You are on page 1of 15

‫جامعة ابن طفيل‬

‫كلية العلوم اإلنسانية واالجتماعية‬


‫شعبة علم االجتماع‬
‫الفصل الخامس‬
‫الموسم الجامعي‪0202/0202 :‬‬

‫وحدة‪ :‬سوسيولوجيا الثقافات القروية والحضرية‬


‫ذ‪ .‬محمد سلمي‬

‫تصميم الدرس‪:‬‬

‫ـ تحديد مفاهيم "الثقافة" و"القرية" و"المدينة" من منظور سوسيولوجي‪.‬‬


‫ـ التقاطع المعرفي بين سوسيولوجيا الثقافة‪ ،‬وسوسيولوجيا القرية‪ ،‬وسوسيولوجيا المدينة‪.‬‬
‫ـ خصوصيات الثقافات القروية والحضرية‪.‬‬
‫ـ البداوة والتمدن عند ابن خلدون‪.‬‬
‫ـ تمدن األرياف‪ ،‬نموذج تغير الثقافة القروية في كندا الفرنسية حسب هوراس مينر‬
‫‪reHiMo caroH‬‬
‫ـ ترييف المدن‪ ،‬مظاهر التغير في الثقافة الحضرية بفعل الهجرة القروية‪.‬‬
‫ـ تأثيرات العولمة والتدافع الحضاري على خصوصيات القرية والمدينة‪.‬‬

‫من المراجع‪:‬‬

‫ـ "مقدمة ابن خلدون"‪ ،‬تحقيق علي عبد الواحد وافي‪ ،‬دار نهضة مصر للطباعة والنشر‪،‬‬
‫أو تحقيق أبي عبد الرحمان عادل بن سعد‪ ،‬الدار الذهبية‪ ،‬القاهرة‪.6002 ،‬‬
‫ـ "صدام الحضارات‪ "..‬صمويل هنتكتون‪ ،‬ترجمة طلعت الشايب‪ ،‬سطور للتوزيع‬
‫والنشر‪ ،‬ط‪.9111 ،6 .‬‬
‫ـ "نهاية التاريخ وخاتم البشر" فرانسيس فوكوياما‪ ،‬ترجمة حسين أحمد أمين‪ ،‬مركز‬
‫األهرام للترجمة والنشر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة األولى ‪.9111‬‬
‫ـ الطاهر لبيب‪" ،‬سوسيولوجيا الثقافة"‪ ،‬عيون المقاالت‪ ،‬الدار باليضاء‪ ،‬ط‪.9192 ،6.‬‬
‫ـ "التلفزيون وآليات التالعب بالعقول"‪ ،‬بيير بورديو‪ ،‬ترجمة درويش الحلوجي‪ ،‬دار‬
‫كنعان‪ ،‬دمشق‪ 6002 ،‬الكتاب األصلي‪:‬‬
‫‪Pierre Bourdieu "Sur la télévision suivi de L'emprise du‬ـ‬
‫‪journalisme", par, Paris, Liber Editions, 1996‬‬
‫‪ Horace MINER "Le changement dans la culture rurale‬ـ‬
‫‪canadienne-françaisiH"oticle publié dans l'ouvrage sous la direction‬‬

‫‪1‬‬
de Marcel Rioux et Yves Mar-tin, La société canadienne française,
pp. 77-89. Montréal : Les Éditions Hurtubise HMH ltée, 1971, 404
pp. [Version française d'un article tiré de : The American Journal
of Sociology, XLIV, November 1938, 365-378.]
‫ـ‬Miossec Jean-Marie. Urbanisation des campagnes et ruralisation
des villes en Tunisie. In: Annales de Géo. t. 94, n°521, 1985. pp.
38-62. C.E.R.E.S. série sociologie 234 Bonnenfant Paul et Landy
Raymond.
‫ـ‬Paul Pélissier, « Les interactions rurales urbaines en Afrique de
l'Ouest et Centrale », Bulletin de l'APAD 50 / 2019.
‫ ـ‬Isabelle Berry-Chikhaoui, « Les notions de citadinité et d’urbanité
dans l’analyse des villes du Monde arabe », Les Cahiers d’EMAM,
18 | 2009, 9-20.
‫ ـ‬Fijalkow, Y. (2013). I. La ville, phénomène sociologique. Dans :
Yankel Fijalkow éd., Sociologie des villes (pp. 5-19). Paris: La
Découverte.
:‫تطبيقات‬

Le changement dans la " ‫ـ تلخيص وترجمة تلخيص مقال هوراس مينر‬6


:‫ " (يمكن تحيل المقال من الرابط التالي‬culture rurale canadienne-française
http://classiques.uqac.ca/contemporains/miner_horace/changement
_culture_can_fr/changement_culture_can_fr.html

‫ تحليال‬،‫ قراءة وتحليل هذه النصوص‬:‫ (المطلوب‬:‫ ـ مقتطفات من مقدمة ابن خلدون‬9
).‫سوسيولوجيا‬

:‫مقتطفات من مقدمة ابن خلدون حول البدو والحضر‬


:‫ فصل في أن أجيال البدو والحضر طبيعية‬/1
‫اعلم أن اختالف األجيال في أحوالهم إنما هو باختالف نحلتهم من المعاش فإن اجتماعهم إنما‬
‫ فمنهم من‬.‫هو للتعاون على تحصيله واالبتداء بما هو ضروري منه وبسيط قبل الحاجي والكمالي‬
‫يستعمل الفلح من الغراسة والزراعة ومنهم من ينتحل على الحيوان من الغنم والبقر والمعز والنحل‬
‫ على الفلح والحيوان تدعوهم الضرورة وال بد‬.‫ وهؤالء القائمون‬.‫والدود لنتاجها واستخراج فضالتها‬
‫ فكان‬.‫إلى البدو ألنه متسع لما له الحواضر من المزارع والفدن والمسارح للحيوان وغير ذلك‬
‫اختصاص هؤالء بالبدو أمرا ً ضروريا ً لهم وكان حينئذ اجتماعهم وتعاونهم في حاجاتهم ومعاشهم‬
‫وعمرانهم من القوت والكن والدفاءة إنما هو بالمقدار الذي يحفظ الحياة ويحضل بلغة العيش من غير‬

2
‫مزيد عليه ثم إذا اتسعت أحوال هؤالء المنتحلين للمعاش وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرفه‬
‫دعاهم ذلك إلى السكون والدعة وتعاونوا في الزائد على الضرورة واستكثروا من األقوات والمالبس‬
‫والتأنق فيها وتوسعة البيوت واختطاط المدن واألمصار للتحضر‪ .‬ثم تزيد أحوال الرفه والرفه والدعة‬
‫فتجيء عوائد الترف البالغة مبالغها في التأنق في عالج القوت واستجادة المطابخ وانتقاء المالبس‬
‫الفاخرة في أنواعها من الحرير والديباج وغير ذلك ومعاالة البيوت والصروح وإحكام وضعها في‬
‫تنجيدها واالنتهاء في الصنائع في الخروج من القوة إلى الفعل إلى غاياتها فيتخذون القصور والمنازل‬
‫ويجرون فيها المياه ويعالون في صرحها ويبالغون في تنجيدها ويختلقون في استجادة ما يتخذونه‬
‫لمعاشهم من ملبوس أو فراش أو آنية أو ماعون‪ .‬وهؤالء هم الحضر ومعناه الحاضرون أهل‬
‫األمصار والبلدان‪ .‬ومن هؤالء من ينتحل في معاشه الصنائع ومنهم من ينتحل التجارة‪ .‬وتكون‬
‫مكاسبهم أنمى وأرفه من أهل البدو ألن أحوالهم زائدة على الضروري ومعاشهم على نسبة وجدهم‪.‬‬
‫فقد تبين أن أجيال البدو والحضر طبيعية ال بد منهما كما قلناه‪.‬‬
‫‪ /2‬فصل في أن جيل العرب في الخليقة طبيعي‪:‬‬
‫قد قدمنا في الفصل قبله أن أهل البدو هم المنتحلون للمعاش الطبيعي من الفلح والقيام على‬
‫األنعام وأنهم مقتصرون على الضروري من األقوات والمالبس والمساكن وسائر األحوال والعوائد‬
‫ومقصرون عما فوق ذلك من حاجي أو كمالي يتخذون البيوت من الشعر والوبر أو الشجر أو من‬
‫الطين والحجارة غير منجدة إنما هو قصد االستظالل والكن ال ما وراءه وقد يأوون إلى الغيران‬
‫والكهوف‪ .‬وأما أقواتهم فيتناولون بها يسيرا ً بعالج أو بغير عالج البتة إال ما مسته النار‪ .‬فمن كان‬
‫معاشه منهم في الزراعة والقيام بالفلح كان المقام به أولى من الظعن وهؤالء سكان المدر والقرى‬
‫والجبال وهم عامة البربر واألعاجم‪ .‬ومن كان معاشه في السائمة مثل الغنم‪ .‬والبقر فهم ظعن في‬
‫األغلب الرتياد المسارح والمياه لحيواناتهم فالتقلب في األرض أصلح بهم ويسمون شاوية ومعناه‬
‫القائمون على الشاء والبقر وال يبعدون في القفر لفقدان المسارح الطيبة ة وهوالء مثل البربر والترك‬
‫وإخوانهم من التركمان والصقالبة‪ .‬وأما من كان معاشهم في األبل فهم أكثر ظعنا ً وأبعد في القفر‬
‫مجاالً ألن مسارح التلول ونباتها وشجرها ال يستغني بها األبل في قوام حياتها عن مراعي الشجر‬
‫بالقفر وورود مياهه الملحة والتقلب فصل الشتاء في نواحيه فرارا ً من أذى البرد إلى دفاءة هوائه‬
‫وطلبا ً لماخض النتاج في رماله إذ األبل أصعب الحيوان فصاالً ومخاضا ً وأحوجها في ذلك إلى‬
‫الدفاءة فاضطروا إلى أبعاد النجعة‪ .‬وربما ذادتهم الحامية عن التلول أيضا ً فأوغلوا في القفار نفرة عن‬
‫الضعة منهم فكانوا لذلك أشد الناس توحشا ً وينزلون من أهل الحواضر منزلة الوحش غير المقدور‬
‫عليه والمفترس من الحيوان العجم وهؤالء هم العرب وفي معناهم ظعون البربر وزناتة بالمغرب‬
‫واألكراد والتركمان والترك بالمشرق‪ .‬إال أن العرب أبعد نجعة وأشد بداوة ألنهم مختصون بالقيام‬
‫على اإلبل فقط وهؤالء يقومون عليها وعلى الشياه والبقر معها‪...‬‬
‫‪ /3‬فصل في أن البدو أقدم من الحضر‪:‬‬
‫قد ذكرنا أن البدو هم المقتصرون على الضروري في أحوالهم العاجزون عما فوقه وأن‬
‫الحضر المعتنون بحاجات الترف والكمال في أحوالهم وعوائدهم‪ .‬وال شك أن الضروري أقدم من‬
‫الحاجي والكمالي وسابق عليهما ألن الضروري أصل والكمالي فرع ناشىء عنه‪ .‬فالبدو أصل للمدن‬
‫والحضر وسابق عليهما ألن أول مطالب اإلنسان الضروري وال ينتهي إلى الكمال والترف إال إذ ا‬
‫كان الضروري حاصالً‪ .‬فخشونة البداوة قبل رقة الحضارة‪ .‬ولهذا نجد التمدن غاية للبدوي يجري‬
‫إليها وينتهي بسعيه إلى مقترحه منها‪ .‬ومتى حصل على الرياش الذي يحصل له به أحوال الترف‬
‫وعوائده عاج إلى الدعة وأمكن نفسه إلى قياد المدينة‪ .‬وهكذا شأن القبائل المتبدية كلهم‪ .‬والحضري ال‬
‫يتشوف إلى أحوال البادية إال لضرورة تدعوه إليها أو لتقصير عن أحوال أهل مدينته‪ .‬ومما يشهد لنا‬

