Professional Documents
Culture Documents
سأحكي لكم حكاية األلم ..حكاية الفقد ..حكاية ملؤها الحزن والضيق ..
وثمرتها الصبر والرضا ..نعم ..حزن أثمر رضا ..أرأيتم فضل دينكم ؟
... ...
أتيت إلى الدنيا ,وأنا أحمل اسماً طالما افتخرت به ! ..
عشت حيا ًة هادئةً هنية ,مليئةً بالحب والحنان ,وسط أبوين رقيقين فاضلين ..أحببتهما كأشد ما يعشق
ولد والديه ..
والدي ..كما كان
ّ من فضل اهلل علي ..أنني الكبرى بين إخوتي ,ولذا كان لطفولتي مذاق خاص لدى
يقول لي أبي دوماً ..
والدي ..
ّ أهتم ألحد غير
كبرت وكبرت معي أحالمي وآمالي ..لم أكن ّ
إن ضاقت بهما الدنيا مر ًة ..فإن قلبي يكاد ينفطر ألجلهما ..
هماً لهما ..
وإن شكا أحدهما ألماً ..فروحي تكاد تنفصل ّ
ال زلت أتذكر ما حصل قبل سنتين؛ األشهر التي كان فيها والدي طريح اً للفراش ..كنت أحترق في
داخلي ..وأش عر بأحش ائي تتم زق ..حين أرى وجه ه يعتص ر ألم اً ..وأح اول الوق وف ش امخةً أمام ه وأمي
وإخوتي ..وما إن أصعد إلى غرفتي ..حتى أنهار من البكاء ! ..
وشاء اهلل عز وجل ..وقام من فراشه ببعض من اآلالم ..التي كانت تالزمه في كل وقت ! ..
لم نفتر ووالدتي عن الدعاء له ,لكن حكمة اهلل تعالى فوق كل شيء ..
قرر والدي الغالي إجراء عملية إلزالة االنزالق الغضروفي في ظهره ..
فقد ّ
ومن هنا ..سأحكي لكم تفصيالً أرجو أن تتحملوه ..
صدمت بقوة ! ..
أول مرة ذكر لنا والدي أنه يفكر في إجراء العملية ُ ..
أنا أريد الراحة له ..لكني في نفس الوقت ..أحبه ..وأخشى فقده ! ..
وكأن الفقد ال يكون إال في المشفى ! ..
لكن هذا اإلنسان ..وهذه عاطفته !..
دعوت اهلل له من كل قلبي ..أن يصرفه إلى ما فيه الخير والصالح ..
الهم ! ..
وكنت جاهد ًة أحاول تذكير نفسي ..بأن المكتوب واقع ..وال فائدة من ّ
وحين كنا معه في السيارة يوم اً ..قال :بأنه قرر قراراً جازم اً أن يجريها ..والطبيب شجعه عليها ..
لكنه ينتظر عودته من الخارج ..
فسألته :هل فيها خطورة ؟ وكم نسبة نجاحها ؟
11
إذا أردت أن تعلم ما العجز ..فا كتب عن والدك !..
أخبرني أن الكثيرين يعملونها ,وترتاح أجسامهم بعدها ,وأن نسبة نجاحها فوق .. %90واهلل الشافي
سبحانه ..
سكت على مضض ..وأنا أتمنى من كل قلبي أن ينصرف عنها ..
... ...
وفي يوم السبت الموافق 26/3/1431هـ جاءت إلي والدتي –حفظها اهلل -وأخبرتني بأن المستشفى
اتصلوا على والدي يبلغونه بأن يوم األربعاء هو يوم إجراء العملية له ! ..
تضايقت ..ج ّداً ..وتخدر جسمي َو ِجالً حين نقلت إلي الخبر ..لكني سلمت أمري هلل ..
وفي الي وم الت الي ..بع د العش اء ..دخلت الص الة وإذا ب أبي ج الس فيه ا وأخ واتي ..وبي ده التق ويم
طبعا تاريخ دخوله المشفى ..
