You are on page 1of 19

www.mominoun.

com
‫بحث محكم‬
‫قسم الفلسفة والعلوم اإلنسانية‬
‫‪ 22‬نونرب ‪2023‬‬

‫جميع الحقوق محفوظة © ‪2023‬‬


‫الفلسفة من التمركز اإلنساين إىل التمركز البيئي‬
‫أسس الفلسفة البيئية‬
‫‪4‬‬

‫امللخص‪:‬‬

‫يهدف هذا البحث إىل رصد األسس العلمية والفلسفية والتاريخية التي قامت عليها الفلسفة البيئية‪ .‬شكل‬
‫مفهوم البيئية بشكل خاص‪ ،‬وقضايا البيئة بشكل عام‪ ،‬القضية األكرب واألبرز يف الفرتة املعارصة‪ ،‬وهذا ليس فقط‬
‫بالنسبة إىل مبحث الفلسفة‪ ،‬ولكن بالنسبة إىل جميع املباحث وامليادين كاالقتصاد والسياسة والعلم والدين‬
‫واألخالق‪ ...‬غري أن الدراسة الفلسفية لهذه القضية املستجدة تسعى لتكوين نظرة سريوراتية لها؛ ألن االهتامم‬
‫بالبيئة وكل القضايا واملشكالت التي تطرحها شكلت محط نقاش فلسفي كبري خالل القرن ‪ ،20‬حاول من خالله‬
‫الفالسفة نقد األسس الفلسفة التي قامت عليها النزعة الذاتية التي ميزت لفرتة الحديثة‪ ،‬وخاصة األساسني‬
‫األخالقي واملعريف اللذين من خاللهام تم الرتويج لفكر أن اإلنسان هو من الناحية األخالقية الكائن األهم يف‬
‫الكون‪ ،‬وأنه مركز كل معرفة بالعامل‪ ،‬وهو ما يعني أن النزعة البيئية يف الفلسفة جاءت نقيضا للنزعة الذاتية؛‬
‫ألن النزعة البيئية تنظر إليه كجزء فقط من منظومة بيئية كبرية‪ .‬لهذا يسعى هذا العمل البحثي إىل رصد هذا‬
‫التحول يف الفلسفة من الفرتة الحديثة إىل الفرتة املعارصة‪ ،‬باعتبار أن الفلسفة البيئية إحدى أبرز نتائج ذلك‬
‫التحول‪ .‬لهذا أوسمنا هذا التحول بأنه انتقال من التمركز الذايت (الذي يحيل إىل الفلسفة الحديثة) إىل التمركز‬
‫البيئي (الذي يشري إىل الفلسفة املعارصة)‪ .‬ويرتكز هذا العمل يف األساس عىل منهجية تأصيلية تسعى لتحديد‬
‫األسباب والعوامل الذي أدت إىل حدوث ذلك التحول‪ ،‬والتي ميكن توزيعها عىل ثالثة حقول معرفية أساسية‬
‫مهدت لظهور النزعة البيئية‪ ،‬هي العلم والفلسفة والثقافة‪/‬الحضارة‪.‬‬
‫‪5‬‬

‫تقديم‪:‬‬

‫إن ما نقصده بالفلسفة البيئية يف هذا العمل هو ذلك النمط من التفكري الذي أصبح يعترب قضية‬
‫البيئة هي قضيته األوىل‪ ،‬وقد يشري إىل األعامل الفردية للفالسفة والعلامء كام قد يشري إىل الوثائق الرسمية‬
‫للمؤسسات حول البيئة مثل مؤسسة األمم املتحدة‪ .‬وسننطلق يف هذا العمل من تسويغ فكرة أن فهم ظهور‬
‫الفلسفة البيئية غري ممكن إال عرب هدم املقوالت التي تأسست عليها الفلسفة الحديثة مبا هي قامئة عىل‬
‫النزعة الذاتية‪ .‬فإذا كان التمركز البيئي يبني أدبياته عىل فكرة أن اإلنسان هو‪ ،‬فقط‪ ،‬جزء من منظومة بيئية‬
‫شاملة تضم املاليني من الكائنات الحية يف إطار ما يسمى يف الدراسات البيئية بالتوازن الطبيعي‪ ،‬فإن هذه‬
‫الفكرة مل تكن ممكنة إال بعد هدم فكرة أن اإلنسان هو مركز الكون كام كانت تعترب الفلسفة الحديثة‪ .‬وهكذا‬
‫سيتضح لنا أن ظهور الفلسفة البيئية هو‪ ،‬من زاوية معينة‪ ،‬تحول يف الفكر الفلسفي له أسبابه وعوامله التي‬
‫أدت إليه‪ ،‬هي موضوع هذا العمل البحثي‪.‬‬

‫لقد ركز العمل الفلسفي يف الفرتة الحديثة عىل تحديد معامل الوعي والهوية اإلنسانية‪ ،‬من أجل بيان‬
‫متيز اإلنسان مقارنة مع باقي الكائنات‪ .‬لقد مثل كانط أوج النزعة الذاتية؛ ألنه أكرب فيلسوف حاول الولوج‬
‫إىل أعامق الذات اإلنسانية‪ ،‬فتطويره ملفهوم العقل الخالص وللمنهج الرتنسندنتايل جعاله يكون أول من يتم‬
‫توجيه سهام النقد لهم عند نقد النزعة الذاتية؛ ألن فلسفته هي التي غذت بشكل كبري الثنائية التي قامت‬
‫عليها النزعة الذاتية (ذات‪/‬موضوع‪ -‬تجربة‪/‬عقل – فكر‪/‬واقع)‪ .‬لهذا‪ ،‬فالفالسفة املعارصون الذين رفضوا بشدة‬
‫تلك الثنائية يتجهون إىل كانط وليس إىل ديكارت‪ ،‬مثل الفيلسوف األمرييك جيمس الذي طور مفهوما مضادا‬
‫متاما للعقل الخالص‪ ،‬وهو التجربة الخالصة التي يقصد بها البيئة كوسط تعيش فيه الكائنات مبا فيها اإلنسان‪.‬‬

‫يف النظرية األخالقية‪ ،‬تم يف الفرتة الحديثة الرتويج لفكرة أن اإلنسان هو الكائن الوحيد الذي ميتلك‬
‫الكرامة ويستحق االحرتام إذا ما متت مقارنته مع باقي الكائنات؛ فكانط عرب عن هذا بشكل واضح يف كتبه‬
‫مثل نقد العقل العميل وتأسيس ميتافيزيقا األخالق‪ .‬صحيح أن هذا االعتبار األخالقي لكانط كانت له دواعيه‬
‫التاريخية التي ميكن إرجاعها إىل أن كانط ومعظم الفالسفة أصحاب النزعة الذاتية‪ ،‬قد سعوا إىل تحرير‬
‫اإلنسان من قبضة الالهوت الكنييس الذي يقدم اإلنسان عىل أنه مجرد خطيئة وغري قادر‪1‬؛ وذلك من خالل‬
‫القول بحرية اإلنسان وقدرته عىل املبادرة والقيام بالسلوك الفاضل‪ ،‬إال أن هذه النظرة أدت إىل نتائج مل‬
‫يتقبلها الفالسفة املعارصين‪ ،‬أهمها النظرة الذرية لإلنسان كأنه جزء مفكر ومعزول‪ ،‬فهو يف نظر املعارصين‬
‫كائن تابع لسياق اجتامعي وطبيعي ال ميكن فصله عنه‪ .‬لهذا‪ ،‬فالنظريات األخالقية املعارصة قامت عىل الفكرة‬
‫السياقية لإلنسان؛ أي إنه يستمد القيم من بيئته وليس من ذاته‪.‬‬
‫‪ 1‬يمكن النظر إلى الفلسفة الحديثة على أنها انخراط في نقاش االستطاعة والجبر (الحرية والضرورة) الذي بدأ في الالهوت الوسيطي‪ ،‬سواء في السياق‬
‫المسيحي أو السياق اإلسالمي‪ .‬ومن المعلوم أن الكثير من الالهوتيين من دعم فكرة أن اإلنسان يختار أفعاله‪ ،‬غير أن هناك مدارس كبرى دعمت فكرة‬
‫أن أفعال اإلنسان مكتوبة وال اختيار له فيها‪ .‬ونظرا للنهايات المأزقية لهذا الموقف فيما يتعلق بمسألة السلوك والمسئولية‪ ،‬فقد ذب مجموعة من الفالسفة‬
‫في الفترة الحديثة مثل كانط إلى تبرير حرية اإلنسان واختياره ألفعاله‪.‬‬
‫‪6‬‬

