Professional Documents
Culture Documents
Untitled
Untitled
مروان منير
ﻟﻠﻨﺸـــــــﺮ واﻟﺘـــــــﻮزﻳﻊ
عاشقة الظالم
ﻟﻠﻨﺸـــــــﺮ واﻟﺘـــــــﻮزﻳﻊ
مروان منير
دار سما للنشر والتوزيع
جمهورية مصر العربية
15ش يوسف الجندي متفرع من شارع البستان -باب اللوق -القاهرة
تليفون+2 01271919100 - +202 24517300 :
emil: samanasher@yahoo.com الطبعة األولى :يناير
publishing@sama-publishing.com 1440هـ 2019 -م
التنفيذ الفني
5
قابعا يف
األزرق عىل كتفيها يف وسط حجرهتا الصغرية املرتبة ..حيث كل يشء ً
مكانه بال حراك منذ زمن طويل ..رفعت يدهيا إىل وجهها تتحسسه ..مرت
بأطراف أصابعها عىل خطوط مائلة ومستقيمة يف جبهتها وبعض اخلطوط
حول عينيها..
تنهدت بعد نفس عميق ..تنهدت ثانية بعمق ..وغاصت بذاكرهتا إىل
سنوات طويلة مضت ..ذهبت بذاكرهتا أكثر وأكثر إىل مايض ..عربت به
عرشات السنني..
تذكر ذات مرة أن رآها أحد الشعراء عندما كانت تتجول يف معرض
ملقيا عليها بي ًتا من الشعر..
للكتاب لرشاء بعض الكتب فاستوقفها ً
بنية ..بنية الشعر ..بنية العينني
6
صباحا ..فقد
ً سمعت صوت ساعة يدها الناطقة ..الساعة اآلن العارشة
منحتها مجعية "بصرييت" لرعاية املكفوفني هذه الساعة لتعينها عىل التعرف عىل
هنارا من ليل..
الوقت حيث فقدت برصها منذ سنوات مضت ..فال تعرف ً
غري مدركة هل النوافذ مفتوحة أم مغلقة ..فهذه الساعة تعينها عىل التعرف
بدل من االنتظار لتسأل عن الوقت وتنتظر اإلجابة ..يا له منعىل الوقت ً
كثريا..
اخرتاع مذهل ..سهل عليها متاعب احلياة ً
اعتادت نورا عىل احلياة بعيون مفتوحة لكن ال تعمل ..يمكننا القول
اهنا عيون ديكور ..مجيلة واسعة بنية اللون ..جذابة تسحر الناظر إليها لكن
لألسف عينان ال تعمل ..فقدت قدرهتا عىل نقل الصور إىل املخ ..فيأيت هذا
اجلهاز الرائع ..الساعة الناطقة لتخربها بالوقت وقتام أرادت بمجرد ضغطة
زر ..فتسمع أمجل صوت حمبب إىل نفسها «الساعة اآلن ".....
صباحا يف شهر نوفمرب ..أمجل شهور
ً بعد أن عرفت أهنا الساعة العارشة
اخلريف املحببة إىل قلب نورا ..سارت ببطء بني قطع األثاث القليلة يف غرفتها
ً
ودائم ما تطلب من املحببة إىل نفسها فهي تعرف مكان كل قطعة بالتحديد
عطيات مسئولة النظافة والرتتيب أال حترك أي قطعة من مكاهنا وإن أرادت
حتريكها للتنظيف او مسح األرض من حتتها ..أن تعيدها إىل مكاهنا بالتحديد..
سارت ببطء وبابتسامة عىل شفتاها الورديتان إىل النافذة..
رفعت يدهيا وامسكت باملقبض وأدارته جهة اليمني فإذا بالنافذة تفتح
بقوة من شدة اهلواء البارد النقي ..نسمة من اهلواء اللطيف البارد دفع شعر
نفسا عميقًا مع
نورا إىل اخللف ويف كل اجتاه ..فتحت نورا رئتيها وأخذت ً
7
ابتسامة أمجل من ذي قبل ..وشي ًئا فشي ًئا ..سافرت بذاكرهتا عرب الزمن ..مخسة
وعرشون عا ًما للوراء ..عندما كانت يف أوج شباهبا يف الثانية والعرشين من
عمرها..
تذكر كل ما مر هبا ومرت به كأنه حدث باألمس حيث كانت تقف أمام
نافذة حجرهتا يف شهر نوفمرب ..فصل اخلريف ما أمجله والنافذة مفتوحة..
هيب من خالهلا هواء بارد نقي منعش ..يتالعب بشعرها فيحركه يف كل اجتاه..
تغمض نورا عينيها وتستنشق اهلواء بأكرب كمية تستطيع أن متأل هبا رئتيها..
فتشم عبري زهور مجيلة ..ما أمجل هذه األيام حيث امتت الثانية والعرشون..
سمعت طر ًقا عىل الباب ..قالت :اتفضل ..فإذا بأمها ..كريمة ..أم طيبة
حنون ..تعشق البيت وتربية األوالد ..واإلخالص إىل زوجها العميد متقاعد:
فؤاد صادق ..أب حنون لولد« ..رشيف» طالب باألكاديمية البحرية ..وبنت
رائعة يف مجال الشكل واخللق ..نورا ..خترجت يف كلية الفنون اجلميلة ..تعشق
الفنون بجميع أنواعها ..من رسم ،وموسيقى ،وشعر ،ونحت..
صباح اخلري يا نورا ..قالت مدام كريمة ..تعايل اإلفطار جاهز..
ذهبت نورا فألقت حتية الصباح عىل أباها الذي تعشقه وحترتمه إىل حد
كبري ليس فقط لكونه األب احلنون ولكن ملا قام به من خدمات جليلة إىل مرص
ً
ضابطا يف اجليش وحتديدً ا يف حرب أكتوبر.. إبان كان
هنض األب ..وطبع قبلة عىل جبني نورا وسأهلا بابتسامة حنون عام سوف
تفعله اليوم ..بعدما ترك اجلريدة التي كان ينهمك يف قراءهتا ..أجابته نورا
أهنا ليس لدهيا الكثري لتفعله ..سوف تذهب للنادي للدوران حول الرتاك..
8
وبعدها تشرتي بعض األلوان وأدوات الرسم ..ثم تعود إىل البيت عىل موعد
الغداء ..وبينام هي تتحدث فإذا برشيف يربت عىل كتفها يف حنان ً
قائل..
صباح اخلري يا بابا ..صباح اخلري يا نورا ..مل أرك منذ بضعة أيام ..حيث كنت
وكنت ِ
أنت نائمة.. ِ يف األكاديمية يف االسكندرية وعدت باألمس ً
ليل
جتمعوا حول مائدة اإلفطار يف حجرة السفرة يف البيت املكون من ثالث
غرف به أثاث أنيق ولكن قديم بعض اليشء ..تبادلوا األحاديث اخلفيفة وإذا
بنورا تنظر إىل ابيها قائلة« ..ممكن يا سيادة العميد حتكلينا عن موضوع خطة
اخلداع التي سبقت احلرب إبان كنت ضابط صغري برتبة مالزم أول»..
نظر األب وشاح بوجهه بعيدً ا وغاص وأمعن النظر إىل السقف ..رسح
بذاكرته ..يتذكر تفاصيل وكأهنا جتري أمام عينيه كرشيط سينامئي ..وتنهد
تنهيدة عميقة ً
قائل:
"آه يا نورا ..لو تعلمون كيف لعبت املخابرات احلربية ،واملخابرات
العامة ،ورئاسة اجلمهورية والصحافة واإلعالم من دور عظيم يف خداع العدو
واإلحياء إىل قيادته وإهيامهم بعدم قدرة جيشنا وال قيادتنا وال اقتصادنا عىل
حتمل ويالت احلرب أو الدخول حتى يف مناوشات..
نادرا
فالتفاصيل كثرية ..وقد لعب الرئيس السادات اللعبة بدهاء وذكاء ً
ما يتكرر مثله..
أسهب العميد فؤاد صادق يف رسد وحكي كثري من التفاصيل عن خطة
اخلداع وكيف إن العدو الصهيوين قد بلع الطعم ..وحتقق اهلدف ..وجاءت
رضبة البداية بدون االستعداد الكامل من قبل جيش العدو املحتل..
9
ً
منهمكا يف األكل وبني كل كانت نورا تسمع باهتامم ..بينام كان رشيف
فرتة وأخرى يقول ألمه «تسلم إيدك» أنا حمروم طوال األسبوع من أكلك
احللو ده ..باستنى العودة يوم اإلجازة األسبوعية ألتذوق من عمل يديك
أحىل أنواع الطعام..
استعدت نورا بمالبس رياضية خفيفة وتوجهت إىل النادي ..ذهبت
إىل املمشى «الرتاك» ..وبدأت يف العد ..فهي تريد أن تلف حول الرتاك مخسة
مرات ..وإن استطاعت أن تزيد فسوف تفعل..
ارتدت سامعة املوسيقى وأكدت عىل ربط حذائها وبدأت امليش..
أهنت اللفة األويل والثانية ويف الثالثة بدأت تشعر بالتعب وإذا هبا
تتعثر وتسقط عىل األرض ..امتدت إليها يدان لتحمي رأسها قبل أن ترتطم
باألرض الصلبة فتجرح أو تنزف ..يدان ظهرهتا من حيث ال تدري وكأن
السامء أو العناية اإلهلية أرسلتها لتحميها وتلتقطها قبل أن تصاب يف رأسها..
استمعت لكلامت مثل «حرضتك كويسة ..ألف سالمة ..عىل مهلك..
جاءت سليمة ..قدر ولطف»..
ساعدها بعض األشخاص حتى أجلسوها عىل أقرب مقعد يف حديقة
مرسعا بكوب بارد من املياه ..
ً النادي وجاءها النادل
فتحت عيناها لرتى وجهه ..وجه ضخم ذو برشة سمراء ..رقبة عريضة
..عضالت يف أماكن متفرقة من جسمه ..يشبه املصارعني املشهورين يف
واضحا
ً التلفاز ..كان ينظر إليها يف خوف حقيقي وهلفة وقلق ..رأت كل هذا
10
جليا يف عينيه ..ابتسمت ابتسامة خفيفة كي يطمئن من جتمعوا حوهلا قائلة
ً
«ماتقلقوش أنا احلمد هلل بخري»..
مستمرا يف هلفة
ً قابعا يف مكانه
انفض اجلمع من حوهلا ما عداه ..ظل ً
وقلق ً
قائل «هل يل أن أكون بجانبك أو أن أقوم بإيصالك إىل أي مكان»
شعرت نورا بالشفقة عليه بسبب رد فعله امليلء بالقلق والرعب عليها
بالرغم أنه ال يعرفها ومل يسبق هلام التعارف مسبقًا..
حاولت النهوض ولكنها ماتزال تشعر ببعض الدوار ..تشعر بحرارة
حاجزا للرؤية..
ً الشمس وحاولت النظر أمامها لكن عضالته شكلت
***
11
جميبا ..فكان هناك من
دق جرس التليفون ..التقط العميد فؤاد السامعة ً
يسأل عن رشيف ..حرض رشيف وكان حيادث أحد أصدقاءه لكي يقوموا
برتتيب لقاء الشلة ..شلة رشيف حيث اعتادوا أن يلتقوا يف عطلة هناية
االسبوع منذ أن التحق رشيف باألكاديمية البحرية..
أهنى رشيف املكاملة واجته إىل املطبخ حيث أمه منهمكة يف إعداد مجيع
األصناف التي حيبها رشيف ..فدخل إىل أمه كي يراجع معها لستة الطعام،
وأهنا لن تنسى شي ًئا مما حيبه وينتظر العودة للمنزل اللتهام الطعام البيتي الذي
ال يعىل عليه..
***
12
تناولت نورا رشفة من عصري الليمون بالنعناع املثلج املنعش ..وهي
تستمع لذلك الشاب ذو العضالت ..لكن يبدو من نظرة عينيه أهنا ال تعرب عن
شكل جسده املنفوخ بعضالت يف كل مكان ..جسد مرعب بعينني رقيقتني
حتمل نظرة حانية ..وإذا به يتكلم بصوت رقيق مهذب ال يعرب ً
أيضا عن ما
ترى عيناها من جسد هائل احلجم..
وبعبارات مهذبة قال« :هل حرضتك بخري ..بامذا تشعرين اآلن هل يل
أن استدعي الطبيب ..أو أن أبلغ أحدً ا من أفراد ارستك ..ماذا عساي أن أفعل
أو أقدم لك من خدمات..
ابتسمت نورا يف تعجب وهي ال تزال غري قادرة عىل استيعاب حجم
عضالته مع نظرات عينيه احلنونتان ونربة صوته الدافئ امليلء باالهتامم فقالت:
اطمئن ..أنا بخري ..كم أود أن اشكرك عىل كل ما قدمته يل من رعاية أنا كنت
اشعر بام حيدث حويل حتى وإن كانتا عيناي مغلقتان ..احرضت يل كرسيا..
لدي «الليمون بالنعناع» كيف
وظللت بجانبي واحرضت يل العصري املفضل ّ
أمس احلاجة لرشفة أو رشفات من ذاك املرشوب
عرفت أين أحبه وأين كنت يف ّ
املنعش..
13
ابتسم يف خجل ً
قائل" أنا مل أفعل إال الواجب ..وأي شخص يف مكاين
مصافحا نورا ً
قائل :أنا ً كان فعل أكثر ..اسمحي يل أن أقدم نفيس ..ما ًدا يده
ماجد حمروس
ردت نورا وهي تردد هذا االسم يف رسها «ماجد حمروس» قائلة:
أنا نورا ..نورا فؤاد ..عضوة يف النادي وال أمارس إال رياضة امليش..
وأنت أي رياضة عنيفة متارس..
ابتسم ماجد ..وملا رياضة عنيفة حتديدً ا..؟؟!! دارت نورا بعينيها متجولة
ومشرية إىل عضالته املنترشة يف انحاء جسده الفارع..
"أبعد كل هذا وال متارس رياضة عنيفة..؟!"
قال :لك كل احلق أنا ألعب كامل أجسام ورفع أثقال ..ومنذ ذلك اليوم..
بدأ عهد جديد يف حياة نورا ..حيث استمرت يف مواعدة ومقابلة ماجد مرتني
يف االسبوع ثم اصبحت ثالثة مرات إىل أن اصبحا يلتقيان تقريبا كل يوم..
أخذ العميد فؤاد رشفة من قهوته الرتكية حيث اعتاد من عرشات السنني
ان يرشهبا من يد كريمة بعد أن يشرتي البن املحوج من حمالت البن الربازييل
حيث أنه زبون دائم هناك وقد ورث حب رشب القهوة عن أبيه األستاذ صادق
رمحة اهلل عليه فعلم أرسار حتويج القهوة وأنواعها وأماكن زراعتها والفرق بني
البن اليمني ،واألثيويب ،والربازييل ،والكيني ،واالندونييس ..وكيفية عمل
القهوة عىل الطريقة اإليطالية ،الفرنسية ،أو املرصية – الرتكية..
تذكر كيف كان والده يرشح له كل املعلومات عن القهوة وحبه وعشقه
رسيعا ليكون ً
رجل ويستطيع ً هلا منذ طفولته وكم اشتاقت نفسه أن متر السنني
14
ممنوعا يف طفولته عن
ً تذوق هذا املرشوب داكن اللون العجيب ..حيث كان
رشب القهوة..
ومع الرشفة الثانية بدأ العميد فؤاد يف كتابة بعض صفحات أخرى يف
أجندة خاصة قرر فيها منذ زمن أن يكتب مذكراته ..وكانت هذه املذكرات
خاوية من أي يشء يذكر خارج احلياة العسكرية ..فقد كتب بعض الصفحات
القليلة عن نشأته وأرسته ثم رشع عىل الفور يف رسد بدايته احلقيقة لتكوين
شخصيته والتي بدأت مع اختاذه قرار التحاقه بالكلية احلربية قبيل امتحانات
الثانوية العامة بأسابيع قليلة..
مل يكن العميد فؤاد أو نورا يدركان أن هذه املذكرات سوف يكون هلا
األثر البالغ وحتويل مسار حياة نورا ..وتكون هلا عونًا وسندً ا يف مواجهة ما
ختوضه من تقلبات الزمان..
يف إحدى املقابالت يف النادي بني «نورا» و «ماجد» أبو عضالت ..هكذا
كانت تسميه «مروة» صديقة نورا ..حيث تعرفت عليها نورا خالل إحدى
الرحالت اجلامعية ..بعدها صارتا صديقتان رغم فارق املستوى املادي
واالجتامعي وألن مروة ليست عضوة يف النادي كانت تذهب بصحبة نورا..
أخذ ماجد يرتدد ويتلعثم يف الكالم وكأنه يبحث عن بعض مجل تائهة
يف خضم زحام األفكار املليئة هبا رأسها ..ونورا تنظر إليه نظرة املنتظر لسامع
نتيجة امتحانه..
أخريا استجمع قواه وقال :نورا ..أنا كلمت ماما عنك ..وهي حابة
ً
تشوفك وتتعرف عليك ..فسكتت نورا ما بني فرح وقلق ..فرح ألنه بدأ
15
يف اختاذ خطوات جادة نحو طفو عالقتهام عىل سطح نظرة املجتمع ..وقلق
مشوب باخلوف من تلك املقابلة..
هل تنال اعجاهبا وكيف خترب أباها بذلك وتستأذنه ..وماذا ترتدي..
وهل تأخذ معها هدية أم ورد أم علبة حلوى ..وهل حقيقي هناك أم يف املنزل
كثريا يف مسلسالت وأفالم التليفزيون..
أم ماذا؟؟ فهي رأت تلك األالعيب ً
عرشات االسئلة تتالحق وتدور يف رأسها ..استفاقت عىل صوت «ماجد»
يقول :أنا كلمتها عنك كثريا وهي أحبتك من كالمي قبل أن ِ
تراك ..فهي منذ ً
زمن بعيد دائمة احلديث واللح يف الطلب أن اتزوج ويكون هلا أحفاد ..فبعد
تقريبا
ً أن تزوجت أختي «هدى» ..وهي تعيش وحيدة وتشعر بامللل ألنني
طوال اليوم خارج املنزل ..الصباح يف العمل وبعد الغداء أتوجه للنادي
ألداء التمرينات يف اجليم ..يف رفع االثقال وبناء العضالت لكامل األجسام..
حيث أنه من املفرتض أن أمثل النادي أنا وبعض الزمالء يف املسابقات املحلية
والدولية..
"ها" ..ما رأيك يا نورا؟! ..هل حترضين لتناول الشاي والكعك مساء
الغد..
اطرقت نورا برأسها إىل األرض ..ال تدري بامذا جتيبه ..فهي فرحة جدً ا
هلذا العرض ولكن ما يقلقها هو سيادة العميد ..أباها ..هل ختربه وتستأذنه
فهي تعلم أنه يف الغالب سريفض ويطلب منها العكس ..أنه من األصول
واملفروض أن يأيت «ماجد» لزيارهتم ً
أول للتعرف عليهم وعليه ..وتكوين
زوجا..
رأي فيه واالطمئنان إىل انه يليق بنورا ً
16
هذه هي األصول التي ً
دائم ما يتحدث عنها سيادة العميد وأهنا من الصعب
عليها ..بل من املستحيل إثناءه عن رأيه ..وإن مل ختربه ..فهي ترتكب جرم ..فهي حتبه
وحترتمه للغاية وهو أقرب من هلا يف البيت ..اكثر من األم كريمة أو األخ رشيف..
ً
ودائم تستمتع بأحاديثه خاصة يف فأباها هو مثلها األعىل يف احلياة ..علمها الكثري
فرتات حرب أكتوبر 1973بكل تفاصيلها وأرسارها..
هي يف مأزق حقيقي ..ويف نفس الوقت «ماجد» جالس أمامها ينظر إليها
فرحا
يف ذهول ..ماذا تنتظر نورا لتجيبني وتقبل الدعوة ..ظننتها سوف تتهلل ً
وسعادة وأهنا كانت تتمني اليوم كي يتم التعارف مع أرسيت ثم أرسهتا..
أطالت نورا الصمت وأحست أنه من العيب أال تقبل الدعوة ولكن
األصول التي تعلمتها من أبيها متيل عليها تأجيلها حلني زيارة «ماجد» إليهم يف
بيتها ً
أول ..وإذا طلبت منه مهلة للتفكري ..ربام يغضب ويعترب ردي هذا إهانة
له ولوالدته ..وماذا إذا علمت األم أنني طلبت مهلة للتفكري قبل الرد بقبول
تكون فيها رأ ًيا سي ًئا وتغضب عليها قبل أن تقابلها..
الدعوة فسوف ّ
يا إهلي ..ماذا عساي أن أفعل ..أنا سوف أقبل ..وساحمني يا أيب هذه هي
املرة األويل التي أخفي فيها عنك شي ًئا ها ًما كهذا يف حيايت..
وقبل أن جتيب ماجد بقبول الدعوة وأهنا آتية لزيارهتم يف الغد حدث أن
انقذهتا العناية اإلهلية ..فإذا بمروة صديقة نورا تنقض عليها ..نورا ..نورا ..هل
تعلمني من دخل النادي لتوه اآلن ..إنه مطربك املفضل "رامي حداد" هيا ..هيا..
لنلتقط معهم بعض الصور ..وقبل أن جتيبها نورا ..سحبتها من يدها واهنضتها من
عىل املقعد وركضت هبا نحو لفيف من الناس قد جتمهر حول املطرب املعروف..
17
ً
مذهول غري مصدق ..جاحظ العينني ..فاتح فمه جتمد «ماجد» يف مكانه
أجنت
مع ابتسامة باهتة وانفاس خمنوقة ..حبيسة رئتيه ..ما هذا الذي حيدثُّ ..
هذه ..وأي مطرب مشهور هذا الذي ترتكني ألجله ..أنا ال أصدق ..هذا
درب من اجلنون هل هذه نورا الرقيقة املهذبة التي تتحدث ً
دائم عن األصول..
ترتكني بدون كلمة واحدة ألجل هذا التافه ..يكاد الدم أن ينفجر يف عروقه
من شدة الغيظ واحلنق عىل هذا املطرب الذي ال يستحق إال لقب «تافه» ..أود
أن أذهب إليه وألكمه عدة لكامت يف وجهه وحنجرته ..فال يستطيع الغناء
بعد اليوم فيعلن اعتزاله وحيال إىل املعاش وهو يف هذه السن الصغرية فريحينا
من طلته غري املحببة إىل النفس ..ومن هتافت هؤالء الفتيات حوله وكأهنن
مسلوبو العقل واإلرادة ..ونورا ..نورا ..نورا ترتكني وتركض وراء هذا
التافه ..وأمي ..ودعوهتا ..ماذا عساي أن أقول ألمي غري أن أكذب وادعي
عدم مقابلتي نورا ..ال أستطيع حتمل أن أكون سخريتها لنهاية العام..
هل نورا تتالعب بمشاعري ..هل هي غري جادة وال ترى يف زوج هلا..
هل هي غري مستعدة فاضطرت للهرب من املوقف..؟!
وأنا ..ماذا عساي أن أفعل اآلن ..أأنتظر عودهتا ..لعلها تتذكرين وتعود
جارا ورائي أذيال اخليبة والفشل يف فهم أي يشء..
أم أذهب إىل البيت ً
اختفت نورا بني مجوع املعجبات بذلك املطرب الذي مل يسرتعى انتباهها
ال بشخصه وال بأغانيه اخلالية من مجال اللحن وعذوبة الكلمة..
جانبا متخذة طريقها إىل بوابة النادي اخلارجية..
استغلت هذا اجلمع وانزوت ً
***
18
ً
منهمكا يف التهام فطرية اللحم الضخمة ..وأصدقاءه ينظرون كان رشيف
إليه يف تعجب وكأنه مل َير طعا ًما يف حياته قط..
جائعا ،ولكنه
ً فقال أحدهم :أهلذا احلد أنت جائع ..فأجاب بأنه ليس
يفتقد إىل احلرية وإىل تنوع االختيار يف كل تفاصيل يومه منذ االستيقاظ إىل
هناية اليوم ..اقرتب عالء صديق رشيف من أذنه ومهس ً
قائل" ..أريدك يف
أمر هام" ..فأشار له رشيف أن ينتظر حتى يفرغ من الطعام ..وبعدما انتهي
واضعا يده عىل بطنه أن
ً رشيف من التهام الفطرية بأكملها استأذن أصدقاءه
أصيب بالتخمة وأنه يريد أن يميش ً
قليل للمساعدة يف هضم الفطرية العائلية
احلجم هذه ..واستغل هذا املوقف عالء معل ًنا رغبته عن السري معه لتسليته..
وبالفعل قاما االثنني بالسري بطول الشارع ..وما أن ابتعدا ً
قليل حتى قال
خماطبا عالء ..ها ..كنت تريد أن تقول شي ًئا يا عالء..
ً رشيف
منتظرا بفارغ الصرب أن يبدأ رشيف بالكالم ويعريه انتباهه..
ً وكان عالء
متجرا للمالبس ً
ملكا أليب وأنا ً تعلم يا رشيف أننا ..أي ارسيت نملك
أقف معه نصف الوقت ألساعده ..فلقد أصبح يعتمد ع ّ
يل كثريا وأوكل يل
الكثري من املهام ..وباألمس كنت من املفروض ان أكون يف املتجر من العارشة
صباحا حتى اخلامسة مسا ًء ..ولكنني خرجت يف نزهة مع صديقة يل ..املشكلة
ً
19
أن أيب يطالبني أن أثبت له أين كنت ..فهو أصبح غري مصدق ملا أقوله ً
دائم
وبالطبع أنا ال أستطيع أن أخربه أين قضيت الوقت وتركت العمل ومجيع
املهامت املوكلة يل ألتنزه مع فتاة ..وأنا أعلم جيدً ا كم حيبك أيب ويثق فيك
وحسن تربية أبيك لك ..اخرتتك أنت ً
ودائم التحدث باخلري عن أخالقك ُ
لتذهب إىل املتجر لنقابل أيب وتقول له أنني قضيت اليوم معك حيث أنك
طلبت مساعديت يف أمر خيص أرستك..
أرجوك ..أسد يل هذه اخلدمة ولن أنساها أبدً ا لك ..فعالقتي بأيب تتدهور
وهو قد أوشك عىل فقد الثقة يب..
أومأ رشيف برأسه وأجاب عالء أن عليه أن يدخل إىل احلامم وأنه قريب
من البيت فقال لعالء انتظرين يف املقهى مع بقية األصدقاء ..سأذهب إىل املنزل
رسيعا..
ً وأعود
بالطبع مل يشعر رشيف باالرتياح ملا وقع عىل مسامعه من قصة عالء
والكذب واللف والدوران وتأليف القصص للخروج من مأزق مع أبيه
ليضعه هو يف مأزق مع ضمريه ومبادئه وتربيته املستقيمة ..لذلك اخرتع
احتياجه لدخول احلامم ..ليذهب إىل البيت ويستشري سيادة العميد الوالد
فلقد كان رشيف ميلء بالعيوب مثل الكسل واإلمهال وحب الطعام برشاهة
والالمباالة ..لكن كانت به أهم ميزة ..هي الضمري اليقظ واألمر اآلخر هو
رجوعه «للميزان» ألبيه سيادة العميد ..كام كان يطلق عليه رشيف أن أباه هو
«ميزان» البيت هو رمز العدل واالعتدال هو من يستطيع ان يقيس االشياء
بميزان مثل ميزان قياس الذهب.
20
مرسعا ..فتح الباب وهو ينادي ..أيب..
ً صعد رشيف إىل الطابق الثالث
أيب ..يا سيادة العميد ..يا ميزان البيت ..أين حرضتك ..فأجابته األمً ..
أهل يا
رشيف ..تتعيش يا حبيبي ..فأجاب رشيف أنه أكل كمية من الطعام ربام تكفيه
ملدة عام كامل ..واستطرد ..أين بابا ..بابا يف البلكونة ..يقرأ..
تقدم رشيف يف هدوء ..بابا ممكن أخذ من وقت حرضتك دقائق اريدك
يف أمر هام وعاجل ..ترك األب الكتاب من يده وخلع نظارته الطبية وتفحص
وجه رشيف بعناية ً
قائل ..شكلك قلقان ..مالك يا ابني؟!
مازحاً ..
دايم لديك القدرة عىل قراءة ما يدور يف رأيس.. ً ابتسم رشيف
قص رشيف عىل أبيه ما دار بينه وبني عالء..
سكت العميد برهة ثم قال :شوف يا رشيف أنا حا أحكي لك حكاية
صغرية ومنها سوف تستخلص اإلجابة عىل تساؤالتك ولن تقع يف هذه
احلرية..
فأنا أعلم أنك بني امرين كالمها جلل ..األول ..أن يكون لك موق ًفا
اجيابيا مع صديقك أو بمعني آخر أن تترصف من منطلق الشهامة ومساندة
ً
صديقك والثاين ..هو علمك انك إلنقاذ صديقك من املوقف غري اللطيف
هذا ..هو أن تكذب من أجله..
أعلم ما يدور بداخلك ..ولكن اسمعني وبعدها ستعرف ما جيب عليك
فعله «زمان قبل حرب اكتوبر ببضعة شهور..
يف هذا األثناء دخلت نورا املنزل مرسعة إىل حجرهتا ..وهي يف طريقها
إىل احلجرة سمعت صوت أبيها وأخيها رشيف ً
وأيضا سمع صوت خطواهتا
21
سيادة العميد فنادها ..نورا ..نورا ..فذهبت اليهام وألقت عليهام التحية يف
معاتبا ..كده ماجتيش تسلمي عىل بابا يا نورا ..وأين قبلتي..
ً الرشفة فقال األب
التي انتظرها منذ خروجك صباح اليوم..
مقنعا تقوله ..فاعتذرت متعللة أن لدهيا
ارتبكت نورا ومل جتد كال ًما ً
مبكرا..
بعض الصداع وأهنا تفكر يف أن تنام ً
نظر إليها األب بعني األب املدرك ملا حيدث ألوالده ً
قائل ..حس ًنا لكن
هل يل أن أطلب إليك أن جتليس معنا وتستمعي ملا كنت أنوي أن أقصه عىل
أخيك رشيف ..فقال رشيف اجليس معنا يا نورا فأنا مل أرك منذ الصباح..
حائرا بني أمرين ..أيمد يد العون
جلست نورا بجوار رشيف الذي كان ً
واملساعدة ويقدم الدعم إىل صديقه ليخرجه من ورطة وضع هو نفسه فيها..
أم ينحاز إىل ما يرتاح اليه ضمريه وإىل املبادئ واألصول التي تلقاها يف بيت
أبيه العميد..
ناظرا إىل أعىل نقطة يف حجرة املعيشة
بدأ العميد فؤاد حديثه شارد الذهن ً
مجيعا فيها بعد أن كانوا يف الرشفة..
التي جلسوا ً
بدأ حديثه بقوله كاملعتاد ..شوفوا يا والد ..زمان عندما كنت ضابط
صغري برتبة مالزم أول ..قبل حرب اكتوبر العظيمة ببضعة أشهر ..حدث
ان كنا يف الكتيبة عىل اجلبهة الغربية لشط قناة السويس حيثام كام تعلمون كان
العدو يف الضفة الرشقية املقابلة لنا ..ويف أحد األيام جاء استدعاء إىل قائد
الكتيبة للذهاب للقاهرة لالجتامع ببعض القيادات العسكرية ..وحل حمله
نائب قائد الكتيبة حلني عودة القائد وكان هناك اثنان من الضباط موكل هلام
22
مهمة مراجعة ومسئولية التعيني ..والتعيني هو خمزون الطعام والرشاب جلميع
افراد الكتيبة وكان من املفروض ان حيصل كل فرد يف وجبة الغداء عىل علبة
من اللحم املطهو «البلوبيف» كام يسمونه يف تلك األيام ..وإذا بنائب قائد
يوميا من كل
الكتيبة يأمر الضابط املسئول عن التعيني أن يرصف له علبتان ً
يشء وكان املخزون يكفي لرصف علبة واحدة من كل األصناف لكل فرد..
حاول الضابط املسئول عن التعيني االعرتاض أو رشح األمر ولكن
النائب هنره وأخربه أن هذا أمر وجيب التنفيذ ..انصاع الضابط لألمر ونفذ
املطلوب ..وبعد عدة أيام قل املخزون من الطعام وقارب عىل النفاد..
ويف اليوم التايل عاد قائد الكتيبة من مهمته يف القاهرة وبدأ مبارشة عمله
نائبا للقائد ..وبدأ القائد بعمل تفتيش
كقائد وعاد النائب ملكانه األصيل ً
ومتابعة كل التدريبات وكل ما دار يف أسبوع غيابه ..وتنقل من موقع إىل موقع
يتفقده حيث أنه كان من الشخصيات احلازمة التي هتتم بالتفاصيل وأنه يفضل
متابعة ورؤية كل يشء بنفسه وال يعتمد عىل التقارير املكتوبة وحسب..
وعندما توجه إىل املكان املخصص لتخزين املؤن والتعيينات «الطعام»
وحتدث مع الضابطني املسئولني عن التعيينات ..أدرك ان خمزون الطعام قارب
عىل النفاذ ..وبكل احلسابات كان من املفروض ان هذا املخزون يكفيهم عىل
اسبوعا آخر ..عندها تعجب القائد وقرر استدعاء الضابطان إىل
ً أقل تقدير
مكتبه لسؤاهلام ..نظر كل منهام لآلخر وشعرا أهنام مقدمان عىل موقف صعب
وأهنام يف أزمة حقيقية وربام يوجه إليهام اهتام باإلمهال أو التبديد أو ربام رسقة
23
طعام ..وهذا أمر مشني وخاصة ان كالمها مل يرتكب جر ًما ..وبعد انرصاف
القائد حيث كانت أوامره رصحية« ..عايزكم يف مكتبي بعد نصف ساعة»..
وجه الضابط األول «أيمن» اللوم إىل زميله الضابط «عبد احلميد»
واستطرد منتقدا سكوته وصمته ً
قائل ..مل يكن ينبغي أن نطيع أوامر نائب
القائد ونعطيه زيادة من الطعام ..فهو بالكاد يكفي وجيب أن ندرب أنفسنا عىل
التقشف ..فنحن يف حالة حرب..
مضطرا إلطاعة األوامر..
ً رد «عبد احلميد» وماذا عساي أن أفعل كنت
أنت تعرف قوانني العسكرية ..وأنا أرى من األفضل االلتزام بالصمت وإال
رسا لنائب القائد وأنه هو من أخذ الزيادة من الطعام..
نفيش ً
مل يشعر «أيمن» باالرتياح وأبدى اعرتاضه عىل ما قاله زميله ..كيف يل
أن أسكت عن خطأ ..وكيف يل أن احتمل عقوبة مل ارتكبها بل قام هبا واستفاد
هبا غريي فبالتأكيد أن القائد سوف يقوم بمجازاتنا واهتامنا إما باإلمهال أو
االختالس ..ال أدري..
أنا غري مرتاح وضمري يميل ع ّ
يل أن أقول احلقيقة حتى لو غضب مني
نائب القائد ..فاستوقفه عبد احلميد بإشارة من يديه أمام فمه ..والشهامة يا
«أيمن» ..أين الشهامة ووقوفك إىل جانب زمالئك وال تنيس أننا نحب نائب
كثريا..
القائد فهو مرح ومتساهل معنا ً
نظر إليه «أيمن» يف حرية واتفقا االثنان عىل أال يذكرا اسم النائب عند
سؤاهلام وأن يلتزما الصمت حني مثوهلام أمام قائد الكتيبة يف مكتبه بعد دقائق..
وأن يسلكا طريق الشهامة..
24
استمع قائد الكتيبة لكالم كال الضابطني ..وابتسم وقال يف هدوء طاملا
كان السمة األساسية يف أحاديثه رغم أنه قائد يتسم باحلزم والشدة ..ولكن إذا
حتدث تشعر يف حديثه باهلدوء ،والوعي ،واحلكمة ،والثقة بالنفس..
"أنا مدرك ملوقفكام من نائب القائد ..انتم اردتم أن تكونوا أوفياء
نفسا عميقًا ..ال يصح
وخملصني له ألنه زميل ..ولكن ..ثم سكت برهة وأخذ ً
إال الصحيح ..اإلنسان حيق له أن خيفي فعلة زميله إذا كان هذا خيص حقوقه
وحده ..وليس حقوق األخرين ..فأنت لك مطلق احلرية أن تعطي لكن مما
متلك وهذا ما يدعوين اتعجب من الفهم اخلاطئ لبعض الناس ..أنه إذا أبلغ
عن خطأ ما وقع ..إهنا فتنة أو أهنا وشاية ..وإذا قال احلقيقة يف شهادة وكأنه
قلت نخوته ورجولته ومل يساند صديقه ..افهمونا ً
قديم بعض القيم املغلوطة..
الشهامة صفة مجيلة ..لكن كن ً
شهم فيام متلك وليس عىل حساب املبادئ..
فكونك تبلغ عن خطأ فهذه ليست فتنة وإنام هو وضع األشياء يف نصاهبا
واملساعدة يف أن تستقيم األمور ..فام فعلتموه أنا اتفهمه ولكن ليس هذا هو
الترصف السليم..
ثم أضاف هبدوء ..أنا أعلم كل كبرية وصغرية يف وجودي أو غيايب وليس
بغرض التجسس وإنام بغرض القيادة ..القيادة الصحيحة للكتيبة ..األمر يبدو
وتافها إذا حتدثنا عن نقص يف بعض معلبات البلوبيف أو التونا ..أو
ً ً
بسيطا
بعض قطع اجلبن املثلثات ..ولكن اخلطري يف األمر ..أال وهو أننا تربينا عىل
اإليثار والتقشف وحتمل الصعاب ..هذا هو قدر اجلندي ..ونحن حمتلون يف
جزء غايل من أرضنا والبد من احلرب واستعادة هذ اجلزء مهام كان الثمن..
25
فإذا فرطنا يف ما تربينا عليه أو مبادئنا فسوف يكون من الصعب مواجهة
عدو له جيش مسلح تسليح حديث وتسانده أعتى القوي العاملية..
اعذروين يا أوالدي ..كام قلت ال يصح إال الصحيح ..فالبد أن نتبع
اللوائح ..النائب اخطأ ..وال جمال للخطأ يف هذه األيام وترصف بال وعي
وبيشء من األنانية ..أدت إىل نقص يف خمزون الطعام الذي من املفرتض ان
يكفينا لفرتة طويلة..
أنتم كلكم أوالدي ومسئولون مني ..فاعذروين يف اإلطالة يف احلديث..
لكننا تعلمنا مما سبقونا ..واآلن حقكم علينا أن نعلمكم ونعطيكم من خرباتنا
ليس عىل املستوى العسكري فحسب ولكن ً
أيضا عىل املستوى األبوي
واإلنساين..
نزل كالم قائد الكتيبة بر ًدا وسال ًما عىل قلب وعقل «أيمن» وابتسم لكن
ابتسامة باهتة ..حتمل لو ًما وعتا ًبا لنفسه ..كيف مل أمتسك بموقفي وأرفض أن
أقول احلقيقة ..هذه ليست شهامة وإنام تعد شهادة زور وهي يشء حمرم..
كان من املفرتض أن أمتسك بموقفي وال أنساق وراء مزاعم «عبد احلميد»
إهنا من الشهامة ان تساند صديقك نعم ..نعم ..فأنا أذكر حديث النبي صيل
اهلل عليه وسلم« ..انرص أخاك ظاملًا أو مظلو ًما ..فقالوا ننرصه مظلو ًما ..فكيف
شجاعا وأقول
ً ننرصه ظاملًا ..قال :بأن ترده عن ظلمه" ..كان جيدر يب أن أكون
احلقيقة ..فقويل للحقيقة هي نرصة للنائب ورده عن ظلمه ..حيث انه ظلم
نفسه وظلم أفراد وقائد الكتيبة..
26
أما «عبد احلميد» فبعد سامعه حلديث قائد الكتيبة ..بدأ يف مراجعة نفسه
ومما ساعده عىل ذلك أسلوب القائد األبوي وهدوء حديثه ..فشعر يف كالمه
باحلكمة والصدق ..فقرر تبني هذا الرأي وأن يكون مساندً ا لصديقهً ..
أول:
ليس عىل حساب املبادئ واملثل ..والثاين أن يكون عطاءك مما متلك وليس مما
هو ملك للجميع..
***
27
العميد :رشيف ..رشيف ..هل تسمعني ..انتبه رشيف وكأنه يستيقظ
من سبات عميق أو أنه آت من رحلة طويلة..
أما نورا فكانت تعيش يف عاملها اخلاص ..تستمع لألب ولكن بداخلها
رصاع ورصاخ ..وأمل روحي ..وهي تستمع حلكمة األب وأنه ما روى هلم هذه
بعضا من اخللق واملثل بداخل ً
كل منهام ..فاألجدر احلادثة إال بغرض زرع ً
هبا أن تتحيل بتلك املثل وتصارح أباها الذي هو بمثابة املثل األعىل واملعلم
الشجاع ..وترشكه فيام يدور يف رأسها منذ الصباح..
28
أتذهب ألم ماجد للتعارف أم تعتذر وتطلب منه هو املجيء إىل منزهلم
للتعارف ً
أيضا ..أليست هذه هي األصول ..هي تعرف اإلجابة وتعلم جيدً ا
ويقي ًنا يف قرارة نفسها أهنا ليست بحاجة إىل استشارة األب ..ذلك األب
العظيم الذي زرع فيهم البذرة واألساس وترك هلم مساحة من احلرية للتحرك
والقدرة عىل اختاذ القرار..
رد العميد عىل رشيف :ها يا رشيف هل فهمت من حديثي يشء خيص
موضوع صديقك ..هل علمت ماذا جيب عليك فعله وكيف لك ان تتخذ
قراراتك بنفسك..
أومأ رشيف بابتسامة تنم عن فخره بأبيه واعتزازه أنه املعلم وليس فقط
األبً ..
قائل :ربنا خيليك لينا يا أعظم أب ..هل تأذن يل باخلروج..؟؟
هم رشيف باخلروج بعد أن عقد العزم عىل مقابلة «عالء» إلبالغه بقراره
باالعتذار عن عدم قدرته عىل مساندته ..ألنه ليس هذا هو الطريق القويم
للخروج من أزمته ..فال جيب أن نعالج اخلطأ بخطأ أكرب منه ..فعالء اخطأ
برتكه ساعات العمل وحتمل املسئولية وخداع أبيه ثم يطلب من صديقه أن
يقوم بالكذب ألجله ..فاخلسائر هنا كبرية إذا اكتشفت احلقيقة ..خسائر
ال يستطيع ضمري رشيف أن يتحملها فبامذا يظن به والد عالء إذا اكتشف
احلقيقة ..سوف تتبدل نظرته اليه لالجتاه العكيسً ..
فبدل من أهنا نظرة توقري
واحرتام له وألبيه وأرسته ..إىل نظر ٍّة إىل انسان كاذب يساند صديقه يف خداعه
كثريا من ثقته ألبيه املكافحً ..
وأيضا ما مصري عالقة «عالء» بأبيه فإنه سيفقد ً
فيه ..وفقدان الثقة حيدث يف حلظة ..ولكن استعادة تلك الثقة ربام يتطلب
29
ً
ودائم اخلطأ حيدث بصعوبة فرتات طويلة .هذا إذا نجح يف ذلك من األصل..
يف أول مرة ..وإذا اقدم االنسان عيل فعل اخلطأ وتكيف ضمريه مع ذلك..
فسوف يكون أسهل بكثري يف املرات التالية..
كل هذا اجلدل واجلدال ..كان يدور داخل رأس رشيف وهو يسري يف
طريقه إىل املقهى حيث كان جيلس «عالء» يف انتظاره بصحبة بعض األصدقاء..
ظانًا منه أن صديقه رشيف جاء للذهاب معه إىل متجر املالبس ملقابلة األب..
واقناعه بام طلب منه مسبقًا ..مل يكن يعلم أن رشيف صديقه القادم بعد دقائق
عاقد العزم والنية عىل الرفض والبعد عن هذا اللغط ..حيث كان رشيف
غري مكرت ًثا إن كان هذا سوف يغضب صديقه عالء منه وربام تتأثر صداقتها
متذكرا لرشيف أنه مل يسانده يف
ً يف املستقبل برفضه طلبه ..وأن يظل «عالء»
حمنته وأزمته مع أبيه وخاصة ان عالء يرى أنه طلب بسيط وتنفيذه سهل وأنه
ليس بالطلب العضال الذي حيتاج كل هذا التفكري وتلك التحليالت ..ما كل
هذه التعقيدات وكأننا أخطأنا يف أحد األئمة أو املشايخ ..ما كل هذا ..ما هلذا
الرشيف يعاملني وكأنه هو وأرسته أصحاب املبادئ واملثل يف هذه الدنيا وأهنم
ال خيطئون..
سوف يأيت اليوم الذي ربام حيتاجني فيه ..سريى ماذا أفعل ..لن أنسى له
عدم مساندته يل..
واآلن ماذا أنا فاعل مع أيب ..املفرتض أن أذهب إىل املتجر واحلديث معه
إلصالح ما بيننا فأنا ال أطيق غضبه ع ّ
يل ..فام أتقاضاه من عميل معه ال أستطيع
أن احتصل عليه يف أي مكان آخر هذا إن وجدت ً
عمل من األصل وباإلضافة
30
أنني سوف أكون جمرد عامل وهناك من هو مدير ع ّ
يل ..أما مع أيب فأنا بمثابة
صاحب املكان فأنا ابن صاحب املتجر واجلميع يكنون يل االحرتام وأيب ال
حياسبني عىل يشء إال لو قرصت يف العمل أو كذبت عليه ..كمثل الفعلة
الشنعاء التي اقدمت عليها..
مايل أنا والنساء ..ملا خرجت مع هذه الفتاة؟
أوقعت نفيس يف املشاكل «لعنة اهلل عىل النساء أمجعني» لكن اخلطأ احلقيقي
هو عدم مساندة رشيف يل يف حمنتي ..ماذا كان حيدث لو أتى معي ملقابلة أيب..
كل ما هو مطلوب منه أن يقول له مجلة واحدة ..عالء كان معي طوال
اليوم ..وانتهى األمر ..أهلذا احلد هذه اجلملة صعبة القول أو النطق ..فهذه
اجلملة كفيلة بعودة خيوط الثقة الواصلة بيني وبني أيب..
***
31
مروة ..فتاة سمراء ..متوسطة اجلامل ..خترجت يف اجلامعة من أحد
الكليات النظرية ..لكنها مثلها مثل اآلالف من خرجيي تلك اجلامعات ..جمرد
حاملة لشهادة الليسانس ..لكن مستوى الثقافة ال يتعدى احلد األدنى الذي
من املفرتض أن يلم به حامل الليسانس من الثقافة أو املعرفة يف خمتلف نواحي
أساسيا يف احلياة مثل الطعام والرشاب ..فحمل
ً احلياة ..وأن القراءة متثل شي ًئا
الكتاب والقراءة فيه ..أصبحت عادة ..بتنا نراها لدي األجانب وخاصة من
الدول الغربية أما نحن فقلام نجد من يمسك بكتاب ليقرأ ..أصبحت األجهزة
اإللكرتونية هي شغلنا الشاغل ومن املمكن أن جتد أحدهم ينفق اآلالف
لرشاء جهاز من هذه األجهزة بينام سعر كتاب جديد ال يتعدى العرشات وإذا
كان الكتاب مستعمل فربام يصل سعره ألقل من عرشة..
فمروة كام اعتربها مل تنل ً
حظا من الثقافة حتى لو كانت حاملة لشهادة
جامعية فهناك فرق كبري وشاسع بني ان حتمل شهادة يف يدك وبني ان حتمل علم
ومعرفة يف عقلك ..والغريب يف كثري من الشباب عىل شاكلة مروة أهنم يتلقون
املعلومات ويتثقفون ويشكلون آراءهم عرب ما يرونه يف القنوات الفضائية عىل
جهاز التلفاز ..فريددون وينقلون ما يقوله بعض الضيوف يف تلك القنوات بال
وعي أو حتقق من معلومات ..فأصبحنا ناقلني للمعلومة وترديدها دون ادين
32
وعي او بذل جهد للبحث والتحري عن صحة تلك املعلومات ..فتشدقنا هبا
مثلنا مثل النحلة التي حتمل حبوب اللقاح من زهرة إىل أخرى بني أرجلها
لتستمر احلياة النباتية ..أما نحن فلكي تستمر احلياة اجلاهلية التي نعيشها
فنحن نلعب دور النحلة ونقوم بنقل اآلراء الغريبة والشاذة واملعلومات
املغلوطة التي هي كفيلة إما بتدمري عقل الشباب وابعادهم عن االنتامء وحب
الوطن أو بإهلائهم عن العمل واإلنتاج ..فنسهر حتى الصباح أمام الشاشات
نشاهد تلك الربامج الدخيلة والتي تتعمد بالطبع أن تبدأ قرب منتصف الليل
وختتم فقراهتا قرب الفجر..
فباهلل عليكم أي أمة قادرة عىل االنتاج والصناعة ..ورجاهلا ونساؤها
يسهرون حتى الصباح أمام التلفاز والكارثة اهنا ليست لنهل العلم احلقيقي
وإنام لسامع اخلبيث من الكالم واآلراء..
تعيش مروة يف أرسة متوسطة احلال ..فاألب يعمل سائق يف رشكة مرص
للطريان حيث يقوم بنقل املضيفات والعاملني بالرشكة من وإيل املطار ..عم
«زكريا» حمبوب من اجلميع ويؤدي مهامه بإخالص ويتسم باألمانة والسمعة
الطيبة ..فقد انفصل عن زوجته ..أم مروة ..منذ أن كانت مروة يف املرحلة
االعدادية ..حيث اكتشف خيانتها له ..فطلقها ..ومن يومها يعيش مع مروة
وحدمها ..أما األم ..فبدأت حياة أخرى جديدة مع نفس الشخص املتسبب يف
طالقها..
عادت مروة إىل املنزل ..بعدما جتمعت مع لفيف من الفتيات وقليل
من الشباب حول املطرب املعروف يف النادي ..دخلت يف مناقشة طويلة مع
33
العم زكريا وحتولت إىل حادة ثم إىل تراشق بالكالم ..إن مروة باتت ختجل من
مالبسها وأهنا ليست عىل املستوى الالئق وخاصة عندما تذهب إىل النادي
بصحبة نورا «العضوة يف النادي» حيث إن مروة ليست لدهيا بطاقة عضوية
أو بطاقة دخول ..فهي اعتادت عىل الدخول مع نورا بنت العميد فؤاد الذي
له باع طويل يف جملس ادارة النادي لسنوات مضت استمرت مروة يف جداهلا
مع زكريا وبكاءها عىل حاهلا وكم تشعر باخلجل مما لدهيا سواء مالبسها أو
تليفوهنا ..ويف الوقت ذاته ترى وتشاهد وتتفحص الفتيات األخريات
وخاصة يف النادي .ماذا يرتدين وما لدهين من أنواع وماركات معروفة
ومشهورة من األحذية واملالبس الرياضية ..وبعد أداء التمرينات يتوجهن
إىل مطعم أو كافيرتيا النادي ليتناولن أشهي األطعمة املعروفة وآخرهم عند
افتتاح املطعم الياباين يف النادي حيث يتهافت اجلميع عىل صنف من الطعام
اسمه «سويش»..
نظر إليها زكريا بحنق وغيظ يبحث عن كلامت هيدأ هبا من غضب مروة
واحساسها بالدونية وأهنا أقل من بنات جيلها ..وبدأ يرشح هلا أن اهلل هو
من يقسم الرزق بني العباد ويعطي كل انسان عىل قدر احتياجه وحيرمه من
أشياء أخرى وأن اهلل غري ظامل للعبيد وإذا نظر اإلنسان إىل حاله سيجد أنه ربام
ومنع عنه كثرة املال أو أنعم اهلل عليه بنعمة اإلنجاب
لديه صحة وراحة بال ُ
واملال وحرمه من مجال اخللقة وهكذا أخذت مروة تستمع إليه وبداخلها قنبلة
موقوتة تقرتب تكأهتا من االنفجار يف أي حلظة ..ومل تستطع مروة سامع املزيد
مرارا..
من أباها فأشارت إليه أنه كفي ..لقد سمعت هذا احلديث ً
34
فام هي إال حجج واهية يلقوهنا للمحرومني كي يضمنوا صمتهم وعدم
االعرتاض أو املقارنة بينهم وبني الطبقات العليا ..من هلم حياة أخرى غري
حياتنا ..يا أيب ..اآلن هناك يشء اسمه مرتبة رسير جاهزة ..بدل املحشوة
قطن هذه ..ويشء آخر اسمه «ميكروويف» لتسخني الطعام وعمل الفشار
وغريه ً
بدل من البوتاجاز القديم هذا وكله كوم وأنبوبة البوتاجاز هذه كوم
آخر ..فكل من أعرفهم لدهيم غاز طبيعي يف منازهلم ..فال يتعرضون لإلهانة
واالبتزاز املادي الرخيص عند احلاجة إىل األنبوبة ..ويشء ثالث اسمه «دي
يف دي» لسامع املوسيقى ومشاهدة األفالم ورابع اسمه تليفزيون «إل إي دي»
نحيف ..خفيف الوزن ذو صورة واضحة ورائعة األلوان ً
بدل من هذ التلفاز
الذي يشبه الفيل املنتفخ ..وخامس وسادس وسابع..
أخذت مروة تفرغ كل ما بداخلها من مقت وأحقاد جتاه تلك الطبقات
وأهنا ملاذا مل تكن واحدة من هؤالء ..ذوات العيشة الناعمة املرحية ويعمل هلم
ألف حساب يف أي مكان يدخلون..
ترقرقت عينا زكريا بالدموع ومل جيد من الكلامت إال أن يقول« ..الصرب
لك كل ما تطمحني وتصبو إليه يا ابنتي ..ربام يأتيك عريس غني حيقق ِ
ً
طويل نفسك ..فقط هي كلمة واحدة حا أقوهلا لك وخدهيا عن رجل عاش
وله من اخلربات الكثري ..هناك يف بعض املنازل أو املكاتب احلكومية نجد
ً
ودائم ما تكون احلكمة مكررة عىل معظم ً
دائم برواز أو يافطة عليها حكمة
احلوائط يف املكاتب وكأهنم أجروا اتفاق فيام بينهم عيل تزيني احلوائط بنفس
الكلامت املأثورة ..أو أهنا الزام حكومي وردت يف أحد بنود القانون ..املهم
35
أحد هذه الرباويز املعلقة جتدين مكتو ًبا عليها «القناعة كنز ال يفني» وبالتأكيد
ملحتها عينك أكثر من مرة يف أكثر من مكان ..ودائام تنظرين إليها بال اكرتاث
أو ببعض الضيق والشعور بامللل من نفس الكالم اجلامد طوال الوقت ..لكن
احلقيقة يا مروة..
اهنا احلقيقة ..انه ً
فعل القناعة بمثابة الكنز ..فاذا حتلت نفس انسان
وقانعا ً
أيضا بام حرمه اهلل من نعم ربام ً قانعا بام عنده من رزق
بالقناعة ..واصبح ً
تكون عند غريه ..فإنه يا ابنتي يصل إىل يشء اسمه «الرضا» وعندك وصول
نفسك للشعور بالرضا ..الرضا باملقسوم ..الرضا بالرزق فيوصلك بتقدير ما
لديك وأنك افضل حاال من غريك ..الرضا جيعلك تنظرين إىل من هم دونك
..أما عدم وجود الرضا ً
فدائم تتوق نفسك ملا يف يد غريك ونظرك مثب ًتا عيل من
هم أعىل منك فتلهيك نفسك عن اشياء كثرية مفيدة يف حياتك ألنه ببساطة كل
تركيزك أصبح يف مركز مراقبة الغري ..ماذا يلبسون ويأكلون وأين يسكنون..
وسياراهتم وحليهم ومدارس أوالدهم وسفرياهتم ..الخ ..الخ..
فأهنا يابنتي متاهة ..نعم متاهة ودوامة بال هناية ..ويف آخر املطاف
ستجدين نفسك مضطرة لقبول حالك أو أن تغضبي اهلل أو ختالفي القوانني..
الرضا يا مروة يوصلك إىل املحطة األخرية ..وهي السالم مع النفس..
ِ
شعرت يو ًما بسالم داخيل بمعني ال لألحقاد أو االضغان أو الكره ألحد هل
أو النقمة عيل ما لديك والنظر ملا يف يد غريك..
أيضا أنني مل أنل ً
حظا من التعليم ربام أنا اسمي العم زكريا ..السائق وربام ً
املدريس واجلامعي ..لكن يابنتي احلياة هي املعلم االوسع فنتعلم منها ومما
36
نمر به من جتارب ...والقراءة ..فالقراءة جتعلك من املثقفني وشتان الفرق بني
املتعلم تعليم املدارس واجلامعات واملثقف القارئ للكتب..
انظري خلفك ..ماذا ترين قابع عىل احلائط ..إهنا مكتبة خشبية قديمة...
رخيصة الثمن لكنها حتوي كنوزً ا من العلم واملعرفة ..كتب يف شتي العلوم
واآلداب ..فأنا لدي كتب منذ مطلع القرن العرشين ..وجمالت قديمة هبا
حكم ومواعظ كفيلة إلصالح الكون بأكمله..
فأنت تعلمني أنني كل يوم مجعة بعد اداء الصالة اذهب إىل سور األزبكية
ويف جيبي ورقة فئة العرشون جنيها ..فأجتول بني الكتب املستعملة القديمة..
فقبل أن انظر إىل عنوان الكتاب أو من هو الكاتب أو دور النرش ..فأنني اضع
الكتاب عىل انفي ألشتم أمجل رائحة عطرية تعطرت هبا أنفي ..رائحة الورق
القديم ..ثم افتح الكتاب من الداخل ألشاهد اوراقه الصفراء البالية ..فلون
الورق القديم املائل لالصفرار ..مع الرائحة الغريبة والفريدة هلذا الورق
يعزفون بداخيل أمجل االحلان ..أعظم سيمفونية ممكن إلنسان أن يسمعها يف
أهم وأعظم دار أوبرا يف العامل ..يف فيينا أو برلني أو موسكو..
فتحت مروة عيناها وفتحت معه فمها ..غري مصدقة قائلة:
كيف عرفت يا أيب عن أوبرا فيينا أو برلني أو أيه ..أيه..
فقال :موسكو ..ثم استطرد ..يوجد خلفك يف الرف الثالث من أعىل
املكتبة ..الكتاب الرابع يتحدث عن اشهر مباين األوبرا يف العامل وورد به ذكر
دار األوبرا املرصية القديمة التي تم حرقها يف مطلع اخلمسينيات وتوجد هلا
صور للمبني من اخلارج والداخل وأهنا كانت مصنفة أهنا من أهم وأفضل
37
قاعات األوبرا يف ذاك الوقت ..ربنا هيدي اجلاهلني الذي قاموا بإحراقها..
كنت امتني أن أدخلها ..أو أمر من أمامها ..من كثرة هباءها ..لك ِّني رايض
بالصور..
دعيني أكمل ما حيدث يل يف سور األزبكية ..يا له من مكان رائع ..أنني
اعشق هذا املكان يا مروة ..اشعر أنه يتعاطف معنا نحن الغالبة وحينو علينا..
فيقدم لنا وجبة دسمة شهية من العلوم والفنون واآلداب يف صورة كتب زهيدة
الثمن ..اعيش معها يف عامل آخر طوال األسبوع حتى يأيت يوم اجلمعة الذي
يليه ..لدرجة يابنتي ان معظم البائعني هناك صاروا يعرفونني ونتبادل التحيات
واالبتسامات ..اهنم اناس طيبون تعلوا وجوههم البشاشة ..وجوه بسيطة بال
تكلف ..والكثري منهم حيمل داخل عقله الكثري من العلم ..وهناك ً
ايضا
يابنتي اقابل كثري من طلبة اجلامعات باحثون عن كتب ومراجع ملساعدهتم يف
ابحاثهم ..وهناك ً
ايضا من يقوم بتحضري للامجستري أو الدكتوراه ..فيجد يف
هذا املكان ربام ما ال جيده يف مكان آخر ..انني اعتربه بمثابة بيتي الثالث ..بعد
بيتنا واملسجد..
دخلت مروة إىل حجرهتا وأغلقت الباب خلفها ..ورأسها ميلء باألفكار
من شتي االجتاهات ويف الوقت ذاته فخورة ومعجبة ببالغة وحكمة ابيها وأنه
كيف تأثر بالقراءة إىل هذا احلد وكيف اثرت فيه الكتب لتجعل حديثه منمقًا
مرتبا األفكار ..صاحب حجة ومنطق رغم بساطة األسلوب..
ً
وليكن ..كل ما سمعته جيد ..لكن أنا ال أستطيع العيش هكذا ..هبذه
املالبس وتلك احلجرة القديمة بأثاثها الغريب الشكل ..ودهان احلائط الذي
38
أكل عليه الزمان ورشب فال تعرف لونه ..أهو أصفر فاقع أم بني باهت أم
رمادي أم أنه قد سكب عليه قهوة ..أم ماذا وهذه الستارة القديمة التي تغطي
الشباك ..واألرض بال سجادة ورسيرها القديم الذي يصدر أصواتًا غريبة
كلام صعدت اليه او هنضت من عليه ..أصواتًا خميفة تشعرين باالشمئزاز وكأنه
يوجد مزرعة فئران حتت الرسير..
وتلك املرتبة بلوهنا املائل لالصفرار ..ملاذا كل يشء يف هذا البيت لونه
أصفر أو رمادي ..وال نعرف اللون األصيل لألشياء ..مرتبة حمشوة قطن ..ال
قطعا من احلجارة أو
أظنه قطنا ..فهي صلبة لدرجة انني عيل يقني ان بداخلها ً
الصخور
***
39
أدار ماجد مفتاح البيت ناحية اليسار ..فتح الباب ببطء وحذر متعمدً ا أال
حيدث صوتًا .خلع حذائه كي حيافظ عيل السكون واهلدوء عند دخول البيت..
وفور دخوله وقبل أن يغلق الباب خلفه وجد أمه قابعة أمامه عىل كنبة كبرية
وأمامها بعض األطباق هبا املكرسات ..وطبق كبري لتضع فيه القرش وما تبقي
من جثث املكرسات اهلامدة ..فإهنا سيدة مخسينية بدينة ..بدينة بشكل ملفت..
هلا قسامت وجه غري مرحية عابسة الوجه ..قليلة االبتسام ..تعشق اجللوس أمام
التلفاز واألكل والتسايل ..أي يشء يكون يف فمها طوال الوقت بغض النظر
أهنا جائعة أم ال ..فنصف وقتها تقضيه يف التفكري يف الطعام والنصف اآلخر
مركز عىل ماجد ابنها الوحيد ..مات زوجها منذ عدة سنوات ..ربام لعدم
قدرته عىل حتملها واحلياة معها ففضل الذهاب إىل العامل اآلخر ..وهي تتباهي
هبذا األمر ..دائمة القول بفخر« ..انا فرست أبوك حلد ما مات ..مش حاقدر
عليك انت» ..فهي دائمة الرتديد هلذه اجلملة ..احلاجة «نعامت» ..لكنها يف
احلقيقة جمموعة من النقامت املتوحدة واملرتاصة داخل هذا البدن املنتفخ..
استقبلته بنفس طريقة االستقبال املعهودة ..والشكوى من الوحدة
وأنه يرتكها طوال اليوم لقضائه يف هذا النادي اللعني ..داعي ًة اهلل أن هيدم
هذا النادي عىل رؤوس أصحابه ومسئوليه ..وتذكره ً
دائم أهنا أمه« ..عارف
40
يعني إيه أمك ..أم ال تعرف ..أمك التي محلت فيك ..تسعة أشهر ..وولدتك
وعانت آالم الوالدة ..والدة طبيعية بدون بنج أو ختدير ليس مثل هذه األيام..
البنات املتدلعة عايزة تولد يف مستشفى وتأخذ ختدير ..وكامن والدة قيرصية
وكل واحدة منهن ترفض التعب واألمل ..فلحظة الوالدة رغم أملها الشديد إال
أهنا تضع احلب من األم للرضيع ..فكيف بمن تلد بتخدير وقيرصية أن حتب
وليدها ..بنات آخر زمن»..
وقف ماجد املفتول العضالت ذو اجلسم املخيف أمام أمه وقد حتول
لفأر ..وجهه إىل األرض يسمع نفس االسطوانة كل يوم ..حيث تبدأ يف توجيه
اللوم إليه برتكها وإمهاهلا بال طعام وبال ونيس أو جليس وختتم كالمها بجملة
«يا خسارة تربيتي فيك»..
يستأذهنا ماجد إىل الدخول إىل حجرته لوضع أغراضه ..حقيبة املالبس
الرياضية وأن يذهب إىل احلامم ليتحمم بعد جمهود الرياضة الزائد يف اجليم
والركض يف الرتاك ..وبينام هو خيطو جتاه حجرته ..فإذا باحلاجة «نعامت» أمه
ترصخ كمن لدغها عقرب ..تعايل هنا يا واد يا ماجد ..اخبار البت اليل كلمتني
عنها ايه ويا تري جاية بكرة الساعة كام..
"جاءك املوت يا تارك الصالة" هكذا حادث "ماجد" نفسه ..كنت
ظننتها نسيت ..فأجاهبا يف عجالة ..أنا مل التقى هبا اليوم يا أمي ..سأدعوها
عندما أراها يف الغد ..فقالت احلاجة ..أيوة خليها تيجي أنا عايزة اشوفها..
"أوعي تكون خايبة زي اليل قبلها ..أنا كربت وعايزة اليل خيدمني"
41
ناعيا حظه وظروفه ..فلقد خاض جتربة اخلطوبة عدة
دخل ماجد حجرته ً
مجيعا باءت بالفشل بسبب أمه ..فأما األم غري راضية
مرات من قبل ولكنها ً
عن العروسة أو أن اخلطيبة ال تتحمل األم بكلامهتا القاسية واهتاماهتا الدائمة
ملن أمامها باإلمهال والتقصري يف حقها ..أو بكاءها حاهلا أهنا ال جتد من حينو
وربت..
كبت ّ
عليها بعدما ّ
وكان هذا أكثر ما خييف ماجد ..نورا خمتلفة عن كل سابقيها ..هي رقيقة
حساسة عطوفة حنون ..ذو خلق رفيع ..وكام سمع أهنا من أرسة حمرتمة
واجلميع يشهد بحكمة أباها وأخالق أخيها..
إنه ال يطيق أن يفقد نورا أو خيرسها أو أن تضيع من يديه فهي أفضل
وأنسب من تكون زوجة له يف أناقتها وتعليمها وبمعرفتها بأكثر من لغة..
هذه هي الزوجة التي ترشف بصحيح ..فأنا أمامي سفريات كثرية يف بعض
املسابقات يف كامل األجسام ورفع األثقال ..يف عدة عواصم من العامل وعلمت
أنه ممنوع اصطحاب الزوجات أيام املنافسات الرسمية لكن من املمكن حضور
الزوجة يف يوم التكريم واحلصول عيل امليداليات والكؤوس املختلفة ..فال
أري نفيس إال ونورا جتلس أمامي فرحة مشجعة مصفقة ..وهو عىل منصة
التتويج باملركز األول ..أو الثاين عىل أقل تقدير ..ولكن القضية هي نفس
العقبة ..أمي ..ماذا عساي أن أفعل ..هي أمي وأوىص عليها اهلل ورسوله..
يل ..لكنها هي املتسببة ً
دائم يف هروب كل من أقبلت عىل وهلا كل األفضال ع ّ
الزواج منهن..
42
هل أصارح نورا باحلقيقة ..حقيقة شخصية أمي وأهنا بكل رصاحة تريدين
ان أتزوج من فتاة تكون هلا بمثابة اخلادمة واجلليسة األنيسة ..وباإلضافة لذلك
فإهنا ربام تسمعها من الكالم ما يؤذهيا طوال الوقت ..فهل تتحمل؟!!
وملا تتحمل هي ..ملا ال تكون أمي عطو ًفا حنونًا وتراعي بنات الناس..
حرصا عىل
ً ملا ال تتوقف عن الطعام واملقرمشات واملسليات طوال الوقت..
شهرا بعد اآلخر ..ضغط ..سكر.. ً
وإقالل لعدد األدوية الذي يتزايد ً صحتها
ارتفاع كوليسرتول ودهون عىل الكبد ..خشونة الركبة وآالم املفاصل..
وأخريا زاد عليهم أدوية القلب ..حيث أن عضلة القلب
ً حساسية الصدر..
باتت ضعيفة..
ما احلل ..ارشدين يارب إىل الصواب ..أنا ال أستطيع فعل كال األمرين ال
أستطيع أن أحكي لنورا عن أمي بكل التفاصيل وأن تنتظر ما هي مقدمة عليه
من وجود «محا» صعبة اإلرضاء ..بل مستحيلة..
يف الوقت ذاته ال أستطيع أن أغري من طباع أمي ونظرهتا لألمور وكرهها
للجيل احلايل من البنات وأهنن كلهن متدلعات ..ليس كزماهنا عندما كانت
الزوجة تقوم بخدمة الزوج وعائلته وإن كان عىل حساب مظهرها ..صحتها..
تعليمها ..ثقافتها ..ال هيم املهم هو ارضاء الزوج وعائلته واألوالد..
"لن تتحمل نورا ..أنا أعلم ..لن تتحمل ..حظي كده" ..هكذا كان
كبريا عىل كتفه
بشكريا ً
ً ً
حامل يتمتم ماجد بكلامت وهو يف طريقه إىل احلامم
وأمه تنظر إليه بتعجب واستغراب ..قائلة «الواد باينه اجتنن»..
***
43
رأسه سوف تنفجر ..وهو جالس بني أصدقائه يف املقهى من الغيظ من
معكوسا ..ما كان خذله ..بل ذهب معه
ً موقف رشيف معه ..ولو كان األمر
ونفذ كل ما يطلبه منه إلنقاذه..
مد يده إىل جيب رسواله اخللفي ..سحب حافظة نقوده« ..فتحها فإذا هبا
جنيهات قليلة ..بالكاد تكفيه هذه الليلة ..فهو غري مرصح له بالذهاب للعمل
ودخول املتجر قبل أن يسوي خالفه مع أبيه فمن أين يأيت بمرصوفه ..نقود
تكفيه يف األيام القادمة ..شكلها كده أيام سودا»..
ساهرا يف املقهى إىل وقت متأخر من الليل كي يضمن
ً قرارا بأن يظل
اختذ ً
أن يكون أبيه نائم ويف سبات عميق ..ويف الصباح حيادث والدته ويطلب منها
أن تتوسط له وحتنن قلب أبيه عليه ليساحمه ..كيف هذا وأمه غاضبة من فعلته
أكثر من أبيه ..ومع كل هذا هو يعلم أنه ببعض القبالت واالحضان لألم .فهي
دائام ما يرق قلبها رسيعا..
انتظر عالء يف املقهى حتى الثانية بعد منتصف الليل ثم توجه إىل سيارته
والنعاس يغالب عينيه ويتثاءب ربام بعدد أربع مرات يف الدقيقة..
