Professional Documents
Culture Documents
-مقدمة
-1النقد العربي مفهومه وتطوره وجغرافيته في المشرق والمغرب.
-2بيبليوغرافيا المصنفات النقدية في المشرق والمغرب.
-3النقد اإلنطباعي مفهومه ومجاالته ونماذج من نصوصه.
-4مفهوم الشعر عند النقاد المشارقة والمغاربة.
-5االنتحال وتأصيل الشعر (نماذج نصية من المشرق والمغرب واألندلس ).
-6عمود الشعر ( نماذج نصية من المشرق والمغرب واألندلس ).
-7اللفظ والمعنى عند ابن قتيبة وابن طباطبا وقدامة بن جعفر.
-8اللفظ والمعنى عند نقاد األندلس والمغرب العربي.
-9الموازنات النقدية ( نماذج نصية من المشرق واألندلس والمغرب).
-خاتمــة
مقدمـــة:
تتناول هذه المطبوعة سلسلة من المحاضرات النظرية ،في مقياس النقد األدبي القديم ،ألقيت
على طلبة السنة األولى نظام LMDفي السداسي األول عام .2015-2014
وقد تتبعنا المفردات المبرمجة في هذا المقياس بغية الوصول إلى أهداف منها:
-تسليط الضوء على التراث النقدي العربي القديم.
-معرفة أهم القضايا التي تناولها الخطاب النقدي القديم.
-التعريف بأهم المصنفات النقدية القديمة من حيث المنهج واألسس النقدية المتبعة.
-إبراز الجهود المعتبرة التي بذلها هؤالء النقاد.
-إعطاء فكرة مبسطة عن كل موضوع طرقناه بدءا بالمفهوم اللغوي واالصطالحي لكلمة النقد
وكيف تدرج من االنطباعية والتأثرية إلى التعقيد والمنهجية.
هذا وعمدنا إلى تحديد ما يجب تحديده من معايير نقدية ،فوقفنا عند مفهوم النقد وعالقته
باألدب والبالغة وتطوره وجغرافيته ،كما قمنا بالتعريف بأهم المصنفات النقدية منذ بدء عصر
التأليف في شكل بيبليوغرافيا ترصد هذه المصنفات في المشرق والمغرب واألندلس .ولم يفتنا أن
نشير إلى طبيعة النقد في العصور المبكرة فتناولنا النقد االنطباعي ونماذج من نصوصه في
العصر الجاهلي ثم اإلسالمي فاألموي.
وانتهى بنا المشوار إلى معالجة أول قضية نقدية ،وهي مفهوم الشعر عند النقاد القدامى ،ثم
بدأنا في معالجة بعض القضايا كاالنتحال ،وعمود الشعر واللفظ والمعنى وغيرها من القضايا.
كما أننا في تناولنا لهذه القضايا لم نغفل الرؤية المعاصرة حتى ال يشعر الطلبة أنهم
مأسورون في القديم ،وقد فضلنا أن تكون مصادر ومراجع هذه المطبوعة متنوعة حيث تنوعت
بين المصنفات القديمة كطبقات الشعراء البن سالم الجمحي ،والبيان والتبيين للجاحظ والشعر
والشعراء البن قتيبة والعمدة البن رشيق والمنهاج لحازم القرطاجني ،ومراجع حديثة كالنقد
المنهجي عند العرب لمحمد مندور وتاريخ النقد األدبي عند العرب إلحسان عباس ،والتراث
النقدي ،نصوص ودراسة لرجاء عيد ،والنقد األدبي عند العرب واليونان لقصي الحسين ،وهذا
حفاظا على مبدأ التواصل بين القديم والجديد.
وفي األخير نرجو أن تكون هذه المطبوعة على الرغم مما فيها من تبسيط وإيجاز مفيدة
لطلبتنا األعزاء وأن تكون في متناولهم ،وهللا من وراء القصد.
1
المحاضرة األولى :النقد العربي مفهومه وتطوره وجغرافيته في
المشرق والمغرب
النقد أمر فطري في اإلنسان ،فاإلنسان يبتهج لرؤية منظر حسن ،ويشمئز من المنظر
القبيح ،لذا فإنه يميز بين القبح والجمال ،ويميل إلى صوت البلبل الصداح ،وينفر من نعيق الغراب
وفحيح األفعى.
هكذا نجد التمييز بين الخير والشر ،والقبح والجمال ،أمرا فطريا في اإلنسان وجد معه .وقد
نشأ عند العرب في عصور مبكرة ولكنه كان فطريا يعتمد على اإلحساس والذوق ،فما مفهوم النقد
؟ وكيف تطور عند العرب في المشرق والمغرب ؟
النقد لغة:
جاء في لسان العرب في مادة (نقد) ":النقد خالف النسيئة ،والنقد التنقاد :تمييز الدراهم
وإخراج الزيف منها ،أنشد سيبوية:
نفي الدراهم تنقاد الصياريف تنفي يداها الحصى في كل هاجرة
و قد نقدها ينقدها نقدا وانتقدها وتنقدها ونقده إياها نقدا ،أعطاه فانتقدها أي قبضها وناقدت
فالنا إذا ناقشته في األمر.
نقد الطائر الفخ ينقده بمنقاره أي ينقره ،والمنقاد منقاره ،وفي حديث أبي الدرداء :إن نقدت
()1
الناس نقدوك ،وإذا تركتهم تركوك ،ونقدت الجوزة انقدها إذا ضربتها ،ونقدته الحية لدغته".
ويمكن استخالص معاني كلمة نقد مما سبق كما يلي:
فهي تعني تمييز الدراهم صحيحها من زائفها ،وتعني اإلعطاء والمنح ،وتعني كذلك
المناقشة وتعني إظهار العيوب وتمييز الجيد من الرديء وتعني كذلك اإليذاء.
وقد استعارها الباحثون في النصوص األدبية ليدلوا بها على الملكة التي يستطيعون بها
معرفة الجيد من النصوص والرديء والجميل والقبيح وما تنتجه هذه الملكة في األدب من
()2
مالحظات وآراء وأحكام مختلفة.
وعليه فالنقد تحليل القطع األدبية وتقدير ما لها من قيمة فنية أو هو المرآة الصادقة التي
تعكس نواحي الجمال والحسن في العمل األدبي ،كما تقف على مظاهر القوة والضعف فيه.
األدب والنقد:
من الواضح أن األدب وجد أوال ثم يوجد نقده " لسبب بسيط وهو أن النقد يتخذه موضوعا
له ومن هنا ينشأ الفرق البين بينهما ،فاألدب موضوعه الطبيعة والحياة اإلنسانية والنقد موضوعه
() 3
األدب ".
كما هناك فرق بين تاريخ األدب والنقد فاألول يتناول كل اآلثار العقلية والشعورية عند
األمة متعقبا لها مع دورات التاريخ ،أما النقد فال يحاول هذا التاريخ الكبير إذ حسبه أن يقف عند
األدباء وما صاغوه من أثار فنية ليحللها ويقومها ،ومعنى هذا أن تاريخ األدب يختلف عن النقد من
()4
حيث موضوعه وطريقة معالجته.
النقد والبالغة:
1ابن منظور :لسان العرب ،دار صادر ،بيروت ،مج ،3ط ،1994 ،3ص .426 ،425
2شوقي ضيف :النقد ،دار المعارف ،مصر ،ط ،1979 ،4ص .09
3شوقي ضيف :النقد ،ص .09
4ينظر :المرجع نفسه ،ص .10
2
إن موضوع النقد والبالغة هو األدب ،وعليه فال يختلفان في الموضوع ،وإنما يختلفان من
حيث المعالجة وطريقة العرض ،فالبالغة ال تعنى بالصلة بين األثر األدبي وصاحبه وال تعني
كذلك بالقيم العقلية والعاطفية في النص ،وإنما تعنى بنظرية األسلوب وخصائصه وما يحتوي من
مجازات وكنايات ،ولذلك فهي تصف وتعلم ،أما النقد فيحلل الظاهر والباطن في األعمال
()1
األدبية.