‫أما يف املجال العلمي‪ ،‬فقد قام العلم الطبيعي الحديث عىل فكرة املرجع الذي يشكل األساس املتني‬
‫للعلم أال وهو الذات اإلنسانية‪ .‬فديكارت‪ ،‬باعتباره أب الفلسفة الحديثة‪ ،‬وضع قوام الفيزياء الحديث الذي‬
‫يعترب املعرفة بالذات هي أصل املعرفة بالعامل‪ ،‬غري أن فكرة ديكارت هذه قد جاءت يف ظل سياق كبري اتجه‬
‫إلعطاء األهمية للذات يف عمليات املعرفة‪ .‬واملقصود هنا الثورة الكربنيكية يف علم الفلك (من مركزية األرض‬
‫إىل مركزية الشمس) التي بينت أن الراصد يلعب دورا حاسام يف تحديد وتفسري حركات الكواكب‪ .‬لهذا انكب‬
‫علامء الفرتة الحديثة إىل تربير أهمية العلوم التجريدية يف فهم قوانني الطبيعة‪ ،‬وإىل بيان أن هذه القوانني ال‬
‫ميكن متثلها إال عىل شكل قوى وأشكال هندسية وأعداد‪ ،‬وهو ما حصل مع غالييل ونيوتن وغريهام‪ ،‬غري أن‬
‫النظرة العلمية الحديثة للعامل القامئة عىل اعتبار الذات مركز العلم انتهت إىل النزعة امليكانيكية التي ال تكرتث‬
‫بالطبيعة‪ ،‬باعتبارها حياة‪ .‬فالطبيعة حسب معظم علامء الفرتة الحديثة هي عالقات ميكانيكية ميكن تفسريها‬
‫بالقوى‪ ،‬وهو ما يعني أن الطبيعة ميتة وال تحس‪ .‬وهذا ما مل يقبله العلم الطبيعي خالل القرن ‪19‬م؛ إذ حول‬
‫دحض هذه النظرة امليكانيكية معوضا إياها بالنظرة العضوية للعامل‪ ،‬باعتباره خلية حيوية هائلة‪ ،‬وخاصة مع‬
‫التطورية يف إنجلرتا والكيمياء والفيزياء وفلسفة‪-‬الطبيعة ‪ naturephiloophie‬يف أملانيا‪ .‬وقد كان هذا التحول‬
‫العلمي أحد أساس ظهور الفلسفة البيئية‪.‬‬

‫انطالقا من هذا االعتبارات‪ ،‬وإضافة إىل األحداث التاريخية التي ميزت مطلق القرن ‪ 20‬سنحاول رصد‬
‫أسباب ظهور الفلسفة البيئية‪ ،‬باعتبارها فكرا ميز الفرتة املعارصة‪ ،‬خاصة وأن قضية البيئة اآلن أصبحت هي‬
‫قضية القضايا؛ ألنها تطرح عىل املحك الوجود البرشي ووجود كل الكائنات عىل كوكب األرض‪.‬‬

‫‪ .I‬األسس العلمية للفلسفة البيئية‪:‬‬

‫سنعمل يف هذا املحور عىل رصد األسس العلمية التي أدت إىل ظهور الفلسفة البيئية‪ ،‬وهذا عمال مببدأ أن‬
‫«خلف كل ثورة فلسفية توجد نظرية علمية كبرية»‪ ،2‬وهي األسس التي قامت عىل نقد النزعات امليكانيكية‬
‫التي سيطرت عىل العمل العلمي خالل الفرتة الحديثة‪ ،‬مستبدلة مفاهيمها مبفاهيم أخرى عضوية وديناميكية‬
‫وحيوية‪ .‬سرنكز هنا بالخصوص عىل التطورية الداروينية وفيزياء الكوانطا‪.‬‬

‫‪ .1‬التطورية الداروينية واإلرث الطبيعاين‪:‬‬

‫ال يختلف اثنان حول كون الثورة التي حدثت يف البيولوجيا‪ ،‬والتي تعرف بصفة عامة بنظرية التطور‪،‬‬
‫كانت األرضية العلمية التي عجلت بظهور الفكر البيئي يف الفرتة املعارصة‪ .‬كانت هناك مساهامت كثرية‬
‫وكبرية ملجموعة من العلامء يف تضخيم النظرة التطورية للعامل‪ ،‬مثل جون‪ -‬بابتيست المارك وإراسموس‬
‫داروين وتشارلز لييل وبوفون‪...‬غري أن نرش كتاب أصل األنواع لشارلز داروين سنة ‪ 1859‬شكل نقطة فارقة يف‬
‫‪2 Baakrime abdelmajid, La relation perceptive selon Alhazen et ses retombées philosophiques.‬‬
‫‪7‬‬

‫تاريخ البيولوجيا‪ ،‬بل يف تاريخ الفكر اإلنساين عامة‪ .‬لقد استطاع داروين قلب موازين القوى سواء عىل مستوى‬
‫مضمون النظريات العلمية واملنطقية والفلسفية أو عىل مستوى املنهج املستخدم‪.‬‬

‫ففي املستوى الفلسفي واملنطقي‪ ،‬دحض داروين فكرة املاهيات املطلقة التي قامت عليها الفلسفة‬
‫واملنطق منذ نشأتهام عند اليونان‪ 3 ،‬وهو ما مل تستطع أي فلسفة التصدي له‪ .‬فداروين من خالل فكرة التطور‬
‫بني أن ال يشء يحتفظ مباهية خالصة وخاصة به متيزه عن باقي الكائنات كام كان يعتقد أرسطو وغريه من‬
‫الفالسفة الحديثني مثل ديكارت‪ .‬فصورة اليشء الحالية‪ ،‬وبالتايل صورة الحياة الحالية بصفة عامة‪ ،‬هي نتيجة‬
‫لسريورة طويلة من التطور‪ .‬وهذا التطور يحدث بفضل العوامل الطبيعية مثل نوع الغذاء ونوع املناخ‪ 4...‬لقد‬
‫مكنت هذه الفكرة داروين من تجاوز الفكرة الفلسفية التي تسعى لتفسري تواجد اإلنسان يف األرض تفسريا‬
‫متعاليا ومفارقا؛ فاإلنسان بالنسبة إىل التطورية جزء من السريورة التاريخية للتطور‪ ،‬وال ميكن تفسري ذكائه‬
‫املتزايد إال ضمن ما يسمى سلم التطور‪ ،‬وليس ضمن اإلطارات امليتافيزيقية التي تفصله عن الطبيعة‪ .‬لقد‬
‫أدى هذا إىل تجاوز املنطق واألنطولوجيا املتعالية والفكرية‪ ،‬وأدت يف املقابل إىل ظهور األنطولوجيا البيئية‬
‫(‪ 5)eco-ontology‬واملنطق البيولوجي (‪ )bio-logic‬الذي يسمى عند الرباجامتيني‪ ،‬وخاصة شارل ساندرس‬
‫بريس وجون ديوي‪ ،‬مبنطق البحث (‪.)logic of inquiry‬‬

‫أما عىل املستوى املنهجي‪ ،‬لقد بينت هذه أطروحة داروين أن املنهج االختباري ‪experimental method‬‬
‫هو مفتاح فهم الطبيعة‪ .‬لهذا أصبح البحث العلمي يتم يف تخصصات جديدة كالباليونطولوجيا والزولوجيا‬
‫والكيمياء‪ 6...‬ويتم من خالل عملية االستقراء‪ ،‬فقد كان داروين ينطلق يف أبحاثه من دراسة خصائص الكائنات‬
‫مثل الحامم والنباتات من أجل تكوين أفكار وخالصات عامة حول الحياة وأشكالها‪ .‬لقد شكل هذا املنهج ثورة‬
‫حقيقية عىل املناهج الفكرية التي كانت توجه العمل العلمي خالل الفرتة الحديثة‪ .‬لهذا وجدنا من الفالسفة‬
‫من يقعد لالستقراء من داخل النظرية املنطقية‪ ،‬مثل ما قام به الفيلسوف اإلنجليزي جون ستيورت ميل يف‬
‫اعتباره لالستقراء منطلق البحث العلمي‪.‬‬

‫إن ما مدت به التطورية الداروينية الفكر املعارص هو التوجه الطبيعاين ‪ 7.naturalism‬هناك العديد‬
‫من التأويالت ملقولة الطبيعانية يف الفلسفة؛ ذلك أن كل فيلسوف وظفها بحسب أغراضه الفلسفية‪ ،‬والتأويل‬
‫الذي يهمنا بقوة هنا هو أن التوجه الطبيعاين جاء كنقيض للنزعة الثنائية (‪ )dualism‬يف الفلسفة‪ .‬فإذا‬

