You are on page 1of 223

‫َّ ِّ ُ‬ ‫ُّ َ َ‬

‫الدرر الس ِنية‬


‫بفوائد‬
‫األربعني النووية‬
‫َّ َّ‬ ‫ُّ َ َ‬
‫الدرر السنية‬
‫بفوائد‬
‫األربعني النووية‬
‫تأليف‬
‫أ‪ .‬د‪ .‬بندر بن نافع بن بركات العبدلي‬
‫أستاذ السنة وعلومها‬
‫بجامعة القسيم‬
‫مقدمة الطبعة الثانية‬

‫احلمد هلل‪ ،‬وصىل اهلل وسلم وبارك عىل رسول اهلل وعىل آله وصحبه‪.‬‬
‫أما بعد‪:‬‬
‫فهذه هي الطبعة الثانية لكتايب «الدرر السنية بفوائد األربعني النووية» بعد نفاد الطبعة‬
‫األوىل بحمد اهلل‪...‬‬
‫وقد متيزت هذه الطبعة بإضافات وزيادات مهمة يف التخريج ويف احلكم عىل بعض‬
‫األحاديث واآلثار ويف العزو‪...‬‬
‫وأشكر اهلل ‪ ‬عىل توفيقه‪ ،‬ثم أشكر كل َم ْن سأل عن هذا الرشح‪ ،‬أو أرسل عىل تنبيه‬
‫فيه‪ ،‬أو إضافة‪ ،‬أو خطأ يف العزو‪...‬‬
‫واهللَ أسأل ْ‬
‫أن ينفع به‪ ،‬وأن يتقبله بقبول حسن‪ ،‬إنه جوا ٌد كريم‪.‬‬
‫واهلل الموفق‬
‫عنيزة صباح يوم األحد ‪1436/10/17‬هـ‬
‫‪7‬‬ ‫مقدمة الطبعة األولى‬

‫مقدمة الطبعة األولى‬

‫إِ َّن احلمد هلل‪ ،‬نحمده ونستعينه ونستغفره‪ ،‬ونعوذ باهلل من رشور أنفسنا وسيئات أعاملنا‪،‬‬
‫َم ْن هيده اهلل فال مضل له‪ ،‬و َم ْن ُيضلل فال هادي له‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال رشيك‬
‫أن حممدً ا عبده ورسوله‪.‬‬‫له‪ ،‬وأشهد َّ‬

‫ﭽﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭼ[آل عمران‪.]102 :‬‬


‫ﱫﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ‬
‫ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﱪ [النساء‪.]1 :‬‬
‫ﱫﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ‬
‫ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﱪ [األحزاب‪.]71 ،70 :‬‬

‫وبعد‪:‬‬

‫فإِ َّن أفضل ما يميض اإلنسان فيه وقته‪ ،‬هو تدبر كتاب اهلل ‪ ‬وسنة رسوله‬
‫‪ ،‬إذ هبام الفوز والفالح‪ ،‬والنجاح يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫ومن أفضل ما ُيعني عىل ذلك بعد االستعانة باهلل‪ ،‬وسؤاله التوفيق والعصمة‪ ،‬قراءة‬
‫التفاسري‪ ،‬ورشوح األحاديث‪ ،‬وهي كثرية وفرية بحمد اهلل‪.‬‬
‫ومن مجلة األحاديث التي ينبغي العناية هبا‪ ،‬وحفظها‪ ،‬وفهم معانيها‪ ،‬األربعون حدي ًثا‬
‫«أن كل حديث منها قاعدة عظيمة من قواعد‬ ‫لإلمام النووي ‪ ،‬فقد ذكر يف مقدمته‪ّ :‬‬
‫فإن جمموعها اثنان وأربعون حدي ًثا‪.‬‬
‫الدين»‪ ،‬وقد غلب عليها لفظ األربعني‪ ،‬وإال َّ‬
‫رشحا وتعلي ًقا وختر ً‬
‫جيا‪،‬‬ ‫وقد انترش هذا الكتاب واشتهر‪ ،‬وذاع صيته‪ ،‬واعتنى به األئمة ً‬
‫وما ذاك إال لصدق نية مؤلفه ‪ ،‬وأجزل له األجر واملثوبة‪.‬‬
‫رشحا‪ ،‬بسطها حاجي خليفة يف «كشف‬
‫فقد زادت رشوح هذا الكتاب عىل مخسة عرش ً‬
‫الظنون»(((‪.‬‬
‫وم ْن أمجع هذه الرشوح وأجودها رشح احلافظ ابن رجب ‪ ‬املوسوم بـ «جامع‬ ‫ِ‬
‫العلوم واحلكم يف رشح مخسني حدي ًثا من جوامع الكلم»‪.‬‬
‫وثامنية األحاديث األخرية املرشوحة يف هذا الكتاب هي من تتامت احلافظ ابن رجب‬
‫عىل األربعني للنووي‪.‬‬
‫رشحت مجلة من هذه األحاديث يف دورات ودروس علمية‪ ،‬أو حمارضات‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كنت‬
‫وقد ُ‬
‫دون ما رشحته‬ ‫فرأيت بعد استعانتي باهلل ‪ ‬أن ُأ ِّ‬
‫ُ‬ ‫أو كلامت قصرية يف أماكن متفرقة‪،‬‬
‫رأيت بعد ذلك إخراجها يف كتاب لي ُعم النفع‬
‫ُ‬ ‫وع َّلقته؛ لئال يضيع و ُينسى من ذاكريت‪ ،‬ثم‬
‫السن َّي ُة بفوائد األربعني النووية»‪.‬‬
‫هبا‪ ،‬وسميته بـ «الدرر َّ‬
‫وطريقتي‪ :‬أين أذكر احلديث بنصه مع مراجعة األصول التي عزا النووي احلديث‬
‫إليها وغريها‪ ،‬ثم أع ِّلق عىل كل حديث بتعليقات عىل شكل «فوائد»‪ ،‬كام هي طريقة بعض‬
‫األئمة املتقدمني؛ كالعراقي وابنه يف «طرح التثريب»‪ ،‬وابن امللقن يف «اإلعالم بفوائد عمدة‬
‫األحكام»‪.‬‬
‫وهي طريقة ق ّيمة للغاية‪ ،‬إذ هبا حيصل ضبط األفكار واملعلومات عىل نسق واحد‪.‬‬
‫كثريا من كتاب «جامع العلوم واحلكم» البن رجب‪ ،‬وكذا من تعليق‬
‫استفدت ً‬
‫ُ‬ ‫وقد‬
‫شيخنا ابن عثيمني ‪ ‬عىل األربعني‪ ،‬ومن رشوحه األخرى كتعليقه عىل أحاديث‬
‫«صحيح البخاري»‪ ،‬ومجلة من أحاديث «صحيح مسلم» وغريها‪.‬‬
‫جعلت هذا الرشح متوس ًطا‪ ،‬ليس بالطويل اململ‪ ،‬وال بالقصري املخل‪ ،‬يستفيد منه‬
‫ُ‬ ‫وقد‬
‫علم‪.‬‬
‫املبتدئ يف العلم طل ًبا‪ ،‬وال يستغني عنه املتقدم ً‬

‫((( (‪ )109 ،108 /1‬ط املكتبة التجارية‪.‬‬


‫واهلل أسأل أن ينفع به كام نفع بأصله‪ ،‬وأن جيعله زا ًدا يل يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬إنه جواد‬
‫كريم‪ٌّ ،‬بر رحيم‪.‬‬
‫رب العاملني‪ ،‬وصىل اهلل وسلم وبارك عىل حممد وعىل آله وصحبه أمجعني‪.‬‬
‫واحلمد هلل ِّ‬

‫وكتبه‬

‫بندر بن نافع العبدلي‬


‫في ‪1423/4/29‬هـ عنيزة‬
‫‪11‬‬ ‫مقدمة المؤلف‬

‫مقدمة المؤلف‬

‫رب العاملني‪ ،‬ق ُّيوم السموات واألرضني‪ ،‬مد ِّبر اخلالئق أمجعني‪ ،‬باعث‬ ‫احلمد هلل ِّ‬
‫الرسل صلواته وسالمه عليهم إىل املكلفني‪ ،‬هلدايتهم وبيان رشائع الدِّ ين‪ ،‬بالدالئل القطعية‬
‫وواضحات الرباهني‪.‬‬
‫أمحده عىل مجيع نعمه‪ ،‬وأسأله املزيد من فضله وكرمه‪.‬‬
‫القهار‪ ،‬الكريم الغفار‪.‬‬
‫وأشهد أن ال إله إال اهلل الواحد َّ‬
‫املكرم بالقرآن‬
‫ّ‬ ‫أن حممدً ا عبده ورسوله وحبيبه وخليله‪ ،‬أفضل املخلوقني‬ ‫وأشهد َّ‬
‫وبالسنن املستنرية للمسرتشدين‪ ،‬املخصوص‬ ‫ُّ‬ ‫العزيز‪ ،‬املعجزة املستمرة عىل تعاقب السنني‪،‬‬
‫بجوامع الكلم وسامحة الدين‪ ،‬صلوات اهلل وسالمه عليه وعىل سائر النبيني واملرسلني‪ ،‬وآل‬
‫كل وسائر الصاحلني‪.‬‬ ‫ٍّ‬
‫أما بعد‪ :‬فقد َروينا عن عيل بن أيب طالب‪ ،‬وعبد اهلل بن مسعود‪ ،‬ومعاذ بن جبل‪ ،‬وأيب‬
‫الدرداء‪ ،‬وابن عمر‪ ،‬وابن عباس‪ ،‬وأنس بن مالك‪ ،‬وأيب هريرة‪ ،‬وأيب سعيد اخلدري ‪‬‬
‫من طرق كثريات‪ ،‬بروايات متنوعات‪ ،‬أن رسول اهلل ‪ ‬قال‪« :‬من حفظ عىل أمتي‬
‫أربعني حدي ًثا من أمر دينها بعثه اهلل يوم القيامة يف زمرة الفقهاء والعلامء»‪.‬‬
‫فقيها عا ًملا»‪.‬‬
‫ويف رواية‪« :‬بعثه اهلل ً‬
‫ويف رواية أيب الدرداء ‪« :‬وكنت له يوم القيامة شاف ًعا وشهيدً ا»‪.‬‬
‫ويف رواية ابن مسعود ‪« :‬قيل له‪ :‬ادخل من أي أبواب اجلنة شئت»‪.‬‬
‫ويف رواية ابن عمر ‪« :‬كتب يف زمرة العلامء وحرش يف زمرة الشهداء»‪.‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪12‬‬
‫واتفق احلفاظ عىل أنه حديث ضعيف‪ ،‬وإن كثرت طرقه(((‪.‬‬

‫(((قلت‪ :‬هو كام قال‪ ،‬وإليك بيان ضعفها‪:‬‬


‫*أما حديث عيل بن أيب طالب ‪:‬‬
‫فأخرجه ابن اجلوزي يف «العلل املتناهية» (‪ )119 /1‬من طريق أيب القاسم عبد اهلل بن أمحد بن عامر‬
‫الطائي‪ ،‬قال‪ :‬حدثني أيب‪ ،‬قال‪ :‬حدثني عيل بن موسى الرضا‪ ،‬قال‪ :‬حدثني أيب موسى بن جعفر‪ ،‬قال‪:‬‬
‫حدثني أيب جعفر بن حممد الصادق‪ ،‬قال‪ :‬حدثني أيب حممد بن عيل الباقر‪ ،‬قال‪ :‬حدثني أيب عيل بن‬
‫احلسني بن عيل قال‪ :‬حدثني أيب احلسني بن عيل‪ ،‬قال‪ :‬حدثني أيب عيل بن أيب طالب ‪ ‬فذكره‪.‬‬
‫ثم قال‪« :‬قال احلفاظ‪ :‬هذا عبد اهلل بن أمحد يروي عن أبيه عن أهل البيت نسخة باطلة»‪.‬‬
‫وقال الذهبي يف «امليزان» (‪ )390 /2‬يف ترمجة عبد اهلل بن أمحد‪« :‬عبد اهلل بن أمحد بن عامر‪ ،‬عن أبيه‪،‬‬
‫عن عيل الرضا‪ ،‬عن آبائه بتلك النسخة املوضوعة الباطلة‪ ،‬ما تنفك عن وضعه أو وضع أبيه‪ ،‬قال‬
‫احلسن بن عيل األزهري‪ :‬كان ُأم ًّيا مل يكن باملريض»‪.‬‬
‫وقال ابن حبان يف «املجروحني» (‪ )106 /2‬يف ترمجة عيل بن موسى الرضا‪« :‬يروي عن أبيه العجائب»‪.‬‬
‫فاخلالصة‪ :‬أن إسناد هذا احلديث ساقط‪ ،‬واخلرب موضوع‪.‬‬
‫* وأما حديث عبد اهلل بن مسعود ‪:‬‬
‫فأخرجه أبو نعيم يف «احللية» (‪ ،)189 /4‬وابن اجلوزي يف «العلل املتناهية» (‪ )119 /1‬رقم (‪،)162‬‬
‫واخلطيب البغدادي يف «رشف أصحاب احلديث» (ص‪ )20:‬من طريق حممد بن عثامن بن أيب شيبة‪،‬‬
‫حدثنا حممد بن حفص احلزامي الكرخي‪ ،‬حدثنا دحيم بن حممد الصيداوي النحاس‪ ،‬حدثنا أبو بكر‬
‫بن عياش‪ ،‬عن عاصم‪ ،‬عن زر‪ ،‬عن عبد اهلل بن مسعود ‪.‬‬
‫إسناده باطل‪ ،‬وأعله الذهبي بـدحيم بن حممد الصيداوي‪ ،‬ويقال له‪ :‬عبد الرمحن‪ ،‬فقد قال يف «امليزان»‬
‫(‪« :)588 /2‬عن أيب بكر بن عياش‪ ،‬عن عاصم بحديث‪« :‬من حفظ عىل أمتي أربعني حدي ًثا دخل‬
‫اجلنة»‪ ،‬وهذا باطل‪ ،‬تفرد عنه حممد بن حفص احلزامي»‪.‬‬
‫وقال يف «املغني» (‪« :)221 /1‬دحيم‪ ،‬عن أيب بكر بن عياش أتى بخرب موضوع‪« :‬من حفظ عىل‬
‫أمتي»‪.‬‬
‫*وأما حديث معاذ بن جبل ‪:‬‬
‫فأخرجه القايض عياض يف «اإلملاع» (ص‪ ،)22 -19 :‬والرامهرمزي يف «املحدث الفاصل» (ص‪:‬‬
‫‪ ،)173‬وابن عبد الرب يف «جامع بيان العلم» (‪ )197 /1‬ح (‪ )209‬من طريق حممد بن إبراهيم‬
‫رواد‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن عطاء‪ ،‬عن ابن عباس‪ ،‬عن معاذ‬ ‫السائح‪ ،‬أخربنا عبد املجيد بن عبد العزيز بن أيب ّ‬
‫بن جبل ‪.‬‬
‫وإسناده ساقط‪ ،‬فيه حممد بن إبراهيم الدمشقي السائح‪ ،‬قال عنه الدارقطني‪« :‬كذاب»‪ ،‬وقال ابن‬
‫عدي‪« :‬عامة أحاديثه غري حمفوظة»‪ ،‬وقال ابن حبان‪« :‬ال حتل الرواية عنه إال عند االعتبار‪ ،‬كان يضع‬
‫احلديث»‪.‬‬
‫انظر‪« :‬امليزان» (‪.)446 /3‬‬
‫‪13‬‬ ‫مقدمة المؤلف‬

‫وله طرق أخرى عن معاذ ‪ ،‬كلها ضعيفة‪ ،‬وقد قال الدارقطني يف «العلل» (‪ )34 /6‬بعد أن‬
‫ذكر االختالف فيه وأشار إىل بعض طرقه‪« :‬وكلها ضعاف وال يثبت منها يشء»‪.‬‬
‫* وأما حديث أيب الدرداء ‪:‬‬
‫فأخرجه ابن اجلوزي يف «العلل املتناهية» (‪ ،)121 -120 /1‬والبيهقي يف «شعب اإليامن» (‪/4‬‬
‫‪ ،)356‬وابن حبان يف «املجروحني» (‪ )133 /2‬من طريق عبد امللك بن هارون بن عنرتة‪ ،‬عن أبيه‪،‬‬
‫عن جده‪ ،‬عن أيب الدرداء ‪.‬‬
‫وإسناده موضوع‪ ،‬فيه عبد امللك بن هارون بن عنرتة‪ ،‬وقد قال عنه ابن معني‪« :‬كذاب»‪ ،‬وقال أبو‬
‫حاتم‪« :‬مرتوك‪ ،‬ذاهب احلديث»‪ ،‬وقال ابن حبان‪« :‬يضع احلديث»‪ ،‬وقال الدارقطني‪« :‬ضعيف»‪،‬‬
‫وقال السعدي‪« :‬دجال كذاب»‪ ،‬وبه أعله ابن اجلوزي يف «العلل املتناهية» (‪.)126/1‬‬
‫وانظر‪« :‬امليزان» (‪.)666 /2‬‬
‫* وأما حديث عبد اهلل بن عمر ‪:‬‬
‫فأخرجه ابن عبد الرب يف «جامع بيان العلم» (‪ )193 /1‬ح (‪ )205‬من طريق يعقوب بن إسحاق بن‬
‫إبراهيم بن يزيد بن حجر العسقالين بعسقالن قال‪ :‬حدثنا أبو أمحد محيد بن خملد بن زنجويه‪ ،‬حدثنا‬
‫حييى بن عبد اهلل بن بكري‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا مالك بن أنس‪ ،‬عن نافع موىل ابن عمر‪ ،‬عن ابن عمر ‪.‬‬
‫وإسناده موضوع‪ ،‬فيه يعقوب بن إسحاق العسقالين‪ ،‬وهو كذاب‪ ،‬انظر‪« :‬امليزان» (‪.)449 /4‬‬
‫وقال الذهبي يف «املغني» (‪ )757 /2‬بعد أن ساق احلديث يف ترمجة يعقوب هذا‪« :‬وهذا كذب يف‬
‫السند واملتن»‪.‬‬
‫وقد قال ابن عبد الرب بعد إيراد هذا احلديث‪« :‬هذا أحسن إسناد جاء به هذا احلديث‪ ،‬ولكنه غري‬
‫حمفوظ‪ ،‬وال معروف من حديث مالك‪ ،‬ومن رواه عن مالك فقد أخطأ عليه‪ ،‬وأضاف ما ليس من‬
‫روايته عليه»‪.‬‬
‫قلت‪ :‬يشري بذلك إىل أن اإلسناد موضوع عىل مالك‪.‬‬
‫* وأما حديث عبد اهلل بن عباس ‪:‬‬
‫فأخرجه متَّام يف «الفوائد» (‪ )140 /2‬ح (‪ ،)1368‬وابن عدي يف «الكامل» (‪ ،)324 /1‬وابن حبان‬
‫يف «املجروحني» (‪ ،)134 /1‬وابن اجلوزي يف «العلل املتناهية» (‪ ،)124- 123 /1‬واخلطيب‬
‫البغدادي يف «رشف أصحاب احلديث» (ص‪ ،)20 :‬وابن عبد الرب يف «جامع بيان العلم» (‪)196 /1‬‬
‫ح (‪ )208‬من طريق عيل بن ُحجر‪ ،‬حدثنا إسحاق بن نجيح‪ ،‬عن ابن جريج‪ ،‬عن عطاء بن أيب رباح‪،‬‬
‫عن ابن عباس ‪.‬‬
‫وإسناده موضوع‪ ،‬فيه‪ :‬إسحاق بن نجيح امللطي‪ ،‬وهو كذاب خبيث‪ ،‬وأورده الذهبي يف «امليزان» (‪/1‬‬
‫‪ )201‬يف ترمجة إسحاق هذا وعدَّ ه من أباطيله‪.‬‬
‫وأخرجه ابن عدي يف «الكامل» (‪ ،)890 /3‬وابن اجلوزي يف «العلل املتناهية» (‪ )123 /1‬من طريق‬
‫خالد بن يزيد‪ ،‬حدثنا ابن جريج‪ ،‬عن عطاء‪ ،‬عن ابن عباس ‪.‬‬
‫وهذه متابعة ساقطة؛ ألن خالد بن يزيد العمري املكي قال عنه ابن معني وأبو حاتم‪« :‬كذاب»‪ ،‬وقال‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪14‬‬

‫ابن حبان‪« :‬يروي املوضوعات عن األثبات»‪ ،‬وقال األزدي‪« :‬مرتوك احلديث»‪ ،‬وقال ابن اجلوزي‬
‫والعقييل‪« :‬حيكي عن الثقات ما ال أصل له»‪.‬‬
‫انظر‪« :‬امليزان» (‪ ،)86 /1‬و«لسان امليزان» البن حجر (‪ ،)345 /3‬و«الضعفاء» البن اجلوزي (‪/1‬‬
‫‪ ،)252‬و«الضعفاء» للعقييل (‪.)17 /2‬‬
‫* وأما حديث أنس بن مالك ‪:‬‬
‫فأخرجه متام يف «الفوائد» (‪ )141 /2‬ح (‪ ،)1369‬وابن عدي يف «الكامل» (‪ ،)1712 /5‬وابن‬
‫اجلوزي يف «العلل املتناهية» (‪ )125 /1‬من طريق سليامن بن سلمة اخلبائري‪ ،‬حدثنا نرص بن الليث‪،‬‬
‫حدثني عمر بن شاكر‪ ،‬قال‪ :‬سمعت أنس بن مالك ‪ ‬فذكره‪.‬‬
‫واه جدًّ ا‪ ،‬فيه‪ :‬سليامن بن سلمة اخلبائري‪ ،‬وهو مرتوك‪ ،‬وقد كذبه ابن اجلنيد‪.‬‬ ‫وإسناده ٍ‬
‫ورصح يف (‪ )204 /3‬بأن هذا احلديث من وضعه‪.‬‬ ‫انظر‪« :‬امليزان» (‪َّ ،)209 /2‬‬
‫ٍ‬
‫وفيه‪ :‬عمر بن شاكر‪ ،‬قال عنه الذهبي يف «امليزان» (‪« :)203/3‬واه»‪.‬‬
‫وقد ورد احلديث من طرق أخرى عن أنس ‪.‬‬
‫انظر‪« :‬العلل املتناهية» البن اجلوزي (‪ )125/1‬وكلها طرق واهية‪.‬‬
‫* وأما حديث أيب هريرة ‪:‬‬
‫فأخرجه ابن عبد الرب يف «جامع بيان العلم» (‪ )194 /1‬ح (‪ ،)206‬والرامهرمزي يف «املحدث‬
‫الفاصل» (ص‪ ،)173 :‬والبيهقي يف «شعب اإليامن» (‪ ،)353 /4‬وابن عدي يف «الكامل» (‪/5‬‬
‫‪ ،)1799‬وابن اجلوزي يف «العلل املتناهية» (‪ )121 /1‬من طريق عمرو بن احلصني العقييل‪ ،‬حدثنا‬
‫ابن عالثة‪ ،‬حدثنا خصيف‪ ،‬عن جماهد‪ ،‬عن أيب هريرة ‪.‬‬
‫وإسناده ضعيف جدًّ ا‪ ،‬فيه عمرو بن احلصني العقييل‪ ،‬وقد قال عنه أبو حاتم‪« :‬ذاهب احلديث»‪،‬‬
‫«واه»‪ ،‬وقال الدارقطني‪« :‬مرتوك»‪ ،‬وقال ابن عدي‪« :‬حدّ ث عن الثقات بغري حديث‬ ‫وقال أبو زرعة‪ٍ :‬‬
‫منكر»‪.‬‬
‫انظر‪« :‬التهذيب» البن حجر (‪ ،)19/8‬و«امليزان» (‪.)252 /3‬‬
‫وأورده الذهبي يف ترمجة حممد بن عبد اهلل بن عالثة من «امليزان» (‪ )595 /3‬وقال‪« :‬الظاهر أنه من‬
‫وضع ابن حصني»‪.‬‬
‫وأعله ابن اجلوزي بعمرو بن حصني وابن عالثة‪ ،‬لقول ابن حبان فيه‪« :‬يروي املوضوعات عن‬
‫الثقات‪ ،‬ال حيل االحتجاج به»‪.‬‬
‫وأخرجه ابن عبد الرب يف «جامع بيان العلم» (‪ )198 /1‬ح (‪ ،)210‬وابن اجلوزي يف «العلل املتناهية»‬
‫(‪ )122 /1‬من طريق خالد بن إسامعيل املدين‪ ،‬عن ابن جريج‪ ،‬عن عطاء‪ ،‬عن أيب هريرة بنحوه‬
‫وبلفظ‪« :‬من تعلم من أمتي أربعني حدي ًثا يفقه هبا يف دينه‪.»...‬‬
‫وأعله ابن اجلوزي بخالد بن إسامعيل‪ .‬وقد قال ابن عدي عن خالد املدين‪« :‬يضع احلديث عىل‬
‫الثقات»‪.‬‬
‫انظر‪« :‬امليزان» (‪.)627 /1‬‬
‫‪15‬‬ ‫مقدمة المؤلف‬

‫وأخرجه ابن عدي يف «الكامل» (‪ )2528 /7‬من طريق أيب البخرتي وهب بن وهب‪ ،‬عن ابن جريج‪،‬‬
‫عن عطاء‪ ،‬عن أيب هريرة ‪.‬‬
‫وهذه متابعة ساقطة جدًّ ا‪ ،‬ألن وهب بن وهب قال عنه ابن معني‪« :‬كان يكذب»‪ ،‬وقال أمحد‪« :‬كان‬
‫يضع احلديث»‪ ،‬وقال البخاري‪« :‬سكتوا عنه»‪ .‬وقال الذهبي يف ترمجته وقد رسد له مجلة أحاديث‪ ،‬هذا‬
‫منها‪« :‬وهذه أحاديث مكذوبة»‪.‬‬
‫انظر‪« :‬امليزان» (‪« ،)353 /4‬املجروحني» (‪.)74 /3‬‬
‫وأما حديث أيب سعيد اخلدري‪:‬‬
‫الرهاوي‪ ،‬عن‬‫فأخرجه ابن اجلوزي يف «العلل املتناهية» (‪ )121 /1‬من طريق حممد بن يزيد بن سنان ُّ‬
‫أبيه‪ ،‬عن جده‪ ،‬عن عطية‪ ،‬عن أيب سعيد اخلدري‪.‬‬
‫الرهاوي‪ ،‬وليس بالقوي‪ ،‬وأبوه يزيد ضعيف‪،‬‬ ‫وإسناده مظلم كام قال ابن اجلوزي فيه حممد بن يزيد ُّ‬
‫وجده سنان جمهول‪ ،‬وعطية العويف ضعيف مدلس‪.‬‬
‫انظر‪« :‬التقريب» البن حجر (ص‪ )1076 ،680 ،417 ،909 :‬وله طرق أخرى‪.‬‬
‫انظر‪« :‬األضواء الساموية» (ص‪.)22 -21 :‬‬
‫* وباجلملة فاحلديث موضوع من مجيع طرقه‪:‬‬
‫قال ابن اجلوزي‪« :‬هذا حديث ال يصح عن رسول اهلل»‪.‬‬
‫وقال الدارقطني‪« :‬ال يثبت من طرقه يشء»‪.‬‬
‫وقال البيهقي‪« :‬أسانيده كلها ضعيفة»‪.‬‬
‫أيضا‪« :‬هو متن مشهور‪ ،‬وليس له إسنا ٌد صحيح»‪.‬‬ ‫وقال ً‬
‫وقال ابن عساكر‪« :‬أسانيده كلها فيها مقال‪ ،‬ليس للصحيح فيها جمال»‪.‬‬
‫الرهاوي‪ :‬طرقه كلها ضعاف‪ ،‬ال خيلو طريق منها‬ ‫وقال العراقي يف «رشح اإلحياء»‪« :‬وقال عبد القادر ُّ‬
‫أن يكون فيها جمهول أو معروف مض ّعف»‪.‬‬
‫وقال احلافظان رشيد اهلل بن العطار وزكي الدين املنذري نحو ذلك باتفاق هؤالء األئمة عىل تضعيفه‪،‬‬
‫أوىل من إشارة السلفي إىل صحته‪.‬‬
‫أن مطلق األحاديث الضعيفة إذا انضم بعضها إىل بعض أجدى‬ ‫الس َلفي كان يرى ّ‬
‫قال املنذري‪ :‬لعل ِّ‬
‫قوة»‪.‬اهـ‪.‬‬
‫وقال الذهبي يف «تذكرة احلفاظ» (‪ )1239 /4‬ملا ذكر احلديث عن ابن عباس‪« :‬هذا مما حترم روايته إال‬
‫مقرونًا بأنه مكذوب من غري تردد‪ ،‬وق َّبح اهلل من وضعه»‪.‬‬
‫وقال ابن حجر يف «التلخيص» (‪« :)94 ،93 /3‬أفرد ابن املنذر الكالم عليه يف جزء مفرد‪ ،‬وقد‬
‫خلصت القول فيه يف املجلس السادس عرش من اإلمالء‪ ،‬ثم مجعت طرقه يف جزء‪ ،‬ليس فيها طريق‬
‫تسلم من علة قادحة»‪.‬‬
‫انظر‪« :‬فيض القدير» (‪ ،)119 /6‬و«كشف اخلفا» للعجلوين (‪.)340 /2‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪16‬‬
‫وقد صنَّف العلامء ‪ ‬يف هذا الباب ما ال حيىص من املصنفات‪ ،‬فأول من علمته‬
‫صنّف فيه عبد اهلل بن املبارك‪ ،‬ثم حممد بن أسلم الطويس العامل الرباين‪ ،‬ثم احلسن بن سفيان‬
‫اآلجري(((‪ ،‬وأبو بكر حممد بن إبراهيم األصفهاين‪ ،‬والدارقطني‪ ،‬واحلاكم‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫النسوي‪ ،‬وأبو بكر‬
‫وأبو نعيم(((‪ ،‬وأبو عبد الرمحن السلمي‪ ،‬وأبو سعد املاليني‪ ،‬وأبو عثامن الصابوين‪ ،‬وحممد‬
‫بن عبد اهلل األنصاري‪ ،‬وأبو بكر البيهقي‪ ،‬وخالئق ال حيصون من املتقدمني واملتأخرين(((‪.‬‬
‫وقد استخرت اهلل ‪ ‬يف مجع أربعني حدي ًثا اقتدا ًء هبؤالء األئمة األعالم‪ ،‬وحفاظ‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫وقد اتفق العلامء عىل جواز العمل باحلديث الضعيف يف فضائل األعامل(((‪ ،‬ومع هذا‬
‫فليس اعتامدي عىل هذا احلديث‪ ،‬بل عىل قوله يف األحاديث الصحيحة‪« :‬ليب ّلغ الشاهد‬
‫منكم الغائب»(((‪.‬‬
‫امرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها كام سمعها»(((‪.‬‬ ‫وقوله ‪ّ :‬‬
‫«نض اهلل ً‬

‫((( طبع قدي ًم بتحقيق الشيخ بدر البدر‪.‬‬


‫(((قال ابن رجب ‪ ‬يف «جامع العلوم واحلكم» (‪ )393 /2‬عن كتاب «األربعني» أليب نعيم‪« :‬ورشط‬
‫يف أوهلا أن تكون من صحاح األخبار‪ ،‬وجياد اآلثار مما أمجع الناقلون عىل عدالة ناقليه»‪.‬‬
‫(((انظر يف بسط الكالم عىل مصنفات هؤالء األئمة‪« :‬كشف الظنون» (‪ ،)108- 103 /1‬و«معجم‬
‫املصنفات الواردة يف فتح الباري» للشيخ مشهور بن حسن (ص‪.)54- 52:‬‬
‫((( قلت‪ :‬يف حكاية االتفاق نظر‪ ،‬لوجود اخلالف‪.‬‬
‫فقد ذهب بعض أهل العلم‪ :‬إىل عدم العمل باحلديث الضعيف مطل ًقا حتى يف فضائل األعامل‪ ،‬منهم‪ :‬ابن‬
‫حزم‪ ،‬وابن العريب‪ ،‬واخلطايب وغريهم‪ ،‬وهو الصحيح‪.‬‬
‫ومنهم من قال‪ :‬ال ُيعمل به يف فضائل األعامل إال برشوط‪:‬‬
‫‪ -1‬أال يكون الضعف شديدً ا‪.‬‬
‫مندرجا حتت أصل عام‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الضعيف‬ ‫‪ -2‬أن يكون احلديث‬
‫‪ -3‬أال يعتقد عند العمل به ثبوته‪ ،‬لئال ينسب إىل النبي ‪ ‬ما مل يقله‪ ،‬بل يعتقد االحتياط‪.‬‬
‫انظر‪« :‬حتفة األبرار» للسيوطي (ص‪ ،)25 :‬و«قواعد التحديث» للقاسمي (ص‪.)116 :‬‬
‫(((قطعة من حديث طويل‪ :‬أخرجه البخاري يف احلج باب اخلطبة أيام منى (‪ )573 /3‬ح (‪ ،)1741‬ومسلم‬
‫(‪ )1306 /3‬ح (‪ )1679‬عن أيب بكرة ‪.‬‬
‫(((أخرجه الرتمذي (‪ )395 ،394 /4‬ح (‪ ،)2658 ،2657‬من حديث ابن مسعود ‪ ،‬وقال‪« :‬هذا‬
‫حديث حسن صحيح»‪ ،‬وله شواهد متعددة‪.‬‬
‫‪17‬‬ ‫مقدمة المؤلف‬

‫ثم من العلامء من مجع األربعني يف أصول الدين‪ ،‬وبعضهم يف الفروع‪ ،‬وبعضهم يف‬
‫اجلهاد‪ ،‬وبعضهم يف الزهد‪ ،‬وبعضهم يف اآلداب‪ ،‬وبعضهم يف اخلطب‪ ،‬وكلها مقاصد‬
‫صاحلة ريض اهلل عن قاصدهيا‪.‬‬
‫وقد رأيت مجع أربعني أهم من هذا ك ّله‪ ،‬وهي أربعون حدي ًثا مشتملة عىل مجيع ذلك‪،‬‬
‫وكل حديث منها قاعدة عظيمة من قواعد الدين‪ ،‬وقد وصفه العلامء بأن مدار اإلسالم‬
‫عليه‪ ،‬أو هو نصف اإلسالم أو ثلثه‪ ،‬أو نحو ذلك‪.‬‬
‫ثم ألتزم يف هذه األربعني أن تكون صحيحة‪ ،‬ومعظمها يف صحيحي البخاري ومسلم‪،‬‬
‫وأذكرها حمذوفة األسانيد ليسهل حفظها‪ ،‬ويعم االنتفاع هبا إن شاء اهلل ‪ ،‬ثم أتبعها‬
‫خفي ألفاظها‪.‬‬
‫بباب يف ضبط ِّ‬
‫وينبغي لكل راغب يف اآلخرة أن يعرف هذه األحاديث‪ ،‬ملا اشتملت عليه من املهامت‪،‬‬
‫واحتوت عليه من التنبيه عىل مجيع الطاعات‪ ،‬وذلك ظاهر ملن تد َّبره‪.‬‬
‫وعىل اهلل اعتامدي‪ ،‬وإليه تفوييض واستنادي‪ ،‬وله احلمد والنعمة‪ ،‬وبه التوفيق والعصمة‪.‬‬
‫‪19‬‬ ‫الحديث األول‬

‫الحديث األول‬

‫ال‪:‬‬ ‫اب ‪َ ‬ق َ‬ ‫ط ِ‬ ‫ص ُع َم َر ْبنِ الخَ َّ‬ ‫الم ْؤمِ ِن ْينَ َأبِي َح ْف ٍ‬‫َع ْن َأمِ ي ِر ُ‬
‫ات َو ِإن ََّما‬ ‫ال بال ِّن َّي ِ‬‫ول‪ِ « :‬إن ََّما األَ ْع َم ُ‬ ‫هلل ‪َ ‬ي ُق ُ‬ ‫ول ا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ت َر ُ‬ ‫سمِ ْع ُ‬ ‫َ‬
‫ه ْج َر ُت ُه‬ ‫سو ِل ِه َف ِ‬ ‫ه ْج َر ُت ُه ِإ َلى ا ِ‬
‫هلل َو َر ُ‬ ‫َت ِ‬ ‫ىء َما ن ََوى‪َ ،‬ف َم ْن َكان ْ‬ ‫ام ِر ٍ‬ ‫ل ُِك ِّل ْ‬
‫ها‬ ‫ام َر َأ ٍة َي ْنكِ ُح َ‬
‫ها َأ ْو ْ‬ ‫صي ُب َ‬‫ه ْج َر ُت ُه ِل ُد ْن َيا ُي ِ‬ ‫َت ِ‬‫سو ِلهِ‪َ ،‬و َم ْن َكان ْ‬ ‫ِإ َلى ا ِ‬
‫هلل َو َر ُ‬
‫اما ا ْل ُم َح ِّدثِينَ ‪َ :‬أ ُبو َع ْب ِد ا ِ‬
‫هلل‬ ‫اج َر ِإ َل ْيهِ»‪َ ،‬ر َوا ُه إ َِم َ‬ ‫ه َ‬ ‫ه ْج َر ُت ُه ِإ َلى َما َ‬ ‫َف ِ‬
‫اج‬‫الح َّج ِ‬ ‫َ‬ ‫سل ُِم ْبنُ‬ ‫س ْينِ ُم ْ‬ ‫يل ال ُبخَ ا ِر ُّي‪َ ،‬و َأ ُبو ا ْل ُح َ‬ ‫ِس َماعِ َ‬ ‫ُم َح َّم ُد ْبنُ إ ْ‬
‫ُب‬ ‫ص ُّح ا ْل ُكت ِ‬ ‫ه َما َأ َ‬ ‫ه َما» ال َّل َذ ْين ُ‬ ‫«صحِ ْي َح ْي ِ‬ ‫سا ُبو ِر ُّي فِ ي َ‬ ‫ش ْي ِر ُّي ال َّن ْي َ‬‫الق َ‬ ‫ُ‬
‫صن ََّف ِة(((‪.‬‬‫الم َ‬
‫ُ‬
‫فيه فوائد‪:‬‬
‫‪-1‬راوي احلديث‪ :‬هو عمر بن اخلطاب بن نفيل بن عدي القريش‪ .‬جيتمع مع النبي‬
‫‪ ‬يف كعب بن لؤي‪ .،‬ل َّقبه النبي بأيب حفص كام يف «القاموس»‪ ،‬أسلم‬
‫بعد النبوة بست سنني‪ ،‬وثبت يف «صحيح البخاري» أن عبد اهلل بن مسعود ‪‬‬
‫قال‪« :‬ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر»(((‪.‬‬
‫وهو أمري املؤمنني‪ ،‬وأحد اخللفاء الراشدين‪ ،‬وأحد العرشة املبرشين باجلنة‪ ،‬وهو‬
‫امللهم املوفق للصواب‪ ،‬وقد وافقه القرآن يف أربعة مواضع‪ ،‬قال ‪« :‬لقد‬
‫كان فيام قبلكم من األمم حمدَّ ثون‪ ،‬فإن يك يف أمتي أحدٌ فإنه عمر»(((؛ أي‪ :‬ملهمون‬
‫موفقون للصواب‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)6689 ،5070 ،2529 ،54 ،1‬ومسلم (‪.)1907‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪.)3684‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪.)3689‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪20‬‬
‫توىل اخلالفة بعد أيب بكر الصديق ‪ ‬سنة ثالث عرشة من اهلجرة‪ ،‬واستمر‬
‫يف اخلالفة عرش سنني‪ ،‬وتويف يف غرة املحرم سنة أربع وعرشين‪ ،‬وعمره ثالث‬
‫وستون ‪ ‬وأرضاه‪.‬‬
‫روى عن النبي ‪ )539( ‬حدي ًثا اتفق البخاري ومسلم عىل (‪)26‬‬
‫وانفرد البخاري بـ (‪ )34‬ومسلم بـ (‪.((()21‬‬
‫‪-2‬هذا احلديث رواه البخاري يف سبعة مواضع من «صحيحه»‪ ،‬ومسلم (‪.)1907‬‬
‫وهو من غرائب الصحيح؛ ألنه مل يروه عن النبي ‪ ‬إال عمر بن اخلطاب‬
‫‪ ‬وال عن عمر إال علقمة بن وقاص الليثي‪ ،‬وال عن علقمة إال من حممد بن‬
‫إبراهيم التيمي‪ ،‬وال عن حممد إال حييى بن سعيد األنصاري ثم عنه انترش‪ .‬وقد رواه‬
‫راو‪ ،‬وقيل‪ :‬سبعامئة فهو غريب يف أوله مشهور يف آخره‪ .‬قال عيل‬‫عنه نحو مائتي ٍ‬
‫بن املديني‪« :‬روي من طرق كثرية غري طريق األنصاري‪ ،‬وال يصح منها يشء»(((‪.‬‬
‫‪-3‬هذا احلديث حديث جليل‪ ،‬متفق عىل صحته وعظيم موقعه‪ ،‬وكثرة فوائده‪ ،‬وهو‬
‫أحد األحاديث التي عليها مدار اإلسالم‪ ،‬وقيل‪ :‬إهنا أربعة‪ ...‬وقال الشافعي‪:‬‬
‫يدخل يف سبعني با ًبا من الفقه‪ ..‬والواقع أنه يدخل يف مجيع األعامل حتى العادات‪،‬‬
‫وبه صدّ ر البخاري كتابه «الصحيح»‪ ،‬وكذا املقديس كتاب «العمدة»‪ ،‬حتى قال‬
‫عبد الرمحن بن مهدي‪« :‬من أراد أن يصنف كتا ًبا‪ ،‬فليبدأ هبذا احلديث»‪.‬‬
‫وقد صنَّف العلامء يف رشحه كت ًبا مستقلة؛ كشيخ اإلسالم ابن تيمية‪ ،‬والنووي‬
‫وغريمها‪.‬‬
‫‪-4‬اشتهر أن هلذا احلديث سبب‪ ،‬وهي قصة مهاجر أم قيس ومضموهنا‪ :‬أن ً‬
‫رجل‬
‫خطب امرأة يف املدينة فأبت أن تتزوجه حتى هياجر‪ ،‬فهاجر ليتزوجها‪ ،‬فقال هذا‬
‫احلديث‪.‬‬
‫أخرجه الطرباين يف «املعجم الكبري» (‪ )8540‬عن عبد اهلل بن مسعود ‪ ‬موقو ًفا‪.‬‬
‫لكن قال ابن رجب‪« :‬مل نر لذلك ً‬
‫أصل بإسناد يصح»‪.‬‬
‫((( «اإلصابة» (‪« ،)279 /4‬اإلعالم بفوائد عمدة األحكام» البن امللقن (‪.)139 /1‬‬
‫((( «الرتغيب والرتهيب» (‪ ،)15‬و«رشح علل الرتمذي» (‪.)416 /1‬‬
‫‪21‬‬ ‫الحديث األول‬

‫وقال ابن حجر‪« :‬لكن ليس فيه أن حديث األعامل سيق بسبب ذلك‪ ،‬ومل أر يف‬
‫يشء من الطرق‪ ،‬ما يقتيض الترصيح بذلك»(((‪.‬‬
‫وعليه فيقال‪ :‬احلديث صحت فيه القصة لكن مل يصح أهنا السبب‪.‬‬
‫‪-5‬أنه ال عمل إال بنية‪ ،‬وال يتصور أن يقوم أحد بعمل إال بنية‪ ،‬وهلذا قال بعض‬
‫عمل بال نية لكان من تكليف ما ال يطاق»‪ .‬وعليه فيكون‬‫السلف‪« :‬لو كلفنا اهلل ً‬
‫التقدير يف قوله‪« :‬األعامل بالنيات»‪ ،‬أي‪ :‬األعامل واقع ًة أو حاصلة بالنيات‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إن التقدير‪ :‬األعامل صاحلة أو فاسدة أو مقبولة أو مردودة‪ ،‬أو مثا ًبا عليها أو‬
‫غري مثاب عليها بالنيات‪.‬‬
‫يقربه إىل اهلل وإىل جنته‪ ،‬قال‬
‫‪-6‬أنه ينبغي للمرء أن هيتم بصالح نيته‪ ،‬وأن ال ينوي إال ما ّ‬
‫ابن عباس ‪« :‬إنام يعطى الرجل عىل قدر نيته»‪ ،‬وقد كان السلف ‪‬‬
‫هيتمون بصالح نياهتم‪.‬‬
‫عيل من نيتي ألهنا تتق ّلب عيل»‪.‬‬
‫قال سفيان الثوري‪« :‬ما عاجلت شي ًئا أشد ّ‬
‫وقال مطرف بن عبد اهلل‪« :‬صالح القلب بصالح العمل‪ ،‬وصالح العمل بصالح‬
‫النية»‪.‬‬
‫«ر َّب عمل صغري تع ِّظمه النية‪ُ ،‬‬
‫ور َّب عمل كبري تص ّغره‬ ‫وقال عبد اهلل بن املبارك‪ُ :‬‬
‫النية»‪.‬‬
‫وقال ابن عجالن‪« :‬ال يصلح العمل إال بثالث‪ :‬التقوى هلل‪ ،‬والنية احلسنة‪،‬‬
‫واإلصابة»‪.‬‬
‫ويتفرع عىل ذلك‪ :‬أنه ينبغي للمرء أن ينوي النية الصاحلة حتى يف املباحات؛ كأكله‬
‫مأجورا عليها‪.‬‬
‫ً‬ ‫ورشبه ونومه ونفقته عىل أهله حتى يكون‬
‫قال النبي ‪ ‬لسعد بن أيب وقاص ‪« :‬وإنك لن تنفق نفقة تبتغي هبا‬
‫وجه اهلل إال أجرت هبا حتى ما جتعله يف فم امرأتك»‪ ،‬متفق عليه‪.‬‬

‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪« ،)75 /1‬فتح الباري» (‪.)10 /1‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪22‬‬
‫وقال معاوية ‪« :‬واهلل إين ألحتسب نومتي كام أحتسب قومتي»‪.‬‬
‫رسه أن يكمل له عمله‪ ،‬فليحسن نيته‪ ،‬فإن اهلل ‪‬‬
‫وقال بعض السلف‪« :‬من ّ‬
‫يأجر العبد إذا أحسنت نيته حتى باللقمة»‪ ،‬فإذا نوى املرء بأكله التقوي عىل طاعة‬
‫مأجورا‪.‬‬
‫ً‬ ‫اهلل وبنومه كذلك كان‬
‫‪-7‬أن النية تنقسم إىل قسمني‪ :‬نية العمل‪ ،‬ونية املعمول له‪ ،‬أما نية املعمول له وهو اهلل‬
‫‪ ،‬فاملراد بذلك اإلخالص هلل ‪ ‬يف العمل‪ ،‬فإن اهلل ‪ ‬ال يقبل من‬
‫خالصا‪ ،‬وابتُغي به وجهه‪ ،‬قال ‪ :‬ﭽﮘﮙﮚﮛﮜ‬
‫ً‬ ‫العمل إال ما كان‬
‫ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﭼ [البينة‪.]5 :‬‬
‫وقال ‪ ‬يف احلديث القديس‪« :‬من عمل ً‬
‫عمل أرشك فيه معي غريي‬
‫تركته ورشكه»‪ ،‬رواه مسلم‪.‬‬
‫وهذه النية يتكلم عنها أرباب السلوك والعقيدة‪.‬‬
‫ونية العمل تنقسم إىل قسمني‪:‬‬
‫القسم األول‪:‬متييز العبادات عن العادات‪ ،‬كمن اغتسل ونوى به رفع اجلنابة‪ ،‬أو‬
‫اغتسل ونوى به التربد وتنظيف البدن‪ ،‬فالعمل واحد لكن ّفرقت‬
‫بينهام النية‪.‬‬
‫ومثله اهلجرة وهي املذكورة يف احلديث‪ ،‬فهي عمل واحد لكن تكون‬
‫وزرا‪.‬‬
‫أجرا‪ ،‬وآلخر ً‬
‫لرجل ً‬
‫والقسم الثاين‪:‬متييز العبادات بعضها من بعض‪ ،‬كنية الفريضة‪ ،‬أو املقض َّية‪ ،‬أو النافلة‪،‬‬
‫وما أشبه ذلك(((‪.‬‬
‫‪-8‬أن النية حملها القلب‪ ،‬فالتلفظ هبا بدعة‪ ،‬فمن أراد أن يتوضأ أو يصيل فإنه ال يتلفظ‬
‫بنيته؛ ألن اهلل ‪ ‬يعلم ما يف قلبه‪.‬‬
‫((( «اإلرشاد إىل معرفة األحكام» البن سعدي (ص‪ )449 :‬ضمن املجموعة الكاملة‪.‬‬
‫‪23‬‬ ‫الحديث األول‬

‫‪-9‬جواز رضب األمثال لتقريب املعاين إىل األذهان‪ ،‬لقوله‪« :‬فمن كانت هجرته إىل‬
‫اهلل ورسوله‪ ،»...‬وذلك أنه ملا ذكر أن األعامل بحسب النيات وأن حظ العامل من‬
‫عمله نيته من خري أو رش‪ ،‬ذكر بعد ذلك ً‬
‫مثال من األعامل التي صورهتا واحدة‪،‬‬
‫وخيتلف صالحها وفسادها باختالف النيات‪ ،‬فاهلجرة عمل واحد لكن اختلف‬
‫حكمها باختالف نية من قام هبا‪ ،‬وذكر اهلجرة هنا عىل سبيل املثال وإال فكل‬
‫األعامل كذلك‪.‬‬
‫‪-10‬أن اهلجرة تنقسم إىل ثالثة أقسام‪ :‬هجرة املكان‪ ،‬وهجرة العمل‪ ،‬وهجرة العامل‪.‬‬
‫أما هجرة املكان‪:‬فهي املذكورة يف احلديث‪ ،‬وهي واجبة عىل من مل يستطع إقامة‬
‫شعائر دينه يف بلد الكفر‪.‬‬
‫وهجرة العمل‪:‬واملراد هبا هجر املعايص واآلثام‪ ،‬قال‪« :‬واملهاجر من هجر ما هنى اهلل‬
‫عنه»‪ .‬متفق عليه‪.‬‬
‫وهجرة العامل‪:‬واملراد به املبتدع والفاسق‪ُ ،‬يجر حتى يرتدع عن معصيته وبدعته‪ ،‬فإن‬
‫مل يكن يف هجره مصلحة فال ُيجر‪ ،‬لقوله ‪« :‬ال حيل ملسلم‬
‫أن هيجر أخاه فوق ثالث‪ُ ،‬يعرض هذا و ُيعرض هذا‪ ،‬وخريمها الذي‬
‫يبدأ بالسالم»‪ .‬متفق عليه(((‪.‬‬
‫‪-11‬أن النبي ‪ ‬أهبم يف قوله‪« :‬فهجرته إىل ما هاجر إليه»‪ ،‬ومل يقل‪« :‬فهجرته‬
‫إىل دنيا يصيبها أو إىل امرأة ينكحها» ألهنا نية فاسدة ينبغي اإلعراض عنها‪ ،‬وعدم‬
‫احلرص عليها‪.‬‬

‫((( «رشح رياض الصاحلني» (‪ )15 /1‬لشيخنا ابن عثيمني ‪.‬‬


‫‪25‬‬ ‫الحديث الثاني‬

‫الحديث الثاني‬

‫هلل‬
‫ول ا ِ‬ ‫س ِ‬ ‫وس عِ ْن َد َر ُ‬ ‫ال‪َ :‬ب ْين ََما ن َْحنُ ُج ُل ٌ‬ ‫َع ْن ُع َم َر ‪َ ‬أ ْيض ًا َق َ‬
‫شدِي ُد‬ ‫اب‪َ ،‬‬ ‫اض ال ِّث َي ِ‬ ‫شدِي ُد َب َي ِ‬ ‫ط َل َع َع َل ْينَا َر ُج ٌل َ‬ ‫ات َي ْو ٍم ِإ ْذ َ‬ ‫‪َ ‬ذ َ‬
‫س‬ ‫الس َف ِر َوالَ َي ْع ِر ُف ُه مِ نَّا َأ َح ٌد‪َ ،‬حتَّى َج َل َ‬ ‫الش ْع ِر‪ ،‬ال ُي َرى َع َل ْي ِه َأ َث ُر َّ‬ ‫س َوا ِد َّ‬ ‫َ‬
‫ض َع َك َّف ْي ِه َع َلى َفخِ َذ ْي ِه‬ ‫س َن َد ُر ْك َب َت ْي ِه ِإ َلى ُر ْك َب َت ْي ِه َو َو َ‬ ‫َّبي َف َأ ْ‬ ‫ِإ َلى الن ِّ‬
‫ِسالَ ُم‬ ‫ول اهللِ‪« :‬اإل ْ‬ ‫س ُ‬ ‫ال َر ُ‬ ‫ِسالَ ِم؟ َف َق َ‬ ‫ال‪َ :‬يا ُم َح َّم ُد َأ ْخ ِب ْرنِي َعنِ اإل ْ‬ ‫َو َق َ‬
‫الصالَةَ ‪،‬‬ ‫يم َّ‬ ‫ول اهللِ‪َ ،‬و ُتقِ َ‬ ‫س ُ‬ ‫اهلل َو َأنَّ ُم َح َّمد ًا َر ُ‬ ‫ه َد َأ ْن ال ِإ َل َه ِإالَّ ُ‬ ‫َش َ‬ ‫َأ ْن ت ْ‬
‫ت ِإ َل ْي ِه‬ ‫َط ْع َ‬ ‫است َ‬ ‫ت إِنِ ْ‬ ‫ضانَ ‪َ ،‬وت َُح َّج ال َب ْي َ‬ ‫وم َر َم َ‬‫َص َ‬ ‫َو ُت ْؤت َِي الز ََّكاةَ ‪َ ،‬وت ُ‬
‫ال‪َ :‬ف َأ ْخ ِب ْرنِي‬ ‫ص ِّد ُق ُه‪َ ،‬ق َ‬ ‫س َأ ُل ُه َو ُي َ‬ ‫ت‪َ ،‬ف َعجِ ْبنَا َل ُه َي ْ‬ ‫ص َد ْق َ‬ ‫ال‪َ :‬‬ ‫سبيالً»‪َ ،‬ق َ‬ ‫َ‬
‫س ِل ِه َوال َي ْو ِم‬ ‫هلل َو َمالَئ َِك ِت ِه َو ُك ُت ِب ِه َو ُر ُ‬ ‫«أ ْن ُت ْؤمِ نَ با ِ‬ ‫ال‪َ :‬‬ ‫َعنِ اإلِ ْي َمانِ ؟ َق َ‬
‫ال‪َ :‬ف َأ ْخ ِب ْرنِي َعنِ‬ ‫ت‪َ ،‬ق َ‬ ‫ص َد ْق َ‬ ‫ال‪َ :‬‬ ‫ش ِّرهِ»‪َ ،‬ق َ‬ ‫ِالق َد ِر خَ ْي ِر ِه َو َ‬
‫اآلخِ ِر‪َ ،‬و ُت ْؤمِ نَ ب َ‬
‫َك ْن َت َرا ُه َف ِإ َّن ُه‬ ‫َّك َت َرا ُه‪َ ،‬فإ ِْن َل ْم ت ُ‬ ‫«أ ْن ت َْع ُب َد َ‬
‫اهلل َك َأن َ‬ ‫ال‪َ :‬‬ ‫سانِ ؟! َق َ‬ ‫اإل ِْح َ‬
‫ها ب َِأ ْع َل َم‬ ‫ؤول َع ْن َ‬‫س ُ‬ ‫الم ْ‬‫«ما َ‬ ‫ال‪َ :‬‬ ‫اعةِ؟ َق َ‬ ‫الس َ‬ ‫ال‪َ :‬ف َأ ْخ ِب ْرنِي َعنِ َّ‬ ‫اك»‪َ ،‬ق َ‬ ‫َي َر َ‬
‫«أ ْن َت ِل َد األَ َم ُة َر َّبتَها‪،‬‬ ‫ال‪َ :‬‬ ‫ِها؟ َق َ‬ ‫ال‪َ :‬ف َأ ْخ ِب ْرنِي َع ْن َأ َما َرات َ‬ ‫السائ ِِل»‪َ ،‬ق َ‬ ‫مِ نَ َّ‬
‫او ُلونَ فِ ي ال ُب ْن َيانِ »‪،‬‬ ‫َط َ‬ ‫الشا ِء‪َ ،‬يت َ‬ ‫العا َل َة ِر َعا َء َّ‬ ‫الع َراةَ َ‬ ‫الح َفاةَ ُ‬ ‫َو َأ ْن َت َرى ُ‬
‫ت‪:‬‬ ‫السائ ُِل؟»‪ُ ،‬ق ْل ُ‬ ‫ال‪َ « :‬يا ُع َم ُر َأ َت ْد ِر َي َمنِ َّ‬ ‫ت َم ِل ّي ًا ُث َّم َق َ‬ ‫ط َل َق‪َ ،‬ف َل ِب ْث ُ‬ ‫ُث َّم ا ْن َ‬
‫َاك ْم ُي َع ِّل ُم ُك ْم دِين َُك ْم»‪،‬‬ ‫يل َأت ُ‬ ‫«ف ِإ َّن ُه جِ ْب ِر ُ‬ ‫ال‪َ :‬‬ ‫سو ُل ُه َأ ْع َل ُم‪َ ،‬ق َ‬ ‫اهلل َو َر ُ‬‫ُ‬
‫سل ٌِم(((‪.‬‬ ‫َر َوا ُه ُم ْ‬
‫((( برقم (‪.)8‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪26‬‬
‫فيه فوائد‪:‬‬

‫‪-1‬هذا احلديث حديث عظيم‪ ،‬اشتمل عىل رشح الدين كله‪ ،‬وهلذا قال النبي‬
‫‪« :‬فإنه جربيل أتاكم يعلمكم دينكم»‪.‬‬

‫قال القايض عياض‪« :‬وهذا احلديث قد اشتمل عىل رشح مجيع وظائف العبادات‬
‫الظاهرة والباطنة من عقود اإليامن وأعامل اجلوارح وإخالص الرسائر والتح ُّفظ‬
‫من آفات األعامل‪ ،‬حتى إن علوم الرشيعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه»(((‪.‬‬

‫وقال ابن رجب‪« :‬فمن تأمل ما أرشنا إليه مما دل عليه هذا احلديث العظيم‪ ،‬علم‬
‫أن مجيع العلوم واملعارف ترجع إىل هذا احلديث وتدخل حتته‪ ،‬وأن مجيع العلامء‬
‫من فِ َر ِق هذه األمة ال خترج علومهم التي يتكلمون فيها عن هذا احلديث‪.(((»...‬‬

‫‪-2‬أن املالئكة يتمثلون بأشكال البرش‪ ،‬وقد ثبت يف «صحيح البخاري» عن عائشة‬
‫‪ ‬أن احلارث بن هشام ‪ ‬سأل رسول اهلل فقال‪ :‬يا رسول اهلل كيف‬
‫يأتيك الوحي؟ فقال رسول اهلل‪« :‬أحيانًا يأتيني مثل صلصلة اجلرس‪ ،‬وهو أشده‬
‫عيل فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال‪ ،‬وأحيانًا يتمثل يل امللك ً‬
‫رجل فيكلمني‬ ‫ّ‬
‫فأعي ما يقول‪.»..‬‬

‫كثريا يف صورة دحية الكلبي‪.‬‬


‫وقد ورد أن جربيل كان يأيت النبي ً‬
‫‪-3‬فيه أدب املتعلم مع املعلم‪ ،‬حيث أسند جربيل ركبتيه إىل ركبتي النبي ووضع‬
‫كفيه عىل فخذيه‪ ،‬وهكذا ينبغي للمتعلم وطالب العلم مع معلمه أن جيلس‬
‫أمامه جلسة املتواضع له واملوقر له‪ ،‬وقد ُألفت كتب كثرية يف آداب طالب العلم‪،‬‬
‫من أمجعها كتاب اخلطيب البغدادي «اجلامع ألخالق الراوي وآداب السامع»‪.‬‬

‫‪ -4‬فيه بيان ألركان اإلسالم اخلمسة وسيأيت بسطها يف احلديث اآليت‪.‬‬


‫((( «رشح صحيح مسلم» (‪.)158 /1‬‬
‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)134 /1‬‬
‫‪27‬‬ ‫الحديث الثاني‬

‫‪-5‬أن النبي ‪َّ ‬فرق بني اإلسالم واإليامن؛ ألهنام ُذكرا مجي ًعا‪ ،‬فاإلسالم هو‬
‫أعامل اجلوارح‪ ،‬واإليامن أعامل القلب‪ ،‬أما إذا ُذكرا منفردين فإن كل واحد منهام‬
‫يشمل اآلخر‪ ،‬كام يقال‪ :‬إذا اجتمعا افرتقا‪ ،‬وإذا افرتقا اجتمعا‪.‬‬

‫ولذا قال أهل العلم‪:‬‬

‫كل مؤمن مسلم‪ ،‬وليس كل مسلم مؤمنًا؛ ألن من ح َّقق اإليامن ورسخ يف قلبه‪ ،‬قام‬
‫بأعامل اإلسالم‪ ،‬وليس كل مسلم مؤمنًا؛ ألنه قد يكون اإليامن ضعي ًفا‪ ،‬فال يتحقق القلب‬
‫مسلم وليس بمؤمن اإليامن التام‪.‬‬
‫ً‬ ‫به حتق ًقا تا ًّما مع عمل جوارحه بأعامل اإلسالم‪ ،‬فيكون‬

‫‪-6‬أن األعامل داخلة يف مسمى اإليامن‪ ،‬إذ ال يتم اإليامن إال هبا‪.‬‬

‫‪-7‬فيه بيان أركان اإليامن وهي ستة‪ :‬اإليامن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر‬
‫والقدر خريه ورشه‪.‬‬

‫فاإليامنباهلل‪ :‬يتضمن اإليامن بوجوده وأنه رب العاملني وإله األولني واآلخرين‪ ،‬وأنه‬
‫مستو عىل عرشه‪ ،‬مطلع عىل خلقه ال خيفى عليه من أمرهم يشء‪ .‬واإليامن‬ ‫ٍ‬
‫بألوهيته وأنه ال يستحق العبادة أحدٌ سواه‪ ،‬واإليامن بأسامئه وصفاته‪ ،‬وأنه‬
‫‪ ‬له األسامء احلسنى والصفات العىل‪ ،‬واإليامن بام أخربنا من أسامئه‬
‫وصفاته أو أخربنا رسوله منها من غري حتريف وال تعطيل‪ ،‬ومن غري تكييف‬
‫وال متثيل‪.‬‬

‫واإليامنباملالئكة‪ :‬يتضمن اإليامن بوجودهم‪ ،‬وأهنم عباد مكرمون‪ ،‬ال يعصون اهلل ما‬
‫أمرهم‪ ،‬ويفعلون ما يؤمرون‪ ،‬وأهنم خملوقون من نور وهم صمد ال يأكلون وال‬
‫يرشبون‪ ،‬يسبحون الليل والنهار ال يفرتون‪ ،‬وأهنم ال حيصون كثرة‪ ،‬واإليامن‬
‫بوظائف من علمنا وظيفته منهم‪ :‬كجربيل موكل بالوحي‪ ،‬وميكائيل موكل‬
‫بالقطر‪ ،‬وإرسافيل موكل بالنفخ يف الصور‪ ،‬وملك املوت موكل بقبض أرواح‬
‫العباد‪ ،‬وكذا ال َّلذين َيكتبان عىل اإلنسان ما يقول من خري ورش‪ ،‬واملالئكة‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪28‬‬
‫السواحون يف األرض الذين يلتمسون ِح َل َق الذكر‪ ،‬وغري هؤالء ممن ذكر اهلل‬
‫َّ‬
‫أعامهلم يف كتابه أو ذكرهم رسوله‪.‬‬
‫واإليامنبالكتب‪ :‬يتضمن اإليامن بإنزاهلا من عند اهلل ح ًّقا‪ ،‬واإليامن بام علمنا اسمه‬
‫منها كالقرآن الذي نزل عىل نبينا‪ ،‬والتوراة التي أنزلت عىل موسى‪ ،‬واإلنجيل‬
‫الذي أنزل عىل عيسى‪ ،‬والزبور الذي أوتيه داود ‪ .‬واإليامن بام صح‬
‫من أخبارها‪ ،‬كأخبار القرآن وأخبار ما مل حيرف أو ُيبدل من الكتب السابقة‪،‬‬
‫واإليامن بأن مجيع الكتب السابقة منسوخة بالقرآن الكريم‪ ،‬قال ‪ :‬ﱫ‬
‫ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﱪ‬
‫حاكم عليه‪.‬‬
‫ً‬ ‫[املائدة‪]48 :‬؛ أي‪:‬‬
‫واإليامنبالرسل‪ :‬يتضمن اإليامن بأن رسالتهم حق من اهلل ‪ ،‬فمن كفر‬
‫برسالة واحد منهم فقد كفر باجلميع‪ ،‬قال ‪ :‬ﱫﯰ ﯱ ﯲ‬
‫ﯳﱪ[الشعراء‪ ]105 :‬واإليامن بمن علمنا اسمه منهم باسمه مثل‪:‬‬
‫إبراهيم ونوح وموسى وعيسى وحممد وهؤالء هم أولو العزم من الرسل‪.‬‬
‫وغري هؤالء ممن ذكره اهلل باسمه‪.‬‬
‫وأما ما مل نعلم اسمه منهم فنؤمن به ً‬
‫إمجال‪.‬‬
‫واإليامن بام صح من أخبارهم والعمل برشيعة من أرسل إلينا منهم وهو حممد‪ ،‬قال‬
‫‪ :‬ﱫﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ‬
‫ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﱪ [النساء‪.]65 :‬‬
‫واإليامنباليوم اآلخر‪ :‬يتضمن اإليامن بكل ما أخرب اهلل به مما يكون بعد املوت من‬
‫عذاب القرب ونعيمه‪ ،‬والبعث‪ ،‬واجلزاء واحلساب‪ ،‬واجلنة والنار وغريها‪.‬‬
‫ً‬
‫وتفصيل‪ ،‬وأن اهلل كتب يف‬ ‫واإليامنبالقدر‪ :‬يتضمن اإليامن بعلم اهلل بكل يشء مجلة‬
‫اللوح املحفوظ ما هو كائن إىل يوم القيامة‪ ،‬واإليامن بأن مجيع الكائنات ال‬
‫تكون إال بمشيئة اهلل‪ ،‬وأهنا مجي ًعا خملوقة هلل بذواهتا‪ ،‬وصفاهتا‪ ،‬وحركاهتا‪.‬‬
‫‪29‬‬ ‫الحديث الثاني‬

‫‪‬‬ ‫واعلم أن القدر فيه خري ورش بالنسبة ملفعوالت اهلل ‪ ،‬وأما فعله‬
‫فليس فيه رش‪ ،‬قال النبي ‪ ‬يف دعاء االستفتاح‪« :‬والرش ليس إليك»(((‪.‬‬
‫‪ - 8‬أن اإلحسان عىل درجتني وأن للمحسنني يف اإلحسان مقامني متفاوتني‪:‬‬
‫املقاماألول وهو أعالها‪ :‬أن تعبد اهلل كأنك تراه‪ ،‬وهذا مقام املشاهدة‪ ،‬وهو أن يعمل‬
‫العبد عىل مقتىض مشاهدته هلل ‪ ‬بقلبه‪ ،‬فمن َع َبدَ اهلل ‪ ‬عىل استحضار قربه‬
‫منه وإقباله إليه وأنه بني يديه كأنه يراه أوجب له ذلك اخلشية واخلوف واهليبة‬
‫والتعظيم‪.‬‬
‫واملقامالثاين‪ :‬مقام اإلخالص‪ ،‬وهو أن يعمل العبد عىل استحضار مشاهدة اهلل إياه‬
‫واطالعه عليه وقربه منه‪ ،‬فإذا استحرض العبد هذا يف عمله يمنعه من االلتفات‬
‫إىل غري اهلل وإرادته بالعمل‪ ،‬وهذا املقام هو الوسيلة املوصلة إىل املقام األول(((‪.‬‬
‫‪-9‬أنه ال يعلم متى تقوم الساعة إال اهلل ‪ ،‬لقوله ملا قال له جربيل ‪ :‬أخربين‬
‫عن الساعة؟ قال ‪« :‬ما املسؤول عنها بأعلم من السائل؟»؛ يعني‪ :‬أن‬
‫علم اخللق كلهم يف وقت الساعة سواء‪ ،‬وقد أخرب املوىل ‪ ‬يف كتابه أنه استأثر‬
‫بعلمها‪ ،‬فقال‪ :‬ﱫ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ‬
‫ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ‬
‫ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﱪ [األعراف‪ .]187 :‬وثبت يف «صحيح البخاري» عن‬
‫ابن عمر ‪ ‬عن النبي ‪ ‬قال‪« :‬مفاتيح الغيب مخس ال يعلمها إال‬
‫اهلل»‪ ،‬ثم قرأ‪:‬ﱫ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﱪ [لقامن‪ ،]34 :‬فمن ادعى علم وقت قيام‬
‫الساعة فهو كاذب‪ ،‬ومن صدق املنجمني فيام يدعونه من وقت قيام الساعة فهو‬
‫ضال‪.‬‬
‫‪-10‬فيه بيان لبعض أرشاط الساعة‪ ،‬وقد ذكرها ‪ ‬بقوله‪« :‬أن تلد األمة‬
‫ربتها‪ ،‬وأن ترى احلفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون يف البنيان»‪.‬‬
‫((( خمترص من رشح شيخنا ‪ ‬هلذا احلديث يف «فتاواه» (‪.)110 /6‬‬
‫((( «خمترص معارج القبول» (ص‪.)309 :‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪30‬‬
‫فهاتان عالمتان‪:‬‬
‫األوىل‪«:‬أن تلد األمة ربتها»‪ ،‬ويف حديث آخر‪« :‬أن تلد األمة رهبا» وهو إشارة إىل فتح‬
‫البالد‪ ،‬وكثرة جلب الرقيق حتى تكثر الرساري‪ ،‬ويكثر أوالدهن‪ ،‬فتكون األم‬
‫رقيقة لسيدها‪ ،‬وأوالده منها بمنزلته‪.‬‬
‫وقيل يف معناه‪ :‬أن تكون املرأة أمة فتلد امرأة‪ ،‬فتكون غنية متلك مثل أمها‪ ،‬وهو‬
‫كناية عن رسعة كثرة املال وانتشاره بني الناس‪.‬‬
‫الثانية‪«:‬أن ترى احلفاة العراة العالة» وهم الفقراء «يتطاولون يف البنيان»‪ ،‬واملعنى‪ :‬أن‬
‫أسافل الناس يصريون رؤوسهم‪ ،‬وتكثر أمواهلم حتى يتباهون بطول البنيان‪.‬‬
‫وحيتمل أن يراد بالتطاول‪ ،‬التطاول احليس وهو رفعها إىل السامء‪ ،‬وحيتمل أن‬
‫يراد به التطاول املعنوي وهو زخرفتها وتشييدها وتنميقها‪ .‬واحلديث يشمل‬
‫االحتاملني‪.‬‬
‫‪-11‬أن من سأل عام حيتاجه الناس فإنه يكون مع ِّل ًم هلم‪ ،‬لقوله ‪ ‬ملا أجاب‬
‫السائل‪« :‬فإنه جربيل أتاكم يعلمكم دينكم»‪.‬‬
‫‪-12‬أنه ينبغي لإلنسان أن يكل علم ما ال يعلمه إىل اهلل ‪ ‬فيقول‪« :‬اهلل ورسوله‬
‫أعلم»‪ ،‬وهذا يف األمور الرشعية ظاهر وأما يف األمور الكونية فإنه يقول‪« :‬اهلل‬
‫أعلم»‪.‬‬
‫‪31‬‬ ‫الحديث الثالث‬

