Professional Documents
Culture Documents
محمد الغزالي - قذائف الحق
محمد الغزالي - قذائف الحق
اََ
ّ◌
ّ ّ◌ّ◌◌
َا
ْ
َاّ
َا
ْ
َ
ُ
المقدمة 4 ........................................................................................................
الباب األول /العقل أوالً ثم ننظر فيما يقال9 ................................................................
ﷲ يتعب ويجھل ويندم ويأكل ويصارع!! 12 ..........................................................
العھد القديم وافتراءاته على المرسلين بعد افتراءاته على ربھم 16 ..................................
الباب الثانى /تحرك ضد عقيدة التوحيد يتعرض له أبناؤنا 23 ...........................................
حول صلب عيسى 28 .....................................................................................
المنشورات وما تضمنت من أوھام 29 ..................................................................
اإلسالم أقوى بكثير من ھذه التفاھات 31 ................................................................
قصة ” ﷲ محبة ” وموقف شتى األناجيل منھا 33 ....................................................
تجليات العذراء ،الرمح المقدس ،الحقيقة العلمية المطاردة 34 .......................................
الباب الثالث /ماذا يريدون ؟40 ..............................................................................
تقرير رھيب 42 ............................................................................................
الحقائق تتكلم 46 ............................................................................................
نحن نريد الحفاظ على وحدة مصر الوطنية47 .........................................................
الباب الرابع /اإلسالم وجماعة اإلخوان48 .................................................................
تقرير يفضح النيات المبيتة لإلسالم 49 ..................................................................
صور من الھجوم على اإلسالم ذاته ،تحقير الماضى ،تزوير التاريخ 54 ...........................
القومية العربية ومعناھا 62 ...............................................................................
الباب الخامس /شبھات أخرى 65 ............................................................................
غلطة فلكية ! 65 ............................................................................................
الكسوف والخسوف 66 ....................................................................................
غلطة جغرافية ! 67 ........................................................................................
الشھاب الراصد67 .........................................................................................
خزان المياه 68 .............................................................................................
فھم عجيب 69 ...............................................................................................
حد السرقة 69 ...............................................................................................
نبى مرعب 70 ..............................................................................................
كذب على رسول ﷲ )عليه الصالة والسالم( 71 .......................................................
نماذج لتحريف الكلم 72 ...................................................................................
المداد القرآنى 74 ...........................................................................................
حديث الذباب 75 ............................................................................................
أساطير العھد القديم 76 ....................................................................................
الباب السادس /الدعوة اإلسالمية والحكام الخونة 82 .....................................................
الذئب األغبر 82 ............................................................................................
اإلسالم فى كوريا 83 ......................................................................................
أندونيسيا المسلمة 86 .......................................................................................
سماسرة الفاتيكان 88 .......................................................................................
قبرص 90 ...................................................................................................
العقيد الناصرى 91 .........................................................................................
الباب السابع /مع التيار الشيوعى واإللحادى 99 ...........................................................
ال بد لإلسالم من خطة إيجابية يواجه الغزو الثقافى بھا 99 ...........................................
الباب الثامن 125 ..............................................................................................
ال دين حيث ال حرية 125 .................................................................................
يا للرجال بال دين 129 ....................................................................................
مشھورون ومجھولون 132 ...............................................................................
التنادى بالجھاد المقدس 136 ..............................................................................
دين زاحف مھما كانت العوائق 140 .....................................................................
قال اإلنسان وقال الحيوان 144 ...........................................................................
حول خرافة تحديد النسل 148 ............................................................................
محنة الضمير الدينى ھناك ! 151 ........................................................................
ھذه المقررات ال نريد أن تنسى 156 ....................................................................
أسئلة وأجوبة 160 ..........................................................................................
المقدمة
من خمسين سنة ،عندما عقلت ما يجرى حولى ،أدركت أن نصف اإلسالم ميت أو
مجمد ،وأن نصفه اآلخر ھو المأذون له بالحياة أو الحركة إلى حين !!
وأحسست أن ھنالك صراعا ً يدور فى الخفاء أحياناً ،وعالنية حينا ً بين فريقين من
الناس:
ـ فريق يستبقى النصف الموجود من اإلسالم ،ويدفع عنه العوادى ،ويحاول استرجاع
النصف المفقود ،ويلفت األنظار إلى غيابه .
ـ وفريق يضاعف الحجب على النصف الغائب ،ويريد ليقتله قتالً ،وھو فى الوقت
نفسه يسعى لتمويت النصف اآلخر وإخماد أنفاسه وإھالة التراب عليه .
..وكلما طال بى العمر كنت ألحظ أن المعركة بين الفريقين تتسع دائرتھا وتشترك
فيھا إذاعات وأقالم ،وجماعات وحكومات ،ومناقشات ومؤامرات ..
..وكانت الحرب سجاالً ،وربما فقد المؤمنون بعض ما لديھم ،وربحوا بعض ما
أحرزه خصومھم ،وربما كان العكس ،وفى كلتا الحالتين تنضم إلى معسكر الحق
قوى جديدة وتنضم إلى معسكر الباطل قوى جديدة ،ويزداد الصراع حدة وشدة كلما
الح أن الساعة الحاسمة تقترب ..
ونحن نصدر ھذا الكتاب فى ظروف شديدة التعقيد:
أعداء اإلسالم يريدون االنتھاء منه ،ويريدون استغالل المصائب التى نزلت بأمته كى
يبنوا أنفسھم على أنقاضھا ..
يريدون بإيجاز القضاء على أمة ودين ..
وقد قررنا نحن أن نبقى ،وأن تبقى معنا رسالتنا الخالدة ،أو قررنا أن تبقى ھذه
الرسالة ولو اقتضى األمر أن نذھب فى سبيلھا لترثھا األجيال الالحقة ..
من أجل ذلك نرفض أن نعيش وفق ما يريد غيرنا أو وفق ما تقترحه علينا عقائد
ونظم دخيلة .
من حق المسلمين فى بالدھم أن يحيوا وفق تعاليم دينھم ،وأن يبنوا المجتمع حسب
الرسوم التى يقدمھا اإلسالم إلقامة الحياة العامة .
واإلسالم ليس عقيدة فقط ،إنه عقيدة وشريعة !
..ليس عبادات فقط ،إنه عبادات ومعامالت .
..ليس يقينا ً فرديا ً فقط ،إنه نظام جماعى إلى جانب أنه إيمان فردى .
إنه كما شاع التعبير :دين ودولة ..
وإذا كان ھناك فى ربوع األرض اإلسالمية من يعتنق اليھودية أو النصرانية فلن
يضيره ذلك شيئا ً .إذ إن حرية التدين من صلب التعاليم اإلسالمية ،وقد ازدھرت ھذه
الحرية فى أرجاء العالم اإلسالمى جمعاء ،عندما كانت مطاردة فى أقطار أخرى ال
حصر لھا ..
والتاريخ شاھد صدق على ذلك .
..ثم إن اليھود والنصارى رضوا بالعيش فى ظل حكم مدنى يبيح الزنا والربا
والخمر وأنواع المجون ،بل عاشوا فى ظل نظم يسارية ترفض اإليمان من أصله،
فال يسوغ أن يتضرروا من حكم إسالمى ينصف نفسه وينصفھم على السواء ..
وأيا ً ما كان األمر فنحن المسلمين مستمسكون بحقنا فى تطبيق شريعتنا واالستظالل
براية اإلسالم فى شئوننا كافة ،ولن نقبل نظاما ً يساريا ً ملحداً ،وال نظاما ً مستورداً
يسوى بين األضداد ،بين الكفر واإليمان ،بين العفة والعھر ،بين المعبد والخان ،باسم
الحرية .
وقد الحظنا ـ محزونين غاضبين ـ أن اتفاقا ً تم بين اليھودية العالمية ،وبين أقوى
الدول النصرانية على ضرب اإلسالم وإذالل أمته والقضاء األخير على معالمه
وتاريخه ..
وأثبتت األحداث أن الضمير الدينى عند ” أھل الكتاب ” قد فقد عدالته وطھارته نھائيا ً
] راجع الباب الثامن ” :محنة الضمير الدينى ھناك ” .ففيه تفصيل شاف لھذه
القضية [ ..
فاليھود الذين مرنوا على أكل السحت وثبوا على أرضنا ليأكلوھا بما فيھا ومن فيھا،
ووراءھم أمداداً ھائلة من المال والسالح تجيئھم من أمريكا وغير أمريكا ..
والكنائس الغربية تبارك ھذا السطو ،وتعده تحقيقا ً ألحالم العھد القديم ،ومن أجل ذلك
تحذف لعن اليھود من صلواتھا ـ كما أمر البابا بعدما أول األناجيل ،وبرأ اليھود من
دم المصلوب .
إن الضمير الدينى عند إخواننا ” أھل الكتاب ” ابتلع أكبر فضيحة عالمية عندما سوغ
العدوان على العرب ،والتھام دورھم وأموالھم وتاريخھم ،ولم ير فى ذلك شيئا ً
يستحق النكير ..
إن الحقد التاريخى على اإلسالم جعل رؤساء البيت األبيض يشاركون فى ذبحنا
بسرور ورغبة ،ويساعدون الغزاة بإسراف وحماس ..أما ساسة إنجلترا وفرنسا فقد
أعانوا اللص أوالً على رب البيت حتى تمكن من اقتحامه ،ثم عندما شرع رب البيت
فى المقاومة قالوا :يمنع السالح عن الطرفين المتساويين )!( ويقسم البيت بينھما ] .
وذلك ما أقره مجلس األمن ! ورضى به المستضعفون !! [
ھذا منطق الضمير الدينى عند اليھود والنصارى !! عند حملة رساالت السماء !!
إن احتقار الناس للدين والمتدينين إنما يجىء من ھذه المسالك الھابطة .
وعندما يظفر ” اإللحاد األحمر ” بشىء من الحفاوة والقبول فألن مسلكه كان أقرب
إلى الشرف وأدنى إلى العدالة المجردة ! وصدق ﷲ العظيم ” إن كثيرا ً من األحبار
والرھبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل ﷲ ” ] .التوبة[ 34 :
والواقع أن نجاح الشيوعية فى آسيا وأوربا يعود إلى تبلد الضمير الدينى عند اليھود
والنصارى جميعاً ،وقدرة ھؤالء الناس على المصالحة بين أھوائھم ومراسم العبادة
التقليدية ..
وقد انضم إلى الھجوم العسكرى على اإلسالم ھجوم ثقافى يتسلل خفية إلى السرائر
والعقول مليئا ً بالدس والختل ،وجبھة الھجوم تشمل اآلن أطراف العالم اإلسالمى
وصميمه ،وتتذرع بكل شىء لتدمير العقائد اإلسالمية وإھالة التراب على معالم
اإلسالم كلھا ..
ولما كان العرب ھم دماغ اإلسالم وقلبه فال بد أن يتضخم نصيبھم من ھذا الھجوم
المحموم ..
وھنا ـ فى خطة الصليبية الغربية ـ يجىء دور النصارى العرب الذين يجب أن
يسھموا فى ضرب اإلسالم وكسر شوكته ومنع دولته !! ..
ترى :أيؤدون ھذا الدور بدقة ويطعنوا مواطنيھم من الخلف ؟
الحق أن عدداً كبيرا ً منھم رفض االستجابة لھذه الخيانة ،وفى معارك فلسطين حمل
السالح جنبا ً إلى جنب مع إخوانه المسلمين .
بيد أن استمرار العرض الغادر ،والھزائم التى أصابت المسلمين فى ميادين شتى،
والفراغ العقلى لدى خريجى التعليم المدنى ،وسيل الشھوات الدافق من ھنا وھناك،
كل ذلك جعل األوضاع تتغير ،وأغرى بعض الرؤساء الدينيين فى الشام ومصر بفعل
أمور ذات بال !!
وذلك ما دفعنى إلى تأليف ھذا الكتاب ..
لقد أحسست أن خطوطنا الدفاعية مھددة من خلفھا ،وأن المؤامرة على اإلسالم وأمته
الغافلة قد أخذت أبعادا ً جديدة مخوفة ..وأن المصارحة ھنا أجدى فى رد الخطر وقتل
بوادر الشر قبل أن تستفحل !
لقد وھنت قوى اإلسالم إثر الضربات المادية واألدبية التى تناولته من كل جانب ..
وسمع من يقول :ما الذى جاء باإلسالم إلى مصر ؟ وإلى متى يبقى ؟ ولماذا ال تكون
بدل مصر إسرائيل أخرى أو أسبانيا أخرى ؟
أال ما أشد غربة اإلسالم فى بالده ..
وأمسى اإللحاد ذكاء واإليمان غباء !!
والتوحيد جموداً والشرك تقدما ً ووعيا ً !!
ومن يسمون رجال الدين اإلسالمى موضع التندر والسخرية .
ال من وسائل اإلعالم الرسمية وحدھا ،بل من مسئولين كبار ” جداً ” .
أما كھان اليھودية والنصارنية فحولھم تھاويل ،ولھم مكانة ال تمس !!
وشاركت مراكز القاھرة مراكز لبنان فى مھاجمة القرآن ،ومخاصمة نبيه ،وتزوير
تاريخه ..وانسابت من جحورھا أفاع ما عرفت الصفو يوما ً تريد أن تنفث سمومھا
علناً ،وأن تخذل القضايا اإلسالمية فى كل مكان ..
إذا قلنا :يجب أن يعلم الدين فى جميع المراحل ،وأن يختبر فيه الطالب اختبارا ً يؤثر
فى مستقبلھم ..قيل :والنصارى ؟
نجيب :أن نعلمھم اإلسالم بداھة ،ولھم أ ،يتعلموا دينھم ،وال نكلف الدولة أن تختبرھم
فيه ..وتوضع نسبة دقيقة تضمن لغير المسلمين أن يأخذوا طريقھم إلى درجات
التعليم كلھا دون حساسية ..
ھل من شروط الوحدة الوطنية أن يتم تجھيل المسلمين فى دينھم ؟ ] نحن نرفض أن
تبتر أجزاء من اإلسالم أو يدحرج عن مكانته الطبيعية باسم الوحدة [
إذا قلنا :يجب الحكم بما أنزل ﷲ ،سمعت صوتا ً خبيثا ً يقول :والنصارى ؟
نجيب :تبقى لھم األحكام المقررة فى دينھم ـ وھى تتصل باألحوال الشخصية ،أما بقية
القوانين فال بد أن تطبق على الكل ،نعتبرھا نحن ديناً ،ويعتبرھا غيرنا تشريعات
عادية كسائر التشريعات التى تحكم إخوانھم فى سائر أقطار العالم ،ماذا فى ذلك ؟
ھل من شروط الوحدة الوطنية أن يكفر المسلمون بشريعتھم ؟!
لكن االستعمار العالمى الذى استعان بالكنائس الغربية على إذالل اإلسالم واستباحة
حماه ،يوسع اليوم دائرته ليضمن تعاون الكنيسة الشرقية معه .
ومن ثم بدأت تصرفات مجنونة ،ومطالب ال أساس لھا تظھر على ألسنة بعض
المسئولين وغير المسئولين .
ونحن فى ھذا الكتاب نلتزم جانب الدفاع ومستعدون لوقف المعركة إذا توقف
المعتدون .
إن المؤتمرات التبشيرية العالمية تجد صدى لھا فى نشاط محلى ينطلق على األرض
العربية .
وقد أفلح ھذا النشاط فى تنصير عدد من الطالب ال يؤبه له ،ولكن داللته تصرخ بما
فيھا من التحدى والخيانة.
ولم يكن بد من أن نتحرك لنحق الحق ونبطل الباطل .
وعسى أن يرعوى المقامرون ويكفونا مزيداً من القول ..
وإن كنا يائسين من أن يوجد للغل الصليبى دواء .
أكتب ھذه الصحائف وأنا فى ” رباط الفتح ” عاصمة المغرب الشقيق ..وأنباء القتال
الدائر بين العرب واليھود تصل إلينا ساعة بعد ساعة ،آذاننا صاغية إلى أجھزة ”
الراديو ” تتنسم خبراً يفرح ..
لكن ما ھذا ؟ جسر جوى بين الواليات المتحدة وإسرائيل يعوضھا عن كل سالح
تخسره ،ويمنحھا من القدرة ما تذل به رؤوسنا ! ومتطوعون من شتى العواصم يقول
عنھم مراسل صحيفة إنجليزية:
لقد ولوا وجوھھم شطر إسرائيل بالروح التى كانت تدفع الرجال قديما ً إلى االشتراك
فى الحروب الصليبية !!
أما لھذا الغل من آخر ؟!
وقال صديق مغربى خبير بعلل القوم :إنھم يقاتلون العرب ألنھم مسلمون .
وقلت :إن القتال اآلن قومى ال دينى ..ليكن ،ما دام العرب عرباً ،وما دام القرآن أھم
كتاب فى لسانھم ،وما داموا قد انبعثوا به قديما ً فيجوز أن ينبعثوا به حديثاً ،إذن ال بد
من إبادتھم وإحالل جنس آخر محلھم !
ھذا ما انتھى إليه الضمير الدينى صاحب شعار ” ﷲ محبة ” ! ] سترى أن ھذه
الالفتة تخفى وراءھا حقائق دينية ال يمكن إنكارھا توصى بالجبروت مع األعداء [ .
وإلى جانب ھذه المؤازرة الخسيسة كنت أسمع أن ” الروس ” أقاموا جسراً مقابالً،
وأنھم سوف يضعون فى يد العرب ما يردون به العدوان ويسترجعون به األرض
ويغسلون به العار !
إننى أكره اإللحاد والملحدين ،بيد أنى وجدت نفسى أمام موقف فاتن ،إننى فقير إلى
ھذا السالح ! وعسى أن يسعفنى ويتماسك فى يدى .سآخذه مقدرا ً اليد التى أسدته،
سآخذه ألكسر به شوكة المعتدين الذين أفقدھم الحقد كل أثارة من عدل وعقل .
وسأدفع ثمنه ولو كان مضاعفاً ،وسأذكر الجميل فأعاون الشعب الروسى على ضرب
االستعمار الغربى يوم يتحرك ھذا االستعمار بغرائزه الشرسة ويحاول اإلساءة إلى
الشعوب األخرى ..
على أن مشكلتى الحقيقية مع سماسرة الغزو الثقافى فى بالدنا ،وضحاياه الذين نسوا
اإلسالم أو تناسوه.
المشكلة مع الجيل المھجن الذى ورث اإلسالم أسماء وأشكاالً فارغة ورفضه:
ـ تربية معينة.. ،
ـ وقوانين محددة.. ،
ـ وقيما ً مضبوطة.. ،
ـ وأھدافا ً ثابتة.. ،
ھؤالء المتعاقلون العجزة ھم وراء كل المحن التى لحقتنا ،ولقد امتلكوا ناصية التوجيه
المادى واألدبى فى سراء األمة وضرائھا ،فلم تجن األمة منھم إال الشتات واآلالم ..
ماذا يريد ھؤالء ؟ إنھم يعالنون بعدم العودة إلى الكتاب والسنة ،ويبشرون بحكم مدنى
يخسر اإلسالم فيه أصوله وفروعه ،وتظفر فيه نزعات اإللحاد أو الشرك بكل المغانم
..
ً
وسوف يقرأون ھذا الكتاب ويتميزون غيظا لما جاء به من حقائق كانوا يودون
كتمانھا ،وحوار ال يحبون أن يدور ..
ونريد أن نقول لھؤالء :إنكم غرباء على أمتنا ودينھا وتاريخھا ..إن أمتنا يوم تملك
البت فى أمورھا فستختفون فوراً من جوھا ..
وإلى أن تملك األمة أمرھا أيسكت رجال اإلسالم عن قول الحق ورفض اإلفك ؟؟
كال ،إن ﷲ أخذ الميثاق على حملة الوحى أن يعالنوا به ،ويكشفوا للناس حقائقه ،وأكد
عليھم ذلك فى قوله:
” لتبيننه للناس وال تكتمونه ” )آل عمران(178 :
فما بد من البيان وعدم الكتمان
وأعلم أن ذلك قد يعرض لمتاعب جسام ،ولكنى أقول ما قاله صديقنا ” عمر بھاء
الدين األميرى ”:
الھول فى دربى وفى ھدفى
وأظل أمضى غير مضطرب
ما كنت من نفسى على خور
أو كنت من ربى على ريب
ما فى المنايا ما أحاذره
ﷲ ملء القصد واألرب
” ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا فى أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين
” ] آل عمران.[ 147 :
” ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ،ربنا ال تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر
لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم ” ] الممتحنة.[ 5،4 :
محمد الغزالى
الباب األول /العقل أوالً ثم ننظر فيما يقال
شعرت بحاجة إلى أن أمسح عيونى وأنظم رموشھا ،ثم نظرت إلى أصابعى بعد ذلك
فوجدت بينھا بضعة أھداب عالقة ،نفختھا فطارت إلى حيث ال أدرى .
وما لبثت أن تساءلت :أين وقعت ؟ وكان الجواب :على األرض حيث تفنى ..
ولكن المعانى تداعت :وما يدريك أنھا ستأخذ دورة أخرى فى الحياة فتكون سماداً
لحبوب متراصة فى سنبلة قمح أو كوز ذرة ؟
ولم تقف عند ذلك :لعلھا تعود إلى كيان آخر إلنسان مثلى !
ترى ماذا ستكون فى ھذا الكيان الجديد ؟!
..رموشا ً تظلل العين كما كانت عندى ،أو عنصراً آخر فى عظمة وفحمة ؟
وزادت المعانى تداعيا ً :من الذى يشرف عليھا فى ھذه الرحلة ؟
إنه ليس إشراف علم ورقابة .إنه إشراف كينونة وتغيير وتنقيل من أعلى ألدنى أو
من أدنى ألعلى ..
وزادت المعانى تداعيا ً :إن ھذه المالحقة الماسة ال تعنينى وحدى ..إننا ـ أبناء آدم ـ
نبلغ قرابة أربعة آالف مليون على ظھر ھذه الكرة الطائرة ،والخالق العليم وراء كل
قطرة دم تتدفق فى العروق ،ومن وراء كل ثمرة تنبت فى الجلود والرءوس
والجفون ،من وراء كل زفير أو شھيق تعلو به الصدور وتھبط !! ..
ذاك فى كياننا المادى ،أما فى كياننا المعنوى فقد تصورت ھذا اإلشراف األعلى على
ھواجس الفكر فى األدمغة ،أدمغة الخلق فى كل قارة ،فى كل شبر معمور ،وعلى كل
تيارات الحس المختلفة من حزن وسرور ،من يأس أو رجاء ،من نشاط أو استرخاء
..
عجبا ً ! أھو إشراف رقابة من بعيد ؟ كال ،إنه إشراف مالبس متغلغل من واھب
الحياة ومسير األحياء فى البر والبحر .
وزادت المعانى تداعيا ً :لكن ھذه األرض ليست حكرا لنا وحدنا .إن أصنافا أخرى
ً ً
من الخالئق تعيش فوقھا زاحفة أو طائرة لھا أرزاقھا ومساربھا ،ومستقرھا
ومستودعھا ،ويقظتھا ومنامھا .
..والعناية المحيطة تمد أجنحتھا لتشمل ما نرى وما ال نرى من ذلك كله ،ثم ما عالم
الجماد فى ھذه الكرة المعلقة الطائرة فى جو السماء ؟
إن أغلب سطحھا ماء مشحون بعوالم أخرى ! ومن تحت الماء وحوله يابسة تختفى
فى قشرتھا معادن خسيسة وكريمة !! ..
ترى بالضبط أين البترول الذى ينقبون عنه وال يھتدون إليه ؟ وأين الذھب الذى تھيج
له أعصاب ،وتتحلب له أفواه ؟ إن ﷲ وحده ھو الذى يدرى ..
وتحت القشرة الباردة وما ضمت من رطب ويابس توجد نار مستعرة ،وباطن
ملتھب ،ما ھذا كله ؟
وعدت إلى نفسى وأنا فى ھذه الجولة الفكرية ألتساءل :ثم ما نحن فى ھذا العالم
الكبير ؟
وسمعت اإلجابة على ھذا السؤال من رائد الفضاء األمريكى الذى يقول:
” ..عندما وقع علي االختيار لبرنامج الفضاء ،كان بين أوائل األشياء التى أعطيت
لى كتيب صغير يحوى الكثير من المعلومات عن الفضاء ،وكان بين محتوياته فقرتان
تنطقان بضخامة الكون أثرتا في تأثيرا ً بالغا ً ..
” ولكى ندرك ھاتين الفقرتين يجب أن نعرف أوالً ما ھى السنة الضوئية :إن الضوء
يسير بسرعة تبلغ 300ألف كيلو متر فى الثانية ـ أى ما يعادل الدوران حول األرض
حوالى سبع مرات فى الثانية ـ فإذا أطلقت ھذا الشعاع من الضوء وجعلته يستمر لمدة
عام فإن المسافة التى يقطعھا ـ وتبلغ حوالى 9.5مليون مليون كيلو تر ـ ھى السنة
الضوئية ! ..
” وإنى أقتبس ھنا ما ورد فى الكتيب عن حجم الكون الذى نعيش فيه) :عندما نذكر
أن المجرة التى تضم كوكبنا يبلغ قطرھا حوالى 100ألف سنة ضوئية نشعر بدھشة،
ولما كانت الشمس نجما ً ال يعتد به يقع على مسافة حوالى 30ألف سنة ضوئية من
مركز المجرة ،ويدور فى مدار خاص به كل 200مليون سنة أثناء دوران المجرة
فإننا ندرك مدى صعوبة القياس الھائل للكون الواقع وراء المجموعة الشمسية ،بل إن
الفضاء الذى يقع بين النجوم فى مجرتنا ليس نھاية ھذا الكون ،فوراءه ماليين من
المجرات األخرى تندفع جميعا ً فيما يبدو متباعدة عن بعضھا البعض بسرعات
خيالية ،وتمتد حدود الكون المرئى بالمجھر مسافة 2000مليون سنة ضوئية على
األقل فى كل اتجاه( ..