قاد سيارته وسط الظالم والطرقات خالية من املارة..
***
44
قاربت الساعة عىل احلادية عرشة ومروة عازمة ومصممة أهنا ستأخذ
خطوات جادة ألجل اصالح هندامها ومظهرها اخلارجي ..فأخذت تقنع
أباها أهنا يف حاجة إىل نقود ألجل رشاء بعض املالبس اجلديدة عىل املوضة..
فقدم هلا العم زكريا بعض النقود ..نظرت إليها بيشء من االحتقار قائلة ..ما
هذا ..هذا ال يكفي لرشاء بيجامة للنوم..
فقام األب عىل مضض وفتح أحد األدراج وأخرج كل ما فيه من نقود
ً
قائل هذا كل ما معي حتى آخر الشهر ..حلني أن اقبض من «مرص للطريان»
مجيعا ..فامزال هناك أربعة أيام عىل أول الشهر ..كوين حذرة وغري
ال تنفقيهم ً
مبذرة..
طبعا ومهت
أخذت النقود فرحة واحرضت شنطة يدها ذو املاركة املقلدة ً
باخلروج ..فإذا باألب يصيح ..مروة ..إىل أين ذاهبة الساعة اآلن احلادية عرشة
ً
ليل وكل املوالت واملتاجر مغلقة اآلن..
مفتوحا حتى
ً ال يا أيب ..كم أنت قديم ..فالكثري من املوالت يظل
ساعات متأخرة ويغلق قرب الفجر ..ال تقلق فأنا يف مكان آمن به أناس
كثريون وحراس أمن..
45
استقلت مروة سيارة أجرة أقلتها إىل إحدى املوالت الشهرية التي طاملا
كانت مروة تتمني دخوهلا كمشرتية وليس كمتفرجة أو مشاهدة ملا وراء زجاج
الفتارين وكفى ..كانت رأسها تدور وتتسارع وهي مليئة بالصور لشتي أنواع
املالبس وماذا سوف تقوم برشائه وما هي احتياجاهتا ..ويف ذات الوقت هي
صورا لذلك املقهى الشهري يف املول ..وأهنا تتمني أن
ً وكثريا تشاهد
ً تسمع
تتذوق أحد أصناف القهوة التي يقدمها ..وربام معها قطعة من كعكة اجلبن أو
كوكيز ..كام تسمع من زميالهتا ً
دائم..
ويف داخل أروقة املول ..سارت مروة بفخر واعتزاز ويشء من الكرب
والتكرب رافعة رأسها إىل األعىل وهي تصعد عىل السلم الكهربائي وكأهنا تريد
اخبار كل من حوهلا من صفوة القوم ..أهنا هنا لتشرتي مالبس جديدة من
عامليا .فتوضع وتقدم هلا وهي بداخل أكياس مطبوع عليها
ماركات معروفة ً
اسامء اشهر املحالت ثم تدخل باب بيتهم يف احلي الشعبي حاملة يف يدها هذه
احلقائب واألكياس فرياها اجلريان من نوافذهم ورشفاهتم ..ثم تتخيل نفسها
عندما تتقابل مع نورا .وكم االعجاب الذي سوف يرتسم عىل وجهها وترصح
ً
وأيضا وهي داخلة إىل النادي ..بداية من هلا بأهنا اليوم يف منتهي الشياكة..
البوابة واحلراس عليها ..إىل االعضاء بالنادي ..فينبهرون بجامهلا رغم سامر
مجيعا..
برشهتا لكنها سوف تكون أشيك وأمجل منهن ً
أفاقت مروة وهي تصطدم بأحد املارين بدون قصد ..فاعتذرت..
وبدأت يف التسوق ..وقفت أمام فاترينة عرض أحد املحالت فوجدت فيها
بعض قطع املالبس مما كانت ً
دائم تتوق إىل أن تقتنيها وأهنا سوف تكون
46
الئقة عىل جسدها املمشوق الطويل ..وإذا هبا تلمح األسعار ..غري مصدقة..
فالرقم كبري واألصفار كثرية ..فسعر قطعة واحدة يفوق كل ما معها من نقود..
شهقت غري مصدقة ..إن كل ما معها ال يكفي إال أن تشرتي بالكاد جورب أو
بلوزة واحدة ..ولكنها استجمعت قواها قائلة إن هذا املتجر البد أنه مبالغ يف
اسعاره سأذهب إىل غريه ..أكيد هناك من هم أقل يف السعر منه بكثري ..كررت
املحاولة ..وتنقلت من متجر إىل آخر ..لثالث ..رابع ..خامس ..صعدت إىل
طابق أعىل ..فأعىل ..ما كل هذا كيف يعيش اإلنسان هبذه األسعار ..هذا
جنون..
اصيبت بنوع من االحباط ..نظرت إىل ساعة يدها فقد ختطت الواحدة
بعد منتصف الليل ..جلست لربهة عىل أحد املقاعد املنترشة يف أرجاء املول
لتستعيد توازهنا وتستفيق من الغفلة التي وضعت نفسها فيها ظانًّا منها أن نقود
سائق احلافالت يف رشكة الطريان كافية أن جتعلها زبونة يف أحد هذه املتاجر..
يا لنا من غالبه ..هم يف واد ونحن يف واد آخر ..لقد ظننت نفيس من أصحاب
ً
حامل يف الطبقة املتوسطة ..من هم هؤالء الناس ..فكل منهم يشرتي ما أراد
يده بطاقة يدفع هبا وكأن هذه البطاقة متصلة اتصال مبارش بمغارة عىل بابا..
ولكي أكون واحدة من أصحاب تلك البطاقات جيب أن يكون هلا دخل كبري
من عملها الذي يقوم بتحويل راتبها عىل البنك ..ثم يقوم البنك بإصدار بطاقة
االئتامن هلا بحد أقىص معني حسب راتبها ..هذا ما أجابتها به إحدى صديقاهتا
العاملة يف أحد البنوك عندما سألتها مروة ذات مرة عن كيفية احلصول عيل
بطاقة كهذه ..كام يسموهنا ..فيزا كارت..
47
سارت يف طرقات املول ..متجهة إىل الباب اخلارجي وهي تتمتم بني
شفتيها ..فيزا كارت ..فيزا كارت ..عيل بابا كارت..
وهي يف طريقها للخروج إىل الطريق ..رأت يف الطابق السفيل للمول
املقهى الشهري الذي تراه وتسمع عن مرشوباته دائام ..فتذكرت حلمها الثاين..
بعد التسوق ..هو اجللوس يف هذا املقهى كزبونة وليس كمتفرجة ..اطلب
قهويت مع قطعة احللوى واجلس وسط هؤالء القوم..
توجهت إىل كاونرت الطلبات ونظرت إىل القائمة املعلقة يف األعىل طلبت
نوع مل تألفه من القهوة وشعرت باخلجل أن تسأل من يتلقى منها الطلبات عن
ماهية هذا الصنف من القهوة وما بداخله وكيف يصنع..
وكام حدث سابقًا فوجئت بسعر كوب القهوة ..غايل جدً ا جدً ا ..لكن
ال أستطيع عن الرتاجع ..فدفعت جزء كبري مما معها من نقود يف ثمن القهوة
وقالت له الغي قطعة احللوى ..أنا لست جائعة ..اضطرت لفعل هذا بعدما
علمت ان القهوة غالية الثمن بشكل مبالغ فيه وهي يف النهاية عبارة عن بعض
من القهوة والسكر واللبن فام بالك باحللوى ..كم يا تري يكون سعرها..
احسنت الترصف أن الغتها..
جلست عىل أحد الطاوالت غري املرحية ..كل هذه األموال وأجلس غري
مسرتحية ..ما هذا اليوم العجيب..
***
48
دخلت نورا إىل حجرهتا بعد أن اطفأت النور ..وأخربت اجلميع أهنا
بحاجة إىل النوم ..وأين هو النوم ..سافر بعيدً ا عن مقلتي نورا ..اخذت
األفكار تتحرك يف رأسها ذها ًبا وإيا ًبا ..وبعدما استمعت إىل ما قصه عليهم
سيادة العميد األب احلنون ..كم حتب أباها ..هي يف مأزق ..إن أخربت
أباها ..فهي تعلم متام العلم ان الرد هو الرفض بالتأكيد ..وأنه حمق يف ذلك..
ولكن« ..ماجد» ..هي حتبه بدرجة كبرية ..ترى فيه الشاب الوسيم ذو الطموح
أن يكون أحد ابطال العامل ..فهي كانت ً
دائم حترتم من هلم تطلعات وطموحات
تقودهم إىل النجاح ..ومن يعرف طعم النجاح ..يظل دو ًما يف نجاح إذا حافظ عليه..
وأنه من العيب أن ترفض دعوة ماجد للتعرف بأمه ..فهذه خطوة جيدة..
وأخريا استقر هبا الرأي أال ختذل
ً تزامحت األفكار يف رأسها ..بني رفض وقبول..
«ماجد» فسوف تقبل الدعوة وتقوم بزيارة األم ..لعلها تنجح يف أن جتعلها حتبها
وتعاملها كأبنتها وليساحمها اهلل وليساحمها أباها فيام هي مقدمة عليه ..والقيام
بإخفاء يشء هام كهذا عن والدها اجلميل ..املثل األعىل ..احلنون..
واآلن ..السؤال هو الشغل الشاغل ..ماذا ترتدي..؟؟؟ فبالتأكيد جيب
وأيضا ماذا تأخذ معها؟؟ ..اتأخذ ً
حمافظا إىل أبعد احلدودً .. أن يكون مظهرها
ور ًدا أم حلوى أم االثنني معا ..باقة من الزهور وعلبة من الشكوالتة الفاخرة..
49
أخريا استطاع
فخورا بنفسه بأنه ً
ً أما رشيف فقد جلس يف الرشفة وحيدً ا..
التخلص من سطوة اصدقاءه عليه حتت مقولة ..الشهامة ..الصحاب..
اجلدعنة ..صاحب صاحبه..
كل هذا مجيل ورائع ولكن بام ال يتعارض مع املثل واملبادئ هذا ما ألقاه
عليه سيادة العميد ..استمرت سعادته اكثر بأنه أصبح سيد قراره وليس منقا ًدا
وراء أحد ..ومن حقه أن يقبل أو يرفض أي طلبات ..وعىل اآلخر احرتام رأيه
وليس اجباره عىل القبول وحتويله إىل جمرد منصاع وتابع حتت نفس املسمى
والبنود التي تندرج حتت كلمة «الشهامة» فكم من شهامة أودت بأصحاهبا
إىل غياهب السجون أو تسببت هلم يف مشكالت عانوا من توابعها وويالهتا
لسنوات طويلة أو افسدت عالقات أرسية ..فالعقل هنا من يكون املتحكم
وله الغلبة ..وليس عاطفة احلب لألصدقاء وحسب..
كانت هذه هي أحد مشكالت وعقد رشيف مع حاله ..أنه غري قوي
الشخصية وقليل احليلة جتاه أصحابه ..فرس فرحته هو والدة رشيف جديد..
يعلم متي يقول ال ..وال يأبه بغضب أحدهم ولوم وتأنيب اآلخر واهتامه
بالنذالة واخلسة وعدم مساندته ألصدقائه ..إذا كان صديقي سيوقعني يف
مشكالت مع ارسيت أو القانون أو ضمريي فأنا يف استغناء عن هذه الصداقة..
وأنه ليس بالصديق احلقيقي الذي يتسبب يف ايذائي..
أهنت مروة كوب القهوة وهي تتمني أن تستمر ترشف منها لألبد كم
طعمها مجيل ..كم هو لذيذ هذا الكراميل املوضوع يف خطوط متشابكة فوق
رغاوي اللبن الساخن يف الطبقة العليا من الكوب..
50
كم هو لذيذ ويستحق ما دفع فيه ..آه ..تنهدت وهي تتمني أن حتيا حياة
هؤالء الناس وتستمتع بطعامهم ورشاهبم ومتاجرهم ومنازهلم وسيارهتم..
الخ.
فرغت القهوة وليس هناك ما تفعله ..والساعة ختطت الثانية بعد منتصف
الليل بقليل ..امسكت بحقيبة يدها بعد أن وضعت فيها بعض من املناديل
الورقية املطبوع عليها اسم وشعار املقهى الفاخر كي تتذكره ً
دائم وكي تتفاخر
باملنديل عندما خترجه من حقيبتها لتجفيف وجهها عن التعرق ..فيعلم من
معها أهنا جتلس وترشب قهوهتا يف هذه األماكن املميزة وأهنا سوف ختربهم اهنا
زبونة دائمة الرتدد هناك ..كذبة بيضاء ..ال ضري منها..
خطت خطوات جتاه الباب اخلارجي للمول وهي تنظر للخلف جتاه
الكافية والطاولة التي كانت جالسة عليها ومازال عليها كوب القهوة الفارغ
اآلن ..ثبتت عينيها نحو املقهى والطاولة قائلة ..سوف أعود ..انتظروين ..أنا
عائدة اليكم مرة أخرى ولكن يف املرة القادمة سيكون بجانب كوب القهوة
طبق من احللوى الشهية التي ألغيت طلبها ..اين عائدة ..سوف ترون..
مهت مروة بعد أن نزلت من عىل سالمل املول واصبحت يف الشارع
لإلشارة لسيارة أجرة تستلقها للبيت ..لكنها فكرت اهنا حتتاج للتفكري..
سريا عىل األقدام كي تستمتع باجلو اجلميل وتعيد
فقررت ان تعود إىل بيتها ً
التفكري يف كل يشء مر هبا اليوم بد ًءا من كالم أبيها عن القناعة ونعمة الرضا
والسالم النفيس الداخيل ..سور األزبكية ..رائحة الكتب ..لون الورق
األصفر ..النقود ..املتاجر يف املول ومجال املعروضات ..لكن األسعار ..آه من
51
األسعار ..فهي ال تصدق هذه األرقام الكبرية ..ولكن كان ختامها مسك..
كوبا من القهوة ..صحيح باهظ الثمن ..لكن ينقلك إىل عامل آخر خاصة وأنت
تعامل معاملة العظامء وأنت جالس وسط صفوة املجتمع ..مثلك مثلهم يا له
من إحساس رائع يعطي ثقة ال حدود هلا بالنفس..
خماطبا املقهى والكوب ..هل أنا جننت؟ هل
ً لكن ما جعلني انظر خلفي
حدثت يل لوثة من كل هذه األحداث وتناقضاهتا؟ ..بعد حديث عم زكريا
الطيب عن القناعة والثراء الفاحش لبعض الطبقات ..والفيزا كارت املفتوح
رأسا عىل مغارة عىل بابا ..ما هذا الزمن العجيب الذي نعيش فيه ..وكيف
ً
يل أن أحتدث للمقهى وللكوب الفارغ بعدما أفرغت كل حمتواه بداخيل..
فهو اآلن قابع يف معديت املستمتعة بطعمه الرائع ..ما جعلني اقول بكل ثبات
وثقة أين عائدة مرة أخرىّ ..آن يل بكل هذه األموال وأنا ما زلت أبحث عن
وظيفة..
***
52
قاد عالء سيارته مرسعا وهو غاضب ويشعر باملهانة وأنه قد صفع عىل
وجهه من رشيف ..الطرقات خالية وقليل من املارة يسري عىل األقدام وقليل
من السيارات هنا وهناك..
خماطبا إياه بقوة وعنف
ً فكر عالء أن يرسل إىل رشيف رسالة عىل هاتفه
وأنه لن يساحمه أنه اعتمد عليه ولكن رشيف تعمد ان خيذله..
مرسعا ..تظهر أمامه جسد فتاة تعرب
ً وبينام هو يمسك هباتفه و يقود
الطريق ..فلم يستطع الترصف و فعل أي يشء ..و يف جزء من الثانية حدث
ما هو غري متوقع حيث صدم بمقدمة سيارته شي ًئا ما ..وارتطم جسد الفتاة..
سقطت عىل األرض أمام سيارته ..نزل عالء بعد أن جتمهر بعض املارة
القليلني ممن كانوا يف الطريق..
طلب عالء من بعض الواقفني مساعدته عىل محل الفتاة ألخذها إىل
أقرب مشفي لالطمئنان عليها..
قاد عالء السيارة وهو يرجتف من اخلوف ..فهذه أول مرة يصدم هبا
إنسان ..فقد حدث مرة أن اصطدم بسيارة أخرى ..صدام خفيف من اخللف..
لكن أن يصدم إنسان ..فهذه أول مرة..
كانت الفتاة ملقاة عىل املقعد اخللفي للسيارة ..هل ماتت ..زاد رعب
عالء عندما ظن أهنا ممكن أن تكون ماتت ..لقد ضاع مستقبله وضاعت كل
أحالمه وسوف يزج به يف السجن..
53
إنه ال يستطيع حتمل هذا أبدا ..سوف يقتل نفسه إذا زجوا به يف السجن..
لقد عرفت اآلن أن مشكلتي مع أيب أسهل بكثري مما كنت اظن..
ملاذا انشغلت باهلاتف ..آه ..ألرسل إىل رشيف وأعنفه بكلامت قاسية..
رشيف مرة ثانية يتسبب يف ايذائي ووضعي يف موقف ال أحسد عليه ..يارب
اسرت..
صدر صوت خفيف من الفتاة امللقاة عىل املقعد اخللفي ..محد اهلل عالء
عىل أهنا مازالت هبا الروح..
وصل عالء إىل املستشفى وأخربهم أنه معه حالة طــوارئ ..توجه
املسعفون عىل الفور ومحلوا الفتاة عىل رسير املشفى املتنقل ذو العجالت..
ادخلوها للطوارئ..
نظر عالء إىل املقعد اخللفي فوجد عىل ارضية السيارة حقيبة نسائية عرف
أهنا اكيد ختص الفتاة أخذها واجته إىل داخل املشفى لالطمئنان عىل الفتاة..
جلس عىل أقرب مقعد ..تقدم إليه أحد موظفي االستقبال يريد أن يدون يف
األوراق الرسمية بياناته وبيانات املريضة وأنه البد من ابالغ الرشطة ألهنا
حادثة سري وهبا فتاة مصابة ..ال يعرف حجم اصابتها وال مصريها إال اهلل
سبحانه وتعايل ..هكذا رشح موظف االستقبال لعالء املوقف ..زاد توتر عالء
وخوفه بعدما سمع كلمة الرشطة وكلمة ال يعلم مصريها ..وبدأت الصور
ترتاقص أمام عينيه وهو بمالبس السجن ..وهو يف حمكمة وأمه منهارة وأبوه
يصب عليه جم غضبه ولعناته بام سبب هلم من فضائح ..وكم هي سمعته
احلسنة عنوان حياهتم بني اجلريان ً
وايضا يف جتارة املالبس اجلاهزة..
54
هز موظف االستقبال كتف عالء وهو غارق يف افكاره وختيالته املرعبة
وانتبه واملوظف يسأله ..هل معاك بيانات املصابة ..اسمها ..عنواهنا ..تاريخ
امليالد ..أي بيانات ..أجاب عالء بتلقائية ..أنه ال يعلم من هي وليس لديه أي
سابق معرفة هبا..
ما هذا اليوم النحس ..كل هذا بسبب ذاك امللعون «رشيف»..
فبينام هو يفكر فإذا باملوظف يسأل عالء «أمال شنطة مني دي»..
نظر اليه عالء واستفاق مما هو فيه من غياب عن الوعي ..نعم اعتقد
أهنا حقيبتها ..اخرجوا حافظتها من احلقيبة واطلعوا عىل بطاقة هويتها ألخذ
بياناهتا ..فأخذ عالء يقرأ عىل املوظف البيانات املدونة يف البطاقة ..االسم/
مروة زكريا احلسيني...
***
55
استيقظت نورا يف الصباح عىل دوي صوت جرس هاتفها ..استفاقت
ونظرت لتجد رقم غري معروف ..اجابت فإذا به العم زكريا ..فجاءها صوته
بلهفة ..أنا آسف يا آنسة نورا ..اتصل يب أحدهم من املستشفى وابلغني ان
مروة تعرضت حلادث سري ..صدمتها سيارة ..أنا سوف اذهب إىل هناك
وأرجوك ان حترضي فأنت تعلمني كم هي حتبك..
بعد فرتة قصرية كان حول رسير مروة كل من العم زكريا وعالء يتبادالن
احلديث وعالء ال يتوقف عن تقديم اعتذاره ّ
عل عم زكريا يغفر له امهاله يف
القيادة ..فتحت نورا باب الغرفة وحيت عم زكريا بلهفة مستفرسة عن حالة
مروة التي هبا بعض كدمات يف اماكن متفرقة من جسدها ..ونظرت ملن هو
واقف بجانب عم زكريا ..إنه عالء صديق رشيف..
نظر اليها عالء بكل ما فيه من غضب وكره ملا فعله رشيف وقناعته بأنه
السبب وراء كل هذا النحس الذي يالزم اليوم وكاد أن ينفجر يف وجهها آخذا
بثأره من أخيها الذي كان صديقه ..ولكنه متالك نفسه وقرر الصرب حتى يفكر
هبدوء يف الطريقة التي ينتقم هبا ويرد اعتباره..
56
فأجاب عىل نوراً ..
أهل نورا ..لكن السؤال ..ما الذي أتى هبا هنا ..ومن
الواضح اهنا تعرف والد األنسة مروة املصابة ..فسأهلا ماذا أتى بك هنا؟ ..هل
سبق لكم التعارف ..فأجابت نورا «نعم إهنا مروة صديقتي وهذا والدها»..
ثم نظرت إىل عم زكريا ..هذا عالء صديق رشيف أخي يا عم زكريا..
***
57
متوجها لإلسكندرية حيث انتهت
ً حزم رشيف حقيبته يف الصباح الباكر
أجازة هناية األسبوع ..مرتد ًيا الزي الرسمي لضباط البحرية التجارية..
استقل القطار ..جلست يف املقعد املقابل له فتاة عىل قدر من اجلامل رقيقة تتسم
بالبساطة لكنها كانت منهمكة يف العبث بأزرار هاتفها املحمول ..وعيناها
مغرورقتان بالدموع ،وكأنه مطر يريد أن ينهمر وتوقف فجأة حلني صدور
اإلذن باهلطول..
نظر إليها رشيف وبداخله كم من التساؤالت ..ترى ماذا يبكي هذه
الفتاة ..هل ضايقها أحد ..هل هي تائهة؟ ..هل فقدت نقودها وليس لدهيا
تذكرة القطار؟ هل تراها مريضة؟ ..عرشات األسئلة بال إجابات جالت يف
رأس رشيف يف دقائق معدودة ..بعدها قرر أن يسأهلا ..استجمع كل قواه
واستحرض شجاعته واقرتب منها بأدب شديد وخجل واضح ..هل حرضتك
بخري ..هل يل أن أساعدك ..عادة ال تلتفت هي ملثل هذه العبارات حيث
عادة تكون مقدمة سخيفة ومعروفة للتعارف وهي ليست عىل استعداد يف
الدخول يف مثل هذا السخف ..لكنها عندما رفعت عينيها ونظرت إليه ..رأت
شا ًبا يرتدي بدلة البحرية التجارية ..شعرت باالطمئنان ،وأنه من املستحيل
أن تكون تلك املقدمة نوع من املعاكسات حيث هي تعلم أن أصحاب هذه
58
املهنة يوقرون وحيرتمون زهيم إىل حد كبري ..أجابته ..أنا بخري لكن هاتفي
ال يعمل ..مات فجأة وأنا يف أمس احلاجة إليه ..فظرويف حتتم ع ّ
يل أن أجري
بعض املكاملات قبل وصولنا حمطة سيدي جابر يف االسكندرية..
أخرج هاتفه من جيب سرتته ..قدمه هلا ..تستطيعني استعامل هاتفي يف
أي وقت إذا أحبتي ..شكرته بأدب ..موضحة له أن املشكلة أهنا مثل الكثريين
ال حتفظ األرقام ..كلها عىل ذاكرة اهلاتف ..وإذا فقدته أو ال يعمل فأنا ال
استطيع اجراء أي مكاملة ..فكر رشيف لثواين ثم اقرتح عليها إن وافقت أن
يتفحصه لربام يستطيع اصالحه ليعمل ..عىل األقل لتحصل عىل األرقام من
ً
حماول بكل الطرق التي يعلمها عن أرسار عليه ..وافقت وجلس يف مقعده
تشغيل تلك اهلواتف وبعد فرتة عاد إليها إنه حاول ،ولكن لألسف فشلت
املحاولة ثم استطرد وكأنه وجد ما هو تائه منه ..أنا عندي فكرة أحنا ممكن
نأخذ الرشحية الصغرية بداخل هاتفك ..نضعها يف هاتفي وبذلك تستطيعني
احلصول عىل األرقام خاصة وأن هاتفي برشحيتني حيث يمكن وضعه يف
الرشحية رقم اثنني حيث أن لدي خط واحد فقط..
فرحا ..كيف مل
انفجرت أساريرها وابتسمت ابتسامة عريضة وهللت ً
ختطر هذه الفكرة عىل بايل ..حرضتك يف منتهي الذكاء..
ابتسم رشيف وشعر بيشء من الثقة الزائدة وكأنه يقول ان هذا اقل ما
لدي ..بالرغم أنه منذ حلظات كان يشعر أنه فاشل وال جييد الترصف..
نجحت الفكرة واستخرجت الفتاة أرقام التليفونات املهمة ودونتهم
عىل ورقة حتى ال تكرر اخلطأ ..أكمال الرحلة سو ًيا بعد أن تبادال التعارف..
59
هي «مايا» ..متخرجة يف كلية الفنون اجلميلة باإلسكندرية ..كانت يف القاهرة
لزيارة عمها الذي تعرض لوعكة صحية مفاجئة ..تبادال األحاديث يف
جماالت شتى حتى وصول القطار إىل حمطة سيدي جابر ..اتفقا عىل اللقاء يف
االسكندرية وافرتقا بعد ان تبادل ارقام تليفوناهتام..
استقلت سيارة كانت يف انتظارها بجوار املحطة واستقل رشيف سيارة
اجرة تقله إىل األكاديمية ويف الطريق كانت صورة «مايا» تتحرك أمام عينيه
بخجلها ..أناقتها ..أدهبا وعدم قدرهتا عىل الترصف يف مشكلة التليفون ..كان
رشيف من النوع الذي حيب ان تعتمد عليه فتاته يف أمور كثرية ،وأن تعود إليه
يف كل كبرية وصغرية يشعره بأمهيته وخربته التي اكتسبها يف حياته هلا قيمة
ومعنى وتصلح ألن ينقلها اليها لتستفيد منها ،فتح هاتفه ونظر إىل ارقام هاتفها
كم هي ارقام مجيلة مرتاصة بعناية أرقام كلها زوجية وسهلة التذكر..
أما مايا فانطلقت هبا السيارة التي أرسلها إياه أباها ..فأباها هو الدكتور
«كامل شوقي» أستاذ جامعي متقاعد وهب حياته بعد التقاعد للعمل العام،
وخدمة املجتمع ..فقام بإنشاء مجعية خرية لرعاية املكفوفني وضعاف البرص..
يف حي الشاطبي باإلسكندرية ..هو سعيد هبذا العمل الذي يؤديه ..رغم
صعوبته ومسئولياته الكثرية لكنه مبهور بالنتائج التي يصلون اليه ويعاونه يف
العمل يف اجلمعية بعض من املتخصصني يف رعاية املكفوفني ،وبعض الشباب
من املتطوعني ..وبينهم «مايا» فهي تعمل لديه يف أجازهتا واأليام التي ليس هلا
فيها عمل ..فهي تعمل مصممة ديكور ..حتب هذا العمل جدً ا حيث التعامل
60
مع اخلامات املختلفة واأللوان يشعرها بسعادة غامرة خاصة بعد أن ينتهى
العمل وتستمع إىل ثناء العميل عيل ذوقها يف ديكور املكان..
ولكن اكثر ما يؤرقها يف هذا العمل هو صعوبة التعامل مع عامل الدهان
والبناء والكهرباء وخالفه ..حيث إهنم أحيانًا يتأخرون عن احلضور ،وأيام
أخرى ال يأتون من األساس فشغلها الشاغل ً
دائم هو البحث عن طاقم عمل
ملتزم بمواعيده ..ذو مهارة وكفاءة ..إلهناء العمل يف ميعاده بدون تأخري..
حيث إهنا ترى أن أساس عملها قبل اجلودة والذوق هو السمعة الطيبة
وااللتزام بميعاد التسليم..
مايا ..يتيمة األم ..توفيت والدهتا وهي مرشفة عىل امتحانات السنة
النهائية باملرحلة الثانوية ..ورغم أحزاهنا وما مرت به من فرتات صعبة
استطاعت ان تستعد لالمتحانات وأن تلتحق بكلية الفنون اجلميلة..
عندما رأت «مايا» «رشيف» شعرت باالرتياح خاصة ظهوره املفاجئ
لنجدهتا والتعامل مع املشكلة التي تبدو بسيطة لكنها كانت سوف تؤخر عودهتا
وهي لدهيا ارتباطات هامة بعمل ديكورات ألحد الفيالت الدوبلكس..
وقارا وهيبة..
هو وسيم وعيناه مرحيتان ..انيق ..سرتته البحرية تعطيه ً
قريبا حيث هي ختجل
وتتمني أن تكون بينهام صداقة ،وأن يبادر باالتصال هبا ً
نظرا ألهنا ال تعرفه وال يعرفها جيدً ا ً
وأيضا كي ال أن تأخذ خطوة مثل هذاً ..
يظن هبا اهنا فتاة سهلة الوصول إليها..
***
61
يقيض ماجد عادة يف النادي نصف وقته يف اجليم لبناء العضالت
والتمرين عىل رفع أوزان وأثقال متفاوتة ..ثم يتناول غذاءه وهي وجبة عادة
ما تكون مليئة بالربوتينات ..ثم يقيض النصف الثاين من وقته يف االسرتخاء
واالستشفاء اخلفيف بأن يميش حول الرتاك فيقوم بالدوران لستة مرات..
ولكن اليوم حتديدً ا كان ماجد متشوق للقاء نورا إلعادة اقناعها بزيارة أمه
والتقرب منها ظانًا منه أهنا رفضت الفكرة ..فهو ال يوجه إليها أي لوم إذا
فعلت..
أهنى ماجد الدوران ملدة مخسة مرات وهو اآلن يسري ببطء يف املرة األخرية
يسري وهو يتلفت يف كل اجتاه ممكن أن تظهر منه نورا ..بدأ الشعور باإلحباط
يزداد ..وتسلل إىل نفسه شبح فقدان نورا ..أترى غضبت منه إىل هذا احلد..
فهي مل هتاتفه ليلة أمس وال يف الصباح كام كانت معتادة ..مل يسمع منها «صباح
اخلري» ..هل أخربها أحد عن أمي وعن صعوبة التعامل معها؟ هل عرفت
أنني انوي إذا تزوجنا أن نعيش يف بيت أمي لذلك قررت أن هتجرين وهترب
وتنجو بنفسها ..لكني أرى ً
دائم احلب واللهفة يف عينيها يف كل مرة نتقابل
فيها ..هي رقيقة وواضحة وال أظن أهنا تسلك ذلك املسلك ..اسلوب
االختفاء واالختباء ..إذا أرادت ان تقطع عالقتها يب فبالتأكيد سوف ختربين
62
بذلك بنفسها ..هل حدث هلا مكروه ..ربام تكون مريضة ..ربام حدثت مشادة
مع سيادة العميد حول هذا املوضوع ال ..ال ..أنا أعلم أنه رجل ذو عقل راجح
وحكمة ..فسمعته ناصعة البياض وهو رجل متفاهم وليس ديكتاتورا وعقله
متفتح كام كانت هي ختربين عنه ..فلقد أحببته قبل حتى أن اتقابل معه ..إذا
ماذا؟
انتهت سادس لفة حول الرتاك ..مازالتا عينا ماجد تدوران يف كل اجتاه
بحثًا عن نورا ..فهي متثل الزهرة اجلميلة يف النادي ..وكم رفضت خطا ًبا
حسبام سمعت ..فأنا حمظوظ لدرجة كبرية إن وجدت لدهيا ً
قبول يل ..وبدأنا
يل ً
أول احلصول كأصدقاء ،واألن نحن احباب وأريد أن أخطبها لكن يتحتم ع ّ
ً
وأيضا ألننا سوف نعيش لدهيا نظرا ألهنا أمي
عىل رضاء أمي وموافقتهاً ..
يف بيتها ..بدأ ماجد بالشعور بالتعب بعد أن وصل للفة التاسعة ..وإذا به
يسمع صوتًا يأيت من خلفه ..نعم هي ..إهنا نورا ..بط ّلتها اجلميلة وابتسامتها
املعهودة ..تنظر إليه وتومئ برأسها بإشارة فهم منها أهنا تعني «نعم».
***
63
استفاقت مروة لتجد نفسها يف رسير يف مشفي ومعلق يف يدها بعض
املحاليل ..ورأسها مربوط وبعض أجزاء يف جسدها تؤملها..
جالسا عىل كريس بجوارها وهو نائم ..نادته فلم ً نظرت لتجد أباها
مفزوعا وعىل وجهه آثار
ً ينتبه ..نادته مرة أخرى بصوت أعىل ..فإذا به ينتبه
التعب وكأنه مل ينم منذ أسابيع ومل يبدل مالبسه أو يتحمم ..فرح العم زكريا
برؤيته مروة ..ويبدو عليها آثار حتسن وأهنا تتحدث بوعي كامل ملا حوهلا..
سألته :ماذا حدث..
اذكر أين كنت عائدة من املول إىل البيت وكنت أسري يف الطريق الذي كان
خاليا من املارة أو السيارات إال القليل وبعدها شعرت باصطدام من خلفي ومل
ً
أدر ماذا حدث بعدها ..أهل هذا االصطدام كان من سيارة؟!!
أصدمتني سيارة ..من أتى يب إىل هنا؟!! البد أهنا سيارة االسعاف..
أخربين يا أيب أصحيح أن صدمتني سيارة ..وأكيد فر السائق امللعون بسيارته
وهرب من حتمل املسئولية ..آه لو أعرف من هو هذا اللعني ..البد من ابالغ
الرشطة عنه ..أو ربام تكون سيدة مشغولة هباتفها ..أو بإصالح زينة وجهها
وهي تقود السيارة بإمهال ..أنسوين طعم القهوة الرائعة التي تناولتها..
فتح باب الغرفة ..طل منه وجه عالء..
64
تفحصت مروة وجه عالء جيدً ا بعد أن دخل الغرفة واعتذر لعدة مرات
وكان العم زكريا ً
داعم ملوقف عالء فهو يرى فيه انسان حمرتم ..اهتم بابنته
بعد احلادث ..غري كثري من الناس عادة ما ينتاهبم اخلوف فيقررون اهلرب
والنجاة بأنفسهم بعيدً ا عن حتقيقات الرشطة أو ابتزاز املصاب وطلب األموال
كتعويض مع نفقات العالج..
بعد أن جالت مروة وصالت يف مالمح عالء وتفاصيل بنيانه ..مل تكن
سعيدة ..فهي طاملا حلمت بشاب مجيل ..وسيم ..مهندم ..يعرف كيف
يرتدي عىل أحدث املوضات ..فإذا هبا جتد عالء غري وسيم قصري إىل حد ما
غري مهندم ..وبه نظرات حائرة غري مرحية..
تبادال احلديث وكان العم زكريا يشرتك معهام يف احلديث أحيانًا وأحيانًا
أخرى يقدم احللوى والعصري لعالء أو يذهب إىل الكافترييا إلحضار أكواب
الشاي الساخنة..
علمت مروة أن سيارة عالء من املاركات املعروفة الباهظة الثمن وأن
متجرا للمالبس بوسط البلد ..وأنه وحيد ابويه و ميسور احلال
ً أباه يمتلك
إىل حد بعيد..
غنيا
هذا ما كانت مروة حتلم به وتصبو دوما إليه ..أن تتزوج من رجال ً
فتحيا حياة صفوة املجتمع ..تشرتى ما تريد وتأكل ما تشتهي وترتدي افخم
الثياب من اشهر بيوت االزياء ..وأن يكون هلا منزل عرصي به كل ما حتلم
ً
وأيضا يكون هذا الزوج مجيل الشكل والصورة ..وسيم.. به وحتتاجه اليه..
65
تتفاخر به أمام أصحاهبا وأقارهبا ..طويل ..أبيض ذو عينان خرضاوان أو
زرقاوان بشعر بني فاتح أو أشقر..
ولكنها تعلم جيدا أن اإلنسان ال يتحصل عىل كل يشء ..وعليها أن ختتار
إما الوسامة ام املال ..وقبل أن جتيب عن هذا السؤال تبادر إىل ذهنها أهنا تراه
وتتحدث معه للمرة األويل ..فهي ال تعلم عن حياته اخلاصة شي ًئا ..ربام يكون
متزوجا ولديه أوالد أو مطلق ..أو كاره للنساء وحيمل بداخله من
ً خاطبا ..أو
ً
العقد الكثري..
كيف يل أن افكر فيه كرجل املستقبل ..وأنا بالكاد أعرف اسمه وعدد
االعتذارات التي قدمها ..وليست لدي الشجاعة الكافية أن اسأله يف هذه
األمور الشخصية ولكن كل ما استطيع فعله اآلن أن أحاول النظر إىل أصابع
يده إن كان يرتدي خا ًمتا للزواج ..ويف اليد اليمني أم اليرسى ..نظرت فإذا به
واضعا يديه يف جيوب رسواله..
ً واقف مكانه
قالت لعالء ..اتفضل العصري يا استاذ عالء وقطعة من الشكوالتة
فأجاب أنه أخذ بالفعل ..أرصت أن يستزيد ويأخذ مرة أخرى ألنه فأل غري
حسن أن يرفض طلبها..
لبى طلبها ..أخرج يده ..فكانت كلتا يداه خاوية من أي خاتم زواج..
شعرت باالرتياح فقررت نصب شباكها حوله ..فإنه عريس لقطة كام يطلق
البعض ..التنازل عن الشكل ممكن لكن التنازل عن املال واحلياة املرحية فإنه
أمر غري حمتمل وال تنازل عن رغد العيش إطال ًقا ..كفى ما ضاع من حياهتا..
منذ سنني وهي حتيا حياة يقولون عنها "مستورة" ..لكن هي ال تراها كذلك..
66
إهدارا للعمر وحرمان ما بعده حرمان ..ملاذا يتمتع األخرين بحياة
ً هي تراها
ال نعرف عنها إال القشور ..ملاذا أمر من أمام مطاعم الكباب الشتم رائحة
الدخان فقط ..يسيل لعايب وال استطيع تذوقها واالستمتاع هبا..
لدي مقومات مجالية أنثوية غري متوفرة
أنا لست أقل من أناس كثريينّ ..
لكثري من اإلناث ..وهذا وحده كفيل ليلهث ورائي هذا العالء..
سأجعله بال قدرة او استطاعة ان يقاومني ..هو جيذبني بأمواله وأنا
أصيبه بلوثة من جنون أنوثتي ومجايل..
كان عالء ينظر إليها وال يشء جيول يف باله إال كيفية اخلروج من هذه
الورطة حيث كان ينتظر وصول أمني الرشطة باألوراق الرسمية وبمحرض
صلح حيصل به عالء عىل الضامن أن مروة لن تقاضيه حيث أهنم تصاحلوا
ويقفل املحرض ويذهب ليعالج أموره مع أبيه ..خاصة أنه مل يذهب إليه
باألمس ليحصل عىل رضاه واليوم انتصف النهار ويود عالء أن يذهب إىل
أبيه يف املساء فيصلح ما أفسده عليه رشيف ..ولكن أخت رشيف نورا ظهرت
يف الوقت املناسب ..لعيل استخدم مروة إلذالل نورا وبالتايل إذالل رشيف
ً
توكيل معتمدً ا وأبيه اللذان يرفعان راية الصح والصحيح ..وكأهنام فقط لدهيام
لتحديد ماهية الصح والصحيح لألشياء ..فكلام اسمع حديثهام الذي ال خيلو
من تلك العبارة ال يصح إال الصحيح ..أكاد أجن واتساءل ..من اعطاكام
احلق يف حتديد الصحيح لألشياء ..فربام صحيحكم ال يتناسب ويتامشى مع
صحيحي ..لقد مللت وشعرت باإلعياء من كل هذه األحداث الرسيعة
املتعاقبة التي حتدث حويل بد ًءا من اخلروج للنزهة مع تلك الفتاة اللعينة التي
67
بالكاد أذكر اسمها إىل هذه املروة الراقدة أمامي والتي ظهرت كشيطان فجأة
بال مقدمات أمام سياريت أنا ..وملاذا أنا ..إذا أردت اهلالك وأن تلقي بنفسك
إىل التهلكة فلتذهبي وهتلكني ..لكن بعيد عن طريقي وبعيدً ا عن سياريت..
ويف هذه اللحظات استأذن أمني رشطة يف الدخول ومتم اجراءات حمرض
الصلح ..تنفس عالء الصعداء طار ًدا عنه شبح دخوله النيابة فاملحكمة فالبدلة
الزرقاء ..فالسجن..
***
68
جلست نورا مع ماجد جلسة مطولة ترشح له ملاذا غادرت وملاذا غابت يف
الرد عليه ..حيث حريهتا كانت هي الغالبة عليها واملتسببة يف تأجيل قرارها..
لكن اطمئن ال استطيع رد طلبك وأنا أكثر تشو ًقا للقاء والدتك والتقرب إليها
واالستمتاع بحديثها..
هم ماجد أن يطلعها عىل طبيعة شخصية األم وما هي مقبلة عليه من قنابل
َّ
موقوتة مزروعة يف كل مكان يف بيتهم ..أي أهنا مقبلة عىل اختبار هيئة واختبار
طاعة وبداية مرشوع خادمة ألمه املحبة لألكل وعدم احلركة ..الشاكية طوال
الوقت ..الناقدة الفاحصة املحللة لشخصيات من حوهلا ..فإما يكون هذا
الشخص يكرهها أو طامع فيام عندها من مال..
ظل ماجد صامدً ا عىل سكوته وعدم البوح بامهية املهمة املقبلة عليها نورا
يف بيته ..فكلام هم ليرشح هلا ..ختيلها تنتفض من مكاهنا وتغادره ً
ركضا بأقىص
ما لدهيا من رسعة إىل أن ختتفي وال يراها بعد اليوم ..فهو عىل أتم االستعداد
لتحمل أي يشء إال فقداهنا ..فهو يرى فيها زوجة املستقبل التي تليق بريايض
جيول عواصم العامل ومتتلئ املجالت الرياضية املتخصصة بصوره وتصبح
أخباره ملء السمع والبرص..
حددا موعدً ا يف مساء الغد لزيارة نورا ..والذهاب إىل وكر األفاعي..
بيت ماجد وأمه..
***
69
ما أن وصل رشيف إىل مكان اقامته خلع عنه سرتته وأخرج هاتفه ليهاتف
«مايا» ..ظل اهلاتف يصدر صوت رنان ..ومل جيب أحد عىل الطرف اآلخر..
شعر رشيف بالضيق وأنه ربام ترسع ..أكيد هي اآلن تنظر إىل رقم يظهر عىل
شاشة هاتفها وتدير رأسها ..أتراها تستخف به ..ربام ..وربام مشغولة بغريه..
أو أهنا ال تذكره حيث إهنا كانت جمرد رحلة قطار وانتهت بوصول القطار إىل
حمطته النهائية فينزل الركاب كل يف طريقه ..فال يدرك أحد من كان معه يف
نفس القطار منذ دقائق معدودة ..وماذا عن استعامهلا هلاتفي..؟؟
آه تذكرت لقد كان هاتفها ال يعمل ..ربام مل تستطع رشاء غريه ..ولكنها
ذكرت يف حديثها أن لدهيا يف بيتها هاتف آخر زائد عن احلاجة ..وأهنا سوف
تضع فيه الرشحية ..وفجأة رن هاتف رشيف ..نظر إىل رقم الطالب ..إهنا هي
«مايا» حيث سجل رقم هاتفها يف قائمة األسامء باسم «فتاة القطار» ظهرت فتاة
القطار ..رد رشيف وقلبه يرقص من الفرح وحاول أن ينظم أنفاسه ويكون
ً
متامسكا ال يظهر فرحته ..وان يتأدب يف حديثه قدر اإلمكان..
تبادال احلديث ..حيث شكرته يف البداية ملساعدته وتقديم العون هلا
لتستطيع االتصال بالسائق كي يقلها من املحطة ..إىل أن تناقشا يف أمور كثرية
..الدراسة ..األفالم املحببة لكليهام ..السياحة والسفر ..األماكن املفضلة
لكل منهام ..اختلفا يف اشياء واتفقا يف اشياء أخرى ..لكن كان هناك شيئان
70
اشرتكا يف حبهام ..األول أن مايا متخرجة من كلية الفنون اجلميلة بالقاهرة..
فاآلن أصبح لرشيف موعدً ا مع خرجيات الفنون اجلميلة املحببني إىل نفسه..
اخته نورا التي حيبها ويقدرها ..ومايا ..التي مل يكن رشيف يعلم أنه
سوف هينأ ويعرف معني العشق احلقيقي بنسامت وجودها هتيم حوله..
أما األمر املشرتك األخر بينهام ..هو حبهام للقهوة وملحل البن الربازييل يف
حمطة الرمل حتديدً ا ..فقد أخذ رشيف عن أبيه حب مذاق القهوة وتعلم عيل
يديه فنون صنعتها وأنواعها وكل علم يتعلق هبا ..ومنذ أن التحق باألكاديمية
البحرية التجارية باإلسكندرية ..فقد صار عشقه رشب القهوة املقدمة
حتميصا وطح ًنا يف حمالت البن الربازييل العتيقة بمحطة الرمل
ً طازجة..
والتي تعد بمثابة أحد أهم معامل اإلسكندرية ..هكذا كان رشيف دو ًما يقول
ألصحابه يف القاهرة يف أجازته األسبوعية ..الغريب أن مايا ..كانت تعشق
هذا املكان ..وتستمتع برشب القهوة هناك
***
71
استعدت نورا يف حجرهتا ارتدت مالبس طويلة فضفاضة ..رفعت
شعرها ألعيل وارتدت بعض احليل البسيط ..ووضعت القليل من املساحيق..
وأمحر شفاه خفيف ..استقلت سيارة أجرة وطلبت من السائق أن يذهب هبا
إىل أحد حمالت الزهور قبل إيصاهلا إىل العنوان القابع به بيت ماجد..
انتقت باقة من الزهور املتنوعة األشكال واأللوانً ..
فعل زهور رقيقة
وساحرة يفوح منها عبري هييم بالروح وحيلق إىل آفاق بعيدة تنسى معها مهوم
ذاهبا إىل جنة اخللد..
احلياة وكأنك غادرت كوكب األرض ً
هذا ما يفعله عبري ولون الزهور بوجدان وقلب نورا الرقيق املرهف..
وقبل أن تغادر حمل الزهور ..فكرت أن تشرتي ً
أيضا مزهرية تليق بتلك الباقة
الرائعة ..حس ًنا فكرة جيدة ً
فعل اشرتت وطلبت من البائع أن يغلفها تغليف
هدايا بعناية وتنمق..
وقفت نورا أمام شقة ماجد ..ضغطت عىل زر اجلرس ..فسمعت من
ينادي من الداخل بصوت مسموع ملن يف اخلارج« ..انت يازفت افتح الباب..
أمل تسمع اجلرس» دق قلب نورا بشدة ..أترى من يقول تلك الكلامت الفظة..
ربام صوت من التلفاز ..ولكن كيف عرف وتزامن ذلك الصوت مع رناهتا
جلرس الباب..
72
طردت نورا تلك األفكار خارج رأسها يف اللحظة التي فتح فيها ماجد
ً
حماول الباب بجسده الضخم ليسد فتحة الباب ويكاد بعض الضوء املشع
الظهور من بني أذرعه ..القت عليه التحية ..رحب هبا أشد الرتحيب وأخفي
ما بداخله من هلع وخوف من تلك املقابلة وكعادة كل الناس وضع يده عيل
ً
متمتم «ربنا يسرت».. قلبه وهو يغلق الباب خلف نورا
ابتسمت احلاجة نعامت ..ابتسامة يف وجه نورا من الصعب تفسري
ً
وسهل ..رشفتينا ..تفضيل اجليس معناها ..مدت يدها مصافحة نوراً ..
أهل
عىل الكريس أمامك خليني أشوف كويس..
بالغ ماجد يف الرتحيب بنورا مستخد ًما كل العبارات التي يسمعها عند
الرتحيب بالضيوف ..استمرت اجللسة يف حدود الساعتني خرجت بعدها نورا
من بيت ماجد فرحة وشعرت أهنا يف أمان بني ترحاب احلاجة نعامت وحفاوة
ماجد ..شعرت بارتياح ولكنها مل تكن تعلم أهنا مشاعر مزيفة مترسعة وأن
جدران هذا البيت سوف تشهد عىل بداية خفوق واهنيار شمس نورا..
دخل ماجد حجرته وهو يف غاية السعادة أن املقابلة متت عىل خري وكانت
أمه لطيفة للغاية مع نورا ..مرحبة مبتسمة عىل غري عادة ..شعر بسعادة غامرة
وأن حلمه يف الزواج من نورا يقرتب ..وفجأة استفاق من أحالمه عىل صوت
أعىل من زئري الطائرات« ..انت يازفت» فقد كانت هذه هي الطريقة والعبارة
املحببة للحاجة نعامت للنداء ملاجد..
"جايبلنا ورد ..ورد ..وإيه ده كامن ..فــازة ..أعمل بيهم إيه مش
كانت جابت حاجة تتأكل أحسن أو شوية مكرسات اتسىل بيهم» ..بنات
مابتفهمش ..إحنا بقى حاناكل الورد ده مشوي وال مقيل..
73
حتولت احلاجة نعامت بعد أن خلعت عنها قناع الوداعة وعادت إىل
صورهتا األصلية بعد خروج نورا من باب البيت ونفضت عنها ثوب الود
واحلب واألم احلنون الذي ارتدته مؤق ًتا إرضاء ملاجد بعد أن قىض ساعات
يستجدهيا ويستعطفها أن حتسن مقابلة نورا وترحب هبا غاية الرتحيب..
ذاك الثوب القابض عىل أنفاسها ..تكاد روحها خترج من بني جنباهتا بسبب
دورا
التكلف الزائد التي كانت فيه ..فكانت كممثل عىل خشبة املرسح يؤدي ً
يكرهه ..فيتمنى الساعة التي تأيت ويسدل الستار وتنتهي املرسحية وينتهي
دوره ..وال هيتم إن صفق له اجلمهور أم ال فشغله الشاغل واملستحوذ عىل
دورا يمقته بشدة..
تفكريه هو إهناء اداء ً
استقلت نورا سيارة أجرة إىل منزهلا ..تشعر بالفرح والسعادة وكأهنا
صعبا ويف الغد سوف تعرف النتيجة من ماجد عندما تسأله
ً اجتازت امتحانًا
عن رأي أمه فيها ..لكنها تشعر من خالل األحاديث املتبادلة أن احلاجة نعامت
مبسوطة منها..
واألن يا أيب ..يا سيادة العميد ..حان الوقت أن أصارحك بام أخفيت
عنك ..أول مرة أقدم فيها عىل اخفاء يشء عنك ..وآخر مرة ..حان الوقت
ألحكي ..وتلتمس يل األعذار ..فأنا متعلقة بتالبيب عقلك وحكمتك..
إنك سوف تلتمس يل العذر وتساحمني ..ربام أخطأت فيام أقدمت عليه ..كان
ع ّ
يل أن أستأذن وأرشكك معي فيام جيرى ..لكن البنات يا سيادة العميد هلا
خماوف ..وحالة من التفكري ختتلف بعض اليشء عنكم أنتم عامل الرجال..
اجلامد ..العامل عقله و مراعاة األصول يف كل يشء..
74
هكذا كانت تتخيل نورا حديثها ألبيها وهي يف السيارة األجرة إىل أن
وصلت أمام منزهلا..
صعدت مرسعة ..دخلت إىل البيت تبحث عن سيادة العميد ..سمعت
صوت السيدة أم كلثوم يأيت من الرشفة ..تشدو بأغنية «اسأل روحك»
فأدركت أن سيادة العميد يف أحسن حال ومزاجه صايف ..فهي تعلم كم
حيب أباها االستامع إىل أغاين أم كلثوم ..وأن هذه األغاين هلا أعظم األثر يف
حتسني مزاجه وسعادته ..وهذا ما شجعها وأعطاها الضوء األخرض أن الوقت
مناسب للحديث معه ..فامذا لو غضب من ترصفها ..فتكون بذلك تسببت يف
تعكري صفوه ومزاجه ..أقول له ..أم ال ..هي احلرية..
نفس احلرية التي انتابتني باألمس ..قبل الذهاب إىل املقابلة ..واآلن
تنتابني وتلبسني نفس احلرية بعد عوديت ..لكن جيب أن أكون حازمة يف
قرارايت ..سأخربه باألمر وليكن ما يكون ..إذا تناقش معي هبدوء ّقبلت يده
ومرت األزمة عىل خري ..وإذا غضب سأهرب إىل املطبخ واستعني بأمي لتلعب
دور الوسيط بيننا وترقق فؤاده ع ّ
يل ..أليس اسمه فؤاد ..أي قلب ..أطيب
يل ..وال أطيق أن أخذله ..فهو ً
دائم وأحن قلب يف الدنيا ..أنا ال أطيق غضبه ع ّ
يتوسم ّ
يف اخلري والعقل الراجح وإعامل العقل للوصول إىل الصواب..
اجتهت نورا صوب الرشفة وتنحنحت ..تنحنحت ثانية بصوت أعىل..
سارحا مع األغنية..
ً انتبه العميد فؤاد ..بعد أن كان مغمض العينني
"تعايل يا نورا ..اسمعي معايا الست" بس قويل ملامتك تعمل لنا شاي
بالنعناع وأجليس بجواري..
75
تشجعت نورا ..وبدأت يف رسد ما حدث هلا بالتفصيل إىل وصوهلا للبيت
بعد انتهاء املقابلة ..ثم استطردت قائلة ..استحلفك باهلل يا أيب أال تغضب
مني ..اعذرين ..فأنا ترصفت من منطلق عقيل واختذت قراري بعد أن اهتديت
بعد طول تفكري أنه ال ضري مما حيدث..
سكت األب للحظات ثم وضع يده احلانية عىل كتف نورا وضمها ً
قائل:
أنا ثقتي فيك كبرية وإن كنت ً
دائم أطلب منك االستئذان ..فهذا فقط خلويف
عليك ومحايتك ..وليس تقليل من ثقتي فيك أو يف رجاحة عقلك أنا أكيد
كنت أمتني أن تصارحيني من البداية وترشكيني معك ..لكن تعودنا يف اجليش
ً
ودائم اإلنسان يتعلم من أخطائه.. أن نعطي فرصة ملن أخطأ..
لكن يا نورا ِ
أنت الزم تدعي ماجد للحضور إىل بيتنا ومعه والدته لو
أمكن للتعارف ..أنا واثق من اختيارك لكن دعيني أراه وأجلس معه ألطمئن
عليك وإن سارت األمور بخري ..نفرح بيك ونخلص منك يف نفس الوقت..
ابتسام سو ًيا وحتولت اجللسة يف الرشفة إىل ضحك ونكات بعد أنه بدأت
بخوف ورهبة وتردد ..ظلت نورا قابعة يف حضن أباها احلنون ..إىل أن دخلت
مدام /كريمة ..األم بأكواب الشاي بالنعناع..
***
76
قابعا يف السيارات لدقائق
أوقف عالء سيارته أمام متجر املالبس ..ظل ً
يفكر كيف يبدأ حديثه ..وبامذا يعلل كل ترصفاته املشينة وأخطاءه ..وفجأت
طرأت يف رأسه فكرة ..وضع يده داخل حقيبته الصغرية وأخرج منه صورة
ضوئية من حمرض التصالح بينه وبني مروة ..أشار إليه ً
قائل أنت املنقذ..
دخل إىل املتجر ..سأل أحد العاملني عن أبيه ..أجاب أنه يف الطابق
ً
منهمكا يف استعامل اآللة احلاسبة إلجراء العلوي يف املكتب ..حيث كان األب
بعض احلسابات اخلاصة بتوريدات املالبس اجلاهزة ..وقف عالء أمامه
للحظات..
انتبه األب ..نظر إىل عالء نظرة لوم ..وغضب ..عتاب ..وغضب..
حزن ..وغضب ..تساؤالت ..وغضب
77
باألب يفاجئ عالء برده املتسم بالربود الشديد وسخرية أشد« ..ها ..ماذا..
صدمت نملة أم ذبابة»..
كفاك كذ ًبا ..عيناك تفضحك ..حتى الكذب فأنت فيه فاشل..
نظر عالء إىل األرض وكان مستعدً ا للحظة تكذيب األب له ..فأخرج
صورة حمرض الرشطة بالتصالح ..مد يده به إليه ً
قائل" :اتفضل ده دليل صدق
كالمي" ..لوال أن الفتاة وأباها ناس طيبني ..كان زماين يف هبدلة من كل اجتاه..
فقد تنازلوا عن حقهام ورفضوا أي تعويض مايل..
قرأ األب صورة املحرض بعناية ثم قام من مكانه وربت عىل كتف عالء
ً
قائل :انت ابني الوحيد ..بحبك وأحيانًا أقسو عليك ملصلحتك ولكي يشتد
عودك ..اعذرين ..ومحدا هلل عىل سالمتك ..تعاىل ننيس اليل فات ..وارجع إىل
عملك ..وكل حاجة تكون أفضل إن شاء اهلل..
انفرجت اسارير عالء وهدأ قلبه وابتسم ولسان حاله يقول ..احتلت
املشكلة وبدون مساعدة هذا الرشيف اللعني..
وبدأ عالء يستعيد ما فاته من العمل يف اليومني املاضيني واستمع من أبيه
بتقرير وايف عن العمل..
***
78
البن الربازييل ..هو املكان الذي شهد أول لقاء بني رشيف ومايا ..جلسا
سويا ومها يرتشفان مرشوب الكابتشينو املحبب إليهام ..وتبادال أطراف احلديث
وبعض النكات وبعد كل رشفة من فنجان القهوة اإليطالية ذو اللبن كثيف الرغوة
تشري مايا إىل فم رشيف أن هناك شار ًبا أبيض كام كانت تسميه ..وهي بقايا رغاوي
احلليب ترتك عالمة عىل الشفاه العليا ..تشبه الشارب الشائب للكهول..
كثريا ويف كل مرة تشري إليه مايا ..تضحك ضحكة تكرر هذا األمر ً
يرقص هلا قلب رشيف ..فلقد أحب ضحكتها وصوهتا ..وتلقائيتها يف
كثريا ودائمة النظر
احلديث ..حيث يصدر من قلبها ..وأهنا تتحدث عن عملها ً
يف هاتفها وارسال بعض الرسائل واستقبال رسائل أخرى ..ثم قام رشيف
بدوره باحلديث عن أهم الشخصيات يف حياته ..سيادة العميد فؤاد صادق..
مؤخرا بينه وبني
ً وكيف هو متأثر بأخالقياته ..وقيمه ثم حكي هلا ما حدث
وكم احلرية التي الزمته إىل أن اهتدي إىل طريق أبيه وارمتى بني
صديقه عالء ّ
مقنعا
أيضا ..كيف كان األب ً أحضانه واستعان بعقله وحكمته ..وحكي هلا ً
وموجها وخري معلم ..فلم يسدي إليه النصائح ويكيل إليه الكلامت يف صورة
ً
لكامت ..ترضبه يف رأسه ولكنه أجابه بموقف وحكاية حدثت بالفعل إبان
كان يف اخلدمة يف اجليش قبيل حرب أكتوبر العظيم ..واستمر احلديث بينهام
ومها ال يشعران كم مر من الوقت..
***
79
غادرت مروة املشفى بعد أن متاثلت للشفاء ورصح هلا األطباء أهنا
فقط ستستمر يف تعاطي أقراص املضاد احليوي ملدة ثالثة أيام أخرى ..لكنها
تستطيع ممارسة حياهتا بشكل طبيعي..
أصبح الشغل الشاغل ملروة هو كيف تتقرب من عالء ..فلقد احتفظت
برقم هاتفه حني تبادال األرقام بعد أن تم التوقيع عىل حمرض الصلح ..فأمسكت
هباتفها لتتحدث معه وختربه أهنا خرجت من املشفى وأهنا تتامثل للشفاء ..فإذا
هبا تسأل نفسها ..وهل سيهتم إذا خرجت من املشفى أم ال ..ربام هو مشغول
بأموره ..أو ربام أنه عىل عالقة مع فتاة أو عدة فتيات أخريات..
هي ترى نفسها مميزة ومتفردة من نوعها وأن من سيتزوجها سوف تُفتح
له أبواب السعادة ..بام لدهيا وما تستطيع أن تقدمه إلسعاد من حيظى هبا ..ربام
هو نوع من الغرور ..لكن هذا ما تراه يف نفسها..
جانبا ..شعرت أنه من العيب أن تبادر هي باالتصال..
وضعت اهلاتف ً
وماذا تقول وبامذا تعلل سبب املكاملة ..ليس هناك ما يقال..
أطالت التفكري واهتدت إىل فكرة ..األفضل أن أذهب إىل متجر املالبس
مدعية أنني قد دخلت بالصدفة ومل أكن أعلم أنه متجرهم ..وربام اشرتي
80
بعض قطع املالبس من هناك ببقية النقود املتبقية منذ يوم ذهايب إىل ذلك املول
واملقهى اللعني ..ليلة احلادث.
ساهرا إىل وقت متأخر من الليل يكمل بعض األوراق
ً ظل عالء
واحلسابات التي كانت معطلة فرتة غيابه ..أغلق باب املتجر وظل هو يف
الداخلً ..
حماطا بكم من الفواتري وأوراق البنوك وأوراق طلبيات وايصاالت
من مصانع املالبس ..وإذا به يسمع طر ًقا عىل الباب ..تعجب ألن املتجر مغلق
ومظلم عدا ضوء صغري يف املكتب يف الطابق العلوي..
مرسعا لينظر من يكون ..فإذا برجالن خلف زجاج
ً هبط عالء الدرج
الباب يشريان إليه للتحدث إليه ..فتح عالء الباب فدخال بدون استئذان
ودخلت خلفهم فتاة ..نظر إليها عالء ..نعم هي ..هي الفتاة التي خرج للتنزه
معها يف ذاك اليوم املشئوم الذي أغضب والدي ع ّ
يل ومنح فرصة عظيمة
درسا يف الرشف واخللق القويم..
لرشيف برفض طلبه وتلقينه ً
واضحا اهنام أتيا الفتعال
ً ترصفا الرجالن مع عالء بحامقة وعنف وكان
مشكلة معه حيث أخرباه أن تلك الفتاة هي اختهام الصغرى وأنه قد غرر هبا..
وتأثرت سمعتها بخروجه معها وأن بعض اجلريان رأوهم سو ًيا وأصبحت
مثار حديث يف احلي الشعبي الذي يسكنون فيه..
حاول عالء أن يتناقش معهام يف هدوء لكنه ملح يف اعينهام بوادر غضب
وغدر ..غافلهام وفر هار ًبا من باب املتجر وتركهم يف الداخل ركض إىل
مرسعا
ً مرسعا ..خرجوا ثالثتهم وركضوا خلفه لكنه استطاع أن يقود
ً سيارته
81
قبل وصوهلم إىل باب سيارته ..فركضوا مرسعني إىل سيارهتم القديمة وقادوا
خلفه..
تقريبا رغم
قاد عالء السيارة بأقىص رسعة ممكنة وهم خلفه بنفس رسعته ً
ان سيارهتم من النوع القديم..
انعطف عالء جهة اليمني مرة وجهة اليسار مرة وهم خلفه ويقرتبون
رسيعا وعينه عىل عداد
ً وأصبحوا عىل وشك اللحاق به وبدأ قلبه يدق
الوقود ..فلم يكن لديه من الوقود الكثري وكان ينوي بعد أن يفرغ من عمله أن
يذهب إىل أقرب حمطة وقود مليلء خزان السيارة..
استدار عالء جهة اليمني فجأة وبرسعة عالية مل يستطع معها التحكم يف
السيارة فإذا هبا تنقلب ويغيب عالء عن الوعي ..وقد فرت السيارة األخرى
مرسعة يف االجتاه املعاكس..
كان األستاذ مجال والد عالء يتحدث إىل زوجته والدة عالء عام دار بينهام
وأن املشكلة حلت بينه وبني عالء وإنه قد قرر فتح صفحة جديدة واعطائه
الفرصة كاملة إلثبات مدي جديته وحتمله للمسئولية ..وعلقت األم ..أهنا
دائمة القلق عليه حيث هو حظه قليل يف الدنيا فهي من الناس الذين يؤمنون
نظرا لضيق حظه وأنه
باحلظوظ وترى يف عالء أنه دائم الوقوع يف املشكالت ً
مسكني ً
دائم ما تقسوا عليه الدنيا..
وبينام مها يتبادالن احلديث ..دق جرس التليفون بصوت من يبلغهام أن
عالء يف املشفى نتيجة تعرضه حلادث انقالب سيارته يف إحدى املناطق النائية..
رصخت األم قائلة« ..أمل أقل لك ..ياعيني يا بني حظك يف الدنيا قليل»..
82
رصح األطباء لألستاذ مجال وزوجته أن عالء ليس يف حالة جيدة وأهنم
جيرون اإلشاعات والفحوصات الالزمة ..حيث يتشككون يف أن عالء به
كرس يف الساق اليمني وخلع بالكتف ..وبعض سحجات وردود بالقفص
الصدري..
كان األستاذ مجال بداخله غصة ..شعر بتأنيب الضمري وأخذ يلقي اللوم
عىل نفسه أنه ربام زاد من قسوته عىل أبنه بعض اليشء جعلت تفكريه مشغول
وأراد تعويض ما فاته من عمل مرتاكم ..فأرهق نفسه يف العمل وخفض من
ساعات نومه مما أدي إىل إصابته باإلرهاق وعدم الرتكيز..
فحدث ما حدث عند قيادته للسيارة ،ومل يعي ما هو فيه من ارهاق وأكيد
كان هلذا كله التأثري عىل جهازه العصبي الذي مل يتخذ القرار السليم وقت
القيادة وعادة احلوادث حتدث يف ثواين معدودة ..أنا املسئول ..أنا السبب..
رحيم به إىل أبعد حد ..أنا مل أكن هكذا من قبل ..كنت ً
دائم ً كان جيب أن أكون
األب احلنون من أين أتت إىل كل تلك الغلظة ..هل من اخطاء عالء املتكررة
أم عناده وعدم االنتباه او عدم طاعتي ..هل كربيائي هو ما أدى يب إىل كل
هذا..
ال أعلم ..ولكن كل ما أعلمه اآلن أن ابني الوحيد ملقى عىل رسير يف
املشفى ..وأمه منهارة من البكاء وهذا كله بسببي أنا ..نعم بسبب قسويت أنا..
***
83
ارتدت مروة مالبسها وتعمدت ان ترتدي ما هو ضيق ومظهر ملفاتنها..
رغم أهنا تسكن يف حي شعبي وربام تتعرض النتقادات من اجلريان وبعض
املعاكسات وهي تعلم أن العم زكريا أباها يرفض أن ترتدي مثل تلك املالبس
عطرا ..هو العطر الوحيد
الضيقة غري املحتشمة من وجهة نظره ..ثم وضعت ً
لدهيا ..رخيص الثمن لكن يمكن أن يؤدي الغرض ..أمام متجر املالبس..
تقف مروة ناظرة بعينيها إىل األعىل لتقرأ عىل يافطة املتجر..Jimmy’s Fashion
اعجبتها اليافطة ..فعرفت أهنا ترجع إىل اسم «مجال» والد عالء وصاحب
املتجر..
دلفت إىل الداخل متصنعة والعبة دور أهنا زبونة تريد رشاء مالبس..
دارت بعينيها يف املكان ..املتجر مكون من طابقني يربطهام درج ضيق..
منسق بعناية ..توجد اثنتان من العامالت ..ولكن أين عالء ..ربام يف الطابق
العلوي ..ترى ما هي وقع املفاجأة عىل عالء إذا رأى مروة أمامه..
زبونة ترغب يف رشاء مالبس هلا ..هل يمنحها بعض قطع املالبس جمانًا
أم ببعض التخفيض ..أو ربام يتجاهلها ..فقد انتهت قصة خوفه ورعبه من
التحقيقات وربام السجن ..بعد أن وقع حمرض الصلح واحتفظ بنسخة مصورة
84
منه ..فهو مل يعد بحاجة يل ومل يعد أن يكون رقيقًا مهذبا مستعط ًفا وينطق
بكلامت االعتذار بني احلني واآلخر..
تظاهرت بالبحث عن بلوزة ..ثم انتقلت إىل قسم الرساويل وبعدها إىل
ويسارا باحثة عن عالء ..أين هو ربام يف
ً السرتات ويف كل مرة تتلفت يمنيا
الطابق األعىل ..وبينام هي تفكر فيه وبمكان وجوده إذا بإحدى العامالت
األنيقات تأيت من خلفها وتعرض عليها املساعدة إذا أرادت أو أهنا تبحث عن
مقاس مل جتده فربام حترضه هلا من املخزن ..فإذا بمروة تتشجع وتسأهلا بشكل
مبارش وبدون مقدمات ..فهي تعرف الوصول إىل أهدافها من أقرص الطرق
بال تردد أو خجل أو حتى إعادة تفكري وأعامل العقل« ..أين األستاذ عالء»؟
بدت عالمات الدهشة عىل وجه العاملة ..إذ كان سؤال مروة مفاجأة
هلا فقد ظنت أهنا ربام تسأهلا عن لون معني أو موديل أو مقاس أو غري ذلك مما
خيص رشاء املالبس أو حتى السؤال عن األسعار..
أجابت العاملة ببعض الالمباالة« ..إنه ليس هنا» ..استمرت مروة يف
لدي موعد معه»؟ ..أجابتها
أسلوهبا املبارش ..فسألتها ثانية« ..أين هوّ ..
العاملة« ..لألسف لن يستطيع املجيء للموعد» ..مروة« :ملاذا»؟ ..العاملة..
«إنه حمجوز باملشفى "..مروة" ..ماذا ..ماذا حدث له أنا التي كنت حمجوزة
باملشفى" ..قضب جبني العاملة التي ال تفهم ما تقوله مروة لكنها أجابتها أنه
تعرض حلادث سيارة ..انقلبت عىل إثرها سيارته وهو اآلن خيضع للعالج..
اهنالت مروة بلهفة بعرشات األسئلة يف وجه العاملة ..كيف هو؟ ..كيف
85
صحته؟ ..هل معه أحد؟ ..أين هي املشفى وما اسمها؟ ..ويف أي قسم أو
قريبا؟ ..هل سيعيش؟..
دور؟ ..وماذا قال األطباء؟ ..أخيرج ً
دخل إىل املتجر سيدتان فاستأذنت العاملة مروة يف الذهاب ملواصلة
عملها ومساعدة الزبائن ..لكن مروة امسكتها من يدها ..استوقفتها قائلة آخر
سؤال ..ما هو اسم املشفى..