يقلبه ..رفع رأسه ونظر إلينا ..وقال 1/4 :تاريخ مميز !! ..يقصد ً
ق الت وال دتي :ي ا ليتهم يؤجلونه ا ..فقلت :إن ت أجلت فهي الخ يرة! التفت إلي طالب اً م ني إع ادة م ا
قلت ..ثم نظر إلي بابتسامة ..وقال هامساً على مضض :صحيح ! ..وكأنه ال يريد وقوع ما نريد !..
كثيراً ما كرر لنا في هذا األسبوع أن يوم األربعاء هو يوم الراحة بالنسبة له !..
... ...
جاء يوم األربعاء الذي ال ينسى ! ..
وهم والدي لم يفارقني لحظةً ! ..
استيقظت من نومي ّ
وبعد أن صليت الظهر ..أخذت كتاباً ابتعته قبل أيام ؛ للشيخ سلمان العودة ,بعنوان ( :مع اهلل) ..
ونزلت للصالة ..وأنا أريد استقبال أبي حين يعود من عمله ..
انتظرت إلى أن دقت الساعة الثانية أجراسها ..ودخل الحبيب على عادته ..منادياً لريم ..
سلم علي ..ووجهه مستبشر ومبتهج ..سأل عن والدتي وإخوتي ..
وسألته عن موعد ذهابه ..وهل سيرتاح قليالً ؟!
فأجابني :ال ..سأغتسل ..ونذهب للمشفى أنا وعاصم ..ال وقت للراحة ! ..
وبالفع ل ..اغتس ل ..وتطه ر ..وس لم على وال دتي ..ودخ ل على رن د وأيقظه ا من نومه ا يري د
توديعها ..أرادت أن تقبل رأسه فقبل هو رأسها ..فأنزلت نفسها ليده فسبقها ليدها وقبلها ..ثم دخل على
رزان وودعه ا وهي نائم ة ..ون زل في الس اعة الثاني ة والنص ف أو تزي د ..وأن ا أنتظ ره ..أري د توديع ه قب ل
ذهابه ! ..
وضع أغراضاً كانت بيده ..وأراني ورقةً وهو يقول :أوصلوها إلى ٍ
فالن من الزمالء ..وكأنه لن يع ود
حتى يوصلها هو !..
سلمت عليه مقبلةً رأسه ويده ..وهو يقول :اهلل يكرمك يا بنيتي ..وابتسامته قد
ُ وحين أراد الخروج
مودع !..
أنارت وجهه وهو ينظر إلي نظرةً رأيتُها نظرة ّ
إي واهلل هذا ما جاء في نفسي !..
أحاطته ريم بذراعيها ..وض مته بقوة ..فضمها أك ثر ..وضعت أذنه ا على بطنه وهي تق ول :بطنك
جائع !..
11
إذا أردت أن تعلم ما العجز ..فا كتب عن والدك !..
ضحك من قولها ونظر إلي وهو يقول :بعذري يا بنيتي ما أكلت شيئاً من الساعة العاشرة ! ..
ثم ..خرج ..وما لبث أن عاد !..
وص عد ال درج وه و يقف ز بعض ه ..وأن ا متعجب ة من نش اطه المف اجئ ..إذ لم يكن هين اً علي ه له ذه
الدرجة !..
هربت إلى المجلس ..وأنا أدافع العبرة ..وال أريد رؤيته وهو يخرج ..
ثم عدت إلى كتابي وأنا أطرد هموماً اجتاحت نفسي !..
... ...
مرت علينا الساعات ثقيلةً صعبة ..إلى أن أرسل لنا عاصم في الساعة الخامسة والثلث يقول :
(دخل الوالد اآلن غرفة العمليات..
دعواتكم له)..
رسالة صعبة ..ال أستطيع وصف المشاعر تجاهها ! ..
استودعته اهلل من كل قلبي ..ولساني ال يفتر عن الدعاء له ! ..
وبعد ساعتين ونصف ..أي في الساعة الثامنة إال ربع تقريب اً ..اتصلت بعاصم ألن الغالي يُفترض أن
بناء على كالمهم ..
يكون قد خرج من غرفة العمليات إلى غرفة اإلفاقة ً
لم يرد علي ..فاتصلت ثانية ..وثالثة ..وقلبي يكاد يخرج من مكانه ..
قلت :لعله يصلي ..
فاتصلت على المشفى ..وأنا في قمة االضطراب ..لم أجد تجاوباً معي ..
