You are on page 1of 362

‫‪1‬‬

‫عِ ضين‬
‫رواي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة‬

‫ِ‬
‫عضـ ـ ـ ـ ـين‬
‫محمد أشرف فؤاد‬

‫‪2‬‬
‫عِ ضين‬
‫جميع الحقوق محفوظة © عصير الكتب للنشر‬
‫اإللكتروني‬

‫‪http://book-juice.com‬‬
‫رواية‬
‫ِعضين‬
‫المؤلفة ‪ :‬محمد أشرف فؤاد‬
‫نشر في ‪ :‬أبريل ‪8102‬‬
‫تصميم غالف‪ :‬إسالم محمد‬
‫تقييم وتصحيح‪ :‬همام أحمد ‪ $‬أحمد ضياء‬
‫تنسيق داخلى ‪ :‬عصير الكتب للنشر االلكتروني‬

‫‪‬‬
‫‪3‬‬
‫عِ ضين‬
‫اإلهداء ‪‬‬

‫إهداء روايتى لكل من حاول مساعدتى و آمن بقدرتى ‪..‬‬


‫إلى أبي و امى و إخوتى ‪ ..‬أصدقائي الذين شجعونى بأرائهم فيما كتبت‬
‫سواء ب النقد أو اإلعجاب و دعمهم لي‬
‫‪ ، ..‬ألصدقائي األدباء ‪ ..‬إسالم وهيب ‪ ،‬محمد رجب ‪ ،‬مهاب ترجم ‪،‬‬
‫منة هللا رأفت ‪ ،‬سلمى حسنى ‪ ،‬عمرو صالح الدين‬
‫‪ ، ..‬لألستاذة فريده الجوهري التى حاولت مساعدتى بشتى الطرق ‪،‬‬
‫األستاذ محمد شوقي الذي آمن بفكره الروايه و وافق على نشرها‬
‫إلكترونيا ‪..‬‬
‫اهديها لقدوتى فى األدب ‪ ..‬الدكتوره خولة حمدى ‪ ،‬الدكتور مصطفى‬
‫محمود ‪ ،‬أحمد خالد مصطفي ‪ ،‬األديب العالمى دان براون ‪..‬‬
‫اهدى هذه الرواية للقراء جميعهم ‪ ، ...‬و لكن جزيل الشكر‬

‫‪4‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-1-‬‬

‫قبل أسبوعين‬

‫تبدو في منتصف عقدها الثاني‪ ،‬اعتادت أن تنام والحزن يرافقها‪..‬‬

‫في الشهور األخيرة كان الخطر يطارد زوجها‪ ..‬وهي كل يوم تنتظر ذلك الخبر السيء‪ ..‬ال تعلم حينها كيف‬
‫ستتصرف وكيف سيكون شعورها أو رد فعلها‪ ..‬ال تعلم إن كانت ستموت من الصدمة أم ستبقى بقية حياتها‬
‫تعيسة‪ ..‬ولكنها متأكدة أنها لن تتحمل فقدانه‪ ..‬تكون على قمة العالم عندما تعلم أنه ما زال حيًا وأنه بخير‬
‫خبر ما يوحي بأنه في مأزق أو تسمع خبر وفاته أو حتى عندما ال تعلم عنه‬
‫وتكون أتعس خلق اهلل عندما ينتشر ٌ‬
‫شيئًا‪ ،‬لكنها كانت تمني النفس بأن كل تلك األخبار كاذبة وسيكون بخير قريبًا‪ ،‬تلجأ لربها بالدعاء ‪ ...‬وال خاب‬
‫من لجأ لربه‪..‬‬

‫أيقظها رنين هاتفها المحمول‪ ..‬صديقتها أماني تتصل بها في وقت متأخر‪ ..‬ترددت أن ترد عليها‪ ..‬تتصل بها في‬
‫خبرا سيئًا وهي غير مستعدة إطالقًا لسماع خبر من هذا النوع في هذا الوقت‬
‫فجرا هذا يوحي بأن هناك ً‬
‫الرابعة ً‬
‫على األقل‪ ..‬حاولت تجاهل صديقتها لكن قلبها حثها على الرد‪..‬‬

‫‪‬أماني ؟ هل ِ‬
‫أنت بخير؟!‬

‫ردت أماني وصوتها يوحي باألرتباك‪..‬‬

‫خبر هام ‪..‬‬


‫‪‬آسية ‪ ...‬افتحي التلفاز بسرعة‪ ،‬هناك ٌ‬

‫خبر هام؟! ماذا يجري يا أماني ؟!‬


‫‪ٌ ‬‬

‫ردت أماني بحماسة‪..‬‬

‫خبر يتعلق بعمر يا آسية‪ ،‬ال أصدق عيني‪..‬‬


‫‪ٌ ‬‬

‫‪5‬‬
‫عِ ضين‬
‫أسرعت آسية لتفتح التلفاز وأمسكت بجهاز التحكم وارتبكت ماذا عليها أن تفعل؟! سألتها‪..‬‬

‫‪‬على أي قناة يا أماني؟‬

‫ردت بسرعة ‪...‬‬

‫‪‬على قناة "‪.."exclusive news‬‬

‫فعال‪ ،‬حدقت فيها غير مصدقةً لما تراه أو تقرؤه حتى أن‬
‫قلبت آسية القنوات بسرعة إلى أن وصلت لهذه القناة ً‬
‫هاتفها سقط منها وتفكك وهي لم تشعر به‪ ،‬تحاول استيعاب الخبر أو تصديقه على األقل!‬

‫"عاجل ‪ ...‬وصول صاحبي "فيديو القرن" إلى مطار القاهرة منذ قليل‪"...‬‬

‫قرأت الخبر عدة مرات لتتأكد أنها ال تحلم أو تتخيل‪ ..‬تساءلت‪ ..‬عمر؟! عمر هنا في مصر؟!‪ ..‬ال تصدق ما‬
‫مجددا بذه ٍن مشتت‪..‬‬
‫ً‬ ‫تماما أنها كانت تكلم صديقتها‪ ..‬التفت لهاتفها المفكك وقامت بتجميعه‬
‫تقرؤه‪ ..‬نسيت ً‬
‫رن هاتفها من جديد فور أن قامت بإعادة تشغيله‪ ..‬هذه المرة ليست صديقتها‪ ..‬إنه مدير المستشفى التي كانت‬
‫تتعالج فيها ‪..‬‬

‫تطاير قلبها من الفرحة‪ ..‬لقد أخبرها أن زوجها قد عاد وهو في طريقه للمستشفى‪ ..‬ليس هذا فقط‪ ..‬بل أرسل‬
‫إليها سيارةً تابعة للقوات المسلحة لنقلها هي ووالدة زوجها لمطار سوهاج الدولى تمهي ًدا لنقلهما إلى القاهرة‬
‫خالل ساعات لتكونان بجانبه‪..‬‬

‫في ظرف دقائق كانت كلتاهما في الشارع تسرعان حتى وصلتا لسيارة القوات المسلحة التي كانت بانتظارهما‬
‫جميعا ناحية المطار ‪..‬‬
‫وركباها وانطلقوا ً‬

‫************‬

‫صباحا تظهر سيارات الشرطة وتتوسطهم سيارة إسعاف في شوارع القاهرة المؤدية‬
‫ً‬ ‫الساعة الرابعة والنصف‬
‫للمستشفى العسكري‪ ..‬يبدو كموكب لشخصية هامة‪ ،‬دقائق قليلة وكانت السيارات قد وصلت للمستشفى‪ ..‬كان‬

‫‪6‬‬
‫عِ ضين‬
‫الجميع هناك جاهزون الستقبال هذه الشخصية‪ ،‬نزلت من سيارة األسعاف فتاةً تبدو في منتصف العشرينات من‬
‫عمرها‪ ..‬يبدو عليها األرهاق‪ ..‬كانت شارة الذهن ‪ !..‬حاولت مساعدة رجال األسعاف في جر النقالة التي تحمل‬
‫جميعا المصعد عداها هي‬
‫هذه الشخصية لكنها تركت األمر لهم‪ ،‬أسرعت بجانبهم لدخول المستشفى‪ ،‬دخلوا ً‬
‫التي قررت أن تصعد السلم لضيق مساحة المصعد‪ ،‬نادتها إحداهم ‪...‬‬

‫‪‬ماريان‪..‬‬

‫التفتت ورائها ناحية الصوت‪ ،‬فتاة تبدو في نفس سنها تقريبًا‪ ،‬اقتربت الفتاة منها ‪..‬‬

‫سالمتك يا ماريان‪ ،‬جميعنا مسرورين بعودتِك‪..‬‬


‫ِ‬ ‫‪‬حم ًدا هلل على‬

‫بدا على ماريان التشتت وعدم التركيز‪ ..‬جذب انتباهها الميكروفون الذي تمسكه الفتاة‪ ،‬يحمل اسم القناة التي‬
‫كانت تعمل فيها قبل رحلتها التي خاضتها‪ ،‬أكملت الفتاة‪..‬‬

‫المرخص لها بتغطية األحداث هنا بعد رجوعكم‪ ،‬واآلن أريد بعض‬ ‫ِ‬
‫‪‬بفضل عمك أصبحنا القناة الوحيدة ُ‬
‫التفاصيل لننفرد باألخبار‪..‬‬

‫كثيرا على السلم‪ ،‬فكرت للحظات قليلة ثم وافقت‪..‬‬


‫كانت ماريان منهكة ال تستطيع أن تقف ً‬

‫رجاء‪..‬‬
‫‪‬حسنًا‪ ،‬أتبعيني ً‬

‫استوقفها صوت جاءها من ورائها فجأة‪..‬‬

‫‪‬ال يُسمح بهذا األمر اآلن يا ماريان‪..‬‬

‫مهما‪ ،‬سألته ماريان‪..‬‬


‫التفتت كلتاهما نحو الصوت‪ ،‬رجل يرتدي مالبس رسمية يبدو ً‬

‫‪‬من أنت؟! وكيف يمكنني مساعدتك؟!‬

‫رد الرجل عليها‪..‬‬

‫‪7‬‬
‫عِ ضين‬
‫ورجاء ال تخالفي األوامر‪ ،‬ال تدلي بأي معلومات أو تصريحات على األقل في‬
‫ً‬ ‫‪‬ليست مساعدة‪ ..‬بل أمر‬
‫الوقت الراهن‪..‬‬

‫ثم نظر للفتاة األخرى‪..‬‬

‫ِ‬
‫أخبرك أنه كي يحصل على التصريح كان لنا شرطًا وهو عدم نشر أي خبر إال بعد‬ ‫‪‬وأظن أن رئيس القناة قد‬
‫موافقتنا‪ ..‬أليس كذلك؟!‬

‫هزت الفتاة رأسها إيجابًا لقد فهمت كالهما أن هذا الرجل من األمن الوطني‪ ،‬تركهم وصعد بمفرده وصعدتا وراءه‬
‫للطابق الثاني حيث غرفة العمليات‪ ..‬جلست لترتاح على أحد كراسي االستراحة بجانب غرفة العمليات التي دخل‬
‫فيها عمر‪ ،‬يظهر عليها التعب واألرهاق‪ ،‬أسندت رأسها للوراء وارتخى جسدها‪ ..‬تحاول تذكر ما كان يجب عليها‬
‫قليال لكن ذهنها كان مشو ًشا‪ ..‬ال تستطيع التركيز‪ ،‬أغمضت عينيها لتستجمع تركيزها‪ ..‬مرت‬
‫فعله بعدما تستريح ً‬
‫لحظات طويلة وهي تشعر بارتخاء في جسدها‪ ..‬فجأة فتحت عينيها بعدما سمعت صوت أحدهم قادم نحوها‪..‬‬
‫قليال‪ ..‬الحظت قدوم فتاة بسرعة وتتقدم نحو غرفة العمليات‪..‬‬
‫فتحت عينيها ونظرت للساعة‪ ..‬لقد غفوت ً‬
‫فعال لكن الممرضات أخرجتها‪..‬‬
‫دخلت ً‬

‫خارجا‪..‬‬
‫مسموح سيدتي‪ ،‬عليكي االنتظار ً‬
‫ٌ‬ ‫‪‬غير‬

‫كانت تريد الدخول عنوة‪ ،‬كانت غاضبة‪..‬‬

‫رجاء‬
‫‪‬لكنني أخبرتكم أني زوجته‪ ..‬أريد األطمئنان عليه‪ً ..‬‬

‫خارجا من فضلك‪..‬‬ ‫ِ‬


‫‪‬حسنًا يمكنك أن تبقي ً‬

‫جذبت ماريان يدها‪ ،‬التفتت إليها آسية وسألتها ماريان والدهشة باديةً عليها‪..‬‬

‫أنت آسية؟! غير معقول‪ِ ..‬‬


‫أنت أجمل مما كنت أتخيل‪! ..‬‬ ‫‪ِ ‬‬

‫نظرت إليها آسية نظرة مستفسرة عن هوية ماريان‪..‬‬

‫‪8‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪‬ال تقلقي‪ ،‬تعالي معي‪..‬‬

‫نظرت آسية نظرة أخيرة لغرفة العمليات ثم أصطحبتها ماريان لكراسي االستراحة‪..‬‬

‫ِ‬
‫لطبيعتك مرةً أخرى‪ ..‬أنا مسرورةً ج ًدا‬ ‫ِ‬
‫ورجوعك‬ ‫تماما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪‬قبل كل شيء أود أن أهنئك على تماثلك للشفاء ً‬
‫دائما أن أراكي ولو لمرةً واحدة‪..‬‬
‫ألجلك‪ ..‬كنت أود ً‬

‫ما زالت آسية شاردة الذهن وكأن ال أحد يكلمها‪ ،‬سألتها ماريان‪..‬‬

‫ِ‬
‫زوجك بخير صدقيني‪..‬‬ ‫‪‬لماذا تبدين قلقةً هكذا؟!‬

‫‪‬ح ًقا؟! أذن لماذا غرفة العمليات؟!‬

‫‪‬صدقيني هو بخير‪ ..‬مجرد كدمات فقط‬

‫‪‬كدمات؟!‪ ..‬وهل الكدمات تحتاج لعمليات؟!‬

‫خطيرا صدقيني‪ ،‬ربما تكون هناك رصاصة مستقرة في يده أو كتفه البد من‬
‫ً‬ ‫‪‬التدخل الجراحي هنا ليس‬
‫رجاء‪..‬‬
‫أخراجها‪ ،‬فقط ال غير‪ ..‬ال تقلقي ً‬

‫كانت ال تستطيع إخفاء قلقها‪...‬‬

‫أخيرا أراه في غرفة العمليات؟!‬


‫‪‬لم أره أكثر من سنة وعندما أعلم برجوعه ً‬

‫ربتت ماريان على كتفها‪..‬‬

‫‪‬عليكي أن تشكري اهلل يا آسية‪ ،‬من كان يتوقع رجوعنا مصر مرًة أخرى‪ ،‬لقد فقدنا األمل كليًا في العودة‪ ..‬ال‬
‫أصدق أننا هنا!‬

‫أسندت رأسها للوراء ‪..‬‬

‫ابوسا مثل ما كان يحدث معنا باستمرار‪..‬‬


‫‪‬حتى أنني ما زلت أتوقع ك ً‬
‫‪9‬‬
‫عِ ضين‬
‫إلتفتت إليها وهي تبتسم‪..‬‬

‫كثيرا‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫‪‬أنت محظوظًة بأمالكك رجل مثل عمر‪ ..‬أنه يُحبك ً‬

‫ابتسمت آسية ‪..‬‬

‫دائما‪..‬‬
‫يحق لي التكبر والغرور به ً‬
‫‪‬أعلم ذلك‪ ..‬لطالما كان ُ‬

‫قاطعت حديثهما إمرأة جاءت متأخرة بعض الوقت عن آسية عرفتها ماريان أنها والدة عمر‪..‬‬

‫‪‬آسية‪ ..‬أين عمر؟!‬

‫بدال عنها‪..‬‬
‫ردت ماريان ً‬

‫‪‬عمر بخير يا خالة‪ ..‬هو حاليًا في غرفة العمليات‪ ..‬بعض الكدمات فقط‪..‬‬

‫بدت قلقة هي األخرى‪ ،‬نظرت آلسية نظرة مستفسرة عن هوية ماريان‪..‬‬

‫‪‬نسيت أن أعرفكم بنفسي‪ ..‬أنا ماريان‪ ..‬أنا من قمت بتصوير فيديو القرن الذي يظهر فيه عمر وهو‪..‬‬

‫سكتت فجأة ولم تكمل كالمها‪ ..‬أدركت أنها تتكلم مع والدة عمر‪ ،‬لم تُ ِرد أن تذّكرها بتلك الحادثة‪ ،‬عملت‬
‫حاال‪ ،‬ألتفتت آلسية‪..‬‬
‫على تغيير الموضوع ً‬

‫أنت ِ‬
‫ألنك تملكينه‪ ،‬على الجميع أن‬ ‫‪‬دائما ما كان عمر يكلمني ِ‬
‫عنك وعن حبكما لبعض‪ ،‬محظوظة ِ‬
‫ً‬
‫يحسدك‪..‬‬

‫قليال‪..‬‬
‫شعرت آسية بالغيرة ً‬

‫كثيرا‪..‬‬ ‫ِ‬
‫‪‬يبدو أنه كان يثق بك ً‬

‫ابتسمت ثم قالت‪..‬‬

‫‪11‬‬
‫عِ ضين‬
‫معا طوال هذه الرحلة‪ ،‬أنقذته فعمل على ردها لي‪ ..‬كانت أمامه الفرصة‬
‫‪‬بعد تصوير هذا الفيديو أصبحنا ً‬
‫ضل أن نرجع كالنا لمصر‪ ..‬أنا كذلك في األيام األخيرة تلك سنحت لي الفرصة للعودة‬
‫للهرب والعودة لكنه ف ّ‬
‫معا‪..‬‬
‫لكنني قد قررت البحث عنه والعودة ً‬

‫بدت آسية ممتنةً لها‪..‬‬

‫‪‬شكرا ِ‬
‫لك ماريان‪..‬‬ ‫ً‬

‫أصال‪..‬‬
‫‪‬أنا من يجب أن أشكره‪ ..‬لواله لم أكن على قيد الحياة ً‬

‫تذكرت شيئًا‪..‬‬

‫‪‬تذكرت أنني يجب أن أطمئن والداي‪ ،‬سأرجع إليكم بعد قليل‪ ..‬أنتظراني هنا‬

‫اتصلت ماريان بعمها لتطمئنه عليها وكذلك ليطمئن والديها عليها‪ ،‬ثم اتفقت معه على عمل مداخلة تليفونية مع‬
‫المذيعة شيرين‪...‬‬

‫المذيعة شيرين عبد النور في تغطيتها لهذا الحدث عبر اتصال هاتفي مع ماريان‪..‬‬

‫ِ‬
‫سالمتك‪...‬‬ ‫أهال ماريان‪ ..‬حم ًدا هلل على‬
‫" ‪ -‬واآلن معنا ماريان من المستشفى العسكري بالمعادي‪ً ..‬‬

‫ٍ‬
‫بصوت مرهق‪..‬‬ ‫ردت ماريان‬

‫‪‬شكرا ِ‬
‫لك شيرين‪..‬‬ ‫ً‬
‫‪ ‬تبدين مرهقة يا ماريان! يبدو ِ‬
‫أنك لم تنامي أليام‪..‬‬

‫ابتسمت ماريان بسخرية‪...‬‬

‫‪‬النوم؟ تبدو هذه الكلمة مألوفةً لي‪ ..‬أتذكر بأن معناها الراحة‪ ،‬أليس كذلك؟!‬

‫‪‬يبدو بأن ِ‬
‫لديك الكثير لتقولينه يا ماريان‪..‬‬
‫‪11‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪‬طوال هذه المدة لم نعرف معنى النوم يا شيرين‪ ..‬كننا ننام على ٍ‬
‫خوف ونستيقظ على قصف‪ ..‬حياتنا كانت‬
‫جحيما‪.‬‬
‫ً‬

‫‪‬أين عمر اآلن يا ماريان وكيف حاله؟!‬

‫‪‬أسمعيني يا شيرين‪ ..‬ال يمكنني أن أتحدث أكثر من أن أطمئن الجميع علينا اآلن‪ ،‬لكن أع ُد ِك بعد أن أنتهي‬
‫من التحقيق سأخبركم بكل شيء حصريًا‪..‬‬

‫‪‬ولماذا التحقيقات؟‬

‫‪‬إجراء روتيني فقط‪ ،‬ال تقلقي‪..‬‬

‫‪‬حسنًا‪ ..‬أتر ِ‬
‫كك اآلن لترتاحي يا ماريان ولنكمل كالمنا بعد أن ينتهي التحقيق‪...‬‬

‫‪‬حسنًا‬

‫ويتم إنهاء الحوار‪..‬‬

‫أخيرا‪ ..‬تهافتت عليه آسية بعدما خرجت به الممرضات والحقتهم حتى غرفة‬
‫بعد ساعتين في غرفة العمليات خرج ً‬
‫العناية المركزة‪..‬‬

‫لم تصدق آسية عينها بعد‪ ..‬تخاف أن تستيقظ ويكون ما يحدث اآلن معها مجرد ُحلم‪ ،‬تمرر يدها على شعره‪..‬‬
‫أخيرا شعرت بنبض قلبها يعمل من جديد بعد أن توقف‬
‫تريد أن تتأكد أنها تلمسه هو ح ًقا‪ ،‬قبّلته على جبينه‪ً ،‬‬
‫قليال على األريكة التي‬
‫تقريبًا‪ ،‬نور عينها بعد أن فقدت بصرها‪ ،‬روحها بعد أن صارت ميتة‪ ،‬فكرت في أن تنام ً‬
‫بالغرفة‪ ..‬تريد أن يمر الوقت بسرعة لتراه بخير‪ ..‬ستلجأ للنوم!‬

‫************‬

‫‪12‬‬
‫عِ ضين‬
‫معا‪ ،‬كانا يلعبان بالكرة وفجأة تعثر أحدهما‪ ،‬أسرع ليطمئن عليه‪..‬‬
‫ابتسم حين رآهما يلعبان ً‬

‫‪‬مهند‪ ..‬هل أنت بخير؟!‬

‫ٍ‬
‫بصوت عالي والطفل الثاني يحاول‬ ‫بدأ مهند يصرخ ويبكي‪ ،‬إنه ينزف بشدة من كتفه‪ ،‬ليس مجرد تعثر‪ ،‬صرخ‬
‫تهدئته‪..‬‬

‫شجاعا يا مهند‪ ،‬تحمل األلم أرجوك‪..‬‬


‫ً‬ ‫‪‬كن‬

‫‪‬سأخبر اهلل بكل شيء يا إيالن‪ ..‬سأخبر اهلل بكل شيء !‬

‫وهم بالطيران به‪..‬‬


‫أتسعت عيناه حين رأي ذلك الطفل يخرج منه جناحين! أمسك بمهند ّ‬

‫ذاهب به يا إيالن؟!‬
‫ٌ‬ ‫‪‬إلى أين أنت‬

‫رد إيالن وكأنه يحاول مساعدة صديقه‪..‬‬

‫معا هلل‪ ،‬سنخبر اهلل بكل شيء يا عمر!‬


‫‪‬سنذهب ً‬

‫مجددا‪..‬‬
‫ً‬ ‫بدا حزينًا‪ ..‬لن يراهما‬

‫‪‬سأفتقدكما يا رفاق‪..‬‬

‫كثيرا‪ ..‬لكن نحن نثق بأنك ستلحق بنا قريبًا‪ ،‬مع السالمة يا عمر‪..‬‬
‫‪‬ونحن كذلك يا عمر‪ ..‬سنفتقدك ً‬

‫دامسا‪ ..‬حاول استيعاب أي شيء لكنه لم‬


‫فتح عينيه‪ ..‬لقد كان يحلم على كل حال‪ ،‬المكان ُمظلم لكنه ليس ً‬
‫يات كثيرة متالحقة جعلت عقله‬
‫مجددا ليحاول أن يتذكر أي شيء‪ ..‬وردت على ذهنه ذكر ٌ‬
‫ً‬ ‫يُفلح‪ ،‬أغمض عينيه‬
‫مجددا‪ ،‬تساءل‪ ..‬أين تراه يكون؟! حاول تحريك نفسه لكنه شعر بثُقل في جسده‪ ..‬ال‬
‫ً‬ ‫مشو ًشا‪ ..‬فتح عينيه‬
‫نائما‪ ...‬تذكر‪ ..‬البد وأنها ماريان‪ ،‬عيناه نصف‬
‫حرك رأسه على جانبه األيسر فوجد أحدهم ً‬
‫يستطيع التحرك! ّ‬

‫‪13‬‬
‫عِ ضين‬
‫مفتوحتان‪ ،‬حاول أن يناديها لكنه لم يستطع كذلك‪ ..‬حاول أن يفتح عينيه بالكامل والتركيز أكثر الستيعاب‬
‫األمر‪ ..‬أمعن النظر ناحيتها‪ ،‬بدأ يدرك األمر‪ ..‬هذه ليست ماريان‪ ،‬لكن من المستحيل أن تكون هي من يفكر‬
‫بها‪ ..‬ال ال مستحيل‪ ..‬آسية ؟! ما الذي جاء بها هنا‪ ..‬مستحيل‪ ..‬أنه يحلُم‪ ،‬بالتأكيد يحلُم!‬

‫‪14‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-8-‬‬

‫البدايات‬

‫القاهرة‬

‫كان يومه سيئًا خاصة بعدما حدث خالف كبير مع المذيعة شيرين‪ ..‬خالف قد يؤدي لفض الشراكةُ معها وبذلك‬
‫ستخسر المحطة األموال التي تأتي من اإلعالنات التي تأتي من طرفها وبالطبع برنامجها يستولي على أكثر من‬
‫‪ %01‬من األعالنات‪ ،‬يصفها دائما بزوجة أبليس! أمام التلفاز تظهر ٍ‬
‫بوجه مالئكي بريء‪ ..‬أما ما وراء الشاشات‬ ‫ً‬
‫مثال‪..‬‬
‫فإنها تتحول لكائن مخيف كاألفعى ً‬

‫ما قطع تفكيره صوت طرقات على باب مكتبه‪ ..‬تلك الطرقات يعرفها جي ًدا‪..‬‬

‫‪‬أدخلي يا ماريان‪..‬‬

‫بدال من والديها‪..‬‬
‫أطلت برأسها للداخل‪ ..‬تلك الفتاة الذي طالما قام بتربيتها ً‬

‫‪‬أنت منشغل يا عمي؟!‬

‫تناسى كل همومه بمجرد رؤيتها‪ ،‬أبتهج لرؤيتها‪..‬‬

‫ِ‬
‫ألجلك بالطبع‪..‬‬ ‫‪‬حتى لو كنت كذلك‪ ..‬سأتفرغ‬

‫دخلت والفرحة بادية بجالء على وجهها‪ ،‬جلست أمامه‪..‬‬

‫أوال‪..‬‬
‫كنت في الجامعة وأنهيت يومي هناك وكنت في طريقي للبيت لكنني فكرت أن أطمئن عليك ً‬
‫‪ُ ‬‬
‫خبرا وراء كالمها‪..‬‬
‫نظر إليها نظرة متحدية وكأنه يعرف أنها تخبئ ً‬

‫‪‬فقط؟!‬

‫سؤاله هذا جعلها تضحك‪ ..‬تعبيرات وجهها فضحتها أمام عمها‪..‬‬

‫‪15‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪‬حسنًا‪ ..‬لقد ظهرت نتيجتي وما زالت أحتفظ بمركز الصدارة للفصل الدراسي الثالث على التوالي‪..‬‬

‫فرحا‪ ،‬ربت على كتفها بابتهاج‪..‬‬


‫فاتحا ذراعيه ليعانقها ً‬
‫فرحا ً‬
‫قام من مكتبه ً‬

‫دائما ما‬ ‫ِ‬


‫‪‬هكذا ترفعين رأسي وتؤكدين على جدارتك بالعمل هنا في المحطة حتى قبل أن تتخرجي من الجامعة‪ً ،‬‬
‫كنت أثق ِ‬
‫بك يا ماري‪..‬‬ ‫ُ‬
‫قطع فرحتهم رنين هاتف مكتبه‪ ..‬رفع السماعة وأنصت باهتمام‪..‬‬

‫حاال‪..‬‬
‫‪‬حسنًا‪ ..‬حسنًا‪ ،‬سأرسل طاقم القناة لهناك ً‬
‫قالها لمن يهاتفه وهو ينظر لماريان بابتسامة‪ ،‬أغلق االتصال والتفت إليها‪..‬‬

‫ِ‬
‫وتفوقك؟!‬ ‫‪‬وما رأيك في تغطية مظاهرات عند القصر الرئاسي كهدية مني بسبب ِ‬
‫نجاحك‬

‫دائما‪ ..‬رفع‬
‫قفزت ماريان فرحة من مكانها‪ ،‬قبّلته ثم خرجت من مكتبه مسرعةً لعملها الذي يكلفها بها عمها ً‬
‫سماعة الهاتف طالبًا غرفة اإلعدادات ليرسلوا طاقم تغطية مع ماريان‪..‬‬

‫دائما بماريان التي ترفع رأسه ويفتخر بها أمام الجميع خاصة‬
‫ظهرت ابتسامة الفخر على وجهه‪ ،‬طالما كان واث ًقا ً‬
‫شيرين‪ ،‬منذ أن راهن بماريان للعمل بالمحطة كمراسلة أخبار وهي تسلب حب الناس من شيرين لصالحها‪،‬‬
‫أصبحت تنافسها في الشهرة تقريبًا‪ ..‬أصبحت ماريان أصغر مراسلة تلفزيونية تعمل باإلعالم وهذا ليس بسبب‬
‫دائما ما كانت ماريان تُظهر موهبتها في تغطية‬
‫عمها الذي يعمل كمدير للمحطة بالشراكة مع شيرين‪..‬ال ال‪ً ..‬‬
‫ومعرضة للخطر عكس شيرين التي‬
‫دائما في قلب األحداث ُ‬
‫األحداث‪ ،‬وسلبت من شيرين جزء من شهرتها كونها ً‬
‫تجلس في المحطة وأمام التلفاز في أمان‪..‬‬

‫************‬

‫عادت ماريان للبيت متأخرة بأقصى درجات اإلرهاق بعد سهرها الليلةَ السابقة للمذاكرة وامتحان نصف الفصل‬
‫الدراسي الثاني في صباح اليوم ومن بعدها تغطيتها لمظاهرات اليوم‪ ..‬دخلت غرفتها وارتمت على سريرها في ٍ‬
‫تعب‬

‫‪16‬‬
‫عِ ضين‬
‫وإرهاق شديدين وما كان ينقص من يومها شيء إال أن تأتي والدتها لتعاتبها‪ ،‬دخلت والدتها الغرفة والغضب باديًا‬
‫عليها‪..‬‬

‫‪‬أين كنتي طوال اليوم يا ماري؟! لماذا تأخرتي كل هذا الوقت؟!‬

‫لم يكن لدى ماريان أي طاقة لتدخل مع والدتها في نقاش‪..‬‬

‫صباحا في الجامعة ثم ذهبت لعمي في المحطة‪..‬‬


‫امتحنت ً‬
‫ُ‬ ‫‪‬‬

‫بدأ صوت أمها يرتفع غضبًا‪..‬‬

‫أيام صعبة بسبب االمتحانات ِ‬


‫وأنت كل همك هو العمل في القناة‪،‬‬ ‫‪‬توقعت هذا يا ماري‪ِ ،‬‬
‫أنت ُمقبلة على ٍ‬
‫لماذا تهملين المذاكرة يا ماري؟!‬

‫أسندت ماريان نفسها بصعوبة وجلست بوعي نصف غائب‪..‬‬

‫‪‬إهمال؟! عن ماذا تتكلمين يا أمي؟! نسيت أن أخبرك أن نتيجة النصف األول قد ظهرت‪ ..‬مازالت في المركز‬
‫األول يا أمي‪ ..‬فكيف أهمل دراستي كما تقولين؟!‬

‫ردت والدتها بعصبية‪..‬‬

‫‪‬عملِك في القناة سيشغلك حتما عن المذاكرة وربما تفقدين مر ِ‬


‫كزك هذا الح ًقا‪..‬‬ ‫ً‬
‫ردت ماريان وهي تحاول إنهاء الكالم مع والدتها‪..‬‬

‫بدال من أن تشجعيني على المواصلة بعدما أدر ِ‬


‫كت جي ًدا أن عملي بالمحطة يشجعني على تكملة دراستي‬ ‫‪‬هذا ً‬
‫في الجامعة وبتفوق؟! كان يمكنني بكل سهولة اختيار العمل مع عمي في المحطة وعدم تكملة دراستي! وليس‬
‫هذا فقط يا أمي‪ ..‬أنا األولى على زمالئي‪ ..‬ماذا ينقصني إذن؟!‬

‫ينخفض صوتها تدريجيًا وبدأت تغيب عن الوعي كليًا‪..‬‬

‫‪‬ال تقلقي يا أمي‪ ،‬أنا‪...‬‬

‫‪17‬‬
‫عِ ضين‬
‫تملكها‪ ،‬صحيح أنها فقدت الوعي تقريبًا إال أنها ما‬
‫لم تكمل كالمها ألنها غرقت في النوم بسبب اإلرهاق الذي ّ‬
‫عال بسببها‪ ،‬لكن ماريان اعتبرت أن ما يحدث هو مجرد‬ ‫ٍ‬
‫بصوت ٍ‬ ‫زالت تدرك صوت والديها وهما يُعاتبان بعضهما‬
‫حلم!‬

‫سوهاج‬

‫دخلت مكتبة ال ُكلية ألول مرة منذ التحاقها بكلية الزراعة‪ ،‬وكغالبية طالب هذه الكلية فإن التنسيق قد أجبرها‬
‫على االلتحاق ب ُكلية الزراعة ولذلك تظهر عالمات عدم الرضا واالمتعاض على وجهها‪ُ ،‬عرفت بين صديقاتها‬
‫كثيرا‪ ..‬دخلت آسية المكتبة وتوجهت‬
‫بابتسامتها التي ال تُفارق وجهها لكن فيما يتعلق بالدراسة تبغض األمر ً‬
‫ألمينة المكتبة‪..‬‬

‫‪‬صباح الخير‪..‬‬

‫ردت األمينة‪..‬‬

‫ِ‬
‫أساعدك؟!‬ ‫‪‬صباح الخير‪ ..‬كيف‬

‫‪‬أنا آسية‪ ،‬أدرس في الصف الثاني‪ُ ..‬كلفت بعمل بحث في مادة االجتماع الريفي‪ ،‬كيف يمكنني تجميع‬
‫البحث من فضلك؟!‬

‫فعال مع عمر الذي يجلس في آخر‬


‫يبدو اسمها جذابًا ألي شخص يسمع هذا االسم ألول مرة‪ ،‬وهذا ما حدث ً‬
‫مميز كهذا لم أسمع عنه إطالقًا طوال سنتين‬
‫اسم ٌ‬‫القاعة‪ ..‬تساءل في نفسه‪ ،‬آسية؟! وفي الصف الثاني‪ ،‬غريب‪ٌ ..‬‬
‫في ال ُكلية وهي معي في نفس السنة الدراسية!! وما قطع تفكيره إشارة أمينة المكتبة آلسية في أتجاهه‪..‬‬

‫‪‬حسنًا‪ ..‬أترين هذا الشاب الذي يجلس هناك؟!‬

‫هزت آسية رأسها إيجابًا‪ ،‬أكملت أمينة المكتبة كالمها‪..‬‬

‫ضا في الصف الثاني وهو غالبا يقوم بكتابة البحث نفسه المطلوب ِ‬
‫منك‪ ،‬تلك الرفوف وراءه فيها‬ ‫‪‬هو أي ً‬
‫ً‬
‫الكتب المتعلقة بذلك البحث‪..‬‬

‫‪18‬‬
‫عِ ضين‬
‫ِ‬
‫أشكرك سيدتي‪..‬‬ ‫‪‬حسنًا‪..‬‬

‫ضلت أن تبحث هي‬


‫سارت آسية باتجاه عمر أو باألحرى باتجاه رفوف الكتب الموجودة خلفه‪ ،‬بطبيعة الحال ف ّ‬
‫بنفسها على أن تسأله‪ ..‬فيما انشغل عمر بإكمال كتابة البحث‪..‬‬

‫لدقائق ظلت آسية تبحث في عناوين الكتب عن موضوع بحثها‪ ..‬لم تدخل المكتبة من قبل لذلك بدا األمر صعبًا‬
‫بالنسبة لها‪ ،‬أما عمر فتوقف عن إكمال بحثه بسبب وجود آسية خلفه‪ ..‬فاض به األمر فقرر أن يساعدها حتى‬
‫ضا‪..‬‬
‫يتمكن هو من إنهاء توترها هذا وإنهاء كتابة بحثه هو أي ً‬

‫‪‬هل يمكنني مساعدتِك؟!‬

‫شعرت آسية في لهجته بأنها قد أزعجته وعطلته عن أكمال بحث‪..‬‬

‫‪‬أنا آسفة‪ ..‬هل أزعجتك؟!‬

‫‪‬ال أب ًدا‪..‬‬
‫كنت أريد كتابة ٍ‬
‫بحث عن "دور المكاتب األرشادية في تنمية الريف‬ ‫عذرا‪ ،‬لكنني ألول مرة أدخل المكتبة‪ُ ،‬‬
‫‪ً ‬‬
‫المصري" وال أعرف من أين أبدأ!‬

‫التفت عمر لرف الكتب واختار ثالثة كتب وكأنه يعرف هذه الكتب عن ظهر قلب ثم أعطاها لها‪.‬‬

‫‪‬هذه الكتب فيها موضوع بحثك‪ ،‬لقد قُمت بكتابة هذا البحث األسبوع الماضي‪ ،‬أما بخصوص دخولك لهذه‬
‫المكتبة للمرة األولى فهذا طبيعي ج ًدا في ُكليتنا‪ ..‬أنا ال أدخلها محبةً فيها‪ ..‬مرغم ِ‬
‫أخاك ال بطل‪..‬‬ ‫ٌ‬
‫أبتسمت آسية شاكرة له‪..‬‬

‫شكرا جز ًيال لك‪ ،‬وآسفة مرةً أخرى ألزعاجك‪..‬‬


‫‪‬حسنًا‪ً ..‬‬
‫‪‬على الرحب والسعة‪..‬‬

‫أخذت الكتب منه وجلست بجانبه دون قصد‪ ،‬كانت قريبةً من رف الكتب الخاص بالبحث‪..‬‬

‫‪19‬‬
‫عِ ضين‬
‫متظاهرا بأنه مازال يكتب بحثه! هل‬
‫ً‬ ‫جالسا في مكانه‬
‫بعد دقائق أنهى عمر كتابة بحثه وهو ال يدري لماذا ال يزال ً‬
‫أعجبه الكالم معها؟! ماذا لو يفتح معها نقا ًشا آخر؟!‪ ..‬تردد للحظات ثم انطلق لسانه فجأة‪..‬‬

‫‪‬كيف حال ُمذاكرتِك لمادة اإلحصاء؟!‬

‫فاجأها سؤاله‪ ،‬التفتت إليه‪..‬‬

‫‪‬هذه المادة ال أُذاكرها تقريبًا‪ ،‬لم أفهم شيئًا من شرح الدكتور في المحاضرات السابقة‪ ،‬وطالما لم أفهم شيئًا‬
‫سهال‪..‬‬
‫حال ً‬ ‫أصال‪ ..‬هذا يبدو ً‬‫في أي مادة ال أُذاكرها ً‬
‫رد عليها بسخرية‪..‬‬

‫عقيم عقليًا‪ ،‬وليس هو فقط‪ ..‬معظم أساتذة ال ُكلية هكذا‪..‬‬


‫‪‬لستي الوحيدة هكذا‪ ..‬دكتور المادة ٌ‬
‫محاوال إطالة الحديث معها‪..‬‬
‫ً‬ ‫قابلت آسية سخريته هذه بضحكةً خافتة‪ ،‬تابع عمر كالمه‬

‫أرغمت نفسي على ُمذاكرة المادة وعمل تلخيص لها‪ ،‬لو أردتي الحصول على‬
‫ُ‬ ‫‪‬الفارق بيني وبينِك هو أنني‬
‫ٍ‬
‫نسخة منه لن أمانع‪..‬‬

‫وكأن أحدهم أنقذها من مصيبة‪ ،‬فرحت ج ًدا بأقتراحه‪..‬‬

‫إزعاجا أو يضايقك األمر‪..‬‬


‫‪‬هذا إن لم يسبب لك ً‬
‫‪‬ال‪ ..‬لن يضايقني األمر‪ ،‬بل سيسرني األمر كثيرا‪ ..‬سيكون التلخيص جاهزا ِ‬
‫لك غ ًدا باذن اهلل‪..‬‬ ‫ً‬
‫جمعت‬
‫كانت سعيدةً ج ًدا بمساعدته لها‪ ،‬ويبدو أنها قد أنهت بحثها بالفعل أو أنها اكتفت بهذا القدر اليوم‪ّ ..‬‬
‫أوراقها وهمت بالمغادرة‪..‬‬

‫شكرا لك‪..‬‬
‫‪‬أنا ممتنةً لك‪ً ،‬‬
‫‪‬هذا من دواعي سروري‪..‬‬

‫‪21‬‬
‫عِ ضين‬
‫غادرت آسية المكتبة بالفعل وظل هو لدقائق يتأمل في حديثه معها‪ ،‬أدرك فجأة أن هناك ُمحاضرة قد بدأت‬
‫بالفعل‪ ،‬نظر في ساعته فأدرك أنه قد مر على بدء المحاضرة ربع ساعة تقريبًا‪ ..‬أدرك أن آسية لم تكمل كتابة‬
‫البحث وأسرعت فقط للحاق بالمحاضرة‪...‬‬

‫‪21‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-3-‬‬
‫لقد تم لقاء آخر بينهما وتكلما كثيرا‪ ،‬استرسال في الكالم ٍ‬
‫لوقت طويل دون أن يضع كالهما الوقت في األعتبار‪..‬‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬
‫تطرقا لموضوعات كثيرة كان أغلبها فيما يخص المواد التي يدرسانها‪ ،‬انجذب كالهما نحو اآلخر‪ ،‬ولعل هذا‬
‫هاما لينشغل باله اليومين الماضيين‪..‬‬
‫األرتياح في الحديث معها كان سببًا ً‬

‫لقد صنع عمر بداخله شخصيةً وهمية يستطيع أن يصارحها دون قيود وبأمان ودون خوف‪ ..‬لقد كان يؤمن بأن‬
‫أقرب صدي ٌق له هو نفسه‪ ،‬كان يحاور نفسه‪..‬‬

‫كثيرا؟! أال تالحظ أنك بدأت بإهمال دراستك مرًة أخرى؟!‬


‫‪‬إلى متى ستظل تفكر ً‬
‫‪‬ماذا عساي أن أفعل؟! انجذبت إليها فجأة‪ ..‬أظن أنها مناسبةً لي‪ ،‬أليس كذلك؟!‬
‫‪‬لن أُجيبك على سؤالك هذا اآلن أب ًدا‪ ،‬كيف يمكنك أن تقرر ما أن كانت ِ‬
‫مناسبةً أم ال لمجرد أنك قابلتها‬
‫تسرعك هذا؟!‬
‫مرتين فقط؟! ألم تتعظ مما حدث معك ساب ًقا؟! ألم تندم على ُ‬
‫انتفض جسد عمر فجأة بحر ٍ‬
‫كة مزاحية من صديقه أحمد الذي قطع الحوار بينه وبين نفسه‪..‬‬

‫‪‬يا غبي‪ ،‬ال تفعل هذا ثانيةً‪..‬‬

‫وقف أحمد أمامه ورفع حاجبيه وهو ينظر لعمر‪ ،‬ثم جاءته فكرة رافقتها أبتسامة ماكرةً‪..‬‬

‫‪‬أنا غبي؟! حسنًا‪ ..‬سأغادر لكن ال تسألني عن المعلومات التي حصلت عليها‪ ..‬سالم‪..‬‬

‫هم بالمغادرة لكن عمر أسرع وأمسكه من ذراعه في حركة توسلية‪..‬‬


‫ّ‬

‫‪‬حسنًا‪ ..‬حسنًا يمكنك فعل هذا ثانيةً لكن أخبرني‪ ..‬ماذا عرفت عنها؟!‬

‫ضا أن أخاها دكتور صيدالني ويملك صيدلية باسمه بالقرب من بيتهم‪..‬‬


‫‪‬عرفت عنوانها وعرفت أي ً‬
‫رفع عمر حاجبيه في دهشة‪..‬‬

‫‪‬فقط؟!‬

‫‪22‬‬
‫عِ ضين‬
‫تعجب أحمد من سؤاله‪..‬‬

‫عليك أن تشكرني على هذه المعلومات!‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬


‫معلومات أكثر في يوم واحد فقط؟! َ‬ ‫‪‬فقط؟! وهل كنت تتوقع‬

‫زفر عمر ثم أستسلم‪..‬‬

‫شكرا‬
‫‪‬حسنًا هذا يكفي اآلن‪ً ..‬‬
‫هز أحمد رأسه نافيًا‪..‬‬

‫‪‬ليس بهذه الطريقة‪ ..‬شكري أنا له طريقةً أخرى أنت تعرفها جي ًدا‪ ..‬وجبة غذاء في ٍ‬
‫مطعم فاخر‪..‬‬

‫ظهرت ابتسامةً ماكرة على وجه عمر‪..‬‬

‫أوال‪ ..‬كيف حصلت على هذه التفاصي؟ ال تقل لي أنك‬ ‫‪‬حسنًا وجبة غذاء في ٍ‬
‫مطعم فاخر لكن أخبرني ً‬
‫أصال‪..‬‬
‫تتبعتها‪ ..‬أنت ال تعرفها ً‬
‫‪‬قدر ٍ‬
‫ات خاصة‪ ،‬الصحفي ال يُفصح عن مصادره‪..‬‬

‫رفع حاجبه بسخرية‪..‬‬

‫‪‬حسنًا‪ ..‬أنا أعرف مصادرك تلك لكن السؤال األهم هنا‪ ..‬هل عرفت تلك المعلومات من ياسمين أم سارة أم‬
‫نور؟!‬

‫مازحا‪..‬‬
‫أجابه أحمد سر ًيعا ً‬

‫‪‬إيمان‪..‬‬
‫ٍ‬
‫بصوت عال‪ ،‬خطر على بال أحمد سؤال‪..‬‬ ‫ضحكا‬

‫‪‬لكن لماذا تسأل عنها؟! بهذه السرعة نسيت تجربتك الماضية؟!‬

‫زفر عمر عندما سمع هذا السؤال‪..‬‬

‫‪‬لماذا جميعكم ضدي؟!‬

‫‪23‬‬
‫عِ ضين‬
‫تعجب أحمد من سؤاله‪..‬‬

‫‪‬تقصد من بجميعكم؟!‬

‫‪‬أنت وعقلي‪ ..‬تتهماني بأنني أحاول نسيان تجربتي السابقة بآسية‪ ،‬أنا فقط انجذبت إليها واأليام القادمة‬
‫فعال أحاول نسيان تجربتي السابقة بها أم أنها بدايةً جديدة‪..‬‬
‫ستُظهر لي ما إذا كنت ً‬
‫نظر أحمد في ساعته‪..‬‬

‫‪‬حسنًا‪ ..‬هيا لنسرع‪ ،‬البد وأن ال نغيب على آخر محاضرة لعل وعسى يُفاجئنا دكتور المادة بحذف نصف‬
‫مثال‪..‬‬
‫المنهج ً‬
‫سخر عمر منه وأسرعا لحضور آخر محاضرة في هذه السنة‪..‬‬

‫‪24‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-4-‬‬

‫كانت تعاني صعوبة األعتراف بأن هناك فتاةً في سن المراهقة تُنافسها شهرةً في الساحة اإلعالمية‪ ،‬هذا االعتراف‬
‫جاء بعد أن علمت بتلك العروض التي تلقتها ماريان للعمل بأكبر وكاالت األنباء العالمية ويتم رفض تلك العروض‬
‫ضا غير مستعدة للتخلي عن مكانتها كأشهر أعالمية في‬ ‫من قِبل عمها ثروت ألنها لم تُكمل دراستها بعد‪ ،‬هي أي ً‬
‫مصر والشرق األوسط‪..‬‬

‫المشكلةُ هنا أن ماريان متفوقة دراسيًا‪ ،‬حاولت أن تعرقل تفوقها هذا بأكثر األشياء إثارةً في حياة ماريان‪ ..‬العمل‬
‫ٍ‬
‫أحداث كثيرة في محاولةً منها للتأثير على تركيزها خاصةً أنها تخوض‬ ‫الميداني كمراسلة‪ ،‬كانت تُرسلها لتغطية‬
‫دائما ما كانت تُثبت‬
‫ضا‪ ..‬فكرت في التأثير على والديها لمنعها لكن ماريان ً‬
‫امتحانات آخر العام لكنها تتفوق أي ً‬
‫لهم العكس وتبطل حجتهم‪ ..‬عملها بالمحطة هو سر تفوقها في الدراسة‪..‬‬

‫ضر بماريان نفسها‪ ..‬تستخدم تفوقها ضدها!‬


‫ف ّكرت بطريقة مختلفة هذه المرة‪ ..‬ماذا لو لجأت لموهبة ماريان لت ُ‬
‫ٍ‬
‫امتحان لها‪ ،‬طرق أحدهم باب مكتبها‪..‬‬ ‫كانت شيرين في مكتبها تنتظر قدوم ماريان للمحطة كالعادة بعد أي‬

‫‪‬أدخل‪...‬‬

‫أنفتح الباب ودخلت ماريان وقد ال يُخفي عليها توجسها من االبتسامة التي استقبلتها بها شيرين‪..‬‬

‫‪‬من الغريب أن تطلبني األستاذة شيرين عبد النور بنفسها‪ ،‬البد أن تسجل صفحات التاريخ هذا‪..‬‬

‫ضحكت شيرين من سخريتها‪...‬‬

‫ط ج ًدا‪..‬‬
‫‪‬ولماذا كل هذا االندهاش والتعجب يا ماريان؟! األمر بسي ٌ‬
‫بدت على ماريان الحيرة‪..‬‬

‫‪‬حسنًا‪ ..‬أتشوق لسماعك‪..‬‬


‫ِ‬
‫امتحانك اليوم؟!‬ ‫أوال‪ ..‬كيف كان‬
‫‪ً ‬‬

‫‪25‬‬
‫عِ ضين‬
‫رفعت ماريان حاجبها في قلق‪..‬‬

‫‪‬كارثة‪ ..‬لقد أخطأت في نقطة في السؤال الثاني وأظن أنني سأفق ُد مركزي‪..‬‬

‫التفتت إليها بكل جسدها‪..‬‬

‫‪‬لكن ال أظن ِ‬
‫بأنك تطلبين مقابلتي لتسألينني عن حال االمتحان معي اليوم‪ ..‬شيرين ال تفعل ذلك‪..‬‬
‫صدقيني‪..‬‬

‫ابتسمت شيرين تعجبًا لذكاء ماريان‪..‬‬

‫‪‬ولماذا ال أفعل ذلك يا ماريان؟! أنا لست بهذا السوء‪..‬‬

‫بادلتها ماريان االبتسامة‪..‬‬

‫كثيرا‪ ..‬اعذريني فأنا صريحة لحد الوقاحة أحيانًا‪ ،‬لكن دعينا نرى ما طلبتيني ألجله وحينها‬
‫‪‬االمر ال يريحني ً‬
‫أعرف سبب قلقي‪..‬‬
‫يمكنني أن ُ‬
‫ساد بينهما الصمت للحظات‪ ،‬تكلمت شيرين بج ّدية‪..‬‬

‫للبعض منّا فرصةً إذا أضاعها سيندم بقية عمره عليها وقد يعيش على أمل تكرار الفرصة لعل وعسى‬
‫ُ‬ ‫‪‬قد يأتي‬
‫أصال‬
‫يستغلها هذه المرة‪ ..‬هذا إن جآءته ً‬
‫سكتت للحظة ثم أكملت كالمها‪..‬‬

‫‪‬حلم أي شاب هو العمل معي في طاقم برنامجي‪..‬‬

‫سكتت لحظةً أخرى ثم سألتها‪..‬‬

‫أي آخر؟!‬ ‫ِ‬


‫‪‬ها‪ ..‬موافقة أم أن لك ر ٌ‬
‫قطبت ماريان حاجبيها في عدم فهم‪..‬‬

‫‪‬‬

‫‪26‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪‬رأيي في ماذا؟!‬
‫ظننتك أذكى من ذلك وستفهمين قصدي‪ ..‬أنا أعرض ِ‬
‫عليك العمل ضمن طاقم برنامجي كمراسلة ميدانية‪..‬‬ ‫‪ِ ‬‬
‫فقط!‬

‫ح ّدقت فيها ماريان‪ ..‬آخر ما كانت تتوقعه من شيرين أن تعرض عليها العمل معها‪ ،‬ابتسمت ثم قامت من مكانها‬
‫وأدارت ظهرها لشيرين‪..‬‬

‫احك هذا‪ ..‬تعلمين أنني سأرفضه ومع ذلك خاطرتي بكبر ِ‬


‫يائك أمامي وفعلتي ذلك‪..‬‬ ‫‪‬ح ًقا أنا مندهشة من اقتر ِ‬

‫التفتت إليها ثم كلمتها بجدية‪..‬‬

‫بحرية ودون قيود‪ ..‬أعلم بمكان الحدث هنا أو هناك فأسرع للتغطية واالنضمام لطاقم أي برنامج‬
‫‪‬أنا أعمل ُ‬
‫ِ‬
‫بأوامرك‬ ‫ِ‬
‫طاقمك الخاص يعني أنني سأتقيد‬ ‫الذي يصادف ميعاد بثه موعد حدوث الحدث‪ ..‬عملي ضمن‬
‫وببر ِ‬
‫نامجك فقط وهذا ال يُناسب أسلوبي يا شيرين‪..‬‬

‫المهينةَ لها‪..‬‬
‫سهال‪ ،‬لكن لم تتوقع الرفض أو الرفض بهذه الطريقة ُ‬
‫توقعت شيرين أن نقاشها مع ماريان لن يكون ً‬

‫ِ‬
‫رفضك هذا؟!‬ ‫‪‬أترفضين العمل مع أكبر إعالمية في مصر والشرق األوسط؟! هل ي ِ‬
‫مكنك تخيل معنى‬‫ُ‬
‫إلي عروض للعمل في‬
‫أتخرج من الجامعة ويُق ّدم ّ‬
‫‪‬بالطبع يُمكنني تخيل هذا‪ ..‬يُمكنني تخيل األمر حين ّ‬
‫أنت كذلك سيكون من ضمن تلك العروض‪ ..‬يُمكنني حينها أن أقرر أي ٍ‬
‫عرض‬ ‫ك ِ‬ ‫وعرض ِ‬
‫ُ‬ ‫وكاالت أنباء عالمية‬
‫ِ‬
‫وأظنك تعرفين ماذا سأقرر بالطبع!‬ ‫سأقبل‬

‫يحمر وجهها غضبًا‪ ،‬قطبت شيرين حاجبيها لكن ماريان التفتت لتخرج من‬
‫قالتها ماريان بسخرية مما جعل شيرين ّ‬
‫مكتبها وهي تختم هذا الحوار‪..‬‬

‫‪‬لقد أخبر ِ‬
‫تك أنني صريحة لدرجة الوقاحة لكن يبدو أن وقاحتي تلك مع البعض نعمة‪..‬‬

‫خرجت دون أن تنطق بكلم ًة أخرى‪ ،‬فيما بقيت شيرين تحاول أن تستوعب ما حدث‪ ،‬كان هناك احتمال أن ترفض‬
‫عرضها لكن ليس بتلك الطريقة!‬

‫‪27‬‬
‫عِ ضين‬
‫ِ‬
‫الختيارك الشخصية الخطأ‪،‬‬ ‫بأنك نجحتي في جعلي أخوض حربا ِ‬
‫معك لكن ستندمين‬ ‫أعترف ِ‬
‫ُ‬ ‫‪‬حسنًا ماريان‪..‬‬
‫ً‬
‫األمر ليس بتلك السهولة يا ماريان‪ ..‬ستدفعين الثمن‪..‬‬

‫‪28‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-5-‬‬

‫قليال‪ ،‬ورغم أنها‬


‫لم تُقابله سوى مرتين فقط‪ ..‬مرتين لم تشعر فيهما بشيء نحوه لكن ما يفعله هو يستحق التفكير ً‬
‫دائما؟! لماذا يتتبعها في كل مكان في‬
‫لم تعرفه مسب ًقا إال أن تصرفاته تبدو غريبة‪ ..‬تساءلت‪ ..‬لماذا يقوم بمراقبتها ً‬
‫خصيصا من فصله المعملي لفصلها؟! ما معنى كل تلك النظرات؟! أهي بداية تجربة عاطفية‬
‫ً‬ ‫الجامعة؟! لماذا انتقل‬
‫بالنسبة لها؟! لم تكن تعرف شيئًا عن التجارب العاطفية ولم تسمع عنها سوى في الروايات واألفالم فقط‪ ،‬لم تكن‬
‫تعلم ماذا يمكنها أن تفعل في مثل هذه المواقف وال تعرف حتي بماذا تشعر حينها‪..‬‬

‫كانت آسية وأماني في طريقهما للجامعة في حافلة الجامعة لتأدية آخر االمتحانات العملية لهذا العام‪ ،‬كانت أماني‬
‫تُراجع الدروس العملية لكنها الحظت شرود ذهن صديقتها‪ ..‬تبدو غير طبيعية هذه األيام‪..‬‬

‫‪‬آسية‪ ..‬ما األمر؟!‬

‫عادت آسية لواقعها من جديد‪ ،‬التفتت ألماني ثم هزت رأسها بالنفي‪ ،‬كانت تبدو شاردة لذلك لم تتركها أماني‬
‫وشأنها‪..‬‬

‫حاال‪..‬‬
‫‪‬آسية‪ ..‬هناك شيءٌ ال أعرفه وأود أن تخبريني به ً‬
‫التفتت آسية إليها‪ ،‬حدقت بأماني وتساءلت‪ ..‬كيف أنها لم تخبرها حتي االن؟!‬

‫‪‬هناك أحدهم يقوم بتصرفات غريبة لجذب انتباهي‪ ،‬يحاول أن يُقابلني لكنني أتظاهر بعدم الفهم‪..‬‬

‫شيء كهذا من المفترض أنه يحدث أمامها فكيف لم تنتبه لهذا؟!‬


‫حيث ٌ‬
‫ظهرت عالمات الدهشة على وجه أماني‪ُ ..‬‬
‫بل كيف أن آسية لم تخبرها منذ البداية؟! سألتها بشغف‪..‬‬

‫‪‬ومن هذا؟ معنا في ال ُكلية؟!‬

‫بدا على آسية االستعداد إلخبارها بكل شيء‪..‬‬

‫ضا‪ ..‬عمر‪ ..‬أتعرفينه؟!‬


‫‪‬بل وفي نفس الصف أي ً‬

‫‪29‬‬
‫عِ ضين‬
‫اندهشت أماني‪ ،‬كيف لم تالحظ هذا؟! لقد انتقل عمر من فصله المعملي للفصل التي تدرس فيه هي وآسية‪..‬‬
‫أكملت آسية كالمها عنه‪..‬‬

‫قليال بشأن الدراسة وأعطاني ُمذكرة لمادة اإلحصاء‪ ..‬هذا باإلضافة لتلك‬
‫‪‬قابلني مرتين فقط‪ ..‬تحدثنا ً‬
‫التصرفات الغريبة مثل ُمراقبتي وتتبُعي!‬

‫قليال‪ ،‬ثم عادت لتنظر في كتابها بذه ٍن شارد‪ ،‬مالت آسية نحوها لتهمس لها‪..‬‬
‫فكرت أماني ً‬

‫‪‬أيُعقل أن يكون هذا األهتمام هو الـ‪..‬‬

‫قاطعتها أماني بجدية‪..‬‬

‫‪‬أو ربما يكون كل هذا ّوهم وغير حقيقي‪ ،‬وربما قد تكونين فهمتي ما يحدث خطأ‪..‬‬

‫أسندت آسية ظهرها للوراء‪..‬‬

‫‪‬ال أعرف‪ ..‬ربما!‬

‫أمسكت أماني بمعصمها لتح ّذرها‪..‬‬

‫أوال ثم سنعاود التفكير في األمر‪ ..‬إن استمر بالطبع‪،‬‬


‫‪‬دعينا من هذا األمر اآلن‪ ،‬ننتهي من االمتحانات ً‬
‫بالتأكيد تفهمين قصدي‪..‬‬

‫كماال منها‪ ،‬البد وأن تُركز جي ًدا هذه األيام‪ ..‬بعدها‬


‫عقال و ً‬
‫هزت آسية رأسها إيجابًا‪ ..‬ربما تكون صديقتها أكثر ً‬
‫التقصي عنه ومعرفة كل شيء عنه‪..‬‬
‫يُمكنها ّ‬

‫‪31‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-6-‬‬

‫طبعا ولكن ألنه لن يرى آسية لشهور‪ ،‬لكن هذا‬


‫مضت فترة االمتحانات سر ًيعا بالنسبة له‪ ..‬ليس ُحبًا في الدراسة ً‬
‫األمر يبدو أيجابيًا له‪ ..‬سيتأكد من فترة الغياب تلك أن كان ح ًقا قد أفتقد وجودها في حياته أم أن األمر سيمر‬
‫بسالم‪ ،‬ومع فترة الفراغ هذه من األمور الدراسية ومن رؤية آسية‪ ..‬أشغلت باله األمور السياسية التي تجري في‬
‫البالد‪ ،‬مثله كمثل باقي الشباب له رأي سياسي وميل ٍ‬
‫لطرف سياسي ضد اآلخر‪..‬‬

‫كان عمر في غرفته يتجول بين صفحات األنترنت على حاسوبه المحمول عندما دخل عليه أدهم دون أستئذان‪،‬‬
‫لم يبالي بدخول أخيه بهذه الطريقة‪ ..‬فهو قد أعتاد على مضايقات أخيه له‪..‬لم يبدي أي أهتمام بوجوده‪..‬‬

‫دخل أدهم على أخيه قاطبًا حاجبيه‪ ..‬ين وي مواجهته‪ ،‬لكن عمر ينظر لشاشة حاسوبه دون األهتمام بوجوده‪ ،‬تقدم‬
‫أدهم تجاه عمر ووقف بجانبه فيما أستمر عمر بتجاهله‪ ،‬سأله أدهم‪..‬‬

‫صباحا ؟!‬
‫‪‬أين ذهبت حين خرجت ً‬
‫مختصرا‪..‬‬
‫ً‬ ‫التفت إليه عمر ببرود ثم عاد ونظر إلى شاشة حاسوبه‪ ،‬كان رده‬

‫‪‬كنت في الجامعة‪..‬‬

‫مبررا لما سيفعله‪..‬‬


‫هذا ما كان يريده أدهم‪ ..‬أن يستفزه عمر بالحقيقة وكأنه يهزأ به ليجد ً‬

‫‪‬أي جامعة ؟!‪ ،‬ألم تنتهي من امتحاناتك األسبوع الماضي ؟!‬

‫رد عليه عمر دون النظر إلى وجهه‪..‬‬

‫‪‬ال يهمني أن كنت تصدقني أم ال‪ ..‬أنت تعلم جي ًدا أني ال أكذب‪..‬‬

‫بدأ صوت أدهم يعلو غضبًا‪..‬‬

‫‪‬مع من كنت في الجامعة؟!‬

‫فهم عمر ما جاء أخوه من أجله‪..‬‬

‫‪31‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪‬كفى أسئلة يا أدهم‪ِ ،‬‬
‫هات ما عندك‪ ..‬ماذا تريد ؟‬

‫‪‬يبدو أنك فهمت ما فعلت اليوم‪ ،‬أليس كذلك ؟!‬

‫سئم عمر من مضايقة أخيه له‪ ،‬أغلق حاسوبه وقام من مكانه‪..‬‬

‫مللت من هذا‪ ،‬سأذهب ألنام‪..‬‬


‫‪‬لقد ُ‬
‫التفت عمر نحو سريره لكنه فوجيء بأن أدهم أمسكه من ذراعه والغضب باديًا على وجهه‪ ،‬سأله أدهم ‪..‬‬

‫‪‬لقد قُمت بالتوقيع على أستمارة سحب الثقة‪ ،‬أليس كذلك ؟!‬

‫أندهش عمر من تصرف أخيه‪..‬‬

‫‪‬و ما شأنك أنت ؟!‪ ،‬أنا ُحر فيما أفعل‪..‬‬

‫ساخرا‪..‬‬
‫أفلت عمر يده من قبضة أخيه ثم قال ً‬

‫‪‬يا لسخافتكم‪ ..‬تزعجكم ورقة ؟!‬

‫لقد أثار عمر غضب أخيه‪ ،‬عاد أدهم ومسك عمر من ذراعه ثم أمسكه من ياقة قميصه‪ ،‬لقد ظهر ما كان أدهم‬
‫ينوي فعله ‪...‬‬

‫‪‬لن أدعك تخرج من البيت أب ًدا‪ ،‬سأقوم بسجنك هنا في غرفتك لحين رجوعك لصوابك يا أحمق‪..‬‬

‫حاول عمر أفالت نفسه بالقوة ونجح في ذلك‪ ،‬لكنه لم ينجح في تفادي ردة فعل أخيه السريعة حين دفعه‪ ،‬لم‬
‫يستطع تفادي أختالل توازنه وأرتطام وجهه بحافة السرير الخشبية‪ ،..‬بسبب علو صوتهما فُتح باب الغرفة فجأة‪..‬‬
‫واضعا يده على فمه وهو يحاول أيقاف‬
‫هذه المرة كانت والدتهم التي فُزعت عندما رأت عمر ساقطًا على األرض ً‬
‫تدفق الدم‪ ،‬أسرعت نحوه وهي تصرخ‪..‬‬

‫‪‬عمر‪ ،!..‬ماذا حدث ؟!‪ ،‬هل أنت بخير ؟!‬

‫‪32‬‬
‫عِ ضين‬
‫تبعها الشيخ محسن حينما سمع هو اآلخر صوت مشاجرة وصراخها‪ ،‬دخل والصدمة بادية على وجهه من الذي‬
‫يراه‪ ،‬أسرع عمر بالرد عندما الحظ وجود والده على باب غرفته‪..‬‬

‫‪‬ال شيء يدعو للقلق يا أمي‪ ..‬لقد تعثرت بسبب محاولتي لتفادي سلك شاحن حاسوبي‪ ،‬لقد أصطدمت بحافة‬
‫السرير ‪..‬‬

‫التفت بنظره ناحية أدهم ثم أكمل كالمه‪..‬‬

‫‪‬لقد حاول أدهم أنقاذي لكن سقوطي كان أسرع منه‪..‬‬

‫أسرعت به والدته خارج الغرفة إليقاف النزيف‪ ،‬فيما بقي في الغرفة أدهم ووالده‪ ،‬فهم الشيخ محسن ما دار بينهما‬
‫من شجار كان نتيجته أصابة عمر‪ ..‬فهم أن عمر كذب حين قال أن أدهم كان يحاول أنقاذه‪ ..‬نظر ألدهم نظرة‬
‫قاسية كنوع خاص من العتاب فيما أكتفى أدهم بأبعاد نظره عن والده كنوع من الهروب‪..‬‬

‫‪33‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-0-‬‬

‫ما حدث صباح هذا اليوم جعلها تفكر في تطور عالقة عمر بها بجدية‪ ،‬لم تكن تتوقع أن يحدث هذا‪ ،‬كانت تظن‬
‫أن عالقته بها سوف سكون سحابية‪ ..‬تنتهي ما إن تنتهي السنة الدراسية ويطول غيابهما عن بعضهما‪ ،‬لكن ما‬
‫حدث اليوم معها يهدم ظنها بأنها عالقة سحابية‪..‬‬

‫ما قطع تفكيرها هذا هو صوت والدتها خارج غرفتها وهي ترحب بأماني‪ ،‬فتحت باب غرفتها وسحبت صديقتها‬
‫للداخل وأبتسمت لوالدتها فيما يعني أنها تمزح مع صديقتها‪ ،‬تفاجأت أماني من تصرفات آسية الجنونية أو‬
‫المرتبكة‪ ،‬سألتها‪..‬‬

‫‪‬ماذا حدث كي تطلبين مني أن ِ‬


‫أتيك بسرعة ؟!‬

‫التفتت إليها غاضبة‪..‬‬

‫كنت أنا هناك‪ ،‬لقد أحرجني أمام أخي‪ ..‬البد وأن أخي قد فهم ما جرى‪ ..‬بالتأكيد‬
‫‪‬لقد أتى إلى صيدلية أخي و ُ‬
‫فهم كل شيء‪..‬‬

‫عملت أماني على تهدئتها‪..‬‬

‫ِ‬
‫أحرجك ؟!‬ ‫‪‬آسية‪ ..‬أنا ال أفهم شيئًا! أخبريني بهدوء ماذا حدث ومن هذا الذي‬

‫مازالت آسية يتملكها الغضب‪..‬‬

‫كنت مع أخي في الصيدلية كعادة كل يوم وفجأة وجدت عمر أمامي‪ ..‬ال‬
‫‪‬من سيكون غير عمر برأيك ؟!‪ُ ،‬‬
‫أعلم كيف أتى وكيف عرف صيدلية أخي !‬

‫فجأة أنفجرت أماني ضاحكة مما أثارت غضب آسية أكثر ‪!..‬‬

‫ِ‬
‫أعصابك تلك ؟!‬ ‫‪‬هل يمكنني أن أعرف سبب برود‬

‫ردت عليها أماني التي حاولت توقف ضحكتها‪..‬‬

‫‪34‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪‬و هل هذا ما يشغلك ؟!‪ ،‬فتاةٌ حمقاء وساذجة ‪!..‬‬

‫‪‬من بعض ما عندكم يا أينشتاين زمانك ‪!...‬‬

‫قليال‪..‬‬
‫هدأت أماني ثم جلست وأجلست معها آسية‪ ،‬خفضت صوتها ً‬

‫جادا في عالقته ِ‬
‫بك‪،‬‬ ‫معلومات ِ‬
‫عنك وأنه سيكون ً‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫أخبارك بأنه بدأ بالفعل في جمع‬ ‫‪‬ما فعله عمر اليوم يريد به‬
‫بمعنى آخر أنه يُصرح بحبه لكي ‪!..‬‬

‫بدا على آسية الشرود والقلق‪ ،‬وضعت أماني يدها على يد آسية لتطمئنها‪..‬‬

‫سهال يا آسية‪..‬‬
‫‪‬و بالطبع لن يكون هذا ً‬
‫أرتسمت أبتسامة ماكرة على وجهها ثم أكملت‪..‬‬

‫قليال معه‪ ..‬حينها فقط سنتأكد من كل شيء‪..‬‬


‫‪‬دعينا نحن من نتسلى ونلعب ً‬
‫حينها تمنت آسية لو أن األمر يكون حقيقيًا‪ ،‬سألتها آسية‪..‬‬

‫فعال أم أن األمر‬
‫قليال كما تقولين‪ ،..‬ماذا تتوقعين أنتي ؟‪ ،..‬هل يحبني ً‬
‫‪‬بعي ًدا عن أننا سنختبره أو سنتسلى به ً‬
‫مجرد تسلية ؟!‬
‫ٍ‬
‫بصوت عالي ‪..‬‬ ‫قليال‪ ،‬سكتت للحظات ثم فكرت‬
‫أرجعت أماني ظهرها للوراء ً‬

‫‪‬ال أعتقد بأن األمر مجرد تسلية بالنسبة له‪ ..‬لقد علم بتفاصيل مهمة في حياتك دون أن تخبريه بشيء‪ ،‬حتى‬
‫ِ‬
‫يحبك‬ ‫كثيرا‪ ،‬قد يسعى جاه ًدا لمعرفة تفاصيل أكثر عن حياتِك دون أن تخبريه بشيء‪ ..‬لو أنه‬
‫أنكما لم تتقابال ً‬
‫ستعرفين أنه قد عرف عن حياتك أكثر مما تعرفين أنتي عن نفسك ‪!..‬‬

‫خطر ببال آسية شيئًا آخر‪..‬‬

‫‪‬هل من الممكن أن يكون في حياته فتا ًة أخرى غيري ؟!‪،‬قلب الرجال يتسع للكثير كما تعرفين‪..‬‬

‫‪‬لكل قاعدةً أستثناء‪ ..‬أحيانًا يكتفي الرجل بواحدةٍ فقط تملئ قلبه وعينه وحياته‪..‬‬

‫أقتربت إليها أكثر وهمست لها‪..‬‬


‫‪35‬‬
‫عِ ضين‬
‫أوال‪ ..‬أنتي مستعدة ؟!‬
‫‪‬لكن دعينا نتأكد من هذا ً‬
‫تياحا ‪..‬‬
‫هزت آسية رأسها موافقة ثم أبتسمت أر ً‬

‫‪36‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-2-‬‬

‫تجمعوا على مائدة الفطار لكن تجمعهم هذا لم يمنع من أن كل واح ًدا فيهم كان في عالمه الخاص‪..‬‬

‫كان أدهم يفكر في خطوته التالية وال يعلم كيف سيقنع والده بهذا‪ ..‬لكن ال مانع من الكذب أحيانًا في الوصول‬
‫لما يبتغيه‪ ..‬سيكذب حتى يتمكن من السفر ومساندة أخواته في األعتصام ضد من يريد هدم الحكم اإلسالمي‪..‬‬
‫ضد العلمانيين والليبراليين الكفرة‪ ..‬ضد هؤالء الجهلة الذين يسمحون لغيرهم بغسيل دماغهم‪ ..‬لقد أنتصر‬
‫اإلسالميون في جميع المعارك األنتخابية بعد ثورة يناير العظيمة والتي كانوا هم الغالبية العظمى فيها‪ ..‬هم‬
‫ستمر‬
‫ئيس مدني ُمنتخب في تاريخ مصر‪ُ ،‬‬ ‫يستحقون ذلك ولذلك سيتم الدفاع عن الشرعية‪ ..‬شرعية أول ر ٌ‬
‫التظاهرات المعارضة للرئيس كغيرها التي سبقتها والتي مرت مرور ِ‬
‫الكرام في النهاية لكن بعدما تمر تلك‬ ‫ُ‬
‫شرع اهلل‪ ..‬أما من كان سببًا في أطالق دعوات‬
‫التظاهرات على خير ستخرس كل األلسنة وسيتم الحكم بما ّ‬
‫المنتخب‬
‫عسيرا‪ ..‬لقد أرادوا زعزعة أستقرار وأمن البالد بحضرة الرئيس ُ‬
‫ً‬ ‫التظاهر هذه فسوف يكون حسابه‬
‫والشرعي للبالد‪ ..‬سيندمون على ذلك‪ ..‬سيندمون‪..‬‬

‫عمر كان يفكر طيلة الوقت في النتائج التي ستؤول إليها تلك التظاهرات‪ ..‬هل سينجحون هذه المرة في إزاحة‬
‫الحكم وأنفردوا بها طاردين كل من شارك معهم في ثورة يناير من‬
‫حكم اإلسالميين الذين سيطروا على مقاليد ُ‬
‫الساحة السياسية ؟! أم ستدخل البالد في نف ٌق مظلم من الصراعات والفتن ؟!‪ ،‬لكن هو متأكد من أن مسألة‬
‫أصال‪ ..‬اإلسالميون كذلك قد أعتصموا بالفعل كرد على‬
‫الحكم ستكون صعبة بل وأقرب للمستحيل ً‬
‫أزاحتهم من ُ‬
‫تلك التظاهرات المعا ِرضة لحكمهم‪ ،‬بالفعل تلك التظاهرات تحتاج لمعجزة لتنجح وتزيح حكم اإلسالميين‪ ،‬جميع‬
‫من وقّع على أستمارة سحب الثقة من الرئيس سيشارك في تظاهرات نهاية األسبوع‪ ،‬البد أن تنجح هذه التظاهرات‬
‫هذه المرة ‪!..‬‬

‫أما الشيخ محسن فكان يُفكر في الحال الذي وصل إليه ولديه‪ ..‬تلك الثورة اللعينة كان الجميع يُعلق آماله عليها‬
‫عاما من الظلم والفساد لكن الحقيقة الواضحة هي أنها كانت مؤامرة إلسقاط مصر‪ ..‬ثورة لم‬
‫لتنتهي حقبة ثالثين ً‬
‫تُنهي الظلم والفساد كما أدعت‪ ،‬بل أنها أصابت المصريين باألنقسام‪ ..‬أصبح في كل أسرة من هو يميل‬

‫‪37‬‬
‫عِ ضين‬
‫للمعارضة ومن هو يميل للنظام السابق‪ّ ،‬توحدوا في البداية صد النظام السابق حتى‬
‫لإلسالميين ومن هو يميل ُ‬
‫ليعارض‬
‫منقسما‪ ..‬بعضهم ُخلق ُ‬
‫ً‬ ‫الحكم‪ ،‬لقد أصبح المجتمع‬‫أسقطوه لكنهم أفترقوا بعد ذلك ليسعوا خلف كرسي ُ‬
‫والبعض اآلخر ُخلق ليُصفق لألنجازات ويبرر للخراب‪ ،‬الجميع ي ّدعي‬
‫ُ‬ ‫في األنجازات أو في الخراب والهدم‪..‬‬
‫الوطنية‪..‬‬

‫ضا‬
‫فرقتهم‪ ،‬هي أي ً‬
‫كانت األم حزينة وقلقة بسبب ما يحدث بين ولديها‪ ..‬كالهما ال يُطيق اآلخر‪ ،‬السياسة هي من ّ‬
‫قد علمت بما حدث بينهم ليلة أمس على الرغم من أن كالهما لم يتحدثا بشيء أمام والديهما‪ ..‬ربما هي تدرك‬
‫ضا حيال األيام القادمة‪ ..‬األمور السياسية في البالد متخبطة وغير مستقرة‪،‬‬
‫األمور أكثر من زوجها‪ ،‬هي قلقة أي ً‬
‫قلقة بشأن ما يفكر به ولديها‪ ..‬هناك أعتصامات وهناك تظاهرات‪ ..‬قلقة بشأن مشاركتهم المحتملة في تلك‬
‫األحداث‪ ..‬تخاف من بطش اإلسالميين أو أعتقاالت األمن‪ ..‬كانت تُناجي ربها بأن تكون األمور بخير ‪..‬‬

‫موجها حديثه لوالده‪..‬‬


‫بادر أدهم بكسر الصمت الذي يُخيم على تجمعهم هذا‪ً ،‬‬

‫‪‬سأسافر القاهرة غ ًدا ولفترة طويلة ربما‪..‬‬

‫التفت إليه والديه فجأة‪ ،‬سأله والده والشك يراوده‪..‬‬

‫‪‬لماذا ستسافر القاهرة يا أدهم ؟!‪ ،‬ولماذا هذا الوقت بالذات ؟!‬

‫رد عليه أدهم وهو ال يُبالي للشك الذي راود والده‪..‬‬

‫‪‬لقد تم تكليفي ٍ‬
‫بعمل كثير في القاهرة‪ ،‬ح ًقا ال أعلم متى سينتهي عملي هذا‪..‬‬

‫نظر والديه لبعضهما في شك وكأنهما يعلمان كذب أدهم‪ ،‬يعلمان أن سفره في هذا التوقيت بالذات يعني أنه قد‬
‫مجددا‬
‫ً‬ ‫قرر المشاركة في األعتصام‪ ،‬أما عمر فمازال يأكل وال يهتم لما يجري حوله‪ ،‬التفت الشيخ محسن ألدهم‬
‫ليسأله بلهجةً تحذيرية‪..‬‬

‫‪‬هذا العمل كلفتك بها الشركة التي تعمل بها أم كلفك بها آخرون ؟!‬

‫‪38‬‬
‫عِ ضين‬
‫أربك هذا السؤال أدهم وقد شعر للحظة بأن كذبته تلك لم تنطلي على والده‪ ،‬شعر وكأنه يعرف كل شيء وأنه‬
‫تعمد أن يجعله يعترف له رسميًا وبوضوح بما ينوي فعله‪ ،‬التفت ألخيه في شك بأن أخاه قد أفشى بشيء ألبيه‬
‫لهذا قد كشفه والده سر ًيعا‪ ،‬أما عمر مازال يتجاهل ما يحدث حوله‪ ،‬التفت أدهم لوالده‪..‬‬

‫‪‬من تقصد بآخرين يا أبي ؟!‬

‫رد عليه والده وقد بدأ صوته بالعلو‪..‬‬

‫تعلم جي ًدا ماذا أقصد يا أدهم‪ ..‬أسمعني جي ًدا‪ ..‬أنا ال أكره شيءٌ في حياتي قدر ما أكره السياسة‪ ..‬إن‬
‫‪‬أنت ُ‬
‫يوما بأنك قد أنضممت ألي جماعة‪ ..‬حزب‪ ..‬تنظيم‪ ..‬تظاهرات أو حتى أعتصامات سيكون عقابك‬
‫سمعت ً‬
‫صغيرا كي تُعاقب‪..‬‬
‫قاسيًا‪ ،‬وأظنك ليس ً‬
‫ضا‪..‬‬
‫التفت لعمر أي ً‬

‫ضا يا عمر‪..‬‬
‫‪‬هذا الكالم موجهٌ لك أنت أي ً‬
‫ثم نظر لكالهما‪..‬‬

‫‪‬أظن بأنكما قد سمعتماني جي ًدا‪..‬‬

‫طرق بيديه على المائدة بغضب ثم قام ولم يكمل طعامه‪ ،‬تبعته والدتهم كذلك لتحاول أن تُهدئ والدهم‪ ،‬التفت‬
‫أدهم وأمال ليهمس لعمر‪..‬‬

‫‪‬لماذا غضب والدك هكذا ؟!‪ ،‬هل أخبرته بشيء ؟!‬

‫رد عليه عمر دون النظر إليه حتى‪..‬‬

‫‪‬لم أخبره بشيء وال يهمني األمر من األساس‪ ،‬فالتذهب كما تريد‪ ..‬لن أتوسل إليك كي ال تفعل شيئًا‪..‬‬

‫متوجها لغرفته‪ ،‬ظهرت أبتسامة على وجهه ثم أكمل كالمه بسخرية‪..‬‬


‫ً‬ ‫قام عمر من مكانه‬

‫‪‬أمرك مفضوح وتسألني عن سبب غضب والدك ؟!‪ ،‬والدك علم بكل شيء من كذبتك تلك‪..‬‬

‫‪39‬‬
‫عِ ضين‬
‫أطلق ضحكة ساخرة‪..‬‬

‫طبعا وأن يشك بأمرك‪..‬‬


‫‪‬البد ً‬
‫متوجها لغرفته‬
‫ً‬ ‫دخل غرفته وأغلق ورائه باب غرفته‪ ،‬بينما ظل أدهم وحي ًدا على المائدة‪ ،‬قام من مكانه هو اآلخر‬
‫ليقوم بتجهيز حقيبته‪..‬‬

‫‪41‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-9-‬‬
‫ٍ‬
‫حدث يحظى بأهتمام‬ ‫ٍ‬
‫حدث عالمي‪،‬‬ ‫طيلة حياتها كانت تنتظر مثل هذا اليوم الذي ستحظى فيه بفرصة تغطية‬
‫أخيرا جاء اليوم الذي ينتظره الجميع‪ ..‬يوم الثالث من يوليو‪ ،‬ليس هذا فقط ما يجعلها سعيدة‪..‬‬
‫العالم كله‪ً ،..‬‬
‫بل وصل األمر لتلقيها أتصال خاص من القوات المسلحة ألحتمال ية تغطية تظاهرات اليوم من طائراتها الخاصة‬
‫بعدما نجحت في تغطية تظاهرات الثالثين من يونيو – أول أمس –‪ ..‬تعرف جي ًدا أن القوات المسلحة أعطت‬
‫سوءا بعد خطابه األخير‪ ..‬ال تعلم ماذا تنوي‬
‫للرئيس ُمهلة محددة لتهدئة األمور وأحتواء معارضيه لكن األمر زاد ً‬
‫القوات المسلحة أن تفعل‪ ..‬هل ستدخل في ِ‬
‫صدام مع اإلسالميين ؟!‪ ،‬حاولت أن تعرف معلومات بخصوص‬
‫تغطيتها لألحداث اليوم لكنها فشلت‪ ..‬هناك قر ًارا قد أتُخذ وسيتم تنفيذه‪ ،‬لقد أنتهت المهلة المحددة على أية‬
‫ٍ‬
‫ساعات قليلة وسيتضح كل شيء‪..‬‬ ‫حال بحلول منتصف الليل‪،‬‬

‫كانت ماريان أمام المرآة تُنهي من تعديل مالبسها وشكلها عندما دخلت والدتها ورأتها وهي تتجهز للخروج في‬
‫مثل هذا الوقت ‪..‬‬

‫‪‬ماذا تفعلين يا ماري ؟!‬

‫ردت ماريان وهي منشغلة بتجهيز نفسها‪..‬‬

‫مثيرا سيحدث اليوم‪ ،‬البد وأن أكون في قلب الحدث يا أمي ‪!..‬‬
‫‪‬يبدو أن هناك حدثًا ً‬
‫سألتها والدتها والدهشة باديةً عليها‪..‬‬

‫‪‬اآلن ؟!‪ ،‬أتعلمين كم الساعة اآلن ؟!‬

‫تنهدت ماريان ثم التفتت إليها‪..‬‬

‫فجرا وسر خروجي اآلن هو أنني البد وأن أكون في مقر وزارة الدفاع‬
‫‪‬حسنًا يا أمي‪ ..‬أعلم أنها الساعة الثالثة ً‬
‫مثيرا على ما يبدو‪..‬‬
‫بعد ساعةً من اآلن‪ ،‬كما أخبرتك سيكون هناك حدثًا ً‬
‫ابتسمت ثم أكملت كالمها‪..‬‬

‫‪41‬‬
‫عِ ضين‬
‫دائما‪..‬‬
‫‪‬لقد تم اختياري أنا بالذات لتغطية أحداث اليوم‪ ..‬سأجعلكم تفتخرون بي ً‬
‫بدت والدتها مستسلمة ‪..‬‬

‫‪‬حسنًا يا ماري أفعلي ما تشاءين لكن كوني حذرة‪..‬‬

‫‪‬حاضر يا أمي‪..‬‬

‫ثواني قليلة وخرجت والدتها من الغرفة وقد أغلقت الباب ورائها‪ ،‬سمعت ماريان صوت بوق سيارة‪ ..‬عرفت أنها‬
‫سيارة المحطة‪ ..‬توجهت ناحية النافذة وأشارت لباقي الطاقم أنها مستعدة‪ ،‬أرتدت حقيبتها الظهرية وتوجهت ناحية‬
‫الباب لكنه لم يُفتح بعد‪ ..‬حاولت أدارة المقبض لكن الباب موص ًدا‪ ..‬حاولت أستيعاب األمر لكنها فجأة فطنت‬
‫أن والدتها هي من فعلت هذا لمنع نزولها اليوم‪..‬‬

‫صرخت بصوت عالي‪..‬‬

‫ِ‬
‫أرجوك‪..‬‬ ‫‪‬أمي‪ ..‬أفتحي الباب‪ ..‬أمي‪ ..‬ال تفعلي هذا‬

‫أتاها رد والدتها من بعيد‪..‬‬

‫‪‬ليس اليوم يا ماري‪ ،‬لن تسير األمور بخير اليوم‪ ،‬قلبي يُحدثني بأن هناك مصيبة ستحدث‪ ..‬عليكي بالبقاء‬
‫هنا‪..‬‬

‫تصرخ ماريان‪..‬‬

‫ِ‬
‫أرجوك‪..‬‬ ‫رجاءا ليس اليوم‪ ،‬سأكون في حماية القوات المسلحة‪ ..‬ال تقلقي‪..‬‬
‫‪‬أمي‪ً ..‬‬
‫لم يأتيها رد والدتها‪ ،‬وقفت لثواني لتفكر بهدوء ماذا ستفعل‪ ،‬بالتأكيد شيرين هي من أخبرت والدتها بأتصال‬
‫القوات المسلحة بها لتغطية األحداث المرتقبة اليوم‪ ،‬لقد تملكتها الغيرة كون أن مؤسسة مثل مؤسسة الجيش‬
‫تُسند مهمة تصوير وتغطية المظاهرات منذ أول أمس وتكليفها بمهمة اليوم هي نفسها ال تعرفها‪..‬‬

‫جالت بنظرها في الغرفة تبحث عن شيء ال تعرفه‪ ،‬أمسكت بهاتفها وأتصلت بأحدهم‪..‬‬

‫‪42‬‬
‫عِ ضين‬
‫شكرا لك‪..‬‬
‫‪‬هيثم ‪ ...‬والدتي قامت بحبسي في غرفتي‪ ،‬أرجوك أصعد لشقتنا وحاول أقناعها‪ ،..‬حسنًا ‪ً ...‬‬
‫أغلقت الهاتف وتوجهت ناحية نافذة غرفتها‪ ،‬شاهدت زميلها هيثم يخرج من السيارة التابعة للمحطة ودخوله‬
‫للعمارة‪ ،‬جالت بنظرها في الشارع‪ ..‬تفكر في طريقة للهروب‪ ..‬تعرف والدتها جي ًدا‪ ..‬لن يستطيع هيثم أقناعها‪..‬‬
‫حتى عمها لن يستطيع جعل والدتها تتركها وشأنها‪ ،‬ال تستطيع القفز كذلك‪ ..‬تسكن في الطابق الخامس والمسافة‬
‫كبيرة‪ ،‬نظرت على يمينها ثم التفتت أمامها‪ ..‬فجأة أتسعت عيناها‪ ..‬راودتها فكرة أو مخاطرة‪ ،‬التفتت ليمينها‬
‫مجددا‪ ..‬إنها تلك الماسورة الضخمة‪ ..‬تساءلت‪ ..‬لماذا ال تُجرب أن تعمل في غير مجالها ولو مرة ؟!‪ ،‬تبدو‬
‫ً‬
‫مهنة السرقة ممتازة‪ ..‬لكنها لن تسرق‪ ،..‬فكرت في هروبها بأستخدام تلك الماسورة ‪!..‬‬

‫‪‬حسنًا‪ ..‬أعلم بأن اللصوص يعانون‪ ..‬فالنجرب معاناتهم‪ ..‬ال طريقةً أخرى أمامي‪..‬‬

‫قالتها لنفسها بسخرية‪ ،‬وضعت أحدى قدميها في الخارج‪ ..‬تنهدت ثم أخرجت كلتا قدميها وأسندت نفسها على‬
‫الجزء الزائد من المبنى والذي يفصل الطوابق عن بعضها‪ ..‬أصبحت ترى غرفتها وهي بالخارج على حافة‬
‫السقوط‪ ..‬مشت بحذر بمحازاة النافذة إلى أن وصلت للماسورة بصعوبة‪ ،‬ما أن لمستها حتى أسرعت لتتشبث‬
‫بالماسورة بكلتا يديها وقدميها‪ ،‬أغمضت عيناها وأصبحت تجذب نفسها لألسفل بهدوء‪ ..‬أستمرت على تلك‬
‫الحال إلى أن وجدت نفسها قد المست األرض‪ ،‬فتحت عينها‪ ..‬لم تصدق أنها قد تمكنت من الهرب والنجاة‬
‫فعال‪ ..‬أسرعت بأتجاه السيارة‪ ،‬الجميع ذُهل عندما رأوا ماريان‪ ..‬أخرجت ماريان هتافها وأتصلت بهيثم ‪..‬‬
‫ً‬

‫حاول هيثم أقناع والدة ماريان باألمر لكنها ترفض‪ ،‬فجأة وجد هاتفه يرن‪ ..‬أخرجه فوجد أن ماريان تتصل به‪ ،‬رد‬
‫عليها ليخبرها بفشله بأقناع والدتها‪..‬‬

‫‪‬أنا آسف ما‪..‬‬

‫قاطعته ماريان في عجلة من أمرها ‪..‬‬

‫‪‬هيثم‪ ..‬لقد تمكنت من الهرب‪ ..‬ال تخبر والدتي بذلك‪ ..‬تصرف طبيعيًا وكأنك قد يأست من محاوالتك‬
‫كثيرا‪..‬‬
‫حاال ألننا تأخرنا ً‬
‫تلك‪ ،‬أنزل ً‬
‫بدا على هيثم الذهول للحظة ثم أسرع ليبدو طبيعيًا‪ ،‬يأس هيثم من محاوالته تلك‪..‬‬

‫‪43‬‬
‫عِ ضين‬
‫علي أن أستأذن‪ ،..‬أتمنى لماريان حظًا موف ًقا‪..‬‬
‫‪‬حسنًا ‪ ...‬سيدتي‪ ،‬كما تشاءين‪ّ ..‬‬
‫مسرعا‪ ،‬ركب السيارة وبقوة الصاروخ تبخرت السيارة في لحظة‪..‬‬
‫ً‬ ‫غادر هيثم‬

‫‪44‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-01-‬‬

‫أصبحت مصدر فخر للجميع‪ ، ..‬الجميع يثني على موهبتها الرائعة والتي تزينها بمجهودها‪ ..‬تستحق ما وصلت‬
‫نجاح باهر في تغطية أحداث يوم الثالث من يوليو‪ ،..‬جميع وكاالت األنباء العالمية‬
‫إليه من النجاح‪ ،‬نجحت ٌ‬
‫قامت بتغطية مشتركة مع المحطة‪ ،‬أصبحت قناة " ‪ " exclusive news‬أشهر قناة عالمية‪ ،‬كانت ماريان‬
‫ٍ‬
‫بلغات كثيرة‪..‬‬ ‫السبب في شهرة القناة‪ ..‬بيانات القوات المسلحة تُعرض على القناة أول بأول‪ ..‬تغطية األحداث‬
‫أستضافة شخصيات قيادية وهامة‪ ..‬تقريبًا يمكن وصفها بأنها المادة الخام للقناة والمحطة‪..‬‬

‫يسرون برؤيتها‪ ،‬كانت‬


‫كعادة كل يوم‪ ..‬دخلت ماريان مبتهجة يملؤها الحماس‪ ..‬تقوم بتحية الجميع والجميع ّ‬
‫ضا‪ ..‬كان الجميع يحبها لبساطتها رغم ما تناله من‬
‫تحب الصيام معهم فترة عملها بالمحطة وتفطر معهم أي ً‬
‫شهرة‪..‬‬

‫خالف سيحدث بعد‬


‫ٌ‬ ‫كانت في طريقها لمكتب عمها حين أستوقفتها شيرين‪ ،‬أتجهت نحوها وهي تتوقع بأن هناك‬
‫قليل‪ ..‬أصبحت تحفظ تلك القاعدة‪ ..‬أبتسامة شيرين لها تعني أنها ستساومها على شيء ال ترغبه ماريان‪..‬‬

‫بدت شيرين وكأنها تكسب رضاها‪..‬‬

‫‪‬مبدئيا‪ ..‬أنا أتفقت مع عمك على حل وسطي بيننا وال ِ‬


‫أظنك سترفضين هذه المرة‪..‬‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬
‫أرتسمت على وجه ماريان تعبيرات السخرية المختلط بالقلق‪..‬‬

‫‪‬أنا أسمع‪..‬‬
‫أنك تعملين معي لكنني أتفقت مع ِ‬
‫عمك أنني سأغير مواعيد برنامجي حسب‬ ‫‪‬حسنًا‪ ..‬أنا مازلت مصرة على ِ‬
‫ُ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ما ستنفردين فيه بمعلومات مهمة أو تغطية ألحداث هامة‪..‬‬

‫فكرت ماريان لثواني ثم أبتسمت ومدت يدها لشيرين‪..‬‬

‫‪‬يبدو أننا أتفقنا أخيرا‪ ،‬أعترف ِ‬


‫بأنك خالفتي ظني هذه المرة‪..‬‬ ‫ً‬

‫‪45‬‬
‫عِ ضين‬
‫مجددا‪..‬‬
‫ً‬ ‫وهمت ماريان بتركها لكن شيرين أستوقفتها‬
‫تصافحتا ّ‬

‫‪ ‬يمكننا العمل من اآلن يا ماريان‪..‬‬

‫لم تفهم ماريان ماذا تقصد‪..‬‬

‫‪‬حسنًا يا شيرين‪ ..‬عندما يكون هناك خبر حصري سأتصل ِ‬


‫بك قبلها‪..‬‬ ‫ٌ‬
‫خبر حصري اآلن‪ ،‬نريد أن يكون لنا السبق‪..‬‬
‫‪‬أظن أن علينا تقديم ٌ‬
‫قطبت ماريان حاجبيها في عدم فهم‪..‬‬

‫‪‬ماذا تقصدين ؟!‬

‫أبتسمت شيرين بذكاء ‪..‬‬

‫مثال‪ ..‬العالم كله ينتظر فض األعتصام وال أحد يعلم ميعاده بالضبط‪ ،‬ماذا لو‬
‫‪‬معلومة ميعاد فض األعتصام ً‬
‫أوال ؟!‬
‫أعلناه نحن ً‬
‫التفتت ماريان حولها بتعجب‪ ،‬التفتت إليها‪..‬‬

‫‪‬شيرين‪ ..‬أتعي ما تقولينه ؟!‪ ،‬أم ِ‬


‫أنك تمزحين ؟!‬

‫سخرت ماريان من طلبها ‪...‬‬

‫تك بميعاد فض األعتصام وقمتي بأعالن هذا في بر ِ‬


‫نامجك ستقوم القوات المسلحة بتغيير هذا الميعاد‬ ‫‪‬أذا أخبر ِ‬
‫سرا أئتمنني به أحدهم‪..‬‬ ‫ِ‬
‫بالطبع‪ ،‬هذا بالطبع خالف أنني لن أفشي ً‬
‫قالت جملتها األخيرة والتفتت لتترك شيرين لوحدها‪ ،‬صاحت شيرين غضبًا في ماريان‪ ..‬أرتفع صوتها حتى أن‬
‫الجميع التفت إليهن ‪...‬‬

‫منك فقط ألجل ِ‬


‫عمك لكن اآلن لن أضع أح ًدا‬ ‫تحملت الكثير ِ‬
‫ُ‬ ‫‪‬أسمعي يا ماريان‪ ..‬لقد حذر ِ‬
‫تك ساب ًقا‪ ،‬لقد‬
‫تسع لكالنا يا ماريان‪..‬‬
‫في األعتبار‪ ..‬أحدانا فقط هي من ستبقى هنا‪ ،‬هذه المحطة لن َ‬

‫‪46‬‬
‫عِ ضين‬
‫أسرعت شيرين تجاه مكتب ثروت – عم ماريان – وسط ذهول من الجميع وسخط من شيرين في نفس الوقت‪..‬‬
‫تمنى الجميع حينها لو يحدث ما تتكلم عنه شيرين وأحداهن تترك المحطة‪ ..‬الجميع يؤيد فكرة خروج شيرين‬
‫ٍ‬
‫أستئذان حتى بادرت‬ ‫بالطبع واألبقاء على ماريان‪ ،‬تبعتها ماريان بغضب لمكتب عمها‪ ،‬وما أن دخلتا كلتاهما دون‬
‫شيرين بتوجيه صب غضبها على ثروت ‪..‬‬

‫‪‬أسمعني جي ًدا يا ثروت‪ ..‬لقد تحملت أبنة أخيك تلك من أجلك لكن حان الوقت ألن تترك أحدانا هذه‬
‫القناة‪ ،‬وأنا ُمصرة على أن تختار بيننا اآلن‪ ..‬إما أنا أو هي في المحطة ‪!..‬‬

‫ألجمه لسانه ولم ينطق‪ ..‬ماذا حدث لتتدهور عالقتهن ببعضهن لهذه الدرجة ؟!‪ ،‬حاول أن يقوم بتهدئة األجواء‬
‫لكن رد ماريان السريع والغاضب منعه من ذلك‪..‬‬

‫أصال‪ ..‬أنا من يجب أن تترك القناة وتبقى شيرين أشهر أعالمية في مصر‬
‫‪‬ال‪ ..‬ال تضعي عمي في هذه المعادلة ً‬
‫والشرق األوسط والتي تمتلك أكثر من نصف أسهم تلك القناة بالمشاركة مع عمي‪ ،‬لكن ال تندمي يا شيرين‬
‫عندما أخرج ببيان أستقالتي من هذه القناة أوضح فيه سبب خروجي من هنا‪..‬‬

‫أطلقت شيرين ضحكةً ساخرة‪..‬‬

‫بأنك ال تريدين أخباري بميعاد فض األعتصام ؟!‪ ،‬كنت أظن ِ‬


‫أنك أذكى من ذلك‪..‬‬ ‫‪‬هل ستقولين في بيانِك ِ‬

‫التفتت لثروت وهي تشير لماريان‪..‬‬

‫‪ ‬تريد أن تخبر الجميع بأنها تعلم ميعاد فض األعتصام‪ ..‬عليك أن تقنعها بخطورة ذلك‪..‬‬

‫مجددا‪..‬‬
‫ً‬ ‫التفتت إليها‬

‫ِ‬
‫وشأنك هكذا وأنتي تعلمين ذلك‪ ..‬أو أن القوات المسلحة‬ ‫‪‬هذا على أساس أن تلك الجماعات ستتر ِ‬
‫كك‬
‫أصال ‪..‬‬ ‫ستسمح ِ‬
‫لك بذلك ً‬
‫أرتسمت على وجه ماريان أبتسامة ساخرة‪ ،‬ردت عليها بهدوء ‪...‬‬

‫‪47‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪‬يبدو ِ‬
‫أنك محقة‪ ..‬لقد فاتني هذا األمر‪ ..‬لكن ما ال أعلمه هو كيف وصلتي لهذه الشهرة وأنتي بهذا الغباء‪..‬‬
‫أنك كنتي تريدين معرفة معلومة بسيطة مثل ميعاد فض األعتصام وتهملين الحدث‬ ‫سأغادر اآلن المحطة بسبب ِ‬
‫أصال‪..‬‬
‫أصال‪ ،‬لن تكون معلومة ميعاد فض األعتصام مهمة عندما تقوم قوات األمن بذلك ً‬
‫نفسه ً‬
‫قالت ماريان بلهجة تهديد‪..‬‬

‫‪‬سأكون أنا حينها في قناةٌ أخرى أنقل تغطية ما يحدث من فض األعتصام بينما أنتي تتفاجئين بأن فض‬
‫األعتصام قد بدأ ‪!..‬‬

‫مجددا‪..‬‬
‫ً‬ ‫همت بالخروج لكنها التفت إليها‬
‫ّ‬
‫‪‬سأغادر المحطة لكنني على ثقة ِ‬
‫بأنك ستندمين على ذلك وتطالبين برجوعي‪ ،‬واأليام بيننا ‪!..‬‬

‫أسرعت بالخروج من القناة دون أن يوقفها أحد لتهدئتها‪ ..‬حاول عمها أن يوقفها لكنها كانت غاضبة كفاية ألن ال‬
‫تستمر في هذه المهزلة‪ ،‬يبدو أن لكل قاعدةً أستثناء عدا القاعدة التي تقول أنها عندما تقوم شيرين باألبتسامة في‬
‫وجه ماريان فإنه غالبًا ما سينتهي حوارهم بشجا ٍر عنيف ‪!..‬‬

‫‪48‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-00-‬‬

‫مر األسبوع األخير من شهر رمضان كسابقه منذ بداية الشهر المبارك‪ ..‬شهر رمضان هذه السنة لم يكن بالجمال‬
‫المعتاد ككل سنة‪ ،‬فاألحداث السياسية في البالد كانت كفيلة ببعث التوتر والقلق والترقب في كل أسرة‪ ،‬هناك من‬
‫المرتقب‪..‬‬
‫كان ينتظر بفارغ الصبر فض األعتصام‪ ،‬هناك من كان يخشى ذلك اليوم ُ‬

‫كان الشيخ محسن ممن كانوا يخشون ذلك اليوم‪ ،‬يجهل مصير أبنه‪ ..‬يتابع األخبار أول بأول وكل حين‪ ..‬ال‬
‫يعرف ماذا ينتظر‪ ..‬هل ينتظر أن يرد أسمه في قوائم اللذين تم أعتقالهم بتهمة التحريض لألعتصام ؟!‪ ،‬أم ينتظر‬
‫مثال ؟!‪ ،‬أم أنه يُريح بال والديه ويرجع قبل فوات األوان ‪!..‬‬
‫فض األعتصام ويجده في قوائم الوفيات ً‬

‫كان عمر كعادته يسهر كل يوم ويتصفح مواقع األخبار‪ ..‬هو اآلخر لم يكن ليعرف عن ماذا يبحث‪ ..‬هل يتوقع أن‬
‫مثال ميعاد فض األعتصام ؟! أم أن األمور ستكون ِ‬
‫مفاجئة ؟!‪ ،‬أنتفض عمر عندما وجد أول أخبار‬ ‫يعلن أحدهم ً‬
‫تلك الليلة‪ " ..‬أشتباكات بين الشرطة ومعتصمي ميدان النهضة بالقرب من جامعة القاهرة‪ ،" ..‬األخبار تنتشر‬
‫ٍ‬
‫طرقات سريعة منه على الباب جعلتهم‬ ‫بسرعة في المواقع واألحداث تتسارع‪ ،!..‬أسرع عمر بأتجاه غرفة والديه‪..‬‬
‫يتوقعون ما يحدث‪ ،‬فتح والده الباب والقلق باديًا عليه‪..‬‬

‫‪‬عمر‪ ..‬ماذا ‪...‬‬

‫قطع عمر سؤاله هذا‪..‬‬

‫‪‬أبي‪ ..‬لقد بدأوا بعملية الفض ‪!..‬‬

‫ضا‪..‬‬ ‫تسمرت األسرة كلها أمام التلفاز في ٍ‬


‫قلق متزايد‪ ،‬بينما ظل عمر يتابع األخبار من األنترنت ومن التلفاز أي ً‬
‫ٍ‬
‫أصابات حدثت في‬ ‫أحداث ميدان النهضة لم تُلقي أهميةً كبرى بسبب سرعة فض المعتصمين هناك‪ ،‬هناك‬
‫صفوف الشرطة لكن ال أخبار عن أصابات أو وفيات في صفوف المعتصمين‪ ..‬لمتى سيظلون كذلك في هذا‬
‫التوتر ؟!‬

‫ٍ‬
‫لحظات وقد بدأت معركة ميدان رابعة‪..‬‬
‫‪49‬‬
‫عِ ضين‬
‫" كانت ماريان وسط المعركة مختبئة في أحدى البنايات ترتدي الزي المضاد للرصاص وحامية الرأس المصفحة‪..‬‬
‫لم تكن تريد تفويت هذه التغطية بالذات ‪ ...‬في الخارج من ورائها تحركات قوات الشرطة وكذلك الدخان‬
‫مفتوحا لبرنامجها لتغطية تلك األحداث الهامة‪..‬‬
‫ً‬ ‫المتصاعد‪ ،‬وبالطبع شيرين خصصت لهذا الحدث وقتًا‬

‫‪‬ماريان‪ ..‬ما اخر المستجدات ِ‬


‫عندك ؟!‬

‫ردت ماريان وهي تحاول سماع شيرين بوضوح‪..‬‬

‫‪ ‬حقيقة األمر يا شيرين األمور هنا تبدو معقدة عكس ما حدث في ميدان النهضة‪ ،‬كما ترين ما يحدث في‬
‫الخارج‪ ..‬هناك طلقات نا ٍر متبادلة بين الطرفين‪ ..‬الشرطة تُلقي القنابل المسيلة للدموع‪ ..‬هناك عدد من الحرائق‬
‫ٍ‬
‫معلومات دقيقة حتى اآلن بشأن الوفيات أو األصابات‪..‬‬ ‫والدخان المتصاعد‪ ،‬لكن ليس لدي‬

‫‪‬لماذا لم يكن قرار الفض هنا في ميدان رابعة مفاجئًا كما حدث في ميدان النهضة ؟!‬

‫أنتظرت ماريان لثواني ليصلها صوت شيرين بوضوح‪..‬‬

‫‪ ‬بالطبع وصلتهم أخبار فض أعتصام النهضة لذلك كانوا مستعدون هنا عندما وصلنا برفقة قوات األمن‪ ،‬أول ما‬
‫قامت به قوات األمن هنا هو أطالق التحذيرات بفض األعتصام سلميًا عبر مكبرات الصوت وأخبرت الجميع بأن‬
‫سالما وكذلك دعت المعتصمين المسلحين لتسليم أسلحتهم بهدوء‬ ‫ٍ‬
‫هناك ممرات آمنة لخروج من أراد الخروج ً‬
‫‪" ...‬‬

‫لم يكن هناك أح ًدا ليصف شعور أسرة أدهم حينها‪ ..‬بدا األمر مخي ًفا بالنسبة لهم‪ ..‬تحذيرات وطرقات آمنة‬
‫جميعا‪ ..‬هل قُتل‬ ‫ٍ‬
‫ودخان متصاعد وحرائق وأطالق نار وقنابل مسيلة للدموع‪ ..‬تضاربت األحتماالت في أذهانهم ً‬
‫أدهم ؟! أم أُعتقل ؟!‪ ،‬أم أنه يُقاتل ضد قوات الشرطة ؟!‪ ،‬األحتمال األخير هذا بالذات نتائجه وخيمة‪ ..‬لو واجه‬
‫سوءا ووالدة عمر بدأت تنتابها‬
‫الشرطة بسالح ستكون نهايته إما القتل أو األعتقال لو بقي حيًا‪ ،‬األمور تزداد ً‬
‫نوبات المرض السكري‪ ..‬الحيرة والخوف والقلق يسيطرون على األسرة بكاملها‪..‬‬

‫مر ٍ‬
‫يومان آخران لم تُغلق فيهما أجفان الجميع‪ ..‬كيف تغفو أعينهم وهم ال يعلمون شيء عن أدهم على الرغم من‬
‫أن عملية فض األعتصامين قد أنتهت رسميًا‪ ،‬لم يعد الشيخ محسن يتحمل كل هذا الضغط‪ ..‬لقد عزم على‬

‫‪51‬‬
‫عِ ضين‬
‫السفر للقاهرة والبحث عن أدهم‪ ..‬سيبدأ بالشركة التي يعمل بها أو التي كان يعمل بها لو شارك في هذا‬
‫األعتصام‪ ..‬أن لم يجده هناك وهذا هو المتوقع سيبحث عنه في أقسام الشرطة والمستشفيات‪ ،‬أقترح عمر السفر‬
‫معه لكنه رفض ليرعى والدته في غيابه‬

‫أسرع الشيخ محسن لمحطة القطار وسأل عن أقرب قطار متوجه للقاهرة‪ ..‬ركب القطار بعد وصوله وبعدما جلس‬
‫رقم مجهول‪ ..‬لم يعيره أي أهتمام‪ ،‬رن هاتفه مرًة أخرى بنفس هذا الرقم المجهول‪،‬‬
‫في أحدى مقاعده رن هاتفه‪ٌ ..‬‬
‫رد على الهاتف هذه المرة‪ ..‬أتسعت عيناه وأزدادت ضربات قلبه‪ ..‬أنه أدهم‪..‬‬

‫‪‬أدهم‪ ..‬؟!‪ ،‬أين أنت‪ ..‬؟!‪ ،‬لقد أتصلت بك ‪...‬‬

‫سكت للحظات ليستمع ألدهم الذي قاطع سؤاله‪ ،‬قام الشيخ محسن من مكانه بسرعة ونزل من القطار قبل‬
‫تحركه بسرعة ليغادر المحطة‪ ،‬خرج من المحطة وأشار لسيارة أجرة وركبها ولم يسافر‪..‬‬

‫متوقعا لكنه توقع في البداية أن يسأله عن مستجدات بخصوص‬


‫أتصاال من والده‪ ..‬كان التوقيت غير ً‬
‫ً‬ ‫تلقى عمر‬
‫أدهم‪ ،‬لكنه فوجئ بأنه أتصل به ليطمئنه هو ووالدته بأنه لم يسافر وسيرجع البيت ومعه أدهم‪ ،‬لم تصدق والدته‬
‫الخبر‪ ..‬سألته بلهفة‪..‬‬

‫‪‬حقا‪ ..‬؟!‪ ،‬هل رجع أدهم معه‪ ..‬؟! ألم يخبرك كيف حاله ؟!‬

‫رد عليها عمر ليطمئنها‪..‬‬

‫‪‬و اهلل هو بخير‪ ..‬على األقل هذا ما أخبرني به أبي‪ ،‬لقد أتصل به أدهم قبل سفر والدي بدقائق وأخبره أنه هنا‬
‫في سوهاج وأخبرني بأنه سيأتي لهنا في خالل ساعة‪..‬‬

‫مازال القلق باديًا عليها‪ ،‬أربت عمر على كتفيها‪..‬‬

‫‪‬أمي‪ ..‬علينا أن نشكر اهلل على رجوع أدهم بالسالمة‪ ،‬كنا نتوقع كارثة ولكنه الحمد هلل رجع بالسالمة‪ ،‬لم يُرد‬
‫اهلل أن يُحملنا ما ال طاقة لنا به ‪!..‬‬

‫رفعت والدته عينيها للسماء شاكرةً ربها‪ ،‬بعد دقائق الحظت أن عمر يتجهز للخروج‪ ..‬سألته في دهشة‪..‬‬

‫‪51‬‬
‫عِ ضين‬
‫ذاهب ؟!‬
‫ٌ‬ ‫‪‬عمر‪ ..‬إلى أين أنت‬

‫كان يدرك ما يفعله لذلك كان يتوقع سؤال والدته هذا‪..‬‬

‫سوءا‪..‬‬
‫‪‬سأخرج يا أمي‪ ،‬وجودي هنا عندما يرجع أبي ومعه أدهم سيزيد األمور ً‬
‫أدركت والدته ما يرمي إليه هو‪ ،‬وجود عمر أثناء معاقبة والده ألدهم سيزيد هذا من سوء العالقة بين ولديها‪..‬‬

‫ٍ‬
‫ضروري كذلك يا بني‪..‬‬ ‫‪‬لكنني ال أعلم كيف أتعامل أنا مع ما سيحدث يا عمر‪ ..‬وجودك‬

‫رد عليها عمر‪..‬‬

‫صغيرا كي يُعاقب بشيء غير التوبيخ يا أمي‪..‬‬


‫ً‬ ‫‪‬أقصى ما سيحدث هو توبيخ أبي ألدهم فقط‪ ،..‬أدهم ليس‬
‫وجودي اآلن أثناء توبيخه سيزيد األحتقان بيننا‪ ،‬سيظن بأنني أتشمت فيه وأنني مسرور بمعاقبته‪..‬‬

‫وهم بالخروج ‪..‬‬


‫فتح الباب ّ‬

‫متأخرا حالما ينتهي كل هذا الجدل‪..‬‬


‫ً‬ ‫‪‬سأرجع‬

‫خرج عمر وترك والدته وقد أزداد قلقها بمرور كل ثانية‪ ،‬تتوافد لرأسها أحتماالت كثيرة ‪!..‬‬

‫************‬

‫خصوصا بعد ما حدث‬


‫ً‬ ‫ثقيال عليها في أنتظار أبنها الغائب عنها قُرابة الشهرين‪ ..‬تساءلت كيف حاله‬
‫مر الوقت ً‬
‫؟!‪ ،‬كيف سيتعامل معه والده ؟!‪ ،‬تخشى ما هو ٍ‬
‫آت‪ ..‬الدقائق تعاندها وال تمر‪ ..‬يزداد أنقباض قلبها من القلق‪،‬‬
‫أخيرا‪ ،‬أسرعت نحوه لتحتضنه وتستقبله بحفاوة‪ ،‬كان‬‫دقائق ورجع الشيخ محسن ومعه أدهم‪ ..‬لقد عاد أبنها ً‬
‫منظره غريبًا‪ ..‬تبدو مالبسه بالية‪ ،‬تلك الجروح التي في وجهه‪ ،‬لحيته التي تطاولت زياد ًة عن حدها الطبيعي‪..‬‬
‫كيف أنه لم يعتني بنفسه طوال الفترة الماضية ؟‪ ،‬تمتمت بكلمات غير مفهومة وهي تحتضنه‪ ،‬تبلل كتف أدهم‬
‫بدموع والدته‪..‬‬

‫‪52‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪‬أدهم حبيبي‪ ..‬كيف حالك ؟! أين كنت ؟!‪ ،‬كنت سأموت عليك قل ًقا‪..‬‬

‫لم تُكمل ترحيبها بأبنها حتى دفعه والده بأتجاه غرفته والغضب باديًا عليه‪ ،‬حينها عرفت والدته أنه حان وقت‬
‫كثيرا اللحظات القادمة‪ ،‬دخل أدهم غرفته وتبعه والده‪ ..‬كادت والدته تدخل معهم لكن زوجها‬
‫الحساب‪ ..‬تخشى ً‬
‫تقف على الباب وتتنصت عليهما‪،‬‬
‫منعها من الدخول وأغلق الباب وأوصده من الداخل‪ ،‬أما هي فأكتفت فقط بأن ُ‬
‫بدأت أصواتهم ترتفع تدريجيًا‪ ..‬تتمنى لو تكون مجرد مشادة كالمية فقط ‪!..‬‬

‫ٍ‬
‫لحظات طويلة مرت عليها وهي تطرق الباب كلما أرتفعت أصواتهم خوفًا من حدوث كارث ًة ما بالداخل‪ ..‬فُتح‬ ‫بعد‬
‫أخيرا وخرج الشيخ محسن ووجهه يبدو شاحبًا‪ ..‬أستند على الحائط وهو متوجهٌ لغرفته‪ ،‬دخلت والدة أدهم‬
‫الباب ً‬
‫غرفته‪ ..‬حاولت أن تتكلم معه لكنه لم يستجيب لها‪ ،‬خطر ببالها فجأة كيف كان حال زوجها عندما خرج من‬
‫الغرفة‪ ..‬كان وجهه شاحبًا‪ ،‬أسرعت لغرفتها لتطمئن عليه‪..‬‬

‫في نفس الوقت كان عمر في طريقه للرجوع للبيت وحيث أن بمجرد أنتصاف الليل تبدأ الكالب سهرتها في‬
‫الشوارع‪ ،‬أندهش عمر لعددهم‪..‬‬

‫‪‬يا ألهي‪ ..‬كل كالب المنطقة تجمعوا هنا ؟!‬

‫مصدوما وساخطًا‪..‬‬
‫ً‬ ‫وقف‬

‫علي أن أفعل اآلن ؟!‪ ،‬هذا ما جنيناه من أفعالك يا أدهم‪ ..‬أتجنب أحراجك أمامي بسبب أفعالك تلك‬
‫‪‬ماذا ّ‬
‫ثم أجد أسراب الكالب هذه أمامي ‪!..‬‬

‫مثال لدقيقةً واحدة ثم يستأنفون سهرتهم‪،‬‬


‫وقف على رأس منطقته ينتظر حدوث معجزة‪ ..‬تغادر هذه الكالب ً‬
‫فعال ورأى سيارة ما قادمة من بعيد‪ ..‬أشار إليها وأستأذن سائقها للركوب معه ليوصله على رأس‬
‫حدثت معجزةً ً‬
‫مسرعا من الطابق الثاني للبيت‬
‫ً‬ ‫أخيرا لكنه شعر بوجود حركةً غير عادية‪ ،‬وجد أدهم ينزل‬
‫شارعه‪ ،‬وصل لبيته ً‬
‫وعندما رآه أدهم سأله في غضب‪..‬‬

‫‪‬أين كنت حتى هذا الوقت ؟! ألم تتعلم كيف تتحمل المسؤولية أب ًدا ؟!‬

‫‪53‬‬
‫عِ ضين‬
‫رد عليه عمر بتلعثم ليتجنب غضبه ‪..‬‬

‫‪‬كنت في‪..‬‬

‫قاطعه أدهم ‪...‬‬

‫حاال‪..‬‬
‫‪‬ليس لدينا وقت لنسمع تفاهاتك تلك‪ ،‬أتبعني بسرعة لتساعدني في حمل أبيك للمستشفى ً‬
‫تبعه عمر بسرعة دون أن يفهم ماذا حدث‪ ،‬بدأ يتدارك األمر عندما وجد والده فاق ًدا للوعي تقريبًا وتحاول والدته‬
‫جميعا للمستشفى‬
‫مساعدة أدهم في حمله‪ ،‬أسرع هو ليساعد أدهم في حمل أبيه لسيارة أدهم‪ ،‬بعد دقائق وصلوا ً‬
‫وتم حجزه في غرفة العناية المركزة‪..‬‬

‫كان أدهم يتكلم مع موظفوا األستقبال عندما كان عمر يستفسر من والدته عما حدث في غيابه‪..‬‬

‫‪‬لكن كيف حدث هذا يا أمي ؟!‬


‫ٍ‬
‫بصوت يشوبه البكاء ورأسها بين كفيها ‪...‬‬ ‫ردت عليه‬

‫‪‬لقد تعب فجأة عندما أشتد الحوار بينهم‪ ..‬كان وجهه شاحبًا وعندما دخلت عليه الغرفة وجدته ُملقي على‬
‫إلي بكلمات غير مفهومة وكان ينصب منه‬‫سريره في حالة غير طبيعية‪ ،‬عندما سألته عن ما أذا كان بخير تمتم ّ‬
‫العرق بغزارة‪ ،‬لذلك أسرعنا به لهنا ‪!..‬‬

‫ردد في نفسه أنه لم يتخيل أن األمر يصل لهذا الحد‪ ،‬أقترب إليهم أدهم فسألته عن حال والده‪..‬‬

