Professional Documents
Culture Documents
المحاضرة 2....
المحاضرة 2....
ارتبط اإلنسان منذ وجودِه بالولع ِبمعرفة ما حصل في الماضي وال َّتساؤُ ل بشأنِه ،فقد
الزمنُ ،ث َّم تزايد االهتِم%%ام ب%%ذلك ،وتعمَّم وانتش%%ر في
ظهر ذلك في ثقافة اليونان ردحً ا طويالً من َّ
مُختلف شعوب المعم%ورة؛ حيث يق%%ول ارون ريم%%ون « :إن الكتاب%%ة التاريخي%ة ليس%ت كتاب%%ة في
الالزمان وإنما الغاية منها الوقوف على تفاصيل الس%%يرورة ورس%%م مع%%الم التط%%ور على تنوعه%%ا
( الزمان وتداخلها وتناسبها ،واستحضار الماض%%ي بك%%ل ما اتص%%فت ب%%ه األوض%%اع السياس%%ية من
المواصفات الملموسة»...
الزمان والمكان ،وبحسب َّ
الطاقة العلميَّة ولمَّا اختلفت مستويات الخطاب التاريخي بحسب َّ
اختلفت مُستويات المعنيِّين بالخِطاب ال َّتاريخي ،الذين َيجد المؤرِّ خ نفسه
ْ للمؤرِّ خين ،فكذلك
ملزمًا ْ
بأخذِها بعين االعتبار
وهذا المؤرِّ خ محمد داود يقول « :اعلم أنَّ كتابة ال َّتاريخ ينبغي أن َتختلف باختِالف األحْ وال،
فالمؤرِّ خ ألجْ ل األغراض الخاصَّة ولل ِّدعاية ،له أن يُراعي المبدأ الذي ألَّف ألجله ،فيرفع ما
يشاء ويضع ما يريد ،ويذ ُكر ما يرضاه أو يُرضيه ،ويغفل ما ال يوافق مبدأه ومراده ،يُشيد ب ِذ ْكر
ويحط من قيمة ك ِّل ما يُخالف ذلك ،أمَّا التاريخ الحقيقي الذي يكتبُّ ما يؤيِّد ْ
رأ َيه ومذهبه،
لالعتبار ،ويسجِّ ل مختلف الحوادث واألخبار ،فينبغي أن يكون كالمرآة أو كاآللة المصورة التي
ُت ْث ِبت األشياء كما هي ،والمؤرِّ خ الصادق ،الكاتب الحر هو الذي يثبت الحوادث كما وقعت،
بأوصافِها الحقيقيَّة بدون مبالغة وال َب ْخس ،فبذلك يُعْ َرف مقام
ويصف األشخاص واألشياء ْ
المصْ لِحين ،وفضْ ل المُحْ سنين ،وكفاح العاملين ،وجهود المخلصين ،كما يعرف أيضًا جبروت
وطغيان المعتدين«. ْ الظالِمين
• لم يكن ال ّتاريخ ما َّدة دراسيَّة مستقلَّة في مدارس وجامعات أوربا ،بل كانت تدرَّ س فقط في
قصور األمراء ورجال ال َّدولة ،باعتِباره من أدوات التربية -التدريب السياسي.
ظهور ما يسمَّى بـ "فلسفة التاريخ" مع فولتير ،الذي
َ لكن بالرَّ ْغم من ذلك سجَّ لت هذه المرحلة
ُ
كنت عليه من قال" :بعْ د قراء ٍة آلالف المعارك ومئات الحروب ،لم أجد نفسي َ
أكثر حكمة مما
قبل".