‫‪ 3‬شارلز داروين‪ ،‬أصل األنواع (ترجمة اسماعيل مظهر‪ ،‬لبنان‪ :‬دار التنوير للطباعة والنشر‪71 ،)2015 ،‬‬
‫‪ 4‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪85 .‬‬
‫‪ 5‬هذا المفهوم من تطوير الفيلسوف األمريكي توما ألكساندر (‪ )Thomas C. Alexander‬ضمن كتابه‪human eros: eco-ontology and :‬‬
‫‪.aesthethivs of exitence‬‬
‫‪6 John Dewey, The Influence of Darwin on Philosophy, p. 9‬‬
‫‪7 Teehan john, Evolution and Ethics: The Huxley/Dewey exchange (U. S. A.: the journal of speculative philoso-‬‬
‫‪phy, 2002), p. 227‬‬
‫‪8‬‬

‫كانت الفلسفات الحديثة‪ ،‬مثل الديكارتية والكانطية‪ ،‬قد قاربت اإلنسان والعامل من منطلق الفصل بينهام‬
‫لدواعي معرفية‪ ،‬فالتوجه الطبيعاين الذي وفرته التطورية الداروينية ال يقيم املعرفة بالطبيعة عىل الفصل بني‬
‫الذات واملوضوع؛ ألنه ال ينطلق من املقدمات واالفرتاضات العامة‪ ،‬بل ينطلق من الحاالت الخاصة واملالحظة‬
‫التجريبية‪ .‬وهكذا‪ ،‬فمع هذا التوجه مل نعد بحاجة إىل فصل الذات عن املوضوع؛ ألنهام ضمن سياق واحد‬
‫يتسم بالرتابط والتكامل وهذا السياق هو البيئة‪.‬‬

‫‪ .2‬ميكانيكا الكم ومفهوم الرشوط الوجودية‪:‬‬

‫قد يبدو من غري املنطقي الحديث عن العالقة بني ميكانيكا الكم (أو فيزياء الكوانطا) والفلسفة البيئية‪،‬‬
‫إال أن واقع األمر يبني عكس ذلك‪ ،‬حيث كان هذا النموذج الفيزيايئ املعارص أحد مسببات ظهور الفلسفة‬
‫البيئية‪ .‬فهذا النموذج هو أحد تجليات النزعة الحيوية (‪ )vitalism‬التي هيمنت عىل املشهد العلمي املعارص‪.‬‬
‫لقد حاول رواد فيزياء الكم‪ ،‬رشودنغر ونيلس بور وهايزنربغ‪ ،‬هدم الصورة التي بناها نيوتن وديكارت وغالييل‬
‫عن العامل‪ ،‬باعتباره آلة ميكانيكية عظمى (‪ .)great machin‬سرنكز عىل مجموعة من النقاط التي يبدو‬
‫أن تفي بغرض إيضاح العالقة بني هذين املبحثني‪ ،‬ونقصد بالضبط‪ :‬مفهوم الرشوط الوجودية(‪existensial‬‬
‫‪ ،)conditions‬والتشابك الكمي (‪ ،)entenglement‬والرتابط بني العارف واملعروف‪.‬‬

‫ميكننا مفهوم الرشوط الوجودية‪ ،‬الذي ميكن إرجاعه إىل لعامل نيلس بور‪ ،‬من فهم التجاوز الذي أقامه‬
‫فيزياء الكوانطا‪ ،‬إذا نظرنا إليه كنزعة حيوية‪ ،‬يف حق الفيزياء الحديث‪ ،‬باعتباره نزعة ميكانيكية‪ .‬فإذا كان‬
‫الفيزياء الحديث يقوم عىل تفسري حركات الظواهر الطبيعية بناء عىل مفهوم القوى (‪ ،)forces‬كقوة الجاذبية‬
‫مثال‪ ،‬ويدعي الحياد عند قيامه بتجاربه عىل موضوعات الطبيعة؛ أي شبه غياب للتأثري يف خصائص املوضوع ما‬
‫يعني تحقق املوضوعية يف الدراسة؛ فإنه فشل يف تحديد ماهيات وطبائع تلك القوى وفشل أيضا يف ادعاءاته‬
‫حول الحياد واملوضوعية؛ ألن الفيزياء املعارصة أثبتت أن التفاعل بني األشياء مبا فيها التفاعل بني الدارس‬
‫واملدروس تؤثر عىل عمليات الرصد‪ ،‬ما يعني أن تفسريات الفيزياء الحديث يتجاوز ويتعاىل عىل الرشوط‬
‫الوجودية لتلك للظواهر الطبيعية‪ ،‬وهو ما حاول فيزياء الكم تجاوزه من خالل تأكيده أن دراسة تلك الحركات‬
‫غري ممكنة إال يف إطار الرشوط الوجودية التي تتيح ظهور اليشء‪ .‬لهذا اتجه الفيزياء املعارص عموما إىل تفسري‬
‫طبيعة الضوء‪ ،‬باعتباره الرشط األكرب الذي يتيح ظهور األشياء‪ .‬يقول إتيان كالين يف هذا الصدد‪« :‬تنبثق من‬
‫نصوص أحد اآلباء املؤسسني لفيزياء الكوانطا؛ أي «نيلز بور»‪ ،‬صيغة أكرث جذرية لهذه الفكرة‪ .‬يرى هذا األخري‬
‫أن املوضوعات الكوانطية ال متتلك محموال خاصا‪ .‬إنها كيانات غري قابلة للفصل عن رشوط مالحظتها»‪ 8.‬تعطينا‬
‫هذه الرشوط الوجودية فكرة أن الظاهرة الطبيعية غري معزولة‪ ،‬وإمنا هي يف ترابط وتفاعل تامني مع ظواهر‬
‫أخرى‪ .‬وهذه الفكرة هي من بني األهداف الرئيسة التي تريد الفلسفة البيئية تأكيدها ضمن أدبياتها‪.‬‬

‫‪ 8‬كالين إتيان‪ ،‬رحلة قصيرة في عالم الكوانتا‪ ،‬ترجمة ذ‪ .‬كمال الكوطي (المغرب‪ :‬مطبعة نجمة الشرق‪ ،)2021 ،‬ص‪49 .‬‬
‫‪9‬‬

‫تفتح لنا هذه األفكار الباب للحديث عن مفهوم التشابك الكمي يف فيزياء الكوانطا‪ ،‬وهو املفهوم الذي‬
‫طوره العالِم إرفني رشودينغر‪ 9.‬يحتل هذا املفهوم منزلة محورية يف ذلك الفيزياء‪ ،‬ولسنا هنا من أجل رشح‬
‫خصوصياته العلمية واملعادالت املربهنة عليه‪ ،‬ولكن من أجل الرتكيز عىل فكرة التفاعل (‪ )interaction‬التي‬
‫يقوم عليها؛ فالتأويل املفهومي للتشابك الكمي يفيد بأن دراسة حركة جسيم معني غري ممكنة إال من خالل‬
‫رصد تفاعالته مع باقي الجسيامت‪ ،‬وهذه ظاهرة أساسية بالنسبة إىل رواد فيزياء الكوانطا‪ .‬إن الغريب يف‬
‫تفسري ترابط الجسيامت هو أنها تستمر يف التفاعل حتى لو تم إبعادها عن بضعها ملسافات طويلة‪ .‬ويف‬
‫الوقت الذي كان فيه رواد التفسري الكمي مثل رشودنغر يبحثون عن تفسريات هذا السلوك‪ ،‬اعتربه أينشتاين‬
‫سلوكا مستحيال؛ ألنه ظل يجرت بقايا الذات الحديثة من خالل تأكيده أن قوانني ومبادئ ومفاهيم النظرية‬
‫الفيزيائية هي إبداع حر للعقل البرشي‪ ،‬وليس بحثا يف الرشوط الوجودية للظواهر الطبيعية‪.‬‬