” إن ھذا الوصف يظھر مدى ضخامة الكون الذى نعيش فيه ..
” ولنعد اآلن إلى ما نعرفه عن تكوين الذرة وھى أصغر جسم حتى اآلن فنجد أن
ھناك تشابھا ً كبيرا ً بين الذرة ومجموعتنا الشمسية فى الكون ..
” ذلك أن ھذه الذرات لھا الكترونات تدور حول النواة بصورة منتظمة كدوران
األسرة الشمسية حول أمھا الشمس ..
” واآلن ماذا أريد أن أقول ؟ أريد التحدث عن نظام الكون بأسره من حولنا ..
” من أصغر تكوين ذرى إلى أضخم شىء يمكن تصوره ..مجرات تبعد ماليين
السنين الضوئية ،كلھا يسير فى مدارات مرسومة محددة تضبط عالقة كل منھا
باألخرى .فھل يمكن أن يكون ذلك كله قد حدث اتفاقا ً ؟ ..
” أكانت مصادفة أن حزمة من نفايات الغازات الطافية بدأت فجأة فى صنع ھذه
المدارات وفقا ً التفاقھا الخاص ؟ ..
” إننى ال أستطيع تصديق ذلك ..بل إن ذلك مستحيل ،والمؤكد أن ذلك تم وفق خطة
مرسومة محددة ..وھذا واحد من األشياء الكثيرة فى الفضاء التى تبين لى أن ھناك
إلھاً ،وأن قوة ما قد وضعت كل ھذه األشياء فى مدارات وأبقتھا ھناك تؤدى وظيفتھا
العتيدة ..
” ولنقارن السرعة فى مشروعنا )عطارد( مع بعض ھذه األشياء التى نتحدث عنھا:
..
” إننا نظن أحيانا أن المشروع على ما يرام ،فقد بلغنا سرعة تصل إلى حوالى 29 ً
ألف كيلو متر فى الساعة فى الدوران حول األرض ـ أى حوالى 8كيلو مترات فى
الثانية ـ وھى سرعة كبيرة حقا ً بالنسبة لمقاييسنا األرضية ،كما أنھا سرعة مرتفعة
إلى حد مناسب ونحن على ارتفاع يزيد قليالً على 160كيلو متر ..
” أما بالنسبة لما يجرى فعالً فى الفضاء فإن مجھوداتنا ھذه تعد ضئيلة جداً ” ا.ھـ .
وصدق رائد الفضاء فى كلمته تلك ،فإن ما يصل إليه اإلنسان بجھده وفكره شىء
محدود القيمة بالنسبة إلى ما يقع فى العالم حوله ،وأذكر أننى تجولت فى مصانع
السكر ،ورأيت األنابيب الطافحة بالعصير ،واألفران المليئة بالوقود ،واآلالت التى
تغطى مساحة شاسعة من األرض ،لقد قلبت البصر ھنا وھنالك ثم قلت :سبحان ﷲ !
إن بطن نحلة صغيرة يؤدى ھذه الوظيفة ..وظيفة صنع السكر دون كل تلك األجھزة
الدوارة والضجيج العالى !
وخيل إل ّي أن المخترعات البشرية ال تعدو أن تكون إشارة ذكية إلى ما يتم فى الكون
بالفعل من عجائب دون وسائط معقدة وأدوات كثيرة .
ولو أن البشر أرادوا بناء مصنع للف الحبات النضيدة فى سنبلة قمح بالقشرة التى
تحفظ لبابھا الحتاج األمر إلى حجرة كبيرة تحت كل عود !
لكن ذلك يحدث فى الطبيعة فى صمت وتواضع !
والمقارنة التى عقدناھا ھنا تجاوزنا فيھا كثيراً ،فإن اإلنسان المخترع ھو بعض ما
صنع الخالق ،والمواھب الخصبة فيه بعض ما أفاء ﷲ عليه ..
وكأنما أراد ﷲ الجليل أن يعرف ذاته وعظمته لإلنسان الذى أنشأه ،فھداه إلى بعض
المخترعات ؛ ليدرك مما بذل فيھا كيف أن الكون مشحون بما يشھد للخالق باالقتدار
والمجد .
..إن ميالد برتقالة على شجرة أروع من ميالد ” سيارة ” من مصنع سيارات يحتل
ميالً مربعا ً من سطح األرض .ولكن الناس ألفوا أن ينظروا ببرود أو غباء إلى
البدائع ألنھا من صنع ﷲ ،ولو باشروا ھم أنفسھم ذرة من ذلك ما انقطع لھم ادعاء
وال ضجيج ..
إننى عرفت ﷲ بالنظر الواعى إلى نفسى وإلى ما يحيط بى ،وخامرنى شعور بجالله
وعلوه وأنا أتابع سننه فى الحياة واألحياء .
وبدا لى أن أستمع إلى ربى فى الوحى الذى أنزله ..إذ ال بد أن يكون ھذا الوحى
حديثا ً ناضجا ً بما ينبغى له من إعزاز وحمد !
كان أقرب وحى إلى ھو القرآن الكريم ألننى مسلم ،فلما تلوته وجدت التطابق مبينا ً
بين عظمة ﷲ فى قوله ،وعظمته فى عمله .
سمعته يقول:
” ﷲ خالق كل شىء ،وھو على كل شىء وكيل ،له مقاليد السموات واألرض ” ..
]الزمر[63 ،62 :
” ﷲ يعلم ما تحمل كل أنثى وما تفيض األرحام وما تزداد ،وكل شىء عنده بمقدار،
عالم الغيب والشھادة ،الكبير المتعال ] ” ..الرعد[9 ،8 :
” ﷲ الذى جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنھار مبصراً ” ] غافر[ 61 :
” ﷲ الذى جعل لكم األرض قراراً والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ” ]
غافر[ 64 :
” بديع السموات واألرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة ،وخلق كل شىء وھو
بكل شىء عليم ،ذلك ﷲ ربكم ،ال إله إال ھو خالق كل شىء وھو على كل شىء
وكيل ،ال تدركه األبصار وھو يدرك األبصار ،وھو اللطيف الخبير ” ] األنعام:
[ 102 ،101
وآيات أخرى كثيرة كثيرة ،كلھا شواھد على أن ما وقر فى نفسى عن ﷲ بطريق
العقل قد أيده النقل تأييداً مطلقاً ،وجعلنى أستريح إلى اإلسالم فكراً وضميراً .
ومع ذلك فإن حب االستطالع دفعنى إلى أن أطالع ما بأيدى اآلخرين من كتب
منسوبة إلى السماء ،وقلت :ربما أضافت جديداً إلى ما عندى .
..ومددت يدى إلى ” الكتاب المقدس ” وشرعت أقرأ بدء الخلق ،وقصة الحياة كما
رواھا العھد القديم.
ولست أحب التجنى واإلثارة ،إننى سوف أذكر ما لدى من مقررات عقلية أيدتھا
النقول اإلسالمية ،ثم أضع بين يدى الناس وجھة نظر ” العھد القديم ” فى ھذه
القضايا ،مكتفيا ً بنقل نصوص معروفة لدى أصحابھا ،ويستطيع كل امرىء أن يقرأھا
فى مظانھا .
إنھم يثبتون قصة طريفة يزعمون فيھا أن نوحا ً نبى ﷲ والمدافع األول عن دينه
والناجى بأھله من الطوفان الطام العام ،ھذا النبى سكر من كثرة ما أفرط فى شرب
الخمر ،ثم استلقى على األرض كاشفاً سوأته ،وأن أحد أبنائه رآه كذلك فضحك منه
وشھر به .
فلما أفاق نوح من سكرته ،وعلم بما وقع ،لم يخجل من نفسه وتبذله ،بل استنزل لعنة
ﷲ على من سخر منه ،وھاك النص:
” وشرب )يعنى نوح( من الخمر فسكر وتعرى فى خبائه ،فأبصر ” حام ” أبو كنعان
عورة أبيه ،وأخبر أخويه خارجاً ،فأخذ ” سام ” و ” يافث ” الرداء ووضعاه على
أكتافھما ومشيا إلى الوراء ،وسترا عورة أبيھما ،فلما استيقظ ” نوح ” من خمره علم
ما فعل ابنه الصغير ،فقال :ملعون ” كنعان ” ،عبد العبيد يكون إلخوته ،وقال:
مبارك الرب إله ” سام ” ،وليكن كنعان عبداً لھم ،ليفتح ﷲ ليافث فيسكن فى مساكن
سام وليكن ” كنعان ” عبداً لھم ) ” ..تكوين :اصحاح (9
يقول ” عصام الدين ناصف ” :ومعنى ما تقدم أن اإلسرائيليين الساميين يريدون أن
يتخذوا الكنعانيين عبيدا ً لھم ،وقد كان العدل والمنطق يقتضيان ذلك النبى الجليل أال
يصب تلك اللعنة الحامية على حفيده البرىء ” كنعان ” بل يصبھا على ابنه الخاطئ
” حام ” ،وأنى له ذلك والكنعانيون ھم المقصودون بأعيانھم ألنھم أصحاب فلسطين
التى لبث اإلسرائيليون دھوراً يحلمون بھا ويتوقون إلى غشيان مروجھا الزاھرة
وجنى زروعھا الناضرة ” .
أى أن مؤلف التوراة مھتم بتزكية بنى إسرائيل على حساب تجريح غيرھم ،ومن ثم
استنزل اللعنة على كنعان ،حتى تبقى الشعوب المنسوبة إليه فى منزلة زرية .
وال بأس من اختالق سبب لھذه اللعنة تذھب فيه كرامة نبى ومكانته .
إذن ليشرب نوح الخمر حتى يفقد وعيه ويكشف عورته .
ثم ليدع على حفيده بما دعا به ،والحفيد المسكين ال جريرة له .
المھم أن الكنعانيين أصبحوا جنساً ملعونا ً ألن دعوة ” السكران ” مستجابة !!
وكما رأى كاتب التوراة أن يُسكر نوحا ً ليصل إلى ھذه النتيجة ،رأى أن يُسكر لوطا ً
ليصل إلى نتيجة مشابھة.
إن تلويث األنبياء شىء سھل على من ھونوا األلوھية نفسھا ،ولكن مزور العھد القديم
ھنا بلغ من اإلسفاف دركا ً سحيقاً ،فھو لم يكتف بأن جعل لوطا ً سكيراً بل جعله عاھراً
.
وبمن يزنى ؟ بابنتيه :إحداھما بعد األخرى ،فى ليلتين حمراوين ،وھاك النص:
” ..فسكن )يعنى لوط( فى المغارة ھو وابنتاه ،وقالت البكر للصغيرة :أبونا قد شاخ،
وليس على األرض رجل ليدخل علينا كعادة كل األرض ! ھلم نسقى أبانا خمراً
ونضطجع معه ،فنحيى من أبينا نسالً !! فسقتا أباھما خمراً فى تلك الليلة ،ودخلت
البكر واضطجعت مع أبيھا ،ولم يعلم باضطجاعھا وال بقيامھا ،وحدث فى الغد أن
البكر قالت للصغيرة :إنى قد اضطجعت مع أبى ،نسقيه خمراً الليلة أيضا ً فادخلى
اضطجعى معه ،وقامت الصغيرة واضطجعت معه ،ولم يعلم باضطجاعھا وال
بقيامھا ،فحبلت ابنتا لوط من أبيھما ،فولدت البكر ابناً ،ودعت اسمه ” موآب ” وھو
أبو الموآبيين إلى اليوم ” )تكوين :اصحاح (19
يقول عصام الدين حفنى ناصف ” :وھذا ھو مربط الفرس ! لقد عرف شعبا موآب
وبنى عمون بصالبة الرأس وصعوبة المراس ..
” وما انفكا منذ القدم ينصبان لحرب بنى إسرائيل ويدحرانھم وينزالن بھم أكبر
الخسائر ..
” فوجب على كتاب التوراة أن ” يتلقحوا ” عليھما ] أى يرمون الناس بالباطل [
ويطلقوا ألسنتھم فى أعراضھما ويلصقوا بھما أقبح المثالب ” ..
وفى سبيل ذلك ال حرج على اليھود أن يسيئوا إلى نبى كريم ،وأن ينسبوا إليه وإلى
ابنتيه ما يتورع عنه الحشاشون والرعاع .
المھم عندھم أن يجرحوا أعداءھم ،وأن يسقطوا أنسابھم ،وأن يعتمدوا فى ذلك على
وحى سماوى معصوم ،ال يجرؤ على تكذيبه أحد !!
” وإن منھم لفريقا ً يلوون ألسنتھم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما ھو من الكتاب،
ويقولون ھو من عند ﷲ ،وما ھو من عند ﷲ ،ويقولون على ﷲ الكذب وھم يعلمون
” )آل عمران(78 :
يقول عصام الدين حفنى ناصف ” :وصفوة القول أن كتاب التوراة لم يدونوا ھذه
القصص المسلسلة اعتباطاً ،بل إنھم ابتدعوھا ورتبوھا ليصلوا بھا إلى غاية لھم
وضعوھا نصب أعينھم ،ھى أن ﷲ خلق الكون من أجل األرض ،وخلق األرض من
أجل بنى آدم ،وأنه أباد بنى آدم وقطع دابرھم ما عدا نوحا ً وبنى نوح ،واستبقى ھؤالء
ليختار من بينھم ساما ً ثم يختار من حفدته إسرائيل وبنى إسرائيل ” .
ولقد آمن بنو إسرائيل بھذه الخزعبالت ،وانتفخت أوداجھم غرورا ً وتبجحا ً فتوھموا
أنھم شعب مقدس.
جاء فى سفر التثنية ھذا النص ” :ألنك أنت شعب مقدس للرب إلھك ،إياك قد اختار
الرب إلھك ،لتكون له شعبا ً أخص من جميع الشعوب الذين على وجه األرض ”
)تثنية(6 :7 :
وھذا االعتداد القوى بالجنس والشعب ھون عند اليھود كثيرا ً من القيم والفضائل ،فإن
طمأنينتھم إلى شرف األرومة ،ونبل الجرثومة جعلھم ال يبالون شيئا ً عندما يقولون أو
يفعلون ،فھم ـ على أية حال ـ ” األسباط ” أوالد األنبياء ،وجلية الدنيا !!
وال بأس عندھم من اقتراف الدنايا ،أو افترائھا ما دام ذلك يحقق ما يشتھون ،والغية
تبرر الوسيلة .
ولقد نظرت إلى قصصھم عن زيارة إبراھيم الخليل لمصر فرأيتھم بسھولة يصفون
الرجل الكبير بأنه ديوث ! وفى سبيل حرصه على الحياة والمنافع الدنيئة يقدم امرأته
إلى من يملكون النفع والضر ..
والتحقت زوجة إبراھيم ببيت فرعون الذى أھداه فى نظير ذلك بعض الغنم والحمير
!!
قبحكم ﷲ ” إن إبراھيم كان أمة ” )النحل (120 :كان إنسانا ً يساوى األلوف من
الرجال ،وفى سبيل ﷲ حارب الوثنية ،وحطم األصنام ،وتعرض لنيران الجحيم،
وربى جيالً من الموحدين الحراص على مرضاة ﷲ .
فھل ھذا الرجل ھو الذى يغرى امرأته بالذھاب إلى بيت فرعون من أجل الظفر
بزريبة غاصة بالغنم والحمير ؟ لكن كاتب التوراة لم ير فى ذلك حرجاً ،وھاك
النص:
” ..وحدث لما قرب ـ أى ابرام ـ إلى مصر أنه قال لساراى امرأته :إنى قد علمت
أنك امرأة حسنة المنظر ،فيكون إذا رآك المصروين أنھم يقولون :ھذه امرأته،
فيقتلوننى ويستبقونك ،قولى إنك أختى ليكون لى خير بسببك وتحيا نفسى من أجلك .
فحدث لما دخل أبرام إلى مصر أن المصريين رأوا المرأة أنھا حسنة جداً ،ورآھا
رؤساء فرعون ،ومدحوھا لدى فرعون ،فأخذت المرأة إلى بيت فرعون ،فصنع إلى
ابرام خيراً بسببھا ،وصار له غنم ،وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال ،فضرب
الرب فرعون وبيته ضربات عظيمة ..فدعا فرعون ابرام وقال :ما ھذا الذى صنعت
بى ،لماذا لم تخبرنى أنھا امرأتك ؟ خذھا واذھب ” )تكوين(21 :
ولنتجاوز ھذه القصة الھابطة إلى قصة أخرى عن يعقوب نفسه األب المباشر لليھود،
والذى أخذ لقب إسرائيل بعد معركة حامية مع ﷲ نفسه ظلت ليالً طويالً ،والذى سمى
اليھود دولتھم القائمة على أنقاض العرب باسمه .
إن ھذا النبى عندنا نحن المسلمين إنسان جليل نبيل ،شارك أباه فى الدعوة إلى ﷲ،
ونبذ الوثنية ،ورفع علم التوحيد وإقامة الملة السمحة ” ووصى بھا إبراھيم بنيه
ويعقوب يا بني إن ﷲ اصطفى لكم الدين فال تموتن إال وأنتم مسلمون ” .
لكنه عند اليھود شخص محتال ،سرق النبوة من أخيه البكر بطريقة منحطة .
ويظھر أن الفكر اليھودى يحسب النبوة ميراثا ً دنيويا ً يمكن االستيالء عليه بالشطارة
والمھارة ،وليست ھبة عليا يمنحھا رب العالمين من يصطفيھم من أھل الطھارة
والنضارة .
وكان اليھود يخصون االبن البكر بالتركة كلھا مادية كانت أو أدبية ،وعلى ھذا كان ”
عيسو ” االبن األكبر إلسحاق ھو الذى سيرث اللقب والمال ـ مثلما كان يحكم القانون
اإلنجليزى ـ ولكن أم يعقوب تفاھمت مع ولدھا على غير ھذا ،وانتھزت أن ” عيسو
” خرج ليحضر الطعام إلى أبيه المكفوف ثم نفذت خطتھا ،وھاك التفاصيل كما
حكاھا سفر ” التكوين ” ..تفاصيل سرقة نبوة !!:
” ..وكانت رفقة سامعة إذ تكلم إسحاق مع عيسو إبنه ،فذھب عيسو إلى البرية كى
يصطاد صيدا ً ليأتى به ،وأما رفقة فكلمت يعقوب ابنھا قائلة إنى قد سمعت أباك يكلم
عيسو أخاك قائالً :ائتنى بصيد واصنع لى أطعمة آلكل وأباركك أمام الرب قبل
وفاتى ،فاآلن يا ابنى اسمع لقولى فيما أنا آمرك به :اذھب إلى الغنم وخذ لى من ھناك
جديين جيدين من المعزى فاصنعھما أطعمة ألبيك كما يحب ،فتحضرھا إلى أبيك
ليأكل حتى يباركك قبل وفاته ،فقال يعقوب لرفقة أمه :ھو ذا عيسو أخى رجل أشعر
وأنا رجل أملس ،ربما يجسنى أبى فأكون فى عينيه كمتھاون وأجلب على نفسى لعنة
ال بركة فقالت له أمه .. :اسمع لقولى فقط ..وأخذت رفقة ثياب عيسو ابنھا األكبر
الفاخرة التى كانت عندھا فى البيت ،وألبست يعقوب ابنھا األصغر ،وألبست يديه
ومالسة عنقه جلود جديى المعزى ..فدخل إلى أبيه وقال :يا أبى فقال :ھا أنذا ،من
أنت يا بنى ؟ فقال يعقوب ألبيه :أنا عيسو بكرك ،قد فعلت كما كلمتنى ،قم اجلس وكل
من صيدى لكى تباركنى نفسك ..فقال إسحق ليعقوب :تقدم ألجسك يا بنى ..أأنت ھو
ابنى عيسو أم ال ..فجسه وقال :الصوت صوت يعقوب ولكن اليدين يدا عيسو ..
فباركه ..وقال .. :فليعطك ﷲ من ندى السماء ومن دسم األرض ..لتستعبد لك
شعوب وتسجد لك قبائل .كن سيداً إلخوتك ،وليسجد لك بنو أمك ،ليكن العنوك
ملعونين ومباركوك مباركين ” )تكوين(27 :
وھكذا تمت سرقة رسالة سماوية .
..أنا أفھم أن تختطف الطائرات فى الجو ،وأن تغتصب المناصب فى األرض ،أما
أن يفرض شخص نفسه على ﷲ ،ويعتبر نفسه نبياً ،ويحول رسالة سماوية إليه
بطريق التدليس والنصب ،فھذا ھو العجب العجاب ،ولكنه منطق مؤلفى العھد القديم .
ويظھر أن شريعة االحتيال أخذت امتدادھا فى التصرفات التى نسبھا العھد القديم إلى
يعقوب وأبنائه .
وأمامى اآلن قصة زنا وقعت البنة ” يعقوب ” !
وما أكثر قصص الزنا التى تقع فى بيوت األنبياء ،كما يفترى ھؤالء األفاكون .
والقصة لفتاة اسمھا ” دينة ” بنت يعقوب عليه السالم ! من إحدى زوجاته ،أعجب
بھا ابن رئيس المدينة المجاورة واتصل بھا ،ثم رأى أن يجعل ھذه العالقة مشروعة،
فالطف الفتاة وقرر الزواج بھا وكلم أباه كى يمضى فى إجراءات العقد ..
وذھب رئيس القبيلة يعرض على يعقوب مصاھرته .وتظاھرت األسرة بقبول
المصاھرة ،وكانت شروط الصلح مقبولة ،وطلب أبناء يعقوب من أصھارھم الجدد
أن يختتنوا حتى يتم الزواج ،وتتسع دائرة العالقات بين بنى إسرائيل وأھل المدينة
جميعا ً .
وفى اليوم الثالث إلجراء الختان بين ذكور المدينة أغار أوالد يعقوب عليھا وھى
آمنة ،فقتلوا الذكور كلھم وسبوا كل األطفال والنساء ونھبوا ما وجدوه من ثروات .
ولم يذكر سفر التكوين أن يعقوب علق بشىء على ھذه المأساة ،بل يشتم من السياق
أن المؤامرة تمت بموافقته.
وھكذا يفعل األنبياء !!
إن مبدأ )الغاية تبرر الوسيلة( لم يؤخذ من الساسة ” الزمانيين ” ..إن مصدره من
ھنا ،وإليك النص:
” وخرجت دينة ابنة ليئة التى ولدتھا ليعقوب ..فرآھا شكيم ابن حمور الحوى رئيس
األرض وأخذھا واضطجع معھا وأذلھا ،وتعلقت نفسه بدينة ابنة يعقوب ،وأحب
الفتاة ،والطف الفتاة ،فكلم شكيم حمور أباه قائالً خذ لى ھذه الصبية زوجة ،وسمع
يعقوب أنه نجس دينة ابنته ..فسكت حتى جاءوا )أى أبناؤه( ] ثم بعد أن عرض
عليھم حمور مصاھرتھم [ ..فأجاب بنو يعقوب شكيم وحمور أباه بمكر ،..فقالوا
لھما :ال نستطيع أن نفعل ھذا األمر :أن نعطى أختنا لرجل أغلف ..إن صرتم مثلنا
بختنكم كل ذكر نعطيكم بناتنا ونأخذ لنا بناتكم ..واختتن كل ذكر ..فحدث فى اليوم
الثالث إذ كانوا متوجعين )أى بسبب الختن( أن ابنى يعقوب :شمعون والدى أخوى
دينة أخذا كل واحد سيفه وأتيا على المدينة بأمن وقتال كل ذكر وقتال حمور وشكيم
بحد السيف ..ونھبوا المدينة ،وسبوا ونھبوا كل ثروتھم وكل أطفالھم ونساءھم وكل
ما فى البيوت ) ” ..تكوين(34 :
أين شرف المعاملة فى ھذه الروايات المليئة بالفسق وسفك الدم ؟
ولنا أن نسأل:
ـ كيف ضاع عرض ابنة نبى على ھذا النحو الغامض ؟
ـ وإذا كان غالم أثيم قد اغتصبھا كرھا ً فلم لم يعاقب وحده ؟
ـ وإذا كان يعقوب وبنوه قد قبلوا إصالح الخطأ بإتمام الزواج فلماذا أغاروا على
المدينة ،واستباحوھا وأزھقوا أرواح األبرياء ،واسترقوا األطفال والنساء ؟
ـ ھل ھذه سيرة أنبياء وأوالد أنبياء ؟ أم سيرة قطاع طرق ؟
لكن مؤلف التوراة وقر فى نفسه أن اليھود شعب مختار ،فصور األلوھية والنبوة
وعالقة اليھود بالناس أجمعين على الصورة التى أبرزنا لك مالمحھا ،لم نستعن فى
توضيحھا إال بالنصوص الواردة فى الكتاب المقدس !!
أكرھت نفسى على قراءة سفر التكوين بأناة ،ثم تملكنى الضجر وأنا أقرأ األسفار
األُ َخر فاكتفيت بنظرات عابرة .
إن جمھرة الفالسفة والعلماء المؤمنين با يرفضون كل الرفض أن يوصف
باالنحصار والجھالة والتسرع ،كما يرفضون كل الرفض أن يسىء اختياره لسفرائه
إلى خلقه فال يقع إال على السكارى والمنحرفين .
بل إن عرب الجاھلية المشركين كانت نظرتھم إلى خالق الكون أرقى وأرحب .
وما أوخذوا به أنھم تزلفوا إليه بآلھة أرضية ال أصل لھا يحسبون أنه أكبر أو أنھم أقل
من أن يتصلوا به اتصاالً مباشراً .
أما وصف ﷲ أو الحديث عنه بالعبارات المدونة فى العھد القديم فھو خبال فى الفكر
يتنزه المولى الجليل عنه ..
بيد أن النصارى قبلوا ھذه األسفار على عالتھا وجعلوھا شطر الكتاب المقدس !
