Professional Documents
Culture Documents
العلم نشاط خاص لم تكن له على الدوام ال القوة وال االنتشار اللذين يعرف بهما اليوم.
جغرافيا ،ظهر العلم في حوض البحر األبيض المتوسط وأوربا الغربية ،ولم يمتد إلى أجزاء
الكرة األرضية األخرى إال مؤخرا )القرن (19وبشكل غير متكافئ .
تاريخيا ،نستطيع القول إن له عقدين للميالد :فقد ظهر أوال ،وبشكل خاص ،على شكل
رياضيات ومنطق وعلم فلك ،وذلك منذ القديم .هذه العلوم التي ذهبت بها شعوب معينة
بالحوض المتوسطي كانت علوما تأملية خالصة ،بمعنى أنه في مجتمع كمجتمع أثينا مثال لم
يكن لهذه العلوم أي ميل لخدمة أي تقدم تقني ،بل كانت وظيفتها الترويح عن النفس وتثقيف
المواطنين العاطلين عن العمل بإعطائهم تصورا معينا عن العالم .وقد ظهر العلم بعد ذلك في
القرن 17في أوربا الغربية في خضم منافسة مع النسق التجاري ،ولكن بشكل أكثر مغايرة
هذه المرة للسابق حيث ،وباعتباره ظل أبعد ما يكون عن الصبغة التأملية ،فقد حاول تحصيل
المعارف المشبعة للحاجات العملية .وهذا هو السبب في كون العلوم المنحدرة من هذا المهد
الثاني ،تختلف جذريا ،من حيث م وضوعاتها ومناهجها ،عن العلوم التأملية الخالصة :إنها
ستحاول معرفة العالم المشخص الفيزيقي )في القرن 17كانت الفيزياء تعني كل علوم
الطبيعة( وستطبق المنهج التجريبي إلنجاز هذه المهمة.
وال يتعلق األمر بادعاء أن كل األبحاث كانت لها غايات عملية وال أن كل االكتشافات أمكن
استيعابها كاكتشافات مشتقة من الحاجات التكنولوجية ،ومع ذلك فقد شّك ل العلم المولود في
القرن 16موضوع اهتمام البورجوازيين أو التجار الذين ،مع أنهم لم يمارسوه بأنفسهم بل
تركوا أمره لالختصاصيين ،فإنهم حلموا بتملك العالم بواسطته ،كما باشروا ذلك فعليا عن
طريق نشاطهم االقتصادي .وكما بشر بذلك "ديكارت" ،فإن العلم منذ ذلك الحين ،استهدف
"جعلنا أسيادا متملكين للطبيعة" .ولم يذهب بنا تجديد العلم في القرن 17بعيدا ،فهو لم يفعل
سوى أنه فتح أمام العلم قارة أخرى :قارة "الفيزياء" ،وساهم أيضا بالتدريج ،وبروح نفعية،
في استخدام العلوم القديمة التأملية من رياضيات ومنطق في دراسة الطبيعة .وهذا هو السبب
في أننا عندما نتكلم اليوم عن العلم المعاصر ،فإننا نتجاهلمكتسبات العلم القديم وعلوم القرون
الوسطى ،التي ال يمكن اعتبارها مكتسبات بدون معنى ،لكي نشير ونعنيبشكل جوهري العلم
اآلن نفس في يشيران اللذان النعتان هذان التجريبي، أو اإلمبريقي
للموضوع )الطبيعة( وللمنهج)االختبار التجريبي(.
يعرف العلم على أنه" معرفة موضوعية تنشئ بين الظواهر عالقات كلية وضرورية تسمح
بالتنبؤ بالنتائج )المعلوالت( التي نحن قادرون على التحكم فيها تجريبيا ،أو تحديد سببها عن
طريق المالحظة".