‫‪3‬‬
‫أن البدو أصل للحضر ومتقدم عليه أنا إذا فتشنا أهل مصر من األمصار وجدنا أولية أكثرهم من أهل‬
‫البدو الذين بناحية ذلك المصر وفي قراه وأنهم أيسروا فسكنوا المصر وعدلوا إلى الدعة والترف‬
‫الذي في الحضر‪ .‬وذلك يدل على أن أحوال الحضارة ناشئة عن أحوال البداوة وأنها أصل لها فتفهمه‪.‬‬
‫ثم أن كل واحد من البدو والحضر متفاوت األحوال من جنسه‪ :‬فرب حي أعظم من حي وقبيلة أعظم‬
‫من قبيلة ومصر أوسع من مصر ومدينة أكثر عمرانا ً من مدينة‪ .‬فقد تبين أن وجود البدو متقدم على‬
‫وجود المدن واألمصار وأصل لها بما أن وجود المدن واألمصار من عوائد الترف والدعة التي هي‬
‫متأخرة عن عوائد الضرورة المعاشية والله أعلم‪.‬‬
‫‪ /4‬فصل في أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر‪:‬‬
‫وسببه أن النفس إذا كانت على الفطرة األولى كانت متهيئة لقبول ما يرد عليها وينطبع فيها من‬
‫خير أو شر؛ <<كل مولود يولد على الفطرة؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه >>‪ .‬وبقدر ما‬
‫سبق إليها من أحد الخلقين تبعد عن اآلخر ويصعب عليها اكتسابه‪ :‬فصاحب الخير إذا سبقت إلى نفسه‬
‫عوائد الخير وحصلت لها ملكته بعد عن الشر وصعب عليه طريقه؛ وكذا صاحب الشر إذا سبقت إليه‬
‫أيضا ً عوائده‪ .‬وأهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون المالذ وعوائد الترف واإلقبال على الدنيا‬
‫والعكوف على شهواتهم منها‪ ،‬قد تلوثت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق والشر‪ ،‬وبعدت عليهم‬
‫طرق الخير ومسالكه بقدر ما حصل لهم من ذلك‪ .‬حتى لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم‪،‬‬
‫فتجد الكثير منهم يقذعون في أقوال الفحشاء في مجالسهم وبين كبرائهم وأهل محارمهم‪ ،‬ال يصدهم‬
‫عنه وازع الحشمة‪ ،‬لما أخذتهم به عوائد السوء في التظاهر بالفواحش قوالً وعمالً‪ .‬وأهل البدو وإن‬
‫كانوا مقبلين على الدنيا مثلهم إال أنه في المقدار الضروري ال في الترف وال في شيء من أسباب‬
‫الشهوات واللذات ودواعيها‪ .‬فعوائدهم في معامالتهم علي نسبتها وما يحصل فيهم من مذاهب السوء‬
‫ومذمومات الخلق بالنسبة إلى أهل الحضر اقل بكثير‪ .‬فهم أقرب إلى الفطرة األولى وأبعد عما ينطبع‬
‫في النفس من سوء الملكات بكثرة العوائد المذمومة وقبحها؛ فيسهل عالجهم عن عالج الحضر‪ ،‬وهو‬
‫ظاهر‪ .‬وقد يتوضح فيما بعد أن الحضارة هي نهاية العمران وخروجه إلى الفساد‪ ،‬ونهاية الشر والبعد‬
‫عن الخير‪ .‬فقد تبين أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر‪.‬‬
‫‪ /5‬فصل في أن أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر‪:‬‬
‫والسبب في ذلك أن أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والدعة‪ ،‬وانغمسوا في النعيم‬
‫والترف ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الذي يسوسهم والحامية‬
‫التي تولت حراستهم‪ ،‬واستناموا إلى األسوار التي تحوطهم والحرز الذي يحول دونهم‪ ،‬فال تهيجهم‬
‫هيعة وال ينفر لهم صيد؛ فهم غارون آمنون‪ ،‬قد ألقوا السالح‪ ،‬وتوالت على ذلك منهم األجيال‪،‬‬
‫وتنزلوا منزلة النساء والولدان الذين هم عيال على أبي مثواهم؛ حتى صار ذلك خلقا يتنزل منزلة‬
‫الطبيعة‪ .‬وأهل البدو لتفردهم عن المجتمع‪ ،‬وتوحشهم في الضواحي‪ ،‬وبعدهم عن الحامية‪ ،‬وانتباذهم‬
‫عن األسوار واألبواب قائمون بالمدافعة عن أنفسهم‪ ،‬ال يكلونها إلى سواهم‪ ،‬وال يثقون فيها بغيرهم‬
‫فهم دائما يحملون السالح ويتلفتون عن كل جانب في الطرق‪ ،‬ويتجافون عن الهجوع إال غرارا ً في‬
‫المجالس وعلى الرحال وفوق األقتاب‪ ،‬ويتوجسون للنبآت والهيعات ويتفردون في القفر والبيداء‪،‬‬
‫مدلين ببأسهم‪ ،‬واثقين بأنفسهم؛ قد صار لهم البأس خلقا ً والشجاعة سجية يرجعون إليها متى دعاهم‬
‫داع أو استنفرهم صارخ‪ .‬وأهل الحضر مهما خالطوهم في البادية أو صاحبوهم في السفر عيال عليهم‬
‫ال يملكون معهم شيئا من أكل أنفسهم‪ .‬وذلك مشاهد بالعيان حتى في معرفة النواحي والجهات وموارد‬
‫المياه ومشار السبل‪ .‬وسبب ذلك ما شرحناه‪ .‬وأصله أن اإلنسان ابن عوائده ومألوفه ال ابن طبية‬
‫ومزاجه‪ .‬فالذي ألفه في األحوال حتى صار خلقا ً وملكة وعادة تنزل منزلة الطبيعة والجبلة‪ .‬واعتبر‬
‫ذلك في اآلدميين تجد كثيرا صحيحاً‪ .‬والله يخلق ما يشاء‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫‪ /6‬فصل في أن معاناة أهل الحضر لألحكام مفسدة للبأس فيهم ذاهبة بالمنعة منهم‪:‬‬
‫وذلك أنه ليس كل أحد مالك أمر نفسه؛ إذ الرؤساء واألمراء المالكون ألمر الناس قليل‬
‫بالنسبة إلى غيرهم؛ فمن الغالب أن يكون اإلنسان في ملكة غيره‪ ،‬وال بد فإن كانت الملكة رفيقة‬
‫وعادلة‪ ،‬ال يعاني منها حكم وال منع وصد كان الناس من تحت يدها مدلين بما في أنفسهم من شجاعة‬
‫أو جبن‪ ،‬واثقين بعدم الوازع‪ ،‬حتى صار لهم اإلدالل جبلة ال يعرفون سواها‪.‬أما إذا كانت الملكة‬
‫وأحكامها بالقهر والسطوة واإلخافة فتكسر حينئذ من سورة بأسهم‪ ،‬وتذهب المنعة عنهم‪ ،‬لما يكون من‬
‫التكاسل في النفوس المضطهدة كما نبينه‪.)...( .‬وأما إذا كانت األحكام بالعقاب فمذهبة للباس بالكلية؛‬
‫ألن وقوع العقاب به ولم يدافع عن نفسه يكسبه المذلة التي تكسر من سورة بأسه بال شك‪ .‬وأما إذا‬
‫كانت األحكام تأديبية وتعليمية وأخذت من عهد الصبا أثرت في ذلك بعض الشيء لمرباه علي‬
‫المخافة واالنقياد فال يكون مدالً ببأسه‪ .‬ولهذا نجد المتوحشين من العرب أهل البدو اشد بأسا ً ممن‬
‫تأخذه األحكام‪ .‬ونجد أيضا ً الذين يعانون األحكام وملكتها من لدن مرباهم في التأديب والتعليم في‬
‫الصنائع والعلوم والديانات ينقص ذلك من باسهم كثيراً‪ ،‬وال يكادون يدفعون عن أنفسهم عادية بوجه‬
‫من الوجوه‪ .‬وهذا شأن طلبة العلم المنتحلين للقراءة واألخذ عن المشايخ واألئمة الممارسين للتعليم‬
‫والتأديب في مجالس الوقار والهيبة؛ فيهم هذه األحوال وذهابها بالمنعة والبأس‪.)...(.‬ولما تناقص‬
‫الدين في الناس واخذوا باألحكام الوازعة‪ ،‬ثم صار الشرع علما ً وصناعة يؤخذ بالتعليم والتأديب‬
‫ورجع الناس إلى الحضارة وخلق االنقياد إلى األحكام نقصت بذلك سورة البأس فيهم‪.‬فقد تبين أن‬
‫األحكام السلطانية والتعليمية مفسدة للباس ألن الوازع فيها أجنبي؛وأما الشرعية فغير مفسدة ألن‬
‫الوازع فيها ذاتي‪ .‬ولهذا كانت هذه األحكام السلطانية والتعليمية مما تؤثر في أهل الحواضر في‬
‫ضعف نفوسهم وخضد الشوكة منهم بمعاناتهم في وليدهم وكهولهم؛ والبدو بمعزل عن هذه المنزلة‬
‫لبعدهم عن أحكام السلطان والتعليم واآلداب‪)...( .‬‬
‫‪ /7‬فصل في أن من عالمات الملك التنافس في الخالل الحميدة‪:‬‬
‫وبالعكس لما كان الملك طبيعيا ً لإلنسان لما فيه من طبيعة االجتماع كما قلناه‪ ،‬وكان اإلنسان‬
‫وقوته الناطقة العاقلة‪ ،‬ألن الشر إنما جاءه من‬‫أقرب إلى خالل الخير من خالل الشر بأصل فطرته َّ‬
‫قبل القوى الحيوانية التي فيه‪ ،‬وأما من حيث هو إنسان فهو إلى الخير وخالله أقرب‪ ،‬والملك‬
‫والسياسة إنما كانا له من حيث هو إنسان‪ ،‬ألنها خاصة لإلنسان ال للحيوان؛ فإذا خالل الخير فيه هي‬
‫التي تناسب السياسة والملك‪ ،‬إذ الخير هو المناسب‪ ،‬للسياسة‪ .‬وقد ذكرنا أن المجد له اصل يبني عليه‪،‬‬
‫وتتحقق به حقيقته وهو العصبية والعشير‪ ،‬وفرع يتم وجوده ويكمله وهو الخالل‪ .‬وإذا كان الملك‬
‫غاية للعصبية فهو غاية لفروعها ومتمماتها‪ ،‬وهي الخالل؛ ألن وجوده دون متمماته كوجود شخص‬
‫مقطوع األعضاء أو ظهوره عريانا ً بين الناس‪ .‬وإذا كان وجود العصبية فقط من غير انتحال الخالل‬
‫الحميدة نقصا ً في أهل البيوت واألحساب‪ ،‬فما ظنك بأهل الملك الذي هو غاية لكل مجد ونهاية لكل‬
‫حسب وأيضا ً فالسياسة والملك هي كفالة للخلق‪ ،‬وخالفة لله في العباد لتنفيذ أحكامه فيهم؛ وأحكام الله‬
‫في خلقه وعباده إنما هي بالخير ومراعاة المصالح كما تشهد به الشرائع؛ وأحكام البشر إنما هي من‬
‫الجهل والشيطان بخالف قدرة الله سبحانه وقدره‪ ،‬فإنه فاعل للخير والشر معا ً ومقدرهما إذ ال فاعل‬
‫سواه‪ .‬فمن حصلت له العصبية الكفيلة بالقدرة وأونست منه خالل الخير المناسبة لتنفيذ إحكام الله في‬
‫خلقه فقد تهيأ للخالفة في العباد وكفالة الخلق‪ ،‬ووجدت فيه الصالحية لذلك‪ .‬وهذا البرهان أوثق من‬
‫األول وأصح مبنى‪ .‬فقد تبين أن خالل الخير شاهدة بوجود الملك لمن وجدت له العصبية‪ .‬فإذا نظرنا‬
‫في أهل العصبية ومن حصل لهم الغلب على كثير من النواحي واألمم‪ ،‬فوجدناهم يتنافسون في الخير‬
‫وخالله من الكرم والعفو عن الزالت‪ ،‬واالحتمال من غير القادر‪ ،‬والقرى للضيوف‪ ،‬وحمل الكل‬
‫وكسب المعدم‪ ،‬والصبر على المكاره والوفاء بالعهد‪ ،‬وبذل األموال في صون األعراض وتعظيم‬