‫‪‬بماذا أخبرك الطبيب يا أدهم ؟! هل والدك بخير ؟!‬

‫تردد أدهم في أخبارهم‪ ،‬حاول تجنب النظر في أعينهم مباشرةً‪..‬‬

‫‪‬لقد أُصيب بنوبةً قلبية‪ ..‬واآلن هو أفضل على كل حال‪..‬‬

‫قليال‪..‬‬
‫سالت الدموع فجأة من عينيها‪ ،‬حاول أن يُصحح األمر ً‬

‫‪‬ال تقلقي لقد تم حجزه في غرفة العناية المركزة وهو بخي ٍر اآلن‪ ..‬يحتاج للراحة فقط‪..‬‬

‫‪54‬‬
‫عِ ضين‬
‫بنوبة غضب قامت والدته بتوبيخه‪..‬‬

‫‪‬أنت السبب يا أدهم‪ ..‬أنت السبب‪ ..‬لماذا فعلت هذا ؟!‪ ،‬لماذا يا أدهم ؟! لماذا ؟!‬

‫ضا‪ ..‬أبتعد عنهم قدر المستطاع‬


‫لم ينطق أدهم بكلمة ولم يتحمل عتاب والدته له ولم يتحمل نظرات عمر له أي ً‬
‫وجلس بأحد المقاعد بعيد ًة عنهم‪..‬‬

‫‪55‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-08-‬‬

‫عمر وآسية‪..‬‬

‫بالرغم كل تلك األحداث التي عصفت به في أجازته هذه إال أنه لم يخلو عقله من التفكير بآسية‪ ..‬تلك الفتاة‬
‫التي دخلت قلبه دون سابق إنذار‪ ،‬تأتيه في أحالمه فيعشق النوم ليراها‪ ،‬عيناه لم تكن تراها لكن عقله يتذكرها‬
‫بكل تفاصيلها‪ ،‬تأكد أنها لم تكن سحابة عاطفية‪ ..‬لقد أحبها بصدق‪ ،‬مرت األجازة بحلوها ومرها‪ ..‬بأحداثها‬
‫كال منهما يأمل بأن اآلخر مازال على وعده الذي لم يقطعه مع‬
‫مجددا‪ ..‬ألتقيا و ً‬
‫ً‬ ‫ضا ثم ألتقيا‬
‫المثيرة والمملة أي ً‬
‫اآلخر‪ ..‬كالهما يأمل بأن ما سبق لم تكن مجرد دعابة أو سحابة ورحلت‪ ..‬ألتقيا ومن أول نظرة عرف كالهما‬
‫معا ‪..‬كالهما سيخوضا حربًا ضد بعضهما لكنها ليست مدمرة‪ ،..‬بل بالعكس تلك‬
‫أنهما سيخوضان غمار الحياة ً‬
‫الحرب ستكون رائعة ‪!..‬‬

‫معا‪ ..‬كالهما لم يرى سوى‬ ‫كال منهما ينتظر الوقت والزمن الذي سيجمعهما ً‬
‫مرت سنةً أخرى وحدث ما جعل ً‬
‫اآلخر فقط‪ ،‬سنةً مرت وقد أدرك الجميع عالقة عمر بآسية‪ ،‬مرت سنة وكل أصدقائهم ينتظرون العالقة الرسمية‬
‫ثنائي رائع‪ ..‬يشبهان بعضهما ويكمالن بعضهما كذلك‪ ..‬كان لسان حال الجميع‪..‬‬
‫في السنة األخيرة‪ ..‬سيكونان ٌ‬
‫" الطيور على أشكالها تقع " ‪..‬‬

‫أحمد وأماني ‪...‬‬

‫كالهما كان طرفي نزاع‪ ..‬طرفي معركة‪ ،‬كالهما كانا يساندان صديقيهما‪ ،..‬أماني تجعل صديقتها صلبة‪ ..‬ليست‬
‫ضا هو ال يجعل صديقه لقمةً سائغة‬
‫لقمة سائغة‪ ..‬ليست سهلة المنال‪ ،‬أحمد يُفشل كل مخططات صديقتها‪ ..‬أي ً‬
‫لصديقتها أو لها لتفترسه‪..‬‬

‫لكن يبدو أن العشق قد أصاب الجميع‪ ..‬لقد أعجبته شخصية أماني‪ ..‬ليست مثل أي فتاة عرفها أو تعامل معها‪..‬‬
‫أخيرا‪ ..‬كانت تحاول أن تحمي صديقتها من عمر إال أنها سقطت هي األخرى في‬
‫أما هي‪ ..‬فآن لقلبها أن يلين ً‬

‫‪56‬‬
‫عِ ضين‬
‫مصيدة الحب‪ ،‬كانت عالقتهما أسرع من عالقة صديقيهما ببعض‪ ..‬مرت السنة الثالثة من الجامعة وها هما‬
‫أصبحا ثنائي آخر‪..‬‬

‫ماريان ‪...‬‬

‫مازال تفوقها وذكائها يطغيان عليها‪ ،‬تواصل نجاحاتها تاركةً الجميع خلفها وتسبقهم بسنين ضوئية‪ ..‬تواصل‬
‫شهرتها ومغامراتها‪ ،‬تجاوزت خالفاتها مع شيرين وعادت للقناة مرةً أخرى بعد أقناع عمها لها برجوعها‪..‬‬

‫مرت سنةً دراسية أخرى كانت فيه هي كالعادة‪ ..‬األولى ! ‪ ،‬الجميع يعرف أنها ستتخلى عن تعيينها في الجامعة‬
‫دائما وأينما كان ‪!..‬‬
‫كونها تحتل المرتبة األولى‪ ..‬هي تعشق العمل الميداني‪ ..‬المغامرة والمجازفة‪ ..‬تطارد النجاح ً‬

‫‪-03-‬‬

‫مر النصف األول من العام الدراسي األخير سر ًيعا وها هي األجازة األخيرة قد أتت‪ ،‬لقد حان وقت التفكير بجدية‬
‫كثيرا‪..‬‬ ‫ٍ‬
‫بشأن أتخاذ خطوةً أيجابية خاصةً أنه لم يتبقى سوى نصف عام دراس ٍي أخير‪ ،‬بعدها ستصعب األمور ً‬

‫هي تنتظر أن يخبرها بخطوته التالية‪ ،‬وهو يخشى مواجهتها‪ ..‬تمر عليه أوقات ويظن أن ما مضى كان مجرد‬
‫صداقة برئية وال تتعدى ذلك‪ ..‬تتسارع األيام أمامه والوقت ينفذ وال مجال للتأجيل أكثر‪ ،‬لقد مضى أسبوع على‬
‫فورا ‪!..‬‬
‫بداية النصف الدراسي األخير‪ ،‬البد من التخلص من خجله وأتمام الخطوة األولى ليتبعها بالثانية ً‬

‫كان عمر وأحمد يجلسان على المقهى وبعد أنتهاء مباراة كانوا يشاهدونها‪ ..‬أتفقا على أتمام الخطوة األولى في‬
‫خالل يومين‪ ..‬أن يخبر عمر والديه باألمر‪..‬‬

‫عاد عمر للبيت وهو يفكر في خطوته األولى‪ ..‬كيف ينفذها بدقة ؟!‪ ،‬كيف يقنع والديه بمسألة أرتباطه بها رغم أن‬
‫الدراسة لم تنتهي بعد ‪!..‬‬

‫جالسا في غرفته غارقًا في تفكي ٍر عميق‪ ،‬هذا الشرود جعله ال يشعر بأن والدته قد طرقت الباب ودخلت‪ ،‬فجأة‬
‫ً‬
‫وجدها تجلس أمامه وتحدق في عينيه بسخرية وكأنها تعرف فيما يفكر‪ ،‬باغتته بسؤال‪..‬‬

‫‪57‬‬
‫عِ ضين‬
‫ضا ؟ !‬
‫‪‬أهي معك في نفس الصف أي ً‬

‫أتسعت عيناه عندما سألته‪ ،‬فاجأه سؤالها هذا‪ ،‬وعندما رأت هي عالمات التعجب قد ُرسمت على وجه عمر‬
‫تأكدت أنها معه في نفس الصف‪ ،‬أعتدلت في جلستها‪..‬‬

‫‪‬حسنًا‪ ..‬ما أسمها ؟!‬

‫ضا‪ ،‬تلك اللحظة التي كان ينتظرها عمر ويخطط لها‪ ،‬أن‬
‫يبدو أن األمور تسري على ما يرام وعلى غير المتوقع أي ً‬
‫يُحادث والدته عنها‪ ،‬عمل على أستغالل هذا‪..‬‬

‫‪‬أسمها آسية‪..‬‬

‫أبتسمت والدته بسبب أعجابها باألسم ‪..‬‬

‫جميل ج ًدا هذا األسم‪ ،‬يبدو ُملفتًا للنظر‪..‬‬


‫ٌ‬ ‫‪‬آسية ؟!‪،‬‬

‫سكتت للحظة ثم أردفت‪..‬‬

‫‪‬جميلة ؟!‬

‫‪‬بالنسبة لي هي أجمل خلق اهلل‪..‬‬

‫تماما بأن‬
‫أمورا أهم بكثير من جمال الشكل فقط‪ ..‬أثق ً‬
‫‪‬دعني أخبرك أن الجمال ليس كل شيء‪ ،‬هناك ً‬
‫أختيارك هذا بعي ًدا عن الجمال الشكلي فقط‪..‬‬

‫‪‬أعلم ذلك يا أمي‪ ،‬لو كان أختيار الفتاة لجمالها لكان الرجل يتزوج كل يوم فتاة أجمل من تلك التي قبلها ‪..‬‬

‫‪‬لهذا أنا أثق بأختيارك جي ًدا‪ ،‬واآلن أخبرني‪ ..‬هل أخبرت والدك ؟!‬

‫سكت عمر للحظة ثم رد عليها بأمتنان‪..‬‬

‫‪58‬‬
‫عِ ضين‬
‫تماما مع‬
‫‪‬ال‪ ..‬لم أخبر ال أبي وال أدهم‪ ..‬أنتي أول من يعلم بهذا‪ ،‬تلك الثقة التي تمنحيني أياها أفتقدها ً‬
‫والدي أو أدهم ‪!..‬‬

‫ساد الصمت بينهما للحظات‪..‬‬

‫‪‬مستعد لألرتباط بها ؟!‬

‫تهلل وجه عمر فجأة ورد عليها بكل ثقة‪..‬‬

‫‪‬بالتأكيد‪ ..‬بالتأكيد أريد وإال لم أكن ألتحدث عنها أمامك‪ ..‬أنها أجمل مما تتخيلين‪ ،..‬لقد عرفت الكثير‬
‫عنها‪..‬‬

‫خفض رأسه في خجل‪ ،‬ثم أكمل‪..‬‬

‫عدال أن تكون هي لغيري يا أمي ‪!..‬‬


‫‪‬ليس ً‬

‫رفعت والدته حاجبها األيمن ناظرةً له بتهكم وسخرية‪ ،‬ضحك هو بسبب نظرة والدته التهكمية‪ ،‬أكملت هي‬
‫كالمها‪..‬‬

‫مثال‪ ،! ..‬شعرت بها في فترة الخطوبة فقط ثم عاملني والدك بعدها كأحد أصدقائه‪..‬‬
‫‪‬هذه الرومانسية ً‬

‫ضحك عمر‪ ،‬أكملت هي لتختم كالمها معه‪..‬‬

‫حاال ‪..‬‬
‫علي الذهاب لتحضير العشاء ً‬
‫‪‬حسنًا‪ ..‬سأتكلم مع والدك بخصوص هذا‪ّ ،‬‬
‫فرح عمر بأقتراح والدته وأحتضنها بشدة قبل أن تتركه وتغادر غرفته‪ ،‬لقد كان األمر أسهل مما تخيّل‪ ،‬اآلن حان‬
‫وقت الخطوة التالية ‪!..‬‬

‫‪59‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-04-‬‬
‫ٍ‬
‫خطوات قادمةً نحوها‪ ..‬ال تستطيع المقاومة‪ ،‬أقتربت الخطوات أكثر فأكثر ويزداد خوفها مما هو‬ ‫سمعت صوت‬
‫قادم‪ ،‬وقفت تلك األقدام أمامها وهي ُملقاة على األرض بال قوة‪ ..‬تعرف هذه األقدام جي ًدا‪ ..‬أنها شيرين‪..‬‬
‫أنحنت شيرين لتحدثها ‪..‬‬

‫‪‬هذا جزاء من يعبث معي يا ماريان ‪ ،!..‬هل كان يخيل ِ‬


‫أليك أن تسلبي مكانتي بسهولةً هكذا ؟!‬ ‫ُ‬

‫أساسا سألتها ماريان ‪..‬‬ ‫ٍ‬


‫حاولت ماريان النهوض أو الحركة لكنها لم تستطع‪ ،‬بصوت يكاد ال يظهر ً‬

‫‪‬ماذا تريدين مني أيتها الحمقاء ؟!‬

‫مررت شيرين يديها من بين القضبان التي تفصلهما لتمسح بيدها على شعر ماريان ‪..‬‬

‫‪‬ال شيء سوى أطاعتي فيما أقوله ِ‬


‫لك يا ماري‪ ..‬هل هذا صعب ؟!‬

‫تريد ماريان أن تغضب ولكنها ال تستطيع ‪..‬‬

‫‪‬في الحقيقة يا شيرين أتضح لي ِ‬


‫أنك أضعف مما كنت أتخيل‪ ،‬ال تستطيعين أنتي منافستي وليس العكس‪،‬‬
‫تغارين ألنني سلبت ِ‬
‫منك شهرتك‪..‬‬

‫أمسكتها شيرين بقوة من شعرها وشدته ‪..‬‬

‫ِ‬
‫مكانك هذا غيري أنا‪ ..‬ستبقين‬ ‫ِ‬
‫محبسك هذا‪ ..‬ال يعلم‬ ‫‪‬مازلتي كما أنتي ياماري‪ ..‬فتاةً حمقاء‪ ،‬ستظلين هنا في‬
‫هكذا بدون ٍ‬
‫طعام أو شراب إلى أن تغادرين عالمنا هذا‪ ..‬أو تعودين لرشدك‪..‬‬

‫أفلتتها ثم غادرت المكان وهي تضحك‪..‬‬

‫كانت تعاني‪ ..‬كانت تصرخ ولكن صرختها كانت مكتومة إال أن رنين هاتفها أنقذها من ذلك الكابوس‪ ..‬أطلقت‬
‫أخيرا‪ ..‬حاولت أن تهدأ وأن تستوعب األمر‪ ..‬هاتفها مازال يرن إلى أن سكت‪ ،‬جلست على‬
‫ماريان صرختها تلك ً‬

‫‪61‬‬
‫عِ ضين‬
‫ٍ‬
‫بكابوس مرعب‪..‬‬ ‫سريرها تحاول تهدئة عقلها جراء هذا المجهود الذي بذله في هذا الحلم‪ ..‬لقد كانت تحلم‬
‫كفى فقط تواجد شيرين في حلمها ‪ ، !..‬هذا كافي لتحويل حلمها لكابوس‪ ،‬رن هاتفها مرةً أخرى‪ ..‬التفتت إليه‬
‫وتناولته‪ ..‬أنه هيثم‪ ،‬توقعت أن يكون هناك حدث هام اآلن ‪..‬‬

‫‪‬صباح الخير يا هيثم‪ ..‬ماذا يحدث اآلن ؟!‬

‫أمرا آخر قد حدث والبد أن تعلمي بهذا ‪..‬‬


‫‪‬ليس شيئًا في البالد يحدث اآلن يا ماريان‪ ،‬هناك ً‬

‫مبشرا ‪..‬‬
‫راودها القلق فجأة‪ ،‬رؤية شيرين حتى لو في حلمها ليس ً‬

‫‪‬لقد أقلقتني يا هيثم‪ ،‬ماذا حدث ؟!‬

‫ٍ‬
‫لحادث مريع‪..‬‬ ‫‪‬لقد تعرض ِ‬
‫عمك‬

‫أنتفضت ماريان من مكانها ‪..‬‬

‫‪‬ماذا تقول ؟!‪ ،‬متي حدث هذا ؟!‬

‫حاال ‪..‬‬ ‫‪‬منذ ٍ‬


‫ساعة تقريبًا‪ ،‬لقد تم نقله للمستشفى ً‬

‫قامت من سريرها بسرعة وتبحث بتشتت في خزانة مالبسها عن ٍ‬


‫شيى ترتديه ‪..‬‬

‫‪‬كيف حاله اآلن ؟!‬

‫‪‬أنا في طريقي أليكي اآلن‪ ..‬سنذهب سويًا‪..‬‬

‫‪‬سأنتظرك لكن ال تتأخر‪..‬‬

‫‪‬بالتأكيد‪..‬‬

‫في غضون دقائق كانت ماريان قد وصلت المستشفى‪ ..‬لقد أخبروها أنه في غرفة العمليات‪ ،‬وما أن خرج الطبيب‬
‫حتى أسرعت إليه ‪...‬‬
‫‪61‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪‬أخبرني يا دكتور‪ ..‬كيف حاله ؟!‬

‫حاال‪..‬‬
‫رجاءا‪ ..‬هو بخير وسيتم نقله لغرفة العناية المركزة ً‬
‫‪‬ال تقلقي ً‬

‫‪‬ما مدى خطورة أصابته ؟!‬

‫عذرا‬
‫‪‬لقد دخل في غيبوبة‪ ،‬وال نعلم متى سيستفيق منها‪ً ،‬‬

‫غادر الطبيب من أمامها‪ ،‬وقفت أمام غرفته تتأمله وهو نائم‪ ..‬همست لنفسها‪..‬‬

‫رجاءا‪ ،‬ال تحسبني قويةً بما يكفي لمواجهة هذا العالم‪ ..‬أنا أستند عليك‪ ،‬أنت من قمت‬
‫‪‬عمي‪ ..‬ال تتركني ً‬
‫بتربيتي ونشأتي‪ ..‬قمت بمساندتي ودعمي‪ ،‬أرجوك يا عمي ال ترحل‪ ،‬أنا أضعف مما تتخيل بدونك‪..‬‬

‫رن هاتفها فأخرجها من تفكيرها‪ ،‬أنه هيثم مرةً أخرى‪ ..‬لقد أوصلها للمستشفى منذ قليل وذهب هو للمحطة‪..‬‬

‫‪‬مرحبًا يا هيثم‪..‬‬

‫‪‬كيف حال األستاذ ثروت اآلن ؟!‬

‫شكرا لسؤالك‪..‬‬
‫‪‬بخير‪ً ..‬‬

‫مجددا‪..‬‬
‫ً‬ ‫‪‬ال تقولي هذا‬

‫سكت للحظة ثم أردف‪..‬‬

‫‪‬متى ستأتين للمحطة ؟!‬

‫‪‬ال أعلم‪ ،‬ربما لن أتي‪ ..‬سأكون بجانب عمي هنا‪..‬‬

‫‪‬أذن لن نقوم بتغطية أحداث اليوم ؟!‬

‫ضربت بيدها على رأسها‪ ،‬لقد تذكرت أن اليوم هو أول أيام أنتخابات مجلس الشعب‪..‬‬

‫‪62‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪‬حسنًا‪ ..‬سأكون في المحطة في خالل ساعةً من اآلن‪..‬‬

‫‪‬حسنًا‪ ..‬سننتظرك ‪...‬‬

‫أغلقت المكالمة وهي تنظر لعمها بقلق‪ ،‬تتمنى لو أنه يكون بخير‪..‬‬

‫************‬

‫صباحا‪ ..‬كان الجم يع متواجد هنا وبنشاط‪ ،‬أخذت تبحث عن هيثم لكنها لم تجده‪،‬‬
‫ً‬ ‫وصلت ماريان المحطة‬
‫ناداتها أحداهن ‪..‬‬

‫‪‬ماري‪ ..‬صباح الخير‪..‬‬

‫‪‬صباح الخير ‪..‬‬

‫‪‬االستاذة شيرين تريدك في مكتبها ‪..‬‬


‫زفرت ماريان‪ ،‬يبدو أنها لن تتخلص منها ولو ٍ‬
‫ليوم واحد‪..‬‬

‫‪‬حسنًا‪ ،..‬ألم ترين هيثم ؟!‬

‫‪‬لقد رأيته منذ ساعةً تقريبًا‪ ،‬ذهب ليقوم بتغطية األنتخابات ‪..‬‬

‫قطبت ماريان حاجبيها في دهشة ‪...‬‬

‫‪‬ماذا‪ ..‬؟! بدوني ؟!‬

‫‪‬لقد أرسلته األستاذة شيرين‪ ..‬رفض هو في البداية لكنها أجبرته بأن يصطحب أحدى المراسالت هناك‪..‬‬

‫‪‬حسنًا‪ ..‬شكرا ِ‬
‫لك ‪..‬‬ ‫ً‬

‫‪63‬‬
‫عِ ضين‬
‫وسمح لها‬
‫سؤال واحد فقط‪ ..‬لماذا فعلت هذا ؟!‪ ،‬أطرقت باب مكتبها ُ‬
‫توجهت ناحية مكتب شيرين وفي عقلها ٌ‬
‫بالدخول ‪..‬‬

‫‪‬كيف ترسلين هيثم لتغطية األنتخابات بدوني ؟!‪ ،‬أال تعلمين أنه يعمل معي ؟!‬

‫رفعت شيرين رأسها لترد عليها ببرود‪..‬‬

‫‪‬لقد علمت بحادث ِ‬


‫عمك‪ ،‬أظن بأنه عليكي أن تكوني بجانبه ‪!..‬‬

‫مجددا بعد أن راودها الشك للحظة ‪..‬‬


‫ً‬ ‫قطبت حاجبيها‬

‫‪‬لكن كيف علمتي بحادث عمي ؟!‬

‫‪‬من هيثم‪ ..‬لقد أخبرني بهذا‪..‬‬

‫‪ِ ‬‬
‫لكنك لم تتصلين بي وتخبرينني بهذا ‪!..‬‬

‫حدقت إليها شيرين ولم تعقب عليها‪ ..‬أكتفت بالصمت‪ ،‬أردفت ماريان ‪..‬‬

‫‪‬حسنًا أريد طاقما آخر لتغطية األنتخابات في ٍ‬


‫مكان آخر ‪..‬‬ ‫ً‬

‫هزت شيرين رأسها نافية ‪..‬‬

‫متاحا اآلن‪ ..‬لقد قمت بتوزيع الجميع منذ ساعة‪ ،‬الجميع في موقعه اآلن‪..‬‬
‫طاقما ً‬
‫‪‬ليس هناك ً‬

‫موجودا ‪!..‬‬
‫ً‬ ‫أشتمت ماريان رائحة أستغالل شيرين للفرصة‪ ،‬عمها ليس‬

‫‪‬ماريان ‪ ،!..‬أنتي في أجازة لمدة يومين‪ ،‬البد وأن تكونين بجانب ِ‬


‫عمك ‪..‬‬

‫حدقت بها ماريان في غضب قاطبة حاجبيها‪ ،‬تد رك ما ترمي إليه شيرين‪ ،‬أعطتها أجازة لمدة يومين حتى يضيع‬
‫عليها فرصة تغطية األنتخابات‪ ،‬تسعى ألخفائها عن الساحة‪ ،‬أستدارت وخرجت من مكتبها ولسان حالها‪ ..‬لو كان‬
‫موجودا لما كان يسمح بحدوث هذا‪..‬‬
‫ً‬ ‫عمي‬
‫‪64‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-05-‬‬

‫كانت تبكي بداخلها‪ ..‬تخشى مواجهة محتملة قريبة !‪ ،‬كانت تصرفاته هذه األيام توحي بأنه يتجهز للقائها‪ ..‬ال‬
‫تعلم ماذا كان سيقول بالضبط لكنه سيحدث قريبًا‪ ..‬قريبًا ج ًدا‪ ،‬ما حدث معها منذ يومين بدد كل أحالمها‪ ..‬لم‬
‫تتخيل أن األمور ستنتهي بهذه السرعة‪ ..‬كانت تختبئ كلما أمكنها هذا ‪!..‬‬

‫أما عمر فقد مرت تلك األيام الماضية وهو يتدرب على الخطة‪ ..‬كانت خطته بسيطة ج ًدا‪ ..‬التخلص من خجله‬
‫دائما ما يراوده شعور بأنه سينسى كل كالمه الذي يتدرب‬
‫قليال لكنه ً‬
‫أمام آسية وترتيب كالمه لها‪ ..‬أصبح أفضل ً‬
‫كثيرا‪،..‬‬
‫دائما ما كان يشجعه ويحمسه على ذلك‪ ،‬لقد حانت تلك الخطوة التي تأخرت ً‬ ‫عليه أمامها لكن أحمد ً‬
‫مستغال حماسته تلك وأال‬
‫ً‬ ‫يُردد في نفسه الحوار الذي يتوقعه بينهما‪ ،‬لقد أصبح مستع ًدا‪ ..‬عليه مواجهتها اليوم‬
‫مجددا‪..‬‬
‫ً‬ ‫سيفقد ثقته في نفسه‬

‫ضل عمر األنفصال عن صديقه من بداية اليوم‪ ،‬يريد التركيز‪ ،‬ظل يبحث عنها أو عن صديقتها‬
‫في ذلك اليوم ف ّ‬
‫أخيرا‪ ،‬وعندما الحظته أماني من‬
‫أماني في أرجاء الكلية‪ ..‬بعد نصف ساعة من البحث والصعود والنزول وجدهن ً‬
‫تشجع وتقدم نحوها‪ ..‬وقفت وهي تنكس‬ ‫بعيد همست لصديقتها ثم تركتها وحيدة‪ ..‬لقد الحظ هو ذلك‪ّ ،..‬‬
‫أرضا‪ ..‬تق ّدم نحوها حتى وقف أمامها مباشرةً‪ ،‬كان سيصيبه التوتر لكنه عزم على أطالق أول كلمة وبعدها‬
‫رأسها ً‬
‫لن يستطيع أيقاف نفسه‪ ..‬سيُجبر نفسه على عدم الخجل‪..‬‬

‫‪‬آسية‪ ..‬صباح الخير‪..‬‬

‫ردت عليه التحية بعد ثواني من التردد الذي ظهر عليها‪..‬‬

‫‪‬صباح الخير‪..‬‬

‫فورا‪..‬‬
‫أكمل كالمه ً‬
‫ِ‬
‫يهمك شخصيًا‪..‬‬ ‫‪‬كنت أود الحديث ِ‬
‫معك في أم ٍر هام‪ ،‬أم ٍر‬

‫‪65‬‬
‫عِ ضين‬
‫رفعت رأسها ونظرت إليه وكأنها تعرف مسب ًقا ما يريد عمر التحدث بشأنه‪ ،‬الحظ عمر أن وجهها يبدو جام ًدا‪ ..‬لم‬
‫يكترث لهذا خشية أن يفقد تركيزه‪ ،‬أكمل عمر كالمه عندما لم يجد أجابةً منها‪..‬‬

‫‪‬هذه المرة لن أتكلم عن شيء يخص الدراسة‪ ،‬أردت أن أعترف بحبي ِ‬


‫لك منذ أن تقابلنا أول مرة‪..‬‬

‫فرح عمر بعد نطقه لجملته األخيرة تلك‪ ..‬لقد تجاوز األصعب‪ ،‬أكمل كالمه‪..‬‬

‫دائما‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬


‫‪‬نعم‪ ..‬لقد أحببتك ولن أخجل من قولها هذه المرة‪ ،‬وبدون مقدمات طويلة‪ ..‬أريدك أن تكونين بجانبي ً‬
‫مازالت آسية تتجنب النظر في عينيه‪ ،‬لكن عمر وبثبات يفرغ ما في قلبه‪..‬‬

‫‪‬تعلمين جي ًدا أنني ال أتسلى‪ ..‬وألبرهن على ذلك ِ‬


‫عليك أن تعلمين أنني قد تح ّدثت مع أهلي بشأن أرتباطنا‪،‬‬
‫دائما في خياراتي بالحياة‪ ،‬لذلك وقبل أتخاذ أي خطوةً قررت أن أتأكد من شيء‪ ،‬موافقتِك‬
‫وقد وافقوا‪ ،‬هم يثقون ً‬
‫‪!..‬‬

‫تماما بأجابتها‪ ،‬لكن ما أقلقه هو صمتها‪ ..‬حتى اآلن لم تنطق بكلمةً واحدة‬
‫قالها عمر وهو ينتظر جوابها‪ ..‬واث ٌق ً‬
‫ضا تجنب النظر له من بداية حديثه‪..‬‬
‫سوى رد التحية فقط‪ ..‬الحظ أي ً‬

‫‪‬آسية‪ ..‬هل أنتي بخير ؟!‬

‫نظرت إليه ثم هزت رأسها أيجابًا‪ ،‬كرر سؤاله عليها‪..‬‬

‫‪‬هل تقبلين الزواج بي ؟!‬

‫أخيرا بعدما أبعدت نظرها مرًة أخرى عنه‪..‬‬


‫و هنا نطقت ً‬

‫‪‬ال‪ ..‬لن أقبل‪..‬‬

‫قالتها والدموع تسربت إليها فجأة‪ ،‬أي صاعقةٌ هذه التي نزلت على عمر ؟!‪ ،‬تمر الثواني وهو يحدق إليها ال‬
‫يستوعب ما قالت‪ ..‬ليس هذا ما كان يخطط له أو يتوقعه‪ ..‬كان من المفترض أن يكون سؤاله روتينيًا فقط ‪،!..‬‬
‫نظرت هي إليه فوجدته غارقًا في صدمته‪ ،‬أما هي ففقدت سيطرتها على دموعها أمامه‪ ،‬حتى أنه أدرك نظراتها‬
‫منكسرا‪ ..‬لم ينطق بكلمةً أخرى بعد رفضها‪ ،‬أما هي فتسمرت‬
‫ً‬ ‫الباكية إليه فتراجع خطوتين للوراء ثم التفت وغادر‬

‫‪66‬‬
‫عِ ضين‬
‫مكانها لدقائق تتابع خطواته المنكسرة والخائبة‪ ،‬حتى ما أن أختفى من أمامها كليًا أدركت أنها تقف بدموعها وسط‬
‫صديقاتها‪ ..‬أسرعت لتمسح دموعها وتحركت من مكانها بحثًا عن صديقتها أماني‪..‬‬

‫‪67‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-06-‬‬

‫مؤخرا‪ ،‬فساب ًقا كانت أيامه المتبقية له في الجامعة تمر سريعة‪ ..‬لم‬
‫أصبحت أيامه بال معنى خاصةً بعد ما حدث ً‬
‫يكن حينها قد صارحها بالحقيقة وقد شعر بتسرب الوقت‪ ،‬أما اآلن فتكاد أيامه ال تتحرك أطالقًا‪ ..‬أيامه قد‬
‫أصابها الملل والفتور ‪!..‬‬

‫أنعزل عن الجميع وكلما كان يخلو بنفسه تخونه ذاكرته بتذكيره لما حدث في ذلك اليوم‪ ..‬لقد كانت تسير‬
‫وهما ‪ ،!..‬يستحيل أن تكون العالقة‬
‫األمور على ما يرام‪ ..‬ماذا حدث أذن ؟!‪ ،‬غير معقول أن كل ما عاشه كان ً‬
‫التي كانت تربطهم ببعضهم هي مجرد عالقة أصدقاء جامعة‪ ..‬حتى لو فهم األمور على نح ٍو خاطئ منذ البداية‪..‬‬
‫ضا ؟!‬
‫هل فهم صديقه أحمد كل هذه العالقة بالخطأ أي ً‬

‫قليال‪ ..‬عندما كان‬


‫سرا ما‪ ،..‬فكر ً‬
‫حتى أماني صديقتها أبتعدت عن أحمد هذه األيام‪ ،‬هو متأكد من أنهن يخفين ً‬
‫أصال أنه كان‬
‫هما على عاتقها‪ ..‬كانت حزينة‪ ..‬كان من المتوقع ً‬ ‫يصارحها كانت تظهر آسية وكأنها تحمل ً‬
‫ضا انها كانت تتوقع ذلك ‪ ،!..‬كانت نظراتها هي‬
‫سيتحدث معها في أمر عالقتهما ببعضهما قريبًا ومن المتوقع أي ً‬
‫مؤخرا‬
‫ضا بأن تصرفاتهن ً‬
‫وصديقتها توحيان بأنهن كانتا تنتظران خطوته األولى في شأن عالقته بآسية‪ ..‬تذكر أي ً‬
‫كانت غريبة لكنه لم يهتم لهذا بسبب انشغاله بالخطة التي كان يعدها مسب ًقا‪..‬‬

‫هاما‪ ..‬لقد أنتهت عالقتهم‪ ..‬أنتهت دون أن يعلم‬


‫أمرا ً‬
‫على كل حال لقد أنتهى األمر ولم يعد التفكير في األمر ً‬
‫مهما بالمرة‪ ..‬لقد أنتهى كل شيء‪..‬‬
‫سبب رفضها‪ ..‬حتى أنه لم يهتم ليعلم سبب رفضها‪ ..‬لم يعد األمر ً‬

‫حينها قرر وألول مرة في حياته أن يكتب مذكرات خاصة به‪ ..‬ستكون بدايتها سيئة‪ ..‬لكن ال يهم طالما أنه‬
‫سيفصح للورق عما بداخله‪ ،‬لقد رأى أن الكتابة هي ملجأه الوحيد اآلن للهروب من واقعه‪..‬‬

‫مذكرات عمر‪..‬‬

‫" كانت ملكةً على عرش قلبي‪ ..‬فلم يعجبه القدر ذلك وقرر أن يثور علينا ويُفرق بيننا ويعزلها عن عرشها‪،..‬‬
‫كنت أظن بأنه يمكنني تغيير هذه القاعدة‬
‫وكأنني مثل الجميع البد وأن أحظى بقصة حب أولى في حياته وتفشل‪ُ ..‬‬

‫‪68‬‬
‫عِ ضين‬
‫ضا‪ ،‬سأحاول نسيانها رغم معرفتي أنني لن أستطيع ذلك‪ ..‬لن أستطيع‬
‫لكن ما حدث هو أنني كالجميع‪ ..‬فشلت أي ً‬
‫ألنها كانت مصدر سعادتي‪ ..‬سعادتي أرتبطت بوجودها في حياتي‪..‬‬

‫جميل في حياتي‪ ..‬أصبحت حبيس نفسي فقط‪ ،‬لقد رحلت بعدما سرقت مني مفتاح‬
‫ٌ‬ ‫برحيلها‪ ..‬رحل كل ما هو‬
‫سعادتي‪ ..‬لقد سرقت نفسها مني‪" ..‬‬

‫هل بذلك يحاول طردها من أفكاره‪ ..‬؟!‪ ،‬ال ال‪ ..‬هي من نوع الضيف الثقيل الذي ال يخرج حتى لو لمحت له‬
‫بطرده‪ ،‬ال يظن بأن فكرة المذكرات تلك جيدة‪ ..‬لقد كان يفكر في طريقة للتخلص من التفكير‪ ..‬لكنه لم يُفلح‪..‬‬

‫كانت أيامه مضطربة وعادت عالقته السيئة مع أخيه أدهم‪ ،‬امتحانات أخر العام قد أقتربت وهو قد عاد ألهماله‬
‫كل شيء تقريبًا‪ ..‬أصبح أما حبيس غرفته أو في المقهى وحي ًدا أو معه أحمد ‪..‬‬

‫رن هاتفه أثناء وجوده بالمقهى‪ ،‬صديقه أحمد‪ ..‬ال يريد سماع مواساةً منه‪ ،‬رن هاتفه مرةً أخرى‪..‬‬

‫‪‬أحمد ‪ ..‬كيف حالك ؟!‬

‫كان يستمع له بتركيز‪ ،‬قطب عمر حاجبيه من غرابة ما يسمع‪ ،‬بدأ يدرك األمر كله‪..‬‬

‫‪‬بالطبع هذا منطقي‪ ..‬كيف لم نفكر في هذا من قبل ؟!‪ ،‬حسنًا لنتقابل غ ًدا‪..‬‬

‫أغلق عمر هاتفه وهو يفكر باألمر‪ ..‬كان هذا منطقيًا‪ ،‬لقد علم سبب رفض آسية له ‪!..‬‬

‫‪69‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-00-‬‬

‫ليس هناك أسوء من أن يظن أحدهم أنك سيئًا كنت أنت بالنسبة له كل ما يملك‪ ،..‬قضت أيامها األخيرة وهي‬
‫تعاتب نفسها‪ ..‬تُع ّذب ضميرها‪ ..‬لماذا لم تخبره بالحقيقة كاملة ؟! لماذا أكتفت برفضه فقط ؟!‪ ،‬تلعن حظها‬
‫دائما‪ ..‬ال تعرف لماذا أختار القدر أن يكون توقيت أعتراف عمر بحبها له هو نفس التوقيت لألمر الذي حدث‬
‫ً‬
‫كثيرا وتساءلت‪ ..‬كيف يفكر بها بعدما حدث ؟! هل يظن أنها كانت تتالعب به وبمشاعره ؟‪ ،‬أم‬
‫فكرت ً‬‫معها‪ّ ..‬‬
‫أنه يتفهم بأن هناك سببًا قويًا جعلها تفعل ما فعلت ؟!‪ ،‬هي لم تكن بخي ٍر حينها‪ ..‬الحظت في أيامه األخيرة أنه‬
‫كان يتجنب النظر إليها‪ ..‬هل بذلك يحاول نسيانها ؟! هذا منطقي‪ ..‬سيحاول نسيانها بعدما أنتهت عالقتهم‬
‫ببعضهم‪ ،‬لكنها لم تكن لتُفضل أن ينتهي األمر بهذه الطريقة‪..‬‬

‫لما بلغها التعب أقصاه من التفكير قررت أن تواجهه‪ ..‬قررت أن تُصحح له ظنه‪ ،‬البد وأن تخبره بسبب رفضها‬
‫و ّ‬
‫له‪ ..‬لعل وعسى يبقى ما حدث بينهما ساب ًقا في طي الذكريات الجميلة‪ ..‬أخبرت صديقتها أماني على عزمها‬
‫مصارحته وبالطبع أيدت أماني هذه الخطوة‪ ..‬البد أن تواجه عمر وتصارحه هي بنفسها بكل شيء‪..‬‬

‫مؤخرا بعد ما حدث‬


‫كانت تبحث عنه قبيل محاضرة اليوم‪ ..‬ترددت على كل األماكن الذي كان يجلس فيها ً‬
‫سرا دون أن يعلم عمر‪..‬‬
‫بينهما‪ ،‬رن هاتفها‪ ..‬كانت صديقتها أماني تخبرها بمكان عمر بعد أن أخبرها أحمد ً‬
‫توجهت لمبنى الكلية الشرقي وصعدت للطابق الرابع‪ ..‬لقد رأته من بعيد هو وصديقه أحمد‪ ..‬كانا يسيران ببطئ‪،‬‬
‫أسرعت لتلحق بهما في أخر الممر‪..‬‬

‫‪‬عمر‪..‬‬

‫التفت عمر وأحم د إليها‪ ،‬ظهر أحمد وكأنه قد تفاجأ باألمر فقرر أن يتركهما ليتحدثا بمفردهما‪ ،‬نادت عليه وهي‬
‫تتوقع أنه سيلحق بأحمد ويتجاهلها‪ ،‬لكنه لم يفعل‪ ..‬ظل واق ًفا ُمبع ًدا نظراته عنها‪ ..‬أصابها التوتر فجأة‪ ،‬رغم أنها‬
‫كانت تستعد لمواجهته وأخباره باألمر إال أن التوتر قد نال من ها النها كانت تتوقع أنها ستعاني في جعله يفهم‬
‫ٍ‬
‫خطوات نحوه‬ ‫األمر منها‪ ..‬لكن أستجابته السريعة تلك تؤكد لها بأن عمر مازال يبحث عن السبب‪ ،‬سارت بضع‬
‫إلى أن وقفت أمامه ‪..‬‬
‫‪71‬‬
‫عِ ضين‬
‫قليال‪ ..‬أيمكنني هذا ؟!‬
‫‪‬عمر‪ ،‬أريد التحدث معك ً‬

‫الحظت فتور عينه عنها كعادة األيام األخيرة‪ ،‬رد عليها بجفاء ‪..‬‬

‫‪‬لقد وقفت ألسمعك ‪..‬‬

‫‪‬لمعرفة سبب ما حدث‪ ،‬أليس كذلك ؟!‬

‫أجاب عليها عمر بنظرةً صامتة هي األولى له منذ فترةً طويلة‪ ..‬نظرةً مفادها أنه يرغب لمعرفة السبب‪ ،‬أكملت هي‬
‫كالمها ‪..‬‬

‫عقال وترفضك لو تق ّدمت لخطبة أحداهن‪ ،..‬بل جميعنا كفتيات‬


‫‪‬أكاد أجزم بأنه ليس هناك فتا ًة بالعالم تملك ً‬
‫شاب ليس‬ ‫ٍ‬
‫بشاب ذو ُخلق ليرتبط بنا ونكون له شري ًكا في الحياة‪ٌ ،‬‬ ‫ترغبن بمثل شخصيتك هذه‪ ..‬جميعنا نرغب‬
‫كالبقية ممن يملكون قلوبًا تسع لكل فتيات العالم‪ ..‬إال أنا‪..‬‬

‫نظر إليها عمر قاطبًا حاجبيه‪ ..‬يتعجب من أستثناء نفسها‪ ..‬أكملت هي ‪..‬‬

‫أباء يرغموهن على زواج أحد بعينه وال يأبوا ألرائهن‪..‬‬


‫‪‬إال أنا ممن يمتلكن ً‬

‫ساد الصمت للحظات ثم أستطردت حديثها ‪..‬‬

‫دائما ما تعرف أخبار ومعلومات عني ال أعلم كيف تصل أليك‪ ..‬بالتأكيد تعرف كيف تكون شخصية أبي‬
‫‪‬أنت ً‬
‫‪..‬‬

‫أخيرا ‪..‬‬
‫لحظات أخرى ساد فيها الصمت‪ ،‬أبعد عمر نظره ليستجمع أفكاره‪ ،‬تكلم ً‬
‫ِ‬
‫عليك الزواج بأبن عمك ألنه من تقاليد عائلتكم‬ ‫‪‬أعلم ذلك‪ ..‬أعلم بشخصيته الصعبة‪ ..‬أعلم أنه قد فرض‬
‫أنك ضعيفة ال تقوي على مواجهته أو رفض هذه الزيجة‪ ..‬أعلم أنه لو ِ‬
‫بيدك األمر‬ ‫زواج األقارب فقط‪ ،‬أعلم كذلك ِ‬

‫لرفضتي األمر كله‬

‫‪71‬‬
‫عِ ضين‬
‫سوءا‪ ،‬أما هو فسنحت له‬
‫أخيرا علمت بأنه لم يظن بها ً‬
‫ضا ظروفها‪ ..‬فرحت ألنها ً‬ ‫تتابعه في دهشة‪ ..‬يعلم أي ً‬
‫الفرصة ليخبرها بآخر ما تمنى قلبه أن يخبرها قبل أن يخرجها من حساباته‪..‬‬

‫معا‪ ،‬بل الوحيدة التي أحببتها‪ ،‬لقد أنتهت األمور على‬ ‫ِ‬
‫ين فقط ألنك الوحيدة التي سكنت قلبي وعقلي ً‬
‫‪‬أنا حز ٌ‬
‫نح ٍو سئ‪..‬‬

‫سوءا‪..‬‬
‫رغم ألم ما يقوله في قلبها إال أنها أبتسمت‪ ..‬أبتسمت النه لم يظن بها ً‬

‫‪‬أنت رائع كالعادة يا عمر‪..‬‬

‫متفهما ثم أكمل هو‪..‬‬


‫ً‬ ‫هز عمر رأسه‬

‫‪‬دائما ما كنت أتمنى ِ‬


‫لك السعادة‪ ..‬معي أو بدوني‪ ،‬ستظلين األجمل بالنسبة لي‪..‬‬ ‫ً‬

‫بدأت الدموع تتسرب من عينيها‪ ..‬كانت تتمنى مثل هذا الكالم في ظروف أفضل من هذه‪ ،‬لكن تسير الرياح بما‬
‫ال تشتهي السفن‪ ،‬ظهرت أبتسامة الندم عليها‪..‬‬

‫يوما ما ؟!‪ ،‬البد وأنها ستكون أسعد فتاةً بالعالم‪ ،‬بالتأكيد سأحسدها‬
‫‪‬من سعيدة الحظ تلك التي ستحظى بك ً‬
‫‪...‬‬

‫المقابلة األخيرة ‪..‬لذلك‬


‫سادت لحظات الصراحة بينهما‪ ،‬في هذه المرة كان عمر يُفرغ ما كان في قلبه‪ ،‬يعلم أنها ُ‬
‫دوما‪..‬‬
‫عليه التحدث بما أراد التحدث به ً‬
‫‪‬لن أبحث عن مغامرة جديدة‪ ،‬لقد أكتفيت‪ ..‬أعرف قلبي جي ًدا‪ ..‬سيرفض قبول ِ‬
‫غيرك‪ ..‬لقد ورطني ِ‬
‫بك‬
‫بك دائما‪ ..‬أنه يعرف أنه ِ‬
‫أحبك‬ ‫بعادات أو تقاليد‪ ..‬سي ّذكرني ِ‬
‫ٍ‬ ‫وسيرفض الرحيل معي‪ ..‬سينحاز ِ‬
‫لك ألنه ال يؤمن‬
‫ً‬
‫زواجا تقليديًا لي‪ ..‬بدون ذلك القلب‪..‬‬
‫أنتي فقط‪ ..‬في النهاية األمر سيكون ً‬

‫حاولت آسية تمالك نفسها من األنهيار‪ ..‬دموعها تهرب منها وهي تحاول السيطرة عليها‪..‬‬

‫‪72‬‬
‫عِ ضين‬
‫كنت قلقة حيال هذا الحوار معك‪ ..‬كنت قلقة‬
‫شكرا لك على كل شيء‪ُ ..‬‬
‫بك أب ًدا يا عمر‪ً ..‬‬
‫‪‬لم يخب ظني َ‬
‫سوءا‪ ،‬لكن األمر غير ذلك‪ ..‬كالعادة تفاجئني‪ ..‬على كل حال أتمنى لك التوفيق في حياتك‪..‬‬
‫من أنك تظن بي ً‬

‫كانت تهم بالرحيل إال أن بدا على عمر أنه سيتكلم‪ ،‬نظر إليها عمر ‪...‬‬

‫أخيرا ؟!‬
‫‪‬أيمكنني أن أطلب شيئًا ً‬

‫معا‪..‬‬
‫بدا عليها السعادة واألهتمام ً‬

‫‪‬بالطبع يمكنك ذلك‪..‬‬

‫أبعد عمر نظره والتفت بنصف جسده وكأنه سيختم بكالمه ثم يرحل‪..‬‬

‫‪ِ ‬‬
‫أرجوك ساعديني على نسيانِك‪ ،‬دعينا نتعامل كأصدقاء ال أكثر على األقل حتى تنتهي تلك األيام المتبقية لنا‬
‫في الجامعة ‪!..‬‬

‫مبررا لنسيانه كذلك‪..‬‬ ‫ٍ‬


‫رحل عمر بعي ًدا عنها تارًكا آسية خلفه منكسرة‪ ،‬أراد أن يختم بكلمات قاسية لتجد هي ً‬

‫‪73‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-02-‬‬

‫نفعا لهزم العدو‪ ، ..‬عندما يكون عدوك بالغ القوة فأن ما يحتاجه ليسقط هو عدة‬
‫أحيانًا ال يجدي أستخدام القوة ً‬
‫متألما وضعي ًفا بهذا الجزء من جسده بالذات‪..‬‬
‫ضربات ضعيفة في مكان ما بجسده‪ ،‬حينها سيجد العدو نفسه ً‬
‫سينهار تدريجيًا‪ ،‬وبذلك تكون أنت من قد شكلت نقطة قوة لك بنفسك‪ ..‬أو بمعنى آخر‪ ..‬لقد أضعفت عدوك‪،‬‬
‫الذكاء والعقل هما من ينتصران في النهاية‪..‬‬

‫كان هذا التوقيت مثاليًا لها لتوجيه ضربتها التي ربما تكون قاضية‪ ..‬جعلِها تختفي عن الساحة األعالمية قبيل‬
‫ت ّخرجها بفترة حتى ما أن تخرجت بعد عدة شهور لن تجد تلك العروض األجنبية التي كانت تتلقاها وتكتفي‬
‫بالحلم فقط بالعمل هنا في القناة معها‪ ..‬ستكون ُمجبرة على العمل هنا دون ت ّكبُر ‪..‬‬

‫أخيرا على ماريان‪ ..‬لقد أستغلت حالة ثروت المرضية ومنعتها من تغطية‬ ‫ً‬ ‫كانت شيرين تشعر بنشوة األنتصار‬
‫األنتخابات‪ ،‬لقد نسي الجميع ماريان‪ ،‬كانوا يعتادون رؤيتها في األحداث الهامة لكن اآلن ال‪..‬‬

‫باكرا‪ ،‬لم يقم أحدهم بألقاء التحية لها‪ ..‬كانوا يتظاهرون بأنهم مشغولون‪ ،‬توجهت لمكتبها‬
‫وصلت المحطة ً‬
‫قليال ثم رفعت سماعة الهاتف لتطلب قهوتها‪ ،‬الحظت وجود ورقةً ما على مكتبها‪ ..‬تناولتها‬
‫مباشرةً‪ ..‬أسترخت ً‬
‫ٍ‬
‫تعجب مما تقرأ‪ ،..‬رفعت سماعة الهاتف مرة أخرى ‪..‬‬ ‫وقرأت ما فيها‪ ،‬قطبت حاجبيها في‬

‫‪‬أخبر ماريان بأني أنتظرها في مكتبي‪..‬‬

‫أغلقت الهاتف وأنتظرت قدوم ماريان ‪...‬‬

‫************‬

‫مستاء بقرار ماريان‪ ،‬الجميع علم‬


‫ً‬ ‫ضا يبدو‬
‫الجميع أستقبل ماريان بحفاوة بعد غياب على غير عادتها‪ ..‬الجميع أي ً‬
‫بأنها قدمت أستقالتها صباح اليوم وهي موضوعة على مكتب شيرين تنتظر توقيعها‪ ،‬الجميع يظن بأن شيرين لن‬
‫تتردد لحظة واحدة في قبول أستقالة ماريان‪..‬‬

‫‪74‬‬
‫عِ ضين‬
‫بعد أن رحبت بالجميع‪ ..‬جلست مع هيثم الذي كان أكثر المستائين برحيلها ‪..‬‬

‫ِ‬
‫سنفتقدك يا ماريان‪..‬‬‫‪‬‬

‫بدا عليها األستياء هي األخرى بسبب استيائه ‪..‬‬

‫ضا سأفتقد العمل معك يا هيثم‪ ..‬أعلم بأنه قرار صعب لكن كان البد من أتخاذه‪ ..‬لكنني أعدك بأنني‬
‫‪‬أنا أي ً‬
‫سأعود‪..‬‬

‫أبتسم بعدما سمع وعدها‪ ،‬يعلم أن ماريان ال تُخلف وع ًدا ‪..‬‬

‫‪‬و أنا سأنتظر ِ‬


‫وعدك هذا يا ماري‪..‬‬

‫قاطعتهما أحداهن ‪..‬‬

‫ِ‬
‫تنتظرك في مكتبها‪..‬‬ ‫‪‬ماريان‪ ..‬األستاذة شيرين‬

‫التفتت لهيثم مرة أخرى بأبتسامة مفادها أنها البد أن ترحل اآلن‪ ،‬صافحته بوداع ثم توجهت لمكتب شيرين ‪..‬‬

‫طرقت الباب ثم أُذن لها بالدخول‪..‬‬

‫‪‬ماريان ؟! صباح الخير‪..‬‬

‫‪‬صباح الخير ‪..‬‬

‫جلست قبالة شيرين‪ ،‬التفتت شيرين من وراء مكتبها لتجلس أمام ماريان‪..‬‬

‫‪‬أخبريني أذن‪ ..‬ما هذه ؟!‬

‫مدت شيرين إليها ورقة‪ ،‬أكتفت ماريان بالنظر إليها فقط ‪..‬‬

‫‪‬هذه أستقالتي‪..‬‬

‫‪‬و لماذا يا ماريان ؟!‬

‫‪‬ليس لي مكان هنا يا شيرين‪..‬‬


‫‪75‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪‬أهذا له عالقة بعدم تغطية األنتخابات البرلمانية ؟!‬
‫ِ‬
‫أمامك‪ ..‬أنا أستسلم‪..‬‬ ‫‪‬ليس هذا فقط ياشيرين‪ ،‬لقد رفعت الراية البيضاء‬

‫أرتسمت أبتسامة على وجهها الحظتها ماريان لكنها لم تُعقب‪ ،‬مالت ناحيتها شيرين ‪..‬‬

‫بحرب بيننا كي تستسلمين‪ ..‬كل ما في األمر ِ‬


‫أنك‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫عليك أن تفهمي األمر جي ًدا‪ ،‬األمر ال يتعلق‬ ‫‪‬ماريان‪..‬‬
‫أنك تزاولين المهنة دون ترخيص وال تملكين حقوق الصحفيين لو تعرضتي ألزمةً ما‪..‬‬ ‫لت طالبة وتعلمين ِ‬ ‫ماز ِ‬
‫ِ‬
‫بحمايتك‪ ،‬األمر الثاني يا ماريان هو أن هناك من يريد أن يأخذ فرصته ليُبرهن‬ ‫الجميع يعلم أن ِ‬
‫عمك هو من يقوم‬
‫ِ‬
‫وجودك يا ماريان‪ ..‬وأظن بأن األولوية ستكون لهم بالطبع ‪..‬‬ ‫على موهبته لكن ما يُعيقهم هو‬

‫أهتماما بكالمها‪..‬‬
‫ً‬ ‫لم تبدي ماريان‬

‫ِ‬
‫أمامك يا شيرين‪..‬‬ ‫‪‬حسنًا وها هي أستقالتي‬

‫تناولت شيرين قلمها ووقّعت على موافقتها على أستقالة ماريان ‪..‬‬

‫ِ‬
‫بطردك من المحطة ‪..‬‬ ‫‪‬عليكي أن توضحي األمر ِ‬
‫لعمك يا ماريان‪ ،‬سيظن أنني أنا من قمت‬

‫أخذت ماريا أستقالتها من شيرين ثم قامت وتوجهت للخروج ‪..‬‬

‫أوال من العمل هنا كي أستطيع العمل هناك‪،‬‬


‫‪‬ال تقلقي يا شيرين‪ ..‬عمي هو من أخبرني بأنني البد وأن أستقيل ً‬
‫هذا شرطهم بالطبع‪..‬‬

‫قطبت شيرين حاجبيها ال تفهم شيئًا‪..‬‬

‫‪‬ماذا تقصدين بالعمل هناك ؟!‬

‫ظهرت ماريان وكأنها تفاجئت بسبب عدم معرفة شيرين باألمر‪ ،‬كانت السخرية واضحة ج ًدا في وجهها‪..‬‬

‫‪‬أال تعلمين باألمر يا شيرين ؟!‪ ،‬كيف يُعقل أن جميع من يعمل هنا يعلم باألمر وأنتي ال ؟!‬

‫أمالت شيرين رأسها في عدم فهم‪ ،‬نظراتها تعني أن تسأل ماريان بصمت‪ ..‬ما هذا الذي ال أعرفه ؟!‪ ،‬أكملت‬
‫ماريان عندما رأت مالمح وجهها‪..‬‬

‫‪76‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪‬لقد قَبلت بعرض الـ" ‪ " BBC‬يا شيرين‪ ، ! ..‬وبعدما أنهي دراستي في الجامعة بعد شهرين سألتحق للعمل‬
‫هناك ‪..‬‬

‫غير مصدقة لما تسمعه‪ ،‬وكأن لسان حالها كيف ومتى حدث هذا ؟!‪ ،‬أكملت ماريان ‪..‬‬
‫ح ّدقت بها شيرين ُ‬

‫كنت أنتي السبب في هذا ‪ ،!..‬أختفائي أثار العديد من التساؤالت‪،‬‬ ‫ِ‬


‫أشكرك يا شيرين ؟!‪ِ ،‬‬ ‫‪‬ال أعلم كيف‬
‫شرحت األسباب فكانت فرصة مثالية للتعاقد معي‪ ،‬أستمعت لكل العروض وأخترت أفضلهم بالطبع‪ ،‬بالطبع أنتي‬
‫لم تقصدي أن يحدث كل هذا ولكن سرت األمور عكس ما كنتي تخططين له ‪..‬‬

‫مازالت شيرين غارقةً في صدمتها‪ ،‬أكملت ماريان ‪..‬‬

‫ِ‬
‫أشكرك بطريقتي الخاصة ‪..‬‬ ‫سيوقع بنفسه إال أنني فضلت أن‬
‫‪‬كان عمي ّ‬
‫لتهم بالرحيل ‪..‬‬
‫نظرت ماريان في ساعتها ُ‬

‫‪‬لقد تأخرت اآلن البد وأن أخبرهم بأنني أستقلت رسميًا من هنا‪..‬‬

‫أرتسمت أبتسامة على وجهها‪..‬‬

‫‪‬ثم سألقي ببيان على صفحتي على الفيس بوك أعرب فيه عن شكري ِ‬
‫لك يا شيرين‪ ،‬ال تنسي أن تتمني لي‬
‫رجاء‪..‬‬
‫مزي ًدا من التوفيق ً‬
‫خرجت ماريان ومازالت شيرين غارقةً في صدمتها‪ ..‬لقد جعلت ماريان تنتصر في النهاية بطريقةً ما عكس ما كانت‬
‫تخطط له‪..‬‬

‫‪77‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-09-‬‬

‫للمفاجأة نوعان أما أن تكون سارة وسعيدة تلك التي يتمناها الجميع أو تكون سيئة وحينها فقط تُسمى صدمة‪..‬‬
‫شخص ساذج آمن بخياله المريض الذي يوحي له بأن الدنيا ستبتسم‬
‫ٌ‬ ‫تلك الصدمة كفيلة أحيانًا بتحويل أحدهم من‬
‫حذرا في كل خطوة‬
‫دائما إلى ذلك الشخص الذي نضج عقله وعلّمه أن يتوقع األسوأ قبل األفضل وأن يكون ً‬
‫له ً‬
‫يخطوها بحياته‪ ..‬السعيدة منها فقط ُسميت بأسمها " مفاجأة " والسيئة أرتبطت باسم آخر‪ " ..‬صدمة "‪..‬‬

‫تساءل في نفسه‪ ..‬من أين جاء بذلك الجفاء الذي ظهر به أمام آسية ؟!‪ ،‬منذ أسابيع فقط كان يخطط للتخلص‬
‫كفيال بأن طباعه تتغير فجأة‪..‬‬
‫مؤخرا كان ً‬
‫من خجله عندما يحادثها في موضوع أرتباطهم ببعض‪ ،‬لكن ما حدث له ً‬

‫مرت أيام منذ آخر مرة رأى فيها آسية‪ ..‬كان يتجنب رؤيتها ولو صدفة‪ ..‬يحاول محوها من ذاكرته ولو بدا هذا‬
‫مجددا‪ ..‬ليس ألنه يكرهها‪ ..‬ال ال‪ ..‬يريد فقط‬
‫ً‬ ‫مستحيال‪ ..‬كان يريد أن تمر أيامه في الجامعة سريعة حتى ال يراها‬
‫ً‬
‫جميال بينهما ذات يوم‪ ..‬كان يحاول دخول مبنى الكلية من ٍ‬
‫باب آخر غير الرئيسي والجلوس في‬ ‫نسيان ما كان ً‬
‫أماكن بعيد ًة عن األنظار‪ ..‬كل هذا لتمر تلك األيام سريعة وليتها تمر هذه المرة‪..‬‬

‫وصل أحمد وعمر للكلية هذا الصباح وكان يسرعان لحضور المحاضرة األخيرة لهم قبل امتحانات آخر العام‬
‫وبدال من أن يصعدا لمكان المحاضرة وقف عمر‬ ‫ضل الدخول من ٍ‬
‫باب آخر‪ً ،‬‬ ‫وكعادة األيام األخيرة الماضية ف ّ‬
‫فجأة‪..‬‬

‫‪‬أحمد‪ ..‬أصعد أنت للمحاضرة وأنا سألحق بك‪..‬‬

‫قطب أحمد حاجبيه في أستغراب‪..‬‬

‫‪‬اآلن ؟!‪ ،‬ولكن‪..‬‬

‫قاطعه عمر ‪...‬‬

‫‪‬لن أتأخر يا أحمد‪ ..‬سأمضي هذه األستمارة من مكتب شئون الطالب وسألحق بك‪..‬‬

‫‪78‬‬
‫عِ ضين‬
‫هز أحمد كتفيه وصعد بسرعة ليُلحق بالمحاضرة‪..‬‬

‫وصل أحمد للطابق الرابع حيث القاعة التي ستحتضن المحاضرة األخيرة‪ ..‬في نفس الوقت الذي كانت آسية‬
‫وأماني تنزالن من الطابق الخامس في طريقهن للقاعة‪ ..‬أحمد الحظ أن أستاذ المادة قد دخل القاعة وأغلق الباب‬
‫ورائه‪ ..‬أسرع ورائه وكان سيطرق الباب ليستأذن بالدخول لكنه سمع صراخ أحداهن فجأة بالقرب من القاعة‬

‫فقدت آسية توازنها وهي تنزل الدرج وسقطت من أعلى الدرج حتى أصطدم رأسها بحافة أخر درجة في السلم‪..‬‬
‫صرخت أماني ونزلت الدرج بسرعة لألطمئنان على صديقتها التي وضعت يديها على رأسها متألمة بدون أن تصدر‬
‫صوتًا‪ ..‬أسرع أحمد بأتجاه الصوت الذي صرخ فوجد في نهاية الممر عند مدخله أماني وهي تحاول أن تستغيث‬
‫بأحدهم ألنقاذ آسية‪..‬‬

‫صرخت أماني عندما وجدت أحمد‪..‬‬

‫‪‬أحمد‪ ..‬أنقذني أرجوك‪ ..‬آسية ال تنطق‪..‬‬

‫كان شعور أحمد حينها لحظي‪ ..‬كان يريد أن يظهر عمر اآلن ويرى ما حدث لكن صراخ وبكاء أماني جعله‬
‫يصحو من غفلته‪ِ ..‬‬
‫حمل آسية على يديه ودخل بها المصعد وتبعته أماني لينزال بآسية للوحدة الطبية بالكلية‪..‬‬

‫في اللحظة ذاتها التي دخل فيها أحمد وأماني المصعد كان عمر قد وصل للطابق الرابع من على درج السلم‪..‬‬
‫تنهد عندما علم بأن المحاضرة قد بدأت بالفعل‪ ..‬طرق الباب وأذن له الدكتور بالدخول‪ ،‬جال بنظره وسط‬
‫ضا عدم وجود‬
‫ضا‪ ،‬والحظ أي ً‬
‫وسع مجال بحثه للقاعة كلها فلم يجده أي ً‬
‫أصدقائه باحثًا عن أحمد لكنه لم يجده‪ّ ..‬‬
‫ضل أحمد مقابلة أماني عن حضور المحاضرة األخيرة أما آسية‬
‫أماني أو آسية‪ ،‬لقد رجح في عقله أنه ربما ف ّ‬
‫ضلت هي األخرى عدم الحضور‪..‬‬
‫فف ّ‬

‫أنتهت المحاضرة األخيرة وغادر عمر القاعة مع زمالئه‪ ..‬أخرج هاتفه ليتصل بأحمد فوجد أن هناك ما يزيد عن‬
‫العشرين مكالمة فائتة جميعها من أحمد‪ ..‬لم يسمع رنين هاتفه ألنه كان صامتًا‪ ،‬أتصل به ‪ ..‬رد أحمد وصوته يبدو‬
‫مضطربًا ‪...‬‬

‫‪79‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪‬عمر‪ ..‬أين أنت اآلن ؟!‬

‫رد عليه عمر ‪...‬‬

‫‪‬لقد أنتهت المحاضرة اآلن لكن لماذا ‪...‬‬

‫قاطعه أحمد في أضطراب ‪...‬‬

‫‪‬عمر‪ ..‬تعالى بسرعة لمستشفى سوهاج العام‪ ..‬آسية في خطر‪..‬‬

‫صدم عمر‪ ..‬فقد النطق وزادت ضربات قلبه‪ ،‬حاول أن يظهر صوته ألحمد ‪...‬‬
‫ُ‬

‫‪‬خطر ؟!‪ ،‬ماذا حدث يا أحمد ؟!‬

‫حاول أحمد أن يتصنع الهدوء في صوته‪..‬‬

‫‪‬ستعرف كل شيء الح ًقا يا عمر‪ ،‬تعالى لهنا وستعرف كل شيء‪..‬‬

‫أغلق عمر الهاتف وأسرع لينزل‪ ،‬خرج من باب الكلية وهو يجري بسرعة‪ ،‬عقله يعمل بسرعة ويفترض أحداث‬
‫تمت أو ستتم‪ ،‬لقد نسي ذلك العاشق تكبره ِ‬
‫وعناده وظهرت حقيقته التي حاول نسيانها ‪ ،..‬عشقه وحبه آلسية‪..‬‬ ‫ّ‬

‫‪81‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-81-‬‬

‫كان يظن أنه يحاول نسيانها‪ ..‬كان يفكر في كيفية نسيانها‪ ،‬سخر من نفسه‪ ..‬محاولة نسيانها هي بحد ذاتها‬
‫نسي أنه كان يحاول نسيانها‪ ..‬كان عقله يستبق األحداث‬
‫تفكير فيها‪ ،‬ولمجرد سماعه فقط بأن آسية في خطر َ‬
‫ٌ‬
‫ويتوقع األسوء‪..‬‬

‫وصل عمر في ٍ‬
‫وقت قياسي‪ ..‬وقت يستطيع من خالله أن يتيقن بأنه كان يعيش في أكذوبة تسمى " نسيانها "‪،‬‬
‫عندما وصل للطابق الثالث حيث العناية المركزة كان قد وجد أحمد وأماني يقفان ويتحادثان والهم باديًا على‬
‫وجهيهما‪ ..‬أسرع عمر بأتجاهما وعندما وقف أمامهم سألهم ‪..‬‬

‫‪‬ماذا حدث بالظبط ؟!‬

‫أنتظر عمر أجابةً من أحدهما لكنه لم يلقى منهما سوى الصمت‪ ،‬تبادل أحمد وأماني نظر ٍ‬
‫ات مقلقة وهذا ما زاد‬
‫من توتر وعصبية عمر‪..‬‬

‫‪‬فليخبرني أحدكم ماذا حدث ؟!‪ ،‬كيف حال آسية ؟!‬

‫أخيرا ‪..‬‬
‫تكلم أحمد ً‬

‫وأغمي عليها ‪..‬‬


‫َ‬ ‫‪‬سقطت أماني من على الدرج في مبنى الكلية وأصطدم رأسها بآخر الدرج‬

‫تنفس عمر الصعداء‪ ،‬أرتاح عقله من تفكيره في األسوء‪ ،‬لقد ظن أنها على وشك الموت أو حدث لها شيءٌ أسوء‬
‫من هذا‪ ..‬التفت ألماني التي كانت تبكي‪..‬‬

‫‪‬أماني‪ ..‬ال داعي ألن تبكي‪ ..‬ستكون األمور بخير‪ ..‬ال تقلقي ‪..‬‬

‫التفتت أماني ألحمد وكأنها تقول له أن عمر ال يعلم بشيء‪ ،‬تركتهما وأبتعدت عنهما‪ ،‬لقد فهم عمر من نظرتها‬
‫تلك ألحمد أن هناك شيء ما ال يعلمه ‪..‬‬

‫‪81‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪‬أحمد‪ ..‬ما الذي يجري هنا وال أعلمه ؟!‪ ،‬لماذا تبكي أماني هكذا ؟!‬

‫نكس أحمد رأسه لثواني‪ ،‬كان يحاول أن يقولها ٍ‬


‫بلطف له‪..‬‬

‫أسرعت بها للوحدة الطبية بالكلية وهناك‬


‫ُ‬ ‫قليال ثم أغمي عليها‪،‬‬
‫‪‬بعد أن أصطدم رأسها بآخر الدرج تألمت ً‬
‫أتصلوا باألسعاف‪ ،‬وصلنا هنا في غضون ربع ساعة تقريبًا‪ ،‬وبعد أن قام الطبيب بفحصها أخبرنا أن أغمائها هذا قد‬
‫يطول بعض الشيء و‪...‬‬

‫انتظارا لتكملة كالمه‪ ،‬أكمل أحمد وهو يحاول جاه ًدا أن‬
‫ً‬ ‫توقف فجأ ًة عن الكالم مما جعل عمر يقطب حاجبيه‬
‫يقولها ٍ‬
‫بلطف لكنه لم يُفلح ‪..‬‬

‫‪‬و لقد أُصيبت آسية بالشلل ‪!..‬‬

‫نزل الخبر كالصاعقة على عمر‪ ،‬ال يعلم كم مضى من الوقت وهو يحدق له غارقًا في صدمته‪ ،‬شعر ببرود يسري‬
‫بجسده‪ ،‬لم تتحمله قدماه فجلس بالمقاعد التي كانت خلفه‪ ،‬حاول أستيعاب األمر‪ ،‬جلس أحمد بجانبه وأربت‬
‫محاوال تهدئته ‪..‬‬
‫ً‬ ‫على كتفه‬

‫التفت عمر ناحية أماني التي وقفت بعي ًدا أمام أحدى الغرف‪ ،‬توجه نحوها وتبعه أحمد‪ ،‬وعندما أقتربا كالهما من‬
‫الغرفة التي تقف أمامها أماني خرجت منها أمرأة تبدو في الخمسين من عمرها‪ ،‬التفت عمر ألحمد فهز أحمد‬
‫رأسه أيجابًا‪ ..‬لقد فهم عمر أن هذه المرأة هي والدتها‪..‬‬

‫بناءا على أتصال أماني بها لم تجد‬


‫لقد الحظت والدة آسية أن أحدهم أتى لتوه‪ ،‬عندما وصلت للمستشفى ً‬
‫سوى أحمد الذي حاول أنقاذ أبنتها آسية‪ ،‬لكنها تعرف هويته‪ ..‬الحظت الوجوم على وجهه‪ ..‬البد وأن يكون هذا‬
‫عمر‪..‬‬

‫تق ّدم عمر وصافح والدة آسية‪ ،‬ثم فاجأته بسؤال لم يتوقعه ‪..‬‬

‫‪‬أنت عمر‪ ،‬أليس كذلك ؟!‬

‫‪82‬‬
‫عِ ضين‬
‫أكتفى عمر بهز رأسه أيجابًا فقط محدقًا بها‪ ،‬لقد لمحت هي في عينيه نظرة تساؤل‪ ..‬كيف عرفته ؟!‪ ،‬التفتت‬
‫نحو الواجهة الزجاجية لغرفة أبنتها لترى أبنتها ممدة ويبدو على وجهها األلم وهي في ٍ‬
‫عالم آخر‪ ،‬أبتسمت بحزن‬
‫وألم ‪..‬‬

‫دائما ما كانت تحكي لي أسرارها وكنت أنت أحد أسرارها يا عمر‪ ..‬لذلك ال تتعجب من معرفتي لك‪..‬‬
‫‪ً ‬‬

‫لقد كان الحزن باديًا على وجهه‪ ،‬كان أول من فكر في كيفية أِخبار آسية بعجزها هذا‪! ..‬‬

‫‪83‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-80-‬‬

‫ظلت األمور على حالها أسبوع كامل‪ ،‬أسبوع ظلت فيه آسية في عالمها الخاص مغشيةً عليها‪ ،‬أحمد وأماني وعمر‬
‫يترددون يوميًا على المستشفى لألطمئنان عليها لعل وعسى أن تستفيق من غيبوبتها وتتدارك ما فاتها من‬
‫االمتحانات العملية‪..‬‬

‫لقد عاد أخيها يوسف من سفره فور سماعه بالحادثة التي تعرضت لها آسية‪ ..‬كذلك والدها الذي كان يتردد‬
‫عليها كلما سنحت له الفرصة‪ ،‬أما أبن عمها فقد زارها مرةً وحيدة كان ال يبدو عليه عالمات التأثر أو القلق بتلك‬
‫الحادثة التي تعرضت لها شخصيةً في حياته من المفترض أنها تكون خطيبته!! لكنه بعد هذه الزيارة اليتيمة كان‬
‫يكتفي باالتصال فقط‪..‬‬

‫جميعا على المستشفى بعدما أدوا االمتحان العملي األخير‪ ..‬عمر وأحمد كانا‬
‫ً‬ ‫كعادة األيام األخيرة ترددوا‬
‫يجلسان خارج الغرفة كالعادة‪ ..‬والدة آسية وأماني تجلسان مع آسية في الغرفة‬

‫تحركت أخيرا‪ ..‬تدريجيًا عادت آسية لواقعها بعد ٍ‬


‫غياب عن وعيها أليام‪ ..‬أحتضنتها والدتها في الوقت التي‬ ‫ً‬
‫خرجت أماني فيه من الغرفة لتُبشر عمر وأحمد بالخبر‪ ،‬ال أراديًا قفزا كالهما من مكانهما ولكن فجأة توقف عمر‬
‫وأمسك بذراع أحمد يستوقفه مما أثار دهشته‪ ..‬سأله أحمد‪..‬‬

‫‪‬ماذا ؟!‬

‫توقف أحمد في مكانه وهو يتعجب من قرار عمر بعدم تفضيله للدخول اآلن‪ ،‬متى الوقت المناسب برأيه ؟!‬

‫أما في الداخل فكانت المشاعر مختلطة ما بين الفرحة بأستفاقة آسية وما بين القلق والترقب في اللحظات‬
‫القادمة‪ ..‬كيف ستستقبل خبر عجزها ؟!‬

‫كانت والدتها تحتضنها والدموع تنهمر منها فرحة‪..‬‬

‫ِ‬
‫سالمتك يا حبيبتي ‪!..‬‬ ‫‪‬حم ًدا هلل على‬

‫‪84‬‬
‫عِ ضين‬
‫كادت آسية أن تختنق لكنها كانت تتحمل ‪..‬‬

‫‪‬الحمد هلل يا أمي‪ ،‬أنا بخير‪..‬‬


‫قالتها في ٍ‬
‫أنهاك واضح ثم نظرت ألماني والتي حضنتها بشدة أكثر من والدتها‪ ،‬دمعت عينيها بعي ًدا عن نظر آسية‪،‬‬
‫حاولت طرد دموعها بسرعة بمزاحها معها‪..‬‬

‫ِ‬
‫سالمتك‪..‬‬ ‫ِ‬
‫أفتقدناك يا غبية‪ ،‬حم ًدا هلل على‬‫‪‬‬

‫قليال ؟!‬
‫شكرا يا صديقة الغبية‪ ،‬هل يمكنني التنفس ً‬
‫‪ً ‬‬
‫أفلتت آسية نفسها من أماني بحركة مزاحية‪ ،‬أسندت ظهرها للوراء في ٍ‬
‫أنهاك واضح‪..‬‬

‫‪‬منذ متى وأنا هنا لكي تكون هذه الفرحة بأعينكم ؟!‬

‫ظهر بخاطر أماني فجأة عدم وجود عمر في الغرفة‪ ..‬رغم أنها أبلغتهم بذلك‪ ،‬لكنها أدركت ما قرره عمر‪ ..‬هذا‬
‫فعال لدخوله أو الظهور أمامها‪ ..‬اللحظات القادمة ستكون صعبة خاصةً مع وجوده هنا ‪!..‬‬
‫ليس الوقت المناسب ً‬

‫أجابتها والدتها بعد أو وضعت يدها على شعر أبنتها‪..‬‬

‫ختبار من اهلل وعلينا أجتيازه‪ ،‬ال داعي للقلق يا آسية ‪!..‬‬


‫‪‬هذا أ ٌ‬
‫تعجبت آسية من كالم والدتها‪ ..‬ماذا تقصد بأختبار اهلل ؟!‪ ،‬الحظت أماني تعجبها فأجابتها نيابةً عن والدتها‪..‬‬

‫ِ‬
‫حالتك‪..‬‬ ‫‪‬أنتي هنا منذ أسبوع وستخرجين حالما تتحسن‬

‫صدمت آسية مما سمعته‪ ،‬عملت على القيام من سريرها لكنها لم تستطيع‪ ..‬أستوقفها جسدها فجأة‪ ..‬تعجبت‬ ‫ُ‬
‫ألنها غير قادرة على التحرك لكنها ظنت أنها قد تكون مازالت مجهدة‪ ..‬في هذه اللحظة نظرت أماني ووالدة‬
‫آسية لبعضهما في توجس‪ ..‬لحظة الحقيقة ستكون قاسية على الجميع هنا‪..‬‬

‫ٍ‬
‫بصوت مسموع‪..‬‬ ‫زفرت آسية وفكرت‬

‫‪85‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪‬قد فاتتني ا المتحانات العملية وبالطبع لن أستطيع اللحاق بأول مادتين على األقل‪ ..‬سنةً أخرى في تلك‬
‫الكلية الملعونة ؟!‪ ،‬ماذا فعلت يا ربي ليكون حظي هكذا ؟!!‬

‫دخل الطبيب بعد أن علم بأنها بخير‪..‬‬

‫أخيرا‪..‬‬
‫صحيحا‪ ..‬لقد تخلصت المهندسة آسية من غيبوبتها ً‬
‫ً‬ ‫‪‬أذن ما سمعته‬

‫تنهدت آسية وردت عليه في حسرة‪..‬‬

‫‪‬نعم تخلصت من الغيبوبة ولم أتخلص من الدراسة في تلك الجامعة‪ ،‬لقد فاتتني االمتحانات يا ربي ‪!..‬‬

‫التفتت آسية للطبيب لتسأله‪..‬‬

‫رجاءا‪..‬‬
‫‪‬هل يمكنني اللحاق بامتحانات آخر العام ؟!‪ ،‬أريد الخروج من هنا بسرعة ً‬
‫لوقت أطول لمتابعة حالتك إال أنني سأسمح ِ‬
‫لك بالخروج الليلة‪ ،‬وليكن في‬ ‫ِ‬
‫مكوثك هنا ٍ‬ ‫كنت أفضل‬
‫‪‬مع أنني ُ‬
‫ِ‬
‫وجهك يا آسية‪ ..‬قليلون فقط من‬ ‫كثيرا تلك األبتسامة على‬ ‫ِ‬
‫حسبانك أننا سنبدأ عالجك قريبًا‪ ،‬وبصراحة أسرني ً‬
‫ِ‬
‫عالجك بالتأكيد ‪!..‬‬ ‫يقابلون عجزهم بأبتسامة هكذا‪ ..‬سيسهل هذا من‬

‫جملته األخيرة تلك كانت كافية بشرح سبب الصمت الذي ساد المكان فجأة! ما كان يخشاه الجميع قد‬
‫جميعا‪..‬‬
‫حدث‪ ..‬حانت تلك اللحظات الصادمة‪ ،‬لذلك قد يتم سماع دقات قلبهن ً‬

‫أما آسية فقطبت حاجبيها في عدم فهم‪ ..‬من هؤالء الذين يقابلون عجزهم بأبتسامة ؟!‪ ،‬وما هذا العالج ولماذا‬
‫أصال معها‪ ..‬سألت الطبيب ‪..‬‬
‫؟!‪ ،‬منذ أن أستفاقت وهي لم تعلم ماذا حدث ً‬

‫سهال ؟!‬
‫‪‬ما عالقة ما تقوله بي يا دكتور ؟!‪ ،‬وعالج ماذا الذي سيكون ً‬
‫نظر الطبيب ألماني ولوالدة آسية‪..‬‬

‫‪‬لقد ظننت أنكما قد قمتما بأخبارها بشأن عجزها ‪!..‬‬

‫للحظة لم تستوعب آسية ما قيل أمامها‪ ،‬ثم جاء بخاطرها فجأة عدم قدرتها على تحريك نفسها خاصةً نصفها‬
‫السفلي‪ ..‬حاولت تحريك قدميها لكنها لم تستطيع ولم يتحركا‪ ..‬التفتت للطبيب محدقةً به متمنية أن ما يجول‬

‫‪86‬‬
‫عِ ضين‬
‫صحيحا أو أنها قد فهمت الموضوع كله خطأ‪ ..‬لكن كيف يكون قد فهمت خطأ وقد بدا على‬ ‫ً‬ ‫بخاطرها ليس‬
‫والدتها القلق والخوف وكذلك الحال بالنسبة لصديقتها أماني ؟!‪ ،‬سألته‪..‬‬

‫‪‬شلل ؟!‬

‫بدا على الطبيب األسف‪..‬‬

‫آسف يا آسية‪ ،‬ظننت ِ‬


‫أنك تعلمين بهذا‪..‬‬ ‫‪ٌ ‬‬
‫ٍ‬
‫بشيء بعدها‪ ..‬لقد سافر عقلها بعي ًدا‪ ،‬أرتمت على ظهرها تحدق بالسقف في شرود‪ ..‬بدأت الدموع‬ ‫لم تشعر‬
‫ُغمي عليها مرة أخرى‪..‬‬
‫تغزوها وأنغمرت في البكاء بعدها‪ ،‬حاولت أماني تهدئتها لكنها لم تتحمل صدمتها وأ ّ‬
‫عمر وأحمد يراقبان الوضع من خارج الغرفة‪ ..‬كان عمر حزينًا لما يحدث‪ ،‬لقد أشفق عليها‪ ..‬تمنى لو يزيح حزنها‬
‫عنها‪ ،‬تمنى أن يتخلى عنها الجميع ويقف هو فقط بجانبها ‪!..‬‬

‫‪87‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-88-‬‬
‫كان من المفترض أن تخرج من المستشفى منذ عدة أيام ولكن حالتها النفسية أجبرتها على البقاء لعدة ٍ‬
‫أيام‬
‫أخرى‪ ،‬لم تصبح آسية تلك الفتاة المبهجة والمرحة والمشاكسة‪ ..‬أصبحت يائسة وحزينة بل وصل األمر الى إنها‬
‫تعد وتحصي أيامها المتبقية في الحياة‪ ..‬أصبحت تنتظر أجلها‪..‬‬

‫أنتهت االمتحانات وأنتهت الدراسة معها للجميع باستثناء آسية التي لم يهمها األمر على األطالق فهي لم تعد‬
‫تهتم ألمر تلك الحياة بعد ماحدث لها‪ ..‬سافر أخوها للعمل في الخليج‪ ،‬ولم ترى إبن عمها قد زارها ليطمئن‬
‫دائما في عمله وقد يمر أيام دون‬
‫عليها ولو مرة بل يكتفي فقط بأرسال أمنياته بالشفاء لها !‪ ،‬أبيها منشغل ً‬
‫زيارتها‪ ..‬أما والدتها وأماني فكانتا معها طوال الوقت في غرفة العناية المركزة‪ ،‬أحمد وعمر خارج الغرفة‪ ..‬أحمد‬
‫يدخل بين الحين واآلخر ليطمئن عليها وكلما دخل أحمد تتذكر آسية عمر وعن تخليه عنها هو اآلخر حتى في‬
‫مثل تلك ال ظروف‪ ،‬الجميع يعرف ان عمر لم يتخلى عنها وانه متواجد منذ بداية األزمة لكنه ال يستطيع الدخول‬
‫بعد ‪!..‬‬

‫معا لملئ الفراغ فقط ‪..‬‬


‫في منتصف الليل تسهر آسية ووالدتها كالعادة يتحدثان ً‬

‫‪‬أتعرفين يا أمي‪ ..‬بعد الحادثة التي تعرضت لها لم تعد تهمني حياتي أو أي شئ فيها لكن ما يؤلمني ح ًقا أن‬
‫دائما‪ ،‬حتى إبن عمي لم يزورن‪..‬‬
‫كل من كانوا حولي تركوني اآلن‪ ..‬أخي يوسف سافر ولم يعد يهتم‪ ،‬أبي منشغل ً‬

‫تنهدت بعد أن بدأت الدموع تظهر بعينيها ‪..‬‬

‫‪‬ال أظن أنه سيرتبط بفتاة عاجزة مثلي‪ ..‬أنتي وأماني فقط تسانداني‪،‬أحيانا أحمد كذلك ‪..‬‬

‫سكتت للحظة ثم قالت ‪..‬‬

‫علي أحد ‪..‬‬


‫‪‬ال أريد شيئًا من أحد‪ ،‬ال أريد أن يشفق ّ‬
‫قاطعتها أمها وهي ترمي لشئ ما‪..‬‬

‫‪88‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪‬هناك أحدهم لم يتخلى ِ‬
‫عنك هو اآلخر ‪!..‬‬

‫نظرت آسية لوالدتها بتعجب قاطبةً حاجبيها في شك ‪...‬‬

‫‪‬ماذا تقصدين ؟!‬

‫ردت والدتها وبأبتسامةً تعلو وجهها لعلها تفهم ما تقصد ‪..‬‬

‫ببالك‪ ،‬لم يتخلى ِ‬


‫عنك لحظةً واحدة‪ ..‬هو الذي‬ ‫‪‬بالتأكيد هو من تفكرين به طوال الوقت‪ ..‬هو أول من جاء ِ‬
‫ِ‬
‫بخطيبك ‪!..‬‬ ‫فعل ما لم يفعله أبن ِ‬
‫عمك أو ما يُلقبونه‬

‫تساءلت آسية في نفسها‪ ..‬أيعقل أن يكون هو ؟! ‪ ،‬هي تشعر بوجوده لكنها ظنت ذلك ألنها لم تعتاد على فراقه‬
‫بعد‪ ،‬هل ح ًقا لم يتخلى عنها هو اآلخر ؟!‬

‫قاطعت والدتها تفكيرها‪..‬‬

‫معك منذ البداية ولم يتخلى ِ‬


‫عنك‪ ،‬هو معنا طوال الوقت وال يغادر المستشفى سوى لتأدية االمتحان أو‬ ‫‪‬عمر ِ‬
‫ِ‬
‫أمامك اآلن‪ ..‬على األقل هذه‬ ‫ضل عدم الظهور‬
‫للراحة من عناء اليوم في البيت‪ ،‬شأنه شأن أماني أو أحمد‪ ،‬لكنه ف ّ‬
‫الفترة فقط ‪..‬‬

‫بدا األمر طبيعيًا بالنسبة آلسية‪ ،‬أحساسها منذ البداية كان صادقًا‪ ..‬عمر لم يتخلى عنها لكنه ال يريد الظهور اآلن‬
‫بسبب ما حدث في آخر حديث بينهما‬

‫أنصتت لباقي حديث والدتها ‪..‬‬

‫ِ‬
‫نسيانك بالرغم أنه‬ ‫‪‬تح ّدثنا في ٍ‬
‫وقت أنتي كنتي نائمةً حينها‪ ،‬كان يلوم نفسه ألنه قرر ذات يوم أن يبتعد وحاول‬
‫يعلم جي ًدا أنه قد تم خطبتك‪ ..‬لقد وقف بجانبك في الوقت الذي أنشغل فيه البعض بحياته فقط‪..‬‬

‫أسندت آسية ظهرها للوراء وحدقت بالسقف‪ ..‬كانت تفكر في كالم والدتها‪ ..‬كانت تفكر في عمر‪ ..‬تساءلت‪..‬‬
‫أصال‪ ..‬أن يتخلى عنها ويكون هو كغيره أم أن ال يخلى‬
‫لماذا لم يتخلى عنها هو اآلخر ؟!‪ ،‬لم تعلم ماذا تريد ً‬

‫‪89‬‬
‫عِ ضين‬
‫واضحا أنه يُشفق عليها‪ ..‬ال تعلم كم من الوقت مر لكي تجد أن والدتها قد نامت بجانبها‪،‬‬
‫ً‬ ‫عنها وبذلك سيكون‬
‫ضا قد أرهقها التفكير فنامت‪..‬‬
‫هي أي ً‬

‫‪91‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-83-‬‬

‫كان من المفترض أن يكون أول من يدعمها ويقف بجانبها في محنتها لكنه كان أول الراحلين عنها‪ ،‬لم يزورها قط‬
‫سوى تلك المرة اليتيمة يوم الحادثة التي تعرضت لها ‪ ،!..‬كان هذا في ُعرف الجميع أنه قد قر فسخ خطبته بها‪،‬‬
‫بالتأكيد هذا سيؤثر عليها نفسيًا‪ ..‬ليس ألنها تحبه أو شيء هكذا فهي لم تطيقه من األساس لكن مغزى الرحيل‬
‫عنها هو من سيشعرها بالعجز الحقيقي‪..‬‬

‫لذلك كان على الجميع أن ال يسمحوا بأن تتدهور حالتها النفسية‪ ،‬كان هناك من أبدى أستعداده التام للوقوف‬
‫مستحيال‪..‬‬
‫ً‬ ‫بجانبها حتى شفائها حتى لو بدا هذا صعبًا أو‬

‫كان الجميع يقف خارج الغرفة عدا والدة آسية‪ ..‬كانوا يخططون إلعداد مفاجأة آلسية بدخول عمر واألطمئنان‬
‫عليها كأعالن عن عودة العالقات بينهما‪ ..‬الجميع يريد أن يجعل آسية تفهم أن عمر مازال يحبها وأنه ُمصر على‬
‫الوقوف بجانبها ومساعدتها عكس من كان يلقبونه بخطيبها هذا الذي لم يهتم باألمر من األساس‪ ،‬دخلت أماني‬
‫غرفة آسية بالمستشفى فيما ظل عمر وأحمد في الخارج ينتظران أشارة أماني لهما بالدخول‪ ،‬وبمجرد دخول أماني‬
‫مبتسمة شعرت آسية بشئ غير طبيعي سيحدث وربما ح ّدثها حثها بأنها سترى عمر اليوم بعد أن حدثتها والدتها‬
‫عنه باألمس‪ ،‬جلست أماني بجانب آسية في الجهة المقابلة لوالدة آسية ونظرت إليها بأبتسامةً غريبة ‪..‬‬

‫‪‬كم ستدفعين لي مقابل أخبا ٍر سارة ؟!‬

‫وحيث أن آسية كانت تنتظر خبر واحد جيد منذ الحادثة عدلت من وضعيتها على السرير لتجلس وعلى وجهها‬
‫الترقب‪ ،‬قالت ألماني بترقب‪..‬‬

‫‪‬أرجوكي‪ ..‬أنا أستمع ‪!..‬‬

‫أمسكت بهاتفها قامت بفعل شيء فيه ثم تركته‪ ،‬التفتت إليها لتخبرها بالخبر األول ‪..‬‬

‫ِ‬
‫ويمكنك الخروج الليلة‪..‬‬ ‫ِ‬
‫حالتك مستقرة‬ ‫أوال لقد أخبرنا الطبيب بأن‬
‫‪ً ‬‬

‫‪91‬‬
‫عِ ضين‬
‫أرتسمت البهجة على وجه آسية لكنها فكرت للحظة في أنها للمرة األولى ستواجه العالم بعجزها هذا‪ ،‬لكن ما‬
‫قطع تفكيرها هو صوت والدتها عندما سألت أماني ‪..‬‬

‫‪‬و الثاني ؟!‬

‫‪‬أما ثانيًا فهناك من تودين رؤيته ‪..‬‬

‫أوال وألقى التحية وسعادته برؤية‬


‫التفت الجميع نحو باب الغرفة التي كان يقف عليها عمر وأحمد‪ ،‬دخل أحمد ً‬
‫آسية بخير لكن الجميع قد الحظ جمود تعابير وجهها خاصة عندما دخل عمر بالذات‪ ..‬لم تبدي أي سعادة أو‬
‫أمتعاض حتى‪ ..‬أما عن عمر كالعادة لم يلحظ هذا ألنه وبكل بساطة كان يخطط ٍ‬
‫لكالم بعينه سيقوله لها‪ ..‬وكان‬ ‫ٍ‬
‫مبتسما ولم يبالى بنظرات آسية الجامدة ‪..‬‬
‫ً‬ ‫يُركز فقط على أال يفقد منه أي شئ‪ ،‬دخل‬

‫‪‬بدايةً‪ ..‬حم ًدا هلل على سالمتك ‪..‬‬

‫ضا‪ ،‬أكمل عمر كالمه ‪..‬‬


‫تجاهل عمر عدم ردها على تحيته هذه وأعتبرها أنها خجلت‪ ،‬وهكذا ظن الجميع أي ً‬

‫‪‬سمعت بخبر خروجك اليوم‪ ،‬وكنت سـ ‪...‬‬

‫‪‬ماذا تريد ؟!‬

‫قالتها آسية بحدة‪ ،‬للمرة الثانية آسية تقاطع عمر عندما يرتب كالمته لها‪ ،‬أندهش الجميع من سؤالها المفاجئ‬
‫هذا‪ ..‬أرتبك عمر وكان يستعد ليرد عليها لكنه لم تسمح له بأن يتكلم مرًة أخرى‪..‬‬

‫مجددا ؟!‪ ،‬جئت‬


‫ً‬ ‫مجددا في حياتي يا عمر‪ ..‬فلماذا تظهر‬
‫ً‬ ‫‪‬أنت أكثر من يعلم أنني لن أكون مسرورة برؤيتك‬
‫علي ؟!‬
‫لتساعدني أم ألنك قد أشفقت ّ‬
‫عال صوتها فجأ ًة بعصبية‪..‬‬

‫‪‬ال أريد أشفاقًا من أحد‪ ..‬سأعيش حياتي المتبقية هكذا إلى أن أرحل ‪..‬‬

‫‪92‬‬
‫عِ ضين‬
‫الجميع في حالة ذهول مما تقوله آسية‪ ..‬ال أحد توقع هذا أن يحدث‪ ..‬أما عمر فال يمكنني وصف حالته‬
‫قليال ‪..‬‬
‫مجددا‪ ،‬أكملت آسية عتابها بعدما هدأت ً‬
‫ً‬

‫فيلما رومانسيًا‬
‫‪‬أذهب يا عمر‪ ..‬ال تتقمص دور البطل أو الطيب وترتبط بفتا ًة عاجزة‪ ..‬نحن هنا ليس في ً‬
‫هنديًا‪ ..‬أذهب وحاول نسياني وعش حياتك طبيعيًا وتزوج بفتا ًة تحبها وتحبك‪..‬‬

‫أشاحت بنظرها بعي ًدا عنه‪..‬‬

‫مجددا‪..‬‬
‫ً‬ ‫‪‬أرجوك‪ ..‬ال أريد مساعدتك أو حتى رؤيتك‬

‫مصدوما‪ ..‬تبعه أحمد الذي عمل على تهدئته‪ ،‬فيما نظرت أماني آلسية نظرت عتاب‬
‫ً‬ ‫مسرعا‬
‫ً‬ ‫أدار عمر ظهره وخرج‬
‫وخرجت مسرعة هي األخرى لتلحق بعمر لتوضح األمر له وعندما لحقت به نادته ثم وقفت أمامه‪..‬‬

‫متوقعا‪ ..‬يبدو أننا قمنا بذلك في الوقت الخطأ‪ ،..‬لم يكن عليك أن تظهر‬
‫‪‬عمر‪ ،..‬أعلم أن ما حدث كان غير ً‬
‫جميعا لم ندرك هذه المشكلة‪ ،‬أرجوك ألتمس لها العذر فهي ليست على مايرام وأعلم‬
‫لها في بداية أزمتها لكننا ً‬
‫قليال فأنك ستدرك حالتها جي ًدا وتلتمس لها العذر‪..‬‬
‫أنك لو فكرت في األمر ً‬

‫وهم بالخروج من المستشفى‬


‫ظل عمر صامتًا ولم يتكلم وعندما أدرك أن ليس هناك كالم أخر ستضيفه أماني تركها ّ‬
‫وتبعه احمد لتهدئته‪ ،‬أما هي فعادت لغرفة آسية مرة أخرى‪..‬‬

‫‪93‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-84-‬‬

‫التخرج الخاصة بكلية األعالم‪ ،‬لم يبدأ الحفل رسميًا ولكن ال بأس من بعض‬
‫بدأ الجميع يتوافد لحضور حفلة ُ‬
‫ٍ‬
‫شخصيات جامعية كرئيس جامعة القاهرة ونائبه وأساتذة في‬ ‫الموسيقى الهادئة حالما يصل كبار ضيوف الليلة من‬
‫كلية األعالم مثل عميد الكلية وبعض األساتذة‪ ..‬أعالميون وشخ ٍ‬
‫صيات عامة مثل المذيعة الشهيرة شيرين عبد‬
‫النور‪ ..‬كان منظمو الحفل ينتظرون هؤالء الضيوف ألحياء الحفل رسميًا‪..‬‬

‫أستعدادا لبدء فقرات حفلة الليلة‪ ،‬صعد أحدهم على المنبر‬


‫ً‬ ‫و عند أكتمال الحضور تقريبًا بدأ ضجيج األغاني‬
‫لتقديم الحفل‪..‬‬

‫‪‬بسم اهلل الرحمن الرحيم " وما توفيقي إال باهلل " صدق اهلل العظيم ‪...‬‬

‫تخرج الدفعة العشرون لكلية األعالم جامعة القاهرة وخير ما نبدأ‬


‫أهال ومرحبًا بكم في حفل ُ‬
‫أيها السادة الحضور ً‬
‫به حفلنا هذا الليلة هو بعض آيات كتاب اهلل عز وجل‪ ..‬القرآن الكريم‪..‬‬

‫جاء أحدهم ولعشرة دقائق متواصلة ظل الجميع ينصت آليات القرآن‪ ،‬مرًة أخرى صعد ُمقدم الحفل المنبر‪..‬‬

‫‪‬و ألن حفلنا سيطول هذه الليلة فقد قررنا البدء من اآلن‪..‬‬

‫بدأت األنوار تنطفئ في القاعة وبدأت الشاشة العمالقة تعرض مشاهد لفتاة ما تمسك ميكروفونًا‪ ..‬تلتف الكاميرا‬
‫ٍ‬
‫معلومات عنها ‪...‬‬ ‫لتقف أمامها‪ ..‬ويتم تثبيت الصورة وعرض‬

‫ماريان مجدي‪ ..‬تحتل المرتبة األولى بين طالب الكلية بتقدير أمتياز مع مرتبة الشرف‪ ..‬تحب العمل الميداني‬
‫والمغامرة‪ ،‬تعمل في قناة " ‪ ، " exclusive news‬وتعد أصغر مراسلة ميدانية في مصر والشرق األوسط‪..‬‬

‫ثم يتم عرض مشاهد متتالية ومقتطعة لماريان وهي تعمل كمراسلة ميدانية‪..‬‬

‫‪‬نحن اآلن نقف أمام القصر الرئاسي و‪ ،...‬لكن آخر األخبار التي وردت ألينا هو أن‪ ،..‬واآلن يا شيرين نحن‬
‫في الطائرة الخاصة بالقوات المسلحة لتغطية تظاهرات اليوم المطالبة بـ ‪...‬‬

‫‪94‬‬
‫عِ ضين‬
‫ثم ظهر صوت ُمقدم الحفل فجأة مع رجوع األضواء مرةً أخرى للقاعة ‪..‬‬

‫‪‬نقدم أليكم اآلن‪ ..‬ماريان مجدي ‪..‬‬

‫خاصا على‬
‫ممرا ً‬
‫ظهرت ماريان في آخر القاعة وسط صخب كبير وحفاوةً من الجميع لها‪ ..‬لقد صنع لها زمالئها ً‬
‫الجانبين لتمر هي وسطهم من آخر القاعة حتى وصلت لكبار الضيوف‪ ..‬تسلمت شهادتها الرمزية ثم وقفت على‬
‫المنصة أللقاء كلمتها‪ ،‬كان الجميع يعرفها بال أستثناء‪ ..‬تلك ماريان التي تظهر في البرامج األخبارية من مختلف‬
‫الميادين واألحداث في مصر‪..‬‬

‫سكتت للحظات ثم بدأت كلمتها والسعادة تغمرها وكذلك الخجل وكأنها ألول مرة ستواجه جمع غفير من‬
‫الناس‪..‬‬

‫أردت النجاح‪ ،‬ووصلت للقمة وليس معنى وصولي للقمة يعني أنني نجحت‪ ،‬النجاح هو‬
‫‪‬النجاح قرار‪ ..‬ولقد ُ‬
‫يوما‪ ..‬األمر لم يقتصر فقط وصولي للقمة‪ ..‬فمازال الطريق أمامي‬
‫دائما ألعتالئها ً‬
‫الحفاظ على القمة التي سعيت ً‬
‫طويال‪ ،‬لذلك مخطئ من يظن أن الوصول للقمة فقط هو النجاح‪..‬‬
‫ً‬

‫قليل منا من ينجح‪..‬‬


‫تبدو فكرة النجاح فكرًة صائبة‪ ..‬لكنه ليس لمن تمنى فقط فجميعنا يتمنى النجاح لكن ٌ‬
‫النجاح لمن عمل وعمل وعمل بأستمرار ‪..‬‬

‫سكت للحظات قليلة ثم ظهر على وجهها األمتنان ‪...‬‬

‫‪‬أود أن أشكر الجميع‪ ..‬جميعكم كان له دوره الخاص في حياتي‪ ..‬الجميع كان سببًا ما في ما وصلت إليه‬
‫اآلن‪..‬‬

‫أبي وأمي قاما بتربيتي على مبدأ النجاح والوصول للقمة وأن ال أضع سق ًفا لطموحاتي ‪..‬‬

‫عمي ثروت الذي تحدى الجميع بي وكان يثق في موهبتي الذي طالما هو قرر تنميتها عندي‪..‬‬

‫شيرين ‪...‬‬

‫‪95‬‬
‫عِ ضين‬
‫توجهت األنظار كلها ناحية شيرين‪ ..‬حتى شيرين نفسها كانت تنتظر أن تذم فيها ماريان أو تنتقدها‪..‬‬

‫أكملت ماريان‪..‬‬

‫عظيما فيما وصلت‬


‫دورا ً‬
‫في كذلك وكان لها ً‬
‫‪‬شيرين‪ ..‬األشهر هنا في الساحة األعالمية قامت بتدريبي ووثقت ّ‬
‫إليه ‪!..‬‬

‫حدقت شيرين بماريان‪ ..‬لم تتوقع أن تمدحها بعد كل ما فعلته معها‪ ،‬كذلك ثروت الذي كان منده ًشا لما قالته‬
‫ماريان‪ ..‬لم تكونان على ما يرام ساب ًقا‪ ..‬فلماذا فعلت ذلك ؟!‪ ،‬أما والديها فكانا يبتسمان‪ ..‬لم يعلما أب ًدا بما كان‬
‫يحدث بين ماريان وشيرين‪..‬‬

‫‪‬أصدقائي‪ ..‬الذين كانوا لطيفين معي‪ ..‬لم يكن الحقد بيننا‪ ..‬ساعدنا بعضنا ولم نبخل عن بعضنا بشيء‪ٍ ..‬‬
‫أيام‬
‫كل في طريقه الذي رسمه لنفسه أو الذي لم‬ ‫ٍ‬
‫معا‪ ..‬أيام قليلة وسنفترق‪ٌ ..‬‬
‫قليلة وستنتهي امتحانات آخر أعوامنا ً‬
‫ضا‪..‬‬
‫يرسمه أي ً‬

‫أتمنى التوفيق للجميع وبالتأكيد سنلتقي قريبًا ‪..‬‬

‫كان الجميع يصفق بحرارة بعد أنتهاء كلمتها‪ ..‬قامت هي بمعانقة والديها ومن بعدهم عمها‪...‬‬

‫‪‬كانت حركةً ذكيةً ِ‬


‫منك يا ماري‪..‬‬

‫علي أن أفعل ذلك يا عمي قبل خوض أي تحدي جديد‪..‬‬


‫‪‬كان ّ‬
‫توجهت ناحية شيرين التي كانت تنتظرها‪ ،‬قامت بمصافحتها‪..‬‬

‫‪‬أنا آسفة يا ماريان‪..‬‬

‫تلك األبتسامة التي لم تفارق وجه ماريان‪..‬‬

‫‪96‬‬
‫عِ ضين‬
‫هاما في حياتي وفيما وصلت إليه أنا‪ ،‬لذلك‬ ‫ِ‬
‫دورا ً‬
‫ضا لم أكذب‪ ..‬كان لك ً‬
‫‪‬ال داعي لذلك اآلن‪ ،‬لكنني أي ً‬
‫شكرا ِ‬
‫لك‪..‬‬ ‫ً‬

‫قامت شيرين بمعانقتها‪ ،‬تركتها ماريان لتغطية الحفلة ‪..‬‬

‫لقاءا صحفيًا مع كل طالب أو طالبة تخرج أللقاء كلمة بمناسبة التخرج‪ ..‬كانت األجواء مرحة‬
‫كانت ماريان تعقد ً‬
‫هذه الليلة‪ ..‬هذه الليلة لن ينساها الجميع ‪!..‬‬

‫‪97‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-85-‬‬

‫عادت لبيتها بعد فترة ليست بالقصيرة ولكنها عادت هذه المرة عاجزة‪ ..‬كانت في األسابيع الماضية سجينة غرفةً‬
‫ممال بالنسبة لها‪ ..‬فما بال القادم من‬
‫أسابيع قليلة فقط وقد أصبح األمر ً‬
‫ٌ‬ ‫ما في المستشفى لكنها لم تكن سوى‬
‫مهال‪ ..‬ماذا لو كان هذا العجز الزمها طوال عمرها ؟!‪ ،‬لن تتحمل هذا البؤس أب ًدا‬ ‫ٍ‬
‫أيام أو شهور وربما سنين ؟!‪ً ،‬‬
‫‪!..‬‬

‫ضا‪ ..‬لقد توقف عقلها عند التفكير‬


‫أخيرا‪ ،‬بالها الذي أصابه العجز أي ً‬
‫كل هذا كان يدور ببالها عندما عادت للبيت ً‬
‫في هذا األمر فقط‪ ..‬أسئلة تراودها من الحين لآلخر‪ ،‬لماذا تخلى عنها الجميع هكذا ؟!‪ ،‬أين والدها من هذا كله‬
‫فعال وقرر مساعدتها‬
‫؟! أيهمه عمله أكثر من تلك الظروف التي تمر به أبنته ؟!‪ ،‬ما الذي فعلته بمن أحبها ً‬
‫أصال ؟!‬
‫والوقوف بجانبها ؟!‪ ،‬لمتى سيدوم هذا العجز ً‬

‫و بعد أن حملتها والدتها وتشاركت أماني معها في نقلها لسريرها وما أن أطمأنت عليها حتى خرجت من الغرفة‬
‫لتدبر شئون بيتها الذي تم هجره طوال األسابيع الماضية‪ ..‬كانت فرصة لتنفرد أماني بآسية في الحديث معها‪..‬‬

‫‪‬لم يكن ِ‬
‫عليك أن تفعلي هذا مع عمر يا آسية‪ ..‬لم يكن ليستحق هذا ‪!..‬‬

‫أشاحت آسية بوجهها بعي ًدا لتتجنب نظرات صديقتها القاسية‪...‬‬

‫‪‬ستعرفين في الوقت المناسب لماذا فعلت هذا ‪!..‬‬

‫معا‪ ،‬أي ٍ‬
‫سبب هذا الذي يجعل آسية أن تطرد عمر بهذه الطريقة ؟!‪ ،‬لقد وقف‬ ‫بدت على أماني الحيرة والشفقة ً‬
‫بجانبها طيلة الوقت ولم يتخلى عنها كما فعل خطيبها‪ ..‬عمر ال يستحق رد آسية العنيف هذا ‪!..‬‬

‫ٍ‬
‫لحظة مضت وها هو صوتها يرتفع لكن‬ ‫قطع تفكيرها صوت والدة آسية من الغرفة األخرى‪ ..‬لقد رن الهاتف منذ‬
‫ال أماني وال آسية أستطعتا أن تفسرا كالمها‪ ..‬ظنت آسية أن والدتها تعاتب زوجها على غيابه المتكرر هذه األيام‬
‫أساسا وخاصةً في مثل تلك الظروف‪ ..‬خروجها من المستشفى ومواجهتها للعالم الخارجي أول‬
‫حتى يكاد ال يظهر ً‬
‫مرة بعجزها هذا تطلّب حضوره على األقل لكنه لم يفعل ‪ ،!..‬لكنها فجأة سمعت صوت صراخ والدتها‪ ،‬أسرعت‬
‫‪98‬‬
‫عِ ضين‬
‫أماني تلقائيًا لخارج الغرفة لمعرفة سبب صراخ والدة آسية ‪ ،!..‬فيما ظلت آسية على سريرها عاجزةً عن الحركة‪..‬‬
‫للحظةً واحدة تساقطت دمعةً يتيمة على وجهها بسبب أحساسها بالعجز ألول مرة ‪ ،!..‬لكن سرعان ما أستعادت‬
‫لتقربه إليها لكنها الحظت دخول‬
‫مجددا والحظت قرب الكرسي المتحرك من سريرها‪ ..‬مدت يديها ّ‬
‫ً‬ ‫وعيها لواقعها‬
‫أماني غرفتها‪ ..‬كان وجهها شاحبًا يبدو عليه التوتر مع سماعها في نفس الوقت لصوت نحيب والدتها خارج‬
‫الغرفة ‪!..‬‬

‫خارجا‪ ..‬ومع‬
‫و ما أن دخلت أماني الغرفة بوجهها الشاحب هذا‪ ،‬حدقت آسية بها بنظرة تساؤل عما يحدث ً‬
‫صمت أماني المخيف الذي أستمر للحظات أنزعجت آسية ‪ ،!..‬بادرت هي بالكالم‪..‬‬

‫‪‬ها‪ ..‬تكلمي يا أماني ماذا حدث ؟!‪ ،‬لماذا أمي تبكي ؟!‬

‫واضحا بجالء على وجه صديقتها‪..‬‬


‫ً‬ ‫كان التردد‬

‫‪‬أنه ِ‬
‫والدك يا آسية ‪..‬‬

‫أتسعت عيني آسية وكأنها قد علمت الباقي‪ ،‬صراخ والدتها وأضطراب صديقتها بهذا الشكل‪ ..‬مع غياب والدها‬
‫ٍ‬
‫ظروف كهذا ال يعني إال شيئًا واح ًدا تمنت لو أنها تمادت فقط في تفكيرها السلبي‪ ..‬سألتها في توتر‪..‬‬ ‫في‬

‫‪‬والدي ؟!‪ ،‬ماذا به ؟!‬

‫أزدردت أماني ريقها بصعوبة ثم أكملت وقلبها يخفق بقوة‪..‬‬

‫وتوفي‪..‬‬
‫‪‬لقد تعرض لحادث‪ّ ..‬‬
‫و بحركةً غير واعية لكنها مألوفة أعتادت عليها آسية في الفترة األخيرة عند سماعها لألخبار السيئة‪ ،‬نامت آسية‬
‫ٍ‬
‫لحظات وتراكمت الدموع في عينيها ثم أطلقت صرخةً مؤلمة‬ ‫على ظهرها في ٍ‬
‫غياب عن وعيها من أثر الصدمة‪..‬‬
‫وعالية جعلت والدتها تأتي مسرعةً محاولةً تهدئتها‪ ..‬حاولت والدتها بمساعدة أماني من تهدئتها لكن فشلتا في‬

‫‪99‬‬
‫عِ ضين‬
‫ٍ‬
‫للحظات مغمضةً عينيها في بدء لغياب وعيها تدريجيًا رغم‬ ‫ذلك‪ ..‬لم تتحكم آسية في نفسها وأستمر هذا الوضع‬
‫أحساسها بما يجري حولها ‪!..‬‬

‫‪111‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-86-‬‬

‫عجز دمر حياتها بالكامل‪ ..‬وفاة والدها‪ ..‬حالتها النفسية التي‬


‫كان مح ًقا من قال أن المصائب ال تأتي فرادى‪ٌ ،‬‬
‫سوءا بمرور الوقت وكذلك فتات المصائب األخرى مثل أنها لم تُكمل دراستها‪ ..‬منذ وفاة والدها وهي‬ ‫تزداد ً‬
‫مازالت نائمة‪ ..‬نعم أنه ذلك الخمول واألنعزال أعالنًا عن وصول الحالة النفسية للصفر‪ ،‬فقد وجدت النوم سبيلها‬
‫الوحيد للهروب من واقعها المؤلم‪..‬‬

‫أماني أصبح يومها كله تقريبًا مع آسية ووالدتها لتلبية أحتياجاتهم‪ ،‬أما عمر وأحمد فأصبح وجودهم أعتياديًا‬
‫وضروريًا وكأن جميعهم أصبحوا عائلةً واحدة‪..‬‬

‫و ألن هذا أسوأ ما قد يحدث لها فقد أعتادت على مثل هذه األخبار وعندما بدأت تدرك واقعها جي ًدا وتعتاد على‬
‫حالتها الجديدة كان يومها يقتصر بين نومها أو الجلوس صامتة دون التفكير حتى في شيء ‪ ،!..‬فال شيء يعد يثير‬
‫أهتمامها في حياتها بعد ما حدث معها‪ ،‬حتى تلك اللحظة التي تم كسر روتين حياتها الممل في أيامها األخيرة‬
‫ٍ‬
‫لحظات قد حدثت ساب ًقا في المستشفى قد يراها الجميع‬ ‫الماضية‪ ..‬لحظة سماح أماني بدخول عمر فجأة ليعيد‬
‫نظرا للعواقب الوخيمة التي قد تنتج عن هذا ‪ ،!..‬فقد أجبر عمر أماني على‬
‫أن الوقت ليس مناسبًا لمواجهة أخرى ً‬
‫فعال أستقبل نظرات آسية ‪ ،!..‬تلك النظرات القاسية التي يشوبها الغضب‪ ،‬ثم ما‬
‫األستئذان للدخول وعندما دخل ً‬
‫أن سنحت الفرصة لإلنقضاض عليه فعاتبته من جديد بغضب‪..‬‬

‫‪‬أنت مرةً أخرى ؟!‬

‫مجددا‪..‬‬
‫ً‬ ‫ثم بدأت دموعها تنطلق من جديد منذرًة بأنهيارها‬

‫‪‬لماذا الجميع ضدي ؟!‪ ،‬أال تفهمون ما أعانيه ؟!‪ ،‬أتركوني وشأني أرجوكم ‪!..‬‬

‫قالتها وهي في قمة أنهيارها‪ ،‬فقاطعها عمر هذه المرة بشجاعة وأجبر الجميع على األنصات له‪ ..‬حتى آسية‬
‫نفسها ‪..‬‬

‫ِ‬
‫وحدك‪..‬‬ ‫لديك‪ ،‬أنا هنا ولن أغادر‪ ..‬لن أتر ِ‬
‫كك لتعاني‬ ‫‪ ‬هذه المرة دعيني أكمل كالمي ثم نرى ما ِ‬

‫‪111‬‬
‫عِ ضين‬
‫تفاجأ الجميع من كالمه‪ ،‬أكمل ما جاء ألجله‪..‬‬

‫مأذق كبير والبد من وقوف الجميع بجانِبك وأول هؤالء الناس‪ ..‬أنا ‪!..‬‬
‫‪‬أنتي في ٍ‬

‫قطعت آسية كالمه‪..‬‬

‫‪‬و أنا ال أريد مساعدة أحد وخاصة أنت ‪!..‬‬

‫مجددا وكأنهما في مبارزة كالمية ‪...‬‬


‫ً‬ ‫قاطعها عمر‬

‫ِ‬
‫وأساعدك حتى تشفين بأذن اهلل ‪..‬‬ ‫‪‬لست ِ‬
‫أنت من يقرر ذلك‪ ..‬شأتي هذا أم أبيتي سأقف بجانبك‬

‫أبتسمت آسية بسخرية‪..‬‬

‫‪‬أُشفى ؟!‪ ،‬أتعرف ما مشكلتك يا عمر ؟!‪ ،‬أنك تتصنع األمل‪ ،‬سأظل هكذا طوال عمري وأنت سيصيبُك‬
‫الملل قريبًا وسترحل كالبقية ‪..‬‬

‫أغمضت عينيها للحظة لتلتقط أنفاسها‪ ،‬أكملت كالمها‪..‬‬

‫ضا ال أحب الشفقة‪ ،‬أكمل حياتك بعي ًدا عني وأستمتع بها قدر‬
‫شخص طيب لكنني أي ً‬
‫ٌ‬ ‫أنك‬
‫‪‬أعلم جي ًدا يا عمر َ‬
‫أنفعك أنا ‪..‬‬
‫َ‬ ‫ما تشاء‪ ،‬صدقني لن‬

‫قالت جملتها األخيرة ولم تستطع السيطرة على دموعها‪ ،‬وكأنهما يتحادثان بمفردهما عزم عمر ألفراغ ما في قلبه‬
‫حتى بوجود والدتها‪..‬‬

‫موجودا وحيث أنه‬


‫ً‬ ‫‪‬ال أقول ذلك ألشفق ِ‬
‫عليك كما تظنين‪ ..‬أنا فقط أثق باهلل‪ ..‬طالما هو موجود يبقى األمل‬
‫موجودا دائما معنا فسيبقى األمل كذلك‪ ،‬واثق من قدرة اهلل على شفائك‪ ،‬سأبقى ِ‬
‫معك‪..‬‬ ‫ً ً‬
‫عم الصمت الغرفة‪ ،‬والدتها وصديقتها تترقبان ردها‪ ،..‬أكمل عمر عندما طال الصمت ‪...‬‬
‫ّ‬

‫يوما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫دائما‪ ،‬لن أتخلى عن مساعدتك أب ًدا‪ ،‬ستُشفين ً‬
‫‪‬أمنحيني فرصةً واحدة وسأثبت لك أنني سأكون معك ً‬
‫ِ‬
‫بدونك ليس حياة‪ ..‬لقد أكتشفت هذا عندما أدركت أن عالقتنا قد أنتهت‬ ‫ما‪ ..‬أنا أؤمن بهذا‪ ..‬كما أ ّن حياتي‬
‫بسبب خطبتك‪..‬‬

‫‪112‬‬
‫عِ ضين‬
‫دائما دون أن يخجل !‪ ،‬والدة آسية وأماني‬
‫خرج عمر على الفور بعدها في أرتياح‪ ..‬ألول مرة يفرغ ما في قلبه ً‬
‫كانتا مذهولتين مما حدث‪ ،‬أستلقت آسية على سريرها بعد خروج الجميع وظنت أن النوم سيتأخر كعادته وأنها‬
‫ستبدأ رحلة التفكير فيما حدث معها منذ قليل‪ ..‬ستفكر في كالم عمر‪ ،‬لكن العجيب أنها وجدت نفسها قد‬
‫ٍ‬
‫لساعات طويلة‪ ،‬ظلت جالسة على‬ ‫فعال‬
‫أستيقظت فجأة‪ ..‬نظرت في الساعة بجانبها فوجدت أنها قد نامت ً‬
‫سريرها سارحةً بخيالها فيما حدث باألمس‪ ..‬لقد نامت لساعات بمجرد أطمئنانها أن عمر لن يتخلى عنها‪ ،‬فكرت‬
‫كيف كان هو قاسيًا في حديثهم األخير قبل الحادثة‪ ،‬ظهرت أبتسامة على وجهها لحظة دخول أماني الغرفة‪..‬‬

‫‪‬مستحيييييل‪ ..‬آسية تبتسم ؟!‬

‫أطلقت آسية ضحكةً خافتة من تهكم صديقتها‪ ،‬ردت عليها بهدوء‪..‬‬

‫‪‬ربما ليس لي مزاج اليوم للبكاء والنكد‪..‬‬

‫واصلت أماني تهكمها عليها‪..‬‬

‫ضا للمزاح‪..‬‬ ‫‪‬حسنًا‪ ..‬يبدو أن ِ‬


‫لك مزاج أي ً‬
‫جلست أماني بجانبها وسألتها في ترقُب‪..‬‬

‫اجك هكذا‬ ‫ساعات ٍ‬


‫قليلة فقط منذ يوم أمس‪ ..‬ماذا حدث لينقلب مز ِ‬ ‫ٍ‬ ‫‪‬و اآلن أخبريني‪ ..‬ماذا حدث ؟!‪ ،‬تر ِ‬
‫كتك‬
‫؟!‬

‫ردت آسية‪..‬‬

‫قليال‪ ..‬فكرت في أن أحيا من جديد ‪ ،!..‬سوف أتعامل مع عجزي هذا‪..‬‬ ‫‪‬فكرت أن ِ‬


‫أسعد نفسي ً‬
‫ظهرت أبتسامةً ماكرة‪..‬‬

‫ضعف أخرى ِ‬
‫لك‪ ..‬عمر‪..‬‬ ‫ٍ‬ ‫‪‬حسنًا‪ ..‬يبدو أنني أكتشفت نقطة‬

‫خطر ببالها سؤال ‪..‬‬

‫‪113‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪‬أذا لماذا فعلتي كل هذا معه منذ البداية ؟!‬

‫علي‪ ،‬أن كان يحبني‬


‫‪‬لسببين يا ذكية‪ ..‬أولهما أنني كنت أريد أن أعلم أن كان يحبني ح ًقا أم أنه يشفق ّ‬
‫علي فمجرد أن أغضب بسبب وجوده فكبريائه سيمنعه من مواصلة دعمه‬ ‫سيتقبلني كما أنا‪ ..‬وأن كان يشفق ّ‬
‫ومساعدته لفتاةً عاجزةً مثلي‪..‬‬

