You are on page 1of 10

‫انتشار اإلسالم في بالد المغرب‬

‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬


‫تمهيد‪:‬‬
‫كان سكان المغرب اإلسالمي من الكثرة والتنوع بحيث لم يكن من الميسور إخضاعهم في مدة يسيرة؛ ألنهم وكما يقول‬
‫حسان بن النعمان‪ ،‬أحد قادة الفتح‪" :‬أمم ليس لها غاية‪ ،‬وال يقف أحد منها على نهاية‪ ،‬كلما بادت أمة خلفتها أمم‪ ،‬وهم من‬
‫الحفل والكثرة كسائمة النعم"‪ .‬وتأتى تحقيق هذه المقولة متمثال في الفترة الزمنية التي كان المسلمون يحاولون خاللها‬
‫بسط السيطرة ونشر اإلسالم في تلك المنطقة‪ .‬ولم يتمكن المسلمون من السيطرة على بالد المغرب تماما إال بعد أن‬
‫ابتعدوا عن سياسة المواجهة العسكرية العنيفة‪ ،‬وعملوا على اكتساب البربر عن طريق نشر اإلسالم بينهم‪ ،‬وإدخالهم في‬
‫الجيوش العربية كجنود محاربين‪ ،‬وإشراكهم في تسيير اإلدارة الجديدة‪ ،‬وإدماجهم مع إخوانهم العرب المسلمين في‬
‫ديوان الجند دون تمييز‪ ،‬وذلك بعد أن خاضوا معهم معارك كان يطبعها اإلخفاق تارة والنجاح تارات أخرى‪.‬‬
‫فمتى كانت أولى طالئع التوسع اإلسالمي؟ ومن أين كانت منطلقاتها؟ وكيف كانت مراحلها وخططها؟ وهل واصلت‬
‫النجاح أم تراجع دورها؟ وما هي طبيعة المواجهات؟ وكيف كانت نظرة تلك الشعوب المختلطة إلى ذلك الغزو الجديد؟‬
‫لقد اعتمدنا في هذا البحث منهج السرد التاريخي‪ ،‬تماشيا مع فترات الوقائع وتوقيتها وفتراتها وذلك كما يلي‪:‬‬
‫أوال‪ :‬تعريف وتحديد المغرب اإلسالمي أو (بالد المغرب)‬
‫‪ .1‬سكان بالد المغرب قبل الفتح اإلسالمي‬
‫‪ .2‬أوضاع بالد المغرب األقصى قبل الفتح اإلسالمى‬
‫‪ .3‬بداية تاريخ الفتح اإلسالمي لبالد المغرب‬
‫ثانيا‪ :‬مراحل الفتح اإلسالمي لبالد المغرب‬
‫المرحلة األولى وهى مرحلة االستطالع‪ ،‬وفيها ثالث فترات ‪:‬‬
‫‪ .1‬فترة عمرو بن العاص‬
‫‪ .2‬فترة القائد عبدهللا بن سعد بن أبى السرح‬
‫‪ .3‬فترة القائد معاوية بن حديج‪:‬‬
‫المرحلة الثانية‪ :‬مرحلة االستقرار واالنتشار (ويمكن أن نسميها مرحلة الوالة )‬
‫‪ .1‬والية‪ :‬عقبة بن نافع األولى‬
‫‪ .2‬والية أبى المهاجر دينار‬
‫‪ .3‬والية عقبة بن نافع الثانية‬
‫المرحلة الثالثة وهى مرحلة إتمام الفتحوت‪ ،‬وتشمل جهود ثالثة من القادة الفاتحين‪ ،‬وهم‪:‬‬
‫‪ .1‬زهير بن قيس‬
‫‪ .2‬حسان بن النعمان‬
‫‪ .3‬موسى بن نصير‬
‫خاتمة‬
‫أوال‪ :‬تعريف وتحديد المغرب اإلسالمي أو (بالد المغرب)‬
‫يمثل المغرب اإلسالمي الجناح الغربي ألقاليم الدولة اإلسالمية؛ وقد أسهم منذ اعتناق أبنائه اإلسالم في بناء صرح‬
‫الحضارة اإلسالمية‪ ،‬ويمتد من «برقة» شرقًا حتى «المحيط األطلسي» غربًا‪ ،‬ويطل على «البحر المتوسط» شماال‪.‬‬
‫وقد استخدم بعض المؤرخين لفظة «المغرب» بمعناها العام على المنطقة الواقعة غرب «مصر» والممتدة من برقة‬
‫حتى المحيط األطلسي‪ ،‬بينما أطلق آخرون لفظة «المغرب» على أقاليم بِعَين َه ا‪.1‬‬
‫ويذكر شهاب الدين الناصري أن حدودهَا‪ :‬من ِج َه ة مغرب الشَّ ْم س أي الْ بَ ْح ر الْ ُم ِح يط الْ َم عْ ُر وف بالكبير‪َ ،‬و من ِج َه ة‬
‫ع ن بِ َال د الْ مغرب ب ِ َه ذ َا ِاال ْع تِبَار‪ ،‬وبالد‬ ‫ار َج ة َ‬ ‫س َك نْ د َريَّة ومصر‪ ،‬فبرقة َخ ِ‬ ‫ش ْم س بِ َال د برقة َو َم ا خلف َه ا إِلَى ْاإل ْ‬ ‫مشرق ال َّ‬
‫ع ن الْ ُم ِح يط‬ ‫الر و ِم ي المفرع َ‬
‫‪2‬‬
‫اخ لَة فِي ِه ‪َ ،‬و حدهَا من ِج َه ة الش َم ال الْ بَ ْح ر ُّ‬ ‫طرابلس َو َم ا دون َه ا إِلَى ِج َه ة الْ بَ ْح ر الْ ُم ِح يط د َ ِ‬
‫الر و ِم ي بالصغير َو من ِج َه ة الْ جنُوب جبال الرمل الفاصلة بَين بِ َال د السود َان وبالد البربر وتعرف ِع نْ د‬ ‫َو يعرف هَ ذ َا ُّ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ش ت َمل على ث َ َال ث ممالك‪ :‬مملكة إفريقية َو هِي ال مغرب ْاأل د ْنَى‪،‬‬ ‫الْ عَ َر ب الرحالة هُنَالك بالعرق ‪ .‬ث َّم هَ ذ َا ال مغرب ي ْ‬
‫ْ‬
‫ص ر َم دِينَة تونس ‪َ ،‬و سمي أدنى ِأل َنَّه ُ أقرب إِلَى بِ َال د الْ عَ َر ب‬ ‫اإل س َْال م َم دِين َة القيروان َو فِي هَ ذ َا الْ عَ ْ‬ ‫وقاعدتها فِي صدر ْ ِ‬
‫س ط وقاعدتها تلمسان وجزائر بني مزغنة‪ ،‬ث َّم بعد ذ َ ِل ك‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫خال فَة بالحجاز‪ ،‬ث َّم بعد إفريقية مملكة ال مغرب ْاأل ْو َ‬ ‫َو د َار الْ َ‬
‫اإل س َْال م‪ ،‬وحد هَ ذ َا‬ ‫خال فَة فِي صدر ْ ِ‬ ‫ع ن د َار الْ َ‬ ‫ص ى ِأل َنَّه ُ أبعد الممالك الث َّ َال ث َ‬ ‫ص ى َو سمي ْاأل َقْ َ‬ ‫مملكة الْ مغرب ْاأل َقْ َ‬
‫ص ى من ِج َه ة الْ مغرب الْ بَ ْح ر الْ ُم ِح يط ‪َ ،‬و من ِج َه ة الْ مشرق َو ادي ملوية َم َع جبال تازا َو من ِج َه ة الش َم ال الْ بَ ْح ر‬ ‫ْاأل َقْ َ‬
‫الر و ِم ي َو من ِج َه ة الْ جنُوب جبل درن َو ه َُو فِي ْاأل َ ْغ لَب ديار المصامدة من البربر ويساكنهم فِي ِه عوالم من صنهاجة‬ ‫ُّ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ع الم من ال عَ َر ب أهل ال خيام انتقلوا‬ ‫َ‬
‫س بَ ِة إِلَى المصامدة‪ ،‬ويساكنهم فِي ِه أ يْضا َ‬ ‫ومضغرة وأوربة َو غَيرهم ل ِك نه ْم قَ ِل يل بِالن ِ ْ‬
‫‪3‬‬
‫سة ‪.‬‬ ‫ْ‬
‫اخ ر ال ِم ائ َة السَّا ِد َ‬ ‫ير ة الْ عَ َر ب إِلَى إفريقية ث َّم من إفريقية إِل يْ ِه أ َو ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫من َج ِز َ‬
‫وذكر ابن حمادة أن حد المغرب من بحر القلزم ‪ ،‬وهو الهابط من اليمن إلى عدن إلى عيذاب إلى القلزم وإلى مصر‬ ‫‪4‬‬

