Professional Documents
Culture Documents
الثورة الصناعية الرابعة فرص و تحديات
الثورة الصناعية الرابعة فرص و تحديات
net/publication/349105626
CITATIONS READS
0 177
1 author:
SEE PROFILE
All content following this page was uploaded by ﻋﻠﻲ أﺳﻌﺪ وﻃﻔﺔon 07 February 2021.
ف "الثورة" بأنها منظومة شاملة من التغيريات النوعية اجلوهرية اليت حتدث يف بنية مادية أو
غالبا ما تُعرَّ ُ
اجتماعية أو فكرية فتغري هويتها وتنسف كيانها جذريا ،ويتجلى مفهوم الثورة غالبا يف حوادث الطبيعة كثورة الرباكني
والزالزل ،وقد يتجسد يف اجملال السياسي واالجتماعي كالثورة الفرنسية ،أو يف جمال العلوم والتكنولوجيا كالثورة
الصناعية األوىل والثانية والثالثة .
يف جمال العلوم إىل نيكوالس كوبرنيكوس ()Nicolaus Copernicus Revolution و يعود استخدام مفهوم الثورة
الفلكية) األجرام (ثورة املشهور لكتابه عنوانا استخدمه الذي ()1543-1473
( ،)De revolutionibus orbium coelestiumوقد نشر هذا الكتاب يف عام .1533وقد قدر لكوبرنيكوس يف كتابه
هذا أن يقدم لإلنسانية أعظم اكتشاف يف تاريخ اإلنسانية وقد لقب هذا اإلكتشاف بالثورة الفلكية اليت حتدث انقالبا
جذريا يف نظرة اإلنسان إىل الكون ،فبعد أن كان اإلنسان يعتقد بأن األرض هي مركز الكون جاء اكتشاف كوبرنيكوس
ليعلن باألدلة العلمية القاطعة أن بأن الشمس هي مركز اجملموعة الشمية وليست األرض كما كان االعتقاد سائدا يف سائر
العصور .وقد بيّن كوبرنيكوس بطريقة عبقرية أن األرض هي اليت تدور حول الشمس وليس العكس .وكانت هذه النظرية
أكرب ثورة يف تاريخ العلم والفلك يف خمتلف احلق والعصور التارخيية .1وقد عرف هذا االكتشاف العظيم "بالثورة
1
الكوبرنيكية" نسبة إىل كوبرنيكوس ،وقد شاع استعمال هذا التعبري الثوري الحقا ،وتضمن داللة احلتمية التارخيية
اليت تتجاوز إرادة البشر وقوتهم .وقد استعمل هذا االصطالح الحقا ليشمل الداللة العامة على التغريات املفاجئة
واالنقالبية اليت حتدث يف النظم السياسية واالقتصادية واالجتماعية.
ولكن مفهوم الثورة شاع بقوة يف جمال احلياة االجتماعية والسياسية بدرجة واسعة ،وغلب معناه السياسي على
خمتلف دالالته العلمية .ويف هذا املستوى االجتماعي فإن خمتلف النظريات واالجتاهات الفكرية تتقاطع يف تعريف
الثورة بأنها تغيري جوهري انقالبي شامل سريع وخاطف يف خمتلف األوضاع االجتماعية والسياسية واالقتصادية
للمجتمع .وهناك عدد كبري من التعريفات اليت قدمت ملفهوم الثورة ،ومنها تعريف كرين برنتون الذي يتناول مفهوم
الثورة يف كتابه املوسوم "تشريح الثورة" ثم يعرفها بقوله "إنها عملية حركية دينامية تتميز باالنتقال من بنيان اجتماعي
إىل بنيان اجتماعي آخر" .2كما يعرفها يوري كرازين ماركسيا بقوله "أنها قفزة من التشكيل االقتصادي واالجتماعي
البالي إىل تشكيل أكثر تقدما ،تكون اخلاصية املميزة السائدة له ومضمونه السياسي هو انتقال السلطة إىل الطبقات
الثورية.3
ُيعَِّرفُ قاموس (شامرب) املوسوعي للغة اإلجنليزية الثورة بأنها "تغيري شامل وجذري بعيد املدى يف طرق التفكري
وفعل األشياء" .ويف هذا السياق يعرف "أيرك هوبزباوم" الثورة يف ضوء األوضاع األوروبية بني زمين الثورة الفرنسية عام
1789وكومونة باريس 1484بالقول "إنها حتول كبري يف بنية اجملتمع".4
وعلى هذا املنوال ظهرت تعابري ثورية جديدة مثل :الثورة الدميقراطية ،والثورة العلمية ،والثورة السلمية ،والثورة
الرقمية ،وثورة األنفومديا ،والثورة الصناعية ،والثورة الزراعية ،حتى أصبح مفهوم الثورة يغطي خمتلف أشكال التغيري
العميق يف أي جانب من جوانب احلياة االجتماعية والعلمية يف اجملتمعات اإلنسانية.
وغالبا ما يستخدم مفهوم الثورة الصناعية مبعنى االنقالب اجلذري الذي حيدثه االبداع التكنولوجي يف بنية
اجملتمع اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا ،وهذه الزمة تارخيية ،إذ يعلمنا التاريخ أن كل اخرتاع تكنولوجي استطاع أن
حيدث حتوالت كبرية وجذرية يف تاريخ احلياة اإلنسانية .لقد أحدث اكتشاف النار قدميا ثورة هائلة يف اجملتمعات
القدمية وغري يف توجهات التاريخ اإلنساني ،وهذا ينسحب على كل االخرتاعات والسيما اكتساف القوس والنساب
حوالي 30.000ق.م ،واكتشاف النار كطاقة حوالي 7000ق.م ،.واخرتاع العجلة حوالي 3500ق.م،.
واكتشاف احملراث حوالي 1900ق.م ،وكان كل اخرتاع أو اكتشاف يشكل حبد ذاته ثورة هائلة يف احلياة اإلنسانية
ويشكل يف الوقت نفسه منصة هائلة لتغيريات جوهرية ونوعية متهد بدورها لتطورات جديدة يف احلياة اإلنسانية .وعلى
هذا النحو تقاطرت االكتشافات وتضافرت االخرتاعات اإلنسانية عرب التاريخ اإلنساني وصوال إىل اكتشاف الطاقة
البخارية اليت على اساسها حتققت الثورة الصناعية األوىل اليت شكلت مهاد انطالق الثورة الصناعية الثانية القائمة على
عبقرية الكهرباء ،اليت مهدت للثورة الصناعية الثالثة اليت قامت على إبداعات الكمبيوتر واملعلوماتية ،وأخريا جاء زمن
الثورة الصناعية الرابعة اليت تعتمد على تضافر الثورات العلمية والتكنولوجية ضمن بوتقة حضارية واحدة يف مطلع
األلفية اجلديدة.
2
يقول العامل الفيزيائي ميشل كاكو “حبلول نهاية القرن العشرين كان العلم قد وصل إىل نهاية حقبة .كاشفاً أسرار
الذرة وجزيء احلياة وخمرتعاً الكمبيوتر االلكرتوني .وبهذه االكتشافات الثالثة الرئيسية اليت انطلقت بتأثري ثورة الكم
إن هذه quantumوثورة الـ DNAوثورة الكمبيوتر ،ثم أخريا التوصل إىل القوانني األساسية للمادة واحلياة واحلوسبة.
