You are on page 1of 58

‫ﺷﻌﺮ اﻟﻐﺮﺑﺔ ﻋﻦ اﻟﻮﻃﻦ ﺑﻦﻴ اﻟﻘﺪﻳﻢ واﻟﺤﺪﻳﺚ‬

‫دراﺳﺎت ﰲ اﻷدب واﻟﻔﻦ‬

‫ﻋﺒﻴﺪة اﻟﺸﺒﲇ‬

‫‪ 22‬ﺣﺰﻳﺮان‪ /‬ﻳﻮﻧﻴﻮ ‪2018‬‬


ّ
ً ُ

ّ
ٍ

ّ
ِ
‫املحتويات‬
‫ملخص ‪2 ..................................................................................................................................‬‬
‫مقدمة ‪2 ...................................................................................................................................‬‬
‫املبحث األول؛ الغربة عن الوطن في الشعرالعربي القديم ‪2 ............................................................‬‬
‫‪ -1‬غربة املجتمع عند املعري ‪3.......................................................................................................................‬‬
‫‪ -2‬غربة املكان عند ابن دراج القسطلي ‪7......................................................................................................‬‬
‫‪ -3‬غربة األسر عند الحمداني ‪11 ..................................................................................................................‬‬
‫املبحث الثاني؛ الغربة عن الوطن في الشعرالعربي الحديث ‪16 .......................................................‬‬
‫‪ -1‬الغربة االجتماعية عند الجواهري ‪17 ......................................................................................................‬‬
‫‪ -2‬الغربة النفسية عند محمود درويش ‪20 ..................................................................................................‬‬
‫املبحث الثالث؛ الغربة عن "سورية" عند طائفة من الشعراء السوريين‪43 ..................................... .‬‬
‫‪ -1‬نزار قباني ‪43 ............................................................................................................................................‬‬
‫‪ -2‬محمد املاغوط ‪47 ....................................................................................................................................‬‬
‫خاتمة ‪51 ..................................................................................................................................‬‬

‫‪1‬‬
‫ملخص‬
‫تسعى هذه الدراسة ملقاربة عالقة الشعر بالوطن‪ ،‬وتكمن أهمية الدراسة في تبيان صور التعلق بالوطن‬
‫والغربة عنه بين الشعر العربي قديمه وحديثه‪ ،‬من خالل مقارنة لنماذج شعرية قديمة وحديثة مابين غربة‬
‫ّ‬
‫خصصت املبحث الثالث لدراسة الغربة عن الوطن‬ ‫مكانية واجتماعية وسياسية ونفسية وغربة األسر‪ ،‬ثم‬
‫سورية عند طائفة من الشعراء السوريين على وجه الخصوص‪ ،‬ومن خالل هذه الدراسة يحاول البحث‬
‫إعادة إحياء التراث الشعري ّ‬
‫املعبر عن قيمة الوطن ومحبته‪ ،‬ودور الشعر في ذلك كله‪.‬‬

‫مقدمة‬
‫جاء معنى الوطن في املعاجم اللغوية بمعنى‪ :‬مربض اإلبل والغنم‪ ،‬ثم صار يعني املنزل الذي يتخذه‬
‫اإلنسان سواء أكان مسقط رأسه أم لم يكن‪ ،‬وهو كما ذكره ابن سيده‪ :‬الوطن حيث أقمت من بلد أو دار‪،‬‬
‫ً‬
‫ووطنا‪ ،‬ووطن باملكان‬ ‫ً‬
‫ومقاما‬ ‫ً‬
‫مستقرا‬ ‫وقد توسع مفهوم الوطن فصار كل مكان ينزل فيه اإلنسان ّ‬
‫ويعده‬
‫وأوطن‪ :‬أقام‪ ،‬وكل مقام أقام به اإلنسان ألمر فهو موطن له‪)1( .‬‬

‫لعل الغريب عن الوطن يبدو مثل بقعة أرض منقولة بترابها ومائها وشجرها وطيرها من مكان إلى مكان‬ ‫ّ‬
‫تقدس نفسها‪ ،‬بهذا املعنى تفسر الغربة عن الوطن‪ ،‬ملا‬‫آخر‪ ،‬بقعة منكمشة على جذورها وذكرياتها‪ ،‬بقعة ّ‬
‫في ذلك من شدة التعلق به‪ ،‬فالغريب ينقل مع غربته األمكنة التي عايشها‪ ،‬ليروي في غربته ظمأ الشوق‬
‫والحنين إلى وطنه املعشوق‪)2( .‬‬

‫املبحث األول؛ الغربة عن الوطن في الشعرالعربي القديم‬


‫ّإن ظاهرة الغربة في الشعر ال تتولد من الجزئيات والتفاصيل‪ ،‬وإن كانت تسهم في بلورتها‪ ،‬بل تتولد من‬
‫دوما بالغربة وبالحزن وتبعث في بعض‬ ‫عالقة التأزم القائمة بين الشاعر والكون املحيط به‪ ،‬فهي ترتبط ً‬
‫األحيان إلى التذمر واإلحباط؛ ألنها تجسد االنهيار الذي يعجز الشاعر عن التحكم فيه أو ترميمه‪ ،‬وفي هذا‬
‫ما يعطيها قيمة وداللة ومغزى درجة االحتذاء بها كغيرها من تجارب األنبياء والرسل‪ ،‬الذين عانوا في سبيل‬

‫(‪ )1‬يحيى الجبوري‪ ،‬الحنين والغربة في الشعر العربي‪ ،‬ط‪( ،1‬عمان‪ :‬دار مجدالوي‪2008 ،‬م)‪ ،‬ص‪.9‬‬
‫(‪ )2‬انظر‪ :‬صالح نيازي‪ ،‬االغتراب والبطل القومي‪ ،‬ط‪( ،1‬مؤسسة االنتشار العربي‪1999 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.9-8‬‬

‫‪2‬‬
‫تبليغ الدعوة ما عانوه‪ ،‬وإن ما يهم في ظاهرة الغربة هو حال اإلنسان واملوقف الذي يتخذه تجاه الحوادث‬
‫ً‬
‫انطالقا من صورة القدر أو املجهول‪ ،‬الذي ال ر ّ‬
‫اد له‪)3(.‬‬ ‫والخطوب التي تعترض سبيله‪،‬‬
‫وملا كان الشعر هو االرتباط بالشعور‪ ،‬والتعبير عنه من خالل املشاعر‪ ،‬كانت الغربة من األحاسيس‬
‫قديما‪ ،‬فقد كان موضوع االبتعاد عن الوطن من‬ ‫واملوضوعات الشعرية كثيرة الدوران في شعرنا العربي ً‬
‫القضايا املهمة التي عالجها الشعراء في أشعارهم‪ ،‬وقد شكلت قضية األطالل اللبنة األولى لهذا النوع من‬
‫ً‬
‫الشعر‪ ،‬فقد حفل الشعر العربي القديم بنماذج وصور معبرة عن غربة الشعراء الزمانية واملكانية‪ ،‬فضال‬
‫عن النفسية‪ ,‬فالتعلق بالوطن يعبر عنه بالتعلق باألهل والذكريات‪ ،‬فالشعراء حين غادروا بالدهم كانوا‬
‫يغادرونها على كره وحزن‪ ،‬ومن ثم كانوا يحسون باالنكسار واللوعة والحزن؛ ذلك أنهم غادروا أشياء كثيرة‪،‬‬
‫الحد املادي املتعلق باألمكنة فحسب‪ ،‬بل تبحر ً‬
‫عميقا لتعبر عما يعتلج في صدورهم من الولع‪،‬‬ ‫ال تقف عند ّ‬
‫والشكوى للوطن‪ ،‬ولهذا سيقدم البحث في هذا املبحث نماذج مختارة من شعر الغربة عن الوطن في شعرنا‬
‫العربي القديم‪ ،‬من صور متعلقة بالغربة عن غربة املجتمع‪ ،‬وغربة املكان‪ ،‬وغربة األسر‪.‬‬

‫‪ -1‬غربة املجتمع عند املعري‬


‫ذكر علماء النفس ّأن من أسباب الغربة ومظاهرها‪ ،‬العزلة االجتماعية التي يراد بها "شعور الفرد‬
‫بالوحدة والفراغ النفس ي‪ ،‬واالفتقاد إلى األمان والعالقات االجتماعية الحميمة‪ ،‬والبعد عن اآلخرين حتى‬
‫وإن وجد بينهم‪ ،‬ويصاحب العزلة الشعور بالرفض االجتماعي واالنعزال عن األهداف الثقافية للمجتمع‪،‬‬
‫واالنفصال بين أهداف الفرد وقيم املجتمع ومعاييره"(‪)4‬‬

‫ّإن الحديث عن هذه الغربة يقتض ي التدليل بمعايير املجتمع التي كان الشاعر يراها غريبة ملا فيها من‬
‫ضياع إذ تقود إلى ضياع املعايير االجتماعية اإلنسانية‪ ،‬وذلك بسبب تغيير املبادئ في املجتمع الذي يؤدي‬
‫إلى تمزق الروح بسبب التهافت على الرغبات والشهوات‪ ،‬بطلب ملا في الدنيا‪ ،‬من دون العاليا‪ ،‬فالشاعر دعا‬
‫ً‬
‫قائال‪)5(:‬‬ ‫إلى عدم الجلوس إلى أصحاب السفه والدنايا‬
‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ودع شجين َك من هند ودعد‬ ‫صفو و َرنق‬
‫ٍ‬ ‫ف َّر ِج العيش من‬
‫فإن خالئق ّ‬ ‫ّ‬ ‫ول تجلس إلى أهل ّ‬
‫السفهاء تعدي‪.‬‬ ‫الدنايا‬ ‫ِ‬
‫فصورة الغربة االجتماعية قد ظهرت مجسدة بانتشار املفاسد‪ ،‬وشيوع الكذب والنفاق‪ ،‬فهذه الصور‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مظهرا من مظاهر الظلم االجتماعي‪ ،‬وتزيد املعري غربة إلى غربته‪.‬‬ ‫كلها تمثل‬

‫(‪ )3‬حمة دحماني‪ ،‬ظاهرة الغربة في شعر مفدي زكريا‪ ،‬رسالة ماجستير‪( ،‬جامعة منتوري‪ ،‬الجزائر‪2006 ،‬م)‪ ،‬ص‪.25‬‬
‫(‪ )4‬يحيى الجبوري‪ ،‬الحنين والغربة في الشعر العربي‪ ،‬ص ‪.19‬‬
‫(‪ )5‬أبو العالء املعري‪ ،‬لزوم ما ال يلزم (اللزوميات)‪ ،‬ج‪( ،1‬بيروت‪ :‬دار صادر‪ ،‬بيروت)‪ ،‬ص ‪.358‬‬

‫‪3‬‬
‫وال يقف حد الغربة االجتماعية عند املعري بمقاطعة األصحاب من ذوي خصال السفه والدنايا‪ ،‬بل‬
‫ً‬ ‫وفكرا ً‬‫سلوكا ً‬‫ً‬ ‫ّ‬
‫مخرجا للنزوع‬ ‫وأدبا في فرضه على نفسه لتلك العزلة التي وجد فيها‬ ‫إنه يجد في االعتزال في بيته‬
‫إلى عامله الوحيد وعبر عنها بقوله‪)6(:‬‬

‫ستيرالعيوب فقيد الجسد‬‫ُ‬ ‫تغيبت في منزلي برهة‬ ‫ّ‬


‫فلما مض ى العمرإل األقل ُ‬
‫وح َّم لروحي فراق الجسد‬ ‫ّ‬

‫القوم رأي فسد‬ ‫َ‬


‫وذاك من‬ ‫بعثت شفيعا إلى صالح‬
‫ِ‬
‫فالغربة التي هرب إليها الشاعر ووجد فيها املالذ الوحيد هي ذاتها الحافظة لإلنسان من كل ما ال يؤمن‪،‬‬
‫فال أمان إال بها يقول‪)7(:‬‬

‫ُ‬ ‫َ‬
‫الخالط‬
‫إذا نفرد الفتى أمنت عليه دنايا ليس يؤمنها ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ول غلط ُيخاف ول غالط‬ ‫كذب ُيقال ول ٌ‬
‫نميم‬ ‫فال ٌ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ولعل من أجمل صور تعبير الشاعر عن الغربة االجتماعية في عصره‪ ،‬وصفه لغربة الغدر وعدم الثقة‬
‫واالحترام‪ ،‬وال يستطيع أحد أن ينكر ذلك‪ ،‬فالذين سخروا الدين ملصالحهم الخاصة فرضوا على الشاعر‬
‫عدم احترامهم؛ ملا اتصفوا به من األساليب املنحرفة‪ ،‬قال فيهم‪)8(:‬‬

‫ل ُتنك َر ْن فعلى هذا مض ى ّ‬


‫السلف‬ ‫أهل هذا العصرغدر ُه ُم‬
‫ُ‬
‫ِ‬ ‫شكوت من ِ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫والعين ُي ْعرف في آنافها الذلف‬ ‫وما اعترافي بعيب الجنس منقصة‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ ُ‬
‫من األذى ّ‬
‫ويقوي سردها الحلف‪.‬‬ ‫أمس ى النفاق دروعا ُيست َج ُّن بها‬
‫وبمثل هذه املعاني التي قادت الشاعر إلى غربته االجتماعية‪ ،‬وصف هذه الحالة االجتماعية التي عايشها‬
‫في غربته‪ ،‬وهي ّأن الذين ساسوا الناس وتولوا أمورهم كأنهم شياطين في الطباع‪ ،‬فال حزن أقس ى وال غربة‬
‫أعظم من تلك الصفات املنبوذة والسيئة‪ّ ،‬‬
‫وعبر عنها بالقول‪)9(:‬‬

‫ُ َّ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫يكفيك حزنا ذهاب ّ‬ ‫َ‬


‫ونحن بعدهم في األوطان قطان‬ ‫الصالحين معا‬
‫صفران ما بهما ُ‬
‫للملك سلطان‬ ‫من‬ ‫َ ّ ّ َ‬ ‫ّ‬
‫ِ ِ‬ ‫إن العراق وإن الشام من ز ٍ‬
‫في ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫كل حصرمن الوالين شيطان‪.‬‬ ‫شياطين مسلطة‬ ‫األنام‬ ‫ساس‬

‫(‪ )6‬املعري‪ ،‬لزوم ما ال يلزم‪ ،‬ج‪.564 ،1‬‬


‫(‪ )7‬املعري‪ ،‬لزوم ما ال يلزم‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.150‬‬
‫(‪)8‬املعري‪ ،‬لزوم ما ال يلزم‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.154‬‬
‫(‪ )9‬املعري‪ ،‬لزوم ما ال يلزم‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.505‬‬

‫‪4‬‬
‫حب الوطن أن يوسف عليه السالم ملا أدركته الوفاة أوص ى‬ ‫ويذكر الجاحظ َّأن من أصدق الشواهد في ّ‬
‫ته إلى موضع مقابر أبيه وجده يعقوب وإسحق وإبراهيم عليهم السالم؛ وفي ذلك دليل على ّ‬ ‫حمل ّم ُ‬ ‫ُ‬
‫حب‬ ‫أن ت َ ر‬
‫الوطن والرغبة في العودة إلى املوطن األصلي ّ‬
‫حتى لو كان ذلك بعد املوت‪)10( .‬‬

‫وال تقتصر الغربة االجتماعية بفقد الصالحين فقط‪ ،‬فمما ال شك فيه ّأن هذا الفقد يدلل على الغربة‬
‫املعبر عنها‪ ،‬فإن سجايا الفضل وصفاتها عند الناس ممن كملت بهم‪،‬‬ ‫االجتماعية إال أنه ليس اللون الوحيد ّ‬
‫وكانت صفاتهم قد شكلت لهم غربة‪ ،‬بل كانت سبب عدمهم‪ ،‬فالجامع بين الناس هو العودة إلى األصل‬
‫جيال بعد جيل‪ ،‬قال في قصيدة أخرى‪)11(:‬‬ ‫ً‬
‫الترابي‪ ،‬فصاحب الفضل وحسن الخلق ممدوح بصفاته‬
‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫مغتربيه‬
‫ِ‬ ‫وأعدم هذا العمر‬ ‫اس غربة‬
‫الفضل في الن ِ‬
‫ِ‬ ‫وجدت سجايا‬
‫ّ‬
‫بأبيه‬
‫ألشبه منه شيمة ِ‬ ‫وإن الفتى فيما أرى‪ ،‬بزمانه‬
‫أبريدا من ّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬
‫التر ُ‬
‫منسبيه‬
‫ِ‬ ‫كل‬‫ِ‬ ‫اب‪ ،‬ولم يزل‬ ‫ووالدنا هذا‬
‫َّ ْ‬
‫محتجبيه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫الصون‬ ‫أمينا ويعطي‬ ‫يؤدي إلى من فوقه رزق رّبه‬
‫ثم َّإن العودة إلى الذات بإثبات حقها وماهي عليه‪ ،‬هي منهج شاعرنا‪ ،‬فضوء الشمس ال ُي َ‬
‫حج ُب‪،‬‬
‫سببا في غربته االجتماعية‪ ،‬فقد وعدهم بما‬ ‫الناس لقدره كان ً‬ ‫والذكرى ال تموت مهما طال بها الزمن‪ ،‬فظلم ّ‬
‫لم تستطعه األوائل ممن سبقه‪ ،‬ثم يزيدها ادعاء الناقص للفضل‪ ،‬من دون اتصافه به‪ ،‬قال‪)12(:‬‬

‫شمس‪ ،‬ضوءها متكامل‬ ‫البالد فمن لهم بإخفاء‬ ‫سارذكري في‬ ‫وقد َ‬‫ْ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ويثقل رضوى دون ما أنا حامل‬ ‫يهم الليالي بعض ما أنا مضمر‬ ‫ُّ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫تستطعه األو ائل‬ ‫آلت بما لم‬
‫ٍ‬ ‫األخيرزمانه‬ ‫و إني وإن كنت‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وأسري ولو َّ‬ ‫ّ‬
‫جحافل‬ ‫الظالم‬ ‫أن‬ ‫وأغدوا ولو أن الصباح صوارم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫جواد لم ٌي َّ‬ ‫ّ‬
‫أغفلته الصياقل‬ ‫ونصل يمان‬ ‫لجامه‬ ‫حل‬ ‫و إني‬
‫ّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫السيف إل غمده والحمائل‬ ‫فما‬ ‫بس الفتى شرف له‬‫فإن كان في ل ِ‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫على أنني بين السماكين نازل‬ ‫منطق لم يرض ى لي كنه منزلي‬ ‫ولي‬
‫ُ ّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫تجاهلت حتى ظ َّن أني جاهل‬
‫الناس فاشيا‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫الجهل في‬ ‫وملا رأيت‬
‫ّ‬
‫الن َ‬
‫قص فاضل‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫ناقص وواسفا كم يظهر‬ ‫َ‬
‫الفضل‬ ‫فواعجبا؟ كم ّيدعي‬

‫(‪ )10‬انظر‪ :‬عمرو بن بحر الجاحظ‪ ،‬الحنين إلى األوطان‪ ،‬ط‪( ،2‬دار الرائد العربي‪1982 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.42‬‬
‫(‪ )11‬املعري‪ ،‬لزوم ما ال يلزم‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.627‬‬
‫(‪ )12‬أبو العالء املعري‪ ،‬سقط الزند‪ ،‬شرح‪ :‬أحمد شمس الدين‪ ،‬ط‪( ،1‬بيروت‪ :‬دار الكتب العلمية‪1990 ،‬م)‪ ،‬ص‪.106‬‬

‫‪5‬‬
‫وقد تشكل لوحة الرثاء عند شاعرنا غربة اجتماعية‪ ،‬فالعزلة عن املفقود نوع من الغربة الروحية‬
‫وقعا في القلب‪ ،‬فصوت املخبر‬ ‫يحل محله ً‬ ‫يعوض عن املفقود ً‬
‫شيئا‪ ،‬وال ّ‬ ‫املشمولة بالغربة االجتماعية‪ ،‬فال ّ‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫للفقد‪ ،‬ليس كصوت البشير في األمور كلها‪ ،‬فكيف بالفقد واملوت غربة‪ ،‬فالحياة كلها تعب‪ ،‬وال زيادة فيها‬
‫إال ملن يرغب بزيادة عناها وشدتها‪ ،‬ثم ّإن ساعة من ساعات الحزن بالفقد والغربة االجتماعية لديه لتعادل‬
‫كما نعلم أضعاف ساعات الفرح والسرور‪ ،‬وفي مثل هذه املعاني يذكر لنا قصيدته املشهورة التي يرثي فيها‬
‫فقيها ً‬
‫حنفيا بقوله‪)13(:‬‬ ‫ً‬

‫شاد‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬


‫باك‪ ،‬ول ترنم ِ‬
‫نوح ٍ‬ ‫مجد في ملتي واعتقادي‬‫غير ٍ‬
‫بصوت البشيرفي ّ‬ ‫َ ّ‬ ‫ٌ‬
‫ناد‬
‫كل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫س‬ ‫وشبيه صوت النعي إذا قي ـ ـ ـ‬
‫ّنـ ْـت على فرع ُغصنها ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫املي ِاد؟‬ ‫أبكت تلكم الحمامة أم غ ـ ـ ـ ـ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫صاح هذي قبورنا تمأل ُّ‬
‫عهد عا ِد؟‬‫ــب فأين القبور من ِ‬ ‫الرح ـ ـ ـ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫ـ ـ ُـب إل من راغب في ازدياد‬ ‫تعب كلها الحياة فما أعج ـ ـ ـ ـ‬ ‫ُ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫امليالد‬
‫ِ‬ ‫ساعة‬
‫ِ‬ ‫سرورفي‬
‫ٍ‬ ‫ف‬ ‫املوت أضعا‬ ‫ساعة ِ‬ ‫ِ‬ ‫إن حزنا في‬
‫ّ‬ ‫ّ ٌ‬ ‫ّ ْ‬ ‫الن ُ‬ ‫ُ َ ّ‬
‫فاد‬
‫أمة يحسبونهم للن ِ‬ ‫للبقاء فضلت‬ ‫ِ‬ ‫اس‬ ‫خلق‬
‫والعيش ُ ّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫هاد‬
‫مثل الس ِ‬ ‫ـجسم فيها‪،‬‬ ‫يستريح الـ‬ ‫املوت رقدة‬
‫ضجعة ِ‬
‫مزا من رموز الغربة االجتماعية‪ ،‬جعل من ذلك تهذيبها لنفس غيره‪ ،‬فمن صلب‬ ‫و ّملا كان انتقال الروح ر ً‬
‫ً‬
‫الغربة االجتماعية الخضوع لسلطة اإلجبار‪ ،‬من دون أن يكون العاقل قابال لذلك‪ ،‬فما ال يصدقه العقل‬
‫تكذبه تجربة الشاعر‪ ،‬فالعقل املنبع الوحيد لتحقيق سلطة الوجود من دون سلب ملا تؤكده‪ ،‬قال في‬
‫ذلك‪)14(:‬‬

‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ّ‬


‫الن ُ‬
‫قل‬ ‫غيره حتى ُيهذبها‬
‫يقولون‪ :‬إن الجسم ينقل روحه إلى ِ‬
‫إذا لم يؤيد ما َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫العقل‬ ‫أتوك به‬ ‫تقبلن ما يجبرون َك ضلة‬ ‫ْ‬ ‫فال‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ ّ‬
‫ُ‬
‫البقل‬ ‫الفرع إل مث َل ما نبت‬ ‫بها‬ ‫خيل وإن سما‬
‫وليس جسوم كالن ِ‬
‫قل‬ ‫ُ‬
‫ينهكه َّ‬
‫الص ُ‬ ‫الهند‬ ‫َّ ُ‬ ‫َ‬ ‫فعش وادعا وا ْ‬
‫ْ‬
‫فإن حسام ِ‬ ‫بنفسك طالبا‬ ‫فق‬‫ر‬
‫ال ريب في ّأن الغربة االجتماعية قد تبلورت من خالل صور الخلل االجتماعية التي عاصرها‪ ،‬وعاشها‬
‫ّ‬
‫الشاعر ّإبان تلك املرحلة الزمنية‪ ،‬فكانت صورة الغربة ملونة بين النفاق وعدم االحترام والثقة‪ ،‬وتسخير‬

‫(‪ )13‬املعري‪ ،‬سقط الزند‪ ،‬ص‪.7‬‬


‫(‪ )14‬املعري‪ ،‬اللزوميات‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.480‬‬

‫‪6‬‬
‫ً‬
‫للدين ملصالح خاصة‪ ،‬وقد وجد الشاعر في العزلة والترك مالذا ينشد من خالله الواقع املأمول‪ ،‬واملجتمع‬
‫املنشود‪.‬‬

‫‪ -2‬غربة املكان عند ابن دراج القسطلي‬


‫دائما تحتها أماكن التذكر‪ ،‬والحنين إليها‪ ،‬وذلك ما عبرت الدراسات الفلسفية‬ ‫ّإن أماكن األلفة تدرج ً‬
‫عنه بمفهوم ّأن أماكن لحظات عزلتنا املاضية‪ ،‬واألماكن التي عانينا فيها الوحدة‪ ،‬واستمتعنا بها ورغبنا فيها‬
‫وتآلفنا مع الوحدة فيها تظل راسخة في داخلنا؛ ألننا نرغب في أن تبقى كذلك‪ ،‬فمعايشة ابن دراج القسطلي‬
‫يؤد إلى انقطاع الذكرى‬ ‫لهذه الغربة املتمثلة بالبعد عن املكان قرطبة‪ ،‬ثم رحيله عنها بسبب الفتنة لم ّ‬
‫ِّ‬
‫والشوق عنده‪ ،‬ولم ّ‬
‫يؤد إلى نسيانها‪ ،‬فهو مرتبط بكيانها‪ ،‬وبأعماقها التي تمنحه األمن واألمان‪ )15(.‬وقد قيل‬‫ِّ‬
‫ّ‬
‫لبعض األعراب‪" :‬ما الغبطة؟ قال‪ :‬الكفاية مع لزوم األوطان‪ ،‬والجلوس مع اإلخوان‪ ،‬قيل له فما الذلة؟‬
‫قال‪ :‬التنقل في البلدان والتنحي عن األوطان(‪)16‬‬

‫وثيقا" فقد ّ‬ ‫ً‬


‫تباطا ً‬ ‫ّ‬
‫تميز ابن دراج بكثرة شعره‪،‬‬ ‫واملالحظ أن شعر هذا الشاعر األندلس ي مرتبط بالغربة ار‬
‫فديوانه ضخم ويغلب غرض املديح على قصائده معظمها‪ّ .‬إن هذه األبيات أو القصائد التي اشتمل عليها‬
‫الديوان يغلب عليها الحديث عن الغربة واالغتراب وألم الفراق والبعد عن األحبة وعن األوالد والزوجة‪،‬‬
‫والحنين إلى الوطن‪ ،‬فال نكاد نعثر على قصيدة قالها في املديح إال وفيها‪ ،‬ذكر أللم االغتراب والحنين"(‪)17‬‬

‫كثيرا ما زاحمت غرض املدح؛ وأهمها‪:‬‬ ‫"والجدير بالذكر ّأن مدائح ابن دراج انطوت على موضوعات أخرى ً‬
‫ً ً‬ ‫ّ‬
‫وبحرا‪ ،‬ليال ونها ًرا‪ ،‬والتعبير‬ ‫وصف مواقف الوداع وفراق األهل‪ ،‬وتصوير آالم الغربة ومشاق االرتحال ًّبرا‬
‫عن تجارب القلق والضياع وسوء الحال"(‪)18‬‬

‫ّإن الحنين إلى املكان يظهر عند ابن دراج القسطلي من خالل تذكره (قرطبة) ورغبته في العودة إليها زمن‬
‫ً‬ ‫الفتنة في عهد األمير املنصور العامري‪ ،‬ولو أن عهد هذا األمير قد ّ‬
‫ولى من سجل التاريخ إال أنه ما زال ماثال‬
‫وكأن األمس هو اليوم عنده‪ ،‬إنها صورة تظهر ماثلة‬ ‫طريقا‪ّ ،‬‬
‫في وجدان الشاعر‪ ،‬صورة حية‪ ،‬ال يجد الظل لها ً‬
‫في مخيلته كلما يمم وجهه شطر ملك وعهد جديد‪ ،‬فقد ابتعد عنها ووجد نفسه في مكان غير مكانه‪ ،‬وما زال‬

‫(‪ )15‬انظر‪ :‬غاستون باشالرد‪ ،‬جماليات املكان‪ ،‬غالب هلسا (مترجم)‪ ،‬اط‪( ،2‬بيروت‪ :‬ملؤسسة الجامعية للدراسات‪،‬‬
‫‪1984‬م)‪ ،‬ص ‪.40‬‬
‫(‪ )16‬عمرو بن بحر الجاحظ‪ ،‬الحنين إلى األوطان‪ ،‬ط‪( ،2‬دار الرائد العربي‪1982 ،‬م)‪ ،‬ص‪.39-38‬‬
‫(‪ )17‬أحمد هيكل‪ ،‬األدب األندلس ي من الفتح إلى سقوط الخالفة‪ ،‬ط‪( ،13‬القاهرة‪ ،‬دار املعارف‪1958 ،‬م)‪ ،‬ص‪.309‬‬
‫ّ‬
‫عامريات ابن دراج القسطلي‪( ،‬دمشق‪ :‬منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب‪2001 ،‬م)‪ ،‬ص‪.40‬‬ ‫(‪ )18‬وسام قباني‪،‬‬

‫‪7‬‬
‫مكانيا وليس بالحس والجسد‪ ،‬فهي قريبة منه‪ ،‬فكل موقع منها يشكل عنده محطة من محطات‬‫ً‬ ‫البعد‬
‫التذكر والحنين‪ ،‬يقول من البسيط‪)19(:‬‬

‫ُ‬ ‫ُ َّ ُ ّ‬ ‫ُ ْ َ‬
‫ضائعه‬ ‫القدر‬
‫ِ‬ ‫عافي‬ ‫ور‬
‫الوفاء له مكسف ِ‬
‫الن‬ ‫ِ‬ ‫ضع عهد‬ ‫يا معهدا لم ي‬
‫تقارع في صدري قوا ُ‬
‫دهر ُ‬
‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫عه‬ ‫ر‬ ‫ول ثنى عبراتي عن تذك ِره‬
‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ ْ‬
‫مرابع ُه‬
‫ُ‬ ‫ومقلة ربعت فيها‬ ‫ُ‬
‫مصائبه‬ ‫ضلوع ثوت فيها‬ ‫حسبي‬
‫ُ‬ ‫ُ ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫شاسعه‪.‬‬ ‫حل‬ ‫سقاك مثل الذي عفى رباك عس ى ينبيك كيف غريب الر ِ‬
‫يبلى أبلى وماتبلى فج ُ‬
‫ائعه‬ ‫هلل من وطن قلبي له ٌ‬
‫وطن‬
‫و‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الد ُ‬‫يسأم ّ‬
‫ل ُ‬
‫تطالعه‬ ‫هرمن شو ٍق يطالعني منه ومن ز ٍ‬
‫فرة مني‬
‫ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ‬
‫سواجعه‪.‬‬ ‫جوي‬ ‫سعد اليوم أشجا ِني نوائحه فكم وكم ساعدت ش ِ‬ ‫إن ت ِ‬
‫مكانا‪ ،‬ففيها نداء يصدح اآلفاق للمكان األليف املعهود‬ ‫في ثنايا هذه األبيات حنين وشوق عظيم للوطن ً‬
‫املتروك‪ ،‬فالدهر ال يسأم من مطالعة أشواقه‪ ،‬فعهد الوفاء للمكان الوطن ما زال يرسم لوحة الغربة‬
‫املكانية عند ابن دراج القسطلي‪ ،‬فالخيال مرتبط بالذاكرة‪ ،‬ويتداخل مع األحاسيس التي تعتلح صدره‬
‫للوطن‪" ،‬فاملكانية في األدب هي الصورة الفنية التي تذكرنا بذكريات ماضية"(‪)20‬‬

‫ً‬
‫واملعهود أن اإلنسان يشعر بعميق األس ى واللوعة‪ ،‬إن كان مفارقا بلده‪ ،‬وينتابه الشعور بالحنين إليه‬
‫واإلحساس بفراقه‪ ،‬وفقد املكان هو إحساس عميق ينبثق من صميم وجدان املرء وعواطفه‪ ،‬وقد امتلك‬
‫ً‬
‫إنسانيا بكل ما في كلمة اإلنسانية من معنى االمتداد في الزمان واملكان‪ ،‬فاملفارق‬ ‫شاعرنا نضجا فكريا ً‬
‫ووعيا‬
‫عميقا لوجود دواعي الحرمان‪ ،‬ولواعج الفقد من رؤية املكان الذي درج فيه صباه‪،‬‬ ‫حزنا ً‬‫لوطنه تظل حزينة ً‬
‫وانحفرت ذكريات الصبا في نفسه‪ ،‬وذلك ما تستدعيه الذاكرة في لحظة حزينة أمالها عليه شعور الجماعة‬
‫التي ينتمي إليها بالحرمان من الوطن املكاني‪ ،‬بالحنين إلى االستقرار واملقام الثابت‪)21(.‬‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫وضوحا واتصاال من خالل مناجاة الشاعر لتربة قرطبة‪ ،‬ففيها املنازل‬ ‫إن الغربة املكانية تكاد تكون أكثر‬
‫واألطالل‪ ،‬ومنها التفجع بالرحيل والفراق‪ ،‬فاملصائب قد الحت له بعد االزدهار والنعيم‪ ،‬يقول من‬
‫الكامل‪)22(:‬‬

‫(‪ )19‬محمود علي مكي‪ ،‬ديوان ابن دراج القسطلي‪ ،‬ط‪( ،1‬دمشق‪ :‬منشورات املكتب اإلسالمي‪1961 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.138‬‬
‫(‪ )20‬غاستون باشالر‪،‬جماليات املكان‪ ،‬ص‪.6‬‬
‫(‪ )21‬انظر‪ :‬حمادة تركي زعيتر‪ ،‬جماليات املكان في الشعر العباس ي‪ ،‬ط‪( ،1‬دار الصادق الثقافية‪2013 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.275‬‬
‫(‪ )22‬محمود علي مكي‪ ،‬ديوان ابن دراج القسطلي‪ ،‬ص ‪.167‬‬

‫‪8‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫فعانق َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫رائبي‬ ‫جوانحي وت ِ‬ ‫ِ‬ ‫بمثل‬
‫عني ِ‬ ‫تربها‬ ‫لقرطبة‬
‫ٍ‬ ‫واجنح‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫نجائبي‬
‫ِ‬ ‫الفؤاد‬
‫ِ‬ ‫بأفالذ‬
‫ِ‬ ‫وهوت‬ ‫للعفاء مناز ِلي‬
‫ِ‬ ‫حيث استكانت‬
‫َ‬ ‫ّ ْ َ ُّ‬ ‫ُُ‬
‫بلواغب‬
‫ِ‬ ‫ولواغبا ُجبن الفال‬ ‫بأذلة‬‫ذلال تعسفن الدجى ٍ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫ْ ُ‬ ‫ٌ‬
‫بنوء الغار ِب‬‫فقضت مدامعها ٍ‬ ‫النوى‬ ‫وكواكب ناءت بغربتها‬
‫آيب‪.‬‬ ‫لم ُي ْسله ٌ‬ ‫من ّ‬
‫بفرحة ِ‬
‫ِ‬ ‫طمع‬ ‫حل‬
‫بترحة را ٍ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫مفجوع‬
‫ٍ‬ ‫كل‬‫ٍ‬
‫مباهج وتنعم‪ ،‬إال ّأن ذلك لم يجعله‬
‫َ‬ ‫على ّ‬
‫الرغم من الحياة السعيدة التي عاشها الشاعر في سرقسطة من‬
‫يعيش هذا الحاضر املزدهر‪ ،‬كما كان عيشه في قرطبة‪ ،‬فشعور الحنين املكاني ظل يستولي على قلبه‪ ،‬فيزيده‬
‫ً‬
‫غربة‪ ،‬يقول من الكامل‪)23(:‬‬

‫َْ‬ ‫ّ‬ ‫َ ّ‬ ‫َ‬


‫بين أحبتي و أقارِبي‬‫ِ ِ‬‫ر‬‫غ‬ ‫بامل‬ ‫ٌ‬ ‫غ‬ ‫مبل‬ ‫بيع‬
‫فهل أنت يا زمن الر ِ‬
‫ُ‬ ‫وحيا الغمام َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫الربيع َّ‬ ‫ّ‬
‫دائب‬
‫ِ‬ ‫يمة‬ ‫د‬ ‫ِ‬ ‫علي‬ ‫ِ‬ ‫قاطن‬
‫ٍ‬ ‫شيمة‬ ‫لدي‬ ‫أن‬
‫َ‬ ‫َّ ّ‬
‫البحر َجرعة شارب‬‫ُ‬ ‫واشتف مني‬ ‫باح لناظري‬ ‫الص ُ‬ ‫غم ّ‬
‫من بعد ما َّ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫حائب من فضو ِل مشارِبي‬ ‫غدق الس ِ‬ ‫نثيرغدائري‬
‫ائح من ِ‬ ‫ِ‬ ‫الرو‬ ‫عبق‬
‫َ‬
‫نفيس غرائبي‬ ‫تستقري‬ ‫ُ‬
‫وتروح‬ ‫َ‬
‫فتستملي بديع محاسني‬ ‫تغدو‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ترف به ر ُ‬ ‫ّ‬
‫بي‪.‬‬
‫ويفيض جوهره عباب غوار ِ‬ ‫حدائقي‬
‫ِ‬ ‫ياض‬ ‫مما‬
‫إن ملشهد الوداع وانهمار دمع العين فلسفة خاصة في التعبير عن ألم الفرقة املكانية‪ ،‬ففي قلب الشاعر‬
‫لواعج وحنين إلى ذلك املنزل‪ ،‬فأيام الصبا ما زالت ماثلة حاضرة في ذاكرته املكانية‪ ،‬وهي التي تصدع الفؤاد‪،‬‬
‫وتزيد الشوق والحنين‪ ،‬قال في ذلك‪)24(:‬‬

‫ُ‬ ‫َّ ْ‬ ‫َ َّ ْ‬ ‫ْ‬


‫فانهلت مدام ُ‬
‫مسامعه‬ ‫آنس النف َرفاستكت‬ ‫و‬ ‫عه‬ ‫ِ‬ ‫بالبين‬
‫ِ‬ ‫أهل‬‫َّ‬
‫ُ‬ ‫َ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ َ‬
‫ليوادعه‬ ‫بث‬
‫قلب لعج ٍ‬‫في ال ِ‬ ‫فأودعه‬ ‫وودع املنز َل األعلى‬
‫ُ‬
‫سواجعه‬ ‫حه فكم وكم ساعدت شجوي‬ ‫اليوم أشجاني َنوائ ُ‬ ‫َ‬ ‫تسعد‬
‫ْ‬
‫إن‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ ُ‬ ‫حبيب هوى‬
‫خالعه‬ ‫خلعت فيه عذاري فهو‬ ‫ٍ‬ ‫وكم وفى لي فيه من‬
‫طابت مشا ُ‬ ‫ْ‬ ‫ومشر ٌب ّ‬
‫َ‬ ‫اقت أز ُ‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬
‫عه‬ ‫ِر‬ ‫للصبا‬ ‫اهره‬ ‫روض أليام الهوى ر‬
‫فؤاد الليل عن قمر له هوى في صميم القلب صاد ُ‬
‫عه‬ ‫صد ْع ُت َ‬ ‫َ‬
‫وكم‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬

‫(‪ )23‬محمود علي مكي‪ ،‬ديوان ابن دراج القسطلي‪ ،‬ص ‪.170‬‬
‫(‪ )24‬محمود علي مكي‪ ،‬ديوان ابن دراج‪ ،‬ص ‪.139 -138‬‬

‫‪9‬‬
‫ُ َّ‬
‫الطرف هاج ُ‬ ‫ُ ّ‬ ‫خالس ُت فيه عيونا َ‬
‫ْ‬
‫عه‬ ‫ِ ِ‬ ‫والحزم عني غضيض‬ ‫هاجعة‬
‫ٍ‬ ‫غير‬
‫وليس أصعب وأقس ى من الغربة املكانية املتعلقة بفقد الناس ممن نحب‪ ،‬فالرحيل عن هذه الدنيا‬
‫َ‬
‫واطن‪ ،‬واملقامات التي أقام فيها األحبة قبل رحيلهم‪ ،‬فالرسالة التي تترجم هذه‬
‫ترتبط ذاكرته املكانية بامل ِّ‬
‫الغربة هي رسالة العبرات املنهمرة املرسلة‪ ،‬فاملوت بعد األحبة هو موت سريري روح تعيش في الدنيا بقلب‬
‫يحس باملوت في كل لحظة ومشهد من ذاكرة مكانهم‪ ،‬قال‪)25(:‬‬

‫َ‬ ‫ُْ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫َّ‬


‫إن األس ى إلف ُه من بعدهم أبدا‬
‫َّ‬ ‫الر ُ‬
‫حيل غدا‬ ‫كان ّ‬ ‫َوط ْن فؤادك إن‬
‫َ‬
‫دموعك في آثاره َم َ‬ ‫ْ‬ ‫حرالزفير ُ‬ ‫و ُ‬
‫أندب لتشييعهم َّ‬
‫ددا‬ ‫و ابعث‬ ‫ضحى‬ ‫ِ‬
‫الوفاء عليها َب ُ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ‬ ‫َّ‬
‫والن ُ‬
‫عدهم كمدا‬ ‫مات‬ ‫فس إن لم تمت من ِبعدهم كمدا‬
‫ً‬
‫وال يلبث الشاعر في غربته أن يستعين باملدح استعطافا للممدوح‪ ،‬فالصدق باإلجابة هو دافعه إلى‬
‫ذلك‪ ،‬فكم يطلق من أدعية ولكن ال يجيب له أحد‪ ،‬ثم ينطلق بالسمع للممدوح وسيلة لبث شكواه وغرباه‪،‬‬
‫ففي غمرات التناس ي تبدأ الهموم واآلهات بغربة اإلجابة‪ ،‬قال‪)26(:‬‬

‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬


‫جيب‬
‫قليل امل ِ‬ ‫عاء ِ‬ ‫كثيرالد ِ‬ ‫ِ‬ ‫ريب‬‫ناء غ ِ‬ ‫لدعوة ٍ‬‫ٍ‬ ‫تسم َع‬‫َّ‬
‫ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ‬
‫بستر َهيو ِب‬ ‫ويجبن عنك ٍ‬ ‫جاع‬
‫ٍ‬ ‫ش‬ ‫بهم‬
‫يهيم إليك ٍ‬
‫ُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ويقتاده َ‬
‫ُ‬
‫كذوب‬
‫ِ‬ ‫بظن‬
‫فيرتاب منه ٍ‬ ‫اليقين‬
‫ِ‬ ‫منك ِصدق‬
‫قريب؟‬ ‫من‬ ‫ابني‬ ‫قد‬ ‫َول َ‬
‫حظك‬ ‫بعيد‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ر‬ ‫أيأذن سمعك لي من ٍ‬
‫َ‬ ‫سعده ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫روب؟‬
‫ِ‬ ‫ط‬ ‫قلب‬ ‫ٍ‬ ‫لهو‬ ‫في‬ ‫عزيز‬
‫ٍ‬ ‫قلب‬‫ِ ٍ‬ ‫بأشجان‬ ‫وكيف‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫طوب‬
‫ظلمات الخ ِ‬ ‫ِ‬ ‫وناجاك في‬ ‫ات التناس ي‬ ‫فناداك من غمر ِ‬
‫ُ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫جيب‬‫القريب امل ِ‬ ‫ِ‬ ‫وصاة‬ ‫إليك‬ ‫ببالغة للتراقي حد ْتها‬ ‫ِ‬
‫"ومهما تعددت أنماط املكان وكثرت أنواعه‪ ،‬فإن ذلك ال يشتت رؤية الشاعر فيه‪ .‬فلكل نوع سماته‬
‫النص الشعري‪ ،‬والذكريات تمأل على الشاعر حياته في لحظة ما‪ ،‬وتسيطر عليها حين تستيقظ‬ ‫َّ‬ ‫وحضوره في‬
‫ً‬
‫وغالبا ما يفيض خيال الشاعر بصور الذكريات املليئة‬ ‫ماض يزخر بحياة جميلة‪.‬‬‫من سباتها وتتنقل إلى ٍ‬
‫باألسماء والحوادث‪ .‬وال يأتي املكان الذاكرتي إلى خيال الشاعر من دون مؤثر يدفع الشاعر إلى نظم أشعاره‬
‫من عناصر الواقع‪ ،‬أو بدافع من أعماقه‪ ،‬الذي يظهر املكان بتنسيق عاطفي تنتظم فيه مظاهر الواقعية‪،‬‬
‫فيكون لوجدان الشاعر األثر الفاعل فيه"(‪ )27‬وهذه هي حال شاعرنا في الحديث عن الغربة املكانية‪ ،‬فقد‬

‫(‪ )25‬محمود علي مكي‪ ،‬ديوان ابن دراج‪ ،‬ص ‪.354‬‬


‫(‪ )26‬محمود علي مكي‪ ،‬ديوان ابن دراج‪ ،‬ص ‪.468‬‬
‫(‪ )27‬حمادة تركي زعيتر‪ ،‬جماليات املكان في الشعر العباس ي‪ ،‬ص ‪.271‬‬

‫‪10‬‬
‫ظهر ذلك في طائفة من أشعاره كحنينه املكاني إلى قرطبة‪ ،‬وشعوره العميق بالغربة املكانية‪ ،‬والرغبة في‬
‫وضوحا في عشقه لتربتها ومناجاته لها‪ ،‬واستنجاده بالدمع في مشهد الوداع‬ ‫ً‬ ‫العودة إليها‪ ،‬ثم كانت أكثر‬
‫وانهماره‪ ،‬وقد أبدع الشاعر في وصف غربته املكانية من خالل أسلوب املدح فقد كانت أشعاره التي مدح بها‬
‫واستعطف من فقدهم يغلب عليها صور الغربة املكانية‪َّ ،‬‬
‫وحب الوطن بأماكنه املختلفة والجميلة كلها املاثلة‬
‫في ذاكرته املكانية‪ ،‬فما تزال الغربة املكانية في شعر ابن دراج القسطلي ترسم لوحة في إثر أخرى‪ ،‬في مشهد‬
‫من الحنين والوجع املستبد املرير الذي وجدناه في أبياته الجميلة املمزوجة بعبق العودة إلى املاض ي في الروح‬
‫والخيال من دون الجسد واملكان‪.‬‬