إن العلم معرفة :من زاوية النظر الوحيدة هاته ،يماثل العلم ما نسميه المعرفة -1
اإلمبريقية ،بمعنى المعرفة المؤسسة على التجربة الفورية التي هي غالبا
خاطئة )النار تحرق ـ الصوف يحتفظ بالحرارة...الخ( ،والمعرفة التقنية )فن
صناعة البواخر على سبيل المثال( .غير أن المقارنة تتوقف عند هذا الحد :إذ
المعرفة اإلمبريقية وكذا المعرفة التقنية تتحددان بواسطة الحاجات الفورية التي
تستجيبان لها )أتعرف على النجوم من أجل أن ترشدني ،أسوق سيارتي لغرض
التنقل … الخ( ،في حين لم تكن للمعرفة العلمية أبدا تطبيقات فورية ،إنها إجراء
ثقافي وفكري خالـص ولو أنها أنشئت لغاية تطبيقات عملية محددة .لقد استطاع
علماء في دراسة علم القذائف الوصل إلى قوانين فيزيائية لتحسين مردودية قطع
المدفعية ،إال أنهم كانوا مطالبين باستخالص قوانين عامة صالحة بالنسبة لجميع
األجسام المقذوفة .وقد استخدمت هذه القوانين فيما بعد من طرف رجال المدفعية
ولكن أيضا في مجاالت عديدة .
إن المعرفة العلمية معرفة موضوعية أو تنزع نحو الموضوعية :فهي تتمثل في -2
قضايا )قوانين( و/أو أنسقة من القضايا )نظريات( مطالبة ،وفي اآلن نفسه،
باالستجابة لمعايير الصالحية )التماسك المنطقي الداخلي لقضية أو نسق من
القضايا( ولمعايير الحقيقة )التطابق بين القضية والوقائع( .وهذان النوعان من
المعايير )خاصة المعايير الثانية( مستقالن أو يحاوالن االستقالل عن كل تقدير
ذاتي .هكذا يلغي العلم قضايا اللغة الدارجة أو الشعرية التي تتضمن تناقضا داخليا،
والقضايا المتناقضة مع أخرى وأيضا القضايا التي تم تكذيبها بواسطة التجربة أو
المالحظة .وبإرضاء هذين الشرطين يستطيع العلم أن يدعي الموضوعية
والحصول على موافقة )إجم اع( الجماعة العلمية )المجتمع( .هذا مع التأكيد على
أن موضوعية المعرفة العلمية ال يتم تحصيلها بشكل فوري ومباشر ألنها مسألة
يمكن امتالكها بالتدريج نتيجة التعديل المتعاقب لألخطاء والتدقيق واإلرهاف
المستمرين للنظريات .
يدرس العلم الظواهر وال نعني بهذا اللفظ األشياء أو الوقائع التي يستطيع أي إنسان -3
مالحظتها فيماحوله ،بل نعني به األشياء أو الوقائع المحددة والمنتقاة والمصنوعة
من طرف العلماء .فالكيمياء ،على
،والفيزيائي كيميائيا H2O سبيل المثال ،ال تدرس ماء الحنفية أو ماء معدنيا بل تدرس مركبا
الذي يريدتبدية قانون السقوط الحر لألجسام ال يهتم باالنتحار والسقوط من النافذة )بالنسبة
لألشخاص(.
يقيم العلم عالقات كلية وضرورية وبذلك يتجاهل الحاالت الخاصة والجزئية ،وال -4
يهتم إال بالظواهر التي تحدث دائما في ظروف محددة .إن العالقات المقامة بين
حدوث الظواهر والشروط واألسباب التي تؤدي إلى حدوثها هي ضرورية بمعنى
أن الظاهرة ال يمكن أال تحدث عندما تجتمع وتتوفر شروط حدوثها .والعالقات
المستخلصة بهذه الصورة تحمل صفة "قانون".
يمِّ كن العلم من التنبؤ انطالقا من القوانين التي ينشئها ،وهنا يجب أن نميز -5
بوضوح بين نشاطات وإمكانيات العلم في مجال التنبؤ ونبوءات وتكهنات
العرافين .إن التنبؤ العلمي يفترض بالفعل التحكم الكامل في سيرورة ما ،بمعنى
معرفة سبب ما وتأثير ما ،ونتيجة لذلك تتوفر لهذه المعرفة ميزة مطلقة .على سبيل
المثال يمكن التنبؤ وبدقة المتناهية بحاالت الخسوف كما هو الشأن بالنسبة
لمسارات المركبات الفضائية .وإذا كانت التنبؤات المناخية )األرصاد
الجوية( والتي ليست بالسوء الذي يزعمه البعض ال تضمن في شيء الحالة الجوية
المثلى )المتنبئ بها( لعطلنا األسبوعية أو الكبرى ،فإن مرد ذلك فقط إلى التعقد
والتفاعل بين الظواهر التي ال نعرفها بشكل جيد دائما ،وإلى صعوبة مالحظتها
باالمتداد واالتساع الضروريين .