‫الحديث الثالث‬

‫ال‪:‬‬‫اب ‪َ ‬ق َ‬ ‫ط ِ‬ ‫هلل ْبنِ ُع َم َر ْبنِ ا ْلخَ َّ‬‫َع ْن َأبِي َع ْب ِد ال َّر ْحمنِ َع ْب ِد ا ِ‬
‫س‪:‬‬ ‫ِسالَ ُم َع َلى خَ ْم ٍ‬ ‫ول‪ُ « :‬بن َِي اإل ْ‬ ‫هلل ‪َ ‬ي ُق ُ‬ ‫ول ا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ت َر ُ‬ ‫سمِ ْع ُ‬ ‫َ‬
‫الصالَةِ ‪،‬‬
‫ام َّ‬ ‫ول اهللِ‪َ ،‬وإ َِق ِ‬ ‫س ُ‬ ‫َّ‬
‫ها َد ُة َأ ْن الَ ِإ َل َه ِإالَّ الل‪َ ،‬و َأنَّ ُم َح َّمد ًا َر ُ‬ ‫ش َ‬ ‫َ‬
‫سل ٌِم‪.‬‬ ‫ضانَ »‪َ ،‬ر َوا ُه ال ُبخَ ا ِر ُّي َو ُم ْ‬ ‫ص ْو ِم َر َم َ‬
‫ت‪َ ،‬و َ‬ ‫َوإِيتَا ِء الز ََّكاةِ ‪َ ،‬و َح ِّج ال َب ْي ِ‬
‫فيه فوائد‪:‬‬
‫‪-1‬راوي احلديث‪ :‬هو عبد اهلل بن عمر بن اخلطاب القريش‪ ،‬أبو عبد الرمحن ‪،‬‬
‫فقيها عا ًملا زاهدً ا ور ًعا‪ ،‬أحد األعالم»‪ ،‬أثنى عليه النبي‬
‫قال ابن امللقن‪« :‬وكان ً‬
‫‪ ‬ووصفه بالصالح لو كان يقوم من الليل‪ ،‬فكان ال ينام من الليل‬
‫وسنَّته‪ ،‬روي له عن النبي‬
‫قليل‪ ،‬وهو من أشد الصحابة متسكًا بآثار النبي ُ‬ ‫إال ً‬
‫‪ 1630( ‬حدي ًثا)‪ ،‬اتفق البخاري ومسلم عىل (‪ )168‬وانفرد البخاري‬
‫بـ (‪ 81‬حدي ًثا)‪ ،‬ومسلم بـ (‪ .)31‬ومات سنة (‪73‬هـ)(((‪.‬‬
‫‪-2‬احلديث هبذا اللفظ يف البخاري ح (‪ )8‬من طريق عكرمة بن خالد عن ابن عمر‬
‫‪ ،‬وكذا عند مسلم (‪ ،)20‬وعليه بنى البخاري ترتيبه للصحيح؛ فإنه قدم‬
‫كتاب احلج عىل كتاب الصوم‪ ،‬ويف «صحيح مسلم» من طريق سعد بن عبيدة عن‬
‫ابن عمر ‪ ‬بتقديم الصوم عىل احلج‪ .‬فقال رجل‪ :‬واحلج وصيام رمضان؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ،‬صيام رمضان‪ ،‬واحلج هكذا سمعته من رسول اهلل ‪ ‬وهذه‬
‫الرواية هي املحفوظة‪...‬‬
‫وعليه فالذي يظهر أن رواية حنظلة عن عكرمة بتقديم احلج عىل الصوم مروية باملعنى‪.‬‬
‫((( «اإلصابة» (‪« ،)107 /4‬اإلعالم» (‪.)460- 459 /1‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪32‬‬
‫‪-3‬هذه املذكورة يف احلديث هي أركان اإلسالم اخلمسة؛ أي‪ :‬دعائمه وقواعده التي‬
‫ال يقوم إال هبا‪.‬‬
‫فأولهذه األركان‪ :‬الشهادتان‪ :‬شهادة أن ال إله إال اهلل وأن حممدً ا رسول اهلل‪ ،‬وعدَّ ها‬
‫النبي ‪ ‬ركنًا واحدً ا؛ ألن العبادة ال تتم إال بأمرين‪ :‬اإلخالص هلل‪،‬‬
‫وهو ما تضمنته شهادة أن ال إله إال اهلل‪ ،‬واملتابعة لرسول اهلل‪ ،‬وهو ما تضمنته‬
‫شهادة أن حممدً ا رسول اهلل‪ ،‬ومعنى شهادة أن ال إله إال اهلل؛ أي‪ :‬ال معبود حق إال‬
‫اهلل‪ ،‬فهو الذي يستحق أن ترصف له العبادة وحده دون ما سواه‪.‬‬
‫أن حممدً ا رسول اهلل‪ :‬تتضمن طاعته فيام أمر‪ ،‬وتصديقه فيام أخرب واجتناب‬
‫وشهادة ّ‬
‫ما عنه هنى وزجر‪ ،‬وأن ال يعبد اهلل إال بام رشع‪.‬‬
‫وإقامالصالة‪ :‬أي‪ :‬اإلتيان هبا عىل الوجه الذي أمر اإلنسان به‪ ،‬برشوطها وأركاهنا‬
‫وواجباهتا‪ ،‬وحضور القلب فيها‪.‬‬
‫وإيتاءالزكاة‪ :‬أي‪ :‬إعطاؤها مستحقيها‪ ،‬وهم ثامنية أصناف ذكرهم اهلل يف كتابه‪ ،‬وهي‬
‫خمصوصة يف أموال معينة‪ :‬اخلارج من األرض‪ ،‬وعروض التجارة‪ ،‬والنقدان‪:‬‬
‫الذهب والفضة‪ ،‬وهبيمة األنعام‪.‬‬
‫وحجالبيت‪ :‬واملراد به‪ :‬التعبد هلل ‪ ‬بقصد مكة ألداء املناسك عىل وجه خمصوص‬
‫يف زمن خمصوص‪ ،‬وله رشوط وهي‪ :‬اإلسالم‪ ،‬واحلرية‪ ،‬والعقل‪ ،‬والبلوغ‪،‬‬
‫واالستطاعة‪ .‬وزيد رشط سادس‪ :‬وهو وجود املحرم للمرأة‪.‬‬
‫وصومرمضان‪ :‬واملراد به‪ :‬التعبد هلل باإلمساك عن املفطرات من طلوع الفجر الثاين إىل‬
‫غروب الشمس‪.‬‬
‫‪-4‬أن من ترك شي ًئا من هذه األركان جاحدً ا لوجوبه فهو كافر‪.‬‬
‫ً‬
‫وكسل؛ فالصحيح أنه ال يكفر إال برتك الصالة‪ ،‬لقوله‬ ‫وأما إذا تركه هتاونًا‬
‫‪« :‬العهد الذي بيننا وبينهم الصالة فمن تركها فقد كفر»‪ .‬رواه‬
‫الرتمذي وابن ماجه بإسناد حسن(((‪.‬‬
‫((( «سنن الرتمذي» (‪ ،)2621‬وابن ماجه (‪ )1079‬من حديث بريدة بن احلصيب ‪ ،‬قال الرتمذي‪:‬‬
‫‪33‬‬ ‫الحديث الثالث‬

‫وقال ‪« :‬بني الرجل وبني الرشك والكفر ترك الصالة»‪ .‬رواه مسلم(((‪.‬‬
‫وقال عبد اهلل بن شقيق‪« :‬كان أصحاب حممدً ا ال يرون شي ًئا من األعامل تركه كفر‬
‫غري الصالة»‪ .‬رواه الرتمذي(((‪.‬‬
‫ص عىل تركها‪ ،‬وهي‬ ‫ِ‬
‫فمن أرص عىل ترك الصالة وجب قتله؛ ألنه مرتد‪ .‬إذ كيف ُي ُّ‬
‫عمود اإلسالم ومن أعظم أركانه‪.‬‬

‫«هذا حديث حسن صحيح غريب»‪.‬‬


‫((( «صحيح مسلم» (‪ )134‬من حديث جابر بن عبد اهلل ‪.‬‬
‫((( برقم (‪ .)2622‬وصححه السخاوي يف «األجوبة املرضية» (‪.)819 /2‬‬
‫‪35‬‬ ‫الحديث الرابع‬

‫الحديث الرابع‬

‫ول‬‫س ُ‬ ‫ال‪َ :‬ح َّد َثنَا َر ُ‬


‫س ُعو ٍد ‪َ ‬ق َ‬ ‫َع ْن َأبِي َع ْب ِد ال َّر ْح َمنِ َع ْب ِد ا ِ‬
‫هلل ْبنِ َم ْ‬
‫وق‪« :‬إِنَّ َأ َح َد ُك ْم ُي ْج َم ُع خَ ْل ُق ُه‬ ‫ص ُد ُ‬ ‫الم ْ‬
‫ِق َ‬ ‫الصاد ُ‬ ‫ه َو َّ‬ ‫هلل ‪َ ‬و ُ‬ ‫ا ِ‬
‫ِك‪ُ ،‬ث َّم‬ ‫ُط َف ًة‪ُ ،‬ث َّم َي ُكونُ َع َل َق ًة مِ ْث َل َذل َ‬ ‫طنِ ُأ ِّم ِه َأ ْر َبعِ ينَ َي ْوم ًا ن ْ‬ ‫فِ ي َب ْ‬
‫وح‪،‬‬‫ك َف َي ْن ُفخُ فِ ي ِه ال ُّر َ‬ ‫الم َل ُ‬
‫س ُل ِإ َل ْي ِه َ‬ ‫ِك‪ُ ،‬ث َّم ُي ْر َ‬‫ض َغ ًة مِ ْث َل َذل َ‬ ‫َي ُكونُ ُم ْ‬
‫سعِ ي ٌد‪.‬‬ ‫شقِ ٌّي َأ ْو َ‬ ‫ب ِر ْزقِ هِ‪َ ،‬و َأ َج ِلهِ‪َ ،‬و َع َم ِلهِ‪َ ،‬و َ‬‫ات‪ :‬ب َِك ْت ِ‬ ‫َو ُي ْؤ َم ُر ب َِأ ْر َب ِع َكل َِم ٍ‬
‫الج َّن ِة َحتَّى‬ ‫ه ِل َ‬ ‫هلل ا َّلذِي الَ إِل َه َغ ْي ُر ُه إِنَّ َأ َح َد ُك ْم َل َي ْع َم ُل ب َِع َم ِل َأ ْ‬ ‫َف َوا ِ‬
‫َاب‪َ ،‬ف َي ْع َم ُل ب َِع َم ِل‬‫سب ُِق َع َل ْي ِه الكِ ت ُ‬ ‫اع‪َ ،‬ف َي ْ‬ ‫َها ِإالَّ ِذ َر ٌ‬ ‫َما َي ُكونَ َب ْي َن ُه َو َب ْين َ‬
‫ه ِل النَّا ِر َحتَّى َما‬ ‫ها‪َ ،‬وإِنَّ َأ َح َد ُك ْم َل َي ْع َم ُل ب َِع َم ِل َأ ْ‬ ‫ه ِل النَّا ِر َف َي ْدخُ ُل َ‬ ‫َأ ْ‬
‫ه ِل‬ ‫َاب َف َي ْع َم ُل ب َِع َم ِل َأ ْ‬‫سب ُِق َع َل ْي ِه ا ْلكِ ت ُ‬ ‫اع َف َي ْ‬ ‫َها ِإالَّ ِذ َر ٌ‬ ‫َي ُكونَ َب ْي َن ُه َو َب ْين َ‬
‫سل ٌِم(((‪.‬‬ ‫ها»‪َ ،‬ر َوا ُه ال ُبخَ ا ِر ُّي َو ُم ْ‬ ‫الج َّن ِة َف َي ْدخُ ُل َ‬
‫َ‬
‫فيه فوائد‪:‬‬

‫‪-1‬راوي احلديث‪ :‬هو عبد اهلل بن مسعود بن غافل اهلذيل‪ ،‬أبو عبد الرمحن ابن أم عبد‪،‬‬
‫صاحب رسول اهلل وخادمه‪ ،‬وأحد السابقني األولني‪ ،‬ومن كبار البدريني‪ ،‬وكان‬
‫‪ ‬من أحسن الصحابة صوتًا بالقرآن‪ ،‬قرأ ذات مرة عىل النبي سورة النساء‬
‫حتى إذا بلغ قوله ‪ :‬ﱫﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ‬
‫ﮑ ﮒﱪ [النساء‪ ]41 :‬قال‪« :‬حسبك اآلن»‪ ،‬فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان‪.‬‬
‫متفق عليه‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)3332( ،)3208‬ومسلم (‪.)2643‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪36‬‬
‫غضا كام ُأنزل‪ ،‬فليقرأ عىل قراءة‬
‫«م ْن أحب أن يقرأ القرآن ًّ‬
‫وقد قال ‪َ :‬‬
‫ابن أم عبد»‪ .‬رواه أمحد(((‪.‬‬
‫صعد ذات مرة عىل شجرة األراك ليجني للنبي ‪ ‬السواك فنسفت‬
‫الريح إزاره حتى بدت ساقاه‪ ،‬فضحك الصحابة ‪ ‬من دقة ساقيه‪ ،‬فقال‬
‫‪« :‬والذي نفيس بيده إهنام يف امليزان أثقل من جبل ُأحد»‪ .‬رواه أمحد(((‪.‬‬
‫قال عنه عمر بن اخلطاب ‪« :‬كُن ِّيف ُم ِل َئ ِع ْل ًم»(((‪.‬‬
‫له يف «الصحيحني» (‪ )64‬حدي ًثا‪ ،‬انفرد البخاري بـ(‪ )21‬ومسلم بـ(‪.)35‬‬
‫مات سنة (‪32‬هـ)‪ ،‬وله نحو ستني سنة(((‪.‬‬
‫‪-2‬أن تكوين اجلنني يف بطن أمه وخلقه يكون عىل مراحل‪ :‬أربعني يو ًما نطفة‪ ،‬ثم‬
‫يكون علقة مثل ذلك‪ ،‬والعلقة‪ :‬قطعة من دم‪ ،‬ثم يكون مضغة مثل ذلك؛ يعني‪:‬‬
‫أربعني يو ًما‪ ،‬واملضغة‪ :‬قطعة حلم‪ ،‬ثم بعد متام مائة وعرشين يو ًما تنفخ فيه الروح‪.‬‬
‫وقد ذكر اهلل ‪ ‬يف كتابه يف عدة مواضع تقلب اجلنني يف هذه األطوار‪ ،‬قال‬
‫‪ :‬ﱫ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ‬
‫ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ‬
‫ﮬ ﮭ ﮮﱪ [احلج‪ ،]5 :‬وقد امتن اهلل عىل عباده بخلقهم يف هذه األطوار‪،‬‬
‫فقال عن نوح أنه قال لقومه ‪ :‬ﱫﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﱪ‬
‫[نوح‪.]14 ،13 :‬‬
‫‪-3‬أن ظاهره يدل عىل أن خلق املضغة يف األربعني الثالثة‪ ،‬وأن إرسال امللك إنام يكون‬
‫بعد مائة وعرشين يو ًما‪.‬‬
‫((( برقم (‪.)4255‬‬
‫((( «مسند أمحد» برقم (‪ )3991‬وإسناده حسن‪.‬‬
‫((( «جمموع الفتاوى» (‪.)590 /4‬‬
‫((( «سري أعالم النبالء» (‪.)461 /1‬‬
‫‪37‬‬ ‫الحديث الرابع‬

‫لكن ثبت يف «صحيح مسلم»((( ما يدل عىل خالف ذلك‪ ،‬فعن حذيفة بن أسيد‬
‫مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة‪ ،‬بعث اهلل‬
‫‪ ،‬عن النبي ‪ ‬قال‪« :‬إذا ّ‬
‫فصورها وخلق سمعها وبرصها وجلدها وحلمها وعظمها‪ ،‬ثم قال‪:‬‬ ‫إليها ملكًا‪ّ ،‬‬
‫كر أم ُأنثى؟ فيقيض ربك ما شاء‪ ،‬ويكتب امللك‪ ،‬ثم يقول‪ :‬يا رب أجله؟‬ ‫يا رب َأ َذ ٌ‬
‫فيقول ربك ما شاء‪ ،‬ويكتب امللك‪ ،‬ثم يقول‪ :‬يا رب رزقه؟ فيقيض ربك ما شاء‪،‬‬
‫ويكتب امللك‪ ،‬ثم خيرج امللك بالصحيفة يف يده فال يزيد عىل ما ُأمر وال ينقص»‪.‬‬
‫وهذا يدل عىل أن تصوير اجلنني وخلق سمعه وبرصه وجلده وحلمه وعظامه‪،‬‬
‫والكتابة تكون يف أول األربعني الثانية‪.‬‬
‫وقد أطال الرشاح يف اجلمع بني احلديثني‪ ،‬وخالصة ما ذكروه ينتظم النقاط اآلتية‪:‬‬
‫أول‪:‬حديث ابن مسعود ‪ ‬مل يتعرض للتخليق والتصوير والتأنيث والتذكري‪،‬‬ ‫ً‬
‫وإنام ذكر هذا يف حديث حذيفة‪.‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬اتفق احلديثان يف استئذان امللك ربه سبحانه يف تقدير شأن املولود يف خالل ذلك‪.‬‬
‫ثال ًثا‪:‬أن حديث حذيفة فيه تفصيل دقيق ملا يتخلق‪ ،‬وحديث ابن مسعود ال يعارضه؛‬
‫مر هبا خلق اإلنسان بدون تفصيل‪.‬‬
‫ألن فيه ذكر األطوار التي َّ‬
‫قال ابن رجب‪« :‬وقد محل بعضهم حديث ابن مسعود ‪ ‬عىل أن اجلنني‬
‫يغلب عليه يف األربعني األوىل وصف املني‪ ،‬ويف األربعني الثانية وصف العلقة‪،‬‬
‫ويف األربعني الثالثة وصف املضغة‪ ،‬وإن كانت خلقته قد متت‪ ،‬وتم تصويره»‪.‬‬
‫راب ًعا‪:‬قد تكون الكتابة مرتني‪ ،‬مرة عند انتقال اجلنني من النطفة إىل العلقة‪ ،‬النتقاله إىل‬
‫طور الدم الذي هو مادة حياة احليوان‪ ،‬ومرة عند نفخ الروح فيه‪ ،‬النتقاله إىل عامل‬
‫األحياء بعد أن كان يف عامل اجلامد‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬قد يكون هذا يف بعض األجنة دون بعض(((‪.‬‬
‫ً‬
‫((( برقم (‪.)2645‬‬
‫(((انظر‪« :‬املفهم» (‪ ،)649 /6‬و «رشح صحيح مسلم» للنووي (‪« ،)190/16‬حتفة املودود» ص (‪« ،)156‬جامع‬
‫العلوم واحلكم» (‪« ،)158 /1‬فتح الباري» (‪« ،)484/11‬فتوى» بخط شيخنا ‪ ‬يف اجلمع بني احلديثني‪.‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪38‬‬
‫‪-4‬حكمة اهلل ‪ ‬يف كون اجلنني يمر عند خلقه هبذه املراحل‪ ،‬لئال تترضر األم‪ ،‬وإال‬
‫فإن اهلل قادر عىل مجع خلقه يف حلظة‪.‬‬
‫ِ‬
‫باألجنّة‪ ،‬لقوله ‪« :‬ثم يرسل إليه امللك»‪ ،‬وقد سبق‬ ‫ً‬
‫موكل‬ ‫‪-5‬أن هناك ملكًا‬
‫أن املالئكة هلم وظائف متعددة‪.‬‬

‫نفسا‪ ،‬وقتل النفس‬


‫‪-6‬أن اجلنني إذا نفخت فيه الروح فإنه ال حيل إسقاطه؛ ألنه أصبح ً‬
‫املعصومة بغري حق حمرم‪ ،‬وأما قبل نفخ الروح‪ ،‬ففيه خالف‪ ،‬واألظهر عدم جوازه‬
‫ما مل يكن يف إسقاطه مصلحة أو كان يف بقائه رضر عىل األم‪.‬‬
‫قال ابن رجب‪« :‬وقد ّ‬
‫رخص طائفة من الفقهاء للمرأة يف إسقاط ما يف بطنها ما مل‬
‫ينفخ فيه الروح‪ ،‬وجعلوه كالعزل‪ ،‬وهو قول ضعيف؛ ألن اجلنني ولد انعقد‪ ،‬وربام‬
‫تصور‪ ،‬ويف العزل مل يوجد ولد بالكلية‪ ،‬وإنام تسبب إىل منع انعقاده‪ ،‬وقد ال يمتنع‬
‫َّ‬
‫انعقاده بالعزل إذا أراد اهلل خلقه‪.(((»...‬‬
‫َّ‬
‫ويصل عليه‪،‬‬ ‫ويغسل‪ ،‬ويك َّفن‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يسمى‬
‫‪-7‬أن اجلنني إذا سقط بعد نفخ الروح فيه‪ ،‬فإنه َّ‬
‫و ُيعق عنه‪ ،‬ويدفن يف مقابر املسلمني‪ ،‬وأما إذا سقط قبل نفخ الروح‪ ،‬فإنه ال حكم‬
‫له‪ ،‬بل يلف يف خرقة‪ ،‬ويدفن يف أي مكان من األرض‪.‬‬

‫‪-8‬أن أحوال اإلنسان تكتب عليه وهو يف بطن أمه‪ ،‬وهذه الكتابة عمرية‪ ،‬وهناك كتابة‬
‫حولية وهي يف ليلة القدر‪ ،‬وكتابة أزلية‪ ،‬وهي يف اللوح املحفوظ‪.‬‬

‫‪-9‬أنه ينبغي للمرء أن يرىض بام قسم اهلل له من الرزق؛ ألن هذا الذي قسمه اهلل له‪ ،‬هو‬
‫ٍ‬
‫وحينئذ فال ينبغي له‬ ‫الذي كتب عليه وهو يف بطن أمه‪ ،‬ولن يموت حتى يستكمله‪،‬‬
‫أن يتطلع إىل ما يف أيدي الناس‪ ،‬وال يسأهلم شي ًئا ألن املسألة مذلة‪ ،‬إال عند الرضورة‪،‬‬
‫وعليه أن يفعل األسباب التي هبا يكتسب الرزق؛ ألن اهلل ‪ ‬قال‪ :‬ﱫﭤ ﭥ‬
‫ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲﱪ [امللك‪.]15 :‬‬
‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)157/1‬‬
‫‪39‬‬ ‫الحديث الرابع‬

‫ويف «صحيح مسلم»((( عن عبد اهلل بن عمرو ‪ ‬أن رسول اهلل ‪‬‬
‫ورزق كفا ًفا وقنَّعه اهلل بام آتاه»‪.‬‬
‫قال‪« :‬قد أفلح من أسلم ُ‬
‫ويف «الصحيحني» عن أيب سعيد اخلدري ‪ ‬أن النبي ‪ ‬قال‪« :‬ومن‬
‫يستعفف يع ُّفه اهلل‪ ،‬ومن يستغن يغنه اهلل»(((‪.‬‬
‫‪-10‬أن كل إنسان كتب أجله وهو يف بطن أمه‪ ،‬فقد كُتِب عليه متى يموت‪ ،‬ويف‬
‫أي ساعة يموت‪ ،‬ويف أي بلد يموت‪ ،‬قال اهلل ‪ :‬ﱫﯷ ﯸ ﯹ ﯺ‬
‫ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈﱪ [لقامن‪.]34 :‬‬

‫وقال ‪ :‬ﱫﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩﮪﱪ‬


‫[األعراف‪.]34 :‬‬

‫فإن قيل‪ :‬ثبت يف «الصحيحني» عن أنس بن مالك ‪ ‬أن النبي ‪‬‬


‫قال‪« :‬من أحب أن يبسط له يف رزقه وينسأ له يف أثره فليصل رمحه»(((‪.‬‬

‫فاجلواب أن يقال‪ :‬إن هذا بالنسبة إىل الصحف التي بأيدي املالئكة‪ :‬فإن اهلل ‪‬‬
‫يكتب للعبد ً‬
‫أجل يف صحف املالئكة فإذا وصل رمحه زاد يف ذلك املكتوب‪ ،‬وإن‬
‫عمل ما يوجب النقص نقص من ذلك املكتوب‪ ،‬وهو قوله ‪ :‬ﱫ ﯕ ﯖ‬
‫ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ﯝﱪ [الرعد‪ ،]39 :‬ذكره شيخ اإلسالم ابن تيمية‬
‫‪.(((‬‬
‫‪-11‬أن كل إنسان قد كتب عمله‪ ،‬وهل هو من أهل السعادة أم من أهل الشقاوة وهو‬
‫يف بطن أمه‪.‬‬
‫فإن قال قائل‪ِ :‬‬
‫فل َم العمل إذن؟‬
‫((( برقم (‪.)1054‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)1427‬ومسلم (‪.)1053‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)5986‬ومسلم (‪.)2557‬‬
‫((( «جمموع الفتاوى» (‪.)490/14‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪40‬‬
‫فاجلواب‪ :‬أن الصحابة ‪ ‬عرضوا هذا اإلشكال عىل النبي ‪ ‬فقال‪:‬‬
‫ميس ملا ُخلق له‪ ،‬أما أهل السعادة فييرسون لعمل أهل السعادة‪ ،‬وأما‬ ‫«اعملوا ٌّ‬
‫فكل َّ‬
‫أهل الشقاوة فييرسون لعمل أهل الشقاوة»‪ .‬متفق عليه‪.‬‬
‫وحرصا عىل العبادات‬ ‫إقبال عىل الطاعات‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫وحينئذ إذا رأيت يا أخي من نفسك ً‬
‫ً‬
‫خريا‪ ،‬وإذا رأيت خالف ذلك فتدارك نفسك‪.‬‬
‫فاعلم أن اهلل أراد بك ً‬
‫‪-12‬جواز القسم بدون استقسام‪ ،‬لقوله ‪« :‬فواهلل الذي ال إله غريه» وقد‬
‫ورد عن النبي ‪ ‬أنه أقسم يف نحو ثامنني حدي ًثا‪ ،‬وإنام أقسم النبي‬
‫‪ ‬يف هذا احلديث‪ ،‬وهو الصادق البار بدون قسم من باب التأكيد؛‬
‫ألن هذه األمور التي أخرب عنها من األمور الغيبية فيحتاج إىل تأكيدها بالقسم‪.‬‬
‫‪-13‬أن ظاهره يدل عىل أن اإلنسان قد خيذل قبل موته‪ ،‬لقوله ‪« :‬إن أحدكم‬
‫ليعمل بعمل أهل اجلنة حتى ما يكون بينه وبينها إال ذراع فيسبق عليه الكتاب‬
‫فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها»‪ ،‬لكن هذا الظاهر ورد ما يق ِّيده يف حديث سهل‬
‫بن سعد ‪ ‬يف «الصحيحني» يف قصة الرجل الذي قتل نفسه بعد أن أصابته‬
‫جراحة وقد كان ال يدع شاذة وال فاذة للمرشكني إال اتبعها وقىض عليها‪ ،‬وفيه‬
‫أن النبي ‪ ‬قال‪« :‬إن الرجل ليعمل عمل أهل اجلنة فيام يبدو للناس‬
‫وهو من أهل النار‪ ،‬وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيام يبدو للناس وهو من‬
‫أهل اجلنة»‪.‬‬
‫فقوله ‪« :‬فيام يبدو للناس» إشارة إىل أن باطن األمر بخالف ذلك‪،‬‬
‫وأن خامتة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد ال يطلع عليها الناس‪ .‬قاله ابن‬
‫رجب ‪.(((‬‬
‫‪-14‬احلذر من سوء اخلامتة‪ ،‬وذلك بتطهري القلب‪ ،‬وال ُبعد عن املعايص اخلفية فإن‬
‫قصصا وحوادث ألناس ختم هلم‬
‫ً‬ ‫عواقبها وخيمة‪ ،‬وقد ذكر ابن القيم ‪‬‬

‫((( «جامع العلوم» (‪.)172/1‬‬


‫‪41‬‬ ‫الحديث الرابع‬

‫بسوء اخلامتة والعياذ باهلل مع أن ظاهرهم الصالح‪ ،‬ذكر أن ً‬


‫رجل قيل له عند‬
‫املوت‪ :‬قل ال إله إال اهلل‪ ،‬فجعل يردد العرشة بإحدى عرشة‪ ،‬العرشة بإحدى‬
‫عرشة حتى خرجت روحه‪.‬‬
‫فلام سئل عنه ُوجد أنه يتعامل بالربا(((‪.‬‬
‫رجل عند املوت يل ّقن ال إله إال اهلل‪ ،‬فقال‬
‫رواد‪ :‬حرضت ً‬‫وقال عبد العزيز بن أيب ّ‬
‫يف آخر ما قال‪ :‬هو كافر بام تقول‪ ،‬ومات عىل ذلك‪ ،‬قال‪ :‬فسألت عنه‪ ،‬فإذا هو‬
‫مدمن مخر‪ ،‬فكان عبد العزيز يقول‪« :‬اتقوا الذنوب‪ ،‬فإهنا هي التي أوقعته»‪.‬‬
‫وهلذا اشتد خوف السلف من سوء اخلواتيم‪ ،‬ومنهم من كان يقلق من ذكر السوابق‪.‬‬
‫بكى بعض الصحابة عند موته‪ ،‬فسئل عن ذلك فقال‪ :‬سمعت رسول اهلل‬
‫‪ ‬يقول‪« :‬إن اهلل قبض خلقه قبضتني‪ ،‬فقال‪ :‬هؤالء يف اجلنة‪ ،‬وهؤالء يف‬
‫أي القبضتني كنت‪.‬‬‫النار»‪ ،‬وال أدري من ِّ‬
‫قابضا عىل حليته‪ ،‬ويقول‪« :‬يا رب‪ ،‬قد علمت‬
‫وكان مالك بن دينار يقوم طول ليله ً‬
‫ساكن اجلنة من ساكن النار‪ ،‬ففي أي الدارين منزل مالك»(((‪.‬‬
‫‪-15‬فيه ترغيب ملن كان منحر ًفا أن يقيم اهلل حاله ويرده قبل موته إىل الطريق املستقيم‪،‬‬
‫دائم عىل خوف ورجاء‪ ،‬وأن حيسن الظن بربه‬ ‫ٍ‬
‫وحينئذ فينبغي لإلنسان أن يكون ً‬
‫جل وعال عند حسن ظن عبده به‪.‬‬ ‫فإنه َّ‬

‫((( «الداء والدواء» البن القيم (ص‪.)257 :‬‬


‫((( «جامع العلوم» (‪.)173 /1‬‬
‫‪43‬‬ ‫الحديث الخامس‬

‫الحديث الخامس‬

‫س ُ‬
‫ول‬ ‫ت‪َ :‬ق َ‬
‫ال َر ُ‬ ‫ِش َة ‪َ ‬قا َل ْ‬ ‫هلل َعائ َ‬ ‫َع ْن ُأ ِّم ا ْل ُم ْؤمِ نِينَ ُأ ِّم َع ْب ِد ا ِ‬
‫هو َر ٌّد»‪،‬‬ ‫س مِ ْن ُه َف ُ‬ ‫ث فِ ي َأ ْم ِرنَا ه َذا َما َل ْي َ‬‫«م ْن َأ ْح َد َ‬
‫هلل ‪َ :‬‬ ‫ا ِ‬
‫سلِم‪.‬‬ ‫َر َوا ُه ا ْل ُبخَ ا ِر ُّي َو ُم ْ‬
‫وفي رواية لمسلم‪« :‬من عمل عمالً ليس عليه أمرنا فهو رد»(((‪.‬‬

‫فيه فوائد‪:‬‬
‫‪-1‬راوي احلديث‪ :‬عائشة بنت أيب بكر‪ ،‬أم املؤمنني‪ ،‬أم عبد اهلل‪ ،‬زوج النبي الصدِّ يقة‬
‫بنت الصدِّ يق ‪ ‬وعن أبيها‪.‬‬
‫وهي من املكثرين من الرواية عن النبي ‪.‬‬
‫بكرا سواها‪ ،‬وقد قال ‪‬‬
‫وكان النبي ‪ ‬حيبها وجيلها‪ ،‬ومل يتزوج ً‬
‫عنها‪« :‬فضل عائشة عىل النساء كفضل الثريد عىل سائر الطعام»‪ ،‬وملا تكلمت فيها‬
‫أم سلمة قال ‪« :‬يا أم سلمة ال تؤذيني يف عائشة فوالذي نفيس بيده ما‬
‫يعرض‬ ‫عيل يف حلاف امرأة منكن غريها»‪ ،‬وملا مرض ‪‬كان ِّ‬ ‫نزل الوحي َّ‬
‫يمرض يف‬ ‫بيوم عائشة فيقول‪« :‬أين أنا غدً ا‪ ،‬أين أنا غدً ا»‪ ،‬حتى أذن له أزواجه أن َّ‬
‫بيت عائشة‪ ،‬وخرجت روحه ‪ ‬وهو يف حجرها‪ ،‬وقد مات ‪‬‬
‫عنها وعمرها ثامنية عرش عا ًما‪.‬‬
‫واختلف يف التفضيل بينها وبني خدجية‪ ،‬والصواب أن لكل واحدة منهام فضيلة‪،‬‬
‫ولكل منهام منزلة عند رسول اهلل‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)2697‬ومسلم (‪.)1718‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪44‬‬
‫روت عن النبي ‪ .)2210( ‬اتفق البخاري ومسلم عىل (‪ )174‬وانفرد‬
‫البخاري بـ(‪ ،)54‬ومسلم بـ(‪ ،)68‬كذا ذكره ابن امللقن‪.‬‬
‫ماتت ‪ ‬سنة (‪57‬هـ)(((‪.‬‬
‫قال النووي ‪« :‬وهذا احلديث مما ينبغي أن ُيعتنى بحفظه واستعام ُله يف إبطال‬
‫املنكرات وإشاعة االستدالل به»(((‪.‬‬
‫‪-2‬وقال ابن رجب ‪« :‬هذا احلديث أصل عظيم من أصول اإلسالم‪ ،‬وهو‬
‫كامليزان لألعامل يف ظاهرها‪ ،‬كام أن حديث «األعامل بالنيات» ميزان لألعامل يف‬
‫باطنها‪ ،‬فكام أن كل عمل ال يراد به وجه اهلل ‪ ،‬فليس لعامله فيه ثواب‪،‬‬
‫فكذلك كل عمل ال يكون عليه أمر اهلل ورسوله‪ ،‬فهو مردود عىل عامله»(((‪.‬‬
‫‪-3‬فيه دليل عىل أن من رشط قبول العمل أن يكون املرء متب ًعا فيه رسول اهلل‬
‫‪ ،‬فالعمل ال يقبل إال برشطني‪:‬‬
‫أحدمها‪ :‬اإلخالص هلل‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬املتابعة لرسول اهلل‪.‬‬
‫وقد دل عىل هذين الرشطني قوله ‪ :‬ﱫﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ‬
‫ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﱪ [النساء‪]125 :‬‬
‫أسلم؛ أي‪ :‬أخلص‪ ،‬وهو حمسن؛ أي‪ :‬متبع لرسول اهلل‪.‬‬
‫وقال ‪ :‬ﱫ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦﱪ [امللك‪.]2 :‬‬
‫قال الفضيل بن عياض ‪« :‬أي‪ :‬أخلصه وأصوبه‪ ،‬وذلك ألن العمل إذا كان‬
‫خالصا مل يقبل حتى يكون‬
‫ً‬ ‫خالصا ومل يكن صوا ًبا مل يقبل‪ ،‬وإذا كان صوا ًبا ومل يكن‬
‫ً‬
‫خالصا صوا ًبا‪.»..‬اهـ‪.‬‬
‫ً‬
‫((( «السري» (‪« ،)135/2‬اإلعالم بفوائد عمدة األحكام» (‪.)230/1‬‬
‫((( «رشح صحيح مسلم» (‪.)16/12‬‬
‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)176/1‬‬
‫‪45‬‬ ‫الحديث الخامس‬

‫قال شيخنا ابن عثيمني ‪« :‬إن العمل ال يكون صوا ًبا حتى يكون مواف ًقا‬
‫للرشيعة يف أمور ستة‪ :‬زماهنا‪ ،‬ومكاهنا‪ ،‬وسببها‪ ،‬ونوعها‪ ،‬وعددها‪ ،‬وكيفيتها»(((‪.‬‬

‫‪-4‬حتريم البدع‪ ،‬والبدع‪ :‬هي كل ما أحدث يف الدين مما ال أصل له يف الرشع يدل‬
‫عليه‪ ،‬وقد قال النبي ‪« :‬كل بدعة ضاللة»‪ ،‬فام ابتدع امرؤ بدعة إال‬
‫عوقب بإماتة ُسنَّة؛ ألن اهلل ‪ ‬قد أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة‪ :‬ﱫ ﭻ‬
‫ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﱪ [املائدة‪.]3 :‬‬

‫وقال أبو ذر ‪« :‬لقد مات رسول اهلل ‪ ‬وما طائر يق ِّلب جناحيه يف‬
‫علم»(((‪.‬‬
‫السامء إال ذكر لنا منه ً‬
‫ويف «صحيح مسلم» أن اليهود قالوا لسلامن الفاريس ‪ :‬ع َّلمكم نبيكم كل‬
‫يشء حتى اخلراءة‪ ،‬قال‪« :‬أجل‪ ،‬لقد هنانا ‪ ‬أن نستقبل القبلة بغائط أو‬
‫بول‪ ،‬أو أن نستنجي باليمني‪ ،‬أو أن نستنجي بأقل من ثالثة أحجار»(((‪.‬‬

‫فمن ابتدع يف دين اهلل ما ليس منه‪ ،‬فكأنه يتعقب عىل اهلل ورسوله‪.‬‬
‫واعلم أن البدع تشمل البدع يف األفعال‪ :‬كأن يفعل اإلنسان ً‬
‫فعل مل يرشعه اهلل‪ ،‬أو‬
‫يفعل ً‬
‫فعل أصله مرشوع لكن عىل غري ذلك الوجه فهو بدعة‪.‬‬

‫وتشمل البدع يف األذكار‪ :‬فاألذكار توقيفية ليس لإلنسان أن يزيد فيها عىل ما‬
‫شخصا قال‪ :‬سأذكر اهلل بعد كل صالة بال إله‬
‫ً‬ ‫ذكرا مل يرشع‪ ،‬فلو أن‬
‫رشع‪ ،‬أو يذكر ً‬
‫إال اهلل مائة مرة فقط‪ ،‬لقلنا‪ :‬إنك مبتدع‪.‬‬

‫ومن ذلك‪ :‬ما يذكره بعض الناس بعد الرفع من الركوع من قوله‪« :‬ربنا ولك‬
‫احلمد والشكر» فزيادة «والشكر» مل ترو عن النبي ‪ ‬فقوهلا بدعة‪.‬‬
‫((( جمموع فتاواه (‪.)253/5‬‬
‫((( «جمموع الفتاوى» (‪.)7/5‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)262‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪46‬‬
‫وتشمل بدع االعتقاد‪ ،‬وهي اعتقاد خالف ما أخرب اهلل به ورسوله‪ ،‬وهي املذكورة‬
‫يف قوله ‪« :‬وستفرتق أمتي عىل ثالث وسبعني فرقة‪ ،‬كلها يف النار إال‬
‫واحدة»‪ ،‬أخرجه أبو داود(((‪.‬‬
‫قسم البدع‬‫‪-5‬أن البدع كلها مردودة‪ ،‬لقوله ‪« :‬فهو ر ٌّد»‪ ،‬ولقد أبعد من ّ‬
‫إىل بدعة حسنة وبدعة سيئة‪ ،‬مستدالًّ بقول أمري املؤمنني عمر بن اخلطاب ‪:‬‬
‫«نعمت البدعة هذه»(((؛ ألن قول عمر ذلك املراد به البدعة اللغوية ال البدعة‬
‫الرشعية‪ ،‬حيث إن لقوله هذا سبب‪ ،‬وهو أنَّه خرج والناس يصلون الرتاويح‬
‫مجاعة خلف ُأيب بن كعب ‪ ،‬فقال ذلك‪ ،‬فقوله‪« :‬بدعة»؛ أي‪ :‬من حيث‬
‫كوهنا أقيمت هذه الصالة مجاعة؛ ألن أصل صالة الرتاويح مرشوع يف عهد النبي‬
‫‪ ،‬إذ قد صىل النبي ‪ ‬بأصحابه ثالث ليال أو أربع‪ ،‬ثم مل‬
‫خيرج إليهم وقال ‪« :‬إنه مل يمنعني من اخلروج إليكم‪ ،‬إال أين خشيت‬
‫أن تفرض عليكم»‪ .‬وقد أثبت مجاعة من العلامء هذا التقسيم كأيب شامة يف كتابه‬
‫«الباعث يف البدع واحلوادث»‪ ،‬والسيوطي والزركيش والقرايف يف آخرين‪ ،‬لكن رد‬
‫الشاطبي هذا التقسيم فقال‪:‬‬
‫«هذا التقسيم أمر خمرتع‪ ،‬ال يدل عليه دليل رشعي‪ ،‬بل هو يف نفسه متدافع؛ ألن‬
‫من حقيقة البدعة أن ال يدل عليها دليل رشعي‪ ،‬ال من نصوص الرشع وال من‬
‫قواعده»(((‪.‬‬
‫وحمرمة‪،‬‬
‫قسم البدعة إىل مخسة أقسام‪ :‬واجبة‪ ،‬ومندوبة‪ ،‬ومباحة‪َّ ،‬‬
‫وكذا أبعد َم ْن َّ‬
‫ومكروهة(((؛ ألن النبي ‪ ‬قال‪« :‬كل بدعة ضاللة» فكل البدع سيئة‬
‫مكروهة‪.‬‬
‫‪-6‬حرص النبي ‪ ‬عىل نصح أمته حيث ّ‬
‫حذرهم مما يكون سب ًبا لرد أعامهلم‬
‫وإحباطها‪.‬‬

‫((( برقم (‪ )4596‬وإسناده حسن‪.‬‬


‫((( أخرجه مالك يف «املوطأ» (‪.)114 /1‬‬
‫((( «االعتصام» (‪.)246 /1‬‬
‫((( انظر‪« :‬سبل السالم» (‪.)74 /2‬‬
‫‪47‬‬ ‫الحديث السادس‬

‫الحديث السادس‬

‫ول‬‫س َ‬ ‫ت َر ُ‬ ‫سمِ ْع ُ‬ ‫ال‪َ :‬‬ ‫شيرٍ ‪َ ‬ق َ‬ ‫هلل ال ُّن ْع َمانِ ْبنِ َب ِ‬ ‫َع ْن َأبِي َع ْب ِد ا ِ‬
‫َه َما ُأ ُمو ٌر‬ ‫ام َب ِّينٌ ‪َ ،‬و َب ْين ُ‬ ‫الحالَ َل َب ِّينٌ َوإِنَّ َ‬
‫الح َر َ‬ ‫ول‪« :‬إِنَّ َ‬ ‫هلل ‪َ ‬ي ُق ُ‬ ‫ا ِ‬
‫ات َف َق ْد‬ ‫ه ِ‬ ‫َّاس‪َ ،‬ف َم ْن ات ََّقى ُّ‬
‫الش ُب َ‬ ‫هنَّ َكثِي ٌر مِ نَ الن ِ‬ ‫ات الَ َي ْع َل ُم ُ‬ ‫ِه ٌ‬ ‫ش َتب َ‬ ‫ُم ْ‬
‫ام؛‬ ‫ات َو َق َع فِ ي َ‬
‫الح َر ِ‬ ‫ه ِ‬ ‫ضهِ‪َ ،‬و َم ْن َو َق َع فِ ي ُّ‬
‫الش ُب َ‬ ‫اس َت ْب َر َأ ِل ِد ْي ِن ِه َوعِ ْر ِ‬‫ْ‬
‫ِك‬ ‫ك َأ ْن َي ْرت ََع فِ يهِ‪َ ،‬أالَ َوإِنَّ ل ُِك ِّل َمل ٍ‬ ‫ش ُ‬ ‫َكال َّراعِ ي َي ْر َعى َح ْو َل ا ْلحِ َمى ُي ْو ِ‬
‫ض َغ ًة ِإ َذا‬ ‫س ِد ُم ْ‬ ‫هلل َم َحا ِر ُم ُه‪َ ،‬أالَ َوإِنَّ فِ ي َ‬
‫الج َ‬ ‫حِ ًمى‪َ ،‬أالَ َوإِنَّ حِ َمى ا ِ‬
‫ه َي‬ ‫س ُد ُكلُّ ُه؛ َأالَ َو ِ‬ ‫الج َ‬
‫س َد َ‬ ‫ت َف َ‬‫س َد ْ‬ ‫س ُد ُكلُّ ُه‪َ ،‬و ِإ َذا َف َ‬ ‫ص ُل َح َ‬
‫الج َ‬ ‫ت َ‬ ‫ص ُل َح ْ‬ ‫َ‬
‫سل ٌِم(((‪.‬‬ ‫ب»‪َ ،‬ر َوا ُه ال ُبخَ ا ِر ُّي َو ُم ْ‬ ‫ا ْل َق ْل ُ‬
‫فيه فوائد‪:‬‬

‫‪-1‬راوي احلديث‪ :‬هو النعامن بن بشري بن سعد بن ثعلبة األنصاري أبو عبد اهلل‬
‫اخلزرجي‪ ،‬صحايب جليل‪ ،‬و َيل إمرة الكوفة ملعاوية بن أيب سفيان ‪ ،‬وله‬
‫خصه من بني سائر إخوته بعطية‪ ،‬فأبت زوجة‬
‫مع أبيه قصة مشهورة وهي‪ :‬أن أباه َّ‬
‫بشري بن سعد ذلك‪ ،‬إال أن يشهد عليها رسول اهلل ‪ ،‬فأتى به أباه إىل‬
‫رسول اهلل ‪ ‬وقال‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬إين نحلت ابني هذا غال ًما كان يل‪،‬‬
‫فقال ‪« :‬أكل ولدك نحلته مثل هذا؟» قال‪ :‬ال‪ ،‬قال ‪« :‬اتقوا‬
‫اهلل واعدلوا بني أوالدكم»‪ .‬متفق عليه‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)52‬ومسلم (‪.)1599‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪48‬‬
‫سواء» ؟ قال‪ :‬بىل‪،‬‬
‫ً‬ ‫ويف رواية ملسلم قال ‪« :‬أيرسك أن يكونوا لك يف الرب‬
‫قال ‪« :‬فال إذن»‪.‬‬
‫له يف الكتب الستة‪ :‬ستة وثالثون حدي ًثا باملكرر‪.‬‬
‫قال الذهبي ‪« :‬مسنده مائة وأربعة عرش حدي ًثا‪ ،‬اتفقا عىل مخسة‪ ،‬وانفرد‬
‫البخاري بحديث‪ ،‬ومسلم بأربعة»‪.‬‬
‫مات بحمص سنة (‪65‬هـ) وله أربع وستون سنة(((‪.‬‬
‫‪-2‬قال النووي ‪« :‬أمجع العلامء عىل عظم وقع هذا احلديث وكثرة فوائده وأنه‬
‫أحد األحاديث التي عليها مدار اإلسالم»(((‪.‬‬
‫وقال القرطبي ‪« :‬وإن أردت الوقوف عىل ذلك فأعد النظر فيام عقدناه من‬
‫اجلمل يف احلالل واحلرام واملتشاهبات‪ ،‬وما يصلح القلوب وما يفسدها‪ ،‬وتع ُّلق‬
‫أعامل اجلوارح هبا‪ ،‬وحينئذ يستلزم احلديث معرفة تفاصيل أحكام الرشيعة كلها‪،‬‬
‫أصوهلا وفروعها»(((‪.‬‬
‫‪-3‬أن احلالل واحلرام ال خيفى أمرمها عىل الناس‪ ،‬فيجب عىل املسلم أن جيتنب احلرام‪،‬‬
‫وله أن يتمتع بام أحل اهلل له من احلالل‪ ،‬وال جيوز له حتريم ما أحل اهلل‪ ،‬كام قال‬
‫‪ :‬ﱫ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ‬
‫ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢﱪ [النحل‪ ،]116 :‬وقد عاتب اهلل‬
‫أحل اهلل له من العسل فقال ‪:‬‬ ‫حرم عىل نفسه ما َّ‬
‫‪ ‬نبيه ‪ ‬ملا ّ‬
‫ﱫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠﱪ [التحريم‪.]1 :‬‬
‫‪-4‬أن من حكمة اهلل ‪ ‬أنه يبتيل عباده بأمور مشتبهة خيفى حكمها عىل كثري منهم‪،‬‬
‫سواء كانت يف املآكل أو املشارب أو غريمها‪ ،‬ليتبني املؤمن املنقاد ألوامر اهلل‪ ،‬ممن‬
‫اتبع هواه‪.‬‬
‫((( «سري أعالم النبالء» (‪« ،)411/3‬هتذيب الكامل» (‪.)411/29‬‬
‫((( «رشح صحيح مسلم» (‪.)27/11‬‬
‫((( «املفهم» (‪.)500 499/4‬‬
‫‪49‬‬ ‫الحديث السادس‬

‫وهذه األمور املشتبهة يقع االشتباه فيها بني أهل العلم ومحلة الرشيعة ألسباب‪،‬‬
‫ذكرها ابن رجب ‪.(((‬‬
‫منها‪ :‬أنه قد يكون النص عليه خف ًّيا مل ينقله إال قليل من الناس‪ ،‬فلم يبلغ مجيع محلة العلم‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ما ليس فيه نص رصيح‪ ،‬وإنام يؤخذ من عموم‪ ،‬أو مفهوم‪ ،‬أو قياس‪،‬‬
‫كثريا‪.‬‬
‫فتختلف أفهام العلامء يف هذا ً‬
‫أسباب ُأخر‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وهناك‬
‫‪-5‬أن مفهوم احلديث يدل عىل أن من الناس من يعلمها‪ ،‬وإنام هي مشتبهة عىل َم ْن‬
‫مل يعلمها‪ ،‬وليست مشتبهة يف نفس األمر‪ ،‬وهو كذلك‪ ،‬لقوله ‪« :‬ال‬
‫يعلمهن كثري من الناس»‪ ،‬مفهومه أن الراسخني يف العلم يعلموهنا‪.‬‬
‫‪-6‬أنه ينبغي للمسلم إذا اشتبه عليه يشء أهو حالل أم حرام أن يدعه‪ ،‬لكي َي ْس َلم‬
‫دينه من النقص‪ ،‬و َي ْس َلم عرضه من كالم الناس فيه‪ ،‬ويف احلديث‪« :‬ال يكمل‬
‫حذرا مما به بأس»‪ ،‬رواه الرتمذي وابن ماجه(((‪،‬‬
‫إيامن املرء حتى يدع ما ال بأس به ً‬
‫عرض نفسه للقدح فيه والطعن‪ ،‬كام قال بعض‬ ‫ٍ‬
‫وحينئذ فمن ارتكب الشبهات فقد ّ‬
‫عرض نفسه للتهم‪ ،‬فال يلوم ّن من أساء به الظن»‪.‬‬
‫السلف‪« :‬من ّ‬
‫‪-7‬أن من وقع يف الشبهات فإنه يقع يف احلرام إما لكثرة تعاطيه الشبهات يصادف‬
‫يتعمده‪ .‬وإما أن يعتاد التساهل ويتمرن عليه شبهة ثم شبهة حتى يقع‬
‫احلرام وإن مل َّ‬
‫يف احلرام عمدً ا‪.‬‬
‫ويتضح ذلك باملثال الذي رضبه إليهم ‪ ‬بعد‪« :‬أال وإن لكل ملك محى»‬
‫حيميه عن الناس ويمنعهم دخوله‪ ،‬فمن دخله أوقع به العقوبة‪ ..‬فمن قاربه يوشك‬
‫أن يقع فيه‪.‬‬
‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)196/1‬‬
‫((( «سنن الرتمذي» (‪ ،)2451‬وابن ماجه (‪ )4215‬وإسناده ضعيف‪.‬‬
‫قال الرتمذي‪« :‬هذا حديث حسن غريب‪ ،‬ال نعرفه إال من هذا الوجه»‪.‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪50‬‬
‫تقرب‬
‫‪-8‬حسن تعليم النبي ‪ ،‬حيث ّقرب املعنى برضب املثل‪ ،‬واألمثال ِّ‬
‫املعاين لألفهام‪ ،‬لقوله ‪« :‬كالراعي يرعى حول احلمى‪ ،»...‬فجعل‬
‫النبي ‪ ‬مثل املحرمات كاحلمى الذي حتميه امللوك ألنفسهم أو ملوايش‬
‫املسلمني؛ ألن من اقرتب منها بمواشيه‪ ،‬يوشك أن يقع فيها‪ ،‬فكذلك من وقع يف‬
‫الشبهات‪ ،‬كأنه يقرب وقوعه يف املحرمات‪.‬‬
‫‪-9‬أن اهلل ‪ ‬جعل ملحارمه محى‪ ،‬حتى ال يقع املسلم فيها‪ ،‬وهلذا قال ‪:‬‬
‫ﱫﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒﱪ [البقرة‪ ،]187 :‬وقال ‪ :‬ﱫ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ‬
‫ﯱﱪ [البقرة‪ ،]229 :‬وقال ‪« :‬اجتنبوا السبع املوبقات‪»...‬؛ أي‪:‬‬
‫كونوا أنتم يف جانب‪ ،‬وهذه السبع يف جانب آخر‪.‬‬
‫‪-10‬أن مدار األعامل عىل القلب؛ ألن احلساب يوم القيامة عند عالَّم الغيوب عىل ما‬
‫ٍ‬
‫وحينئذ فإن صالح الظاهر دليل عىل صالح الباطن‪ ،‬وفساد الظاهر‬ ‫يف القلوب‪،‬‬
‫دليل عىل فساد الباطن‪ ،‬وهلذا قال ‪« :‬أال وإن يف اجلسد مضغة إذا‬
‫صلحت صلح اجلسد كله‪ ،‬وإذا فسدت فسد اجلسد كله‪ ،‬أال وهي القلب»‪.‬‬
‫‪-11‬أنه ينبغي للمرء أن هيتم بصالح قلبه أكثر من اهتاممه بصالح بدنه‪ ،‬فاحرص يا‬
‫طهره من األمراض املعنوية؛ كالغل واحلسد والغش‪ ،‬وأبعد عنه‬
‫أخي عىل قلبك‪ِّ ،‬‬
‫القسوة بكثرة ذكر اهلل ومداومة االستغفار‪.‬‬
‫واستمع لقوله ‪ :‬ﱫ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﱪ‬
‫[الشعراء‪.]89 ،88 :‬‬
‫قال القرطبي ‪ ‬ملا ذكر قول الضحاك‪ :‬السليم اخلالص‪ ،‬قال‪« :‬وهذا القول‬
‫جيمع شتات األقوال بعمومه‪ ،‬وهو حسن؛ أي‪ :‬اخلالص من األوصاف الذميمة‪،‬‬
‫واملتصف باألوصاف اجلميلة»(((‪.‬‬

‫((( «اجلامع ألحكام القرآن» (‪.)115/13‬‬


‫‪51‬‬ ‫الحديث السابع‬

‫الحديث السابع‬

‫‪‬‬ ‫س ال َّدا ِر ِّي ‪َ ‬أنَّ ال َّنب َِّي‬ ‫يم ْبنِ َأ ْو ٍ‬‫َع ْن َأبِي ُر َق َّي َة تَمِ ِ‬
‫سو ِل ِه‬
‫«ل َولِكِ تَا ِب ِه َو ِل َر ُ‬ ‫ال‪ِ َّ ِ :‬‬ ‫يح ُة»‪ُ ،‬ق ْلنَا‪ :‬ل َِم ْن؟ َق َ‬ ‫ال‪« :‬ال ِّد ْينُ الن ِ‬
‫َّص َ‬ ‫َق َ‬
‫سل ٌِم(((‪.‬‬‫ِه ْم»‪َ ،‬ر َوا ُه ُم ْ‬ ‫امت ِ‬
‫سلِمِ ينَ َو َع َّ‬ ‫َوألَئ َِّم ِة ُ‬
‫الم ْ‬
‫فيه فوائد‪:‬‬
‫‪-1‬راوي احلديث‪ :‬هو متيم بن أوس بن خارجة الداري ‪ ،‬صحايب جليل من بيت‬
‫حلم يف فلسطني‪ ،‬وفد عىل النبي ‪ ‬إىل املدينة‪ ،‬وحدّ ث عنه النبي ‪‬‬
‫بحديث اجلساسة‪ ،‬وسكن بيت املقدس بعد مقتل عثامن‪ .‬مات سنة (‪40‬هـ)‪.‬‬
‫وهو من املقلني من رواية احلديث عن النبي ‪ ،‬فليس له يف الكتب الستة‬
‫ٍ‬
‫حديث له‪،‬‬ ‫إال تسعة أحاديث‪ ،‬وليس له يف مسلم إال هذا احلديث‪ ،‬وهو أشهر‬
‫‪ ‬وأرضاه(((‪.‬‬
‫‪-2‬أن النبي ‪ ‬حرص الدين كله بالنصيحة ألمهيتها‪ ،‬والشتامهلا عىل خصال الدين‪.‬‬
‫والنصيحة من النصح‪ ،‬وهو يف اللغة‪ :‬اخللوص‪ ،‬يقال‪ :‬نصحت العسل إذا خ ّلصته‬
‫من الشمع‪ ،‬قال اخلطايب ‪« :‬النصيحة كلمة يعرب هبا عن مجلة هي إرادة اخلري‬
‫للمنصوح له»(((‪.‬‬
‫ومعنى «الدين نصيحة»؛ أي‪ :‬أن عامد الدين وقوامه النصيحة‪.‬‬
‫((( برقم (‪ .)55‬وهو من أفراد مسلم‪.‬‬
‫((( «سري أعالم النبالء» (‪.)422/2‬‬
‫((( «غريب احلديث» (‪.)87/2‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪52‬‬
‫‪ -3‬أن النصيحة هلل تتضمن أمورًا‪ ،‬منها‪:‬‬
‫أ‪-‬اإليامن به‪ ،‬وصحة االعتقاد يف وحدانيته‪ ،‬وأنه واحد ال رشيك له‪ ،‬كامل يف صفاته‬
‫ال ند له‪ ،‬واإليامن بأسامئه وصفاته‪.‬‬
‫ب‪-‬امتثال أوامره واجتناب نواهيه‪ ،‬بحيث ال يراك حيث هناك‪ ،‬وال يفقدك حيث‬
‫أمرك‪.‬‬
‫ج‪-‬إخالص النية يف عبوديته‪ ،‬فال ترشك معه يف عبادته أحدً ا حتقي ًقا لقوله ‪ :‬ﭽﮘ‬
‫ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﭼ[البينة‪ ،]5 :‬وقوله يف احلديث القديس‪« :‬من عمل‬
‫ً‬
‫عمل أرشك فيه معي غريي تركته ورشكه»‪ ،‬رواه مسلم‪.‬‬
‫د‪-‬رصف مجيع أنواع العبادة له‪ ،‬التوكل واإلنابة والرغبة والرهبة واخلوف واحللف‪،‬‬
‫قال الشيخ حممد بن عبد الوهاب ‪« :‬فمن رصف شي ًئا من أنواع العبادة لغري‬
‫اهلل فهو مرشك كافر»‪.‬‬
‫هـ‪ -‬الدعوة إىل دينه والصرب عىل األذى يف ذلك‪.‬‬

‫‪ -4‬أن النصيحة لكتاب اهلل تتضمن أمورًاًا‪ ،‬منها‪:‬‬


‫أ‪-‬اإليامن بأنه كالم اهلل ‪ ‬منزل غري خملوق‪ ،‬ألقاه ‪ ‬عىل قلب حممد ‪‬‬
‫بواسطة جربيل األمني ‪ ،‬وهو كالم اهلل ‪ ‬حروفه ومعانيه‪ ،‬وأنه متضمن‬
‫للعدل يف األحكام‪ ،‬والصدق يف األخبار‪ :‬ﭽﮪﮫﮬﮭﮮﭼ[األنعام‪.]115 :‬‬
‫ً‬
‫وعمل‪ ،‬قال النبي ‪« :‬اقرأوا القرآن‬ ‫وتدبرا‬
‫ً‬ ‫ب‪-‬العناية به تالوة وحف ًظا ً‬
‫وفهم‬
‫فإنه يأيت يوم القيامة شفي ًعا ألصحابه»‪ ،‬رواه مسلم‪ .‬ولقد كان النبي ‪‬‬
‫شديد االعتناء بالقرآن الكريم‪ ،‬فقد كان له ‪ ‬حز ًبا يوم ًّيا من القرآن ال‬
‫خيل به(((‪ ،‬وكذا كان سلفنا الصالح ‪.‬‬
‫ُسئلت أخت مالك بن أنس عن شغل مالك يف بيته؟ فقالت‪« :‬املصحف والتالوة»‪.‬‬
‫((( «زاد املعاد» (‪.)482/1‬‬
‫‪53‬‬ ‫الحديث السابع‬

‫وملا حرضت عبد اهلل بن إدريس بن يزيد األودي الكويف الوفاة بكت ابنته‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫«يا بنية ال تبكي فلقد ختمت القرآن يف هذا البيت أربعة آالف ختمة»(((‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫وكان ُأ ّ‬
‫يب بن كعب ‪ ‬خيتم القرآن يف كل ثامن‪ ،‬وكان متيم الداري‬
‫خيتمه يف كل سبع‪ ،‬وكان األسود بن يزيد خيتم القرآن يف كل ست(((‪.‬‬
‫واملتأمل حلال كثري من الناس اليوم جيد أن عندهم تفري ًطا يف قراءة القرآن‪ ،‬وسبب‬
‫ذلك راجع إىل انشغاهلم بالدنيا حينًا‪ ،‬وورود الغفلة أحيانًا أخرى‪ ،‬وقد أخرب‬
‫اهلل ‪ ‬عن ذلك بقوله ‪ :‬ﭽﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟ‬
‫ﯠﭼ[الفرقان‪.]30 :‬‬
‫قال ابن كثري ‪ ‬يف تفسري هذه اآلية‪« :‬وذلك أن املرشكني إذا تيل عليهم القرآن‬
‫أكثروا اللغط والكالم يف غريه حتى ال يسمعونه؛ فهذا من هجرانه‪ ،‬وترك اإليامن به‪،‬‬
‫أيضا»(((‪.‬‬
‫وعدم تدبره‪ ،‬وترك العمل به‪ ،‬والعدول عنه إىل غريه كل ذلك من هجرانه ً‬
‫وكذلك حفظ ما تيرس منه‪ ،‬وإن أمكن حفظه ك ّله فهو أكمل وأفضل‪ ،‬ففي «صحيح‬
‫البخاري» عن عثامن ‪ ‬أن النبي ‪ ‬قال‪« :‬خريكم من تع ّلم القرآن وع َّلمه»‪.‬‬
‫ومن صور العناية به‪ :‬فهمه وتدبر معانيه والعمل بام فيه‪ ،‬أما فهمه وتدبر معانيه فإنه‬
‫يرشح الصدر‪ ،‬ويدخل الرسور والطمأنينة عىل القلب‪ ،‬ويعني عىل العمل به‪ ،‬ومن‬
‫أحسن ما يساعد عىل فهمه قراءة تفسري ما أشكل منه‪ ،‬ومن أحسن التفاسري تفسري‬
‫اإلمام احلافظ ابن كثري ‪ ،‬وكذا تفسري ابن سعدي ‪.‬‬

‫وأما العمل بام فيه‪ :‬فهي الغاية العظمى من إنزاله‪ ،‬قال ‪ :‬ﭽﭲﭳﭴﭵ‬
‫ﭶﭷﭸﭹﭺﭼ [ص‪ ،]29 :‬فقوله ‪ :‬ﭽﭲﭳﭴﭵ‬
‫ﭶﭷﭸﭹﭺﭼ؛ أي‪ :‬يف آثاره‪ ،‬ويف تأثريه‪ ،‬ويف ثوابه‪.‬‬
‫((( «سري أعالم النبالء» (‪.)44/9‬‬
‫((( انظر‪« :‬فضائل القرآن» البن كثري ص(‪.)251 250‬‬
‫((( «تيسري العيل القدير» (‪.)311/3‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪54‬‬
‫أما كونه مباركًا يف آثاره‪ :‬فقد فتح املسلمون به مشارق األرض ومغارهبا‪ ،‬وأما‬
‫يف تأثريه‪ :‬فكم من إنسان هداه اهلل ملا سمع آيات من القرآن تتىل‪ ،‬وقصة عمر بن‬
‫اخلطاب ‪ ‬شاهد عىل ذلك‪.‬‬
‫وأما يف ثوابه‪ :‬فقد قال النبي ‪« :‬من قرأ حر ًفا من كتاب اهلل فله حسنة‪،‬‬
‫واحلسنة بعرش أمثاهلا‪ ،‬ال أقول‪ :‬أمل حرف‪ ،‬ولكن‪ :‬ألف حرف‪ ،‬والم حرف‪ ،‬وميم‬
‫حرف»‪ ،‬أخرجه الرتمذي(((‪.‬‬
‫حل َفظة وتشجيعهم عىل حفظه‪ ،‬وهذه وإن مل ينص عليها أحدٌ من أهل العلم‪،‬‬ ‫إعانة ا َ‬
‫إال أنه عند التأمل يتبني أن إعانة احلَ َفظة‪ ،‬وتشجيعهم عىل حفظ القرآن من النصح‬
‫لكتاب اهلل‪.‬‬

‫‪ -5‬أن النصيحة لرسول اهلل تتضمن أمورًا‪ ،‬منها‪:‬‬

‫أ‪ -‬اإليامن به‪ ،‬وأنه رسول رب العاملني‪ ،‬وأنه خاتم النبيني‪ ،‬وأنه صادق أمني ‪.‬‬
‫ب‪-‬طاعته فيام أمر‪ ،‬وتصديقه فيام أخرب‪ ،‬واجتناب ما عنه هنى وزجر‪ ،‬وأن ال ُيعبد اهلل‬
‫إال بام رشع ‪ ،‬يف «صحيح البخاري» عن أيب هريرة ‪ ‬أن النبي‬
‫‪ ‬قال‪« :‬من أطاعني دخل اجلنة‪ ،‬ومن عصاين فقد أبى»‪.‬‬
‫ج‪-‬تقديم حمبته ‪ ‬عىل حمبة النفس والولد واألهل‪ ،‬ففي «الصحيحني» أن‬
‫النبي ‪ ‬قال‪« :‬ال يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده‬
‫والناس أمجعني»‪ ،‬وقوله ‪« :‬ثالث من كن فيه وجد حالوة اإليامن‪ :‬أن‬
‫يكون اهلل ورسوله أحب إليه مما سوامها‪ »...‬احلديث‪ ،‬متفق عليه‪.‬‬
‫وعن عمر ‪ ‬أنه قال‪ :‬واهلل يا رسول اهلل ألنت أحب إ َّيل من كل يشء إال ِمن‬
‫نفيس‪ ،‬قال ‪« :‬ال يا عمر‪ ،‬حتى من نفسك»‪ ،‬فقال‪ :‬ألنت أحب إ َّيل من‬
‫كل يشء حتى من نفيس‪ ،‬فقال ‪« :‬اآلن يا عمر»‪ ،‬رواه البخاري‪.‬‬
‫((( برقم (‪ )2910‬عن ابن مسعود‪ ،‬وأشار إىل علة فيه‪.‬‬
‫‪55‬‬ ‫الحديث السابع‬