‫قبلة وشرقا‪ ،‬وحد المغرب من الجوف البحر الشامي وهو بحر اإلسكندرية وهو المتفرغ في بحر الزقاق من جزيرة‬
‫طريف وعالمته صنم قادس‪ ،‬وحد المغرب من الغرب البحر المحيط المسمى االبالية‪ ،‬وصار المغرب كالجزيرة‬
‫دخل فيه بعض أعمال مصر وأفريقية كلها والزاب والقيروان والسوس األدنى والسوس األقصى وبالد الحبشة ومنه‬
‫‪5‬‬
‫يتفرع نيل مصر‪.‬‬
‫إ ن هذه الفضاء الشاسع اإلفريقي يمثل المغرب اإلسالمية وإن إسبانيا في الواقع الجغرافي والمناخي ليست إال جزءا من‬
‫أفريقية ‪.6‬‬
‫سكان المغرب قبل الفتح اإلسالمي‪:‬‬ ‫‪-1‬‬
‫عاش بالمغرب قبل الفتح اإلسالمي ثالثة أنماط من السكان‪ ،‬لكل منها سماته ومميزاته‪ ،‬هي‪:‬‬
‫‪ -‬الروم‪ :‬وهم الطبقة الحاكمة للشريط الساحلي للمغرب؛ إذ لم تمكنهم طبيعة البالد وصعوبة الحياة بها من التوغل إلى‬
‫داخلها‪ ،‬فضال عن بغض القبائل لسلطة المستعمرين‪ ،‬واستقر بعض هؤالء الروم هناك واشتغلوا بالتجارة وزرعوا‬
‫األرض‪ ،‬إلى جانب عملهم باإلدارة الحكومية‪.‬‬
‫‪ -‬األفارقة‪ :‬وهم خليط من بقايا األمم التي احتلت بالد المغرب من الرومان والوندال وغيرهم‪ ،‬وهم ليسوا من البربر‪،‬‬
‫ولكنهم انصهروا في حياتهم الجديدة بمدن المغرب واستقروا بها‪ ،‬واختلطوا بالمتحضرين من البربر‪ ،‬ولم تكن تجمعهم‬
‫بأهالي البالد إال الحياة المشتركة‪ ،‬المرتبطة بأسباب المعيشة‪.‬‬

‫‪ 1‬كتاب‪ :‬الموسوعة الموجزة في التاريخ اإلسالمي الصفحة ‪ 255‬نقال عن‪ :‬موسوعة سفير للتاريخ اإلسالمي‬
‫‪ - 2‬أي البحر األبيض المتوسط‬
‫‪ - 3‬شهاب الدين أبو العباس أحمد بن خالد بن محمد الناصري الدرعي الجعفري السالوي (المتوفى‪1315 :‬هـ)) االستقصا ألخبار‬
‫دول المغرب األقصى‪ ،‬تحقيق‪ :‬جعفر الناصري‪ /‬محمد الناصري‪ ،‬دار الكتاب ‪ -‬الدار البيضاء‪.‬‬
‫‪ 4‬أي البحر األحمر‬
‫‪ 2‬ابن عذاري المراكش))))ي‪ ،‬أبو عبد هللا محمد بن محمد (المتوفى‪ :‬نحو ‪695‬هـ)))))))))))‪ ،‬البيان المغرب في أخبار األندلس والمغرب‪،‬‬
‫تحقيق ومراجعة‪ :‬ج‪ .‬س‪ .‬كوالن‪ِ ،‬إ‪ .‬ليفي بروفنسال‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬بيروت – لبنان‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ 1983 ،‬م‬
‫‪ 6‬هشام جعيْط‪ ،‬تاسيس الغرب اإلسالمي الصفحة ‪ /‬دار الطليعة للنشر بيروت لبنان‪ ،‬ص‪.8 :‬‬

‫‪2‬‬
‫‪ -‬البربر‪ :‬وهم الغالبية العظمى من سكان بالد المغرب؛ وأصحاب البالد األصليون‪ ،‬وقد تصدوا للفتح اإلسالمي ‪ -‬في‬
‫أول األمر‪ -‬ثم لم يلبثوا أن ساندوه‪ ،‬بعد أن اختلطوا بالمسلمين وعرفوا الدعوة اإلسالمية ومبادئها السامية‪ ،‬فأقبلوا على‬
‫‪7‬‬
‫اإلسالم وآمنوا به‪ ،‬وحملوا رايته إلى «األندلس»؛ مبشرين به ومدافعين عنه‪.‬‬
‫المغرب قبل الفتح اإلسالمي‪:‬‬ ‫‪-2‬‬
‫تعرض إقليم المغرب قبل الفتح اإلسالمي لموجات من الغزو الرومانى والوندالي والبيزنطى‪ ،‬وعاشت المنطقة في ظل‬
‫سلطة أجنبية حاولت صبغها بحضارتها وأسلوبها في الحياة‪.‬‬
‫‪ -‬الحكم الرومانى للمغرب‪ :‬وبدأ أول اتصال بين المغرب والرومان حينما استولى الرومان على «إفريقية» فى سنة‬
‫(‪ 146‬ق‪ .‬م)‪.‬‬
‫‪ -‬الحكم الوندالى للمغرب‪ :‬خلف الوندا ُل الرومانَ في احتالل بالد المغرب سنة (‪429‬هـ)‪ ،‬ولم يكونوا أهل حضارة بل‬
‫كانوا شعبًا همجيا‪ ،‬عُرف بوحشيته وقسوته‪ ،‬فاهتم حكامه بفرض الضرائب التي أثقلت كاهل المغربيين وجمعها‪ ،‬فضال‬
‫خرب القائد الوندالى «جنعديك» القالع والحصون في المدن المغربية باستثناء «قرطاجنة» العاصمة‪ ،‬حتى‬ ‫عن ذلك فقد َّ‬
‫آثارا حضارية بالمغرب‪ ،‬وكان‬ ‫ال يتحصن بها البربر ويشقوا عصا الطاعة على الوندال‪ ،‬ومن ثَم لم يُخلف الوندال ً‬
‫حكمهم بمثابة سحابة سوداء جثمت قرنًا من الزمان على أرض المغرب‪.‬‬
‫‪ -‬الحكم البيزنطي للمغرب‪ :‬قامت اإلمبراطورية البيزنطية على أنقاض اإلمبراطورية الرومانية‪ ،‬فاستعاد البيزنطيون‬
‫الحكم في بالد المغرب سنة (‪533‬م)‪ ،‬واهتموا بالعمارة وأنشؤوا القصور والكنائس ‪...‬‬
‫ولقد كان تمركز هذه اإلدارات األجنبية بقواتها في منطقة الساحل‪ ،‬وحرصها على التحكم في أهالي هذه األرض‪،‬‬
‫واالستفادة من خيراتها دليل على أهميتها وقوة شعبها ومهارته في المقاومة رغم الهجمات من هنا وهناك‪.‬‬
‫بداية الفتح اإلسالمي للمغرب‪:‬‬ ‫‪-3‬‬
‫من الطبيعي أن يبدأ الفتح اإلسالمي لبالد المغرب بـ «برقة» و «طرابلس» باعتبارهما االمتداد الجغرافي الطبيعي‬
‫للمنطقة‪ ،‬وذلك رغبة من الفاتحين المسلمين في تخليص هذه الشعوب من قبضة المستعمرين‪ ،‬وإتاحة الفرصة أمامها‬
‫‪8‬‬
‫لتعرف الدين اإلسالمي وتدخل فيه‪.‬‬
‫وتدخل حركة الفتح ضمن انطالقة اإلسالم التي قوضت الدولة الساسانية وجردت الدولة البيزنطية وريثة روما في‬
‫توجهها اإلمبراطوري من والياتها الشرقية‪ ،‬والتي ظلت متمسكة بقوتها ومحافظة على وجودها على الرغم من خسارتها‪،‬‬
‫ورغم تطويقها والتهديد الذي لحقها مما سيجعلها تتحمل لقرون الضغط العربي الذي أرضخها‪ ،‬إال أنه لم يقض عليها‬
‫تماما‪.9‬‬