‫‪5‬‬
‫الشريعة وإجالل العلماء الحاملين لها‪ ،‬والوقوف عندها يحددونه لهم من فعل أو ترك وحسن الظن‬
‫بهم‪ ،‬واعتقاد أهل الدين والتبرك بهم‪ ،‬ورغبة الدعاء منهم‪ ،‬والحياء من األكابر والمشايخ وتوقيرهم‬
‫وإجاللهم‪ ،‬واالنقياد إلى الحق مع الداعي إليه‪ ،‬وإنصاف المستضعفين من أنفسهم‪ ،‬والتبدل في‬
‫أحوالهم‪ ،‬واالنقياد للحق والتواضع للمسكين‪ ،‬واستماع شكوى المستغيثين‪ ،‬والتدين بالشرائع‬
‫والعبادات‪ ،‬والقيام عليها وعلى أسبابها والتجافي عن الغدر والمكر والخديعة ونقض العهد وأمثال‬
‫ذلك‪ ،‬علمنا أن هذه خلق السياسة قد حصلت لديهم واستحقوا بها أن يكونوا ساسة لمن تحت أيديهم‪ ،‬أو‬
‫على العموم‪ ،‬وأنه خير ساقه الله تعالى إليهم مناسب لعصبيتهم وغلبهم‪ ،‬وليس ذلك سدى فيهم‪ ،‬وال‬
‫وجد عبثا ً منهم؛ والملك أنسب المراتب والخيرات لعصبيتهم؛ فعلمنا بذلك أن الله تأذن لهم بالملك‬
‫وساقه إليهم‪ .‬وبالعكس من ذلك إذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب المذمومات‬
‫وانتحال الرذائل‪ ،‬وسلوك طرقها؛ فتفقد الفضائل السياسية منهم جملة‪ ،‬وال تزال في انتقاص إلى أن‬
‫يخرج الملك من أيديهم‪ ،‬ويتبدل به سواهم ليكون نعيا ً عليهم في سلب ما كان الله قد أتاهم من الملك‪،‬‬
‫علَ ْي َها ْالقَ ْو ُل‬ ‫{و ِإذَا أ َ َر ْدنَا أ َ ْن نُ ْهلِكَ قَ ْريَةً أ َ َم ْرنَا ُمتْ َرفِي َها فَفَ َ‬
‫سقُوا فِي َها فَ َح َّق َ‬ ‫وجعل في أيديهم من الخير‪َ :‬‬
‫يرا} [اإلسراء‪ .]16 :‬واستقرىء ذلك وتتبعه في األمم السابقة تجد كثيرا ً مما قلناه‬ ‫فَدَ َّم ْرنَاهَا تَد ِْم ً‬
‫ورسمناه‪ .‬والله يخلق ما يشاء ويختار‪.‬‬
‫‪ /8‬فصل في أن المغلوب مولع أبدا ً باالقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده‬
‫والسبب في ذلك أن النفس أبدا ً تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه‪ :‬إما لنظره بالكمال بما‬
‫وقر عندها من تعظيمه؛ أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب‪ ،‬فإذا‬
‫غالطت بذلك واتصل اعتقادا ً فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به‪ ،‬وذلك هو االقتداء؛ أو لما‬
‫تراه‪ ،‬والله أعلم‪ ،‬من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية وال قوة بأس‪ ،‬وإنما هو بما انتحلته من العوائد‬
‫والمذاهب تغالط أيضا ً بذلك عن الغلب‪ ،‬وهذا راجع لألول‪ .‬ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبدا ً بالغالب‬
‫في ملبسه ومركبه وسالحه في اتخاذها وأشكالها‪ ،‬بل وفي سائر أحواله‪ .‬وانظر ذلك في األبناء مع‬
‫آبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائماً؛ وما ذلك إال العتقادهم الكمال فيهم‪ .‬وانظر إلى كل قطر من‬
‫األقطار كيف يغلب على أهله زي الحامية وجند السلطان في األكثر ألنهم الغالبون لهم؛ حتى إنه إذا‬
‫كانت أمة تجاور أخرى‪ ،‬ولها الغلب عليها‪ ،‬فيسري إليهم من هذا التشبه واالقتداء حظ كبير؛ كما هو‬
‫ف ي األندلس لهذا العهد مع أمم الجاللقة‪ ،‬فإنك تجدهم يتشبهون بهم في مالبسهم وشاراتهم والكثير من‬
‫عوائدهم وأحوالهم‪ ،‬حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت‪ ،‬حتى لقد يستشعر من ذلك‬
‫الناظر بعين الحكمة انه من عالمات االستيالء؛ واألمر لله‪ .‬وتأمل في هذا سر قولهم‪" :‬العامة على‬
‫دين الملك " فإنه من بابه‪ ،‬إذ الملك غالب لمن تحت يده‪ ،‬والرعية مقتدون به العتقاد الكمال فيه اعتقاد‬
‫األبناء بآبائهم والمتعلمين بمعلميهم‪ .‬والله العليم الحكيم؛ وبه سبحانه وتعالى التوفيق‪.‬‬

‫‪ /9‬فصل في أن الظلم مؤذن بخراب العمران‪:‬‬

‫اعلم أن العمران على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها‪ ،‬لما يرونه‬
‫حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت‬
‫أيديهم عن السعي في ذلك‪ .‬وعلى قدر االعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في‬
‫االكتساب‪ ،‬فإذا كان االعتداء كثيرا ً عاما ً في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه‬
‫باألمال جملة بدخوله من جميع أبوابها‪ .‬وإن كان االعتداء يسيرا ً كان االنقباض عن الكسب على‬
‫نسبته‪ .‬والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو باألعمال وسعي الناس في المصالح والمكاسب‬
‫ذاهبين وجائي ن‪ .‬فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران‪،‬‬

