You are on page 1of 35

‫جامعة محمد خيضر بسكرة‬

‫كلية اآلداب واللغات‬


‫قسم األدب واللغة العربية‬

‫محاضرات في مقياس النقد األدبي القديم‬


‫للسنة األولى نظام ‪ LMD‬السداسي األول سنة ‪2015‬‬

‫إعداد‪ :‬د ‪/‬إلياس مستاري‬

‫السنة الجامعية‪2015-2016 :‬‬


‫مطبوعة في مقياس النقد األدبي القديم‬
‫للسنة األولى نظام ‪LMD‬‬

‫إعداد الدكتور‪ :‬إلياس مستاري‬

‫السنة الدراسية‪2015-2016 :‬‬


‫فهرس المطبوعة‪:‬‬

‫‪ -‬مقدمة‬
‫‪ -1‬النقد العربي مفهومه وتطوره وجغرافيته في المشرق والمغرب‪.‬‬
‫‪ -2‬بيبليوغرافيا المصنفات النقدية في المشرق والمغرب‪.‬‬
‫‪ -3‬النقد اإلنطباعي مفهومه ومجاالته ونماذج من نصوصه‪.‬‬
‫‪ -4‬مفهوم الشعر عند النقاد المشارقة والمغاربة‪.‬‬
‫‪ -5‬االنتحال وتأصيل الشعر (نماذج نصية من المشرق والمغرب واألندلس )‪.‬‬
‫‪ -6‬عمود الشعر ( نماذج نصية من المشرق والمغرب واألندلس )‪.‬‬
‫‪ -7‬اللفظ والمعنى عند ابن قتيبة وابن طباطبا وقدامة بن جعفر‪.‬‬
‫‪ -8‬اللفظ والمعنى عند نقاد األندلس والمغرب العربي‪.‬‬
‫‪ -9‬الموازنات النقدية ( نماذج نصية من المشرق واألندلس والمغرب)‪.‬‬
‫‪ -‬خاتمــة‬
‫مقدمـــة‪:‬‬
‫تتناول هذه المطبوعة سلسلة من المحاضرات النظرية‪ ،‬في مقياس النقد األدبي القديم‪ ،‬ألقيت‬
‫على طلبة السنة األولى نظام ‪ LMD‬في السداسي األول عام ‪.2015-2014‬‬
‫وقد تتبعنا المفردات المبرمجة في هذا المقياس بغية الوصول إلى أهداف منها‪:‬‬
‫‪ -‬تسليط الضوء على التراث النقدي العربي القديم‪.‬‬
‫‪ -‬معرفة أهم القضايا التي تناولها الخطاب النقدي القديم‪.‬‬
‫‪ -‬التعريف بأهم المصنفات النقدية القديمة من حيث المنهج واألسس النقدية المتبعة‪.‬‬
‫‪ -‬إبراز الجهود المعتبرة التي بذلها هؤالء النقاد‪.‬‬
‫‪ -‬إعطاء فكرة مبسطة عن كل موضوع طرقناه بدءا بالمفهوم اللغوي واالصطالحي لكلمة النقد‬
‫وكيف تدرج من االنطباعية والتأثرية إلى التعقيد والمنهجية‪.‬‬
‫هذا وعمدنا إلى تحديد ما يجب تحديده من معايير نقدية‪ ،‬فوقفنا عند مفهوم النقد وعالقته‬
‫باألدب والبالغة وتطوره وجغرافيته ‪،‬كما قمنا بالتعريف بأهم المصنفات النقدية منذ بدء عصر‬
‫التأليف في شكل بيبليوغرافيا ترصد هذه المصنفات في المشرق والمغرب واألندلس‪ .‬ولم يفتنا أن‬
‫نشير إلى طبيعة النقد في العصور المبكرة فتناولنا النقد االنطباعي ونماذج من نصوصه في‬
‫العصر الجاهلي ثم اإلسالمي فاألموي‪.‬‬
‫وانتهى بنا المشوار إلى معالجة أول قضية نقدية‪ ،‬وهي مفهوم الشعر عند النقاد القدامى‪ ،‬ثم‬
‫بدأنا في معالجة بعض القضايا كاالنتحال‪ ،‬وعمود الشعر واللفظ والمعنى وغيرها من القضايا‪.‬‬
‫كما أننا في تناولنا لهذه القضايا لم نغفل الرؤية المعاصرة حتى ال يشعر الطلبة أنهم‬
‫مأسورون في القديم‪ ،‬وقد فضلنا أن تكون مصادر ومراجع هذه المطبوعة متنوعة حيث تنوعت‬
‫بين المصنفات القديمة كطبقات الشعراء البن سالم الجمحي‪ ،‬والبيان والتبيين للجاحظ والشعر‬
‫والشعراء البن قتيبة والعمدة البن رشيق والمنهاج لحازم القرطاجني‪ ،‬ومراجع حديثة كالنقد‬
‫المنهجي عند العرب لمحمد مندور وتاريخ النقد األدبي عند العرب إلحسان عباس‪ ،‬والتراث‬
‫النقدي‪ ،‬نصوص ودراسة لرجاء عيد‪ ،‬والنقد األدبي عند العرب واليونان لقصي الحسين‪ ،‬وهذا‬
‫حفاظا على مبدأ التواصل بين القديم والجديد‪.‬‬
‫وفي األخير نرجو أن تكون هذه المطبوعة على الرغم مما فيها من تبسيط وإيجاز مفيدة‬
‫لطلبتنا األعزاء وأن تكون في متناولهم‪ ،‬وهللا من وراء القصد‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫المحاضرة األولى‪ :‬النقد العربي مفهومه وتطوره وجغرافيته في‬
‫المشرق والمغرب‬

‫النقد أمر فطري في اإلنسان‪ ،‬فاإلنسان يبتهج لرؤية منظر حسن‪ ،‬ويشمئز من المنظر‬
‫القبيح‪ ،‬لذا فإنه يميز بين القبح والجمال‪ ،‬ويميل إلى صوت البلبل الصداح‪ ،‬وينفر من نعيق الغراب‬
‫وفحيح األفعى‪.‬‬
‫هكذا نجد التمييز بين الخير والشر‪ ،‬والقبح والجمال‪ ،‬أمرا فطريا في اإلنسان وجد معه‪ .‬وقد‬
‫نشأ عند العرب في عصور مبكرة ولكنه كان فطريا يعتمد على اإلحساس والذوق ‪،‬فما مفهوم النقد‬
‫؟ وكيف تطور عند العرب في المشرق والمغرب ؟‬
‫النقد لغة‪:‬‬
‫جاء في لسان العرب في مادة (نقد)‪ ":‬النقد خالف النسيئة‪ ،‬والنقد التنقاد‪ :‬تمييز الدراهم‬
‫وإخراج الزيف منها‪ ،‬أنشد سيبوية‪:‬‬
‫نفي الدراهم تنقاد الصياريف‬ ‫تنفي يداها الحصى في كل هاجرة‬
‫و قد نقدها ينقدها نقدا وانتقدها وتنقدها ونقده إياها نقدا‪ ،‬أعطاه فانتقدها أي قبضها وناقدت‬
‫فالنا إذا ناقشته في األمر‪.‬‬
‫نقد الطائر الفخ ينقده بمنقاره أي ينقره‪ ،‬والمنقاد منقاره‪ ،‬وفي حديث أبي الدرداء‪ :‬إن نقدت‬
‫(‪)1‬‬
‫الناس نقدوك‪ ،‬وإذا تركتهم تركوك‪ ،‬ونقدت الجوزة انقدها إذا ضربتها‪ ،‬ونقدته الحية لدغته"‪.‬‬
‫ويمكن استخالص معاني كلمة نقد مما سبق كما يلي‪:‬‬
‫فهي تعني تمييز الدراهم صحيحها من زائفها‪ ،‬وتعني اإلعطاء والمنح‪ ،‬وتعني كذلك‬
‫المناقشة وتعني إظهار العيوب وتمييز الجيد من الرديء وتعني كذلك اإليذاء‪.‬‬
‫وقد استعارها الباحثون في النصوص األدبية ليدلوا بها على الملكة التي يستطيعون بها‬
‫معرفة الجيد من النصوص والرديء والجميل والقبيح وما تنتجه هذه الملكة في األدب من‬
‫(‪)2‬‬
‫مالحظات وآراء وأحكام مختلفة‪.‬‬
‫وعليه فالنقد تحليل القطع األدبية وتقدير ما لها من قيمة فنية أو هو المرآة الصادقة التي‬
‫تعكس نواحي الجمال والحسن في العمل األدبي‪ ،‬كما تقف على مظاهر القوة والضعف فيه‪.‬‬
‫األدب والنقد‪:‬‬
‫من الواضح أن األدب وجد أوال ثم يوجد نقده " لسبب بسيط وهو أن النقد يتخذه موضوعا‬
‫له ومن هنا ينشأ الفرق البين بينهما‪ ،‬فاألدب موضوعه الطبيعة والحياة اإلنسانية والنقد موضوعه‬
‫(‪) 3‬‬
‫األدب "‪.‬‬
‫كما هناك فرق بين تاريخ األدب والنقد فاألول يتناول كل اآلثار العقلية والشعورية عند‬
‫األمة متعقبا لها مع دورات التاريخ‪ ،‬أما النقد فال يحاول هذا التاريخ الكبير إذ حسبه أن يقف عند‬
‫األدباء وما صاغوه من أثار فنية ليحللها ويقومها‪ ،‬ومعنى هذا أن تاريخ األدب يختلف عن النقد من‬
‫(‪)4‬‬
‫حيث موضوعه وطريقة معالجته‪.‬‬
‫النقد والبالغة‪:‬‬

‫‪ 1‬ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪ ،‬مج ‪ ،3‬ط ‪ ،1994 ،3‬ص ‪.426 ،425‬‬
‫‪ 2‬شوقي ضيف‪ :‬النقد‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬مصر‪ ،‬ط ‪ ،1979 ،4‬ص ‪.09‬‬
‫‪ 3‬شوقي ضيف‪ :‬النقد‪ ،‬ص ‪.09‬‬
‫‪ 4‬ينظر‪ :‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪.10‬‬
‫‪2‬‬
‫إن موضوع النقد والبالغة هو األدب‪ ،‬وعليه فال يختلفان في الموضوع‪ ،‬وإنما يختلفان من‬
‫حيث المعالجة وطريقة العرض‪ ،‬فالبالغة ال تعنى بالصلة بين األثر األدبي وصاحبه وال تعني‬
‫كذلك بالقيم العقلية والعاطفية في النص‪ ،‬وإنما تعنى بنظرية األسلوب وخصائصه وما يحتوي من‬
‫مجازات وكنايات‪ ،‬ولذلك فهي تصف وتعلم‪ ،‬أما النقد فيحلل الظاهر والباطن في األعمال‬
‫(‪)1‬‬
‫األدبية‪.‬‬
‫وفي النقد العربي فإن التأليف في البالغة امتزج في أول األمر بالنقد‪ ،‬فلم تؤلف كتب منفردة‬
‫في البالغة إال في نهاية القرن الرابع الهجري‪ ،‬أما قبل ذلك فكان ثمة امتزاج واضح بين مدلول‬
‫النقد ومدلول البالغة‪ ،‬كما نرى في كتاب البديع البن المعتز (‪296‬هـ)‪ ،‬وكتاب الموازنة لآلمدي‬
‫(‪371‬هـ)‪ ،‬وكتاب الصناعتين ألبي هالل العسكري (‪395‬هـ)‪ ،‬والوساطة للقاضي الجرجاني‬
‫(‪)2‬‬
‫(‪392‬هـ)‪ ،‬ودالئل اإلعجاز لعبد القاهر الجرجاني (‪471‬هـ)‪ ...‬وغيرها‪.‬‬
‫تطور النقد العربي وجغرافيته‪:‬‬
‫لقد كان النقد العربي في مراحله األولى نقدا تأثريا يعتمد على االنطباع الذاتي البحت‪ ،‬دون‬
‫اتكاء على عمليات ذهنية موجهة‪ ،‬أي دون أسس نظرية‪ ،‬ثم جاء العصر اإلسالمي فنما النقد‬
‫ونهض الشعر‪ ،‬واختصم الشعراء حول هذا الدين الجديد‪ ،‬ولما تقدم القرن األول قويت نهضة‬
‫الشعر‪ ،‬ونما وازدهر في العصر األموي وذلك في ثالث بيئات‪( :‬الحجاز‪ ،‬العراق‪ ،‬الشام)‪ ،‬أما‬
‫عداها كفارس ومصر والمغرب فلم يزدهر فيها في هذا العصر أدب وال نقد‪.‬‬
‫وتبع النقد مجريات الحركة األدبية فاتجه أكثره إلى التفضيل بين الشعراء خاصة بين جرير‬
‫واألخطل والفرزدق‪.‬‬
‫ويتلخص أن النقد حتى العصر األموي لم تظهر فيه مدارس نقدية واضحة المعالم‪ ،‬وأن‬
‫النقد ظل قريبا مما كان عليه في الجاهلية قائما على الذوق جزئيا غير معلل في كثير من‬
‫األحيان(‪ ،)3‬و لما جاء العصر العباسي ظهرت ثالث طوائف تنظر في األحكام النقدية وتناقشها‬
‫وتضع المؤلفات النقدية‪ ،‬فالطائفة األولى هي طائفة األدباء من شعراء وكتاب والثانية طائفة‬
‫اللغويين التي اهتمت برواية الشعر ونقده كاألصمعي‪ ،‬أما الطائفة الثالثة فطائفة المتكلمين التي‬
‫أسهمت في تطوير أمور النقد والبالغة‪.‬‬
‫ولما جاء القرن الثالث ظهر لنا ابن سالم الجمحي بكتاب طبقات فحول الشعراء‪ ،‬الذي يشير‬
‫إلى قضايا نقدية كالمفاضلة بين الشعراء واالنتحال‪ ،‬ثم الجاحظ بالبيان والتبيين والحيوان‪ ،‬ثم ابن‬
‫قتيبة في كتاب الشعر والشعراء‪.‬‬
‫وفي القرن الرابع ألف ابن طباطبا عيار الشعر وقدامة بن جعفر نقد الشعر وفيه األثر‬
‫اليوناني‪ ،‬فأصبح للنقد أسس ومناهج متبعة‪ ،‬وهذا ما أثمر كتابين جديدين وهما الموازنة لآلمدي‬
‫والوساطة للقاضي الجرجاني‪ ،‬ثم ظهر النقد البالغي على يد عبد القاهر الجرجاني في كتابه دالئل‬
‫اإلعجاز و أسرار البالغة في القرن الخامس الهجري‪.‬‬
‫هذا وقد ظهر النقد في المغرب واألندلس متأثرا بالنقد في المشرق وظهرت مؤلفات منها‬
‫العمدة البن رشيق والعقد الفريد البن عبد ربه‪ .‬وهكذا تواصلت المؤلفات حتى ابن خلدون ومقدمته‬
‫(‪ 808‬هـ)‪.‬‬

‫‪ 1‬ينظر‪ :‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.11 ،10‬‬


‫‪ 2‬ينظر‪ :‬محمد إبراهيم نصر‪ ،‬النقد األدبي في العصر الجاهلي وصدر اإلسالم‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪ 1398 ،1‬هـ‪ ،‬ص ‪.40‬‬
‫‪ 3‬ينظر‪ :‬محمد رضوان الداية‪ ،‬تاريخ النقد األدبي في األندلس‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬د ط‪ ،‬د ت ‪ ،‬ص ‪.237 ،236‬‬
‫‪3‬‬
‫المحاضرة الثانية‪ :‬بيبليوغرافيا المصنفات النقدية في‬
‫المشرق والمغرب واألندلس‬