وهكذا فإن العلم بفضل موضوعيته ،وبفضل الضرورة المطلقة للعالقات التي يقيمها،
والتنبؤات التي يقوم بها ،وأيضا بفضل التواضع والحذر المصاحبين لكل قضية من قضاياه هو
خاطئة. معرفة من طبيعة أخرى مغايرة لطبائع أنواع المعارف األخرى ،صحيحة كانت أم
إن العلم إنجاز اجتماعي ،فمكان والدته ووجوده ليس عالما واسعا من األفكار أو "الحقائق
ن ِتج ا لألفكار العلمية" وإنما هو المجتمع ذاته الذي يشكل ال ع اِلـم بالنسبة إليه ُم
والنظريات والتجارب .إن هذا اإلنتاج له بدون شك سمة خاصة ،فالعلم ال ينتج البضائع أو
اآلالت بشكل مباشر ،وإنما في ظل الشروط االجتماعية التي تخضع لها اإلنتاجات األخرى.
ويؤكد العديد من المفكرين المهتمين بتاريخ الفكر العلمي أن علوم الطبيعة التي ُيختزل إليها
العلم غالبا ،ولدت مع الحدث المتعلق بميالد النسق التجاري والرأسمالي .فالبورجوازية
الصاعدة-ثم المتحكمة في السلطة -وفي ف ترة ما قبل الرأسمالية وفي نمط اإلنتاج الرأسمالي
نفسه ،كانت في حاجة لنسق إنتاجي يمكنها من االستغالل المطرد والمتناميللطبيعة ،ويفترض
هذا النسق اإلنتاجي وجود عامل من نوع جديد ضمن العمال األحرار )بمعنى أكثر تحررا
مناآلخرين( هو ال ع ا ِل ُم الذي ال يهتم إال باستخراج القوانين العامة للطبيعة ،أما العمل
المنتج بشكل خاص كإنتاجالخيرات االستهالكية واآلالت...إلخ ،فكان موكوال في البداية إلى
المصانع ،ثم أوكل إلى عامل تحول بسرعة إلى عامل ضروري مع تطور اإلنتاج ،هو
خاصة. المهندس الذي ال تتمثل مهمته إال في استخدام اكتشافات العالم النظرية في تطبيقات
في هذا الصدد ،كتب "فريديريك إنجلز " Frederick Engelsفي كتابه المادية التاريخية:
العلم في ظل النظام الرأسمالي :ألن المعرفة العلمية ناجمة عن ممارسة تحويل الطبيعة،
وألنها تتحول بدورها إلى عامل في عملية تحويل الطبيعة اإلنسانية ،فإن تطورها يتم بانسجام
مع التغيرات الحاصلة في نمط اإلنتاج؛ أوال في الصناعة التقليدية ثم في الصناعة .عندما
تتحول األشكال االجتماعية ما قبل الرأسمالية إلى بنيات رأسمالية ،فإن المعرفة اإلمبريقية
الشعبية تغدو متحولة في الطور األول من العلم المعاصر.
