Professional Documents
Culture Documents
com
بحث محكم
قسم الفلسفة والعلوم اإلنسانية
22نونرب 2023
امللخص:
يهدف هذا البحث إىل رصد األسس العلمية والفلسفية والتاريخية التي قامت عليها الفلسفة البيئية .شكل
مفهوم البيئية بشكل خاص ،وقضايا البيئة بشكل عام ،القضية األكرب واألبرز يف الفرتة املعارصة ،وهذا ليس فقط
بالنسبة إىل مبحث الفلسفة ،ولكن بالنسبة إىل جميع املباحث وامليادين كاالقتصاد والسياسة والعلم والدين
واألخالق ...غري أن الدراسة الفلسفية لهذه القضية املستجدة تسعى لتكوين نظرة سريوراتية لها؛ ألن االهتامم
بالبيئة وكل القضايا واملشكالت التي تطرحها شكلت محط نقاش فلسفي كبري خالل القرن ،20حاول من خالله
الفالسفة نقد األسس الفلسفة التي قامت عليها النزعة الذاتية التي ميزت لفرتة الحديثة ،وخاصة األساسني
األخالقي واملعريف اللذين من خاللهام تم الرتويج لفكر أن اإلنسان هو من الناحية األخالقية الكائن األهم يف
الكون ،وأنه مركز كل معرفة بالعامل ،وهو ما يعني أن النزعة البيئية يف الفلسفة جاءت نقيضا للنزعة الذاتية؛
ألن النزعة البيئية تنظر إليه كجزء فقط من منظومة بيئية كبرية .لهذا يسعى هذا العمل البحثي إىل رصد هذا
التحول يف الفلسفة من الفرتة الحديثة إىل الفرتة املعارصة ،باعتبار أن الفلسفة البيئية إحدى أبرز نتائج ذلك
التحول .لهذا أوسمنا هذا التحول بأنه انتقال من التمركز الذايت (الذي يحيل إىل الفلسفة الحديثة) إىل التمركز
البيئي (الذي يشري إىل الفلسفة املعارصة) .ويرتكز هذا العمل يف األساس عىل منهجية تأصيلية تسعى لتحديد
األسباب والعوامل الذي أدت إىل حدوث ذلك التحول ،والتي ميكن توزيعها عىل ثالثة حقول معرفية أساسية
مهدت لظهور النزعة البيئية ،هي العلم والفلسفة والثقافة/الحضارة.
5
تقديم:
إن ما نقصده بالفلسفة البيئية يف هذا العمل هو ذلك النمط من التفكري الذي أصبح يعترب قضية
البيئة هي قضيته األوىل ،وقد يشري إىل األعامل الفردية للفالسفة والعلامء كام قد يشري إىل الوثائق الرسمية
للمؤسسات حول البيئة مثل مؤسسة األمم املتحدة .وسننطلق يف هذا العمل من تسويغ فكرة أن فهم ظهور
الفلسفة البيئية غري ممكن إال عرب هدم املقوالت التي تأسست عليها الفلسفة الحديثة مبا هي قامئة عىل
النزعة الذاتية .فإذا كان التمركز البيئي يبني أدبياته عىل فكرة أن اإلنسان هو ،فقط ،جزء من منظومة بيئية
شاملة تضم املاليني من الكائنات الحية يف إطار ما يسمى يف الدراسات البيئية بالتوازن الطبيعي ،فإن هذه
الفكرة مل تكن ممكنة إال بعد هدم فكرة أن اإلنسان هو مركز الكون كام كانت تعترب الفلسفة الحديثة .وهكذا
سيتضح لنا أن ظهور الفلسفة البيئية هو ،من زاوية معينة ،تحول يف الفكر الفلسفي له أسبابه وعوامله التي
أدت إليه ،هي موضوع هذا العمل البحثي.
لقد ركز العمل الفلسفي يف الفرتة الحديثة عىل تحديد معامل الوعي والهوية اإلنسانية ،من أجل بيان
متيز اإلنسان مقارنة مع باقي الكائنات .لقد مثل كانط أوج النزعة الذاتية؛ ألنه أكرب فيلسوف حاول الولوج
إىل أعامق الذات اإلنسانية ،فتطويره ملفهوم العقل الخالص وللمنهج الرتنسندنتايل جعاله يكون أول من يتم
توجيه سهام النقد لهم عند نقد النزعة الذاتية؛ ألن فلسفته هي التي غذت بشكل كبري الثنائية التي قامت
عليها النزعة الذاتية (ذات/موضوع -تجربة/عقل – فكر/واقع) .لهذا ،فالفالسفة املعارصون الذين رفضوا بشدة
تلك الثنائية يتجهون إىل كانط وليس إىل ديكارت ،مثل الفيلسوف األمرييك جيمس الذي طور مفهوما مضادا
متاما للعقل الخالص ،وهو التجربة الخالصة التي يقصد بها البيئة كوسط تعيش فيه الكائنات مبا فيها اإلنسان.
يف النظرية األخالقية ،تم يف الفرتة الحديثة الرتويج لفكرة أن اإلنسان هو الكائن الوحيد الذي ميتلك
الكرامة ويستحق االحرتام إذا ما متت مقارنته مع باقي الكائنات؛ فكانط عرب عن هذا بشكل واضح يف كتبه
مثل نقد العقل العميل وتأسيس ميتافيزيقا األخالق .صحيح أن هذا االعتبار األخالقي لكانط كانت له دواعيه
التاريخية التي ميكن إرجاعها إىل أن كانط ومعظم الفالسفة أصحاب النزعة الذاتية ،قد سعوا إىل تحرير
اإلنسان من قبضة الالهوت الكنييس الذي يقدم اإلنسان عىل أنه مجرد خطيئة وغري قادر1؛ وذلك من خالل
القول بحرية اإلنسان وقدرته عىل املبادرة والقيام بالسلوك الفاضل ،إال أن هذه النظرة أدت إىل نتائج مل
يتقبلها الفالسفة املعارصين ،أهمها النظرة الذرية لإلنسان كأنه جزء مفكر ومعزول ،فهو يف نظر املعارصين
كائن تابع لسياق اجتامعي وطبيعي ال ميكن فصله عنه .لهذا ،فالنظريات األخالقية املعارصة قامت عىل الفكرة
السياقية لإلنسان؛ أي إنه يستمد القيم من بيئته وليس من ذاته.
1يمكن النظر إلى الفلسفة الحديثة على أنها انخراط في نقاش االستطاعة والجبر (الحرية والضرورة) الذي بدأ في الالهوت الوسيطي ،سواء في السياق
المسيحي أو السياق اإلسالمي .ومن المعلوم أن الكثير من الالهوتيين من دعم فكرة أن اإلنسان يختار أفعاله ،غير أن هناك مدارس كبرى دعمت فكرة
أن أفعال اإلنسان مكتوبة وال اختيار له فيها .ونظرا للنهايات المأزقية لهذا الموقف فيما يتعلق بمسألة السلوك والمسئولية ،فقد ذب مجموعة من الفالسفة
في الفترة الحديثة مثل كانط إلى تبرير حرية اإلنسان واختياره ألفعاله.
