Professional Documents
Culture Documents
الدرر السنية بفوائد الأربعين النووية أ د بندر العبدلي 3
الدرر السنية بفوائد الأربعين النووية أ د بندر العبدلي 3
احلمد هلل ،وصىل اهلل وسلم وبارك عىل رسول اهلل وعىل آله وصحبه.
أما بعد:
فهذه هي الطبعة الثانية لكتايب «الدرر السنية بفوائد األربعني النووية» بعد نفاد الطبعة
األوىل بحمد اهلل...
وقد متيزت هذه الطبعة بإضافات وزيادات مهمة يف التخريج ويف احلكم عىل بعض
األحاديث واآلثار ويف العزو...
وأشكر اهلل عىل توفيقه ،ثم أشكر كل َم ْن سأل عن هذا الرشح ،أو أرسل عىل تنبيه
فيه ،أو إضافة ،أو خطأ يف العزو...
واهللَ أسأل ْ
أن ينفع به ،وأن يتقبله بقبول حسن ،إنه جوا ٌد كريم.
واهلل الموفق
عنيزة صباح يوم األحد 1436/10/17هـ
7 مقدمة الطبعة األولى
إِ َّن احلمد هلل ،نحمده ونستعينه ونستغفره ،ونعوذ باهلل من رشور أنفسنا وسيئات أعاملنا،
َم ْن هيده اهلل فال مضل له ،و َم ْن ُيضلل فال هادي له ،وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال رشيك
أن حممدً ا عبده ورسوله.له ،وأشهد َّ
وبعد:
فإِ َّن أفضل ما يميض اإلنسان فيه وقته ،هو تدبر كتاب اهلل وسنة رسوله
،إذ هبام الفوز والفالح ،والنجاح يف الدنيا واآلخرة.
ومن أفضل ما ُيعني عىل ذلك بعد االستعانة باهلل ،وسؤاله التوفيق والعصمة ،قراءة
التفاسري ،ورشوح األحاديث ،وهي كثرية وفرية بحمد اهلل.
ومن مجلة األحاديث التي ينبغي العناية هبا ،وحفظها ،وفهم معانيها ،األربعون حدي ًثا
«أن كل حديث منها قاعدة عظيمة من قواعد لإلمام النووي ،فقد ذكر يف مقدمتهّ :
فإن جمموعها اثنان وأربعون حدي ًثا.
الدين» ،وقد غلب عليها لفظ األربعني ،وإال َّ
رشحا وتعلي ًقا وختر ً
جيا، وقد انترش هذا الكتاب واشتهر ،وذاع صيته ،واعتنى به األئمة ً
وما ذاك إال لصدق نية مؤلفه ،وأجزل له األجر واملثوبة.
رشحا ،بسطها حاجي خليفة يف «كشف
فقد زادت رشوح هذا الكتاب عىل مخسة عرش ً
الظنون»(((.
وم ْن أمجع هذه الرشوح وأجودها رشح احلافظ ابن رجب املوسوم بـ «جامع ِ
العلوم واحلكم يف رشح مخسني حدي ًثا من جوامع الكلم».
وثامنية األحاديث األخرية املرشوحة يف هذا الكتاب هي من تتامت احلافظ ابن رجب
عىل األربعني للنووي.
رشحت مجلة من هذه األحاديث يف دورات ودروس علمية ،أو حمارضات، ُ كنت
وقد ُ
دون ما رشحته فرأيت بعد استعانتي باهلل أن ُأ ِّ
ُ أو كلامت قصرية يف أماكن متفرقة،
رأيت بعد ذلك إخراجها يف كتاب لي ُعم النفع
ُ وع َّلقته؛ لئال يضيع و ُينسى من ذاكريت ،ثم
السن َّي ُة بفوائد األربعني النووية».
هبا ،وسميته بـ «الدرر َّ
وطريقتي :أين أذكر احلديث بنصه مع مراجعة األصول التي عزا النووي احلديث
إليها وغريها ،ثم أع ِّلق عىل كل حديث بتعليقات عىل شكل «فوائد» ،كام هي طريقة بعض
األئمة املتقدمني؛ كالعراقي وابنه يف «طرح التثريب» ،وابن امللقن يف «اإلعالم بفوائد عمدة
األحكام».
وهي طريقة ق ّيمة للغاية ،إذ هبا حيصل ضبط األفكار واملعلومات عىل نسق واحد.
كثريا من كتاب «جامع العلوم واحلكم» البن رجب ،وكذا من تعليق
استفدت ً
ُ وقد
شيخنا ابن عثيمني عىل األربعني ،ومن رشوحه األخرى كتعليقه عىل أحاديث
«صحيح البخاري» ،ومجلة من أحاديث «صحيح مسلم» وغريها.
جعلت هذا الرشح متوس ًطا ،ليس بالطويل اململ ،وال بالقصري املخل ،يستفيد منه
ُ وقد
علم.
املبتدئ يف العلم طل ًبا ،وال يستغني عنه املتقدم ً
وكتبه
مقدمة المؤلف
رب العاملني ،ق ُّيوم السموات واألرضني ،مد ِّبر اخلالئق أمجعني ،باعث احلمد هلل ِّ
الرسل صلواته وسالمه عليهم إىل املكلفني ،هلدايتهم وبيان رشائع الدِّ ين ،بالدالئل القطعية
وواضحات الرباهني.
أمحده عىل مجيع نعمه ،وأسأله املزيد من فضله وكرمه.
القهار ،الكريم الغفار.
وأشهد أن ال إله إال اهلل الواحد َّ
املكرم بالقرآن
ّ أن حممدً ا عبده ورسوله وحبيبه وخليله ،أفضل املخلوقني وأشهد َّ
وبالسنن املستنرية للمسرتشدين ،املخصوص ُّ العزيز ،املعجزة املستمرة عىل تعاقب السنني،
بجوامع الكلم وسامحة الدين ،صلوات اهلل وسالمه عليه وعىل سائر النبيني واملرسلني ،وآل
كل وسائر الصاحلني. ٍّ
أما بعد :فقد َروينا عن عيل بن أيب طالب ،وعبد اهلل بن مسعود ،ومعاذ بن جبل ،وأيب
الدرداء ،وابن عمر ،وابن عباس ،وأنس بن مالك ،وأيب هريرة ،وأيب سعيد اخلدري
من طرق كثريات ،بروايات متنوعات ،أن رسول اهلل قال« :من حفظ عىل أمتي
أربعني حدي ًثا من أمر دينها بعثه اهلل يوم القيامة يف زمرة الفقهاء والعلامء».
فقيها عا ًملا».
ويف رواية« :بعثه اهلل ً
ويف رواية أيب الدرداء « :وكنت له يوم القيامة شاف ًعا وشهيدً ا».
ويف رواية ابن مسعود « :قيل له :ادخل من أي أبواب اجلنة شئت».
ويف رواية ابن عمر « :كتب يف زمرة العلامء وحرش يف زمرة الشهداء».
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 12
واتفق احلفاظ عىل أنه حديث ضعيف ،وإن كثرت طرقه(((.
وله طرق أخرى عن معاذ ،كلها ضعيفة ،وقد قال الدارقطني يف «العلل» ( )34 /6بعد أن
ذكر االختالف فيه وأشار إىل بعض طرقه« :وكلها ضعاف وال يثبت منها يشء».
* وأما حديث أيب الدرداء :
فأخرجه ابن اجلوزي يف «العلل املتناهية» ( ،)121 -120 /1والبيهقي يف «شعب اإليامن» (/4
،)356وابن حبان يف «املجروحني» ( )133 /2من طريق عبد امللك بن هارون بن عنرتة ،عن أبيه،
عن جده ،عن أيب الدرداء .
وإسناده موضوع ،فيه عبد امللك بن هارون بن عنرتة ،وقد قال عنه ابن معني« :كذاب» ،وقال أبو
حاتم« :مرتوك ،ذاهب احلديث» ،وقال ابن حبان« :يضع احلديث» ،وقال الدارقطني« :ضعيف»،
وقال السعدي« :دجال كذاب» ،وبه أعله ابن اجلوزي يف «العلل املتناهية» (.)126/1
وانظر« :امليزان» (.)666 /2
* وأما حديث عبد اهلل بن عمر :
فأخرجه ابن عبد الرب يف «جامع بيان العلم» ( )193 /1ح ( )205من طريق يعقوب بن إسحاق بن
إبراهيم بن يزيد بن حجر العسقالين بعسقالن قال :حدثنا أبو أمحد محيد بن خملد بن زنجويه ،حدثنا
حييى بن عبد اهلل بن بكري ،قال :حدثنا مالك بن أنس ،عن نافع موىل ابن عمر ،عن ابن عمر .
وإسناده موضوع ،فيه يعقوب بن إسحاق العسقالين ،وهو كذاب ،انظر« :امليزان» (.)449 /4
وقال الذهبي يف «املغني» ( )757 /2بعد أن ساق احلديث يف ترمجة يعقوب هذا« :وهذا كذب يف
السند واملتن».
وقد قال ابن عبد الرب بعد إيراد هذا احلديث« :هذا أحسن إسناد جاء به هذا احلديث ،ولكنه غري
حمفوظ ،وال معروف من حديث مالك ،ومن رواه عن مالك فقد أخطأ عليه ،وأضاف ما ليس من
روايته عليه».
قلت :يشري بذلك إىل أن اإلسناد موضوع عىل مالك.
* وأما حديث عبد اهلل بن عباس :
فأخرجه متَّام يف «الفوائد» ( )140 /2ح ( ،)1368وابن عدي يف «الكامل» ( ،)324 /1وابن حبان
يف «املجروحني» ( ،)134 /1وابن اجلوزي يف «العلل املتناهية» ( ،)124- 123 /1واخلطيب
البغدادي يف «رشف أصحاب احلديث» (ص ،)20 :وابن عبد الرب يف «جامع بيان العلم» ()196 /1
ح ( )208من طريق عيل بن ُحجر ،حدثنا إسحاق بن نجيح ،عن ابن جريج ،عن عطاء بن أيب رباح،
عن ابن عباس .
وإسناده موضوع ،فيه :إسحاق بن نجيح امللطي ،وهو كذاب خبيث ،وأورده الذهبي يف «امليزان» (/1
)201يف ترمجة إسحاق هذا وعدَّ ه من أباطيله.
وأخرجه ابن عدي يف «الكامل» ( ،)890 /3وابن اجلوزي يف «العلل املتناهية» ( )123 /1من طريق
خالد بن يزيد ،حدثنا ابن جريج ،عن عطاء ،عن ابن عباس .
وهذه متابعة ساقطة؛ ألن خالد بن يزيد العمري املكي قال عنه ابن معني وأبو حاتم« :كذاب» ،وقال
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 14
ابن حبان« :يروي املوضوعات عن األثبات» ،وقال األزدي« :مرتوك احلديث» ،وقال ابن اجلوزي
والعقييل« :حيكي عن الثقات ما ال أصل له».
انظر« :امليزان» ( ،)86 /1و«لسان امليزان» البن حجر ( ،)345 /3و«الضعفاء» البن اجلوزي (/1
،)252و«الضعفاء» للعقييل (.)17 /2
* وأما حديث أنس بن مالك :
فأخرجه متام يف «الفوائد» ( )141 /2ح ( ،)1369وابن عدي يف «الكامل» ( ،)1712 /5وابن
اجلوزي يف «العلل املتناهية» ( )125 /1من طريق سليامن بن سلمة اخلبائري ،حدثنا نرص بن الليث،
حدثني عمر بن شاكر ،قال :سمعت أنس بن مالك فذكره.
واه جدًّ ا ،فيه :سليامن بن سلمة اخلبائري ،وهو مرتوك ،وقد كذبه ابن اجلنيد. وإسناده ٍ
ورصح يف ( )204 /3بأن هذا احلديث من وضعه. انظر« :امليزان» (َّ ،)209 /2
ٍ
وفيه :عمر بن شاكر ،قال عنه الذهبي يف «امليزان» (« :)203/3واه».
وقد ورد احلديث من طرق أخرى عن أنس .
انظر« :العلل املتناهية» البن اجلوزي ( )125/1وكلها طرق واهية.
* وأما حديث أيب هريرة :
فأخرجه ابن عبد الرب يف «جامع بيان العلم» ( )194 /1ح ( ،)206والرامهرمزي يف «املحدث
الفاصل» (ص ،)173 :والبيهقي يف «شعب اإليامن» ( ،)353 /4وابن عدي يف «الكامل» (/5
،)1799وابن اجلوزي يف «العلل املتناهية» ( )121 /1من طريق عمرو بن احلصني العقييل ،حدثنا
ابن عالثة ،حدثنا خصيف ،عن جماهد ،عن أيب هريرة .
وإسناده ضعيف جدًّ ا ،فيه عمرو بن احلصني العقييل ،وقد قال عنه أبو حاتم« :ذاهب احلديث»،
«واه» ،وقال الدارقطني« :مرتوك» ،وقال ابن عدي« :حدّ ث عن الثقات بغري حديث وقال أبو زرعةٍ :
منكر».
انظر« :التهذيب» البن حجر ( ،)19/8و«امليزان» (.)252 /3
وأورده الذهبي يف ترمجة حممد بن عبد اهلل بن عالثة من «امليزان» ( )595 /3وقال« :الظاهر أنه من
وضع ابن حصني».
وأعله ابن اجلوزي بعمرو بن حصني وابن عالثة ،لقول ابن حبان فيه« :يروي املوضوعات عن
الثقات ،ال حيل االحتجاج به».
وأخرجه ابن عبد الرب يف «جامع بيان العلم» ( )198 /1ح ( ،)210وابن اجلوزي يف «العلل املتناهية»
( )122 /1من طريق خالد بن إسامعيل املدين ،عن ابن جريج ،عن عطاء ،عن أيب هريرة بنحوه
وبلفظ« :من تعلم من أمتي أربعني حدي ًثا يفقه هبا يف دينه.»...
وأعله ابن اجلوزي بخالد بن إسامعيل .وقد قال ابن عدي عن خالد املدين« :يضع احلديث عىل
الثقات».
انظر« :امليزان» (.)627 /1
15 مقدمة المؤلف
وأخرجه ابن عدي يف «الكامل» ( )2528 /7من طريق أيب البخرتي وهب بن وهب ،عن ابن جريج،
عن عطاء ،عن أيب هريرة .
وهذه متابعة ساقطة جدًّ ا ،ألن وهب بن وهب قال عنه ابن معني« :كان يكذب» ،وقال أمحد« :كان
يضع احلديث» ،وقال البخاري« :سكتوا عنه» .وقال الذهبي يف ترمجته وقد رسد له مجلة أحاديث ،هذا
منها« :وهذه أحاديث مكذوبة».
انظر« :امليزان» (« ،)353 /4املجروحني» (.)74 /3
وأما حديث أيب سعيد اخلدري:
الرهاوي ،عنفأخرجه ابن اجلوزي يف «العلل املتناهية» ( )121 /1من طريق حممد بن يزيد بن سنان ُّ
أبيه ،عن جده ،عن عطية ،عن أيب سعيد اخلدري.
الرهاوي ،وليس بالقوي ،وأبوه يزيد ضعيف، وإسناده مظلم كام قال ابن اجلوزي فيه حممد بن يزيد ُّ
وجده سنان جمهول ،وعطية العويف ضعيف مدلس.
انظر« :التقريب» البن حجر (ص )1076 ،680 ،417 ،909 :وله طرق أخرى.
انظر« :األضواء الساموية» (ص.)22 -21 :
* وباجلملة فاحلديث موضوع من مجيع طرقه:
قال ابن اجلوزي« :هذا حديث ال يصح عن رسول اهلل».
وقال الدارقطني« :ال يثبت من طرقه يشء».
وقال البيهقي« :أسانيده كلها ضعيفة».
أيضا« :هو متن مشهور ،وليس له إسنا ٌد صحيح». وقال ً
وقال ابن عساكر« :أسانيده كلها فيها مقال ،ليس للصحيح فيها جمال».
الرهاوي :طرقه كلها ضعاف ،ال خيلو طريق منها وقال العراقي يف «رشح اإلحياء»« :وقال عبد القادر ُّ
أن يكون فيها جمهول أو معروف مض ّعف».
وقال احلافظان رشيد اهلل بن العطار وزكي الدين املنذري نحو ذلك باتفاق هؤالء األئمة عىل تضعيفه،
أوىل من إشارة السلفي إىل صحته.
أن مطلق األحاديث الضعيفة إذا انضم بعضها إىل بعض أجدى الس َلفي كان يرى ّ
قال املنذري :لعل ِّ
قوة».اهـ.
وقال الذهبي يف «تذكرة احلفاظ» ( )1239 /4ملا ذكر احلديث عن ابن عباس« :هذا مما حترم روايته إال
مقرونًا بأنه مكذوب من غري تردد ،وق َّبح اهلل من وضعه».
وقال ابن حجر يف «التلخيص» (« :)94 ،93 /3أفرد ابن املنذر الكالم عليه يف جزء مفرد ،وقد
خلصت القول فيه يف املجلس السادس عرش من اإلمالء ،ثم مجعت طرقه يف جزء ،ليس فيها طريق
تسلم من علة قادحة».
انظر« :فيض القدير» ( ،)119 /6و«كشف اخلفا» للعجلوين (.)340 /2
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 16
وقد صنَّف العلامء يف هذا الباب ما ال حيىص من املصنفات ،فأول من علمته
صنّف فيه عبد اهلل بن املبارك ،ثم حممد بن أسلم الطويس العامل الرباين ،ثم احلسن بن سفيان
اآلجري((( ،وأبو بكر حممد بن إبراهيم األصفهاين ،والدارقطني ،واحلاكم،
ِّ النسوي ،وأبو بكر
وأبو نعيم((( ،وأبو عبد الرمحن السلمي ،وأبو سعد املاليني ،وأبو عثامن الصابوين ،وحممد
بن عبد اهلل األنصاري ،وأبو بكر البيهقي ،وخالئق ال حيصون من املتقدمني واملتأخرين(((.
وقد استخرت اهلل يف مجع أربعني حدي ًثا اقتدا ًء هبؤالء األئمة األعالم ،وحفاظ
اإلسالم.
وقد اتفق العلامء عىل جواز العمل باحلديث الضعيف يف فضائل األعامل((( ،ومع هذا
فليس اعتامدي عىل هذا احلديث ،بل عىل قوله يف األحاديث الصحيحة« :ليب ّلغ الشاهد
منكم الغائب»(((.
امرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها كام سمعها»(((. وقوله ّ :
«نض اهلل ً
ثم من العلامء من مجع األربعني يف أصول الدين ،وبعضهم يف الفروع ،وبعضهم يف
اجلهاد ،وبعضهم يف الزهد ،وبعضهم يف اآلداب ،وبعضهم يف اخلطب ،وكلها مقاصد
صاحلة ريض اهلل عن قاصدهيا.
وقد رأيت مجع أربعني أهم من هذا ك ّله ،وهي أربعون حدي ًثا مشتملة عىل مجيع ذلك،
وكل حديث منها قاعدة عظيمة من قواعد الدين ،وقد وصفه العلامء بأن مدار اإلسالم
عليه ،أو هو نصف اإلسالم أو ثلثه ،أو نحو ذلك.
ثم ألتزم يف هذه األربعني أن تكون صحيحة ،ومعظمها يف صحيحي البخاري ومسلم،
وأذكرها حمذوفة األسانيد ليسهل حفظها ،ويعم االنتفاع هبا إن شاء اهلل ،ثم أتبعها
خفي ألفاظها.
بباب يف ضبط ِّ
وينبغي لكل راغب يف اآلخرة أن يعرف هذه األحاديث ،ملا اشتملت عليه من املهامت،
واحتوت عليه من التنبيه عىل مجيع الطاعات ،وذلك ظاهر ملن تد َّبره.
وعىل اهلل اعتامدي ،وإليه تفوييض واستنادي ،وله احلمد والنعمة ،وبه التوفيق والعصمة.
19 الحديث األول
الحديث األول
ال: اب َ ق َ ط ِ ص ُع َم َر ْبنِ الخَ َّ الم ْؤمِ ِن ْينَ َأبِي َح ْف ٍَع ْن َأمِ ي ِر ُ
ات َو ِإن ََّما ال بال ِّن َّي ِولِ « :إن ََّما األَ ْع َم ُ هلل َ ي ُق ُ ول ا ِ س َ ت َر ُ سمِ ْع ُ َ
ه ْج َر ُت ُه سو ِل ِه َف ِ ه ْج َر ُت ُه ِإ َلى ا ِ
هلل َو َر ُ َت ِ ىء َما ن ََوىَ ،ف َم ْن َكان ْ ام ِر ٍ ل ُِك ِّل ْ
ها ام َر َأ ٍة َي ْنكِ ُح َ
ها َأ ْو ْ صي ُب َه ْج َر ُت ُه ِل ُد ْن َيا ُي ِ َت ِسو ِلهَِ ،و َم ْن َكان ْ ِإ َلى ا ِ
هلل َو َر ُ
اما ا ْل ُم َح ِّدثِينَ َ :أ ُبو َع ْب ِد ا ِ
هلل اج َر ِإ َل ْيهِ»َ ،ر َوا ُه إ َِم َ ه َ ه ْج َر ُت ُه ِإ َلى َما َ َف ِ
اجالح َّج ِ َ سل ُِم ْبنُ س ْينِ ُم ْ يل ال ُبخَ ا ِر ُّيَ ،و َأ ُبو ا ْل ُح َ ِس َماعِ َ ُم َح َّم ُد ْبنُ إ ْ
ُب ص ُّح ا ْل ُكت ِ ه َما َأ َ ه َما» ال َّل َذ ْين ُ «صحِ ْي َح ْي ِ سا ُبو ِر ُّي فِ ي َ ش ْي ِر ُّي ال َّن ْي َالق َ ُ
صن ََّف ِة(((.الم َ
ُ
فيه فوائد:
-1راوي احلديث :هو عمر بن اخلطاب بن نفيل بن عدي القريش .جيتمع مع النبي
يف كعب بن لؤي .،ل َّقبه النبي بأيب حفص كام يف «القاموس» ،أسلم
بعد النبوة بست سنني ،وثبت يف «صحيح البخاري» أن عبد اهلل بن مسعود
قال« :ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر»(((.
وهو أمري املؤمنني ،وأحد اخللفاء الراشدين ،وأحد العرشة املبرشين باجلنة ،وهو
امللهم املوفق للصواب ،وقد وافقه القرآن يف أربعة مواضع ،قال « :لقد
كان فيام قبلكم من األمم حمدَّ ثون ،فإن يك يف أمتي أحدٌ فإنه عمر»(((؛ أي :ملهمون
موفقون للصواب.
((( «صحيح البخاري» ( ،)6689 ،5070 ،2529 ،54 ،1ومسلم (.)1907
((( «صحيح البخاري» (.)3684
((( «صحيح البخاري» (.)3689
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 20
توىل اخلالفة بعد أيب بكر الصديق سنة ثالث عرشة من اهلجرة ،واستمر
يف اخلالفة عرش سنني ،وتويف يف غرة املحرم سنة أربع وعرشين ،وعمره ثالث
وستون وأرضاه.
روى عن النبي )539( حدي ًثا اتفق البخاري ومسلم عىل ()26
وانفرد البخاري بـ ( )34ومسلم بـ (.((()21
-2هذا احلديث رواه البخاري يف سبعة مواضع من «صحيحه» ،ومسلم (.)1907
وهو من غرائب الصحيح؛ ألنه مل يروه عن النبي إال عمر بن اخلطاب
وال عن عمر إال علقمة بن وقاص الليثي ،وال عن علقمة إال من حممد بن
إبراهيم التيمي ،وال عن حممد إال حييى بن سعيد األنصاري ثم عنه انترش .وقد رواه
راو ،وقيل :سبعامئة فهو غريب يف أوله مشهور يف آخره .قال عيلعنه نحو مائتي ٍ
بن املديني« :روي من طرق كثرية غري طريق األنصاري ،وال يصح منها يشء»(((.
-3هذا احلديث حديث جليل ،متفق عىل صحته وعظيم موقعه ،وكثرة فوائده ،وهو
أحد األحاديث التي عليها مدار اإلسالم ،وقيل :إهنا أربعة ...وقال الشافعي:
يدخل يف سبعني با ًبا من الفقه ..والواقع أنه يدخل يف مجيع األعامل حتى العادات،
وبه صدّ ر البخاري كتابه «الصحيح» ،وكذا املقديس كتاب «العمدة» ،حتى قال
عبد الرمحن بن مهدي« :من أراد أن يصنف كتا ًبا ،فليبدأ هبذا احلديث».
وقد صنَّف العلامء يف رشحه كت ًبا مستقلة؛ كشيخ اإلسالم ابن تيمية ،والنووي
وغريمها.
-4اشتهر أن هلذا احلديث سبب ،وهي قصة مهاجر أم قيس ومضموهنا :أن ً
رجل
خطب امرأة يف املدينة فأبت أن تتزوجه حتى هياجر ،فهاجر ليتزوجها ،فقال هذا
احلديث.
أخرجه الطرباين يف «املعجم الكبري» ( )8540عن عبد اهلل بن مسعود موقو ًفا.
لكن قال ابن رجب« :مل نر لذلك ً
أصل بإسناد يصح».
((( «اإلصابة» (« ،)279 /4اإلعالم بفوائد عمدة األحكام» البن امللقن (.)139 /1
((( «الرتغيب والرتهيب» ( ،)15و«رشح علل الرتمذي» (.)416 /1
21 الحديث األول
وقال ابن حجر« :لكن ليس فيه أن حديث األعامل سيق بسبب ذلك ،ومل أر يف
يشء من الطرق ،ما يقتيض الترصيح بذلك»(((.
وعليه فيقال :احلديث صحت فيه القصة لكن مل يصح أهنا السبب.
-5أنه ال عمل إال بنية ،وال يتصور أن يقوم أحد بعمل إال بنية ،وهلذا قال بعض
عمل بال نية لكان من تكليف ما ال يطاق» .وعليه فيكونالسلف« :لو كلفنا اهلل ً
التقدير يف قوله« :األعامل بالنيات» ،أي :األعامل واقع ًة أو حاصلة بالنيات.
وقيل :إن التقدير :األعامل صاحلة أو فاسدة أو مقبولة أو مردودة ،أو مثا ًبا عليها أو
غري مثاب عليها بالنيات.
يقربه إىل اهلل وإىل جنته ،قال
-6أنه ينبغي للمرء أن هيتم بصالح نيته ،وأن ال ينوي إال ما ّ
ابن عباس « :إنام يعطى الرجل عىل قدر نيته» ،وقد كان السلف
هيتمون بصالح نياهتم.
عيل من نيتي ألهنا تتق ّلب عيل».
قال سفيان الثوري« :ما عاجلت شي ًئا أشد ّ
وقال مطرف بن عبد اهلل« :صالح القلب بصالح العمل ،وصالح العمل بصالح
النية».
«ر َّب عمل صغري تع ِّظمه النيةُ ،
ور َّب عمل كبري تص ّغره وقال عبد اهلل بن املباركُ :
النية».
وقال ابن عجالن« :ال يصلح العمل إال بثالث :التقوى هلل ،والنية احلسنة،
واإلصابة».
ويتفرع عىل ذلك :أنه ينبغي للمرء أن ينوي النية الصاحلة حتى يف املباحات؛ كأكله
مأجورا عليها.
ً ورشبه ونومه ونفقته عىل أهله حتى يكون
قال النبي لسعد بن أيب وقاص « :وإنك لن تنفق نفقة تبتغي هبا
وجه اهلل إال أجرت هبا حتى ما جتعله يف فم امرأتك» ،متفق عليه.
((( «جامع العلوم واحلكم» (« ،)75 /1فتح الباري» (.)10 /1
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 22
وقال معاوية « :واهلل إين ألحتسب نومتي كام أحتسب قومتي».
رسه أن يكمل له عمله ،فليحسن نيته ،فإن اهلل
وقال بعض السلف« :من ّ
يأجر العبد إذا أحسنت نيته حتى باللقمة» ،فإذا نوى املرء بأكله التقوي عىل طاعة
مأجورا.
ً اهلل وبنومه كذلك كان
-7أن النية تنقسم إىل قسمني :نية العمل ،ونية املعمول له ،أما نية املعمول له وهو اهلل
،فاملراد بذلك اإلخالص هلل يف العمل ،فإن اهلل ال يقبل من
خالصا ،وابتُغي به وجهه ،قال :ﭽﮘﮙﮚﮛﮜ
ً العمل إال ما كان
ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﭼ [البينة.]5 :
وقال يف احلديث القديس« :من عمل ً
عمل أرشك فيه معي غريي
تركته ورشكه» ،رواه مسلم.
وهذه النية يتكلم عنها أرباب السلوك والعقيدة.
ونية العمل تنقسم إىل قسمني:
القسم األول:متييز العبادات عن العادات ،كمن اغتسل ونوى به رفع اجلنابة ،أو
اغتسل ونوى به التربد وتنظيف البدن ،فالعمل واحد لكن ّفرقت
بينهام النية.
ومثله اهلجرة وهي املذكورة يف احلديث ،فهي عمل واحد لكن تكون
وزرا.
أجرا ،وآلخر ً
لرجل ً
والقسم الثاين:متييز العبادات بعضها من بعض ،كنية الفريضة ،أو املقض َّية ،أو النافلة،
وما أشبه ذلك(((.
-8أن النية حملها القلب ،فالتلفظ هبا بدعة ،فمن أراد أن يتوضأ أو يصيل فإنه ال يتلفظ
بنيته؛ ألن اهلل يعلم ما يف قلبه.
((( «اإلرشاد إىل معرفة األحكام» البن سعدي (ص )449 :ضمن املجموعة الكاملة.
23 الحديث األول
-9جواز رضب األمثال لتقريب املعاين إىل األذهان ،لقوله« :فمن كانت هجرته إىل
اهلل ورسوله ،»...وذلك أنه ملا ذكر أن األعامل بحسب النيات وأن حظ العامل من
عمله نيته من خري أو رش ،ذكر بعد ذلك ً
مثال من األعامل التي صورهتا واحدة،
وخيتلف صالحها وفسادها باختالف النيات ،فاهلجرة عمل واحد لكن اختلف
حكمها باختالف نية من قام هبا ،وذكر اهلجرة هنا عىل سبيل املثال وإال فكل
األعامل كذلك.
-10أن اهلجرة تنقسم إىل ثالثة أقسام :هجرة املكان ،وهجرة العمل ،وهجرة العامل.
أما هجرة املكان:فهي املذكورة يف احلديث ،وهي واجبة عىل من مل يستطع إقامة
شعائر دينه يف بلد الكفر.
وهجرة العمل:واملراد هبا هجر املعايص واآلثام ،قال« :واملهاجر من هجر ما هنى اهلل
عنه» .متفق عليه.
وهجرة العامل:واملراد به املبتدع والفاسقُ ،يجر حتى يرتدع عن معصيته وبدعته ،فإن
مل يكن يف هجره مصلحة فال ُيجر ،لقوله « :ال حيل ملسلم
أن هيجر أخاه فوق ثالثُ ،يعرض هذا و ُيعرض هذا ،وخريمها الذي
يبدأ بالسالم» .متفق عليه(((.
-11أن النبي أهبم يف قوله« :فهجرته إىل ما هاجر إليه» ،ومل يقل« :فهجرته
إىل دنيا يصيبها أو إىل امرأة ينكحها» ألهنا نية فاسدة ينبغي اإلعراض عنها ،وعدم
احلرص عليها.
الحديث الثاني
هلل
ول ا ِ س ِ وس عِ ْن َد َر ُ الَ :ب ْين ََما ن َْحنُ ُج ُل ٌ َع ْن ُع َم َر َ أ ْيض ًا َق َ
شدِي ُد ابَ ، اض ال ِّث َي ِ شدِي ُد َب َي ِ ط َل َع َع َل ْينَا َر ُج ٌل َ ات َي ْو ٍم ِإ ْذ َ َ ذ َ
س الس َف ِر َوالَ َي ْع ِر ُف ُه مِ نَّا َأ َح ٌدَ ،حتَّى َج َل َ الش ْع ِر ،ال ُي َرى َع َل ْي ِه َأ َث ُر َّ س َوا ِد َّ َ
ض َع َك َّف ْي ِه َع َلى َفخِ َذ ْي ِه س َن َد ُر ْك َب َت ْي ِه ِإ َلى ُر ْك َب َت ْي ِه َو َو َ َّبي َف َأ ْ ِإ َلى الن ِّ
ِسالَ ُم ول اهللِ« :اإل ْ س ُ ال َر ُ ِسالَ ِم؟ َف َق َ الَ :يا ُم َح َّم ُد َأ ْخ ِب ْرنِي َعنِ اإل ْ َو َق َ
الصالَةَ ، يم َّ ول اهللَِ ،و ُتقِ َ س ُ اهلل َو َأنَّ ُم َح َّمد ًا َر ُ ه َد َأ ْن ال ِإ َل َه ِإالَّ ُ َش َ َأ ْن ت ْ
ت ِإ َل ْي ِه َط ْع َ است َ ت إِنِ ْ ضانَ َ ،وت َُح َّج ال َب ْي َ وم َر َم ََص َ َو ُت ْؤت َِي الز ََّكاةَ َ ،وت ُ
الَ :ف َأ ْخ ِب ْرنِي ص ِّد ُق ُهَ ،ق َ س َأ ُل ُه َو ُي َ تَ ،ف َعجِ ْبنَا َل ُه َي ْ ص َد ْق َ الَ : سبيالً»َ ،ق َ َ
س ِل ِه َوال َي ْو ِم هلل َو َمالَئ َِك ِت ِه َو ُك ُت ِب ِه َو ُر ُ «أ ْن ُت ْؤمِ نَ با ِ الَ : َعنِ اإلِ ْي َمانِ ؟ َق َ
الَ :ف َأ ْخ ِب ْرنِي َعنِ تَ ،ق َ ص َد ْق َ الَ : ش ِّرهِ»َ ،ق َ ِالق َد ِر خَ ْي ِر ِه َو َ
اآلخِ ِرَ ،و ُت ْؤمِ نَ ب َ
َك ْن َت َرا ُه َف ِإ َّن ُه َّك َت َرا ُهَ ،فإ ِْن َل ْم ت ُ «أ ْن ت َْع ُب َد َ
اهلل َك َأن َ الَ : سانِ ؟! َق َ اإل ِْح َ
ها ب َِأ ْع َل َم ؤول َع ْن َس ُ الم ْ«ما َ الَ : اعةِ؟ َق َ الس َ الَ :ف َأ ْخ ِب ْرنِي َعنِ َّ اك»َ ،ق َ َي َر َ
«أ ْن َت ِل َد األَ َم ُة َر َّبتَها، الَ : ِها؟ َق َ الَ :ف َأ ْخ ِب ْرنِي َع ْن َأ َما َرات َ السائ ِِل»َ ،ق َ مِ نَ َّ
او ُلونَ فِ ي ال ُب ْن َيانِ »، َط َ الشا ِءَ ،يت َ العا َل َة ِر َعا َء َّ الع َراةَ َ الح َفاةَ ُ َو َأ ْن َت َرى ُ
ت: السائ ُِل؟»ُ ،ق ْل ُ الَ « :يا ُع َم ُر َأ َت ْد ِر َي َمنِ َّ ت َم ِل ّي ًا ُث َّم َق َ ط َل َقَ ،ف َل ِب ْث ُ ُث َّم ا ْن َ
َاك ْم ُي َع ِّل ُم ُك ْم دِين َُك ْم»، يل َأت ُ «ف ِإ َّن ُه جِ ْب ِر ُ الَ : سو ُل ُه َأ ْع َل ُمَ ،ق َ اهلل َو َر ُُ
سل ٌِم(((. َر َوا ُه ُم ْ
((( برقم (.)8
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 26
فيه فوائد:
-1هذا احلديث حديث عظيم ،اشتمل عىل رشح الدين كله ،وهلذا قال النبي
« :فإنه جربيل أتاكم يعلمكم دينكم».
قال القايض عياض« :وهذا احلديث قد اشتمل عىل رشح مجيع وظائف العبادات
الظاهرة والباطنة من عقود اإليامن وأعامل اجلوارح وإخالص الرسائر والتح ُّفظ
من آفات األعامل ،حتى إن علوم الرشيعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه»(((.
وقال ابن رجب« :فمن تأمل ما أرشنا إليه مما دل عليه هذا احلديث العظيم ،علم
أن مجيع العلوم واملعارف ترجع إىل هذا احلديث وتدخل حتته ،وأن مجيع العلامء
من فِ َر ِق هذه األمة ال خترج علومهم التي يتكلمون فيها عن هذا احلديث.(((»...