إلى أن وصلت الدقائق ..الخمسة عشر بعد الثمان ..فاتصل عاصم ..وصوته مستبشر ..يقول بأن
حبيبنا خرج إلى غرفة اإلفاقة ..والعملية ناجحة وهلل الحمد ..
ذرفت دموعي بشدة ..وسرت مسرعةً أبشر والدتي وأخواتي ..
انتظرنا إفاقته بفارغ الصبر ..لكن لم يأتنا خبر بهذا ..
خرجن ا من الم نزل الس اعة التاس عة ..ونحن نحم ل في أي دينا م ا أوص انا ب ه وال دنا ..القميص األبيض
الذي يحبه ..شاحن الجوال ..عالقة للثياب ..
في السيارة ..اتصل عاصم يبشرنا بأنه أفاق ..وكانت الساعة التاسعة والربع ..لكنهم لم يحضروه
إلى الغرفة ..زاد اطمئناني ..وهلل الحمد ..
وحين وصلنا للمشفى ..دخلنا الغرفة المخصصة ..ونحن ننتظر قدومه إلينا ..
ومن هنا بدأت حكاية األلم ! ..
... ...
فتحوا باب الغرفة على مصراعيه ..وأدخلوا سريراً يحمل أغلى إنسان لدينا ..في الساعة العاشرة إال
ثلث ..
بك ُ ..م ٍ
دم ..صفوا كيف شئتم .. موقف صعب ِ ..
عسر ..مذهل ..م ٍ
ُ ُ
مسجى ..ال يملك أي قوة ..وهم ينقلونه من سرير إلى آخر ! ..
حين رأت أعيننا الحدث ..حبيب ّ
11
إذا أردت أن تعلم ما العجز ..فا كتب عن والدك !..
11
إذا أردت أن تعلم ما العجز ..فا كتب عن والدك !..
أين ريم ؟ أتت إلي ه ريم ..وهي الص غيرة لم تتحم ل الموق ف ..وك انت تق ف ورائي في أغلب
الوقت ..تقول :ما أبغى أشوف أبوي كذا ! ..
وحين وقفت بجانب ه ..ابتس م له ا ..وم د ي ده إليه ا ..وق ال :تع الي بج انبي ..رفض نا ص عودها إلي ه
خوفاً من أذيته ..ثم قال :وأين رند ؟ جاءته وس لّم عليها ..وقال :أين رزان ؟ ففعل معها الفعل ذاته ..ثم
قال :أين جمانة ؟ أتيت إليه ..فمد يده إلي ..صافحته ..وقبلتها ..وضغطت عليها قليالً أريد تدفئتها من
شدة برودتها ..
وحتى ..أمأل نفسي من حنانها !! ..
ه ل تري دون أن أخ بركم ..ب أن ه ذا ه و ال وداع األخ ير ..م ع حبي بي وق رة عي ني ..وروحي ال تي بين
أضلعي ؟!
نعم ..هذا آخر ما بيننا ..وكأنه أوقفنا جميع اً حوله ..ليقول لنا :قفوا مع بعضكم دائم اً ..أريد أن
أرحل والعُرى بينكم غليظة ! ..
ِ
إيه ..يا أبي ..
بع د ه ذا الموق ف بقلي ل ..وحين رأين ا أن ه ال ج دوى من جلوس نا ..ألن حركتن ا أربكت ط اقم
التمريض !!!..
استودعناه ربنا ..وخرجنا إلى بيتنا بعد ساعتين ونصف تقريباً من اإلحاطة به ..
مشاعرنا لم أصفها لكم في هذا الليلة ..ولن أصفها ..ألني ال أستطيع ..ال أستطيع أبداً ! ..
الحكاية تزداد تعقداً ..ولذا فإن عباراتي ربما تكون كذلك أيض اً ..سامحوني ..أنا أحكي عن أبي ..
أتعلمون ما معنى أبي ؟!! ..إذن التمسوا لي العذر إذا أذنتم ..
... ...
دخلن ا ال بيت ..وهاتفن ا عاص م ..نس أله عن الوال د ..أخبرن ا ب أن الوض ع كم ا ه و ..ويُ رجى ل ه
التحسن ..