-6الكتابة التاريخيَّة منذ القرن 19م إلى ظهور ما يسمَّى بـ "التاريخ الجديد":
مع حلول القرن 19م ،بفعل التحوُّ الت االقتِصاديَّة االجتماعيَّة الفكريَّة التي شه َد ْتها أوربا ،اندفع
الكثير من المؤرِّ خين وفالسفة ال َّتاريخ إلى ال َّتفكير في مفهوم ال َّتاريخ ،فظهرت تفاسير جديدة
أكثر شموليَّة ،بعدما كان محدو َد ال َّنظرة والمنهج ،كما لل َّتاريخ الذي توسَّع مفهومُه وأصبح َ
روا ُدها ظهرت مدارس واتجاهات تاريخيَّة متع ِّددة ،لع َّل أهمَّها المدرسة الوثائقيَّة ،التي َّ
تأثر َّ
بالفلسفة الوضعيَّة التي سادت أوربا خالل القرْ ن 19م ،فقد دعا روَّ اد هذه المدرسة التاريخيَّة
إلى ضرورة اعتِماد الوثيقة في كتابة التاريخ ،فالتاريخ يصنع بالوثيقة ،ال تاريخ بدون وثيقة؛
كما قال مؤرِّ خو هذه المدرسة "النجلو" و"سينوبوس".
• ومع مطلع القرْ ن العشرين ،أصبحت ْ
المدرسة الوثائقيَّة عرضة لالنتِقادات الشديدة ،من قِ َبل
جيل جدي ٍد من المؤرِّ خين ال َّشباب في فرنسا ،أمثال "لوسيان فيفر" ،و"مارك بلوخ" ،اللَّ َذيْن نفخاٍ
حيث استغلُّوا "مجلة التركيب التاريخي" la revue de ُ روحً ا جديد ًة في ال ِّدراسات التاريخيَّة،
،))synthèses historiqueفنادوا بتوسيع دائرة الدراسات التاريخيَّة؛ لتنفتح على العلوم
األخرى.
وفي هذا الصدد يقول المؤرِّ خ الفرنسي "لوسيان فيفر"" :سيُساهِم في كتابة التاريخ اللغويُّ
واألديبُ ،والجغرافيُّ والقانوني ،والطبيبُ وعالم األجناس ،والخبير بمنطق العلوم ..إلخ".
الحوليَّات مع بداية ال ِّنصْ ف األوَّ ل من القرْ ن العشرين بفرنسا ،وتأسِّي مجلَّة
-مع ظهور مدرسة ْ
الحوليَّات ( )Les Annalesسنة1929م ،أخذت الكتابة التاريخيَّة أبعا ًدا جديدة سوسيولوجيَّة،
ولسانيَّة ،وجغرافيَّة ،وديمغرافيَّة ،وتحوَّ ل ال َّتاريخ إلى دراسة ك ِّل ما له عالقة باإلنسان.
وفي هذا اإلطار سطع َنجم المؤرخ الفرنسي "فرديناند بروديل" ( ،)F.Braudelالذي يص ِّنفه
أغلب المؤرِّ خين المعاصرين رائ ًدا للكتابة ال َّتاريخية في العصْ ر الحديث؛ إذ يع ُّد واضعًا لدعائم
ال َّتاريخ الجديد ،والذي أصبح من أه ِّم سماته انتِفاء الحدود بين ال َّتاريخ ،والسوسيولوجيا،
واإلنتربولوجيا.
لت أطروحته الشهيرة ،والتي درس فيها تاريخ العالم المتوسِّطي هذا التوجُّ ه ،التي دعا • لقد َّ
مث ْ
فيها إلى َتجاوُ ز ال َّتاريخ السَّرْ دي /اإلخباري ،القائم على دراسة الوقائع السياسيَّة البسيطة في
الب َنى االقتصاديَّة واالجتماعيَّة والثقافيَّة ،وذلك في
األزمنة القصيرة ،واالنتِقال إلى دراسة تاريخ ِ
سياق المُدَ د الزمنيَّة الطويلة ()les longues durées؛ ِبهدف رصْ د مدى تفاعُل اإلنسان مع
مجاله الجغرافي.
للزمن ال َّتاريخي بين ثالثة مستويات:
وميَّز بروديل في دراسته َّ
• َّ
الزمن الجغرافي ( :)le temps géographiqueوهو زمن المدد الطويلة ،وزمن
البنيات ،يتميَّز بتغيره البطيء.
• َّ
الزمن االجتماعي ( :)le temps socialوهو زمن الظرفيات ،وزمن المدد المتوسطة،
مثل تاريخ تطور االقتصاد والمجتمع.