‫‪6‬‬
‫وانتقضت األحوال وابذعر(أي تفرق) الناس في األفاق من غير تلك اإليالة في طلب الرزق فيما‬
‫خرج عن نطاقها‪ ،‬فخف ساكن القطر‪ ،‬وخلت دياره‪ ،‬وخربت أمصاره‪ ،‬واختل باختالله حال الدولة‬
‫والسلطان‪ ،‬لما أنها صورة للعمران تفسد بفساد مادتها ضرورة‪ .‬وانظر في ذلك ما حكاه المسعودي‬
‫في أخبار الفرس عن الموبذان صاحب الدين عندهم (حيث قال للملك)‪ :‬أيها الملك إن الملك ال يتم‬
‫عزه إال بالشريعة‪ ،‬والقيام لله بطاعته‪ ،‬والتصرف تحت أمره ونهيه‪ ،‬وال قوام للشريعة إال بالملك‪ ،‬وال‬
‫عز للملك إال بالرجال‪ ،‬وال قوام للرجال إال بالمال‪ ،‬وال سبيل إلى المال إال بالعمارة‪ ،‬وال سبيل‬
‫للعمارة إال بالعدل‪ .‬والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة‪ ،‬نصبة الرب وجعل له قيماً‪ ،‬وهو الملك‬
‫وأنت أيها الملك عمدت إلي الضياع فانتزعتها من أربابها وعمارها‪ ،‬وهم أرباب الخراج ومن تؤخذ‬
‫منهم األموال‪ ،‬وأقطعتها الحاشية والخدم وأهل البطالة‪ ،‬فتركوا العمارة‪ ،‬والنظر في العواقب وما‬
‫يصلح الضياع‪ ،‬وسومحوا في الخراج لقربهم من الملك‪ .‬ووقع الحيف على من بقي من أرباب الخراج‬
‫وعمار الضياع‪ ،‬فانجلوا عن ضياعهم وخلوا ديارهم‪ ،‬وآووا إلى ما تعذر من الضياع فسكنوها‪ ،‬فقلت‬
‫العمارة‪ ،‬وخربت الضياع وقلت األموال وهلكت الجنود والرعية‪ ،‬وطمع في ملك فارس من جاورهم‬
‫من الملوك لعلمهم بانقطاع القواد التي ال تستقيم دعائم الملك إال بها‪ )....(.‬وال تنظر في ذلك إلى أن‬
‫االعتداء قد يوجد باألمصار العظيمة من الدول التي بها‪ ،‬ولم يقع فيها خراب‪ .‬واعلم أن ذلك إنما جاء‬
‫من قبل المناسبة بين االعتداء وأحوال أهل المصر‪ .‬فلما كان المصر كبيرا ً وعمرانه كثيرا ً وأحواله‬
‫متسعة بما ال ينحصر‪ ،‬كان وقوع النقص فيه باالعتداء والظلم يسيراً‪ ،‬ألن النقص إنما يقع‬
‫بالتدريج ‪.‬فإذا خفي بكثرة األحوال واتساع األعمال في المصر لم يظهر أثره إال بعد حين‪ .‬وقد تذهب‬
‫تلك الدولة المعتدية من أصلها قبل خراب المصر وتجيء الدولة األخرى‪ ،‬فترفعه بجدتها‪ ،‬وتجبر‬
‫النقص الذي كان خفيا ً فيه‪ ،‬فال يكاد يشعر به‪ ،‬إال أن ذلك في األقل النادر‪ .‬والمراد من هذا أن حصول‬
‫النقص في العمران عن الظلم والعدوان أمر واقع ال بد منه لما قدمناه‪ ،‬ووباله عائد على الدول‪ .‬وال‬
‫تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض وال سبب كما هو المشهور‪ ،‬بل‬
‫الظلم أعم من ذلك‪ .‬وكل من أخذ ملك أحد أو غضبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقا ً‬
‫لم يفرضه الشرع فقد ظلمه‪ .‬فجباة األموال بغير حقها ظلمة‪ ،‬والمعتدون عليها ظلمة‪ ،‬والمنتهبون لها‬
‫ظلمة‪ ،‬والمانعون لحقوق الناس ظلمة‪ ،‬وغصاب األمالك على العموم ظلمة‪ ،‬ووبال ذلك كله عائد‬
‫على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها إلذهابه األمال من أهله ‪.‬‬
‫‪ /11‬فصل في أن الدولة لها أعمار طبيعية كما لألشخاص‬
‫(‪ )...‬أما أعمار الدول أيضا ً وإن كانت تختلف (‪ ،)...‬إال أن الدولة في الغالب ال تعدو أعمار‬
‫ثالثة أجيال‪ .‬والجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط‪ ،‬فيكون أربعين الذي هو انتهاء النمو‬
‫والنشوء إلى غايته‪ .‬قال تعالى‪ " :‬حتى إذ ا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة " ‪ .‬ولهذا قلنا أن عمر الشخص‬
‫الواحد هو عمر الجيل‪ .‬ويؤيده ما ذكرناه في حكمة التيه الذي وقع في بني إسرائيل‪ ،‬وأن المقصود‬
‫باألربعين فيه فناء الجيل األحياء ونشأة جيل آخر لم يعهدوا الذل وال عرفوه‪ ،‬فدل على اعتبار‬
‫األربعين في عمر الجيل الذي هو عمر الشخص الواحد‪.‬وإنما قلنا أن عمر الدولة ال يعدو في الغالب‬
‫ثالثة أجيال‪ :‬ألن الجيل األول لم يزالوا على خلق البداوة وخشونتها وتوحشها من شظف العيش‬
‫والبسالة واالفتراس واالشتراك في المجد‪ ،‬فال تزال بذلك سورة العصبية محفوظة فيهم‪ ،‬فحدهم‬
‫مرهف‪ ،‬وجانبهم مرهوب‪ ،‬والناس لهم مغلوبون‪ .‬والجيل الثاني تحول حالهم بالملك والترفه من‬
‫البداوة إلى الحضارة ومن الشظف إلى الترف والخصب‪ ،‬ومن األشتراك في المجد إلى انفراد الواحد‬
‫به‪ ،‬وكسل الباقين عن السعي فيه‪ ،‬ومن عز االستطالة إلى ذل االستكانة‪ ،‬فتنكسر سورة العصبية‬
‫بعض الشيء‪ ،‬وتؤنس منهم المهانة والخضوع‪ .‬ويبقى لهم الكثير من ذلك‪ ،‬بما أدركوا الجيل األول‬

‫‪7‬‬
‫وباشروا أحوالهم وشاهدوا من اعتزازهم وسعيهم إلى المجد ومراميهم في المدافعة والحماية‪ ،‬فال‬
‫يسعهم ترك ذلك بالكلية‪ ،‬وإن ذهب منه ما ذهب‪ ،‬ويكونون على رجاء من مراجعة األحوال التي‬
‫كانت للجيل األول‪ ،‬أو على ظن من وجودها فيهم‪ .‬وأما الجيل الثالث فينسون عهد البداوة والخشونة‬
‫كأن لم تكن‪ ،‬ويفقدون حالوة العز والعصبية بما هم فيه من ملكة القهر ويبلغ فيهم الترف غايته بما‬
‫تفنقوه من النعيم وغضارة العيش‪ ،‬فيصيرون عياالً على الدولة‪ ،‬ومن جملة النساء والولدان‬
‫المحتاجين للمدافعة عنهم‪ ،‬وتسقط العصبية بالجملة‪ ،‬وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة‪ ،‬وينسون‬
‫على الناس في الشارة والزي وركوب الخيل وحسن الثقافة يموهون بها‪ ،‬وهم في األكثر أجبن من‬
‫النسوان على ظهورها‪ .‬فإذا جاء المطالب لهم لم يقاوموا مدافعته‪ ،‬فيحتاج صاحب الدولة حينئذ إلى‬
‫االستظهار بسواهم من أهل النجدة‪ ،‬ويستكثر بالموالي‪ ،‬ويصطنع من يغني عن الدولة بعض الغناء‪،‬‬
‫حتى يتأذن بانقراضها‪ ،‬فتذهب الدولة بما حملت‪ .‬فهذه كما تراه ثالثة أجيال فيها يكون هرم الدولة‬
‫وتخلفها‪ .‬ولهذا كان انقراض الحسب في الجيل الرابع كما مر في أن المجد والحسب إنما هو في أربعة‬
‫آ باء‪ .‬وقد أتيناك فيه ببرهان طبيعي كاف ظاهر مبني على ما مهدناه قبل من المقدمات‪ ،‬فتأمله فلن‬
‫تعدو وجه الحق إن كنت من أهل األنصاف‪.‬وهذه األجيال الثالثة عمرها مائة وعشرون سنة على ما‬
‫مر‪ .‬وال تعدو الدول في الغالب هذا العمر بتقريب قبله أو بعده‪ )...( ،‬فهذا العمر للدولة بمثابة عمر‬
‫الشخص من التزيد إلى سن الوقوف‪ ،‬ثم إلى سن الرجوع‪ .‬ولهذا يجري على ألسنة الناس في المشهور‬
‫أن عمر الدولة مائة سنة‪ ،‬وهذا معناه‪ .‬فاعتبره واتخذ منه قانونا ً (‪)...‬‬
‫‪ /11‬فصل في انتقال الدولة من البداوة إلي الحضارة‪:‬‬
‫اعلم أن هذه األطوار طبيعية للدول‪ .‬فإن الغلب الذي يكون به الملك إنما هو بالعصبية وبما‬
‫يتبعها من شدة البأس وتعود االفتراس‪ ،‬وال يكون ذلك غالبا ً إال مع البداوة‪ ،‬فطور الدولة من أولها‬
‫بداوة‪ .‬ثم إذا حصل الملك تبعه الرفه واتساع األحوال‪ ،‬والحضارة إنما هي تفنن في الترف وإحكام‬
‫الصنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه من المطابخ والمالبس والمباني والفرش واألبنية وسائر‬
‫عوائد المنزل وأحواله‪ ،‬فلكل واحد منها صنائع في استجادته والتأنق فيه تختص به ويتلو بعضها‬
‫بعضاً‪ ،‬وتتكثر باختالف ما تنزع إليه النفوس من الشهوات والمالذ والتنعم بأحوال الترف‪ ،‬وما تتلون‬
‫به من العوائد‪ .‬فصار طور الحضارة في الفلك يتبع طور البداوة ضرورة‪ ،‬لضرورة تبعية الرفه‬
‫للملك‪ .‬وأهل الدول أبدا ً يقلدون في طور الحضارة وأحوالها للدولة السابقة قبلهم‪ .‬فأحوالهم يشاهدون‪،‬‬
‫ومنهم في الغالب يأخذون‪ ،‬ومثل هذا وقع للعرب لما كان الفتح وملكوا فارس والروم واستخدموا‬
‫بناتهم وأبناءهم‪ ،‬ولم يكونوا لذلك العهد في شيء من الحضارة‪ .‬فقد حكي أنه قدم لهم المرقق فكانوا‬
‫يحسبونه رقاعاً‪ ،‬وعثروا على الكافور في خزائن كسرى فاستعملوه في عجينهم ملحاً‪ ،‬وأمثال‬
‫ذلك‪ .‬فلما اس تعبدوا أهل الدول قبلهم واستعملوهم في مهنهم وحاجات منازلهم واختاروا منهم المهرة‬
‫في أمثال ذلك والقومة عليهم أفادوهم عالج ذلك‪ ،‬والقيام على عمله‪ ،‬والتفنن فيه‪ ،‬مع ما حصل لهم‬
‫من اتساع العيش والتفنن في أحواله‪ ،‬فبلغوا الغاية في ذلك‪ ،‬وتطوروا بطور الحضارة والترف في‬
‫األحوال‪ ،‬واستجادة المطاعم والمشارب والمالبس والمباني واألسلحة والفرش واآلنية وسائر‬
‫الماعون والخرثي‪ ،‬وكذلك أحوالهم في أيام المباهاة والوالئم وليالي األعراس‪ ،‬فأتوا من ذلك وراء‬
‫الغاية‪ ،‬وانظر ما نقله المسعودي والطبري وغيرهما في إعراس المأمون ببوران بنت الحسن بن‬
‫سهل‪ ،‬وما بذل أبوها لحاشية المأمون حين وافاه في خطبتها إلى داره بفم الصلح‪ ،‬وركب إليها في‬
‫السفين‪ ،‬وما أنفق في إمالكها‪ ،‬وما نحلها المأمون وأنفق في عرسها‪ ،‬تقف من ذلك على العجب‪.‬‬
‫‪ /12‬فصل في أن الترف يزيد الدولة في أولها قوة إلى قوتها‪:‬‬

