You are on page 1of 14

‫تطور الكتابة التاريخية بين منظورين‬

‫‪:‬الثقافة اإلسالمية مقابل الثقافة الغربية‬

‫ارتبط اإلنسان منذ وجودِه بالولع ِبمعرفة ما حصل في الماضي وال َّتساؤُ ل بشأنِه‪ ،‬فقد‬
‫الزمن‪ُ ،‬ث َّم تزايد االهتِم‪%%‬ام ب‪%%‬ذلك‪ ،‬وتعمَّم وانتش‪%%‬ر في‬
‫ظهر ذلك في ثقافة اليونان ردحً ا طويالً من َّ‬
‫مُختلف شعوب المعم‪%‬ورة؛ حيث يق‪%%‬ول ارون ريم‪%%‬ون‪ « :‬إن الكتاب‪%%‬ة التاريخي‪%‬ة ليس‪%‬ت كتاب‪%%‬ة في‬
‫الالزمان وإنما الغاية منها الوقوف على تفاصيل الس‪%%‬يرورة ورس‪%%‬م مع‪%%‬الم التط‪%%‬ور على تنوعه‪%%‬ا‬
‫( الزمان وتداخلها وتناسبها‪ ،‬واستحضار الماض‪%%‬ي بك‪%%‬ل ما اتص‪%%‬فت ب‪%%‬ه األوض‪%%‬اع السياس‪%%‬ية من‬
‫المواصفات الملموسة‪»...‬‬
‫الزمان والمكان‪ ،‬وبحسب َّ‬
‫الطاقة العلميَّة‬ ‫ولمَّا اختلفت مستويات الخطاب التاريخي بحسب َّ‬
‫اختلفت مُستويات المعنيِّين بالخِطاب ال َّتاريخي‪ ،‬الذين َيجد المؤرِّ خ نفسه‬
‫ْ‬ ‫للمؤرِّ خين‪ ،‬فكذلك‬
‫ملزمًا ْ‬
‫بأخذِها بعين االعتبار‬
‫وهذا المؤرِّ خ محمد داود يقول‪ « :‬اعلم أنَّ كتابة ال َّتاريخ ينبغي أن َتختلف باختِالف األحْ وال‪،‬‬
‫فالمؤرِّ خ ألجْ ل األغراض الخاصَّة ولل ِّدعاية‪ ،‬له أن يُراعي المبدأ الذي ألَّف ألجله‪ ،‬فيرفع ما‬
‫يشاء ويضع ما يريد‪ ،‬ويذ ُكر ما يرضاه أو يُرضيه‪ ،‬ويغفل ما ال يوافق مبدأه ومراده‪ ،‬يُشيد ب ِذ ْكر‬
‫ويحط من قيمة ك ِّل ما يُخالف ذلك‪ ،‬أمَّا التاريخ الحقيقي الذي يكتب‬‫ُّ‬ ‫ما يؤيِّد ْ‬
‫رأ َيه ومذهبه‪،‬‬
‫لالعتبار‪ ،‬ويسجِّ ل مختلف الحوادث واألخبار‪ ،‬فينبغي أن يكون كالمرآة أو كاآللة المصورة التي‬
‫ُت ْث ِبت األشياء كما هي‪ ،‬والمؤرِّ خ الصادق‪ ،‬الكاتب الحر هو الذي يثبت الحوادث كما وقعت‪،‬‬
‫بأوصافِها الحقيقيَّة بدون مبالغة وال َب ْخس‪ ،‬فبذلك يُعْ َرف مقام‬
‫ويصف األشخاص واألشياء ْ‬
‫المصْ لِحين‪ ،‬وفضْ ل المُحْ سنين‪ ،‬وكفاح العاملين‪ ،‬وجهود المخلصين‪ ،‬كما يعرف أيضًا جبروت‬
‫وطغيان المعتدين«‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫الظالِمين‬

‫تطور الكتابة ال َّتاريخ َّية في الثقافة الغرب َّية‪:‬‬


‫ُّ‬
‫كلمة مق َتضبة عن "كتابة‬ ‫ً‬ ‫األولى أن نسوق‬ ‫قبل البد ِء بدراسة تطوُّ ر الكتابة التاريخيَّة‪ ،‬يكون من ْ‬
‫التاريخ"‪ ،‬فالمعروف أنَّ حياة اإلنسان على هذه األرْ ض تنقسِ م إلى قسمين‪ :‬يسمَّى القسم َّ‬
‫األول‪:‬‬
‫(عصور ما قبل التاريخ)‪ ،‬ويسمَّى القسم الثاني‪( :‬العصور ال َّتاريخيَّة)‪ ،‬والح ُّد الفاصل بي َنهُما هو‬
‫اكتِشاف اإلنسان للكتابة حوالي ‪ 3500‬ق م‪ ،‬وتدوين أوجُه نشاطه‪ ،‬ممَّا سهَّل الرُّ جوع إليْها‪،‬‬
‫‪.‬واالستِفادة واالعتِبار ممَّا فيها من أخبار‬
‫‪ -1‬الكتابة التاريخيَّة في عهد اليونان‪:‬‬
‫كانت البدايات األولى لع ِْلم ال َّتاريخ عند اإلغريق‪ ،‬كانت مكبَّلة ْ‬
‫بأغالل األسطورة والخيال‪ ،‬لع َّل‬
‫أبرز مثال على ذلك ملحمتا "اإللياذة"‪ ،‬و"األوديسة" لهوميروس‪ ،‬بالرغم من خيالِها الخصْ ب إال‬
‫أنها تكشف عن تاريخية حرب طروادة‪.‬‬
‫كعلم يُعْ نى بأخبار الماضي‪ ،‬يرجعه الكثيرون إلى عهْد المؤرِّ خ اليوناني‬ ‫ٍ‬ ‫لكنَّ التاريخ‬
‫البدء بفنِّ كتابة التاريخ‪ ،‬ولقب بـ "أبي التاريخ"‪ ،‬قد استخدم كلمة‬ ‫(هيرودوت)‪ ،‬الذي ينسب إليه ْ‬
‫اليونانيَّة عنوا ًنا لك ُت ِبه التسعة‪ ،‬وهي كلمة تعني البحث واالستفسار من أجل فهم )‪(Istoria‬‬
‫وبهذا نقل هيرودوت ال َّتاريخ من عالم اآللِهة المتع ِّددة "اآللهة البولياديَّة"‬ ‫الحوادث التاريخيَّة‪ِ ،‬‬
‫إلى علم يهت ُّم ِبنشاطات الب َشر على األرض‪ ،‬وقد عمل "هيرودوت" على َتمحيصها وحسن‬
‫‪..‬اختيارها؛ لكن رغم ذلك َج َمع بين ثناياها ما َّدة خرافيَّة كثيرة‬
‫ت اليونان مؤرخين آخرين سطع نجمُهم في مجال الكتابة التاريخيَّة‪ ،‬خاصَّة‬ ‫كما أنجب ِ‬
‫وطور‬
‫َّ‬ ‫(تيوسيدس) الذي عاش في القرن الخامس ق‪.‬م‪ ،‬و َتميَّز بحسِّ ال َّن ْقد للرِّ وايات التاريخيَّة‪،‬‬
‫هذه الم َلكة عمَّا كانت عليه عند "هيرودوت"‪ ،‬خاصَّة في كتابته لتاريخ الحرب البلبونيزية بين‬
‫أثينا وإسبارطة؛ إذ استبعد األساطير والخرافات‪ ،‬والقصص المسلِّية التي كانت سائدة في‬
‫كتابات هيرودوت التاريخيَّة‪ ،‬لكن مع (أرسطو) أخذ التاريخ شك َله العلمي؛ إذ ميَّز بين الكتابة‬
‫‪.‬الشعريَّة والتاريخ‬