-2أن املالئكة يتمثلون بأشكال البرش ،وقد ثبت يف «صحيح البخاري» عن عائشة
أن احلارث بن هشام سأل رسول اهلل فقال :يا رسول اهلل كيف
يأتيك الوحي؟ فقال رسول اهلل« :أحيانًا يأتيني مثل صلصلة اجلرس ،وهو أشده
عيل فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال ،وأحيانًا يتمثل يل امللك ً
رجل فيكلمني ّ
فأعي ما يقول.»..
-5أن النبي َّ فرق بني اإلسالم واإليامن؛ ألهنام ُذكرا مجي ًعا ،فاإلسالم هو
أعامل اجلوارح ،واإليامن أعامل القلب ،أما إذا ُذكرا منفردين فإن كل واحد منهام
يشمل اآلخر ،كام يقال :إذا اجتمعا افرتقا ،وإذا افرتقا اجتمعا.
كل مؤمن مسلم ،وليس كل مسلم مؤمنًا؛ ألن من ح َّقق اإليامن ورسخ يف قلبه ،قام
بأعامل اإلسالم ،وليس كل مسلم مؤمنًا؛ ألنه قد يكون اإليامن ضعي ًفا ،فال يتحقق القلب
مسلم وليس بمؤمن اإليامن التام.
ً به حتق ًقا تا ًّما مع عمل جوارحه بأعامل اإلسالم ،فيكون
-6أن األعامل داخلة يف مسمى اإليامن ،إذ ال يتم اإليامن إال هبا.
-7فيه بيان أركان اإليامن وهي ستة :اإليامن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر
والقدر خريه ورشه.
فاإليامنباهلل :يتضمن اإليامن بوجوده وأنه رب العاملني وإله األولني واآلخرين ،وأنه
مستو عىل عرشه ،مطلع عىل خلقه ال خيفى عليه من أمرهم يشء .واإليامن ٍ
بألوهيته وأنه ال يستحق العبادة أحدٌ سواه ،واإليامن بأسامئه وصفاته ،وأنه
له األسامء احلسنى والصفات العىل ،واإليامن بام أخربنا من أسامئه
وصفاته أو أخربنا رسوله منها من غري حتريف وال تعطيل ،ومن غري تكييف
وال متثيل.
واإليامنباملالئكة :يتضمن اإليامن بوجودهم ،وأهنم عباد مكرمون ،ال يعصون اهلل ما
أمرهم ،ويفعلون ما يؤمرون ،وأهنم خملوقون من نور وهم صمد ال يأكلون وال
يرشبون ،يسبحون الليل والنهار ال يفرتون ،وأهنم ال حيصون كثرة ،واإليامن
بوظائف من علمنا وظيفته منهم :كجربيل موكل بالوحي ،وميكائيل موكل
بالقطر ،وإرسافيل موكل بالنفخ يف الصور ،وملك املوت موكل بقبض أرواح
العباد ،وكذا ال َّلذين َيكتبان عىل اإلنسان ما يقول من خري ورش ،واملالئكة
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 28
السواحون يف األرض الذين يلتمسون ِح َل َق الذكر ،وغري هؤالء ممن ذكر اهلل
َّ
أعامهلم يف كتابه أو ذكرهم رسوله.
واإليامنبالكتب :يتضمن اإليامن بإنزاهلا من عند اهلل ح ًّقا ،واإليامن بام علمنا اسمه
منها كالقرآن الذي نزل عىل نبينا ،والتوراة التي أنزلت عىل موسى ،واإلنجيل
الذي أنزل عىل عيسى ،والزبور الذي أوتيه داود .واإليامن بام صح
من أخبارها ،كأخبار القرآن وأخبار ما مل حيرف أو ُيبدل من الكتب السابقة،
واإليامن بأن مجيع الكتب السابقة منسوخة بالقرآن الكريم ،قال :ﱫ
ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﱪ
حاكم عليه.
ً [املائدة]48 :؛ أي:
واإليامنبالرسل :يتضمن اإليامن بأن رسالتهم حق من اهلل ،فمن كفر
برسالة واحد منهم فقد كفر باجلميع ،قال :ﱫﯰ ﯱ ﯲ
ﯳﱪ[الشعراء ]105 :واإليامن بمن علمنا اسمه منهم باسمه مثل:
إبراهيم ونوح وموسى وعيسى وحممد وهؤالء هم أولو العزم من الرسل.
وغري هؤالء ممن ذكره اهلل باسمه.
وأما ما مل نعلم اسمه منهم فنؤمن به ً
إمجال.
واإليامن بام صح من أخبارهم والعمل برشيعة من أرسل إلينا منهم وهو حممد ،قال
:ﱫﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ
ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﱪ [النساء.]65 :
واإليامنباليوم اآلخر :يتضمن اإليامن بكل ما أخرب اهلل به مما يكون بعد املوت من
عذاب القرب ونعيمه ،والبعث ،واجلزاء واحلساب ،واجلنة والنار وغريها.
ً
وتفصيل ،وأن اهلل كتب يف واإليامنبالقدر :يتضمن اإليامن بعلم اهلل بكل يشء مجلة
اللوح املحفوظ ما هو كائن إىل يوم القيامة ،واإليامن بأن مجيع الكائنات ال
تكون إال بمشيئة اهلل ،وأهنا مجي ًعا خملوقة هلل بذواهتا ،وصفاهتا ،وحركاهتا.
29 الحديث الثاني
واعلم أن القدر فيه خري ورش بالنسبة ملفعوالت اهلل ،وأما فعله
فليس فيه رش ،قال النبي يف دعاء االستفتاح« :والرش ليس إليك»(((.
- 8أن اإلحسان عىل درجتني وأن للمحسنني يف اإلحسان مقامني متفاوتني:
املقاماألول وهو أعالها :أن تعبد اهلل كأنك تراه ،وهذا مقام املشاهدة ،وهو أن يعمل
العبد عىل مقتىض مشاهدته هلل بقلبه ،فمن َع َبدَ اهلل عىل استحضار قربه
منه وإقباله إليه وأنه بني يديه كأنه يراه أوجب له ذلك اخلشية واخلوف واهليبة
والتعظيم.
واملقامالثاين :مقام اإلخالص ،وهو أن يعمل العبد عىل استحضار مشاهدة اهلل إياه
واطالعه عليه وقربه منه ،فإذا استحرض العبد هذا يف عمله يمنعه من االلتفات
إىل غري اهلل وإرادته بالعمل ،وهذا املقام هو الوسيلة املوصلة إىل املقام األول(((.
-9أنه ال يعلم متى تقوم الساعة إال اهلل ،لقوله ملا قال له جربيل :أخربين
عن الساعة؟ قال « :ما املسؤول عنها بأعلم من السائل؟»؛ يعني :أن
علم اخللق كلهم يف وقت الساعة سواء ،وقد أخرب املوىل يف كتابه أنه استأثر
بعلمها ،فقال :ﱫ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ
ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ
ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﱪ [األعراف .]187 :وثبت يف «صحيح البخاري» عن
ابن عمر عن النبي قال« :مفاتيح الغيب مخس ال يعلمها إال
اهلل» ،ثم قرأ:ﱫ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﱪ [لقامن ،]34 :فمن ادعى علم وقت قيام
الساعة فهو كاذب ،ومن صدق املنجمني فيام يدعونه من وقت قيام الساعة فهو
ضال.
-10فيه بيان لبعض أرشاط الساعة ،وقد ذكرها بقوله« :أن تلد األمة
ربتها ،وأن ترى احلفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون يف البنيان».
((( خمترص من رشح شيخنا هلذا احلديث يف «فتاواه» (.)110 /6
((( «خمترص معارج القبول» (ص.)309 :
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 30
فهاتان عالمتان:
األوىل«:أن تلد األمة ربتها» ،ويف حديث آخر« :أن تلد األمة رهبا» وهو إشارة إىل فتح
البالد ،وكثرة جلب الرقيق حتى تكثر الرساري ،ويكثر أوالدهن ،فتكون األم
رقيقة لسيدها ،وأوالده منها بمنزلته.
وقيل يف معناه :أن تكون املرأة أمة فتلد امرأة ،فتكون غنية متلك مثل أمها ،وهو
كناية عن رسعة كثرة املال وانتشاره بني الناس.
الثانية«:أن ترى احلفاة العراة العالة» وهم الفقراء «يتطاولون يف البنيان» ،واملعنى :أن
أسافل الناس يصريون رؤوسهم ،وتكثر أمواهلم حتى يتباهون بطول البنيان.
وحيتمل أن يراد بالتطاول ،التطاول احليس وهو رفعها إىل السامء ،وحيتمل أن
يراد به التطاول املعنوي وهو زخرفتها وتشييدها وتنميقها .واحلديث يشمل
االحتاملني.
-11أن من سأل عام حيتاجه الناس فإنه يكون مع ِّل ًم هلم ،لقوله ملا أجاب
السائل« :فإنه جربيل أتاكم يعلمكم دينكم».
-12أنه ينبغي لإلنسان أن يكل علم ما ال يعلمه إىل اهلل فيقول« :اهلل ورسوله
أعلم» ،وهذا يف األمور الرشعية ظاهر وأما يف األمور الكونية فإنه يقول« :اهلل
أعلم».
31 الحديث الثالث
الحديث الثالث
ال:اب َ ق َ ط ِ هلل ْبنِ ُع َم َر ْبنِ ا ْلخَ ََّع ْن َأبِي َع ْب ِد ال َّر ْحمنِ َع ْب ِد ا ِ
س: ِسالَ ُم َع َلى خَ ْم ٍ ولُ « :بن َِي اإل ْ هلل َ ي ُق ُ ول ا ِ س َ ت َر ُ سمِ ْع ُ َ
الصالَةِ ،
ام َّ ول اهللَِ ،وإ َِق ِ س ُ َّ
ها َد ُة َأ ْن الَ ِإ َل َه ِإالَّ اللَ ،و َأنَّ ُم َح َّمد ًا َر ُ ش َ َ
سل ٌِم. ضانَ »َ ،ر َوا ُه ال ُبخَ ا ِر ُّي َو ُم ْ ص ْو ِم َر َم َ
تَ ،و َ َوإِيتَا ِء الز ََّكاةِ َ ،و َح ِّج ال َب ْي ِ
فيه فوائد:
-1راوي احلديث :هو عبد اهلل بن عمر بن اخلطاب القريش ،أبو عبد الرمحن ،
فقيها عا ًملا زاهدً ا ور ًعا ،أحد األعالم» ،أثنى عليه النبي
قال ابن امللقن« :وكان ً
ووصفه بالصالح لو كان يقوم من الليل ،فكان ال ينام من الليل
وسنَّته ،روي له عن النبي
قليل ،وهو من أشد الصحابة متسكًا بآثار النبي ُ إال ً
1630( حدي ًثا) ،اتفق البخاري ومسلم عىل ( )168وانفرد البخاري
بـ ( 81حدي ًثا) ،ومسلم بـ ( .)31ومات سنة (73هـ)(((.
-2احلديث هبذا اللفظ يف البخاري ح ( )8من طريق عكرمة بن خالد عن ابن عمر
،وكذا عند مسلم ( ،)20وعليه بنى البخاري ترتيبه للصحيح؛ فإنه قدم
كتاب احلج عىل كتاب الصوم ،ويف «صحيح مسلم» من طريق سعد بن عبيدة عن
ابن عمر بتقديم الصوم عىل احلج .فقال رجل :واحلج وصيام رمضان؟
قال :ال ،صيام رمضان ،واحلج هكذا سمعته من رسول اهلل وهذه
الرواية هي املحفوظة...
وعليه فالذي يظهر أن رواية حنظلة عن عكرمة بتقديم احلج عىل الصوم مروية باملعنى.
((( «اإلصابة» (« ،)107 /4اإلعالم» (.)460- 459 /1
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 32
-3هذه املذكورة يف احلديث هي أركان اإلسالم اخلمسة؛ أي :دعائمه وقواعده التي
ال يقوم إال هبا.
فأولهذه األركان :الشهادتان :شهادة أن ال إله إال اهلل وأن حممدً ا رسول اهلل ،وعدَّ ها
النبي ركنًا واحدً ا؛ ألن العبادة ال تتم إال بأمرين :اإلخالص هلل،
وهو ما تضمنته شهادة أن ال إله إال اهلل ،واملتابعة لرسول اهلل ،وهو ما تضمنته
شهادة أن حممدً ا رسول اهلل ،ومعنى شهادة أن ال إله إال اهلل؛ أي :ال معبود حق إال
اهلل ،فهو الذي يستحق أن ترصف له العبادة وحده دون ما سواه.
أن حممدً ا رسول اهلل :تتضمن طاعته فيام أمر ،وتصديقه فيام أخرب واجتناب
وشهادة ّ
ما عنه هنى وزجر ،وأن ال يعبد اهلل إال بام رشع.
وإقامالصالة :أي :اإلتيان هبا عىل الوجه الذي أمر اإلنسان به ،برشوطها وأركاهنا
وواجباهتا ،وحضور القلب فيها.
وإيتاءالزكاة :أي :إعطاؤها مستحقيها ،وهم ثامنية أصناف ذكرهم اهلل يف كتابه ،وهي
خمصوصة يف أموال معينة :اخلارج من األرض ،وعروض التجارة ،والنقدان:
الذهب والفضة ،وهبيمة األنعام.
وحجالبيت :واملراد به :التعبد هلل بقصد مكة ألداء املناسك عىل وجه خمصوص
يف زمن خمصوص ،وله رشوط وهي :اإلسالم ،واحلرية ،والعقل ،والبلوغ،
واالستطاعة .وزيد رشط سادس :وهو وجود املحرم للمرأة.
وصومرمضان :واملراد به :التعبد هلل باإلمساك عن املفطرات من طلوع الفجر الثاين إىل
غروب الشمس.
-4أن من ترك شي ًئا من هذه األركان جاحدً ا لوجوبه فهو كافر.
ً
وكسل؛ فالصحيح أنه ال يكفر إال برتك الصالة ،لقوله وأما إذا تركه هتاونًا
« :العهد الذي بيننا وبينهم الصالة فمن تركها فقد كفر» .رواه
الرتمذي وابن ماجه بإسناد حسن(((.
((( «سنن الرتمذي» ( ،)2621وابن ماجه ( )1079من حديث بريدة بن احلصيب ،قال الرتمذي:
33 الحديث الثالث
وقال « :بني الرجل وبني الرشك والكفر ترك الصالة» .رواه مسلم(((.
وقال عبد اهلل بن شقيق« :كان أصحاب حممدً ا ال يرون شي ًئا من األعامل تركه كفر
غري الصالة» .رواه الرتمذي(((.
ص عىل تركها ،وهي ِ
فمن أرص عىل ترك الصالة وجب قتله؛ ألنه مرتد .إذ كيف ُي ُّ
عمود اإلسالم ومن أعظم أركانه.
الحديث الرابع
-1راوي احلديث :هو عبد اهلل بن مسعود بن غافل اهلذيل ،أبو عبد الرمحن ابن أم عبد،
صاحب رسول اهلل وخادمه ،وأحد السابقني األولني ،ومن كبار البدريني ،وكان
من أحسن الصحابة صوتًا بالقرآن ،قرأ ذات مرة عىل النبي سورة النساء
حتى إذا بلغ قوله :ﱫﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ
ﮑ ﮒﱪ [النساء ]41 :قال« :حسبك اآلن» ،فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان.
متفق عليه.
((( «صحيح البخاري» ( ،)3332( ،)3208ومسلم (.)2643
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 36
غضا كام ُأنزل ،فليقرأ عىل قراءة
«م ْن أحب أن يقرأ القرآن ًّ
وقد قال َ :
ابن أم عبد» .رواه أمحد(((.
صعد ذات مرة عىل شجرة األراك ليجني للنبي السواك فنسفت
الريح إزاره حتى بدت ساقاه ،فضحك الصحابة من دقة ساقيه ،فقال
« :والذي نفيس بيده إهنام يف امليزان أثقل من جبل ُأحد» .رواه أمحد(((.
قال عنه عمر بن اخلطاب « :كُن ِّيف ُم ِل َئ ِع ْل ًم»(((.
له يف «الصحيحني» ( )64حدي ًثا ،انفرد البخاري بـ( )21ومسلم بـ(.)35
مات سنة (32هـ) ،وله نحو ستني سنة(((.
-2أن تكوين اجلنني يف بطن أمه وخلقه يكون عىل مراحل :أربعني يو ًما نطفة ،ثم
يكون علقة مثل ذلك ،والعلقة :قطعة من دم ،ثم يكون مضغة مثل ذلك؛ يعني:
أربعني يو ًما ،واملضغة :قطعة حلم ،ثم بعد متام مائة وعرشين يو ًما تنفخ فيه الروح.
وقد ذكر اهلل يف كتابه يف عدة مواضع تقلب اجلنني يف هذه األطوار ،قال
:ﱫ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ
ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ
ﮬ ﮭ ﮮﱪ [احلج ،]5 :وقد امتن اهلل عىل عباده بخلقهم يف هذه األطوار،
فقال عن نوح أنه قال لقومه :ﱫﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﱪ
[نوح.]14 ،13 :
-3أن ظاهره يدل عىل أن خلق املضغة يف األربعني الثالثة ،وأن إرسال امللك إنام يكون
بعد مائة وعرشين يو ًما.
((( برقم (.)4255
((( «مسند أمحد» برقم ( )3991وإسناده حسن.
((( «جمموع الفتاوى» (.)590 /4
((( «سري أعالم النبالء» (.)461 /1
37 الحديث الرابع
لكن ثبت يف «صحيح مسلم»((( ما يدل عىل خالف ذلك ،فعن حذيفة بن أسيد
مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة ،بعث اهلل
،عن النبي قال« :إذا ّ
فصورها وخلق سمعها وبرصها وجلدها وحلمها وعظمها ،ثم قال: إليها ملكًاّ ،
كر أم ُأنثى؟ فيقيض ربك ما شاء ،ويكتب امللك ،ثم يقول :يا رب أجله؟ يا رب َأ َذ ٌ
فيقول ربك ما شاء ،ويكتب امللك ،ثم يقول :يا رب رزقه؟ فيقيض ربك ما شاء،
ويكتب امللك ،ثم خيرج امللك بالصحيفة يف يده فال يزيد عىل ما ُأمر وال ينقص».
وهذا يدل عىل أن تصوير اجلنني وخلق سمعه وبرصه وجلده وحلمه وعظامه،
والكتابة تكون يف أول األربعني الثانية.
وقد أطال الرشاح يف اجلمع بني احلديثني ،وخالصة ما ذكروه ينتظم النقاط اآلتية:
أول:حديث ابن مسعود مل يتعرض للتخليق والتصوير والتأنيث والتذكري، ً
وإنام ذكر هذا يف حديث حذيفة.
ثان ًيا :اتفق احلديثان يف استئذان امللك ربه سبحانه يف تقدير شأن املولود يف خالل ذلك.
ثال ًثا:أن حديث حذيفة فيه تفصيل دقيق ملا يتخلق ،وحديث ابن مسعود ال يعارضه؛
مر هبا خلق اإلنسان بدون تفصيل.
ألن فيه ذكر األطوار التي َّ
قال ابن رجب« :وقد محل بعضهم حديث ابن مسعود عىل أن اجلنني
يغلب عليه يف األربعني األوىل وصف املني ،ويف األربعني الثانية وصف العلقة،
ويف األربعني الثالثة وصف املضغة ،وإن كانت خلقته قد متت ،وتم تصويره».
راب ًعا:قد تكون الكتابة مرتني ،مرة عند انتقال اجلنني من النطفة إىل العلقة ،النتقاله إىل
طور الدم الذي هو مادة حياة احليوان ،ومرة عند نفخ الروح فيه ،النتقاله إىل عامل
األحياء بعد أن كان يف عامل اجلامد.
خامسا :قد يكون هذا يف بعض األجنة دون بعض(((.
ً
((( برقم (.)2645
(((انظر« :املفهم» ( ،)649 /6و «رشح صحيح مسلم» للنووي (« ،)190/16حتفة املودود» ص (« ،)156جامع
العلوم واحلكم» (« ،)158 /1فتح الباري» (« ،)484/11فتوى» بخط شيخنا يف اجلمع بني احلديثني.
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 38
-4حكمة اهلل يف كون اجلنني يمر عند خلقه هبذه املراحل ،لئال تترضر األم ،وإال
فإن اهلل قادر عىل مجع خلقه يف حلظة.
ِ
باألجنّة ،لقوله « :ثم يرسل إليه امللك» ،وقد سبق ً
موكل -5أن هناك ملكًا
أن املالئكة هلم وظائف متعددة.
-8أن أحوال اإلنسان تكتب عليه وهو يف بطن أمه ،وهذه الكتابة عمرية ،وهناك كتابة
حولية وهي يف ليلة القدر ،وكتابة أزلية ،وهي يف اللوح املحفوظ.
-9أنه ينبغي للمرء أن يرىض بام قسم اهلل له من الرزق؛ ألن هذا الذي قسمه اهلل له ،هو
ٍ
وحينئذ فال ينبغي له الذي كتب عليه وهو يف بطن أمه ،ولن يموت حتى يستكمله،
أن يتطلع إىل ما يف أيدي الناس ،وال يسأهلم شي ًئا ألن املسألة مذلة ،إال عند الرضورة،
وعليه أن يفعل األسباب التي هبا يكتسب الرزق؛ ألن اهلل قال :ﱫﭤ ﭥ
ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲﱪ [امللك.]15 :
((( «جامع العلوم واحلكم» (.)157/1
39 الحديث الرابع
ويف «صحيح مسلم»((( عن عبد اهلل بن عمرو أن رسول اهلل
ورزق كفا ًفا وقنَّعه اهلل بام آتاه».
قال« :قد أفلح من أسلم ُ
ويف «الصحيحني» عن أيب سعيد اخلدري أن النبي قال« :ومن
يستعفف يع ُّفه اهلل ،ومن يستغن يغنه اهلل»(((.
-10أن كل إنسان كتب أجله وهو يف بطن أمه ،فقد كُتِب عليه متى يموت ،ويف
أي ساعة يموت ،ويف أي بلد يموت ،قال اهلل :ﱫﯷ ﯸ ﯹ ﯺ
ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈﱪ [لقامن.]34 :
فاجلواب أن يقال :إن هذا بالنسبة إىل الصحف التي بأيدي املالئكة :فإن اهلل
يكتب للعبد ً
أجل يف صحف املالئكة فإذا وصل رمحه زاد يف ذلك املكتوب ،وإن
عمل ما يوجب النقص نقص من ذلك املكتوب ،وهو قوله :ﱫ ﯕ ﯖ
ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ﯝﱪ [الرعد ،]39 :ذكره شيخ اإلسالم ابن تيمية
.(((
-11أن كل إنسان قد كتب عمله ،وهل هو من أهل السعادة أم من أهل الشقاوة وهو
يف بطن أمه.
فإن قال قائلِ :
فل َم العمل إذن؟
((( برقم (.)1054
((( «صحيح البخاري» ( ،)1427ومسلم (.)1053
((( «صحيح البخاري» ( ،)5986ومسلم (.)2557
((( «جمموع الفتاوى» (.)490/14
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 40
فاجلواب :أن الصحابة عرضوا هذا اإلشكال عىل النبي فقال:
ميس ملا ُخلق له ،أما أهل السعادة فييرسون لعمل أهل السعادة ،وأما «اعملوا ٌّ
فكل َّ
أهل الشقاوة فييرسون لعمل أهل الشقاوة» .متفق عليه.
وحرصا عىل العبادات إقبال عىل الطاعات، ٍ
وحينئذ إذا رأيت يا أخي من نفسك ً
ً
خريا ،وإذا رأيت خالف ذلك فتدارك نفسك.
فاعلم أن اهلل أراد بك ً
-12جواز القسم بدون استقسام ،لقوله « :فواهلل الذي ال إله غريه» وقد
ورد عن النبي أنه أقسم يف نحو ثامنني حدي ًثا ،وإنام أقسم النبي
يف هذا احلديث ،وهو الصادق البار بدون قسم من باب التأكيد؛
ألن هذه األمور التي أخرب عنها من األمور الغيبية فيحتاج إىل تأكيدها بالقسم.
-13أن ظاهره يدل عىل أن اإلنسان قد خيذل قبل موته ،لقوله « :إن أحدكم
ليعمل بعمل أهل اجلنة حتى ما يكون بينه وبينها إال ذراع فيسبق عليه الكتاب
فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها» ،لكن هذا الظاهر ورد ما يق ِّيده يف حديث سهل
بن سعد يف «الصحيحني» يف قصة الرجل الذي قتل نفسه بعد أن أصابته
جراحة وقد كان ال يدع شاذة وال فاذة للمرشكني إال اتبعها وقىض عليها ،وفيه
أن النبي قال« :إن الرجل ليعمل عمل أهل اجلنة فيام يبدو للناس
وهو من أهل النار ،وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيام يبدو للناس وهو من
أهل اجلنة».
فقوله « :فيام يبدو للناس» إشارة إىل أن باطن األمر بخالف ذلك،
وأن خامتة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد ال يطلع عليها الناس .قاله ابن
رجب .(((
-14احلذر من سوء اخلامتة ،وذلك بتطهري القلب ،وال ُبعد عن املعايص اخلفية فإن
قصصا وحوادث ألناس ختم هلم
ً عواقبها وخيمة ،وقد ذكر ابن القيم
الحديث الخامس
س ُ
ول تَ :ق َ
ال َر ُ ِش َة َ قا َل ْ هلل َعائ َ َع ْن ُأ ِّم ا ْل ُم ْؤمِ نِينَ ُأ ِّم َع ْب ِد ا ِ
هو َر ٌّد»، س مِ ْن ُه َف ُ ث فِ ي َأ ْم ِرنَا ه َذا َما َل ْي َ«م ْن َأ ْح َد َ
هلل َ : ا ِ
سلِم. َر َوا ُه ا ْل ُبخَ ا ِر ُّي َو ُم ْ
وفي رواية لمسلم« :من عمل عمالً ليس عليه أمرنا فهو رد»(((.
فيه فوائد:
-1راوي احلديث :عائشة بنت أيب بكر ،أم املؤمنني ،أم عبد اهلل ،زوج النبي الصدِّ يقة
بنت الصدِّ يق وعن أبيها.
وهي من املكثرين من الرواية عن النبي .
بكرا سواها ،وقد قال
وكان النبي حيبها وجيلها ،ومل يتزوج ً
عنها« :فضل عائشة عىل النساء كفضل الثريد عىل سائر الطعام» ،وملا تكلمت فيها
أم سلمة قال « :يا أم سلمة ال تؤذيني يف عائشة فوالذي نفيس بيده ما
يعرض عيل يف حلاف امرأة منكن غريها» ،وملا مرض كان ِّ نزل الوحي َّ
يمرض يف بيوم عائشة فيقول« :أين أنا غدً ا ،أين أنا غدً ا» ،حتى أذن له أزواجه أن َّ
بيت عائشة ،وخرجت روحه وهو يف حجرها ،وقد مات
عنها وعمرها ثامنية عرش عا ًما.
واختلف يف التفضيل بينها وبني خدجية ،والصواب أن لكل واحدة منهام فضيلة،
ولكل منهام منزلة عند رسول اهلل.
((( «صحيح البخاري» ( ،)2697ومسلم (.)1718
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 44
روت عن النبي .)2210( اتفق البخاري ومسلم عىل ( )174وانفرد
البخاري بـ( ،)54ومسلم بـ( ،)68كذا ذكره ابن امللقن.
ماتت سنة (57هـ)(((.
قال النووي « :وهذا احلديث مما ينبغي أن ُيعتنى بحفظه واستعام ُله يف إبطال
املنكرات وإشاعة االستدالل به»(((.
-2وقال ابن رجب « :هذا احلديث أصل عظيم من أصول اإلسالم ،وهو
كامليزان لألعامل يف ظاهرها ،كام أن حديث «األعامل بالنيات» ميزان لألعامل يف
باطنها ،فكام أن كل عمل ال يراد به وجه اهلل ،فليس لعامله فيه ثواب،
فكذلك كل عمل ال يكون عليه أمر اهلل ورسوله ،فهو مردود عىل عامله»(((.
-3فيه دليل عىل أن من رشط قبول العمل أن يكون املرء متب ًعا فيه رسول اهلل
،فالعمل ال يقبل إال برشطني:
أحدمها :اإلخالص هلل.
والثاين :املتابعة لرسول اهلل.
وقد دل عىل هذين الرشطني قوله :ﱫﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ
ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﱪ [النساء]125 :
أسلم؛ أي :أخلص ،وهو حمسن؛ أي :متبع لرسول اهلل.
وقال :ﱫ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦﱪ [امللك.]2 :
قال الفضيل بن عياض « :أي :أخلصه وأصوبه ،وذلك ألن العمل إذا كان
خالصا مل يقبل حتى يكون
ً خالصا ومل يكن صوا ًبا مل يقبل ،وإذا كان صوا ًبا ومل يكن
ً
خالصا صوا ًبا.»..اهـ.
ً
((( «السري» (« ،)135/2اإلعالم بفوائد عمدة األحكام» (.)230/1
((( «رشح صحيح مسلم» (.)16/12
((( «جامع العلوم واحلكم» (.)176/1
45 الحديث الخامس
قال شيخنا ابن عثيمني « :إن العمل ال يكون صوا ًبا حتى يكون مواف ًقا
للرشيعة يف أمور ستة :زماهنا ،ومكاهنا ،وسببها ،ونوعها ،وعددها ،وكيفيتها»(((.
-4حتريم البدع ،والبدع :هي كل ما أحدث يف الدين مما ال أصل له يف الرشع يدل
عليه ،وقد قال النبي « :كل بدعة ضاللة» ،فام ابتدع امرؤ بدعة إال
عوقب بإماتة ُسنَّة؛ ألن اهلل قد أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة :ﱫ ﭻ
ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﱪ [املائدة.]3 :
وقال أبو ذر « :لقد مات رسول اهلل وما طائر يق ِّلب جناحيه يف
علم»(((.
السامء إال ذكر لنا منه ً
ويف «صحيح مسلم» أن اليهود قالوا لسلامن الفاريس :ع َّلمكم نبيكم كل
يشء حتى اخلراءة ،قال« :أجل ،لقد هنانا أن نستقبل القبلة بغائط أو
بول ،أو أن نستنجي باليمني ،أو أن نستنجي بأقل من ثالثة أحجار»(((.
فمن ابتدع يف دين اهلل ما ليس منه ،فكأنه يتعقب عىل اهلل ورسوله.
واعلم أن البدع تشمل البدع يف األفعال :كأن يفعل اإلنسان ً
فعل مل يرشعه اهلل ،أو
يفعل ً
فعل أصله مرشوع لكن عىل غري ذلك الوجه فهو بدعة.
وتشمل البدع يف األذكار :فاألذكار توقيفية ليس لإلنسان أن يزيد فيها عىل ما
شخصا قال :سأذكر اهلل بعد كل صالة بال إله
ً ذكرا مل يرشع ،فلو أن
رشع ،أو يذكر ً
إال اهلل مائة مرة فقط ،لقلنا :إنك مبتدع.
ومن ذلك :ما يذكره بعض الناس بعد الرفع من الركوع من قوله« :ربنا ولك
احلمد والشكر» فزيادة «والشكر» مل ترو عن النبي فقوهلا بدعة.
((( جمموع فتاواه (.)253/5
((( «جمموع الفتاوى» (.)7/5
((( «صحيح مسلم» (.)262
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 46
وتشمل بدع االعتقاد ،وهي اعتقاد خالف ما أخرب اهلل به ورسوله ،وهي املذكورة
يف قوله « :وستفرتق أمتي عىل ثالث وسبعني فرقة ،كلها يف النار إال
واحدة» ،أخرجه أبو داود(((.
قسم البدع-5أن البدع كلها مردودة ،لقوله « :فهو ر ٌّد» ،ولقد أبعد من ّ
إىل بدعة حسنة وبدعة سيئة ،مستدالًّ بقول أمري املؤمنني عمر بن اخلطاب :
«نعمت البدعة هذه»(((؛ ألن قول عمر ذلك املراد به البدعة اللغوية ال البدعة
الرشعية ،حيث إن لقوله هذا سبب ،وهو أنَّه خرج والناس يصلون الرتاويح
مجاعة خلف ُأيب بن كعب ،فقال ذلك ،فقوله« :بدعة»؛ أي :من حيث
كوهنا أقيمت هذه الصالة مجاعة؛ ألن أصل صالة الرتاويح مرشوع يف عهد النبي
،إذ قد صىل النبي بأصحابه ثالث ليال أو أربع ،ثم مل
خيرج إليهم وقال « :إنه مل يمنعني من اخلروج إليكم ،إال أين خشيت
أن تفرض عليكم» .وقد أثبت مجاعة من العلامء هذا التقسيم كأيب شامة يف كتابه
«الباعث يف البدع واحلوادث» ،والسيوطي والزركيش والقرايف يف آخرين ،لكن رد
الشاطبي هذا التقسيم فقال:
«هذا التقسيم أمر خمرتع ،ال يدل عليه دليل رشعي ،بل هو يف نفسه متدافع؛ ألن
من حقيقة البدعة أن ال يدل عليها دليل رشعي ،ال من نصوص الرشع وال من
قواعده»(((.
وحمرمة،
قسم البدعة إىل مخسة أقسام :واجبة ،ومندوبة ،ومباحةَّ ،
وكذا أبعد َم ْن َّ
ومكروهة(((؛ ألن النبي قال« :كل بدعة ضاللة» فكل البدع سيئة
مكروهة.
-6حرص النبي عىل نصح أمته حيث ّ
حذرهم مما يكون سب ًبا لرد أعامهلم
وإحباطها.
الحديث السادس
ولس َ ت َر ُ سمِ ْع ُ الَ : شيرٍ َ ق َ هلل ال ُّن ْع َمانِ ْبنِ َب ِ َع ْن َأبِي َع ْب ِد ا ِ
َه َما ُأ ُمو ٌر ام َب ِّينٌ َ ،و َب ْين ُ الحالَ َل َب ِّينٌ َوإِنَّ َ
الح َر َ ول« :إِنَّ َ هلل َ ي ُق ُ ا ِ
ات َف َق ْد ه ِ َّاسَ ،ف َم ْن ات ََّقى ُّ
الش ُب َ هنَّ َكثِي ٌر مِ نَ الن ِ ات الَ َي ْع َل ُم ُ ِه ٌ ش َتب َ ُم ْ
ام؛ ات َو َق َع فِ ي َ
الح َر ِ ه ِ ضهَِ ،و َم ْن َو َق َع فِ ي ُّ
الش ُب َ اس َت ْب َر َأ ِل ِد ْي ِن ِه َوعِ ْر ِْ
ِك ك َأ ْن َي ْرت ََع فِ يهَِ ،أالَ َوإِنَّ ل ُِك ِّل َمل ٍ ش ُ َكال َّراعِ ي َي ْر َعى َح ْو َل ا ْلحِ َمى ُي ْو ِ
ض َغ ًة ِإ َذا س ِد ُم ْ هلل َم َحا ِر ُم ُهَ ،أالَ َوإِنَّ فِ ي َ
الج َ حِ ًمىَ ،أالَ َوإِنَّ حِ َمى ا ِ
ه َي س ُد ُكلُّ ُه؛ َأالَ َو ِ الج َ
س َد َ ت َف َس َد ْ س ُد ُكلُّ ُهَ ،و ِإ َذا َف َ ص ُل َح َ
الج َ ت َ ص ُل َح ْ َ
سل ٌِم(((. ب»َ ،ر َوا ُه ال ُبخَ ا ِر ُّي َو ُم ْ ا ْل َق ْل ُ
فيه فوائد:
-1راوي احلديث :هو النعامن بن بشري بن سعد بن ثعلبة األنصاري أبو عبد اهلل
اخلزرجي ،صحايب جليل ،و َيل إمرة الكوفة ملعاوية بن أيب سفيان ،وله
خصه من بني سائر إخوته بعطية ،فأبت زوجة
مع أبيه قصة مشهورة وهي :أن أباه َّ
بشري بن سعد ذلك ،إال أن يشهد عليها رسول اهلل ،فأتى به أباه إىل
رسول اهلل وقال :يا رسول اهلل ،إين نحلت ابني هذا غال ًما كان يل،
فقال « :أكل ولدك نحلته مثل هذا؟» قال :ال ،قال « :اتقوا
اهلل واعدلوا بني أوالدكم» .متفق عليه.
((( «صحيح البخاري» ( ،)52ومسلم (.)1599
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 48
سواء» ؟ قال :بىل،
ً ويف رواية ملسلم قال « :أيرسك أن يكونوا لك يف الرب
قال « :فال إذن».
له يف الكتب الستة :ستة وثالثون حدي ًثا باملكرر.
قال الذهبي « :مسنده مائة وأربعة عرش حدي ًثا ،اتفقا عىل مخسة ،وانفرد
البخاري بحديث ،ومسلم بأربعة».