‫ثانيا‪ :‬مراحل الفتح اإلسالمي لبالد المغرب‬


‫مر الفتح اإلسالمي لهذه البالد بعدة مراحل هي‪:‬‬
‫َّ‬
‫المرحلة األولى (مرحلة االستطالع)‪:‬‬ ‫أ‪-‬‬
‫وتبدأ من سنة (‪21‬هـ‪642/‬م) إلى سنة (‪49‬هـ‪669 /‬م) وتشمل هذه المرحلة جهود ثالثة من قادة الفتح اإلسالمي تتوزع‬
‫على فترات‪:‬‬
‫‪ -‬فترة عمرو بن العاص‪ :‬ليست فتح بالد المغرب إال نتاجا لفتح مصر‪ ،‬فبعد تولي عمر بن الخطاب أمور‬
‫الخالفة أسند إلى عمرو بن العاص بعض المهام العسكرية‪ ،‬وقد حقق فيها نجاحا مذهال وطموحا هاما للدولة اإلسالمية‬
‫فكان لفتح اإلسكندرية على يده أثر بالغ على الفتوحات اإلسالمي بالمغرب عامة‪ .‬وبعد دخول عمرو بن العاص‬
‫اإلسكندرية منتصرا عام ‪642‬م بدأ بترتيب خططه العسكرية الهادفة إلى إخضاع الممالك المجاورة‪ ،‬فبعث الجيش إلى‬

‫‪ 7‬أحمد شحاده‪ ،‬تاريخ العرب وجضارتهم فى المغرب اإلسالمي‪ ،‬ص‪88 :‬‬


‫‪ 8‬عبد العزيز صالح ‪ ،‬الشرق األدنى اإلسالمي ‪ ،‬مكتبة دار الزمان‪ ،‬ص‪56 :‬‬
‫‪ 9‬هشام جعيْط ‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪13 :‬‬

‫‪3‬‬
‫برقة‪ ،‬وطرابلس ولم يلق فيهما عناء كبيرا فاستسلمتا للقائد المسلم دون قتال‪ ،‬ووافقت على شروطه‪ ،‬ودخل بعض أبنائها‬
‫في اإلسالم‪ ،‬وارتضى آخرون دفع الجزية مقابل االحتفاظ بعقيدتهم‪ .10‬وكان أغلب سكان مدينة برقة من قبيلة «لواته»‬
‫البترية‪ .‬فلما اطمأن عمرو إلى استقرار األوضاع ببرقة قسم قواته إلى جزئين‪ ،‬وخرج على رأس أحدهما نحو طرابلس‪،‬‬
‫مقصورا على الشريط الساحلي فحسب‪ ،‬ولكي‬ ‫ً‬ ‫وبعث بالجزء الثاني إلى زويلة والواحات الداخلية‪ ،‬حتى ال يكون الفتح‬
‫يأمن الهجوم عليه من الخلف وقد دل عمرو بن العاص بذلك على براعة عسكرية وخبرة بفنون القيادة ومعرفة بأحوال‬
‫المنطقة وطبيعتها‪ .11‬غير أنه فى سنة ‪ 646‬م‪ ،‬اضطر إلى العودة لإلسكندرية السترجاع ها من أيد البيزنطيين الذين‬
‫طرد جيشهم اإلمبراطوري بقيادة مانويل بعد أن هزمه‪.‬‬
‫كانت طرابلس مدينة حصينة ذات أسوار عالية فحاصرها فترة ثم تمكن من فتحها بعد صدام لم يطل مع القوة البيزنطية‬
‫الموجودة بالمدينة‪ ،‬ولم يمكث عمرو طويال بعد أن تم له فتحها‪ ،‬حيث سارع بإرسال جزء من جيشه إلى مدينة «سبرت»‬
‫لمفاجأتها قبل أن تستعد لمالقاته‪ ،‬وفوجئ أهلها بالمسلمين على أبواب مدينتهم‪ ،‬فسقطت دون عناء‪ ،‬وكان يمكن لعمرو‬
‫بن العاص أن يمضي في مسيرته ليفتح إفريقية‪ ،‬لكنه لم يكن ليفعل ذلك دون استئذان الخليفة عمر بن الخطاب‪ ،‬فبعث‬
‫إليه برسالة جاء فيها‪« :‬إن هللا قد فتح علينا طرابلس‪ ،‬وليس بينها وبين إفريقية إال تسعة أيام‪ ،‬فإن رأى أمير المؤمنين أن‬
‫يغزوها‪ ،‬ويفتحها هللا على يديه فعل»‪ .‬ولكن الخليفة رفض رغبة عمرو بن العاص‪ ،‬فتوقف الفتح ورجع عمرو بن‬
‫العاص إلى مصر قبل منتصف سنة (‪23‬هـ ‪644/‬م)‪ ،‬بعد أن م َّهد الطريق لمن سيأتي بعده‪ ،12‬وفى هذه الفترة الذي‬
‫امتدت خمس سنوات (من ‪ 21‬إلى ‪ 26‬هـ) كان النشاط العسكري مكثفا في مصر وعلى الساحل الليبي‪ ،‬ولم يتم التأكد‬
‫من االستيالء على مصر إال عام ‪ 646‬م‪.13‬‬
‫‪ -‬فترة القائد عبد هللا بن سعد بن أبى سرح في خالفة عثمان رضي هللا عنه‪ :‬وهو أحد صحابة رسول هللا ‪ -‬صلى هللا‬
‫عليه وسلم ‪ -‬أسلم قبل الفتح اإلسالمي بمكة‪ ،‬وتولى إمارة مصر سنة ‪25‬هـ ‪646/‬م‪ ،‬خلفًا لعمرو بن العاص‪ ،‬فأخذ‬
‫يبعث السرايا لإلغارة على أطراف إفريقية‪ ،‬ولكنه شعر أن هذه السرايا لم تعد كافية لتأمين الحدود الغربية لمصر‪ ،‬فبعث‬
‫إلى الخليفة عثمان بن عفان يستأذنه في الخروج على رأس حملة عسكرية تجاه إفريقية لتأمين مصر والمسلمين من‬
‫الخطر البيزنطى المسيطر على إفريقية‪ ،‬فوافق الخليفة على طلبه وأمده بجيش كبير‪ ،‬ضم نخبة من الصحابة والتابعين‬
‫بقيادة الحرث بن الحكم‪ ،‬فلما وصل مصر انضم إلى قوات عبدهللا بن أبى سرح فصارت نحو عشرين ألفًا‪ ،‬وانطلق بها‬
‫إلى إفريقية التي كانت تحت حكم القائد البيزنطى جريجوريوس المعروف باسم «جرجير» في المصادر العربية‪ .‬استعد‬
‫هذا القائد لمالقاة المسلمين‪ ،‬وتحصن في مدينة «سبيطلة»‪ ،‬وعسكر المسلمون في بلدة «قمونية» التي تبعد بضعة أميال‬
‫عن مدينة «سبيطلة»‪ ،‬ثم بدأت المفاوضات بين الطرفين‪ ،‬وعرض المسلمون شروطهم كما أمر اإلسالم‪ ،‬ولكن‬
‫المفاوضات فشلت‪ ،‬وفشل معها الحل السلمي‪ ،‬وبدأت المناوشات العسكرية بين الطرفين‪ ،‬وتمكنوا في النهاية بعد أن‬
‫جاءهم المدد من المدينة من فتح مدينة «سبيطلة» سنة ‪28‬هـ وقتلوا القائد البيزنطى « ُجرجير»‪ ،‬وتمكنوا من االستيالء‬
‫على المعاقل وا لحصون‪ ،‬وجمعوا مغانم كثيرة‪ ،‬وكان من المتوقع بعد هذا النصر العظيم أن يواصل المسلمون زحفهم‬
‫صوب «المغرب األوسط»‪ ،‬إال أن عبد ا هلل بن أبى سرح قرر فجأة العودة بجنده إلى مصر‪ ،‬مكتفيا بما حقق من "‬
‫غارات "‪ ،‬وما حصل عليه من غنيمة ‪ ،‬خاصة أن المسلمين لم تكن لهم قاعدة عسكرية قريبة يلجؤون إليها عند الحاجة‪.‬‬
‫وباختصار فإن عدم االستعداد لالستقرار في هذه األرض من قبل العرب ووجود صعوبة في القضاء نهائيا على النظام‬
‫الدفاعي البيزنطي‪ ،‬والتمزقات الداخلية في الجيش العربي‪ ،‬كل هذه العوامل أدت إلى توقف تمدد الحملة مدة تقارب‬