لماذا ؟ ..ألنھا تخدم قضيتين تقوم عليھما النصرانية الشائعة:
األولى :قضية تجسد اإلله ،وإمكان أن يتحول رب العالمين إلى شخص يأكل
ويصارع ويجھل ويندم ..إلخ .
الثانية :قضية أن البشر جميعاً أرباب خطايا وأصحاب مفاسد وأنھم محتاجون لمن ”
ينتحر ” من أجلھم كى تغفر خطاياھم .
ً
وقد رفض اإلسالم كلتا القضيتين ،وتنزل القرآن الكريم مفيضا الحديث عن تنزيه ﷲ
وسعته وقدرته وحكمته وعلمه ،كما أفاض الحديث عن الناس ومسئوليتھم الشخصية
عما يقترفون من خير أو شر .
ً
وذكر القرآن الكريم أن عبادا تعجز األبالسة عن غوايتھم ،وأنھم من نقاوة الصدر
وشرف السيرة ورفعة المستوى بحيث يقدمون من أنفسھم نماذج لإليمان والصالح
والتقوى ،تتأسى بھا الجماھير .
” إن عبادى ليس لك عليھم سلطان .وكفى بربك وكيالً ” )اإلسراء(65 :
فإن لم يكن نوح ولوط وإبراھيم ويعقوب من ھؤالء النبالء الكرام فمن ھم إذن
الصالحون الفضالء ؟
وإذا كان أنبياء ﷲ سكارى وزناة ومحتالين فلماذا يالم رواد السجون وأصحاب
الشرور ؟؟
وال عذر للنصارى فى تصديق ھذا اللغو ،بل ال عذر لھم فى ادعاء أن ﷲ ولد أو أن
له ولداً ،إلى آخر ما يھرفون به ..
أحيانا ً فى ھدأة الليل أرمق النجوم الثاقبة وأبعادھا السحيقة ،ثم أتساءل :أليس بارئ
ھذا الملكوت أوسع منه وأكبر ؟ فكيف يحتويه بطن امرأة ؟
وأحيانا ً أرمق األمواج ذوات الھدير وھى تضرب الشاطىء وتعود دون ملل أو كلل .
إن أربعة أخماس األرض مياه ،ويبرق فى رأسى خاطر عابر ،ھل رب ھذا البحر
العظيم كان جنينا ً فرضيعا ً ..فبشراً قتيالً ؟
وأھز رأسى مستنكراً وأنا أتلو ھذه اآليات:
” قل لمن األرض ومن فيھا إن كنتم تعلمون ؟ سيقولون ،قل أفال تذكرون ”
” قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم ؟ سيقولون ،قل أفال تتقون ”
” قل من بيده ملكوت كل شىء وھو يجير وال يجار عليه إن كنتم تعلمون ؟ سيقولون
،قل فأنى تسحرون ” )المؤمنون 84 :ـ (89
” ما اتخذ ﷲ من ولد ،وما كان معه من إله ” )المؤمنون(91 :
” رضيت با رباً ،وباإلسالم ديناً ،وبمحمد رسوالً ” ..
*****
..فى ھذا القرن المشئوم سقطت الخالفة اإلسالمية ،ونكست راية اإلسالم ،واختفت
من الصعيد العالمى كل عالقة تشير إلى وجود سياسى لھذا الدين الحنيف ..
نعم كانت ھناك أمم إسالمية كبيرة تنتشر على رقع واسعة من األرض .لكن ھذه
األمة الذت بقومياتھا الخاصة ،ولبست أزياء مدنية مائعة ،وأغلبھا استبعد الدين من
الحياة العامة ،وأماته تربية وقانونا ً ومسلكا ً وشعاراً .
وربما سمح له بوجود فى بعض العبادات الفردية ،لكن ھذا الوجود مؤقت بطبيعته
إلى أن تجرف تيارات الحياة الجديدة مخلفات الماضى البعيد ..
وفى الوقت نفسه ،كانت تعاليم العھد القديم ـ التى سقنا لك مثالً منھا ـ تصنع أمة جديدة
.
كان اليھود يتجمعون فى فلسطين ليقيموا مملكة ” يھوه ” على األرض وفق مراسمھم
الموروثة ..
وكانت الصليبية الحقود تعينھا بما تملك من قوة ،احتضنتنھا أمالً مستبعداً ،وما زالت
ترعاھا حتى جعلتھا حقيقة قائمة ..
وھكذا أفلحت القوى الشريرة فى ضرب الحق ،وتغيير معالم الدنيا ،وقيل فى كل
مكان :بدأت نھاية اإلسالم تقترب ! يوشك أن يوارى فى الثرى !
شاھت الوجوه ! ھم يحسبونھا النھاية ونحن سنجعلھا بداية الصعود كرة أخرى .
..إن حقائق القرآن لن تتالشى ،واألساطير التى كذبت على ﷲ وعلى الناس لن تخلد
..
..إن الصراط المستقيم لن تطمس شاراته أو تضيع آياته ،وعلى مسلمى الحاضر
والقادم أن يواجھوا قدرھم ويؤدوا واجبھم ..
األعداء كثيرون ،والعوائق صعبة ،والكفاح طويل ،وربما صاح المرء وھو يودع
محنة ويستقبل أخرى :أما لھاذ الليل من آخر ؟
إن الفجر سيطلع حتماً ،وألن يطوينا الليل مكافحين أشرف من أن يطوينا راقدين .
” من خاف أدلج ،ومن أدلج نجا ،أال إن سلعة ﷲ غالية ،أال إن سلعة ﷲ الجنة
”)البخارى وغيره(.
الباب الثانى /تحرك ضد عقيدة التوحيد يتعرض له أبناؤنا
ال يستطيع عاقل أن يقول :إن يوم النصرانية فى أوربا وأمريكا طيب ،فاإللحاد شائع،
والزنا والربا أشيع ،والركض فى أودية الحياة ابتغاء المتاع العاجل ھو السمة
الظاھرة ،وبدع الشباب المادية واألدبية ال حصر لھا .
ولوال الحياء لغلقت تسعة أعشار الكنائس أبوابھا ..من الفراغ .
أما فى ربوع العالم اإلسالمى كله ،واألقطار العربية خاصة ،فالحال على العكس:
النصرانية تنتعش والكنائس تكثر ،وطوائف الشباب والشيوخ تتالقى عليھا ،واألموال
الدافقة تجىء من منابع شتى لتدعم الطوائف المسيحية وترجح كفتھا فى ميادين العلم
واإلنتاج .
وأوربا وأمريكا من وراء ھذا العون الواسع تخدمان به آمالھا العريضة فى القضاء
على اإلسالم ،وإعادته إلى الصحراء من حيث جاء !
ومن يدرى ؟ ربما قضيا عليه فى الصحراء نفسھا ،كذلك يؤملون ! ولذلك يفعلون !!
ومن ربع قرن وأنا أالحق الھجوم الثقافى والسياسى على أمتنا وديننا ..والطالئع
المؤمنة فى كل مكان تشتبك معه وتحاول صده .
غير أن النتائج إلى اآلن ال تسر ،لقد سقطت جماھير كبيرة من الدھماء ،وأعداد وفيرة
من المتعلمين فى براثن ھذا الغزو المزدوج ،وتاحت الفرص أمام الطوائف غير
المسلمة ،فأطلت برأسھا تريد أن تشارك فى اإلجھاز على الفريسة.
وفى مصر رأيت عمالً مريبا ً منظما ً يكاد يعالن بأنه يريد وضع الطابع النصرانى
على التراب الوطنى فى ھذا الوادى المحروب .
وال ريب فى أن قوى خارجية تكمن وراء ھذا النشاط وتغذيه ..وفى ھذه الصحائف
نريد أن نواجه حرب المنشورات التى شنت بغتة على الشباب المسلم ،مكتفين بدحض
الشبھات ،ورد المفتريات ،عالمين أن ھناك نصارى كثيرين يريدون العيش مع
إخوانھم المسلمين فى سالم وتراحم ،وأن محاولة البعض طعن اإلسالم من الخلف
ھى تصرفات فردية يحمل وزرھا أصحابھا وحدھم .
ونحب قبل أن نبدأ النقاش فى ھذه القضية األساسية أن نسجل مسلكا ً إسالميا ً مقرراً:
إن اختالف األديان ال يستلزم أبدا ً إيغار الصدور وتنافر الود ،وأنه فى ظل مشاعر
البر وقوانين العدالة يمكن ألتباع عقيدتين مختلفتين أن يعيشوا فى وئام وتراحم !!
واالنسجام المنشود بين أولئك األتباع ال يعنى بداھة أن الفروق بين عقائدھم تالشت ..
وقد كان العرب األولون يؤمنون با الواحد ” ولئن سألتھم من خلق السموات
واألرض وسخر الشمس والقمر ليقولن :ﷲ ) ” ..العنكبوت(61 :
” ولئن سألتھم من نزل من السماء ماء فأحيا به األرض بعد موتھا ليقولن :ﷲ ”
)العنكبوت(63 :
ولكنھم مع ھذا االعتراف با الواحد نسبوا إليه ولدا ً يقصدون إليه ويتشفعون به !
فرفض القرآن ھذا النسب المختلق ،وعد ذلك شركاً ،وأنكره ـ فى سورة مريم ـ أشد
اإلنكار ” وقالوا اتخذ الرحمن ولدا ً ..لقد جئتم شيئا ً إدا ً .تكاد السموات يتفطرن منه
وتنشق األرض وتخر الجبال ھداً ،أن دعوا للرحمن ولداً .وما ينبغى للرحمن أن
يتخذ ولدا ً .إن كل من فى السموات واألرض إال آتى الرحمن عبداً ) ” ..مريم 88 :ـ
(93
ومع ھذا النكر الشديد لعقيدة التعدد فى اآللھة ،فقد أمر ﷲ صاحب الرسالة أن يقول
للمشركين ” لكم دينكم ولى دين ” )الكافرون(6 :
إذن نستطيع أن نوجد تالقيا ً ما بين أصحاب األديان المختلفة ،أما تذويب الفوارق بين
التوحيد والتعدد كليھما ،فذاك مستحيل ..
كتب بعض الناس كالما ً يريد عقد لقاء بين عقيدة التوحيد اإلسالمية وعقيدة التثليث
المسيحية ،فنفى أن يكون ﷲ ثالث ثالثة ـ كما ذكر القرآن الكريم ـ وقال إن ﷲ الواحد
ھو جملة األقانيم الثالثة .
ولما كان كل أقنوم ـ على حدة ـ يسمى إلھاً ،فإن الكاتب أراد أن يوضح ھذا الغموض،
وال نقول يكشف ھذا التناقض !! فقال ـ والكالم منقول عن مجلة توزع على طالب
كلية الھندسة بجامعة القاھرة ـ نثبته ھنا بنصه:
” إذن كيف نوفق بين ھذا وذاك ؟ بين ثالثة ثم واحد ؟ ..
” إن ھذا ھو بيت القصيد وفحوى الحديث ! وسوف أذكر مثاالً ..ماذا تعرف عن
الشمس ،الشمس الواحدة ؟ أعرف أنھا قرص ،وحرارة ،وأشعة ..وأى شىء من ھذه
الثالثة ھو الشمس ؟ ھل القرص ،أم الحرارة ،أو األشعة ثالثتھم يكونون الشمس !
إذن الشمس واحدة ،وھكذا ﷲ سبحانه واحد ،مع فارق التشبيه العظيم من حيث
المكانة . ” ..
ونقف قليالً لنذكر رأينا فى ھذا الكالم ،إن الكائن الواحد قد تكون له عدة صفات ،قد
يكون طويل القامة أسمر اللون ذكى العقل ..ويمكن أن تنسب إليك صفات أخرى،
فھل قلة الصفات أو كثرة الصفات تعنى تعدداً فى الذات ؟ وھل يجوز أن يطلق
شخصك نفسه على صفة الطول أو السمرة أو الذكاء ؟ وھل يتصور أن تنفصل إحدى
الصفات المذكورة ليطلق عليھا الرصاص ،أو تتدلى من حبل المشنقة أو تسمر على
خشبة الصليب ؟
إن الشمس واحدة ،ولكن استدارتھا وحرارتھا وإضاءتھا وكثافتھا ..إلخ صفات لھا،
أعراض لذاتھا ،والصفة ال تسمى ابنا ً وال خاالً وال عماً ،ونحن نثبت لإلله الواحد
عشرات األوصاف الجليلة ،بيد أن إثبات األوصاف شىء بعيد كل البعد عن القول
بأن األب ھو االبن وھو الصديق ،وأن خالق الكون ھو ھو الذى صلب على خشبة فى
أرضه .
إن التمثيل بالشمس وأوصافھا الكثيرة ال يخدم قضية التثليث وال التربيع فى ذات ﷲ
..واألمر ال يعدو لونا ً من اللعب األلفاظ .
إن ﷲ ـ خالق ھذا العالم ـ واحد ،وما عداه عين له أوجده من الصفر ،ولن تنفك صفة
العبودية عن أى موجود آخر ،سواء كان ” عيسى ” أو ” موسى ” أو ” محمد ” أو
غيرھم من أھل األرض والسماء .
ونريد أن نسأل ھذا :إذا كانت الشمس ھى القرص والحرارة واألشعة فھل يمكن
القول بأن الحرارة مثالً ثلث الشمس ؟
ال يقول ھذا عاقل ،ألن الصفة ال تكون قسيما ً للذات بتاتاً ،ھل يمكن القول بأن القرص
شكا لألشعة ما نزل به من بالء مثالً !
ذاك ما ال يتصوره ذو لب !! ..
إن ھذا الكالم ـ كما قلت ـ لون من اللعب باأللفاظ ،وال يصور العالقة بين أفراد
األقانيم الثالثة كما رسمتھا األناجيل المقدسة ..
وذكرت المجلة التى توزع على الطالب ” بكلية الھندسة ” دليالً آخر على أن التثليث
ھو التوحيد .قال الكاتب:
” أقول لك أيضا ً عن إنسان اسمه إبراھيم ـ إبراھيم ھذا فى بيته ووسط أوالده يدعى
ربا ً ألسرته وينادونه ” يا أبانا يا إبراھيم ” ،ھذا ذھب يوما ً إلى البحر ،فإذا الجموع
محتشدة وإنسان يغرق وليس من ينقذه ،فما كان منه إال أن خلع مالبسه ،وارتدى
لباس البحر وأسرع وأنقذ الغريق ،فھتف المتجمھرون :ليحيا المنقذ إبراھيم ..
” ذھب بعد ذلك إلى عمله ،وإذ كان يعمل بالتدريس ويشرح للتالميذ وصاروا
ينادونه :المعلم إبراھيم .فأيھم إبراھيم :األب أم المنقذ أم المعلم ؟ ..
” كلھم إبراھيم وإن اختلفت األلقاب مع الوظائف ،وھكذا أيضا ً ﷲ خلق فھو األب ﷲ،
ﷲ أنقذ فھو االبن ،ﷲ يعلم فھو الروح ” !!
نقول :ھذا الكالم أوغل من سابقه فى خداع النظر ،فإن الضابط قد يرتدى فى الجيش
مالبسه العسكرية ،وقد يرتدى فى عطلته المالبس المدنية ،وقد يرتدى فى بيته مالبس
النوم .ولم يقل مجنون وال عاقل أن ھؤالء ثالثة ،وأنھم واحد ،وال يتصور أحد أن
الضابط بزيه العسكرى يصدر حكما ً باإلعدام على الضابط نفسه بزيه المدنى ،وأن
ھذا المدنى يقول للعسكرى :لماذا قتلتنى أو لماذا تركتنى .
إن المعلم إبراھيم أو المنقذ إبراھيم أو الخالق إبراھيم يستحيل أن يكونوا ثالثة أقانيم
على النحو المألوف فى المسيحية ،وإنما المعقول أن يقال :ﷲ الواحد يوصف بالقدرة
والعلم والرحمة والحكمة مثالً ،وھذا يذكره اإلسالم فا ذات واحدة ،ال تقبل التعدد
بتة ،والروح القدس وھو جبريل عبد مخلوق له ،والمعلم المرشد الصالح عيسى عبد
مخلوق له ،وما دام العقل البشرى موجوداً فلن يسيغ إال ھذا ..أما الفرار من التناقض
الحتم إلى التالعب باأللفاظ فال جدوى منه .
وإذا كان خالق السماء ھو ھو المقتول على الصليب فمن كان يدير العالم بعدما قتل
خالقه ؟ بل كيف يبقى العالم بعد أن ذھب موجده ؟ والعالم إنما يبقى ألنه يستمد
وجوده لحظة بعد أخرى من الحى القيوم جل جالله .
إن القرآن الكريم ينصح أصحاب عقيدة التثليث فيقول لھم ” :يا أھل الكتاب ال تغلوا
فى دينكم وال تقولوا على ﷲ إال الحق ،إنما المسيح عيسى بن مريم رسول ﷲ وكلمته
ألقاھا إلى مريم وروح منه فآمنوا با ورسله وال تقولوا ثالثة ،انتھوا خيراً لكم ،إنما
ﷲ إله واحد سبحانه أنى يكون له ولد ،له ما فى السموات وما فى األرض وكفى با
وكيالً .لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً وال المالئكة المقربون ) ” ..النساء:
(172 ،171
ً
وإنه ليسرنا أن تكون عقيدة التوحيد محور العالقة بين الناس جميعا وبين ﷲ الواحد
األحد ،لكن من المضحك المبكى أن يحاول البعض التشبث بالثالوث وبألوھية كل فرد
من أفراده ثم يزعم بطريقة ما أن الثالثة ھم فى الحقيقة واحد .
قيل فى باب الفكاھة أن رجالً جلس على قھوة ثم طلب ” ينسونا ً ” وقبل أن يتناوله
تركه وطلب بدله ” شايا ً ” شربه ثم قام لينصرف ..فلما طولب بثمن الشاى الذى
شربه قال :إنه بدل الينسون ،فلما طولب بثمن الينسون قال :وھل شربته حتى أدفع
ثمنه ؟!
ويظھر أن ھذا االستدالل الفكاھى انتقل من ميدان المشروبات إلى ميدان العقائد،
ليطمس الحقيقة ويسيغ المتناقضات ..
وقصة ثالثة تنشرھا المجلة المعلقة بكلية الھندسة ـ جامعة القاھرة ھى عجيبة العجائب
نثبتھا
ھنا ـ على طولھا ـ بعد النقلين الموجزين السابقين !!
عنوان القصة ” :أنت تعبان وﷲ مرتاح !! ” ..
والعنوان المذكور يحكى إجابة طريفة عن سبب الصلب .
والسؤال التقليدى فى ھذا الموضوع :لماذا قتل اإلله اآلب اإلله االبن ؟!
والجواب المعروف لدى إخواننا المسيحيين ھو :الفداء لخطايا الخليقة .
لكن الكاتب الذكى ـ تمشيا ً منه مع أن الواحد ثالثة والثالثة واحد ـ جعل القصة تدور
حول ھذا السؤال :لماذا قتل اإلله نفسه ؟ ولنذكر القصة برمتھا:
” انتھت الحياة ،وتزاحم الماليين من البشر فى واد كبير أمام عرش ﷲ ،وكانت
المقدمة من جماعات تتكلم بامتثال شديد دون خوف أو خجل ،ولكن بطريقة عدوانية،
حتى تقدمت الصفوف فتاة تصرخ :كيف يستطيع ﷲ أن يحاكمنى ؟! وماذا يعرف ھو
عن اآلالم التى عانيتھا ؟! ..
” قالت ھذا وھى تكشف عن رقم على ذراعھا مدموغ بالحرق فى أحد معسكرات
التعذيب واإلبادة النازية ،ثم أردفت :لقد تحملت الضرب والتعذيب بل والقتل أيضا ً ..
” وعال صوت ھادر من مجموعة أخرى قائالً :وما رأيكم فى ھذا .وعلى أثر ذلك
أزاح صاحب الصوت ـ وھو زنجى ـ ياقة قميصه كاشفا ً عن أثر بشع لحبل حول
عنقه وصاح من جديد :شنقت ال لسبب إال أنى أسود ..لقد وضعنا كالحيوانات فى
سفن العبيد ،بعد انتزاعنا من وسط أحبائنا ،واستعبدنا ،حتى حررنا الموت ..
” وعلى امتداد البعد كنت ترى المئات من أمثال ھذه المجموعات ،كل منھا له دعوى
ضد ﷲ :بسبب الشر والعذاب اللذين سمح بھما فى عالمه .كم ھو مرفه ھذا اإلله !
فھو يعيش فى السماء حيث كل شىء مغلف بالجمال والنور ،ال بكاء وال أنين ،ال
خوف وال جوع وال كراھية ،فماذا يعرف ھو عما أصاب اإلنسان وتحمله مكرھا ً فى
ھذا العالم ؟ ..
” حقاً ،إن ﷲ يحيا حياة ناعمة ھانئة ال تعرف األلم ..
” وھكذا خرج من كل مجموعة قائد ،كل مؤھالته أنه أكثر من قاسى وتألم فى الحياة،
فكان منھم يھودى وزنجى وھندى ومنبوذ وطفل غير شرعى ،وواحد من ھيروشيما
وآخر عبد من معسكرات المنفى والسخرة ..
” ھؤالء جميعاً اجتمعوا معا ً يتشاورون ،وبعد مدة كانوا على استعداد لرفع دعواھم،
وكان جوھرھا بسيطا ً جداً ،قبل أن يصبح ﷲ أھالً لمحاكمتھم ،عليه أن يذوق ما ذاقوا
!! ..
” وكان قرارھم الحكم على ﷲ أن يعيش على األرض كإنسان ،وألنه إله ،وضعوا
شروطا ً تضمن أنه لن يستخدم قوته اإللھية ليساعد نفسه ،وكانت شروطھم:
” ينبغى أن يولد فى شعب مستعمر ذليل ..
” ليكن مشكوكا ً فى شرعية ميالده ،فال يعرف له أب ،وكأنه وليد سفاح ..
” ليكن صاحب قضية عادلة حقيقية ،لكنھا متطرفة جداً حتى تجلب عليه الكراھية
والحقد واإلدانة بل والطرد أيضا ً من كل سلطاته الرئيسية التقليدية ،ليحاول أن يصف
للناس ما لم يره إنسان أو يسمع به ،وال لمسته يداه ،ليحاول أن يعرف اإلنسان با ..
” ليجعل أعز وأقرب أصدقائه يخونه ويخدعه ،ويسلمه لمن يطلبونه ،ليجعله يدان
بتھم كاذبة ،ويحاكم أمام محكمة متحيزة غير عادلة ،ويحكم عليه قاض جبان ..
” ليذق ما معنى أن يكون وحيداً تماما ً بال رفيق فى وسط أھله ،منبوذاً من كل أحبائه،
كل األحباء ..
” ليتعذب ليموت ..نعم يموت ميتة بشعة محتقرة مع أدنى اللصوص ..
” كان كل قائد يتلو الجزء الذى اقترحه فى ھذه الشروط ،وكانت ھمھمات الموافقة
واالستحسان تعلو ..ولكن ما أن انتھى آخرھم من نطلق الحكم حتى ساد الوادى
صمت رھيب وطويل ،ولم يتكلم إنسان أو يتحرك ..
” فقد اكتشفوا جميعا ً ـ فجأة ـ أن ﷲ قد نفذ فيه ھذا الحكم فعالً ..لكنه أخلى نفسه ،آخذاً
صورة عبد ،صائرا ً فى شبه الناس ،وإذ وجد فى الھيئة كإنسان ،وضع نفسه وأطاع
حتى الموت ..موت الصليب . ” ..
ولنا بعد ھذه المطالعة المفيدة عن سر ” االنتحار اإللھى ” أن نسأل:
أ ـ ھل كان العبيد الثائرون يعرفون أن ﷲ عديم اإلحساس بآالمھم المبرحة ،فأحبوا
أن يشعر شخصيا ً بمرارتھا حتى يرق لحالھم ،وبذلك حكموا بقتله ؟
ب ـ ھل انقطعت ھذه اآلالم بعد الصلب أم بقيت تتجدد على اختالف الزمان والمكان
؟ وبذلك لم تؤد قصة الصلب المنشود منھا ،فينبغى أن تكرر ؟
جـ ـ ما ھى درجة السلطة التى يمتلكھا ھذا اإلله فى العالم ؟ وھل ھى من الھوان
بحيث تسمح لثورة بيضاء أو حمراء أن تنفجر مطالبة بشنقه أو صلبه ؟ وھل يحمل
ھذا اإلله مسئولية المآسى العالمية ؟!
د ـ وإذا كان الصلب لفداء الخطايا ،فھل ھذا الفداء يتناول صانعى الشرور واآلثام
والمظالم أم يتجاوزھم ؟ أم ھو لتصبر الضحايا على ما ينزل بھا ؟
ونحن ال نريد إجابات على ھذه األسئلة ،فعقيدتنا نحن المسلمين أن ﷲ العظيم فوق
ھذه التصورات الھازلة .
إن ھذا الكالم الذى قرأنا من أسوأ وأغرب ما وصف به ﷲ ،وما كنا نحن نتصور أن
يصل اإلسفاف فى الحديث عن ﷲ جل جالله إلى ھذا الدرك المعيب ،ولكن صاحب
الفم الذھبى ـ ال فض فوه ـ يأبى إال أن يستغل مھارته الصحافية فى تسطير ھذا اللغو
ونشره بين الطالب المسلمين ،ألنه يعتقد أن القرآن يقبل التعاليم المسيحية وأن
التوحيد ينسجم مع التثليث .
وقد كتب فى رمضان األسبق مقاالً فى مجلة الھالل يحاول فيه إثبات ھذا الھراء،
ويريد به أن يختل المسلمين عن توحيدھم وسالمة معتقدھم .
وكم نود أن نقول لھذا الكاتب ومن وراءه من الحاقدين على اإلسالم ” :يا أھل الكتاب
ال تغلوا فى دينكم غير الحق وال تتبعوا أھواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا ً
وضلوا عن سواء السبيل ” )المائدة(77 :
وأعود إلى ما بدأت به ھذا الحديث :إن أتباع األديان المختلفة يستطيعون أن يعيشوا
أصدقاء ،والوحدة القومية بين العرب المسلمين والنصارى موضح احترام الجميع .