مات بحمص سنة (65هـ) وله أربع وستون سنة(((.
-2قال النووي « :أمجع العلامء عىل عظم وقع هذا احلديث وكثرة فوائده وأنه
أحد األحاديث التي عليها مدار اإلسالم»(((.
وقال القرطبي « :وإن أردت الوقوف عىل ذلك فأعد النظر فيام عقدناه من
اجلمل يف احلالل واحلرام واملتشاهبات ،وما يصلح القلوب وما يفسدها ،وتع ُّلق
أعامل اجلوارح هبا ،وحينئذ يستلزم احلديث معرفة تفاصيل أحكام الرشيعة كلها،
أصوهلا وفروعها»(((.
-3أن احلالل واحلرام ال خيفى أمرمها عىل الناس ،فيجب عىل املسلم أن جيتنب احلرام،
وله أن يتمتع بام أحل اهلل له من احلالل ،وال جيوز له حتريم ما أحل اهلل ،كام قال
:ﱫ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ
ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢﱪ [النحل ،]116 :وقد عاتب اهلل
أحل اهلل له من العسل فقال : حرم عىل نفسه ما َّ
نبيه ملا ّ
ﱫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠﱪ [التحريم.]1 :
-4أن من حكمة اهلل أنه يبتيل عباده بأمور مشتبهة خيفى حكمها عىل كثري منهم،
سواء كانت يف املآكل أو املشارب أو غريمها ،ليتبني املؤمن املنقاد ألوامر اهلل ،ممن
اتبع هواه.
((( «سري أعالم النبالء» (« ،)411/3هتذيب الكامل» (.)411/29
((( «رشح صحيح مسلم» (.)27/11
((( «املفهم» (.)500 499/4
49 الحديث السادس
وهذه األمور املشتبهة يقع االشتباه فيها بني أهل العلم ومحلة الرشيعة ألسباب،
ذكرها ابن رجب .(((
منها :أنه قد يكون النص عليه خف ًّيا مل ينقله إال قليل من الناس ،فلم يبلغ مجيع محلة العلم.
ومنها :ما ليس فيه نص رصيح ،وإنام يؤخذ من عموم ،أو مفهوم ،أو قياس،
كثريا.
فتختلف أفهام العلامء يف هذا ً
أسباب ُأخر.
ُ وهناك
-5أن مفهوم احلديث يدل عىل أن من الناس من يعلمها ،وإنام هي مشتبهة عىل َم ْن
مل يعلمها ،وليست مشتبهة يف نفس األمر ،وهو كذلك ،لقوله « :ال
يعلمهن كثري من الناس» ،مفهومه أن الراسخني يف العلم يعلموهنا.
-6أنه ينبغي للمسلم إذا اشتبه عليه يشء أهو حالل أم حرام أن يدعه ،لكي َي ْس َلم
دينه من النقص ،و َي ْس َلم عرضه من كالم الناس فيه ،ويف احلديث« :ال يكمل
حذرا مما به بأس» ،رواه الرتمذي وابن ماجه(((،
إيامن املرء حتى يدع ما ال بأس به ً
عرض نفسه للقدح فيه والطعن ،كام قال بعض ٍ
وحينئذ فمن ارتكب الشبهات فقد ّ
عرض نفسه للتهم ،فال يلوم ّن من أساء به الظن».
السلف« :من ّ
-7أن من وقع يف الشبهات فإنه يقع يف احلرام إما لكثرة تعاطيه الشبهات يصادف
يتعمده .وإما أن يعتاد التساهل ويتمرن عليه شبهة ثم شبهة حتى يقع
احلرام وإن مل َّ
يف احلرام عمدً ا.
ويتضح ذلك باملثال الذي رضبه إليهم بعد« :أال وإن لكل ملك محى»
حيميه عن الناس ويمنعهم دخوله ،فمن دخله أوقع به العقوبة ..فمن قاربه يوشك
أن يقع فيه.
((( «جامع العلوم واحلكم» (.)196/1
((( «سنن الرتمذي» ( ،)2451وابن ماجه ( )4215وإسناده ضعيف.
قال الرتمذي« :هذا حديث حسن غريب ،ال نعرفه إال من هذا الوجه».
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 50
تقرب
-8حسن تعليم النبي ،حيث ّقرب املعنى برضب املثل ،واألمثال ِّ
املعاين لألفهام ،لقوله « :كالراعي يرعى حول احلمى ،»...فجعل
النبي مثل املحرمات كاحلمى الذي حتميه امللوك ألنفسهم أو ملوايش
املسلمني؛ ألن من اقرتب منها بمواشيه ،يوشك أن يقع فيها ،فكذلك من وقع يف
الشبهات ،كأنه يقرب وقوعه يف املحرمات.
-9أن اهلل جعل ملحارمه محى ،حتى ال يقع املسلم فيها ،وهلذا قال :
ﱫﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒﱪ [البقرة ،]187 :وقال :ﱫ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ
ﯱﱪ [البقرة ،]229 :وقال « :اجتنبوا السبع املوبقات»...؛ أي:
كونوا أنتم يف جانب ،وهذه السبع يف جانب آخر.
-10أن مدار األعامل عىل القلب؛ ألن احلساب يوم القيامة عند عالَّم الغيوب عىل ما
ٍ
وحينئذ فإن صالح الظاهر دليل عىل صالح الباطن ،وفساد الظاهر يف القلوب،
دليل عىل فساد الباطن ،وهلذا قال « :أال وإن يف اجلسد مضغة إذا
صلحت صلح اجلسد كله ،وإذا فسدت فسد اجلسد كله ،أال وهي القلب».
-11أنه ينبغي للمرء أن هيتم بصالح قلبه أكثر من اهتاممه بصالح بدنه ،فاحرص يا
طهره من األمراض املعنوية؛ كالغل واحلسد والغش ،وأبعد عنه
أخي عىل قلبكِّ ،
القسوة بكثرة ذكر اهلل ومداومة االستغفار.
واستمع لقوله :ﱫ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﱪ
[الشعراء.]89 ،88 :
قال القرطبي ملا ذكر قول الضحاك :السليم اخلالص ،قال« :وهذا القول
جيمع شتات األقوال بعمومه ،وهو حسن؛ أي :اخلالص من األوصاف الذميمة،
واملتصف باألوصاف اجلميلة»(((.
الحديث السابع
س ال َّدا ِر ِّي َ أنَّ ال َّنب َِّي يم ْبنِ َأ ْو ٍَع ْن َأبِي ُر َق َّي َة تَمِ ِ
سو ِل ِه
«ل َولِكِ تَا ِب ِه َو ِل َر ُ الِ َّ ِ : يح ُة»ُ ،ق ْلنَا :ل َِم ْن؟ َق َ ال« :ال ِّد ْينُ الن ِ
َّص َ َق َ
سل ٌِم(((.ِه ْم»َ ،ر َوا ُه ُم ْ امت ِ
سلِمِ ينَ َو َع َّ َوألَئ َِّم ِة ُ
الم ْ
فيه فوائد:
-1راوي احلديث :هو متيم بن أوس بن خارجة الداري ،صحايب جليل من بيت
حلم يف فلسطني ،وفد عىل النبي إىل املدينة ،وحدّ ث عنه النبي
بحديث اجلساسة ،وسكن بيت املقدس بعد مقتل عثامن .مات سنة (40هـ).
وهو من املقلني من رواية احلديث عن النبي ،فليس له يف الكتب الستة
ٍ
حديث له، إال تسعة أحاديث ،وليس له يف مسلم إال هذا احلديث ،وهو أشهر
وأرضاه(((.
-2أن النبي حرص الدين كله بالنصيحة ألمهيتها ،والشتامهلا عىل خصال الدين.
والنصيحة من النصح ،وهو يف اللغة :اخللوص ،يقال :نصحت العسل إذا خ ّلصته
من الشمع ،قال اخلطايب « :النصيحة كلمة يعرب هبا عن مجلة هي إرادة اخلري
للمنصوح له»(((.
ومعنى «الدين نصيحة»؛ أي :أن عامد الدين وقوامه النصيحة.
((( برقم ( .)55وهو من أفراد مسلم.
((( «سري أعالم النبالء» (.)422/2
((( «غريب احلديث» (.)87/2
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 52
-3أن النصيحة هلل تتضمن أمورًا ،منها:
أ-اإليامن به ،وصحة االعتقاد يف وحدانيته ،وأنه واحد ال رشيك له ،كامل يف صفاته
ال ند له ،واإليامن بأسامئه وصفاته.
ب-امتثال أوامره واجتناب نواهيه ،بحيث ال يراك حيث هناك ،وال يفقدك حيث
أمرك.
ج-إخالص النية يف عبوديته ،فال ترشك معه يف عبادته أحدً ا حتقي ًقا لقوله :ﭽﮘ
ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﭼ[البينة ،]5 :وقوله يف احلديث القديس« :من عمل
ً
عمل أرشك فيه معي غريي تركته ورشكه» ،رواه مسلم.
د-رصف مجيع أنواع العبادة له ،التوكل واإلنابة والرغبة والرهبة واخلوف واحللف،
قال الشيخ حممد بن عبد الوهاب « :فمن رصف شي ًئا من أنواع العبادة لغري
اهلل فهو مرشك كافر».
هـ -الدعوة إىل دينه والصرب عىل األذى يف ذلك.
وملا حرضت عبد اهلل بن إدريس بن يزيد األودي الكويف الوفاة بكت ابنته ،فقال:
«يا بنية ال تبكي فلقد ختمت القرآن يف هذا البيت أربعة آالف ختمة»(((.
وكان ُأ ّ
يب بن كعب خيتم القرآن يف كل ثامن ،وكان متيم الداري
خيتمه يف كل سبع ،وكان األسود بن يزيد خيتم القرآن يف كل ست(((.
واملتأمل حلال كثري من الناس اليوم جيد أن عندهم تفري ًطا يف قراءة القرآن ،وسبب
ذلك راجع إىل انشغاهلم بالدنيا حينًا ،وورود الغفلة أحيانًا أخرى ،وقد أخرب
اهلل عن ذلك بقوله :ﭽﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟ
ﯠﭼ[الفرقان.]30 :
قال ابن كثري يف تفسري هذه اآلية« :وذلك أن املرشكني إذا تيل عليهم القرآن
أكثروا اللغط والكالم يف غريه حتى ال يسمعونه؛ فهذا من هجرانه ،وترك اإليامن به،
أيضا»(((.
وعدم تدبره ،وترك العمل به ،والعدول عنه إىل غريه كل ذلك من هجرانه ً
وكذلك حفظ ما تيرس منه ،وإن أمكن حفظه ك ّله فهو أكمل وأفضل ،ففي «صحيح
البخاري» عن عثامن أن النبي قال« :خريكم من تع ّلم القرآن وع َّلمه».
ومن صور العناية به :فهمه وتدبر معانيه والعمل بام فيه ،أما فهمه وتدبر معانيه فإنه
يرشح الصدر ،ويدخل الرسور والطمأنينة عىل القلب ،ويعني عىل العمل به ،ومن
أحسن ما يساعد عىل فهمه قراءة تفسري ما أشكل منه ،ومن أحسن التفاسري تفسري
اإلمام احلافظ ابن كثري ،وكذا تفسري ابن سعدي .
وأما العمل بام فيه :فهي الغاية العظمى من إنزاله ،قال :ﭽﭲﭳﭴﭵ
ﭶﭷﭸﭹﭺﭼ [ص ،]29 :فقوله :ﭽﭲﭳﭴﭵ
ﭶﭷﭸﭹﭺﭼ؛ أي :يف آثاره ،ويف تأثريه ،ويف ثوابه.
((( «سري أعالم النبالء» (.)44/9
((( انظر« :فضائل القرآن» البن كثري ص(.)251 250
((( «تيسري العيل القدير» (.)311/3
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 54
أما كونه مباركًا يف آثاره :فقد فتح املسلمون به مشارق األرض ومغارهبا ،وأما
يف تأثريه :فكم من إنسان هداه اهلل ملا سمع آيات من القرآن تتىل ،وقصة عمر بن
اخلطاب شاهد عىل ذلك.
وأما يف ثوابه :فقد قال النبي « :من قرأ حر ًفا من كتاب اهلل فله حسنة،
واحلسنة بعرش أمثاهلا ،ال أقول :أمل حرف ،ولكن :ألف حرف ،والم حرف ،وميم
حرف» ،أخرجه الرتمذي(((.
حل َفظة وتشجيعهم عىل حفظه ،وهذه وإن مل ينص عليها أحدٌ من أهل العلم، إعانة ا َ
إال أنه عند التأمل يتبني أن إعانة احلَ َفظة ،وتشجيعهم عىل حفظ القرآن من النصح
لكتاب اهلل.
أ -اإليامن به ،وأنه رسول رب العاملني ،وأنه خاتم النبيني ،وأنه صادق أمني .
ب-طاعته فيام أمر ،وتصديقه فيام أخرب ،واجتناب ما عنه هنى وزجر ،وأن ال ُيعبد اهلل
إال بام رشع ،يف «صحيح البخاري» عن أيب هريرة أن النبي
قال« :من أطاعني دخل اجلنة ،ومن عصاين فقد أبى».
ج-تقديم حمبته عىل حمبة النفس والولد واألهل ،ففي «الصحيحني» أن
النبي قال« :ال يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده
والناس أمجعني» ،وقوله « :ثالث من كن فيه وجد حالوة اإليامن :أن
يكون اهلل ورسوله أحب إليه مما سوامها »...احلديث ،متفق عليه.
وعن عمر أنه قال :واهلل يا رسول اهلل ألنت أحب إ َّيل من كل يشء إال ِمن
نفيس ،قال « :ال يا عمر ،حتى من نفسك» ،فقال :ألنت أحب إ َّيل من
كل يشء حتى من نفيس ،فقال « :اآلن يا عمر» ،رواه البخاري.
((( برقم ( )2910عن ابن مسعود ،وأشار إىل علة فيه.
55 الحديث السابع
ولكن حمبتنا لرسول اهلل ال تعني الغلو فيه ،ورفعه فوق منزلته التي
أنزله اهلل إياها ،أو وصفه بصفات ال تليق إال باهللّ ،
فإن هذا من الغلو املنهي عنه،
فقد قال « :ال تطروين كام أطرت النصارى املسيح ابن مريم ،إنام أنا عبد
فقولوا :عبد اهلل ورسوله» ،رواه البخاري.
د-الذب عنه ،وعن ُسنَّته ودينه ،فهذا من متام النصيحة له ، ،فمن سب
النبي أو انتقصه فهو كافر ،ومن طعن يف الدين الذي جاء به فهو كافر،
وقد قال النبي ملا ذكر قصة الثالثة الذين قال أحدهم :أنا أصوم وال
أفطر ،وقال اآلخر :أنا أصيل الليل وال أنام ،وقال الثالث :ال أتزوج ،فلام ذكر
حاله ،وأنه أخشاهم هلل وأتقاهم له ،قال « :فمن رغب عن
ُسنَّتي فليس مني» .متفق عليه.
أ -مناصحتهم ببيان احلق هلم ،وقد ورد يف ذلك عدة أحاديث عن النبي .
ب-طاعتهم يف غري معصية اهلل ،وسرت عوراهتم ،وسدّ خالهتم ،ونرصهتم والذب
عنهم ،والدعاء هلم ،قال :ﭽﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ
ﯾﭼ[النساء ،]59 :فطاعتهم واجبة ،وهي من طاعة اهلل ورسوله ،
ما مل يأمروا بمعصية ،فإن أمروا بمعصية فال سمع هلم وال طاعة؛ ألن النبي
قال« :إنام الطاعة يف املعروف» ،وقال « :ال طاعة ملخلوق
يف معصية اخلالق».
ويروى عن بعض السلف أنه قال« :لو أعلم أن يل دعوة مستجابة لرصفتها
للسلطان»(((.
(((رواه أبو نعيم يف «احللية» ( )91/8عن الفضيل بن عياض ،ونسبه شيخ اإلسالم ابن تيمية يف «جمموع
أيضا.
الفتاوى» ( )391/23لإلمام أمحد ً
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 56
ج-احلذر من إفشاء عيوهبم ومعاصيهم أمام الناس؛ ألن يف ذلك فتنة ،وسبب خلروج
الناس عن طاعتهم ،ووقوع الناس يف ذمهم وغيبتهم ،وقد كان ابن عمر
وغريه من الصحابة يص ُّلون خلف احلجاج بن يوسف ،مع ما ارتكبه من املعايص
واملوبقات ،فذكر عيوب والة األمر أمام الناس عىل املنابر ،أو يف الدروس العامة،
نقص يف الدين وسفه يف العقل.
ٌ
ُسئل ابن عباس عن أمر السلطان باملعروف وهنيه عن املنكر فقال« :إن
كنت ً
فاعل وال بد ففيام بينك وبينه»(((.
-7أن النصيحة لعامة املسلمني من حقوق املسلم عىل أخيه؛ ألن النبي
قال« :حق املسلم عىل املسلم ست :وذكر منها :وإذا استنصحك فانصح له» ،فإذا
استنصحك أخاك يف رشاء سيارة ،أو زواج من امرأة ،أو دخول يف صفقة جتارية؛
فانصح له كام لو كان األمر لك.
وقد كان جرير بن عبد اهلل البجيل يقول« :بايعت النبي عىل
السمع والطاعة فل َّقنني :فيام استطعت ،والنصح لكل مسلم» .متفق عليه(((.
ومن النصيحة لعامة املسلمني :أن حيب املرء هلم ما حيب لنفسه ،ويكره هلم ما يكره
لنفسه ،لقوله « :ال يؤمن أحدكم حتى حيب ألخيه ما حيب لنفسه».
متفق عليه.
الحديث الثامن
فيه فوائد:
الحديث التاسع
س َ
ول ت َر ُ سمِ ْع ُ الَ : ص ْخرٍ َ ق َ ه َر ْي َرةَ َع ْب ِد ال َّر ْحمنِ ْبنِ ََع ْن َأبِي ُ
ُك ْم اج َت ِن ُبو ُهَ ،و َما َأ َم ْرت ُ ُك ْم َع ْن ُه َف ْ َه ْيت ُ «ما ن َ ولَ : هلل َ ي ُق ُ ا ِ
ك ا َّلذِينَ مِ ْن َق ْبل ُِك ْم َك ْث َر ُة َط ْعت ُْمَ ،ف ِإنَّما َأ ْ
ه َل َ است َِب ِه َف ْأتُوا مِ ْن ُه َما ْ
سل ٌِم(((. ِه ْم»َ ،ر َوا ُه ال ُبخَ ا ِر ُّي َو ُم ْ ه ْم َع َلى َأ ْن ِب َيائ ِ
اخ ِتالَ ُف ُ
ِه ْم َو ْ
سا ِئل َِم َ
فيه فوائد:
-1راوي احلديث :هو عبد الرمحن بن صخر الدويس ،يكنى بأيب هريرة؛ كناه
غنم فوجدت أوالد بذلك أبوه ،فقد قال« :كناين أيب بأيب هريرة؛ ألين كنت أرعى ً
هرة وحشية ،فلام أبرصهن وسمع أصواهتن ،أخربته فقال :أنت أبو هر».
أسلم عام خيرب سنة سبع من اهلجرة .وهو من أكثر الصحابة رواية للحديث عن
أكثر أبو هريرة ،واهلل لوال
النبي ،قال « :إن الناس يقولونَ :
اثنان يف كتاب اهلل ما حدثت شي ًئا ،وتال :ﭽﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﭼ
[البقرة ،]160 ،159 :وكان يقول« :إخواننا من املهاجرين شغلهم الصفق يف
األسواق ،وإخواننا من األنصار شغلهم العمل يف أمواهلم» ،وكان جيالس
النبي ويسمع منه عىل شبع بطنه ،دعا له النبي وألمه أن
حيببهام اهلل إىل عباده املؤمنني ،وحي ّبب إليهم املؤمنني ،قال « :فام ُخ ِل َق مؤمن
يسمع يب وال يراين إال أحبني» .رواه مسلم.
((( صحيح البخاري ( ،)7288ومسلم ( .)1337واللفظ ملسلم.
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 60
روى عن النبي )5374( حدي ًثا .أخرج له يف الصحيحني ()609
اتفقا منها عىل ( )326حدي ًثا ،وانفرد البخاري بـ( ،)93ومسلم بـ( )190حدي ًثا.
مات سنة (57هـ) وقيل غري ذلك(((.
-2وجوب اجتناب ما هنى عنه الرسول ،وكذلك ما هنى عنه اهلل من
باب أوىل ،والنهي هو طلب الكف عىل وجه اإللزام ،ما مل يقم دليل عىل أن النهي
للكراهة.
واعلم أن اهلل مل ينه عباده عن أمر ،إال وفيه مصلحة هلم؛ ألنه أعلم بمصالح
عباده.
-3وجوب اجتناب املنهي عنه كله؛ لقوله « :ما هنيتكم عنه فاجتنبوه» ولذا
يرخص يف ارتكاب قال بعض أهل العلم :إن النهي أشد من األمر؛ ألن النهي مل ّ
يشء منه ،واألمر قيد بحسب االستطاعة ،بل إن املنهي عنه جيب اجتناب مقدماته
ومسبباته ،كقوله :ﭽﮊﮋﮌ ﭼ[اإلرساء ]32 :فكل ما يوصل إىل
ويقرب منه فهو حمرم ،ومن القواعد املقررة عند أهل العلم :أن الوسائل الزنى ِّ
هلا أحكام املقاصد ،فإذا كان منه ًّيا عن يشء كان منه ًّيا عن مجيع طرقه وذرائعه
مأمورا بام ال يتم إال به.
ً مأمورا بيشء كان
ً ووسائله املوصلة إليه ،وإذا كان
-4وجوب امتثال أمر اهلل ورسوله ،لقوله « :وما أمرتكم به فأتوا
منه ما استطعتم» ،ما مل يرد دليل عىل أن األمر لالستحباب.
-5أن أوامر الرشع معلقة بقدرة العبد واستطاعته ،وهذا من سامحة اإلسالم ويرس
أحكامه ،دل عليه قوله « :وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم» وقوله
:ﭽﮧﮨﮩﮪﭼ[التغابن.]16 :
-6أن َم ْن عجز عن فعل املأمور به كله ،وقدر عىل بعضه فإنه يأيت بام أمكن منه ،ويدخل
يف هذا مسائل متعددة:
((( «سري أعالم النبالء» (« ،)578/2تذكرة احلفاظ» (.)32/1
61 الحديث التاسع
منها :الطهارة ،فإذا قدر عىل بعضها وعجز عن الباقي ،إما لعدم املاء أو للترضر
باستعامله ،فإنه يأيت من ذلك بام قدر عليه ويتيمم للباقي.
الحديث العاشر
َ
اهلل هلل « :إِنَّ ول ا ِ س ُ ال َر ُ الَ :ق َ ه َر ْي َرة َ ق َ َع ْن َأبِي ُ
الم ْؤمِ ِن ْينَ ب َِما َأ َم َر ِب ِه
اهلل َأ َم َر َُ ط ِّيب ًاَ ،وإِنَّ ب الَ َي ْق َب ُل ِإالَّ َ ت ََعا َلى َ
ط ِّي ٌ
َعا َلى :ﮋﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮊ [المؤمنون: ال ت َ سلِينَ َ ،ف َق َ الم ْر َ
ُ
ال ت ََعا َلى :ﮋﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮊ [البقرةُ ،]172 :ث َّم َ ،]51و َق َ
ب ث َأ ْغ َب َرَ ،ي ُم ُّد َي َد ْي ِه ِإ َلى َّ
الس َما ِءَ :يا َر ُّ ش َع َ الس َف َر َأ ْ
يل َّ ط ُ َذ َك َر ال َّر ُج َل ُي ِ
ام، ِالح َر ِ
ِي ب َ ام َو ُغذ َ ام َو َم ْل َب ُ
س ُه َح َر ٌ ش َر ُب ُه َح َر ٌ ام َو َم ْط َع ُم ُه َح َر ٌ بَ ،و َم ْ َيا َر ُّ
سل ٌِم(((. اب َل ُه»َ ،ر َوا ُه ُم ْ ست ََج ُ َف َأنَّى ُي ْ
فيه فوائد:
املنزه عن النقائص
-1إثبات اسم من أسامء اهلل ،وهو «الط ِّيب» واملراد به ّ
والعيوب.
فهو طيب يف أقواله :ﭽﮐﮑﮒﮓﮔﮕﭼ [األحزاب،]4 :
ﭽﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭼ[األنعام ،]115 :صد ًقا يف
ً
وعدل يف األحكام. األخبار،
وطيب يف أفعاله ،فأفعاله كلها مقرونة باحلكمة.
وطيب يف أسامئه وصفاته :ﭽﭳﭴﭵﭶﭷ ﭼ[األعراف ،]180 :ﭽﮊ
ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﭼ [اإلرساء.]110 :
وطيب يف ذاته ،ال يلحقه نقص وال عيب.
مسلم.
ٌ ((( برقم ( .)1015وقد انفرد به
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 64
-2إن اهلل ال يقبل من األقوال ،واألعامل ،والصدقات إال ما كان طي ًبا ،لقوله
« :ال يقبل إال طي ًبا».
فال يقبل من األقوال إال أطيبها وأزكاها :ﭽﯦﯧﯨﯩ
ﯪﯫﯬﭼ[فاطر.]10 :
طاهرا من املفسدات كالرياء
ً وال يقبل من األعامل إال ما كان طي ًبا
والعجب ،قال يف احلديث القديس« :أنا أغنى الرشكاء عن الرشك ،من
عمل ً
عمل أرشك فيه معي غريي تركته ورشكه» .رواه مسلم.
ً
حالل ،ففي «الصحيحني» عن وال يقبل من الصدقات إال ما كان طي ًبا
أيب هريرة عن النبي قال« :ما تصدّ ق أحد بصدقة من كسب
طيب ،وال يقبل اهلل إال الطيب ،إال أخذها الرمحن بيمينه ثم يربيها كام يريب أحدكم
فلوه».
َّ
فمن تصدق بامل حرام؛ كاملال الربوي أو املرسوق أو املغصوب ،فالصدقة غري
مقبولة.
-3أن الرسل وأممهم مأمورون باألكل من الطيبات التي هي احلالل ،وأن يشكروا
اهلل عليها بالعمل الصالح ،لقوله :ﭽﮡﮢﮣﮤﮥﮦ
ﮧﭼ[املؤمنون ،]51 :وقال للمؤمنني :ﭽﮀﮁﮂﮃﮄ
ﮅﮆﭼ [البقرة.]172 :
-4فيه بيان أسباب إجابة الدعاء ،وقد ذكرها بقوله « :ثم ذكر الرجل يطيل
السفر ،أشعث أغرب ،يمد يديه إىل السامء :يا رب يا رب» ،وهي أربعة أسباب:
أ-إطالة السفر ،والسفر بمجرده من أسباب إجابة الدعاء ،وقد ُروي عن النبي
أنه قال« :ثالث دعوات مستجابات ال شك فيهن :دعوة املظلوم،
ودعوة املسافر ،ودعوة الوالد لولده»(((.
((( أخرجه أبو داود ( ،)1536والرتمذي ( )1905وإسناده ضعيف ،فيه أبو جعفر املؤذن وهو جمهول.
65 الحديث العاشر
وإنام كان السفر أقرب إىل إجابة الدعاء؛ ألنه مظنة حصول انكسار النفس بطول
الغربة عن األوطان ،وحتمل املشاق ،وهذا االنكسار يوجب له خضو ًعا وذالًّ
للملك اخلالق.
ب-حصول التبذل يف اللباس واهليئة بالشعث واالغربار ،فهذا من أسباب
«رب أشعث ،مدفوع باألبواب ،لو
اإلجابة ،وقد قال النبي ُ :
ألبره» ،رواه مسلم(((.
أقسم عىل اهلل ّ
ج-رفع اليدين إىل السامء ،وهذا كام أنه من أسباب اإلجابة ،فهو ً
أيضا من آداب
الدعاء ،وقد روي عن النبي أنه قال« :إن اهلل حيي كريم
صفرا خائبتني»((( ،وقد ورد عنه
يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن ير ّدمها ً
رفع اليدين يف مواطن كثرية ،نحو ثالثني موطنًا((( ،وإنام كان
رفع اليدين مظنة اإلجابة؛ ألن يف رفعهام إظهار االفتقار إىل اهلل واالنكسار
واخلضوع بني يديه.
د-التوسل إىل اهلل بأسامئه وصفاته ،لقوله « :يا رب يا رب» ،حيث
ألح عىل اهلل بتوسله بربوبيته ،وهذا من أعظم ما يطلب به إجابة الدعاء ،وقد
قال :ﭽﭳﭴﭵﭶﭷ ﭼ[األعراف]180 :؛ أي :اجعلها
بني يدي دعائك ،فإذا أردت من اهلل الرمحة فقل :يا رمحن ارمحني ،وإذا أردت
املغفرة فقل :يا غفور اغفر يل ،وهكذا.
قال ابن رجب « :ومن تأمل األدعية املذكورة يف القرآن وجدها غال ًبا تفتتح
باسم الرب؛ كقوله :ﭽﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ
ﯢﯣﯤﯥﯦﭼ [البقرة ،]201 :ﭽﯥﯦﯧﯨﯩﯪ
ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ
((( برقم (.)2622
((( أخرجه الرتمذي ( )3556وإسناده ضعيف.
((( «رشح صحيح مسلم» (.)60/16
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 66
ﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﭼ
[البقرة ،]286 :وقوله :ﭽﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﭼ [آل عمران ،]8 :ومثل
هذا يف القرآن كثري»(((.
أ -أكل احلرام ،فإن الذي يأكل احلرام ،ويتوسع فيه مع األكل رش ًبا ً
ولبسا
وتغذية ال يستجاب دعاؤه ،ولو دعا اهلل طول عمره ،ولذا قال النبي
« :فأنى يستجاب له» ،وهذا االستفهام عىل وجه التعجب
واالستبعاد؛ أي :بعيد أن يستجيب اهلل له.
أيضا :ترك الواجبات وارتكاب املحرمات ،قال ابن رجب
ب-ومن املوانع ً
« :وقد يكون ارتكاب املحرمات الفعلية مان ًعا من اإلجابة ،وكذلك
((( «جامع العلوم واحلكم» (.)274/1
((( صحيح البخاري ( ،)1145ومسلم (.)758
((( «سنن أيب داود» ( ،)521والرتمذي (.)212
67 الحديث العاشر
ترك الواجبات ،كام يف احلديث« :أن ترك األمر باملعروف ،والنهي عن
املنكر يمنع استجابة دعاء األخيار ،وفعل الطاعات يكون موج ًبا الستجابة
الدعاء»(((.اهـ.
وجترأ عىل ارتكاب املحرمات؛ فقد أتى
فمن هتاون يف األوامر والواجباتَّ ،
مان ًعا من موانع الدعاء ،وقد قيل:
هلل
ول ا ِ س ِ ط َر ُس ْب ِِبِ ، ط ال ٍ لي ْبنِ َأبِي َ سنِ ْبنِ َع ِّ َع ْن َأبِي ُم َح َّم ٍد َ
الح َ
ول اهللَِ « :د ْع ما س ِ ت مِ ْن َر ُظ ُالَ :حفِ ْ َ و َر ْي َحا َن ِت ِه َ ق َ
ِي:
ال ال ِّت ْرمِ ذ َُّّسائ ُِّيَ ،و َق َك»َ ،ر َوا ُه ال ِّت ْرمِ ذِي َوالن َك ِإ َلى َما الَ ُي ِري ُب َُي ِري ُب َ
يح.صحِ ٌ سنٌ َ َحد ٌ
ِيث َح َ
فيه فوائد:
-1هذا احلديث رواه الرتمذي ( ،)2518والنسائي ( ،)5711وأمحد ( ،)1723وابن
حبان ( ،)722والدارمي ( )2532من طرق عن شعبة ،عن بريد بن أيب مريم ،عن
أيب احلوراء السعدي ،قال :قلت للحسن بن عيل :ما حفظت من رسول اهلل ؟ قال
فذكره.
وزادوا إال النسائي والدارمي يف آخره« :فإن الصدق طمأنينة ،وإن الكذب ريبة».
وإسناده صحيح.
وقواه الذهبي.
وقد صححه الرتمذي واحلاكم والسيوطي َّ
وله شواهد متعددة ،ال ختلو من ضعف.
-2راوي احلديث :هو احلسن بن عيل بن أيب طالب بن عبد املطلب القريش اهلاشمي
املدين ،سبط رسول اهلل ورحيانته ،وسيد شباب أهل اجلنة ،كان يش ّبه بالنبي ،كام قاله
أنس بن مالك ،وله فضائل عديدة.
قال أسامة :كان النبي يأخذين واحلسن ،ويقول« :ال َّل ُه َّم إين أحبهام
فأح َّبهام».
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 70
وقال الرباء :رأيت احلسن بن عيل عىل عاتق النبي وهو يقول:
«ال َّل ُه َّم إين ُأحبه فأح ّبه» ،أخرجاه يف «الصحيحني».
وقال أبو بكرة :رأيت رسول اهلل عىل املنرب واحلسن إىل جنبه وهو
يقول« :إن ابني هذا سيد ،ولعل اهلل أن يصلح به بني فئتني من املسلمني».
ً
عاقل ،رزينًا، وسيمً ،
مجيل، ً قال الذهبي « :وقد كان هذا اإلمام س ّيدً ا،
ِ
تزوجمنكاحا مطال ًقاّ ،
ً حمتشم ،كبري الشأن ،وكان
ً خيا ،د ِّينًا ،ور ًعا،
ممدحاً ِّ ،
جوا ًداً ،
نحوا من سبعني امرأة ،وقلام كان يفارق أربع رضائر». ً
مات شهيدً ا بالسم سنة (49هـ) وقيل50( :هـ).
وله ستة أحاديث يف «السنن األربعة»(((.
-3هذا احلديث يدل عىل ما دل عليه حديث النعامن السابق ،وفيه« :وبينهام أمور
مشتبهات ال يعلمهن كثري من الناس ،فمن اتقى الشبهات فقد استربأ لدينه
وعرضه»؛ واملعنى :أن كل أمر ترتاب فيه ،وتشك فيه فاألوىل تركه واالرتياح منه،
لئال يكون يف النفس قلق واضطراب عند فعله ،وسواء كان هذا يف أمور الدنيا أو
يف أمور اآلخرة.
واعلم أن الورع عن املشتبهات ،هو هدي السلف الصالح ،قال أبو عبد
الرمحن العمري« :إذا كان العبد ور ًعا ترك ما يريبه إىل ما ال يريبه».
وقال حسان بن أيب سنان« :ما رأيت شي ًئا أهون من الورع ،دع ما يريبك إىل ما ال
يريبك» رواه البخاري(((.
ولكن ال بد أن ُيعرف الفرق بني الورع والزهد ،فالورع :ترك ما يرض يف اآلخرة.
عرفهام شيخ اإلسالم ابن تيمية .(((
والزهد :ترك ما ال ينفع يف اآلخرة ،كذا َّ
قال ابن رجب « :وهاهنا أمر ينبغي التفطن له وهو :أن التدقيق يف التوقف
عن الشبهات إنام يصلح ملن استقامت أحواله كلها ،وتشاهبت أعامله يف التقوى
يتورع عن يشء
املحرمات الظاهرة ،ثم يريد أن ّ ّ والورع ،فأما من يقع يف انتهاك
من دقائق الشبه ،فإنه ال ُيتمل له ذلك ،بل ينكر عليه ،كام قال ابن عمر
ملن سأله عن دم البعوض من أهل العراق :يسألوين عن دم البعوض وقد قتلوا
احلسني ،وسمعت النبي يقول« :مها رحيانتاي من الدنيا»».اهـ.
-4احلرص عىل التثبت عند إرادة أي عمل من األعامل ،حتى ال يقع املرء يف الريبة
والشك والرتدد الذي ربام يندم عىل فعله ،ويالم عليه.
-5أن عالمة الصدق طمأنينة القلب به ،وعالمة الكذب حصول الريبة ،فال تسكن
القلوب إليه ،بل تنفر عنه لقوله « :فإن الصدق طمأنينة ،وإن الكذب
ريبة».
وقد وردت النصوص الكثرية باحلث عىل الصدق واجتناب الكذب وأنه من
عالمات املنافقني.
قال النبي « :عليكم بالصدق فإن الصدق هيدي إىل الرب ،وإن الرب هيدي
إىل اجلنة ،وال يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند اهلل صدي ًقا،
وإياكم والكذب فإن الكذب هيدي إىل الفجور ،وإن الفجور هيدي إىل النار ،وال
يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند اهلل كذا ًبا» .متفق عليه.
وقال « :آية املنافق ثالث :إذا حدَّ ث كذب ،وإذا وعد أخلف ،وإذا
أؤمتن خان» .متفق عليه.
