Professional Documents
Culture Documents
تصميم الدرس:
من المراجع:
ـ "مقدمة ابن خلدون" ،تحقيق علي عبد الواحد وافي ،دار نهضة مصر للطباعة والنشر،
أو تحقيق أبي عبد الرحمان عادل بن سعد ،الدار الذهبية ،القاهرة.6002 ،
ـ "صدام الحضارات "..صمويل هنتكتون ،ترجمة طلعت الشايب ،سطور للتوزيع
والنشر ،ط.9111 ،6 .
ـ "نهاية التاريخ وخاتم البشر" فرانسيس فوكوياما ،ترجمة حسين أحمد أمين ،مركز
األهرام للترجمة والنشر ،القاهرة ،الطبعة األولى .9111
ـ الطاهر لبيب" ،سوسيولوجيا الثقافة" ،عيون المقاالت ،الدار باليضاء ،ط.9192 ،6.
ـ "التلفزيون وآليات التالعب بالعقول" ،بيير بورديو ،ترجمة درويش الحلوجي ،دار
كنعان ،دمشق 6002 ،الكتاب األصلي:
Pierre Bourdieu "Sur la télévision suivi de L'emprise duـ
journalisme", par, Paris, Liber Editions, 1996
Horace MINER "Le changement dans la culture ruraleـ
canadienne-françaisiH"oticle publié dans l'ouvrage sous la direction
1
de Marcel Rioux et Yves Mar-tin, La société canadienne française,
pp. 77-89. Montréal : Les Éditions Hurtubise HMH ltée, 1971, 404
pp. [Version française d'un article tiré de : The American Journal
of Sociology, XLIV, November 1938, 365-378.]
ـMiossec Jean-Marie. Urbanisation des campagnes et ruralisation
des villes en Tunisie. In: Annales de Géo. t. 94, n°521, 1985. pp.
38-62. C.E.R.E.S. série sociologie 234 Bonnenfant Paul et Landy
Raymond.
ـPaul Pélissier, « Les interactions rurales urbaines en Afrique de
l'Ouest et Centrale », Bulletin de l'APAD 50 / 2019.
ـIsabelle Berry-Chikhaoui, « Les notions de citadinité et d’urbanité
dans l’analyse des villes du Monde arabe », Les Cahiers d’EMAM,
18 | 2009, 9-20.
ـFijalkow, Y. (2013). I. La ville, phénomène sociologique. Dans :
Yankel Fijalkow éd., Sociologie des villes (pp. 5-19). Paris: La
Découverte.
:تطبيقات
تحليال، قراءة وتحليل هذه النصوص: (المطلوب: ـ مقتطفات من مقدمة ابن خلدون9
).سوسيولوجيا
2
مزيد عليه ثم إذا اتسعت أحوال هؤالء المنتحلين للمعاش وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرفه
دعاهم ذلك إلى السكون والدعة وتعاونوا في الزائد على الضرورة واستكثروا من األقوات والمالبس
والتأنق فيها وتوسعة البيوت واختطاط المدن واألمصار للتحضر .ثم تزيد أحوال الرفه والرفه والدعة
فتجيء عوائد الترف البالغة مبالغها في التأنق في عالج القوت واستجادة المطابخ وانتقاء المالبس
الفاخرة في أنواعها من الحرير والديباج وغير ذلك ومعاالة البيوت والصروح وإحكام وضعها في
تنجيدها واالنتهاء في الصنائع في الخروج من القوة إلى الفعل إلى غاياتها فيتخذون القصور والمنازل
ويجرون فيها المياه ويعالون في صرحها ويبالغون في تنجيدها ويختلقون في استجادة ما يتخذونه
لمعاشهم من ملبوس أو فراش أو آنية أو ماعون .وهؤالء هم الحضر ومعناه الحاضرون أهل
األمصار والبلدان .ومن هؤالء من ينتحل في معاشه الصنائع ومنهم من ينتحل التجارة .وتكون
مكاسبهم أنمى وأرفه من أهل البدو ألن أحوالهم زائدة على الضروري ومعاشهم على نسبة وجدهم.
فقد تبين أن أجيال البدو والحضر طبيعية ال بد منهما كما قلناه.
/2فصل في أن جيل العرب في الخليقة طبيعي:
قد قدمنا في الفصل قبله أن أهل البدو هم المنتحلون للمعاش الطبيعي من الفلح والقيام على
األنعام وأنهم مقتصرون على الضروري من األقوات والمالبس والمساكن وسائر األحوال والعوائد
ومقصرون عما فوق ذلك من حاجي أو كمالي يتخذون البيوت من الشعر والوبر أو الشجر أو من
الطين والحجارة غير منجدة إنما هو قصد االستظالل والكن ال ما وراءه وقد يأوون إلى الغيران
والكهوف .وأما أقواتهم فيتناولون بها يسيرا ً بعالج أو بغير عالج البتة إال ما مسته النار .فمن كان
معاشه منهم في الزراعة والقيام بالفلح كان المقام به أولى من الظعن وهؤالء سكان المدر والقرى
والجبال وهم عامة البربر واألعاجم .ومن كان معاشه في السائمة مثل الغنم .والبقر فهم ظعن في
األغلب الرتياد المسارح والمياه لحيواناتهم فالتقلب في األرض أصلح بهم ويسمون شاوية ومعناه
القائمون على الشاء والبقر وال يبعدون في القفر لفقدان المسارح الطيبة ة وهوالء مثل البربر والترك
وإخوانهم من التركمان والصقالبة .وأما من كان معاشهم في األبل فهم أكثر ظعنا ً وأبعد في القفر
مجاالً ألن مسارح التلول ونباتها وشجرها ال يستغني بها األبل في قوام حياتها عن مراعي الشجر
بالقفر وورود مياهه الملحة والتقلب فصل الشتاء في نواحيه فرارا ً من أذى البرد إلى دفاءة هوائه
وطلبا ً لماخض النتاج في رماله إذ األبل أصعب الحيوان فصاالً ومخاضا ً وأحوجها في ذلك إلى
الدفاءة فاضطروا إلى أبعاد النجعة .وربما ذادتهم الحامية عن التلول أيضا ً فأوغلوا في القفار نفرة عن
الضعة منهم فكانوا لذلك أشد الناس توحشا ً وينزلون من أهل الحواضر منزلة الوحش غير المقدور
عليه والمفترس من الحيوان العجم وهؤالء هم العرب وفي معناهم ظعون البربر وزناتة بالمغرب
واألكراد والتركمان والترك بالمشرق .إال أن العرب أبعد نجعة وأشد بداوة ألنهم مختصون بالقيام
على اإلبل فقط وهؤالء يقومون عليها وعلى الشياه والبقر معها...
/3فصل في أن البدو أقدم من الحضر:
قد ذكرنا أن البدو هم المقتصرون على الضروري في أحوالهم العاجزون عما فوقه وأن
الحضر المعتنون بحاجات الترف والكمال في أحوالهم وعوائدهم .وال شك أن الضروري أقدم من
الحاجي والكمالي وسابق عليهما ألن الضروري أصل والكمالي فرع ناشىء عنه .فالبدو أصل للمدن
والحضر وسابق عليهما ألن أول مطالب اإلنسان الضروري وال ينتهي إلى الكمال والترف إال إذ ا
كان الضروري حاصالً .فخشونة البداوة قبل رقة الحضارة .ولهذا نجد التمدن غاية للبدوي يجري
إليها وينتهي بسعيه إلى مقترحه منها .ومتى حصل على الرياش الذي يحصل له به أحوال الترف
وعوائده عاج إلى الدعة وأمكن نفسه إلى قياد المدينة .وهكذا شأن القبائل المتبدية كلهم .والحضري ال
يتشوف إلى أحوال البادية إال لضرورة تدعوه إليها أو لتقصير عن أحوال أهل مدينته .ومما يشهد لنا
3
أن البدو أصل للحضر ومتقدم عليه أنا إذا فتشنا أهل مصر من األمصار وجدنا أولية أكثرهم من أهل
البدو الذين بناحية ذلك المصر وفي قراه وأنهم أيسروا فسكنوا المصر وعدلوا إلى الدعة والترف
الذي في الحضر .وذلك يدل على أن أحوال الحضارة ناشئة عن أحوال البداوة وأنها أصل لها فتفهمه.