‫ميكننا من خالل هذه الفكرة‪ ،‬استيعاب أن أشياء الطبيعة حسب فيزياء الكم مرتابطة بشكل ال ميكن معه‬
‫فصلها عن بعضها‪ ،‬وهو ما يعني أن هذا االرتباط ليس مجرد ترابط وجودي‪ ،‬ولكنه ترابط وظيفي وفعال‪.‬‬
‫من الزاوية الحيوية‪ ،‬ال تكون الرتابطات بني األشياء غاية يف ذاتها‪ ،‬بل تكون من أجل غايات أخرى أكرث مام‬
‫نتصور‪ .‬لقد انتبه العلم املعارص اليوم‪ ،‬وخاصة علوم البيئة وعلوم الحياة األرضية والفضائية‪ ،‬إىل أن األشياء‬
‫تؤثر وتتأثر مع بعضها بغض النظر عن املسافة القامئة بينهام‪ ،‬فحياة ماليني الكائنات البرشية وغري البرشية‬
‫يف جنوب األرض مرتبطة بالقطب الشاميل املتجمد‪ ،‬بل مرتبطة بالغالف الجوي وما خلفه مثل الشمس‪ .‬لهذا‬
‫نجد مجموعة من املفكرين يربطون بني فيزياء الكواتنطا وقيام الفكر والخطاب البيئيني‪ ،‬وعىل سبيل املثال‬
‫الفيلسوف األمرييك جاك بريد كاليكوت ‪ J. B. Callicott‬من خالل مؤلفه الهام ‹القيمة املحايثة‪ ،‬النظرية‬
‫الكوانطية‪ ،‬واإلتيقا البيئية› (‪ .)ethics environmental and ,theory quantum ,value Intrinsic‬يربهن‬
‫كاليكوت يف هذا الكتاب عىل مكانية تأسيس إتيقا تحتضن كل الكائنات‪ ،‬بناء عىل خالصات ميكانيكا الكم التي‬
‫هدمت ثنائية ذات‪/‬موضوع التي قام عليها العلم والفلسفة الحديثني‪.‬‬

‫لقد أدت أفكار التشابك الكمي وهدم مقوالت الثنائية إىل نتاج تصور فلسفي ميكن وصفه ب›عدم الفصل‬
‫بني العارف واملعروف›‪ ،‬ففكرة التأثري والتأثر املتبادلني بني أشياء الطبيعة تنتج لنا يف مستوى املعرفة أن العارف‬
‫واملعروف ينتميان للمستوى نفسه‪ ،‬وليس أن الذات تكون عاملا خاصا مفصوال من حيث القوانني عن عامل‬
‫املوضوع املدروس‪ .‬لقد ترجم الفالسفة املعارصون هذه الفكرة يف كتاباتهم الفلسفية‪ ،‬وخاصة األمريكيني منهم‬
‫مثل وليام جيمس وجون ديوي‪ .‬تحدث جيمس عن هذه املسألة يف كتابه ‹مقاالت يف االختبارية الراديكالية›‬
‫(‪ )essays in radical empiricism‬من خالل ما سامه ‹التجربة الخالصة (‪ )pure experience‬الذي يقصد‬
‫به أن الواقع مكون من وسط قائم بذاته فيه تتفاعل األشياء وفيه يطرأ كل يشء‪ ،‬وهذا الواقع هي البيئة‪،‬‬
‫وهو األمر نفسه الذي عرب عنه ديوي يف كتابه ‹املعرفة واملعروف› (‪ )knowing and the known‬بتطبيقه‬

‫‪ 9‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪112 .‬‬


‫‪10‬‬

‫عن مسألة املعرفة؛ فالعارف ال يأيت بهدف املعرفة إىل موضوع مفصول عنه‪ ،‬بل إنهام يف تفاعل مستمر وال‬
‫نهايئ؛ ألن العارف أحيانا يكون هو موضوع املعرفة‪ ،‬فهام معا (أي العارف واملعروف) ينتميان ملا يسمه ديوي‬
‫املنظومة املشرتكة (‪ )common system‬الذي هو يف آخر املطاف البيئة‪.‬‬

‫‪ .II‬األسس الفلسفية للفلسفة البيئية‪:‬‬

‫يتعني علينا هنا إيضاح أن قيام الفلسفة البيئية مل يكن ممكنا إال بعد هدم املقوالت التي قامت عليها‬
‫الفلسفة الحديثة بحسبانها فلسفة مضادة للبيئة (‪)anti-environment‬؛ إذ من غري املمكن التأسيس للفلسفة‬
‫البيئية من داخل فلسفة تقوم عىل تخصيص مفاهيم مثل الذات والوعي والهوية والقيمة عىل اإلنسان وحده‬
‫دون غريه من الكائنات‪ ،‬وهو ما سامه املفكر الفرنيس جاك بوفريس ‪ J. Bouveresse‬بأسطورة الداخل (‪le‬‬
‫‪ .)mythe de l’intériorité‬ومن أجل ذلك سرنكز عىل ااالنتقادات الذي وجهها بعض الفالسفة لفرضيات‬
‫الفلسفة الحديثة‪ ،‬وخاصة نقد وليام جيمس للوعي‪ ،‬ونقد فتغنشتاين للهوية الشخصية‪ ،‬ونقد توم ريغان‬
‫ملفهوم القيمة عند كانط‪.‬‬

‫‪ .3‬نقد وليام جيمس للوعي‪:‬‬

‫يف مقالة‪ :‬هل يوجد الوعي (‪ ،)?does ‘consciousness’ exit‬التي نرشت سنة ‪ 1912‬ضمن كتاب مقاالت‬
‫يف االختبارية الراديكالية‪ ،‬وجه وليام جيمس نقدا الذعا ملقولة الوعي‪ .‬وملعرفة قوة هذا النقد ميكن مالحظة ما‬
‫قاله برتراند راسل بخصوصه‪ .‬وقد تعمدنا اإلدالء مبوقف راسل ألنه ميثل الفلسفة ذات املدخل املنطقي‪ ،‬بينام‬
‫ميثل جيمس الفلسفة ذات املدخل السيكولوجي‪ ،‬وبالتايل فهام من الناحية الخارجية فلسفتني متضادتني‪ ،‬غري‬
‫أن راسل أقر يف مجموعة من املواضع من مؤلفاته‪ ،‬مثل تطوري الفلسفي وتاريخ الفلسفة الغربية‪ ،‬بأن النقد‬
‫الذي وجهه جيمس للوعي هو ما ضمن له مكانة إىل جانب الفالسفة‪ .‬أما ما تبقى من فلسفته‪ ،‬فهي يف الطب‬
‫النفيس‪ 10.‬وأكرث من ذلك‪ ،‬فقد تبنى راسل علم النفس كام طوره جيمس يف مؤلفاته املتأخرة؛ ألنه اشتم فيه‬
‫رائحة النزعة العلمية الواقعية‪ ،‬نظرا ألن راسل هو اآلخر صاحب نزعة واقعية قامئة عىل العلم‪ 11.‬فأين تتمثل‬
‫هذه النزعة يف فلسفة جيمس؟‬
‫‪ 10‬يعد برتراند راسل من أهم الفالسفة في الفترة المعاصرة ويعود له الفضل في تأسيس التيار التحليلي في الفلسفة‪ .‬تقوم تحليلية راسل على إرجاع‬
‫العالم إلى قضايا اللغة بالنظر إليها كبنية منطقية‪ ،‬وهو الحل الذي بدا لراسل لحل مشكل عدم جدوى الذات في ضم العالم‪ ،‬بعد االنتقادات التي وجهها‬
‫الفالسفة لمبادئ الفلسفة الحديثة القائمة على تصورات معينة للذات‪ .‬ومن جهة أخرى‪ ،‬تقوم تحليلية راسل على تصور معين وشامل للمنطق‪ ،‬وهو ما‬
‫يعني معاداته للنزعات التجريبية‪ ،‬أو على األقل عدم وضعه للتجربة كإطار للمعرفة‪ ،‬شأنه ذلك شأن إنشتاين‪ .‬في حين تقوم تجريبية وليام جيمس على‬
‫عدم اعتبار المنطق مدخال أساسيا للفلسفة‪ ،‬بل إن المدخل األساسي هو علم النفس والتجربة‪ ،‬وهو ما يتضح في جنوح فلسفة جيمس في مراحلها األخيرة‬
‫إلى االعتناء بالتجربة الخالصة‪ .‬غير أن هذا التعارض في المواقف الفلسفية لم يمنع راسل من االعتراف بأهمية تصور جيمس في إنكاره للوعي في‬
‫إطار تصوره التجريبي الواقعي الذي دافع عنه في كتاب مقاالت في التجريبية الراديكالية‪ .‬فراسل يقر بأن وليام جيمس يستحق مكانته بين الفالسفة فقط‬
‫ألنه قدم الحجج القوية على عدم ضرورة العالقة بين ثنائية الذات والموضوع‪ ،‬حيث قال‪« :‬وأنا من جانبي مقتنع بأن «جيمس» كان على حق في هذا‬
‫األمر[أي إنكاره للوعي]‪ ،‬ويستحق‪ ،‬على هذا األساس وحده‪ ،‬منزلة عالية بين الفالسفة‪ .‬وقد كنت أظن غير ذلك حتى أقنعني هو»‪ .‬يمكن العودة إلى‪:‬‬
‫برتراند راسل‪ ،‬تاريخ الفلسفة الغربية‪ ،‬ترجمة محمد فتحي الشنيطي‪ ،‬المصرية العامة للكتاب‪ ،1977 ،‬ص‪466 .‬‬
‫‪11 Russell Bertrand, my phylosophical development (New York: simon and Schuster, 1959), p. 13‬‬
‫‪11‬‬