‫‪ - 2‬الكتابة التاريخيَّة في عهد الرومان‪:‬‬


‫فقد كانت مساهمة الرومان في مجال الكتابة ال َّتاريخية أق َّل أهميَّة ممَّا عرف ْته الفترة اليونانيَّة‪،‬‬
‫فمثالً أبرزهم المؤرخ (تاسيتوس)‪ ،‬الذي استفاد كثيرً ا من المؤرخين اليونان‪ ،‬لك َّنه وظف أغلب‬
‫كتاباته بالهجوم على الشكل اإلمبراطوري للرومان؛ إذ كان من أعضاء مجلس الشيوخ‬
‫الروماني‪ ،‬وكان من أنصار الجمهوريَّة‪.‬‬
‫‪ -3‬الكتابة ال َّتاريخيَّة في العصور الوسطى األوربيَّة‪:‬‬
‫في هذه المرحلة أصبح ك ُّل شيء في خ ِْدمة الكنيسة‪ ،‬سواء كان ذلك في الفنِّ أو األدَب أو‬
‫التاريخ؛ لذلك بات ال َّتاريخ يفسَّر بوجهة نظر دينيَّة نصرانية؛ ْإذ كان أغلب مؤرِّ خي هذه‬
‫المرحلة من رجال اإلكليروس (رجال الكنيسة) الذين تولَّوا قيادة الحركة الفكرية‪ ،‬إذ عمِل‬
‫الرهبان على كتابة المؤلَّفات التاريخيَّة لخدمة أغراضهم‪ ،‬بال َّتالي ش َّكلت هذه المرحلة عقبة أمام‬
‫تطوُّ ر منهجيَّة الكتابة التاريخيَّة؛ الفتِقادها لقواعد المنهج العلمي‪.‬‬
‫من أه ِّم مؤرِّ خي هذه المرحلة‪" :‬أوغسطين" المعلم األوَّ ل للكنيسة الكاثوليكيَّة‪ ،‬الذي قسَّم تاريخ‬
‫العالم إلى س َّتة عصور‪ ،‬قياسًا على األيَّام الس َّتة التي خلق هللا العالم فيها‪ ،‬وخصَّص يوم السبت‬
‫للرَّ احة!‬
‫‪ - 4‬الكتابة التاريخيَّة في عصر النهضة األوربيَّة‪:‬‬
‫تميَّزت هذه ببعث تراث الحضارة اليونانيَّة والرومانيَّة‪ ،‬سمِّيت هذه المرحلة أيضًا بالحركة‬
‫اإلنسية (‪)Humanisme‬؛ ممَّا يعني أنَّ حركة اإلحياء هذه لم ت ُك ِن الرجوع إلى اآلداب‬
‫الكالسيكيَّة‪ ،‬ولك َّنها أعادت االعتبار لإلنسان‪.‬‬
‫تطور ال ِّدراسات التاريخيَّة الغربيَّة‪،‬‬ ‫كما أنَّ ظهور علم االجتماع في أوربا قد َّأثر ْ‬
‫بدو ِره في ُّ‬
‫ظهور حركات اجتماعيَّة اقتصاديَّة وفكريَّة أغنت علم التاريخ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫كما سجلت المرحلة‬
‫قامت مُناقشا ُته ال َّتاريخيَّة‬
‫ْ‬ ‫ش َّكل كتاب "األمير" لمكيافيللي منهجً ا جدي ًدا في الكتابة التاريخيَّة؛ ْإذ‬
‫على أدلَّة‪ ،‬وليس بنا ًء على تصوُّ رات قبليَّة‪ ،‬فجمع في الكتاب تحليالً واقع ًّيا لل َّتاريخ في عالقته‬
‫مع السياسة والدبلوماسيَّة في إيطاليا ‪ -‬القرن السَّادس عشر‪.‬‬
‫‪ - 5‬الكتابة التاريخيَّة في عصر األنوار‪:‬‬
‫سجَّ لت هذه المرحلة أيضًا هجومًا كاسحً ا على مناهج الكتابة الالهوتيَّة للعصور الوسطى‪ ،‬لكن‬
‫بالرَّ ْغم من تق ُّدم مؤرِّ خي القرن ‪ 18‬م نحو ال َّتاريخ َّ‬
‫الثقافي واالجتِماعي اعتر ْته ‪ -‬على حد تعبير‬
‫‪ Arthur Marwich‬في كتابه "طبيعة التاريخ" ‪ -‬ثالثة عيوب‪:‬‬
‫• عدم إدراك المؤرخين لحقيقة التطوُّ ر والتغير اإلنساني‪.‬‬