• الزمن الفرْ دي ( :)le temps individuelويطابق زمن الوقائع ،واألحداث السياسية؛
كالحروب والمعاهدات وح ْكم الملوك.
وخالصة القول:
فإنَّ مؤرِّ خي مدرسة الحوليَّات أحْ دثوا قطيعة ابيستمولوجيَّة مع اال ِّتجاه السابق في الكتابة
التاريخية ،فقد عملوا على َتجاوز التاريخ الحدثي ،ود َعوا إلى تاريخ إ ْشكالي يقرُّ بأهمية العوامل
التركيبيَّة في دراسة التاريخ.
لقد ساهم هذا التوجُّ ه الجديد في الدراسات التاريخيَّة في إثارة مجاالت جديدة للبحث ،كتاريخ
الذهنيات ،والطقوس اليوميَّة ،والخوف.
األشكال المختلفة لكتابة التاريخ:
-1ال َّتاريخ األصلي أو األساسي ،وتحتاج هذه الطريقة إلى (وعي فوري أو عفويَّة
وموضوعية) ،تعرف هذه الطريقة بوصْ ف ال َّتاريخ المعاش ،من خالل شهو ٍد مُباشرين ،يعيشون
في العصْ ر أو ال ِح ْقبة التي حصلت فيها األحداث (هيرودوت ،ثيوسيديد).
بقدر ذهنيَّة عقلية) ،تعرف بأ َّنها إعادة
-2التاريخ المفكر فيه ،أو (فصل األمور عن بعضها ْ
أخرى بشكل عقلي ،و َتحتاج هذه الكتابة إلى جمْع بناء الماضي من أجل محاولة ع ْيشِ ه مرَّ ة ْ
مل َّفات كبيرة للعمل عليها ،وهذا النوع الثاني من الكتابة يقسَّم بدوره لع َّدة أقسام:
أ -تاريخ بلد أو العالم بأكمله.
ب -التاريخ البراغماتي ،والهدف منه االستفادة من دروس أخالقيَّة ،واستخالص قواعد من هذا
التاريخ.
ج -ال َّتاريخ الن ْقدي ،هدفه التحقيق وال َّتفتيش حول الماضي والمل َّفات التاريخيَّة ،وفي ال َّتاريخ
اإلسالمي يستعمل ما يسمَّى ِبمنهج علم الجرْ ح وال َّتعديل (ابن خلدون نموذجً ا).
د -ال َّتاريخ الخاص ،كأن نقول كتابة تاريخ الثقافة ،الدين ...إلخ.
تطوُّ ر الكتابة التاريخيَّة في الثقافة العربية -اإلسالميَّة:
-1المعرفة التاريخيَّة قبل اإلسالم:
ال ينكر أحد أنَّ التاريخ من أه ِّم ميادين المعرفة التي اهت َّم بها العرب ،وتدارسوا وألَّفوا فيها؛ ْإذ
بدأ الوعْ ي ال َّتاريخي في ك ٍّل من وادي الرَّ افدين ،ووادي ال ِّنيل ،والعربيَّة الجنوبيَّة (بالد اليمن)،
تأخر فيهما ميالد مثل هذا الوعْ ي أو وتدمر ،واألنباط ،والمناذرة ،أمَّا منطقة نجد والحجاز ،فقد َّ
ذاك الحس ال َّتاريخي.
تأخر الوعْ ي التاريخي في منطقة الحجاز ،إلى الطبيعة الصحراوية ويرجع أغلبُ المؤرِّ خين ُّ
القاسية ،التي لم تساعد على االستقرار وقيام مجتمع متحضِّر -في نجد خاصَّة -ممَّا طبع
ال َّنشاط االقتِصادي هنا بطابع الرعْ ي ،والحياة االجتماعيَّة بطابع البداوة وال ِّترحال ،فأصبح النمط
الثقافي السَّائد في هذه البيئة شفاه ًّيا ،يقوم على "األيام" و"األنساب" ،فضالً عن القصص
التاريخي.