والصدق :هو اإلخبار باألمر عىل ما هو عليه.
والكذب :ضده ،وهو اإلخبار بخالف الواقع ،وهو عىل درجات ،فمن أعظم
درجات الكذب وأقبحها :الكذب عىل اهلل وعىل رسوله ،يف «الصحيحني» عن
النبي قال« :من كذب عيل متعمدً ا فليتبوأ مقعده من النار».
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 72
ومنها :الكذب عىل األطفال ،فقد روى أبو داود ،أن امرأة كانت عند النبي فدعت
مترا ،قال« :أما إنَّك لو مل
ابنًا هلا ،فقال « :ما أردت أن تعطيه؟» قالتً :
عليك كِ ْذبة»(((.
ِ ِ
تعطه شيئًا كُتبت
وألن يف الكذب عليهم تعويدهم عليه ،وممارسته واستساغته.
ومنها :الكذب إلضحاك القوم ،فقد روى الرتمذي عن النبي أنه قال:
ويل له ثم ٌ
ويل له». «ويل للذي حيدث فيكذب ،ليضحك به القوم ٌ
«من أفرى ِ
الفرى أن ُيري الرجل ومنها :الكذب يف الرؤيا ،لقوله ِ :
عينيه ما مل تريا» .رواه البخاري.
فيه فوائد:
-1هذا احلديث رواه الرتمذي ( ،)2317وابن ماجه ( )3976وغريمها ،من ٍ
طرق عن
األوزاعي عن قرة بن عبد الرمحن الزهري ،عن أيب سلمة ،عن أيب هريرة
مرفو ًعا.
وإسناده ضعيف ،حلال قرة بن عبد الرمحن الزهري ،فقد ضعفه ابن معني ،وأبو
زرعة ،وأبو حاتم ،والنسائي ،وقال أمحد بن حنبل« :هو منكر احلديث جدًّ ا» ،وقال
أبو داود« :يف حديثه نكارة»(((.
وعليه فإن حتسني املؤلف له فيه نظر!
لكن املحفوظ يف احلديث هو عن الزهري ،عن عيل بن احلسني ،عن النبي
ً
مرسل .كذا رواه مالك يف «املوطأ» (.)1883
قال ابن رجب « :كذلك رواه الثقات عن الزهري ،منهم :مالك يف «املوطأ»،
ويونس ،ومعمر ،وإبراهيم بن سعد إال أنه قال « :من إيامن املرء تركه
ً
مرسل :اإلمام أمحد، ما ال يعنيه» ،وممن قال إنه ال يصح إال عن عيل بن احلسني
وحييى بن معني ،والبخاري ،والدارقطني ،وقد خلط الضعفاء يف إسناده عىل
((( «ميزان االعتدال» (.)388/3
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 74
ً
فاحشا ،والصحيح فيه املرسل».اهـ(((. الزهري ختلي ًطا
-2هذا احلديث أصل عظيم من أصول األدب ،وقد ذكر أبو عمرو بن الصالح أن
مجاع آداب اخلري وأز َّم ِته تتفرع من أربعة أحاديث ،وذكر هذا منها.
-3أن َمن ترك ما ال يعنيه من قول أو فعل ،سواء كان يف أمور دينه أو دنياه ،فقد حسن
إسالمه ،من النقص فيه ،ومتكن من حفظ وقته ولسانه ،وحصل له طمأنينة القلب
وراحة البال.
وقد ُرؤي بعض الصاحلني يتهلل وجهه عند مرض املوت ،فسئل عن ذلك؟ فقال:
«ما من عمل أوثق عندي من خصلتني :كنت ال أتكلم فيام ال يعنيني ،وكان قلبي
سليم للمسلمني».
ً
وقال سهل بن عبد اهلل التسرتي « :من تكلم فيام ال يعنيهُ ،حرم الصدق».
وقال معروف الكرخي « :كالم العبد فيام ال يعنيه خذالن من اهلل ،»
فينبغي للمسلم أن حيذر التدخل فيام ال يعنيه ،ليكمل له دينه.
-4أن مفهومه يدل عىل أنه ينبغي للمرء أن يشتغل بام يعنيه وال يضيع ما هيمه من أمور
دينه ودنياه ،بل يبذل جهده ما استطاع يف حتقيق مرضاة ربه وحتصيل مقصوده،
مع االستعانة باهلل وسؤاله التوفيق والسداد ،قال النبي « :املؤمن
خري وأحب إىل اهلل من املؤمن الضعيف ،احرص عىل ما ينفعك ،واستعن القوي ٌ
باهلل وال تعجز» .رواه مسلم.
وقد قيل:
فــأول مــا جينــي عليــه اجتهــاده إذا مل يكــن عــون مــن اللَّ للفتــى
هلل ، ول ا ِس ِ ِم َر ُِك خَ اد ِ َس ْبنِ َمال ٍ َع ْن َأبِي َح ْمزَةَ َأن ِ
ب ألَخِ ْي ِه َما ُيحِ ُّ
ب ِلن َْف ِ
سهِ»، ال« :الَ ُي ْؤمِ نُ َأ َح ُد ُك ْم َحتَّى ُيحِ َّعن النَّبي َق َ
سل ٌِم(((. َر َوا ُه ال ُبخَ ا ِر ُّي َو ُم ْ
فيه فوائد:
-1راوي احلديث :هو أنس بن مالك بن النرض ،أبو محزة األنصاري اخلزرجي ،خادم
النبي وتلميذه ،وآخر أصحابه موتًا .
دعا له النبي فقال« :ال َّل ُه َّم أكثر ماله وولده» ،قال « :فواهلل إن
مايل لكثري ،وإن ولدي وولد ولدي يتعادون عىل نحو من ٍ
مائة اليوم» .رواه مسلم. ُّ
ويف البخاري أنه قال « :حدثتني أمينة ابنتي أنه دفن من صلبي إىل مقدم
احلجاج البرصة تسعة وعرشون ومائة».
وروي أنه كان له بستان حيمل يف السنة الفاكهة مرتني ،وكان فيها رحيان جييء منه
ريح املسك.
وهذا بفضل دعوة النبي .
روى عن النبي 2286( حدي ًثا) ،اتفق البخاري ومسلم عىل (،)180
وانفرد البخاري بـ( 80حدي ًثا) ،ومسلم بـ(.)90
مات سنة (92هـ) وقد جاوز املائة عام(((.
(((«صحيح البخاري» ( ،)13ومسلم (.)71
((( «اإلصابة» (« ،)71/1السري» (.)395/3
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 76
-2أن من كامل اإليامن وخصاله الواجبة ،أن حيب املرء ألخيه املؤمن ما حيب لنفسه
من ُأمور الدين والدنيا ،ويكره له ما يكرهه لنفسه؛ ألن هذا هو مقتىض األُخوة
اإليامنية.
ولذا قال النبي « :فمن أحب أن يزحزح عن النار ،ويدخل اجلنة ،فلتأته
ِ
وليأت إىل الناس الذي حيب أن يؤتى إليه». من َّيته ،وهو يؤمن باهلل واليوم اآلخر،
رواه مسلم(((.
وقد كان السلف حيرصون عىل ذلك أشد احلرص ،كان حممد بن واسع
محارا له ،فقال له رجل :أترضاه يل؟ فقال :لو رضيته مل أبعه(((.
يبيع ً
وهذه إشارة منه إىل أنه ال يرىض ألخيه إال ما يرىض لنفسه.
-3أن من أحب ألخيه ما حيب لنفسه ،فقد سلم صدره من الغل والغش واحلسد؛ ألن
دائم أن يمتاز
احلسد يمنع احلاسد من أن حيب لآلخرين ما حيب لنفسه ،بل حيب ً
عن الناس ،وأالَّ يفوقه أحد.
-4أن من زالت عنه هذه الصفة وهي حمبته ألخيه ما حيب لنفسه فقد نقص إيامنه،
لقوله « :ال يؤمن» ،وهذا يدل بمنطوقه عىل التحذير مما يوجب نقص
اإليامن ،وبمفهومه عىل أنه ينبغي للمؤمنني أن يكونوا إخوة متحابني ،تسود بينهم
اإللفة ،وتغمرهم املحبة واملودة ،وقد وصف النبي حاهلم بقوله « :مثل
املؤمنني يف توادهم وتعاطفهم وترامحهم مثل اجلسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له
سائر اجلسد باحلمى والسهر» .متفق عليه.
السنَّة واجلامعة :أن
-5أن اإليامن يتفاضل ،منه كامل ومنه ناقص ،وهذا مذهب أهل ُّ
اإليامن يزيد وينقص ،يزيد بالطاعات ،وينقص باملعايص والسيئات.
قال البخاري يف «صحيحه» :باب زيادة اإليامن ونقصانه ،وقول اهلل :
((( برقم (.)1844
((( «جامع العلوم واحلكم» (.)305/1
77 الحديث الثالث عشر
فيه فوائد:
-1أن املراد بنفي احلل؛ يعني :التحريم.
-2عصمة دم املسلم إال بواحد من هذه الثالثة املذكورة يف هذا احلديث.
وقد وردت أدلة كثرية تدل عىل عصمة املسلم ،قال « :إن دماءكم
وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام »...احلديث .متفق عليه.
ويف «صحيح مسلم» عن أيب هريرة أن رسول اهلل قال« :كل
املسلم عىل املسلم حرام دمه وعرضه وماله».
-3أن ممن حيل دمه :الثيب الزاين.
والثيب هو :من جامع زوجته يف نكاح صحيح ،ومها بالغان عاقالن َّ
حران ،وحدّ ه
ماعزا والغامدية واليهوديني
الرجم باحلجارة حتى املوت باإلمجاع ،وقد رجم النبي ً
وامرأة صاحب العسيف ،ويف «صحيح البخاري» عن عمر أنه قال« :وأن
حل َبل أو االعرتاف».
الرجم حق يف كتاب اهلل عىل من زنى إذا أحصن أو كان ا َ
((( صحيح البخاري ( ،)6878ومسلم (.)1676
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 80
وقد استنبط ابن عباس الرجم من القرآن الكريم ،من قوله :
ﭽﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ
ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭼ[املائدة ]15 :قال« :فمن كفر
بالرجم ،فقد كفر بالقرآن من حيث ال حيتسب ،ثم تال هذه اآلية ،قال :فكان
الرجم مما أخفوا» .أخرجه النسائي(((.
وقد روي يف اآلية املنسوخة لف ًظا« :الشيخ والشيخة إذا زنيا فارمجومها البتة ً
نكال
من اهلل واهلل عزيز حكيم»(((.
فإن قيل :ثبت يف «صحيح مسلم» عن عبادة بن الصامت أن النبي
قال« :خذوا عني خذوا عني ،فقد جعل اهلل هلن ً
سبيل :البكر بالبكر
جلد مائة ونفي سنة ،والثيب بالثيب جلد مائة والرجم».
وهذا احلديث يدل عىل أنه ُيمع للزاين املحصن بني اجللد والرجم.
فاجلواب :أن هذا احلديث منسوخ ،وآخر األمرين منه االقتصار عىل رجم املحصن
دون جلده ،كام يف قصة ماعز والغامدية وغريمها.
فإن قيل :وهل يقوم قتله بالسيف مقام رمجه باحلجارة؟
فاجلواب :ال؛ ألن احلكمة من مرشوعية الرجم ،لكي يذوق بدنه كله أمل احلجارة،
كام ذاق بدنه كله لذة الشهوة املحرمة ،وهذا ال حيصل بقتله بالسيف.
حق عمدً ا فإنه يقتل هبا ،لقوله « :والنفس
نفسا بغري ٍّ
-4أن املكلف إذا قتل ً
بالنفس» ،ولقوله :ﭽﮮﮯﮰﮱﯓﯔﭼ [املائدة ،]45 :وقال
:ﭽﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ
((( يف «الكربى» (.)7124
ب بن كعب ...وذكر أن موضعها سورة األحزاب. (((أخرجه النسائي يف «الكربى» ( )7112موقو ًفا عىل ُأ َ
«وقد طعن األئمة يف ثبوت هذه اآلية واعتربوا ذلك من أفراد سفيان بن عيينة ،عن الزهري ،وقد خالفه
ثامنية من أصحاب الزهري مل يذكروها.»....
81 الحديث الرابع عشر
ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ
ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﭼ[البقرة.]178 :
وقتل املؤمن بغري حق من كبائر الذنوب ،لقوله :ﭽﮓﮔﮕ
ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ
ﮢﭼ[النساء.]93 :
وقد روي عن ابن عباس أنه قال يف القاتل عمدً ا« :ال توبة له ..،وأنى
له التوبة»((( ،واجلمهور عىل أن له توبة ،لقوله :ﭽﭑﭒﭓﭔﭕ
ﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭼ [الفرقان ،]68 :إىل قوله:
ﭽﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ
ﮁﮂﭼ[الفرقان ،]70 :ولكن لعل مراد ابن عباس أنه ال توبة له فيام يتعلق
بحق املقتول ،أو أنه ال يوفق للتوبة ،كام قاله ابن القيم .(((
فإن قيل :كيف يقتل؟
فاجلواب :أن القاتل ُيقتل كام قتل ،فإن كان قد قتل املجني عليه برصاص قتلناه
برصاص ،وإن كان قد قتله باخلنق قتلناه باخلنق ،وهكذا لقوله :ﭽﯡ
ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﭼ[النحل.]126 :
وأما حديث« :ال قود إال بالسيف»((( ،فهو حديث ضعيف جدًّ ا.
-5أن عموم قوله « :والنفس بالنفس» يدل عىل أن الرجل يقتل باملرأة،
وهو كذلك ،وحلديث عمرو بن حزم« :وأن الرجل يقتل باملرأة».
فإن قيل :وهل يشمل ما لو قتل احلر عبدً ا؟
فاجلواب :ال ،وقد وردت يف ذلك أحاديث يف أسانيدها مقال.
((( أخرجه الرتمذي (.)3029
((( «مدارج السالكني» (.)402/1
((( أخرجه ابن ماجه (.)2667
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 82
وأما حديث« :من قتل عبده قتلناه ،ومن جدع عبده جدعناه»((( ،فهو حديث
ضعيف ال حيتج به.
س :وهل يشمل ما لو قتل الرجل ولده؟
ج :فيه خالف بني أهل العلم ،فمنهم من قال :ال يقتل به حلديث« :ال يقاد الوالد
بولده»((( ،وألنه السبب يف إجياده ،فال يكون االبن السبب يف إعدامه.
ومنهم من قال :يقتل به لعموم احلديث.
وقال اإلمام مالك :إن تعمد قتله تعمدً ا ال يشك فيه ،مثل أن يضطجعه
ويذبحه ،فإنه يقتل به ،وإن حذفه بسيف أو عصا ،مل يقتل.
وهذا القول أقرب األقوال ،وأما حديث« :ال يقاد الوالد بولده» فقد قال الرتمذي
« :حديث فيه اضطراب».
س :وهل يشمل ما لو قتل مسلم ً
كافرا أو ذم ًّيا أو معاهدً ا؟
ج :ال ،ملا ثبت يف «الصحيح» عن النبي قال« :ال يقتل مسلم بكافر».
لكن الذمي واملعاهد واملستأمن إذا قتل املسلم واحدً ا منهم؛ فعليه الدية .وهي
عىل النصف من دية املسلم ،لقوله « :عقل أهل الذمة نصف عقل
املسلمني» .رواه النسائي(((.
-6أن من ترك دين اإلسالم وارتد عنه ،وفارق مجاعة املسلمني فقد حل دمه ،لقوله:
«والتارك لدينه املفارق للجامعة».
ولقوله « :من بدّ ل دينه فاقتلوه» .رواه البخاري.
وروى النسائي عن عثامن مرفو ًعا ..وفيه« :ال حيل دم امرئ مسلم
إال بإحدى ثالث :رجل كفر بعد إسالمه »..احلديث(((.
(((أخرجه أبو داود ( ،)4515والرتمذي ( .)1414قال اإلمام أمحد « :أخشى أن يكون هذا احلديث
ال يثبت»« ،مسائل أمحد رواية ابنه عبد اهلل» ص(.)409
((( أخرجه الرتمذي (.)1400
((( برقم ( )4806من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
((( «سنن النسائي» ( )4019وإسناده صحيح.
83 الحديث الرابع عشر
-7أن من ترك اإلسالم ،ثم تاب ورجع إليه فإنه ال يقتل؛ ألنه ليس بتارك لدينه بعد
رجوعه وال مفارق للجامعة.
-8أن ظاهره يدل عىل أن من ترك دينه إىل أي دين كان فإنه يقتل ،ولكن هذا الظاهر
غري مراد ،لرواية مسلم« :التارك لإلسالم» ،فدل عىل أن من ترك دين اإلسالم فإنه
يقتل.
-9إذا قال قائل :هل ورد قتل املسلم بغري إحدى هذه اخلصال الثالث.
ً
خصال أخرى: فاجلواب :نعم ،وقد ذكر ابن رجب وغريه
من ذلك :يف اللواط ،فإنه يقتل الفاعل واملفعول به ،وقد ورد فيه حديث ،قال شيخ
اإلسالم ابن تيمية « :اتفق الصحابة عىل قتلهام مجي ًعا يعني :الفاعل واملفعول
تنوعوا يف صفة القتل»(((.
به ،ولكن َّ
ومنها :من أتى ذات حمرم ،ملا ُروي عن النبي أنه قتل من ّ
تزوج بامرأة
أبيه(((.
ومنها :الساحر .فقد روي عن جندب مرفو ًعا« :حد الساحر رضبة بالسيف»(((،
وروي موقو ًفا ،وهو أصح.
ومنها :ما روي عنه أنه قال « :إذا بويع خلليفتني فاقتلوا اآلخر منهام».
رواه مسلم.
ومنها :قوله « :من أتاكم وأمركم مجيع عىل رجل واحد ،فأراد أن يشق
عصاكم ،أو يفرق مجاعتكم فاقتلوه» .رواه مسلم.
ٌ
خصال أخرى. وهناك
«م ْن َكانَ الَ : هلل َ ق َ ول ا ِ س َ ه َر ْي َرةَ َ أنَّ َر ُ َع ْن َأبِي ُ
تَ ،و َم ْن َكانَ ُي ْؤمِ نُص ُم ْ وم اآلخِ ِر َف ْل َي ُق ْل خَ ْير ًا َأ ْو ِل َي ْ ُي ْؤمِ نُ بِا ِ
هلل َوال َي ِ
هلل َوال َي ْو ِم اآلخِ ِر َف ْل ُي ْك ِر ْم َجا َر ُهَ ،و َم ْن َكانَ ُي ْؤمِ نُ بِا ِ
هلل َوال َي ْو ِم اآلخِ ِر بِا ِ
سل ٌِم(((. ض ْي َف ُه»َ ،ر َوا ُه ال ُبخَ ا ِر ُّي َو ُم َْف ْل ُي ْك ِر ْم َ
فيه فوائد:
-1أن هذه اخلصال املذكورة يف احلديث هي من خصال اإليامن وجتمع مكارم األخالق
القولية والفعلية ،وأعامل اإليامن تارة تتعلق بحقوق اهلل؛ كأداء الواجبات وترك
املحرمات ،وتارة تتعلق بحقوق عباده؛ كإكرام الضيف ،وإكرام اجلار ،والكف
عن أذاه ،ذكره ابن رجب يف «رشحه».
خريا أو ليصمت» ،وقد
-2احلث عىل قول اخلري والصمت عام سواه ،لقوله« :فليقل ً
جاءت النصوص الكثرية يف احلث عىل حفظ اللسان وصون الكالم.
قال :ﭽﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ
ﭰﭱ ﭼ[ق.]18 ،17 :
ويف «الصحيحني» وغريمها ،عن أيب هريرة عن النبي قال:
«إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبني ما فيها ،يزل هبا يف النار أبعد ما بني املرشق
واملغرب».
((( «صحيح البخاري» ( ،)6475ومسلم ( ،)74ويف رواية للبخاري« :فال يؤذ جاره».
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 86
ويف البخاري عنه عن النبي قال« :إن العبد ليتكلم بالكلمة
من رضوان اهلل ال يلقي هلا ً
بال يرفعه اهلل هبا درجات ،وإن العبد ليتكلم بالكلمة من
بال هيوي هبا يف جهنم»(((.سخط اهلل ال يلقي هلا ً
ويف حديث معاذ اآليت« :وهل يكب الناس يف النار عىل وجوههم أو قال:
عىل مناخرهم إال حصائد ألسنتهم»(((.
خريا أو ليصمت» ،يدل عىل أنه ليس هناك قال ابن رجب « :قوله« :فليقل ً
مأمورا بقوله ،وإما
ً خريا فيكون
كالم يستوي قوله والصمت عنه ،بل إما أن يكون ً
مأمورا بالصمت عنه»(((.
ً أن يكون غري خري فيكون
واختلف العلامء هل يكتب عىل املرء كل ما تكلم به أو ال يكتب عليه إال ما فيه
ثواب أو عقاب؟ عىل قولني .وقد قال عيل بن أيب طلحة عن ابن عباس :
«يكتب كل ما تكلم به من خري أو رش ،حتى إنه ليكتب قوله :أكلت ورشبت
وذهبت وجئت ،حتى إذا كان يوم اخلميس عرض قوله وعمله ُفأقر ما كان فيه من
خري أو رش ،وألقي سائره ،فذلك قوله :ﭽﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ
ﯜﯝﭼ[الرعد.]39 :
طاووسا
ً وكان اإلمام أمحد يف مرضه يسمع له أنني ،فقال له أصحابه :إن
يقول« :إن أنني املريض يكتب عليه» ،فأمسك عن األنني.
وذكر القرطبي عن أيب اجلوزاء وجماهد أهنام قاال« :يكتب عىل اإلنسان كل
يشء حتى األنني يف مرضه».
وقال عكرمة « :ال يكتب إال ما يؤجر به أو يؤزر عليه».
مباحا
قال :وقيل :يكتب عليه كل ما يتكلم به ،فإذا كان آخر النهار حمي عنه ما كان ً
نحو :انطلق ،اقعد ،كل ،مما ال يتعلق به أجر وال وزر» اه(((.
((( «صحيح البخاري» (.)6478
((( وهو احلديث رقم (.)29
((( «جامع العلوم واحلكم» (.)335/1
((( «تفسري القرطبي» (.)11/17
87 الحديث الخامس عشر
-3التحذير من كثرة الكالم الذي ال فائدة فيه؛ ألنه يوجب قسوة القلب ،وقد قال أمري
املؤمنني عمر « :من َك ُثر كالمه َك ُثر َسقطه ،ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه،
ومن كثرت ذنوبه كانت النار أوىل به»(((.
وكان أبو بكر يأخذ بلسانه ويقول :هذا أوردين املوارد .فليحذر املسلم من
لسانه ،وال يتلفظ إال بخري ،فطوبى لعبد راقب لسانه وكبح مجاحه فحفظه من كل
ما يغضب اهلل.
ولذا قال بعض السلف« :تعرض عىل ابن آدم يوم القيامة ساعات عمره ،فكل
ساعة مل يذكر اهلل فيها إال تقطعت نفسه عليها حرسات».
-4وجوب إكرام اجلار ،لقوله « :ومن كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليكرم
جاره» ،واجلار هو املالصق لك يف الدار ،أو هو كل من جرى به العرف أنه جار.
وإكرامه يكون بصور :مالقاته بوجه طليق ،والسؤال عن حاله ،وعيادته إذا مرض،
والقيام بمواساته عند حاجته ،وحفظ عوراته ،والذب عن عرضه ،وتعاهده باهلدية
والصدقة ،ففي «صحيح مسلم» عن أيب ذر أن النبي قال له:
«يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جريانك».
وثبت يف «الصحيحني» أن النبي قال« :ما زال جربيل يوصيني باجلار
حتى ظننت أنه سيورثه».
-5حتريم أذية اجلار ،لقوله يف رواية« :فال يؤذ جاره» ،ومن صور أذيته :االعتداء عىل
حرمته ،يف «الصحيحني» عن ابن مسعود عن النبي أنه سئل:
«أي الذنب أعظم؟ قال :أن جتعل هلل ندًّ ا وهو خلقك ،قيل :ثم أي؟ قال :أن تقتل
ولدك خمافة أن يطعم معك ،قيل :ثم أي؟ قال :أن تزاين حليلة جارك».
ويف «صحيح البخاري» عن أيب رشيح عن النبي قال« :واهلل ال يؤمن،
واهلل ال يؤمن ،واهلل ال يؤمن ،قيل :ومن يا رسول اهلل؟ قال :من ال يأمن جاره
بوائقه»؛ أي :ظلمه وغشمه وعدوانه.
((( «جامع العلوم» (.)339/1
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 88
ومنها :الكالم يف عرضه بالقدح والذم ،فقد روى اإلمام أمحد من حديث أيب هريرة
قال :قيل :يا رسول اهلل إن فالنة تصيل الليل ،وتصوم النهار ،ويف لساهنا
يشء تؤذي جرياهنا سليطة ،قال « :ال خري فيها ،هي يف النار».
ومنها :االعتداء عىل حقوقه وممتلكاته من سيارة وأشجار ونحومها.
والجيران ثالثة:
جار قريب مسلم ،وجار مسلم ،وجار كافر.
فاجلار القريب املسلم له ثالثة حقوق :حق اإلسالم ،وحق القرابة ،وحق اجلوار.
واجلار املسلم له حقان :حق اإلسالم ،وحق اجلوار.
واجلار الكافر له حق واحد :وهو حق اجلوار.
-6وجوب إكرام الضيف حق الضيافة ،وهي يوم وليلة ،والضيافة ثالثة أيام ،وما زاد
فهو صدقة ،ملا ثبت يف «الصحيحني» عن أيب رشيح عن النبي قال:
«الضيافة ثالثة أيام ،وجائزته يوم وليلة ،وما أنفق عليه بعد ذلك فهو صدقة ،وال
حيل له أن يثوي عنده ،حتى يؤثمه» ،قالوا :يا رسول اهلل ،وكيف يؤثمه؟ قال« :يقيم
عنده وال يشء له يقريه به»(((.
وإكرامه يكون بحسب ما جرى به العرف؛ ألنه مل حيدد من ِقبل الرشع .واإلكرام
يشمل اإلكرام القويل بالبشاشة وطالقة الوجه والرتحيب به .واإلكرام الفعيل
بتقديم حق الضيافة...
قال العلامء :وللضيف املطالبة بحقه إذا منعه املض ّيف؛ ألنه حق واجب له(((،
وإكرامه يكون بحسب ما جرى به العرف ،وعىل حسب حال املض ّيف.
صنِيَ ،ق َ
ال: ال لِل َّنب ِِّي َ :أ ْو ِ ه َر ْي َرةَ َ أنَّ َر ُجالً َق َ َع ْن َأبِي ُ
ب»َ ،ر َوا ُه ال ُبخَ ا ِر ُّي(((. ال« :الَ ت َْغ َ
ض ْ ب»َ ،ف َر َّد َد مِ َرار ًاَ ،ق َ
ض ْ «الَ ت َْغ َ
فيه فوائد:
-1الغضب هو غليان دم القلب إلرادة االنتقام ،وهو مجرة يلقيها الشيطان يف قلب
ابن آدم.
وكرر النبي عدم الغضب عىل السائل مما يدل عىل أن الغضب مجاع ّ
التحرز منه مجاع اخلري.
ّ الرش ،وأن
-2قوله« :ال تغضب» ،يتضمن أمرين عظيمني:
ِ
اخللق ،واحللم والصرب، أحدمها :اجتناب أسباب الغضب ،والتمرن عىل حسن
وتوطني النفس عىل ما يصيب اإلنسان من اخلَلق من األذى القويل والفعيل ،فإذا
ُو ِّفق هلا العبد ،وورد عليه وارد الغضب ،احتمله بحسن خلقه ،وتلقاه بحلمه
وصربه ،ومعرفته بحسن عواقبه.
الثاين :عدم العمل بمقتىض الغضب إذا وقع منه ،فإن الغضب غال ًبا ال يتمكن
اإلنسان من دفعه ورده ،ولكن يتمكن من عدم تنفيذه ،فعليه إذا غضب أن يمنع
نفسه من األقوال واألفعال املحرمة التي يقتضيها الغضب(((.
((( «صحيح البخاري» ( )6116وهو من أفراد البخاري.
((( انظر« :جامع العلوم» ( ،)364/1و «هبجة قلوب األبرار» ص(.)135
-3أن عالج الغضب قبل وقوعه ،هو بام تقدم ،وبتوطني النفس عىل عدم الغضب.
ومنها:الوضوء ،ملا روى أبو داود من حديث عروة بن حممد السعدي عن أبيه عن
جده مرفو ًعا« :إن الغضب من الشيطان ،وإن الشيطان ُخلق من النار ،وإنام
تطفأ النار باملاء ،فإذا غضب أحدكم فليتوضأ»(((.
ومنها:السكوت ،فعن ابن عباس ،عن النبي قال« :وإذا
غضب أحدكم فليسكت» .رواه أمحد بسند فيه ضعف(((.
أيضا دواء عظيم للغضب؛ ألن الغضبان يصدر قال ابن رجب « :وهذا ً
السباب
كثريا من ِّ
منه يف حال غضبه من القول ما يندم عليه يف حال زوال غضبه ً
وغريه ،مما يعظم رضره ،فإذا سكت زال هذا الرش كله عنه»(((.اهـ.
ومنها :تغيير الهيئة والحالة التي هو عليها ،وقد ورد فيها حديثان:
ً
مطول ،وفيه« :أال إن الغضب مجرة يف قلب ابن ـحديث أيب سعيد اخلدري
آدم ،أفام رأيتم إىل محرة عينيه ،وانتفاخ أوداجه ،فمن أحس من ذلك شيئًا فليلزق
باألرض» .رواه أمحد والرتمذي بإسناد ضعيف(((.
ـوحديث أيب ذر أن النبي قال« :إذا غضب أحدكم وهو قائم
فليجلس ،فإن ذهب عنه الغضب وإال فليضطجع» .رواه أبو داود ،ويف سنده اختالف(((.
قال ابن األثري « :معناه :أن القائم مته ّيئ للحركة والبطش ،والقاعد دونه
يف ذلك ،واملضطجع دوهنام ،ويشبه أن يكون إنام أمره باجللوس واالضطجاع؛ لئال
يبدر منه يف حال قيامه بادرة يندم عليها فيام بعدُ ».اهـ(((.
((( انظر« :إغاثة اللهفان يف حكم طالق الغضبان» ،البن القيم ص(.)32
((( «صحيح مسلم» ( ،)25وأبو داود (.)5225
93 الحديث السادس عشر
هلل
ول ا ِ س ِ س َ ع ْن َر ُ ش َّدا ِد ْبنِ َأ ْو ٍ َع ْن َأبِي َي ْع َلى َ
سنُوا يءَ ،ف ِإ َذا َق َت ْلت ُْم َف َأ ْح ِ َ ُ ِّ َ اهلل َكت َ َ َق َ
سانَ َعلى كل ش ٍ َب اإل ِْح َ ال« :إِنَّ
ش ْف َر َت ُهَ ،و ْل ُي ِر ْحسنُوا ال ِّذ ْب َحةََ ،و ْل ُيحِ َّد َأ َح ُد ُك ْم َ القِ ْت َلةََ ،و ِإ َذا َذ َب ْحت ُْم َف َأ ْح ِ
سل ٌِم(((. ِيح َت ُه»َ ،ر َوا ُه ُم ْ َذب َ
فيه فوائد:
-1راوي احلديث :هو شداد بن أوس بن ثابت األنصاري ،أبو يعىل ،ابن أخي حسان
بن ثابت ،من فضالء الصحابة وعلامئهم.
وحلم».
ً علم
قال عنه أبو الدرداء « :إن شداد بن أوس أويت ً
وقال خالد بن معدان« :مل يبق بالشام أحدٌ كان أوثق وال أفقه وال أرىض من عبادة
بن الصامت وشداد بن أوس».
له يف الكتب الستة :ستة عرش حدي ًثا باملكرر .وليس له يف الصحيحني سوى
حديثني ،هذا أحدمها واآلخر حديث سيد االستغفار يف «صحيح البخاري».
مات بالشام سنة (58هـ)(((.
-2إن اهلل قد فرض اإلحسان عىل كل يشء ،وذلك ملحبته له ،فهو حمسن حيب املحسنني،
وهو مع الذين اتقوا والذين هم حمسنون.
وقد روى اإلمام أمحد من حديث ابن عمر قال :أمر رسول اهلل
بحدّ الشفار ،وأن تُوارى عنه البهائم ،وقال « :إذا ذبح
أحدكم فل ُيجهز»(((.
ومنها :إراحة الذبيحة ،وذلك بإضجاعها عىل أحد شقيها ،ووضع الذابح رجله
عىل صفاحها ،ثم تذكيتها ،وتركها حتى خيرج الدم منها بغزارة.
ومنها :قطع األوداج مع قطع احللقوم واملريء ،وقد روى أبو داود من حديث
عكرمة ،عن ابن عباس وأيب هريرة عن النبي « :أنه هنى عن رشيطة
الشيطان ،وهي التي تذبح فتَقطع اجللد ،وال تُفري األوداج»(((.
قال عكرمة « :كانوا يقطعون منها اليشء اليسري ،ثم يدعوهنا حتى متوت،
وال يقطعون الودج ،فنهى عن ذلك».
ومنها :مواراة السكني عن الذبيحة عند سنّها ،وعدم ذبحها أمام البهائم.
قال اإلمام أمحد « :تقاد إىل الذبح قو ًدا رفي ًقا ،وتوارى السكني عنها ،وال
تُظهر السكني إال عند الذبح ،أمر رسول اهلل بذلك أن توارى الشفار ،وقال :ما
أهبمت عليه البهائم فلم تبهم أهنا تعرف رهبا ،وتعرف أهنا متوت ،وقالُ :يروى عن
كل يشء إال عىل أهنا تعرف رهبا ،وختاف ابن سابط أنه قال :إن البهائم ُجبِلت عىل ِّ
املوت»(((.
ورأى ابن عمر ً
رجل قد وضع رجله عىل شاة ،وهو حيد السكني ،فرضبه
حتى أ ْفلت الشاة(((.
وقد قيل :إن البهيمة إذا تُركت تنظر إىل البهائم وهي تُذبح ،أو تنظر إىل السكني
عند سنّها ،فإهنا تفرز مادة تفسد اللحم .فاهلل أعلم.
((( «مسند أمحد» ( ،)5864ويف إسناده ابن هليعة وهو ضعيف.
((( «سنن أيب داود» ( ،)2826وإسناده ضعيف.
((( «جامع العلوم واحلكم» (.)392/1
((( «املغني» (.)305/13
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 96
ومنها :عدم كرس عنقها أو سلخها قبل زهوق الروح ،ملا روى الدارقطني عن أيب
هريرة ،عن النبي قال« :ال تعجلوا األنفس قبل أن تزهق»(((.
توجه إىل القبلة؟
فإن قال قائل :وهل من اإلحسان إىل البهيمة عند ذبحها أن ّ
قال ذلك بعض أهل العلم ،وكرهوا أن توجه عند الذبح إىل غري القبلة ،ولكن الذي
يظهر أنه ال يشرتط توجيهها إىل القبلة ،فإن أمكن ذلك من غري مشقة فحسن(((.
ب ْبنِ ُجنَا َدةَ َ ،و َأبِي َع ْب ِد ال َّر ْحمنِ ُم َعا ِذ ْبنِ َج َب ٍل َع ْن َأبِي َذ ٍّر ُج ْن ُد ِ
تَ ،و َأ ْتبِع َّق َ
اهلل َح ْي ُث َما ُك ْن َ هلل َ ق َ
الِ « :ات ِ ول ا ِ س ِ َ ،ع ْن َر ُ
ِيس ٍن»َ ،ر َوا ُه ال ِّت ْرمِ ذ ُّ َّاس بِخُ ُل ٍق َح َ
هاَ ،وخَ ال ِِق الن َ س َن َة ت َْم ُح َ الس ِّي َئ َة َ
الح َ َّ
يح.
صحِ ٌ سنٌ َ سخَ :ح َ ض ال ُّن َ
سنٌ َ ،وفِ ي َب ْع ِ ِيث َح َ الَ :حد ٌ َو َق َ
فيه فوائد:
-1هذا احلديث أخرجه الرتمذي ( )1987من طريق سفيان ،عن حبيب بن أيب ثابت،
عن ميمون بن أيب شبيب ،عن أيب ذر ومعاذ بن جبل .
األوىل :حبيب بن أيب ثابت مدلس ،وقد عنعن ومل يرصح بالتحديث.
الثانية :أن ميمون بن أيب شبيب مل يصح سامعه من أحد من الصحابة.
قال الفالس « :ليس يف يشء من رواياته عن الصحابة :سمعت ،ومل أخرب أن
أحدً ا يزعم أنه سمع من أصحاب النبي»(((.