‫أخذ النقد العربي في القرن الثالث الهجري ينزع إلى البحث والتأليف على أيدي ثلة من‬
‫النقاد وعلماء األدب‪ ،‬الذين خاضوا في الموازنات والموازين النقدية‪ ،‬كابن سالم والجاحظ وابن‬
‫قتيبة وغيرهم‪ ،‬ثم بدأت التصانيف تتوالى حتى القرن الثامن في المشرق والمغرب واألندلس‪.‬‬
‫ونسعى في هذه المحاضرة إلى تتبع بعض المصنفات النقدية المهمة التي ألمت بأهم‬
‫القضايا النقدية التي طرحها الخطاب النقدي القديم عبر القرون المتوالية‪ ،‬وسنحاول وضع‬
‫بيبليوغرافيا ألهم هذه المصنفات‪.‬‬
‫أوال‪ :‬في القرن الثالث‪:‬‬
‫‪ -1‬طبقات فحول الشعراء البن سالم الجمحي (ت‪ 232‬هـ)‪:‬‬
‫يعتبر هذا الكتاب أول محاولة جادة تمثلت في جمع شتات آراء سابقيه ومعاصريه في النقد‬
‫العربي وتنظيمها تنظيما علميا‪ ،‬وكان بذلك واضع أول لبنة في النقد العربي(‪ ،)1‬كما يعتبر أول‬
‫كتاب في النقد وصلنا كامال‪ ،‬وقد قسمه صاحبه إلى قسمين‪ :‬القسم األول؛ المقدمة وتحتوي على‬
‫قضايا نقدية مهمة‪ ،‬تكشف عن مفهوم الشعر في ذلك العصر وطبيعته‪ ،‬ونقد الرواية وتحقيق‬
‫النصوص (االنتحال) وتأريخ نشأة الشعر وعلوم العربية عند العرب‪.‬‬
‫أما القسم الثاني من الكتاب فيحتوي على تصنيف الشعراء إلى طبقات‪ ،‬جاهليين‬
‫ومخضرمين وإسالميين(‪ ،)2‬ثم أشار إلى طبقة شعراء المراثي‪ ،‬وطبقة شعراء القرى العربية‪،‬‬
‫وطبقة شعراء يهود‪ .‬لقد خطا ابن سالم في طبقاته خطوة المعة في النقد‪ ،‬ومهد الطريق للنقاد من‬
‫بعده‪.‬‬
‫‪ -2‬كتاب الحيوان وكتاب البيان والتبيين للجاحظ (ت ‪ 255‬هـ)‬
‫يعد كتاب الحيوان وكتاب البيان والتبيين من أواخر مؤلفات الجاحظ‪ ،‬فكتاب الحيوان من‬
‫أعظم كتبه‪ ،‬وأجلها شأنا‪ ،‬فقد حوى إلى جانب التعريف بالحيوان وكل ما يتعلق به موضوعات‬
‫كثيرة تتصل بالفلسفة والعلوم الطبيعية واألدبية‪.‬‬
‫أما البيان والتبيين ففي جملته يتكلم عن البيان والبالغة والخطابة العربية والشعر العربي‪،‬‬
‫وقد وضعه الجاحظ في ثالثة أجزاء‪.‬‬
‫والفكر النقدية مبثوثة في الكتابين وفي بعض الرسائل أهمها ماهية الشعر وجوهرة‪،‬‬
‫ومصدر الشعر والسرقات الشعرية‪ ،‬وموضوعية النقد األدبي‪ ،‬والشعر والطبع‪ ،‬وبناء لغة الشعر‬
‫(‪)3‬‬
‫وغيرها من القضايا‪.‬‬
‫‪ -3‬الشعر والشعراء البن قتيبة ( ت ‪ 276‬هـ )‬
‫يعد هذا الكتاب من أهم الكتب النقدية في القرن الثالث بعد طبقات ابن سالم‪ ،‬واهم ما يميزه‬
‫هو منحاه في النقد‪ ،‬فقد احتوى كتابه على مقدمة نقدية جيدة تعد من بواكير النقد األدبي‪ ،‬واقتصاره‬
‫على مشاهير الشعراء دون غيرهم‪ ،‬ويختلف عن طبقات ابن سالم كونه يترجم للشعراء مراعيا‬
‫(‪)4‬‬
‫التسلسل الزمني‪.‬‬

‫‪ 1‬ينظر‪ :‬قصي الحسين‪ :‬النقد األدبي عند العرب و اليونان معالمه و إعالمه المؤسسة الحديثة للكتاب‪ ،‬لبنان ط‪ ،2003 ،1‬ص‪.290‬‬
‫‪ 2‬ينظر‪ :‬عز الدين إسماعيل‪ :‬المصادر األدبية واللغوية في التراث العربي‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬بيروت‪ ،1976 ،‬ص ‪.229‬‬
‫‪ 3‬ينظر‪ :‬عيسى علي العاكوب‪ :‬التفكير النقدي عند العرب‪ ،‬مدخل إلى نظرية األدب العربي‪ ،‬دار الفكر المعاصر‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪ ،1997‬ص ‪ 137‬و ما بعدها‪.‬‬
‫‪ 4‬ينظر‪ :‬عبد الطيف صوفي‪ :‬مصادر األدب في المكتبة العربية‪ ،‬دار الهدى‪ ،‬الجزائر‪ ،1994 ،‬ص ‪.38‬‬
‫‪4‬‬
‫وما يهم هو مقدمتة النقدية التي احتوت على قضايا مهمة نذكر منها رأيه في اللفظ والمعنى‪،‬‬
‫الحيادة في الحكم على الشعر والشاعر‪ ،‬بناء القصيدة وثقافة النقد‪ ،‬والحاالت النفسية وعالقتها‬
‫بالشعر‪،‬الطبع و التكلف‪،‬القديم و الحديث‪.‬‬
‫‪ -4‬كتاب البديع البن المعتز (ت‪ 296‬هـ)‬
‫(‪)1‬‬
‫يعتبر كتاب البديع "حسب النقاد " أول بحث منهجي في البالغة والنقد والشعر" ‪ ،‬وقد‬
‫وضعه ابن المعتز سنة ‪ 274‬هـ وهو يشتمل على خمسة أبواب تمثل فنون البديع األساسية‪.‬‬
‫" كما يعتبر أول كتاب في تاريخ علوم النقد والبالغة‪ ،‬يتناول األدب تناوال فنيا‪ ...‬إذ نراه‬
‫يدرس العبارة وينقدها‪ ،‬كما يتوقف عند الصور التعبيرية أو األساليب البالغية وقد أسس ذلك‬
‫لوجود مقياس جديد في النقد األدبي هو (المقياس البديعي) الذي أخذ يقيس األدب بما يرد فيه من‬
‫بديع"(‪.)2‬‬
‫ثانيا‪ :‬في القرن الرابع‪:‬‬
‫‪ -1‬كتاب عيار الشعر البن طباطبا العلوي(ت ‪ 322‬هـ)‬
‫يعتبر كتاب عيار الشعر حلقة متممة لما جاء به ابن قتيبة وهو مقسم إلى قسمين أساسيين‪،‬‬
‫مقدمة ومتن‪ ،‬فم قدمته تشبه مقدمة الشعر والشعراء فيها أشياء كثيرة عن النقد األدبي(‪ ،)3‬وتدور‬
‫حول أربعة موضوعات هي تعريف الشعر‪ ،‬صنعة الشعر‪ ،‬فنون الشعر العربي وأساليبه ثم عيار‬
‫الشعر ويقصد به الوسائل التي يعرف بها جيد الشعر من رديئه‪.‬‬
‫كما تكلم عن التشبيه وأدواته ومعاني الشعر والوحدة العضوية والخلق الشعري ومراحله‬
‫والسرقة الشعرية والصدق وأنواعه وثقافة الشاعر‪ ،‬وحسب له كذلك اهتمامه بجماليات التلقي في‬
‫الفن الشعري‪ " ،‬وهذه رؤية جمالية متقدمة كثيرا بالقياس إلى عصرها "(‪.)4‬‬
‫‪ -2‬كتاب نقد الشعر لقدامة بن جعفر (ت ‪ 337‬هـ)‪:‬‬
‫أول كتاب يحمل هذا العنوان وترد فيه كلمة نقد صريحة‪ ،‬ويرى صاحبه أنه " أول كتاب‬
‫يؤلف في النقد" (‪ ،)5‬وهو ذو أثر كبير في حركة النقد العربي ونهضته‪.‬‬
‫وقد فصل قدامة بن جعفر "مذهبه في النقد الذي احتذى فيه حذو أرسطو في كتابه‬
‫(الخطابة)‪ ،‬الذي ترجمه حنين ابن إسحاق في النصف األخير من القرن الثالث الهجري"(‪ ،)6‬أما‬
‫أهم الفكر النقدية الواردة في هذا الكتاب فهي تعريف الشعر‪ ،‬أسباب الشعر ومكوناته الرئيسية‪،‬‬
‫أوصاف الشعر‪ ،‬طبيعة الشعر‪ ،‬الغلو والمبالغة في تناول المعاني‪.‬‬
‫لقد وضع قدامة بن جعفر مذهبا نقديا لنقد الشعر متأثرا بالثقافتين العربية األصيلة والفلسفة‬
‫(‪)7‬‬
‫اليونانية‪ ،‬فقد نهج قدامة في نقد الشعر نقدا علميا‪.‬‬
‫‪ -3‬الموازنة بين الطائيين لآلمدي (ت ‪ 371‬هـ)‪:‬‬
‫عنوان الكتاب هو‪ (:‬الموازنة بين أبي تمام حبيب بن أوس الطائي وابن عبادة الوليد بن عبيد‬
‫البحتري في شعريهما) كتاب الموازنة وثبة في تاريخ النقد العربي‪ ،‬فكان موازنة مدروسة مؤيدة‬
‫بالتفصيالت التي تلم بالمعاني واأللفاظ والموضوعات الشعرية‪ ،‬لهذا جاء بحثا في النقد واضح‬

‫‪ 1‬قصي الحسين‪ :‬النقد األدبي عند العرب و اليونان‪ ،‬ص‪.338‬‬


‫‪ 2‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.342‬‬
‫‪ 3‬ينظر‪ :‬إحسان عباس‪ :‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ ،‬نقد الشعر من القرن الثاني إلى القرن الثامن الهجري‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫ط ‪ ،1978 ،2‬ص ‪.123‬‬
‫‪ 4‬عيسى علي العاكوب‪ :‬التفكير النقدي عند العرب‪ ،‬ص ‪.197‬‬
‫‪ 5‬قدامة بن جعفر‪ :‬نقد الشعر‪ ،‬تح عبد المنعم خفاجي‪ ،‬دار الكتب العلمية بيروت‪ ،‬د ط ‪ ،‬د ت‪ ،‬ص ‪.6‬‬
‫‪ 6‬حميد آدم ثويني‪ :‬منهج النقد عند العرب‪ ،‬دار صفاء للنشر و التوزيع‪ ،‬عمان‪ ،‬ط‪ ،2004 ،1‬ص ‪.182‬‬
‫‪ 7‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.184‬‬
‫‪5‬‬
‫المنهج(‪ ،)1‬وقد انطوى هذا الكتاب على مادة نقدية ثرية‪ ،‬تدخل في صميم النقد التطبيقي‪ ،‬هذه المادة‬
‫تحتوي على أركان نقدية أهمها‪ :‬الكشف عن السرقات‪ ،‬والقراءة الدقيقة‪ ،‬الموازنة‪ ،‬هذه األخيرة‬
‫تنقسم إلى أربعة أقسام‪:‬‬
‫أ‪ -‬محاجة بين خصوم أبي تمام وخصوم البحتري‪.‬‬
‫ب‪ -‬دراسة الناقد لسرقات كل شاعر منهما‪.‬‬
‫ج‪ -‬نقده ألخطاء ومعايب كل منهما ثم لمحاسنه‪.‬‬
‫(‪)2‬‬
‫د‪ -‬موازنة تفصيلية بين المعاني المختلفة التي تكلما عنها‪.‬‬
‫والحقيقة أنها تبقى موازنة منهجية من ناحية المفاضلة ومن ناحية استنباط الخصائص‪.‬‬
‫‪ -4‬الوساطة بين المتنبي وخصومة للقاضي الجرجاني (ت ‪392‬هـ )‪:‬‬
‫يعتبر كتاب الوساطة مثاال للنقد األدبي المنهجي‪ ،‬فقد قسمه صاحبه إلى ثالثة أقسام‪:‬‬
‫القسم األول‪ :‬مقدمة يوضح فيها المؤلف منهجه العام في النقد تمهيدا للدفاع عن المتنبي أما‬
‫القسم الثاني فال نرى فيه وساطة بين المتنبي وخصومه بل دفاعا عن الشاعر‪ ،‬ومنهج الناقد المدافع‬
‫أنه إذا كان المتنبي قد أخطأ أو أحال أو سرق فقد فعل ذلك غيره‪.‬‬
‫ويأتي الفصل الثالث والذي يمكن تسميته بالوساطة وذلك الن الناقد تناول فيه ما عيب على‬
‫(‪)3‬‬
‫أبي الطيب في شعره‪ ،‬وما أخذه عليه العلماء من مآخذ‪ ،‬يناقشه ويحلله ويفصل القول فيه‪.‬‬
‫وقد عالج الكتاب مجموعة من القضايا النقدية كالقديم والحديث‪ ،‬والطبع والصنعة‪،‬‬
‫والسرقات وعمود الشعر‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬في القرن الخامس الهجري‪:‬‬
‫‪ -1‬كتاب العمدة البن رشيق (ت ‪ 456‬هـ )‬
‫هذا الكتاب واسع الشهرة في مجال النقد األدبي‪ ،‬وقد أشار إلى ذلك ابن خلدون في مقدمته‪،‬‬
‫وقد ألفه صاحبه " في جزأين وفي كل جزء عدة أبحاث قصيرة أطلق عليها أبوابا بلغت في جملتها‬
‫مائة وستة أبواب‪ ،‬منها أربعة وأربعون في الجزء األول واثنان وستون في الجزء الثاني يجمع‬
‫بينهما خط واحد هو الحديث عن الشعر"(‪.)4‬‬
‫ومنهجه في الكتاب يقوم على االجتهاد والنقل‪ ،‬فهو قد اخذ عن النقاد السابقين ولكنه اجتهد‬
‫في هذا النقل وأبدى رأيه فيه‪ " .‬وتدور موضوعات الكتاب بصورة أساسية الشعر فتبين فضله‪،‬‬
‫وتتحدث عن طبيعته وصياغته وأوزانه وقوافيه‪ ،‬وألفاظه‪ ،‬ومعانيه "(‪ .)5‬وغيرها‪.‬‬
‫كما يمكن إدراج كتاب العمدة ضمن النقد النظري والتطبيقي‪ ،‬وقد تكلم عن عدة قضايا نقدية‬
‫كمفهوم الشعر‪ ،‬والمطبوع والمصنوع‪ ،‬والقديم والحديث‪ .‬والسرقات الشعرية واللفظ والمعنى‪ .‬وهو‬
‫من الكتب التي تمثل النقد المغربي بامتياز وبخاصة النقد الجزائري القديم‪.‬‬
‫‪ -2‬كتاب دالئل اإلعجاز وكتاب وأسرار البالغة لعبد القاهر الجرجاني (ت ‪ 471‬هـ )‬
‫لقد أرسى عبد القاهر في كتابه دالئل اإلعجاز أركان علم المعاني‪ ،‬حيث يظم بحوثا كثيرة‬
‫في هذا العلم‪ ،‬والفكرة التي يبنى عليها الكتاب تدور حول بالغة الكالم‪ ،‬وأنها تكمن في النظم‪ ،‬كما‬
‫أوضح أن اللغة ليست مجموعة ألفاظ وإنما مجموعة من العالقات‪ " ،‬وهذا أصح وأحدث ما وصل‬
‫إليه علم اللغة في أوربا"(‪.)6‬‬

‫‪ 1‬ينظر‪ :‬إحسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ ،‬ص ‪.157‬‬
‫‪ 2‬ينظر‪ :‬محمد مندور‪ :‬النقد المنهجي عند العرب‪ ،‬نهضة مصر للطباعة و النشر و التوزيع القاهرة ‪، 1996‬ص ‪.348‬‬
‫‪ 3‬ينظر‪ :‬المرجع نفسه‪ :‬ص ‪.277-276‬‬
‫‪ 4‬أحمد سيد محمد‪ :‬المصدر األدبي‪ ،‬مفهومه وأنواع دراسته‪ ،‬المؤسسة الوطنية للكتاب‪ ،‬الجزائر‪ ،‬ط‪ ،1986 ،2‬ص ‪.106‬‬
‫‪ 5‬عبد اللطيف صوفي‪ :‬مصادر األدب في المكتبة العربية‪ ،‬ص ‪.235‬‬
‫‪ 6‬محمد مندور‪ :‬النقد المنهجي عند العرب‪ ،‬ص ‪.334‬‬
‫‪6‬‬
‫أما كتاب أسرار البالغة فيظم مجموعة دراسات تتناول بحوث علم البيان من تشبيه ومجاز‬
‫واستعارة وفيه شرح للسرقات وبعض ألوان البديع‪ .‬هذا " ويحكم عبد القاهر في الدالئل واألسرار‬
‫على كثير من األدباء والشعراء أحكاما صادقة تدل على عدالة نقده‪ ،‬ويستدل بالكثير من أشعار‬
‫المحدثين‪ ،‬ويعقد في الكثير بينها موازنات تدل على وقوفه على دقائق البيان"(‪.)1‬‬
‫كما يشير بعض النقاد أن النقد الموجود في الكتابين أدق نقد موضوعي تطبيقي وأعمقه‪.‬‬
‫كتاب منهاج البلغاء وسراج األدباء لحازم القرطاجني ت(‪ 684‬هـ)‬
‫هذا الكتاب يمزج بين البالغة والنقد‪ ،‬وقد حققه التونسي محمد الحبيب بن الخوجة‪ ،‬وهو في‬
‫أربعة أقسام ضاع األول منها تماما‪ ،‬ولكن األقسام المتبقية تظم فكرا نقدية المعة ويترائ فيها حازم‬
‫(‪)2‬‬
‫ناقدا ألمعيا قليل النظير‪.‬‬
‫القسم الثاني يتناول المعاني الشعرية والقسم الثاني يتناول النظم والقوانين البالغية‪ ،‬أما‬
‫القسم الرابع فموضوعه الطرق الشعرية والمنهاج يتوفر على مادة نقدية وبالغية غزيرة قلما تعثر‬
‫عليها في كتاب نقدي أو بالغي آخر(‪ ،)3‬والفكر النقدية الموجودة في الكتاب يمكن ذكرها فيما يلي‪:‬‬
‫المعاني الشعرية‪ ،‬غموضها‪ ،‬تخييل األغراض باألوزان التخييل والمحاكاة‪.‬‬
‫ويعتبر الدكتور إحسان عباس أن كتاب المنهاج هو آخر صلة بين كتاب أرسطو والنقد‬
‫العربي‪.‬‬
‫وفي األخير هذه بيبليوغرافيا لمجموعة من المصنفات النقدية في المشرق والمغرب‬
‫واألندلس إال أن هناك بعض المصنفات‪ .‬لم نذكرها لتفادي اإلطالة وحبا لالختصار‪ ،‬وال بأس أن‬
‫نذكرها فقط دون تفصيل‪.‬‬
‫فهناك فحولة الشعراء لألصمعي (ت‪210‬هـ)‪ ،‬والكامل في اللغة واألدب للمبرد‬
‫(ت‪285‬هـ)‪ ،‬وأخبار أبي تمام ألبي بكر الصولي (ت‪335‬هـ)‪ ،‬وحلية المحاضرة للحاتمي‬
‫(ت‪388‬هـ)‪ ،‬وكتاب الصناعتين ألبي هالل العسكري (ت‪395‬هـ)‪ ،‬وكتاب شرح ديوان الحماسة‬
‫للمرزوقي (ت‪421‬هـ)‪ ،‬وسر الفصاحة البن سنان الخفاجي (ت‪466‬هـ)‪ ،‬والمثل الثائر في أدب‬
‫الكاتب والشاعر البن األثير (ت‪637‬هـ) هذا في المشرق‪.‬‬
‫أما في المغرب فهناك كتاب الممتع في عمل الشعر وعمله لعبد الكريم النهشلي (ت‪403‬هـ)‪،‬‬
‫وكتاب أعالم الكالم أو رسائل االنتقاد البن شرف القيرواني (ت‪460‬هـ)‪ ،‬والمقدمة البن خلدون‬
‫(ت‪808‬هـ)‪ ،‬أما في األندلس فنجد من الكتب التي تحمل آراء نقدية العقد الفريد البن عبد ربه‬
‫(ت‪328‬هـ)‪ ،‬ورسائل ابن حزم (ت‪456‬هـ)‪ ،‬التوابع والزوابع البن شهيد(ت‪426‬هـ)‪.‬‬