وفي النقد العربي فإن التأليف في البالغة امتزج في أول األمر بالنقد ،فلم تؤلف كتب منفردة
في البالغة إال في نهاية القرن الرابع الهجري ،أما قبل ذلك فكان ثمة امتزاج واضح بين مدلول
النقد ومدلول البالغة ،كما نرى في كتاب البديع البن المعتز (296هـ) ،وكتاب الموازنة لآلمدي
(371هـ) ،وكتاب الصناعتين ألبي هالل العسكري (395هـ) ،والوساطة للقاضي الجرجاني
()2
(392هـ) ،ودالئل اإلعجاز لعبد القاهر الجرجاني (471هـ) ...وغيرها.
تطور النقد العربي وجغرافيته:
لقد كان النقد العربي في مراحله األولى نقدا تأثريا يعتمد على االنطباع الذاتي البحت ،دون
اتكاء على عمليات ذهنية موجهة ،أي دون أسس نظرية ،ثم جاء العصر اإلسالمي فنما النقد
ونهض الشعر ،واختصم الشعراء حول هذا الدين الجديد ،ولما تقدم القرن األول قويت نهضة
الشعر ،ونما وازدهر في العصر األموي وذلك في ثالث بيئات( :الحجاز ،العراق ،الشام) ،أما
عداها كفارس ومصر والمغرب فلم يزدهر فيها في هذا العصر أدب وال نقد.
وتبع النقد مجريات الحركة األدبية فاتجه أكثره إلى التفضيل بين الشعراء خاصة بين جرير
واألخطل والفرزدق.
ويتلخص أن النقد حتى العصر األموي لم تظهر فيه مدارس نقدية واضحة المعالم ،وأن
النقد ظل قريبا مما كان عليه في الجاهلية قائما على الذوق جزئيا غير معلل في كثير من
األحيان( ،)3و لما جاء العصر العباسي ظهرت ثالث طوائف تنظر في األحكام النقدية وتناقشها
وتضع المؤلفات النقدية ،فالطائفة األولى هي طائفة األدباء من شعراء وكتاب والثانية طائفة
اللغويين التي اهتمت برواية الشعر ونقده كاألصمعي ،أما الطائفة الثالثة فطائفة المتكلمين التي
أسهمت في تطوير أمور النقد والبالغة.
ولما جاء القرن الثالث ظهر لنا ابن سالم الجمحي بكتاب طبقات فحول الشعراء ،الذي يشير
إلى قضايا نقدية كالمفاضلة بين الشعراء واالنتحال ،ثم الجاحظ بالبيان والتبيين والحيوان ،ثم ابن
قتيبة في كتاب الشعر والشعراء.
وفي القرن الرابع ألف ابن طباطبا عيار الشعر وقدامة بن جعفر نقد الشعر وفيه األثر
اليوناني ،فأصبح للنقد أسس ومناهج متبعة ،وهذا ما أثمر كتابين جديدين وهما الموازنة لآلمدي
والوساطة للقاضي الجرجاني ،ثم ظهر النقد البالغي على يد عبد القاهر الجرجاني في كتابه دالئل
اإلعجاز و أسرار البالغة في القرن الخامس الهجري.
هذا وقد ظهر النقد في المغرب واألندلس متأثرا بالنقد في المشرق وظهرت مؤلفات منها
العمدة البن رشيق والعقد الفريد البن عبد ربه .وهكذا تواصلت المؤلفات حتى ابن خلدون ومقدمته
( 808هـ).
أخذ النقد العربي في القرن الثالث الهجري ينزع إلى البحث والتأليف على أيدي ثلة من
النقاد وعلماء األدب ،الذين خاضوا في الموازنات والموازين النقدية ،كابن سالم والجاحظ وابن
قتيبة وغيرهم ،ثم بدأت التصانيف تتوالى حتى القرن الثامن في المشرق والمغرب واألندلس.
ونسعى في هذه المحاضرة إلى تتبع بعض المصنفات النقدية المهمة التي ألمت بأهم
القضايا النقدية التي طرحها الخطاب النقدي القديم عبر القرون المتوالية ،وسنحاول وضع
بيبليوغرافيا ألهم هذه المصنفات.
أوال :في القرن الثالث:
-1طبقات فحول الشعراء البن سالم الجمحي (ت 232هـ):
يعتبر هذا الكتاب أول محاولة جادة تمثلت في جمع شتات آراء سابقيه ومعاصريه في النقد
العربي وتنظيمها تنظيما علميا ،وكان بذلك واضع أول لبنة في النقد العربي( ،)1كما يعتبر أول
كتاب في النقد وصلنا كامال ،وقد قسمه صاحبه إلى قسمين :القسم األول؛ المقدمة وتحتوي على
قضايا نقدية مهمة ،تكشف عن مفهوم الشعر في ذلك العصر وطبيعته ،ونقد الرواية وتحقيق
النصوص (االنتحال) وتأريخ نشأة الشعر وعلوم العربية عند العرب.
أما القسم الثاني من الكتاب فيحتوي على تصنيف الشعراء إلى طبقات ،جاهليين
ومخضرمين وإسالميين( ،)2ثم أشار إلى طبقة شعراء المراثي ،وطبقة شعراء القرى العربية،
وطبقة شعراء يهود .لقد خطا ابن سالم في طبقاته خطوة المعة في النقد ،ومهد الطريق للنقاد من
بعده.
-2كتاب الحيوان وكتاب البيان والتبيين للجاحظ (ت 255هـ)
يعد كتاب الحيوان وكتاب البيان والتبيين من أواخر مؤلفات الجاحظ ،فكتاب الحيوان من
أعظم كتبه ،وأجلها شأنا ،فقد حوى إلى جانب التعريف بالحيوان وكل ما يتعلق به موضوعات
كثيرة تتصل بالفلسفة والعلوم الطبيعية واألدبية.
أما البيان والتبيين ففي جملته يتكلم عن البيان والبالغة والخطابة العربية والشعر العربي،
وقد وضعه الجاحظ في ثالثة أجزاء.
والفكر النقدية مبثوثة في الكتابين وفي بعض الرسائل أهمها ماهية الشعر وجوهرة،
ومصدر الشعر والسرقات الشعرية ،وموضوعية النقد األدبي ،والشعر والطبع ،وبناء لغة الشعر
()3
وغيرها من القضايا.
-3الشعر والشعراء البن قتيبة ( ت 276هـ )
يعد هذا الكتاب من أهم الكتب النقدية في القرن الثالث بعد طبقات ابن سالم ،واهم ما يميزه
هو منحاه في النقد ،فقد احتوى كتابه على مقدمة نقدية جيدة تعد من بواكير النقد األدبي ،واقتصاره
على مشاهير الشعراء دون غيرهم ،ويختلف عن طبقات ابن سالم كونه يترجم للشعراء مراعيا
()4
التسلسل الزمني.
1ينظر :قصي الحسين :النقد األدبي عند العرب و اليونان معالمه و إعالمه المؤسسة الحديثة للكتاب ،لبنان ط ،2003 ،1ص.290
2ينظر :عز الدين إسماعيل :المصادر األدبية واللغوية في التراث العربي ،دار النهضة العربية ،بيروت ،1976 ،ص .229
3ينظر :عيسى علي العاكوب :التفكير النقدي عند العرب ،مدخل إلى نظرية األدب العربي ،دار الفكر المعاصر ،لبنان ،ط،1
،1997ص 137و ما بعدها.