كل إلى فراشه ..وهو يحمل أطناناً من الهم ..
ذهب ّ
كنت متضايقة إلى حد الثمالة ..فأخرجت دفتري ..ألريح خاطري من بعض األلم ..
ُ
وم ا أن اض طجعت على فراش ي ..في الس اعة الواح دة والرب ع ..ح تى ر ّن ه اتفي الج وال ..قلت :
اللهم ال طارقاً يطرق إال بخير ..رأيت الرقم فإذا هو عاصم ..رددت عليه ..وأنا في قمة الخوف ..
سألته عن والدي مباشرة ,فقال :على وضعه ..ال تنسوه من دعواتكم ! ..
أقفل الخط ..ليتصل مباشرة ..ويقول :جمانة أنت عندك أحد ؟!!
قلت :ال ..
قال في تلكٍؤ بعض الشيء :أبي أخذوه للعناية ..
صدمت :لماذا ؟ هل حصل شيء ؟
ُ
قال وهو يدافع البكاء :ال ..سيطمئنون فقط ..للرعاية الزائدة ال أكثر وال أقل ! ..
11
إذا أردت أن تعلم ما العجز ..فا كتب عن والدك !..
11
إذا أردت أن تعلم ما العجز ..فا كتب عن والدك !..
11
إذا أردت أن تعلم ما العجز ..فا كتب عن والدك !..
11
إذا أردت أن تعلم ما العجز ..فا كتب عن والدك !..
11
إذا أردت أن تعلم ما العجز ..فا كتب عن والدك !..
11
إذا أردت أن تعلم ما العجز ..فا كتب عن والدك !..
موقف صعب ..يا إخوتي صعب ..الحمد هلل على كل حال ..
أعود ..
دخل عاصم ..ومباشرة قال عبارة ..لم أستوعب معناها في حياتي كما استوعبتها تلك اللحظة ..
لطالما ذكرتها مراراً وتكراراً ..من غير وعي لما أقول ..
مر بمثل مصيبتي أو أشد ..
ولن يستوعب قارئ كالمي هذا إال من ّ
قال لي :
ِ
عزاءك بالوالد .. أحسن اهلل
... ...
يتدرج لي في نقل الخبر كما فعل مع أخواتي ..
لم ّ
وهو ما أشكره عليه ..
كأنه يقول لي :كما كانت طفولتنا رائعة معاً ..
سيكون شبابنا ممتعاً معاً ..
وقلوبنا متعاهدة على حمل المسؤولية معاً ..
... ...
إلى هذا الحد ..ال أستطيع اإلكمال ..الرجفة خلعت كتفي ..
سُأكمل غداً ..
... ...
11
إذا أردت أن تعلم ما العجز ..فا كتب عن والدك !..
ال أعلم كي ف اس تقبلن الخ بر ..لكن دخلت علين ا رزان وهي تبكي بص وت مرتف ع ..ثم أتتن ا رن د
للتو من صالتها ..وبكاؤها كعادتها مكتوماً ُمحرقاً ..
وعليها عباءتها وقد انتهت ّ
وريم بينن ا ويب دو بأنه ا لم تس توعب الموق ف جي داً ..دعته ا أمي وق الت :ريم ..أب وك ذهب للجن ة
إيحاء بفهمها ..وال نعلم ما الذي يدور وسط عقلها الصغير ! ..
وسنلحقه بإذن اهلل ..هزت رأسها ً
مر سريعاً ..كأنه يودعنا هو اآلخر ٍ
ضمتهن أمي ..ونحن جميعاً في بكاء ُموجع ..وشريط ذكرياتنا معه ّ
..
!
بقينا بعضاً من الدقائق على هذه الحال ..
كل يرى ألمه في عين اآلخر ! ..
ٌ
حتى أمرتنا أمي بالصالة ..وذكرتنا بقول اهلل تعالى واستعينوا بالصبر والصالة ..
كل منا إلى غرفته ..ثم ..
قام ٌ
علمت بأن جدتي وعماتي قد أتين ..
ُ
ودخلت عليهن ..أول ما رأتني جدتي :زادت في بكائها وهي تترحم عليه وعلينا ..ُ نزلت
ُ
ٍ
ضممتُها بقوة ..وأنا أشم رائحة حبيبي بحضنها ..وأراه بعينيها ..
