You are on page 1of 19

‫ِح َكــــايةُ األلَــــم‬

‫قصة وفاة والدي الشيخ ‪ /‬عبداهلل بن صالح السديس‬


‫غفر اهلل له ولوالديه ولجميع المسلمين‬

‫بقلم ‪ /‬جمانة بنت عبداهلل السديس‬


‫إذا أردت أن تعلم ما العجز ‪ ..‬فا كتب عن والدك ‪!..‬‬

‫‪‬‬
‫سأحكي لكم حكاية األلم ‪ ..‬حكاية الفقد ‪ ..‬حكاية ملؤها الحزن والضيق ‪..‬‬
‫وثمرتها الصبر والرضا ‪ ..‬نعم ‪ ..‬حزن أثمر رضا ‪ ..‬أرأيتم فضل دينكم ؟‬
‫‪... ...‬‬
‫أتيت إلى الدنيا‪ ,‬وأنا أحمل اسماً طالما افتخرت به ‪! ..‬‬
‫عشت حيا ًة هادئةً هنية‪ ,‬مليئةً بالحب والحنان‪ ,‬وسط أبوين رقيقين فاضلين ‪ ..‬أحببتهما كأشد ما يعشق‬
‫ولد والديه ‪..‬‬
‫والدي ‪ ..‬كما كان‬
‫ّ‬ ‫من فضل اهلل علي ‪ ..‬أنني الكبرى بين إخوتي‪ ,‬ولذا كان لطفولتي مذاق خاص لدى‬
‫يقول لي أبي دوماً ‪..‬‬
‫والدي ‪..‬‬
‫ّ‬ ‫أهتم ألحد غير‬
‫كبرت وكبرت معي أحالمي وآمالي ‪ ..‬لم أكن ّ‬
‫إن ضاقت بهما الدنيا مر ًة ‪ ..‬فإن قلبي يكاد ينفطر ألجلهما ‪..‬‬
‫هماً لهما ‪..‬‬
‫وإن شكا أحدهما ألماً ‪ ..‬فروحي تكاد تنفصل ّ‬
‫ال زلت أتذكر ما حصل قبل سنتين؛ األشهر التي كان فيها والدي طريح اً للفراش ‪ ..‬كنت أحترق في‬
‫داخلي ‪ ..‬وأش عر بأحش ائي تتم زق ‪ ..‬حين أرى وجه ه يعتص ر ألم اً ‪ ..‬وأح اول الوق وف ش امخةً أمام ه وأمي‬
‫وإخوتي ‪ ..‬وما إن أصعد إلى غرفتي ‪ ..‬حتى أنهار من البكاء ‪! ..‬‬
‫وشاء اهلل عز وجل ‪ ..‬وقام من فراشه ببعض من اآلالم ‪ ..‬التي كانت تالزمه في كل وقت ‪! ..‬‬
‫لم نفتر ووالدتي عن الدعاء له‪ ,‬لكن حكمة اهلل تعالى فوق كل شيء ‪..‬‬
‫قرر والدي الغالي إجراء عملية إلزالة االنزالق الغضروفي في ظهره ‪..‬‬
‫فقد ّ‬
‫ومن هنا ‪ ..‬سأحكي لكم تفصيالً أرجو أن تتحملوه ‪..‬‬
‫صدمت بقوة ‪! ..‬‬
‫أول مرة ذكر لنا والدي أنه يفكر في إجراء العملية ‪ُ ..‬‬
‫أنا أريد الراحة له ‪ ..‬لكني في نفس الوقت ‪ ..‬أحبه ‪ ..‬وأخشى فقده ‪! ..‬‬
‫وكأن الفقد ال يكون إال في المشفى ‪! ..‬‬
‫لكن هذا اإلنسان ‪ ..‬وهذه عاطفته ‪!..‬‬
‫دعوت اهلل له من كل قلبي ‪ ..‬أن يصرفه إلى ما فيه الخير والصالح ‪..‬‬
‫الهم ‪! ..‬‬
‫وكنت جاهد ًة أحاول تذكير نفسي ‪ ..‬بأن المكتوب واقع ‪ ..‬وال فائدة من ّ‬
‫وحين كنا معه في السيارة يوم اً ‪ ..‬قال ‪ :‬بأنه قرر قراراً جازم اً أن يجريها ‪ ..‬والطبيب شجعه عليها ‪..‬‬
‫لكنه ينتظر عودته من الخارج ‪..‬‬
‫فسألته ‪ :‬هل فيها خطورة ؟ وكم نسبة نجاحها ؟‬

‫‪11‬‬
‫إذا أردت أن تعلم ما العجز ‪ ..‬فا كتب عن والدك ‪!..‬‬

‫أخبرني أن الكثيرين يعملونها‪ ,‬وترتاح أجسامهم بعدها‪ ,‬وأن نسبة نجاحها فوق ‪ .. %90‬واهلل الشافي‬
‫سبحانه ‪..‬‬
‫سكت على مضض ‪ ..‬وأنا أتمنى من كل قلبي أن ينصرف عنها ‪..‬‬
‫‪... ...‬‬
‫وفي يوم السبت الموافق ‪26/3/1431‬هـ جاءت إلي والدتي –حفظها اهلل‪ -‬وأخبرتني بأن المستشفى‬
‫اتصلوا على والدي يبلغونه بأن يوم األربعاء هو يوم إجراء العملية له ‪! ..‬‬
‫تضايقت ‪ ..‬ج ّداً ‪ ..‬وتخدر جسمي َو ِجالً حين نقلت إلي الخبر ‪ ..‬لكني سلمت أمري هلل ‪..‬‬
‫وفي الي وم الت الي ‪ ..‬بع د العش اء ‪ ..‬دخلت الص الة وإذا ب أبي ج الس فيه ا وأخ واتي ‪ ..‬وبي ده التق ويم‬
‫طبعا تاريخ دخوله المشفى ‪..‬‬
‫يقلبه ‪ ..‬رفع رأسه ونظر إلينا ‪ ..‬وقال ‪ 1/4 :‬تاريخ مميز ‪ !! ..‬يقصد ً‬
‫ق الت وال دتي ‪ :‬ي ا ليتهم يؤجلونه ا ‪ ..‬فقلت ‪ :‬إن ت أجلت فهي الخ يرة! التفت إلي طالب اً م ني إع ادة م ا‬
‫قلت ‪ ..‬ثم نظر إلي بابتسامة ‪ ..‬وقال هامساً على مضض ‪ :‬صحيح ‪ ! ..‬وكأنه ال يريد وقوع ما نريد ‪!..‬‬
‫كثيراً ما كرر لنا في هذا األسبوع أن يوم األربعاء هو يوم الراحة بالنسبة له ‪!..‬‬
‫‪... ...‬‬
‫جاء يوم األربعاء الذي ال ينسى ‪! ..‬‬
‫وهم والدي لم يفارقني لحظةً ‪! ..‬‬
‫استيقظت من نومي ّ‬
‫وبعد أن صليت الظهر ‪ ..‬أخذت كتاباً ابتعته قبل أيام ؛ للشيخ سلمان العودة ‪ ,‬بعنوان ‪( :‬مع اهلل) ‪..‬‬
‫ونزلت للصالة ‪ ..‬وأنا أريد استقبال أبي حين يعود من عمله ‪..‬‬
‫انتظرت إلى أن دقت الساعة الثانية أجراسها ‪ ..‬ودخل الحبيب على عادته ‪ ..‬منادياً لريم ‪..‬‬
‫سلم علي ‪ ..‬ووجهه مستبشر ومبتهج ‪ ..‬سأل عن والدتي وإخوتي ‪..‬‬
‫وسألته عن موعد ذهابه ‪ ..‬وهل سيرتاح قليالً ؟!‬
‫فأجابني ‪ :‬ال ‪ ..‬سأغتسل ‪ ..‬ونذهب للمشفى أنا وعاصم ‪ ..‬ال وقت للراحة ‪! ..‬‬
‫وبالفع ل ‪ ..‬اغتس ل ‪ ..‬وتطه ر ‪ ..‬وس لم على وال دتي ‪ ..‬ودخ ل على رن د وأيقظه ا من نومه ا يري د‬
‫توديعها ‪ ..‬أرادت أن تقبل رأسه فقبل هو رأسها ‪ ..‬فأنزلت نفسها ليده فسبقها ليدها وقبلها ‪ ..‬ثم دخل على‬
‫رزان وودعه ا وهي نائم ة ‪ ..‬ون زل في الس اعة الثاني ة والنص ف أو تزي د ‪ ..‬وأن ا أنتظ ره ‪ ..‬أري د توديع ه قب ل‬
‫ذهابه ‪! ..‬‬
‫وضع أغراضاً كانت بيده ‪ ..‬وأراني ورقةً وهو يقول ‪ :‬أوصلوها إلى ٍ‬
‫فالن من الزمالء ‪ ..‬وكأنه لن يع ود‬
‫حتى يوصلها هو ‪!..‬‬
‫سلمت عليه مقبلةً رأسه ويده ‪ ..‬وهو يقول ‪ :‬اهلل يكرمك يا بنيتي ‪ ..‬وابتسامته قد‬
‫ُ‬ ‫وحين أراد الخروج‬
‫مودع ‪!..‬‬
‫أنارت وجهه وهو ينظر إلي نظرةً رأيتُها نظرة ّ‬
‫إي واهلل هذا ما جاء في نفسي ‪!..‬‬
‫أحاطته ريم بذراعيها ‪ ..‬وض مته بقوة ‪ ..‬فضمها أك ثر ‪ ..‬وضعت أذنه ا على بطنه وهي تق ول ‪ :‬بطنك‬
‫جائع ‪!..‬‬