***
86
اتفق ماجد ونورا عىل اللقاء للحديث عن مقابلة األمس وما جيب فعله
يف األيام القادمة..
تبادال احلديث يف خمتلف املجاالت ..استفاض ماجد يف رسد احالمه
وأمنياته يف زوجة تشاركه حلمه وهدفه بأن يكون ً
بطل للعامل يف رفع األثقال
ً
وأيضا يف كامل األجسام وإن كل متطلباته وأحالمه يف زوجة املستقبل وجدها
يف نورا ..ثقافتها ..إجادهتا للغة األجنبية ..مظهرها األنيق املرشف ..شخصيتها
املرحة املحبوبة التي جتعل كل من يراها أن يكن هلا كل االحرتام والود..
جاء دور نورا لتبيح له برسها بأهنا طاملا حلمت برجل ضخم اجلثة ذو
عضالت قوي البنيان والشخصية تشعر معه باحلامية واألمان ..تكون أصغر
وأضعف منه وتستمد قوهتا من قوته ..وتستغل ضعفها الستاملته إليها..
اتفقا عىل ترتيب موعد واستئذان العميد يف زيارة ماجد إليهم وحده يف
البداية فإذا شعر بقبول من األرسة ..حرض مرة أخرى بصحبة أمه والتقدم
بطلب يدها..
وافقت نورا قائلة ..اترك يل أمر امليعاد سوف أحدده مع أيب وأخربك به..
وقضيا بقية اليوم يف حديث طويل وضحكات ..وتناوال الغداء سو ًيا ..وألغى
ماجد مرانه املسائي ليقيض الوقت مع نورا..
87
أصبحت قصتهام مثار احلديث يف النادي ..وعرف اجلميع أهنام متحابان
ومقبالن عىل إعالن خطبتهام ..ففرح من فرح ..وحقد واستشاط البعض
اآلخر ..حيث كانت نورا حمط اعجاب من اجلميع وكذلك ماجد كان ملف ًتا
لالنتباه بعضالته البارزة والظاهرة من خلف مالبسه الضيقة امللتصقة عىل
جسده..
***
88
جلس العميد يف حجرة املعيشة بجوار مدام كريمة فإذا به يقول ..كربت
قريبا نفرح هبا إن شاء اهلل..
نورا ..بقت عروسةً ..
اجابته مدام كريمة ..كيف عرفت أهو إحساس أم ماذا؟..
قص عليها العميد فؤاد ما دار بينهام هو ونورا باألمس ولوال حبه الشديد
هلا لغضب عليها بسبب إخفائها أشيا ًء هامة عنه ودخوهلا بيتا ال نعلم من فيه..
لكن احلمد هلل ربنا سرت ..وأن ثقته كبرية فيها ،ويعلم أن ماجد أكيد شاب ممتاز
طاملا وقع اختيار نورا عليه..
لقد أفنى عمره يف تربيتها وأخيها رشيف عىل أنه ال يصح إال الصحيح..
***
89
توجهت مروة إىل املشفى حيث يعالج عالء من آثار حادثة انقالب
سيارته ..صعدت إىل غرفته ..طرقت الباب ..دخلت والقت التحية عىل
األستاذ مجال وحرمه وعرفتهم بنفسها ..كان األستاذ مجال وحده يعلم بقصة
حادثة مروة املتسبب فيها ابنه عالء وأهنا آثرت الصلح إلنقاذ ابنه من حتقيقات
النيابة ..وكان األستاذ مجال قد أخفى كل تلك األحداث عن زوجته والدة
عالء الراقد يف رسيره أمامهم..
عندما سمعت والدة عالء ما تقوله مروة أهنا الفتاة التي صدمها عالء
بسيارته ..أجابتها ..أكيد حرضتك خمطئة ..عالء ابني مل يصدم أحدً ا ..لكنه
هو من انقلبت به سيارته ..ربام اشتبه عليك األمر واحلجرات ..يمكنك أن
ِ
ليدلوك عىل غرفة هذا الشاب الذي صدمك ..وكيف تسأيل مكتب االستقبال
صدمتك سيارة وأنا أراك ..اعذريني ..بخري أمامي وال يوجد أثر إلصابة..
ال لكسور وال جروح وال كدمات أو سحجات..
اذهبي ..اذهبي إىل مكتب االستقبال سوف يدلوك هناك..
وموجها حديثه إىل مروة..
ً مقاطعا زوجته
ً تدخل األستاذ مجال
تفضيل يا بنتي ..اجليس ..ترشيب حاجة ..نظرت إليه زوجته يف تعجب..
بعني مليئة بالتساؤالت ..وتتمتم ماذا جيري..
90
هل تعرف اآلنسة يا مجال ..أجاهبا ..نعم سوف أخربك ..أنا مل أرد فقط
أن أسبب لك اإلزعاج ألن كل يشء صار بخري..
استأذن األستاذ مجال مروة أن تكون عىل راحتها ..وسوف يعود ً
حال..
مجيعا
سيذهب إىل الكافيرتيا إلحضار قهوة هلم ً
أشار إىل زوجته أن هتم واصطحبه إىل خارج الغرفة..
معا إىل الكافيرتيا وجلسا عىل أحد الطاوالت ..قص عليها األستاذ
ذهبا ً
معقبا أن عالء صدم
مجال ما حدث لعالء قبل أيام من حادثة انقالب سيارته ً
فتاة وتسبب يف حادث وبعد أيام تسبب يف حادث آخر لنفسه..
جلست مروة أمام عالء ..وهو يف غياب تام عن الوعي وحماط بمجموعة
من األجهزة واألنابيب وقدمه موضوع يف جبرية جبس ورأسه مربوط برباط
طبي..
نظرت مروة إىل عالء بعد أن اقرتبت من رسيره قائلة ..لقد تبادلنا
األدوار ..منذ أيام كنت أنا الراقدة هنا وأنت الزائر واملتسبب يف احلادث..
أنت من صدمني لكن اآلن واألدوار تبدلت ..أنت الراقد هنا وأنا الزائرة
لكن لست املتسببة يف احلادث ومع ذلك لن أتركك إال معاىف متارس حياتك
كام كنت ..لقد أصبحت شغيل الشاغل ..فرصتي التي أرسلها يل اهلل ألبدأ
يف حتقيق أحالمي يف العيش املريح ..أصبحت مرييض أنا ..فأنا من ستكون
بجانبك ..مترضك تعطيك دواءك ..تطعمك يف فمك ..كل احتياجاتك
أصبحت بني يدي وأنا أصبحت رهن إشارتك ..فأنت رصت اآلن قدري..
91
عاد األب األستاذ مجال وزوجته إىل حجرة عالء ..تغريت نربة األم مدام
وفاء متام التغري ..فرحبت بمروة للغاية وقدمت اليها القهوة الساخنة وقطعة
من احللوى ..وشكرهتا عىل معروفها مع عالء وقبول طلب التصالح وابعاد
ابنها عن خضوعه للتحقيقات أو الزج به يف السجن مع اللصوص والقتلة
وأن ابنها رقيق ..مهذب ..ال حيتمل أن يكون هذا مصريه ..بجانب أنه االبن
والفرحة الوحيدة لدهيا يف الدنيا ..وأنه يمثل الذراع اليمني ألبيه واملساعد
األول يف أعامهلم يف متجر املالبس ..إن شاء اهلل تذهبني معنا إىل هناك يف إحدى
األيام ..أنه متجر كبري ذو طابقني..
مل تعلم مدام وفاء ان مروة زارت املتجر قبل احلضور إليهم بأقل من
ساعتني ..ثم استطردت مدام وفاء ..لن أنسى لك معروفك هذا ما حييت..
وأرجو أن تلتميس يل العذر ..يف الطريقة التي قابلتك هبا ..مل أكن عىل علم بام
حدث لعالء ..فلقد تعمد أباه أن خيفي عني أمر احلادثة واصطدام سيارته بك
يل من أي أخبار ً
ودائم ما خييش ع ّ نظرا لعلمه أين مريضة بارتفاع ضغط الدم..
ً
سيئة وخاصة إذا كانت متعلقة بعالء ابني وقطعة من قلبي وروحي..
ومرحبا بك
ً ولكن عندما علمت تأثرت لك بشدة ..فأنت مثل ابنتى..
معنا يف أي وقت ويف أي مكان ..فنحن أرسة صغرية ليس لنا من األقارب أو
املعارف الكثري ..فأرجو أن تقبيل دعويت عىل الغداء يف أي مطعم قريب من
هنا..
92
إجابتها مروة أهنا ً
أيضا مدينة لعالء بالكثري ..رغم أنه هو من أصاهبا لكنه
أظهر هلا وهي راقدة يف املستشفى الكثري من العطف واالهتامم ومل يرتكها حلظة
واحدة حتى ميعاد خروجها ..وكم هو رقيق وحساس..
بالطبع كان حديث مروة ملفقًا بالكامل وخايل متا ًما عن أي حقيقة
وعار عن الصحة ..فلم يزر عالء مروة إال مرتان فقط ..األويل لالطمئنان
عىل وضعه القانوين حسب حجم إصابتها ..واملرة الثانية يوم امتام املصاحلة
الستالم حمرض الصلح ليكون يف أمان من الناحية القانونية ويضمن أال يعود
أحدً ا عليه بالتقايض أو حتى طلب التعويض..
لكن مروة تعمدت أن تطوق رقبتها بجميل عالء كي تتسني وتتاح
هلا الفرصة أمام أمه وأبيه ..أن ترد له اجلميل ..أن تكون إىل جواره وتظهر
شهامتها وإخالصها ووفاءها ..بذلك تكون األمور أسهل والطريق مفروش
بالورود ليصبح عالء هو الزوج الذي طاملا متنت ..وتدخل متجر املالبس ليس
كزبونة ولكن كامرأة ابن صاحب املكان ويكون لدهيا حساب بأحد املصارف،
وتستخرج كارت الفيزا العجيب ..املتصل مبارشة بمغارة عىل بابا ..
استمرت مروة يف احالمها وختيالهتا بينام مدام وفاء مل تتوقف عن
احلديث عن عالء وكم هو حساس وطيب وال يستحق كل ما حيدث له وكم
هي حمظوظة من سوف تكون من نصيبه ..ويكون هو رجلها..
متادت مروة يف اخليال ..ذهبت بأحالمها إىل أبعد مدى ..فاخليال متاح
للجميع واحللم أمر مرشوع لكل الناس فقريهم وغنيهم ..مجيلهم وقبيحهم..
لكن أحالم مروة كانت تشعرها بأمر آخر وهذا ما حادثت به ذاهتا ..إن أحالم
93
الفقراء جمرد أحالم ..يذهب هبا البعض إىل مكان وزمان يقلهم ..لكن مروة
أحالمها قريبة التحقيق ومتلك شواهد عىل ذك ..ها هو عالء ..حلمها ..راقد
أمامها بال حراك بال حول له وال قوة ..وها هي أتت لتكن الراعية واملسئولة
طلبا وسوف يرفع
عن العناية به إىل أن يتم شفاؤه وبعدها أكيد لن يرفض هلا ً
الراية البيضاء معل ًنا احتياجه إليها أشد االحتياج حيث إنه اعتاد أن تقدم له كل
ما حيتاج من اهتامم ورعاية من أصغر األشياء إىل أكربها ..والشاهد اآلخر..
هي مدام وفاء نفسها حيث و ّثقت مروة روابط املودة بينهام ..بذهاهبام سو ًيا
للغداء وتبادل احلديث استطاعت أن تدخل إىل قلب أم عالء ..ويف أمور مثل
هذه دائام ما تكون األم هي أهم عنرص وفرد يف منظومة تكوين الرأي فيمن
تصلح أن تكون زوجة لعالء ..فإذا استطاعت مروة أن تستميل مدام وفاء
إليها وجتعلها تنظر إليها بعني زوجة االبن ال فتاة احلادثة فهذا أول الطريق
لتحقيق احللم..
لذلك فحلمي قابل للتحقيق ..هكذا أخذت مروة تردد يف داخلها..
كل الظروف مهيأة أن أكون فرد جديد يف هذه األرسة وإذا رزقت بمولود
فستزيد أسهمي لدهيم..
***
94
ً
طويل داخل إحدى الفيالت التي ترشف عىل أعامل قضت مايا وق ًتا
الديكورات بداخلها ..فقد اهنت مجيع التصميامت منذ عدة أيام وبعدها بدأ
العمل داخل الفيال حيث يوجد حوهلا عدد ال بأس به من العاملني يف خمتلف
التخصصات وهي بني منضدة العمل املستوى عليها مجيع لوحات الرسم
اهلنديس للتصميامت بكل تفاصيلها وبني اعطاء التعليامت والتوجيهات
لكل عامل وما جيب عليه عمله بالتحديد وبني كل فرتة قصرية وأخرى يدق
هاتفها ..ترد فتحادث مرة مورد السرياميك ومرة أخرى املسئول عن توريد
أدوات الكهرباء وغريه من كل املستلزمات إلهناء العمل ..وبني احلني واآلخر
حيادثها رشيف يف الوقت القليل بني مواعيد حمارضاته النظرية حيث يف وقت
العمل ال يستطيع االتصال أو تلقي مكاملات..
وبينام هي تنظر يف بعض أوراق التصميامت لتحضري ملا جيب أن تفعله يف
الغد وما يسمونه «جتهيز شغل بكرة» أتى إليها أحد العامل وهو املسئول عن
تركيب احلجارة يف مدخل الفيال ..فإذا به خيربها أنه يصعب عليه تركيب تلك
نظرا ألن أحجامها سوف خترج عن مستوى باقي احلوائط بنسبة كبرية
احلجارة ً
فتفسد الذوق العام ..اعرتضت مايا عىل رأيه قائلة إهنا هي املسئولة ..ما عليه
إال أن يطيع األوامر وكفى..
95
احتد عليها حيث شعر أهنا قد أهانته وأشعرته أنه ليس لديه عقل وعليه
فقط تنفيذ األوامر ..وأنه مل يعتاد تلقي األوامر من امرأة ..فهذه هي املرة األويل
التي يعمل فيها حتت إمرة مهندسة ..ال مهندس ..فكانت كل ملحوظة تذكرها
له أو توجيهه يف بعض األعامل كان تشعره أكثر باملهانة وأن كربياءه قد تم
غائرا..
ووضع فيه سكينا احدث جرحا ً
جرحه ُ
فلوال احتياجه للامل ألن زوجته عىل وشك الوالدة ويريد التحصيل عيل
تكاليف الوالدة ورعاية زوجته واجلنني ملا اضطر إلغالق فمه وعرف كيف
يرد عىل هذه املرأة البلهاء التي ينادوهنا باملهندسة..
مر اليوم وانتهى العمل واستعدت مايا ملغادرة املكان وهذا العامل ..
فرج ..يرمقها بعني مليئة باحلنق والغيظ ويفكر كيف يرد اعتباره أمام باقي
العامل وهم يشاهدون االسطي فرج وهو يتلقى األوامر بنربة حازمة من تلك
املهندسة ..وملاذا هي مهندسة ..فهو لديه خربة وفهم أفضل منها بمراحل..
وماذا يدرسون يف هذه الكلية اللعينة؟..
كتبا ويدخلون امتحانات ..لكن يف األخري
يف الغالب ال يشء ..حيملون ً
أنا األسطى ..األسطى فرج الذي هيابه اجلميع ويسمعون لتعليامته يف كيفية
سري العمل..
ً
سميكا يتحمل وقميصا
ً واسعا
ً كانت مايا تتحرك بخفة مرتدية برسواله
االتربة وغريه ..وتضع يف قدمها حذا ًء خمصص لألمان Safety Bootsوقد
رفعت شعرها ألعىل وقامت بربطه برباط شعر سميك ووضعت عىل رأسها
كا ًبا كي حيميها من األتربة والغبار ً
وأيضا خماطر العمل..
96
يف آخر حمادثة هاتفية مع رشيف اتفقا عىل اللقاء للسهر ً
ليل والذهاب
إىل دور السينام ..عادت إىل منزهلا ..بدلت مالبسها ..حتممت وارتدت فستانا
للسهرة ذو اللون األسود مما زاد من مجاهلا وهبائها يف ذلك الفستان ..واسدلت
شعرها عىل كتفيها ووضعت بعض املساحيق اخلفيفة وارتدت ً
قرطا من
الذهب األبيض مع قالدة وساعة مرصعة من نفس التصميم ووضعت قدميها
يف حذاء المع أسود..
نظر إليها رشيف وهو ينتظرها أسفل العامرة ..أطلق صافرة عالية تعرب
عن اعجابه بجامهلا ..وكم هي فاتنة ..فأجابته أنك مل تشاهدين منذ ساعتني
..تقريبا كنت اشبه بصبي امليكانيكي..
ً
زاد التقارب والتفاهم بني مايا ورشيف وتوطدت عالقتهام عىل أفضل
ما يكون وصارت تسود بينهام روح الصداقة القوية أقوى من عالقة شاب
بفتاة ..وشعر أنه شي ًئا فشي ًئا ليس بحاجة إىل أصدقاءه الشباب حيث كان كل
وقته ودعاباته وافكاره وساعاته املمتعة يقضيها مع مايا إما عىل اهلاتف أو
خالل مقابالهتام أو حلظات التفكري فيها ..كان يغلف روحه بنسيم رقيق ينعش
وجدانه وهيز قلبه برفق فينتظم دقاته..
أما مايا فكانت تعيش حالة ال تستطيع وصفها ..انقلبت حياهتا رأسا
عىل عقب وسارت عىل نفس درب رشيف دون سابق اتفاق ..فرويدً ا رويدً ا
استغنت عن صديقاهتا ومل تعد بحاجة إليهن فقد وجدت يف رشيف الصديق..
الصديقة ..فقد كان يشاركها اهتامماهتا ..فيقوم بدور صديقتها عند احلديث
عن املالبس ،واملوضات ،أو أدوات املاكياج ..أو بعض املسلسالت وما
97
يعرض عىل شاشات التلفاز ..حيث هذه األمور هي أقل اهتاممات الشباب..
لكن رشيف كان خمتل ًفا ..خمتل ًفا عن بقية الشباب ..فكان قريب منها يف كل
يشء وأصبح كاتم أرسارها والناصح األمني..
قرارا سو ًيا بأن حان الوقت إلعالن خطبتهام ..وكل طرف
اختذا االثنني ً
عليه بالتحدث ألهله ..إىل أن تتم األمور بشكل الئق..
كانت مهمة سهلة عيل مايا حيث كان أباها رجل ذو عقل وحكمة
ومنتهى أمله أن يرى ابنته اجلميلة وعىل رأسها تاج وطرحة ويف يدها خاتم
زواج..
تقريبا فبمجرد أن حتدث إىل والديه وأخته
ً أما رشيف فكان وضعه مماثل
نورا يف أول إجازة أسبوعية بعد االتفاق ..سمع زغرودة من أمه واألحضان
والقبالت من أباه ونورا ..ثم عقّب رشيف ً
قائل ..يا أيب ال تكن مثل ما كنا
نسمع عن تقاليد زمان أن الولد يتزوج بعد البنت ..أي ال تطلب مني انتظار أن
أول ..ضحك األب وقال قد كانت هذه عادات عريسا إىل نورا وتتزوج ً
ً يأيت
قديمة لكن كان لدهيم وجهة نظر نحرتمها لكن ال تقلق ليس لك عالقة هبذا
األمر ..حدد أنت موعدً ا مع أهل عروسك وإن شاء اهلل يتم نعمته عليكام
وتفرحا سو ًيا ونفرح معكام..
***
98
كبريا من البسبوسة ثم
ذهب ماجد ملتجر حلويات رشقية واشرتى صح ًنا ً
توجه إىل أحد متاجر بيع املقرمشات ،والتسايل واشرتى كمية من املكرسات
وعاد إىل البيت ..أخفى كل هذه املشرتيات وراء ظهره ..وقف أمام أمه
احلاجة نعامت فإذا به متطره بوابل من التوبيخ واللوم والعتاب كعادهتا ..عىل
تركها وحيدة يف البيت بال طعام وتسايل ..فليس أمامها إال بعض بذور عباد
الشمس..
انتظر ماجد إىل أن فرغت ..وافرغت ما يف جعبتها من مجيع أنواع الكلامت
غري املحببة إىل أي نفس برشية وابتسم ً
قائل" ..شويف جبتلك أيه"؟
نظرت ..فتحت عيناها ..بسبوسة ..وما هذا ..لوز ..بندق ..عني مجل..
كم أنت رائع يا ماجد ..صحيح ابن بار بأمه ..ال تنساين ابدً ا ..ادعوا لك من
قلبي يف كل وقت وآذان..
هكذا تلونت وتبدلت احلاجة نعامت عندما حصلت عيل الرشوة من
ماجد فهذا بالتحديد ما كان يشعر به ماجد ..إنه إلرضاء أمه البد أن يدفع هلا
رشوة وال أفضل وال أهم ما يف احلياة لدهيا من الطعام واملكرسات..
بعد أن التهمت قطعة كبرية من البسبوسة وكان ماجد يعد هلا كوبا من
الشاي بدأت يف التسايل ..مع املكرسات ..انتهز ماجد هذه الفرصة ليفتح
99
معها موضوع زيارهتام ملنزل نورا والتقدم خلطبتها ..استمعت للكالم وهي
تأكل املكرسات ويصدر عنها مجيع أنواع األصوات املزعجة ..كمحرك سيارة
قديمة..
وما ان انتهي من كالمه ..قامت بالدعاء له ومباركته وأهنا تاركة له حتديد
املوعد وهي عىل أتم استعداد لترشيفه والذهاب معه..
عقدت نورا جلسة مع أبيها وأمها وأخيها رشيف ..ختربهم فيها عن
طلب حتديد موعد للعريس ووالدته ..طلب منها رشيف أن يكون املوعد
يف هناية األسبوع القادم حيث أجازته األسبوعية انتهت وعليه أن يتوجه إىل
اإلسكندرية يف صباح الغد..
رسيعا ..وجاء اليوم املوعود ..فقام ماجد يف صباح ذاك
ً مر األسبوع
متبعا الطريقة ذاهتا
اليوم برشاء كل أنواع املأكوالت التي حتبها احلاجة نعامت ً
السرتضاء أمه وضامن مباركتها وأال تتلفظ بأي كلمة تعكر صفو الزيارة لعائلة
نورا..
كانت جلسة لطيفة تم فيها التعارف ..وكان سيادة العميد يتفحص
ماجد بعناية ليس بظاهر الشكل فقط وإنام درجة علمه وثقافته وكيفية معاجلته
لألمور..
مرت الوقت عىل خري وكان أكثرهم سعادة هو العريس ماجد ..ليس
ً
ملحوظا لدى أرسة نورا ..وما ساعده عيل ذلك ان أمه مل ألنه وجد ً
قبول
يصدر عنها ما كان خيشاه حيث كانت مبتسمة لطيفة ومل تتحدث عن الطعام
كثريا ومل تبح بنواياها يف أهنا ترى يف زوجة ابنها ما هي إال خادمة أمه ..ليس
100
هلا قيمة وال أمهية يف بيتهم سوي خدمة احلاجة نعامت واستجداء واستعطاف
رضاها وعليها أن تكن صبورة محولة ..أن تتحمل غضب احلاجة وما يتبعه
من وابل من النقد واللوم الالذع ..الذي يصل إىل حد االهتامات غري املتخيلة
وليس هناك ما يمنع من وجود بعض السباب بني وصلة التأنيب..
كانت براءة نورا جتعلها يف قالب كالفراشة التي ال حتب إال النور وتبتعد
عن كل ما هو معتم ..أحبت احلاجة نعامت ملجرد أن سمعت منها بعض
الكلامت اللطيفة ..وقررت ممارسة الضغط عىل أبيها لقبول فكرة أن تتزوج
يف بيت ماجد ونعامت وليس شقة منفصلة ختصها وحدها وتكون هي امللكة
املالكة املسيطرة عيل بيتها وكيف ترتب أثاثه وطريقة تنظيفه إىل كل هذه
التفاصيل..
سمع العميد رد ماجد عندما سأله إن كان يملك ً
منزل للزوجية..
قال ..يا عمي بيتنا واسع وكبري وأنا وحيد أمي ..وأيب توىف منذ سنوات
وأنا ال أستطيع ترك أمي وحيدة وحتديدً ا وهي تعاين من بعض املشكالت
الصحية النامجة عن التقدم يف العمر ..بالتأكيد ترصف سيادة العميد مثل أي
انسان عاقل متفهم للموقف وعيل علم ودراية بمكانة األم ..بأن أومأ وهز
رأسه بعدم االعرتاض عىل ما سمعه من ماجد ..لكن كان يف قرارة نفسه
متوجس خيفة وحزين عىل نورا ،ويشعر بغصة يف حلقه وساوره إحساس
أن القادم ليس به خري ..مل يشعر باالرتياح لكالم ماجد وشعر فيه بيشء من
األنانية أن ماجد يفرض عليهم التضحية والتنازل عن بيت الزوجية ومملكة
101
الزوجة واستغالله ملسمى رعاية األم ..حيرم فتاة رقيقة من أن تكون حرة يف
منزل جيمعها ورشيك حياهتا..
أخذ سيادة العميد يردد بعد أن انرصف الضيوف« ..اسرت يارب» كانت
نورا أكثرهم سعادة وفرحة ..بكل أنوثتها وبراءهتا تعيش أمجل أيام يف حياة
أي فتاة ..أن يتقدم هلا عريس هي حتبه وراغبة فيه وتكون اجللسة عائلية
وقريبا سوف تعقد االتفاق عىل
ً لطيفة ..كل يشء يسري يف الطريق الصحيح
حتديد موعد حفل اخلطوبة وكيف يكون احلفل ويف أي مكان ..من أدعو..
وفستاين ..آه جيب أن يكون أشيك وأمجل فستان خطوبة وتكون حفلة بسيطة
ولكن يف نفس الوقت مميزة تعلق يف ذاكرة كل من حرضها وتكون هي امللكة
املتوجة ..املتوهجة ..التي ال ينساها أحد من احلارضين وتكون حديث
اجلميع ..العروسة ..كم هي مجيلة أنيقة ..بسيطة ..براقة ..متوهجة ..فراشة
احلفل ..زهرة وعبري احلارضين يشم رائحتها لكن من عىل بعد ..وهم يف
أماكنهم فهي ليست إال ملك لرجل واحد فقط ..سيصبح حديث العامل يف
وقت قصري ببطوالت وجوائز وكؤوس وتكريامت يف مجيع عواصم العامل..
فقد أخذت عهدً ا عىل نفسها أن تسانده بكل ما أوتيت من قوة حتى حتقيق
اهلدف ..فتتهافت عليه كامريات مجيع املحطات الرياضية وتكون هي بجانبه..
حلمه هو ..لكنها رأت احللم معه وعاشت فيه ..كم هو مجيل أن جتعل حلم
من حتب هو ً
أيضا حلمك ..مهام اختلفت الشخصيات ومكونات وأبعاد كل
شخصية..
102
مل تكون نورا تتخيل أن تقبل بعريس حيرمها من أهم وأول ما حلمت به..
خالصا هلا حتى لو كان بيت قديم
ً هو بيتها ..بكل أركانه وتفاصيله ..أن يكون
خايل من وسائل الراحة ..لكنها كفيلة أن تضع ملساهتا يف كل ركن وجتعل منه
بيت مريح ..حتب العيش فيه وحيب ماجد العودة إليه بعد يوم شاق يف العمل
والتمرينات..
لكن الغريب أهنا قبلت بأن تعيش يف بيت ليس هلا وال حق هلا بتغيري ما
فيه أو تعديل حجرات أو ديكورات ..كالستائر أو السجاد ..النجف ..فرش
احلامم ..كم هو إحساس قاس أن تشعر بأن أهم وأغىل أحالمك يسلب منك
لكن هي حتبه واحلب مقرتن بالتضحيات لضامن استمراريته ..فام من حمب
وعاشق إال وتنازل وضحي من أجل حبيبه..
ماجد يستحق ..وأمه تبدو طيبة وسوف يقدران بالتأكيد لنورا تلك
التضحية ويعمالن عىل راحتها وسعادهتا ..وسوف متارس هي دورها ..دور
زوجة البطل ..ذو أمجل وأضخم عضالت عىل مستوى العامل ..كم هو مجيل
أن تكون يف دائرة الضوء ..وأن تكون حمط أنظار وحديث اجلميع وتوضع
صورك عىل غالف املجالت ..وتتهافت القنوات اإلعالمية للحصول منك
عىل ترصيح أو معلومة عن ما هو اجلديد وما هو القادم..
ما أن اقرتبت احلاجة نعامت من سيارة ماجد املصفوفة يف أحد الشوارع
اجلانبية من بيت نورا ..فتح ماجد باب السائق وجلس عىل مقعد السيارة
استعدا ًدا إلدارة املحرك وإذا به يسمع ً
وابل من التوبيخ املصحوب بنوبات
103
رعدية من السباب املحمل بكل أنواع الصفات السيئة ..التي كان أقلها ..يا
جاحد..
طبعا خلصت حاجتي من
كيف ترتكني وال تفتح يل باب السيارة« ..آه ً
جاريت» انتهي اللقاء ..أنا رشفتك لكن نسيت كم كنت لطيفة مع عروسك
وأهلها واآلن تنساين وجتلس وحدك ..أنسيت أين أمك التي ربتك وسهرت
عليك ..باألمس ظننت أنك ضحكت ع ّ
يل بطبق البسبوسة وبعض املسليات
التافهة مثلك أنا كدة فهمت ملاذا زادت جرعة حنيتك يف األيام األخرية..
استمرت وانطلقت احلاجة نعامت كأهنا ماسورة انكرس حمبسها ..فخرج
منها كل ما جتود به من األلفاظ مصحو ًبا بصوت ٍ
عال أوقف بعض املارة
يشاهدون هذا املشهد العجيب..
أكثر ما كان خييف ماجد ..أن يكون أحد يف رشفة بيت نورا شاهدا أو
مستمعا أل ًيا من هذا العزف املنفرد من األم جتاهه ..يا هلا من أم ..وكأهنا
مضبوطا عىل عدد دقائق اجللسة ثم انطلق اجلرس وانطلقت معهً كان ميقاهتا
طلقاهتا وسهامها القاتلة يف كل اجتاه..
مرسعا من فوق كريس القيادة واستدار إىل الباب اآلخر وفتحه هلا
ً هرع
ً
ومعلل أنه مل يقصد وكان يظن أهنا تستطيع دخول السيارة معتذرا
ً وأجلسها
بمفردها..
لكن احلاجة نعامت مل تتوقف ..بعد أن انطلق بالسيارة بعيدً ا عن رشفة
بيت نورا وبعيدً ا عن هذا التجمع والتجمهر من الناس الذين تواجدوا حوله
يف حلقة يف حلظات معدودة ..يا له من شعب يعشق الفضائح..
104
يف الطريق ظل يفكر كيف يصلح حمبس هذه املاسورة املنفجرة ..هي..
هي نفس الطريقة هذا ما يسكتها ..توقف أمام أحد متاجر احللويات الشهرية
وسأهلا ..يا أمي اجلميلة أتريدين كنافة أم بقالوة..
نظرت إليه وتوقفت فجأت عن السباب ..القت بنظرها خارج النافذة
لتتفحص املكان ..وكان متجرا شيك وغايل ..تغري الصوت وتغريت الطريقة
وتبدلت الكلامت ..واهلل يا ماجد يا بني مش عارفة ..أفضل أنزل معك واختار
بنفيس ما أريده..
هبطت من السيارة بدون أن تنتظر منه املساعدة وكانت عىل الرصيف
قبله ويف انتظاره ويف داخل املتجر ..صالت وجالت وأحرزت العديد من
األهداف يف مرمي حافظة نقود ماجد الذي كان يبكي من داخله ..وأن أحالمه
ربام تتبخر فقط بسبب هذه السيدة الرشهة للحلويات .مفرتسة املكرسات..
***
105
فتح عالء عينيه وأطلق ً
بعضا من آهات األمل ..نظر حوله ..وجد نفسه
ً
حماطا بمجموعة من األنابيب وقدمه اليرسى مرفوع ألعىل عىل حامل وحماطة
بجبرية من اجلبس األبيض ..حتسس رأسه حيث كان يشعر ببعض األمل
مربوطا واجزاء متفرقة من جسده تؤمله لكن أملًا خفي ًفا
ً والصداع ..فوجد رأسه
يستطيع حتمله ..نظر حوله ..وكانت الغرفة مظلمة بعض اليشء والضوء فيها
خافت لكنه استطاع أن يميز ما حوله ..وبينام هو جيول يف غرفته غري املعتادة
وقفت عينيه عىل جسد نائم عىل كريس ..إهنا فتاة ..وواضعة قدميها عىل كريس
آخر مقابل هلا ..فتح عينيه أكثر ..أنا أعرف هذا الوجه رأيت هذه الفتاة من
قبل ..آه ..نعم ..نعم ..إهنا مروة فتاة احلادث لكن ما أتى يب هنا ..وما أتى
هبا هنا..
106
خلفي وطالت املطاردة إىل أن شعرت بسياريت تقفز إىل األعىل وأنا بداخلها وال
أعلم ماذا حدث بعد ذلك..
ما أراه حويل وما أراين أنا فيه ..أكيد أدرك ما حدث بعد ذلك ..نُقلت إىل
املستشفى وأنا ملقي هنا اآلن ألعالج ..ولكن أين أيب ..هل غضب ع ّ
يل عندما
مفتوحا وأنا لست بالداخل..
ً ذهب إىل املتجر ووجده
ترى ماذا ظن يب؟ ..أكيد ظن كعادته يب أنني قليل الرتكيز وعقيل ليس يف
مفتوحا هكذا ..مل ولن جيول بخاطره انني كنت مطار ًدا من
ً رأيس ألترك املتجر
هذان املجرمان ..وأردت انقاذ نفيس من معركة أنا فيها أكيد اخلارس ومل أرد
مكسورا ..جرحيًا يف مشفي ..هربت وظننت أين
ً أن ُأقتل أو أن ينتهي يب احلال
نجحت يف اهلرب منهم ..لكن كلمة القدر نافذة ..شئنا أم أبينا..
جمروحا ولكن باختالف الوسيلة
ً مكسورا
ً انتهي يب احلال يف املشفى
فانقالب السيارة أرحم الف مرة من ُأرضب من هذان املجرمان ..لكن
كثريا والتي أنفق فيها
اخلسارة املادية كبرية حيث حتطمت سياريت التي أحبها ً
والدي مبلغً ا ً
كبريا كي هيديني إياها يف عيد ميالدي ويشجعني عىل العمل معه
ومساعدته بعد التخرج من اجلامعة..
أين أمي؟ ..هل تعلم بأمر حادثي هذا ..هل تعلم أين وحدي يف غرفة
شبه مظلمة بكسوري ..بجروحي ..أئن وحيدً ا..
لكن أنا لست وحدي ..فهذه الفتاة ..مروة من كانت ملقاة يف املشفى من
قبل ..قابعة معي هنا ..من أتى هبا ..وكيف علمت بام حدث يل ..ومن سمح
هلا باملبيت هنا ..أكيد هلا كل الشكر عىل ما تقدمه..
107
لكن هل تعلم أمي أو يعلم أيب أن مروة هنا ..وهل تعارفا ..أو علام
من تكون هي ..أمي مل تعلم أين صدمت فتاة ..فأنا مل أخربها وطلبت من أيب
وأيضا خو ًفا عىل صوريت أمامها..
ورجوته أال خيربها خو ًفا عليها ً
تقلبت مروة يف املقعد الضيق ..فاستيقظت ..فتحت عيناها ..وجدتني
أنظر إليها ..نظرت إىل كأهنا تراين ألول مرة ..تلفتت حوهلا كأهنا فقدت
الذاكرة أو نسيت أهنا هنا يف حجريت بجوار رسيري يف املشفى ..استفاقت
وفركت عيناها وقالت :انت صاحي ..محدا هلل عىل سالمتك..
هززت رأيس بابتسامة خفيفة للغاية ..وطبيعي أن أسأهلا ..وقبل أن أبدأ
يف سؤايل بادرتني هي ..أكيد تريد أن تعرف ما أتى يب هنا ..وكيف عرفت بأمر
احلادث ..وأسئلة أخرى تدور يف داخلك..
لدي أنا ..وأنا عىل استعداد لإلجابة عليها
اإلجابات ألسئلتك مجيعها ّ
لكن أريدك ً
أول أن تعدين أن متنحني الفرصة ألرد لك اجلميل..
فكر عالء ً
قليل ..أي مجيل ..فأنا صدمتها ..وآملتها ..وتسببت يف رقدهتا
يف املشفى ومل أزرها إال مرتان زيارات قصرية واخذت صورة حمرض الرشطة
وأخرجتها من رأيس وتناسيتها متا ًما..
بدأت مروة روايتها لعالء ببعض احلقائق واخفاء البعض اآلخر..
ذكرت له أهنا كانت ترغب يف رشاء بعض املالبس اجلديدة فذهبت إىل
Jimmy’s Fashionحيث أخربهتا إحدى صديقاهتا أهنا ستجد ما تبحث
عنه يف ذلك املتجر حتديدً ا ..وهناك من خالل احلديث مع العاملة علمت اسم
صاحب املتجر وتذكرت أنك اخربتني يف أول تعارف بيننا عندما كنت أنا
108
املصابة يف املشفى ..انك ابن صاحب متجر شهري ..فسألتها إن كان لصاحب
املتجر ابنا اسمه عالء ..واخربتني باسم املشفى الذي تعالج فيه..
اتيت لزيارتك ألرد لك زياريت ومجائلك ع ّ
يل ..التقيت بمدام وفاء
والدتك واالستاذ مجال والدك ..يف احلقيقة أناس رائعون وأنا أحببتهام من أول
أيضا وثقا ّ
يف بعدما علام أين أنا الفتاة التي أنت صدمتها وأخرب والدك لقاء ..مها ً
والدتك باألمر حيث أهنا مل تكن تعلم أو تسمع به من قبل عىل ما يبدو..
خصوصا أين قد وافقت عىل التصالح ورفضت االستمرار
ً رحبا يب بشدة
يف قضية دهسك يل بسيارتك ورفضت ً
أيضا احلصول عىل تعويض مادي حتى
ً
أصيل يل.. لو كان هذا حقًا
كان عالء يستمع إليها باهتامم إىل ان ذكرت مجلة «بسيارتك» تذكر سيارته
الفارهة الفاخرة ..إهنا ربام اآلن قابعة عىل سقفها وكل قطعة فيها أكيد مكسورة
وغري قابلة للعمل..
شكر عالء مروة ووعدها أن هلا أي فرصة تريدها ..رغم أنه متعجب..
انت
أي فرصة هذه يف رعاية وخدمة انسان كسري مثيل ..ثم سأهلا ..لكن ملاذا ً
هنا ً
ليل وليس أيب أو أمي ..أجابته أهنا اتفقت مع مدام وفاء عىل أن تشاركهم
ثانيا نظرا النشغال األستاذ مجال والدك حيث العناية بكً ..
أول لرد اجلميلً ..
انه سوف يقوم مضطرا بعمله يف املتجر باإلضافة لعملك ..حيث أخربه
األطباء ان قدمك موضوعة يف اجلبس وربام يستغرق هذا يف حدود ستة أسابيع
وبعدها عالج طبيعي حتى تستطيع السري عليها جمد ًدا..
109
صباحا حني طرق باب غرفة عالء بينام
ً كانت الساعة شارفت عىل الثالثة
تروي له مروة أسباب مبيتها يف الغرفة..
ظنا عالء ومروة أنه أكيد ميعاد دواء أو تغيري حملول اجللوكوز الواصل
ليد عالء عرب أنبوب شفاف ضيق..
فتحت مروة الباب لتجد رجلني يسأالن عن عالء وأهنام قادمان
ورقيا بني اللون بداخله ً
بعضا من ً كيسا
لزيارته ..وحيمل أحدمها يف يده ً
ثمرات الربتقال ..فسألت مروة وهي تستعد للتعارف عليهام لتدخل يف دائرة
األرسة أكثر وأكثر« ..أنئتام أقرباء عالء» ..فرد أحدهم ..ال ..نحن أصدقاءه..
تفضال..
بمجرد دخوهلام وعالء ينظر إليهام فتذكرمها عىل الفور ..ذهب أحدهم
آمرا إياها أن خترج إىل الكافيرتيا إلحضار الشاي..
إىل عالء واآلخر إىل مروة ً
تعجبت من سلوكهام ..يترصفان بطريقة غريبة ..ومل يرحب هبام عالء..
خرجت مروة وهي غري مقتنعة أن هذان الرجالن اصدقاء عالء ..حتى
أن مظهرمها ال يدل عىل املستوى االجتامعي ألصدقاء عالء فعادة األصدقاء
يربط بينهم اشياء متقاربة ومشرتكة وفور أن خرجت مروة وقف أحدهم
خلف الباب ليضمن أال يفتح من أي شخص سواء طبيب أو ممرضة أو عودة
مروة نفسها ..والثاين ذهب إىل عالء وهو ملقي عىل رسيره وقلبه يدق بشدة
يكاد يرصخ من اخلوف ولسان حاله يقول ..اغيثوين ..النجدة ..لكنه مل يستطع
الكالم فقد انسدت حنجرته من هول املفاجأة ومن جرأة هذان املجرمان..
110
وثانيا يأتيان إىل املشفى ..ماذا بعد ..ربام عرفا طريق ً
أول أتيا إليه يف املتجرً ..
بيته ً
أيضا..
أمرا إياه «امسك هذا
شاهرا مطواة يف وجه عالءً ..
ً قال أحدمها وهو
القلم ..وقع عىل وصل األمانة هذا» نظر إليه عالء ومل يفعل ما أمره به ..هنره
الرجل واقرتب باملطواة أكثر ناحية رقبة عالء إىل أن شعر هبا تالمس رقبته..
أدرك أنه سوف يذبح إن مل يطع األوامر..
قال عالء بصوت متحرشج مبحوح ..ملاذا أوقع ..وماذا يف هذه الورقة..
رد عليه أنه تسبب هلم يف فضيحة رشف ..فضيحة أخالقية يوم أن خرج
وقيض اليوم مع أختهام ومها ال يدريان ماذا حدث هلا ..ربام غرر هبا أو أرتكب
أي فعلة مشينة معها ..وأن حقها لن يذهب سدى فهي هلا عائلة وليست فتاة
رخيصة أو فتاة ليل..
لذا عليه أن يدفع ثمن فعلته وأن ينفذ ما يطلب منه بال جدال أو نقاش
ذبيحا مثل أي ماعز أو دجاجة..
حال ..سيصبح بعد دقائق ً وإال فاملوت نصيبه ً
ولن يعلم بأمرمها أحد وال حتى الرشطة ..
من هول املوقف و شدة اخلوف والرعب ..وقّع عالء عىل ايصال األمانة..
أخذه الرجل وطواه ودسه يف جيبه بعد أن قال ..إن هذا ليس هناية املطاف..
هناك جوالت أخرى ..وسوف يرامها عالء مرة أخرى حيث هم حيمالن له
اخلري ..ويرتبان له بعض األمور يف صاحله وصاحلهام..
ويف ثواين ..كانا خارج الغرفة ..وكام دخال فجأة بدون أن يشعر هبام أحد
يف املشفى خرجا ً
أيضا فجأة..
111
عادت مروة بأكواب الشاي الساخن ..وما أن دخلت الغرفة وجدت
عالء فاتح فاه وعيناه هبا بدايات دموع ..فهو غري مصدق ما حيدث له ..ما هذا
الكابوس..؟ كل هذا حيدث يل بسبب أن خرجت للتنزه مع فتاة ال أذكر حتى
اسمها..
كل يشء يف حيايت يسري يف شكل غري متوقع ..يسء للغاية ..يف خالل
اسبوعني تبدل حايل إىل اسوأ سيناريو ال يقدر عىل توقعه أو التنبؤ به أمهر أو
أعلم العارفني والعرافني..
متى تنتهي قصة هاذان املجرمان معي؟ ..هل أبلغ الرشطة؟ ..لقد
وضعا توقيعي عىل إيصال أمانة ال أدري الرقم الذي وضع فيه أم تركاه ً
فارغا
البتزازي فهي ورقة متثل كام يقول التجار شيك عىل بياض لقد وضعوا رقبتي
حتت أقدامهم ..وماذا ..ماذا قال ذلك املخبول املجرم قبل أن يغادر ..أن
سيكون بيننا تعاون أو ثمة يشء من هذا القبيل..
أي تعاون سريبطني مع هذان املجرمان؟ ..اشعر أن رأيس تدور ..كل
وناظرا إىل سقف الغرفة ..ونظرات اهللع
ً هذا ومروة تنظر إليه وهو فاتح فاه
واخلوف متأل وجهه وعيناه..
استدار عالء ً
قليل قدر استطاعته باحثًا عن الزر الذي يدق فتحرض
املمرضة ..سألته مروة إن كان يريد أي مساعدة فأجاهبا بأن تستدعي املمرضة..
بالفعل حرضت بعد دقائق ..بمجرد أن دخلت املمرضة الغرفة ..وكأهنا أتت
إلنقاذه أو أهنا مندوب من قبل الرشطة« ..أشعر بتعب وأمل ودوار ..أرجو أن
112
تعطيني مسك ًنا قو ًيا ..أريد أن أنام ..أو أريد أن أموت ..خدروين ..اجعلوين
أنام أو أموت ..هيا برسعة"..
يف الصباح حرضت مدام وفاء واالستاذ مجال ..قدما الشكر ملروة وأن
عليها أن تنرصف لتنام وترتاح وإذا أرادت أن تأيت يف الليل فسوف يكون
كرم زائد منها ..وكان عالء مازال ً
نائم ..لكن نوم ال يعرف طعم الراحة أو
االسرتخاء ..فقد كانت تطارده جمموعة من الكوابيس يف حلقات مسلسلة
متشابكة ..ال تفارقه ..ينتهي كابوسا ..فيعقبه اآلخر ويبدأ يف جلسات
التعذيب ..فكانت تصدر عنه بعض الرصخات وهو نائم..
انزعجت األم لكن األستاذ مجال وضح هلا أهنا ربام من آثار األمل بالتأكيد..
***
113
كان عىل مايا أن متر عىل بعض معارض اإلكسسوار والنجف ..لتحديد
بعض القطع لإلضاءة التي سيتم تركيبها يف الفيال ملتابعة عمل اجلميع وقد
وكم العمل الذي يتعني
رشحت هلم باألمس ما ينبغي عمله لكل فرد حتديدً ا ّ
عليهم أن يتم مع هناية اليوم..
وعندما حان دور مكاملة املسئول عن تركيب األحجار االسطي «فرج»
أجاهبا عيل اهلاتف أنه ال يستطيع القيام بعمل غري مقتنع بجدواه أو صحته..
لن يعمل ..سيتوقف وينتظرها ملناقشة األمر عىل الطبيعة..
انتاب مايا يشء من الضيق ألهنا ال حتب التكاسل يف العمل أو اضاعة
الوقت حيث كل يشء لدهيا حمسوب ولدهيا جدول بعمل وانجاز يوم بيوم
وأخربها األسطى فرج أنه سينتظرها مهام طال الوقت للنقاش والتفاهم ومل
يكن أمام مايا إال املوافقة واجابته ..حس ًنا انتظرين ولكنني سأتأخر بعض
الوقت ..فامزال أمامي الكثري ألهني مجيع تنقاليت..
حاول رشيف ترتيب لقاء مع مايا ليتقابال بعد حمارضاته وبعد عملها
لكنها أخربته أهنا ال تدري يف أي وقت سوف تنهي مجيع تنقالهتا خاصة أن
الزحام املروري عىل أشده وأهنا تنتقل بني أماكن تتباعد عن بعضها وبعد ذلك
البد أن تعود إىل الفيال ..لتتابع ماتم من عمل اليوم وبعدها هلا حديث مطول
114
مع أحد مسئويل تركيبات األحجار «االسطي فرج» الذي عىل ما يبدو أعلن
عصيانه واستطردت« ..نشوف حكايته ايه ده كامن»..
ما كان من رشيف إال أنه أخربها بأنه سوف يكون يف انتظارها ..عندما
تفرغ وتكون قادرة عىل اخلروج ..فلن يستغرق وق ًتا لينتظرها اسفل منزهلا..
اتفقا عىل اللقاء إن استطاعت مايا بعد يوم عمل شاق و طويل..
تنقلت مايا بني املتاجر النتقاء بعض أنواع من السرياميك للمطبخ
واحلاممات الثالث يف الفيال ثم قامت باالتفاق مع إحدى متاجر السجاد
واملوكيت عىل أنواع وألوان املوكيت وميعاد الرتكيب بعدها اجتهت إىل متاجر
ً
طويل ملشاهدة البضائع بيع أقمشة الستائر ومستلزماهتا ..فقضت هناك وق ًتا
واملعروضات وانتقاء املناسب منها ..واختتمت تنقالهتا يف إحدى ورش
تصنيع وتشكيل احلديد لالتفاق عىل بعض نامذج «الفريفورجيه» للرشف
وبعض احلواجز والقواطع داخل الفيال ..وبعدها شعرت مايا ان طاقتها
أخريا اهنت كل املشاوير لدرجة اهنا
ً قد استنفدت وأهنا تشعر بتعب شديد..
نسيت أن تتناول أي طعام ..فكانت تشعر بجانب التعب باجلوع الشديد
رفضت تناول أي يشء فضلت أهناء املتابعة يف الفيال والنقاش مع األسطي
فرج وبعدها تستعد لتناول العشاء مع رشيف..
انتابتها حالة من الرضا والقبول بعد متابعة األعامل وأن كل عامل أدى
دوره كام هو موكل إليه ..فكل يشء يسري عىل ما يرام عدا تركيب األحجار يف
احلائط املقابل ملدخل الفيال..
115
كان االسطى فرج بمفرده يف الفيال بعد أن غادر مجيع العاملني ..كان يف
انتظار الست املهندسة كام ينادهيا العامل ..عدا االسطي فرج الذي كان به من
التكرب ان ينادهيا هبذا اللقب ..وكان عادة ينادهيا «ياست» وهي مل تعر لألمر
انتباه لعلمها أن عمله لن يستغرق أكثر من ثالثة أو أربع أيام عىل األكثر وربام
ال تتعاون معه ثانية يف املستقبل وأي عمل قادم حيث تشعر أنه شخص كثري
النقاش كثري اجلدال ..قليل العمل ..يبحث عن مكانة مزعومة ..أنه رئيس
العامل وال يتلقى أوامر من أحد حتى لو كانت من املهندسة املسئولة عىل تنفيذ
أعامل التشطيبات فلم يكن من السهل التعامل معه وحيتاج إىل ترويض دائم..
هكذا أخربها أحد املقاولني عندما استعانت به إن كان لديه أو يعرف اسطي
شاطرا لرتكيب األحجار بحرفية..
ً
جالسا عىل األرض
ً ما أن انتهت مايا من املعاينة توجهت إليه حيث كان
ً
مشعل سيجارة كرهية الرائحة ..رائحة عطرية غريبة غري يف مدخل الفيال
رائحة السجائر املعتادة ..ولكنها عطرية غري حمببة ..لدرجة أن انتاب مايا نوبة
من السعال بتأثري الدخان الكثيف الذي شي ًئا فشي ًئا مأل املكان..
كان االسطى فرج ذو جسم ممتلئ ..وله شارب كثيف ويد خشنة وأصابع
غليظة عيناه هبام امحرار دائم ونظراته غري مرحية ..وسليط اللسان..
أهنت مايا جولتها يف الفيال وهبطت الدرج إىل الطابق األريض موجهة
حديثها لفرج ..ها ..ما هي املشكلة وماذا تريد ان تقنعني به..
مشريا إىل أماكن تركيب احلجارة
ً هنض فرج من مكانه وبدأ يرشح هلا
وكانت مايا تقف بمسافة بعيدة عنه بعض اليشء ..طلب منها أن تقرتب
116
وتضع يدها عىل احلائط وتالحظ سمك احلائط أقل بكثري من سمك احلجارة
وبالتايل ستكون احلجارة هبا بروز خارجي اكثر من الالزم وغري متناسق يف
شكله..
اقرتبت مايا وبدأت تضع أصابعها عىل احلائط وأمسكت بأحد قوالب
احلجارة والصقتها بيدها واسندهتا عىل احلائط لرتى حجم الربوز اخلارجي
فإذا فرج وبشكل فجائي استدار من خلف مايا وأمسكها من ظهرها وطوق
يداها من أمامها وألصق جسده بجسدها بقوة ..رصخت وأمطرته بوابل من
السباب ..آمرة إياه ان يرتكها ويبتعد عنها ..لكنه كان يف حالة غري مؤهلة لسامع
غري صوت رغباته وشهواته التي ال توصف إال باحليوانية ..كان مقززا برائحة
منفرة..
حاولت مايا التخلص منه لكنه كان أقوي من أي حماولة تقوم هبا لإلفالت
من قبضة يديه وابعاد هذا اجلسد اخلنزيري عنها..
كانت مازالت ممسكة بقالب احلجارة عندما كانت تقيس سمك احلائط
مقارنة بمقياس وسمك احلجارة أفلتت يدها برسعة ورفعت يدها بشكل
تلقائي وهبطت بيدها حاملة احلجارة بكل ما أوتيت من قوة وشجت هبا
رأس فرج ..ورأت دماءه القذرة تنهمر من رأسه لتمأل وجهه ..وختيلت أهنا
ختلصت منه وباستطاعتها اهلرب ..لكن القدر كان خمبئ هلا ما هو اسوأ من
ذلك بكثري اذ هرع فرج خلفها ومل هيتم بدمائه املسالة من رأسه لتغطي مالحمه
الكرهية واستطاع االمساك هبا عىل الدرج وهي حتاول الصعود ألعيل الفيال
117
أمسكها من قدميها ركلته بشدة حماولة االفالت منه لكنه اقرتب من وجهها
ولطمها عدة لطامت عىل وجهها حتى فقدت الوعي..
منتظرا مكاملة من مايا ليستعد للخروج
ً وضع رشيف هاتفه بجواره
ملالقتها حتت منزهلا للذهاب إىل أحد املطاعم املحببة اليهم لتناول العشاء عىل
أنغام املوسيقي اهلادئة والشموع املنترشة عىل طاوالت املطعم..
خمصصا للمأكوالت البحرية ..ويفضل احلجز مسبقًا
ً صغريا
ً ً
مطعم كان
ً
اتصال باملطعم حلجز نظرا لإلقبال الشديد عليه ..التقط رشيف هاتفه واجرى
ً
طاولة ..ردت عليها إحدى العامالت باملطعم أنه تم قيد اسمه ولكن لن
تقريبا قبل ساعتني اجاب أنه وقت كايف لالستعداد
ً تكون هناك منضدة خالية
والذهاب اليهم..
طال انتظار رشيف حتى غط يف نوم عميق دون ان يشعر بنفسه أو بالوقت
وإذا به يسمع جرس هاتفه..
رد رشيف وبعد أن استمع ملن حيادثه قفز لتوه وارتدي ما رآه أمامه وهبط
إىل سيارته وقادها بأرسع ما يكون ..وصل إىل املشفى بمنطقة سموحة سأل
عن مايا أخربوه أهنا يف العناية املركزة ..فهي يف حالة اعياء شديد مل يدرك
رشيف حقيقة ما حدث ملايا وما فعله هبا «فرج»..
حاول ان يسرتجع ذاكرته ..أهنا اخربته اهنا ذاهبة إىل الفيال وبعدها إىل
البيت لتبديل مالبسها ..واالستعداد للعشاء..
ماذا حدث هلا يا تري ..وملاذا غرفة العناية املركزة ..حاول التقاط أي معلومات
من الطاقم الطبي املرشف عىل عالجها لكن اجلميع كانوا يف حالة صمت تام..
118
مطقطقني رؤوسهم إىل األرض بال اجابات ألي من أسئلة رشيف ..وبعد دقائق
حرض الدكتور كامل شوقي والد مايا ..القى التحية عىل رشيف وأبلغه أن مايا اخربته
بصداقتها لرشيف ..وأنه كان يتنظر الفرصة املناسبة للقائه ..ولكن ليس هذا
هو املهم اآلن..
أخربين يا رشيف ماذا قال االطباء عن مايا ..ماذا حدث هلا وملاذا العناية
املركزة ..هل اصطدمت سيارهتا ..هل سقطت يف العمل ..هل وقع عليها
يشء من مواد البناء ..ماذا إذا؟..
مرت الساعات بطيئة ..ويف األخري جلس إليهام أحد األطباء يف حجرة
وطلب أال يدخل عليهم أحدً ا ..قص عليهام احلالة الطبية والصحية ملايا حيث
تعرضت لالغتصاب بعنف ..فأصيبت بتهتك يف أعضائها التناسلية مما سبب
هلا نزيف ومن الواضح اهنا نزفت بشدة لكن محدً ا هلل أن فصيلة دمها متوفرة
لدينا فاستطعنا نقل الدم اليها بام يعوض ما فقدته ..واآلن هي أفضل لكن
جيب أن تظل يف العناية املركزة ملدة يومني عىل األقل ..وربام نحتاج أن نستعني
بالطب النفيس ملساعدهتا للخروج مما سوف تكون عليه حيث عادة ما يمر
أصحاب احلاالت مثل مايا بأسوأ احلاالت النفسية.
ساد صمت رهيب بعد أن فرغ الطبيب من حديثه ..صمت مرعب..
حزين ..مميت ..قاتل ..مؤمل للنفس البرشية ..صمت طاع ًنا يف الكرامة..
الكربياء ..اإلحساس بالظلم والقهر ..بأيدي مكتوفة ..وال يستطيع العقل أن
حياول التخيل او التصور ملا حدث ملايا ..أجهش الدكتور كامل يف البكاء غري
مصدق ما سمعه..
119
مايا ..بنتي أنا ..اغتصاب ..عامل بناء ..كيف وملاذا وماذا حدث يف الدنيا
االنسانية ..ال ..احليوانية التي اصبح بعضنا غار ًقا فيها..
كاد عقل رشيف أن يتوقف عن العمل ..ظل صام ًتا لفرتة ال يصدق
ماذا حدث ..من هو ذاك احليوان الذي أقدم عىل مثل هذه الفعلة ..يؤذي
«مايأيت" ..كام كان حيب أن ينادهيا" ..يا مايايت" هيجم عليها ..اغتصاب..
أنا غري مصدق ..حاول رشيف البكاء لكن الدموع رفضت اهلطول وظلت
حبيسة داخل عينيه إال بعد أن يطمئن عىل مايا ويعرف من أقدم عىل هذه
الفعلة ..سأقتله..
بعد دقائق حرض ضابطان من الرشطة ..حيث قامت املشفى بإبالغ
الرشطة ..طلب الضابط احلديث إليهام عىل وجه الرسعة ..وانفرد هبام يف
إحدى احلجرات وتبادل معهام احلديث وألقي عليها العرشات من األسئلة
وبعدها توجه إىل قسم الرشطة وبدأ فريق من املباحث اجلنائية واملباحث العامة
يف تويل هذه القضية والعمل عىل فك مالبسات ما حدث ..والقاء القبض عىل
اجلاين أو اجلناة إذا كانوا أكثر من فرد واحد..
مل جيد رشيف من يلجأ إليه ..إال سيادة العميد ..أمسك هباتفه وحادث
ومفزوعا
ً منزعجا
ً شارحا كل يشء ألبيه ..استمع األب وقام من مكانه
ً أباه
وكل ما قاله لرشيف ..ابقي مكانك ..سوف أكون بجوارك بعد ساعتني..
أغلق سيادة العميد اهلاتف غري مصدق ما حدث وما سمعه من ابنه
رشيف ..وأخذ يتمتم «سرتك يارب» اتصل بأحد السائقني ليأيت بسيارته ليقل
120
سيادة العميد إىل االسكندرية حيث مل تكن أعصابه قادرة عىل الرتكيز يف القيادة
عيل الطرق الرسيعة وال حتى البطيئة..
رصاخا
ً أفاقت مايا من غيبتها ..وبدأت تتذكر ما حدث هلا ..رصخت
ً
متواصل بال توقف حتى توقفت فجأة كأهنا فارقت احلياة..
هرع إليها الطبيب واملمرضات وتم حقنها يف ذراعها بمسكن قوي
للغاية ..نامت بعده عىل الفور..
حترك فريق البحث والتحري ..والبحث اجلنائي ..مجعوا معلومات كثرية
ووضعوا اخليوط بجوار بعضها فنسجت هلم تصورا ملا قد يكون حدث داخل
الفيال وأن اجلاين البد وان يكون هو فرج مسئول تركيب الطوب احلجري
تقريبا اختفى ..مل يظهر يف بيته وزوجته
خاصة أهنم بحثوا عنه يف كل مكان لكنه ً
ال تعلم عنه شي ًئا منذ ذلك اليوم املشئوم
***
121
سألت نورا والدهتا عن سيادة العميد ..أين ربام يكون فهي تريد احلديث
إليه بشأن ماجد وتفاصيل االتفاق عيل حفل اخلطوبة ..أجابت األم أنه أخربها
أنه ذاهب إىل االسكندرية لزيارة رشيف وقضاء بعض الوقت معه لالطمئنان
عىل حالته ومعيشته و مل تكن األم بالطبع تعلم أمر املكاملة التي تلقاها زوجها
من ابنهام رشيف ..وحالة الضياع واالنكسار التي يعيشها رشيف وهو يرى
«ماياته» تضيع من بني يديه ..ومما زاد خوفه أن الطبيب أخربه أنه لألسف
انه من املالحظ ان كثري من تلك احلاالت يقدمن عىل االنتحار والتخلص
من احلياة ..فالطبيب النفيس هنا له األثر والدور األكرب يف عودهتا مرة أخرى
للحياة..
بعد مرور أيام شعر رشيف أن غياب مايا عن الوعي سيطول أليام..
أسابيع ربام شهور ..ال أحد يعلم ..ولن يستطيع أن يقف مكتوف األيدي..
وكلام تواصل مع الضباط املسئولني عن القضية خيربوه اهنم ليسوا ساكتني وال
صامتني يتحركون يف كل مكان للبحث عن املشتبه فيه الوحيد ..فرج..
يسمع رشيف كل هذا ويزداد ً
غيظا ومق ًتا ..يرضب كل يشء حوله
بيديه ..ويركل كل ما يف طريقه بأقدامه ..يريد حتطيم كل ما هو حوله..
122
كيف ملايا أن تعود الفراشة اجلميلة التي متأل الدنيا حوهلا هبجة وفرحة..
أنوثتها ..أناقتها ..ابتسامتها ..شعرها الناعم..
جاء هذا الوغد ليدمر كل ذلك ليرسق الفرحة ويطفئ البهجة والرباءة
ويقتل االبتسامة ..كيف جيرؤ هذا اللعني أن يضع فقط أصبعه ليلمس املالك
الطاهر «مايا» ..البد من قتله ألف مرة ..تعذيبه آالف الساعات ..كيف جيرؤ
هذا الكافر بكل الرشائع..
بينام رشيف يفكر ويكاد ان يفقد عقله بعدما فقد اعصابه ..حرض سيادة
ً
طويل إىل صدره وربت عىل كتفيه ثم قام إىل د .كامل العميد ..ضم رشيف
ملصافحته والتعرف عليه واألخذ بشدة عىل يديه مؤكدً ا له أن مايا مثل نورا
ابنته وأنه لن يغادر اإلسكندرية حتى االطمئنان عليها وعىل رشيف وأن يبدآ
حياهتام سو ًيا وأن يتخطيا ما حدث مهام طال فالزمن كفيل بتقديم الدواء
والشفاء ..أال وهو النسيان..
طرأت يف عقل رشيف بعض األفكار التي حتولت بعد فرتة قصرية عىل
خطة عمل يف رأسه قرر أن ينتقم ملايا ..أن يبحث عن اجلاين بنفسه ذلك اللعني
«فرج» ويمثِّل به ويطلق عليه كال ًبا جائعة تنهشه ..ويعرضه لتيار كهربائي قيمته
ألف فولت ..أو يقذف به إىل قارعة الطريق من أعىل برج سكني فتتكرس كل
قطعة عظام يف جسده العفن إىل ماليني القطع الصغرية فال يصلح معها ترميم..
لقد تكون بداخيل بركان من الرش والغضب يريد أن خيرج وأن ينفجر..
ويقذف بكل محمه املحرتقة امللتهبة لتحرق كل من تسبب يف إيذاء لـ»مايايت»..
***
123
استيقظت مروة يف املساء بعدما خلدت لنوم عميق لساعات من فرط
التعب جهزت العشاء لوالدها العم زكريا ..واختلقت له قصة ..إن عالء يف
املشفى نتيجة حادث سيارة وأن أمه ظلت ترجوها لفرتة طويلة ملساعدهتا يف
طبعا العكس كان هو الصحيح ..فمروة هي
العناية به ..فاضطرت للقبولً ..
من أخذت حتاول إقناع مدام وفاء أهنا لن تقدر عىل احلضور والبقاء مع عالء
طوال اليوم والليل بمفردها ..لذلك البد أن تشاركهم وتساعدهم ويكون هلا
دور يف العناية به وأنا قبلت بوردية الليل ألكون إىل جواره إذا ما احتاج إىل
يشء ..وافق العم زكريا عىل مضض ..غري مقتنع ..ولكونه حيمل أخالق والد
البلد ..مل يستطع الرفض حتى لو كان ً
رافضا بعقله..
قادرا
قضت مروة ليلتها الثانية بجوار عالء وقد حتسنت صحته وأصبح ً
عىل الكالم بال عناء ..اقرتبت منه أكثر ..وبدأ عالء يرى بعض امليزات فيها..
سارحا
ً ولكن بني احلني واآلخر كان يبدو عىل عالء نظرات مليئة بالقلق ويظل
بأفكاره لفرتة طويلة ..فكم متنت مروة أن تعلم فيام يفكر عالء ..البد أن هناك
ما يشغله ربام حزين عىل سيارته فهي سيارة فاخرة باهظة الثمن وانه كان حيبها
رسا أو العديد من
كثريا ..هل السيارة أم أن هناك أمر آخر ..البد أنه خيبئ ً
ً
األرسار بداخله ..آه لو استطاعت أن تنتقل وتتجول بداخله وبني جنباته
124
لتطلع عىل ما يدور فيها وما وراء تلك النظرة الشاخصة ..فهو قليل الكالم..
ومهام سألته فمن املستحيل أن يبوح هلا ويفصح عام بداخله ..فلم تكن العالقة
بينهام هبذه القوة واملتانة والثقة لدرجة البوح باألرسار..
كلام سمع عالء الطرق عىل باب غرفته هيبط قلبه وضغط دمه إىل أدنى
مستوياته ..حيث ً
دائم ما يعتقد أنه أحد أفراد الرشطة ..يقبض عليه ويضعه يف
السجن بسبب وصل األمانة املزان بتوقيعه..
***
125
بدأ رشيف أويل خطواته للبحث بنفسه عن اجلاين «فرج» عرف من
ضابط البوليس حمل اقامة فرج ..قرر رشيف أن يرتك دراسته للتفرغ هلذه
املهمة الغريبة عليه لكنها ليست غريبة عىل رجولته واسرتداد كرامته وحق
«مايا» ..لكنه تراجع عن فكرة تركه للدراسة حيث ال يريد أن يشعر أحد
بغيابه وانقطاعه عن حضور املحارضات ..وتبدأ عملية البحث عنه وسؤاله
عن اسباب انقطاعه عن الدراسة فهو يريد أن خيوض عملية البحث عن املجرم
يف رسية تامة وعدم معرفة أي شخص كي ال يصل األمر إىل الرشطة فيوقع
نفسه حتت طائلة القانون ويعطله كل هذا عن الوصول هلدفه أال وهو االنتقام
حمطمً ..
ذليل.. مهشمً ..
ً وعودة حق مايا بأن يرى اجلاين
126
دار رشيف حول منزل فرج دورة ..تفقد فيها البيت القديم املكون من
ثالثة طوابق ويسكن فرج يف الطابق األريض ..ونافذة بيته تطل عىل الشارع
الضيق ..نافذة منخفضة من السهل أن ترى من بداخل البيت وأنت تسري يف
الشارع إن مل يكن هناك ستائر حتجب الرؤية..
فكر رشيف أن يسأل أحد أصحاب املحالت املالصقة ملنزل فرج ..لكنه
رسيعا ويفسد عىل
ً تراجع خو ًفا من إثارة التساؤالت حوله ..فيكشف نفسه
نفسه املهمة بأكملها ..واملوقف ال حيتمل املخاطرة..
توجه إىل أحد املحالت ليشرتي كارت شحن دقائق هلاتفه القديم..
ً
مشغول برتتيب بضاعته يف الرفوف وحاول التحدث مع البائع لكن البائع كان
وإضافة بضائع جديدة هلا..
نظر حوله فوجد مقهى بلدي ..ذهب للجلوس عليها ..طلب كو ًبا
من الشاي وعندما جاء القهوجي بالشاي استوقفه رشيف وقدم له سيجارة
من علبة السجائر املحلية الصنع التي اشرتاها منذ دقائق بعد رشاءه كارت
شحن املحمول ..سأله رشيف إن كان يعرف له عمل ..فهو بال عمل وعليه
مسئوليات مجة وهو العائل الوحيد لألرسة وأنه ظل بال عمل ملدة طويلة..
فسأله القهوجي عن طبيعة صنعته وما جييده من عمل ..فقال له انه كان يعمل
مساعدً ا عند أسطى تركيب أحجار لكنه حصل عىل عقد عمل يف إحدى الدول
املجاورة وتركه بال عمل فسأله القهوجي لِ َ مل تسافر معه فتستطيع أن تدخر
صعبا للغاية وال جمال لالدخار..
ً بعض النقود ..لقد أصبح حال البلد هنا
فبالكاد الكل يعيش..
127
فسارع رشيف بسؤاله قبل ان ينشغل مع بعض الزبائن األخرين انه سمع
ان هناك اسطى معلم يف تركيب األحجار اسمه االسطى «فرج» يبحث عن
مساعد فأين هو وكيف له أن يقابله..
شذرا وغابت بشاشة وجهه وأجاب ال أعرف وتركه
نظر إليه القهوجي ً
وذهب ملساعدة أحد الزبائن..
شعر رشيف أن ما هو مقدم عليه خميف ..هو املجهول بعينه وأن مهمته
ليست سهلة بل هي أشبه باملستحيل..
جالسا غار ًقا يف التفكري ..غري عابئ
ً مرت فرتة ورشيف مازال عيل القهوة
بقذارة املكان وال اإلزعاج من حوله يف كل مكان ..وبينام هو جالس ..جاء
إليه القهوجي وأخربه أن هناك من يستطيع مساعدته فأخرج رشيف سيجارة
أخرى وناوهلا للقهوجيً ..
قائل ..من هو؟
أخذه القهوجي إىل أحد الطاوالت ..والتي جيلس عليها رجل قبيح
املظهر ارتعد رشيف من شكله ..وتوقف الكالم يف حلقه لدقائق ..واستمع إىل
القهوجي الذي قام بتقديم الرجل إليه ..االسطى «عاشور» خري من يساعدك
عىل اجياد عمل مساعد ألسطي تركيبات أحجار..