وقال ابن أيب حاتم « :سألت أيب عن ابن أيب شبيب ،عن أيب ذر متصل؟ قال :ال»(((.
لكن احلديث له شواهد متعددة ،ذكرها ابن رجب ،وله عدة طرق ،فلعله هبا
يتقوى إىل احلسن لغريه.
((( «جامع العلوم واحلكم» (.)396/1
((( «املراسيل» ص(.)167
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 98
وقول املؤلف« :وقال :حديث حسن ،ويف بعض النسخ :حسن صحيح» .أقول:
املوجود يف سنن الرتمذي ط .بشار عواد :حسن صحيح .لكن احلكم األول أليق
باحلديث.
2راويا الحديث:
أما أبو ذر فهو :جندب بن جنادة بن سفيان الغفاري ،صحايب مشهور،
بدرا ،ومناقبه كثرية جدًّ ا ،وقد ساق
تقدم إسالمه ،وتأخرت هجرته ،فلم يشهد ً
بعضا منها.
مسلم يف «صحيحه» ً
له يف الكتب الستة :مائة وأربعة عرش حدي ًثا باملكرر.
مات سنة (32هـ) يف خالفة عثامن(((.
وأما معاذ :فهو أبو عبد الرمحن معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس األنصاري
بدرا وما بعدها ،وكان إليه املنتهى يف العلم
اخلزرجي ،من أعيان الصحابة ،شهد ً
باألحكام والقرآن.
له يف الكتب الستة :ثامن وسبعون حدي ًثا باملكرر.
مات بالشام سنة (18هـ)(((.
-3هذا احلديث حديث عظيم ،مجع فيه النبي بني حق اهلل وحقوق عباده ،فحق اهلل عىل
عباده :أن يتَّقوه حق تقاته ،والتقوى :أن جتعل بينك وبني عذاب اهلل وقاية بفعل
أوامره واجتناب نواهيه.
ﭽﮥﮦﮧﮨﮩﮪﭼ [النساء: وهي وصية اهلل لألولني واآلخرين:
،]131ووصية كل رسول لقومه أن يقول :ﭽﭜﭝﭞﭼ [العنكبوت،]16 :
ومل يزل السلف الصالح يتواصون هبا ،كان أبو بكر يقول يف خطبته :أما
بعد ،فإين أوصيكم بتقوى اهلل ،وأن تثنوا عليه بام هو أهله.
((( «سري أعالم النبالء» (« ،)46/2تقريب التهذيب» ص(.)1143
((( «السري» (« ،)443/1التقريب» ص(.)950
99 الحديث الثامن عشر
وكتب عمر إىل ابنه عبد اهلل« :أما بعد ،فإين أوصيك بتقوى اهلل فإن من اتقاه
وقاه ،ومن أقرضه جزاه ،ومن شكره زاده ،فاجعل التقوى نصب عينيك وجالء
قلبك».
-4احلث عىل التزام تقوى اهلل يف الرس والعالنية ،حيث يراك الناس وحيث ال يرونك،
لقوله « :اتق اهلل حيثام كنت» ،أي :عىل أي حال ويف كل مكان ،قال ابن
رجب « :ويف اجلملة فتقوى اهلل يف الرس هو عالمة كامل اإليامن ،وله تأثري
أرس عبد
عظيم يف إلقاء اهلل لصاحبه الثناء يف قلوب املؤمنني» ،ويف احلديث« :ما َّ
فرشا».
رشا ًّ
فخريا ،وإن ًّ
ً رسيرة إال ألبسه اهلل رداءها عالني ًة ،إن ً
خريا
ثم قال فيام نقله عن بعض أهل العلم« :فالسعيد من أصلح ما بينه وبني اهلل ،فإنه
من أصلح ما بينه وبني اهلل أصلح اهلل ما بينه وبني اخللق ،ومن التمس حمامد الناس
بسخط اهلل ،عاد حامده من الناس له ذا ًّما»(((.
-5أنه ملا كان العبد ال بد أن حيصل منه تقصري يف حقوق التقوى وواجباهتا أمر بام يدفع
ذلك ويمحوه ،أن يتبع احلسنة السيئة ،فقال « :وأتبع السيئة احلسنة
متحها» ،واحلسنة قد يراد هبا التوبة من تلك السيئة ،فالتوبة النصوح ال شك أهنا متحو
السيئة وتزيلها ،وقد يراد هبا ما هو أعم من ذلك مما تك ّفر ومتحى به السيئات ،كام يف
قوله :ﭽﮱﯓﯔﯕﭼ [هود.]114 :
فمام تكفر به السيئات:
هنرا بباب أحدكم يغتسل
الصلوات اخلمس :قال النبي « :أرأيتم لو أن ً
منه كل يوم مخس مرات ،هل يبقى من درنه يشء؟ قالوا :ال ،قال :فذلك مثل
الصلوات اخلمس يمحو اهلل هبن اخلطايا» .متفق عليه.
ومنها :اإلحسان إىل اخللق من اآلدميني وغريهم ،والعفو عن الناس ،وتفريج
الكربات ،والتيسري عىل املعرسين ،وإزالة الرضر عن املترضرين.
((( «جامع العلوم واحلكم» (.)411 ،410 /1
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 100
ومنها :املصائب ،فإنه ال يصيب املؤمن بالء يف بدنه أو أهله أو ماله ،إال ك َّفر اهلل عنه
هبا خطاياه .وغري ذلك(((.
بخ ُلق
-6احلث عىل حسن اخللق ،وأنه من خصال التقوى ،لقوله« :وخالق الناس ُ
حسن».
عرفه عبد اهلل بن املبارك بأنه« :بذل الندى ،وكف األذى،
وحسن اخللق ّ
وطالقة الوجه».
بذل الندى :أي :املعروف لآلخرين ،دفعه هلم أو مساعدهتم عليه ،وكف األذى:
أي :دفعه عنهم ما أمكن ،مع الصرب عليهم ،وعدم التضجر منهم ،وطالقة الوجه:
أي :بشاشته ،إلدخال الرسور عليهم عند مالقاهتم وجمالستهم ،ولذا قال النبي
« :وابتسامتك يف وجه أخيك صدقة».
ومن ُ
اخل ُلق احلسن :أن حتب لآلخرين ما حتب لنفسك ،وتكره هلم ما تكرهه
لنفسك ،وأن تعامل كل أحد بام يليق به ،ويناسب حاله من صغري وكبري ،وعاقل
وأمحق ،وعامل وجاهل(((.
وقال شيخ اإلسالم « :مجاع اخللق احلسن مع الناس :أن تصل من قطعك،
وتعطي من حرمك ،وتعفو عمن ظلمك ،وبعض هذا واجب وبعضه مستحب»(((.
منها :عن أيب الدرداء أن النبي قال« :ما من يشء أثقل يف
ميزان العبد املؤمن يوم القيامة من حسن اخللق» ،رواه أبو داود والرتمذي(((.
(((وقد ذكر شيخ اإلسالم ابن تيمية يف «جمموع الفتاوى» ( )655/10أن الذنوب يزول موجبها
بأشياء عرشة ثم ذكرها...
((( «هبجة قلوب األبرار» البن سعدي ( )42/2ضمن املجموعة الكاملة.
((( «الوصية الصغرى» ص( )165مع رشحها...
((( «سنن أيب داود» ( ،)4799والرتمذي (.)2002
101 الحديث الثامن عشر
إيل وأقربكم
وعن جابر أن رسول اهلل قال« :إن من أحبكم ّ
جملسا يوم القيامة أحاسنكم أخال ًقا» ،رواه الرتمذي(((.
مني ً
وعن أيب أمامة قال :قال رسول اهلل « :أنا زعيم ببيت يف أعىل
اجلنة ملن حسن خلقه» رواه أبو داود(((.
قال الشيخ ابن سعدي « :فمن اتقى اهلل ،وحقق تقواه ،وخا َل َق الناس عىل
اختالف طبقاهتم باخلُ ُلق احلسن ،فقد حاز اخلري كله؛ ألنه قام بحق اهلل وحقوق
عباده ،وألنه كان من املحسنني يف عبادة اهلل ،املحسنني إىل عباد اهلل».اهـ(((.
ف ت خَ ْل َ الُ :ك ْن ُ اس َ ق َ هلل ْبنِ َع َّب ٍ اس َع ْب ِد ا ِ َع ْن َأبِي َ
الع َّب ِ
ظ ات :ا ِْح َف ِ ك َكل َِم ٍ الَ « :يا ُغالَ ُمِ ،إنِّي ُأ َع ِّل ُم َ ال َّنب ِِّي َ ي ْوم ًاَ ،ف َق َ
َ
اهلل، اس َأ ِل ت َف ْ س َأ ْل َ كِ ،إ َذا َ اه َ اهلل تَجِ ْد ُه ت َُج َ َ ظك ،ا ِْح َف ِ ظ َ َ
اهلل َي ْح َف ُ
ت َع َلى اجت ََم َع ْ اع َل ْم َأنَّ األُ َّم َة َل ِو ْ استَعِ ْن بِاهللَِ ،و ْ ت َف ْ است ََع ْن َ َو ِإ َذا ْ
كَ ،وإِنِ ُ
اهلل َل َ ِش ْي ٍء َق ْد َك َت َب ُه وك ِإالَّ ب َ ِش ْيء َل ْم َي ْن َف ُع َ وك ب َ َأ ْن َي ْن َف ُع َ
ٍ
ِشيء َق ْد َك َت َب ُه ُ
اهلل َ َّ َ ِش ْي ٍء َل ْم َي ُ وك ب َ ضرُّ َ اجت ََم ُعوا َع َلى َأ ْن َي ُ
ضرُّوك ِإال ب ْ ٍ ْ
ِيث الَ :حد ٌ ِي َو َق َ ف»َ ،ر َوا ُه ال ِّت ْرمِ ذ ُّ الص ُح ُ ت ُّ ت األَ ْقالَ ُم َو َج َّف ِ كُ ،رفِ َع ِ َع َل ْي َ
يح.صحِ ٌ سنٌ َ َح َ
ف ِإ َلى ك ،ت ََع َّر ْ ام َ أم َ اهلل تَجِ َد ُه َ ظ َ «اح َف ِ ْ ِي:َوفي ِر َوا َي ِة َغ ْي ِر ال ِّت ْرمِ ذ ِّ
ك َل ْم َي ُك ْن ط َأ َ أخ َ اع َل ْم َأنَّ َما ْ الش َّدةِ َ .و ْ ك فِ ي ِّ يع ِر ْف َ هلل فِ ي ال َّرخَ ا ِء ْ ا ِ
الص ْب ِر، َّص َر َم َع َّ اع َل ْم َأنَّ الن ْ َكَ .و ْ طئ َ ك َل ْم َي ُك ْن ِل ُي ْخ ِ أصا َب َكَ ،و َما َ صي َب َ ِل ُي ِ
سر ًا». س ِر ُي ْ بَ ،و َأنَّ َم َع ا ْل ُع ْ َو َأنَّ ا ْل َف َر َج َم َع ا ْل َك ْر ِ
فيه فوائد:
-1هذا احلديث أخرجه الرتمذي ( )2516من طريق حنش الصنعاين ،عن ابن عباس،
وإسناده صحيح .قال الرتمذي« :هذا حديث حسن صحيح».
وقال ابن منده « :هذا إسناد مشهور ،رواه الثقات ،وقيس بن احلجاج مرصي
روى عنه مجاعة ،وهلذا احلديث طرق عن ابن عباس أصحها هذا» ،والرواية الثانية
أخرجها أمحد (...)2803
وقد روي عن ابن عباس من طرق كثرية ،من رواية ابنه عيل ،ومواله
عكرمة ،وعطاء بن أيب رباح ،وعمرو بن دينار ،وعبيد اهلل بن عبد اهلل ،وعمر موىل
غفرة ،وابن أيب مليكة وغريهم ،كام قال ابن رجب .(((
-2راوي احلديث :هو عبد اهلل بن عباس بن عبد املطلب بن هاشم بن عبد مناف ،ابن
عم رسول اهلل ،ولد قبل اهلجرة بثالث سنني ،ودعا له رسول اهلل بالفهم يف القرآن،
وكان يسمى البحر لسعة علمه.
وقال عمر « :لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عرشه منا أحد» ،مات سنة
(68هـ) بالطائف.
-3قال ابن رجب « :وهذا احلديث يتضمن وصايا عظيمة ،وقواعد كلية من
أهم أمور الدين ،حتى قال بعض العلامء :تدبرت هذا احلديث ،فأدهشني وكدت
أطيش ،فواأسفى من اجلهل هبذا احلديث ،وقلة التفهم ملعناه».
-3أن املراد بحفظ اهلل :أي :حفظ حدوده ورشيعته ،بفعل أوامره واجتناب نواهيه،
وذلك بأن ال يراك حيث هناك ،وال يفقدك حيث أمرك ،فمن فعل ذلك حفظه
يف دينه ونفسه وأهله وماله؛ ألن اجلزاء من جنس العمل ،وهل جزاء اإلحسان إال
اإلحسان.
((( «جامع العلوم واحلكم» (.)461 460/1
((( «السري» (« ،)331/3التقريب» ص(.)518
105 الحديث التاسع عشر
-5أن من حفظ اهلل بحيث حفظ أوامره ،واجتنب نواهيه ،فإن اهلل يكون
جتاهه؛ أي :أمامه يدله عىل كل خري ويقربه منه وهيديه إليه ،لقوله« :احفظ اهلل جتده
جتاهك» .فهو حمسن حيب املحسنني ،وجيزي اإلحسان باإلحسان.
كتب بعض السلف إىل أخ له« :أما بعد ،فإن كان اهلل معك فمن ختاف؟».
-6أنه ينبغي للمرء أال يسأل إال اهلل ،لقوله« :إذا سألت فاسأل اهلل»؛ أي :ال
تسأل أحدً ا من املخلوقني ،بل اجته بسؤالك إىل رب العاملني ،ويف «السنن» بسند
جيد أن النبي قال« :الدعاء هو العبادة».
وروي عن النبي أنه قال« :ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله
شسع نعله إذا انقطع» .رواه الرتمذي(((.
وقد وردت أحاديث كثرية يف النهي عن سؤال املخلوقني ،منها قوله :
«ال تزال املسألة بأحدكم حتى يلقى اهلل وليس يف وجهه ُمزعة حلم» .متفق عليه.
وذلك ألن يف سؤال املخلوقني ذ ّلة وافتقار هلم ،والذل واالفتقار واخلضوع
واالنكسار ال يكون إال للملك القهار.
وألن اهلل حيب أن ُيسأل ،ويغضب عىل من ال يسأله ،فإنه يريد من عباده
امللحني يف الدعاء ،فال يليق
أن يرغبوا إليه ويسألوه ويدعوه ويفتقروا إليه ،وحيب ِّ
باملخلوق أن يتوجه إىل غريه.
(((برقم ( )3604قال الرتمذي« :هذا حديث غريب ،وروى غري واحد هذا احلديث عن جعفر بن سليامن،
عن ثابت البناين عن النبي ومل يذكروا فيه عن أنس».
107 الحديث التاسع عشر
قال شيخ اإلسالم ابن تيمية « :سؤال املخلوقني فيه ثالث مفاسد :مفسدة
االفتقار إىل غري اهلل ،وهي من نوع الرشك ،ومفسدة إيذاء املسؤول ،وهي من نوع
ظلم اخللق ،وفيه ُذ ٌّل لغري اهلل ،وهو ظلم النفس»(((.
لكن إذا اضطر املرء لسؤال املخلوق ما يقدر عليه فال بأس بذلك ،وعليه أن يعتقد
أنه سبب من األسباب ،وأن املسبب هو اهلل .
-7احلث عىل االستعانة باهلل سبحانه وطلب العون منه ،لقوله« :وإذا استعنت فاستعن
باهلل» ،وقد ثبت يف «صحيح مسلم» عن النبي أنه قال« :احرص عىل
ما ينفعك ،واستعن باهلل وال تعجز» ،وأمر معاذ بن جبل أن ال يدع دبر كل صالة
أن يقول« :ال َّل ُه َّم أعنِّي عىل ذكرك وشكرك وحسن عبادتك»((( ،وقد أرشد املوىل
عباده إىل االستعانة به فقال:ﭽﭢﭣﭤﭥ ﭼ ،فالعبد حمتاج إىل
االستعانة باهلل يف فعل املأمورات ،وترك املحظورات ،ويف الصرب عىل املقدورات،
حرمه
ولوال معونة اهلل للعبد ما استطاع أن يقوم بام أوجبه عليه ،وال أن يكف عام ّ
عليه.
قال ابن القيم « :واالستعانة جتمع أصلني :الثقة باهلل ،واالعتامد عليه ،فإن
العبد قد يثق بالواحد من الناس ،وال يعتمد عليه يف أموره مع ثقته به الستغنائه
عنه ،وقد يعتمد عليه مع عدم ثقته به حلاجته إليه ،ولعدم من يقوم مقامه ،فيحتاج
إىل اعتامده عليه ،مع أنه غري واثق به».
((( «كتاب اإليامن» ص(.)66
((( أخرجه أبو داود ( )1522وإسناده صحيح.
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 108
وقال« :قال شيخ اإلسالم ابن تيمية :تأملت أنفع الدعاء ،فإذا هو سؤال
العون عىل مرضاته ،ثم رأيته يف الفاحتة يف :ﭽﭢﭣﭤﭥﭼ»(((.
دائم أن يسأل اهلل املعونة والسداد ،فقد قيل:
فينبغي للمرء ً
فأول ما جيني عليه اجتهاده إذا مل يكن ٌ
عون من اللَّ للفتى
-8أن ما يصيب العبد من نفع ورض يف دنياه فهو مقدّ ر عليه ،وال يمكن أن يصيبه إال
ما كُتب عليه ،وما كتب عليه فإنه ال خيطئه ،وأن اجتهاد اخللق كلهم عىل خالف
املقدور ال يدفعه ،وهذا يوجب للعبد توحيد اهلل وإفراده باالستعانة والسؤال
والترضع واالبتهال ،وإفراده بالطاعة والعبادة ،وقد دل القرآن الكريم عىل مثل هذا
يف قوله :ﭽﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﭼ[التوبة.]51 :
وقال :ﭽﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﭼ[احلديد.]22 :
-9أن ما كتبه اهلل يف اللوح املحفوظ قد انتهى وفرغ منه ،لقوله« :رفعت األقالم،
وجفت الصحف» ،وقد ثبت يف «صحيح مسلم» عن النبي « :أن اهلل
كتب مقادير اخلالئق قبل أن خيلق السموات واألرض بخمسني ألف سنة»(((.
أيضا :عن جابر أن ً
رجل قال :يا رسول اهلل فيم العمل اليوم أفيام وفيه ً
ج ّفت به األقالم وجرت به املقادير ،أم فيام نستقبل؟ قال« :ال ،بل فيام جفت به
ميس ملا ُخلق
األقالم وجرت به املقادير» ،قال :ففيم العمل؟ قال« :اعملوا فكل َّ
له»(((.
-10أن من عرف اهلل يف حال رخائه وصحته بحيث اتقاه وقام بطاعته ،فإن اهلل
يعرفه يف حال الشدة ،فيزيل عنه املرهوب ،وينجيه من الكروب جزاء
وفا ًقا ،وهذه عادة اهلل يف خلقه ،فانظر إىل نبي اهلل يونس ملا وقع يف بطن احلوت،
((( «مدارج السالكني» (.)78/1
((( برقم (.)2653
((( برقم (.)2648
109 الحديث التاسع عشر
وقد قيل:
الحديث العشرون
الَ :ق َ
ال صا ِر ِّي ال َب ْد ِر ِّي َ ق َ س ُعو ٍد ُع ْق َب َة ْبنِ َع ْمرٍو األَ ْن ََع ْن َأبِي َم ْ
َّاس مِ ْن َكالَ ِم ال ُّن ُب ّوةِ األُ ْو َلى: ك الن ُ هلل « :إِنَّ مِ َّما َأ ْد َر َ ول ا ِ س ُ َر ُ
ت»َ ،ر َوا ُه ال ُبخَ ا ِر ُّي(((. ش ْئ َاصن َْع َما ِ ِإ َذا َل ْم ت ْ
َست َِح َف ْ
فيه فوائد:
-1راوي احلديث :هو عقبة بن عمرو بن ثعلبة األنصاري ،أبو مسعود البدري،
صحايب جليل ،شهد العقبة وما بعدها ،وله سبع وثالثون حدي ًثا يف الكتب الستة
باملكرر.
مات سنة (40هـ)(((.
-2فيه دليل عىل فضل احلياء ،وأنه مما جاءت به الرشائع السابقة ،وهو خلق يبعث عىل
اجتناب القبيح ،ويمنع من التقصري يف حق ذي احلق ،وهذا هو احلياء املحمود،
وأما احلياء الذي يمنع صاحبه من القيام باحلقوق الواجبة ،أو ال يمنعه من فعل
القبائح ،فهو حياء مذموم.
وقد جاءت النصوص الكثرية بمدح احلياء واحلث عليه ،ففي «الصحيحني» عن
ابن عمر أن النبي قال« :احلياء من اإليامن» ،وثبت عنه أنه
قال « :احلياء خري كله وال يأيت إال بخري».
((( «صحيح البخاري» (.)6120
((( «اإلصابة» ( ،)524/4و «التهذيب» (.)247/7
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 112
ثم إن احلياء منه ما هو غريزي ،ومنه ما هو مكتسب ،فالغريزي هو الذي ُفطر عليه
العبد ،واملكتسب هو الذي جياهد العبد معه نفسه حتى يبلغه ،روي يف األثر« :إنام
العلم بالتع ُّلم» ،وقال ألشج؛ أشج عبد القيس: احللم بالتح ُّلم ،وإنام ِ
ِ
«إن فيك خلصلتني حيبهام اهلل :احللم واألناة».
-3أن املراد بقوله « :إذا مل تستح فاصنع ما شئت» أحد وجهني:
األول :انظر إىل ما تريد فعله ،فإن كان مما ال ُيستحى منه فافعله ،وإن كان مما
ُيستحى منه فدعه وال تبايل باخللق.
الثاين :أن اإلنسان إذا مل يستح يصنع ما يشاء وال يبايل؛ ألن الذي يكفه عن مدافعة
الرش هو احلياء ،فإذا فقده توفرت دواعيه عىل ُمواقعة الرش وفعله(((.
فيه فوائد:
-1راوي احلديث :هو سفيان بن عبد اهلل بن ربيعة بن احلارث ،أبو عمرو ،ويقال :أبو
عمرة ،الثقفي ،صحايب جليل ،عامل عمر عىل الطائف ،ليس له يف الكتب الستة
إال هذا احلديث(((.
2حرص الصحابة عىل السؤال عام ينفعهم ،وسؤاهلم للعلم والعمل ،ال
للعلم املجرد فقط؛ ألن العلم املجرد الذي ال يتبعه عمل ال ثمرة فيه ،وقد قال اهلل
:ﭽﯱﯲﯳﯴﯵﯶﭼ [حممد.]17 :
ولالستقامة أسباب:
منها املراقبة :واملراد هبا مراقبة اهلل يف الرس والعلن ،بأن ال يراك حيث هناك،
وال يفقدك حيث أمرك.
ومنها املحاسبة :واملراد هبا حماسبة النفس عىل تفريطها وتقصريها ،فإن الذي
حياسب نفسه يالزم االستقامة.
ومنها املجاهدة :قال :ﭽﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﭼ
[العنكبوت.]69 :
ويتفرع عن هذه الفائدة :أن التعبري باالستقامة أوىل من التعبري بااللتزام ،فيقال:
والسنَّة،
فالن مستقيم ،وال يقال :فالن ملتزم؛ ألن هذا هو التعبري الوارد يف القرآن ُّ
وقد نبه عىل ذلك شيخنا ابن عثيمني .(((
-6أن من مجع اإليامن واالستقامة فقد سلم من مجيع الرشور ،وحصلت له السعادة
يف الدنيا واآلخرة ،نسأل اهلل أن يرزقنا اإليامن واالستقامة عىل دينه حتى
املامت ،إنه جواد كريم.
وقد ثبت يف «الصحيحني» عن النبي أنه قال« :من صىل الربدين دخل
اجلنة» ،وروى أبو داود عن عبادة بن الصامت أن النبي قال:
«مخس صلوات كتبهن اهلل عىل العباد ،فمن جاء هبن مل يض ِّيع منهن شيئًا استخفا ًفا
بح ِّقهن كان له عند اهلل عهد أن يدخله اجلنة »...احلديث(((.
-4وجوب صوم رمضان ،حيث عده النبي من أسباب دخول اجلنة ،وقد قال اهلل
:ﭽ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ
ﭯﭰﭼ[البقرة.]183 :
وقال النبي فيام يرويه عن ربه « :كل عمل ابن آدم له ،احلسنة
بعرش أمثاهلا إال الصوم فإنه يل وأنا أجزي به» .متفق عليه.
والصيام جنة ،يستجن به العبد من النار ،إذ به تضييق جماري الشيطان عىل بني
اإلنسان.
-5أن املراد بقوله« :أحللت احلالل»؛ أي :فعلته معتقدً ا ِح َّله ،فيدخل فيه الواجب
«حرمت احلرام» أي :اجتنبته معتقدً ا حتريمه ،وعليه فيجب
واملستحب واملباح ،و ّ
إحالل احلالل وحتريم احلرام ،أما احلالل فإن مل يكن واج ًبا ،فاإلنسان خمري بني
فعله وتركه ،وأما احلرام فيجب اجتنابه كله مع اعتقاد حتريمه ،وقد تقدم قوله« :ما
هنيتكم عنه فاجتنبوه ،وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم» ،ومن اجتنب احلرام ومل
يعتقد حتريمه كان كمن ارتكبه ،وهلذا قيل لإلمام أمحد يف قوله :ﭽﮓ
ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﭼ اآلية [النساء ،]93 :هو
فيمن استحل قتل املؤمن؟ فقال« :من استحل قتل املؤمن فهو كافر ،وإن مل يقتله».
((( «سنن أيب داود» ( )1420وال بأس بإسناده.
119 الحـديـث الثاني والعشرون
-6أن من أتى باملفروضات كاملة من غري زيادة وال نقصان ،وانتهى عن املحرمات،
فإنه يدخل اجلنة ،لقوله« :ومل أزد عىل ذلك شي ًئا».
وقويل« :وانتهى عن املحرمات» ألن املذكورات يف احلديث أسباب واملحرمات
موانع ،وال يمكن أن يتحقق دخول اجلنة إال بوجود األسباب وانتفاء املوانع.
وقد قال :ﭽﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ
ﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭼ[فاطر.]32 :
فالسابقون باخلريات :هم الذين أتوا بالواجبات وزادوا عليها القيام باملستحبات،
واالنتهاء عن املحرمات.
واملقتصدون :هم الذين اقترصوا عىل فعل الواجبات ،واالنتهاء عن املحرمات.
والظاملون ألنفسهم :هم الذين خلطوا األعامل الصاحلة باألعامل السيئة(((.
فيه فوائد:
-1راوي احلديث :هو أبو مالك األشعري ،وقد اختلف يف اسمه ،فقيل :عبيد ،وقيل:
عبد اهلل ،وقيل :عمرو ،وقيل :كعب بن كعب ،وقيل :عامر بن احلارث .فقول
املصنف يف اسمه« :احلارث بن عاصم» مل أر أحدً ا ذكره هبذا االسم ممن ترجم له.
وهو صحايب جليل ،له يف الكتب الستة أربعة عرش حدي ًثا باملكرر.
ومات يف طاعون عمواس سنة (18هـ)(((.
-2فضل الطهور وأنه شطر اإليامن؛ أي :نصف اإليامن ،وذلك ألن اإليامن ختلية
وحتلية ،فالتخلية من الرشك واملعايص والسيئات ،والتحلية هي تطهري النفس من
ذلك كله ،فلذا كان الطهور شطر اإليامن.
((( «صحيح مسلم» (.)223
((( «هتذيب الكامل» ( ،)245/34التقريب ص(.)1199
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 122
وقيل :إن املراد بالطهور؛ أي :التطهر باملاء من األحداث؛ ألن الصالة إيامن وال
تتم إال بطهور ،حكاه ابن رجب عن اجلمهور ،قال« :وكذلك بدأ مسلم بتخرجيه
يف أبواب الوضوء»(((.
ولو قيل :إن احلديث يشمل األمرين مل يكن بعيدً ا ،عىل أن شيخنا قال« :إن
املعنى األول أحسن وأعم»(((.
-3فضل الذكر ،ال سيام هاتني الكلمتني« :احلمد هلل ،وسبحان اهلل» ،وذلك ملا اشتملتا
عليه من إثبات صفات الكامل هلل ،وتنزهيه عام ال يليق به.
واحلمد :هو وصف املحمود بالكامل مع املحبة والتعظيم ،والتسبيح :هو تنزيه اهلل
عن مماثلة املخلوقني ،وعن كل نقص وعيب.
وقد وردت طرق أخرى هلذا احلديث بزيادة« :وال إله إال اهلل واهلل أكرب» لكن
أسانيدها ضعيفة.
ويغني عنها:
ما رواه مسلم عن سمرة بن جندب قال :قال رسول اهلل :
يرضك بأهين بدأت :سبحان اهلل ،واحلمد هلل ،وال إله
«أحب الكالم إىل اهلل أربع ال ّ
إال اهلل ،واهلل أكرب».
أيضا :عن أيب هريرة قال :قال رسول اهلل « :ألن أقول: وفيه ً
إيل مما طلعت عليه
سبحان اهلل ،واحلمد هلل ،وال إله إال اهلل ،واهلل أكرب ،أحب ّ
الشمس».
فإن قيل :كيف متأل امليزان وهي عمل؟
فاجلواب :أن اهلل جيعل األعامل أجسا ًما فتوزن ،وحينئذ متأل امليزان(((.
((( «جامع العلوم واحلكم» (.)7/2
((( من تعليقات شيخنا عىل «األربعني» ص(.)40
((( «رشح مسلم» ( ،)100/3تعليقات شيخنا عىل هذا احلديث من «صحيح مسلم».
123 الحديث الثالث والعشرون
وذكر اهلل مطلق ومقيد ،فاملطلق يكون يف كل وقت وعىل كل حال ،قال اهلل
:ﭽﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﭼاآلية [آل عمران.]191 :
وقالت عائشة « :كان النبي يذكر اهلل عىل كل أحيانه» ،رواه مسلم وعلقه
البخاري.
ومنها :عند اهلم بالوقوع يف الذنب وبعد الوقوع فيه ،قال :ﭽﮉﮊ
ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﭼ[األعراف.]201 :
وقال :ﭽﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠ
ﭡﭢﭣﭤﭼ[النور.]37 ،36 :
-5احلث عىل بذل الصدقة طيبة هبا النفس ،لقوله « :والصدقة برهان» أي:
برهان ودليل عىل صدق إيامن صاحبها ،حيث أنه أخرج ماله املحبوب عنده طل ًبا
لرضا ربه.
والصدقة تشمل الصدقة املفروضة وهي الزكاة ،فإنه ال يتم إسالم العبد إال بدفعها،
وتشمل صدقة التطوع وهي التي ورد الرتغيب يف بذهلا ،وعظم أجر دافعها ،فقد
ثبت يف «الصحيحني» عن أيب هريرة قال :قال رسول اهلل :
«سبعة يظلهم اهلل يف ظله يوم ال ظل إال ظله ،وذكر منهم :ورجل تصدق بصدقة
فأخفاها حتى ال تعلم شامله ما تنفق يمينه».
وعن ابن مسعود قال :قال رسول اهلل « :أيكم مال وارثه أحب
إليه من ماله؟» قالوا :يا رسول اهلل ما ِمنَّا أحدٌ إال ما ُل ُه أحب إليه ،قال :
أخر» .رواه البخاري. «فإن ماله ما قدَّ م ،ومال وارثه ما َّ
وعن عدي بن حاتم أن رسول اهلل قال« :اتقوا النار ولو بشق
مترة» .متفق عليه.
واألحاديث يف هذا الباب كثرية وفرية.
-6بيان فضل الصرب ،لقوله « :والصرب ضياء»؛ أي :حيصل فيه نوع حرارة
وإحراق كضياء الشمس ،وذلك ألنه شاق عىل النفس ،حيتاج معه إىل جماهدهتا
وحبسها وك ّفها عام هتواه.
رب عن معصية اهلل ،وصرب عىلرب عىل طاعة اهلل ،وص ٌ والصرب عىل ثالثة أقسام :ص ٌ
أقدار اهلل املؤملة ،وأفضلها الصرب عىل طاعة اهلل ،ثم الصرب عن معصية اهلل ،ثم الصرب
عىل أقدار اهلل املؤملة.
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 126
أما الصرب عىل طاعة اهلل :فأن جياهد اإلنسان نفسه ،وحيبسها عىل طاعة اهلل بفعل
أوامره ،وعدم اإلخالل بيشء منها ،يفعل مجيع األوامر بنفس منرشحة ،غري كاره
هلا أو مستثقل ليشء منها.
وأما الصرب عن معصية اهلل :فأن حيبس نفسه عن مواقعة الذنوب والسيئات ،يبتغي
بذلك مرضاة رب األرض والسموات.
وأما الصرب عىل أقدار اهلل :فأن حيبس اإلنسان نفسه عن اجلزع والتسخط عند وقوع
املصيبة ،ال يظهر التسخط ال بيده وال بلسانه وال بجنانه ،بل يصرب ويعلم أن ما
أصابه مل يكن ليخطئه ،وأن ما أخطأه مل يكن ليصيبه ،ومع صربه وحبسه نفسه
حيتسب األجر والثواب عند اهلل.
والسنَّة يف احلث عىل الصرب وبيان فضله ،قال
وقد وردت أدلة كثرية يف الكتاب ُّ
:ﭽﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﭼ [البقرة.]153 :
وقال :ﭽﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭼ[حممد.]31 :
ووردت أحاديث كثرية باحلث عىل الصرب عند وقوع املصيبة خاصة ،وذلك ألن
املصيبة وقعها عظيم عىل النفس ،فجاء احلث ببيان أجر من صرب واحتسب.
إن أمره
عن صهيب قال :قال رسول اهلل « :عج ًبا ألمر املؤمن َّ
خريا له،
كله له خري ،وليس ذلك ألحد إال للمؤمن ،إن أصابته رساء شكر فكان ً
خريا له» .رواه مسلم.
وإن أصابته رضاء صرب فكان ً
ويف «الصحيحني» عن أيب سعيد وأيب هريرة عن النبي قال:
«ما يصيب املسلم من نصب وال وصب وال هم وال حزن وال غم حتى الشوكة
يشاكها ،إال ك َّفر اهلل هبا من خطاياه».
-7أن القرآن حجة ملن عمل به واتبعه ،وحجة عىل من أعرض عنه ومل يعمل به ،لقوله
« :والقرآن حجة لك أو عليك».
127 الحديث الثالث والعشرون
قال بعض السلف« :ما جالس أحدٌ القرآن ،فقام عنه سا ًملا ،بل إما أن يربح أو أن
خيرس ،ثم تال قوله :ﭽﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ
ﮯﮰﮱﭼ [اإلرساء.]82 :
ففي ذلك ترغيب شديد يف اإلكثار من تالوته ،واحلرص عىل فهم معانيه ،والعمل
امتثال لألوامر ،وتصدي ًقا باألخبار ،كام قال :ﭽﭲﭳﭴ ً بام فيه
ﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭼ [ص.]29 :
وقال :ﭽﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﭼ[األنعام.]115 :
-8أن الناس كلهم يغدون ويكدحون ويعملون ،لقوله « :كل الناس يغدو».
-9أن كل إنسان ساع يف هالك نفسه ،أو يف فكاكها ،فمن سعى يف طاعة اهلل فقد باع نفسه
هلل ،وأعتقها من عذابه ،ومن سعى يف معصية اهلل ،فقد باع نفسه باهلوان ،وأوبقها
باآلثام املوجبة لغضب اهلل وعقابه ،لقوله « :فبائع نفسه فمعتقها أو
موبقها» ،فينبغي للمسلم أن جياهد نفسه يف طاعة اهلل ،ويسعى جاهدً ا يف عتقها من
عذاب اهلل ،فإنام هي أيام وليال وينتهي املطاف ،ويكشف الستار عن كل عامل وما
عمل ،وليحذر من الوقوع يف املعايص والسيئات ،لئال يوبق نفسه يف اهلوان ،وحيق
أسريا للشيطان ،نسأل اهلل بمنه أن ً عليه غضب الرمحن ،ويكون حينئذ
يتو َّفانا عىل دينه ،وأن يرزقنا االستقامة يف القول والعمل إنه جواد كريم.