‫• الحرص على َجمع الوثائق واألدلّة‪ ،‬ونادرً ا ما يت ُّم تحليلها‪.‬‬

‫• لم يكن ال ّتاريخ ما َّدة دراسيَّة مستقلَّة في مدارس وجامعات أوربا‪ ،‬بل كانت تدرَّ س فقط في‬
‫قصور األمراء ورجال ال َّدولة‪ ،‬باعتِباره من أدوات التربية ‪ -‬التدريب السياسي‪.‬‬
‫ظهور ما يسمَّى بـ "فلسفة التاريخ" مع فولتير‪ ،‬الذي‬
‫َ‬ ‫لكن بالرَّ ْغم من ذلك سجَّ لت هذه المرحلة‬
‫ُ‬
‫كنت عليه من‬ ‫قال‪" :‬بعْ د قراء ٍة آلالف المعارك ومئات الحروب‪ ،‬لم أجد نفسي َ‬
‫أكثر حكمة مما‬
‫قبل"‪.‬‬
‫‪ -6‬الكتابة التاريخيَّة منذ القرن ‪19‬م إلى ظهور ما يسمَّى بـ "التاريخ الجديد"‪:‬‬
‫مع حلول القرن ‪19‬م‪ ،‬بفعل التحوُّ الت االقتِصاديَّة االجتماعيَّة الفكريَّة التي شه َد ْتها أوربا‪ ،‬اندفع‬
‫الكثير من المؤرِّ خين وفالسفة ال َّتاريخ إلى ال َّتفكير في مفهوم ال َّتاريخ‪ ،‬فظهرت تفاسير جديدة‬
‫أكثر شموليَّة‪ ،‬بعدما كان محدو َد ال َّنظرة والمنهج‪ ،‬كما‬ ‫لل َّتاريخ الذي توسَّع مفهومُه وأصبح َ‬
‫روا ُدها‬ ‫ظهرت مدارس واتجاهات تاريخيَّة متع ِّددة‪ ،‬لع َّل أهمَّها المدرسة الوثائقيَّة‪ ،‬التي َّ‬
‫تأثر َّ‬
‫بالفلسفة الوضعيَّة التي سادت أوربا خالل القرْ ن ‪19‬م‪ ،‬فقد دعا روَّ اد هذه المدرسة التاريخيَّة‬
‫إلى ضرورة اعتِماد الوثيقة في كتابة التاريخ‪ ،‬فالتاريخ يصنع بالوثيقة‪ ،‬ال تاريخ بدون وثيقة؛‬
‫كما قال مؤرِّ خو هذه المدرسة "النجلو" و"سينوبوس"‪.‬‬
‫• ومع مطلع القرْ ن العشرين‪ ،‬أصبحت ْ‬
‫المدرسة الوثائقيَّة عرضة لالنتِقادات الشديدة‪ ،‬من قِ َبل‬
‫جيل جدي ٍد من المؤرِّ خين ال َّشباب في فرنسا‪ ،‬أمثال "لوسيان فيفر"‪ ،‬و"مارك بلوخ"‪ ،‬اللَّ َذيْن نفخا‬‫ٍ‬
‫حيث استغلُّوا "مجلة التركيب التاريخي" ‪la revue de‬‬ ‫ُ‬ ‫روحً ا جديد ًة في ال ِّدراسات التاريخيَّة‪،‬‬
‫‪ ،))synthèses historique‬فنادوا بتوسيع دائرة الدراسات التاريخيَّة؛ لتنفتح على العلوم‬
‫األخرى‪.‬‬
‫وفي هذا الصدد يقول المؤرِّ خ الفرنسي "لوسيان فيفر"‪" :‬سيُساهِم في كتابة التاريخ اللغويُّ‬
‫واألديبُ ‪ ،‬والجغرافيُّ والقانوني‪ ،‬والطبيبُ وعالم األجناس‪ ،‬والخبير بمنطق العلوم ‪ ..‬إلخ"‪.‬‬
‫الحوليَّات مع بداية ال ِّنصْ ف األوَّ ل من القرْ ن العشرين بفرنسا‪ ،‬وتأسِّي مجلَّة‬
‫‪ -‬مع ظهور مدرسة ْ‬
‫الحوليَّات (‪ )Les Annales‬سنة‪1929‬م‪ ،‬أخذت الكتابة التاريخيَّة أبعا ًدا جديدة سوسيولوجيَّة‪،‬‬
‫ولسانيَّة‪ ،‬وجغرافيَّة‪ ،‬وديمغرافيَّة‪ ،‬وتحوَّ ل ال َّتاريخ إلى دراسة ك ِّل ما له عالقة باإلنسان‪.‬‬
‫وفي هذا اإلطار سطع َنجم المؤرخ الفرنسي "فرديناند بروديل" (‪ ،)F.Braudel‬الذي يص ِّنفه‬
‫أغلب المؤرِّ خين المعاصرين رائ ًدا للكتابة ال َّتاريخية في العصْ ر الحديث؛ إذ يع ُّد واضعًا لدعائم‬
‫ال َّتاريخ الجديد‪ ،‬والذي أصبح من أه ِّم سماته انتِفاء الحدود بين ال َّتاريخ‪ ،‬والسوسيولوجيا‪،‬‬
‫واإلنتربولوجيا‪.‬‬
‫لت أطروحته الشهيرة‪ ،‬والتي درس فيها تاريخ العالم المتوسِّطي هذا التوجُّ ه‪ ،‬التي دعا‬ ‫• لقد َّ‬
‫مث ْ‬
‫فيها إلى َتجاوُ ز ال َّتاريخ السَّرْ دي‪ /‬اإلخباري‪ ،‬القائم على دراسة الوقائع السياسيَّة البسيطة في‬
‫الب َنى االقتصاديَّة واالجتماعيَّة والثقافيَّة‪ ،‬وذلك في‬
‫األزمنة القصيرة‪ ،‬واالنتِقال إلى دراسة تاريخ ِ‬
‫سياق المُدَ د الزمنيَّة الطويلة (‪)les longues durées‬؛ ِبهدف رصْ د مدى تفاعُل اإلنسان مع‬
‫مجاله الجغرافي‪.‬‬
‫للزمن ال َّتاريخي بين ثالثة مستويات‪:‬‬
‫وميَّز بروديل في دراسته َّ‬