‫‪ -3‬غربة األسرعند الحمداني‬


‫ّإن غربة األسر هي غربة محوطة بأقس ى أنواع العذاب والحنين للوطن‪ ،‬فالبعد عن املكان املعهود‪ ،‬قد‬
‫وسم بالبعد املكروه املقدر‪ ،‬املشوب بالظلم والشكوى والحزن العميق‪ ،‬وهذه الحال هي حال أبي فراس‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وتوجعا‪،‬‬ ‫الحمداني في غربته في الحبس‪ ،‬فاإلكراه على البعد هو ما حمله على هذه املشاعر اململوءة أملا‬
‫فالشاعر في حبسه "غادرها على كره منه‪ ،‬ومن ثم أحس باالنكسار والحزن؛ ألنه غادر أشياء كثيرة‪ ،‬غير‬
‫األشياء املادية التي تحيط به"(‪ )28‬فكانت فاجعة البقاء في األسر ّ‬
‫أشد عليه من فاجعة املوت والفناء‪ ،‬ويزداد‬
‫كلما طالت مدة الحبس غربة على الشاعر‪ ،‬وذلك ما ترجمته العيون السواكب بعد‬ ‫هذا اإلحساس ً‬
‫عمقا‪ّ ،‬‬
‫الفراق‪ ،‬فهناك مسافة شاسعة بين الروم والشام‪ ،‬فالجسد في بالد األسر والقلب في الشام‪ ،‬وقد صورها‬
‫بقوله‪)29(:‬‬

‫َ‬
‫الخ ّد َ‬ ‫َ ُ‬ ‫إن في األسر ًّ‬ ‫ّ‬
‫ص ُّب‬ ‫دمعه في ِ‬ ‫لصبا‬ ‫ِ‬
‫الشام َق ُ‬
‫لب‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫وله في‬ ‫الروم ٌ‬
‫مقيم‬ ‫ّ‬
‫ِ‬ ‫هو في ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫حب‬‫عم ْن ُي ُّ‬‫عوضا ّ‬
‫ِ‬ ‫صادف‬ ‫ُم ْست ِج ٌّد لم ُي‬
‫وقد ذكروا أن أشعار أبي فراس الحمداني في السجن‪ ،‬قد بلغ عددها" ثالثين قصيدة وخمس عشرة‬
‫مقطوعة‪ ،‬تتناول فنون الشعر جميعها‪ ،‬من تصوير حالة األسر‪ ،‬واستعطاف سيف الدولة ّ‬
‫لفك أسره‪،‬‬
‫ومعاتبته على اإلبطاء‪ ،‬ومعاتبة أصدقائه‪ ،‬والشكوى منهم لتنكرهم له في محنته‪ ،‬وتتضمن ً‬
‫ألوانا من حنينه‬
‫إلى موطنه‪ ،‬وديا ه وأهله‪ ،‬والفخر بنفسه‪ ،‬وبما ّ‬
‫قدم من بطوالت قبل أسره‪ ،‬وفي هذا الفخر تمتزج عزة‬ ‫ر‬

‫(‪ )28‬عبده بدوي‪« ،‬الغربة املكانية في الشعر العربي»‪ ،‬مجلة عالم الفكر‪ ،‬الكويت‪ ،‬مج‪ ،15:‬ع‪ ،1‬ص‪.184‬‬
‫)‪ (29‬خليل الدويهي‪ ،‬ديوان أبي فراس الحمداني‪ ،‬ط‪( ،2‬بيروت‪ :‬دار الكتاب العربي‪1994 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.48‬‬

‫‪11‬‬
‫النفس وإباؤه وتجلده بأمله وحسرته وأساه"(‪ )30‬قال وقد ثقل من الجراح‪ ،‬التي نالته‪ ،‬وهو أسير‪ ،‬وكتب إلى‬
‫والدته‪ ،‬يعزيها‪)31(:‬‬

‫سوف ُي ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ ّ َ‬


‫ديل‬ ‫َوظني بأن هللا‬ ‫ُ‬
‫جميل‬ ‫ُ‬
‫والعزاء‬ ‫ٌ‬
‫جليل‬ ‫صابي‬
‫م ِ‬
‫ُ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫أ َح ّم ُل! إني بعدها ل َحمو ُل‬ ‫واشتياق وغربة‬ ‫ٌ‬
‫وأسر‬ ‫ٌ‬
‫جراح‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫جليل!‬ ‫الم‬
‫ِ‬ ‫الظ‬ ‫ولكن خطبي في‬ ‫لصالح‬ ‫الصباح‬
‫ِ‬ ‫و إني في هذا‬
‫ولكنني َدامي الجراح ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫وما َ‬
‫عليل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫األسرما تريا ِن ِه‬ ‫نال مني‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ ٌَ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫ودخيل‬ ‫باد منهما‬
‫ِ ٍ‬ ‫قمان‬ ‫وس‬ ‫ة‬ ‫وف‬ ‫خ‬ ‫م‬ ‫ساة‬ ‫األ‬ ‫جراح تحاماها‬
‫غيرهن ُ‬
‫يزول‬ ‫َّ‬ ‫كل ش ٍيء‬ ‫أرى َّ‬ ‫ُ‬
‫نجومه‬ ‫وأسرأقاسيه ٌ‬
‫وليل‬ ‫ٌ‬

‫وقد أخرج الشاعر الزمن من مفهومه العام والصحيح إلى الطول واالستطاعة املمقوتة‪ ،‬فالساعات قد‬
‫يسره ذلك ولعل اإلنسان ال يحس بطول‬ ‫ً‬
‫وتعلقا‪ ،‬فال ُّ‬ ‫ً‬
‫طالت به لتزيد من شعور الغربة وحب الوطن شوقا‬
‫وقعا غربة الحبس‪ ،‬فالزمن في ذلك املوضع كمش ي سلحفاة‬ ‫الوقت إال في حاالت معينة ومن أصعبها وأكثرها ً‬
‫ً‬ ‫نفعا بعد فقد الخالن واألحبة‪ ،‬وبكاء أم ال يفتر ً‬ ‫على الرمال‪ ،‬فالحسرة لم تعد تجدي ً‬
‫كمدا وشوقا‪ ،‬قال في‬
‫ذلك‪)32(:‬‬

‫يسر َك طو ُل‬
‫كل دهرل ُّ‬ ‫وفي ّ‬ ‫ٌ‬ ‫تطو ُل بي ّ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫قصيرة‬ ‫الساعات وهي‬
‫ُ‬ ‫ُ ّ‬
‫إل ُع َ‬
‫ستلحق باألخرى غدا وتحو ُل‬ ‫صيبة‬ ‫َ‬
‫تناساني األصحاب‬
‫أقو ُل بشجوي مرة ويقو ُل؟!‬ ‫افق‬‫بخل مو ٍ‬
‫فيا حسرتي َمن لي ّ‬
‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫الزمان طو ُ‬
‫يل!‬ ‫علي وإن طال‬ ‫َّ‬ ‫السترأ ًّما بكاؤها‬
‫ِ‬ ‫وإن ور َاء‬
‫ومن عادة الشعراء الهرب إلى الطبيعة في حالة الشكوى والحزن العميق‪ ،‬ومخاطبة الطيور وغيرها لبث‬
‫الشكوى‪ ،‬فلم يعد للشاعر من حيلة إال أن يطلق رسالة إلى جارته الحمامة لتشعر بحالة في غربة أسره‪،‬‬
‫فالدهر ال ينصف بينها في حريتها وبينه في غربته وحبسه‪ ،‬فال عدل بين محزون قد اعتلجت الهموم واألشواق‬
‫صدره‪ ،‬وطليق قد ضحكت نواجذه وارتسمت على شفاهه البسمة‪ ،‬وهي صورة تكاد تكون أكثر األشعار‬
‫تعبيرا عن تجربة الغربة في الحبس لديه‪)33(:‬‬ ‫ً‬

‫(‪ )30‬النعمان القاض ي‪ ،‬أبو فراس الحمداني املوقف والتشكيل الجمالي‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار الثقافة للنشر والتوزيع‪1982 ،‬م)‪،‬‬
‫ص‪.338‬‬
‫(‪ )31‬خليل الدويهي‪ ،‬ديوان الحمداني‪ ،‬ص ‪.252‬‬
‫(‪ )32‬خليل الدويهي‪ ،‬ديوان الحمداني‪ ،‬ص ‪.254‬‬
‫(‪ )33‬خليل الدويهي‪ ،‬ديوان الحمداني‪ ،‬ص ‪.282‬‬

‫‪12‬‬
‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬
‫حالك حالي‬
‫ِ‬ ‫أيا جارتا هل بات‬ ‫أقو ُل وقد ناحت بقربي حمامة‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ ّ‬
‫النوى‬ ‫معاذ الهوى‬
‫ببال!‬
‫منك الهموم ِ‬
‫ول خطرت ِ‬ ‫ماذقت طارقة‬
‫ِ‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫عال؟‬‫املسافة ِ‬
‫ِ‬ ‫غصن نائي‬
‫ٍ‬ ‫على‬ ‫قوادم‬ ‫الفؤاد‬
‫ِ‬ ‫أتحمل محزون‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫أنصف ّ‬
‫الهموم تعالي!‬ ‫قاسمك‬
‫ِ‬ ‫أ‬ ‫تعالي‬ ‫الدهر بيننا!‬ ‫أيا جارتا ما‬
‫بال!‬ ‫ّ ُ‬ ‫َّ ُ‬ ‫تعالي تري روحا ّ‬
‫جسم يعذب ِ‬ ‫تردد في ِ‬ ‫لدي ضعيفة‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫سال؟‬
‫ويسكت محزون ويندب ِ‬ ‫أيضحك مأسور وتبكي طليقة‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫كنت منك ّ‬ ‫ُ‬
‫الحوادث غ ِال!‬
‫ِ‬ ‫ولكن دمعي في‬
‫مع مقلة‬
‫ِ‬ ‫بالد‬ ‫ِ‬ ‫لقد‬
‫ً‬
‫ولم تكن غربة الحبس مجاال لقتل اإلرادة والعزيمة لدى الحمداني‪ ،‬فقد خصص نفسه بأشياء جعلت‬
‫حل ً‬
‫عقدا عجز عن حلها‬ ‫فرحا بما فعل‪ ،‬وبما اتصف به من مديح الخصال واألفعال‪ ،‬فقد َّ‬ ‫من ترحه وأمله ً‬
‫وكأن الروم لم يأسروه‪ ،‬بل كان هو آسرهم واملذل لهم‪ ،‬فقد تسلح بالخضوع واالستسالم‬ ‫كثير من الناس‪َّ ،‬‬
‫ً‬
‫إلرادة هللا سبحانه‪ ،‬بما قسم له وما وقع فيه‪ ،‬فاهلل قد شاء نشر محاسنه التي ُعرف بها‪ ،‬قال متحدثا عن‬
‫أسره وسجنه وغربته‪)34(:‬‬

‫يخصص بها ٌ‬
‫أحد قبلي!‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫مواهب لم‬ ‫وغيره‬
‫وهلل عندي في اإلسار ِ‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ َ َّ‬ ‫ُ‬
‫ال عقدي ل ُيذ ُّم ول َحلي‬
‫حلها وما ز َ‬ ‫حللت عقودا أعجزالناس‬
‫َّ‬
‫كأن ُهم أسرى َّ‬ ‫ّ ُ َّ‬
‫كف َرص ُ‬
‫لدي وفي كبلي‬ ‫يدها‬ ‫ِ‬ ‫إذا عاتبني الروم‬
‫ُ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫كأني من أهلي نقلت إلى أهلي‬ ‫وأوسع أياما حللت كرامة‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫يشكرها مثلي‬ ‫نعماء‬ ‫بأني في‬ ‫فقل لبني عمي و أبلغ بني أبي‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الفضل‬
‫ِ‬ ‫وأن يعرفوا ما قد عرفت من‬ ‫نشرمحاسني‬ ‫وما شاء ربي غير ِ‬
‫غير أن جراح الغربة والشكوى واأللم عند أبي فراس لم تقف عند ذلك‪ ،‬فقد تلونت الغربة واصطبغت‬
‫بصبغة الرثاء املرير املركب بفقد تلك األم العظيمة التي كانت تشاطره املصاب والحزن في غربته‪ ،‬فلم يكد‬
‫يسمع بموتها حتى انطلق لسانه بأعظم صور الرثاء لفقدها ومحبتها‪ ،‬فحرام على نفس مشتاق ملوع ّ‬
‫لحب‬
‫ِّ‬
‫الوطن أن يشعر بسرور وفرحة بعد موتها‪ ،‬تلك األم الجليلة التي ذاقت املنايا والرزايا لفقده ابنها في األسر‪،‬‬
‫فقد غلبت الحسرة على أمه‪ ،‬فماتت لفقده‪ ،‬قال يرثيها‪)35(:‬‬

‫(‪ )34‬خليل الدويهي‪ ،‬ديوان الحمداني‪ ،‬ص ‪.283‬‬


‫(‪ )35‬خليل الدويهي‪ ،‬ديوان الحمداني‪ ،‬ص ‪.162 -161‬‬

‫‪13‬‬
‫ُ‬
‫األسير!‬ ‫منك ما لقي‬
‫ٌ‬ ‫أيا ُأ َّ‬
‫بكره ِ‬
‫ٍ‬ ‫سقاك غيث‬ ‫ِ‬ ‫‪،‬‬ ‫األسير‬
‫ِ‬ ‫م‬
‫َّ‬
‫تحي َر‪ ،‬ل ُ‬ ‫ٌ‬
‫يقيم ول ُ‬
‫يسير!‬ ‫سقاك غيث‬ ‫ِ‬ ‫األسير‪،‬‬
‫ِ‬ ‫أيا َّأم‬
‫ٌ‬
‫ُ‬
‫البشير؟‬ ‫إلى َم ْن بالفدا يأتي‬ ‫سقاك غيث‬ ‫ِ‬ ‫األسير‪،‬‬
‫ِ‬ ‫أيا َّأم‬
‫عور؟‬
‫ُّ‬
‫والش ُ‬ ‫الذو َ‬
‫ائب‬
‫َّ‬
‫وقدمت‬ ‫تربي‬ ‫أيا ُأ َّم األسيرملن ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫فمن يدعو ُ‬ ‫َ ّ‬ ‫ُ‬
‫يستجير؟‬ ‫له‪ ،‬أو‬ ‫وبحر‬
‫إذا ابن ِك سارفي ٍبر ٍ‬
‫يلم به ّ‬
‫الس ُ‬ ‫ولؤم أن َ‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ ْ‬
‫رور!‬ ‫عين!‬
‫حرام أن يبيت قرير ٍ‬
‫ُ‬ ‫ولد َ‬‫ول ٌ‬ ‫ُ‬
‫عشير‬ ‫لديك ول‬ ‫قت املنايا والرز ايا‬ ‫وقد ذ ِ‬
‫ُ‬
‫نصير!؟‬ ‫مض ى بك لم يكن ُ‬
‫منه‬ ‫طويل‬ ‫هم‬ ‫أماه كم ّ‬ ‫أيا ُ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫ليس ُ‬ ‫َ َ‬
‫مات َ‬ ‫سرمصو ٍن‬ ‫ّ‬ ‫ّ ُ‬
‫ظهور؟!‬ ‫له‬ ‫بقلبك‬ ‫أيا أماه كم ٍ‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫القصير؟!‬ ‫ُ‬
‫األجل‬ ‫أتتك ودونها‬
‫ِ‬ ‫أيا ّأم ُاه كم بشرى بقربي‬
‫ْ‬
‫إذا ضاقت بما فيها الصدو ُر؟‬ ‫ملن أشتكي؟ وملن أناجي‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ َّ‬
‫نصير‪.‬‬ ‫ماصرت في األخرى‬
‫ِ‬ ‫إلى‬ ‫قليل‬
‫عنك‪ :‬أنا عن ٍ‬‫نسلى ِ‬
‫وال تقف الغربة بأبعادها النفسية والتأثيرية في أبي فراس عند ّ‬
‫حد الغربة وحدها‪ ،‬بل تتعداها إلى العتب‬
‫والشكوى‪ ،‬وذلك مما القاه من رغبة أهله بفقده‪ ،‬فالشاعر في هذه الغربة القاسية لم يجد ً‬
‫مهربا من بث‬
‫شكواه إلى هللا لسوء ما لحقه منهم ومن رغبتهم في فقده‪ ،‬فذلك سفاهة ال سفاهة بعدها‪ ،‬وعلى الرغم من‬
‫ذلك لم ينس عهد الوفاء واملحبة والخير لهم‪ ،‬في حين أرادوا كراهية خالصه من األسر؛ فقال‪)36(:‬‬

‫صيدا‬ ‫العز َأ ْ‬
‫يتم أن تفقدوا َّ‬ ‫َّ‬
‫من ُ‬ ‫ت‬
‫ّ‬ ‫َّ ُ ْ‬
‫يتم أن تفقدوني و إنما‬ ‫تمن‬
‫ُّ َ‬ ‫ْ ُ‬ ‫ُّ َ‬ ‫َ‬
‫تعدون َم ِولدا‬ ‫وإن كنت أدنى َمن‬ ‫تعدون ِه َّمة؟‬ ‫أ َما أنا أعلى من‬
‫َ‬
‫هللا أشكو عصبة من عشيرتي يسيئون لي في القو ِل غيبا ومشهدا‬ ‫إلى ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫تركتهم ُسدى‬‫ُ‬ ‫أمر‬
‫ولو ِغبت عن ٍ‬ ‫يودون أن ل يبصروني سفاهة‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫فأهلي بها أولى وإن أصبحوا ِعدا‬ ‫فال تعدوني نعمة فمتى غدت‬
‫كريما ُمطاعا في العشيرة ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫سيدا‬ ‫ِ‬ ‫بخيرأن لقيت بهم فتى‬‫و إني ٍ‬

‫(‪ )36‬خليل الدويهي‪ ،‬ديوان الحمداني‪ ،‬ص ‪.85-85‬‬

‫‪14‬‬
‫وعلى قدر شوق الشاعر‪ ،‬إال أنه كان يبث شكواه في غربة إلى السجن إلى سيف الدولة ليخلصه من‬
‫غربته‪ ،‬فهو قليل النوم‪ ،‬كثير التفكر والتطلع إلى العودة والخالص‪ ،‬فجفنه قريح‪ ،‬وتحوطه الخطوب‬
‫ً‬
‫قائال‪)37(:‬‬ ‫واألهوال مما يالقيه من عذاب الغربة واألس ى فكتب إلى سيف الدولة يخاطبه‬
‫لدي وللنوم القليل املُ َّ‬
‫شر ِد‬ ‫ّ‬ ‫املسهد‬
‫ِ‬ ‫القريح‬ ‫للجفن‬ ‫َ‬
‫دعوتك‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ ُ‬ ‫ّ ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫وما َ‬
‫ألول مبذو ٍل ألول م ِ‬
‫جتد‬ ‫بالحياة وإنها‬
‫ِ‬ ‫ذاك بخال‬
‫َ‬ ‫ُ ّ ْ‬ ‫ُ‬
‫مما أن أقو َل له‪ :‬ق ِد‬ ‫بحمله وما الخطب‬ ‫ِ‬ ‫مما ِضقت ذرعا‬ ‫وما األس ُر ّ‬

‫زو ِد‬‫يكو ُن رخيصا أو بوسم ُم َّ‬ ‫بمطلب‬


‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ولست أبالي إن ظفرت‬
‫ُ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ُ َ‬
‫غير ُم َو َّس ِد‬
‫على صهوات الخيل َ‬
‫ِ‬ ‫أختارموت بني أبي‬ ‫ولكنني‬
‫ً‬
‫ومن لواعج الشوق والحنين إلى الوطن ذكر الشاعر للمواطن التي يلتهب القلب شوقا إليها ويشعر بغربة‬
‫عميقة وبحنين إلى العودة إليها‪ ،‬فأيها يذكر فال مجال للتفريق بالشوق والحنين إلى حلب أومنبج فكالهما له‬
‫ويتشو ُق إلى أحبابه "من مجزوء املتقارب"(‪)38‬‬ ‫َّ‬
‫وقع بالغربة والحنين لديه‪ ،‬قال يصف أسره ويذكر أهله‬
‫ََْ‬
‫وفي ّأيكم أفك ُر؟‬ ‫ُ‬
‫أذكر؟‬ ‫أليك ــم‬
‫ٌ ُ َ‬
‫ست َ‬
‫عب ُر؟‬ ‫بكاء وم‬ ‫علي بلدتي‬‫وكم لي َّ‬
‫َ‬
‫وع ّزي واملفخ ُر‬ ‫ِ‬ ‫ففي "حلب" ُع َّدتي‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وفي "منبج" َم ْن ر ُ‬
‫س ما أذخ ُر‬ ‫أنف ُ‬ ‫ضاه‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬
‫أصغر‬ ‫أكبرهم‬ ‫وأصبية كالفر ِاخ‬
‫ُ‬
‫أخضر‬ ‫الصبا‬ ‫ُ‬
‫وغصن ّ‬ ‫ُ‬
‫ألفناهم‬ ‫وقوم‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ودمعي ما ُ‬
‫يفتر‬ ‫فحزني ل ينقض ي‬
‫ُ‬
‫أضمر‬ ‫ول ذا الذي‬ ‫وما هذه أدمعي‬
‫وأسترما ُ‬
‫ُ‬ ‫ُ ي ُّ َ‬
‫أستر‬ ‫الدموع‬ ‫ولكن أدار‬
‫َ‬
‫مثلك ل ُ‬ ‫َ‬
‫يصبر‪.‬‬
‫الوشاة‬
‫ِ‬ ‫مخافة قو ِل‬
‫ولم تكن الغربة ً‬
‫بابا من لنسيان الشاعر لجميل فعله في الشام مع من كان يعمل عنده‪ ،‬فعلى الرغم من‬
‫كثرة الغدر والخيانة بين الناس إال أن الوفاء بحسن الصنيع يترنم في ذاكرة الشاعر فيهيم في الغربة‪ ،‬فهو‬