‫‪ 10‬نفس المرجع السابق‪ ،‬الصفحة ‪14‬‬


‫‪ 11‬ابن خلدون‪ ،‬عبد الرحمن بن محمد بن محمد‪ ،‬أبو زيد‪ ،‬ولي الدين الحض))))رمي اإلش))))بيلي (المتوفى‪808 :‬هـ))))))))))‪ ،‬ديوان المبتدأ‬
‫والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن األكبر‪ ،‬تحقيق‪ :‬خليل شحادة‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫‪ 12‬تاريخ اإلسالم الذهبي الصفحة ‪ 233‬الناشر مكتبة التوفيقية ‪.‬‬
‫‪ 13‬هشام جعيْط ‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.14 :‬‬

‫‪4‬‬
‫عشرين سنة خاصة بعد نشوب االضطرابات في مركز الخالفة‪ ،‬والتي أدت إلى استشهاد الخليفة عثمان ‪ .14‬إال أن عملية‬
‫ابن أبى سرح‪ ،‬وإن كانت بمثابة الغارة‪ ،‬إال أنها شكلت بذرة مهمة في مشروع الفتح اإلسالمي لبالد المغرب ‪. 15‬‬
‫‪ -‬فترة القائد معاوية بن حديج‪ :‬أدرك معاوية بن أبى سفيان أهمية إفريقية من الناحية االقتصادية‪ ،‬ودورها المؤثر في‬
‫البحر المتوسط‪ ،‬فضال عن موقعها المجاور لمصر اإلسالمية‪ ،‬وأهمية مواصلة التوسع اإلسالمي فأرسل معاوية بن‬
‫حديج على رأس جيش لمتابعة الجهاد في إفريقية‪ ،‬فخرج إليها سنة (‪45‬هـ‪666/‬م)‪ ،‬والتقى بالبيزنطيين عند‬
‫« قمونية»‪ ،‬ودار قتال مرير بينهما أسفر عن انتصار كبير للمسلمين‪ ،‬وقتل كثير من البيزنطيين‪ ،‬ثم مضى المسلمون‬
‫نحو « جلوالء» واستولوا عليها بعد قتال شديد‪ .‬وقد مكنت مرحلة االستطالع هذه من االحتكاك المباشر بالبربر على‬
‫أرض المغرب‪ ،‬ومعرفة أحوال هذه البالد‪ ،‬مما كان له أثر في دخول بعض سكان المنطقة من البربر اإلسالم‪ 16.‬وقد‬
‫أعادت عودة الجيش بقيادة بن حديج األوضاع إلى ما كانت عليه أيام ‪649‬م‪ ،‬ومكنت من االستالء على بالد مزاق‪.‬‬

‫المرحلة الثانية‪ :‬مرحلة االستقرار واالنتشار (مرحلة الوالة)‪:‬‬ ‫ب‪-‬‬


‫وتشمل والية عقبة بن نافع األولى‪ ،‬ووالية أبى المهاجر دينار‪ .‬ثم والية عقبة بن نافع الثانية‪:‬‬

‫‪ -‬والية عقبة بن نافع األولى‪ :‬ويتفق المؤرخون على أن بداية والية عقبة بن نافع الفهري تمثل مرحلة جديدة من‬
‫مراحل الجهاد اإلسالمي في منطقة المغرب‪ ،‬وكان اختياره موفقا إلى حد بعيد‪ ،‬ونابعا من قناعة تامة بأنه هو القائد‬
‫الجديد رجل المستقبل في مرحلة انتهت بها حرب االستكشاف والسرايا العادية لتبدأ مرحلة ذوي الكفاءات العسكرية‬
‫‪17‬‬
‫من الفرسان الموهوبين؛ مرحلة الفتح الثابت المستقر‪.‬‬
‫تولى عقبة بن نافع إمرة الجيش في سنة (‪50‬هـ‪ 670/‬م) بعد تجربة طويلة في ميدان الحرب ولم تكن هذه هي المرة‬
‫األولى التي يتوجه فيها إلى إفريقية؛ إذ إنه اشترك من قبل في حملة عمرو بن العاص على برقة‪ ،‬وتولى فتح المناطق‬
‫الداخلية بها‪ ،‬وأقام فيها فترة‪ ،‬ونشر اإلسالم بين سكانها‪ ،‬فأكسبه ذلك خبرة ومعرفة بأوضاع البالد وحالة سكانها‪،‬‬
‫وقد تأكد لعقبة بن نافع أن فتح إفريقية وبقية المغرب ال يثبت إال بأمرين أولهما‪ :‬إنشاء مركز للمسلمين تعسكر فيه‬
‫جيوشهم‪ ،‬ويأمنون فيه على أموالهم ونسائهم وذراريهم‪ ،‬ومنه يخرجون للغزو‪ ،‬بدال من العودة في كل مرة إلى‬
‫"فسطاط" مصر‪ ،‬وثانيهما‪ :‬غزو البربر أنفسهم‪ ،‬والتوغل في قلب بالدهم‪ ،‬وإدراكهم في منازلهم في الهضاب‬
‫والجبال والصحراء‪ ،‬بدال من االكتفاء بغزو مدائن الساحل ثم العود إلى الفسطاط؛ ألن المسلمين ال يكادون ينصرفون‬
‫عن هذه البالد حتى تعود األمور إلى ما كانت عليه‪ ،‬التصال هذه المناطق عن طريق البحر بالبيزنطيين‪ ،‬تتلقى منهم‬
‫اإلمدادات‪ ،‬وكانوا ‪ -‬كما وصفهم عقبة نفسه ‪" : -‬إذا دخل عليهم أمير أطاعوا‪ ،‬وأظهر بعضهم اإلسالم‪ ،‬فإذا عاد‬
‫األمير عنهم نكثوا‪ ،‬وارتد من أسلم"‪.18‬‬
‫وقبل ذلك انطلق عقبة على رأس قواته التي بلغت عشرة آالف مقاتل إلى إفريقية‪ ،‬متخذ ًا الطريق الداخلي‪ ،‬ومبتعد ًا‬
‫عن الطريق الساحلي؛ لكثرة القالع والحصون البيزنطية على الساحل‪ ،‬ولرغبته في استخدام عنصر المفاجأة مع‬
‫سكان الواحات‪ 19،‬لتحقيق نصر سريع فتحقق له ما أراد‪ ،‬واستولى على كثير من المدن والقالع والحصون مثل‪:‬‬
‫« ودن» ‪ ،‬و « جرمة» و«قصور فزان»‪ ،‬و « خادار»‪ ،‬و «غدامس»‪ ،‬كما استولى على مدينتي « قنصه»‬