‫• َّ‬
‫الزمن الجغرافي (‪ :)le temps géographique‬وهو زمن المدد الطويلة‪ ،‬وزمن‬
‫البنيات‪ ،‬يتميَّز بتغيره البطيء‪.‬‬
‫• َّ‬
‫الزمن االجتماعي (‪ :)le temps social‬وهو زمن الظرفيات‪ ،‬وزمن المدد المتوسطة‪،‬‬
‫مثل تاريخ تطور االقتصاد والمجتمع‪.‬‬
‫• الزمن الفرْ دي (‪ :)le temps individuel‬ويطابق زمن الوقائع‪ ،‬واألحداث السياسية؛‬
‫كالحروب والمعاهدات وح ْكم الملوك‪.‬‬
‫وخالصة القول‪:‬‬
‫فإنَّ مؤرِّ خي مدرسة الحوليَّات أحْ دثوا قطيعة ابيستمولوجيَّة مع اال ِّتجاه السابق في الكتابة‬
‫التاريخية‪ ،‬فقد عملوا على َتجاوز التاريخ الحدثي‪ ،‬ود َعوا إلى تاريخ إ ْشكالي يقرُّ بأهمية العوامل‬
‫التركيبيَّة في دراسة التاريخ‪.‬‬
‫لقد ساهم هذا التوجُّ ه الجديد في الدراسات التاريخيَّة في إثارة مجاالت جديدة للبحث‪ ،‬كتاريخ‬
‫الذهنيات‪ ،‬والطقوس اليوميَّة‪ ،‬والخوف‪.‬‬
‫األشكال المختلفة لكتابة التاريخ‪:‬‬
‫‪ -1‬ال َّتاريخ األصلي أو األساسي‪ ،‬وتحتاج هذه الطريقة إلى (وعي فوري أو عفويَّة‬
‫وموضوعية)‪ ،‬تعرف هذه الطريقة بوصْ ف ال َّتاريخ المعاش‪ ،‬من خالل شهو ٍد مُباشرين‪ ،‬يعيشون‬
‫في العصْ ر أو ال ِح ْقبة التي حصلت فيها األحداث (هيرودوت‪ ،‬ثيوسيديد)‪.‬‬
‫بقدر ذهنيَّة عقلية)‪ ،‬تعرف بأ َّنها إعادة‬
‫‪ -2‬التاريخ المفكر فيه‪ ،‬أو (فصل األمور عن بعضها ْ‬
‫أخرى بشكل عقلي‪ ،‬و َتحتاج هذه الكتابة إلى جمْع‬ ‫بناء الماضي من أجل محاولة ع ْيشِ ه مرَّ ة ْ‬
‫مل َّفات كبيرة للعمل عليها‪ ،‬وهذا النوع الثاني من الكتابة يقسَّم بدوره لع َّدة أقسام‪:‬‬
‫أ‪ -‬تاريخ بلد أو العالم بأكمله‪.‬‬
‫ب‪ -‬التاريخ البراغماتي‪ ،‬والهدف منه االستفادة من دروس أخالقيَّة‪ ،‬واستخالص قواعد من هذا‬
‫التاريخ‪.‬‬
‫ج‪ -‬ال َّتاريخ الن ْقدي‪ ،‬هدفه التحقيق وال َّتفتيش حول الماضي والمل َّفات التاريخيَّة‪ ،‬وفي ال َّتاريخ‬
‫اإلسالمي يستعمل ما يسمَّى ِبمنهج علم الجرْ ح وال َّتعديل (ابن خلدون نموذجً ا)‪.‬‬
‫د‪ -‬ال َّتاريخ الخاص‪ ،‬كأن نقول كتابة تاريخ الثقافة‪ ،‬الدين‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫تطوُّ ر الكتابة التاريخيَّة في الثقافة العربية ‪ -‬اإلسالميَّة‪:‬‬
‫‪ -1‬المعرفة التاريخيَّة قبل اإلسالم‪:‬‬
‫ال ينكر أحد أنَّ التاريخ من أه ِّم ميادين المعرفة التي اهت َّم بها العرب‪ ،‬وتدارسوا وألَّفوا فيها؛ ْإذ‬
‫بدأ الوعْ ي ال َّتاريخي في ك ٍّل من وادي الرَّ افدين‪ ،‬ووادي ال ِّنيل‪ ،‬والعربيَّة الجنوبيَّة (بالد اليمن)‪،‬‬
‫تأخر فيهما ميالد مثل هذا الوعْ ي أو‬ ‫وتدمر‪ ،‬واألنباط‪ ،‬والمناذرة‪ ،‬أمَّا منطقة نجد والحجاز‪ ،‬فقد َّ‬
‫ذاك الحس ال َّتاريخي‪.‬‬
‫تأخر الوعْ ي التاريخي في منطقة الحجاز‪ ،‬إلى الطبيعة الصحراوية‬ ‫ويرجع أغلبُ المؤرِّ خين ُّ‬
‫القاسية‪ ،‬التي لم تساعد على االستقرار وقيام مجتمع متحضِّر ‪ -‬في نجد خاصَّة ‪ -‬ممَّا طبع‬
‫ال َّنشاط االقتِصادي هنا بطابع الرعْ ي‪ ،‬والحياة االجتماعيَّة بطابع البداوة وال ِّترحال‪ ،‬فأصبح النمط‬
‫الثقافي السَّائد في هذه البيئة شفاه ًّيا‪ ،‬يقوم على "األيام" و"األنساب"‪ ،‬فضالً عن القصص‬
‫التاريخي‪.‬‬
‫أنسابها؛ ح َّتى ال‬
‫ِ‬ ‫حرصت كل قبيلة على ِح ْفظ‬ ‫• األنساب‪ :‬وهي نمط من المعرفة التاريخيَّة؛ ْإذ َ‬
‫غيرها من القبائل‪ ،‬لكن ما يُعاب على هذا ال َّنوع عادة هو خلوُّ ه من اإلشارة إلى‬
‫تختلط بأنساب ِ‬
‫األحداث التاريخيَّة‪ ،‬التي لم تكن هد ًفا لألنساب أو موضوعًا لها‪.‬‬