‫ولكن حمبتنا لرسول اهلل ‪ ‬ال تعني الغلو فيه‪ ،‬ورفعه فوق منزلته التي‬
‫أنزله اهلل إياها‪ ،‬أو وصفه بصفات ال تليق إال باهلل‪ّ ،‬‬
‫فإن هذا من الغلو املنهي عنه‪،‬‬
‫فقد قال ‪« :‬ال تطروين كام أطرت النصارى املسيح ابن مريم‪ ،‬إنام أنا عبد‬
‫فقولوا‪ :‬عبد اهلل ورسوله»‪ ،‬رواه البخاري‪.‬‬

‫د‪-‬الذب عنه‪ ،‬وعن ُسنَّته ودينه‪ ،‬فهذا من متام النصيحة له‪ ، ،‬فمن سب‬
‫النبي ‪ ‬أو انتقصه فهو كافر‪ ،‬ومن طعن يف الدين الذي جاء به فهو كافر‪،‬‬
‫وقد قال النبي ‪ ‬ملا ذكر قصة الثالثة الذين قال أحدهم‪ :‬أنا أصوم وال‬
‫أفطر‪ ،‬وقال اآلخر‪ :‬أنا أصيل الليل وال أنام‪ ،‬وقال الثالث‪ :‬ال أتزوج‪ ،‬فلام ذكر‬
‫‪ ‬حاله‪ ،‬وأنه أخشاهم هلل وأتقاهم له‪ ،‬قال ‪« :‬فمن رغب عن‬
‫ُسنَّتي فليس مني»‪ .‬متفق عليه‪.‬‬

‫‪ -6‬أن النصيحة ألئمة المسلمين تتضمن أمورًا‪ ،‬منها‪:‬‬

‫أ‪ -‬مناصحتهم ببيان احلق هلم‪ ،‬وقد ورد يف ذلك عدة أحاديث عن النبي ‪.‬‬

‫ب‪-‬طاعتهم يف غري معصية اهلل‪ ،‬وسرت عوراهتم‪ ،‬وسدّ خالهتم‪ ،‬ونرصهتم والذب‬
‫عنهم‪ ،‬والدعاء هلم‪ ،‬قال ‪ :‬ﭽﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ‬
‫ﯾﭼ[النساء‪ ،]59 :‬فطاعتهم واجبة‪ ،‬وهي من طاعة اهلل ورسوله ‪،‬‬
‫ما مل يأمروا بمعصية‪ ،‬فإن أمروا بمعصية فال سمع هلم وال طاعة؛ ألن النبي‬
‫‪ ‬قال‪« :‬إنام الطاعة يف املعروف»‪ ،‬وقال ‪« :‬ال طاعة ملخلوق‬
‫يف معصية اخلالق»‪.‬‬

‫ويروى عن بعض السلف أنه قال‪« :‬لو أعلم أن يل دعوة مستجابة لرصفتها‬
‫للسلطان»(((‪.‬‬
‫(((رواه أبو نعيم يف «احللية» (‪ )91/8‬عن الفضيل بن عياض‪ ،‬ونسبه شيخ اإلسالم ابن تيمية يف «جمموع‬
‫أيضا‪.‬‬
‫الفتاوى» (‪ )391/23‬لإلمام أمحد ً‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪56‬‬
‫ج‪-‬احلذر من إفشاء عيوهبم ومعاصيهم أمام الناس؛ ألن يف ذلك فتنة‪ ،‬وسبب خلروج‬
‫الناس عن طاعتهم‪ ،‬ووقوع الناس يف ذمهم وغيبتهم‪ ،‬وقد كان ابن عمر ‪‬‬
‫وغريه من الصحابة يص ُّلون خلف احلجاج بن يوسف‪ ،‬مع ما ارتكبه من املعايص‬
‫واملوبقات‪ ،‬فذكر عيوب والة األمر أمام الناس عىل املنابر‪ ،‬أو يف الدروس العامة‪،‬‬
‫نقص يف الدين وسفه يف العقل‪.‬‬
‫ٌ‬
‫ُسئل ابن عباس ‪ ‬عن أمر السلطان باملعروف وهنيه عن املنكر فقال‪« :‬إن‬
‫كنت ً‬
‫فاعل وال بد ففيام بينك وبينه»(((‪.‬‬
‫‪-7‬أن النصيحة لعامة املسلمني من حقوق املسلم عىل أخيه؛ ألن النبي ‪‬‬
‫قال‪« :‬حق املسلم عىل املسلم ست‪ :‬وذكر منها‪ :‬وإذا استنصحك فانصح له»‪ ،‬فإذا‬
‫استنصحك أخاك يف رشاء سيارة‪ ،‬أو زواج من امرأة‪ ،‬أو دخول يف صفقة جتارية؛‬
‫فانصح له كام لو كان األمر لك‪.‬‬
‫وقد كان جرير بن عبد اهلل البجيل ‪ ‬يقول‪« :‬بايعت النبي ‪ ‬عىل‬
‫السمع والطاعة فل َّقنني‪ :‬فيام استطعت‪ ،‬والنصح لكل مسلم»‪ .‬متفق عليه(((‪.‬‬
‫ومن النصيحة لعامة املسلمني‪ :‬أن حيب املرء هلم ما حيب لنفسه‪ ،‬ويكره هلم ما يكره‬
‫لنفسه‪ ،‬لقوله ‪« :‬ال يؤمن أحدكم حتى حيب ألخيه ما حيب لنفسه»‪.‬‬
‫متفق عليه‪.‬‬

‫((( «رواه ابن أيب شيبة» (‪.)37307‬‬


‫((( صحيح البخاري (‪ ،)7204‬ومسلم (‪.)56‬‬
‫‪57‬‬ ‫الحديث الثامن‬

‫الحديث الثامن‬

‫ت َأ ْن‬ ‫ال‪ُ :‬أمِ ْر ُ‬‫هلل ‪َ ‬ق َ‬ ‫ول ا ِ‬ ‫س َ‬ ‫َع ْن ا ْبنِ ُع َم َر ‪َ :‬‬


‫«أنَّ َر ُ‬
‫س ُ‬
‫ول‬ ‫ُ‬
‫اهلل َو َأنَّ ُم َح َّمد ًا َر ُ‬ ‫ه ُدوا َأ ْن الَ إِل َه ِإالَّ‬ ‫ش َ‬ ‫َّاس َحتَّى َي ْ‬ ‫ُأ َقات َِل الن َ‬
‫ص ُموا مِ نِّي‬ ‫الصالَةَ ‪َ ،‬و ُي ْؤتُوا الز ََّكاةَ ‪َ ،‬فإِذا َف َع ُلوا َذل َ‬
‫ِك َع َ‬ ‫يموا َّ‬ ‫اهللِ‪َ ،‬و ُيقِ ُ‬
‫هلل ت ََعا َلى»‪،‬‬ ‫ه ْم َع َلى ا ِ‬ ‫ِسالَ ِم‪ ،‬وحِ َ‬
‫سا ُب ُ‬ ‫ه ْم ِإالَّ ب َِح ِّق اإل ْ‬‫ه ْم َو َأ ْم َوا َل ُ‬ ‫د َِما َء ُ‬
‫سل ٌِم»(((‪.‬‬ ‫َر َوا ُه ا ْل ُبخَ ا ِر ُّي َو ُم ْ‬

‫فيه فوائد‪:‬‬

‫‪-1‬هذا احلديث عام‪ ،‬لكنه خمصوص بقوله ‪ :‬ﭽﭽﭾﭿﮀ‬


‫ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ‬
‫ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﭼ [التوبة‪ ]29 :‬فيجب مقاتلة‬
‫الناس حتى يدخلوا يف دين اهلل‪ ،‬أو يعطوا اجلزية وحينئذ فاملراد بالناس يف قوله‬
‫‪« :‬أقاتل الناس»؛ أي‪ :‬املرشكني من غري أهل الكتاب‪ ،‬ويدل له رواية‬
‫النسائي بلفظ‪« :‬أمرت أن أقاتل املرشكني»(((‪.‬‬
‫مسلم‪ ،‬ووجب الكف عنه‪ ،‬فإن أتى برشائع‬‫ً‬ ‫‪-2‬أن من أتى بالشهادتني فقد صار‬
‫اإلسالم فله ما للمسلمني وعليه ما عليهم‪ ،‬وإن أخل بيشء من هذه األركان فإن‬
‫كانوا مجاعة هلم منعة قوتلوا‪.‬‬
‫((( صحيح البخاري (‪ ،)25‬ومسلم (‪.)36‬‬
‫((( «سنن النسائي» برقم (‪.)3966‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪58‬‬
‫‪-3‬أن من حق اإلسالم إقام الصالة وإيتاء الزكاة‪ ،‬لقوله ‪« :‬إال بحق‬
‫اإلسالم»‪ ،‬والزكاة هي قرينة الصالة يف كتاب اهلل‪ ،‬وقد قال أبو بكر ‪ ‬عند‬
‫قتال املرتدين‪« :‬واهلل ألقاتلن من ّفرق بني الصالة والزكاة‪ ،‬فإن الزكاة حق املال‪،‬‬
‫عقال كانوا يؤدونه إىل رسول اهلل ‪ ‬لقاتلتهم عىل منعه»‪.‬‬ ‫واهلل لو منعوين ً‬
‫متفق عليه‪.‬‬
‫‪-4‬وجوب مقاتلة تارك الصالة‪ ،‬قال ابن رجب ‪« :‬وهذا أمر جممع عليه»(((‪ ،‬ملا‬
‫روى مسلم يف «صحيحه» عن أم سلمة عن النبي ‪ ‬قال‪« :‬إنه ُيستعمل‬
‫عليكم أمراء‪ ،‬فتعرفون وتنكرون‪ ،‬فمن كره فقد برئ‪ ،‬ومن أنكر فقد سلم‪ ،‬ولكن‬
‫من ريض وتابع‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول اهلل أال نقاتلهم؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬ما ص ُّلوا»(((‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫ويف «الصحيحني» عن أيب سعيد اخلدري ‪ ‬أن خالد بن الوليد‬
‫استأذن النبي ‪ ‬يف قتل رجل‪ ،‬فقال ‪« :‬ال‪ ،‬لعله أن يكون‬
‫ُيصيل»‪ ،‬فقال خالد‪ :‬وكم من ٍّ‬
‫مصل يقول بلسانه ما ليس يف قلبه‪ ،‬فقال رسول اهلل‬
‫أنقب عن قلوب الناس‪ ،‬وال أشق بطوهنم»‪.‬‬ ‫‪« :‬إين مل أومر أن َ‬
‫‪-5‬أن حكم َم ْن ترك سائر أركان اإلسالم أن يقاتلوا عليها‪ ،‬كام يقاتلون عىل ترك‬
‫أيضا يف الطائفة املمتنعة‪ ،‬وهلذا قال الفقهاء ‪ ‬يف باب‬
‫الصالة والزكاة‪ ،‬وهذا ً‬
‫األذان‪« :‬مها أي‪ :‬األذان واإلقامة فرضا كفاية يقاتل أهل بلد إن تركومها»‪.‬‬
‫‪-6‬أن من حق اإلسالم ارتكاب ما يبيح دم املسلم من املحرمات‪ ،‬وقد ورد يف حديث‬
‫ابن مسعود ‪« :‬ال حيل دم امرئ مسلم إال بإحدى ثالث‪ »...‬وسيأيت رشحه‬
‫وهو احلديث رقم (‪.)14‬‬
‫خريا فخري وإن‬
‫‪-7‬إثبات احلساب يوم القيامة‪ ،‬وأن اإلنسان سيحاسب عىل عمله‪ ،‬إن ً‬
‫رشا فرش‪ ،‬قال اهلل ‪ :‬ﭽﮎﮏﮐﮑﮒﮓﭼ[الزلزلة‪.]8 ،7 :‬‬ ‫ً‬

‫((( «جامع العلوم» (‪.)233/1‬‬


‫((( «صحيح مسلم» برقم (‪.)1854‬‬
‫‪59‬‬ ‫الحديث التاسع‬

‫الحديث التاسع‬

‫س َ‬
‫ول‬ ‫ت َر ُ‬ ‫سمِ ْع ُ‬ ‫ال‪َ :‬‬ ‫ص ْخرٍ ‪َ ‬ق َ‬ ‫ه َر ْي َرةَ َع ْب ِد ال َّر ْحمنِ ْبنِ َ‬‫َع ْن َأبِي ُ‬
‫ُك ْم‬ ‫اج َت ِن ُبو ُه‪َ ،‬و َما َأ َم ْرت ُ‬ ‫ُك ْم َع ْن ُه َف ْ‬ ‫َه ْيت ُ‬ ‫«ما ن َ‬ ‫ول‪َ :‬‬ ‫هلل ‪َ ‬ي ُق ُ‬ ‫ا ِ‬
‫ك ا َّلذِينَ مِ ْن َق ْبل ُِك ْم َك ْث َر ُة‬ ‫َط ْعت ُْم‪َ ،‬ف ِإنَّما َأ ْ‬
‫ه َل َ‬ ‫است َ‬‫ِب ِه َف ْأتُوا مِ ْن ُه َما ْ‬
‫سل ٌِم(((‪.‬‬ ‫ِه ْم»‪َ ،‬ر َوا ُه ال ُبخَ ا ِر ُّي َو ُم ْ‬ ‫ه ْم َع َلى َأ ْن ِب َيائ ِ‬
‫اخ ِتالَ ُف ُ‬
‫ِه ْم َو ْ‬
‫سا ِئل ِ‬‫َم َ‬
‫فيه فوائد‪:‬‬

‫‪-1‬راوي احلديث‪ :‬هو عبد الرمحن بن صخر الدويس ‪ ،‬يكنى بأيب هريرة؛ كناه‬
‫غنم فوجدت أوالد‬ ‫بذلك أبوه‪ ،‬فقد قال‪« :‬كناين أيب بأيب هريرة؛ ألين كنت أرعى ً‬
‫هرة وحشية‪ ،‬فلام أبرصهن وسمع أصواهتن‪ ،‬أخربته فقال‪ :‬أنت أبو هر»‪.‬‬
‫أسلم عام خيرب سنة سبع من اهلجرة‪ .‬وهو من أكثر الصحابة رواية للحديث عن‬
‫أكثر أبو هريرة‪ ،‬واهلل لوال‬
‫النبي ‪ ،‬قال ‪« :‬إن الناس يقولون‪َ :‬‬
‫اثنان يف كتاب اهلل ما حدثت شي ًئا‪ ،‬وتال‪ :‬ﭽﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﭼ‬
‫[البقرة‪ ،]160 ،159 :‬وكان يقول‪« :‬إخواننا من املهاجرين شغلهم الصفق يف‬
‫األسواق‪ ،‬وإخواننا من األنصار شغلهم العمل يف أمواهلم»‪ ،‬وكان ‪ ‬جيالس‬
‫النبي ‪ ‬ويسمع منه عىل شبع بطنه‪ ،‬دعا له النبي ‪ ‬وألمه أن‬
‫حيببهام اهلل إىل عباده املؤمنني‪ ،‬وحي ّبب إليهم املؤمنني‪ ،‬قال ‪« :‬فام ُخ ِل َق مؤمن‬
‫يسمع يب وال يراين إال أحبني»‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬
‫((( صحيح البخاري (‪ ،)7288‬ومسلم (‪ .)1337‬واللفظ ملسلم‪.‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪60‬‬
‫روى عن النبي ‪ )5374( ‬حدي ًثا‪ .‬أخرج له يف الصحيحني (‪)609‬‬
‫اتفقا منها عىل (‪ )326‬حدي ًثا‪ ،‬وانفرد البخاري بـ(‪ ،)93‬ومسلم بـ(‪ )190‬حدي ًثا‪.‬‬
‫مات سنة (‪57‬هـ) وقيل غري ذلك(((‪.‬‬
‫‪-2‬وجوب اجتناب ما هنى عنه الرسول ‪ ،‬وكذلك ما هنى عنه اهلل ‪ ‬من‬
‫باب أوىل‪ ،‬والنهي هو طلب الكف عىل وجه اإللزام‪ ،‬ما مل يقم دليل عىل أن النهي‬
‫للكراهة‪.‬‬
‫واعلم أن اهلل ‪ ‬مل ينه عباده عن أمر‪ ،‬إال وفيه مصلحة هلم؛ ألنه أعلم بمصالح‬
‫عباده‪.‬‬
‫‪-3‬وجوب اجتناب املنهي عنه كله؛ لقوله ‪« :‬ما هنيتكم عنه فاجتنبوه» ولذا‬
‫يرخص يف ارتكاب‬ ‫قال بعض أهل العلم‪ :‬إن النهي أشد من األمر؛ ألن النهي مل ّ‬
‫يشء منه‪ ،‬واألمر قيد بحسب االستطاعة‪ ،‬بل إن املنهي عنه جيب اجتناب مقدماته‬
‫ومسبباته‪ ،‬كقوله ‪ :‬ﭽﮊﮋﮌ ﭼ[اإلرساء‪ ]32 :‬فكل ما يوصل إىل‬
‫ويقرب منه فهو حمرم‪ ،‬ومن القواعد املقررة عند أهل العلم‪ :‬أن الوسائل‬ ‫الزنى ِّ‬
‫هلا أحكام املقاصد‪ ،‬فإذا كان منه ًّيا عن يشء كان منه ًّيا عن مجيع طرقه وذرائعه‬
‫مأمورا بام ال يتم إال به‪.‬‬
‫ً‬ ‫مأمورا بيشء كان‬
‫ً‬ ‫ووسائله املوصلة إليه‪ ،‬وإذا كان‬
‫‪-4‬وجوب امتثال أمر اهلل ‪ ‬ورسوله‪ ،‬لقوله ‪« :‬وما أمرتكم به فأتوا‬
‫منه ما استطعتم»‪ ،‬ما مل يرد دليل عىل أن األمر لالستحباب‪.‬‬
‫‪-5‬أن أوامر الرشع معلقة بقدرة العبد واستطاعته‪ ،‬وهذا من سامحة اإلسالم ويرس‬
‫أحكامه‪ ،‬دل عليه قوله ‪« :‬وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم» وقوله‬
‫‪ :‬ﭽﮧﮨﮩﮪﭼ[التغابن‪.]16 :‬‬
‫‪-6‬أن َم ْن عجز عن فعل املأمور به كله‪ ،‬وقدر عىل بعضه فإنه يأيت بام أمكن منه‪ ،‬ويدخل‬
‫يف هذا مسائل متعددة‪:‬‬
‫((( «سري أعالم النبالء» (‪« ،)578/2‬تذكرة احلفاظ» (‪.)32/1‬‬
‫‪61‬‬ ‫الحديث التاسع‬

‫منها‪ :‬الطهارة‪ ،‬فإذا قدر عىل بعضها وعجز عن الباقي‪ ،‬إما لعدم املاء أو للترضر‬
‫باستعامله‪ ،‬فإنه يأيت من ذلك بام قدر عليه ويتيمم للباقي‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬الصالة‪ ،‬فمن عجز عن الصالة ً‬


‫قائم ملرض صىل قاعدً ا‪ ،‬فإن مل يستطع فعىل‬
‫جنب‪ ،‬فإن مل يستطع أومأ برأسه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬زكاة الفطر‪ ،‬فإذا قدر عىل إخراج بعض صاع لزمه ذلك‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬من عليه نفقة واجبة وعجز عن مجيعها‪ ،‬بدأ بزوجته فرقيقه فالولد‬
‫فالوالدين‪ ،‬فاألقرب ثم األقرب‪ ،‬إىل غري ذلك من األحكام‪.‬‬
‫‪7‬النهي عن كثرة املسائل‪ ،‬ال سيام وقت نزول الوحي؛ ألنه ربام يوجب حتريم يشء مل‬
‫حيرم‪ ،‬أو إجياب يشء مل جيب‪ ،‬وقد قال اهلل ‪ :‬ﭽﮮﮯﮰﮱﯓﯔ‬
‫ﯕﯖﯗﯘﯙﭼ [املائدة‪.]101 :‬‬
‫جرما‪ ،‬من سأل عن يشء مل‬
‫وصح عن النبي ‪ ‬أنه قال‪« :‬أعظم املسلمني ً‬ ‫َّ‬
‫فحرم من أجل مسألته»‪ .‬متفق عليه‪.‬‬
‫حيرم ّ‬‫ّ‬
‫ومن األسئلة املنهي عنها‪ :‬األسئلة عن أمور الغيب؛ كالسؤال عن وقت الساعة‬
‫وعن كيفية عذاب القرب ونعيمه ونحوها‪ ،‬وكذا السؤال عن كيفية صفات الباري‬
‫‪‬؛ ألن كيفية صفاته ال يعلمها إال هو ومل يطلع اخللق عليها‪ ،‬فالسؤال عنها‬
‫بدعة‪ ،‬كام قال اإلمام مالك ‪ ‬ملا سئل عن االستواء‪« :‬االستواء غري جمهول‪،‬‬
‫والكيف غري معقول‪ ،‬واإليامن به واجب‪ ،‬والسؤال عنه بدعة»‪ ،‬وقال للسائل‪« :‬ما‬
‫أراك إال مبتد ًعا» فأمر به ُفأخرج‪.‬‬
‫فمن سأل عن كيفية صفة من صفات اهلل قيل له‪ :‬فكام أن ذات اهلل ال تشبهها‬
‫الذوات‪ ،‬فصفاته ال تشبهها الصفات‪ ،‬وال يعلم كيفيتها وكنهها إال اهلل ‪.(((‬‬
‫ومنها‪ :‬السؤال عىل وجه التعنت والتنطع‪ ،‬فإن هذا منهي عنه‪ ،‬وقد قال النبي‬
‫‪« :‬هلك املتنطعون» قاهلا ثال ًثا‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬
‫((( انظر‪« :‬هبجة قلوب األبرار» ص(‪.)153‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪62‬‬
‫ومنها‪ :‬السؤال عام مل يقع‪ ،‬فقد كره كثري من السلف السؤال عن احلوادث قبل‬
‫وقوعها‪ ،‬قال ابن عمر ‪« :‬ال تسألوا عام مل يكن فإين سمعت عمر لعن‬
‫السائل عام مل يكن»‪.‬‬
‫وكان زيد بن ثابت ‪ ‬إذا ُسئل عن اليشء يقول‪ :‬كان هذا؟ فإن قالوا‪ :‬ال‪،‬‬
‫قال‪ :‬دعوه حتى يكون‪.‬‬
‫ٍ‬
‫أصول وفرو ٍع عبادات‬ ‫وأما السؤال عىل وجه االسرتشاد عن املسائل الدينية من‬
‫أو معامالت‪ ،‬فإن هذا مما أمر اهلل به ورسوله ‪ ،‬قال اهلل ‪ :‬ﭽﭑ‬
‫ﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭼ[النحل‪.]43 :‬‬
‫العي السؤال»(((‪.‬‬
‫روي يف احلديث‪« :‬أال سألوا إذا مل يعلموا‪ ،‬فإنام شفاء ّ‬
‫قيل البن عباس ‪ :‬أنى لك هذا العلم؟ قال‪« :‬بقلب َعقول‪ ،‬ولسان‬
‫َسؤول»(((‪.‬‬
‫‪-7‬التحذير من كثرة املسائل‪ ،‬واالختالف؛ ألن ذلك أهلك َم ْن كان قبلنا‪ ،‬فينبغي‬
‫للمسلمني أن حيذروا االختالف والتنازع‪ ،‬لئال يصيبهم ما أصاب األمم قبلهم‪،‬‬
‫قال ‪ :‬ﭽﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞ‬
‫ﭟﭼ[األنفال‪.]46 :‬‬

‫((( أخرجه أبو داود (‪ ،)336‬وإسناده ضعيف‪.‬‬


‫((( «البيان والتبيني» للجاحظ (‪.)88/1‬‬
‫‪63‬‬ ‫الحديث العاشر‬

‫الحديث العاشر‬

‫َ‬
‫اهلل‬ ‫هلل ‪« :‬إِنَّ‬ ‫ول ا ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ال َر ُ‬ ‫ال‪َ :‬ق َ‬ ‫ه َر ْي َرة ‪َ ‬ق َ‬ ‫َع ْن َأبِي ُ‬
‫الم ْؤمِ ِن ْينَ ب َِما َأ َم َر ِب ِه‬
‫اهلل َأ َم َر ُ‬‫َ‬ ‫ط ِّيب ًا‪َ ،‬وإِنَّ‬ ‫ب الَ َي ْق َب ُل ِإالَّ َ‬ ‫ت ََعا َلى َ‬
‫ط ِّي ٌ‬
‫َعا َلى‪ :‬ﮋﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮊ [المؤمنون‪:‬‬ ‫ال ت َ‬ ‫سلِينَ ‪َ ،‬ف َق َ‬ ‫الم ْر َ‬
‫ُ‬
‫ال ت ََعا َلى‪ :‬ﮋﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮊ [البقرة‪ُ ،]172 :‬ث َّم‬ ‫‪َ ،]51‬و َق َ‬
‫ب‬ ‫ث َأ ْغ َب َر‪َ ،‬ي ُم ُّد َي َد ْي ِه ِإ َلى َّ‬
‫الس َما ِء‪َ :‬يا َر ُّ‬ ‫ش َع َ‬ ‫الس َف َر َأ ْ‬
‫يل َّ‬ ‫ط ُ‬ ‫َذ َك َر ال َّر ُج َل ُي ِ‬
‫ام‪،‬‬ ‫ِالح َر ِ‬
‫ِي ب َ‬ ‫ام َو ُغذ َ‬ ‫ام َو َم ْل َب ُ‬
‫س ُه َح َر ٌ‬ ‫ش َر ُب ُه َح َر ٌ‬ ‫ام َو َم ْ‬‫ط َع ُم ُه َح َر ٌ‬ ‫ب‪َ ،‬و َم ْ‬ ‫َيا َر ُّ‬
‫سل ٌِم(((‪.‬‬ ‫اب َل ُه»‪َ ،‬ر َوا ُه ُم ْ‬ ‫ست ََج ُ‬ ‫َف َأنَّى ُي ْ‬

‫فيه فوائد‪:‬‬
‫املنزه عن النقائص‬
‫‪-1‬إثبات اسم من أسامء اهلل ‪ ،‬وهو «الط ِّيب» واملراد به ّ‬
‫والعيوب‪.‬‬
‫فهو ‪ ‬طيب يف أقواله‪ :‬ﭽﮐﮑﮒﮓﮔﮕﭼ [األحزاب‪،]4 :‬‬
‫ﭽﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭼ[األنعام‪ ،]115 :‬صد ًقا يف‬
‫ً‬
‫وعدل يف األحكام‪.‬‬ ‫األخبار‪،‬‬
‫وطيب يف أفعاله‪ ،‬فأفعاله كلها ‪ ‬مقرونة باحلكمة‪.‬‬
‫وطيب يف أسامئه وصفاته‪ :‬ﭽﭳﭴﭵﭶﭷ ﭼ[األعراف‪ ،]180 :‬ﭽﮊ‬
‫ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﭼ [اإلرساء‪.]110 :‬‬
‫وطيب يف ذاته‪ ،‬ال يلحقه نقص وال عيب‪.‬‬
‫مسلم‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫((( برقم (‪ .)1015‬وقد انفرد به‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪64‬‬
‫‪-2‬إن اهلل ‪ ‬ال يقبل من األقوال‪ ،‬واألعامل‪ ،‬والصدقات إال ما كان طي ًبا‪ ،‬لقوله‬
‫‪« :‬ال يقبل إال طي ًبا»‪.‬‬
‫فال يقبل ‪ ‬من األقوال إال أطيبها وأزكاها‪ :‬ﭽﯦﯧﯨﯩ‬
‫ﯪﯫﯬﭼ[فاطر‪.]10 :‬‬
‫طاهرا من املفسدات كالرياء‬
‫ً‬ ‫وال يقبل ‪ ‬من األعامل إال ما كان طي ًبا‬
‫والعجب‪ ،‬قال ‪ ‬يف احلديث القديس‪« :‬أنا أغنى الرشكاء عن الرشك‪ ،‬من‬
‫عمل ً‬
‫عمل أرشك فيه معي غريي تركته ورشكه»‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬
‫ً‬
‫حالل‪ ،‬ففي «الصحيحني» عن‬ ‫وال يقبل ‪ ‬من الصدقات إال ما كان طي ًبا‬
‫أيب هريرة ‪ ‬عن النبي ‪ ‬قال‪« :‬ما تصدّ ق أحد بصدقة من كسب‬
‫طيب‪ ،‬وال يقبل اهلل إال الطيب‪ ،‬إال أخذها الرمحن بيمينه ثم يربيها كام يريب أحدكم‬
‫فلوه»‪.‬‬
‫َّ‬
‫فمن تصدق بامل حرام؛ كاملال الربوي أو املرسوق أو املغصوب‪ ،‬فالصدقة غري‬
‫مقبولة‪.‬‬
‫‪-3‬أن الرسل وأممهم مأمورون باألكل من الطيبات التي هي احلالل‪ ،‬وأن يشكروا‬
‫اهلل عليها بالعمل الصالح‪ ،‬لقوله ‪ :‬ﭽﮡﮢﮣﮤﮥﮦ‬
‫ﮧﭼ[املؤمنون‪ ،]51 :‬وقال ‪ ‬للمؤمنني‪ :‬ﭽﮀﮁﮂﮃﮄ‬
‫ﮅﮆﭼ [البقرة‪.]172 :‬‬
‫‪-4‬فيه بيان أسباب إجابة الدعاء‪ ،‬وقد ذكرها بقوله ‪« :‬ثم ذكر الرجل يطيل‬
‫السفر‪ ،‬أشعث أغرب‪ ،‬يمد يديه إىل السامء‪ :‬يا رب يا رب»‪ ،‬وهي أربعة أسباب‪:‬‬
‫أ‪-‬إطالة السفر‪ ،‬والسفر بمجرده من أسباب إجابة الدعاء‪ ،‬وقد ُروي عن النبي‬
‫‪ ‬أنه قال‪« :‬ثالث دعوات مستجابات ال شك فيهن‪ :‬دعوة املظلوم‪،‬‬
‫ودعوة املسافر‪ ،‬ودعوة الوالد لولده»(((‪.‬‬
‫((( أخرجه أبو داود (‪ ،)1536‬والرتمذي (‪ )1905‬وإسناده ضعيف‪ ،‬فيه أبو جعفر املؤذن وهو جمهول‪.‬‬
‫‪65‬‬ ‫الحديث العاشر‬

‫وإنام كان السفر أقرب إىل إجابة الدعاء؛ ألنه مظنة حصول انكسار النفس بطول‬
‫الغربة عن األوطان‪ ،‬وحتمل املشاق‪ ،‬وهذا االنكسار يوجب له خضو ًعا وذالًّ‬
‫للملك اخلالق‪.‬‬
‫ب‪-‬حصول التبذل يف اللباس واهليئة بالشعث واالغربار‪ ،‬فهذا من أسباب‬
‫«رب أشعث‪ ،‬مدفوع باألبواب‪ ،‬لو‬
‫اإلجابة‪ ،‬وقد قال النبي ‪ُ :‬‬
‫ألبره»‪ ،‬رواه مسلم(((‪.‬‬
‫أقسم عىل اهلل ّ‬
‫ج‪-‬رفع اليدين إىل السامء‪ ،‬وهذا كام أنه من أسباب اإلجابة‪ ،‬فهو ً‬
‫أيضا من آداب‬
‫الدعاء‪ ،‬وقد روي عن النبي ‪ ‬أنه قال‪« :‬إن اهلل ‪ ‬حيي كريم‬
‫صفرا خائبتني»(((‪ ،‬وقد ورد عنه‬
‫يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن ير ّدمها ً‬
‫‪ ‬رفع اليدين يف مواطن كثرية‪ ،‬نحو ثالثني موطنًا(((‪ ،‬وإنام كان‬
‫رفع اليدين مظنة اإلجابة؛ ألن يف رفعهام إظهار االفتقار إىل اهلل واالنكسار‬
‫واخلضوع بني يديه‪.‬‬
‫د‪-‬التوسل إىل اهلل بأسامئه وصفاته‪ ،‬لقوله ‪« :‬يا رب يا رب»‪ ،‬حيث‬
‫ألح عىل اهلل بتوسله بربوبيته‪ ،‬وهذا من أعظم ما يطلب به إجابة الدعاء‪ ،‬وقد‬
‫قال ‪ :‬ﭽﭳﭴﭵﭶﭷ ﭼ[األعراف‪]180 :‬؛ أي‪ :‬اجعلها‬
‫بني يدي دعائك‪ ،‬فإذا أردت من اهلل الرمحة فقل‪ :‬يا رمحن ارمحني‪ ،‬وإذا أردت‬
‫املغفرة فقل‪ :‬يا غفور اغفر يل‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫قال ابن رجب ‪« :‬ومن تأمل األدعية املذكورة يف القرآن وجدها غال ًبا تفتتح‬
‫باسم الرب؛ كقوله ‪ :‬ﭽﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ‬
‫ﯢﯣﯤﯥﯦﭼ [البقرة‪ ،]201 :‬ﭽﯥﯦﯧﯨﯩﯪ‬
‫ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ‬
‫((( برقم (‪.)2622‬‬
‫((( أخرجه الرتمذي (‪ )3556‬وإسناده ضعيف‪.‬‬
‫((( «رشح صحيح مسلم» (‪.)60/16‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪66‬‬
‫ﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﭼ‬
‫[البقرة‪ ،]286 :‬وقوله ‪ :‬ﭽﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﭼ [آل عمران‪ ،]8 :‬ومثل‬
‫هذا يف القرآن كثري»(((‪.‬‬

‫هـ‪-‬حتري أوقات اإلجابة‪ ،‬ومنها‪ :‬ثلث الليل اآلخر‪ ،‬قال ‪ :‬ﭽﮓ‬


‫ﮔﮕﭼ [الذاريات‪ ،]18 :‬وقال‪ :‬ﭽﭝﭞﭟ‬
‫ﭠﭡﭢﭼ[آل عمران‪.]17 :‬‬
‫وثبت يف «الصحيحني» عن أيب هريرة ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪:‬‬
‫«ينزل ربنا إىل سامء الدنيا حني يبقى ثلث الليل اآلخر فيقول‪ :‬هل من سائل‬
‫فأعطيه‪ ،‬هل من مستغفر فأغفر له‪ ،‬هل من دا ٍع فأستجيب له حتى يطلع الفجر»(((‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬بني األذان واإلقامة‪ ،‬ملا روى أبو داود والرتمذي وحسنه عن أنس ‪‬‬
‫قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪« :‬الدعاء ال يرد بني األذان واإلقامة»(((‪.‬‬
‫‪-5‬فيه بيان موانع إجابة الدعاء‪ ،‬يف قوله ‪« :‬ومطعمه حرام‪ ،‬ومرشبه حرام‪،‬‬
‫وملبسه حرام‪ ،‬وغذي باحلرام‪ ،‬فأنى يستجاب له؟»‪.‬‬
‫فقد ذكر هنا مان ًعا واحدً ا‪ ،‬هو أعظمها وأخطرها‪:‬‬

‫أ‪ -‬أكل احلرام‪ ،‬فإن الذي يأكل احلرام‪ ،‬ويتوسع فيه مع األكل رش ًبا ً‬
‫ولبسا‬
‫وتغذية ال يستجاب دعاؤه‪ ،‬ولو دعا اهلل طول عمره‪ ،‬ولذا قال النبي‬
‫‪« :‬فأنى يستجاب له»‪ ،‬وهذا االستفهام عىل وجه التعجب‬
‫واالستبعاد؛ أي‪ :‬بعيد أن يستجيب اهلل له‪.‬‬
‫أيضا‪ :‬ترك الواجبات وارتكاب املحرمات‪ ،‬قال ابن رجب‬
‫ب‪-‬ومن املوانع ً‬
‫‪« :‬وقد يكون ارتكاب املحرمات الفعلية مان ًعا من اإلجابة‪ ،‬وكذلك‬
‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)274/1‬‬
‫((( صحيح البخاري (‪ ،)1145‬ومسلم (‪.)758‬‬
‫((( «سنن أيب داود» (‪ ،)521‬والرتمذي (‪.)212‬‬
‫‪67‬‬ ‫الحديث العاشر‬

‫ترك الواجبات‪ ،‬كام يف احلديث‪« :‬أن ترك األمر باملعروف‪ ،‬والنهي عن‬
‫املنكر يمنع استجابة دعاء األخيار‪ ،‬وفعل الطاعات يكون موج ًبا الستجابة‬
‫الدعاء»(((‪.‬اهـ‪.‬‬
‫وجترأ عىل ارتكاب املحرمات؛ فقد أتى‬
‫فمن هتاون يف األوامر والواجبات‪َّ ،‬‬
‫مان ًعا من موانع الدعاء‪ ،‬وقد قيل‪:‬‬

‫نحــن ندعــو اإللــه يف كــرب‬ ‫ثــم ننســاه عنــد كشــف الكــروب‬


‫ٍ‬
‫لدعــاء‬ ‫كيــف نرجــو إجابــة‬ ‫قــد ســددنا طريقهــا بالذنــوب‬
‫ج‪-‬استعجال اإلجابة‪ ،‬ففي «الصحيحني» أن النبي ‪ ‬قال‪:‬‬
‫«يستجاب ألحدكم ما مل يعجل‪ ،‬يقول‪ :‬قد دعوت ريب فلم يستجب يل»(((‪.‬‬
‫د‪-‬الدعاء بإثم أو قطيعة رحم‪ ،‬قال اهلل ‪ :‬ﭽﮨﮩﮪﮫﮬ‬
‫ﮭﮮﮯﮰﭼ[األعراف‪ ،]55 :‬ومن صور االعتداء يف الدعاء‪:‬‬
‫الدعاء بإثم أو قطيعة رحم‪.‬‬
‫يدع‬
‫ويف «صحيح مسلم» عنه قال ‪« :‬ال يزال يستجاب للعبد ما مل ُ‬
‫بإث ٍم أو قطيعة رحم‪ ،‬ما مل يستعجل»(((‪.‬‬
‫وعن عبادة بن الصامت ‪ ‬أن رسول اهلل ‪ ‬قال‪« :‬ما عىل‬
‫األرض مسلم يدعو اهلل ‪ ‬بدعوة إال آتاه اهلل إياها‪ ،‬أو رصف عنه من‬
‫السوء مثلها‪ ،‬ما مل يدع بإثم أو قطيعة رحم»‪ ،‬فقال رجل من القوم‪ :‬إ ًذا نكثر‪،‬‬
‫قال ‪« :‬اهلل أكثر»‪ ،‬رواه الرتمذي وصححه(((‪.‬‬
‫ويف رواية ألمحد من حديث أيب سعيد ‪« :‬أو يدّ خر له من األجر‬
‫مثلها»(((‪.‬‬
‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)275/1‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)6340‬ومسلم (‪.)2735‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)2735‬‬
‫((( «سنن الرتمذي» (‪ )3573‬وقال‪« :‬هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه»‪.‬‬
‫((( برقم (‪.)11133‬‬
‫‪69‬‬ ‫الحديث الحادي عشر‬

‫الحديث الحادي عشر‬

‫هلل‬
‫ول ا ِ‬ ‫س ِ‬ ‫ط َر ُ‬‫س ْب ِ‬‫ِب‪ِ ،‬‬ ‫ط ال ٍ‬ ‫لي ْبنِ َأبِي َ‬ ‫سنِ ْبنِ َع ِّ‬ ‫َع ْن َأبِي ُم َح َّم ٍد َ‬
‫الح َ‬
‫ول اهللِ‪َ « :‬د ْع ما‬ ‫س ِ‬ ‫ت مِ ْن َر ُ‬‫ظ ُ‬‫ال‪َ :‬حفِ ْ‬ ‫‪َ ‬و َر ْي َحا َن ِت ِه ‪َ ‬ق َ‬
‫ِي‪:‬‬
‫ال ال ِّت ْرمِ ذ ُّ‬‫َّسائ ُِّي‪َ ،‬و َق َ‬‫ك»‪َ ،‬ر َوا ُه ال ِّت ْرمِ ذِي َوالن َ‬‫ك ِإ َلى َما الَ ُي ِري ُب َ‬‫ُي ِري ُب َ‬
‫يح‪.‬‬‫صحِ ٌ‬ ‫سنٌ َ‬ ‫َحد ٌ‬
‫ِيث َح َ‬

‫فيه فوائد‪:‬‬
‫‪-1‬هذا احلديث رواه الرتمذي (‪ ،)2518‬والنسائي (‪ ،)5711‬وأمحد (‪ ،)1723‬وابن‬
‫حبان (‪ ،)722‬والدارمي (‪ )2532‬من طرق عن شعبة‪ ،‬عن بريد بن أيب مريم‪ ،‬عن‬
‫أيب احلوراء السعدي‪ ،‬قال‪ :‬قلت للحسن بن عيل‪ :‬ما حفظت من رسول اهلل ؟ قال‬
‫فذكره‪.‬‬
‫وزادوا إال النسائي والدارمي يف آخره‪« :‬فإن الصدق طمأنينة‪ ،‬وإن الكذب ريبة»‪.‬‬
‫وإسناده صحيح‪.‬‬
‫وقواه الذهبي‪.‬‬
‫وقد صححه الرتمذي واحلاكم والسيوطي َّ‬
‫وله شواهد متعددة‪ ،‬ال ختلو من ضعف‪.‬‬
‫‪-2‬راوي احلديث‪ :‬هو احلسن بن عيل بن أيب طالب بن عبد املطلب القريش اهلاشمي‬
‫املدين‪ ،‬سبط رسول اهلل ورحيانته‪ ،‬وسيد شباب أهل اجلنة‪ ،‬كان يش ّبه بالنبي‪ ،‬كام قاله‬
‫أنس بن مالك‪ ،‬وله فضائل عديدة‪.‬‬
‫قال أسامة‪ :‬كان النبي ‪ ‬يأخذين واحلسن‪ ،‬ويقول‪« :‬ال َّل ُه َّم إين أحبهام‬
‫فأح َّبهام»‪.‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪70‬‬
‫وقال الرباء ‪ :‬رأيت احلسن بن عيل عىل عاتق النبي ‪ ‬وهو يقول‪:‬‬
‫«ال َّل ُه َّم إين ُأحبه فأح ّبه»‪ ،‬أخرجاه يف «الصحيحني»‪.‬‬
‫وقال أبو بكرة‪ :‬رأيت رسول اهلل ‪ ‬عىل املنرب واحلسن إىل جنبه وهو‬
‫يقول‪« :‬إن ابني هذا سيد‪ ،‬ولعل اهلل أن يصلح به بني فئتني من املسلمني»‪.‬‬
‫ً‬
‫عاقل‪ ،‬رزينًا‪،‬‬ ‫وسيم‪ً ،‬‬
‫مجيل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫قال الذهبي ‪« :‬وقد كان هذا اإلمام س ّيدً ا‪،‬‬
‫ِ‬
‫تزوج‬‫منكاحا مطال ًقا‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫حمتشم‪ ،‬كبري الشأن‪ ،‬وكان‬
‫ً‬ ‫خيا‪ ،‬د ِّينًا‪ ،‬ور ًعا‪،‬‬
‫ممدحا‪ً ِّ ،‬‬
‫جوا ًدا‪ً ،‬‬
‫نحوا من سبعني امرأة‪ ،‬وقلام كان يفارق أربع رضائر»‪.‬‬ ‫ً‬
‫مات شهيدً ا بالسم سنة (‪49‬هـ) وقيل‪50( :‬هـ)‪.‬‬
‫وله ستة أحاديث يف «السنن األربعة»(((‪.‬‬
‫‪-3‬هذا احلديث يدل عىل ما دل عليه حديث النعامن السابق‪ ،‬وفيه‪« :‬وبينهام أمور‬
‫مشتبهات ال يعلمهن كثري من الناس‪ ،‬فمن اتقى الشبهات فقد استربأ لدينه‬
‫وعرضه»؛ واملعنى‪ :‬أن كل أمر ترتاب فيه‪ ،‬وتشك فيه فاألوىل تركه واالرتياح منه‪،‬‬
‫لئال يكون يف النفس قلق واضطراب عند فعله‪ ،‬وسواء كان هذا يف أمور الدنيا أو‬
‫يف أمور اآلخرة‪.‬‬
‫واعلم أن الورع عن املشتبهات‪ ،‬هو هدي السلف الصالح ‪ ،‬قال أبو عبد‬
‫الرمحن العمري‪« :‬إذا كان العبد ور ًعا ترك ما يريبه إىل ما ال يريبه»‪.‬‬
‫وقال حسان بن أيب سنان‪« :‬ما رأيت شي ًئا أهون من الورع‪ ،‬دع ما يريبك إىل ما ال‬
‫يريبك» رواه البخاري(((‪.‬‬
‫ولكن ال بد أن ُيعرف الفرق بني الورع والزهد‪ ،‬فالورع‪ :‬ترك ما يرض يف اآلخرة‪.‬‬
‫عرفهام شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪.(((‬‬
‫والزهد‪ :‬ترك ما ال ينفع يف اآلخرة‪ ،‬كذا َّ‬

‫((( «سري أعالم النبالء» (‪.)245/3‬‬


‫((( رواه البخاري (‪.)53/2‬‬
‫((( «جمموع الفتاوى» (‪.)305/21‬‬
‫‪71‬‬ ‫الحديث الحادي عشر‬

‫قال ابن رجب ‪« :‬وهاهنا أمر ينبغي التفطن له وهو‪ :‬أن التدقيق يف التوقف‬
‫عن الشبهات إنام يصلح ملن استقامت أحواله كلها‪ ،‬وتشاهبت أعامله يف التقوى‬
‫يتورع عن يشء‬
‫املحرمات الظاهرة‪ ،‬ثم يريد أن ّ‬ ‫ّ‬ ‫والورع‪ ،‬فأما من يقع يف انتهاك‬
‫من دقائق الشبه‪ ،‬فإنه ال ُيتمل له ذلك‪ ،‬بل ينكر عليه‪ ،‬كام قال ابن عمر ‪‬‬
‫ملن سأله عن دم البعوض من أهل العراق‪ :‬يسألوين عن دم البعوض وقد قتلوا‬
‫احلسني‪ ،‬وسمعت النبي ‪ ‬يقول‪« :‬مها رحيانتاي من الدنيا»»‪.‬اهـ‪.‬‬
‫‪-4‬احلرص عىل التثبت عند إرادة أي عمل من األعامل‪ ،‬حتى ال يقع املرء يف الريبة‬
‫والشك والرتدد الذي ربام يندم عىل فعله‪ ،‬ويالم عليه‪.‬‬
‫‪-5‬أن عالمة الصدق طمأنينة القلب به‪ ،‬وعالمة الكذب حصول الريبة‪ ،‬فال تسكن‬
‫القلوب إليه‪ ،‬بل تنفر عنه لقوله ‪« :‬فإن الصدق طمأنينة‪ ،‬وإن الكذب‬
‫ريبة»‪.‬‬
‫وقد وردت النصوص الكثرية باحلث عىل الصدق واجتناب الكذب وأنه من‬
‫عالمات املنافقني‪.‬‬
‫قال النبي ‪« :‬عليكم بالصدق فإن الصدق هيدي إىل الرب‪ ،‬وإن الرب هيدي‬
‫إىل اجلنة‪ ،‬وال يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند اهلل صدي ًقا‪،‬‬
‫وإياكم والكذب فإن الكذب هيدي إىل الفجور‪ ،‬وإن الفجور هيدي إىل النار‪ ،‬وال‬
‫يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند اهلل كذا ًبا»‪ .‬متفق عليه‪.‬‬
‫وقال ‪« :‬آية املنافق ثالث‪ :‬إذا حدَّ ث كذب‪ ،‬وإذا وعد أخلف‪ ،‬وإذا‬
‫أؤمتن خان»‪ .‬متفق عليه‪.‬‬
‫والصدق‪ :‬هو اإلخبار باألمر عىل ما هو عليه‪.‬‬
‫والكذب‪ :‬ضده‪ ،‬وهو اإلخبار بخالف الواقع‪ ،‬وهو عىل درجات‪ ،‬فمن أعظم‬
‫درجات الكذب وأقبحها‪ :‬الكذب عىل اهلل وعىل رسوله‪ ،‬يف «الصحيحني» عن‬
‫النبي ‪ ‬قال‪« :‬من كذب عيل متعمدً ا فليتبوأ مقعده من النار»‪.‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪72‬‬
‫ومنها‪ :‬الكذب عىل األطفال‪ ،‬فقد روى أبو داود‪ ،‬أن امرأة كانت عند النبي فدعت‬
‫مترا‪ ،‬قال‪« :‬أما إنَّك لو مل‬
‫ابنًا هلا‪ ،‬فقال ‪« :‬ما أردت أن تعطيه؟» قالت‪ً :‬‬
‫عليك كِ ْذبة»(((‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تعطه شيئًا كُتبت‬
‫وألن يف الكذب عليهم تعويدهم عليه‪ ،‬وممارسته واستساغته‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬الكذب إلضحاك القوم‪ ،‬فقد روى الرتمذي عن النبي ‪ ‬أنه قال‪:‬‬
‫ويل له ثم ٌ‬
‫ويل له»‪.‬‬ ‫«ويل للذي حيدث فيكذب‪ ،‬ليضحك به القوم ٌ‬
‫«من أفرى ِ‬
‫الفرى أن ُيري الرجل‬ ‫ومنها‪ :‬الكذب يف الرؤيا‪ ،‬لقوله ‪ِ :‬‬
‫عينيه ما مل تريا»‪ .‬رواه البخاري‪.‬‬

‫((( «سنن أيب داود» (‪ )4991‬ويف إسناده ضعف‪.‬‬


‫‪73‬‬ ‫الحديث الثاني عشر‬

‫الحديث الثاني عشر‬

‫سنِ‬ ‫هلل ‪« :‬مِ ْن ُح ْ‬ ‫ول ا ِ‬‫س ُ‬ ‫ال‪َ :‬ق َ‬


‫ال َر ُ‬ ‫ه َر ْي َرةَ ‪َ ‬ق َ‬ ‫َع ْن َأبِي ُ‬
‫ِي َو َغ ْي ُر ُه‬
‫سنٌ َر َوا ُه ال ِّت ْرمِ ذ ُّ‬ ‫ِسالَ ِم ا ْل َم ْر ِء َت ْر ُك ُه َما الَ َي ْعنِيهِ»‪َ ،‬حد ٌ‬
‫ِيث َح َ‬ ‫إ ْ‬
‫ه َك َذا‪.‬‬ ‫َ‬

‫فيه فوائد‪:‬‬
‫‪-1‬هذا احلديث رواه الرتمذي (‪ ،)2317‬وابن ماجه (‪ )3976‬وغريمها‪ ،‬من ٍ‬
‫طرق عن‬
‫األوزاعي عن قرة بن عبد الرمحن الزهري‪ ،‬عن أيب سلمة‪ ،‬عن أيب هريرة ‪‬‬
‫مرفو ًعا‪.‬‬
‫وإسناده ضعيف‪ ،‬حلال قرة بن عبد الرمحن الزهري‪ ،‬فقد ضعفه ابن معني‪ ،‬وأبو‬
‫زرعة‪ ،‬وأبو حاتم‪ ،‬والنسائي‪ ،‬وقال أمحد بن حنبل‪« :‬هو منكر احلديث جدًّ ا»‪ ،‬وقال‬
‫أبو داود‪« :‬يف حديثه نكارة»(((‪.‬‬
‫وعليه فإن حتسني املؤلف له فيه نظر!‬
‫لكن املحفوظ يف احلديث هو عن الزهري‪ ،‬عن عيل بن احلسني‪ ،‬عن النبي‬
‫ً‬
‫مرسل‪ .‬كذا رواه مالك يف «املوطأ» (‪.)1883‬‬ ‫‪‬‬

‫قال ابن رجب ‪« :‬كذلك رواه الثقات عن الزهري‪ ،‬منهم‪ :‬مالك يف «املوطأ»‪،‬‬
‫ويونس‪ ،‬ومعمر‪ ،‬وإبراهيم بن سعد إال أنه قال ‪« :‬من إيامن املرء تركه‬
‫ً‬
‫مرسل‪ :‬اإلمام أمحد‪،‬‬ ‫ما ال يعنيه»‪ ،‬وممن قال إنه ال يصح إال عن عيل بن احلسني‬
‫وحييى بن معني‪ ،‬والبخاري‪ ،‬والدارقطني‪ ،‬وقد خلط الضعفاء يف إسناده عىل‬
‫((( «ميزان االعتدال» (‪.)388/3‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪74‬‬
‫ً‬
‫فاحشا‪ ،‬والصحيح فيه املرسل»‪.‬اهـ(((‪.‬‬ ‫الزهري ختلي ًطا‬
‫‪-2‬هذا احلديث أصل عظيم من أصول األدب‪ ،‬وقد ذكر أبو عمرو بن الصالح أن‬
‫مجاع آداب اخلري وأز َّم ِته تتفرع من أربعة أحاديث‪ ،‬وذكر هذا منها‪.‬‬
‫‪-3‬أن َمن ترك ما ال يعنيه من قول أو فعل‪ ،‬سواء كان يف أمور دينه أو دنياه‪ ،‬فقد حسن‬
‫إسالمه‪ ،‬من النقص فيه‪ ،‬ومتكن من حفظ وقته ولسانه‪ ،‬وحصل له طمأنينة القلب‬
‫وراحة البال‪.‬‬
‫وقد ُرؤي بعض الصاحلني يتهلل وجهه عند مرض املوت‪ ،‬فسئل عن ذلك؟ فقال‪:‬‬
‫«ما من عمل أوثق عندي من خصلتني‪ :‬كنت ال أتكلم فيام ال يعنيني‪ ،‬وكان قلبي‬
‫سليم للمسلمني»‪.‬‬
‫ً‬
‫وقال سهل بن عبد اهلل التسرتي ‪« :‬من تكلم فيام ال يعنيه‪ُ ،‬حرم الصدق»‪.‬‬
‫وقال معروف الكرخي ‪« :‬كالم العبد فيام ال يعنيه خذالن من اهلل ‪،»‬‬
‫فينبغي للمسلم أن حيذر التدخل فيام ال يعنيه‪ ،‬ليكمل له دينه‪.‬‬
‫‪-4‬أن مفهومه يدل عىل أنه ينبغي للمرء أن يشتغل بام يعنيه وال يضيع ما هيمه من أمور‬
‫دينه ودنياه‪ ،‬بل يبذل جهده ما استطاع يف حتقيق مرضاة ربه وحتصيل مقصوده‪،‬‬
‫مع االستعانة باهلل ‪ ‬وسؤاله التوفيق والسداد‪ ،‬قال النبي ‪« :‬املؤمن‬
‫خري وأحب إىل اهلل من املؤمن الضعيف‪ ،‬احرص عىل ما ينفعك‪ ،‬واستعن‬ ‫القوي ٌ‬
‫باهلل وال تعجز»‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬
‫وقد قيل‪:‬‬
‫فــأول مــا جينــي عليــه اجتهــاده‬ ‫إذا مل يكــن عــون مــن اللَّ للفتــى‬

‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)287/1‬‬


‫‪75‬‬ ‫الحديث الثالث عشر‬

‫الحديث الثالث عشر‬

‫هلل ‪،‬‬ ‫ول ا ِ‬‫س ِ‬ ‫ِم َر ُ‬‫ِك ‪ ‬خَ اد ِ‬ ‫َس ْبنِ َمال ٍ‬ ‫َع ْن َأبِي َح ْمزَةَ َأن ِ‬
‫ب ألَخِ ْي ِه َما ُيحِ ُّ‬
‫ب ِلن َْف ِ‬
‫سهِ»‪،‬‬ ‫ال‪« :‬الَ ُي ْؤمِ نُ َأ َح ُد ُك ْم َحتَّى ُيحِ َّ‬‫عن النَّبي َق َ‬
‫سل ٌِم(((‪.‬‬ ‫َر َوا ُه ال ُبخَ ا ِر ُّي َو ُم ْ‬
‫فيه فوائد‪:‬‬
‫‪-1‬راوي احلديث‪ :‬هو أنس بن مالك بن النرض‪ ،‬أبو محزة األنصاري اخلزرجي‪ ،‬خادم‬
‫النبي وتلميذه‪ ،‬وآخر أصحابه موتًا ‪.‬‬
‫دعا له النبي ‪ ‬فقال‪« :‬ال َّل ُه َّم أكثر ماله وولده»‪ ،‬قال ‪« :‬فواهلل إن‬
‫مايل لكثري‪ ،‬وإن ولدي وولد ولدي يتعادون عىل نحو من ٍ‬
‫مائة اليوم»‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫ويف البخاري أنه قال ‪« :‬حدثتني أمينة ابنتي أنه دفن من صلبي إىل مقدم‬
‫احلجاج البرصة تسعة وعرشون ومائة»‪.‬‬
‫وروي أنه كان له بستان حيمل يف السنة الفاكهة مرتني‪ ،‬وكان فيها رحيان جييء منه‬
‫ريح املسك‪.‬‬
‫وهذا بفضل دعوة النبي ‪.‬‬
‫روى عن النبي ‪ 2286( ‬حدي ًثا)‪ ،‬اتفق البخاري ومسلم عىل (‪،)180‬‬
‫وانفرد البخاري بـ(‪ 80‬حدي ًثا)‪ ،‬ومسلم بـ(‪.)90‬‬
‫مات سنة (‪92‬هـ) وقد جاوز املائة عام(((‪.‬‬
‫(((«صحيح البخاري» (‪ ،)13‬ومسلم (‪.)71‬‬
‫((( «اإلصابة» (‪« ،)71/1‬السري» (‪.)395/3‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪76‬‬
‫‪-2‬أن من كامل اإليامن وخصاله الواجبة‪ ،‬أن حيب املرء ألخيه املؤمن ما حيب لنفسه‬
‫من ُأمور الدين والدنيا‪ ،‬ويكره له ما يكرهه لنفسه؛ ألن هذا هو مقتىض األُخوة‬
‫اإليامنية‪.‬‬
‫ولذا قال النبي ‪« :‬فمن أحب أن يزحزح عن النار‪ ،‬ويدخل اجلنة‪ ،‬فلتأته‬
‫ِ‬
‫وليأت إىل الناس الذي حيب أن يؤتى إليه»‪.‬‬ ‫من َّيته‪ ،‬وهو يؤمن باهلل واليوم اآلخر‪،‬‬
‫رواه مسلم(((‪.‬‬
‫وقد كان السلف ‪ ‬حيرصون عىل ذلك أشد احلرص‪ ،‬كان حممد بن واسع‬
‫محارا له‪ ،‬فقال له رجل‪ :‬أترضاه يل؟ فقال‪ :‬لو رضيته مل أبعه(((‪.‬‬
‫يبيع ً‬
‫وهذه إشارة منه إىل أنه ال يرىض ألخيه إال ما يرىض لنفسه‪.‬‬
‫‪-3‬أن من أحب ألخيه ما حيب لنفسه‪ ،‬فقد سلم صدره من الغل والغش واحلسد؛ ألن‬
‫دائم أن يمتاز‬
‫احلسد يمنع احلاسد من أن حيب لآلخرين ما حيب لنفسه‪ ،‬بل حيب ً‬
‫عن الناس‪ ،‬وأالَّ يفوقه أحد‪.‬‬
‫‪-4‬أن من زالت عنه هذه الصفة وهي حمبته ألخيه ما حيب لنفسه فقد نقص إيامنه‪،‬‬
‫لقوله ‪« :‬ال يؤمن»‪ ،‬وهذا يدل بمنطوقه عىل التحذير مما يوجب نقص‬
‫اإليامن‪ ،‬وبمفهومه عىل أنه ينبغي للمؤمنني أن يكونوا إخوة متحابني‪ ،‬تسود بينهم‬
‫اإللفة‪ ،‬وتغمرهم املحبة واملودة‪ ،‬وقد وصف النبي حاهلم بقوله ‪« :‬مثل‬
‫املؤمنني يف توادهم وتعاطفهم وترامحهم مثل اجلسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له‬
‫سائر اجلسد باحلمى والسهر»‪ .‬متفق عليه‪.‬‬
‫السنَّة واجلامعة‪ :‬أن‬
‫‪-5‬أن اإليامن يتفاضل‪ ،‬منه كامل ومنه ناقص‪ ،‬وهذا مذهب أهل ُّ‬
‫اإليامن يزيد وينقص‪ ،‬يزيد بالطاعات‪ ،‬وينقص باملعايص والسيئات‪.‬‬
‫قال البخاري يف «صحيحه»‪ :‬باب زيادة اإليامن ونقصانه‪ ،‬وقول اهلل ‪:‬‬
‫((( برقم (‪.)1844‬‬
‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)305/1‬‬
‫‪77‬‬ ‫الحديث الثالث عشر‬

‫ﭽﯜﯝﭼ[الكهف‪ ،]13 :‬ﭽﮜﮝﮞﮟﭼ[املدثر‪ ،]31 :‬وقال‪ :‬ﭽﭻ‬


‫ﭼﭽﭾﭼ[املائدة‪ ،]3 :‬فإذا ترك شي ًئا من الكامل فهو ناقص(((‪.‬‬

‫((( «صحيح البخاري» (‪ 103/1‬الفتح)‪.‬‬


‫‪79‬‬ ‫الحديث الرابع عشر‬

‫الحديث الرابع عشر‬

‫هلل ‪« :‬الَ َيحِ ُّل‬ ‫ول ا ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ال َر ُ‬ ‫ال‪َ :‬ق َ‬


‫س ُعو ٍد ‪َ ‬ق َ‬ ‫َعنِ ا ْبنِ َم ْ‬
‫س‪،‬‬ ‫س بالن َّْف ِ‬ ‫ب الزَّانِي‪َ ،‬والن َّْف ُ‬ ‫الث‪ :‬ال َّث ِّي ُ‬
‫سل ٍِم ِإالَّ ِبإ ِْح َدى َث ٍ‬ ‫ىء ُم ْ‬
‫ام ِر ٍ‬
‫َد ُم ْ‬
‫سل ٌِم(((‪.‬‬
‫اعةِ»‪َ ،‬ر َوا ُه ال ُبخَ ا ِر ُّي َو ُم ْ‬‫الم َفا ِر ُق ِل ْل َج َم َ‬
‫ك ِلدِي ِن ِه ُ‬‫َوالتَّا ِر ُ‬

‫فيه فوائد‪:‬‬
‫‪ -1‬أن املراد بنفي احلل؛ يعني‪ :‬التحريم‪.‬‬
‫‪ -2‬عصمة دم املسلم إال بواحد من هذه الثالثة املذكورة يف هذا احلديث‪.‬‬
‫وقد وردت أدلة كثرية تدل عىل عصمة املسلم‪ ،‬قال ‪« :‬إن دماءكم‬
‫وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام‪ »...‬احلديث‪ .‬متفق عليه‪.‬‬
‫ويف «صحيح مسلم» عن أيب هريرة ‪ ‬أن رسول اهلل ‪ ‬قال‪« :‬كل‬
‫املسلم عىل املسلم حرام دمه وعرضه وماله»‪.‬‬
‫‪ -3‬أن ممن حيل دمه‪ :‬الثيب الزاين‪.‬‬

‫والثيب هو‪ :‬من جامع زوجته يف نكاح صحيح‪ ،‬ومها بالغان عاقالن َّ‬
‫حران‪ ،‬وحدّ ه‬
‫ماعزا والغامدية واليهوديني‬
‫الرجم باحلجارة حتى املوت باإلمجاع‪ ،‬وقد رجم النبي ً‬
‫وامرأة صاحب العسيف‪ ،‬ويف «صحيح البخاري» عن عمر ‪ ‬أنه قال‪« :‬وأن‬
‫حل َبل أو االعرتاف»‪.‬‬
‫الرجم حق يف كتاب اهلل عىل من زنى إذا أحصن أو كان ا َ‬
‫((( صحيح البخاري (‪ ،)6878‬ومسلم (‪.)1676‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪80‬‬
‫وقد استنبط ابن عباس ‪ ‬الرجم من القرآن الكريم‪ ،‬من قوله ‪:‬‬
‫ﭽﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ‬
‫ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭼ[املائدة‪ ]15 :‬قال‪« :‬فمن كفر‬
‫بالرجم‪ ،‬فقد كفر بالقرآن من حيث ال حيتسب‪ ،‬ثم تال هذه اآلية‪ ،‬قال‪ :‬فكان‬
‫الرجم مما أخفوا»‪ .‬أخرجه النسائي(((‪.‬‬
‫وقد روي يف اآلية املنسوخة لف ًظا‪« :‬الشيخ والشيخة إذا زنيا فارمجومها البتة ً‬
‫نكال‬
‫من اهلل واهلل عزيز حكيم»(((‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬ثبت يف «صحيح مسلم» عن عبادة بن الصامت ‪ ‬أن النبي‬
‫‪ ‬قال‪« :‬خذوا عني خذوا عني‪ ،‬فقد جعل اهلل هلن ً‬
‫سبيل‪ :‬البكر بالبكر‬
‫جلد مائة ونفي سنة‪ ،‬والثيب بالثيب جلد مائة والرجم»‪.‬‬
‫وهذا احلديث يدل عىل أنه ُيمع للزاين املحصن بني اجللد والرجم‪.‬‬
‫فاجلواب‪ :‬أن هذا احلديث منسوخ‪ ،‬وآخر األمرين منه االقتصار عىل رجم املحصن‬
‫دون جلده‪ ،‬كام يف قصة ماعز والغامدية وغريمها‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬وهل يقوم قتله بالسيف مقام رمجه باحلجارة؟‬
‫فاجلواب‪ :‬ال؛ ألن احلكمة من مرشوعية الرجم‪ ،‬لكي يذوق بدنه كله أمل احلجارة‪،‬‬
‫كام ذاق بدنه كله لذة الشهوة املحرمة‪ ،‬وهذا ال حيصل بقتله بالسيف‪.‬‬
‫حق عمدً ا فإنه يقتل هبا‪ ،‬لقوله ‪« :‬والنفس‬
‫نفسا بغري ٍّ‬
‫‪-4‬أن املكلف إذا قتل ً‬
‫بالنفس»‪ ،‬ولقوله ‪ :‬ﭽﮮﮯﮰﮱﯓﯔﭼ [املائدة‪ ،]45 :‬وقال‬
‫‪ :‬ﭽﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ‬
‫((( يف «الكربى» (‪.)7124‬‬
‫ب بن كعب‪ ...‬وذكر أن موضعها سورة األحزاب‪.‬‬ ‫(((أخرجه النسائي يف «الكربى» (‪ )7112‬موقو ًفا عىل ُأ َ‬
‫«وقد طعن األئمة يف ثبوت هذه اآلية واعتربوا ذلك من أفراد سفيان بن عيينة‪ ،‬عن الزهري‪ ،‬وقد خالفه‬
‫ثامنية من أصحاب الزهري مل يذكروها‪.»....‬‬
‫‪81‬‬ ‫الحديث الرابع عشر‬

‫ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ‬
‫ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﭼ[البقرة‪.]178 :‬‬
‫وقتل املؤمن بغري حق من كبائر الذنوب‪ ،‬لقوله ‪ :‬ﭽﮓﮔﮕ‬
‫ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ‬
‫ﮢﭼ[النساء‪.]93 :‬‬
‫وقد روي عن ابن عباس ‪ ‬أنه قال يف القاتل عمدً ا‪« :‬ال توبة له‪ ..،‬وأنى‬
‫له التوبة»(((‪ ،‬واجلمهور عىل أن له توبة‪ ،‬لقوله ‪ :‬ﭽﭑﭒﭓﭔﭕ‬
‫ﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭼ [الفرقان‪ ،]68 :‬إىل قوله‪:‬‬
‫ﭽﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ‬
‫ﮁﮂﭼ[الفرقان‪ ،]70 :‬ولكن لعل مراد ابن عباس أنه ال توبة له فيام يتعلق‬
‫بحق املقتول‪ ،‬أو أنه ال يوفق للتوبة‪ ،‬كام قاله ابن القيم ‪.(((‬‬
‫فإن قيل‪ :‬كيف يقتل؟‬
‫فاجلواب‪ :‬أن القاتل ُيقتل كام قتل‪ ،‬فإن كان قد قتل املجني عليه برصاص قتلناه‬
‫برصاص‪ ،‬وإن كان قد قتله باخلنق قتلناه باخلنق‪ ،‬وهكذا لقوله ‪ :‬ﭽﯡ‬
‫ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﭼ[النحل‪.]126 :‬‬
‫وأما حديث‪« :‬ال قود إال بالسيف»(((‪ ،‬فهو حديث ضعيف جدًّ ا‪.‬‬
‫‪-5‬أن عموم قوله ‪« :‬والنفس بالنفس» يدل عىل أن الرجل يقتل باملرأة‪،‬‬
‫وهو كذلك‪ ،‬وحلديث عمرو بن حزم‪« :‬وأن الرجل يقتل باملرأة»‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬وهل يشمل ما لو قتل احلر عبدً ا؟‬
‫فاجلواب‪ :‬ال‪ ،‬وقد وردت يف ذلك أحاديث يف أسانيدها مقال‪.‬‬
‫((( أخرجه الرتمذي (‪.)3029‬‬
‫((( «مدارج السالكني» (‪.)402/1‬‬
‫((( أخرجه ابن ماجه (‪.)2667‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪82‬‬
‫وأما حديث‪« :‬من قتل عبده قتلناه‪ ،‬ومن جدع عبده جدعناه»(((‪ ،‬فهو حديث‬
‫ضعيف ال حيتج به‪.‬‬
‫س‪ :‬وهل يشمل ما لو قتل الرجل ولده؟‬
‫ج‪ :‬فيه خالف بني أهل العلم‪ ،‬فمنهم من قال‪ :‬ال يقتل به حلديث‪« :‬ال يقاد الوالد‬
‫بولده»(((‪ ،‬وألنه السبب يف إجياده‪ ،‬فال يكون االبن السبب يف إعدامه‪.‬‬
‫ومنهم من قال‪ :‬يقتل به لعموم احلديث‪.‬‬
‫وقال اإلمام مالك ‪ :‬إن تعمد قتله تعمدً ا ال يشك فيه‪ ،‬مثل أن يضطجعه‬
‫ويذبحه‪ ،‬فإنه يقتل به‪ ،‬وإن حذفه بسيف أو عصا‪ ،‬مل يقتل‪.‬‬
‫وهذا القول أقرب األقوال‪ ،‬وأما حديث‪« :‬ال يقاد الوالد بولده» فقد قال الرتمذي‬
‫‪« :‬حديث فيه اضطراب»‪.‬‬
‫س‪ :‬وهل يشمل ما لو قتل مسلم ً‬
‫كافرا أو ذم ًّيا أو معاهدً ا؟‬
‫ج‪ :‬ال‪ ،‬ملا ثبت يف «الصحيح» عن النبي ‪ ‬قال‪« :‬ال يقتل مسلم بكافر»‪.‬‬
‫لكن الذمي واملعاهد واملستأمن إذا قتل املسلم واحدً ا منهم؛ فعليه الدية‪ .‬وهي‬
‫عىل النصف من دية املسلم‪ ،‬لقوله ‪« :‬عقل أهل الذمة نصف عقل‬
‫املسلمني»‪ .‬رواه النسائي(((‪.‬‬
‫‪-6‬أن من ترك دين اإلسالم وارتد عنه‪ ،‬وفارق مجاعة املسلمني فقد حل دمه‪ ،‬لقوله‪:‬‬
‫«والتارك لدينه املفارق للجامعة»‪.‬‬
‫ولقوله ‪« :‬من بدّ ل دينه فاقتلوه»‪ .‬رواه البخاري‪.‬‬
‫وروى النسائي ‪ ‬عن عثامن ‪ ‬مرفو ًعا‪ ..‬وفيه‪« :‬ال حيل دم امرئ مسلم‬
‫إال بإحدى ثالث‪ :‬رجل كفر بعد إسالمه‪ »..‬احلديث(((‪.‬‬
‫(((أخرجه أبو داود (‪ ،)4515‬والرتمذي (‪ .)1414‬قال اإلمام أمحد ‪« :‬أخشى أن يكون هذا احلديث‬
‫ال يثبت»‪« ،‬مسائل أمحد رواية ابنه عبد اهلل» ص(‪.)409‬‬
‫((( أخرجه الرتمذي (‪.)1400‬‬
‫((( برقم (‪ )4806‬من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‪.‬‬
‫((( «سنن النسائي» (‪ )4019‬وإسناده صحيح‪.‬‬
‫‪83‬‬ ‫الحديث الرابع عشر‬