‫‪ 1‬عبد القاهر الجرجاني‪ :‬دالئل اإلعجاز ‪ ،‬تح عبد المنعم خفاجي ‪ ،‬دار الجيل بيروت‪ ،‬ط‪ ،2004 ،1‬ص ‪.07‬‬
‫‪ 2‬ينظر‪ :‬عيسى علي العاكوب‪ :‬التفكير النقدي عند العرب‪ ،‬ص ‪.316‬‬
‫‪ 3‬ينظر‪ :‬عيس علي العاكوب‪ ،‬التفكير النقدي عند العرب‪ ،‬ص ‪.316‬‬
‫‪7‬‬
‫المحاضرة الثالثة‪ :‬النقد االنطباعي مفهومه ومجاالته‬
‫ونماذج من نصوصه‬

‫ال شك أن النقد هو فن دراسة العمل األدبي‪ ،‬لمعرفة جيده من رديئة وذلك بتحليله وتفسيره‬
‫وتقدير قيمته الفنية‪ .‬وقد ظهر عند العرب منذ العصر الجاهلي‪ ،‬ولكنه كان يدور في فلك "‬
‫االنطباعية الخالصة واألحكام الجزئية التي تعتمد المفاضلة بين بيت وبيت أو تمييز البيت المفرد أو‬
‫إرسال حكم عام في الترجيح بين شاعر وشاعر" (‪.)1‬‬
‫وعليه فالنقد االنطباعي كان في المراحل المبكرة للنقد العربي‪ ،‬فيا ترى ما مفهومه وما‬
‫خصائصه ؟‬
‫مفهوم النقد االنطباعي‪:‬‬
‫هو نقد يصدر من شخص تحت تأثير االنطباعات األولية السريعة الذوقية أو المزاج‬
‫الخاص الفردي‪ ،‬ولم يصدر عن تفكير عميق وتأمل ودراسة معمقة‪ ،‬كما يكون هذا النقد أحكاما‬
‫جزئية عامة سريعة غير معللة‪ ،‬يصف فيها الناقد النص وال يبين األسباب التي دفعته إلى ذلك‪.‬‬
‫ويتميز هذا النوع من النقد بالسذاجة والبساطة والمبالغة في إصدار األحكام‪ ،‬ألنه مبني على‬
‫االنفعال والتأثر والنظرة العجلى‪ ،‬ولم يبن على قواعد وأسس علمية صحيحة اتفق عليها العلماء‪.‬‬
‫هذا والمتتبع للنصوص النقدية العربية منذ النشأة يراها " بسيطة‪ ،‬حيث كان الناقد يعتمد‬
‫على ذوقه وانطباعه الفطري‪ ،‬يوجه نقده للشعر في كلمة أو جملة تجاه بيت أو عدة أبيات كانت قد‬
‫تركت في نفسه أثرا معينا‪ ،‬الن االنطباع البسيط فطري في اإلنسان"(‪.)2‬‬
‫كما نجد هذا النوع من النقد يتجسد في عبارات كثرت في ذلك العصر (بداية النقد) كأن‬
‫يقول الناقد‪ :‬هذا أشعر بيت‪ ،‬هذه أجمل قصيدة‪ ،‬أشعر الجن واإلنس‪ ...‬وغيرها‪.‬‬
‫نماذج من نصوصه‪:‬‬
‫* من صور النقد االنطباعي ما يكون مالحظات سريعة جزئية تعتمد على الذوق والسليقة‪،‬‬
‫و من ذلك مثال‪":‬مر المسيب بن علس بمجلس قيس بن ثعلبة فاستنشدوه فأنشدهم ‪،‬فلما بلغ قوله‪:‬‬
‫بناج عليه الصيعرية مكدم‬ ‫وقد أتناسى الهم عند إذكاره‬
‫(‪)3‬‬
‫فقال طرفه وهو صبي يلعب مع الصبيان‪ :‬استنوق الجمل ‪ ،‬وهو يريد أن الشاعر وهو يصف‬
‫الجمل ذكر من أوصافه ما يخص الناقة (الصيعرية)‪ ،‬وهي سمة تكون في عنق الناقة ال في عنق‬
‫الجمل‪ .‬وقد استعملها المسيب استعماال خاطئا‪.‬‬
‫* ومن ذلك ما يروي أنه‪ " :‬كان النابغة الذبياني تضرب له قبة حمراء من أدم بسوق عكاظ‬
‫فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها‪ .‬فكان أول من أنشده األعشى‪ :‬ميمون بن قيس‪ ،‬أبو بصير‪،‬‬
‫ثم أنشده حسان بن ثابت األنصاري‪:‬‬
‫وأسيافنا يقطرن من نجدة دما‬ ‫لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى‬
‫فأكرم بنا خاال وأكرم بنا ابنما‬ ‫ولدنا بني العنقاء وابني محـرق‬
‫فقال له النابغة‪ :‬أنت شاعر‪ ،‬ولكنك أقللت جفانك وأسيافك‪ ،‬وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك‬
‫"(‪.)4‬‬
‫‪ 1‬إحسان عباس‪ :‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ ،‬ص ‪.46‬‬
‫‪ 2‬إبراهيم صدقة‪ :‬التأثرية و النقد التأثري عند محمد مندور‪ ،‬رسالة ماجستير‪ ،‬إشراف‪ :‬عدنان يوسف سكيك‪ ،‬المعهد الوطني للتعليم‬
‫العالي في اللغة العربية وآدابها‪ ،‬باتنة‪ ،‬الجزائر‪ ،1986 ،‬ص ‪.22‬‬
‫‪ 3‬المرزباني‪ :‬الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء تح‪ ،‬محمد حسين شمس الدين‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ ،1995 ،1‬ص‬
‫‪.95 ،94‬‬
‫‪ 4‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.93‬‬
‫‪8‬‬
‫فهذا نقد انطباعي سليقي مبني على الذوق الفطري الذي يمكن صاحبه من تمييز كالم عن‬
‫كالم وشاعر عن شاعر‪ ،‬والمرجعية التي اعتمد عليها النابغة في قوله‪ :‬وفخرت بمن ولدت ولم‬
‫تفخر بمن ولدك‪ ،‬هي العرف القبلي السائد الذي يفخر باآلباء واألجداد وال يفخر باألبناء‪.‬‬
‫ومن أرقى األمثلة كذلك ما يروى عن " تحاكم الزبرقان بن بدر وعمر بن األهتم وعبدة بن‬
‫الطبيب والمخبل السعدي إلى ربيعة بن حذار األسدي في الشعر‪ ،‬أيهم أشعر؟‪ .‬فقال للزبرقان‪ :‬أما‬
‫أنت فشعرك كلحم اسخن ال هو انضج فأكل وال ترك نيئا فينتفع به‪ ،‬وأما أنت يا عمرو فإن شعرك‬
‫كبرود حبر(‪ ،)1‬يتألأل فيها البصر فكلما أعيد فيها النظر نقص البصر‪ ،‬وأما أنت يا مخبل‪ ،‬فإن‬
‫شعرك قصر عن شعرهم وارتفع عن شعر غيرهم‪ ،‬وأما أنت يا عبدة فإن شعرك كمزادة أحكم‬
‫خرزها (‪ )2‬فليس تقطر وال تمطر"(‪.)3‬‬
‫هذه أحكام نقدية عامة مبهمة سريعة وليدة ذوق فطري متعجل‪ ،‬غير مبنية على مقاييس‬
‫واضحة‪ ،‬وكذا الشأن في أغلب النماذج في العصر الجاهلي فهي تجمع بين الجزئية والتعميم‬
‫والتعبير عن االنطباع الكلي دون اللجوء إلى التعليل‪.‬‬
‫‪ ‬العصر اإلسالمي‪:‬‬
‫عند مجيء اإلسالم ظهر صراع حول الدين الجديد بين الشعراء وأصبحت األحكام النقدية‬
‫تعتمد الصدق والقيم الخلقية‪ .‬فقد أثر عن النبي (صلى هللا عليه وسلم) أنه كان يستحسن قول طرفة‬
‫بن العبد ويتمثل به‪:‬‬
‫ويأتيك باألخبار من لم تزود‬ ‫ستبدي لك األيام ما كنت جاهال‬
‫وكذلك عرف عن عمر بن الخطاب نظرته الموضوعية في الشعر فقد روى ابن عباس‬
‫رضي هللا عنه أن عمر سأله‪" :‬أنشدني ألشعر شعرائكم قلت‪ :‬من هو يا أمير المؤمنين؟ قال‪ :‬زهير‪،‬‬
‫قلت‪ :‬ولم كان كذلك؟ قال‪ :‬كان ال يعاظل بين الكالم‪،‬و ال يتتبع حوشيه‪ ،‬وال يمدح الرجل إال بما‬
‫فيه"(‪.)4‬‬
‫فالنقد في العصر اإلسالمي ال يختلف كثيرا عن النقد في العصر الجاهلي في منابعه‪ ،‬فهو‬
‫يعتمد على الذوق والشعور‪ ،‬وهوال يزال ساذجا بسيطا‪.‬‬
‫‪ ‬العصر األموي‪:‬‬
‫ظهرت بيئات للنقد الحجاز‪ ،‬الشام‪ ،‬العراق‪ ،‬وبرز نقاد كابن أبي عتيق وسكينة بنت الحسين‬
‫في الحجاز‪ ،‬وبعض اللغويين والرواة في العراق‪ ،‬وبعض الشعراء والخلفاء في الشام‪ .‬ففي الحجاز‬
‫يروى أن سكينة بنت الحسين كانت مهتمة بنقد أشعار النسيب‪ ،‬فهي تأخذ عن جرير غلظة ذوقه‬
‫برده الطيف حين أتاه زائر وقد علقت على قوله‪:‬‬
‫حين الزيارة فارجعي بسالم‬ ‫طرقتك صائدة القلوب وليس ذا‬
‫(‪)5‬‬
‫وقالت‪ :‬أفال أخذت بيدها ورحبت بها وقلت‪ :‬أدخلي بسالم‪ ،‬أنت رجل عفيف " ‪.‬‬
‫ومن نقد الشعراء لبعضهم البعض ما رواه ابن سالم أن"عكرمة بن جرير حين سأل أباه عن‬
‫الشعراء‪ ،‬فقال في األخطل يجيد نعت الملوك ويصيب صفة الخمر"(‪ .)6‬وحكم األخطل في جرير‬
‫بأنه يغرف من بحر‪ ،‬والفرزدق ينحت من صخر‪.‬‬

‫‪ 1‬حبر‪ :‬مفردها حبرة وهي مالءة من الحرير كانت ترتديها النساء في مصر عند خروجهن‪.‬‬
‫‪ 2‬خرزها‪ :‬الخرز‪ ،‬الخياطة‪ ،‬والمزادة وعاء يحمل فيه الماء في السفر‪.‬‬
‫‪ 3‬المرزباني‪ :‬الموشح‪ ،‬ص ‪.93‬‬
‫‪ 4‬ابن رشيق‪ :‬العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده‪ ،‬دار الجيل‪ ،‬بيروت‪ ،‬ج‪ ،1‬ط ‪ ،1981 ،5‬ص ‪.98‬‬
‫‪ 5‬عمر عروة‪ :‬دروس في النقد األدبي القديم‪ ،‬ديوان المطبوعات الجامعية‪ ،‬الجزائر‪ ،2010 ،‬ص ‪.61‬‬
‫‪ 6‬ابن سالم الجمحي‪ :‬طبقات الشعراء‪ ،‬دار الكتب العلمية‪،‬بيروت‪،2001،‬ص ‪.155‬‬
‫‪9‬‬
‫وعلى الجملة فالنقد في العصر اإلسالمي واألموي نما‪ ،‬ولكنه نمو في حدود ما رأينا في‬
‫العصر الجاهلي‪ ،‬فال يزال يستلهم الذوق والشعور‪ ،‬وال يزال نقدا جزئيا " بسيطا غير معقد‪ ،‬وال‬
‫يزال الناقد يستوحي وجدانه الخاص‪ ،‬وال يرجع إلى مقاييس دقيقة"(‪.)1‬‬
‫وإذا فالنقد ال يزال فطريا غير معلل‪ ،‬يعتمد الذوق األدبي المرهف ال القواعد وذكر‬
‫األسباب‪ ،‬ولم يتخذ النقد في ذلك الوقت صورة الدراسة المنهجية‪.‬‬

‫‪ 1‬شوقي ضيف‪ :‬النقد‪ ،‬ص ‪.39‬‬


‫‪10‬‬
‫المحاضرة الرابعة‪ :‬مفهوم الشعر عند النقاد المشارقة والمغاربة‬

‫إن الشعر ديوان العرب‪ ،‬ومنتهى حكمهم‪ ،‬به يأخذون وإليه يصيرون‪ ،‬وظل هذا النوع من‬
‫الكالم يحفظ ويتناول في البيئة العربية قبل اإلسالم وبعده جيال بعد جيل‪.‬‬
‫وقد دخلت لفظة " شعر" بيئة النقد األدبي‪ ،‬واكتسبت داللة اصطالحية‪ ،‬إذ شرع النقاد‬
‫المشارقة والمغاربة يضعون تعريفا لها‪ ،‬ولكنهم تباينوا في ذلك لتباين مصادر ثقافتهم واتجاهاتهم‬
‫البالغية والنقدية‪.‬‬
‫‪ -‬فيا ترى ما مفهوم الشعر لغة ؟ و كيف نظر إليه النقاد القدامى المشارقة والمغاربة ؟‬
‫الشعر لغة‪:‬‬
‫ورد في لسان العرب في مادة شعر‪ " :‬الشعر منظوم القول‪ ،‬غلب على شرفه بالوزن‬
‫والقافية‪ ...‬وربما سموا البيت الواحد شعرا حكاه األخفش‪ ...‬وقال األزهري‪ :‬الشعر‪ ...‬المحدود‬
‫بعالمات ال يجاورها‪ ،‬والجمع أشعار‪ ،‬وقائله شاعر ألنه يشعر ما ال يشعر غيره أي يعلم‪ ،‬وشعر‬
‫الرجل يشعر شعرا أو شعرا وشعر‪ ،‬وقيل‪ :‬شعر قال الشعر‪ ،‬وشعر أجاد الشعر ورجل شاعر‬
‫والجمع شعراء‪ ...‬ويقال‪ :‬شعرت لفالن أي قلت له شعرا‪ ...‬والمتشاعر‪ :‬الذي يتعاطى قول الشعر‪...‬‬
‫ويشعر شاعر جيد‪ .)1("...‬فالوزن هو الذي يفرق بين الشعر وغيره‪.‬‬
‫مفهوم الشعر عند النقاد القدامى المشارقة والمغاربة‪:‬‬
‫اهتم النقاد العرب القدامى بالشعر وحاولوا تمييزه عن النثر‪ ،‬وقد كانت هناك محاوالت منذ‬
‫القرن الثالث واستمرت حتى ابن خلدون في القرن الثامن‪ ،‬إال أن الشعر يصعب "ضبطه ضمن أي‬
‫تعريف مشروط ومحدود بشكل نهائي" (‪ ،) 2‬فالجاحظ (ت‪255‬هـ) يعرفه بقوله‪:‬‬
‫" فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير"(‪ ،)3‬وفي هذا مقارنة بين الشعر‬
‫والرسم‪ ،‬وهي مقولة لهوراس يؤكدها إحسان عباس‪ .‬الذي يعلق على هذا التعريف بقوله‪ " :‬فلو‬
‫تخطى الجاحظ حدود التعريف لوجد نفسه في مجال المقارنة بين فنين‪ :‬الشعر والرسم‪ ،‬بل أن‬
‫تعريفه ال يخرج عن قول هوراس‪ :‬الشعر والرسم"(‪.)4‬‬
‫أما ابن طباطبا العلوي (ت‪322‬هـ) في كتابه عيار الشعر‪ ،‬فقد عرف الشعر بقوله‪" :‬الشعر‬
‫كالم منظوم بائن عن المنثور الذي يستعمله الناس في مخاطباتهم‪ ،‬بما خص به من النظم الذي أن‬
‫عدل عن جهته مجته األسماع‪ ،‬وفسد على الذوق‪ ،‬ونظمه محدود معلوم‪ ،‬فمن صح طبعه وذوقه لم‬
‫يحتج إلى االستعانة على نظم الشعر بالعروض التي هي ميزانه‪ ،‬ومن اضطرب عليه الذوق لم‬
‫يستعن من تصحيحه وتقويمه بمعرفة العروض والحذق به‪ ،‬حتى تعتبر معرفته المستفادة كالطبع‬
‫الذي ال تكلف معه"(‪ ،)5‬فهو يفرق بين الشعر والنثر وإنما يكمن الفرق في النظم‪ ،‬والنظم عنده‬
‫تخيير اللفظ والوزن والصياغة‪ ،‬بيد أنه لم يذكر القافية صراحة‪ ،‬وإنما جاءت متضمنة في كالمه‪،‬‬
‫كما يرى جابر عصفور فهو يشير إلى أن هذا التعريف " يحدد الشعر على أساس االنتظام‬
‫الخارجي للكلمات‪ ،‬صحيح أن التعريف ال يشير صراحة إلى القافية إال أنها متضمنة فيه"(‪.)6‬‬