‫المعرفة ال َّتاريخية عند العرب قبل اإلسالم‪ ،‬وتتضمَّن أخبار‬‫ِ‬ ‫• أيَّام العرب‪ :‬وهي َنمط من أ ْنماط‬
‫الحروب والمعارك التي خاض ْتها ك ُّل قبيلة‪ ،‬الهدف منه هو إمتاع السامعين بمآثر أسالفهم دون‬
‫ت غزواتِها ومالحمها‬ ‫البحث عن الحقيقة التاريخيَّة‪ ،‬وهي الوعاء الذي َتحفظ فيه القبيلة ذكريا ِ‬
‫مع القبائل األخرى‪ ،‬وتأتي المفاخرة والمباهاة بأبْطالها وشجعانِها‪ ،‬الذين قاتلوا ببسال ٍة في َّ‬
‫الذود‬
‫عن حِمى القبيلة‪.‬‬
‫• القصص التاريخيَّة‪ :‬كانت في هذه المرْ حلة ال توظف َّ‬
‫الزمان كمح ّدد ومكوّ ن أساس في الحدث‬
‫التاريخي‪.‬‬

‫• الخبر‪ :‬كان أحد علوم العرب قبل اإلسالم‪ ،‬مثل األيَّام‪ ،‬واألنساب‪ ،‬وال ِّشعر‪ ،‬فكانت للعرب‬
‫أخبار في مرحلة ما قبل اإلسالم‪ ،‬ويتميَّز الخبر قبْل اإلسالم بارتِباطه بالرِّ واية الشفويَّة‪ِ ،‬بمعنى‬
‫أ َّنه لم يظهر ِبمظهر كتابي إال في النقوش‪ ،‬وذلك يعود إلى قلَّة ال َّتدوين وشيوع األ ِّميَّة في الحياة‬
‫العربيَّة‪ ،‬واعتماد العرب على َّ‬
‫الذاكرة في ال ِح ْفظ‪ ،‬ح َّتى لم تتو َّفر أليِّ شعب أو أمَّة ما كان لهم‪،‬‬
‫وما ع ُِرفوا به من قوَّ ة الذاكرة‪ ،‬فالمسعودي يعرِّ ف ال َّتاريخ بأ َّنه‪ :‬علم من األخبار‪.‬‬

‫‪ - 2‬المعرفة التاريخيَّة مع اإلسالم‪:‬‬


‫تفكيرهم‪،‬‬
‫ِ‬ ‫إنَّ ظهور اإلسالم يع ُّد منعط ًفا خطيرً ا في حياة العرب‪ ،‬فقد غيَّر مسار حياتِهم وأسُس‬
‫واستبْدل عقائدَهم المنحرفة الضَّالَّة بعقيد ٍة واضحة‪َّ ،‬‬
‫فكون بذلك القاعد َة الفكريَّة الالزمة لتوحُّ دهم‬
‫ُ‬
‫التبعثر وال َّشتات التي كانوا يعيشو َنها في ظ ِّل القبليَّة‪ ،‬وما فرضته طبيع ُتها عليْهم من‬ ‫بعد حياة‬
‫مخاصمات وحروب ودماء‪.‬‬

‫المحاور‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫استفز العقل العربي في‬ ‫وبقدر تعلُّق األ ْمر بالوعْ ي ال َّتاريخي‪ ،‬فإنَّ القرآن الكريم قد‬
‫ْ‬
‫ت َّ‬
‫الطريق لمسيرة عِ ْلم‬ ‫األربعة ال َّتالية‪ ،‬والتي نرى في مُجملها أ َّنها كانت المشكاة التي أضاء ِ‬
‫ال َّتاريخ العربي ‪ -‬اإلسْ المي‪:‬‬
‫‪ -1‬فكرة المصير في القرآن الكريم‪ ،‬وأثرُها في الوعي التاريخي‪.‬‬

‫‪ -2‬البعد الحضاري في القُرآن الكريم ف ْكرة است ِْخالف هللا ‪ -‬تعالى ‪ -‬لإل ْنسان في األرض‪ ،‬وأثره‬
‫في الوعْ ي التاريخي‪.‬‬
‫‪ - 3‬أخبار األمم الماضية في القُرآن الكريم‪ ،‬وأثرُها في الوعْ ي ال َّتاريخي عند العرب المُسلمين‪.‬‬
‫‪ - 4‬ف ْكرة وحدة الرِّ ساالت السَّماوية في القُرآن الكريم‪ ،‬وأثرها في الوعْ ي ال َّتاريخي عند العرب‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫جاءت في القرآن الكريم هدفُها العبرة واال ِّتعاظ‪ ،‬وقد حفز هذا المسلمين‬ ‫ْ‬ ‫• إنَّ القصص التي‬
‫أكثرها‬
‫َ‬ ‫على ال َّتساؤل عن تلك األمم ومواطنِها‪ ،‬وأزمانِها وصلتها ببعضِ ها أو بالعرب؛ وألنَّ‬
‫كانت من العرب كعاد وثمود‪ ،‬وأصحاب شعيب‪ ...‬إلخ‪ ،‬فقد كان القرآن المح ِّفز لدراسة ال َّتاريخ‬
‫العربي القديم‪ ،‬إلى جانب ال َّتاريخ العا ِّم‪ ،‬في حين كان الحديث النبويُّ ال َّشريف المح ِّفز لالهتِمام‬
‫ِبجمع وتدوين ال َّتاريخ اإلسالمي‪.‬‬

‫وقدوة المسلمين العُليا في الحياة‪،‬‬ ‫• السيرة النبويَّة نموذج مه ٌّم في الكتابة ال َّتاريخيَّة‪ ،‬فهو مثال ْ‬
‫قانون ال َّدولة؛ لذا بدأ االهتِمام‬
‫َ‬ ‫الثاني في ال َّت ْشريع اإلسالمي الذي كان‬ ‫وأقوالُه وأفعالُه تع ُّد الرُّ كن َّ‬
‫مب ِّكرً ا ِبجمْ ع ك ِّل ما يتعلَّق ِبحياته فيما سمِّي بعد ذلك بـ (السيرة)‪ ،‬ثم اتسع نطاق هذه الدراسة‬
‫لتشمل ما عرف بـ(المغازي)‪ ،‬والتي تغطي الجوانب السياسية والعسكرية من حياته‪ ،‬حيث لم‬
‫تعد الجوانب االجتماعيَّة‪ ،‬مثار االهتمام لوحدها‪ ،‬بل صار كفاحه وجهاده في سبيل نشر رسالته‪،‬‬
‫بما في ذلك كفاحه المسلَّح – أي‪ :‬سراياه وغزواته ‪ -‬مثار المزيد من االهتمام‪.‬‬