‫(‪ )37‬خليل الدويهي‪ ،‬ديوان الحمداني‪ ،‬ص ‪.96‬‬


‫(‪ )38‬خليل الدويهي‪ ،‬ديوان الحمداني‪ ،‬ص ‪.166‬‬

‫‪15‬‬
‫"صاف" ومنصور" وهو‬
‫ٍ‬ ‫الوالد لهما‪ ،‬فال يبقى في الذاكرة اإلنسانية إال حسن الفعال‪ ،‬فقد كتب إلى غالميه‬
‫ً‬
‫حبيسا‪)39(:‬‬ ‫في األسر‬
‫هل ُت َّ‬ ‫َّ ّ‬
‫حسا ِن لي رفيقا رفيقا؟‬ ‫خليلي بالش ِام أفيقا‬ ‫يا‬
‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫س فما أن أرى صديقا صدوقا!‬ ‫الغدروالخيانة في النا‬ ‫كثر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والجفاء طريقا!‬
‫ِ‬ ‫الغدر‬
‫ِ‬ ‫س من‬ ‫ُ‬ ‫الوفاء و ات َبع النا‬
‫ِ‬ ‫قل ُ‬
‫أهل‬ ‫َّ‬
‫ُ‬
‫فرقتنا صروف ُه تفريقا‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫خليلي دهرا‬ ‫ل عى ُ‬
‫هللا يا‬ ‫ر‬
‫والدا محسنا ًّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وعما شفيقا‬ ‫ِ‬ ‫كنت مولكما وما كنت إل‬
‫ديق ّ‬
‫الصديقا!‬ ‫ّكلما استخو َن ّ‬
‫الص ُ‬ ‫َ‬
‫فاذكراني! وكيف ل تذكراني‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُّ‬
‫بت أبكيكما َّ‬
‫األسيريبكي الطليقا!‬ ‫أن يبيت‬ ‫وإن عجيبا‬
‫حيا تتعدد مكوناته‪ ،‬ومقوماته وأهدافه وأغراضه‪ ،‬كما تتعدد‬ ‫وال بد من القول‪" :‬يبقى الشعر ً‬
‫كائنا ً‬
‫مواقع التأمل فيه ومساقط النظر إليه‪ ،‬هذا عالوة على أنه يترعرع في بيئات متفاوتة السمات واملالمح‪ ،‬وينبق‬
‫في نفوس متباينة األهداف واملطامح"(‪ )40‬وهو أسلوب الشاعر في حديثه وتصويره لغربته في الحبس‪،‬‬
‫فالنفس املغتربة مملوءة بالحزن والحنين إلى الوطن‪ ،‬وتتطلع إلى العودة إليه‪ ،‬وهذا ديدن العشاق واملحبين‬
‫ألوطانهم في كل عصر من العصور‪ ،‬وفي كل مكان من األمكنة التي يغتربون فيها‪.‬‬

‫املبحث الثاني؛ الغربة عن الوطن في الشعرالعربي الحديث‬


‫تظهر الغربة في أوقات االضطراب والقلق وعدم استقرار الفرد بسبب األوضاع السياسية أو‬
‫االجتماعية أو االقتصادية أو جميعها ً‬
‫معا‪ ،‬كما حدث مع شعراء املهجر في عصرنا الحديث‪.‬‬
‫يرصد هذا املبحث معاني الغربة الشعرية في الشعر العربي الحديث في نماذج من شعر شعراء العصر‬
‫بدءا بالغربة االجتماعية عند الجواهري‪ ،‬والغربة النفسية عند محمود درويش‪ ،‬وكذلك سيقف‬‫الحديث‪ً ،‬‬
‫هذا املبحث على الغربة السياسية عند أحمد مطر‪ ،‬وذلك من خالل عرض ألشعارهم التي ّ‬
‫عبروا من خاللها‬
‫عن نماذج غربتهم بصورهم الشعرية ما بين ظاهرة وعميقة‪.‬‬

‫(‪ )39‬خليل الدويهي‪ ،‬ديوان الحمداني‪ ،‬ص ‪.226-225‬‬


‫(‪ )40‬جميل علوش‪« ،‬النظرة الجمالية في الشعر بين العرب واألفرنج»‪ ،‬مجلة عالم الفكر‪ ،‬مجلد ‪ ،29‬العدد األول‪،‬‬
‫‪2000‬م‪ ،‬الكويت‪ ،‬ص ‪.243‬‬

‫‪16‬‬
‫‪ -1‬الغربة الجتماعية عند الجواهري‬
‫ً‬ ‫من الطبيعي أن يكون املجتمع البشري حجر الزاوية في كل عمل فني؛ فاإلنسان ليس ً‬
‫شيئا منفصال عن‬
‫مجتمعه‪ ،‬ولكنه حجر في مجموعة البناء اإلنساني؛ وهو بصفته هذه يتفاعل حتما مع كل من حوله‪ ،‬يتفاعل‬
‫مع ذويه في املنزل‪ ،‬ومع رفاقه وجيرانه في الحي‪ ،‬ومع الناس في القرية واملدينة‪ ،‬ويتفاعل كذلك مع البيئة‬
‫العامة في وطنه كله‪ ،‬كما يتفاعل مع حوادث العالم بأسره وتطوره ومدنيته وحضارته؛ إنه يتأثر بالنكبات‬
‫الفردية والعامة‪ ،‬وبالحوادث السياسية واالجتماعية في وطنه‪ ،‬وكإنسان يتألم مع املتأملين‪ ،‬ويفرح مع‬
‫الفرحين‪ ،‬يحس بسعادة السعداء وشقاء األشقياء‪ ،‬وهذا هو حال اإلنسان العادي‪ ،‬فكيف إذا كان هذا‬
‫عدة له غير االحساس املرهف‪ ،‬والتعبير الجميل‪ ،‬والدليل‬ ‫شأن األديب فهو أحق بذلك؛ ألن األديب ال ّ‬
‫الصادق‪ ،‬واملرشد الحكيم‪ ،‬تلك هي رسالته الكبرى‪ ،‬وذلك هو سبيله األول‪ )41(.‬فالسكوت في معرض الحديث‬
‫عن الحقوق هو غربة تقيد الحرية في التعبير‪ ،‬فالثورة على الشعور بالغربة االجتماعية ال بد أن تفعل فعلها‪،‬‬
‫وتؤثر تأثيرها الحقيقي فيه‪ ،‬قال في قصيدته ثورة وجدان‪)42(:‬‬

‫حرا َ‬ ‫أنطق ًّ‬ ‫واليوم ُ‬ ‫َ‬ ‫غرأشعاري‬ ‫حتى شكتني ُّ‬ ‫ّ ُ ّ‬


‫مهذار‬
‫ِ‬ ‫غير‬ ‫سكت‬
‫ّ‬ ‫ّ ُ‬
‫نار‬
‫صبرا كما سلطوا ماء على ِ‬ ‫سلطت عقلي على ميلي وعاطفتي‬
‫فلست على ش يء ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫بثو ِار‬ ‫ٍ‬ ‫ْأول‬ ‫تكابده‬ ‫ضيم‬ ‫ُ‬
‫ثريا شعور على ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ ُ‬
‫القلب أوتاري‬ ‫ِ‬ ‫مهابة‪ ،‬ونياط‬ ‫وقعت أنشودتي والحزن يملؤها‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫وأعظ ُم ُ‬ ‫ّ‬
‫وأحجار‬
‫ِ‬ ‫ألصنام‬
‫ٍ‬ ‫ي‬ ‫أغن‬ ‫ي‬‫أن‬ ‫ه‬ ‫ألقى‬ ‫ما‬ ‫عر‬
‫ِ‬ ‫الش‬ ‫ذمة‬
‫في ٍ‬
‫ّ‬ ‫َ َ ٌ‬ ‫ّ‬
‫"دخيل" عابني داري‬ ‫ٍ‬
‫والد ُارر َ‬
‫غم‬ ‫يرض ُمنت َبذ‬ ‫عب شعبي وإن لم‬ ‫الش ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫السلسل الجاري‬ ‫مستسلم وقطعت‬ ‫ٍ‬ ‫وطن‬
‫ٍ‬ ‫عن‬ ‫الغيث‬ ‫لو في يدي لحبست‬
‫ُ ُ‬ ‫لإلفك ّ‬ ‫صوت ّ‬ ‫َ‬ ‫وكيف ُي ُ‬ ‫َ‬
‫فيه ألف ِمزمار‪.‬‬ ‫ور‬‫ِ‬ ‫والز‬ ‫ِ‬ ‫بلد‬
‫ٍ‬ ‫في‬ ‫الحق‬
‫ِ‬ ‫سمع‬
‫وضوحا في فلسفة الدهر‪ ،‬الذي يتناوب بين الغالب واملغلوب‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ولعل الغربة االجتماعية تكاد تكون أكثر‬ ‫ّ‬
‫ألمر والحكم لغير صاحبه‬‫في زمن تكاد الرحمة أن تنقطع من قلوب الناس وتهرب من صدورهم‪ ،‬فقد ُو ِّ ّس َد ا ُ‬
‫ً‬
‫مذموما‪ ،‬ولسان‬ ‫املستحق له‪ ،‬وكيف ال يكون العجب لذلك؟ فقد أصبحت املنافع في ذروة املدح‪ ،‬وما عاب‬
‫ً‬
‫وقسرا‬ ‫ثعلبا في املكر والدهاء والخديعة‪ ،‬فالشاعر وجد في املجتمع ظلما‬ ‫الحال يقول‪َّ :‬إن ابن آدم أصبح ً‬
‫وحبا للذات ال نظير له‪ ،‬قال في قصيدته األ ّ‬
‫نانية‪)43(:‬‬ ‫ً‬

‫(‪ )41‬انظر‪ :‬عيس ى الناعوري‪ ،‬أدب املهجر‪ ،‬ط‪( ،3‬مصر‪ :‬دار املعارف‪ ،‬د‪.‬ت)‪ ،‬ص‪.204-203‬‬
‫(‪ )42‬نجاح عطار‪ ،‬الجواهري في العيون من أشعاره‪ ،‬ط‪( ،4‬دار طالس للطباعة والنشر‪1998 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.77‬‬
‫(‪ )43‬نجاح عطار‪ ،‬الجواهري في العيون من أشعاره‪ ،‬ص‪.116-115‬‬

‫‪17‬‬
‫يسمع ّ‬
‫الد ُ‬ ‫ُ‬ ‫َْ‬ ‫الد َ‬ ‫أرى ّ‬
‫هرعاتبا‬ ‫تعتبن ل‬ ‫فال‬ ‫هرمغلوبا ضعيفا وغالبا‬
‫أنت ُ‬‫َ‬ ‫تكذب ْن ما في ّ‬
‫البرية ر ٌ‬ ‫ول َ‬
‫فاترك رحمة عنك جانبا‬ ‫ول‬ ‫احم‬ ‫ِ‬
‫ُّ‬ ‫ّ‬
‫َ‬
‫فأصبح راهبا‬ ‫ٌ‬
‫مدحور‬ ‫وجن َب‬ ‫َ‬
‫فأصبح حاكما‬ ‫تمك َن ذو طو ٍل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫األنبياء عجائبا‬
‫ِ‬ ‫من الناس حتى‬ ‫ولو ر ُمت للعورات كشفا أريتكم‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ْ‬ ‫ّ‬
‫محامد والحرمان منها معايبا‬ ‫ص ّ ِو َرت‬ ‫أريتكم أن املنافع‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫أن َ‬ ‫ّ‬
‫ويغزوك ناهبا‬ ‫ماشيك منهوبا‬ ‫ُي‬ ‫آدم ٌ‬
‫ثعلب‬ ‫ابن َ‬ ‫أريتكم‬
‫ُ ْ‬ ‫ّ ْ‬
‫ص َّبت محنة ومصائبا‬ ‫الخلق‬
‫ِ‬ ‫على‬ ‫ٌ‬
‫مناهج‬ ‫األنانيات ُسنت‬
‫ِ‬ ‫لحفظ‬
‫ِ‬
‫بهن املطالبا‬ ‫ُويدر ُك ٌّ‬
‫ديني َّ‬ ‫َ‬
‫خصومه‬ ‫يج ُّرسياس ٌّي عليها‬
‫َ‬
‫الوجدان ُّ‬ ‫ّ‬ ‫يخ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫يرتد غاضبا‬ ‫علي ول‬ ‫يهتاج ساخطا‬ ‫ول أعرف التار‬
‫َ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ّ‬
‫فس و اثبا‬
‫وما كنت إل طامح الن ِ‬ ‫لخامل‬
‫ٍ‬ ‫إل‬ ‫كانت األعذار‬‫فما ِ‬
‫ّ‬
‫ول تبعثوا مني شجونا لواهبا‪.‬‬ ‫دعوني دعوني ل تهيجوا لواعجي‬
‫في حقيقة الغربة االجتماعية ال بد من عودة للذات ومقارنتها بما يحوط بها من مفاسد األخالق‬
‫عما فعل أصحاب‬ ‫االجتماعية‪ ،‬فالعمر واألشهر واأليام تمض ي من دون عودة‪ ،‬والنفس تخاطب صاحبها بلوم ّ‬
‫ّ‬
‫األخالق الذميمة‪ ،‬ففي ذلك بالء عظيم على مجتمع أحاطت به هذه األهوال كلها‪ ،‬قال في قصيدته املآس ي‬
‫في حياة الشعراء‪)44(:‬‬

‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬


‫العمرل عودا مع الشيب ذاويا‬ ‫العمرالتي يحسبونها هي‬ ‫ِ‬ ‫مضت زهرة‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫جل فصول ُه أقل ُب ّأياما به ولياليا‬ ‫ّ‬
‫وراجعت في هذا الس ِ‬
‫ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫ُ‬
‫وغ ًّرا وجافيا‬
‫أحاسب نفس ي كيف ألفت يبيسة ضروعا سقت وغدا ِ‬
‫ّ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫على الغنم وارتدت ِسباعا ضواريا‬ ‫بالد تكالبت‬ ‫وعما أفادت من ٍ‬
‫الطيبات مساويا‬ ‫تعد املزايا ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ألخالق ُعصبة‬ ‫ولكنني آس ى‬
‫ٍ‬
‫ًّ‬
‫العود ِخال ُمصافيا‬ ‫ِ‬ ‫َّ ّ‬
‫خي‬
‫وكل ر ِ‬ ‫عدوها‬‫كل مرهوب الشذاة َّ‬
‫ِ‬
‫ترى َّ‬
‫ُ‬ ‫ٌ ُ ُ َّ‬
‫َ‬
‫الشعب غاشيا‪.‬‬ ‫وباء َيجرف‬
‫وهذا ٌ‬ ‫مطرالش َر ُمنذرا‬ ‫وهذا بالء ي‬

‫نجاح عطار‪ ،‬الجواهري في العيون من أشعاره̤ ص ‪.168‬‬ ‫(‪)44‬‬

‫‪18‬‬
‫على َّأن الحقد والكراهية قد جعلت تسيطر وتستولي على القلوب‪ ،‬فتصبغها بصبغتها‪ ،‬وتصنع منها‬
‫وقعا على صاحبها من الغربة االجتماعية في بلد يحمل‬ ‫ً‬
‫نسيجا من الغربة املضاعفة‪ ،‬فغربة الدار هي أقل ً‬
‫الضغينة لساكنيه‪ ،‬قال في قصيدته أرميت العود فانكسر‪)45(:‬‬

‫بهداة قبله كفرا‬ ‫وطن‬ ‫َ ّ‬


‫ٍ‬ ‫يا غريب الد ِارفي ٍ‬
‫وبورد كلل ُ‬
‫الحفرا‬ ‫سوى لهم ُحفرا‬
‫بدم ّ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫شجرا ُيهدي لها الثمرا‪.‬‬ ‫وموجدة‬
‫ٍ‬ ‫راجما حقدا‬
‫في صميم الغربة االجتماعية ال ينس ى الشاعر التذكير بعودة إلى الزمن بما فعل األجداد‪ ،‬من محافل‬
‫وبطوالت‪ ،‬ففي تلك الصور والعبارات يبث الشكوى لعلها تحفف عنه ألم غربته‪ ،‬قال في قصيدته يا دجلة‬
‫الخير‪)46(:‬‬

‫س أوتار ُه ّ‬‫وج َّ‬‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬


‫واللين‬
‫ِ‬ ‫فق‬
‫ِ‬ ‫بالر‬ ‫ثانية‬ ‫العود‬ ‫ناغ‬ ‫الدار‬
‫يا نازح ِ‬
‫ُ‬ ‫لعل نجوى تداوي َّ‬ ‫َّ‬
‫فيها الحزازات تغلي كالبراكين‬ ‫أفئدة‬
‫ٍ‬ ‫حر‬
‫صفين" و"حطين"‪.‬‬ ‫ّ‬
‫حمى عناتر"‬ ‫مناغاة ُمخففة‬ ‫وعل عقبى‬‫َّ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫الهموم على الغريب كالغيم فال يجاريها في الصدر ش يء‪ ،‬فهي جمهر يلتهب كاملرجل‪ ،‬فال يفتر القلب عن‬
‫طلب الثأر من الدهر الظالم ليس بذاته‪ ،‬بل بفعل الناس في هذا العصر‪ ،‬فمن يجير الغريب في غربته‬
‫املنشودة ملا أى من الظلم وترك األهل الخالن‪ ،‬فغربته هي الدار التي الذل فيها ً‬
‫بعيدا ّ‬
‫عما وجد قبل غربته‪،‬‬ ‫ر‬
‫والشعر هو املالذ الوحيد لنشر صور العذاب املرير‪ ،‬فال أجمل من حياة العسر واليسر ً‬
‫بعيدا ّ‬
‫عما يجده‬
‫َ‬
‫غريب الدار‪)47(:‬‬ ‫منهم‪ ،‬قال في قصيدته يا‬
‫وآلهات حيارى‬ ‫من ِل ٍهم ل ُيجارى‬
‫ـ ِـر ِسرارا وجهارى‬ ‫ي على الجم ـ ـ ـ‬ ‫ّ‬
‫وملطو ٍ‬
‫ُ‬
‫يطلب ثارا‬ ‫ـ ِـرالذي‬ ‫الدهـ ـ‬ ‫طالبا ثأ ا لدى ّ‬
‫ر‬
‫َ‬
‫وصحابا وديارا‬ ‫ِ‬ ‫لناء عاف أهال‬ ‫َمن ٍ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫إذ رأى الذ َل إسارا‬ ‫ت ِخذ الغربة دارا‬
‫َ‬
‫نيم ل ُيدارى‬
‫ز ٍ‬ ‫العيش مداراة‬ ‫َ‬ ‫إذ رأى‬

‫(‪ )45‬نجاح عطار‪ ،‬الجواهري في العيون من أشعاره‪ ،‬ص ‪.385‬‬


‫(‪ )46‬نجاح عطار‪ ،‬الجواهري في العيون من أشعاره‪ ،‬ص ‪.434‬‬
‫(‪ )47‬نجاح عطار‪ ،‬الجواهري في العيون من أشعاره‪ ،‬ص ‪.492 -491‬‬

‫‪19‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫الش َ‬ ‫يب ّ‬‫يا غر َ‬
‫الحوارا‬
‫يمخضك ِ‬ ‫عر‬ ‫ناغ‬
‫ِ‬ ‫ار‬
‫ِ‬ ‫الد‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ ّ ُ ْ‬
‫ندمان وجارا‬ ‫راوغ‬ ‫مح إن‬ ‫النديم الس‬
‫َ‬ ‫ٌ‬
‫هن ُعسرا ُويسرا‪.‬‬‫ّ‬ ‫أحرف ِعشت و ّإيا‬
‫الجبان ليس الضعيف في ساحات الوغى كما يبدو في الغربة‪ ،‬بل الجبان في نظره هو الذي اليطيق‬
‫مقارعة الغربة وشدة الشوق وآهات الحنين‪ ،‬ولكن على الرغم من ذلك كله يدعو الشاعر نفسه إلى الثبات‬
‫في هذه املواجهة وعدم االستالم والخضوع بالتحدي‪ ،‬فالحال يرسم لوحة بين ضدين بين شبح وحقيقة‪،‬‬
‫قال في قصيدته أطياف وأشباح‪)48(:‬‬

‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬


‫جبان في مناز ِلة الفر ِاق‬ ‫و إني والشجاعة َّفي طبع‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫وأخرى تستهين بما تالقي‬ ‫ولي نفس ِان طائرة شعاعا‬
‫ُ‬ ‫تحد ْي من ُي ُ‬
‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ريد ِك أن تعاقي‬ ‫أقو ُل لها وقد خدرت ولنت‬
‫لهن ول تساقي‬ ‫وسوقيه َّ‬ ‫حنانك للرز ايا‬ ‫ّ‬
‫وشدي من‬
‫ِ‬
‫َ ُ‬
‫ول من خافها ُجبنا بباقي‪.‬‬ ‫فال من خاضها كرها بناج‬
‫ّ‬
‫الشعرية في معاني الغربة‬ ‫عبر الشاعر عن تجربته‬ ‫بمثل هذه املعاني الشعرية والصور التعبيرية ّ‬
‫االجتماعية وذلك من خالل الحديث عن شكواه وعدم الرضا عن الذات في مجتمع قد ثقلت به األرض بما‬
‫رحبت‪ ،‬وكان الناس فيه بوجوه مختلفة متلونة وطباع مليئة باملكر والخديعة‪ ،‬فالهموم قد وجدت طريقها‬
‫إليه من دون بحث مسبق‪ ،‬فانبرى قلمه يرسم لوحة الغربة الذاتية االجتماعية‪ ،‬بأسلوب يفيض كلمات‬
‫تحمل في طياتها سجل املعاناة‪.‬‬

‫‪ -2‬الغربة النفسية عند محمود درويش‬


‫الغربة النفسية هي الشعور باالنعزالية والوحدانية واالبتعاد عن مورث أو رؤى ال تتالءم مع فهم األديب‬
‫والفنان‪ ،‬فنراها تأخذ مالمح وأوجه متعددة‪ ،‬فهي غربة ذاتية يعيش الشاعر في تجربته فيعبر عنها بشعر‪،‬‬
‫فقد عاش محمود درويش الغربة النفسية في موقفه من السلطة السياسية‪ ،‬وسلطة األعراف والتقاليد‪،‬‬
‫ً‬
‫هدوءا واستقرا ًرا في‬ ‫وما تحمله هذه الغربة من دالالت باطنية‪ ،‬فالشاعر يريد من العقل الباطني أن يعطيه‬
‫زمن الالستقرار أو في زمن الشظايا الفكرية والعقائدة(‪ )49‬فالوحدة والغربة النفسية تتبلور من خالل لفظ‬
‫ً‬
‫الوحدة‪ ،‬وفقد األحبة بمشهد جعل فيه درويش املصباح واألشعار والوحدة بدال من األصدقاء واألحبة‪،‬‬

‫(‪ )48‬نجاح عطار‪ ،‬الجواهري في العيون من أشعاره‪ ،‬ص ‪.515‬‬


‫(‪ )49‬انظر‪ :‬جمال نصارى‪« ،‬سايكولوجية الغربة في شعر محمود درويش»‪.2014/12/11 ،‬‬

‫‪20‬‬
‫فأخذ العذاب يعتصر النفس ويعتلج الصدر ولكنه ال يجد من يناجيه غير وحدته‪ ،‬قال في قصيدته‬
‫أغنية‪)50(:‬‬

‫وحيدا أصنع القهوة‬


‫وحيدا أشرب القهوة‬
‫فأخسرمن حياتي‬
‫أخسرالنشوة‬
‫رفاقي هاهنا املصباح واألشعاروالوحدة‬
‫ّ‬
‫وبعض سجائر‪ ....‬وجرائد كالليل مسودة‬
‫َ‬
‫للبيت‬
‫ِ‬ ‫وحين أعود‬
‫ّ‬
‫أحس بوحشة البيت‬
‫وأخسرمن حياتي كل ورداتي‬
‫نبع الضوء في أعماق مأساتي‬ ‫َّ‬
‫النبع ‪ِ ...‬‬
‫وسر ِ‬
‫وأختزن العذاب ألنني وحدي‪.‬‬
‫لعل مظاهر الغربة النفسية عند درويش تظهر بصور عدة‪ ،‬صور تجعله يفكر بموت مقبل غير مدبر‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫فالعمر قصير‪ ،‬واألرض سياحة لهذا الغريب فيها‪ ،‬والخيانة عنوان‪ ،‬والغدر سالح‪ ،‬فيخلص إلى مشهد تكونه‬
‫لفظة "كان"‪ ،‬قال في قصيدته صالة أخيرة‪)51(:‬‬