‫‪ 1‬ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ ،‬مادة‪ :‬ش ع ر‪ ،‬ج ‪.07‬‬


‫‪ 2‬حورية الخمليشي‪ :‬الشعر المنثور والتحديث الشعري‪ ،‬منشورات االختالف‪ ،‬الجزائر‪ ،‬ط ‪ ،2010 ، 1‬ص ‪.18‬‬
‫‪ 3‬الجاحظ‪ :‬الحيوان‪ ،‬تح‪،‬عبد السالم هارون ‪،‬القاهرة‪،‬ج‪،3‬ص‪.131،132‬‬
‫‪ 4‬إحسان عباس‪ :‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ ،‬ص ‪.98‬‬
‫‪ 5‬ابن طباطبا‪ :‬عيار الشعر‪ ،‬تح عباس عبد الساتر‪ ،‬دار الكتب العلمية بيروت‪ ،‬ط ‪ 2005 ،2‬ص ‪.09‬‬
‫‪ 6‬جابر عصفور‪ :‬مفهوم الشعر‪ ،‬دراسة في التراث النقدي‪ ،‬دار التنوير للطباعة والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪ ،1982 ،2‬ص ‪.25‬‬
‫‪11‬‬
‫ومن النقاد الذين ذكروا القافية صراحة قدامة بن جعفر (ت‪337‬هـ) الذي يعرف الشعر‬
‫بقوله‪" :‬قول موزون مقفى‪ ،‬يدل على معنى"(‪ ،)1‬فقد أضاف القافية والمعنى‪ ،‬وجعل الوزن والقافية‬
‫هما الفيصل في التفريق بين الشعر والنثر‪.‬‬
‫ويأتي ابن رشيق (ت‪463‬هـ) مستفيدا مما سبقه ويعيد صياغة التعريفات السابقة بقوله‪" :‬‬
‫الشعر يقوم بعد النية على أربعة أشياء وهي اللفظ والوزن والمعنى والقافية‪ ،‬فهذا هو حد‬
‫الشعر"(‪.)2‬‬
‫هذا ويجمع أكثر النقاد المحدثين‪ ،‬أن النقلة الحقيقية في تحديد مفهوم الشعر جاءت على أيدي‬
‫الفالسفة الذين درسوا الفكر اليوناني وتأثروا به‪ ،‬خاصة نظرية المحاكاة التي طبقوها على الشعر‬
‫العربي‪ ،‬حتى ظهر مصطلح جديد‪ ،‬وهو "التخييل" الذي يقصد به التصوير الفني القائم على رؤية‬
‫ذاتية ومقدرة إبداعية تجعل منه أساس عملية اإلبداع الشعري(‪ .)3‬وأول من يطالعنا في القرن الرابع‬
‫الفرابي (ت‪339‬هـ) الذي يعرف الشعر بقوله‪ ":‬الشعر هو الصناعة التي بها يقدر اإلنسان على‬
‫تخييل األمور التي تبينت ببراهين يقينية في الصنائع النظرية والقدرة على محاكاتها بمثيالتها"(‪.)4‬‬
‫أما ابن سينا (ت‪449‬هـ) فيرى أن المحاكاة عند المبدع تتحول إلى تخييل لدى المتلقي وبهذا‬
‫يتحدد لديه مفهوم الشعر الذي يعرفه بقوله‪ ":‬أن الشعر هو كالم مخيل مؤلف من أقوال موزونة‬
‫متساوية وعند العرب مقفاة "(‪ ،)5‬وفي هذا التعريف مقارنة بين شعر العرب وغيرهم‪ ،‬وأن العرب‬
‫يتفردون في إضافة التقفية‪ ،‬وكذلك فإن السمة النوعية الظاهرية األولى للشعر تتمثل في الوزن‬
‫والقافية‪.‬‬
‫كما يتفق حازم القرطاجي(ت‪684‬هـ) مع ابن سينا في تعريفه للشعر مركزا على ما قاله‪،‬‬
‫فقد جاء تحت عنوان ( معرف دال على المعرفة بماهية الشعر وحقيقته) في قوله‪:‬‬
‫" الشعر كالم موزون مقفى ‪،‬من شأنه أن يحبب إلى النفس ما قصد تحبيبه إليها ويكره إليها ما قصد‬
‫تكريهه‪ ،‬لتحمل بذلك على طلبه أو الهرب منه‪ .‬بها يتضمن من حسن تخييل له‪ ،‬ومحاكاة مستقلة‬
‫بنفسها أو متصورة بحسن هيأة تأليف الكالم وقوة صدقه‪ ،‬أو قوة شهرته‪ ،‬أو بمجموع ذلك‪ ،‬وكل‬
‫ذلك يتأكد بما يقترن به من إغراب‪ ،‬فإن االستغراب والتعجب حركة للنفس إذا اقترنت بحركتها‬
‫الخيالية قوى انفعالها وتأثرها" (‪ .) 6‬ويقول في موقع آخر من الكتاب‪:‬‬
‫" الشعر كالم مخيل موزون مختص في لسان العرب بزيادة التقفية إلى ذلك‪ ،‬والتئامه من مقدمات‬
‫مخيلة‪ ،‬صادقة أو كاذبة‪ ،‬ال يشترط فيها بما هي شعر غير التخييل "(‪.)7‬‬
‫ويأتي ابن خلدون (ت‪808‬هـ) الذي يضع حد الشعر بقوله‪ ":‬الشعر هو الكالم البليغ المبني‬
‫على االستعارة واألوصاف‪ ،‬المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي‪ ،‬مستقل كل جزء منها في‬
‫غرضه ومقصده عما قبله وما بعده الجاري على أساليب العرب المخصوصة به " (‪.)8‬‬
‫وخالصة القول‪ :‬إن النظر في التعريفات السابقة‪ ،‬يبين أن النقاد العرب القدامى قد ركزوا‬
‫على مسألتين األولى‪ :‬الشكل والمظهر الخارجي للشعر أو الخصائص التي تميزه عن النثر (الوزن‬
‫والقافية)‪ ،‬وهذا ما نجده عند ابن طبطبا وقدامة وابن رشيق‪.‬‬

‫‪ 1‬قدامة بن جعفر‪ :‬نقد الشعر ‪ ،‬ص ‪.64‬‬


‫‪ 2‬ابن رشيق‪ :‬العمدة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.119‬‬
‫‪ 3‬ينظر‪ :‬صالح رزق‪ ،‬أدبية النص‪ ،‬دار غريب للطباعة‪ ،‬القاهرة‪ ،2002 ،‬ص ‪.70‬‬
‫‪ 4‬نقال عن شكري عزيز ماضي‪ :‬في نظرية األدب‪ ،‬المؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ ،2005 ،1‬ص ‪.198‬‬
‫‪ 5‬صالح رزق‪ :‬أدبية النص‪ ،‬ص ‪.73‬‬
‫‪ 6‬حازم القرطاجني‪ :‬منهاج البلغاء وسراج األدباء‪ ،‬تح محمد الحبيب بن الخوجة‪ ،‬دار الكتب الشرقية‪ ،‬تونس‪ ،1966 ،‬ص‪.71‬‬
‫‪ 7‬المصدر نفسه ‪ ،‬ص ‪.89‬‬
‫‪ 8‬ابن خلدون‪ :‬المقدمة‪،‬دار الفكر‪،‬ج‪ ،1‬ص ‪. 573‬‬
‫‪12‬‬
‫أما المسألة الثانية فهي الصناعة في الشعر‪ ،‬فالشعر صناعة لفظية أو صناعة عقلية أي له‬
‫قوانين ال بد من فهمها واستيعابها ومن ثم تطبيقها‪ ،‬وهنا يبدو التأثر بنظرية المحاكاة ألرسطو‪.‬‬
‫وعليه يكون الشعر تعبير لغوي له سمات تميزه‪ :‬كالوزن والقافية‪ ،‬دعامتها التخييل‬
‫والتصوير‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫المحاضرة الخامسة‪ :‬قضية االنتحال وتأصيل الشعر‬

‫تعتبر قضية االنتحال من القضايا النقدية الكبرى التي شغلت النقاد القدامى والمحديثين‪ ،‬وقد‬
‫أشار إليها معظمهم‪ ،‬ولكن أول ناقد كتب في مسألة نحل الشعر العربي هو ابن سالم الجمحي في‬
‫كتابه طبقات فحول الشعراء‪ ،‬وعلى الرغم من أن بعض معاصريه قد فطنوا إلى فكرة الشعر‬
‫المصنوع الذي ينسب إلى الجاهلين واإلسالميين وليس لهما‪ ،‬ومن هؤالء خلف األحمر والمفضل‬
‫الضبي‪ ،‬إال أن ابن سالم كان اشد اهتماما بها والتوسع في شرح جوانب النظرية وجميع مالبساتها‬
‫(‪)1‬‬
‫التاريخية‪.‬‬
‫والنحل ليس مقصورا على العرب وحدهم كما يرى الدكتور طه حسين وإنما يتجاوز إلى‬
‫األمتين اليونانية والرومانية‪ " ،‬فلن تكون األمة العربية أول أمة نحل فيها الشعر نحال وحمل على‬
‫قدمائها كذبا وزورا‪ ،‬وإنما نحل الشعر في األمة اليونانية واألمة الرومانية من قبل وحمل القدماء‬
‫من شعرائهما"(‪ .)2‬فما رأي النقاد القدامى في قضية االنتحال وتأصيل الشعر؟‬
‫أوال‪:‬ابن سالم وقضية االنتحال‪:‬‬
‫لقد تعرض ابن سالم في مقدمة كتابه إلى قضية الوضع أو صحة الشعر وصحة الرواية‬
‫فأدرك أن الشعر العربي القديم المتداول على ألسنة الرواة‪ ،‬والمدون في كتب األخبار واألنساب‬
‫اغلبه موضوع من قبل الرواة على لسان الشعراء‪ ،‬لذلك قرر وضعه في موضع الشك‪ ،‬ألنه لم‬
‫(‪)3‬‬
‫يؤخذ عن أهل البادية بالمشافهة‪.‬‬
‫كما ارجع ابن سالم قضية االنتحال إلى عوامل ثالثة يمكن أن نبينها فيما يلي‪:‬‬
‫‪ :1‬العامل السياسي (عامل القبائل)‬
‫كان الشاعر في الجاهلية لسان قبيلته يدافع عنها وينتصر لها‪ ،‬وكان الهجاء سالحا فتاكا كان‬
‫يتهدد به الشاعر الخصوم‪ ،‬إال أن الشعر لم يسجل‪ ،‬بل تناقله الرواة بين القبائل‪.‬‬
‫فلما جاء اإلسالم ألف بين القلوب‪ ،‬وأصبح الشاعر يدافع عن دينه الجديد ويواجه الكفار‪،‬‬
‫فأصبح شعراء األنصار وشعراء قريش يتهاجون ويتفاخرون‪ ،‬وبعد وفاة الرسول (صلى هللا عليه‬
‫وسلم) وجاء الخلفاء وكثرت الفتوحات‪ ،‬انصرف الناس إلى الجهاد في سبيل هللا‪ ،‬وكان عمر‬
‫(رضي هللا عنه) قد نهى عن رواية الشعر الذي تهاجى به المسلمون والمشركون أيام النبي (صلى‬
‫هللا عليه وسلم)‪ ،‬وبعد مقتل عثمان(رضي هللا عنه) ظهرت العصبية من جديد في بني أمية‪ ،‬فأخذ‬
‫شعراء األنصار يفخرون بنصرتهم للنبي(صلى هللا عليه وسلم) ورد عليهم شعراء قريش‪.‬‬
‫وكانت القبائل العربية تحرص على أن يكون مجدها في الجاهلية رفيعا‪ ،‬فأخذت تبحث عن‬
‫أشعارها التي قيلت في الجاهلية‪ ،‬فلم تجد أكثرها‪ ،‬الن العرب لم تكن تسجل أشعارها‪ ،‬العتمادها‬
‫على الرواة‪ ،‬وكان أكثر الرواة قد ماتوا في حروب الردة والفتوحات(‪ ،)4‬فما كان من هذه القبائل‪،‬‬
‫إال أن تبحث عن أشعارها التي قيلت في الجاهلية فلم تجد أكثرها‪.‬‬

‫‪ 1‬ينظر‪ :‬قصي الحسين‪ ،‬النقد األدبي عند العرب واليونان‪ ،‬ص ‪.300‬‬
‫‪ 2‬طه حسين‪ ،‬في األدب الجاهلي‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،2001 ،‬ص ‪ 17‬ص ‪.114‬‬
‫‪ 3‬ينظر‪ :‬حسين عبد هللا شرف‪ ،‬النقد في العصر الوسيط و المصطلح في طبقات ابن سالم‪ ،‬دار الحداثة بيروت‪ ،‬ط‪ ،1984 ،‬ص‬
‫‪.96‬‬
‫‪ 4‬ينظر‪ :‬محمد صايل حمدان و عبد المعطي نمر موسى ‪ ،‬قضايا النقد القديم دار األمل‪ ،‬األردن‪ ،‬ط‪ ،1990 ،1‬ص ‪.11 ،10‬‬
‫‪14‬‬
‫وفي هذا يقول ابن سالم "‪ ...‬فلما راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها‪،‬‬
‫واستقل بعض العشائر شعر شعرائهم وما ذهب من ذكر وقائعهم وأشعارهم‪ ،‬وأرادوا أن يلحقوا‬
‫بمن له الوقائع واألشعار فقالوا على ألسن شعرائهم"(‪.)1‬‬
‫كما يشير ابن سالم إلى أن قريشا كانت أكثر القبائل نحال ألنها كانت اقلهم شعرا في‬
‫الجاهلية‪ ،‬وفي ذالك يقول‪" :‬وقد نظرت قريش فإذا حضها من الشعر قليل في الجاهلية‪ ،‬فاستكثرت‬
‫منه في اإلسالم"(‪.)2‬‬
‫وهكذا فقد كان العامل السياسي المتمثل في العصبية القبلية له دور في نحل الشعر ما جعل‬
‫العرب ينحلون شعر الجاهليين‪.‬‬
‫‪ /2‬العامل الديني‪:‬‬
‫لقد كان للعامل الديني كبير األثر في نحل الشعر وإضافته للجاهليين‪ ،‬ويذكر ابن سالم أن‬
‫القصاص وأصحاب السير عندما حاولوا تفسير ما وجدوه مكتوبا في القرآن الكريم من أخبار األمم‬
‫البائدة كعاد وثمود‪ ،‬قد أضافوا شعرا إلى تبع وحمير وهذا شعر منحول‪ ،‬وقد وجه ابن سالم أصاب‬
‫ع االتهام إلى ابن إسحاق وغيره من أصحاب السير والقصص‪.‬‬