‫‪-7‬أن من ترك اإلسالم‪ ،‬ثم تاب ورجع إليه فإنه ال يقتل؛ ألنه ليس بتارك لدينه بعد‬
‫رجوعه وال مفارق للجامعة‪.‬‬
‫‪-8‬أن ظاهره يدل عىل أن من ترك دينه إىل أي دين كان فإنه يقتل‪ ،‬ولكن هذا الظاهر‬
‫غري مراد‪ ،‬لرواية مسلم‪« :‬التارك لإلسالم»‪ ،‬فدل عىل أن من ترك دين اإلسالم فإنه‬
‫يقتل‪.‬‬
‫‪-9‬إذا قال قائل‪ :‬هل ورد قتل املسلم بغري إحدى هذه اخلصال الثالث‪.‬‬
‫ً‬
‫خصال أخرى‪:‬‬ ‫فاجلواب‪ :‬نعم‪ ،‬وقد ذكر ابن رجب وغريه‬
‫من ذلك‪ :‬يف اللواط‪ ،‬فإنه يقتل الفاعل واملفعول به‪ ،‬وقد ورد فيه حديث‪ ،‬قال شيخ‬
‫اإلسالم ابن تيمية ‪« :‬اتفق الصحابة عىل قتلهام مجي ًعا يعني‪ :‬الفاعل واملفعول‬
‫تنوعوا يف صفة القتل»(((‪.‬‬
‫به‪ ،‬ولكن َّ‬
‫ومنها‪ :‬من أتى ذات حمرم‪ ،‬ملا ُروي عن النبي ‪ ‬أنه قتل من ّ‬
‫تزوج بامرأة‬
‫أبيه(((‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬الساحر‪ .‬فقد روي عن جندب مرفو ًعا‪« :‬حد الساحر رضبة بالسيف»(((‪،‬‬
‫وروي موقو ًفا‪ ،‬وهو أصح‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬ما روي عنه أنه قال ‪« :‬إذا بويع خلليفتني فاقتلوا اآلخر منهام»‪.‬‬
‫رواه مسلم‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬قوله ‪« :‬من أتاكم وأمركم مجيع عىل رجل واحد‪ ،‬فأراد أن يشق‬
‫عصاكم‪ ،‬أو يفرق مجاعتكم فاقتلوه»‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬
‫ٌ‬
‫خصال أخرى‪.‬‬ ‫وهناك‬

‫((( «جمموع الفتاوى» (‪.)543/11‬‬


‫ضعف واضطراب‪.‬‬‫ٌ‬ ‫((( أخرجه أبو داود (‪ )4457‬وغريه‪ ،‬ويف إسناده‬
‫((( أخرجه الرتمذي (‪ )1460‬وقال‪« :‬والصحيح عن جندب موقو ًفا»‪.‬‬
‫‪85‬‬ ‫الحديث الخامس عشر‬

‫الحديث الخامس عشر‬

‫«م ْن َكانَ‬ ‫ال‪َ :‬‬ ‫هلل ‪َ ‬ق َ‬ ‫ول ا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ه َر ْي َرةَ ‪َ ‬أنَّ َر ُ‬ ‫َع ْن َأبِي ُ‬
‫ت‪َ ،‬و َم ْن َكانَ ُي ْؤمِ نُ‬‫ص ُم ْ‬ ‫وم اآلخِ ِر َف ْل َي ُق ْل خَ ْير ًا َأ ْو ِل َي ْ‬ ‫ُي ْؤمِ نُ بِا ِ‬
‫هلل َوال َي ِ‬
‫هلل َوال َي ْو ِم اآلخِ ِر َف ْل ُي ْك ِر ْم َجا َر ُه‪َ ،‬و َم ْن َكانَ ُي ْؤمِ نُ بِا ِ‬
‫هلل َوال َي ْو ِم اآلخِ ِر‬ ‫بِا ِ‬
‫سل ٌِم(((‪.‬‬ ‫ض ْي َف ُه»‪َ ،‬ر َوا ُه ال ُبخَ ا ِر ُّي َو ُم ْ‬‫َف ْل ُي ْك ِر ْم َ‬

‫فيه فوائد‪:‬‬

‫‪-1‬أن هذه اخلصال املذكورة يف احلديث هي من خصال اإليامن وجتمع مكارم األخالق‬
‫القولية والفعلية‪ ،‬وأعامل اإليامن تارة تتعلق بحقوق اهلل؛ كأداء الواجبات وترك‬
‫املحرمات‪ ،‬وتارة تتعلق بحقوق عباده؛ كإكرام الضيف‪ ،‬وإكرام اجلار‪ ،‬والكف‬
‫عن أذاه‪ ،‬ذكره ابن رجب ‪ ‬يف «رشحه»‪.‬‬
‫خريا أو ليصمت»‪ ،‬وقد‬
‫‪-2‬احلث عىل قول اخلري والصمت عام سواه‪ ،‬لقوله‪« :‬فليقل ً‬
‫جاءت النصوص الكثرية يف احلث عىل حفظ اللسان وصون الكالم‪.‬‬

‫قال ‪ :‬ﭽﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ‬
‫ﭰﭱ ﭼ[ق‪.]18 ،17 :‬‬
‫ويف «الصحيحني» وغريمها‪ ،‬عن أيب هريرة ‪ ‬عن النبي ‪ ‬قال‪:‬‬
‫«إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبني ما فيها‪ ،‬يزل هبا يف النار أبعد ما بني املرشق‬
‫واملغرب»‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)6475‬ومسلم (‪ ،)74‬ويف رواية للبخاري‪« :‬فال يؤذ جاره»‪.‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪86‬‬
‫ويف البخاري عنه ‪ ‬عن النبي ‪ ‬قال‪« :‬إن العبد ليتكلم بالكلمة‬
‫من رضوان اهلل ال يلقي هلا ً‬
‫بال يرفعه اهلل هبا درجات‪ ،‬وإن العبد ليتكلم بالكلمة من‬
‫بال هيوي هبا يف جهنم»(((‪.‬‬‫سخط اهلل ال يلقي هلا ً‬
‫ويف حديث معاذ ‪ ‬اآليت‪« :‬وهل يكب الناس يف النار عىل وجوههم أو قال‪:‬‬
‫عىل مناخرهم إال حصائد ألسنتهم»(((‪.‬‬
‫خريا أو ليصمت»‪ ،‬يدل عىل أنه ليس هناك‬ ‫قال ابن رجب ‪« :‬قوله‪« :‬فليقل ً‬
‫مأمورا بقوله‪ ،‬وإما‬
‫ً‬ ‫خريا فيكون‬
‫كالم يستوي قوله والصمت عنه‪ ،‬بل إما أن يكون ً‬
‫مأمورا بالصمت عنه»(((‪.‬‬
‫ً‬ ‫أن يكون غري خري فيكون‬
‫واختلف العلامء هل يكتب عىل املرء كل ما تكلم به أو ال يكتب عليه إال ما فيه‬
‫ثواب أو عقاب؟ عىل قولني‪ .‬وقد قال عيل بن أيب طلحة عن ابن عباس ‪:‬‬
‫«يكتب كل ما تكلم به من خري أو رش‪ ،‬حتى إنه ليكتب قوله‪ :‬أكلت ورشبت‬
‫وذهبت وجئت‪ ،‬حتى إذا كان يوم اخلميس عرض قوله وعمله ُفأقر ما كان فيه من‬
‫خري أو رش‪ ،‬وألقي سائره‪ ،‬فذلك قوله ‪ :‬ﭽﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ‬
‫ﯜﯝﭼ[الرعد‪.]39 :‬‬
‫طاووسا‬
‫ً‬ ‫وكان اإلمام أمحد ‪ ‬يف مرضه يسمع له أنني‪ ،‬فقال له أصحابه‪ :‬إن‬
‫يقول‪« :‬إن أنني املريض يكتب عليه»‪ ،‬فأمسك عن األنني‪.‬‬
‫وذكر القرطبي ‪ ‬عن أيب اجلوزاء وجماهد أهنام قاال‪« :‬يكتب عىل اإلنسان كل‬
‫يشء حتى األنني يف مرضه»‪.‬‬
‫وقال عكرمة ‪« :‬ال يكتب إال ما يؤجر به أو يؤزر عليه»‪.‬‬
‫مباحا‬
‫قال‪ :‬وقيل‪ :‬يكتب عليه كل ما يتكلم به‪ ،‬فإذا كان آخر النهار حمي عنه ما كان ً‬
‫نحو‪ :‬انطلق‪ ،‬اقعد‪ ،‬كل‪ ،‬مما ال يتعلق به أجر وال وزر» اه(((‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪.)6478‬‬
‫((( وهو احلديث رقم (‪.)29‬‬
‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)335/1‬‬
‫((( «تفسري القرطبي» (‪.)11/17‬‬
‫‪87‬‬ ‫الحديث الخامس عشر‬

‫‪-3‬التحذير من كثرة الكالم الذي ال فائدة فيه؛ ألنه يوجب قسوة القلب‪ ،‬وقد قال أمري‬
‫املؤمنني عمر ‪« :‬من َك ُثر كالمه َك ُثر َسقطه‪ ،‬ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه‪،‬‬
‫ومن كثرت ذنوبه كانت النار أوىل به»(((‪.‬‬
‫وكان أبو بكر ‪ ‬يأخذ بلسانه ويقول‪ :‬هذا أوردين املوارد‪ .‬فليحذر املسلم من‬
‫لسانه‪ ،‬وال يتلفظ إال بخري‪ ،‬فطوبى لعبد راقب لسانه وكبح مجاحه فحفظه من كل‬
‫ما يغضب اهلل‪.‬‬
‫ولذا قال بعض السلف‪« :‬تعرض عىل ابن آدم يوم القيامة ساعات عمره‪ ،‬فكل‬
‫ساعة مل يذكر اهلل فيها إال تقطعت نفسه عليها حرسات»‪.‬‬
‫‪-4‬وجوب إكرام اجلار‪ ،‬لقوله ‪« :‬ومن كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليكرم‬
‫جاره»‪ ،‬واجلار هو املالصق لك يف الدار‪ ،‬أو هو كل من جرى به العرف أنه جار‪.‬‬
‫وإكرامه يكون بصور‪ :‬مالقاته بوجه طليق‪ ،‬والسؤال عن حاله‪ ،‬وعيادته إذا مرض‪،‬‬
‫والقيام بمواساته عند حاجته‪ ،‬وحفظ عوراته‪ ،‬والذب عن عرضه‪ ،‬وتعاهده باهلدية‬
‫والصدقة‪ ،‬ففي «صحيح مسلم» عن أيب ذر ‪ ‬أن النبي ‪ ‬قال له‪:‬‬
‫«يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جريانك»‪.‬‬
‫وثبت يف «الصحيحني» أن النبي ‪ ‬قال‪« :‬ما زال جربيل يوصيني باجلار‬
‫حتى ظننت أنه سيورثه»‪.‬‬
‫‪-5‬حتريم أذية اجلار‪ ،‬لقوله يف رواية‪« :‬فال يؤذ جاره»‪ ،‬ومن صور أذيته‪ :‬االعتداء عىل‬
‫حرمته‪ ،‬يف «الصحيحني» عن ابن مسعود ‪ ‬عن النبي ‪ ‬أنه سئل‪:‬‬
‫«أي الذنب أعظم؟ قال‪ :‬أن جتعل هلل ندًّ ا وهو خلقك‪ ،‬قيل‪ :‬ثم أي؟ قال‪ :‬أن تقتل‬
‫ولدك خمافة أن يطعم معك‪ ،‬قيل‪ :‬ثم أي؟ قال‪ :‬أن تزاين حليلة جارك»‪.‬‬
‫ويف «صحيح البخاري» عن أيب رشيح عن النبي ‪ ‬قال‪« :‬واهلل ال يؤمن‪،‬‬
‫واهلل ال يؤمن‪ ،‬واهلل ال يؤمن‪ ،‬قيل‪ :‬ومن يا رسول اهلل؟ قال‪ :‬من ال يأمن جاره‬
‫بوائقه»؛ أي‪ :‬ظلمه وغشمه وعدوانه‪.‬‬
‫((( «جامع العلوم» (‪.)339/1‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪88‬‬
‫ومنها‪ :‬الكالم يف عرضه بالقدح والذم‪ ،‬فقد روى اإلمام أمحد من حديث أيب هريرة‬
‫‪ ‬قال‪ :‬قيل‪ :‬يا رسول اهلل إن فالنة تصيل الليل‪ ،‬وتصوم النهار‪ ،‬ويف لساهنا‬
‫يشء تؤذي جرياهنا سليطة‪ ،‬قال ‪« :‬ال خري فيها‪ ،‬هي يف النار»‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬االعتداء عىل حقوقه وممتلكاته من سيارة وأشجار ونحومها‪.‬‬

‫والجيران ثالثة‪:‬‬
‫جار قريب مسلم‪ ،‬وجار مسلم‪ ،‬وجار كافر‪.‬‬
‫فاجلار القريب املسلم له ثالثة حقوق‪ :‬حق اإلسالم‪ ،‬وحق القرابة‪ ،‬وحق اجلوار‪.‬‬
‫واجلار املسلم له حقان‪ :‬حق اإلسالم‪ ،‬وحق اجلوار‪.‬‬
‫واجلار الكافر له حق واحد‪ :‬وهو حق اجلوار‪.‬‬
‫‪-6‬وجوب إكرام الضيف حق الضيافة‪ ،‬وهي يوم وليلة‪ ،‬والضيافة ثالثة أيام‪ ،‬وما زاد‬
‫فهو صدقة‪ ،‬ملا ثبت يف «الصحيحني» عن أيب رشيح عن النبي ‪ ‬قال‪:‬‬
‫«الضيافة ثالثة أيام‪ ،‬وجائزته يوم وليلة‪ ،‬وما أنفق عليه بعد ذلك فهو صدقة‪ ،‬وال‬
‫حيل له أن يثوي عنده‪ ،‬حتى يؤثمه»‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬وكيف يؤثمه؟ قال‪« :‬يقيم‬
‫عنده وال يشء له يقريه به»(((‪.‬‬
‫وإكرامه يكون بحسب ما جرى به العرف؛ ألنه مل حيدد من ِقبل الرشع‪ .‬واإلكرام‬
‫يشمل اإلكرام القويل بالبشاشة وطالقة الوجه والرتحيب به‪ .‬واإلكرام الفعيل‬
‫بتقديم حق الضيافة‪...‬‬
‫قال العلامء‪ :‬وللضيف املطالبة بحقه إذا منعه املض ّيف؛ ألنه حق واجب له(((‪،‬‬
‫وإكرامه يكون بحسب ما جرى به العرف‪ ،‬وعىل حسب حال املض ّيف‪.‬‬

‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)6019‬ومسلم (‪.)48‬‬


‫((( «الروض املربع» (‪.)1028/2‬‬
‫‪89‬‬ ‫الحديث السادس عشر‬

‫الحديث السادس عشر‬

‫صنِي‪َ ،‬ق َ‬
‫ال‪:‬‬ ‫ال لِل َّنب ِِّي ‪َ :‬أ ْو ِ‬ ‫ه َر ْي َرةَ ‪َ ‬أنَّ َر ُجالً َق َ‬ ‫َع ْن َأبِي ُ‬
‫ب»‪َ ،‬ر َوا ُه ال ُبخَ ا ِر ُّي(((‪.‬‬ ‫ال‪« :‬الَ ت َْغ َ‬
‫ض ْ‬ ‫ب»‪َ ،‬ف َر َّد َد مِ َرار ًا‪َ ،‬ق َ‬
‫ض ْ‬ ‫«الَ ت َْغ َ‬

‫فيه فوائد‪:‬‬
‫‪-1‬الغضب هو غليان دم القلب إلرادة االنتقام‪ ،‬وهو مجرة يلقيها الشيطان يف قلب‬
‫ابن آدم‪.‬‬
‫وكرر النبي ‪ ‬عدم الغضب عىل السائل مما يدل عىل أن الغضب مجاع‬ ‫ّ‬
‫التحرز منه مجاع اخلري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الرش‪ ،‬وأن‬
‫‪ -2‬قوله‪« :‬ال تغضب»‪ ،‬يتضمن أمرين عظيمني‪:‬‬
‫ِ‬
‫اخللق‪ ،‬واحللم والصرب‪،‬‬ ‫أحدمها‪ :‬اجتناب أسباب الغضب‪ ،‬والتمرن عىل حسن‬
‫وتوطني النفس عىل ما يصيب اإلنسان من اخلَلق من األذى القويل والفعيل‪ ،‬فإذا‬
‫ُو ِّفق هلا العبد‪ ،‬وورد عليه وارد الغضب‪ ،‬احتمله بحسن خلقه‪ ،‬وتلقاه بحلمه‬
‫وصربه‪ ،‬ومعرفته بحسن عواقبه‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬عدم العمل بمقتىض الغضب إذا وقع منه‪ ،‬فإن الغضب غال ًبا ال يتمكن‬
‫اإلنسان من دفعه ورده‪ ،‬ولكن يتمكن من عدم تنفيذه‪ ،‬فعليه إذا غضب أن يمنع‬
‫نفسه من األقوال واألفعال املحرمة التي يقتضيها الغضب(((‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ )6116‬وهو من أفراد البخاري‪.‬‬
‫((( انظر‪« :‬جامع العلوم» (‪ ،)364/1‬و «هبجة قلوب األبرار» ص(‪.)135‬‬
‫‪ -3‬أن عالج الغضب قبل وقوعه‪ ،‬هو بام تقدم‪ ،‬وبتوطني النفس عىل عدم الغضب‪.‬‬

‫وأما عالجه بعد وقوعه فيحصل بأمور‪:‬‬


‫أ‪-‬تذكر فضل كظم الغيظ‪ ،‬فقد قال اهلل ‪ :‬ﭽﭞﭟﭠﭡﭢ‬
‫ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭼ [آل عمران‪.]134 :‬‬
‫‪‬‬ ‫وثبت يف «الصحيحني» وغريمها عن أيب هريرة ‪ ،‬عن النبي‬
‫بالصعة‪ ،‬إنام الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب»(((‪.‬‬
‫قال‪« :‬ليس الشديد ُّ َ‬
‫وروي يف احلديث عن معاذ بن أنس ‪ ،‬عن النبي ‪ ‬قال‪« :‬من‬
‫كظم غي ًظا وهو قادر عىل أن ين ّفذه‪ ،‬دعاه اهلل يوم القيامة عىل رؤوس اخلالئق حتى‬
‫خييه من أي احلور شاء»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫وقال احلسن البرصي ‪« :‬أربع من كن فيه عصمه اهلل من الشيطان‪ّ ،‬‬
‫وحرمه‬
‫عىل النار‪ :‬من ملك نفسه عند الرغبة والرهبة والشهوة والغضب»‪.‬‬
‫ب‪ -‬استحضار ما جاء يف عاقبة ثمرة الغضب من الوعيد‪.‬‬
‫ج‪ -‬العمل ببعض العالجات التي وردت يف النصوص‪:‬‬
‫منها‪:‬االستعاذة باهلل من الشيطان الرجيم‪ ،‬ففي «الصحيحني» وغريمها عن سليامن‬
‫استب رجالن عند النبي ‪ ‬ونحن عنده جلوس‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫بن رصد قال‪:‬‬
‫امحر وجهه‪ ،‬فقال النبي ‪:‬‬ ‫وأحدمها يسب صاحبه مغض ًبا قد ّ‬
‫«إين ألعلم كلمة لو قاهلا لذهب عنه ما جيد‪ ،‬لو قال‪ :‬أعوذ باهلل من الشيطان‬
‫الرجيم» فقالوا للرجل‪ :‬أال تسمع ما يقول النبي ؟ قال‪« :‬إين لست بمجنون»‪.‬‬
‫فعىل من غضب أن يستحرض هذا احلديث‪ ،‬ويؤمن به ويعمل بمقتضاه‪ ،‬وسريى‬
‫أثر ذلك عليه يف ختفيف الغضب وزواله‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)6114‬ومسلم (‪.)2609‬‬
‫(((أخرجه أبو داود (‪ ،)4777‬والرتمذي (‪ ،)2021‬وابن ماجه (‪ ،)4186‬ويف إسناده ضعف‪ .‬قال الرتمذي‪:‬‬
‫«هذا حديث حسن غريب»‪.‬‬
‫‪91‬‬ ‫الحديث السادس عشر‬

‫ومنها‪:‬الوضوء‪ ،‬ملا روى أبو داود من حديث عروة بن حممد السعدي عن أبيه عن‬
‫جده مرفو ًعا‪« :‬إن الغضب من الشيطان‪ ،‬وإن الشيطان ُخلق من النار‪ ،‬وإنام‬
‫تطفأ النار باملاء‪ ،‬فإذا غضب أحدكم فليتوضأ»(((‪.‬‬
‫ومنها‪:‬السكوت‪ ،‬فعن ابن عباس ‪ ،‬عن النبي ‪ ‬قال‪« :‬وإذا‬
‫غضب أحدكم فليسكت»‪ .‬رواه أمحد بسند فيه ضعف(((‪.‬‬
‫أيضا دواء عظيم للغضب؛ ألن الغضبان يصدر‬ ‫قال ابن رجب ‪« :‬وهذا ً‬
‫السباب‬
‫كثريا من ِّ‬
‫منه يف حال غضبه من القول ما يندم عليه يف حال زوال غضبه ً‬
‫وغريه‪ ،‬مما يعظم رضره‪ ،‬فإذا سكت زال هذا الرش كله عنه»(((‪.‬اهـ‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬تغيير الهيئة والحالة التي هو عليها‪ ،‬وقد ورد فيها حديثان‪:‬‬
‫ً‬
‫مطول‪ ،‬وفيه‪« :‬أال إن الغضب مجرة يف قلب ابن‬ ‫ـحديث أيب سعيد اخلدري ‪‬‬
‫آدم‪ ،‬أفام رأيتم إىل محرة عينيه‪ ،‬وانتفاخ أوداجه‪ ،‬فمن أحس من ذلك شيئًا فليلزق‬
‫باألرض»‪ .‬رواه أمحد والرتمذي بإسناد ضعيف(((‪.‬‬
‫ـوحديث أيب ذر ‪ ‬أن النبي ‪ ‬قال‪« :‬إذا غضب أحدكم وهو قائم‬
‫فليجلس‪ ،‬فإن ذهب عنه الغضب وإال فليضطجع»‪ .‬رواه أبو داود‪ ،‬ويف سنده اختالف(((‪.‬‬
‫قال ابن األثري ‪« :‬معناه‪ :‬أن القائم مته ّيئ للحركة والبطش‪ ،‬والقاعد دونه‬
‫يف ذلك‪ ،‬واملضطجع دوهنام‪ ،‬ويشبه أن يكون إنام أمره باجللوس واالضطجاع؛ لئال‬
‫يبدر منه يف حال قيامه بادرة يندم عليها فيام بعدُ »‪.‬اهـ(((‪.‬‬

‫((( «سنن أيب داود» (‪ )4784‬وإسناده ضعيف‪.‬‬


‫((( برقم (‪ )2136‬ويف إسناده ليث بن أيب سليم وهو ضعيف‪.‬‬
‫((( «جامع العلوم» (‪.)366/1‬‬
‫((( «مسند أمحد» (‪ ،)11143‬والرتمذي (‪ )2191‬ويف إسناده عيل بن زيد بن جدعان وهو ضعيف‪.‬‬
‫((( «سنن أيب داود» (‪.)4782‬‬
‫((( «جامع األصول» (‪.)440/8‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪92‬‬
‫‪-4‬أن الغضب عىل ثالث درجات‪:‬‬
‫أ‪-‬اإلفراط يف الغضب جدًّ ا‪ ،‬حتى ال يدري ما يقول ويفعل‪ .‬فهذا ال حكم ألقواله؛‬
‫ألنه قد ُأغلق عليه‪.‬‬
‫ب‪ -‬من ال يغضب مطل ًقا‪ ،‬ولو مع وجود أسباب الغضب‪.‬‬
‫ج‪-‬التوسط يف الغضب‪ ،‬بحيث يغضب إذا احتاج إىل الغضب‪ ،‬والعكس بالعكس‪،‬‬
‫وهذه احلال هي التي ينبغي لإلنسان أن جياهد نفسه عليها(((‪.‬‬
‫‪-5‬الغضب‪ :‬منه ما هو ِجبِ ِّل ومنه ما هو مكتسب‪ ،‬وقد ثبت يف «صحيح مسلم» أن‬
‫النبي ‪ ‬قال ألشج؛ أشج عبد القيس‪« :‬إن فيك خلصلتني حيبهام اهلل‪:‬‬
‫احللم واألناة»‪ ،‬زاد أبو داود يف روايته‪ :‬قال‪ :‬يا رسول اهلل أنا أخت َّلق هبام أم اهلل جبلني‬
‫عليهام؟ قال ‪« :‬بل اهلل َجبلك عليهام»‪ ،‬فقال‪« :‬احلمد هلل الذي جبلني‬
‫عىل خلتني حيبهام اهلل ورسوله»(((‪.‬‬

‫((( انظر‪« :‬إغاثة اللهفان يف حكم طالق الغضبان»‪ ،‬البن القيم ص(‪.)32‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪ ،)25‬وأبو داود (‪.)5225‬‬
‫‪93‬‬ ‫الحديث السادس عشر‬

‫الحديث السابع عشر‬

‫‪‬‬ ‫هلل‬
‫ول ا ِ‬ ‫س ِ‬ ‫س ‪َ ‬ع ْن َر ُ‬ ‫ش َّدا ِد ْبنِ َأ ْو ٍ‬ ‫َع ْن َأبِي َي ْع َلى َ‬
‫سنُوا‬ ‫يء‪َ ،‬ف ِإ َذا َق َت ْلت ُْم َف َأ ْح ِ‬ ‫َ ُ ِّ َ‬ ‫اهلل َكت َ‬ ‫َ‬ ‫َق َ‬
‫سانَ َعلى كل ش ٍ‬ ‫َب اإل ِْح َ‬ ‫ال‪« :‬إِنَّ‬
‫ش ْف َر َت ُه‪َ ،‬و ْل ُي ِر ْح‬‫سنُوا ال ِّذ ْب َحةَ‪َ ،‬و ْل ُيحِ َّد َأ َح ُد ُك ْم َ‬ ‫القِ ْت َلةَ‪َ ،‬و ِإ َذا َذ َب ْحت ُْم َف َأ ْح ِ‬
‫سل ٌِم(((‪.‬‬ ‫ِيح َت ُه»‪َ ،‬ر َوا ُه ُم ْ‬ ‫َذب َ‬
‫فيه فوائد‪:‬‬
‫‪-1‬راوي احلديث‪ :‬هو شداد بن أوس بن ثابت األنصاري‪ ،‬أبو يعىل‪ ،‬ابن أخي حسان‬
‫بن ثابت ‪ ،‬من فضالء الصحابة وعلامئهم‪.‬‬
‫وحلم»‪.‬‬
‫ً‬ ‫علم‬
‫قال عنه أبو الدرداء ‪« :‬إن شداد بن أوس أويت ً‬
‫وقال خالد بن معدان‪« :‬مل يبق بالشام أحدٌ كان أوثق وال أفقه وال أرىض من عبادة‬
‫بن الصامت وشداد بن أوس»‪.‬‬
‫له يف الكتب الستة‪ :‬ستة عرش حدي ًثا باملكرر‪ .‬وليس له يف الصحيحني سوى‬
‫حديثني‪ ،‬هذا أحدمها واآلخر حديث سيد االستغفار يف «صحيح البخاري»‪.‬‬
‫مات بالشام سنة (‪58‬هـ)(((‪.‬‬
‫‪-2‬إن اهلل قد فرض اإلحسان عىل كل يشء‪ ،‬وذلك ملحبته له‪ ،‬فهو حمسن حيب املحسنني‪،‬‬
‫وهو مع الذين اتقوا والذين هم حمسنون‪.‬‬

‫وقال‪:‬ﭽﮪﮫﮬﮭﮮﮯﭼ [البقرة‪.]195 :‬‬


‫((( برقم (‪ )1955‬وهو من أفراد مسلم‪.‬‬
‫((( «سري أعالم النبالء» (‪.)460/2‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪94‬‬
‫‪-3‬اإلحسان عىل نوعني‪:‬‬
‫إحسان يف عبادة اهلل‪ :‬بأن يعبد اهلل كأنه يراه‪ ،‬فإن مل يكن يراه فإن اهلل يراه‪ ،‬واجلد يف‬
‫القيام بحقوق اهلل عىل وجه النصح والتكميل هلا‪ ،‬وعدم اإلخالل بيشء منها‪.‬‬
‫وإحسان يف معاملة عباد اهلل‪ :‬وذلك بالقيام بحقوقهم الواجبة‪ ،‬ال سيام األقربني؛‬
‫كالوالدين واألقارب واألرحام‪ ،‬وكذلك يكون اإلحسان إليهم ببذل الندى هلم‪،‬‬
‫وكف األذى عنهم‪ ،‬وطالقة الوجه‪.‬‬
‫وقد تقدم تفصيل ذلك يف احلديث الثاين‪.‬‬
‫قال ابن رجب ‪« :‬وهذا احلديث يدل عىل وجوب اإلحسان يف كل يشء من‬
‫األعامل‪ ،‬لكن إحسان كل يشء بحسبه‪.(((»...‬‬
‫‪-4‬أن من أنواع اإلحسان‪ :‬اإلحسان إىل البهائم‪ ،‬وذلك بالرفق هبا وإحسان قتلها‬
‫وذبحها‪.‬‬
‫وقد وردت أحاديث كثرية تدل عىل فضل الرأفة باحليوان‪ ،‬والرفق به واإلحسان‬
‫إليه‪.‬‬
‫منها‪ :‬عن أيب هريرة ‪ ‬أن رسول اهلل ‪ ‬قال‪« :‬بينام رجل يميش‬
‫بئرا فنزل فيها فرشب ثم خرج‪ ،‬فإذا كلب يلهث‬ ‫بطريق اشتد عليه العطش‪ ،‬فوجد ً‬
‫يأكل الثرى من العطش‪ ،‬فقال الرجل‪ :‬لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي‬
‫ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقي‪ ،‬فسقى الكلب‪،‬‬‫كان قد بلغ مني‪ ،‬فنزل البئر فمأل خ ّفه ً‬
‫أجرا؟ قال ‪:‬‬ ‫فشكر اهلل له فغفر له»‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول اهلل إن لنا يف البهائم ً‬
‫«يف كل كبد رطبة أجر»‪ .‬متفق عليه‪.‬‬
‫صورا‪:‬‬
‫ً‬ ‫ولإلحسان بالبهائم عند ذبحها‬
‫منها‪ :‬قوله ‪« :‬وأن حيدَّ أحدكم شفرته»؛ ألن كوهنا حادة يريح الذبيحة‬
‫بتعجيل زهوق نفسها‪ ،‬وهذا يدل عىل النهي عن الذبح بآلة كا َّلة‪.‬‬
‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)381/1‬‬
‫‪95‬‬ ‫الحديث السابع عشر‬

‫وقد روى اإلمام أمحد من حديث ابن عمر ‪ ‬قال‪ :‬أمر رسول اهلل‬
‫‪ ‬بحدّ الشفار‪ ،‬وأن تُوارى عنه البهائم‪ ،‬وقال ‪« :‬إذا ذبح‬
‫أحدكم فل ُيجهز»(((‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬إراحة الذبيحة‪ ،‬وذلك بإضجاعها عىل أحد شقيها‪ ،‬ووضع الذابح رجله‬
‫عىل صفاحها‪ ،‬ثم تذكيتها‪ ،‬وتركها حتى خيرج الدم منها بغزارة‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬قطع األوداج مع قطع احللقوم واملريء‪ ،‬وقد روى أبو داود من حديث‬
‫عكرمة‪ ،‬عن ابن عباس وأيب هريرة عن النبي ‪« :‬أنه هنى عن رشيطة‬
‫الشيطان‪ ،‬وهي التي تذبح فتَقطع اجللد‪ ،‬وال تُفري األوداج»(((‪.‬‬
‫قال عكرمة ‪« :‬كانوا يقطعون منها اليشء اليسري‪ ،‬ثم يدعوهنا حتى متوت‪،‬‬
‫وال يقطعون الودج‪ ،‬فنهى عن ذلك»‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬مواراة السكني عن الذبيحة عند سنّها‪ ،‬وعدم ذبحها أمام البهائم‪.‬‬
‫قال اإلمام أمحد ‪« :‬تقاد إىل الذبح قو ًدا رفي ًقا‪ ،‬وتوارى السكني عنها‪ ،‬وال‬
‫تُظهر السكني إال عند الذبح‪ ،‬أمر رسول اهلل بذلك أن توارى الشفار‪ ،‬وقال‪ :‬ما‬
‫أهبمت عليه البهائم فلم تبهم أهنا تعرف رهبا‪ ،‬وتعرف أهنا متوت‪ ،‬وقال‪ُ :‬يروى عن‬
‫كل يشء إال عىل أهنا تعرف رهبا‪ ،‬وختاف‬ ‫ابن سابط أنه قال‪ :‬إن البهائم ُجبِلت عىل ِّ‬
‫املوت»(((‪.‬‬
‫ورأى ابن عمر ‪ً ‬‬
‫رجل قد وضع رجله عىل شاة‪ ،‬وهو حيد السكني‪ ،‬فرضبه‬
‫حتى أ ْفلت الشاة(((‪.‬‬
‫وقد قيل‪ :‬إن البهيمة إذا تُركت تنظر إىل البهائم وهي تُذبح‪ ،‬أو تنظر إىل السكني‬
‫عند سنّها‪ ،‬فإهنا تفرز مادة تفسد اللحم‪ .‬فاهلل أعلم‪.‬‬
‫((( «مسند أمحد» (‪ ،)5864‬ويف إسناده ابن هليعة وهو ضعيف‪.‬‬
‫((( «سنن أيب داود» (‪ ،)2826‬وإسناده ضعيف‪.‬‬
‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)392/1‬‬
‫((( «املغني» (‪.)305/13‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪96‬‬
‫ومنها‪ :‬عدم كرس عنقها أو سلخها قبل زهوق الروح‪ ،‬ملا روى الدارقطني عن أيب‬
‫هريرة ‪ ،‬عن النبي ‪ ‬قال‪« :‬ال تعجلوا األنفس قبل أن تزهق»(((‪.‬‬
‫توجه إىل القبلة؟‬
‫فإن قال قائل‪ :‬وهل من اإلحسان إىل البهيمة عند ذبحها أن ّ‬
‫قال ذلك بعض أهل العلم‪ ،‬وكرهوا أن توجه عند الذبح إىل غري القبلة‪ ،‬ولكن الذي‬
‫يظهر أنه ال يشرتط توجيهها إىل القبلة‪ ،‬فإن أمكن ذلك من غري مشقة فحسن(((‪.‬‬

‫((( «سنن الدارقطني» (‪ ،)4754‬وإسناده ضعيف‪.‬‬


‫((( «املغني» (‪.)305/13‬‬
‫‪97‬‬ ‫الحديث الثامن عشر‬

‫الحديث الثامن عشر‬

‫ب ْبنِ ُجنَا َدةَ ‪َ ،‬و َأبِي َع ْب ِد ال َّر ْحمنِ ُم َعا ِذ ْبنِ َج َب ٍل‬ ‫َع ْن َأبِي َذ ٍّر ُج ْن ُد ِ‬
‫ت‪َ ،‬و َأ ْتبِع‬ ‫َّق َ‬
‫اهلل َح ْي ُث َما ُك ْن َ‬ ‫هلل ‪َ ‬ق َ‬
‫ال‪ِ « :‬ات ِ‬ ‫ول ا ِ‬ ‫س ِ‬ ‫‪َ ،‬ع ْن َر ُ‬
‫ِي‬‫س ٍن»‪َ ،‬ر َوا ُه ال ِّت ْرمِ ذ ُّ‬ ‫َّاس بِخُ ُل ٍق َح َ‬
‫ها‪َ ،‬وخَ ال ِِق الن َ‬ ‫س َن َة ت َْم ُح َ‬ ‫الس ِّي َئ َة َ‬
‫الح َ‬ ‫َّ‬
‫يح‪.‬‬
‫صحِ ٌ‬ ‫سنٌ َ‬ ‫سخ‪َ :‬ح َ‬ ‫ض ال ُّن َ‬
‫سنٌ ‪َ ،‬وفِ ي َب ْع ِ‬ ‫ِيث َح َ‬ ‫ال‪َ :‬حد ٌ‬ ‫َو َق َ‬

‫فيه فوائد‪:‬‬
‫‪-1‬هذا احلديث أخرجه الرتمذي (‪ )1987‬من طريق سفيان‪ ،‬عن حبيب بن أيب ثابت‪،‬‬
‫عن ميمون بن أيب شبيب‪ ،‬عن أيب ذر ومعاذ بن جبل ‪.‬‬

‫وإسناده ضعيف‪ ،‬فيه ع ّلتان‪:‬‬

‫األوىل‪ :‬حبيب بن أيب ثابت مدلس‪ ،‬وقد عنعن ومل يرصح بالتحديث‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أن ميمون بن أيب شبيب مل يصح سامعه من أحد من الصحابة‪.‬‬
‫قال الفالس ‪« :‬ليس يف يشء من رواياته عن الصحابة‪ :‬سمعت‪ ،‬ومل أخرب أن‬
‫أحدً ا يزعم أنه سمع من أصحاب النبي»(((‪.‬‬
‫وقال ابن أيب حاتم ‪« :‬سألت أيب عن ابن أيب شبيب‪ ،‬عن أيب ذر متصل؟ قال‪ :‬ال»(((‪.‬‬
‫لكن احلديث له شواهد متعددة‪ ،‬ذكرها ابن رجب‪ ،‬وله عدة طرق‪ ،‬فلعله هبا‬
‫يتقوى إىل احلسن لغريه‪.‬‬
‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)396/1‬‬
‫((( «املراسيل» ص(‪.)167‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪98‬‬
‫وقول املؤلف‪« :‬وقال‪ :‬حديث حسن‪ ،‬ويف بعض النسخ‪ :‬حسن صحيح»‪ .‬أقول‪:‬‬
‫املوجود يف سنن الرتمذي ط‪ .‬بشار عواد‪ :‬حسن صحيح‪ .‬لكن احلكم األول أليق‬
‫باحلديث‪.‬‬

‫‪ 2‬راويا الحديث‪:‬‬
‫أما أبو ذر ‪ ‬فهو‪ :‬جندب بن جنادة بن سفيان الغفاري‪ ،‬صحايب مشهور‪،‬‬
‫بدرا‪ ،‬ومناقبه كثرية جدًّ ا‪ ،‬وقد ساق‬
‫تقدم إسالمه‪ ،‬وتأخرت هجرته‪ ،‬فلم يشهد ً‬
‫بعضا منها‪.‬‬
‫مسلم يف «صحيحه» ً‬
‫له يف الكتب الستة‪ :‬مائة وأربعة عرش حدي ًثا باملكرر‪.‬‬
‫مات سنة (‪32‬هـ) يف خالفة عثامن(((‪.‬‬
‫وأما معاذ ‪ :‬فهو أبو عبد الرمحن معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس األنصاري‬
‫بدرا وما بعدها‪ ،‬وكان إليه املنتهى يف العلم‬
‫اخلزرجي‪ ،‬من أعيان الصحابة‪ ،‬شهد ً‬
‫باألحكام والقرآن‪.‬‬
‫له يف الكتب الستة‪ :‬ثامن وسبعون حدي ًثا باملكرر‪.‬‬
‫مات بالشام سنة (‪18‬هـ)(((‪.‬‬
‫‪-3‬هذا احلديث حديث عظيم‪ ،‬مجع فيه النبي بني حق اهلل وحقوق عباده‪ ،‬فحق اهلل عىل‬
‫عباده‪ :‬أن يتَّقوه حق تقاته‪ ،‬والتقوى‪ :‬أن جتعل بينك وبني عذاب اهلل وقاية بفعل‬
‫أوامره واجتناب نواهيه‪.‬‬
‫ﭽﮥﮦﮧﮨﮩﮪﭼ [النساء‪:‬‬ ‫وهي وصية اهلل لألولني واآلخرين‪:‬‬
‫‪ ،]131‬ووصية كل رسول لقومه أن يقول‪ :‬ﭽﭜﭝﭞﭼ [العنكبوت‪،]16 :‬‬
‫ومل يزل السلف الصالح يتواصون هبا‪ ،‬كان أبو بكر ‪ ‬يقول يف خطبته‪ :‬أما‬
‫بعد‪ ،‬فإين أوصيكم بتقوى اهلل‪ ،‬وأن تثنوا عليه بام هو أهله‪.‬‬
‫((( «سري أعالم النبالء» (‪« ،)46/2‬تقريب التهذيب» ص(‪.)1143‬‬
‫((( «السري» (‪« ،)443/1‬التقريب» ص(‪.)950‬‬
‫‪99‬‬ ‫الحديث الثامن عشر‬

‫وكتب عمر إىل ابنه عبد اهلل‪« :‬أما بعد‪ ،‬فإين أوصيك بتقوى اهلل ‪ ‬فإن من اتقاه‬
‫وقاه‪ ،‬ومن أقرضه جزاه‪ ،‬ومن شكره زاده‪ ،‬فاجعل التقوى نصب عينيك وجالء‬
‫قلبك»‪.‬‬
‫‪-4‬احلث عىل التزام تقوى اهلل يف الرس والعالنية‪ ،‬حيث يراك الناس وحيث ال يرونك‪،‬‬
‫لقوله ‪« :‬اتق اهلل حيثام كنت»‪ ،‬أي‪ :‬عىل أي حال ويف كل مكان‪ ،‬قال ابن‬
‫رجب ‪« :‬ويف اجلملة فتقوى اهلل يف الرس هو عالمة كامل اإليامن‪ ،‬وله تأثري‬
‫أرس عبد‬
‫عظيم يف إلقاء اهلل لصاحبه الثناء يف قلوب املؤمنني»‪ ،‬ويف احلديث‪« :‬ما َّ‬
‫فرشا»‪.‬‬
‫رشا ًّ‬
‫فخريا‪ ،‬وإن ًّ‬
‫ً‬ ‫رسيرة إال ألبسه اهلل رداءها عالني ًة‪ ،‬إن ً‬
‫خريا‬
‫ثم قال فيام نقله عن بعض أهل العلم‪« :‬فالسعيد من أصلح ما بينه وبني اهلل‪ ،‬فإنه‬
‫من أصلح ما بينه وبني اهلل أصلح اهلل ما بينه وبني اخللق‪ ،‬ومن التمس حمامد الناس‬
‫بسخط اهلل‪ ،‬عاد حامده من الناس له ذا ًّما»(((‪.‬‬
‫‪-5‬أنه ملا كان العبد ال بد أن حيصل منه تقصري يف حقوق التقوى وواجباهتا أمر بام يدفع‬
‫ذلك ويمحوه‪ ،‬أن يتبع احلسنة السيئة‪ ،‬فقال ‪« :‬وأتبع السيئة احلسنة‬
‫متحها»‪ ،‬واحلسنة قد يراد هبا التوبة من تلك السيئة‪ ،‬فالتوبة النصوح ال شك أهنا متحو‬
‫السيئة وتزيلها‪ ،‬وقد يراد هبا ما هو أعم من ذلك مما تك ّفر ومتحى به السيئات‪ ،‬كام يف‬
‫قوله ‪ :‬ﭽﮱﯓﯔﯕﭼ [هود‪.]114 :‬‬
‫فمام تكفر به السيئات‪:‬‬
‫هنرا بباب أحدكم يغتسل‬
‫الصلوات اخلمس‪ :‬قال النبي ‪« :‬أرأيتم لو أن ً‬
‫منه كل يوم مخس مرات‪ ،‬هل يبقى من درنه يشء؟ قالوا‪ :‬ال‪ ،‬قال‪ :‬فذلك مثل‬
‫الصلوات اخلمس يمحو اهلل هبن اخلطايا»‪ .‬متفق عليه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬اإلحسان إىل اخللق من اآلدميني وغريهم‪ ،‬والعفو عن الناس‪ ،‬وتفريج‬
‫الكربات‪ ،‬والتيسري عىل املعرسين‪ ،‬وإزالة الرضر عن املترضرين‪.‬‬
‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)411 ،410 /1‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪100‬‬
‫ومنها‪ :‬املصائب‪ ،‬فإنه ال يصيب املؤمن بالء يف بدنه أو أهله أو ماله‪ ،‬إال ك َّفر اهلل عنه‬
‫هبا خطاياه‪ .‬وغري ذلك(((‪.‬‬
‫بخ ُلق‬
‫‪-6‬احلث عىل حسن اخللق‪ ،‬وأنه من خصال التقوى‪ ،‬لقوله‪« :‬وخالق الناس ُ‬
‫حسن»‪.‬‬
‫عرفه عبد اهلل بن املبارك ‪ ‬بأنه‪« :‬بذل الندى‪ ،‬وكف األذى‪،‬‬
‫وحسن اخللق ّ‬
‫وطالقة الوجه»‪.‬‬
‫بذل الندى‪ :‬أي‪ :‬املعروف لآلخرين‪ ،‬دفعه هلم أو مساعدهتم عليه‪ ،‬وكف األذى‪:‬‬
‫أي‪ :‬دفعه عنهم ما أمكن‪ ،‬مع الصرب عليهم‪ ،‬وعدم التضجر منهم‪ ،‬وطالقة الوجه‪:‬‬
‫أي‪ :‬بشاشته‪ ،‬إلدخال الرسور عليهم عند مالقاهتم وجمالستهم‪ ،‬ولذا قال النبي‬
‫‪« :‬وابتسامتك يف وجه أخيك صدقة»‪.‬‬
‫ومن ُ‬
‫اخل ُلق احلسن‪ :‬أن حتب لآلخرين ما حتب لنفسك‪ ،‬وتكره هلم ما تكرهه‬
‫لنفسك‪ ،‬وأن تعامل كل أحد بام يليق به‪ ،‬ويناسب حاله من صغري وكبري‪ ،‬وعاقل‬
‫وأمحق‪ ،‬وعامل وجاهل(((‪.‬‬
‫وقال شيخ اإلسالم ‪« :‬مجاع اخللق احلسن مع الناس‪ :‬أن تصل من قطعك‪،‬‬
‫وتعطي من حرمك‪ ،‬وتعفو عمن ظلمك‪ ،‬وبعض هذا واجب وبعضه مستحب»(((‪.‬‬

‫وقد جاء في الحث على حسن الخلق أحاديث كثيرة‪:‬‬

‫منها‪ :‬عن أيب الدرداء ‪ ‬أن النبي ‪ ‬قال‪« :‬ما من يشء أثقل يف‬
‫ميزان العبد املؤمن يوم القيامة من حسن اخللق»‪ ،‬رواه أبو داود والرتمذي(((‪.‬‬

‫(((وقد ذكر شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪ ‬يف «جمموع الفتاوى» (‪ )655/10‬أن الذنوب يزول موجبها‬
‫بأشياء عرشة ثم ذكرها‪...‬‬
‫((( «هبجة قلوب األبرار» البن سعدي (‪ )42/2‬ضمن املجموعة الكاملة‪.‬‬
‫((( «الوصية الصغرى» ص(‪ )165‬مع رشحها‪...‬‬
‫((( «سنن أيب داود» (‪ ،)4799‬والرتمذي (‪.)2002‬‬
‫‪101‬‬ ‫الحديث الثامن عشر‬

‫إيل وأقربكم‬
‫وعن جابر ‪ ‬أن رسول اهلل ‪ ‬قال‪« :‬إن من أحبكم ّ‬
‫جملسا يوم القيامة أحاسنكم أخال ًقا»‪ ،‬رواه الرتمذي(((‪.‬‬
‫مني ً‬
‫وعن أيب أمامة ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪« :‬أنا زعيم ببيت يف أعىل‬
‫اجلنة ملن حسن خلقه» رواه أبو داود(((‪.‬‬
‫قال الشيخ ابن سعدي ‪« :‬فمن اتقى اهلل‪ ،‬وحقق تقواه‪ ،‬وخا َل َق الناس عىل‬
‫اختالف طبقاهتم باخلُ ُلق احلسن‪ ،‬فقد حاز اخلري كله؛ ألنه قام بحق اهلل وحقوق‬
‫عباده‪ ،‬وألنه كان من املحسنني يف عبادة اهلل‪ ،‬املحسنني إىل عباد اهلل»‪.‬اهـ(((‪.‬‬

‫((( برقم (‪.)1975‬‬


‫((( برقم (‪ )4800‬ويف إسناده ضعف‪.‬‬
‫((( «هبجة قلوب األبرار» (‪.)42/2‬‬
‫‪103‬‬ ‫الحديث التاسع عشر‬

‫الحديث التاسع عشر‬

‫ف‬ ‫ت خَ ْل َ‬ ‫ال‪ُ :‬ك ْن ُ‬ ‫اس ‪َ ‬ق َ‬ ‫هلل ْبنِ َع َّب ٍ‬ ‫اس َع ْب ِد ا ِ‬ ‫َع ْن َأبِي َ‬
‫الع َّب ِ‬
‫ظ‬ ‫ات‪ :‬ا ِْح َف ِ‬ ‫ك َكل َِم ٍ‬ ‫ال‪َ « :‬يا ُغالَ ُم‪ِ ،‬إنِّي ُأ َع ِّل ُم َ‬ ‫ال َّنب ِِّي ‪َ ‬ي ْوم ًا‪َ ،‬ف َق َ‬
‫َ‬
‫اهلل‪،‬‬ ‫اس َأ ِل‬ ‫ت َف ْ‬ ‫س َأ ْل َ‬ ‫ك‪ِ ،‬إ َذا َ‬ ‫اه َ‬ ‫اهلل تَجِ ْد ُه ت َُج َ‬ ‫َ‬ ‫ظ‬‫ك‪ ،‬ا ِْح َف ِ‬ ‫ظ َ‬ ‫َ‬
‫اهلل َي ْح َف ُ‬
‫ت َع َلى‬ ‫اجت ََم َع ْ‬ ‫اع َل ْم َأنَّ األُ َّم َة َل ِو ْ‬ ‫استَعِ ْن بِاهللِ‪َ ،‬و ْ‬ ‫ت َف ْ‬ ‫است ََع ْن َ‬ ‫َو ِإ َذا ْ‬
‫ك‪َ ،‬وإِنِ‬ ‫ُ‬
‫اهلل َل َ‬ ‫ِش ْي ٍء َق ْد َك َت َب ُه‬ ‫وك ِإالَّ ب َ‬ ‫ِش ْيء َل ْم َي ْن َف ُع َ‬ ‫وك ب َ‬ ‫َأ ْن َي ْن َف ُع َ‬
‫ٍ‬
‫ِشيء َق ْد َك َت َب ُه ُ‬
‫اهلل‬ ‫َ َّ َ‬ ‫ِش ْي ٍء َل ْم َي ُ‬ ‫وك ب َ‬ ‫ضرُّ َ‬ ‫اجت ََم ُعوا َع َلى َأ ْن َي ُ‬
‫ضرُّوك ِإال ب ْ ٍ‬ ‫ْ‬
‫ِيث‬ ‫ال‪َ :‬حد ٌ‬ ‫ِي َو َق َ‬ ‫ف»‪َ ،‬ر َوا ُه ال ِّت ْرمِ ذ ُّ‬ ‫الص ُح ُ‬ ‫ت ُّ‬ ‫ت األَ ْقالَ ُم َو َج َّف ِ‬ ‫ك‪ُ ،‬رفِ َع ِ‬ ‫َع َل ْي َ‬
‫يح‪.‬‬‫صحِ ٌ‬ ‫سنٌ َ‬ ‫َح َ‬
‫ف ِإ َلى‬ ‫ك‪ ،‬ت ََع َّر ْ‬ ‫ام َ‬ ‫أم َ‬ ‫اهلل تَجِ َد ُه َ‬ ‫ظ َ‬ ‫«اح َف ِ‬ ‫ْ‬ ‫ِي‪:‬‬‫َوفي ِر َوا َي ِة َغ ْي ِر ال ِّت ْرمِ ذ ِّ‬
‫ك َل ْم َي ُك ْن‬ ‫ط َأ َ‬ ‫أخ َ‬ ‫اع َل ْم َأنَّ َما ْ‬ ‫الش َّدةِ ‪َ .‬و ْ‬ ‫ك فِ ي ِّ‬ ‫يع ِر ْف َ‬ ‫هلل فِ ي ال َّرخَ ا ِء ْ‬ ‫ا ِ‬
‫الص ْب ِر‪،‬‬ ‫َّص َر َم َع َّ‬ ‫اع َل ْم َأنَّ الن ْ‬ ‫َك‪َ .‬و ْ‬ ‫طئ َ‬ ‫ك َل ْم َي ُك ْن ِل ُي ْخ ِ‬ ‫أصا َب َ‬‫ك‪َ ،‬و َما َ‬ ‫صي َب َ‬ ‫ِل ُي ِ‬
‫سر ًا»‪.‬‬ ‫س ِر ُي ْ‬ ‫ب‪َ ،‬و َأنَّ َم َع ا ْل ُع ْ‬ ‫َو َأنَّ ا ْل َف َر َج َم َع ا ْل َك ْر ِ‬

‫فيه فوائد‪:‬‬

‫‪-1‬هذا احلديث أخرجه الرتمذي (‪ )2516‬من طريق حنش الصنعاين‪ ،‬عن ابن عباس‪،‬‬
‫وإسناده صحيح‪ .‬قال الرتمذي‪« :‬هذا حديث حسن صحيح»‪.‬‬
‫وقال ابن منده ‪« :‬هذا إسناد مشهور‪ ،‬رواه الثقات‪ ،‬وقيس بن احلجاج مرصي‬
‫روى عنه مجاعة‪ ،‬وهلذا احلديث طرق عن ابن عباس أصحها هذا»‪ ،‬والرواية الثانية‬
‫أخرجها أمحد (‪...)2803‬‬
‫وقد روي عن ابن عباس ‪ ‬من طرق كثرية‪ ،‬من رواية ابنه عيل‪ ،‬ومواله‬
‫عكرمة‪ ،‬وعطاء بن أيب رباح‪ ،‬وعمرو بن دينار‪ ،‬وعبيد اهلل بن عبد اهلل‪ ،‬وعمر موىل‬
‫غفرة‪ ،‬وابن أيب مليكة وغريهم‪ ،‬كام قال ابن رجب ‪.(((‬‬

‫‪-2‬راوي احلديث‪ :‬هو عبد اهلل بن عباس بن عبد املطلب بن هاشم بن عبد مناف‪ ،‬ابن‬
‫عم رسول اهلل‪ ،‬ولد قبل اهلجرة بثالث سنني‪ ،‬ودعا له رسول اهلل بالفهم يف القرآن‪،‬‬
‫وكان يسمى البحر لسعة علمه‪.‬‬

‫وقال عمر ‪« :‬لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عرشه منا أحد»‪ ،‬مات سنة‬
‫(‪68‬هـ) بالطائف‪.‬‬

‫وهو من املكثرين من الرواية عن النبي ‪ ،‬فقد روى عنه (‪1660‬‬


‫حدي ًثا)‪ ،‬اتفق البخاري ومسلم عىل (‪ ،)75‬وانفرد البخاري بـ(‪ ،)120‬ومسلم‬
‫بـ(‪ )9‬أحاديث(((‪.‬‬

‫‪-3‬قال ابن رجب ‪« :‬وهذا احلديث يتضمن وصايا عظيمة‪ ،‬وقواعد كلية من‬
‫أهم أمور الدين‪ ،‬حتى قال بعض العلامء‪ :‬تدبرت هذا احلديث‪ ،‬فأدهشني وكدت‬
‫أطيش‪ ،‬فواأسفى من اجلهل هبذا احلديث‪ ،‬وقلة التفهم ملعناه»‪.‬‬

‫وقد أفرد ‪ ‬هلذا احلديث مؤل ًفا ً‬


‫خاصا باسم «نور االقتباس يف مشكاة وصية‬
‫النبي البن عباس»‪.‬‬

‫‪-3‬أن املراد بحفظ اهلل‪ :‬أي‪ :‬حفظ حدوده ورشيعته‪ ،‬بفعل أوامره واجتناب نواهيه‪،‬‬
‫وذلك بأن ال يراك حيث هناك‪ ،‬وال يفقدك حيث أمرك‪ ،‬فمن فعل ذلك حفظه ‪‬‬
‫يف دينه ونفسه وأهله وماله؛ ألن اجلزاء من جنس العمل‪ ،‬وهل جزاء اإلحسان إال‬
‫اإلحسان‪.‬‬
‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)461 460/1‬‬
‫((( «السري» (‪« ،)331/3‬التقريب» ص(‪.)518‬‬
‫‪105‬‬ ‫الحديث التاسع عشر‬

‫أما حفظه له يف دينه‪ :‬فيحفظه يف حياته من الشبهات املضلة‪ ،‬ومن الشهوات‬


‫املحرمة‪ ،‬وحيفظ عليه دينه عند موته‪ ،‬فيتوفاه عىل اإليامن‪.‬‬
‫ّ‬
‫وأما حفظه يف نفسه وأهله وماله‪ :‬فيحفظه من اآلفات‪ ،‬ويس ِّلم أهله وولده من‬
‫العاهات‪ ،‬وماله من الرسقات‪ ،‬وحتل فيه الربكات‪.‬‬
‫قال ابن رجب ‪« :‬ومن حفظ اهلل يف صباه وقوته‪ ،‬حفظه اهلل يف حال كربه‬
‫وضعف قوته‪ ،‬ومتَّعه بسمعه وبرصه وحوله وقوته وعقله‪ ،‬وكان بعض العلامء قد‬
‫جاوز املائة سنة وهو ممتّع بقوته وعقله‪ ،‬فوثب يو ًما وثبة شديدة‪ ،‬ف ُعوتب يف ذلك‪،‬‬
‫الصغر‪ ،‬فحفظها اهلل علينا يف الكرب‪.‬‬
‫فقال‪ :‬هذه جوارح حفظناها عن املعايص يف ِّ‬
‫ثم قال‪ :‬وقد حيفظ اهلل العبد بصالحه بعد موته يف ذريته‪ ،‬كام قيل يف قوله ‪:‬‬
‫ﭽﯦﯧﯨﭼ[الكهف‪ :]82 :‬إهنام حفظا بصالح أبيهام‪ ،‬قال سعيد بن‬
‫املسيب البنه‪ :‬ألزيدن يف صاليت من أجلك رجاء أن ُأ ْحفظ فيك‪ ،‬ثم تال هذه اآلية‪:‬‬
‫ﭽﯦﯧﯨﭼ‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬فمن حفظ اهلل حفظه اهلل من ّ‬
‫كل أذى‪ ،‬قال بعض السلف‪ :‬من اتقى اهلل‬
‫فقد حفظ نفسه‪ ،‬ومن ض َّيع تقواه‪ ،‬فقد ض ّيع نفسه واهلل الغني عنه‪ ،‬ومن عجيب‬
‫حفظ اهلل ملن حفظه أن جيعل احليوانات املؤذية بالطبع حافظ ًة له من األذى‪ ،‬كام‬
‫جرى لسفينة موىل النبي حيث كرس به املركب‪ ،‬وخرج إىل جزيرة‪ ،‬فرأى األسد‪،‬‬
‫فجعل يميش معه حتى د ّله عىل الطريق‪ ،‬فلام أوقفه عليها‪ ،‬جعل هيمهم كأنه يو ّدعه‬
‫ثم رجع عنه»(((‪.‬اهـ‪.‬‬
‫‪-4‬أن مفهومه يدل عىل أن من ض ّيع اهلل‪ ،‬بحيث ضيع أوامره‪ ،‬وارتكب ما هنى عنه‪،‬‬
‫فإن اهلل يض ّيعه وينسيه نفسه‪ ،‬قال اهلل ‪ :‬ﭽﯓﯔﯕ ﭼ[التوبة‪،]67 :‬‬
‫وقال‪ :‬ﭽﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭼ[الكهف‪،]28 :‬‬
‫وقال‪ :‬ﭽﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ ﭼ[الصف‪ ،]5 :‬حتى إن‬
‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)468/1‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪106‬‬
‫الرضر واألذى ليلحقه ممن يرجو نفعه‪ ،‬وهم أهله وذووه‪ .‬قال بعض السلف‪« :‬إين‬
‫ألعيص اهلل‪ ،‬فأعرف ذلك يف ُخ ُلق دابتي وامرأيت»‪.‬‬

‫‪-5‬أن من حفظ اهلل ‪ ‬بحيث حفظ أوامره‪ ،‬واجتنب نواهيه‪ ،‬فإن اهلل يكون‬
‫جتاهه؛ أي‪ :‬أمامه يدله عىل كل خري ويقربه منه وهيديه إليه‪ ،‬لقوله‪« :‬احفظ اهلل جتده‬
‫جتاهك»‪ .‬فهو ‪ ‬حمسن حيب املحسنني‪ ،‬وجيزي اإلحسان باإلحسان‪.‬‬

‫قال ‪ :‬ﭽﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﭼ[النحل‪.]128 :‬‬

‫كتب بعض السلف إىل أخ له‪« :‬أما بعد‪ ،‬فإن كان اهلل معك فمن ختاف؟»‪.‬‬

‫‪-6‬أنه ينبغي للمرء أال يسأل إال اهلل ‪ ،‬لقوله‪« :‬إذا سألت فاسأل اهلل»؛ أي‪ :‬ال‬
‫تسأل أحدً ا من املخلوقني‪ ،‬بل اجته بسؤالك إىل رب العاملني‪ ،‬ويف «السنن» بسند‬
‫جيد أن النبي قال‪« :‬الدعاء هو العبادة»‪.‬‬

‫وروي عن النبي ‪ ‬أنه قال‪« :‬ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله‬
‫شسع نعله إذا انقطع»‪ .‬رواه الرتمذي(((‪.‬‬

‫وقد وردت أحاديث كثرية يف النهي عن سؤال املخلوقني‪ ،‬منها قوله ‪:‬‬
‫«ال تزال املسألة بأحدكم حتى يلقى اهلل وليس يف وجهه ُمزعة حلم»‪ .‬متفق عليه‪.‬‬

‫وذلك ألن يف سؤال املخلوقني ذ ّلة وافتقار هلم‪ ،‬والذل واالفتقار واخلضوع‬
‫واالنكسار ال يكون إال للملك القهار‪.‬‬

‫وألن اهلل ‪ ‬حيب أن ُيسأل‪ ،‬ويغضب عىل من ال يسأله‪ ،‬فإنه يريد من عباده‬
‫امللحني يف الدعاء‪ ،‬فال يليق‬
‫أن يرغبوا إليه ويسألوه ويدعوه ويفتقروا إليه‪ ،‬وحيب ِّ‬
‫باملخلوق أن يتوجه إىل غريه‪.‬‬
‫(((برقم (‪ )3604‬قال الرتمذي‪« :‬هذا حديث غريب‪ ،‬وروى غري واحد هذا احلديث عن جعفر بن سليامن‪،‬‬
‫عن ثابت البناين عن النبي ‪ ‬ومل يذكروا فيه عن أنس»‪.‬‬
‫‪107‬‬ ‫الحديث التاسع عشر‬

‫قال أبو العتاهية‪:‬‬

‫نــي آدم حــن ُي َ‬


‫ســأ ُل يغضــب‬ ‫و ُب ُّ‬ ‫اللَّ يغضــب إن تركــت ســؤاله‬

‫يف فضــل نعمــة ربنــا تتقلــب‬ ‫فاجعــل ســؤالك لإللــه فإنــا‬

‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪« :‬سؤال املخلوقني فيه ثالث مفاسد‪ :‬مفسدة‬
‫االفتقار إىل غري اهلل‪ ،‬وهي من نوع الرشك‪ ،‬ومفسدة إيذاء املسؤول‪ ،‬وهي من نوع‬
‫ظلم اخللق‪ ،‬وفيه ُذ ٌّل لغري اهلل‪ ،‬وهو ظلم النفس»(((‪.‬‬
‫لكن إذا اضطر املرء لسؤال املخلوق ما يقدر عليه فال بأس بذلك‪ ،‬وعليه أن يعتقد‬
‫أنه سبب من األسباب‪ ،‬وأن املسبب هو اهلل ‪.‬‬
‫‪-7‬احلث عىل االستعانة باهلل سبحانه وطلب العون منه‪ ،‬لقوله‪« :‬وإذا استعنت فاستعن‬
‫باهلل»‪ ،‬وقد ثبت يف «صحيح مسلم» عن النبي ‪ ‬أنه قال‪« :‬احرص عىل‬
‫ما ينفعك‪ ،‬واستعن باهلل وال تعجز»‪ ،‬وأمر معاذ بن جبل أن ال يدع دبر كل صالة‬
‫أن يقول‪« :‬ال َّل ُه َّم أعنِّي عىل ذكرك وشكرك وحسن عبادتك»(((‪ ،‬وقد أرشد املوىل‬
‫‪ ‬عباده إىل االستعانة به فقال‪:‬ﭽﭢﭣﭤﭥ ﭼ‪ ،‬فالعبد حمتاج إىل‬
‫االستعانة باهلل يف فعل املأمورات‪ ،‬وترك املحظورات‪ ،‬ويف الصرب عىل املقدورات‪،‬‬
‫حرمه‬
‫ولوال معونة اهلل للعبد ما استطاع أن يقوم بام أوجبه عليه‪ ،‬وال أن يكف عام ّ‬
‫عليه‪.‬‬
‫قال ابن القيم ‪« :‬واالستعانة جتمع أصلني‪ :‬الثقة باهلل‪ ،‬واالعتامد عليه‪ ،‬فإن‬
‫العبد قد يثق بالواحد من الناس‪ ،‬وال يعتمد عليه يف أموره مع ثقته به الستغنائه‬
‫عنه‪ ،‬وقد يعتمد عليه مع عدم ثقته به حلاجته إليه‪ ،‬ولعدم من يقوم مقامه‪ ،‬فيحتاج‬
‫إىل اعتامده عليه‪ ،‬مع أنه غري واثق به»‪.‬‬
‫((( «كتاب اإليامن» ص(‪.)66‬‬
‫((( أخرجه أبو داود (‪ )1522‬وإسناده صحيح‪.‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪108‬‬
‫وقال‪« :‬قال شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪ :‬تأملت أنفع الدعاء‪ ،‬فإذا هو سؤال‬
‫العون عىل مرضاته‪ ،‬ثم رأيته يف الفاحتة يف‪ :‬ﭽﭢﭣﭤﭥﭼ»(((‪.‬‬
‫دائم أن يسأل اهلل املعونة والسداد‪ ،‬فقد قيل‪:‬‬
‫فينبغي للمرء ً‬
‫فأول ما جيني عليه اجتهاده‬ ‫ ‬ ‫إذا مل يكن ٌ‬
‫عون من اللَّ للفتى‬
‫‪-8‬أن ما يصيب العبد من نفع ورض يف دنياه فهو مقدّ ر عليه‪ ،‬وال يمكن أن يصيبه إال‬
‫ما كُتب عليه‪ ،‬وما كتب عليه فإنه ال خيطئه‪ ،‬وأن اجتهاد اخللق كلهم عىل خالف‬
‫املقدور ال يدفعه‪ ،‬وهذا يوجب للعبد توحيد اهلل ‪ ‬وإفراده باالستعانة والسؤال‬
‫والترضع واالبتهال‪ ،‬وإفراده بالطاعة والعبادة‪ ،‬وقد دل القرآن الكريم عىل مثل هذا‬
‫يف قوله ‪ :‬ﭽﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﭼ[التوبة‪.]51 :‬‬
‫وقال ‪ :‬ﭽﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﭼ[احلديد‪.]22 :‬‬
‫‪-9‬أن ما كتبه اهلل ‪ ‬يف اللوح املحفوظ قد انتهى وفرغ منه‪ ،‬لقوله‪« :‬رفعت األقالم‪،‬‬
‫وجفت الصحف»‪ ،‬وقد ثبت يف «صحيح مسلم» عن النبي ‪« :‬أن اهلل‬
‫كتب مقادير اخلالئق قبل أن خيلق السموات واألرض بخمسني ألف سنة»(((‪.‬‬
‫أيضا‪ :‬عن جابر ‪ ‬أن ً‬
‫رجل قال‪ :‬يا رسول اهلل فيم العمل اليوم أفيام‬ ‫وفيه ً‬
‫ج ّفت به األقالم وجرت به املقادير‪ ،‬أم فيام نستقبل؟ قال‪« :‬ال‪ ،‬بل فيام جفت به‬
‫ميس ملا ُخلق‬
‫األقالم وجرت به املقادير»‪ ،‬قال‪ :‬ففيم العمل؟ قال‪« :‬اعملوا فكل َّ‬
‫له»(((‪.‬‬
‫‪-10‬أن من عرف اهلل يف حال رخائه وصحته بحيث اتقاه وقام بطاعته‪ ،‬فإن اهلل‬
‫‪ ‬يعرفه يف حال الشدة‪ ،‬فيزيل عنه املرهوب‪ ،‬وينجيه من الكروب جزاء‬
‫وفا ًقا‪ ،‬وهذه عادة اهلل يف خلقه‪ ،‬فانظر إىل نبي اهلل يونس ملا وقع يف بطن احلوت‪،‬‬
‫((( «مدارج السالكني» (‪.)78/1‬‬
‫((( برقم (‪.)2653‬‬
‫((( برقم (‪.)2648‬‬
‫‪109‬‬ ‫الحديث التاسع عشر‬