جلس رشيف بجوار االسطى عاشور وهو منهمك بتدخني الشيشة التي
خيرج منها دخان كثيف كون جمموعة ال بأس هبا من السحب امللوثة واملشبعة
بكل انواع الكربون ..أول وثاين وربام ثالث ورابع إن وجد..
متعجبا من حقارة ودنو املكان ..وهذا
ً كان رشيف يتلفت حوله
«العاشور» وحده تركيبة غريبة ..شكله ..صوته ..مسكته للشيشة وباليد
128
األخرى يمسك أداة معدنية يضغط هبا عىل الفحم ..فيشتعل ويزداد امحرارا
مع كل نفس..
توجه عاشور بالسؤال إىل رشيف ..هل لديك خربة كبرية يف تركيبات
األحجار ..كم مرت تقوم برتكيبه يف اليوم وهل لديك خربة يف تكسري وهتذيب
األحجار..
مل يعرف رشيف بامذا جييب لكنه آثر احللول الوسطية ..فقال إنه مازال
يف مرحلة التعليم ..ومل يعمل بيده لكنه فقط يقوم بمناولة املعلم احلجارة
وحتضري املؤن االسمنتية ..آاااه ..هكذا زفر املعلم عاشور بصوت مثل نعيق
الغربان ..صبي يعني« ..طب قوم فز من جنبي واميش اقعد عىل الرصيف
هناك ..بال قلة أدب ..لغاية ما نشوف نشغلك عند مني» وأنا اليل كنت فاكره
معلم وباحرتمه ..هكذا أكمل عاشور وصلة توبيخ رشيف..
مرت عىل رشيف ساعتان وهو جالس عىل الرصيف املتسخ للغاية..
من يصدق ان رشيف ابن العميد فؤاد أحد أبطال حرب أكتوبر واخلبري
العسكري ..و الطالب املجتهد الذي اقرتب أن يكون ضابط بحري جتاري
وبعد سنوات ربام يصري قبطانًا عىل أحد السفن الكبرية ..يكون هذا حاله..
جالسا عىل رصيف متسخ يف حي شعبي مل يسبق له السري
ً يرتدي مالبس رثة..
ومنتظرا إشارة من رجل أشبه
ً ناظرا
فيه من قبل وال يعرف عن قاطنيه شي ًئا ً
باملجرمني أو مرتادي السجون املعلم عاشور ..باحثًا عن جمرم آخر ..هدفه
املنشود« ..فرج»..
129
ألجل مايا وثأرها كل يشء هيون ..مل ولن أكون ً
رجل إال إذا انتقمت
ملايا مادامت الرشطة عاجزة وحركتها بطيئة إىل هذا احلد ..كان هاتف رشيف
مغلقًا فقد خيش ان يتحدث فيه فيسمعه أحد فيعلم انه ابن ناس من طريقة
حديثه ..وال يقنع أنه صبي..
كاد عقل العميد فؤاد أن يشت من طول بحثه عن رشيف ..فكان هياتفه
ولكن ال يرد ..ومل يكن باملنزل وال يعلم أحد أين ذهب ومل يأيت إىل املشفى
وهذه أول مرة يغيب فيها عن مايا خاصة فرتة املساء..
أخذت األفكار السوداء تدور يف رأس العميد ..إىل أن فطن أنه البد
وأكيد أن رشيف عمل حادثة بسيارته ..فهو ً
دائم سارح مشتت التفكري
منذ حادثة مايا وبالتايل تركيزه قليل وبذلك من السهل ان يرتطم بأي يشء
يف طريقه أو ال يكون لديه القدرة عىل تقدير املسافات والزمن الذي حيتاجه
لكبس مكابح السيارة عند اللزوم..
***
130
وتقريبا
ً رن صوت مايا عاليا جملجال يف أركان الدور الثالث باملشفى
ً
متواصل مع ركل باألقدام وقذف رصاخا
ً سمعه كل من كان يف املشفى..
املالءات عىل األرض مع قذف للوسادات يف كل اجتاه..
ً
مزلزل أرجائه إىل أن وصل الطبيب وخلفه ظل الرصاخ يدوي يف املكان
اثنتان من التمريض وفعلوا كام فعل يف السابق ..حقنة خمدرة تساعدها عىل
النوم ونسيان ما يف رأسها مؤق ًتا..
سأل الدكتور كامل ..الطبيب املعالج عن املوقف فأجابه أن هذه األمور
تستغرق وق ًتا وأن مايا حتتاج للرصاخ وتفريغ ما بداخلها من شحنات نتيجة
لتعرضها للقهر ..وبعد فرتة تبدأ مرحلة العالج النفيس مع أحد األطباء املهرة
يف هذا املجال ..فملف حالتها بني يديه اآلن وهو من يقوم بعمل خطة عالج
هلا وإن شاء اهلل تسري األمور عل خري..
***
131
طال انتظار رشيف حتى جاءته اإلشارة من املعلم عاشور أن يأيت إليه ..فإذا
أمرا إياه أن يذهب إىل اقرب بائع ويشرتى له علبتني من
به يعطيه بعض النقود ً
السجائر ..التقط رشيف النقود وأغلق يده عليها بإحكام وسار لعدة خطوات
ثم توقف فا ًحتا يده ً
ناظرا إىل النقود غري مصدق ما حيدث له ..أنا أشرتي سجاير
هلذا الـ ...كله هيون يف سبيل راحة مايا ومعرفة احلقيقة واالنتقام هلا..
مرسعا وإذا بعاشور خيربه أن يذهب..
ً اشرتي رشيف السجاير وعاد
مناسبا ..ذهب رشيف بعيدً ا ..ضاع
ً ويأيت غدً ا يف املساء ليكون وجد له ً
عمل
منه اليوم األول يف مهمته بال حصوله عىل أي معلومات وال أي استفادة..
هكذا ظن رشيف الذي يعلم أن قربه من املعلم عاشور سيكون فيه
مفاتيح فك لغز اختفاء فرج ومكان اختباؤه ..وهل كان فرج وحيدً ا عندما قام
بفعلته احلقرية ..أم كان معه رشكاء أخرين..
سار رشيف ملسافة طويلة عىل قدميه حتى وصل إىل الشارع الرئييس بعيدا
عن احلي الشعبي حيث كانت سيارته مصفوفة ثم قام بفتح هاتفه ..فوجد
معربا عن قلقه عليه
وابل من الرسائل قاد ًما إليه أغلبها من أبيه سيادة العميدً ..
وأنه اختفي بال سبب..
حادث أبيه يف اهلاتف الذي طلب منه أنه يريد أن يراه ً
حال..
132
مل يستطع رشيف الذهاب ملالقاة أبيه بتلك املالبس ورائحة الشيشة
امللتصقة بجسده وشعره ومالبسه فبالقطع سوف يثري العرشات من األسئلة
تفسريا عن احلالة التي هو عليها..
ً برأس أبيه والبد أن يعطيه
لكن السؤال األهم واألعظم الذي خيشى أن يسمعه هو «أين كنت كل
هذا الوقت وملاذا هاتفك مغلق»؟ فهو مل يعتد الكذب وبالتحديد عىل أبيه..
ً
وأيضا مل يعتد فإما أن يظل صام ًتا بال إجابة وهذا معناه أن بداخله ما خيفيه
أبيه منه عىل هذه املعاملة الغريبة ..أو أن يقول احلقيقة التي سوف تصدم أباه
وتسبب له قلقًا فوق ما به من قالقل..
متجها إىل بيته
ً كان رشيف يفكر يف كل هذه األمور وهو يقود سيارته
لتبديل مالبسه برسعة قبل الذهاب للقاء ابيه يف املشفى حيث ترقد مايا
حبيبته ..أه يا مايا ..ماذا حدث لك وماذا فعل بك هؤالء األوغاد ..اقسم لك
يا مايا ..لن أختىل عنك ولن أترك حقك يضيع مهام كلفني هذا ..من دراستي..
من روحي ..أي يشء فداء لك..
دخل رشيف من باب العامرة الكبري حيث يسكن وإذا بحارس العامرة
ومانعا له من الصعود ً
قائل «عىل فني أنت رايح عند مني»؟ ً متعجبا
ً ينظر اليه
فإذا برشيف يقول له جرى أيه ياعم عبد التواب ..أنا رشيف ..فتح عبد التواب
معا" ..األستاذ رشيف» اعذرين ظننتك واحدً ا من هؤالء املزعجني
عينياه وفاه ً
بتوع اإلعالنات أو الدليفري ..معذرة ..لكن ملاذا حرضتك تلبس هكذا ..هل
أنت بخري ..صعد رشيف برسعة للتحمم وتبديل مالبسه..
***
133
علم ماجد من نورا بعد أن حادثها يف اهلاتف أن سيادة العميد غري متواجد
بالقاهرة وأنه ذهب لبعض الوقت لإلسكندرية لالطمئنان عىل رشيف وعىل
إقامته هناك ..وقضاء بعض الوقت لالستجامم عىل بحر شاطئ سيدي برش
حيث هو املكان املفضل لديه الذي مجع ذكريات طفولته عندما كان حيرض
بصحبة أرسته إىل املصيف يف كل عام بعد انتهاء الدراسة مبارشة وأنه يعشق
االسكندرية يف فصل الشتاء ..هكذا أخربت نورا ماجد وليس عليهام إال
مجيعا لالتفاق عىل مجيع التفاصيل واخلطوات
االنتظار حلني عودته ليجتمعوا ً
إلمتام اجراءات اخلطوبة وحفل اخلطوبة..
وصل إىل مسامع احلاجة نعامت ً
بعضا من حديث ماجد ففهمت أن كل
يشء مؤجل ومرهون بعودة سيادة العميد فإذا هبا كعادهتا وكالسهم املنطلق..
أنت يا أهبل مصدق ان سيادة العميد مسافر ..ده أكيد انت ماعجبتوش
ومش مايل عينيه ويرد البنته من هو أفضل منك ..عنده حق ..انت عندك ايه
وحيلتك ايه غري شوية عضالت منفوخة وكلها باألدوية اليل بتاخدها طوال
الوقت ..بكرة عضالتك دي تفش وترجع تاين شبه الربص ومافيش بنت
تبصلك ..فرحان بنفسك عىل أيه ..ده أنت حتى أمك مش بتهتم بيها وسايبها
كده ماعندهاش أكل وال حد خيدمها ويشوف طلباهتا ..مبقتش قادرة أقوم
134
أعمل حاجة زي زمان أنت صحيح ابن جاحد ..أي ولد تاين مكانك كان
حس عىل دمه ،واحترك وخرج جب شوية أكل ومكرسات ..أخص عليك
وخسارة تربيتي فيك..
ذاهبا إىل النادي حيث
استمع ماجد ملوشح كل يوم تقريبا وغادر البيت ً
حتول إىل كرة من الثلج منفوخة العضالت..
***
135
كثريا
حل الظالم وبدأت مروة ورديتها لرعاية عالء الذي متاثل للشفاء ً
قادرا عىل القيام من رسيره للحركة البسيطة بواسطة عكاز أو االستناد
واصبح ً
عىل مروة واالعتامد عليها يف كل يشء ..صارت مروة لعالء أقرب املحيطني به
عرف عنها كل يشء حيث قضوا ليايل طويلة يف احلديث عن كل يشء..
تعلق هبا وبدأ قلبه يدق هلا ..فقد كانت هلا اسلحة أنثوية موجهة جتاه
مشاعره طوال الوقت ومل هتدأ وال هتنأ حتى وقع بني حبال شباكها..
ويف أحد املرات رصح ألمه مدام وفاء بمدي اعجابه وامتنانه ملروة بام
تقدمه له من خدمات ورعاية واهتامم وأنه يري فيها زوجة مناسبة وأهنا اثبتت
قدرهتا عىل رعاية رجل يف أصعب الظروف وأشدها فال أصعب وال أشد من
الكسور والكدمات والرقاد يف الرسير أليام طوال بال حراك وغري ذلك فهي
هلا عقل راجح ومتحدثة جيدة ..وأنه يرغب يف التقدم خلطبتها فور التخلص
من اجلبس املغلف قدمه واستعادة قدرته عىل السري مرة أخرى بدون مساعدة
العكاز ،فليس من الطبيعي أن يتقدم خلطبتها وهو ممسك بعكاز يستند عليه..
مانعا من ذلك لكنها يف
أبدت األم موافقتها املبدئية حيث هي ال ترى ً
نفس الوقت تعتقد إنه ربام من االفضل االنتظار حتى تدخل بيتهم وتتعرف
اجتامعيا أم ال..
ً عىل والدها وبقية العائلة لتحدد مستواها ..وإن كانت تصلح
136
شعر عالء بعدم الراحة يف كالم األم وأن هناك اجتاه أو احتامل للرفض
إذا ما كانت عائلة مروة عىل غري املستوى االجتامعي الالئق هبم وأن تكون أم
أوالده يف املستقبل وأباها يكون جدهم إىل آخر هذه األمور..
***
137
قاد ماجد سيارته عرب بوابة النادي فإذا به جيد األمن عىل البوابة يستوقفه
وخيربه انه مطلوب يف اإلدارة ألمر هام ..فعليه التوجه لإلدارة قبل بدء متريناته
وبالفعل توجه ماجد إىل هناك وهو غري مدرك ما هو يف انتظاره من حمرك سيغري
مسار حياته متا ًما..
عقد أحد املسئولني يف النادي جلسة معه اخربه فيها انه تم وقع اختيارهم
عليه للسفر إىل كييف بأوكرانيا ضمن الفريق املشارك يف بطولة رفع األثقال
املقامة كل عامني وأمامه أقل من ثالثة اشهر لالستعداد للسفر ..وعليه أن
جاهزا للمسابقة وأن مدربه عىل علم بكل هذه
ً يتمرن بقوة اكثر واكثر ويكون
التفاصيل ..فليعقد جلسة عمل معه ويستمع لتعليامته جيدً ا كي يستطيع ان
جاهزا وحتقيق مركز متقدم وميدالية فنحن لن نشارك ملجرد املشاركة او
ً يكون
املوقف الترشيفي لكن نحن باحثون عن املنافسة عىل املراكز األوىل..
وعليه إحضار جواز سفره لقيام اإلدارة بعمل الالزم من استخراج
التأشريات وغريه من االجراءات اخلاصة بالسفر..
خرج ماجد من مكتب اإلداري بعد هذا اللقاء وسامعه النبأ السار أنه
أخريا حلمه بدأ
ً ضمن الفريق املسافر للمسابقة ..كاد يطري من الفرح..
يتحقق أن يكون يف أهم عواصم العامل ..يكون حمط انظار املحطات الرياضية
138
وكامريات وعدسات العاملني يف املجال الريايض ..لكن أين النصف الثاين
من حلمه أن يسافر بصحبة زوجته اللبقة اجلميلة املتحدثة لعدة لغات..
أول ما خطر بباله ان حيادث نورا وخيطرها هبذا اخلرب السار ..حادثها
وأخربها أنه حيمل انباء طيبة للغاية أحلت عليه ملعرفة األنباء السارة لكنه صمم
وجها لوجه..
عىل أن حترض ملالقاته يف النادي فيخربها ً
وبالفعل بعد أقل من ساعة كانت نورا داخل أسوار النادي ملالقاة ماجد
وما أن التقيا سألته عن اخلرب السار فقص عليها ما حدث بينه وبني اداري
النادي واخربها انه سيتحدث معهم كي يمنحوه املوافقة الصطحاب زوجته..
ماذا ..زوجته ..متتمت نورا كيف هذا ..انت تقول يل ان السفر يف غضون
ثالثة أشهر ..فكيف نتمم اخلطوبة ومن بعدها الزفاف يف اقل من ثالثة أشهر ..انا مل
ِ
ألتق بوالدي منذ عدة أيام ..اعتقد أن األمر صعب للغاية والوقت غري كايف متا ًما..
إحلاحا شديدا شارحا كم هو حيبها ويعشقها ويريدها إىل
ً ألح ماجد
جواره وأهنا أول فرصة يتحصل عليها وجيب ان تكون معه يف كل خطواته
وتعطيه من الدعم والدعاء عىل قدر استطاعتها فهو يف اشد االحتياج اليها هي
وحدها ..احتياجه إىل نورا ..نورا وفقط..
جلسا ماجد ونورا بعد ان وافقت ان تلك الثالثة اشهر هي كل ما متلك
من الوقت إلمتام كل يشء وإقناع أرسهتا بذلك مع إهنا ترى أن هذا درب من
اجلنون ..جلسا سو ًيا يبحثان كل االمور ويتناقشان يف مجيع التفاصيل بداية من
ترتيب حلفل خطوبة صغري «عىل الضيق» كام يقولون إىل الزفاف ثم السفر إىل
كييف بأوكرانيا..
***
139
ً
طويل ..ثم جلس سيادة العميد مع رشيف بعد ان تفحصه ونظر إليه
بدأ حديثه لرشيف ..أنت خمبي عليا ايه؟ ..عرفت حاجة عن حالة مايا ومش
قادر تقول ..قويل يا بني صارحني ..أم علمت أخبار من الرشطة ..لقد رأيتك
باألمس تتحدث إىل أحد الضباط يف الردهة ..هل تعلم يشء ال نعلمه ارجوك
أرسارا ..جيب أن نكون فريقًا واحدً ا وقلبنا
ً صارحني يا ابني فاملوقف ال حيتمل
عىل قلب رجل واحد..
أمام إرصار وإحلاح األب ..وحب رشيف واحرتامه ألبيه وعدم قدرته
عىل خمالفة ضمريه وحمو سنوات الرتبية املستقيمة التي تريب عليها رشيف عن
أبيه ،مل يكن أمامه إال إخبار والده بام نوى عليه وفعله قبل احلضور إليه وأنه
عىل استعداد ان يتحمل ويتقبل ثورة األب وتأنيبه ..لكنه لن يرجع عام هو فيه
مهام كانت النتائج ..لن يفرط يف مايا ولن يفرط يف حقها مهام كان الثمن ..لكن
املفاجأة أن وجد أباه ويف عينيه الدموع يضم رشيف إىل صدره وحيتضنه بشدة
وقوة لدرجة العنف ويربت عىل كتفيه ً
قائل:
أنا فخور بك يا رشيف هكذا يترصف الرجال ..فال نستحق أن ينادينا
البعض بالرجال إن مل نترصف مثلهم ..انت ترصفت وكأنك تقرأ أفكاري..
أنا كنت منتظر يومان آخران إن مل ينجح رجال البحث اجلنائي يف الوصول
140
والقبض عىل هذا الوغد «فرج» فكنت عاز ًما عىل التحرك أنا وأنت بمفردنا
إلراحة ضامئرنا واحلصول عىل حق مايا ووضع األمور يف نصاهبا وتذكر يا
رشيف أنه ال يصح إال الصحيح..
واآلن يا رشيف هناك أمرين البد من اخلوض فيهام ..أوهلام ..أحكي
وقص عىل وبالتفاصيل الكاملة كيف سارت مهمتك اليوم ..كام إنه جيب أن
نرتب أمورنا ومسارات حتركنا بعناية ..فيا ابني التخطيط ألي أمر ال يقل أمهية
عن تنفيذ املهمة نفسها..
قاطعه رشيف ً
قائل :إذن يا أيب أنت توافقني الرأي يف ما أنا مقدم عليه
مهام كانت املخاطر املحاطة به التي ربام ممكن أن تودي بحيايت ..لكن ال هيمني
رجل ً
بدل من أعيش جبانًا.. ان أموت ً
رسح األب بخياله وكأنه سافر عرب الزمن عرشات من السنني للوراء يف
املايض يف سبعينيات القرن املايض حتديدا قبل انطالق حرب أكتوبر ..كانت
هناك جلسة نقاش عامة يف مركز قيادة اجليش الثاين امليداين وكنت واحدً ا ممن
حرضوا تلك اجللسة ..كانت االقرتاحات واآلراء خمتلفة عىل موعد احلرب
وأفضل الطرق لبدايتها أتكون عرب الطريان ً
أول أم الزوارق العابرة لقناة
السويس ً
أول ..أم ماذا وتوقيت احلرب وكم من املدة نحتاج لنتم استعدادنا..
اذكر كلمة قائد اجليش الثاين ..كلمة غري مكتوبة ولكن نابعة من القلب
حيث قال إن هناك من اغتصب أرضنا واالغتصاب معناه هتك عرض
والعرض كرامة ..فنحن اآلن بال كرامة ..كرامتنا انتزعت وعلينا كرجال أن
141
نستعيدها وزيادة ..وأن نرد هلم هتك العرض واغتصاب كرامتهم فام أخذ
بالقوة ال يسرتد إال بالقوة مهام كانت التكلفة والتضحيات..
مجيعا يف سبيل هذا اهلدف فاهلل سبحانه وتعايل وعدنا باجلنة
فإن متنا ً
وإن نجحنا بنرص وتوفيق من اهلل ..فتعود إلينا األرض ونغسل العار وهتك
العرض ونرتكهم يف عارهم وويلهم هم املعتدون واهلل يقول يف كتابه الكريم
«ومن اعتدى فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم» صدق اهلل العظيم....
هذه يا رشيف كانت الكلامت التي حركت رجولتنا ونخوتنا وجعلتنا
ننحت األرض ونأكل الزلط كام يقولون ..والنرص كان حليفنا ..فيا بني أنت
عىل حق أنا ال أحبذ أن حتصل عىل حقك بيدك فنحن يف دولة قانون وتوجد
رشطة وقضاء لكن إذا مل تتحرك الرشطة ،وتنجح يف القبض عىل اجلاين الفاعل
يف قضية مثل هذه ..فالبد أن نتحرك نحن ..حس ًنا فعلت وأنا معك ..لكن
دعنا نخطط بشكل سليم وأنا اعطيك كل خربايت يف إنجاز تلك املهمة بنجاح
مع االستعانة بالوسائل العلمية..
قال رشيف ..وما األمر اآلخر يا أيب ..لقد قلت هناك أمرين..
قال األب ..الدكتور كامل يف حالة صعبة ملا حدث مع ابنته أنا أقرتح أن
نتقدم له بطلب يد مايا ..أعرف أن الظروف سيئة للغاية لكن نحن نريد أن
رسميا ..هل توافق يا رشيف أن تكون
ً نترصف بشكل رسمي وتصري خطيبها
مايا زوجتك رغم كل ما حدث وما مرت به..
فرحا ً
قائل :بالتأكيد ..أنت أعظم أب وأحن أب يف الكون.. تنهد رشيف ً
142
أجابه األب ..كنت أعلم أنك رجل بمعني الكلمة ،ولن تتخىل عنها مهام
كانت الظروف ،واآلن هيا نبدأ ختطيطنا فقط أعطني عرشة دقائق أقوم فيها
بإجراء بعض املكاملات بعدها نبدأ حديثنا مع الدكتور كامل لطلب يد مايا..
فرح د .كامل بام سمعه من العميد فؤاد وابنه رشيف ..لكنها كانت
فرحة مغتصبة ..فرحة مقتولة ..غري مكتملة ..فرحة سرت ولئم جرح وترميم
ما هو مكسور وليست فرحة بداية عهد مجيل وميالد أرسة سعيدة حييطها
عروسا هبذه
ً احلب ،والود ،والنقاء ،والطهارة ،والرباءة ..كيف ملايا أن تكون
احلالة؟ ..فهي غائبة عن الوعي وإذا أفاقت فهي يف رصاخ دائم ..وحذرين
األطباء من حماولة اقدامها عىل التخلص من حياهتا ..االنتحار ..ياللهول..
ما الذي حيدث ..من اطفأ نور حياتنا من اقتلع الزهرة اجلميلة من األرض
وحرمها احلياة؟!..
معقبا أنه كان يتمنى كأي أب أن يسمع
وافق لطلب رشيف وشد عيل يده ً
طلبه هذا يف الظروف الطبيعية والعادية ..أنت رجل ابن رجل يا رشيف..
لقد زادت مكانتك واحرتامي لك آالف املرات ..وتأكد أين سأكون لك األب
الثاين ولن اترككام ما حييت وسأسخر كل امكانيايت إلسعادكام..
دخل رشيف عىل مايا احلجرة وهي نائمة ..اقرتب منها ..أمسك بيدها
بني كفيه ثم وضعها عىل وجنته ً
قائل هلا وهو يقبل يدها والدموع ملء عينيه..
أنا أتقدمتلك يا مايا ..خطبتك من باباك ..خطوة كنت أحلم هبا منذ عرفتك
والتقيت بك يف القطار ..أتذكرين ذلك اليوم ..يوم القطار أنا اعتربه يوم
ميالدي احلقيقي ..يوم وقعت عيناي عليك صدقت وأمنت باحلب من أول
143
حبا ليس
نظرة بعد أن كنت اعتربه شي ًئا خيص كتاب السينام وحسب ..أحببتك ً
كأي حب ..وعشقتك ..عشقت روحك قبل جسدك ليس كأي عشق ..فأنا
أهيم بك وفيك يا مايا..
خطبتك ..وأنا أعلم فرحتك هبذا اخلرب ..لن أسمح أن تُكرس فرحتنا..
أعاهدك واقسم لك أال أترك حقك مهام كلفني األمرِ ..
أنت مسئولة مني ويف
محايتي وأنا املسئول عام حدث لك ..كان جيب أن أصحبك يف كل مكان..
افيقي يا مايا ..متسكي باألمل ..عييش من أجلنا ..نكمل ما بدأناه ..أنا معك
بجوارك وسأظل ً
دائم..
أمامنا العمر ..نبني أرستنا الصغرية وتنجبني يل بن ًتا مجيلة تأخذ عنك
مالمح وجهك ..رقتك ..أخالقك ..امانتك ..التزامك ..افيقي من أجيل..
من أجلك ..أنا يف آخر عام يف األكاديمية ،ومقبل عىل التخرج نبدأ عهدا
جديدً ا ..أيب و أباك يف اخلارج يقدمان لنا كل العون والدعم ..أصبح يل أبوين
وأنت كذلك ..كل أحباءنا حولنا ورضا اهلل عز وجل هو أساس حياتنا ..ادعو
اهلل أن متر حمنتنا عىل خري لنبدأ عهدً ا جديدً ا ..أكون لك الزوج واحلبيب..
الصديق ..الرفيق ..األب ..األخ.
مايا أرجو ان تتامسكي ..عودي ..احلياة أمامنا ..ورمحة اهلل عز وجل
تطلنا ...فإذا برشيف يشعر بحركة من أصابع يدها وهي ملقاة بني يديه..
نظر اليها إىل عينيها ..اهنا تتحرك ..اهنا تشعر به ..مال عيل وجهها وطبع قبلة
عىل جبينها..
144
يف هذه االثناء أجرى سيادة العميد مكاملة ألحد أصدقائه القدامى الذي
كان يشغل منصب يف املخابرات احلربية أبان حرب اكتوبر وطلب منه سيادة
العميد مقابلته يف مكان عام يف أمر هام ..فأجابه أنه موجود باإلسكندرية
لألسف وعليه أن ينتظر حتى يعود إىل القاهرة بعد ايام ..فرح العميد ً
قائل
وملاذا لألسف أنا ً
أيضا يف اإلسكندرية ..اتفقا عىل اللقاء يف الصباح الباكر..
***
145
جلست نورا إىل والدهتا ختربها بام كان هلا مع ماجد وأهنام اتفقا ان يقوما
بتجهيز كل يشء يف غضون ثالثة أشهر ..استمعت اليها األم باهتامم ومل تبد
أي اعرتاض ..قبلتها قبالت كثرية وقالت هلا ..أما بخصوص التفاصيل فكل
هذه األمور كام تعلمني يف يد رجل واحد فقطِ ..
أباك سيادة العميد ..فأجابت
رسيعا ..فقالت إنه
ً نورا إنه يف اإلسكندرية وال تعلم متي حيرض والوقت يمر
حادثها هاتفيا وطمأهنا عليها واطمئن عليهم..
146
وافق األب عىل الفور وبعد أن اغلق هاتفه اجته إىل غرفة مايا حيث
رشيف بالداخل ..استدعاه حرض إليه رشيف والدموع ملء عيناه ..ضمه أباه
إىل صدره وقال له امسح وجهك ..اريدك..
رشح األب لرشيف ما قالته له نورا من قرب ميعاد خطوبتها وزفافها
وكذلك قدومها وأمه سو ًيا إىل االسكندرية لإلقامة معهام يف شقته..
استحسن رشيف الفكرة فقال هذه فكرة جيدة كي نطمئن عليهام
األفضل من املكاملات اهلاتفية ..فقال األب لكن يا رشيف جيب أن نكون أنا
وأنت حذرين من موضوع املهمة اخلاصة التي نقوم هبا فال جيب أن تعرف
عنها نورا أو مامتك ..عدين بذلك مهام كانت األسباب ..سوف نعلمهم فقط
بأمر مايا وخطوبتك هلا ..وربام كان هلام دور يف زيارهتا والتخفيف عنها فزيارة
األخت واألم هلا أمهيتها ونورا سوف تصبح أخ ًتا ملايا وكذلك مامتك سوف
مجيعا وهذا أمر جيد أن يعوضا
تصبح بمثابة األم هلا فهي يا ابني حتتاج لنا ً
غيابك أن انشغلت فيام نرتب إليه من مهمة اإليقاع هبذا الوغد ..أنا بدأت
التحرك انتظر مني التعليامت يا رشيف بعد حمارضاتك الصباحية وأعلم إنه
سوف يكون أمامنا يو ًما شاقا وطويل..
يف الصباح تقابل العميدان ..العميد فؤاد والعميد وجدي األسيوطي
الضابط السابق باملخابرات احلربية رشح العميد فؤاد للعميد االسيوطي ما
حدث ملايا برسعة واستحرض فيه نخوة الرجولة ومجيع املواقف البطولية التي
مرا هبا أبان حرب استعادة الكرامة من املغتصب املعتدي والذي جترع من نفس
كأس املرار وأكثر..
147
سأل العميد فؤاد صديقه ما يقرتح وماذا عسامها ان يفعال..
استمع العميد األسيوطي جيدً ا ثم بدأ يف رشح ما ينبغي عليهام عمله..
أول ..نحن نحتاج ملساعدة ..لدي جمندان لكن عىل درجة عالية من فقال ً
الكفاءة فمن احلكمة االستعانة هبام يف البحث والتحري ومجع املعلومات
ومراقبة منزل فرج عىل مدار الساعة ومراقبة املقهى الذي يرتاده مجيع العامل يف
شخصيا بالصوت
ً البناء وغريه ..أما املحور الثاين هو مراقبة االسطي عاشور
والصورة..
فقال العميد فؤاد كيف هذا ..فقال العميد األسيوطي قابلني هنا بعد
ساعتني وسأرشح لك كل يشء ،ومن األفضل أن يكون رشيف معك لنحدد
األدوار ..ونبدأ العمل فالوقت يف مثل هذه األمور له قيمة أغيل من الذهب..
***
148
عقدت مدام وفاء جلسة مطولة مع مروة يف كافيرتيا املشفى واطلعتها عىل
رغبة عالء يف التقدم خلطبتها وأن عليها حتديد موعدً ا مع والدها واعطاؤهم
العنوان للحضور ..كانت وردية األم النهارية انتهت وسوف تبدأ يف أعقاهبا
وردية مروة الليلية ..فبينام هي جالسة تتحدث إىل عالء كعادهتام ..طرق
الباب ..فتحت فإذا مها نفس الرجلني الذين حرضا لعالء يف اليوم الثاين
للحادث ..فقالت تفضال ..ثم التفتت لعالء صائحة اصدقاءك يا عالء..
دخل الرجالن واذا بعالء تتغري مالحمه ويرتبك ويتلعثم يف الكالم وال يدري
ماذا يقول ..فوجه كالمه ملروة مستأذنا إياها إن كانت تستطيع إحضار شاي
وكيك من الكافيرتيا للضيوف..
ً
وسهل.. تعجبت مروة فلم يكن أمامها إال أن تقول حارضً ..
أهل
سارت ببطء وهي تنظر إىل الرجالن اللذين ال يشبهان عالء يف أي يشء
ال الشكل وال امللبس وال الرائحة وال حتى طريقة الكالم..
شعرت مروة أن هناك أمر غري طبيعي وحتديدً ا بعدما شاهدت رد فعل عالء
عند رؤيتهام والقلق واخلوف الذي ارتسم عىل وجهه فقد صارت مروة تعرف
عالء جيدً ا وردود افعاله يف كل يشء من طول الساعات التي قضياها سويا..
ليست هذه طريقة لقاء األصدقاء إطال ًقا ..البد ان يف األمر يشء ..ويشء
غري مريح ..فتحت مروة باب الغرفة للخروج إلحضار الشاي والكيك،
149
وأغلقت الباب خلفها وتعمدت أال تغلقه غلقًا جيدً ا ..تركت فيه فتحة صغرية
ووقفت وراء الباب ممسكة هباتفها تنظر إليه امام من يمر من امام الغرفة كأهنا
ترسل رسالة لكن يف احلقيقة هي أرادت أن تتنصت وتستمع ملا يدور بالداخل
بني عالء وهذين الضيفني الثقيلني..
نظر إليهام عالء بغضب ً
قائل ..ماذا أتى بكام هنا ..أمل حتصال عىل ما
تريدان ..سوف أبلغ الرشطة ان حرضمتا إىل هنا مرة أخرى او أي مكان
أتواجد به ..فرد أحدهم اهدأ يا عالء ..نحن هنا للخري ..قاطعه عالء ..أي
خري يأيت من وراءكام أنا ألعن ذلك اليوم الذي رأيت فيه املحروسة أختكام..
اتسعت عينا مروة عندما سمعت بأمر األخت ..األمر فيه امرأة أخرى..
يا ويلتي ..أنا اكره املنافسة ألين ً
دائم اخلارسة..
استطرد الرجل يف حديثه وطلب من عالء يعطيه اذنه ويسمع جيدً ا ملا
سيقوله ..سأل الرجل عالء ..متى سوف تغادر املشفى ومتى تستطيع السري
عىل قدميك وقيادة سيارتك ..أجاب عالء انه ربام االسبوع القادم يقومون
بفك اجلبس ويبدأ العالج الطبيعي والسري عىل قدميه ..فرد الرجل ً
قائل:
إذا موعدنا األسبوع القادم ألرشح لك طبيعة العمل الذي سوف يرفعك إىل
السامء العليا وتكون من أصحاب املاليني ..لن تندم أبدً ا وسوف تشكرين عىل
اختياري لك ملشاركتنا يف اعاملنا..
حاول عالء أن يستفهم منه عن طبيعة هذا العمل وأي عمل هذا الذي
يدر كل تلك األموال ومن شخصني يبدو عليهام االجرام مثلهام..
ابتعدت مروة عن الباب مرسعة واجتهت إىل الكافترييا برسعة عندما
شعرت ان الرجالن هيام بالوقوف ومغادرة الغرفة ..عادت مروة بعدما
150
أحرضت كوبني من الشاي وبعض قطع الكيك وثبتت أعينها عىل وجه عالء
تتفحص ما به وتأثري كالم الرجلني عليه فتأكد شعورها أن هناك يشء غامض
وأن هذا الرجالن ال يصلحان ان يكونا من أصدقائه ..وموضوع العمل هذا
أكيد فيه يشء خمالف للقانون ..ومن هي تلك الفتاة التي ذكرها عالء..
نظرت اليه وسألته ..أصحيح يا عالء أن هذان الرجلني أصدقائك؟..
صمت عالء وقد عقد العزم أن يبوح برسه ملروة وحيكي هلا حقيقة األمر
خاصة إنه يريد قبل أن يتزوجها أن تعرف عنه كل يشء..
وبالفعل قص عليها حكايته منذ ان تقابل وهذه الفتاة ..وقصته مع
غضب أبيه عليه وطلبه املساعدة من رشيف ورفض رشيف ملساندته بحجة
املثل واملبادئ ثم ظهور هذان الرجالن اللذان تسببا يف انقالب سيارته
ووجوده يف املشفى والباقي انت تعرفينه..
ارتاحت مروة بعد سامعه ألنه قرر أن يعطيها من الثقة الكثري فأجابته:
تعلم يا عالء ان احلسنة الوحيدة يف هذا املجرمني القبيحي املنظر إهنام املتسببان
يف قربنا من بعض ..فلوال مطاردهتام لك وانقالب سيارتك ما أتيت إىل املشفى
وما قابلتك ثانية وما قضيت معك كل هذه الليايل وحدنا نتحدث عن كل
يشء حتى رصت إىل أقرب من نفيس ..وطرق حبك باب قلبي ..لدرجة أنني
رصت أمتنى أال تتامثل للشفاء كي ال أفقد لقياك كل ليلة.
***
151
بعد ساعتني عاد العميد االسيوطي للقاء العميد فؤاد وابنه رشيف وكان
يقود سيارة ختص إحدى املطاعم واملستعملة يف الديليفري ..وبصحبته شابني
يبدو عليهام القوة والذكاء..
ً
مطول يف مكان منزوي بعيدً ا عن الناس يف اجتامعا
ً عقد اخلمسة رجال
أحد املقاهي ..رشح العميد االسيوطي دور كل منهم ..رشيف عليه التقرب
من االسطي عاشور وإكامل دوره بالبحث عن عمل كمساعد ألسطي تركيب
األحجار والزيادة عىل دورك هو إنك سوف تعطي هذه لألسطي عاشور عىل
سبيل اهلدية أو الرشوة إلجياد عمل لك ..وأخرج العميد األسيوطي من حقيبة
يف يديه علبة حفظ السجائر الفرط ..معدنية فضية اللون ..فتحها أمامهم ثم
هلبا من ثقب صغري ..إهنا والعة جانبية فقال هلم
ضغط عىل زر فأخرجت ً
هذه علبة من السجائر تباع يف أماكن كثرية وهبا والعتها ..أهدهيا له يا رشيف
وأخربه إهنا تليق به وضع هبا بعض السجائر ..وأملح له اهنا هدية تشجيعية
ملساعدته عىل إجياد عمل..
متعجبا وقال ..وملا كل هذا يا سيادة العميد ..أنا
ً نظر رشيف للعلبة
أرى إنه من االفضل أن أعطيه ثمن هذه العلبة فهؤالء الناس يفضلون النقود
السائلة عيل اهلدايا..
152
ابتسم العميد األسيوطي وأجابه ..إهنا ليست علبة سجائر فحسب إهنا
جهاز حديث تستعمله بعض أجهزة املخابرات إنه جهاز للتسجيل الصويت
لتسجيل مجيع أحاديثه فنعرف من يقابل ،وماذا يقول وايضا هذه العلبة هبا
( )G.P.Sأي إنه جهاز تتبع فنعرف منه أين يتواجد عاشور بالتحديد وهذا
أمر مهم للغاية ..فتح رشيف عينيه متعجبا ملا سمعه وأبدى اعتذاره لترسعه يف
نقد اقرتاح اجلهاز ..وشعر أن العميد األسيوطي ليس شخصية عادية ولكن
يعتمد عىل العلم والوسائل احلديثة يف القيام باملهام.
وأخذ العميد االسيوطي يف رشح باقي أدوار كل فرد حيث أن العميد فؤاد
سوف يقوم بقيادة السيارة التي عليها اسم أحد املطاعم واخلاصة بالديليفري
ً
وأيضا حيث أخربه إهنا مزودة بجهاز استقبال صويت لسامع حديث عاشور
اخلرائط املتصلة بعلبة السجائر هذه لتحديد موقع عاشور..
أما الشابان األخران «باسم ..رفعت» فأحدمها سوف يتنكر يف صورة
بائع جائل واآلخر سيكون يف صورة مندويب املبيعات احلاملني حلقيبة هبا بعض
البضائع املقلدة فيطوفون عىل أصحاب املتاجر ،ومرتادي املقاهي لريقب ما
حيدث ويكون له حرية احلركة يف كل األماكن بام ال يثري استغراب البعض
***
153
استيقظت مايا ألول مرة بدون كوابيس ..فتحت عينيها بال رصاخ..
كانت عيناها ونظراهتا مثبتة إىل السقف ودموع تنهمر من عيناها بال توقف..
دخلت عليها إحدى املمرضات فوجدهتا مستيقظة بعيون دامعة مفتوحة
أرسعت الذهاب إىل الطبيب ..عندما حرض فرح لتوقف الرصاخ وطلب عىل
الفور إبالغ الطبيب النفيس املوكل اليه حالتها وحضوره عىل الفور ليتوىل
احلديث معها وإكامل عالجها النفيس..
***
154
أعدت نورا ووالدهتا مدام كريمة حقائب صغرية حتوي األغراض
املهمة لقضاء بضعة أيام يف اإلسكندرية ..توجها إىل حمطة رمسيس ليستقال
القطار املتجه إىل االسكندرية وعيل اجلانب األخر يف حمطة سيدي جابر كان
العميد فؤاد يف انتظارمها ..استقال سيارة اجرة إىل طريق منزل رشيف ..ويف
الطريق حكي هلام العميد بشكل رسيع قصة رشيف مع مايا وما حدث بعدها..
اهنمرت دموع نورا وهي تسمع ما حدث ملايا وخاصة إهنا خرجية كلية الفنون
اجلميلة مثلها ..بكت معها األم وازداد خوفها عيل نورا ملا ختيلت كم عانت
مايا ..شعرا سو ًيا باحلب جتاه مايا قبل أن يلتقيا وكأهنام يعرفاهنا منذ زمن..
طلبت نورا أن يذهبا إىل املشفى لزيارة مايا قبل الوصول ملنزل رشيف..
استحسن األب الفكرة وطلب من السائق أن حيول وجهته إىل عنوان املشفى..
وهناك زارت نورا ومدام كريمة مايا ..كانت مايا جالسة ..صامتة ..باكية بال
صوت وال حراك ..وقع حب مايا يف قلب نورا وتذكرت كم متنت أن يكون
هلا أخ ًتا بن ًتا منذ طفولتها فشعرت عندما رأت مايا إهنا كاألخت التي متنتها منذ
كثريا جتاه مايا فقد شعرت باحلب واالرتياح
الطفولة ..ومل خيتلف إحساس األم ً
هلا بجانب كل ما يف الدنيا من الشعور باإلشفاق عليها وما مرت به..
155
ظال معها لساعات ومها ال يعلامن أن كانت مايا تسمعهام أم ال ..هل
تشعر بوجودمها ..هل ترامها ..هل تعرف من مها؟
جاء الطبيب النفيس ليقيض بعض الوقت مع مايا للحديث معها ،وحماولة
إعادهتا مرة أخرى للقدرة عىل احلديث والبعد عن االنعزال..
***
156
حل املساء وبدأ رشيف مهمته بأن ارتدي نفس مالبسه القديمة واستعامل
نفس اهلاتف القديم واصطحب معه علبة السجائر املعدنية التي هبا والعة
واشرتى علبتان من السجائر من النوع الذي يدخنه االسطي عاشور وتوجه
إىل كرموز ..صف سيارته يف شارع رئييس بعيدً ا عن املقهى وسار عىل قدميه
إىل ان وصل إىل املقهى ..وجد االسطي عاشور جيلس عىل نفس الطاولة كأهنا
خمصصة له وحدة وال يستطيع إنسان آخر كائن من كان أن جيلس عليها..
اقرتب منه ألقى عليه السالم وأخربه انه حرض كام طلب منه ..عله وفق يف
إجياد عمل له مع أحد معارفه االسطوات ..ثم مد يده بعلبة السجائر املعدنية..
نظر اليها االسطي عاشور ً
قائل ما هذه؟ فتحها رشيف أمامه ..فكانت ممتلئة
بالسجائر املرتاصة جنبا إىل جنب ويغلق عليهم قطعة من احلديد متنعهم من
السقوط عند فتح العلبة ..ثم ضغط عىل زر جانبي فانطلق اللهب الصغري من
خصيصا كي تساعدين يف
ً شارحا ان هبا والعة ..اشرتيتها لك
ً فتحة صغرية
إجياد عمل ..هي هدية لك..
فرح عاشور وابتسم ألول مرة ..أخذها وقال لرشيف هدية مقبولة..
ترك الشيشة من يده وأخذ سيجارة من العلبة اجلديدة ثم أغلقها وضغط عىل
157
الزر اجلانبي وأشعل السيجارة من الوالعة ..ابتسم ابتسامة أخرى أوسع من
االبتسامة السابقة..
كان لوقع هدية رشيف تأثري السحر يف تغيري االسطي عاشور معاملته
لرشيف ..سار رشيف خطوات جتاه الرصيف كي جيلس عليه كام كان
باألمس ..واذا بعاشور يطلب منه اجللوس بجانبه عىل احد املقاعد ثم سأله
عن اسمه فأجابه رشيف ان اسمه «رمضان»..
فقال له عاشور ..شوف ياواد يا رمضان كان فيه اسطي معانا هنا حمتاج
صبي لكنه ليس موجو ًدا اآلن ..اعطني مهلة للغد ألجد لك عمل وأكيد
سيكون لك مكان مع احد االسطوات يف الغد ..املهم انك تطيل رقبتي ..عايز
اسمع إنك بتاع شغل وليس لعب وهلو وإضاعة الوقت وكفى ..اذهب اآلن
اخبارا سارة..
ً ومر عىل يف الغد جتد عندي
وشكرا مرة تانية عىل اهلدية اجلميلة دي ..حا اجنن بيها كل االسطوات..
ً
فطاملا كنت أشاهد علب مثل هذه مع املمثلني يف األفالم السينامئية فقط وكامن
مألهتا بالسجائر ..انت بتفهم وملاح ياواد يا رمضان..
متت أول وأهم خطوة بنجاح ..سار رشيف يف طرقات متعرجة كثرية إىل
ان وصل إىل سيارته ..ارسل رسالة إىل العميد االسيوطي إنه تم إيصال األمانة
إىل املعلم عني «ع»..
تلقى العميد األسيوطي الرسالة وفهم أن عاشور أخذ العلبة ويمكن من
اآلن سامع كل ما يدور بينه وأي شخص آخر ً
وأيضا حتديد موقعه عىل اخلريطة..
***
158
جلست مروة إىل اباها بعد تناول الغداء وبعدها صنعت له الشاي بالنعناع
عريسا يرغب يف التقدم إليه لطلب يدها..
ً حتادثه أن هناك
فسأهلا ..هل أعرفه ..أجابت نعم ..انه عالء الذي صدمني بالسيارة
والذي ازوره مع والدته كل يوم ..ثم طلبت من أباها قبل حتديد موعد لزيارة
أهله أن حياول إصالح البيت من الداخل فاحلوائط حتتاج ألعامل دهان وقطع
االثاث تبدو بمظهر غري الئق وحتتاج إىل جتديد وكذلك الستائر البد التخلص
منها وعمل ستائر جديدة ..وكذلك أعامل السباكة يف املطبخ واحلامم حتتاج
لعناية كثرية..
استمع هلا األب وهز رأسه وقال ..منني ..لقد ادخرت مبلغً ا ليوم كهذا..
يوم زواجك ..مصاريف الزواج وال يمكن ان انفقها إلصالح هذا البيت..
هذه النقود لرشاء مستلزمات بيتك أنت يا مروة وليس هذا البيت ..بيتك هو
األهم..
لدى ورايض وسعيد بكل يشء حويل وادعو اهلل دائام
أنا هنا متأقلم مع ما ّ
ان يديم هذا النعيم ع ّ
يل ..نظرت اليه مروة قائلة« ..نعيم» ..تقول «نعيم» يا ايب
حرام عليك إنك مل َتر كيف يعيش الناس وما هي شكل منازهلم من الداخل
واخلارج ..نظر اليها يف حزن واشفاق ً
قائل :استغفري اهلل يا ابنتي وال جتحدي
159
بنعمة اهلل علينا نحن أفضل حاال من أناس كثريين ..كم أنا خائف عليك يا
مروة من تطلعاتك وطموحك الذي ال يتناسب معنا ..أريض بام قسم لنا اهلل..
واشكريه عىل نعمه ..سيزيد نعمه عليك هكذا وعدنا رب العاملني «ولئن
شكرتم ألزيدنكم»..
استمعت إليه مروة ،ومل جتد كلامت ترد به عليه ولكن قلبها وعقلها كان
ً
ناقم عىل معيشتها املتواضعة هذه وتشعر إهنا ال تقل عن غريها ،وتستحق أن
ترتفع إىل مكانة أعىل بكثري ..لكن السؤال هنا ..ماذا سوف تفعل مع مدام وفاء
أم عالء ..فهي بالتأكيد لن ترض البنه زوجة تعيش يف بيت كهذا ومستوى
اجتامعي أقل بكثري منهم ..ما هي األوراق التي لدهيا إلقناعها ..ليس لدهيا
شي ًئا ..اليشء الوحيد هو أن يتمسك هبا عالء حلد أن يواجه أمه ويضغط عليها
وجيربها أن تقبل مروة زوجة له وتتغايض عن تدين مستوى معيشتها ..وشكل
بيتهم ومستوى تعليم ووظيفة أباها املتواضعة للغاية..
***
160
عادت نورا ووالدهتا من املشفى إىل منزل رشيف وصف أغراضها
وطلبت نورا اجللوس إىل أبيها للحديث عن ماجد وجتهيزات اخلطوبة
صباحا حيث يتعني
ً والزفاف .فطلب منها األب تأجيل تلك اجللسة لباكر
عليه اخلروج ً
حال ،وال يعلم يف اي وقت سيعود..
بدأت تتدفق املعلومات ومجيع ما يدور حول عاشور حيث التقط جهاز
االتصال املصنوع يف شكل علبة سجائر معدنية ..اهنالت كلامت عاشور عىل
جهاز االستقبال املوضوع داخل سيارة املطعم ..وقام اجلهاز بتسجيل كل تلك
املحادثات ووضعها عىل رشحية ذاكرة صغرية ..كانت كل اتصاالت عاشور
عادية معظمها حول األعامل والشغل يف جمال املعامر والتشطيبات ..وبعض
املكاملات األخرى من زوجته واوالده..
ولكن اهلام يف األمر هي مكاملة واحدة غري معلوم من هو طرفها الثاين
حيث مل ينطق عاشور باسمه ولو مرة واحدة فقط وهذا دليل عىل حرصه
الشديد أال يسمعه أحد ممن هو جالس بجواره يف املقهى ..كانت املكاملة تدور
حول نصائح وأخبار من عاشور إىل الرجل االخر عىل اخلط..
ابق مكانك ..ال تفكر يف الظهور ..هناك وجوه غريبة ظهرت يف الشارع
أنا جالس يف القهوة واستطيع أن اكشف كل ما يدور حويل يف الشارع..
161
مصيبتك كبرية ..الدنيا مقلوبة يف الداخلية ..أمني الرشطة اخربين إنك
إذا تم اإليقاع بك فربام تكون عقوبتك االعدام ..ابق مكانك بال حراك وأنا
كثريا إال للرضورة القصوى..
سوف أتى اليك عندما هتدأ األمور وال تتصل يب ً
فاهم الرضورة القصوى ..ثم سكت عاشور ليستمع لكالم الطرف اآلخر..
وبعدها أجابه ..ال تقلق ..زوجتك واوالدك بخري وكل طلباهتم انا كفيل هبا..
بيبعتولك السالم ..ثم سكت عاشور مرة أخرى يستمع للرجل ..وبعدها
أجابه ..ال ..ال ..زوجتك ال تعلم شي ًئا كل ما تعلمه أن احلكومة تبحث عنك
ألنك تسببت يف مشاكل يف العمل وأنا حريص إال ينطق أحدً ا بكلمة ..فاألمر
حتى هذه اللحظة غري معروف للجميع ..اطمئن ..أنت غلطت غلطة كبرية
وورطت نفسك يف موضوع كبري أحنا كلنا ال نستطيع مواجهته ..فاستمع
عاشور إليه مرة اخرى ثم أجاب ..حشيش ايه يا راجل ومش يف وعيك ايه..
عملك ايه احلشيش دلوقتي ..اديك وديت نفسك يف داهية بطل اهلباب ده
وفوق لنفسك علشان نعرف هنربك للواحات وبعدها نشوف سكة تروح بيها
ليبيا ،وهناك تكون يف أمان والشغل هناك كتري وأنت صنايعي شاطر وتكون
مطلوب وممكن كامن زوجتك ووالدك يذهبوا إليك هناك وينضموا إليك..
استمع العميد األسيوطي هلذا احلوار ..وكانت برشة اخلري أنه بالفعل
االسطي عاشور لديه مفتاح حل اللغز ..فبالتأكيد إن الرجل الذي حيادثه هو
«فرج» اجلاين الفعيل وأنه ارتكب جريمته بعد أن دخن خمدر احلشيش ..وأنه
خمتبئ يف مكان ما ..لكن املقلق يف األمر هو أهنم يستعدون لتهريبه إىل الواحات
162
ثم بعدها إىل ليبيا وبالتأكيد عرب الصحراء الغربية ..الوقت ليس يف صاحلنا..
هكذا حادث العميد األسيوطي نفسه..
اتصل بالعميد فؤاد وطلب لقاءه أمام مديرية أمن االسكندرية ألمر
عاجل ال حيتمل التأجيل ..أخذ العميد االسيوطي أجهزة االتصال ورشحية
الذاكرة املسجل عليها املكاملة ،وتوجه إىل مديرية أمن االسكندرية ويف اخلارج
وجد العميد فؤاد يف انتظاره ..صعدا إىل داخل املبني وطلبا لقاء رئيس املباحث
ألمر عاجل للغاية..
امتدت اجللسة مع رئيس املباحث ألكثر من ساعتني كان ً
ملم فيها بخيوط
القضية من قبل وكان عىل علم بذهاب رشيف بمالبسه القديمة إىل كرموز
وجلوسه عىل املقهى ولقاءه بعاشور ..وذكر هلم إهنم يتحركون لكن يف رسية
حتى يستطيعوا إهناء مهمتهم بدون لفت انتباه عاشور وفرج ،وبالتايل فرار
فرج وربام يصعب عليهم اإليقاع به..
شكرهم وطلب منهم أن ما سمعوه يكون طي الكتامن عن رشيف
واألخرين وإن يدعوا كل يشء يسري بصورة طبيعية ..حتى رشيف يرتكوه
يفعل ما يفعل ظانًا أنه سوف يصل للحقيقة ..فدوره مهم وهو إهلاء عاشور
بالتفكري فيه ..حيث كان عاشور يعلم أن رشيف ليس صبي أو مساعد أسطى
تركيب أحجار ..كان يعلم أن وراءه شي ًئا ما ..لكنه تعامل معه بحرص ..وكان
يعلم ً
أيضا أن اسمه ليس «رمضان»..
***
163
انتظرت نورا عودة والدها إىل البيت بعد أن تركه يف الصباح الباكر ألمر
هام للغاية كام ذكر هلا قبل مغادرته البيت ..حتدثت مع ماجد هاتفيا لتطمئن
عام سيقوم هو بعمله وبعدها حتادث والدها يف اجلانب املوكلة هي بتنفيذه..
عاد العميد فؤاد للبيت فوجد نورا يف انتظاره وأمامها بعض األوراق
مدون عليها ما تريده بالتحديد واملهام املوكلة هلا ..وأوراق أخرى مدون فيها
املهام املوكلة ملاجد للقيام هبا..
استمع العميد لرشح من نورا عن رؤيتها ووجهة نظرها يف كل اخلطوات
بد ًءا من حجز القاعة وفستان الفرح وبطاقات الدعوة ..إىل آخره..
بعدها صمت العميد فؤاد للحظات ..ثم ابتسم يف وجه ابنته وربت عيل
ركبتيها وقال« ..كل هذا مجيل ورائع يا نورا ولكن هذا ال يشغلني ..كل ما
يدور يف بايل هو سؤال واحد أوجهه لك وتذكري هذا السؤال وتلك اجللسة..
هل ترين يف ماجد الزوج املناسب؟؟ ..وهل توافقني عىل تقديم كل هذه
التنازالت من اجله؟؟ وأهم ما تتنازلني عنه هو حقك يف وجود يف شقة خاصة
بك وبه ..يف حياة جديدة بدون تدخل أو وجود ألحد ..أنا يا بنتي ال أعلم
ميعاد أجيل...
قاطعته نورا ..بعد الرش عليك يا أمجل أب..
164
استطرد ً
قائل ..أنا وريب يعلم ال أمتني لك أنت ورشيف إال كل اخلري
زوجا
والسعادة ولكني من داخيل غري مقتنع بامجد ..ال أراه يليق بأن يكون ً
لك ..أنت نورا ..اجلميلة حمط أنظار اجلميع ..واألمر الثاين أنا غري ٍ
راض عن
إقامتك يف بيت أمه ..فالبيت ليس بيتك ..بيتها هي ومهام كانت هي امرأة طيبة
فمن الطبيعي والوارد بشدة أن يكون بينكام اختالف يف الطباع ..وأسلوب
احلياة داخل املنزل ..ربام ال تتحملك وال تتحمليها ..فامذا هو موقفك إذا
حدث هذا ..هل ترتكني البيت أم ترتكه هي؟!
أشعر أن ماجد أناين وال يأبه إال باستفادته هو وحده ..فكري يا بنتي
جيدً ا ..الرتاجع اآلن أمر هني ..لكن إذا حدث الزواج وانتقلت للعيش
معهام ..فلك اهلل يا ابنتي ..أرجو أن تعيدي تفكريك أنا أعطيك احلرية لكن
جيب أن أكون لك الناصح األمني ..أنا يا نورا غري مرتاح ..تذكري هذه اجلملة
ِ
تراجعت.. جيدً ا ..وسأكون سعيدً ا إن
استمعت نورا وتأثرت بكالمه وبينام هي تفكر فيام قاله األب أتتها رسالة
من ماجد «أحبك يا نورا ..يا عشقي األول واألخري أفني عمري فداك..
سعادتك هي مهي األول واألخري»..
قرارا بأن تستمر مع ماجد رغم حتذيرات
بعد أن قرأت الرسالة اختذت ً
أباها املتكررة ..كانت متني نفسها أن حب ماجد هلا أكرب من أي صغائر
ممكن تعرتض طريقهام وأن والدته لطيفة كام كانت يف املقابلة الوحيدة التي
مجعتهام ..وأهنا ال تستطيع أن ختذل ماجد يف أحالمه ..وإال تكون بجواره
يف طريقه للصعود إىل النجومية يف عامل الرياضة ..وكانت دو ًما حتلم بالسفر
165
معه يف املحافل الدولية والتكريامت والكؤوس ..شاشات التلفاز وعدسات
املصورين ..الفنادق الفخمة والطريان من عاصمة ألخرى واالستقبال امللكي
واألسطوري هلام ..بعد كل بطولة حيصل فيها عىل املركز األول ..كانت
وطموحا جائز حتقيقه لكن هل ماجد يرى األمور
ً مرشوعا
ً أمرا
تطلعات نورا ً
كام هي تراها؟!!!
قدم العميد إىل ابنته مبلغً ا من املال يكفي الحتياجاهتا يف الوقت احلايل..
ورصح هلا أن تعود إىل القاهرة إذا ارادت ..فأجابته أهنا تعلقت باميا وتفضل ان
تظل بجوارها بعض األيام حتى تتجاوز املحنة ويف نفس الوقت يمكنها رشاء
بعض األغراض من اإلسكندرية..
وبالفعل انطلقت نورا وتوجهت إىل املشفى لزيارة مايا ..وعندما رأهتا
شعرت أهنا يف حالة أفضل ..ومن الواضح أن جلسات الطبيب النفيس هلا
قد بدأ تأثريها االجيايب يف الظهور ..إذ ألقت نورا التحية الصباحية عىل مايا
فإذا باميا ترد بتحية ..قامت نورا بتقديم نفسها اليها وعاملتها بمنتهي اللطف
واحلنان ..ارتاحت مايا عند رؤية نورا أخت حبيبها رشيف ..وبعد ساعة
ً
حامل هدايا كثرية وزهور ملايا ..شعر براحة تقريبا عند الظهرية حرض رشيف
ً
عند رؤية نورا بصحبة مايا واهنام أصبحتا صديقتان..
حتسنت مايا أكثر بوجود نورا ورشيف ..وبدأت تتحدث للحظات
وتبكي للحظات أخرى ..وكان هذا يشعرها بالراحة ان تبكي بني يدي
رشيف ..وهو بجوارها ثم دخل أباها د .كامل ومعه العميد فؤاد فامتألت
احلجرة باألحباب مما أدخل األمان والسعادة عىل قلب مايا وكان له أعظم
166
األثر يف رسعة شفاءها وعودهتا للحياة ..وتعمد اجلميع عدم التحدث عن
تلك الليلة املشئوم فامضوا وقتهم يف االبتسام وتذكر أيام مجيلة مجعتهم باميا..
وقامت مايا بتمشيط شعرها ،وقام رشيف برش بعض قطرات من عطر اشرتاه
ملايا وهو يعلم إهنا حتب هذه الرائحة..
حرض الطبيب النفيس ،وكان أشدهم سعادة هبذا اجلمع العائيل احلميم
امللتف حول مايا ..وأخربهم أن هذا يعجل بشفائها ..وبعدها دخلت عليهم
مدام كريمة والدة رشيف ،ويف يدها لفة ضخمة من أشهى املأكوالت التي
صنعتها بيدها بعد أن سألت رشيف عن أصناف الطعام التي تفضلها مايا
وكان هذا سبب تأخريها يف احلضور حيث استغرق إعداد الطعام واحللوى
بعض الوقت بجانب زحام الطريق ..وأبدت سعادهتا بحديث اجلميع
وباحلديث مع مايا الرقيقة..
***
167
انتاب مدام وفاء والدة عالء بعض الشعور بالقلق وأن عالء ربام ترسع يف
قراره يف إعالن نيته وعزمه الزواج من مروة وأنه يرى فيها الزوجة املناسبة..
وقد بدأ عالء مرحلة العالج الطبيعي وممارسة التامرين لتقوية عضالت
القدم ..ثم بعدها االستغناء التام عن املساعدة والعودة ملامرسة نشاطه بصورة
طبيعية..
انفردت مدام وفاء بمروة لتطلب منها حتديد موعد مع والدها لزيارهتم
يف منزهلم للتعارف خاصة ان عالء سوف يغادر املستشفى يف الغد..
شعرت مروة بعدم االرتياح ..وخاجلها شعور قوي أن مدام وفاء هلا
غرض آخر من وراء هذه الزيارة ليس للتعارف فحسب ..ربام أرادت أن تعاين
وتستكشف مستواهم االجتامعي وشخصية والدها ودرجة ثقافته وتعليمه..
وكل هذه األمور ..ارتعدت ً
قليل ..لكنها متاسكت عندما تذكرت تأثريها عىل
عالء وأنه أصبح ال يستطيع االستغناء عنها ..فكان هذا هو املسلك والطريق
الوحيد الذي عليها ان تسري فيه حيث أن والدته ربام ال ترىض هبا زوجة البنهام
الوحيد بعد الزيارة وبعد أن ترى بعينيها الشارع واحلي الشعبي التي تقطن
ً
وأيضا املنزل من الداخل باإلضافة إىل تواضع ثقافة أباها ومهنته «سائق» به
حتى لو قرأ أباها كتب مكتبة الكونجرس األمريكية بأكملها فلسوف يظل
168
يف نظر املحيطني به عم زكريا سائق حافلة برشكة مرص للطريان وحتي لو كان
هلا أصدقاء مثل نورا ودخوهلا معها للنادي ..كل هذا لن يشفع هلا أمام مدام
وفاء إذا تعلق األمر بابنها الوحيد واختيار زوجته ..وكل ما قدمته من خدمات
ومشاركتها العناية بعالء وحيدها والسهر كل ليلة خلدمته ورعايتهً ..
أيضا
لن يشفع هلا كل هذا ..أميل الوحيد والعصا التي اتكئ عليها هي مدى قوة
حب عالء يل وتعلقه يب ..فهو ورقة الضغط الوحيدة التي أملكها للضغط عىل
األم واألب وجعلهام يعلنان مباركتهام هلذا الزواج والرضوخ أمام رغبة ابنهام
الوحيد..
َ
ترض عني أما أنا فسوف استمر يف حماولة استاملتها لصفويف ..علها
وتتنايس ما سوف تراه عند زيارهتا إىل بيتنا ..ولقاءها مع أيب الذي اختوف من
عيبا وكل تلك األمور التي ال
حديثه عن التواضع والرضا وأن الفقر ليس ً
تؤدي إىل أي طموح أو ارتفاع املستوى..
***
169
يف املساء ذهب رشيف كعادته إىل منطقة كرموز بمالبسه الرثة وهاتفه
القديم ومسامه اجلديد «الواد رمضان» وما أن دخل الشارع الضيق ذو الرائحة
العطنة إذ به جيد من ينادي عليه ..ويقول له ان األسطي عاشور ينتظرك عىل
املقهى يف نفس مكان كل ليلة..
توجه رشيف أو «الواد رمضان» إىل عاشور ..ألقى عليه التحية وهم
باجللوس عىل مقعد بجواره فإذا باالسطي عاشور ينهره ويأمره أن جيلس عىل
الرصيف بعيدً ا كام حدث يف أول لقاء به ..تعجب رشيف ..ملاذا يتعامل معه
عاشور هكذا بجفاء لدرجة إنه سحب منه رشف اجللوس عىل املقعد بجواره
وأعاده إىل مآله األصيل وهو الرصيف املتسخ للغاية..
170
وأمامه اهلاتف ،ويف اليد األخرى األداة املعدنية التي يضغط هبا عىل الفحم كي
تعمل الشيشة يف أهبى صورة ويزيد كثافة دخاهنا..
لكن ما الحظه رشيف خمتلف عن كل ليلة ..ان كان بجانبه رجالن يف عمر
الثالثينيات ..قبيحي املنظر واهليئة ..ويشعالن السجائر وال يدخنان الشيشة..
نادي عليه االسطي عاشور وهو غارق يف التفكري ..ان يأتيه ..انتفض رشيف
من مكانه وتوجه حيث جيلس االسطي عاشور ..فوجد عاشور يبتسم ابتسامة
مثل متساح اوقع بفريسته ..وقال لرشيف «افرح ياواد يا رمضان ..لقيتلك
شغل وممكن تبدأ بكرة الصبح» ..لكن عايزين بطاقة الرقم القومي ونقوم
بتصويرها ونأخذ نسخة ..أعطني بطاقتك يا رمضان» ..
سقط يف يد رشيف ومل يدر ما عساه ان يقول او جييب فهو ال يستطيع
اطالع عاشور عىل بطاقته حيث فيها كل بياناته احلقيقية وإذا حدث هذا فهو
شخصيا يف ورطة حقيقية وال يعلم مدي وقعها عىل االسطي عاشور وماذا هو
ً
فاعل به ..إال اهلل عز وجل..
رسيعا وهو مرتعد« ..ليست معي يا اسطي ..رسقت مني
ً أجاب رشيف
منذ أيام وسوف استخرج أخرى جديدة»..
ضحك عاشور بصوت عايل ارجتت واهتزت له املقاعد وأركان املقهى
وشاركه الرجالن حوله الضحك ونظر الثالثة إىل بعضهم ..فقال عاشور
«كنت عارف» وأشار للرجالن فاجتها نحو رشيف وامسكا به ووضع أحدهم
سكي ًنا يف جانبه حمذرا إياه إال ينطق بكلمة وإال ستستقر هذه السكينة يف جنبه..
أما اآلخر فأخذ يفتش قميصه ورسواله إىل أن وجد مفاتيح البيت والسيارة
171
ونقو ًدا وهاتفه القديم واملحفظة وهي بيت القصيد ..املحفظة ..وضع الرجل
هذه األشياء أمام عاشور ..والغريب ان كل رواد املقهى كانوا كاملوتى ..ال
ينظرون إليهم وال هيتمون بام حيدث لرشيف ..سكي ًنا يف جنبه ويتم تفتيشه عل ًنا
يف املقهى يف الشارع وال حيرك أحدً ا ساك ًنا ..فمن يرشب الشاي ومن يلعب
الطاولة ومن يدخن الشيشة كل مشغول يف أمره أو يدعى إنه مشغول خو ًفا من
الديناصور البرشي األسطى عاشور..
جاءت اللحظة احلاسمة وما كان خيشاه رشيف حلظة التقاط عاشور
ملحفظته ..وهو يقلبها يف يده ويعاينها من اخلارج ويقرهبا من أنفه ويشمها..
ويقول لرشيف« ..دي شكلها كده حمفظة جلد طبيعي وماركة كامن ..منني
العز ده ياواد يا رمضان ..ملا نشوف بأه رمضان ولال حا تطلع شوال ولال
حكايتك ايه ..ما أنا ناقصك انت كامن»..
كان العميد االسيوطي يف سيارة الديلفري املصفوفة يف شارع قريب من
املقهى ..شعر العميد ومن معه ان رشيف يف خطر حقيقي ..فهؤالء الناس
ال يتورعون عن الترصف بحامقة ..وأسهل يشء هو استعامل اآلالت احلادة
والقتل ثم اهلرب ..فحياة رشيف يف خطر حقيقي..
ً
اتصال بأحد رجال املباحث القريبني من أجرى العميد االسيوطي
املكان انه البد من التدخل برسعة وإال سوف يكون مصري رشيف وحياته غري
مضمونة ..خاصة أن العميد األسيوطي قد قطع وعدً ا أمام أبيه العميد فؤاد أن
حيافظ عىل حياة ابنه يف املقام األول..
172
بدأ االسطي عاشور يف فتح املحفظة ببطء فنظر يف البداية إىل اماكن وضع
العمالت الورقة ..أخرجها ..تبدو أورا ًقا كثرية من فئة املائتني جنيه ..عدها
فإذا هي قرابة األلفني وأربعامئة ..دسها عاشور يف جيبه وأكمل تفتيش املحفظة
ووصل إىل النقطة احلاسمة ..أماكن ختزين الكروت ..كروت كثرية ..كارت
بنك استثامري وكارت فيزا ..وكارينه األكاديمية وعليه صورة رشيف ..نظر
فيه االسطي عاشور فوجد صورة رشيف وهو يرتدي الزي الرسمي للبحرية
التجارية فظن بجهله ومحاقته إنه ضابط رشطة ..انتفض من مكانه قبل أن
يكمل النظر يف بقية الكروت والبطاقة الشخصية« ..طلع ضابط ..يا هنار
أسود" أشار إىل الرجلني أن يأخذوه إىل حيث اتفقا من قبل..
قام الرجالن باقتياد رشيف وسارا مرسعني به يف طرقات متعرجة ضيقة
إىل أن وصال إىل مكان اشبه بمخزن به أدوات دهان وحدايد ..قاموا بتوثيقه
جيدً ا ووضع كاممة عىل فمه وأغلقا املخزن من اخلارج وعادا إىل االسطي
عاشور ..فإذا به هيب واقفا ويوجه أوامره إليهام بأهنم البد وأن يغادروا هذا
فورا ألنه يف دقائق سوف يكون الشارع ميلء برجال الرشطة بحثًا عن
املكان ً
زميلهم ..فهو مازال يعتقد أن رشيف ضابط رشطة..
من حسن حظ رشيف أن رجال الرشطة املتنكرين حرضوا أمام املقهى
وهم يقتادوا رشيف إىل خمزن البويات واحلدايد ..واطمأنوا إهنم عرفوا
مكانه ..فكان كل ما ينتظرونه هو إجراء مكاملة من عاشور إىل فرج أو العكس
أن حيادث فرج عاشور ..حيث أن رجال املباحث قد وضعوا أرقام هاتف
عاشور حتت املراقبة بالطبع بعد استخراج إذن النيابة العامة..