‫‪ 14‬الموسوعة الموجزة في التاريخ اإلسالمي نقال عن‪ :‬موسوعة سفير للتاريخ اإلسالمي‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص‪.8 :‬‬
‫‪ 15‬هشام جعيط‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.15 :‬‬
‫‪ 16‬عبد العزيز غوردو‪ ،‬الفتح اإلسالمي لبالد المغرب‪ ،‬ص‪19 :‬‬
‫‪ 17‬طه عبد المقصود عبد الحميد أبو عُبيَّة‪ ،‬موجز عن الفتوحات اإلسالمية‪ ،‬دار النشر للجامعات – القاهرة‪.‬‬
‫‪ 18‬ابن عذارى البيان المغرب ‪ ،19 /1‬ابن األثير‪ ،‬الكامل ‪ ،320 /3‬حس))))))ين مؤنس‪ :‬فتح العرب للمغرب‪ ،‬ص‪ ،133:‬دراس))))))ات‬
‫أندلسية للدكتور محمد عبد الحميد عيسى‪ ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪ 17‬راجع‪ :‬فتح العرب للمغرب‪ ،‬لحسين مؤنس‪ ،‬ص‪.139 :‬‬

‫‪5‬‬
‫و«قصطيلية»‪ .‬وذكر أن البربر لشدة ما أصابهم من الرعب اعتنقوا اإلسالم‪ ،‬ويفسر ذلك قوة الرجل وصرامته‬
‫وسطوته‪ ،20‬وبعد أن تم له ما أراد من فتح رأى عقبة أن أفضل طريقة لتثبيت الفتح اإلسالمي في هذه المنطقة هو‬
‫ً‬
‫مركز ا ألعمال الفتح القادمة‪ ،‬فوقع اختياره على مكان مدينة‬ ‫بناء مدينة يسكنها الناس تصبح قاعدة عسكرية‪ ،‬وتكون‬
‫القيروان‪ ،‬وكان واديًا كثير الشجر‪ ،‬تأوي إليه السباع والوحوش والهوام‪ ،‬فأعده هو و َم ن معه من المسلمين وبنى به‬
‫ودار ا لإلمارة‪ ،‬ثم بنى الناس دورهم حول المسجد‪ ،‬وظلت عمليات البناء هذه مستمرة حتى سنة‬ ‫ً‬ ‫مسجد ًا‬
‫(‪55‬هـ‪675/‬م)‪ ،‬وتجل َّت عبقرية عقبة في حسن اختياره لمكان المدينة؛ إذ توافر فيه البعد الكافي عن شواطئ البحر‬
‫المتوسط‪ ،‬ليأمن المسلمون غارات األسطول البيزنطي المتكررة‪ ،‬والقرب من قبائل البربر ووسط معاقلهم‪ ،‬وه ي‬
‫خطوة عملية في سبيل اجتذابهم إلى الدين اإلسالمي‪ ،‬واندماجهم مع العرب الفاتحين‪ ،‬يضاف إلى ذلك أن موقع‬
‫القيروان كان على الطرق الموصلة إلى مصر‪ ،‬وبذلك ضمن عقبة سالمة خطوط إمداده من مصر‪ ،‬وقد علق‬
‫المستشرق الفرنس "كودل" "‪ "CAUDEL‬على ذلك بقوله‪" :‬وكان اختيار المكان موفقا‪ ،‬بل بلغ من التوفيق في‬
‫اختياره أن والة المغرب ومن خلفهم من الحكام المستقلين أقاموا بها زمنا طويال‪ ،‬ولم ينتقلوا عنها إال حينما‬
‫اضطرتهم ظروف سياسية جديدة إلى ذلك‪ ،‬كما كان موقعها الحربي ملحوظ األهمية‪ ،‬إذ كان الحاكم الذي يتخذ هذا‬
‫الموضع مركزا ل عملياته يستطيع أن يرى العدو من بعيد‪ ،‬ويتحرز من الغارات المفاجئة الكثيرة الحدوث عند البربر‪،‬‬
‫وإذا أراد أن يطاردهم إلى هضابهم وجد الطريق مفتوحة أمامه ‪ ، 21 "...‬وقد كانت مدة إعداد المعسكر الجديد ‪4‬‬
‫سنوات مما شغل عقبة عن أي عمل آخر من أعمال الفتوحات ‪ ،22‬ويمكن هنا أن نورد مالحظتين أساسيتين هما‪ :‬أن‬
‫عقبة بن نافع بإنشائه قاعدة يحكم فيها البالد التي تفتتح وتصدر منها الغزوات قد جعل "إفريقية" والية إسالمية‬
‫جديدة‪ ،‬ألنه ما دام قد أنشأ بها مسجدا ودارا لإلمارة فقد أصبحت المنطقة كلها جزءا من الدولة اإلسالمية‪ ،‬وال يجوز‬
‫بعد ذلك للمسلمين أن يتخلوا عنها‪ ،‬وبالفعل كان من الممكن ‪-‬قبل ذلك‪ -‬أن ينسحبوا من "إفريقية" إلى "برقة" أو إلى‬
‫مصر كما كانوا يفعلون‪ ،‬وكما أفادت هذه المدينة حركة الفتوح إفادة كبرى من الناحية العسكرية فقد أفادت أيضا في‬
‫العمل على نشر اإلسالم والعروبة في المغرب ‪ ،‬وقد زاد هذا األمر أهمية أن الكثيرين البربر الذين أسلموا أخذوا‬
‫ينتظمون في جيوش المسلمين‪ ،‬ويسيرون معهم إلتمام فتح البالد‪ ،23‬غير أن عقبة لم يستمر ليجني ثمـرة جهوده‪ ،‬إذ‬
‫تم عزله‪ ،‬وتولى أبو المهاجر دينار إمارة الجيوش ووالية المغرب بدال منه ‪.‬‬

‫‪-‬والية أبي المهاجر دينار (‪62-55‬هـ‪681-674 /‬م)‪ :‬بينما كان عقبة يتخذ األهبة للخروج للغزو الواسع النطاق ‪-‬بعد‬
‫أن أتم تأسيس "نقطة االرتكاز"‪ -‬إذا معاوية بن أبي سفيان "الخليفة" يفاجئه بالعزل سنة ‪55‬هـ‪674 /‬م‪ .‬وكان من‬
‫المتوقع بعد أن قام عقبة بهذا العمل المجيد أن تكافئه الدولة بأن تتركه في واليته ليتم ما بدأه‪ ،‬إال أنه ‪-‬بدال من ذلك‪-‬‬
‫تلقى أمرا بعزله عن "إفريقية" وإحالل أب ي المهاجر دينار محله ‪ ،‬وتوجه إلى دمشق‪.24‬‬