‫‪8‬‬
‫والسبب في ذلك أن القبيل إذا حصل لهم الملك والترف كثر التناسل والولد والعمومية‪،‬‬
‫فكثرت العصابة‪ ،‬واستكثروا أيضا ً من الموالي والصنائع‪ ،‬وربيت أجيالهم في جو ذلك النعيم والرفه‪،‬‬
‫فازدادوا بهم عددا ً إلى عددهم وقوة إلى قوتهم بسبب كثرة العصائب حينئذ بكثرة العدد‪ .‬فإذا ذهب‬
‫الجيل األول والثاني وأخذت الدولة في الهرم لم تستقل أولئك الصنائع والموالي بأنفسهم في تأسيس‬
‫الدولة وتمهيد ملكها‪ ،‬ألنهم ليس لهم من األمر شيء‪ ،‬إنما كانوا عياالً على أهلها ومعونة لها‪ ،‬فإذا‬
‫ذهب األصل لم يستقل الفرع بالرسوخ فيذهب ويتالشى‪ ،‬وال تبقى الدولة على حالها من القوة‪ .‬واعتبر‬
‫هذا بما وقع في الدولة العربية في اإلسالم‪ .‬كان عدد العرب كما قلناه لعهد النبوة والخالفة مائة‬
‫وخمسين ألفا ً أو ما يقاربها من مضر وقحطان‪ ،‬ولما بلغ الترف مبالغه في الدولة وتوفر نموهم بتوفر‬
‫النعمة‪ ،‬واستكثر الخلفاء من الموالي والصنائع‪ ،‬بلغ ذلك العدد إلى أضعافه‪ .‬يقال‪ :‬أن المعتصم نازل‬
‫عمورية لما افتتحها في تسعمائة ألف‪ .‬وال يبعد مثل هذا العدد أن يكون صحيحا ً إذا اعتبرت حاميتهم‬
‫في الثغور الدانية والقاصية شرقا ً وغربا ً إلى الجند الحاملين سرير الملك والموالي‬
‫والمصطنعين ‪.‬وقال المسعودي‪ :‬أحصي بنو العباس بن عبد المطلب خاصة أيام المأمون لإلنفاق‬
‫عليهم‪ ،‬فكانوا ثالثين ألفا ً بين ذكران وإناث‪ ،‬فانظر مبالغ هذا العدد ألقل من مئتي سنة‪ ،‬واعلم أن سببه‬
‫إلى الرفه والنعيم الذي حصل للدولة وربي فيه أجيالهم‪ ،‬وإال فعدد العرب ألول الفتح لم يبلغ هذا وال‬
‫قريبا ً منه‪ .‬والله الخالق العليم‪.‬‬
‫‪ /13‬فصل في أطوار الدولة واختالف أحوالها وخلق أهلها باختالف األطوار‪:‬‬
‫اعلم أن الدولة تنتقل في أطوار مختلفة وحاالت متجددة‪ ،‬ويكتسب القائمون بها في كل طور‬
‫خلقا ً من أحوال ذلك الطورال يكون مثلة في الطور األخر‪ ،‬ألن الخلق تابع بالطبع لمزاج الحال الذي‬
‫هو فيه ‪.‬وحاالت الدولة وأطوارها ال تعدو في الغالب خمسة أطوار‪ :‬الطور األول‪ :‬طور الظفر بالبغية‬
‫وغلب المدافع والممانع‪ ،‬واالستيالء على الملك وانتزاعه من أيدي الدولة السالفة قبلها‪ .‬فيكون‬
‫صاحب الدولة في هذا الطور أسوة قومه في اكتساب المجد وجباية المال والمدافعة عن الحوزة‬
‫والحماية‪ ،‬ال ين فرد دونهم بشيء ألن ذلك هو مقتضى العصبية التي وقع بها الغلب وهي لم تزل بعد‬
‫بحالها‪ .‬الطور الثاني‪ :‬طور االستبداد على قومه واالنفراد دونهم بالملك وكبحهم عن التطاول‬
‫للمساهمة والمشاركة‪ .‬ويكون صاحب الدولة في هذا الطور معنيا ً باصطناع الرجال واتخاذ الموالي‬
‫والصنائع ‪ ،‬واالستكثار من ذلك لجدع أنوف أهل عصبيته وعشيرته المقاسمين له في نسبه‪ ،‬الضاربين‬
‫في الملك بمثل سهمه‪ .‬فهو يدافعهم عن األمر ويصدهم عن موارده ويردهم على أعقابهم‪ ،‬أن يخلصوا‬
‫إليه‪ ،‬حتى يقر األمر في نصابه‪ ،‬ويفرد أهل بيته بما يبني من مجده‪ ،‬فيعاني من مدافعتهم ومغالبتهم‬
‫مثل ما عاناه األولون في طلب األمر أو أشد‪ ،‬ألن األولين دافعوا األجانب فكان ظهراؤهم على‬
‫مدافعتهم أهل العصبية بأجمعهم‪ ،‬وهذا يدافع األقارب ال يظاهره على مدافعتهم إال األقل من األباعد‪،‬‬
‫األمر‪.‬‬ ‫من‬ ‫صعبا ً‬ ‫فيركب‬
‫الطور الثالث‪ :‬طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات الملك مما تنزع طباع البشر إليه من تحصيل‬
‫المال وتخليد األثار وبعد الصيت‪ ،‬فيستفرغ وسعه في الجباية وضبط الدخل والخرج وإحصاء النفقات‬
‫والقصد فيها‪ ،‬وتشييد المباني الحافلة والمصانع العظيمة واألمصار المتسعة والهياكل المرتفعة‪،‬‬
‫وإجازة الوفود من أشراف األمم ووجوه القبائل وبث المعروف في أهله‪ ،‬هذا مع التوسعة على‬
‫صنائعه وحاشيته في أحوالهم بالمال والجاه‪ ،‬واعتراض جنوده وإدرار أرزاقهم وإنصافهم في‬
‫أعطياتهم لكل هالل‪ ،‬حتى يظهر أثر ذلك عليهم في مالبسهم وشكتهم وشاراتهم يوم الزينة‪ ،‬فيباهي‬
‫بهم الدول المسالمة‪ ،‬ويرهب الدول المحاربة‪ .‬وهذا الطور آخر أطوار االستبداد من أصحاب الدولة‪.‬‬
‫ألنهم في هذه األطوار كلها مستقلون بآرائهم‪ ،‬بانون لعزهم‪ ،‬موضحون الطرق لمن بعدهم‪ .‬الطور‬