إن العلم ،كالرأسمالية ،يشكالن قوة "ُم ـ ح ض رة" بداخل حدود معينة يمكن تجسيدها من
خالل المثالين التاليين :فالثورة الجاليلية )نسبة إلى غاليليو جاليلي( في ميدان الكوسمولوجيا
دمرت نموذج "بطليموس" القائل بعالم ممركز حول األرض ومأمور بشكل كلي من قبل
اإلله ،وفيما بعد كان على داروين أن يجعل من اإلله عامال هامشيا بخصوص خلق العالم
واإلنسانية ،فبدا العلم هكذا كمعرفة نقدية ومحررة لإلنسانية من جبروت الخرافة التي
بوجودها في نسق الفكر الديني شكلت المفتاح والدعامة اإليديولوجية للنظام االجتماعي
السابق .إن نمط اإلنتاج المؤسس على الرأسمالية يستلزم تجديدا مستمرا على جميع أصعدة
الحياة كخلق موضوعات جديدة وأفكار جديدة وتقنيات جديدة وأشكال اجتماعية جديدة .إنه
يتطلب كما يقول ماركس "تطور علوم الطبيعة إلى أقصى درجاتها ".
ويستمر ماركس موضحاكيف تصبح شروط العلم هاته ق وة منتجة مباشرة بقوله إن الطبيعة
ال تنتج ال اآلالت والالقاطرات وال السكك الحديدية وال التلغراف وال الجرارات . . .إلخ ،إنها
منتجات الصناعة اإلنسانية من مواد طبيعيةمحولة إلى أدوات ،من إرادة إنسانية مفروضة
على الطبيعة ،أو من المساهمة اإلنسانية داخل الطبيعة ،إنها أدوات العقل اإلنساني مبتكرة
بفضل يد اإلنسان وقدرة الموضعة في المعرفة اإلنسانية .إن تطور الرأسمال الثابت يشير إلى
أي مدى تحولت المعرفة االجتماعية إلى قوة منتجة مباشرة ،وبالتالي ،إلى أي درجة تم
إخضاع شروط مسار الحياة االجتماعية ذاتها لرقابة الذكاء العام ،وكيف تم تحويلها بشكل
موافق لها" ،فليس العلم بمعنى عام غير منفصل عن سيرورة اإلنتاج.
قمنا لحد اآلن بفحص للعلم في وحدته ،غير أن التشتت المطرد للعلوم يضطرنا للتساؤل عن
عالقات القرابة التي تقوم فيما بينها في مجموعها ،وعن االختالفات التي تعمل على تعارضها
فيما بينها .إن تصنيف العلوم هو إذن ،وبادئ ذي بدء ،ضرورة إبستمولوجية تتم بتحديد مواقع
العلوم في عالقاتها ببعضها ،أي ضرورة القيام بتصنيف للعلوم.
يمكن تصنيف العلوم إما حسب موضوعها )مثال تمييز التجريبيين بين العلوم -1
الصورية :المنطق والرياضيات ،وعلوم الطبيعة :الفيزياء ـ الكيمياء ،
البيولوجيا . . .إلخ ،والعلوم اإلنسانية :علم النفس ،علم االجتماع ...إلخ( .
أو حسب مناهجها من خالل التمييز بين العلوم الفرضية االستنتاجية كالرياضيات -2
والمنطق ،وعلوم المالحظة كعلم الفلك ،علم النبات ...إلخ ،والعلوم التجريبية
كالفيزياء والبيولوجيا وعلم النفس ...إلخ -3أو حسب وضعيتها ،مثال التمييز فيما
بين علوم تصنيفية كعلم الحيوان أو علم الفطريات ...إلخ ،العلوم االستقرائية
كالفيزياء ما قبل الكالسيكية ،وربما اليوم علم االجتماع األمبريقي وعلم النفس
التحليلي ،العلوم االستنتاجية كالفيزياء الكالسيكية ،البيولوجيا المعاصرة ...إلخ،
والعلوم األكسي ومية :كالرياضيات والفيزياء المعاصرة .
وكيفما كان المعيار المستخدم فإننا نرى كيف تنبثق من كل هذه التصنيفات فكرة التراتبية،
وإعطاء قيمة لعلوم معينة على حساب علوم أخرى ،وهذا أيضا بديهي بالنسبة للتصنيف حسب
النتائج الذي ينتصر للتجريب )وهي الصفة المرفوضة فيما يبدو بشكل قطعي ومتعسف لعلوم
معينة أثبتت وجودها كعلم الفلك بالنظر لطبيعته( ،وأيضا بالنسبة للتصنيف حسب الوضعيات
الذي يعطي للفيزياء خاصية االمتياز لجهوده التي تستحق ذلك في مجال الصورنة،
وهذايصدق أيضا.