‫لقد كان أبو المهاجر الرجل األمثل ليحل محل القائد السابق وإن كانت ميزة اضمحالل الشهرة من أكثر مميزاته‪،‬‬
‫وبغض النظر عن شهرة الرجل بالنسبة إلى سلفه‪ ،‬نجد أن بعض الباحثين المعاصرين أرجع التفوق فى الفتح إلى‬
‫أبي المهاجر ‪-‬على حساب عقبة ‪ -‬مقلبا األدوار بذلك‪ .25‬لقد اختار القائد الجديد النزول بقرية صغيرة على بعد ميلين‬

‫هشام جعيط‪ ،‬مرجع سابق‪،‬ص‪. 19 :‬‬ ‫‪20‬‬

‫‪ 21‬حسين مؤنس‪ ،‬فتح العرب للمغرب‪ ،‬ص‪.143:‬‬


‫‪ 22‬طه عبد المقصود عبد الحميد أبو عُبيَّة‪ ،‬مرجع سابق‪.‬‬
‫‪ 23‬طاهر راغب‪ ،‬التطور السياسي للمغرب‪ ،‬ص"‪ ،"39-38‬وحسين مؤنس‪ ،‬فجر األندلس‪ ،‬ص‪.40 :‬‬
‫‪ 24‬ابن عذارى ‪ ."22 /1‬وابن عبد الحكم‪ ،‬فتوح مصر والمغرب‪ ،‬ص‪.197:‬‬
‫‪ 24‬حسين مؤنس‪ ،‬معالم تاريخ المغرب واألندلس‪ ،‬ص ‪ ،38-37‬وفجر األندلس‪ ،‬ص‪.40 :‬‬
‫‪ 25‬هشام جعيط‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪. 20 :‬‬

‫‪6‬‬
‫من القيروان‪ ،‬تعرف بـ "تكرور" أو "تكروان" رغبة في التقليل من أهمية العاصمة الجديدة‪ ،‬وإيجاد بديل عنها‪،‬‬
‫وبل وحث الناس على تعمير الموضع الجديد‪.‬‬
‫لقد اختلف القائدان في سياستهما وطباعهما اللينة من جانب والعنيفة من الجانب اآلخر لكنهما استوطنتهما نية واحدة‬
‫متمثلة في استقرار متين بإفريقية وتوسيع الفتح ليشمل كامل المغرب‪.‬‬
‫كانت عين أبي المهاجر على تلمسان التي فتحها وأسر قائدها‪ ،‬كما استطاع في سنة ‪59‬هـ‪ ،‬أن يغزو مواقع "أوربة"‬
‫في جبال "األوراس"‪ ،‬وأن يكتسب رئيسها كسيلة" إلى اإلسالم‪ ،‬فأسلم وتبعه نفر كبير من قومه‪ .‬وبعد أن قضى أبو‬
‫المهاجر في هذا الغزو نحو من سنتين (‪61-59‬هـ) عاد إلى معسكره‪ ،‬وأقام به عاما واحدا حتى عزل‪.26‬‬

‫‪ -‬والية عقبة بن نافع الثانية‪ :‬عاد عقبة إلى المغرب ثانية سنة (‪62‬هـ‪682/‬م)‪ ،‬بقرار من الخليفة يزيد بن معاوية بن‬
‫أبى سفيان‪ ،‬وقد اختلفت واليته الثانية عن سابقتها؛ ف بينما تميزت واليته األولى ببعض األعمال العسكرية الداخلية‬
‫في إقليم الواحات‪ ،‬وقضاء الشطر األكبر منها في تأسيس مدينة « القيروان» وتعميرها‪ ،‬نراه في العودة يقوم بغزوة‬
‫كبرى‪ ،‬يصل فيها إلى شواطئ المحيط األطلسي‪ ،‬حيث بدأ حملة كبرى تختلف عن كل الحمالت السابقة‪ ،‬وساح في‬
‫كل صحراوات المغربين ‪-‬األوسط واألقصى‪ -‬حتى وصل إلى سواحل "السوس األقصى" على البحر المحيط‪..‬‬
‫وقد انطلق عبر الطريق الداخلي بعيد ًا عن الساحل‪ ،‬ودخل في معارك عنيفة مع الروم حتى أجبرهم على الفرار‪،‬‬
‫وتمكن من فتح أمنع حصونهم مثل‪ « :‬لميس» ‪ ،‬و « باغاية»‪ ،‬ثم فتح «أذنة» قاعدة «الزاب» ‪ ،‬واستولى على مغانم‬
‫كثيرة‪ ،‬بعد معارك ضارية مع أهلها‪ ،‬ثم اتخذ طريق الساحل ليطرق أبواب « المغرب األقصى» ‪ ،‬وتم له ذلك‪ ،‬فكان‬
‫أول فاتح عربي تطأ قدماه هذا اإلقليم‪ ،‬فبادر «بطنجة» أهم مدن اإلقليم‪ ،‬فأسرع حاكمها «يليان» ‪ ،‬وقدم له فروض‬
‫الطاعة مع كثير من الهدايا والتحف‪ ،‬وانطلق « عقبة» عقب ذلك إلى مدينة « وليلى» ومنها إلى بالد «درعة» و‬
‫« السوس» والتقى هناك مع جموع البربر في معركة حامية‪ ،‬تمكن من هزيمتهم‪ ،‬وواصل مسيرته حتى بلغ المحيط‪.27‬‬
‫واستمر في مغامرته الكبرى حتى وطئت جيوشه أرض السوس األقصى‪ ،‬وانتهى إلى جنوب المدينة الحالية‬
‫المعروفة باسم "أكادير"‪ ،‬وتقع على مصب وادي السوس الذي يصب في المحيط‪ .‬وهناك وقع المشهد التاريخي‬
‫الشهير الذي حدثتنا عنه كتب التاريخ‪ ،‬وهو مشهد عقبة يدخل بفرسه في مياه المحيط األطلسي حتى وصل الماء إلى‬
‫تالبيبه‪ ،‬ويشهد هللا على أنه وصل براية اإلسالم إلى آخر المعمورة‪ ،‬ويقول‪" :‬يا رب لوال أن البحر منعني لمضيت‬
‫‪28‬‬
‫في البالد إلى مسلك ذي القرنين‪ ،‬مدافعا عن دينك‪ ،‬مقاتال من كفر بك‪.‬‬
‫وفى ظل هذا النصر وعزم عقبة بن نافع الرجوع واتخذه طريقا نحو "طنجة" لكي يعود إلى "المغرب األوسط"‬
‫وبعد أن أرسل غالبية جنوده نحو القيروان ولم يبق معه سوى خمسة ءاالف باغته كسيلة بن لم زم مرتدا‪ ،‬وهو القائد‬
‫البربري الذي أسلم على يد أبي المهاجر دينار ‪ ،‬وهو فى قلة من قومه فقاتله مع جند عظيم من البربر وأستشهد عقبة‬
‫وقد كانت تلك الوقعة سنة( ‪63‬هـ‪ -‬أو ‪64‬هـ‪682-681 /‬م)‪ .29‬ودخل «كسيلة» زعيم البربر مدينة « القيروان» ‪،‬‬
‫فانتهت بذلك المرحلة الثانية من مراحل الفتح‪ .‬بقي أن نقول إن هذ المجاهد الكبير ‪-‬عقبة بن نافع‪ -‬يعتبر بحق من‬
‫أعظم قادة الفتح اإلسالمي‪ ،‬وواحدا من أكبر بناء الدولة اإلسالمية‪ ،‬وال يقارن في هذا المجال إال بالقائد الكبير "قتيبة‬
‫بن مسلم الباهلي" الذي تولى مهمة الفتوح في الجناح الشرقي لدولة اإلسالم‪ ،‬وإليه يرجع الفضل في التغلب على‬
‫مقاومة الترك الوثنيين وفتح بالدهم لإلسالم‪ ،‬والوصول به إلى "كاشغر" في إقليم "سنكيانج" في غرب الصين‬