6
أما يف املجال العلمي ،فقد قام العلم الطبيعي الحديث عىل فكرة املرجع الذي يشكل األساس املتني
للعلم أال وهو الذات اإلنسانية .فديكارت ،باعتباره أب الفلسفة الحديثة ،وضع قوام الفيزياء الحديث الذي
يعترب املعرفة بالذات هي أصل املعرفة بالعامل ،غري أن فكرة ديكارت هذه قد جاءت يف ظل سياق كبري اتجه
إلعطاء األهمية للذات يف عمليات املعرفة .واملقصود هنا الثورة الكربنيكية يف علم الفلك (من مركزية األرض
إىل مركزية الشمس) التي بينت أن الراصد يلعب دورا حاسام يف تحديد وتفسري حركات الكواكب .لهذا انكب
علامء الفرتة الحديثة إىل تربير أهمية العلوم التجريدية يف فهم قوانني الطبيعة ،وإىل بيان أن هذه القوانني ال
ميكن متثلها إال عىل شكل قوى وأشكال هندسية وأعداد ،وهو ما حصل مع غالييل ونيوتن وغريهام ،غري أن
النظرة العلمية الحديثة للعامل القامئة عىل اعتبار الذات مركز العلم انتهت إىل النزعة امليكانيكية التي ال تكرتث
بالطبيعة ،باعتبارها حياة .فالطبيعة حسب معظم علامء الفرتة الحديثة هي عالقات ميكانيكية ميكن تفسريها
بالقوى ،وهو ما يعني أن الطبيعة ميتة وال تحس .وهذا ما مل يقبله العلم الطبيعي خالل القرن 19م؛ إذ حول
دحض هذه النظرة امليكانيكية معوضا إياها بالنظرة العضوية للعامل ،باعتباره خلية حيوية هائلة ،وخاصة مع
التطورية يف إنجلرتا والكيمياء والفيزياء وفلسفة-الطبيعة naturephiloophieيف أملانيا .وقد كان هذا التحول
العلمي أحد أساس ظهور الفلسفة البيئية.
انطالقا من هذا االعتبارات ،وإضافة إىل األحداث التاريخية التي ميزت مطلق القرن 20سنحاول رصد
أسباب ظهور الفلسفة البيئية ،باعتبارها فكرا ميز الفرتة املعارصة ،خاصة وأن قضية البيئة اآلن أصبحت هي
قضية القضايا؛ ألنها تطرح عىل املحك الوجود البرشي ووجود كل الكائنات عىل كوكب األرض.
سنعمل يف هذا املحور عىل رصد األسس العلمية التي أدت إىل ظهور الفلسفة البيئية ،وهذا عمال مببدأ أن
«خلف كل ثورة فلسفية توجد نظرية علمية كبرية» ،2وهي األسس التي قامت عىل نقد النزعات امليكانيكية
التي سيطرت عىل العمل العلمي خالل الفرتة الحديثة ،مستبدلة مفاهيمها مبفاهيم أخرى عضوية وديناميكية
وحيوية .سرنكز هنا بالخصوص عىل التطورية الداروينية وفيزياء الكوانطا.
ال يختلف اثنان حول كون الثورة التي حدثت يف البيولوجيا ،والتي تعرف بصفة عامة بنظرية التطور،
كانت األرضية العلمية التي عجلت بظهور الفكر البيئي يف الفرتة املعارصة .كانت هناك مساهامت كثرية
وكبرية ملجموعة من العلامء يف تضخيم النظرة التطورية للعامل ،مثل جون -بابتيست المارك وإراسموس
داروين وتشارلز لييل وبوفون...غري أن نرش كتاب أصل األنواع لشارلز داروين سنة 1859شكل نقطة فارقة يف
2 Baakrime abdelmajid, La relation perceptive selon Alhazen et ses retombées philosophiques.
7
تاريخ البيولوجيا ،بل يف تاريخ الفكر اإلنساين عامة .لقد استطاع داروين قلب موازين القوى سواء عىل مستوى
مضمون النظريات العلمية واملنطقية والفلسفية أو عىل مستوى املنهج املستخدم.
ففي املستوى الفلسفي واملنطقي ،دحض داروين فكرة املاهيات املطلقة التي قامت عليها الفلسفة
واملنطق منذ نشأتهام عند اليونان 3 ،وهو ما مل تستطع أي فلسفة التصدي له .فداروين من خالل فكرة التطور
بني أن ال يشء يحتفظ مباهية خالصة وخاصة به متيزه عن باقي الكائنات كام كان يعتقد أرسطو وغريه من
الفالسفة الحديثني مثل ديكارت .فصورة اليشء الحالية ،وبالتايل صورة الحياة الحالية بصفة عامة ،هي نتيجة
لسريورة طويلة من التطور .وهذا التطور يحدث بفضل العوامل الطبيعية مثل نوع الغذاء ونوع املناخ 4...لقد
مكنت هذه الفكرة داروين من تجاوز الفكرة الفلسفية التي تسعى لتفسري تواجد اإلنسان يف األرض تفسريا
متعاليا ومفارقا؛ فاإلنسان بالنسبة إىل التطورية جزء من السريورة التاريخية للتطور ،وال ميكن تفسري ذكائه
املتزايد إال ضمن ما يسمى سلم التطور ،وليس ضمن اإلطارات امليتافيزيقية التي تفصله عن الطبيعة .لقد
أدى هذا إىل تجاوز املنطق واألنطولوجيا املتعالية والفكرية ،وأدت يف املقابل إىل ظهور األنطولوجيا البيئية
( 5)eco-ontologyواملنطق البيولوجي ( )bio-logicالذي يسمى عند الرباجامتيني ،وخاصة شارل ساندرس
بريس وجون ديوي ،مبنطق البحث (.)logic of inquiry
أما عىل املستوى املنهجي ،لقد بينت هذه أطروحة داروين أن املنهج االختباري experimental method
هو مفتاح فهم الطبيعة .لهذا أصبح البحث العلمي يتم يف تخصصات جديدة كالباليونطولوجيا والزولوجيا
والكيمياء 6...ويتم من خالل عملية االستقراء ،فقد كان داروين ينطلق يف أبحاثه من دراسة خصائص الكائنات
مثل الحامم والنباتات من أجل تكوين أفكار وخالصات عامة حول الحياة وأشكالها .لقد شكل هذا املنهج ثورة
حقيقية عىل املناهج الفكرية التي كانت توجه العمل العلمي خالل الفرتة الحديثة .لهذا وجدنا من الفالسفة
من يقعد لالستقراء من داخل النظرية املنطقية ،مثل ما قام به الفيلسوف اإلنجليزي جون ستيورت ميل يف
اعتباره لالستقراء منطلق البحث العلمي.