ثم أن كل واحد من البدو والحضر متفاوت األحوال من جنسه :فرب حي أعظم من حي وقبيلة أعظم
من قبيلة ومصر أوسع من مصر ومدينة أكثر عمرانا ً من مدينة .فقد تبين أن وجود البدو متقدم على
وجود المدن واألمصار وأصل لها بما أن وجود المدن واألمصار من عوائد الترف والدعة التي هي
متأخرة عن عوائد الضرورة المعاشية والله أعلم.
/4فصل في أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر:
وسببه أن النفس إذا كانت على الفطرة األولى كانت متهيئة لقبول ما يرد عليها وينطبع فيها من
خير أو شر؛ <<كل مولود يولد على الفطرة؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه >> .وبقدر ما
سبق إليها من أحد الخلقين تبعد عن اآلخر ويصعب عليها اكتسابه :فصاحب الخير إذا سبقت إلى نفسه
عوائد الخير وحصلت لها ملكته بعد عن الشر وصعب عليه طريقه؛ وكذا صاحب الشر إذا سبقت إليه
أيضا ً عوائده .وأهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون المالذ وعوائد الترف واإلقبال على الدنيا
والعكوف على شهواتهم منها ،قد تلوثت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق والشر ،وبعدت عليهم
طرق الخير ومسالكه بقدر ما حصل لهم من ذلك .حتى لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم،
فتجد الكثير منهم يقذعون في أقوال الفحشاء في مجالسهم وبين كبرائهم وأهل محارمهم ،ال يصدهم
عنه وازع الحشمة ،لما أخذتهم به عوائد السوء في التظاهر بالفواحش قوالً وعمالً .وأهل البدو وإن
كانوا مقبلين على الدنيا مثلهم إال أنه في المقدار الضروري ال في الترف وال في شيء من أسباب
الشهوات واللذات ودواعيها .فعوائدهم في معامالتهم علي نسبتها وما يحصل فيهم من مذاهب السوء
ومذمومات الخلق بالنسبة إلى أهل الحضر اقل بكثير .فهم أقرب إلى الفطرة األولى وأبعد عما ينطبع
في النفس من سوء الملكات بكثرة العوائد المذمومة وقبحها؛ فيسهل عالجهم عن عالج الحضر ،وهو
ظاهر .وقد يتوضح فيما بعد أن الحضارة هي نهاية العمران وخروجه إلى الفساد ،ونهاية الشر والبعد
عن الخير .فقد تبين أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر.
/5فصل في أن أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر:
والسبب في ذلك أن أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والدعة ،وانغمسوا في النعيم
والترف ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الذي يسوسهم والحامية
التي تولت حراستهم ،واستناموا إلى األسوار التي تحوطهم والحرز الذي يحول دونهم ،فال تهيجهم
هيعة وال ينفر لهم صيد؛ فهم غارون آمنون ،قد ألقوا السالح ،وتوالت على ذلك منهم األجيال،
وتنزلوا منزلة النساء والولدان الذين هم عيال على أبي مثواهم؛ حتى صار ذلك خلقا يتنزل منزلة
الطبيعة .وأهل البدو لتفردهم عن المجتمع ،وتوحشهم في الضواحي ،وبعدهم عن الحامية ،وانتباذهم
عن األسوار واألبواب قائمون بالمدافعة عن أنفسهم ،ال يكلونها إلى سواهم ،وال يثقون فيها بغيرهم
فهم دائما يحملون السالح ويتلفتون عن كل جانب في الطرق ،ويتجافون عن الهجوع إال غرارا ً في
المجالس وعلى الرحال وفوق األقتاب ،ويتوجسون للنبآت والهيعات ويتفردون في القفر والبيداء،
مدلين ببأسهم ،واثقين بأنفسهم؛ قد صار لهم البأس خلقا ً والشجاعة سجية يرجعون إليها متى دعاهم
داع أو استنفرهم صارخ .وأهل الحضر مهما خالطوهم في البادية أو صاحبوهم في السفر عيال عليهم
ال يملكون معهم شيئا من أكل أنفسهم .وذلك مشاهد بالعيان حتى في معرفة النواحي والجهات وموارد
المياه ومشار السبل .وسبب ذلك ما شرحناه .وأصله أن اإلنسان ابن عوائده ومألوفه ال ابن طبية
ومزاجه .فالذي ألفه في األحوال حتى صار خلقا ً وملكة وعادة تنزل منزلة الطبيعة والجبلة .واعتبر
ذلك في اآلدميين تجد كثيرا صحيحاً .والله يخلق ما يشاء.
4
/6فصل في أن معاناة أهل الحضر لألحكام مفسدة للبأس فيهم ذاهبة بالمنعة منهم:
وذلك أنه ليس كل أحد مالك أمر نفسه؛ إذ الرؤساء واألمراء المالكون ألمر الناس قليل
بالنسبة إلى غيرهم؛ فمن الغالب أن يكون اإلنسان في ملكة غيره ،وال بد فإن كانت الملكة رفيقة
وعادلة ،ال يعاني منها حكم وال منع وصد كان الناس من تحت يدها مدلين بما في أنفسهم من شجاعة
أو جبن ،واثقين بعدم الوازع ،حتى صار لهم اإلدالل جبلة ال يعرفون سواها.أما إذا كانت الملكة
وأحكامها بالقهر والسطوة واإلخافة فتكسر حينئذ من سورة بأسهم ،وتذهب المنعة عنهم ،لما يكون من
التكاسل في النفوس المضطهدة كما نبينه.)...( .وأما إذا كانت األحكام بالعقاب فمذهبة للباس بالكلية؛
ألن وقوع العقاب به ولم يدافع عن نفسه يكسبه المذلة التي تكسر من سورة بأسه بال شك .وأما إذا
كانت األحكام تأديبية وتعليمية وأخذت من عهد الصبا أثرت في ذلك بعض الشيء لمرباه علي
المخافة واالنقياد فال يكون مدالً ببأسه .ولهذا نجد المتوحشين من العرب أهل البدو اشد بأسا ً ممن
تأخذه األحكام .ونجد أيضا ً الذين يعانون األحكام وملكتها من لدن مرباهم في التأديب والتعليم في
الصنائع والعلوم والديانات ينقص ذلك من باسهم كثيراً ،وال يكادون يدفعون عن أنفسهم عادية بوجه
من الوجوه .وهذا شأن طلبة العلم المنتحلين للقراءة واألخذ عن المشايخ واألئمة الممارسين للتعليم
والتأديب في مجالس الوقار والهيبة؛ فيهم هذه األحوال وذهابها بالمنعة والبأس.)...(.ولما تناقص
الدين في الناس واخذوا باألحكام الوازعة ،ثم صار الشرع علما ً وصناعة يؤخذ بالتعليم والتأديب
ورجع الناس إلى الحضارة وخلق االنقياد إلى األحكام نقصت بذلك سورة البأس فيهم.فقد تبين أن
األحكام السلطانية والتعليمية مفسدة للباس ألن الوازع فيها أجنبي؛وأما الشرعية فغير مفسدة ألن
الوازع فيها ذاتي .ولهذا كانت هذه األحكام السلطانية والتعليمية مما تؤثر في أهل الحواضر في
ضعف نفوسهم وخضد الشوكة منهم بمعاناتهم في وليدهم وكهولهم؛ والبدو بمعزل عن هذه المنزلة
لبعدهم عن أحكام السلطان والتعليم واآلداب)...( .