‫‪11‬‬
‫إذا أردت أن تعلم ما العجز ‪ ..‬فا كتب عن والدك ‪!..‬‬

‫ضحك من قولها ونظر إلي وهو يقول ‪ :‬بعذري يا بنيتي ما أكلت شيئاً من الساعة العاشرة ‪! ..‬‬
‫ثم ‪ ..‬خرج ‪ ..‬وما لبث أن عاد ‪!..‬‬
‫وص عد ال درج وه و يقف ز بعض ه ‪ ..‬وأن ا متعجب ة من نش اطه المف اجئ ‪ ..‬إذ لم يكن هين اً علي ه له ذه‬
‫الدرجة ‪!..‬‬
‫هربت إلى المجلس ‪ ..‬وأنا أدافع العبرة ‪ ..‬وال أريد رؤيته وهو يخرج ‪..‬‬
‫ثم عدت إلى كتابي وأنا أطرد هموماً اجتاحت نفسي ‪!..‬‬
‫‪... ...‬‬
‫مرت علينا الساعات ثقيلةً صعبة ‪ ..‬إلى أن أرسل لنا عاصم في الساعة الخامسة والثلث يقول ‪:‬‬
‫(دخل الوالد اآلن غرفة العمليات‪..‬‬
‫دعواتكم له‪)..‬‬
‫رسالة صعبة ‪ ..‬ال أستطيع وصف المشاعر تجاهها ‪! ..‬‬
‫استودعته اهلل من كل قلبي ‪ ..‬ولساني ال يفتر عن الدعاء له ‪! ..‬‬
‫وبعد ساعتين ونصف ‪ ..‬أي في الساعة الثامنة إال ربع تقريب اً ‪ ..‬اتصلت بعاصم ألن الغالي يُفترض أن‬
‫بناء على كالمهم ‪..‬‬
‫يكون قد خرج من غرفة العمليات إلى غرفة اإلفاقة ً‬
‫لم يرد علي ‪ ..‬فاتصلت ثانية ‪ ..‬وثالثة ‪ ..‬وقلبي يكاد يخرج من مكانه ‪..‬‬
‫قلت ‪ :‬لعله يصلي ‪..‬‬
‫فاتصلت على المشفى ‪ ..‬وأنا في قمة االضطراب ‪ ..‬لم أجد تجاوباً معي ‪..‬‬
‫إلى أن وصلت الدقائق ‪ ..‬الخمسة عشر بعد الثمان ‪ ..‬فاتصل عاصم ‪ ..‬وصوته مستبشر ‪ ..‬يقول بأن‬
‫حبيبنا خرج إلى غرفة اإلفاقة ‪ ..‬والعملية ناجحة وهلل الحمد ‪..‬‬
‫ذرفت دموعي بشدة ‪ ..‬وسرت مسرعةً أبشر والدتي وأخواتي ‪..‬‬
‫انتظرنا إفاقته بفارغ الصبر ‪ ..‬لكن لم يأتنا خبر بهذا ‪..‬‬
‫خرجن ا من الم نزل الس اعة التاس عة ‪ ..‬ونحن نحم ل في أي دينا م ا أوص انا ب ه وال دنا ‪ ..‬القميص األبيض‬
‫الذي يحبه ‪ ..‬شاحن الجوال ‪ ..‬عالقة للثياب ‪..‬‬
‫في السيارة ‪ ..‬اتصل عاصم يبشرنا بأنه أفاق ‪ ..‬وكانت الساعة التاسعة والربع ‪ ..‬لكنهم لم يحضروه‬
‫إلى الغرفة ‪ ..‬زاد اطمئناني ‪ ..‬وهلل الحمد ‪..‬‬
‫وحين وصلنا للمشفى ‪ ..‬دخلنا الغرفة المخصصة ‪ ..‬ونحن ننتظر قدومه إلينا ‪..‬‬
‫ومن هنا بدأت حكاية األلم ‪! ..‬‬
‫‪... ...‬‬
‫فتحوا باب الغرفة على مصراعيه ‪ ..‬وأدخلوا سريراً يحمل أغلى إنسان لدينا ‪ ..‬في الساعة العاشرة إال‬
‫ثلث ‪..‬‬
‫بك ‪ُ ..‬م ٍ‬
‫دم ‪ ..‬صفوا كيف شئتم ‪..‬‬ ‫موقف صعب ‪ِ ..‬‬
‫عسر ‪ ..‬مذهل ‪ ..‬م ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫مسجى ‪ ..‬ال يملك أي قوة ‪ ..‬وهم ينقلونه من سرير إلى آخر ‪! ..‬‬
‫حين رأت أعيننا الحدث ‪ ..‬حبيب ّ‬

‫‪11‬‬
‫إذا أردت أن تعلم ما العجز ‪ ..‬فا كتب عن والدك ‪!..‬‬

‫لم تتحمل أخواتي المنظر فبدأن بالبكاء بصوت عال ‪..‬‬


‫أهدئهن ‪ ..‬خشيةً من أن يحزن والدي ألجلهن ‪..‬‬
‫ّ‬ ‫بدأت‬
‫ثم ‪ ..‬تق دمت وال دتي للس الم علي ه ‪ ..‬أتيت بع دها ‪ ..‬فتح عين ه ونظ ر إلي وق ال ‪ :‬هال ببني تي ‪ ..‬قبلت‬
‫رأسه ‪ ..‬ولساني ال يستطيع النطق ‪ ..‬ألن دمعتي مربوطة معه ‪!..‬‬
‫سلمت عليه أخواتي وأخي ‪..‬‬
‫َ‬
‫وج اءت الممرض ة تطمئن علي ه ‪ ..‬ثم ق الت ‪ :‬نبض ات القلب ممت ازة ‪ ..‬الح رارة ممت ازة ‪ ..‬األكس جين‬
‫ممتاز ‪ ..‬لكن الضغط منخفض ‪!..‬‬
‫بصراحة لم أكن أعلم خطورة انخفاض الضغط وسببه ‪ ..‬وأرجو أن ال أعلم مرةً أخرى ‪! ..‬‬
‫‪... ...‬‬
‫بدأت أمي بالقراءة عليه ‪..‬‬
‫وكان يستيقظ مرةً ‪ ..‬ويفقد وعيه مرات ‪ ..‬وفي إحداها ‪ ..‬أذكر أنه فتح عينه ‪ ..‬وكنت وأخي عاصم‬
‫أصل المغرب وال العشاء ‪ ..‬متى ينتصف‬
‫وأمي فوق رأسه ‪ ..‬فقال ‪ :‬كم الساعة ؟ قلنا ‪ :‬عشر ‪ ..‬قال ‪ :‬لم ّ‬
‫الليل؟‬
‫قلنا ‪ :‬ال زال في الوقت بقية ‪ ..‬ارتح فقط ‪..‬‬
‫ومرة ‪ ..‬فتح عينيه ‪ ..‬ونظر إلى ريم مبتسماً ‪ ..‬ثم قال ‪ :‬هل شربت دواءها ؟!!‬
‫ال تعجبوا ‪ ..‬هذا أبي ‪ ..‬وهذه حنيته ‪ ..‬يحب أبناءه لدرجة أن ينسى ألمه أمامهم ‪!..‬‬
‫‪... ...‬‬
‫بعض من القلق ‪! ..‬‬
‫الممرضون ‪ ..‬يدخلون ويخرجون ‪ ..‬وفي وجوههم ٌ‬
‫أنا ال أحب الغوص في الوساوس ‪ ..‬ولذلك فإنني أقول لنفسي كل لحظة ‪ :‬مجرد اطمئنان ‪ ..‬هذا شيء‬
‫طبيعي ‪ ..‬وما ِ‬
‫أدراك أنت بعملهم ‪! ..‬‬
‫كان ضغطه يرتفع فجأة ‪ ..‬وينخفض فجأة أخرى ‪ ..‬لكن أعلى ما وصل إليه أربع وثمانون ‪ ..‬وأقل ما‬
‫عانى منه فوق الثالثين ‪! ..‬‬
‫ضربوه عدداً من اإلبر ‪ ..‬وحين أتى طبيب التخدير ليضربه أول إبرة ‪ ..‬لم يجد عرقاً ليطعنه به ‪! ..‬‬
‫فداه نفسي ‪ ..‬اختفت عروقه ‪..‬‬
‫استيقظ مر ًة وكنت على رأسه أنا وعاصم ‪ ..‬نظر إلينا ثم قال ‪ :‬الساعة العاشرة والنصف ؟ تأكد عاصم‬
‫من الساعة ‪ ,‬وقال ‪ :‬نعم ‪ ..‬وهو يقول لي ‪ :‬ما شاء اهلل أبي كما هو في دقته ‪..‬‬
‫قال لنا ‪ :‬ال تفتني الصالة ‪ ..‬أريد أن أصلي ‪..‬‬
‫وحين أتى الطبيب إليه ‪ ..‬قال له ‪ :‬دكتور أريد الصالة ‪ ..‬سأتوضأ ‪ ..‬رد عليه ‪ :‬ال تستطيع الوضوء يا‬
‫عبداهلل نحضر لك ترابًا وتتيمم ‪ ..‬قال ‪ :‬ال‪ ،‬بل أستطيع ‪! ..‬‬
‫ثم ‪ ..‬فقد وعيه ‪..‬‬
‫هم الصالة لم يفارقه أبداً ‪ ..‬حتى وهو في أضيق الظروف ‪..‬‬
‫فتح عينه مرةً ‪ ..‬والتفت عن يمينه فرأى أمي ‪ ..‬ثم عن يساره ‪ ..‬فرأى عاصماً ‪ ..‬فقال ‪ :‬أين البنات ؟‬