لكن االنسياق مع التعصب األمريكى ضد اإلسالم يجب أن يختفى فوراً .إن كل
محاولة إلھانة اإلسالم وإحراج أھله ال يمكن أن تكون موضع احترام ،والمال
األمريكى المبذول فى ھذا السبيل يجب أن يذھب ھدراً .
ال أعرف قضية طال فيھا اللجاج دون سبب يعقل مثل قضية الصلب والفداء ،ولعلھا
أصدق شاھد يساق لقوله تعالى ” :وكان اإلنسان أكثر شىء جدالً ” .وال أزال أذكر
حكاية القسيس األلمانى الذى زارنى يوما ً فى مكتبى ،وشاء له سوء حظه أن يحدثنى
فيھا ،فقلت له ضاحكا ً :أترى ھذا الثوب األبيض الذى ألبسه ؟ أرأيت إذا وقعت عليه
نقطة حبر أتزول إذا غسلت أنت ثوبك ؟ قال :ال .قلت :فلم يزول خطئى إذا اعتذر
عنه آخر ؟
عندما ألوث نفسى بخطأ دق أو جل ،فأنا المسئول عنه ،أغسل أنا نفسى منه ،أشعر أنا
بالندم عليه ،أقوم أنا من عثرتى إذا وقعت ،ثم أعود أنا إلى ﷲ ألعترف له بسوء
تصرفى وأطلب أنا منه الصفح .
أما أن العالم يخطئ فيقتل ﷲ ابنه كفارة للخطأ الواقع فھذا ما يضرب اإلنسان كفاً
بكف لتصوره !!
ھذا أول األسطورة ،أما آخرھا فال بد أن نعرف :من القاتل ومن القتيل ؟؟
إن المسيحيين يقولون :إن ﷲ ” االبن ” صلب ،لكنھم يقولون كذلك :إن اآلب ھو
االبن ،ھما ـ والروح القدس ـ جميعا ً شىء واحد .
إن كان األمر كذلك فالقاتل ھو القتيل !! وذاك سر ما قاله أحد الفرنجة المفكرين:
” خالصة المسيحية أن ﷲ قتل ﷲ إلرضاء ﷲ !! ”
ولمن شاء أن يقنع نفسه بھذه النقائض ،وأن يفنى عمره فى خدمتھا ،أما أن يجىء إلينا
نحن المسلمين ليلوينا بالختل أو بالعنف عن عقيدتنا الواضحة ويحاول الطعن فيھا
فھذه ھى السماجة القصوى .
وبين يدى اآلن نحو عشر نشرات وزعت خارج الكنائس للدعوة إلى أسطورة الفداء،
قرأتھا كلھا وشعرت بالرثاء لكاتبيھا .
وكما يحاول قروى ساذج إقناع العلماء أن القنبلة الذرية مصنوعة من كيزان الذرة
يحاول ھؤالء ” المبشرون ” العميان إقناعنا بأنھم على حق .
المنشورات وما تضمنت من أوھام
اقرأ معى ھذه السطور الصادرة عن كنيسة ” مار مرقص ” بمصر الجديدة ،يقول
الكاتب ” :ربما لم أقابلك شخصيا ً لكن ھناك شيئا ً يجب أن أقوله لك ،إنه أمر فى غاية
األھمية حتى أننى سأكون مقصراً إن لم أخبرك به ” .
حسناً ،ھات ما عندك ،وال تكن من المقصرين !!
يقول الكاتب ” :دعنى أخبرك بإخالص أنھا رسالة شخصية لك ،ال يمكنك أن تھرب
منھا ،وھذه ھى الرسالة من إنجيل يوحنا ):(16 :3
” ألنه ھكذا أحب ﷲ العالم حتى بذل ” ابنه ” الوحيد لكى ال يھلك كل من يؤمن به،
بل تكون له الحياة األبدية ” .
ھذا ھو الخبر الخطير ! تمخض الجبل فولد فأراً !!
لماذا يقتل ﷲ ابنه الوحيد البرىء من أجل ذنوب اآلخرين ؟
وإذا كان اإلله رب أسرة كبيرة فلم يقتل أبناءه كلھم أو جلھم من غير جريرة ؟
أليس األعقل واألعدل أن يقول ھذا اإلله للمذنبين:
ى أقبلكم ؟!
تطھروا من أخطائكم وتوبوا إل ّ
وال قتل ھناك وال لف وال دوران ؟
ھكذا فعل اإلسالم وأرسى قواعد العالقة الصحيحة بين ﷲ وعباده ” ومن يعمل سوءاً
أو يظلم نفسه ثم يستغفر ﷲ يجد ﷲ غفوراً رحيما ً ” )النساء(110 :
أما قصة أن ولدا ً وحيداً أو غير وحيد فكذب صارخ .إن الوالدة شىء يتوقع بين
بعض األحياء ،وال مكان لھذه المفاھيم عند تصور األلوھية ” وقل الحمد الذى لم
يتخذ ولدا ً ولم يكن له شريك فى الملك ،ولم يكن له ولى من الذل وكبره تكبيراً ”
)اإلسراء(111 :
” يا ربى لك الحمد كما ينبغى لجالل وجھك وعظيم سلطانك ” .
وھاك سطوراً من نشرة أخرى تحت عنوان ” حقائق مخفية ” بدأھا كاتبھا قائالً” :
حقائق أنت أحوج إلى إدراكھا من الھواء الذى تتنفسه ” !!
شىء مدھش ،ما ھذه الحقائق التى نفتقر إليھا على ھذا النحو ولم نشعر بفقدانھا من
زمن بعيد ؟
يقول الكاتب ” :تعال إلى الرب يسوع اآلن كما أنت ،ال تسع فى إصالح نفسك )!(
ألنه ھو يستطيع أن يخلق منك شخصا ً جديداً طاھراً ” ولكن لماذا ال أسعى فى تزكية
نفسى ورفع مستواى المادى والمعنوى ؟
يقول كاتب النشرة ” :احذر أن يكون مثلك مثل المتسول مع الرسام ..
” ذلك أن رساما ً أراد أن يرسم رجالً فى منتھى الذل والمسكنة ،فرأى متسوالً يتعثر
فى أسمال بالية ،فطلب منه أن يحضر فى ميعاد عينه له ،على أن يعطيه أجراً ..لكن
ذلك المتسول خجل من أسماله البالية فاستعار لباسا ً يدفع به عن نفسه الخجل ،ثم أتى
إلى الرسام فى الميعاد ،فلما نظر إليه الرسام قال :إنى ال أعرفك .فأجاب الرجل :أال
تذكر شحاذاً فقيراً اتفقت معه على أن يجيئك فى ھذا الميعاد .قال :إنى ال أذكر إال
رجالً فى أسمال بالية أما أنت فال أذكرك ..
” إن الرب ـ يعنى يسوعا ً ـ يطلبك فى حالتك السيئة ،وما عليك إال أن تعترف بكل
الشرور التى أنت مستعبد لھا ،وتقبله مخلصا ً شخصيا ً لك ،إذا فعلت ذلك فإن حمل
خطاياك ينطرح عن ظھرك ” .
ونحن المسلمون نقرأ ھذا الكالم ونستغرب أن ننقل صفات ﷲ إلى شخص آخر ..إننا
مكلفون ـ كسائر البشر ـ بتزكية أنفسنا وصقلھا وتربيتھا ” ونفس وما سواھا .فألھمھا
فجورھا وتقواھا .قد أفلح من زكاھا .وقد خاب من دساھا ” .
فإذا أخطأ أحدنا ،ذھب إلى ربه يستغفره ويستھديه ويستعينه على العودة إلى الصواب
” وھو الذى يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ويستجيب
للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدھم من فضله ” )الشورى(26 ،25 :
ما دخل آدم أو عيسى أو محمد فى ذلك ،إنھم كلھم بشر يحتاجون إلى المغفرة،
ويطلبون من ربھم النجدة .
ولكى يحس القارئ بما حوت ھذه النشرة من خلط ننقل ھذه العبارة من كالمه ” :ھب
أنه طلب منك أن تشترك فى جريمة صلب ربك ،وأن تقل مع من ھزءوا به ،أكنت
ترضى ؟ يقينا ً ال ..ولكنك ما دمت لم تختبر قوة صلب المسيح فى خالص نفسك من
الخطيئة ،فإنك بخطاياك تشترك فى جريمة صلب ربك ” !
ھذا الھراء ھو الذى نحتاج إليه كما نحتاج إلى الھواء الذى نتنفسه ..
عبيد يستطيعون صلب ربھم ،ومع ذلك يطلبون منه المغفرة والرضا ..ھال طلبوا
ذلك من ﷲ الذى طلب منه المسيح نفسه النجاة ،وعاتبه أن تركه لألعداء كما يقولون
!!
وھاك نشرة أخرى تحت عنوان ” متجدد أم متدين ” ؟ بدأت بھذه الكلمات ” :الوردة
الطبيعية جميلة الشكل زكية الرائحة ،فيھا حياة .والوردة الصناعية جميلة الشكل
عديمة الرائحة ليس فيھا حياة .إن الوردة الطبيعية تمثل المتجدد ،أما الوردة
الصناعية فتشبه أولئك الذين قال عنھم بولس ” :لھم صورة التقوى ولكنھم ينكرون
قوتھا ” .
وال أفھم بالضبط ما يعنى بولس ،أيقصد المرائين ؟ ربما ..المھم أن كاتب النشرة
يختمھا بھذه العبارات ” دعنى أسألك أيھا العزيز :ھل أنت متجدد أم متدين .إذا كنت
قد حصلت على الوالدة من فوق فطوبى لك ،أثبت إذن فى المسيح ..أما إذا كنت
متدينا ً فأسرع بتسليم حياتك اآلن للمسيح ..فتنال الحياة الجديدة التى حصلت عليھا
المرأة الخاطئة حين غسلت قدمى الرب يسوع بدموعھا ومسحتھا بشعر رأسھا،
والتى قال لھا الرب :مغفورة لك خطاياك ،إيمانك قد خلصك ” .
ھذه النشرة من مثيالتھا مصرة على تسمية المسيح الرب ،ووصفه بأنه الغفار .
ونحن نقبل المسيح مبلغا ً عن ﷲ كإخوانه األنبياء ال يزيد وال ينقص ونقتدى به وبھم
جميعا ً فى التقرب إلى ﷲ بالعمل الصالح .
والتدين يھب لنا حياة عقلية ووجدانية راقية ،أما التجديد الذى تتحدث عنه النشرة
فضرب من الھوس يستھوى الصبية ،ومن يحسبون الدين أوھاما ً وتھاويل ” وجعلوا
له من عباده جزءاً ،إن اإلنسان لكفور مبين ” ]الزخرف[15 :
التجديد ليس أن تعجن الخالق والمخلوق فى أقنوم مائع ،ثم تلف حوله حارقا ً البخور،
نافخا ً فى المزمور ،كال ،إن التجديد أوالً وآخراً عقل يرفض الخرافة ،وقلب يتعشق
الكمال ويتطلبه ..
وھذا منشور آخر من ” لبنان ” يدور كذلك حول يسوع المصلوب غفار الذنوب يقول
كاتبه ” :أيھا األخ العزيز خطاياك موضوعة على يسوع لتنال سالما ً مع ﷲ وتشفى
نفسك من جروحھا .إن تقدمت إلى المصلوب المحبوب وسلمته خطاياك تختبر أن
دمه يطھرك من كل إثم حتى ولو كنت قاتالً أو متعصبا ً أو حالفا ً با كذباً ،ومھما
كانت خطاياك كبيرة أو صغيرة فإن المسيح ھو يغفرھا جميعا ً ” !!!
ويجاوبه منشور آخر من القاھرة يرد فيه ھذا التساؤل ” :لكنك تقول توجد آراء كثيرة
فكيف أعرف من ھو على حق ؟ ..
” كل من يرشدك إلى المسيح قارب النجاة فھو على حق ،وكل من يبقيك فى السفينة
العتيقة ـ المشرفة على الغرق ـ يخدعك ويضلك ،ھل أنت مجتھد بشتى الوسائل فى
إصالح السفينة العتيقة ،أى طبيعتك البشرية الساقطة ؟ اعلم أنك إذن إذا استمررت
على ھذه الحال فال بد أن تغطس إن عاجالً وإن آجالً . ” ..
أى أن كل تھذيب وتأديب منتھيان بصاحبھما حتما ً إلى الغرق ،ما لم يعتقد أن المسيح
صلب من أجله ،وأنه ھو وحده فداء خطاياه !!! ..
مھما أتيت ربك بقلب سليم بل لو أتيته بضمير فى طھر السحاب وضياء الشروق فال
وزن لھذا كله ،ما لم تؤمن أن عيسى قتل من أجل أن يفتدى خطاياك ،ويخلصك من
ذنوبك ؟!!
ھذه ھى خالصة المنشورات التى حررھا بنفسه أو أشرف على تحريرھا صاحب
الفم الذھبى رئيس إخواننا األقباط ،وعمل على توزيعھا فى أوسع نطاق ..
” وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما ھم بحاملين من
خطاياھم من شىء ،إنھم لكاذبون ،وليحملن أثقالھم وأثقاالً مع أثقالھم وليسألن يوم
القيامة عما كانوا يفترون ” )العنكبوت(13 ،12 :
إننا معشر المسلمين نحب عيسى ونوقره ونعد أنفسنا أتباعه ،ونرفض بغضب كل
ريبة توجه إليه أو إلى السيدة البتول أمه ،بل نحن أولى بعيسى من أولئك الذين
ينتمون إليه ويغالون فيه .
وليس خالفنا مع النصارى أنه قتل أو لم يقتل ،الخالف أعمق من ذلك ..الخالف :أھو
” إنسان ” كما نقول أو ” إله ” كما يزعمون ؟
أكل امرىء بما كسب رھين ؟ أم أن ھناك قربانا ً قدمه ﷲ من نفسه لمحو خطايا البشر
؟
ھم يرون أن ﷲ فى السماء ترك ابنه الوحيد على خشبة الصليب ليكون ذلك القربان
..
ونتساءل :أكان عيسى يجھل ذلك عندما قال :إلھى لماذا تركتنى ؟
وثم سؤال أخطر :ھل المنادى المستغيث فى األرض ھو ھو المنادى المستغاث به فى
السماء ،ألن األب واالبن شىء واحد كما يزعمون ؟؟
ھذا كالم له خبئ معناه :ليست لنا عقول !!
الحق أن ھذه العقيدة النصرانية يستحيل أن تفھم .
قرأت مقاالً للدكتور ” ميشيل فرح ” فى جريدة ” لميساجى ” الصادرة فى القاھرة
فى 1973 / 9 / 16م يشرح ھذه العقيدة بطريقة عقالنية قال ” :الكتاب المقدس
ينبئ أن ﷲ سوف يظھر نفسه ،أى أن الكلمة المجردة ستأخذ جسداً ولحما ً )!( وھذا
ھو الحدث الجديد .عمانوئيل .ﷲ معنا .ﷲ يصبح بشرى سارة ،ﷲ يعلن ويخبر .
وھذا الظھور أساس كل شىء .ھو الرد على سؤال توفيق الحكيم فى قصته
المشھورة ” أرنى ﷲ ” .ھا ھو ﷲ .شىء ما حدث وحصل ووقع وتأنس ” .
ھذا الكالم المبھم المضطرب الذى ال يعطى معنى ھو التفسير العقالنى للعقيدة
المسيحية !
رب المشارق والمغارب ظھر فى إھاب ” بشر ” ليراه الناس ،ثم من فرط رحمته
بھم ” ينتحر ” من أجلھم !
من يكلفنى بھضم ھذا القول ؟
ھل أعتنق ھذا وأترك القرآن الذى يقرر العقيدة على ھذا النحو ” :قل لمن ما فى
السموات واألرض ،قل ،كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة ال ريب
فيه ..الذين خسروا أنفسھم فھم ال يؤمنون ” )األنعام(12 :
” أال إن من فى السموات ومن فى األرض وما يتبع الذين من دون ﷲ شركاء ..
إن يتبعون إال الظن وإن ھم إال يخرصون ..ھو الذى جعل لكم الليل لتسكنوا فيه
والنھار مبصراً .إن فى ذلك آليات لقوم يسمعون .قالوا :اتخذ ﷲ ولدا ً سبحانه ھو
الغنى له ما فى السموات وما فى األرض .إن عندكم من سلطان بھذا .أتقولون على
ﷲ ما ال تعلمون قل إن الذين يفترون على ﷲ الكذب ال يفلحون ” )يونس 66 :ـ (69
ھكذا خاصم اإلسالم الخرافة وأعلن إباءه التام للون مقنع من الشرك ،وسد الطريق
فى وجه القرابين الوثنية وھى تتسلل فى خبث لتطمس معالم التوحيد .
لم كرمنا ﷲ بالعقل إذا كان مفروضا ً أن نطرحه ظھريا ً عندما نختار أھم شىء فى
الحياة وھو اإليمان والسلوك ؟!
ً ً
إن العقل يجزم بأن عيسى بشر وحسب ،ويرفض أن يكون ” إلھا ” ابنا مع ” إله ”
مع ” إله ” آخر روح قدس ،وثالثتھم واحد مع تعددھم ،وتعددھم حتم ،ألن أحدھم
ترك اآلخر يصلب ..
ھذا كالم يدخل فى باب األلغاز ،وال مجال له فى عالم الحق والتربية ..
ومع ذلك فنحن المسلمين نقول لمن يصدقه :عش به ما شئت ” ال إكراه فى الدين ”
)البقرة (256 :فھل الرد على ھذا المنطق إثارة كل ھذا الدخان فى آفاقنا ،ومحاولة
ختل الشباب ونشر الفتنة ؟
قصة ” ﷲ محبة ” وموقف شتى األناجيل منھا
وقال لى أحدھم وھو يحاورنى :إننا نرى أن ﷲ محبة !! على عكس ما ترون ..
فأجبت ساخراً ،كأننا نرى ﷲ كراھية ؟!! إن ﷲ مصدر كل رحمة وبر ،وكل نعمة
وخير ..وصحيح أننا نصفه بالسخط على الفجار والظلمة ،واألمر فى ذلك كما قال
جل شأنه ” ربكم ذو رحمة واسعة وال يرد بأسه عن القوم المجرمين ” أفليس األمر
كذلك لديكم ؟ إنكم تخدعون العالمين بذكر ھذه الكلمة وحدھا ووضع ستائر كثيفة على
ما عداھا من كلمات تصف الجبروت اإللھى بأشد مما ورد فى اإلسالم ،بل إن تعامل
بعضكم مع البعض ،وتعاملكم جميعاً مع الخصوم ال يقول إال على ھذه الكلمات
األخرى التى تخفونھا ،وما أكثرھا لديكم .
قال ” ايتين دينيه ” المستشرق المسلم ” :بيد أن المسيح نفسه ـ وھو سيدنا وسيد
المسيحيين ـ يعلن ” :وال تظنوا أنى جئت أنشر السالم على األرض ،إننى لم آت
أحمل السالم وإنما السيف ” )متى:االصحاح العاشر.. (34:
” ويقول السيد المسيح ” :إننى جئت أللقى النار على األرض ،وماذا أريد من ذلك إال
اشتعالھا ”
)لوقا :االصحاح الثانى عشر.. (49 ،
” ويقول السيد المسيح ” :إذ إنى جئت ألفرق بين الولد وأبيه ،والبنت وأمھا ،وبين
زوجة االبن وأمه ” )متى :االصحاح العاشر.. (35 :
” ويقول السيد المسيح ” :إن كان أحد يأتى وال يبغض أباه وأمه ،وامرأته وأوالده،
وإخوته وأخواته ،حتى نفسه أيضا ً فال يقدر أن يكون لى تلميذا ً ” )لوقا :االصحاح
الرابع عشر.. (26 :
” أين من ھذا ما جاء به النبى العربى الكريم من سالم حقيقى وحب كامل بين األخ
وأخيه ،وبين الزوجة وزوجھا ،وبين األب وولده ،وبين األم وفلذة كبدھا ،وبين الجار
وجاره مسلما ً كان أو غير مسلم ،وبين األرحام واألقرباء ،وبين المشتركين فى
اإلنسانية الذين يتوفر لديھم مدلول اإلنسانية فى بنى اإلنسان ” .
إننا ـ نحن المسلمين ـ نتقرب إلى ﷲ عز وجل برحمة الناس وغير الناس والبذل من
مالنا وجھدنا ووقتنا فى سبيل نفعھم ،ولنا على كل شىء من ذلك أجر فى ميزان ﷲ
الذى ال يختل عنده ميزان .
وما أصدقھا شھادة تلك التى بعث بھا البطريرك )النسطورى الثالث( إلى البطريرك
” سمعان ” زميله فى المجمع بعد ظھور اإلسالم حيث قال فى كتابه ” :إن العرب
الذين منحھم الرب سلطة العالم وقيادة األرض أصبحوا معنا ،ومع ذلك نراھم ال
يعرضون النصرانية بسوء ،فھم يساعدوننا ويشجعوننا على االحتفاظ بمعتقداتنا،
وإنھم ليجلون الرھبان والقسيسين ،ويعاونون بالمال الكنائس واألديرة ” .
وما أصدق ما يقوله المؤرخ العالمى )ھـ .ج .ويلز( فى كتابه ” :معالم تاريخ
اإلنسانية ” لقد تم فى
” 125عاما ً أن نشر اإلسالم لواءه من نھر السند إلى المحيط األطلسى وأسبانيا،
ومن حدود الصين إلى مصر العليا ولقد ساد اإلسالم ألنه كان خير نظام اجتماعى
وسياسى استطاعت األيام تقديمه ،وھو قد انتشر ألنه كان يجد فى كل مكان شعوبا ً
بليدة سياسيا ً :تسلب وتظلم وتخوف ،وال تعلم وال تنظم ،كذلك وجدت حكومات أنانية
سقيمة ال اتصال بينھا وبين أى شعب .فكان اإلسالم أوسع وأحدث وأنظف فكرة
سياسية اتخذت سعة النشاط الفعلى فى العالم حتى ذلك اليوم ،وكان يھب بنى اإلنسان
نظاما ً أفضل من أى نظام آخر ” .
تقتعد خوارق العادات المكانة األولى فى األديان البدائية ،وكلما َوھى األساس العقلى
لدين ما زاد اعتماده على ھذه الخوارق ،وجمع منھا الكثير لكھنته وأتباعه .
والمسيحية من األديان التى تعول فى بقائھا وانتشارھا على عجائب الشفاء ،وآثار
القوى الخفية الغيبية.
وبين يدى اآلن نشرة صغيرة ،على أحد وجھيھا صورة العذراء وھى تقطر وداعة
ولطفاً ،وعلى ذراعھا الطفل اإلله يسوع يمثل البراءة والرقة .أما الوجه اآلخر
للصورة فقد تضمن ھذا الخبر تحت عنوان ” محبة اآلخرين وخدمتھم ” ،وتحته ھذه
الجملة ” حسبما لنا فرصة فلنعمل الخير للجميع ” )غل ” (10 :6كانت السيدة زھرة
ابنة محمد على باشا بھا روح نجس ،ولما علم أبوھا أن ” األنبا حرابامون ” أسقف
المنوفية قد أعطاه ﷲ موھبة إخراج األرواح النجسة استدعاه .ولما صلى ألجلھا
شفيت فى الحال ،فأعطاه محمد على باشا صرة بھا أربعة آالف جنيه ،فرفضھا قائالً:
إنه ليس فى حاجة إليھا ألنه يعيش حياة الزھد ،وھو قانع بھا ” .
ھذا ھو الخبر الذى يوزع على الجماھير ليترك أثره فى صمت .
وموھبة استخراج العفاريت من األجسام الممسوسة موھبة يدعيھا نفر من الناس،
أغلبھم يحترف الدجل ،وأقلھم يستحق االحترام ،وأعرف بعض المسلمين يزعم ھذا،
وأشعر بريبة كبيرة نحوه .
ومرضى األعصاب يحيرون األطباء ،وربما أعيا أمرھم عباقرة الطب ،ونجح فى
عالجھم عامى يكتب ” حجابا ً ” ال شىء فيه غير بعض الصور واألرقام .
وليس يعنينى أن أصدق أو أكذب المأسوف على مھارته أسقف المنوفية ،وإنما يعنينى
كشف طريقة من طرق إقناع الناس بصدق النصرانية ،وأن الثالوث حق ،والصلب قد
وقع ،واألتباع المخلصين يأتون العجائب ..
والمسيحية أحوج األديان لھذا اللون من األقاصيص ،ھى فقيرة إليھا فى سلمھا إلثبات
أصولھا الخارجة على المنطق العقلى ،وفقيرة إليه فى قتالھا لتبرير عدوانھا على
اآلخرين .
وتدبر معى ھذه القصة من قصص الحروب الصليبية المشھورة بقصة ” الرمح
المقدس ” منقولة من كتاب ” الشرق والغرب ”:
ً ً
” دفع الصليبيون من أجل عبور آسيا الصغرى ثمنا باھظا ،إذ فقدوا أفضل جنودھم
وخيرة عساكرھم ،بينما استولى اليأس والفزع على البقية الباقية ..
” وبدأ الخوف من تفكك الجيش وفرار الجنود يساور القادة ،فعمدوا إلى بعض الحيل
الدينية لصد ھذا الخطر وربط الجنود برباط العقيدة .ومن تلك الحيل التى روجوا لھا
ما رواه المؤرخون عن ظھور المسيح والعذراء أمام الجنود الھيابين ووعدھم
بالصفح عن الخطايا والخلود فى الجنة إذا ما استماتوا فى معاركھم ضد المسلمين ..