4ينظر :عبد الطيف صوفي :مصادر األدب في المكتبة العربية ،دار الهدى ،الجزائر ،1994 ،ص .38
4
وما يهم هو مقدمتة النقدية التي احتوت على قضايا مهمة نذكر منها رأيه في اللفظ والمعنى،
الحيادة في الحكم على الشعر والشاعر ،بناء القصيدة وثقافة النقد ،والحاالت النفسية وعالقتها
بالشعر،الطبع و التكلف،القديم و الحديث.
-4كتاب البديع البن المعتز (ت 296هـ)
()1
يعتبر كتاب البديع "حسب النقاد " أول بحث منهجي في البالغة والنقد والشعر" ،وقد
وضعه ابن المعتز سنة 274هـ وهو يشتمل على خمسة أبواب تمثل فنون البديع األساسية.
" كما يعتبر أول كتاب في تاريخ علوم النقد والبالغة ،يتناول األدب تناوال فنيا ...إذ نراه
يدرس العبارة وينقدها ،كما يتوقف عند الصور التعبيرية أو األساليب البالغية وقد أسس ذلك
لوجود مقياس جديد في النقد األدبي هو (المقياس البديعي) الذي أخذ يقيس األدب بما يرد فيه من
بديع"(.)2
ثانيا :في القرن الرابع:
-1كتاب عيار الشعر البن طباطبا العلوي(ت 322هـ)
يعتبر كتاب عيار الشعر حلقة متممة لما جاء به ابن قتيبة وهو مقسم إلى قسمين أساسيين،
مقدمة ومتن ،فم قدمته تشبه مقدمة الشعر والشعراء فيها أشياء كثيرة عن النقد األدبي( ،)3وتدور
حول أربعة موضوعات هي تعريف الشعر ،صنعة الشعر ،فنون الشعر العربي وأساليبه ثم عيار
الشعر ويقصد به الوسائل التي يعرف بها جيد الشعر من رديئه.
كما تكلم عن التشبيه وأدواته ومعاني الشعر والوحدة العضوية والخلق الشعري ومراحله
والسرقة الشعرية والصدق وأنواعه وثقافة الشاعر ،وحسب له كذلك اهتمامه بجماليات التلقي في
الفن الشعري " ،وهذه رؤية جمالية متقدمة كثيرا بالقياس إلى عصرها "(.)4
-2كتاب نقد الشعر لقدامة بن جعفر (ت 337هـ):
أول كتاب يحمل هذا العنوان وترد فيه كلمة نقد صريحة ،ويرى صاحبه أنه " أول كتاب
يؤلف في النقد" ( ،)5وهو ذو أثر كبير في حركة النقد العربي ونهضته.
وقد فصل قدامة بن جعفر "مذهبه في النقد الذي احتذى فيه حذو أرسطو في كتابه
(الخطابة) ،الذي ترجمه حنين ابن إسحاق في النصف األخير من القرن الثالث الهجري"( ،)6أما
أهم الفكر النقدية الواردة في هذا الكتاب فهي تعريف الشعر ،أسباب الشعر ومكوناته الرئيسية،
أوصاف الشعر ،طبيعة الشعر ،الغلو والمبالغة في تناول المعاني.
لقد وضع قدامة بن جعفر مذهبا نقديا لنقد الشعر متأثرا بالثقافتين العربية األصيلة والفلسفة
()7
اليونانية ،فقد نهج قدامة في نقد الشعر نقدا علميا.
-3الموازنة بين الطائيين لآلمدي (ت 371هـ):
عنوان الكتاب هو (:الموازنة بين أبي تمام حبيب بن أوس الطائي وابن عبادة الوليد بن عبيد
البحتري في شعريهما) كتاب الموازنة وثبة في تاريخ النقد العربي ،فكان موازنة مدروسة مؤيدة
بالتفصيالت التي تلم بالمعاني واأللفاظ والموضوعات الشعرية ،لهذا جاء بحثا في النقد واضح
1ينظر :إحسان عباس ،تاريخ النقد األدبي عند العرب ،ص .157
2ينظر :محمد مندور :النقد المنهجي عند العرب ،نهضة مصر للطباعة و النشر و التوزيع القاهرة ، 1996ص .348
3ينظر :المرجع نفسه :ص .277-276
4أحمد سيد محمد :المصدر األدبي ،مفهومه وأنواع دراسته ،المؤسسة الوطنية للكتاب ،الجزائر ،ط ،1986 ،2ص .106
5عبد اللطيف صوفي :مصادر األدب في المكتبة العربية ،ص .235
6محمد مندور :النقد المنهجي عند العرب ،ص .334
6
أما كتاب أسرار البالغة فيظم مجموعة دراسات تتناول بحوث علم البيان من تشبيه ومجاز
واستعارة وفيه شرح للسرقات وبعض ألوان البديع .هذا " ويحكم عبد القاهر في الدالئل واألسرار
على كثير من األدباء والشعراء أحكاما صادقة تدل على عدالة نقده ،ويستدل بالكثير من أشعار
المحدثين ،ويعقد في الكثير بينها موازنات تدل على وقوفه على دقائق البيان"(.)1
كما يشير بعض النقاد أن النقد الموجود في الكتابين أدق نقد موضوعي تطبيقي وأعمقه.
كتاب منهاج البلغاء وسراج األدباء لحازم القرطاجني ت( 684هـ)
هذا الكتاب يمزج بين البالغة والنقد ،وقد حققه التونسي محمد الحبيب بن الخوجة ،وهو في
أربعة أقسام ضاع األول منها تماما ،ولكن األقسام المتبقية تظم فكرا نقدية المعة ويترائ فيها حازم
()2
ناقدا ألمعيا قليل النظير.
القسم الثاني يتناول المعاني الشعرية والقسم الثاني يتناول النظم والقوانين البالغية ،أما
القسم الرابع فموضوعه الطرق الشعرية والمنهاج يتوفر على مادة نقدية وبالغية غزيرة قلما تعثر
عليها في كتاب نقدي أو بالغي آخر( ،)3والفكر النقدية الموجودة في الكتاب يمكن ذكرها فيما يلي:
المعاني الشعرية ،غموضها ،تخييل األغراض باألوزان التخييل والمحاكاة.
ويعتبر الدكتور إحسان عباس أن كتاب المنهاج هو آخر صلة بين كتاب أرسطو والنقد
العربي.
وفي األخير هذه بيبليوغرافيا لمجموعة من المصنفات النقدية في المشرق والمغرب
واألندلس إال أن هناك بعض المصنفات .لم نذكرها لتفادي اإلطالة وحبا لالختصار ،وال بأس أن
نذكرها فقط دون تفصيل.
فهناك فحولة الشعراء لألصمعي (ت210هـ) ،والكامل في اللغة واألدب للمبرد
(ت285هـ) ،وأخبار أبي تمام ألبي بكر الصولي (ت335هـ) ،وحلية المحاضرة للحاتمي
(ت388هـ) ،وكتاب الصناعتين ألبي هالل العسكري (ت395هـ) ،وكتاب شرح ديوان الحماسة
للمرزوقي (ت421هـ) ،وسر الفصاحة البن سنان الخفاجي (ت466هـ) ،والمثل الثائر في أدب
الكاتب والشاعر البن األثير (ت637هـ) هذا في المشرق.
أما في المغرب فهناك كتاب الممتع في عمل الشعر وعمله لعبد الكريم النهشلي (ت403هـ)،
وكتاب أعالم الكالم أو رسائل االنتقاد البن شرف القيرواني (ت460هـ) ،والمقدمة البن خلدون
(ت808هـ) ،أما في األندلس فنجد من الكتب التي تحمل آراء نقدية العقد الفريد البن عبد ربه
(ت328هـ) ،ورسائل ابن حزم (ت456هـ) ،التوابع والزوابع البن شهيد(ت426هـ).