إن ما مدت به التطورية الداروينية الفكر املعارص هو التوجه الطبيعاين 7.naturalismهناك العديد
من التأويالت ملقولة الطبيعانية يف الفلسفة؛ ذلك أن كل فيلسوف وظفها بحسب أغراضه الفلسفية ،والتأويل
الذي يهمنا بقوة هنا هو أن التوجه الطبيعاين جاء كنقيض للنزعة الثنائية ( )dualismيف الفلسفة .فإذا
3شارلز داروين ،أصل األنواع (ترجمة اسماعيل مظهر ،لبنان :دار التنوير للطباعة والنشر71 ،)2015 ،
4المرجع السابق ،ص85 .
5هذا المفهوم من تطوير الفيلسوف األمريكي توما ألكساندر ( )Thomas C. Alexanderضمن كتابهhuman eros: eco-ontology and :
.aesthethivs of exitence
6 John Dewey, The Influence of Darwin on Philosophy, p. 9
7 Teehan john, Evolution and Ethics: The Huxley/Dewey exchange (U. S. A.: the journal of speculative philoso-
phy, 2002), p. 227
8
كانت الفلسفات الحديثة ،مثل الديكارتية والكانطية ،قد قاربت اإلنسان والعامل من منطلق الفصل بينهام
لدواعي معرفية ،فالتوجه الطبيعاين الذي وفرته التطورية الداروينية ال يقيم املعرفة بالطبيعة عىل الفصل بني
الذات واملوضوع؛ ألنه ال ينطلق من املقدمات واالفرتاضات العامة ،بل ينطلق من الحاالت الخاصة واملالحظة
التجريبية .وهكذا ،فمع هذا التوجه مل نعد بحاجة إىل فصل الذات عن املوضوع؛ ألنهام ضمن سياق واحد
يتسم بالرتابط والتكامل وهذا السياق هو البيئة.
قد يبدو من غري املنطقي الحديث عن العالقة بني ميكانيكا الكم (أو فيزياء الكوانطا) والفلسفة البيئية،
إال أن واقع األمر يبني عكس ذلك ،حيث كان هذا النموذج الفيزيايئ املعارص أحد مسببات ظهور الفلسفة
البيئية .فهذا النموذج هو أحد تجليات النزعة الحيوية ( )vitalismالتي هيمنت عىل املشهد العلمي املعارص.
لقد حاول رواد فيزياء الكم ،رشودنغر ونيلس بور وهايزنربغ ،هدم الصورة التي بناها نيوتن وديكارت وغالييل
عن العامل ،باعتباره آلة ميكانيكية عظمى ( .)great machinسرنكز عىل مجموعة من النقاط التي يبدو
أن تفي بغرض إيضاح العالقة بني هذين املبحثني ،ونقصد بالضبط :مفهوم الرشوط الوجودية(existensial
،)conditionsوالتشابك الكمي ( ،)entenglementوالرتابط بني العارف واملعروف.
ميكننا مفهوم الرشوط الوجودية ،الذي ميكن إرجاعه إىل لعامل نيلس بور ،من فهم التجاوز الذي أقامه
فيزياء الكوانطا ،إذا نظرنا إليه كنزعة حيوية ،يف حق الفيزياء الحديث ،باعتباره نزعة ميكانيكية .فإذا كان
الفيزياء الحديث يقوم عىل تفسري حركات الظواهر الطبيعية بناء عىل مفهوم القوى ( ،)forcesكقوة الجاذبية
مثال ،ويدعي الحياد عند قيامه بتجاربه عىل موضوعات الطبيعة؛ أي شبه غياب للتأثري يف خصائص املوضوع ما
يعني تحقق املوضوعية يف الدراسة؛ فإنه فشل يف تحديد ماهيات وطبائع تلك القوى وفشل أيضا يف ادعاءاته
حول الحياد واملوضوعية؛ ألن الفيزياء املعارصة أثبتت أن التفاعل بني األشياء مبا فيها التفاعل بني الدارس
واملدروس تؤثر عىل عمليات الرصد ،ما يعني أن تفسريات الفيزياء الحديث يتجاوز ويتعاىل عىل الرشوط
الوجودية لتلك للظواهر الطبيعية ،وهو ما حاول فيزياء الكم تجاوزه من خالل تأكيده أن دراسة تلك الحركات
غري ممكنة إال يف إطار الرشوط الوجودية التي تتيح ظهور اليشء .لهذا اتجه الفيزياء املعارص عموما إىل تفسري
طبيعة الضوء ،باعتباره الرشط األكرب الذي يتيح ظهور األشياء .يقول إتيان كالين يف هذا الصدد« :تنبثق من
نصوص أحد اآلباء املؤسسني لفيزياء الكوانطا؛ أي «نيلز بور» ،صيغة أكرث جذرية لهذه الفكرة .يرى هذا األخري
أن املوضوعات الكوانطية ال متتلك محموال خاصا .إنها كيانات غري قابلة للفصل عن رشوط مالحظتها» 8.تعطينا
هذه الرشوط الوجودية فكرة أن الظاهرة الطبيعية غري معزولة ،وإمنا هي يف ترابط وتفاعل تامني مع ظواهر
أخرى .وهذه الفكرة هي من بني األهداف الرئيسة التي تريد الفلسفة البيئية تأكيدها ضمن أدبياتها.
8كالين إتيان ،رحلة قصيرة في عالم الكوانتا ،ترجمة ذ .كمال الكوطي (المغرب :مطبعة نجمة الشرق ،)2021 ،ص49 .
9
تفتح لنا هذه األفكار الباب للحديث عن مفهوم التشابك الكمي يف فيزياء الكوانطا ،وهو املفهوم الذي
طوره العالِم إرفني رشودينغر 9.يحتل هذا املفهوم منزلة محورية يف ذلك الفيزياء ،ولسنا هنا من أجل رشح
خصوصياته العلمية واملعادالت املربهنة عليه ،ولكن من أجل الرتكيز عىل فكرة التفاعل ( )interactionالتي
يقوم عليها؛ فالتأويل املفهومي للتشابك الكمي يفيد بأن دراسة حركة جسيم معني غري ممكنة إال من خالل
رصد تفاعالته مع باقي الجسيامت ،وهذه ظاهرة أساسية بالنسبة إىل رواد فيزياء الكوانطا .إن الغريب يف
تفسري ترابط الجسيامت هو أنها تستمر يف التفاعل حتى لو تم إبعادها عن بضعها ملسافات طويلة .ويف
الوقت الذي كان فيه رواد التفسري الكمي مثل رشودنغر يبحثون عن تفسريات هذا السلوك ،اعتربه أينشتاين
سلوكا مستحيال؛ ألنه ظل يجرت بقايا الذات الحديثة من خالل تأكيده أن قوانني ومبادئ ومفاهيم النظرية
الفيزيائية هي إبداع حر للعقل البرشي ،وليس بحثا يف الرشوط الوجودية للظواهر الطبيعية.