هي جدتي ..أم والدي ..ثُكلت بابنها وقرة عينها ..كما ثُكلت أمي بالحنون زوجها ..
وكما ُكلِمنا نحن بالرحيم أبينا ..
حضنت باقي عماتي ..وخالة والدي أسعده اهلل ..والجميع في تأثر بالغ ! ..
ُ ثم
نزلت أخواتي ..والمشهد نفسه تكرر ..
ألقيت بنفسي عليها ..وأنا أبكي ..وهي تبكي أكثر ..وتق ول
ُ قمت إلى الصالة ..فقابلتني الخادمة ..
ُ
:صبر صبر ! ..
الحمد هلل على كل حال ..
ثم نزلت أمي وليست بأهون منا ..المشهد تكرر نفسه مرة أخرى ..وربما أشد ..
لحظات ُموجعة ..هذا فرا ٌق للحبيب الغالي ..
ٌ
رحمه اهلل رحمةً واسعة ..
لبسنا عباءاتنا نريد رؤية الغالي قبل أن يُدخل الثالجة ..
وقبل خروجنا ..دخل علينا أعمامي :محمد وأحمد وعمر ..
تأثرهم كان بالغاً ..رحمه اهلل كان غاليًا على الجميع ..
سلموا علينا بحرارة مهدئة ..وقلوبنا تقطعت من البكاء ..
وخرجنا ..للمشفى ..
لنرى ..جثمان والدي فقط ..بال روح ! ..
لنقبله قُبل الوداع ..
لنُوقن بأن الموت حق ..واهلل حق ..جل وعز سبحانه ..
11
إذا أردت أن تعلم ما العجز ..فا كتب عن والدك !..
وصلت وأمي وعاصم وجدتي ورزان وخالتي نورة (شقيقة جدتي ) ..
ُ
مشينا خطوات أشعر وكأنها دهراً ..
وصلنا قسم العناية المركزة ..
دخلناه ..
استقبلنا باقي أعمامي الذين لم نرهم في بيتنا ..
ثم ..
دخلنا على ..والــدي ..حبيبي ..
ٍ
وقفات طويلة .. وسأقف عند هذا الموقف
...
مسجى على السرير األبيض ..
رأيناه ّ
وجهاز القلب لم يُفصل عنه بعد ..
ألرى خالف ما رأيته في المرة األولى ..
تخطيط ِ
دقات القلب ..يظهرها مستويةً مستقيمة ،كما كانت حياته مستقيمة ..
وللجهاز رني ٍن متواصل ..ليُؤكد للجميع ..
بأن القلب الطاهر ..
قد فارق الحياة ..
وودع النبض ..
ّ
انكببنا عليه جميعاً تقبيالً ..وضماً ..
المشرق :ال يعلم بك اآلن يا جمانة ..هو جسد بال روح ..
كنت أقول في نفسي وأنا أقبل وجهه ُ
انظري ..لم يبتسم لك كعادته حين تقبلين وجهه ورأسه ويده ..
ضني كما تشائين ..لكن اعلمي أنه ال يعلم بهذا كله ..
قبّلي كما تشائين ..واح ُ
لن يقول لك كعادته حين تقبلين يده :
اهلل يكرمك يا بنيتي ..
لن تسمعي منه دعاء وداعه الدائم :
اهلل يحفظك يا بنيتي ..
أدور حوله وأنا ال أكاد أصدق هول الموقف ..
أيُعقل أنني اآلن بال أب !! ..
هل هو ميّت اآلن ؟!!
لن يكون في عداد األحياء ؟!!
فقدت أبي ..كما فقد هو أباه !! ..
أبي أتسمع ؟ ..أصبحت مثلك يا حبيبي بال أب ! ..
كنت دوماً تغبطنا وتقول :يا لهنائكم أبوكم بين أيديكم ..تتمتعون برؤيته ..
َ
11
إذا أردت أن تعلم ما العجز ..فا كتب عن والدك !..
11
إذا أردت أن تعلم ما العجز ..فا كتب عن والدك !..
... ...