‫‪11‬‬
‫إذا أردت أن تعلم ما العجز ‪ ..‬فا كتب عن والدك ‪!..‬‬

‫أين ريم ؟ أتت إلي ه ريم ‪ ..‬وهي الص غيرة لم تتحم ل الموق ف ‪ ..‬وك انت تق ف ورائي في أغلب‬
‫الوقت ‪ ..‬تقول ‪ :‬ما أبغى أشوف أبوي كذا ‪! ..‬‬
‫وحين وقفت بجانب ه ‪ ..‬ابتس م له ا ‪ ..‬وم د ي ده إليه ا ‪ ..‬وق ال ‪ :‬تع الي بج انبي ‪ ..‬رفض نا ص عودها إلي ه‬
‫خوفاً من أذيته ‪ ..‬ثم قال ‪ :‬وأين رند ؟ جاءته وس لّم عليها ‪ ..‬وقال ‪ :‬أين رزان ؟ ففعل معها الفعل ذاته ‪ ..‬ثم‬
‫قال ‪ :‬أين جمانة ؟ أتيت إليه ‪ ..‬فمد يده إلي ‪ ..‬صافحته ‪ ..‬وقبلتها ‪ ..‬وضغطت عليها قليالً أريد تدفئتها من‬
‫شدة برودتها ‪..‬‬
‫وحتى ‪ ..‬أمأل نفسي من حنانها ‪!! ..‬‬
‫ه ل تري دون أن أخ بركم ‪ ..‬ب أن ه ذا ه و ال وداع األخ ير ‪ ..‬م ع حبي بي وق رة عي ني ‪ ..‬وروحي ال تي بين‬
‫أضلعي ؟!‬
‫نعم ‪ ..‬هذا آخر ما بيننا ‪ ..‬وكأنه أوقفنا جميع اً حوله ‪ ..‬ليقول لنا ‪ :‬قفوا مع بعضكم دائم اً ‪ ..‬أريد أن‬
‫أرحل والعُرى بينكم غليظة ‪! ..‬‬
‫ِ‬
‫إيه ‪ ..‬يا أبي ‪..‬‬
‫بع د ه ذا الموق ف بقلي ل ‪ ..‬وحين رأين ا أن ه ال ج دوى من جلوس نا ‪ ..‬ألن حركتن ا أربكت ط اقم‬
‫التمريض ‪!!!..‬‬
‫استودعناه ربنا ‪ ..‬وخرجنا إلى بيتنا بعد ساعتين ونصف تقريباً من اإلحاطة به ‪..‬‬
‫مشاعرنا لم أصفها لكم في هذا الليلة ‪ ..‬ولن أصفها ‪ ..‬ألني ال أستطيع ‪ ..‬ال أستطيع أبداً ‪! ..‬‬

‫الحكاية تزداد تعقداً ‪ ..‬ولذا فإن عباراتي ربما تكون كذلك أيض اً ‪ ..‬سامحوني ‪ ..‬أنا أحكي عن أبي ‪..‬‬
‫أتعلمون ما معنى أبي ؟!! ‪ ..‬إذن التمسوا لي العذر إذا أذنتم ‪..‬‬
‫‪... ...‬‬
‫دخلن ا ال بيت ‪ ..‬وهاتفن ا عاص م ‪ ..‬نس أله عن الوال د ‪ ..‬أخبرن ا ب أن الوض ع كم ا ه و ‪ ..‬ويُ رجى ل ه‬
‫التحسن ‪..‬‬
‫كل إلى فراشه ‪ ..‬وهو يحمل أطناناً من الهم ‪..‬‬
‫ذهب ّ‬
‫كنت متضايقة إلى حد الثمالة ‪ ..‬فأخرجت دفتري ‪ ..‬ألريح خاطري من بعض األلم ‪..‬‬
‫ُ‬
‫وم ا أن اض طجعت على فراش ي ‪ ..‬في الس اعة الواح دة والرب ع ‪ ..‬ح تى ر ّن ه اتفي الج وال ‪ ..‬قلت ‪:‬‬
‫اللهم ال طارقاً يطرق إال بخير ‪ ..‬رأيت الرقم فإذا هو عاصم ‪ ..‬رددت عليه ‪ ..‬وأنا في قمة الخوف ‪..‬‬
‫سألته عن والدي مباشرة ‪ ,‬فقال ‪ :‬على وضعه ‪ ..‬ال تنسوه من دعواتكم ‪! ..‬‬
‫أقفل الخط ‪ ..‬ليتصل مباشرة ‪ ..‬ويقول ‪ :‬جمانة أنت عندك أحد ؟!!‬
‫قلت ‪ :‬ال ‪..‬‬
‫قال في تلكٍؤ بعض الشيء ‪ :‬أبي أخذوه للعناية ‪..‬‬
‫صدمت ‪ :‬لماذا ؟ هل حصل شيء ؟‬
‫ُ‬
‫قال وهو يدافع البكاء ‪ :‬ال ‪ ..‬سيطمئنون فقط ‪ ..‬للرعاية الزائدة ال أكثر وال أقل ‪! ..‬‬

‫‪11‬‬
‫إذا أردت أن تعلم ما العجز ‪ ..‬فا كتب عن والدك ‪!..‬‬

‫أرجوك ادعي له ‪! ..‬‬


‫تخدر جسمي بأكمله ‪ ..‬ورجفت عظامي ‪ ..‬واعتراني برد شديد ‪..‬‬
‫اآلن وأن ا أكتب لكم ذل ك أش عر ب أن عظ امي ق د ذابت ‪ ..‬كي ف بح الي حين تلقيت أص عب خ بر في‬
‫حياتي؟! أسأل اهلل الرحيم ‪ ..‬أن ال أسمع أصعب منه ‪..‬‬
‫قمت وأنا أطمئن نفسي كالعادة ‪! ..‬‬
‫ُ‬
‫وبعد مضي عدد من الدقائق ‪ ..‬بدأت الوساوس تجتاحني ‪ ..‬فاتصلت بعاصم ألقول له ‪ :‬أسألك باهلل‬
‫هل في والدي شيء تخفيه ؟!‬
‫قال ‪ :‬جمانة ‪ ..‬سأقول لك كل شيء ‪ ..‬وأنت بالذات لن أخفي عنك أي شيء ‪! ..‬‬
‫قلت ‪ :‬هات ‪ ..‬واحتمل يا قلب ‪!..‬‬
‫ليُفاجأني ‪ :‬أبي عنده نزيف داخلي ‪!!! ..‬‬
‫حروفي تتبعثر أمام هذا الخبر ‪ ..‬لكني أبشركم أني استقبلته بنفس هادئة ‪ ..‬سكينة ورحمة من الرحيم‬
‫الرحمن ‪..‬‬
‫اتجهت إلى القبلة ‪ ..‬ألتضرع لمن بيده الحول والقوة ‪..‬‬
‫المبكي ؛ أني كنت أدعو ‪ :‬اللهم يا ولي نعمتي ‪ ,‬ويا مالذي في كربي ‪ ,‬اجعل ما نخشاه‬
‫ومن الطريف ُ‬
‫من نزف والدي برداً وسالماً عليه ‪ ,‬كما جعلت النار برداً وسالماً على إبراهيم ‪..‬‬
‫فيهتف هاتف في نفسي ‪ :‬ربما يكون البرد والسالم على أبيك ‪ ..‬هو قبض روحه ‪!!..‬‬
‫ثم ك أني أتراج ع عن ال دعاء قليالً ‪ ..‬وأع ود ل ه م ذكرة نفس ي ب أن قض اء اهلل حاص ل ‪ ..‬وه و الحكيم‬
‫العليم الرحيم سبحانه ‪..‬‬
‫عشت ساعات من ال ُك َرب كأشد ما تكون ال ُك َرب ‪..‬‬
‫ُ‬
‫ليس لي حول وال قوة ‪..‬‬
‫أتمنى إخراج دمي كله لوالدي ‪..‬‬
‫أتمنى فداه لو كان ذا بيدي ‪..‬‬
‫لكن ما نقول إال ‪:‬‬
‫الحمد هلل على كل حال ‪..‬‬
‫رضينا بقدر اهلل ‪..‬‬
‫وحين ب زغ فج ر ذاك الي وم ‪ ..‬لم يكن مض يئاً كعادته ‪ ..‬وك أن اللي ل لم يودعن ا ‪ ..‬ب ل ازداد س واده ‪..‬‬
‫واشتدت ظلمته ‪..‬‬
‫كنت أحمل هماً آخر ‪ ..‬وهو ‪ :‬كيف ستعلم جدتي بما حصل لفلذة كبدها ‪! ..‬‬
‫لم يخبرها عن دخوله العملية ‪ ..‬حتى ال يضيق خاطرها ألجله ‪! ..‬‬
‫هو أبي ‪ ..‬يحافظ على ابتسامة أمه ‪ ..‬حتى وإن آل إلى أحلك الظروف ‪..‬‬
‫وإن كان في أشد الحاجة لدعائها له ‪..‬‬
‫ال يريد لقلبها الغم ‪ ..‬وال لخاطرها الهم ‪..‬‬