1عبد القاهر الجرجاني :دالئل اإلعجاز ،تح عبد المنعم خفاجي ،دار الجيل بيروت ،ط ،2004 ،1ص .07
2ينظر :عيسى علي العاكوب :التفكير النقدي عند العرب ،ص .316
3ينظر :عيس علي العاكوب ،التفكير النقدي عند العرب ،ص .316
7
المحاضرة الثالثة :النقد االنطباعي مفهومه ومجاالته
ونماذج من نصوصه
ال شك أن النقد هو فن دراسة العمل األدبي ،لمعرفة جيده من رديئة وذلك بتحليله وتفسيره
وتقدير قيمته الفنية .وقد ظهر عند العرب منذ العصر الجاهلي ،ولكنه كان يدور في فلك "
االنطباعية الخالصة واألحكام الجزئية التي تعتمد المفاضلة بين بيت وبيت أو تمييز البيت المفرد أو
إرسال حكم عام في الترجيح بين شاعر وشاعر" (.)1
وعليه فالنقد االنطباعي كان في المراحل المبكرة للنقد العربي ،فيا ترى ما مفهومه وما
خصائصه ؟
مفهوم النقد االنطباعي:
هو نقد يصدر من شخص تحت تأثير االنطباعات األولية السريعة الذوقية أو المزاج
الخاص الفردي ،ولم يصدر عن تفكير عميق وتأمل ودراسة معمقة ،كما يكون هذا النقد أحكاما
جزئية عامة سريعة غير معللة ،يصف فيها الناقد النص وال يبين األسباب التي دفعته إلى ذلك.
ويتميز هذا النوع من النقد بالسذاجة والبساطة والمبالغة في إصدار األحكام ،ألنه مبني على
االنفعال والتأثر والنظرة العجلى ،ولم يبن على قواعد وأسس علمية صحيحة اتفق عليها العلماء.
هذا والمتتبع للنصوص النقدية العربية منذ النشأة يراها " بسيطة ،حيث كان الناقد يعتمد
على ذوقه وانطباعه الفطري ،يوجه نقده للشعر في كلمة أو جملة تجاه بيت أو عدة أبيات كانت قد
تركت في نفسه أثرا معينا ،الن االنطباع البسيط فطري في اإلنسان"(.)2
كما نجد هذا النوع من النقد يتجسد في عبارات كثرت في ذلك العصر (بداية النقد) كأن
يقول الناقد :هذا أشعر بيت ،هذه أجمل قصيدة ،أشعر الجن واإلنس ...وغيرها.
نماذج من نصوصه:
* من صور النقد االنطباعي ما يكون مالحظات سريعة جزئية تعتمد على الذوق والسليقة،
و من ذلك مثال":مر المسيب بن علس بمجلس قيس بن ثعلبة فاستنشدوه فأنشدهم ،فلما بلغ قوله:
بناج عليه الصيعرية مكدم وقد أتناسى الهم عند إذكاره
()3
فقال طرفه وهو صبي يلعب مع الصبيان :استنوق الجمل ،وهو يريد أن الشاعر وهو يصف
الجمل ذكر من أوصافه ما يخص الناقة (الصيعرية) ،وهي سمة تكون في عنق الناقة ال في عنق
الجمل .وقد استعملها المسيب استعماال خاطئا.
* ومن ذلك ما يروي أنه " :كان النابغة الذبياني تضرب له قبة حمراء من أدم بسوق عكاظ
فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها .فكان أول من أنشده األعشى :ميمون بن قيس ،أبو بصير،
ثم أنشده حسان بن ثابت األنصاري:
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى
فأكرم بنا خاال وأكرم بنا ابنما ولدنا بني العنقاء وابني محـرق
فقال له النابغة :أنت شاعر ،ولكنك أقللت جفانك وأسيافك ،وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك
"(.)4
1إحسان عباس :تاريخ النقد األدبي عند العرب ،ص .46
2إبراهيم صدقة :التأثرية و النقد التأثري عند محمد مندور ،رسالة ماجستير ،إشراف :عدنان يوسف سكيك ،المعهد الوطني للتعليم
العالي في اللغة العربية وآدابها ،باتنة ،الجزائر ،1986 ،ص .22
3المرزباني :الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء تح ،محمد حسين شمس الدين ،دار الكتب العلمية ،بيروت ،ط ،1995 ،1ص
.95 ،94
4المصدر نفسه ،ص .93
8
فهذا نقد انطباعي سليقي مبني على الذوق الفطري الذي يمكن صاحبه من تمييز كالم عن
كالم وشاعر عن شاعر ،والمرجعية التي اعتمد عليها النابغة في قوله :وفخرت بمن ولدت ولم
تفخر بمن ولدك ،هي العرف القبلي السائد الذي يفخر باآلباء واألجداد وال يفخر باألبناء.
ومن أرقى األمثلة كذلك ما يروى عن " تحاكم الزبرقان بن بدر وعمر بن األهتم وعبدة بن
الطبيب والمخبل السعدي إلى ربيعة بن حذار األسدي في الشعر ،أيهم أشعر؟ .فقال للزبرقان :أما
أنت فشعرك كلحم اسخن ال هو انضج فأكل وال ترك نيئا فينتفع به ،وأما أنت يا عمرو فإن شعرك
كبرود حبر( ،)1يتألأل فيها البصر فكلما أعيد فيها النظر نقص البصر ،وأما أنت يا مخبل ،فإن
شعرك قصر عن شعرهم وارتفع عن شعر غيرهم ،وأما أنت يا عبدة فإن شعرك كمزادة أحكم
خرزها ( )2فليس تقطر وال تمطر"(.)3
هذه أحكام نقدية عامة مبهمة سريعة وليدة ذوق فطري متعجل ،غير مبنية على مقاييس
واضحة ،وكذا الشأن في أغلب النماذج في العصر الجاهلي فهي تجمع بين الجزئية والتعميم
والتعبير عن االنطباع الكلي دون اللجوء إلى التعليل.
العصر اإلسالمي:
عند مجيء اإلسالم ظهر صراع حول الدين الجديد بين الشعراء وأصبحت األحكام النقدية
تعتمد الصدق والقيم الخلقية .فقد أثر عن النبي (صلى هللا عليه وسلم) أنه كان يستحسن قول طرفة
بن العبد ويتمثل به:
ويأتيك باألخبار من لم تزود ستبدي لك األيام ما كنت جاهال
وكذلك عرف عن عمر بن الخطاب نظرته الموضوعية في الشعر فقد روى ابن عباس
رضي هللا عنه أن عمر سأله" :أنشدني ألشعر شعرائكم قلت :من هو يا أمير المؤمنين؟ قال :زهير،
قلت :ولم كان كذلك؟ قال :كان ال يعاظل بين الكالم،و ال يتتبع حوشيه ،وال يمدح الرجل إال بما
فيه"(.)4
فالنقد في العصر اإلسالمي ال يختلف كثيرا عن النقد في العصر الجاهلي في منابعه ،فهو
يعتمد على الذوق والشعور ،وهوال يزال ساذجا بسيطا.
العصر األموي:
ظهرت بيئات للنقد الحجاز ،الشام ،العراق ،وبرز نقاد كابن أبي عتيق وسكينة بنت الحسين
في الحجاز ،وبعض اللغويين والرواة في العراق ،وبعض الشعراء والخلفاء في الشام .ففي الحجاز
يروى أن سكينة بنت الحسين كانت مهتمة بنقد أشعار النسيب ،فهي تأخذ عن جرير غلظة ذوقه
برده الطيف حين أتاه زائر وقد علقت على قوله:
حين الزيارة فارجعي بسالم طرقتك صائدة القلوب وليس ذا
()5
وقالت :أفال أخذت بيدها ورحبت بها وقلت :أدخلي بسالم ،أنت رجل عفيف " .
ومن نقد الشعراء لبعضهم البعض ما رواه ابن سالم أن"عكرمة بن جرير حين سأل أباه عن
الشعراء ،فقال في األخطل يجيد نعت الملوك ويصيب صفة الخمر"( .)6وحكم األخطل في جرير
بأنه يغرف من بحر ،والفرزدق ينحت من صخر.