‫‪9‬‬
‫الرابع‪ :‬طور القنوع والمسالمة‪ .‬ويكون صاحب الدولة في هذا قانعا ً بما بنى أولوه‪ ،‬سلما ً ألنظاره من‬
‫الملوك وأقتاله‪ ،‬مقلدا ً للماضين من سلفه‪ ،‬فيتبع آثارهم حذو النعل بالنعل‪ ،‬ويقتفي طرقهم بأحسن‬
‫مناهج االقتداء‪ ،‬ويرى أن في الخروج عن تقليدهم فساد أمره وأنهم أبصر بما بنوا من مجده‪ .‬لطور‬
‫الخامس‪ :‬طور اإلسراف والتبذير‪ .‬ويكون صاحب الدولة في هذا الطور متلفا ً لما جمع أولوه في سبيل‬
‫الشهوات والمالذ والكرم على بطانته وفي مجالسه‪ ،‬واصطناع أخدان السوء وخضراء الدمن‪،‬‬
‫وتقليدهم عظيمات األمور التي ال يستلفون بحملها‪ ،‬وال يعرفون ما يأتون ويذرون منها‪ ،‬مستفسدا ً‬
‫لكبار األولياء من قومه وصنائع سلفه‪ ،‬حتى يضطغنوا عليه‪ ،‬ويتخاذلوا عن نصرته‪ ،‬مضيعا ً من جنده‬
‫بما أنفق من أعطياتهم في شهواته‪ ،‬وحجب عنهم وجه مباشرته وتفقده‪ ،‬فيكون مخربا ً لما كان سلفه‬
‫يؤسسون‪ ،‬وهادما ً لما كانوا يبنون‪ ،‬وفي هذا الطور تحصل في الدولة طبيعة الهرم‪ ،‬ويستولي عليها‬
‫المرض المزمن الذي ال تكاد تخفص منه‪ ،‬وال يكون لها معه برء‪ ،‬إلى أن تنقرض كما نبينه في‬
‫األحوال التي نسردها‪ .‬والله خير الوارثين ‪.‬‬
‫‪ /14‬فصل في أن المدن العظيمة والهياكل المرتفعة إنما يشيدها الملك الكثير‪:‬‬
‫قد قدمنا ذلك في آثار الدولة من المباني وغيرها‪ ،‬وأنها تكون على نسبتها ‪.‬وذلك أن تشييد‬
‫المدن إنما يحصل باجتماع الفعلة وكثرتهم وتعاونهم‪ .‬فإذا كانت الدولة عظيمة متسعة الممالك‪ ،‬حشر‬
‫الفعلة من أقطارها‪ ،‬وجمعت أيديهم على عملها‪ .‬وربما استعين في ذلك في أكثر األمر بالهندام الذي‬
‫يضاعف القوى والقدر في حمل أثقال البناء‪ ،‬لعجز القوة البشرية وضعفها عن ذلك‪ ،‬كالمخال وغيره‪.‬‬
‫وربما يتوهم كثير من الناس إذا نظر إلى آثار األقدمين ومصانعهم العظيمة‪ ،‬مثل إيوان كسرى‪،‬‬
‫وأهرام مصر وحنايا المعلقة وشرشال بالمغرب‪ ،‬إنما كانت بقدرتهم متفرقين أو مجتمعين‪ ،‬فيتخيل لهم‬
‫أجساما ً تناسب ذلك أعظم من هذه بكثير‪ ،‬في طولها وقدرها‪ ،‬لتناسب بينها وبين القدر التي صدرت‬
‫تلك المباني عنها‪ .‬ويغفل عن شأن الهندام والمخال‪ ،‬وما اقتضته في ذلك الصناعة الهندسية‪ .‬وكثير من‬
‫المتغلبين في البالد يعاين في شأن البناء‪ ،‬واستعمال الحيل في نقل األجرام عند أهل الدولة المعتنين‬
‫بذلك من العجم‪ ،‬ما يشهد له بما قلناه عيانا‪ .‬وأكثر آثار األقدمين لهذا العهد تسميها العامة عادية‪ ،‬نسبة‬
‫إلى قوم عاد‪ ،‬ل توهمهم أن مباني عاد مصانعهم إنما عظمت لعظم أجسامهم وتضاعف قدرهم وليس‬
‫كذلك‪ ،‬فقد نجد آثارا ً كثيرة من آثار الذين تعرف مقادير أجسامهم من األمم‪ ،‬وهي في مثل ذلك العظم‬
‫أو أعظم‪ ،‬كإيوان كسرى ومباني العبيديين من الشيعة بإفريقية‪ ،‬والصنهاجيين‪ ،‬وأثرهم باد إلى اليوم‬
‫في صومعة قلعة بني حماد‪ .‬وكذلك بناء األغالبة في جامع القيروان‪ ،‬وبناء الموحدين‪ ،‬في رباط الفتح‬
‫ورباط السلطان أبي سعيد لعهد أربعين سنة‪ ،‬في المنصورة بإزاء تلمسان‪ .‬وكذلك الحنايا التي جلب‬
‫إليها أهل قرطاجنة الماء في القناة الراكبة عليها ماثلة أيضا ً لهذا العهد‪ .‬وغير ذلك من المباني‬
‫والهياكل التي نقلت إلينا أخبار أهلها قريبا ً وبعيداً‪ ،‬تيقنا أنهم لم يكونوا بإفراط في مقادير أجسامهم‪.‬‬
‫وإنما هذا رأي ولع به القصاص عن قوم عاد وثمود والعمالقة‪ .‬ونجد بيوت ثمود في الحجر منحوتة‬
‫إلى هذا العهد‪ .‬وقد ثبت في الحديث الصحيح أنها بيوتهم يمر بها الركب الحجازي أكثر السنين‪،‬‬
‫ويشاهدونها ال تزيد في جوها ومساحتها وسمكها على المتعاهد‪ .‬وإنهم ليبالغون فيما يعتقدون من ذلك‪.‬‬
‫حتى إنهم ليزعمون أن عوج بن عناق من جيل العمالقة‪ ،‬كان يتناول السمك من البحر طريا ً فيشويه‬
‫في الشمس‪)...( .‬‬
‫‪ /15‬فيما يجب مراعاته في أوضاع المدن وما يحدث إذا غفل عن تلك المراعاة‪:‬‬
‫اعلم أن المدن قرار تتخذه األمم عند حصول الغاية المصللوبة من الترف ودواعيه‪ ،‬فتؤثر‬
‫الدعة والسكون‪ ،‬وتتوجه إلى اتخاذ المنازل للقرار‪ .‬ولما كان ذلك للقرار والمأوى‪ ،‬وجب أن يراعى‬
‫فيه دفع المضار بالحماية من طوارقها‪ ،‬وجلب المنافع وتسهيل المرافق لها‪ :‬فأما الحماية من المضار‬
‫فيراعى لها أن يدار على منازلها جميعا ً سياج األسوار‪ ،‬وأن يكون وضع ذلك في ممتنع من األمكنة‬

‫‪10‬‬
‫إما على هضبة متوعرة من الجبل‪ ،‬وأما باستدارة بحر أو نهر بها‪ ،‬حتى ال يوصل إليها إال بعد العبور‬
‫على جسر أو قنطرة فيصعب منالها على العدو ويتضاعف امتناعها وحصنها‪ .‬ومما يراعى في ذلك‬
‫للحماية من اآلفات السماوية طيب الهواء للسالمة من األمراض‪ .‬فإن الهواء إذا كان راكدا ً خبيثاً‪ ،‬أو‬
‫مجاورا ً للمياه الفاسدة أو لمناقع متعفنة أو لمروج خبيثة‪ ،‬أسرع إليها العفن من مجاورتها‪ ،‬فأسرع‬
‫المرض للحيوان الكائن فيه ال محالة‪ ،‬وهذا مشاهد‪ .‬والمدن التي لم يراع فيها طيب الهواء كثيرة‬
‫األمراض في الغالب‪ )...( .‬وأما جلب المنافع والمرافق للبلد فيراعى فيه أمور‪ :‬منها الماء‪ ،‬بأن يكون‬
‫البلد على نهر‪ ،‬أو بإزائها عيون عذبة ثرة ‪.‬فإن وجود الماء قريبا ً من البلد يسهل على الساكن حاجة‬
‫الماء وهي ضرورية‪ ،‬فيكون لهم في وجوده مرفقة عظيمة عامة‪ .‬ومما يراعى من المرافق في المدن‬
‫طيب المراعي لسائمتهم إذ صاحب كل قرار ال بد له من دواجن الحيوان للنتاج والضرع والركوب‪،‬‬
‫وال بد لها من المرعى‪ .‬فإذا كان قريبا ً طيباً‪ ،‬كان ذلك أرفق بحالهم‪ ،‬لما يعانون من المشقة في بعده‪.‬‬
‫ومما يراعى أيضا ً المزارع‪ ،‬فإن الزروع هي األقوات‪ .‬فإذا كانت مزارع البلد بالقرب منها‪ ،‬كان ذلك‬
‫أسهل في اتخاذه وأقرب في تحصيله‪ .‬ومن ذلك الشجر للحطب والبناء‪ ،‬فإن الحطب مما تعم البلوى‬
‫في اتخاذه لوقود النيران لالصطالء والطبخ‪ .‬والخشب أيضا ً ضروري لسقفهم وكثير مما يستعمل فيه‬
‫الخشب من ضرورياتهم‪ .‬وقد يراعى أيضا ً قربها من البحر لتسهيل الحاجات القاصية من البالد‬
‫النائية‪ .‬إال أن ذلك ليس بمثابة األول‪ .‬وهذه كلها متفاوتة بتفاوت الحاجات‪ ،‬وما تدعو إليه ضرورة‬
‫الساكن‪ .‬وقد يكون الواضع غافالً عن حسن االختيار الطبيعي‪ ،‬أو إنما يراعي ما هو أهم على نفسه‬
‫وقومه‪ ،‬وال يذكر حاجة غيرهم‪ ،‬كما فعله العرب ألول اإلسالم في المدن التي اختطوها بالعراق‬
‫وإفريقية‪ ،‬فإنهم لم يراعوا فيها إال األهم عندهم‪ ،‬من مراعي اإلبل وما يصلح لها من الشجر والماء‬
‫الملح‪ .‬ولم يراعوا الماء‪ ،‬وال المزارع‪ ،‬وال الحطب‪ ،‬وال مراعي السائمة من ذوات الظلف‪ ،‬وال غير‬
‫ذلك‪ ،‬كالقيروان‪ .‬والكوفة والبصرة وأمثالها‪ .‬ولهذا كانت أقرب إلى الخراب لما لم تراع فيها األمور‬
‫الطبيعية‪ .‬ومما يراعى في البالد الساحلية التي على البحر‪ ،‬أن تكون في جبل‪ ،‬أو تكون بين أمة من‬
‫األمم موفورة العدد‪ ،‬تكون صريخا ً للمدينة متى طرقها طارق من العدو‪ .‬والسبب في ذلك أن المدينة‬
‫إذا كانت حاضرة البحر‪ ،‬ولم يكن بساحتها عمران للقبائل أهل العصبيات‪ ،‬وال موضعها متوعر من‬
‫الجبل‪ ،‬كانت في غرة للبيات‪ ،‬وسهل طروقها في األساطيل البحرية على عدوها وتحيفه لها‪ ،‬لما يأمن‬
‫من وجود الصريخ لها‪ .‬وأن الحضر المتعودين للدعة قد صاروا عياالً وخرجوا عن حكم المقاتلة‪.‬‬
‫وهذه كاإلسكندرية من المشرق‪ ،‬وطرابلس من المغرب‪ ،‬وبونة وسال‪ .‬ومتى كانت القبائل أو‬
‫العصائب موطنين بقربها‪ ،‬بحيث يبلغهم الصريخ والنعير‪ ،‬وكانت متوعرة المسالك على من يرومها‬
‫باختطاطها في هضاب الجبال وعلى أسنمتها‪ ،‬كان لها بذلك منعة من العدو ويئسوا من طروقها‪ ،‬لما‬
‫يكابدونه من وعرها‪ ،‬وما يتوقعونه من إجابة صريخها ‪.‬كما في سبتة وبجاية وبلد القل على صغرها‪.‬‬
‫فافهم ذلك واعتبره في اختصاص األسكندرية باسم الثغر من لدن الدولة العباسية‪ ،‬مع أن الدعوة من‬
‫ورائها ببرقة وإفريقية‪ ،‬وإنما اعتبر في ذلك المخافة المتوقعة فيها من البحر لسهولة وضعها‪.‬‬
‫‪ /16‬فصل في قصور أهل البادية عن سكنى المصر الكثير العمران‪:‬‬
‫والسبب في ذلك أن المصر الكثير العمران‪ ،‬يكثر ترفة كما قدمناه‪ ،‬وتكثر حاجات ساكنه من‬
‫أجل الترف‪ ،‬وتعتاد تلك الحاجات لما يدعو إليها‪ ،‬فتنقلب ضرورات وتصير األعمال فيه كلها مع ذلك‬
‫عزيزة والمرافق غالية‪ ،‬بازدحام األغراض عليها من أي الترف‪ ،‬وبالمغارم السلطانية التي توضع‬
‫على األسواق والبياعات وتعتبر في قيم المبيعات‪ ،‬ويعظم فيها الغالء في المرافق واألقوات‬
‫واألعمال‪ ،‬فتك ثر لذلك نفقات ساكنه كثرة بالغة على نسبة عمرانه‪ .‬ويعظم خرجه‪ ،‬فيحتاج حينئذ إلى‬
‫المال الكثير للنفقة على نفسه وعياله في ضرورات عيشهم وسائر مؤنهم‪.‬والبدوي لم يكن دخله كثيراً‪،‬‬
‫إذ كان ساكنا ً بمكان كاسد األسواق في األعمال التي هي سبب الكسب‪ ،‬فلم يتأثل كسبا ً وال ماالً‬