129 الحديث الرابع والعشرون
يما َي ْر ِوي ِه َع ْن َر ِّب ِه َع ْن َأبي َذ ٍّر الغِ َفا ِر ِّي َ ،عنِ ال َّنب ِِّي فِ َ
سيَ ،و َج َع ْل ُت ُه الظ ْل َم َع َلى ن َْف ِ ت ُّ الَ « :يا عِ َباديِ ،إنِّي َح َّر ْم ُ َع َّز َو َج َّل َأ َّن ُه َق َ
ه َد ْي ُت ُه ال ِإالَّ َم ْن َ ض ٌَّظا َل ُمواَ .يا عِ َبادِيُ ،كلُّ ُك ْم َ َب ْين َُك ْم ُم َح َّرم ًاَ ،فالَ ت َ
ط َع ْم ُت ُه، ِك ْمَ .يا عِ َبادِيُ ،كلُّ ُكم َجائ ٌِع ِإالَّ َم ْن َأ ْ هد ُ َه ُدونِي َأ ْ است ْ َف ْ
س ْو ُت ُه، طعِ ُم ُك ْمَ .يا عِ َبادِيُ ،كلُّ ُك ْم َعارٍ ِإالَّ َم ْن َك َ َطعِ ُمونِي ُأ ْ است ْ َف ْ
َّها ِر ط ُئونَ بِال َّل ْي ِل َوالن َ س ُك ْمَ .يا عِ َبادِيِ ،إن َُّك ْم ت ُْخ ِ سونِي َأ ْك ِ َك ُ است ْ َف ْ
است َْغفِ ُرونِي َأ ْغفِ ْر َل ُك ْمَ .يا عِ َبادِيِ ،إن َُّك ْم ُوب َجمِ يع ًاَ ،ف ْ َو َأنَا َأ ْغفِ ُر ال ُّذن َ
َض ُّرونِيَ ،و َل ْن َت ْب ُل ُغوا ن َْفعِ ي َف َت ْن َف ُعونِيَ .يا عِ َبادِي، ض ِّري َفت ُ َل ْن َت ْب ُل ُغوا ُ
ب َر ُج ٍل س ُك ْم َوجِ ن َُّك ْم َكانُوا َع َلى َأ ْت َقى َق ْل ِ َل ْو َأنَّ َأ َّو َل ُك ْم َوآخِ َر ُك ْم َو ِإ ْن َ
ش ْيئ ًاَ .يا عِ َبادِيَ ،ل ْو َأنَّ َأ َّو َل ُك ْم ِك فِ ي ُم ْلكِ ي َ َواحِ ٍد مِ ْن ُك ْم َما زَا َد َذل َ
ب َر ُج ٍل َواحِ ٍد مِ ْن ُك ْم س ُك ْم َوجِ ن َُّك ْم َكانُوا َع َلى َأ ْف َج ِر َق ْل ِ َوآخِ َر ُك ْم َو ِإ ْن َ
ش ْيئ ًاَ .يا عِ َبادِيَ ،ل ْو َأنَّ َأ َّو َل ُك ْم َوآخِ َر ُك ْم ِك مِ ْن ُم ْلكِ ي َ ص َذل َ َما ن ََق َ
ت ُك َّل ط ْي ُ س َأ ُلونِي َف َأ ْع َ صعِ ي ٍد َواحِ ٍد َف َ اموا فِ ي َ س ُك ْم َوجِ ن َُّك ْم َق ُ َو ِإ ْن َ
ط ص ا ْلمِ ْخ َي ُ ِك مِ َّما عِ ْندِي ِإالَّ َك َما َي ْن ُق ُ ص َذل َ س َأ َل َت ُهَ ،ما ن ََق َ َواحِ ٍد َم ْ
يها َل ُك ْمُ ،ث َّم ص َ ه َي َأ ْع َما ُل ُك ْم ُأ ْح ِ ِإ َذا ُأ ْدخِ َل ال َب ْح َرَ .يا عِ َبادِيِ ،إن ََّما ِ
ِك َفالَ اهلل َو َم ْن َو َج َد َغ ْي َر َذل َ اهاَ ،ف َم ْن َو َج َد خَ ْير ًا َف ْل َي ْح َم ِد َ ُأ َو ِّف ْي ُك ْم ِإ َّي َ
سل ٌِم(((.
س ُه»َ ،ر َوا ُه ُم ْ َي ُل َ
ومنَّ ِإالَّ ن َْف َ
((( «صحيح مسلم» برقم (.)2577
فيه فوائد:
-1هذا احلديث يسمى باحلديث القديس؛ ألن النبي يرويه عن ربه ،وهو
ٍ
حديث ألهل الشام». حديث عظيم ،قال اإلمام أمحد « :هو أرشف
-2أن اهلل حرم عىل نفسه الظلم لكامل عدله ،قال :ﭽﭶﭷﭸﭹ
ﭺﭻﭼ[النساء ،]40 :وقال :ﭽﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ
ﰁﭼ[طه ،]112 :ﭽﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﭼ أي:
بزيادة سيئاته .ﭽﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﭼ أيً :
نقصا ؛
من حسناته .فهو احلكم العدل ،امتنع من ظلم العباد مع أنه قادر عليهً ،
فضل
منه وجو ًدا.
-3حتريم الظلم بني العباد ،لقوله« :وجعلته بينكم حمر ًما فال تظاملوا» ،وقد َّبي النبي
بم يكون الظلم ،فقال « :إن
يف خطبته يف حجة الوداع َ
دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام؛ كحرمة يومكم هذا ،يف شهركم هذا،
يف بلدكم هذا».
ويف «الصحيحني» عن ابن عمر عن النبي قال« :الظلم
ظلامت يوم القيامة».
وأمر من وقعت له مع أخيه مظلمة أن يتحلله فقال « :من
كانت عنده مظلمة ألخيه ،فليتحلله منها ،فإنه ليس َثم دينار وال درهمِ ،من قبل
أن يؤخذ ألخيه من حسناته ،فإن مل يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت
عليه» .رواه البخاري.
-4أن العباد كلهم ضالون إال من هداه اهلل َّ
جل جالله ،لقوله « :يا عبادي
كلكم ضال إال من هديته» ،وهو كذلك فإهنم قبل تعلم أحكام اإلسالم وتعاليمه
ضالون جاهلون ،قال :ﭽﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ
ﯫﭼ [النحل ،]78 :وال يعارض هذا ما ثبت يف «صحيح مسلم» عن عياض بن
131 الحديث الرابع والعشرون
-6قال ابن رجب « :ويف احلديث دليل عىل أن اهلل حيب أن يسأله العباد مجيع
مصالح دينهم ودنياهم ،من الطعام والرشاب والكسوة وغري ذلك ،كام يسألونه
اهلداية واملغفرة ،ويف احلديث« :ليسأل أحدكم ربه حاجته ك ّلها حتى يسأله شسع
نعله إذا انقطع».
-7أن اهلل هو الرزاق ،وبيده مفاتيح الرزق ،فينبغي للعباد أن يسألوه إياه ،لقوله
« :يا عبادي كلكم جائع إال من أطعمته فاستطعموين أطعمكم ،يا عبادي
عار إال من كسوته ،فاستكسوين أكسكم».كلكم ٍ
ويتفرع عن هذه الفائدة :أنه ينبغي للعبد إذا نزلت به ضائقة مالية ،أو افتقر ،أن
يلجأ إىل ربه ويسأله من فضله ،وال يتط َّلع إىل ما يف أيدي املخلوقني ،وقد تقدم نحو
هذا عند قوله البن عباس« :إذا سألت فاسأل اهلل».
-8أن بني آدم خطاء خيطئون بالليل والنهار ،ولكن هذا اخلطأ يقابله عفو اهلل ومغفرته،
ولذا قال « :يا عبادي إنكم ختطئون بالليل والنهار ،وأنا أغفر الذنوب
مجي ًعا ،فاستغفروين أغفر لكم».
وقد ثبت يف «صحيح مسلم» عن أيب هريرة قال :قال رسول اهلل
« :والذي نفيس بيده لو مل تذنبوا لذهب اهلل بكم ،وجلاء بقوم
يذنبون فيستغفرون اهلل ،فيغفر هلم».
ويف «السنن» عن عيل قال :كنت إذا حدثني أحدٌ استحلفته ،فإن حلف يل
صدقته ،وحدثني أبو بكر ،وصدق أبو بكر أن النبي قال« :ما من عبد
يذنب ذن ًبا ثم يتوضأ فيحسن الوضوء ،ثم يصيل ركعتني ،ثم يستغفر اهلل إال غفر
اهلل له»(((.
((( «جامع العلوم واحلكم» (.)39 38/2
(((أخرجه أبو داود ( ،)1521والرتمذي ( ،)406والنسائي يف «الكربى» ( ،)10175وابن ماجه ()1390
وجود إسناده ابن حجر يف
حسنه احلافظ الذهبي يف «تذكرة احلفاظ» (َّ ،)11/1
ويف إسناده ضعف ،وقد َّ
«هتذيب التهذيب» (.)268/1
133 الحديث الرابع والعشرون
-9أن اهلل يغفر ذنوب العبد مهام بلغت كمية وكيفية ،إذا تاب إىل اهلل وأناب إليه
منها ،لقوله« :وأنا أغفر الذنوب مجي ًعا ،فاستغفروين أغفر لكم» .وسيأيت بسط ذلك
عند قوله« :يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السامء ثم استغفرتني غفرت لك» يف
احلديث الثاين واألربعني.
-10أن اهلل مستغن عن عباده ،فال تنفعه طاعة الطائعني ،وال ترضه معصية
العاصني ،ولذا من أسامئه :الغني احلميد.
قال :ﭽﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﭼ
[النساء ،]131 :وقال :ﭽﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﭼ[آل عمران.]97 :
وكان النبي يقول يف خطبته« :من يعص اهلل ورسوله فقد غوى ،وال
يرض إال نفسه ،وال يرض اهلل شيئًا».
-11كامل غنى اهلل ،وكامل قدرته وملكه ،وأن ملكه وخزائنه ال تنفذ ،وال تنقص
بالعطاء ،ولو أعطى األولني واآلخرين من اجلن واإلنس مجيع ما سألوه يف مقام
واحد ،لقوله « :يا عبادي ،لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا
يف صعيد واحد فسألوين ،فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إال
كام ينقص املخيط إذا أدخل البحر».
قال ابن رجب « :ويف ذلك حث للخلق عىل سؤاله وإنزال حوائجهم به.
ويف «الصحيحني» عن أيب هريرة ،عن النبي قال« :يد اهلل
سحاء الليل والنهار ،أفرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات مألى ،ال تغيضها نفقةَّ ،
واألرض؟ فإنه مل يغض ما يف يمينه» ،ويف «صحيح مسلم» عن أيب هريرة ،
عن النبي قال« :إذا دعا أحدكم ،فال يقل :ال َّل ُه َّم اغفر يل إن شئت،
ولكن ليعزم املسألة ،وليعظم الرغبة ،فإن اهلل ال يتعاظمه يشء» ،وقال أبو سعيد
اخلدري « :إذا دعوتم اهلل ،فارفعوا يف املسألة ،فإن ما عنده ال ينفده يشء،
وإذا دعوتم فاعزموا ،فإن اهلل ال مستكره له».اه(((.
((( «جامع العلوم واحلكم» (.)48/2
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 134
-12أن اهلل حييص أعامل عباده ،ثم يوفيهم إياها باجلزاء عليها ،لقوله :
«يا عبادي إنام هي أعاملكم أحصيها لكم ،ثم أوفيكم إياها» ،وقد قال :
ﭽﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﭼ
[الزلزلة.]8 ،7 :
هلل
ول ا ِ
س ِاب َر ُ نَاس ًا مِ ْن َأ ْ
ص َح ِ َع ْن َأبِي َذ ٍّر َ أيض ًاَ :أنَّ
ه ُل ال ُّد ُثو ِر بِاألُ ُجو ِر، ب َأ ْ ه َ هلل َذ َول ا ِ س َ َقا ُلوا لِل َّنب ِِّي :يا َر ُ
ولض ِ َص َّد ُقونَ ب ُِف ُ ومَ ،و َيت َ َص ُ ومونَ َك َما ن ُ ص ُ ُص ِّليَ ،و َي ُ صلُّونَ َك َما ن َ ُي َ
َص َّد ُقونَ ؟ إِنَّ َل ُكم اهلل َل ُك ْم َما ت َّ س َق ْد َج َع َل ُ الَ :
«أ َو َل ْي َ ِه ْمَ ،ق َ َأ ْم َوال ِ
ص َد َق ًةَ ،و ُك ِّل ص َد َق ًةَ ،و ُك ِّل ت َْحمِ ي َد ٍة َ َكبِي َر ٍة َ ص َد َق ًةَ ،و ُك ِّل ت ْ ِيح ٍة َ
َسب َ ب ُِك ِّل ت ْ
ص َد َق ًةَ ،وفِ ي َه ٍي َعنِ ُم ْن َكرٍ َ ص َد َق ًةَ ،ون ْ وف َ ِالم ْع ُر ِ ص َد َق ًةَ ،و َأ ْمرٍ ب َ َهلِي َل ٍة َ
ت ْ
ه َو َت ُه ش ْ ول اهللَِ ،أ َي ْأتِي َأ َح ُدنَا َ س َ ص َد َق ًة»َ ،قا ُلواَ :يا َر ُ ِك ْم َ ض ٍع َأ َحد ُ ُب ْ
ام َأ َكانَ َع َل ْي ِه ها فِ ي َح َر ٍ ض َع َ «أ َر َأ ْيت ُْم َل ْو َو َ
الَ : يها َأ ْج ٌر؟ َق َ َو َي ُكونُ َل ُه فِ َ
سل ٌِم(((. الحالَ ِل َكانَ َل ُه َأ ْج ٌر»َ ،ر َوا ُه ُم ْ ها فِ ي َ ض َع َ ِك ِإ َذا َو َِو ْز ٌر؟! َف َك َذل َ
فيه فوائد:
-2حرص الصحابة عىل املسابقة إىل اخلريات؛ ألن فقراء املهاجرين رأوا أن
أهل األموال يفضلوهنم ببذل الصدقات من أمواهلم ،فأرادوا أن يكونوا مثلهم،
فدهلم النبي عىل صدقات يقدرون عليها.
((( «صحيح مسلم» (.)1006
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 136
-3الرتغيب يف اإلكثار من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبري؛ ألن النبي
أخرب أن هذه صدقات من املرء عىل نفسه ،وقد ثبت يف «الصحيح»
أن النبي قال« :ألن أقول :سبحان اهلل ،واحلمد هلل ،وال إله إال اهلل،
واهلل أكرب ،أحب إيل مما طلعت عليه الشمس».
وقد تقدم بسط ذلك يف احلديث الثالث والعرشون.
-4فضل األمر باملعروف والنهي عن املنكر ،لقوله « :وأمر باملعروف
صدقة ،وهني عن املنكر صدقة» ،واملعروف :هو ما عرفه الرشع وأقره .واملنكر ما
أنكره ومل يقره.
وقد حث اهلل يف كتابه عىل األمر باملعروف والنهي عن املنكرَّ ،
وبي أن
سبب خري ّية هذه األمة ،هو كوهنا تأمر باملعروف وتنهى عن املنكر ،قال :
ﭽﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ
ﭩﭼ [آل عمران.]110 :
وقال :ﭽﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ
ﮢﮣﮤﭼ [آل عمران.]104 :
وقال :ﭽﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ
ﮚﮛﭼ [التوبة.]71 :
وبي سبب لعن بني إرسائيل ،فقال :ﭽﭩﭪﭫﭬﭭﭮ
َّ
ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ
ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﭼ[املائدة.]79 ،78 :
وقال :ﭽﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ
ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭼ [األعراف.]165 :
منكرا فليغريه بيده ،فإن مل يستطع فبلسانه،
وقال النبي « :من رأى منكم ً
فإن مل يستطع فبقلبه وذلك أضعف اإليامن» .رواه مسلم.
137 الحديث الخامس والعشرون
«ك ُّل
هلل ُ : ول ا ِ س ُ ال َر ُ الَ :ق َ ه َر ْي َرةَ َ ق َ َع ْن َأبِي ُ
س ،ت َْعد ُِل َط ُل ُع فِ ي ِه َّ
الش ْم ُ ص َد َق ٌةُ ،ك ُّل َي ْو ٍم ت ْ سالَ َمى مِ نَ الن ِ
َّاس َع َل ْي ِه َ ُ
ها َأ ْو َت ْر َف ُع ص َد َق ٌةَ ،و ُتعِ ْينُ ال َّر ُج َل فِ ي َدا َّب ِت ِه َفت َْحمِ ُل ُه َع َل ْي ََب ْينَ ا ْث َن ْينِ َ
ط َو ٍة ص َد َق ٌةَ ،وب ُِك ِّل خَ ْ َّ
الط ِّي َب ُة َ ص َد َق ٌةَ ،وا ْل َكل َِم ُةَاع ُه َ
ها َمت َ َل ُه َع َل ْي َ
ص َد َق ٌة»، يق َ الط ِر ِ َّ يط األَ َذى َعنِ ص َد َق ٌةَ ،و ُتمِ ُ الصالَةِ َيها ِإ َلى َّ ش َ ت َْم ِ
سل ٌِم(((.
َر َوا ُه ال ُبخَ ا ِر ُّي َو ُم ْ
فيه فوائد:
-1املراد بالسالمى :املفاصل؛ أي :أن كل عضو ومفصل من اإلنسان عليه صدقة.
وقد ورد يف «صحيح مسلم» عدد املفاصل التي يف اإلنسان .فعن عائشة قالت:
قال رسول اهلل« :إنه خلق كل إنسان من بني آدم عىل ستني وثالثامئة مفصل »..احلديث(((.
واحلديث له شاهد من حديث أيب ذر عند مسلم بلفظ« :يصبح عىل كل سالمى من
أحدكم صدقة ،»..وفيه« :وجيزئ من ذلك ركعتان يركعهام من الضحى»(((.
ال« :ال ِب ُّر س ْم َعانَ َ عنِ ال َّنب ِِّي َ ق َ اس ْبنِ ِ َعنِ ا ْلن ََّّو ِ
طل َِع َع َل ْي ِهت َأ ْن َي َّ ك َو َك ِر ْ
ه َ س َ سنُ الخُ ُل ِقَ ،واإلِ ْث ُم َما َح َ
اك فِ ي ن َْف ِ ُح ْ
سل ٌِم(((. َّاس»َ ،ر َوا ُه ُم ْالن ُ
ت ال« :جِ ْئ َ هلل َف َق َ
ول ا ِ س َ ت َر ُ الَ :أ َت ْي ُ
ِص َة ْبنِ َم ْع َب ٍد َ ق َ َو َع ْن َواب َ
اط َم َأن ْ
َّت ك ،ال ِبرُّ َما ْ ت َق ْل َب َ «است َْف ِ ْ ت :ن ََع ْمَ ،ق َ
ال: َس َأ ُل َعنِ ال ِب ِّر؟» ُق ْل ُ ت ْ
س َو َت َر َّد َد اك فِ ي الن َّْف ِ بَ ،واإلِ ْث ُم َما َح َ اط َم َأنَّ ِإ َل ْي ِه َ
الق ْل ُ س َو ْ ِإ َل ْي ِه الن َّْف ُ
سنٌ َ ،رو ْينَا ُه فِ ي ِيث َح َ ُوك»َ ،حد ٌ َّاس َو َأ ْفت َ َاك الن ُ الص ْد ِرَ ،وإ ِْن َأ ْفت َ
فِ ي َّ
س ٍن. ام ْينِ َ :أ ْح َم َد ْبنِ َح ْن َب ٍل وال َّدا ِرمِ ِّي ِبإ ْ
ِسنَا ٍد َح َ س َن َدي» اإل َِم َ «م ُْ
فيه فوائد:
-1حديث وابصة رواه أمحد ( ،)18006والدارمي ( ،)2575من طريق محاد بن
سلمة ،عن الزبري بن أيب عبد السالم ،عن أيوب بن عبد اهلل بن مكرز ،عن وابصة
بن معبد فذكره.
وإسناده ضعيف ،فيه علتان:
األوىل :جهالة الزبري بن أيب عبد السالم ،وأيوب بن عبد اهلل بن مكرز.
الثانية :االنقطاع بني أيوب والزبري.
قال :ومن هذا املعنى قول ابن مسعود « :ما رآه املؤمنون حسنًا فهو عند اهلل
قبيحا فهو عند اهلل قبيح»(((.
حسن ،وما رآه املؤمنون ً
-7أن املؤمن خياف أن ي َّطلع الناس عىل عيوبه ،بخالف املستهرت العايص ،فهو ال يبايل
وال هيتم بالناس وال با ِّطالعهم عىل مساوئ أعامله ،وانتقادهم له.
-8يفهم منه أنه ينبغي للمرء أن يدع ما اشتبه فيه إىل ما ال اشتباه فيه؛ ألنه قد يقع
مفصل عند حديث النعامن بن بشري وفيه« :فمن اتقى ً يف اإلثم .وقد تقدم ذلك
الشبهات فقد استربأ لدينه وعرضه ،ومن وقع يف الشبهات وقع يف احلرام».
((( يف «رشح مسلم» (.)11/16
((( «جامع العلوم واحلكم» (.)101/2
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 146
-9إحالة حكم اليشء إىل النفس املطمئنة التي تكره الرش وحتب اخلري ،لقوله« :الرب ما
اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب» ،ذكره شيخنا .(((
هلل
ول ا ِ س ُ ظنَا َر ُ الَ :و َع َ سا ِر َي َة َ ق َ اض ْبنِ َ يح العِ ْر َب ِ َع ْن َأبِي نَجِ ٍ
الع ُيونُ ، ها ُ ت مِ ْن َ وب َو َذ َ
رف ْ الق ُل ُ
ها ُ ت مِ ْن َ ظ ًة َوجِ َل ْ َ م ْوعِ َ
يك ْم ص ُ الُ :
«أ ْو ِ صنَاَ ،ق َ ظ ُة ُم َو ِّد ٍع َف َأ ْو ِ َّها َم ْوعِ َ ول اهللَِ ،ك َأن َ س َ َف ُق ْلنَاَ :يا َر ُ
اعةَِ ،وإ ِْن ت ََأ َّم َر َع َل ْي ُك ْم َع ْب ٌدَ ،ف ِإ َّن ُه الط َالس ْم ِع َو َّ هلل َع َّز َو َج َّلَ ،و َّ
ِبت َْق َوى ا ِ
س َّن ِة ِس َّنتِي َو ُ اخ ِتالَف ًا َكثِير ًاَ ،ف َع َل ْي ُك ْم ب ُ س َي َرى ْ ش مِ ْن ُك ْم َف َ َم ْن َيعِ ْ
اك ْم ها بِالن ََّواجِ ذَِ ،و ِإ َّي ُ ضوا َع َل ْي َ ه ِد ِّيينَ َ ،ع ُّ الم ْ
َ اشدِينَالخُ َل َفا ِء ال َّر ِ
ِيضالَ َل ٌة»َ ،ر َوا ُه َأ ُبو َداو َد وال ِّت ْرمِ ذ ُّ ات األُ ُمو ِرَ ،فإِنَّ ُك َّل ِب ْد َع ٍة َ َو ُم ْح َد َث ِ
يح. صحِ ٌ سنٌ َ ِيث َح َ الَ :حد ٌ َو َق َ
فيه فوائد:
-1احلديث أخرجه أبو داود ( ،)4607من طريق الوليد بن مسلم ،حدثنا ثور بن
يزيد ،حدثني خالد بن معدان ،حدثني عبد الرمحن بن عمرو السلمي وحجر بن
ُحجر الكالعي ،عن العرباض بن سارية فذكره.
وأخرجه الرتمذي ( ،)2676من طريق بحري بن سعد ،عن خالد بن معدان به ،ومل
يذكر حجر بن حجر.
وإسناده حسن.
وقد صححه الرتمذي فقال« :حديث حسن صحيح».
وقال احلاكم« :صحيح ،ليس له علة».
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 148
ونقل ابن عبد الرب عن البزار أنه قال« :حديث عرباض بن سارية يف اخللفاء
الراشدين حديث ثابت صحيح» ،وأقره ابن عبد الرب فقال« :هو كام قال البزار
حديث عرباض حديث ثابت»(((.
ونقل ابن رجب عن أيب نعيم قوله« :هو حديث جيد من صحيح حديث
الشاميني»(((.
-2راوي احلديث :هو العرباض بن سارية السلمي ،أبو نجيح ،صحايب جليل ،من
الصفة ،سكن محص ،وروى عن النبي أحاديث ،وجمموع
أعيان أهل ُّ
مروياته يف الكتب الستة ( )11أحد عرش حدي ًثا باملكرر.
-4احلث عىل البالغة يف املوعظة؛ ألهنا أدعى إىل قبول السامعني ،وترقيق قلوهبم،
واستجالهبا ،لقوله« :وجلت منها القلوب ،وذرفت منها العيون» ،وقد كان يشتد
ويتغري حاله عند املوعظة ،كام قال جابر« :كان النبي إذا خطب ،وذكر الساعة ،اشتد
ومساكم»،
وامحرت عيناه ،كأنه منذر جيش يقول :ص َّبحكم ّ
َّ غضبه ،وعال صوته،
أخرجه مسلم.
((( «جامع بيان العلم» (.)1165/2
((( «جامع العلوم واحلكم» (.)109/2
((( «السري» (« ،)419/3التقريب» ص(.)673
149 الحديث الثامن والعشرون
شدة التمسك هبا ،كأنه يعض بنواجذه عليها ،لئال تدفعه األهواء ومتوج به اآلراء
والسنَّة ،وال عىل هدي سلف األمة.
التي ليست عىل الكتاب ُّ
«وسنَّة اخللفاء الراشدين من بعدي،»..
-11أن للخلفاء الراشدين ُسنَّة متبعة ،لقولهُ :
وهذا ال إشكال فيه ،وقد ورد يف «الصحاح» و «السنن» و «املسانيد» عن بعض
هؤالء اخللفاء ،أحكام وقضايا مل ترد عن النبي ،وال ختالف
ما ورد عنه ،فأيدهم الصحابة عىل ذلك فكانت ُسنَّة .كجمع املصحف يف عهد
أيضا.
عثامن ،وكذا األذان الثاين للجمعة يف عهده ً
قال ابن رجب « :وإنام وصف اخللفاء بالراشدين؛ ألهنم عرفوا احلق،
وقضوا به ،فالراشد ضد الغاوي ،والغاوي من عرف احلق ،وعمل بخالفه»(((.
-12التحذير من البدع ،ومن اتباع األمور املحدثة ،لقوله« :وإياكم وحمدثات األمور،
فإن كل بدعة ضاللة».
وقد تقدم يف احلديث اخلامس الكالم عىل البدع وتعريفها والتحذير منها.
هلل
ول ا ِ س َ تَ :يا َر ُ الُ :ق ْل ُ َع ْن ُم َعا ِذ ْبنِ َج َب ٍل َ ق َ
ت س َأ ْل َ الَ « :ل َق ْد َ َأ ْخ ِب ْرنِي ب َِع َم ٍل ُي ْدخِ ُلني ا ْل َج َّن َة َو ُي َباعِ ُدنِي َعنِ النَّا ِرَ ،ق َ
َ
اهلل ُ
اهلل ت ََعا َلى َع َل ْيهِ :ت َْع ُب ُد سي ٌر َع َلى َم ْن َي َّ
س َر ُه يم َو ِإ َّن ُه َل َي ِ َع ْن َع ِ
ظ ٍ
ضانَ ، وم َر َم َ َص ُ الصالَةَ َ ،و ُت ْؤتِي الز ََّكاةَ َ ،وت ُ يم َّ ش ْيئ ًاَ ،و ُتقِ ُ ك ِب ِه َ الَ ت ْ
ُش ِر ُ
الص ْو ُم ُج َّن ٌة، اب الخَ ْي ِر؟ َّ ك َع َلى َأ ْب َو ِ «أالَ َأ ُدلُّ َ
الَ :
ت»ُ ،ث َّم َق َ َوت َُح ُّج ال َب ْي َ
صالَ ُة ال َّر ُج ِل الما ُء النَّا َرَ ،و َ
طفِ ى ُء َ طي َئ َة َك َما ُي ْ
ُطفِ ى ُء الخَ ِ الص َد َق ُة ت َْو َّ
حتّى َب َل َغ :ﮋﮬﮊ ف ال َّل ْي ِل»ُ ،ث َّم َتالَ :ﮋﮔﮕﮖﮗﮊ َ فِ ي َج ْو ِ
س األَ ْم ِر َو َع ُمو ِد ِه َو ِذ ْر َوةِ ك ِب َر ْأ ِ
«أالَ ُأ ْخ ِب ُر َ
الَ :[السجدةُ ،]17 ،16 :ث َّم َق َ
ِسالَ ُمَ ،و َع ُمو ُد ُه س األَ ْم ِر اإل ْالَ « :ر ْأ ُ
ول اهللَِ ،ق َ س َتَ :ب َلى َيا َر ُسنَامِ هِ؟ ُق ْل َُ
ك َذل َ
ِك ك ب َِمالَ ِ«أالَ ُأ ْخ ِب ُر َ
الَ : ها ُد»ُ ،ث َّم َق َ سنَامِ ِه الجِ َ الصالَ ُةَ ،و ِذ ْر َو ُة ََّ
ك ف َع َل ْي َ الُ :
«ك َّ ِسا ِنهَِ ،و َق َ ول اهللَِ ،ف َأخَ َذ ِبل َس َ تَ :ب َلى َيا َر ُُك ِّلهِ؟» َف ُق ْل ُ
ال: َك َّل ُم ِبهِ؟»َ ،ف َق َ هلل َو ِإنَّا َل ُمؤَاخَ ُذونَ ب َِما َنت َ
تَ :يا َنب َِّي ا ِ ه َذا»ُ ،ق ْل ُ َ
ال:ه ْم َأ ْو َق َ َّاس فِ ي النَّا ِر َع َلى ُو ُج ِ
وه ِ ب الن َ ه ْل َي ُك ُّ
كَ ،و َ ك ُأ ُّم َ « َثكِ َل ْت َ
الَ :حد ٌ
ِيث ِي َو َق َ
ِه ْم»َ ،ر َوا ُه ال ِّت ْرمِ ذ ُّ صا ِئ ُد َأ ْل ِ
س َنت ِ ه ْم ِإالَّ َح َ
َع َلى َمنَاخِ ِر ِ
سنٌ َ
صحِ ْي ٌح. َح َ
فيه فوائد:
-1احلديث أخرجه الرتمذي ( ،)2616من طريق معمر ،عن عاصم بن أيب النجود،
عن أيب وائل ،عن معاذ بن جبل فذكره.
قال الرتمذي« :هذا حديث حسن صحيح».
قلت :وفيام قاله نظر ،النقطاعه بني أيب وائل شقيق بن سلمة ،ومعاذ بن جبل،
قال ابن رجب « :وإن كان قد أدركه ِّ
بالسن ،وكان معاذ بالشام ،وأبو وائل
بالكوفة ،وما زال األئمة كأمحد وغريه يستدلون عىل انتفاء السامع بمثل هذا ،ثم
ذكر ً
مثال من قول أيب حاتم الرازي».
وقال املنذري« :وأبو وائل أدرك معا ًذا بالسن ،ويف سامعه عندي نظر ،وكان أبو
وائل بالكوفة ،ومعاذ بالشام»(((.
وفيه علة أخرى ذكرها ابن رجب :وهي أن احلديث قد رواه محاد بن سلمة ،عن
عاصم بن أيب النجود ،عن شهر بن حوشب ،عن معاذ ،وقد قال الدارقطني :وهو
أشبه بالصواب؛ ألن احلديث معروف من رواية شهر عىل اختالف عليه فيه.
ورواية شهر بن حوشب ،أخرجها أمحد ( )22063وهي خمترصة.
قال ابن رجب « :ورواية شهر عن معاذ مرسلة يقينًا ،وشهر خمتلف يف
توثيقه وتضعيفه».اهـ.
ثم قال« :وله طرق أخرى عن معاذ كلها ضعيفة».اهـ(((.
قلت :وهو كام قال؛ فاحلديث له طرق متعددة ال يصح منها يشء ،فهي إما منقطعة،
وإما يف رجال أسانيدها ضعف.
-2حرص الصحابة عىل السؤال عام ينفعهم يف دينهم ،وينفعهم يف النجاة من
النار ،ودخول اجلنة ،لقوله « :أخربين بعمل يدخلني اجلنة ،ويباعدين عن النار».
((( «الرتغيب والرتهيب» (.)511/3
((( «جامع العلوم واحلكم» (.)135/2
155 الحديث التاسع والعشرون
دائم ،حيرصون عىل أن يسألوا رسول اهلل عام وهذه حاهلم ً
ينفعهم يف معادهم ،ويقرهبم إىل رهبم ،وإىل جنته ورضوانه ،بخالف أسئلة البعض
اليوم ،جتده يسأل عن أمور ال هتمه ،وربام سأل ال للعلم ،وإنام لريى ما عند العامل
أو طالب العلم ،أو ليجادله يف مسألة يعرف السائل دليلها.
-3تشويق النبي ملعاذ بن جبل ،وتشجيعه عىل حسن سؤاله
يسه اهلل عليه»،
وعظمه ،حيث قال له« :لقد سألت عن عظيم ،وإنه ليسري عىل من ّ
أمر عظيم جدًّ ا ،قال :ﭽﮩ وذلك ألن دخول اجلنة ،والنجاة من النار ٌ
ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﭼ[آل عمران.]185 :
يسه اهلل عليه»،
قال ابن رجب « :وقوله « :وإنه ليسري عىل من ّ
يس اهلل عليه اهلدى اهتدى ،ومن ملإشارة إىل أن التوفيق كله بيد اهلل ،فمن ّ
يتيس له ذلك ،قال :ﭽﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ييرسه عليه ،مل َّ
ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﭼ[الليل.»]10 5 :
دائم وليقل« :ال َّل ُه َّم
قلت :ومع هذا فإنه ينبغي للعبد أن يسأل اهلل اهلداية والثبات ً
اهدين وسددين»« ،ال َّل ُه َّم أعني عىل ذكرك وشكرك وحسن عبادتك»« ،ال َّل ُه َّم يرسين
لليرسى وجنبني العرسى ،واغفر يل يف اآلخرة واألوىل» ،وليحسن الظن باهلل ،فإنه
جل وعال عند حسن ظن عبده به. َّ
-4عظمالتوحيدوأمهيته،وأنهأول ٍ
أمرأ َم َراهللبهعبادهيفكتابه،قال:ﭽﮜﮝﮞ
ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦ ﭼ[البقرة .]21 :لقوله « :تعبد
اهلل ال ترشك به شيئًا» ،وهذا هو التوحيد ،وهو معنى شهادة أال إله إال اهلل.
والعبادة :هي التذلل واخلضوع هلل بفعل أوامره ،واجتناب نواهيه.
يقال :طريق مع َّبد؛ أي :مذلل بوطء األقدام عليه.
وعرفها شيخ اإلسالم بأهنا« :اسم جامع لكل ما حيبه اهلل ويرضاه ،من ّ
األقوال واألفعال الظاهرة والباطنة» .
(((
كان مــن حجــر ومــن إنســان وهــو اختــاذ النــد للرمحــن أ ًّيــا
الديــان
(((
كمحبــة وحيبــه يدعــوه أو يرجــوه ثــم خيافــه
فالرشك األكرب :هو الذي تقدم تعريفه ،وهو املخرج من امللة ،وهو الذي ال يغفره
اهلل ملن لقيه به يوم القيامة ،قال :ﭽﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ
ﮭﮮﭼ [النساء.]48 :
((( أخرجه البخاري ( ،)4761ومسلم ( )141من حديث عبد اهلل بن مسعود .
((( «نونية ابن القيم» (.)220/1
157 الحديث التاسع والعشرون
وأما الرشك األصغر :فهو كل وسيلة موصلة إىل الرشك األكرب ،إذا مل تصل إىل رتبة
عرفه الشيخ ابن سعدي .وله أنواع متعددة؛ كاحللف بغري اهلل، العبادة .كذا َّ
والرياء ،وعبادة الدينار والدرهم ونحوها.
-5عظم أركان اإلسالم اخلمسة ،وأهنا موجبة لدخول اجلنة والنجاة من النار ،ملن
حافظ عليها ،وأداها كام ُأمر.
وقد تقدم رشح هذه األركان يف احلديث الثالث.
-6كثرة أبواب اخلري ،لقوله « :أال أدلك عىل أبواب اخلري» ،فأبواب اخلري
كثرية متنوعة ،زيادة عىل الواجبات واملفروضات ،وهي النوافل والتطوعات.