‫‪ 27‬وراجع‪ :‬تاريخ المس))))لمين في المغرب واألندلس‪ ،‬لدكتور‪ /‬طه عبد المقص))))ود عبد الحميد "ص‪" "73-72‬ط دار طيبة لإلنتاج‬
‫والتوزيع ‪-‬القاهرة ‪2000‬م"‪.‬‬
‫‪ 28‬البيان المغرب "‪ ،"27 /1‬وراجع‪ :‬الكامل البن األثير "‪ ."451 /3‬والعبر البن خلدون "‪107 /6‬‬
‫‪ 29‬البيان المغرب "‪ ."29 ،28 /1‬وراجع‪ :‬فتوح مصر والمغرب البن عبد الحكم ص"‪ ،"198‬الكامل البن األثير "‪."452 /3‬‬

‫‪7‬‬
‫الحالية‪ .‬وكان "عقبة" و"قتيبة" متعاصرين‪ ،‬واحد منهما وصل بحدود دولة اإلسالم إلى أقصاها غربا‪ ،‬والثاني‬
‫وصل بها إلى أقصاها شرقا ‪.30‬‬

‫المرحلة الثالثة (مرحلة إتمام الفتح)‪:‬‬ ‫ج‪-‬‬


‫وتمتد من سنة (‪69‬هـ‪688/‬م) إلى سنة (‪90‬هـ‪709/‬م)‪ ،‬وتشمل جهود ثالثة من القادة الفاتحين‪ ،‬وهم‪ :‬زهير بن قيس‪،‬‬
‫وحسان بن النعمان وموسى بن نصير‪:‬‬

‫‪ -‬زهير بن قيس‪ :‬تولى عبد الملك بن مروان الخالفة بدمشق في سنة (‪65‬هـ‪ 685/‬م)‪ ،‬فواجهته المشاكل والثورات‬
‫العديدة‪ ،‬ولكن ذلك لم يمنعه من التفكير في أوضاع إفريقية‪ ،‬وضرورة استعادة نفوذ المسلمين بها‪ ،‬واستشار من‬
‫حوله في ذلك‪ ،‬واستقر الرأي على ضرورة تجهيز حملة جديدة‪ ،‬بعد يقينه من إتمام وحدة المسلمين وقام بالعزم على‬
‫إرسال زهير بن قيس؛ ل معرفته بطبيعة المنطقة وأحوال الناس هناك‪ ،‬وكان ذلك ما بين ‪71 /70‬هـ‪ ،‬فأرسل الخليفة‬
‫بذلك إلى «زهير» ببرقة‪ ،‬وأمده بما تحتاج إليه هذه الحملة‪ ،‬وحشد إليه وجوه العرب‪ ،‬ووفر له المال الالزم‪ .‬رتب‬
‫زهير أموره‪ ،‬وخرج للقاء كسيلة وجموع البربر والروم‪ ،‬فعلم كسيلة بتحركات زهير وفضَّل الخروج لمالقاته خارج‬
‫معسكر ا لجنوده‪،‬‬
‫ً‬ ‫القيروان‪ ،‬خشية أن ينضم المسلمون المقيمون بها إلى جيش زهير‪ ،‬واختار منطقة «ممس» لتكون‬
‫لوفرة المياه بها وقربها من الجبال‪ ،‬التي يمكن االحتماء بها‪ ،‬أو الهروب إليها إذا ما حلَّت الهزيمة بجنوده‪ .‬وصل‬
‫زهير على رأس قواته إلى القيروان‪ ،‬واستراح خارجها عدة أيام عبأ فيها قواته‪ ،‬وتجهز للمعركة‪ ،‬ثم انطلق للقاء‬
‫كسيلة وجموعه من البربر والروم عند «ممس» ‪ ،‬ودارت بين الفريقين معركة حامية؛ حمى فيها الوطيس‪ ،‬وكثر‬
‫عدد القتلى من الفريقين‪ ،‬ولكن المسلمين صمدوا‪ ،‬وتمكنوا من قتل كسيلة‪ ،‬فدبَّ الضعف والوهن في جموع البربر‬
‫كبير ا‪ ،‬وتتبعوهم حتى فروا من أرض المعركة؛‬‫ً‬ ‫والروم‪ ،‬وتكاثر عليهم المسلمون من كل مكان‪ ،‬وقتلوا منهم عدد ًا‬
‫يجرون وراءهم أذيال الهزيمة المنكرة‪.‬‬
‫انتهز الروم فرصة رحيل الجيش اإلسالمي من برقة إلى القيروان‪ ،‬وقرروا مباغتة مدينة برقة‪ ،‬مستعينين ببعض‬
‫قطع أسطولهم الراسية على شواطئ صقلية‪ ،‬وانطلقوا بها صوب برقة‪ ،‬فلم تستطع المدينة مقاومتهم وسقطت بين‬
‫أيديهم‪ ،‬فألحقوا بها الدمار‪ ،‬وبلغت هذه األنباء المؤلمة مسامع زهير فأسرع بمن معه من الجنود ‪-‬وكانوا قلة‪ -‬لنجدة‬
‫المدينة‪ ،‬ولكن الروم كانوا كثرة‪ ،‬فخرجوا عليه وعلى جنوده من كل مكان‪ ،‬وأسفر ذلك عن هزيمة المسلمين‬
‫واستشهاد زهير‪.‬‬
‫وإذا نظرنا إلى أحوال "إفريقية" عقب استشهاد زهير بن قيس في الفترة من (‪69‬هـ‪688 /‬م" إلى "‪73‬هـ‪692 /‬م) ‪-‬‬
‫بإيجاز‪ -‬نجد أن السيطرة عادت لبعض البيزنطية على أجزاء من الساحل اإلفريقي‪ ،‬وخاصة في "قرطاجنة" ‪،‬كما‬
‫أن قبيلة "أوربة" ‪ -‬البرنسية التي كان كسيلة األوربي يتزعمها‪ -‬بدأت في التقهقر عن مركز الصدارة في جبال‬
‫"األوراس"‪ ،‬تاركة المجال لقبيلة أخرى شديدة المراس تدعى "جراوة" ‪-‬من قبائل البربر "البتر"‪ -‬وتقودها امرأة‬
‫لقبها العرب بالكاهنة‪ ،‬واسمها "داهيا بنت ماتية"‪ ،‬وكانت على جانب كبير من المهارة والقدرة‪ ،‬وتمكنت من تجميع‬
‫قبائل جبال "األوراس" تحت إمرتها‪ ،‬حتى أصبح "جميع من بإفريقية من الروم منها خائفي ن وجميع البربر لها‬
‫مطيعي ن" حسب تعبير المؤرخين‪.31‬‬

‫‪ -‬حسان بن النعمان‪ :‬بعد أن استعاد المسلمون وحدتهم سنة ‪73‬هـ تحت لواء المروانيين وأصبحوا قادرين على‬
‫استئناف التوسع‪ ،‬أراد عبد الملك التفكير في حل مشكل إفريقية وكلف حسان بن النعمان بذلك فكون له جيشا قوامه‬

‫طه عبد المقصود عبد الحميد أبو عُبيَّة‪ ،‬موجز عن الفتوحات اإلسالمية‪ ،‬دار النشر للجامعات – القاهرة‪ ،‬ص‪76 :‬‬ ‫‪30‬‬