5
المرحلة البطولية للعلم تقترب من نهايتها ،فقد انتهى عصر العلم ،وبدأت معالم عصر آخر تظهر” .
لقد ساهمت اكتشافات نيوتن العلمية العبقرية ( )Isaac Newton, 1642-1727حول قوانني احلركة يف الفيزياء
الكونية يف التأسيس لثورة احملركات البخارية واليت مكنت من السيطرة على الصناعة وتطويرها على مبدأ امليكانيك
وقوانني احلركة ،فأصبحت األشياء اليت كان يؤديها البشر تنجز على حنو آلي أتوماتيكي .ويؤرخ للثورة الصناعية األوىل
يف عام 1780وقد انطلقت على مسارات اكتشافات علمية حول استخدام طاقة والبخار وتوظيفها يف ميكنة اإلنتاج .ويرى
مؤرخو العلوم أن الثورة الصناعية األوىل بدأت والدتها رمسيا يف بريطانيا عام 1760عندما اُخرتِع احملرك البخاري .الذي
يُنسب إىل االسكتلندي )جيمس واط) .وكان هلذا االخرتاع دورٌ كبري يف تطوير هذه الثورة الصناعية إذ فقد أسهم يف حتول
اجملتمعات اإلنسانية من الزراعة وجمتمع اإلقطاع إىل عمليات التصنيع اجلديدة( .)6ومشل هذا التحول استخدام الفحم
كطاقة رئيسية ،السيما يف تشغيل القطارات اليت أصبحت بفضل احملرك البخاري وسيلة النقل الرئيسية .واستفادت
صناعات النسيج واحلديد والصلب والسفن من استخدام احملرّك البخاري .ويف عام ،1778دُشّنت أول سفينة تسري
بالبخار ،ومبرور األعوام حلت السفن اليت تعمل باحملركات البخارية حمل السفن الشراعية ،ومتكنت من عبور احمليطات.
ويضاف إىل ذلك أن هذه الثورة أحدثت تغريات هائلة أدت إىل تطور اجملتمعات الزراعية إىل جمتمعات صناعية تعتمد
احملركات البخارية سواء يف اإلنتاج أو يف النقل واملواصالت.
لقد أحدثت الثورة الصناعية األوىل تغيريات هائلة يف خمتلف جوانب احلياة االجتماعية والثقافية والسياسية يف
وجتلت هذه التغريات يف التعليم ويف العمل ويف الذهنيات والعقليات ،ومشل ذلك وسائل اإلنتاج وقواه وأمناطه ،وترك
بصمته يف األنساق الفكرية والثقافية يف اجملتمع ،وجتلى هذا التغري الشامل يف سلوكيات الناس وأفكارهم كما مستويات
تعليمهم وفلسفاتهم ونظرتهم إىل األشياء ،وقد أثر هذا التغيري يف منظومات الفنون والعلوم وخمتلف أشكال االنتاج الفكري
والثقايف يف اجملتمع .ويتمثل هذا التغري يف انتقال اإلنسان من االعتماد على القوى الطبيعية يف عملية االنتاج إىل اإلنتاج
الصناعي الذي ينطلق من قوة اآلالت والتقانات اجلديدة اليت أدت فعليا إىل متكني اإلنسان من االعتماد على السرعة وامليكنة
واختصار اجلهد والوقت والكلفة يف عملية إنتاج احلياة.
( Faraday and انطلقت الثورة الصناعية الثانية يف عام 1870تأسيسا على إجنازات كل من فاراداي وماكسويل
) Maxwellاللذين وحدا القوى املغناطيسية والكهربائية مما أدى إىل توليد الكهرباء وتشغيل احملركات الكهربائية الذي
كان له دور أساسي يف تشكيل خطوط التجميع اليت أصبحت تهيمن على العديد من الصناعات يف خمتلف البلدان
الصناعية .وقد أسهم اكتشاف ) توماس إديسون( للكهرباء يف تفجري هذه الثورة الصناعية حيث شاع استعمال املصباح
الكهربائي اعتبارا من ، 1880وانتشر استخدام الكهرباء يف اجملال الصناعي على نطاق واسع ( .)7وقد متيزت هذه الثورة
باستخدام الطاقة الكهربائية اليت مكنت الدول ذات املصادر الطبيعية املتنوعة من تكريس قدراتها الستغالل تلك املصادر يف
3
الصناعة ،مما أطلق العنان للمجتمعات الصناعية ألن ختلق مبدأ اإلنتاجية الضخمة .mass productionوبدأ ظهور اآلالت
الكهربائية واستغالهلا يف السلم واحلرب ومتيزت هذه احلقبة باخرتاعات مهمة جدا أثرت بصورة كبرية يف تطور احلضارة
اإلنسانية .8ومع بداية القرن العشرين ،دخل العامل عهد السيارة ذات احملرك اليت شكلت حتوال جذريا يف مفهوم
املواصالت .كما شاع استخدام القطار ذي احملرك الكهربائي ..وبعد ذلك توالت اإلجنازات العلمية بظهور اهلاتف واإلذاعة
والتلفزيون والطائرة .وقد استفادت الثورة الصناعية الثانية من هذه اإلجنازات يف تعزيز اإلنتاج الضخم ،وكان ذلك أهم
مساتها ،وبدأ ذلك مع إبداعات) هنري فورد (الذي ابتكر يف عام 1908خط اإلنتاج الشامل لصناعة السيارات .واستمرت
الثورة الصناعية يف اخرتاعاتها تدرجييًا ،فدخل العامل عصر امليكنة بشكل موسع .وقد أدت الثورة الصناعية الثانية إىل
تغيري أمناط حياة اإلنسان على وجه األرض .فإىل هذه الثورة يُنسب شكل النظام االقتصادي الدولي الذي نعيشه حاليا.
وميكن القول إن هذه الثورة كانت اللبنة األساسية لشكل النظم االقتصادية املوجودة على مستوى العامل (.)9
وال تقل التغريات اجلوهرية اليت أحدثتها الثورة الصناعية الثانية عن هذه اليت أحدثتها الثورة األوىل .فالتغيري كان
كبريا ومهوال يف خمتلف جوانب احلياة اإلنسانية .وقد أوقدت هذه الثورة يف ثورة تربوية وتعليمية يف الوقت نفسه
واستطاعت أن تطلق جربوت القوى العلمية والبحثية يف اجملتمع واجلامعات وحققت نوعا من التفاعل العميق والشامل بني
التكنوالوجيا الصناعية واملؤسسات العلمية األكادميية .