‫قال اهلل ‪ :‬ﭽﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﭼ‬


‫معرضا عن اهلل حتى إذا‬
‫ً‬ ‫[الصافات‪ ،]144 ،143 :‬وهذا فرعون الطاغية‪ ،‬ملا كان‬
‫أدركه الغرق قال‪ :‬آمنت‪ ،‬فقال اهلل ‪ :‬ﭽﭻﭼﭽﭾﭿﮀ‬
‫ﮁﭼ[يونس‪.]91 :‬‬
‫التعرف إىل اهلل يف الرخاء يوجب معرفة اهلل‬
‫قال ابن رجب ‪« :‬فإذا علم أن ّ‬
‫لعبده يف الشدة‪ ،‬فال شدة يلقاها املؤمن يف الدنيا أعظم من شدة املوت‪ ،‬وهي‬
‫أهون مما بعدها إن مل يكن مصري العبد إىل خري‪ ،‬وإن كان مصريه إىل خري فهي آخر‬
‫شدة يلقاها‪ ،‬فالواجب عىل العبد االستعداد للموت قبل نزوله باألعامل الصاحلة‬
‫واملبادرة إىل ذلك‪ ،‬فإنه ال يدري املرء متى تنزل به هذه الشدة من ليل أو هنار‪ِ ،‬‬
‫وذكر‬
‫وهيون عليه شدة املوت‬
‫حيسن ظن املؤمن بربه‪ّ ،‬‬
‫األعامل الصاحلة عند املوت مما ِّ‬
‫ويقوي رجاءه»‪.‬اه(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫أيضا ما يالقيه العبد من كربات يوم القيامة وهول املطلع ونحوه‪.‬‬
‫ومن الشدة ً‬
‫‪-11‬أن من صرب ظفر وانترص‪ ،‬لقوله ‪« :‬واعلم أن النرص مع الصرب»‪،‬‬
‫وقد حث املوىل ‪ ‬عباده عىل الصرب يف مواطن كثرية من كتابه‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫ﭽﯪﯫﯬﯭﯮﯯﭼ [آل عمران‪ ،]200 :‬وقال‪:‬‬
‫ﭽﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭼ[حممد‪.]31 :‬‬
‫والصرب يشمل الصرب عىل جهاد األعداء‪ ،‬والصرب عىل جهاد النفس واهلوى‪.‬‬

‫ثم إن الصرب ينقسم إىل ثالثة أقسام‪ :‬ص ٌ‬


‫رب عىل طاعة اهلل‪ ،‬وصرب عن معصية اهلل‪،‬‬
‫وصرب عىل أقدار اهلل املؤملة‪ ،‬وأعالها الصرب عىل طاعة اهلل‪ ،‬ثم الصرب عن معصية‬
‫اهلل‪ ،‬ثم الصرب عىل أقداره‪ ،‬فمن صرب وحبس نفسه عن اجلزع والتسخط وجاهدها‬
‫يف اهلل‪ ،‬ظفر يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬يف الدنيا بانرشاح صدره وطمأنينته‪ ،‬ويف اآلخرة‬
‫بالنعيم املقيم‪.‬‬
‫((( «نور االقتباس» ص(‪.)62‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪110‬‬
‫وقد قيل‪:‬‬

‫لكــن عواقبــه أحــى مــن العســل‬ ‫مــر مذاقتــه‬


‫ٌّ‬ ‫والصــر مثــل اســمه‬

‫وسيأيت مزيد بسط للصرب وأنواعه يف احلديث الثالث والعرشون‪.‬‬


‫‪-12‬أن تفريج الكربات وإزالة الشدائد والنكبات مقرون بالكرب‪ ،‬فكلام وقع عىل‬
‫اإلنسان كرب‪ ،‬ونزلت به ضائقة‪ ،‬فلجأ إىل اهلل واعتصم بحبل اهلل‪ ،‬فإن اهلل ّ‬
‫جل‬
‫يفرجها عنه‪ :‬ﭽﯜﯝﯞﯟﭼ[الرشح‪ ،]6 ،5 :‬وهلذا قال النبي ‪‬‬
‫جالله ِّ‬
‫يرسا»‪،‬‬
‫البن عباس يف هذا احلديث‪« :‬واعلم أن الفرج مع الكرب وأن مع العرس ً‬
‫قصصا كثرية تتضمن وقوع الفرج بعد الكرب‬ ‫ً‬ ‫وقد قص اهلل ‪ ‬علينا يف كتابه‬
‫والشدة‪ ،‬فها هو نبي اهلل نوح عليه السالم نجاه اهلل ومن معه يف الفلك من الكرب‬
‫العظيم‪ ،‬مع إغراق سائر أهل األرض‪ ،‬وها هو نبي اهلل إبراهيم عليه السالم أنجاه‬
‫اهلل من النار التي ألقاه املرشكون فيها‪ ،‬وأنه جعلها عليه بر ًدا وسال ًما‪ ،‬وها هو نبينا‬
‫حممد نرصه اهلل عىل أعدائه وأنجاه منهم يف مواطن كثرية‪.‬‬

‫وقد قيل‪:‬‬

‫يــر‬ ‫بعــده‬ ‫عــر‬ ‫وكل‬ ‫الصــر‬ ‫الفــرج‬ ‫بــاب‬ ‫مفتــاح‬


‫واألمــر يــأيت بعــده األمــر‬ ‫والدهــر ال يبقــى عــى حالــة‬
‫‪111‬‬ ‫الحديث العشرون‬

‫الحديث العشرون‬

‫ال‪َ :‬ق َ‬
‫ال‬ ‫صا ِر ِّي ال َب ْد ِر ِّي ‪َ ‬ق َ‬ ‫س ُعو ٍد ُع ْق َب َة ْبنِ َع ْمرٍو األَ ْن َ‬‫َع ْن َأبِي َم ْ‬
‫َّاس مِ ْن َكالَ ِم ال ُّن ُب ّوةِ األُ ْو َلى‪:‬‬ ‫ك الن ُ‬ ‫هلل ‪« :‬إِنَّ مِ َّما َأ ْد َر َ‬ ‫ول ا ِ‬ ‫س ُ‬ ‫َر ُ‬
‫ت»‪َ ،‬ر َوا ُه ال ُبخَ ا ِر ُّي(((‪.‬‬ ‫ش ْئ َ‬‫اصن َْع َما ِ‬ ‫ِإ َذا َل ْم ت ْ‬
‫َست َِح َف ْ‬

‫فيه فوائد‪:‬‬
‫‪-1‬راوي احلديث‪ :‬هو عقبة بن عمرو بن ثعلبة األنصاري‪ ،‬أبو مسعود البدري‪،‬‬
‫صحايب جليل‪ ،‬شهد العقبة وما بعدها‪ ،‬وله سبع وثالثون حدي ًثا يف الكتب الستة‬
‫باملكرر‪.‬‬
‫مات سنة (‪40‬هـ)(((‪.‬‬
‫‪-2‬فيه دليل عىل فضل احلياء‪ ،‬وأنه مما جاءت به الرشائع السابقة‪ ،‬وهو خلق يبعث عىل‬
‫اجتناب القبيح‪ ،‬ويمنع من التقصري يف حق ذي احلق‪ ،‬وهذا هو احلياء املحمود‪،‬‬
‫وأما احلياء الذي يمنع صاحبه من القيام باحلقوق الواجبة‪ ،‬أو ال يمنعه من فعل‬
‫القبائح‪ ،‬فهو حياء مذموم‪.‬‬
‫وقد جاءت النصوص الكثرية بمدح احلياء واحلث عليه‪ ،‬ففي «الصحيحني» عن‬
‫ابن عمر ‪ ‬أن النبي ‪ ‬قال‪« :‬احلياء من اإليامن»‪ ،‬وثبت عنه أنه‬
‫قال ‪« :‬احلياء خري كله وال يأيت إال بخري»‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪.)6120‬‬
‫((( «اإلصابة» (‪ ،)524/4‬و «التهذيب» (‪.)247/7‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪112‬‬
‫ثم إن احلياء منه ما هو غريزي‪ ،‬ومنه ما هو مكتسب‪ ،‬فالغريزي هو الذي ُفطر عليه‬
‫العبد‪ ،‬واملكتسب هو الذي جياهد العبد معه نفسه حتى يبلغه‪ ،‬روي يف األثر‪« :‬إنام‬
‫العلم بالتع ُّلم»‪ ،‬وقال ‪ ‬ألشج؛ أشج عبد القيس‪:‬‬ ‫احللم بالتح ُّلم‪ ،‬وإنام ِ‬
‫ِ‬
‫«إن فيك خلصلتني حيبهام اهلل‪ :‬احللم واألناة»‪.‬‬
‫‪-3‬أن املراد بقوله ‪« :‬إذا مل تستح فاصنع ما شئت» أحد وجهني‪:‬‬
‫األول‪ :‬انظر إىل ما تريد فعله‪ ،‬فإن كان مما ال ُيستحى منه فافعله‪ ،‬وإن كان مما‬
‫ُيستحى منه فدعه وال تبايل باخللق‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬أن اإلنسان إذا مل يستح يصنع ما يشاء وال يبايل؛ ألن الذي يكفه عن مدافعة‬
‫الرش هو احلياء‪ ،‬فإذا فقده توفرت دواعيه عىل ُمواقعة الرش وفعله(((‪.‬‬

‫((( «سبل السالم» (‪.)407/4‬‬


‫‪113‬‬ ‫الحديث الحادي والعشرون‬

‫الحديث الحادي والعشرون‬

‫هلل ‪َ ‬قال‪:‬‬ ‫يل‪َ :‬أبِي َع ْم َرةَ ُ‬


‫س ْف َيانَ ْبنِ َع ْب ِد ا ِ‬ ‫َع ْن َأ ِ‬
‫بي َع ْمرٍو َوقِ َ‬
‫س َأ ُل َع ْن ُه‬
‫ِسالَ ِم َق ْوالً الَ َأ ْ‬
‫هلل ‪ُ ،‬ق ْل لِي فِ ي اإل ْ‬ ‫ول ا ِ‬‫س َ‬ ‫ت‪َ :‬يا َر ُ‬ ‫ُق ْل ُ‬
‫سل ٌِم(((‪.‬‬
‫استَقِ ْم»‪َ ،‬ر َوا ُه ُم ْ‬‫هلل ُث َّم ْ‬
‫ت بِا ِ‬ ‫«ق ْل َ‬
‫آم ْن ُ‬ ‫ال‪ُ :‬‬‫ك‪َ ،‬ق َ‬ ‫َأ َحد ًا َغ ْي َر َ‬

‫فيه فوائد‪:‬‬
‫‪-1‬راوي احلديث‪ :‬هو سفيان بن عبد اهلل بن ربيعة بن احلارث‪ ،‬أبو عمرو‪ ،‬ويقال‪ :‬أبو‬
‫عمرة‪ ،‬الثقفي‪ ،‬صحايب جليل‪ ،‬عامل عمر عىل الطائف‪ ،‬ليس له يف الكتب الستة‬
‫إال هذا احلديث(((‪.‬‬

‫‪2‬حرص الصحابة ‪ ‬عىل السؤال عام ينفعهم‪ ،‬وسؤاهلم للعلم والعمل‪ ،‬ال‬
‫للعلم املجرد فقط؛ ألن العلم املجرد الذي ال يتبعه عمل ال ثمرة فيه‪ ،‬وقد قال اهلل‬
‫‪ :‬ﭽﯱﯲﯳﯴﯵﯶﭼ [حممد‪.]17 :‬‬

‫وقال عيل ‪« :‬هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإال ارحتل»‪.‬‬


‫قال اخلطيب البغدادي ‪« :‬ينبغي لطالب احلديث أن يتميز يف عامة أموره عن‬
‫طرائق العوام‪ ،‬باستعامل آثار النبي ما أمكنه‪ ،‬وتوظيف السنن عىل نفسه‪ ،‬فإن اهلل‬
‫‪ ‬قال‪ :‬ﭽﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﭼ[األحزاب‪.»]21 :‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪ )62‬وهو عنده بلفظ‪« :‬فاستقم»‪.‬‬
‫((( «هتذيب التهذيب» (‪.)115/4‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪114‬‬
‫ثم ذكر قصة أيب عصمة عاصم بن عصام قال‪« :‬بت ليلة عند أمحد بن حنبل‪ ،‬فجاء‬
‫باملاء فوضعه‪ ،‬فلام أصبح نظر إىل املاء فإذا هو كام كان‪ ،‬فقال‪ :‬سبحان اهلل‪ٌ ،‬‬
‫رجل‬
‫يطلب العلم ال يكون له ِو ْر ٌد من الليل»(((‪.‬‬
‫‪-3‬هذه الوصية وصي ٌة جامعة نافعة‪ ،‬وهي من جوامع كلمه‪ ،‬وهي اإليامن باهلل‪ ،‬ثم‬
‫االستقامة عىل ذلك‪ ،‬حيث قال ‪« :‬قل آمنت باهلل ثم استقم»‪.‬‬
‫‪-4‬أن اإليامن باهلل يشمل مجيع ما جيب اعتقاده من عقائد اإليامن وأصوله مما أخرب اهلل‬
‫به عن نفسه‪ ،‬ومالئكته‪ ،‬ورسله‪ ،‬واليوم اآلخر‪ ،‬وما يتبع ذلك من أعامل القلوب‪،‬‬
‫وظاهرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫واالنقياد واالستسالم هلل باطنًا‬
‫‪ -5‬احلث عىل لزوم االستقامة عىل اإليامن حتى املامت‪ ،‬لقوله‪« :‬ثم استقم»‪.‬‬
‫واالستقامة‪« :‬هي سلوك الرصاط املستقيم‪ ،‬وهو الدين القويم من غري تعريج عنه‬
‫َيمنة وال َيرسة‪ ،‬ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة‪ ،‬وترك املنهيات‬
‫كلها كذلك»(((‪.‬‬
‫فرتب النبي ‪ ‬يف هذا احلديث اإليامن عىل االستقامة‪ ،‬فإن اإليامن ال‬
‫يكفي عن االستقامة‪ ،‬واالستقامة ال تكفي عن اإليامن‪.‬‬
‫وقد جاء األمر باالستقامة يف نصوص كثرية‪ ،‬قال اهلل ‪ :‬ﭽﮅﮆ‬
‫ﮇﭼ[فصلت‪ ،]6 :‬وقال‪ :‬ﭽﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ‬
‫ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭼ [فصلت‪.]30 :‬‬
‫وقال ‪ :‬ﭽﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒ‬
‫ﰓﰔﰕﰖﰗﰘﰙﰚﭼ [األحقاف‪ ،]14 ،13 :‬وقال النبي ‪:‬‬
‫«استقيموا ولن حتصوا‪ ،‬واعلموا أن خري أعاملكم الصالة» احلديث(((‪.‬‬
‫((( «اجلامع ألخالق الراوي وآداب السامع» (‪.)215/1‬‬
‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)510/1‬‬
‫((( أخرجه ابن ماجه (‪ ،)278‬وأمحد (‪ )22737‬وله طرق متعددة‪.‬‬
‫‪115‬‬ ‫الحديث الحادي والعشرون‬

‫ولالستقامة أسباب‪:‬‬
‫منها املراقبة‪ :‬واملراد هبا مراقبة اهلل ‪ ‬يف الرس والعلن‪ ،‬بأن ال يراك حيث هناك‪،‬‬
‫وال يفقدك حيث أمرك‪.‬‬
‫ومنها املحاسبة‪ :‬واملراد هبا حماسبة النفس عىل تفريطها وتقصريها‪ ،‬فإن الذي‬
‫حياسب نفسه يالزم االستقامة‪.‬‬
‫ومنها املجاهدة‪ :‬قال ‪ :‬ﭽﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﭼ‬
‫[العنكبوت‪.]69 :‬‬
‫ويتفرع عن هذه الفائدة‪ :‬أن التعبري باالستقامة أوىل من التعبري بااللتزام‪ ،‬فيقال‪:‬‬
‫والسنَّة‪،‬‬
‫فالن مستقيم‪ ،‬وال يقال‪ :‬فالن ملتزم؛ ألن هذا هو التعبري الوارد يف القرآن ُّ‬
‫وقد نبه عىل ذلك شيخنا ابن عثيمني ‪.(((‬‬
‫‪-6‬أن من مجع اإليامن واالستقامة فقد سلم من مجيع الرشور‪ ،‬وحصلت له السعادة‬
‫يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬نسأل اهلل ‪ ‬أن يرزقنا اإليامن واالستقامة عىل دينه حتى‬
‫املامت‪ ،‬إنه جواد كريم‪.‬‬

‫((( يف تعليقه عىل هذا احلديث من رشح «األربعني النووية»‪.‬‬


‫‪117‬‬ ‫الحديث الثاني والعشرون‬

‫الحـديـث الثاني والعشرون‬

‫س َأ َل‬ ‫صا ِر ِّي ‪َ ‬أنَّ َر ُجالً َ‬ ‫هلل األَ ْن َ‬ ‫َع ْن َأبِي َع ْب ِد ا ِ‬


‫هلل َجا ِب ِر ْبنِ َع ْب ِد ا ِ‬
‫ت‬ ‫ص ْم ُ‬ ‫ات‪َ ،‬و ُ‬ ‫الم ْكت ُْو َب ِ‬
‫ت َ‬ ‫ص َّل ْي ُ‬‫ت ِإ َذا َ‬ ‫ال‪َ :‬أ َر َأ ْي َ‬
‫هلل ‪َ ‬ف َق َ‬ ‫ول ا ِ‬ ‫س َ‬ ‫َر ُ‬
‫ش ْيئ ًا‪،‬‬‫ِك َ‬ ‫ام‪َ ،‬و َلم َأ ِز ْد َع َلى َذل َ‬ ‫الح َر َ‬
‫ت َ‬ ‫الحالَل‪َ ،‬و َح َّر ْم ُ‬
‫ت َ‬ ‫ضانَ ‪َ ،‬و َأ ْح َل ْل ُ‬‫َر َم َ‬
‫سل ٌِم(((‪.‬‬ ‫ال‪« :‬ن ََع ْم»‪َ ،‬ر َوا ُه ُم ْ‬ ‫الج َّنةَ؟ َق َ‬ ‫َأ َأ ْدخُ ُل َ‬
‫فيه فوائد‪:‬‬
‫‪-1‬راوي احلديث‪ :‬هو جابر بن عبد اهلل بن عمرو بن َح َرام األنصاي‪ ،‬أبو عبد اهلل‬
‫اخلزرجي املدين‪ ،‬صحايب ابن صحايب‪ ،‬من أهل بيعة الرضوان‪ ،‬وشهد مع النبي‬
‫‪ ‬ثامين عرشة غزوة‪ ،‬وشهد صفني مع عيل ‪ ،‬له فضائل عديدة‪ ،‬وقد‬
‫كف برصه يف آخر عمره‪ ،‬وهو من املكثرين من الرواية عن النبي ‪ ،‬فقد‬
‫ذكر الذهبي أن مسنده بلغ (‪ )1540‬حدي ًثا‪ ،‬اتفق الشيخان عىل (‪ )58‬حدي ًثا‪ ،‬وانفرد‬
‫له البخاري بـ(‪ )26‬حدي ًثا‪ ،‬ومسلم بـ(‪ )126‬حدي ًثا مات بعد سنة سبعني‪ ،‬وعمره‬
‫أربع وتسعون سنة‪ ،‬وهو آخر من مات باملدينة من الصحابة‪  ،‬وأرضاه(((‪.‬‬
‫‪-2‬أن هذه املذكورات يف احلديث‪ ،‬من أسباب دخول اجلنة‪ ،‬وهناك غريها من‬
‫األسباب‪ ،‬لكن النبي أجاب السائل عام سأل عنه‪.‬‬
‫ومل يذكر يف احلديث الزكاة واحلج‪ ،‬فيقال‪ :‬أما احلج فألنه مل يفرض بعد‪ ،‬وأما الزكاة‬
‫فيحتمل أن النبي علم من حال هذا الرجل أنه اآلن فقري‪ ،‬وليس من أهل الزكاة‬
‫فخاطبه عىل قدر حاله‪.‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)18‬‬
‫((( «السري» (‪« ،)189/3‬التقريب» ص(‪.)192‬‬
‫‪-3‬عظم شأن الصلوات املكتوبات‪ ،‬حيث عدها النبي من أسباب دخول اجلنة‪،‬‬
‫وحينئذ فينبغي للمسلم أن حيافظ عليها‪ ،‬وأن يعتني هبا وحيسن الطهارة هلا‪.‬‬

‫وقد ثبت يف «الصحيحني» عن النبي ‪ ‬أنه قال‪« :‬من صىل الربدين دخل‬
‫اجلنة»‪ ،‬وروى أبو داود عن عبادة بن الصامت ‪ ‬أن النبي ‪ ‬قال‪:‬‬
‫«مخس صلوات كتبهن اهلل عىل العباد‪ ،‬فمن جاء هبن مل يض ِّيع منهن شيئًا استخفا ًفا‬
‫بح ِّقهن كان له عند اهلل عهد أن يدخله اجلنة‪ »...‬احلديث(((‪.‬‬

‫‪-4‬وجوب صوم رمضان‪ ،‬حيث عده النبي من أسباب دخول اجلنة‪ ،‬وقد قال اهلل‬
‫‪ :‬ﭽ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ‬
‫ﭯﭰﭼ[البقرة‪.]183 :‬‬

‫وقال النبي ‪ ‬فيام يرويه عن ربه ‪« :‬كل عمل ابن آدم له‪ ،‬احلسنة‬
‫بعرش أمثاهلا إال الصوم فإنه يل وأنا أجزي به»‪ .‬متفق عليه‪.‬‬

‫والصيام جنة‪ ،‬يستجن به العبد من النار‪ ،‬إذ به تضييق جماري الشيطان عىل بني‬
‫اإلنسان‪.‬‬

‫‪-5‬أن املراد بقوله‪« :‬أحللت احلالل»؛ أي‪ :‬فعلته معتقدً ا ِح َّله‪ ،‬فيدخل فيه الواجب‬
‫«حرمت احلرام» أي‪ :‬اجتنبته معتقدً ا حتريمه‪ ،‬وعليه فيجب‬
‫واملستحب واملباح‪ ،‬و ّ‬
‫إحالل احلالل وحتريم احلرام‪ ،‬أما احلالل فإن مل يكن واج ًبا‪ ،‬فاإلنسان خمري بني‬
‫فعله وتركه‪ ،‬وأما احلرام فيجب اجتنابه كله مع اعتقاد حتريمه‪ ،‬وقد تقدم قوله‪« :‬ما‬
‫هنيتكم عنه فاجتنبوه‪ ،‬وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم»‪ ،‬ومن اجتنب احلرام ومل‬
‫يعتقد حتريمه كان كمن ارتكبه‪ ،‬وهلذا قيل لإلمام أمحد يف قوله ‪ :‬ﭽﮓ‬
‫ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﭼ اآلية [النساء‪ ،]93 :‬هو‬
‫فيمن استحل قتل املؤمن؟ فقال‪« :‬من استحل قتل املؤمن فهو كافر‪ ،‬وإن مل يقتله»‪.‬‬
‫((( «سنن أيب داود» (‪ )1420‬وال بأس بإسناده‪.‬‬
‫‪119‬‬ ‫الحـديـث الثاني والعشرون‬

‫‪-6‬أن من أتى باملفروضات كاملة من غري زيادة وال نقصان‪ ،‬وانتهى عن املحرمات‪،‬‬
‫فإنه يدخل اجلنة‪ ،‬لقوله‪« :‬ومل أزد عىل ذلك شي ًئا»‪.‬‬
‫وقويل‪« :‬وانتهى عن املحرمات» ألن املذكورات يف احلديث أسباب واملحرمات‬
‫موانع‪ ،‬وال يمكن أن يتحقق دخول اجلنة إال بوجود األسباب وانتفاء املوانع‪.‬‬
‫وقد قال ‪ :‬ﭽﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ‬
‫ﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭼ[فاطر‪.]32 :‬‬
‫فالسابقون باخلريات‪ :‬هم الذين أتوا بالواجبات وزادوا عليها القيام باملستحبات‪،‬‬
‫واالنتهاء عن املحرمات‪.‬‬
‫واملقتصدون‪ :‬هم الذين اقترصوا عىل فعل الواجبات‪ ،‬واالنتهاء عن املحرمات‪.‬‬
‫والظاملون ألنفسهم‪ :‬هم الذين خلطوا األعامل الصاحلة باألعامل السيئة(((‪.‬‬

‫((( «تفسري ابن كثري» (‪.)562/3‬‬


‫‪121‬‬ ‫الحـديـث الثاني والعشرون‬

‫الحديث الثالث والعشرون‬

‫ول‬‫س ُ‬ ‫ال‪َ :‬ق َ‬


‫ال َر ُ‬ ‫ش َع ِر ِّي ‪َ ‬ق َ‬ ‫اص ٍم األَ ْ‬
‫ث ْبنِ َع ِ‬ ‫الحا ِر ِ‬‫ِك َ‬ ‫َع ْن َأبِي َمال ٍ‬
‫ل ت َْمألُ المِ يزَانَ ‪،‬‬ ‫الح ْم ُد ِ َّ ِ‬ ‫ط ُر اإلِ ْي َمانِ ‪َ ،‬و َ‬ ‫ش ْ‬ ‫هو ُر َ‬ ‫ُّ‬
‫«الط ُ‬ ‫هلل ‪:‬‬ ‫ا ِ‬
‫ض‪،‬‬ ‫الس َما ِء َواألَ ْر ِ‬‫َّ‬ ‫ل ت َْمآلنِ َأ ْو ت َْمألُ َما َب ْينَ‬ ‫الح ْم ُد ِ َّ ِ‬‫هلل َو َ‬‫س ْب َحانَ ا ِ‬ ‫َو ُ‬
‫ك َأ ْو‬ ‫الق ْرآنُ ُح َّج ٌة َل َ‬ ‫ض َيا ٌء‪َ ،‬و ُ‬ ‫هانٌ ‪َ ،‬و َّ‬
‫الص ْب ُر ِ‬ ‫الصالَ ُة نُو ٌر‪َ ،‬و َّ‬
‫الص َد َق ُة ُب ْر َ‬ ‫َو َّ‬
‫ها»‪َ ،‬ر َوا ُه‬ ‫ها َأ ْو ُموب ُِق َ‬ ‫س ُه َف ُم ْعت ُِق َ‬ ‫َّاس َي ْغ ُدو َف َبائ ٌِع ن َْف َ‬ ‫ك‪ُ ،‬ك ُّل الن ِ‬ ‫َع َل ْي َ‬
‫سل ٌِم(((‪.‬‬ ‫ُم ْ‬

‫فيه فوائد‪:‬‬
‫‪-1‬راوي احلديث‪ :‬هو أبو مالك األشعري‪ ،‬وقد اختلف يف اسمه‪ ،‬فقيل‪ :‬عبيد‪ ،‬وقيل‪:‬‬
‫عبد اهلل‪ ،‬وقيل‪ :‬عمرو‪ ،‬وقيل‪ :‬كعب بن كعب‪ ،‬وقيل‪ :‬عامر بن احلارث‪ .‬فقول‬
‫املصنف يف اسمه‪« :‬احلارث بن عاصم» مل أر أحدً ا ذكره هبذا االسم ممن ترجم له‪.‬‬
‫وهو صحايب جليل‪ ،‬له يف الكتب الستة أربعة عرش حدي ًثا باملكرر‪.‬‬
‫ومات يف طاعون عمواس سنة (‪18‬هـ)(((‪.‬‬
‫‪-2‬فضل الطهور وأنه شطر اإليامن؛ أي‪ :‬نصف اإليامن‪ ،‬وذلك ألن اإليامن ختلية‬
‫وحتلية‪ ،‬فالتخلية من الرشك واملعايص والسيئات‪ ،‬والتحلية هي تطهري النفس من‬
‫ذلك كله‪ ،‬فلذا كان الطهور شطر اإليامن‪.‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)223‬‬
‫((( «هتذيب الكامل» (‪ ،)245/34‬التقريب ص(‪.)1199‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪122‬‬
‫وقيل‪ :‬إن املراد بالطهور؛ أي‪ :‬التطهر باملاء من األحداث؛ ألن الصالة إيامن وال‬
‫تتم إال بطهور‪ ،‬حكاه ابن رجب عن اجلمهور‪ ،‬قال‪« :‬وكذلك بدأ مسلم بتخرجيه‬
‫يف أبواب الوضوء»(((‪.‬‬
‫ولو قيل‪ :‬إن احلديث يشمل األمرين مل يكن بعيدً ا‪ ،‬عىل أن شيخنا ‪ ‬قال‪« :‬إن‬
‫املعنى األول أحسن وأعم»(((‪.‬‬
‫‪-3‬فضل الذكر‪ ،‬ال سيام هاتني الكلمتني‪« :‬احلمد هلل‪ ،‬وسبحان اهلل»‪ ،‬وذلك ملا اشتملتا‬
‫عليه من إثبات صفات الكامل هلل ‪ ،‬وتنزهيه عام ال يليق به‪.‬‬
‫واحلمد‪ :‬هو وصف املحمود بالكامل مع املحبة والتعظيم‪ ،‬والتسبيح‪ :‬هو تنزيه اهلل‬
‫‪ ‬عن مماثلة املخلوقني‪ ،‬وعن كل نقص وعيب‪.‬‬
‫وقد وردت طرق أخرى هلذا احلديث بزيادة‪« :‬وال إله إال اهلل واهلل أكرب» لكن‬
‫أسانيدها ضعيفة‪.‬‬

‫ويغني عنها‪:‬‬

‫ما رواه مسلم عن سمرة بن جندب ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪:‬‬
‫يرضك بأهين بدأت‪ :‬سبحان اهلل‪ ،‬واحلمد هلل‪ ،‬وال إله‬
‫«أحب الكالم إىل اهلل أربع ال ّ‬
‫إال اهلل‪ ،‬واهلل أكرب»‪.‬‬
‫أيضا‪ :‬عن أيب هريرة ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪« :‬ألن أقول‪:‬‬ ‫وفيه ً‬
‫إيل مما طلعت عليه‬
‫سبحان اهلل‪ ،‬واحلمد هلل‪ ،‬وال إله إال اهلل‪ ،‬واهلل أكرب‪ ،‬أحب ّ‬
‫الشمس»‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬كيف متأل امليزان وهي عمل؟‬
‫فاجلواب‪ :‬أن اهلل ‪ ‬جيعل األعامل أجسا ًما فتوزن‪ ،‬وحينئذ متأل امليزان(((‪.‬‬
‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)7/2‬‬
‫((( من تعليقات شيخنا ‪ ‬عىل «األربعني» ص(‪.)40‬‬
‫((( «رشح مسلم» (‪ ،)100/3‬تعليقات شيخنا عىل هذا احلديث من «صحيح مسلم»‪.‬‬
‫‪123‬‬ ‫الحديث الثالث والعشرون‬

‫وقوله ‪« :‬وسبحان اهلل واحلمد هلل‪ ،‬متآلن أو متأل ما بني السامء‬


‫واألرض»‪ ،‬هذا شك من الراوي يف لفظه‪ ،‬هل الذي يمأل ما بني السامء واألرض‬
‫الكلمتان أو أحدمها؟ وهذا ال أثر له يف املعنى‪.‬‬

‫وذكر اهلل ‪ ‬مطلق ومقيد‪ ،‬فاملطلق يكون يف كل وقت وعىل كل حال‪ ،‬قال اهلل‬
‫‪ :‬ﭽﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﭼاآلية [آل عمران‪.]191 :‬‬

‫وقالت عائشة ‪« :‬كان النبي يذكر اهلل عىل كل أحيانه»‪ ،‬رواه مسلم وعلقه‬
‫البخاري‪.‬‬

‫وأما املقيد فيكون يف مواطن‪:‬‬

‫منها‪ :‬أدبار الصلوات املكتوبة‪ ،‬قال ‪ :‬ﭽﮔﮕﮖﮗﮘ‬


‫ﮙﮚﮛﮜﭼ[النساء‪.]103 :‬‬

‫ومنها‪ :‬بعد أداء املناسك‪ ،‬قال ‪ :‬ﭽﮞﮟﮠﮡ‬


‫ﮢﮣﮤﮥﮦﮧﭼ[البقرة‪.]200 :‬‬

‫ومنها‪ :‬عند اهلم بالوقوع يف الذنب وبعد الوقوع فيه‪ ،‬قال ‪ :‬ﭽﮉﮊ‬
‫ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﭼ[األعراف‪.]201 :‬‬

‫ﭽﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭼ [آل‬ ‫وقال‪:‬‬


‫عمران‪.]135 :‬‬

‫ومنها‪ :‬عند الصباح واملساء‪ ،‬قال ‪ :‬ﭽﯢﯣﯤﯥﯦﯧ‬


‫ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﭼ[األعراف‪.]205 :‬‬

‫وقال ‪ :‬ﭽﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠ‬
‫ﭡﭢﭣﭤﭼ[النور‪.]37 ،36 :‬‬

‫وقال ‪ :‬ﭽﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﭼ [طه‪.]130 :‬‬


‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪124‬‬
‫وقد ورد عن النبي ‪ ‬أحاديث كثرية يف أذكار معينة تقال عند الصباح‬
‫واملساء‪ ،‬وهي مبسوطة يف كتب «األذكار»‪ ،‬فينبغي للمسلم حفظها واملحافظة‬
‫عليها‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬األذكار املصاحبة للمرء يف شؤون حياته؛ كالذكر الذي يقال عند االستيقاظ‬
‫من النوم‪ ،‬وعند دخول اخلالء‪ ،‬واخلروج منه‪ ،‬وعند دخول املنزل‪ ،‬واخلروج منه‪،‬‬
‫وعند دخول املسجد‪ ،‬واخلروج منه‪ ،‬وعند لبس الثوب اجلديد‪ ،‬وعند ركوب‬
‫السنَّة النبوية‪ ،‬وقد مجعها فأجاد‬
‫الدابة‪ ،‬وعند السفر وما أشبهها‪ ،‬وهي مبسوطة يف ُّ‬
‫النووي ‪ ‬يف كتاب «األذكار»‪.‬‬
‫‪-4‬عظم قدر الصالة‪ ،‬لقوله ‪« :‬والصالة نور» فهي نور للعبد يف قلبه‪،‬‬
‫ونور له يف حرشه ونرشه‪ ،‬قال ‪ :‬ﭽﭑ‬ ‫ونور له يف قربه‪ٌ ،‬‬
‫ونور له يف وجهه‪ٌ ،‬‬
‫ٌ‬
‫ﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭼ[احلديد‪.]12 :‬‬
‫ويف «املسند» عن عبد اهلل بن عمرو‪ ،‬عن النبي ‪ ‬أنه ذكر الصالة فقال‪:‬‬
‫نورا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة‪ ،‬ومن مل حيافظ عليها مل‬
‫«من حافظ عليها كانت له ً‬
‫نور وال نجاة وال برهان»(((‪.‬‬
‫يكن له ٌ‬
‫وكان يقول ‪« :‬يا بالل أقم الصالة أرحنا هبا»(((‪.‬‬
‫وحيصل للعبد هبا انرشاح الصدر‪ ،‬وطمأنينة القلب‪ ،‬واألنس بمناجاة الرب ‪،‬‬
‫والتوفيق للعلم النافع والعمل الصالح‪ ،‬والتسديد والتيسري يف مجيع شؤون احلياة‪.‬‬
‫ولذا قال ‪:‬ﭽﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﭼ [البقرة‪.]45 :‬‬
‫وقال ‪ :‬ﭽﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﭼ‬
‫وفرط فيها‪ ،‬ومل حيافظ عليها يف أوقاهتا‬
‫[البقرة‪ ]153 :‬ولقد أبعد من ض ّيع الصالة ّ‬
‫فالويل له؛ ألن اهلل ‪ ‬قال‪ :‬ﭽﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ‬
‫ﭽﭼ [املاعون‪.]5 ،4 :‬‬
‫((( «مسند أمحد» (‪ )6576‬وإسناده حسن‪.‬‬
‫((( أخرجه أبو داود (‪ )4985‬وإسناده صحيح‪.‬‬
‫‪125‬‬ ‫الحديث الثالث والعشرون‬

‫‪-5‬احلث عىل بذل الصدقة طيبة هبا النفس‪ ،‬لقوله ‪« :‬والصدقة برهان» أي‪:‬‬
‫برهان ودليل عىل صدق إيامن صاحبها‪ ،‬حيث أنه أخرج ماله املحبوب عنده طل ًبا‬
‫لرضا ربه‪.‬‬
‫والصدقة تشمل الصدقة املفروضة وهي الزكاة‪ ،‬فإنه ال يتم إسالم العبد إال بدفعها‪،‬‬
‫وتشمل صدقة التطوع وهي التي ورد الرتغيب يف بذهلا‪ ،‬وعظم أجر دافعها‪ ،‬فقد‬
‫ثبت يف «الصحيحني» عن أيب هريرة ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪:‬‬
‫«سبعة يظلهم اهلل يف ظله يوم ال ظل إال ظله‪ ،‬وذكر منهم‪ :‬ورجل تصدق بصدقة‬
‫فأخفاها حتى ال تعلم شامله ما تنفق يمينه»‪.‬‬

‫وعن ابن مسعود ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪« :‬أيكم مال وارثه أحب‬
‫إليه من ماله؟» قالوا‪ :‬يا رسول اهلل ما ِمنَّا أحدٌ إال ما ُل ُه أحب إليه‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫أخر»‪ .‬رواه البخاري‪.‬‬ ‫«فإن ماله ما قدَّ م‪ ،‬ومال وارثه ما َّ‬

‫ويف «الصحيحني» عن أيب هريرة ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪« :‬ما‬


‫من يوم يصبح العباد فيه إال ملكان ينزالن فيقول أحدمها‪ :‬ال َّل ُه َّم أعط منف ًقا خل ًفا‪،‬‬
‫ويقول اآلخر‪ :‬ال َّل ُه َّم أعط ممسكًا تل ًفا»‪.‬‬

‫وعن عدي بن حاتم ‪ ‬أن رسول اهلل ‪ ‬قال‪« :‬اتقوا النار ولو بشق‬
‫مترة»‪ .‬متفق عليه‪.‬‬
‫واألحاديث يف هذا الباب كثرية وفرية‪.‬‬
‫‪-6‬بيان فضل الصرب‪ ،‬لقوله ‪« :‬والصرب ضياء»؛ أي‪ :‬حيصل فيه نوع حرارة‬
‫وإحراق كضياء الشمس‪ ،‬وذلك ألنه شاق عىل النفس‪ ،‬حيتاج معه إىل جماهدهتا‬
‫وحبسها وك ّفها عام هتواه‪.‬‬
‫رب عن معصية اهلل‪ ،‬وصرب عىل‬‫رب عىل طاعة اهلل‪ ،‬وص ٌ‬ ‫والصرب عىل ثالثة أقسام‪ :‬ص ٌ‬
‫أقدار اهلل املؤملة‪ ،‬وأفضلها الصرب عىل طاعة اهلل‪ ،‬ثم الصرب عن معصية اهلل‪ ،‬ثم الصرب‬
‫عىل أقدار اهلل املؤملة‪.‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪126‬‬
‫أما الصرب عىل طاعة اهلل‪ :‬فأن جياهد اإلنسان نفسه‪ ،‬وحيبسها عىل طاعة اهلل بفعل‬
‫أوامره‪ ،‬وعدم اإلخالل بيشء منها‪ ،‬يفعل مجيع األوامر بنفس منرشحة‪ ،‬غري كاره‬
‫هلا أو مستثقل ليشء منها‪.‬‬
‫وأما الصرب عن معصية اهلل‪ :‬فأن حيبس نفسه عن مواقعة الذنوب والسيئات‪ ،‬يبتغي‬
‫بذلك مرضاة رب األرض والسموات‪.‬‬
‫وأما الصرب عىل أقدار اهلل‪ :‬فأن حيبس اإلنسان نفسه عن اجلزع والتسخط عند وقوع‬
‫املصيبة‪ ،‬ال يظهر التسخط ال بيده وال بلسانه وال بجنانه‪ ،‬بل يصرب ويعلم أن ما‬
‫أصابه مل يكن ليخطئه‪ ،‬وأن ما أخطأه مل يكن ليصيبه‪ ،‬ومع صربه وحبسه نفسه‬
‫حيتسب األجر والثواب عند اهلل‪.‬‬
‫والسنَّة يف احلث عىل الصرب وبيان فضله‪ ،‬قال‬
‫وقد وردت أدلة كثرية يف الكتاب ُّ‬
‫‪ :‬ﭽﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﭼ [البقرة‪.]153 :‬‬
‫وقال ‪ :‬ﭽﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭼ[حممد‪.]31 :‬‬
‫ووردت أحاديث كثرية باحلث عىل الصرب عند وقوع املصيبة خاصة‪ ،‬وذلك ألن‬
‫املصيبة وقعها عظيم عىل النفس‪ ،‬فجاء احلث ببيان أجر من صرب واحتسب‪.‬‬
‫إن أمره‬
‫عن صهيب ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪« :‬عج ًبا ألمر املؤمن َّ‬
‫خريا له‪،‬‬
‫كله له خري‪ ،‬وليس ذلك ألحد إال للمؤمن‪ ،‬إن أصابته رساء شكر فكان ً‬
‫خريا له»‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬
‫وإن أصابته رضاء صرب فكان ً‬
‫ويف «الصحيحني» عن أيب سعيد وأيب هريرة ‪ ‬عن النبي ‪ ‬قال‪:‬‬
‫«ما يصيب املسلم من نصب وال وصب وال هم وال حزن وال غم حتى الشوكة‬
‫يشاكها‪ ،‬إال ك َّفر اهلل هبا من خطاياه»‪.‬‬
‫‪-7‬أن القرآن حجة ملن عمل به واتبعه‪ ،‬وحجة عىل من أعرض عنه ومل يعمل به‪ ،‬لقوله‬
‫‪« :‬والقرآن حجة لك أو عليك»‪.‬‬
‫‪127‬‬ ‫الحديث الثالث والعشرون‬

‫قال بعض السلف‪« :‬ما جالس أحدٌ القرآن‪ ،‬فقام عنه سا ًملا‪ ،‬بل إما أن يربح أو أن‬
‫خيرس‪ ،‬ثم تال قوله ‪ :‬ﭽﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ‬
‫ﮯﮰﮱﭼ [اإلرساء‪.]82 :‬‬
‫ففي ذلك ترغيب شديد يف اإلكثار من تالوته‪ ،‬واحلرص عىل فهم معانيه‪ ،‬والعمل‬
‫امتثال لألوامر‪ ،‬وتصدي ًقا باألخبار‪ ،‬كام قال ‪ :‬ﭽﭲﭳﭴ‬ ‫ً‬ ‫بام فيه‬
‫ﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭼ [ص‪.]29 :‬‬
‫وقال ‪ :‬ﭽﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﭼ[األنعام‪.]115 :‬‬
‫‪ -8‬أن الناس كلهم يغدون ويكدحون ويعملون‪ ،‬لقوله ‪« :‬كل الناس يغدو»‪.‬‬
‫‪-9‬أن كل إنسان ساع يف هالك نفسه‪ ،‬أو يف فكاكها‪ ،‬فمن سعى يف طاعة اهلل فقد باع نفسه‬
‫هلل‪ ،‬وأعتقها من عذابه‪ ،‬ومن سعى يف معصية اهلل‪ ،‬فقد باع نفسه باهلوان‪ ،‬وأوبقها‬
‫باآلثام املوجبة لغضب اهلل وعقابه‪ ،‬لقوله ‪« :‬فبائع نفسه فمعتقها أو‬
‫موبقها»‪ ،‬فينبغي للمسلم أن جياهد نفسه يف طاعة اهلل‪ ،‬ويسعى جاهدً ا يف عتقها من‬
‫عذاب اهلل‪ ،‬فإنام هي أيام وليال وينتهي املطاف‪ ،‬ويكشف الستار عن كل عامل وما‬
‫عمل‪ ،‬وليحذر من الوقوع يف املعايص والسيئات‪ ،‬لئال يوبق نفسه يف اهلوان‪ ،‬وحيق‬
‫أسريا للشيطان‪ ،‬نسأل اهلل ‪ ‬بمنه أن‬ ‫ً‬ ‫عليه غضب الرمحن‪ ،‬ويكون حينئذ‬
‫يتو َّفانا عىل دينه‪ ،‬وأن يرزقنا االستقامة يف القول والعمل إنه جواد كريم‪.‬‬
‫‪129‬‬ ‫الحديث الرابع والعشرون‬

‫الحديث الرابع والعشرون‬

‫يما َي ْر ِوي ِه َع ْن َر ِّب ِه‬ ‫َع ْن َأبي َذ ٍّر الغِ َفا ِر ِّي ‪َ ،‬عنِ ال َّنب ِِّي ‪ ‬فِ َ‬
‫سي‪َ ،‬و َج َع ْل ُت ُه‬ ‫الظ ْل َم َع َلى ن َْف ِ‬ ‫ت ُّ‬ ‫ال‪َ « :‬يا عِ َبادي‪ِ ،‬إنِّي َح َّر ْم ُ‬ ‫َع َّز َو َج َّل َأ َّن ُه َق َ‬
‫ه َد ْي ُت ُه‬ ‫ال ِإالَّ َم ْن َ‬ ‫ض ٌّ‬‫َظا َل ُموا‪َ .‬يا عِ َبادِي‪ُ ،‬كلُّ ُك ْم َ‬ ‫َب ْين َُك ْم ُم َح َّرم ًا‪َ ،‬فالَ ت َ‬
‫ط َع ْم ُت ُه‪،‬‬ ‫ِك ْم‪َ .‬يا عِ َبادِي‪ُ ،‬كلُّ ُكم َجائ ٌِع ِإالَّ َم ْن َأ ْ‬ ‫هد ُ‬ ‫َه ُدونِي َأ ْ‬ ‫است ْ‬ ‫َف ْ‬
‫س ْو ُت ُه‪،‬‬ ‫طعِ ُم ُك ْم‪َ .‬يا عِ َبادِي‪ُ ،‬كلُّ ُك ْم َعارٍ ِإالَّ َم ْن َك َ‬ ‫َطعِ ُمونِي ُأ ْ‬ ‫است ْ‬ ‫َف ْ‬
‫َّها ِر‬ ‫ط ُئونَ بِال َّل ْي ِل َوالن َ‬ ‫س ُك ْم‪َ .‬يا عِ َبادِي‪ِ ،‬إن َُّك ْم ت ُْخ ِ‬ ‫سونِي َأ ْك ِ‬ ‫َك ُ‬ ‫است ْ‬ ‫َف ْ‬
‫است َْغفِ ُرونِي َأ ْغفِ ْر َل ُك ْم‪َ .‬يا عِ َبادِي‪ِ ،‬إن َُّك ْم‬ ‫ُوب َجمِ يع ًا‪َ ،‬ف ْ‬ ‫َو َأنَا َأ ْغفِ ُر ال ُّذن َ‬
‫َض ُّرونِي‪َ ،‬و َل ْن َت ْب ُل ُغوا ن َْفعِ ي َف َت ْن َف ُعونِي‪َ .‬يا عِ َبادِي‪،‬‬ ‫ض ِّري َفت ُ‬ ‫َل ْن َت ْب ُل ُغوا ُ‬
‫ب َر ُج ٍل‬ ‫س ُك ْم َوجِ ن َُّك ْم َكانُوا َع َلى َأ ْت َقى َق ْل ِ‬ ‫َل ْو َأنَّ َأ َّو َل ُك ْم َوآخِ َر ُك ْم َو ِإ ْن َ‬
‫ش ْيئ ًا‪َ .‬يا عِ َبادِي‪َ ،‬ل ْو َأنَّ َأ َّو َل ُك ْم‬ ‫ِك فِ ي ُم ْلكِ ي َ‬ ‫َواحِ ٍد مِ ْن ُك ْم َما زَا َد َذل َ‬
‫ب َر ُج ٍل َواحِ ٍد مِ ْن ُك ْم‬ ‫س ُك ْم َوجِ ن َُّك ْم َكانُوا َع َلى َأ ْف َج ِر َق ْل ِ‬ ‫َوآخِ َر ُك ْم َو ِإ ْن َ‬
‫ش ْيئ ًا‪َ .‬يا عِ َبادِي‪َ ،‬ل ْو َأنَّ َأ َّو َل ُك ْم َوآخِ َر ُك ْم‬ ‫ِك مِ ْن ُم ْلكِ ي َ‬ ‫ص َذل َ‬ ‫َما ن ََق َ‬
‫ت ُك َّل‬ ‫ط ْي ُ‬ ‫س َأ ُلونِي َف َأ ْع َ‬ ‫صعِ ي ٍد َواحِ ٍد َف َ‬ ‫اموا فِ ي َ‬ ‫س ُك ْم َوجِ ن َُّك ْم َق ُ‬ ‫َو ِإ ْن َ‬
‫ط‬ ‫ص ا ْلمِ ْخ َي ُ‬ ‫ِك مِ َّما عِ ْندِي ِإالَّ َك َما َي ْن ُق ُ‬ ‫ص َذل َ‬ ‫س َأ َل َت ُه‪َ ،‬ما ن ََق َ‬ ‫َواحِ ٍد َم ْ‬
‫يها َل ُك ْم‪ُ ،‬ث َّم‬ ‫ص َ‬ ‫ه َي َأ ْع َما ُل ُك ْم ُأ ْح ِ‬ ‫ِإ َذا ُأ ْدخِ َل ال َب ْح َر‪َ .‬يا عِ َبادِي‪ِ ،‬إن ََّما ِ‬
‫ِك َفالَ‬ ‫اهلل َو َم ْن َو َج َد َغ ْي َر َذل َ‬ ‫اها‪َ ،‬ف َم ْن َو َج َد خَ ْير ًا َف ْل َي ْح َم ِد َ‬ ‫ُأ َو ِّف ْي ُك ْم ِإ َّي َ‬
‫سل ٌِم(((‪.‬‬
‫س ُه»‪َ ،‬ر َوا ُه ُم ْ‬ ‫َي ُل َ‬
‫ومنَّ ِإالَّ ن َْف َ‬
‫((( «صحيح مسلم» برقم (‪.)2577‬‬
‫فيه فوائد‪:‬‬

‫‪ -1‬هذا احلديث يسمى باحلديث القديس؛ ألن النبي يرويه عن ربه ‪ ،‬وهو‬
‫ٍ‬
‫حديث ألهل الشام»‪.‬‬ ‫حديث عظيم‪ ،‬قال اإلمام أمحد ‪« :‬هو أرشف‬
‫‪-2‬أن اهلل ‪ ‬حرم عىل نفسه الظلم لكامل عدله‪ ،‬قال ‪ :‬ﭽﭶﭷﭸﭹ‬
‫ﭺﭻﭼ[النساء‪ ،]40 :‬وقال‪ :‬ﭽﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ‬
‫ﰁﭼ[طه‪ ،]112 :‬ﭽﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﭼ أي‪:‬‬
‫بزيادة سيئاته‪ .‬ﭽﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﭼ أي‪ً :‬‬
‫نقصا‬ ‫؛‬

‫من حسناته‪ .‬فهو ‪ ‬احلكم العدل‪ ،‬امتنع من ظلم العباد مع أنه قادر عليه‪ً ،‬‬
‫فضل‬
‫منه وجو ًدا‪.‬‬
‫‪-3‬حتريم الظلم بني العباد‪ ،‬لقوله‪« :‬وجعلته بينكم حمر ًما فال تظاملوا»‪ ،‬وقد َّبي النبي‬
‫بم يكون الظلم‪ ،‬فقال ‪« :‬إن‬
‫‪ ‬يف خطبته يف حجة الوداع َ‬
‫دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام؛ كحرمة يومكم هذا‪ ،‬يف شهركم هذا‪،‬‬
‫يف بلدكم هذا»‪.‬‬
‫ويف «الصحيحني» عن ابن عمر ‪ ‬عن النبي ‪ ‬قال‪« :‬الظلم‬
‫ظلامت يوم القيامة»‪.‬‬
‫وأمر ‪ ‬من وقعت له مع أخيه مظلمة أن يتحلله فقال ‪« :‬من‬
‫كانت عنده مظلمة ألخيه‪ ،‬فليتحلله منها‪ ،‬فإنه ليس َثم دينار وال درهم‪ِ ،‬من قبل‬
‫أن يؤخذ ألخيه من حسناته‪ ،‬فإن مل يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت‬
‫عليه»‪ .‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪-4‬أن العباد كلهم ضالون إال من هداه اهلل َّ‬
‫جل جالله‪ ،‬لقوله ‪« :‬يا عبادي‬
‫كلكم ضال إال من هديته»‪ ،‬وهو كذلك فإهنم قبل تعلم أحكام اإلسالم وتعاليمه‬
‫ضالون جاهلون‪ ،‬قال ‪ :‬ﭽﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ‬
‫ﯫﭼ [النحل‪ ،]78 :‬وال يعارض هذا ما ثبت يف «صحيح مسلم» عن عياض بن‬
‫‪131‬‬ ‫الحديث الرابع والعشرون‬

‫محار ‪ ‬عن النبي ‪ ‬قال‪« :‬يقول اهلل ‪ :‬خلقت عبادي حنفاء»‪،‬‬


‫فاملراد‪ :‬أنه خلقهم وفطرهم عىل قبول اإلسالم وامليل إليه دون غريه‪ ،‬كقوله‬
‫‪« :‬كل مولود يولد عىل الفطرة»(((‪.‬‬

‫‪-5‬وجوب طلب اهلداية من اهلل‪ ،‬لقوله ‪« :‬فاستهدوين أهدكم»‪ ،‬واملراد‪ :‬هداية‬


‫التوفيق‪ ،‬وهداية الداللة واإلرشاد‪ ،‬وهلذا ُأمرنا أن نقرأ يف كل ركعة من صالتنا‪:‬‬
‫ﭽﭧ ﭨ ﭩﭼ‪ ،‬وقد كان النبي ‪ ‬يقول يف دعائه بالليل‪« :‬اهدين‬
‫ملا اختلف فيه من احلق بإذنك‪ ،‬إنك هتدي من تشاء إىل رصاط مستقيم»‪.‬‬

‫فمن هداه اهلل فهو املهتدي‪ ،‬قال ‪ :‬ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ‬


‫ﮇﮈﮉﮊﭼ [الكهف‪.]17 :‬‬
‫وقد ورد عنه أدعية فيها سؤال اهلل اهلداية‪:‬‬
‫فعن ابن مسعود ‪ ‬أن النبي ‪ ‬كان يقول‪« :‬ال َّل ُه َّم إين أسألك‬
‫اهلدى‪ ،‬والتقى‪ ،‬والعفاف‪ ،‬والغنى»‪.‬‬
‫وعن عيل ‪ ‬قال‪ :‬قال يل رسول اهلل ‪« :‬قل ال َّل ُه َّم اهدين‪ ،‬وسددين»‪،‬‬
‫ويف رواية‪« :‬ال َّل ُه َّم إين أسألك اهلدى والسداد»‪.‬‬
‫وعن طارق بن أشيم ‪ ‬قال‪ :‬كان الرجل إذا أسلم ع ّلمه النبي ‪‬‬
‫الصالة ثم أمره أن يدعو هبؤالء الكلامت‪« :‬ال َّل ُه َّم اغفر يل‪ ،‬وارمحني‪ ،‬واهدين‪،‬‬
‫وعافني‪ ،‬وارزقني»‪ ،‬رواها مسلم‪.‬‬

‫‪-6‬قال ابن رجب ‪« :‬ويف احلديث دليل عىل أن اهلل حيب أن يسأله العباد مجيع‬
‫مصالح دينهم ودنياهم‪ ،‬من الطعام والرشاب والكسوة وغري ذلك‪ ،‬كام يسألونه‬
‫اهلداية واملغفرة‪ ،‬ويف احلديث‪« :‬ليسأل أحدكم ربه حاجته ك ّلها حتى يسأله شسع‬
‫نعله إذا انقطع»‪.‬‬

‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪ )39/2‬بترصف‪.‬‬


‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪132‬‬
‫وكان بعض السلف يسأل اهلل يف صالته ّ‬
‫كل حوائجه‪ ،‬حتى ملح عجينه‪ ،‬وعلف‬
‫شاته»(((‪.‬‬

‫‪-7‬أن اهلل ‪ ‬هو الرزاق‪ ،‬وبيده مفاتيح الرزق‪ ،‬فينبغي للعباد أن يسألوه إياه‪ ،‬لقوله‬
‫‪« :‬يا عبادي كلكم جائع إال من أطعمته فاستطعموين أطعمكم‪ ،‬يا عبادي‬
‫عار إال من كسوته‪ ،‬فاستكسوين أكسكم»‪.‬‬‫كلكم ٍ‬

‫قال ‪ :‬ﭽﭺﭻﭼﭽﭾﭼ [العنكبوت‪.]17 :‬‬

‫ويتفرع عن هذه الفائدة‪ :‬أنه ينبغي للعبد إذا نزلت به ضائقة مالية‪ ،‬أو افتقر‪ ،‬أن‬
‫يلجأ إىل ربه ويسأله من فضله‪ ،‬وال يتط َّلع إىل ما يف أيدي املخلوقني‪ ،‬وقد تقدم نحو‬
‫هذا عند قوله ‪ ‬البن عباس‪« :‬إذا سألت فاسأل اهلل»‪.‬‬

‫‪-8‬أن بني آدم خطاء خيطئون بالليل والنهار‪ ،‬ولكن هذا اخلطأ يقابله عفو اهلل ومغفرته‪،‬‬
‫ولذا قال ‪« :‬يا عبادي إنكم ختطئون بالليل والنهار‪ ،‬وأنا أغفر الذنوب‬
‫مجي ًعا‪ ،‬فاستغفروين أغفر لكم»‪.‬‬

‫وقد ثبت يف «صحيح مسلم» عن أيب هريرة ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول اهلل‬
‫‪« :‬والذي نفيس بيده لو مل تذنبوا لذهب اهلل ‪ ‬بكم‪ ،‬وجلاء بقوم‬
‫يذنبون فيستغفرون اهلل‪ ،‬فيغفر هلم»‪.‬‬

‫ويف «السنن» عن عيل ‪ ‬قال‪ :‬كنت إذا حدثني أحدٌ استحلفته‪ ،‬فإن حلف يل‬
‫صدقته‪ ،‬وحدثني أبو بكر‪ ،‬وصدق أبو بكر أن النبي ‪ ‬قال‪« :‬ما من عبد‬
‫يذنب ذن ًبا ثم يتوضأ فيحسن الوضوء‪ ،‬ثم يصيل ركعتني‪ ،‬ثم يستغفر اهلل إال غفر‬
‫اهلل له»(((‪.‬‬
‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)39 38/2‬‬
‫(((أخرجه أبو داود (‪ ،)1521‬والرتمذي (‪ ،)406‬والنسائي يف «الكربى» (‪ ،)10175‬وابن ماجه (‪)1390‬‬
‫وجود إسناده ابن حجر يف‬
‫حسنه احلافظ الذهبي يف «تذكرة احلفاظ» (‪َّ ،)11/1‬‬
‫ويف إسناده ضعف‪ ،‬وقد َّ‬
‫«هتذيب التهذيب» (‪.)268/1‬‬
‫‪133‬‬ ‫الحديث الرابع والعشرون‬

‫‪-9‬أن اهلل ‪ ‬يغفر ذنوب العبد مهام بلغت كمية وكيفية‪ ،‬إذا تاب إىل اهلل وأناب إليه‬
‫منها‪ ،‬لقوله‪« :‬وأنا أغفر الذنوب مجي ًعا‪ ،‬فاستغفروين أغفر لكم»‪ .‬وسيأيت بسط ذلك‬
‫عند قوله‪« :‬يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السامء ثم استغفرتني غفرت لك» يف‬
‫احلديث الثاين واألربعني‪.‬‬
‫‪-10‬أن اهلل ‪ ‬مستغن عن عباده‪ ،‬فال تنفعه طاعة الطائعني‪ ،‬وال ترضه معصية‬
‫العاصني‪ ،‬ولذا من أسامئه‪ :‬الغني احلميد‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ﭽﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﭼ‬
‫[النساء‪ ،]131 :‬وقال‪ :‬ﭽﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﭼ[آل عمران‪.]97 :‬‬
‫وكان النبي ‪ ‬يقول يف خطبته‪« :‬من يعص اهلل ورسوله فقد غوى‪ ،‬وال‬
‫يرض إال نفسه‪ ،‬وال يرض اهلل شيئًا»‪.‬‬
‫‪-11‬كامل غنى اهلل ‪ ،‬وكامل قدرته وملكه‪ ،‬وأن ملكه وخزائنه ال تنفذ‪ ،‬وال تنقص‬
‫بالعطاء‪ ،‬ولو أعطى األولني واآلخرين من اجلن واإلنس مجيع ما سألوه يف مقام‬
‫واحد‪ ،‬لقوله ‪« :‬يا عبادي‪ ،‬لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا‬
‫يف صعيد واحد فسألوين‪ ،‬فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إال‬
‫كام ينقص املخيط إذا أدخل البحر»‪.‬‬
‫قال ابن رجب ‪« :‬ويف ذلك حث للخلق عىل سؤاله وإنزال حوائجهم به‪.‬‬
‫ويف «الصحيحني» عن أيب هريرة ‪ ،‬عن النبي ‪ ‬قال‪« :‬يد اهلل‬
‫سحاء الليل والنهار‪ ،‬أفرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات‬ ‫مألى‪ ،‬ال تغيضها نفقة‪َّ ،‬‬
‫واألرض؟ فإنه مل يغض ما يف يمينه»‪ ،‬ويف «صحيح مسلم» عن أيب هريرة ‪،‬‬
‫عن النبي ‪ ‬قال‪« :‬إذا دعا أحدكم‪ ،‬فال يقل‪ :‬ال َّل ُه َّم اغفر يل إن شئت‪،‬‬
‫ولكن ليعزم املسألة‪ ،‬وليعظم الرغبة‪ ،‬فإن اهلل ال يتعاظمه يشء»‪ ،‬وقال أبو سعيد‬
‫اخلدري ‪« :‬إذا دعوتم اهلل‪ ،‬فارفعوا يف املسألة‪ ،‬فإن ما عنده ال ينفده يشء‪،‬‬
‫وإذا دعوتم فاعزموا‪ ،‬فإن اهلل ال مستكره له»‪.‬اه(((‪.‬‬
‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)48/2‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪134‬‬
‫‪-12‬أن اهلل ‪ ‬حييص أعامل عباده‪ ،‬ثم يوفيهم إياها باجلزاء عليها‪ ،‬لقوله ‪:‬‬
‫«يا عبادي إنام هي أعاملكم أحصيها لكم‪ ،‬ثم أوفيكم إياها»‪ ،‬وقد قال ‪:‬‬
‫ﭽﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﭼ‬
‫[الزلزلة‪.]8 ،7 :‬‬

‫وقال ‪ :‬ﭽﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﭼ[الكهف‪.]49 :‬‬


‫وتوفية األعامل هو توفية جزائها من خري أو رش‪ ،‬فالرش جيازى به بمثله من غري‬
‫زيادة‪ ،‬إال أن يعفو اهلل‪ ،‬واخلري تضاعف احلسنة منه بعرش أمثاهلا إىل سبعامئة ضعف‬
‫إىل أضعاف كثرية ال يعلم قدرها إال اهلل ‪.‬‬
‫‪ - 13‬أن تيسري فعل الطاعات‪ ،‬والقيام هبا‪ ،‬واإلثابة عليها من نعم اهلل عىل العبد‪ ،‬فينبغي‬
‫خريا فليحمد اهلل»‪.‬‬
‫أن حيمد اهلل عىل ذلك‪ ،‬لقوله ‪« :‬فمن وجد ً‬
‫‪-14‬أن العايص سوف يلوم نفسه يوم القيامة حني ال ينفعه الندم‪ ،‬لقوله ‪:‬‬
‫«ومن وجد غري ذلك فال يلومن إال نفسه»‪.‬‬
‫ففيه احلث عىل اإلقالع عن املعايص‪ ،‬والندم عىل فعلها ما دام يف زمن اإلمهال‪،‬‬
‫حتى ال يندم عىل فعله حني حلول اآلجال‪.‬‬
‫واهلل املوفق واهلادي‪ ،‬ال إله إال هو‪ ،‬وال رب سواه‪.‬‬
‫‪135‬‬ ‫الحديث الرابع والعشرون‬

‫الحديث الخامس والعشرون‬

‫هلل ‪‬‬
‫ول ا ِ‬
‫س ِ‬‫اب َر ُ‬ ‫نَاس ًا مِ ْن َأ ْ‬
‫ص َح ِ‬ ‫َع ْن َأبِي َذ ٍّر ‪َ ‬أيض ًا‪َ :‬أنَّ‬
‫ه ُل ال ُّد ُثو ِر بِاألُ ُجو ِر‪،‬‬ ‫ب َأ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫هلل َذ َ‬‫ول ا ِ‬ ‫س َ‬ ‫َقا ُلوا لِل َّنب ِِّي ‪ :‬يا َر ُ‬
‫ول‬‫ض ِ‬ ‫َص َّد ُقونَ ب ُِف ُ‬ ‫وم‪َ ،‬و َيت َ‬ ‫َص ُ‬ ‫ومونَ َك َما ن ُ‬ ‫ص ُ‬ ‫ُص ِّلي‪َ ،‬و َي ُ‬ ‫صلُّونَ َك َما ن َ‬ ‫ُي َ‬
‫َص َّد ُقونَ ؟ إِنَّ َل ُكم‬ ‫اهلل َل ُك ْم َما ت َّ‬ ‫س َق ْد َج َع َل ُ‬ ‫ال‪َ :‬‬
‫«أ َو َل ْي َ‬ ‫ِه ْم‪َ ،‬ق َ‬ ‫َأ ْم َوال ِ‬
‫ص َد َق ًة‪َ ،‬و ُك ِّل‬ ‫ص َد َق ًة‪َ ،‬و ُك ِّل ت َْحمِ ي َد ٍة َ‬ ‫َكبِي َر ٍة َ‬ ‫ص َد َق ًة‪َ ،‬و ُك ِّل ت ْ‬ ‫ِيح ٍة َ‬
‫َسب َ‬ ‫ب ُِك ِّل ت ْ‬
‫ص َد َق ًة‪َ ،‬وفِ ي‬ ‫َه ٍي َعنِ ُم ْن َكرٍ َ‬ ‫ص َد َق ًة‪َ ،‬ون ْ‬ ‫وف َ‬ ‫ِالم ْع ُر ِ‬ ‫ص َد َق ًة‪َ ،‬و َأ ْمرٍ ب َ‬ ‫َهلِي َل ٍة َ‬
‫ت ْ‬
‫ه َو َت ُه‬ ‫ش ْ‬ ‫ول اهللِ‪َ ،‬أ َي ْأتِي َأ َح ُدنَا َ‬ ‫س َ‬ ‫ص َد َق ًة»‪َ ،‬قا ُلوا‪َ :‬يا َر ُ‬ ‫ِك ْم َ‬ ‫ض ٍع َأ َحد ُ‬ ‫ُب ْ‬
‫ام َأ َكانَ َع َل ْي ِه‬ ‫ها فِ ي َح َر ٍ‬ ‫ض َع َ‬ ‫«أ َر َأ ْيت ُْم َل ْو َو َ‬
‫ال‪َ :‬‬ ‫يها َأ ْج ٌر؟ َق َ‬ ‫َو َي ُكونُ َل ُه فِ َ‬
‫سل ٌِم(((‪.‬‬ ‫الحالَ ِل َكانَ َل ُه َأ ْج ٌر»‪َ ،‬ر َوا ُه ُم ْ‬ ‫ها فِ ي َ‬ ‫ض َع َ‬ ‫ِك ِإ َذا َو َ‬‫ِو ْز ٌر؟! َف َك َذل َ‬