‫من أجل اإلجابة عن هذا التساؤل‪ ،‬سرنكز عىل مفهوم التجربة الخالصة (‪ 12)pure experience‬ودالالته يف‬
‫فلسفة جيمس‪ .‬يف عالقته النقدية مع الفلسفة الحديثة‪ ،‬ركز جيمس عىل ثنائية ذات‪/‬موضوع‪ ،‬باعتبارها أصل‬
‫املشكل الذي يجب الحسم معه وهدمه‪ .‬لهذا نجده يقارب فالسفة الفرتة الحديثة انطالقا من هذه الزاوية‬
‫مبا فيهم هيجل الذي جاء مبقولة الوحدة بني العقيل والواقعي؛ ألن هذه الوحدة يف نظر جيمس مجرد وحدة‬
‫وهمية‪ ،‬ما دام أن سريورة العقل تنطلق من الروح املطلق وتعود إليه‪ .‬وإىل جانب ذلك ميكن فهم مقولة‬
‫التجربة الخالصة عىل أنها النقيض التام ملفهوم العقل الخالص (‪ )pure reason‬الذي طوره ديكارت وعمقه‬
‫بشكل مهول كانط‪ .‬سرنكز هنا عىل الكانطية (حتى الكانطية الجديدة ألنها مل تعصف بالثنائية)‪ ،‬باعتبارها‬
‫محور الفلسفة الحديثة الذي من خالله تعمقت ثنائية ذات‪/‬موضوع‪ .‬يف مقالة هل الوعي موجود؟‪ ،‬أعلن‬
‫جيمس حربه عىل الكانطية وعىل العقل الخالص‪ ،‬فإذا كان كانط يرى العامل والذات ال ميكن متثلهام إال كبناء‬
‫ذايت وفق رشوط قبلية‪ ،‬فجيمس بدأ مقالته بافرتاض مضاد متاما وهو وجود وسط قائم بذاته فيه يقع كل‪،‬‬
‫وسط يوجد خارج الذات‪ ،‬بل إن الذات نفسها توجد يف هذا الوسط‪ ،‬وقد سامه التجربة الخالصة‪ .‬وهكذا‬
‫يتضح أن اللبس الذي ميكن أن يثريه مفهوم التجربة الذي يستعمل لعدة أغراض فلسفية‪ ،‬وخاصة عندما يشري‬
‫هذا املفهوم إىل التجربة اإلنسانية‪ ،‬يزول ألن املعنى الذي منحه إياه جيمس يذهب مبارشة إىل كون التجربة‬
‫هي الوسط الخارجي الذي توجد فيه جميع الكائنات وجميع العالقات املمكنة‪ .‬لهذا نجد جيمس يقول‪:‬‬
‫‪13‬‬
‫«لنفرتض وجود مادة أولية أو خام أويل هو مصدر كل يشء‪ ،‬وهذه املادة هي التجربة الخالصة»‪.‬‬

‫إن ما فعله جيمس هو نقل الوعي اإلنساين من اإلطارات الذاتية (كام كان مع ديكارت وكانط) إىل‬
‫اإلطارات البيئية‪ .‬فالقول إن الذات اإلنسانية هي جزء فقط من وسط خارجي‪ ،‬معناه أن معامل الوعي ال ميكن‬
‫فهمها إال يف سياق بيئي خارجي؛ أي إن الوعي مل يعد أمرا ذاتيا‪ .‬فحسب جيمس‪ ،‬إن ما نطلق عليه ‹وعي› هو‬
‫يشء غري موجود أصال‪ ،‬إنه‪ ،‬وفق كلامت جيمس‪ ،‬مجرد «وهم وخيال يطري يف سامء الفلسفة»‪14‬؛ أي إنه فكرة‬
‫من دون جذور تشدها إىل األرض‪.‬‬

‫لقد كانت هذه الفكرة مدخال أساسيا للفكر الفلسفة البيئية‪ ،‬وهو ما فعله تالميذ جيمس وخاصة جون‬
‫ديوي‪ .‬لقد فطن هذا األخري إىل أن تصور جيمس للوعي هو تصور قوي ويتامىش مع خصوصيات الفرتة‬
‫املعارصة‪ ،‬سواء تعلق األمر باملجال العلمي أو باملجال الحضاري والتقني‪ .‬لقد طور ديوي التصور البيئي للوعي‬
‫عند جيمس وحاول تعميمه عىل مختلف املجاالت كاالجتامعي والسيايس واألخالقي‪ ،‬من خالل قوله بأنه‬
‫الوعي البرشي هو جزء من وعي كوين هائل‪ .‬ركز ديوي لتأكيد فكرته هذه عىل املعنى الوظيفي للوعي‪ ،‬أي‬
‫‪ 12‬قد يكون جيمس استلهم هذا المفهوم من أعمال داروين‪ .‬فهذا األخير في كتابه ‹أصل األنواع› استعمل مصطلح «الطبيعة الخالصة» في حديثة عن‬
‫كون التغيرات التي تطرأ على الكائنات إنما تحدث في الطبيعة بشكل تما‪ ،‬أي أن أسباب التغير طبيعية محضة وليس هناك أي تدخل ألي عامل خارج‬
‫الطبيعة‪ ،‬وهو معنى قريب جدا لما يقصده جيمس من مصطلحه ‹التجربة الخالصة›‪ .‬يمكن العودة إلى‪ :‬داروين‪ ،‬أصل األنواع‪ ،‬ترجمة اسماعيل مظهر‪،‬‬
‫دار التنوير للطباعة والنشر‪ ،‬لبنان‪ ،2015 ،‬ص‪81 .‬‬
‫‪13 James william, essays in radical empiricism (New York: Longmans, green and co, 1912), p. 4‬‬
‫‪14 Ibid., p. 2‬‬
‫‪12‬‬

‫اإلجابة عن سؤال فيام ينفعنا الوعي امتالكنا للوعي ككائنات حية يف تفاعالتنا مع بيئتنا؟ ركز ديوي عىل الوعي‬
‫كقدرة عىل قراءة دالالت األحداث البيئية واتخاذ القرار (‪ ،)awarness‬مع التأكيد أن هذه القدرة ليست‬
‫برشية خالصة؛ ألن كل الكائنات تستطيع القيام بذلك وفق قدراتها الخاصة‪ .‬وبهذا يكون الوعي البرشي مجرد‬
‫جزء من وعي يتوزع عىل كل الكائنات التي نتقاسم معها البيئة وليس حكرا عن اإلنسان كام اعتقد فالسفة‬
‫الفرتة الحديثة‪.‬‬

‫‪ .4‬نقد فتغنشتاين للهوية الشخصية‪:‬‬

‫انطالقا من تأويل خاص‪ ،‬ميكن أن يشكل نقد الفيلسوف لودفيج فتغنشتاين لقضية الهوية الشخصية‬
‫مدخال أساسيا للفلسفة البيئية؛ ألن فتغنشتاين عمل عىل القيام بذلك النقد من أجل ربط الذات بسياقات‬
‫استعامالت اللغة‪ ،‬وهو ما يعني أنه مل يهدف بشكل رصيح لتأسيس الفلسفة البيئية‪ .‬لهذا سنعامل مع هذا‬
‫النقد‪ ،‬باعتباره موجها ألحد أهم املفاهيم التي قامت عليها الفلسفة الحديثة‪ ،‬وهو مفهوم الهوية الشخصية‪.‬‬
‫عند فالسفة الفرتة الحديثة‪ ،‬مثل جون لوك وكانط‪ ،‬ترتبط الهوية الشخصية بالقدرة عىل التفكري والسلوك‬
‫املسبوق بالتخطيط‪ ،‬ومبا أحد اإلنسان يف نظرهم هو الكائن الوحيد العاقل فق ربطوا بني العقل الهوية‬
‫الشخصية‪ ،‬غري أن فتغنشتاين عمل عىل دحض هذه الفكرة من خالل القول إن الهوية الشخصية ليست أمرا‬
‫يتعلق بالقدرة عىل التفكري‪ ،‬ولكنه يتعلق باالستعامالت السياقية للغة من أجل التواصل مع الغري بحسبانه‬
‫مشاركا يف الحياة‪ .‬إن الهوية حسب فتغنشتاين ليست شيئا جاهزا‪ ،‬ولكنها يشء يظهر أثناء التواصل باستعامل‬
‫اللغة‪ .‬من هنا تحتل اللغة مكانة أساسية يف تحديد الهوية عند هذا الفيلسوف‪.‬‬