‫ّ‬ ‫ُي ّ‬
‫خي ُل لي أن عمري قصير‬
‫ّ‬
‫و أني على األرض سائح‬
‫وأن صديقة قلبي الكسير‬
‫ُ‬
‫تخون إذا غبت عنها‬
‫ُ‬
‫وتشرب خمرا‬
‫وتكتب شعرا‬
‫لغيري‬

‫(‪ )50‬محمود درويش‪ ،‬األعمال الشعرية الكاملة‪ ،‬ط‪ ،1‬ج‪( ،1‬رياض الريس للنشر‪2005 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.40-39‬‬
‫(‪ )51‬محمود درويش‪ ،‬األعمال الشعرية الكاملة‪ ،‬ج‪.169-168 ،1‬‬

‫‪21‬‬
‫ّ‬
‫ألني على األرض سائح‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يخيل لي أن خنجرغدر‬
‫سيحفرظهري‬
‫فتكتب إحدى الجرائد‪:‬‬
‫"كان يجاهد"‬
‫ويحزن أهلي وجيراننا‬
‫ويفرح أعداؤنا‬
‫وبعد شهور قليلة‬
‫يقولون‪ :‬كان!‬
‫لم يكن درويش ً‬
‫بعيدا عن الغربة النفسية في وطن قد ذاق منه الويالت والتهميش‪ ،‬في وطن جعل الجراح‬
‫ً‬
‫ديدننا‪ ،‬فجرح الوطن ينزف من دون انقطاع فال يشعر بالغريب إال الغريب الذي يشبهه ويساويه‪ ،‬ويشاطره‬
‫حزنه وترحه‪ ،‬فكم فتش وفتش عن وطن يريده كما يريد ولكن ال وجود له حتى ولو بتصوير بسيط‪ ،‬قال في‬
‫قصيدته ال مفر‪)52(:‬‬

‫غيوم ّ‬
‫ذوبت‬ ‫ٌ‬ ‫وطني! عيونك أم‬
‫أوتارقلبي في جراح إله!‬
‫ّ‬
‫هل تأخذن يدي؟ فسبحان الذي‬
‫ّ‬
‫يحمي غريبا من مذلة آه‬
‫ٌ‬ ‫ُّ‬
‫ظل الغريب على الغريب عباءة‬
‫تحميه من لسع األس ى ّ‬
‫التي ِاه‬
‫ماله‬ ‫َ‬
‫أعشاب قبرصارقبو ِ‬
‫َّ‬
‫ألشم رائحة الذي تنفسوا‬
‫مهدي‪ ....‬وعطرالبرتقال ّ‬
‫الساهي‬
‫ّ‬
‫وطني! أفتش عنك فيك فال أرى‬
‫إل شقوق يديك فوق جباه‬

‫(‪ )52‬محمود درويش‪ ،‬األعمال الشعرية الكاملة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.248 -247‬‬

‫‪22‬‬
‫ُ‬
‫أتفتح في الخرائب كوة؟‬ ‫وطني‬
‫فامللح ذاب على يدي وشفاهي‬
‫مطرعلى اإلسفلت يجرفني إلى‬
‫ناه‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ميناء موتانا‪ ....‬وجرحك ِ‬
‫ّإن من أجمل العبارات التي تمثل حقيقة الغربة النفسية عند درويش ما ذكره أبو حيان التوحيدي‬
‫غريبا في وطنه‪ ،‬وأبعد البعداء من كان ً‬
‫بعيدا في محل قربه‪ ،‬الغريب من إذا‬ ‫بقوله‪" :‬وأغرب الغرباء من صار ً‬
‫قال لم يسمعوا قوله‪ ،‬وإذا رأوه لم يدوروا حوله‪ ،‬وإذا تنفس أحرقه األس ى واألسف‪ ،‬وإن كتم أكمده الحزن‬
‫واللهف‪ ،‬إذا زار َ‬
‫أغلق دونه الباب‪ ،‬وإن استأذن لم يرفع له الحجاب"(‪ )53‬فكيف يعرفونه وقد تنكروا له ولو‬
‫حمل جواز السفر في حقيبته‪ ،‬وكيف يعرفونه وقد أنكره البشر وعرفه الشجر‪ ،‬وكيف االنتماء بال معرفة‪،‬‬
‫فيا لصبر أيوب املتكرر‪ ،‬فالغربة قد فعلت فعلها مرتين‪ ،‬قال في قصيدته جواز سفر‪)54(:‬‬

‫لم يعرفوني في الظالل التي‬


‫ْ‬
‫السفر‬ ‫ّ‬
‫تمتص لوني في جواز‬
‫وكان جرحي عندهم معرضا‬
‫لسائح يعشق جمع الصور‬
‫لم يعرفوني‪ ،‬آه‪ ...‬ل تتركي‬
‫شمس‬
‫ٍ‬ ‫كفي بال‬
‫ألن الشجر‬
‫يعرفني‪...‬‬
‫تعرفني ّ‬
‫كل أغاني املطر‬
‫ل تتركني شاحبا كالقمر‬
‫عارمن السم‪ ،‬من النتماء‬ ‫ٍ‬
‫في تربة رَّبيتها باليدين‬
‫أيوب صاح اليوم َ‬
‫ملء السماء‪:‬‬

‫(‪ )53‬عبد اللطيف محمد خليفة‪ ،‬دراسات في سيكولوجية االغتراب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار غريب‪2003 ،‬م‪ ،‬ص‪.7‬‬
‫(‪ )54‬محمود درويش‪ ،‬األعمال الشعرية الكاملة‪ ،‬ج‪.372-371 ،1‬‬

‫‪23‬‬
‫ل تجعلوني عبرة مرتين‬
‫يا سادتي! يا سادتي األنبياء‬
‫من جبتهي ينشق سيف الضياء‬
‫ومن يدي ينبع ماء النهر‬
‫ّ‬
‫كل قلوب الناس ‪ ....‬جنسيتي‬
‫فلتسقطوا عني جواز ّ‬
‫السفر‪.‬‬
‫يعبر عن مجهول يريد أن يظهره‪ ،‬ولكنه يعجر عن فهم‬ ‫الصمت لغة نفسية في الغربة وهذا الصمت ّ‬
‫كنهه‪ ،‬فالوحدة هي السالح الوحيد في غربة الذات‪ ،‬السالح الذي يحارب به الغريب الفناء للذات‪ ،‬في دفاع‬
‫َ‬
‫يتحقق في ّ‬
‫جو من العذاب الذاتي‬ ‫عن أشياء مفقودة‪ ،‬عن هواء ليس له‪ ،‬عن جدار ليس له‪ ،‬فكيف لنصر ْأن‬
‫واملعاناة؟ قال في قصيدته مديح الظل العالي‪)55(:‬‬

‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ّ ٌ‬
‫كالذبابه‬ ‫عال‬
‫اآلن واألشياء سيدة‪ ،‬وهذا الصمت ٍ‬
‫ّ ّ‬ ‫ّ‬
‫هل ندرك املجهول فينا؟ هل نغني مثلما كنا نغني؟‬
‫ْ‬
‫حامض‪.‬‬ ‫سقطت ٌ‬
‫قالع َ‬
‫قبل هذا اليوم‪ ،‬لكن الهواء اآلن‬
‫جدارليس لي‬ ‫ُ‬
‫أدافع عن‬ ‫وحدي‬
‫ٍ‬
‫هواء ليس لي‬
‫وحدي أدافع عن ٍ‬
‫ٌ‬
‫وحدي على سطح املدينة و اقف‪..‬‬
‫الص ْ‬ ‫َ‬
‫انصرف ّ‬ ‫َ‬
‫حابه‬ ‫ُ‬
‫العنقاء و‬ ‫ُّأيوب مات‪ ،‬وماتت‬
‫وحدي‪ .‬أراود نفس َي الثكلى فتأبى أن تساعدني على نفس ي‬
‫ووحدي‬
‫ُ‬
‫كنت وحدي‬
‫عندما قاومت وحدي‬
‫َ‬
‫وحدة ّ‬
‫الروح األخيرة‪.‬‬

‫محمود درويش‪ ،‬األعمال الشعرية الكاملة‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.342‬‬ ‫(‪)55‬‬

‫‪24‬‬
‫لم يكن درويش في غربته النفسية ينس ى تلك العالمة القديمة الحديثة‪ ،‬التي كان يهرب إليها الشعراء في‬
‫تصوير حجم املعاناة والغربة‪ ،‬إنه الدمع الذي يغسل الهموم والصدور‪ ،‬في ذكريات تجعل من الحنين إلى‬
‫قريبا ليس ببعيد‪ ،‬قال في قصيدته حوار شخص ي في سمرقند‪)56(:‬‬‫املنشود ً‬

‫الدمع وحدك‬‫تشرب ّ‬
‫ُ‬ ‫أل‬
‫وحدك؟‬
‫َ‬
‫أين ُرخام ابن ّ‬
‫عباس؟‬
‫في الذكريات‬
‫و أين مدى القلب بعد أذان الغروب‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫القباب‪ ،‬و أين األزقة‪ ،‬والباب؟‬ ‫و أين‬
‫وال تعني الغربة النفسية أن ينطق الشاعر بلسان حاله فقط‪ ،‬بل ينطق بلسان حاله ولسان غيره‪،‬‬
‫فالتجربة الشعرية عنده ال تقف عند الذات‪ ،‬فالحنين إلى األمكنة جماعي‪ ،‬والرحيل في املأساة يحمل روح‬
‫ً‬
‫الجماعة في الغربة واأللم‪ ،‬وعشق الوطن ما زال ماثال في عيون أصحاب الغربة النفسية‪ ،‬قال في قصيدة‬
‫تأمالت سريعة في مدينة قديمة وجميلة على ساحل البحر األبيض املتوسط‪)57(:‬‬

‫َم َّرة‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫األمكنه‬ ‫تصبح ك ُّل‬
‫بدا نطفو ْ‬
‫عليه‬ ‫ز‬
‫ْ‬
‫ونميل‬
‫الر ُ‬ ‫ْ‬
‫مالت بنا ّ‬
‫يح‬ ‫كلما‬
‫ْ‬
‫األحصنه‬ ‫ُ‬
‫ونعتاد بكاء‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫الرحيل‬ ‫حين نعتاد‬
‫ّ‬
‫مرة‬
‫كل األ ْ‬ ‫ُ‬
‫منه‬‫تصبح ّ ز‬
‫لحظة للقتل‪.‬‬

‫(‪ )56‬محمود درويش‪ ،‬األعمال الشعرية الكاملة‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.414‬‬


‫(‪ )57‬محمود درويش‪ ،‬األعمال الشعرية الكاملة‪ ،‬ج‪.469 ،2‬‬

‫‪25‬‬
‫كم ُمتنا وكم ُمتنا‬
‫ْ‬
‫الكهنه‬ ‫وكان‬
‫خدما للسيف منذ املعبد ّ‬
‫األول‬
‫ّ‬
‫حتى آخرالثورات‬
‫ْ‬ ‫ُ َ‬
‫السوسنه‪.‬‬ ‫والعاشق عبد‬
‫ال شفيع لصاحب الغربة النفسية إال بالبحث عن األنا‪ ،‬بعد فقدها‪ ،‬فكأنما هي املوت املحيط بصاحبه‪،‬‬
‫جرحا‪ ،‬كمن َف َّ‬
‫سر‬ ‫نفعا‪ ،‬وال يشفي ً‬
‫هي مرآة تعكس ما يعتلج في الصدر‪ ،‬وتدور الكلمات في تفسير ال يعطي ً‬
‫ّ‬
‫كله‪)58(:‬‬ ‫املاء بعد الجهد باملاء‪ ،‬فرمز الخريف توسط الذات الغريبة‪ ،‬قال في قصيدته هذا خريفي‬
‫ُ‬
‫فتشت عن نفس ي فأرجعني ّ‬
‫السؤال إلى الوراء‬
‫ل ش يء يأخذني إلى ش يء‪ .‬وينسدل الفضاء‬
‫ُّ‬
‫ويندس املدى‬ ‫ّ‬
‫علي مشنقة‪،‬‬
‫إبرة عاشقه‬
‫في ثقب ٍ‬
‫ُ‬
‫فتشت عن نفس ي‪ :‬سالم للذين ّ‬
‫أحبهم‬
‫عبثا سالم؛ سالم للذين يضيئهم‬
‫جرحي‪ٌ .....‬‬
‫هواء للهواء‪ .‬و أين نفس ي بين ما‬
‫يسطو على نفس ي ويرفعها ُرخاما للهباء‬
‫ّ‬
‫هذا خريفي كله‬
‫كل الشوارع أوصلت غيري إلى طرف ّ‬
‫السماء‬ ‫ّ‬

‫فأين أذهب‪ ،‬أين أذهب؟‬


‫خادع بين البداية والنهاية‬ ‫كل الشوارع أوقعتهم في بياض‬‫ّ‬
‫ٍ‬
‫َ‬
‫الصباح على طبق‬ ‫أمي ُّ‬
‫تعد لي‬ ‫ّ‬
‫من فضة أو سنديان‪ .‬ليس في ّ‬
‫أمي سوى‬
‫ُ‬
‫أ ٍ ّم هناك تنتظر‪.‬‬

‫(‪ )58‬محمود درويش‪ ،‬األعمال الشعرية الكاملة‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.35‬‬

‫‪26‬‬
‫ونحن ال ننكر دور النفس في صناعة األدب‪ ،‬وكذلك األدب يصنع النفس‪ ،‬فالنفس تجمع أطراف الحياة‬
‫لكي تصنع منها األدب‪ ،‬واألدب يرتاد حقائق الحياة لكي يض يء جوانب النفس (‪ )59‬فالغربة النفسية عند‬
‫درويش ال تخرج بمضمونها عن التمازج واالختالط التام بين العالقة الحميمة بينهما‪ ،‬فهو يربط بين ألم‬
‫جسد بشعره حقيقة الصورة بين غربة الذات واألنا‪ ،‬فبرز مشهد القتل للذات‪،‬‬‫َّ‬ ‫الذات وعمق التجربة‪ ،‬فقد‬
‫في بحث عن إنسانيته عن شخصيته‪ ،‬ولكن املوت كان هو الجواب‪ ،‬قال في قصيدته آن للشاعر أن يقتل‬
‫نفسه‪)60(:‬‬

‫آن للشاعرأن يقتل نفسه‬


‫ل لش يء‪ ،‬بل لكي يقتل نفسه‬
‫قال‪ :‬لن أسمح للنحلة أن تمتصني‬
‫َ ّ‬ ‫ْ‬
‫تقتص مني‬ ‫قال‪ :‬لن أسمح للفكرة أن‬
‫حيا على ركبتها‬ ‫َ‬
‫أسمح للمرأة أن تتركني ًّ‬ ‫قال‪ :‬لن‬
‫من ثالثين سنة‬
‫ْ‬
‫األحصنه‬ ‫يكتب الشعروينساني‪ .‬وقعنا عن جميع‬
‫ْ‬
‫األمكنه‬ ‫قمح‪ ،‬وهو ينساني‪ .‬خسرنا‬
‫ووجدنا امللح في حبة ٍ‬
‫وهو ينساني أنا اآلخرفيه‬
‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫كل ش يء صورة فيه‪ .‬أنا مرآته‬
‫ٌ‬
‫صورة‪ّ .‬‬
‫كل جسد‬ ‫كل موت‬
‫صورة‪ .‬كل رحيل صورة‪ّ .‬‬
‫كل بلد‬
‫صورة‪ .‬قلت‪ :‬كفى متنا تماما أين إنسانيتي؟ أين أنا؟‬
‫قال‪ :‬ل صورة إل ّ‬
‫للصور‪.‬‬
‫ّ‬
‫من أجمل صور التعبير عن الغربة النفسية التي تمثل بها الشاعر في أشعاره‪ ،‬هي شخصية يوسف عليه‬
‫السالم‪ ،‬تلك الشخصية التي عاشت حاضرة في ذاكرته‪ ،‬والقت من الغربة واألذى ما القى‪ ،‬فالنبذ محيط بها‬
‫في غياهب جب الكره والعداوة واألنانية في قتل وتفنيد لآلخر‪" ،‬فهو في حالة تمرد بشعوره بالبعد عن الواقع‪،‬‬

‫(‪ )59‬انظر‪ :‬عز الدين إسماعيل‪ ،‬التفسير النفس ي لألدب‪ ،‬ط‪( ،4‬مكتبة غريب‪ ،‬د‪.‬ت)‪ ،‬ص‪.5‬‬
‫(‪ )60‬محمود درويش‪ ،‬األعمال الشعرية الكاملة‪ ،‬ج‪ ،3‬ص ‪.73-72‬‬

‫‪27‬‬
‫ومحاولته الخروج عن املألوف‪ ،‬وعدم االنصياع للعادات والتقاليد السائدة‪ ،‬وهو تمرد على النفس‪ ،‬وعلى‬
‫املجتمع"(‪ )61‬قال في قصيدته "أنا يوسف يا أبي"(‪)62‬‬

‫ُ‬
‫يوسف يا أبي‪ .‬يا أبي‪ ،‬إخوتي ل ُّ‬
‫يريدونني بينهم يا أبي‪.‬‬
‫ِ‬ ‫يحبوني‪ ،‬ل‬ ‫أنا‬
‫علي ويرمونني بالحص ى والكالم‪.‬‬‫يعتدون ّ‬
‫باب َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫بيتك ُدوني‪.‬‬ ‫أموت لكي يمدحوني‪ .‬وهم أوصدوا َ‬ ‫يردونني أن‬
‫الحقل‪ .‬هم َس َّم ُموا عنبي يا أبي‪.‬‬
‫ِ‬ ‫هم طردوني من‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫الن ُ‬‫َ َّ ّ‬
‫عليك‪.‬‬ ‫ولعب شعري غاروا وثاروا‬ ‫سيم‬ ‫حين مر‬
‫ُ ّ ْ‬ ‫علي ّ‬
‫الس ُ‬ ‫حطت على كتفي‪ ،‬ومالت َّ‬ ‫ُ ّ‬ ‫ْ ُ‬
‫لطير حطت على‬ ‫نابل‪ ،‬وا‬ ‫صنعت لهم يا أبي؟ الفراشات‬ ‫فماذا‬
‫ُ‬
‫راحتي‪ ،‬فماذا فعلت أنا يا أبي؟ وملاذا أنا؟!‬
‫ّإن من جمال اللغة الشعرية في الشعر العربي الحديث أنها أكثر من وسيلة للنقل والتفاهم؛ إنها وسيلة‬
‫استبطان واكتشاف‪ ،‬تهز األعماق وتحرك وتفتح أبواب االستنباط‪ ،‬فنتاج الشاعر الحديث هو ثورة على‬
‫جميعا (‪ )63‬فلقد جعل الشاعر من لغته وسيلة لجذب القارئ‬ ‫ً‬ ‫املألوف‪ ،‬في الحياة واألفكار وطرائق التعبير‬
‫ونقله إلى عامله الخاص‪ ،‬ليعيش تجربة الغربة النفسية وكأنه يعاصرها لحظة بلحظة‪ ،‬فهو يصور شخصية‬
‫اإلنسان العربية في ذاتها وشعورها‪ ،‬قال في قصيدته "أنا واحد من ملوك النهاية"(‪)64‬‬

‫هاية ‪ ....‬أقفزعن‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬


‫أنا واحد من ملوك الن ِ‬
‫َْ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫األخيرة‬ ‫العربي‬
‫ِ‬ ‫فرة‬ ‫ز‬ ‫أنا‬ ‫األخير‪،‬‬ ‫تاء‬ ‫الش‬ ‫فرس ي في‬
‫َ‬ ‫ل ُّ‬
‫البيوت‪ ،‬ول‬‫ِ‬ ‫سطوح‬
‫ِ‬ ‫ق‬ ‫أطل على اآلس فو‬
‫لئال يراني هنا ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أحد كان يعرفني‬ ‫أتطل ُع حولي‬
‫ّ‬
‫طل على الظ ِ ّل كي ل أرى‬ ‫ل ُأ ُّ‬
‫َ ّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫اسمك عني‬ ‫ويركض خلفي‪ :‬خذ‬ ‫يحمل اسمي‬ ‫أحدا‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫قبلت معاهدة "التيه" لم َ‬ ‫ْ‬
‫حاضر‬ ‫يبق لي‬ ‫مذ‬

‫(‪ )61‬عبد اللطيف محمد خليفة‪ ،‬دراسات في سيكولوجية االغتراب‪ ،‬ص‪.42‬‬


‫(‪ )62‬محمود درويش‪ ،‬األعمال الشعرية الكاملة‪ ،‬ج‪ ،3‬ص ‪.159‬‬
‫(‪ )63‬انظر‪ :‬أدونيس‪ ،‬علي أحمد سعيد‪ ،‬مقدمة للشعر العربي‪ ،‬ط‪( ،3‬بيروت‪ :‬دار العودة‪1979 ،‬م)‪ ،‬ص‪.80-79‬‬
‫(‪ )64‬محمود درويش‪ ،‬األعمال الشعرية الكاملة‪ ،‬ج‪ ،3‬ص ‪.278 -277‬‬

‫‪28‬‬
‫الخوف يعشش في شخصية صاحب الغربة النفسية‪ ،‬فالخوف من كل ش يء يجعله في تذبذب وانهيار‪،‬‬
‫ّ َ‬ ‫َّ‬
‫ليكون اللغة أيضا التي هي صورة‬‫فال وجود لشخصية الغريب في كل ما يقوم به‪ ،‬بل إنه يتجاوز حد األشياء ِّ‬
‫قائلها‪ ،‬اليأس هو نافذته املعتمة‪ ،‬والواقع أصبح ً‬
‫وهما‪ ،‬قال في قصيدته" من أنا بعد ليل الغريبة"(‪)65‬‬

‫ُ‬ ‫َ‬
‫الغريبة؟ أنهض من ُحلمي‬ ‫ِ‬ ‫ليل‬
‫من أنا بعد ِ‬
‫الدار‪ ،‬من‬ ‫النهارعلى مرمر َّ‬ ‫خائفا من غموض ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ‬
‫مس في الورد‪ ،‬من ماء نافورتي‬ ‫ِ‬ ‫الش‬ ‫عتمة‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫التين‪ ،‬من لغتي‬ ‫شفة ِ‬
‫حليب على ِ‬ ‫ٍ‬ ‫خائفا من‬
‫َّ ُ‬
‫خائفا من هواء يمشط صفصافة خائفا‪ ،‬خائفا‬
‫الزمان الكثيف‪ ،‬ومن حاضرلم ْ‬
‫يعد‬ ‫من وضوح َّ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫حاضرا‪ ،‬خائفا من مروري على عالم لم ْ‬
‫يعد‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫اليأس ْ‬
‫كن رحمة‪ُّ .‬أيها املوت كن‬ ‫ُ‬ ‫عاملي‪ُّ ،‬أيها‬
‫َ‬
‫أوضح من‬ ‫َ‬
‫الغيب‬ ‫ُ‬
‫يبصر‬ ‫للغريب الذي‬ ‫نعمة‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫اقع لم ْ‬
‫نجمة‬
‫ٍ‬ ‫يعد و اقعا‪ .‬سوف أسقط من‬ ‫و ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ماء إلى خيمة في الطريق إلى‪ ....‬أين؟‬
‫في الس ِ‬
‫مهما أحس الغريب بالبعد عن الواقع‪ ،‬ال بد في داخله من شغف العودة إلى الذات‪ ،‬وإلى الوطن الحبيب‪،‬‬
‫الذي يتسلى بذكراه‪ ،‬ويعيش من خالله جمال الحياة‪ ،‬فالنأي يزيد من غربة النفس واللوعة‪ ،‬والحنين إلى ما‬
‫يصبو إليه هو ديدنه الوحيد‪ ،‬قال في قصيدة أخرى‪)66(:‬‬