‫‪ 1‬ابن سالم الجمحي‪ :‬طبقات الشعراء‪ ،2001 ،‬ص ‪.39‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.50‬‬
‫‪15‬‬
‫و"لقد تصدى ابن سالم بالنقد لما وضعه محمد بن إسحاق صاحب السيرة‪ ،‬من شعر مفتعل‬
‫نسبه إلى من لم يقولوا الشعر"(‪.)1‬‬
‫وقد ورد هذا في طبقاته‪ ،‬إذ يقول‪" :‬وكان ممن هجن الشعر وأفسده وحمل الناس منه كل‬
‫غثاء محمد ابن إسحاق‪ ...‬وكان من علماء الناس بالسير فقبل الناس منه األشعار‪ ...‬ولم يكن ذلك له‬
‫عذرا‪ ،‬فكتب السير من أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرا قط‪ ،‬وأشعارا لنساء لم يقلن الشعر قط‪،‬‬
‫ثم جاوز ذالك إلى عاد وثمود‪ ،‬أفال يرجع إلى نفسه فيقول من حمل هذا الشعر ؟ ومن أداة منذ ألوف‬
‫من السنين"(‪ .)2‬وهلل يقول‪:‬وأنَّه أهلك عادا األولى{‪ }50‬وثمود فما أبقى‪ ،)3(‬وقال في عاد ‪‬فهل‬
‫ترى لهم من باقية‪.)4(‬‬
‫هذا ويرد ابن سالم على ابن إسحاق ويسقط ما ورد في سيرته بأربعة أدلة‪.‬‬
‫أ – الدليل النقلي‪ ،‬وهو ما جاء في القرآن في اآليتين السابقتين‪ ،‬فيا ترى من حمل ذلك الشعر إلى‬
‫عصر التدوين وهللا قد اهلك عادا وثمود؟‬
‫ب‪ -‬دليل تاريخي‪ ،‬أن اللغة العربية لم تكن موجودة في عهد عاد وثمود‪ ،‬فكيف يظهر شعر بلغة لم‬
‫تظهر بعد‪ .‬فأول من تكلم العربية إسماعيل عليه السالم‪ ،‬وإسماعيل جاء بعد عاد‪.‬‬
‫ج – ويذكر ابن سالم أن عادا من اليمن وان لليمن لسانا غير هذا اللسان العربي‬
‫د – يذكر ابن سالم أن القصائد الطوال ظهرت في عهد عبد المطلب وهاشم بن عبد مناف وذلك‬
‫(‪)5‬‬
‫يدل على إسقاط شعر عاد وثمود وحمير وتبع‪.‬‬
‫‪ / 3‬عامل الرواة‬
‫فطن ابن سالم إلى ما أصاب رواية الشعر الجاهلي من كثرة التزيد فيه واالنتحال‪ ،‬ولكن قد‬
‫يسهل على أهل العلم معرفته‪ ،‬أما الشعر الذي وضعه أهل البادية من أوالد الشعراء أو غير‬
‫أوالدهم فهو الذي يقع موضع الشك واإلشكال‪ .‬يقول ابن سالم‪ ":‬وليس يشكل على أهل العلم زيادة‬
‫ذلك وال ما وضع المولدون‪ ،‬وإنما عضل بهم أن يقول الرجل من أهل البادية من ولد الشعراء أو‬
‫الرجل ليس من ولدهم فيشكل ذلك بعض األشكال"(‪ .)6‬وعلى هذا شن ابن سالم هجوما على الرواة‬
‫الذين افسدوا الشعر‪ ،‬فمنهم حماد الرواية وكان زعيم أهل الكوفة في الرواية والحفظ‪ ،‬وخلف‬
‫األحمر وكان زعيم أهل البصرة في الرواية والحفظ‪ ،‬وكانا يحسنان رواية الشعر ويحفظانه‪،‬‬
‫ويصالن إلى التقليد بحيث ال يستطيع احد التمييز بين الرواية والنحل‪.‬‬
‫فحم اد يحدثنا عنه راوية من خيرة رواه الكوفة هو المفضل الضبي " أنه افسد الشعر إفسادا‬
‫ال يصلح بعد أبدا‪ ،‬فلما سئل عن سبب ذلك ألحن أم خطأ؟ قال " ليته كان كذلك فإن أهل العلم‬
‫يردون من أخطأ إلى الصواب ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء‬
‫ومعانيهم فال يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل‪ .‬ويدخله في شعره ويحمل ذلك عنه في األفاق‪،‬‬
‫فتختلط أشعار القدماء‪ ،‬وال يميز الصحيح منها إال عند عالم ناقد وأين ذلك ؟"(‪.)7‬‬
‫ويحدث ابن سالم كذلك فيقول‪ ":‬وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها حماد‬
‫الراوية‪ ،‬وكان غير موثوق به‪ ،‬ينحل شعر الرجل غيره ويزيد في األشعار"(‪.)8‬‬

‫‪ 1‬حسين عبد هللا شرف‪ :‬النقد في العصر الوسيط والمصطلح في طبقات ابن سالم‪ ،‬ص ‪.101‬‬
‫‪ 2‬ابن سالم الجمحي‪ :‬طبقات الشعراء‪ ،‬ص‪.28‬‬
‫‪ 3‬النجم‪.51 ،50 :‬‬
‫‪ 4‬الحاقة‪.08 :‬‬
‫‪ 5‬ينظر حسين عبد هللا شرف‪ :‬النقد في العصر الوسيط والمصطلح في طبقات ابن سالم‪ ،‬ص ‪.103 ،102 ،101‬‬
‫‪ 6‬ابن سالم‪ :‬طبقات الشعراء‪ ،‬ص ‪.39‬‬
‫‪ 7‬طه حسين‪ :‬في األدب الجاهلي ص ‪.170 .169‬‬
‫‪ 8‬ابن سالم الجمحي‪ :‬طبقات الشعراء‪ ،‬ص ‪.40‬‬
‫‪16‬‬
‫كما يوضح ابن سالم مسألة أخرى‪ ،‬وهي أن أبناء الشعراء كانوا ينحلون أشعار أبائهم‪،‬‬
‫وذكر مثال على ذلك‪" :‬عن أبي عبيدة أنه استنشد داوود بن تميم بن نويرة شعر أبيه فالحظ أنه لما‬
‫نفد شعر أبيه جعل يزيد أشعارا لم تعرف له"(‪.)1‬‬
‫هذه هي مجمل األسباب التي أدت إلى االنتحال في الشعر كما رأى ابن سالم‪ ،‬وقد سجلها‬
‫في كتابه طبقات فحول الشعراء‪ ،‬إال أنه يقر بصعوبة التمييز بين الصحيح والمنحول وبخاصة‬
‫عندما يصدر الشعر من أهل البادية العارفين بالشعر وروايته‪ ،‬إال أن ابن سالم اعتمد على رأى‬
‫علماء عصره ومن سبقوه‪ ،‬وعلى منهجه وثقافته في كشف المنحول‪ ،‬وتلك محمدة تحسب له‬
‫االنتحال عند الجاحظ‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬تناول الجاحظ هذه القضية وحاول أن يتمم ما بدأه ابن سالم في التمييز بين الشعر‬
‫الصحيح والمنحول‪ ،‬فاعتمد في ذلك على شهادة الرواة وعلى مبدأ تفاوت الشعر(‪ ،)2‬فيروي بيتا‬
‫منسوبا الوس بن حجر‪:‬‬
‫نقع يثور تخاله طنبا‬ ‫فانقض كالدري يتبعه‬
‫ويقول معلقا عليه‪ ":‬وهذا الشعر ليس ألوس إال من ال يفصل بين شعر أوس بن حجر وشريح بن‬
‫أوس"(‪ ،)3‬ويضيف الجاحظ إلى أدلة ابن سالم دليال داخليا نابعا من المعنى الذي يؤديه الشعر‪،‬‬
‫وضرب مثال على ذلك وهو قول األفوه األودي‪:‬‬
‫فارس في كفه للحرب نار‬ ‫كشهاب القذف يرميكم به‬
‫قال‪ ":‬وبعد فمن أين علم األفوه أن الشهب التي يراها إنما هي قذف ورجم وهو جاهلي‪ ،‬ولم يدع‬
‫هذا أحد قط إال المسلمون "(‪.)4‬‬
‫ويتضح من هذا أن الجاحظ حلل البيت داخليا واستنتج أن الشهب وهي رجم الشياطين جاء‬
‫ذكرها في القرآن‪ ،‬فأين لهذا الجاهلي أن يعرف شيئا كهذا‪ .‬ثم يكون الجاحظ في بعض األحيان جادا‬
‫في نقده إال أن هذا النقد ال يخلو من السخرية‪ ،‬فمن ذلك تعليقه على بيتين في قول الشاعر‪:‬‬
‫إنما الموت سؤال الرجال‬ ‫ال تحسبن الموت موت البلى‬
‫أفظع من ذاك لذل السؤال‬ ‫كالهمــا مـوت و َّ‬
‫لكن ذا‬
‫ويعلق الجاحظ بقوله‪":‬وأنا أزعم أن صاحب هذين البيتين ال يقول شعر أبدا ولوال أن ادخل في‬
‫(الحكم) بعض الفتك لزعمت أن ابنه ال يقول شعرا أبدا"(‪.)5‬‬
‫كما يروي الجاحظ أن هناك أناسا كانوا يبهرجون أشعارا ويستسقطون من رواها لينسبوها‬
‫إلى غيرهم‪ ،‬يقول‪ ":‬وقد رأينا أناسا منهم يبهرجون أشعار المولدين ويستسقطون من رواها‪ ،‬ولم أر‬
‫ذلك قط إال في رواية الشعر غير بصير بجوهر ما يروي‪ ،‬ولو كان له بصر لعرف موضع الجيد‬
‫(‪)6‬‬
‫ممن كان وفي أي زمان ومكان‪.‬‬
‫لقد واصل الجاحظ ما بدأه ابن سالم‪ ،‬وأضاف إلى أدلة الوضع واالنتحال دليال آخر‪ ،‬وهو‬
‫الدليل الداخلي الذي يكمن في النص الشعري‪ ،‬ووازن بين البيت وما كان معروفا في الجاهلية‪ ،‬ثم‬
‫يحكم على الشعر أن كان منقوال أم ال‪.‬‬

‫‪ 1‬شوقي ظيف‪ :‬النقد‪ ،‬ص ‪.52‬‬


‫‪ 2‬ينظر‪ :‬إحسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ ،‬ص ‪.100‬‬
‫‪ 3‬الجاحظ‪ :‬الحيوان ‪،‬ج‪،6‬ص‪.279‬‬
‫‪ 4‬المصدر نفسه‪،‬ص‪.280،281‬‬
‫‪ 5‬المصدر نفسه‪،‬ج‪،3‬ص‪.131‬‬
‫‪ .6‬الجاحظ‪ :‬البيان والتبيين‪،‬تح عبدالسالم هارون‪،‬القاهرة‪،1960،‬ص‪.35‬‬
‫‪17‬‬
‫ثالثا‪:‬اآلمدي واالنتحال‪.‬‬
‫ونصل إلى القرن الرابع حيث يطالعنا اآلمدي بحديثه عن االنتحال‪ ،‬فهو يتحقق من‬
‫النصوص ونسبتها حيث يرجع إلى النسخ القديمة ويحقق أبيات الشعر‪.‬‬
‫ففي حديثه عن شعر أبي تمام يذكر أنه اطلع على النسخ العتيقة التي لم يطلع عليها غيره‪،‬‬
‫يقول‪ " :‬حتى رجعت إلى النسخة العتيقة التي لم تقع في يد الصولي وأضرابه "(‪.)1‬‬
‫كما يملك اآلمدي روح الناقد الخبير فكان نقده علميا " ينظر في صحة نسبة الشعر‪ ،‬وهو‬
‫في ذلك تلميذ البن سالم‪ ،‬ومن ثم نراه ال يقبل ما ينسب إلى األعراب انتحاال "(‪.)2‬‬
‫وفي الموازنة مثال دال على هذا حيث يتحدث اآلمدي بمناسبة أبيات يدرسها عن التقسيم‬
‫فيقول‪" :‬كان بعض شيوخ األدب تعجبه التقسيمات في الشعر وكان مما يعجبه قول العباس بن‬
‫األحنف‪:‬‬
‫وعطفكم صد وسلمكم حرب‬ ‫وصالكم هجر وحبكم قلى‬
‫ويقول‪ :‬هذا أحسن من تقسيمات إقليدس‪ ،‬وقال أبو العباس ثعلب‪ :‬سمعت سيد العلماء يستحسنه يعني‬
‫ابن األعرابي‪ ،‬و نحو هذا ما أنشده المبرد ألعرابي وليس هو عندي من كالم اإلعراب وهو بكالم‬
‫المولدين أشبه‪:‬‬
‫رضـاهـا فتعند التباعد من ذنبي‬ ‫وأدنــو فتقصينـي وأبعد طالبا‬
‫(‪)3‬‬
‫وشكواي تؤذيها وصبري يسوؤها وتجزع من بعدي وتنفر من قربي"‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فاآلمدي واصل ما بدأه ابن سالم ومن بعده الجاحظ في تحقيق النصوص ونسبها ألصحابها‬
‫بمنهج فيه روح النقد العلمي‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬ابن رشيق واالنتحال‪.‬‬
‫أما ابن رشيق فيشير إشارة سريعة إلى قضية االنتحال عند حديثه عن السرقات‪ ،‬ويستعمل‬
‫مصطلح االنتحال كابن سالم وسواه‪ ،‬من حيث ما عرف من استلحاق شاعر لبيت من شاعر آخر‪،‬‬
‫وما عرف عن االنتحال حيث يذكر بيتين عرفا لجرير ثم يقول معلقا‪ ":‬فان الرواة مجمعون على أن‬
‫(‪) 4‬‬
‫البيتين للمعلوط السعدي انتحلهما جرير‪.‬‬
‫وخالصة القول‪ ،‬إن ابن سالم أول ناقد اهتم بقضية االنتحال‪ ،‬ودرسها دراسة جيدة مبنية‬
‫على أسس نقدية صحيحة‪،‬مثبتا وجودها باألدلة والبراهين‪ ،‬والنقاد الذين جاؤوا من بعده‪ ،‬إنما‬
‫أكملوا ما بدأه‪ ،‬ومنطلقهم في الدراسة ما وصل إليه ابن سالم‪.‬‬

‫المحاضرة السادسة‪ :‬عمود الشعر‬


‫لقد أشار النقاد في بواكير مؤلفاتهم النقدية إلى عمود الشعر العربي وهي طريقة القدامى‪،‬‬
‫حيث نجد ابن قتيبة في حديثه عن بناء القصيدة يذكر أن الشاعر المجيد من سلك هذه األساليب(‪،)5‬‬
‫وهذه األساليب ما هي إال طريقة األوائل في نظم الشعر‪ ،‬وكذلك نجد ابن طباطبا يتحدث عن "‬
‫الوقوف على مذاهب العرب في تأسيس الشعر والتصرف في معانيه في كل ما قالته العرب"(‪.)6‬‬

‫‪ 1‬األمدي‪ :‬الموازنة بين الطائيين‪ ،‬ج ‪ ، 1‬تح السيد أحمد صقر‪،‬دار المعارف‪،‬مصر‪،‬ط‪،4،1961‬ص ‪.215‬‬
‫‪ 2‬محمد مندور‪ :‬النقد المنهجي عند العرب‪ ،‬ص ‪.104‬‬
‫‪ 3‬األمدي‪ :‬الموازنة‪ ،‬ج‪ ،3‬نقال عن محمد مندور‪،‬النقد المنهجي عند العرب‪،‬ص‪. 104،105‬‬
‫‪ 4‬ابن رشيق‪ :‬العمدة‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.284‬‬
‫‪ 5‬ابن قتيبة‪ :‬الشعر والشعراء‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.20‬‬
‫‪ 6‬رجاء عيد‪ :‬التراث النقدي‪ ،‬نصوص ودراسة‪ ،‬منشأة المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،1983 ،‬ص ‪.147‬‬
‫‪18‬‬
‫فأساليب العرب ومذاهبهم هي طريقتهم التي رسموها لنظم الشعر‪ ،‬وقد اصطلح عليها‬
‫بعمود الشعر‪ ،‬هذا المصطلح الذي نجده أول ما نجده عند اآلمدي صاحب الموازنة عندما يفضل‬
‫البحتري على أبي تمام‪ ،‬وذلك في قوله‪ ..." :‬ألن البحتري أعرابي الشعر مطبوع وعلى مذهب‬
‫األوائل‪ ،‬وما فارق عمود الشعر المعروف "(‪.)1‬‬
‫وعليه فعمود الشعر هو مجموعة التقاليد الشعرية التي يحرص عليها العرب في نظم‬
‫أشعارهم‪.‬‬
‫ومذهب األوائل ذكره اآلمدي عندما تكلم عن أبي تمام وقال أنه فارق عمود الشعر‪ ،‬وشعره‬
‫ال يشبه أشعار األوائل وال على طريقتهم لما فيه من االستعارات البعيدة والمعاني المولدة وذلك الن‬
‫العرب "‪ ...‬إنما استعارات المعنى لما هو ليس له‪ ،‬إذا كان يقاربه أو يشبهه في بعض أحواله أو‬
‫كان سببا من أسبابه فتكون اللفظة حينئذ الئقة بالشيء الذي استعيرت له ومالئمة لمعناه"(‪.)2‬‬
‫القاضي الجرجاني وعمود الشعر‪:‬‬
‫لقد نظر القاضي الجرجاني فيما انتهى إليه اآلمدي في قضية عمود الشعر وتبنى منهجه في‬
‫تحديده لمفهوم العمود‪ ،‬وذلك يتجلى بقوله‪ " :‬وكانت العرب إنما تفاضل بين الشعراء في الجودة‬
‫والحسن بشرف المعنى وصحته‪ ،‬وجزالة اللفظ واستقامته وتسلم السبق فيه لمن وصف فأصاب‪،‬‬
‫وشبه فقارب وبده فأغزر‪ ،‬ولمن كثرت سوائر أمثاله‪ ،‬وشوارد أبياته ولم تكن العرب تعبأ بالتجنيس‬
‫والمطابقة إذا حصل لها عمود الشعر"(‪ ،)3‬ويمكن استخراج عناصر عمود الشعر التي نص عليها‬
‫القاضي الجرجاني من هذا القول وهي‪:‬‬
‫شرف المعنى وصحته‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫جزالة اللفظ واستقامته‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫المقاربة في التشبيه‪ ،‬الغزارة في البديهة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫كثرة األمثال السائرة واألبيات الشاردة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫إن القاضي الجرجاني تناول كل ما قدمه اآلمدي حول عمود الشعر الذي خرج عليه أبو‬
‫تمام وحدده اآلمدي بالصفات السلبية‪ ،‬فعكسه ووضعه في صورة ايجابية كانت ثمرتها هذه األركان‬
‫(‪)4‬‬
‫المحددة لعمود الشعر‪.‬‬
‫المرزوقي وعمود الشعر (ت‪ 421‬هـ)‪:‬‬
‫لقد ألف المرزوقي كتابا سماه شرح ديوان الحماسة البن تمام‪ ،‬ووضع له مقدمة عالج فيها‬
‫مختلف القضايا النقدية التي وضحت تمام الوضوح لديه‪ ،‬فقد اطلع على آراء ابن قتيبة وابن طباطبا‬
‫وقدامة واآلمدي والقاضي الجرجاني‪ ،‬وتكلم في عدة قضايا كاللفظ والمعنى‪ ،‬والطبع والصنعة‬
‫والصدق والكذب وغيرها من القضايا‪.‬‬
‫ثم نظر في قضية عمود الشعر وسارع إلى تحديد عناصرها‪ ،‬حيث عاد إلى العناصر التي‬
‫عدها اآلمدي ووضحها القاضي الجرجاني‪ ،‬وزاد عليها ثالثة عناصر‪ ،‬ولهذا أصبحت عناصر‬
‫عمود الشعر في صورتها المكتملة وهي‪:‬‬
‫‪ -1‬شرف المعنى وصحته‪.‬‬
‫‪ -2‬جزالة اللفظ واستقامته‪.‬‬