ميكننا من خالل هذه الفكرة ،استيعاب أن أشياء الطبيعة حسب فيزياء الكم مرتابطة بشكل ال ميكن معه
فصلها عن بعضها ،وهو ما يعني أن هذا االرتباط ليس مجرد ترابط وجودي ،ولكنه ترابط وظيفي وفعال.
من الزاوية الحيوية ،ال تكون الرتابطات بني األشياء غاية يف ذاتها ،بل تكون من أجل غايات أخرى أكرث مام
نتصور .لقد انتبه العلم املعارص اليوم ،وخاصة علوم البيئة وعلوم الحياة األرضية والفضائية ،إىل أن األشياء
تؤثر وتتأثر مع بعضها بغض النظر عن املسافة القامئة بينهام ،فحياة ماليني الكائنات البرشية وغري البرشية
يف جنوب األرض مرتبطة بالقطب الشاميل املتجمد ،بل مرتبطة بالغالف الجوي وما خلفه مثل الشمس .لهذا
نجد مجموعة من املفكرين يربطون بني فيزياء الكواتنطا وقيام الفكر والخطاب البيئيني ،وعىل سبيل املثال
الفيلسوف األمرييك جاك بريد كاليكوت J. B. Callicottمن خالل مؤلفه الهام ‹القيمة املحايثة ،النظرية
الكوانطية ،واإلتيقا البيئية› ( .)ethics environmental and ,theory quantum ,value Intrinsicيربهن
كاليكوت يف هذا الكتاب عىل مكانية تأسيس إتيقا تحتضن كل الكائنات ،بناء عىل خالصات ميكانيكا الكم التي
هدمت ثنائية ذات/موضوع التي قام عليها العلم والفلسفة الحديثني.
لقد أدت أفكار التشابك الكمي وهدم مقوالت الثنائية إىل نتاج تصور فلسفي ميكن وصفه ب›عدم الفصل
بني العارف واملعروف› ،ففكرة التأثري والتأثر املتبادلني بني أشياء الطبيعة تنتج لنا يف مستوى املعرفة أن العارف
واملعروف ينتميان للمستوى نفسه ،وليس أن الذات تكون عاملا خاصا مفصوال من حيث القوانني عن عامل
املوضوع املدروس .لقد ترجم الفالسفة املعارصون هذه الفكرة يف كتاباتهم الفلسفية ،وخاصة األمريكيني منهم
مثل وليام جيمس وجون ديوي .تحدث جيمس عن هذه املسألة يف كتابه ‹مقاالت يف االختبارية الراديكالية›
( )essays in radical empiricismمن خالل ما سامه ‹التجربة الخالصة ( )pure experienceالذي يقصد
به أن الواقع مكون من وسط قائم بذاته فيه تتفاعل األشياء وفيه يطرأ كل يشء ،وهذا الواقع هي البيئة،
وهو األمر نفسه الذي عرب عنه ديوي يف كتابه ‹املعرفة واملعروف› ( )knowing and the knownبتطبيقه
عن مسألة املعرفة؛ فالعارف ال يأيت بهدف املعرفة إىل موضوع مفصول عنه ،بل إنهام يف تفاعل مستمر وال
نهايئ؛ ألن العارف أحيانا يكون هو موضوع املعرفة ،فهام معا (أي العارف واملعروف) ينتميان ملا يسمه ديوي
املنظومة املشرتكة ( )common systemالذي هو يف آخر املطاف البيئة.
يتعني علينا هنا إيضاح أن قيام الفلسفة البيئية مل يكن ممكنا إال بعد هدم املقوالت التي قامت عليها
الفلسفة الحديثة بحسبانها فلسفة مضادة للبيئة ()anti-environment؛ إذ من غري املمكن التأسيس للفلسفة
البيئية من داخل فلسفة تقوم عىل تخصيص مفاهيم مثل الذات والوعي والهوية والقيمة عىل اإلنسان وحده
دون غريه من الكائنات ،وهو ما سامه املفكر الفرنيس جاك بوفريس J. Bouveresseبأسطورة الداخل (le
.)mythe de l’intérioritéومن أجل ذلك سرنكز عىل ااالنتقادات الذي وجهها بعض الفالسفة لفرضيات
الفلسفة الحديثة ،وخاصة نقد وليام جيمس للوعي ،ونقد فتغنشتاين للهوية الشخصية ،ونقد توم ريغان
ملفهوم القيمة عند كانط.
يف مقالة :هل يوجد الوعي ( ،)?does ‘consciousness’ exitالتي نرشت سنة 1912ضمن كتاب مقاالت
يف االختبارية الراديكالية ،وجه وليام جيمس نقدا الذعا ملقولة الوعي .وملعرفة قوة هذا النقد ميكن مالحظة ما
قاله برتراند راسل بخصوصه .وقد تعمدنا اإلدالء مبوقف راسل ألنه ميثل الفلسفة ذات املدخل املنطقي ،بينام
ميثل جيمس الفلسفة ذات املدخل السيكولوجي ،وبالتايل فهام من الناحية الخارجية فلسفتني متضادتني ،غري
أن راسل أقر يف مجموعة من املواضع من مؤلفاته ،مثل تطوري الفلسفي وتاريخ الفلسفة الغربية ،بأن النقد
الذي وجهه جيمس للوعي هو ما ضمن له مكانة إىل جانب الفالسفة .أما ما تبقى من فلسفته ،فهي يف الطب
النفيس 10.وأكرث من ذلك ،فقد تبنى راسل علم النفس كام طوره جيمس يف مؤلفاته املتأخرة؛ ألنه اشتم فيه
رائحة النزعة العلمية الواقعية ،نظرا ألن راسل هو اآلخر صاحب نزعة واقعية قامئة عىل العلم 11.فأين تتمثل
هذه النزعة يف فلسفة جيمس؟
10يعد برتراند راسل من أهم الفالسفة في الفترة المعاصرة ويعود له الفضل في تأسيس التيار التحليلي في الفلسفة .تقوم تحليلية راسل على إرجاع
العالم إلى قضايا اللغة بالنظر إليها كبنية منطقية ،وهو الحل الذي بدا لراسل لحل مشكل عدم جدوى الذات في ضم العالم ،بعد االنتقادات التي وجهها
الفالسفة لمبادئ الفلسفة الحديثة القائمة على تصورات معينة للذات .ومن جهة أخرى ،تقوم تحليلية راسل على تصور معين وشامل للمنطق ،وهو ما
يعني معاداته للنزعات التجريبية ،أو على األقل عدم وضعه للتجربة كإطار للمعرفة ،شأنه ذلك شأن إنشتاين .في حين تقوم تجريبية وليام جيمس على
عدم اعتبار المنطق مدخال أساسيا للفلسفة ،بل إن المدخل األساسي هو علم النفس والتجربة ،وهو ما يتضح في جنوح فلسفة جيمس في مراحلها األخيرة
إلى االعتناء بالتجربة الخالصة .غير أن هذا التعارض في المواقف الفلسفية لم يمنع راسل من االعتراف بأهمية تصور جيمس في إنكاره للوعي في
إطار تصوره التجريبي الواقعي الذي دافع عنه في كتاب مقاالت في التجريبية الراديكالية .فراسل يقر بأن وليام جيمس يستحق مكانته بين الفالسفة فقط
ألنه قدم الحجج القوية على عدم ضرورة العالقة بين ثنائية الذات والموضوع ،حيث قال« :وأنا من جانبي مقتنع بأن «جيمس» كان على حق في هذا
األمر[أي إنكاره للوعي] ،ويستحق ،على هذا األساس وحده ،منزلة عالية بين الفالسفة .وقد كنت أظن غير ذلك حتى أقنعني هو» .يمكن العودة إلى:
برتراند راسل ،تاريخ الفلسفة الغربية ،ترجمة محمد فتحي الشنيطي ،المصرية العامة للكتاب ،1977 ،ص466 .