/7فصل في أن من عالمات الملك التنافس في الخالل الحميدة:
وبالعكس لما كان الملك طبيعيا ً لإلنسان لما فيه من طبيعة االجتماع كما قلناه ،وكان اإلنسان
وقوته الناطقة العاقلة ،ألن الشر إنما جاءه منأقرب إلى خالل الخير من خالل الشر بأصل فطرته َّ
قبل القوى الحيوانية التي فيه ،وأما من حيث هو إنسان فهو إلى الخير وخالله أقرب ،والملك
والسياسة إنما كانا له من حيث هو إنسان ،ألنها خاصة لإلنسان ال للحيوان؛ فإذا خالل الخير فيه هي
التي تناسب السياسة والملك ،إذ الخير هو المناسب ،للسياسة .وقد ذكرنا أن المجد له اصل يبني عليه،
وتتحقق به حقيقته وهو العصبية والعشير ،وفرع يتم وجوده ويكمله وهو الخالل .وإذا كان الملك
غاية للعصبية فهو غاية لفروعها ومتمماتها ،وهي الخالل؛ ألن وجوده دون متمماته كوجود شخص
مقطوع األعضاء أو ظهوره عريانا ً بين الناس .وإذا كان وجود العصبية فقط من غير انتحال الخالل
الحميدة نقصا ً في أهل البيوت واألحساب ،فما ظنك بأهل الملك الذي هو غاية لكل مجد ونهاية لكل
حسب وأيضا ً فالسياسة والملك هي كفالة للخلق ،وخالفة لله في العباد لتنفيذ أحكامه فيهم؛ وأحكام الله
في خلقه وعباده إنما هي بالخير ومراعاة المصالح كما تشهد به الشرائع؛ وأحكام البشر إنما هي من
الجهل والشيطان بخالف قدرة الله سبحانه وقدره ،فإنه فاعل للخير والشر معا ً ومقدرهما إذ ال فاعل
سواه .فمن حصلت له العصبية الكفيلة بالقدرة وأونست منه خالل الخير المناسبة لتنفيذ إحكام الله في
خلقه فقد تهيأ للخالفة في العباد وكفالة الخلق ،ووجدت فيه الصالحية لذلك .وهذا البرهان أوثق من
األول وأصح مبنى .فقد تبين أن خالل الخير شاهدة بوجود الملك لمن وجدت له العصبية .فإذا نظرنا
في أهل العصبية ومن حصل لهم الغلب على كثير من النواحي واألمم ،فوجدناهم يتنافسون في الخير
وخالله من الكرم والعفو عن الزالت ،واالحتمال من غير القادر ،والقرى للضيوف ،وحمل الكل
وكسب المعدم ،والصبر على المكاره والوفاء بالعهد ،وبذل األموال في صون األعراض وتعظيم
5
الشريعة وإجالل العلماء الحاملين لها ،والوقوف عندها يحددونه لهم من فعل أو ترك وحسن الظن
بهم ،واعتقاد أهل الدين والتبرك بهم ،ورغبة الدعاء منهم ،والحياء من األكابر والمشايخ وتوقيرهم
وإجاللهم ،واالنقياد إلى الحق مع الداعي إليه ،وإنصاف المستضعفين من أنفسهم ،والتبدل في
أحوالهم ،واالنقياد للحق والتواضع للمسكين ،واستماع شكوى المستغيثين ،والتدين بالشرائع
والعبادات ،والقيام عليها وعلى أسبابها والتجافي عن الغدر والمكر والخديعة ونقض العهد وأمثال
ذلك ،علمنا أن هذه خلق السياسة قد حصلت لديهم واستحقوا بها أن يكونوا ساسة لمن تحت أيديهم ،أو
على العموم ،وأنه خير ساقه الله تعالى إليهم مناسب لعصبيتهم وغلبهم ،وليس ذلك سدى فيهم ،وال
وجد عبثا ً منهم؛ والملك أنسب المراتب والخيرات لعصبيتهم؛ فعلمنا بذلك أن الله تأذن لهم بالملك
وساقه إليهم .وبالعكس من ذلك إذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب المذمومات
وانتحال الرذائل ،وسلوك طرقها؛ فتفقد الفضائل السياسية منهم جملة ،وال تزال في انتقاص إلى أن
يخرج الملك من أيديهم ،ويتبدل به سواهم ليكون نعيا ً عليهم في سلب ما كان الله قد أتاهم من الملك،
علَ ْي َها ْالقَ ْو ُل {و ِإذَا أ َ َر ْدنَا أ َ ْن نُ ْهلِكَ قَ ْريَةً أ َ َم ْرنَا ُمتْ َرفِي َها فَفَ َ
سقُوا فِي َها فَ َح َّق َ وجعل في أيديهم من الخيرَ :
يرا} [اإلسراء .]16 :واستقرىء ذلك وتتبعه في األمم السابقة تجد كثيرا ً مما قلناه فَدَ َّم ْرنَاهَا تَد ِْم ً
ورسمناه .والله يخلق ما يشاء ويختار.
/8فصل في أن المغلوب مولع أبدا ً باالقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده
والسبب في ذلك أن النفس أبدا ً تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه :إما لنظره بالكمال بما
وقر عندها من تعظيمه؛ أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب ،فإذا
غالطت بذلك واتصل اعتقادا ً فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به ،وذلك هو االقتداء؛ أو لما
تراه ،والله أعلم ،من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية وال قوة بأس ،وإنما هو بما انتحلته من العوائد
والمذاهب تغالط أيضا ً بذلك عن الغلب ،وهذا راجع لألول .ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبدا ً بالغالب
في ملبسه ومركبه وسالحه في اتخاذها وأشكالها ،بل وفي سائر أحواله .وانظر ذلك في األبناء مع
آبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائماً؛ وما ذلك إال العتقادهم الكمال فيهم .وانظر إلى كل قطر من
األقطار كيف يغلب على أهله زي الحامية وجند السلطان في األكثر ألنهم الغالبون لهم؛ حتى إنه إذا
كانت أمة تجاور أخرى ،ولها الغلب عليها ،فيسري إليهم من هذا التشبه واالقتداء حظ كبير؛ كما هو
ف ي األندلس لهذا العهد مع أمم الجاللقة ،فإنك تجدهم يتشبهون بهم في مالبسهم وشاراتهم والكثير من
عوائدهم وأحوالهم ،حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت ،حتى لقد يستشعر من ذلك
الناظر بعين الحكمة انه من عالمات االستيالء؛ واألمر لله .وتأمل في هذا سر قولهم" :العامة على
دين الملك " فإنه من بابه ،إذ الملك غالب لمن تحت يده ،والرعية مقتدون به العتقاد الكمال فيه اعتقاد
األبناء بآبائهم والمتعلمين بمعلميهم .والله العليم الحكيم؛ وبه سبحانه وتعالى التوفيق.
اعلم أن العمران على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها ،لما يرونه
حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت
أيديهم عن السعي في ذلك .وعلى قدر االعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في
االكتساب ،فإذا كان االعتداء كثيرا ً عاما ً في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه
باألمال جملة بدخوله من جميع أبوابها .وإن كان االعتداء يسيرا ً كان االنقباض عن الكسب على
نسبته .والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو باألعمال وسعي الناس في المصالح والمكاسب
ذاهبين وجائي ن .فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران،
6
وانتقضت األحوال وابذعر(أي تفرق) الناس في األفاق من غير تلك اإليالة في طلب الرزق فيما
خرج عن نطاقها ،فخف ساكن القطر ،وخلت دياره ،وخربت أمصاره ،واختل باختالله حال الدولة
والسلطان ،لما أنها صورة للعمران تفسد بفساد مادتها ضرورة .وانظر في ذلك ما حكاه المسعودي
في أخبار الفرس عن الموبذان صاحب الدين عندهم (حيث قال للملك) :أيها الملك إن الملك ال يتم
عزه إال بالشريعة ،والقيام لله بطاعته ،والتصرف تحت أمره ونهيه ،وال قوام للشريعة إال بالملك ،وال
عز للملك إال بالرجال ،وال قوام للرجال إال بالمال ،وال سبيل إلى المال إال بالعمارة ،وال سبيل
للعمارة إال بالعدل .والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة ،نصبة الرب وجعل له قيماً ،وهو الملك
وأنت أيها الملك عمدت إلي الضياع فانتزعتها من أربابها وعمارها ،وهم أرباب الخراج ومن تؤخذ
منهم األموال ،وأقطعتها الحاشية والخدم وأهل البطالة ،فتركوا العمارة ،والنظر في العواقب وما
يصلح الضياع ،وسومحوا في الخراج لقربهم من الملك .ووقع الحيف على من بقي من أرباب الخراج
وعمار الضياع ،فانجلوا عن ضياعهم وخلوا ديارهم ،وآووا إلى ما تعذر من الضياع فسكنوها ،فقلت
العمارة ،وخربت الضياع وقلت األموال وهلكت الجنود والرعية ،وطمع في ملك فارس من جاورهم
من الملوك لعلمهم بانقطاع القواد التي ال تستقيم دعائم الملك إال بها )....(.وال تنظر في ذلك إلى أن
االعتداء قد يوجد باألمصار العظيمة من الدول التي بها ،ولم يقع فيها خراب .واعلم أن ذلك إنما جاء
من قبل المناسبة بين االعتداء وأحوال أهل المصر .فلما كان المصر كبيرا ً وعمرانه كثيرا ً وأحواله
متسعة بما ال ينحصر ،كان وقوع النقص فيه باالعتداء والظلم يسيراً ،ألن النقص إنما يقع
بالتدريج .فإذا خفي بكثرة األحوال واتساع األعمال في المصر لم يظهر أثره إال بعد حين .وقد تذهب
تلك الدولة المعتدية من أصلها قبل خراب المصر وتجيء الدولة األخرى ،فترفعه بجدتها ،وتجبر
النقص الذي كان خفيا ً فيه ،فال يكاد يشعر به ،إال أن ذلك في األقل النادر .والمراد من هذا أن حصول
النقص في العمران عن الظلم والعدوان أمر واقع ال بد منه لما قدمناه ،ووباله عائد على الدول .وال
تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض وال سبب كما هو المشهور ،بل
الظلم أعم من ذلك .وكل من أخذ ملك أحد أو غضبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقا ً
لم يفرضه الشرع فقد ظلمه .فجباة األموال بغير حقها ظلمة ،والمعتدون عليها ظلمة ،والمنتهبون لها
ظلمة ،والمانعون لحقوق الناس ظلمة ،وغصاب األمالك على العموم ظلمة ،ووبال ذلك كله عائد
على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها إلذهابه األمال من أهله .