‫‪ 1‬اآلمدي‪ :‬الموازنة‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.04‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.266‬‬
‫‪ 3‬القاضي الجرجاني‪ :‬الوساطة بين المتنبي وخصومه‪ ،‬تح‪ ،‬محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي‪ ،‬دار القلم‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪ ،1966‬ص ‪.34 ،33‬‬
‫‪ 4‬ينظر‪ :‬إحسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ ،‬ص ‪.322‬‬
‫‪19‬‬
‫‪ -3‬اإلصابة في الوصف‪.‬‬
‫‪ -4‬المقاربة في التشبه‪.‬‬
‫وزاد عليها‪:‬‬
‫‪ -5‬التحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن‬
‫‪ -6‬مناسبة ا لمستعار منه للمستعار له‬
‫‪ -7‬مشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائها للقافية حتى ال منافرة بينهما‪.‬‬
‫والسؤال المطروح هل يلتزم كل الشعراء بعمود الشعر حتى يكونوا مقدمين ؟‬
‫الجواب نجده عند المرزوقي في قوله‪ ...." :‬فهذه الخصال هي عمود الشعر عند العرب‪،‬‬
‫فمن لزمها بحقها وبنى شعره عليها‪ ،‬فهو عندهم المفلق المعظم والمحسن المقدم‪ ،‬ومن لم يجمعها‬
‫كلها‪ ،‬فبقدر سهمته منها يكون نصيبه من التقدم واإلحسان "(‪ .)1‬ووضع لكل ركن عيار؛ فعيار‬
‫المعنى أن يعرض على العقل الصحيح والفهم الثاقب وعيار اللفظ الطبع والرواية واالستعمال‪،‬‬
‫وعيار اإلصابة في الوصف الذكاء وحسن التمييز‪ ،‬وعيار المقاربة في التشبيه الفطنة وحسن‬
‫التقدير‪ ،‬وعيار التحام أجزاء النظم والتئامها على تخيير من لذيذ الوزن الطبع واللسان‪ .‬وعيار‬
‫االستعارة الذهن والفطنة وعيار مشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية طول الدربة ودوام‬
‫(‪)2‬‬
‫الممارسة‪.‬‬
‫عناصر عمود الشعر‪:‬‬
‫‪ -1‬شرف المعنى وصحته‪ :‬يجب أن يكون المعنى ظاهرا مكشوفا وقريبا معروفا أما عند الخاصة‬
‫وإما عند العامة‪ ،‬ومدار الشرف يكون على الصواب وإحراز المنفعة‪ .‬ولذلك أنكر اآلمدي قول أبي‬
‫تمام‪:‬‬
‫تحت الصال منه صفرة جلس‪.‬‬ ‫هاديه جذع من األراك وما‬
‫فقد شبه هادي الفرس (عنقه) بعود من األراك‪ ،‬مع أن عيدان األراك ال تغلظ حتى تصير كالجذوع‪.‬‬
‫‪ -2‬جزالة اللفظ واستقامته‪:‬‬
‫اللفظ الجزل هو القوي الشديد وهو خالف الركيك‪ ،‬أما استقامة اللفظ فتعني اتفاقه مع أصول‬
‫اللغة وقواعدها المتعارف عليها‪.‬‬
‫‪ -3‬اإلصابة في الوصف‪ :‬إذا كان الوصف صادقا تطمئن إليه النفس وتثق بصحته فتلك عالمة‬
‫اإلصابة فيه‪ ،‬كما قال عمر (رضي هللا عنه) في زهير‪ ":‬وال يمدح الرجل إال بما فيه "‪.‬‬
‫‪ -4‬المقاربة في التشبيه‪ :‬اصدق التشبيه ما ال ينتقض عند العكس‪ ،‬وأحسنه ما أوقع بين شيئين‬
‫اشتراكهما في الصفات أكثر من انفرادها‪.‬‬
‫‪ -5‬التحام أجزاء النظم والتئامها على تخيير من لذيذ الوزن‪ ،‬أي تكون القصيدة كالبيت‪ ،‬والبيت‬
‫كالكلمة تسالما ألجزائه وتقارنا‪ ،‬وألن لذيذ الوزن يطرب الطبع إليقاعه ولذلك قال حسان‪:‬‬
‫إن الغناء لهذا الشعر مضمار‬ ‫تغ َّن في كل شعر أنت قائله‬
‫‪ -6‬مناسبة المستعار منه للمستعار له‪ :‬وأن يكون التشبيه قريبا في األصل حتى يتناسب المشبه‬
‫والمشبه به‪.‬‬

‫‪ 1‬المرزوقي‪ :‬شرح ديوان الحماسة‪ ،‬دار الجيل بيروت‪ ،‬ج‪ ،1‬ط‪ ،1997 ،1‬ص ‪.11‬‬
‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.11 ،10 ،09‬‬
‫‪20‬‬
‫‪ -7‬مشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية حتى ال منافرة بينهما‪ ،‬ويكون اللفظ مقسوما‬
‫على رتبة المعنى فقد جعل األخص لألخص‪ ،‬واألخس لألخس فهو البريء من العيب‪ ،‬وأما القافية‬
‫(‪)1‬‬
‫فيجب أن تكون كالموعود المنتظر‪.‬‬
‫إن نظرية عمود الشعر عند المرزوقي كانت من السعة بمكان‪ ،‬بحيث اتسعت لجميع‬
‫الشعراء القدماء‪ ،‬وقد زاد المرزوقي من اتساعها حين جعلها ذات وسط وطرفين‪ :‬الصدق والغلو‬
‫واالقتصاد بينهما‪ ،‬إذ أضاف القول‪" :‬أحسن الشعر اقصده"‪ ،‬للقولين اآلخرين‪":‬أحسن الشعر أكذبه‪.‬‬
‫وأحسن الشعر أصدقه "(‪.)2‬‬

‫‪ 1‬ينظر‪ :‬المرزوقي‪ :‬شرح ديوان الحماسة‪ ،‬ص ‪ 09‬وما بعدها‪.‬‬


‫‪ 2‬قصي الحسين‪ :‬النقد األدبي عند العرب واليونان‪ ،‬ص ‪.481‬‬
‫‪21‬‬
‫المحاضرة السابعة‪ :‬قضية اللفظ والمعنى عند ابن قتيبة وابن طباطبا‬
‫وقدامة بن جعفر‬

‫قضية اللفظ والمعنى من القضايا التي شغلت النقاد العرب القدامى‪ ،‬حيث تناولوها بالدراسة‪،‬‬
‫واتجهوا فيها اتجاهات متباينة‪ ،‬وانقسموا فيها إلى ثالثة أقسام‪ :‬فاألول انتصر للفظ على حساب‬
‫المعنى‪ ،‬والثاني انتصر للمعنى على حساب اللفظ‪ ،‬والقسم الثالث يساوي مابين اللفظ والمعنى‪.‬‬
‫وسنحاول في هذه المحاضرة أن نستعرض رأي ثالثة نقاد في هذه القضية وهم ابن قتيبة‬
‫وابن طباطبا وقدامة ابن جعفر‪.‬‬
‫أوال‪ :‬ابن قتيبة (ت ‪ 276‬هـ )‬
‫لقد نظر ابن قتيبة إلى الشعر وقسمه حسب اللفظ والمعنى إلى أربعة أقسام‪.‬‬
‫يقول‪ " :‬تدبرت الشعر فوجدته أربعة اضرب‪ ،‬ضرب منه حسن لفظه وجاد معناه‪ ،‬كقول القائل في‬
‫بعض بني أمية‪:‬‬
‫(‪)1‬‬
‫من كف أروع في عرنينه شمم‬ ‫في كفه خيزران ريحه عبـق‬
‫فمــا يكلَّم إال حين يبتســم‬ ‫يعطي حياء ويعطي من مهابته‬
‫لم يقل في الهيبة أحسن منه‪.‬‬
‫وكقول أوس بن حجر‪:‬‬
‫إن الذي تحذرين قد وقعا‬ ‫أيتها النفس أجملي جزعا‬
‫وكقول ابن ذئيب‪:‬‬
‫وإذا ترد إلى قليل تقنع‬ ‫والنفس راغبة إذا ر َّ‬
‫غبتها‬
‫وضرب منه حسن لفظه وحال‪ ،‬فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى‪ ،‬كقول القائل‪:‬‬
‫سح باألركان من هو ماسـح‬ ‫وم َّ‬ ‫ولما قضينـا من منى كل حاجـة‬
‫وال ينظر الغادي الذي هو رائح‬ ‫وشدت على حدب المهاري رحالنا‬
‫وسارت بأعناق المطي األباطح‬ ‫أخذنــا بأطراف األحاديث بيننا‬
‫ويعلق ابن قتيبة على هذه األبيات بقوله‪ ":‬هذه األلفاظ كما ترى أحسن شيء مخارج ومطالع‬
‫ومقاطع‪ ،‬وإن نظرت إلى ما تحتها من معنى وجدته‪ :‬ولما قطعنا أيام منى‪ ،‬واستلمنا األركان‪،‬‬
‫وعالينا إبلنا األنضاء‪ ،‬ومضى الناس ال ينتظر الغادي الرائح ابتدأنا الحديث وسارت المطي في‬
‫األبطح‪ ،‬وهذا الصنف في الشعر كثير‪ ،‬وضرب منه جاد معناه وقصرت الفاظه عنه‪ ،‬كقول لبيد ابن‬
‫ربيعة‪:‬‬
‫صالح‬ ‫والمرء يصلحه الجليس ال َّ‬ ‫ما عاتب المرء الكريم كنفسه‬
‫هذا وإن كان جيد المعنى والسبك فإنه قليل الماء والرونق‪ ،‬وضرب منه تأخر معناه وتأخر لفظه‪،‬‬
‫كقول األعشى‪:‬‬
‫(‪)2‬‬
‫شاو مشل شلول شلشل شول‬ ‫ولقد غدوت إلى الحانوت يتبعني‬
‫فهذه األلفاظ األربعة في معنى واحد‪ ،‬وقد كان يستغني بأحدها عن جميعها‪ ،‬وماذا يزيد هذا‬
‫(‪)3‬‬
‫البيت أن كان لألعشى‪ ،‬أو ينقص‪.‬‬

‫‪ . 1‬العرنين = األنف‪ ،‬شمم = ارتفاع قصبة األنف مع حسنها‬


‫‪ 2‬الشاوي= الذي يشوي اللحم‪ ،‬المشل = السواق‪ ،‬الشلول = الخفيف‪ ،‬الشلشل = الخفيف في العمل السريع‪ ،‬الشول = الذي يحمل‬
‫الشيء‪.‬‬
‫‪ 3‬ابن قتيبة ‪ ،‬الشعر والشعراء‪،‬دار الثقافة‪،‬بيروت‪،‬ج‪،1‬د ط‪،‬د ت‪ ،‬ص ‪.17 - 12‬‬
‫‪22‬‬
‫من خالل هذه األقسام يمكن القول‪ ":‬إ ن الشعر عند ابن قتيبة لفظ ومعنى وكالهما يجيء‬
‫حسنا حينا ورديئا حينا أخر"(‪.)1‬‬
‫وهذا هو مقياس الجودة والرداءة عنده‪.‬‬
‫كما أن ابن قتيبة يهمل الفئة التي تنتصر للمعنى‪ ،‬وعليه فالمعاني اشرف من األلفاظ ‪ ،‬ولو‬
‫جردت األلفاظ من دالالتها على المعاني‪ ،‬لما كان شيء معها أحق بالتقديم من شيء‪.‬‬
‫ويرى الدكتور إحسان عباس أن ابن قتيبة يستمد حكمه من بيت واحد أو بيتين أو ثالثة في‬
‫(‪)2‬‬
‫األكثر وهذا ما ال ينطبق على الشعر كله‪.‬‬
‫ثانيا‪:‬ابن طباطبا العلوي(ت‪ 322‬ه)‬
‫لقد كان ابن طباطبا في نظرته إلى ثنائية اللفظ والمعنى متأثرا بابن قتيبة‪ ،‬فهو يعد صحة‬
‫المعنى وعذوبة اللفظ مع صحة الوزن‪ ،‬عيار الشعر المحكم‪ ،‬ولكن ابن طباطبا لم يلتزم بالقيمة‬
‫المنطقية التي التزم بها ابن قتيبة‪ ،‬ويرى‪ ":‬أن هناك أشعار باردة المعنى‪ ،‬أبرزت في أحسن‬
‫معرض وأبهى كسوة وارق نسيج‪ .‬فابن طباطبا يقف من الشعر موقفا ذوقيا ال موقفا منطقيا"(‪.)3‬‬
‫هذا وقد جعل ابن طباطبا عالقة اللفظ بالمعنى كعالقة الجسد بالروح وذالك في قوله‪:‬‬
‫" والكالم الذي ال معنى له كالجسد الذي ال روح فيه‪ ،‬كما قال بعض الحكماء‪:‬للكالم جسد‬
‫وروح‪،‬فجسده النطق وروحه معناه "(‪.)4‬‬
‫ويرى الدكتور إحسان عباس أن هذا التصور الذي أخذه ابن طباطبا من بعض الحكماء‬
‫يجعل الصلة بين اللفظ والمعنى أوضح مما رسمه ابن قتيبة‪ ،‬على أنه ربما لم يقتصر في العالقة‬
‫(‪)5‬‬
‫بينهما على الوجوه األربعة التي عدها ابن قتيبة‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬قدامة بن جعفر(ت ‪ 337‬ه)‪0‬‬
‫تناول قدامة ابن جعفر قضية اللفظ والمعنى‪ ،‬وقد رأى في اللفظ أن يكون سمحا‪ ،‬سهل‬
‫(‪)6‬‬
‫مخارج الحروف‪ ،‬خال من البشاعة ‪ ،‬فصيحا‪.‬‬
‫أما عيوب اللفظ " أن يكون ملحونا وجاريا على غير سبيل اإلعراب واللغة‪ ،‬وان يرتكب‬
‫الشاعر فيه ما ليس يستعمل وال يتكلم به إال شاذا وذلك هو الحوشي الذي مدح عمر ابن الخطاب‬
‫زهيرا بمجانبته له وتنكبه إياه فقال‪ :‬كان ال يتتبع حوشي الكالم "(‪. )7‬‬
‫كما تكلم عن المعاني وذكر نعوتها وعيوبها‪ ،‬ورأى أن يكون المعنى مواجها للغرض‬
‫المقصود‪ ،‬غير عادل عن األمر المطلوب‪ ،‬وقد ذكر األغراض المقصودة وهي المديح والهجاء‪،‬‬
‫والنسيب والمراثي‪ ،‬والوصف والتشبيه‪.‬‬
‫كما تكلم عن ائتالف اللفظ مع المعنى وأنواعه وهي‪:‬‬
‫‪ -‬المساواة‪ :‬وهو أن يكون اللفظ مساويا للمعنى حتى ال يزيد عليه وال ينقص عنه‪.‬‬
‫‪ -‬اإلشارة‪ :‬وهو أن يكون اللفظ القليل مشتمال على معان كثيرة بإيماء إليها أو لمحة تدل عليها كما‬
‫قال بعضهم في وصف البالغة فقال " هي لمحة دالة "‪.‬‬