مائل لليمين ..مع أنهم كانوا قد أمالوه لليسار
كانت أمارات حسن الخاتمة ظاهر ًة جليةً عليه ..رأسه ٌ
حين كانت األجهزة عليه ..
لكن فور رفعها عنه ..مال لليمين ! ..
وجهه ُمضيء ..وجلده ُمنش ّد ..
ٍ
ابتسامة خفيفة .. أسنانه ظاهره ..في
يده اليمنى رافعةٌ للسبابة ..
وعظامه لينة ..كأنه نائم ..وفي راحة تامة ..
أال يحق لي الصبر ؟!
بل والفخر ؟!!
وأشد من ذلك الفرح ؟!!
جمعنا اهلل به في جنان الفردوس األعلى من الجنة ..
استبشرنا كثيراً لهذه الخاتمة الحسنة ..وهذا من أعظم ما يعزينا بفقده ..
... ...
عدنا أدراجنا ..لنتركه في المشفى ..
يُقلبونه بأيديهم ..ويُدخلونه ثالجتهم ..بال حول وال قوة له ! ..
شيعنا أعمامي ..عند خروجنا ..
وال زلت أذكر قبضة يمين عمي يوسف على يدي اليسرى ..
وهو يصبرني ..ويذ ُكر خيراً كثيراً ُمفرحاً عن والدي رحمه اهلل ..
ويبشرني بأن األطباء أخبروه بأن والدي قبل أن ينام نومته األخيرة ..
نط ــق الشهــادة ..لك اللهم الحمد كله ..
وخالتي نورة ..عن يميني ..تقوم بدورها هي األخرى ..
كأني بكم ترونه موقفاً بسيطاً ال يحتمل الذكر ..
لكنه في نفسي عظيم ..وكبير ..
في كثيراً !..
لم أنسه ..أثّر ّ
... ...
المهدئين ذلك اليوم ..
استقبلنا بعضاً من المعزين ُ
وانتهى يومنا ..وُأغلق ..
11
إذا أردت أن تعلم ما العجز ..فا كتب عن والدك !..
ليُسجل لنا أول يوم في حياتنا نقضيه فاقدين أبانا ُ ..مصابين بأغلى روح عاشت بيننا ..
... ...
وفي صباح الغد ..يوم الجمعة الثالث من ربيع الثاني ..
ذهبت وأمي ورزان وعاصم إلى المغسلة ..
ُ
لنودع الحبيب ..الوداع األخير ..
لنراه الرؤية األخيرة ..
ٍ
فردوس ُأعدت للصالحين .. ولنعلن شوقنا إلى االجتماع به في
وكان بيدي مشلحه البني ..
الذي ُزين به جثمانه ..
وسيُزينه اهلل عز وجل بأفضل منه في جنانه ..
بإذنه سبحانه ..
... ...
أحضروه لنا ..
ُف جسمه ٍ
بغطاء أبيض .. على سري ٍر وقد ل ّ
الكفن الذي ينتظر كل مؤم ٍن في هذه الحياة ..
قبلنا وجهه الطاهر ..ورائحة العود والسدر تفوح منه ..
عظامه ما زالت ليّنه ..
وجرح بطنه كما يقول مغسلوه ..أنه لم يتوقف عن النزف حتى تكفينه ..
اللهم لك الحمد ..
بإذن اهلل نحسبه شهيداً ..
مات مبطوناً ..واستمر النزف ..وهذه بشرى عظيمة ..
أسأل اهلل تعالى أن يتقبله من الشهداء الصادقين ..
ويجمعنا به مع النبيين والصالحين ..
... ...
مشهد جنازته عظيم كما ُوصف لنا ..
حضره الكثير ..
واعتذر الكثير لتقلب األجواء ..
فلله الحمد أوالً وآخراً ..
صلينا عليه صالة الميت ..
ٍ
تسليمات بينهن دعاءٌ وابتهال .. أربع
ُ
لقبوله ..وتثبيته عند السؤال ..
وعدنا ..ليحمله الرجال إلى بيت المسلمين السفلي ..
11
إذا أردت أن تعلم ما العجز ..فا كتب عن والدك !..
11
إذا أردت أن تعلم ما العجز ..فا كتب عن والدك !..
11