‫َ‬
‫قيصر‪ ،‬أو‬ ‫‪ ...‬ل َّبد من فرس للغريب َ‬
‫ليتبع‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫للغريب‬ ‫فرس‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫النأي‪ .‬ل بد من ٍ‬ ‫ِ‬ ‫لسعة‬
‫ِ‬ ‫ليرجع من‬
‫ْ‬
‫أما في وسعنا أن نرى قمرا واحدا ل ُيد ُّل‬
‫ْ‬
‫على امرأة ما؟ أما كان في وسعنا أن‬
‫ْ‬
‫والبصر؟‬ ‫صير ِة يا صاحبي‪،‬‬ ‫نمي َزبين َ‬
‫الب َ‬ ‫ّ‬

‫يتخل في لحظة واحدة عن النشيد‪ ،‬والشاعر الذي لم‬ ‫َّ‬ ‫ّإن محمود درويش نموذج للشاعر الذي لم‬
‫تلو قصيدة وكتاب َ‬
‫بعد كتاب؛ ذلك ألنه آمن واجتهد في املزج بين عدالة الكفاح‬ ‫يتوقف عن النمو في قصيدة َ‬
‫ٍ‬

‫(‪ )65‬محمود درويش‪ ،‬األعمال الشعرية الكاملة‪ ،‬ج‪ ،3‬ص ‪.283‬‬


‫(‪ )66‬محمود درويش‪ ،‬األعمال الشعرية الكاملة‪ ،‬ج‪ ،3‬ص ‪.347‬‬

‫‪29‬‬
‫اإلنساني وجمال صورة هذا الكفاح في القصيدة الحديثة‪ ،‬وسيبقى أثره في القصيدة العربية ً‬
‫دائما ذاكرة‬
‫جمالية لشعب‪ ،‬وأجيال وعصر‪ ...‬غير قابل للنسيان(‪ )67‬والشعر لعب جميل بالخيال واللغة‪ ،‬وهو يتيح‬ ‫ّ‬
‫الفرصة للتحرر إلى النزوع اإلنساني‪ ،‬وهو منهج درويش في تعبيره عن مشاعره وغربته الذاتية بمشاهد‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تفيض قسوة وأملا‪ ،‬ورغبة في العودة إلى الذات‪ ،‬وإثباتها بعد نفيها في مجتمع قد همشها وجعلها تموت وهي‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫على قيد الحياة‪ ،‬وتعيش في الظل ً‬
‫منشودا ترنو نحوه في كل‬ ‫بعيدا عن ضوء الشمس‪ ،‬وترسم بالخيال عاملا‬
‫حين وفي كل مكان‪.‬‬
‫‪ -3‬الغربة السياسية عند أحمد مطر ّإن السياسة تعني "تدبير شؤون الناس‪ ،‬وتملك أمورهم والرئاسة‬
‫عليهم"(‪ )68‬وهي أيضا "الفن املستعمل لحكم األمم‪ ،‬وتنظيم الدولة من الداخل‪ ،‬وتنظيم التزاماتها مع الدول‬
‫األخرى"(‪)69‬‬

‫ً‬
‫شعريا منذ العصر الجاهلي‪ ،‬وما زالوا‬ ‫ً‬
‫غرضا‬ ‫وقد عرف الشعراء العرب الشعر السياس ي بوصفه‬
‫يمارسون كتابته وقوله إلى يومنا الحاضر‪ ،‬فالشعر مرتبط بالسياسة على مر التاريخ والعصور‪ ،‬فكم انبرت‬
‫األقالم للدفاع عن الحقوق والحريات‪ ،‬ولعل من أسباب استمرار هذا الغرض الشعري؛ الحوادث واألزمات‬
‫والحروب التي أصابت (أرض العرب) التي ما تزال مستمرة إلى وقتنا الحالي‪ ،‬فكانت رسالة الشعراء في ذلك‬
‫كله حمل القلم إليصال رسالتهم من خالل أشعارهم‪ ،‬وهي تتمثل بالنصح واإلرشاد‪ ،‬ورفع الهمم من أجل‬
‫خدمة أوطانهم‪ ،‬والذود عنها في وجه العدو الداخل املتمثل بالظالم املستغل‪ ،‬أو الخطر الخارجي‪)70(.‬‬

‫وللشاعر أحمد مطر درب طويل مع األلم؛ نتيجة ملواقفه السياسية التي التزم بها‪ ،‬ونادى من أجل‬
‫ً‬
‫تحقيقها‪ ،‬مثل املطالبة بنشر الحرية‪ ،‬والتخلص من التبعية لألجنبي‪ ،‬وتحرير األراض ي العربية كافة‪ ،‬فال‬
‫ً‬
‫سياسيا‪ ،‬فهو فنان‪ ،‬ورأى‬ ‫سيما أنه ّ‬
‫عد نفسه‬ ‫غرابة في انتشار ألفاظ السياسة بصورة كبيرة في شعره‪ ،‬وال ّ‬
‫أن معظم أهل الفن من السياسيين"(‪ )71‬لهذا نجد طائفة كبيرة من أشعاره السياسية التي تمثل غربة‬
‫سياسية عن تحقيق ما يصبو إليه‪ ،‬ويدعو إليه‪ ،‬قال في قصيدته "طبيعة صامتة"(‪)72‬‬

‫القمامة‬
‫ِ‬ ‫مقلب‬
‫ِ‬ ‫في‬
‫ُ َ‬
‫األ ْ‬ ‫ُ‬
‫عراب‬ ‫رأيت جثة لها مالمح‬

‫(‪ )67‬عادل محمود‪ ،‬الجوهرة املؤملة محمود درويش‪ ،‬الهيئة العامة السورية للكتاب‪ ،‬دمشق‪ ،2011 ،‬ص ‪.9‬‬
‫(‪ )68‬ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬مادة‪ :‬سوس‪.‬‬
‫(‪ )69‬أحمد الشايب‪ ،‬تاريخ الشعر السياس ي‪ ،‬ط‪ ،5‬مكتبة النهضة املصرية‪ ،‬القاهرة‪1967 ،‬م‪ ،‬ص‪.4-3‬‬
‫(‪ )70‬انظر‪ :‬عدنان قاسم‪ ،‬األصول التراثية في نقد الشعر العربي املعاصر‪ :‬دراسة نقدية في أصالة الشعر‪ ،‬ط‪( ،1‬املنشأة‬
‫الشعبية للنشر‪ ،)1980 ،‬ص‪.63‬‬
‫(‪ )71‬مسلم مالك بعير األسدي‪ ،‬لغة الشعر عند أحمد مطر‪ ،‬رسالة ماجستير‪( ،‬جامعة بابل‪ ،)2007 ،‬ص‪.39‬‬
‫(‪ )72‬أحمد مطر‪ ،‬املجموعة الشعرية‪ ،‬ط‪( ،1‬بيروت‪ :‬دار الحرية‪ ،)2011 ،‬ص‪.12‬‬

‫‪30‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫الن ُ‬ ‫ّ‬
‫والذباب‬ ‫سور‬ ‫تجمعت من حولها‬
‫عالم ْه‬
‫وفوقها َ‬
‫ٌ‬
‫تقول‪ :‬هذي جيفة‬
‫تسمى سابقا كر ْ‬ ‫ْ‬
‫كانت ّ‬
‫امه‬
‫ومن مشاهد الغربة السياسية مشهد اإلحاطة والوجوه الغريبة التي ترسم عالمة التساؤل والحيرة من‬
‫كنهها‪ ،‬فالشاعر يصور حالة اإلنسان مسلوب اإلرادة أمام أسر حتى للعقل والفكر‪ ،‬والتهمة املعهودة عندهم‬
‫والوجه اآلخر للفرار هي التشابه والتماثل‪ ،‬قال في قصيدة أخرى بعنوان "التهمة"(‪)73‬‬

‫كنت ُ‬
‫أسيرمفردا‬
‫ُ‬
‫أحمل أفكاري معي‬
‫ومنطقي ومسمعي‬
‫َ ْ‬
‫دحمت‬ ‫فاز‬
‫من حولي الوجوه‬
‫ُ‬
‫قال لهم زعيمهم‪ :‬خذوه‬
‫سألتهم‪:‬‬
‫ما تهمتي؟‬
‫فقيل لي‪:‬‬
‫تجم ٌع مشبوه‬
‫ّ‬

‫لم تكن اإلرادة وحرية الرأي وحدها هي الشغل الشاغل لفكر األديب املناضل بشعره ضد كل نوع من‬
‫أنواع الظلم‪ ،‬بل حتى التأقلم يفرض عليه ً‬
‫فرضا‪ ،‬وقد وظف الببغاء والصوت ر ً‬
‫مزا للتعبير عما يريد‪ ،‬في‬
‫ّ‬
‫الطين"(‪)74‬‬ ‫مشهد وكأنما األصفاد تحوط به من داخل الجسد وليس من خارجه‪ ،‬قال في قصيدته "ثورة‬
‫وضعوني في ْ‬
‫إناء‬
‫ثم قالوا لي‪ْ :‬‬
‫تأقلم‬
‫لست ْ‬‫ُ‬
‫بماء‬ ‫و أنا‬

‫(‪ )73‬أحمد مطر‪ ،‬املجموعة الشعرية‪ ،‬ص ‪.14‬‬


‫(‪ )74‬أحمد مطر‪ ،‬املجموعة الشعرية‪ ،‬ص ‪.19 -18‬‬

‫‪31‬‬
‫أنا من طين ّ‬
‫الس ْ‬
‫ماء‬
‫ّ‬
‫بنموي يتحط ْم‬
‫وإذا ضاق إنائي ّ‬
‫ّ‬
‫خيروني‬
‫بين موت ْ‬
‫وبقاء‬
‫َ َ‬
‫الحبل‬
‫ِ‬ ‫قص فوق‬ ‫بين أن أر‬
‫َ‬ ‫أو أر َ‬
‫الحبل‬
‫ِ‬ ‫قص تحت‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫البقاء‬ ‫فاخترت‬
‫ُ ُ َ‬
‫قلت‪ :‬أعد ْم‬
‫البب ْ‬‫صوت َّ‬ ‫َ‬
‫غاء‬ ‫بالحبل‬
‫ِ‬ ‫فاخنقوا‬
‫ّ َّ‬ ‫ّ‬
‫أبدي يتكل ْم‬ ‫ٍ‬ ‫بصمت‬ ‫ٍ‬ ‫وأمدوني‬
‫من رحم املعاناة تأتي الصورة الشعرية املتكاملة والقدرة العالية على الوصف ونقل املشهد والعذاب‪،‬‬
‫ثوبا لإلنسان من املهد إلى اللحد‪ ،‬ثم َّإن القيود قد فعلت فعلها فتمثلت‬
‫فمسيرة الرفض قد ألبست ً‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بالعبودية الالمتناهية‪ ،‬فكيف ال يشعر بغربة سياسية تعزله عزال كامال عن كل حق ومطلب؟‪ ،‬قال في‬
‫قصيدته "األضحية"(‪)75‬‬

‫ُ‬
‫حين ولدت‬
‫ُ‬
‫ألفيت على مهدي قيدا‬
‫الحري ْه‬
‫ّ‬ ‫بوشم‬
‫ِ‬ ‫ختموه‬
‫تفسيري ْه‬
‫ّ‬ ‫وعبارات‬
‫الع ّزى‪ْ ..‬‬
‫عبد ُ‬ ‫َ‬
‫كن عبدا‬ ‫يا‬
‫ُ‬
‫وكبرت‪ ،‬ولم يكبرقيدي‬
‫ُ‬
‫وهرمت‪ ،‬ولم أترك مهدي‬
‫ْ‬
‫الشخصيه‬ ‫ر ّدوا لي بعض‬
‫ُ ّ‬ ‫َ‬
‫الن ُاربصدري‬ ‫كيف تفور‬
‫و أنا أشكو البردا؟‬

‫(‪ )75‬أحمد مطر‪ ،‬املجموعة الشعرية‪ ،‬ص ‪.22‬‬

‫‪32‬‬
‫ُ ُ‬
‫سيومض برق الثأربروحي‪....‬‬ ‫كيف‬
‫ما دمتم تخشو َن ّ‬
‫الرعدا؟‬
‫كيف أغني‪...‬‬
‫أنا مشنو ٌق ّ‬
‫أتدلى‬ ‫و‬
‫وتي ْه‬
‫الص ّ‬‫من تحت حبالي َّ‬
‫ِ‬
‫الحري ْه‬
‫ّ‬ ‫كي َ‬
‫أفهم معنى‬
‫الحري ْه‬
‫ّ‬ ‫وأموت َ‬
‫فداء‬
‫الحري ْه‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫بعض‬ ‫أعطوني‬
‫ً‬
‫لحظويا يجعل الشاعر يحسه عقوبة‪ ،‬واملعهود أن الوطن هو‬ ‫ً‬
‫تطورا‬ ‫لعل الشعور بالغربة يتطور‬
‫الحضن واألمان من كل هم وحزن‪ ،‬فهل الوطنية ذنب؟ أم أن الحق لعنة على صاحبه‪ ،‬يجعله يطوف البالد‬
‫ثمنا‪ ،‬قد استقر في القلب ذكراه‪ ،‬وقال في قصيدته ّ‬
‫"أحبك"(‪)76‬‬ ‫ً‬
‫بحثا عن وطن قد قدم الروح له ً‬

‫يا وطني‬
‫ْ َ‬
‫ضقت على مالمحي‬
‫َ‬
‫فصرت في قلبي‬
‫َ‬
‫وكنت لي عقوبة‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫سواك من ذن ِب‬ ‫و إنني لم أقترف‬
‫لعنتني‪..‬‬
‫واسمك كان سبني في لغة َّ‬
‫الس ِب‬ ‫ِ‬
‫ضربتني‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫الضرب‬
‫ِ‬ ‫وموضع‬ ‫وكنت أنت ضاربي‪...‬‬
‫طردتني‬
‫َ ُ‬
‫فكنت أنت خطوتي‬
‫َ‬
‫وكنت لي دربي‬

‫أحمد مطر‪ ،‬املجموعة الشعرية‪ ،‬ص ‪.28‬‬ ‫)‪(76‬‬

‫‪33‬‬
‫وعندما صلبتني‬
‫َ‬
‫أصبحت في ّ‬
‫حبي‬
‫معجزة‬
‫حين هوى قلبي‪ِ ....‬فدى قلبي‬
‫سامحك ُ‬
‫هللا على َ‬
‫صلبي‬ ‫َ‬ ‫يا قاتلي‬
‫َ‬
‫كفاك أن تقتلني‬ ‫يا قاتلي‪..‬‬
‫ّ‬
‫الحب‬ ‫من ّ‬
‫شد ِة‬
‫ِ‬
‫في كل مشهد من مشاهد الغربة التي وقفنا عندها من خالل النصوص الشعرية السابقة وجدنا أن‬
‫ً‬
‫الحزن قد كان مالذا لكل غريب أحس مرارة الغربة ووجد منها الويالت‪ ،‬فالنص الشعري هو الذي يقود‬
‫الشاعر في بحثه عن وطن ضائع‪ ،‬فكيف يشعر بكلمة حرفية وأحرف هذه الكلمة قد وضعت تحت اإلقامة‬
‫الجبرية‪ ،‬في أشعار قد ضاعت أوزانها واختلطت‪ ،‬قال في قصيدته "دمعة على جثمان الحرية"(‪)77‬‬

‫َ‬
‫األشعار‬ ‫أنا ل ُ‬
‫أكتب‬
‫ُ‬
‫فاألشعارتكتبني‬
‫ُ ّ َ‬
‫الصمت كي أحيا‬ ‫أريد‬
‫ولكن الذي ُ‬
‫ألقاه ينطقني‬ ‫َّ‬

‫ول ألقى سوى‬


‫على حز ٍن‬
‫على حز ٍن‬
‫ُ‬
‫أأكتب "أنني ٌّ‬
‫حر"‬
‫على كفني؟‬
‫ُ‬
‫أأكتب "أنني ٌّ‬
‫حر"‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫بالعبوديه؟‬ ‫وحتى الحرف يرسف‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫يناضل‬ ‫رأيت شاعرا‬
‫ُ‬
‫يرقع بالعروض َ‬
‫نعل الوالي‬ ‫ِ‬

‫(‪ )77‬أحمد مطر‪ ،‬املجموعة الشعرية‪ ،‬ص‪.33‬‬

‫‪34‬‬
‫رأيته مختنقا‬
‫ّ‬
‫في َع َر ِق النضال‬
‫ْ ٌ ََ‬ ‫ْ ٌ‬
‫اع ْل‬
‫مستفعلن مستفعلن مف ِ‬
‫األحالم هي التفسير النفس ي ملا نطمح إليه‪ ،‬فنفس الغريب في الوطن تتخيل وتحلم بإرادة محققة في كل‬
‫منهج وفي كل مطلب‪ ،‬لكن القدر يحول في كثير من األحالم السياسية من التحقق‪ ،‬فاالستيقاظ هو املالذ‬
‫الوحيد في الغربة السياسية من حلم قيده القدر الطويل‪ ،‬قال في قصيدته "حلم"(‪)78‬‬

‫َ‬
‫بين ْ‬ ‫ُ‬
‫يدي‬ ‫وقفت ما‬
‫ُم ّ‬
‫فس ُراألحالم‬
‫قلت له‪ :‬يا ّ‬‫ُ‬
‫سيدي‬
‫رأيت في املنام‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫كالبشر‬ ‫أعيش‬ ‫أني‬
‫ّ‬
‫وأن من حولي ْ‬
‫بشر‬
‫ّ‬
‫وأن صوتي بفمي‬
‫ْ‬
‫الطعام‬ ‫وفي يدي‬
‫و أنني أمش ي‬
‫ول ُ‬
‫يتبع من خلفي أثر‬
‫فصاح بي مرتعدا‪ :‬يا ولدي حرام‬
‫َ‬
‫لقد هزئت بالقدر‬
‫يا ولدي‪ ...‬نم عندما ْ‬
‫تنام‬
‫َ‬
‫وقبل أن أترك ُه‬
‫َ‬
‫ْ‬
‫تسللت من أذني‬
‫ْ‬
‫النظام‬ ‫ُ‬
‫أصابع‬
‫ْ‬
‫انفجر‬ ‫َّ‬
‫واهتزرأس ي و‬

‫(‪ )78‬أحمد مطر‪ ،‬املجموعة الشعرية‪ ،‬ص ‪.35‬‬

‫‪35‬‬
‫كلب األثر هو رمز االلتصاق واملتابعة‪ ،‬وهذا الرمز جعله الشاعر داللة على االعتقال للذات في كل مكان‬
‫وزمان‪ ،‬ولو لم تكن في السجن وبيدك األصفاد‪ ،‬فأنت معتقل في جلدك‪ ،‬في البصمة وفي الحلم في األنفاس‪،‬‬
‫فاإلنسان أصبح بذلك معلومات مدونة ال قيمة لها‪ ،‬وأي غربة سياسية أعظم من هذه‪ ،‬قال في قصيدته‬
‫"أين املفر؟"(‪)79‬‬

‫ُ‬
‫املرء في أوطاننا‬
‫جلده‬
‫ِ‬ ‫ٌ‬
‫معتقل في‬
‫ْ‬
‫الصغر‬ ‫منذ‬
‫َ‬
‫وتحت ّ‬
‫دمه‬
‫كل قطرة من ِ‬ ‫ِ‬
‫ٌ‬
‫مختبئ ُ‬
‫كلب أث ْر‬
‫بصماته لها ْ‬
‫صور‬
‫ُ‬
‫أنفاسه لها ْ‬
‫صور‬
‫ُ‬
‫أحالمه لها ْ‬
‫صور‬
‫ُ‬
‫املرء في أوطاننا‬
‫ليس سوى إضبار ٍة‬
‫ُ‬
‫غالفها ُ‬
‫جلد ْ‬
‫بشر‬
‫َ‬
‫أين املفر؟‬
‫ومن مشاهد الغربة السياسية ضياع الكرامة والحقوق والقيم اإلنسانية‪ ،‬في مشهد اإلحاطة واالعتقال‪،‬‬
‫واالقتياد من دون مسوغ وسبب‪ ،‬وهذه املشاهد التي أسقطها الشاعر ليبرهن من خاللها على غربة عميقة‬
‫ومرارة تتفطر بها األكباد‪ ،‬فالظلم قد لون ّ‬
‫كل ش يء بلون السواد والظلمة‪ ،‬قال في قصيدته "املتهم"(‪)80‬‬

‫ْ‬ ‫ُ‬
‫والسالم‬ ‫كنت أمش ي‪....‬‬
‫بالجند قد ّ‬
‫سدوا طريقي‬ ‫فإذا ُ‬
‫ِ‬
‫الحبس‬
‫ِ‬ ‫ثم قادوني إلى‬
‫وكان ّ‬
‫الت ْ‬
‫هام‪:‬‬

‫(‪ )79‬أحمد مطر‪ ،‬املجموعة الشعرية‪ ،‬ص ‪.43‬‬


‫(‪ )80‬أحمد مطر‪ ،‬املجموعة الشعرية‪ ،‬ص‪.56‬‬

‫‪36‬‬
‫بالقصر‬ ‫مر‬ ‫َّ‬
‫أن شخصا َّ‬
‫ِ‬
‫الظ ْ‬‫َّ ّ‬
‫الم‬ ‫وقد سب‬
‫قبل ْ‬
‫عام‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫الدقيق‬
‫ِ‬ ‫والفحص‬
‫ِ‬ ‫البحث‬
‫ِ‬ ‫ثم بعد‬
‫ُ َّ ّ‬ ‫َ‬
‫بأن الشخص هذا‬ ‫علم الجند‬
‫يوم‬ ‫َّ‬
‫كان قد سلم في ٍ‬
‫جارصديقي‬
‫على ِ‬
‫حيزا‪ ،‬يتموضع من خالله في هرم النص‪ ،‬ويؤدي‬ ‫ال يلبث الجالد أن يأخذ في تصوير الغربة السياسية ً‬
‫كبيرا في نقل الواقعة وكأنك تراها أمامك‪ ،‬فلم يبقي له ًيدا‪ ،‬والروح قد فارقت الجسد على الرغم من‬
‫دو ًرا ً‬
‫بقائها فيه‪ ،‬فالعيش أصبح ً‬
‫مليئا بالحزن‪ ،‬والرحيل قد آذن فاإلصباح في بلد واملبيت في بلد آخر‪ ،‬قال في‬
‫قصيدته "مواطن نموذجي"(‪)81‬‬

‫الجالد ْ‬
‫أبعد عن يدي‬ ‫ُ‬ ‫يا ُّأيها‬
‫ْ‬
‫الصفد‬ ‫هذا‬
‫يبق ْيد‬
‫ففي يدي لم َ‬
‫ولم َت ُع ْد في جسدي ٌ‬
‫روح‬
‫ْ‬
‫جسد‬ ‫ولم َ‬
‫يبق‬
‫الجلد أنا‬
‫ِ‬ ‫ٌ‬
‫كيس من‬
‫عظام ْ‬
‫ونكد‬ ‫ٌ‬ ‫فيه‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫فوهته مشدودة دوما‬
‫بحبل من ْ‬
‫مسد‬ ‫ٍ‬
‫ٌ‬
‫مواطن ٌّ‬
‫قح أنا كما ترى‬
‫َّ‬
‫معل ٌق بين ّ‬
‫السماء والثرى‬
‫بلد أغفو‬
‫في ٍ‬
‫وأصحو في ْ‬
‫بلد‬