‫رفع أماني حاجبيها في دهشة من ذكاء آسية‪..‬‬

‫أنك قد‬ ‫ِ‬


‫بمفردك‪ ،‬كل هذا جميل لكن قبل ليلة أمس من المفترض ِ‬ ‫‪‬هكذا أذن‪ ..‬قمتي بأعداد الخطة وتنفيذها‬
‫لك‪ ،‬فلماذا رفضي مساعدته ليلة أمس؟!‬‫تأكدتي من حبه ِ‬

‫ردت عليها آسية ‪..‬‬

‫أردت التأكد هل سيواصل دعمي ويبقى معي أم أنه سيمل بسرعة‪..‬‬


‫‪‬و هذا السبب اآلخر‪ُ ..‬‬
‫أستكماال لكالم آسية‪..‬‬
‫ً‬ ‫ردت أماني‬

‫‪‬و هكذا تقدرين مدى حبه ِ‬


‫لك ‪!..‬‬

‫هزت آسية رأسها موافقةً لكالم صديقتها‪ ،‬ثم أكملت‪..‬‬

‫‪‬لذلك فقد عال شأنه عندي‪ ،‬أعتقد بأنني محظوظةً به‪..‬‬

‫ُسرت أماني بكالم صديقتها أكثر منها‪ ،‬أبتسمتا لبعضهما وظال يتسامران طوال اليوم حتى منتصف اليوم إلى أن‬
‫نامت آسية وفي مخيلتها أنها ستبدأ حياةً أساسها وقوامها عمر‪..‬‬

‫‪114‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-80-‬‬

‫لم تكن تتخيل أن يصل بها الحال أنها لتحبها هكذا‪ ،‬ولم تعد تفكر في النيل منها‪ ،‬بل كانت تفكر في كيفية‬
‫أصال لذلك ِ‬
‫الصدام الذي كان يحدث‬ ‫تعويضها عما فاتها‪ ،‬كانت مخطئة في التعامل معها‪ ،‬ولم يكن هناك داعي ً‬
‫بينهما‪ ،‬لكنها تساءلت عن سر هذا التحول في شخصيتها المفاجئ ؟!‪ ،‬هل بسبب ما قالته في حفل ت ّخرجها ؟!‪..‬‬
‫ربما‪ ، ..‬لكن ليست هذه المشكلة‪ ،‬المشكلة أنها كانت تهاجمها بال داعي‪ ،‬كانت تعاني صعوبة األعتراف أن‬
‫فعال‪ ..‬لقد أكتسبت حب الناس لصالحها‪..‬‬
‫ماريان أفضل منها ً‬

‫كانت شيرين تقف بجوار ثروت في صالة األنتظار بمطار القاهرة الدولي‪ ،‬كانوا ينتظرون ماريان لتوديعها قبل خوض‬
‫مغامرتها الجديدة في لندن لكنها تأخرت‪ ، ..‬يبدو بأنها كانت تحاول توديع زمالئها في القناة قبل السفر‪ ،‬لكنهما‬
‫أخيرا الحظًا قدوم ماريان من بعيد‪ ..‬كانت تبدو مهمومةً وشاردة ‪!!..‬‬
‫ً‬

‫أما عن ماريان فكانت تشعر بالضيق‪ ،‬كانت تريد توديع عمها لكنها لم تجده في أماكنه المألوفة‪ ..‬ال مكتبه أو بيته‬
‫همت بالبحث عن شيرين لتسألها عن مكان عمها ثروت لكنها أختفت هي األخرى وكأنهما‬
‫حتى هاتفه مغلق‪ّ ..‬‬
‫أتفقا على ذلك في ٍ‬
‫وقت كانت تحتاج لتوديعهم‪ ،‬لكنها الحظت أنها ستتأخر على ميعاد طائرتها‪ ،‬ال مفر أذن‪..‬‬
‫عليها التوجه للمطار وأنتظار طائرتها‪..‬‬

‫و عند دخولها صالة األنتظار الحظت أحدهم وهو يشير إليها بيده‪ ،‬أنه عمها‪ ..‬أرتسمت الفرحة علي وجنتيها‬
‫وأسرعت نحوه بعد أن تركت حقيبتها‪ ..‬عانقته في حرارة‪..‬‬

‫‪‬هكذا تكون األمور منطقية‪ ،‬لم أكن ألسافر دون توديعك يا عمي‪..‬‬

‫قليال‪..‬‬
‫أربت على ظهرها‪ ،‬أبعدها عنه ً‬

‫وداعا يا ماري‪ ..‬أسمها إلى اللقاء‪..‬‬


‫‪ ‬ليس ً‬
‫طبعا إلى اللقاء يا عمي‪..‬‬
‫‪ً ‬‬

‫‪115‬‬
‫عِ ضين‬
‫التفتت إلى شيرين التي الحظت وجودها للتو بجانب عمها‪ ،‬تبادلتا األبتسامة ثم تعانقتا‪ ،‬ثم قالتها شيرين‬
‫بسخرية‪..‬‬

‫‪‬سأفتقد الشجار ِ‬
‫معك يا ماري‪..‬‬

‫هزت ماريان رأسها نافية‪..‬‬

‫‪‬ال‪ ..‬ال أعتقد بأننا سنتشاجر ثانيةً‪ ،‬لكن أن أردتي ذلك فال مانع لدي أن أبقى هنا لنتشاجر ‪!..‬‬

‫واصلت شيرين تهكمها‪..‬‬

‫قليال ‪!..‬‬
‫أوال ثم ترجعين لنتشاجر كالعادة‪ ،‬حسنًا يمكنني أن أصبر ً‬ ‫ِ‬
‫حلمك ً‬ ‫‪‬ال ليس اآلن‪ ..‬عليكي بتحقيق‬

‫ضحكتا ثم جاء النداء بأن الطائرة على وشك األقالع‪ ..‬أخرجت شيرين هاتفها وفتحت الكاميرا وألتقط ثالثتهم‬
‫أخيرا ثم توجهت لطائرتها‪..‬‬
‫وداعا ً‬
‫بعض صور الـ " سيلفي "‪ ،‬ثم ودعتهم ماريان ً‬

‫ركبت طائرتها وأستقرت بمقعدها‪ ،‬كانت سعيدة ومتحمسة لمغامرتها الجديدة‪ ،‬تناولت هاتفها وفتحت صفحتها‬
‫معا التي تم ألتقاطها منذ‬
‫على الـ " الفيسبوك "‪ ،..‬أبتسمت عندما وجدت أن شيرين قد أشارت إليها بصورتهما ً‬
‫قليل وعليها تعليق ‪..‬‬

‫" حظًا موف ًقا يا ماري‪" ..‬‬

‫منشور كان في دقائقه األولى يملك عشرات األعجابات والتعليقات‪ ..‬كلها تتمنى حظًا موف ًقا لها‪..‬‬

‫‪116‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-82-‬‬

‫مرت األيام وتبدلت األحوال‪ ،‬وأصبحت تنتظر مجيئه كل يوم‪ ..‬في كل مرةً هو يأتي إليها كانت تمني النفس في أن‬
‫يقضي ٍ‬
‫وقت أطول معها ألنها كانت تدرك أنه قريبًا لن ينتظم في المجيء إليها بسبب أجراءات ألتحاقه بالقوات‬
‫المسلحة ومن ثم تأدية الخدمة العسكرية‪ ..‬خاصةً بعد أن ظهرت نتيجة الكشف األول أنه سيخضع لكشف طبي‬
‫آخر في القاهرة بعد أيام‪..‬‬

‫في الفترة األخيرة كان يتم اإلعداد لبدء عالج آسية وقد أوصى عدة أطباء بتكملة عالجها في األسكندرية‪ ..‬هناك‬
‫سهال خاصةً بعد أن عرض‬
‫أطباء أكفاء في هذا المجال واألمكانيات متوافرة عن الصعيد‪ ،‬كان أمر السكن هناك ً‬
‫ٍ‬
‫سنوات في األسكندرية للمصيف كل عام وبالطبع قبلها‬ ‫عليهم عمر أن يسكنوا في شقتهم التي أشتراها والده منذ‬
‫ضا مما أزاح عن والدة آسية مصاريف‬
‫فورا بل ورحب بذلك أي ً‬
‫أستئذن عمر من والده بعدما شرح له حالتها ووافق ً‬
‫السكن‪..‬‬

‫فعال بسبب‬
‫كانوا جميعهم بالغرفة‪ ،..‬كان عمر يتحدث مع والدة آسية بشأن أستعدادات السفر‪ ،‬كانت ممتنةٌ له ً‬
‫دعمه المستمر نحوهم ‪...‬‬

‫أعطاها قصاصةً ورقية ‪..‬‬

‫‪‬هذا رقم والدتي‪ ..‬أن واجهتكم أي ظروف ولم أكن أنا معكم ِ‬
‫عليك أن تتصلي بها وتطلبين المساعدة‪..‬‬

‫‪‬حسنًا يا عمر‪ ..‬أشكرك مرةً أخرى‪..‬‬

‫التفتت ألماني وسألتها ‪..‬‬

‫‪‬هل تودين تجهيز الحقائب معي ؟!‬

‫قليال‪ ..‬حيث أنها وجدت سعادة‬


‫أبتسمت أماني وفهمت قصدها‪ ..‬تريد أن تترك عمر وآسية بمفردهما يتحدثان ً‬
‫ضل عجزها عن جمال األخريات ‪!..‬‬
‫أبنتها في الحديث مع من ف ّ‬

‫‪117‬‬
‫عِ ضين‬
‫أصبحا بمفردهما‪ ..‬كالهما ينتظر اآلخر أن يتكلم أو يبدأ بالحديث‪ ،..‬بادرت آسية بالكالم‪..‬‬

‫‪‬أشكرك يا عمر على كل شيء‪ ،..‬ال أعرف كيف أرد لك الجميل ‪..‬‬

‫قطب عمر حاجبيه في أنزعاج ‪..‬‬

‫‪‬جميل‪ ..‬؟!‬

‫سكت للحظات أظهر لها ضيقه الشديد بما قالت ‪..‬‬

‫‪‬لماذا تعتقدين حتى اآلن أنني أشفق ِ‬


‫عليك أو أني أصنع معروفًا ؟!‬

‫أسرعت آسية بالرد عندما الحظت ضيقه ‪..‬‬

‫‪ ‬ال أقصد مضايقتك‪ ،‬لكنك تقف بجانبي وأقل ما يمكنني فعله هو أن أشكرك فقط‪..‬‬

‫أظهر القليل من التسامح ‪..‬‬

‫طبيعي ج ًدا ‪!..‬‬ ‫ِ‬


‫مكانتك عندي وأظن أن ما أفعله‬ ‫‪‬ال تفعلي ذلك مرةً أخرى‪ ،‬تعلمين‬
‫ٌ‬
‫التفت حوله ليتأكد من أح ًدا ال يسمعه‪ ..‬أخفض صوته بعد أن أقترب برأسه فقط نحوها ‪..‬‬

‫أنك أصبحتي كل حياتي‪ ..‬كل ما أملك‪ ..‬حتى كل ما ال أملك؟!‪ ،‬قلتها مرة ساب ًقا وها‬ ‫ِ‬
‫أخبرك ِ‬ ‫‪‬هل يمكننى أن‬
‫أنا أقولها ثانيةً‪ ..‬أحبك !‬

‫خجال وترددت في النظر لعينيه مباشرةً وعجز لسانها عن الرد بعد تلك الكلمات‪ ..‬حتى هو شعر‬
‫أحمر وجهها ً‬
‫بخجلها‪ ..‬تعجبه مالمح الخجل التي تظهر على وجنتيها‪ ..‬أخبرها كذلك أنه سيسافر معهم لترتيب األمور معهم‬
‫في األسكندرية قبل رحيله للقاهرة للكشف الطبي الخاص به ‪..‬‬

‫************‬
‫رجع عمر البيت متأخرا ليتجهز هو اآلخر للسفر‪ ،‬لن يحتاج لحقائب‪ ..‬سفر ٍ‬
‫ليوم واحد في القاهرة ثم سيرجع‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬
‫بعدها‪ ،‬وما أن دخل غرفته حتى دخل أخوه ورائه‪..‬‬

‫‪118‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪‬ماذا تفعل ؟!‬

‫رد عليه عمر بأقتضاب ‪..‬‬

‫‪‬كما ترى‪ ..‬أتجهز للسفر‬

‫فاجأه أخوه بسؤال ‪..‬‬

‫‪‬من تلك الفتاة التي ستسكن في شقتنا باألسكندرية ؟!‬

‫أدرك عمر بأن أخيه يرمي لشيء ما‪..‬‬

‫مثال ؟!‬
‫‪‬و لماذا تسأل ؟!‪ ،‬ستساعدها ً‬
‫لم يجب أدهم بشيء‪ ،‬أكمل عمر كالمه ‪..‬‬

‫‪‬أظنك تعلم بكل شيء وال داعي للتحقيق معي ‪..‬‬

‫مجددا‪..‬‬
‫ً‬ ‫أتجه أدهم ناحية الباب وفتحه وقبل مغادرته الغرفة التفت لعمر‬

‫‪‬أنا ال أحقق معك‪ ،‬فضلت أن أخبرك أنني سأسافر األسكندرية األيام القادمة‪ ،‬أظن لو أنني وجدت أحدهم‬
‫هناك سيتم طرده ‪!..‬‬

‫تبع كالمه بأبتسامة ماكرة ثم خرج وأغلق الباب ورائه‪ ،‬غادر وقد ترك عمر في حيرة من أمره‪ ،‬ال يستطيع أن يخبر‬
‫آسية ووالدتها أن أخاه سيسكن في الشقة أو أن يمنع أخاه من السكن هناك ‪ ،!..‬ال يعلم أن كان تهديد أخاه هذا‬
‫حقيقيا أم مجرد ٍ‬
‫عناد فقط ‪!..‬‬ ‫ً‬

‫‪119‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-89-‬‬

‫حارا من أماني لها‪ ..‬فها هي ستبتعد عنها لفترة‬


‫وداعا ً‬
‫مضت أيام سافرت خاللها أسية لإلسكندرية للعالج‪ ..‬كان ً‬
‫ال يعلمها إال اهلل‪ ..‬لو كان األمر بيدها لسافرت معها تساندها خاصةً في تلك األيام التي سيغيب عمر عنهما‬
‫لكنها على كل حال فتاةً صعيدية والبد من مالزمة أهلها ‪ ،‬أما عن عمر فأنتهى من الكشف الطبي والذي أظهر‬
‫كامال قبل األلتحاق رسميًا بالقوات المسلحة‪،‬‬
‫أسبوعا ً‬
‫ً‬ ‫لياقته الجيدة لاللتحاق بصف الضباط األحتياط‪ ،‬كان أمامه‬
‫ألسابيع قادمة‪ ..‬ما أصعب ان تبتعد العين عمن يراه القلب قريبًا‪..‬‬
‫ٌ‬ ‫كثيرا ولن يراها‬
‫أذن سيبتعد ً‬

‫واآلن قبل األلتحاق بفترته التدريبية‪..‬‬

‫وليال‬
‫نهارا على الذهاب برفقتهم للطبيب لمتابعة جلسات العالج ً‬ ‫منذ أن سافر معهم كان يومه هناك يقتصر ً‬
‫يساهم هو في التخفيف عن تعبها طوال النهار في العالج وإدخال السرور لقلبها حين يقترح عليها الخروج للتنزه‬
‫على الكورنيش أو التجول في شوارع االسكندرية‪..‬‬

‫يدفع عمر كرسيها المتحرك في سعادة من حديثهم طوال نزهة كل يوم‪ ،‬كل متعة الدنيا تتلخص في الحديث مع‬
‫ضلت والدتها أن‬
‫من تحب‪ ،‬أما والدتها فكانت تفضل السير لوحدها أمامهم أو خلفهم‪ ،..‬في الليلة االخيرة ف ّ‬
‫تكون بالبيت ألعداد العشاء وتجهيز حقيبة عمر قبل رحيله ألداء الخدمة العسكرية فجر اليوم‪..‬‬

‫في هذه الليلة الهادئة الغير أعتيادية في األسكندرية يدفع عمر كرسيها وبعد صمت دام لدقائق كثيرة أقترحت‬
‫آسية أن يجلسا على كافتيريا تطل على الكورنيش‪ ،‬طلبا من النادل مشروبات ثم أستمر الصمت لدقائق أخرى‬
‫أيضا ال حظ فيها عمر لمعان عيني آسية مع إبتسامة تكاد تكون مختفية‪ ..‬كان يظهر عليها التفكير والشرود‪،‬‬
‫قاطع عمر صمتها هذا‪..‬‬

‫‪‬هناك أحدهم يريد أن يقول شيئًا لكنه يتردد ‪!..‬‬

‫تنبهت آسية إلى عمر الذي كان قد الحظ شرودها‪ ،‬أقترب عمر إليها ‪..‬‬

‫ِ‬
‫تعجبك نزهة الليلة ؟!‬ ‫‪‬لم‬

‫‪111‬‬
‫عِ ضين‬
‫هزت آسية رأسها نافية ‪..‬‬

‫ضا ‪..‬‬
‫‪‬ال‪ ..‬ليس األمر هكذا‪ ،‬ولكني ال أعلم أي ً‬
‫ظل عمر يترقبها لتقول المزيد لكنها هزت رأسها لتبحث عن كلمات فلم تجد‪ ،‬هزت كتفيها في حيرةٍ من أمرها‪،..‬‬
‫عمر على يقين إنها تريد أن تقول شيئًا‪ ،‬قرأ في عينيها وحيرتها ذلك وال يحتاج الن تتكلم هي كي يعرف ذلك‪،‬‬
‫أسند ظهره للوراء وأظهر تمرده ليحثها على أن تتكلم‪..‬‬

‫‪‬حسنًا‪ ..‬أنا أنتظر ‪ ،!..‬ها أنا أستمع ِ‬


‫أليك‪..‬‬

‫خجال‪..‬‬
‫أبعدت وجهها بإتجاه الكورنيش ً‬

‫علي مشقة العالج‪ ..‬كيف يمكنني تحمل هذا في غيابك ؟!‬


‫هون ّ‬
‫‪‬وجودك جانبي ّ‬
‫التفتت إليه فقرأت في عينيه حيرته‪ ،‬قرأت أن لو بيده األمر لما تركها اآلن‪ ،..‬خطر ببالها سؤال كانت تريد أن‬
‫فعال ‪..‬‬
‫تسأله أياه منذ أن أحبته ً‬

‫‪‬عمر‪ ..‬هل أحببت قبل ذلك ؟!‪ ،‬أعني قبل أن نلتقي ؟!‬

‫إذن هذا ما كان يجول بخاطرها‪ ،‬أبتسم عمر ثم أجابها ‪..‬‬

‫ِ‬
‫فهمك لمعنى الحب ‪!..‬‬ ‫‪‬هذا يعتمد على‬

‫قطبت آسية حاجبيها في عدم فهم‪ ،‬أكمل عمر لتوضيح ما يقصد‪..‬‬

‫ضا‪ ،‬وبهذا المنطق فأنا لم أمر بتجربةً عاطفية‬


‫عقال واح ًدا أي ً‬
‫‪‬الحب هو أن يتفق القلبان ليصبحا قلبًا واح ًدا‪ً ..‬‬
‫ِ‬
‫ألتقيك ‪!..‬‬ ‫قبل أن‬

‫سألته هي ‪..‬‬

‫‪‬و ماهو المنطق الثاني برأيك ؟!‬


‫ِ‬
‫ألتقيك‪..‬‬ ‫فعال أحببت قبل أن‬
‫‪‬المنطق اآلخر هو أنني ً‬

‫‪111‬‬
‫عِ ضين‬
‫نظرت هي مرة أخرى ناحية الكورنيش نادمةً على سؤالها هذا‪ ..‬كان من األفضل أن تقف عند المنطق األول‪..‬‬
‫أكمل عمر كالمه‪..‬‬

‫شعورا صادقًا حينها‪ ،‬أصدق‬


‫ً‬ ‫‪‬أحببت عندما كنت في المرحلة األبتدائية‪ ..‬كانت هناك فتا ًة في صفي‪ ،‬كان‬
‫شعور وأصدق حب يكون لدى األطفال‪ ..‬على نياتهم يتحابون ‪ ،!..‬لكن بالطبع أنا اآلن في شعوٍر أصدق ِ‬
‫معك‬
‫‪!..‬‬

‫أرتسمت أبتسامةً عريضة على وجهها‪ ،‬أكمل عمر ليختم كالمه في هذه النقطة‪..‬‬

‫ضا هذا المنطق‬ ‫منطق أخير‪ ..‬الحب من ٍ‬


‫طرف واحد‪ ،‬واألدهي من ذلك أنه كان من طرفي أنا‪ ،..‬لكن أي ً‬ ‫‪‬هناك ُ‬
‫حب فاشلة‪ ..‬كان طبيعيًا على كل‬ ‫ِ‬
‫ألتقيك مباشرًة كنت قد أنتهيت للتو من تجربة ٍ‬ ‫كان في سن المراهقة وقبل أن‬
‫حال ‪!..‬‬

‫زادت إبتسامتها حتى كادت تقفز من كرسيها لوال أن قدماها تأبى ذلك االن ‪..‬‬

‫‪112‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-31-‬‬

‫صباحا طيلة الشهرين الماضيين‪ ،‬كانت تفكر في الفارق بين‬


‫كانت ترتشف قهوتها في المقهى التي أعتادت أرتياده ً‬
‫عملها هنا في لندن وهناك في القاهرة‪ ..‬هناك فار ُق كبير‪ ،‬هناك في القاهرة األمور تبدو مثيرة‪ ..‬األحداث ساخنة‬
‫بأستمرار‪ ،‬لكنها رجحت السبب الرئيسي في هذا الفارق لـ " ثورات الربيع العربي " كما يسمونها‪ ..‬ليست مصر‬
‫ونادرا ما يحدث‬
‫نوعا ما‪ً ..‬‬
‫فقط األحداث فيها مثيرة‪ ..‬بل المنطقة بأكملها‪ ،‬أنما هنا في لندن تبدو األمور هادئة ً‬
‫ٍ‬
‫لشخصيات هامة ‪!..‬‬ ‫أحتجاج ما‪ ..‬قرارات سياسية هامة‪ ..‬زيارات‬ ‫أمر مثير‪ ..‬مظاهرة محددة بتوقيت معين‪..‬‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬

‫تحدثت مع شيرين بهذا الشأن فنصحتها أن تقدم طلب بنقلها للقناة الناطقة باللغة العربية وسيكون من السهل‬
‫فعال‬
‫مثال لتغطية األحداث فيها لصالح شبكة الـ " ‪ .." BBC‬أقتنعت بالنصيحة ونجحت ً‬
‫حينها أن ترجع مصر ً‬
‫حدث جلل في مكان ما‬
‫ٌ‬ ‫في األنتقال للقناة الناطقة بالعربية لكنها لن تغادر لندن أال للضرورة القسوة لتغطية‬
‫بالعالم أيًا يكن‪..‬‬

‫جذب أنتباهها ضجةً ما تحدث بالخارج‪ ..‬تطلّعت لما يحدث بالخارج من الحوائط الزجاجية للمقهى‪ ..‬من‬
‫أناس آخرون‪ ..‬من يجلس ويرمي بالشيء يضحك‬ ‫خارجا يرمي شيئًا ما في األرض ويلتقطونها ٌ‬‫يجلس بالمقهى ً‬
‫بهستيرية ومن يلتقط هذه األشياء يبدو عليهم األستسالم‪ ،‬لم تولي األمر أي أهمية‪ ..‬صحيح يبدو أنه غريبًا لكن‬
‫هاما بالتأكيد‪ ،‬لكنها غيرت رأيها عندما الحظت أحد الشابان اللذان كان يجلسان أمامها قام وقد أرتسمت‬
‫ليس ً‬
‫ضا أن هذا الشاب يعرف قصة ما‬
‫ومثيرا ويبدو أي ً‬
‫هاما ً‬‫خارجا ً‬
‫على وجهه عالمات الغضب‪ ..‬يبدو أن ما يحدث ً‬
‫يحدث‪..‬‬

‫لم تتردد ماريان في تتبعه‪ ،..‬لقد فهمت األمر عندما صاح هذا الشاب غضبًا في أحد الجالسين بالخارج‪..‬‬
‫أخرجت كاميرتها الصغيرة من جيبها وبدأت بتصوير ما يحدث ‪..‬‬

‫خرج هذا الشاب من المقهى غاضبًا لما يحدث بالخارج‪ ،‬األمر ال يحتمل السكوت أكثر من هذا‪ ..‬يبدو األمر‬
‫وقت مضى‪ ،‬لقد كانت الجماهير بالخارج تُلقي بالعمالت المعدنية في األرض ليلتقطها‬ ‫مهينًا أكثر من أي ٍ‬
‫ُ‬
‫الالجئون السوريون بكل ٍ‬
‫ذل وهوان‪ ،‬يلقون هذه العمالت بكثير من السخرية‪ ..‬يتعمدون أذالل هؤالء الالجئين‪،‬‬
‫‪113‬‬
‫عِ ضين‬
‫أما عن هؤالء الالجئين فال سبيل لهم إال أن يقبلوا بهذه المهانة‪ ..‬يتسابقون إلذالل أنفسهم مقابل ألتقاط ما يرميه‬
‫هؤالء الناس من عمالت تكفيهم ٍ‬
‫ليوم أو يومين وربما تكفيهم الساعات القليلة القادمة فقط‪..‬‬

‫وقف بين هؤالء وهؤالء‪ ..‬التفت لتلك الجماهير وصاح فيهم غاضبًا‪..‬‬

‫‪‬توقفوا‪ ..‬توقفوا أرجوكم‬

‫توقف الجميع عما يفعلونه ليروا ما في جعبته‪ ،‬أكمل هو‪..‬‬

‫‪‬لماذا تعاملونهم هكذا ؟!‪ ،‬لماذا تتعمدون أذاللهم ؟!‬

‫لم يتلقى سوى همهمات منهم‪ ،‬بعضهم بدأ يفكر فيما كان يفعله والبعض اآلخر يستمع له بالمباالة وسخرية‪..‬‬

‫فروا من الجحيم في بالدهم وأستغاثوا‬


‫‪‬ماذا أصابكم‪ ..‬؟!‪،‬أهذه ما ت ّدعونها األنسانية لديكم ؟!‪ ،‬هؤالء الناس ّ‬
‫بكم ثم هكذا تعاملونهم ؟!‬

‫قال أحدهم بسخرية ‪..‬‬

‫‪‬و ها نحن نساعدهم ؟!‪ ،‬أليس ذلك أفضل من ال شيء ؟!‬

‫قطب هذا الشاب حاجبيه‪..‬‬

‫جوعا على أنكم تقومون بأذاللي هكذا ‪!..‬‬


‫‪‬ال هذا ليس أفضل من ال شيء‪ ،‬أُفضل أن أموت ً‬
‫ساد الصمت للحظات في المكان بالرغم من هذا الكم من الناس الحاضرين‪ ،‬أكمل هو كالمه ‪..‬‬

‫‪‬كان بأمكانكم مساعدتهم‪ ..‬ال أن تقوموا بأذاللهم هكذا‪ ،‬ماذا ستخسرون لو قدمتم إليهم هذه العمالت‬
‫بطريقة الئقة كمساعدة لهم ؟!‬

‫تكلم بالعربية‪..‬‬
‫تفاجأ هذا الشاب عندما وجد أحدهم أتى من خلفه وأمسكه من ذراعه‪ّ ،‬‬

‫جميعا ؟!‬
‫‪‬هل أنت تملك المال الكافي لمساعدتنا ً‬
‫ح ّدق به الشاب منده ًشا من سؤال الرجل هذا‪ ،‬عندما طال صمته أكمل الرجل كالمه‪..‬‬

‫‪114‬‬
‫عِ ضين‬
‫تماما‪ ..‬أنت تقوم بألحاق الضرر بنا‪ ..‬أرجوك نحن ال‬
‫‪‬إذن أنت ال تقوم بمساعدتنا كذلك‪ ..‬على العكس ً‬
‫رجاءا‪..‬‬
‫نريدك أن تدافع عنّا هكذا ‪..‬ال نريد مساعدتك‪ ،‬أرحل ً‬
‫بدأت عيني الرجل تفيض بالدموع‪ ..‬ال تعرف أن كانت هذه دموع الذل والهوان أو دموع الحسرة ‪..‬‬

‫ضا‪ ،‬من أين نأتي ٍ‬


‫بمال نسد به رمق جوعنا؟!‪ ،‬ال سبيل سوى أن نرضى بالذل‬ ‫‪‬نحن هنا ال مأوى لنا وال عمل أي ً‬
‫والهوان كما ترى ‪ ،!..‬أرجوك أرحل ودعنا نعيش ٍ‬
‫ليوم ٍ‬
‫واحد حتى ‪..‬‬

‫ال يصدق هذا الشاب ما يسمعه‪ ..‬ألجمه لسانه‪ ،‬ال يعلم أن كان عليه أن يتناقش مع هذا الرجل في أمر يخص‬
‫قوت يومه أو أن يدافع عنهم ‪ ، !..‬أخرجه صديقه من شرود ذهنه عندما أربت على كتفه‪ ،‬أقنعه صديقه‬
‫فعال من المكان كله‪..‬‬
‫فورا‪ ..‬وأنسحبوا ً‬
‫باألنسحاب ً‬

‫كان حدثًا يستحق تسليط الضوء عليه‪ ،‬عادت ماريان للمقهى وعملت على كتابة تقريرها عما حدث‪ ..‬ستقوم‬
‫بمساعدة هؤالء الالجئين بطريقتها الخاصة‪ ..‬ستقوم بجذب أستعطاف الناس ليتم الضغط وبقوة على المنظمات‬
‫بدال من أذاللهم هكذا ‪!..‬‬
‫الحقوقية والحكومات لمساعدة هؤالء الناس ً‬

‫‪115‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-30-‬‬

‫لقد عانى خالل الشهرين الماضيين ألم األبتعاد عنها‪ ..‬تملّكه القلق عليها في كل لحظةً‪ ،‬أحيانًا يُخيّل إليه أنها‬
‫أسبوعا‬
‫ً‬ ‫صحيح أنها‬
‫ٌ‬ ‫أخيرا حصل على أجازة ليطمئن عليها‪،‬‬
‫تماما‪ ..‬كان يحلم بذلك‪ ،‬لكنه ً‬ ‫أقتربت من الشفاء ً‬
‫واح ًدا فقط منهم يومان للسفر لكنها كانت كافية ليطمئن عليها‪..‬‬

‫أوال ليطمئن والديه عليه ثم يسافر ليقضي ما تبقى من‬


‫قرر أن يتبع ما فعله آخر مرة قبل سفره‪ ،‬أن يسافر الصعيد ً‬
‫أجازته مع آسية ووالدتها هناك في اإلسكندرية‪..‬‬

‫كبيرا خاصةً أنه قد أعلمهم بموعد عودته‬


‫متوقعا ترحيبًا ً‬
‫ألول مرة يغيب عمر كل هذه الفترة عن أسرته‪ ..‬لهذا كان ً‬
‫الليلة‪ ،‬لكنه عند وصوله للبيت شعر بوجود ٍ‬
‫أجواء قلقة بالبيت وال يعرف لماذا تملّكه هذا الشعور فجأة ‪ ،!..‬صعد‬
‫للطابق الثاني من البيت وعند دخوله الشقة وجد والدته جالسة واضعةً وجهها بين كفيها ووجهها ال يُبشر بخي ٍر أب ًدا‬
‫‪ ،!..‬حتى بعدما الحظت وجوده لم تتحرك للترحيب به‪ ،‬حينها أدرك عمر أن مصيبةً ما قد حدثت وهو ال يعلم‬
‫عنها شيئًا‪ ..‬بالتأكيد هذه المصيبة سببها أدهم‪ ،‬قطب حاجبيه عندما تذكر مرض والده‪ ..‬هل تسبب أدهم بشيء‬
‫لوالده ؟!‬

‫‪‬أمي‪ ..‬ماذا حدث ؟! هل أنتي بخير ؟!‪ ،‬هل والدي بخير ؟!‬
‫ٍ‬
‫بصوت يتمل ّكه الحيرةُ والقلق‪..‬‬ ‫رفعت والدته وجهها عن يديها وأتكأت للوراء وقالت‬

‫غائب عن البيت منذ يومين وال نعلم عنه شيئًا‪ ،‬لم نجده حتى اآلن ‪!..‬‬
‫‪‬أدهم ليس هنا‪ٌ ،‬‬
‫حاول عمر أستيعاب كالم والدته‪ ،‬أكملت هي كالمها‪..‬‬

‫‪‬فعلنا كل ٍ‬
‫شيء يمكننا فعله‪ ..‬بحثنا عنه في كل مكان‪ ..‬أتصلنا بأصدقائه في الشركة لكننا لم نجده في أي‬
‫مكان وال أحد يعلم مكانه ‪!..‬‬

‫للحظة فهم عمر كل شيء‪ ،‬فكر في تهديد أخيه له من قبل حينما أخبره أنه سيسافر األسكندرية ويطرد من في‬
‫صدم من هذا ال تفكير بالذات‪ ،‬بسرعة أخرج هاتفه وبحث في األرقام عن رقم آسية حتى‬
‫الشقة ‪ ،!..‬عمر نفسه ُ‬

‫‪116‬‬
‫عِ ضين‬
‫أخيرا‪ ،‬فأتصل بها في الحال ويأتيه الصوت‪ " ..‬الرقم المطلوب مغلق أو‪ ،" ...‬عاود األتصال مرةً أخرى‬
‫عثر عليه ً‬
‫ضا‪ ..‬حاول األتصال برقم والدتها لكنه مغلق هو اآلخر‪ ،‬ال شك في األمر أذن‪ ..‬لقد نف ّذ أدهم‬
‫لكنه مغل ًقا أي ً‬
‫تهديده وسافر األسكندرية وطرد أسية ووالدتها من الشقة وبطبيعة الحال قامتا بأغالق هواتفهن أو غيّرتا أرقامهن‬
‫مجددا ‪!..‬‬
‫ً‬ ‫لتجنب رؤيته‬

‫أذالال‪ ..‬يعطوننا مأوى ثم يطردوننا منه ‪ ، !..‬هكذا تخيل عمر ردة فعلهم بعدما طردهم أدهم من الشقة‪،‬‬
‫كفى ً‬
‫الحظت والدته ت وتره الشديد بعدما أخبرته عن أختفاء أخيه ‪ ،!..‬خاصةً أنه كان يضرب يده بعصبية في الحائط‬
‫بعدما كان يحاول األتصال بأحدهم‪..‬‬

‫‪‬ما الذي يغضبك هكذا ؟!‪ ،‬أتعلم مكانه ؟!‬

‫رد عمر بغضب‪..‬‬

‫‪‬بالطبع‪ ..‬أعرف مكانه جي ًدا‪ِ ،‬‬


‫أبنك في شقتنا باألسكندرية وطرد آسية ووالدتها من هناك‪ ..‬وها هي هواتفهن‬
‫غيرن أرقامهن حتى ال أتمكن األتصال بهن‪..‬‬
‫مغلقة أو ربما ّ‬
‫كان شعور والدته حينها يشوبه األختالط ما بين الراحة بمعرفة مكان أبنها والصدمة مما فعله‪ ..‬والحرج الشديد‬
‫كثيرا‪ ..‬قرر أن يسافر اآلن دون راحة‪..‬‬
‫والخجل من والدة آسية‪ ،‬لم يتمهل عمر ً‬

‫كثيرا خاصةً التفكير الذي أستنفذ كل طاقته وهدوءه‪ ،‬ح ًقا أنه ال يعرف ماذا سيفعل هناك‪..‬‬
‫أرهقته ساعات السفر ً‬
‫كيف سيكون ردة فعله عندما يجد أخاه فقط في الشقة ‪ ،!..‬هل ستصل األمور إلى حد الشجار بينهم ؟!‪ ،‬هذه‬
‫المرة سيكونان بمفردهما‪ ..‬لن يكون معهما والديهما هذه المرة ليّفضوا شجارهم هذا ‪ ،!..‬ثم ماذا بعد الشجار‬
‫أصال ؟!‬
‫مثال ؟!‪ ،‬أين يبحث عنهما ً‬
‫معه ؟! هل سيعيد هذا آسية ووالدتها للشقة ً‬

‫أخيرا والغضب يسيطر عليه متيقنًا بأن اللحظات‬


‫ها هو وصل األسكندرية منذ نصف ساعةً تقريبًا‪ ..‬وصل العمارة ً‬
‫وصوال للطابق الرابع حيث شقتهم‪،‬‬
‫ً‬ ‫القادمة لن تمر مرور الكرام ولن تكون األمور بخي ٍر أب ًدا‪ ،‬صعد الدرج بسرعة‬
‫وقف أمام باب الشقة الهثًا يحاول أستعادة أنفاسه‪ ،‬طرق الباب بعنف وواصل طرقه هذا حتى سمع صوت‬
‫ٍ‬
‫خطوات قادمة‪ ،‬وما أن أنفتح الباب حتى أتسعت عيناه من المفاجأة‪ ..‬وقف لحظات ليتدارك األمر‪..‬‬

‫‪117‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪‬عمر ؟!‪ ،‬حم ًدا هلل على سالمتك‪ ..‬تفضل ‪!..‬‬

‫أخيرا‪ ،‬كان يبدو عليها النعاس لكنها مسرورة‬


‫كثيرا برجوع عمر ً‬
‫قالتها والدة آسية بعد أن فتحت له الباب‪ ،‬سعدت ً‬
‫بقدومه‪ ،‬أذنت له بالدخول‪..‬‬

‫دخل عمر والشرود باديًا على وجهه‪ ..‬أدهم ليس هنا وآسية ووالدتها هنا ‪ ،!..‬ماذا يعني هذا ؟!‪ ،‬أسئلة كثيرة‬
‫ٍ‬
‫أجابات منطقية‪ ،‬أقترحت والدة آسية عليه أن تعد له الفطور لكنه لم يسمعها‪ ،‬أقتربت منه‬ ‫دارت بعقله باحثًا عن‬
‫وأربتت على كتفه‪..‬‬

‫‪‬عمر ‪ ،!..‬هل أنت بخير ؟!‬

‫نظر إليها في شرود وألجمه لسانه عن الرد‪ ،‬بماذا يجيبها ؟! ‪ ،‬هل يخبرها بعدم رغبة أخيه بوجودهما هنا في الشقة‬
‫؟!‪ ،‬أم يشغل بالهم بمشاكل أسرية ال شأن لهم فيها ‪ ،!..‬عندما الحظ أنتظارها ألجابةً منه رد عليها‪..‬‬

‫مثال بوجودكن !‬
‫‪‬أخي مختفي منذ يومين وال أحد يعرف مكانه ‪ ،!..‬ظننته قد أتى لهنا وتفاجأ ً‬
‫ثم تذكر شيئًا حين التفت إليها‪..‬‬

‫كثيرا ليلة أمس لكن هواتفكم كانت مغلقة ‪ ،!..‬أين كنتن ؟!‬
‫‪‬لقد أتصلت بكن ً‬
‫صباحا للطبيب ألجراء جلسة العالج فأغلقنا هواتفنا قبلها‪ ،‬وعندما أنتهينا خرجنا لنتنزه كعادة‬
‫ً‬ ‫‪‬كالعادة ذهبنا‬
‫كل يوم ونسينا أننا قد أغلقنا هواتفنا في الصباح‪ ،‬ثم عندما رجعنا كان األرهاق باديًا علينا بجالء ‪ ،!..‬خلدنا للنوم‬
‫ولم نشعر بشيء بعدها‪..‬‬

‫متفهما‪ ،‬لقد أرتاح باله من عناء التفكير في أحتماالت البحث عنهن في األسكندرية‪..‬‬
‫ً‬ ‫هز عمر رأسه‬

‫نهارا بتواض ٍع على األرض‪ ،‬خرجت آسية من غرفتها بكرسيها المتحرك‬


‫و كأن القمر غادر سماؤه وقرر أن يظهر ً‬
‫متجهةً نحو الصالة لتتفاجأ بوجود مصدر سعادتها األول في هذا العالم ‪ ،!..‬أرتسمت األبتسامة على وجهها وقد‬
‫مسارا آخر‪ ،‬ساعة من األبتعاد عن الحبيب تعادل حياة‪..‬‬
‫نورا‪ ،‬وكالعادة بدأ الترحيب يتخذ ً‬
‫زادت من وجه القمر ً‬
‫وكم من حياة يحياها المرء‪..‬‬

‫‪118‬‬
‫عِ ضين‬
‫للحظة أدرك عمر أنه لم يلحظ أي تغيي ٍر يُذكر في حالة آسية ‪ ،!..‬قطب حاجبيه في عدم رضا‪ ،‬تعجبت هي من‬
‫تغيير مالمحه هكذا فجأة عندما كان ينظر إليها ‪ ،!..‬ألقت على نفسها نظرةً سريعة لعل أن تكون مالبسها غير‬
‫مثال أو أي شيء غير طبيع ٍي هنا ‪ ،!..‬لكنها لم تلحظ شيئًا يستحق تغيير مالمحه هكذا‪..‬‬
‫مناسبة ً‬

‫‪‬ماذا ؟!‪ ،‬لماذا أنزعجت هكذا فجأة ؟!‬

‫أبعد وجهه عنها في سخط‪ ،‬وكأنه ال يريد أخبارها بشيء يجرح مشاعرها ‪ ،!..‬وهي ال تفهم شيئًا ‪!..‬‬

‫كانت والدة آسية قد تركتهما يتحدثان بينما هي تجهز الفطور ‪ ،!..‬عندما خرجت للصالة وجدت جمود الحديث‬
‫بينهما فتساءلت‪..‬‬

‫‪‬ماذا حدث ؟!‪ ،‬تبدوان كالمتخاصمين ‪!..‬‬

‫هزت آسية كتفيها في حيرة‪ ،‬بينما عمل عمر على أنهاء هذا الجدل‪..‬‬

‫ِ‬
‫حالتك‪..‬‬ ‫ِ‬
‫مشاعرك يا آسية‪ ،‬لكنني لم ألحظ أي تغيير قد طرأ في‬ ‫‪‬ال أقصد جرح‬

‫تفهمت آسية قلقه‪..‬‬

‫كثيرا‪ ،‬المسألة ليست سهلة كما تظن ‪..‬‬


‫‪‬ال تقلق يا عمر ‪ ،!..‬الطبيب أخبرنا بأن العالج سيطول ً‬
‫متفهما‪ ،‬لم يكن راضيًا عما يحدث‪ ،‬لكنه فكر للحظة‪ ..‬ماذا لو يقدم طلبًا لعالجها على نفقة القوات‬
‫ً‬ ‫هز رأسه‬
‫مستغال أنه سيكون ضابطًا بالجيش فور أنتهاء فترة تدريبه ؟!‪ ،‬لكن ما قطع تفكيره رنين هاتفه‪ ..‬أنها‬
‫ً‬ ‫المسلحة‬
‫والدته‪ ،‬يا ألهي‪ ..‬لقد نسي مشكلة أخيه‪..‬‬

‫‪‬نعم يا أمي‪ ..‬ال ليس هنا كذلك‪ ..‬سأضطر للبحث عنه هنا في األسكندرية لعل وعسى أن أجده قبل أنتهاء‬
‫أجازتي‪ ..‬حسنًا أتصلي بي لو كان هناك أي تطورات‪ ..‬سالم ‪..‬‬

‫كان باديًا عليه القلق والحيرة ‪!..‬‬

‫‪119‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-38-‬‬

‫هم فيه بالبحث عن أخيه في المستشفيات وأقسام الشرطة ولم يجده‪،!..‬‬


‫عمر‪ ..‬مضى عليه أسبوع أجازته سر ًيعا ّ‬
‫مجددا ليستأنف فترة تجنيده ‪..‬‬
‫ً‬ ‫أنتهت أجازته وسافر‬

‫أسية‪ ..‬تستأنف عالجها الروتيني في ملل دون تطور ولو طفيف حتى في حالتها‪ ،‬أما عن باقي وقتها فكان أغلبه‬
‫كثيرا وفقط مسألة وقت كي‬
‫تهاتف صديقتها أماني التي تصارحها هي األخرى بأن العالقة بينها وبين أحمد تطورت ً‬
‫كثيرا لصديقتها‬
‫وفعال لم يمر يومان حتى أخبرتها بأنها قد تمت خطبتها رسميًا من أحمد‪ ،‬فرحت ً‬
‫يتقدم لخطبتها ً‬
‫عز عليها نفسها‪ ..‬عاجزة ولم تستطع أن تتزوج هي بمن أحبته ‪!..‬‬
‫لكن ّ‬
‫ٍ‬
‫لسنوات عديدة من األنجاب رزقهما اهلل بأدهم ثم‬ ‫الشيخ محسن وزوجته‪ ..‬يعيشان أتعس أيامهما‪ ،‬فبعدما ُحرما‬
‫عمل هناك وأنتهز الفرصة ليؤمن مستقبل‬ ‫من بعده عمر‪ ،‬سافر بعدها الشيخ محسن للسعودية حين جائه عقد ٍ‬
‫أوالده‪ ،‬وحين رجع وجد أبناؤه قد تأثرا باألحداث السياسية للبالد من بعد ثورة يناير وأصبحا ع ُدوان في أس ٍرٍة‬
‫كثيرا وتشاجرا أكثر‪ ،‬واآلن قد عادا مرًة أخرى وحيدين ال عمر وال أدهم ‪!..‬‬
‫واحدة‪ ،‬أختلفا ً‬

‫بعد شهوٍر عدة عاد عمر وقد أنهى فترته التدريبية في الجيش وأصبح من اآلن ضابطًا أحتياطيًا في القوات‬
‫بل‬
‫المسلحة‪ ،‬كان ينتظر هذا بفارغ الصبر ليقدم طلبًا رسميًا لعالج آسية على نفقة القوات المسلحة لكنه قُ َ‬
‫بالرفض ‪ ،!..‬وحين حصل على أجازته تلك أقتصر طريقه وسافر لألسكندرية مباشرةً هذه المرة‪ ،‬لم يرجع للشقة‬
‫مهموما وحزينًا‪ ،‬منذ تلك الحادثة التي تعرضت لها‬
‫ً‬ ‫قليال‪ ..‬كان‬
‫ضل أن يجلس على الكورنيش ً‬
‫فور عودته ولكنه ف ّ‬
‫آسية وهو يشعر بأنها قد أصبحت مسؤلةً منه‪ ،‬أعتمد على الجيش في األنفاق على عالجها لكنهم رفضوا‪ ،‬لم‬
‫يشعر بمرور الوقت إال عندما هبطت األمطار عليه ‪ ،!..‬حين وصل للعمارة كان الليل قد أنتصف‪ ..‬صعد الدرج‬
‫وال للطابق الرابع وعلى وجهه أرتسمت عالمات الحزن والخيبة ‪ ،!..‬طرق الباب ففتحت له والدة آسية‬
‫وص ً‬
‫كالعادة‪ ،‬الحظت عليه األستياء وكأنه يحمل هموم الدنيا كلها على كتفه‪ ،‬رحبت به وأدخلته‪ ،‬جلس في الصالة‬
‫كعادته وهي تبعته‪ ،‬سألته ‪..‬‬

‫مهموما هكذا ؟!‬


‫ً‬ ‫‪‬عمر‪ ..‬هل أنت بخير ؟!‪ ،‬لماذا تبدو‬
‫‪121‬‬
‫عِ ضين‬
‫لم يأتيها الرد وكأنه لم يسمعها‪ ،‬تزايدت قلقها لكنها ظنت أنه مهموم بسبب أختفاء أخيه حتى اآلن‪..‬‬

‫‪‬عمر‪ ..‬أعلم أن ال جديد فيما يخص أخيك‪ ..‬أتصل بوالدتك بأستمرار لألطمئنان عليها لكنها تبدو حزينةً ج ًدا‬
‫بسبب أختفاء أخيك المفاجيء‪ ،‬ربما يكون قد سافر ولم يخبركم‪ ،‬حدثتني والدتك مر ًارا عن أدهم وأفعاله‪..‬‬
‫شخصيته صعبة وغريبة وغير مستبعد أنه قد سافر ولم يخبركم‪ ..‬هذا وارد ‪..‬‬

‫متفهما لكالمها‪..‬‬
‫ً‬ ‫ضا للحظات‪ ،‬هز رأسه وبدا‬
‫ساد الصمت أي ً‬

‫مسئول عن تصرفه‪ ،‬وأعتقد أن أخي أختار أن يختفي فجأة بأرادته‬


‫ٌ‬ ‫كل‬
‫‪‬ليس أمر أخي ما يُشغل بالي ‪ٌ ،!..‬‬
‫أمر آخر‪..‬‬
‫وسيظهر في أي وقت‪ ،‬ما يشغل بالي ٌ‬
‫تعجبت والدة آسية من كالمه‪ ،‬إن لم يكن يُشغل باله أمر أخيه فماذا به أذن ؟!‪ ،‬أرجع عمر ظهره للوراء وأكمل‬
‫أفراغ همه لها‪..‬‬

‫فعال لكن العالج بهذه الطريقة‬


‫قادرا على تحمل مسؤولية آسية والسعي وراء عالجها‪ ،‬سعيت ً‬
‫نت أظن بأنني ً‬
‫‪‬ك ُ‬
‫كثيرا والمصاريف قد ال تكفي ‪!..‬‬
‫غير مجدي‪ ..‬الوقت سيطول ً‬
‫قالها وقد أرتسمت أبتسامةً تهكمية على نفسه‪ ،‬حاولت هي التخفيف عنه‪..‬‬

‫‪‬الصبر يا عمر الصبر‪ ،‬أنا لم أيأس من روح اهلل بعد ولن أفعل‪ ،‬كذلك الحال أنت وقفت بجانبنا ولم تبخل‬
‫بشيء عنّا‪ ،‬فلماذا تلوم نفسك أذن ؟!‬

‫‪‬و نعم باهلل‪..‬‬

‫أعتدل في جلسته ثم أكمل كالمه‪..‬‬

‫‪‬قدمت طلبًا للقوات المسلحة لعالج آسية في مستشفياتهم على نفقتهم أو الحصول على مميزات‪ ..‬وافقوا‬
‫في البداية لكنهم عندما علموا أنها ليست من أهلي رفضوا طلبي‪ ..‬البد أن تكون قريبتي من الدرجة األولى‪ ..‬هذا‬
‫شرطهم‪..‬‬

‫‪121‬‬
‫عِ ضين‬
‫فاجأتها جملته األخيرة تلك‪ ،‬قريبته من الدرجة األولى ؟! عادةً القرابة من الدرجة األولى تكون أما والدته ‪ ،‬أخته ‪،‬‬
‫أبنته أو زوجته‪ ..‬وحيث أن الخيارات الثالثة األولى غير متاحية‪ ..‬فماذا لو كان ‪ ،...‬قاطع عمر تفكيرها حين‬
‫أكمل كالمه بنبرته الحزينة والراجية‪..‬‬

‫كنت أود مساعدتها‪ ،‬كنت أود سرعة عالجها وشفائها لكن ُكتب علينا روتين العالج الحكومي ‪!..‬‬
‫‪ُ ‬‬
‫عملت والدة آسية على أضافة المرح في حديثها مع عمر ‪...‬‬

‫‪‬أتعرف يا عمر‪ ..‬في مصر ُسمعة المستشفيات والمدارس الحكومية أسوأ من ُسمعة الراقصات ‪!..‬‬

‫تعالت ضحكة عمر فجأة‪ ،‬لم يعهد أن والدة آسية ترمي بالنكات هكذا ‪ ،!..‬سعدت هي كذلك ألخراج عمر من‬
‫مزاجه السيء‪ ،‬أبتسمت ثم أتجهت ناحية المطبخ إلعداد العشاء له قبل النوم‪ ..‬الحظ عمر أبتسامتها تلك لكنه‬
‫ظن أنها ممتنةً فقط لما يفعله هو مع أبنتها أو بسبب حبه لها‪ ،‬لكن الحقيقة غير ذلك‪ ،‬تلك األبتسامة كانت‬
‫لفكرة قد حضرتها فجأة وتفكر فيها بجدية ‪!..‬‬

‫************‬

‫خلد عمر للنوم‪ ..‬في حقيقة األمر هو لم ينم طيلة هذه الليلة ‪ ،..‬لم يستوعب األمر الذي عرضته عليه والدة آسية‬
‫كثيرا في هذا األمر ووجد أن ما عرضته عليه كان من الطبيعي أن‬
‫‪ ،!..‬لقد عرضت عليه الزواج من آسية ‪ ،!..‬فكر ً‬
‫تفكر به والدة آسية‪ ..‬فهي تريد األسراع من عالج أبنتها وكذلك حبهما لبعضهما وبذلك ستضرب عصفورين‬
‫بحج ٍر واحد‪..‬‬

‫أوال الوقت ليس مناسبًا‬


‫كان عمر ينظر لهذا األمر من منظور مختلف‪ ،‬كيف سيقنع والديه بزواجه من آسية ؟!‪ً ،‬‬
‫بسبب أنشغال الجميع بأختفاء أدهم حتى تلك اللحظة‪ ،‬ثانيًا والديه لن يقتنعا بزواجه من فتاةً عاجزة‪ ..‬فلتتوقف‬
‫حدود المساعدة لهذا الحد ‪ ،!..‬سكن وبعض المساعدات المالية وأطمئنان لكن أن يصل األمر لزواجها فستكون‬
‫هنا المشكلة ‪ ،!..‬هذا من جهة والديه‪..‬‬

‫‪122‬‬
‫عِ ضين‬
‫أمر آخر لم يفكر فيه أحد‪ ،‬كيف سيكون رد آسية عندما يُعرض عليها األمر ؟! هل ستتقبل األمر‬ ‫لكن هناك ٌ‬
‫فعال ؟!‬
‫زواجا عن أقتناع أنه يحبها ً‬
‫بسهولة ؟! أم ستعتبره إشفا ٌق ووهم ؟!‪ ،‬أم سيكون ً‬

‫كثيرا وقد أتخذ قراره ‪!..‬‬


‫فكر في األمر ً‬

‫************‬

‫صباحا وقد أجتاحها رغبةً ملحة في رؤية‬


‫ً‬ ‫أسابيع من أستئناف عمر لخدمته العسكرية‪ ..‬أستيقظت آسية‬
‫ٌ‬ ‫بعد عدة‬
‫عمر ‪ ، !..‬ال تعلم لماذا تأخر كل هذا الوقت في التجنيد هذه المرة ‪ ،!..‬كان من المفترض أن يظهر أمس أو‬
‫صباحا ذهبت للطبيب ألستكمال‬
‫ً‬ ‫اليوم‪ ،‬لكنه لم يرجع حتى اآلن ‪ ،!..‬وكعادة يومها الذي أصبح رتيبًا بالفعل‪..‬‬
‫باكرا‬
‫ضلت رجوعها للبيت ً‬‫ضا‪ ..‬بعدما أنتهت لم يكن لديها الرغبة في التنزه اليوم وف ّ‬
‫جلسات عالجها الرتيب أي ً‬
‫هذه الليلة‪ ..‬ربماعدم رؤيتها لعمر كل هذا الوقت كان سببًا أقوى من رتابة عالجها ‪!..‬‬

‫عندما دخلت آسية ووالدتها الشقة كان الظالم الحالك يسود المكان على غير العادة ‪ ،!..‬لكن عندما أُضيئت‬
‫األنوار فجأة كانت أولى مفاجآت الليلة بأنتظارها ‪ ، !..‬أتسعت عيناها من الفرحة حين وجدت أماني بأنتظارها‬
‫وكادت تقفز من مكانها من الفرحة‪ ..‬أسرعت أماني نحوها وعانقتها في حرارة‪ ..‬لقد أشتاقت الصديقتان لبعضهما‬
‫أخيرا ظهرت توأمة روحها‪..‬‬
‫كثيرا‪ً ،‬‬
‫ً‬
‫ِ‬
‫أفتقدتك يا غبية ‪!..‬‬‫‪‬‬

‫قالتها آ سية بأبتسامة باكية بعدما ضربت صديقتها على ظهرها بعدما عانقتا بعضهن مازحة‪ ،‬ردت أماني بنفس‬
‫األشتياق ‪..‬‬

‫‪‬أردت أن أكون أول من يقول لكي كل عام وأنتي بخير ‪!..‬‬

‫فبدال من أن تفرح فقد أضافت بعض الكآبة لهذه المناسبة‪..‬‬


‫تذكرت آسية أن عيد ميالدها اليوم‪ً ،‬‬

‫‪‬قبل ٍ‬
‫عام من اآلن كنت أستيطع المشي وكنت أجري هنا وهناك‪ ،‬كنت أسرع عندما أتأخر عن المحاضرة‪ ،‬لكن‬
‫اآلن‪..‬‬

‫‪123‬‬
‫عِ ضين‬
‫قاطعتها والدتها ‪..‬‬

‫لطيف بعباده وأحرص‬


‫ٌ‬ ‫ألختبار من اهلل‪ ..‬البد أن تنجحي في هذا األختبار‪ ،‬أن اهلل‬
‫ٌ‬ ‫لكن اآلن أنتي تتعرضين‬
‫‪ّ ‬‬
‫عليهم من أنفسهم‪ ،‬الحمد هلل على كل شيء‪..‬‬

‫أكملت أماني ‪...‬‬

‫ِ‬
‫أدعك تفسدين هذه الليلة‪ ،‬ما رأيك أن نطفئ الشموع اآلن لنبدأ سهرتنا ؟!‬ ‫ِ‬
‫كالمك الفارغ هذا‪ ..‬لن‬ ‫‪ِ ‬‬
‫دعك من‬

‫أخيرا عمر ظهر لها‪ ،‬لقد أفتقدته‬


‫ظهر عمر فجأة وبيده كعكة الميالد‪ ..‬لقد كانت الفرحة مضاعفة هذه المرة‪ً ..‬‬
‫طيلة األسابيع الماضية‪ ،‬كان ظهوره بحد ذاته عيد ٍ‬
‫ميالد لها‪..‬‬

‫عام وأنتي بخير يا آسية‪ ،‬في السنة القادمة ستكونين على ما يرام وأر ِ‬
‫اهنك على هذا‪..‬‬ ‫‪‬كل ٍ‬

‫تبسمت‪ ،‬شعرت بالخجل بسبب نظرات والدتها وأماني لها ‪..‬‬


‫أزداد جمالها حين ّ‬

‫‪‬ماذا لو نطفئ الشموع اآلن ؟!‬

‫ألتف الجميع حول كعكة الميالد وبعد ترديد طقوس أعياد الميالد أنسحبت والدة آسية للمطبخ داعيةً أماني‬
‫لمساعدتها في أعداد عشاء الليلة‪ ،‬أدركت آسية أن مفاجآت الليلة لم تنتهي وأن ما يحدث اآلن ليس مجرد رغبةً‬
‫من والدتها في تركهما بمفردهما ليتحدثا فقط‪ ..‬قلبها يُحدثها بأن هناك شيئًا آخر ينتظرها‪ ،‬تتبعت نظرات عمر‬
‫أخيرا ‪..‬‬
‫المترددة إلى أن تكلم ً‬
‫ِ‬
‫أحادثك بشأن زواجنا لكن جرت الرياح بما ال تشتهي السفن ‪ ،!..‬عدت‬ ‫كنت أخطط ألن‬‫عام مضى ُ‬ ‫‪‬منذ ٍ‬
‫لحادث ليتخلى الجميع ِ‬
‫عنك إال من كنتي أنتي حياته ‪ ،!..‬لكن تلك السفينة‬ ‫ٍ‬ ‫ويائسا‪ ،..‬بعدها بأيام تتعرضين‬
‫خائبًا ً‬
‫التي أرغمتها الرياح للجريان في طر ٍيق ال تشتهيه قد تكون سلكت طري ًقا أفضل من ذلك الطريق المعتاد الذي‬
‫عرض قد رفضيه ساب ًقا‪ ..‬هل تتزوجينني ؟!‬
‫مجددا ألعرض عليكي ٌ‬
‫ً‬ ‫عدت‬
‫خسرته ‪ ،!..‬اآلن ُ‬
‫حينها كان شعورها مختلطًا‪ ..‬تشعر بالسعادة المفرطة‪ ،‬كانت تبكي داخليًا من الفرحة وظهر هذا في لمعان عينيها‪،‬‬
‫مجددا‬
‫ً‬ ‫مجددا فكرت في رفضه‬
‫ً‬ ‫مجددا منه إال عندما فعلها هو‬
‫ً‬ ‫لكنها لم تتحرك ساكنة‪ ،‬رغم أنها كانت تنتظر هذا‬
‫‪ ،!..‬ال تريد األشفاق بأي صورةٍ كانت‬
‫‪124‬‬
‫عِ ضين‬
‫أما عن عمر ففكر في أنها قد تظن أنه أذا أقترح عليها أن يتزوجها ذات يوم وهي في تلك الحالة فأنه بذلك‬
‫يُشفق عليها‪ ،‬عندما ساد الصمت بينهما للحظات أيقن بأنها داخليًا تفكر هكذا‪ ،‬أسرع لتوضيح األمر‪..‬‬

‫يوما ما ستكونين‬ ‫‪‬على أية حال لن أترك ِ‬


‫مجاال للرفض هذه المرة‪ ..‬لن أسمح بأن تفكري باألمر حتى ‪ً ،!..‬‬
‫لك ً‬
‫أعدت للبيت الفوضى بعد أن أنتهيتي من ترتيبه للتو‪ ..‬هكذا‬
‫ُ‬ ‫بخير وتجرين ورائي غاضبةً حين تكتشفين أنني قد‬
‫دائما ‪!..‬‬
‫يفعل الزوجين ً‬
‫مازحا مما أعاد رسم األبتسامة على شفتيها ‪ ،!..‬ضحكت رغم تلك الدموع التي أعلنت‬ ‫قال جملته األخيرة ً‬
‫ضعفها هذه المرة‪ ،‬للحظة جال بخاطرها سؤال‪ ..‬لماذا يفعل عمر هذا معها ؟!‪ ،‬األمر يتعدى مجرد األشفاق عليها‬
‫أو المساعدة فقط ‪ ،!..‬يحبها ح ًقا‪ ..‬هي تريد تصديق هذا على كل حال حتى لو لم يكن كذلك ‪!..‬‬

‫كانت والدتها وأماني تطالن برأسيهما من باب المطبخ وتستمعان لما يجري بينهما في الخارج‪ ..‬تبتسمان وتترقبان‬
‫رد آسية‪ ،‬حين طال الصمت بينهما وفي نفس الوقت التي كانت تفكر آسية في الرد عليه سبقتها أماني بزغاريد‬
‫بدال عن آسية ‪!..‬‬
‫الفتيات تلك معلنةً عن موافقتها على الزواج ً‬

‫كانت تلك المفاجأة الكبرى التي تنتظرها الليلة‪ ،‬دقائق وقد كان المأذون في الشقة لعقد قرانهما‪ ..‬تمت الزيجة‬
‫فعال معلنةً عن حياةً جديدة لكليهما‪ ..‬حياةً ال يدري أحدأ تفاصيلها القادمة بعد ‪!..‬‬
‫ً‬

‫‪-33-‬‬

‫أخيرا من تغطية لسلسة من الحلقات عن موضوع الالجئين السوريين في مختلف الدول األوروبية‪،‬‬
‫لقد أنتهت اليوم ً‬
‫بديال‬
‫سافرت لعواصم تلك الدول ورصدت حاالتهم وكتبت تقاريرها عن المخيمات السورية التي أصبحت وطنًا ً‬
‫لهم في تلك الدول ‪ ،!..‬لقد رصدت معاناتهم وعلى عكس ما كان يقدمه األعالم األوروبي عن المعاملة الحسنة‬
‫دائما ‪ ،!..‬السوريون يتم معاملتهم بذل‬
‫لهؤالء الالجئين‪ ..‬رصدت هي الحقيقة كما تعودت أن تقولها وتبرزها ً‬
‫ومهانة‪..‬‬

‫فمثال عندما كانت على الحدود المجرية الصربية‬


‫مسموعا ويصل بسرعة للناس والمشاهدين‪ً ،‬‬ ‫ً‬ ‫كان صوت ماريان‬
‫تعرض أحد السوريين لألعتداء من قِبل ُمراسلة تلفزيونية مجرية حين كان يحتضن هذا الرجل أبنه ليحميه من تدافع‬
‫‪125‬‬
‫عِ ضين‬
‫الالجئين‪ ،‬في البداية ال أحد كان يعلم بهذا لكن عندما قررت ماريان نشر ذلك الفيديو كانت تثق بأن الفيديو‬
‫سينال أستعطاف الكثيرين ‪ ،!..‬وكما قررت أن تكون فع ًال‪ ..‬لقد ساهمت في نقل حقيقة ما يحدث للعالم‪ ،‬بعدها‬
‫المراسلة‬
‫قامت العاصمة األسبانية مدريد بأستضافة هذا الرجل السوري وأبنه الذي تم األعتداء عليهما من هذه ُ‬
‫وأستضافهم رئيس نادي لاير مدريد األسباني لكرة القدم حينها وأعتنى بهم بل وحصل على ٍ‬
‫عمل هناك‪ ،‬لقد أصبح‬
‫المراسلة التلفزيونية بحقها إال أنها تسببت في طردها‬
‫العالم كله تقريبًا يعرف هذا الرجل وأبنه‪ ،‬فماذا فعلت تلك ُ‬
‫من القناة ؟!‬
‫كانت قد قررت أن تتناول وجبة العشاء مع صديقتها التي تعمل ضمن طاقمها سارة تغيان بعد عناء ٍ‬
‫يوم طويل‪،‬‬
‫كثيرا في أعداد تلك الحلقات الكاملة التي تتكلم عن‬
‫كثيرا بشخصيتها خاصةً أنها مغربية‪ ..‬ساعدتها ً‬
‫أُعجبت ً‬
‫الالجئين في أوروبا ورصد معاناتهم ‪..‬‬

‫كانتا تجلسان في المقاعد الخارجية لمطعم كازان التركي في شارع ويلتون بلندن حين بدا لماريان بالذات أن هناك‬
‫أمرا ما غير طبيعيًا يحدث أو سيحدث هنا ‪ ،!..‬ربما ألن حدسها الصحفي جعلها تشعر بشيء غير طبيعي ‪،!..‬‬ ‫ً‬
‫الحظتها سارة عندما توقفت ماريان عن الحديث معها فجأة‪ ..‬تنظر لشيءٌ ما قاطبةً حاجبيها ‪ ،!..‬لكن الغريب أن‬
‫ليس هناك ما يُلفت األنتباه ‪!..‬‬

‫‪‬ماري‪ ..‬ماذا ِ‬
‫بك ؟!‬
‫ٍ‬
‫بصوت أعلى‪..‬‬ ‫لم ترد ماريان‪ ،‬كررت سارة ندائها‬

‫‪‬مااااري‪ ،..‬هل أنتي بخير ؟‬

‫التفتت إليها ماريان وكأنها للتو سمعتها‪ ،‬التفتت مرةً أخرى لما كانت تنظر إليه وهي تسألها‪..‬‬

‫‪‬أترين ذلك الرجل الذي يقف هناك ؟!‬

‫التفتت سارة ناحية الرجل الذي أشارت عليه ماريان‪..‬‬

‫‪‬ماذا به ؟!‬

‫‪126‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪‬أال يثير الريبة ؟!‬

‫تعجبت سارة من سؤالها خاصةً أنها لم تلحظ شيئًا‪..‬‬

‫مثال من ٍ‬
‫أصول عربية ؟!‬ ‫مسلما ً‬
‫‪‬يثير الريبة لمجرد أنه ذو لحية ويبدو ً‬
‫التفتت إليها ماريان متفاجئة من طريقة تفكيرها ‪!..‬‬

‫‪‬أنا لم أقصد ما فهمتيه يا سارة‪ ،‬لماذا تفكرين بهذه الطريقة ؟!‬

‫ظهر الضيق والحزن على وجه سارة فجأة ‪ ،!..‬ردت بخجل‪..‬‬

‫‪‬و أنا لم أقصد مضايقتك يا ماريان‪ ،‬كل ما في األمر أن ديننا ليس سيئًا‪ ..‬ليس كل ملتحي أرهابي وليس كل‬
‫ُمنتقبة يُثار من حولها الشكوك‪..‬‬

‫سكتت للحظة بدت فيها متأثرة ثم أكملت‪..‬‬

‫‪‬األسالم بريئًا من تلك الجماعات والمنظمات التي أساءت لديننا ‪ ،!..‬بسببهم أصبح الناس حتى من عموم‬
‫رجل ذو لحية ‪ !..‬هل يتبع تنظيم أرهابي أم له نشاطات مشبوهة ؟!‪ ،‬أصبحت‬
‫المسلمين ينتابهم الشك حول ٌ‬
‫المنتقبة محل سخرية وأشمئزاز من الجميع ‪ ،!..‬ديننا أبسط وأرقى من ذلك بكثير‪ ..‬نحن لسنا أرهابيين يا ماريان‬
‫وهذا الذي يستخدموه ليس ديننا‪ ،‬ديننا رحمةً للعالمين وليس هال ًكا لهم ‪...‬‬

‫كان صوتها يخالطه األلم والحزن والغيرة على دينها‪ ،‬أقتربت منها ماريان لتوضح ما كانت تقصده‪..‬‬

‫‪‬سارة‪ ..‬لماذا تقولين مثل هذا الكالم ؟! ‪ ،‬أنا لم أقصد أن أجرح في اإلسالم أو أي شيء من هذا القبيل‪،‬‬
‫ِ‬
‫أضايقك‪ ،‬ما أقصده هو أن تحاولين التركيز في تصرفات هذا الرجل الذي‪..‬‬ ‫صدقيني لم أقصد أن‬

‫همت ماريان بتوضيح األمر أكثر‪ ،‬شعرت سارة باألرتياب نحوه‬ ‫فوجئت ماريان وسارة أن الرجل أقترب عندما ّ‬
‫ويسارا وهو يمسك بسترته وهو ينوي فتحه ‪ ،!..‬نظرتا‬
‫ً‬ ‫كذلك‪ ،! ..‬تصرفات الرجل غير طبيعية‪ ..‬يلتفت يمينًا‬
‫لبعضهما في ٍ‬
‫شك وأرتياب‪ ..‬هزت ماريان كتفيها أشارًة أن هذا ما تقصده ‪ ،!..‬ظل الوضع هكذا وهما تترقبانه‬
‫ٍ‬
‫بصوت عالي‬ ‫بحذر وعندما أزدحم المكان فجأة ظهرت أبتسامةً ماكرة على وجه ذلك الرجل ثم أطلق صيحته‬
‫سمعه الجميع من حوله‪ " ..‬اهلل أكبر " ثم فتح سترته ‪!..‬‬
‫‪127‬‬
‫عِ ضين‬
‫منبطحا على األرض متيقنًا بأن اللحظة القادمة سيكون ميتًا‬
‫ً‬ ‫لقد توقف الزمن عند هذه اللحظة‪ ..‬كان الجميع‬
‫بدال من أن يسمع الجميع صوت األنفجار كآخر ما سيسمعوه في‬ ‫عندما يُفجر هذا األنتحاري نفسه‪ ،‬لكن فجأة ً‬
‫ٍ‬
‫ضحكات عالية بصورة هستيرية ‪!..‬‬ ‫حياتهم‪ ..‬سمعوا صوت أحدهم يطلق‬

‫ساخرا " توك شو " وأن هذا الرجل قد أوقعهم‬


‫ً‬ ‫نامجا‬
‫جميعا أن هذا بر ً‬
‫تبادل الجميع الضحكات عندما علموا ً‬
‫فخ ساخر " مقلب "‪ ..‬قام الجميع ونفضوا التراب من على مالبسهم وقد عادت الحياة لقلوبهم بعدما‬
‫جميعا في ٍ‬
‫ً‬
‫فُ ِزعوا منذ قليل‪ ،‬إال ماريان وسارة فظلتا هكذا على األرض مصدومتان مما حدث‪ ..‬خاصةً سارة التي لم تستوعب‬
‫أرضا منتظرة موتها بعد لحظات ؟! أهي كلمة " اهلل‬
‫األمر بعد ‪ ،!..‬تساءلت في نفسها‪ ..‬ما الذي جعلها تنبطح ً‬
‫أكبر " ؟! أم لحية هذا الرجل وهيئته العربية ؟!‪ ،‬أم جميعهم ؟!‪ ،‬أنهم يسخرون منا كمسلمين ‪ ،!..‬ربما يبدو‬
‫ص ّدر للعالم كله أن كلمة اهلل أكبر ال تستخدم سوى في العمليات‬
‫ساخرا في النهاية لكنه وبصورةً ما ُ‬
‫ً‬ ‫نامجا‬
‫بر ً‬
‫أرضا‪ ..‬هؤالء األوغاد‪ ..‬ماذا فعلوا‬
‫األرهابية التي يقومون بها هؤالء الجماعات حتى هي صدقت هذا وأنبطحت ً‬
‫بديننا‪..‬‬

‫‪128‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-34-‬‬

‫في سوهاج وفي أحدى أكبر قاعات المناسبات (األفراح) تجمعت أعداد غفيرة لعائلتي العروسين وأصدقائهم‪،‬‬
‫كال منهما يكن األدب واألحترام‬
‫العروسان أحبا بعضهما حين كانا زميلين في الجامعة وتطورت العالقة بينهما و ً‬
‫لآلخر‪ ،‬هي فتاةً ريفية‪ ..‬قد أحسن والديها تربيتها‪ ،‬أكملت تعليمها األساسي ثم إلتحقت بكلية الزراعة لتحقق‬
‫أمنية أهلها في إدارة أراضيهم الزراعية وكذلك إضافة لقب " باشمهندسة " قبل إسمها‪ ،‬دخلت الجامعة ورأت ما‬
‫ضلت األنعزال ولكنها‬
‫رأت من إختالف الحياة في قريتها وحياة الجامعات‪ ..‬لم تعجبها الحياة الجامعية لذلك ف ّ‬
‫تعرفت على صديقة عمرها حتى بات من يراهن يتيقن بأنهمن أختين أو على األقل تجمعهن صلة قرابة‪..‬‬

‫أما هو فقد ألتحق بهذه الكلية بسبب فيروس التنسيق الذي يصيب طالب الثانوية العامة عادةً‪ ..‬دخل كلية زراعة‬
‫مرغما‪ ،‬لكنه ت ّقبل وضعه هناك حين رأها ألول مرة بعد عامين منذ إلتحاقهما بالكلية‪ ..‬كان يجيد التعامل مع‬
‫ً‬
‫ضلها هي فقط عن باقي الفتيات التي عرفهن‪ ،‬أحبها‬
‫الفتيات‪ ،‬لكنه حين رآها ألول مرة تاب عن حياته المراهقة وف ّ‬
‫وبعدما ت ّخرج من الجامعة عانى في البحث عن وظيفة حتى عثر على واحدة فتقدم ألهلها لزواجها‪..‬‬

‫ٍ‬
‫مشهد مهيب ورائع تم زفاف أماني على أنغام الدبكة اللبنانية الرائعة وبنفس الطريقة تم زفاف أحمد كذلك‬ ‫و في‬
‫وما أن وصال لمسرح الرقص حتى ألتف أصدقاء أحمد وأماني حولهما ليتراقص الجميع‪ ،‬وما أن أنتهت أغاني‬
‫ٍ‬
‫ضيوف آخرين أشتاقت لهم‬ ‫الترحيب بهما حتى أظُلمت القاعة كلها ثم تم أضائتها تدريجيًا بعد ثواني معلنةً عن‬
‫أصدقاء الكلية ‪!..‬‬

‫في البداية غلب على الحاضرين الشفقة حين رأوا عمر وهو يدفع آسية على كرسيها المتحرك في الممر الطويل‬
‫كثيرا بالنسبة ألصدقاء الكلية الذين لم يروها منذ ذلك اليوم التي تعرضت فيه هي لتلك‬ ‫ولم يختلف الحال ً‬
‫الحادثة‪ ،‬بدت أنيقة وأكثر أشراقًا رغم ما يعصف بداخلها من آآلم‪ ،‬كان يحزنها نظرة األستعطاف تلك التي يبديها‬
‫الحاضرين هنا لكن كل هذا تبدد حين رأت أصدقائها يتهافتون ويتسابقون إليها أشتياقًا لتلك الفتاة الشقية‬
‫والمزعجة‪ ،‬يالها من أيام ولت دون رجعة‪ ،‬حين كانت تشاكس زميالتها بخفة دمها المعهود‪ ،‬لكنها أيام قد أنتهى‬

‫‪129‬‬
‫عِ ضين‬
‫ٍ‬
‫أستقبال حافل كان‬ ‫زمانها وها هي اآلن تجلس على كرسي متحرك عاجزة تنتظر تهافت صديقاتها إليها‪ ،‬وياله من‬
‫أنفض الجميع‪..‬‬ ‫ٍ‬
‫أعظم وأروع من زفاف العروسين‪ ،‬وبعد ليلة صاخبة سعد الجميع فيها مع العروسين‪ّ ..‬‬

‫‪131‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-35-‬‬

‫مجددا بعد يومين فقط من سفره‪ ..‬كان باديًا عليه القلق والتوتر والعجلة من أمره‬
‫ً‬ ‫لم يكن من الطبيعي أن يظهر‬
‫صباحا‪ ،‬دخل عمر الغرفة التي تتم بها عالج آسية‪ ..‬لم تختفي عالمات الدهشة والحيرة‬
‫ً‬ ‫حين وصل للمستشفى‬
‫على وجه آسية ووالدتها التي كانت تتابع الطبيبة وهي تحاول أن تجعل أبنتها أن تُحرك أطراف قدميها‬

‫فور دخوله فهمت الطبيبة أن عليها الخروج وتوقِف جلسة العالج مؤقتًا‪ ،‬أتجه عمر ناحية آسية وقام بتقبيل رأسها‬
‫فتبسمت والدتها من حب صغيريها ‪ ،!..‬لكن سرعان ما تنبهت آسية من زي عمر الرسمي على‬
‫ثم جلس بجانبها ّ‬
‫غير العادة ‪!..‬‬

‫خطب ما ؟!‬
‫ٌ‬ ‫‪‬لم أعهد أن أراك بالزي العسكري ‪ ،!..‬أهناك‬

‫أمسك عمر يدها وقبّلها ثم نظر لوالدتها التي تنتظر لتفهم ما يحدث‪..‬‬

‫لست في عطلة‪..‬‬
‫‪‬أنا ُ‬
‫نظر لساعته ثم أكمل‪..‬‬

‫‪‬سأسافر بعد نصف ساعة في مهمةً ما تابعة للقوات المسلحة‪ ،‬فضلت أن أطمئنكم وأعلمكم باألمر‪..‬‬

‫قطبت آسية حاجبيها في ضيق‪ ،‬ثم سألته‪..‬‬

‫‪‬إلى أين ياعمر ؟!‬

‫‪‬سنسافر أسبانيا‪ ،..‬هناك مناورات مشتركة بين جيشي البلدين‪ ،‬ال تقلقي سأعود قريبًا‪..‬‬

‫و كأن خاطر آسية ووالدتها واح ًدا‪ ..‬كلتاهما لم تصدقا عمر في كل كالمه ‪ ،!..‬يتكلم وهو يحاول تجنب النظر‬
‫إليهن مباشرةً‪ ،‬هل هي ح ًقا مجرد دورة تدريبية أم غير هذا ؟!‬

‫‪‬متى ستعود ياعمر ؟!‬

‫‪131‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪‬لم يتم أخبارنا بشيء سوى أننا سنذهب في مهمةً تدريبية‪ ،‬الشيء األهم اآلن هو أنني عندما أعود أريد أن‬
‫ِ‬
‫عالجك يا آسية‪..‬‬ ‫تقدما في‬
‫أالحظ ً‬
‫‪‬ال يهمني العالج‪ ،‬ما يهمني هو أنت‪..‬‬

‫قاطعها عمر وقد بدا عليه األستعجال‪..‬‬

‫ِ‬
‫عالجك‪..‬‬ ‫‪‬و أنا ال يهمني سوى‬

‫تصنع أبتسامةً على وجهه‪..‬‬


‫وهم بالخروج لكنه التفت إليهن وقد ّ‬
‫مجددا ّ‬
‫ً‬ ‫قام من مكانه وقبّل رأسها‬

‫‪‬أستودعكم اهلل‪..‬‬

‫ّلوح إليهن بيده ثم خرج بخطى سريعة نحو الدرج إال أنه فوجئ بأن والدة آسية تناديه‪ ،‬التفت إليها منده ًشا ‪..‬‬

‫‪‬عمر‪ ..‬أخبرني الحقيقة‪..‬‬

‫فهم عمر أن والدة آسية تشك بأمره‪ ،‬لم يعتاد المراوغة أو الكذب لذلك قد ظهر جليًا لها أو آلسية أو كلتاهما‬
‫مجددا‪..‬‬
‫ً‬ ‫أنه يكذب بخصوص هذا األمر‪ ،‬حاول المراوغة‬

‫‪‬لقد أخبر ِ‬
‫تك أنني سنقوم بمناورات مشتركة مع‪..‬‬

‫قاطعته في حزم‪..‬‬

‫لست آسية ألصدق كالمك هذا ‪،!..‬‬


‫‪‬عمر‪ ..‬أنا ُ‬
‫أبعد عمر نظره عنها‪ ،‬تأكدت أنه يخفي شيئًا ما‪..‬‬

‫‪‬ليس تدريبًا كما أخبرتنا‪ ،‬أهي مهمةً خطيرة ؟!‬

‫لم يستطع عمر المراوغة هذه المرة‪ ،‬رد بلهجة يملؤها الغلبة على أمره ‪..‬‬

‫‪‬ليست آمنة وليست خطيرة ‪ ،!..‬لقد تم أختياري ضمن كتيبةً مصرية ستسافر اليمن للمشاركة في التحالف‬
‫العربي هناك‪ ،‬ستُوَكل ألينا بعض المهمات البسيطة‪ ،‬مشاركتنا ستكون رمزية ولن يتم األعتماد علينا هناك‪..‬‬

‫‪132‬‬
‫عِ ضين‬
‫بدا عليها القلق هي كذلك‪ ،‬ظهر قلقها جليًا على وجهها بصورة تكاد تكون مبالغة‪ ،‬الحظ عمر توترها هذا‬
‫باألضافة لتأخره عن زمالئه‪..‬‬

‫‪ ‬لم أكن أريد أن أخبركم بهذا‪ ،‬لم أكن ألريد أن أحملكم ما ليس بوسعكم أن تحملوه‪ ،‬ال تقلقي‪ ،‬لن نتأخر‬
‫وسنكون بأمان‪..‬‬

‫أقترب إليها أكثر ليهمس لها‪..‬‬

‫ٍ‬
‫بشيء كهذا‪ ، ..‬أريد أن تواصل تقدم حالتها وال أريد أن يؤثر تأخيري لو حدث‬ ‫‪‬أرجوكي ال داعي ألن تخبريها‬
‫على تقدمها بالعالج ‪!..‬‬
‫سأرجع في أسرع وقت ممكن بأذن اهلل‪ ،‬هي مسألة ٍ‬
‫وقت فقط‪..‬‬

‫هزت رأسها أيجابًا لتؤيده في أخفاء األمر على آسية حتى ال يؤثر هذا على عالجها‪ ،‬لكنها لم تستطع أخفاء قلقها‬
‫قليال قبل الدخول‬
‫مسرعا‪ ،‬ظلت هي واقفة لدقائق لتحاول من تهدئة نفسها ً‬
‫ً‬ ‫عليه‪ ،‬أستدار عمر وغادر المستشفى‬
‫تصنعت األبتسامة لتُطمئِن أبنتها بأن األمور بخير ‪!..‬‬
‫مجددا‪ ،‬دخلت وقد ّ‬
‫ً‬ ‫لغرفة آسية‬

‫************‬

‫هبطت الطائرات العسكرية المصرية في مطار عدن‪ ،‬نزلت منها الكتيبة المشاركة في التحالف العربي باليمن‪ ،‬كانت‬
‫مستشارا عسكريًا‪ ،‬هذا‬
‫ً‬ ‫مصر قد أرسلت كتيبة مكونة من مائة جندي برئاسة اللواء صفوت الدكروري بصفته‬
‫كثيرا‬
‫باألضافة لمساعديه من الضباط األحتياط‪ ..‬مصطفى سراج وعمر محسن‪ ،..‬كان اللواء صفوت يثق بهما ً‬
‫لذلك رشحهم معه عندما أُسندت إليه المهمة‪..‬‬

‫مصطفى تخرج من كلية الطب بتقدير أمتياز مع مرتبة الشرف غير أنه أظهر براعةً طبية في سنة التخرج لذلك‬
‫تمسكت به القوات المسلحة وعينته ضابطًا أحتياطيًا شأنه شأن عمر الذي أكتسب الشخصيةَ العسكرية خالل‬
‫تلك الشهور القليلة الماضية‪ ..‬كذلك هو اآلخر قد أظهر براعةً قتالية في التدريبات من أجادة أستخدامه للسالح‬
‫بمهارة وتركيزه التام في تدريبات أستراتيجيات المعارك والحروب‪..‬‬

‫‪133‬‬
‫عِ ضين‬
‫عند نزول الكتيبة أرض المطار ركبوا سيار ٍ‬
‫ات تابعة للتحالف حتى وصلوا بعد ساعات لمكان المعسكر الخاص‬
‫بهم‪ ،‬كان المكان ا لمجهز لهم يليق بمكانة الجيش المصري الذي يميل دوره في هذه المهمة إلى العمل‬
‫األستخباراتي عنه القتالي‪..‬‬

‫ٍ‬
‫أهتمام مبالغ فيه‬ ‫في األسابيع التي تلت سفر عمر مع الكتيبة المصرية كانت والدة آسية تتابع نشرات األخبار في‬
‫أصال ال من قريب وال من بعيد وكأنهم منعزلين‬
‫حتى أدهش ذلك آسية ‪ ،!..‬فليس في أسرتها من يتابع السياسة ً‬
‫جميعا قناعة بأن السياسة قذرة ‪..‬‬
‫عن كل العالم‪ ..‬فكان لديهم ً‬

‫في كل ليلة تندمج آسية مع أحدى المسلسالت وكانت والدتها تنتهز وجود الفواصل األعالنية لتغيير القناة لمتابعة‬
‫قنوات األخبار مما أثار الشك والريبةَ في نفس آسية ‪ ،!..‬وعندما تحاول أن تستفسر من والدتها عن سر أهتمامها‬
‫بنشرات األخبار في الفترة األخيرة تجد أنها تتهرب والدتها بحجةً ما ‪ ،!..‬لكن ما كان يطمئنها هو أتصال عمر بها‬
‫كلما سنحت له الفرصة ليطمئن عليها ‪!..‬‬

‫بعد أشه ٍر من تواجد الكتيبةَ المصرية باليمن بدأت تتحول مشاركتهم الرمزية إلى مشاركة فعلية في التحالف بعدما‬
‫جائتهم األوامر بتنفيد عدة مهمات قتالية بسيطة ومحدودة خاصةً بعدما أصبحت شوكة الجماعة الحوثية متينةً في‬
‫تماما في‬
‫ظهر الشعب اليمني‪ ،‬وخالل هذه األشهر قلت األتصاالت تدريجيًا بين عمر وآسية حتى أنقطعت ً‬
‫األسبوعين الماضيين ‪!..‬‬

‫في ٍ‬
‫وقت متأخر من الليل كانت آسية ُملقا ًة على سريرها في غرفتها بالمستشفى‪ ..‬لقد أرهقها التفكير‪ ..‬لماذا‬
‫أنقطع عمر فجأةً عن األتصال بها ؟!‪ ،‬لم يعد يهتم أم أنه ال يجد فرصة لألتصال بها ؟!‪ ،‬أم تراه قد أُصيب في‬
‫مثال ؟!‬
‫التدريبات ً‬

‫‪134‬‬
‫عِ ضين‬
‫أفزعها األحتم ال األخير فأنتفضت من مكانها وما أن أعتدلت في جلستها حتى الحظت والدتها وقد غفوت في‬
‫مكانها وهي جالسة ممسكةً بجهاز التحكم‪ ..‬التفتت آسية للتلفاز لتجد أن والدتها كانت تشاهد نشرة أخبار‬
‫كعادة األسابيع األخيرة ‪!..‬‬

‫يحا على األطالق‪ ، ..‬حتى أنها ليست شئون داخلية كي تجذب أنتباهها‬
‫سياسةً مرًة أخرى ؟!‪ ،‬لم يعد األمر مر ً‬
‫بهذا الشكل ‪ ،!..‬أمور وأحداث تحدث في الوطن العربي‪ ..‬ماشأننا نحن بها ؟!‪ ،‬تساءلت في نفسها‪ ..‬هل هي‬
‫أخا من األساس‪ ..‬حتى أنه لم يفكر في األتصال بها‬
‫مثال ؟!‪ ..‬أخاها ؟!‪ ،‬كادت تنسى أن لها ً‬
‫قلقة بشأن أخاها ً‬
‫ولو مرة واحدة ‪ ،!..‬تفكير تفكير تفكير‪ ..‬أرهقت نفسها بالتفكير في كل شيء ولم تنال من هذا سوى أن حياتها‬
‫قليال وعندما‬
‫تُسرق ‪ ،!..‬قررت أن تسعد نفسها ‪ ،!..‬لذلك قررت أن تفكر بأيجابية‪ ..‬عمر بخير لكنه مشغول ً‬
‫قليال‪ ..‬لقد أستطاعت‬
‫تسنح له الفرصة لن يتردد وسيتصل‪ ،‬تتشوق لترى ردة فعله عندما يجدها قد تحسنت ولو ً‬
‫أخيرا أن تحرك أطراف قدميها‪..‬‬
‫ً‬
‫ٍ‬
‫بأهتمام واضح ‪ ،!..‬حينها‬ ‫وهمت بمتابعة األخبار مرًة أخرى‬
‫تنبهت حين وجدت والدتها قد قامت من غفوتها ّ‬
‫فخ بسيط لها‪..‬‬
‫أعادت آسية التفكير في سر تحول والدتها الغريب‪ ..‬فقامت بنصب ٍ‬

‫‪‬أمي ‪!..‬‬

‫لم ترد والدتها عليها بسبب أنشغالها الشديد بما يُعرض على التلفاز‪ ..‬حاولت آسية أن تفهم حقيقة ما يُعرض على‬
‫مهال‪ ..‬ماذا لو كان لعمر‬
‫التلفاز لكنها لم تجد صلة بين بما يحدث في اليمن ومتابعة والدتها لهذه األخبار ‪ً ،!..‬‬
‫صلةً بما يحدث ؟! يبدو األمر غريبًا ج ًدا ‪ ،!..‬فكرت في هذا األمر بجدية‪ ،‬تذكرت شيئًا‪ ..‬عندما قام عمر‬
‫بتوديعهما وخرج من غرفتها تبعته والدتها لترجع لغرفتها بعد دقائق والقلق باديًا على وجهها‪ ..‬لكنها فكرت في أن‬
‫ربما والدتها قلقة فقط من سفر عمر ال أكثر كونه سيتركهم‪ ،‬لكن ماذا إن كان عمر لم يخبرها بالحقيقة ‪!..‬‬

‫عرفت ما دار بينكما قبل أن يغادر عمر المستشفى حينها‪..‬‬


‫‪ُ ‬‬
‫دور‬
‫التفتت إليها والدتها فجأة غير مصدقة لما تسمعه من أبنتها ‪ ،!..‬هذه الحركة جعلت آسية تتيقن أن لعمر ٌ‬
‫قادم في فخها هذا‪ ،‬نظرت للتلفاز ثم أكملت كالمها بلهجةً واثقة وهي تأمل أن ينجح فخها‪..‬‬

‫‪135‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪‬عمر لم يسافر أسبانيا كما قال‪ ،..‬حينها كان يريد أن يُطمئنني فقط‪..‬‬

‫واضحا عليها‪،‬‬
‫ً‬ ‫مازال وجه والدتها جام ًدا بسبب دهشتها‪ ..‬أبعدت وجهها عن أبنتها لتتحكم في قلقها الذي كان‬
‫هنا عزمت آسية على مواجهة والدتها ومعرفة حقيقة ما يحدث‪..‬‬

‫‪‬أذن صحيح ؟!‪ ،‬عمر لم يسافر أسبانيا كما أخبرني ؟!‬

‫عادت تعابير الدهشة لتسيطر على وجه والدتها بقوة‪ ،‬أدركت أنها وقعت في فخ آسية‪ ،‬تساءلت آسية في شك‪..‬‬

‫‪‬هل له عالقةً بما يحدث في اليمن ؟!‪ ،‬هل سافر اليمن ؟!‬

‫ساد الصمت بينهما للحظات ثم هزت والدتها رأسها أيجابًا‪ ،‬وكأنها كانت تنتظر تلك الصدمة وتغيرت مالمح‬
‫وجهها ليكسوها القلق هي األخرى واضعةً يدها على قلبها لتهدئة نبضاته المتسارعة ‪!..‬‬

‫جذب أنتباههن بداية البرنامج السياسي المشهور للمذيعة شيرين عبد النور ‪...‬‬

‫" الحوثيون هم جماعات شيعية مسلحة مدعومة من الدولة األيرانية الشيعية للتدخل في شئون اليمن‪ ،‬حينها‬
‫أستشعرت المملكة ال سعودية خطر تلك الجماعات وكذلك زيادة نفوذ األيرانيين في المنطقة الخليجية عامة‪،‬‬
‫وعلى أمنها القومي خاصةً‪ ..‬فكونت تحال ًفا عربيًا لوقف تلك الجماعات وردعها عن نشطاتها المسلحة ضد‬
‫الشعب اليمني ولوقف تهديهم ألمن الخليج العربي‪ ،..‬تزايدت نشاطات تلك الجماعات األرهابية إلى أن وصل‬
‫األمر ألختطاف الرئيس اليمني نفسه وحجزه في ٍ‬
‫مكان مجهول وأستولوا هم على الحكم م ّدعين بأن لهم أحقية‬
‫حكم البالد في ظل عدم تواجد رئيس ‪!..‬‬

‫متى سينتهي الصراع في اليمن ؟!‪ ،‬اليوم سنتكلم عن الشأن اليمني‪ ..‬معي في األستديو الخبير األسترتيجي ‪" ...‬‬

‫في هذه اللحظة أستشعرت آسية ووالدتها الخطر المحدق بعمر‪ ..‬بدأت آسية بحذف تفاؤلها بأن عمر بخير وأن‬
‫أنقطاع أتصاالته تلك هو مجرد أنشغال‪ ،‬ليس أمامها سوى أن تنتظر لترى ما تحمله األيام القادمة لها ‪!...‬‬

‫‪136‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-36-‬‬
‫فتحت عينيها في ٍ‬
‫أرهاق واضح بعد ذلك األمس المتعب والمرهق بالنسبة لها‪ ،‬توجهت صوب النافذة وأزاحت‬
‫الستار وتطلعت على شروق الشمس هذا اليوم‪ ،‬لم يغب عن بالها ما حدث معها باألمس ‪ ،!..‬كانت تظن بأنها قد‬
‫حققت حلمها عندما جاءت لهنا لكن يبدو بأن هناك من يريد مضايقتها‪..‬‬

‫راحت تتذكر ما حدث‪..‬‬

‫كانت أول الواصلين لمدينة مانشستر لتغطية أنفجار قد أستيقظت على أثرها هذه المدينة ‪ ،!..‬عندما بلّغتها‬
‫المحطة بتلك المعلومة قامت بتجهيز الطاقم الخاص بها مسرعةً صوب هذه المدينة‪ ،‬كانت الشرطة قد سبقتها‬
‫وألتفوا بمكان الحادث لمنع دخول أو خروج أي أحد حالما تنتهي التحقيقات‪ ،‬حاولت ماريان الحصول على أية‬
‫معلومات لكنها فشلت ‪ ،!..‬أنتظرت بالقرب منهم لعلها تصل لفكرًة أو حيلةً ما للحصول على معلومات لكنها في‬
‫النهاية لم تتمكن سوى الحصول على معلومةً كانت بديهية عرفها الجميع وهي أن الحادث عمل أرهابي وليس‬
‫قليال مع المراسلون‬
‫نتيجة ماس كهربي أو شيئًا هكذا‪ ،‬ما جعلها مستاء ًة أكثر هو أن رجال الشرطة كانوا يتساهلون ً‬
‫ٍ‬
‫معلومات حصرية من هؤالء الرجال وفي نفس الوقت لم‬ ‫اآلخرون عداها هي وبالطبع فشلت في أستقطاب أي‬
‫ٍ‬
‫معلومات عن الحادث‪..‬‬ ‫تستطع لتسأل أحد المراسلين عن‬

‫جذب أنتباهها خروج أحدهم من ذلك الملهى الليلي الذي حدث فيه األنفجار وكان يبدو مختل ًفا عن الجميع‪..‬‬
‫حاولت اللحاق به قبل ركوب سيارته لكنها فشلت مرةً أخرى‪ ..‬زفرت بسبب تواصل فشلها اليوم لكنها لم‬
‫أصال وتتبع هذا الرجل‪ ..‬تركت طاقمها وتتبعت هذا الرجل بعدما‬
‫تستسلم بعد‪ ،‬قررت أن تبتعد عن مكان الحادثة ً‬
‫زحاما ما في‬
‫أوقفت سيارة أجرة لتتبعه‪ ،..‬توقفت السيارة ونزل منها هذا الرجل ودخل مبنى ما‪ ..‬أحدث هذا الرجل ً‬
‫ضا ماريان وتتبعته ووقفت أمام المبنى‪ " ..‬الطب الشرعي "‪..‬‬
‫مدخل المبنى‪ ،‬نزلت أي ً‬

‫تمكنت بطريقةً ما من التسلل لداخل المبنى وسط هذا الزحام‪ ..‬فوجدت أمامها مباشرة غرفة تبديل المالبس‬
‫فدخلتها وسرقت معط ًفا طبيًا لتتجول بحرية داخل المبنى‪ ،‬بحثت عن هذا الرجل محاولةً أن تتخفى بقدر األمكان‬

‫‪137‬‬
‫عِ ضين‬
‫فعال في أحدى المختبرات‪ ،‬التفتت حول نفسها باحثةً عن ٍ‬
‫مكان‬ ‫وأال تثير ضجة في بحثها عنه حتى لمحته ً‬
‫يمكنها األنتظار أو األختفاء فيه‪ ،‬لم يكن هناك مكانًا أنسب من دورة المياه ‪!..‬‬

‫كانت دورة المياه في آخر الرواق ويمكنها رؤية الداخل والخارج من ذلك المعمل الذي دخله الطبيب‪ ،‬لكن ما‬
‫ٍ‬
‫ساعات‬ ‫صعب بالنسبة لها هو أنتظارها بالساعات ربما بالداخل أو دخول أحدهم لدورة المياه‪ ،‬ظلت بالفعل‬ ‫هو‬
‫ٌ‬
‫معلومات حول منفذ الهجوم األرهابي‪ ،‬الحظت وجود تحركات على باب المعمل‬‫ٍ‬ ‫كثيرا للحصول على‬
‫أرهقتها ً‬
‫فعلمت أنه بعد لحظات سيخرج التقرير ربما‪ ،‬خرجت من دورة المياه وأقتربت من المعمل وأنخفضت لتمثل أنها‬
‫جزءا من أشالئه‬
‫تقوم بربط حذائها ‪ ،!..‬أثناء ذلك سمعت أحداهن وهي تقرأ أسم منفذ الهجوم بعد جمع وتحليل ً‬
‫‪ " ...‬لون دوغ " أميركي الجنسية ‪!..‬‬

‫فورا بعد أن أنفردت بهذا الخبر‪ ،..‬في حقيقة األمر كانت تريد الهرب‬
‫أسرعت ماريان لتهرب من هذا المكان ً‬
‫لسببين‪ ..‬حتى ال يالحظ وجودها أحد ولتكون أول من ينفرد بهذا الخبر قبل تسربه‪ ،‬نزلت الدرج بسرعة وعندما‬
‫كان يقابلها أحدهم كانت تخفض رأسها وتسرع أكثر في النزول عندما يحاول تذكر أحدهم أين رأها أو من تكون‬
‫وهمت بالهرب إال أن أحد رجال األمن تمكن من‬‫هي ‪ ،!..‬وصلت لمدخل المبنى وألقت بالمعطف الطبي ّ‬
‫األمساك بها‪ ..‬حاولت أن تشرح له األمر لكنه أصر على أعتقالها‪ ،‬كانت تنتظر معجزة وقد حدثت بالفعل‪..‬‬
‫هز المكان كله‪ ..‬أنشغل الجميع بذلك األنفجار وتمكنت هي من الهرب ‪!..‬‬
‫أنفجار آخر بالقرب من المبنى ّ‬
‫ٌ‬

‫ضا‪ ..‬أتصلت بصديقتها سارة وأخبرتها عن مكانها لتغطية الحدث‬


‫بالطبع لم تفوت فرصة تغطية ذلك األنفجار أي ً‬
‫الجديد‪ ،‬في غضون لحظات كان الطاقم كله في مكان الحادث الجديد‪..‬‬

‫في اللحظة التي كانت ماريان تُلقي بالخبر الذي أنفردت به ظهر على الشاشة شريطًا أحمر لخب ٍر عاجل من‬
‫ٍ‬
‫لسبب آخر وأن منفذ الهجوم من أصل تونسي يدعى "‬ ‫السلطات األنجليزية تفيد بأن الحادث كان أرهابيًا وليس‬
‫وليد أزارو "‪ ،..‬بالطبع عندما أخبرها المذيع بأن ما أعلنته السلطات األنجليزية مخال ًفا لما تحصلت عليه من‬
‫معلومات أعترضت وأكدت صحة معلوماتها حول هوية منفذ األنفجار األول في الملهى الليلي ولم يكن من‬
‫المنطق أن تفصح عن مصدر معلومتها‪ ،‬بالطبع كان الهجوم ضاريًا على السلطات األنجليزية على مواقع التواصل‬

‫‪138‬‬
‫عِ ضين‬
‫مسلما ‪ ،!..‬لكن المذيع فهم أن القناة وقعت في مشكلة‬
‫ً‬ ‫ألسما عربيًا‬
‫األجتماعي بسبب ألصاق تهمةً كهذا ً‬
‫عموما‪..‬‬
‫تضارب األخبار وأنهى تغطية ماريان لألنفجارين ً‬

‫مساءا حين وصلت ماريان للمحطة لفهم ما يجري ‪ ،!..‬وصلت لمكتب السيد ويلسون مدير‬
‫ً‬ ‫كانت التاسعة‬
‫المحطة‪..‬‬

‫‪‬ما الذي يجري هنا سيد ويلسون ؟!‬

‫رد عليها بسؤال‪..‬‬

‫ضا ‪!..‬‬ ‫ِ‬


‫ولنفسك أي ً‬ ‫ِ‬
‫تسببت بمشكلة للقناة‬ ‫‪‬ما الذي تفعلينه أنتي يا ماريان ؟!‪ ،‬لقد‬

‫أخرج ورقة من مكتبه ثم عرضها عليها‪ ،‬أكمل كالمه‪..‬‬

‫ِ‬
‫تسللت لمبنى الطب الشرعي دون أذن وقمتي بأنتحال شخصية طبيبةً‬ ‫‪ ‬لقد تم أصدار أمر بأعتقالك ‪ ،!..‬لقد‬
‫هناك ‪!..‬‬

‫قطبت ماريان حاجبيها في تساؤل‪..‬‬

‫‪‬كيف علموا بكل هذا ؟!‬

‫‪‬الكاميرات يا ماريان‪ ،‬أنسيتي أمرها ؟!‬

‫زفت ماريان‪ ..‬لقد نسيت أنه من الطبيعي وجود كاميرات في هذا المكان تكشف عن هويتها‪ ،‬أكمل ويلسون‪..‬‬

‫ِ‬
‫ضلوعك في التخطيط لذلك األنفجار الذي حدث بالقرب‬ ‫‪‬ليس هذا فقط يا ماريان‪ ،‬األتهام األخير ِ‬
‫لك هو‬
‫من مبنى الطب الشرعي‪..‬‬

‫قاطعه طرق أحدهم على الباب‪ ،‬أنها الشرطة أتت لتنفيذ أمر أعتقالها‪ ،‬أصطحبها المستشار القانوني للمحطة إلى‬
‫فجرا وهي تترنح بسبب‬ ‫ٍ‬
‫قسم الشرطة‪ ،‬بعد ساعات من التحقيق معها تم أخالء سبيلها ‪ ،!..‬وصلت لشقتها ً‬
‫األرهاق الذي نالته اليوم‪ ،‬ثواني وكانت قد غرقت في ٍ‬
‫نوم عميق ‪!..‬‬

‫‪139‬‬
‫عِ ضين‬
‫ما قطع تفكيرها رنين هاتفها‪ ،‬أنه السيد ويلسون‪..‬‬

‫‪‬ماريان‪ ..‬؟!‬
‫ٍ‬
‫بصوت مرهق‪..‬‬ ‫سكتت للحظات ثم ردت عليه‬

‫‪‬و من ستكون غيري برأيك ؟!‬

‫أطلق ضحكةً خافتة ‪...‬‬

‫‪‬تبدين مرهقة‪ ،‬أم ماز ِ‬


‫لت غاضبةً مما حدث باألمس ؟!‬

‫‪‬ماذا أبدو برأيك ؟!‬

‫‪‬كالهما‪ ..‬؟!‬

‫زفرت ماريان في ضيق‪ ،‬مزاجها لم يسمح ألن تتحمله‪..‬‬

‫‪‬حسنًا‪ ..‬ماهو سبب أتصالك سيد ويلسون ؟!‬

‫‪‬مهمةً جديدة‪..‬‬

‫‪‬أين‪ ..‬؟!‬

‫‪‬العراق ‪..‬‬

‫لحظات الصمت كانت كفيلة بشرح الذهول التي بدت عليها ‪ ،!..‬لم تستوعب ماريان بعد ما قاله‪ ..‬هي تنتظر منه‬
‫أن يخبرها بأنه يمزح‪ ،‬سألها‪..‬‬

‫‪‬لماذا تصمتين ؟!‬

‫‪‬ظننتك قلت العراق ‪!..‬‬

‫تنهد ويلسون ثم أكمل‪..‬‬

‫‪141‬‬
‫عِ ضين‬
‫ِ‬
‫حلمك كان العمل بقناةً عالمية وها قد تحقق على األغلب عندما عملتي‬ ‫ألي جي ًدا يا ماريان‪ ،‬أعلم أن‬
‫‪‬أصغي ّ‬
‫معنا‪ ،‬لكن صدقيني حلم كل صحفي أو مراسل أخبار هو نقل خبر القرن‪ ،‬بمعنى‪ ..‬قد تتغير حياتك بسبب خب ٍر ما‬
‫ِ‬
‫حياتك بسببها ألفضل ما يكون‪ ..‬خاصةً‬ ‫‪ ،!..‬وال أظن أن هناك مكانًا ما مليئًا بمثل تلك األخبار التي قد تتغير‬
‫ِ‬
‫أنك موهوبة وتستطيعين تميّز تلك األخبار المميزة‪..‬‬

‫تساءلت ماريان في نفسها‪ ..‬ما هذا العبث ؟!‪ ،‬يحاول أقناعها بطريقة غبية‪..‬‬

‫ضا ‪!..‬‬
‫‪‬و لماذا العراق بالذات ؟!‪ ،‬يمكنن أن أرجع مصر‪ ..‬فمازالت األحداث هناك مثيرةً أي ً‬
‫‪‬لكن ماذا إن أخبر ِ‬
‫تك بأن هناك حروبًا ستقام بالعراق قريبًا ؟!‪ ،‬سيتم تحرير محافظات العراق من تنظيم داعش‬
‫بأنك أكثر من تستحقين تغطية هذه األحداث هناك‪..‬‬ ‫قريبا‪ ،‬أظن ِ‬
‫ً‬
‫سكت للحظات ثم أستطرد‪..‬‬

‫‪‬و ربما يحدث شيئًا غير مألوفًا كما تحبين‪ ،‬ألم تعشقين تلك األحداث األستثنائية أثناء تغطية األخبار ؟!‬

‫لم يتلقى جوابًا منها سوى الصمت‪ ،‬عمل على أنهاء المكالمة ‪..‬‬

‫طبعا‪ ..‬فكري باألمر وسأنتظر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫‪‬حسنًا‪ ،..‬سأمنحك بعض الوقت للتفكير‪ ..‬اليوم راحةً لك عدا لو حدث شيئًا ً‬
‫ردك‪ ،‬إلى اللقاء‪..‬‬

‫فعال للتفكير باألمر‪ ،‬األمر ليس بهذه البساطة‬ ‫أغلقت ماريان الهاتف‪ ،‬يبدو كالمه منطقيا‪ ،‬لكنها تحتاج ٍ‬
‫لوقت ً‬ ‫ً‬
‫لتقرر اآلن ‪!..‬‬

‫‪141‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-30-‬‬
‫خصوصا إن األتصاالت‬ ‫لم يكن من السهل عليها أن تعلم بوجوده في ٍ‬
‫بلد ذات أرض خصبة للمعارك والقتال‬
‫ً‬
‫بينهما قد إنقطعت منذ فترة ليست بالقصيرة‪ ،‬كان قد مر على خطف الرئيس اليمني أسبوعين كاملين سرت فيها‬
‫االخبار على وتيرة واحدة وهي معارك بين الجماعة الحوثية وجيش التحالف العربي ‪...‬‬

‫كانت حالتها النفسية السيئة سبب قوي لتراجع تطور عالجها‪ ،‬إنتابتها أفكار سودوية حول مصير عمر هناك‪ ..‬ال‬
‫يمكنها أن تتخيل كيف ستكون حياتها بدون عمر إن أُستُشهد في أحدى هذه المعارك‪ ..‬لمن تحيا إذن ؟!‪ ،‬هو‬
‫الحياة بالنسبة لها‪ ..‬هل يمكن للمرء أن يعيش دون حياته ؟!‪ ،‬تريد أن تهب حياتها له كما وهب حياته لها ‪!..‬‬

‫قليال ‪...‬‬
‫عادت بذاكرتها للوراء ً‬

‫في الحافلة في طريق عودتهم للقاهرة بعد حضور حفل زفاف صديقيهما في سوهاج إنطفأت األنوار في الحافلة‬
‫ونام ركابها إال منهما فقد بدا عليهما األستمتاع بالليلة السالفة‪ ..‬تبادر آسية بالكالم بعد صمت دام لدقائق‪..‬‬

‫‪ -‬أتتذكر حين سألتك عن سعيدة الحظ التي ستظفر بك يوما ما ؟!‬

‫مبتسما‪ ،‬أكملت هي‪..‬‬


‫ً‬ ‫نظر عمر إليها‬

‫رغما عني واألتعس من ذلك كانت ستكون فتاة غيري هي من ستفوز بك‬
‫‪‬حينها كنت أتعس خلق اهلل‪ ،‬سأتزوج ً‬
‫‪!..‬‬

‫رد عمر بتهكم‪..‬‬

‫‪ -‬بالطبع فأنا فارس أحالم كل فتاة‪ ،‬أال ترين وسامتي !!‬

‫‪ -‬نعم فارس أحالمي أنا وأنا من فزت بك في النهاية ومن تقترب منك سأفترسها أو أقتلها بال رحمة‪..‬‬

‫عقدت ذراعيها أمامها‪ ،‬فضحك عمر‪..‬‬

‫‪142‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪ -‬أنا أستحقك‪ ،‬أنا من فزت ِ‬
‫بك وليس ِ‬
‫أنت ‪!..‬‬

‫مألت وجهها إبتسامة خجولة‪ ،‬داهمتهما لحظة صمت أطلت بعدها آسية على وجه عمر فوجدته هائم في النظر‬
‫لشئ ما أعجبه‪ ،‬فطلت برأسها هي األخرى في إتجاه ما ينظر هو فوجدته ينظر لفتاة صغيرة تداعبه من بعيد فتفاعل‬
‫معها‪ ،‬وللحظة تمنت لو أنها بخير لتجعله سعي ًدا‪..‬‬

‫‪ -‬تعجبك تلك الطفلة الصغيرة ‪..‬؟!‬

‫‪ -‬أحب االطفال وأعشق الفتيات منهم ‪..‬‬

‫ومشجعا لها‪..‬‬
‫ً‬ ‫مبتسما‬
‫ً‬ ‫نظر إليها‬

‫‪ -‬أنتظر شفاؤك بفارغ الصبر‪ ،‬حينها سينعم اهلل علي مرة أخرى بعدما رزقني ِ‬
‫بك ‪!..‬‬ ‫ّ‬
‫جماال‪ ،‬ثم أضاف عمر ‪...‬‬
‫خجال مع أبتسامة زادتها ً‬
‫إحمر وجهها ً‬

‫‪ -‬سأسميها مريم ‪..‬‬

‫ٍ‬
‫غضب مفاجئ ‪...‬‬ ‫عقدت حاجبيها في‬

‫‪ -‬مريم ‪..‬؟!!‪ ،‬هذا إسم حبيبتك القديمة‪ ،‬اليس كذلك ؟!‬

‫ضحك عمر بصوت كاد يوقظ من في الحافلة ثم وضح لها ‪...‬‬

‫‪ -‬ال ال‪ ..‬ليس هكذا ‪..‬‬

‫أسند رأسه للوراء وعيناه معلقتان بتلك الطفلة هناك‪..‬‬

‫دائما ما كنت أتألم حين يذكر القرآن قصتها وكم فرحت عندما نصرها‬
‫‪‬أنا أعشق السيدة مريم عليها السالم‪ً ..‬‬
‫يما لها‪..‬‬
‫عظيما‪ ..‬لقد ّسمى اهلل سورة بأسمها تكر ً‬
‫نصرا ً‬
‫اهلل ً‬

‫مجددا‪..‬‬
‫ً‬ ‫نظر إليها‬
‫‪143‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪‬سأسميها مريم‪ ، ..‬حينها سترددين دعاء زوجة عمران حين أنجبت السيدة مريم ( إذ قالت إمرأةُ ِعمرا َن ِ‬
‫رب‬
‫السميع العليمُ * فلما وضعتُها أُنثى واهلل أعلم بما وضعت‬
‫ُ‬ ‫أنت‬
‫حرًرا فَـتّقبّل مني إنك َ‬
‫لك ما في بطني ُم ّ‬
‫رت َ‬
‫إنّي نَ َذ ُ‬
‫بك وذُريتها من الشيطان الرجيم ) ‪ ،‬حينها سيحفظها اهلل من‬
‫وليس الذكر كاالُنثى وإني سميتُها مريم وإني أُعي ُذها َ‬
‫الشيطان الرجيم‪...‬‬

‫عادت لواقعها في المستشفى حين سمعت هي ووالدتها المذيع يلقي بخبر عاجل‬

‫" عاجل ‪ ...‬قوات التحالف العربي في اليمن تنجح في تحرير الرئيس اليمني المختطف من الحوثيين "‬

‫إرتسمت إبتسامة واسعة على وجهها وكذلك والدتها التي ظلت تردد دامعة ‪...‬‬

‫‪ -‬الحمد هلل ‪ ...‬الحمد هلل‪..‬‬

‫بالطبع لم يكن هذا الخبر بحد ذاته هو من أفرحهم لكن طالما لم يُذكر أن هناك شهداء أو إصابات في الصفوف‬
‫إنشغال فقط بما يحدث هناك من‬
‫ٌ‬ ‫المصرية فهذا يعني أن عمر بخير وأن إنقطاعه عن االتصال بهم هو مجرد‬
‫مهمات‪ ،‬منذ قليل عادت من رحلة ذكرياتها معه‪ ،‬ربما لم تخترع البشرية الة الزمن بعد لكن المرء قادر على‬
‫السفر عبر ذكرياته‪ ..‬إما لكون رحلة سعيدة أو مرهقة ‪!..‬‬

‫الليلة الماضية ‪...‬‬

‫منذ أن أُختطف الرئيس اليمني ُكلفت الكتيبة المصرية بعملية إستخباراتية لمعرفة مكان أختطافه‪ ،‬وبالفعل نجحت‬
‫العناصر المصرية بقيادة مصطفى سراج في تحديد مكان الرئيس المختطف وحان دور عمر في تنفيذ عملية تحريره‬
‫كان اللواء صفوت قد قّسم كتيبته لربعها بقيادة مصطفى للمهمات االستخباراتية وباقي كتييته للمهمات القتالية‬
‫بقيادة عمر‪ ،‬وضعت الخطة كاملة وتجهزوا لتنفيذها‪ ،‬كانوا يعلمون بمدى صعوبة هذه المهمة ‪...‬‬

‫كانت ليلة هادئة تسبق العاصفة القادمة‪ ،‬كانت اإلجراءات األمنية مشددة في مدينة البريقة في محافظة عدن‬
‫أسيرا في أيدي الجماعات الحوثية‪،‬‬
‫اليمنية‪ ،‬وفي أحد منازل حي الزحف األحمر يقطن الرئيس اليمني المختطف ً‬
‫لما‬
‫تسللت المجموعة المصرية المنزل من أعاله ونزلوا على سلم متخفي قد صنعوه الحوثيين من قبل‪ ،‬كان عمر ُم ً‬
‫‪144‬‬
‫عِ ضين‬
‫بكل مخابئ المنزل حسب المعلومات التي جمعها زميله مصطفى‪ ،‬نزل عمر هذا السلم الخفي مع عناصر قليلة‬
‫من مجموعته إلى أن وصل الى نافذة لغرفة كانت نصف مفتوحة فوجد عمر الرئيس يجلس على أريكة ال حول له‬
‫وال قوة فتنّبه الرئيس لشئ يتحرك وراء النافذة فظهر له رجل مقنع مختل ًفا عن من قاموا بأختطافه فأشار له عمر‬
‫بالسكوت كي يكمل مهمته‪ ،‬كذلك فهم الرئيس من إشارات عمر إنه من قوات التحالف أتت لتحرره‪ ،‬سأله عن‬
‫مشيرا بأصابعة متخفيًا بخمسة أفراد في الغرفة ‪ ،!..‬أقتحم عمر الغرفة هو‬
‫عدد الموجودين في الغرفة فأجابه ً‬
‫ومجموعته وما إن دخل حتى أعطى إشارة عن طريق الالسلكي لمجموعة خارج المنزل بإحداث شغب كي يتمكن‬
‫من تخفيف الضغط في المنزل وتحرير الرئيس‪..‬‬

‫عند دخوله تبادل إطالق النار مع االفراد المسلحة وبأسبقية المجموعة المصرية سقط مختطفي الرئيس قتلى‪،‬‬
‫على الفور أحاطت هذه المجموعة الرئيس عند خروجهم من الغرفة في إتجاه المخرج وتزايد عدد قتلى الحوثيين‪،‬‬
‫أعتمدت المجموعة المصرية على عنصري التشتيت والمفاجأة‪ ..‬وفور خروجهم من المنزل توقفت سيارات‬
‫محاوال حمايته أُصيب بطلقة في كتفه وسط‬
‫ً‬ ‫ضخمة أمام المنزل فأسرعوا بأتجاهها وأثناء إحاطة عمر للرئيس‬
‫إطالق نار عنيف عشوائي ‪ ، !..‬فأسرعت المجموعة بإدخال الرئيس أحدى السيارات ودخل عمر معه لحمايته‬
‫وإنطلقت السيارات هاربة من جحيم الرصاصات واالسلحة الثقيلة التي بدأت تظهر حين بدا الوضع يتخذ شكل‬
‫المعركة ‪..‬‬

‫عندما كانوا في السيارات في طريق العودة أخلع عمر قناعه وظهر العرق على جبينه‪ ..‬كان يتألم بشدة بسبب‬
‫الرصاصة التي أخترقت كتفه‪ ،‬حاول الرئيس االطمئنان عليه لكن لم يكن بمقدور عمر إجابته ألنشغاله بألمه ‪!..‬‬

‫أخيرا للمعسكر وإستقبلهم اللواء صفوت وتهللت‬


‫بعد ساعتين من السير في الطرقات الوعرة وصلت المجموعة ً‬
‫وخصوصا عمر‬
‫ً‬ ‫أساريره حين علم أن المجموعة بأكملها قد عادت سالمة دون شهداء ولكن األصابات كانت بليغة‬
‫المصاب برصاصة في كتفه باإلضافة للكدمات‪ ،..‬جري مصطفى بإتجاه عمر عندما رآه مصابًا لعالجه فيما أمر‬
‫اللواء صفوت مجن ًدا بأتصاله بقوات التحالف ألعالمهم بنجاح المهمة وتحرير الرئيس‪..‬‬

‫‪145‬‬
‫عِ ضين‬
‫مضى يومان على المهمة األخيرة وسط إشادة وثناء على مجهودات الكتيبة المصرية ترحيب من القيادة العربية‪،‬‬
‫تسلمت قوات التحالف الرئيس اليمني من الكتيبة المصرية وعزمت المملكة السعودية على السماح للكتيبة‬
‫المصرية بالرجوع لمص ر وأنتهاء مهمتهم في اليمن ال سيما بعد أن عرفت الميليشيات الحوثية مكان المعسكر‬
‫المصري وقد تحدث كارثة في قادم األيام ‪!..‬‬

‫تلك األخبار أسعدت الكتيبة المصرية كلها‪ ،‬كان عمر يخطط ألن يفاجأها حين يظهر لها فجأة في المستشفى‬
‫ضا يمني نفسه في أن يتفاجأ حين يرا ها أنها قد تطورت في عالجها‪ ،‬لكن ما أفسد مخططه هذا هو مرور‬
‫وكان أي ً‬
‫الساعة كالسنة‪ ..‬لم يطيق األنتظار لذلك قرر أن يُسعد نفسه اآلن‪ ،‬قرر أن يسمع صوتها اآلن‪ ..‬لذلك فقد قرر‬
‫االتصال بها‪ ،‬شكل أرقامها عبر هاتفه وأتصل بها لكن لم يأتيه الرد منها ‪ ،!...‬زفر وقد غيّر رأيه‪ ..‬سينام لتمر‬
‫الساعات القادمة بسرعة‪ ،‬سيراها قريبًا‪ ..‬هو متأكد من ذلك‪..‬‬