” غير أن ھذا األسلوب النظرى لم يلھب حماس الجنود ،ولم يحقق الغرض الذى
ابتدعه الصليبيون من أجله ،فكان ال بد من أسلوب آخر ينطوى على واقعة مادية
يكون من شأنھا إعادة اإليمان إلى القلوب التى استبد بھا اليأس ،وتقوية العزائم التى
أوھنتھا الحرب .وھنا أذيع بين الجنود قصة اكتشاف الرمح المقدس ..
” تلك الواقعة التى روى تفاصيلھا المؤرخ ” جيبون ” فضالً عن غيره من
المؤرخين المعاصرين .قال.. :
” إن قساً يدعى بطرس بارتلمى من التابعين ألسقفية ” مارسيليا ” منحرف الخلق ذا
عقلية شاذة ،وتفكير ملتو معقد زعم لمجلس قيادة الحملة الصليبية ،أن قديساً يدعى ”
أندريه ” زاره أثناء نومه ،وھدده بأشد العقوبات إن ھو خالف أوامر السماء ،ثم
أفضى إليه بأن الرمح الذى اخترق قلب عيسى عليه السالم مدفون بجوار كنيسة
القديس بطرس فى مدينة ” انطاكيا ” ،فروى ” بارتلمى ” ھذه الرؤيا لمجلس قيادة
الجيش ،وأخبرھم بأن ھذا القديس الذى طاف به فى منامه قد طلب إليه أن يبادر إلى
حفر أرض المحراب لمدة أيام ثالثة ،تظھر بعدھا ” أداة الخلود ” التى ” تخلص ”
المسيحيين جميعاً ،وأن القديس قال له :ابحثوا تجدوا ..ثم ارفعوا الرمح وسط
الجيش ،وسوف يمرق الرمح ليصيب أرواح أعدائكم المسلمين ..
” وأعلن القس ” بارتلمى ” اسم أحد النبالء ليكون حارسا ً للرمح ،واستمرت طقوس
العبادة من صوم وصالة ثالثة أيام دخل فى نھايتھا اثنا عشر رجالً ليقوموا بالحفر
والتنقيب عن ” الرمح ” فى محراب الكنيسة )!( ..
” لكن أعمال الحفر والتنقيب التى توغلت فى عمق األرض اثنى عشر قدما ً لم تسفر
عن شىء .فلما جن الليل أخلد ” النبيل ” الذى اختير لحراسة الرمح إلى شىء من
الراحة ،وأخذته سنة من النوم ،وبدأت الجماھير التى احتشدت بأبواب الكنيسة
تتھامس .. !..
” فاستطاع القس ” بارتلمى ” فى جنح الظالم أن ينزل إلى الحفرة ،مخفيا ً فى طيات
ثيابه قطعة من نصل رمح أحد المقاتلين العرب ،وبلغ أسماع القوم رنين من جوف
الحجرة ،فتعالت صيحاتھم من فرط الفرح ،وظھر القس وبيده النصل الذى احتواه
بعد ذلك قماش من الحرير الموشى بالذھب ،ثم عرض على الصليبيين ليلتمسوا منه
البركة ،وأذيعت ھذه الحيلة بين الجنود وامتألت قلوبھم بالثقة ،وقد أمعن قادة الحملة
فى تأييد ھذه الواقعة بغض النظر عن مدى إيمانھم بھا أو تكذيبھم لھا . ” ..
على ھذا النحو ،ولمثل ھذا الغرض جرت أسطورة ظھور العذراء فى كنيسة عادية،
وكاھنھا ـ فيما علمت ـ رجل فاشل ال يتردد األقباط على دروسه .
وبين عشية وضحاھا أصبح كعبة اآلالف ،فقد شاع ومأل البقاع أن العذراء تجلت
شبحا ً نورانيا ً فوق برج كنيسته ،ورآھا ھو وغيره فى جنح الليل البھيم ..
وكأنما الصحف المصرية كانت على موعد مع ھذه اإلشاعة ،فقد ظھرت كلھا بغتة،
وھى تذكر النبأ الغامض ،وتنشر صورة البرج المحظوظ ،وتلح إلى حد اإلسفاف فى
توكيد القصة ..
وبلغ من الجرأة أنھا ذكرت تكرار التجلى المقدس فى كل ليلة .
وكنت موقنا ً أن كل حرف من ھذا الكالم كذب متعمد ،ومع ذلك فإن أسرة تحرير
مجلة ” لواء اإلسالم ” قررت أن تذھب إلى جوار الكنيسة المذكورة كى ترى بعينيھا
ما ھنالك ..
وذھبنا أنا والشيخ ” محمد أبو زھرة ” وآخرون ،ومكثنا ليالً طويالً نرقب األفق،
ونبحث فى الجو ،ونفتش عن شىء ،فال نجد شيئا ً البتة .
وبين الحين والحين نسمع صياحا ً من الدھماء المحتشدين ال يلبث أن ينكشف عن
صفر ..عن فراغ ..عن ظالم يسود السماء فوقنا ..ال عذراء وال شمطاء ..
وعدنا وكتبنا ما شھدنا ،وفوجئنا بالرقابة تمنع النشر ..
وقال لنا بعض الخبراء :إن الحكومة محتاجة إلى جعل ھذه المنطقة سياحية ،لحاجتھا
إلى المال ،ويھمھا أن يبقى الخبر ولو كان مكذوبا ً ..
ما ھذا ؟!
ولقينى أستاذ الظواھر الجوية بكلية العلوم فى جامعة القاھرة ،ووجدنى ساخطا ً ألعن
التآمر على التخريف وإشاعة اإلفك ،فقال لى :أحب أن تسمع لى قليالً ،إن الشعاع
الذى قيل برؤيته فوق برج الكنيسة له أصل علمى مدروس ،واقرأ ھذا البحث .
وقرأت البحث الذى كتبه الرجل العالم المتخصص )األستاذ الدكتور محمد جمال
الدين الفندى( ،واقتنعت به ،وإنى أثبته كامالً ھنا :..
” ظاھرة كنيسة الزيتون ظاھرة طبيعية ..
” عندما أتحدث باسم العلم ال أعتبر كالمى ھذا رداً على أحد ،أو فتحا ً لباب النقاش
فى ظاھرة معروفة ،فلكل شأنه وعقيدته ،ولكن ما أكتب ھو بطبيعة الحال ملخص ما
أثبته العلم فى ھذا المجال من حقائق ال تقبل الجدل وال تحتمل التأويل ،نبصر بھا
الناس ،ولكل شأنه وتقديره ..
” وال ينكر العلم الطبيعى حدوث ھذه الظاھرة ،واستمرارھا فى بعض الليالى لعدة
ساعات ،بل يقرھا ولكن على أساس أنھا مجرد نيران أو وھج أو ضياء متعددة
األشكال غير واضحة المعالم ،بحيث تسمح للخيال أن يلعب فيھا دوره ،وينسج منھا
ما شاءت الظروف أن ينسج من ألوان الخيوط والصور .إنھا من ظواھر الكون
الكھربائية التى تحدث تحت ظروف جوية معينة ،تسمح بسريان الكھرباء من الھواء
إلى األرض عبر األجسام المرتفعة نسبيا ً المدببة فى نفس الوقت ،شأنھا فى ذلك مثالً
شأن الصواعق التى ھى نيران مماثلة ،ولكن على مدى أكبر وشدة أعظم ،وشأن
الفجر القطبى الذى ھو فى مضمونه تفريغ كھربى فى أعالى جو األرض ،ولطالما
أثار الفجر القطبى اھتمام الناس بمنظره الرائع الخالب ،حتى ذھب بعضم خطأ إلى
أنه ليلة القدر ،ألنه يتدلى كالستائر المزركشة ذات األلوان العديدة التى تتموج فى
مھب الريح ..
ً
” ومن أمثلة الظواھر المماثلة لظاھرتنا ھذه أيضا ـ من حيث حدوث األضواء وسط
الظالم ـ السحب المضيئة العالية المعروفة باسم ” سحاب اللؤلؤ ” ،وھذا السحاب
يضىء ويتألأل وسط ظالم الليل ،ألنه يرتفع فوق سطح األرض ،ويبعد عنھا البعد
الكافى الذى يسمح بسقوط أشعة الشمس عليه رغم اختفاء قرص الشمس تحت األفق،
وتضىء تلك األشعة ذلك السحاب العالى المكون من أبر الثلج ،فيتألأل ويلمع ضياؤه
ويترنح وسط ظالم الليل ونقاء الھواء العلوى فيتغنى به الشعراء ..
” وتذكرنا ھذه الظاھرة كذلك بظاھرة السراب المعروفة ،تلك التى حيرت جيوش
الفرنسيين أثناء حملة نابليون على مصر ،فقد ظنوا أنھا من عمل الشياطين حتى
جاءھم العالم الطبيعى ” مونج ” بالخبر اليقين ،وعرف الناس أنھا من ظواھر
الطبيعة الضوئية ..
” وظاھرتنا التى تھمنا وتشغل بال الكثيرين منا تسمى فى كتب العلم ” نيران القديس
المو ” أو ” نيران سانت المو ” ،ونحن نسوق ھنا ما جاء عنھا فى دائرة المعارف
البريطانية التى يملكھا الكثيرون ويمكنھم الرجوع إليھا :النص اإلنجليزى فى:
Handy Volume Essue Eleventh Editionالصحيفة األولى من المجلد
الرابع والعشرين تحت اسم .. Elms Firs . St:وترجمة ذلك الكالم حرفيا ً.. :
” نيران سانت المو :ھى الوھج الذى يالزم التفريغ الكھربى البطىء من الجو إلى
األرض .وھذا التفريع المطابق لتفريغ ” الفرشاة ” المعروف فى تجارب معامل
الطبيعة يظھر عادة فى صورة رأس من الضوء على نھايات األجسام المدببة التى
على غرار برج الكنيسة وصارى السفينة أو حتى نتوءات األراضى المنبسطة،
وتصحبھا عادة ضوضاء طقطقة وأزيز ..
” وتشاھد نيران سانت المو أكثر ما تشاھد فى المستويات المنخفضة خالل موسم
الشتاء أثناء وفى أعقاب عواصف الثلج ..
” واسم سانت المو ھو لفظ إيطالى محرف من سانت ” رمو ” وأصله سانت
أراموس ،وھو البابا فى مدة حكم دومتيان ،وقد حطمت سفينته فى 2يونيو عام ،304
ومنذ ذلك الحين اعتبر القديس الراعى لبحارة البحر المتوسط الذين اعتبروا نيران
سانت الموا بمثابة العالقة المرئية لحمايته لھم ،وعرفت الظاھرة لدى قدماء اإلغريق
.ويقول بلن Bilnفى كتابه ” التاريخ الطبيعيى ” أنه كلما تواجد ضوءان كانت
البحارة تسميھما التوأمان ،واعتبر بمثابة الجسم المقدس ..
” على ھذا النحو نرى أن أھل العلم الطبيعى ال يتحدثون عن خوارق الطبيعة ،وإنما
يرجعون كل شىء إلى قانونه السليم العام التطبيقى ،أما من حيث انبعاث ألوان تميز
تلك النيران ،فيمكننا الرجوع إلى بعض ما عمله العلماء األلمان أمثال جوكل
Gockelمن تفسير االختالف فى األلوان ،فھو يبين فى كتابه Das gewiterمن
التجارب التى أجراھا فى ألمانيا أنه أثناء سقوط الثلج تكون الشحنة موجبة )اللون
األحمر( ،أما أثناء تساقط صفائح ثلج فإن الشحنة ليست نادرة ،ويصحبھا أزيز،
ويغلب عليھا اللون األزرق ..
” وفى كتاب الكھرباء الجوية Atmospheric Electricityلمؤلفه شوتالند صفحة
38نجده يقول.. :
” تحت الظروف المالئمة فإن القسم البارز على سطح األرض كصوارى السفن إذا
تعرضت إلى مجاالت شديدة من حاالت شحن الكھرباء الجوية يحصل التفريغ
الوھجى ويظھر واضحا ً ويسمى نيران سانت المو ..
” قارن ھذا باألوصاف التى وردت فى جريدة األھرام بتاريخ .. 1968 / 5 / 6
)ھيئة جسم كامل من نور يظھر فوق القباب األربع الصغيرة لكنيسة الزيتون أو فوق
الصليب األعلى للقبة الكبرى أو فوق األشجار المحيطة بالكنيسة ..الخ .. (..
” ..) ..أما األلوان ..فقد أجمعت التقارير حتى اآلن على أنھا األصفر الفاتح
المتوھج واألزرق السماوى(..
” وعندما نرجع بالذاكرة إلى الحالة الجوية التى سبقت أو الزمت الرؤية الظاھرة،
نجد أن الجمھورية كانت تجتاحھا فى طبقات الجو العلوى موجة من الھواء الباردة
جداً الذى فاق فى برودته ھواء أوربا نفسھا ،مما وفر الظرف المالئم لتولد موجات
كھربية بسبب عدم االستقرار ،ولكن فروق الجھد الكھربى يمكن أن تظل كافية مدة
طويلة ..
” ويضيف ملھام Milhamعالم الرصد الجوى البريطانى فى كتابه ” المتيرولوجيا
” صفحة ) 481أنه أحيانا ً تنتشر رائحة من الوھج (..وتفسيرنا العلمى للرائحة أنھا
من نتائج التفاعالت الكيماوية التى تصحب التفريغ الكھربى وتكون مركبات
كاألوزون ..
” وخالصة القول أنه من المعروف والثابت علميا ً أن التفريغ الكھربى المصحوب
بالوھج يحدث من الموصالت المدببة عندما توضح فى مجال كھربى كاف ،وھو
يتكون من سيال من األيونات التى تحمل شحنات من نفس نوع الشحنات التى يحملھا
الموصل ..
” والتفريغات الكھربية التى من ھذا النوع يجب أن تتوقع حدوثھا من أطراف
الموصالت المعرضة على األرض ،مثل النخيل واألبراج ونحوھا ،عندما يكون
مقدار التغير فى الجھد الكھربى كافياً ،بشرط أن يكون ارتفاع الجسم المتصل
باألرض ودقة األطراف المعرضة مالئمة ،ومن المؤكد أن الباحثين األول أمثال
فرنكلين الحظوا مجال الجو الكھربى حتى فى حاالت صفاء السماء ..
” وتحت الظروف الطبيعية المالئمة التى توفرھا األطراف المدببة لألجسام المرتفعة
فوق سطح األرض قد يصبح وھج التفريغ ظاھراً واضحا ً ..
” وقد ذكر ” ولسون ” العالم البريطانى فى الكھربائية الجوية أن التفريغ الكھربى
البطىء لألجسام المدببة يلعب دوراً ھاما ً فى التبادل الكھربى بين الجو واألرض،
خصوصا ً عن طريق األشجار والشجيرات وقمم المنازل وحتى حقول الحشائش .
وليس من الالزم أن ينتھى الجسم الموصل بطرف مدبب أو يبرز إلى ارتفاعات
عظيمة ..
” وقد يتساءل الناس.. :
” ـ ..إن الظاھرة خدعت األقدمين من الرومان قبل عصر العلم ،ثم فى عصر العلم
فسر العلماء الظاھرة على أنھا تفريغ كھربى ،لكن التاريخ يعيد نفسه ،فقد خدعت
نفس الظاھرة الطبيعية أھل مصر ،فأطلقوا عليھا نفس االسم الذى تحمله الكنيسة التى
ظھرت النيران فوقھا ،ومن ھنا ظن القوم خطأ أنھا روح مريم عليھا السالم ..
” ـ ..الظاھرة الطبيعية تحدث فى الھواء الطلق أعلى المبانى والشجر وال تحدث
داخل المبانى ،وھو عين ما شوھد ،ولو أنھا كانت روح العذراء لراحت تظھر داخل
الكنيسة بدالً من الظھور على األشجار والقباب ..
” ـ ..الظاھرة الجوية يرتبط ظھورھا ومكثھا بالكھربائية الجوية ،وعموما ً بالجو
وتقلباته ،فھل إذا كانت روحا ً يرتبط ظھورھا بالجو كذلك ؟؟ ..
” ـ ..الظاھرة الطبيعية ال تشاھد إال عندما يخيم الظالم ،بسبب ضعف ضوء الوھج
بالنسبة إلى ضوء الشمس الساطع .ولكن ما يمنع األرواح الطاھرة أن تظھر بالنھار
؟؟ ..
” ـ ..إذا كانت نفس الظاھرة تشاھد فى أماكن أخرى فى مصر فما الموضوع ؟ ” .
وحاول الدكتور محمد جمال الدين الفندى أن ينشر بحثه فى الصحف فأبت ،والغريب
أنه لما نشر فى مجلة الوعى اإلسالمى ” الكويتية منع دخولھا مصر ..
واألغرب من ذلك أن األوامر صدرت ألئمة المساجد أال يتعرضوا للقصة من قريب
أو بعيد !
ً ً
وذھب محافظ القاھرة ” سعد زايد ” ليضع تخطيطا جديدا للميدان ،يالئم الكنيسة التى
سوف تبنى تخليدا ً لھذا الحدث الجليل ..وعلمت بعد ذلك من زمالئى وتالمذتى أن
لتجليات العذراء دورات منظمة مقصودة .
فقد ظھرت فى ” الحبشة ” قريبا ً من أحد المساجد الكبرى فاستولت عليه السلطة
فوراً ،وشيدت على المكان كله كنيسة سامقة !!
وظھرت فى ” لبنان ” فشدت من أزر المسيحية التى تريد فرض وجودھا على جباله
وسھوله مع أن كثرة لبنان مسلمة .
وھا ھى ذى قد ظھرت فى القاھرة أخيراً لتضاعف من نشاط إخواننا األقباط كى
يشددوا ضغطھم على اإلسالم ..
ً
وقد ظلت جريدة ” وطنى ” الطائفية تتحدث عن ھذا التجلى الموھوم قريبا من سنة،
إذ العرض مستمر ،والخوارق تترى ،واألمراض المستعصية تشفى ،والحاجات
المستحيلة تقضى ..
ً
كل ذلك وأفواه المسلمين مكممة،وأقالمھم مكسورة حفاظا على الوحدة الوطنية .
وسوف تتجلى مرة أخرى بداھة عندما تريد ذلك المخابرات المركزية األمريكية .
و فى خلقه شئون ..
الباب الثالث /ماذا يريدون ؟
إذا أراد إخواننا األقباط أن يعيشوا كأعدادھم من المسلمين فأنا معھم فى ذلك ،وھم
يقاربون اآلن مليونين ونصف ،ويجب أن يعيشوا كمليونين ونصف من المسلمين ..
لھم ما لھم من حقوق ،وعليھم ما عليھم من واجبات ،أما أن يحاولوا فرض وصايتھم
أز ﱠمة الحياة االجتماعية والسياسية فى أيديھم فال .. على المسلمين ،وجعل ِ
إذا أرادوا أن يبنوا كنائس تسع أعدادھم لصلواتھم وشعائرھم الدينية فال يعترضھم
أحد ..أما إذا أرادوا صبغ التراب المصرى بالطابع المسيحى وإبراز المسيحية
وكأنھا الدين المھيمن على البالد فال ..
إذا أرادوا أن يحتفظوا بشخصيتھم فال تمتھن وتعاليمھم فال تجرح فلھم ذلك ،أما أن
يودوا ” ارتداد ” المسلمين عن دينھم ،ويعلنوا غضبھم إذا طالبنا بتطبيق الشريعة
اإلسالمية ،وتعميم التربية الدينية فھذا ما ال نقبله ..
إن االستعمار أوعز إلى بعضھم أن يقف مراغما ً للمسلمين ،ولكننا نريد تفاھماً شريفاً
مع ناس معقولين ..
إن االستعمار أشاع بين من أعطوه آذانھم وقلوبھم أن المسلمين فى مصر غرباء،
وطارئون عليھا ،ويجب أن يزولوا ،إن لم يكن اليوم فغداً .
وعلى ھذا األساس أسموا جريدتھم الطائفية ” وطنى ” !
ومن ھذا المنطلق شرع كثيرون من المغامرين يناوش اإلسالم والمسلمين ،وكلما
رأى عودة من المسلمين إلى دينھم ھمس أو صرخ :عاد التعصب ،األقباط فى خطر
!!
وال ذرة من ذلك فى طول البالد وعرضھا ،ولكنھا صيحات مريبة أنعشھا وقواھا ”
بابا شنودة ” دون أى اكتراث بالعواقب .
وقد سبقت محاوالت من ھذا النوع أخمدھا العقالء ،نذكر منھا على سبيل المثال ال
الحصر كتابات القمص ” سرجيوس ” الذى احتفل ” البابا شنودة ” أخيراً بذكراه .
ففى العدد 41من السنة 20من مجلة المنارة الصادر فى 1947 / 12 / 6كتب ھذا
القمص تحت عنوان ” :حسن البنا يحرض على قتال األقليات بعد أن سلح جيوشه
بعلم الحكومة ” :يقول:
” نشرنا فى العدد السابق تفسير الشيخ ” حسن البنا ” آلية سورة التوبة قوله ” :قاتلوا
الذين ال يؤمنون با وال باليوم اآلخر وال يحرمون ما حرم ﷲ ورسوله وال يدينون
دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وھم صاغرون ”
)التوبة.. (29 :
” قال :وقد قال الفقھاء ،وتظاھرت على ذلك األدلة من الكتاب والسنة :أن القتال
فرض عين إذا ديست أرض اإلسالم ،أو اعتدى عليھا المعتدون من غير المسلمين،
وھو فرض كفاية لحماية الدعوة اإلسالمية وتأمين الوطن اإلسالمى ،فيكون واجبا ً
على من تتم بھم ھذه الحماية وھذا التأمين ..
” ..وليس الغرض من القتال فى اإلسالم إكراه الناس على عقيدة ،أو إدخالھم قسراً
فى الدين ،وﷲ يقول ” :ال إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى ” )البقرة(256 :
كما أنه ليس الغرض من القتال كذلك الحصول على منافع دنيوية أو مغانم دينية،
فالزيت والفحم والقمح والمطاط ليست من أھداف المقاتل المسلم الذى يخرج عن
نفسه وماله ودمه بأن له الجنة ” إن ﷲ اشترى من المؤمنين أنفسھم وأموالھم بأن
لھم الجنة يقاتلون فى سبيل ﷲ فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقا ً فى التوراة واإلنجيل
والقرآن ” )التوبة.. (111 :
” حكم قتال أھل الكتاب.. :
” وأھل الكتاب) :يقاتلون كما يقاتل المشركون تماماً ،إذا اعتدوا على أرض اإلسالم،
أو حالوا دون انتشار دعوته .. (..
” الرد :للشيخ )حسن البنا( أسلوبه الخاص فى الكتابة والتفسير وفى الفتاوى ،ويعرف
باألسلوب المائع إذ يترك دائما ً األبواب مفتوحة ،ليدخل متى شاء فى ما أراد دون أن
يتقيد أو يمسك ،ومن آيات ميوعته أنه يقول أن القتال يكون فرض عين إذا ديست
أرض اإلسالم ،أو اعتدى عليھا المعتدون من غير المسلمين ،دون أن يبين أو يحدد
ما ھى أرض اإلسالم أو الوطن اإلسالمى :ھل ھى الحجاز فقط أم ھى كل بلد من
بالد العالم يكون فيھا المسلمون أغلبية أو أقلية أو متعادلين ؟ ..
” وكان فى عدم تحديده ألرض اإلسالم أو الوطن اإلسالمى ماكراً سيئا ً ؛ ليكون حراً
فى إعالن القتال على من يشاء من المستضعفين من المسيحيين واليھود الذين يقوى
على محاربتھم فى أى بلد كان ،وكان أحرى به أن يقولھا كلمة صريحة أن أرض
اإلسالم ھى الحجاز ،أى األرض التى نشأ عليھا اإلسالم ـ أى الدين اإلسالمى ـ
وليست البالد التى يعيش فيھا المسلمون فى العالم .وسواء كانت أرض اإلسالم أو
وطن اإلسالم ھى الحجاز أم ھى كل بلد من بالد العالم يعيش فيه المسلمون ،فال يمكن
العمل بما يقول به الشيخ )حسن البنا( بأن القتال فرض عين أو فرض كفاية على
المسلمين إذا ديست أرض اإلسالم أو اعتدى عليھا المعتدون من غير المسلمين ” .
وأنا أسأل أى قارئ اطلع على تفسير ” حسن البنا ” :ھل اشتم منه رائحة تحريض
على األقباط أو اليھود ؟
وأسأل أى منصف قرأ الرد عليه :ھل وجد فيه إال التحرش والرغبة فى االشتباك
دون أدنى سبب ؟
إن ھذا القمص المفترى ال يريد إال شيئا ً واحداً :إبعاد الصفة اإلسالمية عن مصر،
واعتبار الحجاز وحده وطنا ً إسالميا ً .أما مصر فليست وطنا ً إسالميا ً ألن سكانھا
المسلمين فوق % 92من جملة أھلھا .
ولماذا تنفى الصفة اإلسالمية عن مصر مع أن ھذه الصفة تذكر لجعل الدفاع عنھا
فريضة مقدسة ؟
ھذا ما يسأل عنه القمص الوطنى ،والذين احتفلوا بذكراه بعد ربع قرن من وفاته ..
إن الدفاع عن مصر ضد االستعمار العالمى ينبغى أن تھتز بواعثه وأن تفتر مشاعره
!! ..
لقد كانت مصر وثنية فى العصور القديمة ،ثم تنصر أغلبھا ،فھل يقول الوثنيون
المصريون لمن تنصر :إنك فقدت وطنك بتنصرك ؟
ثم أقبل اإلسالم فدخل فيه جمھور المصريين ،فھل يقال للمسلم :إنك فقدت وطنك
بإسالمك ؟
ما ھذه الرقاعة ؟!
بيد أن الحملة على اإلسالم مضت فى طريقھا ،وزادت ضراوة وخسة فى األيام
األخيرة ،ثم جاء ” األنبا شنودة ” رئيسا ً لألقباط ،فقاد حملة ال بد من كشف خباياھا،
وتوضيح مداھا ؛ حتى يدرك الجميع :مم نحذر ؟ وماذا نخشى ؟
وما نستطيع السكوت ،ومستقبلنا كله تعصف به الفتن ،ويأتمر به سماسرة االستعمار
.