1حبر :مفردها حبرة وهي مالءة من الحرير كانت ترتديها النساء في مصر عند خروجهن.
2خرزها :الخرز ،الخياطة ،والمزادة وعاء يحمل فيه الماء في السفر.
3المرزباني :الموشح ،ص .93
4ابن رشيق :العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده ،دار الجيل ،بيروت ،ج ،1ط ،1981 ،5ص .98
5عمر عروة :دروس في النقد األدبي القديم ،ديوان المطبوعات الجامعية ،الجزائر ،2010 ،ص .61
6ابن سالم الجمحي :طبقات الشعراء ،دار الكتب العلمية،بيروت،2001،ص .155
9
وعلى الجملة فالنقد في العصر اإلسالمي واألموي نما ،ولكنه نمو في حدود ما رأينا في
العصر الجاهلي ،فال يزال يستلهم الذوق والشعور ،وال يزال نقدا جزئيا " بسيطا غير معقد ،وال
يزال الناقد يستوحي وجدانه الخاص ،وال يرجع إلى مقاييس دقيقة"(.)1
وإذا فالنقد ال يزال فطريا غير معلل ،يعتمد الذوق األدبي المرهف ال القواعد وذكر
األسباب ،ولم يتخذ النقد في ذلك الوقت صورة الدراسة المنهجية.
إن الشعر ديوان العرب ،ومنتهى حكمهم ،به يأخذون وإليه يصيرون ،وظل هذا النوع من
الكالم يحفظ ويتناول في البيئة العربية قبل اإلسالم وبعده جيال بعد جيل.
وقد دخلت لفظة " شعر" بيئة النقد األدبي ،واكتسبت داللة اصطالحية ،إذ شرع النقاد
المشارقة والمغاربة يضعون تعريفا لها ،ولكنهم تباينوا في ذلك لتباين مصادر ثقافتهم واتجاهاتهم
البالغية والنقدية.
-فيا ترى ما مفهوم الشعر لغة ؟ و كيف نظر إليه النقاد القدامى المشارقة والمغاربة ؟
الشعر لغة:
ورد في لسان العرب في مادة شعر " :الشعر منظوم القول ،غلب على شرفه بالوزن
والقافية ...وربما سموا البيت الواحد شعرا حكاه األخفش ...وقال األزهري :الشعر ...المحدود
بعالمات ال يجاورها ،والجمع أشعار ،وقائله شاعر ألنه يشعر ما ال يشعر غيره أي يعلم ،وشعر
الرجل يشعر شعرا أو شعرا وشعر ،وقيل :شعر قال الشعر ،وشعر أجاد الشعر ورجل شاعر
والجمع شعراء ...ويقال :شعرت لفالن أي قلت له شعرا ...والمتشاعر :الذي يتعاطى قول الشعر...
ويشعر شاعر جيد .)1("...فالوزن هو الذي يفرق بين الشعر وغيره.
مفهوم الشعر عند النقاد القدامى المشارقة والمغاربة:
اهتم النقاد العرب القدامى بالشعر وحاولوا تمييزه عن النثر ،وقد كانت هناك محاوالت منذ
القرن الثالث واستمرت حتى ابن خلدون في القرن الثامن ،إال أن الشعر يصعب "ضبطه ضمن أي
تعريف مشروط ومحدود بشكل نهائي" ( ،) 2فالجاحظ (ت255هـ) يعرفه بقوله:
" فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير"( ،)3وفي هذا مقارنة بين الشعر
والرسم ،وهي مقولة لهوراس يؤكدها إحسان عباس .الذي يعلق على هذا التعريف بقوله " :فلو
تخطى الجاحظ حدود التعريف لوجد نفسه في مجال المقارنة بين فنين :الشعر والرسم ،بل أن
تعريفه ال يخرج عن قول هوراس :الشعر والرسم"(.)4
أما ابن طباطبا العلوي (ت322هـ) في كتابه عيار الشعر ،فقد عرف الشعر بقوله" :الشعر
كالم منظوم بائن عن المنثور الذي يستعمله الناس في مخاطباتهم ،بما خص به من النظم الذي أن
عدل عن جهته مجته األسماع ،وفسد على الذوق ،ونظمه محدود معلوم ،فمن صح طبعه وذوقه لم
يحتج إلى االستعانة على نظم الشعر بالعروض التي هي ميزانه ،ومن اضطرب عليه الذوق لم
يستعن من تصحيحه وتقويمه بمعرفة العروض والحذق به ،حتى تعتبر معرفته المستفادة كالطبع
الذي ال تكلف معه"( ،)5فهو يفرق بين الشعر والنثر وإنما يكمن الفرق في النظم ،والنظم عنده
تخيير اللفظ والوزن والصياغة ،بيد أنه لم يذكر القافية صراحة ،وإنما جاءت متضمنة في كالمه،
كما يرى جابر عصفور فهو يشير إلى أن هذا التعريف " يحدد الشعر على أساس االنتظام
الخارجي للكلمات ،صحيح أن التعريف ال يشير صراحة إلى القافية إال أنها متضمنة فيه"(.)6
13
المحاضرة الخامسة :قضية االنتحال وتأصيل الشعر
تعتبر قضية االنتحال من القضايا النقدية الكبرى التي شغلت النقاد القدامى والمحديثين ،وقد
أشار إليها معظمهم ،ولكن أول ناقد كتب في مسألة نحل الشعر العربي هو ابن سالم الجمحي في
كتابه طبقات فحول الشعراء ،وعلى الرغم من أن بعض معاصريه قد فطنوا إلى فكرة الشعر
المصنوع الذي ينسب إلى الجاهلين واإلسالميين وليس لهما ،ومن هؤالء خلف األحمر والمفضل
الضبي ،إال أن ابن سالم كان اشد اهتماما بها والتوسع في شرح جوانب النظرية وجميع مالبساتها
()1
التاريخية.
والنحل ليس مقصورا على العرب وحدهم كما يرى الدكتور طه حسين وإنما يتجاوز إلى
األمتين اليونانية والرومانية " ،فلن تكون األمة العربية أول أمة نحل فيها الشعر نحال وحمل على
قدمائها كذبا وزورا ،وإنما نحل الشعر في األمة اليونانية واألمة الرومانية من قبل وحمل القدماء
من شعرائهما"( .)2فما رأي النقاد القدامى في قضية االنتحال وتأصيل الشعر؟
أوال:ابن سالم وقضية االنتحال:
لقد تعرض ابن سالم في مقدمة كتابه إلى قضية الوضع أو صحة الشعر وصحة الرواية
فأدرك أن الشعر العربي القديم المتداول على ألسنة الرواة ،والمدون في كتب األخبار واألنساب
اغلبه موضوع من قبل الرواة على لسان الشعراء ،لذلك قرر وضعه في موضع الشك ،ألنه لم
()3
يؤخذ عن أهل البادية بالمشافهة.
كما ارجع ابن سالم قضية االنتحال إلى عوامل ثالثة يمكن أن نبينها فيما يلي:
:1العامل السياسي (عامل القبائل)
كان الشاعر في الجاهلية لسان قبيلته يدافع عنها وينتصر لها ،وكان الهجاء سالحا فتاكا كان
يتهدد به الشاعر الخصوم ،إال أن الشعر لم يسجل ،بل تناقله الرواة بين القبائل.