أنسابها؛ ح َّتى ال
ِ حرصت كل قبيلة على ِح ْفظ • األنساب :وهي نمط من المعرفة التاريخيَّة؛ ْإذ َ
غيرها من القبائل ،لكن ما يُعاب على هذا ال َّنوع عادة هو خلوُّ ه من اإلشارة إلى
تختلط بأنساب ِ
األحداث التاريخيَّة ،التي لم تكن هد ًفا لألنساب أو موضوعًا لها.
المعرفة ال َّتاريخية عند العرب قبل اإلسالم ،وتتضمَّن أخبارِ • أيَّام العرب :وهي َنمط من أ ْنماط
الحروب والمعارك التي خاض ْتها ك ُّل قبيلة ،الهدف منه هو إمتاع السامعين بمآثر أسالفهم دون
ت غزواتِها ومالحمها البحث عن الحقيقة التاريخيَّة ،وهي الوعاء الذي َتحفظ فيه القبيلة ذكريا ِ
مع القبائل األخرى ،وتأتي المفاخرة والمباهاة بأبْطالها وشجعانِها ،الذين قاتلوا ببسال ٍة في َّ
الذود
عن حِمى القبيلة.
• القصص التاريخيَّة :كانت في هذه المرْ حلة ال توظف َّ
الزمان كمح ّدد ومكوّ ن أساس في الحدث
التاريخي.
• الخبر :كان أحد علوم العرب قبل اإلسالم ،مثل األيَّام ،واألنساب ،وال ِّشعر ،فكانت للعرب
أخبار في مرحلة ما قبل اإلسالم ،ويتميَّز الخبر قبْل اإلسالم بارتِباطه بالرِّ واية الشفويَّةِ ،بمعنى
أ َّنه لم يظهر ِبمظهر كتابي إال في النقوش ،وذلك يعود إلى قلَّة ال َّتدوين وشيوع األ ِّميَّة في الحياة
العربيَّة ،واعتماد العرب على َّ
الذاكرة في ال ِح ْفظ ،ح َّتى لم تتو َّفر أليِّ شعب أو أمَّة ما كان لهم،
وما ع ُِرفوا به من قوَّ ة الذاكرة ،فالمسعودي يعرِّ ف ال َّتاريخ بأ َّنه :علم من األخبار.
المحاور
ِ َّ
استفز العقل العربي في وبقدر تعلُّق األ ْمر بالوعْ ي ال َّتاريخي ،فإنَّ القرآن الكريم قد
ْ
ت َّ
الطريق لمسيرة عِ ْلم األربعة ال َّتالية ،والتي نرى في مُجملها أ َّنها كانت المشكاة التي أضاء ِ
ال َّتاريخ العربي -اإلسْ المي:
-1فكرة المصير في القرآن الكريم ،وأثرُها في الوعي التاريخي.
-2البعد الحضاري في القُرآن الكريم ف ْكرة است ِْخالف هللا -تعالى -لإل ْنسان في األرض ،وأثره
في الوعْ ي التاريخي.
- 3أخبار األمم الماضية في القُرآن الكريم ،وأثرُها في الوعْ ي ال َّتاريخي عند العرب المُسلمين.
- 4ف ْكرة وحدة الرِّ ساالت السَّماوية في القُرآن الكريم ،وأثرها في الوعْ ي ال َّتاريخي عند العرب
المسلمين.
جاءت في القرآن الكريم هدفُها العبرة واال ِّتعاظ ،وقد حفز هذا المسلمين ْ • إنَّ القصص التي
أكثرها
َ على ال َّتساؤل عن تلك األمم ومواطنِها ،وأزمانِها وصلتها ببعضِ ها أو بالعرب؛ وألنَّ
كانت من العرب كعاد وثمود ،وأصحاب شعيب ...إلخ ،فقد كان القرآن المح ِّفز لدراسة ال َّتاريخ
العربي القديم ،إلى جانب ال َّتاريخ العا ِّم ،في حين كان الحديث النبويُّ ال َّشريف المح ِّفز لالهتِمام
ِبجمع وتدوين ال َّتاريخ اإلسالمي.
