السياسية بالجامعات المصرية األخرى إما أنها صور
مستنسخة من القسم األم أو ال ترقى إلى مستوى وجود اتجاهات نظرية للعلم بها وال يعدو محص ولها العلمي
إن وجد ،نو ًعا من اإلمبريقية الخام .وإذا كان األمر كذلك ،فيمكننا القول إن هناك ثالث ة اتجاه ات نظري ة في
الحقل ،أحدها رئيسي واآلخران فرعيان وربما هامشيان .أما االتجاه األول فه و االتج اه الس لوكي الوض عي،
واآلخران هما االتجاه المعرفي اإلسالمي والتأويلي ما بعد الحداثي .
واالتجاه السلوكي الوضعي هو االتجاه الرئيسي الغالب وه و يجس د نوع ا ً من الس لطة المعرفي ة ،أو
لنقل اإلمبريالية النظرية التي تحدد من خالل السلطة اإلدارية في لجان مناقش ة الرس ائل أو الس يمنار العلمي
والترقيات ،والسلطة المعرفية في تحديد مقررات التدريس والرسائل العلمية واألبحاث الدورية م ا ي دخل في
نطاق العلم وما ال يدخل في نطاق ه أي ح دود الحق ل ،وك ذلك الموض وعات الج ديرة ب البحث والت دريس أي
األجندة العلمية .وقد استطاع هذا االتجاه من خالل استيراد التقالي د العلمي ة للمدرس ة الس لوكية األمريكي ة أن
يؤسس علم السياس ة في مص ر بص ورته ال تي نعرفه ا ،إذ أنش أ التخصص ات الرئيس ية والفرعي ة من خالل
اإلشراف العلمي والتدريس والتأليف .غير أن هذا االتجاه يعاني من نفس عيوب المدرسة الس لوكية واالتج اه
الفلسفي الوضعي بوجه عام ،كما بينت األحداث السياس ية في العق ديْن الماض ييْن ،رغم إنك ار الق ائمين علي ه
ذلك .إن الوضعية التي يقوم عليها علم السياسة السلوكي تق وم على نظ رة للعلم والك ون مس تلهمة من العل وم
الطبيعية قد تجاوزتها في إطار نقلة براديمية Paradigmatic Shiftتسببت فيها نظرية النس بية ونظري ة
الكوانتم؛ فقد سقطت الحتمية لتح ل محله ا االحتمالي ة وتب دلت حدي ة الحقيق ة لتح ل محله ا درج ٌ
ات للحقيق ة.
وهناك ثالثة عيوب جوهرية في التقاليد السلوكية؛ أولها اس تناد فك رة العلمي ة إلى المنهج وح ده األم ر ال ذي
يؤدي إلى استبعاد موض وعات أو أبع اد هام ة ت ؤثر في موض وع الس لطة لمج رد أنه ا غ ير قابل ة للدراس ة
بالمنهج المستورد من العلم الطبيعي .ويعمي هذا التقديس العلمي للوسيلة الباحث عن الواقع .يضاف إلى ه ذا
إلى أن فكرة السلوك الظاهر كوحدة للتحليل تختزل الحقيقة اإلنسانية إلى مجرد منبه واستجابة (كما هي حالة
كلب بافلوف) ويستبعد العناصر القيمية والبنيوية من التحليل .أخيراً؛ لم تؤد فكرة الحياد القيمي ال تي ش وهها
تالكوت بارسونز بنقله إياها عن م اكس في بر إلى اس تبعاد القيم من التحلي ل ،وإنم ا فتحت الب اب الخلفي أم ام
القيم لتتسرب مرة أخرى إلى التحليل دون دراستها عمل ّياً ،كم ا ه و الح ال في التقالي د العلمي ة األرس طية في
كتاب األخالق .وتحت ستار الموضوعية ،يتمكن الباحث السلوكي من تهريب قيمه الخاصة للتحلي ل وال زعم
أن نتائج ه تنب ع من الواق ع ،في حين أنه ا تمث ل تفض يالته الفكري ة والقيمي ة وق د ت دثرت بعب اءة الس لطة
األكاديمية .وهكذا يهبط الباحث السلوكي بمكانة علم السياسة من معلم للمش رع والح اكم إلى مج رد كالكتّاب
الفرس في البالط العباسي.