‫على الجانب اآلخر كانت غرفة آسية خالية ال أحد فيها لكن هاتفها يرن بأستمرار دون أن يسمعه أحد‪..‬‬

‫‪146‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-32-‬‬

‫كانت تُمسك هاتفها منذ ليلة أمس عندما علمت أنه قد أتصل بها وهي لم ترد بسبب أنها تركت هاتفها في‬
‫الغرفة‪ ..‬لذلك لم تفارق هاتفها منذ األمس ‪ ،!..‬فجأة وجدت هاتفها يرن من جديد‪ ..‬أنه هو‪ ..‬أنه عمر ‪!..‬‬

‫‪‬عمر ‪ ،!..‬أهذا أنت ؟!‬

‫أخيرا‪..‬‬
‫قالتها بلهفة وأشتياق كبيرين‪ ،‬لم تصدق أنها تسمع صوته ً‬

‫‪‬آسية‪ ..‬كيف حالك اآلن ؟!‬

‫أتاه الرد غاضبًا منها‪ ..‬تبكي بحرقة وغضب ‪...‬‬

‫‪‬حالي ؟!‪ ،‬اآلن تسأل عن حالي ؟!‪ ،‬أين كنت طوال هذا الوقت ؟!‬

‫مبررا لعدم أتصاله بها‪ ،‬حاول هو‬


‫منشغال وأنه في حالة حرب ربما لكن في بالها هذا ليس ً‬
‫ً‬ ‫هي تدرك أنه ربما يكون‬
‫تهدئتها‪..‬‬

‫آسف يا آسية‪ ،‬أنتي تعلمين مدى أنشغالي هنا و‪...‬‬


‫‪ٌ ‬‬

‫قاطعته في ٍ‬
‫عتاب واضح‪..‬‬

‫‪‬آسف ؟! وبماذا سيفيد أسفك يا عمر ؟! لماذا تركتني هكذا أقلق عليك ؟!‪ ،‬تركتني في وقت كنت في أمس‬
‫الحاجة أليك فيه ‪ ،!..‬لقد أنقطعت فجأةً عن األتصال بي ‪!..‬‬

‫‪‬لم أتعمد ذلك يا آسية‪ ..‬كانت التدريبات هنا قاسية ومرهقة‪..‬‬

‫مجددا بلهجةً حادة ‪..‬‬


‫ً‬ ‫قاطعته‬

‫علي ؟!‬
‫‪‬تدريبات في اليمن يا عمر ؟!‪ ،‬منذ متى وأنت تكذب ّ‬

‫‪147‬‬
‫عِ ضين‬
‫لم يتفاجئ عمر من معرفة آسية باألمر‪ ..‬البد وأن والدتها قد أخبرتها رغم تحذيره لها بعدم أخبارها ‪..‬‬

‫آسف مرة أخرى‪..‬‬


‫علي‪ٌ ،‬‬
‫‪‬لم أكن ألريد أن تنشغلين عن عالجك وتقلقين ّ‬
‫النت لهجتها بعد أن شعرت بأنها قد أثقلت عليه بالعتاب‪..‬‬

‫‪‬كفى تأس ًفا يا عمر‪ ،‬أنا من يجب أن تعتذر بسبب تلك العصبية‪..‬‬

‫سكتت للحظة ثم نطقت بتلك الكلمة التي يعشقها عمر‪..‬‬

‫‪‬أحبك ‪!..‬‬

‫ابتسم عمر ورد عليها في سرور‪..‬‬

‫ِ‬
‫أمامك مباشرًة ‪!..‬‬ ‫ٍ‬
‫ساعات قليلةً فقط وسأكون‬ ‫ِ‬
‫أخبرك بأن‬ ‫ضا‪ ،‬وألكفر عن ذنبي هذا دعيني أن‬ ‫‪ِ ‬‬
‫أحبك أي ً‬

‫لم تصدق ما سمتعه‪ ،‬تهللت أساريرها وظهر الفرح عليها جليًا‪..‬‬

‫كثيرا‪ ،‬أما عن إلى أي مدى‬


‫‪‬ح ًقا‪ ..‬حسنًا حسنًا‪ ..‬أنا مستعدة‪ ،‬وأنا كذلك دعني أخبرك بأنني قد تطورت حالتي ً‬
‫فهذا سأتركه حين تراه بنفسك ‪...‬‬

‫فرحا بسبب سعادة أبنتها ورجوع عمر‬


‫كانت والدتها تقف بجانبها والسعادة تغمرها هي األخرى‪ ..‬كادت تبكي ً‬
‫قريبًا‪ ،..‬سمعت صوت أحدهم وهم يستعجل عمر‪..‬‬

‫علي أن أركب الطائرة اآلن وإال تركوني هنا‪..‬‬


‫علي أنهاء المكالمة اآلن‪ّ ..‬‬
‫‪‬حسنًا ّ‬
‫‪‬حسنًا وأنا سأنتظرك‪..‬‬

‫أغلقت آسية هاتفها وقلبها ال يتوقف عن النبض بسرعة‪ ،‬تشعر وكأنه سيظهر في أي ٍ‬
‫وقت أمامها‪ ..‬وربما اآلن‪،‬‬
‫مهال‪ ..‬لديها‬
‫فكرت في كيف أنه سيكون سعي ًدا حين يعلم أنها تسير لوحدها ولو ثواني‪ ..‬تطورت حالتها أكثر‪ً ،‬‬

‫‪148‬‬
‫عِ ضين‬
‫جلسة عالج اآلن‪ ..‬ستبذل أقصى ما في وسعها لتسعده‪ ..‬لديها أمل يكفي ألن تصدق أنها ستعود كما كانت في‬
‫هذه الجلسة بالذات ‪!..‬‬

‫أما عن والدتها فهي كانت في غاية السعادة حين رأت األصرار على العالج هكذا بعد تلك المحادثة بينهما‬
‫ٍ‬
‫ساعات قليلة تملكتها كل‬ ‫وتمنت بكل جوارحها أن يعود عمر بسرعة‪ ..‬لمجرد أنه أخبرها فقط بأنه سيعود خالل‬
‫تلك الحماسة‪ ..‬فكيف سيكون األمر حين يكون هو معها هنا ؟!‪ ،‬للحظة شعرت بأنقباض قلبها فجأة وتبدلت‬
‫تعابير وجهها للقلق‪ ،‬الوقت ينفذ منها والبد من تواجد عمر هنا في أقرب ٍ‬
‫وقت ممكن‪ ..‬قد ينكشف سرها في أي‬
‫ٍ‬
‫ساعات وسيعتني‬ ‫لحظة وحينها من سيعتني بأبنتها ؟!‪ ،‬حاولت طرد هذه الفكرة من تفكيرها‪ ..‬سيعود عمر خالل‬
‫بآسية‪ ..‬هي تثق بذلك‪..‬‬

‫شعرت بالغثيان فجأة‪ ..‬لقد حان وقت نوبات مرضها‪ ،‬لكن ال أحد يعلم بذلك وال حتى أبنتها‪ ..‬لذلك هي تتمنى‬
‫لو يرجع عمر بسرعة ليعتني بأبنتها‪ ،‬ستطمئن عليها بوجوده في حال لو حدث شيئًا لها‪..‬‬

‫أسرعت ناحية غرفة آسية‪ ..‬أغلقت الباب وأسندت ظهرها عليه‪ ..‬بدأت تفقد وعيها تدريجيًا وشعورها بالقيء مع‬
‫أرضا فاقد ًة‬
‫صداع بسبب صوت صفير في أذنيها وتتشوش رؤيتها بالتدريج ‪ ،‬تشنجت أعصابها وأصبحت تتلوي ً‬
‫وعيها ‪!..‬‬

‫لحظات وجدت نفسها تسمع طرق على ٍ‬


‫باب ما‪ ..‬أستعادت وعيها فأدركت أنها قد أستفاقت من نوبة مرضها‪..‬‬
‫مازال أحدهم يطرق الباب وقد بدا عليه القلق بسبب غلق الباب من الداخل وعدم أستجابتها هي‪ ،..‬أسرعت‬
‫لتجيب على أبنتها التي أنتابها القلق بسبب عدم وجودها بجانبها ‪!..‬‬

‫رجاءا‪..‬‬
‫‪‬آسية‪ ..‬أنتظري دقيقة ً‬

‫أسرعت لتنظف األرض من أثر قيئها وغيرت مالبسها بسرعة كي تظهر أنها فقط كانت تغيير مالبسها‪..‬‬

‫مرت األمور بسالم ولم تلحظ آسية كالعادة أي شيء‪ ..‬الجميع منشغل بعودة عمر المرتقبة خالل دقائق من اآلن‬
‫وخاصةً آسية التي أنتهت من جلسة عالجها للتو وتستعد للقاء الغالي‪..‬‬

‫‪149‬‬
‫عِ ضين‬
‫************‬

‫شماال بأتجاه العاصمة صنعاء ومنها للعودة لمصر‪ ،‬فجأة أهتزت الطائرة التي يتواجد بها‬
‫أقلعت الطائرات المصرية ً‬
‫اللواء صفوت ومساعده مصطفى‪ ،‬توجها كالهما نحو غرفة القيادة‪ ،..‬خفق قلب اللواء صفوت وسأل قائد الطائرة‬
‫بذعر ‪..‬‬

‫‪‬ماذا حدث‪ ..‬؟!‬

‫رد عليه قائد الطائرة والذعر باديًا عليه جليًا‪..‬‬

‫ضا‪..‬‬
‫‪‬لقد أعترض طريقنا صاروخ مضاد للطائرات‪ ..‬يبدو أن الحوثيين قد أستولوا على هذه المدينة أي ً‬

‫سأله اللواء صفوت ‪..‬‬

‫أين نحن اآلن بالضبط ؟!‬

‫في مدينة حجة‪ ..‬يفصلنا عن العاصمة صنعاء عشر دقائق فقط‪..‬‬

‫تكلم مصطفى الذي تملكه القلق‪..‬‬

‫أوال‪..‬‬
‫هذا أن أستطعنا الهروب من هنا ً‬

‫أمر اللواء صفوت قائد الطائرة بأن يتصل بمطار صنعاء لكن ال أحد يجيب‪ ..‬كرر األتصال لكن النتيجة نفسها‪،..‬‬
‫فكر في حل للخروج من األزمة لكن عقله ال يستطيع التفكير اآلن‪ ..‬كل ما يأتي لعقله هي تلك الكوارث التي‬
‫ستنتج‪ ..‬إما أسرى في يد الحوثيين أو تحطم الطائرات في هذه المنطقة السكنية وأستشهادهم هذا باألضافة‬
‫لهؤالء المواطنين اليمنيين الذين سيموتون نتجية أنفجار الطائرات وفي كلتا الحالتين ستحدث أزمة سياسية‬
‫جديدة‪..‬‬

‫حال ‪..‬‬
‫أقترح عليه مصطفى ً‬

‫‪151‬‬
‫عِ ضين‬
‫سيدي‪ ..‬ماذا لو عدنا لمعسكرنا ونطلب المساعدة من قوات التحالف ؟!‬

‫قليال‪ ..‬قد تكون قوات التحالف تركت المعسكر وبذلك ليس من الحكمة العودة‬
‫أقتراح يستحق التفكير فيه ولو ً‬
‫للمعسكر في عدن ألنهم ربما يكون الحوثيين قد أستولوا على المكان وبذلك سيقعون أسرى في أيديهم‪ ،‬وفي‬
‫ضا قد أستولى عليها‬
‫نفس الوقت تبدو فكرة الطيران نحو مطار صنعاء خطيرة‪ ..‬ال أحد يجيب هناك وربما يكون أي ً‬
‫هؤالء الحمقى‪ ..‬لكن ال وقت لديه‪ ..‬عليه أتخاذ قرار سريع‪ ..‬هو ال يستطيع التفكير في أي حل اآلن‪ ،..‬أي قرار‬
‫سيكون مجازفة على كل حال‪..‬‬

‫فعال‪..‬‬
‫أذن‪ ..‬العودة للمعسكر يبدو الحل األمثل ً‬

‫وجه أوامره لقائد الطائرة ‪..‬‬

‫حاال ‪..‬‬
‫عد بنا لمطار عدن ً‬

‫هز قائد الطائرة رأسه أيجابًا ثم ضغط على زر األتصال بالطائرة األخرى‪ ..‬لكن الصدمة هنا أن الجهاز أصدر‬
‫تشو ًشا‪ ..‬لقد فقد األتصال بالطائرة األخرى !‬

‫أرضا وسماع صوت صفير أنذار في‬ ‫أهتزت الطائرة ٍ‬


‫بعنف أشد هذه المرة مما أسقط اللواء صفوت ومصطفى ً‬
‫الطائرة كلها‪ ..‬أنها المحركات‪..‬‬

‫فاجئه قائد الطائرة‪..‬‬

‫سيدي‪ ..‬الطائرة األخرى قد سقطت ‪!..‬‬

‫لقد ُشل تفكير اللواء صفوت في هذه اللحظة‪ ..‬ماذا عليه أن يفعل أو يقرر ؟!‪ ..‬ال يستطيع الهبوط بالطائرة في‬
‫هذه المنطقة ألنقاذ عمر وبقية الكتيبة‪ ..‬أنها منطقة سكانية وكفى أن الطائرة األخرى قد سقطت وستحدث الكثير‬
‫أصال بسبب هذا القصف العشوائي‪..‬‬
‫من الضرر‪ ،‬وال يستطيع الهروب من هذا المكان ً‬

‫‪151‬‬
‫عِ ضين‬
‫ذلك القصف العشوائي لم يُمهل اللواء صفوت التفكير في أختيار أي طري ٌق يسلك أو الخروج من صدمته‪ ..‬لقد‬
‫أهتزت الطائرة هزة عنيفة أفقدتها مروحياتها ‪ ...‬لقد أشتعلت النيران في مؤخرة الطائرة وسقطت هي األخرى‪..‬‬

‫أنتهت مهمتهم في اليمن رسميًا‪ ..‬أنتهت بموتهم ‪! ...‬‬

‫************‬

‫كان عمر في الطائرة األخرى قد صنع من ذكرياته آلة زمن لتمر ساعات عودته سر ًيعا‪ ..‬وفع ًال‪ ..‬فقد عاد لماضيه‬
‫أسرع مما عاد لوطنه‪..‬‬

‫يحا على األرض‪ ..‬وقف سر ًيعا ألستعادة توازنه‬


‫لم يختطفه من ذكرياته سوى أهتزاز الطائرة بعنف ليجد نفسه طر ً‬
‫مسرعا نحو غرفة القيادة‪ ..‬وعندما دخل غرفة القيادة وجد األضطراب والقلق باديان على وجه قائد‬
‫ً‬ ‫وتوجه‬
‫الطائرة‪ ..‬تبدو األمور مرتبكة هنا‪ ..‬تساءل في ذعر ‪...‬‬

‫ماذا حدث ؟!‬

‫رد عليه قائد الطائرة ‪..‬‬

‫نتعرض لقصف عشوائي من الحوثيين‪..‬‬

‫نظر عمر أمامه فوجد أن الطائرة األخرى تحاول المراوغة‪ ،..‬أمر قائد الطائرة بأن يصله باللواء صفوت في الطائرة‬
‫األخرى لكنه تفاجأ بأن األتصال قد أنقطع به‪..‬‬

‫ذلك القصف لم يمهله التفكير حتى‪ ..‬هزةٌ أخرى أفقدت الطائرة مروحياتها وأخذت طريقها في التهاوي‪ ..‬عمر‬
‫أرضا‪ ..‬ثواني ولحقت بها الطائرة األخرى لتحدثا‬
‫وأخيرا سقطت الطائرة ً‬
‫ً‬ ‫ويسارا‪..‬‬
‫ً‬ ‫يتخبط في جدران الطائرة يمينًا‬
‫جميعا‪..‬‬
‫هائال في المنطقة‪ ..‬لقد أنتهى أمرهم ً‬
‫أنفجارا ً‬
‫ً‬

‫‪152‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-39-‬‬

‫كانت تتشوق لمغامرةً جديدة في حياتها‪ ..‬ليس من ذلك النوع من الناس الذين يفضلون رتابة حياتهم أو عملهم‬
‫فعال مختلفة‪ ..‬كانت تبحث عن الفرصة‬
‫‪ ،!..‬كانت ترغب بحياةً مختلفة عن الجميع ولطالما كانت حياتها ً‬
‫بنفسها‪ ..‬آمنت أنه ليس من الجيد أنتظار الفرصة لتأتيها‪ ..‬بل عليها البحث عن الفرص وأن لم تجد ستصنع‬
‫واحدة ‪!..‬‬

‫فعال أم أن هناك من ال يرغب‬


‫لذلك ورغم أختالفها مع ويلسون إال أنها أقتنعت برأيه‪ ،‬ال تعلم أن كان هذا رأيه ً‬
‫شخصا ذكيًا‪ ..‬ألنه حينها يكون قد‬
‫ً‬ ‫بوجودها في المحطة‪ ،‬حتى وأن كان األحتمال الثاني أقوى سيكون ويلسون‬
‫تماما وفي الوقت ذاته لم يخسر مجهودات ماريان الرائعة‬
‫تعامل مع المشكلة بذكاء شديد‪ ..‬أبعدها عن المحطة ً‬
‫‪!..‬‬

‫تاما وأمرتها بتقديم‬


‫ضا ً‬‫أمرا آخر يشغل بالها‪ ..‬والدتها ‪ ،!..‬حين علمت بعملية نقلها للعراق رفضت الفكرة رف ً‬
‫كان ً‬
‫أستقالتها والعودة للعمل مع عمها في القناة التي يملكها لكن المشكلة هنا أنها لم تعلم بذلك إال عندما أقلعت‬
‫الطائرة من مطار لندن متجهةً للعراق‪ ،‬أغلقت الهاتف بعدها كي ال يزعجها أحد وتضع الجميع أمام األمر الواقع‪،‬‬
‫لقد علمت والدتها باألمر عندما زارت ثروت في القناة لتتأكد من تلك الشائعات التي تُثار حول أبنتها في لندن‬

‫كانت في طريقها لمكتبه لكنها توقفت بالقرب من الباب عندما سمعت أنه أحدهم جاء بسيرة ماريان‪ ..‬تعرف هذا‬
‫صدمت عندما علمت‬
‫حادا وكأن هناك مشكلةً بخصوص ماريان‪ُ ،‬‬
‫الصوت جي ًدا‪ ..‬أنها شيرين ‪ ،!..‬كان حديثهما ً‬
‫أن أبنتها في طريقها للعراق ودفعت الباب بعنف وصبت كامل غضبها على ثروت ألنه لم يعلمها باألمر ساب ًقا‪..‬‬
‫حاول جميعهم األتصال بها لكن ماريان ال تجيب‪ ..‬يعلمون كم أن ماريان عنيدة ولن ترد على أحدهم كي ال‬
‫يوبخها‪ ..‬لقد أتخذت قرارها على أية حال‪ ،‬راسلتها شيرين على الفيسبوك وشرحت لها ما حدث منذ قليل ‪!..‬‬

‫صباحا ثم سافر الطاقم كله بسيارة المحطة إلى الموصل عبر طر ٍيق‬
‫ً‬ ‫كان يومها شاقًا‪ ..‬وصلت بغداد في العاشرة‬
‫أخيرا‪ ..‬ترجلت من السيارة لترى مسكنهم‬
‫بري ‪ ،!..‬أخرجتها سارة من تفكيرها حين توقفت السيارة‪ ..‬لقد وصلوا ً‬
‫مساءا‪ ..‬أثنتي عشرة ساعة تقريبًا‬
‫الجديد هنا‪ ..‬يبدو جي ًدا !‪ ،‬نظرت في ساعتها فوجدت أنها قد تجاوزت العاشرة ً‬
‫‪153‬‬
‫عِ ضين‬
‫سفر بالسيارة‪ ..‬كم كان هذا مره ًقا‪ ،‬في حقيقة األمر هي ال تفكر بشيء اآلن سوى أيجاد السرير ألحتضانه ‪،!..‬‬
‫عليها أن تتقبل أنها في العراق‪ ..‬وستفعل‪..‬‬

‫************‬

‫عاجل ‪ ...‬رسميًا القوات المصرية المشاركة في التحالف العربي باليمن تغادر البالد في طريقها للعودة ألرض‬
‫الوطن‪..‬‬

‫أبتهاجا عندما سمعته من قناة أخبارية‪ ،‬فهي تعلم مسب ًقا بذلك لكن كون أن‬
‫ً‬ ‫كثيرا وجعلها تزداد‬
‫أفرحها ذلك الخبر ً‬
‫حاال ألستقباله‪..‬‬
‫الخبر قد ُعرض في التلفاز فهذا يعني أنه قد أوشك على الظهور وعليها أن تتجهز ً‬

‫ٍ‬
‫لحظات فقط كانت على أتم األستعداد‪ ،‬تتطلع على النافذة‪ ..‬تتسارع نبضات قلبها متوقعةً ظهوره في أي‬ ‫و خالل‬
‫لحظة وهي تلعن كل لحظة تجعلها تنتظر‪ ..‬بل وكل لحظة أبعدتها عنه‪..‬‬

‫مرت الدقائق كالساعات‪ ..‬تمر الساعة تلو األخرى وهي تنتظر دون فائدة‪ ..‬بدأت تيأس ويخيب ظنها‪ ..‬متى‬
‫ٍ‬
‫ساعات قليلة ‪!..‬‬ ‫سيعود ؟! لقد وعدني بأنه سيكون أمامي خالل‬

‫ضا‪ ..‬حتى في لحظة‬


‫بدال عنه‪ ..‬لم تتحمل ذلك األخفاق أي ً‬
‫حل الليل دون جديد أعلنت دموعها الحضور ً‬
‫عندما ّ‬
‫ضا‪ ..‬لن يأتي‪ ،‬فهي تتصل به منذ‬
‫األخفاق تلك كانت تأمل أن يظهر أمامها فجأة فتقوم بمعاتبته لكنه لم يظهر أي ً‬
‫الصباح لكن هاتفه مغلق ‪ ،!..‬تحاول والدتها تهدئتها عندما ربت على كتفها‪..‬‬

‫ال داعي للقلق هكذا يا آسية‪ ..‬سيكون بخير‪ ..‬أحساسي يقول لي هذا‪ ،‬ربما يكون قد حدث شيئًا ما سيأخره‬
‫قليال‪..‬‬
‫ً‬
‫ٍ‬
‫بغضب باكية ‪...‬‬ ‫صاحت آسية‬

‫دائما بأنتظاره ؟!‪ ،‬أنا ال أستحق هذا‪..‬‬


‫لماذا يعاقبني ً‬
‫دخلت نادية الممرضة مسرعة ‪...‬‬

‫‪154‬‬
‫عِ ضين‬
‫خبر يتم تداوله منذ ساعات ‪!..‬‬
‫آسية‪ ..‬أفتحي التلفاز بسرعة‪ ..‬هناك ٌ‬
‫أرتسمت عالمات الدهشة والقلق على وجه آسية ووالدتها‪ ،‬أسرعت والدتها لفتح التلفاز وأخذت تنتقل بين‬
‫القنوات بسرعة باحثةً عن قناة أخبارية‪..‬‬

‫المذيعة شيرين ‪...‬‬

‫‪ ..‬مرت ساعات على حادثة أختفاء الطائرات المصرية في اليمن ‪ ،!..‬الغموض مازال يلتف حول الحادثة‪ ،..‬هل‬
‫الطائرات المصرية أُختطفت أم تحطمت ‪..‬؟! ‪ ،‬في حقيقة األمر أصبحنا ال نفهم أي شيء يحدث له عالقة بمصر‬
‫‪!..‬‬

‫صمتت المذيعة للحظات ويبدو أنها تتلقى معلومات جديدة من فريق اإلعداد‪ ،‬يظهر شريط أخباري عاجل ‪...‬‬

‫نقال عن القيادة العامة لقوات التحالف العربي ‪...‬‬


‫" عاجل‪ً ..‬‬

‫العثور على حطام الطائرات العسكرية المصرية في مدينة الحجة ‪!...‬‬

‫العثور على جثث متفحمة في المنطقة التي تحطمت فيها الطائرات المصرية ‪!..‬‬

‫لقد قتلها الخبر األخير كما قُتل عمر‪ ..‬لم تتحمل آسية الخبر فسقطت‪ ،‬أما والدتها فكانت تخشى ما كانت‬
‫تنتظره ‪ ،!..‬وكما توقعت والدتها فأن نهاية عمر أو موته تعني نهاية آسية ونهايتها هي كذلك ‪ ،!..‬لقد أنتهى كل‬
‫شيء‪ ..‬كل شيئ ‪!..‬‬

‫‪155‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-41-‬‬

‫ٍ‬
‫لكابوس مزعج للكتيبة‬ ‫في الصباح كانت األمور كلها تسير على ما يرام ولكن سرعان ما تحولت تلك األمور‬
‫المصرية‪ ،..‬فبعدما سعد الجميع بخبر أنتهاء مهمتهم رسميًا في اليمن وكانوا في طريقهم للعودة بدأ ذلك‬
‫الكابوس‪ ..‬حيث تمت مهاجمتهم على الحدود اليمنية السعودية وحينها قرروا العودة لمعسكرهم الذي كانوا فيه‬
‫قبل ساعات في محافظة عدن‪ ،..‬لكن القصف العشوائي لم يُمهلهم التفكير في حل للخروج من األزمة‪ ..‬أُصيبت‬
‫الطائرات بتلك القذائف وهوت كلتاهما لكن قبل وقوعها أستطاع اللواء صفوت ومصطفى النزول من الطائرة‬
‫بالمظالت أما عمر فقد تم أنقاذه قبل أنفجار الطائرة بثواني‪..‬‬

‫سقطت الطائرتان وتم أنقاذ من يمكن أنقاذه‪ ..‬أما البقية فقد أحترقوا بعد األنفجار شاملين معهم أغلب سكان‬
‫المنطقة‪ ،..‬أما من بقي حيًا فأسرعت الجماعة الحوثية بالقبض عليهم وأجبارهم على ركوب سيارات نقل صغيرة‬
‫لنقلهم لمكان أعتقالهم‪ ،‬كانت أعدادهم غفيرة بالعدد الذي ال يسمح بأي مخاطرة من الكتيبة المصرية للمقاومة‪..‬‬

‫أخيرا للمكان المقصود‪،..‬‬ ‫ٍ‬


‫و بعد معاناة ألربع ساعات متواصلة تحت أشعة الشمس الحارقة وتعتيم أعينهم وصلوا ً‬
‫وصلوا لمكان بلغت الشدة األمنية فيه أقصاها أو أنهم تعلموا من خطأهم السابق حين كانت هناك ثغرات سمحت‬
‫بتهريب الرئيس‪ ..‬فكوا العصابات عن أعينهم فور وصولهم ‪..‬نزلوا من العربات محاطين من الجانبين بممر بشري‬
‫مسلح يسيرون خالله‪ ،‬تم أنقيادهم لمبنى مجهول وعند دخولهم المبنى نزلوا عبر الدرج إلى قبو ‪ ،!..‬كان يبدو‬
‫هذا مكان أعتقالهم‪ ،‬تم الزج بهم في سجو ٍن واسعة‪..‬‬

‫ضا في‬
‫كان اللواء صفوت يفكر في كيفية الخروج من هذا المأذق‪ ،‬ليس وحده‪ ..‬عمر ومصطفى يفكران أي ً‬
‫األحتماالت القادمة‪..‬‬

‫بادر مصطفى بسؤال اللواء صفوت‪..‬‬

‫سيدي‪ ..‬ماذا برأيك سيفعلون بنا ؟!‬

‫رد اللواء صفوت ‪...‬‬

‫‪156‬‬
‫عِ ضين‬
‫سيحتجزونا لساعات‪..‬‬

‫حتى تتفاوض قواتنا المسلحة معهم ؟!‬

‫وأحتمال آخر أن تغضب قواتنا المسلحة وتقوم بمهاجمتهم‪ ..‬سيتضح كل شيء خالل ساعات‪..‬‬
‫ٌ‬ ‫هذا أحتمال ‪،..‬‬

‫تدخل عمر في الحديث‪..‬‬

‫مجددا‪..‬‬
‫ً‬ ‫مثال‪ ،‬ألعادة شرعية حكمهم للبالد‬
‫أو سيستخدموننا للمساومة ً‬

‫ساد الصمت بين ثالثتهم للحظات ثم هز اللواء صفوت رأسه نافيًا‪..‬‬

‫فخ هكذا لنا‪ ،‬مخاوفي تزداد لو ما أفكر به‬


‫المشكلة ليست في هؤالء الحمقى‪ ..‬ليسوا أذكياء كفايةً لصنع ٍ‬
‫صحيحا‪..‬‬
‫ً‬

‫فزع مصطفى من األحتمال الذي خطر على باله‪..‬‬

‫مستحيل‪ ..‬أيمكن أنهم‪..‬‬

‫قاطعه عمر مجيبًا أياه بأستياء ‪..‬‬

‫صحيح‪ ..‬ما تفكر به صحيح ‪!..‬‬

‫‪157‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-40-‬‬

‫كان يجلس في مكتبه بوقار حين كان ينتظر بفارغ الصبر البدء في تنفيذ الخطة التي رسمها‪ ،..‬ظل حسين أياز‬
‫رئيس المخابرات األيرانية يتابع القنوات األخبارية كالعادة بشرود‪ ،‬فجأة رن هاتف مكتبه الداخلي‪ ..‬أنها مساعدته‬
‫الخاصة تستأذنه أليصاله بشخص معين كان هو قد أوصاها عندما يتصل أن تصله به‪ ،‬أنتظر لثواني قبل أن يتكلم‬
‫ذلك الشخص‪..‬‬

‫مرحبًا سيدي‪..‬‬

‫مرحبًا‪ ..‬هل من جديد ؟!‬

‫بالتأكيد سيدي‪ ..‬لقد تمت المهمة بنجاح‪..‬‬

‫كم عددهم ؟!‬

‫صمت المتكلم للحظة ثم أكمل‪..‬‬

‫لم نفقد الكثير منهم‪..‬‬

‫أين هم اآلن ؟!‬

‫في المكان المتفق عليه‪..‬‬

‫حسنًا‪ ..‬عليك أن تحتفظ بهم هذه المرة‪ ..‬ال أريد أي خطأ أن يحدث ‪!..‬‬

‫خجال بعض الشيء‪..‬‬


‫بدا المتحدث ً‬

‫مؤمن هذه المرة بدرجة كافية‪..‬‬


‫ال تقلق سيدي‪ ..‬المكان َ‬

‫آمل ذلك‪ ..‬على األقل لحين أرسال الدعم لتنفيذ باقي المهمة‪..‬‬

‫‪158‬‬
‫عِ ضين‬
‫حسنًا سيدي‪ ..‬أنا أنتظر‪..‬‬

‫أغلق الهاتف وأرتسمت األبتسامة على وجهه‪ ..‬تسير خطته على مايرام‪ ،‬ما أخرجه عن تفكيره مرًة أخرى مساعدته‬
‫الخاصة عندما أستئذنته بالدخول‪..‬‬

‫سيدي‪ ..‬لديك أتصال سري من الدرجة األولى‪..‬‬

‫أتصال سري ؟!‪ ..‬ال يمكن أن يكون من المخابرات المصرية‪ ..‬يا لحماقة هؤالء الرجال –‬
‫ٌ‬ ‫قطب حسين حاجبيه‪..‬‬
‫الحوثيين ‪ -‬لو كان األتصال من المصريين‪..‬‬

‫حسنًا أنا قادم ‪...‬‬

‫خرج حسين من مكتبه وسار عبر أروق ًة خاصة حتى وصل لغرفة األتصاالت السرية‪ ،‬دخل الغرفة وتوجه ناحية‬
‫شاشة األتصال التي تستعملها أجهزة المخابرات لألتصال ببعضها‪ ،‬بادر المتصل بالتحية ‪..‬‬

‫مرحبًا سيد حسين‪..‬‬

‫تقمص حسين دور المتفاجئ‪..‬‬

‫خيرا أن شاء اهلل‪..‬‬


‫أووووووووه سيد شريف ؟!‪ ،‬مرحبًا مرحبًا‪ ..‬لعل سبب أتصالك يكون ً‬

‫خير ؟!‪ ،‬أنتم من ستحددون هذا‪ ..‬خير أم ال‪..‬‬

‫بدا على حسين األستهانة بخصمه ‪...‬‬

‫حقيقةً أنا ال أفهمك سيد شريف‪ ،‬عما تتكلم ؟!‬

‫حاول شريف التحكم في أعصابه‪ ..‬األمر ال يحتاج ألثارة أعصابه‪..‬‬

‫الحقيقة الوحيدة هنا هو أنك تفهم سبب أتصالي‪ ،‬وال أُفضل أن ندخل في معركةً كالمية‪..‬‬

‫دعني أذن أعرف سبب أتصالك سيد سريف‪..‬‬


‫‪159‬‬
‫عِ ضين‬
‫بدا صوت شريف يشوبه الحدة والغضب‪..‬‬

‫أسمعني جي ًدا‪ ..‬ما تفعلونه لن يمر بسالم وأعتقد أنك تعلم جي ًدا قيمة ومكانة المخابرات المصرية‪ ..‬ال أظنك أنك‬
‫تظن أننا سنقف مكتوفي األيدي‪..‬‬

‫رد عليه حسين بنفس نبرة الغضب‪..‬‬

‫أسمعني أنت يا هذا‪ ..‬أنتم اآلن تحت أيدينا‪ ..‬لستم في وض ٍع يُسمح لكم بتهديننا‪..‬‬

‫ظهرت أبتسامةً ساخرة على وجه شريف ‪..‬‬

‫أردت التأكد قبل أن أتخذ أي ردة فعل‪..‬‬


‫فعال من قمتم بهذا‪ ،..‬على كل حال ُ‬
‫أذن أنتم ً‬

‫ضحك حسين من مكر خصمه‪..‬‬

‫تهاني لك‪..‬‬
‫لقد أوقعت بي يا رجل‪ّ ..‬‬
‫مجددا‪..‬‬
‫ً‬ ‫ساد الصمت للحظات فكسره شريف‬

‫أذن‪ ..‬ماذا تريد ؟!‬

‫هز حسين رأسه راضيًا عما قد وصل إليه‪..‬‬

‫هكذا يكون الكالم سيد شريف‪ ،..‬أنا لم أقم بخطوتي التالية بعد‪ ..‬خدمة صغيرة أن فعلتها من أجلي وأتفقنا على‬
‫كل شيء سأقوم بتأجيل خطوتي التالية لحين التأكد رسميًا من تنفيذ ما أتفقنا عليه وحينها ستعود األمور كما‬
‫كانت‪..‬‬

‫ضا أن عليه أكمال كالمه وتوضيح طلبه‪..‬‬


‫ساد الصمت للحظات‪ ..‬أدرك شريف ما يريده حسين‪ ،‬وأدرك حسين أي ً‬

‫األفراج عن المعتقلين األسالميين وبالتأكيد أنت تفهم من أقصد‪..‬‬

‫كما توقع شريف‪ ..‬فهؤالء االيرانيين قد صنعوا ف ًخا لهم وسيساومونهم على شيءُ هكذا‪..‬‬
‫‪161‬‬
‫عِ ضين‬
‫لكنك تعلم جي ًدا سيد حسين أن طلبكم مرفوض‪ ..‬مرفوض حتى لمجرد التفكير فيه‪..‬‬

‫بدا على حسين أنه مسرور بالحديث‪ ..‬لقد وصل إلى ما يرمي إليه‪..‬‬

‫من المنطقي أن ترفضوا طلبنا‪ ،..‬حسنًا أنا ال ألومك على أختيارك سيد شريف‪ ،‬لكن من حقك معرفة أن الخطوة‬
‫التالية سيتم تفعيلها تلقائيًا أن لم أتدخل أنا أليقافها اآلن‪..‬‬

‫سيد حسين‪ ..‬ال تصنع أزمة بين البلدين‪ ..‬ال تقدم على فعل شيء ربما تندمون عليه الح ًقا ‪..‬‬

‫وضع يسمح لك بالتهديد سيد شريف ‪!..‬‬


‫علي أن أخبرك بأنك لست في ٍ‬
‫للمرة الثانية ّ‬
‫نظر حسين في ساعته أشارًة لرغبته بأنهاء الحديث اآلن‪..‬‬

‫علي القيام بها‬ ‫حسنًا سيد شريف‪ ..‬أعتقد بأنه ليس لدي وقت ألضيعه معك في ٍ‬
‫نقاش تافه‪ ..‬لدي أمور أهم ّ‬
‫اآلن‪..‬‬

‫أراد شريف أن يختم كالمه بتحذيره‪..‬‬

‫مكروها ما لجنودنا أو لم‬


‫ً‬ ‫أخيرا سيد حسين‪ ..‬ال تستهين أب ًدا بدولتنا وصدقني لو حدث‬
‫دعني أخبرك شيئًا ً‬
‫يعودوا‪ ..‬لن تمر األمور عندكم بسالم‪..‬‬

‫فكرا في تهديد شريف‪ ..‬زفر وأخذ يلعن‬ ‫مودعا أياه بسخرية‪ ،‬وحينما أنهى األتصال وقف ُم ً‬ ‫ً‬ ‫ّلوح حسين بيده‬
‫أثرا ورائهم‪ ..‬يا لهؤالء الحمقىّ ‪ ،‬لقد فقدت الخطة واح ًدا بالمائة من سريتها‪ ،‬ال‬
‫دائما ما يتركون ً‬
‫الحوثيين الذين ً‬
‫رقما سر ًيعا‪..‬‬
‫يهم‪ ..‬األمور تسير على مايرام‪ ،‬خرج من غرفة األتصاالت عائ ًدا لمكتبه‪ ،‬رفع سماعة الهاتف وطلب ً‬

‫نفذ الخطوة التالية‪..‬‬

‫أغلق الهاتف وأسند ظهره للوراء‪ ..‬يشعر بنشوة األنتصار‪..‬‬

‫************‬

‫‪161‬‬
‫عِ ضين‬
‫أجتماع مصغر مع أعضاء مكتبه‪ ،‬بادر أحدهم بالكالم‪..‬‬
‫ٍ‬ ‫في الجهة األخرى يجلس شريف في‬

‫مثال ؟!‪ ،‬بذلك سنقوم بفضح نواياهم قبل أذية ما تبقى من جنودنا‪..‬‬
‫ماذا لو قمنا بتسريب الخبر ألعالم ً‬

‫هز شريف رأسه نافيًا ‪..‬‬

‫سيكون هذا مجرد ألتفاف ومراوغةً منا لعدم أبراز فشلنا في حماية جنودنا‪ ..‬هكذا سيفكر الرأي العام المصري‬
‫‪!..‬‬

‫سأله نفس الضابط‪..‬‬

‫ضا أن نكتفي بالمشاهدة ‪ ،!..‬ال أظن بأن هذا مجرد تهديد سيدي‪ ،‬بالتأكيد سيتخدمون‬
‫و ليس من المنطقي أي ً‬
‫جنودنا‪..‬‬

‫رد عليه شريف‪..‬‬

‫ليس بأمكاننا فعل شيء اآلن‪ ..‬علينا األنتظار‪..‬‬

‫تدخل أحدهم‪..‬‬

‫و هم يريدون ذلك سيد شريف‪ ..‬بالتأكيد سيستخدمون جنودنا‪..‬‬

‫دعونا ننتظر يا سادة‪ ..‬لن يطول األمر حتى نرى ما سيحدث‪ ،‬هم متعطشون ألنتصار علينا‪ ،‬لكن ما أؤكده أنهم لن‬
‫يفلتوا بفعلتهم أيًا كانت‪..‬‬

‫ٍ‬
‫ساعات تقريبًا لمتابعة أي تطورات أو أقتراحات‬ ‫سيطر القلق على هذا األجتماع الذي أستمر في األنعقاد كل ثالث‬
‫جديدة ‪...‬‬

‫‪162‬‬
‫عِ ضين‬
‫اليمن ‪...‬‬

‫مثال ؟! أو أن‬
‫لنصف ساعةً تقريبًا وهم يشعرون بتحركات مريبة في الخارج‪ ..‬ربما هي أجراءات األفراج عنهم ً‬
‫التحالف العربي يسعى لتحريرهم من قبضة هؤالء المليشيات ‪ ،‬لكن بمرور الوقت يزداد األمر ريبة ‪ ،!..‬إلى أين‬
‫ستسير األمور أسوء من هذا ؟!‬

‫كثيرا‪ ..‬هل تطورت حالتها‪ ..‬؟!‪،‬‬


‫أما عن عمر بالذات فكان كلما شعر بالخوف أو القلق يفكر فيها‪ ..‬لقد أفتقدها ً‬
‫وما أقسى القدر حين يباعد بين روحين‪..‬‬

‫ما أنتزعه من أفكاره هو صوت فتح أبواب السجون وتلك األضطرابات بالخارج‪ ..‬حاول جميعهم فهم ما يحدث‬
‫بالخارج لكنهم تعرضوا للدفع والعنف من هؤالء المرتزقة‪ ..‬تم أنقيادهم للخارج وأجبارهم للجلوس على ركبهم في‬
‫جميعا بأفراد تلك المليشيات المسلحة‪ ،..‬تمر الساعة تلو األخرى والوضع كما هو ‪..‬‬
‫ساحةً كبيرة وتم أحاطتهم ً‬
‫ال جديد‪ ..‬ال يعرفون سبب جلوسهم هكذا‪..‬‬

‫كان الليل قد حل بعد جلوسهم هكذا لساعات‪ ..‬ال طعام وال شراب منذ الصباح‪ ..‬الجميع ُمرهق‪ ،‬فجأة ظهرت‬
‫مجددا ‪ ،!..‬جال بخاطرهم‬
‫ً‬ ‫تحركات جديدة حولهم ‪ ،!..‬تلك العربات التي نقلتهم لذلك المكان قد جاءت‬
‫جميعا أن هؤالء الحوثيين سيتالعبون بهم أو أنهم سيتم تسليمهم لقوات التحالف العربي‪ ،..‬تم أجبارهم لركوب‬
‫ً‬
‫ضا ولكن هذه المرة من قسوة برودة الصحاري‪ ..‬بعد ساعات‬ ‫مجددا ‪ ،!..‬في الطريق كانوا يعانون أي ً‬
‫ً‬ ‫هذه العربات‬
‫مرت عليهم كاأليام وصلوا لمكان ما‪..‬‬

‫نزل من أحدى الطائرات جنود بزي زيتي‪ ..‬عرفهم اللواء صفوت وأدرك مصيبة الوضع القادم‪ ،‬أنهم الحرس الثوري‬
‫األيراني‪ ..‬أن كانت األمور سيئة مع الحوثيين‪ ..‬فكيف سيكون األمر مع الحرس الثوري ؟!‪ ،‬وكما توقع منذ‬
‫البداية‪ ..‬أنهم الطرف األذكى هنا وليس الحوثيين الحمقى‪ ، ..‬أقترب منهم على ما يبدو الضابط األعلى رتبة‬
‫بينهم‪ ..‬قائد الحرس الثوري‪ ..‬وقف أمامهم ‪...‬‬

‫حاال‪..‬‬
‫ليقف أمامي قائدي الطائرتين ً‬

‫‪163‬‬
‫عِ ضين‬
‫مهددا أياهم‪..‬‬
‫واضحا بين أفراد الكتيبة جميعهم‪ ،..‬جميعهم التفتوا لبعضهم‪ ،‬كرر قائد الحرس كالمه ً‬
‫ً‬ ‫بدا التردد‬

‫حاال‪ ..‬يمكنني أخراجكم بسهولة‪ ..‬ال تضيعوا وقتنا‪..‬‬


‫ليقف أمامي قائدي الطائرتين ً‬

‫أومأ اللواء صفوت ألحدهم للوقوف‪ ، ..‬وقف قائد الطائرة الوحيد الذي نجا‪ ،‬فهم أن اآلخر قد مات أثناء سقوط‬
‫الطائرة األخرى فأشار إليه قائد الحرس بالقدوم نحوه ثم أمره بأتباعه‪ ..‬أيقن قائد الطائرة حينها أنهم سوف يُقتل أو‬
‫سيتم أجباره على فعل شيءٌ ما‪ ،‬وقف بجانب أحد الطائرات ليحادثه‪..‬‬

‫ألي جي ًدا‪ ..‬ستركب الطائرة وستقلع بها حسب أوامرنا‪ ،‬كما أن هناك طائرتين‬
‫لن أعيد كالمي مرتين‪ ..‬أصغي ّ‬
‫خيرا بعدها‪..‬‬
‫خاصةً بنا ستقلعان بجانبك وسترافقك لمكان الهبوط‪ ..‬أي محاولة للمراوغة‪ ..‬صدقني لن يحدث ً‬

‫سأله‪..‬‬

‫أين سنهبط‪ ..‬؟!‬

‫رد قائد الحرس في حزم‪..‬‬

‫ليس لدي أجابة‪ ..‬عليك بتنفيذ األوامر حرفيًا وإال ستكون هناك عواقب وخيمة‪..‬‬

‫نظر الجندي للواء صفوت من بعيد‪ ..‬حتى أن اللواء صفوت شعر بأرتباكه‪ ،‬بعد لحظات تم أجبار الجميع على‬
‫السير نحو الطائرة ربما للمغادرة‪ ..‬تساءل الجميع‪ ..‬أالم ينوون هؤالء الحمقى ؟!‬

‫‪164‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-48-‬‬

‫لم يكن أمامهم سوى أن يستغيثوا بما تبقى من قوات األمن العراقية ليتم ترحيلهم لمصر‪ ،‬لكن هناك آخرون ال‬
‫يرحبون بهم هنا في العراق ولن يسمحوا بأن يصلوا لألمن العراقي‪ ..‬ال سيما في تلك المناطق التي يسيطرون‬
‫عليها‪ ،‬غير مرحبون من قِبل داعش‪..‬‬

‫كما توقع اللواء صفوت‪ ..‬فأن األيرانيين قد صنعوا لهم ف ًخا‪ ،‬منذ قليل تم أجبارهم على دخول المجال الجوي‬
‫العراقي ثم قامت الطائراتان اللتان أصطحبتهما بأحداث الضرر في الطائرة التي أُرغم المصريين في الركوب فيها‬
‫وأجبروهم على أستخدام المظالت للنزول من الطائرات التي سقطت‪ ..‬ليس هذا فقط ما حدث‪ ..‬فقد ألقت هذه‬
‫الطائرات األيرانية األسلحة على المصريين وحينها أكتمل فخهم‪ ،! ..‬أعطوهم أسلحة وأقحموهم في معارك ال‬
‫شأن لهم بها‪ ..‬حينها أدرك اللواء صفوت ومساعديه حجم المصيبة التي حدثت‪ ..‬لقد تم توريط مصر في معركةً‬
‫ما بالعراق‪ ..‬من سيصدق بأنه تم أجبارهم على دخول المجال الجوي العراقي ؟! من سيصدق أن سقوط الطائرة‬
‫وتسببها في أحراق عدة منازل وقتل المواطنين العراقيين ومن قبلهم اليمنيين لم يكن بسبب المصريين وأنما هذا‬
‫من فخ األيرانيين ؟! من سيصدق أنه قد تم ألقاء األسلحة عليهم لتوريطهم في معارك هنا في العراق ؟!‪ ..‬لقد تم‬
‫أِعداد الفخ بطريقة ذكية توحي للعالم كله بأن مصر تنتهك العروبة‪..‬‬

‫طويال‪ ..‬لقد تم نزولهم في هذا‬


‫كانت األمور هادئة في أولى لحظات نزولهم على أرض العراق‪ ..‬لكن هذا لم يدم ً‬
‫ٍ‬
‫لهدف ما ‪..‬‬ ‫المكان بالذات بعناية‬

‫أرتبك الجميع عندما سمعوا صوت طلقات رصاصية من بعيد‪ ،‬وبعد ثواني أدركوا بأن هذا الصوت يقترب منهم‪..‬‬
‫أدرك اللواء صفوت كم الفزع والذعر اللذان سيطران على جنوده‪ ..‬هذا شعور طبيعي فالقادم مجهول‪ ،‬صرخ فيهم‬
‫تماما أن تلك الرصاصات‬
‫اللواء صفوت وهو يحمل سالحه لتحفيز جنوده على القتال‪ ..‬ال سيما بعد أن أيقن ً‬
‫الصادرة هي من تنظيم داعش‪ ..‬لقد لمحهم من بعيد‪..‬‬

‫‪165‬‬
‫عِ ضين‬
‫أسمعوني جي ًدا يا رجال‪ ..‬عقيدتنا كما تعلمون أننا ال نهاب أو نرهب الموت‪ ..‬بل سيكون مرحبًا به أذا ما كان‬
‫ينتهي األمر بالشهادة‪ ..‬نحن في ظرف أما أنكون فيه أو ال نكون‪ ..‬أحياء أو شهداء‪ ..‬أما أن ننتصر أو ننهزم‬
‫بشرف‪..‬‬

‫أشار ناحية تلك العربات الداعشية القادمة من بعيد‪..‬‬

‫أن لم نقاتل هؤالء األوغاد أما أن يقتلونا أو يأسروننا ونُذبح في النهاية‪ ،‬وحينها سنكون أموات وليس شهداء‪..‬‬
‫خيار آخر‪ ..‬سنقاتلهم ونحصل على أحدى الحسنيين‪ ..‬النصر أو الشهادة‪..‬‬
‫ليس أمامنا ٌ‬

‫جرت الحماسة في جنوده‪ ..‬رائع‪ ،‬هذا ما كان يريده بالضبط‪ ، ..‬أما أن ينتصر وبعدها يستغيث بقوات األمن‬
‫العراقية ويغادرون البالد‪ ..‬أو أن يتم قتلهم حتى ال يتم توريط الوطن في مشاكل هي عن غنى عنها‪..‬‬

‫أما عن عمر فأُلصقت في ذهنه كلمتين فقط من كالم اللواء صفوت‪ ..‬النصر أو الشهادة‪ ..‬كم كان يتمنى في أن‬
‫يحيا في زمن رسول اهلل وصحابته حينما كان المسلمون ينتصرون بسبب قلة ذنوبهم‪ ..‬حينها لم يمتلك المسلمون‬
‫بسالح أقوى‪..‬‬
‫ٍ‬ ‫ال العدد وال ِ‬
‫العتاد لمجابهة عمالقة أمبراطوريات التاريخ‪ ..‬الفرس والرومان‪ ..‬لكنهم أنتصروا‬
‫متحفزا لهذه‬
‫ً‬ ‫األيمان باهلل تعالى‪ ..‬لم يهابون الموت قدر ما كانوا يهابوا ويخشون التفريط في حق اهلل‪ ،‬كان عمر‬
‫الفكرة‪ ..‬أما النصر أو الشهادة‪ ..‬فكان أول المتقدمين وتبعه مصطفى ثم اللواء صفوت الذي أعاد شيءٌ من‬
‫التنظيم في صفوف جنوده‪..‬‬

‫بوضوح لهم وتبادل الطرفان أطالق النار بكثافة وبعد مرور ساعةً‬
‫ٍ‬ ‫بادر المصريون بالقتال عند ظهور عناصر داعش‬
‫من القتال المتواصل بينهما ظهر تفوق المصريين وتزايدت خساير الطرف الداعشي مما ألهب ذلك حماسة‬
‫المصريين وطاردوهم حتى في الشوارع الجانبية‪..‬‬

‫كان من الطبيعي أن تصل أصداء تلك المعركة لوسائل األعالم العالمية فأرسلت القنوات ُمراسليها لمدينة الموصل‬
‫كل يُفسر ما يحدث حسب توجهه‪ ..‬وكانت في مقدمة تلك القنوات‪BBC " ..‬‬ ‫العراقية لتغطية المعركة‪ ..‬و ٌ‬
‫دائما بسباق التغطية وكانت أول من تصل ألرض المعركة لتغطيتها بعد أن‬
‫‪ " Arabic‬وكانت ماريان الفائزة ً‬

‫‪166‬‬
‫عِ ضين‬
‫شيء غريبًا بالنسبة لها في صباح هذا اليوم‪..‬‬
‫نقلت الخبر أثناء أنتقالها من مكان سكنها لمكان المعركة‪ ،..‬بدا كل ٌ‬
‫الجيش المصري في العراق يحارب الداعشيين ؟!‪ ..‬تساءلت كيف يكون هذا ؟! وما عالقة هذا بذاك هنا في‬
‫العراق ؟! ‪ ،‬عندما وصلت لمكان المعركة أسرعت لتكون في قلب الحدث وليس األكتفاء عن قرب‪ ..‬لقد قررت‬
‫تخطي كل حواجز الخوف‪ ..‬وبعد أن رفضت سارة أو باقي الطاقم األقتراب أكثر قررت ماريان أكمال الطريق‬
‫بمفردها‪ ..‬لم تأتي لهنا في العراق كي تكون كاآلخرين‪ ..‬ستقوم بمغامرةً جديدة‪..‬‬

‫أخذت الكاميرا وذهبت بمفردها بعد أن طلبت من سارة أال تبتعد بسيارة المحطة حتى ال تنقطع أشارة البث وأن‬
‫تسعى ألخفائها بالقرب من هذه المنطقة‪ ، ..‬قامت بتثبيت كاميرا عالية التقنية في قبعتها المصفحة وتركتهم‬
‫وأسرعت هي لتكون في قلب المعركة‪ ، ..‬كانت تؤمن بأن المغامرة وحدها هي من تعطي لحياتها معنى‪ ..‬وكذلك‬
‫ستعطي لقناتها األسبقية في نقل الحدث‪..‬‬

‫أستمر المصريون في مطاردة العناصر الداعشية في ال شوارع الجانبية إلى أن وصلوا لشوارع توجد في مقدمتها‬
‫فخ آخر‬
‫حواجز أسمنتية‪ ..‬حينها راود اللواء صفوت الشعور بالقلق حيال هذا‪ ..‬هل يمكن أن يكونوا قد وقعوا في ٍ‬
‫؟! ‪ ،‬وأن صح ما يظنه فأن عناصر داعش قد نجحت في نصب هذا الفخ لهم‪ ..‬نجحوا في أستدارج المصريين‬
‫حيث عددهم الذي يفوق المصريين أضعافًا‪ ..‬لقد أستدرجوهم هنا ليتسنى لهم قتل وتصفية المصريين‬
‫لمعقلهم ُ‬
‫فورا من هذا المكان والهرب بعي ًدا عن هنا‬
‫بسهولة‪ ..‬وفي الوقت الذي كان سيعلن فيه اللواء صفوت األنسحاب ً‬
‫فوجئ بأسطول من السيارات القادمة نحوهم من بعيد‪ ..‬حتى لو حاولوا الهرب من هنا سيكون من السهل‬
‫أصطيادهم في الشوارع الجانبية‪ ..‬لقد تبدلت األحوال في لحظة‪ ..‬منذ لحظات كان المصريين هم من يطاردون‬
‫تماما‪ ..‬يا لسخرية القدر‪..‬‬
‫داعش في الشاوارع الجانبية ‪ ..‬واآلن‪ ..‬يحدث العكس ً‬

‫أدرك عمر حيرة اللواء صفوت‪ ..‬لقد ظهر عليه جليًا القلق‪ ..‬ال يعرف كيف سيتصرف في مثل هذا المأذق‪..‬‬
‫أغمض عمر عينيه وتذكر آسية‪ ..‬تذّكر عجزها وعالجها‪ ..‬فرحها وحزنها‪ ..‬ضحكتها وبكاؤها‪ ..‬تذّكر لحظة‬
‫مجددا‪ ،‬ردد في نفسه‪ ..‬اللحظة األخيرة أذن‪..‬‬
‫ً‬ ‫لقاؤهما األول وكذلك لحظة الوداع‪ ..‬لم يكن يعرف أنه لن يراها‬
‫وداعا أمي وأبي‪..‬‬
‫وداعا آسية‪ً ..‬‬
‫ً‬

‫‪167‬‬
‫عِ ضين‬
‫سيدي‪ ..‬ال مفر أذن‪ ..‬هذه النهاية‪ ..‬فالنقاتل ونموت بشرف‪ ..‬لن أسمح لهم بأن يذبحوني على الهواء مباشرةً‪..‬‬

‫نظر اللواء صفوت ومصطفى لبعضهما‪ ..‬وكالهما التفتا إلى أفراد الكتيبة‪ ..‬الجميع أبدوا أستعدادهم للموت‬
‫ضا‪ ..‬ليس بوسع أحدهم أن يُذبح ويُعرض على التلفاز في نشرات األخبار‪ ..‬فلتكن شهادة وليس موتةً عادية‪..‬‬
‫أي ً‬
‫فعال وأن كان والبد وأن نُقتل هنا فسنحدث خسائر في صفوفهم‪ ..‬هذا ما دار في تفكير‬
‫أذن ال مفر من ذلك ً‬
‫مجددا لمواجهة الداعشيين في تلك الشوارع‬
‫ً‬ ‫اللواء صفوت ومصطفى‪ ..‬أستدار اللواء صفوت ومعه مساعديه‬
‫أوال واألحت ماء في هذه المباني لحين وصول باقي الدعم الداعشي لمواجهتهم‪ ..‬كالسباق‪ ..‬البد من‬
‫الخرسانية ً‬
‫أتمام خطو ًة للوراء كي تنطلق بأقصى سرعة‪ ،..‬هي محاولة لكسب الوقت األضافي فقط ‪ ..‬حمل الجميع سالحه‬
‫وتوجهوا ناحية معركتهم األخيرة ‪..‬‬

‫أجتاز المصريون الحواجز الخرسانية دون مشاكل وهذه هي المشكلة األكبر‪ ..‬لقد توقعوا أن تكون هناك مقاومة‬
‫فخ ثالث في‬
‫لكن ال شيء حتى وصلوا لمنتصف أحدى هذه الشوارع‪ ..‬حينها فقط أدرك الجميع أنهم وقعوا في ٍ‬
‫ٍ‬
‫يوم واحد فقط‪ ..‬للحظة كان الشارع هادئًا لكن ما أن وصلوا لمنتصف المسافة حتى أنهال عليهم الرصاص وسقط‬
‫العديد من المصريين قبل أن يدركوا الوضع‪ ..‬لقد تم حصارهم في منتصف الشارع‪ ..‬بسرعة تشتت المصريين في‬
‫كل مكان وبعد دقائق أشتد القتال وأرتفعت كثافة الرصاصات المتراشقة في كل مكان حتى لجأ المصريون‬
‫لألختباء واألحتماء في البنايات التي حولهم‪ ،‬لقد تحول الوضع لجحيم‪..‬‬

‫مصدرا واح ًدا وهي محطة الـ "‬


‫ً‬ ‫كانت المعركة يتم نقلها مباشرةً عبر القنوات والمحطات العالمية وجميعهم تبنوا‬
‫يوما بعد يوم‪ ..‬نعم‪ ..‬تسللت ماريان وسط‬
‫‪ " BBC Arabic‬بفضل براعة ومهارة ماريان الذي يزداد صيتها ً‬
‫يوما لها‪ ..‬أما‬
‫ضا بأنها ربما تعيش آخر ً‬
‫ضا‪ ،..‬كانت تفكر أي ً‬
‫المصريين لتصوير أهم حدث في العالم وفي حياتها أي ً‬
‫أن تُقتل في هذه المعركة أو أن يتم أختطافها من قبل الداعشيين وذبحها‪ ..‬لكنها على كل حال تقوم بعملها‬
‫األخير بأستمتاع‪ ..‬تشعر بأن كان لها قيمةً في الحياة وأنها قد أدت رسالتها‪ ..‬ستقوم بأكبر أنجا ٍز في حياتها ثم‬
‫تموت وهي راضية عن نفسها‪..‬‬

‫‪168‬‬
‫عِ ضين‬
‫كانت القوات الداعشية الداعمة قد وصلت بالفعل للشارع الذي يقاتل فيه المصريون وتستعد ألقتحام المكان‬
‫درسا لن ينسوه‪ ..‬ال أحد يجرؤ على مهاجمة التنظيم هنا في العراق بالذات‪ ،‬أصدر جهاز‬ ‫وتلقين هذه القوات ً‬
‫األرسال الذي يمسكه القائد في العربة األولى صوتًا‪..‬‬

‫هل سنقتحم اآلن سيدي‪ ..‬؟!‬

‫محذرا أياه‪..‬‬
‫ً‬ ‫رد عليه القائد‬

‫نعم‪ ..‬تقدموا لكن كونوا حذرين‪ ..‬أريد هؤالء أحياء وليس أموات‪ ..‬هذا مفهوم ؟!‬

‫نعم سيدي‪ ..‬سنمسك بأكبر ٍ‬


‫عدد منهم ومن يقاوم سيتم قتله في الحال‪..‬‬

‫بعد ثواني قليلة فقط سمع القائد هدير طائرات تحوم فوقه‪ ..‬تساءل عن ما تفعله تلك الطائرات هنا اآلن ؟!‪ ،‬أنها‬
‫طائرات قتالية ‪!..‬‬

‫خاصا هنا‪..‬‬
‫حاال‪ ،‬يبدو بأن المصريون سيلقون ترحيبًا ً‬
‫أسمع‪ ..‬علينا األنسحاب ً‬

‫حاضر سيدي‪..‬‬

‫في حقيقة األمر أنه ليس سعي ًدا بسبب أن القوات المصرية سيتم ألقاء حتفهم عندما تقصف الطائرات األمريكية‬
‫شخصا آخر سيموت وبسبب هذا سيكون سعي ًدا‪،‬‬
‫ً‬ ‫هذا المكان‪ ..‬فالمصريون ال يعنون شيئًا بالنسبة له‪ ،‬هناك‬
‫ح ّدث نفسه ‪...‬‬

‫منذ أن تم أنشاء هذا التنظيم العريق وأنا كنت فيه المساعد األول واليد اليمنى لخليفة المسلمين‪ ..‬لكن عندما‬
‫جئت أنت هنا يا أبو عمار أخذت مكاني وتراجعت أنا خطوةً للوراء‪ ( ..‬ضحك بينه وبين نفسه )‪ ..‬سأتركك تواجه‬
‫وداعا يا أبو عمار‪..‬‬
‫تلك القوات البائسة لوحدك وأن لم تُقتل منهم فتلك الطائرات األمريكية ستتولى أمرك‪ً ..‬‬
‫اخرا )‬
‫ائعا ‪(..‬قالها بينه وبين نفسه س ً‬
‫كنت صدي ًقا ر ً‬

‫‪169‬‬
‫عِ ضين‬
‫تراجعت السيارات الداعشية للخلف وغادرت المكان بسرعة وفي الوقت الذي كانت تستعد فيه الطائرات لقصف‬
‫الموقع برمته أنتهز اللواء صفوت الفرصة ليجمع ما تبقى من جنوده ويعلن األنسحاب هو اآلخر ألي مكان لحين‬
‫أنتهاء هذا القصف الذي على وشك الحدوث‪ ،‬تكلم عبر جهاز األرسال ‪..‬‬

‫فورا تجاه أول الشارع‪ ،‬سنتجمع‬


‫فورا تجاه أول الشارع‪ ..‬أكرر على الجميع األنسحاب ً‬
‫على الجميع األنسحاب ً‬
‫فورا من هذا المكان‪..‬‬
‫هناك وننسحب ً‬

‫التفت مصطفى حوله متعجبًا من هذا القرار المفاجئ‪ ..‬كان مصطفى وعمر قد تشتتا بعي ًدا عن اللواء صفوت‬
‫بسبب الهجوم المفا جئ من الداعشيين منذ دقائق وهما اآلن في أحد الشوارع الجانبية المتفرعة من الشارع‬
‫الرئيسي‪ ..‬لكن قد الحظ مصطفى أن عمر قد أقتحم أحدى البنايات وكان يستعد هو اآلخر ألقتحام المبنى‬
‫ومساعدته لكنه توقف وحاول األتصال بعمر السلكيًا ‪...‬‬

‫فورا‪ ..‬عمر‪ ..‬أجبني بسرعة يا عمر‪..‬‬


‫عمر‪ ..‬عمر‪ ..‬علينا األنسحاب ً‬

‫أتاه الرد سر ًيعا‪ ..‬لكن ليس من عمر هذه المرة‪ ..‬أنه اللواء صفوت ‪..‬‬

‫مصطفى‪ ..‬أين عمر ؟!‬

‫فورا‪..‬‬
‫حاال وننسحب ً‬
‫لقد أقتحم أحدى البنايات سيدي‪ ..‬سأتفقده ً‬

‫سكت اللواء صفوت للحظات ثم أمر مصطفى‪..‬‬

‫فورا ‪...‬‬
‫مصطفى‪ ..‬ال وقت لدينا‪ ..‬أنسحب ً‬

‫صدم مصطفى من قرار اللواء صفوت وألحاحه باألنسحاب‪..‬‬


‫ُ‬

‫سيدي‪ ..‬ال يمكننا ترك عمر هنا و‪..‬‬

‫قاطعه اللواء صفوت غاضبًا‪..‬‬

‫‪171‬‬
‫عِ ضين‬
‫فورا يا مصطفى‪ ..‬المبنى الذي أقتحمه عمر فيه الكثيرين من الداعشيين‪ ..‬البد وأنه قد قُتل‪،‬‬
‫قلت لك أنسحب ً‬
‫ُ‬
‫حاال يا مصطفى‪ ..‬هناك هجوم على وشك البدء‪ ..‬بسرعة‪..‬‬
‫أنسحب ً‬

‫ٍ‬
‫بصوت يشوبه الحيرة والغلبة على أمره‪..‬‬ ‫رد عليه مصطفى‬

‫حسنًا سيدي‪ ..‬حسنًا‪..‬‬

‫فعال‪ ..‬ما كان ليتمنى أن‬


‫متألما وقد بدأت عينيه تستسلمان للدموع‪ ..‬سيترك صديقه هنا‪ ..‬حتى لو مات ً‬
‫قالها ً‬
‫وقت طويل لكن شخصية عمر تجبر الجميع على أحترامه‪ ..‬لقد كسب حب‬ ‫يترك جثمانه هنا‪ ،‬لم يعرفه منذ ٍ‬
‫مجددا أن يناديه لكن‬
‫ً‬ ‫قلوب تحيا ببعضا ولبعضها‪ ،..‬حاول‬
‫الجميع‪ ،..‬ليس للصداقة زمنًا يمكننا القياس به‪ ..‬أنها ٌ‬
‫فعال‪..‬‬
‫عمر ال يجيب وجهازه يصدر تشوي ًشا لكنه لم يجيب‪ ..‬يبدو أنه قد قُتل ً‬

‫رحمك اهلل يا صديقي‪ ..‬رحمك اهلل‬

‫مسرعا بأتجاه بداية الشارع فوجد البقية هناك عدا اللذين قُتلوا‪ ،‬هرب الجميع بعي ًدا‪..‬‬
‫ً‬ ‫أنسحب مصطفى‬

‫البث الحي للمعركة ‪...‬‬

‫كان والد ماريان يجلس في الصالون يتابع أخبار العراق منذ أن علم بوصول ماريان هناك‪ ..‬وعندما خرجت والدة‬
‫ماريان من المطبخ وجدت زوجها يحدق بذعر وخوف في التلفاز‪ ،‬التفتت هي األخرى ناحية التلفاز ووقعت‬
‫أدوات المطبخ من يديها من الصدمة‪ ..‬جثت على ركبتيها‪ ..‬لم تتحمل الوقوف‪ ..‬أبنتها في خطر‪..‬‬

‫كانت تتابع قنوات األخبار منذ أن علمت بأختفاء الطائرة المصرية في اليمن‪ ..‬سمعت كذلك بما يدور في العراق‬
‫فيلما‬
‫سالحا ويقتل آخرين وكأنها تشاهد ً‬
‫ً‬ ‫درج ما يحمل‬
‫لكنها لم تكن لتتخيل أن ترى ما يشبه أبنها وهو يصعد ٌ‬
‫مثيرا‪ ..‬بالتأكيد هو‪ ..‬عمر أبنها‪ ،‬ال تعلم ما بوسعها أن تفعل‪ ..‬أبنها سيُقتل ال محالة وزوجها يعاني بجانبها من نوب ًة‬
‫ً‬
‫هورا لتأدية خدمته العسكرية يُقتل‬
‫وحتما سيموت هو اآلخر عندما يعلم أن أبنه الذي غاب عنهم ش ً‬
‫قلبية جديدة‪ً ..‬‬
‫أو يُذبح‪ ،..‬يكاد قلبه يحترق هو اآلخر‪ ..‬أحد أبنائه سيُقتل اآلن واآلخر مختفي منذ أعوام‪ ..‬حاله كحال يعقوب‬
‫عليه السالم‪ ..‬فقد أبنيه‪ ..‬فهل سيصبر مثل ما صبِر يعقوب ؟!‬

‫‪171‬‬
‫عِ ضين‬
‫أيقنت بأنها لن ترى عمر ثانيةً ال سيما بعد كل تلك األخبار التي تتحدث عن أختفاء الطائرات المصرية التي كانت‬
‫ستغادر اليمن‪ ،‬كذلك تلك األخبار التي يتم تداولها في مواقع التواصل األجتماعي عن أن القوات المصرية تُقاتل‬
‫تنظيم داعش في العراق ‪ ..‬كان يأتيها هاجس بين الحين واآلخر بأنه سيتم القبض على عمر من قِبل التنظيم ثم‬
‫يذبحونه وينشرون مشاهد ذبحه‪ ..‬لم تتحمل بشاعة الفكرة‪ ..‬ستموت حينها بالطبع‪..‬‬

‫أما عن والدتها فكانت مصيبتها تتعاظم بمرور الوقت‪ ..‬عمر مفقود وهي ستموت قريبًا ولن يبقى أحد ليرعى‬
‫أبنتها‪ ..‬الجميع رحل وعمر كذلك سيرحل‪ ..‬أثار المرض يظهر عليها بشدة‪ ..‬على األقل داخليًا‪ ..‬سترحل هي‬
‫األخرى‪..‬‬

‫رن هاتف آسية عدة مرات لكنها لم ترد‪ ..‬لم تكن في مزاج يسمح لها بأن تكلم أحد‪ ..‬حتى لو كان المتصل هي‬
‫صديقتها أماني‪ ،‬لكنها عندما علمت بأصرار صديقتها بأن تكلمها ووصول عدد المكالمات التي لم يرد عليها لرقم‬
‫خيالي قررت أن ترد‪..‬‬

‫آسية‪ ..‬أتشاهدين ما يحدث ؟!‬

‫ٍ‬
‫بصوت هادي ال يبالي بشيء‪..‬‬ ‫ردت آسية‬

‫ِ‬
‫أرجوك أتركيني اآلن‪ ،‬ليس في حال يسم ـ ‪...‬‬ ‫ال أريد أن أرى شيئًا يا أماني‪..‬‬

‫قاطعتها أماني ‪..‬‬

‫آسية‪ ..‬عمر يظهر في التلفاز وهو يقاتل تنظيم داعشيًا‪..‬‬

‫شهقت آسية من الصدمة وأرتمى هاتفها من يدها دون قصد‪ ..‬تناولت جهاز التحكم وقلبّت القنوات إلى أن‬
‫فعال‪ ،..‬أطلقت صرخةً مكتومة‪ ..‬كاد قلبها أن‬
‫وصلت لقناة تعرض مشاهد حية ألحدهم وهو يقاتل‪ ،‬أنه عمر ً‬
‫يتوقف‪..‬‬

‫‪172‬‬
‫عِ ضين‬
‫البث المباشر ‪...‬‬

‫" ‪ ...‬معركةً شرسة بين الجنود المصريين وعناصر تنظيم داعش في أحد ضواحي مدينة الموصل في شمال‬
‫أخيرا في أحد الشوارع‬ ‫ِ‬
‫العراق‪ ..‬كانت السيطرة واضحة من قبل المصريين بدليل أنهم وصلوا إلى معقل التنظيم ً‬
‫ٍ‬
‫لهجوم‬ ‫المثبت في بدايتها حواجز خرسانية وأسمنتية !‪ ..‬توقف القتال لدقائق بدا فيه وكأن المصريين يخططون‬
‫جديد‪ ، ..‬عزموا على ما يبدو أقتحام هذا الشارع لكنهم تلقوا وابل من الرصاص وسقط العديد منهم‪ ،..‬تشتتوا‬
‫جميعا وتوجهت الكاميرا بالصدفة وراء جنديان يقاتالن بضراو ًة شديدة‪ ..‬أنفصل الجنديان بضعة أمتار عن‬
‫ً‬
‫بعضهما‪ ..‬كانت المراسلة قد أقتربت من أحدهما‪ ..‬التفتت المراسلة بالكاميرا للخلف ووجدت أن اآلخر ربما‬
‫يلحق بصديقه الذي توجه بالمناسبة ناحية أحد المباني‪ ..‬وجهت المراسلة الكاميرا مرًة أخرى ناحية الجندي حتى‬
‫دخلت ورائه هذا المباني‪..‬‬

‫فجأة ظهر داعشي أمامهم فبادر الجندي المصري بقتله بسرعة‪ ، ..‬بدأت عناصر داعش في الظهور الواحد تلو‬
‫اآلخر لكن سرعة البديهة لهذا الجندي المصري كانت رائعة‪ ،‬أحتمت المراسلة وراء الجندي فكانت الكاميرا تبث‬
‫ما يحدث من وراء الجندي مباشرًة‪ ، ..‬ظل الجندي المصري يقاتل حتى أضطر لصعود درج هذا المبنى وعند كل‬
‫أوال‪ ..‬أستمر الحال هكذا إلى أن أهتز‬
‫منعطف يظهر داعشي ولحسن الحظ كان هذا الجندي هو من يبادر بالقتل ً‬
‫المكان بعنف ‪" !...‬‬

‫*************‬

‫أقتحم عمر أحدى المباني على يقين بأن مصطفى والبقية سيلحقون به‪ ،‬لكنه لم يُدرك بأن هناك فتا ًة تتعقبه‪..‬‬
‫مهجورا‪ ..‬إال أنه لم يكن كذلك بعدما ظهر عناصر داعش الواحد تلو اآلخر‪،‬‬ ‫ً‬ ‫للحظة األولى بدا وكأن المبنى‬
‫دائما‪ ،..‬كان يدرك بأن مهارته تلك لن تدوم وسيأتي صديقه‬
‫وأتخذ القتال شكله المعتاد وكانت األسبقية لعمر ً‬
‫مصطفى لمساعدته وفي النهاية سيكون مصير كالهما القتل عندما يتكاثر الداعشيين هنا‪..‬‬

‫‪173‬‬
‫عِ ضين‬
‫قاده القتال لصعود الطوابق التالية وكان كثافة الرصاصات تزداد عند كل منعطف‪ ..‬وفي نفس الوقت كان يسعى‬
‫لحماية تلك الفتاة التي ظهرت فجأة والتي تحتمي به من وابل الرصاصات المتراشق‪ ،‬ال يعرفها وال يعلم من أين‬
‫ضا سبب أنشغاله بحمايتها‪..‬‬
‫أتت بالضبط وال يعلم أي ً‬

‫كان وابل الرصاص هذا يوحي له بأنه ليس المصري الوحيد في المبنى‪ ..‬البد وأن البقية خلفه يساعده ولكنه‬
‫دائرا في‬
‫عندما كان يلقي بنظرًة خاطفة في مدخل الدرج كان ال يجد أحد‪ ..‬ح ّدث نفسه بأنه ربما يكون القتال ً‬
‫المبنى ذاته أو أن قوات داعش الداعمة قد دخلت المبنى وتدور بينهم وبين زمالؤه قتال شديد‪ ،‬أهتز المبنى‬
‫بعنف شديد‪ ..‬فكر عمر في أنه ربما يكون خيار داعش األخير هو تدمير المبنى بأكمله والتضحية بعناصره القليلة‬
‫الموجودة في المبنى مقابل أن ينتهي كل هذا الجدل‪..‬‬

‫************‬

‫البث المباشر ‪...‬‬

‫" ‪ ...‬وجهت المراسلة الكاميرا ناحية فت حة الدرج فوجدت أن عناصر داعش تصعد مسرعة تجاههم لكن ما‬
‫أنقذهم هذه المرة هزًة أخرى للمبنى كانت كفيلة بسقوط جزء من الدرج بهؤالء الداعشيين‪ ،..‬قرر الجندي‬
‫أخيرا‪ ..‬وللحظ العاثر فقد ظهر له رجلين داعشيين عندما كان يستعد لألختباء‬
‫المصري األحتماء في أحد الطوابق ً‬
‫قليال‪ ، ..‬خرجت الرصاصة من سالح هذا المصري وأستقرت في‬ ‫في أحدى غرف هذا الطابق ألستيعاب األمر ً‬
‫ضا‬ ‫رأس أحد الرجلين فيما هاجم اآلخر الجندي المصري ودار بينهما عر ٍ‬
‫اك جسدي فكان الغلبة لذلك الجندي أي ً‬
‫عندما حطم رأس الداعشي بحج ٍر ناتج من األنقاض المتراكم نتيجة القصف الذي يتعرض له المبنى ! "‬

‫************‬

‫حذرا من ظهور داعشيين آخرين خاصةً وأنه يحاول‬


‫أستمر عمر بالصعود للطوابق التالية والوقوف عند كل منعطف ً‬
‫ضا حماية تلك الفتاة خلفه‪ ..‬كاد يسقط عندما أهتز المبنى بعنف هذه المرة فوجد أن جزء من المبنى قد أنهار‬
‫أي ً‬

‫‪174‬‬
‫عِ ضين‬
‫وأسرع بالصعود ألعلى أكثر‪ ..‬حينها ظن عمر بأنه أن لم يُقتل على يد تنظيم داعش فأنه سيُدفن تحت األنقاض‬
‫بعد لحظات مع تلك الفتاة‪ ..‬قرر األختباء في أحد غرف الطابق التالي لكنه فوجئ برصاصة كادت أن تصيبه‬
‫ولكنها أستقرت في مدخل الطابق‪ ..‬ال أراديًا أطلق عمر رصاصة ناحية الرجلين اللذان ظهرا له فجأة فأصيبت هذا‬
‫الرصاصة أحدهما وقُتل‪ ..‬فيما هاجمه اآلخر‪ ،..‬ل َكم الداعشي عمر ومسكه من خصره‪ ..‬حاول عمر األفالت‬
‫معا على االرض بجانب كومة من األنقاض فتمكن عمر باألمساك بحجارة وأفرغ غضبه‬
‫وظل يدفعه الى أن وقعا ً‬
‫وألمه في تحطيم جمجمة ذلك الداعشي الى أن قُتل‪..‬‬

‫************‬

‫البث المباشر ‪...‬‬

‫المراسلة بأستمرار‪ ،‬ولكنها عندما أستقرت أظهرت الكاميرا أن‬


‫" كانت الكاميرا تهتز‪ ..‬غير مستقرة بسبب تحرك ُ‬
‫وجها لوجه وبدا على الجندي التردد في أستخدام سالحه هذه المرة ‪ ،!..‬ظل‬
‫الجندي وأحد رجال داعش يقفان ً‬
‫مترددا على ما يبدو‪ ..‬مازال‬
‫ً‬ ‫أخيرا في وجه الداعشي لكنه مازال‬
‫هذا الوضع لثواني إلى أن رفع الجندي سالحه ً‬
‫ٍ‬
‫وبصوت‬ ‫يحدقان ببعضهما‪ ،..‬فجأة بدا على الداعشي أنه يضحك بهستيرية‪ ..‬تحدث مع المصري بلغةً ساخرة‬
‫غير واضح لمن يشاهد ما يحدث مباشرة‪ ،‬أنزل الجندي سالحه وهو مازال يحدق بالداعشي‪ ،..‬فجأة إنهال‬
‫الداعشي على الجندي باللكمات المتتالية القوية مما أفقد الجندي توازنه وقد ظهر عليه إنه ينزف من فمه‪ ،..‬كان‬
‫يحاول القيام وأستعادة توازنه إال أن ذلك الرجل الداعشي لم يمهله لحظة فظل يركله في بطنه مرة ووجهه مرة‬
‫وكان يبدو على الجندي األستسالم التام أو عدم المقدرة على الوقوف حتى‪ ..‬أمسك الداعشي الجندي من‬
‫خصره ودفعه بقوة تجاه ٍ‬
‫باب زجاجي فتهشم الزجاج بعد أن أصطدم الجندي به‪ ..‬بدا على الجندي وكأنه قد فقد‬
‫حامال لسكينة ناحية الجندي‪ ..‬هنا إرتفعت الكاميرا‬
‫تماما‪ ..‬توجه الداعشي ناحية أحد أركان الغرفة وعاد وهو ً‬
‫قوته ً‬
‫المراسلة ستشكف أخيراُ عن وجودها ويبدو أنها تريد منح فرصةً أخرى لهذا الجندي ليتدارك‬
‫من مخبأها ويبدو أن ُ‬
‫األمر عندما تحركت هي تجاه الرجل الداعشي‪ ،‬وقفت في منتصف المسافة عندما الحظت أن الرجل الداعشي‬

‫‪175‬‬
‫عِ ضين‬
‫قليال ثم قام بضربها وأبعادها عنه‪ ،‬ظهر صوتها المتألم‬
‫قد الحظ وجودها‪ ،‬التفت الرجل إليها‪ ..‬فاجئه األمر ً‬
‫هم الداعشي ألستئناف ما كان سيفعله ضربه المصري وأبعد السكينة عن يده ثم وجه له‬ ‫للجميع‪ ،..‬وعندما ّ‬
‫اللكمات‪ ..‬بدت المعركة بينهما وكأنها متكافئة‪ ..‬تبادال اللكمات والضربات‪ ،‬وبعد لحظات من القتال العنيف‬
‫بينهما أستعاد الداعشي سيطرته من جديد على القتال وبدا على الجندي أنه قد فقد وعيه عندما دفعه الداعشي‬
‫وهم بذبحه وظهرت الدماء على رقبة‬
‫نحو الحائط‪ ..‬أمسك الداعشي السكين مرةً أخرى وأمسك برقبة المصري ّ‬
‫أي آخر‪" ..‬‬
‫للمراسلة ر ٌ‬
‫الجندي‪ ..‬لكن على ما يبدو من أهتزاز الكاميرا أن ُ‬

‫************‬

‫كان الشيخ محسن والد عمر يحدق بالتلفاز غير مصدق ما يُعرض عليه‪ ..‬وعندما جاء مشهد ذبح أبنه سقط‬
‫مغشيًا عليه‪ ،‬كذلك صرخت والدة عمر صرخةً مدوية‪ ..‬كادت هي األخرى أن تفقد وعيها أو حياتها كلها لكن‬
‫ضا قد ذُبح ‪...‬‬
‫حتى هذا لم يكن بيديها‪ ..‬اآلن زوجها مغشيًا عليه وأبنها أي ً‬

‫قليال‪ ..‬لكن عندما رأته في‬


‫أما آسية فبعد أن علمت بأن عمر لم يستشهد بعد وأنه ما زال حيًا لكنه مفقود هدأت ً‬
‫العراق فجأة‪ ..‬كانت تشعر بأنها التشعر بشيء‪ ..‬وجهها كان خاليًا من أي تعابير سوى تلك الدموع التي تنهمر‬
‫دون توقف‪ ،‬أما والدتها فشعرت وكأنها ستفقد حياتها اآلن‪..‬‬

‫************‬

‫البث المباشر ‪...‬‬

‫كثيرا‬
‫" ‪ ...‬عندما تقدمت المراسلة بحذر تجاه الداعشي كانت تمسك بعصا خشبية فضربته‪ ..‬أوجعته تلك الضربة ً‬
‫وأظهر لها وجهه البغيض وصب كامل غضبه عليها حين ركلها في بطنها ركلةً جعلها تهوي آلخر الغرفة‪ ..‬تألمت‬
‫بشدة‪ ،‬ثم أقترب منها وأصبح وجه الداعشي أمام الكاميرا مباشرة لكنه على ما يبدو ال يعلم حتى اآلن أنه يتم‬
‫تصويره‪ ،‬ويبدو أنه مسكها من قميصها ‪...‬‬

‫أنتظريني هنا يا صغيرتي حالما أنتهي من ذلك األحمق‪ِ ،‬‬


‫دورك قادم‪..‬‬

‫‪176‬‬
‫عِ ضين‬
‫ومتألما‪ ،..‬التفت الداعشي مرةً أخرى ناحية الجندي المصري وأمسك بالسكين بيده اليمنى‬
‫ً‬ ‫ظهر صوتها باكيًا‬
‫أستعدادا لذبحه‪ ..‬لكنه فوجئ أن الجندي قد سدد له ضربتين في أسفل بطنه مما‬
‫ً‬ ‫وشعر الجندي بيده اليسرة‬
‫جعله يتألم بشدة‪ ،‬أستغل الجندي ألم الداعشي وبحركة خاطفة التفت حوله ماس ًكا بقطعة زجاج مهشمة بيده‬
‫غارسا نصل قطعة الزجاج في رقبته‪ ..‬فسقط الداعشي‬
‫وباليد األخرى مسك رأس ذلك الداعشي بارزا رقبته لألمام ً‬
‫قتيال‪" ..‬‬
‫ً‬

‫***********‬

‫كانت الشاشة منقسمة لنصفين‪ ..‬نصف الشاشة األيمن كان يرصد ردود الفعل المختلفة للمذيع الذي يقوم‬
‫بالتعليق على ما يحدث في نصف الشاشة األخرى الذي ينقل تلك المعركة منذ البداية‪ ،‬عندما ذُبح ذلك‬
‫الداعشي أبدى المذيع فرحة عارمة وكأنه قد فاز للتو بكأس العالم والجميع في األستديو هتف بأسم ماريان‪..‬‬

‫************‬

‫البث المباشر ‪...‬‬

‫منذرا بسقوط جزء من السقف‪ ،‬إقتربت المراسلة ماريان من الجندي الذي يجلس‬
‫" ‪ ...‬فجأة أهتز المكان بعنف ً‬
‫على ركبتيه بجانب جثة الداعشي محدقًا به في ذهول‪ ..‬حاولت أن تشده من ذراعه قبل أن يُهدم المبنى بأكمله‬
‫عليهم لكنه ال يستجيب لها‪ ..‬مازال محدقًا بالداعشي‪ ..‬وخالل محاولتها تلك سقطت القبعة المصفحة من رأسها‬
‫على األرض‪ ..‬حاولت ألتقاطها لكن األوان قد فات‪ ..‬لقد وقع عليها السقف وتوقف البث ‪" ! ...‬‬

‫************‬

‫قبل لحظات ‪...‬‬

‫للتو أدرك عمر بأن المبنى على وشك األنهيار‪ ..‬المبنى يتم قصفة بشراسة وقد يصبح أنقاض في غضون لحظات‪،‬‬
‫قرر أن يقفز من أي نافذة حتى لو كانت عالية ولم يجد أمامه سوى غرفةً في نهاية هذا الطابق‪ ،‬أمسك بماريان‬
‫داعشي آخر كان يغلق حاسوبه بسرعة ليهرب من هذا‬
‫ٌ‬ ‫وجريا سويًا تجاه تلك الغرفة وعند دخولهم الغرفة وجدا‬

‫‪177‬‬
‫عِ ضين‬
‫المكان قبل تدميره‪ ،‬رفع عمر سالحه تجاه ذلك الداعشي قبل أن يلتفت ناحية عمر‪ ..‬فيما هربت ماريان لألختباء‬
‫على أمل أن الكاميرا مازالت تعمل وتبث ما يحدث‪..‬‬

‫الغريب في األمر أن عمر وجه سالحه نحو الداعشي إال أنه لم يطلق رصاصته سر ًيعا عليه كعادته‪ ..‬حدقا‬
‫لبعضهما للحظات ثم أطلق الداعشي ضحكة هستيرية وهو يضرب كفيه منده ًشا ‪...‬‬

‫أنت‪ ..‬؟!‪ ،‬أنت من فعلت هذا كله ؟!‪ ،‬يا ألهي من كان يصدق هذا ؟!‬

‫لم يصدق عمر ما يراه‪ ..‬هذا مستحيل‪ ،‬كيف يمكن أن يحدث هذا‪ ..‬؟!‪ّ ،‬نزل عمر سالحه والعرق يتصبب من‬
‫وجهه بغزاره‪ ،‬حينها ظنت ماريان أن هيبة ذلك الرجل أقلقت عمر وجعلته ُمرتب ًكا‪ ،..‬صحيح أنه كان في هذا الرجل‬
‫ضا ليس شيئًا يجعل هذا الجندي مرتب ًكا ومرتع ًشا هكذا‪ ..‬أنتهز الداعشي تردد عمر فأنهال عليه‬
‫شيئًا مريبًا لكن أي ً‬
‫تماما وسقط‪ ،‬وعندما سقط عمر أنهال عليه الداعشي بالركل في‬
‫باللكمات السريعة والقوية حتى فقد عمر أتزانه ً‬
‫بطنه ووجهه وأي جزء من جسد عمر كان يتلقى ضربات من هذا الرجل حتى أمتلىء وجه عمر بالدماء كأنهما‬
‫بالضبط في حلبة المصارعة‪ ..‬حاول عمر الوقوف وتفادي ضربات الداعشي إال أنه لم يستطيع ذلك‪ ،‬مسكه‬
‫الرجل من خصره ودفعه بأتجاه ٍ‬
‫باب زجاجي فتحطم الزجاج بسبب أصطدام عمر به بقوة‪ ،‬أنتهز الرجل أستسالم‬
‫فعال‬
‫تماما‪ ،..‬مسك برأس عمر ووضع السكين على رقبته ً‬
‫عمر الغريب وضعفه فتوجه ألحضار سكينة لينتهي منه ً‬
‫إال أن عمر وجد نفسه مازال حيًا‪ ..‬شعر بأن تلك الفتاة التي كانت تحتمي به سعت ألنقاذه‪ ،‬ضرب الداعشي‬
‫أستعدادا لتكملة ما يفعله بعمر‪ ،‬هنا بدا على عمر الغضب‪ ..‬فجأة ضرب هذا‬
‫ً‬ ‫ماريان بقوة ثم عاد ومسك السكين‬
‫الرجل في يده وجعله يفلت السكين ثم تكافئت المعركة بينهما إلى أن أستعاد الداعشي سيطرته على القتال بعد‬
‫مجددا‬
‫ً‬ ‫أن دفع هذا الداعشي عمر وجعله يصطدم بالحائط بقوة ففقد عمر وعيه‪ ..‬أمسك الرجل برأس عمر‬
‫مجددا على رأسه‪ ..‬قام بغضب ثم ركلها في‬
‫ً‬ ‫ليذبحه لكنه فجأة وجد نفسه يصرخ بشدة‪ ..‬لقد قامت ماريان بضربه‬
‫أوال‪ ..‬قام بمسك‬
‫مجددا لينتهي من عمر ً‬
‫ً‬ ‫بطنها ركلةً قوية جعلها تشعر وكأنها قد أُقتلعت روحها من جسدها‪ ..‬عاد‬
‫ضا بأنه يتألم بشدة‪ ،‬هذه المرة كانت ضربةً غير متوقعة من عمر‪ ..‬قام عمر‬
‫رأسه واألستعداد لذبحه لكنه فوجئ أي ً‬
‫ألما‪ ،‬حينها ألتف عمر حول الرجل ماس ًكا قطعة زجاج‬
‫بضربه أسفل بطنه ضربتين قويتين جعلته يخر على األرض ً‬

‫‪178‬‬
‫عِ ضين‬
‫مستغال ضعفه ثم غرس نصل قطعة‬
‫ً‬ ‫مهشمة ثم بحركةً رشيقة وسريعة مسك برأس الداعشي وأبرز رقبته لألمام‬
‫الزجاج تلك في رقبته وحاول الداعشي وقف تدفق الدم بسرعة من رقبته لكنه فشل‪ ..‬ومات‪..‬‬

‫جالسا على ركبتيه بجانب جثة‬


‫لم يصدق عمر ما فعله‪ ،‬هذه النهاية ؟!‪ ،‬بدا على عمر أنه مصدوم مما فعل‪ ،..‬كان ً‬
‫هذا الرجل محدقًا به‪ ..‬حتى أنه لم يشعر بتلك الهزة العنيفة التي أصابت المكان حوله‪ ..‬حاولت ماريان أن‬
‫فورا ‪..‬‬
‫تساعده في التحرك والهرب من هذا المكان ً‬

‫‪179‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-43-‬‬

‫لم يكن بمقدورها الكتمان أكثر من هذا‪ ،‬فمسألة رجوع عمر أصبحت مستحيلة والمرض يشتد عليها يوما بعد‬
‫نحيال وضعي ًفا‪ ..‬القيئ المستمر‪ ..‬ربما لم تالحظ آسية ما يحدث لوالدتها حتى اآلن بسبب‬
‫األخر‪ ..‬بدا جسدها ً‬
‫كثيرا‪ ..‬تنام‬
‫أنشغالها بما يحدث لعمر‪ ..‬ال تعلم أن كان حيًا أم مات بعدما أنقطعت تلك المشاهد‪ ..‬كانت تنام ً‬
‫حزينة جريحة باكية ومتألمة‪ ،‬من كان يسعدها قد رحل‪ ..‬رحل بعي ًدا حيث ال رجعة‪..‬‬

‫دائما أن تقنعها بالعودة لجلسات عالجها بعد أن أنقطعت عن الجلسات اليومين‬


‫كانت والدتها جانبها تحاول ً‬
‫الماضيين‪ ،‬كان يزداد خوفها في كل لحظة من قادم اللحظات‪ ..‬ستموت قريبًا‪ ،‬كانت آسية تغمض عينيها باكية‪..‬‬
‫لقد أرهقها الحزن‪ ..‬عزمت والدتها على أخبارها الحقيقة اآلن ‪...‬‬

‫آسية‪..‬‬

‫كانت آسية تعجز عن الرد‪ ..‬ال تستطيع حتى أن تفتح عينيها‪ ،‬أكملت والدتها‪..‬‬

‫رجاءا هذه المرة‪..‬‬ ‫ِ‬


‫أعلم أنك لستي نائمة‪ ،‬أسمعيني ً‬

‫للحظة بدت مترددة‪ ..‬حاولت تأجيل حديثها هذا فيما بعد لكن يبدو أن أصرارها على إخبار أبنتها بكل شيء قد‬
‫طغى عليها‪ ..‬هي ال تضمن وجودها على قيد الحياة لساعةً أخرى حتى‪..‬‬

‫ِ‬
‫بزواجك منه منذ البداية‪ ..‬فهو لم يكن ليعتني‬ ‫كنت حزينةً ألجلك حينما فُرض ِ‬
‫عليك إبن عمك ولم أكن راضية‬ ‫ُ‬
‫بك لو حدث ِ‬
‫لك مكروه‪ ..‬هذه الحادثة كانت نعمة من اهلل عز وجل وليست نقمة كما تظنين‪ ..‬فاهلل أرحم على‬
‫ِ‬
‫ليساندك في‬ ‫عنك ومن جديد عاد عمر‬‫عمك ِ‬‫عباده من أنفسهم‪ ،‬حينها سقط القناع عن الجميع وإبتعد إبن ِ‬
‫إجتياز إختبار اهلل ِ‬
‫لك‪ ..‬عندما تفانى في مساعدتك أثبت للجميع إنه يحبك‪ ،‬أنا من إقترحت عليه فكرة الزواج‬
‫بك‪ ،‬فرح لذلك ولم يتردد لحظة‪ ..‬كم كان سعيدا ِ‬
‫بك‪ ،‬ولوال الظروف حينها كان ليخبر العالم أجمع ليشاركه‬ ‫ِ‬
‫فرحته بك‪ ،‬أما عن وجهة نظري أنا فكان األهم عندي أن يتم عالجك لكن هذا ليس السبب الوحيد‪..‬‬

‫‪181‬‬
‫عِ ضين‬
‫ضا كانت تستمع لوالدتها تتحدث ب ًشان زواجها من عمر أو ما شابه‪..‬‬
‫كانت آسية في عالمها الخاص‪ ..‬لكنها أي ً‬
‫كانت تعلم ما تحكيه والدتها‪ ..‬عندما أجبرها والدها على الزواج بأبن عمها في الوقت الذي كان يريد عمر فيه‬
‫األعتراف بحبه لها أيام الجامعة‪ ..‬رحل عمر لكنها قد تعرضت لحادث تسبب بشللها‪ ..‬تركها خطيبها الذي‬
‫أجبرها والدها على خطبتها منه‪ ..‬لكن عمر قد عاد ليساندها‪ ..‬تزوجها وهي عاجزة بفضل أقتراح والدتها بذلك‪..‬‬
‫ألتحق بالخدمة العسكرية وسافر في مهمةً وطنية‪..‬‬

‫عاجزا عن ربط ما يحدث بذلك الذي تتكلم والدتها بشأنه ‪ ،!..‬كانت‬


‫أنشغالها بالتفكير في عمر جعل عقلها ً‬
‫تستمع لكالم والدتها لكن لم تلقي له بال‪ ،‬أكملت والدتها‪..‬‬

‫كان هناك سببًا آخر قد أخفيته عن الجميع‪ ،‬مرضي‪..‬‬

‫صعقت‪ ..‬فتحت آسية عينيها بعد كلمة والدتها األخيرة‪ ،‬التفتت إليها في ذهول‪..‬‬
‫و كأنها قد ُ‬

‫مرض ؟!‪ ،‬أنتي مريضة ؟!‬

‫ساد الصمت بينهما للحظات‪ ،‬ثم هزت والدتها رأسها أيجابًا وأكملت كالمها‪..‬‬

‫منذ سنتين أُصبت بالسرطان‪ ، ..‬خشيت أن أتعالج بالكيميائي‪ ،‬لم أكن ألفضل الظهور ضعيفة أمام الجميع أو أن‬
‫أحدهم يشفق علي‪ ،‬وعندما بلغت هذه المرحلة التي ال يجدي العالج فيها نفعا حدثت تلك الحادثة ِ‬
‫لك ومات‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫والدك وأختفى ِ‬
‫أخاك فجأة‪..‬‬

‫كانت آسية تشعر وكأنها نائمة تحلم بكابوس !‪ ،‬أكملت والدتها‪..‬‬

‫بك هو أنه الوحيد الذي سيقف بجانبك حين أغادر هذه الدنيا‪ ،‬لقد ِ‬
‫أحبك عمر‬ ‫السبب اآلخر لعرضي له بالزواج ِ‬
‫أكثر مني أنا‪..‬‬

‫قطبت آسية حاجبيها في ضيق‪ ،‬شعرت وكأن شيئًا ما يطبق على صدرها‪..‬‬

‫‪181‬‬
‫عِ ضين‬
‫رجاءا‬
‫رجاءا‪ ،‬ال ت ّدعي المرض كي تجبرينني على العودة للعالج‪ ..‬سأعود لكن أخبريني ً‬
‫أمي‪ ..‬ال تقولي هذا ً‬
‫بالحقيقة‪ ..‬أنتي لستي مريضة‪ ،‬أليس كذلك ؟!‬

‫أبعدت والدتها وجهها بعي ًدا‪..‬‬

‫رجاءا‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫أرجوك يا آسية دعيني أرحل وأنا مطمئنةً عليكي‪ ،‬أستكملي عالجك ً‬

‫شعرت آسية وكأنها تلك هي اللحظات األخيرة التي سترى فيها والدتها‪ ،‬أحتضنتها بشدة وهي تبكي‪..‬‬

‫سأفعل‪ ..‬سأفعل يا أمي‪ ،‬لكن عليكي بأن تحيا ألجلي‪ ،..‬لن تتركيني لوحدي يا أمي‪ ..‬أليس كذلك ؟!‬

‫ف ّكت والدتها ذراعي أبنتها عنها ثم أخرجت ورقة صغيرة من حقيبتها وأعطتها ألبنتها‪..‬‬

‫ما هذه‪ ..‬؟!‬

‫حاولت األتصال بوال دة عمر ألطمئن عليها ومعرفة ما أذا كانت قد شاهدت ما حدث لعمر أم أنها غافلة‪ ..‬لكنها‬
‫لم تجيب‪ ،‬قمت بجلب العنوان من مدير المستشفى‪ ،..‬حينما ال أكون هنا ِ‬
‫معك أذهبي لهناك‪..‬‬

‫صرخت آسية باكية ‪..‬‬

‫رجاءا‪ ،‬ستبقين معي‪..‬‬


‫أمي‪ ،..‬ال تقولي هذا ً‬

‫أحتضنتها وكانت تشعر بأن هذا العناق سيكون األخير ‪...‬‬

‫************‬

‫سوهاج ‪...‬‬

‫نُقلت والدة عمر إلى غرفة العناية المركزة بأحدى المستشفيات‪ ،‬كان من الصعب أن تتحمل مشاهدة لحظة مقتل‬
‫أبنها‪ ،‬كانت تفكر في تلك المصائب‪ ..‬أبنها أدهم المختفي‪ ..‬عمر الذي قُتل‪ ..‬زوجها الذي مات‪..‬‬
‫‪182‬‬
‫عِ ضين‬
‫معا حينما كانت تُعرض على الشاشة مشاهد لقتال عمر تنظيم داعش األرهابي في العراق‪..‬‬
‫كانا يشاهدان التلفاز ً‬
‫في النهاية سقط زوجها مغشيًا عليه‪ ،‬أما هي فصرخت كي تستغيث بجيرانها ألنقاذ زوجها‪ ،‬لكن بالها المشغول‬
‫ضا‪..‬‬‫بتلك اللحظات التي سيقتل فيها عمر جعل مرض السكري يرتفع عنده بشدة فأفقدها الوعي هي أي ً‬

‫و حين شاهد الجيران تلك المشاهد أسرعوا لبيت الشيخ محسن ليطمئنوا عليه وعلى زوجته‪ ،‬طرقوا الباب فلم‬
‫مكروها فأضطروا لكسر الباب فوجدوا كالهما ممدان على‬
‫ً‬ ‫يجيب أحد‪ ..‬حينها تأكدوا بأن قد حدث لهم‬
‫حاال لكن تبين لزوجته بعدما أستفاقت أن زوجها قد مات نتيجة أزمة قلبية‬
‫األرض‪ ،..‬تم نقلهما للمستشفى ً‬
‫حادة‪ ..‬حزنت أكثر وأكثر وأسودت الدنيا كلها في عينها وأرتفع نسبة السكري عندها للدرجة المزمنة‪ ..‬فتم نقلها‬
‫هي األخرى لغرفة العناية المركزة‪..‬‬

‫************‬

‫القاهرة ‪...‬‬

‫ليومين لم تتوقف عينيها عن البكاء‪ ، ..‬تلك الحسرة من فقدان أبنتها التي أُرغمت على خوض تجربة في العراق‬
‫مقابل عدم تبديد حلمها‪..‬‬

‫حاول زوجها األقتراب منها وتهدئتها‪ ،‬أربت على كتفها ‪...‬‬

‫سيكون كل شيء بخير‪..‬‬

‫التفتت إليه غاضبةً ‪..‬‬

‫بخير‪ ..‬؟!‪ ،‬كيف سيكون األمر بخير برأيك ؟!‬

‫تهكما على كالمه‪..‬‬


‫أبعد وجهه عنها وبدأ صوتها يرتفع ً‬

‫آه بخير‪ ..‬عندما أعلم أن أبنتي في العراق ستكون األمور بخير‪ ..‬عندما أعلم أنها قامت بتصوير أخطر فيديو في‬
‫العالم ستكون األمور بخير‪..‬‬

‫‪183‬‬
‫عِ ضين‬
‫التفتت إليه ثم عاتبته‪..‬‬

‫أصال أن كانت مازالت على قيد الحياة أم أنها‪..‬‬


‫أتعرف مكانها ؟!‪ ،‬كيف حالها ؟!‪ ،‬هل تعرف ً‬

‫أصبح صوتها يشوبه البكاء‪..‬‬

‫ماتت‪ ..‬؟!‪ ،‬ال أعلم كيف سيكون حالي عندما يتم أذاعة مشاهد ذبحها في القنوات ‪..‬‬

‫وضعت رأسها على المنضدة منذرةً بنوبة حزن شديدة‪ ،‬أكملت كالمها وكأنها تحادث نفسها‪..‬‬

‫سألحق بها‪ ،‬ماري‪ ..‬كيف ِ‬


‫حالك يا عزيزتي ؟!‬

‫أما عن والدها فوضع رأسه بين كفيه لضعف حيلته‪ ..‬كان قد عمل على تحقيق حلم أبنته في أن تكون أكبر‬
‫أعالمية في مصر‪ ..‬دعمها حتى ألتحقت بكلية األعالم‪ ..‬تحقق جزء كبير من حلمها حين عملت بالقناة التي‬
‫يديرها أخوه ثروت ومن ثم أنتقلت ألكبر محطات األخبار في العالم‪ ،‬هو اآلخر ال يعلم كيف سيتحمل مشاهد‬
‫ذبحها ‪!..‬‬

‫‪184‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-44-‬‬

‫كانت وكالء األنباء العالمية ووسائل األعالم ومواقع التواصل األجتماعي جميعها تناولت تلك المشاهد التي قامت‬
‫بتصويرها ماريان‪ ،‬حتى وصل عدد مشاهدي الفيديو ما يقارب المائة مليون ُمشاهد في الساعات األولى التي تلت‬
‫تلك الحادثة‪..‬‬

‫شيرين عبد النور في برنامجها اليومي ‪...‬‬

‫" ‪ -‬من الغريب أن نجد العالم كله يهاجمنا ويتصيد لنا األخطاء في حين تناسوا وتغافلوا عن األنجاز الذي‬
‫تحقق منذ يومين‪ ..‬يهاجموننا ألن جنودنا كانت في العراق وقاتلت ذلك التنظيم األرهابي لكنهم ال يضعون في‬
‫بالهم كيف كانت الكتيبة المصرية تقاتل بشراسة ضد ذلك التنظيم األرهابي أو أن كيف نجح الجندي المصري‬
‫في قتل قيادي في تنظيم داعش‪ ..‬جميعنا شاهدنا ذلك الفيديو والذي بالمناسبة قد حقق أعلى نسبة مشاهدة هذه‬
‫السنة على موقع اليوتيوب والذي صنفته جريدية الواشنطن بوست بأنه " فيديو القرن "‪ ،‬لكن خلف كواليس هذا‬
‫ٍ‬
‫معلومات خطيرة تُعرض ألول مرة حصريًا على قناتنا ‪..‬‬ ‫الفيديو أسر ًارا تحصلنا عليها‪ ،..‬سنقدم لكم‬

‫سكتت للحظات ثم تابعت وشرحت الخطة الكاملة التي قام بها األيرانيون لأليقاع بالكتيبة المصرية التي شاركت‬
‫باليمن‪..‬‬

‫هاما‪ ،‬ثم ظهر شريط أخباري عاجل وقامت هي بتالوة هذه‬


‫صمتت لثواني وكأن فريق األعداد يُملي عليها شيئًا ً‬
‫األخبار‪..‬‬

‫عاجل ‪ ...‬الجندي المصري يُدعى عمر محسن وهو يحمل رتبة صف ضابط أحتياطي وهو أحد مساعدي اللواء‬
‫صفوت المستشار العسكري المصري باليمن ‪..‬‬

‫عاجل ‪ ...‬الداعشي هو اآلخر مصري الجنسية ويُلقب بـ " أبو عمار " وهو الرجل الثاني في تنظيم داعش والذراع‬
‫األيمن لزعيم التنظيم‪..‬‬

‫سكتت للحظة ثم نظرت للشاشة بتشكك‪..‬‬


‫‪185‬‬
‫عِ ضين‬
‫و بطبيعة الحال فأن هناك من سيشكك في كالمنا هذا ويتهمنا بأختالق قصة وهمية لتبرير تواجد الجيش المصري‬
‫ضا‬
‫مثال عن مصادر حصولنا على هذه المعلومات وبالتأكيد أي ً‬
‫ضا لن نعلن ً‬
‫في العراق‪ ،‬لهم الحق في ذلك لكننا أي ً‬
‫سيظهر صحة ما حصلنا عليه من معلومات‪..‬‬

‫************‬

‫في نفس التوقيت كان شريف في مكتبه مع مساعده األول ( أيمن ) يتابعان برنامج شيرين‪..‬‬

‫مبكرا‪..‬‬
‫كثيرا سيدي‪ ..‬كان يمكننا تجنب كل هذا بمجرد تسريب الخبر لألعالم ً‬
‫لقد تأخرنا ً‬

‫رد عليه شريف بعد أن خفض من صوت التلفاز‪..‬‬

‫مبكرا قبل فعلهم ألي شيء كانت‬


‫أوال يا أيمن‪ ،‬لو قمنا بتسريب الخبر لألعلم ً‬
‫كان البد من التأكد من نواياهم ً‬
‫األمور ستسوء أكثر‪ ،‬ال أحد يعرف‪ ..‬ربما كانوا ليغيّرون ما كانوا يخططون له حول كيفية أستخدام جنودنا‪..‬‬

‫صدرت من المخابرات العسكرية أن ننتظر‪..‬‬


‫األمر اآلخر كما تعلم أن األوامر ُ‬

‫و ها هي النتيجة سيد شريف‪ ،‬لقد وقعنا في فخهم‪..‬‬

‫أعتدل شريف في جلسته وأقترب من أيمن‪..‬‬

‫أتشكك في ردنا عليهم ؟!‪ ،‬أسمعني جي ًدا يا أيمن‪ ..‬ال تستهين أب ًدا بقدرتنا‪ ..‬هم من أختاروا الخيار األصعب‬
‫بهجوم شرس‪ ..‬ما تبقى من جنودنا قد عادوا مصر‪ ،‬ونحن قمنا بتسريب خطتهم التي‬ ‫ٍ‬ ‫وعلينا أن نستعد للرد عليهم‬
‫أستخدموها لألعالم ‪..‬‬

‫أمرا ما‪..‬‬
‫بدا على أيمن التفكير في ً‬

‫و عمر‪ ،..‬أين هو اآلن ؟!‬

‫‪186‬‬
‫عِ ضين‬
‫ابتسم شريف بمكر ‪...‬‬

‫المراسلة ماريان‪ ،‬لقد كلفتنا المخابرات العسكرية بأحضاره‬


‫بالطبع لم يفوتني هذا‪ ،..‬لقد حددنا مكانه هو وتلك ُ‬
‫فورا‪..‬‬
‫ً‬

‫سؤال آخر‪..‬‬
‫بدا على أيمن األرتياح‪ ،‬راوده ٌ‬

‫فعال هو عمر‪ ..‬أريد أن أعرف لماذا بدا عليه التردد في بداية قتاله مع أبو عمار ؟!‪ ،‬يبدو هذا األمر‬
‫ما يهمنا اآلن ً‬
‫غريبًا‪..‬‬

‫أمر ما غير‬
‫واجما نتيجة صدمة أو ٌ‬
‫طرق أحدهم الباب فأذن شريف للطارق بالدخول‪ ،‬أنها مساعدته‪ ،‬كان وجهها ً‬
‫مثال‪..‬‬
‫أعتيادي ً‬

‫آسفة سيدي على المقاطعة‪ ،‬لكن ورد ألينا تقرير عاجل وغريب ‪...‬‬

‫تلقى شريف التقرير منها ولم يستغرق األمر ثواني حتى ظهرت عالمات الدهشة والصدمة جليًا على وجه شريف‪،..‬‬
‫ذلك األمر الذي جعل أيمن يتساءل عن سبب ذُعر وصدمة شريف‪..‬‬

‫ماذا هناك سيد شريف ؟!‬

‫بدا على شريف عدم التصديق‪ ،‬هذا منطقي‪ ..‬ال ال هذا غير منطقي بالمرة‪ ..‬أعطى التقرير أليمن منتظر ردة فعله‪،‬‬
‫وعندما تفحص أيمن ما في التقرير أتسعت عيناه من الصدمة ونظر لشريف في عدم تصديق‪..‬‬

‫مستحيل‪ ..‬مستحيل أن يحدث هذا‪..‬‬

‫نظر أيمن مرًة أخرى للتقرير وهو يعيد قرائته مرات ومرات ليتأكد أنه لم يتوهم ‪..‬‬

‫مستحيل‪ ..‬هذا ما يُطلق عليه المستحيل المنطقي ‪! ...‬‬

‫‪187‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-45-‬‬

‫عادت لتستكمل عالجها من جديد‪ ..‬فقط لتُطمئن والدتها عليها في آخر أيامها‪ ،..‬كانت في مراحل متقدمة من‬
‫كثيرا‪ ،‬لكن ما فائدة أن تحيا بمفردها بعد أن يرحل الجميع عنها‪ ..‬؟!‪ ،‬كانت تتألم‬
‫العالج وهذا سيسعد والدتها ً‬
‫وال أحد يشعر بأآلمها تلك إال اهلل‪..‬‬

‫لو كانت تدرك ما سيحدث لها لتمنت أن يتوقف الزمن وال يتقدم خطوةً أخرى‪ ،‬كم أشتاقت لتلك السنوات‪..‬‬
‫حين كانت تخطط هي وصديقتها أماني ألختبار حب عمر لها‪ ،‬عندما تكون صديقتها راضية عنه يكون يوم سعده‬
‫شرا فذلك المسكين لن يسلم من فخها أب ًدا‪ ،‬عمر ؟! أين هو اآلن‬
‫وستمهد لها كي تقابله أما أن كانت تنوي ً‬
‫ياترى ؟!‪ ،‬قلبها يحدثها بأنه مازال حيًا‪ ..‬ربما يكون بخير‪ ..‬ال تعرف لماذا يراودها هذا األحساس بالذات‪ ،‬ربما‬
‫ٍ‬
‫أحساس مؤلم حين تتذكر أنه لو تم القبض عليه من‬ ‫ألنه ال يوجد خبر يؤكد وفاته‪ ،..‬لكن سرعان ما يداهمها‬
‫عناصر داعش األرهابية لربما كان العقاب أشد وأقسى ألنه قتل قيادي مهم عندهم‪..‬‬

‫وعاجال‬
‫ً‬ ‫حي يُرزق ؟!‪ ..‬حينها سيكون تحت رحمة هؤالء‬
‫ح ًقا هي ال تعلم ماذا تتمنى‪ ..‬هل تتمنى أنه يكون مازال ٌ‬
‫آجال ستراه يُذبح وبأبشع الطرق‪ ،‬أم تتمنى أنه قد مات فيُرحم من هؤالء المرتزقة ؟!‪ ..‬لكن حينها لن تراه‬
‫أم ً‬
‫مجددا‪ ،‬لن تلجأ سوى هلل‪ ..‬أن اهلل قد خلق المستحيل فكيف يعجز عن جعل المستحيل ممكنًا‪ ..‬هي تثق بأن اهلل‬
‫ً‬
‫سيُخرج عمر من محنته لو كان حيًا‪..‬‬

‫قريبًا ج ًدا ستصبح وحيدة‪ ..‬ستصبح يتيمة‪ ،‬والدتها على وشك الرحيل هي كذلك‪ ..‬والدها الذي رحل منذ شهور‬
‫طويلة‪ ..‬أخاها الذي يبدو وكأنه قد تبرأ من عائلته بالكامل‪..‬‬

‫فعال والدتها مريضة ؟! أم أنها ت ّدعي ذلك لتستمر هي بالعالج ؟!‪ ،‬ما زالت غير‬
‫فكرت في كالم والدتها‪ ..‬هل ً‬
‫مقتنعة بكالم والدتها بخصوص مرضها‪ ،‬ح ّدثت نفسها بأنها البد وأن تستمر بالعالج ألجل والدتها‪ ..‬ألجل عمر‪..‬‬
‫ضا‪ ،‬مازال األمل يراودها بشفاء والدتها أن كانت مريضةً ح ًقا‪ ..‬كذلك األمل يراودها بأن عمر‬
‫وألجلها هي أي ً‬
‫يوما ما‪ ..‬ستكون سببًا في فرح الجميع بها وبشفاؤها وستفرح هي بشفاء والدتها وبرجوع عمر قريبًا‪..‬‬
‫سيرجع ً‬

‫‪188‬‬
‫عِ ضين‬
‫كل هذا كان يدور بعقلها حين كانت تتلقى جلسة العالج ‪ ...‬أفكار‪ ..‬تخيالت‪ ..‬ذكريات‪ ..‬أحالم‪ ..‬أمنيات‬
‫وحنين‪ ،‬تق ّدمت في عالجها حين بدأت تمشي بعكازين لمسافات ال بأس بها‪ ،‬أنهت جلسة عالجها اليوم بجرعة‬
‫أمل تراودها‪ ..‬عمر سيعود ووالدتها ليست مريضة ‪..‬‬

‫أنهت عالجها وجلست على كرسيها كالعادة ودفعتها نادية الممرضة نحو غرفتها وبجانبها والدتها‪ ،‬الحظ ثالثتهن‬
‫تحركات غير طبيعية في المستشفى وخاصةً في بداية الممر لهذا الطابق ‪ ...‬عرفت نادية أن هناك مصابين ربما من‬
‫أحدى العمليات في سيناء‪ ..‬ذهبت لتفقد األمر لتجد أنهم أصحاب تلك الرحلة المريرة لليمن‪..‬‬

‫حاولت أبالغ آسيى بذلك لكنها وجدت غضب اللواء صفوت فيها بسرعة العالج‪ ..‬أسرعت ناحية الدرج‬
‫وأختفت بعدها‪ ،‬ومازالت آسية ووالدتها تترقبان ما يحدث ‪...‬‬

‫ِ‬
‫أرجوك‪..‬‬ ‫أمي‪ ..‬أدفعيني لهناك‬

‫آسية‪ ..‬ليس اآلن‪ ،‬تبدو األمور مضطربة هناك‪..‬‬

‫كثيرا‪..‬‬
‫أمي !‪ ..‬ال تقلقي‪ ،‬لن نقترب ً‬

‫حتى والدتها تملكها الفضول تجاه هذا األضطراب الحاصل هناك‪ ..‬دفعت الكرسي وأتجهت لهناك‪ ،‬كان هناك‬
‫أحدهم أبتعد عن البقية ويهاتف أح ًدا ما‪ ،‬لم يلحظ آسية وهي تندفع نحوه‪ ،‬أما هي فقد زادت ضربات قلبها‬
‫أضطرابًا حين سمعته وهو يتكلم مع أحدهم في الهاتف ‪...‬‬

‫نعم‪ ..‬لقد نجونا بأعجوبة من معركتنا تلك في العراق‪ ،‬لكننا قد فقدنا الكثيرين من زمالئنا ‪..‬‬

‫فجأة وجد مصطفى بأن أحدهم يشده من زراعه‪ ،‬أستدار ليعرف من يشده هكذا فوجد فتا ًة قعيدة تقف بجانبها‬
‫أمرأة كبيرة‪ ،‬سألته آسية‪..‬‬

‫عذرا سيدي‪ ،‬هل أنتم من كنتم في العراق ؟!‬


‫ً‬

‫منتظرا أن يعرف هويتها‪ ،‬بدأت نظرات األمل تملئ نظراتها ‪..‬‬


‫تعجب من سؤالها ثم هز رأسه أيجابًا ثم أغلق هاتفه ً‬

‫‪189‬‬
‫عِ ضين‬
‫أين عمر ؟!‪ ،‬ألم يأتي معكم‪ ..‬؟!‬

‫كثيرا عنها‪ ،‬تنبه أللحاحها في السؤال‪..‬‬


‫كيف لم ينتبه لذلك ؟!‪ ،‬أنها آسية زوجته‪ ،‬لقد ح ّدثه عمر ً‬

‫أرجوك أجبني‪ ..‬هل نجا عمر معكم ؟!‬

‫أصال ؟!‪ ،‬أنه قُتل‪ ..‬؟!‪ ،‬قلقت هي من طول صمته ‪...‬‬


‫بدا عليه التردد في األجابة‪ ..‬بماذا يجيبها ً‬

‫آسف لذلك‪..‬‬
‫لألسف سيدتي‪ ،..‬لقد أستشهد عمر في المعركة‪ ،‬أنا ٌ‬

‫لقد تجمد الوقت بالنسبة لها‪ ،‬أستطاع عقلها أن يمرر أمامها كل لحظاتها مع عمر في ثانية حتى وصلت لتلك‬
‫اللحظة األخيرة التي كانت بينهم قبل شهور‪ ..‬قبل مغادرته‪ ،..‬لقد مات عمر‪ ..‬لم يعد هناك عمر في حياتها‪ ..‬لقد‬
‫رحل‪ ..‬رحل عمر‪ ،‬بكل قوتها صرخت متألمة‪..‬‬

‫عمر ‪ ...‬عمر ال ترحل أرجووك‪ ،..‬عمر !‬

‫حاولت والدتها وكذلك مصطفى من تهدئتها لكنهما فشال حين بدت آسية بفقدان وعيدها تدريجيًا وهي تهذي‬
‫بكلمات غير مفهومة حتى فقدت وعيها بالكامل‪..‬‬

‫أسرع مصطفى بدفع كرسي آسية المتحرك تجاه غرفة أي طبيب‪ ،‬أسرع أحد األطباء بفحصها وأثناء ذلك لفت‬
‫أنتباه مصطفى ما يُعرض على التلفاز‪ ..‬مشاهد تعرض عمر وهو يقاتل أحدهم‪ ..‬أصبح يشاهد ما يحدث أمامه‬
‫بتركيز وتلهف مما سيحدث‪ ،‬الحظه الطبيب صديقه‪..‬‬