‫‪11‬‬
‫فيتعذرعليه من أجل ذلك سكنى المصر الكبير‪ ،‬لغالء مرافقه وعزة حاجاته‪ .‬وهو في بدوه يسد خلته‬
‫بأقل األعمال‪ ،‬ألنه قليل عوائد الترف في معاشه وسائر مؤنه‪ ،‬فال يضطر إلى المال‪ .‬وكل من يتشوف‬
‫إلى المصر وسكناه من أهل البادية‪ ،‬فسريعا ً ما يظهر عجزه ويفتضح في استيطانه‪ ،‬إال من تقدم منهم‬
‫تأثل المال‪ ،‬ويحصل له منه فوق الحاجة‪ ،‬ويجري إلى الغاية الطبيعية ألهل العمران من الدعة‬
‫والترف‪ .‬فحينئذ ينتقل إلى المصر‪ ،‬وينتظم حاله مع أحوال أهله في عوائدهم وترفهم‪ .‬وهكذا شأن‬
‫بداية عمران األمصار‪ .‬والله بكل شيء محيط ‪.‬‬

‫‪ /17‬فصل في أن الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره وأنها مؤذنة بفساده‪:‬‬

‫قد بينا لك فيما سلف‪ ،‬أن الملك والدول غاية للعصبية‪ ،‬وأن الحضارة غاية للبداوة‪ ،‬وأن‬
‫العمران كله من بداوة وحضارة وملك وسوقة له عمر محسوس‪ .‬كما أن للشخص الواحد من أشخاص‬
‫المكونات عمرا ً محسوساً‪ .‬وتبين في المعقول والمنقول أن األربعين لإلنسان غاية في تزايد قواه‬
‫ونموها‪ ،‬وأنه إذا بلغ سن األربعين وقفت الطبيعة عن أثر النشوء والنمو برهة‪ ،‬ثم تأخذ بعد ذلك في‬
‫االنحطاط ‪.‬فلتعلم أن الحضارة في العمران أيضا ً كذلك‪ ،‬ألنه غاية ال مزيد وراءها‪ .‬وذلك أن الترف‬
‫والنعمة إذا حصال ألهل العمران‪ ،‬دعاهم بطبعه إلى مذاهب الحضارة والتخلق بعوائدها‪ .‬والحضارة‪،‬‬
‫كما علمت‪ ،‬هي التفنن في الترف واستجادة أحواله‪ ،‬والكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر‬
‫فنونه‪ ،‬كالصنائع المهيئة للمطابخ أو المالبس أو المباني أو الفرش أو اآلنية‪ ،‬ولسائر أحوال المنزل‪.‬‬
‫وللتأنق في كل واحد م ن هذه‪ ،‬صنائع كثيرة ال يحتاج إليها عند البداوة وعدم التأنق فيها‪ .‬وإذا بلغ‬
‫التأنق في هذه األحوال المنزلية الغاية تبعه طاعة الشهوات‪ ،‬فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان‬
‫كثيرة‪ ،‬ال يستقيم حالها معها في دينها وال دنياها‪ :‬أما دينها فالستحكام صبغة العوائد التي يعسر‬
‫نزعها‪ ،‬وأما دنياها فلكثرة الحاجات والمؤونات التي تطالب بها العوائد‪ ،‬ويعجز الكسب عن الوفاء‬
‫بها‪ .‬وبيانه أن المصر بالتفنن في الحضارة تعظم نفقات أهله‪ ،‬والحضارة تتفاوت بتفاوت العمران‪،‬‬
‫فمتى كان العمران أكثر كانت الحضارة أكمل‪ .‬وقد كنا قدمنا أن المصر الكثير العمران يختص‬
‫بالغالء في أسواقه وأسعار حاجاته‪ .‬ثم تزيدها المكوس غالء ألن كمال الحضارة إنما تكون عند نهاية‬
‫الدولة في استفحالها‪ ،‬وهو زمن وضع المكوس في الدول لكثرة خرجها حينئذ كما تقدم‪ .‬والمكوس‬
‫تعود على البياعات بالغالء‪ ،‬ألن السوقة والتجار كلهم‪ ،‬يحتسبون على سلعهم وبضائعهم‪ ،‬جميع‬
‫ماينفقونه‪ ،‬حتى في مؤونة أنفسهم‪ ،‬فيكون المكس لذلك داخالً في قيم المبيعات وأثمانها‪ .‬فتعظم نفقات‬
‫أهل الحاضرة وتخرج عن القصد إلى اإلسراف‪ .‬وال يجدون وليجة عن ذلك لما ملكهم من أثر العوائد‬
‫وطاعتها‪ ،‬وتذهب مكاسبهم كلها في النفقات‪ ،‬ويتتابعون في اإلمالق والخصاصة‪ ،‬ويغلب عليهم الفقر‪.‬‬
‫ويقل المستامون للبضائع‪ ،‬فتكسد األسواق وتفسد حال المدينة‪ .‬وداعية ذلك كله إفراط الحضارة‬
‫والترف‪ .‬وهذه مفسدتها في المدينة على العموم في األسواق والعمران‪ .‬وأما فساد أهلها في ذاتهم‪،‬‬
‫واحدا ً واحدا ً على الخصوص‪ ،‬فمن الكد والتعب في حاجات العوائد‪ ،‬والتلون بألوان الشر في‬
‫تحصيلها‪ ،‬وما يعود على النفس من الضرر بعد تحصيلها‪ ،‬بحصول لون آخر من ألوانها‪ .‬فلذلك يكثر‬
‫منهم الفسق والشر والسفسفة والتحيل على تحصيل المعاش من وجهه ومن غير وجهه‪ .‬وتنصرف‬
‫النفس إلى الفكر في ذلك والغوض عليه واستجماع الحيلة له‪ ،‬فتجدهم أجرياء على الكذب والمقامرة‬
‫والغش والخالبة والسرقة والفجور في األيمان والرباء في البياعات ‪.‬ثم تجدهم لكثرة الشهوات والمالذ‬
‫الناشئة عن الترف أبصر بطرق الفسق ومذاهبه‪ ،‬والمجاهرة به وبدواعيه‪ ،‬واطراح الحشمة في‬
‫الخوض فيه‪ ،‬حتى بين األقارب وذوي األرحام والمحارم‪ ،‬الذين تقتضي البداوة الحياء منهم في‬
‫اإلقذاع بذلك‪ .‬وتجدهم أيضا ً أبصر بالمكر والخديعة‪ ،‬يدفعون بذلك ما عساه ينالهم من القهر‪ ،‬وما‬

‫‪12‬‬
‫يتوقعونه من العقاب على تلك القبائح‪ ،‬حتى يصير ذلك عادة وخلقا ً ألكثرهم‪ ،‬إال من عصمه الله‪.‬‬
‫ويموج بحر المدينة بالسفلة من أهل األخالق الذميمة‪ .‬ويجاريهم فيها كثير من ناشئة الدولة وولدانهم‬
‫ممن أهمل عن التأديب‪ ،‬وأهملته الدولة من عدادها‪ ،‬وغلب عليه خلق الجوار والصحابة‪ ،‬وإن كانوا‬
‫أصحابه أهل أنساب وبيوتات‪ .‬وذلك أن الناس بشر متماثلون‪ ،‬وإنما تفاضلوا وتمايزوا بالخلق‬
‫واكتساب الفضائل واجتناب الرذائل‪ .‬فمن استحكمت فيه صبغة الرذيلة بأي وجه كان‪ ،‬وفسد خلق‬
‫الخير فيه‪ ،‬لم ينفعه زكاء نسبه والطيب منبته‪ .‬ولهذا تجد كثيرا ً من أعقاب البيوت وذوي األحساب‬
‫واألصالة وأهل الدول‪ ،‬منطرحين في الغمار‪ ،‬منتحلين للحرف الدنية في معاشهم بما فسد من‬
‫أخالقهم‪ ،‬وما تلونوا به من صبغة الشر والسفسفة‪ .‬وإذا كثر ذلك في المدينة أو األمة تأذن الله بخرابها‬
‫وانقراضها‪ ،‬وهو معنى قوله تعالى‪ " :‬وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها‪ ،‬ففسقوا فيها‪ ،‬فحق‬
‫عليها القول‪ ،‬فدمرناها تدميرا ً ‪ " .‬ووجهه أن مكاسبهم حينئذ ال تفي بحاجاتهم‪ ،‬لكثرة العوائد ومطالبة‬
‫النفس بها‪ ،‬فال تستقيم أحوالهم‪ .‬وإذا فسدت أحوال األشخاص‪ ،‬واحدا ً واحداً‪ ،‬اختل نظام المدينة‬
‫وخربت‪ .‬وهذا معنى ما يقوله بعض أهل الخواصي‪ :‬أن المدينة إذا كثر فيها غرس النارنج تأذنت‬
‫بالخراب‪ ،‬حتى إن كثيرا ً من العامة يتحامى غرس النارنج بالدور‪ ،‬تطيرا ً به‪ ،‬وليس المراد ذلك وال‬
‫أنه خاصة في النارنج‪ ،‬وإنما معناه أن البساتين وإجراء المياه هو من توابع الحضارة‪ .‬ثم إن النارنج‬
‫والليم والسرو وأمثال ذلك‪ ،‬مما ال طعم فيه وال منفعه‪ ،‬هو من غايات الحضارة‪ ،‬إذ ال يقصد بها في‬
‫البساتين إال أشكالها فقط‪ ،‬وال تغرس إال بعد التفنن في مذاهب الترفة وهذا هو الطور الذي يخشى معه‬
‫هالك المصر وخرابه كما قلناه‪ .‬ولقد قيل مثل ذلك في الدفلى‪ ،‬وهو من هذا الباب‪ ،‬إذ الدفلى ال يقصد‬
‫بها إال تلون البساتين بنورها‪ ،‬ما بين أحمر وأبيض‪ ،‬وهو من مذاهب الترف‪ .‬ومن مفاسد الحضارة‬
‫أيضا ً االنهماك في الشهوات واالسترسال فيها لكثرة الترف‪ ،‬فيقع التفنن في الشهوات (‪ .)...‬فافهم ذلك‬
‫واعتبر به أن غاية العمران هي الحضارة والترف‪ ،‬وأنه إذا بلغ غايتة انقلب إلى الفساد وأخذ في‬
‫الهرم‪ ،‬كاألعمار الطبيعية للحيوانات‪ .‬بل نقول إن األخالق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين‬
‫الفساد‪ ،‬ألن اإلنسان إنما هو إنسان باقتداره على جلب منافعه ودفع مضاره واستقامة خلقه للسعي في‬
‫ذلك‪ .‬والحضري ال يقدر على مباشرة حاجاته‪ ،‬إما عجزا ً لما حصل له من الدعة‪ ،‬أو ترفعا ً لما حصل‬
‫له من المربى في النعيم والترف‪ .‬وكال األمرين ذميم‪ .‬وكذلك ال يقدر على دفع المضار واستقامة خلقه‬
‫للسعي في ذلك‪ .‬والحضري بما قد فقد من خلق البأس بالترف والمربى في قهر التأديب والتعليم‪ ،‬فهو‬
‫لذلك عيال على الحاميه التي تدافع عنه‪ .‬ثم هو فاسد أيضا ً في دينه غالبا ً بما أفسدت منه العوائد‬
‫وطاعتها‪ ،‬وما تلونت به النفس من ملكاتها كما قررناه‪ ،‬إال في األقل النادر‪ .‬وإذا فسد اإلنسان فى‬
‫قدرته ثم في أخالقه ودينه‪ ،‬فقد فسدت إنسانيته وصار مسخا ً على الحقيقة‪ .‬وبهذا االعتبار كان الذين‬
‫يتقربون‪ ،‬من جند السلطان‪ ،‬إلى البداوة والخشونة‪ ،‬أنفع من الذين يتربون على الحضارة وخلقها‪.‬‬
‫وهذا موجود في كل دولة‪ .‬فقد تبين أن الحضارة هي سن الوقوف لعمر العالم من العمران‬
‫والدول ‪.‬والله سبحانه وتعالى‪ ،‬كل يوم‪ ،‬هو في شأن‪ ،‬ال يشغله شأن عن شأن‪.‬‬
‫‪ /18‬فصل في أن األمصار التي تكون كراسي للملك تخرب بخراب الدولة وانتقاضها‪:‬‬
‫قد استقرينا في العمران أن الدولة إذا اختلت وانتقضت‪ ،‬فإن المصر الذي يكون كرسيا ً‬
‫لسلطانها ينتقض عمرانه‪ ،‬وربما ينتهي في انتقاضه إلى الخراب‪ ،‬وال يكاد ذلك يتخلف‪ .‬والسبب فيه‬
‫أمور‪ :‬األول‪ :‬أن الدولة ال بد في أولها من البداوة المقتضية للتجافي عن أموال الناس والبعد عن‬
‫التحذيق‪ .‬ويدعو ذلك إلى تخفيف الجباية والمغارم التي منها مادة الدولة‪ ،‬فتقل النفقات ويقصر الترف‪.‬‬
‫فإذا صار المصر الذي كان كرسيا ً للملك في ملكة هذه الدولة المتجددة‪ ،‬ونقصت أحوال الترف فيها‪،‬‬
‫نقص الترف فيمن تحت أيديها من أهل المصر‪ ،‬ألن الرعايا تبع للدولة‪ ،‬فيرجعون إلى خلق الدولة‪:‬‬
‫إما طوعا ً لما في طباع البشر من تقليد متبوعهم‪ ،‬أو كرها ً لما يدعو إليه خلق الدولة من االنقباض عن‬