5
محمد صفار
أتى االتجاه المعرفي اإلسالمي كردة فعل على طغي ان االتج اه الس لوكي تدريس ا ً وبحث اً .وينب ع ه ذا
االتجاه من إدراك أن للسياق الحضاري والتاريخي والمجتمعي أثره في صياغة المفاهيم الكلي ة ال تي يتأس س
عليها العلم ،أي علم نظري وعملي ،وأن التقاليد الوضعية هي نتاج تط ور فلس في ارتب ط بظ روف المجتم ع
الصناعي الغربي العلماني ،وهي وإن جرى تصديرها باعتبارها عالمية وتمث ل أعلى م ا توص ل إلي ه الفك ر
اإلنساني ،غير أنها في حقيقتها ال تعدو إال أن تكون مجرد تط ور ثق افي وفك ري غ ربي ج رى فرض ه على
البلدان المستعمرة .ويبشر هذا االتجاه بإحداث نقلة برادايمية تعيد تأس يس علم السياس ة على أس اس المف اهيم
والخبرات التاريخية اإلسالمية ،فيما يعرف بإسالمية المعرفة أو المنظور الحضاري اإلسالمي .ورغم وجود
إنتاج معرفي حقيقي وأعمال تأسيسية لهذا االتجاه إال أن ه يع اني من الح يرة بين التقالي د اإلس المية أي تقالي د
المدرسة الشرعية وآداب النصيحة وتقاليد الفكر الغربي .وبرأينا المتواضع ،فإن هذا االتج اه يع اني من ع دم
تعمقه النظ ري في القض ايا األنطولوجي ة (المتعلق ة بمف اهيم الوج ود بش كل ع ام ،والوج ود اإلنس اني بش كل
خاص) واالبستيمولوجية (المتعلقة بمص ادر المعرف ة وح دودها وماهيته ا ودرجاته ا) .ونتيج ة ذل ك ،أن م ع
استخدام هذا االتجاه للمفاهيم اإلسالمية (القرآنية والتاريخية) كديباجات تحليلية ،فإنه يعجز عن توظيفه ا على
مس توى بن اء المف اهيم ووح دات التحلي ل واالقتراب ات .ويتم االلتف اف على ه ذا القص ور النظ ري باس تيراد
المفاهيم الغربية وهي التي يبشر هذا االتجاه بإح داث قطيع ة معه ا ،م ع تلبيس ها بالمف اهيم اإلس المية ،وذل ك
بنفس الروح الوضعية التي ي رغب في منافحته ا .وم آل ه ذا االتج اه ،إذا لم يتعم ق في الخ برة الفلس فية ه و
االنحسار في شكل دراسات مناطق تتخذ من العالم اإلسالمي أو األمة اإلسالمية كوحدة للتحليل وترك ز على
قضايا ومشكالت المسلمين على المستوى الدولي .
ويعتبر االتجاه التأويلي ما بعد الحداثي متأخراً زمنيّا ً على ه ذيْن االتج اهيْن ،وي أتي ك رد فع ل على
تعثر مسيرتهما ويحاول ه ذا االتج اه فتح طري ق جدي د أم ام علم السياس ة في الح يز المع رفي المص ري من
خالل استلهام تقاليد النق د الحداثي ة وم ا بع د الحداثي ة وتوظيفه ا في دراس ة قض ايا الواق ع السياس ي الفك ري
والحركي باستخدام اقترابات تحليل الخطاب والتفكيك وجينالوجيا السلطة ،ورغم إدراك هذا االتج اه أن النق د
ما بعد الحداثي يستند إلى تقاليد فكرية تعود بج ذورها إلى ال تراث اليون اني والروم اني والمس يحي اليه ودي
والح داثي ،وأنه ا نبعت في مجتمع ات بلغت فيه ا مع دالت التح ديث مس تويات عالي ة ،بحيث تب دلت طبيع ة
المشكالت ومكونات الواقع السياسي واالجتماعي فيها عن الواقع المصري ،رغم هذا كله ،عجز هذا االتج اه
عن تكييف هذه التقاليد المستوردة بما يؤدي إلى إزالة التناقض بين مسلماتها الفلسفية والتقاليد الثقافية المحلية
أو ح تى إح داث إزاح ة وتب دل داللي في بني ة تل ك المف اهيم لتتناس ب ك أدوات للتحلي ل م ع الواق ع السياس ي
المستورد .ومن دون حل هذه اإلشكاليات النظرية ،س يكون م آل ه ذا االتج اه (إن اس تمر) ه و تق ديم أبح اث
6
محمد صفار
تفكك الواقع وتسهم في تحلله ،وه و واق ع مه ترئ ومتش ٍّظ من األس اس ،من دون أي ة ق درة على التجدي د أو
إعادة البناء .