‫‪ 1‬حميد آدم ثويني‪ ،‬منهج النقد األدبي عند العرب‪ ،‬دار صفاء للنشر و التوزيع‪،‬عمان‪،‬ط‪،1،2004‬ص ‪.78‬‬
‫‪ 2‬ينظر‪ :‬إحسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ ،‬ص ‪.108‬‬
‫‪ 3‬قصي الحسين‪ :‬النقد األدبي عند العرب واليونان‪ ،‬ص ‪.340‬‬
‫‪ 4‬ابن طباطبا‪ :‬عيار الشعر‪ ،‬ص ‪.17‬‬
‫‪ 5‬ينظر‪ :‬إحسان عباس‪ :‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ ،‬ص ‪.140‬‬
‫‪ 6‬ينظر‪ :‬قدامة بن جعفر‪ ،‬نقد الشعر‪ ،‬ص ‪.54‬‬
‫‪ 7‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.172‬‬
‫‪23‬‬
‫‪ -‬اإلرداف‪ :‬وهو أن يريد الشاعر داللة على معنى من المعاني فال يأتي باللفظ الدال على ذالك‬
‫المعنى‪ ،‬بل بلفظ يدل على معنى هو ردفه وتابع له‪ ،‬فإذا دل على التابع أبان عن المتبوع بمنزلة‬
‫قول امرئ القيس‪:‬‬
‫بمنجرد قيد األوابد هيكل‬ ‫وقد أغتدى والطير في وكناتها‬
‫فإنما أراد أن يصف هذا الفرس بالسرعة وانه جواد فلم يتكلم باللفظ بعينه ولكن بإردافه‬
‫ولواحقه التابعة له‪ ،‬وذالك أن سرعة إحضار الفرس يتبعها أن تكون األوابد وهي الوحوش كالمقيدة‬
‫له إذا نحا في طلبها‪.‬‬
‫‪ -‬التمثيل‪ :‬وهو أن يريد الشاعر إشارة إلى المعنى‪ ،‬فيضع كالما يدل على معنى آخر وذالك المعنى‬
‫اآلخر والكالم ينبئان عما أراد أن يشير إليه‪ ،‬كقول بعض األعراب‪:‬‬
‫به فالج من دائها فهو يرعش‬ ‫فتى صدمته الكأس حتى كأنما‬
‫(‪)1‬‬
‫والكأس ال تصدم‪ ،‬ولكنه أشار بهذا التمثيل إشارة حسنة إلى سكره‪.‬‬

‫‪ 1‬ينظر‪ :‬قدامة بن جعفر‪ ،‬نقد الشعر‪ ،‬ص ‪ 153‬وما بعدها‪.‬‬


‫‪24‬‬
‫المحاضرة الثامنة‪ :‬قضية اللفظ والمعنى عند نقاد المغرب العربي واألندلس‬

‫لقد تناول نقاد المغرب العربي واألندلس قضية اللفظ والمعنى كغيرهم من النقاد المشارقة‪،‬‬
‫وسنستعرض في هذه المحاضرة آراء كل من‪ :‬ابن رشيق وابن شرف المغربيين‪ ،‬وابن عبد ربه‬
‫وحازم القرطاجي األندلسيين‪.‬‬
‫أوال‪ :‬اللفظ والمعنى عند ابن رشيق (ت‪ 456‬هـ)‬
‫تطرق ابن رشيق في كتابه العمدة إلى هذه القضية في باب اللفظ والمعنى‪ ،‬ويبدو من كالمه‬
‫أنه ال يؤمن بالفصل التام بينهما‪ ،‬ويرى أن أي خلل في احدهما يؤثر في اآلخر وذلك في قوله‪" :‬‬
‫اللفظ جسم وروحه المعنى وارتباطه به كارتباط الروح بالجسم يضعف بضعفه‪ ،‬ويقوى بقوته فإذا‬
‫سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصا للشعر وهجنا له‪ ...‬وكذلك أن ضعف المعنى واختل‬
‫بعضه كان اللفظ من ذلك أوفر حظ‪ .. ..‬فإن اختل المعنى كله وفسد بقي اللفظ مواتا ال فائدة فيه"(‪.)1‬‬
‫ويرى إحسان عباس أن ابن رشيق قد أورد عبارة ابن طباطبا وبسطها على طريقة‬
‫الحاتمي‪ ،‬ولكنه زاد على الحاتمي شيئا جديدا في تحليل الفكرة‪ ،‬فمرض اللفظ كالتشويه في الجسم‪،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫أما اختالل المعنى وهو الروح فإنه يبقي اللفظ مواتا ال فائدة فيه‪.‬‬
‫وبعد أن بين ابن رشيق رأيه في القضية نراه يعرض بعض اآلراء األخرى مبينا انقسام‬
‫النقاد في ذلك‪ ،‬فمنهم من يؤثر اللفظ على المعنى فيجعله غايته ووكده ومنهم من يؤثر المعنى على‬
‫اللفظ فيطلب صحته(‪ ،)3‬ثم نراه يعيد ذكر الفئة التي تنتصر للفظ في قوله‪ ":‬وأكثر الناس على‬
‫تفضيل اللفظ على المعنى‪ ،‬سمعت بعض الحذاق يقول‪ :‬قال العلماء‪ ،‬اللفظ أغلى من المعنى ثمنا‬
‫وأعظم قيمة وأعز مطلبا‪ ،‬فان المعاني موجودة في طباع الناس‪ ،‬يستوي فيها الجاهل والحاذق‪،‬‬
‫ولكن العمل على جودة األلفاظ وحسن السبك وصحة التأليف"(‪.)4‬‬
‫وهذا يذكرنا بمقولة الجاحظ المعاني مطروحة في الطريق‪ ،‬إال أن ابن رشيق يظل مشدودا‬
‫إلى فكرة االئتالف بين اللفظ والمعنى‪ ،‬إذ يسوق مجموعة من اآلراء تؤيد ذلك‪.‬‬
‫ثانيا‪:‬ابن شرف القيرواني وقضية اللفظ والمعنى‪:‬‬
‫يعتبر ابن شرف من النقاد المعاصرين البن رشيق وقد كانت له مجموعة من اآلراء النقدية‬
‫حول عدة قضايا‪ ،‬وقد أشار من خالل هذه اآلراء إلى قضية اللفظ والمعنى‪ ،‬ووافق ابن رشيق في‬
‫نظرته إلى ائتالف اللفظ والمعنى‪ "،‬فهو يشبه األلفاظ والمعاني تشبيها رائعا حتى صار مثال يؤخذ‬
‫وحكمة تحفظ "(‪ ،)5‬وذلك من خالل حديثه عن هذه الثنائية‪ ،‬فهو يشبه المعاني باألرواح واأللفاظ‬
‫باألشباح‪ ،‬والتكامل بينهما قائم فهو يقول‪" :‬المعاني هي األرواح واأللفاظ هي األشباح‪ ،‬فالتكامل‬
‫بينهما قائم والتالؤم بينهما حاصل فان غاب صنو منهما أصيب صنوه اآلخر بالجفاف والخور"(‪.)6‬‬
‫وهذا الكالم يشترك في منابعة مع كالم ابن رشيق‪ ،‬فكالمهما يؤمن بائتالف اللفظ والمعنى‪.‬‬
‫ثالثا‪:‬ابن عبد ربه وقضية اللفظ والمعنى‪:‬‬
‫أشار الناقد األندلسي ابن عبد ربه إلى قضية اللفظ والمعنى في كتابه العقد الفريد‪ ،‬وقد تبنى‬
‫آراء سابقيه من النقاد المشارقة والمغاربة من أمثال قدامة ابن جعفر وابن رشيق وابن شرف‪ ،‬وقد‬

‫‪ 1‬ابن رشيق‪ :‬العمدة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.124‬‬


‫‪ 2‬ينظر‪ :‬إحسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ ،‬ص ‪.449‬‬
‫‪ 3‬ينظر‪ :‬ابن رشيق العمدة‪ ،‬ص ‪ 124‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ 4‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.127‬‬
‫‪ 5‬محمد مرتاض‪ :‬النقد األدبي في المغرب العربي بين القديم والحديث‪ ،‬دار هومة‪ ،‬الجزائر‪ ،2014 ،‬ص ‪.139‬‬
‫‪ 6‬ابن شرف القيرواني‪ :‬أعالم الكالم‪ ،‬نقال عن محمد مرتاض‪ ،‬النقد األدبي في المغرب العربي‪ ،‬ص ‪.139‬‬
‫‪25‬‬
‫قرر أن" العلماء شبهت المعاني باألرواح واأللفاظ باألجساد واللباب‪ ،‬وال بد من المعنى الجزل‬
‫واللفظ الحسن ليتم للكالم رونقه وبهاؤه‪ ،‬وهو ينصح بأن يوضع المعنى مع شقائقه وقرنائه‪ ،‬وهو‬
‫يميل إلى ما كان وليد الطبع دون التكلف‪ ،‬وما صدر عن السهولة دون التعقيد"(‪ .)1‬وهكذا فقد كان‬
‫ابن عبد ربه جامعا ألقوال النقاد المشارقة والمغاربة متأثرا بهم‪.‬‬
‫رابعا‪:‬حازم القرطاجي وقضية اللفظ والمعنى‪:‬‬
‫من خالل تأليفه لمنهاج البلغاء وسراج األدباء يتضح أن جازما بناه على هذه الثنائية‪،‬‬
‫فالكتاب موزع على أربعة أقسام‪ ،‬القسم األول مفقود وهو يبحث في األلفاظ أما األقسام الثالثة‬
‫المتبقية فهي تبحث في المعاني والمباني واألسلوب‪ ،‬غير أن المعاني التي يشير إليها حازم ليست "‬
‫التي تعرف بها أحوال اللفظ العربي‪ ،‬وإنما المراد بها لديه البحث في حقائق المعاني ذاتها‬
‫وأحوالها‪ ،‬وطرق استحضارها‪ ،‬وانتظامها في الذهن‪ ،‬وأساليب عرضها‪ ،‬وصور التعبير عنها‬
‫"(‪.)2‬‬
‫ويشير حازم إلى وجود المعاني من جهتين الجهة األولى وجودها في األذهان على شكل‬
‫صور ذهنية مجردة‪ ،‬أما الجهة الثانية وجودها في قوالب لفظية تدل على تلك الصور الذهنية‬
‫المذكورة سابقا(‪ ،)3‬وعليه تتقمص المدلوالت جسم األلفاظ‪ ،‬وهذا ما يمكن قراءته من قول حازم في‬
‫المنهاج "أن المعاني هي الصور الحاصلة في األذهان عن األشياء الموجودة في األعيان‪ ،‬فكل‬
‫شيء له وجود خارج الذهن‪ ،‬فإنه إذا أدرك حصلت له صورة في الذهن تطابق لما أدرك منه‪ ،‬فإذا‬
‫عبر عن تلك الصورة الذهنية الحاصلة عن اإلدراك أقام اللفظ المعبر به هيئة تلك الصورة الذهنية‬
‫في أفهام السامعين وأذهانهم فصار للمعنى وجود آخر من جهة األلفاظ "(‪.)4‬‬
‫فعند توفر إدراك الشيء للذهن تكون محصلة اإلدراك صورة ذهنية لما أدرك من هذا‬
‫الشيء‪ ،‬وال شك أن صورة الشيء الذهنية التي يكون للفظ القدرة على رسمها عند التعبير ستتشكل‬
‫طبيعتها بحسب صورة اللفظ‪ ،‬التي تنتقل من النفس إلى تشكيل الخطاب(‪ ،)5‬وتصبح األلفاظ بمثابة‬
‫الوعاء التي تصب فيه المعاني‪.‬‬

‫‪ 1‬محمد رضوان الداية‪ :‬تاريخ النقد األدبي في األندلس‪ ،‬ص ‪.287‬‬


‫‪ 2‬حازم القرطاجني‪ :‬منهاج البالغاء وسراج األدباء‪ ،‬ص ‪.96‬‬
‫‪ 3‬محمد أديوان‪ :‬قضايا النقد األدبي عند حازم القرطاجني‪ ،‬منشورات جامعة محمد الخامس‪ ،‬الرباط‪ ،‬ط‪ ،2004 ،1‬ص ‪.70‬‬
‫‪ 4‬حازم القرطاجني‪ :‬المنهاج‪ ،‬ص ‪.19 ،18‬‬
‫‪ 5‬األخضر جمعي‪ :‬اللفظ والمعنى في التفكير النقدي والبالغي عند العرب‪ ،‬إتحاد الكتاب العرب‪ ،‬سوريا‪ ،2001 ،‬ص ‪.222‬‬
‫‪26‬‬
‫المحاضرة التاسعة‪ :‬الموازنات النقدية‬

‫لقد ظهرت الموازنات النقدية في تاريخ األدب العربي منذ عصور مبكرة‪ ،‬وبقيت تسايره‬
‫إلى اليوم‪ ،‬فهي وسيلة نقدية تاريخية نجدها في قصة ام جندب وموازنتها بين امرئ القيس وعلقمة‬
‫في وصف الفرس‪ ،‬والنابغة الذبياني كان يوازن بين الشعراء في سوق عكاظ‪ ،‬وعليه فقد كانت‬
‫الموازنة أساسا للمفاضلة بين الشعراء منذ الجاهلية‪.‬‬
‫وعند مجيء اإلسالم أصبحت الموازنة بين القرآن الكريم وكالم العرب‪ ،‬وكان العصر‬
‫األموي زاخرا بالموازنات بين فحول الشعراء وبين الخطباء واألدباء‪.‬‬
‫ولما جاء العصر العباسي بدا هذا الفن النقدي نشيطا بين الشعراء‪ ،‬وما يهمنا هو الموازنات‬
‫المتصلة بالتدوين التي بدأت بابن سالم الجمحي وموازنته بين الشعراء وجعلهم في طبقات إلى أن‬
‫وصلت إلى نقاد المغرب العربي واألندلس فيما بعد‪.‬‬
‫أوال‪:‬الموازنة بين الشعراء البن سالم الجمحي (ت ‪ 232‬هـ)‬
‫‪ -‬من كتاب‪ :‬طبقات الشعراء‪.‬‬
‫عرض ابن سالم في كتابه طبقات فحول الشعراء مجموعة من اآلراء النقدية التي تقوم على‬
‫الموازنة‪ ،‬ومن هذه اآلراء أنه " لما بلغ األخطل تهاجي جرير والفرزدق قال البنه مالك‪ :‬انحدر‬
‫إلى العراق حتى تسمع منهما وتأتيني بخبرهما‪ ،‬فلقيهما ثم استمع فأتى أباه قال‪ :‬جرير يعرف من‬
‫بحر والفرزدق ينحت من صخر فقال األخطل‪ :‬فجرير أشعرهما"(‪ ،)1‬ثم قال‪:‬‬
‫ل َّما سمعت وجاءني الخبر‬ ‫إني قضيت قضاء غير ذي جنف‬
‫(‪)2‬‬
‫ضه حية من قومه ذكر‬ ‫وع َّ‬ ‫َّ‬
‫إن الفرزدق قد شـالت نعـامته‬
‫وقال ابن سالم‪" :‬وسألت بشارا العقيلي عن الثالثة‪ ،‬فقال‪ :‬لم يكن األخطل مثلهما ولكن ربيعة‬
‫تعصبت له وأفرطت فيه‪ ،‬فقلت‪ :‬فجرير والفرزدق؟ قال‪ :‬كانت لجرير ضروب من الشعر ال‬
‫يحسنها الفرزدق وفضل جريرا عليه"(‪.)3‬‬