11 Russell Bertrand, my phylosophical development (New York: simon and Schuster, 1959), p. 13
11
من أجل اإلجابة عن هذا التساؤل ،سرنكز عىل مفهوم التجربة الخالصة ( 12)pure experienceودالالته يف
فلسفة جيمس .يف عالقته النقدية مع الفلسفة الحديثة ،ركز جيمس عىل ثنائية ذات/موضوع ،باعتبارها أصل
املشكل الذي يجب الحسم معه وهدمه .لهذا نجده يقارب فالسفة الفرتة الحديثة انطالقا من هذه الزاوية
مبا فيهم هيجل الذي جاء مبقولة الوحدة بني العقيل والواقعي؛ ألن هذه الوحدة يف نظر جيمس مجرد وحدة
وهمية ،ما دام أن سريورة العقل تنطلق من الروح املطلق وتعود إليه .وإىل جانب ذلك ميكن فهم مقولة
التجربة الخالصة عىل أنها النقيض التام ملفهوم العقل الخالص ( )pure reasonالذي طوره ديكارت وعمقه
بشكل مهول كانط .سرنكز هنا عىل الكانطية (حتى الكانطية الجديدة ألنها مل تعصف بالثنائية) ،باعتبارها
محور الفلسفة الحديثة الذي من خالله تعمقت ثنائية ذات/موضوع .يف مقالة هل الوعي موجود؟ ،أعلن
جيمس حربه عىل الكانطية وعىل العقل الخالص ،فإذا كان كانط يرى العامل والذات ال ميكن متثلهام إال كبناء
ذايت وفق رشوط قبلية ،فجيمس بدأ مقالته بافرتاض مضاد متاما وهو وجود وسط قائم بذاته فيه يقع كل،
وسط يوجد خارج الذات ،بل إن الذات نفسها توجد يف هذا الوسط ،وقد سامه التجربة الخالصة .وهكذا
يتضح أن اللبس الذي ميكن أن يثريه مفهوم التجربة الذي يستعمل لعدة أغراض فلسفية ،وخاصة عندما يشري
هذا املفهوم إىل التجربة اإلنسانية ،يزول ألن املعنى الذي منحه إياه جيمس يذهب مبارشة إىل كون التجربة
هي الوسط الخارجي الذي توجد فيه جميع الكائنات وجميع العالقات املمكنة .لهذا نجد جيمس يقول:
13
«لنفرتض وجود مادة أولية أو خام أويل هو مصدر كل يشء ،وهذه املادة هي التجربة الخالصة».
إن ما فعله جيمس هو نقل الوعي اإلنساين من اإلطارات الذاتية (كام كان مع ديكارت وكانط) إىل
اإلطارات البيئية .فالقول إن الذات اإلنسانية هي جزء فقط من وسط خارجي ،معناه أن معامل الوعي ال ميكن
فهمها إال يف سياق بيئي خارجي؛ أي إن الوعي مل يعد أمرا ذاتيا .فحسب جيمس ،إن ما نطلق عليه ‹وعي› هو
يشء غري موجود أصال ،إنه ،وفق كلامت جيمس ،مجرد «وهم وخيال يطري يف سامء الفلسفة»14؛ أي إنه فكرة
من دون جذور تشدها إىل األرض.
لقد كانت هذه الفكرة مدخال أساسيا للفكر الفلسفة البيئية ،وهو ما فعله تالميذ جيمس وخاصة جون
ديوي .لقد فطن هذا األخري إىل أن تصور جيمس للوعي هو تصور قوي ويتامىش مع خصوصيات الفرتة
املعارصة ،سواء تعلق األمر باملجال العلمي أو باملجال الحضاري والتقني .لقد طور ديوي التصور البيئي للوعي
عند جيمس وحاول تعميمه عىل مختلف املجاالت كاالجتامعي والسيايس واألخالقي ،من خالل قوله بأنه
الوعي البرشي هو جزء من وعي كوين هائل .ركز ديوي لتأكيد فكرته هذه عىل املعنى الوظيفي للوعي ،أي
12قد يكون جيمس استلهم هذا المفهوم من أعمال داروين .فهذا األخير في كتابه ‹أصل األنواع› استعمل مصطلح «الطبيعة الخالصة» في حديثة عن
كون التغيرات التي تطرأ على الكائنات إنما تحدث في الطبيعة بشكل تما ،أي أن أسباب التغير طبيعية محضة وليس هناك أي تدخل ألي عامل خارج
الطبيعة ،وهو معنى قريب جدا لما يقصده جيمس من مصطلحه ‹التجربة الخالصة› .يمكن العودة إلى :داروين ،أصل األنواع ،ترجمة اسماعيل مظهر،
دار التنوير للطباعة والنشر ،لبنان ،2015 ،ص81 .
13 James william, essays in radical empiricism (New York: Longmans, green and co, 1912), p. 4
14 Ibid., p. 2
12
اإلجابة عن سؤال فيام ينفعنا الوعي امتالكنا للوعي ككائنات حية يف تفاعالتنا مع بيئتنا؟ ركز ديوي عىل الوعي
كقدرة عىل قراءة دالالت األحداث البيئية واتخاذ القرار ( ،)awarnessمع التأكيد أن هذه القدرة ليست
برشية خالصة؛ ألن كل الكائنات تستطيع القيام بذلك وفق قدراتها الخاصة .وبهذا يكون الوعي البرشي مجرد
جزء من وعي يتوزع عىل كل الكائنات التي نتقاسم معها البيئة وليس حكرا عن اإلنسان كام اعتقد فالسفة
الفرتة الحديثة.
انطالقا من تأويل خاص ،ميكن أن يشكل نقد الفيلسوف لودفيج فتغنشتاين لقضية الهوية الشخصية
مدخال أساسيا للفلسفة البيئية؛ ألن فتغنشتاين عمل عىل القيام بذلك النقد من أجل ربط الذات بسياقات
استعامالت اللغة ،وهو ما يعني أنه مل يهدف بشكل رصيح لتأسيس الفلسفة البيئية .لهذا سنعامل مع هذا
النقد ،باعتباره موجها ألحد أهم املفاهيم التي قامت عليها الفلسفة الحديثة ،وهو مفهوم الهوية الشخصية.