وقدوة المسلمين العُليا في الحياة، • السيرة النبويَّة نموذج مه ٌّم في الكتابة ال َّتاريخيَّة ،فهو مثال ْ
قانون ال َّدولة؛ لذا بدأ االهتِمام
َ الثاني في ال َّت ْشريع اإلسالمي الذي كان وأقوالُه وأفعالُه تع ُّد الرُّ كن َّ
مب ِّكرً ا ِبجمْ ع ك ِّل ما يتعلَّق ِبحياته فيما سمِّي بعد ذلك بـ (السيرة) ،ثم اتسع نطاق هذه الدراسة
لتشمل ما عرف بـ(المغازي) ،والتي تغطي الجوانب السياسية والعسكرية من حياته ،حيث لم
تعد الجوانب االجتماعيَّة ،مثار االهتمام لوحدها ،بل صار كفاحه وجهاده في سبيل نشر رسالته،
بما في ذلك كفاحه المسلَّح – أي :سراياه وغزواته -مثار المزيد من االهتمام.
• أمَّا عن ظهور مصطلح التاريخ في ثقافتِنا العربيَّة اإلسالمية ،فقد ُنسِ ب إلى عمر بن الخطاب
-رضي هللا عنه -وضْ ع التاريخ ،فقد ر َفع إليه أبو موسى األشعري" :أ َّنه تأتينا من قِبل أمير
المؤمنين ُك ُتب ال ندري على أيِّها يعمل ،قد قرأنا ص ًّكا محلُّه شعبان ،فما ندري أي الشعبا َنين،
الماضي أم اآلتي …" ،هذا ال َّنصُّ يشير إلى أنَّ التاريخ بمعنى الوقت.
• قد اتفق المسلمون في عهد عمر بن الخطاب -رضي هللا عنه -على اختيار سنة هجرة
ً
بداية لل َّتدوين ال َّتاريخي. الرَّ سول – صلَّى هللا عليْه وسلَّم -من م َّكة إلى المدينة
• ث َّم تطوَّ رت الكتابة ال َّتاريخيَّة عند المسلمين لت َّتخذ أبعا ًدا أخرى ،وبمنهجيَّة تقوم دراستها على
طريقتين :عمودية ،وأفقيَّة:
• ويقصد بالطريقة العمودية :هي أنَّ المؤرخ يبتدئ التاريخ منذ الخليقة ،أو منذ الميالد ،أو
ظهور اإلسالم ،حتى ينتهي بعصره ،وهي طريقة -كما نرى -لها بداية وتنتهي بنهاية ،قد
تكون عصر المؤرِّ خ ،أو يتو َّقف عند فترة قد تكون سابقة لعصره ،على أنَّ المه َّم فيها أ َّنها
طريقة تصاعدية في تناول حوادث التاريخ ،مثل المؤرِّ خ المغربي الناصري في سلسلة كتبه
التاريخيَّة "االستقصا" ،التي تناول فيها حقبة تاريخيَّة تمت ُّد من مولد الرَّ سول -صلَّى هللا عليْه
وسلَّم -إلى عهْد الحسن األوَّ ل -تاريخ الدولة العلوية بالمغرب.
المؤرخين العرب نذكر المسعودي في كتابه "مروج الذهب ومعادن الجوهر" ،والدينوري
ِّ من
في كتابه "األخبار الطوال" ،والطبري ،وابن األثير "الكامل في التاريخ".
يتوزع على المكان أكثر من ُّ
توزعه على َّ أمَّا الطريقة األفقيَّة ،فهي التي تقوم دراستها ْ
بشك ٍل
الزمان ،بعبارة أ ُ ْخرى ،هي تدرس شرائح منتخبة من الناسَّ ،
موزعة على المجتمع العربي
اإلسالمي في امتداداته العرضية في ديار اإلسالم ،خاصَّة في دراسات بعض الجغرافيين
بطوطة "تحفة النظار" ،وصاحب العرب؛ مثل ابن حوقل في كتابه "صورة األرض" ،وابن ُّ
"المسالك والممالك"؛ (المنظور الحضاري في ال َّتدوين التاريخي عند العرب ،بتصرُّ ف يسير).