‫ماذا هناك يا مصطفى‪ ..‬لماذا تحدق هكذا في التلفاز ؟!‬

‫متسائال‪..‬‬
‫ً‬ ‫أشار مصطفى ناحية التلفاز‬

‫ما هذا ؟!‪ ،‬متى حدث هذا بالضبط ؟!‬

‫و كأنك ال تعرف يا مصطفى‪ ..‬أتتكلم بجدية أم ماذا ؟!‬

‫‪191‬‬
‫عِ ضين‬
‫نظر مصطفى لصديقه نظرةً تفيد بأنه يجهل ما يحدث‪ ،‬أدرك الطبيب أن صديقه مصطفى ال يعلم ح ًقا ما يحدث‪..‬‬

‫هذا عمر يقاتل قيادي داعشي‪ ،..‬لقد تمكن منه في النهاية وقتله‪..‬‬

‫قطب مصطفى حاجبيه في عدم فهم ‪...‬‬

‫من قتل من‪ ..‬؟!‬

‫أنهى الطبيب من فحص آسية وأعطاها حقنة مهدئة‪ ،‬خلع قفازته ثم وقف بجانب صديقه يشرح له ما يُعرض على‬
‫التلفاز ‪..‬‬

‫أوال ثم قاتل بشراسة وبشجاعة عناصر تنظيم داعش وكأنه‬


‫كما ترى يا مصطفى‪ ..‬فأن عمر قد دخل هذا المبنى ً‬
‫يلعب أحد ألعاب الفيديو وعندما وصل إلى المستوى األخير كان قدره أنه يقاتل قيادي داعشي بارز وظال يقاتالن‬
‫بعضهما إلى أن أنتصر عمر في النهاية‪..‬‬

‫ضا على‬
‫كان مصطفى يصب كامل تركيزه على ما يشاهده ويربط ما قاله الطبيب بما يحدث‪ ،‬كان األمر غريبًا أي ً‬
‫والدة آسية والتي تابعت ردة فعله الغريب‪ ..‬تساءلت في نفسها‪ ..‬كيف يقول أنه قد أُستشهد وهو اآلن يندهش‬
‫مما يُعرض على التلفاز ؟!‪ ،‬على أي أساس قال أن عمر قد مات ؟!‪ ،‬التفت مصطفى ناحية آسية وهي فاقدة‬
‫الوعي‪ ،‬وقفت أمامه والدتها‪..‬‬

‫ماذا يحدث هنا يابني ؟!‪ ،‬ما الذي يدهشك في هذه المشاهد التي تُعرض ؟!‪ ،‬هل يتعلق األمر بعمر ؟!‬

‫بدا األمر غريبًا بالنسبة لمصطفى‪..‬‬

‫كل ما في األمر سيدتي أنني ال أعلم أي شيء بخصوص تلك المشاهد‪ ..‬لقد ظننت أنه قُتل حين دخل ذلك‬
‫جميعا أنه قُتل‪..‬‬
‫المبنى وحده‪ ،‬لكنني لم أرى هذا وال أعلم ماذا حدث له بعد ذلك‪ ،‬لقد ظننا ً‬

‫بدا األمر وكأنها يراودها األمل من جديد‪..‬‬

‫يعني أنه ربما يكون ما زال حيًا ؟!‪ ،‬أنت لم تره ميتًا من األساس ؟!‬

‫‪191‬‬
‫عِ ضين‬
‫قليال ‪...‬‬
‫فكر ً‬

‫فورا من المكان‪ ،‬وعندما ظننت أن عمر لم‬


‫ال لم أره بعيني ميتًا‪ ،..‬عندما دخل هذا المبنى جاءنا أمر األنسحاب ً‬
‫جميعا األتصال به لكنه لم يجب‬
‫يسمع أمر األنسحاب حاولت أن أخبره بذلك لكنه لم يجيب أب ًدا‪ ..‬حاولنا ً‬
‫جميعا من المكان قبل أن يحدث شيئًا آخر ونسقط جميعنا قتلى‪..‬‬
‫ضا‪ ..‬فظنناه أنه قد قُتل وأنسحبنا ً‬
‫أي ً‬

‫تسارعت نبضات قلبها فرحة‪ ..‬لقد راودها األمل من جديد ‪..‬‬

‫فورا ‪...‬‬
‫علي المغادرة ً‬
‫عن أذنك سيدتي‪ّ ،‬‬
‫عازم على إخبار اللواء صفوت بذلك‪ ،‬جميعهم ال يعلمون ما حدث بعد‬
‫أسرع مصطفى للخروج من الغرفة وهو ٌ‬
‫أنسحابهم‪..‬‬

‫‪192‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-46-‬‬

‫خير من ألف حلم‪ ..‬كانت تحلم بأن تكون األعالمية األولى في مصر‪ ..‬كانت لديها قناعة بأنها‬‫رب واقع ٌ‬
‫تستطيع بناء مدرسة أعالمية جديدة‪ ..‬أعالم مهني‪ ..‬واضح‪ ..‬صريح وحقيقي‪..‬‬

‫منذ ٍ‬
‫أعوام قليلة مضت أنحرف األعالم عن مساره الحقيقي وأنقسم لفئتين‪ ..‬فئةً معارضة واألخرى مؤيدة بشدة‪،‬‬
‫معارضا ومن كان يعارض أصبح مؤي ًدا ‪ ،!..‬ليس في مصر‬
‫ً‬ ‫حتى ما تغيرت الوجوه وتبدلت األحوال يصبح المؤيد‬
‫مثال لديها منصة أعالمية ضخمة تدافع عن سياساتها وقراراتها‪..‬‬
‫فقط‪ ..‬بل في العالم أجمع‪ ،‬فالدولة األيرانية ً‬
‫الواليات المتحدة يتبدل أعالمها حسب هوية الحزب الحاكم للبالد والحزب المعارض كذلك يكون أعالمه‬
‫جاهزا‪ ..‬في الحقيقة األعالم كله عار وتكاد تكون حقيقةً علمية ثابتة في زماننا هذا‪ ..‬ال توجد قناة على وجه‬
‫ً‬
‫األرض تلتزم الحيادية أو تعرض الحقيقة كاملة‪ ،‬هذا كله ببساطة ألن الجميع يرى الحقيقة التي يريدها فقط وليس‬
‫الحقيقة المجردة‪ ، ..‬الطبيب أعتزل الطب وعمل باألعالم والكاتب أعتزل قلمه وعمل باألعالم ورجل األعمال‬
‫أفتتح قناته الخاصة وحسب ميوله يوجه أعالميي قناته‪ ..‬والغريب في األمر أن الفئة الوحيدة التي تجد صعوبة بالغة‬
‫في العمل باألعالم هم خريجي كلية األعالم‪!..‬‬

‫يوما ما‪ ،‬لحظة‪ ..‬هل تم تصوير ما حدث باألمس ؟!‪ ،‬أم أن مجهودها ذهب سدى‬
‫يوما وستفعله ً‬
‫لديها حلم التغيير ً‬
‫؟! ‪ ،‬ربما أبتعدت سيارة المحطة أو تم تدميرها بسبب قذائف تلك الطائرات‪ ..‬بذلك لن يتم تصوير شيء وها هو‬
‫حلم آخر قد تبخر‪..‬‬
‫ٌ‬

‫هذا ما كان يدور برأس ماريان حين كانت تقف في شرفة لمبنى مهجور وعمر الممدد على األرض بجانبها في‬
‫متأثرا بمعركته الدامية مع ذلك الداعشي في صباح اليوم‪ ،‬لقد قامت بأسعافه وأخرجت قطع‬ ‫ٍ‬
‫تماما ً‬
‫غياب عن الوعي ً‬
‫ٍ‬
‫ساعات طويلة من األغماء بدأت تعابير وجه عمر بالتحرك‬ ‫وأخيرا وبعد‬ ‫الزجاج الصغيرة المتناثرة على وجهه‪،‬‬
‫ً‬
‫ألما‪ ،..‬جثت على ركبتيها بجانبه وحاولت أفاقته‪ ..‬لم تعرف عنه شيئًا سوى أسمه الذي قرأته على زيه العسكري‪..‬‬
‫ً‬

‫عمر‪ ..‬عمر‪..‬‬

‫‪193‬‬
‫عِ ضين‬
‫فتح عينيه بصعوبة‪ ،..‬في البداية لم يرى شيئًا لكن بمرور الثواني بدأت الرؤية تتضح‪ ..‬ضباب ثم حائط أو سقف‬
‫ومدمرا تقريبًا ثم‪ ..‬ثم صوت يناديه بأسمه‪ ..‬عمر‪ ..‬عمر‪ ..‬حاول أن يلتفت للصوت لكنه لم يستطع‬
‫ً‬ ‫مهشما‬
‫ً‬
‫تحريك رأسه ولحسن الحظ أن ماريان قامت بتعديل وضعيه رأسه تجاهها‪ ..‬تساءل‪ ..‬من هذه الفتاة ؟! كيف‬
‫تعرف أسمي ؟! أين أنا ؟ وماذا حدث ؟!‪ ،‬يا ألهي أشعر بصداع مؤلم ج ًدا‪ ..‬رأسي ثقيلةً ج ًدا‪ ،‬بدأت األحداث‬
‫تتسارع في ذهنه‪ ..‬أنفجار الطائرة وهبوطهم بالمظالت‪ ..‬القتال ضد تنظيم داعش ومطاردتهم‪ ..‬شوارع في‬
‫مقدمتها حواجز أسمنتية وخرسانية‪ ..‬النصر أو الشهادة‪ ..‬قتاله في المبنى‪ ..‬أين البقية ؟!‪ ..‬حمايته لتلك الفتاة‬
‫الغريبة‪ ..‬لقد رأيتها من قبل‪ ..‬آه صحيح‪ ..‬هي من تحاول أيقاظي اآلن‪ ..‬قتله لذلك الداعشي‪..‬‬

‫شاردا يحرك عينيه في توتر‪..‬‬


‫فتح عينيه بسرعة وهو يلهث‪ ،‬ساعدته ماريان على الجلوس وهو مازال ذهنه ً‬

‫هل أنت بخير‪ ..‬؟!‬

‫لم يرد عليها وكأنه لم يسمعها‪ ..‬كان يحاول أن يستوعب ما حدث‪ ،‬قدمت له شطيرة مربى‪..‬‬

‫ٍ‬
‫ساعات كثيرة‪ ..‬شعرت بالجوع فقمت بجولة حول هذا المبنى ولحسن الحظ وجدت‬ ‫لقد مر على تواجدنا هنا‬
‫حقيبتي كانت ُملقاة في الشارع‪ ..‬ووجدت هذه‪ ..‬أكلت نصفها وتركت النصف اآلخر لك‪..‬‬

‫أرضا وكأنه يصارع نفسه‪ ،‬تساءلت هي في نفسها‪..‬‬


‫لم يلتفت إليها حتى‪ ..‬تتسارع األحداث في ذهنه‪ ..‬ينظر ً‬
‫حالته تزداد غرابة‪ ..‬أيمكن أن يكون هذا بسبب قتله لذلك الداعشي ؟!‪ ..‬ال ال حتى قبل قتله لذلك الداعشي‬
‫فأنه قد قتل العشرات منهم قبله‪ ،‬ماذا أذن ؟!‬

‫عمر‪ ..‬هل أنت بخير ؟!‪ ،‬أيمكنني مساعدتك ؟!‬

‫نظر إليها وكأنه للتو الحظ وجودها‪ ..‬ينظر إليها بصمت دون حر ٍ‬
‫اك حتى‪ ،‬جلست هي األخرى مستندةً على‬
‫قليال ‪ ،!..‬سمعت صوت اآلذان‪ ..‬نظرت لساعتها‬
‫الحائط تنتظره يتكلم‪ ،‬فجأة فتحت عينيها‪ ..‬يبدو أنها قد غفت ً‬
‫فجرا‪ ..‬يبدو أنها قد نامت وليست مجرد غفوة‪ ..‬الحظت عدم وجود عمر بجانبها كما كان قبل‬
‫فوجدتها الرابعة ً‬

‫‪194‬‬
‫عِ ضين‬
‫أن تنام‪ ..‬التفتت حولها لتجده في الشرفة‪ ،‬وقفت بجانبه‪ ..‬بدا عليه الهدوء وتدارك األمر لكن مازال األرهاق باديًا‬
‫عليه‪ ،‬التفت إليها وسألها ‪...‬‬

‫منذ متى وأنا هنا ؟!‪ ،‬وأين بقية زمالئي ؟!‬

‫كنت محظوظة‬ ‫ٍ‬


‫لمكان بعيد‪ ،‬في حقيقة األمر ُ‬ ‫من عصر يوم أمس تقريبًا‪ ،..‬لقد فقدت وعيك ولم أستطع حملك‬
‫ضا لكنه مازال كافيًا لنحتمي فيه‪..‬‬
‫بتواجد هذا المبنى هنا‪ ،‬لقد نالت منه الطائرات أي ً‬

‫أما عن سؤالك عن باقي زمالئك فأظن بأن الجميع أختفى فجأة‪ ..‬ربما ظنوا أنك ميت ورحلوا‪..‬‬

‫أغمض عينيه للحظات ثم فتحهما وتحسس الجروح التي ملئت وجهه‪ ،‬فأكملت هي كالمها‪..‬‬

‫لقد أسعفتك على قدر أستطاعتي‪..‬‬

‫لحظات صمت ثم عاد ليسألها من جديد‪..‬‬

‫أيمكنني معرفة من ِ‬
‫أنت ؟!‬

‫لقد نسيت أن تخبره بذلك‪..‬‬

‫حسنًا‪ ..‬أنا ماريان من شبكة قنوات الـ " ‪ " BBC Arabic‬وجئت لهنا لتغطية بعض األخبار ولكنني فقدت‬
‫ضا‪ ..‬ال أعرف أين ذهبوا ‪..‬‬
‫طاقمي أنا أي ً‬

‫مجددا‪ ..‬بدا أن ذهنه سيعود ثانية للشرود‪ ،‬عقد حاجبيه ثم سألها ‪..‬‬
‫ً‬ ‫نظر أمامه‬

‫لماذا قمتي بأنقاذي ؟!‪ ،‬أنا لم أطلب ِ‬


‫منك ذلك ؟!‬

‫بدا عليها الدهشة من تحوله في الكالم فجأة‪ ،‬أرتبكت بسبب الحدة التي يسألها بها‪..‬‬

‫كان سيتم قتلك من ذلك األحمق‪ ..‬فقمت بأنقاذك‪..‬‬

‫التفت إليها وقد الحظت هي عقد حاجبيه‪..‬‬


‫‪195‬‬
‫عِ ضين‬
‫لكنني لم أطلب ِ‬
‫منك ذلك ‪..‬‬

‫عقدت حاجبيها هي األخرى وأظهرت تحدي في الكالم معه بعد أن وجهت أصبعها نحوه‪..‬‬

‫ليكن لديك فكرة‪ ..‬هذا ليس السبب الوحيد‪ ،‬أنقذتك ألنه لو تم قتلك سأكون أنا التالية‪ ،..‬أنقذتك ليتم أنقاذي‬
‫أنا األخرى‪..‬‬

‫اج يسمح له بالتشاجر معها ‪...‬‬


‫ظهر على وجهه التأثر‪ ..‬لم يكن بمز ٍ‬

‫علي أن أشكرك‪..‬‬
‫آسف‪ ..‬لم أقصد مضايقتك‪ ،‬كان يجب ّ‬
‫تبدو عليها الحيرة في أمره‪ ..‬هل تعامله بلطف أم بغلظةً وتحدي ؟!‪ ،‬كيف تتم معاملة هذا الشخص على أية‬
‫حال‪..‬‬

‫حسنًا‪ ..‬ال مشكلة‪ ،‬المهم أنك بخي ٍر اآلن‪ ،‬هل يمكنني سؤالك عن شيء ؟!‬

‫التفت إليها ثم هز رأسه أيجابًا‪ ،‬سألته هي ‪..‬‬

‫نوعا ما ‪!..‬‬
‫ما سبب تواجدكم هنا في العراق ؟!‪ ،‬يبدو األمر غريبًا ً‬

‫لم يجيبها عمر‪ ،‬أكملت هي كالمها‪..‬‬

‫عندما علمت بأمر أشتباككم مع عناصر تنظيم داعش تعجبت من األمر ال سيما بعدما علمت بأنكم مصريين‪..‬‬

‫رد عليها بجفاء‪..‬‬

‫سيطول األمر كي أشرحه‪ ..‬ستعرفين الح ًقا ‪...‬‬

‫يوم جديد‪ ،‬لكن يبدو بأن األرض أعترضت عن صفاء السماء‬‫كانت السماء صافية حين أعلنت عن قدوم شروق ٍ‬
‫فقررت الترحيب بضيو ٍ‬
‫ف آخرين ‪ ،!..‬نظر كالهما بعي ًدا فوجدا سيارات نقل صغيرة تتجه نحوهم ‪ ،!..‬دخال‬

‫‪196‬‬
‫عِ ضين‬
‫ليختبئا ثم نظرا خلسةً من وراء حائط الشرفة فوجدا تلك السيارات تقترب بشدة من المبنى وأستقرت عند‬
‫المدخل‪ ،‬نظر عمر وماريان لبعضهما في توتر‪ ،‬سألها‪..‬‬

‫أين السلم‪ ..‬؟!‬

‫أشارت لهذا الدرج الذي يبعد عنهما أمتا ٍر قليلة‪..‬‬

‫من هنا حين نقلتك لهنا‪ ،‬هل سنهرب‪ ..‬؟!‬

‫ماذا يبدو األمر برأيك ؟!‬

‫التفت حوله ثم سألها ‪...‬‬

‫هذا السلم فقط‪ ..‬؟!‬

‫أنا لم أبحث عن آخر‪..‬‬

‫حضرته فكرةً سريعة‪..‬‬

‫هيا أتبعيني بسرعة ‪...‬‬

‫تبعته وهي ال تعلم ما يدور بذهنه‪ ،‬كيف سيهرب من نفس المدخل الذي سيصعدون هم نحوه‪..‬‬

‫لكن من أخبرك أنهم آتون ألجلنا‪ ..‬أو ألجلك تحدي ًدا ؟!‬

‫التفت إليها‪..‬‬

‫لماذا برأيك وقفوا عند مدخل هذا المبنى بالذات ؟!‬

‫تحركا بسرعة ناحية السلم الوحيد التي تعرفه‪ ..‬فكرت في كيفية الهرب من هؤالء من هذا السلم‪ ..‬لقد بدأت‬
‫تشك بقواه العقلية ‪..‬‬

‫‪197‬‬
‫عِ ضين‬
‫في األسفل وعند مدخل المبنى وقفت سيارتين نقل صغيرة‪ ،‬نزل من األولى شخصين يرتديان جلبابًا بيِض وعليها‬
‫جهازا السلكيًا ‪...‬‬
‫سترات رمادية وكأنهم من بدو سيناء‪ ،‬أخرج أحدهم ً‬

‫نعم سيدي‪ ..‬نحن في المكان المحدد‪ ،‬ستتم األمور بسرعة‪ ،‬قريبًا سيكونان أمامك ‪ ،...‬ال تقلق لن أدعهم يهربا‬
‫‪...‬‬

‫أغلق الالسلكي وأشار للبقية بأتباعه‪ ،‬أثنان منهم وقفا ليحرسا مدخل المبنى والبقية دخلوا المبنى لينجزوا المهمة‬
‫‪! ...‬‬

‫‪198‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-40-‬‬

‫كادت أنفاسهم أن تنقطع‪ ..‬لساعةً متواصلة ظال يركضا ليبتعدا عن المبنى قدر األمكان‪ ،‬عندما كانا في ذلك‬
‫لما واحد فقط ومدخل واحد لهذا المبنى يمكنهما الهرب‪،..‬‬
‫المبنى المهجور حضرته فكرةً سريعة‪ ..‬حتى بوجود ُس ً‬
‫ينزل الدرج ثم يختبئ وراء باب أحد الغرف القريبة من السلم في الطابق السفلي القريب من المدخل الوحيد لهذا‬
‫المبنى ليكون أسرع لهم الخروج من المبنى حين يقوم هؤالء الرجال بتفتيش الغرف سر ًيعا ثم يصعد هؤالء الرجال‬
‫للطوابق العليا ألستكمال البحث‪ ..‬حينها سيخرج هو وماريان من الغرفة وينزلون مباشرًة للطابق األرضي ويتمكنا‬
‫من الهرب‪..‬‬

‫فعال‪ ، ..‬أختبئا وراء باب غرفة في الطابق الثاني وبعدما قام هؤالء الرجال بتفتيش‬
‫سارت األمور كما خطط عمر ً‬
‫الطابق الثاني سر ًيعا صعدوا للطابق الثالث ألستئناف البحث‪ ،‬حينها خرج عمر وماريان متخفيان من الغرفة‬
‫مسرعين ونزلوا الدرج بأتجاه المخرج الوحيد لهذا المبنى لكن لسوء الحظ فقد وجدا رجلين على باب المدخل‪،‬‬
‫مجددا‪ ..‬أسرع أحد الرجلين خلفهما‬
‫ً‬ ‫وعندما الحظهما الرجلين حاوال أيقافهما ولكن عمر وماريان أسرعا للصعود‬
‫وهو يمسك بهاتف أرسال ليخبر اآلخرين بأنه يطارد الهدف وهم اآلن بأتجاههم فيما بقي الرجل اآلخر واق ًفا عند‬
‫مجددا‪..‬‬
‫ً‬ ‫المدخل لعلهم يفكرون في الهرب من هنا‬

‫عندما وصل عمر وماريان للطابق الثاني وجدا الرجلين ينزالن من الطابق الثالث وقد ألتقيا عند في منتصف السلم‬
‫ما بين الطابقين‪ ..‬لقد تم محاصرتهم‪ ، ..‬تراجع عمر وماريان بسرعة تجاه نفس الغرفة التي أختبئا فيها منذ قليل‬
‫ضا‪ ،‬نزل الرجالن بسرعة حتى ألتقوا‬
‫وبدون تفكير فتح عمر النافذة وأمر ماريان بالقفز ورائه بسرعة وبدون تفكير أي ً‬
‫جميعا وركبا السيارة للحاق بهما حين ركض الهدف في تلك الشوارع خلف هذا المبنى‪ ،..‬ظلت‬
‫بالثالث ونزلوا ً‬
‫السيارات تطاردهم في الشوارع الجانبية ذات الطرقات الوعرة‪ ،‬لحسن الحظ لم تكن تلك الشوارع تصلح أن‬
‫فعال منهم‪ ،..‬اآلن هما تآئهان في ضواحي هذه المدينة يسيران‬
‫تسير تلك السيارات فيها‪ ،‬لقد تمكنا من الهرب ً‬
‫ببطئ شديد بعد أطمئنا على هروبهما من هؤالء األوغاد الذين كانوا يطاردوهم‪ ،‬سألته ماريان وهي مازالت تلهث‪..‬‬

‫ماذا علينا أن نفعل اآلن ؟!‬

‫‪199‬‬
‫عِ ضين‬
‫مفكرا‪..‬‬
‫صمت عمر للحظات ً‬

‫أوال ثم نفكر ماذا نفعل ‪..‬‬


‫ال أعلم‪ ،‬ربما علينا أن نحيا ً‬

‫ابتسمت بأستهجان‪..‬‬

‫ال نعلم حتى إلى أين نسير ‪!..‬‬

‫التفت إليها عمر وهما يسيران‪..‬‬

‫ِ‬
‫علمت إلى أين نسير ثم أكتشفتي أن ما‬ ‫إلى المجهول‪ ..‬إلى الال شيء نعرفه‪ ..‬أصبحت أُفضل المجهول‪ ،‬ماذا لو‬
‫نسير إليه هو الهالك بعينه ؟!‬

‫قليال فأجابت بمنطق‪..‬‬


‫فكرت ماريان ً‬

‫سأتوقف‪..‬‬

‫و بعدها ‪ ...‬؟!‬

‫سأفكر في خطوتي التالية‪..‬‬

‫فعال وكانت النتائج كارثية ‪!..‬‬


‫حسنًا‪ ..‬ربما عليكي أن تتوقفي اآلن وستري ما سيحدث بعدها‪ ،‬أنا جربت هذا ً‬

‫ساد بينهما الصمت للحظات وهما يسيران إلى الال مكان‪..‬‬

‫معا لحين أن نجد طاقمي ثم ستهرب معي‪..‬‬


‫لكن يوجد أستثناء واح ٌد هنا‪ ،‬أنا مضطرة ألستكمال الطريق ً‬

‫ما الذي يجعلك مض ـ‪..‬‬

‫قطع حديثهما ذلك األضطراب الحادث في نهاية الشارع ورائهم‪ ..‬التفتوا بذعر بأتجاه ما يحدث‪ ،‬في لحظة ساد‬
‫األضطراب المكان كله‪ ..‬بدا على الجميع الفزع والخوف والهرب من شيء ما ‪ ،!..‬سيار ٍ‬
‫ات مجهولة تطلق النار‬ ‫ٌ‬
‫على المارة عشوائيًا والكثير يسقط والجميع ال يعرف شيئًا سوى الهرب اآلن‪ ،‬تدافع عمر وماريان وسط الناس‬
‫‪211‬‬
‫عِ ضين‬
‫هاربين معهم‪ ..‬الجميع يهرب حيث الالجهة مذعورين ‪ ، !..‬وعندما وصل عمر لمفترق طريق التفت ليمسك‬
‫صدم حين لم يجدها بجانبه أو حوله على األقل‪ ،‬التفت حوله ليبحث عنها جي ًدا وسط هذا الحشد‬
‫بماريان لكنه ُ‬
‫المتدافع‪ ..‬السيارات التي تطلق النار تقترب أكثر فأكثر‪ ،‬لم يستطع مقاومة تدافع الناس‪ ..‬دفعه الناس معهم إلى‬
‫أخيرا‪ ..‬تقف حائرة يملؤها القلق‬
‫اليسار وعندما حاول المقاومة وقف مرةً أخرى ليبحث عنها‪ ،‬ها هي‪ ..‬لقد رأها ً‬
‫والخوف والذعر في مقدمة الشارع األيمن لمفترق الطريق تبحث عنه‪ ..‬حاول عمر أن يناديها لكنه لم يتذكر‬
‫مجددا وجد عمر أن‬
‫ً‬ ‫أسمها ‪ ،!..‬لحسن الحظ فقد عثرت عليه هي األخرى‪ ،‬وعندما أستعدا ليقتربا من بعضهما‬
‫مثال ولكن الرصاصة كانت في طريقها‬
‫قتيال كان بجانبه‪ ..‬بالطبع لم يقصد هذا الرجل أن يفاديه ً‬
‫شخصا ما سقط ً‬
‫ً‬
‫لعمر وهذا الرجل كان يهرب كالجميع‪ ..‬مر بجانب عمر بذعر ولسوء حظه كانت الرصاصة من نصيبه ‪!..‬‬

‫عندما وجد عمر أنه من المستحيل أن يقتربا من بعضهما أكثر من ذلك السيما بعد أقتراب تلك السيارات‬
‫منهم‪ ..‬أشار إليها لذلك المبنى المهجور ورائها لتختبئ به وهي قد فهمت ذلك من أشاراته‪ ،‬كانت السيارات قد‬
‫ٍ‬
‫بشكل ُمخيف‪..‬‬ ‫وصلت تقريبًا لهذا المفترق مع سقوط الناس قتلى‬

‫فعال في هذا المبنى والصعود ٍ‬


‫لطابق أعلى لترى ما يحدث ‪ ،!..‬ماذا سيفعل عمر ؟!‬ ‫تمكنت ماريان من األختباء ً‬
‫هل سيضحي بنفسه ؟! يا ألهي‪ ..‬لقد توقفت تلك السيارات‪ ..‬لماذا يقتلون الناس هكذا ؟!‪ ،‬حاولت تدارك األمر‬
‫ضا لكن عندما رأته وهو‬
‫ممددا على األرض‪ ..‬للحظة ظنت أنه قد قُتل أي ً‬
‫ً‬ ‫لكنها فجأة فُزعت عندما رأت عمر‬
‫يحاول أن يخفي وجهه تحت جثة أحدهم‪ ..‬فهمت أنه يحاول أن ي ّدعي أنه ميت‪ ،‬بعد لحظات كان الشارع هادئًا‬
‫تماما ولو‬
‫وتوقف أطالق النار‪ ..‬ببساطة ألن كل من كان في الشارع قد قُتل ‪ ،!..‬صحيح أن عمر لم يعد يتحرك ً‬
‫يل جيد فهي تأمل بأن يظل هكذا حتى يرحل هؤالء األوغاد ‪...‬‬
‫حركة بسيطة لكنه تمث ٌ‬

‫عرا فأطلقت صرخةً مكتومة كادت‬


‫فجأة ظهرت سيارات حفر عمالقة وبدأت تحفر حفرةً ما ‪ ،!..‬أتسعت عيناها ذُ ً‬
‫بها أن تكشف عن مكانها‪ ،‬سيتم دفن الجميع‪ ..‬عمر سيُدفن حيًا ‪!..‬‬

‫سمع أحدهم صوتًا ما رغم علو الصوت المزعج لتلك السيارات الحفارة‪ ..‬التفت ورائه باحثًا عن مصدر الصوت‬
‫لكنه لم يجد شيئًا‪ ..‬ح ّدث نفسه بأنه ربما يتخيل‪ ،‬بعد دقائق أنتهت تلك السيارات من حفر حفرةً كبيرة ولتكتمل‬

‫‪211‬‬
‫عِ ضين‬
‫جرت تلك الحفارات القتلى وألقت بهم في تلك الحفرة ثم بعدها ُردمت الحفرة ‪!..‬‬
‫الوحشية وعدم األنسانية‪ّ ..‬‬
‫وغادروا المكان بعدها ‪...‬‬

‫كانت تبكي بحرقة وتصرخ بصمت‪ ..‬كان ما يحدث أمامها مر ًيعا‪ ..‬عمر ُدفن حيًا ودقائق وسيموت من كانت‬
‫ٍ‬
‫ساعات قليلةً فقط إال أنها أحبته وأطمأنت إليه‪ ..‬ال‬ ‫تحتمي به في هذه البلدة‪ ،‬صحيح أنها لم تعرفه سوى من‬
‫تعرف لماذا وكيف تم ذلك ‪!..‬‬

‫‪212‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-42-‬‬

‫كان هناك أح ًدا ما يجثو على ركبتيه‪ ..‬لقد رأته آسية ‪ ، !..‬كان يبدو وكأنه في مأذق أو يحتاج لمساعدة‪ ،‬أقتربت‬
‫منه وهي تتحامل على عكازيها وصدمها ما رأت ‪ ،!..‬أزدادت ضربات قلبها أضطرابًا‪ ..‬مستحيل‪ ..‬أنه هو‪ ..‬عمر‬
‫؟!‬

‫عمر ‪ ،!..‬أهذا أنت ؟!‬

‫التفت إليها ونظر إليها‪ ،‬كان يتصبب عرقًا‪ ..‬يبدو متعبًا‪..‬‬

‫ٍ‬
‫بشكل مذهل ‪!..‬‬ ‫آسية‪ ..‬؟!‪ ،‬يبدو ِ‬
‫بأنك قد تعافيتي تقريبًا ‪ ،!..‬تتطورين‬

‫قالها وهو يجبر نفسه على األبتسامة‪ ،‬يتنفس بصعوبةً بالغة‪ ،‬أقتربت منه وتركت عكازيها وجثت هي األخرى على‬
‫ركبتيها‪ ..‬أربتت على كتفه‪..‬‬

‫عمر‪ ،..‬هل أنت بخير ؟!‪ ،‬تبدو متعبًا ‪!..‬‬

‫بدأ عمر بالسعال ووجهه يزداد عرقًا وكذلك نَفسه الذي يزداد صعوبة‪..‬‬

‫أشعر باألختناق‪ ..‬ال أستطيع التنفس ‪!..‬‬

‫تناست آسية ألمه وظهرت أبتسامةً خفيفةً على وجهها‪..‬‬

‫حلما‪ ،‬أنت مازلت حيًا‪ ،‬أليس كذلك ؟!‬


‫أذن هذا حقيقي ‪ ،!..‬أنا ال أتوهم ذلك وهذا ليس ً‬

‫خرت قواه بالكامل وسقط بكامل جسده على األرض‪ ..‬حاول أن يخرج الكالم‪..‬‬

‫لم أُقتل حينها‪ ،‬لكن يبدو أن نهايتي اآلن ‪!..‬‬

‫بدأت آسية تتدارك المأذق الذي يمر به عمر‪..‬‬

‫‪213‬‬
‫عِ ضين‬
‫ال تتركني يا عمر‪ ،..‬قاوم أرجوك‪ِ ،‬عش ألجلي ‪..‬‬

‫بدأ يفقد وعيه تدريجيًا ‪..‬‬

‫عديني أن تستكملي عالجك‪ ،‬أفعلي هذا من أجلي‪..‬‬

‫بدأت الدموع تهرب من عينيها‪..‬‬

‫حاال‪..‬‬
‫أع ُدك‪ ..‬واهلل سأفعل‪ ،‬لكنك ستحيا ألجلي يا عمر‪ ،‬قاوم أرجوك‪ ..‬سأحضر المساعدة ً‬

‫حاولت مساعدته لكنه فقد وعيه بالكامل‪ ،‬صرخت آسية طالبةً النجدة‪..‬‬

‫ساعدووووني‪ ،..‬أرجوكم ساعدوني‪..‬‬

‫وضوحا‪ ،‬نظرت حولها لتعرف‬


‫ً‬ ‫سمعت صوتًا ال تعرف مصدره ‪ ،!..‬صوتًا يشبه البكاء أو النحيب‪ ..‬الصوت يزداد‬
‫أساسا ما هذا المكان‪ ..‬يتضح الصوت وكأن أحدهم يتكلم في المذياع‪..‬‬
‫مصدر الصوت لكنها ال تعلم ً‬

‫عمر‪ ..‬أين أنت ؟!‪ ،‬أريد أنقاذك يا رجل ؟!‬

‫حاولت آسية أن تحركه‪..‬‬

‫عمر‪ ..‬عمر‪ ،..‬تحرك أرجوك‪ ،‬هناك من يسعى ألنقاذك ‪!..‬‬

‫فتحت عينيها ببطئ شديد ‪ ،‬كانت الصورة مشوشة ثم تتضح بالتدريج‪ ..‬ثم والدتها‪..‬‬

‫ِ‬
‫سالمتك يا آسية‪ ،..‬هل أنتي بخير ؟!‬ ‫حم ًدا هلل على‬

‫ٍ‬
‫بصوت منخفض ج ًدا‪..‬‬ ‫تمتمت آسية‬

‫عمر‪ ..‬عمر يا أمي‪..‬‬

‫‪214‬‬
‫عِ ضين‬
‫سكتت آسية للحظات جعلت فيهم والدتها تتساءل‪ ،‬عمر‪ ..‬ما شأن عمر اآلن ؟!‪ ،‬هل كانت تحلم به ؟!‪ ،‬بدا أن‬
‫لغزا‪ ،..‬في البداية قالوا أنه قد قُتل ثم ظهر في الفيديو ثم أن زمالئه لم يروا الفيديو ولم‬
‫موضوع عمر ذاك سيكون ً‬
‫يروا جثته كذلك‪ ..‬وكذلك هي تحلم به اآلن ‪ ،!..‬عادت آسية لتتمتم من جديد‪..‬‬

‫عمر يا أمي‪ ..‬لم يمت !‬

‫ح ّدقت بها والدتها مندهشة‪..‬‬

‫عمر في ٍ‬
‫مأذق يا أمي‪ ،‬أنجدوه أرجوكم‪..‬‬

‫بدا أن كالم أبنتها متواف ًقا مع ما يحدث اآلن رغم غرابته‪ ،‬أيعقل أن عمر لم يمت بعد ؟!‪ ،‬حاولت والدتها‬
‫تهدئتها‪..‬‬

‫سأفعل‪ ..‬سأطلب المساعدة‪ ،‬أهدئي فقط‪..‬‬

‫غابت عن الوعي مرة أخرى ‪ ،!..‬تسارعت األفكار في عقل والدتها‪ ..‬لقد سمعت قبل ذلك عن شيء يسمى‬
‫صحيحا فأنه وبطريقةً ما‪ ..‬تواصلت آسية مع عمر وعلمت بأنه على قيد الحياة‪،‬‬
‫ً‬ ‫تواصل الخواطر ولو كان هذا‬
‫فكرت مرة أخرى‪ ..‬ربما يكون هذا مجرد هذيان‪ ،‬لكنها أبعدت هذه الفكرة عن عقلها‪ ..‬تريد أن تتمسك باألمل‬
‫مجددا‪ ..‬لم يتم تأكيد خبر وفاة عمر بعد‪ ..‬وربما يكون في مأذ ٌق ح ًقا‪..‬‬
‫ً‬

‫عزمت والدة آسية على التحدث مع مصطفى وتستفسر منه على كل شيء‪ ،‬الوقت بدأ يلفظ أنفاسه األخيرة‬
‫تماما‪ ،‬تحركت بأتجاه الباب لكن حدث شيئًا لم يكن في الحسبان ‪!..‬‬
‫معها‪ ..‬أوشكت على الرحيل ً‬

‫أرضا دون أن يفهم الطبيب الذي فحص آسية منذ قليل أو نادية الممرضة‬
‫فجأة سقطت والدة آسية هي األخرى ً‬
‫تماما‪..‬‬
‫مجددا لكن يبدو أنها قد أُغشي عليها ً‬
‫ً‬ ‫ما الذي حدث‪ ..‬حاولت نادية أن تساعدها على النهوض‬

‫‪215‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-49-‬‬

‫يوما أنها قد تُنقب بين الجثث باحثةً عن ميت ‪ ،!..‬كانت‬


‫كانت تبكي‪ ..‬كانت تتألم بكل جوارحها‪ ،‬لم تتخيل ً‬
‫تلك الحفارات قد قطّعت الجثث أثناء دحرجتها للحفرة أو ما تستطيع اآلن أن تسميها " المقبرة الجماعية "‪..‬‬
‫كانت تزيح رأس أحدهم مرة والمرة األخرى تزيح ي ًدا‪ ..‬حاولت التقيؤ بسبب بشاعة ما تراه لكن ليس هناك في‬
‫أصال‪ ،‬كانت تتيقن أنها تبحث عن جثة عمر وليس عن عمر بحد ذاته‪ ..‬فلقد مضى على‬
‫جوفها ما يجعلها تتقيئ ً‬
‫دفنه حيًا قرابة النصف ساعة ‪!..‬‬

‫أخيرا كانت أنفاسه قد أنقطعت كما هو المتوقع وفي محاولةً بائسة منها مسكت معصمه‬
‫عندما عثرت عليه ً‬
‫لتتحسس نبضه‪ ..‬شعرت ٍ‬
‫بنبض خفيف‪ ،‬تسلل األمل إليها في أنه قد يكون حيًا‪ ،‬وضعت رأسها على صدره‬
‫فرحا ونسيت بشاعة ما هي متواجده فيه‬ ‫ٍ‬
‫وبالكاد كان قلبه ينبض نبضات متباعدة‪ ،‬تسارعت نبضات قلبها هي ً‬
‫حاليًا‪ ..‬وعلى الفور قامت ماريان بأخراج عمر من تلك المقبرة وبسرعة قامت بعمل تنفس صناعي له ثم ضغطت‬
‫أخيرا عن أدخال الهواء لصدره مرةً أخرى ‪..‬‬
‫على صدره بقوة‪ ،‬بدأ عمر بالسعال معلنًا ً‬

‫مجددا‪ ،‬قامت‬
‫ً‬ ‫كان عليهما أن يبتعدا عن تلك المقبرة ألنه من المؤكد بأن ذلك التنظيم األرهابي سوف يعود لهنا‬
‫ماريان بسحبه لذلك المبنى الذي أختبأت فيه منذ قليل‪ ،‬حل الغروب ومازال عمر في حالة ٍ‬
‫غياب عن الوعي‪،‬‬
‫كانت تفكر في بداية األمر عن سبب زحام المدينة في ٍ‬
‫ساعة مبكرة كهذا من اليوم لكنها أكتشفت األجابة بعدها‬
‫بساعات ‪!..‬‬

‫قليال حول المنطقة‪ ،‬الحظت‬


‫بعدما أخرجت عمر من المقبرة وخبأته في هذا المبنى المهجور عزمت على التجول ً‬
‫أن هناك في أحد الشوارع القريبة عربات ٍ‬
‫نقل كبيرة ممتلئة بمساعدات غذائية وقد تجمع سكان هذه المدينة‬
‫للحصول على هذه المساعدات‪ ،‬اآلن فهمت سبب زحام المدينة منذ صباح اليوم‪ ..‬كانوا ينتظرون قوافل‬
‫شيء‬
‫المساعدات‪ ،‬عزمت هي األخرى في الحصول على واحدة لتملئ معدتها الفارغة هي وعمر الذي لم يأكل ٌ‬
‫ضا منذ يومين تقريبا‪ ،..‬لكن ما جعلها تهرب باألتجاه اآلخر هو أنها قد الحظت سيار ٍ‬
‫ات قادمة من بعيد‪ ..‬تلك‬ ‫أي ً‬
‫ً‬
‫السيارات كانت مشابهة لتلك التي قامت بالمجزرة منذ قليل ‪ ،..‬أنه تنظيم داعش مرًة أخرى‪ ..‬رأتهم حين قاموا‬

‫‪216‬‬
‫عِ ضين‬
‫باألستيالء على هذه القوافل وقاموا بمجزرةً أخرى ‪ ،!..‬ح ينها هربت ماريان تجاه هذا المبنى المهجور بسرعة‬
‫لألطمئنان على عمر ولحسن الحظ كان ما يزال عمر يغط في ٍ‬
‫نوم عميق‪..‬‬

‫جذب أنتباهها تحرك عمر‪ ،‬كان ال يستطيع أن يرفع رأسه‪ ..‬كلما رفعها سقطت مرًة أخرى ويغمض عينيه بشدة‬
‫متأثرا ٍ‬
‫بألم في رأسه‪ ،‬فتح عينيه بصعوبة بعد مساعدة ماريان له ألستعادة وعيه‪ ..‬كان يحاول جاه ًدا أن يستعيد‬ ‫ً‬
‫ٍ‬
‫وبصوت‬ ‫تنفسه ووعيه بالكامل‪ ،‬التفت إليها هذه المرة وقد بدا عليه أنه سعيد هذه المرة‪ ..‬كان يفكر بسعادة‬
‫مسموع ‪..‬‬

‫آسية‪ ،..‬أنها بخير‪..‬‬

‫ظل عمر يردد هذه الجملة‪ ،‬حاولت ماريان أن تكون أمامه مباشرًة ‪..‬‬

‫عفوا ؟!‬
‫ً‬

‫أستند عمر على الحائط ورائه واألبتسامة تكاد ال تفارقه‪..‬‬

‫آسية‪ ..‬لقد تعافت تقريبًا‪ ،‬لقد رأيت ذلك ‪..‬‬

‫ماريان ال تفهم شيئًا ‪..‬‬

‫من تكون آسية ؟!‪ ،‬أختك ؟!‬

‫ضحك عمر ثم هز رأسه نافيًا‪..‬‬

‫ال ال‪ ..‬زوجتي فقط‪..‬‬

‫أرتسمت تعابير الدهشة على وجه ماريان‪..‬‬

‫زوجتك‪ ..‬؟!‪ ،‬أنت متزوج ؟!‬

‫بدا هو اآلخر متعجب من أندهاشها ذاك ‪!..‬‬

‫ما الغريب في هذا ؟!‬

‫‪217‬‬
‫عِ ضين‬
‫تبدو أصغر سنًا من أن تتزوج ‪..‬‬

‫أطلقت ضحكةً ساخرة ثم سألته‪..‬‬

‫مبكرا‪..‬‬
‫ذنب فعلت كي يتم أعتقالك ً‬
‫أي ٌ‬
‫مجددا ‪..‬‬
‫ً‬ ‫ابتسم عمر لمزاحها‪ ،‬ساد بينهما الصمت للحظات ثم قاطعته ماريان‬

‫أصال ؟!‬
‫كنت تتكلم عن أن زوجتك قد تعافيت‪ ،‬بماذا أصيبت ً‬
‫أُصيبت بشلل في حادثة‪ ،‬لكنني أقسم أنني رأيتها بخير‪ ..‬ولكن‪..‬‬

‫سكت عمر فجأة وهذا الصمت المفاجئ جعلها تنتظر كلمته التالية‪..‬‬

‫و لكن ماذا ؟!‬

‫لم تكن مسرورة‪ ..‬ما معنى هذا ؟!‬

‫يا رجل‪ ..‬أنه مجرد حلم‪ ،‬كفى أن اهلل قد طمئنك عليها‪ ،..‬فقط هي ربما تكون حزينة ألنك بعي ٌد عنها ‪..‬‬

‫قليال ‪..‬‬
‫فكر في كالمها ً‬
‫آمل ذلك‪..‬‬

‫عقدت ذراعيها وأضافت تعابير المزاح على وجهها ‪...‬‬

‫مدين لي مرتين ‪..‬‬


‫علي أنقاذك ؟!‪ ،‬أنت ٌ‬
‫و اآلن أخبرني‪ ..‬كم مرًة ّ‬
‫كانت ترى أن أبتسامته رائعة‪ ،‬كانت ستختفي أبتسامته تلك لألبد مرتين خالل يومين ‪ ،!..‬أسندت ظهرها للحائط‬
‫ٍ‬
‫بصوت مسموع‪..‬‬ ‫ضا بجانبه وراحت تفكر‬
‫أي ً‬
‫من يصدق أنني على مدار يومين كاملين لم أنم سوى ساعةً واحدة فقط ‪ ،!..‬جائعة ومتعبة ج ًدا‪ ..‬يا ألهي ‪.‬‬

‫على ِذكر الجوع‪ ..‬بطني تصدر قرقرة‪ ..‬أال يوجد ما نأكله ؟!‬

‫هزت رأسها نافية‪..‬‬


‫لألسف ال‪ ..‬كنت سأتمكن على الحصول على ٍ‬
‫طعام لكنني فشلت‪..‬‬

‫‪218‬‬
‫عِ ضين‬
‫شعر عمر بالخجل‪ ..‬أذ من المفترض أنه يقوم برعاية تلك الفتاة‪ ..‬عليه أن يتصرف كرجل‪ ..‬لكن أين‪ ..‬هنا‪ ..‬هنا‬
‫في العراق ؟!‪ ،‬قاطع تفكيره أقتراحها بمساعدته للنهوض‪ ،‬مدت إليه يدها ‪..‬‬

‫طويال ؟!‪ ،‬هيا‪ ..‬علينا األبتعاد عن هنا‪ ،‬علينا بالبحث عن الطعام‪..‬‬


‫هل سنمكث هنا ً‬
‫و كيف سنبحث عن ٍ‬
‫طعام يا ‪..‬‬

‫سكت فجأة وقد فهمت ماريان أنه لم يتذكر أسمها‪..‬‬

‫رجاءا‪ ..‬أنه سهل‪ ،‬هيا هيا‪..‬‬


‫ماريان‪ ..‬أحفظ هذا األسم ً‬
‫خرجا من المبنى متسللين بال جهة‪ ..‬سارا في الطرقات ٍ‬
‫لوقت لم يحسباه‪ ،‬توقف عمر فجأة وكأنه قد تذكر شيئًا‪،‬‬
‫التفت لماريان عاق ًدا حاجبيه في عدم فهم ‪..‬‬
‫أصال ؟!‪ ،‬أنا كنت ِ‬
‫معك‬ ‫أنتظري هنا‪ ..‬لقد أخبرتيني ِ‬
‫أنك ِ‬
‫كنت على وشك الحصول على طعام ‪ ،!..‬متى كان هذا ً‬
‫طوال الوقت ‪!..‬‬

‫قبل أن تجيب هي كان هو قد أجاب نفسه‪ ..‬بالتأكيد عندما كان مغشيًا عليه‪ ،‬لكنه تساءل عن سبب أغمائه من‬
‫األساس !‪ ،‬كان يحاول تذكر األمر غير مستمع لكالم ماريان‪ ..‬سمعها عندما عاد من شرود عقله ‪...‬‬

‫‪ ..‬لكن أليس من الغريب أنك تقوم بالتمثيل وتستمر به رغم أنك ترى نفسك تُدفن؟!‪ ،‬كيف لم تنكشف ؟!‬

‫حدق بها في عدم فهم‪..‬‬

‫من الذي تم دفنه ؟!‬

‫ممثال في هوليود‪..‬‬
‫عموما تصلح أنك تكون ً‬
‫ال تقل لي أنك لم تُمثل ‪ً ،!..‬‬
‫مازال لم يستوعب األمر‪ ..‬تمثيل‪ ..‬دفن‪ ..‬ماذا حدث أذن ؟!‪ ،‬أستوقفها ليفهم ما حدث‪..‬‬

‫في حقيقة األمر أنا ال أفهم شيئًا يا ماريان‪..‬‬

‫فعال أنه ال يفهم شيئًا وشرحت له منذ أن أفترقا في صباح اليوم بسبب هجوم ذلك التنظيم حتى تم أفاقته‬
‫أحست ً‬
‫من الغيبوبة منذ قليل‪ ،‬منطقيًا ال يتم تصديق ذلك على األطالق‪ ..‬لكنه قد حدث بالفعل‪ ..‬لقد أغشي عليه بسبب‬
‫ٍ‬
‫لمسافات‬ ‫أختناقه تقريبًا من الجثة التي كان يختبئ تحتها ‪ ،!..‬على كل حال لقد نال منهم التعب بعدما ساروا‬

‫‪219‬‬
‫عِ ضين‬
‫أصال في هذه المدينة المهجورة‪ ،‬بادرت‬
‫جوعا وال شيء هنا يوحي بالحياة ً‬
‫طويلة في شوارع الموصل‪ ،‬تضوروا ً‬
‫ماريان بأقتراح‪..‬‬

‫لن أتحمل أكثر من ذلك‪ ،‬تعالى معي‪..‬‬

‫تقدمت خطوتان ألمام حتى أستوقفها عمر‪..‬‬

‫ألين‪ ..‬؟!‬

‫عقدت ماريان ذراعيها في أشارًة لألحتجاج‪..‬‬

‫أليست معدتك خاوية ؟!‬

‫أومأ عمر برأسه أيجابًا‪ ،‬ثم أكملت هي كالمها ‪...‬‬

‫أذن سنبحث عن طعام بأي وسيلةً ممكنة‪..‬‬

‫سوءا بالنسبة له‬


‫متسوال يبحث عن لقيمات يسد به جوعه‪ ،‬وما يزيد األمر ً‬
‫ً‬ ‫يوما بأنه سيكون‬
‫لم يكن يتصور عمر ً‬
‫مجددا عندما أشارت لعمر في نهاية هذه‬
‫ً‬ ‫مسؤال عن تلك الفتاة ماريان‪ ،‬قطعت ماريان تفكيره‬
‫ً‬ ‫هو أنه أصبح‬
‫أخيرا‪..‬‬
‫مأهوال بالسكان ً‬
‫الضاحية على شارع يبدو ً‬
‫حسنًا‪ ..‬سنطلب المساعدة‪ ..‬نحن غرباء والبد من أن هناك أح ٌد ما سيساعدنا‪..‬‬

‫تقدمت ماريان أمامه‪ ..‬أما هو فتبعها وهو يفكر في صياغة جملة قصيرة يقولها ألحدهم لطلب الطعام‪ ..‬يبدو األمر‬
‫منزل ما ظهرت الخيبة على وجه عمر ألن ماريان هي من قامت باألمر وليس هو‪ ..‬ليس هذا‬
‫مهينًا‪ ،‬وعند وصولهم ٌ‬
‫فعال‪ ،‬حسنًا‪ ..‬يبدو األمر مهينًا‬
‫فقط ‪ ،!..‬فقد أُغلق الباب في وجههم من األهالي وتمت معاملتهم كالمتشردين ً‬
‫ومخجال أيضاُ بالنسبة له‪..‬‬
‫ً‬
‫لكن لم يمنع ذلك ماريان من مواصلة هذا‪ ..‬صحيح أنها تشعر بالخجل لكنها مضطرة‪ ،‬هي مسألة حياة أو موت‬
‫بالنسبة لها‪ ..‬ال وقت للخجل اآلن ألنهم سيضطرون لفعل ذلك في النهاية‪ ،‬كان لديها أنطباع أولي عن عمر بأنه‬
‫ضلت أال تُشعره بذلك قدر األمكان‪..‬‬
‫نوعا ما لذلك ف ّ‬
‫خجول ً‬
‫وصال ٍ‬
‫لبيت في منتصف الشارع وتقدمت ماريان لطرق الباب‪ ،‬سمعا صوت فتا ًة صغيرة من الداخل‪..‬‬

‫من الطارق‪ ..‬؟!‬

‫‪211‬‬
‫عِ ضين‬
‫تنهدت ماريان وعزمت على تغيير طريقتها هذه المرة ‪..‬‬
‫هل ِ‬
‫والدك موجود ؟!‬

‫التفتت لعمر ورائها فهزت كتفيها بعدما رأت تحديق عمر بها‪ ،..‬لقد وضعته في مواجهة مع الرجل‪ ،‬سيكمل هو‬
‫الطريق أذن‪ ،‬فُتح جزءٌ صغير من الباب وظهر نصف وجه لفتاةً تبدو في مقتبل العشرينات ‪..‬‬

‫نائم اآلن‪ ،‬هل أوقظه‪ ..‬؟!‬


‫هو ٌ‬
‫كامال‪،‬‬
‫شعرت ماريان باألرتياح‪ ..‬هذه فتا ًة في نفس سنها تقريبًا وستعرف كيف تتعامل معها‪ ،‬فتحت الفتاة الباب ً‬
‫كانت فتاةً جميلة وكانت تبدو أصغر من أنها في مقتبل العشرينات‪ ،‬تنح عمر جانبًا فيما أستلمت ماريان تلك‬
‫مجددا‪ ..‬فتاةً صغيرة والبد وأنها ستتفهمها بالتأكيد‪..‬‬
‫ً‬ ‫المهمة‬
‫في الحقيقة نحن ال نعرف ِ‬
‫والدك‪..‬‬

‫التفتت ماريان حولها ثم عادت لتكمل للفتاة ما جاءت ألجله‪..‬‬

‫نحن غرباء عن هذه المدينة ووقعنا في مأذق‪ ،‬لم يعد لدينا ما نأكله و‪...‬‬

‫بدت الفتاة أنها لم تستمع لماريان‪ ..‬كانت تحدق بذلك الوجه المرتبك خلف ماريان‪ ،‬كانت تحدق بعمر‪ ..‬فجأة‬
‫مفتوحا‪ ،‬لم يفهما ما حدث للتو ونظرا لبعض في عدم فهم‪ ،‬التفتا وقررا‬
‫ً‬ ‫دخلت الفتاة مسرعة وتركت الباب‬
‫مهروال للحاق بهم ‪..‬‬
‫الرحيل‪ ..‬لكن فجأة خرج أحدهم من البيت ً‬
‫مهال ‪..‬‬
‫ً‬
‫التفتا ناحية الرجل‪ ،‬كان يحدق بعمر وكأنه ال يصدق ما يراه‪ ،‬سأله الرجل‪..‬‬

‫أنت عمر‪ ..‬أليس كذلك ؟!‬

‫عمر وماريان كالهما ال يفهمان ما يحدث ‪ ،!..‬من هذا الرجل وكيف عرف عمر ؟!‪ ،‬أومأ عمر برأسه أيجابًا دون‬
‫تفسيرا لما يحدث‪ ..‬كانت الفتاة تقف خلف أبيها على ما يبدو‪ ،‬عندما أومأ عمر برأسه فرحت الفتاة‬
‫ً‬ ‫فهم منتظر‬
‫‪...‬‬

‫ألم أخبرك يا أبي ؟!‪ ،‬أنه هو‪ ..‬عمر !‬

‫‪211‬‬
‫عِ ضين‬
‫فرح الرجل وكأنه قد رأى صدي ًقا عز ًيزا بعد ٍ‬
‫غياب طويل‪ ..‬على الفور قام بأزاحة نفسه من على الباب وأشار لعمر‬
‫ٍ‬
‫بشكل مريب‪ ..‬ينظر عمر وماريان لبعضهما في توجس‪ ،..‬أشار الرجل لهما‬ ‫وماريان بالدخول‪ ،..‬بدا مرحبًا بهم‬
‫بالجلوس فجلسا وقد تناسوا جوعهم بسبب هذا األرتباك‪ ،..‬جلس الرجل أمامهم وقد بدا عليه مرحبًا بعمر أكثر‬
‫‪!..‬‬

‫لشرف لي أن تكون هنا في بيتي‪..‬‬


‫ٌ‬ ‫أهال بك في بيتي يا بطل‪ ،‬أنه‬
‫ً‬
‫حدق عمر بالرجل وكأنه بدأ يدرك ما يعنيه الرجل‪ ،‬لم تستطع ماريان أن تصبر أكثر من ذلك‪ ،‬ما يجري اآلن خارج‬
‫نطاق الفهم كليًا‪..‬‬

‫سيدي‪ ..‬هل تعرف عمر ؟!‬

‫رد عليها الرجل بحماسة ‪...‬‬

‫و من في العالم ال يعرف ذلك الجندي البطل ؟!‬

‫ضا هذا نفس شعور‬


‫صحيحا ؟!‪ ،‬ستكون مصيبة‪ ..‬وكان أي ً‬
‫ً‬ ‫ذُعر عمر وتصبب منه العرق فجأة‪ ،‬أيمكن ما يفكر به‬
‫صحيحا‪ ،‬فكرت في أنهاء هذا الجدل والتوتر وعد‬
‫ً‬ ‫ماريان‪ ..‬لكن المفارقة هنا أنها تأمل أن ما تفكر فيه يكون‬
‫الفهم‪ ،‬سألته بوضوح ‪...‬‬

‫سيدي‪ ..‬ح ًقا نحن ال نفهم شيئًا‪ ،‬كيف عرفت عمر ؟! أو ربما يجدر بي سؤالك عن أن كيف العالم كله يعرف‬
‫عمر ؟!‬

‫تعجب الرجل من سؤال ماريان‪ ،‬شك في األمر لكنه شعر بأن هناك خطئًا ما ‪...‬‬

‫حسنًا‪ ،..‬العالم كله شاهد الفيديو‪..‬‬

‫للحظة تجمد عمر في مكانه‪ ..‬ذُعر وخاف من الفضيحة‪ ..‬كيف حدث هذا بالضبط ؟!‪ ،‬نظر لماريان التي كانت‬
‫بجانبه منذ لحظة‪ ..‬أنها ليست كذلك اآلن ‪ ،!..‬منذ أن سمعت ماريان أجابة الرجل وهي تقوم بحر ٍ‬
‫كات بهلوانية‬
‫ف ِرحةً بما سمعت‪ ،‬حسنًا‪ ..‬يبدو أنها هي ً‬
‫فعال من فعلت هذا‪ ،‬دار برأسه ما حدث حينها في لحظة‪ ،‬عمل الرجل‬
‫على تهدئة ماريان التي تكاد أن تلمس السقف‪..‬‬

‫‪212‬‬
‫عِ ضين‬
‫أذن يبدو ِ‬
‫أنك أنتي المراسلة ماريان التي قامت بتصوير الفيديو‪ ..‬لقد أنقذتيه عندما كاد أن يُقتل من ذلك‬
‫الداعشي ‪..‬‬

‫كانت ماريان غامرة في السعادة‪ ..‬لقد ظنت أن الكاميرا لم تعمل أو أن البث قد أنقطع‪..‬‬

‫‪ ،‬نظرت بساعتها ثم الحظت جهاز التحكم أمامها‪..‬‬

‫أرجوك‪ ..‬ما هو رقم قناة " ‪... " Exclusive news‬‬

‫القناة رقم ‪..85‬‬

‫كان اآلن هو ميعاد بث برنامج شيرين عبد النور‪ ،‬شكلت ماريان رقم القناة وأسرعت لتنصت للبرنامج‪ ،‬فجأة تنبه‬
‫الجميع ألنكسار عمر وعدم مشاركته الفرحة رغم أنه بطل الحدث‪ ..‬أقتربت إليه ماريان وحاولت أن تستنطقه ‪...‬‬

‫عمر‪ ..‬ماذا بك ؟!‬

‫حل به فجأة ‪،!..‬‬


‫عمر ينكس رأسه صامتًا دون كالم أو حركة‪ ،‬الجميع كان حوله وال يفهمون ما حدث أو ماذا ّ‬
‫فجأة تكلم عمر بنبرة يخالطها العتاب والحزن‪..‬‬

‫لماذا يا ماريان ؟!‪ ،‬لماذا أنقذتيني ثانيةً ؟!‬

‫بدا صوته أكثر عتابًا‪..‬‬


‫كان ِ‬
‫عليك أن تتركينني هذه المرة‪..‬‬

‫بدا على الجميع أنهم ال يفهمون شيئًا‪ ،‬بدأت شيرين عبد النور مقدمتها لبرنامجها الليلة ‪..‬‬

‫** برنامج شيرين‪..‬‬

‫يبدو أن أسرار هذا الفيديو لن تتوقف أب ًدا‪ ..‬وهذا ما جعله يتربع على عرش اليوتيوب هذا العام خالل يومين‬
‫فقط‪ ..‬حيث وصل عدد مشاهدات هذا الفيديو إلى ما يقارب الخمسمائة مليون مشاهد والعدد يزداد كل لحظة‪..‬‬

‫ضا‪..‬‬
‫تحول أي ً‬
‫فزعا كذلك‪ ،‬وقد يكون نقطة ٌ‬
‫سر جديد قد يكون هو األهم واألقوى‪ ..‬واألشد ً‬
‫ٌ‬

‫‪213‬‬
‫عِ ضين‬
‫كانت مقدمة شيرين تلك قد جذبت أنتباه الجميع‪ ..‬وكأن الجميع تيقنوا بأن لتلك المقدمة النارية وذلك السر‬
‫ِ‬
‫أرجوك‪..‬‬ ‫تحدي ًدا عالقة بحالة عمر الحالية‪ ،‬أما عمر فكان يعرف ما ستقوله شيرين‪ ..‬كان لسان حاله‪ ..‬ال تفعلي‬

‫أكملت شيرين‪..‬‬

‫باألمس عرضنا لحضراتكم معلومات تخص هذا الفيديو وأحد هذه المعلومات أن ذلك الجندي المصري أسمه "‬
‫عمر محسن عبد العال " وهو يشغل منصب صف ضابط أحتياط في الجيش المصري وهو أحد مساعدي اللواء‬
‫صفوت الدكروري المستشار العسكري المصري في الكتيبة المصرية التي شاركت في اليمن ‪..‬‬

‫سكتت للحظة وكأنها تفكر في الطريقة المناسبة التي ستعرض بها الخبر ‪..‬‬

‫و كما ه و المعروف في تلك الجماعات المتطرفة كتنظيم داعش األرهابي أن رجالها ال يستخدمون أسمائهم‬
‫مثال لعصر‬
‫أسماءا مستعارة أو ما نستطيع أن نسميها نحن " كنيات "‪ ..‬أسماء تعود ً‬
‫ً‬ ‫الحقيقية‪ ..‬بل يستخدمون‬
‫الخالفة األسالمية ‪...‬‬

‫كنية هذا الرجل الداعشي الذي قتله عمر هو " أبا عمار " وهو الرجل الثاني في تنظيم داعش‪ ،‬لكن هذا ليس‬
‫السر المفزع الذي سنقدمه لكم‪..‬‬

‫بدا على ماريان والرجل وأبنته التركيز الشديد مع مقدمة شيرين النارية‪ ..‬يبدو أن سر تلك الليلة مفاجأة من العيار‬
‫الثقيل‪ ،‬أما عمر فقد أستسلم للصمت‪ ،‬حان للحقيقة أن تنكشف ‪..‬‬

‫أكملت شيرين‪..‬‬

‫السر يكمن في األسم الحقيقي لهذا الرجل الداعشي البارز في التنظيم‪ ..‬أسمه هو ‪..‬‬

‫توقف العالم بأسره بالنسبة لعمر‪ ،‬أما الجميع فحدقوا بعمر غير مصدقين‪ ..‬مستحيل‪ ..‬مستحيل ما يحدث‪ ..‬ال‬
‫سيما ماريان التي شعرت وكأنها قد قتلت عمر بتصويرها لهذا الفيديو‪..‬‬

‫أكملت شيرين ‪...‬‬

‫أسمه هو‪ " ..‬أدهم محسن عبد العال‪" ..‬‬

‫‪214‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-51-‬‬

‫كان شريف وأيمن هما الوحيدان المتبقيان من هذا األجتماع األخير‪ ،..‬كان يبدو على شريف التعب‪ ..‬فهو لم‬
‫يغادر مكتبه منذ ثالثة أيام ‪ ، !..‬كان لديه تفاني في العمل غير طبيعي والبد أن يباشر على كل العمليات بنفسه‪..‬‬
‫فلقد تم أحباط عمليتا تفجير ليلة أمس في الساعات األخيرة كانت ستتم في محافظات الصعيد‪ ،..‬هذا باألضافة‬
‫لعملية خطف الجنود المصرية منذ أيام في اليمن‪ ،‬عندما الحظ أيمن األرهاق الشديد الظاهر جليًا على شريف‬
‫حاول أقناعه بالراحة ‪..‬‬

‫قليال ؟!‪ ،‬لن يجدي عملك هكذا ‪..‬‬


‫سيد شريف‪ ..‬لماذا ال ترتاح ً‬

‫ال يبدو على شريف أنه كان يسمعه‪ ،‬وضع يديه فوق رأسه ومال بظهره للوراء في شعوٍر تام باألرهاق‪ ،‬أعاد عليه‬
‫ضا لم يلقي أي أجابة‪ ،‬كان يبدو عليه التفكير أكثر من األرهاق ‪ ،..‬كرر أيمن ندائه‪..‬‬
‫أيمن أقتراحه بالراحة لكنه أي ً‬

‫سيد شريف‪ ،..‬فيم تفكر ؟!‬

‫أنتبه شريف هذه المرة‪ ،..‬مال لألمام هذه المرة متكئًا على منضدة األجتماع ويبدو عليه التفكير بأم ٍر ما‪ ،‬فكر في‬
‫أن يجعل أيمن يشاركه أفكاره‪..‬‬

‫هاما هناك‬
‫ما الذي جعل عمر يقتل أخاه ؟!‪ ،‬واألهم من ذلك‪ ..‬كيف وصل أخوه لتنظيم داعش بل وشغل منصبًا ً‬
‫في التنظيم ؟!‪ ،‬نحن نتكلم هنا عن ثاني أهم قيادي ألكبر التنظيمات األرهابية في العالم ‪!..‬‬

‫أجابه أيمن ‪..‬‬

‫مصدوما من رؤية أخاه في هذا المكان وكونه‬


‫ً‬ ‫لو أستعرضنا الفيديو مرًة أخرى سنجد أن عمر في البداية كان‬
‫داعشي‪ ،‬ربما قتله ألنه داعشي في النهاية‪..‬‬

‫هز شريف رأسه نافيًا ‪...‬‬

‫‪215‬‬
‫عِ ضين‬
‫صدم عمر عندما وجد أخاه المختفي منذ أعوام داعشي‪ ،‬لكنني ال أظن أنه‬
‫نصف كالمك األول صحيح‪ ..‬لقد ُ‬
‫قتاال‪ ..‬في البداية بدا على عمر األستسالم أو الصدمة من ضرب‬
‫قتله ألنه داعشي ‪ ،!..‬ال ال‪ ..‬لقد دار بينهما ً‬
‫أخيه له بهذه الطريقة‪ ..‬لم يكن ليريد أن يقاتل أخيه‪ ،‬وعندما نتكلم عن غريزة حب البقاء سنجد أن عمر وجد‬
‫ضا أن‬
‫نفسه على وشك الموت من ضربات أخيه المتتالية فتحركت نفسه للدفاع عنه دون أن يدري‪ ..‬لقد كاد أي ً‬
‫شخصا كاد أن يقتله‪ ،‬ضرب أخيه له جعله يفقد أعصابه‬
‫ً‬ ‫يُذبح ‪ ،!..‬لم يفكر حينها بأنه سيقاتل أخاه‪ ..‬كان يقاتل‬
‫ويقاتل أخيه ‪..‬‬

‫لم يقتنع أيمن بكالم شريف‪..‬‬

‫لكن ليس لدرجة قتل أخيه سيد شريف ‪!..‬‬

‫رد شريف بحدة ‪...‬‬

‫لقد كانت نية أخيه القتل يا أيمن‪ ،‬أنا ال أعلم كيف أستسلم عمر كل هذا الوقت‪ ..‬كيف لم يعمل دماغه على‬
‫تدخل تلك المراسلة ماريان لكان عمر هو المقتول‪ ،‬هل‬ ‫حماية نفسه عندما كاد أن يُقتل أول مرة ‪ ،!..‬ولوال ُ‬
‫تماما وأستلم هو األمر‬
‫أصال‪ ..‬؟!‪ ،‬لقد قام عقله بألغاء وعيه ً‬
‫ستصدقني لو قلت لك أن عمر لم يقصد قتل أخيه ً‬
‫بدال عن عمر ‪..‬‬
‫ً‬

‫أقترب شريف من أيمن ‪...‬‬

‫كرد فعل طبيعي قام دماغه بالدفاع عنه بألغاء فكرة أنه يُقاتل أخيه الذي وبالمناسبة كاد أن يقتله منذ قليل لوال‬
‫تدخل ماريان‪ ..‬هكذا كان دماغه وعقله يعمالن في تلك اللحظة‪ ،‬فهمت يا أيمن‪ ..‬؟!‬
‫ُ‬

‫ضا‪..‬‬
‫منطقي أي ً‬
‫ٌ‬ ‫سؤال‬
‫تحليال منطقيًا بعض الشيء‪ ،‬راوده ٌ‬
‫قليال بكالم شريف‪ ،‬يبدو ً‬
‫أقتنع أيمن ً‬

‫و أين هو اآلن ؟!‪ ،‬أظن بأنه لديه الكثير ليخبرنا به ‪..‬‬

‫‪216‬‬
‫عِ ضين‬
‫هز شريف كتفيه ال يعلم‪ ،..‬كان سيجيبه ولكن صوت السماعة الداخلية لقاعة األجتماعات قطعت كالمه ‪ ...‬أنها‬
‫مساعدته‪..‬‬

‫أتصال عاجل في مكتبك سيدي‪..‬‬


‫ٌ‬ ‫عذرا على المقاطعة‪ ،‬هناك‬
‫سيد شريف‪ً ..‬‬

‫أسرع شريف بأتجاه مكتبه وتبعه أيمن‪ ،‬رفع شريف سماعة الهاتف ‪...‬‬

‫ها‪ ،..‬ما األخبار ؟!‬

‫بدت عليه العصبية فجأة وهو ينصت للهاتف ‪..‬‬

‫حاال‪..‬‬
‫و كيف تمكنا من الهرب ؟!‪ ،‬أربعة أشخاص ضد أثنين وهربا منكم ؟!‪ ،‬البد وأن تجدهم ً‬

‫بدء صوته يرتفع أكثر‪..‬‬

‫أسمعني جي ًدا‪ ..‬أبحثوا عنهم في كل مكان‪ ..‬بالتأكيد لم يبتعدوا‪ ،‬لن أغادر مكتبي إال وهم أمامي هنا‪ ..‬مفهوم ؟!‬

‫محاوال تهدئة نفسه‪..‬‬


‫ً‬ ‫أغلق الهاتف بعصبية‬

‫‪217‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-50-‬‬

‫في الحلم يمكننا أن نعيش ألف واقع‪ ، ..‬كانت في عالمها الخاص حين فتحت عينيها ال تتذكر شيء سوى تلك‬
‫اللحظات التي كانت معه في الحلم‪ ،‬ظل عقلها يكرر لها حلمها‪ ،..‬لم تكن لتبالي بأنه في الحلم كان يعاني بقدر‬
‫ما كانت سعيدةً لرؤيته على كل حال‪ ..‬لم يمت والبد وأن تفسير ذلك الصوت الذي ظهر لها في الحلم بأن هناك‬
‫حلما‪ ..‬لقد حقق لها حلمها ما عجز عنه‬
‫أح ًدا ما سيساعد عمر في محنته‪ ،‬المهم أنها رأته حتى لو كان ذلك ً‬
‫واقعها‪ ..‬لنصف ساعة وهي ممددة على سريرها محدقةً بسقف الغرفة ومنفصلة عن العالم الخارجي غارقةً في‬
‫عالمها الخاص‪ ،‬لم تدرك ما يحدث حولها إال بعد ألحاح نادية الممرضة ألفاقتها‪..‬‬

‫نظرت آسية لها في شرود وكأنها ألول مرةً تراها‪ ،‬تنهدت آسية ‪...‬‬

‫أخيرا يا آسية‪ ،..‬كيف ِ‬


‫حالك اآلن عزيزتي ؟!‬ ‫ً‬

‫لم تجيبها آسية‪ ،‬مازالت تحت تأثير الحلم‪ ،‬فكرت نادية في طريقة ألخراج آسية من شرودها هذا ‪...‬‬

‫أخبار سارة ؟!‬ ‫ِ‬


‫حسنًا‪ ..‬ما رأيك لو تسمعين ٌ‬

‫لم تتلقى نادية سوى الصمت مرةً أخرى‪ ،‬فكرت أن تتالعب بها لتثير أهتمامها‪..‬‬

‫حسنًا‪ ..‬يبدو أن األخبار التي سمعتها عن عمر ال تهم أحدهم‪..‬‬

‫و كأنها لم تسمع شيئًا سوى أسمه‪ ،..‬التفتت آسية لنادية فجأة وقد بدا عليها األهتمام‪ ..‬كانت متلهفة لسماع أي‬

‫خب ٍر عنه عدا وفاته‪ ،‬حتى لو كان في محنة فسيراودها األمل برجوعه ً‬
‫يوما ما‪ ،‬حاولت أن تستجمع تركيزها من‬
‫جديد وسألتها‪..‬‬

‫أحي هو أم ‪ ...‬؟!‬
‫أين عمر ؟! ٌ‬
‫لم تكن تريد نطق أو مجرد التفكير حتى أنه ميت‪ ،‬بدت على نادية أنها ستمازحها لكن نظرة آسية الجدية لها‬
‫جعلتها تتراجع عن ذلك وتخبرها بما عرفته‪ ،‬مالت عليها لتهمس لها‪..‬‬

‫‪218‬‬
‫عِ ضين‬
‫سمعت المدير وهو يتكلم على الهاتف مع أح ٌد ما وهو متفاجئ ال يستطيع تصديق أن عمر مازال على قيد الحياة‬
‫‪!..‬‬

‫تدفق الدم فجأة في وجه آسية وأحمر وجهها وأغرقت عيناها بالدموع في لحظة‪ ،‬نزعت الغطاء عنها بسرعة‬
‫همت بسرعة بأتجاه الباب‪..‬‬
‫والتفتت بسرعة لتبحث عن عكازيها لم تعد تعتمد عليهما لكنها اآلن تريد األسراع‪ّ ،‬‬
‫سألتها نادية ‪..‬‬

‫إلى أين‪ ..‬؟!‬

‫أجابتها آسية بلهفة غير مسيطرة على دموعها ‪...‬‬

‫فعال ولم يمت‪ ،‬أنه حي يا نادية ‪..‬‬


‫حي ً‬‫لقد حلُمت بعمر‪ ،‬أنه ٌ‬
‫لكن إلى أين ستذهبين اآلن‪ ..‬؟!‬

‫كانت آسية قد خرجت من الغرفة مسرعة‪ ،‬لحقت بها نادية وعرفت أنها تتجه لمكتب المدير لتعرف كل شيء‪،‬‬
‫تماما‪ ..‬يغمرها أحساس الفرحة واألمل لسماع شيء واحد فقط‪ ..‬أنه حي‪ ،‬لكن‬
‫كانت تسرع وكأنها قد ُشفيت ً‬
‫لحظة‪ ،‬توقفت فجأة‪ ،..‬هناك شيءٌ ما ينقصها ‪ ،‬للحظة تملكها شعوٍر غريب ‪ ،!..‬كانت تبحث عن شيء ال تعرفه‬
‫‪..‬‬

‫ما كانت تخشاه نادية على وشك الحدوث‪ ..‬لم تكن تريد أخبارها عن الكارثة التي حدثت صباح اليوم بنفسها‪،‬‬
‫ٍ‬
‫كلمات لتجيبها على السؤال الذي‬ ‫شخص آخر غيرها‪ ..‬كانت تحاول أن تجد‬ ‫كانت تُفضل أن يخبرها أي‬
‫ٌ‬
‫ستطرحه آسية حالما تتذكر هي ما الشيء الذي ينقصها‪..‬‬

‫أما ما يدور في عقل آسية فقد وصل لحد الغرابة‪ ..‬يزداد أحساسها بالحيرة والتوتر‪ ..‬يزداد ضربات قلبها سرعة‪..‬‬
‫أصال ؟!‪،‬‬
‫فرحتها تنقصها شيءٌ أساسي‪ ،‬مستحيل‪ ..‬كيف يفوتني هذا‪ ..‬كيف فاتني أن أسأل عنها ؟! أين هي ً‬
‫التفتت لتسأل نادية ‪..‬‬

‫‪219‬‬
‫عِ ضين‬
‫نادية‪ ..‬أين أمي ؟!‪ ،‬أنا لم أرها حين تمت أفاقتي ‪!..‬‬

‫أبعدت نادية وجهها عن آسية وأفكارها تتسارع بحثًا عن مخرج من هذا المأذق‪ ،..‬بماذا تجيبها ؟!‪ ،‬تخاف أن‬
‫تخبرها بما حدث فتكون هي السبب في عودة الشلل إليها مرًة أخرى أو كارثة أخرى تحل بها‪ ،‬طال صمت نادية‬
‫وهذا ما جعل التوتر يتسرب إليها‪ ..‬تلعثمت نادية في الرد عليها ‪...‬‬

‫أظن أن‪ ..‬علينا أن‪ ..‬المدير ينتظرك‪..‬‬

‫تعجبت من تلعثم نادية هكذا ‪ ،!..‬لكن سرعان ما بدأ الشك يراودها‪ ..‬تذكرت كلمات والدتها عن مرضها‪..‬‬

‫" سبب أخفيته عن الجميع‪ ..‬مرضي‪ ..‬أصبت بالسرطان‪ ..‬حين أغادر الدنيا‪ ،‬دعيني أرحل مطمئنة "‬

‫حدقت بنادية وصوتها يزداد حدة‪..‬‬

‫نادية‪ ..‬أين أمي ؟!‬

‫نذيرا لخب ٍر مشؤم ال تنتظر آسية سماعه أب ًدا ‪...‬‬


‫بدا العرق الذي ظهر على وجه نادية ً‬

‫أمك‪ ،..‬لقد‪..‬‬

‫نفذ صبر آسية‪ ..‬صرخت بوجه نادية لتخبرها باألمر‪ ،‬وهذا ما زادها أرتبا ًكا‪ ..‬بدأت عيونها تغرقها بالدموع ‪..‬‬

‫بعد أن أغمي ِ‬
‫عليك‪ ..‬سقطت هي األخرى‪ ،‬وعندما قام الطبيب بفحصها‪ ..‬وجدها ‪..‬‬

‫أساسا‪..‬‬
‫ضا بالنسبة لها‪ ،‬وقد رأت الكلمة تخرج من نادية قبل نطقها ً‬
‫توقف الزمن أي ً‬

‫لقد ماتت بسبب السرطان ‪..‬‬

‫صمت مخيف ومنذر بما هو أسوأ قادم‪ ،‬حدقت آسية في الفراغ‪ ..‬مرت لحظات على‬ ‫ٌ‬ ‫و على غير المتوقع‪..‬‬
‫ٍ‬
‫وبصوت منخفض‪..‬‬ ‫صمت آسية الرهيب‪ ،‬وكالهدوء الذي يسبق العاصفة بدأت عيني آسية بالدموع‬

‫لماذا أنا بالذات‪ ..‬؟!‪ ،‬لماذا يحدث هذا معي‪ ..‬؟!‬


‫‪221‬‬
‫عِ ضين‬
‫لم تتحملها قدماها وأنهارت على األرض‪ ..‬بدأت تنهار وأخذ صوتها يرتفع شيئًا فشيئًا‪ ،‬حاولت نادية تهدئتها‬
‫ٍ‬
‫وبصوت يصم األذان رفعت رأسها ألعلى وعاتبت اهلل‬ ‫تماما‪،‬‬
‫لكنها فشلت‪ ..‬فقدت آسية السيطرة على نفسها ً‬
‫على ما شاء‪..‬‬

‫لماذا أنا يا ربي ؟! لماذا تفعل بي هذا ؟! لماذا أنا بالذات من تريد أبتالئها ؟! أال يوجد من يُبتلى غيري ؟!‬

‫اضا هلل بعد‬


‫تجمع حش ٌد حولها والجميع يحاول تهدئتها‪ ..‬ولكن ذلك ما أثار أعصابها أكثر وأصبحت أكثر أعتر ً‬
‫أن فقدت عقلها هذه اللحظات ‪...‬‬

‫توقف يا ربي‪ ..‬ال أريد المزيد من األختبارات‪ ..‬توقف أرجوك‪ ..‬توقف‪ ..‬توقف‪..‬‬

‫ٍ‬
‫بكلمات غير مفهومة‪ ..‬تتنفس بصعوبة‪،‬‬ ‫بدأ صوتها ينخفض تدريجيًا‪ ،‬أنحنت وأتخذت وضعية السجود‪ ،‬تهذي‬
‫ت ّدخل أحدهم وسط هذا الحشد وحملها وتابعته نادية‪ ،‬لم يُغشى عليها ككل مرة لكنها فقدت أدراكها بمن حولها‬
‫كليًا‪ ،‬لم يكن أحد ليتحمل كل هذا ويظل على قيد الحياة‪ ..‬قد يكون الموت أرحم به‪..‬‬

‫‪221‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-58-‬‬
‫ٍ‬
‫صوت ممكن‬ ‫أحيانًا تتولد لدينا الرغبة الشديدة بالموت لنرتاح من عبث هذه الحياة‪ ..‬نريد البكاء والصراخ بأعلى‬
‫ولكن ما فائدة هذا إن لم يشعر أحدهم بالمعاناة واأللم الذي نحتويه‪ ..‬؟!‬

‫في البداية كان هو الوحيد الذي يعرف أنه قتل أخيه‪ ..‬كان حينها يبكي بصمت ويعاتب نفسه بصمت‪ ..‬كان‬
‫يتحمل وزره بنفسه وال أحد يعلم‪ ،‬لكن اآلن العالم كله بات يعرف ذلك‪ ،..‬راودته أسئلة منطقية ووجودية بالنسبة‬
‫له‪ ..‬هل سيفهم العالم أنه لم يقصد قتل أخيه ؟! ‪ ،‬هل سيفكر العالم في أن أخاه كان يسعى لقتله وهو قد قتله‬
‫بحركة ال أرادية ؟!‪ ،‬واألهم من ذلك العالم‪ ..‬كيف حال والديه بعدما شاهدوا أبنائهم يقاتلون بعضهم أمام العالم‬
‫كله وأن أحدهما قتل اآلخر ؟! ‪ ،‬كيف سيغفر والديه عنه بعدما قتل أخيه الذي أختفى منذ سنوات ؟!‪ ،‬كيف‬
‫سيستقبلوه عندما يرجع إليهم‪ ،‬سيطردونه أم أنهم يتفهمون األمر ؟!‬

‫صنع أهم حدث في حياتها بسبب هذا‬ ‫بدت ماريان متأسفةً ج ًدا مما فعلته‪ ،‬لم تقصد أن تجرحه بالتأكيد‪ ،‬لقد ُ‬
‫حامال لذنباُ لم يقصد فعله‪ ..‬سيعيش حيا ًة صعبة وشاقة‪ ..‬سيتألم‬
‫ضا سيعيش عمر حياته المتبقية ً‬ ‫الفيديو وبسببه أي ً‬
‫شخصا ما‬ ‫ٍ‬
‫لحظة وكل حين‪ ،‬الجميع سيهاجمونه ويلعنونه وقد يتبرأ والديه منه‪ ،‬ال تعلم ماذا أقترفت لتجعل‬ ‫في كل‬
‫ً‬
‫تعيسا هكذا ‪!..‬‬
‫ً‬

‫داعشي بارز‪ ،‬قتل أخيه على أية حال‪ ..‬فكر‬


‫ٌ‬ ‫أما عن الرجل وأبنته فقد بدأت تتالشى لديهم صورة البطل الذي قتل‬
‫الرجل في األمر لحظة‪ ..‬ماذا كان عساه أن يفعل عمر‪ ..‬؟!‪ ،‬كان أخوه سيقتله مرتين ولوال ماريان لكان عمر ميتًا‬
‫آثم وقاتل ‪..‬‬
‫ضا أن يشعر أنه ٌ‬
‫بالفعل !‪ ،‬كان من الطبيعي أن يدافع عن نفسه‪ ،‬لكن من الطبيعي أي ً‬

‫حاول الجميع أن يهدئ من حاله البائس لكنه كان غارقًا في ٍ‬


‫عالم آخر‪ ..‬لحظة قتل أخيه تتكرر أمامه دون‬
‫ضا‪،‬‬
‫توقف‪ ..‬ماذا سيكون ردة فعل والديه وبماذا سيجيبهم ؟!‪ ،‬حاول الرجل تقديم الطعام له لكنه لم يستجب أي ً‬
‫أقتربت منه ماريان وربت على كتفه تحاول تهدئته وأخراجه من حالته تلك‪..‬‬

‫عمر أنا آسفة‪ ،..‬لم أٌقصد أن يحدث هذا لك‪..‬‬

‫‪222‬‬
‫عِ ضين‬
‫مازال الصمت يخيّم عليه‪ ..‬يتنفس بسرعة‪ ،‬أكملت هي ‪..‬‬

‫أُقدر جي ًدا ما تمر به‪ ،..‬صدقني عندما نرجع مصر سأشرح للجميع حقيقة ما حدث و‪..‬‬

‫ٍ‬
‫غضب مفاجئة‪..‬‬ ‫و كأنه كان ينتظر تلك الكلمات ليبدأ نوبة‬

‫ال‪ ..‬لن أرجع مصر أب ًدا‪ ،‬أذا ِ‬


‫كنت تريدين الرجوع فأفعلي ذلك بمفردك‪..‬‬

‫صدمتها تعصبه المفاجئ ‪..‬‬

‫قاتال وليس أي قاتل‪ ..‬تخيلي أنه بسببك قتلت أخي ‪ ،!..‬بسببك أنتي سيتبرأ والداي مني‪،‬‬ ‫ِ‬
‫بسببك أنتي أصبحت ً‬
‫األمور واضحة لدى الجميع اآلن‪ ..‬لقد قتلت أخي‪..‬‬

‫كأي فتاة ضعفت أمام غضب عمر الجارف‪ ،‬قاومت خروج دموعها‪ ،‬وقامت بتصعيد حدة الكالم معه‪..‬‬

‫لو لم تقتله أنت لكنا أنا وأنت في ِعداد الموتى ‪...‬‬

‫بك ماذا كنتي تفعلين هناك ؟!‬ ‫ِ‬


‫وجودك الغير مبرر هناك لكنت أنا الميت وأنتي على قيد الحياة كذلك‪ ،‬بر ِ‬ ‫و لوال‬
‫ٌ‬

‫كنت أقوم بعملي يا عمر ‪..‬‬

‫شرس ضده ‪...‬‬


‫صاحت به أكثر وقد أظهرت تحدي ٌ‬

‫أنت وجودك في هذا المكان غير مبرر ‪ ،!..‬كيف جئتم العراق ؟! ولماذا أنت بالذات من صعد لذلك المبنى‬
‫تفسير منطقي لذلك سوى أنك كنت تعلم مكانه وقد أتيت إليه لقتله‪ ،‬أنت أردت أن تكون‬
‫ٌ‬ ‫بالذات ؟!‪ ،‬ليس هناك‬
‫بطال ويصفق لك الجميع‪..‬‬
‫ً‬

‫أستمرت ماريان في توجيه الضربات القاضية له‪ ،‬أقتربت منه ثم أكملت بأخر ما أستنتجته‪..‬‬

‫‪223‬‬
‫عِ ضين‬
‫لقد كنت تعمل على حمايتي طوال الوقت حتى تصل إليه‪ ،‬طبيعي أن تستغل وجودي لصالحك هناك‪ ،‬قتلته وكأنه‬
‫بارعا يا عمر‪ ،‬لقد أقنعت العالم كله أنك قتلت‬
‫بطال أمام العالم‪ ..‬كان تمثيلك ً‬
‫داعشي فقط‪ ،‬وبذلك تظهر ً‬
‫داعشي بارز‪ ،‬لكن لسوء حظك لم يدم هذا سوى ٍ‬
‫ليوم واحد فقط ‪..‬‬ ‫ٌ‬
‫مصدوما بما فيهم عمر نفسه‪،‬‬
‫ً‬ ‫تحدي ماريان له جعلتها تتفوه بكلمات تدين بها عمر‪ ،‬جعلت الجميع يقف‬
‫خرت‬
‫منطقي ج ًدا ‪ ،!..‬هو نفسه أقتنع بكالمها‪ّ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫للحظات تكرر مرًة أخرى لحظة قتل أخيه‪ ..‬مستحيل‪ ..‬كالمها‬
‫مستسلما وقد تملكه اليأس بقوةٍ أكبر هذه المرة‪..‬‬
‫ً‬ ‫قادرا على الوقوف‪ ..‬بدا‬
‫فعال ولم يعد ً‬
‫قواه ً‬

‫ٍ‬
‫للحظات طويلة في المكان وبصورة أقرب للجنون ردد عمر ‪...‬‬ ‫ساد الصمت‬

‫ال‪ ..‬ال لم أقصد‪ ..‬أقسم بربي أنني لم أقصد قتله‪ ..‬لم أٌقصد ذلك‪..‬‬

‫فقد السيطرة على نفسه وشحب وجهه فجأة وأخذ يرتجف وهو يردد تلك الكلمات بصورة متقطعة‪ ،‬هو نفسه ال‬
‫يصدق نفسه ‪ ،!..‬ندمت ماريان على أندفاعها الزائد‪ ..‬لقد أخرجت كل شكوكها نحو عمر حتى لو كانت هذه‬
‫الشكوك ضعيفة أو غير منطقية أو ربما ليس لها أساس من الصحة‪ ،‬هو من أستفزها وأضطرت لتدافع عن نفسها‬
‫أ مامه‪ ،‬أذ من غير المعقول أن تنقذه مرتين وفي النهاية يلومها على ذلك ‪ ،!..‬لكنها جعلته يتألم على كل حال‪،‬‬
‫فعال بهذه األتهامات‪..‬‬
‫مجددا لكنها شعرت بأنها قد قضت عليه ً‬
‫ً‬ ‫ترددت في أن تعتذر له‬

‫أقتربت ووقفت على مقربة منه لكن الرجل أستوقفها‪..‬‬

‫أوال‪..‬‬
‫أتركيه اآلن‪ ..‬ال نريد أن تتفاقم األمور أكثر من ذلك‪ ،‬دعيه يهدأ ً‬

‫أومأت برأسها متفهمةً األمر وراقبت عمر الذي كان يظهر عليه اليأس‪ ،‬خافت عليه من أن يتهور ويقوده تفكيره‬
‫مثال‪..‬‬
‫لإلقدام على خطوةً خطيرة‪ ..‬كاألنتحار ً‬

‫‪224‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-53-‬‬

‫جميع من حولها قد رحل‪ ،..‬تساءلت ماذا فعلت كي يحدث لها كل هذا ؟!‪ ،‬هناك من رحل دون عودة‪ ..‬وهناك‬
‫من غادر ولم يبالي‪ ..‬وهناك مفقود‪ ..‬نعم مفقود‪ ..‬لقد علمت بأن عمر مفقو ٌد في العراق‪ ..‬مصيره مجهول‪..‬‬
‫أخبرها بذلك مدير المستشفى‪ ،‬عمر مازال على قيد الحياة لكنه مفقود ومازال البحث عنه جاريًا‪..‬‬

‫وما ما‪ ..‬سيرحل كما رحل اآلخرون‪ ،‬آخر من رحلت هي سندها في الحياة‪..‬‬
‫مجددا ي ً‬
‫ً‬ ‫لم تعد تؤمن بأنها ستالقيه‬
‫صندوق أسرارها‪ ..‬رحلت عن الدنيا وما فيها‪ ..‬رحلت والدتها‪ ..‬ال تعلم كيف غفلت عن مرض والدتها‪ ..‬حتى لو‬
‫نجحت والدتها في أخفاء األمر عن الجميع كان والبد أن تعلم بهذا سواء أخبرتها والدتها أم ال‪ ..‬عاتبت نفسها‬
‫كثيرا‪ ،‬حتى بعدما أخبرتها والدتها عن مرضها كان عليها أن تعيش كل ثانيةً معها‪ ..‬تهتم بها وتعانقها وتضحك‬
‫ً‬
‫وتمرح معها‪ ..‬لكنها لألسف أشغلها أمر عمر مرةً أخرى حتى رحلت عنها فجأة‪..‬‬

‫و لم يقطع شرودها هذا سوى صوت الشيخ الذي يرتل القرآن على قبر أحدهم‪ ..‬يبدو أن ساكني القبور أزدادوا‬
‫نفرين خالل ساعةٍ واحدة‪ُ ،‬دفنت والدتها هنا في سوهاج‪ ..‬فلقد غادرت آسية المستشفى في القاهرة ومعها‬
‫جثمان والدتها وقررت العودة للصعيد بعدما حصلت على تصريح الطبيب بالخروج وأمكانية أستكمال عالجها في‬
‫وهمت بالرحيل لكنها التفتت وألقت نظرًة أخيرة على قبر والدتها ‪...‬‬
‫بيتها‪ ،‬وقفت ّ‬

‫أحتضنها ذكريات بعيدة لكنها شعرت وكأنها حدثت باألمس‪..‬‬

‫عادت من الجامعة والسرور يملئ قلبها ‪ ...‬هي وصديقتها أماني تحدثا بشأن تصرفات عمر وصديقه األخيرة‬
‫وأستنتجتا أنه سيعترف رسميًا بحبه لها‪ ،..‬لم تالحظ وجود ضيوف عندها عندما رجعت‪ ،‬طُرق الباب فأذنت‬
‫بالدخول‪ ،‬أنه يوسف أخوها‪ ،‬عندما رأى أشراق وجهها ‪..‬‬

‫ِ‬
‫عودتك من الجامعة ؟!‬ ‫تبدين سعيد ًة اليوم‪ ..‬منذ متى وأنتي تبتسمين بعد‬

‫أتسعت أبتسامتها في وجهها ‪..‬‬

‫أتستطيع منعي يا هذا ؟!‪ ،‬أمنعني أن أستطعت‪..‬‬


‫‪225‬‬
‫عِ ضين‬
‫قالتها مازحةً أخاها‪ ،‬ابتسم هو اآلخر ‪..‬‬

‫اليوم هو ِ‬
‫يومك وال أحد يستطيع أفساد فرحتك‪ ،..‬أال تريدين أن ترحبي بالضيوف ؟!‬

‫ضربت بكفها على رأسها‪ ،‬لقد نسيت أن اليوم هو زيارة عمها‪..‬‬

‫نسيت ذلك‪ ،..‬حسنًا سأغير مالبسي وأخرج ألرحب بهم‪..‬‬

‫ِ‬
‫سننتظرك‪..‬‬ ‫حسنًا‬

‫خرج أخاها من غرفتها‪ ،‬وماهي إال دقائق حتى خرجت آسية من غرفتها وهي ترتسم األبتسامة على وجهها ورحبت‬
‫بعمها وزوجته وأبناء عمها محمد ومراد‪ ..‬جلست مكانها وساد المرح المكان كله‪ ،‬لكن هناك أحدهم لم يكن‬
‫مسرورا‪ ..‬والدتها‪ ..‬هي الوحيدة التي كانت تكره هذه الزيارة بالذات وكانت تتعجب من تصرفات آسية ‪،!..‬‬
‫ً‬
‫أمرا ليس بمحله يحدث هنا‪ ..‬ما سر سعادتها تلك ؟!‬
‫ح ّدثت والدتها نفسها بأن هناك ً‬

‫ما أخرجها عن شرودها هذا أخو زوجها ‪...‬‬

‫ما رأيكم أذن بيوم الخميس المقبل ؟!‪ ،‬أظنه مناسبا ِ‬


‫للخطبة ؟!‬ ‫ً‬

‫بفرح وسرور‪ ،..‬قفزت آسية من مكانها فرحة وتساءلت غير مصدقة ‪...‬‬
‫قالها وهو يربت على كتف أبنه محمد ٍ‬

‫يا ألهي‪ ..‬محمد سيخطب ؟!‪ ،‬مبروك يا محمد‪ ..‬كنت أعلم بأن هذا اليوم سيكتمل بمثل هذا الخبر‪..‬‬

‫للحظة ساد الصمت المكان كله فجأة‪ ..‬الجميع قاموا بتثبيت نظرهم على آسية ال يصدقون ما سمعوا منها اآلن‪..‬‬
‫صدم مما سمعه‪ ..‬أذًا فهو قد أساء فهمها‪ ..‬لم تكن سعيدةً لهذا السبب ؟!‪ ،‬كذلك والدتها‬
‫حتى أن أخوها قد ُ‬
‫التي لم تعد تفهم شيئًا ‪ ، !..‬أما والدها وعمها وأبناء عمها جميعهم قد أندهشوا ألنهم ظنوا أن سبب الفرحة في‬
‫المكان كله واح ًدا‪..‬‬

‫‪226‬‬
‫عِ ضين‬
‫شعرت آسية بأنها قد أرتكبت خطئًا ما‪ ..‬راجعت تصرفها فلم تجد نفسها قد أخطئت في شيء ‪ ،!..‬حاول يوسف‬
‫أنهاء حالة األرتباك تلك‪..‬‬

‫عذرا يا جماعة‪ ..‬يبدو أن هذا خطئي‪ ..‬في حقيقة األمر أنا لم أخبر آسية بشأن حضوركم اليوم‪..‬‬
‫ً‬

‫نظرت آسية للجميع حولها وعندما نظرت لوالدتها ثانيةً بدأت تدرك الوضع جي ًدا‪ ..‬عادت لتنظر ألخيها وال تتمنى‬
‫صحيحا‪ ،..‬التفت أخوها نحوها ‪...‬‬
‫ً‬ ‫أن ما يدور بعقلها‬

‫ِ‬
‫خطبتك يوم الخميس المقبل يا آسية‪ ..‬على محمد أبن عمك‪..‬‬ ‫حسنًا‪..‬‬

‫عاد الصمت ليسيطر على المكان‪ ..‬الجميع ينتظر رد آسية التي شعرت بقشعريرة تسري بجسدها‪ ،‬قامت على‬
‫ٍ‬
‫لكابوس مزعج‪ ..‬منذ قليل كانت تستعد ألعتراف‬ ‫الفور وتوجهت مسرعة لغرفتها‪ ..‬لم تتخيل أن فرحتها ستتحول‬
‫ٍ‬
‫شخص غريب‪ ..‬نعم غريب‪ ..‬مادام هذا‬ ‫عمر بحبه لها في قادم األيام‪ ..‬واآلن يتم أجبارها على الزواج من‬
‫الشخص ليس عمر فأن الجميع غرباء وغير مرغوب فيهم ‪!..‬‬

‫ضل الهدوء‬
‫دخل والديها غرفتها‪ ..‬توجهت والدتها مباشرة نحوها أما والدها فكانت عيناه تستشيطان غضبًا لكنه ف ّ‬
‫معها في البداية‪ ،‬سألها والدها‪..‬‬

‫ِ‬
‫تصرفك هذا ؟!‬ ‫ما معنى‬

‫كانت تخشى مواجهته‪ ..‬كانت تعلم ما معنى أنه غاضب‪ ،‬لكنها عزمت على مواجهته هذه المرة‪..‬‬

‫أنا مازلت في الدراسة يا أبي وال أفكر حاليًا في الخطبة أو الزواج‪..‬‬

‫هز رأسه بتهديد‪..‬‬

‫ِ‬
‫خطبتك يوم الخميس القادم‬ ‫نادم بشدة ألنني سمحت ِ‬
‫لك بدخول الجامعة‪ ،‬حسنًا‪ ..‬سأصحح خطئي اآلن وستتم‬ ‫ٌ‬
‫دون تأجيل‪..‬‬

‫و بتهوٍر واضح أعترضت‪..‬‬

‫‪227‬‬
‫عِ ضين‬
‫ال ‪....‬‬

‫صفعت بقوة على وجهها‪ ،‬أسرعت والدتها لتحميها من بطش‬ ‫لم تكن لتكمل أعتراضها حتى وجدت أنها قد ُ‬
‫والدها هذه اللحظة وأحتضنتها‪ ،‬التفت والدها لوالدتها ‪...‬‬

‫أنتي من قمتي بتدليلها هكذا‪ ،..‬أنا غير مستعد لخسارة عالقتي بأخي من أجل تلك الغبية‪..‬‬

‫أعترضت والدتها على كالمه‪..‬‬

‫لكن هل تفضل أخاك علـ ‪..‬‬

‫لم تكمل سؤالها حين قاطعها وهو يوجه إليها تهدي ًدا ‪...‬‬

‫كلمةً أخرى وسيتم طردك لبيت أهلك‪..‬‬

‫خرج من الغرفة وهو يحاول أعادة رسم األبتسامة على وجهه‪ ..‬كان يحاول أن يقنع أخيه بأن أبنته قد تفاجئت‬
‫تماما‪ ..‬ال تستطيع أن تنقذ أبنتها من هذه الزيجة القهرية‬
‫باألمر ‪ ،‬أزداد نحيب آسية في حضن والدتها المستسلمة ً‬
‫‪! ...‬‬

‫اآلن أصبحت آسية يتيمة بكل ما تحمله الكلمة من معنى‪ ..‬التفتت ثم غادرت المقابر‪ ،‬أوقفت سيارة أجرة‬
‫وساعدها السائق على وضع حقيبتها بالسيارة‪..‬‬

‫إلى أين سيدتي‪ ..‬؟!‬

‫أخرجت آسية قصاصة ورق ثم أعطتها له‪..‬‬

‫لهذا العنوان من فضلك ‪...‬‬

‫حسنًا‪..‬‬

‫‪228‬‬
‫عِ ضين‬
‫أنطلق بها السائق وأسندت هي رأسها على النافذة‪ ،‬من جديد غرقت في ذكرياتها لكن هذه المرة ليست‬
‫بالبعيدة‪ ،..‬غرقت في وقت رحيلها من المستشفى‪ ..‬أكثر من أفتقدته هناك‪ ..‬نادية‪ ..‬تلك الممرضة التي أعتبرتها‬
‫حارا وصعبًا مثل وداعيتها مع صديقتها أماني حين كانت سترحل للعالج‪..‬‬
‫وداعا ً‬
‫صديقتها‪ ..‬لقد كان ً‬

‫أرتسمت أبتسامةً حزينة على وجهيهما‪ ،‬أسرعت نادية لحمل الحقيبة وأسرعت قبل آسية نحو السيارة أمام‬
‫المستشفى وهي تبكي ال تريد رحيل صديقتها‪ ،‬بعدما وضعت الحقيبة أسرعت للعودة للمستشفى دون األلتفات‬
‫آلسية‪ ..‬تريد تجنب توديعها‪ ..‬لكنها لم تتحمل األمر وقررت النظر ورائها‪ ..‬كانت آسية لم تغادر بعد‪ ..‬كانت‬
‫تنظر من النافذة تنتظر أن تنظر إليها نادية لتوديعها‪ ..‬ابتسمت آسية لها وغادرت على الفور ‪..‬‬

‫بكت نادية وتوسلت إليها أن ال ترحل‪ ..‬لكن للضرورة أحكام‪ ..‬لكنهما تواعدتا بأال يفقدا األتصال بينهما‪..‬‬

‫قاطع السائق شرودها‪ ،‬لقد توقفت السيارة‪..‬‬

‫وصلنا سيدتي‪..‬‬

‫نظرت آسية حولها وتعجبت ‪..‬‬

‫بهذه السرعة‪ ..‬؟!‬

‫نعم‪ ..‬هذا هو العنوان المكتوب بالورقة وهذا هو الشارع‪ ،‬لكن أعذريني سيدتي الشارع ضيق وال يمكنني الدخول‬
‫بالسيارة ‪...‬‬

‫نزل السائق وأخرج الحقيبة وعندما نزلت هي وقفت وقد عرض عليها مساعدته ال سيما بعدما علم بأنها ألول مرة‬
‫تزور هذا المكان لكنها شكرته وغادر ‪...‬‬

‫جرت ورائها حقيبتها بصعوبة‪ ..‬أسرع ول ٌد صغير‬


‫بدأ شعورها يتغير‪ ..‬بدأت تشعر برائحة عمر في هذا الشارع !‪ّ ،‬‬
‫نحوها ‪..‬‬

‫ِ‬
‫مساعدتك يا خالة ؟!‬ ‫هل يمكنني‬

‫‪229‬‬
‫عِ ضين‬
‫ضحكت آسية من لقب خالة تلك‪..‬‬

‫نعم يمكنك ذلك‪ ،‬أنا أبحث عن منزل عمر‪..‬‬

‫أصال ‪...‬‬
‫مفكرا‪ ،‬أسرعت آسية لتصحح معلومات الولد‪ ..‬ربما ال يعرف عمر ً‬
‫فرك الولد رأسه ً‬

‫أقصد منزل الشيخ محسن‪..‬‬

‫فرح الولد وكأنه حل لغز‪..‬‬

‫بالطبع أعرفه‪ ،‬أنه هناك في منتصف الشارع ‪...‬‬

‫أمسك الولد بالحقيبة وجرها ورائه‪ ،‬وبحر ٍ‬


‫كات صبيانية ‪..‬‬ ‫ّ‬

‫أتبعيني يا خالة‪..‬‬

‫تبعته آسية ألى أن توقفا أمام أحد منازل الشارع‪ ،‬أشار لها الولد‪..‬‬

‫هذا هو منزل الشيخ محسن‪..‬‬

‫ترك الولد الحقيبة وغادر بعد أن شكرته‪ ،‬وقفت أمام المنزل لدقائق تفكر فيما ستقوله لوالدي عمر‪ ،..‬ضغطت‬
‫على الجرس وأنتظرت‪ ،‬بعد دقيقةً تقريبًا فتحت والدة عمر الباب‪ ..‬فوجدت فتا ًة تبدو شاحبة الوجه تستند على‬
‫عكاز بيمينها وبجانبها حقيبةً كبيرة‪ ،‬سألتها آسية‪..‬‬

‫والدة عمر‪ ..‬؟!‬

‫أومأت والدة عمر برأسها أيجابًا‪ ،‬بدت أن تلك الفتاة مألوفةً بالنسبة لها لكنها لم تتعرف إليها بعد‪ ،‬على الفور‬
‫حملت حقيبة آسية وأدخلتها المنزل ثم ساعدت آسية على الدخول ومن ثم جلستا على أقرب أريكة بجانب‬
‫الباب‪ ،‬تعجبت آسية من أستقبالها‪ ،‬كذلك جاهدت والدة عمر لتتعرف عليها‪ ..‬تبدو تلك الفتاة كانت عاجزة أو‬

‫‪231‬‬
‫عِ ضين‬
‫بدال من أدهم‪ ..‬لحظة‪ ..‬أيمكن أن تكون هي ؟!‪ ،‬ساد الصمت بينهما‬ ‫ٍ‬
‫لحادث ما‪ ..‬وتناديها بأم عمر ً‬ ‫تعرضت‬
‫أخيرا ‪...‬‬
‫لدقائق ثم قررت آسية التكلم ً‬

‫أنا‪ ..‬أنا‪..‬‬

‫ٍ‬
‫بسؤال تخميني ‪...‬‬ ‫تلعثمت في الكالم فجأة وبدت أنها مترددة‪ ،‬باغتتها والدة عمر‬

‫آسية‪ ..‬؟!‬

‫لم تتخيل والدة عمر أن تخ مينها هذا سيترك أثر الدهشة على وجه تلك الفتاة‪ ،‬حتى هي أندهشت ألندهاش‬
‫الفتاة‪ ،‬ردت آسية وهي محدقةً بها ‪...‬‬

‫كيف عرفتيني ؟!‬

‫ابتسمت والدة عمر‪..‬‬

‫ِ‬
‫وحالتك تلك هي الوحيدة القريبة من عقلي‪..‬‬ ‫كان مجرد تخمين‪ ،‬تبدين مألوفةً بالنسبة لي‬

‫أحتضنتها والدة عمر مرحبةً بها‪ ،‬حينها تذكرت آسية آخر مرة عانقت فيها والدتها‪..‬‬

‫ِ‬
‫أستقبالك لي هكذا ؟!‪ ،‬رغم أنه مجرد تخمين‪ ..‬؟!‬ ‫هل هذا هو سبب‬

‫كونك تناديني بوالدة عمر فمعنى ذلك ِ‬


‫أنك ال تعرفينني‬ ‫الحقيقة ال‪ ..‬صحيح أنتي كنتي مألوفةً لي في البداية لكن ِ‬
‫عليك األرهاق‪ ..‬جئتي من ٍ‬
‫مكان بعيد أو من سف ٍر طويل وبالتأكيد تقصدينني‪،..‬‬ ‫ِ‬ ‫أسما فقط‪ ،‬كذلك بدا‬‫سوى ً‬
‫فضلت أن نتكلم بالداخل وأعرف كل شيءٌ هنا‪ ،‬وها هي النتيجة‪ ..‬نعرف بعضنا‪..‬‬

‫صمت آخر بينهما أستمر للحظات‪ ،‬فكرت آسية في نفسها‪ ..‬هل تعلم والدة عمر شيئًا آخر سوى أنها آسية ؟!‪،‬‬
‫ٌ‬
‫مثال‪ ..‬؟!‪ ،‬قاطعت والدة عمر تفكيرها بسؤال‪..‬‬
‫زوجته ً‬

‫وقت طويل منذ آخر أتصال ‪!..‬‬


‫أين والدتك يا آسية ؟!‪ ،‬لقد مر ٌ‬

‫‪231‬‬
‫عِ ضين‬
‫أُخفق قلب آسية‪ ،‬أدارت بوجهها بعي ًدا عاجزةً عن الرد‪ ،..‬أحست والدة عمر بألم آسية وتجنبها لألجابة ‪..‬‬

‫ماذا بها يا آسية ؟! هل هي بخير ؟!‬

‫كان يصعب عليها ف ي نفسها أن تنطق بخبر وفاتها‪ ،‬لم تصدق حتى اآلن أن والدتها قد توفيت‪ ،‬نظرت إليها‬
‫ودموعها على وشك األنطالق‪..‬‬

‫لقد توفيت‪ ..‬منذ يومان‪ ،..‬آخر ما تبقى لي في الحياة قد توفيت‪..‬‬

‫مفهوما‪ ..‬آخر ما تبقى لها ؟!‬


‫ً‬ ‫في البداية شعرت باألسف تجاه آسية لوفاة والدتها‪ ..‬ولكن باقي كالمها لم يعد‬

‫أين ِ‬
‫والدك يا آسية ؟! أين باقي أسرتك‪ ..‬؟!‬

‫لقد توفي أبي منذ سنةً تقريبًا‪ ..‬وأخي سافر ولم يعد بعد‪ ..‬لذلك أتيت لهنا‪..‬‬

‫تماما هي األخرى‪ ..‬فقدت أسرتها بالكامل‪..‬‬


‫عانقتها والدة عمر ثانيةً‪ ..‬لم يعد آلسية أسرة مثلها ً‬
‫بيتك ولن أسمح ِ‬
‫لك بمغادرة المنزل‬ ‫أنك جئتي للمكان الصحيح ولن تندمي على ذلك‪ ..‬هذا ِ‬
‫تأكدي يا آسية ِ‬
‫ِ‬
‫والدتك ‪..‬‬ ‫على أية حال وتحت أي ظرف‪ ..‬ومن اآلن أنا‬

‫خاتما في يد آسية وزاد هذا من حيرتها‪ ..‬ما‬


‫فرحت آسية وكأن والدتها قد بُعثت من جديد‪ ،‬الحظت والدة عمر ً‬
‫معنى هذا ؟!‪ ،‬كذلك الحظت آسية نظرات والدة عمر الطويلة على يديها وأدركت أنها تتساءل على الخاتم في‬
‫فعال‪..‬‬
‫نفسها‪ ،‬سألتها ً‬

‫ما هذا يا آسية‪ ..‬؟!‬

‫خاتم زواجي من عمر‪..‬‬

‫صعقت‪ ..‬ال تصدق ما تسمعه للتو‪ ..‬عمر تزوجها ؟! متى وكيف حدث هذا ؟!‪ ،‬أكملت آسية كالمها ‪...‬‬
‫و كأنها ُ‬

‫‪232‬‬
‫عِ ضين‬
‫سرا وال يعلم به سوى أنا وعمر ووالدتي وصديقتي أماني‪ ،‬لم يخبركم عمر بذلك ألنه كان يعلم‬
‫لقد تم هذا الزواج ً‬
‫أنكم لن توافقوا على أرتباطه بفتاةً عاجزة‪..‬‬

‫ال تقولي ذلك يا آسية‪ ،‬لقد تفاجئت فقط من األمر ‪!..‬‬

‫همت لمساعدة آسية على الوقوف‪..‬‬


‫التفتت حولها ثم ّ‬

‫هيا لتستريحي من السفر ‪..‬‬

‫ساندتها للصعود للطابق الثاني ثم جعلتها ترتاح ثم دخلت هي لتجهيز المكان لراحة آسية ‪..‬‬

‫صدمت عندما رأت ما يُعرض عليه‪ ..‬مصيبةً أخرى جعلتها تصرخ‪..‬‬


‫يبدو أن والدة عمر كانت تتابع األخبار‪ُ ،‬‬

‫كانت والدة عمر تُجهز الغرفة التي ستنام فيها آسية لكنها سمعت صرختها‪ ،‬أسرعت لتعرف ماذا حدث لها‪..‬‬

‫وجدتها تقف أمام التلفاز ثابتةً في مكانها مصدومة‪ ..‬عيناها تحدقان بالتلفاز في صدمة‪ ..‬التفتت هي األخرى‬
‫ناحية التلفاز لترى ما سبب صدمتها وصراخها‪ ،‬للحظة بدا كل شيء غير مفهوم ‪ ،!..‬ما هذا ؟! كيف ذلك ؟!‪،‬‬
‫ذعرا وتبكي ووالدة عمر فارغةً فاها ال تصدق ما تراه ‪!...‬‬
‫آسية ترتجف ً‬

‫سالحا مرتديًا زيًا داعشيًا يقاتل ضد قوات األمن العراقية‪ ..‬كانت لحيتة‬
‫ً‬ ‫صورا لعمر وهو يمسك‬
‫القناة تعرض ً‬
‫كبيرة‪ ..‬كان عمر داعشيًا‪..‬‬

‫المذيعة شيرين عبد النور ‪...‬‬

‫و اآلن بعد أن عرضنا لحضراتكم تلك الصور‪ ..‬دعونا نتساءل‪ ..‬ما الذي يدفع عمر للقتال في صفوف تنظيم‬
‫سؤال ليس له سوى أجابةٌ‬ ‫داعش األرهابي ؟!‪ ،‬مع العلم أنه أول ٍ‬
‫أمس فقط كان يقاتل تنظيم داعش نفسه ‪ٌ ،!..‬‬
‫فعال قتل أخيه‪ ..‬ليحصل على مكانه في التنظيم‪ ..‬أذن األمر ليس أنه قتل‬
‫واحدة منطقية‪ ..‬وهي أنه كان ينوي ً‬
‫داعشيًا‪ ..‬تفكير شيطان‪ ،..‬أمثال عمر هم من أساءوا لألسالم ‪.‬‬

‫‪233‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-54-‬‬

‫لقد قتلته أتهاماتها له‪ ،..‬بالنسبة له لم تكن كلماتها مجرد نوبةً عصبية أجتاحتها‪ ..‬لقد قالت الحقيقة‪ ..‬أو على‬
‫األقل ستكون هذه أتهامات الجميع له‪ ،‬حتى لو كان كالمها غير حقيقي فسيظل هو يحتقر نفسه أينما كان وفي‬
‫كل لحظة‪ ..‬لقد قتل أخاه‪..‬‬

‫حتى لو كانت هذه طبيعته البشرية وكان في نوبة غضب بسبب ضربات أخيه التي كادت أن تقتله أو السكين التي‬
‫مبررا حتى أمام نفسه لقتل أخيه‪ ،..‬لقد قام بأعادة أول جريمة قتل بشرية‪..‬‬
‫كانت ستذبحه‪ ..‬كل هذا ال يعطيه ً‬
‫مقتل قابيل على يد أخيه هابيل‪..‬‬

‫تساءل‪ ..‬ما الذي أوصل األحداث لهذا الحد ؟!‪ ،‬عندما ألتحق بالجيش كان يحلم بأن تُشفى آسية‪ ..‬سافر فجأة‬
‫لمهمةً وطنية لكن ما لم يتوقعه في حياته أنه يتحول لقاتل وسافك للدماء ومجرم‪ ،..‬تساءل ما الذي يفعله هنا ؟!‬
‫سؤال‬
‫أين بقية زمالئه بالكتيبة ؟! لماذا هو بالذات من ُحشر في هذا المكان ؟!‪ ،‬سخر من نفسه عندما راوده ٌ‬
‫عجيب‪،..‬كيف وصل أخاه لهذا المكان ؟! ثم تذكر ذلك السؤال الذي طرحه على نفسه‪ ..‬كيف هو نفسه وصل‬
‫لهذا المكان ؟!‪ ،‬األجابة نفسها ولكن الطريقة مختلفة ‪...‬‬

‫خيرا لها‬
‫صدف يكون ً‬ ‫صدف أشر وأسوأ من ألف ميعاد‪ ..‬هناك ُ‬ ‫خير من ألف ميعاد لكن هناك ُ‬
‫ب صدفةً ٌ‬ ‫يقولون ُر ّ‬
‫لو كانت بميعاد ‪ ، !..‬ما قطع تفكيره هو الجوع الذي أعلن تمرده الكامل وكاد يقتله‪ ..‬لم يأكل شيئا منذ ٍ‬
‫يوم‬ ‫ً‬
‫حرك رأسه وأدرك بأن الجميع يحاول تهدئته وتحريكه‪..‬‬
‫أخيرا ّ‬
‫ونصف تقريبًا ‪ً ،!..‬‬

‫كانت ماريان تحاول بشتى الطرق األعتذار عما بدر منها‪ ..‬الرجل وأبنته يحاوالن تقديم الطعام له وجعله يأكل‪،‬‬
‫طويال للطعام المقدم له‪ ..‬قطعة جبن ورغيف وبفطرته مد عمر يده وتناول أول لقيمة‪ ..‬الجميع سعدوا‬
‫نظر عمر ً‬
‫عندما بدأ عمر باألكل‪ ،‬كان عمر يأكل على أستيحاء‪ ،..‬ظن الرجل أن عمر يقلل من شأن الطعام المقدم له‪..‬‬

‫أعذروني من فضلكم‪ ..‬أعرف أن الطعام ليس بالجيد وال يليق بكم‪ ،‬ولكن هذا فقط ما جنيناه من الحصار‬
‫المفروض علينا من تنظيم داعش‪ ،‬نأكل اليوم وال نعلم أذا كنا سنأكل غ ًدا أم ال ‪...‬‬

‫‪234‬‬
‫عِ ضين‬
‫توقف عمر عن األكل فجأة وشعر باألحراج الشديد‪ ..‬يأكل من قوت الناس الوحيد في هذا اليوم ‪ ،!..‬أدرك‬
‫الرجل خطأه‪ ..‬لم يكن يقصد أن يقول ذلك ليتوقف عمر عن األكل‪ ،‬أسرع ليوضح األمر ‪...‬‬

‫يا عمر‪ ..‬ال أقصد ما فهمته يا رجل‪ُ ..‬كل أرجوك‪ ،‬أسمعني‪ ..‬ما أقصده هو أنه منذ أن تم محاصرتنا من تنظيم‬
‫قليال‪ ..‬هؤالء المرتزقة يستولون على تلك القوافل التي تصل الموصل‬
‫داعش والمساعدات الغذائية ال تصل إال ً‬
‫كمساعدات من عدة دول‪..‬‬

‫شعر عمر بالذنب وكان هذا واضح جليًا على وجهه‪ ،‬ألح الرجل على عمر باألكل‪ ..‬أربت على كتفه‪..‬‬

‫مرغما يا عمر‪..‬‬
‫أستحلفك باهلل يا عمر لتأكل ما هو أمامك كله‪ ،‬ال تقلق أن اهلل هو الرزاق‪ ..‬ورزقنا سيأتينا ً‬

‫بدأ عمر مرةً أخرى باألكل‪ ..‬شعوره باألستيحاء يسيطر عليه‪ ،‬بدأ يستفيق من غيبوبة التفكير التي سيطرت عليه‬
‫ضلت أن تخلق حديثًا‬
‫هذه الليلة‪ ،‬حاولت ماريان كسر حالة الجمود لدى عمر وأن تُنسيه ما حدث منذ قليل‪ ،‬ف ّ‬
‫لتجذب أنتباهه‪ ،‬التفتت للرجل‪..‬‬