تقرير رھيب
وقد كنت أريد أن أتجاھل ما يصنع األخ العزيز ” شنودة ” الرئيس الدينى إلخواننا
األقباط ،غير أنى وجدت عدداً من توجيھاته قد أخذ طريقه إلى الحياة العملية .
الحقائق تتكلم
ونحن نناشد األقباط العقالء أن يتريثوا وأن يأخذوا على أيدى سفھائھم وأن يبقوا
بالدنا عامرة بالتسامح والوئام كما كان ديدنھا من قرون طوال ..
وإذا كانت قاعدة ” لنا ما لكم وعلينا ما عليكم ” ال تقنع ،فكثروا بعض ما لكم ،وقللوا
بعض ما عليكم شيئا ً ما ،شيئا ً معقوالً ،شيئا ً يسھل التجاوز عنه والتماس المعاذير له
!!
أما أن يحلم البعض بإزالتنا من بلدنا ،ويضع لذلك خطة طويلة المدى ،فذلك ما ال
يطاق ،وما نرجو عقالء األقباط أن يكفونا مؤونته ،ونحن على أتم استعداد ألن ننسى
..وننسى ..
الباب الرابع /اإلسالم وجماعة اإلخوان
انتسبت لجماعة اإلخوان فى العشرين من عمرى ،ومكثت فيھا قرابة سبع عشرة
سنة ،كنت خاللھا عضواً فى ھيئتھا التأسيسية ،ثم عضواً فى مكتب اإلرشاد العام ..
وشاء ﷲ أن يقع نزاع حاد بينى وبين قيادة الجماعة ،انتھى بصدور قرار يقضى
بفصلى وفصل عدد آخر من األعضاء .
وبعد عدة شھور من ذلك الحدث صدر قرار حكومى بحل الجماعة كلھا واإلجھاز
على جميع أنشطتھا.
وأريد أن أكون منصفاً ،فإن الزعم بأن جميع اإلخوان أشرار سخف وافتراء ،والزعم
بأن الجماعة كلھا كانت معصومة من الخطأ غرور وادعاء ..
وليس ذلك ما يعنينى ھنا ،إنما الذى يعنينى أمر آخر ھو األھم واألخطر ،عند ﷲ
وعند الناس ،أمر اإلسالم نفسه .
قال لى أحد الناس :ليذھب اإلخوان إلى الجحيم !
قلت له :اسمع ،مصاير الناس بيد ﷲ وحده ،وليذھب من شاء إلى الجحيم ..لكن ھل
يذھب اإلسالم إلى الجحيم معھم ؟
قال :ال .
قلت :دعنى من العناوين ولنتحدث فى الموضوع .ھل نترك كتاب ربنا وسنة نبينا أم
نتشبث بھما ونحرص عليھما ؟
فأجاب بعد تريث :ال نترك ديننا !
قلت :ھل ننفذ من ديننا ما نحب ونھمل ما نكره ،أم نطيع ﷲ فى كل ما أمر به ونھى
عنه ؟ إن ھناك نصوصا ً فى الكتاب والسنة معطلة محكوما ً عليھا بالموت ،ونصوصا ً
أخرى تنفذ جزئيا ً وال يؤذن بتطبيقھا على وجه كامل ،فھل تبقى ھذه األوضاع أم
ينبغى إصالحھا ؟
قال :لكن ھذا ما يقوله اإلخوان المسلمون !!
قلت له :دعنى من جماعة اإلخوان ،فقد نفضت يدى من العناوين ،أنا أتحدث عن
اإلسالم نفسه ،وعن المنحدر الذى وقع فيه ،وعن األمة الكسيرة التى تنتمى إليه ،ألم
نتفق على ضرورة التمسك بكتاب ربنا وسنة نبينا ؟
قال :بلى !!
قلت :وذاك ما نريد أن نتعاون على بلوغه ،ونرسم الخطة المثلى لتحقيقه !
ولعلك ترى معى بعد ذلك أن االنتساب لإلسالم ليس جريمة ،وأن الجريمة ھى تشويه
نھجه وإنكار ھديه وترك أعدائه أحرارا ً فى النيل منه ..
قال :أشعر أنك تجرنى بدھاء إلى جماعة اإلخوان !!
قلت له :يا أخى تخل عن ھذه العقدة التى تحكمك ..إننى أريد أن أعمل لإلسالم الذى
رفع علمه خاتم األنبياء محمد صلى ﷲ عليه وسلم ،وخلفه على مواريثه أبو بكر
وعمر وعثمان وعلى ..ھذا المصحف المھجور فى دواوين السلطة ،وفى أرجاء
المجتمع ،نريد أن نؤنس وحشته ونرفع شعاره .
دعنى من أى تجمع حدث فى ھذا العصر ،ولننس األشخاص الذين اشتھروا ،ولنطو
صحائفھم بما فيھا من خطأ وصواب ولنعمل لإلسالم وحده ..
فسكت متردداً حائرا ً .
قلت له :اسمع ،إن ھناك قوما ً يكرھون اإلسالم ذاته ويخدمون بكراھيته القوى الثالث
التى تجمعت ضده اليوم:
الشيوعية ،الصھيونية ،الصليبية ،وھؤالء يريدون أن يجعلوا من كلمة ” اإلخوان ”
سيفا ً مصلتا ً على عنق كل مخلص له عامل فى حقله ،وأنا أرفض ھذا الخلط ..
إن إرھاب المجاھدين فى سبيل ﷲ بوصفھم إخواناً ،ووضع العوائق أمام النھضة
اإلسالمية بزعم أن ذلك منع لعودة الجماعة المنحلة ،إن ھذا وذاك خيانة عظمى،
وارتداد عن الملة ..
لقد أصبح التجمع على اإلسالم ضرورة حياة فى وجه اليھود الذين احتلوا أجزاء
حساسة من أرضنا ،ويوشك أن تكون لھم وثبة أخرى ربما كانت نحو عواصمنا وبقية
مقدساتنا ،فاصطياد الريب لھذا التجمع ال أستطيع وصفه إال بأنه عمل لمصلحة بنى
إسرائيل ..
إن الخطة التى وضعت لمحاربة جماعة اإلخوان ال يسوغ أن تستفل لمحاربة ﷲ
ورسوله .
ويسوءنى أن الذين رسموا ھذه الخطة يحاولون أن يقضوا بھا على الدين نفسه،
والفرق واضح بين دين له قداسته ونفر من الناس لھم خطؤھم وصوابھم .
3ـ غالبية أفراد اإلخوان عاش على وھم الطھارة ،ولم يمارس الحياة الجماعية
الحديثة ،ويمكن اعتبارھم من ھذه الناحية ” خام ” .
4ـ غالبيتھم ذوو طاقة فكرية وقدرة تحمل ومثابرة كبيرة على العمل ،وقد أدى ذلك
إلى اطراد دائم وملموس فى تفوقھم فى المجاالت العلمية والعملية التى يعيشون فيھا
وفى مستواھم الفكرى والعلمى واالجتماعى بالنسبة ألندادھم رغم أن جزءاً غير
بسيط من وقتھم موجه لنشاطھم الخاص بدعوتھم )المشئومة( .
5ـ ھناك انعكاسات إيجابية سريعة تظھر عند تحرك كل منھم للعمل فى المحيط الذى
يقتنع .
6ـ تداخلھم فى بعض ،ودوام اتصالھم الفردى ببعض وتزاورھم ،والتعارف بين
بعضھم البعض يؤدى إلى ثقة كل منھم فى اآلخر ثقة كبيرة .
7ـ ھناك توافق روحى ،وتقارب فكرى وسلوكى يجمع بينھم فى كل مكان حتى ولو
لم تكن ھناك صلة بينھم .
8ـ رغم كل المحاوالت التى بذلت منذ عام 1936إلفھام العامة والخاصة بأنھم
يتسترون وراء الدين لبلوغ أھداف سياسية إال أن احتكاكھم الفردى بالشعب يؤدى إلى
محو ھذه الفكرة عنھم ،رغم أنھا بقيت بالنسبة لبعض زعمائھم .
9ـ تزعمھم حرب العصابات سنة 1948والقتال سنة 1951رسب فى أفكار بعض
الناس صورھم كأصحاب بطوالت وطنية عملية ،وليست دعائية فقط ،باإلضافة إلى
أن األطماع اإلسرائيلية واالستعمارية والشيوعية فى المنطقة ال تخفى أغراضھا فى
القضاء عليھم .
10ـ نفورھم من كل من يعادى فكرتھم جعلھم ال يرتبطون بأى سياسة خارجية سواء
كانت عربية أو شيوعية أو استعمارية ،وھذا يوحى لمن ينظر فى ماضيھم أنھم ليسوا
عمالء .
وبناء على ذلك رأت اللجنة أن األسلوب الجديد فى المكافحة يجب أن يشمل أساسا ً
بندين متداخلين وھما:
أ ـ محو فكرة ارتباط الدين اإلسالمى بالسياسة .
ب ـ إبادة تدريجية مادية ومعنوية وفكرية للجيل القائم فصالً من معتنقى الفكرة .
ويمكن تلخيص أسس األسلوب الواجب استخدامه لبلوغ ھذين الھدفين فى اآلتى:
أوالً :سياسة وقائية عامة:
1ـ تغيير مناھج تدريس التاريخ اإلسالمى والدين فى المدارس وربطھا بالمعتقدات
االشتراكية كأوضاع اجتماعية واقتصادية وليست سياسية .مع إبراز مفاسد الخالفة
خاصة زمن العثمانيين وأن تقدم الغرب السريع إنما كان عقب ھزيمة الكنيسة
وإقصائھا عن السياسة .
2ـ التحرى الدقيق عن رسائل وكتب ونشرات ومقاالت اإلخوان المسلمين فى كل
مكان ثم مصادرتھا وإعدامھا .
3ـ يحرم بتاتا ً قبول ذوى اإلخوان وأقربائھم حتى الدرجة الثالثة فى القرابة من
االنخراط فى السلك العسكرى أو البوليس أو السياسة ،مع سرعة عزلة الموجودين
من ھؤالء األقرباء من ھذه األماكن أو نقلھم إلى األماكن األخرى فى حالة ثبوت
والئھم .
4ـ مضاعفة الجھود المبذولة فى سياسة العمل الدائم على إفقاد الثقة بينھم وتحطيم
وحدتھم بشتى الوسائل ،وخاصة عن طريق إكراه البعض على كتابة تقارير عن
زمالئھم بخطھم ،ثم مواجھة اآلخر بما معھا مع العمل ،على منع كل من الطرفين من
لقاء اآلخر أطول فترة ممكنة لنزيد ھوة انعدام الثقة بينھم .
5ـ بعد دراسة عميقة لموضوع المتدينين من غير اإلخوان ،وھم الذين يمثلون ”
االحتياطى ” لھم وجد أن ھناك حتمية طبيعية عملية اللتقاء الصنفين فى المدى
الطويل ،ووجد أنه من األفضل أن يبدأ بتوحيد معاملتھم بمعاملة اإلخوان قبل أن
يفاجئونا كالعادة باتحادھم معھم علينا .
ومع افتراض احتمال كبير لوجود أبرياء منھم إال أن التضحية بھم خير من التضحية
بالثورة فى يوم ما على أيديھم .
ولصعوبة واستحالة التمييز بين اإلخوان والمبتدئين بوجه عام فال بد من وضع
الجميع ضمن فئة واحدة ومراعاة ما يلى:
أ ـ تضييق فرص الظھور والعمل أمام المتدينين عموما ً فى المجاالت العلمية والعملية
.
ب ـ محاسبتھم بشدة وباستمرار على أى لقاء فردى أو زيارات أو اجتماعات تحدث
بينھم .
جـ ـ عزل المتدينين عموما ً عن أى تنظيم أو اتحاد شعبى أو حكومى أو اجتماعى أو
طالبى أو عمالى أو إعالمى.
د ـ التوقف عن السياسة السابقة فى السماح ألى متدين بالسفر للخارج للدراسة أو
العمل حيث فشلت ھذه السياسة فى تطوير معتقداتھم وسلوكھم ،وعدد بسيط جداً منھم
ھو الذى تجاوب مع الحياة األوربية فى البالد التى سافروا إليھا .أما غالبيتھم فإن من
ھبط منھم فى مكان بدأ ينظم فيه االتصاالت والصلوات الجماعية أو المحاضرات
لنشر أفكاره .
ھـ ـ التوقف عن سياسة استعمال المتدينين فى حرب الشيوعيين واستعمال الشيوعيين
فى حربھم بغرض القضاء على الفئتين ،حيث ثبت تفوق المتدينين فى ھذا المجال،
ولذلك يجب أن نعطى الفرص للشيوعيين لحربھم وحرب أفكارھم ومعتقداتھم ،مع
حرمان المتدينين من األماكن اإلعالمية .
و ـ تشويش الفكرة الشائعة عن اإلخوان فى حرب فلسطين والقتال وتكرار النشر
بالتلميح والتصريح عن اتصال اإلنجليز بالھضيبى ،وقيادة اإلخوان ،حتى يمكن
غرس فكرة أنھم عمالء لالستعمار فى أذھان الجميع .
ز ـ االستمرار فى سياسة محاولة اإليقاع بين اإلخوان المقيمين فى الخارج وبين
الحكومات العربية المختلفة وخاصة فى الدول الرجعية اإلسالمية المرتبطة بالغرب،
وذلك بأن يروج عنھم فى تلك الدول أنھم عناصر مخربة ومعادية لھم وأنھم يضرون
بمصلحتھا ،وبھذا تسھل محاصرتھم فى الخارج أيضا ً .
ثانيا ً:
استئصال السرطان الموجود اآلن ،وبالنسبة لإلخوان الذين اعتقلوا أو سجنوا فى أى
عھد من العھود يعتبرون جميعا ً قد تمكنت منھم الفكرة كما يتمكن السرطان فى الجسم
وال يرجى شفاؤه ،ولذا تجرى عملية استئصالھم كاآلتى:
المرحلة األولى:
إدخالھم فى سلسلة متصلة من المتاعب تبدأ باالستيالء أو وضع الحراسة على أموالھم
وممتلكاتھم ،ويتبع ذلك اعتقالھم وأثناء االعتقال تستعمل معھم أشد أنواع اإلھانة
والعنف والتعذيب على مستوى فردى ودورى حتى يصيب الدور الجميع ثم يعاد
وھكذا .
وفى نفس الوقت ال يتوقف التكدير على المستوى الجماعى بل يكون مالزما ً للتأديب
الفردى .
وھذه المرحلة إذا نفذت بدقة ستؤدى إلى:
بالنسبة للمعتقلين:
اھتزاز األفكار فى عقولھم وانتشار االضطرابات العصبية والنفسية والعاھات
واألمراض بينھم .
بالنسبة لنسائھم:
سواء كن زوجات أو أخوات أو بنات فسوف يتحررن ويتمردن لغياب عائلھن،
وحاجتھن المادية قد تؤدى النزالقھن .
بالنسبة لألوالد:
تضطر العائالت لغياب العائل ولحاجتھا المادية إلى توقيف األبناء عن الدراسة
وتوجيھھم للحرف والمھن ،وبذلك يخلو جيل الموجھين المتعلم القادم ممن فى نفوسھم
أى حقد أو أثر من آثار أفكار آبائھم .
المرحلة الثانية:
إعدام كل من ينظر إليه بينھم كداعية ،ومن تظھر عليه الصالبة سواء داخل السجون
أو المعتقالت أو بالمحاكمات ،ثم اإلفراج عنھم بحيث يكون اإلفراج عنھم على
دفعات ،مع عمل الدعاية الالزمة لكى تنتشر أنباء العفو عنھم ليكون ذلك سالحا ً يمكن
استعماله ضدھم من جديد فى حالة الرغبة فى إعادة اعتقالھم .
وإذا أحسن تنفيذ ھذه المرحلة مع المرحلة السابقة فستكون النتائج كما يلى:
1ـ يخرج المعفو عنه إلى الحياة فإن كان طالبا ً فقد تأخر عن أقرانه ،ويمكن أن
يفصل من دراسته ويحرم من متابعة تعليمه .
2ـ إن كان موظفا ً أو عامالً فقد تقدم زمالؤه وترقوا وھو قابع مكانه .
3ـ إن كان تاجرا ً فقد أفلست تجارته ،ويمكن أن يحرم من مزاولة تجارته .
4ـ إن كان مزارعا ً فلن يجد أرضا ً يزرعھا حيث وقعت تحت الحراسة أو صدر
قرار استيالء عليھا .
وسوف تشترك الفئات المعفو عنھا جميعھا فى اآلتى:
1ـ الضعف الجسمانى والصحى ،والسعى المستمر خلف العالج والشعور المستمر
بالضعف المانع من أية مقاومة .
2ـ الشعور العميق بالنكبات التى جرتھا عليھم دعوة اإلخوان وكراھية الفكرة والنقمة
عليھا .
3ـ انعدام ثقة كل منھم فى اآلخر ،وھى نقطة لھا أھميتھا فى انعزالھم عن المجتمع
وانطوائھم على أنفسھم .
4ـ خروجھم بعائالتھم من مستوى اجتماعى أعلى إلى مستوى اجتماعى أدنى نتيجة
لعوامل اإلفقار التى أحاطت بھم .
5ـ تمرد نسائھم وثورتھن على تقاليدھم ،وفى ھذا إذالل فكرى ومعنوى لكون النساء
فى بيوتھن يخالف سلوكھن أفكارھم ،ونظراً للضعف الجسمانى والمادى ال يمكنھم
االعتراض .
6ـ كثرة الديون عليھم نتيجة لتوقف إيراداتھم واستمرار مصروفات عائالتھم .
النتائج اإليجابية لھذه السياسة ھى:
1ـ الضباط والجنود الذين يقومون بتنفيذ ھذه السياسة سواء من الجيش أو البوليس
سيعتبرون فئة جديدة ارتبط مصيرھا بمصير ھذا الحكم القائم حيث يستشعرون عقب
التنفيذ أنھم )أى الضباط والجنود( فى حاجة إلى نظام الحكم القائم ليحميه من أى عمل
انتقامى قد يقوم به اإلخوان للثأر .
2ـ إثارة الرعب فى نفس كل من تسول له نفسه القيام بمعارضة فكرية للحكم القائم .
3ـ وجود الشعور الدائم بأن المخابرات تشعر بكل صغيرة وكبيرة وأن المعارضين
لن يستتروا وسيكون مصيرھم أسوأ مصير .
4ـ محول فكرة ارتباط السياسة بالدين اإلسالمى .
انتھى ويعرض على السيد الرئيس جمال عبد الناصر
إمضاء
السيد /رئيس مجلس الوزراء
السيد /قائد المخابرات
السيد /قائد المباحث الجنائية العسكرية
السيد /مدير المباحث العامة
السيد /شمس بدران
أوافق على اقتراحات اللجنة .
جمال عبد الناصر
ھذا تقرير ردىء ،وقع فى الخلط الذى حذرنا منه ،ونالحظ عليه ثالثة أمور:
ـ أن الخصومة بلغت حد اللدد والعنت ،وسنؤخر الحديث فى حقيقة ما وقع إلى آخر
ھذا الفصل .
ـ أن عاطفة التدين أمست موضع اتھام ،وأن المتدينين جملة ال يرتاح إليھم .
ـ أن باب المسخ والتحريف اإلسالمى نفسه انفتح على مصراعيه ،والمتأمل فى أسماء
واضعى التقرير يرى أن أغلبھم يسارى النزعة ،وھم فى السجون اآلن لمحاوالت
آثمة ارتكبوھا ضد حركة التصحيح التى قادھا الرئيس أنور السادات ..
لقد اتجه الھدم إذن إلى أعمدة الفكر اإلسالمى نفسه ،وانفسح المجال أمام كل أفاك
ليقول ما عنده وھو آمن ،على حين احتبست أصوات المؤمنين فى حلوقھم .
ولم يتحرك فى ميدان الدين كله إال واحد من رجلين :إما مسلم منحرف يضر اإلسالم
وال ينفعه ،أو نصرانى ذكى اھتبل الفرصة فامتد إلى ما قصرت عنه آمال أسالفه من
ألف عام ..
وظھر المسلمون وكأنھم فى أعقاب غارة عاتية أكلت األخضر واليابس .
ولنشرع فى إيضاح األمور التى الحظناھا على التقرير اآلنف بادئين بآخرھا الذى
يمس التاريخ اإلسالمى.
ظھرت حركة تحقير ” للماضى ” وصرف للشباب عنه وعن القيم التى يحتويھا .
ترجم الدكتور زكى نجيب محمود عن ذلك فى مقال نشرته جريدة ” األھرام ” جاء
فيه أن بناء اإلنسان العربى فى العصر الحديث ال يجوز أن يعتمد على ما كان أى
على قال فالن وروى عالن !!..
من المقصود بھذا الكالم المرسل ؟
من الذين يعتمدون على القول والرواية فى مجتمعنا ؟
إن الرجل يطلب فى إجمال ترك القرآن والسنة ،وإذا لم يصرح بذلك فألنه حدد ھدفه
وصرح به فى مقال آخر عندما أوصى بقراءة كتاب ” رأس المال ” لكارل ماركس .
ونحن المسلمين تعلمنا فى كتابنا احترام ” الحقيقة ” بغض النظر عن زمان ماض أو
قادم ،فال الحقيقة يشينھا أنھا من نتاج األوائل ،وال الخرافة يزكيھا أنھا من إنتاج
المعاصرين ..
ومن بيع الماء للسقائين ـ كما يقول العامة ـ أن ينصح ناصح اإلسالم والمسلمين بعدم
التعويل على الماضى عند وزن الحقائق ،كيف والقرآن الكريم يعيب المقلدين
الجامدين فيقول:
” وإذا قيل لھم تعالوا إلى ما أنزل ﷲ وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا
أو لو كان آباؤھم ال يعلمون شيئا ً وال يھتدون ” )المائدة(104 :
ولكن الماضى يعاب يوم يكون أمجاد اإلسالم وھداياته ،ويترك ليؤثر فى الكيان
الدولى يوم يكون إقامة إلسرائيل وإحياء لترھات العھد القديم !!
أما الدكتور ” فؤاد زكريا ” فيربط بين تقديس الماضى والنظام اإلقطاعى فيقول” :
إن زمام السيطرة فى ھذا المجتمع يقع فى قبضة أناس يتجھون بحكم وضعھم
االجتماعى إلى تكريم األسالف واإلشادة بماضيھم ،فلذلك اإلقطاعى الكبير يدين
بثروته ونفوذه فى معظم األحيان للوراثة ..
” وھكذا فإن أمجاده كلھا مرتبطة بالماضى ،وكل قيمة للحاضر إنما تستمد ـ فى
نظره ـ من عالقته بھذا الماضى .ولما كان األعيان اإلقطاعيون ھم المسيطرين فى
ھذا المجتمع فإن طرق تفكيرھم وقيمھم األخالقية ھى التى تنتشر وتطبع صورتھا
على المجتمع ككل ! ..
” ومن ھنا تتعلق األذھان فى مثل ھذا المجتمع بالماضى ،وتنظر إلى المستقبل بعين
االرتياب ،بل إنھا ال ترضى عن الحاضر ذاته إال بقدر ما يكون انعكاسا ً للماضى ” ..
.
إننى تحيرت فى بواعث ھذا الكالم ،ھل الشكوى من التعلق بالماضى تعود إلى تشبث
المالك الكبار والصغار بوسائل عقيمة فى اإلنتاج ؟
واقع بالدنا ينطق بغير ھذا .
إذن ما القصد من مھاجمة الماضى ورفض امتداده فى الحاضر ؟
ومضيت فى قراءة كتاب ” الجوانب الفكرية للنظم االجتماعية ” الذى ألفه الدكتور ”
فؤاد زكريا ” فإذا ھو يتحدث عن تأثير المصالح اإلقطاعية فى التصورات الدينية
فيقول إنھا ” أسھمت بدورھا فى تشكيل عقول األفراد بصورة مميزة :تلك ھى إدخال
نوع من التفاوت أو التسلسل فى المراتب فى المجال الروحى ذاته .فھناك مجتمعات
تتصور األلوھية عالية مترفعة عن عالم البشر ،وتقيم نوعا ً من تدرج المراتب بين
ھذه األلوھية وعام الناس ،فبعد ﷲ يأتى األنبياء والقديسون ،ثم كبار الكھنة ورجال
الدين ،ويندرج الترتيب بعد ذلك حتى يصل آخر األمر إلى اإلنسان العادى .وال بد
فى االرتقاء إلى كل مرحلة من ھذه المراحل من المرور بالمراحل السابقة ،أى أن
اإلنسان العادى ال يستطيع مثالً أن يتقرب إلى ﷲ أو يحظى بالشفاعة من أحد
القديسين إال عن طريق الكاھن الذى يتوسط بينه وبينھم ..
” بالتدرج وتفاوت المراتب أن ھناك نظرات أخرى إلى الدين تختفى فيھا ھذه
الحواجز ،ويشيع فيھا التقارب بين ﷲ واإلنسان !! إذ يعد ﷲ قريبا ً من البشر
مستجيبا ً ومعينا ً لھم ،بل إن بعض المذاھب الدينية تؤكد حلول ﷲ فى العالم ،وإمكان
اتحاد اإلنسان به إذا ھو ارتقى إلى مستوى معين من الروحانية !! ھذه الفكرة األخيرة
ترتبط بنظرة أكثر ديمقراطية إلى المجتمع ..
” والدليل على أن ھذه النظرة إلى الدين انعكاس لنظام اجتماعى يتسم بالديمقراطية
على حين أن فكرة تسلسل المراتب من األعلى إلى األدنى كانت البشرى ألنھا ال
ترتكز على تأكيد الفوارق فى المرتبة بين الموجودات ..وبالفعل سادت ھذه النظرة
فى العصور التى كانت أقرب إلى روح مقترنة بالفوارق التى ھى أولى خصائص
المجتمع
اإلقطاعى . ” ..