‫يف كتابه حول ‪ le mythe de l’intériorité‬يرى بوفريس أن هذه أفكار فتغنشتاين تندرج ضمن نظريته‬
‫حول مقاربة فكر اإلنساين دون الحاجة إىل فرضية «الذات»‪ .‬يستعمل بوفريس يف هذا السياق تسمية الفيلسوف‬
‫الربيطاين التحلييل بيرت سرتاوسن (‪ :)1919-2006‬نظرية «الال‪ -‬ذات»‪ /‬أو نظرية «ليست هناك ذات» (‪théorie‬‬
‫‪ .)»de «pas-de-sujet‬طور فتغنشتاين هذه النظرية يف كتاب الرسالة يف توجه نقيض للديكارتية‪ .‬ذهبت هذه‬
‫األخرية إىل افرتاض رضورة وجود حامل ملختلف حاالت الوعي والخصائص التي لجوهري البدن والروح‪ ،‬بينام‬
‫عارضت نظرية فتغنشتاين هذه الفكرة؛ فحسبه ليست بنا حاجة إىل حامل للمحموالت النفسية‪ 15.‬إن الذات‬
‫توجد يف التجربة‪ ،‬أي أنها جزء من هذا العامل الذي ننتمي إليه‪ .‬وهذه التجربة هي اللغة‪.‬‬

‫اللغة عند فتغنشتاين هي وسيلة التفاعل مع الغري‪ ،‬والتي نتعلمها يف سياق اجتامعي معني‪ ،‬وهو ما يعني‬
‫أن ال هوية خارج التواصل االجتامعي‪ .‬يف مرحلة الرسالة كان فتغنشتاين يرى أنه ليس هناك معنى يستبدل‬
‫عبارة بنفسها‪ ،‬وأن عبارات الهوية من نوع أ = أ والعبارات التي ميكن اشتقاقها منها هي عبارات فارغة من‬
‫املعنى متاما؛ أي إن العبارات املعزولة تبقى دامئا بال معنى كأن نقول مثال «الحرب هي حرب» أو «القانون‬
‫‪15 Bouveresse Jacques, le mythe de l’intériorité (Paris: Minuit, 1976), p. 123‬‬
‫‪13‬‬

‫هو قانون»‪ ...‬إن االستعامل السياقي الذي ينتج التفاهم بني األفراد هو ما مينح العبارات املعنى‪ .‬لهذا‪ ،‬فمعنى‬
‫الكلمة غري ممكن إال يف سياق استعاميل معني‪ .‬لهذا‪ ،‬نجد فتغنشتاين يف الكتب املتأخرة‪ ،‬ككتابيه حول اليقني‬
‫وتحقيقات فلسفية‪ ،‬يعمل عىل تحديد طبيعة اللغة الطبيعية التي نستخدمها‪ ،‬حيث أكد أن املعنى متأصل‬
‫يف االستخدام السياقي للغة‪ .‬اللغة عند فتغنشتاين هي منط للتفاعل (‪ )mode d’interaction‬بني كائنني‬
‫عىل األقل وتفرض منظومة ثقافية ينتمي إليها املتفاعلني‪ ،‬وهي نفسها املنظومة التي يكونوا قد اكتسبوا فيها‬
‫عادات الكالم‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فاللغة هي وسيلة ال بد منها من أجل التواجد يف إطار «عالقة» مع الغري‪ ،16‬وهو ما‬
‫يعني أن ال هوية خارج الجامعة التي هي يف أصلها تجمع برشي يف محيط بيئي معني‪.‬‬

‫‪ .5‬نقد توم ريغان ملفهوم القيمة عند كانط‪:‬‬

‫يعد توم ريغان من أهم أعالم الفلسفة البيئية املعارصين إىل جانب بيرت سينغر وبريد كاليكوت ومايكل‬
‫زميرمان‪ ...‬اتجهت كتابات ريغان الفلسفية إىل الرتكيز عىل إنشاء خطاب يثري املسألة الحقوقية يف عالقتها‬
‫باألنواع األخرى غري اإلنسان‪ ،‬وخاصة حقوق الحيوانات‪ .‬ومن أجل ذلك‪ ،‬عمل ريغان عىل العودة إىل النظرية‬
‫األخالقية لكانط وإجراء بعض النقد عليها من أجل استيعاب هذا الخطاب الحقوقي الجديد‪ ،‬وما قام به‬
‫بالتحديد هو توسيع نطاق املفاهيم األخالقية الكانطية‪ ،‬مثل مفاهيم املنزلة األخالقية (‪)moral standing‬‬
‫واالحرتام (‪ )respect‬وحيازة القيمة (‪ ...)inherent value‬لتشمل باقي الحيوانات وليس فقط اإلنسان كام‬
‫حدث لها مع كانط‪ 17.‬لقد بدا لريغان أن النظرية األخالقية الكانطية ميكنها أن تكون أرضية لتأسيس خطاب‬
‫سيايس حقوقي يهتم بحقوق األنواع األخرى‪ ،‬انطالقا من مبدأ معاملة أي يشء كام نريد أن ُيتعامل معنا‪ ،‬لهذا‬
‫ميكن بصعوبة وصف فلسفة ريغان عىل أنها كانطية جديدة (‪ ،)neo-Kantism‬وهي الكانطية البيئية‪ .‬يواجه‬
‫هذا الوصف كثري من التحديات؛ ألن فلسفة كانط قد تم تصنيفها عىل أنها معادية للفكر البيئي (عىل األقل‬
‫من طرف هذا البحث)‪ ،‬إال أن ريغان أرص عىل إمكانية توظيفها يف سياق الفلسفة البيئية‪ .‬فكانط مل يفكر‬
‫مرة بأن يؤسس الفلسفة التي تعرتف بوجود العامل كوسط قائم خارج الذات‪ ،‬ورغم ذلك فريغان خاض هذه‬
‫املغامرة من خالل الرتكيز عىل إمكانية توسيع نطاقات مفاهيم كانط األخالقية‪.‬‬

‫حسب ريغان‪ ،‬ليس فقط اإلنسان هو من ميلك القيمة الذاتية‪ ،‬بل حتى األنواع األخرى أيضا‪ .‬كانت‬
‫تحليلية كانط للمسألة األخالقية ترتكز عىل اإلنسان‪ ،‬باعتباره كائن قادر عىل القيام باالبتكار والتدبري الذايت‬
‫للتفكري والسلوك األخالقيني‪ .‬ولهذا‪ ،‬فهو فشل يف إشاعة املنزلة األخالقية عىل الحيوانات‪ .‬لقد كان ريغان يعلم‬
‫بأن الكانطية بالصيغة السادجة التي بناها بها كانط ال تسعف أي تأويل بيئي لها‪ .‬ولكنه مع ذلك أراد توسيع‬
‫مفاهيم كانط لتشمل واقع الحيوان‪ .‬ففكرة كانط حول الغايات والوسائل ظلت غامضة وقابلة لعدة تأويالت‪،‬‬
‫‪16 Bouveresse, le mythe de l’intériorité, p. 539‬‬
‫‪17 McDonald Hugh P., John Dewey and environmental philosophy (New York: state University of New York‬‬
‫‪press, 2004), p. 7‬‬
‫‪14‬‬

‫فكانط طالب بعدم معاملة الشخص كام لو كان وسيلة لتحقيق غايات معينة‪ ،‬غري أنه مل يدع إىل استعامل‬
‫الحيوان كوسيلة؛ أي إنه مل يكن مثل ديكارت الذي دعا إىل السيطرة عىل الطبيعة‪ .‬من هذه الزاوية‪ ،‬وقد‬
‫تحققت الرشطية العلمية للحديث عن حقوق الحيوان‪ ،‬ميكن توسيع نطاق معالجة كانط للغاية والوسيلة‬
‫ليشمل الحيوان أيضا‪ ،‬حيث ميكن القول إنه ال يجب التعامل معه كوسيلة لتحقيق غايات اإلنسان‪.‬‬