‫‪11‬‬
‫إذا أردت أن تعلم ما العجز ‪ ..‬فا كتب عن والدك ‪!..‬‬

‫اسعدي يا جدتي بهذا الولد الخلوق ‪! ..‬‬


‫‪...‬‬
‫وهم ُمكلفة به أنا وعاصم ‪ :‬تبليغ والدتي بما حصل ‪ ..‬ألني أخفيته عنها عُنو ًة لترتاح قليالً ‪..‬‬
‫ٌّ‬
‫ولكن ‪ ..‬يبدو أنها كانت راقدة على جم ٍر م ٍ‬
‫حرق ‪..‬‬ ‫ُ‬
‫فقلبها المحب الرقيق ‪ ..‬ال يحتمل مثل هذه المواقف ‪! ..‬‬
‫‪...‬‬
‫دخلت عليها بعد أن استجمعت كل شجاعتي ‪ ..‬وحين رأت وجهي علمت بأن ورائي خبراً صعباً ‪..‬‬
‫ُ‬
‫قلت ‪ :‬والدي تعب قليالً ‪..‬‬
‫بادرتني مباشرة ‪ :‬هو في العناية ؟‬
‫قلت ‪ :‬نعم ‪ ..‬احتاج بعضاً من الرعاية ‪ ,‬فنقلوه إليها ‪..‬‬
‫وقع الخبر عليها كالصاعقة الفاجعة ‪..‬‬
‫ٍ‬
‫بهمس تقول ‪ :‬هو حي ؟‬ ‫ووضعت يدها على قلبها في تصب ٍر ‪ ..‬واسترجعت ‪ ..‬ثم التفتت إلي‬
‫اندهشت وخفت ‪ :‬نعم يا أمي حي ‪ ..‬ال تخافي ‪ ..‬لن يحصل غير المكتوب ‪..‬‬
‫ُ‬
‫ربما توقّعها من البداية موته ‪ ..‬خفف عنها مصيبة دخوله العناية ‪..‬‬
‫الحمد هلل ‪ ..‬الحمد هلل ‪..‬‬
‫‪... ...‬‬
‫مضت بعض الدقائق ‪ ..‬ووالدتي في ٍ‬
‫بكاء ودعاء ‪..‬‬
‫هاتفت عاصماً أخبره برغبة أمي في زيارة والدي ‪ ..‬رفض رفض اً قاطع اً ‪ ..‬وهو يخاف من عدم تحملنا‬
‫ُ‬
‫مسجى تحت األجهزة ‪! ..‬‬
‫رؤيته وهو ّ‬
‫ت أمي في ب ادئ األم ر ‪ ..‬ثم ف زعت إلى عباءته ا وهي تق ول ‪ :‬س أذهب س أذهب وال تق ولي‬
‫لم ْ‬
‫استس َ‬
‫لبست عباءتي وراءها مسرعةً ‪ ..‬وانطلقنا إلى المشفى ‪..‬‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫لعاصم شيئاً ‪..‬‬
‫وصلنا إلى غرفة والدي في قسم التنويم ‪ ..‬تأثرنا أكثر ‪ ..‬كيف أنه كان هنا قبل ساعات ‪!! ..‬‬
‫وفجأة ‪..‬‬
‫ُحمل إلى مكان أكثر عناية ‪ ..‬ألن وضعه أكثر خطورة ‪..‬‬
‫نتيجة خطأ طبي أدى إلى ثقب شريان ووريد ‪..‬‬
‫حدث من جرائه نزيف في البطن ‪! ..‬‬
‫الحمد هلل على كل حال ‪..‬‬
‫أخبرت عاصماً بقدومنا ‪ ..‬تضايق قليالً ‪ ..‬ثم قادنا إلى ‪ ...‬العنــاية ‪..‬‬
‫ُ‬
‫وهناك ‪ ..‬وجدنا عمي أحمد واقفاً بجواره ‪..‬‬
‫دخلنا ٍ‬
‫ببكاء مكتوم ‪ ..‬ورأينا ما ال تطيق العين رؤيته ‪..‬‬
‫أب حنون ‪..‬‬ ‫حبيب ٍ‬
‫غال ‪ٌ ..‬‬ ‫ٌ‬
‫فوق سرير أبيض ‪..‬‬

‫‪11‬‬
‫إذا أردت أن تعلم ما العجز ‪ ..‬فا كتب عن والدك ‪!..‬‬

‫حوله طاقم طبي ‪..‬‬


‫ٍ‬
‫أجهزة ‪ ..‬في جسمه النحيل ‪..‬‬ ‫علّقوا جميع ما يجيدون من‬
‫ٍ‬
‫بشاش أبيض ‪..‬‬ ‫وعيناه العسليتان ‪ ..‬مغطيتان‬
‫المداوية ‪..‬‬
‫وكأنهم يخبرونا ‪ ..‬بأن نظرته الرائعة ‪ ..‬الحنونة ‪ُ ..‬‬
‫لن ترانا أبداً ‪ ..‬أبداً ‪ ..‬أتعلمون ما معنى أبداً ؟؟!!‬
‫أبدية دنيوية بالتأكيد ‪ ..‬وإال فلقاء المؤمنين في الجنات يُنبت في قلوبهم الصبر واالحتساب ‪..‬‬
‫وقعت عيني على جهاز القلب ‪ ..‬وهو يصيح كل بضع ٍ‬
‫ثوان ‪..‬‬
‫رأيت حركة قلب والدي حبيبي ‪..‬‬
‫لكن قلبي الذي بين أضلعي ‪ ..‬انعصر ‪ ..‬حين رأيت الجهاز ‪ ..‬ال أعلم لماذا ؟!! ‪ ..‬ربما ‪ ..‬الخوف ‪..‬‬
‫من النهاية ‪!! ..‬‬
‫الحمد هلل ‪..‬‬
‫قرأت عليه ووالدتي بضع آيات ‪ ..‬ممزوجةً بالعبرات والدمعات ‪..‬‬
‫ُ‬
‫حتى أخرجونا ‪ ..‬لننظر له النظرة األخيرة ‪..‬‬
‫وقلبه ينبض ‪..‬‬
‫المريعة ‪..‬‬
‫آخر نظرة نظرتها له ‪ ..‬حيّاً ‪ ..‬وهو بهذه الحال ُ‬
‫حبيبي ‪ ..‬ودعته ‪ ..‬واستودعته ‪ ..‬الباري الرحيم ‪..‬‬
‫والجراحين ‪..‬‬
‫ّ‬ ‫المشرحين ‪..‬‬
‫ّ‬ ‫ألتركه بين‬
‫وداعاً ‪ ..‬أبي ‪..‬‬
‫‪... ...‬‬
‫خرجنا ونحن في حال ال يعلمها إال اهلل ‪..‬‬
‫رجعنا لغرفته ‪..‬‬
‫وقلوبنا متوجهة بالدعاء بكل ما أوتيت من قوة ‪..‬‬
‫موقف صعب ‪ ..‬صعب ‪..‬‬
‫هل عشتموه معي ؟!!‬
‫ط قليلةٌ من مشاعري في هذه اللحظات ‪..‬‬
‫كل ما ذكرته ‪ ..‬هي خيو ٌ‬
‫فقط ضعوا صورةً أمامكم ‪..‬‬
‫أبيض ‪..‬‬
‫ارسموا فيها سريراً َ‬
‫وعدداً كبيراً من األجهزة ‪..‬‬
‫أعز عزيز لكم ‪ ..‬يعيش بينكم ‪ ..‬يأكل معكم ‪ ..‬يالعبكم ‪ ..‬يوماً يعاتبكم ‪..‬‬
‫وتخيلوا ّ‬
‫فوق هذا السرير ‪..‬‬
‫وبجانبه جها ٌز يخطط دقات القلب ‪ ..‬في ٍ‬
‫شكل مخيف ‪..‬‬
‫لن تستطيعوا تحمل خيال الموقف ‪ ..‬خياله فقط لن تتحملوه ‪!! ..‬‬