عند فالسفة الفرتة الحديثة ،مثل جون لوك وكانط ،ترتبط الهوية الشخصية بالقدرة عىل التفكري والسلوك
املسبوق بالتخطيط ،ومبا أحد اإلنسان يف نظرهم هو الكائن الوحيد العاقل فق ربطوا بني العقل الهوية
الشخصية ،غري أن فتغنشتاين عمل عىل دحض هذه الفكرة من خالل القول إن الهوية الشخصية ليست أمرا
يتعلق بالقدرة عىل التفكري ،ولكنه يتعلق باالستعامالت السياقية للغة من أجل التواصل مع الغري بحسبانه
مشاركا يف الحياة .إن الهوية حسب فتغنشتاين ليست شيئا جاهزا ،ولكنها يشء يظهر أثناء التواصل باستعامل
اللغة .من هنا تحتل اللغة مكانة أساسية يف تحديد الهوية عند هذا الفيلسوف.
يف كتابه حول le mythe de l’intérioritéيرى بوفريس أن هذه أفكار فتغنشتاين تندرج ضمن نظريته
حول مقاربة فكر اإلنساين دون الحاجة إىل فرضية «الذات» .يستعمل بوفريس يف هذا السياق تسمية الفيلسوف
الربيطاين التحلييل بيرت سرتاوسن ( :)1919-2006نظرية «الال -ذات» /أو نظرية «ليست هناك ذات» (théorie
.)»de «pas-de-sujetطور فتغنشتاين هذه النظرية يف كتاب الرسالة يف توجه نقيض للديكارتية .ذهبت هذه
األخرية إىل افرتاض رضورة وجود حامل ملختلف حاالت الوعي والخصائص التي لجوهري البدن والروح ،بينام
عارضت نظرية فتغنشتاين هذه الفكرة؛ فحسبه ليست بنا حاجة إىل حامل للمحموالت النفسية 15.إن الذات
توجد يف التجربة ،أي أنها جزء من هذا العامل الذي ننتمي إليه .وهذه التجربة هي اللغة.
اللغة عند فتغنشتاين هي وسيلة التفاعل مع الغري ،والتي نتعلمها يف سياق اجتامعي معني ،وهو ما يعني
أن ال هوية خارج التواصل االجتامعي .يف مرحلة الرسالة كان فتغنشتاين يرى أنه ليس هناك معنى يستبدل
عبارة بنفسها ،وأن عبارات الهوية من نوع أ = أ والعبارات التي ميكن اشتقاقها منها هي عبارات فارغة من
املعنى متاما؛ أي إن العبارات املعزولة تبقى دامئا بال معنى كأن نقول مثال «الحرب هي حرب» أو «القانون
15 Bouveresse Jacques, le mythe de l’intériorité (Paris: Minuit, 1976), p. 123
13
هو قانون» ...إن االستعامل السياقي الذي ينتج التفاهم بني األفراد هو ما مينح العبارات املعنى .لهذا ،فمعنى
الكلمة غري ممكن إال يف سياق استعاميل معني .لهذا ،نجد فتغنشتاين يف الكتب املتأخرة ،ككتابيه حول اليقني
وتحقيقات فلسفية ،يعمل عىل تحديد طبيعة اللغة الطبيعية التي نستخدمها ،حيث أكد أن املعنى متأصل
يف االستخدام السياقي للغة .اللغة عند فتغنشتاين هي منط للتفاعل ( )mode d’interactionبني كائنني
عىل األقل وتفرض منظومة ثقافية ينتمي إليها املتفاعلني ،وهي نفسها املنظومة التي يكونوا قد اكتسبوا فيها
عادات الكالم .وبالتايل ،فاللغة هي وسيلة ال بد منها من أجل التواجد يف إطار «عالقة» مع الغري ،16وهو ما
يعني أن ال هوية خارج الجامعة التي هي يف أصلها تجمع برشي يف محيط بيئي معني.
يعد توم ريغان من أهم أعالم الفلسفة البيئية املعارصين إىل جانب بيرت سينغر وبريد كاليكوت ومايكل
زميرمان ...اتجهت كتابات ريغان الفلسفية إىل الرتكيز عىل إنشاء خطاب يثري املسألة الحقوقية يف عالقتها
باألنواع األخرى غري اإلنسان ،وخاصة حقوق الحيوانات .ومن أجل ذلك ،عمل ريغان عىل العودة إىل النظرية
األخالقية لكانط وإجراء بعض النقد عليها من أجل استيعاب هذا الخطاب الحقوقي الجديد ،وما قام به
بالتحديد هو توسيع نطاق املفاهيم األخالقية الكانطية ،مثل مفاهيم املنزلة األخالقية ()moral standing
واالحرتام ( )respectوحيازة القيمة ( ...)inherent valueلتشمل باقي الحيوانات وليس فقط اإلنسان كام
حدث لها مع كانط 17.لقد بدا لريغان أن النظرية األخالقية الكانطية ميكنها أن تكون أرضية لتأسيس خطاب
سيايس حقوقي يهتم بحقوق األنواع األخرى ،انطالقا من مبدأ معاملة أي يشء كام نريد أن ُيتعامل معنا ،لهذا
ميكن بصعوبة وصف فلسفة ريغان عىل أنها كانطية جديدة ( ،)neo-Kantismوهي الكانطية البيئية .يواجه
هذا الوصف كثري من التحديات؛ ألن فلسفة كانط قد تم تصنيفها عىل أنها معادية للفكر البيئي (عىل األقل
من طرف هذا البحث) ،إال أن ريغان أرص عىل إمكانية توظيفها يف سياق الفلسفة البيئية .فكانط مل يفكر
مرة بأن يؤسس الفلسفة التي تعرتف بوجود العامل كوسط قائم خارج الذات ،ورغم ذلك فريغان خاض هذه
املغامرة من خالل الرتكيز عىل إمكانية توسيع نطاقات مفاهيم كانط األخالقية.
حسب ريغان ،ليس فقط اإلنسان هو من ميلك القيمة الذاتية ،بل حتى األنواع األخرى أيضا .كانت
تحليلية كانط للمسألة األخالقية ترتكز عىل اإلنسان ،باعتباره كائن قادر عىل القيام باالبتكار والتدبري الذايت
للتفكري والسلوك األخالقيني .ولهذا ،فهو فشل يف إشاعة املنزلة األخالقية عىل الحيوانات .لقد كان ريغان يعلم
بأن الكانطية بالصيغة السادجة التي بناها بها كانط ال تسعف أي تأويل بيئي لها .ولكنه مع ذلك أراد توسيع
مفاهيم كانط لتشمل واقع الحيوان .ففكرة كانط حول الغايات والوسائل ظلت غامضة وقابلة لعدة تأويالت،
16 Bouveresse, le mythe de l’intériorité, p. 539
17 McDonald Hugh P., John Dewey and environmental philosophy (New York: state University of New York
press, 2004), p. 7
14
فكانط طالب بعدم معاملة الشخص كام لو كان وسيلة لتحقيق غايات معينة ،غري أنه مل يدع إىل استعامل
الحيوان كوسيلة؛ أي إنه مل يكن مثل ديكارت الذي دعا إىل السيطرة عىل الطبيعة .من هذه الزاوية ،وقد
تحققت الرشطية العلمية للحديث عن حقوق الحيوان ،ميكن توسيع نطاق معالجة كانط للغاية والوسيلة
ليشمل الحيوان أيضا ،حيث ميكن القول إنه ال يجب التعامل معه كوسيلة لتحقيق غايات اإلنسان.