تصنيف "أوغست كونت" ) Auguste Comteتصنيف العلوم حسب تعقد الظواهر التي
تدرسها(:
في كتابه "دروس في الفلسفة الوضعية" ،ينطلق "أوغست كونت" من فكرة أنه للحصول على
تصنيف طبيعي وإيجابي )وضعي( للعلوم األساسية ،يجب أن نبحث عن مبدأ التصنيف من
خالل مقاربة مختلف الظواهر التي تهتم بها العلوم للكشف عن قوانينها ،وما نريد توضيحه هو
التعالق الواقعي بين مختلف األبحاث العلمية ،Pluridisciplinaritéوالحال أنه ال يمكن أن ينتج
هذا االعتماد المتبادل إال من تعالق الظواهر المقابلة لهذه األبحاث) .المقصود بالتعالق هنا هو
االعتماد المتبادل بين العلوم المختلفة بعضها على بعض ،بمعنى أن علم ما تتعلق نتائجه
ومناهجه وموضوعه بعلم آخر مع احتفاظ كل علم بخصوصيته الجوهرية( .
وبأخذنا بعين االعتبار لكل الظواهر القابلة للمالحظة ،ومن زاوية النظر هاته ،سنرى أنه
يمكن تصنيفها في عدد قليل من الدرجات الطبيعية ،مرتبة بطريقة تجعل الدراسة العقالنية لكل
صنف دراسة مؤسسة على معرفة القوانين األساسية للصنف السابق ،وتصير بذلك أساس
دراسة الصنف الالحق .وهذا النظام والترتيب هو محدد بدرجة البساطة أو بدرجة عمومية
الظواهر ،حيث ينتج تعالقها المتتابع كنتيجة البساطة األكبر أو األصغر لدراستها.
إن تأمال أوليا لمجموع الظواهر الطبيعية يدفعنا إلى تقسيمها تبعا للمبدأ الذي أتينا على وضعه
في صنفين أساسيين كبيرين ،يضم األول منهما كل ظواهر األجسام الخام ،في حين يضم
الثاني كل ظواهر األجسام المنظمة )العضوية(.
هذه األخيرة هي بالفعل أكثر تعقدا أو خصوصية من األخرى .ومن هنا ضرورة عدم دراسة
الظواهر الفيزيولوجية إال بعد دراسة ظواهر األجسام غير العضوية .
لننتقل اآلن إلى التحديد األساسي للتصنيف الموالي الذي يحتمله ،تبعا لنفس القاعدة ،كل من
هذين الصنفين الكبيرين للفلسفة الطبيعية .نرى أوال بالنسبة للفيزياء الالعضوية ،وبتقيدنا دائما
لخاصية العمومية واالعتماد في الظواهر ،وجوب تقسيمها إلى قسمين متمايزين تبعا لكونها
تدرس الظواهر العامة للكون ،أو بشكل خاص ،تلك التي تعرضها األجسام األرضية ،حيث
نجد الفيزياء السماوية أو علم الفلك سواء أكان هندسيا أم ميكانيكيا ،ثم الفيزياء األرضية.
وباعتبار الظواهر الفلكية ظواهر أكثر عمومية وبساطة وتجريدا من غيرها ،فبديهي أنه يجب
أن تبتدئ الفلسفة الطبيعية بدراستها؛ ما دامت القوانين التي تخضع لها تؤثر على قوانين كل
الظواهر األخرى ،والتي هي ذاتها ،وبالعكس من ذلك ،منفصلة عنها بصورة جوهرية؛ ففي
كل ظواهر الفيزياء األرضية نالحظ أوال النتائج العامة للجاذبية الكونية ،وكذا بعض النتائج
األخرى التي هي خاصة بها ،والتي تـ عدل األولى.