‫‪11‬‬
‫إذا أردت أن تعلم ما العجز ‪ ..‬فا كتب عن والدك ‪!..‬‬

‫كيف بنا وقد رأيناه واقعاً أمامنا ؟!!‬


‫لكن أبشركم ‪ ..‬أننا نحمد اهلل على ما حصل ‪ ..‬اطمئنوا ‪..‬‬
‫اختيار اهلل ‪ ..‬وقضاؤه ‪ ..‬إذن نحن راضون ‪ ..‬ومسلّمون ‪..‬‬
‫لك الحمد ربي ‪..‬‬
‫‪... ...‬‬
‫عدنا أدراجنا إلى غرفته ‪ ..‬بقينا فيها قليالً متأثرون مما حصل ‪! ..‬‬
‫وخرج عاصم من المشفى ‪ ..‬ليتصدق عن أبي أمالً في شفائه ‪..‬‬
‫هاتفت عمي أحمد أسأله عن حالة والدي ‪ ..‬هل تحسنت أم ال ‪! ..‬‬
‫ُ‬ ‫وبعد مدة من الدقائق اليسيرة ‪..‬‬
‫فقال ‪ :‬أنا في الحقيقة خرجت يا جمانة ‪ ..‬ال فائدة من جلوسي ‪ ..‬وضعه كما هو لم يتغير ‪! ..‬‬
‫شكرته ‪ ..‬وأنا أدافع عبرتي ‪ ..‬ثم ‪ ..‬قلت ألمي ‪ :‬ال فائدة نحن أيضاً من جلوسنا ‪ ..‬لنعد من حيث أتينا‬
‫‪ ..‬أنقى وأصفى للدعاء والتضرع ‪..‬‬
‫دارت أمي في الغرف ة وهي تبكي بش دة ‪ ..‬فتحت دوالب المالبس ‪ ..‬وأخ ذت تض م ش ماغه وثوب ه ‪..‬‬
‫في ٍ‬
‫بكاء ُمؤلم ‪ ..‬وأنا ُأهدئها وأقول ‪ :‬ال يلعب بك إبليس ‪ ..‬استعيذي من الشيطان يا يمه ‪ ..‬لم يزل حيّ اً اهلل‬
‫يشفيه ‪..‬‬
‫ت بنظارته وساعته ‪ ..‬وهي تنظر إلي وتقول ‪ :‬سآخذها ‪ ..‬سآخذها معي ‪..‬‬
‫أمس َك ْ‬
‫أغلقت الدوالب لئال تزيد في تفجعها ‪..‬‬
‫ُ‬
‫وخرجنا ‪ ..‬وكيانُنا غار ٌق في األلــم ‪..‬‬
‫ركبنا السيارة ‪ ..‬ونحن في الطريق ‪ ..‬فتحت أمي شنطتها ‪ ..‬وأخرجت منها غرضاً تريده ‪..‬‬
‫فسقطت ساعة الحبيب على مرتبة السيارة ‪ ..‬من غير أن تشعر أمي ‪ ..‬أخذتها بسرعة ‪ ..‬وأدخلتها في‬
‫شنطتي ‪! ..‬‬
‫ٍ‬
‫متلهفات ألي أمل ‪ ..‬أخبرتهن‬ ‫وصلنا البيت ‪ ..‬في الساعة الثامنة وزيادة تقريب اً ‪..‬استقبلتنا أخواتي ‪..‬‬
‫بأن حالة أبينا ‪ ..‬خطيرة ‪ ..‬وحثثتُهن على الدعاء ‪ ..‬فليس للمؤمن إال االلتجاء لمواله ‪..‬‬
‫الحمد هلل ‪..‬‬
‫كل منا في غرفته ‪ ..‬نبتهل ونتضرع ‪ ..‬للرحيم الحكيم ‪ ..‬وبين الفينة واألخرى ‪ ..‬يخرج أحدنا‬
‫انفرد ٌ‬
‫مستكشفاً أحوال اآلخرين ومترقباً ألي بشرى وصلته قبل غيره ‪..‬‬
‫وال أعلم كيف استقبلت جدتي خبر حبيبها المفاجئ ‪! ..‬‬
‫لكن األكيد ‪ ..‬أ ّن قلبها تفطر ‪..‬‬
‫الحمد هلل ‪..‬‬
‫‪...‬‬
‫حالنا بين أمل ‪ ..‬وألم ‪..‬‬
‫ورجاء ‪ ..‬وخوف ‪..‬‬
‫أحادث نفسي وقتاً ‪ ..‬أريد بعث األمل فيها ‪ ..‬فأقول ‪ :‬سيستيقظ والدي ‪ ..‬وسأخبره بكل ما جرى ‪..‬‬

‫‪11‬‬
‫إذا أردت أن تعلم ما العجز ‪ ..‬فا كتب عن والدك ‪!..‬‬

‫سأحكي له وجلنا عليه ‪..‬‬


‫سأسرد له كل ما حصل ‪..‬‬
‫سُأعلمه بحجم حبنا له ‪..‬‬
‫سأفتح له قلبي ليرى عظيم خوفي عليه ‪..‬‬
‫أريد أن أجلس أمامه ‪ ..‬وأسكب له فنجان القهوة ‪ ..‬التي عملتها ‪ ..‬وحبكتها ‪ ..‬ألجله ‪ ..‬كما يحب‬
‫ذلك مني ويطلبه دوماً ‪..‬‬
‫وأقطع له من الحلوى ‪ ..‬التي يعشقها ‪ ..‬ويستل ّذ بأكلها ‪..‬‬
‫الحلوى التي كان يشتهيها حتى وهو في مرضه ‪..‬‬
‫بعض من األلم ‪ ..‬فص احت معدت ه بأنه ا‬
‫ف علي ه ٌ‬
‫الزلت أذك ر حين ك ان ط ريح الف راش ‪ ..‬وي وم أن خ ّ‬
‫فارغة لمدة يوم ‪..‬‬
‫دخلت علي رزان ‪ ..‬في غرفتي ‪ ..‬بعد العشاء ‪ ..‬وقالت ‪ :‬أبي يريد الحال الذي يحبه ‪..‬‬
‫نزلت راكضةً مستبشرة ‪ ..‬وعملته له ‪..‬‬
‫ُ‬
‫وكن ا إذا أردن ا أن نص نع تل ك الحل وى بع د ذل ك نق ول ‪ :‬الحل وى ال تي يحبه ا وال دي ‪ ..‬فعُ رف ه ذا‬
‫الوصف عندنا جميعاً حتى عند عماتي ‪..‬‬
‫يبدو أني استطردت بعيداً ‪ ..‬المعذرة ‪ ..‬أحب أصغر ذكرى مع والدي حبيبي ‪..‬‬
‫وال لوم علي ‪ ! ..‬هذا الوالد ‪ ..‬الحبيب ‪ ..‬الغالي ‪ ..‬العزيز ‪..‬‬
‫‪...‬‬
‫سأعود لصباح يوم الخميس الثاني من ربيع الثاني ‪..‬‬

‫بقينا على حال الخوف والوجل ‪ ..‬والتفاؤل واألمل ‪..‬‬


‫ت ب أن‬
‫وعلم ْ‬
‫عرت فيم ا بع د ب أن أمي في ه ذا ال وقت و ّدعت وال دي بقلبه ا ‪َ ..‬‬
‫حين اق ترب الظه ر ‪ ..‬ش ُ‬
‫قريب جداً ‪..‬‬
‫أجله قريب ‪ٌ ..‬‬
‫ارتفع أذان الظهر ‪ ..‬وارتفعت قلوبنا لخالقنا أكثر ‪..‬‬
‫صليت الظهر ‪..‬‬
‫ُ‬
‫ثم ‪..‬‬
‫أسندت رأسي قليالً ‪ ..‬لعلي أحظى بغفوة كما طلبت مني أمي ‪ ..‬ألني لم أنم لمدة يوم ونصف ‪..‬‬
‫فكانت تدخل علي باستمرار ‪ ..‬وتقول ‪ :‬نامي قليالً حتى تَ ْدعي بنشاط أكثر ‪..‬‬
‫استسلمت لغفوتي اليسيرة ‪ ..‬وثوب الصالة الزال علي ‪..‬‬
‫ُ‬
‫وفي الساعة الواحدة والنصف تقريباً ‪..‬‬
‫ٍ‬
‫بعاصم يدخل باندفاع ‪..‬‬ ‫فتنبهت مباشرة ‪ ..‬وإذ‬
‫ُ‬ ‫طُرق باب غرفتي ‪..‬‬
‫عظامي اآلن ترجف بشدة ‪..‬‬
‫لم أعد أستطيع الكتابة ‪..‬‬