173
قسم رجال فريق البحث اجلنائي أنفسهم إىل ثالث جمموعات ..األوىل
حتركت خلف عاشور والرجالن ملراقبتها ومعرفة أوكار اختبائهم ..فمن
املمكن أن يكون فرج يف انتظارهم..
أما املجموعة الثانية فذهبت إىل املخزن حيث يرقد بداخله يف الظالم..
ً
ومكمم ..لتحريره وانقاذه ..وهو ما تم رشيف موثقًا ومعصوب العينني
بالفعل..
أما املجموعة الثالثة ان تكون جاهزة للتحرك فور حتديد مكان فرج عند
اتصاله بعاشور او اتصال عاشور به..
حرر رجال املباحث رشيف وذهبوا به بعيدً ا حيث سيارة الديليفري
واملخصصة ملراقبة اتصاالت عاشور وسامع كل ما يقوله ملن حوله..
أما عاشور ورجاله فتوجها إىل بوابة دخول مقابر كرموز وهناك يف
الظالم ساروا بني املقابر يف املمرات الضيقة إىل أن وصلوا إىل حجرة ختص
أحد االثرياء وهبا املقربة..
دخلوا إىل احلجرة حيث كانت هي أحد األماكن التي يلتقون هبا بعيدً ا
عن أعني الرشطة ..صدرت األوامر لرجال املباحث بعدم مهامجتهم حتى
تأتيهم األوامر ..فقط مراقبة املكان ومجيع حتركاهتم ..وعند اقرتاب الفجر..
حدث ما كان ينتظره اجلميع ..اتصال من املجرم «فرج» لعاشور ..التقطت
األجهزة املكاملة وقامت اجهزة حتديد املواقع بتحديد موقع فرج فإذا به داخل
أحد كهوف جبل من جبال الفيوم ..عىل الفور ..تم االتصال بمديرية أمن
الفيوم وعمل التنسيق الالزم ،وتم إرسال قوة كبرية من الرشطة للمنطقة
174
املحددة ويف نفس الوقت صدرت األوامر لرجال املباحث املراقبني لعاشور
بمقابر كرموز بمهامجة الوكر وإلقاء القبض عىل عاشور ومن معه وحتريز كل
ما بداخل احلجرة..
بالفعل توجهت قوة من رشطة الفيوم بمهامجة الكهف من اخلارج والقاء
بعض القنابل املسيلة للدموع ..كان فرج خمتب ًئا داخل الكهف باجلبل بصحبة
جمموعة من اهلاربني من السجن وبعض املطلوبني للعدالة ..شعر فرج ومن
معه بمحارصة الرشطة للمكان وإلقاء أول قنبلة غاز مسيل للدموع عليهم كي
تصيبهم باالختناق ويرتكوا كهفهم فيصبحوا يف العراء بال محاية..
بدأ فرج ومن معه بإطالق العيارات النارية باجتاه تواجد ومتركز قوات
األمن ..وبادهلم رجال الرشطة بأطالق األعرية النارية وأمطرهم بوابل من
الرصاص ..استمر تبادل اطالق النار حوايل الساعتني تقريبا إىل ان شاهد
رجال األمن بعض املجرمني خيرجون من الكهف ويركضون برسعة متجهني
إىل عربة دفع رباعي كانت قابعة اسفل اجلبل..
الحقهم رجال األمن بإطالق الرصاص عليهم فأردوهم قتىل وكانت
هذه هي اللحظة املناسبة لرجال األمن باالقرتاب من الكهف ودخوله
وبالفعل تم القبض عىل من بداخل الكهف بعد استسالمهم ووضع أيدهيم
فوق رؤوسهم ..بحث رجال األمن عن فرج بينهم فإذا به واحدً ا ممن خرجوا
من الكهف يف اجتاه عربة الدفع الرباعي وأردته الرشطة ً
قتيل ..قتل فرج ..رمز
الفجر ..فمن األفضل ان تعيد ترتيب احلروفً ..
بدل من «فـ ر ج» «فـ ج ر» .. ُ
175
فهو فاجر معدوم االنسانية والضمري وقد ارتاحت البرشية بمقتله واخلالص
من أمثاله من الذئاب البرشية..
وصل اخلرب إىل مسامع رشيف والعميد األسيوطي ومن معه ..فبينام هم
حيمدون اهلل أن متت مهمتهم بنجاح بدون خسائر بني صفوفهم انتاب رشيف
حيا وينتقم
حزن عميق ..حيث كانت أمنيته القبض عىل هذا الفرج الفاجر ً
منه بنفسه ويشفي ما بداخله من غل وكره ..فيشعر أن مايا عاد هلا حقها..
ربت العميد األسيوطي عىل كتف رشيف ً
قائل :اترك األمر للخالق فهو املنتقم
اجلبار وال تلوث يدك بدماء رجل فاجر كهذا ..اهتم يا رشيف بخطيبتك وأبدً ا
عهدً ا جديدً ا..
***
176
انطلقت نورا بني متاجر املالبس واإلكسسوار وبيدها بعض األوراق
مدون فيها كل ما سوف حتتاجه ويف نفس الوقت تقوم باملتابعة مع ماجد عرب
اهلاتف عام قام به وحجم االنجاز الذي أداه وما بتبقى ..كانت تشعر بسعادة..
سعادة العروس املقبلة عىل الزواج ..واتفقت ان تلتقي مع والدهتا بعد ساعتني
لتكون بصحبتها يف رشاء مجيع احتياجاهتا..
قرر رشيف اغالق موضوع الفاجر فرج بعد مقتله ..ويتفرغ متا ًما ملايا وأن
يتم زواجه منها بعد أن تتامثل للشفاء متا ًما وتعود حلياهتا الطبيعية ..فراشة مجيلة..
أخرب الطبيب النفيس د .كامل ان مايا يف حتسن كبري وأن بإمكاهنا العودة
حلياهتا واالندماج مع املجتمع ..ويف وقت قصري يمكن هلا العودة لعملها..
ولكن يفضل ان تقوم بعمل تصميامت الديكور عىل الورق والكمبيوتر فقط
يف هذه املرحلة بدون الدخول يف مواقع العمل واالحتكاك بالعامل..
رحب األب هبذا االقرتاح حيث كان دو ًما يرى أن مايا أرق من التعامل
مع عامل الدهانات واخلشب وغريه وأنه األفضل استغالل موهبتها وخرباهتا
يف حتديد كل التصميامت ويكون التنفيذ يف املواقع من نصيب مهندسني
أخرين ..فيكون حمل عملها هو املكتب فقط..
***
177
حتدد موعد زيارة مدام وفاء إىل منزل مروة ..كان األستاذ مجال يقود
السيارة عرب شوارع ضيقة أمام املنزل القديم صف السيارة ..نزلوا منها ومدام
وفاء تتلفت حوهلا غري مصدقة ان هذا املكان ممكن ان يكون املكان الذي تربت
ونشأت فيه زوجة ابنها ..وأم أحفادها وأن أباها املصون الذي سوف تراه
بعد دقائق بالتأكيد سوف يكون جدً ا ألحفادها ومحا ابنها ويضع يده يف يد
زوجها ويكون ندً ا هلم ..كيف تندمج األرستني يف عالقة نسب وهم يعيشون
يف عاملني خمتلفني متا ًما ..فهي ال تعلم عن هذا العامل شي ًئا غري إنه عامل سفيل..
دوين ..كل يشء فيه غريب وغري حمبب عىل األقل اليهم ..كيف سيأيت أحفادها
لزيارة جدهم هنا وربام املبيت ..واللعب يف الشارع ..وسامع كلامت غريبة عىل
أسامعهم وترديدها فيعودون إليها ،وهم عىل هيئة أخرى وصورة مغايرة ملا
تتمنى أن يرتبوا ونشأوا عليها..
مع كل درجة من درجات سلم العامرة كانت مدام وفاء تتلفت حوهلا
وتشعر باالشمئزاز وهتز رأسها وتنظر إىل زوجها وابنها ولسان حاهلا يقول
هيا بنا نعود من حيث اتينا ..رأينا بام فيه الكفاية وكام يقولون الكتاب بيبان
من عنوانه..
178
فتح هلم العم زكريا الباب بكل عبارات الرتحاب وابتسامة واسعة
عريضة ودعاهم للدخول ..ظلت مدام وفاء صامتة غري مصدقة وال مستوعبة
ما حيدث ..وملاذا هي هنا يف هذا املكان الذي ال حيتاج إىل ترميم فقط ولكن إىل
نسف ..وكانت تنظر إىل عالء معاتبة إياه« ..أنت السبب ..بعد كل ما قدمته
لك من اهتامم وتربية ..مدارس دولية ..وكانت كل طلباتك جمابة ..بعد كل
هذا ..هل هذه هي نظرتك الختيار رشيكة حياتك ..من تليق أن تكون أما
ألوالدك ..أن تصبح واحدة من أرستنا..
عرضت عليك بنات كثر ..أكثر ً
مجال ..ثقافة ..تعليم ..مستوى اجتامعي
مرموق ..عائلة تترشف هبا ..تركت كل ذلك لتجرنا وراءك إىل هذا املكان
ساحمك اهلل يا بني..
ظهرت مروة يف ثياب بسيطة وأنيقة ..ألقت عليهم السالم وحاولت
طمأنة مدام وفاء بأن اكثرت من ترحاهبا وتقديم العصائر واحللوى هلا ..عسى
ان تشعر بكرمهم ..فيطغي هذا عىل شعورها باالشمئزاز من املكان..
وما أن انتهت زيارهتم وغادروا شقة مروة هبطوا الدرج إىل السيارة
وابتدأت مدام وفاء يف إخراج ما يف جعبتها مستخدمة كل كلامت اللوم،
والعتاب ،والشعور بالغثيان من ذلك اجلو واملكان الغريب ..ومل تتوقف
عن الرصاخ يف وجه عالء حتى وصلوا إىل بيتهم ..وبدأت اجلولة الثانية من
توبيخها البنها يف البيت ..حاول عالء من هتدئتها مستعي ًنا بوالده« ..احلقني يا
بابا ..تدخل أرجوك ..قول حاجة ملاما ..أنا من حقي اختيار رشيكة حيايت عىل
املعايري واألسس التي أراها»..
179
أخريا وأعلن رأيه أنه
ً ظل هذا اجلدال قائم بينهم إىل ان تكلم األب
متضامن مع زوجته وفاء وأن عالء يستحق أن تكون له زوجة أرقى من
مروة ..وأن عليه أن يفكر يف زوجته ليست فقط كزوجة ولكن ً
ايضا كأم فإنه
خيتار ألوالده أما صاحلة ..تشبهه وأن تكون ارسهتا تشبه ارستنا وهو ما يسمي
التوافق وأي زواج ال يعرتف بالتوافق فمآله إىل املأذون والطالق أو املحاكم
واملشاكل..
نصيحتي لك يا عالء أال تترسع وفكر فيام نقوله ..نحن أصحاب جتارب
وخربات يف احلياة ..ال تستهني هبا ..بل استعني هبا ..وادعو اهلل لك باهلداية..
زادت حدة اخلالف بني عالء ومدام وفاء ..ترك عىل اثرها البيت وذهب
إىل أحد الفنادق الرخيصة القريبة من حمطة رمسيس ..وفور أن دخل حجرته
غاضبا .طلب أن يتقابل مع مروة يف أرسع
ً يف الفندق هاتف مروة وكان صوته
وقت ..أعطاها عنوان أحد املقاهي القريبة من الفندق وبعد أقل من ساعتني
التقيا يف املقهى ..وبادرته بطبيعة احلال بالسؤال ..ما بك ..صوتك كان متغري..
هل حدث شي ًئا؟..
ظل عالء صام ًتا لفرتة ..ثم بدأ باحلديث ..وقص عليها ما دار بينه وبني
والدته منذ خروجهم من منزهلم ..وموقف أبيه ..وكم هو مستاء مما حدث..
يل السمع ً
تلميذا يف املدرسة وع ّ ثم استطرد ..اهنم يعاملونني كأنني ما زلت
والطاعة ..أنا قاربت عىل الثالثني وأدير متجر والدي بكفاءة وأستطيع اختاذ
القرارات اهلامة وأمههم قرار زواجي ..أنا من سيتزوج وليس أمي أو أيب..
أعلم جيدً ا اهنم خيافون ع ّ
يل لكن يف الوقت ذاته فإهنم يبالغون يف مسألة املستوى
180
االجتامعي وتلك اآلراء العجيبة التي طاملا شاهدهتا عىل شاشات التلفاز يف
أفالم قديمة ..كنا نشاهدها عىل إهنا جمرد أفالم ..لكن أن تكون هذه هي حقيقة
واقعنا وهذا هو تفكرينا فنحن نعود للوراء وال نتطور ..ثم ما ذنبك انت يف
كل هذا ..هل اختار أحدنا أن يولد يف كنف أرسة فقرية أو غنية ..متعلم أم ال..
هل اخرتت أنا حمل سكني ومن يكون أيب ومن أمي ..وأنت كذلك يا مروة..
ملاذا تدفعني ثمن احلي الشعبي الذي تقيمني فيه ..سالمل العامرة املتهالكة..
البيت القديم ..واملوبيليا فيه حتتاج الكثري لتعود عىل ما كانت عليه ..وأباك
اجتامعيا ..لِ َ
ً العم زكريا ..ما به ..فهو ال يعجبهم ..يقولون وظيفته غري مرشفة
..هل عمله حالل أم حرام ..إذن فهو رجل رشيف مكافح..
ً
وايضا يتحدثون عن تعليمه انا اراه عىل قدر ال بأس به من الثقافة فلقد
حتدثت اليه فوجدته ملام بمعلومات كثرية يف شتي املجاالت وعلمت انه كثري
القراءة يف غري اوقات العمل ..وهذا يف رأيي يشء طيب..
بعد أن استمعت إليه مروة اجابته ..أنه ال مفر يا عالء غري اننا نتزوج
وال هيم رأهيم او موافقتهم ..أنا احبك وأنت حتبني ..وأنت رجل مسئول
وأنا أستطيع أن أعمل ..إذن ماذا ينقصنا ..هيا نتحرك وبرسعة فأنت أحسنت
صغريا كي
ً صنعا عندما تركت املنزل ..فالبد هلم ان يوقنوا انك لست ً
طفل ً
يتحكموا يف أهم قرار وخطوة يتخذها أي انسان وهو الزواج ..فيجب عىل
األهل اال يتدخلوا يف هذه املسألة عىل االطالق ..انظر إىل أيب ..هذا أيب ..العم
زكريا ..الذي ال يعجبهم ..ووظيفته ال تليق هبم وكذلك تعليمه املتواضع..
فقد ترك يل حرية اختيار الرجل الذي سوف أعيش معه أغلب سنوات عمري
181
وأمحل اسمه وأكون أم ألوالده وكامتة أرساره وطائعة له يف كل يشء ..وأبقى
حتت قدميه أوفر له أسباب النجاح فنكرب سو ًيا وننجح سو ًيا ..ونرى فلذة
اكبادنا ونربيهم وننشئهم أفضل تنشئة وال نحرمهم من بناء شخصية قوية
قادرة عىل اختاذ القرار عندما يصبحون يف سن الشباب..
فبينام مها جالسان يتناقشان يف األمر إذا برجلني التفا حوهلام وجلسا عىل
نفس الطاولة ..نظرت مروة ..اهنام نفس الرجالن اللذان يدعيان إهنام أصدقاء
عالء..
فزع عالء واضطرب وقام من مكانه ينظر إليهام ويكاد ال يصدق نفسه..
ذلك الكابوس عاد مرة أخرى ..متى تنتهي هذه القصة السخيفة القميئة..
كم أمتنى أن اقتلهام أو أبلغ عنهام الرشطة فتنقذين من رشمها ..وهذه املسكينة
مروة تظن أهنام أصدقائي ..وتتعامل معهام بأدب شديد ..آه لو تعلم إهنام من
عامل آخر غري عاملنا ..عامل اإلجرام واالنحراف ..وكفى أنني وقعت عىل وصل
أمانة وأن ترصفت معهام بحامقة فمن السهل عليهام إيداعي يف السجن بتقديم
هذا االيصال إىل النيابة واملطالبة باملبلغ املدون فيه والذي ال أعلم قدره حيث
وقعت قبل كتابة الرقم..
وجومها قبيحة ..وهلم رائحة غري حمببة أنا ال أعلم حتى اسمهام كي أقدمها
إىل مروة عىل أهنام أصدقائي ونكمل هذا املسلسل اهلابط ..وبينام هو غارق يف
أفكاره ..زجره أحدمها ً
قائل ..اسمع ليس لدينا وقت لننتظر أن تستفيق من
عالمات البالهة املرسومة عىل وجهك ..اتيناك يف أمر هام ..هل نتكلم أمام
اآلنسة ..أم أنه من األفضل أن نذهب إىل مكان آخر نستطيع التحدث فيه..
182
وقبل أن جييب عالء قالت مروة ..أكيد تستطيعان الكالم ..أنا خطيبة عالء..
وهو ال خيفي عني شي ًئا..
نظر اليها الرجل بعني ضيقة ً
قائل ..إذن أنت تعلمني من نحن وماذا كان
بيننا من قبل وما فعله خطيبك ويستحق عليه القتل؟!
فتحت مروة عينيها عىل أقىص اتساع وهي تستمع لكالم هذا الصديق
املزعوم لعالء« ..ما كان بينهم من قبل»؟! «يستحق القتل» ..ترى ماذا فعل
عالء حتديدً ا ..لقد ذكر يل أنه رصيح معي ألبعد حد وليس يف داخله ما خيفيه
عني ..اذن هو خيفي يشء وعالقته هبذين الرجلني ..وماذا ً
أيضا يف جعبته خيفيه
عني..
ثم توجهت مروة بالكالم هلذا الرجل ..أنا ال أعلم حتديدً ا ما بينكام
حيث انني ال أتدخل يف أعامل عالء ..لكن إذا أردت فيمكن أن حتكي يل ..أنا
أسمعك ..ماذا حدث ..يف عجالة قص عىل مروة ما حدث حتديدً ا منذ خروج
عالء مع اختهام طيلة النهار إىل ان ظهرا يف املستشفى عىل إهنام صديقان لعالء..
وتعمد الرجل أن يذكر أمر توقيع عالء عىل ايصال أمانة «عىل بياض» وأن
رقبته حتت رمحتهام..
ظنت مروة ان كل تلك املالحقات من هذين الرجلني كي يضغطا عىل
عالء وجيرباه أن يتزوج من أختهام لدرء الفضائح وكالم الناس ..فإذا تذكرهم
عريسا
ً أهنا خطيبته وأنه لن يتم زواجه إال منها هي ..وإن عىل اختهام أن جتد
آخر ..فهي وعالء كانا بصدد حتديد موعد زفافهام قبل دخوهلام عليهام..
183
ضحك الرجل ضحكة مليئة بالرش والسخرية والثقة من جمرم جتاه
ضحيته ً
قائل ..إن خيالك ذهب بعيدً ا ..أي زواج تتحدثني عنه ..نحن هنا من
أجل عمل ..بيزنس ..فلوس ..كتري ..كتري ..إذا تعاونتم معنا فسيعم اخلري عىل
اجلميع ..واملصلحة واحدة ..هل يكره أحدنا النقود؟! ..هل تكرهني النقود
يا آنسة؟! وانت يا استاذ عالء ..انت مقبل عىل زواج وحتتاج مبالغ طائلة يف
سبيل إمتام هذا الزواج..
ومطيعا سوف
ً خملصا
ضع يدك يف يدنا ولن تندم واذا اثبت كفاءة وكنت ً
اعيد إليك وصل األمانة ..وإذا رفضت التعاون وتنفيذ كل ما يطلب منك
بالتفاصيل التي نذكرها ..فأنت اجلاين عىل نفسك ..أراك خلف القضبان
يف قضية نصب وحترير ايصال أمانة بمبلغ ال تتخيله ..فأنا استطيع اكتب
الرقم الذي أريده ..عرشة ماليني ..عرشين ..ثالثني ..أربعني ..فاألرقام
واألصفار اسهل يشء يف الكتابة وأنا أعشق كتابة األصفار واعشق ً
أيضا أن
انتقم لرشف أختي إن مل تتعاون معنا ..وسوف نحتاجك أنت ً
أيضا يا آنسة
يف االشرتاك معنا ..وسوف ينالك األجر و املال الكثري ..غري أموال عالء..
لقد عرفتي رسنا ..ومن يعلم رسنا أصبح واحد مننا ..األمر جد ليس فيه أي
هزل ..بيزنس كبري يعمل فيه العرشات ..بل املئات ..وانتام ستكونان عضوان
جديدان يف تلك املنظومة ..ها ..هل تريد بعض الوقت للتفكري؟!
أجاب عالء ..بالتأكيد اعطني فرصة ألفكر يف األمر بالرغم أين ال أعلم
أي يشء عن طبيعة العمل واملهمة ..ولكنها من الواضح جليا اهنا ال تبدو
184
قانونية عىل االطالق ..دعنا نتقابل بعد يومني يف هذا املكان ألعطيك ردي
النهائي..
ضحك نفس الرجل مرة ثانيةً ..
قائل ..ال يومني وال ثالثة ..هي نصف
ساعة ..سوف نجلس يف الطاولة التي بجوارك نرشب فيها القهوة وانتام تكلام
وتناقشا يف األمر وبعد نصف ساعة نجلس سو ًيا مرة أخرى ..إذا رفضت
ِ
وأنت يا سأذهب ولن تراين مرة أخرى ولكن استعد الرتداء البدلة الزرقاء..
آنسة ال تنيس العيش واحلالوة عند الزيارة ..أما إذا كنت ً
عاقل وحسبت األمور
بشكل صحيح ..فنجلس مرة أخرى نحن األربعة ألرشح لكم ما ينبغي عمله
بال نقاش من احد ..اذ جيب عليكام التنفيذ وفقط ..اعتقد أن كالمي واضح..
انتقل الرجالن للجلوس عىل طاولة أخرى بالقرب منهم..
ً
وأيضا مروة كانت ترتعد وتنتفض نظر عالء إىل مروة والرعب يمأله
فبالرغم ما يبدو عليها الشجاعة وأهنا ال ختيش أحدً ا ..ولدهيا عقل ال يتوقف
طيلة الوقت ..إال أن عقلها يف تلك اللحظة قد توقف عن العمل متا ًما كمن
ألقى عليه بعض الكتل االسمنتية السائلة ..فجفت وحتجرت عليه وأوقفته
عن العمل..
رعب يمأل عيني عالء ..وعرق يتصبب من رأسه ووجهه ..ومروة
أخريا تكلم عالء ً
قائل" ..ماذا عسانا أن حتك يدهيا ببعضهام بحركة عصبيةً ..
نفعل ..أنه هيددين ..أمل تسمعي كالمه"..
فأجابت مروة ..يبدو عليهام االجرام حقًا ..اعتقد اننا ال نستطيع أن
نضع رقبتنا حتت أرجلهم ..البد وإبالغ الرشطة« ..فزع عالء وانتفض» ..أمل
185
تسمعي كالمه وهتكمه عىل البدلة الزرقاء ..العيش واحلالوة ..أنا يف املوقف
الضعيف ..توقيعي عىل اإليصال ..بدأت مروة يف استعادة هدوءها واستعادت
معها نفسها األمارة بالسوء واملحملة بالطموح القائم عىل اجلشع واجلوع
فقالت «إذن ..دعنا نجرب ..ليس هناك ما نخرسه ..أمل تسمع ما قال عن
األموال واملاليني ..الفرصة أتتنا ..يمكن ربنا بعث هؤالء لنصبح اغنياء"..
غضبا ً
قائل ..اهلل يرسل هؤالء املجرمني ..استغفري اهلل يا ً استشاط عالء
مروة ..نعم انا يب الكثري من العيوب لكن ان اكون حتت امرة جمرمان كهذين..
سأحتول ملجرم مثلهام ..ولن تنفعني اي اموال إذا وضعت يف السجن.
أجابته مروة ..اسمع يا عالء ..احنا حانتجوز ..صح ..يعني سوف
نحتاج إىل املال الكثري ..وأرستك غري راضية عن زواجك يب ..مما يرتتب عليه
حرمانك من أي نقود وربام حرمانك من العمل يف املتجر ..فلن يكون لديك
ال مال وال عمل وال راتب شهري ..أنا اعتقد ان هذا هو احلل األمثل ..دعنا
نرى ماذا يريدان ..واحتياجنا للامل حيتم علينا ان نتحملهم بأسلوهبم الغريب
وشكلهم االجرامي هذا..
بدأ عالء يلني ويقتنع ..وأشار اليهام أن يأتيا..
حرض الرجالن إىل طاولة عالء ومروة ..وبدأ أحدهم الكالم ..انه
سوف يدخل يف املوضوع مبارشة بدون عمل مقدمات أو حماولة تزويق كالمه
او تنميقه..
ِ
وأنت يا ست ..كل املطلوب منكام أن تعمال ديليفري "شوف يا عالء
مثل تلك املطاعم الشهرية فنحن نقوم بتوصيل الطلبات ..ولكام أجر جمزي..
186
كثريا لكن مع الوقت سوف تكونان من األغنياء..
صحيح يف البداية لن يكون ً
وكلام زاد اخالصكام واتقانكام العمل وبحرص شديد وعدم الكالم فيه مع
أحد ..زادت مكانتكام وزاد أجركام»..
أهم يشء يف عملنا هذا وقبل رشح املطلوب منكام ..هي الرسية ..فال
تتكلم مع أحد عن هذا العمل وال أقرب الناس إليك ..وإذا اكتشفنا خمالفتكام
هلذا األمر وحدث أن حتدث أيا منكام وأباح رسنا ..فسوف تعاقبون عقا ًبا ال
ينفع معه ند ًما..
ازداد اضطراب عالء وخوفه ..وهم واق ًفا ً
قائل ..إذا بدأت كالمك
بالتهديد فبالتأكيد القادم أســوأ ..وأنا ال أحب وال أعرف العمل حتت
التهديد ..ضحك الرجل ..وجذب عالء من يديه اقعده عىل املقعد وقال« :إنه
ليس هتديدً ا ولكننا نرسى قواعد للعمل من البداية كي ال تدعي إنك كنت ال
تعلم أو أن أحدً ا مل خيربك ..اتفقنا؟!» ..أريد أن أسمع..
أومأ عالء وأومأت مروة باملوافقة ..فقالت مروة «ممكن إذن تدخل يف
صلب املوضوع وترشح طبيعة العمل ..فأي ديليفري هذا الذي حيتاج إىل
رسية تامة»..
أجاب الرجل ..خطيبتك واعية وناصحة يا عالء ..لكن هي هلا كل
احلق ..عمو ًما اسمعا يل جيدً ا وتلفت الرجل حوله ومل تكن الطاوالت
املجاورة هلم مشغولة كانت مجيعها خاوية من أي زبائن ..فشعر باالطمئنان انه
يستطيع أن يتحدث بحرية ..العمل هو بشكل رصيح وبدون مراوغة ..توزيع
كوكايني عىل زبائننا واكثرهم طلبة اجلامعة..
187
أوشك عالء عىل االهنيار ووضع يده عىل فمه ليكتم رصخته ..والغريب
أن مروة مل تنزعج وأهنا هي من حاولت هتدئته ..وربتت عىل كتفه واجلسته
عىل املقعد وقالت ..أمل تتوقع ذلك ..أنا توقعت ..فهذا واضح وجيل ..ماذا
تنتظر بعد كل ما سمعت منه ..ماذا ختيلت عن الديليفري ..يكون بيتزا أو
بريجر ..أكيد هناك أعامل خمالفة للقانون ..اهدأ فنحن نقدر عىل ذلك ونكن يف
أمان وجني األموال ..وتستطيع أن تستغني عن أموال أرستك وتكون حر يف
مجيع قراراتك ..أنا موافقة ..دعنا نجرب ولن نخرس يشء..
رفع الرجل يده يف وجه مروة ً
قائل ..ليس هناك جمال للتجربة بعد
ان أفصحت لكام عن طبيعة العمل ..إذن أنتام معنا وال جمال للرتاجع وما
عليكام إال السمع والطاعة والفهم جيدً ا والتنفيذ ..واضح ..ثم بدأ يرشح
قريبا سوف يتم التعارف مع بعض
هلام خطوات العمل بكل تفاصيلها وأن ً
االشخاص الذين يقومون بتدريبهم واإلجابة عىل ّأية تساؤالت لدهيم ..ثم
أضاف ..واآلن بدأ عملكام وبالتايل بدأت احلصول عىل األموال فلسوف أقوم
بدفع أجر هذا الفندق ملدة شهر إىل أن تستطيعا تدبري أموركام واالنتقال لشقة
خاصة بكام..
استمرت هذه اجللسة حوايل ثالث ساعات ختللها رشح من الرجل إىل
هم واق ًفا هو وزميله
عالء ومروة والرد عىل عرشات األسئلة منهام ..وبعدها َّ
كثريا ..القيا عليهام التحية وانرصفا..
الذي ال يتحدث ً
بعدها قالت مروة لعالء اهنا حتتاج إىل هواء نقي ..دعنا نخرج لنتمشى
بالقرب من كورنيش النيل ونكمل حديثنا..
188
بدأ عالء ومــروة خطواهتام األوىل يف عامل التجارة غري املرشوعة
«املخدرات» ..دفعت اطامع وتطلعات مروة عالء إىل طريق ال يؤدي إال إىل
هالك ..وضعف شخصية عالء وعدم قدرته عىل أن يقول «ال» للخطأ إال أن
تابعا بال رأي يلهث وراء طموح مروة اهلالك ..ونيس ما كان يسمعه
يكون ً
ً
دائم من رشيف صديقه السابق أنه «ال يصح إال الصحيح»..
أما عن رشيف فكان يقيض أمجل وأسعد أيامه مع مايا ..يقيض الصباح يف
حمارضاته حيث تبقى بضعة أشهر عىل خترجه ..ويف املساء بأكمله مع مايا ..إما
خيرجان سو ًيا أو يكون معها يف املكتب اهلنديس وهي تعمل ..فكل من يعمل
يف املكتب مع مايا أصبح صديقًا لرشيف وأحبه اجلميع..
أما مايا فتامثلت للشفاء متا ًما وعادت كام كانت وأحبت رشيف آالف
املرات عن ذي قبل ..وبدأ رشيف يراسل بعض رشكات املالحة ..حيث أنه
اقرتب من خترجه من األكاديمية البحرية وإنه جاهز للعمل كضابط بحري..
كانت جمرد مراسالت جلس نبض سوق العمل ..وكان تركيزه عىل سوق
العمل األوروبية كي يبدأ حياته مع مايا يف بلد خمتلف ..خو ًفا عليها من أي
انتكاسة..
ً
ضخم يف إمتام اقرتب موعد زفاف نورا عىل ماجد وقد بذلت نورا جمهو ًدا
وانجاز أشياء كثرية إلمتام الزفاف يف غضون الشهور الثالثة ..وقت قصري
للغاية فاجلميع حوهلا غري مصدق إهنا استطاعت عمل كل هذا بنفسها يف تلك
ً
مذهول من نشاطها غري العادي وماجد الفرتة الزمنية ..حتى ماجد نفسه كان
ً
أيضا كان يبذل جمهو ًدا غري عادي يف أداءه للتمرينات العضلية والتزامه بنظام
189
غذائي خاص ..فكان يرتك البيت طيلة اليوم ..مما زاد غضب والدته احلاجة
نعامت عليه ..وكل فرتة هتدده إنه إذا استمر يف انشغاله وامهاله هلا ..فلن حترض
حفل زفافه ..ولن يعيش وعروسه معها يف بيتها ..فكان ماجد يتبع نفس
أسلوبه ..أسلوب الرشوة ..فيشرتي هلا كل ما حتبه من طعام وأنواع املكرسات
املختلفة ..فتقوم بالدعاء له لعدة أيام إىل أن يتالشى تأثري الطعام واملكرسات..
وتبدأ مرحلة جديدة من السباب والتوبيخ واللوم ..وهكذا هي حياة ماجد مع
احلاجة نعامت والدته ..هو فهمها وهي تفهمه جيدً ا ..ولكن حتى هذه اللحظة
وهو يرى نورا تتحرك يف كل االجتاهات إلمتام مرشوع زفافها ..مل يصارحها
بطبيعة شخصية والدته ونوع العالقة بينهام ..وما هي مقدمة عليها..
هكذا كان حيبها لكن ليس بالشكل الكايف الذي يوفر هلا األمان والعدل
واحلامية ..فلم يكن لدى نورا أدنى فكرة عىل ما هي مقدمة عليه وأهنا تبدأ
عهدا من التعاسة والشقاء مل تكن تتخيله وال أكثر املتشائمني يتوقعه..
مايا منكفئة عىل طاولة الرسم اهلنديس ..منشغلة بعمل رسم وتصميم
ديكور إلحدى الڤلل ..فإذا برئيس القسم اهلنديس يف املكتب حيادثها تليفونيا
ويسأل كيف تسري األمور ..وبعدها أخربها أن العميل صاحب الڤيال التي
تقوم مايا بتصميامهتا له طلب يف التصميم ..فهو يريد إضافة بعض األحجار
عند مدخل باب الڤيال ما أن اهنت مايا املكاملة ..ومل تتاملك نفسها ..ذهب هبا
خياهلا إىل ما مر هبا منذ بضعة شهور ..ما أشبه اليوم بالبارحة ..جال بخياهلا كل
ما حدث هلا يف تلك الليلة املشئوم ..يف تلك الڤيال ..وهي هي نفس القصة..
األحجار عند مدخل باب الڤيال ..فرج ..االسطى املجرم فرج ..والدخان
190
ذو الرائحة الغريبة وقباحة ودمامة وجهه ..عيناه احلمراوان ..سلم الڤيال..
مغشيا عليها..
ً وفجأة اهنارت مايا يف البكاء ..إىل أن سقطت
هرع رشيف إىل بيتها بعد تلقيه مكاملة من د .كامل والد مايا خطيبته..
حبيبته ..وهناك كان نفس الطبيب النفيس القائم عىل عالجها ..وأخذ يسأهلم
أن حتدث معها أحدً ا فيام حدث هلا باملايض..؟ اجابوا بالنفي وأهنم حذرين أال
مجيعا قد نسوا ما قد حدث ..فقال
يتحدث معها أحد يف هذا األمر لدرجة إهنم ً
الطبيب أن هذه االنتكاسة بسبب استثارة تعرضت هلا مايا ..سواء بالسمع أو
البرص ..فإما إهنا رأت ً
رجل شبيه يف الشكل من هذا املجرم فرج أو أن أحدً ا يف
املكتب تكلم معها يف مثل هذا األمر.
ً
اتصال بأحد زمالئها باملكتب ..فجاءته التقط د .كامل هاتفه وأجرى
اإلجابة ان كل يشء كان يسري بصورة جيدة وطبيعية ..ولكن قبل إغامء مايا..
جاءهتا مكاملة من رئيس القسم ..فطلب د .كامل أن حيصل عىل رقم هاتف
رئيس القسم وما ان حادثه د .كامل ..أخربه منه أن الطبيب النفيس موجو ًدا
معهم ويريد التحدث معه ..وبعد إهناء مكاملة الطبيب مع رئيس القسم
اهلنديس ..أخربهم الطبيب أن الصورة قد اتضحت ..لقد ذكّ رها املهندس
رئيس القسم بدون قصد ..بام حدث هلا يف تلك الليلة حيث حتدث عن بعض
األمور اخلاصة بالتصميم مشاهبة متا ًما ملا كانت تقوم به مايا من أعامل يف تلك
الليلة ..فأعادت عليها رشيط وتفاصيل كل ما حدث ..وبالتأكيد ختيلته وكأنه
حيدث أمامها ..فلم يتحمل عقلها ان يمر هبذه األحداث مرة أخرى لذلك كان
االغالق للوظائف أو اإلغامء هو احلل للهرب من تلك اخلياالت والذكريات
191
األليمة ..كان هذا تفسري منطقي ملا حدث ملايا ..وبدأ الطبيب عىل اعطاءها
بعض املهدئات ألنه توقع أن ربام تستيقظ عىل رصاخ شديد كام حدث هلا بعد
احلادثة مبارشة..
بدأ احلزن خييم عىل اجلميع ..رشيف و د .كامل وبعض األصدقاء فطلب
رشيف ان خيتيل بالدكتور كامل يف إحدى الغرف للحديث معه..
بدأ رشيف كالمه «أنه حيب مايا أكثر من نفسه و أكثر من أي يشء
قريبا جدً ا ..وأنه يري أن يعجل
يف احلياة وأنه سوف يتخرج ويتم دراساته ً
بالزواج من مايا وأن يكون زفافهام بعد التخرج مبارشة ..ألنه ال يستطيع أن
يوميا يف املساء ..كان هذا الرأي
يرتكها لبعض الوقت حتى لو كانا يتقابالن ً
موافقًا متا ًما ملا يراه د .كامل وأنه األفضل ملايا ..ملا يعلم كم هي حتب رشيف
لدرجة اجلنون ..فأجابه إنه يرحب للغاية وأنه حيب رشيف مثل ابنه ولن ينسى
له موقفه الشجاع يف أصعب الظروف وبعد حادث مايا ..طلب يدها للزواج
ومتت خطبتها وهي مازالت يف حالة إغامء يف املشفى ..فهذا الترصف ال خيرج
إال عن نبيل ابن نبيل لكن د .كامل طلب من رشيف قبل احلديث يف أي يشء
أن يستشري رأي الطبيب النفيس إن كان التعجل بالزواج والزفاف يف مصلحة
مايا أم ضدها وبالتأكيد وافق رشيف وكله أمل أن يكون هذا يف مصلحتها
ويعجل بشفائها وتنسى متا ًما ما مرت به وأن يبدآ حياة جديدة بال آالم أو
ذكريات موجعة ..كان رشيف ال يكل وال يمل من التقدم للوظائف وإرسال
كل ما لديه من مستندات إلجياد عمل ..وكان يكتب هلم أن مجيع أوراقه كاملة
تقريبا..
ً ما عدا شهادة التخرج التي سوف حيصل عليها بعد شهرين
192
أخرب الطبيب النفيس د .كامل والد مايا ان فكرة الزواج من رشيف..
فكرة جيدة للغاية وسوف تبعد مايا عن أي مثريات تؤدي إىل انتكاستها مرة
أخرى ..فهو مرحب بالفكرة متا ًما..
ارتاح قلب د .كامل ملا سمعه من الطبيب وأصبح اجلميع موحدين يف
رؤيتهم لألمور وما ينقصهم إال توفيق اخلالق عز وجل..
اقرتب موعد زفاف نورا وماجد وأصبحا عىل بعد أيام قالئل قبل أن
ينطلقا يف رحلة الطموح والنجومية ملاجد وبصحبة رشيكته نورا ..كثف
ماجد من تدريباته اكثر وأكثر وكان يقوم بتنفيذ مجيع تعليامت مدربه وكذلك
النصائح اخلاصة بالتغذية واإلكثار من الربوتينات وأتم إداري النادي مجيع
تقريبا..
ً إجراءات السفر ..وكان الرتتيب عىل أن السفر بعد الزفاف بأسبوع
طلب العميد فؤاد والد نورا أن جيلس معها عىل انفراد قبل الزفاف بيوم
واحد حيث أصبح كل يشء معد وجاهز..
جلس العميد فؤاد بجوار نورا وحتدث قائال ..نورا ِ
أنت ابنتي الوحيدة..
اجلميلة ..باقي يوم واحد عىل زفافك ..فغدً ا احلفلة ..الفرح ..الليلة الكبرية..
وأنا كأب مسئول حيب ابنته يل ان أسألك مرة أخرية قبل أن أسلمك بيدي
أنت واثقة من اختيارك ..هل ِ
أنت راضية عن تضحياتك وما لزوجك ..هل ِ
قدمتيه من تنازالت ..يا نورا مازال الوقت يف صاحلنا حتى ولو قبل الفرح
بدقيقة إذا أردت الرتاجع ..فأنا كفيل بالتصدي لكل هذه الرتتيبات وإلغاءها
مهام كانت التكلفة يا نورا ..أنا قلبي غري ٍ
راض عام حيدث ..وعقيل وخربيت
يف احلياة ترى ظال ًما قاد ًما ..اشم رائحة مشاكل ومتاعب وتعاسة تلوح يف
األفق..
193
نظرت إليه نورا وبدأت الدموع تنهمر من عينيها ..يا أيب ..كنت أمتنى ان
دائم أصدقك وأعلم ً
دائم أراك سعيدً ا كام أنا سعيدة ..أنا ً
وبالتجربة ان توقعاتك يا أيب ً
دائم صائبة ..لكن هذه املرة ..اسمح يل
أن استمر فأنا أشعر بسعادة كبرية وأين سوف أكون أسعد زوجة ..ماجد
ً
ودائم أسمع منه حلو الكالم ..وأنه وعدين أين سوف أكون ملكة إنسان طيب
متوجة يف بيت والدته ..وأنني حمط اهتاممه ..ومصدر سعادته وأن طموحاته
يف البطوالت الرياضية لن تتحقق بدوين..
دعني اجرب يا أيب ..وأدعو يل أن يتم اهلل عىل زواجي عىل خري وأن
يمنحنا اهلل السعادة والربكة والسعة يف الرزق ..ويرزقنا باألطفال والذرية
الصاحلة..
تم الزفاف ..ونورا عروس وال أمجل ..وحفل الزفاف ..راقي ..هادئ..
شيك ..رقيق ..منظم ..كل يشء كان رائع ..حتى احلاجة نعامت كانت يف
سعادة غامرة ..حيث كانت طاوالت الطعام مليئة بخريات اهلل من كل ما لذ
وطاب ..وكان اجلميع يقول إهنا ليلة من ألف ليلة..
سافرت نورا وماجد لقضاء أسبوع العسل يف أحد املنتجعات القريبة
من القاهرة وباقي عىل سفر ماجد إىل كييف بأوكرانيا عرشة أيام ..أسبوع
لقضاء شهر العسل وثالثة أيام يف التمرينات إلزالة آثار الطعام والوزن الزائد
والتخلص من الدهون..
غضبا ..ملاذا تركوها وحدها
يف ذلك األسبوع كانت احلاجة نعامت تشيط ً
ملدة سبعة أيام كاملة ..ملاذا ال يقضون شهر عسلهم هذا هنا يف البيت كي هيتموا
194
يب ..أين زوجة ابني اآلن ..هتنأ وتنعم ويقوم عىل خدمتها العاملني بالفندق
وأنا هنا وحدي ال أجد من يقدم يل شي ًئا وال كو ًبا من املاء ملاذا مل يأخذونني
معهم إىل الفندق ..ماجد مل يعد ابني لقد أصبح زوج نورا ..زوج الست ..زوج
اهلانم ..وأنا أظل بال أنيس بال ابن وزوجة ابن ..من يساعدين أو جيالسني..
هذا االبن العاق وتلك الزوجة اللئيمة ..لقد قطع يل وعدً ا أنه إذا تزوج فسوف
يأيت بزوجته للعيش هنا خلدمتي ..لتسهر عىل راحتي ..وتستعطفني وتتمنى
أن أرىض عنها..
ِ
وأعطه نقو ًدا وهو بالتايل هكذا كان دو ًما خيربين أن أساعده يف زواجه
يضمن يل العيش اهلانئ ..واآلن يبدأ حياته بخداعي ..يذهب بعيدً ا ملدة سبعة
أيام كاملة ..واألكثر من هذا أن هاتفه وهاتفها مغلقان!!..
***
195
بدأت مروة أوىل خطواهتا يف عاملها اجلديد ..واملجهول ..ألتزمت بام قيل
هلا من تعليامت ..وأول هذه التعليامت هو الفصل يف العمل بني مروة وعالء
فكل منهام سوف يعمل بمفرده ويتلقى تعليامت ختص عمله وحده واألماكن
التي سوف ينقل إليها لفافات املخدرات ..وكل التفاصيل اخلاصة بذلك..
حتمست مروة للعمل وظنت إنه عمل تافه ومن سهولته إهنا كانت تطلب
املزيد لتقوم بنقله وكانت تدون كل األماكن التي تذهب إليها باجلرعات لتقوم
بحساب راتبها حيث هم أبلغوها أن لكل نقلة مبلغً ا ً
كبريا من املال وإذا احرضت هلم
زبائن فلها مبالغ إضافية وغري مسموح هلا التحدث مع عالء خطيبها عن األماكن
واألشخاص الذين تذهب إليهم ..وهو كذلك ..وشي ًئا فشي ًئا أصبح لدي مروة
وعالء مبالغ كبرية من املال ..اتفقا عىل الزواج ورشاء شقة ..وبالفعل ذهب عالء
إىل العم زكريا إلقناعه بقبوله من دون وجود أهله معه ..حيث طاملا رفض زكريا أن
يزوج ابنته لرجل عىل قطيعة مع أهله وحتديدً ا األم حيث هي غاضبة عليه..
ولكن بعد اإلحلاح الشديد من عالء ومروة اضطر العم زكريا للموافقة
أخريا وعىل مضض ..وبالفعل قاما برشاء شقة وأرشفا عىل تأثيثها واتفقا عىل
ً
حتديد موعد الزفاف بعد شهر..
***
196
أهنى رشيف آخر أيام االختبارات النهائية للسنة النهائية وأصبح عىل بعد
أيام قالئل عىل خترجه ..ويف هذا اليوم حتديدا تلقى خطا ًبا من رشكة مالحة
إيطالية وحمدد به موعد للمقابلة الشخصية وعليه أن يستعد بجميع أوراقه..
واملؤجل منها ..يمكن تقديمه بعد أن جيتاز االختبارات واملقابلة الشخصية
وأن هذه الرشكة مقرها الرئييس مدينة جنوة اإليطالية..
علميا وشخصيا هلذه
ً وبالفعل توجه رشيف وكان عىل أتم استعداد
املقابلة فهي تعد فرصته األويل يف عامل العمل كضابط بحري جتارى..
تليفونيا بعد أن أهنى املقابلة وأخربها اهنم سريسلون إليه
ً هاتف مايا
إذا وقع اختيارهم عليه ..وتواعدا عىل اللقاء للتنزه يف أحد احلدائق وبعدها
تناول بعض الفطائر ثم التوجه لرشب القهوة املعتادة يف مكاهنم املفضل «البن
الربازييل» بمحطة الرمل..
إلكرتونيا انه تم اختياره للعمل لدي رشكة
ً ويف الصباح تلقى رشيف بريدً ا
املالحة اإليطالية ..وعليه امتام إجراءاته لالستعداد للسفر يف أقرب وقت وأنه
عليه التوجه إىل مقر الرشكة الفرعي باإلسكندرية للتوقيع عىل العقود ومعرفة
كافة التفاصيل ..وفور انتهائه من قراءه الربيد حادث مايا انه يريد مقابلتها
ألمر يف غاية األمهيةً ..
وفعل التقيا واصطحبها معه إىل مقر الرشكة حيث وقع
197
عىل العقود وأخربهم إنه سيتزوج وبعدها يكون جاهز للسفر ومعه زوجته
معا وجتهيز مكان
بصحبته حيث يتعني عىل الرشكة امتام إجراءات التأشرية هلام ً
اقامة هلام..
ثم هاتف رشيف الذي كان يشعر انه كفراشة تلتصق بنور مايا ودفئها
وحناهنا ..هاتف اباه سيادة العميد فؤاد أن حيرض لإلسكندرية لالتفاق عىل
كل التفاصيل مع والد مايا بشكل رسمي وعائيل..
فرح األب بشدة حيث انه كان حيب مايا بشدة وحيب أباهاً ..
ودائم ما كان
حيث رشيف عىل االهتامم باميا وإحسان املعاملة هلا..
تعمد رشيف عندما كان يراسل رشكات املالحة أن خيتار الرشكات
األجنبية ويبتعد عن الرشكات املرصية ألنه كان يفضل أن تكون السنوات
األوىل لزواجه باميا أن تبدأ خارج مرص ..وأن الرشكات األجنبية سوف توفر
له ذلك أن يقيم يف تلك البلد ..كان خوفه عىل مايا أن حتتك باملجتمع ..ربام
تصادف أحدً ا يشبه يف الشكل ذاك املجرم «فرج» أو ان متر من أمام الڤيال التي
حدثت بداخلها تلك الواقعة ..لذلك هو آثر أن تكون البداية والسنوات
األوىل يف دولة أخرى ..وهذا متا ًما ما قام رشيف برشحة لوالد مايا عندما ذهب
بصحبة أباه سيادة العميد لالتفاق عىل كتب الكتاب والزفاف ..حيث كانت
مايا منشغلة يف إعداد بعض احللوى هلم..
فرح د .كامل بام سمعه من رشيف وأن السفر يصب يف مصلحة مايا
متا ًما وبقدر فرحه عىل اهتامم ورعاية رشيف ملايا ..بقدر حزنه عىل فراق مايا
وسفرها بعيدً ا عنه ..فلقد تعود أن يراها كل يوم ويف اليوم أكثر من مرة ..وأهنام
198
كانا يقومان بكل يشء سو ًيا ..فلم يبق هلم إال بعض كام يقولون ..وذلك بعد
وفاة والدهتا قبل التحاقها باجلامعة..
جلسا مايا ورشيف إلعداد قائمة باملدعوين حلفل الزفاف من األقارب
واألصدقاء ..فحمل كل منهام ورقة ً
وقلم ..يكتبان من يرغبون يف دعوته
ً
وبعضا من األصدقاء للحفل ..كتب رشيف ً
بعضا من أصدقاء الدراسة املقربني
القدامى وعندما جاء ذكر عالء صديقه القديم يف رأسه ..فإذا به يشعر بغصة يف
حلقه وعدم الراحة لدعوته ..فقام بشطب اسم عالء من قائمة املدعوين فهو
ال يعلم أي يشء عن عالء بعد ما كان بينهام يف الفرتة املاضية من جلوء عالء اليه
ليخلصه من غضب اباه بكذبة ..ورفض رشيف القيام هبذا الدور والكذب
من اجله ..هذا آخر عهده بعالء فال يعلم ما مر به بعدها ومل يكن اطالقا يتوقع
صغريا للمخدرات وأن رشيكة
ً ان يكون عالء قد خط اويل خطواته كتاجر
حياته القادمة هي رشيكته يف تلك التجارة املحرمة ..والسم الذي يؤذي به هذا
الشعب الطيب ..شطب عالء من القائمة ...احتلت مروة وبعدها عالء مكانة
كبرية يف شبكة توزيع املخدرات وأصبح هلام اسام معرو ًفا لدى مجيع أعضاء
الشبكة ..فعرفت «مروة» باسم «اهلانم» وعالء باسم «الربنس» وصار للهانم
والربنس مساعدين أو «صبيان» كام كان ينادوهنم للعمل حتت أمرهتم وتلقى
األوامر..
وصل اسم اهلانم والربنس إىل مسامع أفراد مكتب مكافحة املخدرات..
وبدأ رجال مباحث املخدرات عملهم جلمع معلومات عن اهلانم والربنس..
من مها وما هي أسامءهم احلقيقة وأي معلومات تفيد البحث ..وأهم سؤال
199
هو ..مع من يعملون ومن هم أفراد الشبكة والصبيان الذين يعملون حتت
أمرهم ..وكان هذا بالطبع حيدث يف رسية شديدة..
آخر يوم يف أسبوع العسل ..نورا وماجد يف غاية السعادة ..قررت نورا
تقريبا لالطمئنان عىل مجيع األهل
أن تقوم بتشغيل هاتفها ألول مرة منذ اسبوع ً
واألصدقاء والرد عىل الرسائل ..وقام ماجد ً
أيضا بفتح هاتفه ليجد عرشات
الرسائل من اصدقاءه ومدرب وإداري النادي ونحو أكثر من مائة رسالة
وتأنيبا عىل إمهاله هلا
ً ً
توبيخا صوتية من احلاجة نعامت والدته ..ليس هبا إال
والسفر بدوهنا وإغالق هاتفه ..وكم هو ابن عاق وشعورها بالندم عىل إنجابه
ورعايته إىل أن أصبح ً
رجل مثل «البغل» عىل حد تعبريها..
قام ماجد بإلغاء مجيع الرسائل الصادرة من والدته خو ًفا من ان تصل إىل
ً
ومتوسل هلا أن تنسى له معتذرا
ً تليفونيا
ً مسامع نورا ..ثم قام باالتصال هبا
إغالق هاتفه حيث وجوده يف شهر العسل ال يستطيع معه الرد عىل مكاملات
وخالفه ..وحاول بشتى الطرق تقديم الوعود إنه سوف يعود بعد يوم واحد
وهيتم هبا كل االهتامم وايضا معه زوجته نورا لتقوم عىل راحتها وتقديم كل
املساعدة هلا ..نجح ماجد يف إمخاد ثورة والدته واتفقا عىل أن تزيد صربها عليه
يو ًما آخر ..وبعدها سوف ترى شي ًئا آخر منه ومن نورا..
***
200
بدأت مروة وعالء يف التخطيط لعمل ساتر ألشغاهلم ..فقد تضخمت
ثروهتام وأصبح الرقم يف البنك كبري ..وخشيا أن يفتضح أمرمها ..ويطبق عليهام
متجرا للمالبس اجلاهزة ..حيث
ً قانون «من أين لك هذا»؟ ..ففكرا يف رشاء
كان لدي عالء خربة كبري يف هذا املجال كي ال تثار الشكوك حوهلام ..وأن هذا
املتجر سوف يساعدمها عىل جلب شحنات من املخدرات من خارج البالد..
وعن طريق أوراق استرياد املالبس اجلاهزة يمكن ً
أيضا مترير بعض األكياس
الصغرية من الكوكايني ..ثم طرأت لعالء فكرة أهنام يمكنهام االستعانة بالعم
زكريا دون أن يدري فهو سائق حافالت برشكة مرص للطريان ..فدخوله
وخروجه من املطار أمر يومي يقوم به منذ أكثر من ربع قرن وهو معروف
لدي سلطات املطار ..سمعته طيبة وال خيضع للتفتيش الدقيق مثل الراكب أو
املسافر العادي ..استمعت مروة إليه ،ومل تعرتض بل عىل العكس شعرت أن
ً
خمططا جيدً ا يف أساليب التخفي مستوى ذكاء عالء ارتفع للغاية وأنه أصبح
والبعد عن إثارة الشبهات..
201
منه حقيبة يد صغرية ظانًا ان هبا بعض األدوات واإلكسسوار اخلاص بصناعة
املالبس..
وبالفعل يوجد داخل احلقيبة اكياس من األزرار أو بعض من اخليوط
املميزة حلياكة املالبس ..لكن ً
دائم تكون للحقيبة أماكن رسية خمبأ هبا
املخدرات ..وهذا املسكني ..األب املخدوع ..عم زكريا ..حيمل احلقيبة بكل
مهة وإخالص وأمانة ظانًا منه أنه يقدم املساعدة إىل مروة وزوجها عالء يف
نجاح مرشوعهام ..متجر املالبس ومل خيلد إىل ذهنه ولو للحظة أن ما حيمله يف
يده يقدر بماليني اجلنيهات ويف الوقت ذاته يدمر عقول وصحة عرشات بل
مئات من الشباب ومل يتبادر إىل ذهنه اطال ًقا ان ابنته ..قطعة منه ..من حتمل
اسمه ..هي من تعرضه للخطر و هي التي تسخر منه وجتعله حيمل السم يف
صورة ادوات حياكة ..وأن عقابه إذا ُعرف ما بداخل احلقيبة لسوف يكون
السجن املؤبد وربام اإلعدام..
هل تدرك مروة هذه احلقيقة أن اباها ..عم زكريا ..إذا ُاكتشفت أمره فلن
يكون يف تلك الساعة ..عم زكريا ..أباها الطيب احلنون ..قارئ القرآن املصيل..
قارئ الكتب ..عاشق الورق األصفر القديم صديق بائعي الكتب القديمة
عىل سور االزبكية ..بل سيتحول يف نظر القانون واالعالم إىل املجرم ..تاجر
املخدرات الفاسد ..عديم االنسانية ..من يقوم بتدمري الشباب ..من جيلب
املخدرات من دول أخرى كل تلك التوصيفات واالهتامات والسباب سوف
يكون من نصيب أباها باإلضافة إىل البدلة الزرقاء الزي الرسمي ملن هو قابع
يف غياهب السجون وظلامت الزنازين وربام االزرق يتحول لألمحر ..فاالجتار
202
يف املواد املخدرة عقوبتها يف القانون هي اإلعدامُ ..يعدم أباها ..يموت عم
زكريا الربيء بسبب فعلتها ..بسبب غباءها ..جحودها ..أنانيتها ..كذهبا..
طمعها وحلم الثراء الرسيع ..شاركت مروة يف تدمري بلد بأكمله يف مرحلة
نموه..
وحيتاج أن ينمو بسواعد الشباب ..التي تقوم هي وعالء وأخرين من
املجرمني بالعمل عىل إذهاب عقل هؤالء الشباب ..فال بناء ..وال تنمية..
وتظل هكذا بلد نامي إىل األبد ..ال تعرف أن تكون بلد متطور ..بلد متقدم..
بلد صناعي ..مبتكر..
ال تدرك مروة كل هذا وال تريد حتى التفكري فيه أو التذكري به ..وال
تكرتث بام يمكن أن يكون مصري أباها أو شباب بلدها فكل تفكريها
واجتهادها منصب فقط عىل ابتكار أساليب جديدة للتوزيع والتنكر والتهرب
من رجال مكتب مكافحة املخدرات لكن اهلل ً
دائم باملرصاد ..فكان رجال
مكتب املكافحة أكثر يقظة مما كانت تظن وأشد دها ًء مما كانت تعتقد وبدأ
اخلناق يضيق حول مروة وعالء وبدأ العد التنازيل لكي يقعا يف قبضة الرشطة..
كانت هناك رسالة من مروة إىل نورا هتنئها بالزفاف وشهر العسل وتتمنى
أن تراها أو تزورها لتقديم هلا هدية الزواج ..وأرسلت مروة مع الرسالة
صورة سيارة أملانية الصنع ..فاخرة باهظة الثمن وأبلغتها إهنا صورة سيارهتا
اجلديدة..
عادت نورا إىل القاهرة مع زوجها ماجد ..لتبدأ أوىل أيامها يف بيته مع
والدته احلاجة نعامت ..ويف الطريق طلب ماجد التوقف أمام متجر للحلوى..
203
وقام برشاء جمموعة متنوعة من احللوى الرشقية وبعض املكرسات ..قبل
الذهاب إىل البيت فكانت تلك اللفافات من احللوى بمثابة احلامية واحلصن
من وابل الرصاص الذي سوف متطره به احلاجة نعامت ..والذي ادخرته يو ًما
بعد يوم منذ أن سافر ونورا إىل أسبوع العسل ..فهذه اللفافات هي البلسم
الشايف للساهنا وكفيل بتحويل ما به من سم ناقع إىل قطرات من العسل يمتد
مفعوهلا إىل ان يفرغ الطعام واحللوى عن آخره يف البيت ..لتبدأ رحلة عودة
السم إىل لساهنا وانطالق رذاذه وزخاته لتصيب كل من حوهلا باللعنات
والتكدير وتنغيص العيش ..وهذا ما مل تكن تعلمه نورا أو حتى تتوقعه أن
هناك أمهات هبذه الصورة وعىل تلك الشاكلة ..انقىض أول يوم بسالم يف
بيت احلاجة نعامت ،ويف اليوم التايل بدأ ماجد يستعد للذهاب إىل النادي ألداء
التمرينات حيث إنه باقي يومني عىل سفره لالشرتاك يف املسابقة بأوكرانيا..
ومهت نورا باالستعداد للذهاب معه إىل النادي والركض حول الرتاك كام
كانت تفعل يف املايض القريب قبل الزواج..
وإذا هبام عىل باب الشقة يسمعان من ينادهيام من اخللف إهنا احلاجة نعامت
«إىل أين انتام ذاهبان»؟ ..أجاب ماجد إىل التمرين يف النادي ..احلاجة ..حس ًنا..
أنت ذاهب إىل التمرين ألجل املسابقة ..وملاذا تصطحب زوجتك معك..
أجابتها نورا ..أنا معتادة عىل الرياضة الصباحية يف النادي ..فامليش مفيد
للغاية لكل اجلسم وخاصة القلب ..قالت احلاجة «ده كان زمان يا حبيبتي قبل
الزواج ..اآلن انت زوجة ..الزم تراعي زوجك وام زوجك ..اذهب انت يا
204
ماجد ..ربنا معاك يا بني واترك يل نورا معي كي نقوم بتحضري أمور املنزل
سويا»
نظرت نورا إىل ماجد الذي لزم الصمت وهم باخلروج وبعد دقيقة
وجدت نورا نفسها يف البيت مع احلاجة نعامت التي بدأت يف إمالء بعض
القواعد واملمنوع واملسموح يف البيت ..وبعدها أوكلت إليها معظم مهام
البيت من تنظيف وترتيب وغسل وكي املالبس والطبخ ..هذا باإلضافة إىل
خدمة احلاجة نعامت شخصيا..
فكانت احلاجة تنطق اسم نورا يف اليوم الواحد مئات املرات ..حتملت
نورا اليوم األول ..وكانت منهكة ويف غاية التعب إىل أن عاد ماجد يف املساء
وما أن أغلقا عليهام باب حجرهتام ..إذا باحلاجة نعامت تبدأ يف البكاء بصوت
عال مسموع ..وحتزن عىل حاهلا ..أن تسهر أمام التلفاز وحيدة بال أنيس أوٍ
جليس فاضطرا ماجد ونورا باجللوس معها بالرغم من التعب الشديد واآلالم
التي كانت ترسي بجسد نورا وكذلك ماجد من قوة وكثرة التدريبات..
***
205
قامت مروة باالشرتاك يف النادي ..دفعت مبلغً ا ً
باهظا من املال قيمة
عضوا بعد أن كانت جمرد مرافق ملن حيمل بطاقة العضوية..
ً العضوية وأصبحت
حيث كانت تستعني بنورا ملساعدهتا يف الدخول إىل النادي ..فكانت تصف
سيارهتا الفارهة بالداخل بعد الدخول من البوابة ..وكانت دائمة البحث
عن نورا ..ولكن مل جتدها ومل تكن تعلم طبيعة حياة نورا اجلديدة ..فلم يكن
اهلدف من اشرتاك مروة يف النادي فقط للتفاخر وأن تنهى عقدهتا القديمة
عضوا ..بل لفتح أسواق جديدة ومنافذ للبيع الرسي للمخدرات يف
ً وتصبح
النوادي ..بعد أن قامت بعمل شبكة للبيع يف اجلامعات وخاصة اجلامعات
اخلاصة منها..
واستمر تتبع رجال مكتب مكافحة املخدرات لنشاطاهتا وكان اهلدف
من تأجيل القاء القبض عليها هو الصرب ملعرفة مجيع أفراد شبكتها يف األماكن
املتعددة التي فتحت منافذ بيع فيها وآخرهم هو النادي..
***
206
استعد ماجد للسفر إىل البطولة وكان من املفروض أن تصحبه نورا
زوجته يف السفر ..لكن احلاجة نعامت كان هلا رأ ًيا آخر حيث أثارت زوبعة من
البكاء صاحبها بعض اإلغامء واالدعاء أن ضغطها يف ارتفاع وإهنا أوشكت
عىل مفارقة احلياة ..وأن هذا ما سوف جيلب الفرح والرسور إىل نورا حيث
إهنا تشعر أن نورا تريد التخلص منها كي حتصل عىل البيت وماجد لنفسها..
هذا ما قالته احلاجة نعامت يف وجه نورا وماجد ..مما أبكى نورا واذرفت
من الدمع الكثري والكثري والكثري ..وبالطبع إلثبات أن نورا ال تكن تلك
املشاعر القبيحة جتاه احلاجة نعامت ..آثرت املكوث معها عىل الذهاب يف أول
رحلة هلا خارج البالد بصحبة زوجها ..السلبي الصامت الذي مل ينترص هلا يف
يوم من األيام ومل يعرف طريق الوقوف إىل صفها يو ًما ..وكان كتلة ليست
عضلية فحسب ..انام كان كتلة من األنانية متيش عىل األرض ..وأن التنازل
والتضحيات مل يكتبا إال باسم نورا فحسب وأنه بعيد متا ًما عن كل هذه
املعاين ..وأنه كان يتعجل الزفاف قبل ميعاد سفره ليس حلبه لنورا أو رغبته يف
اصطحاب نورا معه ولكنه ليقينه انه لن يستطيع السفر وترك أمه احلاجة نعامت
واهنا سوف تقوم بعمل اي يشء إذا سافر وتركها كام هددته حتى لو وصل هبا
207
احلال إلبالغ الرشطة عنه وادعاء انه رسق نقودها ..ملنعه من السفر إال إذا
اوجد البديل ..من تقوم عىل خدمتها عىل مدار الساعة..
وقد حاول جلب العديد من اخلادمات لكن مل تتحمل أي منهن طباع
احلاجة نعامت الصعبة وكثرة مطالبها ..وطريقة معاملتها التي ال ختلو من
االهانات تصل إىل السباب ..هكذا بدأت أقنعه ماجد يف السقوط أمام نورا..
تفسريا إلحلاحه والعجلة يف امتام الزفاف يف ثالثة اشهر..
ً وبدأت جتد
***
208
ً
ومنهمكا عىل كتابة مذكراته وذكريات حرب اكتوبر كان العميد فؤاد عاكفا
العظيمة بكل تفاصيلها ..وخباياها التي كان مسموح بنرشها واالفصاح عنها..
وكان هدفه من وراء ذلك ان يتعلم الشباب واالجيال التي مل يكن هلا نصيب
من معارصة زمن تلك احلرب العظيمة ..كيف تكون االرادة ..القوة ..الصرب..
اجللد ..التحدي ..التحمل ..كل هذا مصحو ًبا بالتخطيط السليم واالستعداد
وفنيا وايامهنم بأن اهلل يرعاهم ما داموا عىل احلق واالنتصار للمظلوم..
بدنيا ً
الكامل ً
وكان العميد فؤاد ً
دائم ما يري ان كل ما كتب وما قيل ليس بكايف وال
يستويف ربع الرشح املفروض عن تلك احلرب ..وبام انه واحدً ا من افراد
القوات التي شاركت فيها ..فهو شاهد عيان وشاهد عىل عرص احلرب
املجيدة ..وشاهد عىل انكسار العدو وذهلم ..تراجعهم وتقهقرهم أمام طوفان
دورا يف احلرب سواء بالتمريض..
رجال اجليش املرصي وكيف لعبت املرأة ً
التربع بالدم وحث األوالد عىل الذهاب للقتال وكذلك الدعاء وهو ما كان
ً
وايضا ذكر كم كان اهل سيناء وقبائلها يف نرصة وصفوف يصل إىل السامء
اجليش املرصي واظهروا ً
كم من الوطنية غري العادية وكم من ادوار لعبوها
لتحقيق النرص وطرد العدو املحتمل من اطهر البقاع يف العامل ..أرض االنبياء..
***
209
يف تلك األثناء وضع رشيف مع مايا اللمسات األخرية إلمتام زفافهام
وكانت مايا تزداد ً
مجال يو ًما بعد يوم ..ويزداد معه حبها لرشيف الذي كان
تقول عنه ً
دائم ..أنه الدنيا ..أنه رشيف األرشاف..
تم تعيني رشيف يف رشكة املالحة اإليطالية والتي سوف يبدأ أوىل رحالته
عىل سفنها من جنوة ..حيث سوف يقطن رشيف مع عروسه مايا متجها إىل
ميناء طنجة باملغرب..
وبالفعل تم الزفاف يف أرقى الفنادق باإلسكندرية ،وكانت مايا ملكة
كملكات العرص احلديث ..مجاهلا خيطف االبصار ..قضيا بعدها ثالثة أيام
باإلسكندرية ثم توجها مبارشة إىل جنوة بإيطاليا..
متجها إىل كييف بأوكرانياً ..
تاركا نورا إىل ً سافر ماجد مع البعثة الرياضية
طوفان امه احلاجة نعامت تصارع أمواجها وتغرق يف لكامت من لساهنا الذي
ال يعرف للكلمة الطيبة طريقًا ..وبعد بضعة أيام استطاعت نورا التي اختذت
سالحا كي تستعني به عىل متاعب احلياة وشقائها يف بيت زوجها اخلروج
ً الصرب
كثريا وشعرت كأهنا
يف صباح أحد األيام للذهاب إىل النادي الذي استوحشها ً
مل تعد ترتاده بعد الزواج ..وكأن زواجها جاءه بمثابة العقوبة ..عقوبة عىل
ماذا ..ربام ألهنا ظلمت نفسها بتقديمها كل تلك التنازالت ملن ال يستحق
210
حتى التفكري فيه ..وها هو اآلن يف أوربا وتاركها إىل براثن أمه كي تفرتسها
ببطء إىل ان تنتهي شي ًئا فشي ًئا..
دخلت نورا إىل طرقات النادي وشعرت اهنا عرفت قيمة هذا املكان اكثر
من أي وقت ميض ..فدائام االحساس باحلرمان جيعلنا نعرف قيمة االشياء
احلقيقية ..جتولت ..وألقت السالم والتحية عىل كل من تعرفهم وحاولت
ً
منهكا من اللف والركض يف الرتاك لكنها مل تستطع حيث اصبح جسدها
اعامل املنزل وخدمتها للحاجة نعامت ..فلم تعد تقوى عىل الركض كسابق
عهدها ..ما اضاف عىل وجهها نظرات من احلزن قد الحظها اجلميع ..فالنور
انطفأ والزهرة أذبلت..
فبينام هي جالسة ..حزينة ..غابت عنها االبتسامة يف حديقة النادي اذ
سمعت من حيادثها من خلف كتفها ..نظرت خلفها ..اهنا مروة..
نظرت ثانية ..انه صوت مروة ..فهل هي صحيح مروة ..نعم لكنها صار
امجل ..اشيك ..ترتدي الكثري من احليل املصنوع من الذهب وخالفه وبيدها
مفاتيح سيارة من املاركات األملانية املعروفة وهاتف باهظ الثمن..
جلسا سويا تبادال احلديث يف شتي األمور وكانت نورا يف ذهول من تبدل
احلال ..فزهرة نورا ذبلت وزهرة مروة اينعت ..حتى طريقة كالمها اختلفت
وأصبحت بحق سيدة جمتمع ..وتنفق ببذخ ..أكل هذا من زوجها ..أهو غني
إىل هذا احلد..
سألت مروة نورا عن أحوال سيادة العميد ومدام كريمة ورشيف..
وعندما جاء احلديث عن رشيف استفاضت مروة يف االسئلة ..فأخربهتا نورا
211
انه خترج يف االكاديمية البحرية ..ويعمل لدي رشكة ايطالية يف ايطاليا ..وأنه
تقريبا سوف تبدأ أويل رحالت مركبه
تزوج وسافر منذ أيام قالئل وبعد اسبوع ً
من جنوة إىل ميناء طنجة يف املغرب ..وما ان سمعت مروة اسم املغرب..
طرأت يف رأسها فكرة .من املمكن ان تستعني برشيف بدون علمه عىل جلب
املخدرات من جتار املغرب إىل مرص ..حيث إنه يف اآلونة األخرية جيدون
صعوبة بالغة يف ادخال شحناهتم إىل البالد حيث أصبح رجال مكتب مكافحة
املخدرات اكثر يقظة واستطاعوا ان حيبطوا الكثري من عمليات التهريب..