وحينما نصِ ل إلى القرْ ن َّ
الثامن الهجري ،الرَّ ابع عشر الميالدي ،تكون الكتابة في ْ
علم ال َّتاريخ
بلغت ْأو َجها لدى ابن الخطيب العالمة الموسوعي ،وابن خلدون صاحب فلسفة ال َّتاريخ وعلم ْ قد
االجتِماع.
ير ِّكز ابن الخطيب على الوصْ ف الجغرافي لألماكن التي يتح َّدث عنها ،ويجعل هذا الوصف
مدخالً لبحثه التاريخي ،وهذا ما فعله في حديثِه عن غرناطة في مق ِّدمة كتابه "اإلحاطة" ،بهذا
يمكن اعتبار ابن الخطيب سبَّا ًقا إلى ْ
فكرة ضرورة انفِتاح ال َّتاريخ على العلوم األخرى ،على
غرار ما جاءت به مدرسة الحوليات في فرنسا.
مؤسس فلسفة التاريخ:
ِّ ابن خلدون
إنَّ دراسة ابن خلدون للظواهر االجتماعيَّة ،يمكن أن ترتقي بعلمه الجديد (علم العمران) ،إلى
مصافِّ الدراسات التي ت َّتصل في صميم فلسفة التاريخ ،وبال َّتالي فإنَّ ابن خلدون يمكن أن يكون
أوَّ ل فيلسوف للتاريخ ،وأوَّ ل َمن فلس َفه ،بل ويكون منشئ فلسفة ال َّتاريخ على صعيد الفكر
اإلنساني.
لقد استخدم فولتير مصطلح (فلسفة التاريخ) ،ألوَّ ل مرة في القرن الثامن عشر ،في كتابه
الموسوم (طبائع األُمم وفلسفة ال َّتاريخ) ،الذي أصْ دره سنة (1756م) ،لقد كان فولتير يعني به
دراسة التاريخ الحضاري لألمم من وجهة نظر عقليَّة ناقدة ،ثم توالت الدراسات في هذا الحقل،
وأصبحت له مقومات معيَّنة يقوم عليها هي:
-1الكليَّة :تهدف فلسفة التاريخ إلى البحث عن المعاني الكلية في أحداث التاريخ ،وتجميعها في
مختلف العصور؛ بغية الوصول إلى قوانين كلية تفسِّر لنا التاريخ اإلنساني.
-2العلِّية (العللية) :هي ا ِّتجاه فلسفة التاريخ ،تقوم على تجاوز العلل الجزئية التي يفسر بها
المؤرِّ خون الوقائع الفرديَّة المحصورة في زمان ومكان محددين ،إلى محاولة العثور على علَّة
عامة أو أكثر ،لتفسير مجمل حوادث التاريخ اإلنساني.
وبهذا فإنَّ مقوالت ال َّتاريخ تختلف عن مقوالت فلسفة التاريخ اختال ًفا جوهر ًّيا ،فأصبحت النظرة ِ
جاوزت فلسفة ال َّتاريخ مقو َل َتي َّ
الزمان والمكان إلى ما ْ الكلية بديالً عن ال َّنظرة الفرديَّة ،كما َت
وراء َّ
الزمان والمكان.
لقد تنبَّه الكثير من الباحثين -وخاصَّة في الغرب -إلى أنَّ مق ِّدمة ابن خلدون التي كتبت في
القرن الثامن الهجري ،والتي سبقت مؤلف فولتير آنف الذكر بأربعة قرون تقريبًا ،قد تضمَّنت
(فلسفة للتاريخ) ،وهذا برَّ ر إعالنهم عن أنَّ ابن خلدون يع ُّد المؤسس الحقيقي لفلسفة التاريخ ،أو
بعبارة أخرى هو رائد ومؤسس هذا النوع من الدراسة.