‫‪13‬‬
‫الترف في جميع األحوال‪ ،‬وقلة الفوائد التي هي مادة العوائد‪ ،‬فتقصر لذلك حضارة المصر‪ ،‬ويذهب‬
‫منه كثير من عوائد الترف‪ .‬وهي معنى ما نقول في خراب المصر‪ .‬األمر الثاني‪ :‬أن الدولة إنما‬
‫يحصل لها الملك واالستيالء بالغلب‪ ،‬وإنما يكون بعد العداوة والحروب‪ .‬والعداوة تقتضي منافاة بين‬
‫أهل الدولتين‪ ،‬وتكثر إحداهما على األخرى في العوائد واألحوال‪ .‬وغلب أحد المتنافيين يذهب‬
‫بالمنافي األخر‪ ،‬فتكون أحوال الدولة السابقة منكرة عند أهل الدولة الجديدة ومستبشعة وقبيحة‪.‬‬
‫وخصوصا ً أحوال الترف فتفقد في عرفهم بنكير الدولة لها‪ ،‬حتى تنشأ لهم بالتدريج عوائد أخرى من‬
‫الترف‪ ،‬فتكون عنها حضارة مستأنفة‪ ..‬وفيما بين ذلك قصور الحضارة األولى ونقصهما‪ ،‬ومعنى‬
‫اختالل العمران في المصر‪ .‬األمر الثالث‪ :‬أن كل أمة ال بد لهم من وطن هو منشأهم ومنه أولية‬
‫ملكهم‪ .‬وإذا ملكوا وطنا ً آخر صار تبعا لألول‪ ،‬وأمصاره تابعة ألمصار األول‪ .‬واتسع نطاق الملك‬
‫عليهم‪ .‬والبد من توسط الكرسي بين تخوم الممالك التي للدولة‪ ،‬ألنه شبه المركز للنطاق‪ ،‬فيبعد مكانه‬
‫عن مكان الكرسي األول وتهوي أفئدة الناس إليه من أجل الدولة والسلطان‪ ،‬فينتقل إليه العمران‬
‫ويخف من مصر الكرسي األول‪ .‬والحضارة إنما هي بوفور العمران كما قدمنا‪ ،‬فتنتقص حضارته‬
‫وتمدنه وهو معنى اختالله‪ .‬وهذا كما وقع للسلجوقية في عدولهم بكرسيهم عن بغداد إلى أصبهان‪،‬‬
‫وللعرب قبلهم في العدول عن المدائن إلى الكوفة والبصرة‪ ،‬ولبني العباس في العدول عن دمشق إلى‬
‫بغداد‪ ،‬ولبني مرين بالمغرب في العدول عن مراكش إلى فاس‪ .‬وبالجملة فاتخاذ الدولة الكرسي في‬
‫مصر يخل بعمران الكرسي األول‪ .‬األمر الرابع‪ :‬أن الدولة المتجددة إذا غلبت على الدولة السابقة ال‬
‫بد فيها من تتبع أهل الدولة السابقة وأشياعها‪ ،‬بتحويلهم إلى قطر آخر تؤمن فيه غائلتهم على الدولة‪.‬‬
‫وأكثر أهل المصر الكرسي أشياع الدولة‪ .‬إما من الحامية الذين نزلوا به أول الدولة أو من أعيان‬
‫المصر‪ ،‬ألن لهم في الغالب مخالطة للدولة على طبقاتهم وتنوع أصنافهم‪ .‬بل أكثرهم ناشىء في‬
‫الدولة فهم شيعة لها‪ .‬وإن لم يكونوا بالشوكة والعصبية‪ ،‬فهم بالميل والمحبة والعقيدة‪ .‬وطبيعة الدولة‬
‫المتجددة محو آثار الدولة السابقة‪ ،‬فتنقلهم من مصر الكرسي إلى وطنها المتمكن في ملكتها‪ .‬فبعضهم‬
‫على نوع التغريب والحبس‪ ،‬وبعضهم على نوع الكرامة والتلطف‪ ،‬بحيث ال يؤدي إلى النفرة‪ ،‬حتى ال‬
‫يبقى في مصر الكرسي إال الباعة والهمل من أهل الفلح والعيارة وسواد العامة‪ .‬وينزل مكانهم في‬
‫حاميتها وأشياعها من يشتد به المصر‪ .‬وإذا ذهب من مصر أعيانه على طبقاتهم نقص ساكنه‪ ،‬وهو‬
‫معنى اختالل عمرانه‪ .‬ثم ال بد أن يستجد عمران آخر في ظل الدولة الجديدة‪ ،‬وتحصل فيه حضارة‬
‫أخرى على قدر الدولة‪ .‬وإنما ذلك بمثابة من يملك بيتا ً داخله البلى‪ ،‬والكثير من أوضاعه في بيوته‬
‫ومرافقه ال توافق مقترحه‪ ،‬وله قدرة ‪ -‬على أوصاف مخصوصة على تغيير تلك األوضاع‪ ،‬وإعادة‬
‫بنائها على ما يختاره ويقترحه فيخرب ذلك البيت‪ ،‬ثم يعيد بناءه ثانيا ً‪.‬وقد وقع من ذلك كثير في‬
‫األمصار التي هي كراسي لذلك وشاهدناه وعلمناه‪" .‬والله يقدر الليل والنهار"‪ .‬والسبب الطبيعي‬
‫األول في ذلك على الجملة‪ ،‬أن الدولة والملك للعمران‪ ،‬بمثابة الصورة للمادة‪ ،‬وهو الشكل الحافظ‬
‫بنوعه لوجودها‪ .‬وقد تقرر في علوم الحكمة أنه ال يمكن انفكاك أحدهما عن اآلخر‪ .‬فالدولة دون‬
‫العمران ال تتصور‪ ،‬والعمران دون الدولة والملك متعذر‪ ،‬بما في طباع البشر من العدوان الداعي إلى‬
‫الوازع‪ ،‬فتتعين السياسة لذلك‪ .‬أما الشريعة أو الملكية وهو معنى الدولة‪ ،‬وإذا كانا ال ينفكان‪ ،‬فاختالل‬
‫أحدهما مؤثر في اختالل اآلخر‪ ،‬كما كان عدمه مؤثرا ً في عدمه‪ .‬والخلل العظيم إنما يكون من خلل‬
‫الدولة الكلية مثل دولة الروم أو الفرس أو العرب على العموم‪ ،‬أو بني أمية أو بني العباس كذلك‪ .‬وأما‬
‫الدول الشخصية‪ ،‬مثل دولة أنو شروان أو هرقل أو عبد الملك بن مروان أو الرشيد‪ ،‬فأشخاصها‬
‫متعاقبة على العمران‪ ،‬حافظة لوجوده وبقائه‪ ،‬وقريبة الشبه بعضها من بعض‪ ،‬فال تؤثر كثير اختالل‪.‬‬
‫ألن الدولة بالحقيقة الفاعلة في مادة العمران إنما هي العصبية والشوكة‪ ،‬وهي مستمرة مع أشخاص‬
‫الدول‪ .‬فإذا ذهبت تلك العصبية ودفعتها عصبية أخرى مؤثرة في العمران‪ ،‬فأذهبت أهل الشوكة‬

‫‪14‬‬
‫بأجمعهم‪ ،‬عظم الخلل كما قررناه أوالً‪ .‬والله قادر على ما يشاء‪ .‬إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد‪ ،‬وما‬
‫ذلك على الله بعزيز‪.‬‬

‫‪15‬‬

You might also like