فلما جاء اإلسالم ألف بين القلوب ،وأصبح الشاعر يدافع عن دينه الجديد ويواجه الكفار،
فأصبح شعراء األنصار وشعراء قريش يتهاجون ويتفاخرون ،وبعد وفاة الرسول (صلى هللا عليه
وسلم) وجاء الخلفاء وكثرت الفتوحات ،انصرف الناس إلى الجهاد في سبيل هللا ،وكان عمر
(رضي هللا عنه) قد نهى عن رواية الشعر الذي تهاجى به المسلمون والمشركون أيام النبي (صلى
هللا عليه وسلم) ،وبعد مقتل عثمان(رضي هللا عنه) ظهرت العصبية من جديد في بني أمية ،فأخذ
شعراء األنصار يفخرون بنصرتهم للنبي(صلى هللا عليه وسلم) ورد عليهم شعراء قريش.
وكانت القبائل العربية تحرص على أن يكون مجدها في الجاهلية رفيعا ،فأخذت تبحث عن
أشعارها التي قيلت في الجاهلية ،فلم تجد أكثرها ،الن العرب لم تكن تسجل أشعارها ،العتمادها
على الرواة ،وكان أكثر الرواة قد ماتوا في حروب الردة والفتوحات( ،)4فما كان من هذه القبائل،
إال أن تبحث عن أشعارها التي قيلت في الجاهلية فلم تجد أكثرها.
1ينظر :قصي الحسين ،النقد األدبي عند العرب واليونان ،ص .300
2طه حسين ،في األدب الجاهلي ،دار المعارف ،القاهرة ،2001 ،ص 17ص .114
3ينظر :حسين عبد هللا شرف ،النقد في العصر الوسيط و المصطلح في طبقات ابن سالم ،دار الحداثة بيروت ،ط ،1984 ،ص
.96
4ينظر :محمد صايل حمدان و عبد المعطي نمر موسى ،قضايا النقد القديم دار األمل ،األردن ،ط ،1990 ،1ص .11 ،10
14
وفي هذا يقول ابن سالم " ...فلما راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها،
واستقل بعض العشائر شعر شعرائهم وما ذهب من ذكر وقائعهم وأشعارهم ،وأرادوا أن يلحقوا
بمن له الوقائع واألشعار فقالوا على ألسن شعرائهم"(.)1
كما يشير ابن سالم إلى أن قريشا كانت أكثر القبائل نحال ألنها كانت اقلهم شعرا في
الجاهلية ،وفي ذالك يقول" :وقد نظرت قريش فإذا حضها من الشعر قليل في الجاهلية ،فاستكثرت
منه في اإلسالم"(.)2
وهكذا فقد كان العامل السياسي المتمثل في العصبية القبلية له دور في نحل الشعر ما جعل
العرب ينحلون شعر الجاهليين.
/2العامل الديني:
لقد كان للعامل الديني كبير األثر في نحل الشعر وإضافته للجاهليين ،ويذكر ابن سالم أن
القصاص وأصحاب السير عندما حاولوا تفسير ما وجدوه مكتوبا في القرآن الكريم من أخبار األمم
البائدة كعاد وثمود ،قد أضافوا شعرا إلى تبع وحمير وهذا شعر منحول ،وقد وجه ابن سالم أصاب
ع االتهام إلى ابن إسحاق وغيره من أصحاب السير والقصص.
1حسين عبد هللا شرف :النقد في العصر الوسيط والمصطلح في طبقات ابن سالم ،ص .101
2ابن سالم الجمحي :طبقات الشعراء ،ص.28
3النجم.51 ،50 :
4الحاقة.08 :
5ينظر حسين عبد هللا شرف :النقد في العصر الوسيط والمصطلح في طبقات ابن سالم ،ص .103 ،102 ،101
6ابن سالم :طبقات الشعراء ،ص .39
7طه حسين :في األدب الجاهلي ص .170 .169
8ابن سالم الجمحي :طبقات الشعراء ،ص .40
16
كما يوضح ابن سالم مسألة أخرى ،وهي أن أبناء الشعراء كانوا ينحلون أشعار أبائهم،
وذكر مثال على ذلك" :عن أبي عبيدة أنه استنشد داوود بن تميم بن نويرة شعر أبيه فالحظ أنه لما
نفد شعر أبيه جعل يزيد أشعارا لم تعرف له"(.)1
هذه هي مجمل األسباب التي أدت إلى االنتحال في الشعر كما رأى ابن سالم ،وقد سجلها
في كتابه طبقات فحول الشعراء ،إال أنه يقر بصعوبة التمييز بين الصحيح والمنحول وبخاصة
عندما يصدر الشعر من أهل البادية العارفين بالشعر وروايته ،إال أن ابن سالم اعتمد على رأى
علماء عصره ومن سبقوه ،وعلى منهجه وثقافته في كشف المنحول ،وتلك محمدة تحسب له
االنتحال عند الجاحظ.
ثانيا :تناول الجاحظ هذه القضية وحاول أن يتمم ما بدأه ابن سالم في التمييز بين الشعر
الصحيح والمنحول ،فاعتمد في ذلك على شهادة الرواة وعلى مبدأ تفاوت الشعر( ،)2فيروي بيتا
منسوبا الوس بن حجر:
نقع يثور تخاله طنبا فانقض كالدري يتبعه
ويقول معلقا عليه ":وهذا الشعر ليس ألوس إال من ال يفصل بين شعر أوس بن حجر وشريح بن
أوس"( ،)3ويضيف الجاحظ إلى أدلة ابن سالم دليال داخليا نابعا من المعنى الذي يؤديه الشعر،
وضرب مثال على ذلك وهو قول األفوه األودي:
فارس في كفه للحرب نار كشهاب القذف يرميكم به
قال ":وبعد فمن أين علم األفوه أن الشهب التي يراها إنما هي قذف ورجم وهو جاهلي ،ولم يدع
هذا أحد قط إال المسلمون "(.)4
ويتضح من هذا أن الجاحظ حلل البيت داخليا واستنتج أن الشهب وهي رجم الشياطين جاء
ذكرها في القرآن ،فأين لهذا الجاهلي أن يعرف شيئا كهذا .ثم يكون الجاحظ في بعض األحيان جادا
في نقده إال أن هذا النقد ال يخلو من السخرية ،فمن ذلك تعليقه على بيتين في قول الشاعر:
إنما الموت سؤال الرجال ال تحسبن الموت موت البلى
أفظع من ذاك لذل السؤال كالهمــا مـوت و َّ
لكن ذا
ويعلق الجاحظ بقوله":وأنا أزعم أن صاحب هذين البيتين ال يقول شعر أبدا ولوال أن ادخل في
(الحكم) بعض الفتك لزعمت أن ابنه ال يقول شعرا أبدا"(.)5
كما يروي الجاحظ أن هناك أناسا كانوا يبهرجون أشعارا ويستسقطون من رواها لينسبوها
إلى غيرهم ،يقول ":وقد رأينا أناسا منهم يبهرجون أشعار المولدين ويستسقطون من رواها ،ولم أر
ذلك قط إال في رواية الشعر غير بصير بجوهر ما يروي ،ولو كان له بصر لعرف موضع الجيد
()6
ممن كان وفي أي زمان ومكان.
لقد واصل الجاحظ ما بدأه ابن سالم ،وأضاف إلى أدلة الوضع واالنتحال دليال آخر ،وهو
الدليل الداخلي الذي يكمن في النص الشعري ،ووازن بين البيت وما كان معروفا في الجاهلية ،ثم
يحكم على الشعر أن كان منقوال أم ال.