/11فصل في أن الدولة لها أعمار طبيعية كما لألشخاص
( )...أما أعمار الدول أيضا ً وإن كانت تختلف ( ،)...إال أن الدولة في الغالب ال تعدو أعمار
ثالثة أجيال .والجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط ،فيكون أربعين الذي هو انتهاء النمو
والنشوء إلى غايته .قال تعالى " :حتى إذ ا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة " .ولهذا قلنا أن عمر الشخص
الواحد هو عمر الجيل .ويؤيده ما ذكرناه في حكمة التيه الذي وقع في بني إسرائيل ،وأن المقصود
باألربعين فيه فناء الجيل األحياء ونشأة جيل آخر لم يعهدوا الذل وال عرفوه ،فدل على اعتبار
األربعين في عمر الجيل الذي هو عمر الشخص الواحد.وإنما قلنا أن عمر الدولة ال يعدو في الغالب
ثالثة أجيال :ألن الجيل األول لم يزالوا على خلق البداوة وخشونتها وتوحشها من شظف العيش
والبسالة واالفتراس واالشتراك في المجد ،فال تزال بذلك سورة العصبية محفوظة فيهم ،فحدهم
مرهف ،وجانبهم مرهوب ،والناس لهم مغلوبون .والجيل الثاني تحول حالهم بالملك والترفه من
البداوة إلى الحضارة ومن الشظف إلى الترف والخصب ،ومن األشتراك في المجد إلى انفراد الواحد
به ،وكسل الباقين عن السعي فيه ،ومن عز االستطالة إلى ذل االستكانة ،فتنكسر سورة العصبية
بعض الشيء ،وتؤنس منهم المهانة والخضوع .ويبقى لهم الكثير من ذلك ،بما أدركوا الجيل األول
7
وباشروا أحوالهم وشاهدوا من اعتزازهم وسعيهم إلى المجد ومراميهم في المدافعة والحماية ،فال
يسعهم ترك ذلك بالكلية ،وإن ذهب منه ما ذهب ،ويكونون على رجاء من مراجعة األحوال التي
كانت للجيل األول ،أو على ظن من وجودها فيهم .وأما الجيل الثالث فينسون عهد البداوة والخشونة
كأن لم تكن ،ويفقدون حالوة العز والعصبية بما هم فيه من ملكة القهر ويبلغ فيهم الترف غايته بما
تفنقوه من النعيم وغضارة العيش ،فيصيرون عياالً على الدولة ،ومن جملة النساء والولدان
المحتاجين للمدافعة عنهم ،وتسقط العصبية بالجملة ،وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة ،وينسون
على الناس في الشارة والزي وركوب الخيل وحسن الثقافة يموهون بها ،وهم في األكثر أجبن من
النسوان على ظهورها .فإذا جاء المطالب لهم لم يقاوموا مدافعته ،فيحتاج صاحب الدولة حينئذ إلى
االستظهار بسواهم من أهل النجدة ،ويستكثر بالموالي ،ويصطنع من يغني عن الدولة بعض الغناء،
حتى يتأذن بانقراضها ،فتذهب الدولة بما حملت .فهذه كما تراه ثالثة أجيال فيها يكون هرم الدولة
وتخلفها .ولهذا كان انقراض الحسب في الجيل الرابع كما مر في أن المجد والحسب إنما هو في أربعة
آ باء .وقد أتيناك فيه ببرهان طبيعي كاف ظاهر مبني على ما مهدناه قبل من المقدمات ،فتأمله فلن
تعدو وجه الحق إن كنت من أهل األنصاف.وهذه األجيال الثالثة عمرها مائة وعشرون سنة على ما
مر .وال تعدو الدول في الغالب هذا العمر بتقريب قبله أو بعده )...( ،فهذا العمر للدولة بمثابة عمر
الشخص من التزيد إلى سن الوقوف ،ثم إلى سن الرجوع .ولهذا يجري على ألسنة الناس في المشهور
أن عمر الدولة مائة سنة ،وهذا معناه .فاعتبره واتخذ منه قانونا ً ()...
/11فصل في انتقال الدولة من البداوة إلي الحضارة:
اعلم أن هذه األطوار طبيعية للدول .فإن الغلب الذي يكون به الملك إنما هو بالعصبية وبما
يتبعها من شدة البأس وتعود االفتراس ،وال يكون ذلك غالبا ً إال مع البداوة ،فطور الدولة من أولها
بداوة .ثم إذا حصل الملك تبعه الرفه واتساع األحوال ،والحضارة إنما هي تفنن في الترف وإحكام
الصنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه من المطابخ والمالبس والمباني والفرش واألبنية وسائر
عوائد المنزل وأحواله ،فلكل واحد منها صنائع في استجادته والتأنق فيه تختص به ويتلو بعضها
بعضاً ،وتتكثر باختالف ما تنزع إليه النفوس من الشهوات والمالذ والتنعم بأحوال الترف ،وما تتلون
به من العوائد .فصار طور الحضارة في الفلك يتبع طور البداوة ضرورة ،لضرورة تبعية الرفه
للملك .وأهل الدول أبدا ً يقلدون في طور الحضارة وأحوالها للدولة السابقة قبلهم .فأحوالهم يشاهدون،
ومنهم في الغالب يأخذون ،ومثل هذا وقع للعرب لما كان الفتح وملكوا فارس والروم واستخدموا
بناتهم وأبناءهم ،ولم يكونوا لذلك العهد في شيء من الحضارة .فقد حكي أنه قدم لهم المرقق فكانوا
يحسبونه رقاعاً ،وعثروا على الكافور في خزائن كسرى فاستعملوه في عجينهم ملحاً ،وأمثال
ذلك .فلما اس تعبدوا أهل الدول قبلهم واستعملوهم في مهنهم وحاجات منازلهم واختاروا منهم المهرة
في أمثال ذلك والقومة عليهم أفادوهم عالج ذلك ،والقيام على عمله ،والتفنن فيه ،مع ما حصل لهم
من اتساع العيش والتفنن في أحواله ،فبلغوا الغاية في ذلك ،وتطوروا بطور الحضارة والترف في
األحوال ،واستجادة المطاعم والمشارب والمالبس والمباني واألسلحة والفرش واآلنية وسائر
الماعون والخرثي ،وكذلك أحوالهم في أيام المباهاة والوالئم وليالي األعراس ،فأتوا من ذلك وراء
الغاية ،وانظر ما نقله المسعودي والطبري وغيرهما في إعراس المأمون ببوران بنت الحسن بن
سهل ،وما بذل أبوها لحاشية المأمون حين وافاه في خطبتها إلى داره بفم الصلح ،وركب إليها في
السفين ،وما أنفق في إمالكها ،وما نحلها المأمون وأنفق في عرسها ،تقف من ذلك على العجب.