انطالقا من الزاوية الحقوقية القامئة عىل املدخل األخالقي ،عمل ريغان عىل دحض التصور الديكاريت الذي
يقيص الحيوان من دائرة الوعي .استعمل ريغان يف هذا السياق مفهوم «وعي الحيواين» (.)animal awarness
وقد حاول إثبات هذا االدعاء من خالل مجموعة من الحجج ،أهمها اللغة .حسب ديكارت ،اللغة؛ أي استعامل
الكلامت ،هي أمر خاص بالبرش .أما الحيوانات ،فيمكنهم أن يرددوا بعض الكلامت ولكن عن طريق التدريب،
لكن ريغان يشري إىل أمر هام هنا ،فإذا قيل أن اللغة هي العالمة عىل الوعي وخاصة بالبرش ،فهل يعني هذا
أن األطفال (البرشية) الصغرية هي عبارة عن حيوانات ،تصبح برشا بعد استعاملها للغة 18.ومن الواضح أن
فلسفة ديكارت لن تقدر عىل تفسري هذه املفارقة .لقد كان واضحا مع ريغان أن الوعي كمعرفة ملا يدور يف
املحيط ليس حكرا عىل البرش ،يرسي عىل الحيوانات أيضا .إن القول إن الحيوانات ال متتلك الوعي ،فقط ألنها
ال تستطيع استخدام الكلامت ،هي فكرة ديكارتية؛ أي فكرة تتامىش مع كل نسق فلسفي يرى أن الوعي هو
يشء خاص اإلنسان .أما اآلن ،وقد انتقلت الفلسفة من هذا االعتبار إىل تصور الوعي عىل يشء كوين ،حيث
19
يبدو من املعقول االعرتاف بأن لكل كائن حي نصيبه من الوعي الذي يجعله باقيا يف الحياة.
إن ما نقصده باألحداث التاريخية هنا هو مجموعة من الوقائع التي ميزت الفرتة املعارصة ،والتي كان
لها دور كبري يف ظهور الفلسفة البيئية ،ونقصد عىل وجه الخصوص الثورة الصناعية وما صاحبها من أحداث
اقتصادية مهمة ،واملنعطف الكوين يف الحضارة البرشية املعارصة أو ما يعرف الحقا بالعوملة .هذه األحداث
تؤثر بشكل مبارش عىل البيئة داخل كوكب األرض ،وهو ما أدى إىل تنامي األصوات املنددة بسلوك التصنيع
املعارص والثقافة العوملية؛ ألنها تلحق الرضر امللحوظ عىل البيئة .وهذ املقاربة هي ممكنة من الناحية
الفلسفية؛ ألن الثورة الصناعية التي عرفتها البرشية تبقى يف آخر املطاف نتيجة ملجهودات العلامء.
يشري املنتدى االقتصادي الدويل ،وهي مؤسسة غري ربحية تسعى لتطوير العامل عن طريق الدمج بني
العلم واالستثامر ،إىل أننا اآلن يف املراحل األوىل للثورة الصناعية الرابعة ،القامئة عىل استخدام تقنية النانو
والتكنولوجيا الحيوية ،وهو ما يعني أن هناك مسرية من التقدم التكنولوجي الذي ال ميكن تفسريه إال بالعودة
18 Regan Tom The case for animal rights (Los Angeles: University of California press,1983), p. 15
19 Ibid., p. 12
15
إىل الثورات الصناعية السابقة وخاصة األوىل منها 20.متيزت الثورة الصناعية الثالثة بهيمة ما يسمى الثورة
الرقمية وظهور عامل اإلنرتنت (العامل االفرتايض) ،بينام متيزت الثورة الصناعية الثانية بظهور اخرتاع الحاسوب
وأدوات أخرى ال تقل أهمية عنه مثل امليكروسكوب .أما الثورة الصناعية األوىل ،فقد ارتكزت حول استغالل
املاء والبخار من أجل زيادة اإلنتاج الفالحي والصناعي نظرا للطلب املتزايد إثر النمو الدميغرايف ،وقد متيزت
هذه الثورة مبجموعة من االخرتاعات مثل املضخة والقطار.
ال ميكن القول إن آثار الثورة الصناعية منذ بدايتها كانت سلبية؛ ألن فوائدها ال تعد وال تحىص وال ميكن
ألي أحد إنكارها .لهذا ،فإن الرتكيز عىل آثارها السلبية هو من أجل إيضاح سياقات ظهور الفكر البيئي خالل
الفرتة املعارصة .فالزيادة املهولة الطلب عىل املنتجات الصناعية إبان نهايات القرن 19والقرن ،20وتعقيد
طرق التجارة يف هذه الفرتة أدى إىل زيادة اإلنتاج ،اليشء الذي أدى إىل ظهور املصانع الكربى واملناجم .كان
هذا هو سبب ظهور الحضارة الكونية التي تجلت يف الهجرات بني القارات واستقرار العامل يف مناطق العمل
مثل أوروبا وأمريكا ،وظهور األسفار للعوام ووسائل النقل.
كانت تداعيات التجارة الكونية تفرض عىل الطبيعة إنتاج ما ليس يف مقدورها إنتاجه بطرقها هي؛ أي إنها
أصبحت تبتز وتحفز إلنتاج كميات كبرية من الخريات .كان للعلامء دور كبري يف البحث يف كيفيات وطرائق
اإلنتاج بطرائق برشية وليست طبيعية ،وهو ما أدى يف آخر املطاف إىل تدهور قوى الطبيعة .لقد احتاجت
الجامعات البرشية ألكرث من قرن من الزمن لتستوعب أن ابتزاز الطبيعة يهدد البيئة .فاجتامعات األمم
املتحدة حول مخاطر الثورة الصناعية مل تحدث ال يف النصف الثاين من القرن ،20كندوة ستوكهومل حول البيئة
البرشية عام 1972عىل سبيل املثال .انتهت هذه الندوة بتقرير يؤكد الحاجة إىل اعتبارات وتصورات ومبادئ
مشرتكة للحفاظ عىل البيئة .تقر هذه الوثيقة بأن اإلنسان هو املسؤول األول عن ازدهار أو تدهور البيئة
الطبيعية ،وأن ال بقاء وال تطور اقتصادي يف ظل عدم استصالح تلك البيئة 21.إن ما ميكن مالحظته يف هذه
الوثيقة هو أنها عىل الرغم من تركيزها عىل آثار الثورة الصناعية عىل البيئة الطبيعية ،إال أن املقاربة املعتمدة
هي إرجاع سبب التدهور إىل العامل السيايس ،خاصة وأن هذه الفرتة هي فرتة ما بعد الحربني العامليتني اللتني
راح ضحيتها أكرث من 50مليون فرد -بغض النظر عن الضحايا من األنواع األخرى ،وفرتة الحرب الباردة بني
القطب الغريب الرأساميل بزعامة و .م .األمريكية والقطب الرشقي االشرتايك بزعامة االتحاد السوفيايت ،وهو
ما يعني أن تسابق الدول نحو التسلح والصناعة العسكرية قد يحظى بحصة األسد يف تفسري تدهور البيئة
الطبيعية واالجتامعية للناس.