وباختصار ميكن القول إن الثورتني األوىل والثانية عملتا على إحداث تغيريات جوهرية يف منظومات الوجود
واحلياة يف اجملتمعات اإلنسانية ،ويتضح هذا التأثري الكبري يف اجلوانب السياسية واالجتماعية ،والسيما يف جمال
تعزيز احلضور الدميقراطي ،وتكوين النقابات ،وتأصيل مؤسسات اجملتمع املدني ،وتشكل األحزاب السياسية .ومل
"يعد باإلمكان حكم اجملتمع اجلديد -الذي يتألف جزء كبري منه من أصحاب األعمال واملستثمرين واملهندسني
والعلماء واملعلمني واملخرتعني واملثقفني والفنانني واخلرباء والرياديني واملفكرين والعمال الذين يتمتعون بالوعي
وروح العمل اجلماعي والنزعة حنو املساواة -مل يعد ممكناً حكمه عن طريق الفردية و العائلية والسلطوية
والديكتاتورية".10
ومن ثم انطلقت الثورة الصناعية الثالثة باكتشاف الرتانزستور الذي أدى إىل اكتشاف العصر اإللكرتوني الذي
وتنطلق هذه الثورة من منصات احلوسبة 1959 أعطانا أجهزة الكمبيوتر واإلنرتنت .11ويؤرخ هلذه الثورة فعليا يف عام
اإللكرتونية والثورة الرقمية وتكنولوجيا املعلومات وغالبا ما يطلق عليها الثورة الرقمية أو ثورة احلسابات والكمبيوتر.
ويشكل ظهور اإلنرتنيت أحد أهم معامل وركائز هذه الثورة اليت شكل اإلعجاز العلمي هلذه الثورة يف النصف الثاني من
القرن العشرين .واملعاجلات الدقيقة واإلنرتنت وبرجمة اآلالت والشبكات يف النصف الثاني من القرن العشرين .ومن
مميزات هذه الثورة قدرتها اهلائلة على إضفاء الطابع الرقمي ( )Digitizationعلى خمتلف مظاهر احلياة االقتصادية
والعلمية واليت متت بفضل احلاسبات الضخمة والقدرة اهلائلة على ختزين املعلومات ومعاجلتها ،ومن ثم برجمة اآلالت
ورقمنتها .لقد أحدث انتشار شبكة اإلنرتنت وثورة االنفورماتيك واملعلوماتية تأثريا هائال يف خمتلف جماالت احلية يف
4
خمتلف أحناء املعمورة .وقد شهدت هذه املرحلة تطور هائل يف املنصات الرقمية العمالقة (فايسبوك ،تويرت ،غوغل..
اخل) ،وانتشار مواقع التواصل االجتماعية اليت أحدثت ثورة حقيقية يف بنية اجملتمع والعالقات االجتماعية.
بدأت الثورة الصناعية الرابعة رمسيا مع بداية األلفية اجلديدة ،وإذا كانت الثورة األوىل قد انطلقت بدفع الطاقة
البخارية ،والثانية قد هبت عواصفها بتأثري الطاقة الكهرباء ،والثالثة قد انطلقت على سكة احلوسبة واملعلوماتية ،فإن
الثورة الصناعية الرابعة قد انطلقت من منصة االندماج الثوري جملموعة هائلة من االكتشافات العبقرية يف خمتلف
جماالت العلوم واملعرفة اإلنسانية والسيما يف جمالي التكنولوجيا الرقمية اهلائلة والذكاء االصطناعي حيث " تندمج
التقانات الذكية على حنو تتالشى فيه اخلطوط الفاصلة واحلدود القائمة بني ما هو رقمي وتكنولوجي وفيزيائي
وبيولوجي.)12( .
وقد استخدم مفهوم الثورة الصناعية الرابعة ألول مرة يف جمال الصناعة التحويلية يف أملانيا يف أوائل العقد األول من
القرن العشرين ،وكانت أملانيا الوطن الذي شهد أول ابتكار عمليات األمتتة الذاتية الشاملة يف اآلالت ويف عملية اإلنتاج.
واستطاعت هذه الثورة الحقا أن تعمل على زيادة القدرة احلاسوبية لتخزين كميات هائلة من البيانات باألطنان وأدى
ذلك إىل تطوير ما يسمى بالنظم الفيزيائية اإلليكرتونية اليت انطلقت يف أحضان مؤسسة العلوم الوطنية األمريكية عام
.2006
)World (Economic Forum - )Klausرئيس املنتدى االقتصادي العاملي Schwab ويعد كالوس شواب (
ومؤسسه -أول من استخدم مفهوم "الثورة الصناعية الرابعة" بصورة علمية وأول من أصله يف املنتديات العاملية ووظفه يف
مراكز البحث العلمية .لقد طرح كالوس شواب "الثورة الصناعية الرابعة" موضوعا وعنوانا للمنتدى االقتصادي العاملي
الذي عقد يف دافوس ( )Davosيف دورته السادسة واألربعني ،عام .2016وقد توسم هذا املفهوم أيضا كتابه املثري للجدل
بعنوان " الثورة الصناعية الرابعة " ( 13)The Fourth Industrial Revolutionالذي نشرت طبعته األوىل يف العام نفسه.
ويرى كالوس أن الثورة الرابعة تنطلق من معطيات “الثورة الصناعية الثالثة” وتؤسس عليها على حنو فارق طَفَري،
وهي ثورة احلوسبة الرقمية ،اليت انطلقت يف مخسينات القرن املاضي ،ووصلت إىل ذروتها وتطبيقاتها يف الذكاء
الصناعي الرقمي والتكنولوجيا احليوية وتلك املاثلة يف عبقرية تكنولوجيا التواصل االجتماعي .ويرى كالوس شواب أن
هذه الثورة متثل على احللقة األخرية من سلسلة الثورات الصناعية املتعاقبة .ويصفها شواب بقوله:
"إننا نقف اليوم على أعتاب الثورة الصناعية الرابعة اليت ستغري جذريا الطريقة اليت حنيا
بها ونعمل .وسيشمل هذا التحول اجلبار مجيع مناحي حياتنا ،وسيكون فريداً من نوعه يف تاريخ
البشرية ،سواء من ناحية حجم التغيري أو تعقيده .واحلقيقة أننا ال نعرف بالضبط كيفية هذا التحول
ألننا نعيش زمخه العارم حلظةً فلحظة ،لكننا نعرف على وجه اليقني أنه لكي ننجح يف مواكبة الدول
املتقدمة فإن استجابتنا هلذه التغريات جيب أن تكون شاملة ومتكاملة وتضم مجيع األطياف اليت متثل
5
أركان اجملتمع املدني والقطاعات الوظيفية العامة واخلاصة واجملتمعات األكادميية واملؤسسات
اجملتمعية".14
وعلى غرار شواب يرى كثري من الباحثني املستقبليني أن هذه الثورة ستُحدث تغيرياً جوهرياً يف طريقة عيش البشر
وعملهم وعالقتهم بعضهم ببعض وتصوراتهم وأمناط وجودهم ،وهي تبشر ببداية فصل جديد وروحا جديدة يف تاريخ
اإلنسانية.