ماذا بعد؟
إن هذه هي األرضية التي يقف عليها الباحث في علم السياسة في اللحظة الراهن ة ،وال يمكن ه س واء
علم أم لم يعلم ،ش اء أم أبى أن يتج اوز الواق ع السياس ي أو األك اديمي أو القف ز من فوق ه عن طري ق ح رق
المراحل التاريخية كما ذهب لذلك الماركسيون قديماً .وال يعني هذا االستسالم إلى ذلك الواقع .وال يعني ه ذا
بأي حال من األحوال أيضا ً االستسالم لهذا الواقع أو الركون إلي ه ،وإنم ا ض رورة الب دء من ه في أي مس عى
نظري أو عملي سواء أكان المقصود ه و الحف اظ علي ه أو إص الحه أو تغي يره أو تط ويره أو هدم ه وإع ادة
بنائه .
إن الدعوة إلى التجديد في علم السياسة وفتح آفاق جديدة لهذا الحقل المعرفي في المس تقبل ،إنم ا هي
دعوة دائمة ال تتوقف وال تقتصر على جيل دون جي ل ،وإنم ا يش ارك فيه ا الجمي ع كهم ورس الة مش تركين.
ومن أج ل ذل ك ،ال ينبغي أن تتلبس ه ذه ال دعوة ش كل التم رد الطف ولي على منج زات األجي ال الس ابقة في
الماضي القريب أو البعيد أو حتى السحيق؛ فإنما المقصد هو إعادة تدوير وتوظيف هذه الجهود واللبن ات من
أجل التجديد المستمر في بناء العلم وليس تحطيمه .وال يح ول ه ذا دون التخلص من العناص ر الفكري ة ال تي
تحدث الجمود الفكري وتعرقل التغيير تحت أي زعم.
وال يمكن لعلم السياسة أن ينفصل عن القاعدة القيمية تحت أي زعم؛ فال بد أن تك ون القيم واالل تزام
القيمي حاضراً وموجها ً للبحث في كل خطواته ،ولكن تسانده في ذل ك األمان ة العلمي ة واالس تقامة المنهاجي ة
التي تجعل من الشك المحرك لكل مسعى علمي إنما يتح رك في إط ار حب الوص ول إلى الحقيق ة مهم ا بل غ
العنت أو التضحية أو المشقة .ذلك ألن الفصل بين الحقيقة والقيم إنما يفقد الب احث ال دافع والمحف ز لمواص لة
السير في الطريق الوعر والصخري للعلم ،بتعبير ماركس ،ويجعله أداة طيعة .ولهذا فإن علم السياس ة ال ذي
ال يستطيع أن يدين نظام الحكم االستبدادي تماما ً مثلما يصف علم الطب السرطان على أنه مرضٌ خ ٌ
بيث ،ال
يستحق وصفه بالعلم ،على حد قول لي و ش تراوس ويمكن أن نض يف أن المش تغل به ذا الل ون من العلم ليس
بعالم .
أخيراً وليس آخراً ،برغم ضرورة اقتراب باحث العلوم السياسية من الواقع ليجعل عالقته ب ه عالق ة
مباشرة بال حجاب من الوسائط المفاهيمية والفكرية ،بل يس تلهم قض اياه وتوجه ه النظ ري ومنهج ه من ذل ك
الواقع ،إال أن ه ال يجب أن يخ وض غم ار العم ل السياس ي كأح د الفرق اء المتص ارعين أو كردي ف ألي من
7
محمد صفار
هؤالء ،ألن مهمته أسمى من ذلك بكثير .إن الفيلسوف السياسي ال يعني فقط بدراسة المسائل الجزئي ة للحكم،
وإنما بالصورة الكلية للوجود السياسي وما ينبغي أن يك ون علي ه ،فه و يق دم مع ايير الحكم على األش ياء في
عالم الواقع ،فيما يتصل بإشكالية السلطة .ول و اس تعدنا تص ور أفالط ون ل دور ع الم السياس ة ،لج از لن ا أن
نقول :إن عالم السياس ة ه و أس مى بكث ير من ه ؤالء المتن ازعين على الس لطة أو الممس كين بزمامه ا؛ ألن ه
معلمهم وهاديهم وليس خبيراً أجيراً لديهم.