أى أن الدين قد يكون إنتاجا ً إقطاعيا ً أو إنتاجا ً ديمقراطيا ً !! فحيث توجد فوارق بين
ﷲ والناس فالدين اختراع اإلقطاعيين ،أما حيث تقل الفوارق ويمكن أن يتحد اإلنسان
مع ﷲ فالدين اختراع الديمقراطيين !!
ھذه ھى فكرة أستاذ فلسفة عن الدين يقدمھا لطالبه فى كلية آداب عين شمس .
فما تكون إذن تصورات األطفال والبله عن حقائق األديان ؟؟
ظاھر أن الدكتور شيوعى ،وأن حديثه الغامض عن الماضى وتقديس األسالف إنما
ھو لصرف الطالب المسلمين عن النھر الذى يستقون منه ،ألن منابعه ھناك فى
الماضى القديم .
ً
ھل األمانة العلمية تقتضى تدريس الباطل وحده ؟ أم يدرس الحق والباطل معا ويترك
للطالب حرية الموازنة واالختيار .
لكن أساتذة الفلسفة الذين ذكرناھم ھنا لم يجشموا أنفسھم عبء االطالع على الفكر
اإلسالمى فى مظانه المعروفة وانطلقوا فى طريقھم يدمرون مستقبل أمة وھم آمنون .
بل لعلھم كانوا يفعلون ذلك وھم ينفذون خطة مرسومة ،ويرقبون من ورائھا الرضا
واالنتفاع .
وشعبة أخرى حاذت ھذه الشعبة الفلسفية فى نبذ الماضى .عالم تقوم ؟ تقوم على
تزوير التاريخ اإلسالمى والسيرة النبوية أجمع ابتداء من دولة الخالفة إلى يوم الناس
ھذا ..
ً ً
وھدف ھذه الشعبة الفكرية إبراز ” محمد ” إنسانا عاديا ،أو قائد انقالب اقتصادى
يسارى على نحو ما صنع أو حاول أن يصنع ” جيفارا ” .
وقد كتب السيد عبد الرحمن الشرقاوى ـ وھو شيوعى معروف ـ سيرة على ھذا
النسق حشاھا بالدس والتدليس العلمى وتوجيه األحداث بعنف فى غير مسارھا .
وأصدرت مجلة األزھر عدداً يحتوى جملة مقاالت فضحت ھذه السيرة السيئة،
وحذرت منھا دون جدوى .
وقد تعرض السيرة الشريفة من خالل نظرات استشراقية واتھامات تبشيرية من غير
كشف لتھافت ھذه النظرات واالتھامات .
وال بأس أن يعرض الفتح اإلسالمى ،وكأن العرب أسراب جراد منطلق فى األودية
اليانعة ليأتى على ما فيھا ..أما تحريرھم للشعوب المسترقة وتحطيمھم للقوتين
العظيمتين المنتفختين بالجبروت واالستعالء فھذا ما ال يقال ؟!
وقد ينسب للعرب ـ امتنانا ً عليھم ـ أنھم نقلوا حضارة األقدمين إلى العصور الوسطى،
أما أنھم أصحاب حضارة مقدورة ورسالة ھادية ومدنية راقية فال ..
وفى كلية آداب عين شمس كان التاريخ يدرس على ھذا النحو !!
مساكين طالبنا الذين راحوا ضحية ھذا اإلرھاب الفكرى فى مرحلة ” جأر ” فيھا
الضالل ” وخرس ” فيھا الحق !!
كتب أخونا ” على عبد العظيم ” ھذا التقرير عن كتاب ألفه الدكتور ” عبد المنعم
ماجد ” وأسماه ” التاريخ السياسى للدولة العربية ” ننشر نصه كامالً لما له من داللة
.قال:
” المؤلف من أعضاء ھيئة التدريس بكلية اآلداب بجامعة عين شمس ،وكان عليه أن
يقدر المسئولية وأن يرعى األمانة العلمية ،وأن يعتمد فى أبحاثه ودراساته على
المراجع التاريخية األصلية التى عاصر مؤلفوھا األحداث أو نقلوھا بأمانة عمن
عاصرھا وشارك فى أحداثھا ،ولكنه اعتمد على المبشرين والمستشرقين المتعصبين
الذين تمتلئ قلوبھم باألحقاد المتوارثة على اإلسالم والمسلمين والذين أعمتھم
العصبية الحمقاء فأضلتھم سواء السبيل ..
” ومن الغريب أنه يسرد آراءھم دون مراجعة أو تمحيص ،وينقلھا كأنھا حقائق
ثابتة ،ويلقنھا لتالميذه ويلزمھم بھا كأنھا أحكام صحيحة ال تحتمل البحث أو الجدال،
وليس ھذا شأن األساتذة الجامعيين الذين يرعون األمانة ويقدرون المسئولية
ويتحرون الحقائق من مصادرھا األصيلة ،ويراجعون أنفسھم مراجعة دقيقة قبل
إصدار األحكام الحاسمة التى تشوه التاريخ العربى وتلطخ القيم اإلسالمية العليا بأبشع
األكاذيب والمفتريات ..
” ولو كان األمر مقصوراً على كتاب يؤلفه صاحبه ويحشوه بما يشاء من آراء
المنحرفين المتعصبين لھان األمر ،ولكنه كتاب جامعى مفروض على طلبة الكلية
فرضا ً منذ سنوات يتلقاه الطلبة عن أستاذھم واثقين به ليرددوا ما فيه ـ بعد ذلك ـ على
عشرات اآلالف من تالميذھم فى التعليم العام عاما ً بعد عام ” .
والمؤلف يعلم أن ھناك مستشرقين منصفين ،درسوا الحضارة اإلسالمية والتاريخ
العربى دراسة علمية عميقة بعيدة عن الھوى والتعصب ،وأنصفوا العرب
والمسلمين ،وعززوا آراءھم باألدلة الحاسمة والبراھين القاطعة معتمدين على اآلثار
اإلسالمية الباقية والتراث العربى الخالد ،ولكن المؤلف تحاماھم جميعاً واستباح لنفسه
أن يسرد آراء المتعصبين الحاقدين دون دليل أو برھان كأنه يشفى غليالً فى نفسه أو
يشيع ما حملته طبيعته من بواعث الھدم والتدمير ،ومن الخير أن نسوق بعض
األحكام التى مأل بھا الكاتب صفحات كتابه دون نقد أو تمحيص:
أوالً:
صفحة 61 ،60من الجزء األول ” :كان بعض األعراب يذبحون الكالب كقبيلة أسد
أو يأكلون لحوم الناس كقبيلة ھذيل ..كما أن بعض األعراب كانوا يأكلون الحيات
والعقارب والجعالن والخنافس أو حتى القمل ” .
ثانيا ً:
يذكر المؤلف فى صفحة 95 ،94أن تاريخ ميالد الرسول صلى ﷲ عليه وسلم غير
معروف بالضبط ،ويتشكك فى ربطه بعام الفيل ،ويوحى بأن ذلك ناشىء عن محاولة
الربط بين مولده وھذا الحادث القومى بالنسبة لقريش ،ومن الغريب أن يعتمد فى ذلك
على معجم البلدان لياقوت ،وھو كتاب متأخر ويعتبر من الكتب الجغرافية ال
التاريخية ،كما يعتمد على ثالثة مراجع فرنسية ،يفعل ھذا على حين يترك المصادر
التاريخية المتقدمة األصيلة مثل تاريخ الطبرى وسيرة ابن ھشام وطبقات ابن سعد
وفتوح البلدان والروض األنف ..
ثالثا ً:
فى صفحة 198من الجزء األول يقول المؤلف ” :وفجأة فى سن األربعين يملك
محمد موھبة النبوة ” وھذا التعبير غير الئق بجالل النبوة ،فإنھا ليست موھبة فطرية
كالمواھب األخرى ،ولكنھا اصطفاء من ﷲ لألخيار الذين اجتباھم من عباده
المخلصين .
رابعا ً:
يستبيح المؤلف لنفسه أن يسرد عبارات تصف القرآن بأنه من صياغة محمد صلى
ﷲ عليه وسلم مثل قوله فى صفحة 99من الجزء األول ” :ومع ذلك فلم يرد على
لسان النبى فى القرآن ” ..ويقول فى صفحة ” :125وقد أناب فيه أبا بكر صديقه
ليقرأ عليھم سورة براءة التى يتبرأ فيھا محمد ممن يحج من المشركين ” وكأن محمداً
صلى ﷲ عليه وسلم ھو الذى ألف ھذه السورة ليتبرأ فيھا من المشركين مع أن أول
السورة ” براءة من ﷲ ورسوله ” .
خامسا ً:
فى صفحة 250يصدر المؤلف حكما ً غريبا ً يھدم الشريعة اإلسالمية من أساسھا،
حيث يقرر أن الوحى كان يتم فى المنام ،وكأنه أضغاث أحالم فيقول عن الوحى” :
إنه كان ينزل عليه وھو نائم ” .
سادسا ً:
يدعى فى صفحة 250أن النبى ـ صلى ﷲ عليه وسلم ـ ” كان ينسخ بعض اآليات
ويأتى بأخرى محلھا ” وكأنه ھو الذى ألف القرآن ثم أجرى فيه بعض المحو
واألثبات ،وكأنه ليس وحيا ً سماويا ً منزالً .
على أن موضوع النسخ فى القرآن محل جدل بين علماء المسلمين ،وعلى فرض
ثبوته فھو من عند ﷲ وحده وھو تدرج فى التشريع موحى به من عند ﷲ ال من عند
محمد ـ صلى ﷲ عليه وسلم .قال تعالى ” :ولو تقول علينا بعض األقاويل ألخذنا منه
باليمين ثم لقطعنا منه الوتين ،فما منكم من أحد عنه حاجزين ”]الحاقة44 :ـ[47
سابعا ً:
يذكر المؤلف فى صفحة 128 ،127من الجزء األول عن رسالة النبى صلى ﷲ
عليه وسلم فيقول ” :وھو وإن كان أرسل إلى العرب إال أنه اعتبر نفسه أنه مرسل
إلى العرب وحدھم ولكنه تجاوز حده واعتبر نفسه رسوالً إلى كافة الناس ” ..وكأنما
األمر متروك إليه يقرر فيه ما يشاء من داللة النصوص القرآنية وتواتر األحاديث
النبوية على رسالته إلى جميع الناس ” ليكون للعالمين نذيرا ً ” )الفرقان. (1 :
ثامنا ً:
فى صفحة 127يذكر المؤلف أن رسالة المسيحية عامة وليست خاصة كاليھودية،
والمؤلف ھنا يخالف القرآن الكريم فى قوله تعالى :على لسان عيسى عليه السالم ”
ورسوالً إلى بنى إسرائيل ” )آل عمران (49 :كما يخالف العھد الجديد حيث جاء فى
إنجيل متى ” لم أرسل إال إلى خراف بيت إسرائيل الضالة ” )االصحاح (24 :15
فالمؤلف ينقل آراء المستشرقين والمبشرين دون نقد أو تمحيص ولو خالفت القرآن
الكريم والحديث الشريف .
تاسعا ً:
يتحدث المؤلف فى صفحة 128وما بعدھا عن قضية البعث والحساب فيصوغھا فى
عبارات توحى بالسخرية والشك فيما رواه القرآن الكريم فيقول مثالً ” :ويخرج
األموات من قبورھم ليقفوا أمام ﷲ والمالئكة ليحاكموھم ” وكأنھا محكمة جماعية
يتبادل فيھا القضاة اآلراء ويحكمون برأى األغلبية ،ولنا أن نتساءل ما عالقة ھذا
بالدراسة التاريخية ؟
والمؤلف متأثر بما كتبه صاحب كتاب ” الفن القصصى فى القرآن الكريم ” الذى
رفضت جامعة القاھرة قبوله رسالة للدكتوراه ،وكأنه مولع بنقل آراء الحائدين عن
الصواب من شرقيين وغربيين .
عاشراً:
يقول المؤلف فى صفحة 123أن الزكاة فى اإلسالم ليست نوعا ً من التضامن
االجتماعى كما فى وقتنا ،وإنما ھى حث على الشفقة والرحمة واستغالل فى الجھاد
ونشر الدين ،فھل الشفقة تتعارض والتضامن االجتماعى ؟
إن القرآن الكريم لم يعتبر الزكاة إحسانا ً وإنما جعلھا حقا ً مفروضا ً للسائل والمحروم،
وقد حدد اإلسالم مصارف الزكاة وليس فيھا نص على الجھاد وحده ونشر الدين
فحسب ،وإنما ھما يدخالن فى أحد وجوه الصرف الثمانية كما ذھب إليه بعض
المفسرين .
حادى عشر:
ينفى المؤلف فى صفحة 134أن ” الدين اإلسالمى عالج نظم الحياة بنصوص
صريحة ” وكل من له العلم بالتشريع اإلسالمى يدرك بأدنى مالحظة النصوص
الصريحة التى تناولت جميع شئون الحياة من بيع وشراء وھبة ودين ووصية وزواج
وميراث كما حددت الفضائل والرذائل والعالقات االجتماعية والنظم السياسية وشئون
الحرب والسالم ،كما تناولت أساليب الحكم والقضاء وحددت الجرائم والقصاص
والحدود ..كما تناولت حقوق اإلنسان قبل أن تحدده ھيئة األمم بأكثر من 13قرنا ً.
ثم يكرر ھذا االتھام فى صفحة 138فيقول ” :والواقع أن اإلسالم لم يدع أنه بنى
مجتمعا ً فى غاية التنظيم ” !!! لقد كان العرب قبائل متناحرة متنافرة يحارب بعضھا
بعضا ً ألتفه األسباب ،وما كان يمكن أن تتألف منھا وحدة تامة ،وما كان القرآن
الكريم ينفذ إلى قلوب أفرادھا حتى أصبحت أمة قوية متماسكة كالجسد الواحد أو
البنيان المرصوص ،قال تعالى ” :وألف بين قلوبھم لو أنفقت ما فى األرض جميعا ً ما
ألفت بين قلوبھم ولكن ﷲ ألف
بينھم ” وما تفرق شملھم إال بعد أن تھاونوا فى التمسك بدينھم القويم وكتابھم الكريم .
ثانى عشر:
سرد المؤلف فى صفحة 134ما يلوكه المبشرون من تعدد الزوجات دون مراجعة أو
مناقشة أو تمحيص ،وكأنه بوق يردد أصداء الحاقدين .
ثالث عشر:
فى صفحة 136يذكر أن اإلسالم حرم الربا ألن معظم القائمين به ھم اليھود وكأن
التشريع اإلسالمى يقوم على األغراض الشخصية وليس وحيا ً سماويا ً يستھدف
الصالح العام لجميع العالمين ،ومن العجيب أن المؤلف يتناول اآليات القرآنية
ويفسرھا تفسيراً يدل على عدم فھمه ألسلوب القرآن العربى المبين فقد فسر المؤلف
قوله تعالى ” :الذين يأكلون الربا ال يقومون إال كما يقوم الذى يتخبطه الشيطان من
المس ” )البقرة (275 :وقد فسرھا المؤلف بأن اآلية تشبه ” آكل الربا بالشيطان ”
)جزء ،2ص (275مع أن اآلية الكريمة واضحة بينة يفھمھا العامة قبل الخاصة،
ولكن سوء الفھم حجبه عن أنوار القرآن الكريم .
رابع عشر:
فى صفحة 145يقول المؤلف ” :وال ريب أن النبى نفسه تعب من استھتار العرب
بالدين وعدم ميلھم إليه ” وھو تعبير يجافى الذوق السليم إزاء النبى صلى ﷲ عليه
وسلم الذى قضى حياته مكافحا ً مناضالً يتقدم الصفوف ويقود المسلمين فى مواطن
الخطر دون أن يدركه ملل أو كلل ودون أن يخشى فى ﷲ لومة الئم فكيف يتعب من
الدعوة إلى ﷲ .
خامس عشر:
الحظنا أن المؤلف يلتزم نقل آراء المستشرقين ويتحمس لھا ،ولكنھم إذا أنصفوا
اإلسالم فى موقف ما أسرع إلى مخالفتھم وكأنه موكل بتشويه صفحة اإلسالم
الوضاءة وتلويث تراثه المجيد فنجده فى صفحة 163يقول ” :ال نوافق بعض
المستشرقين فى قولھم أن العرب كانوا مدفوعين نحو الفتوح بالحماس الدينى ..ولكن
من غير المعقول أن يخرج البدوى ـ وھو الذى ال يھتم بالدين )!( ـ لنشر اإلسالم ” .
ومن العجيب أن يقرر المستشرقون الحقيقة وينصفوا الفتوحات اإلسالمية ،ولكن
المؤلف المسلم يخالفھم على غير عادته فيزعم أن الصحابة ال يھتمون بالدين ،وأن
الفتوحات اإلسالمية كانت قائمة على النھب والسلب ال على نشر اإلسالم .
سادس عشر:
ينكر المؤلف كعادته آثار التسامح اإلسالمى فى تحرير الشعوب من أغاللھا فيخالف
آراء جميع المؤرخين العرب كما يخالف آراء جمھرة المستشرقين ،ويكتفى برأى
يوحنا النقيوس الذى انفرد بذكر مقاومة األقباط فى مصر للفتح اإلسالمى مدة 12
عاما ً دون مناقشة أو دليل ليخلص من ھذا إلى أن الفتوح اإلسالمية كانت قائمة على
النھب والسلب وإشباع شھوة سفك الدماء )ص 221ـ . (223
سابع عشر:
يذكر فى صفحة 180أنه ” كان النتصار المسلمين فى أجنادين وقع عظيم بحيث
اعتقد المسلمون أن ھذا النصر من عند ﷲ ” ،وھى عبارة تصدم العقيدة اإلسالمية
فى الصميم ،لقد انتصر المسلمون قبل أجنادين ،فھل كانوا يعتقدون أن ھذا النصر من
عندھم ال من عند ﷲ ؟
ولقد كانوا يحفظون القرآن الكريم وفيه قوله تعالى ” :وما النصر إال من عند ﷲ ”
)األنفال ،(10 :ولو كان للمؤلف األغر أدنى معرفة بالعقيدة اإلسالمية لعلم أن النفع
والضر بيد ﷲ وحده وأن اإلنسان ال يملك لنفسه ضراً وال نفعا ً إال ما شاء ﷲ ،فھل
كان الصحابة ينكرون ھذا ولم يعتقدوه إال بعد انتصارھم فى أجنادين !!
ثامن عشر:
فى صفحة 230 ،227يرمى المؤلف الصحابة بالوحشية واإلجرام فى فتوحاتھم
اإلسالمية ،ويزعم أنھم كانوا قساة القلوب غالظ األكباد ،ال يكتفون بحرق المزارع
وھدم البيوت ،وإنما يحاولون قھر الشعوب المفتوحة ،وإرغامھم على دفع الجزية
حتى ولو أسلموا ،مخالفا ً بذلك النصوص القرآنية واألحاديث النبوية وإجماع
المؤرخين ،ثم يشتط فى أحكامه فيزعم أن العرب فى فتحھم لبرقة وطرابلس اكتفوا
بفرض الجزية وأجازوا ألھلھا بيع أبنائھم ليدفعوا الجزية ،ولو رجع إلى المصادر
الوثيقة لعلم أن الجزية ال تفرض إال على القادرين ـ من غير المسلمين ـ على دفعھا،
وأنھا تقابل فريضة الزكاة عند المسلمين ،وأنھا تنفق لتحقيق الصالح العام للجميع ال
للغزاة الفاتحين ،ولكنه ال يريد أن يعلم وإنما يلتزم الباطل التزاما ً .ومن ھذا ما زعمه
من أن المسلمين ” أرغموا أھل النوبة على أن يحملوا كل سنة إلى والة مصر 260
رأسا ً من الرقيق غير المعيب المتوسط العمر !! ولو كان للمؤلف األغر أدنى إلمام
بالثقافة اإلسالمية لعلم حرص اإلسالم الشديد على تحرير الرقاب وأنه أھاب
بالمسلمين أن يتقربوا إلى ﷲ بتحرير الرقيق أى الرقاب ،وأنه جعل ھذا العتق كفارة
بعض الذنوب وأنه رصد جزءاً من صدقات المسلمين إلنفاقھا فى تحرير الرقاب قال
تعالى ” :فال اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة :فك رقبة ) ” ..البلد 11 :ـ (13ولكن
المؤلف يجھل أحيانا ً ويتجاھل فى معظم األحيان .
المؤلف مولع بتشويه صفحات الفتوحات اإلسالمية بكل الوسائل ،وھو يستبيح فى
سبيل إشباع شھوته نقل األساطير الوھمية ،وھو يسوقھا دون مناقشة أو جدال كما
قال فى صفحة 204من الجزء 2عن فتح المسلمين لألندلس ” قيل إنھم طبخوا أول
من قتلوه فى القدور ” ولو كان المؤلف مؤرخا ً حقا ً لدرس الفتح األندلسى دراسة
جادة ،فعلم أن األھالى ساعدوا العرب مساعدة قيمة للتخلص من حكم طاغيتھم
المستبد لذريق ،ولو كان المؤلف جاداً فيما يكتب ما اعتمد على األساطير والخرافات،
ولعلم أن المسلمين حريصون على تحرير الشعوب ،ولكنه حريص على أن يصور
المسلمين وحوشا ً مفترسة من آكلى البشر ،ولو كان المؤلف قد نال قسطا ً يسيراً من
الثقافة اإلسالمية لتذكر وصية النبى صلى ﷲ عليه وسلم للمجاھدين من الصحابة
ومن تالھم ” :ال تقطعوا شجراً وال تقتلوا طفالً وال امرأة وال شيخاً وال تھدموا بيتا ً ”
ويظھر أن المؤلف األغر ال يأخذ بالقرآن الكريم وال بالحديث الشريف وإن ذكرھما
فى مصادره للتمويه والتضليل .
عشرون:
المؤلف مھتم كل االھتمام بتشويه سيرة الصحابة رضوان ﷲ عليھم ،فھو يرمى عمر
بأنه كان يخشى الرجال األشداء فينحيھم عن مناصب القيادة )صفحة (183ويكرر
ھذا فى صفحة 200ليبرر عزله خالدا ً أو المثنى بن حارثة ،ونسأل المؤلف األغر:
ھل نحى عمر أبا عبيدة وسعد بن أبى وقاص وعمرو بن العاص وغيرھم من كبار
القادة األقوياء عن مناصبھم ؟
وشبيه بھذا ما ذكره عن اإلمام الحسن رضى ﷲ عنه ناقالً ما ذكره خصومه من
األمويين وطائفة من المبشرين والمستشرقين حيث يقول فى صفحة 2من الجزء
الثانى ” :فلعل وفاة الحسن كانت بسبب إسرافه فى حياة
اللھو ” ..ويتناسى أنه سبط الرسول صلى ﷲ عليه وسلم وسيد شباب أھل الجنة،
وأن ﷲ سبحانه وتعالى أنزل فيه وفى أسرته ” :يريد ﷲ ليذھب عنكم الرجس أھل
البيت ويطھركم تطھيرا ً ” ،نعم يتناسى أن ھناك رأيا ً قويا ً فى التاريخ اإلسالمى مؤداه
أن معاوية أغوى امرأة الحسن بسمه على أن يزوجھا ابنه يزيد فلما أقدمت على
فعلتھا النكراء واتته تستنجزه وعده راغ منھا وأرضاھا ببعض المال ،فالحسن على
ھذه الرواية قتيل السياسة األموية الدنيوية ال قتيل الشھوات الدنية .لكن مصادر
اإلسالم الصحيحة والراجحة من قرآن وسنة وخبر صادق وراجح ال ترقى لمستوى
مطاعن المبشرين والمستشرقين عند ھذا المؤرخ ” المسلم ” !
واحد وعشرون:
يستبيح المؤلف لنفسه أن يھب النبوة لمن يشاء ويسلبھا ممن يشاء ،فھو يمنح ”
زرادشت ” النبوة دون سند حيث يقول فى صفحة 194من الجزء األول ” وكان
رسول ھذه الديانة نبى اسمه زرادشت ” على حين ينكر النبوة على إدريس عليه
السالم جاھالً أو متجاھالً قوله تعالى ” :واذكر فى الكتاب إدريس إنه كان صديقا ً نبيا ً
ورفعناه مكانا ً عليا ً ” )مريم. (56 :
اثنان وعشرون:
المؤلف يلتزم التعبير المجافى للذوق السليم ،فضالً عن مجافاته للتعبير ،فھو يذكر ”
الفتح العربى ” بدالً من الفتح اإلسالمى ،ويذكر ” الدين العربى ” بدالً من الدين
اإلسالمى ،وكأن الفتح اإلسالمى كان مقصوراً على العرب وحدھم ولم يكن موجھا ً
إلى العالمين ،وما سمح لنفسه قط أن يتبع ذكر محمد بالعبارة المأثورة ” صلى ﷲ
عليه وسلم ” وﷲ تعالى يقول ” :إن ﷲ ومالئكته يصلون على النبى ،يا أيھا الذين
آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ً ” )األحزاب (56 :وإذا كان المؤلف ال يعد نفسه من
” الذين آمنوا ” فھو يخاطب قوما ً مؤمنين ،فإن فاته أدب اإليمان فال يفوتنه أدب
الخطاب !
وقد حرص المؤلف األغر على طبع كتابه فى بيروت خشية أن يالحقه الرقيب فى
مصر ،وفرضه على تالميذه منذ خمس سنوات ،وفاته أن عين ﷲ ال تغفل وأن الذين
يلحدون فى آياته ال يخفون عليه .
ولعل ھناك صلة بين كتابه وكتب التبشير الصادرة فى بيروت ،ولو اجتھد المؤلف
فأخطأ مرة وأصاب مرات اللتمسنا له العذر ولكنه ـ وا أسفاه ـ ال يجتھد وال يبحث،
وإنما ھو ناسخ فحسب ،يتعمد نقل ما يشوه القيم اإلسالمية المثالية ويرتمى على أقدام
المبشرين والمستشرقين المتعصبين ،ويمعن كل اإلمعان فى التفاھة والضالل .