‫(‪ )81‬أحمد مطر‪ ،‬املجموعة الشعرية‪ ،‬ص‪.105‬‬

‫‪37‬‬
‫وتظهر نفس الشاعر من خالل شعره مفعمة باألس ى والحزن‪ ،‬ولكنه بطبيعته الساخرة يمزج السخرية‬
‫بالحزن‪ ،‬ويرى الشاعر أن سخريته غير مستغربة؛ ألنه من خالل قراءته لواقع شرائح املجتمع وجد َّأن من‬
‫امتالء بالحزن‪ ،‬فضحكه ضحك مر من شدة البكاء (‪،)82‬‬ ‫ً‬ ‫يحسنون السخرية واإلضحاك هم أكثر الناس‬
‫فمشهد الغربة السياسية يتخلله سخرية بعالقة بينه وبين حاكمه تربطها كلمتان‪ ،‬كلمة حق‪ ،‬وكلمة باطل‬
‫وظلم‪ ،‬وأسر من بعدها سريع‪ ،‬إنها ً‬
‫حقا من السخرية‪ ،‬قال في قصيدته "تفاهم"(‪)83‬‬

‫َعالقتي بحاكمي‬
‫ليس لها ْ‬
‫نظير‬
‫ْ‬
‫الضمير‬ ‫احة‬
‫تبدأ ثم تنتهي‪ .....‬بر ِ‬
‫متفقان دائما‬
‫ِ‬
‫ّ‬
‫لكننا‬
‫ُ‬ ‫لو َ‬
‫وقع الخالف في ما بيننا‬
‫ْ‬
‫قصير‬ ‫ُ‬
‫نحسمه في جدل‬
‫أنا أقو ُل كلمة‬
‫وهو يقو ُل كلمة‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫بعد أن يقولها‪..‬‬
‫و إنه من ِ‬
‫يسير‬
‫ْ َ‬
‫بعد أن أقولها‪..‬‬
‫و أنا من ِ‬
‫ْ‬
‫أسير!‬
‫مسكين أيها اإلنسان فأنت محوط بسياج من عدم الثقة واملخبرين‪ ،‬الذين يجدون أنفسهم بقتل الحياة‬
‫في قلوبهم‪ ،‬فكل إنسان أصبح في نظر الشاعر تهمة‪ ،‬حتى الحنين إلى الوطن األمثل غير مسموح‪ ،‬فليس للناس‬
‫مالذ من كل ذلك إال االستغاثة والتضرع إلى هللا‪ ،‬فحتى األموات لم ينجوا من موتهم اآلخر على أيديهم؛ إلى‬
‫أين املسير بعد ذلك‪ ،‬قال في قصيدته َ‬
‫"أين نمض ي؟"(‪)84‬‬

‫(‪ )82‬مسلم مالك بعير األسدي‪ ،‬لغة الشعر عند أحمد مطر‪ ،‬ص‪.13‬‬
‫(‪ )83‬أحمد مطر‪ ،‬املجموعة الشعرية‪ ،‬ص‪.145‬‬
‫(‪ )84‬أحمد مطر‪ ،‬املجموعة الشعرية‪ ،‬ص‪.148‬‬

‫‪38‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫تحت َّ‬ ‫َّ‬
‫ماوات وفوق األرضين‬
‫ِ‬ ‫الس‬ ‫غص ما‬
‫ْ‬
‫املخبرين‬ ‫بعيون‬
‫ٌ‬
‫إنسان لدينا ُتهمة تمش ي‬
‫ٍ‬
‫ُّ‬
‫كل‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ويمش ي معها ألف كمين‬
‫جن‬ ‫ّ‬
‫داخل الس ِ‬‫ِ‬ ‫نصفنا في‬
‫ْ‬ ‫ٌ‬
‫ونصف َ‬
‫خارج ّ‬
‫السجن سجين‬
‫نملك ما نبديه من أصواتنا‬ ‫نعد ُ‬ ‫لم ْ‬
‫ْ‬
‫‪ ...‬حتى األنين‬
‫نخفيه في أعماقنا‬ ‫نملك ما‬‫لم نعد ُ‬
‫ِ‬
‫ْ‬ ‫ّ‬
‫حتى الحنين‬
‫الدنيا على ّ‬ ‫ْ‬
‫ضاقت ّ‬
‫الدنيا‬
‫الجهات األربعين‬ ‫وضيعنا‬‫ّ‬
‫ِ‬
‫املوت‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫بلد ِ‬ ‫رب لم يبق لنا في ِ‬
‫املوت ٌّ‬
‫مفر‬ ‫املوت من ِ‬ ‫سوى ِ‬
‫ْ‬
‫العساكر‬ ‫ر ّب َّ‬
‫لكن‬ ‫ِ‬
‫ْ‬
‫املقابر‬ ‫نسفوا َّ‬
‫كل‬
‫ْ‬
‫يا ُمعين‪..‬‬
‫أين نمض ي‬‫َ‬
‫ْ‬ ‫ُ ّ‬ ‫ٌ‬
‫يقتل حتى امليتين‬ ‫حاكم‬ ‫ولدينا‬
‫في الهجرة والعذاب تنبري األقالم وتتلون الصور‪ ،‬في هذه املشاعر تيمنى الشاعر الغريب أن يتخلص من‬
‫شعره الذي أثقل ظهره‪ ،‬بل قصمه‪ ،‬والسؤال الوحيد لذلك الحنين وللوطن الذي ال جواب له‪ ،‬ال أدري فهو‬
‫اإلجابة الفضفاضة التي حملت بمضموناتها كل معنى للسلب والضعف‪ ،‬وقلة الحيلة‪ ،‬قال في قصيدته‬
‫ٌ‬
‫"مقيم في الهجرة"(‪)85‬‬

‫(‪ )85‬أحمد مطر‪ ،‬املجموعة الشعرية‪ ،‬ص‪.187‬‬

‫‪39‬‬
‫قلمي يجر ْي‬
‫ودمي يجر ْي‬
‫و أنا ما بينهما أجر ْي‪.‬‬
‫َّ‬
‫الجر ٌي تعث َرفي إثر ْي‬
‫و أنا أجر ْي‬
‫ّ‬ ‫والص ُبر َّ‬
‫َّ‬
‫تصب َرلي حتى‬
‫الص َبرعلى صبر ْي‬ ‫لم ْ‬
‫يطق َّ‬

‫و أنا أجري‪.‬‬
‫أجري‪ ،‬أجري‪ ،‬أجري‪..‬‬
‫ُ‬
‫أوطاني شغلي‪ ..‬والغربة أجري‬
‫يا شعري‬
‫َ‬
‫قاصم ظهري‬ ‫يا‬
‫هل يشبنهي ٌ‬
‫أحد غيري؟‬
‫ُ‬
‫في الهجرة أصبحت مقيما‬
‫جر‬ ‫َ‬ ‫ُُ ُ‬
‫والهجرة تمعن في اله ِ‬
‫أين غدا ُأ ُ‬
‫صبح‬ ‫َ‬

‫ل أدري‪.‬‬
‫هل حقا ُأ ُ‬
‫صبح‬
‫ل أدري‬
‫ُ‬
‫هل أعرف وجهي؟‬
‫ل أدري‪.‬‬
‫َ‬
‫أصبح عمري؟‬ ‫كم‬
‫ل أدري‪.‬‬
‫عمري ل يدري كم عمري‬

‫‪40‬‬
‫كيف سيدري؟‬
‫ساعة ميالدي‬
‫ِ‬ ‫من ّأو ِل‬
‫و أنا هجري‬
‫شيئا في الحياة‪ ،‬لقد أصبح ً‬
‫مكانا لالمكان‪ ،‬ظلمة‬ ‫إنه الوطن املعشوق األبدي املقدس الذي ال يقابل بحبه ً‬
‫وكمدا‪ ،‬ضاق بالشاعر فكأنه علبة الكبريت املغلقة‪ ،‬يختنق فيها الناس بفعل الغربة السياسية والحقوق‬ ‫ً‬
‫املهضومة التي يعيشونها‪ ،‬فالحال ال َّبد أن يتغير ولو بتقديم املوت لتحقيق ذلك‪ ،‬فمصير أعواد الثقاب‬
‫االحتراق إذا وجدت نا ًرا بقربها تميت فيها كل صورة من صور اإلنسانية لتشبع رغبتها ونزعتها السلطوية‪،‬‬
‫قال في قصيدته "مأساة أعواد الثقاب"(‪)86‬‬

‫ُ‬
‫كبريت‬
‫ٍ‬ ‫أوطاني علبة‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الغلق‬
‫ِ‬ ‫محكمة‬ ‫والعلبة‬
‫و أنا في داخلها‬
‫ْ‬
‫بالخنق‬ ‫ٌ‬
‫عود محكوم‬
‫ْ‬
‫األيدي‬ ‫فإذا ما فتحتها‬
‫َ‬
‫فلكي تحرق جلدي‬
‫ُ‬
‫فالعلبة ل ُت ُ‬
‫فتح دوما‬
‫ّ ْ‬
‫للغرب أو الشرق‬
‫ِ‬ ‫إل‬
‫ْ‬
‫ّأما للحرق‪ ،‬أو الحرق‬
‫يا َ‬
‫فاتح علبتنا اآلتي‬
‫ْ‬ ‫أن َ‬ ‫ل ْ‬
‫تفتح بالفرق‪.‬‬ ‫حاو‬
‫اهن ل يجدي‬ ‫الر ُ‬ ‫ُ‬
‫الفتح َّ‬
‫ٌ‬
‫مرسوم ِضدي‬ ‫اهن‬‫الر ُ‬ ‫ُ‬
‫الفتح َّ‬
‫ْ‬ ‫ما َ‬
‫دام لحر ٍق أو حرق‬
‫ْ‬
‫إسحق علبتنا‪ ،‬و انثرنا‬
‫ٌ ّ‬ ‫َ‬
‫قليل منا‬ ‫ل تأبه لو مات‬

‫(‪ )86‬أحمد مطر‪ ،‬املجموعة الشعرية‪ ،‬ص‪.63-62‬‬

‫‪41‬‬
‫حق‪.‬‬ ‫َ ّ‬
‫عند الس ِ‬
‫يكفي أن يحيا أغلبنا ًّ‬
‫حرا‬
‫الر ْ‬
‫فق‪.‬‬ ‫في أرض بالغة ّ‬
‫ٍ‬
‫ٌ‬
‫عشب‬ ‫األسوارعليها‬
‫هواء ْ‬
‫طلق‬ ‫ُ‬
‫واألبواب ٌ‬ ‫‪..‬‬
‫الشوق إلى الوطن أصيل في النفس ال تحده الحدود‪ ،‬وال تقف في وجهه األهوال‪ ،‬ولكن كيف يكون ذلك‬
‫متاحا‪ ،‬وهو مرهون‪ ،‬وسماؤه ليست ألهله‪ ،‬فقد أمس ى ً‬
‫ضيقا على ساكنيه‪ ،‬فلم يبق للناس بنظره‬ ‫الشوق ً‬
‫إال الخيانة‪ ،‬فهي املالذ الوحيد واملتاح‪ ،‬قال في قصيدته "دعوة للخيانة"(‪)87‬‬

‫وطن هذا الذي‬ ‫هل ٌ‬

‫هائن؟‬ ‫ُ‬
‫وأهله ر ْ‬ ‫ُ‬
‫حاكمه مر ٌ‬
‫اهن‬
‫هل ٌ‬
‫وطن هذا الذي‬
‫ْ‬
‫كمائن؟‬ ‫اصد وأ ُ‬
‫ضه‬ ‫سماؤه مر ٌ‬
‫ُ‬
‫ر‬
‫هذا الذي‬
‫أضيق من َحظيرة ّ‬
‫الدواجن؟‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫هل ٌ‬
‫وطن هذا الذي‬
‫تكون فيه عندما‬
‫غير ْ‬
‫كائن‬ ‫تكون َ‬
‫ْ‬
‫املواطن‬ ‫يا ّأيها‬
‫خنه ثم ُ‬
‫خنه‪،‬‬ ‫ثم ُ‬ ‫ُ‬
‫وخنه َّ‬ ‫ُخ ُ‬
‫نه‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫للبراثن‪.‬‬ ‫بركت خيانة الجر ِاح‬
‫ْ‬
‫املواطن‬ ‫يا ُّأيها‬
‫إن لم ْ‬
‫تخن‬
‫َ‬
‫فأنت حقا خائن‬

‫(‪ )87‬أحمد مطر‪ ،‬املجموعة الشعرية‪ ،‬ص ‪.159‬‬

‫‪42‬‬
‫هكذا رسم أحمد مطر من خالل شعرة لوحة الضياع والذوبان في شخصية تكاد تكون مسحوقة في‬
‫مجتمع قد هضم كل إنسانيتها‪ ،‬فبكلماته وصوره ظهرت الغربة السياسية عميقة متأصلة‪ ،‬داكنة بين‬
‫القلوب وتحت األجفان‪ ،‬ولسان حالها يخاطب املتلقي وينقله إلى الواقع بصورته الحقيقية الواضحة‬
‫َّ‬ ‫كوضوح الشمس ً‬
‫بعيدا عن التزييف والتزوير للحقيقية الراهنة‪ ،‬فما زالت الكلمات الصريحة تتمث ُل‬
‫بمضمونها ومكنونها ومظهرها بمشهد الغربة عند كل قارئ لشعر أحمد مطر‪ ،‬وباحث عما يستتر وراء‬
‫السطور‪ ،‬وما يعتلج في الصدور‪.‬‬

‫املبحث الثالث؛ الغربة عن "سورية" عند طائفة من الشعراء السوريين‪.‬‬


‫ً‬
‫في الشعر الحديث ثار الشعراء بشعرهم لرصد واقع الحياة وتصويرها في املستويات كافة‪ ،‬والشعراء‬
‫ً‬
‫وتعبيرا عن‬ ‫ً‬
‫تصويرا للغربة والتمزق والخيبة‪،‬‬ ‫السوريون هم طائفة من شعراء هذا العصر‪ ،‬فكان شعرهم‬
‫وضع الجي ل واإلنسان‪ ،‬فهو دنيا من االضطرابات والقلق‪ ،‬مع فقد لكل القيم واملبادئ‪ ،‬ومع ذلك كله لم‬
‫ً‬
‫متنوعا‪ -‬التي‬ ‫يغفل الشعراء السوريون صورة التفاؤل واألمل بشعرهم ‪-‬ليقدموا بأشعارهم عاملا ً‬
‫ثريا‬
‫انصهروا فيها‪ ،‬وعايشوا واقعها فكتبوا قصائدهم لنقل واقعها إلينا بكل أمانة وثقة‪.‬‬
‫ً‬
‫طموحا أعرض من الفضاء‪ ،‬وآماال أطول‬ ‫ً‬ ‫ّإن اإلنسان السوري الذي ابتعد عن دياره‪ ،‬يحمل بين جنبيه‬
‫ّ‬
‫من أشعة الشمس‪ ،‬وخلف وراءه دنيا تهدهدها السذاجة والقناعة الروحانية‪ ،‬وإن يكن إلى جانبها الذل‬
‫والجهل والخنوع‪ ،‬فإن حياة املغترب عن بلده سورية‪ ،‬هي حياة يشوبها األلم املضاعف‪ ،‬ألم الغربة والفقد‪،‬‬
‫شيئا من حقه مهما كانت مختلفة ومتطورة عنه‪ ،‬فال بد أن‬ ‫وألم الحياة الجديدة التي ال تعطي حب الوطن ً‬
‫الحنين إلى مرابع الوطن قد استولت على قلبه وطمس على فؤاده‪ ،‬فلم َير ًبدا من التعايش معها بالشعور‬
‫من دون املكان للبعد واملسافة بينهما‪ ،‬وقد عبر عن هذه املشاعر الحميمة والتعلق العظيم بالوطن طائفة‬
‫عما يعتلج في صدورهم‪ ،‬وتبدع‬ ‫من شعراء سورية املغتربين الذين سنقف على أجمل قصائدهم في التعبير ّ‬
‫أقالمهم‪ ،‬في سبيل ذلك‪)88(.‬‬

‫‪ -1‬نزارقباني‬
‫كانت حياة نزار قباني ممتلئة بالترحال والتطواف بين البلدان؛ وذلك بحكم عمله في املجال الدبلوماس ي‪،‬‬
‫فكانت هذه الحياة قد مثلت لديه صورة من صور الشوق والحنين والغربة في كثير من أشعاره املدونة‪،‬‬
‫فالغربة األولى تتمثل بالحنين إلى بيت الطفولة الدمشقي الذي يكاد يكون قارورة عطر‪" ،‬وكأنه أسطر من‬

‫(‪ )88‬انظر‪ :‬عيس ى الناعوري‪ ،‬أدب املهجر‪ ،‬ص‪.79‬‬

‫‪43‬‬
‫الجمال‪ ،‬فهو املظلة التي تركت بصماتها واضحة في شعره‪ ،‬كما تركت غرناطة وإشبيلية وقرطبة بصماتها في‬
‫الشعر األندلس ي‪ )89( .‬وهي القصيدة املشهورة "القصيدة الدمشقية"‪.‬‬
‫يدعو نزار قباني القارئ لشعره إلى الولوج إلى النص والبحث في مكنوناته؛ وذلك ملعرفة ما يصبو إليه‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫من دون الوقوف على ظاهر اللفظ‪ ،‬فيصرح قائال‪" :‬على من يريد أن يقرأني أن يدخل عاملي الشعري دخوال‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كامال شامال‪ّ ،‬أما الذي يكتفي بدخول غرفة واحدة من غرف البيت الكبير‪ ،‬وينس ى بقية الغرف فال أريده أن‬
‫السياح وال يستعملونها"(‪ّ )90‬‬
‫ولعل هذا هو‬ ‫قراء يحملون كاميرات َّ‬
‫يزورني مرة أخرى‪ ،‬فأنا لست بحاجة إلى ّ‬
‫منهجنا للبحث وراء الكلمات عن صور الغربة املتناثرة بين أشعاره بين غربة سياسية واجتماعية ومكانية‬
‫وزمانية‪.‬‬
‫إن مظاهر الغربة القبانية تظهر في صور من العزلة والقهر والسلب للحقوق‪ ،‬فتجربته الشعرية قد‬
‫نقلت إلينا مالمح هذه األحاسيس من خالل نصوص عدة‪ ،‬فلقد أضحى الشعور بغربة الوطن األمثل هو‬
‫الهاجس األول لديه في تعريفه للوطن‪ ،‬بأنه املكان األمثل لكل ساذج‪ ،‬قال في قصيدته "تعريف غير كالسيكي‬
‫للوطن"‪)91( .‬‬

‫وطني‬
‫السذاج ريحانا ور ْ‬
‫اح‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫يفهمك‬
‫ْ‬
‫سماح‬ ‫َ‬
‫الرأس‪ ،‬أو رقص‬ ‫يهز‬ ‫َ‬
‫ويظنونك درويشا ُّ‬
‫َ‬
‫ويظنونك في غفلتهم‬
‫نغمة من بز ٍق‪..‬‬
‫كرس الشاعر نفسه للكتابة بالحق ضد باطل‪ ،‬وبالنور ضد العتمة والظالم‪ ،‬فالغريب في مجتمعه‬ ‫لقد ّ‬
‫ً‬
‫عظيما في نظر من تصفهم‬ ‫مهربا إال بالكتابة والتصوير ملا يحس به‪ ،‬فالكتابة وإن كانت ً‬
‫ذنبا‬ ‫ال يجد له ً‬
‫الوصف الحقيقي‪ ،‬فهي ما تزال تفعل فعلها في كل قارئ ومحب للشعر‪ ،‬ويرى قباني ّ‬
‫"أن الثائر الحقيقي‬
‫ً‬
‫تصورا لشكل املستقبل‪ ..‬فالقصيدة دون ثورة تصبح‬ ‫ثائرا ً‬
‫شعريا‪ ،‬ال بد أن يحمل‬ ‫ً‬
‫سياسيا أو ً‬ ‫سواء أكان ً‬
‫ثائرا‬
‫عمال من أعمال الفوض ى"(‪ )92‬قال في قصيدته "ملاذا أكتب؟"(‪)93‬‬ ‫ً‬

‫(‪ )89‬انظر‪ :‬عبد الرحمن ياغي‪ ،‬القصيدة املالئكية والجواهرية والدرويشية والقبانية‪ ،‬ط‪ ،1‬عمان‪ ،‬دار البشير‪1998 ،‬م‪،‬‬
‫ص ‪.145‬‬
‫(‪ )90‬نزار قباني‪ ،‬قصتي مع الشعر‪ ،‬منشورات نزار قباني‪ ،‬بيروت‪1982 ،‬م‪ ،‬ص ‪.14‬‬
‫(‪ )91‬نزار قباني‪ ،‬ال‪ ،‬ط‪ ،13‬بيروت‪1999 ،‬م‪ ،‬ص‪.35‬‬
‫(‪ )92‬جهاد فاضل‪ ،‬قضايا الشعر الحديث‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الشروق‪1984 ،‬م‪ ،‬ص‪.239‬‬
‫(‪ )93‬نزار قباني‪ ،‬قصائد مغضوب عليها‪ ،‬ص ‪.12-11‬‬

‫‪44‬‬
‫أكتب‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫النساء من أقبية الطغاة‬ ‫حتى أنقذ‬
‫من مدائن األموات‪،‬‬
‫من تعدد الزوجات‪،‬‬
‫من تشابه األيام‪،‬‬
‫ّ‬
‫والصقيع والرتابة‬
‫أكتب‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫حتى أنقذ الكتابة من محاكم التفتيش‬
‫شمشمة الكالب‬
‫ِ‬ ‫من‬
‫مشانق الرقابة‬
‫ِ‬ ‫من‬
‫والغربة عند نزار قباني ال تقف عند حدود املكان والعودة إلى الوطن والشوق إليه‪ ،‬بل ترتبط أيضا في‬
‫البلد اآلخر بالعودة إلى األجداد وما تركوا من أثر في نزوع زمني يظهر في تصوير ملشهد أفعالهم في األندلس‪،‬‬
‫قال في قصيدته "قراءة أخيرة على أضرحة املجاذيب"(‪)94‬‬

‫أمش ي‪..‬‬
‫َ‬
‫غريب الوجه في غرناطة‪..‬‬
‫َ‬
‫األطفال‪ ،‬واألشجار‪،‬‬ ‫أحتضن‬
‫واملآذن املقلوبه‪..‬‬
‫فها هنا املرابطون رابطوا‪..‬‬
‫وها هنا املوحدون استوزروا‪..‬‬
‫وها هنا‪..‬‬
‫اب‪ ،‬والنساء‪ ،‬والغيبوبه‪..‬‬
‫مجالس الشر ِ‬
‫ٌ‬
‫وها هنا عباءة دامية‪..‬‬
‫ْ‬ ‫ٌ‬
‫وها هنا‪ ...‬مشنقة منصوبة‪.‬‬