/12فصل في أن الترف يزيد الدولة في أولها قوة إلى قوتها:
8
والسبب في ذلك أن القبيل إذا حصل لهم الملك والترف كثر التناسل والولد والعمومية،
فكثرت العصابة ،واستكثروا أيضا ً من الموالي والصنائع ،وربيت أجيالهم في جو ذلك النعيم والرفه،
فازدادوا بهم عددا ً إلى عددهم وقوة إلى قوتهم بسبب كثرة العصائب حينئذ بكثرة العدد .فإذا ذهب
الجيل األول والثاني وأخذت الدولة في الهرم لم تستقل أولئك الصنائع والموالي بأنفسهم في تأسيس
الدولة وتمهيد ملكها ،ألنهم ليس لهم من األمر شيء ،إنما كانوا عياالً على أهلها ومعونة لها ،فإذا
ذهب األصل لم يستقل الفرع بالرسوخ فيذهب ويتالشى ،وال تبقى الدولة على حالها من القوة .واعتبر
هذا بما وقع في الدولة العربية في اإلسالم .كان عدد العرب كما قلناه لعهد النبوة والخالفة مائة
وخمسين ألفا ً أو ما يقاربها من مضر وقحطان ،ولما بلغ الترف مبالغه في الدولة وتوفر نموهم بتوفر
النعمة ،واستكثر الخلفاء من الموالي والصنائع ،بلغ ذلك العدد إلى أضعافه .يقال :أن المعتصم نازل
عمورية لما افتتحها في تسعمائة ألف .وال يبعد مثل هذا العدد أن يكون صحيحا ً إذا اعتبرت حاميتهم
في الثغور الدانية والقاصية شرقا ً وغربا ً إلى الجند الحاملين سرير الملك والموالي
والمصطنعين .وقال المسعودي :أحصي بنو العباس بن عبد المطلب خاصة أيام المأمون لإلنفاق
عليهم ،فكانوا ثالثين ألفا ً بين ذكران وإناث ،فانظر مبالغ هذا العدد ألقل من مئتي سنة ،واعلم أن سببه
إلى الرفه والنعيم الذي حصل للدولة وربي فيه أجيالهم ،وإال فعدد العرب ألول الفتح لم يبلغ هذا وال
قريبا ً منه .والله الخالق العليم.
/13فصل في أطوار الدولة واختالف أحوالها وخلق أهلها باختالف األطوار:
اعلم أن الدولة تنتقل في أطوار مختلفة وحاالت متجددة ،ويكتسب القائمون بها في كل طور
خلقا ً من أحوال ذلك الطورال يكون مثلة في الطور األخر ،ألن الخلق تابع بالطبع لمزاج الحال الذي
هو فيه .وحاالت الدولة وأطوارها ال تعدو في الغالب خمسة أطوار :الطور األول :طور الظفر بالبغية
وغلب المدافع والممانع ،واالستيالء على الملك وانتزاعه من أيدي الدولة السالفة قبلها .فيكون
صاحب الدولة في هذا الطور أسوة قومه في اكتساب المجد وجباية المال والمدافعة عن الحوزة
والحماية ،ال ين فرد دونهم بشيء ألن ذلك هو مقتضى العصبية التي وقع بها الغلب وهي لم تزل بعد
بحالها .الطور الثاني :طور االستبداد على قومه واالنفراد دونهم بالملك وكبحهم عن التطاول
للمساهمة والمشاركة .ويكون صاحب الدولة في هذا الطور معنيا ً باصطناع الرجال واتخاذ الموالي
والصنائع ،واالستكثار من ذلك لجدع أنوف أهل عصبيته وعشيرته المقاسمين له في نسبه ،الضاربين
في الملك بمثل سهمه .فهو يدافعهم عن األمر ويصدهم عن موارده ويردهم على أعقابهم ،أن يخلصوا
إليه ،حتى يقر األمر في نصابه ،ويفرد أهل بيته بما يبني من مجده ،فيعاني من مدافعتهم ومغالبتهم
مثل ما عاناه األولون في طلب األمر أو أشد ،ألن األولين دافعوا األجانب فكان ظهراؤهم على
مدافعتهم أهل العصبية بأجمعهم ،وهذا يدافع األقارب ال يظاهره على مدافعتهم إال األقل من األباعد،
األمر. من صعبا ً فيركب
الطور الثالث :طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات الملك مما تنزع طباع البشر إليه من تحصيل
المال وتخليد األثار وبعد الصيت ،فيستفرغ وسعه في الجباية وضبط الدخل والخرج وإحصاء النفقات
والقصد فيها ،وتشييد المباني الحافلة والمصانع العظيمة واألمصار المتسعة والهياكل المرتفعة،
وإجازة الوفود من أشراف األمم ووجوه القبائل وبث المعروف في أهله ،هذا مع التوسعة على
صنائعه وحاشيته في أحوالهم بالمال والجاه ،واعتراض جنوده وإدرار أرزاقهم وإنصافهم في
أعطياتهم لكل هالل ،حتى يظهر أثر ذلك عليهم في مالبسهم وشكتهم وشاراتهم يوم الزينة ،فيباهي
بهم الدول المسالمة ،ويرهب الدول المحاربة .وهذا الطور آخر أطوار االستبداد من أصحاب الدولة.
ألنهم في هذه األطوار كلها مستقلون بآرائهم ،بانون لعزهم ،موضحون الطرق لمن بعدهم .الطور
9
الرابع :طور القنوع والمسالمة .ويكون صاحب الدولة في هذا قانعا ً بما بنى أولوه ،سلما ً ألنظاره من
الملوك وأقتاله ،مقلدا ً للماضين من سلفه ،فيتبع آثارهم حذو النعل بالنعل ،ويقتفي طرقهم بأحسن
مناهج االقتداء ،ويرى أن في الخروج عن تقليدهم فساد أمره وأنهم أبصر بما بنوا من مجده .لطور
الخامس :طور اإلسراف والتبذير .ويكون صاحب الدولة في هذا الطور متلفا ً لما جمع أولوه في سبيل
الشهوات والمالذ والكرم على بطانته وفي مجالسه ،واصطناع أخدان السوء وخضراء الدمن،
وتقليدهم عظيمات األمور التي ال يستلفون بحملها ،وال يعرفون ما يأتون ويذرون منها ،مستفسدا ً
لكبار األولياء من قومه وصنائع سلفه ،حتى يضطغنوا عليه ،ويتخاذلوا عن نصرته ،مضيعا ً من جنده
بما أنفق من أعطياتهم في شهواته ،وحجب عنهم وجه مباشرته وتفقده ،فيكون مخربا ً لما كان سلفه
يؤسسون ،وهادما ً لما كانوا يبنون ،وفي هذا الطور تحصل في الدولة طبيعة الهرم ،ويستولي عليها
المرض المزمن الذي ال تكاد تخفص منه ،وال يكون لها معه برء ،إلى أن تنقرض كما نبينه في
األحوال التي نسردها .والله خير الوارثين .
/14فصل في أن المدن العظيمة والهياكل المرتفعة إنما يشيدها الملك الكثير:
قد قدمنا ذلك في آثار الدولة من المباني وغيرها ،وأنها تكون على نسبتها .وذلك أن تشييد
المدن إنما يحصل باجتماع الفعلة وكثرتهم وتعاونهم .فإذا كانت الدولة عظيمة متسعة الممالك ،حشر
الفعلة من أقطارها ،وجمعت أيديهم على عملها .وربما استعين في ذلك في أكثر األمر بالهندام الذي
يضاعف القوى والقدر في حمل أثقال البناء ،لعجز القوة البشرية وضعفها عن ذلك ،كالمخال وغيره.