‫انطالقا من الزاوية الحقوقية القامئة عىل املدخل األخالقي‪ ،‬عمل ريغان عىل دحض التصور الديكاريت الذي‬
‫يقيص الحيوان من دائرة الوعي‪ .‬استعمل ريغان يف هذا السياق مفهوم «وعي الحيواين» (‪.)animal awarness‬‬
‫وقد حاول إثبات هذا االدعاء من خالل مجموعة من الحجج‪ ،‬أهمها اللغة‪ .‬حسب ديكارت‪ ،‬اللغة؛ أي استعامل‬
‫الكلامت‪ ،‬هي أمر خاص بالبرش‪ .‬أما الحيوانات‪ ،‬فيمكنهم أن يرددوا بعض الكلامت ولكن عن طريق التدريب‪،‬‬
‫لكن ريغان يشري إىل أمر هام هنا‪ ،‬فإذا قيل أن اللغة هي العالمة عىل الوعي وخاصة بالبرش‪ ،‬فهل يعني هذا‬
‫أن األطفال (البرشية) الصغرية هي عبارة عن حيوانات‪ ،‬تصبح برشا بعد استعاملها للغة‪ 18.‬ومن الواضح أن‬
‫فلسفة ديكارت لن تقدر عىل تفسري هذه املفارقة‪ .‬لقد كان واضحا مع ريغان أن الوعي كمعرفة ملا يدور يف‬
‫املحيط ليس حكرا عىل البرش‪ ،‬يرسي عىل الحيوانات أيضا‪ .‬إن القول إن الحيوانات ال متتلك الوعي‪ ،‬فقط ألنها‬
‫ال تستطيع استخدام الكلامت‪ ،‬هي فكرة ديكارتية؛ أي فكرة تتامىش مع كل نسق فلسفي يرى أن الوعي هو‬
‫يشء خاص اإلنسان‪ .‬أما اآلن‪ ،‬وقد انتقلت الفلسفة من هذا االعتبار إىل تصور الوعي عىل يشء كوين‪ ،‬حيث‬
‫‪19‬‬
‫يبدو من املعقول االعرتاف بأن لكل كائن حي نصيبه من الوعي الذي يجعله باقيا يف الحياة‪.‬‬

‫‪ .III‬دور األحداث التاريخية يف ظهور الفلسفة البيئية‪:‬‬

‫إن ما نقصده باألحداث التاريخية هنا هو مجموعة من الوقائع التي ميزت الفرتة املعارصة‪ ،‬والتي كان‬
‫لها دور كبري يف ظهور الفلسفة البيئية‪ ،‬ونقصد عىل وجه الخصوص الثورة الصناعية وما صاحبها من أحداث‬
‫اقتصادية مهمة‪ ،‬واملنعطف الكوين يف الحضارة البرشية املعارصة أو ما يعرف الحقا بالعوملة‪ .‬هذه األحداث‬
‫تؤثر بشكل مبارش عىل البيئة داخل كوكب األرض‪ ،‬وهو ما أدى إىل تنامي األصوات املنددة بسلوك التصنيع‬
‫املعارص والثقافة العوملية؛ ألنها تلحق الرضر امللحوظ عىل البيئة‪ .‬وهذ املقاربة هي ممكنة من الناحية‬
‫الفلسفية؛ ألن الثورة الصناعية التي عرفتها البرشية تبقى يف آخر املطاف نتيجة ملجهودات العلامء‪.‬‬

‫يشري املنتدى االقتصادي الدويل‪ ،‬وهي مؤسسة غري ربحية تسعى لتطوير العامل عن طريق الدمج بني‬
‫العلم واالستثامر‪ ،‬إىل أننا اآلن يف املراحل األوىل للثورة الصناعية الرابعة‪ ،‬القامئة عىل استخدام تقنية النانو‬
‫والتكنولوجيا الحيوية‪ ،‬وهو ما يعني أن هناك مسرية من التقدم التكنولوجي الذي ال ميكن تفسريه إال بالعودة‬

‫‪18 Regan Tom The case for animal rights (Los Angeles: University of California press,1983), p. 15‬‬
‫‪19 Ibid., p. 12‬‬
‫‪15‬‬

‫إىل الثورات الصناعية السابقة وخاصة األوىل منها‪ 20.‬متيزت الثورة الصناعية الثالثة بهيمة ما يسمى الثورة‬
‫الرقمية وظهور عامل اإلنرتنت (العامل االفرتايض)‪ ،‬بينام متيزت الثورة الصناعية الثانية بظهور اخرتاع الحاسوب‬
‫وأدوات أخرى ال تقل أهمية عنه مثل امليكروسكوب‪ .‬أما الثورة الصناعية األوىل‪ ،‬فقد ارتكزت حول استغالل‬
‫املاء والبخار من أجل زيادة اإلنتاج الفالحي والصناعي نظرا للطلب املتزايد إثر النمو الدميغرايف‪ ،‬وقد متيزت‬
‫هذه الثورة مبجموعة من االخرتاعات مثل املضخة والقطار‪.‬‬

‫ال ميكن القول إن آثار الثورة الصناعية منذ بدايتها كانت سلبية؛ ألن فوائدها ال تعد وال تحىص وال ميكن‬
‫ألي أحد إنكارها‪ .‬لهذا‪ ،‬فإن الرتكيز عىل آثارها السلبية هو من أجل إيضاح سياقات ظهور الفكر البيئي خالل‬
‫الفرتة املعارصة‪ .‬فالزيادة املهولة الطلب عىل املنتجات الصناعية إبان نهايات القرن ‪ 19‬والقرن ‪ ،20‬وتعقيد‬
‫طرق التجارة يف هذه الفرتة أدى إىل زيادة اإلنتاج‪ ،‬اليشء الذي أدى إىل ظهور املصانع الكربى واملناجم‪ .‬كان‬
‫هذا هو سبب ظهور الحضارة الكونية التي تجلت يف الهجرات بني القارات واستقرار العامل يف مناطق العمل‬
‫مثل أوروبا وأمريكا‪ ،‬وظهور األسفار للعوام ووسائل النقل‪.‬‬

‫كانت تداعيات التجارة الكونية تفرض عىل الطبيعة إنتاج ما ليس يف مقدورها إنتاجه بطرقها هي؛ أي إنها‬
‫أصبحت تبتز وتحفز إلنتاج كميات كبرية من الخريات‪ .‬كان للعلامء دور كبري يف البحث يف كيفيات وطرائق‬
‫اإلنتاج بطرائق برشية وليست طبيعية‪ ،‬وهو ما أدى يف آخر املطاف إىل تدهور قوى الطبيعة‪ .‬لقد احتاجت‬
‫الجامعات البرشية ألكرث من قرن من الزمن لتستوعب أن ابتزاز الطبيعة يهدد البيئة‪ .‬فاجتامعات األمم‬
‫املتحدة حول مخاطر الثورة الصناعية مل تحدث ال يف النصف الثاين من القرن ‪ ،20‬كندوة ستوكهومل حول البيئة‬
‫البرشية عام ‪ 1972‬عىل سبيل املثال‪ .‬انتهت هذه الندوة بتقرير يؤكد الحاجة إىل اعتبارات وتصورات ومبادئ‬
‫مشرتكة للحفاظ عىل البيئة‪ .‬تقر هذه الوثيقة بأن اإلنسان هو املسؤول األول عن ازدهار أو تدهور البيئة‬
‫الطبيعية‪ ،‬وأن ال بقاء وال تطور اقتصادي يف ظل عدم استصالح تلك البيئة‪ 21.‬إن ما ميكن مالحظته يف هذه‬
‫الوثيقة هو أنها عىل الرغم من تركيزها عىل آثار الثورة الصناعية عىل البيئة الطبيعية‪ ،‬إال أن املقاربة املعتمدة‬
‫هي إرجاع سبب التدهور إىل العامل السيايس‪ ،‬خاصة وأن هذه الفرتة هي فرتة ما بعد الحربني العامليتني اللتني‬
‫راح ضحيتها أكرث من ‪ 50‬مليون فرد ‪ -‬بغض النظر عن الضحايا من األنواع األخرى‪ ،‬وفرتة الحرب الباردة بني‬
‫القطب الغريب الرأساميل بزعامة و‪ .‬م‪ .‬األمريكية والقطب الرشقي االشرتايك بزعامة االتحاد السوفيايت‪ ،‬وهو‬
‫ما يعني أن تسابق الدول نحو التسلح والصناعة العسكرية قد يحظى بحصة األسد يف تفسري تدهور البيئة‬
‫الطبيعية واالجتامعية للناس‪.‬‬