ويف مواجهة هذا التحدي الكبري يرى شواب أيضا " أن هذه الثورة ،بسرعة إيقاعها واتساع نطاقها وعمق حدودها،
تدفعنا إىل إعادة التفكري يف الكيفية اليت تتطور بها بلداننا ،والطرق اليت يتوجب علينا اعتمادها يف مواجهة حتدياتها
وخلق فرص جديدة للتنمية االقتصادية ،وهذا يتوقف يف نهاية األمر على إمكانات الدول وما تتمتع به من بنى تكنولوجية،
ومقدرة على تطوير نُظمها التعليمية وتوظيفها ،وتعزيز مهارات موظفيها وإكسابهم اخلربات اليت تساعدهم على التعامل مع
هذه التطورات“ (.)15
وقد وصف املشاركون يف املنتدى العاملي يف "دافوس" "الثورة الصناعية" الرابعة بأنها "تسونامي جبار" وهو من هذا
النمط الذي سيعصف باجملتمعات اإلنسانية ،ليحدث انقالبا جذريا يف خمتلف مظاهر ومعامل وتفاصيل احلياة اإلنسانية
برمتها .وقد عرب بعض املشاركني عن خماوفهم إزاء هذه الثورة والسيما فيما يتعلق بدور اإلنسان ومصريه االغرتابي يف
دائرة التفاعل الرقمي داخل الفضاء السيرباني.
وتتمثل الثورة الصناعية الرابعة يف منظور لوتشيانو فلوريدي ( - )Luciano Floridiكما يصفها يف كتابه الشهري
-مبنظومة من املخرتعات العبقرية، 16
(الثورة الرابعة :كيف يعيد الغالف املعلوماتي تشكيل الواقع اإلنساني)
Artificial ،)Digitalوالذكاء االصطناعي ( revolution واالبتكارات التكنولوجية الفائقة مثل :الثورة الرقمية (
)intelligenceوتكنولوجيا النانو ،Nanotechnologyوإنرتنت األشياء ( ،)Internet of Thingsواهلندسة احليوية
( )Biotechnologiesواإلصدار الثاني لتقنيات الشبكة العنكبوتية العاملية ويب ( ،)web02والويب ذي الدالالت اللفظية
)الويب الذكي ،)Semantic Webواحلوسبة السحابية ( ،)Cloud Computingواأللعاب املعتمدة على التقاط احلركة
)Smartphoneواحلواسب اللوحية(،)Tablets (Apps ( ،)Motion-Capturing Gamesوتطبيقات اهلواتف الذكية
،)Globalوالرفقاء Positioning System )Touchونظام حتديد املواقع (-GPS (Screens والشاشات اللمسية
االصطناعيني ( ،)Artificial Companions ،والرجال اآلليني ( )Robotsووسائط اإلعالم االجتماعي ()Social Media
واحلرب السيربانية ( )Cyberwarوأخريا اإلنرتنيت الفائق بنسخته الرهيبة (.)17( )G5
وغالبا ما تعرف الثورة الصناعية الرابعة بوصفها نتاجا للتكامل واالنصهار الرقمي بني خمتلف الثورات العلمية
والتكنولوجية اهلائلة يف الفضاء السيرباني .ومن األمثلة على هذا التفاعل ميكن اإلشارة إىل التخصيب اجليين للحمض
النووي الذي يتم بتوسط احلاسبات اإلليكرتونية البيولوجية وهي نتاج للتخاصب بني الثورة "النانوية" املذهلة وبني
اهلندسة الوراثية ومعاجلة األمراض املستعصية .ويف هذا السياق يقول إريك مشيت وجاريد كوهني يف كتابهما املشهور
(العصر الرقمي اجلديد وإعادة صياغة مستقبل الشعوب) 18يف وصفهما للثورة الصناعية الرابعة :إنه بفضل القوة اهلائلة
6
للتكنولوجيا الرقمية ،سقطت احلواجز الصمّاء اليت كانت تفصل بني البشر ،كالبعد اجلغرايف واختالف اللغات
واالفتقار املزمن للمعلومات ،وحتررت القدرات اإلبداعية الكامنة لإلنسانية على شكل موجة هادرة جديدة تزداد
قوّة من دون انقطاع ،وأصبحت هذه القدرات الضخمة حتت تصرف كل البشر وباتوا قادرين على حتريرها بلمسات
19
أصابعهم ".
ويف هذا السياق ميكن القول إن الثورة الصناعية الرابعة تتناغم مع منوذج جديد فارق للحضارة اإلنسانية خيتفي
فيه خمتلف عناصر الصناعة التقليدية اليت عرفناها إبان الثورات الصناعية الثالث السابقة .كما ستختفي معه معظم
مظاهر احلياة االجتماعية والعلمية اليت عرفتها اإلنسانية يف مراحلها التارخيية السابقة.
وتتميز الثورة الصناعية الرابعة بثالثة عوامل رئيسة متيزها عن سابقاتها من الثورات ،وهي:
السرعة( ،)Rapidityوالتعقيد ( ،)Complexityوالشمول ( .)Inclusivenessفالثورة الصناعية الرابعة اليت
تتميز بالسرعة والتعقيد وتتميز بشموهلا ملختلف مظاهر احلياة اإلنسانية ستشكل يف نهاية األمر القوة اليت تؤدي
إىل إحداث تغيري جذري يف العالقات بني الدول والشركات واجملتمعات يف كل منها وفيما بينها.
ومن أهم ميزات ومسات الثورة الصناعية الرابعة أنها تقوم على أساس الرقمنة الشاملة العمودية واألفقية للظواهر
املرئية واخلفية .وتعتمد هذا املنهج كمنطلق اسرتاتيجي يف عملية التغيري الشاملة ،ويتجلى ذلك الدمج الرقمي -األفقي
والعمودي -يف خمتلف مظاهر احلياة والوجود .وبكل بساطة ،فإنه الثورة الصناعية الرابعة تدور يف الزمن الذي يتحول
فيه االقتصاد من منوذج اإلنتاج "املركزي" إىل منوذج االنتاج "الالمركزي" .وهذا يعين أن الرقمنة الشاملة تؤدي إىل
الربط بني مجيع الوحدات اإلنتاجية يف االقتصاد يف خمتلف االجتاهات عموديا وأفقيا داخليا وخارجيا حيث تشكل
عملية تالحم ال يفصم عراها بني خمتلف مظاهر احلياة االقتصادية واالجتماعية.
ففي املراحل السابقة للثورة الصناعية الرابعة كانت الشركات الصناعية حتقق مكاسبها وتطور نفسها غالبًا من
خالل حتسني درجة األمتتة ،ولكن هذه األمتتة أصبحت -يف زمن الثورة الصناعية الرابعة -أمتتة ثورية ذكية تتميز
بقدرتها اهلائلة على التكيف وفقا ملعطيات التقدم يف الذكاء االصطناعي .فاملصانع اليوم تقوم بعمليات اإلنتاج النظمي
الذاتي الذي ميكنه أن يتكيف ذاتيا وإبداعيا مع مطالب العمالء الفردية من خالل القدرة التعلم الذاتي .فالشركات
الصناعية البارزة توفر بالفعل أنظمة رقمية تقوم بعملية معاجلة اخللل يف االنتاج واألنظمة وابتكار احللول إذ ميكن تزويد
املصانع والشركات ومراكز التسويق بأنظمة قادرة على التفاعل مع العمالء مبرونة وذكاء ،مثل :اإلنتاج على الطلب؛
واإلنتاج يف املوقع على املقياس ،ودراسة سيكولوجية املستهلك ،ورسم التوقعات يف السواق .وهكذا سيتم إجياد أنواع
جديدة من طرق اإلنتاج القائم على الذكاء االصطناعي حيث يقوم الذكاء االصطناعي بتوليد إيرادات رقمية إضافية
وحتسني جتربة العمالء من حيث التفاعل والوصول.