وربما يتوهم كثير من الناس إذا نظر إلى آثار األقدمين ومصانعهم العظيمة ،مثل إيوان كسرى،
وأهرام مصر وحنايا المعلقة وشرشال بالمغرب ،إنما كانت بقدرتهم متفرقين أو مجتمعين ،فيتخيل لهم
أجساما ً تناسب ذلك أعظم من هذه بكثير ،في طولها وقدرها ،لتناسب بينها وبين القدر التي صدرت
تلك المباني عنها .ويغفل عن شأن الهندام والمخال ،وما اقتضته في ذلك الصناعة الهندسية .وكثير من
المتغلبين في البالد يعاين في شأن البناء ،واستعمال الحيل في نقل األجرام عند أهل الدولة المعتنين
بذلك من العجم ،ما يشهد له بما قلناه عيانا .وأكثر آثار األقدمين لهذا العهد تسميها العامة عادية ،نسبة
إلى قوم عاد ،ل توهمهم أن مباني عاد مصانعهم إنما عظمت لعظم أجسامهم وتضاعف قدرهم وليس
كذلك ،فقد نجد آثارا ً كثيرة من آثار الذين تعرف مقادير أجسامهم من األمم ،وهي في مثل ذلك العظم
أو أعظم ،كإيوان كسرى ومباني العبيديين من الشيعة بإفريقية ،والصنهاجيين ،وأثرهم باد إلى اليوم
في صومعة قلعة بني حماد .وكذلك بناء األغالبة في جامع القيروان ،وبناء الموحدين ،في رباط الفتح
ورباط السلطان أبي سعيد لعهد أربعين سنة ،في المنصورة بإزاء تلمسان .وكذلك الحنايا التي جلب
إليها أهل قرطاجنة الماء في القناة الراكبة عليها ماثلة أيضا ً لهذا العهد .وغير ذلك من المباني
والهياكل التي نقلت إلينا أخبار أهلها قريبا ً وبعيداً ،تيقنا أنهم لم يكونوا بإفراط في مقادير أجسامهم.
وإنما هذا رأي ولع به القصاص عن قوم عاد وثمود والعمالقة .ونجد بيوت ثمود في الحجر منحوتة
إلى هذا العهد .وقد ثبت في الحديث الصحيح أنها بيوتهم يمر بها الركب الحجازي أكثر السنين،
ويشاهدونها ال تزيد في جوها ومساحتها وسمكها على المتعاهد .وإنهم ليبالغون فيما يعتقدون من ذلك.
حتى إنهم ليزعمون أن عوج بن عناق من جيل العمالقة ،كان يتناول السمك من البحر طريا ً فيشويه
في الشمس)...( .
/15فيما يجب مراعاته في أوضاع المدن وما يحدث إذا غفل عن تلك المراعاة:
اعلم أن المدن قرار تتخذه األمم عند حصول الغاية المصللوبة من الترف ودواعيه ،فتؤثر
الدعة والسكون ،وتتوجه إلى اتخاذ المنازل للقرار .ولما كان ذلك للقرار والمأوى ،وجب أن يراعى
فيه دفع المضار بالحماية من طوارقها ،وجلب المنافع وتسهيل المرافق لها :فأما الحماية من المضار
فيراعى لها أن يدار على منازلها جميعا ً سياج األسوار ،وأن يكون وضع ذلك في ممتنع من األمكنة
10
إما على هضبة متوعرة من الجبل ،وأما باستدارة بحر أو نهر بها ،حتى ال يوصل إليها إال بعد العبور
على جسر أو قنطرة فيصعب منالها على العدو ويتضاعف امتناعها وحصنها .ومما يراعى في ذلك
للحماية من اآلفات السماوية طيب الهواء للسالمة من األمراض .فإن الهواء إذا كان راكدا ً خبيثاً ،أو
مجاورا ً للمياه الفاسدة أو لمناقع متعفنة أو لمروج خبيثة ،أسرع إليها العفن من مجاورتها ،فأسرع
المرض للحيوان الكائن فيه ال محالة ،وهذا مشاهد .والمدن التي لم يراع فيها طيب الهواء كثيرة
األمراض في الغالب )...( .وأما جلب المنافع والمرافق للبلد فيراعى فيه أمور :منها الماء ،بأن يكون
البلد على نهر ،أو بإزائها عيون عذبة ثرة .فإن وجود الماء قريبا ً من البلد يسهل على الساكن حاجة
الماء وهي ضرورية ،فيكون لهم في وجوده مرفقة عظيمة عامة .ومما يراعى من المرافق في المدن
طيب المراعي لسائمتهم إذ صاحب كل قرار ال بد له من دواجن الحيوان للنتاج والضرع والركوب،
وال بد لها من المرعى .فإذا كان قريبا ً طيباً ،كان ذلك أرفق بحالهم ،لما يعانون من المشقة في بعده.
ومما يراعى أيضا ً المزارع ،فإن الزروع هي األقوات .فإذا كانت مزارع البلد بالقرب منها ،كان ذلك
أسهل في اتخاذه وأقرب في تحصيله .ومن ذلك الشجر للحطب والبناء ،فإن الحطب مما تعم البلوى
في اتخاذه لوقود النيران لالصطالء والطبخ .والخشب أيضا ً ضروري لسقفهم وكثير مما يستعمل فيه
الخشب من ضرورياتهم .وقد يراعى أيضا ً قربها من البحر لتسهيل الحاجات القاصية من البالد
النائية .إال أن ذلك ليس بمثابة األول .وهذه كلها متفاوتة بتفاوت الحاجات ،وما تدعو إليه ضرورة
الساكن .وقد يكون الواضع غافالً عن حسن االختيار الطبيعي ،أو إنما يراعي ما هو أهم على نفسه
وقومه ،وال يذكر حاجة غيرهم ،كما فعله العرب ألول اإلسالم في المدن التي اختطوها بالعراق
وإفريقية ،فإنهم لم يراعوا فيها إال األهم عندهم ،من مراعي اإلبل وما يصلح لها من الشجر والماء
الملح .ولم يراعوا الماء ،وال المزارع ،وال الحطب ،وال مراعي السائمة من ذوات الظلف ،وال غير
ذلك ،كالقيروان .والكوفة والبصرة وأمثالها .ولهذا كانت أقرب إلى الخراب لما لم تراع فيها األمور
الطبيعية .ومما يراعى في البالد الساحلية التي على البحر ،أن تكون في جبل ،أو تكون بين أمة من
األمم موفورة العدد ،تكون صريخا ً للمدينة متى طرقها طارق من العدو .والسبب في ذلك أن المدينة
إذا كانت حاضرة البحر ،ولم يكن بساحتها عمران للقبائل أهل العصبيات ،وال موضعها متوعر من
الجبل ،كانت في غرة للبيات ،وسهل طروقها في األساطيل البحرية على عدوها وتحيفه لها ،لما يأمن
من وجود الصريخ لها .وأن الحضر المتعودين للدعة قد صاروا عياالً وخرجوا عن حكم المقاتلة.
وهذه كاإلسكندرية من المشرق ،وطرابلس من المغرب ،وبونة وسال .ومتى كانت القبائل أو
العصائب موطنين بقربها ،بحيث يبلغهم الصريخ والنعير ،وكانت متوعرة المسالك على من يرومها
باختطاطها في هضاب الجبال وعلى أسنمتها ،كان لها بذلك منعة من العدو ويئسوا من طروقها ،لما
يكابدونه من وعرها ،وما يتوقعونه من إجابة صريخها .كما في سبتة وبجاية وبلد القل على صغرها.
فافهم ذلك واعتبره في اختصاص األسكندرية باسم الثغر من لدن الدولة العباسية ،مع أن الدعوة من
ورائها ببرقة وإفريقية ،وإنما اعتبر في ذلك المخافة المتوقعة فيها من البحر لسهولة وضعها.
/16فصل في قصور أهل البادية عن سكنى المصر الكثير العمران:
والسبب في ذلك أن المصر الكثير العمران ،يكثر ترفة كما قدمناه ،وتكثر حاجات ساكنه من
أجل الترف ،وتعتاد تلك الحاجات لما يدعو إليها ،فتنقلب ضرورات وتصير األعمال فيه كلها مع ذلك
عزيزة والمرافق غالية ،بازدحام األغراض عليها من أي الترف ،وبالمغارم السلطانية التي توضع
على األسواق والبياعات وتعتبر في قيم المبيعات ،ويعظم فيها الغالء في المرافق واألقوات
واألعمال ،فتك ثر لذلك نفقات ساكنه كثرة بالغة على نسبة عمرانه .ويعظم خرجه ،فيحتاج حينئذ إلى
المال الكثير للنفقة على نفسه وعياله في ضرورات عيشهم وسائر مؤنهم.والبدوي لم يكن دخله كثيراً،
إذ كان ساكنا ً بمكان كاسد األسواق في األعمال التي هي سبب الكسب ،فلم يتأثل كسبا ً وال ماالً
11
فيتعذرعليه من أجل ذلك سكنى المصر الكبير ،لغالء مرافقه وعزة حاجاته .وهو في بدوه يسد خلته
بأقل األعمال ،ألنه قليل عوائد الترف في معاشه وسائر مؤنه ،فال يضطر إلى المال .وكل من يتشوف
إلى المصر وسكناه من أهل البادية ،فسريعا ً ما يظهر عجزه ويفتضح في استيطانه ،إال من تقدم منهم
تأثل المال ،ويحصل له منه فوق الحاجة ،ويجري إلى الغاية الطبيعية ألهل العمران من الدعة
والترف .فحينئذ ينتقل إلى المصر ،وينتظم حاله مع أحوال أهله في عوائدهم وترفهم .وهكذا شأن
بداية عمران األمصار .والله بكل شيء محيط .