يبدو علم السياسة في مصر وكأن لديه إدرا ًكا واضحً ا ل ُكل شيء ،فنجد أسماء المنتمين ل ه ب ارز ًة في
المقاالت الصحفية ،والنشرات اإلخبارية التحليلية ،والبرامج التليفزيونية ،والمناصب السياس ية الرفيع ة .لكن
ما يقبع تحت السطح في حقيقة األمر مُختلف تمامًا .لم يفش ل علم السياس ة في مص ر فق ط في التنب ؤ بانهي ار
النظام السياسي ،لكنه أي ً
ضا ،وهو األمر األشد خطورة ،فشل في حمأة اللحظة أن يتعرّ ف على حقيقة الث ورة.
يُضاف إلى ذلك أنه كان ع ً
اجزا عن تق ديم تفس ير للث ورة ،كم ا لم يس تطِ ع تق ديم ب دائل مُجدي ة إلدارة الف ترة
كل من الحُكم العسكري والمدني .يُفاقم «ورم علم اء السياس ة الخ بيث» المستش ري في كاف ة
االنتقالية تحت ٍ
الوضع المعت ّل للبالد .لذا تسعى تلك المقالة للنظر في التباين بين انتش ار َمن
َ أرجاء الجسد السياسي المصري
ُفترض أنهم خبراء الفن الملكي وتدهور األوضاع السياسية للبالد.
ي َ
في يوني و/حزي ران ،2012نش رت «ل يزا أندرس ون» ،وهي الرئيس ة الس ابقة للجامع ة األميركي ة
بالقاهرة ،دراسة عن مشكالت علم السياس ة ،ذهبت فيه ا إلى أن تزاي د انتش ار وس ائل التواص ل االجتم اعي
ومحرك ات البحث تس بّب في إيج اد مش اكل لعلم اء السياس ة ،حيث أنهى احتك ارهم للحق ائق والمعلوم ات.
ودفعت بأن علماء السياسة بحاجة إلى إعادة تشكيل هُويتهم باعتبارهم مُمارسين فاعلين يتشاركون في ح وار
مع الطالب وصناع السياسة .إن حُجة أندرسون ،والتي ُتعتبر بمثابة صدى متأخر لمفهوم آلفين توفلر الش ائع
«اإلغراق المعلوماتي» ،جا َن َبها الصواب تمامًا .مشكلة علم السياسة ال تعود إلى إنت اج وتوزي ع المعلوم ات،
بل على العكس من ذلك ،تتوقف المشكلة على غي اب أُط ر تحليلي ة ذات مص داقية تعم ل على ترش يح ت دفق
عصر وف ًقا لمعاييره الخاصة .وللمفارقة ،ففي فصل الخري ف الدراس ي لع ام
ٍ المعلومات ،التي وُ ِجدَت في كل
8
محمد صفار
،2012شهدت الجامعة األميركية بالقاهرة مشه ًدا ثور ًّيا متأخرً ا ،األمر الذي واجهت ه أندرس ون بح ٍ
زم ع بر
إغالق بوابات الجامعة وتعليق أنشطة الحرم الجامعي.
إن مشكلة علم السياسة في مصر ،والتي تتسع لتشمل نظيره في الواليات المتحدة ،ترج ع إلى هيمن ة
ِص ر النظ ر – إن لم يكن العمى – المس تفحلة ل دى علم اء السياس ة،
التقليد السلوكي ،الذي يقف وراء حالة ق َ
فرغم أن العالم قد مضى قُدمًا وذهب إلى أبعد من الس لوكية بكث ير ،ال ي زال
سواء المصريين أم األميركيينَ .
علم اء السياس ة يتش بثون به ا بطريق ة تش به االعتق اد ال ديني تحت ذريع ة زائف ة بأنه ا «اللعب ة الوحي دة في
المدينة» .ومن ث ّم يتوجّ ب علينا مناقشة بعض معتقدات التقليد الس لوكي في علم السياس ة من أج ل دحض م ا
أفقدته األحداث مصداقيته بالفعل .يُعد الخواء القيمي أو الحياد األخالقي العامل األساس بالنسبة للسلوكية ،م ا
يعني أن الفراغ األخالقي هو الشرط الذي ال غنى عنه لعالِم السياسة كي يص ل للحقيق ة عم ا يق وم بدراس ته.