لذلك فكرت يف االستعانة بعنارص جديدة ووجوه غري مكشوفة وليس هلا اي
ملفات لدي رجال جهاز مكافحة املخدرات لذلك قررت ان توطد عالقتها
أكثر بنورا ..واألمر اآلخر الذي طرأ عىل رأسها هي االستعانة بنورا نفسها يف
توزيع املخدرات داخل النادي وبدون ً
أيضا أن تشعر كام تفعل مع أباها وما
تريد تنفيذه مع رشيف..
رسيعا ،ومل تشعر نورا ومل تدرك كم مىض عليها
ً مىض الوقت يف النادي
وهي بني الطبيعة واهلواء الطلق تتأرجح لتعلن عصياهنا عىل عامل ماجد
واحلاجة نعامت أو حسب ما بدأت نورا تشعر ..احلاجة نقامت ..تكره العودة
إىل ذلك السجن وتلك السجانة ..فهي مل ختلق هلذا ..مل تتم تعليمها يف كلية
الفنون اجلميلة لتصبح خادمة مهانة ً
بدل من فنانة مبدعة مرموقة يتحدث عن
أعامهلا القايص والداين..
تذكرت نورا حديث والدها وتكرار حديثه حتى قبل الزفاف بيوم
واحد ..آه كم من اخلربات يمتلكها ذلك األب احلكيم احلليم احلنون ..يعطيها
212
كل احلريات املتاحة يف العامل لكنه يف ذات الوقت مل يبخل عليها بالنصيحة
وإبداء خماوفه وعدم ارتياحه من ماجد ومن ترصفات نورا وحجم التنازالت
التي قدمتها ومل حتصل عىل أي يشء وال حتى املعاملة الطيبة ..ها هو ماجد يف
بالد حترتم احلريات وحترتم املرأة ..يرتكها فريسة المرأة بال قلب أو عقل ..ال
متلك إال السيطرة عىل فمها وما يلبي نداء رشه جوعها..
خدعتني بمعسول الكالم يف أول لقاء ومن كثرة تكرارها كلمة «ابنتي»
ظننتها سوف تضعني يف مكانة االبنة هلا ..لكنها يف الظاهر تقول ابنتي ويف
الباطن تعني «خادمتي» ...هل من خمرج ؟؟؟!!!! ..آه كم متنيت أن ارمتي يف
أحضان أيب واحتمى بذراعيه واطلب منه العفو والغفران عيل ما ارتكبته يف
حقه بعدم األخذ بنصيحته والرتاجع يف الوقت املناسب وعىل ما ارتكبته يف
حق نفيس وآدميتي من إلقاء نفيس يف هالك ماجد ونقامت ...أقصد نعامت..
أدفع ثمن محاقتي وعنادي ..انجرفت وراء نظرات ماجد احلاملة وكالمه
املغلف بكل معاين العشق ووعوده الكاذبة بأنني سوف أكون ملكة حياته
وأمرية أحالمه ورشيكة له يف عامل االضواء والشهرة ...كل الكالم والوعود
والنظرات الكاذبة ال تروي مشاعر حب ..أنا من استحق أن توضع يف قالب
اخلادمة ألنني وقعت يف فخ ماجد األناين ..املتحدث اللبق عن مشاعر دافئة
ومستقبل زاهر ..أصبح ومهًا ..رسا ًبا..
لقد رأيت الوهم بعيني ومسكت رساب نعامت بيدي ..األم التي ال تعرف عن
حبا..
األمومة غري شهوة البطن ..وماجد وحديثه العذب املغلف بالسم ..وظننته ً
***
213
بدأت مسابقات كامل األجسام يف أكرب وأضخم الصاالت الرياضية يف
العاصمة األوكرانية «كييف» استعد مجيع املتسابقني وقبل بدء املنافسات قامت
اللجنة املنظمة باختيار عشوائي لبعض الرياضيني لعمل حتليل املنشطات..
لقياس ما إذا تعاطى أحدهم ملواد منشطة تساعد املتسابق يف ظهور العضالت
والقوة والتحمل اكثر من غريه ..وقد وقع االختيار عىل اربعة من املتسابقني
كان ماجد أحدهم وبالفعل قام بعمل التحليالت وأخذ العينة ..ثم توجه إىل
املكان املخصص له حلني أن يأيت دوره للصعود عىل خشبة العرض للقيام
بالعرض اخلاص به واستعراض عضالته املتفرقة يف أماكن متعددة من جسده..
بالفعل قام ماجد بعرض مذهل أذهل مجيع احلارضين ..وكان قد تدرب
وتكرارا يف القاهرة ..وفور انتهاء العرض تقدم إليه بعض املدربني
ً مرارا
عليه ً
من الدول املنافسة لتحيته وإبداء إعجاهبم بمستوى لياقته وضخامة عضالته..
ً
وأيضا مما أدخل الفرحة عىل قلبه ..ومن أول حلظة أصبح ملاجد معجبني
معجبات ..وكانت أكثرهم إعجا ًبا فتاة اوكرانية شقراء ..بيضاء ..زرقاء
العينني ..رائعة اجلامل ..صارت تتقرب إليه وتسري خلفه يف طرقات وأماكن
الالعبني يف الصالة الرياضية املغطاة ..ومل ترتك مناسبة إال واقرتبت فيها منه
بابتسامات ونظرات اإلعجاب وبدأت تتحدث إليه بإنجليزية ركيكة عن كم
214
هو رائع وكم هي حتب املرصيني وإن حلم حياهتا أن تقابل أحدهم وتعيش معه
قصة من اإلعجاب املتبادل ولربام يتطور ليكون شي ًئا آخر..
ويف صباح اليوم التايل وجد ماجد نفس الفتاة يف مطعم الفندق حيث
كان ماجد يتناول طعام اإلفطار مع بقية افراد البعثة ..تقدمت نحوه ماسكة يف
يدها إحدى اجلرائد األوكرانية وفتحتها أمامه ،وأشارت له إىل صدر الصفحة
الرياضية ليجيد صورته بجسده الكامل وعضالته الالمعة ..فطلب منها أن
ترتجم له ما هو مكتوب عنه ..فأخذت ترتجم وترشح كل ما قيل عنه ..كيف
إنه البطل املنتظر وإنه مفاجأة البطولة وأن معظم النقاد الرياضيني أشادوا
بمستوى لياقته ،وأهنم ما رأوا قط حجم عضالت مثل عضالته ..ثم بعد ذلك
عرضت عليه الفتاة التي قامت بتعريف نفسها إليه باسم «سامانتا» ..عرضت
عليه أن تصحبه يف نزهة داخل البلد فهي حتفظ كل شرب فيها وتؤكد له كم
سوف يستمتع بتلك النزهة..
ظهرا حيث
وافق ماجد ولكن أكد عليها إنه جيب أن يعود قبل الثالثة ً
عليه أن يتواجد يف اجليم ليقوم بعمل بعض التمرينات اخلفيفة للمحافظة عيل
لياقته ..وبالفعل انطلقا ماجد وسامانتا إىل اماكن متفرقة وتوطدت عالقتهام
دقيقة بعد االخرى وعند عودهتم إىل الفندق الذي يقيم فيه ماجد كان هناك
حشد من الصحفيني جيرون لقاءات مع بعض الرياضيني ..وكانوا يف انتظار
ماجد مفاجأة البطولة وبمجرد هبوطه من سيارة األجرة وبصحبته «سامانتا»
اهنالت عليه الكامريات ترمي بضوء فالشها عليه وعليها ومها بيدان متعانقتان..
ومن يرامها ال يظنه إطال ًقا إهنام تعارفا فقط ألول مرة يف الصباح ..وهذه أول
215
نزهة هلام سويا حيث كان ماجد معانقًا بأصابعه أصابع «سامانتا» ..ويف خالل
ساعات قليلة التقطت وكاالت األنباء حول العامل الصور واألخبار..
وبينام نورا تقوم بتنظيف املنزل كالعادة وتتلقي األوامر من نعامت وتسمع
منها ما يؤذهيا ..كم هي مهملة وغري مرتبة وال هتتم بطعامها وال تقدم هلا أي
خدمات وأن ماجد أخطأ باختيارها زوجة ..وأن أي امرأة ريفية غري متعلمة
افضل وانفع هلم منها ..تسمع نورا بأذنيها ،وال تستطيع أن تبادهلا السباب..
فقد تربت نورا عىل الصرب واحرتام الكبري..
دق جرس هاتفها ..جففت يدها والتقطت هاتفها فاذا بمروة تطلق هلا
التهاين ..الف مربوك ..فرحت لك حقًا ..مل تفهم نورا ما رس كل تلك التهاين
واملباركات..
استطردت مروة قائلة ان صور ماجد يف كل اجلرائد حيث أبىل بال ًء
حس ًنا يف منافسات األمس وأصبح ملء السمع والبرص ويقولون عنه إنه
اسطورة ومفاجأة البطولة وأن اغلب النقاد يرشحونه للمركز األول ..مل تد ِر
نورا بنفسها ،وهي تبكي وتضحك يف الوقت ذاته مثل هطول املطر يف يوم
مشمس ..هل تفرح لنجاح ماجد بدوهنا بعد وعوده هلا ان تكون بجواره..
رشيكته يف النجاح ..يترشف هبا ..تدير اعامله ..تساعده يف تنظيم مواعيده..
غذاءه ..تدريباته ..لقاءاته الصحفية وغري كل هذا ..أم حتزن ان تسمع وتعلم
عن خرب نجاحه وتألقه من مروة ..فلم هياتفها ولو مرة واحدة ..سألت نورا
مروة من اين اتت بتلك االخبار ..فأجابتها من اجلرائد ..هل معك جرائد
اآلن ..فأجابتها نورا بالنفي ..فعرضت مروة أن تقابلها نورا يف النادي وتعطيها
216
اجلرائد بصورة زوجها داخلها" ..صورته رائعة واألكثر روعة تلك الفتاة التي
بصحبته يف مجيع الصور ..فهي رائعة اجلامل ..مجال أورويب"..
ال تعلم نورا كيف ارتدت مالبسها وماذا اختارت لرتتديه وألول مرة
ً
طويل ،النظر يف املرآة ..املرآة صديقة يف حياهتا أن تغادر نورا بال الوقوف
كل انثى ..فعادة نورا ً
دائم أن تنظر يف املرآة مرات عديدة عىل فرتات متقطعة
عندما تستعد للخروج و مرة طويلة قبل اختيار مالبسها ..ومرة بعد اختيارها
ووضعها عىل جسدها من اخلارج لرتى تناسق األلوان والذوق ومرة أخرى
قبل دخول احلامم حيث تنظر إىل برشهتا وشعرها ثم يأيت دور مرآة احلامم..
فتنظر إليها طول الوقت عن غسل اسناهنا وغسل وجهها وتفحص كل تفاصيل
الوجه ..ثم تعود مرة أخرى إىل مرآة حجرة ارتداء املالبس وتطيل النظر بعد
ارتداء مالبسها قطعة قطعة لتتأكد اهنا منمقة ..وبعدها يأيت دور النظر بغرض
وضع املاكياج وتطيل الوقت فيه وترسم كل تفاصيل وجهها كأعظم فنان
إيطايل وهي خرجية الفنون اجلميلة فلها ذوقها اخلاص يف وضع األلوان حول
العني والشفاه وباقي الوجه باعتناء شديد وذوق رفيع ..غري ذلك تأيت مرحلة
تصفيف الشعر التي ال تقل عن كل ما سبق بل ربام تزيد لكن يف تلك اللحظة
الفارقة يف حياة نورا مل تعد عيناها قادرة عىل مالحظة أن يف حجرهتا مرآة ،وإهنا
متتلك أفضل أنواع أدوات املاكياج وأن لدهيا شعر مربوط من اخللف «ذيل
حصان» وأهنا بعد دقائق سوف تكون يف الشارع للذهاب إىل النادي وهناك
تقابل العديد من أصدقائها مل هتتم بكل هذا ..كل ما مر بخياهلا ليس ماجد أو
مروة أو تلك الصور يف اجلرائد أو تلك الفتاة األوروبية التي تدعي مروة إهنا
217
بصحبة ماجد ..لكن كل ما كان يرتاقص أمام خياهلا هي صورة سيادة العميد
ً
حكيم ولديه ُبعد نظر و يستطيع أن يرى فؤاد ..األب احلكيم احلنون ..كم هو
األمور من بواطنها وليس الظاهر فقط..
كيف حدث يل كل هذا وهبذه الرسعة املذهلة ..احتول من فتاة مدللة يف
بيت أبوهيا إىل زوجة بال زوج حارض ..أعيش مع امرأة من اسوأ ما يمكن أن
تكون عليه النساء ومن املفرتض أن أنادهيا ماما ..ألهنا ام زوجي ويف مكانة
قرارا بمفرده ،ومل يستمع أو يلتزم بنصائح من يكربه
امي ..أكل إنسان اختذ ً
س ًنا وحكمة يعاقب بمثل ما اعاقب به ؟؟؟؟ ..وكيف يستطيع إنسان أن يكون
خمادعا إىل هذه الدرجة ..أن يتالعب بثقتي فيه التي منحتها إياه منذ معرفتي
ً
به؟
كنت أظنه حيبني حقًا ..كنت أظنه يتذكر كم من تنازالت قدمت ..وأنا
التي إذا اشارت بطرف إصبعها لتهافت عليها العديد من الرجال ..رجال
صادقون خملصون ..بدون «نعامت» أو فتاة أوروبية ..كم احتقر نفيس واحتقر
براءيت ..ال بل سذاجتي ..احلمقى فقط هم من خيتلقون األعذار ويبدؤون يف
تغيري األسامء وتبديلها فيسمون الغباء ..براءة ..ويطلقون عىل أخطائهم..
سذاجتهم..
دار كل هذا يف رأس نورا وهي يف طريقها إىل النادي ..وما أن اقرتبت من
احلديقة الكبرية التقطتها مروة بعينيها املتشفيتان ..احلاقدتان فلطاملا كانت تغار
وحتقد عىل نورا ألهنا األمجل ..الناجحة ..املحبوبة من اجلميع ..القاطنة بحي
سكني راقي ..وهلا أب ذو مكانة مرموقة واجلميع يكن له احرتا ًما ..وحانت
218
اللحظة ..حلظة أن تنظر مروة إىل رد فعل نورا بعد أن تشاهد صور زوجها
وبصحبته الفتاة األوروبية ..وتتفحص االنفعاالت املرسومة عىل قسامت
وجهها..
فتحت نورا اجلرائد إىل أن وصلت للصفحة املخصصة ألخبار الرياضة..
وقعت عيناها عليه ..نعم ..هو ..إنه ماجد زوجها ..الذي مل حيادثها عرب
اهلاتف ولو مرة واحدة ..ماجد زوجها الذي تركها خادمة ..فريسة ..عبدة
ألمه ..التي ال مثيل هلا يف الوجود..
ماجد زوجها ..الذي وعدها بمصاحبته والسفر معه ..يدً ا بيد ..قد نسيها
ووجه دفته لشقراء ..حسناء ..أوروبية..
نظرت إىل الصور بإمعان ..ماجد يشبك أصابعه بني أصابع تلك الفتاة
وهي ملتصقة بجسده ..ما هذا الذي اراه..
ارمتت نورا عىل أقرب مقعد وهي يف حالة ذهول ..ماجد بكالمه املعسول
وحبه اجلارف يرتكني هكذا وبال أدنى ذنب مني أو إبداء أي أسباب ..كم
امتنى لو عاد يب الزمن إىل الوراء أربعة أشهر ..ملا كنت سمحت هلذا املاجد أن
يتحدث معي حتى جمرد احلديث ..وملا كنت تنازلت عن أي حق من حقوقي
وأوهلم طول مدة اخلطوبة والتعارف اجليد وقريب منه ومن والدته نقامت
«نعامت»..
مسكينة نورا ..زهرة مجيلة ..ذبلت يف وقت قصري ..ذبحها ماجد حينام
كذب عليها يف مشاعره ..كذبه يف إخفاء طباع والدته ..كذبه يف وعوده بالسفر
يوميا..
معه وكذبه إنه سوف حيادثها ً
219
دارت الدنيا هبا وشعرت إهنا يف حالة إعياء شديدة ..حالة دوار ..حالة
غثيان ..سارت يف الطرقات بعد أن خرجت من بوابة النادي ..سارت ببطء
شديد وهي ال تعلم وال هتتدي إىل أين ذاهبة ..وبدون أن تشعر وجدت نفسها
أمام البيت القديم ..البيت اجلميل ..أبوهيا ..الصدق ..احرتام اآلخر ..الطريق
املستقيم ..ال يصح إال الصحيح..
رفعت نورا عينيها إىل األعىل ..إىل الرشفة علها جتد اباها العميد فؤاد
جالسا حيتيس قهوته كالعادة ..كانت الرشفة خاوية إال من نبات الصبار..
ً
الصبار الصابر عىل احلر وقلة املياه ..حييا يف الصحراء ..كم يذكرين هذا النبات
خداع ..خيانة ماجد ..يصرب عىل صبارا ..يصرب عىل ّ
كذابّ .. ً بنفيس اصبحت
صبارا حييا يف صحراء بيت ماجد وأمه ..بيتا أشد ع ّ
يل قساوة ً اهانات والدته..
من صحراء جرداء ..بال ظل أو رشفة ماء ..وهذا الثعبان القابع يف الصحراء
بدل الرمحة باحللوى ..والعطف باملكرسات ..واحلب ..باملعجنات..
الذي ّ
وزوجي ..نعم أنا زوجة ..أنا يل زوج ..أين هو؟ مع من؟ ..ماذا يفعل..
كيف يقيض يومه ..هل يذكرين ..هل يذكر أن له زوجة؟ ..حتيا بصرب يف
صحراءه ..أين دموعي ..حتجرت داخيل كام تتحجر الصخور يف الصحراء..
يارب ..انقذين مما أنا فيه واعدين إىل تلك الرشفة وهذا البيت احلنون إىل
احضان أيب وأمي وأخي وزوجته اجلميلة ..تركت اخلري ..فعاقبني اهلل..
استدارت نورا عائدة إىل الصحراء القاحلة حيث ثعبان الصحراء تنتظرها
حبا يف نورا ..لكن تفتقد خادمتها..
باحثة عنها ..ليس عشقًا وال ً
220
مل يكن العميد فؤاد وهو منهمك يف استكامل كتابة مذكراته ..يدرك أنه منذ
حلظات كانت نورا حبيبته قرة عينيه ..تقف وحيدة ..خائفة ..مهانة حتت رشفة
بيته ..تبحث عنه ربام يطل ويدعوها للصعود ..مل يكن يعلم إهنا خجىل منه..
لدرجة ان يمنعها خجلها عن الصعود اليه واالستقواء به وطلب النجاة ..نورا
اجلميلة ..اختذت الصبار ً
مثل تسري عىل دربه ..عادت إىل الصحراء القاحلة..
ظهرت نتيجة حتليل العينة العشوائية لتحليل الكشف عن تعاطي
املنشطات التي أخذت من ماجد يف اليوم األول للبطولة والتي اذهل فيها مجيع
احلضور وحصل عىل أعىل تقدير يف هذا اليوم ..النتيجة سلبية..
يف اليوم الثاين للبطولة ..وبعد ان قىض ماجد ليلة يف سهر مع «سامانتا»
وتلقى حتذيرات من مدربه أن عليه االلتزام بالتدريبات والنظام الغذائي..
مبكرا ..صعد ماجد إىل منصة العرض ..أبىل بالء حس ًنا لكن ليس
ً والنوم
بنفس قوة وإهبار اليوم األول ..وكانت صديقته اجلديدة "سامانتا" جتلس يف
الصفوف األمامية ال تتوقف عن تشجيعه ..كان من املفرتض ان يكون هذا
يدعي..
املكان لنورا ..زوجته ..حبيبته كام كان ّ
بعد انتهاء العرض ..مل يتوجه ماجد إىل فندق اإلقامة وإنام خرج مع
«سامانثا» لقضاء بقية اليوم معها ..والسهر إىل وقت متأخر من الليل ..عاد
مبكرا
ً إىل الفندق مع بدايات الفجر ..وبالطبع كان من املفرتض ان يستيقظ
لتناول االفطار ثم التوجه إىل اجليم ألداء التدريبات حتت إرشاف مدربه الذي
كثريا يف احلصول عيل
بدأ يشعر أنه خيرس ويفقد أهم العبيه الذي عول عليه ً
امليدالية الذهبية ورفع علم مرص ..مع سامع النشيد الوطني بعد ان حيقق املركز
221
األول ..لكن كيف له من حتقيق أي مركز وهو نائم كجثة هامدة ..وركضه
وراء تلك الفتاة التي ال تدرك أمهية متثيل الوطن واحلصول عىل املركز األول..
يف اليوم الثالث للبطولة ..أدى ماجد أدا ًء سي ًئا للغاية وبدا عليه اإلرهاق
وظهور هاالت سوداء حتت عينيه من قلة عدد ساعات نومه ..وبدأت
الذعا من اجلميع وأنه
الصحافة يف اعادة النظر يف تقييمها ملستواه وتلقى نقدً ا ً
مجيعا وكام بدا عليه يف اليوم االفتتاحي للبطولة
مل يعد احلصان االسود كام ظنوا ً
وبعد العرض..
عصبيا وال يريد التحدث ألحدث وال ً كان ماجد حزي ًنا للغاية وبدا
تأنيبا من مدربه ..وإذا «بسامنتا» تدخل عليه مبتسمة
يتحمل ان يسمع نقدً ا أو ً
لدي حل رائع ملساعدتك يف استعادة مستواك..
ومشجعة له قائلة« :ال حتزن ّ
يقف اآلن بالباب أحد خرباء التغذية الرياضية ..ففي يده املفتاح وكلمة الرس
يف العودة لنفس مستوى اليوم األول ..وربام افضل بكثري ..وتصبح مرة اخرى
احلصان األسود وحديث النقاد»..
وقبل "سامانتا"
فرحا ..هنض من مكانه ّ
فتح ماجد عيناه دهشة مما يسمعً ..
وضمها إىل ذراعيه واص ًفا إياها باملنقذ ..وكم هي رائعة وهتتم بشئونه بدرجة
مذهلة ..ثم اضاف حمدثا نفسه ..أين فتيات مرص ..يرون كيف تكون معاملة
الرجل وكيف يكون االهتامم والدفع به لألمام إىل طريق النجاح ..إىل منصة
التتويج عيل الفور..
دخل خبري التغذية وفتح حقيبة واعطي ماجد بعض علب الدواء ً
قائل
إهنا عقاقري ومقويات وفيتامينات ..تعوضه عن نقس الربوتني الذي ال حيصل
222
عليه ماجد بشكل كايف للمساعدة يف بروز وتشكيل العضالت ..وكذلك
ً
تعويضا عن بعض األدوية التي سوف تساعده عىل الرتكيز واالنتباه جيدً ا..
قلة عدد ساعات النوم..
فرح ماجد بتلك العقاقري وبدأ عىل الفور يف تعاطيها ..ثم استعد
للخروج للتنزه مع «سامانتا» غري عابئ بالتدريبات ..حيث اصبح لديه من
العقاقري واملكمالت ما يكفيه ليستغني عن الذهاب إىل اجليم او مراقبة نظامه
عرصا..
ً الغذائي ..فله ان يأكل ما يشتهي وينام قرب الفجر واالستيقاظ
ً
حلول جلميع فسحر "سامانتا" ليس فقط يف مجاهلا ولكن يف االهتامم به وإجياد
مشكالته بخالف إمتاعه باخلروج والتنزه معها والذهاب ألماكن كان يصعب
عليه اكتشافها بمفرده..
جاء اليوم الرابع للبطولة ..استيقظ ماجد بصعوبة بالغة يف الصباح..
حيث مل حيصل عىل نصيب من النوم إال ساعتني فقط ..ثم تناول ً
بعضا من
تلك العقاقري التي سوف تساعد عىل الرتكيز وعقاقري أخرى ملساعدته يف
انتفاخ عضالته ..صعد إىل منصة العرض ..أدى العروض بصعوبة فلم يكن
يدري ماذا يفعل حتديدً ا ومل يلتزم بالرتتيب يف عرض عضالته ..وبعد العرض
ُطلب منه الذهاب للمعمل ألخذ عينة ..حيث وقع عليه االختيار وبعض
الرياضيني األخرين إلجراء اختبارات حتليل املنشطات..
كانت «سامانتا» يف انتظاره ..حاول االعتذار عن اخلروج معها لتعبه
الشديد وحاجته امللحة للحصول عيل قسط من الراحة واخللود للنوم ..لكنه
فشل أمام رقتها وإغراءاهتا له بأنه سوف يقيض وق ًتا لن ينساه طيلة حياته
223
وسوف يذهب إىل مكان جديد متا ًما حيث ال ختلو متعة واال جيدها حارضة
أمامه ..ونقلت اليه تعليقات احلارضين للعرض وهو فوق املنصة انه أدي أدا ًء
جيدً ا للغاية وأن عضالته كانت يف حالة مميزة ومنتفخة للغاية ..رضخ ماجد
إلحلاحها وذهب لقضاء اليوم معها..
***
224
قىض رشيف ومايا أمجل أيام حياهتام يف طرقات وشوارع چنوة لعدة أيام
بعدها ذهبا يف نزهة لعدة أيام يف روما العاصمة حيث الفنون واإلبداع وهو ما
كانت حتلم به مايا ً
دائم أن تزور التاريخ واملتاحف والكنائس ..فن التصوير
والنحت ..إبداعات مايكل انجلو ..دافنيش ..وأخرين ..وحضور عروض
األوبرا ..زيارة برج بيزا املائل ..واملرسح األوليمبي..
تناوال الطعام اإليطايل الشهي حيث استهال يومهام بتذوق القهوة
االيطالية يف الصباح مع بعض شطائر البيتزا يف الغداء ..وتوقفت مايا بصحبة
ً
طويل أمام رسامني يفرتشون األرض يف امليادين ويقومون برسم رشيف
لوحاهتم أو وجوه بعض املارة مقابل مبلغ زهيد من املال ..مستخدمني القلم
الفحم ..أو مشاهدة بعض عازيف اجليتار وهم يعزفون املقطوعات الشهرية..
كانت مايا يف قمة سعادهتا ..وسعادهتا برشيف كانت أكرب حيث كان هلا بمثابة
يوميا وصوهتا يرقص من
هدية السامء اليها ..وكانت حتادث اباها د .كامل ً
شدة الفرح..
باقي بضعة ايام عىل التحاق رشيف باملركب املتجهة إىل املغرب يف اويل
رحالته العملية كضابط بحري جتاري ..وأكثر ما كان يؤرقه هي مايا كيف
يرتكها ملدة اسبوعني يكون هو يف رحلة ..الذهاب والعودة ..يف تلك األثناء
225
ألتقى رشيف ومايا ببعض األصدقاء واجلريان وبدأت تتكون هلام صداقات
تساعدمها عيل االندماج يف املجتمع اإليطايل ..الذي يشبه إىل حد كبري املجتمع
السكندري الذي نشأت فيه مايا وقىض رشيف جزء كبري من حياته هبا..
اقرتح رشيف عىل مايا ان تلتحق بإحدى املدارس لتعلم اللغة اإليطالية..
ً
وأيضا كي ال تشعر بامللل يف غيابه وربام يصبح هلا أصدقاء ..يؤنسون وحدهتا
حلني عودته ..وكانت تلك فكرة جيدة للغاية ..حيث استفادت منها مايا
ألقىص مدى..
تعلمت اللغة اإليطالية واستطاعت ان تكون بعض مجل وكلامت
ً
وأيضا أصبح هلا عدد ال بأس به من تساعدها عىل احلياة وقضاء مصاحلها
جنسيات خمتلفة ممن يدرسون معها اللغة اإليطالية ،وكذلك بعض من اجلريان
اإليطاليني ..وبتبادل احلديث معهم زاد اتقاهنا للغة أكثر وأكثر..
***
226
استطاعت مروة إقناع نادل يعمل بالكافيرتيا الرئيسية بالنادي وبأغرائه
بالكثري من املال أن يكون ذراعها اليمنى يف النادي وإن كل من يريد رشاء
الكوكايني سوف يأتيه بكلمة رس متفق عليها ..فيقدم له اجلرعة بجانب
املرشوب الذي يطلبه حني جلوسه بالكافيرتيا ..وبدأ النادل عمله بإتقان
شديد وكان له زبائن من الرجال والنساء ..
ثم استطاعت مروة من إقناع ً
رجل آخر يعمل يف مراقبة محام السباحة
ومن يرتاده وبمجرد حصوله عىل مبلغ كبري من املال أبدى انصياعه الشديد
واستعداده التام لعمل ما يطلب منه مقابل استمرار تدفق املال عليه حيث كام
علمت مروة إنه عىل عالقة بفتاة تقدم خلطبتها منذ ثالث سنوات وال يستطيع
امتام زواجه لضيق ذات اليد وضعف راتبه..
هنارا ويقوم بالتوزيع ً
ليل مع بعض أعوانه.. عالء يعمل يف متجر املالبس ً
ويف إحدى املرات جاءه أحد الرجال املوردين لشحنات املخدرات له وملروة
زوجته أخربه فيها أن العمل تطور لدهيام وإهنام ابتدعوا طر ًقا جديدة للتهريب
وعليه ان يتدرب عليها حيث يتم إخفاء الكوكايني يف نعول األحذية الرياضية
وداخل بعض املالبس ،وبام إنه لديه متجر للمالبس اجلاهزة فمن الطبيعي
227
واملنطقي أن يقوم باسترياد ً
بعضا من تلك املالبس بشكل طبيعي وتدخل
البالد دون لفت االنتباه..
لكن املشكلة لدهيم أن تلك املالبس املحشوة بالكوكايني يتم جتهيزها يف
املغرب ..واملغرب أصبحت حمط انتباه رجال اجلامرك ورجال مكتب مكافحة
املخدرات ..فيجب نقلها إىل بلد آخر بشكل شخيص وليس عن طريق
الشحن ..ومن ثم يعاد شحنها من تلك البلد إىل مرص ..
ثم استطرد قائال" ..وقد علمنا أن ملروة صديقة هلا اخ يعمل ضابطا بحريا
يف ايطاليا وإن رحالت املركب التي يعمل عليها تتجه إىل املغرب وعلمنا ً
أيضا
أن هذا الرجل كان صديقًا لك يف يوم من األيام ..فكل ما هو مطلوب منك
اعادة هذه الصداقة وأحيائها مرة أخرى ..عن طريق االتصال به وهتنئته
بالزواج وإنك ال تريد أن خترسه كصديق وامنياتك بعودة صداقتكام من جديد
ونسيان ما حدث من قبل»..
"وتستطيع يا عالء أن حتصل عىل رقم هاتفهم يف إيطاليا والربيد
االلكرتوين اخلاص به من زوجتك مروة حيث هي تتواصل مع اخته نورا
ويمكن ان تسأهلا بسهولة عن كل تلك املعلومات بغرض اخلري وعقد الصلح
بني عالء ورشيف»..
أطال عالء النظر للرجل فا ًحتا فاه غري مصدق ما يسمعه ..كيف هلم بمعرفة
كل هذه املعلومات بتفاصيلها ..صديقه السابق وما حدث بينهام ..عمله يف
إيطاليا ..صداقة زوجتي مروة بأخته نورا ..من هؤالء الناس كيف عرفوا كل
228
تلك املعلومات ..لكن الفكرة اعجبته ..وأكثر ما أعجبه فيها ان يرشك رشيف
صاحب املبادئ ..وال يصح إال الصحيح ..يف هتريب الكوكايني..
وبدأ الرجل يف رشح خطة العمل لعالء بكل التفاصيل ..كيف يوطد
عالقته برشيف وكيف يطلب منه أن يقابل أحد رجاهلم يف املغرب واحلصول
منه عىل بعض املالبس يف حقيبة لتساعد عالء يف متجره ونجاح مرشوع
املالبس اجلاهزة فيكون عمل خري ومساعدة صديق بدون كذب كام طلب منه
عالء يف السابق وكان هذا سبب القطيعة بينهام..
عندما عادت مروة من النادي حيث أصبحت تتواجد هناك بشكل يومي
لالهتامم ومتابعة السوق اجلديد للتوزيع التي قامت بتكوينه داخل النادي
وأعضائه جلست مع عالء جلسة مطولة ..رشح هلا فيها ما دار بينه وبني ذلك
الرجل وما هو دورها بالتحديد وأن عليها تنفيذ مجيع التعليامت بكل دقة
واتقان..
زاد محاس رجال مكافحة املخدرات وزاد معه صربهم عىل عالء ومروة
ً
وأيضا معرفة أفراد االستطاع بإيقاع أكرب عدد من املتاجرين بتلك السموم
الشبكة الدولية باملغرب ولبنان ..ومتابعة مالحقتهم بالتعاون مع البوليس
الدويل..
***
229
ً
اتصال من العميد فؤاد والدها ووالدهتا ..يطمئنان عليها تلقت نورا
وإهنام يفتقداهنا ويتمنيان هلا السعادة ..كانت نورا تسمعهام ودموعها تنهمر
بال توقف ولكن بدون مههامت أو أي صوت ..وأخربهتم اهنا بخري وسعادة
وطلبت منهام الدعاء هلا..
بعدها تلقت نورا أعنف انواع التوبيخ من احلاجة نعامت تلومها عىل
تركها بال طعام افطار وانشغاهلا باهلاتف طوال الوقت وأن عليها جتهيز طعام
الغداء بعد ذلك باإلضافة إىل األعامل املنزلية األخرى ..وبينام هي تستمر يف
وصالت اللوم والعتاب الذي يصل يف بعض االوقات إىل درجة السباب..
غضبا قائلة ..تاين..
ً دق هاتف نورا مرة أخرى فاستشاطت احلاجة نعامت
تليفونك امللعون ده تاين ..لن اتناول أفطاري بسببك أنت ومكاملاتك ..ربنا
يأخذك انت واليل بيتصل َ
بيك..
جانبا ..لرتد عىل مروة حيث ظهر اسمها عىل اهلاتف ..كي
انزوت نورا ً
ال تسمع ما جيرح أذناها ..ولكي ال تعرف مدى الشقاء والبؤس الذي تعيشه
نورا مع تلك السيدة امللقبة باحلاجة نعامت ..كيف تكون حاجة ويصدر منها
كل هذه االفعال والكلامت القبيحة..
230
ً
طويل مع مروة ..حيث طلبت مروة من نورا أن تقابلها يف حتدثت نورا
أمر هام فاعتذرت نورا متعللة بأهنا ال تستطيع ان ترتك والدة ماجد وحدها..
فهي حتتاج إىل وجودي بجانبها ..فلم تكن نورا تكذب حيث كان هذا هو
سببا آخر خفي ..منع نورا عن مقابلة
السبب احلقيقي الظاهر ..لكن كان هناك ً
مروة هي خشيتها ان تقدم اليها مروة جمموعة أخرى من اجلرائد التي هبا اخبار
ماجد مع احلسناء األوروبية وهم يف وضع أكثر محيمية ..فلربام تنهار أو متوت
وكم االهانات التي تتعرض هلا من
حرسة ليست عىل ماجد ولكن عىل نفسها ّ
كل اجلوانب..
يشء ما داخلها كان يشعرها أن مروة تريد التشفي فيها ..وأهنا سعيدة
بأخبار ماجد وصوره وليس كام تظهر من تأثر ..بأن الرجال كلهم خائنني..
فبعد اعتذار نورا ورفضها اخلروج إىل النادي للقاء مروة اضطرت مروة
ان تفصح هلا عن طلبها عرب اهلاتف اخربهتا أن عالء يفتقد صديقه رشيف
كثريا لقطع العالقات بينهام وهو يريد أن يستعيد صداقته مرة أخرى،
وحيزن ً
وخاصة بعد علمه بخرب زواجه باإلسكندرية فهو يريد رقم هاتفهم بإيطاليا
وكذلك عنوان الربيد اإللكرتوين اخلاص برشيف ..فهو عمل خري وجيب أنا
ِ
وأنت يا نورا أن نشرتك فيه ..الصلح بني زوجي وأخيك..
بالطبع مل تد ِر نورا ما يدور يف اخلفاء وراء كل مجل ومكاملات مروة املغلفة
بالعسل اخلارج من فم افعي فكيف ألفعي أن تدر ً
عسل ..فبالتأكيد هو السم
الناقع يف قارورة حلفظ العسل..
231
فرحت نورا باالشرتاك يف الصلح بني أخيها وصديقه القديم والذي هو
يف نفس الوقت زوج صديقتها ..وعىل الفور أرسلت هلا رسالة هبا رقم اهلاتف
يف إيطاليا وكذلك الربيد اإللكرتوين..
***
232
حرض اليوم اخلامس يف بطولة كامل األجسام بأوكرانيا ..وماجد يف حال
اسوأ من ذي قبل ومستواه يف تراجع ..لكن ثقته يف العقاقري كبرية إىل حد جعله
هيمل التدريبات متا ًما واعتمد فقد عىل التعويض عن نقص اللياقة والتغذية
بالعقاقري ..وكانت «سامانتا» دائمة التشجيع له واقناعه انه يف حال افضل وأنه
سوف يكون من األبطال ..وعىل اجلانب اآلخر مل يتوقف مدربه عن حتذيره له
مبكرا واالهتامم
أنه عليه االبتعاد عن تلك الفتاة والرتكيز يف التدريبات والنوم ً
باجلانب الغذائي ..والبعد عن أي عقاقري حيث هو ال يعلم ما هي تركيبة تلك
العقاقري واملواد املستخدمة هبا أهي مسموح هبا للرياضيني أم ممنوعة..
وبالفعل ما خيش منه مدربه قد حدث حيث ظهرت نتيجة حتاليل العينة
التي اخذت من ماجد من قبل ولألسف النتيجة هذه املرة «إجيابية" أي إهنا
اثبتت تعاطيه للمنشطات وهذا أمر جلل يف األوساط الرياضية ..حيث يعد
بمثابة التزوير أو اخلداع والتزييف حيث يتعاطى موا ًدا منشطة جتعله يتفوق
عىل أقرانه املنافسني يف البطولة وهو ما جيرمه القانون الدويل للعبة ..وكانت
فضيحة مدوية يف مجيع وسائل اإلعالم حيث حتدثت عن تعاطي ماجد
هم بالبحث عن «سامانتا» التي اختفت
للمنشطات املحظورة ..وفور علمه َّ
233
من جواره ليسأهلا عن تلك العقاقري ومفعول السحر الذي من املفروض أن
جيعله من املنافسني عىل املراكز األويل..
اختفت «سامانتا» ووجد ماجد نفسه وحيدً ا ..وتعرض للخضوع
ـرارا بحقه ..وبالطبع ُمنع من إكامل العروض
للتحقيق حلني إصــدار قـ ً
واالستمرار يف املنافسة بالبطولة..
وهنا تظهر مروة مرة أخرى لتستمر يف التشفي وإبالغ نورا بآخر األخبار
وبفضيحة ماجد األخالقية وسقوطه املدوي وأصبح لقبه اجلديد ً
بدل من
احلصان األسود إىل الريايض األسوأ ..ومل ترمحه صفحات اجلرائد واملجالت
التي جمدته يف أول يوم ..هي نفسها حتدثت عن تعاطيه املنشطات املحظورة..
قرارا من اللجنة املنظمة واالحتاد الدويل بإيقاف ماجد عن
بعدها صدر ً
ممارسة أي رياضة ملدة أربعة سنواتُ ..قىض عىل ماجد كريايض..
تلقى رشيف مكاملة عىل هاتفه قبل سفره بيومني حيث كانت من عالء
يطلب منه نسيان ما مىض وأن يبدآ صفحة جديدً ا وأنه طاملا اختذه صديقًا
مقر ًبا ..وال يريد التفريط يف تلك الصداقة ..ثم هنأه بالزواج والسفر والعمل..
فرح رشيف بمكاملة عالء وفرح باستعادة صديقه القديم أحد اعضاء
الشلة ..وفرح أكثر بعودة عالء إىل رشده او كام ظن رشيف ..وبعدها تظاهر
عالء بعدم معرفته عن عمل رشيف فحكى له رشيف خط سريه وأنه سيبحر
إىل املغرب ثم العودة إىل إيطاليا وبعدها يعود مع مايا إىل مرص يف أجازة لزيارة
األهل ثم العودة مرة أخرى إىل ايطاليا..
234
وبعدما استمع عالء اليه باهتامم طلب منه ان كان رشيف يستطيع اسداء
خدمة إليه تساعده يف عمله اجلديد يف املالبس اجلاهزة ..إنه اتفق مع احد
التجار املوردين للمالبس باسترياد بعض قطع املالبس فإذا كان باستطاعة
رشيف مقابلته وإحضار حقيبة املالبس منه..
كبريا ووافق أن يكون عونا لعالء يف اويل خطواته يف
ابدى رشيف تعاونا ً
متجره اجلديد..
التحقت مايا بمدرسة تعليم اللغة االيطالية وكانت سعيدة للغاية واصبح
هلا اصدقاء من بلدان خمتلفة يدرسون اإليطالية مثلها..
جاء يوم سفر رشيف ..شعرت مايا منذ صباح ذلك اليوم كأن روحها
تغادرها ببطء ..أمجل من يف احلياة ..احلياة نفسها ..رشيف يغيب أسبوعني..
اسبوعان حتبس فيها األنفاس وتتوقف احلياة ..نعم بدون رشيف ال حياة
ولكني عاهدته أن أتفوق يف دراسة اللغة وأخرج للتنزه يف البلدة ..اكتشف
شوارعها ..حدائقها ..وعاهدته ً
أيضا أن أتقن طبخ بعض األكالت اإليطالية
التي حيبها وأتقن ً
أيضا عمل قهوة الصباح الذي يفضلها رشيف وورث حبها
من والده العميد فؤاد..
أبحرت مركب رشيف بعيدً ا عن امليناء وبدا أول عهده بالعمل تعرف عىل
افراد طاقم السفينة وكون عالقات طيبة معهم ..اجلميع أحبه ألدبه الشديد
وحسن خلقه بجانب اجتهاده يف العمل وااللتزام بجميع التعليامت وطاعة
رؤساءه وقبطان السفينة ..وما أن وصلت املركب إىل ميناء «طنجة» قبل رحلة
العودة فكان يريد رشاء اهلدايا ملايا وأبيه وأمه ونورا ..وهو يف طريقه للخروج
235
من امليناء واثناء مروره باجلوازات تعرف عىل أحد العاملني بمنطقة اجلوازات
ً
بشوشا اسمه «سعيد» ..وما ان عرف «سعيد» ان مغربيا
ً والتفتيشً ..
رجل
رشيف الضابط البحري عىل املركب القادمة من جنوة مرصي اجلنسية فرح
ورحب به أشد الرتحيب وحادثه بالعربية إنه ممتن لرؤيته حيث أخو "سعيد"
األصغر يدرس يف القاهرة يف األزهر الرشيف وأنه زار القاهرة ثالث مرات وله
أصدقاء كثر هناك ..وسأل رشيف أن كان يريد أي مساعدة أن يطلب ويلجأ
اليه عىل الفور ..جلسا سويا حوايل الساعتني تبادال فيها األحاديث حيث
كان سعيد قد اهني عمله فمكث مع رشيف يف كافيرتيا بامليناء قبل الذهاب
إىل البيت ..وقام «سعيد» بدعوة رشيف إىل الغداء معه وصمم عىل أن يقبل
رشيف الدعوة ..وبعدها سوف يصطحبه ألخذه يف جولة باألسواق لرشاء
رائعا استمتع به رشيف للغاية
مغربيا ً
ً ما حيتاجه من هدايا ألرسته ..كان غذا ًء
حيث كان رشيف يعشق االسامك منذ ان كان يقيم باإلسكندرية فوجد ما لذ
وطاب من الطعام املغريب الشهي واصناف االسامك املتنوعة وكذلك احللوى
املغربية الشهرية ..ثم بعد الغداء بدأت جولتهام يف مدينة طنجة الساحلية حيث
زار األسواق وقصبة غيالن ..ثم اختتام الزيارة بسوق الداخل..
كان رشيف سعيدً ا للغاية بتلك اجلولة الرائعة وسعيد أن اكتسب صداقة
«سعيد» ..حيث شعر أنه يعرفه منذ زمن ..ومتنى رشيف لو كانت مايا بصحبته
حيث هي تعشق الفسيفساء وما أكثرها يف األماكن العامة وداخل املنازل..
ثم جلسا عىل إحدى املقاهي واحتسى رشيف الشاي املغريب بالنعناع وكان
236
جو املدينة رائع حيث تقع بني البحر املتوسط واملحيط األطلنطي عىل الطرف
الغريب جلبل طارق..
وخالل جولته وبعد عدة مكاملات من رشيف ملايا ووالده العميد فؤاد
وأمه مدام كريمة تلقي رشيف مكاملة من عالء من القاهرة وبعد الكثري من
السالمات دخل عالء مبارشة يف طلبه أن طلب من رشيف أن يقابل أحد جتار
املالبس اجلاهزة التي يتعامل معهم عالء ويتلقى منه شحنة صغرية من املالبس
عىل احدث صيحات املوضة يف داخل حقيبة وعليه أن يعود هبا إىل إيطاليا ثم
حيرضها معه إىل القاهرة..
أبدى رشيف موافقته عىل الفور حيث كان سعيدا بعودة عالقته بعالء إىل
ما كانت عليه من قوة قبل حدوث اخلالف بينهام..
وبالفعل بعد أقل من ساعة تلقى رشيف مكاملة من أحد األشخاص
املغاربة خيربه فيها أن لديه حقيبة له ختص عالء تقابال يف حضور «سعيد» وأخذ
رشيف احلقيبة واهنى جولته ويف املساء قام سعيد بتوصيله إىل امليناء والدخول
معه حتى سلم املركب حيث كان سعيد معرو ًفا بامليناء لطول فرتة عمله هناك
ً
وأيضا لطبيعته املرحة وصداقته مع اجلميع..
وكالعادة داخل امليناء البد أن يعرب بوابات األمن وأماكن التفتيش
والتأمني ..مر سعيد وخلفه رشيف ووضع حقائبه وما معه من هدايا
عىل احلزام اخلاص بنقل احلقائب للكشف عليها ،وإذا باملراقبني األمنيني
يستوقفون رشيف وحقائبه ويطلبون تفتيش مجيع احلقائب اخلاصة به وخاصة
حقيبة املالبس اجلاهزة املراد إيصاهلا إىل عالء..
237
قام فريق متخصص بتفتيش احلقائب واالستعانة ببعض الكالب
البوليسية املدربة حيث انقض زوج من الكالب عىل حقيبة عالء..
اصطحب الفريق االمني رشيف واحلقيبة وقاموا بتفتيشها جيدً ا وكان
معه سعيد ..أكياس مستور عالء ..وجد الفريق األمني أكياس الكوكايني يف
داخل املالبس يف اماكن رسية ..وبالطبع كان رشيف هو املسئول عن احلقيبة..
وتدخل سعيد ليرشح هلم انه كان شاهد عيان عىل تلقى رشيف للمكاملة من
َّ
عالء وبعدها تاجر املالبس اجلاهزة املغريب والذي تقابل مع رشيف بصحبة
سعيد حيث ال يعرف رشيف ما بداخل احلقيبة ومن فرط أخالقه وأمانته مل
يقم رشيف بفتح احلقيبة للتأكد من حمتوياهتا..
مدبرا لرشيف دون علمه حيث
أدرك البوليس املغريب ان االمر ربام يكون ً
يكون ً
ناقل للمخدرات دون أن يدري ماذا حيمل ..فهم معتادون عىل تلك
االساليب من املهربني حيث ً
دائم ما يلجؤون إىل وجوه جديدة غري معروفة
لدى الرشطة ..وكتم عنهم خرب وحقيقة ما حيملون..
قام البوليس املغريب بعمل اتصاالته بالبوليس املرصي والبوليس
الدويل ..وجاءت اإلجابات والردود يف صالح رشيف حيث أخربهم رجال
رشطة مكافحة املخدرات إهنم عىل علم بكل التفاصيل ولدهيم تسجيالت
تثبت تورط عالء وسذاجة رشيف وعدم علمه أو اشرتاكه يف هذه األعامل
اإلجرامية ..وتم التنسيق واالتفاق بني رجال الرشطة يف كال البلدين أن يكمال
التمثيلية لكن دون تعريض رشيف للخطر ..حيث استبدلوا احلقيبة بأخرى
مشاهبة وأعطوها لرشيف واعتذروا له عن اخلطأ ..وكانت احلقيبة البديلة
238
هبا مالبس دون وجود أي خمدرات حيث يستطيع رشيف العودة إىل إيطاليا
واخلروج منها إىل مرص دون مشاكل..
وتم إرسال احلقيبة األصلية إىل السلطات املرصية حيث تستبدهلا عند
دخول رشيف إىل مطار القاهرة دون أن يشعر وعند مقابلة عالء باحلقيبة يتم
مجيعا يف حالة تلبس ويكون اعتبار رشيف جمرد شاهد ملك يف
القبض عليهم ً
القضية ..هذا ما اتفق عليه رجال الرشطة يف البلدين وبعد موافقة رؤسائهم
وطلب من سعيد الكتامن وأال يطلع رشيف بأي يشءبالطبع ..وبدأت اخلطة ُ
حتى ال يرتبك وتفسد خطتهم..
***
239
يف مطار القاهرة عاد ماجد وحيدً ا جير أذيال اخليبة والعار بعد ثبوت
تعاطيه للمنشطات وحرمانه من البطولة وطرده من اوكرانيا ومعاقبته بعدم
االشرتاك يف أي بطولة حملية أو دولية ملدة أربع سنوات كاملة..
يف داخل املطار مل جيد احدً ا يف انتظاره من إدارة النادي أو أصدقائه حيث
أصبح منبو ًذا ..وشعر إنه سوف يعامل مثل املزورين واملرتشني وشعر بالندم
عىل انجرافه وراء تلك احلسناء األوروبية اخلبيثة اخلائنة ..فهي أول من تركته
وختلت عنه بمجرد أن فقد عرش نجوميته وبسبب هلثه وراءها ..أضاع كل
يشء ..بداية الطريق ..ضاع الطريق ملاذا مل يستمع لنصائح مدربه؟ ملاذا مل جيرب
أن يبتعد عنها؟ ملاذا رأي فيها أكثر من زوجته أو أي امرأة مرصية ..الشعر
األصفر ..العينان الزرقاوان ..ولكن كم يساوي كل هذا بدون إخالص..
بدون صدق يف املشاعر بدون املساندة والدفع لألمام..
غرق ماجد ..وضاعت كل أحالمه ..مل يعد له يشء ..وظيفته ال تكفي
ً
مسئول عن بيت ..زوجة وربام أطفال ..وما هو موقف النادي راتبها أن يكون
واحتاد اللعبة منه ..يف الغالب سوف يتم حتويله للتحقيق ويمنع من دخول
النادي ..النادي الذي شهد مقابلة نورا وأحىل أيام حياته وحبه لنورا ..نورا
تليفونيا
ً املخلصة املثابرة الصابرة اخلادمة ألمه ..ماذا يقول هلا وهو مل حيادثها
240
زوجا سي ًئا وعاملها اسوأ معاملة وبالتأكيد إهنا عرفت
ولو مرة واحدة ..كان ً
إخباره وشاهدت صوره مع «سامانتا» يف اجلرائد بامذا يربر فعلته ..كم هو ندل
خائن ..مهمل ..غري أمني عليها ..رغم أن وصية والدها العميد فؤاد الوحيدة
ان يضع نورا يف عينيه وهيتم هبا ويسعدها وال هيمل أمرها مطلقًا..
ماذا يقول لسيادة العميد ..لن جيد إال كل احتقار وإهانة من اجلميع..
فاشل ..أنا فاشل ..مطرود من جنة البطوالت وحمروم من نعيم التتويج بأي
ميدالية..
***
241
حتركت مركب رشيف يف طريقها لإلبحار عائدة إىل ميناء جنوة
اإليطايل ..كم يشتاق ملايا ..وكم ستفرح باهلدايا والصور التي التقطها هباتفه
لألماكن الرائعة واجلميلة يف مدينة طنجة الساحرة ..وصديقه اجلديد "سعيد"
كم هو رائع ومل يرتكه حلظة واحدة ..إىل أن عاد ..كم يتمني رشيف أن يرد
إليه املعروف وأن يستضيفه يف مرص وأخيه ً
ايضا ..وماذا عن تلك احلقيبة التي
ختص عالء ملاذا قامت الرشطة بتفتيشها ..ماذا كانت تشك فيه ..لكن كل يشء
سار عىل أفضل حال ..وبالطبع مل يكن رشيف يعلم أن احلقيبة التي يف حوزته
هي احلقيبة البديلة وأن األصلية يف حوزة الرشطة بميناء طنجة..
طلب أحد أعضاء الشبكة التي يعمل هبا عالء ومروة االجتامع هبام ألمر
هام وحدد هلام مكان االجتامع بأحد الفنادق املطلة عىل النيل ..وبالفعل حرضا
يف املوعد و تبادال األحاديث العامة ثم تطرقا للحديث عن عملهم يف توزيع
الكوكايني وكيفية تسيري األمور ..وبعد ان استمع الرجل لعالء وما يقوم به
وبعده استمع إىل مروة واألسواق اجلديدة التي تسعى لفتحها يف النادي وغريه
مؤخرا اتته
ً اخربهم ان هلم اعوان يف الرشطة إلبالغهم بأي خطر حييق هبم وأنه
إخبارية أن رشطة مكافحة املخدرات ورجال مباحث األموال العامة جيرون
حتريات عن عالء ومروة واهنم حيومون حوهلام من بعيد..
242
اخربهم إنه حتى هذه اللحظة األمور تبدو جيدة لكن ال يعلم أحد ما
سوف حيدث يف املستقبل لذلك وجب عليهام احلذر الشديد ..ثم قام بإعطاء
بعض التعليامت والنصائح هلام كي تساعدهم يف عدم إثارة الشبهات حوهلام،
وأهنام البد وأن يكونا بعيدين عن مرسح األحداث من عملية البيع والتوزيع
فهذه املسألة يقوم هبا من دوهنم من مساعدين كي يبقيا مها يف أمان..
أثارت تلك الكلامت خماوف مروة حيث هي اعتادت عيل احلياة الرغدة..
البيت الفخم والسيارة الفارهة وحساب البنك امليلء باألرقام الكبرية ..وأهنا
ال تريد العودة أليام مثل اليوم الذي دخلت فيه إىل املول لتكون فقط متفرجة
وأقىص ما استطاعت فعله هو رشاء كوب من القهوة بالكراميل التي ال تنسى
طعمها حتى اآلن ..وبعد أن صارت من األغنياء فهذه القهوة يف تلك الليلة
حتديدً ا هلا مذاق خاصً ..
فدائم املحروم يرى األشياء ويتذوقها بشكل خمتلف
متا ًما عمن هو معتاد عليها..
تتذكر أول رشفة ..كم كانت مليئة ..غنية بمذاق قهوة خمتلف عن أي
قهوة قد تناولتها من قبل ..واللبن يأخذ شكل السحاب فوق قرص الشمس..
وعليها خيوط من صوص الكراميل املتشابك ليصنع مزجيا ونسيجا حلو
املذاق بطعم السكر ..ومل تكن تعلم أن القهوة ممكن أن يوضع عليها كراميل
ولبن مثل القطن والسحاب ..وتناولت معها قطعة من الكوكيز ..مقرمشة من
اخلارج ..ناعمة من الداخل ..وهبا قطع من الشكوالتة التي مل تذوب فيها لكن
تذوب يف فمك بمجرد أن تضعها فيه ..ما هذا الطعم ..شعرت أهنا يف اجلنة..
243
وبعد أن أصبحت من األغنياء ذهبت ذات مرة إىل املكان ذاته وجلست
عىل نفس الطاولة ..وطلبت نفس نوع القهوة بالكراميل ونفس قطعة
الكوكيز ..وبدأت يف احتساء القهوة وقضم قطعة من الكوكيز ..لكن املذاق
كان خمتل ًفا متا ًما ..املكان هو املكان ..والقهوة واحللوى ..هي ..هي ..لكن
من الواضح أن املعاناة يف احلصول عىل املال وضيق ذات اليد جيعل مذاق كل
يشء يستمر آلخر العمر ..كالزوجة األوىلً ..
دائم هي التي تبقى يف الذاكرة و
ال تنسى ..مهام تزوج االنسان من مرات عديدة..
استفاقت مروة وصوت الرجل اجلالس بجوارها وعالء ..يؤكد عليها أن
تأخذ حذرها جيدً ا وإال ضاع كل يشء..
وصلت تلك اجلملة إىل مسامع مروة« ..ضاع كل يشء» ..فأصابتها يف
مقتل ..وسهام تلك الكلامت املرتاشقة احدث ثقو ًبا يف جسدها ..ضاع كل
يشء ..ما معني هذا أن تعود كام كانت أال تكون اهلانم ..تفقد البيت املريح
واخلادمة ..لن تقود سيارة فارهة وتكون حمط إعجاب وأنظار اجلميع ..أن
تفقد عضوية النادي وتتسول من يساعدها يف ارتياده بدون عضوية وتعود
للعيش مع أباها عم زكريا سائق احلافالت ومرتاد سور األزبكية بكتبه
الصفراء القديمة ..يا له من كابوس..
انتفضت مروة عدة مرات ..شعرت بالذعر الشديد ..شعرت بالغثيان
كأن كلامت هذا الرجل أصابتها باحلمى يف احلال..
***
244
أدار ماجد مفتاح البيت وعىل وجهه مهوم الكون وكآبة الدهر ..فتح
الباب وكأنه كان باألمس ليجد أمه احلاجة نعامت يف نفس جلستها والطاولة
مرتبا
أمامها مليئة باحللوى واملكرسات كالعادة ..ولكن اجلديد ان وجد بي ًتا ً
أنيقًا ..األثاث ..السجاد .البيت به يشء مجايل خمتلف ..صار أمجل ..له ملسة
انثوية ..آه ..إهنا نورا ..أكيد نورا التي أسأت معاملتها وأمهلتها لدرجة أخشى
منها أال تغفر يل جفائي..
وقبل يدها ..اهنالت عليه احلاجة نعامت باألسئلة
ألقي التحية عىل أمه َّ
عن صحته وعن أيام السفر والبطولة وامليداليات واهلدايا ..أين هدايا تلك
البلد التي كنت فيها ..أمل يكن يبيعون احللوى ..أين ما وعدتني به من مالبس
ومأكوالت..
مل يكن ماجد يسمع حر ًفا مما قالته أمه ..كانت عيناه تتجوالن يف أركان
وأخريا خفت صوت أمه قائلة ..آه ..تبحث عن نورا التي
ً وغرف البيت..
اتعبتني وأمهلتني وزادت من ارتفاع ضغطي ..إهنا يف الرشفة تقوم بتعليق
املالبس عىل احلبل ..تردد ماجد يف الذهاب إىل الرشفة ..كان يشعر بخجل
وخيبة أمل مل يشعر هبا طيلة حياته ..فنورا ال تعلم موعد حضوره ..ال تعلم
أن طائرته هبطت أرض املطار وأنه غادر املطار وأنه داخل البيت عىل بعد
245
خطوات منها وهي ال تعلم ..أي زوج هذا ..زوجة ال تعلم شي ًئا عن زوجها
سوى صوره ويده ملتصقة بيد احلسناء األوروبية ذات العينان الزرقاوان..
سار ببطء إىل الرشفة يف اللحظة التي كانت نورا تغادر الرشفة إىل الداخل
حيث انتهت من تعليق املالبس ..وجدته أمامها فجأة بجثته الضخمة ووجهه
متجهم ال يعرف لالبتسامة طريق .قال :زوجتي حبيبتي نورا ..نظرت نورا
إليه ..مل تصدق ..أنت هنا ..منذ متى؟
أنا ..أنا ..زوجتك ..حبيبتك نورا ..ال أعلم ..صعب ..صعب ..ثم
مغشيا عليها..
ً ارمتت عىل األرض
***
246
كانت مايا تنتظر رشيف يف رشفة صغرية مطلة عىل الشارع الرئييس..
وبعد حلظات ملحت سيارة أجرة تقف أسفل املنزل ينزل منها حبيبها ..رفيق
درهبا صاحبها ..نديمها ..رشيف ..شعرت أن احلياة بدأت تعود إليها من
جديد وأن الدفء بدأ يعرف طريقه إىل قلبها ..فقد كانت حياهتا شبه متوقفة
إىل أن يعود مصدر طاقتها ..مصدر سعادهتا ..غذاء روحها احلقيقي..
ً
دائم يقولون أن املوسيقى هي غذاء الروح ..ولكن مايا كانت تقول دو ًما
ان رشيف هو غذاء الروح..
ً
حامل جمموعة من احلقائب واألكياس البالستيكية دخل رشيف املنزل
الضخمة وما أن دخل وضع كل يشء عىل األرض ووجد مايا تقفز لرتمتي
بني يديه داخل أضالعه ..تلمس قلبه بيدها وتعزف عىل أوتار روحه ومفاتيح
ً
طويل ..مل يشعرا بالوقت ..زاد حب مايا وتضاعف يف قلبه قلبه ..عانقها عنا ًقا
مئات املرات ..ومل يشعر بوجع وأمل البعد إال عندما كان يف طريقه إليها..
مايا ..تزامحت يف وجهها دموع وابتسامات ..آهات مع رصخات فرح..
ً
طويل ..قص رشيف عىل مايا كل تفاصيل رحلته منذ ان غادر املنزل جلسا
إىل رحلة الباخرة عرب البحر املتوسط إىل ميناء طنجة باملغرب إىل لقاء سعيد
والتفتيش الذي تعرض له يف ميناء طنجة حتى وصوله اليها ..واتفقا أن يكون
247
ميعاد عودهتم بعد أربعة أيام إىل القاهرة للقاء األحباب ..العميد فؤاد ووالدته
ونورا اخته بعدها التوجه إىل االسكندرية لإلقامة هناك يف اإلجازة ولقاء د.
كامل والد مايا ولكن قبل الذهاب إىل اإلسكندرية عىل رشيف أن يقابل عالء
ليعطيه حقيبة املالبس التي احرضها من املغرب إليه..
يف تلك األثناء كثف رجال مباحث مكافحة املخدرات مع األموال العامة
تتبعهم لنشاط عالء ومروة ومراقبة أماكن التوزيع واألشخاص املتعاونني
معهم ..وكذلك مراقبة حساباهتم البنكية وهل هي يف بنك واحد أم موزعة
يف أكثر من بنك..
قام الطبيب بحقن نورا حقنة مهدئة تساعدها عىل النوم والراحة ..كانت
نورا نائمة والدمع ينهمر عىل وجنتيها يف مشهد غريب فهي غائبة عن الوعي
متا ًما ومع ذلك عيناها ال تكف عن البكاء ..مسكينة نوراُ ..ظلمت وحتطمت
عىل صخرة من ال قلب له ومع أمه املنزوعة الرمحة واحلنان..
فرحا بعد مكاملة رشيف ومايا وأنه باقي أيام
كان العميد فؤاد أشد الناس ً
معزة خاصة يف قلب سيادة العميد
قالئل عىل حضورمها للقاهرة ..فكانت ملايا َّ
يعدوهنا االبنة الثانية بجانب نورا..
ومدام كريمة ..فهام ُّ
ويف تلك االثناء كانت الرشطة يف مرص تتابع وصول رشيف مطار القاهرة
لتقوم بتبديل احلقيبة قبل تسليمها ملن حيرض الستالمها من رشيف ..ربام عالء
بنفسه أو أحد العاملني لديه إلبعاد عالء عن أي مناطق خطر..
عقد عالء جلسة عمل مع مروة تبادال فيها األحاديث عن كل ما يقومان
به من توزيع ثم تطرقا إىل حساباهتام يف البنوك وافصح عالء ملروة عن رغبته
248
هنائيا ..ويكفى ما قد مجعه من مال
عن التوقف عن هذا العمل وتلك التجارة ً
فهو ٍ
كاف وزائد عن احلد ..وأنه يستطيع أن يركز جمهوده يف متجر املالبس
ويريد من مروة ً
أيضا التفكري يف التوقف والتفرغ للبيت ..أو العمل معه يف
املتجر إذا أرادت ..وأعرب هلا عن قلقه مما سمعه من ذاك الرجل عن خرب قيام
املباحث بعمل حتريات عنهام..
وأضاف ً
قائل أنه ال يريد ان خيتتم كل ما قام به بحامقة تزج به إىل ما وراء
القضبان ..وأنه يفكر يف إصالح حياته اخلاوية من أي متعة ..يتمنى أن يصلح
عالقته بأبويه واالعتذار هلام وطلب السامح والغفران من أمه حتديدً ا ويتمنى
أن يصبح أبا وأن تنجب له مروة ولد أو بنت حيمل اسمه ويكون امتدادا له..
استمعت اليه مروة وبدأت تتأثر بكالمه ..ولكنها اشرتطت أن تقوم
بعملية كبرية تربح منها الكثري وتكون هي األخرية وبعدها تتوقف متا ًما وتتفرغ
له وللبيت وتفكر يف اإلنجاب..
وبالفعل بدأت يف جتميع كمية كبرية من خمدر الكوكايني وتقسيمه إىل
جاهزا للتوزيع ..اجتمعت بأعواهنا وصبياهنا
ً جرامات قليلة واعداده ليكون
بعد أن اهنوا عملهم يف تقسيم الكمية بعد خلطها وجتهيزها ..ورشحت هلم
خطة العمل ..وقسمت الكمية عىل أربعة أقسام ..سوف يتوجه األعوان
والصبيان بثالثة أرباع الكمية يف التوزيع باألماكن املخصصة هلم منذ فرتة
طويلة ..أما اجلزء الرابع من الكمية فسوف تأخذه مروة إىل النادي إلعطائه
للنادل وعامل محام السباحة ليقوما بتوزيعه وبيعه داخل النادي..
***
249
خط سيادة العميد آخر صفحة يف مذكراته وأصبحت جاهزة ومعدة
للنرش وقتام شاء ..وقد اختار ملذكراته عنوانًا" ..عجائب أكتوبر ..دروس يف
فنون القتال" تلك املذكرات التي فرغ فيها العميد فؤاد الكثري من ذكرياته مع
أحداث حرب الكرامة ..حرب سطر فيها جيشنا أعظم البطوالت يف قهر عدو
درسا
ظن دو ًما أنه الذي ال يقهر ..كرس وحطم رجالنا هذه املقولة ولقنهم ً
يف فنون احلرب والقتال سيظلون يذكرونه لسنوات طويلة وأثبت أن الذكاء
املرصي ال يقل بل ربام يزيد عنهم بكثري..
استعد رشيف ومايا للسفر إىل مرص واجتها إىل املطار ليستقال الطائرة التي
تقلهم يف أول اجازة هلم بعد زفافهم وأول اجازة لرشيف بعد تسلمه العمل..
250
ولكنها تشعر بالضعف واهلزال واإلعياء الشديد ..ثم نظرت جانبها
فوجدت عىل الطاولة اجلانبية بعض العقاقري وكو ًبا من املاء ..وبعد دقائق
دخل ماجد عليها ..انزعجت ..أما تراها مازالت يف ذلك الكابوس ..مل
تفرح لرؤية ماجد حيث تاليش حبه من داخلها وتبدل مكانه شعور غريب
باالشمئزاز مصحوب بالشفقة عليه حيث كان يلهث ورائها قبل الزواج ثم
استغلها وباعها وخرسها بسهولة بعد الزواج ..لن تعود كام كانت ولن ترىض
بام تقوم به ..فهي كانت تنتظر عودته للرجوع إىل أبيها ..مل تشأ نورا أن ترتك
أمه وحدها حتى لو كانت األم القاسية يف ثوب ثعبان يلتف حول رقبتها كل
خائبا ..عاد بفضيحة.. كابوسا ..إنه ماجد قد عادً ..
فاشلً .. ً يوم وليلة ..ليس
اقرتب منها ماجد وعيل وجهه عالمات اخلوف والقلق عليها ..نفس
تلك العالمات قد رأهتا نورا من قبل يف يوم التعارف األول عندما كانت متيش
وتركض حول الرتاك وهذا كان رس إعجاهبا به ..فقد رأت جسم شجرة بلوط
بقلب عصفور ووجه زهرة اللوتس ..أحبت فيه حنانه وقلقه واهتاممه هبا..
نظرت اليه نورا مرة أخرى نعم إهنا نفس النظرات احلانية هل تراين أخدع
مرة أخرى ..إنك واهم أهيا املاجد ..ال يلدغ املؤمن من جحر مرتني ..استطعت
التالعب يب وخداعي مرة ..جعلتني خادمة ألمك ..فيك كل اخلصال اخلبيثة
ً
فاشل ..جتر أذيال اخليبة ..تريد أن تعيد نفس العبارات عىل واألن عدت..
مسامعي ..وترى اعجايب بك ..هيهات ..استمر يف محاقاتك ولكن بعيدً ا
عني ..مل أترك أمك ألن أيب رباين وأحسن تربيتي ..ذلك األب الذي نصحني
زوجا ..ذاك األب الذي أوصاك عىل ابنته ..ع ّ
يل أنا ..أنا نورا يا أال اختذك ً
251
ماجد ..نورا ..بنت العميد فؤاد ..الذي ِّ
يكن له اجلميع كل االحرتام ..أنت
أهيا احلقري تزوجت ابنته لتكن ملكة ..جعلتها خادمة ..وخنتها وعرف العامل
كله خيانتك ..أمهلتها ..مل حتادثها يف اهلاتف ولو مرة واحدة لكن اهلل كان عقابه
أرسع مما تتخيل ..فاهلل يمهل ..وال هيمل..
حاول ماجد التحدث لكنها هنضت من فوق رسيرها ودفعت به خارج
الغرفة صارخة يف وجهه بكل ما أوتيت من قوة ..اتركني وحدي ..ثم انتفضت
وارتدت مالبسها واخذت كل األشياء اهلامة وخرجت من املنزل وصوت
ماجد يف اخللف ..نورا ..نورا ..إىل أين انت ذاهبة ..انتظريني اوصلك..
مل تعره انتباها وسارت يف طريقها إىل بيت أباها ..بيتها القديم ..بيت
السعادة والراحة ..يف كنف امها احلنون ..إىل حجرهتا اجلميلة ورسيرها
ورشفتها ..كم اشتاقت إىل كل تلك األماكن ..ضحت هبا من أجل ماجد..
كم أنا غبية ..أتية لك يا أيب ألحتمي بك ..اآلن استطيع االستعانة بك ..مل
استطع ان افعلها لوجود احلاجة نعامت وحدها ..وبنت األصول ال ترتك امرأة
مريضة طاعنة يف السن وحدها وتذهب إىل بيت أبيها ولكن ما أن عاد ماجد..
فأنا آتية اليك ..لتبقيني يف أحضانك وجترب ماجد أن يطلقني بال رجعة..
نظرت حوهلا وهي تعرب الشارع وجدت نفسها أمام بوابة النادي ..ذلك
النادي الذي شهد قصة تعارف نورا وماجد املحتال ..كنت أوشكت أن
اكرهه ..لكن رمحة من عند اهلل نزلت بعدهلا ..فمنع ماجد من دخول النادي
بسبب غشه ومنشطاته ..وعاد يل النادي وحدي بدون ذلك اخلائن..