7
طفرة التفرد التكنولوجي:
يتخيل بعض املفكرين أصحاب النزعة " ما بعد اإلنسانية" " "Posthumanismأنه ستكون هناك نقطة فارقة
حرجة يف املستقبل سيصل فيها معدل تسارع التطور التكنولوجي املعريف لدرجة أن منحنى التقدم قد يصبح عموديًا تقريبًا
يف حمور الزمن .كانت املعرفة اإلنسانية عرب التاريخ حتتاج إىل قرون لتحدث تغيريا جوهريا يف ذاتها ،ثم إىل قرون
وعقود كي تتضاعف ،ولكننا اليوم نشهد تضاعفا يف املعرفة اإلنسانية مصحوبا بالتغيري اهلائل يف سنوات وشهور وأيام.
وهذا يعين أن املعرفة اإلنسانية قد تتجدد يف غضون أشهر ثم تتقلص إىل أيام ثم إىل ساعات فدقائق فثواني .وهذا
التضاعف احلضاري قد يأخذ يف املستقبل تضاعفا هندسيا خارقا يصل إىل مرحلة التغري التام على احملور العمودي
اهلائل الذي ترتاكم فيه املعرفة خالل فرتات زمنية قصرية جدا ،وهذا سيجعل من الصعوبة مبكان التعرف على العامل
والظو اهر الكامنة فيه واألشياء بعد مرور وقت قليل ،فكل شيء سيتغري يف ومضات زمنية متسارعة متالحقة ،ويطلق
املستقبليون على هذه املرحلة االفرتاضية باسم التفرد الكوني الذي يتجسد يف شكل متطور من أشكال الذكاء البشري
الذي يعزز حركة التطور بسرعات متناهية .وضمن هذا التصور للتفرد يف جمال التجدد الثوري للمعرفة يف عامل
التكنولوجيا تتقادم األشياء سريعا وتفقد جدواها والسيما يف جمال اإلليكرتونيات واحلاسبات وغريها من التقانات
املتقدمة ومثل هذا التسارع حيث أيضا يف خمتلف مظاهر احلياة العلمية والثقافية.
ويرى منظرو الثورة الصناعية الرابعة ،أن هذه الثورة تأخذ مسار تطور ينطلق على معدالت أسيّة رقمية بدالً من
الوتائر اخلطية ،وهذا من شأنه أن حيدث حتوال كبريا يف جماالت نظم اإلنتاج ،واإلدارة ،واحلكم .ويشري إىل السرعة اليت
تتسم بها هذه الثورة مقارنة مبا سبقها ،فيقول :يكفي للداللة على سرعة الثورة الصناعية الرابعة أن مغزل النسيج (السمة
املميزة للثورة الصناعية األوىل ) استغرق حنو 120عاماً لينتشر خارج أوروبا .وعلى النقيض من ذلك ،فقد تغلغلت اإلنرتنت
يف مجيع أحناء العامل يف أقل من عقد من الزمان (.)20
ومن الواضح أن الثورة الصناعية الرابعة ستكون قادرة على حتقيق اخرتاقات علمية خاطفة وشاملة ال يوجد هلا
مثيل أو نظري يف التاريخ البشري ،فالتكنولوجيا الرقمية تتضاعف بطريقة اسّية غري مسبوقة يف التاريخ .وتتميز هذه الثورة
بشموهلا املذهل إذ تنتشر بسرعة هائلة يف خمتلف جوانب احلياة لتحدث انقالبا ثوريا شامى ومستمرا ضد كل ما عرفته
اجملتمعات اإلنسانية يف تارخيها من تقدم تكنولوجي وعلمي .ويف ظل هذه الوتائر املتسارعة لالخرتاقات العلمية تتقادم
التكنولوجيا القائمة وتتساقط ،وما كان ينظر إليه على أنه تكنولوجيا متقدمة مت نسفه متاماً وأصبح بال فائدة اقتصادية،
واألمثلة على ذلك كثرية جداً .لقد دخلت اجملتمعات اإلنسانية يف العصر الذي " نرى فيه باليني البشر يتواصلون بواسطة
اهلواتف احملمولة مع إنرتنت ذات سرعات خيالية ،وقدرات غري حمدودة للوصول إىل املعلومة ،إضافةً إىل إجنازات
تكنولوجية غري مسبوقة يف جماالت الذكاء االصطناعي والروبوتات ،وإنرتنت األشياء ،واملركبات الذاتية القيادة ،والطباعة
الثالثية األبعاد ،وتقنيات النانو ،والتكنولوجيا احليوية ،وعلوم املواد ،واحلوسبة الكمومية" .21ومن الواضح اليوم أن
تكنولوجيا الثورة الصناعية الرابعة مل تعد جمرد وسائل تغيري أو أدوات تعتمد يف عملية تثوير اجملتمع وتغيري مالحمه
فحسب بل "أصبحت قوى بيئية وأنثروبولوجية واجتماعية وتفسريية ،تخلق وتُشكل واقعنا الفكري واملادي ،وتُلغ فهمنا
8
لذواتنا ،وتُحوّر الكيفية اليت تربطنا بعضنا ببعض ،كما تربطنا بذواتنا ،وتُحسَِّن من كيفية تفسرينا للعامل من حولنا ،وكل
هذا جيري بصورة واسعة االنتشار ،وبعمق ،وبال هوادة"(.)22
الذكاء االصطناعي الخارق :
ويركز منظرو الثورة الصناعية الرابعة على دور التكنولوجيا املتفردة اليت ميكن أن تؤدي إىل نشوء ذكاء اصطناعي
يتوفق على الذكاء اإلنساني أضعافا مضاعفة ويقوم هذا الذكاء على سيناريوهات التواصل بني الدماغ واحلاسوب والذكاء
االصطناعي .وألن ذكاءنا احلالي الطبيعي هو يف نهاية ذروته يف هذا العصر ،يتوقع العلماء أن يكون اإلبداع التكنولوجي
للذكاء الفارق حلظة فاصلة يف التاريخ ،ويرى أنصار هذا التوجه أن هذا الذكاء سيكون مقرتنا باحلساسية األخالقية.