‫فيه فوائد‪:‬‬

‫ناسا من أصحاب النبي» هم فقراء املهاجرين‪ ،‬كام ثبت يف‬


‫‪-1‬قوله ‪« :‬أن ً‬
‫«الصحيحني» من حديث أيب هريرة ‪.‬‬
‫واملراد بأهل الدثور‪ ،‬أي‪ :‬أهل األموال‪.‬‬

‫‪-2‬حرص الصحابة ‪ ‬عىل املسابقة إىل اخلريات؛ ألن فقراء املهاجرين رأوا أن‬
‫أهل األموال يفضلوهنم ببذل الصدقات من أمواهلم‪ ،‬فأرادوا أن يكونوا مثلهم‪،‬‬
‫فدهلم النبي ‪ ‬عىل صدقات يقدرون عليها‪.‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)1006‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪136‬‬
‫‪-3‬الرتغيب يف اإلكثار من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبري؛ ألن النبي‬
‫‪ ‬أخرب أن هذه صدقات من املرء عىل نفسه‪ ،‬وقد ثبت يف «الصحيح»‬
‫أن النبي ‪ ‬قال‪« :‬ألن أقول‪ :‬سبحان اهلل‪ ،‬واحلمد هلل‪ ،‬وال إله إال اهلل‪،‬‬
‫واهلل أكرب‪ ،‬أحب إيل مما طلعت عليه الشمس»‪.‬‬
‫وقد تقدم بسط ذلك يف احلديث الثالث والعرشون‪.‬‬
‫‪-4‬فضل األمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬لقوله ‪« :‬وأمر باملعروف‬
‫صدقة‪ ،‬وهني عن املنكر صدقة»‪ ،‬واملعروف‪ :‬هو ما عرفه الرشع وأقره‪ .‬واملنكر ما‬
‫أنكره ومل يقره‪.‬‬

‫وقد حث اهلل ‪ ‬يف كتابه عىل األمر باملعروف والنهي عن املنكر‪َّ ،‬‬
‫وبي أن‬
‫سبب خري ّية هذه األمة‪ ،‬هو كوهنا تأمر باملعروف وتنهى عن املنكر‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫ﭽﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ‬
‫ﭩﭼ [آل عمران‪.]110 :‬‬
‫وقال ‪ :‬ﭽﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ‬
‫ﮢﮣﮤﭼ [آل عمران‪.]104 :‬‬
‫وقال ‪ :‬ﭽﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ‬
‫ﮚﮛﭼ [التوبة‪.]71 :‬‬
‫وبي ‪ ‬سبب لعن بني إرسائيل‪ ،‬فقال‪ :‬ﭽﭩﭪﭫﭬﭭﭮ‬
‫َّ‬
‫ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ‬
‫ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﭼ[املائدة‪.]79 ،78 :‬‬
‫وقال ‪ :‬ﭽﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ‬
‫ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭼ [األعراف‪.]165 :‬‬
‫منكرا فليغريه بيده‪ ،‬فإن مل يستطع فبلسانه‪،‬‬
‫وقال النبي ‪« :‬من رأى منكم ً‬
‫فإن مل يستطع فبقلبه وذلك أضعف اإليامن»‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪137‬‬ ‫الحديث الخامس والعشرون‬

‫فإن قيل‪ :‬هل للعبد أن يأمر باملعروف وهو ِّ‬


‫مقص يف فعله‪ ،‬وينهى عن املنكر وهو‬
‫واقع فيه؟‬
‫فاجلواب‪ :‬نعم‪ ،‬له ذلك وقد حقق ذلك ابن القيم ‪ ‬حيث قال‪ :‬إنه جيب عىل‬
‫كل عبد دعوة نفسه وهنيها ودعوة غريه وهنيهم‪ ،‬فإذا قرص يف أحد األمرين‪ ،‬لزمه‬
‫أن يقوم باألمر اآلخر‪ ،‬لئال جيتمع عليه إثمني‪ ،‬هذا معنى ما ذكره ‪.‬‬
‫مع أن األكمل واألفضل أن يكون ً‬
‫ممتثل للمأمور‪ ،‬جمتن ًبا املحظور قبل دعوة الناس‪.‬‬

‫وقد قال السفاريني ‪:‬‬


‫فقد أتى مما به يقيض العجب‬ ‫ ‬
‫و َمن هنى عن ماله قد ارتكب‬
‫‪-5‬أن إتيان الرجل أهله صدقة‪ ،‬ال سيام إذا نوى به حتصني فرجه وفرج زوجه عن‬
‫احلرام‪ ،‬وكذا حتصيل الولد الذي يسعى جاهدً ا لرتبيته وتأديبه‪ ،‬وأما إذا مل ينو شي ًئا‪،‬‬
‫فقد قال ابن رجب ‪« :‬تنازع الناس يف دخوله يف هذا احلديث‪ .‬ثم رسد بعض‬
‫األدلة عىل أن اإلنسان يؤجر باستصحاب النية الصاحلة‪ ،‬كقوله ‪:‬‬
‫«نفقة الرجل عىل أهله صدقة»‪ ،‬ويف رواية ملسلم‪« :‬وهو حيتسبها»‪.‬‬
‫وهذا يدل عىل أنه ينبغي للمرء أن يستصحب النية الصاحلة يف مجيع أموره‪ ،‬حتى‬
‫يؤجر عليها‪ ،‬وقد تقدم بسط ذلك يف احلديث األول‪.‬‬
‫‪-6‬إثبات القياس‪ ،‬لقوله ‪« :‬أرأيتم لو وضعها يف احلرام‪ ،‬أكان عليه وزر؟‬
‫فكذلك إذا وضعها يف احلالل كان له أجر»‪ ،‬وهذا يسمى بقياس العكس؛ يعني‪ :‬كام‬
‫وزرا يف احلرام‪ ،‬يكون له أجر يف احلالل‪.‬‬
‫أن عليه ً‬
‫والسنَّة كثرية‪.‬‬
‫واألدلة عىل إثبات القياس من الكتاب ُّ‬
‫ففيه رد عىل من أنكره وأبطله من أهل الظاهر؛ كابن حزم ‪.‬‬
‫يصيه قربة‪ ،‬لقوله ‪« :‬ويف‬ ‫‪-7‬أن لزوم احلالل واالستغناء به عن احلرام ِّ‬
‫بضع أحدكم صدقة»‪ ،‬فينبغي للمرء أن يستغني بام أباح اهلل له عن احلرام‪ ،‬وليقل‬
‫دائم‪« :‬ال َّل ُه َّم اكفني بحاللك عن حرامك‪ ،‬وأغنني بفضلك عمن سواك»‪.‬‬
‫ً‬
‫‪139‬‬ ‫الحديث الخامس والعشرون‬

‫الحديث السادس والعشرون‬

‫«ك ُّل‬
‫هلل ‪ُ :‬‬ ‫ول ا ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ال َر ُ‬ ‫ال‪َ :‬ق َ‬ ‫ه َر ْي َرةَ ‪َ ‬ق َ‬ ‫َع ْن َأبِي ُ‬
‫س‪ ،‬ت َْعد ُِل‬ ‫َط ُل ُع فِ ي ِه َّ‬
‫الش ْم ُ‬ ‫ص َد َق ٌة‪ُ ،‬ك ُّل َي ْو ٍم ت ْ‬ ‫سالَ َمى مِ نَ الن ِ‬
‫َّاس َع َل ْي ِه َ‬ ‫ُ‬
‫ها َأ ْو َت ْر َف ُع‬ ‫ص َد َق ٌة‪َ ،‬و ُتعِ ْينُ ال َّر ُج َل فِ ي َدا َّب ِت ِه َفت َْحمِ ُل ُه َع َل ْي َ‬‫َب ْينَ ا ْث َن ْينِ َ‬
‫ط َو ٍة‬ ‫ص َد َق ٌة‪َ ،‬وب ُِك ِّل خَ ْ‬ ‫َّ‬
‫الط ِّي َب ُة َ‬ ‫ص َد َق ٌة‪َ ،‬وا ْل َكل َِم ُة‬‫َاع ُه َ‬
‫ها َمت َ‬ ‫َل ُه َع َل ْي َ‬
‫ص َد َق ٌة»‪،‬‬ ‫يق َ‬ ‫الط ِر ِ‬ ‫َّ‬ ‫يط األَ َذى َعنِ‬ ‫ص َد َق ٌة‪َ ،‬و ُتمِ ُ‬ ‫الصالَةِ َ‬‫يها ِإ َلى َّ‬ ‫ش َ‬ ‫ت َْم ِ‬
‫سل ٌِم(((‪.‬‬
‫َر َوا ُه ال ُبخَ ا ِر ُّي َو ُم ْ‬

‫فيه فوائد‪:‬‬

‫‪-1‬املراد بالسالمى‪ :‬املفاصل؛ أي‪ :‬أن كل عضو ومفصل من اإلنسان عليه صدقة‪.‬‬

‫وقد ورد يف «صحيح مسلم» عدد املفاصل التي يف اإلنسان‪ .‬فعن عائشة ‪ ‬قالت‪:‬‬
‫قال رسول اهلل‪« :‬إنه خلق كل إنسان من بني آدم عىل ستني وثالثامئة مفصل‪ »..‬احلديث(((‪.‬‬
‫واحلديث له شاهد من حديث أيب ذر عند مسلم بلفظ‪« :‬يصبح عىل كل سالمى من‬
‫أحدكم صدقة‪ ،»..‬وفيه‪« :‬وجيزئ من ذلك ركعتان يركعهام من الضحى»(((‪.‬‬

‫‪-2‬قال ابن رجب ‪« :‬ومعنى احلديث‪ :‬أن تركيب هذه العظام ُ‬


‫وسالمتها من‬
‫أعظم نعم اهلل عىل عبده‪ ،‬فيحتاج كل عظم منها إىل صدقة يتصدق ابن آدم عنه‪،‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)2989‬ومسلم (‪ ،)1009‬زاد البخاري يف رواية (‪« ...:)2891‬ودل الطريق‬
‫صدقة»‪.‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)1007‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)720‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪140‬‬
‫شكرا هلذه النعمة‪ ،‬قال اهلل ‪ :‬ﭽﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭ‬
‫ليكون ذلك ً‬
‫ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ ﭼ[االنفطار‪ ،]8 6 :‬وقال‪ :‬ﭽﯶ‬
‫ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﭼ[امللك‪ ،]23 :‬وقال‪ :‬ﭽ‬
‫ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ‬
‫ﯲﯳﭼ[النحل‪ ،]78 :‬وقال‪ :‬ﭽﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﭼ‬
‫يقررك هبا كيام تشكر»‪.‬اه(((‪.‬‬
‫نعم من اهلل متظاهرة ِّ‬
‫[البلد‪ ،]9 ،8 :‬قال جماهد‪ :‬هذه ٌ‬
‫‪-3‬أن الصدقة عىل ابن آدم عن هذه األعضاء يف كل يوم من أيام الدنيا‪ ،‬لقوله‪« :‬كل‬
‫يوم تطلع فيه الشمس»‪.‬‬
‫قال العراقي ‪« :‬أي‪ :‬عليه عىل سبيل االستحباب املتأكد‪ ،‬وليس املراد أن عليه‬
‫ذلك عىل سبيل الوجوب‪ ،‬وهذه العبارة تستعمل يف املستحب كام تستعمل يف الواجب»‪،‬‬
‫ومنه حديث‪« :‬للمسلم عىل املسلم ست خصال»(((‪.‬‬
‫وبي أن الشكر عىل درجتني‪ :‬واجب ومستحب‪ .‬وأن‬
‫وفصل ابن رجب ‪ ‬يف ذلك ّ‬ ‫ّ‬
‫الذي أرشد إليه النبي يف هذا احلديث وغريه هو من الشكر املستحب‪.‬‬
‫‪ -4‬فضيلة اإلصالح بني املتخاصمني بالعدل؛ ألن النبي عد العدل بينهام صدقة‪.‬‬
‫وقد قال اهلل ‪ :‬ﭽﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞ‬
‫ﭟﭠﭡ ﭼ[النساء‪ ،]114 :‬وقال‪ :‬ﭽﭡﭢ ﭼ[النساء‪ ،]128 :‬وقال‪ :‬ﭽ‬
‫ﭚﭛﭜﭝﭞﭼ[األنفال‪.]1 :‬‬
‫واإلصالح يكون بكل ممكن من قول أو فعل‪ ،‬أو بذل مال‪ ،‬أو جاه أو نحو ذلك‪.‬‬
‫‪-5‬احلث عىل إعانة املسلم يف دابته‪ ،‬إما بحمله عليها إن كان ال يستطيع أن حيمل نفسه‪،‬‬
‫أو برفع متاعه عليها‪ ،‬لقوله‪« :‬وتعني الرجل يف دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها‬
‫متاعه صدقة»‪ ،‬وذلك ألن هذا من اإلحسان‪ ،‬واهلل حيب املحسنني‪.‬‬

‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)75/2‬‬


‫((( «طرح التثريب» (‪.)69/3‬‬
‫‪141‬‬ ‫الحديث السادس والعشرون‬

‫تقرب إىل اهلل فإهنا صدقة‪ ،‬لقوله‪« :‬والكلمة الطيبة صدقة»‪،‬‬


‫‪-6‬أن كل كلمة ّ‬
‫وهي تشمل التسبيح والتهليل والتكبري والتحميد‪ ،‬وتشمل الدعوة إىل اهلل‪،‬‬
‫ﭽﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ‬ ‫‪:‬‬ ‫لقوله‬
‫ﮈﭼ[فصلت‪ ،]33 :‬ولقوله‪« :‬من دعا إىل هدى كان له من األجر مثل‬
‫أجور من تبعه ال ينقص ذلك من أجورهم شي ًئا» احلديث‪ ،‬وكذا قراءة القرآن‪،‬‬
‫واألمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬وغريها‪.‬‬
‫‪-7‬احلث عىل كثرة اخلطا إىل املساجد؛ ألن لإلنسان بكل خطوة صدقة‪ ،‬وقد ورد يف‬
‫فضل كثرة اخلطا إىل املساجد أحاديث كثرية‪.‬‬
‫منها‪ :‬عن أيب هريرة ‪ ‬أن رسول اهلل قال‪« :‬أال أدلكم عىل ما يمحو اهلل به اخلطايا‪،‬‬
‫ويرفع به الدرجات؟ قالوا‪ :‬بىل يا رسول اهلل‪ ،‬قال‪ :‬إسباغ الوضوء عىل املكاره‪ ،‬وكثرة اخلطا‬
‫إىل املساجد‪ ،‬وانتظار الصالة بعد الصالة‪ ،‬فذلكم الرباط‪ ،‬فذلكم الرباط»‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬
‫ـ وعن جابر ‪ ‬قال‪َ :‬خ َلت البقاع حول املسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب‬
‫املسجد‪ ،‬فبلغ ذلك النبي فقال هلم‪« :‬بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب املسجد؟» قالوا‪:‬‬
‫نعم يا رسول اهلل قد أردنا ذلك‪ ،‬فقال‪« :‬بني سلمة دياركم تكتب آثاركم‪ ،‬دياركم تكتب‬
‫آثاركم»‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬
‫أجرا يف‬
‫ـ وعن أيب موسى األشعري ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول اهلل‪« :‬إن أعظم الناس ً‬
‫الصالة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم» احلديث‪ .‬متفق عليه‪.‬‬
‫ولذا قال الفقهاء رمحهم اهلل يف آداب اخلروج إىل املسجد‪« :‬يسن اخلروج إليها بسكينة‬
‫ووقار‪ ،‬ويقارب خطاه»(((‪.‬‬
‫‪-8‬أن إماطة األذى عن الطريق صدقة‪ ،‬واملراد بإماطة األذى إزالته عن الطريق‪،‬‬
‫املارة من حجر أو شجر أو شوك‪ ،‬أو زجاج أو قاممة أو غري‬
‫واألذى هو ما يؤذي ّ‬
‫ذلك‪.‬‬
‫((( «الروض املربع» (‪.)127/1‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪142‬‬
‫وقد قال النبي ‪« :‬اإليامن بضع وستون شعبة‪ ،‬أعالها قول ال إله إال اهلل‪،‬‬
‫وأدناها إماطة األذى عن الطريق»‪ .‬متفق عليه(((‪.‬‬
‫عيل أعامل أمتي حسنها‬
‫ويف «صحيح مسلم» عن أيب ذر أن النبي قال‪« :‬عرضت ّ‬
‫وسيئها‪ ،‬فوجدت يف حماسن أعامهلا‪ :‬األذى يامط عن الطريق‪ »...‬احلديث(((‪.‬‬
‫رجل يتق َّلب يف اجلنة‬
‫وعن أيب هريرة ‪ ‬عن النبي ‪ ‬قال‪« :‬لقد رأيت ً‬
‫يف شجرة قطعها من ظهر الطريق‪ ،‬كانت تؤذي الناس»‪ .‬رواه مسلم(((‪.‬‬
‫«مر رجل بغصن شجرة عىل ظهر طريق‪ ،‬فقال‪ :‬واهلل ألُنحني هذا عن‬ ‫ويف رواية‪ّ :‬‬
‫املسلمني ال يؤذهيم‪ُ ،‬فأ ِ‬
‫دخ َل اجلنة»(((‪.‬‬
‫ويف رواية هلام‪« :‬بينام رجل يميش بطريق وجد غصن شوك عىل الطريق ّ‬
‫فأخره‪ ،‬فشكر‬
‫اهلل له فغفر له»(((‪.‬‬

‫((( ويف رواية ملسلم‪« :‬بضع وسبعون»‪.‬‬


‫((( «صحيح مسلم» (‪.)553‬‬
‫((( برقم (‪.)1914‬‬
‫((( برقم (‪.)128/1914‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)652‬ومسلم (‪.)127/1914‬‬
‫‪143‬‬ ‫الحديث السادس والعشرون‬

‫الحديث السابع والعشرون‬

‫ال‪« :‬ال ِب ُّر‬ ‫س ْم َعانَ ‪َ ‬عنِ ال َّنب ِِّي ‪َ ‬ق َ‬ ‫اس ْبنِ ِ‬ ‫َعنِ ا ْلن ََّّو ِ‬
‫طل َِع َع َل ْي ِه‬‫ت َأ ْن َي َّ‬ ‫ك َو َك ِر ْ‬
‫ه َ‬ ‫س َ‬ ‫سنُ الخُ ُل ِق‪َ ،‬واإلِ ْث ُم َما َح َ‬
‫اك فِ ي ن َْف ِ‬ ‫ُح ْ‬
‫سل ٌِم(((‪.‬‬ ‫َّاس»‪َ ،‬ر َوا ُه ُم ْ‬‫الن ُ‬
‫ت‬ ‫ال‪« :‬جِ ْئ َ‬ ‫هلل َف َق َ‬
‫ول ا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ت َر ُ‬ ‫ال‪َ :‬أ َت ْي ُ‬
‫ِص َة ْبنِ َم ْع َب ٍد ‪َ ‬ق َ‬ ‫َو َع ْن َواب َ‬
‫اط َم َأن ْ‬
‫َّت‬ ‫ك‪ ،‬ال ِبرُّ َما ْ‬ ‫ت َق ْل َب َ‬ ‫«است َْف ِ‬ ‫ْ‬ ‫ت‪ :‬ن ََع ْم‪َ ،‬ق َ‬
‫ال‪:‬‬ ‫َس َأ ُل َعنِ ال ِب ِّر؟» ُق ْل ُ‬ ‫ت ْ‬
‫س َو َت َر َّد َد‬ ‫اك فِ ي الن َّْف ِ‬ ‫ب‪َ ،‬واإلِ ْث ُم َما َح َ‬ ‫اط َم َأنَّ ِإ َل ْي ِه َ‬
‫الق ْل ُ‬ ‫س َو ْ‬ ‫ِإ َل ْي ِه الن َّْف ُ‬
‫سنٌ ‪َ ،‬رو ْينَا ُه فِ ي‬ ‫ِيث َح َ‬ ‫ُوك»‪َ ،‬حد ٌ‬ ‫َّاس َو َأ ْفت َ‬ ‫َاك الن ُ‬ ‫الص ْد ِر‪َ ،‬وإ ِْن َأ ْفت َ‬
‫فِ ي َّ‬
‫س ٍن‪.‬‬ ‫ام ْينِ ‪َ :‬أ ْح َم َد ْبنِ َح ْن َب ٍل وال َّدا ِرمِ ِّي ِبإ ْ‬
‫ِسنَا ٍد َح َ‬ ‫س َن َدي» اإل َِم َ‬ ‫«م ْ‬‫ُ‬
‫فيه فوائد‪:‬‬
‫‪-1‬حديث وابصة رواه أمحد (‪ ،)18006‬والدارمي (‪ ،)2575‬من طريق محاد بن‬
‫سلمة‪ ،‬عن الزبري بن أيب عبد السالم‪ ،‬عن أيوب بن عبد اهلل بن مكرز‪ ،‬عن وابصة‬
‫بن معبد ‪ ‬فذكره‪.‬‬
‫وإسناده ضعيف‪ ،‬فيه علتان‪:‬‬
‫األوىل‪ :‬جهالة الزبري بن أيب عبد السالم‪ ،‬وأيوب بن عبد اهلل بن مكرز‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬االنقطاع بني أيوب والزبري‪.‬‬

‫((( برقم (‪.)2553‬‬


‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪144‬‬
‫قال ابن رجب ‪« :‬ففي إسناد هذا احلديث أمران يوجب كل منهام ضعفه‪،‬‬
‫أحدمها‪ :‬االنقطاع بني أيوب والزبري‪ ،‬فإنه رواه عن قوم مل يسمعهم‪ ،‬والثاين‪:‬‬
‫ضعف الزبري هذا‪ ،‬قال الدارقطني‪ :‬روى أحاديث مناكري»(((‪.‬‬
‫وقد ورد هلذا احلديث طرق متعددة ال ختلو من ضعف‪ ،‬رسدها‬
‫ابن رجب يف رشحه‪.‬‬
‫وقد ورد بنحوه حديث آخر وهو‪ :‬ما أخرجه أمحد والطرباين من طريق زيد بن‬
‫حييى الدمشقي‪ ،‬حدثنا عبد اهلل بن العالء‪ ،‬حدثنا مسلم بن ِمشكم‪ ،‬قال‪ :‬سمعت أبا‬
‫ثعلبة اخلشني يقول‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول اهلل أخربين ما ّ‬
‫حيل يل‪ ،‬وحيرم عيل؟ قال‪ :‬فص ّعد‬
‫رب ما سكنت إليه النفس‪ ،‬واطمأن إليه القلب‪ ،‬واإلثم ما مل‬‫وصوب‪ ،‬فقال‪« :‬ال ُّ‬
‫ّ‬ ‫النبي‬
‫تسكن إليه النفس‪ ،‬ومل يطمئن إليه القلب‪ ،‬وإن أفتاك املفتون»(((‪.‬‬
‫‪-2‬راوي احلديث األول‪ :‬النواس بن ِسمعان بن خالد الكاليب‪ ،‬ويقال‪ :‬األنصاري‪،‬‬
‫صحايب مشهور‪ ،‬سكن الشام وهو معدود منهم‪ ،‬وهو من املق ِّلني من رواية احلديث‬
‫عن النبي ‪ ،‬له يف الكتب الستة مخسة أحاديث(((‪.‬‬
‫وراوي احلديث الثاين‪ :‬وابصة بن معبد بن عتبة األسدي‪ ،‬صحايب وفد عىل النبي سنة‬
‫وعمر إىل قرب سنة تسعني(((‪.‬‬
‫تسع من اهلجرة‪ ،‬له يف «السنن» حديثان‪ِّ ،‬‬
‫رب بالفتح من أسامء اهلل ‪‬؛‬
‫رب‪ :‬كلمة تدل عىل كثرة اخلري واإلحسان‪ ،‬ومنه ال َّ‬
‫‪-3‬ال ّ‬
‫ألنه ‪ ‬كثري اخلريات جزيل العطايا واهلبات‪ .‬وأما حسن اخللق فقد تقدم‬
‫تعريفه يف احلديث الثامن عرش‪.‬‬
‫عرف النبي الرب بحسن اخللق‪ ،‬وذلك ألن الرب قد يكون بمعنى الصلة‪ ،‬وقد يكون‬
‫‪َّ -4‬‬
‫ربة وحسن الصحبة والعرشة‪ ،‬وبمعنى الطاعة‪ ،‬وهذه األمور‬ ‫بمعنى اللطف وامل َّ‬
‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)94/2‬‬
‫((( «مسند أمحد» (‪« ،)17742‬املعجم الكبري» (‪ ،)193‬ويف «مسند الشاميني» (‪ )782‬ويف إسناده ضعف‪.‬‬
‫((( «اإلصابة» (‪« ،)257/6‬التقريب» ص(‪« ،)1009‬سبل السالم» (‪.)303/4‬‬
‫((( «اإلصابة» (‪« ،)309/6‬التقريب» ص(‪.)1033‬‬
‫‪145‬‬ ‫الحديث السابع والعشرون‬

‫هي جمامع حسن اخللق‪ ،‬قاله النووي ‪.(((‬‬


‫‪-5‬فضيلة حسن اخللق‪ ،‬حيث جعل النبي حسن اخللق هو الرب‪ ،‬وقد وردت أحاديث‬
‫كثرية يف فضل حسن اخللق واحلث عليه‪ ،‬تقدم ذكرها‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬هل حسن اخللق ِجبِ ِّل أو مكتسب؟‬
‫فاجلواب‪ :‬أن منه ما هو جبيل‪ ،‬ومنه ما هو مكتسب‪ ،‬ويف «صحيح مسلم» عن األشج؛‬
‫أشج عبد القيس أن النبي قال له‪« :‬إن فيك خلصلتني حيبهام اهلل‪ :‬احللم واألناة»‪.‬‬
‫واملكتسب‪ :‬أن يوطن اإلنسان نفسه عىل األخالق اجلميلة‪ ،‬والصفات احلميدة لينال‬
‫ِر َض املوىل ‪ ،‬وحمبة الناس له»‪.‬‬
‫حرجا وضي ًقا وقل ًقا واضطرا ًبا‪ ،‬فلم ينرشح له‪،‬‬
‫‪-6‬أن ميزان اإلثم ما أحدث يف الصدر ً‬
‫لقوله‪« :‬واإلثم ما حاك يف صدرك»‪.‬‬
‫ويف اللفظ اآلخر‪« :‬واإلثم ما حاك يف النفس وتردد يف الصدر»‪ ،‬وكذلك هو عند الناس‬
‫مستكره‪ ،‬قال ابن رجب ‪« :‬وهذا أعىل مراتب معرفة اإلثم عند االشتباه‪ ،‬وهو ما‬
‫استنكره الناس عىل فاعله وغري فاعله»‪.‬‬

‫قال‪ :‬ومن هذا املعنى قول ابن مسعود ‪« :‬ما رآه املؤمنون حسنًا فهو عند اهلل‬
‫قبيحا فهو عند اهلل قبيح»(((‪.‬‬
‫حسن‪ ،‬وما رآه املؤمنون ً‬
‫‪-7‬أن املؤمن خياف أن ي َّطلع الناس عىل عيوبه‪ ،‬بخالف املستهرت العايص‪ ،‬فهو ال يبايل‬
‫وال هيتم بالناس وال با ِّطالعهم عىل مساوئ أعامله‪ ،‬وانتقادهم له‪.‬‬
‫‪-8‬يفهم منه أنه ينبغي للمرء أن يدع ما اشتبه فيه إىل ما ال اشتباه فيه؛ ألنه قد يقع‬
‫مفصل عند حديث النعامن بن بشري وفيه‪« :‬فمن اتقى‬ ‫ً‬ ‫يف اإلثم‪ .‬وقد تقدم ذلك‬
‫الشبهات فقد استربأ لدينه وعرضه‪ ،‬ومن وقع يف الشبهات وقع يف احلرام»‪.‬‬
‫((( يف «رشح مسلم» (‪.)11/16‬‬
‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)101/2‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪146‬‬
‫‪-9‬إحالة حكم اليشء إىل النفس املطمئنة التي تكره الرش وحتب اخلري‪ ،‬لقوله‪« :‬الرب ما‬
‫اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب»‪ ،‬ذكره شيخنا ‪.(((‬‬

‫((( يف تعليقه عىل «األربعني» ص(‪.)54‬‬


‫‪147‬‬ ‫الحديث السابع والعشرون‬

‫الحديث الثامن والعشرون‬

‫هلل‬
‫ول ا ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ظنَا َر ُ‬ ‫ال‪َ :‬و َع َ‬ ‫سا ِر َي َة ‪َ ‬ق َ‬ ‫اض ْبنِ َ‬ ‫يح العِ ْر َب ِ‬ ‫َع ْن َأبِي نَجِ ٍ‬
‫الع ُيونُ ‪،‬‬ ‫ها ُ‬ ‫ت مِ ْن َ‬ ‫وب َو َذ َ‬
‫رف ْ‬ ‫الق ُل ُ‬
‫ها ُ‬ ‫ت مِ ْن َ‬ ‫ظ ًة َوجِ َل ْ‬ ‫‪َ ‬م ْوعِ َ‬
‫يك ْم‬ ‫ص ُ‬ ‫ال‪ُ :‬‬
‫«أ ْو ِ‬ ‫صنَا‪َ ،‬ق َ‬ ‫ظ ُة ُم َو ِّد ٍع َف َأ ْو ِ‬ ‫َّها َم ْوعِ َ‬ ‫ول اهللِ‪َ ،‬ك َأن َ‬ ‫س َ‬ ‫َف ُق ْلنَا‪َ :‬يا َر ُ‬
‫اعةِ‪َ ،‬وإ ِْن ت ََأ َّم َر َع َل ْي ُك ْم َع ْب ٌد‪َ ،‬ف ِإ َّن ُه‬ ‫الط َ‬‫الس ْم ِع َو َّ‬ ‫هلل َع َّز َو َج َّل‪َ ،‬و َّ‬
‫ِبت َْق َوى ا ِ‬
‫س َّن ِة‬ ‫ِس َّنتِي َو ُ‬ ‫اخ ِتالَف ًا َكثِير ًا‪َ ،‬ف َع َل ْي ُك ْم ب ُ‬ ‫س َي َرى ْ‬ ‫ش مِ ْن ُك ْم َف َ‬ ‫َم ْن َيعِ ْ‬
‫اك ْم‬ ‫ها بِالن ََّواجِ ذِ‪َ ،‬و ِإ َّي ُ‬ ‫ضوا َع َل ْي َ‬ ‫ه ِد ِّيينَ ‪َ ،‬ع ُّ‬ ‫الم ْ‬
‫َ‬ ‫اشدِينَ‬‫الخُ َل َفا ِء ال َّر ِ‬
‫ِي‬‫ضالَ َل ٌة»‪َ ،‬ر َوا ُه َأ ُبو َداو َد وال ِّت ْرمِ ذ ُّ‬ ‫ات األُ ُمو ِر‪َ ،‬فإِنَّ ُك َّل ِب ْد َع ٍة َ‬ ‫َو ُم ْح َد َث ِ‬
‫يح‪.‬‬ ‫صحِ ٌ‬ ‫سنٌ َ‬ ‫ِيث َح َ‬ ‫ال‪َ :‬حد ٌ‬ ‫َو َق َ‬

‫فيه فوائد‪:‬‬

‫‪-1‬احلديث أخرجه أبو داود (‪ ،)4607‬من طريق الوليد بن مسلم‪ ،‬حدثنا ثور بن‬
‫يزيد‪ ،‬حدثني خالد بن معدان‪ ،‬حدثني عبد الرمحن بن عمرو السلمي وحجر بن‬
‫ُحجر الكالعي‪ ،‬عن العرباض بن سارية ‪ ‬فذكره‪.‬‬
‫وأخرجه الرتمذي (‪ ،)2676‬من طريق بحري بن سعد‪ ،‬عن خالد بن معدان به‪ ،‬ومل‬
‫يذكر حجر بن حجر‪.‬‬
‫وإسناده حسن‪.‬‬
‫وقد صححه الرتمذي فقال‪« :‬حديث حسن صحيح»‪.‬‬
‫وقال احلاكم‪« :‬صحيح‪ ،‬ليس له علة»‪.‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪148‬‬
‫ونقل ابن عبد الرب عن البزار أنه قال‪« :‬حديث عرباض بن سارية يف اخللفاء‬
‫الراشدين حديث ثابت صحيح»‪ ،‬وأقره ابن عبد الرب فقال‪« :‬هو كام قال البزار‬
‫حديث عرباض حديث ثابت»(((‪.‬‬

‫ونقل ابن رجب ‪ ‬عن أيب نعيم قوله‪« :‬هو حديث جيد من صحيح حديث‬
‫الشاميني»(((‪.‬‬

‫‪-2‬راوي احلديث‪ :‬هو العرباض بن سارية السلمي‪ ،‬أبو نجيح‪ ،‬صحايب جليل‪ ،‬من‬
‫الصفة‪ ،‬سكن محص‪ ،‬وروى عن النبي ‪ ‬أحاديث‪ ،‬وجمموع‬
‫أعيان أهل ُّ‬
‫مروياته يف الكتب الستة (‪ )11‬أحد عرش حدي ًثا باملكرر‪.‬‬

‫مات بعد سنة (‪70‬هـ)(((‪.‬‬

‫‪-3‬حرص النبي ‪ ‬عىل موعظة أصحابه‪ ،‬لقوله‪« :‬وعظنا رسول اهلل‬


‫موعظة»‪ ،‬وكان ‪ً ‬‬
‫كثريا ما يعظ أصحابه‪ ،‬لكنه ال يديم وعظهم‪ ،‬بل‬
‫يتخوهلم به أحيانًا‪ ،‬يف «الصحيحني» عن أيب وائل‪ ،‬قال‪« :‬كان عبد اهلل بن مسعود‬
‫َّ‬
‫يذكّرنا كل مخيس‪ ،‬فقال له رجل‪ :‬يا أبا عبد الرمحن‪ ،‬إنّا نحب حديثك ونشتهيه‪،‬‬
‫ولوددنا أنك حدثتنا كل يوم‪ ،‬فقال‪ :‬ما يمنعني أن أحدثكم إال كراهة أن ُأم َّلكم‪،‬‬
‫إن رسول اهلل كان يتخولنا باملوعظة كراهة السآمة علينا»‪.‬‬

‫‪-4‬احلث عىل البالغة يف املوعظة؛ ألهنا أدعى إىل قبول السامعني‪ ،‬وترقيق قلوهبم‪،‬‬
‫واستجالهبا‪ ،‬لقوله‪« :‬وجلت منها القلوب‪ ،‬وذرفت منها العيون»‪ ،‬وقد كان يشتد‬
‫ويتغري حاله عند املوعظة‪ ،‬كام قال جابر‪« :‬كان النبي إذا خطب‪ ،‬وذكر الساعة‪ ،‬اشتد‬
‫ومساكم»‪،‬‬
‫وامحرت عيناه‪ ،‬كأنه منذر جيش يقول‪ :‬ص َّبحكم ّ‬
‫َّ‬ ‫غضبه‪ ،‬وعال صوته‪،‬‬
‫أخرجه مسلم‪.‬‬
‫((( «جامع بيان العلم» (‪.)1165/2‬‬
‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)109/2‬‬
‫((( «السري» (‪« ،)419/3‬التقريب» ص(‪.)673‬‬
‫‪149‬‬ ‫الحديث الثامن والعشرون‬

‫فيحسن بالواعظ أن خيتار من اآليات واألحاديث ما حيصل به ترقيق القلوب‪ ،‬مع‬


‫البالغة وحسن األداء‪ ،‬بخالف من ال هيتم هبذا اجلانب‪ ،‬فإنه ال حيصل بموعظته‬
‫ترقيق القلوب‪ ،‬وال استجالب السامعني‪ ،‬وهذا راجع قبل كل يشء إىل صدق‬
‫جل وعال عىل بعض‬‫الواعظ مع اهلل‪ ،‬وإخالصه يف نفع عباد اهلل‪ ،‬ثم ما يتفضل به َّ‬
‫عباده من البالغة يف احلديث‪ ،‬وحسن اإللقاء‪ ،‬ﭽﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ‬
‫ﮬﮭﭼ [احلديد‪.]21 :‬‬
‫‪-5‬أن النبي قد أبلغ يف تلك املوعظة ما مل يبلغ يف غريها‪ ،‬فلذلك فهم الصحابة ‪‬‬
‫أهنا موعظة مودع؛ ألن العادة أن املرء إذا أراد أن يفارق أصحابه وإخوانه فإنه‬
‫يعظهم موعظة بليغة‪.‬‬
‫‪-6‬احلث عىل الوصية بتقوى اهلل‪ ،‬والتقوى‪ :‬هي أن جتعل بينك وبني عذاب اهلل وقاية‬
‫بفعل أوامره واجتناب نواهيه‪.‬‬
‫وعرفها بعضهم‪ :‬بأهنا اخلوف من اجلليل‪ ،‬والعمل بالتنزيل‪ ،‬واالستعداد ليوم الرحيل‪.‬‬
‫َّ‬
‫وقيل‪ :‬هي أال يفقدك اهلل حيث أمرك وال يراك حيث هناك‪ ،‬والتقوى هي وصية‬
‫اهلل لألولني واآلخرين‪ ،‬كام قال ‪ :‬ﭽﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦ‬
‫ﮧﮨﮩﮪﭼ[النساء‪ ،]131 :‬وقد تقدم ذكر ما يتعلق بالتقوى‪ ،‬وأن السعادة‬
‫ك َّلها فيمن َّ‬
‫متسك هبا يف احلديث الثامن عرش‪.‬‬
‫‪-7‬وجوب السمع والطاعة لوالة األمور‪ ،‬ما مل يأمروا بمعصية؛ ألن النبي أوىص‬
‫بالسمع والطاعة هلم‪.‬‬
‫والسنَّة تدل عىل ذلك‪:‬‬
‫وقد جاءت النصوص الكثرية من الكتاب ُّ‬
‫قال ‪ :‬ﭽﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﭼ [النساء‪.]59 :‬‬
‫قال ابن كثري ‪« :‬والظاهر واهلل أعلم أهنا عامة يف كل أويل األمر من األمراء‬
‫والعلامء»(((‪.‬‬
‫((( «تفسري ابن كثري» (‪.)304/2‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪150‬‬
‫ويف «الصحيحني» عن ابن عمر ‪ ،‬عن النبي ‪ ‬قال‪« :‬عىل املرء‬
‫املسلم السمع والطاعة فيام أحب وكره‪ ،‬إال أن يؤمر بمعصية‪ ،‬فإذا أمر بمعصية فال‬
‫سمع وال طاعة»‪.‬‬
‫ويف «صحيح مسلم» قال‪ :‬سمعت رسول اهلل ‪ ‬يقول‪« :‬من خلع يدً ا من‬
‫طاعة لقي اهلل يوم القيامة وال حجة له‪ ،‬ومن مات وليس يف عنقه بيعة مات ميتة‬
‫جاهلية»‪.‬‬
‫وبخصوص العبد‪ :‬ثبت يف «صحيح البخاري» عن أنس ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول‬
‫اهلل ‪« :‬اسمعوا وأطيعوا‪ ،‬وإن استعمل عليكم عبد حبيش كأن رأسه‬
‫زبيبة»‪.‬‬
‫وعن أم احلصني أهنا سمعت رسول اهلل خيطب يف حجة الوداع يقول ‪:‬‬
‫«ولو استعمل عليكم عبدٌ يقودكم بكتاب اهلل‪ ،‬اسمعوا له وأطيعوا» رواه مسلم‪.‬‬
‫وقويل‪« :‬ما مل يأمروا بمعصية» فإن أمروا بمعصية فال سمع وال طاعة لقوله‪« :‬إنام‬
‫الطاعة يف املعروف»‪ ،‬ولقوله‪« :‬فإذا أمر بمعصية فال سمع وال طاعة»‪.‬‬
‫‪-8‬ظهور آية من آيات النبي حيث قال ‪« :‬فمن يعش منكم بعدي فسريى‬
‫كثريا»‪ ،‬والذين عاشوا من بعده من أصحابه رأوا اختال ًفا ً‬
‫كثريا(((‪.‬‬ ‫اختال ًفا ً‬
‫قال ابن رجب ‪« :‬وهذا موافق ملا روي عنه من افرتاق أمته عىل بضع‬
‫وسبعني فرقة‪ ،‬وأهنا كلها يف النار إال فرقة واحدة‪ ،‬وهي من كان عىل ما هو عليه‬
‫وأصحابه»(((‪.‬‬
‫وسنَّة اخللفاء الراشدين من بعده ال سيام عند االفرتاق‬
‫بسنَّة النبي ُ‬
‫‪-9‬وجوب التمسك ُ‬
‫وسنَّة اخللفاء الراشدين املهديني‪.»..‬‬
‫بسنَّتي ُ‬
‫واالختالف‪ ،‬لقوله‪« :‬فعليكم ُ‬
‫بالسنَّة ولزومها‪ ،‬لقوله‪« :‬عضوا عليها بالنواجذ» وهذا يدل عىل‬
‫‪-10‬التمسك الشديد ُّ‬

‫((( من تعليق شيخنا ‪ ‬عىل «األربعني»‪.‬‬


‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)120/2‬‬
‫‪151‬‬ ‫الحديث الثامن والعشرون‬

‫شدة التمسك هبا‪ ،‬كأنه يعض بنواجذه عليها‪ ،‬لئال تدفعه األهواء ومتوج به اآلراء‬
‫والسنَّة‪ ،‬وال عىل هدي سلف األمة‪.‬‬
‫التي ليست عىل الكتاب ُّ‬
‫«وسنَّة اخللفاء الراشدين من بعدي‪،»..‬‬
‫‪-11‬أن للخلفاء الراشدين ُسنَّة متبعة‪ ،‬لقوله‪ُ :‬‬
‫وهذا ال إشكال فيه‪ ،‬وقد ورد يف «الصحاح» و «السنن» و «املسانيد» عن بعض‬
‫هؤالء اخللفاء ‪ ،‬أحكام وقضايا مل ترد عن النبي ‪ ،‬وال ختالف‬
‫ما ورد عنه‪ ،‬فأيدهم الصحابة عىل ذلك فكانت ُسنَّة‪ .‬كجمع املصحف يف عهد‬
‫أيضا‪.‬‬
‫عثامن‪ ،‬وكذا األذان الثاين للجمعة يف عهده ً‬
‫قال ابن رجب ‪« :‬وإنام وصف اخللفاء بالراشدين؛ ألهنم عرفوا احلق‪،‬‬
‫وقضوا به‪ ،‬فالراشد ضد الغاوي‪ ،‬والغاوي من عرف احلق‪ ،‬وعمل بخالفه»(((‪.‬‬
‫‪-12‬التحذير من البدع‪ ،‬ومن اتباع األمور املحدثة‪ ،‬لقوله‪« :‬وإياكم وحمدثات األمور‪،‬‬
‫فإن كل بدعة ضاللة»‪.‬‬
‫وقد تقدم يف احلديث اخلامس الكالم عىل البدع وتعريفها والتحذير منها‪.‬‬

‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)126/2‬‬


‫‪153‬‬ ‫الحديث التاسع والعشرون‬

‫الحديث التاسع والعشرون‬

‫‪‬‬ ‫هلل‬
‫ول ا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ت‪َ :‬يا َر ُ‬ ‫ال‪ُ :‬ق ْل ُ‬ ‫َع ْن ُم َعا ِذ ْبنِ َج َب ٍل ‪َ ‬ق َ‬
‫ت‬ ‫س َأ ْل َ‬ ‫ال‪َ « :‬ل َق ْد َ‬ ‫َأ ْخ ِب ْرنِي ب َِع َم ٍل ُي ْدخِ ُلني ا ْل َج َّن َة َو ُي َباعِ ُدنِي َعنِ النَّا ِر‪َ ،‬ق َ‬
‫َ‬
‫اهلل‬ ‫ُ‬
‫اهلل ت ََعا َلى َع َل ْيهِ‪ :‬ت َْع ُب ُد‬ ‫سي ٌر َع َلى َم ْن َي َّ‬
‫س َر ُه‬ ‫يم َو ِإ َّن ُه َل َي ِ‬ ‫َع ْن َع ِ‬
‫ظ ٍ‬
‫ضانَ ‪،‬‬ ‫وم َر َم َ‬ ‫َص ُ‬ ‫الصالَةَ ‪َ ،‬و ُت ْؤتِي الز ََّكاةَ ‪َ ،‬وت ُ‬ ‫يم َّ‬ ‫ش ْيئ ًا‪َ ،‬و ُتقِ ُ‬ ‫ك ِب ِه َ‬ ‫الَ ت ْ‬
‫ُش ِر ُ‬
‫الص ْو ُم ُج َّن ٌة‪،‬‬ ‫اب الخَ ْي ِر؟ َّ‬ ‫ك َع َلى َأ ْب َو ِ‬ ‫«أالَ َأ ُدلُّ َ‬
‫ال‪َ :‬‬
‫ت»‪ُ ،‬ث َّم َق َ‬ ‫َوت َُح ُّج ال َب ْي َ‬
‫صالَ ُة ال َّر ُج ِل‬ ‫الما ُء النَّا َر‪َ ،‬و َ‬
‫طفِ ى ُء َ‬ ‫طي َئ َة َك َما ُي ْ‬
‫ُطفِ ى ُء الخَ ِ‬ ‫الص َد َق ُة ت ْ‬‫َو َّ‬
‫حتّى َب َل َغ‪ :‬ﮋﮬﮊ‬ ‫ف ال َّل ْي ِل»‪ُ ،‬ث َّم َتالَ‪ :‬ﮋﮔﮕﮖﮗﮊ َ‬ ‫فِ ي َج ْو ِ‬
‫س األَ ْم ِر َو َع ُمو ِد ِه َو ِذ ْر َوةِ‬ ‫ك ِب َر ْأ ِ‬
‫«أالَ ُأ ْخ ِب ُر َ‬
‫ال‪َ :‬‬‫[السجدة‪ُ ،]17 ،16 :‬ث َّم َق َ‬
‫ِسالَ ُم‪َ ،‬و َع ُمو ُد ُه‬ ‫س األَ ْم ِر اإل ْ‬‫ال‪َ « :‬ر ْأ ُ‬
‫ول اهللِ‪َ ،‬ق َ‬ ‫س َ‬‫ت‪َ :‬ب َلى َيا َر ُ‬‫سنَامِ هِ؟ ُق ْل ُ‬‫َ‬
‫ك َذل َ‬
‫ِك‬ ‫ك ب َِمالَ ِ‬‫«أالَ ُأ ْخ ِب ُر َ‬
‫ال‪َ :‬‬ ‫ها ُد»‪ُ ،‬ث َّم َق َ‬ ‫سنَامِ ِه الجِ َ‬ ‫الصالَ ُة‪َ ،‬و ِذ ْر َو ُة َ‬‫َّ‬
‫ك‬ ‫ف َع َل ْي َ‬ ‫ال‪ُ :‬‬
‫«ك َّ‬ ‫ِسا ِنهِ‪َ ،‬و َق َ‬ ‫ول اهللِ‪َ ،‬ف َأخَ َذ ِبل َ‬‫س َ‬ ‫ت‪َ :‬ب َلى َيا َر ُ‬‫ُك ِّلهِ؟» َف ُق ْل ُ‬
‫ال‪:‬‬ ‫َك َّل ُم ِبهِ؟»‪َ ،‬ف َق َ‬ ‫هلل َو ِإنَّا َل ُمؤَاخَ ُذونَ ب َِما َنت َ‬
‫ت‪َ :‬يا َنب َِّي ا ِ‬ ‫ه َذا»‪ُ ،‬ق ْل ُ‬ ‫َ‬
‫ال‪:‬‬‫ه ْم َأ ْو َق َ‬ ‫َّاس فِ ي النَّا ِر َع َلى ُو ُج ِ‬
‫وه ِ‬ ‫ب الن َ‬ ‫ه ْل َي ُك ُّ‬
‫ك‪َ ،‬و َ‬ ‫ك ُأ ُّم َ‬ ‫« َثكِ َل ْت َ‬
‫ال‪َ :‬حد ٌ‬
‫ِيث‬ ‫ِي َو َق َ‬
‫ِه ْم»‪َ ،‬ر َوا ُه ال ِّت ْرمِ ذ ُّ‬ ‫صا ِئ ُد َأ ْل ِ‬
‫س َنت ِ‬ ‫ه ْم ِإالَّ َح َ‬
‫َع َلى َمنَاخِ ِر ِ‬
‫سنٌ َ‬
‫صحِ ْي ٌح‪.‬‬ ‫َح َ‬
‫فيه فوائد‪:‬‬
‫‪-1‬احلديث أخرجه الرتمذي (‪ ،)2616‬من طريق معمر‪ ،‬عن عاصم بن أيب النجود‪،‬‬
‫عن أيب وائل‪ ،‬عن معاذ بن جبل ‪ ‬فذكره‪.‬‬
‫قال الرتمذي‪« :‬هذا حديث حسن صحيح»‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وفيام قاله نظر‪ ،‬النقطاعه بني أيب وائل شقيق بن سلمة‪ ،‬ومعاذ بن جبل‪،‬‬
‫قال ابن رجب ‪« :‬وإن كان قد أدركه ِّ‬
‫بالسن‪ ،‬وكان معاذ بالشام‪ ،‬وأبو وائل‬
‫بالكوفة‪ ،‬وما زال األئمة كأمحد وغريه يستدلون عىل انتفاء السامع بمثل هذا‪ ،‬ثم‬
‫ذكر ً‬
‫مثال من قول أيب حاتم الرازي»‪.‬‬
‫وقال املنذري‪« :‬وأبو وائل أدرك معا ًذا بالسن‪ ،‬ويف سامعه عندي نظر‪ ،‬وكان أبو‬
‫وائل بالكوفة‪ ،‬ومعاذ بالشام»(((‪.‬‬
‫وفيه علة أخرى ذكرها ابن رجب‪ :‬وهي أن احلديث قد رواه محاد بن سلمة‪ ،‬عن‬
‫عاصم بن أيب النجود‪ ،‬عن شهر بن حوشب‪ ،‬عن معاذ‪ ،‬وقد قال الدارقطني‪ :‬وهو‬
‫أشبه بالصواب؛ ألن احلديث معروف من رواية شهر عىل اختالف عليه فيه‪.‬‬
‫ورواية شهر بن حوشب‪ ،‬أخرجها أمحد (‪ )22063‬وهي خمترصة‪.‬‬
‫قال ابن رجب ‪« :‬ورواية شهر عن معاذ مرسلة يقينًا‪ ،‬وشهر خمتلف يف‬
‫توثيقه وتضعيفه»‪.‬اهـ‪.‬‬
‫ثم قال‪« :‬وله طرق أخرى عن معاذ كلها ضعيفة»‪.‬اهـ(((‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهو كام قال؛ فاحلديث له طرق متعددة ال يصح منها يشء‪ ،‬فهي إما منقطعة‪،‬‬
‫وإما يف رجال أسانيدها ضعف‪.‬‬
‫‪-2‬حرص الصحابة ‪ ‬عىل السؤال عام ينفعهم يف دينهم‪ ،‬وينفعهم يف النجاة من‬
‫النار‪ ،‬ودخول اجلنة‪ ،‬لقوله ‪« :‬أخربين بعمل يدخلني اجلنة‪ ،‬ويباعدين عن النار»‪.‬‬
‫((( «الرتغيب والرتهيب» (‪.)511/3‬‬
‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)135/2‬‬
‫‪155‬‬ ‫الحديث التاسع والعشرون‬

‫دائم‪ ،‬حيرصون عىل أن يسألوا رسول اهلل ‪ ‬عام‬ ‫وهذه حاهلم ‪ً ‬‬
‫ينفعهم يف معادهم‪ ،‬ويقرهبم إىل رهبم‪ ،‬وإىل جنته ورضوانه‪ ،‬بخالف أسئلة البعض‬
‫اليوم‪ ،‬جتده يسأل عن أمور ال هتمه‪ ،‬وربام سأل ال للعلم‪ ،‬وإنام لريى ما عند العامل‬
‫أو طالب العلم‪ ،‬أو ليجادله يف مسألة يعرف السائل دليلها‪.‬‬
‫‪-3‬تشويق النبي ‪ ‬ملعاذ بن جبل ‪ ،‬وتشجيعه عىل حسن سؤاله‬
‫يسه اهلل عليه»‪،‬‬
‫وعظمه‪ ،‬حيث قال له‪« :‬لقد سألت عن عظيم‪ ،‬وإنه ليسري عىل من ّ‬
‫أمر عظيم جدًّ ا‪ ،‬قال ‪ :‬ﭽﮩ‬ ‫وذلك ألن دخول اجلنة‪ ،‬والنجاة من النار ٌ‬
‫ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﭼ[آل عمران‪.]185 :‬‬
‫يسه اهلل عليه»‪،‬‬
‫قال ابن رجب ‪« :‬وقوله ‪« :‬وإنه ليسري عىل من ّ‬
‫يس اهلل عليه اهلدى اهتدى‪ ،‬ومن مل‬‫إشارة إىل أن التوفيق كله بيد اهلل ‪ ،‬فمن ّ‬
‫يتيس له ذلك‪ ،‬قال ‪ :‬ﭽﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ‬ ‫ييرسه عليه‪ ،‬مل َّ‬
‫ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﭼ[الليل‪.»]10 5 :‬‬
‫دائم وليقل‪« :‬ال َّل ُه َّم‬
‫قلت‪ :‬ومع هذا فإنه ينبغي للعبد أن يسأل اهلل اهلداية والثبات ً‬
‫اهدين وسددين»‪« ،‬ال َّل ُه َّم أعني عىل ذكرك وشكرك وحسن عبادتك»‪« ،‬ال َّل ُه َّم يرسين‬
‫لليرسى وجنبني العرسى‪ ،‬واغفر يل يف اآلخرة واألوىل»‪ ،‬وليحسن الظن باهلل‪ ،‬فإنه‬
‫جل وعال عند حسن ظن عبده به‪.‬‬ ‫َّ‬
‫‪-4‬عظمالتوحيدوأمهيته‪،‬وأنهأول ٍ‬
‫أمرأ َم َراهللبهعبادهيفكتابه‪،‬قال‪:‬ﭽﮜﮝﮞ‬
‫ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦ ﭼ[البقرة‪ .]21 :‬لقوله ‪« :‬تعبد‬
‫اهلل ال ترشك به شيئًا»‪ ،‬وهذا هو التوحيد‪ ،‬وهو معنى شهادة أال إله إال اهلل‪.‬‬
‫والعبادة‪ :‬هي التذلل واخلضوع هلل ‪ ‬بفعل أوامره‪ ،‬واجتناب نواهيه‪.‬‬
‫يقال‪ :‬طريق مع َّبد؛ أي‪ :‬مذلل بوطء األقدام عليه‪.‬‬
‫وعرفها شيخ اإلسالم ‪ ‬بأهنا‪« :‬اسم جامع لكل ما حيبه اهلل ويرضاه‪ ،‬من‬ ‫ّ‬
‫األقوال واألفعال الظاهرة والباطنة» ‪.‬‬
‫(((‬

‫((( «جمموع الفتاوى» (‪.)149/10‬‬


‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪156‬‬
‫ويشرتط لقبوهلا رشطان‪ :‬اإلخالص هلل‪ ،‬واملتابعة لرسوله‪ ،‬وقد مجع اهلل هذين‬
‫الرشطني يف قوله ‪ :‬ﭽﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﭼ‬
‫[النساء‪ ،]125 :‬ﭽﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﭼ أي‪ :‬أخلص‪،‬‬
‫؛‬

‫ﭽﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﭼ أي‪ :‬متبع‪.‬‬


‫؛‬

‫وقد دل عىل اإلخالص قوله ‪ :‬ﭽﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﭼ‬


‫[البينة‪.]5 :‬‬
‫وعىل املتابعة قوله ‪« :‬من عمل ً‬
‫عمل ليس عليه أمرنا فهو رد»‪ ،‬ويف‬
‫لفظ‪« :‬من أحدث»‪ .‬وقد تقدم‪.‬‬
‫فسه النبي ‪« :‬أن جتعل هلل ندً ا وهو خلقك»(((‪،‬‬
‫وأما الرشك فهو كام ّ‬
‫فهو اختاذ الند للرمحن من املالئكة أو الرسل أو غريهم‪.‬‬
‫وإن شئت فقل‪ :‬هو تسوية غري اهلل باهلل فيام هو من خصائص اهلل‪.‬‬
‫وهو نوعان‪ :‬أكرب وأصغر‪.‬‬

‫قال ابن القيم ‪:‬‬

‫ذا القســم ليــس بقابــل الغفــران‬ ‫والــرك فاحــذره فــرك ظاهــر‬

‫كان مــن حجــر ومــن إنســان‬ ‫وهــو اختــاذ النــد للرمحــن أ ًّيــا‬

‫الديــان‬
‫(((‬
‫كمحبــة‬ ‫وحيبــه‬ ‫يدعــوه أو يرجــوه ثــم خيافــه‬

‫فالرشك األكرب‪ :‬هو الذي تقدم تعريفه‪ ،‬وهو املخرج من امللة‪ ،‬وهو الذي ال يغفره‬
‫اهلل ملن لقيه به يوم القيامة‪ ،‬قال ‪ :‬ﭽﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ‬
‫ﮭﮮﭼ [النساء‪.]48 :‬‬
‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)4761‬ومسلم (‪ )141‬من حديث عبد اهلل بن مسعود ‪.‬‬
‫((( «نونية ابن القيم» (‪.)220/1‬‬
‫‪157‬‬ ‫الحديث التاسع والعشرون‬

‫وأما الرشك األصغر‪ :‬فهو كل وسيلة موصلة إىل الرشك األكرب‪ ،‬إذا مل تصل إىل رتبة‬
‫عرفه الشيخ ابن سعدي ‪ .‬وله أنواع متعددة؛ كاحللف بغري اهلل‪،‬‬ ‫العبادة‪ .‬كذا َّ‬
‫والرياء‪ ،‬وعبادة الدينار والدرهم ونحوها‪.‬‬
‫‪-5‬عظم أركان اإلسالم اخلمسة‪ ،‬وأهنا موجبة لدخول اجلنة والنجاة من النار‪ ،‬ملن‬
‫حافظ عليها‪ ،‬وأداها كام ُأمر‪.‬‬
‫وقد تقدم رشح هذه األركان يف احلديث الثالث‪.‬‬
‫‪-6‬كثرة أبواب اخلري‪ ،‬لقوله ‪« :‬أال أدلك عىل أبواب اخلري»‪ ،‬فأبواب اخلري‬
‫كثرية متنوعة‪ ،‬زيادة عىل الواجبات واملفروضات‪ ،‬وهي النوافل والتطوعات‪.‬‬
‫‪-7‬أن الصوم ُجنَّة‪ ،‬يستجن به املؤمن من املعايص يف الدنيا‪ ،‬ومن النار يف اآلخرة‪ ،‬وقد‬
‫نص املوىل ‪ ‬عىل حصول التقوى به‪ ،‬قال ‪ :‬ﭽﭣﭤﭥﭦ‬
‫ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭼ [البقرة‪ ،]183 :‬وقال‬
‫يف احلديث القديس‪« :‬الصوم يل وأنا أجزي به»‪ ،‬ويف «الصحيحني» عن أيب هريرة‬
‫‪ ‬عن النبي ‪ ‬قال‪« :‬الصيام جنة‪ ،‬فإذا كان يوم صوم أحدكم فال‬
‫يرفث‪ ،‬وال جيهل‪ ،‬فإن امرؤ سا َّبه فليقل‪ :‬إين امرؤ صائم»‪.‬‬

‫وللصوم فوائد عدة‪:‬‬


‫ويتمرن العبد عىل الصرب‬
‫ّ‬ ‫قال الشيخ ابن سعدي ‪« :‬بالصيام يزداد اإليامن‪،‬‬
‫النفيس الدافع الندفاع النفس البهيمية يف شهواهتا الضارة‪ ،‬وبالصيام يستعني العبد‬
‫عىل كثري من العبادات؛ من صالة وقراءة وذكر وصدقة‪ ،‬ويردع النفس عن األمور‬
‫املحرمة من أقواله وأفعاله‪ ،‬وذلك من أصول التقوى‪ ...‬ثم قال‪ :‬وأما منافع الصيام‬
‫البدنية‪ ،‬فقد ذكر األطباء أنه حيفظ الصحة‪ ،‬ويذيب الفضالت املؤذية‪ ،‬ويريح‬
‫القوى‪ ،‬ويرد إليها قوهتا‪ ،‬وهو من أفضل أنواع احلمية عن تناول ما يؤذي البدن‪،‬‬
‫فهو جامع ملصالح الدين والدنيا واآلخرة‪ ،‬واهلل أعلم»(((‪.‬‬
‫((( املجموعة الكاملة ملؤلفات الشيخ الثقافة (‪.)384/1‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪158‬‬
‫‪-8‬فضيلة الصدقة‪ ،‬وأهنا سبب لتكفري السيئات‪ ،‬وحمو الذنوب واخلطيئات‪ ،‬لقوله‬
‫‪« :‬والصدقة تطفئ اخلطيئة‪ ،‬كام يطفئ املاء النار»‪ ،‬وقد ورد يف فضل‬
‫الصدقة أحاديث كثرية‪ ،‬تقدم ذكر بعضها يف فوائد احلديث الثالث والعرشون‪.‬‬
‫‪-9‬فضيلة قيام الليل؛ ألنه يطفئ اخلطيئة‪ ،‬وقد ورد يف فضله‪ ،‬واحلث عليه أحاديث‬
‫كثرية‪ ،‬فقد روى مسلم عن أيب هريرة ‪ ،‬عن النبي ‪ ‬قال‪« :‬وأفضل‬
‫الصالة بعد املكتوبة صالة الليل»(((‪.‬‬
‫وروى الرتمذي وصححه عن عبد اهلل بن سالم ‪ ‬أن النبي ‪‬‬
‫قال‪« :‬أهيا الناس أفشوا السالم‪ ،‬وأطعموا الطعام‪ ،‬وصلوا بالليل والناس نيام‬
‫تدخلوا اجلنة بسالم»(((‪.‬‬
‫وعن جابر ‪ ‬قال‪ :‬سمعت رسول اهلل ‪ ‬يقول‪« :‬إن يف الليل‬
‫خريا من أمر الدنيا واآلخرة إال أعطاه إياه‬
‫لساعة ال يوافقها رجل مسلم يسأل اهلل ً‬
‫وذلك كل ليلة»‪ ،‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫فقيام الليل حيصل به تكفري السيئات‪ ،‬ورفعة الدرجات‪ ،‬واألُنس به‬
‫ومناجاته وسؤاله وخوفه ورجاؤه يف الظلامت‪ ،‬واالقتداء بسيد املخلوقات‪ ،‬فقد‬
‫كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه طل ًبا ملرضاة رب األرض والسموات‪ ،‬ال‬
‫سيام جوف الليل‪ ،‬لقوله ‪ ‬هنا‪« :‬وصالة الرجل يف جوف الليل»‪،‬‬
‫وذلك لصفاء القلب‪ ،‬وخلو الذهن من مجيع املكدرات‪ ،‬وليوافق وقت النزول‬
‫اإلهلي‪ ،‬فقد روى أبو هريرة عن النبي ‪ ‬أنه قال‪« :‬ينزل ربنا ثلث الليل‬
‫اآلخر إىل سامء الدنيا ويقول‪ :‬هل من داع فأستجيب له‪ ،‬هل من سائل فأعطيه‪ ،‬هل‬
‫من مستغفر فأغفر له»‪ .‬متفق عليه‪.‬‬
‫وعن أيب أمامة ‪ ‬قال‪ :‬قيل‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬أي الدعاء أسمع؟ قال‪« :‬جوف‬
‫الليل اآلخر ودبر الصلوات املكتوبات»(((‪.‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)1163‬‬
‫((( «سنن الرتمذي» (‪.)2485‬‬
‫((( أخرجه الرتمذي (‪ )3499‬ويف إسناده ضعف‪ ،‬وله شواهد‪.‬‬
‫‪159‬‬ ‫الحديث التاسع والعشرون‬

‫فاحرص أهيا املسلم‪ ،‬يا من أثقلتك الذنوب والسيئات‪ ،‬واخلطايا واملوبقات‪ ،‬قف‬
‫بني يدي الكريم الوهاب تلك اللحظات‪ ،‬واسأله املغفرة والرمحة والتوبة؛ فإنه َّ‬
‫جل‬
‫جالله رحيم كريم جزيل اهلبات‪.‬‬

‫‪-10‬أن النبي ‪ ‬يستدل بالقرآن‪ ،‬لقوله‪« :‬ثم تال‪ :‬ﭽﮔﮕﮖ‬


‫ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥ‬
‫ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﭼ[السجدة‪.»]17 ،16 :‬‬
‫‪-11‬أن رأس الدين الذي بعث به النبي هو اإلسالم‪ ،‬وقد جاء تفسريه يف رواية أخرى‬
‫ظاهرا وباطنًا فليس من اإلسالم يف‬
‫ً‬ ‫هلذا احلديث بالشهادتني‪ ،‬فمن مل يقرهبام‬
‫يشء‪ ،‬قاله ابن رجب ‪.‬‬
‫وقد تقدم تعريف اإلسالم‪ ،‬وذكر أركانه يف احلديث الثاين‪ ،‬والثالث‪ ،‬والثامن‪.‬‬
‫أيضا أن من أعظم أركانه بعد الشهادتني الصالة وهي عموده‪ ،‬كام يف قوله‬
‫وتقدم ً‬
‫‪« :‬وعموده الصالة»‪.‬‬
‫‪-12‬عظم منزلة اجلهاد يف سبيل اهلل عند اهلل ‪ ،‬لقوله ‪« :‬وذروة‬
‫سنامه» أي‪ :‬أعىل ما فيه وأرفعه اجلهاد‪.‬‬
‫وقد نص أصحاب اإلمام أمحد ‪ ‬عىل أنه من أفضل األعامل بعد الفرائض(((‪.‬‬

‫روى مسلم عن أيب هريرة ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول اهلل »‪« :‬من مات ومل يغز ومل‬
‫حيدث نفسه به مات عىل شعبة من نفاق»(((‪ ،‬واجلهاد يكون بالنفس‪ :‬وهو بذل‬
‫اجلهد يف قتال الكفار‪.‬‬
‫وباملال‪ :‬وذلك ببذل النفقة للمجاهدين يف رشاء سالح ونحوه‪.‬‬
‫وباللسان‪ :‬وذلك بإقامة احلجة عىل الكفار واملنافقني‪ ،‬ودعائهم إىل اهلل ‪.(((‬‬
‫((( «الروض املربع» (‪.)165/1‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)1910‬‬
‫((( «سبل السالم» (‪.)87/4‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪160‬‬
‫وقد ورد يف فضل اجلهاد أحاديث كثرية‪ ،‬ففي «الصحيحني» وغريمها عن أيب ذر‬
‫قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬أي العمل أفضل؟ قال ‪« :‬إيامن باهلل وجها ٌد‬
‫يف سبيله»‪.‬‬
‫وفيهام عن أيب هريرة ‪ ‬عن النبي ‪ ‬قال‪« :‬أفضل األعامل إيامن‬
‫باهلل‪ ،‬ثم جهاد يف سبيل اهلل»‪.‬‬
‫‪-13‬عظم خطر اللسان‪ ،‬لقوله ‪« :‬وهل يكب الناس يف النار عىل وجوههم‬
‫أو قال‪ :‬عىل مناخرهم إال حصائد ألسنتهم»‪.‬‬
‫املحرم وعقوباته‪،‬‬
‫قال ابن رجب ‪« :‬واملراد بحصائد األلسنة‪ :‬جزاء الكالم َّ‬
‫فإن اإلنسان يزرع بقوله وعمله احلسنات والسيئات‪ ،‬ثم حيصد يوم القيامة ما زرع‪،‬‬
‫رشا من قول أو عمل‪،‬‬ ‫خريا من قول أو عمل‪ ،‬حصد الكرامة‪ ،‬ومن زرع ًّ‬
‫فمن زرع ً‬
‫حصد غدً ا الندامة»(((‪.‬‬
‫وقد قال اهلل ‪ :‬ﭽﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ ﭼ[ق‪ ،]18 :‬وتقدم قوله‬
‫خريا أو ليصمت»‪.‬‬
‫‪« :‬ومن كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليقل ً‬
‫صالحا يف‬
‫ً‬ ‫قال يونس بن عبيد‪« :‬ما رأيت أحدً ا لسانه منه عىل ٍ‬
‫بال‪ ،‬إال رأيت ذلك‬
‫سائر عمله»(((‪.‬‬
‫وذلك ألن اللسان به حصائد الكالم من خري ورش‪ ،‬فبه ينطق املرء بكلمة الكفر‪،‬‬
‫وبه السب والشتم والقذف والكذب وقول الزور والبهتان‪ ،‬واالعتداء عىل‬
‫أعراض اخللق‪ .‬وبه ينطق املرء باألعامل الصاحلة من حتميد وتسبيح وهتليل‪.‬‬

‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)147/2‬‬


‫((( «جامع العلوم» (‪.)149/2‬‬
‫‪161‬‬ ‫الحديث الثالثون‬

‫الحديث الثالثون‬

‫هلل‬
‫ول ا ِ‬ ‫س ِ‬ ‫َاشرٍ ‪َ ،‬ع ْن َر ُ‬ ‫ني ُج ْر ُثوم ْبنِ ن ِ‬ ‫ش ِّ‬ ‫َع ْن َأبِي َث ْع َل َب َة الخُ َ‬
‫وها‪َ ،‬و َح َّد‬ ‫ُض ِّي ُع َ‬‫ِض َفالَ ت َ‬‫ض َف َرائ َ‬ ‫اهلل ت ََعا َلى َف َر َ‬ ‫َ‬ ‫ال‪« :‬إِنَّ‬ ‫‪َ ‬ق َ‬
‫ت َع ْن‬ ‫س َك َ‬ ‫وها‪َ ،‬و َ‬ ‫َه ُك َ‬ ‫ش َيا َء َفالَ َت ْنت ِ‬ ‫وها‪َ ،‬و َح َّر َم َأ ْ‬ ‫ُح ُدود ًا َفالَ ت َْع َت ُد َ‬
‫سنٌ َر َوا ُه‬ ‫ِيث َح َ‬ ‫ها»‪َ ،‬حد ٌ‬ ‫يان َفالَ َت ْب َح ُثوا َع ْن َ‬
‫ِس ٍ‬ ‫ش َيا َء َر ْح َم ًة َل ُك ْم َغ ْي َر ن ْ‬ ‫َأ ْ‬
‫ال َّدا َر ُق ْ‬
‫طن ُِّي َو َغ ْي ُر ُه‪.‬‬

‫فيه فوائد‪:‬‬
‫‪-1‬هذا احلديث أخرجه الدارقطني (‪ ،)4396‬والبيهقي (‪ ،)19725‬والطرباين يف‬
‫«الكبري» (‪ )677‬من طريق داود بن أيب هند‪ ،‬عن مكحول‪ ،‬عن أيب ثعلبة ‪‬‬
‫فذكره‪.‬‬
‫وإسناده ضعيف‪ ،‬فيه علتان‪:‬‬
‫ً‬
‫مكحول مل يصح له السامع من أيب ثعلبة‪ ،‬كذا قال أبو‬ ‫إحدامها‪ :‬االنقطاع‪ .‬فإن‬
‫مسهر الدمشقي‪ ،‬وأبو نعيم احلافظ وغريمها‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أنه قد اختلف يف رفعه ووقفه عىل أيب ثعلبة‪ ،‬ورواه بعضهم عن مكحول‬
‫من قوله‪ ،‬لكن قال الدارقطني‪« :‬األشبه بالصواب املرفوع‪ ،‬قال‪ :‬وهو أشهر»(((‪.‬‬
‫واحلديث له شواهد متعددة‪ ،‬لكن ال يصح منها يشء‪.‬‬
‫((( انظر‪« :‬جامع العلوم واحلكم» (‪ ،)150/2‬و «جامع التحصيل» للعالئي ص(‪.)285‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪162‬‬
‫وعليه‪ :‬فإن حتسني املؤلف له فيه نظر! ولعله حسنه بمجموع طرقه وشواهده‪،‬‬
‫وهذا غري مس ّلم عىل قواعد املحدثني‪ .‬واهلل أعلم‪.‬‬

‫‪-2‬راوي احلديث‪ :‬هو أبو ثعلبة اخلشني‪ ،‬صحايب جليل‪ ،‬مشهور بكنيته وقد اختلف‬
‫يف اسمه؛ فقيل‪ :‬جرثوم بن نارش‪ ،‬وقيل‪ :‬جرثومة‪ ،‬وقيل‪ :‬جرهم‪ ،‬وقيل غري ذلك‪،‬‬
‫روى عن النبي ‪ ‬أحاديث‪ ،‬وله يف الكتب الستة (‪ )19‬تسعة عرش حدي ًثا‬
‫باملكرر‪.‬‬

‫مات سنة (‪75‬هـ)‪ ،‬وقيل‪ :‬قبل ذلك(((‪.‬‬

‫‪-3‬هذا احلديث لو صح أصل كبري من أصول الدين‪ ،‬كام قال أبو بكر بن السمعاين‪،‬‬
‫قسم فيه األحكام إىل أربعة أقسام‪ :‬فرائض‪ ،‬وحمارم‪،‬‬
‫وذلك ألن النبي ‪ّ ‬‬
‫وحدود‪ ،‬ومسكوت عنه‪ ،‬وتلك جتمع أحكام الدين ك ّلها‪.‬‬

‫‪-4‬احلذر من تضييع الفرائض‪ .‬وهي عىل نوعني‪ :‬كفائي‪ ،‬وعيني‪.‬‬

‫فالكفائي‪ :‬ما ُقصد فعله بقطع النظر عن فاعله‪ ،‬وحكمه أنه إذا قام به من يكفي‬
‫سقط عن الباقني‪ ،‬وم ّثل له العلامء‪ :‬باألذان واإلقامة‪ ،‬وصالة اجلنازة وغريها‪.‬‬

‫وأما العيني‪ :‬فهو ما ُقصد به الفعل والفاعل‪ ،‬ووجب عىل كل أحد بعينه‪ ،‬وهو‬
‫مطالب به‪ ،‬وم َّثلوا له بأركان اإلسالم اخلمسة‪ ،‬وغريها(((‪.‬‬

‫‪-5‬حتريم تعدي حدود اهلل ‪ ،‬وحدود اهلل هي األوامر والنواهي‪.‬‬

‫فام هني عن جتاوزه فهو أوامر‪ ،‬وما هني عن قربانه فهو نواهي‪.‬‬

‫فمن األول‪ :‬قوله ‪ :‬ﭽﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ‬


‫ﯹﭼ [البقرة‪.]229 :‬‬
‫((( «سري أعالم النبالء» (‪ ،)567/2‬التقريب ص(‪.)1123‬‬
‫((( بترصف من تعليق شيخنا عىل «األربعني» ص(‪.)65‬‬
‫‪163‬‬ ‫الحديث الثالثون‬

‫حرم الشارع الغلو والتنطع يف الدين‪ ،‬قال النبي ‪« :‬هلك‬ ‫ولذا ّ‬


‫املتنطعون»‪ ،‬قاهلا ثال ًثا‪ .‬وقال ‪ ‬وبيده حىص اجلامر‪« :‬بأمثال هؤالء‬
‫فارموا وإياكم والغلو‪ ،‬فإنام أهلك من كان قبلكم الغلو»‪.‬‬

‫ومن الثاين‪ :‬قوله ‪ :‬ﭽﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ‬


‫ﮘﮙﭼ [البقرة‪.]187 :‬‬

‫فجميع املعايص واملوبقات هنى الشارع عن قرباهنا‪ ،‬قال ‪ :‬ﭽﮊﮋ‬


‫ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﭼ [اإلرساء‪ ،]32 :‬وقال‪ :‬ﭽﭑﭒﭓﭔﭕ‬
‫«وحرم أشياء فال‬
‫َّ‬ ‫ﭖﭗﭘﭼ [األنعام‪ ،]152 :‬ويدل لذلك قوله يف احلديث‪:‬‬
‫تنتهكوها»‪.‬‬
‫وبيانه يف الفائدة اآلتية وهي‪:‬‬
‫‪-6‬أن الوقوع يف املحرمات‪ ،‬والتهاون بارتكاب املعايص والسيئات سبب لنقص‬
‫اإليامن‪ ،‬والبعد عن الرمحن‪ ،‬فينبغي احلذر منها‪.‬‬
‫ولذا قال بعض السلف‪« :‬املعايص بريد الكفر»‪.‬‬
‫بمعنى أن اإلنسان يتساهل هبا‪ ،‬وال حيدث عند ارتكابه هلا توبة‪ ،‬حتى خيرج هبا من‬
‫دين اإلسالم وهو ال يشعر‪.‬‬
‫ثم ال تنظر أهيا العايص إىل صغر املعصية‪ ،‬ولكن انظر إىل عظم من عصيت‪ ،‬وهو‬
‫جل وعال الذي أمدك بالنعم‪ ،‬ودفع عنك الرشور والنقم‪.‬‬‫املوىل َّ‬

‫‪-7‬أن ما سكت اهلل عنه فهو عفو‪ ،‬لقوله‪« :‬وسكت عن أشياء رمحة بكم غري نسيان فال‬
‫تبحثوا عنها»‪.‬‬
‫قال ابن رجب ‪ :‬وقوله ‪« :‬فال تبحثوا عنها» حيتمل اختصاص‬
‫هذا النهي بزمن النبي؛ ألن كثرة البحث والسؤال عام مل يذكر قد يكون سب ًبا لنزول‬
‫التشديد فيه بإجياب أو حتريم‪ ،‬وحديث سعد بن أيب وقاص يدل عىل هذا يعني‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪164‬‬
‫حيرم‪،‬‬
‫جرما من سأل عن يشء مل ّ‬ ‫قوله ‪« :‬إن أعظم املسلمني يف املسلمني ً‬
‫فحرم من أجل مسألته» وحيتمل أن يكون النهي عا ًّما‪ ،‬واملروي عن سلامن من‬ ‫ّ‬
‫السمن واجلبن والفراء‪ ،‬فقال ‪:‬‬ ‫يدل عىل ذلك يعني‪ :‬أنه سئل عن ّ‬ ‫قوله ُّ‬
‫حرم اهلل يف كتابه‪ ،‬وما سكت عنه فهو مما‬
‫«احلالل ما أحل اهلل يف كتابه‪ ،‬واحلرام ما ّ‬
‫عفا عنه»‪ ،‬وقد روي مرفو ًعا وال يصح فإن كثرة البحث والسؤال عن حكم ما مل‬
‫يذكر يف الواجبات وال يف املحرمات‪ ،‬قد يوجب اعتقاد حتريمه‪ ،‬أو إجيابه‪ ،‬ملشاهبته‬
‫املحرمات‪ ،‬فقبول العافية فيه‪ ،‬وترك البحث والسؤال عنه‬ ‫ّ‬ ‫لبعض الواجبات أو‬
‫خري‪.»..‬اهـ(((‪.‬‬
‫قلت‪ :‬واالحتامل الثاين أصح أن النهي عام‪ ،‬فيشمل زمن النبي وبعده‪.‬‬

‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)170/2‬‬


‫‪165‬‬ ‫الحديث الحادي والثالثون‬

‫الحديث الحادي والثالثون‬

‫ال‪َ :‬جا َء َر ُج ٌل‬ ‫ِي ‪َ ‬ق َ‬ ‫الساعِ د ِّ‬‫س ْع ٍد َّ‬‫ه ِل ْبنِ َ‬ ‫س ْ‬‫اس َ‬ ‫َع ْن َأبِي َ‬
‫الع َّب ِ‬
‫هلل ُد َّلنِي َع َلى َع َم ٍل ِإ َذا َعمِ ْل ُت ُه‬
‫ول ا ِ‬‫س َ‬ ‫ال‪َ :‬يا َر ُ‬ ‫ِإ َلى ال َّنب ِِّي ‪َ ‬ف َق َ‬
‫ُ‬
‫اهلل‪،‬‬ ‫ه ْد فِ ي ال ُّد ْنيا ُيحِ ُّب َ‬
‫ك‬ ‫َّاس؟ َف َق َ‬
‫ال‪« :‬ا ْز َ‬ ‫اهلل َو َأ َح َّبنِي الن ُ‬ ‫ُ‬ ‫َأ َح َّبنِي‬
‫سنٌ ‪َ ،‬ر َوا ُه ا ْبنُ‬ ‫ِيث َح َ‬‫َّاس»‪َ ،‬حد ٌ‬ ‫ك الن ُ‬ ‫َّاس ُيحِ ُّب َ‬ ‫يما عِ ْن َد الن ِ‬ ‫ه ْد فِ َ‬ ‫َوا ْز َ‬
‫س َن ٍة‪.‬‬ ‫سانِي َد َح َ‬‫اجه َو َغ ْي ُر ُه ب َِأ َ‬‫َم َ‬
‫فيه فوائد‪:‬‬
‫‪-1‬هذا احلديث أخرجه ابن ماجه (‪ ،)4102‬واحلاكم (‪ ،)7873‬والبيهقي يف «شعب‬
‫اإليامن» (‪ ،)10043‬والطرباين (‪ ،)5972‬وغريهم من طريق خالد بن عمرو‬
‫القريش‪ ،‬عن سفيان الثوري‪ ،‬عن أيب حازم‪ ،‬عن سهل بن سعد الساعدي ‪.‬‬
‫وهو منكر‪ ،‬حلال خالد بن عمرو القريش‪ ،‬فقد قال عنه اإلمام أمحد ‪« :‬ليس‬
‫بثقة»‪ ،‬وقال البخاري‪« :‬منكر احلديث»‪ ،‬وقال صالح جزرة‪« :‬يضع احلديث»‪،‬‬
‫ورضب أبو زرعة عىل حديثه‪ ،‬ورماه ابن معني بالكذب(((‪ .‬وذكر الذهبي يف‬
‫«امليزان»‪ :‬هذا احلديث من مجلة مناكريه‪.‬‬
‫وضاع»(((‪.‬‬
‫وقال متعق ًبا احلاكم يف تصحيحه‪« :‬خالد َّ‬
‫((( «ميزان االعتدال» (‪.)635/1‬‬
‫((( «تلخيص املستدرك» مطبوع بذيل «املستدرك» للحاكم (‪.)313/4‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪166‬‬
‫وقول املصنف‪« :‬حديث حسن‪ ،»..‬اعرتضه ابن رجب ‪ ‬يف «رشحه» حيث‬
‫قال‪« :‬ويف ذلك نظر‪ ،‬فإن خالد بن عمرو القريش األموي‪ ،‬قال فيه اإلمام أمحد‬
‫‪ :‬منكر احلديث‪ ،‬وقال مرة‪ :‬ليس بثقة‪ ،‬يروي أحاديث بواطيل‪ ..‬إلخ»(((‪.‬‬
‫‪-2‬راوي احلديث‪ :‬هو سهل بن سعد بن مالك األنصاري اخلزرجي الساعدي‪ ،‬له‬
‫وألبيه صحبة مشهورة‪ ،‬روى عن النبي ‪ ‬أحاديث‪ ،‬منها يف الكتب الستة‬
‫(‪ 143‬باملكرر)‪.‬‬
‫مات سنة (‪88‬هـ) وقد جاوز املائة‪  ،‬وأرضاه(((‪.‬‬
‫‪-3‬فيه دليل عىل فضل الزهد يف الدنيا‪ ،‬وهو ترك ما ال ينفع يف اآلخرة‪ ،‬وذلك ألنه‬
‫سبب ملحبة اهلل ‪‬؛ ألن الزهد فيها حيمل العبد عىل فعل األوامر‪ ،‬واجتناب‬
‫النواهي‪ ،‬وعدم الركون إىل الدنيا واالطمئنان إليها‪ ،‬بل حاله فيها‪ ،‬كأنه غريب أو‬
‫عابر سبيل‪.‬‬
‫قال اإلمام أمحد ‪« :‬الزهد عىل ثالثة أوجه‪ :‬األول‪ :‬ترك احلرام‪ ،‬وهو زهد‬
‫العوام‪ ،‬والثاين‪ :‬ترك الفضول من احلالل‪ ،‬وهو زهد اخلواص‪ ،‬والثالث‪ :‬ترك ما‬
‫يشغل عن اهلل‪ ،‬وهو زهد العارفني»‪.‬‬
‫قال ابن القيم ‪« :‬وهذا الكالم من اإلمام أمحد هو من أمجع الكالم‪.»...‬‬
‫ثم قال‪« :‬والذي أمجع عليه العارفون‪ :‬أن الزهد سفر القلب من وطن الدنيا‪،‬‬
‫وأخذه يف منازل اآلخرة‪ ،‬وعىل هذا صنف املتقدمون كتب الزهد؛ كالزهد لعبد اهلل‬
‫بن املبارك‪ ،‬ولإلمام أمحد‪ ،‬ولوكيع‪ ،‬وهلناد بن الرسي‪ ،‬وغريهم‪.‬‬
‫ومتعلقه ستة أشياء‪ ،‬ال يستحق العبد اسم الزهد حتى يزهد فيها‪ ،‬وهي‪ :‬املال‪،‬‬
‫والصور‪ ،‬والرياسة‪ ،‬والناس‪ ،‬والنفس‪ ،‬وكل ما دون اهلل»(((‪.‬‬
‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)174/2‬‬
‫((( «السري» (‪« ،)422/3‬التقريب» ص(‪.)419‬‬
‫((( «مدارج السالكني» (‪.)12/2‬‬
‫‪167‬‬ ‫الحديث الحادي والثالثون‬

‫‪-4‬أن الزهد فيام يف أيدي املخلوقني سبب ملحبتهم؛ ألن النفوس قد جبلت عىل استثقال‬
‫من أنزل حاجاته هبا‪ ،‬وحينئذ فإن التعلق باملخلوقني سبب لبغضهم‪ ،‬وسبب جللب‬
‫اهلم والغم ملن سأهلم‪.‬‬
‫قال الشيخ ابن سعدي ‪« :‬ثم إذا علم العبد حق العلم أن تعلق القلب‬
‫حقريا ً‬
‫ذليل مهينًا مهانًا‪ ،‬وأن‬ ‫ً‬ ‫باملخلوق هيبط بصاحبه إىل أسفل الدّ ركات‪ ،‬وجيعله‬
‫رضه كبري ورشه مستطري‪ ،‬متى علم ذلك حق العلم‪،‬‬ ‫ذلك غري نافع وال مفيد‪ ،‬بل ّ‬
‫أسريا‬
‫مل يركن إىل أحد من اخللق‪ ،‬ومل يرجهم ومل يملكوا عليه ضمريه‪ ،‬حتى يكون ً‬
‫هلم‪ ،‬عبدً ا ً‬
‫ذليل‪ ،‬يأنف من ذلك كله‪.»...‬‬
‫ثم قال‪« :‬ومما يوجب للعبد االستعفاف واالستغناء علمه بأن افتقاره إىل اخللق‬
‫وتعلقه هبم‪ ،‬واسترشافه ملا بني أيدهيم‪ ،‬أو سؤاهلم جيلب اهلم والغم واألكدار‬
‫والقلق‪ ،‬وأن استغناءه عنهم‪ ،‬وعدم تعلقه هبم يوجب راحة القلب وروحه‬
‫وطمأنينته‪ ،‬ثم إنه كلام قوي طمع العبد باهلل‪ ،‬وقوي رجاؤه لربه‪ ،‬وقوي توكله‪،‬‬
‫وهون عليه كل صعب‪ ،‬ورزقه من حيث ال حيتسب‪ ،‬وكفاه‬ ‫يس اهلل له كل عسري‪َّ ،‬‬
‫َّ‬
‫اهلموم كلها‪ ،‬وكسب احلرية التي ال أرفع منها وال أنفع»‪.‬اهـ(((‪.‬‬

‫((( «الرياض النارضة» ضمن «املجموعة الكاملة» (‪.)495/5‬‬


‫‪169‬‬ ‫الحديث الثاني والثالثون‬

‫الحـديـث الثاني والثالثـون‬

‫س َ‬
‫ول‬ ‫َان الخُ ْد ِر ِّي ‪َ ‬أنَّ َر ُ‬ ‫سن ٍ‬ ‫ِك ْبنِ ِ‬ ‫س ْع ِد ْبنِ َمال ٍ‬ ‫سعِ ي ٍد َ‬ ‫َع ْن َأبِي َ‬
‫اجه‬‫سنٌ َر َوا ُه ا ْبنُ َم َ‬ ‫ِيث َح َ‬ ‫ض َرا َر»‪َ ،‬حد ٌ‬ ‫ض َر َر َوالَ ِ‬
‫ال‪« :‬الَ َ‬ ‫هلل ‪َ ‬ق َ‬ ‫ا ِ‬
‫سالً‬ ‫وطأ» ُم ْر َ‬ ‫ِك فِ ي «ا ْل ُم َّ‬ ‫سنَد ًا‪َ .‬و َر َوا ُه َمال ٌ‬ ‫ه َما ُم ْ‬ ‫طن ُِّي َو َغ ْي ُر ُ‬‫َوال َّدا َر ُق ْ‬
‫ط ُر ٌق‬‫سعِ ي ٍد‪َ ،‬و َل ُه ُ‬ ‫ط َأ َبا َ‬
‫س َق َ‬ ‫َع ْن َع ْمرو ْبنِ َي ْح َيى َع ْن َأبِي ِه َعنِ ال َّنب ِِّي‪َ ،‬ف َأ ْ‬
‫ها َب ْعض ًا‪.‬‬ ‫ض َ‬ ‫ُي َق ِّوي َب ْع ُ‬

‫فيه فوائد‪:‬‬

‫‪-1‬هذا احلديث أخرجه الدارقطني (‪ ،)3079‬والبيهقي (‪ ،)11384‬واحلاكم‬


‫(‪ )2345‬من طريق عثامن بن حممد بن عثامن بن ربيعة بن أيب عبد الرمحن‪ ،‬حدثنا‬
‫عبد العزيز بن حممد الدراوردي‪ ،‬عن عمرو بن حييى املازين‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن أيب‬
‫سعيد‪ .‬فذكره‪.‬‬

‫شق اهلل عليه»‪.‬‬ ‫ضاره اهلل‪ ،‬ومن َّ‬


‫شاق ّ‬ ‫ضار َّ‬
‫زاد البيهقي واحلاكم‪« :‬من ّ‬
‫وإسناده ضعيف‪ ،‬عثامن بن حممد بن عثامن بن ربيعة‪.‬‬

‫«ضعيف»‪ ،‬وقال عبد احلق‪« :‬الغالب عىل حديثه الوهم»(((‪.‬‬


‫ٌ‬ ‫قال عند الدارقطني‪:‬‬

‫وقد تابعه عبد امللك بن معاذ النصيبي‪ ،‬عن الدراوردي به‪ .‬أخرجه ابن عبد الرب يف‬
‫«التمهيد» (‪.)159/20‬‬
‫((( «ميزان االعتدال» (‪.)53/3‬‬
‫لكن عبد امللك هذا ال يعرف(((‪ .‬فاملتابعة ال تصح‪.‬‬
‫وأخرجه مالك يف «املوطأ» (‪ ،)2758‬والشافعي يف «مسنده» (‪ ،)575‬والبيهقي‬
‫ً‬
‫مرسل‪.‬‬ ‫(‪ )11385‬من طريق عمرو بن حييى املازين‪ ،‬عن أبيه‬
‫وهو مرسل صحيح‪.‬‬
‫وللحديث شواهد متعددة‪ :‬منها عن ابن عباس‪ ،‬وعائشة‪ ،‬وجابر‪ ،‬وعبادة بن‬
‫الصامت‪ ،‬وأيب هريرة‪ ،‬وأيب لبابة‪ ،‬وثعلبة بن أيب مالك ‪.‬‬
‫وقد بسطها وأطال الكالم عليها ابن رجب ‪ ‬يف «رشحه»‪.‬‬
‫وهذه الشواهد‪ ،‬مع ما فيها من مقال‪ ،‬قد يتقوى احلديث هبا‪ ،‬ويصلح لالحتجاج‬
‫به‪.‬‬
‫قال املناوي ‪« :‬قال العالئي‪ :‬للحديث شواهد‪ ،‬ينتهي جمموعها إىل درجة‬
‫الصحة أو احلسن املحتج به»‪.‬اهـ(((‪.‬‬
‫تنبيه‪ :‬احلديث مل خيرجه ابن ماجه عن أيب سعيد‪ ،‬وإنام أخرجه عن صحابة آخرين‪.‬‬
‫‪-2‬راوي احلديث‪ :‬هو أبو سعيد سعد بن مالك بن سنان بن عبيد األنصاري اخلدري‪،‬‬
‫صحايب مشهور‪ ،‬نعته الذهبي‪« :‬باإلمام املجاهد مفتي املدينة»‪ ،‬قال‪« :‬وكان أحد‬
‫الفقهاء املجتهدين»‪ ،‬استُصغر ُبأحد‪ ،‬ثم شهد ما بعدها‪ ،‬وروى حدي ًثا ً‬
‫كثريا‪ ،‬ومجلة‬
‫مسنده (‪ 1170‬حدي ًثا) باملكرر‪ ،‬منها يف البخاري ومسلم (‪ ،)43‬وانفرد البخاري‬
‫بـ(‪ ،)16‬ومسلم بـ(‪.)52‬‬
‫مات سنة (‪74‬هـ)(((‪.‬‬
‫‪-3‬هذا احلديث يعترب قاعدة من قواعد الدين‪ ،‬وهو أن الرضر منفي رش ًعا‪ ،‬فال حيل‬
‫للمسلم أن يرض أخاه املسلم بقول‪ ،‬أو فعل‪ ،‬أو سب بغري حق‪ ،‬وسواء كان له يف‬
‫ذلك نوع منفعة أم ال؟‬
‫((( انظر‪« :‬نصب الراية» (‪.)485/4‬‬
‫((( «فيض القدير» (‪.)432/6‬‬
‫((( «السري» (‪« ،)168/3‬التقريب» ص(‪.)371‬‬
‫‪171‬‬ ‫الحـديـث الثاني والثالثـون‬

‫ويدخل يف ذلك صور متعددة‪ ،‬ذكرها الفقهاء رمحهم اهلل مبسوطة يف كتبهم‪ ،‬منها‬
‫يف باب اجلوار‪ :‬قالوا‪« :‬وحرم عىل اجلار أن حيدث بملكه ما يرض بجاره‪ ،‬كحامم‪،‬‬
‫ورحى‪ ،‬وتنور»‪.‬‬
‫وحرم أن يترصف يف جدار جار‪ ،‬أو مشرتك بفتح طاق‪ ،‬أو رضب وتد ونحوه إال‬
‫بإذنه‪..‬‬
‫وإذا اهندم جدارمها املشرتك‪ ،‬أو سقفهام‪ ،‬أو خيف رضره بسقوطه فطلب أحدمها‬
‫أن يعمره اآلخر معه‪ ،‬أجرب عليه إن امتنع‪ ،‬لقوله‪« :‬ال رضر وال رضار»(((‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬مضارة الزوجة‪ ،‬والتضييق عليها‪ ،‬لتفتدي منه بغري حق‪ ،‬كام قال ‪:‬‬
‫ﭽﭗﭘﭙﭚﭼ[الطالق‪.]6 :‬‬
‫ومضارة أحد الوالدين لآلخر من جهة الولد‪ ،‬كام قال ‪ :‬ﭽﯤﯥﯦ‬
‫ﯧﯨﯩﯪﯫﭼ[البقرة‪.]233 :‬‬
‫املورث لبعض ورثته‪ ،‬أو إرضار املويص يف وصيته‪ ،‬كام قال ‪:‬‬
‫ومنها‪ :‬إرضار ِّ‬
‫ﭽﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﭼ((( [النساء‪.]12 :‬‬
‫واألمثلة يف هذا كثرية متنوعة‪.‬‬
‫‪-4‬أن مفهومه يدل عىل الرتغيب يف اإلحسان بجميع أنواعه؛ ألن اإلنسان ملا هني عن‬
‫مأمورا باإلحسان‪ ،‬كام قال ‪ :‬ﭽﮪﮫﮬﮭﮮﮯﭼ‬ ‫ً‬ ‫اإلرضار‪ ،‬كان‬
‫[البقرة‪.]195 :‬‬
‫وتقدم قوله ‪« :‬إن اهلل كتب اإلحسان عىل كل يشء»(((‪.‬‬

‫((( «الروض املربع» (‪.)579 578/1‬‬


‫((( انظر‪« :‬القواعد واألصول اجلامعة» ص(‪.)47 46‬‬
‫((( وهو احلديث السابع عرش‪.‬‬
‫‪173‬‬ ‫الحـديـث الثالث والثالثـون‬

‫الحديث الثالث والثالثون‬

‫طى‬ ‫ال‪َ « :‬ل ْو ُي ْع َ‬ ‫هلل ‪َ ‬ق َ‬ ‫ول ا ِ‬ ‫س َ‬ ‫اس ‪َ ،‬أنَّ َر ُ‬ ‫َعنِ ا ْبنِ َع َّب ٍ‬
‫ه ْم‪َ ،‬لكِ نِ ال َب ِّي َن ُة‬ ‫ال َأ ْم َو َ‬
‫ال َق ْو ٍم َود َِما َء ُ‬ ‫اه ْم‪ ،‬ال َّد َعى ِر َج ٌ‬ ‫َّاس ِب َد ْع َو ُ‬
‫الن ُ‬
‫هقِ ُّي‬ ‫سنٌ ‪َ ،‬ر َوا ُه ال َب ْي َ‬‫ِيث َح َ‬ ‫الم َّدعِ ي َوال َيمِ ينُ َع َلى َم ْن َأ ْن َك َر»‪َ ،‬حد ٌ‬ ‫َع َلى ُ‬
‫يح ْينِ »‪.‬‬
‫«الصحِ َ‬ ‫َّ‬ ‫ض ُه فِ ي‬‫ه َكذا‪َ ،‬و َب ْع ُ‬ ‫َو َغ ْي ُر ُه َ‬

‫فيه فوائد‪:‬‬
‫‪-1‬هذا احلديث أخرجه البيهقي (‪ )21201‬من طريق احلسن بن سهل‪ ،‬حدثنا عبد‬
‫اهلل بن إدريس‪ ،‬حدثنا ابن جريج وعثامن بن األسود‪ ،‬عن ابن أيب مليكة‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس‪ ...‬فذكره وفيه قصة‪.‬‬
‫وإسناده صحيح‪ .‬وأصله يف «الصحيحني» من طريق ابن جريج‪ ،‬عن ابن أيب‬
‫مليكة‪ ،‬عن ابن عباس مرفو ًعا بلفظ‪« :‬لو يعطى الناس بدعواهم‪ ،‬ال ّدعى ناس‬
‫دماء رجال وأمواهلم‪ ،‬ولكن اليمني عىل املدَّ َعى عليه»(((‪.‬‬
‫‪ -2‬قال النووي ‪« :‬هذا احلديث قاعدة كبرية من قواعد أحكام الرشع»‪.‬‬
‫وقال ابن سعدي ‪« :‬هذا احلديث عظيم القدر‪ ،‬وهو أصل كبري من أصول‬
‫القضايا واألحكام‪ ،‬فإن القضاء بني الناس إنام يكون عند التنازع‪ :‬هذا يدعي عىل‬
‫هذا ح ًّقا من احلقوق‪ ،‬فينكره‪ ،‬وهذا يدعي براءته من احلق الذي كان ثابتًا عليه‪،‬‬
‫فبي النبي ً‬
‫أصل يفض نزاعهم‪ ،‬ويتضح به املحق من الباطل»(((‪.‬‬ ‫َّ‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)4552‬ومسلم (‪.)1711‬‬
‫((( «هبجة قلوب األبرار» ص(‪.)114‬‬
‫‪-3‬هذا احلديث عام يف مجيع الدعاوى‪ ،‬فمن ادعى عىل غريه عينًا أو دينًا‪ ،‬أو ح ًّقا من‬
‫احلقوق أ ًّيا كان طولب بإقامة البينة‪ ،‬فإن أتى ببينة ثبت له احلق‪ ،‬وحكم له به‪ ،‬وإن مل‬
‫يأت ببينة‪ ،‬فإن املدعى عليه حيلف ويربأ حينئذ من التهمة التي وجهت إليه‪ ،‬لقوله‪:‬‬
‫«البينة عىل املدعي‪ ،‬واليمني عىل من أنكر»‪.‬‬
‫أيضا‪ :‬من ادعى براءته من احلق الذي عليه‪ ،‬وأنكر صاحب احلق ذلك‪،‬‬ ‫ومثله ً‬
‫وقال‪ :‬إنه باق يف ذمته‪ ،‬فإن مل يأت مدعي الوفاء والرباءة ببينة‪ ،‬وإال حكم ببقاء‬
‫احلق يف ذمته؛ ألنه األصل‪ ،‬ولكن عىل صاحب احلق اليمني ببقائه(((‪.‬‬
‫‪-4‬أن احلكمة يف كون املدعي ال يعطى بمجرد دعواه؛ ألنه لو ُأعطي بمجردها الدعى‬
‫قوم دماء قوم وأمواهلم‪ ،‬ولكثر الرش والفساد وصار املدعى عليه ال يمكنه صون‬
‫ماله ودمه‪.‬‬
‫فدل عىل كامل الرشيعة‪ ،‬وصيانتها وحفظها حلقوق البرش‪ ،‬وأهنا رشيعة من حكيم‬
‫عليم‪ ،‬رحيم بالعباد‪ ،‬بر كريم؛ الشتامهلا عىل احلكمة والعدل والرمحة‪ ،‬ونرص‬
‫املظلوم‪ ،‬وردع الظامل‪.‬‬
‫‪-5‬استدل به بعض أهل العلم عىل رد حديث القسامة الصحيح‪ ،‬وقد أجاب عن ذلك‬
‫ابن القيم ‪ ‬فقال‪« :‬والذي رشع احلكم بالقسامة هو الذي رشع أن ال يعطى‬
‫أحدٌ بدعواه املجردة‪ ،‬وكال األمرين حق من عند اهلل‪ ،‬ال اختالف فيه‪ ،‬ومل يعط يف‬
‫القسامة بمجرد الدعوى‪ ،‬وكيف يليق بمن هبرت حكمة رشعه العقول أن ال يعطي‬
‫املدعي بمجرد دعواه عو ًدا من أراك‪ ،‬ثم يعطيه بدعوى جمردة دم أخيه املسلم؟ وإنام‬
‫أعطاه ذلك بالدليل الظاهر‪ ،‬الذي يغلب عىل الظن صدقه فوق تغليب الشاهدين‪،‬‬
‫ً‬
‫مقتول يف بيت عدوه‪،‬‬ ‫وهو ال ّلوث والعداوة‪ ،‬والقرينة الظاهرة من وجود العدو‬
‫فقوى الشارع احلكيم هذا السبب باستحالف مخسني من أولياء القتيل الذي يبعد‬ ‫ّ‬
‫أو يستحيل اتفاقهم كلهم عىل رمي الربيء بدم ليس منه بسبيل‪ ،‬وال يكون فيهم‬
‫رجل رشيد يراقب اهلل‪ ..‬إلخ»(((‪.‬‬

‫((( «هبجة قلوب األبرار» ص(‪.)115‬‬


‫((( «إعالم املوقعني» (‪.)237/2‬‬
‫‪175‬‬ ‫الحديث الرابع والثالثون‬

‫الحديث الرابع والثالثـون‬

‫هلل ‪‬‬ ‫س َ‬
‫ول ا ِ‬ ‫سمِ ْع ُ‬
‫ت َر ُ‬ ‫ال‪َ :‬‬ ‫َع ْن َأبِي َ‬
‫سعِ ي ٍد الخُ ْد ِر ِّي ‪َ ‬ق َ‬
‫َط ْع‬‫ست ِ‬ ‫«م ْن َر َأى مِ ْن ُك ْم ُم ْن َكر ًا َف ْل ُي َغ ِّي ْر ُه ِب َي ِدهِ‪َ ،‬فإ ِْن َل ْم َي ْ‬‫ول‪َ :‬‬ ‫َي ُق ُ‬
‫ف اإلِ ْي َمانِ »‪َ ،‬ر َوا ُه‬ ‫ِك َأ ْ‬
‫ض َع ُ‬ ‫َط ْع َفب َِق ْل ِبهِ‪َ ،‬و َذل َ‬ ‫ست ِ‬ ‫ِسا ِنهِ‪َ ،‬فإ ِْن َل ْم َي ْ‬‫َف ِبل َ‬
‫سل ٌِم(((‪.‬‬ ‫ُم ْ‬

‫فيه فوائد‪:‬‬
‫‪-1‬هذا احلديث أصل يف وجوب إنكار املنكر‪ ،‬وتغيريه عىل حسب القدرة واالستطاعة‪،‬‬
‫وأن إنكار املنكر يكون باليد‪ ،‬ثم باللسان‪ ،‬ثم بالقلب‪.‬‬
‫قال ابن رجب ‪ ‬بعد أن ساق مجلة من األحاديث الدالة عىل األمر بإنكار‬
‫املنكر‪« :‬فد ّلت هذه األحاديث ك ّلها عىل وجوب إنكار املنكر بحسب القدرة عليه‪،‬‬
‫وأن إنكاره بالقلب ال بد منه‪ ،‬فمن مل يكره قلب ُه املنكر‪ ،‬دل عىل ذهاب اإليامن من‬
‫قلبه»(((‪.‬‬
‫‪-2‬أن ظاهره يدل عىل أن تغيري املنكر مقيد بالرؤية‪ ،‬لقوله ‪« :‬من رأى»‪،‬‬
‫أيضا رؤية‬
‫فمن مل ير فإنه ال يلزمه اإلنكار‪ ،‬لكن حيتمل أن يكون املراد بالرؤية ً‬
‫العلم‪ ،‬وهذا أظهر فاحلديث يشمل رؤية العني ورؤية العلم؛ ألن املقصود دفع‬
‫مفسدة املنكر‪.‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)78‬‬
‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)245/2‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪176‬‬
‫‪ -3‬أن إنكار املنكر يكون ً‬
‫أول باليد ملن استطاع ذلك‪ ،‬وكان له ذلك‪.‬‬
‫كالراعي مع رعيته‪ ،‬والرجل مع أهل بيته‪ ،‬واملعلم مع طالبه‪ ،‬وإنكاره يكون بتغيريه‬
‫أو إزالته‪ ،‬وتأديب من ارتكبه إما برضب غري مربح‪ ،‬وإما بتهديد بالعقوبة ونحوها‪.‬‬
‫‪-4‬أن من مل يستطع إنكار املنكر باليد‪ ،‬فيلزمه إنكاره باللسان‪ ،‬لقوله ‪« :‬فإن‬
‫مل يستطع فبلسانه»‪ .‬وذلك باملوعظة والنصح والتحذير من عقوبة اهلل وسخطه‪.‬‬
‫أيضا‪ :‬بتأليف الكتب‪ ،‬واملطويات‪ ،‬وكتابة املقاالت عن بعض املنكرات‬
‫ويكون ً‬
‫املنترشة بني الناس‪ ،‬وبيان خطرها عليهم وسبل الوقاية منها‪.‬‬
‫قال ابن عبد القوي ‪ :‬وقوله ‪« :‬فليغريه بيده‪ ،‬فإن مل يستطع‬
‫فبلسانه‪ ،‬فإن مل يستطع فبقلبه»‪ ،‬قال‪ :‬هذا تنزل يف تغيري املنكر بحسب االستطاعة‬
‫األبلغ يف ذلك فاألبلغ‪ ،‬إذ اليد أبلغ يف التغيري ككرس أوعية اخلمر واملالهي من يد‬
‫مستعمليها‪ ،‬ثم اللسان بأن يغوث عليهم ويصيح فيرتكوا ذلك‪ ،‬أو يسلط عليهم‬
‫بلسانه من يفعل ذلك‪ ،‬ثم القلب بأن ينكر املنكر بقلبه‪ ،‬وينوي أنه لو قدر عىل‬
‫لغيه؛ ألن اإلنسان جيب عليه كراهة ما يكرهه اهلل ‪ ‬من املعايص‬
‫تغيري املنكر ّ‬
‫واألعامل بالنيات»(((‪.‬‬
‫فرض عىل كل مسلم‪ ،‬حيث جعل اإلنكار بالقلب آخر‬
‫‪-5‬أن اإلنكار بالقلب ٌ‬
‫الدرجات ثم قال ‪« :‬وذلك أضعف اإليامن»‪.‬‬
‫وقد روى مسلم عن ابن مسعود ‪ ‬مرفو ًعا‪« :‬ما من نبي بعثه اهلل يف أمة قبيل‪،‬‬
‫إال كان له من أمته حواريون وأصحاب‪ ..‬وفيه‪ :‬ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن‪،‬‬
‫ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن‪ ،‬وليس وراء ذلك من اإليامن حبة خردل»(((‪.‬‬
‫واإلنكار بالقلب بأن يكره املنكر بقلبه‪ ،‬ويتفطر قلبه لذلك‪ ،‬وينوي أنه لو قدر عىل‬
‫لغيه‪.‬‬
‫تغيريه بيده أو بلسانه ّ‬
‫((( «التعيني يف رشح األربعني» ص(‪.)290‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)80‬‬
‫‪177‬‬ ‫الحديث الرابع والثالثون‬

‫منكرا ال يستطيع له‬


‫ً‬ ‫قال ابن مسعود ‪« :‬يوشك من عاش منكم أن يرى‬
‫تغيريا‪ ،‬غري أن يعلم اهلل من قلبه أنه له كاره»(((‪.‬‬
‫ً‬
‫وسمع ‪ً ‬‬
‫رجل يقول‪ :‬هلك من مل يأمر باملعروف ومل ينه عن املنكر‪ ،‬فقال ابن‬
‫مسعود‪« :‬هلك من مل يعرف بقلبه املعروف واملنكر»‪ ،‬يشري إىل أن معرفة املعروف‬
‫فرض ال يسقط عن أحد‪ ،‬فمن مل يعرفه هلك‪.‬‬
‫واملنكر ٌ‬
‫‪-6‬أن خصال اإليامن تتفاوت يف الفضل‪ ،‬لقوله ‪« :‬وذلك أضعف‬
‫اإليامن»‪ ،‬فالذي ينكر بيده أعىل وأكمل وأفضل ممن ينكر بقلبه فقط‪.‬‬
‫قال ابن رجب ‪« :‬ويدل عىل أن من قدر عىل خصلة من خصال اإليامن‬
‫أيضا قوله ‪‬‬ ‫عجزا عنها‪ ،‬ويدل عىل ذلك ً‬ ‫وفعلها‪ ،‬كان أفضل ممن تركها ً‬
‫يف حق النساء‪« :‬أما نقصان دينها‪ ،‬فإهنا متكث األيام والليايل ال تصيل»‪ ،‬يشري إىل أيام‬
‫نقصا يف دينها‪ ،‬فدل عىل‬
‫احليض‪ ،‬مع أهنا ممنوعة من الصالة حينئذ‪ ،‬وقد جعل ذلك ً‬
‫معذورا‬
‫ً‬ ‫أن من قدر عىل واجب وفعله‪ ،‬فهو أفضل ممن عجز عنه وتركه‪ ،‬وإن كان‬
‫يف تركه»(((‪.‬‬

‫‪-7‬أن إنكار المنكر له أربع درجات‪:‬‬


‫ـ أن يزول وخيلفه ضده‪.‬‬ ‫ ‬
‫ـ أن ّ‬
‫يقل وإن مل يزل بجملته‪.‬‬ ‫ ‬
‫ـ أن خيلفه ما هو مثله‪.‬‬ ‫ ‬
‫ـ أن خيلفه ما هو رش منه‪.‬‬ ‫ ‬
‫فاألوليان مرشوعتان‪ ،‬والثالثة موضع اجتهاد‪ ،‬والرابعة حمرمة»‪ .‬قاله ابن القيم‬
‫‪.(((‬‬
‫((( «األمر باملعروف والنهي عن املنكر» البن أيب الدنيا (‪.)79‬‬
‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)253/2‬‬
‫((( «إعالم املوقعني» (‪.)1213‬‬
‫‪179‬‬ ‫الحديث الخامس والثالثـون‬

‫الحديث الخامس والثالثون‬

‫اس ُدوا‪،‬‬ ‫هلل ‪« :‬الَ ت ََح َ‬ ‫ول ا ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ال‪َ :‬ق َ‬


‫ال َر ُ‬ ‫ه َر ْي َرةَ ‪َ ‬ق َ‬ ‫َع ْن َأبِي ُ‬
‫ض ُك ْم َع َلى َب ْي ِع‬ ‫ضوا‪َ ،‬والَ َت َدا َب ُروا‪َ ،‬والَ َيب ِْع َب ْع ُ‬ ‫شوا‪َ ،‬والَ َت َب َ‬
‫اغ ُ‬ ‫َاج ُ‬
‫َوالَ َتن َ‬
‫ظل ُِم ُه‬ ‫سل ِِم‪ :‬الَ َي ْ‬ ‫سل ُِم َأخُ و ا ْل ُم ْ‬ ‫هلل إ ِْخوان ًا‪ُ .‬‬
‫الم ْ‬ ‫ض‪َ ،‬و ُكونُوا عِ َبا َد ا ِ‬ ‫َب ْع ٍ‬
‫شي ُر ِإ َلى َ‬
‫ص ْد ِر ِه‬ ‫هنَا َو ُي ِ‬ ‫ه ُ‬ ‫َوالَ َي ْخ ُذ ُل ُه َوالَ َي ْك ِذ ُب ُه‪َ ،‬والَ َي ْحقِ ُر ُه‪ ،‬الت َّْق َوى َ‬
‫سل َِم‪ُ ،‬ك ُّل‬ ‫الش ِّر َأ ْن َي ْحقِ َر َأخَ ا ُه ُ‬
‫الم ْ‬ ‫َّ‬ ‫ىء مِ نَ‬
‫ام ِر ٍ‬ ‫ب ْ‬ ‫س ِ‬ ‫ات‪ ،‬ب َِح ْ‬
‫ث َم َّر ٍ‬ ‫َثالَ َ‬
‫سل ٌِم(((‪.‬‬‫ض ُه»‪َ ،‬ر َوا ُه ُم ْ‬ ‫ام‪َ :‬د ُم ُه َو َما ُل ُه َوعِ ْر ُ‬ ‫سل ِِم َح َر ٌ‬ ‫سل ِِم َع َلى ُ‬
‫الم ْ‬ ‫الم ْ‬‫ُ‬
‫فيه فوائد‪:‬‬
‫بعضا‪.‬‬
‫‪ -1‬حتريم احلسد‪ ،‬لقوله‪« :‬ال حتاسدوا»؛ أي‪ :‬ال حيسد بعضكم ً‬
‫واحلسد‪ :‬أن يكره اإلنسان ما أنعم اهلل به عىل غريه‪ ،‬وهو من صفات اليهود‪ ،‬قال‬
‫‪ :‬ﭽﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ‬
‫ﮚﮛﮜﭼ [البقرة‪.]109 :‬‬
‫وعرفه بعضهم بأنه متني زوال نعمة اهلل عن الغري‪ ،‬واألول أبلغ‪.‬‬
‫ّ‬
‫واحلسد له مفاسد عظيمة‪:‬‬
‫منها‪ :‬عدم الرضا بالقضاء؛ ألن الذي حيسد أخاه عىل ما آتاه اهلل َّ‬
‫جل وعال كأنه مل‬
‫يرض عن اهلل بقضائه‪ ،‬ففي إيامنه وتقواه خلل ونقص‪.‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)2564‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪180‬‬
‫فضل‬
‫ومنها‪ :‬حصول العداوة بني احلاسد واملحسود؛ ألنه إذا حسد أخاه‪ ،‬ورآه قد ّ‬
‫عليه عاداه وربام بغى عليه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬ما جيده احلاسد من الضيق والغم الذي يناله بسبب حسده ألخيه‪ ،‬فكلام‬
‫وغم وأ ًملا‪.‬‬
‫مها ًّ‬
‫جتددت ألخيه نعمة ازداد ًّ‬
‫وأخسهم‪ ،‬وقد قال النبي‬
‫ّ‬ ‫تشبها باليهود‪ ،‬وهم أخبث عباد اهلل‬
‫ً‬ ‫ومنها‪ :‬أن فيه‬
‫‪« :‬من تشبه بقوم فهو منهم»‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن فيه إساءة أدب مع اهلل‪.‬‬

‫وفي هذا يقول بعضهم‪:‬‬

‫أتــدري عــى مــن أســأت األدب‬ ‫أال قــل ملــن بــات يل حاســدً ا‬

‫ألنــك مل تــرض يل مــا وهــب‬ ‫أســأت عــى اللَّ يف حكمــه‬


‫وهناك حسدٌ حممو ٌد‪ ،‬وهو ما يسمى بالغبطة‪ ،‬وهي‪ :‬متني اإلنسان مثل ما لغريه من‬
‫غري أن يكره نعمة اهلل عىل الغري‪.‬‬
‫وقد ثبت عن النبي ‪ ‬أنه قال‪« :‬ال حسد إال يف اثنتني‪ :‬رجل آتاه اهلل ً‬
‫مال‬
‫فس ّلطه عىل هلكته يف احلق‪ ،‬ورجل آتاه اهلل حكمة فهو يقيض هبا ويع ِّلمها»‪ .‬متفق عليه‪.‬‬
‫‪-2‬حتريم النجش‪ :‬وهو أن يزيد يف السلعة َمن ال يريد رشاءها‪ ،‬إما لنفع البائع‪ ،‬أو‬
‫لإلرضار باملشرتي‪ ،‬لقوله ‪« :‬وال تناجشوا»؛ أي‪ :‬ال ينجش بعضكم‬
‫عىل بعض‪.‬‬
‫وهو مشتق من ن ََج ْشت الصيد إذا أثرته‪ ،‬كأن الناجش يثري كثرة الثمن بنجشه‪.‬‬
‫واحلكمة من حتريمه‪ :‬ألنه غش وخداع‪ ،‬وقد قال ‪« :‬من غش فليس‬
‫منا»‪ ،‬وألنه ترك للنصح الواجب‪ ،‬وترك الواجب حرام(((‪.‬‬
‫((( «التعيني يف رشح األربعني» ص(‪.)296‬‬
‫‪181‬‬ ‫الحديث الخامس والثالثـون‬

‫ٍ‬
‫عاص هلل ‪ ‬إذا كان بالنهي عا ًملا»(((‪.‬‬ ‫قال ابن عبد الرب‪« :‬أمجعوا أن فاعله‬
‫‪-3‬حتريم التباغض بني املسلمني؛ ألن اهلل جعلهم إخوة‪ ،‬واإلخوة يتحابون بينهم‪ ،‬وال‬
‫يتباغضون‪.‬‬
‫ولذا حرم اهلل عىل عباده امليش بالنميمة‪ ،‬ملا فيها من إيقاع العداوة والبغضاء‪ ،‬قال‬
‫النبي ‪« :‬ال يدخل اجلنة نامم»‪ ،‬متفق عليه‪.‬‬
‫وإذا كانوا ثالثة حرم أن يتناجى اثنان دون الثالث‪ ،‬قال النبي ‪« :‬إذا‬
‫كانوا ثالثة فال يتناجى اثنان دون الثالث»‪ .‬متفق عليه‪.‬‬
‫وحث عىل كل ما جيلب املودة واملحبة بينهم‪ ،‬ومن ذلك‪ :‬إفشاء السالم قال النبي‬
‫‪« :‬والذي نفيس بيده‪ ،‬ال تدخلوا اجلنة حتى تؤمنوا‪ ،‬وال تؤمنوا حتى‬
‫حتابوا‪ ،‬أال أدلكم عىل يشء إذا فعلتموه حتاببتم أفشوا السالم بينكم»‪ .‬أخرجه‬
‫مسلم‪.‬‬
‫‪-4‬حتريم مدابرة املسلم ألخيه املسلم‪ ،‬لقوله ‪« :‬وال تدابروا»‪.‬‬

‫واملدابرة‪ :‬أن يويل الرجل أخاه دبره و ُي ْع ِر ْض عنه‪ً ،‬‬


‫هجرا له ومقاطعة‪.‬‬
‫قال النبي ‪« :‬ال حيل ملسلم أن هيجر أخاه فوق ثالث‪ ،‬يلتقيان فيصد‬
‫هذا‪ ،‬ويصد هذا‪ ،‬وخريمها الذي يبدأ بالسالم»‪ .‬متفق عليه‪.‬‬
‫واختلف العلامء رمحهم اهلل يف حكم هجر العايص والفاسق‪ ،‬ونحومها فوق ثالث‪.‬‬
‫فقال بعضهم‪ :‬جتوز الزيادة عىل الثالث من أجل الدِّ ين‪ ،‬قال ابن رجب ‪:‬‬
‫«فأما ألجل الدين فتجوز الزيادة عىل الثالث نص عليه أمحد‪ ،‬واستدل بقصة‬
‫الثالثة الذين خ ِّلفوا‪ ،‬وأمر النبي هبجراهنم ملا خاف منهم النفاق»(((‪.‬‬
‫وقال آخرون‪ :‬بل ال جتوز الزيادة عىل الثالث إذا مل يكن يف هجره مصلحة‪ ،‬فأما إذا‬
‫((( «التمهيد» (‪.)348/13‬‬
‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)269/2‬‬
‫كان يف هجره مصلحة‪ ،‬بحيث يرتدع عن معصيته وفسقه فإنه ال بأس بالزيادة عىل‬
‫الثالث من أجل ذلك‪.‬‬
‫‪-5‬حتريم بيع املسلم عىل بيع أخيه؛ ألن ذلك يؤدي إىل الكراهية والعداوة والبغضاء‪.‬‬
‫مثال ذلك‪ :‬أن يذهب ملن اشرتى سلعة من شخص بامئة‪ ،‬فيقول‪ :‬أنا أعطيك مثلها‬
‫بثامنني‪ ،‬أو أعطيك أحسن منها بامئة‪ ،‬فريجع املشرتي ويفسخ العقد األول‪ ،‬ويعقد‬
‫مع الثاين‪.‬‬
‫وأما رشاؤه عىل رشائه‪ :‬كأن يذهب إىل شخص باع سلعة بامئة‪ ،‬فيقول له‪ :‬أنا‬
‫أشرتهيا منك بامئة وعرشين‪ ،‬فيفسخ البائع البيع مع األول‪ ،‬ويعقد البيع مع الثاين‪.‬‬
‫قال ابن رجب ‪« :‬قد تكاثر النهي عن ذلك»(((‪.‬‬
‫‪-6‬أن عمومه يشمل حتريم البيع عىل بيع أخيه‪ ،‬سواء كان يف زمن ِ‬
‫اخليار أو ال‪.‬‬
‫قال ابن رجب ‪« :‬ومال يعني‪ :‬اإلمام أمحد إىل القول بأنه عام يف احلالني‪،‬‬
‫خصه بام إذا كان ذلك يف مدة اخليار‪ ،‬وهو‬
‫وهو قول طائفة من أصحابنا‪ ،‬ومنهم من ّ‬
‫ظاهر كالم أمحد يف رواية ابن مشيش‪ ،‬ومنصوص الشافعي‪ ،‬واألول أظهر»‪.‬اهـ(((‪.‬‬
‫‪-7‬احلث عىل اكتساب ما يؤلف بني املسلمني‪ ،‬وجيمع بني قلوهبم‪ ،‬بحيث يكونوا إخوة‬
‫متحابني متآلفني‪ ،‬لقوله ‪« :‬وكونوا عباد اهلل إخوانًا»‪.‬‬
‫ومن ذلك‪ :‬املصافحة‪ ،‬قال احلسن‪« :‬املصافحة تزيد يف الود»‪ ،‬وكذلك الزيارة‪،‬‬
‫والصلة‪ ،‬والصدقة‪ ،‬واهلدية‪ ،‬وغريها‪.‬‬
‫‪-8‬أن مقتىض أخوة املسلم للمسلم أال يظلمه‪ ،‬وال خيذله‪ ،‬وال حيقره‪.‬‬
‫أالَّ يظلمه بقول وال فعل‪ ،‬بل حيسن إليه ويقوم بحقه عليه‪.‬‬
‫وال خيذله‪ :‬اخلذل ترك اإلعانة والنرصة‪ ،‬ومعناه‪ :‬إذا استعان به يف دفع ظامل ونحوه‬
‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)270/2‬‬
‫((( املرجع السابق (‪.)271/2‬‬
‫‪183‬‬ ‫الحديث الخامس والثالثون‬

‫لزمه إعانته إذا أمكنه‪ ،‬ومل يكن له عذر رشعي‪ ،‬كذا نقله النووي عن العلامء‪.‬‬
‫وال حيقره‪ :‬أي‪ :‬ال حيتقره يف َخلقه أو ُخلقه‪ ،‬أو رأيه‪ ،‬بل يكرمه ويوقره‪.‬‬
‫وهلذا قال ‪« :‬بحسب امرئ من الرش أن حيقر أخاه املسلم»‪.‬‬
‫أي‪ :‬لو مل يكن لإلنسان من الرش إال أن حيقر أخاه املسلم لكان كاف ًيا‪.‬‬
‫‪-9‬أن التقوى يف القلب‪ ،‬وتصديقها يف اجلوارح‪ ،‬لقوله ‪« :‬التقوى ها هنا»‬
‫ويشري إىل صدره ثالث مرات ـ‪.‬‬
‫فإذا اتقى العبد ربه‪ ،‬اتقت جوارحه وانقادت ألوامر اهلل‪ ،‬واجتنبت نواهيه‪.‬‬
‫وحينئذ ال يصح احتجاج بعض العصاة عىل معاصيهم بأن التقوى يف القلب‪،‬‬ ‫ٍ‬

‫فام دام القلب نظي ًفا فال ترضه املعايص؛ ألننا نقول‪ :‬لو كان القلب ً‬
‫سليم ومتق ًيا‬
‫الستقامت اجلوارح‪.‬‬
‫‪-10‬قالابنرجب‪:‬قوله‪«:‬التقوىهاهنا»‪،‬فيهإشارةإىلأنكرماخللق‬
‫فرب من حيقره الناس لضعفه‪ ،‬وق ّلة حظه من الدنيا‪ ،‬وهو أعظم‬
‫عند اهلل بالتقوى‪ّ ،‬‬
‫قدرا عند اهلل ‪ ‬ممّن له قدر يف الدنيا‪ ،‬فإن الناس إنام يتفاوتون بحسب التقوى‪،‬‬
‫ً‬
‫كام قال اهلل ‪ :‬ﭽﮁﮂﮃﮄﮅﭼ [احلجرات‪.(((»]13 :‬‬
‫‪-11‬حتريم دم املسلم وماله وعرضه‪ ،‬لقوله‪« :‬كل املسلم عىل املسلم حرام‪ :‬دمه وماله‬
‫وعرضه»‪.‬‬
‫وقد نص النبي ‪ ‬عىل حتريم هذه األمور يف خطبته يف حجة الوداع‬
‫حيث قال‪« :‬إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام؛ كحرمة يومكم هذا‪،‬‬
‫يف شهركم هذا‪ ،‬يف بلدكم هذا»‪ .‬متفق عليه‪.‬‬
‫فالدم‪ :‬كالقتل واجلراح وما أشبهها‪.‬‬
‫والعرض‪ :‬كالغيبة والنميمة والسب والقدح‪.‬‬
‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)275/2‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪184‬‬
‫واملال‪ :‬كالرسقة‪ ،‬والغصب‪ ،‬وجحد ما عليه من الدَّ ين لغريه‪ ،‬أو ادعاء ما ليس له‪،‬‬
‫وغري ذلك‪.‬‬
‫قال ابن عبد القوي‪« :‬واقترص عىل هذه الثالثة؛ ألن ما سواها فرع عليها»(((‪.‬‬

‫((( «التعيني» ص(‪.)305‬‬


‫‪185‬‬ ‫الحديث السادس والثالثون‬

‫الحديث السادس والثالثون‬

‫س َع ْن‬ ‫«م ْن ن ََّف َ‬ ‫ال‪َ :‬‬ ‫ه َر ْي َرةَ ‪َ ‬عنِ ال َّنب ِِّي ‪َ ‬ق َ‬ ‫َع ْن َأبِي ُ‬
‫ب َي ْو ِم‬ ‫اهلل َع ْن ُه ُك ْر َب ًة مِ ْن ُك َر ِ‬ ‫ُ‬ ‫س‬ ‫ب ال ُّد ْن َيا ن ََّف َ‬‫ُم ْؤمِ ٍن ُك ْر َب ًة مِ ْن ُك َر ِ‬
‫اهلل َع َل ْي ِه فِ ي ال ُّد ْنيا َواآلخِ َرةِ ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫س َر‬‫سرٍ َي َّ‬ ‫س َر َع َلى ُم ْع ِ‬ ‫امةِ‪َ ،‬و َم ْن َي َّ‬ ‫القِ َي َ‬
‫الع ْب ِد‬
‫واهلل فِ ي َع ْونِ َ‬ ‫ُ‬ ‫اهلل فِ ي ال ُّد ْنيا َواآلخِ َرةِ ‪،‬‬ ‫س َت َر ُه ُ‬ ‫سلِم ًا َ‬ ‫َو َم ْن َ‬
‫س َت َر ُم ْ‬
‫س فِ ي ِه عِ ْلم ًا‬ ‫ط ِريق ًا َي ْلتَمِ ُ‬ ‫ك َ‬ ‫س َل َ‬ ‫الع ْب ُد فِ ي َع ْونِ َأخِ يهِ‪َ .‬و َم ْن َ‬ ‫َما َكانَ َ‬
‫ت مِ ْن‬ ‫اجت ََم َع َق ْو ٌم فِ ي َب ْي ٍ‬ ‫الج َّنةِ‪َ ،‬و َما ْ‬ ‫ط ِريق ًا ِإ َلى َ‬ ‫ُ‬
‫اهلل َل ُه ِب ِه َ‬ ‫ه َل‬‫س َّ‬ ‫َ‬
‫ه ُم‬ ‫ت َع َل ْي ِ‬ ‫َه ْم ِإالَّ َن َز َل ْ‬‫سو َن ُه َب ْين ُ‬ ‫هلل َو َي َت َدا َر ُ‬
‫َاب ا ِ‬ ‫هلل َي ْت ُلونَ كِ ت َ‬ ‫وت ا ِ‬ ‫ُب ُي ِ‬
‫ُ‬
‫اهلل‬ ‫ه ُم‬ ‫المالَئ َِك ُة‪َ ،‬و َذ َك َر ُ‬ ‫ه ُم َ‬ ‫ه ُم ال َّر ْح َم ُة‪َ ،‬و َح َّف ْت ُ‬ ‫ش َي ْت ُ‬ ‫السكِ ي َن ُة‪َ ،‬و َغ ِ‬ ‫َّ‬
‫سل ٌِم‬ ‫َس ُب ُه»‪َ ،‬ر َوا ُه ُم ْ‬ ‫س ِر ْع ِب ِه ن َ‬ ‫ط َأ ِب ِه َع َم ُل ُه َل ْم ُي ْ‬ ‫يم ْن عِ ْن َد ُه‪َ ،‬و َم ْن َب َّ‬ ‫فِ َ‬
‫بِهذا ال َّل ْفظ(((‪.‬‬

‫فيه فوائد‪:‬‬
‫‪-1‬قال املؤلف النووي ‪« :‬وهو حديث عظيم جامع ألنواع من العلوم‪،‬‬
‫والقواعد‪ ،‬واآلداب»(((‪.‬‬
‫‪-2‬احلث عىل تنفيس الكرب عن املؤمنني‪ ،‬لقوله‪« :‬من نفس عن مؤمن كربة من كرب‬
‫الدنيا نفس اهلل عنه كربة من كرب يوم القيامة»‪.‬‬
‫واملراد بالكربة الشدة والضيق‪ ،‬وتنفيسها إزالتها ورفعها‪.‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)2699‬‬
‫((( «رشح صحيح مسلم» (‪.)21/17‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪186‬‬
‫والك َُرب التي تقع عىل املؤمن متنوعة‪ ،‬فقد تكون كربة مالية‪ ،‬أو نفسية‪ ،‬أو اجتامعية‪،‬‬
‫أو غري ذلك‪.‬‬

‫فمن ن ّفسها عنه وأزاهلا‪ ،‬أزال اهلل عنه كربة من كرب يوم القيامة‪ ،‬وكرب القيامة‬
‫أعظم وأشد‪.‬‬

‫‪-3‬الرتغيب يف التيسري عىل املعرس‪ ،‬وذلك بحسب عرسته‪ ،‬فاملدين بإنظاره إىل ميرسة‪،‬‬
‫لقوله ‪ :‬ﭽﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﭼ[البقرة‪.]280 :‬‬

‫رسه أن ينجيه اهلل من كرب‬


‫أو بالوضع عنه من الدين‪ ،‬لقوله ‪« :‬من ّ‬
‫ضع عنه»‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬ ‫يوم القيامة‪ ،‬فلين ِّفس عن ُم ٍ‬
‫عرس أو َي ْ‬
‫معرسا أو‬
‫ً‬ ‫أيضا من حديث أيب اليرس‪ ،‬عن النبي ‪ ‬قال‪« :‬من أنظر‬
‫وخرج ً‬
‫ّ‬
‫وضع عنه‪ ،‬أظله اهلل يف ظله يوم ال ظل إال ظله»‪.‬‬

‫أو بإبرائه من الدين‪.‬‬

‫وت َّون عليه املصيبة‪ ،‬و ُيوعد‬


‫ومن أصيب بنكبة‪ ،‬فالتيسري عليه بأن يعان فيها‪َ ُ ،‬‬
‫باألجر والثواب‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬

‫مسلم سرته اهلل يف الدنيا‬


‫‪-4‬فضيلة السرت عىل املسلمني‪ ،‬لقوله ‪« :‬ومن سرت ً‬
‫واآلخرة»‪.‬‬

‫واملراد بسرته‪ :‬إخفاء عيوبه اخلَلقية واخلُلقية‪ ،‬القولية والفعلية‪ ،‬ال يظهرها للناس‪.‬‬

‫فجزاء من يسرت أخاه أن اهلل يسرته‪ :‬أي‪ :‬حيجب عيوبه عن الناس يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫ُ‬
‫وقد ورد يف احلديث‪« :‬يا معرش من آمن بلسانه‪ ،‬ومل يدخل اإليامن يف قلبه‪ ،‬ال تغتابوا‬
‫املسلمني‪ ،‬وال تتبعوا عوراهتم‪ ،‬فإنه من اتبع عوراهتم‪ ،‬تت ّبع اهلل عورته‪ ،‬ومن تتبع اهلل‬
‫عورته يفضحه يف بيته»‪ .‬رواه أبو داود(((‪.‬‬
‫((( برقم (‪ )4880‬بإسناد حسن‪.‬‬
‫‪187‬‬ ‫الحديث السادس والثالثون‬

‫قال شيخنا ابن عثيمني ‪« :‬ولكن السرت ال يكون حممو ًدا إال إذا كان فيه‬
‫فمثل املجرم إذا أجرم ال نسرت عليه إذا كان معرو ًفا‬
‫مصلحة‪ ،‬ومل يتضمن مفسدة‪ً ،‬‬
‫مستقيم يف ظاهره‪ ،‬ثم فعل ما ال حيل‬
‫ً‬ ‫بالرش والفساد‪ ،‬ولكن الرجل الذي يكون‬
‫فهنا قد يكون السرت مطلو ًبا»(((‪.‬‬
‫‪ -5‬أن اجلزاء من جنس العمل‪.‬‬
‫قال ابن رجب ‪« :‬وقد تكاثرت النصوص هبذا املعنى‪ ،‬كقوله‪« :‬إنام يرحم‬
‫يعذب الذين ّ‬
‫يعذبون الناس يف الدنيا»(((‪.‬‬ ‫اهلل من عباده الرمحاء»‪ ،‬وقوله‪« :‬إن اهلل ّ‬

‫‪-6‬الرتغيب يف إعانة املسلم وقضاء حاجته‪ ،‬والسعي فيها‪ ،‬لقوله ‪« :‬واهلل‬


‫يف عون العبد ما كان العبد يف عون أخيه»‪.‬‬
‫وثبت يف «الصحيحني» من حديث ابن عمر مرفو ًعا بلفظ‪« :‬ومن كان يف حاجة‬
‫أخيه‪ ،‬كان اهلل يف حاجته»‪.‬‬
‫وتقدم قوله ‪« :‬وتعني الرجل يف دابته فتحمله عليها‪ ،‬أن ترفع له عليها‬
‫متاعه صدقة»(((‪.‬‬
‫ً‬
‫مدخل الرسور عليه‪ ،‬كان اهلل يف عونه‬ ‫قائم بحاجته‪،‬‬
‫فكلام كان املرء معينًا ألخيه‪ً ،‬‬
‫وإعانته‪.‬‬
‫وقد كان السلف ‪ ‬يتسابقون يف خدمة الغري وإعانتهم‪ .‬ذكر مجلة من‬
‫أخبارهم ابن رجب يف «رشحه»‪.‬‬

‫‪-7‬عظم فضل طلب العلم‪ ،‬لقوله ‪« :‬ومن سلك طري ًقا يلتمس فيه ً‬
‫علم‬
‫سهل اهلل له به طري ًقا إىل اجلنة»‪.‬‬
‫ّ‬
‫يسهله اهلل له وييرسه يوم القيامة‪.‬‬
‫وهذا يشمل الطريق احليس‪ ،‬وهو طريق اجلنة ّ‬
‫((( من تعليقه عىل «األربعني» ص(‪.)78‬‬
‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)285/2‬‬
‫((( يف احلديث رقم (‪.)26‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪188‬‬
‫ويشمل الطريق املعنوي‪ ،‬وهو أن اهلل ‪ ‬يسهل له معرفة العلم الرشعي الذي‬
‫يسهل له علو ًما أخرى موصلة إىل اهلل والدار اآلخرة‪.‬‬
‫يصل به إىل اجلنة‪ ،‬وكذا ّ‬
‫‪-8‬فضيلة اجتامع الناس يف املساجد عىل تالوة كتاب اهلل ومدارسته‪ ،‬حيث تتنزل‬
‫عليهم السكينة‪ :‬وهي الطمأنينة يف القلب‪.‬‬

‫وتغشاهم الرمحة‪ :‬أي‪ :‬تشملهم رمحة اهلل َّ‬


‫جل وعال‪.‬‬

‫وحتفهم املالئكة‪ :‬أي‪ :‬حتيط هبم من كل جانب‪.‬‬

‫ويذكرهم اهلل فيمن عنده‪ :‬يعني‪ :‬من املالئكة‪.‬‬

‫‪-9‬أن ظاهره يدل عىل أن هذا الثواب خاص ملن اجتمعوا يف املسجد‪ ،‬لقوله‪« :‬يف بيت‬
‫من بيوت اهلل»‪.‬‬

‫لكن روى مسلم يف «صحيحه» من حديث أيب سعيد وأيب هريرة ‪ ‬عن النبي‬
‫‪ ‬قال‪« :‬ال يقعد قوم يذكرون اهلل ‪ ‬إال حفتهم املالئكة‪ ،‬وغشيتهم‬
‫الرمحة‪ ،‬ونزلت عليهم السكينة‪ ،‬وذكرهم اهلل فيمن عنده»(((‪.‬‬