‫‪ 1‬ابن سالم الجمحي‪ :‬طبقات الشعراء‪ ،‬ص ‪.147‬‬


‫‪ 2‬األخطل‪ :‬الديوان‪ ،‬دار المشرق بيروت‪ ،‬ط‪ ،1986 ،2‬ص ‪.349‬‬
‫‪ 3‬ابن سالم الجمحي‪ :‬طبقات الشعراء‪ ،‬ص ‪.122‬‬
‫‪27‬‬
‫ويروي ابن سالم كذلك‪":‬عن عكرمة بن جرير حين سأل أباه عن الشعراء فقال‪ :‬األخطل‬
‫يجيد نعت الملوك ويصبب صفة الخمر"(‪.)1‬‬
‫لقد بنى ابن سالم موازنته على مقاييس منها‪ :‬الجودة والكثرة‪ ،‬ووفق هذه المقاييس جاء‬
‫تصنيفه للشعراء في طبقات‪.‬‬
‫ومن النماذج السابقة نلحظ البدايات األولى للموازنة‪ ،‬فهي مقارنة سريعة بين بيت لهذا‬
‫وبيت لذاك‪" ،‬وربما ظلت الموازنة رأيا خاصا لشاعر في شاعر‪ ،‬وأن كان هذا الرأي ال يخلو في‬
‫بعض األحيان من تفهم ألداء شعري من حيث مقارنته بأداء سواه"(‪.)2‬‬
‫ثانيا‪:‬الموازنة بين الشعراء لآلمدي (ت ‪371‬هـ)‬
‫‪ -‬من كتاب‪ :‬الموازنة بين الطائيين‬
‫لقد استخدم اآلمدي ومن بعده القاضي الجرجاني وسيلتين نقديتين متطورتين لم تكونا‬
‫معروفتين بشكل منهجي‪ ،‬وهي الموازنة والتحليل‪ ،‬وقد فاضل اآلمدي بين" البحتري وأبي تمام‬
‫لغزارة شعريهما وكثرة جيدهما وبدائعهما‪ ،‬وذكر لكل خواصه مع ميل للبحتري وأن حاول إخفاءه‬
‫وادعى البراءة منه "(‪.)3‬‬
‫وهكذا فموازنة اآلمدي تقوم على مقاييس نقدية تتناول شعر الشاعرين فيما أحسنوا وأجادوا‪،‬‬
‫وفيما أساؤوا وقصروا‪ ،‬يقول اآلمدي شارحا منهجه "وأنا ابتدئ بذكر مساوئ هذين الشاعرين‬
‫ألختم محاسنهما وأذكر طرفا من سرقات أبي تمام وإحاالته وغلطه وساقط شعره‪ ،‬ومساوئ‬
‫البحتري في أخذ بعض معانيه‪ ،‬ثم أوازن من شعريهما بين قصيدة وقصيدة إذا اتفقت في الوزن‬
‫والقافية‪ ،‬وإعراب القافية‪ ،‬ثم بين معنى ومعنى‪ ،‬فإن محاسنهما تظهر في تضاعيف ذلك‬
‫وتنكشف"(‪.)4‬‬
‫والموازنة في رأي اآلمدي تتم كما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬أخذ معنيين في موضعين متشابهين‪.‬‬
‫‪ -2‬تبيان الجيد والرديء مع إيراد العلة‪.‬‬
‫‪ -3‬تبيان الجيد والرديء دون إيراد علة‪ ،‬ألن بعض الجودة والرداءة ال يعلل‪.‬‬
‫‪ -4‬إصدار الحكم بأن هذا اشعر من ذاك في هذا المعنى دون إطالق الحكم النهائي العام‪.‬‬
‫كما قسم الشعر إلى موضوعات كالوقوف على الديار والغزل والمدح والوصف والفخر‬
‫(‪)5‬‬
‫وغيرها‪.‬‬
‫وهكذا يثبت اآلمدي باألدلة والقرائن أيهما أشعر دون إطالق حكم نهائي‪ ،‬إال أنه يظهر ميله‬
‫إلى البحتري وهذا ما عابه عليه النقاد‪.‬‬
‫ثالثا‪:‬الموازنة بين الشعر للقاضي الجرجاني‬
‫‪ -‬من كتاب‪:‬الوساطة‪.‬‬
‫تبدو قضية الموازنة في كتاب الوساطة واضحة عند مقارنة الجرجاني بين صورة فنية‬
‫وأخرى‪ ،‬عند شاعرين‪ ،‬أو بين معنى ومعنى‪ ،‬فتراه يقابل بين بيت المرئ القيس وبيت آخر لعدي‬

‫‪ 1‬ابن سالم الجمحي‪ :‬طبقات الشعراء‪ ،‬ص ‪.155‬‬


‫‪ 2‬رجاء عيد‪ :‬التراث النقدي‪ ،‬نصوص ودراسات ن ص ‪.242‬‬
‫‪ 3‬أحمد الشايب‪ :‬أصول النقد األدبي‪ ،‬ص ‪.282‬‬
‫‪ 4‬اآلمدي‪ :‬الموازنة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.57‬‬
‫‪ 5‬ينظر‪ :‬إحسان عباس‪ :‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ ،‬ص ‪..181 ،180‬‬
‫‪28‬‬
‫بن الرقاع‪ ،‬وجاء في قوله‪ ...":‬وقد علمت أن الشعراء قد تداولوا ذكر عيون الجآذر ونواظر‬
‫الغزالن حتى إنك ال تكاد تجد قصيدة ذات نسيب تخلو منه إال في النادر الفذ "(‪.)1‬‬
‫ثم يأتي بيت امرئ القيس‪:‬‬
‫بناظرة من وحش وجرة مطفل‬ ‫تصد وتبدي عن أسيل وتت َّقى‬
‫وبيت عدي بن الرقاع‪:‬‬
‫عينيه أحور من جآذر جاسم‬ ‫وكأنها بين النساء أعارهــا‬
‫فيرى أن القلب يسرع إلى البيتين‪ .‬مع أن المعنى واحد وكالهما خال من الصنعة‪ ،‬بعيد عن البديع‪.‬‬
‫فتداول ذكر عيون الجآذر ونواظر الغزالن شائع بين الشعراء‪ ،‬ولكن الموازنة تقع فيها يتجاوز هذا‬
‫(‪)2‬‬
‫التكرار إلى البناء الفني نفسه‪.‬‬
‫وأما باقي الموازنات يمكن أن نطلق عليها مقايسات‪ ،‬فالجرجاني يحاول أن ينصف المتنبي‬
‫فال يناقش ما خطؤه فيه‪ ،‬بل يقيسه بأشباهه ونظائره عند الشعراء المتقدمين‪ ،‬وعنده وأنهم لم يسلموا‬
‫(‪)3‬‬
‫هم من الخطأ‪.‬‬

‫‪ 1‬القاضي الجرجاني‪ :‬الوساطة ‪ ،‬ص ‪.32‬‬


‫‪ 2‬ينظر‪ :‬رجاء عيد‪ ،‬التراث النقدي ن ص ‪.242‬‬
‫‪ 3‬ينظر‪ :‬محمد مندور‪ ،‬النقد المنهجي عند العرب ‪ ،‬ص ‪.255‬‬
‫‪29‬‬
‫رابعا‪:‬الموازنة بين الشعراء البن رشيق‪.‬‬
‫‪ -‬من كتاب‪ :‬العمدة‬
‫لقد ألم ابن رشيق في كتابه العمدة بآراء سابقيه مما يتصل بالموازنة‪ ،‬فقد جعل بابا في‬
‫القدماء والمحدثين وقال‪ ":‬وكان عمرو بن العالء يقول‪ :‬لقد أحسن هذا المولد حتى هممت أن أمر‬
‫صبياننا بروايته‪ ،‬يعني بذلك شعر جرير والفرزدق‪ ،‬وجعله مولدا باإلضافة إلى شعر الجاهلية‬
‫والمخضرمين وكان ال يعد الشعر إال للمتقدمين"(‪.)1‬‬
‫ثم أورد كالما في تفضيل امرئ القيس على سائر الشعراء ومن ذلك قوله‪ ":‬وقال عمر بن‬
‫الخطاب (رضي هللا عنه) للعباس بن عند المطلب وقد سأله عن الشعراء‪ :‬امرؤ القيس سابقهم‪،‬‬
‫خسف لهم عين الشعر فافتقر عن معان عور أصح بصر"(‪.)2‬‬
‫كم أورد رأي عمر (رضي هللا عنه) في زهير‪ ،‬وذلك ما رواه ابن عباس أنه قال‪ ":‬قال لي‬
‫عمر أنشدني ألشعر شعرائكم‪ ،‬قلت‪ :‬ومن هو يا أمير المؤمنين ؟‪ ،‬قال‪ :‬زهير‪ ،‬قلت‪ :‬ولم كان كذلك‬
‫؟ قال‪ :‬كان ال يعاظل بين الكالم‪ ،‬وال يتتبع حوشيه‪ ،‬وال يمدح الرجل إال بما فيه "(‪ .)3‬وبعد ذلك‬
‫يقسم ابن رشيق على سبيل الموازنة الشعراء إلى طبقات زمانية وفنية‪ ،‬والى مطبوعين ومتكلفين‬
‫وإلى أنصار اللفظ وأنصار المعنى‪ ،‬ثم يوازن بين الشعراء في البديهة واالرتجال ثم يوازن بين‬
‫المتنبي وأبي تمام وما إلى ذلك‪.‬‬
‫خامسا‪:‬الموازنة بين الشعراء لحازم القرطاجني‪:‬‬
‫‪ -‬من كتاب‪ :‬المنهاج‪.‬‬
‫لقد رأينا كيف وضع اآلمدي مبدأ الموازنة بين شاعريين‪ ،‬وما فعله النقاد من قبله ومن بعده‪،‬‬
‫لكن حازما كان أقرب للواقع من أي ناقد آخر في فهمه لمبدأ المفاضلة‪.‬‬
‫لقد أوضح في بداية كالمه عن المفاضلة حقائق مهمة‪ .‬أنه ال يمكن تحقيق المفاضلة تماما‬
‫وإنما على سبيل التقريب وترجيح الضنون(‪ ،)4‬والشعر يختلف باختالف أنماطه وطرقه‪ ،‬ويختلف‬
‫باختالف األزمنة واألمكنة‪ ،‬ويختلف باختالف األشياء فيما يليق بها من األوصاف والمعاني‪،‬‬
‫(‪)5‬‬
‫ويختلف بحسب ما تختص به كل أمة من اللغة المتعارفة عندها الجارية على ألسنتها‪.‬‬
‫فاألنماط تختلف والطرق كذلك‪ ،‬فشاعر يحسن في النمط الذي يقصد فيه الجزالة والمتانة‪،‬‬
‫وال يحسن في النمط الذي يقصد فيه اللطافة والرقة‪ ،‬وآخر يحسن في النمط الذي يقصد فيه اللطافة‬
‫والرقة وال يحسن‪ .‬في النمط الذي يقصد فيه المتانة والجزالة‪ ،‬ونجد بعض الشعراء يحسن في‬
‫طريقة من الشعر كالنسيب مثال وال يحسن في طريقة أخرى كالهجاء‪ ،‬والعكس صحيح‪ .‬كذلك نجد‬
‫أهل زمان يحسنون وصف القيان والخمور‪ ،‬وأهل زمان آخر يعنون بوصف الحروب‬
‫والغارات‪ ....‬وهكذا‪ .‬والشعر يختلف كذلك باختالف األمكنة مما يلهم بعض الشعراء أن يصفوا‬
‫(‪)6‬‬
‫الوحش (البادية)‪ ،‬وآخرون يصفون الخمر (الحاضرة)‪.‬‬
‫لذلك فالمفاضلة أمر نسبي غير قطعي‪ ،‬ويكون الحكم فيه على سبيل التقريب‪.‬‬
‫ويضرب حازم مثال بعلي بن أبي طالب (رضي هللا عنه) حين اختصم الناس عنده في أشعر‬
‫الناس‪ .‬فقال‪ " :‬كل شعرائكم محسن‪ ،‬ولو جمعهم زمان واحد وغاية واحدة ومذهب واحد في القول‬

‫‪ 1‬ابن رشيق‪ :‬العمدة‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص‪.90‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.94‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.98‬‬
‫‪ 4‬ينظر‪ :‬حازم القرطاجني‪ :‬المنهاج‪ ،‬ص ‪.374‬‬
‫‪ 5‬ينظر‪ :‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.374‬‬
‫‪ 6‬ينظر‪ :‬حازم القرطاجني‪ :‬المنهاج‪ ،‬ص ‪.374-374‬‬
‫‪30‬‬
‫لعلمنا أيهم أسبق إلى ذلك‪ ،‬وكلهم قد أصاب الذي أراد وأحسن‪ ،‬فإن يكن أحد فضلهم فالذي لم يقل‬
‫رغبة وال رهبة امرؤ القيس بن حجر‪ ،‬فإنه كان أصحهم بادرة وأجودهم نادرة"(‪.)1‬‬
‫وهكذا جعل علي (رضي هللا عنه) اختالف األزمنة ونقاوة الغايات وتباين المذاهب سببا‬
‫يحول دون تحقيق المفاضلة نهائيا‪ ،‬و هذا ما يذهب إليه حازم‪.‬‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.377‬‬


‫‪31‬‬
‫خــــاتمة‪:‬‬
‫لقد حاولت هذه المطبوعة‪ ،‬التي تناولت مجموعة من مفردات مقياس النقد األدبي القديم‬
‫لطلبة السنة األولى ‪ ،LMD‬أن تصل إلى فهم للنقد العربي القديم‪ ،‬من خالل تتبع مسار النقد خالل‬
‫عدة عصور مختلفة يظهر من خاللها أثر التطور الذي أصاب ها‪ ،‬مما يساهم في فهم الظواهر‬
‫النقدية‪ .‬ومن خالل دروس هذه المطبوعة أمكننا استخالص هذه النتائج‪:‬‬
‫‪ -‬النقد حكم يستند إلى مقاييس معينة وبالتالي فهو ليس نصا مقدسا ال يقبل التغيير‪ ،‬وإنما هو توالد‬
‫وخلق للدالالت في الجودة واإلبداع تتبع مسيرة األدب‪.‬‬
‫‪ -‬النقد العربي مر بمراحل ثالث حتى القرن الرابع الهجري‪ ،‬مرحل النشأة من العصر الجاهلي‬
‫حتى القرن الثاني‪ ،‬وهي تمثل النقد االنطباعي التأثري البحت ولم تؤلف مصنفات تعالج قضايا النقد‬
‫وكانت األحكام النقدية في معظمها غير معللة ‪،‬وإذا ما انتقلنا إلى القرن الثالث الهجري‪ ،‬تصادفنا‬
‫رغبة قوية تنزع إلى الموضوعية وتبنى نقدا مرجعيته القيم الفكرية المستقلة بعيدة عن الذاتية‪ ،‬وهذا‬
‫يتماشى مع طبيعة العصر‪ ،‬وأول ناقد دعا إلى ذلك ابن سالم الجمحي الذي أرسى قواعد المفاضلة‪،‬‬
‫وأثبت قضية الوضع (االنتحال) وتصدى لها‪.‬‬
‫‪ -‬وفي هذا القرن ظهرت المحاولة األولى لتحديد مفهوم الشعر‪ ،‬أما مرحلة النضوج فهي تمتد من‬
‫أول القرن الرابع حتى آخر القرن الخامس‪ ،‬وهنا نميز اتجاهين للنقاد‪.‬‬
‫االتجاه األول‪ :‬أراد أن يعلى من شأن المنطق‪ ،‬وتوسع في التقنين والتعقيد من أمثال قدامة بن جعفر‬
‫الذي حول النقد إلى معادالت عسيرة‪ ،‬ومنهم من اهتم بالشكل واللفظ اهتماما بالغا كابن رشيق وأبي‬
‫هالل العسكري‪ ،‬ولكن النقلة النوعية جاءت من االتجاه الثاني الذي كان ينظر إلى الفن نظرة‬
‫صادقة‪ ،‬فتوصلوا إلى نتائج ال بأس بها كاآلمدي والقاضي‪ .‬الجرجاني ومن بعدهم عبد القاهر‬
‫الجرجاني صاحب نظرية النظم‪.‬‬
‫‪ -‬بعد القرن الخامس دخل النقد مرحلة الجمود إلى أن جاء ابن األثير صاحب كتاب المثل السائر‬
‫في أدب الكتاب والشاعر‪ ،‬ولكن كتابه لم يأت بالجديد وإنما جمع مالحظات موروثة‪ ،‬وبعده ظهر‬
‫ناقد أندلسي وهو حازم القرطاجني‪ ،‬فكانت له إضافات في النقد والبالغة‪.‬‬
‫‪ -‬أما على مستوى القضايا المدروسة في هذه المطبوعة‪ ،‬فخلصنا إلى أن مفهوم الشعر لم يتضح‬
‫إال عند الفالسفة المسلمين من أمثال ابن سينا والفارابي باإلضافة إلى حازم القرطاجني‪ ،‬ألنه تأثر‬
‫كذلك بنظرية المحاكاة ألرسطو‪.‬‬
‫‪ -‬وبخصوص قضية االنتحال فقد اهتم بها ابن سالم وعالجها وتصدى لها بمنهج علمي‪ ،‬ثم تبعه‬
‫في ذلك النقاد‪.‬‬
‫‪ -‬أما قضية عمود الشعر فقد تمت معالمها عند المرزوقي الذي أرسى أركانها السبعة وخلقت‬
‫فسحة للشعراء من بعده‪ ،‬ونأتي لقضية اللفظ والمعنى التي انقسم النقاد فيها إلى ثالث فئات فئة‬
‫تنتصر للفظ وفئة تنتصر للمعنى وفئة تقول بائتالف اللفظ والمعنى‪ ،‬ولما جاء عبد القاهر الجرجاني‬
‫رأى أن اللفظ ال يكون معزوال عن المعنى‪ ،‬وإنما متالحمان وهذا ما يتحقق في نظريته التي سماها‬
‫النظم‪.‬‬
‫‪ -‬أما قضية الموازنات فقد بدأت بابن سالم في مفاضلته بين الشعراء ولكنها وصلت إلى مرحلة‬
‫النضج عند اآلمدي في كتابه الموازنة الذي اعتمد على مقاييس محددة في موازنته بين أبي تمام‬
‫والبحتري‪ ،‬ووضع شروطا للموازنة بين شاعرين وهي‪:‬‬
‫‪ -‬اتفاقهما في المعاني‪ ،‬اتفاقهما في األلفاظ ‪ ،‬اتفاقهما في الوزن‪.‬‬
‫وفي األخير فهذه الدروس ال تعدو أن تكون خطوة يستعين بها طلبتنا األعزاء في ولوج عالم النقد‬
‫العربي القديم ومحاولة تنير لهم الدرب‪ ،‬وباهلل التوفيق‪.‬‬

‫‪32‬‬

You might also like