أما يف قرار الجمعية العامة لألمم املتحدة خالل الدورة 70من أعاملها الذي اتخذته عام ،2015والذي
يهدف إىل وضع خطة التنمية املستدامة يف أفق عام .2030إن الدالالت الكربى لهذا القرار هو أن التأثري
20محمد عبد الستار البدري ،من التاريخ :الثورة الصناعية األولى واالقتصاد الدولي (الموقع اإللكتروني :الشرق األوسط 6 :فبراير .)2016
21 Report of the united nation conference on the human environment (Stockholm: 5-16 June 1972), p. 3
16
السلبي للثورة الصناعية (يف مستواها الثالث الرقمي) ازداد حدة وعمقا ومل يرتاجع كام كان مخطط له
منذ قرار األمم املتحد عام .1972كان شعار هذا القرار يقوم عىل خمسة مصطلحات أساسية هي :الناس،
والكوكب ،واالزدهار ،والسالم ،والرشاكة .لقد جاء يف ديباجة هذا القرار ما ييل« :متثل هذه الخطة برنامج
عمل ألجل الناس وكوكب األرض وألجل االزدهار ،وهي تهدف أيضا إىل تعزيز السالم العاملي يف جو من الحرية
أفسح .ونحن ندرك أن القضاء عىل الفقر بجميع صوره وأبعاده ...وستعمل جميع البلدان والجهات صاحبة
22
املصلحة عىل تنفيذ هذه الخطة يف إطار من الرشاكة والتعاونية».
إن ما يظهر أكرث أن البيئة هي قضية القضايا اليوم هو توايل اجتامعات ومؤمترات ،خاصة مؤمترات
التغريات املناخية واالحتباس الحراري ،كمؤمتر باريس عام 2015ومؤمتر مراكش عام 2016ومؤمتر إكسبو ديب
...2023حيث يظهر جليا أنه يجب عىل الجامعات البرشية والبلدان وضع خطط أكيدة وجدية وفعالة تضمن
عىل األقل التقليل من التأثري السلبي للتصنيع عىل املنظومات البيئية يف الوقت الحايل (الذي ميكن تسميته
عرص النفط) ،والحد منه يف املستقبل.
خامتة:
من خالل ما سبق ،ميكن مالحظة أن هناك مجموعة من األسباب التي أدت إىل ظهور الفكر البيئي يف
الفرتة املعارصة ،باعتباره فكرا يستجيب ويتفاعل مع األسئلة الكربى التي تطرحها تلك الفرتة بحسبانها فرتة
هيمنة العلم والتكنولوجيا ودخولهام لحيز الفعل والتفكري والرغبة اإلنسانية .من الزاوية الفلسفية ،فقد
ظهرت مجموعة من األصوات التي كرست مجهودها وكفاءتها من أجل االنخراط يف هذا النقاش الكبري حول
البيئة ،ما أدى إىل إنتاج فلسفة بيئية حقيقية ورصيحة تطالب بحلول جذرية ملشكلة البيئة ،باعتبارها مشكلة
تضع عىل املحك حياة البرش وباقي األنواع ،فهي مشكلة ال تناقش حيثيات وطرائق التعايش والحياة بني
األجناس واألعراق والثقافات ،بل إنها تناقش إمكانية الحياة يف أصلها وإمكانية العافية يف ظل التدهور املستمر
إلمكانات كوكب األرض.
باالعتامد عىل كتاب مايكل زميرمان يحمل عنوان الفلسفة البيئية :من حقوق الحيوان إىل اإليكولوجيا
الجذرية (يف جزأين) ،فإن الفلسفة البيئية هي مجموعة من التصورات والنظريات الفلسفية ملجموع من
الفالسفة ،بينها اختالفات كثرية بحب نظرة كل فيلسوف .يقسم زميرمان الفلسفة البيئية إىل قسمني أساسيني:
قسم يسميه األخالق البيئية ،الذي يركز النقاش عىل املستوى األخالقي وحقوق الكائنات؛ أي العالقة األخالقية
بني اإلنسان وواجباته تجاه باقي األنواع ،وآخر يسميه اإليكولوجيا الجذرية التي تناقش قضايا البيئة يف نطاق
أوسع يشمل املعطى امليتافيزيقي واملعريف واالجتامعي والسيايس ،والذي يضم مجموعة من التوجهات مثل
اإليكولوجيا العميقة والنسوية اإليكولوجيا واإليكولوجيا االجتامعية 23...وهكذا يبدو ،يف تقدرينا ،أن الفلسفة
انتقلت من التمركز اإلنساين إىل التمركز البيئي؛ أي من مناقشة اإلنسان كقضية أوىل وكحامل ومحموله هو
العامل إىل مناقشة البيئة وقضاياها؛ ألنها هي الحامل ومحموالتها هي اإلنسان وغريه من األنواع.
23مايكل زيمرمان ،الفلسفة البيئية :من حقوق الحيوان إلى اإليكولوجيا الجذرية ،ترجمة معين شفيق رومية (الكويت :عالم المعرفة ،)2006 ،ص
ص19-18 .
18
:الئحة املراجع
- Alexander Thoma C., the human eros: eco-ontology and aesthetics of existence (New
York: Fordham University press, 2013).
- Baakrime abdelmajid, La relation perceptive selon Alhazen et ses retombées philoso-
phiques.
- Bouveresse Jacques, le mythe de l’intériorité (Paris: Minuit, 1976).
- Dewey John, The Influence of Darwin on Philosophy (New York: Henry Holt and Com-
pany, 1910).
- James william, essays in radical empiricism (New York: Longmans, green and co, 1912).
- McDonald Hugh P., John Dewey and environmental philosophy (New York: state Univer-
sity of New York press, 2004).
- Regan Tom The case for animal rights (Los Angeles: University of California press,1983).
- Report of the united nation conference on the human environment (Stockholm: 5-16 June
1972)
- Russell Bertrand, my phylosophical development (New York: simon and Schuster, 1959).
- Teehan john, Evolution and Ethics: The Huxley/Dewey exchange (U. S. A.: the journal of
speculative philosophy, 2002).
info@mominoun.com