قد بينا لك فيما سلف ،أن الملك والدول غاية للعصبية ،وأن الحضارة غاية للبداوة ،وأن
العمران كله من بداوة وحضارة وملك وسوقة له عمر محسوس .كما أن للشخص الواحد من أشخاص
المكونات عمرا ً محسوساً .وتبين في المعقول والمنقول أن األربعين لإلنسان غاية في تزايد قواه
ونموها ،وأنه إذا بلغ سن األربعين وقفت الطبيعة عن أثر النشوء والنمو برهة ،ثم تأخذ بعد ذلك في
االنحطاط .فلتعلم أن الحضارة في العمران أيضا ً كذلك ،ألنه غاية ال مزيد وراءها .وذلك أن الترف
والنعمة إذا حصال ألهل العمران ،دعاهم بطبعه إلى مذاهب الحضارة والتخلق بعوائدها .والحضارة،
كما علمت ،هي التفنن في الترف واستجادة أحواله ،والكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر
فنونه ،كالصنائع المهيئة للمطابخ أو المالبس أو المباني أو الفرش أو اآلنية ،ولسائر أحوال المنزل.
وللتأنق في كل واحد م ن هذه ،صنائع كثيرة ال يحتاج إليها عند البداوة وعدم التأنق فيها .وإذا بلغ
التأنق في هذه األحوال المنزلية الغاية تبعه طاعة الشهوات ،فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان
كثيرة ،ال يستقيم حالها معها في دينها وال دنياها :أما دينها فالستحكام صبغة العوائد التي يعسر
نزعها ،وأما دنياها فلكثرة الحاجات والمؤونات التي تطالب بها العوائد ،ويعجز الكسب عن الوفاء
بها .وبيانه أن المصر بالتفنن في الحضارة تعظم نفقات أهله ،والحضارة تتفاوت بتفاوت العمران،
فمتى كان العمران أكثر كانت الحضارة أكمل .وقد كنا قدمنا أن المصر الكثير العمران يختص
بالغالء في أسواقه وأسعار حاجاته .ثم تزيدها المكوس غالء ألن كمال الحضارة إنما تكون عند نهاية
الدولة في استفحالها ،وهو زمن وضع المكوس في الدول لكثرة خرجها حينئذ كما تقدم .والمكوس
تعود على البياعات بالغالء ،ألن السوقة والتجار كلهم ،يحتسبون على سلعهم وبضائعهم ،جميع
ماينفقونه ،حتى في مؤونة أنفسهم ،فيكون المكس لذلك داخالً في قيم المبيعات وأثمانها .فتعظم نفقات
أهل الحاضرة وتخرج عن القصد إلى اإلسراف .وال يجدون وليجة عن ذلك لما ملكهم من أثر العوائد
وطاعتها ،وتذهب مكاسبهم كلها في النفقات ،ويتتابعون في اإلمالق والخصاصة ،ويغلب عليهم الفقر.
ويقل المستامون للبضائع ،فتكسد األسواق وتفسد حال المدينة .وداعية ذلك كله إفراط الحضارة
والترف .وهذه مفسدتها في المدينة على العموم في األسواق والعمران .وأما فساد أهلها في ذاتهم،
واحدا ً واحدا ً على الخصوص ،فمن الكد والتعب في حاجات العوائد ،والتلون بألوان الشر في
تحصيلها ،وما يعود على النفس من الضرر بعد تحصيلها ،بحصول لون آخر من ألوانها .فلذلك يكثر
منهم الفسق والشر والسفسفة والتحيل على تحصيل المعاش من وجهه ومن غير وجهه .وتنصرف
النفس إلى الفكر في ذلك والغوض عليه واستجماع الحيلة له ،فتجدهم أجرياء على الكذب والمقامرة
والغش والخالبة والسرقة والفجور في األيمان والرباء في البياعات .ثم تجدهم لكثرة الشهوات والمالذ
الناشئة عن الترف أبصر بطرق الفسق ومذاهبه ،والمجاهرة به وبدواعيه ،واطراح الحشمة في
الخوض فيه ،حتى بين األقارب وذوي األرحام والمحارم ،الذين تقتضي البداوة الحياء منهم في
اإلقذاع بذلك .وتجدهم أيضا ً أبصر بالمكر والخديعة ،يدفعون بذلك ما عساه ينالهم من القهر ،وما
12
يتوقعونه من العقاب على تلك القبائح ،حتى يصير ذلك عادة وخلقا ً ألكثرهم ،إال من عصمه الله.
ويموج بحر المدينة بالسفلة من أهل األخالق الذميمة .ويجاريهم فيها كثير من ناشئة الدولة وولدانهم
ممن أهمل عن التأديب ،وأهملته الدولة من عدادها ،وغلب عليه خلق الجوار والصحابة ،وإن كانوا
أصحابه أهل أنساب وبيوتات .وذلك أن الناس بشر متماثلون ،وإنما تفاضلوا وتمايزوا بالخلق
واكتساب الفضائل واجتناب الرذائل .فمن استحكمت فيه صبغة الرذيلة بأي وجه كان ،وفسد خلق
الخير فيه ،لم ينفعه زكاء نسبه والطيب منبته .ولهذا تجد كثيرا ً من أعقاب البيوت وذوي األحساب
واألصالة وأهل الدول ،منطرحين في الغمار ،منتحلين للحرف الدنية في معاشهم بما فسد من
أخالقهم ،وما تلونوا به من صبغة الشر والسفسفة .وإذا كثر ذلك في المدينة أو األمة تأذن الله بخرابها
وانقراضها ،وهو معنى قوله تعالى " :وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ،ففسقوا فيها ،فحق
عليها القول ،فدمرناها تدميرا ً " .ووجهه أن مكاسبهم حينئذ ال تفي بحاجاتهم ،لكثرة العوائد ومطالبة
النفس بها ،فال تستقيم أحوالهم .وإذا فسدت أحوال األشخاص ،واحدا ً واحداً ،اختل نظام المدينة
وخربت .وهذا معنى ما يقوله بعض أهل الخواصي :أن المدينة إذا كثر فيها غرس النارنج تأذنت
بالخراب ،حتى إن كثيرا ً من العامة يتحامى غرس النارنج بالدور ،تطيرا ً به ،وليس المراد ذلك وال
أنه خاصة في النارنج ،وإنما معناه أن البساتين وإجراء المياه هو من توابع الحضارة .ثم إن النارنج
والليم والسرو وأمثال ذلك ،مما ال طعم فيه وال منفعه ،هو من غايات الحضارة ،إذ ال يقصد بها في
البساتين إال أشكالها فقط ،وال تغرس إال بعد التفنن في مذاهب الترفة وهذا هو الطور الذي يخشى معه
هالك المصر وخرابه كما قلناه .ولقد قيل مثل ذلك في الدفلى ،وهو من هذا الباب ،إذ الدفلى ال يقصد
بها إال تلون البساتين بنورها ،ما بين أحمر وأبيض ،وهو من مذاهب الترف .ومن مفاسد الحضارة
أيضا ً االنهماك في الشهوات واالسترسال فيها لكثرة الترف ،فيقع التفنن في الشهوات ( .)...فافهم ذلك
واعتبر به أن غاية العمران هي الحضارة والترف ،وأنه إذا بلغ غايتة انقلب إلى الفساد وأخذ في
الهرم ،كاألعمار الطبيعية للحيوانات .بل نقول إن األخالق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين
الفساد ،ألن اإلنسان إنما هو إنسان باقتداره على جلب منافعه ودفع مضاره واستقامة خلقه للسعي في
ذلك .والحضري ال يقدر على مباشرة حاجاته ،إما عجزا ً لما حصل له من الدعة ،أو ترفعا ً لما حصل
له من المربى في النعيم والترف .وكال األمرين ذميم .وكذلك ال يقدر على دفع المضار واستقامة خلقه
للسعي في ذلك .والحضري بما قد فقد من خلق البأس بالترف والمربى في قهر التأديب والتعليم ،فهو
لذلك عيال على الحاميه التي تدافع عنه .ثم هو فاسد أيضا ً في دينه غالبا ً بما أفسدت منه العوائد
وطاعتها ،وما تلونت به النفس من ملكاتها كما قررناه ،إال في األقل النادر .وإذا فسد اإلنسان فى
قدرته ثم في أخالقه ودينه ،فقد فسدت إنسانيته وصار مسخا ً على الحقيقة .وبهذا االعتبار كان الذين
يتقربون ،من جند السلطان ،إلى البداوة والخشونة ،أنفع من الذين يتربون على الحضارة وخلقها.