-7أن الصوم ُجنَّة ،يستجن به املؤمن من املعايص يف الدنيا ،ومن النار يف اآلخرة ،وقد
نص املوىل عىل حصول التقوى به ،قال :ﭽﭣﭤﭥﭦ
ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭼ [البقرة ،]183 :وقال
يف احلديث القديس« :الصوم يل وأنا أجزي به» ،ويف «الصحيحني» عن أيب هريرة
عن النبي قال« :الصيام جنة ،فإذا كان يوم صوم أحدكم فال
يرفث ،وال جيهل ،فإن امرؤ سا َّبه فليقل :إين امرؤ صائم».
فاحرص أهيا املسلم ،يا من أثقلتك الذنوب والسيئات ،واخلطايا واملوبقات ،قف
بني يدي الكريم الوهاب تلك اللحظات ،واسأله املغفرة والرمحة والتوبة؛ فإنه َّ
جل
جالله رحيم كريم جزيل اهلبات.
روى مسلم عن أيب هريرة قال :قال رسول اهلل »« :من مات ومل يغز ومل
حيدث نفسه به مات عىل شعبة من نفاق»((( ،واجلهاد يكون بالنفس :وهو بذل
اجلهد يف قتال الكفار.
وباملال :وذلك ببذل النفقة للمجاهدين يف رشاء سالح ونحوه.
وباللسان :وذلك بإقامة احلجة عىل الكفار واملنافقني ،ودعائهم إىل اهلل .(((
((( «الروض املربع» (.)165/1
((( «صحيح مسلم» (.)1910
((( «سبل السالم» (.)87/4
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 160
وقد ورد يف فضل اجلهاد أحاديث كثرية ،ففي «الصحيحني» وغريمها عن أيب ذر
قال :قلت :يا رسول اهلل ،أي العمل أفضل؟ قال « :إيامن باهلل وجها ٌد
يف سبيله».
وفيهام عن أيب هريرة عن النبي قال« :أفضل األعامل إيامن
باهلل ،ثم جهاد يف سبيل اهلل».
-13عظم خطر اللسان ،لقوله « :وهل يكب الناس يف النار عىل وجوههم
أو قال :عىل مناخرهم إال حصائد ألسنتهم».
املحرم وعقوباته،
قال ابن رجب « :واملراد بحصائد األلسنة :جزاء الكالم َّ
فإن اإلنسان يزرع بقوله وعمله احلسنات والسيئات ،ثم حيصد يوم القيامة ما زرع،
رشا من قول أو عمل، خريا من قول أو عمل ،حصد الكرامة ،ومن زرع ًّ
فمن زرع ً
حصد غدً ا الندامة»(((.
وقد قال اهلل :ﭽﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ ﭼ[ق ،]18 :وتقدم قوله
خريا أو ليصمت».
« :ومن كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليقل ً
صالحا يف
ً قال يونس بن عبيد« :ما رأيت أحدً ا لسانه منه عىل ٍ
بال ،إال رأيت ذلك
سائر عمله»(((.
وذلك ألن اللسان به حصائد الكالم من خري ورش ،فبه ينطق املرء بكلمة الكفر،
وبه السب والشتم والقذف والكذب وقول الزور والبهتان ،واالعتداء عىل
أعراض اخللق .وبه ينطق املرء باألعامل الصاحلة من حتميد وتسبيح وهتليل.
الحديث الثالثون
هلل
ول ا ِ س ِ َاشرٍ َ ،ع ْن َر ُ ني ُج ْر ُثوم ْبنِ ن ِ ش ِّ َع ْن َأبِي َث ْع َل َب َة الخُ َ
وهاَ ،و َح َّد ُض ِّي ُع َِض َفالَ ت َض َف َرائ َ اهلل ت ََعا َلى َف َر َ َ ال« :إِنَّ َ ق َ
ت َع ْن س َك َ وهاَ ،و َ َه ُك َ ش َيا َء َفالَ َت ْنت ِ وهاَ ،و َح َّر َم َأ ْ ُح ُدود ًا َفالَ ت َْع َت ُد َ
سنٌ َر َوا ُه ِيث َح َ ها»َ ،حد ٌ يان َفالَ َت ْب َح ُثوا َع ْن َ
ِس ٍ ش َيا َء َر ْح َم ًة َل ُك ْم َغ ْي َر ن ْ َأ ْ
ال َّدا َر ُق ْ
طن ُِّي َو َغ ْي ُر ُه.
فيه فوائد:
-1هذا احلديث أخرجه الدارقطني ( ،)4396والبيهقي ( ،)19725والطرباين يف
«الكبري» ( )677من طريق داود بن أيب هند ،عن مكحول ،عن أيب ثعلبة
فذكره.
وإسناده ضعيف ،فيه علتان:
ً
مكحول مل يصح له السامع من أيب ثعلبة ،كذا قال أبو إحدامها :االنقطاع .فإن
مسهر الدمشقي ،وأبو نعيم احلافظ وغريمها.
الثانية :أنه قد اختلف يف رفعه ووقفه عىل أيب ثعلبة ،ورواه بعضهم عن مكحول
من قوله ،لكن قال الدارقطني« :األشبه بالصواب املرفوع ،قال :وهو أشهر»(((.
واحلديث له شواهد متعددة ،لكن ال يصح منها يشء.
((( انظر« :جامع العلوم واحلكم» ( ،)150/2و «جامع التحصيل» للعالئي ص(.)285
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 162
وعليه :فإن حتسني املؤلف له فيه نظر! ولعله حسنه بمجموع طرقه وشواهده،
وهذا غري مس ّلم عىل قواعد املحدثني .واهلل أعلم.
-2راوي احلديث :هو أبو ثعلبة اخلشني ،صحايب جليل ،مشهور بكنيته وقد اختلف
يف اسمه؛ فقيل :جرثوم بن نارش ،وقيل :جرثومة ،وقيل :جرهم ،وقيل غري ذلك،
روى عن النبي أحاديث ،وله يف الكتب الستة ( )19تسعة عرش حدي ًثا
باملكرر.
-3هذا احلديث لو صح أصل كبري من أصول الدين ،كام قال أبو بكر بن السمعاين،
قسم فيه األحكام إىل أربعة أقسام :فرائض ،وحمارم،
وذلك ألن النبي ّ
وحدود ،ومسكوت عنه ،وتلك جتمع أحكام الدين ك ّلها.
فالكفائي :ما ُقصد فعله بقطع النظر عن فاعله ،وحكمه أنه إذا قام به من يكفي
سقط عن الباقني ،وم ّثل له العلامء :باألذان واإلقامة ،وصالة اجلنازة وغريها.
وأما العيني :فهو ما ُقصد به الفعل والفاعل ،ووجب عىل كل أحد بعينه ،وهو
مطالب به ،وم َّثلوا له بأركان اإلسالم اخلمسة ،وغريها(((.
فام هني عن جتاوزه فهو أوامر ،وما هني عن قربانه فهو نواهي.
-7أن ما سكت اهلل عنه فهو عفو ،لقوله« :وسكت عن أشياء رمحة بكم غري نسيان فال
تبحثوا عنها».
قال ابن رجب :وقوله « :فال تبحثوا عنها» حيتمل اختصاص
هذا النهي بزمن النبي؛ ألن كثرة البحث والسؤال عام مل يذكر قد يكون سب ًبا لنزول
التشديد فيه بإجياب أو حتريم ،وحديث سعد بن أيب وقاص يدل عىل هذا يعني
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 164
حيرم،
جرما من سأل عن يشء مل ّ قوله « :إن أعظم املسلمني يف املسلمني ً
فحرم من أجل مسألته» وحيتمل أن يكون النهي عا ًّما ،واملروي عن سلامن من ّ
السمن واجلبن والفراء ،فقال : يدل عىل ذلك يعني :أنه سئل عن ّ قوله ُّ
حرم اهلل يف كتابه ،وما سكت عنه فهو مما
«احلالل ما أحل اهلل يف كتابه ،واحلرام ما ّ
عفا عنه» ،وقد روي مرفو ًعا وال يصح فإن كثرة البحث والسؤال عن حكم ما مل
يذكر يف الواجبات وال يف املحرمات ،قد يوجب اعتقاد حتريمه ،أو إجيابه ،ملشاهبته
املحرمات ،فقبول العافية فيه ،وترك البحث والسؤال عنه ّ لبعض الواجبات أو
خري.»..اهـ(((.
قلت :واالحتامل الثاين أصح أن النهي عام ،فيشمل زمن النبي وبعده.
الَ :جا َء َر ُج ٌل ِي َ ق َ الساعِ د ِّس ْع ٍد َّه ِل ْبنِ َ س ْاس َ َع ْن َأبِي َ
الع َّب ِ
هلل ُد َّلنِي َع َلى َع َم ٍل ِإ َذا َعمِ ْل ُت ُه
ول ا ِس َ الَ :يا َر ُ ِإ َلى ال َّنب ِِّي َ ف َق َ
ُ
اهلل، ه ْد فِ ي ال ُّد ْنيا ُيحِ ُّب َ
ك َّاس؟ َف َق َ
ال« :ا ْز َ اهلل َو َأ َح َّبنِي الن ُ ُ َأ َح َّبنِي
سنٌ َ ،ر َوا ُه ا ْبنُ ِيث َح ََّاس»َ ،حد ٌ ك الن ُ َّاس ُيحِ ُّب َ يما عِ ْن َد الن ِ ه ْد فِ َ َوا ْز َ
س َن ٍة. سانِي َد َح َاجه َو َغ ْي ُر ُه ب َِأ ََم َ
فيه فوائد:
-1هذا احلديث أخرجه ابن ماجه ( ،)4102واحلاكم ( ،)7873والبيهقي يف «شعب
اإليامن» ( ،)10043والطرباين ( ،)5972وغريهم من طريق خالد بن عمرو
القريش ،عن سفيان الثوري ،عن أيب حازم ،عن سهل بن سعد الساعدي .
وهو منكر ،حلال خالد بن عمرو القريش ،فقد قال عنه اإلمام أمحد « :ليس
بثقة» ،وقال البخاري« :منكر احلديث» ،وقال صالح جزرة« :يضع احلديث»،
ورضب أبو زرعة عىل حديثه ،ورماه ابن معني بالكذب((( .وذكر الذهبي يف
«امليزان» :هذا احلديث من مجلة مناكريه.
وضاع»(((.
وقال متعق ًبا احلاكم يف تصحيحه« :خالد َّ
((( «ميزان االعتدال» (.)635/1
((( «تلخيص املستدرك» مطبوع بذيل «املستدرك» للحاكم (.)313/4
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 166
وقول املصنف« :حديث حسن ،»..اعرتضه ابن رجب يف «رشحه» حيث
قال« :ويف ذلك نظر ،فإن خالد بن عمرو القريش األموي ،قال فيه اإلمام أمحد
:منكر احلديث ،وقال مرة :ليس بثقة ،يروي أحاديث بواطيل ..إلخ»(((.
-2راوي احلديث :هو سهل بن سعد بن مالك األنصاري اخلزرجي الساعدي ،له
وألبيه صحبة مشهورة ،روى عن النبي أحاديث ،منها يف الكتب الستة
( 143باملكرر).
مات سنة (88هـ) وقد جاوز املائة ،وأرضاه(((.
-3فيه دليل عىل فضل الزهد يف الدنيا ،وهو ترك ما ال ينفع يف اآلخرة ،وذلك ألنه
سبب ملحبة اهلل ؛ ألن الزهد فيها حيمل العبد عىل فعل األوامر ،واجتناب
النواهي ،وعدم الركون إىل الدنيا واالطمئنان إليها ،بل حاله فيها ،كأنه غريب أو
عابر سبيل.
قال اإلمام أمحد « :الزهد عىل ثالثة أوجه :األول :ترك احلرام ،وهو زهد
العوام ،والثاين :ترك الفضول من احلالل ،وهو زهد اخلواص ،والثالث :ترك ما
يشغل عن اهلل ،وهو زهد العارفني».
قال ابن القيم « :وهذا الكالم من اإلمام أمحد هو من أمجع الكالم.»...
ثم قال« :والذي أمجع عليه العارفون :أن الزهد سفر القلب من وطن الدنيا،
وأخذه يف منازل اآلخرة ،وعىل هذا صنف املتقدمون كتب الزهد؛ كالزهد لعبد اهلل
بن املبارك ،ولإلمام أمحد ،ولوكيع ،وهلناد بن الرسي ،وغريهم.
ومتعلقه ستة أشياء ،ال يستحق العبد اسم الزهد حتى يزهد فيها ،وهي :املال،
والصور ،والرياسة ،والناس ،والنفس ،وكل ما دون اهلل»(((.
((( «جامع العلوم واحلكم» (.)174/2
((( «السري» (« ،)422/3التقريب» ص(.)419
((( «مدارج السالكني» (.)12/2
167 الحديث الحادي والثالثون
-4أن الزهد فيام يف أيدي املخلوقني سبب ملحبتهم؛ ألن النفوس قد جبلت عىل استثقال
من أنزل حاجاته هبا ،وحينئذ فإن التعلق باملخلوقني سبب لبغضهم ،وسبب جللب
اهلم والغم ملن سأهلم.
قال الشيخ ابن سعدي « :ثم إذا علم العبد حق العلم أن تعلق القلب
حقريا ً
ذليل مهينًا مهانًا ،وأن ً باملخلوق هيبط بصاحبه إىل أسفل الدّ ركات ،وجيعله
رضه كبري ورشه مستطري ،متى علم ذلك حق العلم، ذلك غري نافع وال مفيد ،بل ّ
أسريا
مل يركن إىل أحد من اخللق ،ومل يرجهم ومل يملكوا عليه ضمريه ،حتى يكون ً
هلم ،عبدً ا ً
ذليل ،يأنف من ذلك كله.»...
ثم قال« :ومما يوجب للعبد االستعفاف واالستغناء علمه بأن افتقاره إىل اخللق
وتعلقه هبم ،واسترشافه ملا بني أيدهيم ،أو سؤاهلم جيلب اهلم والغم واألكدار
والقلق ،وأن استغناءه عنهم ،وعدم تعلقه هبم يوجب راحة القلب وروحه
وطمأنينته ،ثم إنه كلام قوي طمع العبد باهلل ،وقوي رجاؤه لربه ،وقوي توكله،
وهون عليه كل صعب ،ورزقه من حيث ال حيتسب ،وكفاه يس اهلل له كل عسريَّ ،
َّ
اهلموم كلها ،وكسب احلرية التي ال أرفع منها وال أنفع».اهـ(((.
س َ
ول َان الخُ ْد ِر ِّي َ أنَّ َر ُ سن ٍ ِك ْبنِ ِ س ْع ِد ْبنِ َمال ٍ سعِ ي ٍد َ َع ْن َأبِي َ
اجهسنٌ َر َوا ُه ا ْبنُ َم َ ِيث َح َ ض َرا َر»َ ،حد ٌ ض َر َر َوالَ ِ
ال« :الَ َ هلل َ ق َ ا ِ
سالً وطأ» ُم ْر َ ِك فِ ي «ا ْل ُم َّ سنَد ًاَ .و َر َوا ُه َمال ٌ ه َما ُم ْ طن ُِّي َو َغ ْي ُر َُوال َّدا َر ُق ْ
ط ُر ٌقسعِ ي ٍدَ ،و َل ُه ُ ط َأ َبا َ
س َق َ َع ْن َع ْمرو ْبنِ َي ْح َيى َع ْن َأبِي ِه َعنِ ال َّنب ِِّيَ ،ف َأ ْ
ها َب ْعض ًا. ض َ ُي َق ِّوي َب ْع ُ
فيه فوائد:
وقد تابعه عبد امللك بن معاذ النصيبي ،عن الدراوردي به .أخرجه ابن عبد الرب يف
«التمهيد» (.)159/20
((( «ميزان االعتدال» (.)53/3
لكن عبد امللك هذا ال يعرف((( .فاملتابعة ال تصح.
وأخرجه مالك يف «املوطأ» ( ،)2758والشافعي يف «مسنده» ( ،)575والبيهقي
ً
مرسل. ( )11385من طريق عمرو بن حييى املازين ،عن أبيه
وهو مرسل صحيح.
وللحديث شواهد متعددة :منها عن ابن عباس ،وعائشة ،وجابر ،وعبادة بن
الصامت ،وأيب هريرة ،وأيب لبابة ،وثعلبة بن أيب مالك .
وقد بسطها وأطال الكالم عليها ابن رجب يف «رشحه».
وهذه الشواهد ،مع ما فيها من مقال ،قد يتقوى احلديث هبا ،ويصلح لالحتجاج
به.
قال املناوي « :قال العالئي :للحديث شواهد ،ينتهي جمموعها إىل درجة
الصحة أو احلسن املحتج به».اهـ(((.
تنبيه :احلديث مل خيرجه ابن ماجه عن أيب سعيد ،وإنام أخرجه عن صحابة آخرين.
-2راوي احلديث :هو أبو سعيد سعد بن مالك بن سنان بن عبيد األنصاري اخلدري،
صحايب مشهور ،نعته الذهبي« :باإلمام املجاهد مفتي املدينة» ،قال« :وكان أحد
الفقهاء املجتهدين» ،استُصغر ُبأحد ،ثم شهد ما بعدها ،وروى حدي ًثا ً
كثريا ،ومجلة
مسنده ( 1170حدي ًثا) باملكرر ،منها يف البخاري ومسلم ( ،)43وانفرد البخاري
بـ( ،)16ومسلم بـ(.)52
مات سنة (74هـ)(((.
-3هذا احلديث يعترب قاعدة من قواعد الدين ،وهو أن الرضر منفي رش ًعا ،فال حيل
للمسلم أن يرض أخاه املسلم بقول ،أو فعل ،أو سب بغري حق ،وسواء كان له يف
ذلك نوع منفعة أم ال؟
((( انظر« :نصب الراية» (.)485/4
((( «فيض القدير» (.)432/6
((( «السري» (« ،)168/3التقريب» ص(.)371
171 الحـديـث الثاني والثالثـون
ويدخل يف ذلك صور متعددة ،ذكرها الفقهاء رمحهم اهلل مبسوطة يف كتبهم ،منها
يف باب اجلوار :قالوا« :وحرم عىل اجلار أن حيدث بملكه ما يرض بجاره ،كحامم،
ورحى ،وتنور».
وحرم أن يترصف يف جدار جار ،أو مشرتك بفتح طاق ،أو رضب وتد ونحوه إال
بإذنه..
وإذا اهندم جدارمها املشرتك ،أو سقفهام ،أو خيف رضره بسقوطه فطلب أحدمها
أن يعمره اآلخر معه ،أجرب عليه إن امتنع ،لقوله« :ال رضر وال رضار»(((.
ومنها :مضارة الزوجة ،والتضييق عليها ،لتفتدي منه بغري حق ،كام قال :
ﭽﭗﭘﭙﭚﭼ[الطالق.]6 :
ومضارة أحد الوالدين لآلخر من جهة الولد ،كام قال :ﭽﯤﯥﯦ
ﯧﯨﯩﯪﯫﭼ[البقرة.]233 :
املورث لبعض ورثته ،أو إرضار املويص يف وصيته ،كام قال :
ومنها :إرضار ِّ
ﭽﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﭼ((( [النساء.]12 :
واألمثلة يف هذا كثرية متنوعة.
-4أن مفهومه يدل عىل الرتغيب يف اإلحسان بجميع أنواعه؛ ألن اإلنسان ملا هني عن
مأمورا باإلحسان ،كام قال :ﭽﮪﮫﮬﮭﮮﮯﭼ ً اإلرضار ،كان
[البقرة.]195 :
وتقدم قوله « :إن اهلل كتب اإلحسان عىل كل يشء»(((.
طى الَ « :ل ْو ُي ْع َ هلل َ ق َ ول ا ِ س َ اس َ ،أنَّ َر ُ َعنِ ا ْبنِ َع َّب ٍ
ه ْمَ ،لكِ نِ ال َب ِّي َن ُة ال َأ ْم َو َ
ال َق ْو ٍم َود َِما َء ُ اه ْم ،ال َّد َعى ِر َج ٌ َّاس ِب َد ْع َو ُ
الن ُ
هقِ ُّي سنٌ َ ،ر َوا ُه ال َب ْي َِيث َح َ الم َّدعِ ي َوال َيمِ ينُ َع َلى َم ْن َأ ْن َك َر»َ ،حد ٌ َع َلى ُ
يح ْينِ ».
«الصحِ َ َّ ض ُه فِ يه َكذاَ ،و َب ْع ُ َو َغ ْي ُر ُه َ
فيه فوائد:
-1هذا احلديث أخرجه البيهقي ( )21201من طريق احلسن بن سهل ،حدثنا عبد
اهلل بن إدريس ،حدثنا ابن جريج وعثامن بن األسود ،عن ابن أيب مليكة ،عن ابن
عباس ...فذكره وفيه قصة.
وإسناده صحيح .وأصله يف «الصحيحني» من طريق ابن جريج ،عن ابن أيب
مليكة ،عن ابن عباس مرفو ًعا بلفظ« :لو يعطى الناس بدعواهم ،ال ّدعى ناس
دماء رجال وأمواهلم ،ولكن اليمني عىل املدَّ َعى عليه»(((.
-2قال النووي « :هذا احلديث قاعدة كبرية من قواعد أحكام الرشع».
وقال ابن سعدي « :هذا احلديث عظيم القدر ،وهو أصل كبري من أصول
القضايا واألحكام ،فإن القضاء بني الناس إنام يكون عند التنازع :هذا يدعي عىل
هذا ح ًّقا من احلقوق ،فينكره ،وهذا يدعي براءته من احلق الذي كان ثابتًا عليه،
فبي النبي ً
أصل يفض نزاعهم ،ويتضح به املحق من الباطل»(((. َّ
((( «صحيح البخاري» ( ،)4552ومسلم (.)1711
((( «هبجة قلوب األبرار» ص(.)114
-3هذا احلديث عام يف مجيع الدعاوى ،فمن ادعى عىل غريه عينًا أو دينًا ،أو ح ًّقا من
احلقوق أ ًّيا كان طولب بإقامة البينة ،فإن أتى ببينة ثبت له احلق ،وحكم له به ،وإن مل
يأت ببينة ،فإن املدعى عليه حيلف ويربأ حينئذ من التهمة التي وجهت إليه ،لقوله:
«البينة عىل املدعي ،واليمني عىل من أنكر».
أيضا :من ادعى براءته من احلق الذي عليه ،وأنكر صاحب احلق ذلك، ومثله ً
وقال :إنه باق يف ذمته ،فإن مل يأت مدعي الوفاء والرباءة ببينة ،وإال حكم ببقاء
احلق يف ذمته؛ ألنه األصل ،ولكن عىل صاحب احلق اليمني ببقائه(((.
-4أن احلكمة يف كون املدعي ال يعطى بمجرد دعواه؛ ألنه لو ُأعطي بمجردها الدعى
قوم دماء قوم وأمواهلم ،ولكثر الرش والفساد وصار املدعى عليه ال يمكنه صون
ماله ودمه.
فدل عىل كامل الرشيعة ،وصيانتها وحفظها حلقوق البرش ،وأهنا رشيعة من حكيم
عليم ،رحيم بالعباد ،بر كريم؛ الشتامهلا عىل احلكمة والعدل والرمحة ،ونرص
املظلوم ،وردع الظامل.
-5استدل به بعض أهل العلم عىل رد حديث القسامة الصحيح ،وقد أجاب عن ذلك
ابن القيم فقال« :والذي رشع احلكم بالقسامة هو الذي رشع أن ال يعطى
أحدٌ بدعواه املجردة ،وكال األمرين حق من عند اهلل ،ال اختالف فيه ،ومل يعط يف
القسامة بمجرد الدعوى ،وكيف يليق بمن هبرت حكمة رشعه العقول أن ال يعطي
املدعي بمجرد دعواه عو ًدا من أراك ،ثم يعطيه بدعوى جمردة دم أخيه املسلم؟ وإنام
أعطاه ذلك بالدليل الظاهر ،الذي يغلب عىل الظن صدقه فوق تغليب الشاهدين،
ً
مقتول يف بيت عدوه، وهو ال ّلوث والعداوة ،والقرينة الظاهرة من وجود العدو
فقوى الشارع احلكيم هذا السبب باستحالف مخسني من أولياء القتيل الذي يبعد ّ
أو يستحيل اتفاقهم كلهم عىل رمي الربيء بدم ليس منه بسبيل ،وال يكون فيهم
رجل رشيد يراقب اهلل ..إلخ»(((.
هلل س َ
ول ا ِ سمِ ْع ُ
ت َر ُ الَ : َع ْن َأبِي َ
سعِ ي ٍد الخُ ْد ِر ِّي َ ق َ
َط ْعست ِ «م ْن َر َأى مِ ْن ُك ْم ُم ْن َكر ًا َف ْل ُي َغ ِّي ْر ُه ِب َي ِدهَِ ،فإ ِْن َل ْم َي ْولَ : َي ُق ُ
ف اإلِ ْي َمانِ »َ ،ر َوا ُه ِك َأ ْ
ض َع ُ َط ْع َفب َِق ْل ِبهَِ ،و َذل َ ست ِ ِسا ِنهَِ ،فإ ِْن َل ْم َي َْف ِبل َ
سل ٌِم(((. ُم ْ
فيه فوائد:
-1هذا احلديث أصل يف وجوب إنكار املنكر ،وتغيريه عىل حسب القدرة واالستطاعة،
وأن إنكار املنكر يكون باليد ،ثم باللسان ،ثم بالقلب.
قال ابن رجب بعد أن ساق مجلة من األحاديث الدالة عىل األمر بإنكار
املنكر« :فد ّلت هذه األحاديث ك ّلها عىل وجوب إنكار املنكر بحسب القدرة عليه،
وأن إنكاره بالقلب ال بد منه ،فمن مل يكره قلب ُه املنكر ،دل عىل ذهاب اإليامن من
قلبه»(((.
-2أن ظاهره يدل عىل أن تغيري املنكر مقيد بالرؤية ،لقوله « :من رأى»،
أيضا رؤية
فمن مل ير فإنه ال يلزمه اإلنكار ،لكن حيتمل أن يكون املراد بالرؤية ً
العلم ،وهذا أظهر فاحلديث يشمل رؤية العني ورؤية العلم؛ ألن املقصود دفع
مفسدة املنكر.
((( «صحيح مسلم» (.)78
((( «جامع العلوم واحلكم» (.)245/2
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 176
-3أن إنكار املنكر يكون ً
أول باليد ملن استطاع ذلك ،وكان له ذلك.
كالراعي مع رعيته ،والرجل مع أهل بيته ،واملعلم مع طالبه ،وإنكاره يكون بتغيريه
أو إزالته ،وتأديب من ارتكبه إما برضب غري مربح ،وإما بتهديد بالعقوبة ونحوها.
-4أن من مل يستطع إنكار املنكر باليد ،فيلزمه إنكاره باللسان ،لقوله « :فإن
مل يستطع فبلسانه» .وذلك باملوعظة والنصح والتحذير من عقوبة اهلل وسخطه.
أيضا :بتأليف الكتب ،واملطويات ،وكتابة املقاالت عن بعض املنكرات
ويكون ً
املنترشة بني الناس ،وبيان خطرها عليهم وسبل الوقاية منها.
قال ابن عبد القوي :وقوله « :فليغريه بيده ،فإن مل يستطع
فبلسانه ،فإن مل يستطع فبقلبه» ،قال :هذا تنزل يف تغيري املنكر بحسب االستطاعة
األبلغ يف ذلك فاألبلغ ،إذ اليد أبلغ يف التغيري ككرس أوعية اخلمر واملالهي من يد
مستعمليها ،ثم اللسان بأن يغوث عليهم ويصيح فيرتكوا ذلك ،أو يسلط عليهم
بلسانه من يفعل ذلك ،ثم القلب بأن ينكر املنكر بقلبه ،وينوي أنه لو قدر عىل
لغيه؛ ألن اإلنسان جيب عليه كراهة ما يكرهه اهلل من املعايص
تغيري املنكر ّ
واألعامل بالنيات»(((.
فرض عىل كل مسلم ،حيث جعل اإلنكار بالقلب آخر
-5أن اإلنكار بالقلب ٌ
الدرجات ثم قال « :وذلك أضعف اإليامن».
وقد روى مسلم عن ابن مسعود مرفو ًعا« :ما من نبي بعثه اهلل يف أمة قبيل،
إال كان له من أمته حواريون وأصحاب ..وفيه :ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن،
ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ،وليس وراء ذلك من اإليامن حبة خردل»(((.
واإلنكار بالقلب بأن يكره املنكر بقلبه ،ويتفطر قلبه لذلك ،وينوي أنه لو قدر عىل
لغيه.
تغيريه بيده أو بلسانه ّ
((( «التعيني يف رشح األربعني» ص(.)290
((( «صحيح مسلم» (.)80
177 الحديث الرابع والثالثون
أتــدري عــى مــن أســأت األدب أال قــل ملــن بــات يل حاســدً ا
ٍ
عاص هلل إذا كان بالنهي عا ًملا»(((. قال ابن عبد الرب« :أمجعوا أن فاعله
-3حتريم التباغض بني املسلمني؛ ألن اهلل جعلهم إخوة ،واإلخوة يتحابون بينهم ،وال
يتباغضون.
ولذا حرم اهلل عىل عباده امليش بالنميمة ،ملا فيها من إيقاع العداوة والبغضاء ،قال
النبي « :ال يدخل اجلنة نامم» ،متفق عليه.
وإذا كانوا ثالثة حرم أن يتناجى اثنان دون الثالث ،قال النبي « :إذا
كانوا ثالثة فال يتناجى اثنان دون الثالث» .متفق عليه.
وحث عىل كل ما جيلب املودة واملحبة بينهم ،ومن ذلك :إفشاء السالم قال النبي
« :والذي نفيس بيده ،ال تدخلوا اجلنة حتى تؤمنوا ،وال تؤمنوا حتى
حتابوا ،أال أدلكم عىل يشء إذا فعلتموه حتاببتم أفشوا السالم بينكم» .أخرجه
مسلم.
-4حتريم مدابرة املسلم ألخيه املسلم ،لقوله « :وال تدابروا».
لزمه إعانته إذا أمكنه ،ومل يكن له عذر رشعي ،كذا نقله النووي عن العلامء.
وال حيقره :أي :ال حيتقره يف َخلقه أو ُخلقه ،أو رأيه ،بل يكرمه ويوقره.
وهلذا قال « :بحسب امرئ من الرش أن حيقر أخاه املسلم».
أي :لو مل يكن لإلنسان من الرش إال أن حيقر أخاه املسلم لكان كاف ًيا.
-9أن التقوى يف القلب ،وتصديقها يف اجلوارح ،لقوله « :التقوى ها هنا»
ويشري إىل صدره ثالث مرات ـ.
فإذا اتقى العبد ربه ،اتقت جوارحه وانقادت ألوامر اهلل ،واجتنبت نواهيه.
وحينئذ ال يصح احتجاج بعض العصاة عىل معاصيهم بأن التقوى يف القلب، ٍ
فام دام القلب نظي ًفا فال ترضه املعايص؛ ألننا نقول :لو كان القلب ً
سليم ومتق ًيا
الستقامت اجلوارح.
-10قالابنرجب:قوله«:التقوىهاهنا»،فيهإشارةإىلأنكرماخللق
فرب من حيقره الناس لضعفه ،وق ّلة حظه من الدنيا ،وهو أعظم
عند اهلل بالتقوىّ ،
قدرا عند اهلل ممّن له قدر يف الدنيا ،فإن الناس إنام يتفاوتون بحسب التقوى،
ً
كام قال اهلل :ﭽﮁﮂﮃﮄﮅﭼ [احلجرات.(((»]13 :
-11حتريم دم املسلم وماله وعرضه ،لقوله« :كل املسلم عىل املسلم حرام :دمه وماله
وعرضه».
وقد نص النبي عىل حتريم هذه األمور يف خطبته يف حجة الوداع
حيث قال« :إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام؛ كحرمة يومكم هذا،
يف شهركم هذا ،يف بلدكم هذا» .متفق عليه.
فالدم :كالقتل واجلراح وما أشبهها.
والعرض :كالغيبة والنميمة والسب والقدح.
((( «جامع العلوم واحلكم» (.)275/2
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 184
واملال :كالرسقة ،والغصب ،وجحد ما عليه من الدَّ ين لغريه ،أو ادعاء ما ليس له،
وغري ذلك.
قال ابن عبد القوي« :واقترص عىل هذه الثالثة؛ ألن ما سواها فرع عليها»(((.
س َع ْن «م ْن ن ََّف َ الَ : ه َر ْي َرةَ َ عنِ ال َّنب ِِّي َ ق َ َع ْن َأبِي ُ
ب َي ْو ِم اهلل َع ْن ُه ُك ْر َب ًة مِ ْن ُك َر ِ ُ س ب ال ُّد ْن َيا ن ََّف َُم ْؤمِ ٍن ُك ْر َب ًة مِ ْن ُك َر ِ
اهلل َع َل ْي ِه فِ ي ال ُّد ْنيا َواآلخِ َرةِ ، ُ س َرسرٍ َي َّ س َر َع َلى ُم ْع ِ امةَِ ،و َم ْن َي َّ القِ َي َ
الع ْب ِد
واهلل فِ ي َع ْونِ َ ُ اهلل فِ ي ال ُّد ْنيا َواآلخِ َرةِ ، س َت َر ُه ُ سلِم ًا َ َو َم ْن َ
س َت َر ُم ْ
س فِ ي ِه عِ ْلم ًا ط ِريق ًا َي ْلتَمِ ُ ك َ س َل َ الع ْب ُد فِ ي َع ْونِ َأخِ يهَِ .و َم ْن َ َما َكانَ َ
ت مِ ْن اجت ََم َع َق ْو ٌم فِ ي َب ْي ٍ الج َّنةَِ ،و َما ْ ط ِريق ًا ِإ َلى َ ُ
اهلل َل ُه ِب ِه َ ه َلس َّ َ
ه ُم ت َع َل ْي ِ َه ْم ِإالَّ َن َز َل ْسو َن ُه َب ْين ُ هلل َو َي َت َدا َر ُ
َاب ا ِ هلل َي ْت ُلونَ كِ ت َ وت ا ِ ُب ُي ِ
ُ
اهلل ه ُم المالَئ َِك ُةَ ،و َذ َك َر ُ ه ُم َ ه ُم ال َّر ْح َم ُةَ ،و َح َّف ْت ُ ش َي ْت ُ السكِ ي َن ُةَ ،و َغ ِ َّ
سل ٌِم َس ُب ُه»َ ،ر َوا ُه ُم ْ س ِر ْع ِب ِه ن َ ط َأ ِب ِه َع َم ُل ُه َل ْم ُي ْ يم ْن عِ ْن َد ُهَ ،و َم ْن َب َّ فِ َ
بِهذا ال َّل ْفظ(((.
فيه فوائد:
-1قال املؤلف النووي « :وهو حديث عظيم جامع ألنواع من العلوم،
والقواعد ،واآلداب»(((.
-2احلث عىل تنفيس الكرب عن املؤمنني ،لقوله« :من نفس عن مؤمن كربة من كرب
الدنيا نفس اهلل عنه كربة من كرب يوم القيامة».
واملراد بالكربة الشدة والضيق ،وتنفيسها إزالتها ورفعها.
((( «صحيح مسلم» (.)2699
((( «رشح صحيح مسلم» (.)21/17
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 186
والك َُرب التي تقع عىل املؤمن متنوعة ،فقد تكون كربة مالية ،أو نفسية ،أو اجتامعية،
أو غري ذلك.
فمن ن ّفسها عنه وأزاهلا ،أزال اهلل عنه كربة من كرب يوم القيامة ،وكرب القيامة
أعظم وأشد.
-3الرتغيب يف التيسري عىل املعرس ،وذلك بحسب عرسته ،فاملدين بإنظاره إىل ميرسة،
لقوله :ﭽﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﭼ[البقرة.]280 :
واملراد بسرته :إخفاء عيوبه اخلَلقية واخلُلقية ،القولية والفعلية ،ال يظهرها للناس.
فجزاء من يسرت أخاه أن اهلل يسرته :أي :حيجب عيوبه عن الناس يف الدنيا واآلخرة.
ُ
وقد ورد يف احلديث« :يا معرش من آمن بلسانه ،ومل يدخل اإليامن يف قلبه ،ال تغتابوا
املسلمني ،وال تتبعوا عوراهتم ،فإنه من اتبع عوراهتم ،تت ّبع اهلل عورته ،ومن تتبع اهلل
عورته يفضحه يف بيته» .رواه أبو داود(((.
((( برقم ( )4880بإسناد حسن.
187 الحديث السادس والثالثون
قال شيخنا ابن عثيمني « :ولكن السرت ال يكون حممو ًدا إال إذا كان فيه
فمثل املجرم إذا أجرم ال نسرت عليه إذا كان معرو ًفا
مصلحة ،ومل يتضمن مفسدةً ،
مستقيم يف ظاهره ،ثم فعل ما ال حيل
ً بالرش والفساد ،ولكن الرجل الذي يكون
فهنا قد يكون السرت مطلو ًبا»(((.