يرى جون فون نيومان John von Neumannيف هذا السياق أن هذا التفرد املنتظر يف غضون العقود القادمة سيؤدي
إىل طفرة هائلة يف الذكاء االصطناعي ،وإىل منو هائل يف األنظمة الكبرية ألجهزة الكمبيوتر املتصلة بالشبكات ،وإىل طفرة
أخرى يف جمال التكامل بني اإلنسان والتكنولوجيا ويف جمال احلاسبات الكربى .ويرى نيومان يف هذا السياق أن تضخم
الذكاء االصطناعي ضمن هذا السيناريو ،سيؤدي يف مرحلة ما إىل حلقة تغذية مرتدة إجيابية :إذ ميكن لألنظمة
التكنولوجية األكثر ذكاءً العمل على تصميم أنظمة أخرى تفوقها ذكاءً ،وميكنها القيام بذلك بسرعة أكرب من
املصممني البشريني األصليني .وسيكون هذا التأثري اإلجيابي للتغذية املرتدة قويًا مبا يكفي لقيادة انفجار معريف
جمتمعة. جديد يتميز بنظام اصطناعي فائق الذكاء يتفوق على القدرات البشرية
ويرى بعض الباحثني أنصار نزعة " ما وراء اإلنسانية" أنه من املستحيل بالنسبة لنا التنبؤ مبا يأتي بعد الوصول
إىل نقطة "التفرد" Singularityيف الذكاء االصطناعي (والتفرد هو احلالة اليت يصل فيها الذكاء االصطناعي إىل أوجه
قوته ) .قد يكون جمتمع ما بعد التفرد غريبًا جدًا لدرجة أننا ال نستطيع أن نعرف شيئًا عنه ،حيث تكون القوانني
األساسية للفيزياء هي االستثناء الوحيد يف هذه املرحلة .وهذا يعين أن حتقيق املستحيالت قد يكون ممكنا إىل حدّ كبري
مثل الوصول إىل أكوان جديدة ،أو السفر عرب الزمن ،والقضاء كليا على األمراض اإلنسانية والسيما أمراض
الشيخوخة ،وبناء اإلنسان اخلارق السوبر مان ،أو متكني اإلنسان من احلياة ملئات السنني كنتيجة لتطور الطب
والتكنولوجيا.
مصطلح "التفرد التكنولوجي" (23 )Technological singularityبشكل Vernor Vinge لقد استخدم فينور فانج
أكثر حتديدا للداللة على النقطة اليت يتجاوز فيها الذكاء االصطناعي اجملموع الكلي للذكاء البيولوجي (اإلنساني)،
ويرى فانج أنه ال ميكن التنبؤ عمليا بالعواقب الكاملة هلذه املرحلة وقد شبهها خبصائص الفيزياء فيما وراء الثقب
األسود .ولكنه يؤكد ببساطة أن هذه املرحلة من تطور الذكاء االصطناعي أمر حتمي ال مفر منه وأنه ال ميكن التنبؤ
بعواقب هذا التطور امللهم ونتائجه يف اجملتمعات اإلنسانية.24
فسألة العالقة بني اإلنسان والتكنولوجيا تشكل أخطر القضايا اليت تطرحها الثورة الصناعية الرابعة .وقد شاهدنا
حتى اليوم أمناطا من التطورات املذهلة يف الذكاء االصطناعي وعامل الروبوتات .وقد شهدنا حتى اليوم كثريا من
9
الروبوتات اليت تقوم بوظائف اإلنسان يف جماالت ذكية معقدة والسيما يف الصحافة والطب واهلندسة واالعالم .فهناك
اليوم مذيعون يقدمون نشرات األخبار وال ميكن متييزهم أبدا عن اإلنسان الطبيعي قد شهدنا لقاءات صحفية مع الروبوت
الياباني صوفيا القادم للمشاركة بهوية يابانية يف مصر وبعض البلدان .وقد ذودت هذه الروبوتات مبختلف خصائص
اإلنسان ومشل ذلك كثريا من مستحثات املشاعر العاطفية واالنفعالية مثل الغضب واحلزن .وقد عرفنا مجيعا ألعاب
األطفال احلسية اليت تتفاعل وجدانيا مع األطفال بطريقة التعبري عن احلزن والفرح والغضب والسعادة .وكل هذه
املؤشرات تدل على أن الروبوت بدأ يتمثل خصائص إنسانية انفعالية وهو بالتأكيد متفوق جدا على اإلنسان يف مضمار
املعرفة والذكاء االصطناعي.
وعلى عكس االبتكارات التكنولوجية األخرى ،فإن هذه املرحلة من االبتكار تبدو فائقة وخطرة جدا إذ متثل القدرة
الالمتناهية على االبتكار االبداعي والتجديد ،حيث يتم ابتكار طرق جديدة الستخدام األشياء القدمية ،ومثل هذه
القدرة اهلائلة للذكاء االصطناعي مل تعد توقعا مستقبليا بل نرى مظاهره اآلن يف هذه اللحظة من الزمن الذي نعيش
25
. فيه
تحديات الثورة الصناعية الرابعة:
حتمل كل ثورة عرفتها اإلنسانية يف ذاتها فرص وحتديات ،وليس خفيا على أحد ما محلته كل الثورات الصناعية
من فرص هائلة ففي كل اكتشاف أو أبداع تتدفق املنافع واملكاسب اإلنسانية اليت ال حتتاج إىل تعريف ،فالفرص واملنافع
اليت أتاحها اكتشاف البخار والكهرباء والكمبيوتر لإلنسانية أمر يفوق أي حصر ولو يف ومضات اخليال وهذا يشمل كافة
املخرتعات واإلبداعات التكنولوجية اليت ال تتوقف يف تدافعها غري املسبوق.