‫(‪ )94‬نزار قباني‪ ،‬ال‪ ،‬ص‪.27‬‬

‫‪45‬‬
‫ّ‬
‫لتصرح عن حالة‬ ‫ولم تقف حدود الغربة القبانية عند وطنه سورية‪ ،‬بل تجاوزت الحدود األخرى‬
‫الشتات والضياع التي يعيشها وطننا العربي في هذا العصر‪ ،‬قال في قصيدته "الحاكم والعصفور"(‪)95‬‬

‫ساعات‬
‫ٍ‬ ‫أبقى ملحوشا‬
‫ْ‬
‫املأمور‬ ‫َ‬
‫منتظرا فرمان‬
‫مل‬ ‫ّ‬
‫أتأمل في أكياس الر ِ‬
‫عيني ْ‬
‫بحور‬ ‫ودمعي في َّ‬
‫ٌ‬
‫وأمامي كانت لفتة‬
‫ّ‬
‫تتحدث عن "وطن واحد"‬
‫ّ‬
‫تتحدث عن "شعب واحد"‬
‫كالجرذ هنا ْ‬
‫قاعد‬ ‫و أنا ُ‬
‫ِ‬
‫أتقيأ أحزاني‪..‬‬
‫ْ‬
‫الطبشور‬ ‫ات‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫وأدوس جميع شعار ِ‬
‫باب بالدي‬ ‫ُّ‬
‫وأظل على ِ‬
‫مرميا‪..‬‬
‫ْ‬
‫املكسور‬ ‫كالقدح‬
‫ً‬
‫سماء يطير‬ ‫ولقد كان نزار قباني مفعم القريحة حاضر الصورة في الحنين إلى الوطن‪ ،‬فالوطن يمثل له‬
‫فوقها كطير‪ ،‬يالقي من خالل السحب‪ ،‬ويكسب جماله من جمال طبيعة وطنه‪ ،‬قال في قصيدته "ورقة إلى‬
‫القاري"(‪)96‬‬

‫اع أنا ل ُ‬
‫يطيق الوصو ْل‬ ‫شر ٌ‬
‫ضياع أنا ل ي ُ‬
‫ريد الهدى‬ ‫ٌ‬

‫تمد‬ ‫ُ‬
‫جموع السنونو‪ُّ ،‬‬ ‫حروفي‪،‬‬
‫َ‬
‫على الصحو‪ ،‬معطفها األسودا‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫نبضه‬ ‫أعصابه‪.‬‬ ‫أنا الحرف‪.‬‬

‫(‪ )95‬نزار قباني‪ ،‬ال‪ ،‬ص ‪.14 -13‬‬


‫(‪ )96‬نزار قباني‪ ،‬األعمال الشعرية الكاملة‪ ،‬منشورات نزار قباني‪ ،‬بيروت‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.16‬‬

‫‪46‬‬
‫َ‬ ‫قه َ‬ ‫تمز ُ‬
‫ُّ‬
‫قبل أن يولدا‪..‬‬
‫َ‬
‫أنا لبالدي ‪ ...‬لن ْج َم ِاتها‬
‫َّ‬
‫ماتها ‪ ...‬للشذا‪ ..‬للندى‪.‬‬ ‫َْ‬
‫لغي ِ‬
‫هكذا رسم نزار قباني لوحة شعرية في ّ‬
‫حب الوطن والحنين إليه في الغربة‪ ،‬ولقد كانت هذه نماذج‬
‫بسيطة من اختياراتنا الشعرية له للتعبير عن غربته في مجاالت متنوعة‪ ،‬ولو أردنا رصد هذه الظاهرة‬
‫حب الوطن‬‫والصورة الشعرية عنده لكتبنا في ذلك كثير‪ ،‬ولكن كانت زهرة من زهور حديقته الشعرية في ّ‬
‫ِّ‬
‫والشعور بالغربة عنه‪ .‬فلم تكن غربته بمعنى البعد املكاني فقط‪ ،‬بل كانت تحمل معاني عدة بين غربة‬
‫سياسية واجتماعية وزمانية عالوة على املكانية‪ ،‬وتجاوزت في بعضها حدود سورية إلى الوطن العربي قاطبة‪.‬‬

‫‪ -2‬محمد املاغوط‬
‫عاش الشاعر السوري محمد املاغوط حياة ممتلئة بالحزن واألس ى‪ ،‬وكان لهذه الحياة األثر الكبير في‬
‫رفضه للمجتمع والتمرد عليه بشعره؛ وبذلك بدأت بذوره الشعرية تتضح من خالل ملمح الغربة‬
‫مخيلة املاغوط‪ ،‬فهو الذي‬ ‫مكبرة عن صورة األم في ّ‬ ‫مثالية ّ‬
‫االجتماعية والعزلة‪ ،‬فقد "كان للوطن صورة ّ‬
‫الصافية‪ ،‬وينهض الوطن بعبقريات‬ ‫ينشأ ويترعرع في أفيائه املواطن‪ ،‬فيأكل من ثماره‪ ،‬ويشرب من ينابيعه ّ‬
‫أفراده‪ ،‬فيرعى الشعر والشعراء‪ ،‬ويقدمهم على سواهم‪ ،‬ويحقق لهم طموحاتهم الثقافية واالجتماعية‬
‫خيب‬‫جدلية‪ ،‬فبقدر ما يعطي املواطن يأخذ‪ ،‬ولكن الواقع ّ‬‫والسياسية‪ ،‬وتكون العالقة بين الوطن واملواطن ّ‬
‫آمال املاغوط‪ ،‬فإذا الوطن ييهئ له الرصاص واملشانق أو التهجير على األقل‪ ،‬فيرى املاغوط لذلك أن الوطن‬
‫أصبح مقبرة للمناضلين والشرفاء وأصحاب العطاءات‪ ،‬وأن مصير هؤالء هو القتل أو التهجير‪ ،‬أو‬
‫عبر عن الغربة في الوطن‪ ،‬فالحبس قد زاد من غربته وأمله‪ ،‬قال في قصيدته‬ ‫الحبس"(‪ )97‬فبهذه املعاني ّ‬
‫"القتل"(‪)98‬‬

‫َّ‬ ‫ْ‬
‫جرية على قلبي يا سيدي‬ ‫ضع قدمك الح‬
‫الجريمة تضرب باب القفص‬
‫ُ‬
‫يصدح كالكروان‬ ‫والخوف‬
‫ُ‬
‫ها هي عربة الطاغية تدفعها الرياح‬

‫(‪ )97‬انظر‪ :‬خليل موس ى‪ ،‬قراءات نصية في الشعر العربي املعاصر في سورية‪( ،‬الهيئة العامة السورية للكتاب‪2012 ،‬م)‪،‬‬
‫ص‪.143-142‬‬
‫(‪ )98‬محمد املاغوط‪ ،‬األعمال الشعرية‪ ،‬ط‪( ،2‬دمشق‪ :‬دار املدى‪ ،)2006 ،‬ص‪.66-65-58‬‬

‫‪47‬‬
‫وها نحن ّ‬
‫نتقدم‬
‫ّ‬
‫كالسيف الذي يخترق الجمجمة‪.‬‬
‫ّ‬
‫إننا من الشرق‬
‫من ذلك الفؤاد الضعيف البارد‬
‫مفزعة يا ليلى‬
‫ٍ‬ ‫قيلولة‬
‫ٍ‬ ‫إننا في‬
‫لقد كرهت العالم دفعة واحدة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الن َ‬
‫سيج الحشر َّي الفتاك‬ ‫هذا‬
‫و أنا أسير َ‬
‫أمام الرؤس املطرقة منذ شهور‬
‫والعيون املبللة منذ بدء التاريخ‬
‫ماذا تثيربي؟ ل ش يء‬
‫إنني رجل من الصفيح‬
‫أغنية ثقيلة حادة كاملياه الدفقه‬
‫كالصهيل املتمرد على الهضبه‪.‬‬
‫في الغربة يطلق املاغوط صورة معتمة قد كانت داكنة‪ ،‬حملت في مضامينها ألوان الفرقة والعذاب‬
‫فالغريب يعيش حياة قاسية يكابد فيها مرارة البعد والفراق‪ ،‬لذلك يلجأ الشاعر إلى وصف الطبيعة في عيون‬
‫الغريب‪ ،‬قال في قصيدته" الغرباء"(‪)99‬‬

‫ٌ‬
‫قبورنا معتمة على الرابيه‬
‫والليل يتساقط في الوادي‬
‫ُ َ‬
‫يسيربين الثلوج والخنادق‬
‫ُ‬
‫أيتها الجبال املكسوة بالثلوج والحجاره‬
‫أيها النهرالذي ير افق أبي في غربته‬
‫ّ‬
‫الريح‬
‫دعوني أنطفئ كشمعة أمام ِ‬
‫ّ‬
‫أتألم كاملاء حول السفينه‬

‫(‪ )99‬محمد املاغوط‪ ،‬األعمال الشعرية‪ ،‬ص‪.38 -37‬‬

‫‪48‬‬
‫فاأللم يبسط جناحه الخائن‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫املعلق في خاصرة الجواد‬ ‫واملوت‬
‫يلج صدري كنظرة الفتاة املراهقة‬
‫كأنين الهواء القارس‪.‬‬
‫لقد ارتبط حب الوطن عند املاغوط بالحزن‪ ،‬الذي شكل "صورة إبداعية خالقة‪ ،‬تنحو إلى مشاركة‬
‫كل صورة يفعل ذلك؛ ليدخل في أعماق الذات‪ .‬وقد كان حزنه كاإلنسان الذي‬ ‫الشاعر من املتلقي‪ ،‬وهو في ّ‬
‫يتبع الشاعر أينما كان وأينما ّ‬
‫حل"(‪ )100‬فالشعر الذي ال ينقل إلى املتلقي إلى عالم الشاعر الخاص هو هذر‬
‫من القول‪ ،‬فالحزن على الوطن هو باب من أبواب العزلة االجتماعية في عامله الخاص‪ ،‬في مشهد غربة عن‬
‫الوطن بصورة دمشق‪ ،‬قال في قصيدته "جنازة النسر"(‪)101‬‬

‫ّ‬
‫أظنها من الوطن‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫هذه السحابة املقبلة كعينين مسيحيتين‬
‫أظنها من دمشق‬‫ُّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫هذه الطفلة املقرونة الحواجب‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫األكثر صفاء‬ ‫هذه العيون‬
‫قاء بين ّ‬
‫السفن‪.‬‬ ‫من نيران زر َ‬
‫ٍ‬
‫َ‬
‫سيفي الطويل املجعد‬ ‫ّأيها الحزن‪ ..‬يا‬
‫ُ‬
‫الرصيف الحامل طفلة األشقر‬
‫يسأل عن وردة أو أسير‪،‬‬
‫عن سفينة وغيمة من الوطن‪..‬‬
‫ً‬
‫وضوحا في تصويره للمسافر العربي الذي‬ ‫ولعل مشهد الحزن والغربة عن األحبة والوطن يظهر أكثر‬
‫ابتعد عن وطنه وهو يرتحل من بلد إلى آخر‪ ،‬قال في قصيدته "مسافر عربي في محطات الفضاء"(‪)102‬‬

‫ّ‬
‫والفنيون‬ ‫ُ‬
‫العلماء‬ ‫أيها‬

‫(‪ )100‬إيمان عبدو عبد القادر‪ ،‬صورة اإلنسان في شعر محمد املاغوط‪ ،‬رسالة ماجسيتر‪ ،‬د‪ .‬جودت إبراهيم (مشرف)‪،‬‬
‫جامعة البعث‪ ،2010 ،‬ص ‪.185‬‬
‫(‪ )101‬محمد املاغوط‪ ،‬األعمال الشعرية الكاملة‪ ،‬ص ‪.16‬‬
‫(‪ )102‬محمد املاغوط‪ ،‬األعمال الشعرية‪ ،‬ص‪.207‬‬

‫‪49‬‬
‫أعطوني بطاقة سفرإلى ّ‬
‫السماء‬
‫ٌ‬
‫موفد من قبل بالدي الحزينه‬ ‫فأنا‬
‫باسم أراملها وشيوخها وأطفالها‬
‫كي تعطوني بطاقة مجانية إلى ّ‬
‫السماء‬
‫ففي راحتي بدل النقود‪" ..‬دموع"‪.‬‬
‫ولقد كان املاغوط في غربته يرسل رسائل مشمولة بحب الوطن الذي تربى فيه "القرية" ومن خالل هذه‬
‫الرسائل يحاول التخفيف من شعوره بمرارة الغربة االجتماعية‪ ،‬فالكتابة في رأيه هي سبب لكل مايعانيه‪،‬‬
‫ولكنه ال يستطيع إال يذنب بالكتابة ويذنب‪ ،‬فالناس في دمشق يبحثون عن كل حاجة‪ ،‬بينما يبحث الشاعر‬
‫بين الكلمات ّ‬
‫ليعبر عما يدور في نفسه ومخيلته‪ ،‬قال في قصيدته "رسالة إلى القرية"(‪)103‬‬

‫البالبل وزقزقة العصافير‬


‫ِ‬ ‫مع تغريد‬
‫َ‬
‫أناشدك هللا يا أبي‬
‫دع جمع الحطب واملعلومات عني‬
‫وتعال مللم حطامي من الشوارع‬
‫قبل أن تطمرني ّ‬
‫الريح‬
‫أو يبعثرني الكناسون‬
‫هذا القلم سيوردني حتفي‬
‫لم يترك سجنا إل وقادني إليه‬
‫ول رصيفا إل َّ‬
‫ومرغني عليه‬
‫و أنا أتبعه كاملأخوذ‬
‫ّ‬
‫كالسائرفي حلمه‪.‬‬
‫هكذا كان منهج املاغوط في تدوينه الشعري للغربة عن الوطن‪ ،‬هذا املنهج الذي برزت مالمحه في غربة‬
‫الحبس التي فرضت عليه ً‬
‫قسرا‪ ،‬ثم لجوء الشاعر إلى الطبيعة للتخفيف من ألم الغربة والشوق‪ ،‬وفي غالب‬
‫حب الوطن والغربة عنه‪ ،‬قد اصطبغت هذه األشعار بشعور الحزن‪ ،‬ذلك‬ ‫صور فيه ّ‬‫شعر املاغوط الذي ّ‬
‫الحزن الذي ّ‬
‫فجر لديه القريحة واإلبداع الشعري العميق في تصوير املعاناة‪.‬‬

‫(‪ )103‬محمد املاغوط‪ ،‬األعمال الشعرية‪ ،‬ص‪.213‬‬

‫‪50‬‬
‫خاتمة‬
‫َّإن قيمة الوطن في الشعر العربي هي قيمة عظيمة‪ ،‬وقد حاول البحث من خالل هذا األشعار تأصيل‬
‫هذه الظاهرة الشعرية وفق منهج مقارن بين الصورة الشعرية القديمة في الغربة عن الوطن‪ ،‬وبين الغربة‬
‫عنه في الشعر العربي الحديث‪ ،‬فالغربة عن الوطن حملت بمضمونها صور متعددة بين ما يعتلج في األنفس‬
‫ً‬
‫حاضرا في مخيلة املتلقي وقارئ النص‪ ،‬وهذه الدراسة هي جولة في أشعار حب‬ ‫وما رسمته أقالم الشعراء‬
‫الوطن وألم الفرقة والغربة عنه‪ ،‬وال يدعي البحث الكمال‪ ،‬والنضج التام‪ ،‬وال يخرج على باب املحاولة‬
‫والتأثير‪ ،‬وهللا من رواء القصد‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫مصادرالبحث ومراجعه‬
‫‪ )1‬القرآن الكريم‪.‬‬
‫‪ )2‬إسماعيل‪ .‬عز الدين‪ ،‬التفسير النفس ي لألدب‪ ،‬ط‪( ،4‬مكتبة غريب‪ ،‬د‪ .‬ت)‪.‬‬
‫‪ )3‬إسماعيل‪ .‬علي بن‪ ،‬ابن سيدة‪ ،‬املخصص‪( ،‬لبنان‪ :‬دار الكتب العلمية)‪.‬‬
‫‪ )4‬باشالر‪ .‬غاستون‪ ،‬جماليات املكان‪ ،‬غالب هلسا (مترجم)‪ ،‬ط‪( ،2‬بيروت‪ :‬املؤسسة الجامعية‬
‫للدراسات‪1984 ،‬م)‪.‬‬
‫‪ )5‬الجاحظ‪ .‬عمرو بن بحر‪ ،‬الحنين إلى األوطان‪ ،‬ط‪( ،2‬دار الرائد العربي‪1982 ،‬م)‪.‬‬
‫‪ )6‬الجبوري‪ .‬يحيى‪ ،‬الحنين والغربة في الشعر العربي‪ ،‬ط‪( ،1‬عمان‪ :‬دار مجدالوي‪2008 ،‬م)‪.‬‬
‫‪ )7‬خليفة‪ .‬عبد اللطيف‪ ،‬دراسات في سيكولوجية االغتراب‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار غريب‪.)2003 ،‬‬
‫‪ )8‬درويش‪ .‬محمود‪ ،‬األعمال الشعرية الكاملة‪ ،‬ط‪( ،1‬رياض الريس للنشر‪2005 ،‬م)‪.‬‬
‫‪ )9‬الدويهي‪ .‬خليل‪ ،‬ديوان أبي فراس الحمداني‪ ،‬ط‪( ،2‬بيروت‪ :‬دار الكتاب العربي‪1994 ،‬م)‪.‬‬
‫‪ )10‬زعيتر‪ .‬حمادة تركي‪ ،‬جماليات املكان في الشعر العباس ي‪ ،‬ط‪( ،1‬دار الصادق الثقافية‪2013 ،‬م)‪.‬‬
‫‪ )11‬سعيد‪ .‬علي أحمد‪ ،‬أدونيس‪ ،‬األعمال الشعرية الكاملة‪ ،‬ط‪( ،1‬دار املدى للثقافة والنشر‪،‬‬
‫‪1996‬م)‪.‬‬
‫‪ )12‬سعيد‪ .‬علي أحمد‪ ،‬أدونيس‪ ،‬مقدمة للشعر العربي‪ ،‬ط‪ ،3‬دار العودة‪ ،‬بيروت‪1979 ،‬م‪.‬‬
‫‪ )13‬الشايب‪ .‬أحمد‪ ،‬تاريخ الشعر السياس ي‪ ،‬ط‪( ،5‬القاهرة‪ :‬مكتبة النهضة املصرية‪1967 ،‬م)‪.‬‬
‫‪ )14‬عطار‪ .‬نجاح‪ ،‬الجواهري في العيون من أشعاره‪ ،‬ط‪( ،4‬دار طالس للطباعة والنشر‪ ،‬عام‬
‫‪1998‬م)‪.‬‬
‫‪ )15‬العقاد‪ .‬عباس محمود‪ ،‬ابن الرومي‪ ،‬حياته وشعره‪ ،‬ط‪( ،5‬القاهرة‪ :‬املكتبة التجارية‪.)1963 ،‬‬
‫‪ )16‬فاضل‪ .‬جهاد‪ ،‬قضايا الشعر الحديث‪ ،‬ط‪( ،1‬دار الشروق‪1984 ،‬م)‪.‬‬
‫‪ )17‬قباني‪ .‬نزار‪ ،‬األعمال الشعرية الكاملة‪( ،‬بيروت‪ :‬منشورات نزار قباني)‪.‬‬
‫‪ )18‬قباني‪ .‬نزار‪ ،‬قصتي مع الشعر‪( ،‬بيروت‪ :‬منشورات نزار قباني‪1982 ،‬م)‪.‬‬
‫‪ )19‬قباني‪ .‬نزار‪ ،‬ال‪ ،‬ط‪( ،13‬بيروت‪ :‬د‪.‬ن‪1999 ،‬م)‪.‬‬
‫عامريات ابن دراج القسطلي‪( ،‬دمشق‪ :‬منشورات الهيئة العامة السورية‬ ‫ّ‬ ‫‪ )20‬قباني‪ .‬وسام‪،‬‬
‫للكتاب‪2001 ،‬م)‪.‬‬
‫‪ )21‬قاسم‪ .‬عدنان‪ ،‬األصول التراثية في نقد الشعر العربي املعاصر‪ :‬دراسة نقدية في أصالة الشعر‪،‬‬
‫ط‪( ،1‬املنشأة الشعبية للنشر‪1980 ،‬م)‪.‬‬
‫‪ )22‬القاض ي‪ .‬النعمان‪ ،‬أبو فراس الحمداني املوقف والتشكيل الجمالي‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار الثقافة‬
‫للنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪1982 ،‬م)‪.‬‬
‫‪ )23‬املاغوط‪ .‬محمد‪ ،‬األعمال الشعرية‪ ،‬ط‪( ،2‬دمشق‪ :‬دار املدى‪2006 ،‬م)‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫‪ )24‬املجاطي‪ ،‬أحمد املعداوي‪ ،‬ظاهرة الشعر الحديث‪( ،‬الدار البيضاء‪ :‬شركة النشر والتوزيع‬
‫املدرس ي‪ ،‬د‪.‬ت)‪.‬‬
‫‪ )25‬محمود‪ .‬عادل‪ ،‬الجوهرة املؤملة محمود درويش‪( ،‬دمشق‪ :‬الهيئة العامة السورية للكتاب‪،‬‬
‫‪2011‬م)‪.‬‬
‫‪ )26‬مطر‪ .‬أحمد‪ ،‬املجموعة الشعرية‪ ،‬ط‪( ،1‬بيروت‪ :‬دار الحرية‪ ،‬عام ‪2011‬م)‪.‬‬
‫‪ )27‬املعري‪ .‬أبو العالء‪ ،‬سقط الزند‪ ،‬شرح‪ :‬أحمد شمس الدين‪ ،‬ط‪( ،1‬بيروت‪ :‬دار الكتب العلمية‪،‬‬
‫‪.)1990‬‬
‫‪ )28‬املعري‪ .‬أبو العالء‪ ،‬لزوم ما ال يلزم (اللزوميات)‪( ،‬بيروت‪ :‬دار صادر‪ ،‬د‪.‬ت)‪.‬‬
‫‪ )29‬مكي‪ .‬محمود علي‪ ،‬ديوان ابن دراج القسطلي‪ ،‬ط‪( ،1‬دمشق‪ :‬منشورات املكتب اإلسالمي‪،‬‬
‫‪1961‬م)‪.‬‬
‫‪ )30‬موس ى‪ .‬خليل‪ ،‬قراءات نصية في الشعر العربي املعاصر في سورية‪( ،‬الهيئة العامة السورية‬
‫للكتاب‪2012 ،‬م)‪.‬‬
‫‪ )31‬الناعوري‪ .‬عيس ى‪ ،‬أدب املهجر‪ ،‬ط‪( ،3‬مصر‪ :‬دار املعارف د‪ .‬ت)‪.‬‬
‫‪ )32‬نيازي‪ .‬صالح‪ ،‬االغتراب والبطل القومي‪ ،‬ط‪( ،1‬مؤسسة االنتشار العربي‪1999 ،‬م)‪.‬‬
‫‪ )33‬هيكل‪ .‬أحمد‪ ،‬األدب األندلس ي من الفتح إلى سقوط الخالفة‪ ،‬ط‪( ،13‬القاهرة‪ :‬دار املعارف‪،‬‬
‫‪1958‬م)‪.‬‬
‫‪ )34‬ياغي‪ .‬عبد الرحمن‪ ،‬القصيدة املالئكية والجواهرية والدرويشية والقبانية‪ ،‬ط‪( ،1‬عمان‪ :‬دار‬
‫البشير‪1998 ،‬م)‪.‬‬

‫‪53‬‬

You might also like