‫• أمَّا عن ظهور مصطلح التاريخ في ثقافتِنا العربيَّة اإلسالمية‪ ،‬فقد ُنسِ ب إلى عمر بن الخطاب‬
‫‪ -‬رضي هللا عنه ‪ -‬وضْ ع التاريخ‪ ،‬فقد ر َفع إليه أبو موسى األشعري‪" :‬أ َّنه تأتينا من قِبل أمير‬
‫المؤمنين ُك ُتب ال ندري على أيِّها يعمل‪ ،‬قد قرأنا ص ًّكا محلُّه شعبان‪ ،‬فما ندري أي الشعبا َنين‪،‬‬
‫الماضي أم اآلتي …"‪ ،‬هذا ال َّنصُّ يشير إلى أنَّ التاريخ بمعنى الوقت‪.‬‬
‫• قد اتفق المسلمون في عهد عمر بن الخطاب ‪ -‬رضي هللا عنه ‪ -‬على اختيار سنة هجرة‬
‫ً‬
‫بداية لل َّتدوين ال َّتاريخي‪.‬‬ ‫الرَّ سول – صلَّى هللا عليْه وسلَّم ‪ -‬من م َّكة إلى المدينة‬

‫• ث َّم تطوَّ رت الكتابة ال َّتاريخيَّة عند المسلمين لت َّتخذ أبعا ًدا أخرى‪ ،‬وبمنهجيَّة تقوم دراستها على‬
‫طريقتين‪ :‬عمودية‪ ،‬وأفقيَّة‪:‬‬
‫• ويقصد بالطريقة العمودية‪ :‬هي أنَّ المؤرخ يبتدئ التاريخ منذ الخليقة‪ ،‬أو منذ الميالد‪ ،‬أو‬
‫ظهور اإلسالم‪ ،‬حتى ينتهي بعصره‪ ،‬وهي طريقة ‪ -‬كما نرى ‪ -‬لها بداية وتنتهي بنهاية‪ ،‬قد‬
‫تكون عصر المؤرِّ خ‪ ،‬أو يتو َّقف عند فترة قد تكون سابقة لعصره‪ ،‬على أنَّ المه َّم فيها أ َّنها‬
‫طريقة تصاعدية في تناول حوادث التاريخ‪ ،‬مثل المؤرِّ خ المغربي الناصري في سلسلة كتبه‬
‫التاريخيَّة "االستقصا"‪ ،‬التي تناول فيها حقبة تاريخيَّة تمت ُّد من مولد الرَّ سول ‪ -‬صلَّى هللا عليْه‬
‫وسلَّم ‪ -‬إلى عهْد الحسن األوَّ ل ‪ -‬تاريخ الدولة العلوية بالمغرب‪.‬‬
‫المؤرخين العرب نذكر المسعودي في كتابه "مروج الذهب ومعادن الجوهر"‪ ،‬والدينوري‬
‫ِّ‬ ‫من‬
‫في كتابه "األخبار الطوال"‪ ،‬والطبري‪ ،‬وابن األثير "الكامل في التاريخ"‪.‬‬
‫يتوزع على المكان أكثر من ُّ‬
‫توزعه على‬ ‫َّ‬ ‫أمَّا الطريقة األفقيَّة‪ ،‬فهي التي تقوم دراستها ْ‬
‫بشك ٍل‬
‫الزمان‪ ،‬بعبارة أ ُ ْخرى‪ ،‬هي تدرس شرائح منتخبة من الناس‪َّ ،‬‬
‫موزعة على المجتمع العربي‬
‫اإلسالمي في امتداداته العرضية في ديار اإلسالم‪ ،‬خاصَّة في دراسات بعض الجغرافيين‬
‫بطوطة "تحفة النظار"‪ ،‬وصاحب‬ ‫العرب؛ مثل ابن حوقل في كتابه "صورة األرض"‪ ،‬وابن ُّ‬
‫"المسالك والممالك"؛ (المنظور الحضاري في ال َّتدوين التاريخي عند العرب‪ ،‬بتصرُّ ف يسير)‪.‬‬
‫وحينما نصِ ل إلى القرْ ن َّ‬
‫الثامن الهجري‪ ،‬الرَّ ابع عشر الميالدي‪ ،‬تكون الكتابة في ْ‬
‫علم ال َّتاريخ‬
‫بلغت ْأو َجها لدى ابن الخطيب العالمة الموسوعي‪ ،‬وابن خلدون صاحب فلسفة ال َّتاريخ وعلم‬ ‫ْ‬ ‫قد‬
‫االجتِماع‪.‬‬

‫ابن الخطيب وتطوير منهج َّية الكتابة ال َّتاريخ َّية‪:‬‬


‫ال َّتاريخ لدى ابن الخطيب ليس مجرَّ د ن ْقل لألحْ داث السياسيَّة وس َير الملوك والسَّالطين‪ ،‬بل هو‬
‫تصوير للحياة االجتماعيَّة واالقتصاديَّة والعمرانيَّة بما تشمله هذه الحياة من ُرقِيٍّ وازدِهار‪ ،‬أو‬
‫تخلُّف وتدهْ ور‪ ،‬وهو في ذلك يُتابع ال َّتفاصيل الدقيقة للموضوع الذي يتح َّدث عنه‪.‬‬