‫طاهر راغب‪ ،‬التطور السياسي للمغرب‪ ،‬ص‪.62 :‬‬ ‫‪31‬‬

‫‪8‬‬
‫‪ 40000‬ألف جندي مشكال بذلك أعظم جيش إسالمي دخل إفريقية ‪76‬هـ ‪ ، 32‬وكان هدفه القضاء على القوة البيزنطية‬
‫التي تشكلت من جديد فهاجم قرطاج عاصمة والية إفريقية الرومانية وبعد حصارها ــ على األرجح ـــ دخلها‬
‫بمقتضى اتفاق‪ ،‬ففر الموظفون وأصحاب اإلدارة إلى صقلية وإسبانيا وتفرق من بقي في األرياف المجاورة‪ ،‬وبمجرد‬
‫خروجه منها رجعوا إليها في حصن ومنعة فعاد وحاصرها وأقتلع األسوار وهدم الحصون‪ ،‬بعد ذلك اشتد غليان‬
‫البربر وقاموا بانتفاضة كبيرة ضد العرب‪ ،‬وحاولوا جمع أمرهم على الكاهنة‪ ،‬التي كانت قد تمكنت بادعاءاتها‬
‫وكهانتها من السيطرة على معظم قبائل البربر‪ ،‬وبسطت نفوذها عليهم‪ ،‬واتخذت هي وأعوانها من جبل «أوراس»‬
‫معقال ً وحصنًا‪.‬‬
‫توجه إليها حسان بجيوشه والتقى معها عند وادي "مسكيانه"‪ .‬ورغم ما تقوله النصوص التاريخية من أن الجيش‬
‫اإلسالمي كان في أعلى الوادي‪ ،‬أي في مركز استراتيجي جيد‪ ،‬وأن جموع البربر كانت في أسفله فإن القتال المرير‬
‫انتهى بهزيمة حسان هزيمة منكرة أدت إلى ضياع كل إفريقية وراتداد المسلمين إلى حدود مدينة قابس ‪ ،‬وقد تأخر‬
‫وصول المدد من الخليفة لمدة تصل إلى خمس سنوات‪ ،‬وقيل‪ :‬ثالث سنوات ‪ -‬بعد أن كتب إليه حسا ن بما جرى‪-‬‬
‫وهي مدة طويلة جعلت الكاهنة صاحبة الشأن في تصريف شئون إفريقية‪ .‬وقد عاد حسان إلى الكاهنة بعد أن وصله‬
‫المدد من الخليفة مكتسبا خبرة عالية بالمنطقة ‪ ،‬والتقى بجيشها‪ ،‬وتمكن من هزيمتها وقتلها‪ ،‬واقتحم جبال األوراس‬
‫عنوة ‪ ،33‬وكان من ثمرات هذا النصر المبين أن سارع كثير من البربر يطلبون األمان ويعلنون اإلسالم والطاعة‪،‬‬
‫وبهذا يكون حسان بن النعمان قد أتم فتح "إفريقية" و"المغرب األوسط"‪ ،‬ورأى أن عليه ‪-‬قبل أن يسترسل في إكمال‬
‫األعمال العسكرية‪ -‬أن ينظم هذه البالد الواسعة التي دانت بعد ما يقرب من ستين عاما‪ ،‬منذ أن بدأ عمرو بن العاص‬
‫فتحها سنة ‪21‬هـ‪642 /‬م؛ فقام ببعض األعمال اإلنشائية واإلدارية المهمة‪ ،‬كان لها األثر البعيد في بالد المغرب‪،‬‬
‫وتثبيت اإلسالم فيها إلى آخر الدهر ‪ ،‬ومن ذلك‪ ،‬أنه اهتم بعمران مدينة "القيروان" على نحو جعلها تتسع لجموع‬
‫العرب والمسلمين التي سكنتها حتى أصبحت المدينة جديرة بمركزها كعاصمة للبالد بدال من "قرطاجنة"‪ ،‬كما أنه‬
‫جدد مسجدها وأحسن بناءه‪ ،‬وأقام في المدينة يوجه منها شؤون البالد ويدير أحوالها‪ .‬وقد عمرها المسلمون حتى‬
‫انتشر فيها العمران‪ ،‬واتسعت رقعتها ‪ .34‬كما قام بتعمير مدينة ترشيش التي تبعد نحو ( ‪ )12‬ميال شرقى قرطاجنة‪،‬‬
‫دار ا لصناعة‬
‫لتكون ميناء عربيا إسالميا‪ ،‬بدال من «قرطاجنة» البيزنطية التي تم هدمها في المعارك‪ ،‬ثم أنشأ بها ً‬
‫السفن‪ ،‬ليكفل حماية شواطئ المغرب اإلسالمية من تطلعات البيزنطيين وغاراتهم‪ ،‬واتبع « حسان» سياسة جديدة‬
‫في إدارة شؤون هذه البالد‪ ،‬ووضع األسس التي تجعل من المغرب والية عربية؛ تعتمد على مواردها‪ ،‬دون االعتماد‬
‫على غيرها في شيء‪.‬‬

‫‪ -‬موسى بن نصير‪ :‬وقد تولى والية المغرب بعد خروج حسان (‪703 /84‬م)‪ ،‬وفي هذا الوقت كانت قد ظهرت بعض‬
‫الحركات المقاومة في البر وقنصلية‪ ،‬ولكن موسى بن نصير قضى عليها بسرعة ‪ .35‬فأخذ موسى الخارجين من‬
‫زغوان‪ ،‬ثم سجوم فكانتا آخر انتفاضات إفريقية القديمة‪ .‬وتوجه لالستيالء على الموريطانيات‪ ،‬وتمكن من ذلك‪،‬‬
‫لتخضع بالد المغرب في عهده بشكل لسيطرة العرب بعد أكثر من نصف قرن من المقاومة الشرسة‪.‬‬

‫خاتمة‪:‬‬
‫قد ال نكاد نجد عن طالئع الفتوحات العربية اإلسالمية في المغرب األقصى ووقائعها من مصادر مردها إلى العربية‬
‫سوى نزر يسير من النصوص المتأخرة وفى بعض األحيان تكون متضاربة‪ .‬لذلك ما زالت تحوم فوق تفاصيلها شكوك‬
‫كثيرة‪ ،‬ولكن ما تجمع عليه النصوص هو أن الفتح العربي للمغرب األقصى كلف زمنا طويال وجهدا بشريا وماليا‬
‫عظيما‪ ،‬وقد مر بمراحل وفترات اختلفت بحسب الظرف والحكم‪ ،‬ومنعة السلطة‪ ،‬وطموح القادة‪ ،‬ولقد كان كأي عمل‬
‫بشري يتعقبه اإلخفاق والنجاح‪ ،‬متوزعا بين الجهد العسكري والمالي والبشري‪ ،‬ولقد دفعت بالد المغرب غاليا ثمن‬

‫‪ 32‬هشام اجعيط‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪. 30 :‬‬


‫‪ 33‬ابن خلدون‪ ،‬العبر‪ ،‬ج‪ ،7‬ص‪.9 :‬‬
‫‪34‬ابن عبد الحكم‪ ،‬فتوح مصر والمغرب‪ ،‬ص‪.201:‬‬
‫‪ 35‬هشام اجعيط‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪34 :‬‬

‫‪9‬‬
‫مقاومتها إلى أن استسلمت لغالبها‪ ،‬وإذا كان التأريخ الغربي لم يهتم إال بالموت المفاجئ للحضارة الرومانية البيزنطية‪،‬‬
‫إال أن ما يبدوا لنا جديرا باالهتمام هي المقاومة الشرسة الفوضوية البطولية التي طبعت البربر وبوسائل بدائية‪.‬‬

‫‪10‬‬

You might also like