‫أما يف قرار الجمعية العامة لألمم املتحدة خالل الدورة ‪ 70‬من أعاملها الذي اتخذته عام ‪ ،2015‬والذي‬
‫يهدف إىل وضع خطة التنمية املستدامة يف أفق عام ‪ .2030‬إن الدالالت الكربى لهذا القرار هو أن التأثري‬
‫‪ 20‬محمد عبد الستار البدري‪ ،‬من التاريخ‪ :‬الثورة الصناعية األولى واالقتصاد الدولي (الموقع اإللكتروني‪ :‬الشرق األوسط‪ 6 :‬فبراير ‪.)2016‬‬
‫‪21 Report of the united nation conference on the human environment (Stockholm: 5-16 June 1972), p. 3‬‬
‫‪16‬‬

‫السلبي للثورة الصناعية (يف مستواها الثالث الرقمي) ازداد حدة وعمقا ومل يرتاجع كام كان مخطط له‬
‫منذ قرار األمم املتحد عام ‪ .1972‬كان شعار هذا القرار يقوم عىل خمسة مصطلحات أساسية هي‪ :‬الناس‪،‬‬
‫والكوكب‪ ،‬واالزدهار‪ ،‬والسالم‪ ،‬والرشاكة‪ .‬لقد جاء يف ديباجة هذا القرار ما ييل‪« :‬متثل هذه الخطة برنامج‬
‫عمل ألجل الناس وكوكب األرض وألجل االزدهار‪ ،‬وهي تهدف أيضا إىل تعزيز السالم العاملي يف جو من الحرية‬
‫أفسح‪ .‬ونحن ندرك أن القضاء عىل الفقر بجميع صوره وأبعاده‪ ...‬وستعمل جميع البلدان والجهات صاحبة‬
‫‪22‬‬
‫املصلحة عىل تنفيذ هذه الخطة يف إطار من الرشاكة والتعاونية»‪.‬‬

‫إن ما يظهر أكرث أن البيئة هي قضية القضايا اليوم هو توايل اجتامعات ومؤمترات‪ ،‬خاصة مؤمترات‬
‫التغريات املناخية واالحتباس الحراري‪ ،‬كمؤمتر باريس عام ‪ 2015‬ومؤمتر مراكش عام ‪ 2016‬ومؤمتر إكسبو ديب‬
‫‪ ...2023‬حيث يظهر جليا أنه يجب عىل الجامعات البرشية والبلدان وضع خطط أكيدة وجدية وفعالة تضمن‬
‫عىل األقل التقليل من التأثري السلبي للتصنيع عىل املنظومات البيئية يف الوقت الحايل (الذي ميكن تسميته‬
‫عرص النفط)‪ ،‬والحد منه يف املستقبل‪.‬‬

‫‪ 22‬قرار الجمعية العامة لألمم المتحدة بتاريخ ‪ 25‬شتنبر ‪2015‬‬


‫‪17‬‬

‫خامتة‪:‬‬

‫من خالل ما سبق‪ ،‬ميكن مالحظة أن هناك مجموعة من األسباب التي أدت إىل ظهور الفكر البيئي يف‬
‫الفرتة املعارصة‪ ،‬باعتباره فكرا يستجيب ويتفاعل مع األسئلة الكربى التي تطرحها تلك الفرتة بحسبانها فرتة‬
‫هيمنة العلم والتكنولوجيا ودخولهام لحيز الفعل والتفكري والرغبة اإلنسانية‪ .‬من الزاوية الفلسفية‪ ،‬فقد‬
‫ظهرت مجموعة من األصوات التي كرست مجهودها وكفاءتها من أجل االنخراط يف هذا النقاش الكبري حول‬
‫البيئة‪ ،‬ما أدى إىل إنتاج فلسفة بيئية حقيقية ورصيحة تطالب بحلول جذرية ملشكلة البيئة‪ ،‬باعتبارها مشكلة‬
‫تضع عىل املحك حياة البرش وباقي األنواع‪ ،‬فهي مشكلة ال تناقش حيثيات وطرائق التعايش والحياة بني‬
‫األجناس واألعراق والثقافات‪ ،‬بل إنها تناقش إمكانية الحياة يف أصلها وإمكانية العافية يف ظل التدهور املستمر‬
‫إلمكانات كوكب األرض‪.‬‬

‫باالعتامد عىل كتاب مايكل زميرمان يحمل عنوان الفلسفة البيئية‪ :‬من حقوق الحيوان إىل اإليكولوجيا‬
‫الجذرية (يف جزأين)‪ ،‬فإن الفلسفة البيئية هي مجموعة من التصورات والنظريات الفلسفية ملجموع من‬
‫الفالسفة‪ ،‬بينها اختالفات كثرية بحب نظرة كل فيلسوف‪ .‬يقسم زميرمان الفلسفة البيئية إىل قسمني أساسيني‪:‬‬
‫قسم يسميه األخالق البيئية‪ ،‬الذي يركز النقاش عىل املستوى األخالقي وحقوق الكائنات؛ أي العالقة األخالقية‬
‫بني اإلنسان وواجباته تجاه باقي األنواع‪ ،‬وآخر يسميه اإليكولوجيا الجذرية التي تناقش قضايا البيئة يف نطاق‬
‫أوسع يشمل املعطى امليتافيزيقي واملعريف واالجتامعي والسيايس‪ ،‬والذي يضم مجموعة من التوجهات مثل‬
‫اإليكولوجيا العميقة والنسوية اإليكولوجيا واإليكولوجيا االجتامعية‪ 23...‬وهكذا يبدو‪ ،‬يف تقدرينا‪ ،‬أن الفلسفة‬
‫انتقلت من التمركز اإلنساين إىل التمركز البيئي؛ أي من مناقشة اإلنسان كقضية أوىل وكحامل ومحموله هو‬
‫العامل إىل مناقشة البيئة وقضاياها؛ ألنها هي الحامل ومحموالتها هي اإلنسان وغريه من األنواع‪.‬‬

‫‪ 23‬مايكل زيمرمان‪ ،‬الفلسفة البيئية‪ :‬من حقوق الحيوان إلى اإليكولوجيا الجذرية‪ ،‬ترجمة معين شفيق رومية (الكويت‪ :‬عالم المعرفة‪ ،)2006 ،‬ص‬
‫ص‪19-18 .‬‬
18

:‫الئحة املراجع‬

:‫مراجع باللغة العربية‬


،‫ املرصية العامة للكتاب‬:‫ (القاهرة‬،‫ ترجمة محمد فتحي الشنيطي‬،‫ تاريخ الفلسفة الغربية‬،‫ برتراند راسل‬-
.)1977
.)2015 ،‫ دار التنوير للطباعة والنرش‬:‫ لبنان‬،‫ أصل األنواع (ترجمة اسامعيل مظهر‬،‫ شارلز داروين‬-
2015 ‫ شتنرب‬25 ‫ قرار الجمعية العامة لألمم املتحدة بتاريخ‬-
.)2021 ،‫ مطبعة نجمة الرشق‬:‫ كامل الكوطي (املغرب‬.‫ ترجمة ذ‬،‫ رحلة قصرية يف عامل الكوانتا‬،‫ كالين إتيان‬-
‫ ترجمة معني شفيق رومية‬،‫ من حقوق الحيوان إىل اإليكولوجيا الجذرية‬:‫ الفلسفة البيئية‬،‫ مايكل زميرمان‬-
)2006 ،‫ عامل املعرفة‬:‫(الكويت‬
‫ الرشق‬:‫ الثورة الصناعية األوىل واالقتصاد الدويل (املوقع االلكرتوين‬:‫ من التاريخ‬،‫ محمد عبد الستار البدري‬-
.)2016 ‫ فرباير‬6 :‫األوسط‬

:‫مراجع باللغات األجنبية‬

- Alexander Thoma C., the human eros: eco-ontology and aesthetics of existence (New
York: Fordham University press, 2013).
- Baakrime abdelmajid, La relation perceptive selon Alhazen et ses retombées philoso-
phiques.
- Bouveresse Jacques, le mythe de l’intériorité (Paris: Minuit, 1976).
- Dewey John, The Influence of Darwin on Philosophy (New York: Henry Holt and Com-
pany, 1910).
- James william, essays in radical empiricism (New York: Longmans, green and co, 1912).
- McDonald Hugh P., John Dewey and environmental philosophy (New York: state Univer-
sity of New York press, 2004).
- Regan Tom The case for animal rights (Los Angeles: University of California press,1983).
- Report of the united nation conference on the human environment (Stockholm: 5-16 June
1972)
- Russell Bertrand, my phylosophical development (New York: simon and Schuster, 1959).
- Teehan john, Evolution and Ethics: The Huxley/Dewey exchange (U. S. A.: the journal of
speculative philosophy, 2002).
info@mominoun.com

You might also like