‫قال النووي ‪« :‬فإنه مطلق يتناول مجيع املواضع‪ ،‬ويكون التقييد يف احلديث‬
‫األول خرج عىل الغالب‪ ،‬ال سيام يف ذلك الزمان‪ ،‬فال يكون له مفهوم يعمل به»(((‪.‬‬

‫‪-10‬أن ميزان العباد عند اهلل هو تقواهم له‪ ،‬لقوله‪« :‬ومن بطأ به عمله مل يرسع به‬
‫نسبه»‪.‬‬

‫قال ابن رجب ‪« :‬معناه‪ :‬أن العمل هو الذي يبلغ بالعبد درجات اآلخرة‪ ،‬كام‬
‫قال ‪ :‬ﭽﭑﭒﭓﭔﭼ[األنعام‪ ،]132 :‬فمن أبطأ به عمله أن‬
‫يبلغ به املنازل العالية عند اهلل ‪ ،‬مل يرسع به نسبه‪ ،‬فيبلغه تلك الدرجات‪،‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)2700‬‬
‫((( «رشح مسلم» (‪.)22/17‬‬
‫‪189‬‬ ‫الحديث السادس والثالثون‬

‫فإن اهلل ‪ ‬رتّب اجلزاء عىل األعامل‪ ،‬ال عىل األنساب‪ ،‬كام قال ‪:‬‬
‫ﭽﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﭼ((( [املؤمنون‪.]101 :‬‬
‫‪-11‬أنه ينبغي للعبد أال يغرت بنسبه وقبيلته ورشفه‪ ،‬بل ينبغي له أن هيتم بصالح عمله‪،‬‬
‫وصالح قلبه‪ ،‬قال اهلل ‪ :‬ﭽﮁﮂﮃﮄﮅﭼ [احلجرات‪.]13 :‬‬
‫وقال النبي ‪« :‬إن اهلل ال ينظر إىل صوركم وال إىل أجسامكم ولكن ينظر‬
‫إىل قلوبكم»‪ .‬رواه مسلم(((‪.‬‬

‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)308/2‬‬


‫((( برقم (‪.)2564‬‬
‫‪191‬‬ ‫الحديث السابع والثالثون‬

‫الحديث السابع والثالثـون‬

‫يما َي ْر ِوي ِه َع ْن‬ ‫هلل ‪ ‬فِ َ‬ ‫ول ا ِ‬ ‫س ِ‬ ‫اس ‪َ ،‬ع ْن َر ُ‬ ‫َع ْن ا ْبنِ َع َّب ٍ‬
‫َات‪ُ ،‬ث َّم‬‫الس ِّيئ ِ‬
‫َات َو َّ‬ ‫سن ِ‬ ‫الح َ‬
‫َب َ‬ ‫اهلل ‪َ ‬كت َ‬ ‫َ‬ ‫ال‪« :‬إِنَّ‬ ‫ك َوت ََعا َلى َق َ‬ ‫َر ِّب ِه َت َبا َر َ‬
‫س َن ًة َكامِ ل ًة‪،‬‬ ‫ها ُ‬
‫اهلل عِ ْن َد ُه َح َ‬ ‫ها َك َت َب َ‬ ‫س َن ٍة َف َل ْم َي ْع َم ْل َ‬‫ه َّم ب َِح َ‬ ‫ِك‪َ ،‬ف َم ْن َ‬ ‫َب َّينَ َذل َ‬
‫َات ِإ َلى َ‬
‫س ْبعِ َما َئ ِة‬ ‫سن ٍ‬ ‫ش َر َح َ‬ ‫اهلل عِ ْن َد ُه َع ْ‬‫ُ‬ ‫ها‬‫ها َك َت َب َ‬ ‫ِها َف َعمِ َل َ‬ ‫ه َّم ب َ‬ ‫َوإ ِْن َ‬
‫ُ‬
‫اهلل‬ ‫ها َك َت َبها‬ ‫ِس ِّي َئ ٍة َف َل ْم َي ْع َم ْل َ‬ ‫ه َّم ب َ‬ ‫اف َكثِي َر ٍة‪َ ،‬وإ ِْن َ‬ ‫ض َع ٍ‬ ‫ف ِإ َلى َأ ْ‬ ‫ض ْع ٍ‬ ‫ِ‬
‫س ِّي َئ ًة َواحِ َد ًة»‪،‬‬ ‫اهلل َ‬‫ها ُ‬ ‫ِها َف َعمِ َلها َك َت َب َ‬ ‫ه َّم ب َ‬ ‫س َن ًة َكامِ َل ًة‪َ ،‬وإ ِْن َ‬ ‫عِ ْن َد ُه َح َ‬
‫ِه ِذ ِه ا ْل ُح ُروف(((‪.‬‬ ‫ه َما» ب َ‬ ‫يح ْي ِ‬ ‫«صحِ َ‬ ‫سل ٌِم فِ ي َ‬ ‫َر َوا ُه ال ُبخَ ا ِر ُّي َو ُم ْ‬

‫فيه فوائد‪:‬‬
‫‪-1‬هذا احلديث يسمى باحلديث القديس‪ ،‬وهو الذي يرويه النبي عن ربه َّ‬
‫جل وعال‪.‬‬
‫وهو حديث عظيم فيه دليل عىل متام رمحة اهلل وكرمه بعباده‪.‬‬
‫‪-2‬أن اهلل ‪ ‬كتب احلسنات والسيئات؛ أي‪ :‬كتب ثواهبام‪ ،‬وكتب فعلهام؛ ألنه‬
‫‪ ‬حني خلق القلم «قال له‪ :‬اكتب‪ ،‬قال‪ :‬رب وماذا أكتب؟ قال‪ :‬اكتب ما‬
‫هو كائن إىل يوم القيامة»(((‪.‬‬
‫‪-3‬أن من َه َّم باحلسنة فلم يعملها‪ ،‬كتبها اهلل حسنة كاملة‪ ،‬واملراد باهلم اإلرادة والعزم‪.‬‬
‫ويدل لذلك ما رواه مسلم عن أيب هريرة ‪ ‬بلفظ‪« :‬إذا حتدّ ث عبدي بأن‬
‫يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما مل يعمل‪.(((»..‬‬
‫((( صحيح البخاري (‪ ،)6491‬ومسلم (‪.)207‬‬
‫((( من تعليق شيخنا ‪ ‬عىل «األربعني» ص(‪.)80‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)205‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪192‬‬
‫والسنَّة‪:‬‬
‫وقد دلت عىل ذلك أدلة كثرية من الكتاب ُّ‬
‫قال اهلل ‪ :‬ﭽ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ‬
‫ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﭼ [النساء‪.]100 :‬‬

‫وروى البخاري عن أيب موسى األشعري ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول اهلل‬


‫صحيحا»‪.‬‬
‫ً‬ ‫مقيم‬
‫‪« :‬إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل ً‬
‫قال ابن سعدي ‪« :‬هذا من أكرب منن اهلل عىل عباده املؤمنني‪ ،‬أن أعامهلم‬
‫املستمرة املعتادة إذا قطعهم عنها مرض أو سفر كتبت هلم كلها كاملة؛ ألن اهلل يعلم‬
‫منهم أنه لوال ذلك املانع لفعلوها فيعطيهم ‪ ‬بن َّياهتم مثل أجور العاملني مع‬
‫أجر املرض اخلاص»(((‪.‬‬

‫عجزا فإنه‬ ‫ً‬


‫وكسل‪ ،‬ال ً‬ ‫هم باحلسنة فلم يعملها‪ ،‬رغبة عنها‬
‫‪-4‬أن ظاهره يدل عىل أن من َّ‬
‫يكتب له حسنة كاملة‪.‬‬

‫ملا روى الرتمذي عن أيب كبشة األنامري أنه سمع رسول اهلل ‪ ‬يقول‪:‬‬
‫علم ومل يرزقه ً‬
‫مال‪ ،‬فهو صادق النية‬ ‫«إنام الدنيا ألربعة نفر‪ ...‬وفيه‪ :‬وعبد رزقه اهلل ً‬
‫يقول‪ :‬لو أن يل ً‬
‫مال لعملت بعمل فالن فهو بنيته فأجرمها سواء»(((‪.‬‬

‫هم باحلسنة فعملها‪ ،‬كتبها اهلل عرش حسنات إىل سبعامئة ضعف إىل أضعاف‬
‫‪-5‬أن من َّ‬
‫كثرية‪ ،‬لقوله ‪ :‬ﭽﮎﮏﮐﮑﮒﮓﭼ [األنعام‪.]160 :‬‬
‫وأما زيادة املضاعفة عىل العرش‪ ،‬فذلك ملن شاء اهلل أن يضاعف له ً‬
‫فضل منه وكر ًما‪،‬‬
‫وحيتمل أن تكون املضاعفة بحسب حسن العمل واإلخالص فيه واملتابعة‪.‬‬

‫هم بسيئة‬
‫هم بالسيئة فلم يعملها‪ ،‬كتبها اهلل عنده حسنة كاملة‪ ،‬لقوله‪« :‬وإن َّ‬
‫‪-6‬أن من َّ‬
‫فلم يعملها كتبها اهلل عنده حسنة كاملة»‪.‬‬
‫((( «هبجة قلوب األبرار» ص(‪.)69 68‬‬
‫((( «سنن الرتمذي» (‪ )2325‬وصححه‪.‬‬
‫‪193‬‬ ‫الحديث السابع والثالثون‬

‫لكن ورد يف «صحيح مسلم» قيد لكتابتها حسنة كاملة‪ ،‬من حديث أيب هريرة‬
‫‪ ‬بلفظ‪« :‬قالت املالئكة‪ :‬رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبرص به‬
‫فقال‪ْ :‬ار ُقبوه‪ ،‬فإن عملها فاكتبوها له بمثلها‪ ،‬وإن تركها فاكتبوها له حسنة‪ ،‬إنام‬
‫جراي»؛ أي‪ :‬من أجيل(((‪.‬‬
‫تركها من َّ‬
‫اهلم هبا خو ًفا من اهلل‪ ،‬كتبت له‬
‫فدل هذا احلديث عىل أن من ترك فعل السيئة بعد ِّ‬
‫حسنة كاملة‪.‬‬
‫عجزا عنها بعد أن بذل األسباب‬
‫ً‬ ‫أما إذا تركها خو ًفا من املخلوقني‪ ،‬أو تركها‬
‫للوصول إليها فإنه يكتب عليه سيئة كاملة‪.‬‬
‫فاألقسام إذن ثالثة‪.‬‬
‫هم بالسيئة فعملها‪ ،‬كتبت عليه سيئة واحدة من غري مضاعفة‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫‪-7‬أن من َّ‬
‫ﭽﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﭼ‬
‫[األنعام‪.]160 :‬‬
‫لكن قال أهل العلم‪« :‬إن السيئة تع ُظم أحيانًا برشف الزمان أو املكان‪ ،‬وكذا قد‬
‫تضاعف السيئات برشف فاعلها‪ ،‬وقوة معرفته باهلل وقربه منه‪ ،‬فإن من عىص‬
‫السلطان عىل بساطه أعظم جر ًما ممن عصاه عىل بعد»(((‪.‬‬

‫((( «صحيح مسلم» برقم (‪.)205‬‬


‫((( انظر‪« :‬جامع العلوم واحلكم» (‪.)318/2‬‬
‫‪195‬‬ ‫الحديث الثامن والثالثـون‬

‫الحديث الثامن والثالثـون‬

‫َ‬
‫اهلل‬ ‫هلل ‪« :‬إِنَّ‬ ‫ول ا ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ال َر ُ‬ ‫ال‪َ :‬ق َ‬ ‫ه َر ْي َرةَ ‪َ ‬ق َ‬ ‫َع ْن َأبِي ُ‬
‫ب ِإ َل َّي‬ ‫ب‪َ ،‬و َما ت ََق َّر َ‬ ‫ال‪َ :‬م ْن َعا َدى لِي َو ِل ًّيا َف َق ْد آ َذ ْن ُت ُه ب َ‬
‫ِالح ْر ِ‬ ‫ت ََعا َلى َق َ‬
‫ب ِإ َل َّي‬ ‫َال َع ْبدِي َيت ََق َّر ُ‬ ‫ض ُت ُه َع َل ْيهِ‪َ ،‬والَ َيز ُ‬ ‫اف َت َر ْ‬‫ِلي مِ َّما ْ‬ ‫ب إ َّ‬ ‫يء َأ َح َّ‬ ‫َ‬
‫َع ْبدِي بِش ٍ‬
‫ص َر ُه‬ ‫س َم ُع ِبهِ‪َ ،‬و َب َ‬ ‫ِي َي ْ‬ ‫س ْم َع ُه ا َّلذ ِ‬‫ت َ‬ ‫بِالنَّوافِ ِل َحتَّى ُأحِ َّب ُه‪َ ،‬ف ِإ َذا َأ ْح َب ْب ُت ُه ُك ْن ُ‬
‫ِها‪َ ،‬و َلئ ِْن‬ ‫شي ب َ‬ ‫ِها‪َ ،‬و ِر ْج َل ُه ا َّلتِي َي ْم ِ‬ ‫شب َ‬ ‫ط ُ‬ ‫ص ُر ِبهِ‪َ ،‬و َي َد ُه ا َّلتِي َي ْب ُ‬ ‫ا َّلذِي ُي ْب ِ‬
‫است ََعا َذنِي ألُعِ ي َذ َّن ُه»‪َ ،‬ر َوا ُه ا ْل ُبخَ ا ِر ّي(((‪.‬‬ ‫ط َي َّن ُه‪َ ،‬و َلئ ِْن ْ‬ ‫س َأ َلنِي ألُ ْع ِ‬ ‫َ‬
‫فيه فوائد‪:‬‬
‫‪-1‬قال شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪« :‬هذا احلديث هو أرشف حديث روي يف صفة‬
‫األولياء»(((‪.‬‬
‫‪-2‬إثبات الوالية هلل َّ‬
‫جل وعال‪ ،‬وأن هلل ‪ ‬أولياء‪ ،‬وقد دل عىل ذلك القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬قال ‪ :‬ﭽﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ‬
‫ﭜﭝﭞﭟ ﭼ[يونس‪ ،]63 ،62 :‬فأولياء اهلل‪ :‬هم عباده‬
‫املتقون‪ ،‬فكل من كان مؤمنًا تق ًّيا كان هلل ول ًّيا‪.‬‬
‫‪-3‬فضيلة األولياء عىل اهلل‪ ،‬حيث كان الذي يعادهيم قد آذن اهلل باحلرب‪ ،‬وذلك لعظم‬
‫فضيلة هؤالء األولياء عىل اهلل وكرامتهم عنده‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪.)6502‬‬
‫((( «جمموع الفتاوى» (‪.)129/18‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪196‬‬
‫‪-4‬أن من أسباب حصول الوالية للعبد‪ :‬هو التقرب إىل اهلل ‪ ‬بأداء الفرائض‪،‬‬
‫ويشمل ذلك فعل الواجبات وترك املحرمات؛ ألن ذلك كله من فرائض اهلل التي‬
‫افرتضها عىل عباده‪.‬‬
‫أداء الفرائض‪ :‬من صالة وصيام وزكاة وحج‪ ،‬وأمر باملعروف وهني عن املنكر‪،‬‬
‫وقيام بحقوق اهلل وحقوق عباده الواجبة‪.‬‬
‫فأداؤها كاملة من غري نقصان من أسباب الوالية‪ ،‬وهي صفة من صفات أولياء‬
‫اهلل‪.‬‬
‫أيضا التقرب إىل اهلل بالنوافل‪ ،‬لقوله‪« :‬وال يزال عبدي‬
‫‪-5‬أن من أسباب الوالية ً‬
‫يتقرب إيل بالنوافل حتى ُأحبه»‪.‬‬
‫فإن كل جنس من العبادات الواجبة مرشوع من جنسه نوافل‪ ،‬فيها فضائل عظيمة‪،‬‬
‫تكمل الفرائض‪ ،‬وجتلب هبا حمبة اهلل ‪.‬‬
‫ِّ‬
‫أجرا وثوا ًبا‪ ،‬لقوله‪« :‬وما‬
‫‪-6‬أن الفرائض مقدمة عىل النوافل‪ ،‬وأحب إىل اهلل‪ ،‬وأعظم ً‬
‫تقرب إ َّيل عبدي بيشء أحب إيل مما افرتضته عليه»‪.‬‬
‫فصالة الفرض أحب إىل اهلل من صالة النافلة‪ ،‬وصيام الفرض أحب إىل اهلل من‬
‫صيام التطوع‪ ،‬وهكذا‪....‬‬
‫وحيب‪ ،‬قال اهلل ‪ :‬ﭽﮤﮥﮦ‬ ‫‪-7‬إثبات حمبة اهلل ‪ ،‬وأنه ‪ُ ‬يب ِ‬
‫َ‬
‫ﮧﮨﮩﭼ [املائدة‪.]54 :‬‬
‫وقد أنكر بعض الطوائف املبتدعة حمبة اهلل ‪ ،‬وقالوا‪ :‬إن املحبة ال تكون إال بني‬
‫اثنني متجانسني‪.‬‬
‫واجلواب أن يقال‪ :‬بل إن املحبة ثابتة ولو مل تكن بني متجانسني‪ ،‬فها هو اإلنسان‬
‫حيب دابته وليست من جنسه‪ ،‬وقد قال النبي ‪ُ « :‬أحد جبل حيبنا‬
‫ونحبه»((( وهو مجاد‪.‬‬
‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)1482‬ومسلم (‪.)1393‬‬
‫‪197‬‬ ‫الحديث الثامن والثالثـون‬

‫فالصواب‪ :‬أننا نثبت هلل ‪ ‬املحبة‪ ،‬كام أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله‪ ،‬لكن حمبة‬
‫تليق به ‪ ،‬ال متاثل حمبة املخلوقني‪ ،‬كام قال ‪ :‬ﭽﭡﭢﭣﭤ‬
‫ﭥﭦﭧﭼ [الشورى‪.]11 :‬‬
‫‪-8‬أن من أحبه اهلل ‪ ‬وكان من أوليائه‪ ،‬فإنه ‪ ‬يسدده يف سمعه وبرصه‬
‫ويده ورجله‪ ،‬فال يسمع إال ما يريض اهلل‪ ،‬وال يبرص إال ما يريض اهلل‪ ،‬وكذا يف يده‬
‫ورجله‪.‬‬
‫لقوله ‪« :‬فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به‪ ،‬وبرصه الذي يبرص به‪،‬‬
‫ويده التي يبطش هبا‪ ،‬ورجله التي يميش هبا»‪ ،‬وليس املعنى‪ :‬أن اهلل ‪ ‬حيل يف‬
‫أعضائه‪ ،‬فإن هذا حمال‪ ،‬بل هو ‪ ‬عىل عرشه‪ٍ ،‬‬
‫عال عىل خلقه‪.‬‬
‫‪-9‬أن أوليائه ‪ ‬مع تسديده هلم يف حركاهتم‪ ،‬جعلهم جمايب الدعوة إن سألوه‬
‫أعطاهم مصالح دينهم ودنياهم‪ ،‬وإن استعاذوه أعاذهم‪...‬‬
‫فاللهم اجعلنا من عبادك الصاحلني‪ .‬وأوليائك املتقني‪...‬‬
‫‪199‬‬ ‫الحديث التاسع والثالثـون‬

‫الحديث التاسع والثالثون‬

‫َ‬
‫اهلل‬ ‫هلل ‪َ ‬ق َ‬
‫ال‪« :‬إِنَّ‬ ‫ول ا ِ‬ ‫س َ‬ ‫اس ‪َ ‬أنَّ َر ُ‬ ‫َعنِ ا ْبنِ َع َّب ٍ‬
‫هوا َع َل ْيهِ» َحد ٌ‬
‫ِيث‬ ‫است ْ‬
‫ُك ِر ُ‬ ‫ِّس َيانَ َو َما ْ‬ ‫ط َأ َوالن ْ‬ ‫او َز لِي َع ْن ُأ َّمتِي الخَ َ‬‫ت ََج َ‬
‫ه َما‪.‬‬‫هقِ ّي َو َغ ْي ُر ُ‬ ‫سنٌ ‪َ ،‬ر َوا ُه ا ْبنُ َم َ‬
‫اجه َوال َب ْي َ‬ ‫َح َ‬

‫فيه فوائد‪:‬‬
‫‪-1‬هذا احلديث أخرجه ابن ماجه (‪ ،)2045‬والبيهقي (‪ )15095‬من طريق الوليد‬
‫بن مسلم‪ ،‬عن األوزاعي‪ ،‬عن عطاء‪ ،‬عن ابن عباس فذكره‪.‬‬

‫وإسناده ضعيف‪ ،‬النقطاعه بني عطاء وابن عباس‪ ...‬والوليد بن مسلم مد ِّلس‬
‫وقد عنعن‪.‬‬

‫وروي احلديث من طرق متعددة بأسانيد ضعيفة ومعلولة‪ ،‬وله شواهد ال يصح‬
‫منها يشء‪.‬‬

‫لكن معناه صحيح‪ ،‬وعمل به األئمة‪ ،‬وقد ذكر ابن حجر ‪ ‬يف «النكت» أن‬
‫من مجلة صفات القبول أن يتفق العلامء عىل العمل بمدلول حديث‪ ،‬فإنه يقبل‬
‫وجيب العمل به‪ ،‬وذكر لذلك أمثلة(((‪.‬‬
‫((( «النكت عىل كتاب ابن الصالح» (‪.)494/1‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪200‬‬
‫‪-2‬قال ابن عبد القوي‪« :‬وهذا احلديث عام النفع‪ ،‬عظيم الوقع‪ ،‬وهو يصلح أن يسمى‬
‫نصف الرشيعة؛ ألن فعل اإلنسان إما أن يصدر عن قصد واختيار‪ ،‬وهو العمد مع‬
‫اختيارا‪ ،‬أو ال عن قصد واختيار‪ ،‬وهو اخلطأ والنسيان‪ ،‬أو اإلكراه‪ ،‬وهذا القسم‬
‫ً‬ ‫الذكر‬
‫معفو عنه‪ ،‬واألول مؤاخذ به‪ ،‬فإذن هذا احلديث نصف الرشيعة هبذا االعتبار»(((‪.‬‬

‫‪-2‬سعة رمحة اهلل ‪ ‬حيث عفا عن اخلطأ والنسيان واإلكراه الواقع من عباده‪ ،‬وقد نص‬
‫‪ ‬عىل ذلك يف كتابه فقال‪ :‬ﭽﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﭼ[البقرة‪]286 :‬‬
‫قال اهلل‪ :‬قد فعلت‪.‬‬

‫وقال‪ :‬ﭽﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ‬
‫ﯖﭼ[األحزاب‪.]5 :‬‬

‫وقال‪ :‬ﭽﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ‬
‫ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﭼ[النحل‪.]106 :‬‬

‫‪-3‬أن من وقع يف خطأ أو نسيان‪ ،‬فإنه ال يؤاخذ به‪ ،‬ملا تقدم‪ ،‬لكن ّفرق أهل العلم بني‬
‫ترك املأمور وفعل املحظور‪ ،‬فقالوا‪ :‬من ترك املأمور خطأ أو ً‬
‫جهل أو نسيانًا مل تربأ‬
‫ذمته إال بفعله‪ ،‬ومن فعل املحظور وهو معذور بخطأ أو جهل أو نسيان برئت‬
‫ذمته‪ ،‬ومتت عبادته‪.‬‬

‫مثال األول‪ :‬لو صىل عىل غري طهارة ناس ًيا‪ ،‬فإنه يلزمه اإلعادة وال إثم عليه‪.‬‬

‫ومثال الثاين‪ :‬لو صىل وعىل ثوبه نجاسة مل يعلم هبا إال بعد الصالة‪ ،‬فصالته‬
‫صحيحة وال إعادة عليه(((‪.‬‬

‫‪-4‬أن من ُأكره عىل قول يشء أو فعله فإنه ال يؤاخذ به‪ ،‬لقوله ‪« :‬وما‬
‫استكرهوا عليه»‪.‬‬
‫((( «التعيني» ص(‪.)322‬‬
‫((( انظر‪« :‬القواعد واألصول» البن سعدي ص(‪.)60‬‬
‫‪201‬‬ ‫الحديث التاسع والثالثـون‬

‫وهذا عام يف مجيع اإلكراهات‪ ،‬لكن استثنى العلامء رمحهم اهلل اإلكراه عىل قتل‬
‫معصوم‪ ،‬فليس له قتله‪.‬‬
‫قال ابن رجب ‪« :‬واتفق العلامء عىل أنه لو أكره عىل قتل معصوم مل يبح له أن‬
‫يقتله‪ ،‬فإنه إنام يقتله باختياره افتدا ًء لنفسه من القتل‪ ،‬هذا إمجاع من العلامء املعتد‬
‫هبم‪...‬‬
‫ثم قال ‪ :‬فإذا قتله يف هذه احلال‪ ،‬فاجلمهور عىل أهنام يشرتكان يف وجوب‬
‫القود»(((‪.‬‬

‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)371/2‬‬


‫‪203‬‬ ‫الحديث األربعون‬

‫الحديث األربعون‬

‫هلل ‪ ‬ب َِم ْنكِ َب َّي‬ ‫ول ا ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ال‪َ :‬أخَ َذ َر ُ‬ ‫َعنِ ا ْبنِ ُع َم َر ‪َ ‬ق َ‬
‫سبِي ٍل»‪َ .‬و َكانَ ا ْبنُ ُع َم َر‬ ‫يب َأ ْو َعا ِب ُر َ‬ ‫َّك َغ ِر ٌ‬‫«ك ْن فِ ي ال ُّد ْنيا َك َأن َ‬
‫ال‪ُ :‬‬ ‫َف َق َ‬
‫ت َفالَ‬ ‫اح‪َ ،‬و ِإ َذا َأ ْ‬
‫ص َب ْح َ‬ ‫الص َب َ‬
‫َظر َّ‬ ‫ت َفالَ َت ْنت ِ‬ ‫س ْي َ‬ ‫ول‪ِ « :‬إ َذا َأ ْم َ‬
‫‪َ ‬ي ُق ُ‬
‫ِك»‪َ ،‬ر َوا ُه‬ ‫ِك ل َِم ْوت َ‬
‫ك‪َ ،‬ومِ ْن َح َيات َ‬ ‫ض َ‬ ‫ص َّحت َ‬
‫ِك ل َِم َر ِ‬ ‫سا َء‪َ ،‬وخُ ْذ مِ ْن ِ‬‫الم َ‬
‫َظر َ‬ ‫َت ْنت ِ‬
‫ال ُبخَ ا ِر ُّي(((‪.‬‬

‫فيه فوائد‪:‬‬
‫‪-1‬قال ابن رجب ‪« :‬هذا احلديث أصل يف قرص األمل يف الدنيا‪ ،‬وأن املؤمن ال‬
‫ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنًا ومسكنًا‪ ،‬فيطمئن فيها‪ ،‬ولكن ينبغي أن يكون فيها‬
‫كأنه عىل جناح سفر‪ :‬هييء جهازه للرحيل‪ .‬وقد اتفقت عىل ذلك وصايا األنبياء‬
‫وأتباعهم‪ ،‬قال ‪ ‬حاك ًيا عن مؤمن آل فرعون أنه قال‪ :‬ﭽﯚﯛﯜ‬
‫ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﭼ[غافر‪.]39 :‬‬
‫وكان النبي ‪ ‬يقول‪« :‬ما يل وللدنيا‪ ،‬إنام مثيل ومثل الدنيا كمثل راكب‬
‫َ‬
‫قال يف ظل شجرة ثم راح وتركها»‪.‬‬
‫ومن وصايا املسيح عليه السالم ألصحابه أنه قال هلم‪« :‬اعربوها وال تعمروها»‪ .‬اه(((‪.‬‬
‫‪-2‬احلثعىلتنبيهاملتعلمباميكونادعىالهتاممهوفهمه‪،‬لقوله‪«:‬أخذرسولاهللبمنكبي»‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪.)6416‬‬
‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)377/2‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪204‬‬
‫التزود‬
‫مقيم يف بلد غربة‪ ،‬مهه ُّ‬
‫‪-3‬أنه ينبغي للمؤمن أن تكون حاله يف الدنيا كأنه غريب ٌ‬
‫للرجوع إىل وطنه‪ ،‬أو كأنه مسافر غري مقيم‪ ،‬بل يسري أبدً ا إىل أن يصل إىل بلد‬
‫اإلقامة‪ ،‬وحينئذ يزهد يف الدنيا‪ ،‬وحياول جاهدً ا أن يتزود منها ليوم معاده ووقوفه‬
‫بني يدي ربه ‪.‬‬

‫قال احلسن البرصي ‪« :‬إنام أنت أيام جمموعة‪ ،‬كلام مىض يوم مىض بعضك»‪.‬‬

‫وقال بعض احلكامء‪« :‬من كانت الليايل واأليام مطاياه‪ ،‬سارت به وإن مل يرس»‪.‬‬

‫وفي هذا يقول بعضهم‪:‬‬

‫حيــث هبــا داع إىل املــوت قاصــد‬ ‫ومــا هــذه األيــام إال مراحــل‬

‫منــازل تطــوى واملســافر قاعــد‬ ‫وأعجــب يشء لــو تأملــت أهنــا‬

‫وكان ابن كثير ‪ ‬يتمثل بهذين البيتين‪:‬‬

‫نســاق إىل اآلجــال والعــن تنظــر‬ ‫متــر بنــا األيــام تــرى وإنــا‬

‫ٌ‬
‫زائــل هــذا املشــيب املكــدِّ ر‬ ‫وال‬ ‫فــا عائــدٌ ذاك الشــباب الــذي مــى‬

‫وأنشد بعض السلف‪:‬‬

‫وكل يــوم مــى يــدين مــن األجــل‬ ‫نقطعهــا‬ ‫باأليــام‬ ‫لنفــرح‬ ‫إنــا‬

‫فإنــا الربــح واخلــران يف العمــل‬


‫(((‬ ‫فاعمــل لنفســك قبــل املــوت جمتهــدً ا‬

‫قص فيه من حقوق اهلل وحقوق عباده؛ ألنه‬


‫‪-4‬أنه ينبغي للعبد أن حياسب نفسه فيام َّ‬
‫إذا حاسبها استقامت حاله‪ ،‬وصلحت عباداته وطاعاته‪ ،‬ومل يركن حينئذ إىل الدنيا‬
‫ويطمئن إليها‪.‬‬
‫((( انظر‪« :‬جامع العلوم واحلكم» (‪.)383 382/2‬‬
‫‪205‬‬ ‫الحديث األربعون‬

‫متفرع من احلديث املرفوع‪ ،‬وهو متضمن لنهاية‬


‫‪-5‬كالم ابن عمر ‪ ،‬ووصيته ّ‬
‫تقصري األجل‪ ،‬وأن العاقل إذا أمسى ينبغي له أن ال ينتظر الصباح‪ ،‬وإذا أصبح‬
‫ينبغي له أن ال ينتظر املساء‪ ،‬بل يظن أن أجله يدركه قبل ذلك‪.‬‬

‫وقد كان السلف ‪ ‬هذه حاهلم‪.‬‬

‫كان حممد بن واسع إذا أراد أن ينام قال ألهله‪« :‬أستودعكم اهلل‪ ،‬فلع ّلها أن تكون‬
‫منيتي التي ال أقوم منها‪ ،‬فكان هذا دأبه إذا أراد أن ينام»‪.‬‬

‫وقال بعضهم‪« :‬ما نمت نو ًما قط فحدثت نفيس أين أستيقظ منه»‪.‬‬

‫‪-6‬أنه ينبغي للعبد أنه يغتنم عمره يف األعامل الصاحلة‪ ،‬قبل أن حيول بينه وبينها حائل‬
‫من موت أو مرض‪ ،‬لقول ابن عمر ‪« :‬وخذ من صحتك ملرضك‪ ،‬ومن‬
‫حياتك ملوتك»‪.‬‬

‫صحيحا يعبد اهلل مطمئن البال منرشح الصدر‪ ،‬فإذا مرض تأمل‬
‫ً‬ ‫فإن اإلنسان ما دام‬
‫وآذاه‪ ،‬وانشغل به‪ ،‬وأصبحت العبادة ثقيلة عليه‪ ،‬مع أنه إذا كان قد اعتادها قبل‬
‫مرضه فإنه يكتب له أجرها‪ ،‬قال النبي ‪« :‬إذا مرض العبد أو سافر‬
‫صحيحا» رواه البخاري‪.‬‬ ‫مقيم‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫كُتب له ما كان يعمل ً‬
‫وكذلك ما دام يف زمن احلياة‪ ،‬فإذا مات انقطع عمله‪ ،‬كام قال النبي ‪:‬‬
‫«إذا مات اإلنسان انقطع عنه عمله إال من ٍ‬
‫ثالثة‪ :‬صدقة جارية‪ ،‬أو علم ينتفع به‪ ،‬أو‬
‫ولد صالح يدعو له»(((‪ ،‬وحينئذ متى حيل بني اإلنسان والعمل مل يبق له إال احلرسة‬
‫والندم‪ ،‬ويتمنى الرجوع إىل حالة يتمكن فيها من العمل‪ ،‬فال تنفعه األمنية‪.‬‬

‫قال اهلل ‪ :‬ﭽﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ‬


‫ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﭼ [املؤمنون‪.]100 ،99 :‬‬
‫((( أخرجه مسلم (‪.)1631‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪206‬‬
‫وقد كان البخاري ‪ ‬يقول‪:‬‬

‫فعســى أن يكــون موتــك بغتــة‬ ‫اغتنــم يف الفــراغ فضــل ركــو ٍع‬


‫ذهبــت نفســه الصحيحــة فلتــة‬
‫(((‬
‫رأيــت مــن غــر ســقم‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫صحيــح‬ ‫كــم‬

‫ال َّل ُه َّم وفقنا لطاعتك‪ ،‬وأعنا عىل ذكرك وشكرك وحسن عبادتك‪ ،‬وارزقنا اغتنام‬
‫أوقاتنا بمرضاتك إنك جواد كريم‪.‬‬

‫((( انظر‪« :‬مقدمة فتح الباري» البن حجر‪.‬‬


‫‪207‬‬ ‫الحديث الحادي األربعون‬

‫الحديث الحادي واألربعون‬

‫ال‬‫ال‪َ :‬ق َ‬ ‫اص ‪َ ،‬ق َ‬ ‫الع ِ‬


‫هلل ْبنِ َع ْمرو ْبنِ َ‬ ‫َع ْن َأبِي ُم َح َّم ٍد َع ْب ِد ا ِ‬
‫ه َوا ُه َت َبع ًا ل َِما‬ ‫هلل ‪« :‬الَ ُي ْؤمِ نُ َأ َح ُد ُك ْم َحتَّى َي ُكونَ َ‬ ‫ول ا ِ‬ ‫س ُ‬ ‫َر ُ‬
‫ِسنَا ٍد‬
‫«الح َّجةِ» ِبإ ْ‬‫ُ‬ ‫َاب‬
‫يح‪َ ،‬ر َو ْينَا ُه فِ ي كِ ت ِ‬
‫صحِ ٌ‬ ‫سنٌ َ‬ ‫ِيث َح َ‬ ‫ت ِبهِ»‪َ ،‬حد ٌ‬ ‫جِ ْئ ُ‬
‫يح‪.‬‬
‫صحِ ٍ‬ ‫َ‬
‫فيه فوائد‪:‬‬
‫«السنَّة» (‪ ،)15‬وابن بطة يف «اإلبانة الكربى»‬
‫‪-1‬هذا احلديث أخرجه ابن أيب عاصم يف ُّ‬
‫السنَّة» (‪)104‬‬
‫(‪ ،)279‬واخلطيب يف «تاريخ بغداد» (‪ ،)20/6‬والبغوي يف «رشح ُّ‬
‫من طريق نعيم بن محاد‪ ،‬عن عبد الوهاب بن عبد املجيد الثقفي‪ ،‬عن هشام بن‬
‫حسان‪ ،‬عن حممد بن سريين‪ ،‬عن عقبة بن أوس‪ ،‬عن عبد اهلل بن عمرو بن العاص‬
‫‪.‬‬
‫وإسناده ضعيف‪ ،‬لضعف نعيم بن محاد اخلزاعي(((‪.‬‬
‫وبه أعله ابن رجب يف «رشحه»‪.‬‬
‫وعليه فإن تصحيح املؤلف له فيه نظر‪.‬‬
‫وقوله‪« :‬رويناه يف كتاب «احلجة» بإسناد صحيح»‪.‬‬
‫((( «حترير التقريب» (‪.)21/4‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪208‬‬
‫قال ابن رجب ‪« :‬يريد بصاحب كتاب «احلجة» الشيخ أبا الفتح نرص بن‬
‫إبراهيم املقديس الشافعي الفقيه الزاهد‪ ،‬وكتابه هذا هو كتاب «احلجة عىل تارك‬
‫والسنَّة»(((‪.‬‬
‫املحجة» يتضمن ذكر أصول الدين عىل قواعد أهل احلديث ُّ‬
‫وقال ابن عبد القوي‪« :‬وهو كتاب جيد نافع»(((‪.‬‬

‫‪-2‬راوي احلديث‪ :‬هو عبد اهلل بن عمرو بن العاص بن وائل السهمي القريش‪ ،‬أبو‬
‫حممد‪ ،‬صحايب جليل‪ ،‬أحد السابقني‪ ،‬وأحد العبادلة الفقهاء‪.‬‬

‫قال الذهبي ‪« :‬وله مناقب وفضائل ومقام راسخ يف العلم والعمل‪ ،‬محل عن‬
‫مجا»‪.‬‬ ‫النبي ‪ً ‬‬
‫علم ًّ‬
‫ومسنده (‪ )700‬حديث‪ ،‬اتفق البخاري ومسلم عىل (‪ )7‬سبعة أحاديث‪ ،‬وانفرد‬
‫البخاري بـ(‪ ،)8‬ومسلم بـ(‪.)20‬‬

‫مات سنة (‪65‬هـ) بمرص(((‪.‬‬

‫‪-3‬أن اإلنسان ال يكون مؤمنًا كامل اإليامن حتى تكون حمبته تابعة ملا جاء به الرسول‬
‫من األوامر والنواهي وغريها‪ ،‬فيحب ما أمر به‪ ،‬ويكره ما هنى عنه‪.‬‬

‫أما إذا مل تكن حمبته وهواه تابعة ملا جاء به الرسول فال خيلو‪ :‬إما أن يعرض متا ًما عن‬
‫هدي رسول اهلل وما جاء به‪ ،‬فهو كافر‪.‬‬

‫وإما أن يعرض بقلبه دون جوارحه ولسانه‪ ،‬فهو منافق‪.‬‬


‫وإما أن ُي ِ‬
‫عرض أحيانًا‪ ،‬ويقبل أحيانًا‪ ،‬يتبع رسول اهلل فيام أمر به‪ ،‬ويرتكب بعض‬
‫املحرمات أحيانًا‪ ،‬فهذا مؤمن فاسق‪ ،‬مؤمن بإيامنه واتباعه‪ ،‬وفاسق بإعراضه‪.‬‬
‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)394 393/2‬‬
‫((( «التبيني» ص(‪.)331‬‬
‫وانظر‪ :‬ترمجة نرص بن إبراهيم املقديس يف «سري أعالم النبالء» (‪.)136/19‬‬
‫((( «السري» (‪« ،)79/3‬التقريب» ص(‪.)530‬‬
‫‪209‬‬ ‫الحديث الحادي واألربعون‬

‫يف «الصحيحني» عن أنس بن مالك ‪ ‬عن النبي ‪ ‬قال‪« :‬ثالث‬


‫أحب إليه مما سوامها‪ ،‬وأن‬
‫ّ‬ ‫من كن فيه وجد حالوة اإليامن‪ :‬أن يكون اهلل ورسوله‬
‫حيب املرء ال حيبه إال اهلل‪ ،‬وأن يكره أن يرجع إىل الكفر بعد إذ أنقذه اهلل منه‪ ،‬كام‬
‫يكره أن يقذف يف النار»(((‪.‬‬
‫‪-4‬ذم اهلوى املخالف للرشيعة‪ ،‬وحقيقة اهلوى‪ :‬امليل إىل خالف احلق‪ ،‬كام قال‬
‫‪ :‬ﭽﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﭼ[ص‪.]26 :‬‬
‫وقال ‪ :‬ﭽﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ‬
‫ﯷﭼ [النازعات‪.]41 ،40 :‬‬

‫فجميع املعايص بأنواعها تنشأ من تقديم اهلوى عىل حمبة اهلل ورسوله‪ ،‬وكذلك‬
‫البدع واخلرافات إنام تنشأ من تقديم اهلوى‪.‬‬

‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)16‬ومسلم (‪.)67‬‬


‫‪211‬‬ ‫الحديث الثاني واألربعون‬

‫الحديث الثاني واألربعون‬

‫ال‬‫«ق َ‬‫ول‪َ :‬‬ ‫هلل ‪َ ‬ي ُق ُ‬ ‫ول ا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ت َر ُ‬‫سمِ ْع ُ‬ ‫ال‪َ :‬‬ ‫َس ‪َ ،‬ق َ‬ ‫َع ْن َأن ٍ‬
‫ك َع َلى‬ ‫ت َل َ‬ ‫َّك َما َد َع ْو َتنِي َو َر َج ْو َتنِي َغ َف ْر ُ‬ ‫اهلل ت ََعا َلى‪َ :‬يا ا ْبنَ آ َد َم‪ِ ،‬إن َ‬ ‫ُ‬
‫الس َما ِء‬
‫َّ‬ ‫ك َعنَانَ‬ ‫ت ُذنُو ُب َ‬ ‫ك َوالَ ُأ َبالِي‪َ .‬يا ا ْبنَ آ َد َم‪َ ،‬ل ْو َب َل َغ ْ‬ ‫َما َكانَ مِ ْن َ‬
‫َّك َل ْو َأ َت ْي َتنِي‬ ‫ك َوالَ ُأ َبالِي‪َ .‬يا ا ْبنَ آ َد َم‪ِ ،‬إن َ‬ ‫ت َل َ‬ ‫ُث َّم ْ‬
‫است َْغ َف ْر َتنِي َغ َف ْر ُ‬
‫ِها‬ ‫ُك ب ُِق َراب َ‬ ‫ش ْيئ ًا ألَ َت ْيت َ‬‫ك بِي َ‬ ‫طا َيا ُث َّم َلقِ ْي َتنِي الَ ت ْ‬
‫ُش ِر ُ‬ ‫ض خَ َ‬ ‫اب األ ْر ِ‬‫ب ُِق َر ِ‬
‫يح‪.‬‬ ‫صحِ ٌ‬ ‫سنٌ َ‬ ‫ِيث َح َ‬ ‫ال‪َ :‬حد ٌ‬ ‫ِي َو َق َ‬ ‫َم ْغفِ َر ًة»‪َ ،‬ر َوا ُه ال ِّت ْرمِ ذ ُّ‬

‫فيه فوائد‪:‬‬

‫‪-1‬هذا احلديث أخرجه الرتمذي (‪ )3540‬من طريق كثري بن فائد‪ ،‬حدثنا سعيد بن‬
‫ُعبيد‪ ،‬سمعت بكر بن عبد اهلل املزين‪ ،‬يقول‪ :‬حدثنا أنس بن مالك فذكره‪.‬‬
‫وإسناده ضعيف‪ :‬كثري بن فائد‪ ،‬جمهول(((‪.‬‬
‫بعضا‪ ،‬وقد ساقها ابن رجب يف‬
‫لكن احلديث له طرق وشواهد يقوي بعضها ً‬
‫رشحه‪ .‬ثم قال عن احلديث‪« :‬إسناده ال بأس به»(((‪.‬‬
‫وقول املؤلف‪« :‬رواه الرتمذي وقال‪ :‬حديث حسن صحيح»‪.‬‬
‫((( انظر‪« :‬هتذيب الكامل» (‪ ،)144/24‬و «التقريب» ص(‪.)809‬‬
‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)400/2‬‬
‫غريب‪ ،‬ال نعرفه إال‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫حديث حس ٌن‬ ‫الذي يف املطبوع بتحقيق بشار عواد بلفظ‪« :‬هذا‬
‫من هذا الوجه»‪.‬‬
‫وهذا هو الالئق باحلديث‪.‬‬
‫‪ -2‬هذا احلديث يسمى باحلديث القديس‪ ،‬وقد تقدم له أمثلة‪.‬‬
‫واحلديث القديس يفارق القرآن بأمور‪:‬‬
‫منها‪ :‬أن القرآن معجز‪ ،‬بخالف احلديث القديس‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن القرآن متع َّبد بتالوته‪ ،‬بخالف احلديث القديس‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن القرآن ثبت بالتواتر‪ ،‬بخالف احلديث القديس ففيه الضعيف والصحيح‬
‫ونحو ذلك‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن القرآن ال يمسه إال طاهر‪ ،‬بخالف احلديث القديس‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن القرآن لفظه ومعناه من اهلل‪ ،‬بخالف احلديث القديس فلفظه من الرسول‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن القرآن يقرأ به يف الصالة‪ ،‬بخالف احلديث القديس‪.‬‬
‫‪-3‬هذا احلديث تضمن ذكر أسباب املغفرة الثالثة‪ ،‬وأوهلا‪ :‬الدعاء مع الرجاء‪ ،‬فإن‬
‫الدعاء مأمور به‪ ،‬وموعود عليه باإلجابة‪ ،‬كام قال ‪ :‬ﭽﭝﭞﭟ‬
‫ﭠﭡﭼ [غافر‪.]60 :‬‬
‫وقال النبي ‪« :‬الدعاء هو العبادة»(((‪.‬‬
‫ولكن الدعاء سبب مقتض لإلجابة‪ ،‬مع استكامل رشائطه وانتفاء موانعه‪ ،‬وقد‬
‫تقدم ذكر األسباب واملوانع يف فوائد احلديث العارش‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬حضور القلب‪ ،‬ورجاء اإلجابة من اهلل ‪ ،‬لقوله ‪« :‬إنك ما‬
‫دعوتني ورجوتني»؛ أي‪ :‬رجوت مغفريت ومل تيأس‪ ،‬وهلذا هنى النبي عن استعجال‬
‫(((أخرجه أبو داود (‪ ،)1479‬والرتمذي (‪ ،)2969‬وابن ماجه (‪ )3828‬من حديث النعامن بن بشري‪،‬‬
‫وإسناده صحيح‪.‬‬
‫‪213‬‬ ‫الحديث الثاني واألربعون‬

‫اإلجابة‪ ،‬وأخرب أهنا من املوانع‪ ،‬حتى ال يقطع العبد رجاءه من إجابة دعائه ولو‬
‫طالت املدة‪ ،‬فإنه سبحانه حيب امللحني يف الدعاء‪.‬‬

‫ثم إن العبد إذا دعا فإنه ال خيلو‪:‬‬

‫إما أن يؤتيه اهلل سؤله يف الدنيا‪.‬‬

‫وإما أن يرصف عنه من السوء بقدر ما دعا‪.‬‬

‫وإما أن يدخر له دعوته يف اآلخرة‪.‬‬

‫وقد ورد فيه حديث رواه أمحد يف «املسند»‪ ،‬عن أيب سعيد بسند ال بأس به(((‪.‬‬

‫‪-4‬أنه ينبغي للعبد أن حيسن الظن باهلل حال دعائه‪ ،‬لقوله‪« :‬إنك ما دعوتني ورجوتني»‪،‬‬
‫وحينئذ فاهلل ‪ ‬عند حسن ظن عبده به‪.‬‬

‫‪-5‬فضيلة االستغفار وأنه سبب ملغفرة الذنوب واألوزار‪ ،‬وقد أمر به وحث عليه‬
‫امللك الغفار‪ ،‬وأكثر منه وداوم عليه سيد األبرار‪ ،‬صىل اهلل عليه وعىل آله وصحبه‬
‫الربرة األخيار‪ ،‬لقوله‪« :‬يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السامء‪ ،‬ثم استغفرتني‬
‫غفرت لك»‪.‬‬

‫وهذا هو السبب الثاين من أسباب املغفرة‪ :‬االستغفار‪.‬‬

‫وفيه مباحث‪:‬‬

‫((( «مسند أمحد» (‪.)11133‬‬


‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪214‬‬
‫المبحث األول‪ :‬معنى االستغفار‬
‫ِ‬
‫واملغفرة هي ســـر الذنب والتجاوز عنه‪ ،‬ســـر‬ ‫االستغفارهـــو‪ :‬طلب املغفـــرة‪،‬‬
‫الذنب حتـــى ال يطلع عليـــك العبـــاد فت ِ‬
‫َفتضح‪ ،‬وهلذا يـــوم القيامة‬
‫خيلو اهلل ‪ ‬بعبـــده املؤمن ويقـــرره ذنوبه ويقول‪« :‬قد ســـرهتا‬
‫عليـــك يف الدنيا‪ ،‬وأنا أغفرهـــا لك اليـــوم» متفق عليه‪.‬‬
‫ٍ‬
‫وحينئذ فإن من أعظم املنكرات أن خيرب العبد بذنوبه الناس ويطلعهم عليها‪ ،‬وقد‬
‫ثبت يف «الصحيحني» أن النبي ‪ ‬قال‪« :‬كل أمتي معاىف إال املجاهرين‪،‬‬
‫وإن من املجاهرة أن يعمل الرجل بالليل ً‬
‫عمل‪ ،‬ثم يصبح وقد سرته اهلل عليه‪،‬‬
‫فيقول‪ :‬يا فالن عملت البارحة كذا وكذا‪ ،‬وقد بات يسرته ربه‪ ،‬ويصبح يكشف‬
‫سرت اهلل عنه»(((‪.‬‬
‫والتجاوز عنه‪ :‬أي‪ :‬ال يؤاخذك به‪.‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬مالزمة النبي صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم له‪:‬‬

‫يف «صحيح مسلم» عن األغر املزين ‪ ‬أن رسول اهلل ‪ ‬قال‪« :‬إنه‬
‫ليغان عىل قلبي‪ ،‬وإين ألستغفر اهلل يف اليوم مائة مرة»(((‪.‬‬
‫ويف البخاري عن أيب هريرة ‪ ‬قال‪ :‬سمعت رسول اهلل ‪ ‬يقول‪:‬‬
‫«واهلل إين ألستغفر اهلل وأتوب إليه يف اليوم أكثر من سبعني مرة»(((‪.‬‬
‫وعن ابن عمر ‪ ‬قال‪« :‬إن كنا لنعد لرسول اهلل يف املجلس الواحد مائة‬
‫عيل إنك أنت التواب الرحيم»‪ .‬رواه أبو داود والرتمذي‬
‫مرة‪ :‬رب اغفر يل وتب ّ‬
‫وصححه(((‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)6069‬ومسلم (‪.)2990‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)2702‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪.)6307‬‬
‫((( «سنن أيب داود» (‪ ،)1516‬والرتمذي (‪ )3434‬وإسناده حسن‪.‬‬
‫‪215‬‬ ‫الحديث الثاني واألربعون‬

‫وقد أمره ربه ‪ ‬باالستغفار يف أكثر من آية‪:‬‬


‫قال ‪ :‬ﭽﭑﭒﭼ [النساء‪ ،]106 ،105 :‬وقال‪ :‬ﭽﰐﰑ‬
‫ﰒﰓﭼ[حممد‪.]19 :‬‬

‫المبحث الثالث‪ :‬أنواع االستغفار‪:‬‬

‫اعلم أن االستغفار عىل نوعني‪ :‬مطلق ومقيد‪ ،‬فاملطلق يكون يف كل وقت‪ ،‬وعىل‬
‫عود لسانك‪ :‬ال َّل ُه َّم اغفر يل‪ ،‬فإن هلل ساعات ال‬
‫كل حال‪ ،‬قال لقامن البنه‪« :‬يا بني ِّ‬
‫يرد فيها ً‬
‫سائل»(((‪.‬‬
‫وقال احلسن‪« :‬أكثروا من االستغفار يف بيوتكم‪ ،‬وعىل موائدكم‪ ،‬ويف طرقكم‪ ،‬ويف‬
‫أسواقكم‪ ،‬ويف جمالسكم أينام كنتم‪ ،‬فإنكم ال تدرون متى تنزل املغفرة»(((‪.‬‬

‫والمقيد يكون في مواضع كثيرة أذكر منها‪:‬‬

‫أ‪ -‬أدبار الصلوات الـمكتوبة‪:‬‬

‫ملا روى مسلم عن ثوبان ‪ ‬قال‪« :‬كان رسول اهلل إذا انرصف من صالته‬
‫استغفر ثال ًثا»(((‪.‬‬

‫ب‪ -‬بعد الوقوع في الذنب‪:‬‬

‫قال اهلل ‪ :‬ﭽﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷ‬


‫ﭸﭹﭺﭻﭼﭼ [آل عمران‪.]135 :‬‬
‫وقال ‪ :‬ﭽﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﭼ‬
‫[النساء‪.]110 :‬‬
‫((( «التيسري برشح اجلامع الصغري» (‪.)164/1‬‬
‫((( «تطريز رياض الصاحلني» ص(‪.)1073‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)591‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪216‬‬
‫ويف «السنن» عن عيل ‪ ‬قال‪ :‬كنت إذا حدثني أحد استحلفته‪ ،‬فإن حلف يل‬
‫صدقته‪ ،‬وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر ‪ ‬أن النبي ‪ ‬قال‪« :‬ما‬
‫من مسلم يذنب ذن ًبا‪ ،‬ثم يتوضأ فيحسن الوضوء‪ ،‬ثم يصيل ركعتني‪ ،‬ثم يستغفر‬
‫اهلل إال غفر اهلل له»(((‪.‬‬

‫ج‪ -‬عقب الخروج من الخالء‪:‬‬

‫روى أبو داود والرتمذي وغريمها عن عائشة ‪ ‬أن النبي ‪ ‬كان‬


‫إذا خرج من اخلالء قال‪« :‬غفرانك»(((‪.‬‬

‫د‪ -‬بعد التشهد األخير‪:‬‬

‫ففي «الصحيحني» وغريمها‪ ،‬عن أيب بكر الصديق ‪ ‬أنه قال لرسول اهلل‬
‫‪ :‬علمني دعاء أدعو به يف صاليت‪ ،‬قال ‪« :‬قل‪ :‬ال َّل ُه َّم إين‬
‫كثريا‪ ،‬وال يغفر الذنوب إال أنت‪ ،‬فاغفر يل مغفرة من عندك‬
‫ظلم ً‬‫ظلمت نفيس ً‬
‫وارمحني‪ ،‬إنك أنت الغفور الرحيم»(((‪.‬‬
‫ً‬
‫مطول وفيه‪« :‬ثم يكون من آخر ما يقول بني التشهد‬ ‫وملسلم عن عيل ‪‬‬
‫والتسليم‪ :‬ال َّل ُه َّم اغفر يل ما قدمت وما أخرت‪ ،‬وما أرسرت وما أعلنت وما‬
‫أرسفت‪ ،‬وما أنت أعلم به مني‪ ،‬أنت املقدم وأنت املؤخر ال إله إال أنت»(((‪.‬‬

‫هـ‪ -‬في الركوع والسجود‪:‬‬

‫يف «الصحيحني» عن عائشة ‪ ‬قالت‪ :‬كان رسول اهلل ‪ ‬يكثر أن‬


‫يقول يف ركوعه وسجوده‪« :‬سبحانك ال َّل ُه َّم ربنا وبحمدك ال َّل ُه َّم اغفر يل»(((‪.‬‬
‫((( تقدم خترجيه ص (‪.)121‬‬
‫((( «سنن أيب داود» (‪ ،)30‬والرتمذي (‪ )7‬وإسناده حسن‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)834‬ومسلم (‪.)2705‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)771‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)794‬ومسلم (‪.)484‬‬
‫‪217‬‬ ‫الحديث الثاني واألربعون‬

‫و‪ -‬وفي الجلوس بين السجدتين‪:‬‬

‫عن ابن عباس ‪ ‬قال‪ :‬كان رسول اهلل ‪ ‬يقول بني السجدتني‪:‬‬
‫«ال َّل ُه َّم اغفر يل وارمحني‪ ،‬وعافني‪ ،‬واهدين‪ ،‬وارزقني»(((‪.‬‬

‫ز‪ -‬وعند ضيق الصدر وتعسر األمر‪:‬‬

‫وقد تقدم قوله ‪« :‬إنه ليغان عىل قلبي وإين ألستغفر اهلل‪.»...‬‬
‫فرجا ومن‬
‫هم ً‬‫وقد روي عنه ‪« :‬من لزم االستغفار جعل اهلل له من كل ٍّ‬
‫خمرجا ورزقه من غري أن حيتسب»‪ ،‬وإسناده ضعيف(((‪.‬‬
‫كل ضيق ً‬
‫جاء رجل إىل سعيد بن املسيب فقال له‪ :‬أشكو إليك قسوة قلبي‪ ،‬فقال‪« :‬ألنه بذكر‬
‫اهلل وكثرة االستغفار»‪.‬‬

‫ح‪ -‬في أوقات األسحار‪:‬‬

‫قال اهلل ‪ :‬ﭽﭝﭞﭟﭠﭡ‬


‫ﭢﭼ[آل عمران‪.]17 :‬‬

‫وقال ‪ :‬ﭽﮓﮔﮕﭼ[الذاريات‪.]18 :‬‬


‫وقد ثبت يف «الصحيحني» أن اهلل ‪ ‬ينزل ثلث اآلخر إىل سامء الدنيا ويقول‬
‫‪« :‬هل من سائل فأعطيه‪ ،‬هل من دا ٍع فأستجيب له‪ ،‬هل من مستغفر فأغفر‬
‫له‪ ،‬حتى يطلع الفجر»(((‪.‬‬

‫((( «سنن أيب داود» (‪ )850‬ويف إسناده ضعف‪.‬‬


‫(((أخرجه أبو داود (‪ ،)1518‬وابن ماجه (‪ )3819‬ويف إسناده احلكم بن مصعب وهو جمهول‪« .‬التقريب»‬
‫ص(‪.)264‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)1145‬ومسلم (‪.)758‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪218‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬ألفاظ االستغفار‪:‬‬

‫منها‪ :‬أستغفر اهلل وأتوب إليه‪.‬‬


‫ـ ال َّل ُه َّم اغفر يل وتب عيل إنك أنت التواب الرحيم‪.‬‬
‫ـ أستغفر اهلل الذي ال إله إال هو احلي القيوم وأتوب إليه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬سيد االستغفار وهو‪« :‬ال َّل ُه َّم أنت ريب ال إله إال أنت خلقتني وأنا عبدك‪،‬‬
‫وأنا عىل عهدك ووعدك ما استطعت‪ ،‬أعوذ بك من رش ما صنعت‪ ،‬أبوء لك‬
‫بنعمتك عيل‪ ،‬وأبوء بذنبي فاغفر يل فإنه ال يغفر الذنوب إال أنت»‪.‬‬
‫قال النبي ‪« :‬من قاله حني يصبح موقنًا به فامت من يومه قبل أن يميس‬
‫دخل اجلنة‪ ،‬ومن قاله من الليل وهو موقن به فامت قبل أن يصبح دخل اجلنة»‪ .‬رواه‬
‫البخاري(((‪.‬‬

‫المبحث الخامس‪ :‬فوائد االستغفار‪:‬‬

‫ذكرها اهلل ‪ ‬يف قوله‪ :‬ﭽﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﭑﭒﭓ‬


‫ﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭼ[نوح‪.]12 10 :‬‬

‫فمن فوائده‪:‬‬

‫ـ مغفرة الذنوب واألوزار‪.‬‬


‫ـ وحصول اخلريات ونزول الربكات‪.‬‬
‫ـ وتكثري األموال واألوالد‪.‬‬
‫إىل غري ذلك من فوائده وفضائله‪.‬‬

‫((( برقم (‪.)6306‬‬


‫‪219‬‬ ‫الحديث الثاني واألربعون‬

‫المبحث السادس‪:‬‬
‫استغفار اللسان مع إرصار القلب عىل الذنب‪ ،‬ال ينفع صاحبه‪ ،‬وإنام هو دعاء جمرد‬
‫إن شاء اهلل أجابه‪ ،‬وإن شاء رده‪.‬‬
‫واالستغفار املثمر هو الذي يواطئ القلب فيه اللسان‪ ،‬وحيصل معه الندم عىل ما‬
‫فات‪ ،‬والعزم عىل أال يعود للمعايص واآلثام‪.‬‬
‫الدرر السنية بفوائد األربعين النووية‬ ‫‪220‬‬
‫‪ -6‬فضيلة التوحيد‪:‬‬
‫وأنه سبب للفوز بدار القرار‪ ،‬والنجاة من عذاب النار‪ ،‬وهو من أعظم أسباب‬
‫املغفرة‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ﭽﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﭼ[النساء‪،]48 :‬‬
‫فمن جاء مع التوحيد بقراب األرض وهو ملؤها أو ما يقارب مألها لقيه اهلل‬
‫بقراهبا مغفرة‪ ،‬لكن هذا مع مشيئة اهلل ‪.‬‬
‫قال ابن رجب ‪« :‬فمن حتقق بكلمة التوحيد قلبه‪ ،‬أخرجت من كل ما سوى‬
‫ً‬
‫وتوكل‪ ،‬وحينئذ حترق ذنوبه‬ ‫ً‬
‫وإجالل ومهابة‪ ،‬وخشية‪ ،‬ورجا ًء‪،‬‬ ‫وتعظيم‬
‫ً‬ ‫اهلل حمبة‬
‫وخطاياه كلها ولو كانت مثل زبد البحر‪ ،‬وربام قلبتها حسنات‪.(((»...‬‬
‫وقد َّبوب الشيخ حممد بن عبد الوهاب عىل هذا احلديث يف كتاب التوحيد بقوله‪:‬‬
‫باب فضل التوحيد وما يك ِّفر من الذنوب‪ .‬ثم ذكر حديث عبادة بن الصامت قال‪:‬‬
‫قال رسول اهلل ‪« :‬من شهد أن ال إله إال اهلل وحده ال رشيك له‪ ،‬وأن‬
‫حممدً ا عبده ورسوله‪ ،‬وأن عيسى عبد اهلل ورسوله وكلمته ألقاها إىل مريم وروح‬
‫منه‪ ،‬واجلنة حق والنار حق‪ :‬أدخله اهلل اجلنة عىل ما كان من العمل»‪ .‬متفق عليه‪.‬‬
‫حرم عىل النار من قال‪ :‬ال إله إال اهلل‬
‫وهلام عن عتبان بن مالك ‪« :‬فإن اهلل ّ‬
‫يبتغي بذلك وجه اهلل»(((‪.‬‬

‫تم الكتاب‪ ،‬مع اإلضافات والزيادات واحلمد هلل الذي بنعمته تتم الصاحلات‬
‫صباح يوم األحد‪1436/10/17 :‬هـ‪.‬‬

‫((( «جامع العلوم واحلكم» (‪.)417/2‬‬


‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)425‬ومسلم (‪.)263‬‬
‫‪221‬‬ ‫فهرس الفوائد‬

‫فهرس الفوائد‬
‫صفحة‬ ‫ ‬
‫الفائدة‬
‫‪11‬‬ ‫طرق حديث «من حفظ عىل أمتي أربعني حدي ًثا»‪...........................................‬‬
‫‪17‬‬ ‫هل يعمل باحلديث الضعيف‪.........................................................................‬‬
‫‪22‬‬ ‫أقسام النية‪..................................................................................................‬‬
‫‪23‬‬ ‫أقسام اهلجرة‪...............................................................................................‬‬
‫‪37‬‬ ‫اجلمع بني حديثي ابن مسعود وحذيفة بن أسيد‪...............................................‬‬
‫‪38‬‬ ‫حكم إسقاط اجلنني‪....................................................................................‬‬
‫‪45‬‬ ‫تعريف البدع‪.............................................................................................‬‬
‫‪46- 45‬‬ ‫تقسيم البدع‪...............................................................................................‬‬
‫‪51‬‬ ‫تعريف النصيحة ومنزلتها من الدين‪..............................................................‬‬
‫‪61‬‬ ‫أنواع السؤال املنهي عنه‪...............................................................................‬‬
‫‪64‬‬ ‫أسباب إجابة الدعاء‪.....................................................................................‬‬
‫‪70‬‬ ‫الفرق بني الزهد والورع‪...............................................................................‬‬
‫‪72- 71‬‬ ‫درجات الكذب‪...........................................................................................‬‬
‫‪86‬‬ ‫إمساك اإلمام أمحد عن األنني يف مرض موته‪ ،‬وسبب ذلك‪.................................‬‬
‫‪88‬‬ ‫أقسام اجلريان‪..............................................................................................‬‬
‫‪89‬‬ ‫عالج الغضب‪..............................................................................................‬‬
‫‪115‬‬ ‫أسباب االستقامة‪.........................................................................................‬‬
‫‪123‬‬ ‫أنواع الذكر املطلق واملقيد‪..........................................................................‬‬
‫‪177‬‬ ‫درجات إنكار املنكر‪...................................................................................‬‬
‫‪179‬‬ ‫مفاسد احلسد‪..............................................................................................‬‬
‫‪212‬‬ ‫الفرق بني القرآن واحلديث القديس‪...............................................................‬‬
‫‪214‬‬ ‫مباحث االستغفار‪......................................................................................‬‬
‫فهرس المحتويات‬

‫‪5‬‬ ‫مقدمة الطبعة الثانية‪........................................................................................‬‬


‫‪7‬‬ ‫مقدمة الطبعة األوىل‪........................................................................................‬‬
‫‪11‬‬ ‫مقدمة املؤلف‪................................................................................................‬‬
‫‪19‬‬ ‫احلديث األول‪.................................................................................................‬‬
‫‪25‬‬ ‫احلديث الثاين‪................................................................................................‬‬
‫‪31‬‬ ‫احلديث الثالث‪...............................................................................................‬‬
‫‪35‬‬ ‫احلديث الرابع‪................................................................................................‬‬
‫‪43‬‬ ‫احلديث اخلامس‪.............................................................................................‬‬
‫‪47‬‬ ‫احلديث السادس‪............................................................................................‬‬
‫‪51‬‬ ‫احلديث السابع‪...............................................................................................‬‬
‫‪57‬‬ ‫احلديث الثامن‪...............................................................................................‬‬
‫‪59‬‬ ‫احلديث التاسع‪...............................................................................................‬‬
‫‪63‬‬ ‫احلديث العارش‪...............................................................................................‬‬
‫‪69‬‬ ‫احلديث احلادي عرش‪........................................................................................‬‬
‫‪73‬‬ ‫احلديث الثاين عرش‪........................................................................................‬‬
‫‪75‬‬ ‫احلديث الثالث عرش‪........................................................................................‬‬
‫‪79‬‬ ‫احلديث الرابع عرش‪........................................................................................‬‬
‫‪85‬‬ ‫احلديث اخلامس عرش‪......................................................................................‬‬
‫‪89‬‬ ‫احلديث السادس عرش‪.....................................................................................‬‬
‫‪93‬‬ ‫احلديث السابع عرش‪.......................................................................................‬‬
‫‪97‬‬ ‫احلديث الثامن عرش‪.......................................................................................‬‬
‫‪103‬‬ ‫احلديث التاسع عرش‪.......................................................................................‬‬
‫‪111‬‬ ‫احلديث العرشون‪...........................................................................................‬‬
‫‪223‬‬ ‫فهرس المحتويات‬

‫‪112‬‬ ‫احلديث احلادي والعرشون‪.............................................................................‬‬


‫‪117‬‬ ‫احلديث الثاين والعرشون‪................................................................................‬‬
‫ ‬
‫‪121‬‬ ‫احلديث الثالث والعرشون‪..............................................................................‬‬
‫‪129‬‬ ‫احلديث الرابع والعرشون‪...............................................................................‬‬
‫‪135‬‬ ‫احلديث اخلامس والعرشون‪.............................................................................‬‬
‫‪139‬‬ ‫احلديث السادس والعرشون‪.............................................................................‬‬
‫‪143‬‬ ‫احلديث السابع والعرشون‪................................................................................‬‬
‫‪147‬‬ ‫احلديث الثامن والعرشون‪.................................................................................‬‬
‫‪153‬‬ ‫احلديث التاسع والعرشون‪................................................................................‬‬
‫‪161‬‬ ‫احلديث الثالثون‪...........................................................................................‬‬
‫‪165‬‬ ‫احلديث احلادي والثالثون‪.................................................................................‬‬
‫‪169‬‬ ‫احلـديـث الثاين والثالثـون‪...............................................................................‬‬
‫‪173‬‬ ‫احلديث الثالث والثالثون‪.................................................................................‬‬
‫‪175‬‬ ‫احلديث الرابع والثالثـون‪.................................................................................‬‬
‫‪179‬‬ ‫احلديث اخلامس والثالثون‪...............................................................................‬‬
‫‪185‬‬ ‫احلديث السادس والثالثون‪...............................................................................‬‬
‫‪191‬‬ ‫احلديث السابع والثالثـون‪..............................................................................‬‬
‫‪195‬‬ ‫احلديث الثامن والثالثـون‪................................................................................‬‬
‫‪199‬‬ ‫احلديث التاسع والثالثون‪................................................................................‬‬
‫‪203‬‬ ‫احلديث األربعون‪..........................................................................................‬‬
‫‪207‬‬ ‫احلديث احلادي واألربعون‪............................................................................‬‬
‫‪211‬‬ ‫احلديث الثاين واألربعون‪..................................................................................‬‬
‫‪221‬‬ ‫فهرس الفوائد‪.................................................................................................‬‬
‫‪222‬‬ ‫فهرس املحتويات‪............................................................................................‬‬

You might also like