وتندرج الفيزياء األرضية بدورها في صنافة أدنى ،تبعا لنفس المبدأ ،في قسمين مختلفين جدا
تبعا لما إذا كنا نتأمالألجسام من زاوية نظر ميكانيكية أم من زاوية نظر كيميائية ،أي حيث
تتأتى الفيزياء بالمعنى التام للكلمة ثمالكيمياء .ولكي يتم تصور ذلك بصورة منهجية حقيقية،
يفترض بالبداهة وجود معرفة سابقة ]العلم السابق[؛ ذلك ألن كل الظواهر الكيميائية هي
بالضرورة أكثر تعقيدا من الظواهر الفيزيائية ،وهي تتوقف عليها بدون أن تؤثر فيها .وكل منا
يعرف بالفعل أن كل تفاعل كيميائي هو خاضع أوال لتأثير الثقل والحرارة والكهرباء ...إلخ،
ويعرض زيادة على ذلك شيئا ما خاصا ،يعدل حركة العناصر السابقة.
تعرض كل الظواهر الحية نظامين أو نوعين من الظواهر المتميزة جوهريا ،أي تلك المتعلقة
بالفرد وتلك المتعلقة بالن وع ،خصوصا عندما تكون قابلة لالجتماع ،ويعتبر هذا التمييز
أساسيا وبالخصوص بالعالقة مع اإلنسان؛ فهذا النوع أو النظام األخير من الظواهر هو
بالبداهة أكثر تعقيدا وخصوصية من األول ،إنه يتوقف عليه دون أن يؤثر فيه ،ومن هنا ينتج
قطاعان كبيران بداخل الفيزياء العضوية :الفيزيولوجيا بمعنى الكلمة ،والفيزياء االجتماعية
األولى. المؤسسة على
إننا نالحظ أوال في كل الظواهر االجتماعية تأثير القوانين الفيزيولوجية لدى الفرد ،وفوق ذلك
شيئا خاصا يعدل تأثيراتها ،ويتعلق بتأثير األفراد على بعضهم البعض ،وهو معقد باألخص
لدى النوع اإلنساني ،نتيجة تأثير كل جيل على الجيل الذي يليه .من البديهي إذن أنه يجب لكي
ندرس الظواهر االجتماعية بشكل مالئم أن ننطلق أوال من مع رفة معمقة بالقوانين المتعلقة
بالحياة الفردية.
كنتيجة لهذه المناقشة ،تجد الفلسفة الوضعية ذاتها مقسمة بشكل طبيعي إلى خمسة علوم
أساسية ،يتحدد تباينها بفعل اعتماد متبادل ضروري وثابت ومؤسس باستقالل عن أي رأي
افتراضي ،على مجرد المقارنة المعمقة بين الظواهر المقابلة ،وتلك العلوم هي:
يكتسي تصنيف "كونت "أهمية كبيرة مقارنة بالتصنيفات األخرى ،فهو يصنف الظواهر،
وبالتالي العلوم التي تشكل هذه الظواهر موضوعاتها حسب مستويات مختلفة ،من البسيط إلى
المعقد ،وبطريقة تجعلنا عندما نمر من مستوى أدنى إلى مستوى أعلى نجد مسبقا الظواهر
مفسرة جزئيا ولن يتبقى أمام العلم من المستوى األعلى إال تقرير العالقاتالخاصة القائمة بين
الظواهر التي يدرسها.
إن التصنيف الكونتي في حقيقته التاريخية ،كما في أشكال استغالله الالحقة هو وككل تصنيف
آخر ،ليس محايدا .وهو ككل تصنيف ،كما سبق وقلنا يخفي تراتبية معينة؛ وتصنيف "أ
وغست كونت" هو بدون شك أحسن األمثلة على ذلك؛ ففي الوقت الذي يدعي فيه أن هذا
التصنيف إيجابي ووضعي ،بمعنى أنه محرر من كل ميتافيزياء ،أو متطابق في نفس اآلن مع
تراتبية الوقائع المدروسة من قبل العلوم ومع التطور التاريخي لهذه األخيرة ،فإنه كان موجها
بشكل كلي لكي يجعل من السوسيولوجيا )الفيزياء االجتماعية( التتويج واالكتمال بالنسبة
للمعرفة العلمية ،وهذا تحديدا ما يقودنا إلى التساؤل عن وضعية العلوم اإلنسانية ضمن تراتبية
تصنيف العلوم.