‫‪11‬‬
‫إذا أردت أن تعلم ما العجز ‪ ..‬فا كتب عن والدك ‪!..‬‬

‫موقف صعب ‪ ..‬يا إخوتي صعب ‪ ..‬الحمد هلل على كل حال ‪..‬‬
‫أعود ‪..‬‬
‫دخل عاصم ‪ ..‬ومباشرة قال عبارة ‪ ..‬لم أستوعب معناها في حياتي كما استوعبتها تلك اللحظة ‪..‬‬
‫لطالما ذكرتها مراراً وتكراراً ‪ ..‬من غير وعي لما أقول ‪..‬‬
‫مر بمثل مصيبتي أو أشد ‪..‬‬
‫ولن يستوعب قارئ كالمي هذا إال من ّ‬
‫قال لي ‪:‬‬
‫ِ‬
‫عزاءك بالوالد ‪..‬‬ ‫أحسن اهلل‬
‫‪... ...‬‬
‫يتدرج لي في نقل الخبر كما فعل مع أخواتي ‪..‬‬
‫لم ّ‬
‫وهو ما أشكره عليه ‪..‬‬
‫كأنه يقول لي ‪ :‬كما كانت طفولتنا رائعة معاً ‪..‬‬
‫سيكون شبابنا ممتعاً معاً ‪..‬‬
‫وقلوبنا متعاهدة على حمل المسؤولية معاً ‪..‬‬
‫‪... ...‬‬
‫إلى هذا الحد ‪ ..‬ال أستطيع اإلكمال ‪ ..‬الرجفة خلعت كتفي ‪..‬‬
‫سُأكمل غداً ‪..‬‬
‫‪... ...‬‬

‫بالرغم من ضعف قوته التي وصل إليها في الساعات األخيرة ‪..‬‬


‫وسلْب األمل الطبي في حياته ‪..‬‬
‫َ‬
‫إال أني تفاجأت؛ أل ّن األمل كان يسبق الواقع ‪! ..‬‬
‫غفر اهلل له ‪..‬‬
‫تقدم عاصم إلي وقال ‪ :‬استرجعي ‪ ..‬احمدي اهلل ‪ ..‬أمي تحتاج لمن يُصبرها ‪..‬‬
‫ال تتخاذلوا ؛ ألجلها ‪..‬‬
‫قمنا جميعاً لها ‪ ..‬وحين دخلت غرفتها ‪ ..‬وجدتها جالسةً على طرف السرير ‪..‬‬
‫المزهر الذي بقي لنا ‪! ..‬‬
‫فانطلقت ألدفن نفسي ‪ ..‬في النصف ُ‬
‫ُ‬ ‫أول ما رأتني فتحت ذراعيها نحوي ‪..‬‬
‫فك ضمها الحاني ‪..‬‬
‫لم أشأ ّ‬
‫وقلبي يقول ‪ :‬اهدئي يا أمي ‪ ..‬والدي ذهب ‪ ..‬لكن روحك الطيبة بقيت ‪ ..‬يا اهلل لك الحمد كله ‪..‬‬
‫بكينا جميعاً ‪ ..‬ذكرتها بالحمد واالسترجاع ‪ ..‬وثواب المصيبة ‪ ..‬وكأني لست معنيةً بهذا أيضاً ‪!! ..‬‬
‫كانت تقربني نحوها أكثر ‪ ..‬وتقول ‪ :‬ال تبتعدي ‪ ..‬ابقي بجواري ‪! ..‬‬
‫ذهب عاصم يخبر باقي أخواتي ‪..‬‬

‫‪11‬‬
‫إذا أردت أن تعلم ما العجز ‪ ..‬فا كتب عن والدك ‪!..‬‬

‫ال أعلم كي ف اس تقبلن الخ بر ‪ ..‬لكن دخلت علين ا رزان وهي تبكي بص وت مرتف ع ‪ ..‬ثم أتتن ا رن د‬
‫للتو من صالتها ‪ ..‬وبكاؤها كعادتها مكتوماً ُمحرقاً ‪..‬‬
‫وعليها عباءتها وقد انتهت ّ‬
‫وريم بينن ا ويب دو بأنه ا لم تس توعب الموق ف جي داً ‪ ..‬دعته ا أمي وق الت ‪ :‬ريم ‪ ..‬أب وك ذهب للجن ة‬
‫إيحاء بفهمها ‪ ..‬وال نعلم ما الذي يدور وسط عقلها الصغير ‪! ..‬‬
‫وسنلحقه بإذن اهلل ‪ ..‬هزت رأسها ً‬
‫مر سريعاً ‪ ..‬كأنه يودعنا هو اآلخر‬ ‫ٍ‬
‫ضمتهن أمي ‪ ..‬ونحن جميعاً في بكاء ُموجع‪ ..‬وشريط ذكرياتنا معه ّ‬
‫‪..‬‬
‫!‬
‫بقينا بعضاً من الدقائق على هذه الحال ‪..‬‬
‫كل يرى ألمه في عين اآلخر ‪! ..‬‬
‫ٌ‬
‫حتى أمرتنا أمي بالصالة ‪ ..‬وذكرتنا بقول اهلل تعالى ‪ ‬واستعينوا بالصبر والصالة ‪.. ‬‬
‫كل منا إلى غرفته ‪ ..‬ثم ‪..‬‬
‫قام ٌ‬
‫علمت بأن جدتي وعماتي قد أتين ‪..‬‬
‫ُ‬
‫ودخلت عليهن ‪ ..‬أول ما رأتني جدتي ‪ :‬زادت في بكائها وهي تترحم عليه وعلينا ‪..‬‬‫ُ‬ ‫نزلت‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫ضممتُها بقوة ‪ ..‬وأنا أشم رائحة حبيبي بحضنها ‪ ..‬وأراه بعينيها ‪..‬‬
‫هي جدتي ‪ ..‬أم والدي ‪ ..‬ثُكلت بابنها وقرة عينها ‪ ..‬كما ثُكلت أمي بالحنون زوجها ‪..‬‬
‫وكما ُكلِمنا نحن بالرحيم أبينا ‪..‬‬
‫حضنت باقي عماتي ‪ ..‬وخالة والدي أسعده اهلل ‪ ..‬والجميع في تأثر بالغ ‪! ..‬‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫نزلت أخواتي ‪ ..‬والمشهد نفسه تكرر ‪..‬‬
‫ألقيت بنفسي عليها ‪ ..‬وأنا أبكي ‪ ..‬وهي تبكي أكثر ‪ ..‬وتق ول‬
‫ُ‬ ‫قمت إلى الصالة ‪ ..‬فقابلتني الخادمة ‪..‬‬
‫ُ‬
‫‪ :‬صبر صبر ‪! ..‬‬
‫الحمد هلل على كل حال ‪..‬‬
‫ثم نزلت أمي وليست بأهون منا ‪ ..‬المشهد تكرر نفسه مرة أخرى ‪ ..‬وربما أشد ‪..‬‬
‫لحظات ُموجعة ‪ ..‬هذا فرا ٌق للحبيب الغالي ‪..‬‬
‫ٌ‬
‫رحمه اهلل رحمةً واسعة ‪..‬‬
‫لبسنا عباءاتنا نريد رؤية الغالي قبل أن يُدخل الثالجة ‪..‬‬
‫وقبل خروجنا ‪ ..‬دخل علينا أعمامي ‪ :‬محمد وأحمد وعمر ‪..‬‬
‫تأثرهم كان بالغاً ‪ ..‬رحمه اهلل كان غاليًا على الجميع ‪..‬‬
‫سلموا علينا بحرارة مهدئة ‪ ..‬وقلوبنا تقطعت من البكاء ‪..‬‬
‫وخرجنا ‪ ..‬للمشفى ‪..‬‬
‫لنرى ‪ ..‬جثمان والدي فقط ‪ ..‬بال روح ‪! ..‬‬
‫لنقبله قُبل الوداع ‪..‬‬
‫لنُوقن بأن الموت حق ‪ ..‬واهلل حق ‪ ..‬جل وعز سبحانه ‪..‬‬