.ويمكن أن ي تر ّتب على اعتي اد الحي اد بين الخ ير والش ر آث ار خط يرة على علم اء السياس ة .وبعب ارة لي و
شتراوس« ،كلما كنا – نحنُ دارسي العلوم االجتماعية – أكثر جدية؛ طوّ رن ا ب داخلنا حال ة من الالمب االة…
أو حالة من التشتت واالنحراف ،حالة يمكن تسميتها بالعدمية» .ونتيجة لذلك ،سيقوم ع الِم السياس ة ب ازدراء
كافة االعتبارات ذات الصلة بالعام أو الخاص ،وسيتعيّن علي ه اللج وء إلى «قيم ة» الحي اد القيمي .وبع د أن
الم السياس ة ع ً
اجزا عن التمي يز بين األش كال الجي دة والس يئة للحكوم ة خسر هامشه األخالقي ،لن يك ون ع ِ
ضا ،واألكثر أهمية ،سيُصبح منفصاًل عن واقعه السياسي .تلك العالقة المباشرة مع واقعه هي
فحسب ،لكنه أي ً
ُفترض لها أن تزوده بأسئلة رئيسية وتوجيه نظري ومنظومة مفاهيمية ومنهج ووظيف ة .وم ا ه و
التي كانت ي َ
رض باس تثناء الحف اظ على أمن أكثر خطورة ،أن ممارسة علم السياسة على هذا النحو ستفقد أي هد ٍ
ف أو غ ٍ
عالِم السياسة الشخصي ،إلى جانب دخله ووجاهته االجتماعية ونفوذه.
وسوف تتحول الخبرة والمهارات العلمية إلى سلعة للبيع في السوق السياس ي ل َمن ي دفع أعلى س عر.
ال يسع المرء سوى أن يذهب إلى ما ذهب إليه ليو شتراوس ب أن علم السياس ة ال ذي ال ي رى االس تبداد ش رً ا
وخطرً ا ،بنفس الطريقة التي يرى بها الطبيب الس رطان ،ال يس تحق أن يُس مى عل ًم ا في المق ام األول .يُمكن
للمرء أن يُدرك حجم التشويه ،بل حتى اإلفس اد ،ال ذي ألحق ه التقلي د الس لوكي بعلم السياس ة عن دما نس تدعي
المفهوم األفالطوني عن «السفسطائي» .ينظر أفالطون إلى السفسطائيين باعتبارهم أف را ًدا مرتزق ة يقوم ون
بتدريس آراء الجماهير ويطلقون على تلك اآلراء حكمة .بل إنه يذهب خطوة أبعد من ذلك من أج ل توض يح
وجهة نظره عبر وضعهم في مقارنة مع رجل يدرس بعناية شديدة طب اع ورغب ات وحش ش رس .مث ل ه ذا
الرجل يعلم جي ًدا كيف يتعامل مع الوحش ،ومتى يقترب منه ،ولم اذا يص بح خطِ رً ا أو هاد ًئ ا ،ويمكن ه ً
أيض ا
9
محمد صفار
تفسير معنى صرخات الوحش ،كما يعلم األص وات ال تي يجب إص دارها من أج ل تهدئت ه أو إث ارة غض به.
بسبب كثرة التعامل مع الوحش ،أصبح الرجل يقوم بمهامه الصعبة بكفاءة ،ما يُبرر بالنسبة له أن يُطلق على
معرفته بالوحش “حكمة” ،وأن يصنع منها حتى «نظامًا» ُي درَّ س .ه ذا الرج ل ،كم ا يُخبرن ا أفالط ون ،ليس
لديه أية مبادئ ُتمكنه من التمييز بين الخير والشر ،ومن َثم فهو يُسمي الصالح والط الح ،أو الع ادل والظ الم،
أوالشريف والوض يع من األم ور وف ًق ا ل ذوق وطب اع ال وحش .لس نا بحاج ة ألفالط ون كي يخبرن ا ،أن ه ذا
السفسطائي لن يسعى للحقيقة أب ًدا وليس لديه أي غرض آخر من معرفته سوى امتطاء ذلك الوحش .كما أنن ا
ال نحتاج لتبرير لماذا ينبغي على المرء أال يثق في نزاهة ووالء مثل هذا الشخص.
باألخذ في االعتبار تشبيه أفالط ون عن السفس طائيين ،ف إن علم اء السياس ة في ال وقت الحاض ر في
مصر جز ٌء من المشكلة وليس الحل .ليسوا هم العالج للجسد السياسي المعت لّ .ب ل إن وج ودهم يُع د َع َر ً
ضا
صارخا لمرضه .إذا كان أفالطون لم يجد بدياًل عن طرد الشعراء من «جمهوريته» خو ًفا من ت دمير أسس ها
ً
األخالقية ،فلنفس السبب ال ينبغي أن ندخر وس ًعا من أجل أن يحظى علماء السياسة بنفس المعاملة.
10