وبذلك سبق ابنُ خلدون علماء الغرب في هذا المضمار سب ًقا جديرً ا بال َّتقدير واإلعجاب ،واعتبر
رائد علم االجتماع ،والبحث التاريخي العلمي ،وقد علق (إيف الكوست) ،صاحب كتاب (ابن
خلدون واضع علم ومقرِّ ر استقالل) ،ص ،32ترجمة زهير فتح هللا ،بيروت ،1958على
هذه ال َّناحية بقوله" :يسته ُّل ابن خلدون مقدمته بمقطع رائع ،يشعر قرَّ اءه أ َّنه أمام نفحة ستقود
ديكارت بعد ذلك بثالثة قرون ،وليس مثال ذلك السبق بنادر بين تراث األدب العربي
(اإلسالمي) ،الذي خلفه لنا العصر الوسيط".
وتقوم عناصر المنهج ال َّتاريخي عند ابن خلدون على المالحظات الموجزة التالية:
• التاريخ علم.
• قوانين التاريخ.
• ال َّت اريخ عند ابن خلدون ظاهر( :أخبار عن األيام والدول والسوابق من القرون األولى)،
وباطن( :وهو نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها ،وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها).
• تع ُّقب أشباهها في تاريخ شعوب أخرى لم ُي َتح االحتكاك بها والحياة بين أهلها.
ْ
والبطش الذي يقوم به السلطان ض َّد شعبه ،وأثر -2يركز ابن خلدون على موضوع االس ِتبْداد
ذلك في الشعب.
-3يشرح ابن خلدون :كيف أنَّ بعض السالطين ينافسون رعيتهم في الكسب والتجارة،
ِّ
ويسخرون القوانين لخدمة مصالِحهم الخاصَّة ،وتسلطهم على أموال ال َّناس ،وإطالق يد الجند
في األموال العامَّة؛ مما يرسِّخ الشعور بالظلم ،واإلحساس بالحقد لدى الشعب.
-4يوضح ابن خلدون :أنَّ هذه العوامل الداخليَّة هي التي تؤ ِّدي إلى الخلل في أحْ وال ال َّدولة
أكثر من العوامل الخارجيَّة؛ ألنَّ المجتمع الذي يُعاني من خلل داخلي ال يستطيع مُجا َبهة عدوٍّ
خارجي.
-6استوعب ابن خلدون اإلرْ هاصات ال َّسابقة في الفكر السياسي لدى الفارابي ،والماوردي،
والغزالي ،وإخوان الصفا ،والطرطوشي ،ومسكويه ،وسواهم ،وصاغ من ك ِّل ذلك نظريَّته
الناضجة في الفكر السياسي ،وفلسفة التاريخ ،وعلم االجتماع.
-7ي َّتضح من قراءة مق ِّدمة ابن خلدون فهمُه لفلسفة التاريخ ،من خالل ثالث نقاط أساسيَّة:
األولى :أنَّ التاريخ علم ،وليس مجرَّ د سرْ د أخبار بال تدقيق وال تمحيص.
الثانية :أنَّ هذا العلم ليس منفصِ الً عن العلوم األ ُ ْخرى؛ كالسياسة واالقتِصاد ،والعمران وعلوم
َّ
الدين ،واألدب والفنِّ .
وقد طبَّق ابن خلدون هذه النظرية على كتابه "العبر" ،في سرده لألحداث ،وال َّتعليق عليْها،
و َتحليل نتائجها.
-8يرى ابن خلدون :أنَّ الظلم مُؤذنٌ ِبخراب العمران ،ويع ِّدد أ ْشكال هذا ُّ
الظلم ،من اعتِداء على
وسلب أموالِهم ،وإضْ عاف فرص معاشِ هم و َتحصيل رزقِهم، ال َّناس ،وتضْ ييق على حريَّاتهمْ ،
والعمران َي ْفسد ِبفساد العوامل التي تصنعه ،والفساد يؤ ِّدي إلى الخراب.
والهرم من األمراض المزمنة التي قد تكون َ -9إنَّ الفساد يؤ ِّدي إلى هرم ال َّدولة وشيخوختها،
ً
طارئة بفعْ ل تفاقُم الظلم والفساد والعدوان. طبيعيَّة مع عمر الدول واألفراد ،وقد تكون
-10كان ابن خلدون على ْقدر كبير من الموضوعيَّة والحياد العلمي في قراءته ألحداث التاريخ
وتفسيرها ،رغم صعوبة الحياد في عصره.