‫ير ِّكز ابن الخطيب على الوصْ ف الجغرافي لألماكن التي يتح َّدث عنها‪ ،‬ويجعل هذا الوصف‬
‫مدخالً لبحثه التاريخي‪ ،‬وهذا ما فعله في حديثِه عن غرناطة في مق ِّدمة كتابه "اإلحاطة"‪ ،‬بهذا‬
‫يمكن اعتبار ابن الخطيب سبَّا ًقا إلى ْ‬
‫فكرة ضرورة انفِتاح ال َّتاريخ على العلوم األخرى‪ ،‬على‬
‫غرار ما جاءت به مدرسة الحوليات في فرنسا‪.‬‬
‫مؤسس فلسفة التاريخ‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫ابن خلدون‬
‫إنَّ دراسة ابن خلدون للظواهر االجتماعيَّة‪ ،‬يمكن أن ترتقي بعلمه الجديد (علم العمران)‪ ،‬إلى‬
‫مصافِّ الدراسات التي ت َّتصل في صميم فلسفة التاريخ‪ ،‬وبال َّتالي فإنَّ ابن خلدون يمكن أن يكون‬
‫أوَّ ل فيلسوف للتاريخ‪ ،‬وأوَّ ل َمن فلس َفه‪ ،‬بل ويكون منشئ فلسفة ال َّتاريخ على صعيد الفكر‬
‫اإلنساني‪.‬‬

‫لقد استخدم فولتير مصطلح (فلسفة التاريخ)‪ ،‬ألوَّ ل مرة في القرن الثامن عشر‪ ،‬في كتابه‬
‫الموسوم (طبائع األُمم وفلسفة ال َّتاريخ)‪ ،‬الذي أصْ دره سنة (‪1756‬م)‪ ،‬لقد كان فولتير يعني به‬
‫دراسة التاريخ الحضاري لألمم من وجهة نظر عقليَّة ناقدة‪ ،‬ثم توالت الدراسات في هذا الحقل‪،‬‬
‫وأصبحت له مقومات معيَّنة يقوم عليها هي‪:‬‬
‫‪ -1‬الكليَّة‪ :‬تهدف فلسفة التاريخ إلى البحث عن المعاني الكلية في أحداث التاريخ‪ ،‬وتجميعها في‬
‫مختلف العصور؛ بغية الوصول إلى قوانين كلية تفسِّر لنا التاريخ اإلنساني‪.‬‬

‫‪ -2‬العلِّية (العللية)‪ :‬هي ا ِّتجاه فلسفة التاريخ‪ ،‬تقوم على تجاوز العلل الجزئية التي يفسر بها‬
‫المؤرِّ خون الوقائع الفرديَّة المحصورة في زمان ومكان محددين‪ ،‬إلى محاولة العثور على علَّة‬
‫عامة أو أكثر‪ ،‬لتفسير مجمل حوادث التاريخ اإلنساني‪.‬‬

‫وبهذا فإنَّ مقوالت ال َّتاريخ تختلف عن مقوالت فلسفة التاريخ اختال ًفا جوهر ًّيا‪ ،‬فأصبحت النظرة‬ ‫ِ‬
‫جاوزت فلسفة ال َّتاريخ مقو َل َتي َّ‬
‫الزمان والمكان إلى ما‬ ‫ْ‬ ‫الكلية بديالً عن ال َّنظرة الفرديَّة‪ ،‬كما َت‬
‫وراء َّ‬
‫الزمان والمكان‪.‬‬

‫لقد تنبَّه الكثير من الباحثين ‪ -‬وخاصَّة في الغرب ‪ -‬إلى أنَّ مق ِّدمة ابن خلدون التي كتبت في‬
‫القرن الثامن الهجري‪ ،‬والتي سبقت مؤلف فولتير آنف الذكر بأربعة قرون تقريبًا‪ ،‬قد تضمَّنت‬
‫(فلسفة للتاريخ)‪ ،‬وهذا برَّ ر إعالنهم عن أنَّ ابن خلدون يع ُّد المؤسس الحقيقي لفلسفة التاريخ‪ ،‬أو‬
‫بعبارة أخرى هو رائد ومؤسس هذا النوع من الدراسة‪.‬‬
‫وبذلك سبق ابنُ خلدون علماء الغرب في هذا المضمار سب ًقا جديرً ا بال َّتقدير واإلعجاب‪ ،‬واعتبر‬
‫رائد علم االجتماع‪ ،‬والبحث التاريخي العلمي‪ ،‬وقد علق (إيف الكوست)‪ ،‬صاحب كتاب (ابن‬
‫خلدون واضع علم ومقرِّ ر استقالل)‪ ،‬ص ‪ ،32‬ترجمة زهير فتح هللا‪ ،‬بيروت ‪ ،1958‬على‬
‫هذه ال َّناحية بقوله‪" :‬يسته ُّل ابن خلدون مقدمته بمقطع رائع‪ ،‬يشعر قرَّ اءه أ َّنه أمام نفحة ستقود‬
‫ديكارت بعد ذلك بثالثة قرون‪ ،‬وليس مثال ذلك السبق بنادر بين تراث األدب العربي‬
‫(اإلسالمي)‪ ،‬الذي خلفه لنا العصر الوسيط"‪.‬‬

‫وتقوم عناصر المنهج ال َّتاريخي عند ابن خلدون على المالحظات الموجزة التالية‪:‬‬
‫• التاريخ علم‪.‬‬

‫• محتويات التاريخ والفكرة عنها‪.‬‬

‫• العناصر التي تجتمع لصنع التاريخ البشري‪.‬‬

‫• قوانين التاريخ‪.‬‬

‫• التاريخ علم فلسفي عند ابن خلدون‪.‬‬

‫• ال َّت اريخ عند ابن خلدون ظاهر‪( :‬أخبار عن األيام والدول والسوابق من القرون األولى)‪،‬‬
‫وباطن‪( :‬وهو نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها‪ ،‬وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها)‪.‬‬

‫• ابن خلدون يدحض األساطير‪.‬‬


‫• ابن خلدون يضع القواعد الالزمة لمقارنة الحقيقة‪.‬‬

‫النقد ال َّتاريخي عند ابن خلدون يبدو في‪:‬‬


‫• تب ُّدل األحوال بتب ُّدل األيَّام‪.‬‬
‫• وحدة النفسيَّة االجتماعيَّة‪.‬‬
‫• ظروف األقاليم الجغرافية‪.‬‬
‫• ال َّتاريخ الحضاري البشري‪.‬‬