‫سيدي ‪ ...‬نحن لم نتعرف بك حتى اآلن ؟!‬

‫توقع الرجل هذا السؤال‪ ،‬أعتدل في جلسته ‪..‬‬

‫أنا جمال الدين سعد‪ ..‬عقي ٌد سابق بالجيش العراقي‪ ،‬وهذه أبنتي تغريد‪..‬‬

‫تعجبت ماريان‪ ..‬يبدو أصغر من أن يكون متقاع ًدا‪ ،‬سألته‪..‬‬

‫عقي ٌد سابق ؟! متقاعد‪ ..‬؟!‬

‫أجابها بسرعة وكأنه يتوقع أن تسأله هذا السؤال بالذات ‪...‬‬

‫مطرود‪ ..‬أول ما قام به األحتالل األمريكي في العراق هو تفكيك األجهزة األمنية هنا وأولها القوات المسلحة‪..‬‬

‫أنجذب عمر لكالم الرجل‪ ،‬كان الرجل يتكلم بنبرةٍ حزينة‪ ،‬سألته ماريان‪..‬‬

‫‪235‬‬
‫عِ ضين‬
‫عسكري سابق ؟!‬
‫ٌ‬ ‫رجل‬
‫و اآلن‪ ..‬؟!‪ ،‬أعتقد أن لكم جيش‪ ..‬لماذا لم ترجع منصبك بأعتبارك ٌ‬

‫ظهرت أبتسامة تهكمية على كالمها‪..‬‬

‫جيش‪ ..‬؟! أين هو باهلل ِ‬


‫عليك ؟!‪ ،‬أتسمين تلك الجماعات المسلحة جيش ؟!‬

‫بدا على ماريان عدم الفهم‪ ،‬أكمل الرجل‪..‬‬

‫السني‪ ..‬وهذه فكرة ظهور تنظيم داعش‬


‫جيشنا أصبح مليشيات شيعية فقط‪ ..‬هدفها القضاء على غالبية الشعب ُ‬
‫هنا في العراق‪ ..‬داعش تقوم بالقتل والذبح والعمليات األرهابية ونحن من ندفع ثمن هذا‪ ،‬عن أي جيش تتحدثين‬
‫؟!‬

‫شعرت ماريان بالخجل عندما حادثت الرجل في موضوع ربما ال يحب أن يتكلم هو فيه‪ ،‬عملت على تغيير‬
‫الحديث ‪..‬‬

‫حسنًا‪ ..‬أين هي والدة تغريد ؟!‪ ،‬أهي نائمة ؟!‬

‫أحمر وجه الرجل فجأة ونظر ألبنته في توجس وخوف من مواجهتها بس ٍر طالما حافظ على بقائه ً‬
‫سرا عنها ‪..‬‬

‫تغريد‪ ..‬الوقت متأخر وسهرتي كثيرا الليلة‪ ،‬ضيوفنا سيخلدون للنوم بعد قليل‪ ،‬ستنام ماريان ِ‬
‫معك في غرفتك وأنا‬ ‫ً‬
‫وعمر سننام في غرفتي‪..‬‬

‫سوءا ‪ ،!..‬التفت الرجل‬


‫هزت تغريد رأسها موافقة ودخلت غرفتها‪ ،‬حينها أدركت ماريان بأنها جعلت األمور أكثر ً‬
‫ألى ضيوفه بعد أن أطمئن أن أبنته قد دخلت غرفتها‪..‬‬

‫زوجتي قد قُتلت على يد األمريكان‪..‬‬

‫أستعدادا للعودة لتلك الذكريات المؤلمة ‪...‬‬


‫ً‬ ‫أتكأ للوراء‬

‫‪236‬‬
‫عِ ضين‬
‫أوال بتفكيك الجيش وتسريح قوادها‪ ..‬ولم يكتفوا بهذا الحد‪ ،..‬لقد‬
‫بعدما دخل األحتالل األمريكي بالدنا قاموا ً‬
‫قاموا بأعتقالنا في سجون أبو غريب‪ ..‬بالتأكيد سمعتم بها‪ ، ..‬أقذر ما حدث في تاريخ السجون قد حدث هنا في‬
‫سجون العراق‪..‬‬

‫مثيرا‪ ،‬لمعت عيني الرجل بالدموع‪..‬‬


‫نسيت ماريان سؤالها من األساس‪ ..‬حديث الرجل بدا ً‬

‫هناك في تلك السجون حصل كل ما هو ليس آدمي بالمرة‪ ، ..‬كانوا يغتصبون نسائنا أمام أعيننا وال نستطيع‬
‫حمايتهن‪ ،‬وأنا واح ًدا من هؤالء‪ ..‬لقد هتكوا ِعرضها أمامي وفي لحظة ألم‪ ..‬ماتت‪ ،‬ولم يكتفوا بهذا الحد‪ ..‬فلقد‬
‫تعالت ضحكاتهم وأزداد عدد مغتصبيها حتى بعدما ماتت ‪ ،!..‬لقد هتكوا ِعرضها وهي ميتةً أي ً‬
‫ضا‪ ،‬ماذا تتوقعوا‬
‫مني حينها ؟!‪ ،‬بأتم معنى الكلم أخرجت الوحش الكامن بداخلي‪ ..‬أستطعت األفالت منهم وأنقضضت على‬
‫أحدهم وقمت بقتله‪ ،‬ال أعلم كيف أستطعت ذلك ولكنني فعلت ‪!..‬‬

‫شعرت ماريان باأللم‪ ،‬كذلك كون هذا الرجل قتل أحد الجنود األمريكيين في السجن تعني نهايته في الحال‪..‬‬
‫فكيف مازال على قيد الحياة ؟!‬

‫و ماذا فعلوا بك بعدها ؟!‪ ،‬كيف لم يقتلوك ؟!‪ ،‬من الطبيعي أن تكون تلك نهايتك ‪!..‬‬

‫ال لم يقتلونني حينها‪ ،..‬لقد تفننوا في طرق التعذيب‪ ..‬بكل هدوء تم زجي في غرفةً مريبة‪ ..‬حينها ظننت أنهم‬
‫علي جنسيًا‪..‬‬
‫سيقتلونني بطريقةً ما‪ ،‬فجأة وجدت أن من دخل تلك الغرفة جنديات أمريكيات وقمن باألعتداء ّ‬
‫بمعنى آخر أغتصاب‪ ..‬يعرفون أن للرجل العربي كرامة وقد قمن بهتك تلك الكرامة‪ ..‬قام أحدهم بتصوير ما‬
‫ضا‪ ..‬بعد ما حدث وبعد هتك عرضي‬
‫يحدث وبالطبع أستقر هذا الفيديو في المواقع األباحية‪ ،‬لم يكتفوا بهذا أي ً‬
‫أنا كرجل أخرجوني عاريًا لساحة السجن الخارجية ‪..‬كانوا قد بنوا غرفًا بال سقف من السيراميك‪ ..‬أدخلوني‬
‫كثيرا في‬
‫تماما‪ ..‬كنا ً‬
‫بواحدةً منهم وفي ليلة الشتاء القاسية سلّطوا علينا خراطيم المياه العمالقة ونحن عاريين ً‬
‫نمت‬
‫المسلطة علينا ومن البرودة التي ال تُحتمل‪ ،‬من شدة التعب وألم التعذيب ُ‬
‫الغرفة‪ ،‬كنا نتألم من شدة المياه ُ‬
‫على األرض عاريًا‪ ..‬أستيقظت على أصوات الكالب التي تحاول أن تنهش جسدي‪ ..‬حاولت أن أحمي عورتي‬
‫جروحا في جسدي كله‪ ..‬لم تعد لدي أي قو ًة لمزيد من مقاومة األلم‪..‬‬
‫ً‬ ‫فعال قد أحدثت‬
‫بسبب أن الكالب كانت ً‬

‫‪237‬‬
‫عِ ضين‬
‫كنت أشعر بأن النهاية قد أقتربت‪ ،‬فوجئت بأنهم قد أحضروا جثة زوجتي وأغتصبوها مرةً أخرى في تحدي منهم‬
‫هذه المرة ألقاوم حتى‪ ..‬هؤالء الحمقى‪ ..‬قد هتكوا عرض األموات ‪!..‬‬

‫ألما لما سمعت من هذا الرجل‪ ،‬أكمل الرجل حديثه‪..‬‬


‫كانت ماريان ترتجف ً‬

‫بعد أسابيع من العذاب تم األفراج عني‪ ،‬تذكرت بالصدفة أن لي بنتًا خبأتها عند أحد الجيران قبل أعتقالي‪ ،‬وبعد‬
‫مرور السنوات وكباقي األطفال عندما يكبرون كانت قد الحظت غياب والدتها‪ ..‬أخبرتها بأنها قد توفيت في‬
‫حادثة‪ ..‬لم أكذب‪ ..‬لكنني أخفيت باقي الحقيقة ‪ ،!..‬عملت بالمقاوالت بأج ٍر يومي‪ ..‬واآلن ال أعمل‪..‬‬

‫كانت ماريان قد أكتفت من سماع ما حدث مع الرجل‪ ..‬لم تتحمل‪..‬‬

‫أرجوك‪ ..‬كفى‪ ..‬كفى‬

‫قامت وأتجهت ناحية غرفة تغريد‪ ..‬لم تتحمل ألم قصة هذا الرجل‪ ،‬فجأة وجدت باب غرفة تغريد مواربًا‪ ..‬كانت‬
‫تغريد تستمع لما يقوله والدها‪ ..‬أستمعت لقصة وفاة والدتها ‪ ،!..‬كانت تبكي وتتألم لمعرفتها الحقيقة‪ ..‬ياليتها لم‬
‫تعرف الحقيقة‪ ..‬بعض الحقائق كان من األفضل لها أن تختفي ‪!..‬‬

‫أكمل الرجل كالمه مع عمر ‪...‬‬

‫ومسرحا‬
‫ً‬ ‫ضا‪ ..‬أصبحت العراق مه ًدا‬
‫و اآلن ظهر لنا تنظيم داعش فجأة‪ ..‬أصبح جميع العراقيين يقاتلون بعضهم بع ً‬
‫لجميع األرهابيين‪ ..‬من يحب أن يُظهر موهبته في األرهاب فاليمسك سالح ويأتي هنا في العراق‪..‬‬

‫طويال‪ ، ..‬الرجل بذكرياته المؤلمة وعمر المتأثر بقصة الرجل‪ ،‬قارن عمر بين قصته وقصة هذا‬
‫ساد الصمت بينهما ً‬
‫الرجل‪ ،‬من األكثر مأساوية ؟!‪ ،‬من قتل أخاه أم من ماتت زوجته وهي ُمغتصبةً أمامه ؟!‬
‫تسامر كالهما حتى قبيل الفجر إلى أن غلبهما النوم‪ ..‬دخل عمر مع الرجل غرفته لينام‪ ..‬غط الرجل في ٍ‬
‫نوم عميق‬
‫بمجرد أن وضع رأسه على وسادته‪ ،‬أما عمر فظل مستيقظًا حتى الفجر يتذكر حديثه مع الرجل‪ ..‬لقد نسي عمر‬
‫مطوال حول عدة قضايا أقليمية وعالمية ال سيما‬
‫عسكري سابق‪ ..‬كان حديثًا ً‬
‫ٌ‬ ‫رجل‬
‫كل همومه وأستمتع بحديثه مع ٌ‬

‫‪238‬‬
‫عِ ضين‬
‫الحديث عن تلك الجماعات المتأسلمة مثل تنظيم داعش والقاعدة وغيرها من تلك الجماعات‪ ..‬فكر عمر في‬
‫أنه ليس من الغريب أنضمام أخيه لتلك الجماعات المتأسلمة‪ ،‬فلقد أنضم لتلك الجماعات شباب أوروبي‬
‫مسيحي‪ ..‬الشيء الذي يدفع الشباب لأللتحاق بهذه الجماعات هو حمل السالح وأغوائهم بأحقيتهم في الدفاع‬
‫دائما ما يُصورون لرجالهم أنهم ُحماة هذا الدين‬
‫عن دين يحاربه الغرب بكافة الطرق الشرعية والغير شرعية ‪ً ،!..‬‬
‫‪!..‬‬

‫كان أخوه واح ًدا منهم‪ ..‬بعدما أختفى فجأة منذ سنتين وبعد فشل كل محاوالت البحث عنه ها هو فقط من عرف‬
‫الحقيقة‪ ..‬أنه داعشيًا‪ ..‬ثم أنتشرت هذه الحقيقة ومعها حقيقةً أخرى‪ ..‬أنه قُتل على يد أخاه عمر‪..‬‬
‫قاطع تفكيره صوت أذان الفجر بالخارج‪ ..‬تأكد عمر من أن الرجل غرق في ٍ‬
‫نوم عميق‪ ،‬لقد أنجاه النوم من‬
‫ذكرياته المؤلمة ومن واقعه المرير‪ ،‬قام عمر وغادر الغرفة بهدوء‪ ..‬توجه لغرفة تغريد وبخط ٍ‬
‫وات هادئة سار ناحية‬
‫ماريان وقام بتحريكها‪ ،‬فتحت ماريان عينيها في دهشة من تواجد عمر بالغرفة‪..‬‬

‫عمر‪ ..‬ماذا يحدث ؟!‬

‫ٍ‬
‫وبصوت خافت ‪..‬‬ ‫أشار لها بالصمت‬

‫رجاءا‪..‬‬
‫هيا تحركي‪ ،‬أتبعيني ً‬

‫إلى أين ؟!‬

‫أشار لها بخفض صوتها‪ ،‬تبعته للخارج في الصالة ثم غادرا المنزل بهدوء‪ ..‬ورغم أنها لم تفهم شيئًا إال أنها فرحت‬
‫ضا للراحة لبعض الوقت‪ ،‬كانت تريد أن تعثر على طاقمها ثم مغادرة العراق‬
‫لهذا القرار المفاجئ ورغم أحتياجها أي ً‬
‫في أسرع وقت‪ ..‬لن تستمر هنا أكثر من ذلك‪..‬‬

‫في بيت جمال‪ ..‬فُتح باب غرفة تغريد‪ ..‬أنها هي‪ ..‬لم تنم وعرفت بمغادرتهم‪ ..‬لفت أنتباهها ورقةً موضوعة على‬
‫المنضدة بجانب التلفاز‪ ..‬أمسكتها وقرأت ما فيها‪..‬‬

‫‪239‬‬
‫عِ ضين‬
‫ضلنا المغادرة‪ ..‬ال تقلق فربك هو ربُنا كذلك وهو من‬
‫" سيد جمال‪ ..‬نحن نعتذر عما بدر منا هذه الليلة‪ ..‬لقد ف ّ‬
‫ضا‬
‫آسف أي ً‬
‫ضا‪ ،..‬آسفون لتذ ُكرك تلك الذكريات المؤلمة مع أنني أظن أنك لم تناسها قط‪ٌ ،..‬‬
‫سيتكفل برزقنا أي ً‬
‫ألننا غادرنا دون علمك‪ ..‬وسالمي عليك وعلى تغريد‪ ..‬أتمنى أن أراك مرةً أخرى وتكون حينها بخي ٍر وصحة‪" ..‬‬

‫دخلت تغريد غرفتها والدموع لم تترك عيناها منذ أن سمعت بحقيقة حادثة والدتها‪..‬‬

‫‪241‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-55-‬‬

‫دائما بنظرية المؤامرات وهذا لم يأتي من فراغ‪ ،..‬فلقد أصبحت الهجمات األرهابية ضد مصر كثيرة‬
‫كان يؤمن ً‬
‫بشكل مبالغ فيه اليومين الماضيين وكأن الجميع في الخارج يتسابق على شن أشرس هجمة على مصر‪ ..‬والكارثة‬
‫األكبر أن تلك الهجمات أنتقلت من سيناء إلى المدن المصرية األخرى‪..‬‬

‫أُرهقت األجهزة األمنية في األونة األخيرة‪ ،‬فلقد أحبط األمن المصري كل تلك الهجمات عدا تلك التي حدثت‬
‫مساء األمس في مول تجاري كبير بالقاهرة وأودت بحياة العشرات‪..‬‬

‫و كأي حادث أرهابي يحدث في مصر فأن أول من يُالم على هذا هو جهاز المخابرات واألجهزة األمنية بسبب‬
‫التقصير الشديد من وجهة نظر النشطاء السياسيين والشعب‪ ..‬أنتقادات شرسة في األعالم ومواقع التواصل‬
‫األجتماعي ‪..‬‬

‫ضا‪ ..‬أختطاف القوات المصرية المشاركة في التحالف العربي باليمن وأرسالهم‬


‫تلك األنتقادات لم تأتي من فر ٍاغ أي ً‬
‫للعراق بهذه الطريقة تُثير عدة تساؤالت ‪ ،‬عمر الذي يقاتل في صفوف تنظيم داعش‪ ..‬التفجير األخير الذي‬
‫حدث في المول التجاري‪ ..‬وقبل كل هذا مقتل الجنود المصريين في كمين العريش‪ ..‬أين المخابرات ؟! أين‬
‫أجهزة الشرطة وو الجيش ؟! لماذا كل هذا التقصير األمني‪ ..‬لكن‪..‬‬

‫ضا ويحتفي بهما ؟!‪ ،‬من يُقدر تلك المجهودات األمنية في أحباط‬
‫من يتكلم عن األنجازات واأليجابيات أي ً‬
‫العشرات بل والمئات من العمليات األرهابية ؟!‬

‫أن للبشر عامةً وللمصريين خاصة عادة سخيفة‪ ..‬يتصيدون أخطائك وذالتك وال يذكرون أب ًدا نجاحاتك‪ ..‬ماذا لو‬
‫علم الناس عن تلك الحروب األستخباراتية ؟! ماذا لو علموا بأن هناك من يقوم بالتضحية مقابل أن يُحبط‬
‫عمليات قد تُحدث كوارث بشرية ؟! هل الجميع سيدعمهم ؟! هل من أحد سيُقدر ويُثني مجهوداتهم العظيمة ؟!‬
‫أم كالعادة سينكرون ذلك‪ ..‬؟!‬

‫‪241‬‬
‫عِ ضين‬
‫لكن المخابرات ليست معنية بالحديث عن أنجازاتها أو مهامها‪ ،‬في النهاية وظيفة المخابرات األساسية هي حماية‬
‫األمن القومي‪ ،‬أهم مبدأ للنجاح أن تعمل بصمت وتدع اآلخرين يتكلمون كيفما شاءوا‪ ..‬أترك القيل والقال وأعمل‬
‫بصمت‪ ..‬في النهاية أنت من ستُسأل عن هذا أمام اهلل وستجازى به ولن يقبل عذرك بأنك لم تستطيع بسبب أن‬
‫قالوا‪..‬‬

‫و رغم كل هذه األخفاقات التي حدثت فأنه مازال يعمل على أصالح كل هذا‪ ،‬لكن ما كان يشغل باله أكثر هو‬
‫عمر الداعشي‪ ..‬يعلم جي ًدا أنه قد تم أجبار عمر على القتال في صفوفهم‪ ..‬لكن هل يعلم عمر مكان ماريان ؟!‪،‬‬
‫سؤال آخر‪ ..‬هل عمر مقتنع بما يفعله مع تنظيم داعش أم أنه يفعل ذلك ألجل ماريان‪ ..‬؟!‬
‫راوده ٌ‬

‫المشكلة هنا أنه حالما يجد ماريان يكون قد أقتنع بما يفعله‪ ..‬حينها سيكف عن البحث عنها ‪ ..‬الوقت ليس في‬
‫صالحه‪ ..‬ماذا سيفيد أن وجدها بعد أن أقتنع بقتاله بجانب داعش‪ ..‬؟!‬

‫أحتمال صادم‪ ..‬أنتفض من مكانه بسرعة‪ ..‬راوده أحتمال مفزع‪ ..‬ماذا لو قام عمر بذبح ماريان ؟!‬
‫ٌ‬ ‫فجأة صدمه‬

‫‪242‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-56-‬‬

‫كان لز ًاما عليهما المغادرة‪ ..‬ال يمكنهما األختباء أكثر في منزل هذا الرجل‪ ،‬الرجل يجد قوت يومه بصعوبة وهذا‬
‫أصال‪ ..‬السبب اآلخر لمغادرتهم هو أنهم ال يريدون أقحام الرجل وأبنته في مطارة داعش لهم‬
‫أن حصل عليه ً‬
‫والتسبب لهم بمشاكل هم بالتأكيد في غنى عنها‪..‬‬

‫غادروا بهدوء دون أن يخبروه بذلك‪ ..‬ومرةٌ أخرى يسيرون في طريق المجهول‪ ،‬فهمت ماريان ذلك تلك المرة ولم‬
‫تسأل عن وجهتهم المقبلة‪..‬‬

‫أثناء سيرهم في شوارع الموصل رأوا مشهد أنساني ُمريع‪ ..‬رأوا رجل ربما يقارب الخمسين يجري وراء آخر عربة‬
‫في قافلة أنقاذ غذائية كانت قد غادرت بسبب الزحام الشديد عليها‪ ..‬كان يريد اللحاق بها لعله يستطيع سرقة‬
‫لقيمات يسد بها جوع أسرته‪ ،‬أمسك بمقبض العربة الخلفي وصعد لكن العربة توقفت فجأة بسبب تجمهر األهالي‬
‫قليال فتم دهسه ‪ ،!..‬والغريب‬
‫أرضا ولسوء حظه رجعت العربة للخلف ً‬
‫أمامها لتقف‪ ..‬تعثرت قدمي الرجل فوقع ً‬
‫أن أهالي المنطقة تجاهلوا األمر وكأن شيءٌ لم يحدث‪ ..‬سعوا فقط للحصول على الطعام غير مبالين بالرجل‬
‫المقتول ‪ ،!..‬بكت ماريان لرؤية أطفال ذلك الرجل وهم يحاولون أيقاظه‪..‬‬

‫ٍ‬
‫لمسافات بعيدة في المدينة لعلهم يصلوا إلى قسم شرطة أو مكتب‬ ‫أمسكها عمر وأجبرها على المغادرة وساروا‬
‫حكومي يستغيثوا به لكنهم فشلوا في أيجاده‪..‬‬

‫على بعد أمتار كانت هناك عربة نقل ستتحرك وتغادر المكان‪ ،‬حضرته فكرة سريعة‪ ..‬شد ذراعها مرةً أخرى للحاق‬
‫بهذه العربة قبل أن تسرع‪ ..‬طاوعته في ذهول‪ ..‬وفي اللحظة األخيرة فهمت أن عليها التعلق بمؤخرة العربة‬
‫والصعود على متنها‪ ،‬هذه المرة سيتركون عربة نقل هي من تحدد وجهتهم‪..‬‬

‫ٍ‬
‫صمت طويل‪ ،‬ففكرت أن تكسر ذلك الصمت ‪...‬‬ ‫ساد بينهما‬

‫عمر‪ ..‬أنا آسفة‪ ،‬آسفة عما بدر مني في منزل هذا الرجل‪ ،‬كنت فقط عصبية و‪...‬‬

‫أشار لها عمر بالتوقف ‪...‬‬


‫‪243‬‬
‫عِ ضين‬
‫ِ‬
‫أوضحت لي كيف يفكر الجميع في قضيتي‪ ..‬الجميع يعلم أنني‬ ‫ِ‬
‫لكنك‬ ‫عليك‪ ..‬أعلم ِ‬
‫أنك لم تقصدي ذلك‪،‬‬ ‫ال ِ‬

‫مجرما على أية حال ‪...‬‬


‫أصبحت ً‬
‫ُ‬ ‫أمر آخر‪،..‬‬
‫قاتل أخي‪ ،‬ليس عندهم أستعداد لتقبل أي ٌ‬

‫فعال‪ ،‬قادتني الصدفة الغريبة من مصر للملكة المتحدة ثم للعراق لتتبُعك أنت‬
‫ح ًقا آسفة يا عمر‪ ..‬لم أقصد ذلك ً‬
‫حدث هام‪ ..‬كذلك أنت قادتك المصادفة ألغرب ما يتخيله عقل ‪ !..‬من مصر لليمن ثم العراق‬
‫بالذات ولتصوير ٌ‬
‫وأخيرا‪..‬‬
‫ً‬

‫توقفت فجأة‪ ..‬ال تريد أن تجرحه من جديد‪ ،‬رسمت أبتسامة ورفعت حاجبيها وبثقة أخبرته ‪..‬‬

‫ربما لم يتفهم الجميع أمرك‪ ..‬لكنني أخبرك وبكل ثقة أن هناك أحدهم يتفهم أمرك جي ًدا‪..‬‬

‫ٍ‬
‫بصوت مسموع‪..‬‬ ‫فهم عمر أالم تشير ماريان‪ ..‬أنها آسية‪ ..‬تلك الفتاة الرائعة‪ ..‬بدا عليه التفكير‬

‫هي الوحيدة التي تقبلتني رغم عيوبي ‪...‬‬

‫لحظات صمت ثم أسترسل كالمه عنها ‪...‬‬

‫لم أنسى ذلك اليوم أب ًدا‪ ..‬اليوم الذي غيّر مسار حياتي كلها‪ ، ..‬أتذكر اليوم الذي ألتقينا فيه ألول مرة باليوم‬
‫والتاريخ والساعة والمكان‪ ،..‬كل لحظة أتذكرها‪ ..‬كل لقاءٌ حدث بيننا وما حدث فيه‪ ..‬أتذكر حديثنا كله وكأنه‬
‫يحدث أمامي كل يوم‪ ..‬أتذكر تفاصيل لقاءاتنا جميعها ‪..‬‬

‫كل ما يُحكى عن أسطورة النظرة األولى حقيقي‪ ،..‬بدأت حياتي منذ تلك اللحظة تحدي ًدا‪ ،..‬عرفت معنى الحب‬
‫خشيت أوقات أن‬
‫ُ‬ ‫ضا أدرك بأن حياته ال تساوي شيء بدون اآلخر‪،‬‬
‫كل منا يحب اآلخر وكالنا أي ً‬
‫معها‪ ..‬كان ٌ‬
‫أعترف رسميا بحبي لها لكنني كل مرة كنت أفضل التسويف ٍ‬
‫لوقت آخر خشية أن تُسيء فهمي‪..‬‬ ‫ً‬

‫عندما حان الوقت لألعتراف تلقيت صدمةً لم أكن ألتخيلها ‪ ...‬ستتزوج‪ ..‬ظننت أن هذه النهاية وكل شيء قد‬
‫فعال‪ ،‬لكن أرادة اهلل كانت حاضرة لتُظهر لي عجائب قدرته‪ ،‬تُصاب بالشلل في حادثة ويبتعد من كان‬
‫أنتهى ً‬
‫سيتزوجها عنها لتجدني أنا أمامها من جديد ويعطيها اهلل سببًا آخر للحياة‪..‬‬

‫‪244‬‬
‫عِ ضين‬
‫ضا بزواجنا أن األمور قد أنتهت لصالحنا هذه المرة‪ ..‬لتظهر لنا من جديد‬
‫كنت أنا الحياة بالنسبة لها وظننت أي ً‬
‫فصل جديد عليكم التعايش معه ‪..‬‬
‫أرادة اهلل ويقول لنا أن األمر لم ينتهي بعد‪ ،..‬هناك ُ‬
‫قليال وأغمض عينيه ‪...‬‬
‫أرجع رأسه للوراء ً‬

‫و عندما غادرت أدركت معنى إنفصال الروح عن الجسد‪ ،..‬قد يكون كل إنفضال الروح عن الجسد يعني الموت‪،‬‬
‫ميت على قيد الحياة‪..‬‬
‫هذه حقيقة فأنا ٌ‬

‫ما جذب إنتباههم هو توقف العربة ‪ ...‬نظر عمر حوله فوجد إنهم بمكان يبدو هادئًا وراقيًا في هذه المدينة‪ ..‬إذن‬
‫ضا هو‬
‫ليست كل األماكن سيئةً هنا وربما يتم العثور على المساعدة هنا للخروج من هذا المكان‪ ،‬جذب إنتباهه أي ً‬
‫مثال ثم سرعان ما رأى شعار فريقه المفضل‬
‫أصوات ضجيج داخل مقهى‪ ،‬فكر في إنه قد تكون هناك مباراة مهمة ً‬
‫في كرة القدم‪ ..‬لاير مدريد اإلسباني‪ ..‬نسي كل همومه في هذه اللحظة وأرتسمت تعابير البهجة والسعادة على‬
‫وجهه‪ ،‬كان يعشق كرة القدم وباألخص هذا الفريق‪ ..‬كان يعرف أن أغلب العراقيين يشجعون فريق لاير مدريد‪ ..‬لم‬
‫يتابع فريقه المفضل بسبب هذه المهمة اللعينة‪ ،‬تقدم بحماسة بإتجاه المقهى ‪ ...‬حاولت ماريان لفت أنتباهه إلى‬
‫فعال على وشك دخول المقهى‪ ..‬فكرت بأنها تلحق‬
‫أن هناك قسم شرطة في الجهة األخرى من الشارع لكنه كان ً‬
‫به وحينما تنتهي المباراة يمكنها إخباره باألمر‪ ،‬زفرت ماريان ‪...‬‬

‫اللعنة على كرة القدم‪ ،..‬ال أعرف ما المتعة في الجري وراء شيءٌ دائري لعين‪..‬‬

‫إلتحقت به ودخلت المقهى معه‪ ..‬الصخب يملئ المكان‪ ،‬تبدو مباراةً مهمة‪ ،‬التفتت لترى وجه عمر المتحمس‬
‫ج ًدا‪ ..‬فرحت بذلك‪ ،‬يبدو إنه وجد شيئًا يخفف عنه عبء ومشاكل اليومين الماضيين‪ ،‬آمنت فعال بسحر كرة‬
‫القدم على الرجال لدرجة انها أنست عمر همومه كلها ‪!..‬‬

‫ضا مناطق‬
‫تعرف ماريان جي ًدا من خالل عملها كمراسلة األوضاع في العراق‪ ،‬هناك مناطق محاصرة وهناك أي ً‬
‫المؤمنة‪،‬‬
‫يسيطر عليها األمن العراقي‪ ..‬لكن ال يمنع هذا وجود عمليات أرهابية في بعض االحيان في تلك المناطق َ‬
‫دائما في المناطق الحيوية المليئة بالصراعات كان من الصعب عليها تخيل أن هناك مناطق بهذا‬
‫وبحكم عملها ً‬

‫‪245‬‬
‫عِ ضين‬
‫القدر الغريب من الهدوء والرقي في العراق بالذات‪ ..‬األعالم ال ينقل سوى الصراعات والخراب حتى يظن الناس‬
‫معا‪..‬‬
‫أن العالم كله شر وخراب وينفي مبدأ أن في كل مكان يتواجد الخير والشر ً‬

‫عاما يحلم بالوصول للمباراة النهائية ألعرق البطوالت‬


‫كانت المباراة بالنسبة له أشبه بالحلم‪ ..‬إثني عشرة ً‬
‫مسرورا أيضا‪ ..‬فبعد كل هذه السنين من الجفاء بهذه البطولة‬
‫ً‬ ‫األوروبية‪ " ..‬دوري أبطال أوروبا "‪ ،‬لكنه لم يكن‬
‫يكون فريقه ُمنهزم‪ ..‬تحمس وتفاعل مع كل فرصة لفريقه او على فريقه‪ ..‬وصلت المباراة لذروتها وما زال فريقه‬
‫منهزم‪ ..‬وضع وجهه بين كفيه يدعي ويدعي ويثق في الدقائق األخيرة‪ ..‬لم يكن حاله هو فقط‪ ..‬الجميع في‬
‫ضا والوقت األصلي‬
‫المقهى مستاءين من النتيجة وفرصة تلو األخرى تضيع والبطولة المنتظرة منذ سنوات تضيع أي ً‬
‫للمباراة إنتهى تقري ـ ‪ ...‬هدف ‪ ،! ...‬في لحظة واحدة سادت الفرحة الجنونية في المكان كله‪ ،..‬الجميع أصواتهم‬
‫أُرهقت بسبب صرخة الفرحة‪ ..‬وبالرغم إنه هدف التعادل وليس الفوز بعد فقد تيقن الجميع بأن هذا الهدف هو‬
‫هدف البطولة القادمة‪ ..‬التعادل من جديد‪ ..‬الجميع تنفس الصعداء‪ ..‬األشواط اإلضافية حملت أخبار سارة‬
‫للجميع‪ ..‬فريق لاير مدريد يحرز ثالثة أهداف أخرى ومع كل هدف يصيح الجميع‪ ..‬ومن يفوته المباراة ولم‬
‫سهال‪ ..‬الجميع جالس‪ ..‬ال أحد غادر منتظرين لحظات‬
‫يحضرها ويسمع بهذه النتيجة يُخيل إليه أن الفوز كان ً‬
‫التتويج ورفع الكأس الذي طال إنتظاره‪..‬‬

‫سمعت ماريان أصوات صخب في الخارج لكنها لم تستطع أن تخرج لتعرف ما يحدث بالخارج بسبب تكدس‬
‫ال مشجعين على مدخل المقهى‪ ،‬لكنها رشحت بأن هناك أحتفاالت بالخارج‪ ..‬لكن شيئًا ما يقلقها‪ ،‬حاولت أن‬
‫عالم آخر‪ ..‬هنا فرحة‬
‫عالم وفي الخارج ٌ‬
‫مندمجا في الحديث مع مشجع آخر‪ ..‬هنا ٌ‬
‫ً‬ ‫تخبر عمر بقلقها لكنه كان‬
‫ذعرا وتوقف قلبها وتسارعت أنفاسها عندما رأت من بعيد‬
‫وفي الخارج أحزان ال تنتهي‪ ..‬للحظة إتسعت عيناها ً‬
‫رجاال مسلحين يلبسون زيًا أسود مندفعين نحو المقهى ‪ ، !..‬أمسكت بذراع عمر وهزته بعنف فنظر إليها في‬
‫ً‬
‫دهشة من تصرفها المفاجئ‪ ،‬لم يسمعها بسبب الصخب المنتشر في المكان‪ ..‬إقتربت وصرخت في أذنيه‬
‫وأخبرته‪ ،‬لم يتمكن من اإللتفات للوراء‪..‬‬

‫للحظة ساد المكان كله األضطراب والرصاص المتراشق وتساقط الواحد تلو اآلخر‪ ،..‬دخلت المجموعات‬
‫أرضا وسط إندفاع الجميع عشوائيًا وسقط‬
‫المسلحة وأطلقت النار عشوائيًا في جميع االتجاهات‪ ،‬إنبطح عمر ً‬
‫‪246‬‬
‫عِ ضين‬
‫وبدال‬
‫ميت مرة أخرى لكنه ً‬
‫وصدم رأسه باألرض صدمة قوية‪ ..‬تألم بشدة وحاول تمثيل إنه ٌ‬
‫قتيال ُ‬
‫عليه شخص ما ً‬
‫عن ذلك بحث بيديه عن ماريان‪!..‬‬

‫ماريان‪ ..‬ماريان‪..‬‬

‫بصرا‪ ..‬حاول‬
‫ردا منها‪ ،‬أين هي ‪..‬؟!‪ ،‬هل قُتلت ؟!‪ ،‬كان نصف ُم ً‬
‫قالها بصوت يشوبه األلم والضعف‪ ..‬لم يتلقى ً‬
‫جاه ًدا البحث عن ماريان لكنه لم يُفلح‪ ،‬أحس بنفسه يرتفع عن األرض‪ ..‬أحدهم يساعده‪ ..‬بدأ يفقد وعيه شيئًا‬
‫فشيئًا‪..‬‬

‫على الشاشة فريق يتوج بأمجد الكؤوس األوروبية‪ ،..‬وما حول الشاشة دماءٌ متناثرة‪ ،..‬على األرض جثث ُملقاة‪،..‬‬
‫في المكان مأساة أخرى‪ ،‬بين الجثث ال توجد ماريان‪ ،‬وال يوجد عمر كذلك ‪!! ...‬‬

‫‪247‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-50-‬‬

‫ظن إنه قد رحل عن هذه الدنيا وإرتاح من العار الذي لحق به‪ ..‬ظن أن األمور قد أنتهت وأنه سيُحاسب عما‬
‫عالم بكل شيء ولن يخيب ظن اهلل به‬
‫سوءا ولم يعلموا بحقيقة األمر فإن اهلل ٌ‬
‫قريب‪ ..‬بالتأكيد إن ظن الجميع فيه ً‬
‫‪..‬‬

‫حامال لراية‬
‫كيف سيكون األمر عندما يقف هو وأخيه جنبًا إلى جنب متخاصمين أمام اهلل؟!‪ ،‬من منهم سيكون ً‬
‫الحق ؟‪ ،‬من تمسك بدينه وحاول جاه ًدا أن ينصره ولكنه فعل ذلك بالطريقة التي تسيء لإلسالم أم ذلك الذي‬
‫إكتفى بعالقته المتواضعة مع اهلل وأن يكتفي بأن يرى الناس اإلسالم في ُخلقه لكنه في النهاية قتل أخيه‪ ..‬؟!‬

‫صعق عندما راوده أحتمال مفزع لم يفكر به طوال األيام الماضية‪ ..‬القاتل والمقتول في النار‪ ،!..‬هذا قول رسول‬
‫ُ‬
‫مستسلما وتركه يفعل ما‬
‫ً‬ ‫فعال هذا القول على كالهما‪ ..‬في البداية لم يكن يريد هو قتل أخيه‪ ..‬كان‬
‫اهلل وينطبق ً‬
‫يشاء به ولكن في النهاية هو من قتل أخيه وليس العكس‪ ..‬إنطبق شرط رسول اهلل ليكون القاتل والمقتول في النار‬
‫تحصل على فرصته المناسبة لقتل القاتل لفعل‪ ،‬فما بالك بالقاتل نفسه ؟!!‪ ،‬لكن‪ ..‬يشعر‬
‫وهي لو أن المقتول ّ‬
‫صفع بالماء على وجهه‪ ،‬شهق ثم فتح عينيه‬ ‫بثقل في جسده‪ ..‬يشعر بشيءٌ ما حوله‪ ،‬فجأة وجد نفسه قد ُ‬ ‫ٍ‬
‫بصعوبة في ذهول !‪ ،‬ما زال حيًا ؟!‪ ،‬حاول أن يتذكر آخر شيء قد حدث له لكنه تفاجأ بأن أحدهم يصيح به في‬
‫غضب ‪...‬‬

‫هيا‪ ..‬هيا‪ ،‬تحرك ‪..‬‬

‫رغما على الوقوف ‪ ،!..‬بصعوبة‬


‫نظر بأتجاه الصوت لكنه لم يتعرف عليه بعد‪ ..‬الصورة أمامه مشوشة‪ ،‬وجد نفسه ُم ً‬
‫حاول أن يخمن أنه كان في سجن أو شيء هكذا‪ ،‬غطوا وجهه بقناع مثل تلك التي توضع لذلك الشخص‬
‫المحكوم عليه باألعدام‪ ،..‬سمع صوت ٍ‬
‫باب حديدي يُفتح وشيئًا فشيئًا بدأت األمور تتضح في ذهنه‪ ..‬سيتم‬
‫إعدامه في اللحظات القادمة‪ ،‬تقشعر جسده بالتفكير في هذا األمر‪ ..‬اللحظات األخيرة‪ ..‬نوعٌ أخر من سكرات‬
‫الموت يعيشها‪ ،‬صحيح إنه منذ ساعات مضت كان يتمنى الموت ليتخلص من عاره‪ ،‬لكن النفس تقاوم وتريد‬
‫الحياة !‪ ،‬لكن لماذا لم يقتلوه من البداية ؟!‪ ،‬بدأ يقاوم من يمسكونه لكنهم يقيّدونه بإحكام‪ ..‬لم يفهم بعد الى‬

‫‪248‬‬
‫عِ ضين‬
‫مرغما في طرقات أشبه بالمتاهة‪ ، ..‬كانت هناك أصوات من حوله وبعدة لغات‬ ‫أين يسير ‪ ،!..‬كان يسير معهم ً‬
‫كذلك ‪ ، !..‬لم يستجمع كافة أفكاره بعد‪ ،‬ما يدركه فقط اآلن إنه أسير أحدى الجماعات المتطرفة‪ ..‬فجأة أُجبر‬
‫علي التوقف ثم نزعوا ذلك القناع فوجد نفسه واق ًفا أمام إحدى الغرف‪ ،‬كان هناك من يحرس الغرفة‪ ،..‬فتح لهم‬
‫ٍ‬
‫بصوت شجي ‪..‬‬ ‫الباب وسمح لهم بالدخول‪ ،‬عندما دخل عمر مقي ًدا وجد شخص ما يقرأ القرآن‬

‫ص ٍد فَِإن‬
‫ْع ُدواْ لَ ُه ْم ُك َّل َم ْر َ‬
‫وه ْم َواقـ ُ‬
‫ص ُر ُ‬
‫اح ُ‬
‫وه ْم َو ْ‬ ‫ث َو َجدتُّ ُم ُ‬
‫وه ْم َو ُخ ُذ ُ‬ ‫ين َح ْي ُ‬ ‫( فَِإ َذا انسلَ َخ األَ ْشهر الْحرم فَا ْقـتـلُواْ ال ِ‬
‫ْم ْش ِرك َ‬
‫ُ‬ ‫ُ ُ ُ ُُ ُ‬ ‫َ‬
‫يم)‬ ‫الزَكا َة فَ َخلُّواْ سبِيلَهم إِ َّن اللَّه غَ ُف ِ‬
‫الصال َة َوآتَـ ُواْ َّ‬
‫ور َّرح ٌ‬
‫َ ٌ‬ ‫َ ُْ‬ ‫تَابُواْ َوأَقَ ُامواْ َّ‬

‫أغلق المصحف ونظر بإتجاه عمر‪ ، ..‬قام من مكانه وأتجه ناحيته ليقف أمامه مباشرة‪ ..‬تبادال النظرات الحادة‬
‫بينهما‪ ،‬كالهما لم يتنازل عن النظر بحدة في عيني اآلخر لكن الفارق هنا أن ذلك الرجل يكاد يسمع دقات قلب‬
‫عمر المتسارعة‪ ..‬لحظات ما قبل الموت‪ ، ..‬أو هكذا كان يظن‪ ،‬فجأة أطلق ذلك الرجل ضحكة مكتومة ثم‬
‫ساخرا ‪..‬‬
‫تعالت ضحكته ثم قال ً‬

‫تماما تُظهر عكس ما يخفيه قلبك‪ ..‬قلبك ينبض خوفًا‬


‫كثيرا‪ ،‬عيناك مثله ً‬
‫تلك النظرة هي نفسها‪ ..‬لم تختلف عنه ً‬
‫وعيناك تظهر عكس ما تخفيه‪ ..‬شجاعة مبالغةٌ فيها‪..‬‬

‫كامال‪ ،‬أشار ذلك الرجل‬


‫لم يعرف عمر عن من يتكلم هذا الرجل بالتحديد‪ ،‬بالكاد يحاول جاه ًدا إدراك األمر ً‬
‫للرجلين بالمغادرة‪ ،‬غادر الرجالن وتبقى هو وعمر فقط في الغرفة‪ ،‬أستطرد الرجل ‪...‬‬

‫من حسن حظي أن رجالي كانوا يقظون و يعملون بتركيز ليلة أمس‪ ،‬ثواني قليلة كانت كافية بإعالن موتك انت‬
‫في من جديد ‪..‬‬
‫وهي‪ ،‬ستتم مكافآتهم بالتأكيد‪ ..‬فأنت طريقي الستعادة ثقة الخليفة ّ‬
‫و كأن عمر لم يسمع سوى كلمتين فقط " أنت وهي "‪ ..‬ماريان‪ ..‬ليلة أمس‪ ..‬المقهى‪ ..‬الهجوم اإلرهابي‪ ،‬قُتلت‬
‫؟!!‪ ..‬ال ال كالمه يدل على إنها مازالت على قيد الحياة مثله‪ ،‬قطب عمر حاجبيه في غضب وسأله ‪..‬‬

‫أين هي ؟!‬

‫تعجب من نبرة صوته المتحدية فأطلق ضحكةً ساخرة مرة أخرى ‪..‬‬

‫‪249‬‬
‫عِ ضين‬
‫ضا تلك الشخصية الغريبة والغامضة ذاتها‪ ،‬عليك أن تفكر في نفسك اآلن يا عمر ودعك من اآلخرين‬
‫لديك أي ً‬
‫‪..‬‬

‫لم ينتبه عمر ألي كالم سوى أن هذا الرجل لم يجيبه على سؤاله‪ ،‬كرر سؤاله بنفس حدة الغضب ‪..‬‬

‫قلت لك أين هي‪ ،..‬أين ماريان ؟‬

‫إرتسمت إبتسامة ماكرة على وجه ذلك الرجل‪..‬‬

‫ٍ‬
‫بشكل أوضح مكانها سيعتمد على إختيارك‪..‬‬ ‫هذا يعتمد على تعاونك معنا‪ ..‬أو‬

‫عقد عمر حاجبيه‪ ،‬لم يفهم إجابته ‪..‬‬

‫ماذا تعني‪ ..‬؟!‬

‫وضع الرجل يده على كتف عمر وتكلم بهدوء ‪..‬‬

‫وضع اهلل سبحانه وتعالى أمامنا طريقان‪ ..‬الهداية والضالل‪ ،‬وعلى األنسان أن يختار بينهما وعلى أساس أختياره‬
‫سيكون جزاؤه‪ ..‬إما جنةٌ عرضها السموات واألرض أو في جهنم خال ًدا فيها‪ ..‬أبعدنا اهلل وأياك عنها ‪..‬‬

‫لم يفهم عمر بعد‪ ..‬وبلهجة حادة سأله ‪...‬‬

‫ما عالقة هذا بسؤالي ؟! أين ماريان ؟‪ ،‬ومن أنت وماذا أفعل أنا هنا ؟!‬

‫بدا على الرجل أنه يحاول السيطرة على نفسه ‪..‬‬

‫تماما ‪...‬‬
‫عني ٌد مثله ً‬
‫متسائال‪..‬‬
‫ً‬ ‫قاطعه عمر‬

‫من هذا الذي تكلمني عنه هكذا ؟!‬

‫تفاجأ الرجل من سؤال عمر‪..‬‬

‫أبو عمار يا رجل‪ ..‬أبو عمار‬

‫‪251‬‬
‫عِ ضين‬
‫قالها بسخرية مما جعل عمر يقطب حاجبيه مستغربًا‪ ،‬فهم الرجل أن عمر لم يفهم بعد‪ ،‬ضرب بكفه على جبهته‬
‫‪..‬‬

‫يا رجل ال تقول لي إنك ال تعرف أن أخاك كان يُلقب هنا بأبو عمار‪..‬‬

‫ساهما‪ ،‬يلتفت حوله مشرد الذهن غير مصدقًا لما سمعه‪ ..‬أو حتى لما رآه‪ ..‬كيف‬
‫صعق عمر لما سمعه‪ ..‬وقف ً‬
‫ُ‬
‫لم ينتبه لذلك ؟!‪ ،‬راية داعش مثبتة على الحائط‪ ..‬لقد فهم األمر كله‪ ،‬لكن يتبقى شيء واحد فقط ال يفهمه‪..‬‬
‫لماذا لم ينتقموا منه ويقتلوه حتى اآلن ؟!‪ ..‬هل لذلك عالقة بما يسعى إليه ذلك الرجل؟!‪ ،‬إستطرد الرجل كالمه‬
‫‪...‬‬

‫لندع موضوع أخاك جانبًا ولتسمع عرضي لك‪ ،‬ولك حرية األختيار ‪..‬‬

‫بدا على عمر التركيز‪ ،‬لحظات صمت بدا على ذلك الرجل أنه يرتب كالمه‪ ..‬مسألة إقناع عمر ليست بالسهلة‪،‬‬
‫قائال‪..‬‬
‫إستطرد ً‬

‫سألت عن سبب وجودك هنا‪ ،..‬أليس كذلك ؟! !‬

‫نظر إليه عمر نظرة أنكار‪ ،‬ال يعرف لكنه يشك باألمر‪ ،‬أستطرد الرجل‪..‬‬

‫علي‬
‫ب ّ‬ ‫وج َ‬
‫من العدل أن أمنحك حق أختيار مصيرك‪ ..‬إما ان تكون معنا أو علينا‪ ،‬لكن قبل أن تقرر أيضا مصيرك َ‬
‫أن أوضح لك كافة األمور‪ ..‬من نحن ؟ وما هدفنا ؟ هل ما يشاع عنا صحيح ؟!‬

‫يريد الدخول بمقدمة ليقنع عمر بما يريد هو الوصول إليه‪ ،‬فيما كان يسخر عمر في نفسه من هذا الداعشي‪ ،‬هو‬
‫نفسا‬
‫ح ًقا يعرف من يكون هؤالء‪ ..‬قتلة‪ ..‬سفاحين‪ ..‬أرهابيين‪ ..‬متأسلمين وجنود الغرب الخفية‪ ،..‬أخذ الرجل ً‬
‫عمي ًقا‪ ..‬كان مستع ًدا لمناقشة حتمية اآلن ‪..‬‬

‫أعرفك بنفسي يا عمر‪ ..‬أنا عثمان بكير‪ ..‬المساعد األول لحضرة الخليفة أبو بكر البغدادي‪ ..‬أنشأنا تنظيمنا هذا‬
‫تمهي ًدا لعودة الخالفة اإلسالمية‪ ..‬من جديد سنحكم العالم‪..‬‬

‫ضحك عمر بأستهجان ‪..‬‬

‫‪251‬‬
‫عِ ضين‬
‫أحالم وردية يا هذا‪..‬‬
‫ٌ‬
‫ليست أحالم يا عمر طالما لدينا أيمان بهذا سنفعل‪ ..‬طالما ننفذ ما أمرنا اهلل به سيأتي اليوم الذي نُكافء به من‬
‫اهلل عز وجل ‪..‬‬

‫تساءل عمر في استنكار ‪...‬‬

‫و هل اهلل أختاركم أنتم بالذات لتنفذوا أوامره وتقوموا أنتم بمهمة أستعادة مجد المسلمين ؟!‪ ،‬ثم ما هي أوامر اهلل‬
‫التي تسعون لتنفيذها‪ ..‬القتل والدمار والخراب وترويع الناس وذبحهم وقتلهم دون ذنب ؟!‬

‫كثيرا‪ ،‬سار عثمان بأتجاه المكتب ومسك‬


‫كان الهدوء الذي يظهره عثمان في شخصيته وكالمه يزعج عمر ً‬
‫المصحف ورفعه في وجه عمر رد بهدوء‪..‬‬

‫فتحنا كتاب اهلل وتدبرنا أياته فوجدنا إننا أُمة أضاعت دينها بأيديها‪ُ ..‬أمة رضيت بالذل والهوان‪ُ ..‬أمة هجرت‬
‫ِ‬
‫ب إِ َّن قَـ ْومي اتَّ َخ ُذوا َه َذا الْ ُق ْرآ َن َم ْه ُج ً‬
‫ورا ﴾ ‪.‬‬ ‫ول يَا َر ِّ‬
‫الر ُس ُ‬
‫ال َّ‬
‫﴿وقَ َ‬
‫القرآن‪ ..‬يقول اهلل َ‬
‫ساخرا‪..‬‬
‫ابتسم عمر ً‬

‫ال تقول بأنك تريد أقناعي بتنظيمكم هذا‪ ..‬أنتم أرهابيين على كل حال‪..‬‬

‫نفعا‪ ،‬كان يدرك شخصية عمر جي ًدا‪ ..‬هذه‬


‫كان يدرك عثمان أن الحديث والنقاش المحتدم مع عمر لن يجدي ً‬
‫دائما بالنقاش اإليجابي واألدلة الدامغة‪ ،‬لهذا لم يغضب من تلفظ عمر عليهم‪ ..‬يريد‬
‫النوعية من الشخصيات تؤمن ً‬
‫أن يتعامل معه بهدوء‪..‬‬

‫حسنًا‪ ..‬يمكننا أن نتناظر اآلن‪ ..‬ما رأيك ؟‪ ..‬أخبرك بقناعاتي وأنت تخبرني بما لديك وعلى أية حال سنصل‬
‫لنتيجةً ما‪..‬‬

‫شعر عمر بقشعريرة تسري بجسده‪ ..‬لم يعتاد أب ًدا على المناظرات أو التحدي من هذا النوع من النقاش‪ ،‬ثم أنه‬
‫غير مست عد لمناظرة داعشي‪ ،‬بالتأكيد حججه ستكون ضعيفة أمام هذا الرجل ‪ ،!..‬صمت ولم يبدي موافقته لكن‬
‫عثمان أعتبر سكوت عمر هذا موافقة‪ ،..‬رتّب كالمه في عقله وأستعد جي ًدا لمناظرة ضرورية اآلن ألقناع عمر‪ ..‬أو‬
‫بمعنى أدق يستعد ألقناع عمر بأي حال من األحوال بغض النظر على أنها ليست مناظرة من األساس ‪..‬‬

‫‪252‬‬
‫عِ ضين‬
‫إسما ‪ ...‬في البطاقة مسلمين وفي‬ ‫نحن أُمةٌ سقط منها إسالمها وخرجت علينا أجيال ال تعرف عن اإلسالم إال ً‬
‫حياتهم فاسقين‪ ..‬أنتشرت السرقة والخداع والنفاق والكذب والرشاوي والزنا وكذلك الفساد في كل شيء (ظَ َه َر‬
‫ض الَّ ِذي َع ِملُوا لَ َعلَّ ُه ْم يَـ ْرِج ُعو َن)‪ ،..‬نسينا ديننا ونسينا‬ ‫ت أَي ِدي الن ِ ِ ِ‬ ‫الْ َفس ُ ِ‬
‫َّاس ليُذي َق ُهم بَـ ْع َ‬ ‫اد في الْبَـ ِّر َوالْبَ ْح ِر بِ َما َك َسبَ ْ ْ‬ ‫َ‬
‫أوامر اهلل‪ ،‬نسينا الرسول وسنته‪ ،‬نسينا إسالمنا حتى خدعونا الغرب ويدعوننا باإلرهاب‪ ..‬يقتلوننا ويعذبوننا‬
‫ويشردوننا ويُـ ّهجروننا من بيوتنا ويسلبون اموالنا وبعد كل هذا نتبعهم‪..‬‬

‫صمت لثواني ثم أكمل كالمه ‪..‬‬

‫أنشأنا هذه الدولة ( داعش ) لردع الكافرين وإعادة اإلسالم لمكانه الطبيعي وقتال كل أعداء اهلل واإلسالم ‪..‬‬

‫استنكر عمر كالمه ‪...‬‬

‫كافرين‪ ..‬؟! مجتمعنا كله كافر ؟!‪ ،‬لماذا تُكفر كل الناس ؟‬

‫لسنا نحن من نُكفر الناس‪ ،‬كالم اهلل واضح‪..‬‬

‫قالها وهو يرفع المصحف في وجه عمر ‪...‬‬

‫الجميع حولنا كافرون‪ ..‬الشيعة كافرون‪ ..‬النصارى وإليهود كافرون‪ ..‬حتى المسلمين المتقاعدين هم للكفر أقرب‬
‫جميعا‪..‬‬
‫منه لإليمان‪ ..‬واهلل أمرنا بقتالهم ً‬
‫قطب عمر حاجبيه وقال بأستهجان وسخرية من كالمه ‪..‬‬

‫ظلما ونُ ّذبح هذا وذاك‪ ..‬هذه هي أوامر‬


‫نعم اهلل قال أقتلوا األبرياء المارين في الشارع من أطفال ونساء ورجال ً‬
‫اهلل ؟‪ ،‬واهلل إن اهلل بريءٌ مما تزعمون‪ ..‬تحرفون كالم اهلل لتخدموا أهدافكم الدنيئة ؟!‬

‫تماما‪..‬‬
‫لم يتعجب عثمان من الجرأة والشجاعة التي يبديها عمر في هذا المكان بالذات‪ ،‬أخوه مثله ً‬

‫يا رجل ال تصدق كل ما يُعرض في األعالم‪ ،..‬متى حدث وأن قتلنا أبرياء ؟!‪ ،‬ديننا ال يأمرنا بذلك ونحن ال نفع ـ‬
‫‪...‬‬

‫قاطعه عمر في غضب‪..‬‬

‫‪253‬‬
‫عِ ضين‬
‫ال تكلمني بأسم الدين يا هذا‪ ،..‬ثم أن الموضوع ال يتعلق باألعالم‪ ..‬لقد حدث هذا معي أول أمس حين هاجمتم‬
‫لكنت ميتًا االن‪..‬‬
‫ودفنت معهم حينها ولوال أن أحدهم أنقذني ُ‬
‫الناس في شارع في شوارع الموصل وقتلتموهم ُ‬
‫قليال‪ ..‬يريد السيطرة على األمور دون أن يصيب عمر‬
‫لحظات صمت فكر حينها عثمان بتهدئة األجواء ً‬
‫بالعصبية‪..‬‬

‫ما زلت مخطئًا يا عمر في تقدير الموقف ‪..‬‬

‫رفع كفيه ‪..‬‬

‫كامال‪ ..‬نحن كمسلمين أُمرنا أن نقاتل‬


‫حسنًا حسنًا‪ ..‬سأرد على إتهامك هذا الح ًقا لكن دعني اشرح لك األمر ً‬
‫فئتين من الناس‪ ..‬االولي منها هم النصارى وإليهود‪ ،‬الثانية هم الخوارج ( الشيعة ) ‪ ،‬وأُمرنا كذلك بمقاومة تقاعد‬
‫أمتنا عن أعظم فريضة غائبة عن أذهاننا‪ ..‬الجهاد في سبيل اهلل‪ ،‬لنتكلم عن كل فئة على حدة‪ ..‬بمن تحب أن نبدأ‬
‫‪..‬؟!‬

‫ردا من عمر لكنه كما خطط‪ ..‬عمر لم يجيب‪ ،‬أجاب هو عن سؤاله‪..‬‬


‫أنتظر عثمان ً‬

‫حسنًا دعني أختار أنا‪..‬‬

‫فكر للحظات وسط ترقب من عمر ‪...‬‬

‫اوال‪ ..‬النصارى وإليهود وغيرهم‪ ، ..‬هؤالء كافرون وال خالف عليهم‪ ،‬يقول اهلل ( َوَمن‬ ‫دعنا نبدأ بغير المسلمين ً‬
‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين)‪ ،..‬أذن فأنا وأنت نتفق على كون هؤالء‬‫اإل ْس َالِم دينًا فَـلَن يُـ ْقبَ َل م ْنهُ َو ُه َو في ْاآلخ َرة م َن الْ َخاس ِر َ‬
‫يَـ ْبتَ ِغ غَْيـ َر ِْ‬
‫كفرة‪ ..‬وحيث أنهم كافرون فإننا مطالبون كمسلمين قتالهم حتى يُسلموا‪ ..‬يقول حبيبنا المصطفى في حديثه (‬
‫أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن ال إله إال اهلل)‪..‬‬

‫قاطعه عمر ‪...‬‬

‫و لكن اهلل قال ( َال إِ ْك َر َاه فِي الدِّي ِن )‪ ،‬فلماذا نُكره الناس على األسالم ً‬
‫بدال من أن نقتلهم‪ ..‬؟!‬

‫السنة النبوية شارحةً للقرآن‪ ..‬فهذا الحديث يتفق مع كالم‬


‫أوال‪ ..‬ال يصح أن يتعارض حديث لرسول اهلل مع آية‪ُ ..‬‬
‫ين ) وأيضا هناك آية أخرى (فَِإ َذا‬ ‫َن اللَّه مع ال ِ‬ ‫ِ‬ ‫اهلل ( وقَاتِلُوا ال ِ‬
‫ين َكافَّةً َك َما يُـ َقاتلُونَ ُك ْم َكافَّةً ۚ َوا ْعلَ ُموا أ َّ َ َ َ ُ‬
‫ْمتَّق َ‬ ‫ْم ْش ِرك َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬

‫‪254‬‬
‫عِ ضين‬
‫ب‬
‫ْح ْر ُ‬
‫ض َع ال َ‬ ‫شدُّوا ال َْوثَا َق فَِإ َّما َمنًّا بَـ ْع ُد َوإِ َّما فِ َد ًاء َحت ٰ‬
‫َّى تَ َ‬ ‫َّى إِذَا أَثْ َخنتُ ُم ُ‬
‫وه ْم فَ ُ‬ ‫الرقَ ِ‬
‫اب َحت ٰ‬ ‫ب ِّ‬ ‫ض ْر َ‬
‫ين َك َف ُروا فَ َ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫لَقيتُ ُم الذ َ‬
‫ض َّل أَ ْع َمالَ ُه ْم )‪..‬‬‫يل اللَّ ِه فَـلَن ي ِ‬
‫ين قُتِلُوا فِي َسبِ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ُ‬ ‫ضا ( َوالذ َ‬ ‫أ َْوَز َارَها ) وهناك أي ً‬
‫ثانيًا‪ ..‬قول اهلل ( َال إِ ْك َر َاه فِي الدِّي ِن ) قد تم تحريف معناه الحقيقي من شيوخ هذا العصر أو من يسمون أنفسهم‬
‫ُدعاة األسالم‪ ..‬تفسير هذه اآلية هو أن اهلل قد ّخير الناس جميعهم بين دين األسالم أو ال ُكفر ولم يفرض علينا‬
‫األسالم عنوةً‪ ،‬وإذا ما إختاروا غير اإلسالم وجب علينا قتالهم كما أمرنا اهلل‪ ..‬وهذه بالمناسبة الحرية التي‬
‫يفتخرون بها الغرب في بالدهم ‪..‬‬

‫مبتهجا‬
‫ً‬ ‫فكر عمر للحظة‪ ..‬كيف يأمر اهلل صراحة في القرآن بقتل كل من هو غير مسلم ؟!‪ ،‬أما عثمان فكان‬
‫بسبب صمت عمر هذا‪ ..‬هذا يعني أنه يستمع له ويفكر في كالمه ‪..‬‬

‫دائما ما‬
‫يوما ما‪ ..‬أتأخذونهم بذنب حكوماتهم ؟!‪ً ،‬‬
‫لكن ما ذنب المراسلين الذين تذبحونهم ؟‪ ،‬قد يعلنوا أسالمهم ً‬
‫تُظهرون أن ديننا دين قتل ودمار‪ ..‬لقد صححتم إدعاء الغرب بأن األسالم دين أرهاب وقتل‪ ،‬بهذه الطريقة سينفر‬
‫يوما ما‪ ..‬لقد أسأتم لديننا‪..‬‬
‫إليهود والنصارى من التفكير في اإلسالم ً‬
‫فكر عثمان للحظة ثم قال ‪..‬‬

‫أوال نحن غير مبالين برأي الغرب في ديننا ما دمنا ننفذ أوامر اهلل‪ ،‬ثم إنهم ال يتركوننا أبدا سواء في السلم أو‬
‫ً‬
‫الحرب ولذلك سنواصل جهادنا وقتالنا في سبيل اهلل ‪..‬‬

‫ثانيًا نحن نجذب شباب أوروبي إلينا وهذا يعني إننا نصل إليهم في عقر دارهم ولهذا يحاربوننا في ديننا‪،‬‬
‫وبخصوص هذا فنحن ُدعاة إسالم وليس سبب لنفور الناس عن ديننا ‪..‬‬

‫قام من كرسيه والتف حول عمر وأربت بيده على كتفه ‪..‬‬

‫ثالثا‪ ..‬أنظر لنفسك ياعمر‪ ،‬فلو كنا ح ًقا إرهابيين كما يدعي األعالم لكنا قتلناك كذلك ال سيما إنك قد قتلت ثاني‬
‫رجل في دولتنا بغض النظر طب ًعا إنه أخاك‪..‬‬
‫أهم ٌ‬

‫‪255‬‬
‫عِ ضين‬
‫تالحقت أفكار عمر القديمة‪ ..‬كان كمثله من الناس قد سمع مناظرة منقوصة أو أشباه مناظرات وقد حفظ فقط‬
‫بعض الردود التي يعرف في قرارة نفسه إنها ضعيفة وغير مجدية أمام هذا الرجل‪ ،‬أما عثمان فكان يريد ضرب‬
‫الحديد وهو ساخن كما تقول األمثال‪ ..‬يريد أستغالل توتره‪ ،‬أستطرد عثمان‪..‬‬

‫ضا ردي على الهجوم الذي قمنا به في الشارع الذي كنت تسير فيه أو ذلك المقهى‪ ،‬في حقيقة األمر‬
‫لم أنسى أي ً‬
‫كنا ننفذ عملية إنتقامية ضد الخوارج ( الشيعة ) ‪...‬‬

‫حدق عمر بعثمان وقاطعه ‪..‬‬

‫هم صحيح مختلفون عنا لكنهم في النهاية مسلمون‪ ،‬لماذا هم كافرون ولماذا نقتلهم من األساس ؟!‬

‫فرح عثمان بسؤال عمر هذا‪ ،..‬سؤاله يدل على إنه أقتنع بأن غير المسلم كافر وهذا سيسهل مهمته‪ ،‬مرًة أخرى‬
‫جلس أمام مكتبه وفتح فيديو آخر فيه مشاهد لشيوخ وأئمة شيعية وهم يلقون محاضرات‪ ،‬ذُهل عمر مما رآه‬
‫وسمعه‪ ،..‬بعد أنتهاء المشاهد أكمل عثمان كالمه ‪..‬‬

‫كما ترى ياعمر‪ ..‬الشيعة يسبون ويشتمون آل بيت رسول اهلل ويلعنون صحابة رسول اهلل‪ ..‬أبا بكر الصديق صديق‬
‫الصادق األمين وعمر ميزان العدل البشري في األرض وقد قدسوا سيدنا علي كرم اهلل وجهه وكأنه إله‪ ،! ..‬ويرون‬
‫بأنه األحق برسالة األسالم وعندما أنت قدناهم رأوا بأن علي له األحقية بخالفة رسول اهلل عن أبا بكر وعمر وعثمان‬
‫رضي اهلل عنهم أجمعين‪ ..‬كما أن لهم قبلة خاصة بهم‪ ..‬لهم كعبة غيرنا‪ ،‬حتى أن علي رضي اهلل عنه قد روي‬
‫حديث عن رسول اهلل ‪ ( ..‬يقول الرسول‪ ..‬يا علي أال أدلك على ٍ‬
‫عمل أن عملته كنت من أهل الجنة – وأنك من‬
‫أهل الجنة ‪ -‬؟ سيكون بعدنا قوم لهم نبز ( لقب ) يُقال لهم الرافضة ( الشيعة ) فإن أدركتهم فقاتلهم فأنهم‬
‫مشركون ) ‪...‬‬

‫رفع عثمان حاجبيه في سيطرة واضحة على المناظرة‪ ..‬لقد نجح في األمساك بزمام األمور هنا‪ ،‬صحيح أن عمر ال‬
‫مقتنعا لكن كونه مرتب ًكا فهذا يعني أنه تأثر بكالمه ‪..‬‬
‫يبدو عليه ً‬

‫أتقبل بأن توصف ُأمنا عائشة بنت محم ًدا بالزانية ؟!!‬

‫‪256‬‬
‫عِ ضين‬
‫بدا على عمر الذهول والتوتر‪ ..‬ال يعرف كيف يرد عليه‪ ..‬حججه ضعيفةً ج ًدا‪ ،‬هناك خطأ ما لكنه ال يستطيع‬
‫مقاومة هذا السيل الجارف من األفكار والقناعات الجديدة وتلك التساؤالت التي تظهر لها أجابةٌ اآلن أو تلك‬
‫التي غامضة‪ ،‬إستغل عثمان حالة التراخي التي يمر بها عمر وأنغماسه في ذهوله وفك قيوده وأجلسه على الكرسي‬
‫‪..‬‬

‫تعالى هنا ياعمر‪ ،‬أجلس ‪..‬‬

‫ومسيطرا‪ ..‬ال يدري ما عليه فعله وال يعرف فيما يفكر‪ ..‬في ماريان التي ال يعلم‬
‫ً‬ ‫جلس عمر والذهول باديًا عليه‬
‫عضوا‪ ..‬أم في‬
‫مكانها أو مصيرها‪ ..‬أم آسية التي أفتقدها حد الجنون‪ ..‬أم في ذلك التنظيم الذي كان أخوه فيه ً‬
‫ذلك الرجل الذي يحاول إقناعه بشيء طالما كرهه ( األنضمام لتنظيم أسالمي ) ‪ ،‬طالما إقتنع أن أي تنظيم‬
‫أسالمي هو فقط لتشويه األسالم‪ ..‬حتى مقاومة هذا الرجل في هذا المكان باتت مستحيلة‪ ..‬المقاومة هنا تعني‬
‫فورا‪ ..‬هو مازال يأمل بأن يجد طريقة ليُك ّفر بها عن ذنبه األزلي‪ ..‬ذنبه الذي تعلق به منذ أيام‪ ..‬قتل أخيه‪..‬‬
‫القتل ً‬

‫هؤالء هم الشيعة يا عمر ‪ ...‬مشركون كما أخبرنا رسولنا الكريم‪ ،‬يتبقى لدينا آخر فئة لنتكلم عنها‪ ..‬المتقاعسين‪..‬‬

‫إرتسمت عالمات الحزن على وجهه ‪..‬‬

‫تقاعست أُمتنا عن الدين فكان عقابنا من اهلل إنه أبتالنا بمصائب ال حصر لها‪ ..‬الفساد والجهل والفقر‬
‫اه ِدين ِمن ُكم و َّ ِ‬
‫َّى نَـعلَم ال ِ‬
‫الصاب ِر َ‬
‫ين َونَـ ْبـلُ َو أَ ْخبَ َارُك ْم‬ ‫ْ َ‬ ‫ْم َج َ‬ ‫واالستعمار‪ ..‬وأعظم إبتالء هو إبتالء الدين ( َولَنَْبـلُ َونَّ ُك ْم َحت ٰ ْ َ ُ‬
‫)‪ ..‬ظهرت شيوخ وآخرون ي ّدعونهم دعاة اإلسالم بأفكار الغرب‪ ..‬خرج علينا الغربيين ليفهمونا ديننا على‬
‫طريقتهم‪ ..‬نحن هنا لنعيد زماننا الذي كان لإلسالم فيه عزة وقوة‪ ..‬نحن هنا نجاهد كما أمرنا اهلل ( يَا أَيُّـ َها النَّبِ ُّي‬
‫ص ُير ) وكذلك لنقاتل ( َوَما لَ ُك ْم َال تُـ َقاتِلُو َن‬ ‫اهم ج َهنَّم ۚ وبِْئس الْم ِ‬ ‫جِ‬
‫اه ِد الْ ُك َّفار وال ِ ِ‬
‫ين َوا ْغلُ ْظ َعلَْي ِه ْم ۚ َوَمأ َْو ُ ْ َ ُ َ َ َ‬ ‫ْمنَافق َ‬‫ََ ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فِي َسبِ ِ‬
‫ين )‪..‬‬
‫ض َعف َ‬ ‫يل اللَّه َوال ُ‬
‫ْم ْستَ ْ‬
‫و األمثلة على هذا كثيرة يا عمر‪..‬‬

‫تناول المصحف مرة أخرى ووضعه أمام عمر ‪..‬‬

‫‪257‬‬
‫عِ ضين‬
‫وخصوصا تلك التي تتحدث عن الجهاد والقتال في سبيل اهلل‪ ،‬وعامة‬
‫ً‬ ‫تفضل يا عمر‪ ..‬اقرأ القرآن وتدبر اآليات‬
‫المسلمين متقاعسين‪ ..‬ال يهمهم سوى متاع الدنيا اآلن ويؤسفني أن أقول لك أن المسلمين حاليًا مسلمين‬
‫يوما‪ ..‬بسبب إبتعاد الناس عن الدين أصبح غالبيتهم‬
‫بالفطرة ولو لم يولدوا مسلمين لما كانوا يفكرون في اإلسالم ً‬
‫يفكر بأن الجنة والنار والحساب والعقاب وهم‪ ..‬والباقين ال يفكرون في هذا األمر إطالقًا‪..‬‬

‫منتظرا رد فعل عمر‪ ..‬كان يأمل أن يكون عمر قد إقتنع‪ ،..‬أما عمر فكان قد‬
‫ً‬ ‫كان عثمان قد انتهي من كالمه‬
‫ضرب بكل هذا الكالم عرض الحائط‪ ،‬كان يقتنع بأن كل هذا الكالم نوع من أنواع غسيل المخ‪ ،‬لكنه كان يفكر‬
‫في شيئًا آخر‪ ..‬يفكر في إنقاذ ماريان والهروب من هذا المكان‪ ،‬قاطع عثمان تفكيره ‪..‬‬

‫اآلن أود أن تسمع عرضي الذي أخبرتك به ‪...‬‬

‫قام من مكانه وألتف حول مكتبه ليجلس أمام عمر مباشرة‪ ،‬وضع يديه على ركبتي عمر ‪..‬‬

‫أسمعني ياعمر‪ ..‬أنضم لنا‪ ..‬أنضم لنفوز معا ٍ‬


‫بجنة عرضها كعرض السموات واألرض‪ ..‬لنفوز بحوريات العين في‬ ‫ً‬
‫الجنة‪ ..‬لندخل من باب الجهاد‪ ..‬في النهاية سننال إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة ‪..‬‬

‫فعال أن عملية غسيل المخ تُجري عليه‪..‬‬


‫عبث وجه عمر فجأة‪ ،‬تذكر كالم اللواء صفوت‪ ،‬تأكد ً‬

‫و إن رفضت‪ ..‬؟!‬

‫ابتسم عثمان ورد واث ًقا ‪..‬‬

‫لن ترفض وستنضم ياعمر ‪..‬‬

‫عقد عمر حاجبيه‪...‬‬

‫ضا‪..‬‬
‫لن أفعل وال تفكر في ذلك أي ً‬
‫قام عثمان من مكانه‪ ،‬وقال وهو يلتفت ليجلس على كرسيه‪..‬‬

‫خيار آخر يا عمر‪ ،‬في النهاية ستنضم إلينا‪ ..‬شئت هذا أم أبيت ‪..‬‬
‫ليس لديك ٌ‬
‫شيء هكذا‪..‬‬
‫ال تكن واث ًقا هكذا‪ ..‬إن كنت تهددني بالقتل إن لم أنضم أليكم‪ ،‬فأني أفضل أن أُقتل على أن أفعل ٌ‬

‫‪258‬‬
‫عِ ضين‬
‫إرتسمت تلك األبتسامة الماكرة على وجه عثمان ‪..‬‬

‫ال ال‪ ..‬نحن ال نستطيع أن نفعل ذلك‪ ،‬نحن بحاجة أليك‪..‬‬

‫إقترب منه وهمس له‪..‬‬

‫لكن هناك من نستطيع األستغناء عنه بسهولة ‪..‬‬

‫خطرت بباله ماريان‪ ..‬ورقة ضغط رابحة‪ ،‬كيف لم يفكر بهذا‪ ..‬تم أحتجازها مقابل أنضمامه إليهم‪ ،‬إما أن يكون‬
‫داعشي مثلهم أو يتم قتلها‪..‬‬
‫ٌ‬
‫قطع عثمان تفكيره ‪..‬‬

‫لكن يا ترى من سينفذ العملية المقبلة ؟!‬

‫لشيء ما‪ ..‬لم يطمئن لهذا‪ ،‬أستطرد عثمان‬


‫ٌ‬ ‫التفت إليه عمر‪ ..‬كان واضح لعمر أن ذلك الرجل يفكر ويخطط‬
‫ٍ‬
‫بصوت عالي‪..‬‬ ‫التفكير‬

‫لدينا هنا الكثير من األسماء المرشحة‪ ..‬لكنها مهمةً سهلة وال تحتاج لشخص ذو خبرة‪ ،‬مهمة الذبح ليست مهمةً‬
‫خطيرة أو صعبة‪ ..‬بأمكان أي طفل صغي ٍر مجاهد أن يفعلها‪..‬‬

‫سكت للحظات ثم نظر لعمر فأتسعت تلك األبتسامة الماكرة على وجهه في نفس اللحظة التي خفق فيها قلب‬
‫عمر‪ ..‬ليس بسبب تهديد ذلك الرجل بقتل ماريان فقط‪ ..‬وإنما بسبب تلك النظرة ذو األبتسامة الماكرة‪..‬‬
‫عرا عندما فهم ما يقصده هذا الرجل‪ ..‬فهم أنه من سيقود هذه المهمة‪ ..‬مهمة قتل ماريان‪!..‬‬
‫إتسعت عيناه ذُ ً‬

‫‪259‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-52-‬‬

‫كانت تلك األخبار التي وردته منذ قليل كافية لتوقف سيل األنتقادات التي ُوجهت للمخابرات في األونة‬
‫مثال كانت األتهامات تتراشق عليهم بالتقصير مرة وبالتسبب في حوادث مرة‬
‫األخيرة‪ ،..‬ففي األسبوع الماضي ً‬
‫أخرى حتى وصل األمر ألتهامهم بتدبير التفجير الذي حدث في كنيسة بالصعيد بحجة أنهم يريدون أشغال الناس‬
‫في هذا الحادث بعي ًدا عن الذي يحدث في المجتمع المصري حالياُ من غالء لالسعار والتخبطات السياسية‪! ..‬‬

‫لكن كل هذا تغير منذ يومين‪ ،‬أصبح غالبية الناس تفتخر بجهاز المخابرات ال سيما بعدما سربت المخابرات‬
‫تفاصيل أحباط تفجير كنيسة أخرى في القاهرة وكذلك أحباط محاولة أغتيال النائب العام المصري لألعالم‪ ..‬لقد‬
‫كان يرى بأن لكي يوقف تلك األنتقادات التي من المؤكد أنها ستؤثر على عناصرها عليه بأن يعلن حاليًا عن بعض‬
‫الحقائق‪ ..‬ال فائدة من النجاح دون أن يتم تقديم ولو قليال من الدعم لهم‪ ،‬وأبسط أنواع الدعم التي تحتاجها‬
‫فعال عندما أدرك الناس بعد كل هذا أنهم في عالم مختلف‬
‫المخابرات من الشعب هي الثقة فقط‪ ..‬وهذا ما تحقق ً‬
‫تماما عن عالم المخابرات‪ ..‬عالم آمن وسط بحور الدم التي تحيط بالمنطقة العربية‪ ..‬أدركوا بأن هناك عشرات بل‬
‫ً‬
‫مئات من الهجمات األرهابية التي يتم أحباطها والتي أذا حدثت ستخلف ورائها كوارث ‪!..‬‬

‫أمس أستلم الرسالة االولى " لقد تم أستالم الهدف "‪ ..‬فرح لذلك أذ أن خطته تسير كما هو المخطط له‪،‬‬
‫وبالتالي فهو ينتظر الرسالة الثانية ليقوم بحركته التالية‪ ، ..‬فيديو آخر سيقلب الموازين وسيغير كل شيء‪ ،‬فيديو‬
‫سي ساعد المخابرات على توجيه ضربات قاضية للجميع وستحصل منها على مكاسب سياسية هائلة‪ ،‬أولها أظهار‬
‫قوة المخابرات المصرية وقدرتها على أختراق تلك المنظمات األرهابية وأرجاع مجد المخابرات المصرية من‬
‫جديد‪ ..‬فمسألة أختراق تلك الجماعات طبيعيًا في عالم المخابرات فهو على يقين بأن أغلب عناصر داعش‬
‫وخاصة القيادات منهم هم في األصل عناصر أستخباراتية ٍ‬
‫لدول غربية ‪...‬‬

‫ثانيهما هو مساومة الدول الغربية لوقف العقوبات األقتصادية على مصر ووقف العدائية التي تظهرها هذه الدول‬
‫للسياسة المصرية أو ستضطر حينها المخابرات لنشر المزيد من هذه المشاهد وتفضح سياسة هذه الدول في‬
‫التعامل مع تلك المنظمات‪..‬‬

‫‪261‬‬
‫عِ ضين‬
‫ثالثهما هو تطبيق مقولة " أنقالب السحر على الساحر "‪ ..‬أنقالب سحر األعالم على األعالميين‪ ..‬األعالم‬
‫كاذب والناس تحب وتعشق الكذب واألعالميين يجارون الناس في الكذب ويبحثون عن الحقيقة الزائفة ليرضوا‬
‫الن اس بها‪ ،‬وبذلك الشيء الذي ينوي فعله سيمنح للمخابرات العمل دون ضغوط أعالمية ألن حينها سيفقد الناس‬
‫تماما ‪..‬‬
‫الثقة في األعالم ً‬

‫تماما حول موضوع عمر‪ ..‬ما حدث في هذا الفيديو الذي ين يديه والذي يستعد لنشره‬
‫أما رابعهما أنهاء الجدل ً‬
‫سغيّر تفكير الناس في عمر الذي تحول من أرهابي لبطل قومي جندته المخابرات المصرية في صفوف داعش وأنه‬
‫تحامل على نفسه وقام بالمستحيل وقتل أخيه الداعشي‪ ..‬كانت مهمة وطنية‪ ..‬هكذا سترى الناس عمر بمجرد‬
‫رؤيتهم لهذا الفيديو‪..‬‬

‫عزم على متابعة برنامج المذيعة شيرين هذه الليلة‪ ،‬كان برنامجها يستمر ألربع ساعات متواصلة كل ليلة‪ ..‬أربع‬
‫ساعات كافية لتقتل بها أدمغة الناس بسمومها التي تبثها كل ليلة بكالمها وموضوعاتها ونقاشاتها‪ ..‬لقد صنعت‬
‫شهرتها بسبب دقتها في أختيارها للموضوعات الشائكة والمهمة ج ًدا‪..‬‬

‫تابع منذ قليل هجومها الشرس والمتواصل منذ يومين تقريبًا على عمر‪ ،..‬وكذلك تابع تلك المشادة الكالمية التي‬
‫تماما أن آسية مازالت تثق بعمر وأن كل ما يحدث له مكيدة لكنها‬
‫كانت بينها وبين آسية زوجة عمر‪ ،‬كان يعرف ً‬
‫قد يمر عليها أوقات تتساءل عن سبب أنضمام عمر لتلك التنظيم األرهابي ‪ ،!..‬تحتاج بشدة ألجابة منطقية لهذا‬
‫السؤال‪ ،‬بين يدي شريف األجابة وليس األجابة فحسب ‪ ...‬هذا الفيديو سيكون عمر بسببه بطل قومي وليس‬
‫قليال‬
‫أرهابيًا ‪ ...‬فيديو سيجعل من آسية فخورة به وليس مجرد أنها قد تبحث عن مبررات‪ ..‬سيطمئنها ذلك ولو ً‬
‫على عمر ‪..‬‬

‫تبقى على أنتهاء البرنامج حوالي ساعة تقريبًا وهذا هو الوقت المناسب لتوجيه ضربته القادمة‪ ..‬سيخرس شيرين‬
‫بصيصا من األمل‪ ،‬لكنه ال يستطيع األقدام على‬
‫ً‬ ‫لألبد بسبب أكتشاف الناس كذبها وأدعائاتها وكذلك ليمنح آسية‬
‫فعل هذا األن إال بعد التأكد من الرسالة األخرى‪ ..‬الرسالة التي ستضمن سالمة عمر وماريان من قبضة تنظيم‬
‫داعش‪ ..‬فقط يتمنى لو هذا يتم اآلن فهو يريد‪..‬‬

‫‪261‬‬
‫عِ ضين‬
‫قاطع تفكيره رنين هاتفه مرة أخرى‪ ..‬رسالةٌ أخرى وفتحها بسرعة‪ " ..‬تلك الطيور الحبيسة أنطلقت األن‪ ..‬قريبًا‬
‫ستعود لديارها " ‪ ،..‬أتسعت تلك األبتسامة على وجهه‪ ،‬لقد حان الوقت‪ ..‬حان وقت معرفة الحقيقة ‪!!..‬‬

‫************‬

‫كانت أماني قد شاهدت كباقي المصريين مشاهد قتال عمر في صفوف تنظيم داعش األرهابي في معركةً ما ضد‬
‫الجيش العراقي‪ ..‬عندما علمت بوجود آسية في سوهاج أسرعت لرؤيتها والوقوف بجانبها خاصة بعدما نُشرت‬
‫تلك المشاهد‪ ،‬فرحت أماني ألن آسية تماثلت للشفاء تقريبًا لكن حالتها النفسية سيئة ‪...‬‬

‫المذيعة شيرين في برنامجها منذ قليل ‪...‬‬

‫‪ ...‬لذلك وبعد كل هذا أتعجب ممن يدافعون عنه ‪ ، !..‬لقد إنضم لهذا التنظيم اإلرهابي الذي يقتل ويذبح‬
‫ضا‪ ..‬حتى وصلت‬ ‫طبعا‪ ،‬نكاح الجهاد وما خالفه‪ ..‬تفجير كنائس ومساجد أي ً‬
‫األبرياء وتكفير كل البشر عداهم ً‬
‫وخلفت وراء هذه‬
‫نفوذهم هنا في مصر حينما فجر أحدهم نفسه في الكنيسة منذ أيام ومن قبلها المول التجاري‪ُ ..‬‬
‫العمليات األنتحارية عشرات القتلى والمصابين‪ ، ..‬وال نعلم ماهو دوره بالتحديد في هذه العمليات ال سيما وإنه‬
‫دائما‬
‫ضا الواقع يخبرنا بأن عمر قد خدعنا منذ البداية وأوهمنا بأنه بطل لكن في النهاية الحق ً‬
‫مصري‪ ،‬ولذلك أي ً‬
‫يعلن عن تواجده الواضح أمامنا‪ ..‬عمر أرهابيًا شئنا هذا أم أبينا‪ ،‬فكان‪..‬‬

‫صمتت فجأة لتصغي لما يُقال لها في سماعة األذن‪ ،‬تبسمت بسخرية ورفعت حاجبيها في تعجب ودهشة‪..‬‬

‫و معنا اآلن زوجة عمر شخصيًا‪ ..‬مرحبًا سيدة آسية ‪...‬‬

‫صاحت بها آسية غاضبة ‪..‬‬

‫بحق اهلل أال يوجد ما تفعلينه سوى التحدث عن عمر‪ ..‬؟!‬

‫تفاجئت شيرين من تدخل ضيفتها العنيف ‪ ،!..‬ردت بهدوء‪..‬‬

‫سيدتي‪ ..‬قضية عمر تعتبر قضية رأي عام والبد أن‪..‬‬

‫‪262‬‬
‫عِ ضين‬
‫مجددا‪..‬‬
‫ً‬ ‫قاطعتها آسية‬

‫قضية رأي عام‪ ..‬؟!‪ ،‬لقد تركتي مشاكل العالم كله ولم تهتمي سوى بمشكلة زوجي ‪ ،!..‬لقد أصبح عمر هو‬
‫المذنب الوحيد في هذا العالم اللعين‪ ..‬لقد أصبحتم مالئكة األرض والسماء وأصبح عمر فجأة أبليس الذي‬
‫عصي ربه وأخرجكم من الجنة ؟!‬

‫تمالكت شيرين أعصابها ‪..‬‬

‫سهال أب ًدا‪ ،‬لقد خدعنا زوجك‪ ..‬ظننا في البداية إنه بطل قومي قتل ثاني‬
‫إهدئي سيدة آسية‪ ..‬ما حدث لم يكن ً‬
‫أهم قيادي داعشي لكن سرعان ما ظهرت الحقيقة‪ ،‬لقد قتل أخيه ليحتل مكانه في هذا التنظيم‪ ..‬ثأر قديم بين‬
‫زوجك وأخيه ‪..‬‬

‫لم تتمالك آسية نفسها وأنفجرت فيها ‪..‬‬

‫‪ -‬ما هذا الهراء ؟ عن أي ثأر تتحدثين ؟!‬

‫ِ‬
‫أخبرك سيدتي بأن األمور بينهما لم تكن‬ ‫أتظنين بأننا ال نعرف الخالف الذي كان بين عمر واخيه ؟!‪ ،‬دعيني‬ ‫‪-‬‬
‫على ما يرام خاصة في تلك السنوات األخيرة‪ ..‬وها نحن قد شاهدنا ما حدث في النهاية‪ ..‬زوجك قتل أخيه ليفوز‬
‫بمكانة رفيعة في هذا التنظيم األرهابي ‪..‬‬

‫و بنفس حدة الغضب ردت آسية عليها ‪...‬‬

‫ِ‬
‫أنفردت بخبر‬ ‫لم أبالغ حين وصفت حديثك هذا بالهراء‪ ،‬كيف يمكن لعمر أن يخطط لكل هذا وأنتي بنفسك قد‬
‫أختطاف الكتيبة المصرية كلها للعراق ؟!‪ ،‬الحقيقة هنا ِ‬
‫أنك لو لم تهاجمي عمر لن تجدي ما تتحدثين عنه‬
‫وستتقاعدين‪..‬‬

‫لقد نفذ صبر شيرين‪ ،‬ردت بحدة توازي حدة آسية ‪..‬‬

‫‪263‬‬
‫عِ ضين‬
‫ِ‬
‫زوجك أرهابيًا ووظيفتي هنا كأعالمية هو نقل‬ ‫الحقيقة هنا سيدة آسية والتي يصعب عليكي األعتراف بها هو أن‬
‫ِ‬
‫زوجك‬ ‫ِ‬
‫أسألك‪ ..‬هل شاهدتي تلك المشاهد التي عرضناها والتي يظهر فيها‬ ‫األحداث وأعالم الناس بها‪ ،‬دعيني‬
‫ِ‬
‫زوجك البد وأن تدافعين‬ ‫مقاتال في صفوف تنظيم داعش األرهابي ؟!‪ ،‬بالطبع من المؤكد ِ‬
‫أنك قد شاهدتيه‪ ..‬وألنه‬ ‫ً‬
‫ِ‬
‫زوجك كان من ضمن الجنود‬ ‫ِ‬
‫أتهامك لنا سيدة آسية ‪ ،!..‬وبخصوص أن كيف أن‬ ‫عنه‪ ،‬لكن ما ليس طبيعيًا هنا هو‬
‫المختطفة والتي أُرسلت للعراق وفي نفس الوقت كان يخطط لذلك فهو قد أستغل هذه الفرصة لتصفية حساباته‬
‫ِ‬
‫زوجك في قتل أخيه ظنًا‬ ‫واضحا عندما ترك الكتيبة وذهب وحده لقتل أخيه‪ ،..‬في النهاية نجح‬ ‫مع أخيه وكان هذا‬
‫ً‬
‫منه أن ال أحد سيعلم بهذا األمر لكنه أكتشف أنه يتم تصويره‪ ،‬دعيني أسألك سؤال آخر‪ ..‬أتعرفين مكان مراسلتنا‬
‫السابقة ماريان التي قامت بتصوير هذه المشاهد ؟!‪ ،‬تعرفين شيئًا عنها أو أنها بخير أم ال ؟!‬

‫لحظة صمت تفكر فيها آسية بأجابة مقنعة وعيناها قد ملؤها الدموع‪ ،‬وبصوت هادئ أكملت شيرين كالمها ‪...‬‬

‫العقل والمنطق هنا يحكمان بأن ماريان تحت رحمة عمر في هذا التنظيم أو ربما تكون قد قُتلت‪ ،‬وال أُخبئ ِ‬
‫عليك‬
‫في أنني أتوقع ظهور فيديو ستنشره داعش عما قريب‪ ..‬فيديو لذبح ماريان ‪..‬‬

‫و بصوت يخالطه البكاء ‪..‬‬

‫ال‪ ..‬ال يمكنه فعل هذا‪ ،‬عمر ليس هكذا صدقيني ‪..‬‬

‫ردت شيرين بصوت يشوبه الشفقة على حال آسية ‪..‬‬

‫جميعنا‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫لقد قام زوجك بخداعك سيدتي‪ ..‬لست أنتي فقط‪ ..‬بل ُ‬

‫بدال‬
‫بدأت شيرين تسمع صوت نحيب آسية منذرةً بالبكاء‪ ،‬فجأة أختطف أحدهم سماعة الهاتف من آسية وأكمل ً‬
‫عنها ‪...‬‬

‫‪ -‬أسمعيني جي ًدا أستاذة شيرين ‪...‬‬

‫قاطعته شيرين ‪..‬‬

‫‪264‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪ -‬و من تكون أنت ؟‬

‫أنك ستندمين على ما تفعلينه بخصوص عمر‬ ‫ِ‬


‫أخبرك ِ‬ ‫صغارا‪ ،‬دعيني‬
‫أنا أحمد صديق عمر ورفيقه منذ أن ُكنا ً‬ ‫‪-‬‬
‫‪...‬‬

‫هذا تهديد أذن‪ ..‬؟!‬ ‫‪-‬‬

‫رد أحمد بنبرة واثقة ‪..‬‬

‫بالطبع ال ليس تهدي ًدا‪ ..‬لكنني على يقين ِ‬


‫بأنك ستندمين عندما تظهر الحقيقة‪ ،‬حينها ستتمنين لو لم تعملي في‬
‫هذا المجال نهائيًا‪..‬‬

‫ردت شيرين بسخرية ‪...‬‬

‫علي أن أخاف منك ح ًقا‪ ..‬فقد تقتلني‬


‫علي أن أتوقع أن يكون حديثه ؟!‪ ،..‬صدقني ّ‬
‫صديق أرهابي يكلمني‪ ،‬ماذا ّ‬
‫يوما ‪..‬‬
‫ً‬

‫ضحك أحمد بسخرية ‪...‬‬

‫و هكذا وقعتي في الفخ سيدتي‪ ، ..‬أردت فقط أن أُظهر للناس كيف تفهمين القضايا وتحللينها وتنشري‬
‫األكاذيب‪ ،‬قمتي بتحويل كالمي لتهديد وقمتي بأستغالل هذا لصالحك‪..‬‬

‫حدقت شيرين بالكاميرا أمامها غير متفهمةً ما يتحدث عنه‪ ،‬اكمل أحمد ‪..‬‬

‫لو قام العالم كله بمهاجمة عمر فسأكون أنا الوحيد الذي يدعمه ويقف بجانبه ألنني الوحيد الذي يعرف عمر‬
‫حق المعرفة‪ ..‬ثقتي في صديقي ال حدود لها حتى وأن فقد العالم كله بما فيه زوجته ووالدته الثقة فيه‪ ،‬وكذلك‬
‫يوما ما ‪..‬‬
‫ثقتي بربي في أنه سيظهر حقيقة الجميع ً‬

‫ردت شيرين بسخرية ‪..‬‬

‫‪265‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪ -‬ما هي الحقيقة سيدي برأيك ؟!‪ ،‬العالم كله شاهد الحقيقة ‪!..‬‬

‫أصابك هو ِ‬
‫أنك‬ ‫ِ‬ ‫‪ -‬سيدتي‪ ..‬أنتم أيها األعالمييون كاذبون‪ ..‬تزيفون الواقع لخدمة مصالحكم !‪ ،‬وأكبر خطأ قد‬
‫شخصا يفهم في هذا المجال جي ًدا‪..‬‬
‫ً‬ ‫تجادلين‬

‫‪ -‬ح ًقا ؟!‪ ،‬حسنًا أتحداك أمام مشاهدينا‪ ..‬فلتخبر المشاهدين كيف نقوم بخداعهم هكذا يا فيلسوف عصرك ‪..‬‬

‫بنبرة هادئة وواثقة يرد أحمد ‪...‬‬

‫يمكنكما بكل سهولة خداع الناس بمشاهد مصطنعة وما عليكم هو وضع عنوان مثير فقط باالضافة لشرح بسيط‬
‫يُبعد الناس عن الحقيقة والنظر لتلك المشاهد بنظرة مختلفة‪ ..‬تلك التي تري ُدنها‪..‬‬

‫واصلت شيرين سخريتها من أحمد وقامت بالتصفيق هذه المرة مع أبتسامة ساخرة ‪..‬‬

‫بارعا ح ًقا‪ ..‬لقد أخبرت مشاهدينا بكيفية صناعة مشاهد قتال عمر في صفوف داعش ‪ ،!..‬دعني أشرح‬
‫يبدو أنك ً‬
‫خاصا‬
‫ديكورا ً‬
‫ً‬ ‫هذا بالتفصيل‪ ..‬لقد أستأجرنا عمر وجعلناه يرتدي مالبس داعشية وأمسك بسالح مزيف وصنعنا‬
‫يمثل مشاهد قتالية ثم قمنا بأخراج هذا الفيلم وعرضناه على المشاهدين كي نجعلهم يصدقون بأن عمر‬
‫وجعلناه ّ‬
‫أرهابيًا لكي تزداد هذه القناة شهرة‪ ،‬هنيئًا لك سيدي لقد كشفت خدعتنا وأقنعت الناس كلها بأننا كاذبون‪..‬‬

‫أستمر بعدها الصمت للحظات ثم أكملت ‪..‬‬

‫الحقيقة قاسية ج ًدا سيدي‪ ،..‬وأنت كذلك تواجه صعوبة األعتراف بذلك‪ ..‬ليس هينًا أب ًدا أن تعترف حتى بينك‬
‫وبين نفسك بأن صديقك قد أصبح أرهابيًا‪..‬‬

‫ردا من أحمد ولكنها قد سمعت بأن الخط قد أنقطع‪،‬‬


‫ضا الصمت للحظات كانت تنتظر فيها شيرين ً‬
‫أستمر أي ً‬
‫ابتسمت ثم وجهت كالمها للجمهور ‪..‬‬

‫‪266‬‬
‫عِ ضين‬
‫حسنًا ياسادة‪ ..‬أنتهت مداخلتنا مع زوجة وصديق عمر وأظن أن جميعكم قد عرف ح ًقا من الذي يخدعكم‪..‬‬
‫عمر وأمثاله أم نحن‪ ،!..‬لكنني ألتمس لهم العذر كذلك‪ ..‬فماذا بأمكانهم أن يفعلوا بعدما خذلهم عمر ؟!‪ ،‬واآلن‬
‫نترككم مع فاصل قصير ثم نعود بعدها لتكملة آخر فقرة في برنامجنا الليلة ‪..‬‬

‫كان نحيب آسية وبكاؤها يزدادان‪ ،‬وحاولت صديقتها أماني أحتواها وضمها واألربات عليها لتهدئتها‪ ،‬أما أحمد‬
‫عاجزا عن تكملة رده على هذه‬
‫كثيرا من شخصيته المرحة منذ ما حدث لصديقه كان يقف أمام التلفاز ً‬
‫الذي فقد ً‬
‫المذيعة ‪..‬كان شاحب الوجه يريد نصر اهلل المؤكد‪ ..‬يثق في اهلل أنه سينصر صديقه ولو بعد حين‪ ،‬كان يهم‬
‫بمغادرة الغرفة ولكنه فجأة توقف عندما الحظ ما يُعرض في التلفاز‪ ..‬مستحيل !‪ ..‬كيف لهذا أن يحدث ؟!!!‪،‬‬
‫الحظته أماني عندما توقف محدقًا بالتلفاز ونظرت هي األخرى بالتلفاز لترى ما أثار أنتباهه ح ًقا‪ ،..‬أتسعت عيناها‬
‫ذهوال هي ووالدة عمر مما يروه‪ ..‬أما آسية فرفعت رأسها عندما توقفت أماني عن األربات عليها لتهدئتها وكذلك‬
‫ً‬
‫لتعرف سبب الصمت الذي خيم على المكان فجأة وأصوات تلك الهمهمات التي تنبعث من التلفاز‪ ..‬الحظت‬
‫ضا من‬
‫جميعا فنظرت هي األخرى ناحية التلفاز ليتوقف قلبها للحظات فارغة فاها وتوقف تنفسها أي ً‬
‫صدمتهم ً‬
‫ذهوال وكادا يخرجان من محجريهما‪!..‬‬
‫الصدمة‪ ..‬أتسعت عيناها ً‬

‫أنه عمر !!‪ ،..‬عمر يقوم بعملية ذبح أخرى !!‬

‫‪267‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-59-‬‬

‫قبل يومين ‪...‬‬

‫يوما بقوة‬
‫مقتنعا بأن األسالم لم ينتشر ً‬
‫يوما بأنه قد يُقدم على هدم حضارًة ما وبأسم األسالم‪ ..‬كان ً‬
‫لم يكن يتخيل ً‬
‫السيف وهدم الحضارات كما ي ّدعي الكثيرين‪ ..‬مثل عثمان‪ ،‬لكنه اآلن غير ذلك‪ ..‬حتى ولو كان غير راضيًا عما‬
‫يوما‬
‫مسلما ذات يوم هل كان ليفكر في أعتناق األسالم ً‬
‫يفعله فهو لم يعد كما كان ساب ًقا‪ ،‬فكر في أنه لو لم يكن ً‬
‫ما ال سيما بعد ما يرى ما يفعله هو اآلن ؟!‬

‫بعد أيام من خضوعه لتهديد عثمان والقبول باألنضمام رسميًا للتنظيم ُكلف بالخروج في أول مهمة له‪ ..‬تدمير‬
‫تلك األصنام المتواجدة في متحف الموصل‪ ..‬كان يشعر بالذنب حينما كان يُمسك بمطرقة عمالقة ليكسر بها‬
‫تلك التماثيل الضخمة ألعظم حضارتين في العراق‪ ..‬األشورية والكلدانية‪ ..‬أما الصغيرة منها فكان يضعها في‬
‫حقيبته ليحملها للتنظيم هناك حسب ما ُكلف به‪ ،‬لم يكن ليفهم حاجة التنظيم لمثل هذه اآلثار ؟!‪ ،‬ولماذا تُدمر‬
‫الكبيرة فقط ويتم مصادرة وسرقة الصغيرة منها ؟!‬

‫قليال ‪..‬‬
‫رجع بذاكرته للوراء ً‬

‫" ‪ ... -‬ظننت حينها أنه قد نف ّذ تهديده وطردهم من البيت‪ ،‬لكن المفاجأة هي أنه لم يفعل ‪ ،!..‬ومنذ ذلك اليوم‬
‫يوما ما بأي جماعة أسالمية‪..‬‬
‫تحدي ًدا لم يره أحد‪ ،‬ومع مرور األيام عرفت لماذا لم أعترف أنا ً‬

‫محذرا عمر ‪..‬‬


‫ً‬ ‫هز الرجل رأسه‬

‫أحذر يا عمر في كالمك‪ ،..‬ليس هناك ما يسمى بـ " جماعة أسالمية "‪ ،‬وأذا أردت تسميتهم فاألصح هو "‬
‫جماعة متأسلمة "‬

‫أراح عمر ظهره للوراء غير مباليًا بما قاله الرجل العراقي ‪..‬‬

‫‪268‬‬
‫عِ ضين‬
‫يوما من معرفة ما تفعله هذه الجماعات زيادة عنا كمسلمين ‪ ،!..‬نصلي كما يصلون‪ ،‬ونصوم كذلك‪..‬‬
‫لم أتمكن ً‬
‫ضا ‪..‬‬
‫نحج ونزكي كلما أستطعنا ذلك‪ ،‬هم مسلمون ونحن كذلك أي ً‬

‫قاطعه الرجل ‪..‬‬

‫تقصد متأسلمون يا عمر وليس مسلمون ‪..‬‬

‫قطب عمر حاجبيه في عدم فهم‪ ،‬منذ قليل كان يتكلم عن األحتالل األميركي للعراق ثم قاده الحديث معه بقصة‬
‫أختفاء أخيه فجأة ألى ما حدث ما حدث‪ ،..‬وها هو ذا يتكلم عن هذه الجماعات‪ ،‬في الحقيقة كان عمر يريد‬
‫عسكري بشأن تلك الجماعات‪ ،‬أكمل الرجل كالمه‪..‬‬
‫ٌ‬ ‫األستماع لرأي رجل‬

‫هناك فرق بين ثالثة مصطلحات هامة " مسلم‪ ،‬متأسلم‪ ،‬أسالمي " ‪ ..‬أما المسلم فهو من كان دينه األسالم‬
‫وخلقه األسالم وسار على منهج اهلل وأتبع ُسنة الرسول سالم اهلل وصالته عليه‪ ،..‬األسالمي هو ليس بالضرورة أن‬
‫ً‬
‫وسنة رسولنا أفضل من المسلم‪ ،..‬أما‬
‫يكون دينه األسالم ولكن ًخلقه األسالم وأحيانًا نجده يسير على منهج اهلل ً‬
‫مسلما لكنه وبكل أسف يستخدم الدين واألسالم للمصالح الشخصية والخاصة‪..‬‬
‫ً‬ ‫المتأسلم فهو غالبًا ما يكون‬
‫لذلك هي ليست جماعات أسالمية ولكنها متأسلمة ‪..‬‬

‫مقتنعا بكالم الرجل‪ ،‬لكن ثمة شئ ال يفهمه ‪..‬‬


‫بدا على عمر أنه ً‬

‫يوما بأن الرسول صل‬


‫الغريب في األمر أنني لم أسمع في ديننا أن هناك جماعات تكونت لنصرة الدين‪ ..‬لم أسمع ً‬
‫اهلل عليه وسلم ّكون جماعة !‪ ،‬الصحابة لم يفعلوا ذلك من بعده‪ ،‬وكذلك التابعين وأتباع التابعين‪ ..‬حتى أئمة‬
‫وشيوخ وعلماء المسلمين لم ينضموا لجماعات‪ ،‬أذن على اي أساس تكونت هذه الجماعات ؟! وكيف تكونت ؟!‬

‫أعتدل الرجل في جلسته وأقترب منه ‪..‬‬

‫فردا‪ ،..‬ولعلك‬
‫هذا ألنهم كانوا يعلمون أن اهلل سبحانه وتعالى لن يحاسبنا كجماعات بل كلهم آتيه يوم القيامة ً‬
‫تالحظ أن السلف الصالح كانوا يتنافسون فيما بينهم في عمل الخيرات واجتناب الذنوب والمعاصي وغضب اهلل‬
‫‪..‬‬

‫‪269‬‬
‫عِ ضين‬
‫سكت للحظة ثم أكمل كالمه‪..‬‬

‫هناك الكثير من األسئلة التي تدور في عقل من يتدبر األمر جي ًدا‪ ..‬كيف تكونت هذه الجماعات ومتى ؟ وعلى‬
‫دول ما بأنها قد وصلت من العلم أقصاه ؟! ألم ت ٌدعي‬
‫أي أساس تكونت ؟ ومن سمح بتكوينها ؟‪ ،..‬ألم ت ّدعي ٌ‬
‫هذه الدول بأمتالكها ألقوى أجهزة مخابرات ؟! ‪..‬‬

‫في الحقيقة هذا ليس أدعاء !‪ ،‬هذه حقيقة وهذه الحقيقة ذاتها هي من تُفسر أجابات تلك األسئلة‪..‬‬

‫تساءل عمر في عدم فهم ‪..‬‬

‫أتقصد بأن هذه الدول الغربية هي من قامت بتكوين تلك الجماعات ؟!‪ ،..‬صحيح أنني ضد هذه الجماعات لكن‬
‫من الغير منطقي أن تكون هذه الدول من كونت هذه الجماعات ال سميا ماتفعله تلك الجماعات فيها من‬
‫هجمات أرهابية وعمليات أنتحارية في تلك الدول ‪!..‬‬

‫ابتسم الرجل ثم أجابه ‪..‬‬

‫ال بأس بخسارة جولة مقابل األنتصار في نهاية المعركة‪..‬‬

‫أعتدل في جلسته ثم أكمل‪..‬‬

‫بعد الحروب العالمية التي حدثت في القرن الماضي والتي خلفت ورائها مليارات القتلي حول العالم أصبح‬
‫التاريخ يُدين الغرب بشدة بسبب سفك كل هذه الدماء‪ ،‬وكان ردهم هو األدعاء بأن األسالم جاء بقوة السف‬
‫والحروب والحمالت األحتاللية على الدول وأرغامهم على الدخول في األسالم أو دفع الجزية‪ ،..‬وألن التاريخ‬
‫كان شاه ًدا ومنص ًفا فقد وقف بجانبنا نحن المسلمين وأستطعنا أن نكذبهم بأنها كانت مجرد فتوحات لنشر الدين‬
‫وتخليص هذه الدول من ظلم األمبراطوريات مثل الفرس والروم والحمالت الصليبية والمغول وغيرهم عبر‬
‫التاريخ‪ ..‬تلك األمبراطوريات نفسها كانت قد أحتلت تلك البالد التي فتحها المسلمين‪..‬‬

‫‪271‬‬
‫عِ ضين‬
‫فكروا خارج الصندوق‪ ..‬فكروا كيف تتم األستفادة من تلك الخسارة وأثبات أدعائاتهم وجعل التاريخ يقف‬
‫بجانبهم‪ ،..‬تكوين جماعات تتكلم بأسم الدين وتقتل بأسم الدين وتقوم بكل شئ بأسم الدين‪ ..‬القاعدة‪ ،‬طالبان‪،‬‬
‫األخوان‪ ،‬السلفيين‪ ،‬داعش‪ ، ..‬هذا غير الجماعات والجبهات الصغيرة والغير معروفة‪ ،‬منهم ما أنشأته المخابرات‬
‫فعال ومنهم ما تم أنشاؤه لغرض معين فقط‪ ،‬تتم السيطرة على هذه الجماعات وما يخرج عن سيطرتهم‬
‫الغربية ً‬
‫فهي في النهاية خسارة بسيطة ال تُذكر أمام تلك المكاسب الكبيرة وبعدها يتم القضاء على تلك الجماعة التي‬
‫فعال في أقناع التاريخ بأداتنا كذلك‪ً ..‬كتِب التاريخ وبالفعل تم ذكرنا في الخانة‬
‫خالفت أوامرهم‪ ..‬لقد نجحوا ً‬
‫السوداء‪ ..‬لقد ُسفكت دماؤنا عبر ثورات وهمية ‪ " ..‬الربيع العربي "‪ ..‬وها هي النتيجة‪ ..‬لقد أصبحت شعوبنا‬
‫بحورا من الدم‪ ..‬ونحن اآلن نعيش أبهي وأقوى عصورنا ‪ ( ..‬قالها بسخرية )‪ ..‬هنا لم تعد هناك‬
‫العربية عبارة عن ً‬
‫حياة أب ًدا ‪..‬‬

‫ٍ‬
‫بصوت عالي ‪..‬‬ ‫قليال ثم بدا يفكر‬
‫سكت ً‬

‫دائما ما يراودني سؤال أعرف أجابته جي ًدا‪ ..‬ماذا قدمت تلك الجماعات لألسالم ؟! "‬
‫لذلك ً‬

‫قطع تفكيره توقف العربة‪ ،‬كان قد أنهى ما يفعله من تكسير التماثيل وجاءت العربة لتنقلهم لمكانهم‪ّ ،‬ترجل من‬
‫العربة وسلم حقيبته وعلى الفور أتجه ناحية العنبر الذي ينام فيه‪ ..‬ظل يسير في ذلك الفناء الواسع دون أن يكلم‬
‫أحد ‪ ..‬مر بساحة التدريب فجذب أنتباهه الحركات القتالية التي يتعلمونها هؤالء الرجال‪ ..‬سار لمسافة أخرى في‬
‫قيادي آخر‪ ..‬أصطف‬
‫ٌ‬ ‫طريق عودته لمكانه لكنه تفاجأ حين رأى عشرات األطفال يخرجون من مبنى ما يتقدمهم‬
‫عال كانوا يرددون " اهلل أكبر "‪ ..‬تعجب‬ ‫ٍ‬
‫وبصوت ٍ‬ ‫األطفال في صفوف منتظمة وكأنهم ُمدربون على ذلك منذ فترة‬
‫عمر من حماس هؤالء األطفال ولكنهم ماذا يفعلون هنا ؟! ‪ ،‬أشار القائد بيده ليتوقفوا عن الترديد ليلقي عليهم‬
‫خطابًا ما ‪..‬‬

‫أحسنتم ياشباب‪ ..‬بارك اهلل فيكم‪ ..‬البد وأن حبيبنا محم ًدا ‪...‬‬

‫ٍ‬
‫بصوت عالي ردد األطفال‪..‬‬

‫‪271‬‬
‫عِ ضين‬
‫صل اهلل عليه وسلم ‪...‬‬

‫أكمل الرجل خطابه‪..‬‬

‫فرح بما يراه اآلن من مكانه الرفيع‪ ..‬يرى شبابًا في مقتبل عمرهم‬
‫البد وأن حبيبنا محم ًدا صلوات اهلل عليه ٌ‬
‫بصحابي جليل وهو أسامة بن زيد‪ ..‬ذلك الصحابي الشاب الذي خرج‬
‫ٌ‬ ‫مذكرا أيانا‬
‫يقاتلون في سبيل نصرة ديننا‪ً ..‬‬
‫على رأس جيش كامل وهو لم يتعدى التاسعة عشرة من عمره وكانوا جميعهم بما فيهم صحابة رسول اهلل يمتثلون‬
‫مستقبل باهر هنا معنا وستكونون قواد هذه األمة بعدنا‪ ..‬سوف يُخلّد التاريخ أسمائكم‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ألوامره‪ ..‬لذا أتوقع لكم‬
‫أما اآلن فهيا بنا لنتعلم شيئًا جدي ًدا ‪..‬‬

‫ذعرا عندما رأى هذا الرجل قد أخرج سكينًا متمنيًا أن ال يحدث ما يفكر فيه ‪..‬‬
‫شهق عمر وأتسعت عيناه ً‬

‫أحد أساليب ق تالنا مع العدو هو الذبح‪ ،‬سنتعلم اليوم طريقة ذبح الرهائن لدينا‪ ،‬لكننا اليوم سنجرب هذا على هذه‬
‫الشاة ‪..‬‬

‫لكن ما قطع ذهوله هذا‪ ..‬هذا الصوت الذي ظهر عبر مكبرات الصوت في ذلك الفناء‪..‬‬

‫نداء عاجل‪ ..‬على الجميع التوجه الى الساحة الرابعة‪ ..‬أكرر‪ ..‬على الجميع التوجه للساحة الرابعة لألهمية‬
‫ٌ‬
‫القصوى‪..‬‬

‫مشدوها لم يتخيل أنه سيرى ما رأى‪ ..‬فجأة وجد من يدفعه بقوة في كتفه‪..‬‬
‫ً‬ ‫كان مازال‬

‫ألم تسمع النداء ؟!‪ ..‬هيا تحرك‪..‬‬

‫مرغما وسار بأتجاه ما يسير نحوه هؤالء الشباب للساحة الرابعة‪ ..‬وبعد أن وصل الجميع رأى عمر‬
‫تحرك عمر ً‬
‫ضا رأسه‬
‫مستسلما خاف ً‬
‫ً‬ ‫لباسا برتقاليًا يبدو‬
‫قفص حديدي كبير ويوجد بداخله شخص يرتدي ً‬
‫بعي ًدا على مرمى بصره ٌ‬
‫وكأنه يشعر بالعار‪ ،‬قطب عمر حاجبيه‪ ..‬يبدو أنه سيتم تنفيذ حكم األعدام ألحدهم‪ ..‬فجأة وجد هذا الرجل‬
‫المدعو عثمان بكير يقف بجانب هذا القفص مخاطبًا الجميع‪..‬‬

‫‪272‬‬
‫عِ ضين‬
‫السالم عليكم ياعباد اهلل المؤمنين‪..‬‬

‫رد الجميع السالم‪ ،‬ثم أكمل عثمان كالمه‪..‬‬

‫جميعا بأن هناك تحال ًفا دوليًا يحاربنا ولألسف الشديد تتواجد عدة دول عربية في هذا التحالف الكافر‪..‬‬
‫نعلم ً‬
‫أوال‪ ،..‬هذا األحمق‪..‬‬
‫عدوا آخر داخليًا والبد أن نقاتلهم ً‬
‫عدونا ليس الكافرين فقط‪ ..‬بل يوجد ً‬

‫مستسلما لمصيره ‪..‬‬


‫ً‬ ‫نادما أو‬
‫مشيرا لذلك األسير الذي في القفص والذي يبدو ً‬
‫قالها ً‬

‫من جيش العدو‪ ، ..‬األمس أستطعنا أسقاط طائرة أردنية مشاركة في هذا التحالف ضدنا والبد وأن نجعل هذه‬
‫الدول تستفيق وتعلم إلى أي طرف من المفترض لها أن تقاتل بجانبها ‪..‬تحارب بجانب األسالم والمسلمين أم مع‬
‫العدو الكافر‪..‬‬

‫صاح الجميع غاضبًا وجميعهم رشقوا هذا الطيار األردني بالحجارة ألى أن رفع عثمان يده أشارة لهم بالتوقف‪ ،‬ثم‬
‫أكمل كالمه‪..‬‬

‫نوعا ما‪..‬‬
‫عقابه اليوم سيكون مختل ًفا ً‬

‫أنتبه عمر فجأة للرجل الذي يقوم بتصوير هذا الحدث موجها الكاميرا ناحية هذا االسير األردني‪ ،‬وللحظة أدرك‬
‫عمر أنه لم يالحظ أن هذا األسير مبلل وكذلك األرض من تحته ولكن عندما الحظ وجود ثالثة رجال بجانب هذا‬
‫مبلال بالماء ‪..‬و أنما بالبنزين ‪ ،!..‬هز عثمان رأسه‬
‫القفص ممسكين بمشعالت نارية أدرك بأن هذا األسير ليس ً‬
‫عالمة على بدء تنفيذ حكم اآلعدام‪ ..‬رمى هؤالء الرجال النيران داخل القفص وسرعان ما أمسكت النيران في هذا‬
‫األسير‪ ،‬تعجب عمر في البداية من كون هذا األسير واق ًفا بهدوء غير مباليًا بالنيران التي أمسكت فيه ح ًقا‪ ..‬ألم‬
‫طالبا‬
‫يشعر بألم ؟! ‪ ،‬لكن سرعان ما بدأت تظهر عالمات األلم عليه وبدأ في الصراخ والجري داخل القفص ً‬
‫أشتعاال في جسده‪ ..‬كان ينير المكان أكثر‬
‫ً‬ ‫النجدة وممس ًكا بقضبان هذا القفص وكلما فعل هذا تزداد النيران‬
‫متفحما ومتخشبًا‪ ،‬هذا المشهد الذي جعل عمر يتقيء ‪..‬‬
‫ً‬ ‫نهارا‪ ..‬ظل هكذا ألى أن سقط ميتًا‬
‫رغم أن الوقت كان ً‬

‫‪273‬‬
‫عِ ضين‬
‫من بعيد كان يراقبه ذلك الشاب في كل حركة وخطوة يخطوها ُمكل ًفا بذلك من عثمان‪ ..‬أتجه ناحية عثمان‬
‫وهمس له في أذنه ثم أنحنى له وغادر‪ ،‬أسرع عثمان ناحية عمر وهو عائ ًدا للعنبر ثم ناداه ‪..‬‬

‫عمر‪..‬‬

‫ناظرا ألسفل‪ ..‬ال يطيق النظر لهذا الرجل اللعين‪ ،‬أربت الرجل بيده على كتف عمر‬
‫توقف عمر مقطبًا حاجبيه ً‬
‫مبتسما أبتسامة عرفها عمر أنها ماكرة‪..‬‬
‫ً‬

‫لقد أحسنت في مهمتك األولى ياعمر‪ ،‬لكن ال تظن أن كل المهمات ستكون هكذا بهذه السهولة‪ ،..‬الليلة‬
‫ستعرف مهمتك القادمة ليوم غد‪ ..‬أستعد !‬

‫ضا قل ًقا حيال ما يحدث معه أو ما سيحدث غ ًدا‪ ..‬تُري ما هي المهمة التي سينفذها غ ًدا ؟!‬
‫تركه عمر بصمت أي ً‬

‫تناقلت وسائل األعالم االردنية والعالمية مشاهد أعدام الطيار معاذ الكساسبة التي عرضها تنظيم داعش‪ ..‬واالمم‬
‫المتحدة كان دورها هو األدانة فقط‪..‬‬

‫‪274‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-61-‬‬

‫حامال سالحه وذخيرته كما هي لم يطلق رصاصة واحدة منذ بدء المهمة‬
‫كان مختبئًا في إحدى مباني هذه المدينة ً‬
‫الثانية له‪ ،‬معركة الحفاظ على األرض كما يسميها تنظيم داعش أو كما يسميها الطرف األخر " معركة تحرير‬
‫الموصل "‪ ..‬بالطبع هي معركة لتحرير الموصل من تنظيم داعش‪ ،..‬راح يفكر بمنطق بعي ًدا عن أنه قد أُرغم على‬
‫صواب أم خطأ ؟!‪ ..‬بمعنى هل يتوجب عليه كمسلم أنه يقاتل الجيش‬
‫ٌ‬ ‫خوض هذه المعركة‪ ،‬هل ما يفعله اآلن‬
‫العراقي ذو الغالبية الشيعية بصرف النظر أنه يقاتل في صفوف داعش ؟!‪ ،‬لكن سرعان ما أزاح هذه الفكرة عن‬
‫رأسه‪ ..‬كان يكره تلك المعارك الطائفية على أية حال‪ ،‬لكن بالطبع هذا أفضل من تلك المهمة التي تم تكليفه بها‬
‫لوال تدخل ُمصعب‪ ،‬حينها قد ُخفق قلبه وكاد يقع عندما علم بتلك المهمة المستحيلة على عقله تقبلها ‪..‬‬

‫راح يفكر في الذي حدث أمس ‪..‬‬

‫مرحبًا يا عمر‪ ،‬أجلس ‪..‬‬

‫طويال حيث بدا على عمر القلق‪ ،‬أعتدل عثمان في‬


‫أشار له عثمان بالجلوس على الكرسي أمامه ثم نظر إليه ً‬
‫جلسته ثم راح يقترح عليه ‪..‬‬

‫يبدو عليك األرهاق‪ ،..‬لم تنم منذ البارحة‪ ،‬أليس كذلك ؟!‬

‫رد عمر بجفاء ‪..‬‬

‫كيف أنام وأنا ال أعرف مكان ماريان ؟!‬

‫ابتسم عثمان بسخرية ‪..‬‬

‫كثيرا !‪ ..‬ياللعجب‪ ،‬لكن يا عمر عليك أن تعرف أننا مسلمون وليس يهود كي ننقض عهودنا‪،‬‬ ‫تهتم ألمر ماريان ً‬
‫وعدناك بأنها ستكون بخير طالما ال تعصي أوامرنا‪ ،‬وحتى لو أقدمنا على مخالفتنا لن نقوم نحن بذلك‪ ..‬بل أنت يا‬
‫عمر في الوقت الذي ستفكر فيه بعصياننا‪..‬‬