وهذا موجود في كل دولة .فقد تبين أن الحضارة هي سن الوقوف لعمر العالم من العمران
والدول .والله سبحانه وتعالى ،كل يوم ،هو في شأن ،ال يشغله شأن عن شأن.
/18فصل في أن األمصار التي تكون كراسي للملك تخرب بخراب الدولة وانتقاضها:
قد استقرينا في العمران أن الدولة إذا اختلت وانتقضت ،فإن المصر الذي يكون كرسيا ً
لسلطانها ينتقض عمرانه ،وربما ينتهي في انتقاضه إلى الخراب ،وال يكاد ذلك يتخلف .والسبب فيه
أمور :األول :أن الدولة ال بد في أولها من البداوة المقتضية للتجافي عن أموال الناس والبعد عن
التحذيق .ويدعو ذلك إلى تخفيف الجباية والمغارم التي منها مادة الدولة ،فتقل النفقات ويقصر الترف.
فإذا صار المصر الذي كان كرسيا ً للملك في ملكة هذه الدولة المتجددة ،ونقصت أحوال الترف فيها،
نقص الترف فيمن تحت أيديها من أهل المصر ،ألن الرعايا تبع للدولة ،فيرجعون إلى خلق الدولة:
إما طوعا ً لما في طباع البشر من تقليد متبوعهم ،أو كرها ً لما يدعو إليه خلق الدولة من االنقباض عن
13
الترف في جميع األحوال ،وقلة الفوائد التي هي مادة العوائد ،فتقصر لذلك حضارة المصر ،ويذهب
منه كثير من عوائد الترف .وهي معنى ما نقول في خراب المصر .األمر الثاني :أن الدولة إنما
يحصل لها الملك واالستيالء بالغلب ،وإنما يكون بعد العداوة والحروب .والعداوة تقتضي منافاة بين
أهل الدولتين ،وتكثر إحداهما على األخرى في العوائد واألحوال .وغلب أحد المتنافيين يذهب
بالمنافي األخر ،فتكون أحوال الدولة السابقة منكرة عند أهل الدولة الجديدة ومستبشعة وقبيحة.
وخصوصا ً أحوال الترف فتفقد في عرفهم بنكير الدولة لها ،حتى تنشأ لهم بالتدريج عوائد أخرى من
الترف ،فتكون عنها حضارة مستأنفة ..وفيما بين ذلك قصور الحضارة األولى ونقصهما ،ومعنى
اختالل العمران في المصر .األمر الثالث :أن كل أمة ال بد لهم من وطن هو منشأهم ومنه أولية
ملكهم .وإذا ملكوا وطنا ً آخر صار تبعا لألول ،وأمصاره تابعة ألمصار األول .واتسع نطاق الملك
عليهم .والبد من توسط الكرسي بين تخوم الممالك التي للدولة ،ألنه شبه المركز للنطاق ،فيبعد مكانه
عن مكان الكرسي األول وتهوي أفئدة الناس إليه من أجل الدولة والسلطان ،فينتقل إليه العمران
ويخف من مصر الكرسي األول .والحضارة إنما هي بوفور العمران كما قدمنا ،فتنتقص حضارته
وتمدنه وهو معنى اختالله .وهذا كما وقع للسلجوقية في عدولهم بكرسيهم عن بغداد إلى أصبهان،
وللعرب قبلهم في العدول عن المدائن إلى الكوفة والبصرة ،ولبني العباس في العدول عن دمشق إلى
بغداد ،ولبني مرين بالمغرب في العدول عن مراكش إلى فاس .وبالجملة فاتخاذ الدولة الكرسي في
مصر يخل بعمران الكرسي األول .األمر الرابع :أن الدولة المتجددة إذا غلبت على الدولة السابقة ال
بد فيها من تتبع أهل الدولة السابقة وأشياعها ،بتحويلهم إلى قطر آخر تؤمن فيه غائلتهم على الدولة.
وأكثر أهل المصر الكرسي أشياع الدولة .إما من الحامية الذين نزلوا به أول الدولة أو من أعيان
المصر ،ألن لهم في الغالب مخالطة للدولة على طبقاتهم وتنوع أصنافهم .بل أكثرهم ناشىء في
الدولة فهم شيعة لها .وإن لم يكونوا بالشوكة والعصبية ،فهم بالميل والمحبة والعقيدة .وطبيعة الدولة
المتجددة محو آثار الدولة السابقة ،فتنقلهم من مصر الكرسي إلى وطنها المتمكن في ملكتها .فبعضهم
على نوع التغريب والحبس ،وبعضهم على نوع الكرامة والتلطف ،بحيث ال يؤدي إلى النفرة ،حتى ال
يبقى في مصر الكرسي إال الباعة والهمل من أهل الفلح والعيارة وسواد العامة .وينزل مكانهم في
حاميتها وأشياعها من يشتد به المصر .وإذا ذهب من مصر أعيانه على طبقاتهم نقص ساكنه ،وهو
معنى اختالل عمرانه .ثم ال بد أن يستجد عمران آخر في ظل الدولة الجديدة ،وتحصل فيه حضارة
أخرى على قدر الدولة .وإنما ذلك بمثابة من يملك بيتا ً داخله البلى ،والكثير من أوضاعه في بيوته
ومرافقه ال توافق مقترحه ،وله قدرة -على أوصاف مخصوصة على تغيير تلك األوضاع ،وإعادة
بنائها على ما يختاره ويقترحه فيخرب ذلك البيت ،ثم يعيد بناءه ثانيا ً.وقد وقع من ذلك كثير في
األمصار التي هي كراسي لذلك وشاهدناه وعلمناه" .والله يقدر الليل والنهار" .والسبب الطبيعي
األول في ذلك على الجملة ،أن الدولة والملك للعمران ،بمثابة الصورة للمادة ،وهو الشكل الحافظ
بنوعه لوجودها .وقد تقرر في علوم الحكمة أنه ال يمكن انفكاك أحدهما عن اآلخر .فالدولة دون
العمران ال تتصور ،والعمران دون الدولة والملك متعذر ،بما في طباع البشر من العدوان الداعي إلى
الوازع ،فتتعين السياسة لذلك .أما الشريعة أو الملكية وهو معنى الدولة ،وإذا كانا ال ينفكان ،فاختالل
أحدهما مؤثر في اختالل اآلخر ،كما كان عدمه مؤثرا ً في عدمه .والخلل العظيم إنما يكون من خلل
الدولة الكلية مثل دولة الروم أو الفرس أو العرب على العموم ،أو بني أمية أو بني العباس كذلك .وأما
الدول الشخصية ،مثل دولة أنو شروان أو هرقل أو عبد الملك بن مروان أو الرشيد ،فأشخاصها
متعاقبة على العمران ،حافظة لوجوده وبقائه ،وقريبة الشبه بعضها من بعض ،فال تؤثر كثير اختالل.
ألن الدولة بالحقيقة الفاعلة في مادة العمران إنما هي العصبية والشوكة ،وهي مستمرة مع أشخاص
الدول .فإذا ذهبت تلك العصبية ودفعتها عصبية أخرى مؤثرة في العمران ،فأذهبت أهل الشوكة
14
بأجمعهم ،عظم الخلل كما قررناه أوالً .والله قادر على ما يشاء .إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد ،وما
ذلك على الله بعزيز.
15