-5أن اجلزاء من جنس العمل.
قال ابن رجب « :وقد تكاثرت النصوص هبذا املعنى ،كقوله« :إنام يرحم
يعذب الذين ّ
يعذبون الناس يف الدنيا»(((. اهلل من عباده الرمحاء» ،وقوله« :إن اهلل ّ
-7عظم فضل طلب العلم ،لقوله « :ومن سلك طري ًقا يلتمس فيه ً
علم
سهل اهلل له به طري ًقا إىل اجلنة».
ّ
يسهله اهلل له وييرسه يوم القيامة.
وهذا يشمل الطريق احليس ،وهو طريق اجلنة ّ
((( من تعليقه عىل «األربعني» ص(.)78
((( «جامع العلوم واحلكم» (.)285/2
((( يف احلديث رقم (.)26
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 188
ويشمل الطريق املعنوي ،وهو أن اهلل يسهل له معرفة العلم الرشعي الذي
يسهل له علو ًما أخرى موصلة إىل اهلل والدار اآلخرة.
يصل به إىل اجلنة ،وكذا ّ
-8فضيلة اجتامع الناس يف املساجد عىل تالوة كتاب اهلل ومدارسته ،حيث تتنزل
عليهم السكينة :وهي الطمأنينة يف القلب.
-9أن ظاهره يدل عىل أن هذا الثواب خاص ملن اجتمعوا يف املسجد ،لقوله« :يف بيت
من بيوت اهلل».
لكن روى مسلم يف «صحيحه» من حديث أيب سعيد وأيب هريرة عن النبي
قال« :ال يقعد قوم يذكرون اهلل إال حفتهم املالئكة ،وغشيتهم
الرمحة ،ونزلت عليهم السكينة ،وذكرهم اهلل فيمن عنده»(((.
قال النووي « :فإنه مطلق يتناول مجيع املواضع ،ويكون التقييد يف احلديث
األول خرج عىل الغالب ،ال سيام يف ذلك الزمان ،فال يكون له مفهوم يعمل به»(((.
-10أن ميزان العباد عند اهلل هو تقواهم له ،لقوله« :ومن بطأ به عمله مل يرسع به
نسبه».
قال ابن رجب « :معناه :أن العمل هو الذي يبلغ بالعبد درجات اآلخرة ،كام
قال :ﭽﭑﭒﭓﭔﭼ[األنعام ،]132 :فمن أبطأ به عمله أن
يبلغ به املنازل العالية عند اهلل ،مل يرسع به نسبه ،فيبلغه تلك الدرجات،
((( «صحيح مسلم» (.)2700
((( «رشح مسلم» (.)22/17
189 الحديث السادس والثالثون
فإن اهلل رتّب اجلزاء عىل األعامل ،ال عىل األنساب ،كام قال :
ﭽﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﭼ((( [املؤمنون.]101 :
-11أنه ينبغي للعبد أال يغرت بنسبه وقبيلته ورشفه ،بل ينبغي له أن هيتم بصالح عمله،
وصالح قلبه ،قال اهلل :ﭽﮁﮂﮃﮄﮅﭼ [احلجرات.]13 :
وقال النبي « :إن اهلل ال ينظر إىل صوركم وال إىل أجسامكم ولكن ينظر
إىل قلوبكم» .رواه مسلم(((.
يما َي ْر ِوي ِه َع ْن هلل فِ َ ول ا ِ س ِ اس َ ،ع ْن َر ُ َع ْن ا ْبنِ َع َّب ٍ
َاتُ ،ث َّمالس ِّيئ ِ
َات َو َّ سن ِ الح َ
َب َ اهلل َ كت َ َ ال« :إِنَّ ك َوت ََعا َلى َق َ َر ِّب ِه َت َبا َر َ
س َن ًة َكامِ ل ًة، ها ُ
اهلل عِ ْن َد ُه َح َ ها َك َت َب َ س َن ٍة َف َل ْم َي ْع َم ْل َه َّم ب َِح َ ِكَ ،ف َم ْن َ َب َّينَ َذل َ
َات ِإ َلى َ
س ْبعِ َما َئ ِة سن ٍ ش َر َح َ اهلل عِ ْن َد ُه َع ُْ هاها َك َت َب َ ِها َف َعمِ َل َ ه َّم ب َ َوإ ِْن َ
ُ
اهلل ها َك َت َبها ِس ِّي َئ ٍة َف َل ْم َي ْع َم ْل َ ه َّم ب َ اف َكثِي َر ٍةَ ،وإ ِْن َ ض َع ٍ ف ِإ َلى َأ ْ ض ْع ٍ ِ
س ِّي َئ ًة َواحِ َد ًة»، اهلل َها ُ ِها َف َعمِ َلها َك َت َب َ ه َّم ب َ س َن ًة َكامِ َل ًةَ ،وإ ِْن َ عِ ْن َد ُه َح َ
ِه ِذ ِه ا ْل ُح ُروف(((. ه َما» ب َ يح ْي ِ «صحِ َ سل ٌِم فِ ي َ َر َوا ُه ال ُبخَ ا ِر ُّي َو ُم ْ
فيه فوائد:
-1هذا احلديث يسمى باحلديث القديس ،وهو الذي يرويه النبي عن ربه َّ
جل وعال.
وهو حديث عظيم فيه دليل عىل متام رمحة اهلل وكرمه بعباده.
-2أن اهلل كتب احلسنات والسيئات؛ أي :كتب ثواهبام ،وكتب فعلهام؛ ألنه
حني خلق القلم «قال له :اكتب ،قال :رب وماذا أكتب؟ قال :اكتب ما
هو كائن إىل يوم القيامة»(((.
-3أن من َه َّم باحلسنة فلم يعملها ،كتبها اهلل حسنة كاملة ،واملراد باهلم اإلرادة والعزم.
ويدل لذلك ما رواه مسلم عن أيب هريرة بلفظ« :إذا حتدّ ث عبدي بأن
يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما مل يعمل.(((»..
((( صحيح البخاري ( ،)6491ومسلم (.)207
((( من تعليق شيخنا عىل «األربعني» ص(.)80
((( «صحيح مسلم» (.)205
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 192
والسنَّة:
وقد دلت عىل ذلك أدلة كثرية من الكتاب ُّ
قال اهلل :ﭽ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ
ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﭼ [النساء.]100 :
ملا روى الرتمذي عن أيب كبشة األنامري أنه سمع رسول اهلل يقول:
علم ومل يرزقه ً
مال ،فهو صادق النية «إنام الدنيا ألربعة نفر ...وفيه :وعبد رزقه اهلل ً
يقول :لو أن يل ً
مال لعملت بعمل فالن فهو بنيته فأجرمها سواء»(((.
هم باحلسنة فعملها ،كتبها اهلل عرش حسنات إىل سبعامئة ضعف إىل أضعاف
-5أن من َّ
كثرية ،لقوله :ﭽﮎﮏﮐﮑﮒﮓﭼ [األنعام.]160 :
وأما زيادة املضاعفة عىل العرش ،فذلك ملن شاء اهلل أن يضاعف له ً
فضل منه وكر ًما،
وحيتمل أن تكون املضاعفة بحسب حسن العمل واإلخالص فيه واملتابعة.
هم بسيئة
هم بالسيئة فلم يعملها ،كتبها اهلل عنده حسنة كاملة ،لقوله« :وإن َّ
-6أن من َّ
فلم يعملها كتبها اهلل عنده حسنة كاملة».
((( «هبجة قلوب األبرار» ص(.)69 68
((( «سنن الرتمذي» ( )2325وصححه.
193 الحديث السابع والثالثون
لكن ورد يف «صحيح مسلم» قيد لكتابتها حسنة كاملة ،من حديث أيب هريرة
بلفظ« :قالت املالئكة :رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبرص به
فقالْ :ار ُقبوه ،فإن عملها فاكتبوها له بمثلها ،وإن تركها فاكتبوها له حسنة ،إنام
جراي»؛ أي :من أجيل(((.
تركها من َّ
اهلم هبا خو ًفا من اهلل ،كتبت له
فدل هذا احلديث عىل أن من ترك فعل السيئة بعد ِّ
حسنة كاملة.
عجزا عنها بعد أن بذل األسباب
ً أما إذا تركها خو ًفا من املخلوقني ،أو تركها
للوصول إليها فإنه يكتب عليه سيئة كاملة.
فاألقسام إذن ثالثة.
هم بالسيئة فعملها ،كتبت عليه سيئة واحدة من غري مضاعفة ،قال :
-7أن من َّ
ﭽﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﭼ
[األنعام.]160 :
لكن قال أهل العلم« :إن السيئة تع ُظم أحيانًا برشف الزمان أو املكان ،وكذا قد
تضاعف السيئات برشف فاعلها ،وقوة معرفته باهلل وقربه منه ،فإن من عىص
السلطان عىل بساطه أعظم جر ًما ممن عصاه عىل بعد»(((.
َ
اهلل هلل « :إِنَّ ول ا ِ س ُ ال َر ُ الَ :ق َ ه َر ْي َرةَ َ ق َ َع ْن َأبِي ُ
ب ِإ َل َّي بَ ،و َما ت ََق َّر َ الَ :م ْن َعا َدى لِي َو ِل ًّيا َف َق ْد آ َذ ْن ُت ُه ب َ
ِالح ْر ِ ت ََعا َلى َق َ
ب ِإ َل َّي َال َع ْبدِي َيت ََق َّر ُ ض ُت ُه َع َل ْيهَِ ،والَ َيز ُ اف َت َر ِْلي مِ َّما ْ ب إ َّ يء َأ َح َّ َ
َع ْبدِي بِش ٍ
ص َر ُه س َم ُع ِبهَِ ،و َب َ ِي َي ْ س ْم َع ُه ا َّلذ ِت َ بِالنَّوافِ ِل َحتَّى ُأحِ َّب ُهَ ،ف ِإ َذا َأ ْح َب ْب ُت ُه ُك ْن ُ
ِهاَ ،و َلئ ِْن شي ب َ ِهاَ ،و ِر ْج َل ُه ا َّلتِي َي ْم ِ شب َ ط ُ ص ُر ِبهَِ ،و َي َد ُه ا َّلتِي َي ْب ُ ا َّلذِي ُي ْب ِ
است ََعا َذنِي ألُعِ ي َذ َّن ُه»َ ،ر َوا ُه ا ْل ُبخَ ا ِر ّي(((. ط َي َّن ُهَ ،و َلئ ِْن ْ س َأ َلنِي ألُ ْع ِ َ
فيه فوائد:
-1قال شيخ اإلسالم ابن تيمية « :هذا احلديث هو أرشف حديث روي يف صفة
األولياء»(((.
-2إثبات الوالية هلل َّ
جل وعال ،وأن هلل أولياء ،وقد دل عىل ذلك القرآن
الكريم ،قال :ﭽﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ
ﭜﭝﭞﭟ ﭼ[يونس ،]63 ،62 :فأولياء اهلل :هم عباده
املتقون ،فكل من كان مؤمنًا تق ًّيا كان هلل ول ًّيا.
-3فضيلة األولياء عىل اهلل ،حيث كان الذي يعادهيم قد آذن اهلل باحلرب ،وذلك لعظم
فضيلة هؤالء األولياء عىل اهلل وكرامتهم عنده.
((( «صحيح البخاري» (.)6502
((( «جمموع الفتاوى» (.)129/18
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 196
-4أن من أسباب حصول الوالية للعبد :هو التقرب إىل اهلل بأداء الفرائض،
ويشمل ذلك فعل الواجبات وترك املحرمات؛ ألن ذلك كله من فرائض اهلل التي
افرتضها عىل عباده.
أداء الفرائض :من صالة وصيام وزكاة وحج ،وأمر باملعروف وهني عن املنكر،
وقيام بحقوق اهلل وحقوق عباده الواجبة.
فأداؤها كاملة من غري نقصان من أسباب الوالية ،وهي صفة من صفات أولياء
اهلل.
أيضا التقرب إىل اهلل بالنوافل ،لقوله« :وال يزال عبدي
-5أن من أسباب الوالية ً
يتقرب إيل بالنوافل حتى ُأحبه».
فإن كل جنس من العبادات الواجبة مرشوع من جنسه نوافل ،فيها فضائل عظيمة،
تكمل الفرائض ،وجتلب هبا حمبة اهلل .
ِّ
أجرا وثوا ًبا ،لقوله« :وما
-6أن الفرائض مقدمة عىل النوافل ،وأحب إىل اهلل ،وأعظم ً
تقرب إ َّيل عبدي بيشء أحب إيل مما افرتضته عليه».
فصالة الفرض أحب إىل اهلل من صالة النافلة ،وصيام الفرض أحب إىل اهلل من
صيام التطوع ،وهكذا....
وحيب ،قال اهلل :ﭽﮤﮥﮦ -7إثبات حمبة اهلل ،وأنه ُ يب ِ
َ
ﮧﮨﮩﭼ [املائدة.]54 :
وقد أنكر بعض الطوائف املبتدعة حمبة اهلل ،وقالوا :إن املحبة ال تكون إال بني
اثنني متجانسني.
واجلواب أن يقال :بل إن املحبة ثابتة ولو مل تكن بني متجانسني ،فها هو اإلنسان
حيب دابته وليست من جنسه ،وقد قال النبي ُ « :أحد جبل حيبنا
ونحبه»((( وهو مجاد.
((( أخرجه البخاري ( ،)1482ومسلم (.)1393
197 الحديث الثامن والثالثـون
فالصواب :أننا نثبت هلل املحبة ،كام أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله ،لكن حمبة
تليق به ،ال متاثل حمبة املخلوقني ،كام قال :ﭽﭡﭢﭣﭤ
ﭥﭦﭧﭼ [الشورى.]11 :
-8أن من أحبه اهلل وكان من أوليائه ،فإنه يسدده يف سمعه وبرصه
ويده ورجله ،فال يسمع إال ما يريض اهلل ،وال يبرص إال ما يريض اهلل ،وكذا يف يده
ورجله.
لقوله « :فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ،وبرصه الذي يبرص به،
ويده التي يبطش هبا ،ورجله التي يميش هبا» ،وليس املعنى :أن اهلل حيل يف
أعضائه ،فإن هذا حمال ،بل هو عىل عرشهٍ ،
عال عىل خلقه.
-9أن أوليائه مع تسديده هلم يف حركاهتم ،جعلهم جمايب الدعوة إن سألوه
أعطاهم مصالح دينهم ودنياهم ،وإن استعاذوه أعاذهم...
فاللهم اجعلنا من عبادك الصاحلني .وأوليائك املتقني...
199 الحديث التاسع والثالثـون
َ
اهلل هلل َ ق َ
ال« :إِنَّ ول ا ِ س َ اس َ أنَّ َر ُ َعنِ ا ْبنِ َع َّب ٍ
هوا َع َل ْيهِ» َحد ٌ
ِيث است ْ
ُك ِر ُ ِّس َيانَ َو َما ْ ط َأ َوالن ْ او َز لِي َع ْن ُأ َّمتِي الخَ َت ََج َ
ه َما.هقِ ّي َو َغ ْي ُر ُ سنٌ َ ،ر َوا ُه ا ْبنُ َم َ
اجه َوال َب ْي َ َح َ
فيه فوائد:
-1هذا احلديث أخرجه ابن ماجه ( ،)2045والبيهقي ( )15095من طريق الوليد
بن مسلم ،عن األوزاعي ،عن عطاء ،عن ابن عباس فذكره.
وإسناده ضعيف ،النقطاعه بني عطاء وابن عباس ...والوليد بن مسلم مد ِّلس
وقد عنعن.
وروي احلديث من طرق متعددة بأسانيد ضعيفة ومعلولة ،وله شواهد ال يصح
منها يشء.
لكن معناه صحيح ،وعمل به األئمة ،وقد ذكر ابن حجر يف «النكت» أن
من مجلة صفات القبول أن يتفق العلامء عىل العمل بمدلول حديث ،فإنه يقبل
وجيب العمل به ،وذكر لذلك أمثلة(((.
((( «النكت عىل كتاب ابن الصالح» (.)494/1
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 200
-2قال ابن عبد القوي« :وهذا احلديث عام النفع ،عظيم الوقع ،وهو يصلح أن يسمى
نصف الرشيعة؛ ألن فعل اإلنسان إما أن يصدر عن قصد واختيار ،وهو العمد مع
اختيارا ،أو ال عن قصد واختيار ،وهو اخلطأ والنسيان ،أو اإلكراه ،وهذا القسم
ً الذكر
معفو عنه ،واألول مؤاخذ به ،فإذن هذا احلديث نصف الرشيعة هبذا االعتبار»(((.
-2سعة رمحة اهلل حيث عفا عن اخلطأ والنسيان واإلكراه الواقع من عباده ،وقد نص
عىل ذلك يف كتابه فقال :ﭽﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﭼ[البقرة]286 :
قال اهلل :قد فعلت.
وقال :ﭽﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ
ﯖﭼ[األحزاب.]5 :
وقال :ﭽﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ
ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﭼ[النحل.]106 :
-3أن من وقع يف خطأ أو نسيان ،فإنه ال يؤاخذ به ،ملا تقدم ،لكن ّفرق أهل العلم بني
ترك املأمور وفعل املحظور ،فقالوا :من ترك املأمور خطأ أو ً
جهل أو نسيانًا مل تربأ
ذمته إال بفعله ،ومن فعل املحظور وهو معذور بخطأ أو جهل أو نسيان برئت
ذمته ،ومتت عبادته.
مثال األول :لو صىل عىل غري طهارة ناس ًيا ،فإنه يلزمه اإلعادة وال إثم عليه.
ومثال الثاين :لو صىل وعىل ثوبه نجاسة مل يعلم هبا إال بعد الصالة ،فصالته
صحيحة وال إعادة عليه(((.
-4أن من ُأكره عىل قول يشء أو فعله فإنه ال يؤاخذ به ،لقوله « :وما
استكرهوا عليه».
((( «التعيني» ص(.)322
((( انظر« :القواعد واألصول» البن سعدي ص(.)60
201 الحديث التاسع والثالثـون
وهذا عام يف مجيع اإلكراهات ،لكن استثنى العلامء رمحهم اهلل اإلكراه عىل قتل
معصوم ،فليس له قتله.
قال ابن رجب « :واتفق العلامء عىل أنه لو أكره عىل قتل معصوم مل يبح له أن
يقتله ،فإنه إنام يقتله باختياره افتدا ًء لنفسه من القتل ،هذا إمجاع من العلامء املعتد
هبم...
ثم قال :فإذا قتله يف هذه احلال ،فاجلمهور عىل أهنام يشرتكان يف وجوب
القود»(((.
الحديث األربعون
هلل ب َِم ْنكِ َب َّي ول ا ِ س ُ الَ :أخَ َذ َر ُ َعنِ ا ْبنِ ُع َم َر َ ق َ
سبِي ٍل»َ .و َكانَ ا ْبنُ ُع َم َر يب َأ ْو َعا ِب ُر َ َّك َغ ِر ٌ«ك ْن فِ ي ال ُّد ْنيا َك َأن َ
الُ : َف َق َ
ت َفالَ احَ ،و ِإ َذا َأ ْ
ص َب ْح َ الص َب َ
َظر َّ ت َفالَ َت ْنت ِ س ْي َ ولِ « :إ َذا َأ ْم َ
َ ي ُق ُ
ِك»َ ،ر َوا ُه ِك ل َِم ْوت َ
كَ ،ومِ ْن َح َيات َ ض َ ص َّحت َ
ِك ل َِم َر ِ سا َءَ ،وخُ ْذ مِ ْن ِالم َ
َظر َ َت ْنت ِ
ال ُبخَ ا ِر ُّي(((.
فيه فوائد:
-1قال ابن رجب « :هذا احلديث أصل يف قرص األمل يف الدنيا ،وأن املؤمن ال
ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنًا ومسكنًا ،فيطمئن فيها ،ولكن ينبغي أن يكون فيها
كأنه عىل جناح سفر :هييء جهازه للرحيل .وقد اتفقت عىل ذلك وصايا األنبياء
وأتباعهم ،قال حاك ًيا عن مؤمن آل فرعون أنه قال :ﭽﯚﯛﯜ
ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﭼ[غافر.]39 :
وكان النبي يقول« :ما يل وللدنيا ،إنام مثيل ومثل الدنيا كمثل راكب
َ
قال يف ظل شجرة ثم راح وتركها».
ومن وصايا املسيح عليه السالم ألصحابه أنه قال هلم« :اعربوها وال تعمروها» .اه(((.
-2احلثعىلتنبيهاملتعلمباميكونادعىالهتاممهوفهمه،لقوله«:أخذرسولاهللبمنكبي».
((( «صحيح البخاري» (.)6416
((( «جامع العلوم واحلكم» (.)377/2
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 204
التزود
مقيم يف بلد غربة ،مهه ُّ
-3أنه ينبغي للمؤمن أن تكون حاله يف الدنيا كأنه غريب ٌ
للرجوع إىل وطنه ،أو كأنه مسافر غري مقيم ،بل يسري أبدً ا إىل أن يصل إىل بلد
اإلقامة ،وحينئذ يزهد يف الدنيا ،وحياول جاهدً ا أن يتزود منها ليوم معاده ووقوفه
بني يدي ربه .
قال احلسن البرصي « :إنام أنت أيام جمموعة ،كلام مىض يوم مىض بعضك».
وقال بعض احلكامء« :من كانت الليايل واأليام مطاياه ،سارت به وإن مل يرس».
حيــث هبــا داع إىل املــوت قاصــد ومــا هــذه األيــام إال مراحــل
نســاق إىل اآلجــال والعــن تنظــر متــر بنــا األيــام تــرى وإنــا
ٌ
زائــل هــذا املشــيب املكــدِّ ر وال فــا عائــدٌ ذاك الشــباب الــذي مــى
وكل يــوم مــى يــدين مــن األجــل نقطعهــا باأليــام لنفــرح إنــا
كان حممد بن واسع إذا أراد أن ينام قال ألهله« :أستودعكم اهلل ،فلع ّلها أن تكون
منيتي التي ال أقوم منها ،فكان هذا دأبه إذا أراد أن ينام».
وقال بعضهم« :ما نمت نو ًما قط فحدثت نفيس أين أستيقظ منه».
-6أنه ينبغي للعبد أنه يغتنم عمره يف األعامل الصاحلة ،قبل أن حيول بينه وبينها حائل
من موت أو مرض ،لقول ابن عمر « :وخذ من صحتك ملرضك ،ومن
حياتك ملوتك».
صحيحا يعبد اهلل مطمئن البال منرشح الصدر ،فإذا مرض تأمل
ً فإن اإلنسان ما دام
وآذاه ،وانشغل به ،وأصبحت العبادة ثقيلة عليه ،مع أنه إذا كان قد اعتادها قبل
مرضه فإنه يكتب له أجرها ،قال النبي « :إذا مرض العبد أو سافر
صحيحا» رواه البخاري. مقيم ِ
ً كُتب له ما كان يعمل ً
وكذلك ما دام يف زمن احلياة ،فإذا مات انقطع عمله ،كام قال النبي :
«إذا مات اإلنسان انقطع عنه عمله إال من ٍ
ثالثة :صدقة جارية ،أو علم ينتفع به ،أو
ولد صالح يدعو له»((( ،وحينئذ متى حيل بني اإلنسان والعمل مل يبق له إال احلرسة
والندم ،ويتمنى الرجوع إىل حالة يتمكن فيها من العمل ،فال تنفعه األمنية.
ال َّل ُه َّم وفقنا لطاعتك ،وأعنا عىل ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ،وارزقنا اغتنام
أوقاتنا بمرضاتك إنك جواد كريم.
-2راوي احلديث :هو عبد اهلل بن عمرو بن العاص بن وائل السهمي القريش ،أبو
حممد ،صحايب جليل ،أحد السابقني ،وأحد العبادلة الفقهاء.
قال الذهبي « :وله مناقب وفضائل ومقام راسخ يف العلم والعمل ،محل عن
مجا». النبي ً
علم ًّ
ومسنده ( )700حديث ،اتفق البخاري ومسلم عىل ( )7سبعة أحاديث ،وانفرد
البخاري بـ( ،)8ومسلم بـ(.)20
-3أن اإلنسان ال يكون مؤمنًا كامل اإليامن حتى تكون حمبته تابعة ملا جاء به الرسول
من األوامر والنواهي وغريها ،فيحب ما أمر به ،ويكره ما هنى عنه.
أما إذا مل تكن حمبته وهواه تابعة ملا جاء به الرسول فال خيلو :إما أن يعرض متا ًما عن
هدي رسول اهلل وما جاء به ،فهو كافر.
فجميع املعايص بأنواعها تنشأ من تقديم اهلوى عىل حمبة اهلل ورسوله ،وكذلك
البدع واخلرافات إنام تنشأ من تقديم اهلوى.
ال«ق َولَ : هلل َ ي ُق ُ ول ا ِ س َ ت َر ُسمِ ْع ُ الَ : َس َ ،ق َ َع ْن َأن ٍ
ك َع َلى ت َل َ َّك َما َد َع ْو َتنِي َو َر َج ْو َتنِي َغ َف ْر ُ اهلل ت ََعا َلىَ :يا ا ْبنَ آ َد َمِ ،إن َ ُ
الس َما ِء
َّ ك َعنَانَ ت ُذنُو ُب َ ك َوالَ ُأ َبالِيَ .يا ا ْبنَ آ َد َمَ ،ل ْو َب َل َغ ْ َما َكانَ مِ ْن َ
َّك َل ْو َأ َت ْي َتنِي ك َوالَ ُأ َبالِيَ .يا ا ْبنَ آ َد َمِ ،إن َ ت َل َ ُث َّم ْ
است َْغ َف ْر َتنِي َغ َف ْر ُ
ِها ُك ب ُِق َراب َ ش ْيئ ًا ألَ َت ْيت َك بِي َ طا َيا ُث َّم َلقِ ْي َتنِي الَ ت ْ
ُش ِر ُ ض خَ َ اب األ ْر ِب ُِق َر ِ
يح. صحِ ٌ سنٌ َ ِيث َح َ الَ :حد ٌ ِي َو َق َ َم ْغفِ َر ًة»َ ،ر َوا ُه ال ِّت ْرمِ ذ ُّ
فيه فوائد:
-1هذا احلديث أخرجه الرتمذي ( )3540من طريق كثري بن فائد ،حدثنا سعيد بن
ُعبيد ،سمعت بكر بن عبد اهلل املزين ،يقول :حدثنا أنس بن مالك فذكره.
وإسناده ضعيف :كثري بن فائد ،جمهول(((.
بعضا ،وقد ساقها ابن رجب يف
لكن احلديث له طرق وشواهد يقوي بعضها ً
رشحه .ثم قال عن احلديث« :إسناده ال بأس به»(((.
وقول املؤلف« :رواه الرتمذي وقال :حديث حسن صحيح».
((( انظر« :هتذيب الكامل» ( ،)144/24و «التقريب» ص(.)809
((( «جامع العلوم واحلكم» (.)400/2
غريب ،ال نعرفه إال
ٌ ٌ
حديث حس ٌن الذي يف املطبوع بتحقيق بشار عواد بلفظ« :هذا
من هذا الوجه».
وهذا هو الالئق باحلديث.
-2هذا احلديث يسمى باحلديث القديس ،وقد تقدم له أمثلة.
واحلديث القديس يفارق القرآن بأمور:
منها :أن القرآن معجز ،بخالف احلديث القديس.
ومنها :أن القرآن متع َّبد بتالوته ،بخالف احلديث القديس.
ومنها :أن القرآن ثبت بالتواتر ،بخالف احلديث القديس ففيه الضعيف والصحيح
ونحو ذلك.
ومنها :أن القرآن ال يمسه إال طاهر ،بخالف احلديث القديس.
ومنها :أن القرآن لفظه ومعناه من اهلل ،بخالف احلديث القديس فلفظه من الرسول.
ومنها :أن القرآن يقرأ به يف الصالة ،بخالف احلديث القديس.
-3هذا احلديث تضمن ذكر أسباب املغفرة الثالثة ،وأوهلا :الدعاء مع الرجاء ،فإن
الدعاء مأمور به ،وموعود عليه باإلجابة ،كام قال :ﭽﭝﭞﭟ
ﭠﭡﭼ [غافر.]60 :
وقال النبي « :الدعاء هو العبادة»(((.
ولكن الدعاء سبب مقتض لإلجابة ،مع استكامل رشائطه وانتفاء موانعه ،وقد
تقدم ذكر األسباب واملوانع يف فوائد احلديث العارش.
ومنها :حضور القلب ،ورجاء اإلجابة من اهلل ،لقوله « :إنك ما
دعوتني ورجوتني»؛ أي :رجوت مغفريت ومل تيأس ،وهلذا هنى النبي عن استعجال
(((أخرجه أبو داود ( ،)1479والرتمذي ( ،)2969وابن ماجه ( )3828من حديث النعامن بن بشري،
وإسناده صحيح.
213 الحديث الثاني واألربعون
اإلجابة ،وأخرب أهنا من املوانع ،حتى ال يقطع العبد رجاءه من إجابة دعائه ولو
طالت املدة ،فإنه سبحانه حيب امللحني يف الدعاء.
وقد ورد فيه حديث رواه أمحد يف «املسند» ،عن أيب سعيد بسند ال بأس به(((.
-4أنه ينبغي للعبد أن حيسن الظن باهلل حال دعائه ،لقوله« :إنك ما دعوتني ورجوتني»،
وحينئذ فاهلل عند حسن ظن عبده به.
-5فضيلة االستغفار وأنه سبب ملغفرة الذنوب واألوزار ،وقد أمر به وحث عليه
امللك الغفار ،وأكثر منه وداوم عليه سيد األبرار ،صىل اهلل عليه وعىل آله وصحبه
الربرة األخيار ،لقوله« :يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السامء ،ثم استغفرتني
غفرت لك».
وفيه مباحث:
المبحث الثاني :مالزمة النبي صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم له:
يف «صحيح مسلم» عن األغر املزين أن رسول اهلل قال« :إنه
ليغان عىل قلبي ،وإين ألستغفر اهلل يف اليوم مائة مرة»(((.
ويف البخاري عن أيب هريرة قال :سمعت رسول اهلل يقول:
«واهلل إين ألستغفر اهلل وأتوب إليه يف اليوم أكثر من سبعني مرة»(((.
وعن ابن عمر قال« :إن كنا لنعد لرسول اهلل يف املجلس الواحد مائة
عيل إنك أنت التواب الرحيم» .رواه أبو داود والرتمذي
مرة :رب اغفر يل وتب ّ
وصححه(((.
((( «صحيح البخاري» ( ،)6069ومسلم (.)2990
((( «صحيح مسلم» (.)2702
((( «صحيح البخاري» (.)6307
((( «سنن أيب داود» ( ،)1516والرتمذي ( )3434وإسناده حسن.
215 الحديث الثاني واألربعون
اعلم أن االستغفار عىل نوعني :مطلق ومقيد ،فاملطلق يكون يف كل وقت ،وعىل
عود لسانك :ال َّل ُه َّم اغفر يل ،فإن هلل ساعات ال
كل حال ،قال لقامن البنه« :يا بني ِّ
يرد فيها ً
سائل»(((.
وقال احلسن« :أكثروا من االستغفار يف بيوتكم ،وعىل موائدكم ،ويف طرقكم ،ويف
أسواقكم ،ويف جمالسكم أينام كنتم ،فإنكم ال تدرون متى تنزل املغفرة»(((.
ملا روى مسلم عن ثوبان قال« :كان رسول اهلل إذا انرصف من صالته
استغفر ثال ًثا»(((.
ففي «الصحيحني» وغريمها ،عن أيب بكر الصديق أنه قال لرسول اهلل
:علمني دعاء أدعو به يف صاليت ،قال « :قل :ال َّل ُه َّم إين
كثريا ،وال يغفر الذنوب إال أنت ،فاغفر يل مغفرة من عندك
ظلم ًظلمت نفيس ً
وارمحني ،إنك أنت الغفور الرحيم»(((.
ً
مطول وفيه« :ثم يكون من آخر ما يقول بني التشهد وملسلم عن عيل
والتسليم :ال َّل ُه َّم اغفر يل ما قدمت وما أخرت ،وما أرسرت وما أعلنت وما
أرسفت ،وما أنت أعلم به مني ،أنت املقدم وأنت املؤخر ال إله إال أنت»(((.
عن ابن عباس قال :كان رسول اهلل يقول بني السجدتني:
«ال َّل ُه َّم اغفر يل وارمحني ،وعافني ،واهدين ،وارزقني»(((.
وقد تقدم قوله « :إنه ليغان عىل قلبي وإين ألستغفر اهلل.»...
فرجا ومن
هم ًوقد روي عنه « :من لزم االستغفار جعل اهلل له من كل ٍّ
خمرجا ورزقه من غري أن حيتسب» ،وإسناده ضعيف(((.
كل ضيق ً
جاء رجل إىل سعيد بن املسيب فقال له :أشكو إليك قسوة قلبي ،فقال« :ألنه بذكر
اهلل وكثرة االستغفار».
فمن فوائده:
المبحث السادس:
استغفار اللسان مع إرصار القلب عىل الذنب ،ال ينفع صاحبه ،وإنام هو دعاء جمرد
إن شاء اهلل أجابه ،وإن شاء رده.
واالستغفار املثمر هو الذي يواطئ القلب فيه اللسان ،وحيصل معه الندم عىل ما
فات ،والعزم عىل أال يعود للمعايص واآلثام.
الدرر السنية بفوائد األربعين النووية 220
-6فضيلة التوحيد:
وأنه سبب للفوز بدار القرار ،والنجاة من عذاب النار ،وهو من أعظم أسباب
املغفرة.
قال :ﭽﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﭼ[النساء،]48 :
فمن جاء مع التوحيد بقراب األرض وهو ملؤها أو ما يقارب مألها لقيه اهلل
بقراهبا مغفرة ،لكن هذا مع مشيئة اهلل .
قال ابن رجب « :فمن حتقق بكلمة التوحيد قلبه ،أخرجت من كل ما سوى
ً
وتوكل ،وحينئذ حترق ذنوبه ً
وإجالل ومهابة ،وخشية ،ورجا ًء، وتعظيم
ً اهلل حمبة
وخطاياه كلها ولو كانت مثل زبد البحر ،وربام قلبتها حسنات.(((»...
وقد َّبوب الشيخ حممد بن عبد الوهاب عىل هذا احلديث يف كتاب التوحيد بقوله:
باب فضل التوحيد وما يك ِّفر من الذنوب .ثم ذكر حديث عبادة بن الصامت قال:
قال رسول اهلل « :من شهد أن ال إله إال اهلل وحده ال رشيك له ،وأن
حممدً ا عبده ورسوله ،وأن عيسى عبد اهلل ورسوله وكلمته ألقاها إىل مريم وروح
منه ،واجلنة حق والنار حق :أدخله اهلل اجلنة عىل ما كان من العمل» .متفق عليه.
حرم عىل النار من قال :ال إله إال اهلل
وهلام عن عتبان بن مالك « :فإن اهلل ّ
يبتغي بذلك وجه اهلل»(((.
تم الكتاب ،مع اإلضافات والزيادات واحلمد هلل الذي بنعمته تتم الصاحلات
صباح يوم األحد1436/10/17 :هـ.
فهرس الفوائد
صفحة
الفائدة
11 طرق حديث «من حفظ عىل أمتي أربعني حدي ًثا»...........................................
17 هل يعمل باحلديث الضعيف.........................................................................
22 أقسام النية..................................................................................................
23 أقسام اهلجرة...............................................................................................
37 اجلمع بني حديثي ابن مسعود وحذيفة بن أسيد...............................................
38 حكم إسقاط اجلنني....................................................................................
45 تعريف البدع.............................................................................................
46- 45 تقسيم البدع...............................................................................................
51 تعريف النصيحة ومنزلتها من الدين..............................................................
61 أنواع السؤال املنهي عنه...............................................................................
64 أسباب إجابة الدعاء.....................................................................................
70 الفرق بني الزهد والورع...............................................................................
72- 71 درجات الكذب...........................................................................................
86 إمساك اإلمام أمحد عن األنني يف مرض موته ،وسبب ذلك.................................
88 أقسام اجلريان..............................................................................................
89 عالج الغضب..............................................................................................
115 أسباب االستقامة.........................................................................................
123 أنواع الذكر املطلق واملقيد..........................................................................
177 درجات إنكار املنكر...................................................................................
179 مفاسد احلسد..............................................................................................
212 الفرق بني القرآن واحلديث القديس...............................................................
214 مباحث االستغفار......................................................................................
فهرس المحتويات