‫‪275‬‬
‫عِ ضين‬
‫قطب عمر حاجبيه في غضب لكنه فضل كتمان غضبه النه ال حول له وال قوة‪ ،..‬أستطرد عثمان كالمه‪..‬‬

‫يا عمر‪ ..‬عادة أنا ال أتكلم بلطف هكذا مع الجميع‪ ،‬حتى هذا المكتب ال يدخله الكثيرون‪ ..‬المميزون فقط هم‬
‫وبناءا على طلبي أنا فقط‪ ،..‬عادة ما أصدر أوامري ويتم أرسالها للمجاهدين وتنفيذها‬
‫من يُسمح لهم بالدخول هنا ً‬
‫أخا لي‪ ..‬صحيح أنني كنت أكره أخاك‬
‫دون نقاش أو جدل‪ ،‬لكن أنت حالةً خاصة بالنسبة لي ياعمر‪ ،..‬أنا أعتبرك ً‬
‫عندما كان هنا في التنظيم ولكنه رحل اآلن وبفضلك أنت رجعت لمكاني هنا‪ ،‬لذلك أنا مدين لك يا عمر بالكثير‬
‫وسأعمل جاه ًدا ألرد لك هذا الدين ‪..‬‬

‫كثيرا في هذا الرجل‪ ،..‬أرتسمت أبتسامة أخرى على وجه عثمان ولكنها‬
‫نظر إليه عمر بقلق وتوتر شديدين‪ ،‬ال يثق ً‬
‫تبدو ككل مرة ماكرة ‪..‬‬

‫ستعود لمصر يا عمر‪ ،..‬ما رأيك ؟‬

‫صعق عمر لما سمعه اآلن‪ ..‬بهذه السهولة ؟!‪ ،‬لكنه فجأة تذكر شيئًا ‪..‬‬
‫ُ‬

‫و ماريان‪ ..‬هل ستعود معي ؟!‬

‫هنا ضحك عثمان بصوت عالي لدرجة أنه ُسعل من كثرة الضحك‪..‬‬

‫و هل ستظن أنك سوف تذهب لهناك في نزهة أم أنه قد تم أعفاؤك ؟!‬

‫شحب وجهه فجأة‪ ،‬ولم يفهم في البداية قصد هذا الرجل لكنه فجأة ذُعر عندما فكر بأنه ‪..‬‬

‫ستقوم بتنفيذ مهمةً هناك يا عمر‪..‬‬

‫أنتفض عمر من مكانه ضاربًا بيده على المكتب في غضب شديد ‪..‬‬

‫ال تظن يا هذا بأنني سأقوم بتفجير نفسي أو أقتل جنود ال ذنب لها‪ ،..‬أنت تحلم‪ ،‬وأن كنت تظن أنك سوف‬
‫تهددني بأنك ستجبرني على قتل ماريان فأنك مخطئ‪ ..‬لن أقوم بهذا وال ذاك ولتفعل ما تشاء بي‪..‬‬

‫‪276‬‬
‫عِ ضين‬
‫بهدوء أعصاب ابتسم عثمان ثم سأله ‪..‬‬

‫و من قال لك بأنك ستقوم بعملية أنتحارية أو ستقتل جنود بلدك ؟!‬

‫نظر إليه عمر نظرة فهمها عثمان جي ًدا‪ ..‬نظرة تساؤل عن ماهية العملية التالية بالضبط‪ ،‬أكمل عثمان كالمه ‪..‬‬

‫دعني أشرح لك‪ ، ..‬هناك دول ما زالت قوية ولن نستطيع دخولها اآلن ومنها مصر‪ ،‬لكننا نستطيع أختراقها اآلن‬
‫‪...‬‬

‫توقف عن كالمه للحظات ثم أستطرد ‪..‬‬

‫نحن دولة الخالفة يا عمر والبد من أخضاع أي جماعة أو جبهة أسالمية تحت أوامرنا لذلك قد خضعت لنا‬
‫جماعة أنصار بيت المقدس وجبهات النصرة وغيرها التي تقطن في سيناء وجميعهم يمتثلون ألوامرنا وجميع‬
‫مهماتهم تنسب ألينا ‪..‬‬

‫أميرا على أحدى جماعاتنا‬


‫ورجوعا لموضوعنا ستقوم أنت بتنفيذ عدة مهام بسيطة في مصر ثم سيتم تنصيبك ً‬
‫ً‬
‫هناك ‪..‬‬

‫دائما يعتقد بأنني أريد الوصول‬


‫لم يبدي عمر أي ردة فعل لشدة صدمته‪ ،..‬كيف يفكر هذا الرجل ؟!‪ ،‬لماذا ً‬
‫مجددا قطع عثمان تفكيره‪..‬‬
‫ً‬ ‫علي بهذا ؟!‪،‬‬
‫لمكانة رفيعة هنا ؟! لماذا يتصرف هكذا وكأنه يتفضل ّ‬
‫وأخيرا عليك أن تعلم أنه‬
‫ال تفكر بطريقةً للهروب وأنت في مصر وأعتقد أنك ليس بهذه السذاجة لتفكر في هذا‪ً ،‬‬
‫لدينا طرقًا عديدة لجعلك تذبح ماريان بنفسك ‪!..‬‬

‫وتائها‪ ،‬لم يعهد بنفسه كل هذا الضعف من قبل‪ ،‬بدا له‬


‫ومنكسرا ً‬
‫ً‬ ‫التفت عمر وخرج من مكتب هذا الرجل ضعي ًفا‬
‫الجميع يتحكمون في مسار حياته اآلن‪..‬‬

‫مذعورا مستن ًدا على أحدى مباني في أحدى ساحات دولة داعش‪ ،‬راح يفكر‬
‫ً‬ ‫عاد لواقعه مرةً أخرى‪ ..‬كان يقف‬
‫في اآلنتحار فعليًا‪ ..‬ت بدو فكرة جيدة‪ ،‬فهذا الوضع يبدو أن ال نهاية له‪ ،‬الوضع هنا ليس بسبب األنضمام لداعش‬

‫‪277‬‬
‫عِ ضين‬
‫فحسب‪ ..‬وأنما هو أبعد من ذلك بكثير‪ ..‬تنفيذ مهمة أرهابية في مصر‪ ..‬أثارت هذه الفكرة غثيانه‪ ،‬برزت في‬
‫مستحيال وحتى لو تمكن من فعل ذلك فأنه‬
‫ً‬ ‫ذهنه فكرة أخرى‪ ..‬راح يفكر في طريقة للهروب من هنا وهذا يبدو‬
‫من المستحيل له الهروب دون ماريان وإال لم يكن لينضم إليهم منذ البداية لو لم يهمه أمرها !‪ ،‬لكن المشكلة هنا‬
‫أنه ال يعلم مكانها أو مصيرها حتى اآلن ‪ ،..‬عاد ليفكر من جديد في األنتحار‪ ..‬يبدو هو الخيار األمثل أمامه اآلن‬
‫كافرا‪ ..‬أرهقه التفكير‪ ،‬جلس مكانه‬
‫ليتخلص من هذا الوضع البائس الذي ال نهاية له‪ ،‬لكنه بذلك سيموت ً‬
‫وفكر‪ ..‬الموت واحد وتعددت األسباب‪ ..‬لماذا يفكر في األنتحار في الوقت الذي يستطيع فيه رفض تنفيذ تلك‬
‫العملية األرهابية في مصر وبعدها يرفض ذبح ماريان على أية حال !!‪ ..‬في النهاية سيضطر عثمان لقتل كالهما‬
‫عموما فكرة‬
‫وبالتالي أما سيموت شهي ًدا أو على اآلقل مقتوال المهم أنه بعي ًدا عن األنتحار‪ ،‬بدت له فكرة الموت ً‬
‫رائعة‪ ..‬سيرتاح من هذا العبث الذي يملئ العالم بأكمله ‪..‬‬

‫ما جذب أنتباهه هو قدوم ُمصعب الجوهري نحوه‪ ،..‬وقف ُمصعب أمامه ليسأله‪..‬‬

‫بماذا كلفك القائد عثمان ؟!‬

‫تفاجأ عمر للحظة لعدم معرفة مساعده األول تفاصيل المهمة القادمة‪ ،‬وكأنه كان ينتظر لحظة كهذه ليعلن فيها عن‬
‫تمرده وعصيانه لهم ‪..‬‬

‫ال‪ ..‬ال أعلم ولكنه أخبرني فقط أن العملية القادمة ستكون في مصر أما تفاصيل تلك العملية لن أعرفها إال في‬
‫الوقت المناسب ‪..‬‬

‫محذرا أياه ‪..‬‬


‫ً‬ ‫ثم عال صوته فجأة‬

‫و لكنني لن أفعل هذا سواء ‪..‬‬

‫بدا على ُمصعب أنه شارد الذهن‪ ،‬قاطعه ُمصعب ‪..‬‬

‫ال تعرف أيه تفاصيل عن تلك العملية ؟!‬

‫‪278‬‬
‫عِ ضين‬
‫قطب عمر حاجبيه وزفر ‪..‬‬

‫ال‪ ..‬لم يخبرني بشئ سوى أن العملية القادمة ستكون في مصر‪ ،‬وسواء أخبرني أم ال لن أقوم بتلك العملية أطالقًا‬
‫حتى وأن هددتموني بقتلي أو بقتل ماريان‪ ..‬بأختصار لن أقوم بتنفيذ هذه العملية ولن أقتل ماريان !!‬

‫للحظة أدرك عمر أن ُمصعب شارد الذهن وال يستمع لكالمه‪ ..‬يفكر في شئ ما‪ ،‬كان ينظر بعي ًدا في الناحية‬
‫الشرقية من الساحة حيث التجمع الكبير من مقاتلي داعش‪ ،‬فجأة نظر إليه ُمصعب وكأنه أنتبه للتو من كالم عمر‬
‫حول عدم تنفيذه للعملية القادمة بمصر‪ ،‬وبلهجة آمرة ‪..‬‬

‫أسرع لهناك وأنضم لهؤالء المجاهدين لألستعداد للمعركة ضد الجيش العراقي غ ًدا ‪..‬‬

‫و قف عمر فجأة ليتدارك ما يقوله هذا الرجل‪ ،‬بدا مرتب ًكا ‪..‬‬

‫و لكن عثمان ‪..‬‬

‫قاطعه ُمصعب في غضب ‪..‬‬

‫و لكنني أنا من يأمرك اآلن باألنضمام لهؤالء الرجال لألستعداد للمعركة وليس القائد عثمان‪ ،‬أم أنك ترغب في‬
‫تنفيذ المهمة التي أُسندت أليك في مصر ؟!‬

‫تورد وجه عمر فجأة وكأن فرج اهلل قد أُنزل عليه‪ ،‬بدت له فرصة جيدة للهروب من تنفيذ العملية في مصر‪ ،‬هز‬
‫عمر رأسه نافيًا أصراره على تنفيذ المهمة التي كلفه به عثمان‪ ،‬وبلهجة آمرة ‪..‬‬

‫حسنًا‪ ..‬هيا تحرك وأستعد لمعركة الغد ‪..‬‬

‫شكرا لك ‪..‬‬
‫ً‬

‫متهكما ‪..‬‬
‫ً‬ ‫رد عليه ُمصعب‬

‫ال تظن أني أصنع لك معروفًا‪ ،‬فعلت هذا فقط ألنك غير مؤهل لتنفيذ عمليات في بلد مثل مصر‪..‬‬

‫‪279‬‬
‫عِ ضين‬
‫مهما ورجع ليستوقفه ‪..‬‬
‫كان كالهما يهمان بالمغادرة في أتجاه معاكس لبعضهما ولكن عمر تذكر شيئًا ً‬

‫من فضلك‪ ..‬أين هي ماريان ؟!‬

‫نظر إليه ُمصعب نظرة طويلة لم يفهمها عمر ‪ ، !..‬التفت وغادر دون أن يخبره بشئ‪ ،‬فكر عمر في أنه يسرع في‬
‫أستغالل هذه الفرصة وينضم لهؤالء الرجال قبل أن يرجع ُمصعب في كالمه‪ ،‬ففرصة القتال في هذه المعركة قد‬
‫تكون هي األفضل له‪..‬‬

‫قليال‪..‬‬
‫فكرة أنه ربما يموت في معركة كهذه أفضل بكثير من األنتحار أو تنفيذ مهمة أرهابية في مصر‪ ..‬فكر ً‬
‫كيف يموت بذكاء في معركة كهذه‪ ،‬فلو ِ‬
‫عمد على أنه يُقتل في المعركة فكأنه قد قرر األنتحار ولكن بطريقة أخرى‬
‫قليال إلى أن وصل لهؤالء الرجال الذين‬
‫فعال‪ ..‬الموت بذكاء‪ ،‬زفر ً‬
‫أكثر ذكاء‪ ،‬في الواقع هذا ما كان يريده ً‬
‫يستعدون لمعركة الغد ‪..‬‬

‫************‬

‫دخل ُمصعب مكتب القائد عثمان ‪..‬‬

‫السالم عليكم سيدي ‪..‬‬

‫و عليكم السالم‪ ..‬هل من جديد ؟‬

‫شئ جديد‪ ..‬لكنني جعلته ينضم للمجاهدين في معركة الغد ضد الجيش العراقي ‪..‬‬
‫ال ٌ‬

‫ظهر الغضب فجأة على وجه عثمان وأنفجر في وجهه ‪..‬‬

‫هل جننت ؟!‪ ،‬من أعطاك أنت األمر بهذا ؟‬

‫لم يفزع ُمصعب وتكلم بهدوء ‪..‬‬

‫أهدأ سيدي‪ ..‬فلنناقش األمر بهدوء‪..‬‬

‫‪281‬‬
‫عِ ضين‬
‫صاح به غاضبًا‪..‬‬

‫فورا ‪..‬‬
‫يبدو أنك نسيت مكانك هنا يا ُمصعب‪ ،‬عمر سينفذ عملية مهمة االيام القادمة‪ ..‬أرجعه ً‬

‫رد عليه بهدوء أعصاب ‪..‬‬

‫في مصر‪ ..‬أليس كذلك ؟‬

‫تفاجأ عثمان من معرفة ُمصعب باألمر‪..‬‬

‫هل علمت باألمر‪ ..‬؟!‬

‫سمعت بهذا من عمر وليس منك سيدي !!‪ ،‬أهذا له عالقة بفشل عملياتنا األخيرة في مصر ؟!‪ ،‬هل تشك بي‬
‫سيدي ؟!‬

‫رد عثمان وكأنه يهرب من األجابة ‪..‬‬

‫كنت سأخبرك بهذا ولكن في الوقت المناسب‪..‬‬

‫أومأ ُمصعب برأسه وقد بدا عليه الضيق‪..‬‬

‫حسنًا سيدي ولكن أن كان عليك أن تشك بأحدهم فعليك أن تفكر بمنطق منذ متى وعملياتنا تفشل سيدي‪..‬‬

‫قطب عثمان حاجبيه‪ ..‬يريد التوضيح‪ ،‬أستطرد ُمصعب شرحه‪..‬‬

‫كانت نسبة فشل العمليات التي نقوم بتنفيذها في سيناء ال تتعدى العشرون بالمئة ولكن مع قدوم عمر أصبحت‬
‫جميع عملياتنا تقريبًا في مصر فاشلة ومكشوفة‪..‬‬

‫و كأن األمور بدأت تتضح له ‪..‬‬

‫ماذا تريد أن تقول ؟!‪ ،‬أيعقل أن يكون عمر مجرد فخ وقعنا فيه ؟!‬

‫‪281‬‬
‫عِ ضين‬
‫كامال ‪..‬‬
‫قام ُمصعب من مكانه ليشرح األمر ً‬

‫بارزا في جماعتنا‬
‫عضوا ً‬
‫و هل لديك تفسير آخر سيدي ؟!‪ ..‬ينفصل عمر من كتيبته في الجيش المصري ثم يقتل ً‬
‫بارزا‪ ،‬ثم وبطريقة ما‬
‫بغض النظر عن أنه أخوه‪ ،..‬ربما وجد هذا صعبًا في البداية لكن أبو عمار في النهاية داعشيًا ً‬
‫يذهب عمر للمكان ذاته الذي كن ا سننفذ فيها عملية قتل الشيعة في ذلك المقهى‪ ..‬كانوا يعرفون أننا سنقوم‬
‫بتجنيده في التنظيم‪..‬‬

‫لكنه كان سيٌقتل مرتين‪ ..‬مرة عندما ُدفن حيًا ومرة في هذا المقهي ؟‬

‫فعال ‪..‬‬
‫بدا على ُمصعب أنه يجاريه ً‬

‫و هذا بالضبط ما يؤكد كالمي سيدي‪ ،..‬ألم تجد أنه من الغريب يتم أنقاذه بعد أن ُدفن حيًا ؟! وكذلك تم قتل كل‬
‫من في المقهي عداه هو وتلك الفتاة ؟! ‪ ،‬أتظن أنه لو أنضم ألينا بطريقة أخرى هل كنت ستصدق أنتماؤه لنا ؟؟‪..‬‬
‫بالطبع ال وهكذا كانت خطتهم منذ البداية‪ ،‬أن تكون طريقة أنضمامه لنا بطريقة بعيدة عن أثارة شكوكنا حوله ‪..‬‬

‫مقنعا له أكثر من أي وقت مضى‪ ،‬فكر بصوت عالي ‪..‬‬


‫بدا كالم ُمصعب ً‬

‫دافعا بالنسبة لنا أن نجبره على‬


‫لذلك عمر يحاول الهروب من تنفيذ عمليات في مصر ‪ ،!..‬لكن هذا سيكون ً‬
‫تنفيذ ما نطلبه منه‪ ..‬ال يمكن الحد خداعنا بهذه الطريقة ‪..‬‬

‫ضا‪ ..‬لكن‬
‫بالطبع سيدي يمكنك فعل هذا ولكنك حينها قد تكون أخترت الطريقة الخطأ‪ ،‬ستفشل هذه المهمة أي ً‬
‫دعني أوضح لك شيئًا آخر سيدي‪ ، ..‬حتى لو لم يكن عمر عنصر أستخبارتي مصري فمن مصلحتنا أن يقاتل في‬
‫معركة الغد‪ ..‬عمر لديه مهارات قتالية عالية وسيكون أكثر أفادة لنا من أن يتم أجباره على تنفيذ عملية ما في دولة‬
‫ضا بطريقةً ما أن شارك هو فيها‪..‬‬
‫مثل مصر‪ ..‬قد تفشل مهمتنا في مصر أي ً‬

‫هز عثمان رأسه مواف ًقا أياه ‪..‬‬

‫‪282‬‬
‫عِ ضين‬
‫لم يتمكن عمر من اللحاق بالمحاضرة األخيرة قبيل المعركة الحاسمة غ ًدا‪ ،..‬كانت آخر كلمات الرجل الذي‬
‫معا أيها المجاهدون سوف ننتصر ونحافظ على أرضنا وأسترداد ما سلبونا أياه هؤالء الكافرين‪..‬‬‫يخاطبهم‪ً " ..‬‬
‫بجنة عرضها السموات واألرض " قال الرجل‬ ‫ستكون الموصل هي بدايتنا الجديدة‪ ..‬هيا يارجال‪ ..‬هيا لنفوز ٍ‬

‫الكلمات األخيرة بصوت رنان أقشعر جسد عمر بسببها‪ ..‬ردد في نفسه‪ ..‬هؤالء الحمقى !! كيف جعلوه‬
‫يتحمس لشئ كهذه ؟‬

‫************‬

‫رجع لواقعه مرةً أخرى‪ ، ..‬ما قطع تفكيره أشتداد حدة المعركة بعدما بدأت فقط بمناوشات خفيفة‪ ،‬حتى اآلن لم‬
‫يستخدم سالحه ولم يطلق رصاصةً واحدة‪ ..‬كان يتمنى إنتهاء هذه المعركة دون اللجوء لقتل أحد‪ ،‬ففي النهاية‬
‫هو يقاتل في صفوف جماعة أرهابية بغض النظر أنه يقاتل جيش ذو أغلبية شيعية‪ ..‬لكن ما جذب أنتباهه هو‬
‫وجود مراسلين لقنوات عدة تغطي هذه المعركة‪ ،‬أقتنع بكالم الرجل العراقي حين قال له ‪ " ...‬بدون األعالم لن‬
‫تتواجد الحروب في شعوبنا‪ ..‬األعالم هو السالح الذي تستخدمه الدول لتحاربنا به "‪..‬‬

‫صعق عندما رأى فتاة صغيرة تحتمي خلف سيارة ما من وابل الرصاص المتراشق فوق رأسها وعلى الفور فكر في‬
‫ُ‬
‫أستخدام سالحه ليحمي نفسه على األقل حتى ينقذ هذه الفتاة الصغيرة‪ ،..‬عبر للجهة األخرى من الشارع‬
‫مستخدما سالحه ليحمي نفسه وما أن وصل إليها حتى جعلها تحتمي به ورغم صوت الرصاص المتراشق فوقهم‬
‫ً‬
‫والمصم لآلذان إال إنه سمع صراخ سيدة يبدو أنها والدة هذه الفتاة وكانت مذعورة‪ ..‬ال يعرف إن كانت مذعورة‬
‫من هذا الرصاص المتراشق فوق رأس أبنتها خوفًا من أن تصيبها رصاصة أم ألن أبنتها أصبحت في حماية‬
‫داعشي‪ ..‬ربما يستخدمها الح ًقا ويضمها للتنظيم !!‬

‫أشار إليها عمر بالبقاء في مكانها ريثما ينقذها‪ ..‬كانت هي األخرى تحتمي داخل مبنى في آخر الشارع‪ ،‬جعل‬
‫الصغيرة تمسك بقميصه من الخلف وال تفلته ألنه سينتقل للجهة األخرى من الشارع حيث تتواجد والدتها في‬
‫أرضا وضغط على‬
‫المبنى‪ ،‬وهكذا فعلت الفتاة بالضبط ولكن لسوء الحظ أخترقت رصاصة كتفه األيسر وسقط ً‬

‫‪283‬‬
‫عِ ضين‬
‫أرضا لكنه سرعان ما قام وحمل الفتاة على ذراعه األيمن ووصل الجهة األخرى في أقل من‬
‫رأس الفتاة كي تنبطح ً‬
‫ثانية‪ ،‬أحتضنت األم فتاتها التي ما أن افلتتها لتشكر عمر المستند على الحائط مصابًا ‪..‬‬

‫أشار لها عمر بالصعود إلى األعلى لكي تحتمي في المبنى هي وطفلتها ألن المعركة على أشدها‪ ،‬فعلت ما أمرها‬
‫صعق عندما فكر بأنه قد تم‬ ‫ٍ‬
‫قصف عنيف‪ُ ..‬‬ ‫به وما هي إال لحظات حتى وجد أن المبنى قد أهتز فجأة جراء‬
‫طاما في كل طابق‪ ،‬واصل الصعود‬
‫أذيتهن‪ ،‬تحامل على يده اليمنى وصعد السلم بسرعة لألعلى ولكنه كان يرى ُح ً‬
‫إلى أن وجد نفسه فجأة في سطح هذا المبنى وال أثر للفتاة ووالدتها هنا‪ ..‬نزل مرة أخرى ليتفحص كل طابق‬
‫لعلهم يحتمون بجانب أحد الحوائط أو ‪...‬‬

‫عندما وصل للطابق الثاني وجد يد صغيرة تخرج من تحت األنقاض‪ ..‬ذُعر عندما فكر باألمر‪ ،‬توجه ناحية هذه‬
‫متألما بسبب الجرح الذي في كتفه غير مصدقًا لما رآه‪ ..‬الفتاة ووالدتها تحت األنقاض ميتتين‬
‫األنقاض ليزيحها ً‬
‫وجههم ليلقوا حتفهم‪..‬‬
‫‪ ، !..‬أُزرفت دموعه في الحال وشعر بتأنيب ضميره ألنه هو من أمرهم بالصعود ألعلى‪ّ ..‬‬
‫سلمهم للموت بيديه هاتين‪ ،‬تناسى جرحه وآآلمه وحمل سالحه وراح بكل عزيمة وحماسة وعقل يريد الثأر ليشارك‬
‫في المعركة‪ ..‬الجيش العراقي أصبح عدوه هو اآلن‪ ..‬لقد قتلوا الطفلة ووالدتها ‪..‬‬

‫تعجب مجاهدي داعش من فرط المهارة التي يبديها عمر في القتال‪ ،‬لقد تحولت المعركة فجأة لصالحهم ليس‬
‫ألن عمر قرر فجأة القتال‪ ..‬ال ال كل ما في األمر أن القوات العراقية لم يأتي لها الدعم حتى اآلن من طائرات‬
‫التحالف فأضطر الجيش العراقي للبدء في األنسحاب تدريجيًا‪ ،..‬وبعد ساعات من المعركة المتواصلة أتضح جليًا‬
‫أنتصار تنظيم داعش في هذه الجولة‪..‬‬

‫كانت عناصر داعش منتشيين بأنتصارهم المبدئي‪ ..‬جولةٌ أولى قد حسموها‪ ،‬وفيما كانوا ّيهمون بمغادرة المكان‬
‫جالسا حزينًا يبكي بحرقة ‪ ،‬أشار له أحدهم باألستعداد لمغادرة المكان وركب السيارة معهم‪..‬‬
‫كان عمر ً‬

‫محتفال بالنصر جذب أنتباهه تجمع مجموعة من الناس حول شيء ما‪،‬‬
‫ً‬ ‫وفيما كان أسطول داعش في طريق العودة‬
‫في ثانيتين فقط مرت السيارة التي يركبها بهذا التجمع ولكنه لم يصدق ما رأه‪ ،! ..‬يبدو أن أحدهم ُملقى على‬
‫مقتوال‪ ،‬سمع ٍ‬
‫صوت مألوف‪ ..‬صوت يعرفه جي ًدا يصراخ ويندب حظه ‪..‬‬ ‫يحا أو ً‬
‫األرض جر ً‬

‫‪284‬‬
‫عِ ضين‬
‫دوما ؟!‪ ..‬لماذا أنا من دون الناس من تبتليني في أهلي ؟!‪..‬‬
‫دائما ياربي ؟!‪ ..‬لماذا أنا ما تفعل بي هذا ً‬
‫لماذا أنا ً‬
‫أكفرت بك من قبل كي تفعل هذا بي ؟! أجبني يا اهلل‪ ..‬أجبني !‬

‫مستحيل ‪ !..‬أنه جمال الدين !‪ ،‬تلك الملقاة على األرض مقتولة هي تغريد ؟!‬

‫كان يحدق في أتجاههم رغم أبتعاد السيارة التي يركبها عنهم شارد الذهن‪ ..‬توقف عقله بالكامل ال يصدق ما‬
‫تماما‪ ..‬لم ينتبه إال عندما وصل مقر التنظيم‪ ..‬نزل وتوجه ناحية العنبر كالعادة‪ ،‬مرت‬
‫رآه‪ ،‬الصدمة أفقدته عقله ً‬
‫حياته كلها في ذهنه في لحظة‪ ،‬في لحظة تذكر والديه وكيف تركهما في حالتهما الصحية السيئة وكيف حالهم‬
‫بعدما شاهدوا الفيديو ؟!‪ ،‬تذكر مهمته في اليمن وأختطافهم للعراق‪ ..‬تذكر أنفصاله عن اللواء صفوت والكتيبة‪،‬‬
‫تذكر صدمته عندما واجه أخوه ألول مرة بعد أختفائه فجأة‪ ..‬تذكر معركتهما وتذكر قتله ألخيه‪ ،‬تذكر آسية‬
‫والحادثة التي تعرضت لها‪ ..‬كيف حالها اآلن ؟‪ ،‬تذكر صديقه أحمد‪ ..‬هل مازال يدعمه حتى اآلن ؟ هل يثق في‬
‫أصال بعدما حدث ؟‪ ،‬تذكر الرجل العراقي وأبنته وتذكر كيف كانت نهايتهم‪ ..‬تذكر تلك المرأة وصغيرتها‪..‬‬
‫صديقه ً‬
‫تذكر أنضمامه لتنظيم أرهابي ‪..‬‬

‫من كان يتصور هذا أن يحدث ؟!‪ ،‬من كان يتخيل أن حياته ستكون هكذا ؟!‪ ،‬أين هي نقطة بداية كل هذه‬
‫األحداث ؟‪ ،‬بدا له وكأن األمس فقط كان في مصر واليوم هو هنا‪ ..‬هنا في داعش !!‪ ،‬جرت األحداث بسرعة‬
‫البرق !! ‪ ،‬أيمكن أن يكون كل ما يحدث معه حتى اآلن هو مجرد كابوس ؟!‪ ،‬هل سيستيقظ بعد قليل ليجد نفسه‬
‫كابوسا أو حقيقيًا متى ينتهي ؟‬
‫نائما وأنه كان يحلم فقط بكابوس مرعب ؟‪ ،‬وسواء أكان هذا ً‬
‫في البيت ً‬

‫فاض به األمر والبد من أن ينهي هذا الكابوس بنفسه ‪ ،!..‬لن ينتظر مساعدة أحد في أنهاء هذا‪ ..‬سيصل لمرحلة‬
‫فعال أو ذلك الواقع الكارثي والكابوسي‬
‫لن يستمر الكابوس بعدها‪ ..‬سواء أكان هذا الكابوس هو كابوس حقيقي ً‬
‫ضا‪..‬‬
‫أي ً‬

‫طويال‪ ..‬هذه السكين سوف تنهي كل شيء اآلن !‪ ..‬فكر في‬


‫أدخل يده تحت وسادته وأخرج سكينًا‪ ..‬نظر إليها ً‬
‫وضح حد لحياته !!‬

‫‪285‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-60-‬‬
‫ٍ‬
‫بشيء على األطالق‪ ،..‬منذ أن تم نقلها لهذا المكان ليلة‬ ‫أرضا ال حول لها وال قوة‪ ..‬لم تعد تشعر‬
‫كانت جاثمةً ً‬
‫أمس وهي جاثمة على جانبها األيمن ال تقوى على الحركة‪ ،‬لم تأكل منذ أن تم أعتقالها من قِبل هذا التنظيم‪..‬‬

‫ساب ًقا كانت تتعجب حين ترى المراسلين الذين يتم أختطافهم من قبل تنظيم داعش كيف يكونوا مستسلمين هكذا‬
‫عند ذبحهم‪ ..‬علمت أن ليس هذا مثاليةً منهم بأنهم فخورين بعملهم‪ ..‬ال ال فالنفس البشرية على أية حال لديها‬
‫غريزة حب البقاء سواء كانت تريد الحياة أم ال‪ ، ..‬لقد تم حقنها بمخدر منذ قليل حتى ال تقاوم عملية الذبح بعد‬
‫ساعات قليلة من اآلن‪ ،‬وما أصعب أن يمر المرء بلحظاته األخيرة‪..‬‬

‫كانت ماريان تتساءل لماذا اهلل لم يُعلمنا بميعاد موتنا‪ ،‬وياليتها لم تعلم‪ ،..‬اآلن فقط علمت حكمة الرب من‬
‫ذلك‪ ،‬خفق قلبها وذرفت دموعها‪ ..‬في النهاية هي بشرية‪ ،‬بعد ساعات ستموت‪..‬‬

‫سمعت صرير الباب يُفتح ببطء‪ ..‬لم ترى سوى أقدام لشخصين يقفان على الباب‪ ..‬هل حان الوقت ؟!‪ ،‬لكنها‬
‫نهارا‪ ،‬كم تمنت لو تعيش فقط‬
‫كانت تعلم أنها في ساعات الفجر اآلن ومن الطبيعي أن تتم عملية ذبح المراسلين ً‬
‫لحظات قليلة أخرى‪..‬‬

‫************‬

‫ضا ليس حقيقيًا‪ ..‬البد وأنه يهلوس‪ ،‬شيءٌ ما‬


‫ما يحدث معه ليس حقيقيًا‪ ..‬بالتأكيد ليس حقيقيًا‪ ! ..‬وما عرفه أي ً‬
‫كابوسا لكان قد صدق ما يحدث فيه لكنه لم يصدق ما يحدث‬
‫حلما أو ً‬
‫غير طبيعي يحدث هنا ‪ ،!..‬ربما لو كان ً‬
‫نائما ويأمل بأن أحدهم‬
‫معه اآلن‪ ،‬حتى عندما يحلم األنسان بكابوس مزعج يدرك بأنه في كابوس وأنه في األصل ً‬
‫نائما ويطلب النجدة ‪!..‬‬
‫يالحظ معاناته في هذا الكابوس فيوقظه‪ ..‬لكنه ليس هكذا اآلن‪ ،‬لم يشعر أنه ً‬

‫كثيرا ولم يجد سوى هذه الطريقة التي ينهي‬


‫على كل حال ليس أمامه سوى أن يكمل ما قد كان ينوي فعله‪ ،‬فكر ً‬
‫بها كل هذا العبث‪ ، ..‬لقد كان في طريقه لمكتب عثمان‪ ،‬يريد مواجهته بخصوص ما عرفه منذ قليل‪ ،‬ماريان ليست‬

‫‪286‬‬
‫عِ ضين‬
‫هنا !!‪ ..‬أين ستكون أذن ؟‪ ،‬حتى ُمصعب نفسه لم يعرف مكانها ألنه وبكل بساطة هو من أخبره أن ماريان ليست‬
‫هنا في العراق !‪ ،‬حسنًا‪ ..‬إذن البد من مواجهة عثمان‪ ..‬المواجهة األخيرة بينهم‪..‬‬

‫متأخرا كاآلن‪..‬‬
‫ً‬ ‫كان الطريق خاليًا أمامه‪ ،‬تعجب من ذلك‪ ..‬ليس من المفترض أن يكون هكذا حتى لو كان الوقت‬
‫لقد توقع بعض الصعوبة في مواجهته األخيرة تلك به‪ ،‬على أية حال الطريق سال ًكا أمامه ولن يتراجع عما سيفعله‪..‬‬

‫وصل لباب المكتب ووقف أمامه للحظات‪ ..‬تردد في البداية لكنه شجع نفسه على مواصلة األمر‪ ..‬لقد حسم‬
‫أمره اآلن‪ ،‬فتح الباب ودخل بسرعة‪ ،‬وقف للحظات يحدق بعثمان المصدوم أو المتفاجئ من دخول عمر هكذا‬
‫‪ ، !..‬كان يعمل على شيء في حاسوبه المحمول‪ ،‬حدق عثمان في غضب ودهشة في نفس الوقت‪ ،‬من ذا الذي‬
‫يستطيع دخول مكتبه بهذه الطريقة ؟!‪ ،‬سأله عثمان بحدة‪..‬‬

‫من سمح لك بالدخول ؟‬

‫متجاهال نظرات عثمان الغاضبة‪ ،‬رد عليه عمر بهدوء أعصاب ‪..‬‬
‫ً‬ ‫تقدم عمر خطوتين نحو مكتبه وهو ينظر حوله‬

‫لم أجد أح ًدا على الباب فسمحت لنفسي بالدخول‪..‬‬

‫الحراس ؟‪ ،‬وجد عمر يقترب‬


‫ضا‪ ،‬كيف ال أحد على الباب ؟‪ ،‬أين ُ‬
‫إزدادت حيرة عثمان من برود عمر ومن رده أي ً‬
‫منه فأغلق شاشة الحاسوب أمامه ‪..‬‬

‫علي أنجازها ‪...‬‬


‫سأرى هذا الموضوع الح ًقا‪ ،‬لكن عليك الخروج اآلن يا عمر‪ ،‬فكما تراني‪ ..‬لدي بعض األعمال ّ‬
‫أصبح عمر واق ًفا أمام المكتب مباشرة وسأله عمر في نظرة متحدية‪..‬‬

‫أين ماريان ؟!‬

‫شرا‪ ،‬تبًا لهؤالء الحمقى‪ ،‬كيف‬


‫ضا بأن عمر ينوي ً‬
‫للحظة شعر عثمان بأن عمر قد عرف شيئًا عن ماريان‪ ،‬شعرا أي ً‬
‫محاوال السيطرة على نفسه ‪..‬‬
‫ً‬ ‫دخل عمر إلى هنا ؟!‪ ،‬رد عليه بشيء من الغموض‬

‫ماريان ليست هنا ‪..‬‬

‫‪287‬‬
‫عِ ضين‬
‫لكنك وعدتني بأنها ستكون بخير ‪!..‬‬

‫شعر عثمان بشيء من الرهبة والخوف‪ ..‬تعجب من أنه يخاف من شخص كهذا !!‪ ،‬دقات قلبه زادت دون مبرر‪..‬‬

‫نعم هي كذلك‪ ،‬حتى اآلن‪..‬‬

‫تساءل عمر في أستنكار ‪..‬‬

‫شرا كما توقعت ؟‬


‫حتى اآلن ؟!‪ ،‬إذن كنت تنوي بها ً‬

‫كان تساؤل عمر هذا ال يحمل سوى معنى واحد فقط‪ ،..‬إنه كان ينوي ح ًقا فعل شيءٌ اآلن وال يهتم لعواقبه‪ ،‬يبدو‬
‫وباردا على غير عادته‪ ،‬هل وصل لمرحلة البالدة ؟!‪ ،‬فاجئه حركة عمر‪ ..‬قام عمر باألمساك بالحاسوب من‬
‫يائسا ً‬
‫ً‬
‫أمامه وقام بفتح الشاشة‪ ،‬قام عثمان في غضب وإلتف حول المكتب بسرعة وأمسك بذراع عمر ودفعه بعي ًدا عن‬
‫الحاسوب ‪..‬‬

‫هل جننت ؟!‪ ،‬ماذا تفعل ؟!‬

‫أرضا‪ ،‬إتجه ناحية الحاسوب مرة أخرى ليفتحه ففوجئ بأن عثمان‬
‫طارحا عثمان ً‬
‫التفت إليه عمر وقام بدفعه بقوة ً‬
‫قد دفعه هو ‪ ، ..‬سقط عمر بعد أصطدامه بالكرسي‪ ،‬أقترب إليه عثمان ليضربه من جديد فوجد عمر قد ركله في‬
‫صدره فرجع للوراء خطوتين فاق ًدا توازنه إثر الركلة‪ ،..‬حاول أستعادة توازنه لكنه فوجئ باللكمة التي سددها عمر‬
‫في وجهه مما أفقدته توازنه كليًا‪ ،‬أمسكه عمر من شعره ورطم وجهه على المكتب ثالثة مرات حتى فقد عثمان‬
‫فعال‪ ،..‬مسكه عمر‬
‫شرا ً‬
‫دما أدرك بأن عمر كان ينوي به ً‬
‫تركيزه وقوته وتوازنه كليًا‪ ،‬وبعدما أصبح وجه عثمان كله ً‬
‫من كتفه وأجلسه على كرسيه والتفت عمر من ورائه ووضع السكين على رقبته بعد أن شد شعره للوراء ‪..‬‬

‫أين ماريان ؟!‬

‫شعر عثمان بالخطر‪..‬‬

‫ماذا تنوي أن تفعل ياعمر ؟!‬

‫‪288‬‬
‫عِ ضين‬
‫رد عمر بهدوء ‪..‬‬

‫أنوي أن أعرف مكان ماريان‪..‬‬

‫شعر عثمان بالسكينة تغرس في رقبته ‪..‬‬

‫ليست هنا‪ ..‬لقد تم ترحيلها ‪..‬‬

‫ألين ؟!‬

‫جرحا بسيطًا‪ ،‬رد عثمان‪..‬‬


‫مليمترا واح ًدا تقريبًا محدثًا ً‬
‫ً‬ ‫لم يجب عثمان مما أضطر عمر لغرس السكين‬

‫سوريا‪ ،..‬واآلن أتركني‪..‬‬

‫بهذه السهولة ؟!‬

‫شعر عثمان بأختناق‪ ..‬أو بأقتراب أجله‪ ،‬عمر قد يصر على فعلته ولن يتردد لحظة‪ ،‬إذا كان قد قتل أخيه فهل‬
‫سيتردد في قتله هو ؟!‬

‫ماذا ستفعل إذن ؟‪ ،‬ال تقول لي أنك تنوي قتلي !!‬

‫ساد صمت للحظات فكر فيها عثمان بمأزق عمر‪ ،‬عرف أنه يفكر في ما بعد ما يفعله اآلن !‪ ،‬بعد أن عرف‬
‫مكان ماريان‪ ،‬كيف سيكون مصيره ؟!‪ ،‬كيف سيكون مصيره بعد أن يخرج من هذه الغرفة ؟! هكذا قد يتساءل‬
‫عمر في نفسه‪ ،‬أسرع عثمان ليطمئنه ‪..‬‬

‫يمسك أح ًدا بسوء‪ ،‬سأنسى ما فعلته للتو ‪..‬‬


‫مهال‪ ..‬تراجع يا عمر عما تفكر فيه‪ ،‬وأعدك بأنه لن ّ‬

‫طبعا بعدم أذية ماريان‪ ،..‬أليس كذلك ؟!‪ ،‬أرجوك ال تقول لي بأنك تريد الحصول على ثقتي بك‬
‫هذا كما وعدتني ً‬
‫مرًة أخرى‪..‬‬

‫‪289‬‬
‫عِ ضين‬
‫حاال اآلن باالفراج عنك وعن ماريان‪ ،‬سأطلق سراحك ياعمر كما أردت‬
‫أمرا ً‬
‫ماذا تريد أذن ؟‪ ،‬أسمعني‪ ..‬سأصدر ً‬
‫ولن تتم مالحقتك‪ ..‬صدقني‪..‬‬

‫ابتسم عمر ورد عليه بسخرية ‪..‬‬

‫ح ًقا ال أعرف كيف أرد لك هذا الجميل‪ ،‬لكن أظن أنه من األفضل لك أن تشعر بما تشعر به ماريان اآلن وبما‬
‫ضا‪ ،‬جميعنا سنموت بعد لحظات يا عثمان‪..‬‬
‫أشعر به أنا اآلن أي ً‬

‫في لحظة كتب عمر نهاية هذا الرجل‪ ،‬ذبحه‪ ..‬تطاير الدم كالنافورة من رقبته ولثواني تلت ظل فيها جسد عثمان‬
‫اسما‬
‫وناظرا لعمر يطلب النجدة منه‪ ،‬فيما كان عمر واق ًفا ر ً‬
‫واضعا يده على رقبته ليوقف هذا النزيف ً‬
‫يهتز بشدة ً‬
‫مستمتعا بالمشهد ‪..‬‬
‫ً‬ ‫أبتسامة األنتقام على وجهه‬

‫أخيرا ووقف أهتزاز جسده وتناثر دمه على المكتب والمصحف‪ ،..‬أمسك عمر المصحف ومسح‬ ‫مات عثمان ً‬
‫الدم من عليه‪ ،‬تساءل في نفسه‪ ..‬ماذا فعلت ؟!‪ ،‬ها هو كتاب اهلل ملوثًا بدماء أحدهم‪ ..‬وضعه في مكانه بشرود‬
‫بعد أن مسح الد م من عليه‪ ،‬فتح الحاسوب ليرى آخر ما كان يفعله عثمان على حاسوبه‪ ،‬كان ينهي أمر ماريان‬
‫تماما ‪ ،!..‬أصدر أوامره بذبح ماريان بعد ثمانية وأربعين ساعة من اآلن‪ ،‬ذلك الوغد ‪!..‬‬
‫ً‬

‫ال يعرف ما الذي جعله ينظرحوله في الغرفة‪ ..‬جذبه شيئًا ما وراء الحاسوب ناحية األرض في أنحاء الغرفة !!‪،‬‬
‫وقع نظره أتجاه الباب‪ ..‬الباب مفتوح ؟! ‪ ،‬تذكر أنه قد أغلق الباب وراءه‪ ،‬ليس هذا فقط ما جعله يتسمر في‬
‫مكانه‪ ،‬ثمة شخص ما واقف على الباب !‪ ،‬رفع بصره ليرى هوية من كشف أمره‪ ،‬مستحيل‪ ،!..‬أنه ُمصعب ‪! ...‬‬

‫‪291‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-68-‬‬

‫لم يتحرك‪ ..‬ظل ساكنًا ولم يبدي أي ردة فعل حينما رأى ُمصعب يغلق كاميرا الفيديو التي كانت بيده‪..‬‬

‫دخل ُمصعب بهدوء وأوصد باب الغرفة ورائه بالمفتاح‪ ،‬التفت وجال بنظره في الغرفة كلها‪ ..‬الفوضى في الغرفة‪..‬‬
‫رأس عثمان المقتول الظاهرة من خلف مكتبه وبجانبه عمر الواقف في ذهول‪ ..‬إستسالم أو ربما بالدة‪ ،‬وتلك‬
‫الدماء المتناثرة ‪ ،!..‬تقدم ُمصعب نحو عمر الذي مازال واق ًفا خلف المكتب في شرود ‪..‬‬

‫لم أثق بك في البداية‪ ،‬وأعترضت على وجودك هنا‪ ،‬لكني تلقيت تعليمات بضرورة تواجدك هنا !‪ ،‬هنا سيكون‬
‫طريقك للهروب من الجحيم في العراق‪..‬‬

‫خطر على عمر سؤال ‪..‬‬

‫أصال أن أذهب لهناك ؟!‬


‫لكن كيف علمتم بمكاني وفي هذا التوقيت بالذات ؟!‪ ،‬لقد كان مصادفةً ً‬
‫ابتسم ُمصعب ‪..‬‬

‫هاما في حياتنا واألذكى هو من يستغل الصدفة‪ ..‬في الوقت الذي ُكلفت بتنفيذ العملية‬
‫دورا ً‬
‫أحيانًا الصدفة تلعب ً‬
‫تلقيت معلومةً بوجودك أنت هناك في المقهى‪ ..‬بدا األمر غريبًا بالنسبة لي في البداية‪ ،‬لكن عندما علمت بأن‬
‫هناك مباراة لفريقك المفضل أصبح األمر منطقيًا‪ ،‬لقد تعمدت حمايتك منذ البداية يا عمر‪..‬‬

‫صمت عمر للحظات ثم خالجه سؤال محرج له ‪..‬‬

‫و لماذا لم تمنع هذه العملية ؟! أعني قتل األبرياء ؟!‬

‫أمسك ُمصعب بالمنشفة وأخذ يمسح الدم من على المكتب‪ ،‬وأثناء ذلك أجابه ‪..‬‬

‫كانت هناك عملية ستنفذ في مصر‪ ، ..‬سلسلة تفجيرات تستهدف قوات األمن والسياحة في سيناء‪ ،‬لقد أخبرت‬
‫قادتي هناك بكافة المعلومات وأفسدت على التنظيم نجاح هذه العمليات‪ ،‬بعدها تغيرت نظرة القائد عثمان لي‪،‬‬
‫كثرت الشكوك حولي وليتأكد من صحة شكوكه من عدمها كلفني بمهمة هنا‪ ،‬الهجوم على المقهى ذو الغالبية‬

‫‪291‬‬
‫عِ ضين‬
‫ضا‬
‫الشيعية‪ ..‬لو رفضت األمر ستزداد الشكوك حولي أكثر فأكثر بل وسأكون في موضع أتهام بخيانة التنظيم‪ ..‬أي ً‬
‫هؤالء لم يكونوا شيعة عاديين ‪..‬كانوا جماعات متشددة مثل هذا التنظيم بالضبط‪..‬‬

‫بعدها بساعات حصلت على معلومات بوجودك في هذا المقهى والتصرف لكي تبقى تحت أنظاري بدون علم‬
‫التنظيم‪ ،‬وجدت هذا صعبًا في ظل الظروف التي ُأمر بها في هذا الوقت‪ ..‬فكرت جي ًدا كيف أستغل هذا وخرجت‬
‫بفكرًة عبقرية‪..‬‬

‫أنتهى من مسح كل آثار الدم على المكتب والحائط‪ ،‬ثم وقف ُمصعب أمامه ليكمل كالمه‪..‬‬

‫فكرت ماذا لو أنقذتك وجندتك هنا في التنظيم ألكسب ثقة عثمان من جديد بالنسبة لي‪ ،‬وتخليصك أنت من‬
‫كل األتهامات الموجهة أليك بقتل أخيك ‪!..‬‬

‫و لماذا أنا بالذات من سيرجع ثقة عثمان بك بأنضمامي للتنظيم ؟‬

‫كان عثمان هنا هو الذراع األيمن لزعيم التنظيم ولكن منذ ألتحاق أخاك بالتنظيم هنا وهو قد فاز بمكانةً خاصة‬
‫عند الزعيم ومع أجتهاده فاز بمكانة عثمان وأصبح ثاني أهم قيادي داعشي‪ ،‬بالطبع هذا أثار غضب عثمان‪،‬‬
‫وعندما نزلت الكتيبة المصرية هنا وكنتم تقاتلون التنظيم أرسل الزعيم قوات دعم بقيادة عثمان وكنت أنا معه‪..‬‬
‫ضل عثمان األنسحاب وكذلك سيُقتل أخاك على أية حال‪..‬‬
‫لكنه عندما وجد هجوم الطائرات األمريكية عليكم ف ّ‬
‫سواء من المصريين أو من الهجمات األمريكية‪ ،‬وكالجميع شاهدنا فيديو قتلك ألخيك‪ ،‬فأصبحت أنت بالتالي‬
‫ضا من الشكوك حولي‪ ..‬كلفني بمهمةً بسيطة وهي‬
‫طريقه ألستعادة مكانته لدى الزعيم‪ ،‬هذا لم يمنع عثمان أي ً‬
‫تماما عن معرفة أية معلومات ألي عملية أخرى‪..‬‬
‫مراقبتك‪ ،‬وأبعدني ً‬
‫فهم عمر كل شيء‪ ،‬راوده سؤال آخر‪..‬‬

‫لكن كيف سأنقذ ماريان ؟!‪ ،‬كيف سأخرج من هنا على كل حال ؟!‬

‫نظر ُمصعب في ساعته ‪..‬‬

‫لم يتبقى أمامك سوى ساعةً واحدة فقط لتهرب من هنا ‪..‬‬

‫‪292‬‬
‫عِ ضين‬
‫توجه ُمصعب ناحية مكتبة عثمان‪ ،‬أزاح بعض الكتب من الجزء االوسط من رفوف المكتبة‪ ،‬وفجأة جذب جزء‬
‫المكتبة األوسط هذا ناحيته ‪ ،!..‬لم يستوعب عمر ما يراه‪ ..‬هناك باب حديدي وراء المكتبة‪ ،‬تساءل عمر‬
‫بأندهاش‪..‬‬

‫ما هذا ؟!‬

‫وقف ُمصعب أمام هذا الباب وشرح لعمر االمر‪..‬‬

‫منذ فترة دخلت هذه الغرفة خلسة دون أستئذان القائد عثمان ألنه وبكل بساطة كان في سوريا في أجتماع مع‬
‫زعيم التنظيم‪ ..‬أو هكذا أعتقدت‪ ..‬كنت أريد الحصول على بعض المعلومات من مكتبه‪ ،‬لكنني فوجئت عندما‬
‫دخلت ووجدته يدفع هذا الجزء من المكتبة ناحية الداخل‪ ..‬لم أعير أنتباهي لما فعله آنذاك ألنني كنت في وضع‬
‫علي أن أبرر وجودي في غرفته وبمثل هذه الطريقة التي أقتحمت بها مكتبه‪ ،‬تسمرت مكاني وتساءلت‬
‫خطير‪ّ ..‬‬
‫في نفسي كيف حدث هذا ؟!‪ ،‬كنت متأك ًدا أنه في سوريا وأنه لم يدخل التنظيم هنا هذا اليوم‪ ،..‬كيف أراه أمامي‬
‫ضا لم يتخذ أجراء‬
‫فورا وتبرير موقفي هذا‪ ،‬صحيح أنه لم يقتنع حينها لكنه أي ً‬
‫فجأة اآلن ؟!‪ ،‬أسرعت بالتصرف ً‬
‫ضدي‪ ،‬لكنها كانت بداية عالقتنا المتوترة‪ ..‬كان بداية الشك بأمري ‪..‬‬

‫أخيرا‪ ،‬ثم ظهر من ورائه تجويف داخلي كبير‪ ..‬نفق سري !!‪،‬‬
‫أدار ُمصعب المقبض الحديدي بصعوبة وفتحه ً‬
‫أستطرد كالمه‪..‬‬

‫بعدما خرجت من هذا المأذق بسالم فكرت في األمر جي ًدا وبهدوء‪ ..‬فكرت في لحظة أغالق القائد لهذا الجزء‬
‫صدمت‬
‫من المكتبة !!‪ ،‬دخلت مرةً أخرى في وقت تأكدت فيه جي ًدا هذه المرة أنه في سوريا مع زعيم التنظيم‪ُ ،‬‬
‫عندما فتحت ورأيت هذا ‪..‬‬

‫أشار للنفق من الداخل ‪..‬‬

‫صدمت أكثر عندما وجدت خريطة توضح مسار هذه المتاهة ‪ ،!..‬األمر لم يكن عاديًا أو مجرد نفق فقط‪ ،‬هذا‬
‫و ُ‬
‫النفق أشبه بالمتاهة‪ ،‬وله فتحات كثيرة في عدة أنحاء كثيرة‪ ،‬وجدتها في أحدى هذه الكتب‪ ..‬أخرج ُمصعب‬
‫ذهوال‪،‬‬
‫الخريطة من جيبه‪ ،‬وكانت واضحة أنها نسخة مصورة وليست األصلية‪ ،‬أخذها عمر ثم أتسعت عيناه ً‬

‫‪293‬‬
‫عِ ضين‬
‫مستحيل‪ ..‬نفق أرضي تشبه المدينة‪ ،‬مدينة كاملة تحت األرض ‪ ،!..‬ليس مجرد نفق يصل مكان بمكان !‪ ،‬ال‪..‬‬
‫أنه نفق يصل هذا المكان بكل مكان ‪ ،!!...‬بكل مكان‪ ..‬حتى سوريا‪!..‬‬

‫أكمل ُمصعب‪..‬‬

‫عرفت بعدها كيف أنه كان يخرج ويدخل التنظيم هنا دون أن يراه أحد ‪ ،!..‬عرفت أني كنت متيقظًا عندما علمت‬
‫ُ‬
‫بأنه كان في سوريا ح ًقا ولم أكن مخطئًا حين دخلت ووجدته هنا فجأة !‬

‫مجددا ‪..‬‬
‫ً‬ ‫نظر لساعته‬

‫هيا لننجز عملنا اآلن‪..‬‬

‫كبيرا يتسع لعدة‬


‫عملنا‪ ..‬؟!‪ ،‬تساءل عمر عن ماهية العمل ذاك ‪ ،!..‬دخل معه لبدايات النفق‪ ،‬كان عرض النفق ً‬
‫أشخاص بجانب بعضهم‪ ،‬توقف ُمصعب فجأة وأمسك ( بالكوريك ) وأعطى واح ًدا آخر لعمر‪ ،‬نظر له عمر نظرة‬
‫عدم فهم‪ ،‬شرح له ُمصعب األمر‪..‬‬

‫سندفن عثمان هنا‪ ،‬سيمنحنا هذا بعض الوقت حتى يالحظوا أختفاء عثمان‪ ،‬بعض الوقت لكي تهرب أنت ولكي‬
‫أنجز أنا بعض األشياء هنا‪..‬‬

‫معا مقبرة عثمان في بدايات النفق‪،‬‬


‫طّبق عمر الخريطة ووضعها في جيبه ثم أخذ ( الكوريك ) من ُمصعب ثم حفرا ً‬
‫أمرا آخر لعمر‪..‬‬
‫وأثناء ذلك شرح ُمصعب ً‬

‫بطال قوميًا حين تم تصويرك وأنت تقتل ثاني أهم قيادي في‬
‫األمر كان منطقيًا في مصر‪ ..‬في بداية األمر أنت كنت ً‬
‫أسم مشترك‪ ..‬أكتشف‬ ‫تنظيم الدولة لكن سرعان ما تحولت لمجرم حين تم أكتشاف ما يربطك بأخيك من ٍ‬
‫متهما بقتلك ألخيك لألستحواذ على مكانته هنا وما دعم أتهام الجميع لك بذلك هو‬
‫الجميع أنه أخاك وأصبحت ً‬
‫صورا لك وأنت تحارب مع التنظيم صباح أمس ضد الجيش العراقي‪..‬‬
‫نشر وسائل األعالم ً‬
‫تذكر عمر على الفور مأساة ما حدث أمس في المعركة‪ ..‬الفتاة الصغيرة ووالدتها‪ ..‬تغريد التي قتلت وحزن والدها‬
‫عليها ‪..‬‬

‫‪294‬‬
‫عِ ضين‬
‫معا ودخال الغرفة‬
‫أنتهيا من الحفر ودخل ُمصعب ليحمل جثمان عثمان وساعده عمر في دفنه‪ ،‬ثم ردما الحفرة ً‬
‫مرة أخرى‪ ،‬مد ُمصعب إليه يده ‪...‬‬

‫الخريطة‪..‬‬

‫محددا في الخريطة ‪...‬‬


‫ً‬ ‫مسارا‬
‫أخرج عمر الخريطه من جيبه‪ ،‬رسم ُمصعب ً‬

‫يسارا ثم تسير فيه‬


‫أسمعني جي ًدا‪ ..‬نحن هنا في مدينة الموصل شمال العراق‪ ،‬ستدخل هذا النفق من هنا وتنعطف ً‬
‫مستقيما ثم ستنعطف في هذا االتجاه ( اليسار ) وفي غضون ساعةً واحدة من السير‬
‫ً‬ ‫حوالي الخمس كيلومترات‬
‫السريع ستخرج من هذا النفق عبر فتحة في بيت مهجور في حي في مدينة ( الحضر ) وفي نفس الحي ستجد‬
‫محطة بنزين وسيكون أمامها سيارة نقل عمالقة‪ ،‬هذه السيارة خاصة بنا وستنتظر حتى الظهيرة‪ ..‬مهمتها هي نقلك‬
‫لمدينة ( الوليد ) الحدودية مع المملكة السعودية وستغادر العربة على أية حال أذا ما تجاوزت الظهيرة سواء‬
‫ظهرت أنت لها أم ال‪ ،‬لذلك عليك األسراع‪..‬‬

‫تساءل عمر‪..‬‬

‫و ماذا بعد‪ ..‬؟‬

‫ثم ستسلم نفسك لحرس الحدود السعودي وحينها سنتواصل مع المملكة لنستلمك منهم ‪..‬‬

‫قطب عمر حاجبيه ‪..‬‬

‫معا لمصر !!‪ ،‬وماذا عن ماريان ؟!‪ ،‬سيتم أعدامها خالل‬


‫ظننتك ستقول لي أنني سأجد هناك ماريان وسنعود ً‬
‫ساعات‪..‬‬

‫أوال ‪..‬‬
‫بخصوص ماريان‪ ..‬سنحاول أنقاذها‪ ،‬عليك أنقاذ نفسك ً‬
‫هز عمر رأسه أيجابًا في شرود‪ ،‬طّبق الخريطة مرة أخرى ووضعها في جيبه ثم توجه ناحية النفق‪ ،‬ثم توقف‪ ..‬التفت‬
‫لمصعب عندما تذكر شيئًا‪..‬‬
‫ُ‬

‫عندما دخلت أنت هنا أغلقت كاميرةً ما كانت معك ‪ ،!..‬أكنت تصور ما حدث ؟‬

‫ابتسم ُمصعب ثم وقف أمامه مباشرة ‪..‬‬


‫‪295‬‬
‫عِ ضين‬
‫طفال ؟‬
‫أجبني ياعمر‪ ..‬كيف كان قوم السيدة مريم ينظرون إليها حين آتتهم وهي تحمل ً‬
‫كانوا ينظرون إليها كزانية أو باغية‪..‬‬

‫بالضبط‪ ..‬ولكن ماذا حدث بعدها ؟!‬

‫اهلل سبحانه وتعالى أثبت برائتها في الحال‪ ،‬حدثت معجزة وتكلم المسيح وهو في المهد صبيًا‪..‬‬

‫وحدث لم يكن في الحسبان‪ ، ..‬بينما كان القوم يتجهزون لألنقضاض عليها حدثت المعجزة‬
‫ُ‬ ‫نتكلم هنا عن معجزة‬
‫وتكلم المسيح وهو ما زال في المهد صبيًا‪ ،‬هذا بالضبط ما سنفعله فيما يخص أمرك هذا‪ ،‬سنثبت أنك لست‬
‫واضحا بالنسبة للجميع‪ ..‬األمر‬
‫ً‬ ‫داعشي بالمرة‪ ،‬لقد قتلت للمرة الثانية ثاني أهم قيادي داعشي ‪ ،!..‬األمر سيكون‬
‫ليس متعل ًقا بثأ ٍر مع أخيك أو بسبب أنك كنت تريد أخذ مكانه ‪..‬‬

‫فهم عمر كل شئ اآلن‪ ،‬إستدار عمر نحو النفق ووقف في بداية النفق من الداخل مشاه ًدا لغلق الباب عليه من‬
‫قبل ُمصعب‪ ،‬باب النفق السري الذي هو جزء من مكتبة في غرفة عثمان الذي ُدفن هنا تحته‪ ..‬من كان يتصور أن‬
‫يحدث هذا معه !‪ ،‬بدأ بالتحرك لكنه فوجئ بأن الباب قد فُتح مرة أخرى على عجل من األمر‪ ،‬ظهر له ُمصعب‬
‫محذرا أياه ‪...‬‬
‫ً‬ ‫مجددا‬
‫ً‬

‫قليل ج ًدا وستعاني من صعوبة التنفس في بعض‬


‫أخيرا لم أخبرك أياه‪ ،..‬هذا النفق هواءه ٌ‬
‫عمر‪ ،..‬هناك شيئًا ً‬
‫األحيان‪ ،‬ولن يتجدد الهواء إال كل ساعتين فقط‪ ،‬لذلك كلما أسرعت للخروج من هنا سيكون هذا لصالحك‪..‬‬

‫متفهما ثم أغلق ُمصعب الباب مرةً أخرى وقد سمع عمر صوت غلق المقبض من الخارج‬
‫ً‬ ‫هز عمر رأسه أيجابًا‬
‫يسارا كما هو مخطط له‪،‬‬
‫هذه المرة‪ ،‬سار عمر في األتجاه الذي حدده له ُمصعب دون أن يفتح الخريطة‪ ..‬توجه ً‬
‫ك ان يسير ببطئ شديد شارد الذهن ال يفكر سوى بشئ واحد فقط اآلن‪ ..‬ماريان !!‪ ،‬كيف سيتركها ؟!‪ ،‬لقد‬
‫كبيرا‬
‫أنقذت حياته مرتين !‪ ،‬الساعات تمضي وأجلها يقترب‪ ..‬توقف مكانه للحظات ونظر وراءه‪ ..‬لقد قطع شوطًا ً‬
‫ناحية فتحة الهروب في تلك المدينة التي أشار له ُمصعب‪ ،‬ماذا لو‪ ..‬ذهبت ألنقاذها بنفسي ؟!‬

‫حسم أمره في لحظة‪ ..‬لحظة جعلته يدرك أنه يجري بسرعة للعودة لنقطة البداية‪ ،‬في ظرف عشر دقائق تقريبًا كان‬
‫فعال حيث الباب السري يبتعد عنه بضعة أمتار وقبر عثمان تحته‪ ..‬قال بصوت مسموع لنفسه‬
‫عند نقطة البداية ً‬
‫مشيرا‪ ..‬لنبدأ من جديد ‪..‬هذه المرة إلى سوريا‪ ..‬إلى ماريان‪..‬‬
‫ليشجع نفسه ً‬
‫‪296‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-63-‬‬

‫تفكر فيه بأستمرار وال تنساه‪ ،‬كيف تنسى ذلك المالك الذي أعاد لها روحها من جديد‪ ..‬وقف بجانبها في أحلك‬
‫أوقاتها حتى تماثلت للشفاء تقريبًا‪ ،‬فكرت للحظة‪ ..‬هل كانت ستتأقلم مع أصابتها تلك إن لم يتدخل هو ألنقاذها‬
‫ضا لم تشعر بعجزها طيلة مساندته لها‪ ..‬لكن كيف يكون لهذا المالك أن يكون أداة قتل ؟!‪،‬‬
‫؟!‪ ،‬لكنها أي ً‬
‫مستحيل أنه قد كان أنضم لهذا التظيم األرهابي بمليء أرادته ولكن كيف يمكن لما رأته أن يكون غير حقيقي ؟!‪،‬‬
‫ضا تدرك أن ثمة هناك شئ غير حقيقي‪ ،‬لكن ولكن‬
‫رغما على ماذا ؟!‪ ،‬لكنه أي ً‬
‫رغما‪ُ ..‬م ً‬
‫فكرت في أنه قد يكون ُم ً‬
‫ولكن ‪..‬‬

‫ما قطع تفكيرها سماعها لصوت يناديها‪ ،‬صوت بدا للوهلة األولى أنه غريب‪ ،‬التفتت لمصدر الصوت من ورائها‪..‬‬
‫كثيرا‪ ،‬نعم ذلك الصوت تعرفه جي ًدا‪ ..‬إنه‬
‫شهقت عندما رأته‪ ،‬علمت أن الصوت الغريب كان غريبًا ألنها أفتقدته ً‬
‫حياتها‪ ..‬إنه عمر !!‬

‫رغم أنها ال تفهم شئ إنتفضت من مكانها مسرعةً بأتجاهه في فرحةً عارمة‪ ..‬الدموع في عينيها هربت بسرعة‬
‫منها‪ ..‬أنها دموع األشتياق ! ‪ ،‬كان هو كذلك يجري نحوها‪ ،‬يجريان نحو بعضهما لكن‪ ..‬ال يقتربان !!‪ ،‬توقفت‬
‫أمرا غريبًا يحدث ‪ ،!..‬نظرت ورائها فوجدت المسافة تباعدت‬
‫لتلتقط أنفاسها‪ ..‬توقفت ألنها الحظت بأن هناك ً‬
‫بينها وبين الكرسي حيث كانت تجلس منذ قليل‪ ،‬نظرت بأتجاه عمر الذي ما زال يركض نحوها لكن المسافة ال‬
‫محاوال ألتقاط أنفاسه‪ ..‬كان يتنفس بصعوبة‪..‬‬
‫ً‬ ‫تقل !‪ ..‬ماذا يحدث إذن ؟!‪ ،‬فجأة توقف عمر وجثى على ركبتيه‬
‫تماما كما حلمت من قبل !‪ ،‬ركضت نحوه من جديد محاولةً إنقاذه ولكن ‪..‬‬
‫ً‬

‫ضا ؟!‪ ،‬أيمكن أن يعني هذا أن عمر‬


‫حلما أي ً‬
‫فتحت عينيها على صوت رنين هاتفها‪ ،‬حاولت أستيعاب األمر‪ ،‬أكان ً‬
‫في مأذق اآلن ؟ مرة أخرى ؟!‪ ،‬هذا منطقي‪ ..‬هذا يفسر الحلم األول بالتأكيد‪ ..‬عمر لم ينضم لهذا التنظيم‬
‫جبرا ال أكثر‪ ،‬واآلن ما تفسير الحلم الثاني ؟!‪،‬‬
‫برغبته‪ ..‬لقد أُرغم على هذا‪ ..‬لقد كان في مأذق فأنضم لهم ُم ً‬
‫مثال وسيتم أعدامه ‪!..‬‬
‫كيف له أن يكون في مأذق جديد ؟!‪ ،‬هذه مصيبة أكبر‪ ..‬ربما كان يحاول الهرب ً‬

‫‪297‬‬
‫عِ ضين‬
‫تعبت من التفكير‪ ..‬تساءلت مرةً أخرى‪ ..‬كيف هو اآلن ؟!‪ ،‬هل ما زال حيًا ؟‪ ..‬يا ألهي‪ ..‬متى سينتهي كل هذا‬
‫العبث في حياتي ؟؟‪ ،‬متى سيعود عمر ؟!‬

‫في نفس اللحظات ‪...‬‬

‫فتح عينيه‪ ..‬فكر للحظة‪ ..‬هل ما زال حيًا ؟! ‪ ،‬حاول تذكر ما حدث معه‪ ،‬بعد ما كان يجري بأتجاه سوريا بدأ‬
‫يشعر بنقص الهواء‪ ،‬ليس هذا فقط ما أثار ذعره حينها‪ ..‬فجأة ظهر أمامه ثالث ممرات ولم يعد يملك الوقت‬
‫كثيرا‪ ..‬أختار الممر األوسط ومع مرور الوقت بدأ يشعر بأنعدام‬
‫على كل حال ليجرب الممرات الثالثة‪ ،‬لم يفكر ً‬
‫تماما حتى أختنق ولم يشعر بشيءٌ بعدها‪..‬‬
‫الهواء ً‬

‫هاما‪ ..‬الخريطة‪ ..‬أخرجها من جيبه‬


‫واضحا أنه قد تم تجديد الهواء هنا‪ ،‬تذكر شيئًا ً‬
‫ً‬ ‫نهض من مكانه وقد كان‬
‫وحاول التركيز فيها لمعرفة مكانه بالضبط‪ ،‬تتبع المسار الذي سلكه منذ البداية إلى أن وصل لتلك الممرات‬
‫ضا للمرة الثانية‪ ،‬الصحيح هو ذلك الممر األيسر‪ ..‬ذلك الممر‬
‫الثالثة وجد نفسه أنه قد سلك الممر الخاطئ أي ً‬
‫الذي سيكون نهايته في سوريا‪ ،‬ب التأكيد هذا هو الممر الصحيح هذه المرة‪ ،‬لقد جرب الممر األيمن فوجد نهايته‬
‫مسدودة‪ ..‬عانى الصعوبات وحاول الحفاظ على هدوءه بسبب نقص الهواء‪ ،‬رجع مرةً أخرى لتلك الممرات‬
‫ضا مسدود‪ ..‬لم يدرك حينها هل سيظل على قيد‬
‫الثالثة ثم قرر المخاطرة ثانية ليسلك الممر األوسط لكنه أي ً‬
‫الحياة ليجرب الممر األخير أم أنه سيدفن هنا في هذا النفق كعثمان ؟!‪ ..‬ال يعرف كم مضى من الوقت بوجوده‬
‫كثيرا ج ًدا عن بداية النفق‬
‫هنا في هذا النفق‪ ..‬كل دقيقة تمر وكأنها أيام‪ ..‬بدت أن مساحة النفق ضيقة‪ ،‬لقد أبتعد ً‬
‫وحتى لو تمكن من العودة للبداية حيًا لن يستطيع الخروج منه والعودة مرة أخرى لمكتب عثمان الذي هو من‬
‫ضا بالتأكيد الجميع الحظ غيابه هو وعثمان‪..‬‬
‫المفترض اآلن أنه يبحثون عنه وأي ً‬

‫أخيرا أن‬
‫أسرع في طريق العودة للوراء حيث تلك الممرات‪ ،..‬ثم سلك الطريق الصحيح هذه المرة بعدما تذكر ً‬
‫فعال أنه‬
‫الخريطة معه‪ ،‬مرت ساعة أخرى وهو يحاول األسراع للوصول للجهة األخرى قبل نفاذ الهواء الذي شعر ً‬
‫مجهودا فبالتأكيد سيجد في هذه صعوبة بالغة‪ ..‬نظر للخريطة بعدما ظهر له على‬
‫ً‬ ‫يتسرب مرة أخرى غير أنه يبذل‬

‫‪298‬‬
‫عِ ضين‬
‫مستقيما وتجاهل أي فتحات جديدة‪ ،‬لقد وصل تقريبًا‪،..‬‬
‫ً‬ ‫يمينه ممر آخر لكن الخريطة تخبره بمواصلة الطريق‬
‫بضع عشرات المترات وسيجد نفسه في الجهة األخرى ‪..‬‬

‫صعق عندما‬
‫فعال‪ ..‬لكنه ُ‬
‫طويال ثم تحرك فجأة ليسرع بالوصول‪ ،‬بعد دقائق وصل ً‬
‫نفسا ً‬
‫أغمض عينيه ليهدأ وأخذ ً‬
‫وجد أن نهاية النفق مسدود !!‪ ،‬مستحيل‪ ..‬هل هذا النفق ذو فتحة واحدة فقط‪ ..‬؟!‪ ،‬الممرات الثالثة مسدود‬
‫وهذا يعني أن هذه الخريطة ليست األصلية أو أنهم قاموا بسد هذه الممرات وفتحوا أخرى ؟!‪ ،‬نظر للخريطة مرة‬
‫أخرى وأسترجع مسار الطريقة منذ البداية‪ ..‬إنه في الطريق الصحيح !!‪ ،‬لكنه مسدود !!‪ ،‬نال منه التوتر سر ًيعا‬
‫قهرا‬
‫وتصبب عرقًا‪ ،‬الهواء قليل ج ًدا ‪..‬و اآلن ال مجال للتراجع حتى والمخاطره ليخرج من فتحة أخرى‪ ،‬صرخ ً‬
‫أرضا لكنه لم يفقد وعيه‬
‫عال وقطع الخريطة‪ ..‬فقد أعصابه بسرعة وبدأ يشعر بدوار ولم يتحمل‪ ،‬سقط ً‬ ‫ٍ‬
‫بصوت ٍ‬
‫بالكامل‪ ،‬الحظ وجود حجارة صغيرة أمامه‪ ..‬مد إليها يده ومسكها ثم رماها بأقصى ما يستطيع تجاه نهاية النفق‬
‫ٍ‬
‫بشيء معدني‪ ،‬حاول عمر توجيه بصره نحو النهاية ‪!..‬‬ ‫المسدود !‪ ،‬سمع صوت أرتطام الحجارة‬

‫فعال وتحسس نهاية النفق !‪ ،‬إتسعت عيناه من شيءٌ لم يتوقعه أب ًدا‪ ..‬باب‬
‫زحف بصعوبة تجاه النهاية حتى وصل ً‬
‫؟!!‪ ،‬لكن ال يبدو كذلك‪ ..‬باب معدني مطلي بلون التراب ليبدو كنهاية للنفق ‪!..‬‬

‫طرق الباب وحاول الصراخ لكن صوته لم يسمعه هو حتى‪ ،‬لكن فجأة سمع صوت متاريس الباب تُفتح‪ ..‬لحظات‬
‫ضا‪ ، ..‬الموت باألختناق أو أن أحدهم سيفتح الباب ويقتله‪ ،‬كان يأمل بأن تكون‬
‫يترقبها ما بين الموت والموت أي ً‬
‫نهاية الممر فتحة في بيت مهجور كما كان سيخرج في الجهة األخرى ‪..‬‬

‫محاوال أستنشاق قليل الهواء الذي تجدد في المكان فجأة وليرى هوية من فتح له‬
‫ً‬ ‫فُتح الباب‪ ،‬ورفع عمر رأسه‬
‫الباب‪ ،‬أرتسمت على وجه الرجل مالمح الجدية والغضب‪ ..‬ثم ابتسم أبتسامة ماكرة‪..‬‬

‫عمر‪..‬‬

‫‪299‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-64-‬‬

‫على كل حال‪ ..‬لم يكن ليصدق إنه مازال على قيد الحياة‪ ..‬لقد خرج حيًا من النفق بعدما تعرض لألغماء عدة‬
‫مرات وكان قريبًا من الموت‪ ،‬وكذلك لم يقتله ذلك الداعشي أو على األقل ليس هناك ما يوحي إنه قد تم القبض‬
‫عليه حتى‪ُ ..‬سمح له بألتقاط أنفاسه ثم سأله الرجل‪..‬‬

‫و اآلن‪ ..‬هل أنت بخير ؟!‬

‫لم يستوعب عمر األمر بعد‪ ،‬هز رأسه إيجابًا ثم أكمل الرجل كالمه‪..‬‬

‫ما كان عليك أن تسلك هذا الطريق !‪ ،‬ظننتك قد ُمت في هذا النفق‪ ،‬لماذا خالفت ما أُمرت به ؟!‬

‫ساهما ومحدقًا بالرجل ‪ ،!..‬بدا سؤاله غريب ج ًدا عليه !‪ ،‬أراد معرفة مصير ماريان‪ ..‬هل وصل في‬
‫ً‬ ‫ظل عمر‬
‫الوقت المناسب ألنقاذها أم فات األمر عليه ؟!‬

‫أين ماريان ؟!‬

‫لم تظهر أي تعابير على الرجل‪ ،‬توجه الرجل ناحية باب الغرفة وفتحه ‪..‬‬

‫حسنًا‪ ..‬أتبعني‪..‬‬

‫قليال‪ ،‬بدت هوية هذا‬


‫متوترا ً‬
‫لم يفهم عمر ما الذي يجري هنا لكنه توقف عند مدخل الغرفة‪ ،‬التفت حوله‪ ..‬كان ً‬
‫الرجل له مجهولة‪ ..‬هل هو رجل مخابرات مثل ُمصعب أم داعشي ال يعرف ما حل بعثمان فقط ‪ ،!..‬التفت إليه‬
‫الرجل حينما تعجب من وقوفه هكذا‪..‬‬

‫هل ستقف هكذا أم ستأتي معي ألنقاذها‪ ..‬؟!‬

‫تحرك عمر على الفور خلف هذا الرجل إلى أن حاذاه‪ ،‬ثم أكمل الرجل كالمه‪..‬‬

‫األمور هنا مضطربة منذ ساعات‪ ،‬القائد عثمان أختفى فجأة‪..‬‬

‫‪311‬‬
‫عِ ضين‬
‫التفت ناحية عمر ‪...‬‬

‫هل تعرف عنه شيئًا‪ ..‬؟!‬

‫بدا عمر غير واث ًقا من األجابة عليه‪ ،‬في البداية ظن عمر أن هذا الرجل على علم بما حدث ولكن سؤاله هذا‬
‫يوحي بالعكس‪ ،‬وهذا يرجح إنه داعشي وليس رجل مخابرات مثل ُمصعب‪..‬‬

‫ال‪ ،..‬ما أعرفه إنه أختفى فجأة فقط ‪!..‬‬

‫حدق إليه هذا الرجل وكأنه يدرك كذب عمر‪..‬‬

‫متى آخر مرة ألتقيت به ؟!‬

‫يوم أختفاؤه ‪..‬‬

‫ضا لم يشعر بذلك‪ ..‬كيف علم بأن‬


‫من هنا أدرك الرجل جي ًدا َكذب عمر‪ ،‬لقد وقع عمر في فخ الرجل لكنه أي ً‬
‫أخر مرة ألتقاه فيه كان يو أختفاؤد ؟!‪ ،‬بدا أن األمر غير منطقيًا بالنسبة له‪ ،‬هناك شيء مفقود في كالم عمر‪،..‬‬
‫آجال سيعرف كل شيء‪..‬‬
‫عاجال أم ً‬
‫لكنه ً‬

‫تماما وقد ال تقوى على الهروب معك‪ ،‬عليك بحملها والهرب بها ألبعد مكان تستطيع‬
‫ماريان في حالة مخدرة ً‬
‫الوصول إليه‪ ،‬عليك بأستغالل حالة األضطراب تلك التي تضرب التنظيم اآلن‪..‬‬

‫هنا تغيّرت شكوك عمر حول هذا الرجل‪ ،‬إنه رجل مخابرات مثل ُمصعب تم تجنيده في هذا التنظيم في سوريا‬
‫وحرصا من ُمصعب‪..‬‬
‫ً‬ ‫دهاءا‬
‫لكنه يبدو أكثر ً‬

‫لكن دعني أسألك‪ ،..‬لماذا لم تنقذ ماريان ؟! ماذا لو لم آتي ألنقاذها ؟ هل كنت ستسمح بقتلها ؟!‬

‫توقف الرجل والتفت له ‪..‬‬

‫‪311‬‬
‫عِ ضين‬
‫األمور ال تسير هكذا‪ ..‬من المفترض أنك عسكري وتعرف ما أعنيه‪ ،‬أمر ماريان أو غيرها ال يعنيني بشيء‪ ..‬أنا هنا‬
‫في مهمةً محددة ال أكثر‪..‬‬

‫ت ّفهم عمر كالمه وأستئنفا سيرهما‪ ،‬تساءل عمر‪..‬‬

‫طبعا‪..‬‬
‫كيف سنهرب من هنا ؟‪ ،‬أعني أنا وماريان ً‬

‫ممر سري يستخدمه التنظيم للهروب من قبضة الجيش السوري والوصول لهنا‪ ،‬ستستخدمه أنت وماريان‪،‬‬
‫هناك ُ‬
‫ستخرجان عبر ٍ‬
‫فتحة في كهف أحدى صحاري مدينة الحسكة‪ ،‬بعدها يمكنكما التصرف والعودة لمصر ‪...‬‬

‫كيف سنتصرف هنا ؟!!‪،‬أليس من مهمتك إيصالنا لمكان آمن نصل منه لمصر ؟!‬

‫توقف مرة أخرى‪..‬‬

‫عندما علمت المخابرات بأنك غيرت مسارك وستأتي لهنا‪ ..‬كانت مهمتي هي أستقبالك ومساعدتك على الهروب‬
‫ٍ‬
‫لمكان آمن ثم الباقي عليكم‪،‬‬ ‫أصال‪ ،‬وها قد حدث ذلك‪ ..‬مهمتي هي أيصالكم‬
‫أنت وماريان‪ ..‬هذا إن كنت حيًا ً‬
‫هنا ينتهي دوري يا عمر‪..‬‬

‫أكمال سيرهما وتوقفا عند باب سجن ما‪ ،‬فتح الرجل باب هذا السجن‪..‬‬

‫كانت ملقاة على األرض بال قوة مرتدية زيًا برتقاليًا‪ ..‬زي األعدام‪ ،‬أسرع عمر ليطمئن عليها‪ ،‬نظرت إليه في شرود‬
‫لباسا داعشيًا وكذلك لحيته التي كبرت خالل أيام‪ ..‬رمت‬
‫صدمت ‪ ،!.‬رأته وهو يرتدي ً‬
‫وعندما أستوعبت األمر ُ‬
‫صحيحا‪ ..‬قالتها بصوت‬
‫ً‬ ‫نظرها لذلك الرجل الواقف على الباب ثم عادت بنظرها لعمر خشية أن ما تفكر به‬
‫ضعيف ومصدوم ‪..‬‬

‫عمر‪ ..‬؟!‬

‫عرف عمر أنها قد تكون مصدومة من مظهره الداعشي هذا‪..‬‬

‫سأشرح لكي كل شيء الح ًقا‪ ،‬اآلن علينا الهروب من هنا‪..‬‬

‫‪312‬‬
‫عِ ضين‬
‫حملها عمر على يديه وخرج بها من غرفة السجن تلك‪ ،‬أوصد بعدها هذا الرجل الباب وكأن شيئًا لم يحدث‪..‬‬

‫جميعا‪ ،..‬أجلس عمر ماريان‬


‫كانا يسيران بسرعة في ممرات ذلك المبنى حتى وصال لغرفة فتحها الرجل ودخلوا ً‬
‫على أريكة كانت بالغرفة كي يُريح يديه من عناء حملها‪ ،‬توجه الرجل ناحية خزانة المالبس وفتحها ثم أزاح‬
‫المالبس المعلقة بها يمينًا ثم ظهر من ورائهم مقبضين لباب يفتح على جانبيه‪ ،‬لم يندهش عمر هذه المرة فلقد‬
‫رأى ساب ًقا مثل هذه األنفاق كتلك الموجودة في غرفة عثمان‪ ،‬أما ماريان ورغم أنها لم تستعيد وعيها بالكامل‬
‫بسبب المخدر فقد أثار هذا أنتباهها وأندهاشها‪..‬‬

‫ضا فتح الرجل هذا الباب السري وأشار لعمر باألسراع‪ ،‬مرة أخرى حمل عمر ماريان على يديه وتوجه ناحية‬
‫أي ً‬
‫النفق وقبل أن يغلق الرجل الباب التفت إليه عمر‪..‬‬

‫لن تجدوا عثمان أب ًدا ‪..‬‬

‫قالها وقد أرتسمت أبتسامة على وجه عمر‪ ..‬أبتسامة تبدو في ظاهرة أنها ماكرة‪ ،‬أمال الرجل برأسه في تساؤل‬
‫عرفه عمر دون أن ينطق الرجل‪..‬‬

‫نعم لن تجدوه‪..‬‬

‫أدرك الرجل معنى أبتسامة عمر تلك ومعنى كالمه كذلك‪ ،‬لقد قُتل عثمان والذي قتله هو عمر‪ ..‬أو شيءٌ هكذا‪..‬‬
‫المهم أن عثمان قد قُتل‪ ،‬أغلق الرجل الباب وأعاد ترتيب المالبس المعلقة وأغلق أبواب الخزانة وكأن شيء لم‬
‫يحدث‪ ،‬سيكون هن اك متسع من الوقت ليدركوا أن ماريان ليست هنا كذلك‪ ،‬جلس على مكتبه وجلس على‬
‫حاسوبه‪ ..‬فتح أيميله األلكتروني الخاص والسري وكتب‪ " ..‬تلك الطيور الحبيسة أنطلقت األن‪ ..‬قريبًا ستعود‬
‫لديارها " ‪ ...‬تم األرسال ‪...‬‬

‫أغلق أيميله الخاص به ومسح التاريخ وكل شيء فعله اآلن ‪! ...‬‬

‫أما شريف‪ ..‬فبعدما أستلم تلك الرسالة قام بخطوته التالية‪..‬‬

‫‪313‬‬
‫عِ ضين‬
‫تسريب فيديو مقتل عثمان على يد عمر أثناء برنامج شيرين‪..‬‬

‫‪314‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-65-‬‬

‫كانت تسير بسرعة البرق نحو غرفة األعدادات‪ ،‬كانت بأمكانها قتل أحدهم هذه الليلة‪ ،‬أو ربما الجميع‪ ..‬كيف‬
‫شرسا على‬
‫هجوما ً‬
‫ً‬ ‫ومتى حدث هذا ؟!‪ ،‬شعرت وكأن الجميع كان يخطط لكل هذا منذ البداية‪ ،‬يجعلونها تشن‬
‫عمر ثم بعدها وفي نهاية برنامجها بالذات يتم عرض مشاهد تبرئة عمر‪ ،..‬ال سيما بعد المداخلة التي قامت بها‬
‫المدانة وليس عمر !‬
‫للتو قبل الفاصل مع زوجته ‪ ،!..‬الجميع سيتعاطف مع زوجته ومع قضية عمر‪ ،‬أصبحت هي ُ‬

‫و عندما كانت مندفعة تجاه غرفة األعدادات أصطدمت بأحدهم‪ ..‬بدا غريبًا‪ ..‬أفرغت جزء من غضبها عليه‪..‬‬

‫أنظر أمامك جي ًدا أيها األبله‪..‬‬

‫التفت إليها الرجل قاطبًا حاجبيه لكنها قد أكملت طريقها مندفعة ناحية غرفة األعدادات وغادر الرجل في‬
‫صمت‪ ،‬دخلت هي الغرفة متجهة ناحية أحدهم لتفرغ جل غضبها عليه لكنها فجأة توقفت عندما مسك أحدهم‬
‫محاوال إيقافها‪ ..‬أنه ثروت‪ ..‬تفاجأت من وجوده هنا في هذا المكان واآلن ‪!..‬‬
‫ً‬ ‫يدها‬

‫منذ متى وأنت هنا ؟!‬

‫ٍ‬
‫غضب آتية‪ ،‬حاول هو تمالك أعصابه ‪..‬‬ ‫سألته والشرارة في عينيها تنذر بموجة‬

‫يجب أن نتحدث سويًا في المكتب و‪...‬‬

‫قاطعته بتكرار سؤالها‪..‬‬

‫منذ متى وأنت هنا يا ثروت ؟!‬

‫قليال في المكتب ‪..‬‬


‫كنت هنا قبل أنتهاء برنامجك‪ ،‬لكن علينا التحدث ً‬

‫قالها ببرود وزاد هذا من غضبها‪ ،‬يتكلم وكأنه لم يفعل شيئًا‪..‬‬

‫أذن كنت هنا وقت عرض تلك المشاهد ولم تمنع حدوث هذا ؟!‬

‫‪315‬‬
‫عِ ضين‬
‫أحتمال آخر‪..‬‬
‫ٌ‬ ‫سكتت للحظة لتستوعب هي كالمها‪ ،‬هناك‬

‫أو إنك أنت من سمحت بهذا‪..‬‬

‫ٍ‬
‫بصوت ُمخجل ‪..‬‬ ‫لم يقوى ثروت على النظر في عينيها التي تحدقان به‪ ،‬قال‬

‫ال‪ ..‬أنا لم أسمح بذلك‪ ،‬مهما بدت العالقة بيننا متوترة يا شيرين فال أستطيع األقدام على فعل شئ كهذا ‪..‬‬

‫حدقت به وأمالت برأسها منتظرة منه أن يُكمل كالمه ‪..‬‬

‫لقد تم أجبارنا على فعل ذلك يا شيرين ‪..‬‬

‫قطبت حاجبيها في عدم فهم ‪..‬‬

‫من أجبركم على ماذا ؟!‬

‫مباحث أمن الدولة‪ ، ..‬لقد جاءوا أثناء الفاصل األعالني لبرنامجك وأجبروني على قطع األعالنات وتشغيل هذا‬
‫الفيديو‪ ،‬لقد شاهدت الفيديو ِ‬
‫مثلك ومثل الجميع ألول مرة ‪..‬‬

‫حاولت أستيعاب األمر‪ ،‬تساءلت في صدمة ‪..‬‬

‫أمن الدولة‪ ..‬؟!‪ ،‬لماذا ؟‬

‫لقد كنتي تهاجمينهم طوال هذه الفترة بالذات يا شيرين ‪ ،..‬حادثة المول التجاري وحادثة الكنيسة وهجومك‬
‫المستمر على عمر خالل اليومين الماضيين‪ ،‬كل هذا من شأنه أن يضر بمصلحتهم‪ ،‬أرادوا األنتقام بطريقة ذكية‬
‫ِ‬
‫جمهورك بالكامل‪ ،‬واآلن علينا التفكير بهدوء لنحل هذه المشكلة ‪..‬‬ ‫وشرعية‪ ،‬بهذه الطريقة تفقدين ثقة‬

‫ٍ‬
‫بصوت مسموع ‪...‬‬ ‫الحظ ثروت شرودها‪ ،‬أو أنه مجرد هدوء ما قبل العاصفة‪ ،‬فكرت‬

‫صنعت خصيصاُ من أجلي ‪..‬‬


‫قد تكون هذه المشاهد غير حقيقة‪ ..‬مفبركة‪ ،‬قد تكون تلك المشاهد قد ُ‬

‫‪316‬‬
‫عِ ضين‬
‫صناع األعالم هنا في مصر وال أظن بأن تلك المشاهد مصطنعة‪ ،‬حتى لو كانت كذلك‪ ..‬علينا‬
‫يا شيرين‪ ..‬نحن ُ‬
‫التفكير بهدوء للخروج من هذه األزمة‪..‬‬

‫دخل أحدهم فجأة الهثًا‪ ،‬توقف أمامهم مباشرة ثم ألتقط أنفاسه ليخبرهم ‪..‬‬

‫هناك خبر سئ سيدي‪ ،..‬هناك تجمع لعدة أشخاص أمام بوابة مدينة األنتاج الرئيسية والعدد في تزايد ‪!..‬‬

‫التفت لشيرين ثم أكمل كالمه ‪..‬‬

‫هذا الحشد ِ‬
‫ضدك سيدة شيرين ‪...‬‬

‫ما كان يخشاه ثروت قد حدث‪ ،‬الحكومة قد حشدت الناس ضدها بذكاء‪ ،‬التفت لشيرين فجأة ليقترح عليها شيئًا‬
‫ما ‪..‬‬

‫عاجال ياشيرين تشرحين فيه ‪..‬‬


‫ستُلقين بيانًا ً‬

‫قاطعته في حدة ‪..‬‬

‫ال‪ ..‬لن أعتذر يا ثروت وسأكمل طريقي‪ ،‬سيعرف الجميع من هي شيرين ‪...‬‬

‫قاطعها ثروت بحدة وبصوت حذر ‪..‬‬

‫علينا األسراع يا شيرين قبل تفاقُم األزمة‪ ،‬الوقت ليس في صالحنا‪ ،‬هذا أن أردتي الخروج من هنا على قيد‬
‫الحياة‪ ،..‬نحن ما زلنا في بداية المشكلة ويمكننا حلها اآلن بسهولة‪..‬‬

‫أحمر وجهها وخرجت من غرفة األعدادات بسرعة في غضب‪ ،‬كانت تتمتم بكلمات غير مفهومة لكنها مفهومة‬
‫بالنسبة لثروت‪ ،‬تتوعد لرد كيد الحكومة بها‪ ،..‬ستقلب الطاولة من جديد‪ ..‬ستجعل محاولتهم لإليقاع بها محاولة‬
‫فاشلة‪ ..‬أو خطأ قد يندمون عليه ‪..‬‬

‫‪317‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-66-‬‬

‫روحا وجس ًدا واح ًدا‪ ، ..‬لم يتخيل إنه قد يتغيب عنها كل هذه المدة‪،‬‬
‫لقد أختار اهلل أن يُفرق بينهما بعد أن أصبحا ً‬
‫ضا !‪ ،‬لم يعد يراها بعينيه لكنه يراها بقلبه وما‬
‫مجددا‪ ،‬لقد أفتقدها ولقد أعتاد أفتقادها أي ً‬
‫ً‬ ‫لم يتخيل إنه قد ال يراها‬
‫القلب إال بأبصر من العين‪..‬‬

‫تساءل‪ ..‬كيف حالها اآلن ؟! هل ُشفيت أم تّخلوا عنها بعدما فقد مكانه في الجيش ؟!‪ ،‬ما يرهقه هو أنه ال‬
‫يعرف عنها شيء وربما هي تعرف عنه كل ما يحدث معه بالتفصيل !‪ ،‬ال يراها وال يعرف عنها شيء لكن قلبه‬
‫فعال يخبره بالحقيقة !‪..‬‬
‫أمل أم أن قلبه ً‬
‫يحدثه بأنها بخير‪ ..‬قلبه يخبره أنها قد تم شفاؤها‪ ..‬ال يعرف أن كان هذا ٌ‬
‫ضا‪ ..‬قلبه الذي أحبها أكثر‬
‫سيصدق قلبه‪ ،‬قلبه الذي توجها ملكةً عليه‪ ،‬ابتسم‪ ..‬هل يغار من قلبه ألنه أحبها أي ً‬
‫ّ‬
‫منه‪ ،‬قلبه يستحقها أكثر منه‪ ،..‬الظروف من حوله تجبره على تحمل نسيانها لكن قلبه يأبى ذلك‪..‬‬

‫تحركت ماريان التي ك انت نائمة بجانبه في عربة النقل التي أستقلونها عندما خرجوا من الكهف الداعشي‪ ،‬ما زالت‬
‫تحت تأثير المخدر‪ ،‬أمسكت برأسها متألمة‪ ..‬يبدو أن أثر المخدر بدء يختفي تدريجيًا واأللم يزداد شيئًا فشيئًا‬
‫ضا تدرك ما يدور حولها‪ ..‬تدرك أنها لم تكن تحلم وأن عمر جاء لينقذها وهربا سويًا‪ ،‬التفتت لعمر‬ ‫لكنها أي ً‬
‫وتبسمت رغم ما تشعر به من ألم‪..‬‬

‫ُكنت على وشك العودة للظهور مرة أخرى على التلفاز لكن هذه المرة كضحية‪ ..‬ما كان عليك أن تنقذني‪ُ ..‬كنت‬
‫أريد أن ينتهي كل شيء ‪..‬‬

‫ضحك عمر وفهم ما تقصده‪ ،‬لقد كانت تتهكم عليه كرد لما فعله هو ساب ًقا بعد أن أنقذته‪ ،‬سالته ‪..‬‬

‫هل أدركت معنى أن تنقذ أحدهم من الموت الحتمي‪ ..‬؟!‬

‫أثناء رحلتهمها هذه جذب أنتباهها الفتة عمالقة مرت من فوقهم‪ ..‬كانت أحدى كلماتها هي " الحكسة "‪،..‬‬
‫تعجبت وحاولت تذ ُكر أين هذا المكان بالضبط في العراق ‪!..‬‬

‫‪318‬‬
‫عِ ضين‬
‫ضا‬
‫ضا وعلى ما يبدو أن هنا في العراق يوجد الحكسة أي ً‬
‫ُكنت أظن أن الحكسة مدينةً سوريةً فقط ‪ ،!..‬لكنها أي ً‬
‫‪!..‬‬

‫أبتسامة عمر أثارت تساؤل ماريان‪..‬‬

‫الحسكة ليس لها فروع أخرى آنستي‪ ،‬الحكسة مدينةً سورية فقط ‪..‬‬

‫قالها بشيء من السخرية‪ ،‬لم تستوعب سخريته هذه‪..‬‬

‫ما معنى هذا‪ ..‬؟!!‬

‫تنتظر أجابة غير تلك التي تدور برأسها ‪..‬‬

‫نحن في سوريا يا ماريان ‪..‬‬

‫أصال في رده‪..‬‬
‫أتسعت عيناها في صدمة‪ ،‬ال تستوعب ما كانت تتوقعه ً‬

‫كيف حدث هذا ؟!‬

‫أنتي هنا منذ أيام‪ ،‬لقد تم نقلك لهنا ليتم أعدامك‪ ،‬بالطبع ِ‬
‫كنت في حالة مخدرة‪..‬‬

‫حاولت أن تستوعب األمر لكن معدتها تدخلت لتعلن أحتجاجها في هذا الوقت‪ ،‬مسكت معدتها متألمة‪ ،..‬سألها‬
‫عمر ‪..‬‬

‫جائعة ؟!‬

‫هزت رأسها أيجابًا‪..‬‬

‫طبيعي‪ ،‬لقد أختفى تأثير المخدر ‪..‬‬

‫نظر حوله خارج العربة فوجد مباني وبيوت أهالي فعرف أنهم قد تخطوا حدود القرية الخارجية ودخلوا القرية‬
‫نفسها ‪..‬‬
‫‪319‬‬
‫عِ ضين‬
‫حسنًا دعينا ننزل هنا‪ ،‬ونبحث عن طعام‪..‬‬

‫أطرق عمر بيده على الزجاج خلف السائق وأشار له بالتوقف للنزول‪ ،‬توقفت السيارة ونزال منها ثم أشار عمر‬
‫للسائق بالشكر ‪ ،..‬اآلن عليهما البحث عن طعام ثم مواصلة طريقهما‪..‬‬

‫معا في طرق مجهولة حتى وصال لبداية شارعٌ ما‪ ..‬لم تستطع ماريان السير أكثر من هذا‪ ،‬جسدها‬
‫ظال يسيران ً‬
‫ضعيف ج ًدا وكاد يقتلها الجوع‪ ،‬كان الشارع خاليًا تقريبًا‪ ،‬أجلسها على الرصيف ووقف أمامها يفكر باألمر‪..‬‬

‫أنتظريني هنا ‪..‬‬

‫أين ستذهب ؟!‬

‫ألستي جائعة ؟!‪ ،‬سأبحث عن طعام في أحد هذه البيوت‪..‬‬

‫ضحكت هي هذه المرة‪..‬‬

‫ألن تخجل هذه المرة ؟!‬

‫مبتسما‪..‬‬
‫ً‬ ‫التفت إليها‬

‫كثيرا ياماريان‪ ،‬وأنتي أحد دروسه‪..‬‬


‫الحياة علمتني ً‬

‫كثيرا‪ ..‬على بُعد مترات قليلة منها أطرق باب أول بيت صادفهُ‪ ،‬فُتح‬
‫قالها وقد بدأ يبتعد عنها‪ ،‬لكنه لم يبتعد عنها ً‬
‫الباب فتحة بسيطة‪ ..‬ال يظهر منها سوى عين واحدة فقط‪..‬‬

‫يب عن هنا وكنت أريد بعض الطعام لو تكرمتي‪..‬‬


‫عفوا سيدتي‪ ،..‬أنا غر ٌ‬
‫ً‬

‫فعال بأن خجله هذا كان نعمة‪ ،‬تردد‬


‫أغلقت المرأة بسرعة الباب فجأة في وجه عمر‪ ،‬شعر بخجل شديد‪ ،..‬أدرك ً‬
‫مترددا لكنه‬
‫ً‬ ‫للحظات‪ ..‬هل يكمل البحث أم أنه سيكتفي بهذا الموقف ؟!‪ ،‬أبتعد بضع خطوات عن هذا البيت‬

‫‪311‬‬
‫عِ ضين‬
‫شاب ما قد خرج من هذا البيت الذي تركه للتو‪ ،‬أقترب عمر إليه‪ ،‬سأله‬
‫فوجئ بأحدهم يناديه‪ ،‬التفت ناحيته ليجد ٌ‬
‫الشاب بحذر‪..‬‬

‫أجبني من فضلك‪ ،..‬هل أنت داعشي ؟!‬

‫نظر عمر لهيئته‪ ..‬وعرف سبب أغالق الباب في وجهه هكذا منذ قليل‪ ،‬لقد ظنت هذه المرأة أنه داعشي‪..‬‬

‫حاال ‪..‬‬
‫ال‪ ..‬لكنني تورطت معهم بطريقةً ما‪ ،‬أسف الزعاجك‪ ..‬سأرحل ً‬

‫ضا‪..‬‬
‫قاطعه الشاب بسؤال يتملكه الشك أي ً‬

‫متأكد‪ ..‬؟!‬

‫شرد ذهن عمر فجأة ولم يستمع لسؤال الشاب‪ ،‬نظر ناحية ماريان التي ما زالت فاقدة القوة تقريبًا على الحراك‪،‬‬
‫نظر الشاب ناحية ما ينظر إليه عمر فوجد فتاة تجلس على الرصيف وتبدو منهكة وضعيفة‪ ،‬سأله‪..‬‬

‫هذه الفتاة معك ؟!‬

‫هز عمر رأسه أيجابًا‪ ،‬أشار له الشاب‪..‬‬

‫حسنًا‪ ..‬يمكنما الدخول‪..‬‬

‫فرح عمر وشعر باألمتنان تجاه هذا الشاب‪ ،‬أسرع ليسند ماريان ويدخلها المنزل‪ ..‬أجلسها على أقرب أريكة‪،‬‬
‫أستأذن منهما الشاب للحظات‪ ،‬أنتهز عمر هذه الفرصة ليكلم ماريان ‪..‬‬

‫ِ‬
‫طاقتك بسرعة‪ ،‬ال نريد أزعاجهم أكثر من هذا‪..‬‬ ‫ماريان‪ ..‬حاولي أستعادة‬

‫المعلق على الحائط‪ ،‬تقدم بأتجاهه‪ ،‬أندهش عندما أدرك أن‬


‫هزت ماريان رأسها موافقة‪ ،‬لفت أنتباه عمر التقويم ُ‬
‫اليوم هو أول أيام شهر رمضان ‪ ،!..‬بالطبع ولهذا السبب كان كل شيء غريبًا منذ البداية‪ ،‬األجواء في الخارج‬

‫‪311‬‬
‫عِ ضين‬
‫رمضانية‪ ،‬دخل عليهما الشاب وزوجته‪ ..‬يبدوان عروسان بالتأكيد‪ِ ..‬‬
‫وضع الطعام أمامهم‪ ..‬التفتت زوجة الشاب‬
‫لعمر معتذرة ‪..‬‬

‫آسفة عما بدر مني‪ ،‬كان األمر غريبًا ومخي ًفا بالنسبة لي‪ ..‬ظننتك داعشي أو من تلك الجماعات‪ ،‬تفضلوا‬
‫الطعام‪..‬‬

‫أنا من يجب أن يتأسف ألزعاجكم‪ ،‬لن نطيل عليكم‪ ..‬سنرحل اآلن‪..‬‬

‫تكلم الشاب‪..‬‬

‫ال عليك يا رجل‪ ،‬جميعنا سنرحل خالل أيام ‪..‬‬

‫كانت مارايان تأكل بشراهة متجاهلة ما يحدث حولها‪ ،‬لم يفهم عمر قصد هذا الشاب‪..‬‬

‫سترحلون‪ ..‬؟!‪ ،‬ألين ولماذا ؟‬

‫ابتسم الشاب ‪..‬‬

‫ال تشغل بالك اآلن‪ ،‬ستعرف الح ًقا ‪..‬‬

‫الحظ أن عمر لم يأكل حتى اآلن‪ ،‬أشار له الشاب ‪...‬‬

‫لماذا لم تأكل ؟!‪ ..‬تفضل الطعام ‪..‬‬

‫ال‪ ..‬لقد نسيت أن اليوم هو أول أيام شهر رمضان ‪..‬‬

‫متفهما األمر‪..‬‬
‫ً‬ ‫هز الشاب رأسه‬

‫ثت هذا المنزل من‬


‫حسنًا‪ ..‬دعني أعرفكم علينا‪ ،‬أنا أسامة أبراهيم مهندس كهربائي وهذه زوجتي لميس ولقد ور ُ‬
‫أبي رحمه اهلل‪ ،‬ماذا عنكم ؟؟‪ ،‬كيف أنتم غرباء عن هنا ؟!‬

‫‪312‬‬
‫عِ ضين‬
‫قص عمر عليهم ما جرا معه األيام الماضية‪ ،‬تأثروا ج ًدا بالقصة‪ ،‬خاصة مصير تلك الفتاة تغريد‪ ..‬حتى أن ماريان‬
‫صدمت بذلك الخبر وحزنت‪ ،‬فقدت شهيتها عندما علمت بوفاة تلك الفتاة البريئة !‪ ..‬تلك الفتاة التي سمعت‬
‫ُ‬
‫والدها وهو يقص على عمر قصة وفاة والدتها‪..‬‬

‫بعدما أنتهى عمر من الكالم شرد ذهن أسامة ‪..‬‬

‫هناك شيئًا غريبًا في قصتك تلك ‪ ، !..‬أظنني على علم ببعض ما حدث معك‪ ،‬ال أستطيع تذكر متي وأين سمعت‬
‫بعض التفاصيل هذه !!‬

‫الحظ أنصات الجميع له‪..‬‬

‫قليال فيما ستستعد لميس لتجهيز الفطور ‪..‬‬


‫ال عليكم‪ ..‬المهم أنني أنا وأنت سنرتاح ً‬

‫قامت لميس وأتجهت ناحية المطبخ مبتسمة وتبعتها ماريان بعدما أستعادت طاقتها بالكامل ‪...‬‬

‫حان وقت األفطار‪ ..‬الفطور جاهز والجميع مستعد لألفطار‪ ،‬حتى ماريان أحبت أجواء شهر رمضان‪،..‬كانوا‬
‫بأنتظار األ ذآن وها بالفعل أنطلق األذآن وبدأوا بتناول الفطور‪ ،‬مرت دقائق حتى أنتهت ماريان من الفطور أو من‬
‫" ‪Exclusive news‬‬ ‫األكل ثم أمسكت بجهاز التحكم عن بعد وتنقلت بين المحطات بحثًا عن قناة‬
‫أخيرا‪ ،‬كانت شيرين عبد النور تتكلم‪..‬‬
‫" ووجدتها ً‬

‫علي‬
‫ضا َو َجب ّ‬
‫فادحا عندما قمت بمهاجمة عمر دون أدلة دامغة‪ ،‬لذلك أي ً‬
‫" ‪ ... -‬لذلك قد أرتكبت خطئًا ً‬
‫أوال ثم للمصرين بعدها ‪" ...‬‬
‫األعتذار لعمر وزوجته ً‬

‫البرنامج جذب أنتباه الجميع فجأة ال سيما عمر عندما سمع أسمه تردده تلك المذيعة‪ ،‬يعرف أنه قد أصبح‬
‫فعال هو تردديها لكلمة " زوجته " !‪..‬‬
‫مشهورا في مصر حتى لو كانت هذه الشهرة سلبية‪ ،‬لكن ما أثار أنتباهه ً‬
‫ً‬
‫مثال ألستضافة زوجة عمر األرهابي في برنامجها وتم مهاجمتها‬
‫لماذا تعتذر هذه الحمقاء ؟!‪ ،‬هل وصل األمر ً‬
‫شخصيًا بسبب خطأ لم يقصده هو ؟؟‪ ،‬ما قطع تفكيره صوت أسامة الذي عال فجأة ‪...‬‬

‫‪313‬‬
‫عِ ضين‬
‫هكذا يكون الوضع منطقيًا‪ ،‬منذ البداية وأنا أُحدث نفسي بأني قد رأيتك من قبل ولكنني لم أتخيل أن الضابط‬
‫المصري عمر محسن شخصيًا قد يعلق هنا في سوريا ويستغيث بي ويكون هنا في بيتنا‪ ،‬لقد بدا األمر خياليًا‬
‫بالنسبة لي ‪!..‬‬

‫قالها والفرح والفخر يتطايران من عينيه‪ ،‬فيما كان عمر شارد الذهن يفكر بشيء واحد فقط‪ ..‬آسية‪ ..‬لكن أسامة‬
‫وزوجته ظنا بأن عدم رد عمر وشرود ذهنه الواضح يعود إلى خجله وأحراجه من الذنب الذي لُصق به‪ ..‬الجميع‬
‫يعرف أنه قتل أخيه على أية حال‪ ..‬البد وأنه يواجه صعوبات بينه وبين نفسه كلما ذّكره أحد‪ ،‬تدخل أسامة‬
‫لتوضيح األمر ‪..‬‬

‫ت أكد يا عمر بأن الجميع يعلم معاناتك‪ ،‬الجميع يعلم بأنك لم تكن تقصد قتلك ألخيك بحد ذاته‪ ،‬األعالم فقط‬
‫هو من روج لفكرة أنك قد فعلت ذلك بدافع األنتقام من أخيك وخطف مكانته في التنظيم‪ ،‬لكن ال أحد كان‬
‫يصدق كالمهم اال بالطبع مناصري هؤالء األعالميين على صفحات التواصل األجتماعي‪ ،..‬لكن من الغريب أن‬
‫تعتذر تلك المذيعة بالذات عن مهاجمتك أنت‪ ،..‬أتساءل ماذا حدث لتغير رأيها ؟!‬

‫أنجذب الجميع ناحية التلفاز مرة أخرى ‪...‬‬

‫مجددا ‪" ...‬‬


‫ً‬ ‫" واآلن بعد أن ظهر للجميع حقيقة شخصية عمر المخابراتية‪ ..‬دعونا نرى تلك المشاهد‬

‫الجميع بال أستثناء أتسعت أعينهم من الدهشة بما فيهم عمر نفسه‪ ،‬رجل مخابرات ؟ من ؟! عمر ؟!‪ ،‬لقد ظن‬
‫جميعا تلك المشاهد التي تُعرض اآلن‪..‬‬
‫ً‬ ‫شخصا غيره‪ ،‬تسمر الجميع أمام التلفاز ليروا‬
‫ً‬ ‫عمر بأنها تتكلم عن‬
‫مشاهد قتل عمر لقيادي داعشي آخر‪ ،‬عمر ألول مرة يشاهد نفسه وهو يقتل عثمان‪ ..‬ماريان ألول مرة تشاهد‬
‫ضا وأول مرة تعرف هذا الرجل على أنه قيادي داعشي آخر ‪..‬‬
‫هذا المشهد أي ً‬

‫تسمر عمر في مكانه‬


‫فجأة أنقطعت الكهرباء‪ ،‬أسرعت لميس للطابق األعلى بسرعة ألحضار رضيعها فيما ّ‬
‫شاردا‪..‬‬
‫ً‬

‫‪314‬‬
‫عِ ضين‬
‫أنقضت الساعات األخيرة من اليوم سر ًيعا كعادة هذا الشهر الكريم ومع تجاوز ساعات منتصف الليل أقترب وقت‬
‫السحور‪ ،‬كانوا نائمين‪ ..‬أسامة ولميس في الطابق الثاني مع طفليهما وماريان وعمر في الطابق األرضي كل منهما‬
‫على أريكة‪ ..‬ورغم أنهم على أية حال كانوا سيستيقظون لتناول السحور قبل الفجر فلقد أستيقظوا بذعر على‬
‫صوت أطالق نار في الخارج‪ ،‬يبدو أن هناك معركةً ما بالخارج‪ ،‬وكانت ما زالت الكهرباء منقطعة‪ ،‬سألت ماريان‬
‫في ذعر‪..‬‬

‫ما الذي يحدث بالخارج ؟!‬

‫أغلق أسامة باب المنزل بسرعة قاطبًا حاجبيه ثم التفت إليهم‪..‬‬

‫لقد فاتنا وقت الهروب‪ ..‬لم أتوقع أب ًدا أن تبدأ هذه المعركة في هذا الشهر على األقل‪..‬‬

‫تساءل عمر ‪..‬‬

‫معركة‪ ..‬؟! معركة من ؟!‬

‫أجابه أسامة‪..‬‬

‫حرب السيطرة على القرية يا عمر‪ ..‬حرب بين الجيش النظامي وفصائل المعارضة‪..‬‬

‫أوصد الباب جي ًدا ثم التفت لزوجته والقلق باديًا عليه‪..‬‬

‫لميس‪ ،..‬أحضري السحور اآلن من فضلك‪..‬‬

‫هزت لميس رأسها موافقة أياه وغادرت الغرفة في قلق وتبعتها ماريان لتساعدها‪ ،‬نظر عمر وأسامة لبعضهما في‬
‫قلق‪..‬‬

‫و اآلن‪ ..‬هل علمت لماذا سنرحل عن هنا ؟!‪ ،‬من اآلن فصاع ًدا ال تضمن أن تبقى على قيد الحياة في أي‬
‫لحظة‪..‬‬

‫‪315‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-60-‬‬

‫تساءل‪ ..‬متى ستكون العودة هلل ؟!‪ ..‬يخطر بباله اليوم فيؤجل العودة للغد ثم يأتي الغد وقد أغرقته الدنيا‬
‫بمشكالتها فينشغل بحلها فيفشل فتضيق عليه فيتذكر اهلل مرة أخرى وكيف أنه قد ضل الطريق ‪ ،!..‬فيسلك طريق‬
‫اهلل ويطرق بابه ويشكوه همومه فتُحل مشاكله لكن سرعان ما يرجع لنقطة البداية من جديد‪ ..‬ليس في ذلك حرج‬
‫وال عيب‪ ..‬فباب اهلل ال يُغلق أمام من يسعى جاه ًدا في كل مرة للعودة إليه‪ ،‬إنما العيب كل العيب أن ال نتذكر اهلل‬
‫سوى في كل مأذق نقابله فقط ‪...‬‬

‫ٍ‬
‫مسجد قريب رغم تحذير أسامة للجميع بعدم مغادرة المنزل في أي حال من األحوال هذه‬ ‫نزل يصلي الظهر في‬
‫األيام‪ ..‬على األقل للتأكد من الصوت الذي ُسمع أمس‪ ..‬هل هي بداية حرب أم كانت مجرد مناوشات فقط ؟!‪،‬‬
‫كثيرا‬
‫لم يُبالي بتحذيره وسعى ألصالح عالقته مع اهلل بأي طريقة ممكنة وال يظن بأن ما تبقى له من عمره سيكون ً‬
‫لذلك سيصلح كل شيء من اآلن‪ ..‬وبداية أصالح كل شيء هو أصالح عالقته مع ربه‪..‬‬

‫كان في المسجد حين أذن أحدهم آذان الظهر‪ ..‬كان يفكر في كالم أسامة باألمس‪..‬‬

‫بعد فجر اليوم نام الجميع عداه هو وأسامة‪ ،‬كانا يتسامران ‪...‬‬

‫أشعر وكأنني صرت داعشيًا ح ًقا‪ ..‬تهاجمني أفكار وأسئلة كثيرة ‪ ،!..‬لقد تأثرت فعليًا بكالم عثمان بغض النظر عن‬
‫أنني كنت أكرهه أو أكره تلك التنظيمات عامةً‪..‬‬

‫أعتدل أسامة في جلسته‪..‬‬

‫أتعلم ‪..‬؟! ‪ ،‬مشكلة التطرف تكمن في أنهم يقومون بأجتزاء النص القرآني ويقولون لك هكذا يقول القرآن ولسنا‬
‫نحن‪..‬‬

‫فعال ‪!..‬‬
‫فعال ولم أستطع تكذيبه ألنه قرآن ً‬
‫هذا ما قاله عثمان ً‬

‫على ما يبدو أن عثمان كان يقرأ التوراة وليس القرآن‪ ..‬؟!‬

‫‪316‬‬
‫عِ ضين‬
‫لم يفهم عمر‪ ،..‬كذلك أدرك أسامة أن عمر لم يفهم قصده ‪..‬‬

‫موضوعات القرآن شبكية وليست خطية‪ ..‬شبكية بمعنى أنها موضوعات متشابكة ومتداخلة مع بعضها‪ ..‬مثل‬
‫تماما‪ ..‬الحياة شبكية وموضوعاتها متداخلة ومتشابكة وليست منفصلة‪ ،‬موضوعات التوراة خطية‪ ..‬بمعنى‬
‫الحياة ً‬
‫تماما‪..‬‬
‫أن موضوعاتها منفصلة‪ ،‬لذلك القرآن حياة ألنه يُعبر عن الحياة ً‬

‫لذلك عند دراسة الموضوعات القرآنية علينا بطبيق فكرة قالها أحد الدعة األسالميين‪ " ..‬القرآن جملةً واحدة "‬
‫بموضوع ما وقرآئتها كنص واحد خاصة تلك الموضوعات الشائكة مثل‬
‫ٍ‬ ‫وهي عبارة عن تجميع كل اآليات المتعلقة‬
‫تماما عن التطرف أو‬
‫الجهاد والقتال وما إلى ذلك‪ ،..‬هدف هذه الفكرة هو الخروج بموضوع متوازن وبعيد ً‬
‫األلحاد‪..‬‬

‫تساءل عمر في نفسه‪ ..‬األلحاد‪ ..‬؟!‬

‫الملحدين كذلك يقومون بأجتزاء النص القرآني ويقولون كيف يقول اهلل كذا وكذا‪ ..‬كيف يأمر بالقتل‪ ..‬وكيف‬
‫وكيف وكيف ثم يقرر بعدها أن يُلحد بسبب الفهم الخاطئ لموضوعات القرآن‪ ..‬لذلك هو نفس الحل‪ ..‬القرآن‬
‫جملةً واحدة حتى ال تحدث تلك المشاكل‪..‬‬

‫ين َج َعلُوا‬ ‫َّ ِ‬ ‫حتى القرآن نفسه قد عاب ورفض منهج األجتزاء‪ ..‬يقول اهلل‪َ " ..‬كما أَنْـ َزلْنَا َعلَى ال ِ ِ‬
‫ين * الذ َ‬
‫ْم ْقتَسم َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ين "‬ ‫ك لَنَسأَلَنـَّهم أ ِ‬ ‫ِِ‬
‫َج َمع َ‬
‫ين * فَـ َوَربِّ َ ْ ُ ْ ْ‬
‫الْ ُق ْرَآ َن عض َ‬

‫أصال المذنبون‪..‬‬
‫ضا لعدم السعي للفهم الصحيح لأليات بل هم ً‬
‫أذن فهؤالء المتطرفون محاسبون أي ً‬

‫شخصا واعيًا ‪..‬‬


‫ً‬ ‫تعجب عمر من ثقافة أسامة‪ ..‬يبدو‬

‫لكن دعني أتناقش معك في هذا الموضوع‪..‬‬

‫منتظرا مناقشته‪..‬‬
‫هز أسامة رأسه ً‬

‫صحيحا أن اهلل قد أمرنا بقتال وجهاد كل أعداء األسالم‪ ..‬؟!‬


‫ً‬ ‫أليس‬

‫‪317‬‬
‫عِ ضين‬
‫سكت أسامة للحظة بدا فيها وكأنه يستعد ألجابة عمر ‪..‬‬

‫فرق بين الجهاد والقتال‪ ..‬كل أيات الجهاد عندما تقرأها كجملةً‬ ‫لقد وقع الجهاديون في خطاٌ فادح‪ ..‬القرآن ّ‬
‫واحدة تكتشف أنها تتكلم عن بذل الجهد والبناء والعطاء والتنمية‪ ..‬معنى الجهاد هو البناء‪..‬‬

‫أما القتال فهو يتكلم عن معركةً عادلة بين جيشين‪ ..‬ساحة معركة وجيشين وأسلحة وهكذا ‪..‬‬

‫قليال‪..‬‬
‫فكر عمر ً‬
‫ِ َّ ِ‬ ‫أيات تتحدث عن قتال الكافرين مثل " وا ْقـتـلُوهم حي ُ ِ‬ ‫هناك ٍ‬
‫ب‬
‫ض ْر َ‬ ‫وه ْم"‪ " ،‬فَِإذَا لَقيتُ ُم الذ َ‬
‫ين َك َف ُروا فَ َ‬ ‫ث ثَق ْفتُ ُم ُ‬ ‫َ ُ ُ ْ َْ‬
‫اب" ‪ " ،‬فَِإذَا انسلَ َخ ْاألَ ْشهر الْحرم فَا ْقـتـلُوا ال ِ‬
‫الرقَ ِ‬
‫ْم ْش ِرك َ‬
‫ين"‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ ُ ُ ُُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬

‫يل اللَّ ِه‬


‫و هذا ألنك لم تقرأ القرآن جمل ًة واحدة‪ ، ..‬عندما تقرأ أيات الجهاد ستجد أنها مقترنة بأية " قَاتِلُوا فِي َسبِ ِ‬
‫ب ال ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين " ‪ ...‬أذن قاتلوا مقيدة بالذين يقاتلونا فقط يا عمر وليس‬ ‫ين يُـ َقاتلُونَ ُك ْم َوال تَـ ْعتَ ُدوا إِ َّن اللَّهَ ال يُح ُّ ُ‬
‫ْم ْعتَد َ‬ ‫الذ َ‬
‫ذات المعتدي‪..‬‬ ‫أي من كفر باهلل يقتل‪ ،..‬القتال لرد األعتداء على من أعتدى عليك فقط‪ ..‬على نفس ِ‬
‫ُ‬

‫قليال‪..‬‬
‫يبدو هذه منطقيًا‪ ،‬فكر عمر ً‬

‫دائما ما كان يردد قائد التنظيم في العراق أن هدف تنظيم داعش األساسي هو رد األعتداء الواقع على‬
‫لكن ً‬
‫المسلمين من أعداء األسالم‪..‬‬

‫هناك آية تقول " فَ َم ِن ا ْعتَ َد ٰى َعلَْي ُك ْم فَا ْعتَ ُدوا َعلَْي ِه بِ ِمثْ ِل َما ا ْعتَ َد ٰى َعلَْي ُك ْم ۚ "‪ ..‬أذن فمن يعتدي علينا فعلينا أن‬
‫مثال فأننا سنحمل ذنبه ليوم‬
‫ذات المعتدي‪ ..‬أذن عندما نقتل مواطنًا أنجليزيًا أو صحفي أميركي ً‬ ‫نعتدي على ِ‬
‫الدين‪ ،..‬قتل الصيادين المصريين ‪ !..‬لماذا يتم قتلهم برأيك ؟! هم نصارى‪ ..‬لهم دينهم ولنا ديننا فلماذا يتم‬
‫مثال ؟!‬
‫ذبحهم وهم ُعزل بدون أسلحة ؟!‪ ،‬منذ متى وهم أعتدوا علينا لنعتدي عليهم ؟! هل كانت معركةً متكافئة ً‬

‫رد عليه عمر بنبرةً هادئة‪..‬‬

‫فعال سوى أن تكون معركةً متكافئة بين جيشين‪..‬‬


‫أذن ال يوجد حل لهذه المشكلة ً‬

‫‪318‬‬
‫عِ ضين‬
‫آمنُوا‬ ‫َّ ِ‬
‫ين َ‬
‫أوال‪ " ..‬يَا أَيُّـ َها الذ َ‬
‫و ليس هذا فقط‪ ..‬فالقرآن ألزمنا قبل الدخول في معركة أن نرد األعتداء بالسالم ً‬
‫ا ْد ُخلُوا فِي ِّ‬
‫السل ِْم َكافَّةً "‪ ..‬أطرقوا كل أبواب السالم ً‬
‫أوال‪..‬‬

‫بدا على أسامة أنه يستجمع أفكاره من جديد‪..‬‬

‫أذن فقاتلوا في سبيل اهلل الذين يقاتلونكم‪ ..‬ومن أعتدى عليكم فأعتدوا على ذات المعتدي‪ ..‬أدخلوا في السلم‬
‫نفعا ندخل في معركة‪ ..‬معركة ستكون عادلة بين جيشين‪ ..‬حينها نقتلوهم‬
‫أوال‪ ،‬وأذ لم تجدي هذه الطرق ً‬
‫كافة ً‬
‫حيث ثقفتموهم كمثل أي جيش في العالم في كل زمان‪ ..‬حينها يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال لتشجيع‬
‫الجنود‪..‬‬

‫معركةً عادلة يا عمر تجوز فيها كل خدع الحرب‪..‬‬

‫سؤاال كان يراوده عندما كان والده يقص عليه حروب المسلمين والفتوحات األسالمية‪..‬‬
‫تذكر عمر ً‬

‫ماذا بشأن الفتوحات األسالمية‪ ..‬كنا نحن من نُرسل جيوشنا لهناك‪ ..‬أال يعتبر هذا أعتداء ؟!‬

‫أسند أسامة ظهره للوراء ثم هز رأسه نافيًا ‪..‬‬

‫تماما‬
‫كانت الدولة األسالمية حينها دولة وليدة ناشئة‪ ،‬كانت أمبراطوريات مثل الفرس والروم يريدون القضاء عليها ً‬
‫مثال منشغل بحروب‬
‫قبل تفاقم قوتها‪ ،..‬كانت الفتوحات األسالمية لرد األعتداء وليس لألعتداء‪ ،..‬كان أبا بكر ً‬
‫أصر على خروج جيش أسامة بن زيد لمواجهة الفرس‪ ..‬فتح على نفسه معركتين حاسمتين بسبب‬ ‫الردة ولكنه ّ‬
‫ضا ‪!..‬‬
‫تهديدات الروم أي ً‬

‫ثم أن الفرس والروم كانوا محتلين ومغتصبين ألغلب الدول وكانت الدولة األسالمية تفتح هذه الدول وترفع الظلم‬
‫عنها‪..‬‬

‫ماذا عن حديث رسول اهلل " أمرت أن أقاتل الناس كافة حتى أن يشهدوا أن ال أله أال اهلل " ؟!‬

‫‪319‬‬
‫عِ ضين‬
‫لقد فهمت الحديث خطأ يا عمر‪ ..‬كلمة الناس في اللغة العربية تعني أما كل الناس أو فئة صغيرة مكونة من عشرة‬
‫أصال أنه سيحاربهم حتى يسلموا‪ ..‬المقصد هنا‬
‫مثال‪ ،..‬في هذا الحديث هو يتكلم عن قريش ولم يقصد ً‬
‫أشخاص ً‬
‫أن قريش لن توقف الحرب حتى يؤمنوا به في النهاية ألنه لن يستسلم وسيواصل الدعوة ‪ ،!..‬لم يقصد أنه‬
‫أصال‪..‬‬
‫سهال أن ال نفهم لغتنا ً‬
‫سيُكرههم على األسالم‪ ،‬نحن أبتعدنا عن لغتنا فكان ً‬

‫فعال بفكر داعش‪..‬‬


‫لم يستوعب عمر ثقافة أسامة الزائدة أو أنه قد تأثر ً‬

‫بكالمك هذا قد نسفت معنى الجهاد يا أسامة ‪!..‬‬

‫الجهاد باقي ليوم القيامة يا عمر‪ ..‬لكن لكل عصر جهاده‪ ،‬كان الرسول يقول " خلوا بيني وبين الناس "‪ ..‬كان‬
‫يريد أن يدعوهم لكن قادة قريش كانوا يمنعوه من الوصول للناس فكان الحل الوحيد أمامه للوصول للناس هو‬
‫الجهاد‪..‬‬

‫بدال من قتالهم‪ ..‬؟!‪ ،‬هذه هو‬


‫لكن اآلن وفي وجود األنترنت‪ ..‬ما الذي يمنعنا من التواصل مع الناس لدعوتهم ً‬
‫بأناس يجتهدون لبناء أوطانهم ‪...‬‬
‫جهاد عصرنا يا عمر‪ ..‬جهاد البناء‪ ..‬لن تتقدم أوطاننا إال ٌ‬

‫طويال‪ ..‬الحظ عمر أن أسامة ينظر إليه لدقائق محدقًا به ‪!..‬‬


‫ساد الصمت بينهما ً‬

‫ألي هكذا‪ ..‬؟!‬


‫لماذا تنظر ّ‬
‫شخصا عاديًا ‪..‬‬
‫ً‬ ‫أريد أن أتخيل شكلك قبل أن تنضم لذلك التنظيم‪ ..‬هل كنت بتلك القسوة أم أنك كنت‬

‫عاد لواقعه من جديد‪ ،..‬ما قطع تفكيره سقوط شيء على ظهره‪ ..‬أنه طفل تعثر فوقع على ظهره‪ ،‬التفت إليه عمر‬
‫مبتسما وأمسكه ثم أوقفه أمامه‪..‬‬
‫ً‬

‫ما أسمك يا صغيري‪ ..‬؟!‬

‫رد الطفل بأبتسامة بريئة ‪..‬‬

‫‪321‬‬
‫عِ ضين‬
‫إيالن‪..‬‬

‫أسم جميل !‪ ،‬أتعرف معناه ؟‬


‫إيالن‪ ..‬؟! ‪ٌ ،‬‬
‫نعم‪ ،..‬لقد أخبرني والدي عن معناه ِ‬
‫ذات مرة‪ ،‬إيالن يعني حامل راية النصر‪..‬‬

‫رجل من ورائه متأس ًفا ‪..‬‬


‫ال يعرف عمر لماذا أبتهج بحديثه مع هذا الطفل‪ ،‬جاء ٌ‬

‫آسف سيدي‪ ،‬هيا يا إيالن تعالى ‪..‬‬

‫تعجب عمر من تأسف الرجل‪..‬‬

‫طفل رائع ‪..‬‬


‫أصال تتأسف‪ ،‬إيالن ٌ‬
‫سيدي ؟!‪ ،‬يبدو أنني األصغر هنا سيدي‪ ،..‬ثم على ماذا ً‬

‫ابتسم الرجل وجلس بجانبه وحاول أن يُجلس إيالن بجانبه لكنه فشل ‪...‬‬

‫قليال يا أبي‪..‬‬
‫سألعب ً‬

‫يا إيالن نحن في بيت اهلل وال يجب أن تلعب في بيته‪ ،‬أتينا هنا لنلعب أم لنصلي‪ ..‬؟!‬

‫قليال‪ ،‬على العكس‬


‫أتينا لنصلي لكن األمام لم يأتي بعد‪ ،‬ثم أن اهلل لن يمانع ولن يغضب عندما ألعب في بيته ولو ً‬
‫تماما يا أبي هو سيكون سعي ًدا طالما أنني لن أكسر أو أُفسد شيئًا هنا‪..‬‬
‫ً‬

‫ضحك عمر من براءة هذا الطفل وغلب والده على أمره تارًكا إيالن يلعب‪ ،‬مرت لحظات صمت كان الرجل يبدو‬
‫متوترا بجانبه‪ ..‬ينظر إليه ثم يتردد أن يكلمه وهكذا عدة مرات‪ ،‬الحظ ذلك عمر‪..‬‬
‫فيها ً‬

‫تبتدو قل ًقا سيدي‪ ،..‬هل أنت بخير ؟‬

‫تبدو مألوفًا لي‪ ،‬أنت تشبه أح ُد ما خطر ببالي‪..‬‬

‫ابتسم عمر وعرف مصدر قلقه‪ ،‬سأله الرجل‪..‬‬

‫‪321‬‬
‫عِ ضين‬
‫لماذا ابتسمت هكذا ؟!‬

‫ألنني هو ذلك الشخص الذي تفكر فيه ‪..‬‬

‫ذهوال ‪..‬‬
‫أتسعت عيني الرجل ً‬

‫ح ًقا ؟!‪ ،‬أنت ذلك الضابط المصري الذي قتل أخي ـ ‪...‬‬

‫سؤال هكذا ال يجب أن يسأله ال سيما بعد عرض الفيديو اآلخر والذي شوهد فيه أنه قتل‬ ‫لم يُكمل سؤاله‪ُ ..‬‬
‫قيادي آخر وهذا يعني أنه قد أُجبر على قتل أخيه من المخابرات المصرية كمهمةً وطنية‪ ،‬رد عمر عليه ‪..‬‬
‫ُ‬

‫نعم‪ ..‬أنا هو ذاك الرجل الذي قتل أخيه‪ ،‬لكن ليس كما يصوره األعالم سيدي ‪..‬‬

‫متفهما كالمه‪..‬‬
‫ً‬ ‫هز الرجل رأسه‬

‫لكن كيف أتيت لهنا ‪..‬؟!‪ ،‬هل تم تكليفك بمهمة ما هنا في سوريا من قِبل المخابرات ؟!‬

‫قالها الرجل وهو مائل بأتجاه أذن عمر كي ال يسمعه أحد بصوت منخفض جعل عمر يضحك على أثرها ‪...‬‬

‫ال‪ ..‬أنا عال ٌق هنا فقط ‪...‬‬

‫نظر عمر للساعة أمامه وتساءل ما أذا كان من المفترض أن يكون الوقت الفاصل بين األذان واألقامة ربع الساعة‬
‫فقط ؟!‪ ،‬لقد مر نصف ساعة تقريبًا على اآلذان واألمام لم يظهر بعد !‪ ،‬سمع همهمات الناس في المسجد‪،‬‬
‫شخصا ينزف بشدة ‪،!..‬‬
‫ً‬ ‫الجميع منزعج من تأخر الصالة‪ ..‬فجأة دخل عدة أشخاص المسجد مسرعين وحاملين‬
‫أنه األمام على ما يبدو ‪ ، !..‬فجأة بدت األجواء هنا في المسجد متوترة ومضطربة‪ ،‬التفت عمر ليبحث عن شيء‬
‫ال يعرفه ‪ ،!..‬ليست األمور هنا في المسجد فقط مضطربة‪ ،‬فلقد ُسمع صوت رصاص متراشق في الخارج‪ ،‬وفي‬
‫صرخا ‪..‬‬ ‫ٍ‬
‫صوت واحد هو والرجل ً‬

‫إيالاااااان‪..‬‬

‫‪322‬‬
‫عِ ضين‬
‫خارجا‪،‬‬
‫أصبح الرجل مشتتًا‪ ..‬يبحث عن طفله بجنون داخل المسجد‪ ،‬فيما أسرع عمر للخارج عندما الحظ إيالن ً‬
‫فعال بصعوبة وحمله‪ ..‬أحتضنه‬
‫خارجا بسبب تدافع الناس للمسجد‪ ،..‬وصل إليه ً‬
‫كان يلعب في الخارج وعلق ً‬
‫وخبئه بين ذراعيه ليحميه من وابل الرصاص المتراشق في كل جهة بطريقة عشوائية‪ ..‬فجأة وجد المسجد عبارة‬
‫تماما‪ ..‬تساءل‪ ..‬هل مات والد إيالن ؟!‪ ،‬لم يعد هناك‬
‫عن ركام بجانبه‪ ..‬إحدى القذائف أصابت المسجد دمرته ً‬
‫وقت للتفكير‪ ..‬عليه أيجاد مكان آمن لألختباء بالطفل‪ ..‬أسرع ليفادي نفسه من الرصاصات المتراشقة حوله من‬
‫أرضا وتحته الطفل‪ ،‬يحاول وبشتى‬
‫مجددا‪ ،..‬سقط ً‬
‫ً‬ ‫كل جهة ‪ ،!..‬لم يكمل هروبه حين أصابته في كتفه األيمن‬
‫الطرق حمايته‪ ،‬حاول النهوض وأحتضان إيالن لمواصلة حمايته على األقل حتى يتمكن من األختباء في مكان‬
‫آمن‪ ،‬مرة أخرى يجري وسط هذا الوابل من الرصاص العشوائي‪ ،‬أحتمى بأحدى المحالت المدمرة جراء ما‬
‫يحدث اآلن‪ ،..‬الصدفة العجيبة هنا أنه وجد والد الطفل مختبئًا في نفس المكان يبكي ويصرخ لعدم أيجاده‬
‫لطفله‪ ..‬لقد ظن أن طفله قد مات في المسجد أو حتى خارجه‪ ،‬عندما وجد عمر يدخل ليحتمي بالمكان ممس ًكا‬
‫بطفله ليحتمي فيه جرى نحو طفله ليحمله من عمر وأحتضنه بشدة وأخذ يُقبله بدموع منهمرة‪ ،‬التفت لعمر كي‬
‫يشكره‪..‬‬

‫شكرا لك يا عمـ ـ ‪...‬‬


‫ً‬

‫لقد وجده مستن ًدا على الحائط فاقد الوعي‪ ..‬أو ربما قد مات‪..‬‬

‫‪323‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-62-‬‬

‫حتما‪ ..‬هي‬
‫يوما ما‪ ..‬متى وكيف ؟‪ ،‬ال تعلم لكنه سيستجيب ً‬
‫لم ينقطع أملها باهلل أب ًدا‪ ،‬تثق في أنه سيستجيب لها ً‬
‫دوما‪ ..‬سيعود عمر‪ ..‬سيعود إليها ولو بعد حين ‪..‬‬
‫متأكدة‪ ،‬لطالما أحسنت ظنها بربها ً‬

‫طفال‬
‫لقد طمئنها اهلل ليلة أمس بطريقة غريبة‪ ،‬ظهر عمر في أحدى نشرات األخبار صدفة ليلة أمس وهو يحمل ً‬
‫المصاب‪ ..‬وبعدما وصل للمستشفى بهذا الطفل مات الطفل‪..‬‬
‫صارخا لطلب النجدة ألنقاذ الطفل ُ‬
‫ً‬ ‫بين ذراعيه‬
‫مات بعد أن لفظ آخر كلماته‪ " ..‬سأخبر اهلل بكل شيء "‪ ،‬تلك الكلمات التي لن يدرك العالم كارثيتها وقوتها إال‬
‫خصما للعالم كله أمام اهلل‪..‬‬
‫حينما يقف هذا الطفل ً‬
‫خطر ببالها سؤال لم تجد له أجابة مقنعة‪ ،‬لماذا أرسلت المخابرات المصرية عمر لسوريا ؟!‪ ،‬لقد أُفتُ ِ‬
‫ضح أمر عمر‬
‫وعرفه العالم كله بأنه عنصر مخابراتي تم تجنيده في صفوف تنظيم داعش وقتل قياديين فيها‪ ..‬ورغم ذلك تم‬
‫أرساله لسوريا‪!..‬‬

‫منذ أيام تم عرض الفيديو الثاني له كان في العراق وأمس رأته في سوريا‪ ..‬فيم تفكر المخابرات ؟! متى ستنتهي‬
‫مهمة عمر تلك ويرجع إليها ؟!‬

‫توضأت وأرتدت حجابها وفرشت سجادة الصالة‪ ..‬وقفت أمام اهلل لتصلي الفجر ‪ ...‬اهلل أكبر ‪ ..‬الفاتحة ثم آية‬
‫الكرسي‪ ..‬تركع ثم تُسمع اهلل حمدها‪ ..‬ثم تسجد وتدعي اهلل مرة أخرى‪ ..‬لن تكف عن الدعاء ‪ ...‬لقد ُشفيت‬
‫تماما عندما تضرعت هلل وطلبت منه ذلك ‪..‬‬
‫ً‬

‫عادت لذكريات حنت إليها‪..‬‬

‫فكرت في أنها كيف تعيش معه كل لحظة وكأنها األخيرة‪ ..‬لن تفكر بما سيأتي‪ ،‬ما سيأتي الح ًقا ليس كما تحب أو‬
‫تتمنى‪ ..‬سيصيبه الملل على كل حال‪ ..‬ستتعالج لكن مع طول فترة عجزها سيصيبه الملل ولن يستمر ألجلها‪..‬‬
‫سيتسرب إليه الملل شيئًا فشيئًا‪ ،‬لذلك فكرت أنها لن تفكر بمستقبل عالقتها معه‪ ،‬قاطعت والدتها تفكيرها ‪..‬‬

‫بماذا تفكر صغيرتي ؟‬


‫‪324‬‬
‫عِ ضين‬
‫نظرت لوالدتها بخجل ‪..‬‬

‫ٍ‬
‫لحظة معه يراودني شعور الوحدة بعدما يصيب عمر الملل مني‪ ،‬كيف يمكنني‬ ‫كلما فكرت في األستمتاع بكل‬
‫التعود على الحياة بدونه ؟!‬

‫و لماذا تفكري بهذا ؟‪ ،‬عمر سيبقى ِ‬


‫معك يا آسية‪ ..‬عمر يُحبك !‬

‫لمتى يا أمي‪ ..‬؟!‬

‫لم تُجب والدتها‪ ..‬سؤالها منطقي‪ ..‬لمتى ؟!‪ ،‬أكملت آسية كالمها ‪...‬‬

‫ضا على نسيان عمر‪ ،‬حتى لو لم أستطع ذلك‪..‬‬


‫عندما تم أرغامي على خطبة أبن عمي فكرت في أرغام نفسي أي ً‬
‫علي نسيانه أنا‬
‫يوما ما لذلك ّ‬
‫فكلما يتذكره عقلي وقلبي سأطرده‪ ..‬سأكرهه بال سبب‪ ،‬سيتقبل عقلي أنه سينساني ً‬
‫ضا حفاظًا على كرامتي‪ ..‬سأقنع نفسي بأنه سيرتبط بفتاة غيري‪ ..‬سأجد ما يُبرر نسيان قلبي وعقلي له‪ ،‬ولكن‬
‫أي ً‬
‫شهر‬
‫اآلن‪ ..‬كيف يمكنني التأقلم على غيابه عني ؟ كيف سأتقلم على ذلك يعد ما فعله معي ؟! لم يمر سوى ٌ‬
‫شعرت بأنها سنة‪ ..‬لم يغب عن بالي لحظة واحدة‪..‬‬
‫ُ‬ ‫واحد فقط على أنضمامه للجيش وقد‬

‫أرتسمت على وجهها أبتسامة حزينة ‪..‬‬

‫متى سيأتي اليوم الذي يقرر فيه عمر تركي بعدما أصابه الملل من حبه لفتاةٌ عاجزة ؟!‪ ،‬ماذا سيقول لي حينها كي‬
‫ال يجرح مشاعري ؟ كيف سيكون شكله حينها ؟‬

‫أربت والدتها على كتفها ‪..‬‬

‫ألي جي ًدا ‪...‬‬


‫أمرا !‪ ،‬حسنًا‪ ..‬أصغي ٌ‬
‫أو لعل اهلل يُحدث بعد ذلك ً‬

‫أعتدلت في جلستها ‪..‬‬

‫لم ينتابني أدنى شك في أن اهلل سيتركنا في محتنا هذه‪ ،‬في البداية أنتي ظننتي أن عمر سيتر ِ‬
‫كك كالبقية ولكنه كان‬
‫أول الداعمين لكي‪ ..‬كان أول من يقف بجانبك وال أطنه سيتر ِ‬
‫كك أب ًدا‪..‬‬

‫‪325‬‬
‫عِ ضين‬
‫لكنها مسألة وقت يا أمي‪..‬‬

‫قاطعتها والدتها ‪...‬‬

‫أو يصبر فينال جائزته من اهلل في النهاية‪ ..‬جائزته هو أنتي يا آسية‪ ..‬أنتي جنته ومكافأة صبره‪ ..‬أراهن بعمري كله‬
‫أن عمر لن يتركك في ظرف هكذا ولن يتركك أب ًدا ‪..‬‬

‫ضا‪ ،‬لقد خانها عقلها وسرحت أثناء‬


‫ابتسمت عندما تذكرت كالم والدتها‪ ..‬لكنها تذكرت فجأة أنها ساجدة أي ً‬
‫صالتها‪ ..‬كانت قد عزمت الرجوع للصالة تدريجيًا بعد تماثلها للشفاء تقريبًا‪ ،‬أنتهت من الصالة ثم فكرت في‬
‫تماما‪ ،‬لكنه ليس معها اآلن ‪ ،!..‬لقد‬
‫كالم والدتها‪ ..‬لقد كانت محقة‪ ..‬حدث ما لم تتوقعه‪ ..‬تزوجها ! و ُشفيت ً‬
‫ضا لكن ليس بأرادته‪ ..‬هو في مهمةً وطنية اآلن‪..‬‬
‫تركها أي ً‬

‫صدمت بشئ آخر‬‫مثال فتتفاجأ وتفرح‪ ..‬لكنها ُ‬


‫أرتمت على سريرها وفتحت التلفاز لعلها تقرأ خبر عودة عمر ً‬
‫طفل ُمنكب على وجهه‬
‫صورا قاسية‪ ،‬صورةً أُزرفت دمعتها بمجرد رؤيتها‪ٌ ،‬‬
‫يُعرض على التلفاز‪ ،‬قناة األخبار تعرض ً‬
‫على شاطئ في سوريا‪ ..‬أنه ميت ‪!...‬‬

‫صوت المذيعة ‪..‬‬

‫ولكن هذه الصور ال تحتاج لتعلي ٌق منا‪ ..‬ال تحتاج سوى ألن نصمت لندرك كم تخاذلت الحكومات العربية في‬
‫شعب يموت أطفاله كل‬
‫بي يتم أبادته وتفككه وتهجير مواطنيه هربًا من الجحيم في أوطانهم ‪ٌ ،!..‬‬
‫شعب عر ٌ‬
‫أنقاذ ٌ‬
‫قصف هنا ورصاصةٌ ُهناك‪ ..‬ما بين الهجمات الكيميائية هنا وما بين الغر ُق ُهناك‪ ،‬تلك الصور التي‬
‫ٌ‬ ‫يوم ما بين‬
‫صور لن ينساها التاريخ‪..‬‬
‫تُعرض أمامكم اآلن سوف تُدين العالم كله‪ٌ ..‬‬

‫خارجا لتُري العالم مدى قساوته وأنه ال يستحق‬


‫خارجا‪ ..‬لفظته ً‬
‫الطفل أيالن ولفظته ً‬
‫ُ‬ ‫أمواج البحر أبت أن تبتلع‬
‫طفل واحد ما بين مئات األطفال التي يتم قتلهم‬
‫الحياة‪ ،‬كل شيءٌ مات بعد موت هذا الطفل أيالن‪ ..‬ولكنه ٌ‬
‫وذبحا وبالكيماوي وبالرصاص وبكل الوسائل ‪...‬‬
‫يوميًا‪ ..‬غرقًا ً‬
‫‪326‬‬
‫عِ ضين‬
‫لم تتحمل تلك المشاهد وأغلقت التلفاز‪ ،‬حاولت النوم لكنها لم تستطع ذلك‪ ..‬صورة الطفل وهو ملقي على‬
‫تفسير آخر لهذه المشاهد غير أن البحر لفظه لكي يُري العالم‬
‫ٌ‬ ‫وجهه على الشاطئ ميتًا عالقةً بذهنها‪ ،‬لديها‬
‫خارجا لتُشهد اهلل‬
‫قسوته‪ ..‬لقد أدركت أن البحر حزن حزنًا شدي ًدا عندما قتل هذا الطفل‪ ،..‬فأرسل أمواجه لتلفظه ً‬
‫ذنب في قوة منحها اهلل لها‪ ..‬حملته األمواج خارج جعبتها إلى الشاطئ لعل‬
‫أنها لم تقصد قتله‪ ..‬ليس للطبيعة ٌ‬
‫خارجا‪ ،‬لم تعرفه آسية لكنها أدمعت عليه‪ ..‬كل شئ بكى ألجل هذا الطفل‬
‫يكون هناك ذرة رحمة للبشر وتدفنه ً‬
‫وداعا أيالن‪..‬‬
‫وداعا أيالن‪ ..‬لعل اهلل قد رحمك‪ ..‬ال يريد أن يُريك قساوة هذا العالم يا أيالن‪ً ..‬‬
‫الغريق‪ً ..‬‬

‫‪327‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-69-‬‬

‫كامال وهي تبحث عنه بإستمرار رغم تلك األوضاع السيئة التي تمر بها‬
‫أسبوعا ً‬
‫ً‬ ‫يأست من البحث عنه‪،..‬‬
‫المدينة‪ ،..‬لقد تقاسم طرفي النزاع حصار المدينة‪ ..‬النصف الغربي منها كانت محاصرة من قِبل جيش النظام‬
‫السوري أما الجهة الشرقية فكان تُحاصرها فصائل المعارضة ‪!..‬‬

‫كانت ماريان تخرج كل يوم لتبحث عنه لعلها تعرف أخبار عنه لكن سرعان ما كانت تعود لبيت أسامة وزوجته‬
‫حتى ال تضل الطريق أو تقع في مأزق فال تعود‪ ،‬كانت كمائن الجيش النظامي في كل مكان ورغم أن لميس ال‬
‫مجددا‪ ،..‬كانت ماريان‬
‫ً‬ ‫تعرفها سوى من ٍ‬
‫أيام قليلة مضت فقط إال أنها أحبتها وطلبت منها أن تحرص على العودة‬
‫دائما لذلك كان من السهل بالنسبة لها الهرب واألختباء من تلك الكمائن‪..‬‬
‫معتادة ً‬

‫تتساءل‪ ..‬أين تراه يكون ؟!‪ ،‬لقد بحثت عنه في كل األماكن القريبة من البيت‪ ..‬في الشوارع والمساجد وأحيانًا‬
‫ضا في ذلك المسجد الذي تم أستهدافه في نفس يوم‬
‫كانت تسأل عنه في البيوت المجاورة‪ ،‬بحثت عنه أي ً‬
‫أختفاؤه حتى أنها لم تجده في جثث الضحايا ‪ ، !..‬كذلك بحثت في المستشفى القريبة من ذلك المسجد‬
‫المدمر لكنها لم تجده ‪ ،!..‬لقد ح ّذر أسامة الجميع في ذلك اليوم من مغادرة البيت في أي ٍ‬
‫حال من األحوال‬ ‫ُ‬
‫فعال بداية حرب بين‬
‫حتى يتم معرفة سبب صوت تلك المناوشات التي حدثت ليلتها‪ ،‬تأكدت أحاسيسه وكانت ً‬
‫قوات النظام وفصائل المعارضة‪ ..‬لقد تم محاصرتهم من قِبل قوات النظام‪ ،‬ليس هناك أدوية أو مواد غذائية أو‬
‫ضا لم تعود منذ أن تم قطعها‪ ..‬الحياة هنا‬
‫مياه حتى دخلت المدينة منذ أن فُرض عليهم الحصار‪ ..‬الكهرباء أي ً‬
‫مأساوية‪ ،‬بل أنها البداية فقط‪..‬‬

‫شعرت بالجوع لكنها تعلم جي ًدا أن مخزون الطعام في البيت بدأ ينفذ‪ ،‬تحاول بقدر ما تستطيع أن تتحمل الجوع‪،‬‬
‫وجدت في الصوم الطريقة المناسبة لكبح جوعها‪ ،‬لم تقوى كذلك على العطش فدخلت المطبخ لتشرب خلسة‬
‫فدخلت لميس ورائها فجأة فوجدتها تشرب‪ ،‬ضحكت ماريان‪ ،‬وضعت لميس يديها على جانبيها ورفعت حاجبيها‬
‫‪..‬‬

‫لستي صائمة كما تدعين‪..‬‬


‫‪328‬‬
‫عِ ضين‬
‫تبسمت ماريان وقالت بلؤم ‪..‬‬

‫ات هنا‪ ،..‬أنا مسيحية على أية‬


‫فعال‪ ،‬لكن ال تنسي أن لدي بعض المميز ُ‬
‫نعم‪ ..‬أحببت فكرة الصوم وجربتها ً‬
‫حال‪..‬‬

‫قالتها فضحكت كلتاهما‪ ،‬قالت لميس‪..‬‬

‫ِ‬
‫أصابك الجوع فال تترددي باألكل‪،‬ال تقلقي بشأننا‪ ..‬فاهلل خير رازقًا وهو‬ ‫ماريان‪ ..‬ال تقلقي بشأن الطعام‪ ،‬إذا ما‬
‫أرحم الراحمين ‪..‬‬

‫هزت ماريان رأسها في خجل موافقة أياها‪..‬‬

‫نائما ؟!‬
‫أين أسامة ؟! مازال ً‬
‫نائما‪ ،‬لقد سهرنا حتى ما بعد السحور‪ ،‬كنا نفكر في ‪..‬‬
‫نعم‪ ..‬ما زال ً‬
‫ٍ‬
‫صدمة وفزع‪ ..‬تسائلتا ماذا حدث ؟!‪ ،‬لكن لميس‬ ‫فجأة أهتز البيت بطريقة جعلتهما تسقطان‪ ..‬نظرتا لبعض في‬
‫تذّكرت زوجها ورضيعهما وهما نائمان بالطابق الثاني‪ ، ..‬صرخت وتوجهت بسرعة ناحية السلم لكن البيت أهتز‬
‫لما رأت أن‬
‫بعنف هذه المرة جعلتها تسقط من السلم لتعيد صعودها من جديد‪ ،‬حاولت ماريان منعها من الصعود ّ‬
‫الطابق الثاني قد ُدمر تقريبًا‪ ،‬أبعدت لميس يديها بعنف وأصرت على الصعود‪ ،‬تبعتها حتى أقتربتا من الغرفة‬
‫المدمرة تقريبًا !‬
‫ُ‬

‫فجأة خرج أسامة حاضنًا لصغيره ليحميه من أي شيء‪ ،‬حاول الهرب ألي مكان لينقذ طفله أو حتى ليطمئن ما إذا‬
‫كان قد أصابه شيء أم أنه على ما يرام‪..‬‬

‫جميعا مرًة أخرى ناحية السلم وحاولوا النزول والخروج من المنزل‪ ،‬تداعى السقف من فوقهم فبدأ‬‫ً‬ ‫توجهوا‬
‫باألنهيار‪ ،..‬أسرع هو ناحية باب المنزل ليهرب لكنه الحظ أن زوجته لم تُسرع خلفه‪ ..‬كان من الطبيعي أن ينظر‬
‫كامال على السلم وماريان تحاول أنقاذها‪ ..‬لكن على أي حال يبدو أن‬
‫خلفه ليعرف ماذا حدث‪ ،‬لقد وقع السقف ً‬
‫لميس ليست تحت األنقاض‪ ..‬هذا جيد‪..‬‬

‫‪329‬‬
‫عِ ضين‬
‫خارجا‪ ،‬نظر لطفله ولم يستوعب األمر‪ ..‬ظل يُحدق به دون وعي ‪ ،!..‬طفله كان لونه‬
‫التفت ليهرب بصغيره ً‬
‫دما‪،‬‬
‫أبيض‪ ،..‬ليس بشرته هكذا‪ ..‬أنما التراب الناتج عن أنقاض هذا البيت يملئ وجهه‪ ..‬دماغه الهشة تنزف ً‬
‫وضع أذنه على قلبه لعله يخيب ما يفكر فيه لكنه لم يسمع نبضات‪..‬‬

‫آمال أنه قد فقد سمعه ال‬


‫ظل هكذا لدقائق‪ ..‬لم يستوعب أن قلب طفله قد توقف عن النبض ‪ ،!..‬ظل هكذا ً‬
‫ٍ‬
‫بشكل طبيعي‪ ،..‬جاءت لميس من ورائه مسرعة لكنها توقفت حين رأت زوجها ثابت‬ ‫أكثر وأن قلب طفله يعمل‬
‫واضعا أذنه على قلب طفلها‪ ،‬أقتربت منهما ووضعت يدها على كتف أسامة لتطمئن على‬ ‫ً‬ ‫على حركةً واحدة‬
‫صغيرها‪ ،‬التفت إليها أسامة في شرود وكأنه لم يستوعب األمر بعد‪ ،..‬فهمت لميس أن طفلها قد مات عندما رأت‬
‫أن الغبار قد ملئ وجهه ونزيفه هذا‪ ،‬جلست بجانبه ولم تنطق بكلمة‪ ..‬بل أنها لم تبدي ردة فعل أطالقًا ‪!..‬‬

‫دموعا‬
‫أما ماريان فلم تستطع السيطرة على دموعها‪ ..‬أقتربت من أسامة ونظرت إليه بعفوية لكنه كان يذرف ً‬
‫ضا في شرود‪ ،‬ثم عاود النظر لطفله ‪...‬‬
‫الحسرة والحزن‪ ..‬ظل محدقًا بطفله‪ ،‬التفت لماريان أي ً‬
‫كنا سنرحل عن هنا قريبا من أجله‪ ..‬من أجل أن يحيا في ٍ‬
‫مكان آمن بعد أن ُدمر وطنه‪ ،‬كنا سنرحل لكنه رحل‬ ‫ً‬
‫كنت أتخيل ‪!..‬‬
‫قبلنا‪ ..‬رحل أسرع مما ُ‬
‫بدأ نحيبه يزداد‪ ،‬بدأ يغضب بحزن ‪..‬‬

‫لماذا هو ؟!‪ ،‬لماذا هو بالذات ؟!‪ ،‬لماذا هو بينما يبقى الطُغاة ؟!‪ ،‬لماذا صغيري بالذات هو من يموت بينما يبقى‬
‫هذا العالم القذر ؟!‪ ،‬لماذا هو‪ ،..‬لماذا ؟!!‬

‫حضنه بشدة ثم أفلته مرة أخرى ليكلمه‪ ..‬أو ليودعه ‪..‬‬

‫لم هناك‪ ،‬سنجد هناك من‬


‫حيث ال ظُ َ‬
‫علي موتك هو أننا سنلتقي في الجنة بأذن اهلل‪ُ ..‬‬
‫أتعرف يا صغيري‪ ..‬ما يُهون ّ‬
‫خلقنا وسيقتص لنا‪ ..‬ال تقلق يا صغيري‪ ..‬فحقك عند ربِك محفوظًا ليوم الدين‪ ..‬سيقتص ممن قتلوك‪ ..‬سيقتص‬
‫ممن حرمنا منك‪..‬‬

‫قليال ثم عاد ليكلمه مع أبتسامة باكية‪..‬‬


‫قَـبّله ثم أحتضنه ً‬

‫مجددا عند خالقنا‪ ،‬أهدأ‪ ..‬لن يطول األمر‪ ..‬قريبًا سنلحق بك‪ ..‬قريبًا ‪...‬‬
‫ً‬ ‫شفيعا لنا يا صغيري وسنتقابل‬
‫ستكون ً‬
‫‪331‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-01-‬‬

‫ومهموما من معرفة العالم كله بأنه قاتل‬ ‫للحظات فقط تناسى عمر ما حدث منذ قليل‪ ،‬صحيح أنه بدا حزينًا‬‫ٍ‬ ‫"‬
‫ً‬
‫مستمتعا بكالم جمال الدين‪ ..‬كان الحوار معه شي ًقا‪ ..‬شي ًقا لدرجة أنهم تطرقوا لنقاشات أخرى‪..‬‬
‫ً‬ ‫أخيه‪ ..‬لكنه كان‬

‫‪ ،...‬لكن من المخطئ برأيك ؟‪ ،‬قضية سوريا معقدة‪ ،‬ال أعرف من يحارب من وألجل ماذا‪..‬‬

‫تريد أن تعرف من المذنب ؟!‪ ،‬أخبرني أذن‪ ..‬من هم أطراف النزاع في سوريا ؟!‪ ،‬من يمتلك األسلحة ؟‪ ،‬وما هي‬
‫خسائر أطراف المعركة هناك ؟! من الضحية برأيك ؟ هل يحاول أحدهم حل األمور بعقالنية ؟!‪ ،‬هل يتواجد أمل‬
‫ولو بسيط بأنهاء تلك الصراعات قريبًا ؟!‬

‫ضا لن تكون سوى لديه‪ ،‬حاول أن‬


‫أسئلته منطقية ال تصدر سوى من شخص يفهم تلك األمور جي ًدا وأجابتها أي ً‬
‫يتجاوب معه لكن األمور بدت له معقدة ‪...‬‬

‫أطراف المعركة هناك‪ ..‬النظام والمعارضة و‪...‬‬

‫قاطعه جمال الدين ‪..‬‬

‫و أمريكا وروسيا وأيران وتركيا والصين وفرنسا ودول أوروبا واألمم المتحدة وداعش وغيرها من الجماعات‬
‫المتأسلمة ‪ ...‬أصبحت أرض خصبة للمعارك والقتال يا عمر‪ ..‬واآلن من يحمل السالح من هؤالء ؟!‬

‫رد عمر متشك ًكا من كالمه ‪..‬‬

‫ضا تحمل السالح‪،‬‬ ‫جميعهم‪ ..‬أرى أن جميعهم يحملون أسلحة‪ ..‬الجيش يدعم النظام وفصائل المعارضة أي ً‬
‫الواليات المتحدة وحلفاؤها تدعم تلك الفصائل‪ ..‬روسيا وحلفاؤها يدعمون النظام‪ ،‬والجماعات األرهابية كالعادة‬
‫ال تفرق بين هؤالء أو هؤالء‪ ..‬تقتل في الجميع ‪!..‬‬

‫بالضبط هذا ما يحدث هناك‪ ،‬هي أرض معارك‪ ..‬سوريا لم يعد وطنًا للسوريين‪ ..‬لقد أصبحت وطنًا للقتال‬
‫شر َدون‪،‬‬
‫والمعارك والدم‪ ،‬من ضحية هذه المعارك ؟!‪ ..‬أنه الشعب نفسه‪ ..‬األآلف يُقتلون يوميًا والمئات منهم يُ ّ‬
‫لقد أصبحوا مثلنا نحن العراقيين‪ ..‬ال وطن لهم ‪!..‬‬

‫تساءل عمر ‪..‬‬


‫‪331‬‬
‫عِ ضين‬
‫أين هي األمم المتحدة وما دورها ؟!‪ ،‬أين جامعة الدول العربية وما سبب وجودها حتى اآلن ؟!‬

‫تبسم الرجل بسخرية ‪..‬‬

‫األمم المتحدة نجحت في أيجاد وط ٍن بديل لهؤالء‪ ..‬تلك المخيمات هي وطنهم الحالي ‪ ،!..‬باهلل عليك كيف‬
‫أصال‬
‫يكون حالي عندما أعلم بأن أعضاء األمم المتحدة هم عبارة عن مندوبي حكومات تلك الدول التي تحارب ً‬
‫مثال ؟!‪ ،‬هل ستتغير مواقفهم عن مواقف بالدهم ؟!‪ ،‬هم‬
‫علي أن أتوقع من هؤالء ً‬
‫في سوريا والعراق ؟!‪ ..‬ماذا ّ‬
‫أصال موجودين في األمم المتحدة نيابةً عن حكوماتهم‪ ،‬حتى نظام التصويت فيها عجيب‪ ..‬خمس دول لها حق‬ ‫ً‬
‫الفيتو ودائمين في المجلس وغيرهم يتواجد عبر تصويت من هؤالء‪ ..‬ما كل هذا العبث ؟!‪ ،‬هل تتوقع بعد كل هذا‬
‫حاسما لألمم المتحدة في أنقاذ مثل أوطاننا تلك ؟!‪ ،‬أيعجز العالم كله عن حل‬
‫ً‬ ‫مؤثرا أو قر ًارا‬
‫ورا ً‬‫أن يكون هناك د ً‬
‫مشكلة العراق أو سوريا ؟!‪ ،‬هل أختفت عقول العالم كله ؟!‬

‫أما بالنسبة لجامعة الدول العربية فحدث وال حرج‪..‬‬

‫ضا بسخرية ‪..‬‬


‫ابتسم عمر أي ً‬

‫و ماذا عن داعش ؟!‪ ،‬ما دورها بسوريا ؟!‬

‫ال شيء‪..‬‬

‫قطب عمر حاجبيه في عدم فهم‪ ،‬أكمل الرجل كالمه‪..‬‬

‫فبدال من أن نبدأ األعمار‬


‫مختلف كليًا عنه في سوريا‪ ،‬هنا ال يوجد لنا جيش ً‬
‫ٌ‬ ‫ح ًقا‪ ..‬ال شيء‪ ،‬الوضع هنا في العراق‬
‫مجددا للعراق هي‬
‫ً‬ ‫من جديد بعد األحتالل األمريكي تم ظهور تنظيم داعش فجأة لتضطر أمريكا للدخول‬
‫وحلفاؤها عبر تحالف دولي ضد التنظيم الذي صنعوه بأنفسهم‪..‬‬

‫أما سوريا وبرغم ما يحدث فيها مازال هناك جيش وهنا تكمن المشكلة لديهم‪ ..‬يحاولون بشتى الطرق تدمير‬
‫فعال في تفكيكه وها نحن نرى أربعة جيوش لسوريا‪ ..‬الجيش‬ ‫دعائم الجيش السوري عبر تفكيكه‪ ..‬نجحوا ً‬
‫النظامي‪ ،‬الجيش الحر المعارض وفصائل أخرى ‪ ...‬لكن ما زالت هناك قوة ولو بسيطة في الجيش السوري لم يتم‬
‫تدميرها بالكامل‪" ..‬‬

‫‪332‬‬
‫عِ ضين‬
‫لم حقيقي‪ ،‬حينها كان حديثه مع هذا الرجل قد أنساه مشكلته الحقيقية‪ ..‬بل‬
‫فتح عينيه‪ ..‬لقد كان يحلُم‪ ..‬لكنه ُح ٌ‬
‫أستصغرها مقابل كل هذا العبث الذي يحدث في العالم‪ ،‬ذلك العالم والذي لألسف الشديد يسكنه البشر‪..‬‬

‫حاول لدقائق أستيعاب أي شيء لكنه فشل‪ ،‬حاول رفع رأسه لكنه شعر ٍ‬
‫بألم شديد‪ ،‬حاول مرًة أخرى بمساعدة‬
‫ذراعيه حتى لكنه الحظ أن يده اليمنى ُمقيدة‪ ،‬حرك رأسه تجاهها فوجد تلك الجبيرة القماشية‪ ..‬تساءل ماذا‬
‫حدث ؟!‬

‫أسند رأسه مرة أخرى وبدأت الصورة تتضح في ذهنه‪ ..‬كان في المسجد مع والد الطفل ثم ذلك الهجوم ثم‬
‫محاولته ألنقاذ الطفل ثم تلك الرصاصة التي أصابته ثم‪ ..‬ثم ال شيء‪ ..‬توقف عقله عند هذه اللحظة !‪ ،‬حاول‬
‫جالسا‪..‬‬
‫بكل قوته النهوض وبعد معاناة من ذلك األلم في ذراعه كان بالفعل ً‬

‫حاول أن يتذكر أو يستوعب المكان لكنه ال يعلم أين هو !‪ ،‬ليس في مستشفى أو عيادة‪ ..‬هو في غرفة‪ ..‬أيعقل‬
‫أن يكون في بيت أسامة ؟! ‪ ،‬ال ال ليس هو‪ ،‬قام من مكانه وحاول أسناد نفسه على الحائط حتى وصل لباب‬
‫الغرفة بصعوبة‪ ،‬فتحه‪ ..‬فوجد الجميع ينظر إليه‪ ..‬ال يعرف فيهم أح ًدا‪ ..‬أسرع تجاهه طفل‪ ..‬نعم يعرف هذا‬
‫الطفل‪ ..‬أنه أيالن‪ ..‬هو بخي ٍر أذن‪..‬‬

‫عم عمر‪ ..‬كيف حالك اآلن ؟‬

‫ضا‪ ..‬عرفه كذلك‪ ..‬هكذا أتضح‬


‫ابتسم عمر ثم مسح بيده على رأس أيالن‪ ،‬كما الحظ قدوم أحدهم تجاهه أي ً‬
‫األمر‪ ..‬هو في بيت والد الطفل أيالن بعد أنقاذه‪ ،‬أسند الرجل عمر وقدم به على مائدة الطعام‪ ..‬يبدو أنه ميعاد‬
‫الغداء‪ ..‬أو الفطور‪ ..‬لقد تذكر أنه في الشهر الكريم‪..‬‬

‫شكرا لك سيدي على أنقاذك أليالن‪ ..‬هكذا هي شهامة المصريين كالعادة‪..‬‬


‫ً‬
‫ٍ‬
‫بصوت منخفض بسبب تعبه فقط ‪..‬‬ ‫التفت ناحية الصوت‪ ..‬تبدو كوالدة أيالن‪ ،‬رد عليها عمر‬

‫ال شكر على واجب سيدتي‪ ..‬المهم أنه بخير والحمد هلل‪..‬‬

‫عمل الرجل على أن يتعرف عمر على الضيوف‪..‬‬

‫‪333‬‬
‫عِ ضين‬
‫هذه زوجتي‪..‬‬

‫ثم أشار للضيوف ‪..‬‬

‫و هذا سعد أخي وصاحبي وهذه أبنته رقية طبيبة وهي من عالجتك ‪..‬‬

‫شاكرا‪ ،‬فأكمل الرجل كالمه‪..‬‬


‫التفت إليها عمر وهز رأسه ً‬

‫قليال فأعتبرناها طبيبةً من اآلن ‪..‬‬


‫ليست طبيبة بالضبط ولكنها في كلية الطب‪ ،‬لكنها ماهرة ً‬
‫ابتسم الجميع ‪..‬‬

‫جميعا هذه األيام حتى يأذن لنا اهلل بالرحيل‪..‬‬


‫و هذا مهند في نفس عمر أيالن‪ ..‬ثالثة سنوات‪ ،‬سنفطر ً‬
‫تعجب عمر ‪..‬‬

‫ضا ؟ !‬
‫سترحلون أنتم أي ً‬
‫خصوصا في أجراءات السفر‪ ،..‬سنسافر‬
‫ً‬ ‫قليال‬
‫نعم ‪ ...‬سنهاجر كندا ونقيم عند أختي هناك‪ ،‬األمور ستكون صعبة ً‬
‫أوال وسنقيم عدة أيام هناك إلى أن تصل ألينا مصاريف السفر لكندا ‪..‬‬
‫لتركيا ً‬
‫ضا سيرحالن ‪..‬‬
‫كان عمر قد شرد ذهنه‪ ،‬تذكر أسامة وزوجته‪ ..‬هما أي ً‬

‫جميعكم سترحلون ؟!‪ ،‬جميعكم ستتركون أوطانكم ؟ من سيبقى هنا أذن بعد رحيلكم ؟!‬

‫مهموما‪ ،‬رد عليه الرجل بهدوء ‪..‬‬


‫ً‬ ‫قالها‬

‫ماذا عسانا أن نفعل برأيك ؟!‪ ،‬نبقى هنا ونموت ؟!‪..‬‬

‫و هل ستحيا في بالدهم ؟‪ ..‬هل ستحظى بحياةٍ كريمة هناك ؟!‬

‫المهم أننا سنحيا‪ ،..‬هل تعجبك األمور هنا يا عمر ؟!‬

‫جميعا المغادرة ؟!‬


‫بالطبع ال‪ ..‬لكن من سيبقى هنا إذا قررتم ً‬
‫سكت الجميع‪ ،‬أكمل عمر كالمه ‪..‬‬

‫‪334‬‬
‫عِ ضين‬
‫هكذا أرادوا‪ ..‬إما موتكم أو تشردكم‪ ،‬وقد نجحوا‪..‬‬

‫تتكلم وكأنه ليس من حقنا أن نعيش ‪ ،!..‬أنت بنفسك ال يعجبك الوضع هنا وتريد الرحيل‪..‬‬

‫فعال حتى لو كان ثمن رجوعي هو حياتي‪ ..‬فأنا أريد الموت في وطني حتى ال‬
‫بالنسبة لي‪ ..‬أريد العودة لوطني ً‬
‫أشعر بغربتي حتى وأنا ميت‪ ،‬أشتهي الموت في وطني وال أطيق العيش في غيرها ‪..‬‬

‫ال فائدة من هذه الوطنية المثالية يا عمر‪ ..‬لن تنفعني هذه الوطنية عندما نموت هنا من الجوع أو العطش‪ ..‬لن‬
‫تنفعني هذه الوطنية عندما نعيش في ذُعر كل يوم بأنتظار الموت‪ ..‬هل يمكنك التفكير في وطنك عندما يتعلق‬
‫ٍ‬
‫للحظة واحدة ‪..‬‬ ‫األمر بأطفالك ؟!‪ ،‬ال أعتقد بأنك ستتردد في الرحيل ولو‬

‫تذمرا ولكنه يعرف ظروف المدينة جي ًدا‪..‬‬


‫قام عمر من مكانه‪ ،‬ولم يكمل فطاره‪ ..‬ليس ً‬

‫في أنا ما شئت‪ ..‬لكن صدقني لو كان وطني يتعرض لهذا ما كنت غادرته هكذا‪،‬‬
‫سميها ما شئت سيدي‪ ،‬وأعتقد ّ‬
‫لن نعيش حياتين مثاليتين سيدي‪ ..‬لقد ُخلقت لنا حيا ًة مثالية واحدة فقط‪ ..‬أما الدنيا أو اآلخرة‪ ،‬في النهاية أنتم‬
‫من أضعتوا وطنكم يا سيدي‪ ،‬ليس كل الثورات نعيم‪ ،‬بعضها خراب‪..‬‬

‫هيمن الصمت على الجميع‪ ،‬بينما بدا عمر مشتتًا‪ ،‬سأله الرجل ‪..‬‬

‫هل أنت بخير؟!‬

‫ال أعرف ‪ ،...‬هل المسجد الذي كنا نصلي فيه بعي ٌد عن هنا ؟‬

‫حتى لو كان قريبًا من هنا لن تستطيع العودة إلى حيث ما كنت يا عمر‪ ،‬الخروج من هنا اآلن أو بدون حذر لن‬
‫حتما‪..‬‬
‫يكون قر ًارا صائبًا‪ ،..‬قوات الجيش الحر يحاصروننا من كل جهة‪ ،‬وخروجك اآلن سيعرضك للقتل ً‬
‫بد ا عمر شارد الذهن‪ ،‬معنى كالم الرجل أن المسجد فقط بعيد عن هنا‪ ،‬وحتى لو تمكن من الوصول للمسجد لن‬
‫مجددا‪ ،‬أنه في الجهة األخرى من المدينة إذن‪ ،‬لقد فقد ماريان مرة أخرى ‪!..‬‬
‫ً‬ ‫يتذكر طريق العودة‬

‫‪335‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-00-‬‬

‫" عاجل ‪ ...‬األمم المتحدة تناشد الحكومة اإليرانية بضبط النفس والتخلي عن سياسة األعتقاالت ‪" ...‬‬

‫" واشنطن تحذر رعاياها في أيران باألبتعاد عن المناطق الملتهبة باألحداث ‪" ...‬‬

‫" منظمات حقوقية تدين بشدة ما يحدث في السجون اإليرانية من تعذيب النشطاء السياسيين ‪" ....‬‬

‫" قائد الثورة اإليرانية يصف المعارضة باألرهابية ويتهمها بزعزعة أستقرار البالد ‪" ...‬‬

‫هكذا تناقلت وسائل األعالم ما يحدث في أيران هذه األيام‪ ،..‬حملة أعتقاالت واسعة تشنها الحكومة اإليرانية‬
‫للمعارضة بسبب دعواتهم المستمرة للتظاهر بعدما تداول نشطاء سياسيين لمشاهد من داخل السجون لشباب‬
‫ومواطنين يتم تعذيبهم لمجرد أعتراضهم على سياسة الحكومة‪..‬‬

‫كان يسعى فقط إلحداث بلبلة وتوتر في الشارع اإليراني لكن األحداث تطورت وخرجت عن السيطرة‪ ،‬وهذا هو‬
‫مستمتعا بضجة األخبار هذه‬
‫ً‬ ‫فعال‪ ..‬أن تخرج األمور عن سيطرته حتى ال يمكنه التصرف حينها‪ ..‬كان‬
‫المطلوب ً‬
‫‪..‬‬

‫ما قطع تفكيره صوت هاتف مكتبه‪ ،‬رفع سماعة الهاتف بدون تردد ‪..‬‬

‫أتصال هام من الدرجة األولى وقد قمت بتحويله لغرفة األتصاالت السرية ‪..‬‬
‫ٌ‬ ‫سيد شريف‪ ،..‬لديك‬

‫حاال‪..‬‬
‫حسنًا‪ ،‬سأتي ً‬

‫كثيرا‪ ،‬تأخرت ولكنها أتت في النهاية‪ ،‬لقد أستسلم الطرف اآلخر على كل حال وقرر تسوية‬
‫أنتظر هذه المكالمة ً‬
‫األمور معه‪ ،‬تحرك من مكانه وأتجه ناحية غرفة األتصاالت السرية‪ ..‬وصل إليها بالفعل وفتح الباب ودخل الغرفة‬
‫وأغلق الباب ورائه‪ ،‬وقف أمام تلك الشاشة العمالقة التي تشبه المرآة‪ ..‬ضغط مفتاح التشغيل‪ ،‬ظهر أمامه من هو‬
‫مترددا‪..‬‬
‫متوقع بالنسبة له‪ ..‬حسين رئيس المخابرات اإليراني‪ ،‬كان ً‬

‫‪336‬‬
‫عِ ضين‬
‫كثيرا‪ ،‬لم أتوقع أتصالك بنا خاصة في تلك الظروف التي تمر بها البالد ‪!..‬‬
‫سيد حسين‪ ..‬لقد أفتقدناك ً‬

‫رد عليه حسين بلهجة حادة بعض الشيء ‪..‬‬

‫أصال‪ ،‬تعلم جي ًدا أنني سأتصل بك ألحذرك باألستمرار فيما‬


‫ال‪ ..‬لقد كنت تتوقع ذلك‪ ،‬بل أنك كنت تنتظر ذلك ً‬
‫تفعل‪ ،‬عليك بأنهاء ما بدأته سيد شريف ‪..‬‬

‫أرتسمت عالمات عدم الفهم على وجه شريف‪..‬‬

‫مهال سيد حسين‪ ،‬ال يعني تعاطفنا معكم أنه يكون لديكم الحق في أتهامنا بأشياء ال نفهمها حتى‪ ،..‬ماذا‬
‫مهال‪ً ..‬‬
‫ً‬
‫فعلنا كي تلقي باللوم علينا ؟!‬

‫رد حسين بحدة ‪...‬‬

‫أنت تعلم جي ًدا ماذا فعلتم سيد شريف‪ ،‬تريدون األنتقام‪ ،..‬لكن صدقني سيكون ردنا أعنف من ردكم أن لم تنهوا‬
‫ما بدأتموه في بالدنا‪..‬‬

‫حقيقي أنا ال أفهم ماذا فعلنا ليكون كالمك معي بهذه الطريقة ‪ ،!..‬وال أعلم ما ذلك الشيء الذي بدأناه والذي‬
‫ردا قاسيًا والذي تهددني بأن‬
‫حاال‪ ،‬لكن دعني أسألك سيد حسين‪ ..‬ماذا فعلتم أنتم كي نرد نحن ً‬
‫علينا أنهائه ً‬
‫أصال سيكون ردكم أعنف ؟!‬
‫ردكم أنتم سيكون أعنف ؟! وعن ماذا ً‬

‫ردا عليه‪ ،‬أكمل شريف كالمه ‪..‬‬


‫لم يجد حسين ً‬

‫مثال ووقوعنا في أزمات سياسية مع‬


‫أنتم لم تفعلوا شيئًا يثير غضبنا‪ ،‬أنتم لم تقوموا بقصف طائراتنا أو أختطافها ً‬
‫دول عربية وغربية‪ ،‬ال شيء يدعو لننتقم ألجله سيد حسين ‪..‬‬
‫ٌ‬

‫قاطعه حسين ليحسم األمر‪..‬‬

‫‪337‬‬
‫عِ ضين‬
‫سيد شريف‪ ..‬هذا األمر يختلف عن ذاك‪ ،‬تداعيات ما حصل في حادث طائرتكم بسيطة ويمكن حلها‪ ،‬لكن ما‬
‫بدأتموه أنتم هو األخطر على األطالق‪ ..‬مظاهرات تتعلق بقلب نظام الحكم ولعلك تدرك سيدي ما هو الفرق بين‬
‫هذا وذاك‪ ،‬عليك بأنهاء هذا كما بدأته‪..‬‬

‫حتى اآلن ال أدري لماذا تربط بين ما يحدث في بالدك وبيننا نحن !‪ ،‬لكن دعنا من هذا كله‪ ..‬ما هو سبب‬
‫أتصالكم بنا ؟!‬

‫قالها وقد أرتسمت أبتسامة علي وجهه تظهر لخصمه أنها سخرية‪ ..‬سخرية جعلته يغضب في حديثه معه ‪..‬‬

‫سيد شريف أن لم تنهي ما بدأتموه صدقني سيكون عقابكم قاسي ج ًدا‪ ..‬وأنت تدرك معنى كالمي جي ًدا‪ ،‬حتى‬
‫اآلن األوضاع عندكم غير مستقرة‪ ..‬ال تدعني أستخدم أساليبي في معاقبتكم ‪..‬‬

‫قطعه شريف في حزم ‪..‬‬

‫سيد حسين‪ ..‬أنت لست في وضع يسمح لك بالتهديد‪..‬‬

‫قالها شريف وقد أستغرقوا ثواني من الصمت في نظرًة قاسية بينهم ‪..‬‬

‫أوال ‪..‬‬
‫و بالنسبة ألساليبك التي تهددنا بها فعليك أستخدامها لتُنهي مشكلتكم ً‬

‫كثيرا من الشاشة ‪..‬‬


‫أقترب ً‬
‫و اآلن أعذرني سيد حسين‪ ..‬علي أنهاء أتصالنا هذا‪ ،‬لدينا الكثير من مشاكلنا الداخلية ما يكفي لعدم ضياع ٍ‬
‫وقت‬ ‫ّ‬
‫أكثر من هذا‪ ..‬سالم‬

‫أغلق األتصال وقد شعر بنشوة األنتصار‪ ،‬على كل حال كان األنتقام قاسيًا‪ ،‬بعض الوقت فقط وتنتهي هذه‬
‫المشكلة هناك لكنها ستستنفذ منهم الكثير ‪..‬‬

‫شعور مختلف‪ ..‬شعور الرضى‪ ،‬فجأة سمع صوت أحدهم يطرق الباب‬
‫ٌ‬ ‫جلس على مكتبه من جديد ويغمره‬
‫بسرعة‪ ..‬ماذا هناك‪ ..‬؟!‬

‫‪338‬‬
‫عِ ضين‬
‫أدخل ‪...‬‬

‫خبر سار على األقل‪..‬‬


‫دخلت مساعدته مبتسمة‪ ،‬هناك ٌ‬

‫خبر هام ‪..‬‬


‫سيد شريف‪ ..‬هناك ٌ‬

‫مستمعا ‪..‬‬
‫ً‬ ‫تلهف شريف لسماعه‪ ،‬هز رأسه‬

‫أخيرا‪..‬‬
‫لقد رصدنا عمر وماريان ً‬

‫المفاجأة جعلته يقفز من مكانه‪ ،‬أكملت هي‪..‬‬

‫ساعات فقط وسيكونان هنا في مصر ‪!...‬‬


‫ٌ‬ ‫هم في طريق العودة إلى هنا سيدي‪،‬‬

‫‪339‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-08-‬‬

‫قبل أ سبوعين فقط كانت الحرب في المدينة عبارة عن مناوشات بين الطرفين أو بين أطراف المعركة كلها بعد‬
‫ظهور جماعات وعصابات أخرى غير الجيش النظامي والحر‪ ..‬لكن اآلن‪ ..‬األمور أصبحت كارثية‪ ،‬ال يمر يوم إال‬
‫وتُرتكب مجزرة جديدة في المدينة وأمام عينه‪ ،‬مرة تُرمى عليهم براميل متفجرة من طائرات تحلق فوقهم وينتج‬
‫عنها أحداث كارثية في المناطق المجاورة‪ ،‬مرة ثانية تداهمهم عصابات مسلحة يقتلون عشوائيًا من يجدونه حيًا‪..‬‬
‫مرة أخرى يتخذ أطراف المعركة الدائرة هنا المدنيين كدروع بشرية لصد هجوم الطرف اآلخر‪ ،‬من يحارب من ومن‬
‫يقتل من ؟!‪ ،‬أحيانًا تكون حياة الغابة مناسبة‪ ..‬على األقل هناك قانون ثابت فيها وهو قانون البقاء لألقوى‪ ..‬لكن‬
‫أصال‪ ..‬أمسك بسالح وأطلق الرصاص على من‬
‫ما يحدث هنا هو أسوأ من حياة الغابة‪ ..‬هنا ال يوجد قانون ً‬
‫ضا‪..‬‬
‫يحاربك أو من ال يحاربك أي ً‬

‫لقد أدرك جي ًدا حديث والد إيالن معه بخصوص الوطن ‪ ،..‬لم يعد هناك وطنًا ليدافع عنه أحد‪ ..‬لم تعد هناك‬
‫عموما قد نجح والد إيالن الهروب بأسرته من المدينة‬
‫ً‬ ‫سوريا كي يكون هناك سوريون يدافعون عن بالدهم‪..‬‬
‫األسبوع الماضي‪ ،‬على األقل هذا ما يظنه‪ ،‬إذ أنه لم يظهر منذ أن غادر المنزل هو أو أح ًدا من أسرته يوحي‬
‫المشدد التي تعيشه‬
‫فعال في الهروب من هذا الجحيم بطريقةً ما رغم هذا الحصار ُ‬
‫بوجودهم هنا‪ ،‬البد وأنه نجح ً‬
‫المدينة‪..‬‬

‫ليلة أمس كانت مأساوية بالنسبة لعمر‪ ..‬إحدى القذائف أصابت البيت الذي يختبئ فيه هو وعائلة عم سعد‬
‫صديق والد إيالن‪ ،‬كان عمر في الخارج كعادة كل يوم يبحث عن ماريان ليهربا سويًا لكنه يرجع خائبًا‪ ..‬هذه المرة‬
‫صدم عندما وجد زوجة سعد تحت‬
‫كاما في صدمة‪ُ ..‬‬
‫رجع البيت فوجده قد أنهدم‪ ..‬أقترب من البيت الذي أصبح ر ً‬
‫ضا تحت‬
‫األنقاض وقد فارقت الحياة‪ ،..‬بحث عن الباقي وذهنه لم يستوعب الصدمة بعد‪ ،‬عثر على عم سعد أي ً‬
‫األنقاض لكنه مازال يتنفس‪ ..‬أنه على قيد الحياة‪ ..‬حاول إزالة األنقاض من عليه لكنه أمسكه من يده وجعله‬
‫يقترب منه ليهمس له بشيء ما ‪..‬‬

‫عمر‪ ..‬أرجوك أنقذهم‪ ،‬أهرب بهم خارج المدينة إن أستطعت‪..‬‬

‫‪341‬‬
‫عِ ضين‬
‫مهند ورقية‪ ..‬؟!‪ ،‬أين هم يا عم سعد ؟!‪ ،‬أخبرني بسرعة‪..‬‬

‫أشار سعد لشيء وراء عمر‪ ،‬التفت عمر ورائه ‪..‬‬

‫لقد تم حبسهم في هذه الغرفة‪ ..‬ذلك الحائط المنهدم قد سد عليهم الباب و هذه الغرفة بال نوافذ كما تعلم‪،‬‬
‫أرجوك بسرعة‪..‬‬

‫مجددا ليهمس له الرجل‪..‬‬


‫ً‬ ‫قام عمر بسرعة لكن الرجل شده من جديد‪ ،‬أقترب منه عمر‬

‫جميعا بالهرب من هنا‪ ..‬أرجوك‪..‬‬


‫مهند ورقية أمانة في رقبتك يا عمر‪ ،‬هم أخوتك في النهاية‪ ،..‬عليكم ً‬

‫حسنًا‪ ،..‬وستهرب معنا يا سيدي‪ ..‬ال تقلق‪..‬‬

‫قام عمر من مكانه لينقذ أوالده لكنه الحظ أن الرجل قد مات ‪ ،!..‬أسرع ناحية الغرفة المسدودة وبحث عن‬
‫شيء ثقيل ليهد تلك األنقاض‪ ..‬وجد مطرقة كان يستعملها الرجل في عمله‪ ..‬لم يتردد لحظة وعمل جاه ًدا ليزيل‬
‫تلك األنقاض عن الغرفة ‪ ،‬وبعد مجهود قد أستنفذ منه طاقته بالكامل أصبحت هناك فتحة ال بأس بها يستطيع‬
‫منها أن يراهما من خاللها‪ ،‬خرجت رقية وهي تحمل أخاها مغشيًا عليه‪ ..‬حاولت أفاقة أخاها ومساعدة عمر على‬
‫الهدوء ليستعيد أنفاسه ‪..‬‬

‫خرج عليهم هذا الصباح وقد فقدت رقية وأخيها والديهما‪ ،‬الكارثة لم تقف عند هذا الحد‪ ،..‬لقد تسلل مهند‬
‫خارجا عندما هدأ أطالق النار في فجر اليوم‪ ..‬خرج على حين غفلة من أخته ومن عمر كذلك‪ ،‬فزع عمر‬
‫للعب ً‬
‫أثرا‪ ..‬لم يعثروا‬
‫عندما أخبرته رقية بأختفاء مهند‪ ،‬أسرع كالهما ليبحثا عنه بالقرب من البيت لكنهم لم يجدوا له ً‬
‫مجددا ورصاص متراشق هنا وهناك‪ ،‬التفت ورائه ليأخذ بيديها ويختبئا سويًا‬
‫ً‬ ‫عليه ‪ ،!..‬فجأة ظهر صوت أطالق نار‬
‫لكنه وجدها ُملقاة على األرض ‪ ، !..‬حملها بسرعة ودخل بها للبيت المنهدم‪ ،‬لقد أصابتها عدة رصاصات وواحدة‬
‫منها أصابت قلبها‪ ..‬لقد تركت الدنيا هي األخرى ‪!..‬‬

‫‪341‬‬
‫عِ ضين‬
‫لم يتبقى سواه هو والفتى الذي لم يظهر حتى اآلن‪ ..‬البد وأنه قد مات هو اآلخر في ٍ‬
‫مكان ما‪ ،‬ال يعرف ما إذا‬
‫كان قد أوفى بوعده تجاه الرجل في حماية أبنائه والهرب بهما أم أنه لم يكن على قدر المسؤولية‪ ..‬لكنه كذلك‬
‫لم يسمح بذلك‪ ..‬وكذلك الظروف كانت ضده‪..‬‬

‫يختبئ بين أنقاض البيت وبجانبه جثمان رقية على أمل أن يظهر مهند‪ ،‬وهي األمنية الوحيدة التي تحققت حتى‬
‫أخيرا أم بالصدمة حينما كان يستعد لعبور الشارع وسط أطالق النار‬
‫اآلن‪ ..‬ال يعرف أن كان يشعر بالفرحة ألنه رآه ً‬
‫هذا‪ ،‬صرخ فيه عمر‪..‬‬

‫مهند‪ ..‬أبق مكانك‪ ..‬ليس اآلن‪..‬‬

‫مسرعا بأتجاه عمر‬


‫ً‬ ‫لكن األوان قد فات‪ ..‬خرج مهند من مخبأه في أحدى المحالت التجارية المدمرة أمام البيت‬
‫مجددا ومهند في منتصف الطريق‪ ،‬كان من الطبيعي‬
‫ً‬ ‫عندما توقف أطالق النار لثواني ‪ ،!..‬فجأة عاد أطالق النار‬
‫أن تصيب أحداها الطفل‪ ..‬دفعته قوة الرصاصة عدة خطوات للوراء ‪ ،‬وبحركة ال أرادية خرج عمر من مخبأه لينقذ‬
‫مهند وليتفادى الطلقات لم يحمل الطفل مباشرة بل أسرع من مكانه ليعبر للجهة األخرى وسحب مهند من ذراعه‬
‫حتى وصل بنجاح‪ ..‬أسرع ليطمئن عليه‪ ،‬ليست رصاصة واحدة ‪ ،!..‬واحدة في ذراعه األيمن واألخرى في كتفه‬
‫ٍ‬
‫بصوت ضعيف وكأنه لم يدرك األلم بعد‪..‬‬ ‫األيسر‪ ..‬لكنه ما زال يتنفس‪ ،..‬سأله الطفل‬

‫أين رقية يا عم عمر ؟! أين أختي ؟!‪ ،‬أريدها أن تعالجني‪ ..‬هي تعرف كيف تعالجني‪..‬‬

‫مسرعا‬
‫ً‬ ‫وجد عمر فتحة في المحل التجاري الذي كان يختبئ به مهند‪ ،‬تطل هذه الفتحة على شارع آخر‪ ،‬أتجه به‬
‫إلى الالمكان‪ ،..‬يجرى نحو أي شيء ينقذ به مهند‪ ،‬سأله عمر بحدة‪..‬‬

‫أصال‪ ..‬؟!‬
‫لماذا خرجت دون أستئذان يا مهند ؟! وأين كنت ً‬

‫رد عليه بضعف وكأنه بدأ يفقد وعيه ‪..‬‬

‫كنت في المكان الذي ُدفن فيه والداي‪ ،‬كنت أزورهم في أول يوم لهم في وحدتهم تلك‪ ،‬ظننتهم جائعين‪ ..‬لكنهم‬
‫علي‪ ،‬فتركت الطعام أمام قبرهم وأسرعت بالرجوع لكنني رأيت أن الحرب قد عادت‪..‬‬
‫لم يردوا ّ‬
‫‪342‬‬
‫عِ ضين‬
‫مسرعا ليجد من ينقذ مهند أو أن أحدهم يعرف مكان مستشفى‪ ،‬بدأ الطفل يشعر باأللم تدريجيًا‬
‫ً‬ ‫كان عمر يجري‬
‫وكان يهذي بكالم‪ ،‬سأله‪..‬‬

‫لقد ماتت‪ ..‬؟!‬

‫توقف عمر للحظة محدقًا بالطفل‪ ..‬كيف عرف ؟!!‪ ،‬واصل الجري لمكان آمن‪ ،‬أكمل الطفل هذيانه‪..‬‬

‫ماتت رقية ولم تستطع عالج نفسها ؟!‪ ،‬يا لحماقتها ‪ ، !..‬رغم أنها كانت طبيبة إال أنها كانت تكره األدوية لو‬
‫يوما ما‪ ،‬لكنها كانت تحب أن تكون السبب في شفاء الناس ‪..‬‬
‫تعبت ً‬

‫نظر الطفل لعمر وهو يحاول جاه ًدا أنقاذه‪..‬‬

‫أصال؟!‪ ،‬لماذا العالم ليس مثل أختي يحبون مساعدة‬


‫لكن لماذا يتقاتل العالم كله هنا يا عم عمر ؟! لماذا يتقاتلون ً‬
‫غيرهم ؟‪ ،‬أقسم باهلل لن أسكت سوف أخبر ‪..‬‬

‫سكت الطفل فجأة بينما دخل عمر مسج ًدا‪ ..‬كان في الواقع عبارة عن مستوصف‪ ،‬كان الجرحى والمصابين‬
‫فعال بالصراخ‪..‬‬
‫المتضررين من المناطق المجاورة يتعالجون هنا بسرعة‪ ،‬وضع عمر الطفل على أحدى السرائر وبدأ ً‬
‫األلم يشتد خاصة بعد تدخل الطبيب لعالجه لكن عقله لم يكف بالبحث عن من يستمع لشكواه‪ ..‬يريد أن‬
‫يشتكي العالم كله لكن لمن ‪..‬؟! لوالديه اللذان توفيا باألمس أم ألخته التي ماتت اليوم‪ ..‬حتى لو كانت أخته‬
‫حية‪ ..‬لم تكن لتفعل شيئًا هي ضعيفة ‪..‬‬

‫مجددا‪..‬‬
‫ً‬ ‫بعد أن ترك عمر الطبيب يقوم بعمله سمع أحدهم ينادي عليه‪ ،‬التفت ناحية الصوت وتفاجئ حين رأها‬
‫أنها ماريان ‪ ،!..‬رحبت به بلهفة ‪...‬‬

‫عمر‪ ..‬كيف حالك ؟!‬

‫مجددا‪..‬‬
‫ً‬ ‫الحمد هلل‪ ..‬بخير‪ ،‬من الجيد أن أر ِ‬
‫اك‬

‫ماذا بك يا عمر‪ ..‬هل أنت بخير ؟!‪ ،‬أقصد لماذا أتيت لهنا ؟!‬

‫‪343‬‬
‫عِ ضين‬
‫التفت ناحية الطفل ليخبرها بأصابة الطفل لكنه وبالرغم الصخب الموجود في المسجد لكنه سمع صراخ الطفل‬
‫‪...‬‬

‫آآآآه‪ ..‬آآآآه‪ ..‬واهلل لسوف أخبره‪ ..‬سوف أخبره بكل شيء‪ ..‬سأخبر اهلل بكل شيء‪..‬‬

‫وكأن الزمن توقف عند هذه اللحظة‪ ،‬ذُعر عمر وكأن أحدهم قد هدده بحياته‪ ،!..‬هذا الطفل سيخبر اهلل بكل‬
‫طفل لم يرى في حياته إال الدمار‪..‬‬
‫شيء ؟!‪ ،‬لكن اهلل يعلم كل شيء ح ًقا‪ ..‬لكنه بالتأكيد سيستمع لذلك الطفل‪ٌ ..‬‬
‫لم يرى سوى هؤالء الذين يموتون كل ٍ‬
‫يوم أمام عينيه‪ ..‬لم يرى سوى نقص الغذاء والماء والحصار كل يوم‪ ..‬لم‬
‫ونهارا ‪..‬‬
‫ليال ً‬‫ورجال يقاتلون بعضهم ً‬
‫ٌ‬ ‫يرى سوى طائرات ترمي بقنابل‬

‫جذبته ماريان من ذراعه ليستفيق من شروده ‪..‬‬

‫ماذا بك يا عمر ؟! هل أنت بخير‪ ..‬؟‬

‫كان قلبه يخفق مما سمعه اآلن‪ ،‬التفت إليها وكان قد تذكر شيئًا ‪..‬‬

‫لماذا أنتي هنا يا ماريان ؟!‪ ،‬وكيف حال أسامة وزوجته ؟!‬

‫أخفضت ماريان رأسها‪ ..‬كان الحزن بادي عليها جليًا‪ ،‬تعجب من صمتها فسألها ‪..‬‬

‫ماذا حدث يا ماريان‪ ..‬؟!‬

‫أجابته والحزن يظهر حتى بصوتها ‪..‬‬

‫لقد مات رضيعهم تحت األنقاض يا عمر‪..‬‬

‫صدم عمر من سماع خبر أعتاد سماعه ورؤيته يوميًا‪ ،‬أكملت ماريان ‪..‬‬
‫ُ‬

‫علي الرحيل معهم لكنني رفضت ذلك ألكمل بحثي عنك‪،‬‬


‫بعدها غادروا المكان ولم أعرف مكانهم‪ ..‬أقترحوا ّ‬
‫أثناء بحثي عنك وجدت طاقم القناة التي كنت أعمل بها ‪..‬‬

‫‪344‬‬
‫عِ ضين‬
‫نائما‪ ،‬التفت‬
‫جاء أحدهم من ورائه وأربت على كتفه‪ ،‬التفت عمر إليه‪ ..‬أنه الطبيب‪ ،‬التفت بسرعة لمهند فوجده ً‬
‫للطبيب مرةً أخرى‪..‬‬

‫يا أستاذ‪ ،..‬لألسف لقد مات طفلك‪ ،‬رحمه اهلل وصبرك أنت على ما بالك‪..‬‬

‫لم يتحرك عمر‪ ..‬كان كالصنم ‪ ،!..‬محدقًا بالطفل وعيناه تذرفان الدموع‪ ..‬كانت غزيرة بدرجة تعلن عن ضعفه‬
‫وأستسالمه‪ ،‬ظلت الجملة األخيرة للطفل قبل أن يلفظ أنفاسه األخيرة تتردد في ذهنه‪ ..‬سأخبر اهلل بكل شيء‬
‫‪ ،!..‬لقد مات الطفل‪ ..‬مات مهند‪ ..‬مات آخر من تبقى في هذه العائلة‪ ..‬مات وهو يهدد الجميع بأنه سوف‬
‫يخبر اهلل بكل شيء ‪!..‬‬

‫‪345‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-03-‬‬

‫يومهم األخير‬

‫لم تكن لتتخيل أن رحلتها تلك ستنتهي قريبًا ‪ ،..‬وصل األمر لدرجة الحلم‪ ..‬كانت تحلم بالعودة وبالذات مع‬
‫أخيرا‬
‫عمر‪ ،‬ففي اليوم التي عثرت فيه على طاقم القناة وجدت عمر كذلك بالصدفة وعلى الفور أتصلت بعمها ً‬
‫وطمأنته على نفسها‪ ،‬أمرها بالعودة مع طاقم القناة فور أنتهاء مهمة الطاقم في سوريا بعد أيام لكنه عاد بعدها‬
‫بدقائق ليتعجل رجوعهم ومعهم عمر بالتأكيد‪ ..‬ح ّدثها عن أجر ٍ‬
‫اءات غريبة‪ ،..‬سيسلكون طري ًقا بريًا حتى العاصمة‬
‫دمشق ومنها إلى المطار وستكون هناك طائرة خاصة بأنتظارهم‪ ..‬لكنها ال تبالي بهذا‪ ..‬المهم هو رجوعها لمصر‪..‬‬

‫ابتسمت وهي تنظر من نافذة العربة‪ ..‬تنتظر تلك الساعات القادمة أن تمر بسرعة ‪..‬ال تطيق األنتظار ‪..‬‬

‫كثيرا وتحمل‬
‫ومهموما‪ ..‬لقد شاب شعره وظهر وكأنه عجوز‪ ..‬لقد عانى ً‬
‫ً‬ ‫التفتت فجأة ناحية عمر‪ ..‬كان يبدو حزينًا‬
‫أكثر من طاقته‪ ،‬فكرت للحظة‪ ..‬هل يمكن أن ينجحوا هذه المرة في العودة لمصر ؟!‪ ،‬أم أن القدر يخبئ لهم‬
‫كثيرا بالعودة لمصر‪ ..‬لقد أعتاد المفاجآت‪..‬‬
‫مفاجأة أخرى تبقيهم هنا ؟!‪ ،‬بالتأكيد هو كذلك يشك ً‬

‫أما عمر فقد أصبح ضعي ًفا‪ ..‬ضعي ًفا لدرجة إنه ال يقوى حتى على الكالم‪ ..‬لم يعد يتحمل صدمةً أخرى‪ ،‬ال يعلم‬
‫إن كان عليه أن يفرح أم يحزن بعودته لمصر ‪ ،!..‬ح ًقا ال يعرف بماذا يشعر‪ ،..‬كيف سيكون أستقبال والديه له‬
‫خاصةً بعد ما حدث ؟!‪ ،‬آسية‪ ..‬كيف حالها اآلن يا ترى ؟!‪ ،‬وبخصوص ما حدث في رحلته الشاقة تلك‪ ..‬هل‬
‫عليه أن ينسى ما حدث ؟!‪ ،‬بدا ذهنه مشو ًشا‪ ..‬هاجمت تلك الذكريات على ذهنه فجأة وأعلنت عليه الحرب في‬
‫وقت ضعفه‪ ..‬الرجل العراقي وأبنته‪ ..‬لحظة قتل أخيه‪ ..‬عثمان بكير‪ ..‬النفق‪ ..‬سوريا‪ ..‬أسامة وزوجته‪ ..‬المسجد‪..‬‬
‫إيالن ومهند‪ ..‬سعد ورقية‪ ..‬سأخبر اهلل بكل شيء ‪!..‬‬

‫أغمض عينيه ليطرد هذا التفكير‪ ..‬لقد أُرهق ذهنيًا ونفسيًا وجسديًا‪ ،‬فتح عينيه فجأة عندما شعر بأيد أحدهم على‬
‫كتفه‪ ،‬أنها ماريان‪ ،..‬نظرت إليه وسألته ‪..‬‬

‫عمر‪ ،..‬هل أنت بخير ؟‬

‫‪346‬‬
‫عِ ضين‬
‫هز رأسه أيجابًا ولم يتكلم‪ ،‬ابتسمت ثم عزمت على بث األمل له ‪..‬‬

‫أمامنا نصف ساعة تقريبًا ونصل مطار دمشق‪ ،‬قريبًا سنعود ‪...‬‬

‫أشارت له عبر النافذة للمدينة من الخارج‪..‬‬

‫أنظر يا عمر‪ ..‬العاصمة هنا تبدو هادئة ج ًدا وكأننا لسنا في سوريا‪ ..‬زمالئي أخبروني أن ما يُذاع في الفضائيات‬
‫بشأن الحرب في سوريا ال يحدث سوى في األرياف‪ ..‬ريف دمشق‪ ،‬ريف حلب‪ ،‬ريف الالذقية وكذلك ريف‬
‫الحسكة الذي كنا فيه‪ ،‬أما المدن نفسها فهادئة ج ًدا ‪!..‬‬

‫جذب أنتباهه ما يتم أذاعته في التلفاز داخل عربة الطاقم‪ ،‬كان المذيع يتكلم باألنجليزية لكن ما جذب أنتباهه‬
‫فعال تلك المشاهد التي ال يتمنى أن تكون هي التي في مخيلته‪..‬‬
‫ً‬

‫شاطئ ما‪ ،‬لكنه بنفس المالبس التي رآه بها آخر مرة‪ ،‬الصور‬
‫ٌ‬ ‫المشاهد لصور طفل منكب على وجهه على‬
‫أوضحت وجه ذلك الطفل‪ ..‬زادت ضربات قلب عمر فجأة‪ ..‬شعر وكأن العالم كله يتآمر عليه ‪ ،!..‬بدأ نفسه‬
‫يزداد ويزداد صعوبة‪ ،‬بدأ يستوعب الصدمة‪ ،‬أقترب من الشاشة ‪..‬‬

‫إيالن ؟!‪ ،‬هذا إيالن‪ ..‬؟!‪ ،‬مستحيل ‪!..‬‬

‫وقفت ماريان بجانبه وتتبادل نظراتها بين الطفل الغريق وعمر‪ ،‬سألته ‪..‬‬

‫هل تعرف ذلك الطفل يا عمر‪ ..‬؟!‬

‫بدأ صوته يشوبه التوتر وماريان ال تفهم‪ ،‬تحاول تهدئته‪ ،..‬بدأ صوته يرتفع ‪..‬‬

‫ال‪ ..‬ليس أنت‪ ..‬أخبرني يا إيالن أنه ليس أنت‪ ،‬أخبرني بذلك يا فتى‪ ..‬ال تمت أرجوك‪ ..‬أجبني‪ ..‬أجبني يا‬
‫إيالن‪..‬‬

‫‪347‬‬
‫عِ ضين‬
‫ضعف يسري بجسده‪ ،‬بدأ يفقد توازنه‪ ،‬بدأ التشوش بعينيه‪ ،..‬ثم‪ ..‬ثم ال شيء بعدها ‪ ،!..‬فقد‬
‫ٌ‬ ‫بدأ يشعر بدوار‪..‬‬
‫تماما وسط ذهول من ماريان وطاقم القناة ‪!..‬‬
‫عمر وعيه ً‬

‫‪348‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-04-‬‬

‫قبل أسبوع‬

‫أخيرا وحتى اآلن لم يصدق بعد أنه عاد‪ ،‬لقد أصبح األمر بالنسبة له أسطوريًا‪..‬‬
‫كامال على عودته لمصر ً‬
‫أسبوعا ً‬
‫ً‬ ‫مر‬

‫أخبار سيئة وأخرى كانت عادية‪..‬‬


‫كل شيءٌ تغيّر هنا‪ ،..‬كانت هناك ٌ‬
‫حزن كثيرا على وفاة والده‪ ..‬لقد تسبب ٍ‬
‫بأزمة قلبية له حين رآه يقتل أخيه‪ ،‬والدته كذلك كان أمرها منطقيًا‪ ..‬فرحة‬ ‫ً‬
‫بعودته لكنها فرحةً مكسورة‪ ..‬فرحةً ممزوجة بفقدان أبنها اآلخر وكذلك زوجها‪..‬‬

‫التفت ناحية آسية التي كانت نائمةً‪ ،‬ابتسم‪ ..‬لقد كان سيفقد عقله حين رآها تمشي‪ ..‬نسي كل أآلمه حين وجدها‬
‫ضا حينما أخبرته أن والدتها قد توفيت‪..‬‬
‫قد تخلصت من عجزها‪ ،‬تذكر أي ً‬

‫أحمد وأماني تزوجا‪ ..‬لديهما طفلةً بعمر الشهرين‪ ،‬كانا يُحبان بعضهما ولقد جمع اهلل بينهما في خير‪..‬‬

‫جميعا‪ ،‬أستعجله‬
‫زاره باألمس اللواء صفوت ومصطفى وباقي زمالؤه في الكتيبة التي سافرت اليمن‪ ..‬لقد أفتقدهم ً‬
‫اللواء صفوت للشفاء كون الرئيس وجه دعو ًة رسمية لهم بحضور أحتفالية لثورة يوليو في جامعة القاهرة‪ ،‬وسيكون‬
‫هو بالذات ضيف شرف تلك الليلة بسبب تلك الرحلة العجيبة التي خاضها ‪..‬‬

‫جالسا على سريره‪ ،‬قامت‬


‫تقلبت آسية على األريكة وألقت بنظرها على عمر‪ ..‬أضاءت وجهها بأبتسامة حين رأته ً‬
‫من مكانها وجلست بجانبه‪ ،‬رفعت حاجبها وهي تشك في أمره ‪...‬‬

‫باكرا‪ ،..‬لهذه الدرجة قد سلبت هي تفكيرك ؟!‬


‫أراك أستيقظت ً‬

‫نعم‪ ..‬لقد سلبت عقلي وقلبي منذ أول مرة قابلتها‪..‬‬

‫مسكته من مالبسه وهي تهدده ‪..‬‬

‫يسرقك مني‪ ،‬أنت لي فقط‪ ..‬شئت هذا أم أبيت‪..‬‬


‫َ‬ ‫سأقتلها‪ ..‬لن أسمح ألحد بأن‬

‫‪349‬‬
‫عِ ضين‬
‫ضحك عمر ‪..‬‬

‫ستقتلين من يا مجنونة‪ ..‬؟!‬

‫ماريان‪ ..‬تتغزل فيك منذ أن عدتما‪ ،‬وأنت تبتسم كلما تكلمت هي‪..‬‬

‫تعالت ضحكته‪..‬‬

‫ك أنني لم أقابل ِ‬
‫غيرك في‬ ‫و اهلل مجنونة‪ ..‬من يمكنها أن تسلب عقلي وقلبي ِ‬
‫غيرك ؟!‪ ،‬هل ستصدقينني لو أخبرتُ ِ‬
‫حياتي ؟!‬

‫ٍ‬
‫بصوت خافت ‪..‬‬ ‫نظرت إليه بشك‪ ،‬ابتسمت ثم أقتربت منه أكثر‪ ..‬ألصقت جبهتها بجبهته‪ ،‬و‬

‫علي أن أنجب لك مريم ؟!‬


‫سأصدقك هذه المرة‪ ،‬لكن دعني أسألك‪ ،‬متى ّ‬
‫جاهز اآلن ‪..‬‬
‫بالتأكيد‪ ..‬أنا ٌ‬

‫خجال‪ ..‬ابتسمت ثم أحتضنته‪..‬‬


‫أحمر وجهها ً‬

‫‪351‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪-05-‬‬

‫يوم الحادثة ‪ -‬النهاية ‪-‬‬

‫يوما ما‪ ،‬تطارده ذكريات رحلته المريرة كلما ّسلم نفسه للتفكير‪ ..‬ذكريات تشبثت‬
‫تمنى لو أنه يُصاب بالزهايمر ً‬
‫مهما من األساس‪،‬‬
‫بعقله وترفض الرحيل ولو بالقوة‪ ..‬حتى اآلن ال يعلم إن كان سعي ًدا بعودته أم أن األمر لم يعد ً‬
‫لقد أصبح يفكر في طريقة للتخلص من التفكير ‪!..‬‬

‫أربتت والدته على كتفه وأخرجته من تفكيره‪ ،‬الحظت شرود ذهنه‪..‬‬

‫عمر‪ ،..‬هل أنت بخير ؟!‬

‫خجوال‪ ،‬ينكس وجهه في األرض‪ ..‬ال يستطيع النظر في عيني والدته‪..‬‬


‫ً‬ ‫سكت عمر للحظات‪ ..‬بدا‬

‫سامحيني يا أمي‪ ،‬لم أقصد أن ‪..‬‬

‫قاطعته ‪..‬‬

‫ال أريد التحدث في هذا الموضوع يا عمر‪ ،‬ما حدث قد حدث وليس بمقدورنا أن نغيّر شيئًا قد حدث‪ ..‬لكننا‬
‫قادرون على التعامل معها حتى لو لم نستطع النسيان ‪!..‬‬

‫أمسحت دمعة قد هربت منها‪..‬‬

‫أنا وآسية جاهزتان‪ ..‬ال تتأخر فهم ينتظروننا أمام الفندق ‪..‬‬

‫خارجا‪ ،‬كانت تفكر في تلك الحادثة ‪ ..‬حادثة كان‬


‫هز عمر رأسه إيجابًا‪ ..‬فيما هي خرجت من الغرفة لتنتظرهما ً‬
‫ضحاياها أبنها وزوجها والسبب هو أبنها اآلخر ‪ ، !..‬هي تعلم أنه لم يقصد قتل أخيه وهذا ما جعلها تسامحه على‬
‫قليال‪ ..‬بل لو لم يقتله لكانت قد فقدت كالهما‪ ..‬كان أدهم سيقتل عمر وبذلك لن ترى‬
‫كل حال‪ ..‬حتى لو ً‬

‫‪351‬‬
‫عِ ضين‬
‫خير من أن تفقد كالهما‪ ..‬وأدهم لم‬
‫مبررا لقتل أخيه لكن أن ترى أحدهما ٌ‬
‫كالهما مرةً أخرى‪ ،‬بالتأكيد هذا ليس ً‬
‫يكن ليسمح بذلك ‪!..‬‬

‫جميعا الفندق الذي‬


‫ً‬ ‫خرجت لتنتظرهم خارج الغرفة‪ ،‬دقائق وخرجت آسية ومن بعدها عمر من الغرفة ليغادروا‬
‫حددت فيه قوات األ من أقامتهم هذا اليوم إلى أن تنتهي إحتفالية اليوم بذكرى ثورة يوليو ‪ 0958‬بعد أن تمت‬
‫دعوة عمر ليكون ضيف شرف هذه الليلة بأعتباره ذلك المجند الذي قام بخدمة وطنه بتجنيد المخابرات المصرية‬
‫جميعا السيارَة المخصصة لنقلهم إلى جامعة القاهرة حيث ستقام‬
‫له في أكثر التنظيمات األرهابية تطرفًا‪ ،‬ركبوا ً‬
‫األحتفالية هناك بحضور رئيس الجمهورية وعدد من قيادات الدولة ‪..‬‬

‫شرد ذهنه مرةً أخرى‪ ..‬هل الشهرة التي يحظى بها اآلن حقيقية أم زائفة ؟!‬

‫يوما مع المخابرات‪ ،‬ليس‬


‫أوال هي جاءت على حساب أخيه‪ ،‬أما ثانيًا فهو لم يكن عنصر أستخباراتي ولم يعمل ً‬
‫ً‬
‫إال منذ عزمه قتل عثمان‪..‬‬

‫توقف الموكب فجأة وهذا ما أخرجه من دوامة تفكيره‪ ..‬نظر لذلك المبنى القديم ذو القبة التي تُميز جامعة‬
‫ائعا‪ ..‬خاصةً عندما تكون أحد أهم ضيوف هذه‬
‫القاهرة‪ ..‬مبنى قاعة األحتفاالت الكبرى بالجامعة‪ ،‬يبدو المشهد ر ً‬
‫الليلة ‪..‬‬

‫تحركوا لداخل المبنى ومروا باإلجراءات التفتيشية األعتيادية‪..‬‬

‫جميعهم رأوا ماريان التي كانت لها األولوية لنقل أحتفاالت الليلة على التليفزيون المصري ببث مشترك مع قناة "‬
‫"‪ .." BBC Arabic‬كانت تقوم بتغطية األحداث خاصة مع‬ ‫‪،" exclusive news‬‬
‫وصول الضيوف‪..‬‬

‫كانت آسية تشعر بأنها أسعد من في العالم‪ ..‬رجوع عمر بالسالمة‪ ..‬الشهرةَ التي يحظى بها‪ ..‬كونها أصبحت من‬
‫ضا‪،‬‬
‫ومبهج‪ ،‬فجأة التفتت ليسارها بطريقة أثارت أنتباه عمر‪ ،‬التفت هو أي ً‬
‫شعور رائع ُ‬
‫الضيوف المهمة هذه الليلة‪ٌ ..‬‬
‫سألها‪..‬‬

‫‪352‬‬
‫عِ ضين‬
‫آسية‪ ،..‬أتبحثين عن أحد ؟!‬

‫عالم موازي‪ ..‬قُبض قلبها فجأ ًة‪ ..‬كانت تبدو متوترًة تبحث بين وجوه الحاضرين‬
‫لم تسمع سؤاله ألنها كانت في ٌ‬
‫عن أحدهم‪ ،‬ذلك الذي كان من المفترض أن يرعاها بعدما ماتت والدتها‪ ،‬ذلك الذي كان من المفترض أن يكون‬
‫أول من يساعدها في أزمتها‪ ،‬تساءلت‪ ..‬هل هو ح ًقا من رأته ؟!‪ ،‬ال ال مستحيل‪ ،..‬البد وأنها يُخيل إليها فقط‪..‬‬
‫لكن لماذا ؟!‪ ،‬لماذا اآلن بالذات تذكرته ؟!‪ ،‬تنبهت لعمر الذي يبدو وكأنه كان يُحدثُها وكذلك والدته التي كانت‬
‫تلتفت للمكان التي شردت آسية بذهنها ناحيته ‪..‬‬

‫سألها عمر‪..‬‬

‫آسية‪ ،..‬هل أنتي بخير ؟!‬

‫بدت آسية متوترة ‪..‬‬

‫كنت أتمنى أن تكون معي في هذه اللحظة‪..‬‬


‫نعم بخير‪ ،‬لقد تذكرت فقط والدتي ‪ُ ،!..‬‬

‫أحتضنتها والدة عمر‪ ،‬قاطعهما عمر عندما رأى أن أغلب الحاضرين يدخلون قاعة األحتفاالت‪..‬‬

‫علينا أن ندخل اآلن‪ ..‬هيا‪..‬‬

‫في غصون ربع ساعة تقريبًا كان جميع الضيوف في أماكنهم المحددة لهم‪ ،‬الجميع ينتظر قدوم الضيف األخير‬
‫واألهم في هذه الليلة‪ ..‬رئيس الجمهورية‬

‫آسية ووالدة عمر جلستا في الصفوف األولى فيما ذهب عمر مع أحد أفراد األمن لغرفة ِ‬
‫األعداد لألستعداد أللقاء‬
‫كلمة في هذه األحتفالية‪..‬‬

‫جلس في الغرفة المخصصة له لألستعداد‪ ..‬كان يشاهد على التلفاز ما يحدث على المسرح من أفتتاح لهذه‬
‫قليال‪ ،‬يبدو قل ًقا وضربات قلبه تزداد سرعة‪ ..‬ال يعرف أن كان توتره هذا طبيعي بسبب ما‬
‫الليلة‪ ..‬لكنه شرد بذهنه ً‬
‫ضا‬
‫يم له ومن الرئيس شخصيًا أم أن هناك شيئًا ما سيحدث الليلة ؟!‪ ،‬ليس من الغريب أي ً‬
‫سيحدث الليلة من تكر ٌ‬

‫‪353‬‬
‫عِ ضين‬
‫أن يشعر بعدم الراحة أو األمان‪ ..‬ما حدث معه طيلة رحلته هذه جعله يتوقع األسوأ أن يحدث حتى لو كان ما‬
‫يحدث أمامه طبيعيًا‪..‬‬

‫قاطعه أحدهم‪..‬‬

‫سيدي‪ ..‬هل أنت مستعد ؟!‬

‫هز عمر رأسه أيجابًا‪..‬‬

‫خمس دقائق وستُلقي بكلمتك أمام الجميع‪..‬‬


‫ُ‬ ‫حسنًا‪ ..‬أمامك‬

‫أغمض عينيه وعمل على تصفية ذهنه من كل شيء‪ ،‬قام من مكانه وخرج من الغرفة وقام أحدهم بتركيب‬
‫أخيرا للممر المؤدي لخشبة المسرح مباشرة‪ ،‬وقف ينتظر أشارة لدخول المسرح‪..‬‬
‫ميكروفون صغير ببدلته ووصل ً‬
‫أرخى أعصابه وأستعد أللقاء كلمته في هذه الليلة‪ ..‬سيظهر ألول مرة بالنسبة للناس منذ رجوعه من مهمته التي‬
‫ُكلف بها من المخابرات ‪ -‬حسب ما يرى الجميع ‪..-‬‬

‫حارا من الضيوف‬
‫نوعا ما‪ ،‬وبعدما لقي ترحيبًا ً‬
‫أصال‪ ..‬كانت شخصيته خجولة ً‬
‫في حياته لم يقف أب ًدا أمام جمهور ً‬
‫حاول تجنب نظرات الجميع له‪ ،‬ال يريد األرتباك‪..‬‬

‫عسكري سابق في الجيش العراقي‪ ،‬كانت ظروفه مأساوية‪ ..‬قتلوا‬


‫ٌ‬ ‫رجل عراقي‪ ..‬كان‬
‫" ‪ -‬قادتني الظروف لبيت ٌ‬
‫زوجته وتم فصله من العمل‪ ..‬قام بتربية طفلته حتى أصبحت مال ًكا‪ ..‬كان يجد قوت يومه بصعوبة وأحيانًا كثيرة ال‬
‫أصال‪..‬‬
‫يجدها ً‬

‫كنت‬
‫ثيرا‪ ،‬قادنا الحديث في النهاية إلى رسالة‪ ..‬رسالة لكم‪ ..‬للمصريين‪ ..‬لو ُ‬
‫كثيرا‪ ..‬أستمتعت بكالمه ك ً‬
‫تكلمنا ً‬
‫وعلي أن أسلمكم هذه‬
‫حيًا ووصلت لمكانةً كهذه وخدمتني الظروف ألخبركم هذه الرسالة فستكون هذه أمانة ّ‬
‫األمانة ‪..‬‬

‫يخبرني الرجل في رسالته لكم ‪..‬‬

‫‪354‬‬
‫عِ ضين‬
‫جيش قوي يحميكم‪ ..‬تنامون مرتاحين على سرائركم‪..‬‬
‫يا أهل مصر‪ ..‬أنتم لم تدركوا النعمةَ التي بين أيديكم‪ٌ ..‬‬
‫حادث أرهابي كل‬
‫ٌ‬ ‫تتعلمون وتتسوقون‪ ..‬تأكلون وتشربون‪ ..‬تلبسون وتفرحون في األعياد‪ ..‬تحزنون لو حدث‬
‫نحن‪ ..‬ميتون ورغم ذلك نخاف‬
‫حين‪ ..‬على كل حال أنتم على قيد الحياة وتُطبق عليكم قوانين الحياة‪ ،‬أما ُ‬
‫اض منتشرةَ‬
‫الموت كل يوم ‪ ،!..‬تفجيرات ومذابح كل يوم‪ ..‬ال طعامٌ هنا وال ماء إال ما يأتينا من مساعدات‪ ..‬أمر ٌ‬
‫تعليم هنا ‪ ...‬ال أمن وال أمان‪..‬‬
‫هنا وال عالج يوقف هذا المرض‪ ..‬ال ٌ‬

‫عرض ربما تقبلون به‪ ..‬ماذا لو أعطيتمونا جيشكم مقابل ما تطلبوه منا‪ ..‬مقابل أعز ما نملك ؟!‪ ،‬رغم أننا ال‬
‫لدي ٌ‬
‫أصال لنبادلكم به جيشكم‪..‬‬
‫نملك شيئًا ً‬

‫ربما كانت أمنية كل عراقي أن يمتلك جي ًشا مثل جيشكم لكن ليست كل األماني تتحقق‪..‬‬

‫ٍ‬
‫جيوش قوية ولكن لم يتبقى منها سوى جيشكم‪ ..‬أنتقدو جيشكم كيفما شئتم‬ ‫كانت منطقتنُا هذه تقوم على ثالثة‬
‫لكن ال تفككوه أو تدمروه أرجوكم ‪..‬‬

‫أدعمو جيشكم وال تسمحوا لمن يعرف قيمة جيشكم جي ًدا أن يفككه عبركم أو من خاللكم‪..‬‬

‫ال تُخطئِوا مثل خطأنا نحن‪ ..‬نحن أسقطنا جيشنا بأيدينا في سبيل الحرية‪ ..‬وها نحن ندفع ثمن حريتنا تلك ‪..‬‬

‫سأدعو اهلل أن يحفظكم من كل سوء ‪..‬‬

‫سكت عمر للحظات ‪...‬‬

‫‪ ... -‬وهذه كانت رسالة هذا الرجل أليكم‪ ،‬الرجل الذي فقد زوجته وأبنته في حادثتين مأساويتين‪ ..‬رحمهن اهلل‬
‫وصبّره اهلل على ما باله‪ ،..‬ال أعرف أن كان يشاهدني اآلن أم ال‪ ،‬ال أعلم إن كان حيًا أم فارق الحياة هو اآلخر‪..‬‬
‫هناك من تقابله لمرةٍ واحدةٍ فقط في حياتك لكنه يعلق بذهنك للدرجة التي تجعلك تتمنى لو تقابله مرًة أخرى ‪.‬‬

‫سكت للحظات قليلة‪ ،‬لكنه عاد ليختم خطابه ‪..‬‬

‫‪355‬‬
‫عِ ضين‬
‫كالما آخر ألقوله بعد رسالة هذا الرجل‪ ،‬أتمنى فقط أن تتأملوا كالمه‪ ،‬والسالم عليكم ورحمة اهلل‬
‫لم يعد لي ً‬
‫وبركاته‪" ..‬‬

‫أنتهى من خطابه القصير ثم أبتعد بضع خطوات عن المنصة وسط تصفي ٌق حار من الجمهور في القاعة‪ ،‬كان‬
‫شخص آخر وبيده علبة زرقاء مفتوحة ‪ ...‬قالدة النيل‪..‬‬
‫ٌ‬ ‫الرئيس قد قام من مكانه وصعد المسرح وتبعه‬

‫وقف عمر مكانه يستشعر هيبة أقتراب الرئيس منه‪ ،..‬فجأة عاوده شعور القلق مرةً أخرى‪ ..‬يشعر بأنقباض قلبه‪..‬‬
‫شرد بذهنه لثواني قليلة‪ ..‬لماذا شعر بذلك فجأة‪ ..‬لقد تجاوز شعور أن يقف أمام جميع قيادات الدولة بما فيهم‬
‫الرئيس نفسه مخاطبًا‪ ..‬فماذا حدث أذن ؟!‪ ،‬لكنه عاد وأصطنع أبتسامة تُنسيه فقط ذلك الشعور على األقل في‬
‫ضا تجاه الرئيس ‪ ،..‬الرئيس بنفسه‬
‫اللحظات القليلة القادمة‪ ..‬أقترب الرئيس منه وبيده القالدة‪ ..‬تحرك هو أي ً‬
‫سيقلّده أعلى وسام في البالد‪ ..‬ما رآه في رحلته تلك جعله يتنبأ بما كل هو ٍ‬
‫سيء آت ‪..‬‬

‫بعد أن تم تقليده قالدة النيل ابتعد خطوتين عن الرئيس ثم تذكر أن سلم المسرح في الجهة األخرى فالتفت ومر‬
‫دم تناثر فجأة على وجه الرئيس ‪!..‬‬
‫أمام الرئيس‪ ..‬ولكن ‪ ...‬لكن‪ ،..‬لكن ال شيء بعدها إال ٌ‬

‫فزع الرئيس عندما وجد تلك الدماء على وجهه‪ ..‬مال جسد عمر عليه فجأة‪ ،‬لقد قُتل عمر في لحظة‪ ..‬وقبل أن‬
‫فورا ‪...‬‬
‫يقع الرئيس به كان الحرس الخاص به قد أحاط به ويحاولون حمايته والخروج من المكان ً‬

‫************‬

‫المكان حولها مضطرب‪ ..‬الجميع يجري هنا وهناك في فزع‪ ..‬األضطراب والذعر والخوف يسيطرون على‬
‫المكان‪..‬‬

‫إال هي‪ ..‬ما زالت تجلس على كرسيها محدقة بعينيها على عمر الذي قُتل لتوه‪ ،‬لم تستوعب األمر بعد ‪..‬لم تهنئ‬
‫مجددا يذهب بهذه السهولة ؟!‬
‫ً‬ ‫كثيرا‪ ،‬بعد كل هذا الغياب وبعد أن يلتقيا‬
‫به ً‬

‫‪356‬‬
‫عِ ضين‬
‫قامت من مكانها متجهة نحوه‪ ..‬تخطو الخطوة تلو األخرى في أرتباك وعيناها مثبتتان على زوجها الميت على‬
‫المسرح‪ ..‬ال ت سمع وال ترى غيره‪ ،‬عيناها تفيض بدموع الحسرة واأللم‪ ،‬صعدت سلم المسرح وتوجهت نحوه‪..‬‬
‫أمر ما‪،..‬‬
‫جثت على ركبتيها بجانبه‪ ..‬وضعت رأسها على صدره‪ ..‬أدركت أنه ليس هناك نبض‪ ،‬خطر على بالها ٌ‬
‫عندما ألتحق عمر بالجيش أول مرة أختفى أخيه فجأة وأستمر أختفاؤه إلى أن أتضح في النهاية أنه ألتحق بتنظيم‬
‫أرهابي ‪ ،!..‬كذلك األمر مع أخيها‪ ..‬سافر ليعمل بقطر لكنه لم يظهر بعدها والشركة التي كان يعمل بها هنا في‬
‫مصر أخلت مسؤليتها عنه بعدما أستمر غيابه من فرع الشركة في دولة قطر‪ ..‬أختفى منذ تلك اللحظة لكنها ظنت‬
‫أنها تخيلت أنها قد رأته اليوم‪ ،‬لكن يبدو أن الحقيقةُ واضحة‪ ..‬أخوها يوسف يعمل مع تلك الجماعة األرهابية‬
‫مثلما عمل أخو عمر‪ ..‬التفتت لعمر وهي تحدثه وتهمس له كأنه مازال حيًا ‪...‬‬

‫هو من قتلك‪ ،..‬لم أصدق نفسي حين لمحته اليوم‪ ،‬ظننتي أهلوس أو فقط أتخيل ‪!..‬‬

‫تساءلت‪..‬‬

‫أخوك وأخي ضدك‪..‬‬


‫‪ ..‬لماذا فعل هذا بك ؟! لماذا قتلك ياعمر؟!‪ ،‬لماذا أنت بالذات ؟‪ ..‬لقد تآمر َ‬

‫رفعت رأسها ونظرت لوجهه وعيناها غرقت بالدموع ‪..‬‬

‫صدقني ليس هناك حياةً بعدك‪ ..‬لن يطول األمر حتى ألحق بك‪ ..‬سأالحقك أينما ذهبت‪ ..‬لن أتحرك من مكاني‬
‫هنا حتى تأخذني معك‪ ..‬لن أبقى هنا لوحدي ‪ ،!..‬أتفهم ؟! لن أبقى هنا وحدي ‪..‬‬

‫أنفجار آخر يهز المكان بعنف وجزء من السقف يقع هذه المرة‪ ..‬لقد وقع السقف عليهما وحصيلة القتلى تزداد‬
‫ٌ‬
‫نفرا‪ ..‬لقد رحلت آسية كذلك ‪!..‬‬
‫ً‬

‫" قبل لحظات "‬

‫‪357‬‬
‫عِ ضين‬
‫كان ضمن الفريق األمني المسؤول عن تنظيم الحفل داخل قاعة األحتفاالت الكبرى‪ ،..‬كان يقوم بتوجيه الضيوف‬
‫صعق عندما رأى أخته تنزل من سيارةٍ خاصة بنقل‬ ‫من الصالة الرئيسية لمكانهم المحدد داخل القاعة‪ ،‬لكنه ُ‬
‫صاحب الفيديو الشهير " عمر"‪ ..‬كان يعلم أنه قد تزوجها وكان يساعدها لتجاوز أزمتها لكنه لم يعلم أنها قد‬
‫تعافيت ولم يتوقع كذلك حضورها الليلة‪ ..‬ظن أن الدعوة أقتصرت على عمر فقط ‪ ،!..‬لكن ال يبدو األمر‬
‫ضا لديه تعليمات بتنفيذ مهمته الليلة وفي اللحظة المناسبة سيبدأ هو تلك الليلة الكارثية‪ ،‬حاول‬
‫كذلك‪ ..‬لكنه أي ً‬
‫أن يتوارى عن األنظار سر ًيعا قبل أن تالحظه آسية‪..‬‬

‫وفي أحد الممرات الفرعية للصالة الرئيسية وقف يوسف مستن ًدا على الحائط‪ ..‬رجع بذاكرته للوراء‪..‬‬

‫" كانت تجلس في الصيدلية معه‪ ..‬تُذاكر محاضراتها األخيرة‪ ،‬أو هكذا بدا له في البداية‪ ..‬الغريب أنه كان يتابعها‬
‫بتركيز‪ ..‬لحظات تشرد بذهنها ثم تعاود لقراءة ما بيدها من ورق فتشرد مرةً أخرى وتبتسم كل حين ثم تعود لتنظر‬
‫في أوراقها ‪..‬‬

‫ما الذي يشغل بال أميرتي ؟!‬

‫التفتت إليه آسية‪ ،‬تعجبت من سؤاله ‪..‬‬

‫ال شيء‪ ..‬هناك مسائل صعبة في مادة األحصاء أحاول أيجاد ٍ‬


‫حلول لها ‪..‬‬

‫ِ‬
‫تجعلك تبتسمين هكذا ؟!‬ ‫و هل هذه المسائل هي من‬

‫أحمر وجهها فجأة حاولت أنكار هذا ‪..‬‬

‫طبعا‪..‬‬
‫ابتسم ؟!‪ ،‬ال‪ ..‬لم أقصد هذا ً‬

‫أخبر ِك أن المسألة الصعبة التي لم تجدي لها ً‬


‫حال هي مسألة عاطفية‪ ،‬وغالبًا أنتي تفكرين في‬ ‫حسنًا‪ ..‬دعيني ُ‬
‫ِ‬
‫ألخبرك بحلها‪ ،..‬أليس كذلك‪ ..‬؟!‬ ‫الطريقةَ المناسبة ألخباري بهذه المسألة الصعبة‬

‫‪358‬‬
‫عِ ضين‬
‫خجال‪ ،‬خفضت رأسها‬
‫توترت بخجل‪ ..‬تنظر لعينيه ثم تبعدهما‪ ،‬لم تتحمل نظراته‪ ،..‬ابتسمت وأحمر وجهها ً‬
‫بخجل ثم نظرت إليه مرةً أخرى لتجده مازال يحدق بها ‪..‬‬

‫ماذا‪ ..‬؟!‬

‫أنتظر لتخبريني بالمسألة‪..‬‬

‫ساد الصمت المكان للحظات طويلة ثم همت ِ‬


‫بأخباره ‪..‬‬

‫قابلت ‪...‬‬
‫ُ‬ ‫في الجامعة‬

‫دخل شخص الصيدلة فجأة‪ ،‬آخر شخص كانت تتوقع أن يأتي لهذا المكان‪ ..‬عمر‪ ..‬أتسعت عيناها من المفاجأة‬
‫وظلت محدقةً به لثواني‪..‬‬

‫كان األمر طبيعيًا بالنسبة ألخيها لذلك كان بديهيًا أن يفهم أن هذا هو الشخص الذي كانت ستتكلم عنه اآلن‪..‬‬
‫واضحا‪ ،‬فبعد صدمة رؤيته فجأة ظلت تلتفت برأسها ما بين عمر وأخيها‪ ،‬نظر أخوها لألوراق التي‬
‫ً‬ ‫أرتباكها كان‬
‫أمامه وكأنه لم يفهم شيئًا ‪..‬‬

‫أعطى عمر روشتة آلسية ‪..‬‬

‫أريد صرف هذه الروشتة من فضلِك ‪..‬‬

‫قالها وقد أرتسمت أبتسامة ماكرة على وجهه‪ ،‬قرأت الروشتة وتحركت بأرتباك لصرفها‪ ،..‬عمر يقف مكانه وهو‬
‫يتأمل أرتباكها‪ ، ..‬صرفت له الروشتة كما علمها أخوها وأنصرف عمر‪ ،‬ظلت للحظات بعدها جالسة والصمت‬
‫ضا‪..‬‬
‫يُخيم على المكان أي ً‬

‫علينا أن نكمل كالمنا‪ ،‬ماذا كنتي ستقولين ؟!‬

‫التفتت إليه بتوت ٍر جعلها تجمع أوراقها ‪..‬‬

‫‪359‬‬
‫عِ ضين‬
‫حاال والتركيز جي ًدا‪..‬‬
‫علي الذهاب للبيت ً‬
‫والمذاكرة كثيرة‪ّ ،‬‬
‫أعذرني يا يوسف‪ ..‬لقد أكتشفت أن الوقت ضيق ُ‬
‫سالم ‪.‬‬

‫غادرت بسرعة حتى دون أن تنتظر رده ‪" ...‬‬

‫عاد لواقعه من جديد بعدما تعالت األصوات من حوله بعد وصول موكب الرئيس أمام مبنى القاعة ‪ ،!..‬تحرك‬
‫المطلة على القاعة من الداخل‪ ..‬كان يقف‬
‫جزءا بسيطًا من النافذة ُ‬
‫بسرعة ناحية غرفةً ما‪ ..‬كانت مظلمة‪ ،‬فتح ً‬
‫جهز سالحه ووضع ماسورة السالح على قاعدة‬
‫أمامها رجلي أمن المسافة بينهما محددة كما هو مخطط له‪ّ ،‬‬
‫النافذة مصوبًا فوهته ناحية الفتحةَ الصغيرة التي يُبقيها الرجالن بينهما ليطلق يوسف رصاصته‪ ،..‬بعد وصول‬
‫الرئيس وجلوسه في المكان المخصص له خرج عمر وألقى تلك الكلمة األفتتاحية لهذه الليلة ‪..‬‬

‫كان ينتظر لحظة بعينها لتكتمل مهمته هذه الليلة‪ ..‬ال يريد أن يكون الهدف متحرًكا‪ ..‬األفضل يكون ثابتًا ولو‬
‫للحظةً واحدةً فقط لتفادي أي خطأ يمكن أن يحدث على سبيل الصدفة حتى‪ ،‬ضبط سالحه وتحرك بعدسة‬
‫السالح مع الهدف وتبعه حالما يقف ويثبت للحظة ثم يطلق الرصاصة‪ ..‬الخطأ ممنوع‪ ،‬يريد هو بذاته أن ينال‬
‫شرف أغتياله‪ ،‬ضغط على السماعة التي في أذنه وهمس فيها ‪..‬‬

‫أنا جاهز تقريبًا ‪ ...‬ثواني قليلة وستُنفذ المهمة‪ ،‬أستعدوا أنتم كذلك‪..‬‬

‫تحدث في نفسه ريثما يثبت هدفه ‪..‬‬

‫ِ‬
‫ظننتك عاجزة ولن تستطيعي الحضور‪،‬‬ ‫آسف يا عزيزتي‪ ،‬سامحيني يا آسية‪ ..‬لم أعلم ِ‬
‫أنك ستحضرين حفلة الليلة‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫خيارا آخر وال وقت لدي لتحذيرك ‪..‬‬
‫لكنني لن أفوت هذه الفرصة أب ًدا‪ ،‬آسف لم تتركي لي ً‬

‫أرتسمت أبتسامة ماكرة علي وجهه‪..‬‬

‫فلنبدأ أحتفاالت الليلة يا سادة ‪!..‬‬

‫‪361‬‬
‫عِ ضين‬
‫ِ‬
‫اللحظة‬ ‫تماما‪ ..‬ها هي‬
‫المخطط له‪ ..‬كان صليب الكالشنكوف على رأسه ً‬ ‫أخيرا في المكان ُ‬
‫توقف الرئيس ً‬
‫المناسبة‪ ،‬ضغط على الزناد وخرجت الرصاصة وأصابت الرئي ـ ! لكن ماذا حدث؟!! كارثة‪ ،‬الرصاصة لم تصيب‬
‫أوال وهذا‬
‫الهدف‪ ،‬تحرك عمر فجأة عندما أحتضن الرئيس فجأةً وأصابته الرصاصة‪ ،‬كان من المفترض أن يتصافحا ً‬
‫ٍ‬
‫بخطوات سريعة ووضعها في حقيبة‬ ‫يعطيه الوقت الكافي ألصابة هدفه بنجاح‪ ..‬استدرك خطأه بسرعة وفك سالحه‬
‫وخرج متخفيًا وسط الصخب الذي يحدث بالخارج‪..‬‬

‫لم يقتصر األمر على مقتل عمر أو استهداف الرئيس‪ ..‬حدوث سلسلة أنفجارات بعد ذلك‪ ..‬أنفجاران هدما‬
‫تماما وأنفجارات أخرى طالت الصالة الرئيسية والباب الرئيسي للمبنى‪ ..‬أنفجارات خلفت ورائها عشرات‬
‫القاعة ً‬
‫الضحايا‪ ..‬كل هذا فقط ألستهداف الرئيس‪..‬‬

‫عمر كان الضحيةَ األولى هذه الليلة‪ ، ..‬والدته لم تتحمل فقدان أخر فرد في عائلتها وتوفيت بسكتة قلبية‪ ،‬آسية‬
‫التي أصرت على اللحاق بعمر‪ ،..‬ماريان التي أنهدمت عليها البوابة الرئيسية بعد أنفجار هز المبنى كله رحلت هي‬
‫األخرى‪..‬‬

‫دين له"‬
‫روجوا دائما لمقولة "األرهاب ال َ‬
‫لم تكن تلك نهايةً مرغوبةً فيها‪ ،‬لكن هذا هو األرهاب األسود اللعين‪ّ ،‬‬
‫غير ذلك‪ ..‬لألرهاب دين‪ ..‬دين الحقد والكراهية‪ ..‬القتل والدمار‪ ..‬التطرف والكذب والخداع‪..‬‬ ‫لكن الحقيقة ُ‬
‫الخراب والظلم والفتن‪ ..‬لقد صنعوا دينهم بأيديهم! دينًا جدي ًدا‪ ..‬دين األرهاب‪..‬‬

‫تلك نهايةً محتومة‪...‬‬

‫تمت‬

‫‪8102/0/30‬‬

‫‪361‬‬
‫عِ ضين‬
‫‪362‬‬
‫عِ ضين‬

You might also like