‫أمَّا منهج البحث التاريخي عند ابن خلدون فيعتمد على‪:‬‬


‫• مالحظة ظواهر االجتماع لدى الشعوب التي أتيح له االحتِكاك بها والحياة بين أهلها‪.‬‬

‫• تع ُّقب هذه الظواهر في تاريخ الشعوب نفسها في العصور السابقة لعصره‪.‬‬

‫• تع ُّقب أشباهها في تاريخ شعوب أخرى لم ُي َتح االحتكاك بها والحياة بين أهلها‪.‬‬

‫• الموازنة بين هذه الظواهر جميعًا‪.‬‬

‫الظواهر‪ ،‬للوقوف على طبائعِها‪ ،‬وعناصرها َّ‬


‫الذاتيَّة‪ ،‬وصفاتِها العرضيَّة‪،‬‬ ‫• ال َّتأمُّل في مختلف َّ‬
‫واستخالص قانون تخضع له هذه َّ‬
‫الظواهر في الفكر السياسي‪ ،‬وفلسفة ال َّتاريخ‪ ،‬وعلم االجتماع‪.‬‬
‫ويرى ابن خلدون في مق ِّدمته‪:‬‬
‫‪ -1‬إنَّ دراسة ال َّتاريخ ضروريَّة لمعرفة أحوال األمم‪ ،‬وتطور هذه األحوال بفعل العوامل‬
‫السياسيَّة واالقتصاديَّة واالجتماعيَّة‪.‬‬

‫ْ‬
‫والبطش الذي يقوم به السلطان ض َّد شعبه‪ ،‬وأثر‬ ‫‪ -2‬يركز ابن خلدون على موضوع االس ِتبْداد‬
‫ذلك في الشعب‪.‬‬

‫‪ -3‬يشرح ابن خلدون‪ :‬كيف أنَّ بعض السالطين ينافسون رعيتهم في الكسب والتجارة‪،‬‬
‫ِّ‬
‫ويسخرون القوانين لخدمة مصالِحهم الخاصَّة‪ ،‬وتسلطهم على أموال ال َّناس‪ ،‬وإطالق يد الجند‬
‫في األموال العامَّة؛ مما يرسِّخ الشعور بالظلم‪ ،‬واإلحساس بالحقد لدى الشعب‪.‬‬

‫‪ -4‬يوضح ابن خلدون‪ :‬أنَّ هذه العوامل الداخليَّة هي التي تؤ ِّدي إلى الخلل في أحْ وال ال َّدولة‬
‫أكثر من العوامل الخارجيَّة؛ ألنَّ المجتمع الذي يُعاني من خلل داخلي ال يستطيع مُجا َبهة عدوٍّ‬
‫خارجي‪.‬‬

‫ساب ًقا بذلك مف ِّكرين أوروبيين‬


‫‪ -5‬تم َّكن ابن خلدون من الرَّ بط الدقيق بين العوامل االقتصاديَّة‪ِ ،‬‬
‫بع َّدة قرون‪.‬‬

‫‪ -6‬استوعب ابن خلدون اإلرْ هاصات ال َّسابقة في الفكر السياسي لدى الفارابي‪ ،‬والماوردي‪،‬‬
‫والغزالي‪ ،‬وإخوان الصفا‪ ،‬والطرطوشي‪ ،‬ومسكويه‪ ،‬وسواهم‪ ،‬وصاغ من ك ِّل ذلك نظريَّته‬
‫الناضجة في الفكر السياسي‪ ،‬وفلسفة التاريخ‪ ،‬وعلم االجتماع‪.‬‬

‫‪ -7‬ي َّتضح من قراءة مق ِّدمة ابن خلدون فهمُه لفلسفة التاريخ‪ ،‬من خالل ثالث نقاط أساسيَّة‪:‬‬
‫األولى‪ :‬أنَّ التاريخ علم‪ ،‬وليس مجرَّ د سرْ د أخبار بال تدقيق وال تمحيص‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أنَّ هذا العلم ليس منفصِ الً عن العلوم األ ُ ْخرى؛ كالسياسة واالقتِصاد‪ ،‬والعمران وعلوم‬
‫َّ‬
‫الدين‪ ،‬واألدب والفنِّ ‪.‬‬

‫لقوانين تنتظِ م ِبموجبها أحوا ُل ال ُّدول من قوَّ ة وضعف‪ ،‬ورفعة‬


‫َ‬ ‫َّ‬
‫الثالثة‪ :‬أنَّ هذا العلم يخضع‬
‫وانحالل‪.‬‬

‫وقد طبَّق ابن خلدون هذه النظرية على كتابه "العبر"‪ ،‬في سرده لألحداث‪ ،‬وال َّتعليق عليْها‪،‬‬
‫و َتحليل نتائجها‪.‬‬

‫‪ -8‬يرى ابن خلدون‪ :‬أنَّ الظلم مُؤذنٌ ِبخراب العمران‪ ،‬ويع ِّدد أ ْشكال هذا ُّ‬
‫الظلم‪ ،‬من اعتِداء على‬
‫وسلب أموالِهم‪ ،‬وإضْ عاف فرص معاشِ هم و َتحصيل رزقِهم‪،‬‬ ‫ال َّناس‪ ،‬وتضْ ييق على حريَّاتهم‪ْ ،‬‬
‫والعمران َي ْفسد ِبفساد العوامل التي تصنعه‪ ،‬والفساد يؤ ِّدي إلى الخراب‪.‬‬

‫والهرم من األمراض المزمنة التي قد تكون‬ ‫َ‬ ‫‪ -9‬إنَّ الفساد يؤ ِّدي إلى هرم ال َّدولة وشيخوختها‪،‬‬
‫ً‬
‫طارئة بفعْ ل تفاقُم الظلم والفساد والعدوان‪.‬‬ ‫طبيعيَّة مع عمر الدول واألفراد‪ ،‬وقد تكون‬

‫‪ -10‬كان ابن خلدون على ْقدر كبير من الموضوعيَّة والحياد العلمي في قراءته ألحداث التاريخ‬
‫وتفسيرها‪ ،‬رغم صعوبة الحياد في عصره‪.‬‬

You might also like