وإذا كانت الفرص واملنافع اليت حتملها الثورة الصناعية الرابعة واضحة للعيان ،وال حتتاج إىل استنفار عقلي ،فإن
معرفة التحديات تتطلب جهدا وعيّاً يف مستوى التحليل والتفكري .ويتصدى شواب جبدارة للحديث عن فرص الثورة
الصناعية الرابعة وحتدياتها فريى ضمن خمتلف معاجلاته لقضايا الثورة الصناعية الرابعة أن هذه الثورة حتمل يف طياتها
كثريا من الوعود والفرص ،فهي ستمكن من رفع مستويات الدخل العاملية ،وحتسني نوعية احلياة للسكان يف مجيع أحناء
العامل .ومن منجزات هذه الثورة أنها استطاعت أن تقدم املنتجات واخلدمات اليت تزيد من كفاءة ومتعة حياتنا الشخصية
اجلديدة احملتملة ،كطلب سيارة أجرة ،وحجز رحالت الطريان ،وشراء املنتجات ،ودفع الفواتري ،واالستماع إىل
املوسيقى .ويف املستقبل ،سيقود االبتكار التكنولوجي أيضاً إىل تطورات كبرية يف العرض والكفاءة واإلنتاجية ،وستنخفض
تكاليف النقل واالتصاالت ،وستصبح اخلدمات اللوجستية وسالسل التوريد العاملية أكثر فعالية ،وستنخفض تكلفة
التجارة ،وسيصبح العامل أكثر ترابطا عرب اإلنرتنت وتطبيقاتها السيما إنرتنت األشياء الذي ميتلك القدرة على رفع
مستويات الدخل العاملية وحتسني نوعية احلياة للسكان يف مجيع أحناء العامل (.)26
و يف كلمته اليت ألقاها يف افتتاح الدورة السادسة للقمة العاملية للحكومات 27واليت كانت بعنوان "حتديات العامل
يف ،2018وما حيمله املستقبل القريب من متغريات وكيفية االستعداد هلا ،يتناول كالوس شواب مخسة حتديات
رئيسية تواجه العامل اليوم وهي:
10
-1التحديات اإلليكرتونية :يشدد شواب على خماطر اهلجمات اإللكرتونية الواسعة النطاق وارتفاع منسوب هذه
اهلجمات عرب اإلنرتنيت ويرى أن هذه اهلجمات تشكل خطراً عاملياً على مدى السنوات العشر املقبلة .وذكر أيضا أن
هذا التحدي اإللكرتوني جاء يف مقدمة تقرير املخاطر العاملية لسنة ،2018وأعرب عن خمافه من قدرة املخرتقني على
التحكم مبركباتنا أثناء قيادتنا هلا وسرقة أموالنا وبياناتنا اليت تشكل قاعدة حياتنا وتعامالتنا .وطالب الدول
واحلكومات بالعمل على محاية الفضاء اإللكرتوني ألنه بدأ يشكل العمود الفقري لالقتصاد والعلوم وشبكة العالقات اليت
جتمع
-2حتديات الذكاء االصطناعي :اليت تتمثل يف منظومة الربجميات اليت ستمكن اآلالت من التفكري والتقرير
بتصرفاتها دون تدخل من البشر .وتساءل شواب ما الذي سيبقى للبشر بعد أن تفكر اآللة وتقرر كيف تتصرف مبفردها؟
ويف معرض اإلجابة يرى شواب أن البشر يتفوقون على اآلالت بالقوة الناعمة واملهارات العاطفية اليت تشمل احملبة
والتعاطف والتعاون .وأكد أن هذا التفوق العاطفي للبشر لن يُهزم ،واعترب أنه تفوق أنثوي ،أي متتاز به اإلناث ،منادي ًا
القيادية . باملزيد من متكني املرأة من املواقع
-3التحديات االقتصادية :ويف إشارة منه إىل التحديات االقتصادية ،نوه الربوفيسور شواب إىل أن األزمة املالية
األخرية كلفت العامل ما قيمته %200من الناتج العاملي اإلمجالي ،واعترب أن استمرار سياسة الفائدة املتدنية اليت تدفع
بالسيولة ألسواق البورصة العاملية ،ضارة وجيب إعادة النظر فيها ،مؤكدا على أهمية الشفافية مع اجليل القادم عرب
توصيف احلالة له بشكل علمي ودقيق مهمة لبناء الشراكة بني الشعوب واحلكومات .وأضاف مؤسس ورئيس املنتدى
بعد". االقتصادي العاملي" :ال جيب أن خندع اجليل القادم باحلديث عن الرفاهية والتطور ألننا مل نبلغ هذه املرحلة
واعترب أن التفاوت يف توزيع الثروات ومستوى الدخل بني الفئات االجتماعية وبني الدول الفقرية والغنية حيتل املركز
الثاني على قائمة املخاطر اليت أوردها التقرير لعام ،2018وطالب العامل بتغيري سياسته يف دعم األسواق ،وقال" :إن
ما حيتاجه العامل اليوم هو أن تصبح التقنيات عالية الكفاءة متاحة لكافة الدول والشعوب ،وليس االستمرار يف تسيري
األسواق". السيولة هلذه
-4التحديات اجليوسياسية :ويرى شواب أن العامل اليوم أصبح متعدد األقطاب وتسوده نظريات ورؤى خمتلفة
حول كيفية حل الصراعات وهو ما يؤسس ملزيد من هذه الصراعات واالنقسامات اليت ستضر مبسرية التنمية العاملية .أما
التحديات املستقبلية.
-5التحديات البيئية واملستقبلية :تشكل التحديات البيئية ،وفق تقرير املخاطر العاملية ،2018مصدر قلق
عاملي يهدد احلياة اإلنسانية وتتصدر هذه التحديات االحتباس احلراري لألرض ،وفقدان التنوع البيولوجي ،وانهيار
النظم اإليكولوجية ،والكوارث الطبيعية الكربى ،والكوارث البيئية اليت هي من صنع اإلنسان ،وفشل اجملتمع اإلنساني
من إيقاف تدهور املناخ وخفض تأثري تغري املناخ والتكيف معه .ويطرح شواب عدد من القضايا املخيفة يف املستقبل
متسائال :ماذا لو فشل اجملتمع اإلنساني يف زراعة السلع األساسية مثل احلبوب والذرة واألرز ? وهو أمر يهدد وجود
11
اإلنسان غذائيا .وماذا ميكن أن يؤدي تطور الذكاء االصطناعي بطريقة سلبية؟ أال ميكن أن يهدد احلياة اإلنسانية
برمتها؟ وماذا ميكن أن نفعل عندما متوت التجارة العاملية بسبب زيادة احلروب التجارية وتتاليها؟ وهناك اسئلة كثرية
.
28
تفرض نفسها يف خمتلف جوانب تأثري الثورة الصناعية الرابعة يف احلياة اإلنسانية املعاصرة
خالصة :
يف ضوء ما قدمناه من تصور عن مالمح الثورة الصناعية الرابعة يبدو لنا أن هذه الثورة اليت بدأت معاملها ترتسم منذ
مطلع هذه األلفية ستشكل ثورة عارمة يف احلياة اإلنسانية برمتها وقد تكون قادرة على تغيري هوية العامل اإلنساني
بفضاءاته الواسعة ،ومما الريب فيه أن تشكل نقلة نوعية تأخذ اإلنسانية برمتها حنو فضاء "سيرباني" نعرف بداياته
ولكننا ال نستطيع أبدا أن نعرف مآالته يف ابعاده املستقبلية .فكل ما لدينا حتى اآلن تصورات مستقبلية ال ختلو من
شطحات خيال حول مستقبل اإلنسانية يف ظل هذه التصورات "التسونامية" العاصفة اليت تهدد كل أشكال احلياة اليت
عرفتها اإلنسانية يف ماضيها ويف حاضرها.
ومع ذلك فإن هذه الثورة مبعطياتها الفارقة يف التاريخ تشكل مهمازا حضاريا يدفع اإلنسان إىل املواجهة والتحدي،
إنها" أشبه بتيار كهربائي يسري يف شبكة عصبية لإلبداع واالبتكار والتجديد واخليال ،فيؤدي إىل صدمة تزلزل من
حالة االسرتخاء والفراغ والضياع يف اجملتمع فتدفعه إىل حالة جديدة من الفعل واالبتكار واإلبداع" .29ويف ظل هذه
الثورات وحتت تأثريها الصاعق تنطلق " اجملتمعات اإلنسانية لتبدع يف كل جمال ويف كل ميدان حيث أصبح العلم
والتكنولوجيا يشكالن قاعدة االنطالق لتحرير اإلنسان من عقد املاضي وقيوده ،وقد قدر هلما أي للعلم والتكنولوجيا أن
30
حيرضا اجملتمعات اإلنسانية على اكتشاف نفسها والعمل على إثبات وجودها وهويتها يف كل جمال وميدان".