1األمدي :الموازنة بين الطائيين ،ج ، 1تح السيد أحمد صقر،دار المعارف،مصر،ط،4،1961ص .215
2محمد مندور :النقد المنهجي عند العرب ،ص .104
3األمدي :الموازنة ،ج ،3نقال عن محمد مندور،النقد المنهجي عند العرب،ص. 104،105
4ابن رشيق :العمدة ،ج ،2ص .284
5ابن قتيبة :الشعر والشعراء ،دار الثقافة ،بيروت ،ج ،1ص .20
6رجاء عيد :التراث النقدي ،نصوص ودراسة ،منشأة المعارف ،القاهرة ،1983 ،ص .147
18
فأساليب العرب ومذاهبهم هي طريقتهم التي رسموها لنظم الشعر ،وقد اصطلح عليها
بعمود الشعر ،هذا المصطلح الذي نجده أول ما نجده عند اآلمدي صاحب الموازنة عندما يفضل
البحتري على أبي تمام ،وذلك في قوله ..." :ألن البحتري أعرابي الشعر مطبوع وعلى مذهب
األوائل ،وما فارق عمود الشعر المعروف "(.)1
وعليه فعمود الشعر هو مجموعة التقاليد الشعرية التي يحرص عليها العرب في نظم
أشعارهم.
ومذهب األوائل ذكره اآلمدي عندما تكلم عن أبي تمام وقال أنه فارق عمود الشعر ،وشعره
ال يشبه أشعار األوائل وال على طريقتهم لما فيه من االستعارات البعيدة والمعاني المولدة وذلك الن
العرب " ...إنما استعارات المعنى لما هو ليس له ،إذا كان يقاربه أو يشبهه في بعض أحواله أو
كان سببا من أسبابه فتكون اللفظة حينئذ الئقة بالشيء الذي استعيرت له ومالئمة لمعناه"(.)2
القاضي الجرجاني وعمود الشعر:
لقد نظر القاضي الجرجاني فيما انتهى إليه اآلمدي في قضية عمود الشعر وتبنى منهجه في
تحديده لمفهوم العمود ،وذلك يتجلى بقوله " :وكانت العرب إنما تفاضل بين الشعراء في الجودة
والحسن بشرف المعنى وصحته ،وجزالة اللفظ واستقامته وتسلم السبق فيه لمن وصف فأصاب،
وشبه فقارب وبده فأغزر ،ولمن كثرت سوائر أمثاله ،وشوارد أبياته ولم تكن العرب تعبأ بالتجنيس
والمطابقة إذا حصل لها عمود الشعر"( ،)3ويمكن استخراج عناصر عمود الشعر التي نص عليها
القاضي الجرجاني من هذا القول وهي:
شرف المعنى وصحته. -
جزالة اللفظ واستقامته. -
المقاربة في التشبيه ،الغزارة في البديهة. -
كثرة األمثال السائرة واألبيات الشاردة. -
إن القاضي الجرجاني تناول كل ما قدمه اآلمدي حول عمود الشعر الذي خرج عليه أبو
تمام وحدده اآلمدي بالصفات السلبية ،فعكسه ووضعه في صورة ايجابية كانت ثمرتها هذه األركان
()4
المحددة لعمود الشعر.
المرزوقي وعمود الشعر (ت 421هـ):
لقد ألف المرزوقي كتابا سماه شرح ديوان الحماسة البن تمام ،ووضع له مقدمة عالج فيها
مختلف القضايا النقدية التي وضحت تمام الوضوح لديه ،فقد اطلع على آراء ابن قتيبة وابن طباطبا
وقدامة واآلمدي والقاضي الجرجاني ،وتكلم في عدة قضايا كاللفظ والمعنى ،والطبع والصنعة
والصدق والكذب وغيرها من القضايا.
ثم نظر في قضية عمود الشعر وسارع إلى تحديد عناصرها ،حيث عاد إلى العناصر التي
عدها اآلمدي ووضحها القاضي الجرجاني ،وزاد عليها ثالثة عناصر ،ولهذا أصبحت عناصر
عمود الشعر في صورتها المكتملة وهي:
-1شرف المعنى وصحته.
-2جزالة اللفظ واستقامته.
1المرزوقي :شرح ديوان الحماسة ،دار الجيل بيروت ،ج ،1ط ،1997 ،1ص .11
2المصدر نفسه ،ج ،1ص .11 ،10 ،09
20
-7مشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية حتى ال منافرة بينهما ،ويكون اللفظ مقسوما
على رتبة المعنى فقد جعل األخص لألخص ،واألخس لألخس فهو البريء من العيب ،وأما القافية
()1
فيجب أن تكون كالموعود المنتظر.
إن نظرية عمود الشعر عند المرزوقي كانت من السعة بمكان ،بحيث اتسعت لجميع
الشعراء القدماء ،وقد زاد المرزوقي من اتساعها حين جعلها ذات وسط وطرفين :الصدق والغلو
واالقتصاد بينهما ،إذ أضاف القول" :أحسن الشعر اقصده" ،للقولين اآلخرين":أحسن الشعر أكذبه.
وأحسن الشعر أصدقه "(.)2
قضية اللفظ والمعنى من القضايا التي شغلت النقاد العرب القدامى ،حيث تناولوها بالدراسة،
واتجهوا فيها اتجاهات متباينة ،وانقسموا فيها إلى ثالثة أقسام :فاألول انتصر للفظ على حساب
المعنى ،والثاني انتصر للمعنى على حساب اللفظ ،والقسم الثالث يساوي مابين اللفظ والمعنى.
وسنحاول في هذه المحاضرة أن نستعرض رأي ثالثة نقاد في هذه القضية وهم ابن قتيبة
وابن طباطبا وقدامة ابن جعفر.
أوال :ابن قتيبة (ت 276هـ )
لقد نظر ابن قتيبة إلى الشعر وقسمه حسب اللفظ والمعنى إلى أربعة أقسام.
يقول " :تدبرت الشعر فوجدته أربعة اضرب ،ضرب منه حسن لفظه وجاد معناه ،كقول القائل في
بعض بني أمية:
()1
من كف أروع في عرنينه شمم في كفه خيزران ريحه عبـق
فمــا يكلَّم إال حين يبتســم يعطي حياء ويعطي من مهابته
لم يقل في الهيبة أحسن منه.
وكقول أوس بن حجر:
إن الذي تحذرين قد وقعا أيتها النفس أجملي جزعا
وكقول ابن ذئيب:
وإذا ترد إلى قليل تقنع والنفس راغبة إذا ر َّ
غبتها
وضرب منه حسن لفظه وحال ،فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى ،كقول القائل:
سح باألركان من هو ماسـح وم َّ ولما قضينـا من منى كل حاجـة
وال ينظر الغادي الذي هو رائح وشدت على حدب المهاري رحالنا
وسارت بأعناق المطي األباطح أخذنــا بأطراف األحاديث بيننا
ويعلق ابن قتيبة على هذه األبيات بقوله ":هذه األلفاظ كما ترى أحسن شيء مخارج ومطالع
ومقاطع ،وإن نظرت إلى ما تحتها من معنى وجدته :ولما قطعنا أيام منى ،واستلمنا األركان،
وعالينا إبلنا األنضاء ،ومضى الناس ال ينتظر الغادي الرائح ابتدأنا الحديث وسارت المطي في
األبطح ،وهذا الصنف في الشعر كثير ،وضرب منه جاد معناه وقصرت الفاظه عنه ،كقول لبيد ابن
ربيعة:
صالح والمرء يصلحه الجليس ال َّ ما عاتب المرء الكريم كنفسه
هذا وإن كان جيد المعنى والسبك فإنه قليل الماء والرونق ،وضرب منه تأخر معناه وتأخر لفظه،
كقول األعشى:
()2
شاو مشل شلول شلشل شول ولقد غدوت إلى الحانوت يتبعني
فهذه األلفاظ األربعة في معنى واحد ،وقد كان يستغني بأحدها عن جميعها ،وماذا يزيد هذا
()3
البيت أن كان لألعشى ،أو ينقص.