252
وكانت نورا تشعر بالدم يغيل يف عروقها وأنفاسا تتالحق من التفكري
املتواصل ففكرت ..إن ذهبت إىل أيب وأنا يف هذه احلالة ربام يصاب بيشء أنا
عصريا
ً أخشى عليه االفضل ان أدخل النادي ..ارتاح من التفكري وأرشب
وعندما أشعر أين هدأت وعىل طبيعتي اذهب إىل األب احلنون..
استعد عالء للقيام بآخر أيام التوزيع ونقل أكياس الكوكايني ..وكان
حيمل أكرب كمية منذ ان بدأ هذا العمل االجرامي ..الكمية كانت كبرية وتدر
ً
ضخم ..وبالفعل اجته إىل املكان األول والذي سوف يوزع فيه نصف دخال
تقريبا وكان يف انتظاره من سيقوم بالرشاء ومعه مبلغ ضخم من املال
ً الكمية
ويف أثناء التسليم والتسلم وجد عالء الرشطة حتيط هبم من كل جانب ويف
حلظات وهدوء تام كانت األساور احلديدية ملتفة حول أيدي عالء وكل
من معه ممن اشرتكوا يف التسليم والتسلم ..وتم تصوير عملية القبض عليهم
صوت وصورة ..وتم التحفظ عىل كمية الكوكايني والنقود ..ويف تلك اللحظة
كانت هناك قوة أخرى من الرشطة تداهم شقة عالء ومروة لتفتيشها ولسوء
احلظ كانت مروة قد غادرت الشقة متجهة إىل النادي بربع كمية الكوكايني
فقام رجال املباحث بتتبع أثرها واللحاق هبا ..وقوة أخرى قامت بالقبض عىل
أعوان وصبيان مروة وبحوزهتم ثالثة د أرباع الكمية..
وأثناء قيادة مروة سيارهتا هاتفت أباها عم زكريا أن يدخل إىل داخل
صالة املطار ملقابلة رشيف صديق عالء وشقيق نورا صديقتها واحلصول منه
عىل حقيبة فيها مالبس جاهزة ختص املتجر ..واحلضور هبا إىل شقتها..
253
هبطت الطائرة القادمة من إيطاليا ..سار رشيف ومايا يف طرقات املطار..
تليفونيا خيربها أنه يف مطار القاهرة ومتجه إىل بيت األب
ً حادث رشيف نورا
سيادة العميد ..فرحت نورا أشد الفرح بسامع صوت رشيف حيث يمنحها
القوة وفرحت اكثر لعلمها بعودته وانه يف القاهرة ..أخربته إهنا يف النادي
فطلب منها ان تبقى مكاهنا سيمر عليها بسيارة ليموزين من املطار فتأيت معهم
إىل بيت العائلة..
كانت سيارة رجال مكافحة املخدرات قد استطاعت اللحاق بسيارة
مروة وأصبحت خلفها ومروة متجهة إىل النادي ..فانتظر الرجال حيث
يريدون ضبطها وهي يف حالة تلبس ..دخلت مروة النادي عربت البوابة..
هاتف رشيف أباه بعد أن قابل العم زكريا وأعطاه حقيبة عالء ولكنها
احلقيبة احلقيقية املليئة باملخدرات بعد ان بدهلا رجال املباحث باملطار بالتعاون
مع رشطة املطار..
خرج رشيف ومايا خارج املطار ليستقال سيارة ليموزين وبقى عم زكريا
جالسا عىل كريس داخل صالة املطار ومعه احلقيبة ..قام ليتحرك هبا إليصاهلا
ً
إىل مروة وعالء يف شقتهم فإذا برجال الرشطة يستوقفونه ويلقون القبض
عليه ..ويقومون بفتح احلقيبة أمامه وهي مليئة باألماكن الرسية التي حتوي
أكياس الكوكايني اخلام..
ذهل العم زكريا ..هذا الرجل الطيب القارئ لكتاب اهلل ..حيمل تلك
السموم وهو ال يدري..
قام رجال الرشطة بتصوير الواقعة بالصوت والصورة..
254
هاتف رشيف أباه قبل أن يدخل السيارة الليموزين أخربه إنه يف املطار
وسوف يستقل سيارة وإنه يف الطريق إىل البيت ولكن قبل ذلك سوف يمر عىل
نورا يف النادي يصطحبها معه اليهم..
فرح العميد فؤاد كثريا بقدوم رشيف وعاتبه انه مل خيربه بميعاد حضوره
فكان يرغب ان ينتظره يف املطار ..فقال له رشيف انه أراد ان تكون مفاجأة
هلم ..فقال العميد فؤاد إذن انتظر مع نورا يف النادي سوف أتى اليكم ونتناول
طعام الغداء هناك حيث أن والدتك مل تبدأ حتضري الغداء ..ولن تستطيع
االنتهاء يف تلك الفرتة القصرية ..وافق رشيف عىل هذا االقرتاح فكلهم حيبون
النادي ومطعم النادي..
دخلت مروة إىل النادي وتوجهت إىل الكافيرتيا يف احلديقة الكبرية..
وأثناء مرورها يف طرقات النادي بعد ان صفت سيارهتا الفارهة تلقت مكاملة
تليفونية إنه تم القبض عىل عالء وعىل والدها العم زكريا وأن الرشطة يف
طريقها اليها فعليها أن هترب ان استطاعت..
توجهت مروة إىل الكافيرتيا وجدت نورا جالسة توجهت إليها وبعد
أن ألقت السالم عيل نورا أدعت إهنا تشعر بصداع شديد وطلبت من نورا
إذا استطاعت أن حترض هلا ً
بعضا من املاء حيث إهنا ال تستطيع انتظار قدوم
النادل..
حتركت نورا عىل الفور متجهة إىل داخل الكافيرتيا لتحرض املاء فتحت
مروة حقيبة يد نورا ووضعت بداخله كيس الكوكايني ومهت بالنهوض..
رأت عىل مبعدة رجال املباحث داخل النادي يتجهون ناحيتها حاولت اهلرب
255
ركضت بأقىص رسعة صوب سيارهتا لكن رجال املباحث كانوا أرسع منها
والقوا القبض عليها وعند عودة نورا باملاء كان أحد رجال املباحث يتوجه
إليها وعرف اهنا صديقة مروة ..طلب القيام بتفتيش حقيبة يدها وبمجرد
فتحها وجد بداخلها كيس الكوكايني..
ُالقى القبض عىل نورا وكان كل هذا تم تسجيله بالصوت والصورة ..يف
تلك االثناء وصلت سيارة رشيف ومايا ..كذلك وصلت سيارة العميد فؤاد
ومدام كريمة التقيا عىل بوابة النادي دخال إىل الداخل ليشاهدوا مجيعهم أقسى
وأسوأ مشهد وموقف يف حياهتم عىل االطالق ..العديد من رجال املباحث
يملؤون جنبات النادي ..مروة والنادل وعامل محامات السباحة ملقي القبض
عليهم ومن خلفهم ..املالك ..الرقيقة احلاملة نورا واألساور احلديدية حتيط
يدهيا وهي تبكي يف حالة اهنيار تام وحالة ذهول ومل تفهم بعد ..ماذا حيدث
ملاذا يلقون القبض عليها ..وملاذا يلقون القبض عيل مروة ..وما هذا الكيس
الذي بداخله سكر او دقيق ..ما كل هذا ..وما أن رأت رشيف وأباها العميد
فؤاد حتى سقطت عىل األرض يف حالة إعياء تام..
يف تلك االثناء ..حتركت فرق عديدة من رجال مباحث األموال ورجال
مكافحة املخدرات وألقت القبض عىل مجيع أفراد الشبكة بالكامل ..ومن ضمنهم
الرجالن اللذان طاردا عالء منذ فرتة طويلة وأجربوه عىل توقيع وصل األمانة..
وبالتنسيق مع رجال الرشطة يف املغرب ألقى القبض عىل الرجل الذي
ادعى إنه تاجر مالبس وقابل رشيف وأعطاه احلقيبة التي كانت بداخلها كمية
كبرية من املخدرات..
256
مل يتحمل العميد فؤاد ان يرى نورا متهمة يف قضية اجتار يف الكوكايني
وخاصة إنه يعاين من ضعف يف عضلة القلب ..وضع يده عيل صدره وشعر
متحجرا يف مكانه مع مايا يف
ً بضيق يف التنفس وسقط عىل األرض ..رشيف
ذهول ..أخته يف سيارة الرشطة يف طريقها إىل مديرية األمن وأباه يوضع يف
سيارة إسعاف يف طريقه إىل مستشفى املعادي العسكري ..يا إهلي ..ماذا حيدث
يل ولنا ..نورا اجلميلة ..وأيب العميد احلنون بطل حرب اكتوبر قاهر األعداء..
سقطت الدموع من عينيه ..التقفته مايا وضمته إىل صدرها وهي تبكي بشدة..
فكم حتب نورا وأباها ..وال تنسى كم كانوا بجوارها أيا ًما طويلة يف أشد حمنة
وأقسى جتربة مرت هبا يف حياهتا..
جلست نورا مكبلة اليدين عىل املقعد اخللفي لسيارة الرشطة حيث فقدت
السيطرة عىل أجهزة جسمها ..فال تدري أ ًيا منها يعمل وأ ًيا ال يعمل ..فقدت
الشعور باألمل ..هل مات جهازها العصبي ..تشعر أن جلدها وحلمها يتساقط
وينفصل عن عظامها ..مل يتبقَ منها إال عظا ًما ..والعظام ليس هبا أعصاب..
العظام ال تشعر باألمل ..ماذا يفيد إذا كنت حرة أم مقيدة ..مل تعد يل حياة..
زواج تعيس ثم خادمة ثم خمدوعة ..ثم مهانة مذلولة بعدها خيانة ..تشفي..
واآلن خمدرات يف حقيبتي ..أخي ..زوجته ..أيب املسكني قلبه مل يتحمل..
اجرمت يف حق نفيس وارسيت ..أنا جمرمة ..قاتلة..
ظلت نورا هتذي طوال الطريق إىل مديرية األمن وكانت موقنة بحق انه
مل يعد هبا جلدا أو ً
حلم ..كانت موقنة إهنا هيكل عظمي ..من األعىل مججمة
257
ثم فقرات رقبة حتتها قفص صدري أجوف بال أعضاء بداخله ..حتتها عظام
احلوض والساقني ثم قدمني ال يقويا عىل الصمود والوقوف..
سارت يف طرقات مديرية األمن منقادة من قبل يد غليظة وأناس بأصوات
خشنة ورائحة العطن خمتلطة بروائح سجائر رخيصة ..وصوت أقدام أمامها
وخلفها يعلو يف اماكن وخيفت يف أماكن أخرى ..سارت ببطء قبل أن تتوقف
وجوها
ً أمام أحد املكاتب املغلقة ..سارت ببطء اكثر ..نظرت حوهلا ..وجدت
تعرفها ..نعم أنا رأيت تلك الوجوه من قبل ..وجه يشبه اللعينة «مروة» ووجه
آخر يشبه زوجها األمحق ووجه آخر عليه عالمات النبل ..يشبه والد اللعينة
مروة ..ووجه ثالث ورابع وجوه كثرية ..عيناها زائغتان ..ال تستطيع النظر
هبام لكن مل تعد لدهيا القدرة عيل اغالقهام ..تشعر بالتعب ..باإلعياء ..تريد
أن تسقط عىل األرض تريد أن تتحول إىل ذبابة أو ناموسة ..أفضل هلا مما هي
فيه ..احلرشات أفضل ً
حال منها ..ليتني كنت حرشة ..أنا أسوأ ..أنا مدمرة..
دمرت انوثتي ..مجايل ..براءيت حتى ضحكتي وابتسامتي ..دمرهتا ..ثم انتقلت
بكل رشوري بعد أن تعرفت عىل ماجد ظننت أين أحبه وألجله تنازلت..
فرطت ..ضحيت ..قبلت إهانات ال تتحملها أي فتاة مثيل ويف ظرويف..
هل أنا زوجة؟ ..وأين زوجي؟! سندي ..رجيل ..بني يدي من أبكى؟! ويف
أحضان من أرمتي؟ هل أنا زوجة؟ أنا ضائعة ..زوجة بال زوج ..وأيب ..يارب
أنقذ أيب واشفه ..وضع ما به يب ..هو حيتاج لقلب سليم وصحة ..أما أنا فال
احتاج إال إىل قلب متوقف ..إىل جسد ال يعمل ..احتاج أن اغادر ..أهرب..
انزوي بعيدً ا عن هذا العامل ..أن اختفي ..أتبخر ..أصبح ال إنسان ..ال يشء..
258
أريد أن أموت ..نعم املوت هو خاليص ..وهو عقايب يف الوقت ذاته ..املوت..
ارتاح ..وكل من حويل يرتاح ..فيارب أؤمر مالئكة املوت أن حترض ..ارسلهم
لقبض روحي والصعود هبا إىل ..إىل ..إىل أين؟ ال أعلم هل إىل جنة ..كل ما
فعلته وأجرمت فيه والزلت أذكر اجلنة ..اجلنة ليست يل ..ال استحقها ..وال
أستحق حتى أن أذكرها ..فلم يتبق إال اجلحيم ..السعري ..يارب هل أسألك
الرمحة ..أم ذنويب أكرب من سؤايل ..هل للقاتلة أن ترحم؟ هل للمذنبة من
توبة؟ يارب أشفي أيب واقبل ندمي وحرسيت ..أقبل توبتي ..أحطني بسياج
من رمحتك ..عال األسوار..
مل يتحمل العميد فؤاد ما رآه بأم عينيه ..ومل يستطع األطباء تأخري إرادة
رب العاملني صعدت روحه إىل رهبا ..فارق احلياة ..نعم ..رجل بطل حارب
رب ..ع َّلم ..أحسن ..أحبه وانترص وكرس كربياء عدو ظن أنه ال يقهرَّ ..
اجلميع ..واحرتمه اجلميع كانت آخر كلامته ..النداء ..يا نورا ..نورا..
مرت أيام عصيبة عىل رشيف ومايا ..موت األب العنيد ..األب العميد..
حمنة نورا وحماكمتها ..ومايا يف بداية شهور محلها..
اضطر رشيف للعودة إىل إيطاليا مع مايا وجنينها ذو الثالثة اشهر يف
احشائها وذلك بضغط من د .كامل والد مايا ..اقنعه أن كل يشء يسري من
يسء إىل اسوأ وليس من الصواب أن يفقد وظيفته ..ال يشء عليه أن يقوم به..
نورا اآلن يف احلبس االحتياطي عىل ذمة القضية ويقوم بالدفاع عنها نخبة من
أفضل املحامني ..ووالدته ..تعيش مع أختها «خالته» وهي يف أمان تام فال
داعي لوجوده وخسارة كل يشء..
259
ماجد سمع من أمه احلاجة نعامت ما ال يطيقه برش ..عن الزوجة نورا
بنت األكابر ..تاجرة املخدرات ..التي طاملا ادعت الرباءة وذهاهبا للنادي
عضوا يف شبكة لتوزيع تلك السموم..
ً للميش ..ولكنها كانت
ظلت لساعات ختوض يف رشف وعرض وطهارة نورا ..نورا التي كانت
هلا خادمة ..التي حتملت اذاها وعباراهتا اجلارحة ..نورا التي رفضت أن
ترتكها وحيدة عندما سافر ابنها ماجد واختار رفيقة غري زوجته نورا وبخل
عليها حتى بمكاملة هاتفية..
استمع ماجد لكالم والدته ووصلت الشحنة الغاضبة بداخله إىل ذروهتا
فقام عىل الفور باالتصال باملحامي املوكل بالدفاع عن نورا وأخربه أنه يريد
امتام الطالق من نورا..
نورا بمالبس السجن البيضاء ال تتحدث ألحد ..ممتنعة متا ًما عن
الكالم ..تذهب يف سيارة الرتحيالت إىل مبني النيابة للتحقيق ..تظل صامتة..
تسمع عرشات االسئلة ..املئات من النصائح ..إن السكوت سوف يؤدي
هبا إىل حكم قاس ال تتحمله واذا جتاوبت مع املحققني أثناء التحقيق فلربام
يساعدها يف فهم مالبسات وفك لغز ما حدث ..لكن نورا بال أي استجابة
فهي مازالت تطلب العفو من اهلل ليس من البرش ..أو املوت ..مل تعلم بخرب
وفاة اباها لآلن ..تدعوا له اهلل بالشفاء وأن تراه لتقبل يداه وقدماه ..ع ّله يغفر
هلا محاقاهتا ..وعنادها وعدم اتباع نصائحه..
كانت نورا تعتقد أن اسوأ ما يف الوجود هو العيش بجوار احلاجة نعامت
وثعباهنا القبيح القابع داخل فمها املمتلئ باحللوى واملكرسات ..ثعبان ينفث
260
سمه إىل كل من حوله ..وأن االسوأ منه هو الزواج واقرتاهنا بشخص أناين
فاسد ..فاشل ..مثل ماجد ..ولكن وجودها داخل جدران السجن جعلها
تشعر ان هناك ما هو األسوأ عىل اإلطالق ..السجن وحتديدً ا سبب دخول
السجن ..االهتام «حيازة واجتار يف املخدرات» يا للعار ..نورا ..زهرة النادي..
اجلميلة ..كريمة بطل حرب أكتوبر العظيمة رجل الوطنية ..ابنته متهمة بتجارة
وحيازة مواد خمدرة سموم يقتل هبا جيل بأكمله..
أتى إىل نورا من خيربها ان هلا زيارة شخصية خاصة ..يف مكتب أحد
ضباط السجن ..ذهبت إىل املكتب بصحبة احلارسة كانت تظن أن املحامي
أتى ليقنعها برضورة احلديث للدفاع عن نفسها وبالتايل جيد هو ما يقوله ليدافع
عنها يوم املحاكمة..
فبعد دراسة املحامي مللف قضيتها جيدً ا والنظر فيه من مجيع اجلوانب
وجد ان موقفها يف غاية الصعوبة حيث ضبط داخل حقيبة يدها كمية من
الكوكايني وكانت إجراءات الضبط سليمة ..اذن النيابة وغريها من األمور
القانونية فاألمل الوحيد هو أن تتحدث نورا ترشح كيف حدث هذا ..تدافع
عن سمعتها وسمعة ابيها سيادة العميد فؤاد ..صمتها يعجل هبا إىل سنوات
طويلة بالسجن وربام اإلعدام ..صمتها يضع حياهتا ..رشفها ..وهيبط هبا إىل
دون مستوى الشبهات ..يعيش اإلنسان وحييا سنوات عمره ثم يموت وكل
يشء يذهب إال السرية احلسنة ..فهل سرية نورا وعائلتها ستكون حسنة مع
ً
وانحطاطا يف اوحال عامل اجلريمة.. التزامها الصمت ..سريهتا ستزداد تلو ًثا
عامل جتارة حمرمة ..غري مرشوعة دوليا ..جتارة سموم قاتلة..
261
ضمنيا بارتكاهبا
ً صمت نورا من الناحية الشكلية للقانون يعد اعرتا ًفا
262
ظلت األم صامتة لدقائق ثم انفجرت يف البكاء« ..بابا مات يا نورا» ..مل
يتحمل ما حدث ..سيادة العميد فؤاد البطل ..مات يا نورا ..منذ أسبوع ..مل
نخربك ..خو ًفا عليك ..لكن جيب أن تعريف ..آخر كلامته كانت اسمك ..كان
ينادي عليك ..كم أحبك ..وأوصاين وصية خاصة بك..
كانت األم تتكلم ومستمرة يف الكالم ومل تشعر بسقوط نورا عىل األرض
مغشيا عليها ..وأثناء سقوطها ارتطمت رأسها عىل حافة املقعد ..شجت
ً
رأسها واهنمر منها سيل من الدماء..
األم مستمرة يف حديثها ال تشعر ما حدث لنورا ..إىل ان دخل عليهم
الضابط ليخربهم انه تركهم وق ًتا ً
طويل أكثر من املعتاد ..وعليهم ان ينرصفوا..
األم إىل خارج أسوار السجن ونورا تظل قابعة يف أسوار السجن إىل زنزانتها..
حرضت سيارة االسعاف لتوقف نزيف الدم من رأس نورا وتنقلها عىل
الفور إىل مستشفى السجن..
تركت األم وصية األب لدي الضابط وأوصته ان يعطيها لنورا فور
تعافيها من اإلصابة أثر وقوعها عىل حافة املقعد ثم عىل األرض ..أثر سامعها
خرب وفاة أمجل وأحن إنسان يف الوجود ..إىل من تلجأ اليه وقد الشدائد ..األب
الصامد ..احلكيم ..الصابر عىل عنادها وقراراهتا ..أكثر من آمن بحرية املرأة..
عقل نورا الرقيقة وقلبها الضعيف مل يتحمل ما حدث هلا من سجنها
والتحقيقات لكن كل هذا يف جانب ..وأباها يف جانب آخر ..أنه األب..
األب..
263
سافر رشيف يف رحلة جديدة مع املركب ..بعد ان طلب وضعه عىل
رحلة مغايرة لرحلة جنوة – طنجة ..فتم وضعه عىل رحلة – جنوة «ايطاليا»
إىل ميناء برشلونة «إسبانيا"..
أراد رشيف االبتعاد عن كل االماكن التي هلا عالقة بام حدث له ولنورا
فقد عرف كل ما مر به وما كان يدبره له عالء وحقيقة حقيبة املالبس املليئة
بالسموم وأسباب مكاملات عالء وحماولة الصلح معه وادعاءه انه صديقه
الذي طاملا احبه وأراد ان تستمر صداقتهام طوال العمر..
ً
مذهول من كل يشء ..نورا ..زواجها اليسء والزوج مازال رشيف
اخلائن ..ثم الصديقة املزيفة املجرمة التي مل ترحم صديقتها وال حتى أباها
القابع يف السجن بسببها وكانت كل نواياه الطيبة أن يقدم يد العون هلا ولزوجها
املجرم وان حيمل أي حقائب ألجلهام ..يقابل الغرباء من بقية أفراد الشبكة
وهو ال يعلم من يقابل وماذا حيمل ..لقد جعلوا هذا املسكني حيمل بيده التي
تقرأ القرآن واحلاملة لكتاب اهلل هذه السموم ..ارشكوه معهم بدون علمه..
ونورا ..طاملا أدت خدمات إىل اللعينة املجرمة مروة ..ومل حتصل نورا إال
وأخريا الصاق هتمة ..اهلل وحده يعلم اهنا بريئة
ً عىل احلقد والغل والشامتة..
متا ًما منها ..خمدرات ..أختي أنا ..أمجل بنات النادي تتاجر يف املخدرات..
وأين ؟؟يف النادي الذي كان أيب أهم عضو جملس إدارة به..
وصل إىل الضابط املسئول عن العنرب الذي فيه زنزانة نورا ..بعض
األوراق واخلطابات التي ختص السجينات وكان من بينها وثيقة طالق نورا
من ماجد ..مصيبة جديدة حتط عىل رأس املسكينة نورا الغائبة عن الوعي
264
يف مشفي السجن ..مربوطة الرأس ..ال تعلم عن احلياة إال كوابيس ..مات
أباها ..كل ما تذكره هو نبأ وفاة أباها وال تعلم ان يف انتظارها وثيقة طالق..
ففي أيام قليلة حتولت نورا إىل نورا املجرمة تاجرة املخدرات ..ثم يتيمة األب
..واآلن نورا املطلقة..
وخلقنا لنتحمل ونتسلح بالصرب وااليامن
كم تقسوا احلياة أحيانًا عليناُ ..
لكن الرضبات ازدادت عىل نورا وازدادت آالمها ..فلم تعد تتحمل ..ال عقلها
وال قلبها وال جسدها اهلزيل الذي منعت عنه الطعام بحثًا عن النهاية ..بحثًا
عن موت رحيم ..فمالئكة املوت التي خيشاها وهياهبا اجلميع ..هي مالئكة
رمحة ..مالئكة خالص لنورا ..املالئكة املخلصون ..املنقذون..
أصبح رشيف ال يقوم بعمل يشء داخل املركب إال العمل ..حتى يف
أوقات راحته ..صار يرفض أن حيصل عىل راحة ..فقد وجد يف العمل
راحته ..فالعمل يبعده عن شبح التفكري الذي كاد أن يقتله ..ال يصدق ان
يفقد أباه وأخته يف حمنة ليس هناك اشد منها حمنة ..وزوجته ..حبيبته مايا بدونه
وحيدة وهي حتمل يف احشائها طفله أو طفلته األويل ..الذي طاملا كان يمني
نفسه بأن يكون أباه جدً ا بعد ان ينجب اول حفيد يف األرسة..
مات األب ..مات جد الطفل دون أن يريا بعضهام ..بال تالقي ..سيظل
اجلد العميد فؤاد ذكرى مجيلة..
كان رشيف قلقًا عىل مايا ..لذلك اتفق ان تشغل وقتها يف الرسم يف البيت
متجرا
ً ووعدها عند عودته إذا اكملت عد ًدا من اللوحات سوف يستأجر هلا
265
وحيوله إىل جالريي لعرض اعامهلا فيه ..فهي موهوبة وتتمتع بحس فني راقي
للغاية ولدهيا افكار جديدة للتعبري بالفن التشكييل..
وقبل سفره بيوم توجها سو ًيا لرشاء كل مستلزمات الرسم التي تكفيها
املدة التي يغيب فيها رشيف..
وبالفعل بدأت مايا خطواهتا األويل يف وضع ما لدهيا من أفكار وخيال
وتصورات يف لوحات منفصلة لكن متصلة املوضوعات ..فقد اختارت
لنفسها خطا يكون الرابط للمعني بني مجيع لوحاهتا ..وهو «معاناة االنسان
مع الالضمري» ..وهو موضوع صعب التعبري عنه ومن الصعب فهمه لغري
املتخصص يف الفن التشكييل..
عملت بجد ومهة شديدة وكان بداخلها محاس نابع من غضب مما حدث
هلا باملايض من رجل بال ضمري ..ومما حدث لنورا من صديقة وزوج و محاة بال
ضمري ومما حدث لرشيف من صديق بال ضمري ..وما حدث لعم زكريا من
وأخريا وفاة امجل واشجع الرجال من كل هؤالء الذين سبقوا
ً ابنة بال ضمري..
بال ضمري ..إهنا ارادة اهلل ..اختبار من اهلل وعلينا تقبل القدر ..خريه ورشه..
لكن ليس معني أن نتقبله هو أن نضغطه يف داخلنا ونقوم بكبته ..البد
من اخراج الوحش الصارخ داخلنا ..ليرصخ ً
قائل كلمته ..معل ًنا رفض ملن
هم بال ضمري ان يقوموا بإيذائنا ..ونقف مكتويف االيدي ال نحرك ساك ًنا
وال نستطيع حتى ان ندافع عن انفسنا ..فاهلل وهبني اتقان استخدام الفرشاة
واأللوان ..وهذا هو سالحي للتعبري عن الغضب الكامن بداخيل واخراجه
بآاليت ..األلوان والفرشاة ..والتصوير بكل تلك املعاين احلزينة الصارخة..
266
حاجزا أمام من ختلصوا من ضامئرهم ووجهوا
ً كي يستفيق املجتمع ..ويقف
سهامهم وأسلحتهم إلينا ..لتسقط ضحاياهم «نورا ..رشيف ..أنا ..عمي
فؤاد» ..كلنا ضحاياهم ..فلنرصخ قائلني «ال»..
جاءت يوم جلسة املحكمة ..مجيع املتهمني حرضوا وجتمعوا سو ًيا يف
مجيعا ..الفاجر واحلائر ..عالء ومروة مع العم
قفص االهتام قفص ضمهم ً
زكريا املذنب الربيء كلهم وراء اسالك القفص احلديدي ..ينتظرون سامع
مصريهم اال واحدة ..إال نورا ..راقدة يف رسير صغري يف مشفى السجن
وعىل باب حجرهتا حراسة ..فاقدة الوعي متا ًما ..هل من اثر ارتطام رأسها
أم أن عقلها هيرب هبا بعيدً ا ..بعيدً ا ..عن هذا اجلنون ..ما حيدث هلا درب من
اجلنون ..أي انسان يتحمل كل هذا ..وآخر الرضبات املوجعة هو موت البطل
وعادة عندما يموت البطل هتبط الستائر وتكتب النهاية ..فهل ستائر نورا يف
طريقها للهبوط ..هل ستكتب النهاية وهي عىل ذلك الرسير الصغري وعىل
حجرهتا حارس ..خمافة أن هترب ..أهنم وامهون ان ظنوا إهنا باحثة عن حرية..
وأن اهلروب هو املخلص هلا ..عىل العكس هي باحثة عن عقاب عن عذاب
تكفر به عن جرائمها يف حق نفسها ومن حوهلا ممن أحبوها ..مات البطل..
ظلت نورا هتذي بكلامت وهي نائمة ..غائبة ..هاربة من احلقيقة ..ليست
حقيقة سجنها أو حقيقة ظلم قد وقع هلا ..إنام حقيقة اشد مرارة واشد عىل
نفسها ايال ًما وال تتحملها مهام كان هلا من الصرب أكوا ًما ..حقيقة موت أباها..
عميدها ..موت البطل..
267
مات بطلها ..فوجدت نفسها وهي نائمة تنعيه بأشعار قد تعلمت كيف
تنظمها منه ..من البطل ..العميد فؤاد ..فقالت بصوت يكاد يكون غري
مسموع إال ألذنيها..
مات البطل ..مات البطل دون التفاتة أو اهتامما
مات البطل ..قبل الوداع وقبل إلقاء سالما
يظل البطل ً
بطل ..فهو املهاب ..هو الفارس اهلامم
فاهلثوا وراء قاتله ..هلموا هال انتقاما
مايل من عيش بعده فمتع احلياة صارت عداما
مات معلمي ..من علمني الشجاعة ورمي السهاما
شقاء وآالما
ً فلم يبق يل بعد موته اال
فيابني البرش اصدقوين القول ..اهنا أضغاث أحالما
تأتينا بكابوس ..فننتفض بعد سكينة والناس نياما
فقفوا للبطل العظيم ..وامنحوه كل وقار واحرتاما
اهنمر الدمع من عيني نورا ..وصاحب نزول دمعاهتا آال ًما شديدة يف
رأسها وعيناها ..لكنها حتملت وشعرت ان دموعها هي ماء الغسل الذي
يغتسل به املتويف ..فصارت تعترص عيناها أكثر لتغسل جسده الطاهر بدموعها
أكثر وأكثر..
رشحا..
ً انعقدت جلسة املحكمة ..استفاضت النيابة ممثلة يف رئيسها..
مقرتنا بأدلة ..عام قامت به تلك الشبكة املحلية والدولية من إدخال السموم
للبالد ثم القيام بتوزيعها وبيعها ..فتدمر شبا ًبا هم القوة احلقيقية والثروة ألي
بلد تسعي ألن تكون بني مصاف الدول القوية..
268
فكيف ملجتمع ان يكون صناعي ..زراعي ..منتج ..كيف ينتج وهو
يتعاطى كل ما يذهب العقل ويوهن البدن..
ً
طويل ..إىل ان جاء دور الدفاع عن املتهمني وبعد حتدث ممثل النيابة
اوقات طويلة وصرب طويل من قايض اجللسة تم تأجيلها لسامع شهود ومناقشة
أدلة وبراهني أكثر..
كانت مروة قابعة وراء القضبان احلديدية ..صامتة ..تتذكر وتتخيل..
سيارهتا الفارهة ..والبيت احلديث ..واخلادمة ..وعضوية النادي ..واسمها
كام كان ينادهيا اجلميع «اهلانم» واألموال الطائلة يف البنوك وحقيبة يدها وطعم
القهوة من ذاك املقهى الشهري ..املزدانة بالكراميل..
ستقيض ما يتبقى هلا من عمر تتذكر طعم ال مثيل له وخاصة إذا دفعت فيه
آخر نقود لدهيا ..فإن مذاقه حتام يكون خمتل ًفا..
تتذكر مروة كل هذا وعن يسارها جيلس عىل األرض العم زكريا..
أباها املسكني افنى عمره يف زرع معنى «نعمة الرضا» لكن املعنى مل يثبت يف
األرض ..اقتلعته نسمة هواء ضعيفة هبت عىل املكان ..خسارة يا مروة..
ِ
عليك أبوك.. هانت عليك نفسك وهان
وشاخصا ببرصه إىل ما بني قدميه
ً ناظرا
وعالء عيل يمني مروة ..عالء ً
يستعيد رشيط حياته وأحداثها ..ويتساءل هل من خطأ صغري خروجي
وتنزهي مع فتاة ال أعرفها يفعل يب كل هذا ..يودي يب إىل سجن إىل عامل سحيق
ال أنتمي إليه وال استطيع أن أكون جزء منه ..أنا عالء ..وحيد أيب وأمي..
ً
مدلل ..كيف يب أن اعيش هكذا يف هذا املكان وأتناول هذا عشت عمري
269
الطعام ..أين حجريت ..محامي ..طاولة السفرة ..أصناف الطعام ..مالبيس
املهندمة النظيفة ..سياريت..
أين اصدقائي ..ورشيف صديقي ..ثبت عىل مبدأه ..هو عىل صواب
ً
دائم ..رشيف عىل صواب ..ربام هلذا اخطأت ..أخذت طريقًا عكس طريقه..
عاندت ألثبت لنفيس ولرشيف وللجميع انه عىل خطأ وأنني عىل صواب
وإنه خرسين كصديق وأردت أن أجعله يتذوق طعم الندم ..لكن صار التيار
ضدي وكان العكس متا ًما ..رشيف هو الناجي وأنا الغارق ..هو عىل صواب
وأنا املجرم املتهم يف جتارة حمرمة يف حماولة تسميم املجتمع ..يف الرتبح بامل
عن طريق غري رشعي أو قانوين ..اين أمي التي قاطعتها ..وأيب ..كم حتملني
فرصا كثرية..
ومنحني ً
إهنا مروة ..تلك الفتاة اخلبيثة اللعينة ..دخلت حياتنا دون استئذان
اقتحمت عاملي ..توددت إىل ..قامت بخدمتي ..كيف مل اكتشف هذا ومل
انظر هلا عىل اهنا جمرد خادمة ..كيف مل تراها عيني ..إهنا كانت تأيت للمشفى..
تسهر الليل بطوله عىل كريس فقط لتخدمني ..دون ان تعرفني او تربطنا أي
عالقة من أي نوع ..استمعت لنصائحها ..صدقت اهنا ختاف ع ّ
يل وتريد أن
تراين يف مكان أعىل مما أنا فيه ..أحكمت خيوط شباكها حويل ..عزلت أمي
عني ..وبدلت االسامء ..حكمة أيب اسمتها ..التحكم ّ
يف طوال الوقت وإلغاء
لشخصيتي ..وسامعي لنصائح أمي ..أوجدت هلا ً
اسم آخر «ال يصح أن تكون
ابن امك» ..وهذا بالطبع اهتام ال يقبله كربياء أي رجل ..خبيثة ..ماكرة..
هي سبب كل ما أنا فيه ..هي من حتمست لفكرة جتارة املخدرات ..دنيئة..
270
جائعة ..تبحث عن الرتبح الرسيع ..تعشق املال ..وال تعشق غريه ..هي مل
حتبني ومل حتب أباها املسكني الذي مل يسلم من أذاها ..ومل حتب صديقتها الطيبة
نورا بل عىل العكس كانت متقتها ..حتقد عليها ..تغار منها..
مجيعا ..حطمتني وكرست ظهر أيب ..واضفت
هي السبب يف هدمنا ً
احلزن والقهر عىل قلب أمي ..فتحت يل طريق الشيطان ألسري فيه ال ..ليس
طريق الشيطان ..إنه طريقها هي ..أهنا الشيطان ذاته..
***
271
حترك مايا فرشاهتا بألوان متعددة يف كل اجتاه يف لوحاهتا تصور هبا ما
يتكبده اإلنسان من معاناة عندما يلتصق به ويقتحم حياته من ال ضمري له..
فصورت االنسان بال ضمري كحيوان القنفد ..أشواكه تطال كل من
ً
اشواكا كثرية يف كل حوله فال يسلم من لسع أشواكه أحد ..حيث يمتلك
مكان وكل اجتاه ..فحيثام كنت عن يمينه أو يساره ..فوقه ..أسفله ..سوف
تتوجع وتتأمل أملًا شديدً ا ..واذا حاولت اخلالص واالبتعاد عنه ..يظل يالحقك
بمعسول الكالم ..إىل ان تسمح له باالقرتاب ..فيقرتب وتكتوي أملًا مرة أخرى
فأشواكه لن ترمحك وسوف تظل تنغمس يف جلدك وتتوغل حتى ترصخ أملا..
وترى جلدك يدمي ..ودماءك تسيل ..عندها فقط يشعر بالسعادة وربام يتنحى
جانبا ويرحل ..وأنت تصبح حطا ًما ..بدم مسال..
ً
هكذا صورت مايا هذا املشهد ورسمته يف أبدع وأهبى صورة ومن يرى
اللوحة فاملعني غري مسترت ..املعنى واضح وجيل ..من الظامل بال ضمري ..ومن
الضحية والفريسة..
اهنت مايا العديد من اللوحات ..وبني كل فرتة وأخرى كانت جترى
ً
واتصال ثالثًا بوالدة رشيف ً
واتصال بأبيها يف اإلسكندرية اتصاال برشيف
مدام كريمة املقيمة يف بيت أختها..
272
هكذا شعرت مايا بمسئولية جتاه اجلميع وكانت تتمني لو استطاعت أن
تزور نورا..
مرت عدة أيام عىل نورا ..تفيق للحظات ثم تستعيد طريق اهلروب..
طريق اخلالص االغامء الذي ربام يؤدي هبا إىل اهلدف األسمى ..اخلالص
الكبري والنهائي إىل املوت ..ويف إحدى املرات افاقت تنظر حوهلا ..فوجدت
احلجرة مظلمة متا ًما فعرفت ان الوقت مازال ً
ليل ومل حين الفجر بعد..
ثم سمعت اثنان من االطباء بجوار رسيرها يتحدثان بالعربية مع بعض
املصطلحات الطبية باإلنجليزية استطاعت أن تفهم إهنم يتحدثون عن حالة
مريض أصيب بنزيف حاد يف املنطقة املحيطة باملخ أدى إىل خروج العصب
املغذى للعني من الناحيتني وإىل انسداد األوعية الدموية التي تغذى الشبكية
بواسطة جلطة دموية ..ولسوء حظ هذا املريض فآنه أصيب بفقدان للبرص يف
عينيه وليس عني واحدة كام هو شائع..
استعادت نورا موهبتها يف الرتمجة الفورية« ..من هذا املسكني الذي
يتحدثان عنه الذي فقد البرص يف كلتا عينيه ويذكر الطبيبان ً
أيضا أنه ال عالج
حلالته ..سيقىض ما تبقي له من عمر «أعمى»« ..كفيف» ..اآلن أدركت أن
مهام كربت مصيبتي فإن هناك من هو ذائق البتالء اكرب ..يارب اشفي كل
املرىض ..وساعد هذا الرجل عىل تعلم ممارسة حياته اجلديدة بال ضوء ..بال
نور ..ساعده عىل التكيف عىل فقدان نعمة البرص ..ويارب حقق يل مطلبي..
ارسل مالئكتك ليأخذوا ويقبضوا تلك الروح البائسة ..روحي ..روح امرأة
273
خذلت أباها وأمها ..ضاعت وسط ظنها ان براءهتا تشفع هلا من الذئاب
والثعابني..
يف نفس اليوم زار نورا ثالثة أطباء طبيب متخصص يف املخ واألعصاب
وطبيب آخر متخصص يف أمراض الرمد والعيون وثالث هو الطبيب العام
املسئول عن حالة نورا ..التف حوهلا األطباء الثالثة يف جنح الظالم والساعة
تشري إىل الثانية بعد الظهر والشمس يف منتصف السامء ..لكن الظالم حييط
احلجرة من كل مكان ..قاموا باحلديث اليها ورشح حالتها بالتفصيل
واخربوها ان الساعة تدق الثانية ..منتصف النهار ..فتذكرت ما سمعته من
قبل عن حالة ذلك املريض األعمى ..انه أنا ..أنا أصبحت عمياء ..كفيفة..
كنت ادعو لنفيس وأنا أظن أين أدعو لرجل كفيف وأمتني ان يتأقلم عىل الوضع
اجلديد ..إنه أنا من جيب أن تتأقلم عىل الظالم يف النهار والليل ..ليس هناك
فارق بينهام اين طلبت املوت بعد كل ما مر يب من عذاب ..فيارب ً
بدل من
اإلرسال يف طلب وقبض روحي تأخذ برصي ..أي راحة هذه ..فها أنا ذا يزاد
لقبا جديدً ا ..نورا العمياء ..نورا الكفيفة ..كنت دو ًما اتطلع ألن
عىل ألقايب ً
يأيت أحدً ا لفتح النافذة ..اآلن ..ال داعي ..نافذة مغلقة أو مفتوحة ..مفتاح
نور يعمل أو ال يعمل ..كل األمور متساوية ..لقد أرخيت ستائر عيني ولن
ترتفع أبدً ا ..أين النهاية ..هبطت الستائر وأرخيت ومازلت انتظر ..كلمة..
كلمة واحدة ..كلمة "النهاية" ..ففيها راحتي ..وفيها انتقام السامء مني ..هناية
بطعم الراحة..
274
عادت نورا إىل السجن ..عادت بمظهر جديد ..ال تسري وحدها ..وإنام
معها من يسحبها ويوجهها..
استدعاها ضابط السجن قال هلا بعض كلامت املواساة والرفق بحاهلا..
ثم اخربها أنه حيمل هلا شيئني مهمني ..األول من زوجها ..ثم ناوهلا ورقة
كبرية ..قالت له ..ما هي ..أنا ال استطيع النظر والقراءة هال تساعدين وتقرأ
ما فيها ..بعد ان سكت للحظات وال يدري ما يقول تشجع ً
قائل ..إهنا وثيقة
طالقك يا نورا من زوجك املدعو" ماجد حمروس" وربت عىل كتفها ..كغري
عادة أي امرأة تتسلم ورقة طالقها فتحزن وتبكي حتى لو كانت تتمناها من
قبل لكن نورا شعرت بالعكس متا ًما ..فكانت تشعر أن ماجد يصعب إبعاده
عن حياهتا ..وعندما امسكت الوثيقة يف يدها رفعتها إىل شفاها وقبلتها قائلة..
لك احلمد يارب عىل نعمة اخلالص من الكابوس والثعبان ..شعرت بارتياح
غريب ..إن مل يعد هلا أي صلة هبذا املخلوق وأمه..
ثم استطرد الضابط بعد ان رأي رد فعل نورا اهلادئ السعيد فتشجع ً
قائل
أما اليشء الثاين يا نورا ..فهذه املذكرات تركتها لك والدتك مدام كريمة قائلة
إهنا آخر وصايا والدك العميد فؤاد رمحة اهلل عليه ..ان يعطوك أنت مذكراته
بخط يده ..وجاءت والدتك لتنفيذ الوصية وعند اصابتك تركتها لك..
امسكت نورا دفرت املذكرات بلهفة وأول ما فعلته هو وضعه عىل وجهها
انفاسا متالحقة وتشتم املذكرات من كل
ً لتشتم فيه رائحة أباها ظلت تأخذ
جانب ودموعها ال تتوقف ..ثم قالت يارب ..أخذت برصي قبل أن أراها
واقرأ حروفها حر ًفا حر ًفا ..إنه خط أيب ..سيادة العميد ..كنت أمنى نفيس
275
يارب أن متهلني بضعة أيام ثم أسحب برصي مرة أخرى ..ثم سألت الضابط
هل ممكن ان تقرأ يل عنوان املذكرات ..ماذا سامها أيب..
نظر الضابط إىل الدفرت وأجاب« ..عجائب اكتوبر ..دروس يف فنون
القتال»..
ابتسمت نورا ألول مرة منذ اسابيع ..فرحة مل تشعر هبا منذ زمن بعيد..
فرحة نجاح أباها ..اكتامل املذكرات ..فهو واضح من معنى العنوان ..يتحدث
ً
وايضا كيف لقن عن اعجب وأغرب ما مر به خالل اشرتاكه يف احلرب..
درسا ليجعل من ال يقهر ..يقهر!!
اجليش املرصي العدو ً
شكرت نورا الضابط وانرصفت ..وال يشغل تفكريها أمر طالقها عىل
االطالق وأن كل ما كان يستحوذ عىل ذهنها هو كيف ستقرأ هذه املذكرات..
من ممكن ان يساعدها يف ذلك ..وبينام هي سائرة بصحبة احلارسة التف حوهلا
مجع من السجينات يقدمن هلا املواساة والعزاء بعد سامعهن بخرب طالقها وقد
تطوعت بعض منهن بسب ولعن الرجال ..وأنه ال مأمن المرأة من رشهم..
مل تكن نورا تنصت إليهن ..كل ما كان يدور يف رأسها هو من تصلح
ان تساعدها يف قراءة املذكرات بانتظام دون أن تشعر بملل ..فلم جتد نورا
إال إىل توجيه الطلب بشكل مبارش فأشارت هلن بيدهيا ان كفوا عن الثرثرة
واسمعوين ..انصت اجلميع ..رفعت نورا دفرت املذكرات إىل أعىل قائلة ..هذه
مذكرات أيب عن حرب اكتوبر ورشح للخطط والتكتيكات العسكرية والتي
شارك يف وضعها وتنفيذها بنفسه للوصول إىل اهلدف املنشود ..حترير األرض.
276
هل يل أن تساعدين احداكن يف قراءة تلك املذكرات يل ..فأنتن كام
تعلمن ..ال أبرص ..فبالتايل ال أقرأ..
سكت اجلميع ..وجاء صوت من بعيد« ..أنا ..أنا يل عظيم الرشف أن
اقرأ معك مذكرات رجل عظيم قدم لبلده خدمات جليلة»..
تقدمت الفتاة وقامت بتعريف نفسها لنورا ..اسمي «ايناس» عمي كان
حمبا للرئيس السادات وكان دائم احلديث عن ذكاءه وفطنته بجانب ثقافته
ً
ً
وأيضا الدينية ..اتقانه لإلنجليزية والفارسية ..هذا السياسية والتارخيية
بجانب الشخصية التي جترب من يتعامل معه عىل احرتامه وتوقريه ..أحببت
السادات بسبب روايات عمي عنه وأنا صغرية ..وعندما كربت ونضجت
كثريا عن فرتة حكمه وحتديدً ا فرتة ما قبل وما بعد حرب
شخصيتي قرأت ً
أكتوبر العظيمة..
نورا وايناس أصبحتا صديقتان منذ ذلك اليوم ..ظهور ايناس يف حياة
جانبا ..ووجود مذكرات سيادة العميد
نورا ازاح عنها التفكري وطلب املوت ً
فؤاد جعلت نورا حتب احلياة وتتشبث هبا اكثر ..كي تقرأ كل حرف وتقرأ
ببصريهتا ما بني السطور..
كانت إيناس قارئة جيدة وكانت مستمتعة بقراءة املذكرات مع نورا..
جاءت ميعاد املحاكمة للنطق باحلكم ..كان قلب نورا يدق بشدة قبل
النطق باحلكم ..وقد أبىل املحام اخلاص هبا بال ًء حس ًنا ..حيث اوضح من
خالل السرية الذاتية لنورا والسرية الذاتية ملروة ..أن نورا بعيدة متا ًما عن
شبهة حيازة تلك املواد واهنا تركت مروة وبجوارها حقيبة يدها إلحضار املاء
277
فقامت مروة بإلقاء الكيس يف حقيبة نورا ..ومما ساعد يف قوة موقف نورا هو
شهادة أحد ضباط الضبط واإلحضار الذي كان يطارد مروة داخل النادي
ورأها متيل عىل مقعد نورا بعد ان هنضت متجهة إىل داخل الكافترييا ..وكان
واضح إهنا تفعل شي ًئا ما فوق املقعد ..وعندما هربت طاردها بعض الرجال
وتوجه بنظره إىل الطاولة حيث وجد حقيبة نورا عىل املقعد ففهم أن مروة
كانت تفعل شي ًئا باحلقيبة وعند عودة نورا باملاء طلب منها ان يفتش حقيبتها
وعثر بداخل احلقيبة وعىل سطحها ليس بأسفل احلقيبة عىل كيس الكوكايني..
ثم أكد رجل آخر من رجال مكافحة املخدرات أقوال زميله حيث قال كال ًما
مشابه لذلك ..مما أعطى قناعة للقايض أن نورا مل تكن إال ضحية تعيسة وأن
مروة هي رأس الشيطان األكرب..
ً
وأيضا ملف نورا الطبي واحلالة الصحية التي أصبحت عليها وفقداهنا
البرص ..أدي إىل ان يقوم القايض بإصدار حكمه بالسجن ملدة عام واحد
فقط ..وقد مر منه نصفه حتت السجن االحتياطي وباقي أشهر معدودة وخترج
نورا من هذا الكابوس..
ً
وبعضا من أفراد ارسة نورا.. كانت مدام كريمة حارضة للجلسة
جالسا يف هدوء يف الصف األخري للقاعة ..وبمجرد
ً وكان هناك ً
رجل
النطق باحلكم انطلق يف التصفيق والتهليل حيث إنه معرو ًفا أن االجتار يف
املخدرات عقوبتها االعدام ويف أقل تقدير احلكم بالسجن املؤبد..
من هذا الرجل؟؟ ..نظر اجلميع إليه ..حتى نورا أدارت رأسها نحو
الصوت ..وبالطبع ال تستطيع رؤيته ..فسألت والدهتا التي كانت تقف
278
بجوارها وهي داخل القفص واألم يف خارج القفص وبينهام القضبان احلديدية
من هذا الرجل يا أمي؟؟ ..أين أعرف هذا الصوت لكن ال استطيع التذكر..
نظرت اليه مدام كريمة واجابت نورا قائلة ..إنه أبو الغالية أبو زوجة
اخيك ..صاحت نورا فرحة عمي د .كامل..
نعم إنه د .كامل ..حرض من االسكندرية يف كل جلسات حماكمة نورا
ً
أموال يف وهو من أحرض املحامي اخلاص للدفاع عنها ..وكان يرتك هلا
األمانات يف السجن ..وقد زارها يف مشفى السجن اكثر من مرة لالطمئنان
عليها لكن دون ان تدري..
تقدم منها مهن ًئا إياها" ..نعم يا نورا انا عمك كامل ..ألف مليون
قريبا جدً ا سوف خترجني» ..شكرته نورا بشدة ثم استطردت قائلة..
مربوكً ..
اخرج فني وملني ..وأنا بظرويف هذه و برصي الذي ذهب عني ..ماذا عساي
أن افعل..
اجاب د .كامل ..نورا ال تقلقي أنا اعددت لك كل يشء وهناك الكثري
من املفاجآت يف انتظارك ..دعينا فقط ندعوا اهلل أن متر أيامك رسيعة وخترجني
عىل خري..
عادت نورا إىل السجن بعد جلسة املحاكمة ..بدأ الشعور بالعدل يزحف
إىل قلب نورا شي ًئا فشي ًئا ..كانت تظن انه ال خالص من اهتامها بتجارة سموم
غري مرشوعة ..يعلم اهلل وحده إهنا مل يكن هلا ناقة وال مجل يف هذا العمل
الرشير ..عادت إىل سجنها إىل زنزانتها ..إىل مذكرات اباها..
279
جلست مع إيناس لتبدأ القراءة هلا يف صفحات املذكرات التي طاملا
متنت نورا ان ترى اوراقها ..وخط أبيها اجلميل ..وطريقة تنظيمه للحروف
واالسطر وبينام إيناس تقرأ استوقفتها نورا سائلة ايناس ..أمل تلحظي ع ّ
يل شي ًئا
خمتل ًفا اليوم؟ ..أجابت ايناس« ..نعم» ..أرى عىل وجهك شعور بالسعادة
والرضا ..ما رس هذه السعادة يا ترى ..هل بسبب احلكم املخفف الذي
ِ
حصلت عليه أم ماذا؟!
ردت نورا ..نعم احلكم املخفف باإلضافة إىل رؤيتي ألمي احلنون وافراد
ارسيت ..كذلك رأيت ً
رجل كم أكن له كل تقدير واحرتام ..إنه د .كامل والد
مايا اجلميلة زوجة اخي رشيف ..آه ..كم أحبهم ..رشيف أخ بمعني الكلمة
كثريا ..طيبة ..حنون ..مجيلة ..فنانة موهوبة ..هي
وزوجته مايا ..أحبها ً
متخرجة من كلية الفنون اجلميلة مثيل ..كم شعر قلبي بالفرحة عندما رأيت
عمي د .كامل وكأنني رأيت رشيف ومايا..
عادت إيناس للقراءة من جديد واستمرت يف االنتقال بني الصفحات
وهي مستمتعة ونورا أيضا يف غاية االستمتاع بكتابة أباها وأسلوبه الشيق
واضحا ..إىل ان وصلت إيناس عند
ً والصدق الشديد الذي تشعر به جليا
أحد املواقف التي كان يذكرها العميد فؤاد حيث كتب «احلياة العسكرية
داخل اجليش املرصي كام يظنها الكثريون تتسم بالشدة واحلزم وال تعرف
إال الرصامة والعقاب الشديد للمخطئ ..ال ..هناك رجال هلا قلب وتعرف
الرمحة والتسامح وتقدير األمور حق قدرها واحيانًا روح األب تتغلب عىل
روح الرتبة العسكرية األمرة الناهية ..واستشهد العميد فؤاد لتثبيت هذا املعنى
280
بأحد املواقف التي مر هبا اثناء خدمته يف اجليش قبيل حرب اكتوبر العظيمة..
حيث إنه تقدم أحد املجندين إىل قائده املبارش بطلب نزول اجازة رسيعة إىل
بلدته لرؤية امه حيث اخربه احد املجندين العائد لتوه من االجازة وهو يقطن
بنفس البلدة أن حالة والدته الصحية سيئة للغاية ويقول االطباء اهنا يف أيامها
األخرية وهي تنطق وتصيح باسم ولدها املجند طوال وقت افاقتها..
ً
طويل عىل أمه ..وتقدم بالطلب للذهاب يف إجازة طوارئ بكى املجند
لرؤية أمه لكن قائده قام بالتأشري عىل طلبه «بالرفض» ً
قائل أننا نحتاج إىل
مجيع االفراد للتدريبات ولن يسمح بأي اجازة مهام كان املوقف ..رفض القائد
املبارش..
أهنار املجند وانخرط يف البكاء ومل يستطع الرتكيز يف أي عمل يوكل اليه..
ويف جنح الليل استطاع التسلل عرب أسالك املعسكر ..هرب من املعسكر..
وسافر إىل بلدته وظل بجوار أمه ثالثة أيام كاملة ..ويف اليوم الرابع ..ماتت
األم وهي تدعو لولدها راضية عنه ..قام بدفنها وعمل مجيع اإلجراءات
الالزمة ويف املساء أتى مجع غفري إىل داره للتعزية ..وعند بداية خيوط الفجر
األويل توجه املجند عائدً ا إىل وحدته ..وبمجرد دخوله تم إلقاء القبض عليه
حيث انه ُسجل هار ًبا من اليوم األول ملغادرته املعسكر ..ووضع يف أحد
زنازين السجن احلريب ..وعندما ُرفع الطلب إىل قائد الكتيبة للتأشري لتوقيع
اجلزاء عىل املجند اهلارب وكنت أنا قائد الكتيبة ..قبل التأشري أردت العمل
بالعدل كام قال اهلل تعايل يف كتابه العزيز «إن اهلل يأمر بالعدل واإلحسان»
فطلبت مذكرة تفصيلية بواقعة اهلروب ومالبساهتا وعند قراءة املذكرة علمت
281
ان املجند اتبع التعليامت واالجراءات وقام بتقديم الطلب إلجازة الطوارئ
إىل قائده املبارش والذي رفض املوافقة عىل طلبه ..بعدها هرب املجند البد يف
األمر يشء ..أريد سامعه قبل التأشري بالعقاب..
حرض املجند من زنزانته إىل مكتبي ..دعيته للجلوس وأحرضت له كو ًبا
من الشاي الثقيل واشعرته أين مل احرضه لسؤاله أو حماكمته ..بل ملشاركته
اسباب اهلروب وعليه ان حيكي ويرشح وهو يف امان تام ..وأي رس يقوله لن
يذاع مهام كانت األسباب ..هكذا يتعامل الرجال..
بدأ املجند يف رشح املوقف من وجهة نظره وكيف انه كاد جين وفقد تركيزه
يف التدريبات وكل يشء ..خو ًفا عىل أمه وفقداهنا ..وإن كان هلل حكمة يف موت
أمه وال اعرتاض فعىل األقل ..يراها ..ويسرتها بالدفن الرشعي بنفسه حيث
هو االبن الوحيد عىل ثالث شقيقات ..واألب متويف منذ زمن ..واألن بعد
وفاهتا اصبح هو العائل الوحيد لألرسة ..بجانب الرعاية عىل استيحاء من
االقارب..
أمرت بإحضار عدد 2غداء يل وللمجند املسكني
ُ اقرتب موعد الغداء..
الذي اصبح يتيم األب واألم ..ومحل مسئولية ثالثة فتيات وهو يف اجليش
ومقبل عىل حرب ال يعلم أحدً ا إال اهلل وحده إن كان سيعود ً
سليم معايف إىل
شقيقاته أم يستشهد أم يصاب ..ال أحد يعلم..
هكذا تعلمنا أن ألي رواية وجهة نظر أخرى ..وإن للعدالة وجوه
كثرية ..وليس من العدل السامع من طرف واحد والتحيز التام هلذا الرأي
282
دون اعطاء الفرصة للطرف اآلخر لعرض قضيته ورشح وجهة نظره ..فكام
تعلمنا ..للعدالة اكثر من رواية..
بعد الغداء ..أصدرت أوامريً ..
أول ..يذاع يف طابور الصباح إقامة
جملس عزاء يف إحدى صاالت االجتامعات وقيام افراد الكتيبة بتعزية املجند..
ثانيا :التربع بمبلغ واحد جنيه وهذا اختياري ملراعاة ظروف املجند
ً
وأرسته..
فرح املجند عند سامعي القاء تلك األوامر عىل املساعد اخلاص يب..
لكتابتها وابالغها للجميع وقام بعناقي والدموع تنهمر من عينيه ..ثم قال
يل ..يا فندم أنا أعلم ان الرجال ال تبكي ..وعند موت أمي مل ِ
أبك حيث
متوقعا موهتا بني حلظة وأخرى ولكن ما فعلته معي اليوم ..نزع حاجز
ً كنت
الدمع من عيني فوجدتني ال امتالك نفيس وابكي بشدة ..لقد هربت وتغيبت
اربعة ايام ..اوقفت عقايب واستدعيتني ملكتب حرضتك الذي أدخله ألول
مرة واحرضت يل الشاي واستمعت يل باهتامم رغم علمي بحجم انشغالك
يف اعامل القيادة ..وأحرضت يل نفس الغداء الذي تأكله وأوليتي رشف تناول
الغداء مع قائد الكتيبة وبعدها تعفوا عني وتطلب من اجلميع التربع باملساعدة
املالية ..كم أنت أب رحيم ..كم انت عادل حكيم..
283
بعد ان استمعت اليه ودموعه ال تتوقف عن اهلطول وهو يف شدة التأثر..
أخربته ان القيادة ليست فقط حزم وعقاب وأوامر ..إنام عقل ..وحكمة..
ورمحة»..
انتهت ايناس من قراءة تلك الفقرة من رواية العميد فؤاد قائد الكتيبة
وحكايته مع أحد املجندين وان الرمحة تسبق العقاب والعدل يسبق الشدة
كانت ايناس اثناء قراءهتا تشعر بتسارع يف انفاسها ومل تشعر بالدمع يسقط من
عيناها ..كانت تقرأ لنورا ولنفسها وخياالت تتحرك أمامها بشكل متسارع
واصوات وأحداث كثرية مرت عليها هلا عامل مشرتك مما قرأته يف مذكرات
العميد فؤاد..
شعرت نورا بصوت بكاء إيناس واستمر الصوت يف ازدياد إىل ان
اجهشت ايناس بصوت ٍ
عال مسموع ممتلئ باآلهات والزفرات ..والقت
برأسها عىل صدر نورا ..مل تستطع نورا فعل أي يشء إال أن تقوم بدور األم
احلانية عىل فتاهتا ..التي من الواضح إهنا متر بأزمة نفسية عنيفة وتعيش حالة
من احلزن والتخبط مصحوبة بصمت خالص ..إىل ان حانت اللحظة ..حلظة
استثارة أخرجت فيها إيناس كل ما بداخلها من ضغط وكبت ومن الواضح ان
املوقف الذي رواه العميد فؤاد يف مذكراته ..كان هو القشة التي قسمت ظهر
ذكريات مؤملة مضت داخل إيناس..
بعد ان هدأت ..سألتها نورا حيث كانت يف غاية القلق عليها ..تريد أن
تعرف ماذا حدث ..هل هي هلا عالقة هبذا املجند ..فهذه الرواية حدثت من
عرشات السنني ربام يكون أباها ..جدها ..أحد اقرباءها ..ال أعلم ..البد أن
284
افهم ..ما دخل مذكرات ايب يف اهنيار ايناس ..يا هلذا العامل الضيق ..كأن هناك
مجيعا ..أو ربام أكون خمطئة وليس هلذه الرواية أي ً
خيوطا ترتبط ما بني الناس ً
عالقة بينها و وبني كل ما حدث من اهنيار داخيل إليناس ..البد ان تتكلم..
قالت نورا« ..ايناس ..ارتاحي واهدأي ..كل مشكلة وهلا حل ..انظري
إ ّيل ..كنت باحثة عن املوت ..اآلن أنا مشتاقة للحرية للخروج خارج تلك
االسوار رغم فقدان برصي وأين مل أعد أرى إال ظال ًما ..لكن لدي طاقات
كثرية ألكمل مسرييت ومسرية أيب..
أجابت ايناس« :حس ًنا سأتكلم ..ألنك نورا من أنارت يل طريقي رغم
فقدانك للنور ..لكن اشعر بالنور خيرج من داخلك لينري كل ما حولك ..اين
وأخريا وجدتك
ً احبك يا نورا ..احب صداقتك ..فأنا ليس يل أصدقاء..
سأحكي لك قصتي وستفهمني من كالمي الرابط بني قصتي وقصة املجند يف
مذكرات سيادة العميد فؤاد ..والدك رمحة اهلل عليه..
أنا اسمي «ايناس عبد الرحيم» من أرسة أقل من متوسطة احلال ..أقرب
إىل االرسة الفقرية ..أنا واختي «ملياء» ..وأمي املوظفة بإحدى املحاكم ..قسم
االرشيف ..تويف والدي وأنا يف املرحلة االعدادية ..كنت دائمة متفوقة يف
دراستي وكان مشهود يل بالذكاء والقدرة عىل التحصيل الدرايس واحلفظ
الرسيع ..ومل أكن احتاج إىل االستعانة بمدرس خصويص كام كانت تفعل كل
التلميذات األخريات يف املدرسة احلكومية حيث كام تعلمني مستوى جودة
املدارس املتدين وعدد التلميذات الكثري للغاية جيعل عملية التحصيل غري
ذات قيمة ..باإلضافة إىل عوامل اخرى كثرية أدت إىل سوء مستوى التعليم
285
احلكومي ..وليس كام كنت أسمع من جدي أن عىل أيامه كانت املدارس
احلكومية هي يف قمة املدارس وال يلجأ إىل التعليم اخلاص إال من فشل يف
النجاح والتفوق يف املدارس احلكومية ..والتي َّخترج فيها عظامء األمة والساسة
والعلامء ورجال القانون ..الوزراء ..وكل من ساهم يف تأسيس وتثبيت دعائم
قيام دولة قوية ِّ
يكن هلا اجلميع آنذاك كل احرتام..
أختي «ملياء» تكربين بثالث سنوات ..أكملت دراستها الثانوية بصعوبة
شديدة حيث مل تكن «ملياء» تفهم معظم الدروس وكانت بحاجة إىل أخذ
الدروس اخلصوصية املساعدة وبالطبع كان ذلك يف غاية الصعوبة عىل ميزانية
األرسة ..حيث كان راتب امي بالكاد يكفي لالحتياجات االساسية من
املعيشة..
حصلت ملياء عىل الثانوية العامة لكن بمجموع ضعيف ..مل جتد أي كلية
مما كانت ترغب فيهم ..واالختيارات كانت حمدودة فالتحقت باملعهد الفني
يوميا
التجاري ..زادت طلبات ملياء حيث كانت تريد الذهاب إىل املعهد ً
بمالبس الئقة ..ولألسف رسبت ملياء يف السنة األويل للمعهد ..وأصبحت
أنا يف الصف الثاين الثانوي ..ومل احتاج إىل اخذ دروس خصوصية وكانت
تقريبا وال اهتم باملاكياج
ً أمي تفخر يب أين ال اكلفها الكثري وليس يل طلبات
ً
ودائم والعطور ..فكانت رأيس متتلئ بالنظريات اهلندسية والدوائر الكهربائية
اتطلع ألعرف كيف تعمل األجهزة سواء التلفاز ..املكواة ..السخان وكل ما
تقع عليه عيني من أجهزة كهربائية والكرتونية..
286
نجحت ملياء يف عامها األول مكرر يف املعهد وانتقلت أنا إىل الصف
الثالث الثانوي أصعب وأهم سنة يف تاريخ أي متعلم ..اجتهدت للغاية حيث
ً
مقسم بني املدرسة يف الصباح ومساعدة أمي يف األعامل املنزلية كان وقتي
بعد عوديت ..ثم استذكار درويس املمتعة يف املساء وجزء من الليل ..انتهت
السنة وأديت االختبارات النهائية ..وكان هديف األسمى هو االلتحاق بكلية
اهلندسة ..حتدثت مع أمي يف األمر ..فأخربتني أهنا تتمني يل كل خري ..لكن
هي تعلم أن هذه الكلية حتتاج بعض املرصوفات الزائدة عن أي كلية نظرية
أخرى ومن الصعب عليها تدبري الالزم يل ..إذا كان جمموع درجايت يؤهلني
لدخول كلية اهلندسة ..فطرأت يل فكرة ..هي العمل ..البد أن أعمل وأدخر
بعض املال ليعينني عىل مرصوفات الكلية وال أختىل عن حلمي ..فكرت أين
أعمل وماذا استطيع القيام به..
يوجد يف الشارع اخللفي لبيتنا ً
حمل إلصالح األجهزة الكهربائية مثل
اخلالط -املكواة -الراديو ..مكنسة ..وخالفه ..فكرت ملا ال أعمل هناك إذا
احتاجوا املساعدة فأنا أعشق التعامل مع األجهزة وفهمها واصالحها ..نعم
غدً ا اذهب إليهم وال ضري من التجربة ..فأنا أعلم ان صاحب تلك الورشة
هو رجل طيب اسمه عم «راغب» حسن السمعة ..واجلميع يف حيينا يلجأ إليه
إلصالح أي عيوب تطرأ عىل أجهزهتم املنزلية..
يف الصباح توجهت إىل ورشة عم راغب ..كان موجو ًدا وحده ..ظننت
ً
وعامل يعملون يف تلك الورشة ..لكنها كانت ورشة أناسا كثريون
أن هناك ً
287
صغرية مليئة باألجهزة القديمة وقطع غيار عديدة ومسامري وأدوات إصالح
اعرف بعضها والبعض ال أعرفه..
سألته إن كنت أستطيع العمل عنده للمساعدة يف إصالح األجهزة ..نظر
إىل عم راغب نظرة أب حنون ..وضحك ً
قائل" ..يابنتي ..مصنع اخلياطة يف
آخر الشارع ..احنا هنا ورشة إصالح اجهزة كهربائية»..
ابتسمت له قائلة« ..أعلم يا عم راغب ..أنا آتية للعمل عندك أنت يف
إصالح األجهزة املنزلية ..وليس يل اهتاممات باملالبس وحياكتها»..
نظر إ ّىل عم راغب ..فحصني جيدً ا وترك ما يف يده ً
قائل " ..وماذا
تستطيع فتاة مثلك مع االجهزة املنزلية" ..أجبته" ..إين أقوم بإصالح أجهزة
منزلنا عندما تتوقف عن العمل واستطعت فهم معظم األجهزة وكيفية عملها
واألعطال الشائعة التي حتدث هلا" ..رفع عم راغب حاجبيه مستغر ًبا حديثي
للغاية ..فتاة نحيلة ..مل تتعدى الثامنة عرشة من عمرها تدعي اهنا تقوم بإصالح
أعطال األجهزة ..ما هذا اجلنون اهنا حقًا مضيعة للوقت..
نظرت إىل عم راغب واستنبطت ما يفكر فيه فقلت له «ليس هناك ما
خترسه يا عم راغب ..اعطني شي ًئا مما امامكم اصلحه لك وترى بنفسك»..
استحسن عم راغب الفكرة وقال «ملا ال ..تعاىل ..ادخيل ..اجليس عىل
هذا املقعد ..خدي هذه املكواة ..إن اصحاهبا يقولون إهنا كانت تعمل بصورة
جيدة وفجأة توقفت عن العمل ..سأضع أمامك بعض املفكات واألدوات
األخرى التي ربام حتتاجينها ..وقال :انني ال أصدق أنني فعلت هذا معك..
أن اسمح لك بالعبث يف أجهزة زبائني لكن أمام إرصارك وكي توقني انه أمر
288
طبعا
صعب للغاية ..سمحت لك ..وإذا فشلت يف إصالحها وهذا املتوقع ً
أرجو أن تنرصيف هبدوء دون اهدار وقتي بالكالم ..سوف اذهب إىل هذه
املقهى القريبة إلحضار القهوة وسأحرض لك كو ًبا من الشاي ..هل ترشبني
الشاي ..أجبته بالنفي ..بأنني ال أريد شي ًئا ..فقط العمل..
ذهب عم راغب إىل املقهى وبدأت يف تفحص املكواة ..وضعتها يف
الكباس الكهربائي ..من املفروض أن أرى ضوء أمحر ..مل يكن هناك ضوء..
قمت بفتحها من اجلانب اخللف بعد أن نزعت املسامري ..اختربت كل
وأخريا اكتشفت أن السلك املوصل للكهرباء به عطل ..به تآكل
ً األجزاء
وقطع فال تصل الكهرباء إىل السلك احلراري داخل املكواة..
قمت بإصالح القطع وتوصيل السلك ببعضه بإحكام ووضع رشيط
كثريا
أسود الصق يف طبقات فوق بعضها ..وجربت ..اهنا تعمل ..محدت اهلل ً
وقمت بإعادة املسامري وإغالق املكواة من اجلزء اخللفي وقمت ً
أيضا بتنظيفها
كيسا من البالستيك كان
من بعض األتربة واإلتساخ العالق هبا ووضعتها يف ً
موجو ًدا أمامي.
عاد عم راغب حيمل صينية عليها فنجان القهوة وكو ًبا من املاء املثلج..