يف املستقبل القريب فإن أشكاالً جديدة من املعرفة تتكون لتغطي خمتلف جوانب احلياة االجتماعية ،وتعمل هذه
الصيغ املعرفية اجلديدة على إعادة إنتاج اجملتمع وفق معطيات وعمليات تعتمد على أقصى درجة من الذكاء املعريف
الذي خيرتق هياكل اجملتمع وتكويناته وعملياته .ويف هذا اجملتمع فإن عمليات إنشاء املعلومات والتحليل الرمزي
وأنظمة اخلربة الذكية تصبح أكثر أهمية من العوامل األخرى جمتمعة .وهذا يعين أنه عندما نتحدث عن جمتمع املعرفة
بأبعاده النوعية فإن التحدي الرئيسي الذي يواجه اجملتمع سيكون يف عملية توليد الذكاء اجلمعي ،أي عملية بناء
العقل اجلمعي اجلديد القائم على الذكاء اخلارق يف أكثر جتلياته واندفاعاته املعرفية .وهنا يتوجب علينا أن ندرك بأن
الذكاء االجتماعي اجلاثم يف العقل اجلمعي سيأخذ أهمية كبرية فائقة ،ألن ذكاء اجملتمع ككل أهم من جمرد وجود
جمتمع يتكون من عدة ذكاءات فردية.
وق د ادركنا أنه يف ظل التحديات املهولة اليت تواجه اجملتمعات اإلنسانية يف مواجهة مستقبل عاصف بالتكنولوجيا
املهولة فإن معظم الباحثني يتوجسون خيفة من اآلثار املدمرة هلذه التكنولوجيا يف جمال العالقات االجتماعية والبناء
االجتماعي والسيما مسألة اهلوية .ومن أكثر القضايا إثارة للخوف والذعر مسألة الصراع بني اإلنسان والذكاء االصطناعي
الذي يهدد الوجود اإلنساني برمته .وهناك نفر من املفكرين املتفائلني الذين يرون بأن اإلنسان مبا ميتلك من ذكاء
تارخيي سيكون قادرا على مواجهة خمتلف التحديات وتوجيه مسار احلضارة القادمة حتت مزيد من السيطرة
12
هوامش الدراسة :
1 - Jean-Pierre Bardet, Autour du concept de Révolution: Jeux de mots et reflects culturels,In: Histoire,
économie et société. 1991, 10e année, n°1. Le concept de révolution. pp. 7-16.
- 2يوري كرازين ،علم الثورة يف النظرية املاركسية( ،ترمجة مسري كرم) .بريوت :دار الطليعة ،ط .1975،1ص31
- 3يوري كرازين ،علم الثورة يف النظرية املاركسية ،مرجع سابق ،ص , 41
- 4العربي صديقي ،زلزال اسرتاتيجى يضرب أركان العامل ،األوان ،االربعاء 17تشرين األول (أكتوبر) http://www.alawan.org/ .2012
-5خالد ميار اإلدريسي ،ما بعد اإلنسـان :قراءة نقدية واستشرافية لإلفراط التكنولوجي وتأثريه على الوضع اإلنساني ،مسارات للرصد والدراسات االستشرافية،
.2013/4/24
https://www. massarate. ma/%D9%85%D8%A7-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-
%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D9%80%D8%A7%D9%86-1. html
- 6حممد عبد القادر الفقي ،الثورات الصناعية األربع :إطاللة تارخيية ،جملة التقدم العلمي ،جملة علمية فصلية تصدر عن مؤسسة الكويت للتقدم العلمي العدد- 103
أكتوبر ،2018ص.9
- 7حممد عبد القادر الفقي ،الثورات الصناعية األربع ،املرجع السابق ،ص.9
- 8سالم أمحد العبالني ،وعود الثورة الصناعية الرابعة منعطف هائل يف تاريخ البشرية( ،االفتتاحية) جملة التقدم العلمي ،جملة علمية فصلية تصدر عن مؤسسة الكويت
للتقدم العلمي العدد - 103أكتوبر ،2018
- 9حممد عبد القادر الفقي ،الثورات الصناعية األربع ،مرجع سابق ،ص.9
- 10ابراهيم بدران ،دور الثورة الصناعية يف تقدم التعليم . 2018-8-19 ،املوقع الشخصي http://www.ibrahimbadran.com/
11 - Bo Xing and Tshilidzi Marwala. Implications of the Fourth Industrial Age for Higher Education,
SCIENCE AND TECHNOLOGY , V o l u m e 7 3 , 2 0 1 7.
Electronic copy available at: https://ssrn. com/abstract=3225331
- 12حممد عبد القادر الفقي ،الثورات الصناعية األربع ،مرجع سابق ،ص.9
13 - Klaus Schwab , The Fourth Industrial Revolution, New York: Crown Publishing Group, 2017.
- 14سالم أمحد العبالني ،وعود الثورة الصناعية الرابعة منعطف هائل يف تاريخ البشرية( ،االفتتاحية) جملة التقدم العلمي ،جملة علمية فصلية تصدر عن مؤسسة الكويت
للتقدم العلمي العدد - 103أكتوبر ،2018
- 15عبد اهلل بدران ،الثورة الصناعية الرابعة الشغف باملستقبل الغامض ،جملة التقدم العلمي ،جملة علمية فصلية تصدر عن مؤسسة الكويت للتقدم العلمي العدد- 103
أكتوبر ،2018ص.58
16 - Luciano Floridi, The Fourth Revolution: How the Infosphere is Reshaping Human Reality, Oxford:
OUP, Jun 26, 2014.
-17لوتشيانو فلوريدي ،الثورة الرابعة :كيف يعيد الغالف املعلوماتي تشكيل الواقع اإلنساني ،ترمجة :لؤي عبد اجمليد السيد ،الكويت :عامل املعرفة ،العدد ،452
سبتمرب ،2017 ،ص.10
18 - Eric Schmidt and Jared Cohen , The New Digital Age: Reshaping the future of People، Nations and
Business ،(United States: Alfred A. Knopf، 2013).
- 19عدنان عضيمة ،العصر الرقمي اجلديد» ...وإعادة صياغة مستقبل الشعوب ،االحتاد 4 ،فرباير https://www. alittihad. ،2014
ae/article/
- 20عبد اهلل بدران ،الثورة الصناعية الرابعة ،مرجع سابق ،ص55.
- 21سالم أمحد العبالني ،وعود الثورة الصناعية الرابعة منعطف هائل يف تاريخ البشرية ،مرجع سابق .
-22لوتشيانو فلوريدي ،الثورة الرابعة :كيف يعيد الغالف املعلوماتي تشكيل الواقع اإلنساني ،ترمجة :لؤي عبد اجمليد السيد ،الكويت :عامل املعرفة ،العدد ،452
سبتمرب ،2017 ،ص.10
13
- 23يستخدم الباحثون اليوم مصطلح "التفرد التكنولوجي" ( ،)Technological singularityلإلشارة إىل املصري التكنولوجي لإلنسانية ،ويعزى استخدام هذا
املفهوم ألول مرة إىل ستانيسالف أوالم Stanislaw Ulamيف نعيه جلون فون نيومان John von Neumannعام 1958
24 - Wilson, C., Lennox, P.P., Hughes, G.& Brown, M. (2017) How to develop creative capacity for the
fourth industrial revolution: creativity and employability in higher education in Reisman, F. Ed.,
Creativity, Innovation and Wellbeing. London: KIE Conference Publications.
14