1حميد آدم ثويني ،منهج النقد األدبي عند العرب ،دار صفاء للنشر و التوزيع،عمان،ط،1،2004ص .78
2ينظر :إحسان عباس ،تاريخ النقد األدبي عند العرب ،ص .108
3قصي الحسين :النقد األدبي عند العرب واليونان ،ص .340
4ابن طباطبا :عيار الشعر ،ص .17
5ينظر :إحسان عباس :تاريخ النقد األدبي عند العرب ،ص .140
6ينظر :قدامة بن جعفر ،نقد الشعر ،ص .54
7المصدر نفسه ،ص .172
23
-اإلرداف :وهو أن يريد الشاعر داللة على معنى من المعاني فال يأتي باللفظ الدال على ذالك
المعنى ،بل بلفظ يدل على معنى هو ردفه وتابع له ،فإذا دل على التابع أبان عن المتبوع بمنزلة
قول امرئ القيس:
بمنجرد قيد األوابد هيكل وقد أغتدى والطير في وكناتها
فإنما أراد أن يصف هذا الفرس بالسرعة وانه جواد فلم يتكلم باللفظ بعينه ولكن بإردافه
ولواحقه التابعة له ،وذالك أن سرعة إحضار الفرس يتبعها أن تكون األوابد وهي الوحوش كالمقيدة
له إذا نحا في طلبها.
-التمثيل :وهو أن يريد الشاعر إشارة إلى المعنى ،فيضع كالما يدل على معنى آخر وذالك المعنى
اآلخر والكالم ينبئان عما أراد أن يشير إليه ،كقول بعض األعراب:
به فالج من دائها فهو يرعش فتى صدمته الكأس حتى كأنما
()1
والكأس ال تصدم ،ولكنه أشار بهذا التمثيل إشارة حسنة إلى سكره.
لقد تناول نقاد المغرب العربي واألندلس قضية اللفظ والمعنى كغيرهم من النقاد المشارقة،
وسنستعرض في هذه المحاضرة آراء كل من :ابن رشيق وابن شرف المغربيين ،وابن عبد ربه
وحازم القرطاجي األندلسيين.
أوال :اللفظ والمعنى عند ابن رشيق (ت 456هـ)
تطرق ابن رشيق في كتابه العمدة إلى هذه القضية في باب اللفظ والمعنى ،ويبدو من كالمه
أنه ال يؤمن بالفصل التام بينهما ،ويرى أن أي خلل في احدهما يؤثر في اآلخر وذلك في قوله" :
اللفظ جسم وروحه المعنى وارتباطه به كارتباط الروح بالجسم يضعف بضعفه ،ويقوى بقوته فإذا
سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصا للشعر وهجنا له ...وكذلك أن ضعف المعنى واختل
بعضه كان اللفظ من ذلك أوفر حظ .. ..فإن اختل المعنى كله وفسد بقي اللفظ مواتا ال فائدة فيه"(.)1
ويرى إحسان عباس أن ابن رشيق قد أورد عبارة ابن طباطبا وبسطها على طريقة
الحاتمي ،ولكنه زاد على الحاتمي شيئا جديدا في تحليل الفكرة ،فمرض اللفظ كالتشويه في الجسم،
()2
أما اختالل المعنى وهو الروح فإنه يبقي اللفظ مواتا ال فائدة فيه.
وبعد أن بين ابن رشيق رأيه في القضية نراه يعرض بعض اآلراء األخرى مبينا انقسام
النقاد في ذلك ،فمنهم من يؤثر اللفظ على المعنى فيجعله غايته ووكده ومنهم من يؤثر المعنى على
اللفظ فيطلب صحته( ،)3ثم نراه يعيد ذكر الفئة التي تنتصر للفظ في قوله ":وأكثر الناس على
تفضيل اللفظ على المعنى ،سمعت بعض الحذاق يقول :قال العلماء ،اللفظ أغلى من المعنى ثمنا
وأعظم قيمة وأعز مطلبا ،فان المعاني موجودة في طباع الناس ،يستوي فيها الجاهل والحاذق،
ولكن العمل على جودة األلفاظ وحسن السبك وصحة التأليف"(.)4
وهذا يذكرنا بمقولة الجاحظ المعاني مطروحة في الطريق ،إال أن ابن رشيق يظل مشدودا
إلى فكرة االئتالف بين اللفظ والمعنى ،إذ يسوق مجموعة من اآلراء تؤيد ذلك.
ثانيا:ابن شرف القيرواني وقضية اللفظ والمعنى:
يعتبر ابن شرف من النقاد المعاصرين البن رشيق وقد كانت له مجموعة من اآلراء النقدية
حول عدة قضايا ،وقد أشار من خالل هذه اآلراء إلى قضية اللفظ والمعنى ،ووافق ابن رشيق في
نظرته إلى ائتالف اللفظ والمعنى "،فهو يشبه األلفاظ والمعاني تشبيها رائعا حتى صار مثال يؤخذ
وحكمة تحفظ "( ،)5وذلك من خالل حديثه عن هذه الثنائية ،فهو يشبه المعاني باألرواح واأللفاظ
باألشباح ،والتكامل بينهما قائم فهو يقول" :المعاني هي األرواح واأللفاظ هي األشباح ،فالتكامل
بينهما قائم والتالؤم بينهما حاصل فان غاب صنو منهما أصيب صنوه اآلخر بالجفاف والخور"(.)6
وهذا الكالم يشترك في منابعة مع كالم ابن رشيق ،فكالمهما يؤمن بائتالف اللفظ والمعنى.
ثالثا:ابن عبد ربه وقضية اللفظ والمعنى:
أشار الناقد األندلسي ابن عبد ربه إلى قضية اللفظ والمعنى في كتابه العقد الفريد ،وقد تبنى
آراء سابقيه من النقاد المشارقة والمغاربة من أمثال قدامة ابن جعفر وابن رشيق وابن شرف ،وقد
لقد ظهرت الموازنات النقدية في تاريخ األدب العربي منذ عصور مبكرة ،وبقيت تسايره
إلى اليوم ،فهي وسيلة نقدية تاريخية نجدها في قصة ام جندب وموازنتها بين امرئ القيس وعلقمة
في وصف الفرس ،والنابغة الذبياني كان يوازن بين الشعراء في سوق عكاظ ،وعليه فقد كانت
الموازنة أساسا للمفاضلة بين الشعراء منذ الجاهلية.
وعند مجيء اإلسالم أصبحت الموازنة بين القرآن الكريم وكالم العرب ،وكان العصر
األموي زاخرا بالموازنات بين فحول الشعراء وبين الخطباء واألدباء.
ولما جاء العصر العباسي بدا هذا الفن النقدي نشيطا بين الشعراء ،وما يهمنا هو الموازنات
المتصلة بالتدوين التي بدأت بابن سالم الجمحي وموازنته بين الشعراء وجعلهم في طبقات إلى أن
وصلت إلى نقاد المغرب العربي واألندلس فيما بعد.
أوال:الموازنة بين الشعراء البن سالم الجمحي (ت 232هـ)
-من كتاب :طبقات الشعراء.
عرض ابن سالم في كتابه طبقات فحول الشعراء مجموعة من اآلراء النقدية التي تقوم على
الموازنة ،ومن هذه اآلراء أنه " لما بلغ األخطل تهاجي جرير والفرزدق قال البنه مالك :انحدر
إلى العراق حتى تسمع منهما وتأتيني بخبرهما ،فلقيهما ثم استمع فأتى أباه قال :جرير يعرف من
بحر والفرزدق ينحت من صخر فقال األخطل :فجرير أشعرهما"( ،)1ثم قال:
ل َّما سمعت وجاءني الخبر إني قضيت قضاء غير ذي جنف
()2
ضه حية من قومه ذكر وع َّ َّ
إن الفرزدق قد شـالت نعـامته
وقال ابن سالم" :وسألت بشارا العقيلي عن الثالثة ،فقال :لم يكن األخطل مثلهما ولكن ربيعة
تعصبت له وأفرطت فيه ،فقلت :فجرير والفرزدق؟ قال :كانت لجرير ضروب من الشعر ال
يحسنها الفرزدق وفضل جريرا عليه"(.)3
32