ِ
عليك.. جلس وقال يل ..ملاذا مل تبدي يف إصالحها ..أكيد املوضوع صعب
اذهبي يا بنتي وحاويل يف مصنع اخلياطة ..ربام حيتاجون إىل عامالت هناك..
ابتسمت له قائلة« ..املكواة تم إصالحها خالص يا عم راغب ..يمكنك
أن ختتربها بنفسك وقمت ً
ايضا بتنظيفيها فصارت مثل اجلديدة متا ًما"..
289
فتح عم راغب فمه مندهشً ا ..كيف فعلت هذا هبذه الرسعة ..أنا مل أتأخر
آتيا إليك ..وماذا ً
أيضا جمرد انتظرت العامل يف املقهى لصنع قهويت ثم عدت ً
مجيعا..
تقريبا مجيع األجهزة ..فأنا قرأت عنها ً
ً تستطيعني إصالحه ..فأجبته..
فرحا وأبدى اعجابه انني قمت بتنظيف املكواة
فرح عم راغب اشد ً
واعادهتا كاجلديدة وقال ..عارفة يا إيناس يابنتي انا عمري ما اهتميت بتنظيف
األجهزة قبل إعادهتا للزبون ..اصلحها واقبض اجريت فقط ..لكن مسألة
التنظيف هذه مهمة للغاية ..فاملكواة بجانب إهنا تعمل لكن شكلها اختلف
متا ًما عن الصورة التي احرضوها يل إلصالحها ..أنا موافق أن تعميل عندي
وبالنسبة لألجر ..أنا ال استطيع أن ادفع لك راتب شهري لكن من املمكن ان
نتشارك يف كل جهاز تقومني بإصالحه ..تأخذي نصف اجرة اصالحه وأنا
النصف اآلخر ..اتفقنا ..راضية..
طبعا فرحت جدً ا أنه قبلني ألقوم بالعمل الذي أحبه وأجد نفيس فيه..
ً
ً
وأيضا حلم دخول كلية ً
وأيضا أنه كلام زادت األجهزة املعطلة ..زاد راتبي
اهلندسة لن يضيع ولن اضع عىل كاهل أمي املزيد من األعباء ..يكفي ما
تكبدها هلا ملياء من أعباء مادية كثرية..
بدأت عميل بجد واجتهاد مع عم راغب وهو رجل طيب حقًا ..وكنت
يف منتهي السعادة وكانت الزبائن يف ازدياد وحتديدً ا بعد ظهور اخلدمة اجلديدة
أن الزبون يتسلم جهازه يعمل وموضوع داخل كيس وبحالة املصنعً ..
وأيضا
أصبحنا نعطي ضامنًا من املحل ملدة شهر يف حالة ان االصالح مل يكن جيدً ا..
وبعد فرتة اكتسبت خربة طويلة وشهرة واسعة واصبحت الورشة أو املحل
290
يأتيه زبائن من أماكن بعيدة للغاية بنا ًء عىل السمعة الطيبة ..االلتزام بمواعيد
التسليم واجلودة والضامن..
ظهرت نتيجة الثانوية العامة ..وكان ترتيبي الثانية عىل حمافظة القاهرة
وقام السيد املحافظ ووزير التعليم بتكريمي أنا ومجيع املتفوقني واملتفوقات
وحصلت عيل شهادة تقدير مع مبلغً ا من املال ..وضعته يف حساب توفري
ً
بسيطا يعينني عىل مرصوفات الدراسة ربحا شهر ًيا ولو
بالربيد كي يدر يل ً
وربام ال أضع أي أعباء عىل كاهل أمي املكافحة املسكينة..
التحقت بكلية اهلندسة ..وكنت يف أشد أيامي سعادة ..جو الكلية خيتلف
متا ًما عن املدرسة الثانوية ..عامل جديد متا ًما ..قاعات املحارضات ..الدكاترة..
الطلبة والطالبات ..كافيرتيا الكلية ..املسجد ..اشياء كثرية خمتلفة ..جو جديد
متا ًما..
كنت أذهب للجامعة يف الصباح ثم أعود إىل البيت للغداء والنوم ملدة
ساعة وبعدها الذهاب إىل الورشة مع عم راغب ..يف ذلك الوقت خترجت
ملياء من املعهد الفني التجاري واستطاعت أن جتد ً
عمل يف إحدى رشكات
التسويق العقاري ..عمل شاق لكنه كان مربح بعض اليشء..
اصبح وضعي يف الورشة حمرج يل بعض اليشء ..حيث بدأت اتعرض
للمعاكسات من بعض الزبائن وكان عم راغب يقوم بالدفاع عني ومحايتي
لكن زادت األمور بصورة أصبح من الصعب معها ان استمر يف هذا املكان..
افصحت لعم راغب عن استيائي مما حيدث وأنه من الصعب االستمرار
يف هذا الوضع ..نظر إىل عم راغب ً
قائل" ..أنا اتعودت عىل وجودك معي..
291
وبمهارتك أصبحت الورشة تعمل بمعدل عرشة اضعاف عىل ما كانت عليه
من قبل جميئك؟ ..لكن ِ
أنت مثل ابنتي وال أرىض لك الشعور باإلهانة ..أنا
لدي اقرتاح ..إصالحك لألجهزة ال يتطلب وجودك هنا يف الشارع والتعرض
حلامقات الزبائن ..أنا اتعامل مع الزبائن ..أرسل لك االجهزة املعطلة إىل بيتك
واعطيك االدوات الالزمة لإلصالح .قومي باإلصالح يف بيتك ثم أرسل لك
آخذهم من البيت ..وهبذا ال ترتكيني ونضمن لك البعد عن مضايقات الزبائن
واملعاكسات من الرجال ..ما رأيك يابنتي"..
شعرت ً
فعل بعد سامعي القرتاح عم راغب ان أيب مل يمت ..حيث
كثريا بحكمته واحرتامه عن غياب األب ..كان اقرتاحه
عوضني عم راغب ً
رائعا يضمن يل الربح املايل واستمرار اكتساب اخلربة والتعامل مع األجهزة
ً
املعطلة ..ويف نفس الوقت اكون يف بيتي بجوار أمي ..وعندما أفرغ من
االصالح استطيع استذكار درويس..
وبالفعل صارت األمور معي بشكل أكثر من ممتاز ..ومرت السنوات
داخل الكلية وأنا يف تفوق ويف نفس الوقت أقوم باإلنفاق عىل نفيس وكنت
أمينة مع عم راغب إىل أبعد حد ..حيث كان هناك بعض الزبائن من اجلريان
حيرضون أجهزهتم املعطلة التي حتتاج إىل اصالح إىل بيتنا ..فاعتذر هلم وال
اقبلها واقول هلم ان يذهبوا إىل الورشة إىل عم راغب وهو سوف يقوم
بالالزم ..فلم أعمل من وراء ظهره مطلقًا ..وأنا يف السنة األخرية يف الكلية
..جاء عريس ألختي ملياء ..وكم كانت فرحة هبذا للغاية ..هو زميل هلا يف
مدخرا بعض النقود لعمل
ً تقريبا وكان
ً العمل ..أحواله املادية تشبه أحوالنا
292
مجيعا فهي أم العروسة ..وبعد
فرحا منا ً
اخلطبة وخالفه ..وكانت أمي أشد ً
االتفاق عىل كل يشء وامتام اخلطبة كانت أمي مطالبة أن تؤدي اجلزء املادي
عليها من جتهيز ابنتها العروسة ملياء حيث حتتاج إىل أجهزة منزلية مثل ثالجة..
غسالة ..تلفاز ومجيع ما حتتاجه أي فتاة مقبلة عىل جتهيز منزل الزوجية..
مل يكن لدي أمي أي مدخرات وكانت يف ورطة حقيقية خاصة أمام أهل
العريس ..فأشارت عليها إحدى اجلارات ان احلل الوحيد الذي يلجأ اليه
الكثريون يف مثل هذه األمور هو ان تشرتى كل ما حتتاجه العروس وتقوم
بالسداد بالتقسيط بالطبع بعد اضافة قيمة الفوائد التي عادة ما تكون باهظة
فينتقل السعر االسايس ألي سلعة إىل رقم اكرب بكثري بعد اضافة الفوائد..
سلكت أمي هذا الطريق وتبنت هذا احلل وبالفعل توجهت إىل احد
املتاجر الشهرية لرشاء احتياجات ملياء ..وبالطبع ذهبت معها ملياء الختيار
اجهزهتا ..وطلبت مني أمي أن اذهب معها حيث لدي خربة كبرية من عميل
يف إصالح األجهزة باإلضافة أين عن قريب أصبح مهندسة فتستعني بخربيت
يف اختيار اجليد من املاركات التي تتحمل العمل الشاق دون ان تتعرض للتلف
رسيعا ..وبالفعل ذهبنا وبعد الفحص واالختيار وقع اختيارنا عىل مجيع
ً
األجهزة املطلوبة ..ثم جاء وقت التحدث مع صاحب املتجر عن االسعار
واألمور املادية ..دعانا للجلوس إىل مكتبه يف أحد أركان املتجر..
شهرا يستغرق السداد
أوضح لنا األسعار بعد الفائدة وكيفية السداد وكم ً
والتحذير القانوين املعتاد ..أنه إذا مل يتم السداد فلسوف يتخذ إجراءات
293
قانونية ضد أمي وسحب واسرتداد االجهزة وربام يتطور األمر إىل اللجوء إىل
املحكمة..
وافقت أمي عىل كل الرشوط واألمور القانونيةً ..
رغم عنها كي تتم زواج
ملياء..
طلب صاحب املتجر منها بطاقة الرقم القومي لعمل االجراءات ..عندما
نظر إىل املهنة يف البطاقة ردها مرة ثانية إىل أمي ً
قائل ..أهنا ال تصلح إلعطائها
أي يشء بالتقسيط ..سألته عن السبب ..أجاب ..أهنا تعمل يف املحكمة ..وهو
بحكم خربته ال حيب التعامل مع بعض الفئات واملهن ..منهم من يعملون يف
املحكمة حيث أن له جتارب معهم ومل يسددوا ومل يستطع فعل يشء معهم وكام
يقولون ..مل آخذ منهم حق وال باطل ..عرفوا كيف تكون املامطلة وأن تظل
قضايا التسديد تستمر لسنوات طويلة..
نظرت إليه أمي ..بعد أن هنضت من مكاهنا وقالت« ..إذن أضعنا وقتك
ووقتنا بال أي استفادة ..وكادت تنرصف ..لوال ان صاحب املتجر استطرد يف
كالمه ً
قائل ..انه يوجد حل آخر وهو أن تقوم ابنتك بالتوقيع عىل الشيكات
وأوراق االستالم ً
بدل منك وأن يكون القرض والفوائد باسمها..
نظرنا ثالثتنا إىل بعضنا وقالت ملياء ..ال بأس ..سأقوم أنا بالتوقيع وحتمل
املسئولية كاملة ..فال وقت لدينا ..البد من استكامل فرش الشقة وحتديد ميعاد
الزفاف ..أخرجت ملياء بطاقة رقمها القومي ..نظر فيها صاحب املتجر ومل
يبدي أي رد فعل ..ثم طلب أن يرى بطاقتي أنا ..مددت يدي له هبا نظر إىل
املهنة« ..طالبة بكلية اهلندسة» ..ثم سألني يف أي سنة أنت يف الكلية ..أجبته
294
«يف السنة األخرية ويتبقى شهرين عىل خترجي» ..ابتسم وتوجه ألمي بالكالم
ً
قائل وهو يشري إىل" ..بنتك دي هي اليل تصلح أن نكتب االوراق باسمها"..
ردت أمي ملاذا إيناس حتديدً ا..
قال ..أطلعك عىل رس ..يف مثل هذه األمور ..أمور التقسيط وكتابة
الشيكات نحن نبحث عن من هم أصحاب املهن املرموقة ..حيث إهنم خيافون
عىل سمعتهم للغاية ..فيقومون بالسداد ..دون الدخول يف إجراءات قانونية
يل ..لذلك ً
أموال ..وبذلك يزيد الرضر ع ّ واالستعانة باملحامي الذي يكلفني
إذا أردت امتام كل يشء يف عرش دقائق ..عىل اآلنسة إيناس أن تكون هي
الضامن ويكون كل األوراق صادرة باسمها»..
نظرت ملياء إىل وكذلك أمي ..ينتظران مني اإلجابة بالقبول أو الرفض..
حبي الشديد للمياء أختي واشفاقي عىل أمي ..جعلني أوافق عىل الفور..
قمت بالتوقيع عىل مجيع األوراق ..ومن ضمن هذه األوراق ..عدد أربع
شيكات بدون املبلغ ..شيكات عىل بياض..
استلمت ملياء األجهزة ونقلتها إىل شقتها ..وسارت مجيع األمور بخري..
وتم زفاف ملياء ..وبقيت أنا وأمي بعد خترجي يف الكلية والتحقت بالعمل بأحد
مصانع االلكرتونيات ..وبعد ثالثة أشهر ماتت أمي إثر حادث سيارة وهي يف
طريق عودهتا بعد خروجها من العمل ..ماتت أمي ..اصبحت وحيدة..
وكانت أحوال ملياء سيئة متا ًما من الناحية املادية ..حيث فقد زوجها
وظيفته واصبحا يعيشان عىل راتب ملياء الذي قارب عىل التوقف حيث كانت
ملياء يف شهور محلها األخرية ونصحها األطباء أن ظروف محلها ليست عىل ما
295
يرام ويتطلب منها الراحة التامة ..فانقطع راتبها هي األخرى ..مازال زوجها
يبحث عن العمل يف أي مكان ..مرتبي كان ضعي ًفا ألين يف بداية التعيني..
فكان ال يكفي لسداد اقساط االجهزة باإلضافة إىل الفائدة الباهظة ..تراكمت
ع ّ
يل االقساط والديون وجاءين أول انذار من حمامي متجر األجهزة ..وتعددت
االنذارات إىل ان تم القبض ع ّ
يل حيث حصل صاحب املتجر عىل حكم غيايب
بسجني لثالث سنوات ..حاولت استئناف احلكم لكن قايض االستئناف أيد
احلكم ..واألن أنا يف شهري السابع وأمامي سنتان ومخسة شهور ..وقد ضاع
مستقبيل وال أعلم اين اذهب وكيف يل اجياد عمل وأنا يل سابقة سجن..
كنت أمتني ان يترصف صاحب املتجر ..كام ترصف والدك العميد فؤاد
مع املجند أن نجد سو ًيا ً
حل آخر غري عقوبة السجن ..لكن روح القانون
حربا عىل الورق وليس هلا أي ً
حمل لإلعراب عىل أرض الواقع.. أحيانًا تكون ً
املال يتحدث ويسيطروا أصحاب املال ً
دائم هو الفائزون ..فأنا يف نظر الدين
والرشع أعد من الغارمات ..بمعني اين استحق الزكاة وواحدة من الثامين
أصناف من الناس التي وجب عىل املجتمع مساعدهتم ..وحماولة مساعدهتم يف
السداد ..لكن الرمحة نزعت من قلوب اجلميع ..حتى القضاة ..رموز العدل..
عندما بكيت بشدة ..بكيت ألين وجدت من يؤمن بنفس وجهة نظري
ان الرمحة والعدل قبل العقاب وتنفيذ اللوائح وهذا ما تعلمناه من مواقف
مشاهبة مر هبا الفاروق عمر بن اخلطاب قبل زمن خالفته واثناء اخلالفة وهو
كرسا وال خر ًقا
أمري املؤمنني تعلمنا منه ان التنازل عن العقاب أحيانًا ليس يعد ً
للقانون وإنام دفع رضر أكرب قد حيدث إذا تم تنفيذ القانون..
296
فأنا يتيمة األب واألم وابدأ حيايت بديون ثقيلة ثم السجن ..يف يشء مل
أستفد منه وجرم مل ارتكبه..
أهذا هو العدل ..كنت متفوقة يف الكلية ومشهود يل من اساتذيت
والدكاترة مجيعهم واآلن ينتهي يب احلال إىل سجن مع املهربني والقتلة..
انتهت ايناس من رسد روايتها واالجابة عىل سؤال نورا ..ما هي هتمتك
وما أتى بك إىل السجن ..نظرت إىل نورا وجدهتا غارقة يف دموعها ..حلظات
صمت مرت بينهام ومها ال يتوقفان عن البكاء..
حتى قالت نورا ..كم نحن مساكني ..معرش النساءً ..
دائم ما ندفع ثمن
اخطاء غرينا ..لكن ال تقلقي يا إيناس ..أنا أحببتك ولن أنسى فضلك ع ّ
يل
يف مساعديت بعد فقدي البرص ..وقراءة مذكرات أيب ..لن اتركك وسنجد
دائم فهو الرحيم ..أليس اسمك ..إيناس عبد ً
حل إن شاء اهلل ..اذكري اهلل ً
الرحيم ..فلنأخذ ً
حظا من اسمك ..وندعو اهلل الرحيم ..أن يرمحنا وخيرجنا
من هذا املكان ..فهو أعلم اننا قد ظلمنا ومل نرتكب شي ًئا نعاقب عليه ..بل عىل
العكس ..نحن نحتاج التكريم والعطف واحلنو من املجتمع ..ليس العقاب..
توجهت نورا إىل مكتب الضابط يف السجن وطلبت االتصال بالدكتور
كامل وأهنا تريده أن يزورها ألمر هام ..ثم عادت إىل الزنزانة مرة أخرى
وطلبت من إيناس أن تكتب كل ما روته هلا عىل الورق ألهنا حتتاج إىل وجود
قصتها وما حدث هلا مدونة عيل الورق ألمر هام..
مل تفهم إيناس هذا الطلب الغريب من نورا ولكنها قامت بالتنفيذ لثقتها
الكبرية يف نورا..
297
تعجبت نورا من قصة إيناس ..تتحمل اخطاء وكوارث ارتكبها من
ال قلب وال ضمري هلم ..أمل نأيت عىل خاطرهم بعد فعلتهم ..كيف نواجه
احلياة واملجتمع ويقضون الناس أيام األعياد والعطالت يف مرح وخروج إىل
املتنزهات ..ونحن بدون أي ذنب نشقى ونعذب بني جدران وداخل أسوار..
نُحبس ..نُعاقبُ ..نان ..ونُحرم من كل ما يدعو إىل الفرح وكل ما يدخل
الرسور عىل قلب إنسان ..فالفرح والرسور ليس لنا ..نحن املعاقبون بفعل مل
نرتكبه واثم مل نأته ندفع اثامنًا باهظة من حلظات عمرنا ..سارق يرسق السعادة
من العني وال يوجد يف أي قانون من قوانني ودساتري العامل أي بند أو فقرة
ترد لنا كربيائنا وكرامتنا التي حتولت إىل أساور حديدية نقيد هبا وحتولت إىل
قضبان حديدية نحبس بداخلها..
أنا ..إيناس ..عم زكريا ..رشيف ..أيب ..وغرينا كثريون ضحايا ألفعال
حبا بحب..
شياطني يعيشون بيننا ولألسف نحبهم وهم يومهونا أهنم يبادلوننا ً
حبا بكوارث ..انتقام ..خراب وتدمري حلياة كنا نحلم لكنهم ..يبادلوننا ً
ونرسم خيوطها إىل ان تتقطع تلك اخليوط وتتحول إىل فتات ثم إىل تراب هيب
عليه الريح فينثره بعيدا ومل يعد حتى ُيرى بالعني ..هنيم بأحالمنا وأمنياتنا عن
املستقبل ..ثم يأيت هذا الرتاب املنثور ..املدفوع برياح قوية ..تزج به بعيدً ا..
فيصفع تلك االحالم واالمنيات ملقيا هبا يف بئر سحيق..
طلبت من إيناس أن تكتب عىل ورقة وتضيفها إىل أوراق قصتها وأن
تكون هذه الورقة بمثابة الغالف ..اكتبي عليها ..إيناس عبد الرحيم ..غارمة
من آالف الغارمات ..نستحق العدل يف جمتمع ظامل..
298
حرض عمي د .كامل إىل الزيارة اخلاصة وكانت يف نفس مكتب الضابط
الرحيم احلنون الذي انقذين عندما سقطت ُ
وشجت رأيس ..والذي أعطاين
مذكرات أيب مع وثيقة حريتي من ماجد ..وهو الذي طلبت منه االتصال
بالدكتور كامل فقام بإجراء املكاملة من تليفونه الشخيص ..كم هو لطيف..
ودود.
هنض الضابط من مكانه عندما احرضوين وهم باخلروج ..لكني طلبت
منه أن يبقى ليستمع ملا أريد أن اقوله لعمي د .كامل ..حيث أن لوجوده أمهية..
رشحت هلام موقف إيناس بشكل خمترص وأخربهتم أن تفاصيل قصتها مكتوبة
يف تلك الورقات ..عندما فرغت ..ربت عىل كتفي عمي د .كامل وأثنى عىل
حماولتي مساعدة سجينةً ..
قائل ..يا نورا ..قلبك الرحيم يسع اجلميع حتى
املسجونات ..اطمئني ..سوف أكلف املحامي اخلاص يب باألمر ونحاول أن
نرد املبلغ إىل التاجر وتنتهي القضية وخترج إيناس ..عندها تدخل الضابط
ً
قائل ..إن بعض زمالئه من الضباط أقاموا مجعية خريية ملساعدة الغارمات
وتسديد ديوهنم واملساعدة يف االجراءات القانونية حتى يتم االفراج عنهم..
قلت هلم ..وهلذا أردت أن تبقى معنا يا حرضة الضابط لعلمي إنك حتب
عمل اخلري وربام يكون لديك افكار واقرتاحات للمساعدة..
قام الضابط عىل الفور باالتصال بصديق له متطوع للعمل ملساعدة
الغارمات ورشح له املوقف وأخربه أنه سوف يرسل له تفاصيل ومالبسات
ما حدث إليناس..
299
انتهت اجللسة وبدأ الضابط يف ارسال األوراق إىل صديقه وانرصف
عمي د .كامل للذهاب للمحامي يف مكتبه الطالعه عىل األمر وعمل الالزم..
ما أمجل أن تقدم يد العون وأنت نفسك يف أمس احلاجة إليها..
االيثار ..يمنحك شعور بلذة غريبة ..ان تعطي من حيتاج وتتجاهل
احتياجاتك أنت ..أن خترج إيناس املظلومة إىل النور..
***
300
اقرتب موعد عودة رشيف من رحلته من برشلونة..
ازداد اشتياقه ملايا وخوفه عليها وعىل محلها ..ومل يتوقف طوال رحلته
عن التفكري يف نورا أخته ..وما مرت به وما اصاهبا وهي كالنسمة مل تقرتف
أي ذنب..
انتهت مايا من آخر لوحة كانت تضع الواهنا وجترى بالفرشاة عليها..
أمتت ثالثون لوحة ..عن نفس املوضوع «اإلنسان والالضمري» ..ثم بدأت يف
العمل يف لوحة جديدة بأبعاد أكرب واسلوب خمتلف ..وهو البورترية ..مكثت
طوال اليوم بال توقف ..ترسم كل تفاصيلها وكانت تنتظر إىل هاتفها حيث
كانت ترسم صورة مسجلة عىل هاتفها يف ملف الصور..
دق هاتفها ..إذا به رشيف خيربها انه وصل إىل ميناء جنوة بالفعل وأنه
سوف يستقل سيارة أجرة إىل املنزل ..وبينام هي تسمعه كانت باليد األخرى
ختط آخر خط يف اللوحة احلادية والثالثون ..ثم قامت بوضع قطعة كبرية من
القامش عليها دون أن تالمس األلوان التي مل جتف بعد..
***
301
قام الثالثة بالتنسيق فيام بينهم ..د .كامل واملحامي مع الضابط ..وقطعوا
كبريا يف اهناء إجراءات خروج ايناس بعد تسديد ديوهنا مع التاجر الذي ً
شوطا ً
أبدى ترحيبا بالتنازل عن الفوائد وجزء آخر مقابل حصوله عىل املال دفعة
واحدة ..وبالفعل قام بالتوقيع عىل تسلم النقود ثم أكمل املحامي االجراءات
إىل أن حتدد يوم خروج إيناس من السجن..
يف تلك االثناء كانت نورا قد أكملت ثالثة أرباع مدة حبسها وتقدم
الضابط هلا بطلب إفراج حلسن السري والسلوك..
***
302
ما أن دخل رشيف من باب البيت حتى قفزت عليه مايا دون أن تدري
إهنا حامل وال جيب ان تقوم بحركة مفاجئة كهذه لكن من شدة اشتياقها حلبيبها
ً
طويل.. ً
طويل.. ً
طويل.. مل تد ِر ما فعلت ..كان لقا ًء ً
حارا ..عنا ًقا
ما أمجل مشاعر اللقاء بعد طول غياب ..اشتياق مغلف بحب جارف
ينسى املرء معه من وأين هو ..وما أن أفاقا ..قال رشيف ملايا ..تعايل شويف أن
جايب ايه ليكي وكامن الطفل القادم ..اشياء كثرية للغاية..
فرحت مايا باهلدايا وعانقته وقالت له ..وقبل ان أكمل مشاهدة اهلدايا
مجيعا ..جذبته من ذراعه ببطء إىل أن وصلت به
أود أن أريك هديتي لك أو لنا ً
إىل حجرة الرسم التي فيها أدواهتا ولوحاهتا..
نظر ..وجد عدد كبري من اللوحات عىل أرض الغرفة مستندً ا عىل احلائط
وهبا تعبري غريب عن رصخات انسان واستغاثة من أشخاص يسقطون
واشخاص أخرين يغرقون ..مع بعض الرشح منها ..فهم رشيف أهنا رصخة
رفض لكل من يعيش بيننا بال ضمري ..ثم نظر فوجد يف منتصف الغرفة حامل
خشبي عليه لوحة كبرية ومغطاة بمالءة ..سأل مايا عنها فقالت اهنا املفاجأة ثم
نزعت الغطاء بحرص شديد حيث أن األلوان مل جتف بعد..
303
انطلقت رصخة ..رصخة فرح ..مع تساقط بعض الدموع من عيني
رشيف ..أهنا ..إهنا ..إهنا صورة نورا ..نورا ..نعم هي ..كيف فعلت هذا..
ِ
انت عظيمة يا مايا ..صورة نورا طبق األصل بابتسامتها وعينيها الساحرتني..
كانت صورة لنورا ..قلدهتا مايا من الصورة التي عىل هاتفها ولكن
أضافت عليها بروزً ا فجعلتها جمسمة وكأهنا متثال عىل لوحة..
نظر رشيف إىل الصورة البارزة ..متثال مصغر من نورا ..آه كم هي مجيلة..
ُظلمت ً
كثريا ..لكنني يا مايا لدي شعور قوي إن اهلل عز وجل سوف يرعاها
لصربها عىل البالء واألذى ..واملصيبة األخرية ..فقدان البرص..
كم أود أن حترض إىل ايطاليا للعيش معنا هنا ..فرحت مايا عند سامعها
اقرتاح رشيف وقالت ..كنت أريد ان اقرتح عليك ذلك للغاية فكم أحب نورا
وامتنى أن تكون معنا ويكون يل اخ ًتا مثلها وال تنسى أهنا فنانة مثيل ..وسوف
يكون بيننا تفاهم كبري ..وأنا ال أنسى كم كانت بجواري أيام حمنتي ..هي
وعمي فؤاد رمحة اهلل عليه..
***
304
أرسل ضابط السجن يف طلب ايناس إىل مكتبه ..عندما حرضت قام
الضابط يزف خرب خروجها من السجن بعد ثالثة أيام ..مل تفهم إيناس شي ًئا..
تألألت عيناها من شدة الفرح ..لكن الفضول الذي بداخلها كان أقوى من
اخلرب نفسه ..قالت ..أنا ..حرضتك تقصدين أنا ..إيناس عبد الرحيم..
ابتسم الضابط ً
قائل ..نعم أنت ..فقالت كيف هذا ..مستحيل أن التاجر
فجأة سوف يغري شهادته أو يتنازل عن حقه ..أو أن القايض يعفو عني بدون
مسببات ..كيف هذا..
أخرج الضابط األوراق التي كتبتها ايناس بخط يدها ..حتكي فيها قصتها
بشكل خمترص ..أشار باألوراق ً
قائل ...الرس يا إيناس يف هذه األوراق..
قالت ايناس ..هذه األوراق التي طلبت مني نورا أن اكتبها..
أجاب الضابط ..نعم والرس ً
أيضا لدى نورا ..نورا هي من قامت بكل
كثريا ..هي
يشء ..اهنا مالك يف صورة انسان يمشى عىل األرض وهي حتبك ً
من قامت بالتنسيق بيني وبني مجعية مساعدة الغارمات التابعة لوزارة الداخلية
وأيضا عمها د .كامل واملحامي اخلاص به ..كل هذه األطراف سامهت لك
وحلاالت أخرى كثرية مشاهبة ..أن نرفع العبء عن كاهلهن ونقوم بالسداد
وبذلك يتم التصالح ويسقط احلكم..
305
فالفضل بعد اهلل عز وجل لنورا ..هي صاحبة املبادرة وهي وراء كل هذا
التنسيق ولدي خرب مفرح ً
أيضا للغاية ولكن اترك لك إبالغه إىل نورا..
ً
وايضا لقد ُقبل االلتامس املقدم لنورا ..بأن خترج يف ثالثة ارباع املدة
ملراعاة ظروف فقداهنا للبرص ..فتمت املوافقة عىل خروجها هي األخرى
وجارى عمل الالزم من اإلجراءات وسنحاول ان يكون توقيت مغادرتكام
للسجن واحد ..اذهبي إىل نورا وبرشهيا هبذا اخلرب..
ركضت ايناس بأقىص رسعة لدهيا باحثة عن نورا وجدهتا جالسة بجوار
النافذة تستنشق هواء الصباح ..علها تشعر معه بنسامت احلرية عرب النافذة
والقضبان من خلفها..
صاحت إيناس بأعىل صوت هلا ..نورا ..نورا ..افراج ..سوف خترجني..
التفتت نورا إىل الصوت القادم من خلفها ..إنه صوت إيناس ..تقول
إفراج ..جتمعت بعض الفتيات حول نورا وايناس ..وحكت هلن إيناس
ما سمعته من الضابط وكم كان لنورا الفضل االسايس يف مساعدة ايناس
للخروج ..ولوال حتركاهتا بوعي وذكاء ملا كانت إيناس وجدت من يمد هلا
يد العون..
انقضت ايناس عىل نورا متطرها بالقبالت واألحضان والدموع تنهمر
من عيناها غري مصدقة اهنا سوف تعود املهندسة ايناس ً
بدل من السجينة..
ً
وأيضا نورا شعرت ان اهلل استجاب هلا ولدعائها يف دقائق معدودة ..فعندما
كانت تستنشق اهلواء النقي وعليل الصباح حتدثت إىل اهلل سبحانه وتعايل..
حديثًا من قلبها ..مل يكن يف صورة كلامت الدعاء املعروفة واملأثورة ..ولكنه
306
كان حديثًا من العبد للخالق ..إهنا ُظلمت وأن اهلل هو العدل ..وأنه يمهل
ولكن ال هيمل ابدً ا وأهنا متنت املوت من قبل لكن اهلل اراد هلا احلياة حلكمة ما..
ثم اخذ واسرتد وديعة من ودائعه ..البرص ..لكنها راضية وصابرة لكن يارب
انا ُسجنت ً
ظلم ومل أؤذي أحدً ا يف حيايت ..فبحق أي عمل خري قمت به يارب
سهل يل خروجي من هذا املكان..
وبينام هي حتادث املويل عز وجل ..سمعت صياح إيناس ونبأ االفراج
عنها وخروجها يف غضون يومان أو ثالثة عىل األكثر..
مر ثالثة أيام ..ويف صباح اليوم الرابع فتح باب السجن اخلشبي القديم
عاليا مدو ًيا ..كأهنا رصخة مارد ..ختيف من بداخل السجن ومن
رصيرا ً
ً حمد ًثا
يسري أمامه..
نورا وايناس متشابكتان األيدي ..خرجتا سو ًيا ..ببطء ..وإذا بالدكتور
كامل يف انتظارمها بسيارته الفارهة ..تقدم نحو نورا وعانقها وهنأها عىل
مجيعا إىل اإلسكندرية..
اخلروج وكذلك ايناس ..وانطلقوا ً
طلبت نورا من إيناس أن تظل معها أينام تكون ..فهي تعودت عليها
وال تستطيع فراقها وخاصة ان ايناس مل يعد هلا أحدً ا إال أختها التي سافرت
مع زوجها وابنها إىل إحدى الدول املجاورة للعمل فأصبحت إيناس وحيدة
متا ًما..
يف الطريق إىل االسكندرية توقفوا لالسرتاحة ً
قليل وتناول الطعام مع
القهوة التي كانت نورا تتمنى أن تتذوقها كام كان أباها حيبها..
307
وبينام هم جالسون عىل طاولة يف املطعم ..بدأ د .كامل حديثه إىل نورا ويف
وجود إيناس" ..هل تتذكري يا نورا عندما اخربتك يف إحدى املرات ان هناك
مفاجأة يف انتظارك ..اومأت نورا برأسها قائلة «نعم اتذكر»..
استطرد د .كامل نحن اآلن ذاهبون ألريك تلك املفاجأة وأنا سعيد للغاية
ان املهندسة ايناس معنا تشاركنا ذلك احلديث ..قالت ايناس ..هل من املمكن
ان اشعر اين واحدة منكم ..ناديني ايناس فقط واسمح يل ألقبك كام تفعل
نورا ..عمي ..شعر د .كامل بالسعادة لسامعه ذلك ..وابدي فرحه الشديد..
لدي
لدي أرسة ..لكن يا عمي كامل ّ
ابتسمت نورا قائلة «اآلن اشعر ان ّ
سؤال وأرجو املعذرة وال تغضب من سؤايل ..قال «تفضيل»..
كثريا وتكليف املحامي اخلاص بك
قالت« ..تأيت إىل القاهرة لزياريت ً
للدفاع عني ومساعدة إيناس دون ان تقابلها ولو مرة واحدة ملجرد أين طلبت
ذلك ثم تسعي ملساعديت يف االفراج املبكر عني ..ملا تفعل كل هذا ..ليس
ً
معقول ملجرد انك والد مايا زوجة أخي رشيف..؟!!
ابتسم د .كامل ً
قائل" ..آه ..بمناسبة رشيف ومايا فقد قطعت هلم عهدً ا
أول وبعدها أن هناتفهم بمجرد خروجك ..لكن سأجيب عىل استفسارك ً
نقوم باالتصال هبم لالطمئنان عليك»..
أيضا يا ايناس اسمعي وانصتي ملا أقوله ..أنا ِ
وأنت ً اسمعيني جيدً ا يا نورا
فحرمت حنان
يل ابنة وحيدة هي مايا ..توفيت والدهتا وهي يف سن صغريُ ..
األم ..فقمت أنا بدور األب واألم لكي أعوضها عن غياب أمها ولكن بالطبع
مل أنجح يف هذه املهمة إال بنسبة ضئيلة حيث ان غياب األم ال ُيعوض وإن كان
308
هلا ألف أب ..لكنني حاولت ..أقللت من ساعات عميل وكنت اصطحبها
معي يف كل األماكن ..ومل أفكر يف الزواج إطال ًقا بعد زوجتي والدة مايا وفا ًء
وأيضا ال أحتمل ان تقوم امرأة أخرى أيا ما كانت ان تلعب دور واخالصا هلاً ..
ً
األم ملايا..
أحببت ابنتي مايا بجنون وهي كذلك ..كنت هلا األب ..األخ..
الصديق ..كل يشء ..إىل أن أمتت تعليمها ..وبدأت حياهتا العملية كمهندسة
ديكور واستمرت حياتنا يف سعادة وهناء ..إىل ان تعرفت عىل رشيف يف
القطار واخربتني يومها بكل التفاصيل ..وتوطدت عالقتها به إىل ان حتول
حبا جار ًفا عميقًا بينهام ..وكنت انتظر اليوم الذي يأيت فيه رشيف مع عائلته
ً
للتعارف والتقدم خلطبتها ..حيث اخربتني مايا كم هو مهذب وجاد يف عالقته
جديرا
ً هبا ..رصح هلا رشيف أنه ينتظر ان يتخرج من األكاديمية كي يكون
متخرجا من اجلامعة وعىل
ً بطلب يدها ..حيث هناك فر ًقا أن يكون ً
طالبا أو
أخا
وشك تسلم العمل وخاصة إنه لن يلتحق باخلدمة العسكرية حيث إنه ً
وحيدً ا ألخت بنت..
منطقيا للغاية وأنه
ً فرحت عند سامع هذا الكالم حيث كان تفكري رشيف
باقي شهور عىل خترجه وال ضري من االنتظار..
ثم يف يوم أسود ..أغرب ..حدث ما حدث ملايا ..ومن الطبيعي أن أي
شاب مثل رشيف ان يفكر أو يرتاجع يف قرار اختاذ مايا زوجة له ..حيث هي مل
بكرا ..ومرت بتجربة نفسية وجسدية قاسية للغاية وال يعلم إال اهلل وحده
تعد ً
اثرا يستمر معها طيلة حياهتا..
هل ستجتاز تلك املحنة أم سوف ترتك لدهيا ً
309
وربام تلجأ إىل وسائل للنسيان أو اهلروب من التفكري وختيل صور ما حدث هلا
..مثل اخلالص من احلياة باالنتحار ..أو ادمان املسكنات..
ولكن ما حدث من رشيف ووالدك ..سيادة العميد اجلليل رمحة اهلل عليه
اهبرين ورفع رأيس لعنان السامء ..مل يرتكا مايا ولو حلظة واحدة وفوق كل هذا
أنه بمجرد أن اطمئن من الطبيب أن مايا تستجيب للعالج وهي مستمرة يف
اغامئها وعدم شعورها عام حيدث حوهلا ..تقدم رشيف ومعه والده يطلب يد
مايا مني وهي طرحية الفراش..
فأخربوين باهلل عليكم ..ماذا اشعر أمام هذا الشهم البطل رشيف ووالده
املريب الفاضل ..الرمحة واإلخالص والرجولة ..معاين قدمها لنا رشيف يف
صورة طلب يد مايا مني..
بعدها أخذت عهدً ا عىل نفيس أن أكون لكم ..لعائلة رشيف خاد ًما
خملصا أمي ًنا لعيل أرد ولو جزء صغري من مجيله ع ّ
يل أنا ومايا.. ً
واآلن مايا حامل يف طفلها األول وسعيدة للغاية ..وال يؤرقها غري
معا حياة
أزمتك أنت يا نورا ..واآلن محدا هلل أنك تنعمني باحلرية وسوف نبدأ ً
جديدة ..اعتربيني أبا لك..
هل بذلك أجبت لك عن استفساراتك وأزلــت الغموض الذي
بداخلك ..ومع ذلك لن افصح عن املفاجأة إال يف االسكندرية ..هيا بنا نميض
لنصل قبل ان حيل الظالم..
طوال الطريق ونورا تفكر فيام سمعته من د .كامل وكم هناك أناس
قلوهبم مليئة بأغىل وأنفس املعادن ..وصون اجلميل ورده مازال يف أدبياهتم..
310
تقريبا بعدما مررت به يف حمنتي لكن أناس
ً كنت قد فقدت ثقتي يف كل الناس
مثل عمي كامل وضابط السجن ورشيف ..أعادوا يل اتزاين وثقتي أن الدنيا
مازال هبا الكثري من اخلري..
كم أشعر بالراحة واألمان يف ظل عمي كامل الذي أعاد يل صورة والدي
احلكيم العادل..
محدا لك يا رب ..ألقيت يب يف النار وقبل ان احرتق انتشلتني إىل احضان
هذا األب احلنون..
وصلوا إىل االسكندرية وتوجهت هبم السيارة إىل منطقة الشاطبي ..حيث
نزلوا ودخلوا عامرة ويف الدور األريض كانت هناك مساحة شاسعة ..دخلت
نورا ممسكة بذراع إيناس .استوقفهام د .كامل وبدأ يرشح هلام املكان ً
قائل..
"هذه هي املفاجأة يا نورا ..إهنا مجعية خريية وثقتها يف وزارة التضامن وهي
مجعية خمصصة خلدمة املكفوفني ..تقدم هلم كل ما حيتاجونه من خدمات ولدينا
جمموعة من املتخصصني لتدريب املكفوفني عىل تعلم كيفية القراءة بطريقة
ً
وايضا نقوم بإمدادهم باألدوات التي حيتاجوهنا مثل العصا والنظارة برايل
وخالفه واملسامهة يف عالج اإلبصار أن إذا كانت هلم أي فرصة لذلك..
مل تصدق نورا ما تسمعه قالت« ..وهل فعلت كل هذا ألجيل»..
أجاب د .كامل« ..نعم إنه جزء صغري من رد اجلميل لرشيف ولك
ِ
وألبيك العظيم ..واملفاجأة األهم هي آتية اآلن ..ثم صاح ..اتفضيل يا مدام
كريمة..
311
فإذا بوالدة نورا تظهر من إحدى الغرف لرتمتي نورا يف احضاهنا« ..أمي..
امي ..اشتقت لك ..وكنت لتوي سوف أطلب من عمي كامل أن احادثك
وأذهب اليك يف الصباح الباكر»..
تدخل كامل يف احلديث ً
قائل ..ال يانورا ..مدام كريمة نقلت كل ما
خيصها وسوف تقيم معك أنت وإيناس يف شقة يف الدور الثاين يف نفس املبني..
كم هو عظيم عمي كامل ..مفاجآته ال تنتهي ..أنه هدية من السامء..
رسول رمحة وعدل..
كثريا ..وضحكنا
كثريا ..وبكينا ً
هاتفيا ..فرحنا ً
ً حادثت رشيف ومايا
ُ
كثريا ..وأذ برشيف يعرض عىل أن يقوم بعمل إجراءات سفري إليه واإلقامة
ً
يف ايطاليا حيث ال يستطيع ان يرتكني وحيدة وكذلك أمي..
أجبته أن عرضه ممتاز وفكرت فيه أنني حال خروجي سأسافر إليك..
لكن بعد كل املفاجآت التي قدمها يل عمي كامل ..فاعتقد أن احلياة هنا
أصبحت مرحية ورائعة وأشعر بالكثري من األمان والود واحلب بني أصدقائي
وأحبائي ..وأن يكون يل دور يف ادارة اجلمعية والعمل عىل إسعاد الغري ممن هم
يف حاجة إىل املساعدة ..فهذا أمر عظيم..
قامت مايا بتصوير لوحاهتا وتوجهت بصحبة رشيف إىل مبني أكاديمية
الفنون وتقابلت مع بعض املسئولني تطلب اتاحة الفرصة هلا لعمل أول
معرض هلا بمدينة جنوة ..ثم قامت بعرض صور للوحات التي أعجب هبا
كل من شاهدها من املسئولني ثم اخربوها أن هناك جلنة سوف تشكل للبت يف
طلبها والرد عليها يف غضون أسبوع..
312
دخل د .كامل عىل نورا اثناء تدريبها لبعض الفتيات الكفيفات ..للقيام
بعمل بعض األشغال الفنية ..وطلب أن يتحدث إليها وايناس يف أمر هام..
بدأ د .كامل حديثه أن هناك مفاجأة أخرى لديه هلام..
قالت نورا ضاحكة« ..لقد أصبحت يا عمي ..رجل املفاجآت ..وكلها
مفاجآت سعيدة ومفرحة»..
استطرد كامل «لقد استطعت ان اشرتك لكام يف مسابقة للمكفوفني..
فكرة املسابقة مبنية عيل القيام باخرتاع خيدم املكفوفني ..تُعقد املسابقة يف مدينة
روما اإليطالية ..بعد ثالثة أشهر من اآلن ..وسوف يتنافس معنا متسابقني
من أكثر من ستني دولة وقد قمت بطباعة رشوط االشرتاك وكذلك تفاصيل
االخرتاع من حيث اهدافه النبيلة ملساعدة ذوي االحتياجات اخلاصة لفاقدي
البرص..
شعرت نورا بالفرحة والرسور وباخلوف يف آن واحد حيث هي مسئولية
ثقيلة ملقاة عىل عاتقها فقالت هل من املمكن االستعانة بأي شخص مبرص..
فأجاب كامل ..نعم لكن من يقدم ويستعرض املرشوع بالرشح جيب ان يكون
من املكفوفني..
ارتاحت نورا هلذه االجابة حيث كانت تريد إرشاك إيناس معها يف هذا
املرشوع ..وبالفعل كانت يف رأس نورا فكرة عندما كانت يف السجن ومتنت لو
استطاعت حتقيقها..
طلبت نورا عقد جلسة مع إيناس تعرض عليها فكرهتا وتتبادل
النقاش فيها ..جلسا سو ًيا لساعات طويلة حيث بدأت نورا حديثها أن من
313
اهم احتياجات االنسان الكفيف هو القدرة عيل ممارسة حياته بشكل مشابه
للمبرص ..ومن أهم تلك األمور هو السري يف الطرقات وحتديد اجتاهاته وخط
سريه بدون املساعدة من انسان مرافق له ..سوف يكون االعتامد فقط عىل
التكنولوجيا..
استمعت إيناس جيدا ..ثم سألت نورا ..هذا موضوع يبدو جيد لكن أنا
مل أفهم ..ما هي فكرتك ..البد من تفاصيل ..ماذا يدور يف رأسك ..ارشحي
يل كل التفاصيل..
ردت نورا ..شويف يا سيديت ..أنا أريد أن يكون مثبت عيل كل مبني يف
البلدة واحلي وكذلك اشارات املرور قطعة معدنية الصقة عليها «باركود» رقم
ً
حامل جهاز مزود تسلسيل وهذا الكود يمكن للشخص الكفيف ان يكون
بسامعة يضغط عىل زر فينطق اجلهاز بصوت مسموع خيربه بكل املعلومات
والبيانات املدونة يف الكود املطبوع عىل القطعة الالصقة املثبتة عيل املباين
وبالطبع تكون مقاومة للحرارة واالمطارً ..
فمثل يقف أمام مبني كلية الطب
فيضغط عىل الزر ..تأتيه االجابة« ..إنك أمام مبني كلية الطب ..شارع...
رقم..»...
ويشري مرة أخرى إىل اشارات املرور «فتصله املعلومات انت امام اشارة
مرور خرضاء او محراء ..وهي بشارع كذا» وهكذا..
فام رأيك يف هذا الفكرة يا إيناس وهل من الناحية التقنية يمكن حتقيقها
ام إنه أمر مستحيل..
314
أجابتها إيناس إهنا معجبة بالفكرة أشد االعجاب وتعتقد أنه من املمكن
حتقيقها ولكن سوف نحتاج إىل فريق كامل من مربجمني ألجهزة احلاسب
وكذلك متخصصني يف االلكرتونيات وأنا منهم وبعد ذلك بعض العامل ممن
يضعون الالصقات عىل املباين واشارات املرور وبالتأكيد بعد أخذ موافقة
رئيس احلي ..طلبت نورا ان يشرتك معهام عم كامل يف املناقشة ..عرضت
عليه الفكرة وما حيتاجونه ..أجاب ..إهنا فكرة جديدة وممتازة ومل يسمع هبا
من قبل ويمكن تسجيلها كرباءة اخرتاع باسم نورا ..ووعد أنه سوف يساهم
معهام بكل امكاناته ..فسوف يقوم بجلب أحد املتخصصني يف برجمة الكمبيوتر
وكذلك الكهرباء وااللكرتونيات ..وكذلك سوف يبدأ يف االجراءات مع
رئاسة احلي ..كي حيصل عىل موافقتهم لوضع امللصقات الصغرية..
وما عليهم إال ان يقوموا بتشكيل فريق للعمل حتت رئاسة املهندسة
ايناس وبإرشاف من نورا ..ونبدأ العمل عىل بركة اهلل..
***
315
إلكرتونيا إىل مايا من موظف بأكاديمية الفنون خيربها فيه أنه قد
ً جاء بريد ً ا
أسبوعيا من العرض حيث
ً حتدد هلا موعدً ا لعرض لوحاهتا يف معرض يستغرق
أعجبت اللجنة بأعامهلا وقررت التعاون معها واعطاءها الفرصة كاملة لعرض
إبداعاهتا وسوف يقام املعرض يف تاريخ ما بني شهرين إىل ثالثة شهور من اآلن
وأهنم سوف يرسلون اليها بريدً ا آخر فيه امليعاد املحدد وعنوان القاعة..
عقد الفريق التقني ونورا ..عرشات اجللسات وقاموا بوضع تصور
كامل لكل تفاصيل هذا املرشوع ..ووقع اختيارهم ان اجلهاز الناطق الذي
سوف حيمله الكفيف ..سيكون يف شكل ساعة يد ذكية ..حيث أن هبا سامعة
خارجية أو تعمل عىل سامعة «بلوتوث» يمكنها نطق الوقت والتاريخ وهبا زر
آخر لقراءة البيانات من امللصق« ..الباركود» املثبت عىل احد املباين عىل اشارة
املرور أو أي متنزه أو معلم اثري..
استعانوا بفريق آخر يقوم بجمع البيانات عن أسامء املباين واسامء الشوارع
حيث سوف تقرن بأرقام تطبع يف صورة «باركود» فتستطيع الساعة قراءهتا
والنطق هبا للكفيف فتساعده أن يعلم مكانه حتديدا..
مرت أيام وأسابيع واجلميع منهك يف العمل إىل ان حانت اللحظة
احلاسمة هي إعالن انتهاء املرشوع ..والقيام بإجراء أول جتربة له عملية يف
316
مجيعا إىل الشارع اخللفي للعامرة ومعهم د .كامل واختاروا
الشارع ..فتوجهوا ً
نورا ان تكون هي أول من خيترب الساعة الناطقة حيث اهنا هي صاحبة فكرة
االخرتاع..
وبالفعل سارت نورا وحدها وضغطت عىل الزر ..فقامت الساعة
بالنطق أهنا أمام مدرسة ..وبعدها أهنا امام اشارة مرور محراء ..وهكذا نجحت
فرحا أن سهرهم وتعبهم مل يضع سدى ..وإذا
التجربة ..وصار اجلميع هيللون ً
بالدكتور كامل يقطع عليهم فرحتهم وجيعلهم يتجمدون يف اماكنهم ساكنني..
ً
قائل ..هذه الساعة ناطقة باللغة العربية وأنتم سوف تعرضون اخرتاعكم
هذا أمام جلنة دولية يف روما ..فالبد عىل األقل أن تكون اللغة الناطقة هي
عامليا..
االنجليزية حيث هي اللغة األوىل ً
تنبه اجلميع هلذه النقطة اهلامة ..فاستمروا يف اجتامعاهتم وعملهم وقاموا
بتغيري لغة اجلهاز إىل النطق باإلنجليزية ..وأعادوا جتربته مرة أخرى مع نورا
فخرا هبم ..فطلب ً
أيضا ..ومتت التجربة بنجاح وكان كامل أشد الناس ً
منهم عمل ملف كامل مدعم بالرسومات والتصميامت وتوجه به إىل املكان
املخصص لتسجيل براءات االخرتاع وقام بتسجيله باسم نورا فؤاد..
توجه د .كامل إىل نورا إلخبارها إنه تم تسجيل براءة االخرتاع باسمها
فوجدها تبكي بشدة وهي حتتضن مذكرات أباها سيادة العميد فؤاد..
طرق الباب كي تشعر بوجوده ..دعته للدخول وقالت« ..جئت يف
الوقت املناسب يا عمي كامل ..سوف أطلب منك آخر طلب ..أو رجاء..
كثريا إن فعلت..
تؤديه يل ..واعلم انك سوف تسعدين ً
317
أجاب أنه عىل استعداد لعمل أي يشء هلا وألي فرد من افراد ارسهتا..
جففت دموعها وهي تشكره ..قائلة« ..خذ هذه املذكرات ..إهنا مذكرات
أيب ..أريد أن اطبعها يف كتاب وتباع يف املكتبات ..فهي ليست جمرد مذكرات
أو سرية ذاتية ..حيكي فيها أحداث مرت من حياته ..ال ..أهنا دروس وعرب
موجهة إىل القارئ العادي الوطني وكذلك كل من له اهتامم بالعلوم العسكرية
واخلطط والتكتيكات ..عصارة وخربة سنوات طوال ..عشق فيها جيش بالده
وآمن بالقضية ..قضية حترير أرض ُاحتلت بالقوة ومل تسرتد إال بالقوة..
بعد صمت ..قال د .كامل كم أنا مشتاق إىل جلسة من جلسات العميد
أخا ..صديقًا ..رجل ذو مواقف تتسم باالستقامة الشديدة
فؤاد والدك ..كان ً
حبا وحنانًا ..رمحة اهلل عليه وعزائنا
يعلم متي يكون حاز ًما ومتى يمأل األرض ً
الوحيد يا نورا ..هي تلك املذكرات ..هل تسمحني يل بقراءهتا..
اتركي يل هذا األمر ..فإن يف رأيس بعض افكار إلخراج هذه املذكرات
يف أهبى صورة تليق بكاتبها ..فهذه املذكرات كتبت عن حرب خاضها جيش
مرص ..فالبد من ارشاك جيش مرص يف إخراجها إىل النور ..سوف أجرى
اتصاالت بإدارة الشئون املعنوية بالقوات املسلحة وأنا عىل يقني إهنم سوف
يقدمون كل الدعم واملساندة ..فام قيل عن تلك احلرب العظيمة هو الفتات
أقل بكثري مما كانت عليه قبل احلرب ويف أثناءها وما بعدها..
***
318
ذهبت مايا إىل القاعة التي خصصت هلا لعرض لوحاهتا وكتابة شهادة
ميالد ألول معرض هلا ..وقامت بمراجعة طريقة عرض اللوحات مع القائمني
عىل ادارة املعرض ..وقد استحرضت داخلها روح مصممة الديكور ..حيث
بدأت يف وضع ملساهتا عىل شكل وطريقة وضع اللوحات ..وعندما عرضت
افكارها عىل اإلدارة القت كل ترحيب..
أهنى فريق عمل مرشوع نورا وضع اللمسات النهائية الخرتاعهم والقيام
بتجربته أكثر من مرة ويف أكثر من موقع ..ويف أجواء خمتلفة ..وخاصة عند
هطول األمطار حيث قاموا باستخدام بعض خراطيم املياه ذات الدفع القوي
وتوجيهها إىل أحد األعمدة التي حتمل عليها ملصق «الباركود» وقام أحدهم
بضغط الزر يف الساعة ..فقامت بالوظيفة كاملة ونطق املعلومات اخلاصة هبذا
املكان..
قدم د .كامل املرشوع إىل إدارة املسابقة يف روما عرب الربيد اخلاص بعد
أن وضع ً
اسم للمرشوع كام طلبت اإلدارة املرشفة عىل املسابقة أن عىل مجيع
املتسابقني القيام بتسمية مشاريعهم املقدمة باسم يعرب عن اجتاه االخرتاع..
فاجتمع د .كامل بفريق عمل املرشوع ومعهم نورا بالطبع قبل ارسال أوراق
املرشوع النهائية إىل اإلدارة يف روما وأخربهم أن هذا االجتامع خمصص
319
الختيار اسم الخرتاعهم يعرب عنه ..فقام البعض باقرتاح أكثر من اسم وكان
د .كامل يدون تلك االسامء يف ورقة أمامه ..إىل أن فرغ اجلميع ..ثم سألت
نورا ..عمي كامل ..اشعر ان لديك اسم للمرشوع ولكنك تنتظر حتى نفرغ
مجيعا من االقرتاحات..
ً
قائل" ..كم ِ
أنت ذكية للغاية يا نورا ..بالفعل لدي اسم هلذا ابتسم كامل ً
االخرتاع ولكم كل احلق يف ان توافقني عليه أو تعرتضوا»..
مجيعا تعلمون ان هذه اجلمعية اخلريية اخلاصة برعاية املكفوفني
أنتم ً
أيضا أن صاحب فكرة هذا االخرتاع اسمها «مجعية بصرييت» ..وتعلمون ً
واملسجلة باسمها هي نورا ..لذا اقرتح أن اطلق اسم «بصرييت ونورا» عىل
هذا االخرتاع..
ابتسم اجلميع وهم ينظرون إىل بعضهم البعض ..بينام اهنمرت دموع نورا
وانخرطت يف البكاء ..القى االسم استحسان اجلميع وقامت ايناس باحتضان
نورا بشدة ..وتكلمت نورا قائلة ..اعذروا يل دموعي ..فكم كنت أمتني ان
يكون ايب معي يف هذا اليوم ..لكن اسأل اهلل أن يعطيني القدرة عىل اخراج
كتابه يف أفضل صورة حتى وإن مل أكن قادرة عىل رؤية الكتاب وال الغالف
اخلارجي الذي كنت امتني ان أقوم بتصميمه بنفيس ..لكن هي ارادة اهلل..
وضع د .كامل األوراق وكتب عليها من اخلارج اسم املرشوع املقدم إىل
املسابقة الرسمية. Basirati and Noura ..
***
320
تلقى كل من د .كامل ..نورا ..إيناس ..دعوة للحضور إىل جنوة يف ايطاليا
حلضور حفل افتتاح معرض مايا األول ..حتت عنوان «االنسان والالضمري»..
كانت تلك هي املرة األويل إليناس ان ختوض جتربة السفر إىل خارج
البالد ..وكانت بصحبة نورا ً
دائم ومعهم د .كامل ..فرح رشيف بقدومهم
للغاية ..واستعد اجلميع حلفل االفتتاح يف املساء ..اشرتى رشيف لنورا
وايناس مالبس جديدة للسهرة ..
بدأ احلفل وعند دخوهلم فوجئ اجلميع ان يف منتصف القاعة وضع حامل
خشبي ضخم ..حمفور خشبه بنقوش الورد الرائعة ..حفر يدوي ..ووضع عىل
احلامل اخلشبي لوحة االفتتاح ..وعند قص الرشيط من قبل حاكم مدينة جنوة
وممثل الثقافة يف املدينة ورئيس أكاديمية الفنون ..تعمدت مايا أن تأخذ نورا إىل
جوارها وهي ترشح هلا شكل القاعة وفكرة التصميامت الداخلية ..وبعد قص
رشيط الدخول ..مع عزف موسيقي وتريات ..رائعة..
ستارا ..أزيح الستار ..فإذا
وقف اجلميع أمام احلامل اخلشبي وكان خيفيه ً
هبا لوحة جمسمة لوجه نورا ..وجه مجيل رقيق املالمح حيمل براءة الطفولة..
تقدمت مايا بصحبة نورا ووقفا بجوار احلامل واللوحة ..فقام اجلميع
بإطالق اآلهات ..إن هذه الفتاة هي صاحبة اللوحة الرائعة..
321
حتدثت اليهم مايا بلغة ايطالية سليمة شارحة كم هي حتب نورا واهنا
هتدي إليها هذا املعرض املقام عىل رشفها..
صورا للوحة وبجوارها صاحبة اللوحة ..
ً التقطت عدسات الكامريا
نورا ..والفنانة املنفذة للوحة ..وكتب حتتها «وتستمر الرباءة ..نورا»..
صورا للوحة الرائعة من
ً ذاع صيت اسم نورا وصورها احلقيقية بجانب
عمل الفنانة مايا كامل..
تعجبت نورا من دورة الزمن والقدر التي ال تتوقف ..فكانت حتلم يف
يوم من األيام أن تالحقها عدسات املصورين وهي بصحبة ماجد ..الذي كان
حبا..
زوجها يف يوم من األيام والتي ظنت أن ما تشعر به جتاهه هو ً
حبا ..حيث احلب البد أن يوجه إىل من يستحقه ويقدره
ال ..مل يكن يو ًما ً
حبا..
حبا ..وإن ظننته ً
حق تقديره ..مل يكن ً
واآلن بعد كل ما مر يب من أحداث ..تأيت إىل عدسات الكامريات دون
أن أطلبها أو أسعى إليها ..اصبحت نورا يف الصحف اإليطالية واألوروبية..
رمزا للوداعة لدرجة أن امرأة ايطاليا كانت يف حالة وضع
ايقونة للرباءةً ..
مولودة جديدة ..اسمتها «نورا» ..وكانت نورا شاهدة عىل نجاح مايا يف
أوىل معارضها ..حيث بيعت معظم لوحاهتا بثمن باهظ ..ووضعت مايا أوىل
أقدامها عىل أعتاب النجاح والفن واإلبداع ..وعرفت طريق الشهرة كفنانة
مرصية معارصة يف بلد الفن إيطاليا ..وكان رشيف و د .كامل وإيناس أشد
سعادة باجلميع..
322
استمر الثالثة يف إيطاليا ..نورا ..ايناس ..د .كامل ضيو ًفا عىل رشيف
ومايا ..وبدأ العد التنازيل لبدء املسابقة الدولية ألفضل اخرتاع خيدم االنسان..
توجه د .كامل بمفرده إىل روما لإلرشاف عىل وضع اللمسات األخرية
والتنسيق مع ادارة املسابقة للخروج باملرشوع املرصي يف أهبى صورة..
توجه اجلميع إىل روما ..العاصمة االيطالية ..قبل العرض بثالثة أيام
حيث قاموا بجوالت عديدة لبعض املتاحف واملتنزهات واألماكن التارخيية..
وكانت إيناس دو ًما بصحبة نورا ترشح هلا ما هو مكتوب عىل الكتيب السياحي
الذي حتمله عن معامل املدينة..
جاء يوم احلسم ..يوم املسابقة والتي تقدم هلا متسابقني من اثنان وستون
دولة ..وقامت الوفود من كل دولة بعرض اخرتاعاهتم وتشغيلها مع الرشح
الوايف لكيفية عملها وما تأثريها عىل مساعدة اإلنسان..
إىل أن جاء دور مرص ..فتقدم الفريق املصاحب للمرشوع بعرض فكرته
وتشغيله وحتدثت نورا باإلنجليزية ..والحظ احلضور أن نورا غري مبرصة
وأثناء الرشح وعرض فكرة االخرتاع وأنه ملساعدة املكفوفني يف األحياء
والشوارع وتقديم نموذج الساعة الناطقة بعدة لغات..
ً
طويل ..وقامت القى االخرتاع استحسان اجلميع والتصفيق لنورا
اللجنة املنظمة بالتصفية بني العارضني الختيار افضل عرشة اخرتاعات..
إىل ان تقوم جلنة اخرى بتصفيتهم مرة أخرى لتحديد صاحب املركز األول..
كأسا ومبلغ مايل ضخم باإلضافة إىل تبني إحدى
والذي سوف حيصل عىل ً
الرشكات االخرتاع بتنفيذه وطرحه يف االسواق..
323
وضع اجلميع ايدهيم عىل قلوهبم قبل حلظة النطق بالنتيجة النهائية لتحديد
الفريق الفائز باملركز األول..
بعد حديث مطول ومقدمة عن أمهية املسابقة حتدث رئيس اللجنة املنظمة
ويف يده مظروف مغلق ..بداخله اسم الفريق الفائز..
اجلميع حيبسون انفاسهم وتكاد قلوهبم تتوقف ..ونورا صامتة لكنها
تتمتم بالدعاء ..أن يكون النرص من حليف مرص ..كام كان ً
دائم يردد العميد
فؤاد «النرص ملرص»..
أخريا ُفتح املظروف ..الفائز باجلائزة األويل هو مرشوع «»Basirati & Noura
ً
من مرص عن اخرتاع خيدم املكفوفني لتسهيل حتديد أماكنهم ومعرفة
املعلومات املطلوبة يف األحياء والشوارع وعالمات املرور من خالل ساعة
ناطقة بعدة لغات توضع يف معصم اليد ويمكن ايصاهلا بسامعة أذن..
قفز اجلميع من مكانه ..شاكرين هلل تعاىل ..تعانقوا بني فرح ودموع
فرحا وسعادة..
بالفوز ..وكانت نورا وإيناس ومعهم د .كامل أكثرهم ً
وللمرة الثانية تسعى األقدار وتبتسم لنورا دون أن تسأل أو تطلب ..تالحقها
عدسات املصورين واملتخصصني يف املجالت العلمية والتكنولوجية لتوضع
صورة غالف عىل إحدى املجالت الشهرية يف عامل االخرتاعات والتكنولوجيا
وتصبح نورا أشهر شخصية يف إيطاليا يف هذا العام وأيقونة للشباب املبرصين
واملكفوفني أن حيذوا حذوها وحتديدً ا بعد نرش إحدى املجالت قصتها
وما مرت به من ظلم ومعاناة منذ زواجها من ماجد وخدمة أمه نعامت إىل
صداقة مزيفة من مروة إىل هتم باالجتار يف املخدرات ..موت األب احلنون..
324
وأخريا فقدها لنعمة
ً ثم السجن ..بعدها ختيل زوجها عنها متا ًما وتطليقها..
البرص..
ً
فدائم يف هناية النفق املظلم ..مهام يا هلا من مأساة ..لكن النهاية سعيدة
طال ..نور ..ونورا هي الضوء املنري لطريق الكثري من الشباب كي حيذوا
حذوها ..الصرب ثم العمل..
تم تكريم نورا يف حمافل دولية كثرية ..وتم تبني تصنيع الساعة مع
« » Noura Smart Watch الباركود وطرحها يف األسواق حتت مسمى
عادت نورا إىل مطار القاهرة بصحبة عائلتها اجلميلة ..رشيف ..مايا..
كامل ..إيناس ..فوجئت باستقبال حافل من آالف الشباب يتقدمهم وزير
عاليا..
الثقافة وحمافظ القاهرة لتحيتها وتكريمها عىل ترشيف ورفع اسم مرص ً
تقدم إليها وزير الثقافة وقدم هلا هدية داخل علبة وقال هلا ..افتحيها
يا نورا ..قامت نورا بفتحها بمساعدة إيناس فإذا هبا أول انتاج من الساعة
التي كانت هي صاحبة الفكرة ..وصنع منها نوعان ..واحدة للرجال باللون
األزرق الداكن وأخرى للنساء باللون الوردي..
وكانت ساعة نورا باللون الوردي وناطقة باللغة العربية ..وضعها الوزير
يف يدها وطلب منها أن تقوم بتجربتها ..فإذا هبا تنطق «مطار القاهرة أكرب
وأعرق مطارات إفريقيا والرشق األوسط» ..ثم ضغطت عىل الزر الثاين..
صباحا بتوقيت القاهرة»..
ً «الساعة اآلن تشري إىل احلادية عرشة
اهنمرت دموع نورا وهي ترى نتاج تعبها هي وفريق العمل و د .كامل
وللمرة الثالثة دون طلب أو سؤال ..كانت هناك عدسات للمصورين وبث
325
مبارش الستقبال نورا يف املطار ..ثم تقدم ً
رجل مرتد ًيا زي القوات املسلحة
برتبة عقيد ..صافح نورا بشدة وقدم نفسه أنه مندو ًبا من وزارة الدفاع وقد
خصيصا الستقباهلا وتوجيه الدعوة هلا حلضور حفل يف الغد يف دار
ً حرض
القوات املسلحة املرصية ..وسوف يأيت مندوب من وزارة الدفاع بسيارة
خاصة إىل منزهلا يف الساعة السابعة مساء لينقلها إىل احلفل ..وهلا أن تدعوا من
تشاء من األرسة واألصدقاء..
شكرته نورا وقالت اهنا ستكون جاهزة يف امليعاد ..ثم شعرت نورا بيد
تربت عىل كتفها ..عرفتها من ملستها أهنا أمها مدام كريمة ..ارمتت نورا يف
ً
طويل.. أحضاهنا وتعانقا عناقا
يف اليوم التايل ..ذهبت نورا للحفل وهي يف أهبى صورة ..وصعدت إىل
املنصة بجوار كبار قادة اجليش لتكريمها ..وطلبوا منها أن تلقي كلمة ..وبعدها
قام رئيس أركان القوات املسلحة بتسليمها هدية وطلب أن تقوم نورا بفتحها
وساعدها عىل ذلك ..حتسست بيدها ..أنه كتاب ..دق قلبها بشدة ..شعرت
روحا طيبة حانية حتوم حوهلا ..هي ال ترى ..لكن تشعر بوجودها بمجرد
أن ً
أن فتحت اهلدية ..طلب منها أن حتسس بيدها غالف الكتاب ..فعلت ..فإذا
هو عليه نقاط بارزة عىل طريقة برايل..
يا إهلي ..استمرت نورا يف اللمس والتحسس بأصابعها فقرأت..
"عجائب أكتوبر ..دروس يف فنون القتال"..
مذكرات من شاهد عيان عىل احلرب ..بقلم اللواء :فؤاد صادق..
326
اغرورقت عينا نورا بالدموع ..وبكت بشدة وهي تضحك وقامت
باحتضان رئيس األركان ومل تشعر بام تفعله من شدة الفرح ..مذكرات أباها
العميد فؤاد خرجت للنور ..صارت كتا ًبا وطبع ً
ايضا بطريقة برايل كم هي
عظيمة ووفية القوات املسلحة املرصية ألبنائها ..فالعطاء متبادل ولكن ..ما
هذا ..مكتوب مجلة خطأ ..مهست نورا يف اذن الضابط أن هناك خطأ يف طباعة
غالف الكتاب ..سأهلا ..ما هو؟!
قالت ..مكتوب اللواء فؤاد ..إنه عميد ..أيب كان حتى وفاته برتبة عميد..
ابتسم الضابط وربت عىل كتفها ً
قائل ..كان عميدً ا ومتت ترقيته إىل رتبة
عاليا يف املحافل
لواء ..هو يستحقها ومن ينجب فتاة مثلك رفعت اسم مرص ً
الدولية ..يستحق أكثر من ذلك بكثري..
يا إهلي يا هلا من مفاجآت سعيدة..
عاشت نورا أمجل أيام حياهتا..
وضعت مايا مولودها األول بحضور رشيف ..ولدً ا ً
مجيل..
ومل يستغرق الوقت طوي ً
ال الختيار اسم للوافد اجلديد ..املولود اجلميل..
حيث اتفقا عليه األب رشيف ..واألم اجلميلة مايا ..فؤاد...فؤاد الصغري.
***
327
ومرت سنوات طويلة ..فقدت فيها نورا أمها حيث توفت بني يدهيا
وهي تدعو هلا وبعد عام واحد تويف د .كامل ..وترك لنورا مفاجأة ..فهو رجل
حيا أو مي ًتا ..حيث قام بنقل ملكية "دار بصرييت" باسم نورا ..فهي
املفاجآتً ..
اصبحت مالكة للدار والشقة التي تعلوها يف حي الشاطبي باإلسكندرية..
ومازالت نورا تعيش فيها حتى اآلن إىل أن ختطت اخلامسة والستني من العمر
وهي حتتفظ بأمجل الذكريات ..جمالت كثرية باإليطالية واالنجليزية ..حتمل
ً
وأيضا مازالت ترتدي يف صورهتا ومقاالت كثرية عنها وعن قصة حياهتا..
معصمها ساعتها الوردية الناطقة..
براءة االخرتاع املسجلة باسمها..
وكذلك عىل الطاولة اجلانبية لرسيرها الصغري ..موضع كتاب اللواء فؤاد صادق..
"عجائب أكتوبر ..دروس يف فنون القتال"
متت
***
ﻟﻠﻨﺸـــــــﺮ واﻟﺘـــــــﻮزﻳﻊ