‫‪11‬‬
‫إذا أردت أن تعلم ما العجز ‪ ..‬فا كتب عن والدك ‪!..‬‬

‫وصلت وأمي وعاصم وجدتي ورزان وخالتي نورة (شقيقة جدتي ) ‪..‬‬
‫ُ‬
‫مشينا خطوات أشعر وكأنها دهراً ‪..‬‬
‫وصلنا قسم العناية المركزة ‪..‬‬
‫دخلناه ‪..‬‬
‫استقبلنا باقي أعمامي الذين لم نرهم في بيتنا ‪..‬‬
‫ثم ‪..‬‬
‫دخلنا على ‪ ..‬والــدي ‪ ..‬حبيبي ‪..‬‬
‫ٍ‬
‫وقفات طويلة ‪..‬‬ ‫وسأقف عند هذا الموقف‬
‫‪...‬‬
‫مسجى على السرير األبيض ‪..‬‬
‫رأيناه ّ‬
‫وجهاز القلب لم يُفصل عنه بعد ‪..‬‬
‫ألرى خالف ما رأيته في المرة األولى ‪..‬‬
‫تخطيط ِ‬
‫دقات القلب ‪ ..‬يظهرها مستويةً مستقيمة‪ ،‬كما كانت حياته مستقيمة ‪..‬‬
‫وللجهاز رني ٍن متواصل ‪ ..‬ليُؤكد للجميع ‪..‬‬
‫بأن القلب الطاهر ‪..‬‬
‫قد فارق الحياة ‪..‬‬
‫وودع النبض ‪..‬‬
‫ّ‬
‫انكببنا عليه جميعاً تقبيالً ‪ ..‬وضماً ‪..‬‬
‫المشرق ‪ :‬ال يعلم بك اآلن يا جمانة ‪ ..‬هو جسد بال روح ‪..‬‬
‫كنت أقول في نفسي وأنا أقبل وجهه ُ‬
‫انظري ‪ ..‬لم يبتسم لك كعادته حين تقبلين وجهه ورأسه ويده ‪..‬‬
‫ضني كما تشائين ‪ ..‬لكن اعلمي أنه ال يعلم بهذا كله ‪..‬‬
‫قبّلي كما تشائين ‪ ..‬واح ُ‬
‫لن يقول لك كعادته حين تقبلين يده ‪:‬‬
‫اهلل يكرمك يا بنيتي ‪..‬‬
‫لن تسمعي منه دعاء وداعه الدائم ‪:‬‬
‫اهلل يحفظك يا بنيتي ‪..‬‬
‫أدور حوله وأنا ال أكاد أصدق هول الموقف ‪..‬‬
‫أيُعقل أنني اآلن بال أب ‪!! ..‬‬
‫هل هو ميّت اآلن ؟!!‬
‫لن يكون في عداد األحياء ؟!!‬
‫فقدت أبي ‪ ..‬كما فقد هو أباه ‪!! ..‬‬
‫أبي أتسمع ؟ ‪ ..‬أصبحت مثلك يا حبيبي بال أب ‪! ..‬‬
‫كنت دوماً تغبطنا وتقول ‪ :‬يا لهنائكم أبوكم بين أيديكم ‪ ..‬تتمتعون برؤيته ‪..‬‬
‫َ‬

‫‪11‬‬
‫إذا أردت أن تعلم ما العجز ‪ ..‬فا كتب عن والدك ‪!..‬‬

‫وتأنسون بجلسته ‪..‬‬


‫باب بره في الحياة لم يُقطع عنكم ‪! ..‬‬
‫أما أنا ‪ ..‬فال ‪! ..‬‬
‫لم أنس يا والدي ‪ ..‬وقبل وداعك بأسبوعين بالتمام ‪..‬‬
‫كنت وإياك وريم في فناء بيتنا ‪..‬‬
‫حين ُ‬
‫نرتب أغراض سفرك ‪..‬‬
‫وكانت ريم تُنشد بين يديك ‪ ..‬وتتمايل حولك ‪..‬‬
‫وأنت تهز رأسك باهتمام لها ‪..‬‬
‫وابتسامتك أضاءت وجهك ‪..‬‬
‫كعادتك تُشجع كل شيء يصدر منا ‪..‬‬
‫طلبت منها إعادتها ‪..‬‬
‫َ‬ ‫وكلما أنهت أنشودتها‬
‫أذكر أن بدايتها تقول ‪:‬‬
‫( أقول لماما صباح الخير ‪..‬‬
‫أقول لبابا يا نور العين ‪) ..‬‬
‫فقلت لها ‪ :‬أتحبين أباك بهذا القدر ؟!!‬
‫َ‬
‫قالت ‪ :‬إيه ‪ ..‬أحبك (ق ّد) الدنيا ‪..‬‬
‫أب ُأنشد له ‪!! ..‬‬
‫أب تُنشدين له ‪ ..‬أنا ما عندي ٌ‬
‫فرددت عليها ‪ :‬يا لسعدك عندك ٌ‬
‫َ‬
‫لم تكن تعلم يا أبي ‪ ..‬أنها ونحن جميعاً سنكون بعد أسبوعين مثلك بال أب ‪! ..‬‬
‫لم نكن نعلم أن القدر الذي أصابك وأنت في ُرشدك ‪ ..‬سيُصيبنا ونحن في شبابنا وطفولتنا ‪..‬‬
‫لكن نحمد اهلل أن قلوبنا مليئة باليقين ‪ ..‬والحمد ‪ ..‬والرضا ‪..‬‬
‫فلله الحمد كله ‪ ..‬والثناء كله ‪ ..‬واألمر كله ‪..‬‬
‫وهو الرحيم الحكيم سبحانه ‪..‬‬
‫‪...‬‬
‫وسط هذه اللحظات كانت جدتي مفجوعة بفلذة كبدها ‪..‬‬
‫أراها ‪ ..‬تقبله ‪ ..‬وتشمه ‪ ..‬وبكل حنان تضمه ‪..‬‬
‫ولدها ‪ ..‬خرج منها ‪ ..‬أرضعته من حليبها ‪..‬‬
‫ربته وجدي المرحوم بجميل خلقهما ‪..‬‬
‫عاما ‪ ..‬وستة أشهر ‪ ..‬بين أحضانها ‪..‬‬
‫عاش ستةً وأربعين ً‬
‫وها هي اآلن تلمسه بيدها ‪ ..‬اللمسة األخيرة ‪! ..‬‬
‫هكذا الحياة ‪..‬‬
‫‪...‬‬
‫وأمي تفعل الفعل ذاته ‪..‬‬

‫‪11‬‬
‫إذا أردت أن تعلم ما العجز ‪ ..‬فا كتب عن والدك ‪!..‬‬

‫وتدور حوله ‪ ..‬في ضيق حيلة ‪ ..‬وذهول ‪..‬‬


‫أقصى شيء يستطيعه الواقف في هذا الموقف ‪..‬‬
‫ِ‬
‫إيه ‪ ..‬يا دنيا ‪..‬‬

‫‪... ...‬‬
‫مائل لليمين ‪ ..‬مع أنهم كانوا قد أمالوه لليسار‬
‫كانت أمارات حسن الخاتمة ظاهر ًة جليةً عليه ‪ ..‬رأسه ٌ‬
‫حين كانت األجهزة عليه ‪..‬‬
‫لكن فور رفعها عنه ‪ ..‬مال لليمين ‪! ..‬‬
‫وجهه ُمضيء ‪ ..‬وجلده ُمنش ّد ‪..‬‬
‫ٍ‬
‫ابتسامة خفيفة ‪..‬‬ ‫أسنانه ظاهره ‪ ..‬في‬
‫يده اليمنى رافعةٌ للسبابة ‪..‬‬
‫وعظامه لينة ‪ ..‬كأنه نائم ‪ ..‬وفي راحة تامة ‪..‬‬
‫أال يحق لي الصبر ؟!‬
‫بل والفخر ؟!!‬
‫وأشد من ذلك الفرح ؟!!‬
‫جمعنا اهلل به في جنان الفردوس األعلى من الجنة ‪..‬‬
‫استبشرنا كثيراً لهذه الخاتمة الحسنة ‪ ..‬وهذا من أعظم ما يعزينا بفقده ‪..‬‬
‫‪... ...‬‬
‫عدنا أدراجنا ‪ ..‬لنتركه في المشفى ‪..‬‬
‫يُقلبونه بأيديهم ‪ ..‬ويُدخلونه ثالجتهم ‪ ..‬بال حول وال قوة له ‪! ..‬‬
‫شيعنا أعمامي ‪ ..‬عند خروجنا ‪..‬‬
‫وال زلت أذكر قبضة يمين عمي يوسف على يدي اليسرى ‪..‬‬
‫وهو يصبرني ‪ ..‬ويذ ُكر خيراً كثيراً ُمفرحاً عن والدي رحمه اهلل ‪..‬‬
‫ويبشرني بأن األطباء أخبروه بأن والدي قبل أن ينام نومته األخيرة ‪..‬‬
‫نط ــق الشهــادة ‪ ..‬لك اللهم الحمد كله ‪..‬‬
‫وخالتي نورة ‪ ..‬عن يميني ‪ ..‬تقوم بدورها هي األخرى ‪..‬‬
‫كأني بكم ترونه موقفاً بسيطاً ال يحتمل الذكر ‪..‬‬
‫لكنه في نفسي عظيم ‪ ..‬وكبير ‪..‬‬
‫في كثيراً ‪!..‬‬
‫لم أنسه ‪ ..‬أثّر ّ‬
‫‪... ...‬‬
‫المهدئين ذلك اليوم ‪..‬‬
‫استقبلنا بعضاً من المعزين ُ‬
‫وانتهى يومنا ‪ ..‬وُأغلق ‪..‬‬

‫‪11‬‬
‫إذا أردت أن تعلم ما العجز ‪ ..‬فا كتب عن والدك ‪!..‬‬

‫ليُسجل لنا أول يوم في حياتنا نقضيه فاقدين أبانا ‪ُ ..‬مصابين بأغلى روح عاشت بيننا ‪..‬‬
‫‪... ...‬‬
‫وفي صباح الغد ‪ ..‬يوم الجمعة الثالث من ربيع الثاني ‪..‬‬
‫ذهبت وأمي ورزان وعاصم إلى المغسلة ‪..‬‬
‫ُ‬
‫لنودع الحبيب ‪ ..‬الوداع األخير ‪..‬‬
‫لنراه الرؤية األخيرة ‪..‬‬
‫ٍ‬
‫فردوس ُأعدت للصالحين ‪..‬‬ ‫ولنعلن شوقنا إلى االجتماع به في‬
‫وكان بيدي مشلحه البني ‪..‬‬
‫الذي ُزين به جثمانه ‪..‬‬
‫وسيُزينه اهلل عز وجل بأفضل منه في جنانه ‪..‬‬
‫بإذنه سبحانه ‪..‬‬
‫‪... ...‬‬
‫أحضروه لنا ‪..‬‬
‫ُف جسمه ٍ‬
‫بغطاء أبيض ‪..‬‬ ‫على سري ٍر وقد ل ّ‬
‫الكفن الذي ينتظر كل مؤم ٍن في هذه الحياة ‪..‬‬
‫قبلنا وجهه الطاهر ‪ ..‬ورائحة العود والسدر تفوح منه ‪..‬‬
‫عظامه ما زالت ليّنه ‪..‬‬
‫وجرح بطنه كما يقول مغسلوه ‪ ..‬أنه لم يتوقف عن النزف حتى تكفينه ‪..‬‬
‫اللهم لك الحمد ‪..‬‬
‫بإذن اهلل نحسبه شهيداً ‪..‬‬
‫مات مبطوناً ‪ ..‬واستمر النزف ‪ ..‬وهذه بشرى عظيمة ‪..‬‬
‫أسأل اهلل تعالى أن يتقبله من الشهداء الصادقين ‪..‬‬
‫ويجمعنا به مع النبيين والصالحين ‪..‬‬
‫‪... ...‬‬
‫مشهد جنازته عظيم كما ُوصف لنا ‪..‬‬
‫حضره الكثير ‪..‬‬
‫واعتذر الكثير لتقلب األجواء ‪..‬‬
‫فلله الحمد أوالً وآخراً ‪..‬‬
‫صلينا عليه صالة الميت ‪..‬‬
‫ٍ‬
‫تسليمات بينهن دعاءٌ وابتهال ‪..‬‬ ‫أربع‬
‫ُ‬
‫لقبوله ‪ ..‬وتثبيته عند السؤال ‪..‬‬
‫وعدنا ‪ ..‬ليحمله الرجال إلى بيت المسلمين السفلي ‪..‬‬

‫‪11‬‬
‫إذا أردت أن تعلم ما العجز ‪ ..‬فا كتب عن والدك ‪!..‬‬

‫وليبدأ عالم البرزخ الغيبي ‪..‬‬


‫راجين أن يكون في روضة من روضات الجنان الخالدة ‪..‬‬
‫ولتنتهي بذلك حكاية األلم ‪ ..‬وقصة الفقد ‪..‬‬
‫للوالد المربي ‪ ..‬الحبيب الغالي ‪..‬‬
‫من رفع أرؤس أوالده وزوجه ووالديه وأهله ‪ ..‬حيّاً وميّتاً ‪..‬‬
‫وأمنه يوم الفزع األكبر ‪..‬‬
‫رفع اهلل رأسه ّ‬
‫وغفر ذنبه ‪ ..‬وأجزل أجره ‪..‬‬
‫وجمعنا به في الفردوس األعلى من الجنة ‪..‬‬
‫‪... ...‬‬
‫وليبقى لنا النصف اآلخر ‪ ..‬أمي الغالية ‪ ..‬حبيبتنا الكريمة ‪..‬‬
‫منةُ اهلل تعالى علينا في هذه الحياة ‪ ..‬وفي هذا المصاب ‪..‬‬
‫صبرت وثبتت ‪ ..‬طمعاً في الثواب الجزيل ‪..‬‬
‫َ‬
‫والفضل الجليل ‪..‬‬
‫وتماس َكت وابتسمت ‪ ..‬لتُدخل السرور على قلوبنا ‪..‬‬
‫وتمأل بالفرح أفئدتنا ‪..‬‬
‫همومنا في ضيقها ‪ ..‬وكدرنا في حزنها ‪..‬‬
‫وسعادتنا في ضحكها ‪..‬‬
‫رحمنا اهلل ‪ ..‬واختار إلى جواره روحاً واحدة ‪ ..‬وتفضل علينا باألخرى ‪..‬‬
‫لتحتوينا بقلبها ‪ ..‬وتضمنا بذراعيها ‪ ..‬وتدفئنا براحتيها ‪..‬‬
‫‪... ...‬‬
‫ُشكراً بحجم الخلْق العظيم لك إلهي ‪ ..‬أن رزقتنا هذا القلب الحنون ‪..‬‬
‫وهذه األم العظيمة ‪..‬‬
‫ولتهنئي يا حبيبتنا الفريدة ‪..‬‬
‫أنت اآلن ملكة بال منافس ‪..‬‬
‫عرشك متكئ على رؤوسنا ‪ ..‬نحمله أين كنا ‪..‬‬
‫لم يعد لنا هم سواك ‪..‬‬
‫وعداً مني وإخوتي ‪ ..‬بالبر والرضا‪..‬‬
‫والشكر والوفاء ‪..‬‬
‫ما دامت رؤوسنا تشم الهواء ‪..‬‬
‫أطال اهلل في عمرك المثمر ‪..‬‬
‫بالطاعة والعبادة ‪..‬‬
‫وأبقاك لنا سعيدة رضية ‪..‬‬

‫‪11‬‬
‫إذا أردت أن تعلم ما العجز ‪ ..‬فا كتب عن والدك ‪!..‬‬

‫مبتسمة هنية ‪..‬‬


‫‪...‬‬
‫ولجدتي الغالية العزيزة ‪ ..‬وع ٌد بذلك أيضاً ‪..‬‬
‫أخذ اهلل منا حياة والدنا ‪ ..‬وأكرمنا بأمه التي أنجبته ‪..‬‬
‫والدتي حبيبتي ‪..‬‬
‫ها هي نفوسنا غارقة بالود لك ‪..‬‬
‫أنت وجدي المرحوم من ربى والدنا العظيم ‪..‬‬
‫أنتما من أنبته النبات الحسن ‪..‬‬
‫حتى أثمر ثمراً يانعاً طيباً ‪..‬‬
‫حسنةٌ محمودةٌ منكما ‪ ..‬حين أنجبتما هذا النسل المبارك ‪..‬‬
‫رأينا من والدنا اهتمامه الكبير بكما ‪..‬‬
‫وحثنا على صلتكما ‪..‬‬
‫وبهذا المثل سنقتدي ‪..‬‬
‫ليكون أحفادك الخمسة ‪ ..‬عوضاً خيّراً البنك المحبوب ‪..‬‬
‫وافخري يا حبيبتي ‪ ..‬ببيت ٍ‬
‫حمد بُني لصب ٍر على فراق فقيدك ‪ ..‬وفقيد الجميع ‪..‬‬
‫‪...‬‬
‫سنلتقي جميعاً ‪ ..‬بصاحب هذا األلم ‪ ..‬ومن ُكلم به ‪ ..‬وكتب عنه ‪ ..‬وقرأ ما ُكتب ‪..‬‬
‫بجنات الفردوس األعلى من الجنة ‪..‬‬
‫إذا أحسنّا العمل ‪..‬‬
‫وأخلصنا الدعاء ‪..‬‬

‫ابنة الفقيد قدس اهلل روحه‬


‫ونور ضريحه ‪/‬‬
‫جمـانة‬
‫الثالثاء‬
‫‪13/5/1431‬هـ‬

‫‪11‬‬

You might also like