وكأنه يعيش فى دولة غير إسالمية ينص دستورھا على أن دينھا ھو اإلسالم وينادى
رئيسھا بشعار ” دولة العلم واإليمان ” .
إن بقاء ھذا المؤلف بين أعضاء ھيئة التدريس بكلية آداب عين شمس خطر على
البحث العلمى واألمانة التاريخية والفضائل الخلقية والتراث اإلسالمى المجيد ” .
” على عبد العظيم ”
وندع ھذا التحامل الجھول على تراثنا وتاريخنا ،ونستعرض لونا ً آخر من تزوير
الحقائق وتضليل األجيال وتحريف الكلم عن مواضعه لخدمة اإللحاد واالستعمار
بدعوى القومية العربية أو الوطنية المصرية .
عندما أغار االستعمار الحديث على العالم اإلسالمى كان عقله الباطن والواعى طافحا ً
بالحقد على اإلسالم وأمته المترامية األطراف .
كان عقله الباطن والواعى مستغرقا ً فى المكر بھذا الدين والقضاء عليه ،وكان اتجاھه
إلى االغتيال شامالً للعقيدة والشريعة على سواء أو للقلب النابض والمظاھر
المتحركة جميعا ً .
إال أن عمله لثقب الصدور وتفريغ اإليمان منھا وإبقائھا جوفاء فارغة كان أحظى
وأسرع إلبالغه مأربه من أى تغيير آخر ألنماط الحياة وأشكالھا ،ومن ثم استمات فى
محاربة اإليمان ،وإنشاء أجيال جاھلة بربھا ورسولھا أى بكتابھا وسنتھا .
يقول شوقى مناجيا ً النبى صلى ﷲ عليه وسلم وباكيا ً تلك الحال:
شعوبك فى شرق البالد وغربھا
كأصحاب كھف فى عميق سبات
والحقيقة أن االستعمار جرد أيدى المسلمين من الذكر الحكيم والسنة المطھرة ،وبنى
الثقافات التى احتضنھا والنضھات التى أقرھا على أن تكون بعيدة كل البعد عن
الكتاب والسنة .
وبناء األمم على غير عقيدة ال يساوى شيئا ً ..إن العقيدة فى الكيان االجتماعى كالقلب
فى الجسد اإلنسانى ،وكالتيار فى المصباح الكھربائى وكالوقود فى اآللة الدوارة .
واجتياح عقيدة فى أمة ما ،معناه إبقاؤھا على األرض مجموعة من الناس ال تصلح
فى سلم وال حرب ،وال تكترث إال لملذاتھا الفردية ،وال تصير فى األسرة الدولية إال
عضواً زريا ً يحسن األكل والسفاد وحسب .
وقد اجتھد االستعمار أن يوقع بالمسلمين ھذه النكبة الماحقة عندما ھبط أرضھم،
واستباح عرضھم ،وقرر سراً وعلنا ً أن يفتنھم عن دينھم ،وأال يسمح لھم بالعيش فى
ظله .
يقول األستاذ أحمد موسى سالم فى كتابه ” اإلسالم وقضايانا المعاصرة ” أنه منذ
أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وإلى اليوم ظھرت دعوات وصيغ
كثيرة فى بناء القومية العربية ،أو فى العمل على تقويضھا وتفتيت فكرتھا ،بعض ھذه
الدعوات أوحى به االستعمار ،وبعضھا أفرزه التخلف وشجعه الشعور المھين
بالتبعية الثقافية للغرب ،وبعضھا يمكن أن يصحح نفسه ويتطور ويقترب من االتجاه
الصحيح .
وفيما يلى نستعرض فى إيجاز عابر صوراً دقيقة بقدر اإلمكان لھذه الدعوات أو
الصيغ التى يتداولھا الفكر فى المجتمع العربى من الخليج إلى المحيط ،فى إطار
الدعوة للقومية العربية ،وذلك منذ سقط الصرح البالى لإلمبراطورية العثمانية عن
ھذا الوليد العربى القوى الغنى الذى يصرخ بطلب الحياة ،بينما تمتد مخالب كثيرة
ألعدائه تدعى أمومته أو أبوته لتصنع منه عبداً ،وتفرض عليه وصاية من خالل
حضانتھا له بفكر سياسى خاطىء وإن كان له بريق:
1ـ دعوة قديمة حديثة ترفض اإلقليمية والقومية معا ً وتنادى بالفكرة العالمية الغربية،
وھذه تتردد فى أفكار فردية ،أو مدارس فكرية مقنعة ،تتحرك ھنا وھناك فى مباحث
ثقافية ذات طابع تحررى ،وھى دعوة تشجعھا الصھيونية واالستعمار من قرب أو
من بعد .
ً
2ـ دعوة إقليمية ترفض القومية العربية إيثارا لوطنيات ضيقة باسم الفرعونية أو
الفينيقية أو اآلشورية ،وھى أثر من آثار التحرك االستعمارى العاجل عقب سقوط
الدولة العثمانية لقتل أى احتمال بظھور وانتشار فكرة القومية العربية بمعناھا المقبول
.
3ـ دعوة التحاد العالم اإلسالمى ترفض القومية العربية ،وھى أثر من آثار
وتراكمات الوجود التركى فى الوطن العربى ،ودعوة يجند لھا االستعمار الجديد كل
قواه لتفتيت الصمود العربى أمام إسرائيل )لنا رأى فى ھذا الكالم سوف نذكره(،
وھو يحاول من خالل جماعات إسالمية كثيرة ووسائل إعالم ملتوية أن يبث بھا
المخاوف من القومية العربية فى قلوب علماء الدين .
4ـ دعوة للقومية العربية أوربية الشكل والمضمون ،وھى دعوة ينفثھا االستعمار ـ
مع جھوده المتنوعة لقتل القومية العربية ـ داخل الجماعات الرجعية وقيادتھا المثقفة
التى تؤمن بمجتمع ” الكبراء والصغراء ” ،وتريد أن تفرض تصورھا للقومية
العربية بالشكل الذى يحمى نظرية التفوق والدم وامتيازات رأس المال .
5ـ دعوى للقومية العربية ترفض الدين وتشترط ھذا الرفض ،وھى دعوى تمتزج
فيھا المؤامرات الثقافية الخارجية باالنعكاسات المحلية لجيوب دينية وطنية .
6ـ دعوى التحاد وتضامن العرب تتجاوز إرادة الشعوب إلى عالقات الحكومات
وتتمثل فى جامعة الدول العربية التى تأسست سنة 1944بھدف ” توثيق الصالت
بين الدول المشتركة فيھاً تحقيقا ً للتعاون بينھا وصيانة الستقاللھا كما جاء فى ميثاقھا
”.
7ـ دعوى للقومية العربية يتبناھا التقدميون الماركسيون يضعون فى مقوماتھا
التجانس العقلى والثقافى ووحدة النظرة إلى الكون بدالً من الدين ،واألممية بدالً من
اإلنسانية ” .
ولنا تعليق على الطيف الثالث من ھذه األطياف السبعة فإن العالم اإلسالمى المركب
من أجناس شتى يحترم العرب ويقدس لغتھم ،ويعلم أن العرب ھم دماغ اإلسالم
وقلبه ،وأنه يستحيل وجود إسالم من غير أمة عربية سيدة ما دام القرآن عربى
اآليات ،وما دام النبى عربى التراث ،وما بقيت مكة فى مكانھا من أرض ﷲ،
فالعرب إن اكتشفوا ذاتھم واحترموا مكانتھم ھم جزء من الرسالة الخاتمة ،ولن يتبرم
بوضعھم مؤمن أو يفتات على حقھم منصف .
ولكن يوم ينسى العرب ھذه الحقيقة الدينية والتاريخية فسينطبق عليھم قول القائق:
إذا أنت لم تعرف لنفسك حقھا
ھوانا ً بھا كانت على الناس أھونا
والمؤلف الكبير ذكر أن ھناك عربا ً تجردوا من تاريخھم ورسالتھم ،أو بتعبير أصرح
جردھم االستعمار من ذلك كله ،وأغراھم برفع راية العروبة وحدھا على نحو ما
شرح فى الطيف الرابع والخامس والسابع ،ولكى يعرف الناس حقيقة ھؤالء
الخادعين المخدوعين يرجع إلى كالمھم )من كتابات ” ميشيل عفلق ” و ” ساطع
الحصرى ” و ” قسطنطين زريق ” وآخرين(.
الباب الخامس /شبھات أخرى
غلطة فلكية !
كذب الكاتب قوله تعالى ” :والشمس تجرى لمستقر لھا ” وزعم أن ذلك يخالف العلم ﱠ
..
أى علم ؟!
ً
..إن جريان الشمس من أسرتھا المعروفة فى فضاء ﷲ الواسع مقرر فلكيا ،لم ينكره
أحد قط،
ولكن ” عبقرى أسيوط ” يريد تكذيب القرآن ،فحكى دورة األرض حول محورھا،
ودورتھا حول أمھا الشمس ،ثم قال ” :من ھذا يتضح أن الشمس ال تجرى وال تذھب
لتسجد تحت العرش ،وأنھا ال تغرب فى عين حمئة . ” ..
واالستنتاج مضحك فقد فھم العبقرى أن دوران األرض حول الشمس يعنى أن
الشمس ثابتة ،وفھم من قوله تعالى ” :وجدھا تغرب فى عين حمئة ” أن الشمس
تغطس فى الماء يوميا ً ثم تخرج !!
ولم يدرك ما يعرفه األطفال عندنا أن اختفاء قرص الشمس فى الماء إنما ھو فى عين
الرائى ال فى حقيقة األمر !!
أما أن الشمس تسجد لربھا ،فإن الجماد والنبات والحيوان والكائنات جمعاء خاضعة
،تسبح بحمده ،وتھتف بمجده ،وتلبى أمره ،وھى طوع مشيئته ..
ويوم ال يأذن للشمس فى الشروق ،وينھى أمر الدنيا ،ويفتح يوم الحساب ،فمن الذى
يعصيه ؟
ويظھر أن المسكين فھم من سجود الشمس أنھا تصلى ركعتين كسائر البشر !! ” ألم
تر أن ﷲ يسجد له من فى السموات ومن فى األرض والشمس والقمر والنجوم
والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس .وكثير حق عليه العذاب .ومن يھن ﷲ
فما له من مكرم إن ﷲ يفعل ما يشاء ” )الروم. (24 :
الكسوف والخسوف
قال الكاتب ” :جاء فى سورة الروم ” :ومن آياته يريكم البرق خوفا ً وطمعاً ،وينزل
من السماء ماء فيحيى به األرض بعد موتھا ،إن فى ذلك آليات لقوم يعقلون ” .
” وروى البخارى فى صحيحه عن أبى موسى األشعرى قال :خسفت الشمس فقام
النبى فزعا ً يخشى أن تقوم الساعة فأتى المسجد فصلى بأطول قيام وركوع وسجود،
ما رأيته قط يفعله ،وقال ” :ھذه اآليات التى يرسل ﷲ ال تكون لموت أحد وال حياته،
ولكن يخوف ﷲ بھا عباده ،فإذا رأيتم شيئا ً من ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه
واستغفاره ” ) .البخارى( .
وبعد أن ذكر الكاتب التفسير العلمى للبرق ،والكسوف ،والخسوف كما ھو مقرر فى
الكتب المدرسية قال ” :إذن فالواضح أنه ليس الھدف من البرق أن يخوف ﷲ البشر،
أو الھدف من الكسوف ما ظنه البعض بجھالة أنه لموت إبراھيم )ابن النبى( ،أو
خشية قيام الساعة بل األمر مجرد ظواھر طبيعية عادية ،وھذا ھو فضل العلم
الحديث على البشرية جمعاء ،ولكنھم لم يكونوا يدركون ذلك بعد ،وكان تفسيرھم لتلك
الظواھر نابعا ً من استنتاجات محدودة ” .
ونقول :ھذه الظواھر الطبيعية العادية كما يسميھا الكاتب ھى آيات ﷲ فى منطق
المؤمنين به ..فحياة األرض بعد نزول الماء آية وإن سماھا ظاھرة طبيعية ،والتفريغ
الكھربى الناشئ من تالقى السحب آية سواء أحدث صوت الرعد أم ضوء البرق .
ورجاء الناس فى أن تھمى ھذه السحب طمع فى محله ال يستغرب ،وخوفھم أن يكون
البرق وليد سحاب جھام ال خير فيه خوف فى محله ال يستنكر .ولو خشوا أن يتحول
التيار الكھربائى إلى صواعق مھلكة فخشيتھم طبيعية ال نكير عليھا ..
أما تصور الكاتب أن الناس تخاف البرق ألن عفريتا ً يصنعه فھذا تصور أطفال،
واآلية التى أوردھا عن البرق والمطر واحدة من ثمانى آيات متتابعة تصف ما يسميه
ظواھر طبيعية وصفا ً جليالً رائعا ً يحييه العلماء من قلوبھم .
أما قصة الكسوف فال ندرى مقدار العمى الذى كان صحب الكاتب وھو يذكرھا ،لقد
وھل الناس أن الشمس كسفت لموت إبراھيم بن النبى عليه الصالة والسالم ،فقام
النبى ينفى ذلك بشدة مؤكداً أن الكسوف والخسوف آيات إلھية ،أو بالتعبير الحديث
ظواھر طبيعية .
وزھد صاحب الرسالة فى المجد الذى أتاحته الظروف !! وكان فى وسعه أن يسكت
تاركا ً ھذا الظن يستقر ،ولكنه أبى ،وأمر أتباعه بالصالة تحية لرب األرض والسماء،
وانحناء أمام عظمة مسير الكواكب فى الفضاء .
أھذا مسلك يعاب ؟! شاھت الوجوه ..
ومعروف فى سيرة النبى الكريم أنه كان شديد الرقابة ،شديد الخشية منه ،وربما
تعصف الريح فيقلق خشية أن تكون ريحا ً مدمرة يعذب ﷲ بھا المتمردين عليه ،فھل
قالوا :إن ھبوب الريح من عالمات الساعة ؟
وھل خوف النبى من أن يكون الكسوف إيذانا ً باقتراب الساعة يدل على شىء أكثر
من شعوره الحى بقرب لقاء ﷲ .
ولنترك ما حكاه ” أبو موسى األشعرى ” فى ذلك ولنتدبر ماذا قال الرسول نفسه عن
الكسوف والخسوف ؟ قال عنھما :آيتان من آيات ﷲ ..وحسب ..
فأى اعتراض علمى على ھذا ؟
ويقول الكاتب ” :يحدد لنا العلم أن الكسوف للشمس ،والخسوف للقمر ” ،وليس كما
جاء فى الحديث ” :خسفت الشمس ” .
الجواب :ليس ھذا تحديدا ً علمياً ،وإنما ھى اصطالحات تواضع عليھا بعض الناس ال
تؤثر فى طبيعة اللغة العربية التى تسمح باستعمال الكسوف والخسوف للشمس على
سواء .
إن كلمة ” التبشير ” شاعت فيما يفرح ،ولكنھا لغة تستعمل فيما يسر ،وفيما يسوء .
وكلمة ” أصاب ” أو ” مصيبة ” تستعمل فى اآلالم والمتاعب ،ولكنھا لغة تستعمل
كذلك فى األفراح
” ما أصابك من حسنة فمن ﷲ ” )النساء (79 :و ” نصيب برحمتنا من نشاء ”
)يوسف (56 :ولكن عبقرى أسيوط الذى ال يعرف من لغة العرب إال نزراً يريد أن
يتصيد أخطاء لغوية لرجال البالغة العربية.
غلطة جغرافية !
الشھاب الراصد
خزان المياه
ويكذب الكاتب "النابغ" قوله تعالى ” وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء
فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين ” )الحجر (22 :فيقول:
أصبحنا بعد إقامة السد العالى من أكبر الخازنين لمياه األمطار .
وبذلك تكون اآلية كاذبة !!
فإن خزن المياه فى ” األزيار ” أو فى ” الصھاريج ” أو وراء السدود لم يكن
معروفاً فى الدنيا حتى بنى سد أسوان !!!.
أرأيت ھذا العمى ؟؟
إن خزن مياه األمطار على ھذا النحو معروف لألولين واآلخرين .
واآلية تشير إلى معنى رائع فإن الزروع تحتاج إلى الماء لتنمو ،والناس والدواب
تحتاج إلى الماء لتحيا ،وقد تكفل ﷲ بإعداد المقادير من الماء الصالح لسد ھذه
الحاجات كلھا ،ورتب لذلك عمليات البخر وتكون السحب وسقوط األمطار ،وتفجر
الينابيع أو جريان األنھار ..
وستذوى أعواد النبات وتفنى أجساد البشر ،ويعود ما فى ھذه وتلك وغيرھما من ماء،
ليأخذ دوره البخر والسحب واألمطار ..الخ وھكذا دواليك ] .أكدت ھذا المعنى آية
أخرى ” وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه فى األرض ،وإنا على ذھاب به
لقادرون ” [ .
وتوفر العذوبة للماء ،وحفظ القدر الذى تحتاج الدنيا له ،ھما معنى االختزان الوارد
فى اآلية.
وما فھم ذكى وال غبى أن الناس عاجزون عن خزن المياه ألنفسھم فى قلة أو زير أو
مستودع
صغير أو كبير !! ..
فھم عجيب
وتصفحت الكراسة التى بين يدي ،وھى مليئة بلغو ممل ،ألتبين حدود الھجوم على
القرآن الكريم ،فوجدت الكاتب يتحدث عن ابنى آدم اللذين قتل أحدھما أخاه .
والقصة معروفة :أخ صالح تقرب إلى ﷲ بقربان فقبله منه ،وأخ شرير تقرب كذلك
فرفض ﷲ قربانه ،فتوعد الشرير أخاه بالقتل ،ولكن األخ الطيب نصح أخاه الفاشل
قائالً ” :إنما يتقبل ﷲ من المتقين ” أى اتق ﷲ ليقبل منك عملك ،كما قبل منى ،ولم
تجد النصيحة ،وافترس الشرير أخاه .
وقد تناول عبقرى أسيوط ھذه القصة ،وذكر أنھا واردة فى التوراة .
لماذا ؟ ..يقول :ھذه القصة لو تمت على ھذه الصورة لكان القاتل بريئا ً ؛ إذ تعرض
بسبب رفض قربانه لحالة نفسية قاسية نتيجة شعوره بعدالة ما كان يرنو إليه من
قبول ،ثم يقول ” :إن القصة تشير بأصابع االتھام إلى المحرض على القتل ،وھو
الذى رفض قبول القربان ” .
ثم يقول المغفل عن ﷲ ” :إنه لو كان قبل القربان ما تمت الجريمة ” .
حد السرقة
ووقعت عيناى على ھذه العبارات فى أثناء ھجوم الكاتب على ” حد السرقة ” يقول:
” أما عن تحريم األديان للسرقة فقد كان الغرض منه ترضية األغنياء وتأمينھم على
مالھم وضمان تأييدھم ،إذ المفروض بداھة أال يسرق إال الفقير ” !!
ويقول ” :التأميم ھو اغتصاب شرعى لما سبق أن اغتصب ظلما ً من الجماھير
الكادحة فھو تصحيح لألوضاع وإزالة للظلم التاريخى المتأصل ” .
وقد يلومنى بعض القراء الھتمامى بذكر ھذه السخافات والرد عليھا ،ولو علموا ما
تركته من آثار بين طالب الجامعة فى أسيوط لعذرونى .
إن ھؤالء الطالب لم يعرفوا عن اإلسالم شيئاً ،والخطة الموضوعة ” لتخريجھم ”
باعدت بينھم وبين الثقافة اإلسالمية الناضجة ،والسليقة األدبية العالية ،حتى إذا تركوا
الجامعة بعد نيل ” إجازاتھا ” خدموا كل شىء إال دينھم ،وأصبحوا فريسة سھلة
لمبشرين محتالين أو أفاكين من النوع الذى قرأت ھنا شبھاته ضد القرآن الكريم ..
وما وقع فى ” أسيوط ” وقع قريب منه فى ” اإلسكندرية ” ونتج عنه ارتداد بعض
الفتية والفتيات .
إنھم مساكين غير محصنين بشىء ضد اإللحاد أو الشرك .
ولما كانت كتب السنة قد تضمنت أشياء تحتاج إلى بيان وتمحيص وكشف فال بد من
الوقوف قليالً أمام ما أثاره ھؤالء الفتانون .
نبى مرعب
قال لى طالب جامعى باإلسكندرية :لقد أرونى كتاب البخارى ،وقرءوا لى منه حديث
” نصرت بالرعب ” وتضاحكوا وھم يقولون ” :نبى مرعب ” ينشر دينه باإلرھاب،
واالعتراف سيد األدلة !!
وقلت للطالب :إن البخارى وغيره رووا ھذا الحديث ،وأريد أن أشرح لك المعنى
الوحيد له مستعرضا ً مواضع ھذه الكلمة ال فى السنة الشريفة ،بل فى القرآن الكريم،
لتعلم أنھا أتت فى سياق حرب ” دفاعية ” عن الحق ” ھجومية ” على الباطل ،ال
عدوان فيھا وال إرھاب ..
بعد ھزيمة المسلمين فى أحد نزلت ھذه اآلية ” :سنلقى فى قلوب الذين كفروا الرعب
بما أشركوا با ما لم ينزل به سلطانا ً ومأواھم النار وبئس مثوى الظالمين ” )آل
عمران. (151 :
وھزيمة أحد كانت فى أعقاب خروج المشركين من مكة ،وشنھم الھجوم على اإلسالم
وأمته فى المدينة.
وقد استطاع المشركون إيقاع خسائر جسيمة بالمدافعين عن الدين وموطنه الجديد مما
ترك آثاراً سيئة فى النفوس ..
فأراد ﷲ أن يواسى جراحھم ،وأن يشعرھم أن القتال القادم سيكون لمصلحتھم ،وأنه
سيقذف الرعب فى قلوب المعتدين عندما يكررون ھجومھم .فماذا فى ذلك من عيب
؟
وجاءت ھذه الكلمة عندما خان يھود بنى النضير عھدھم ،وحاولوا قتل النبى صلى ﷲ
عليه وسلم ،فجرد عليھم حملة ليؤدبھم ،ولكن القوم ـ دون قتال ـ حل بھم الفزع،
وقرروا الجالء عن المدينة ” ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنھم مانعتھم حصونھم من
ﷲ فأتاھم من حيث لم يحتسبوا وقذف فى قلوبھم الرعب ” )الحشر. (2 :
وأخيراً ُذكرت ھذه الكلمة عندما انضم يھود بنى قريظة إلى األحزاب التى أحاطت
بالمدينة تبغى دكھا على من فيھا ،وأعلنت حصاراً رھيبا ً عليھا .
وكان بنو قريظة قد أعطوا العھد من قبل على أن يعيشوا مع المسلمين فى سالم
شريف ،واعترف رئيسھم بأنه لم يجد من النبى إال خيراً ،ومع ذلك فقد انتھز الفرصة
التى سنحت وأعلن الحرب الغادرة ،وظن أنه سيقاسم المشركين الغنايم بعد اإلجھاز
على محمد وصحابته .ولكن قدر ﷲ كان أغلب ،لقد فض ﷲ جموع المحاصرين ”
وأنزل الذين ظاھروھم من أھل الكتاب من صياصيھم وقذف فى قلوبھم الرعب فريقا ً
تقتلون وتأسرون فريقا ً ” )األحزاب. (26 :
أإذا وقعت حرب اآلن بيننا وبين إسرائيل ،حرب جادة يستعلن فيھا اإلسالم وتتحد
الكلمة ويتقدم ليوث محمد يطلبون إحدى الحسنيين :إما النصر وإما الشھادة ،وفزع
اليھود لھذا الزحف الجديد ،الواثق العنيد ،أإذا حدث ذلك وسرى الرعب فى قلوب
أعدائنا قيل عنا إننا إرھابيون ؟
إن تحريف الكلم عن موضعه شىء مألوف عند أعداء اإلسالم .
لقد نصر ﷲ نبيه محمداً بالرعب كما قال :فھال قيل نصره فى أى قتال ؟
إن أشرف قتال وقع على ظھر األرض ھو القتال الذى خاضه محمد وأصحابه ..
ولقد شعرت بشىء غير قليل من الضيق وأنا أقرأ قول الكاتب األسيوطى ” توفى
محمد عن ثالث وستين سنة بعدما رفرفت راية التوحيد وطھرت األرض من الوثنية
فى أعقاب غزوات ضارية ،متعددة بلغت تسع عشرة غزوة ـ كما يقول البخارى ـ ھى
على التوالى :العشيرة ،بدر ،أحد ،الرجيع ،رعل وذكوان ،الخندق ،بنو قريظة ،ذات
الرقاع ،بنو المصطلق ،الحديبية ،خيبر ،مؤتة ،تبوك ،الفتح ،حنين ،الطائف ،ذات
السالسل ،سيف البحر ” .
وبغض النظر عن الترتيب التاريخى ،ما رأى القارئ إذا قلت له :إن عشراً منھا على
األقل لم يقتل فيھا أكثر من عشرة أشخاص ھم مجموع خسائر المشركين !!!
وأن جملة الوثنيين فى شتى المعارك الكبرى تتجاوز المائتين قليالً .
وأن خسائر اليھود فى صراعھم مع اإلسالم عدة مئات من القتلى ..
ھذه ھى الغزوات الضارية المتعددة التى نشرت اإلسالم كما يزعم األفاكون !:
خسائرھا الحربية عشر ،بل نصف عشر الفتنة التى وقعت بين الكاثوليك
والبروتستانت فى عيد ” سان بارتلميو ” .
..خسائرھا قطرة دم أريقت لمنع العدوان ،نعم قطرة بالنسبة لحمامات الدم التى
صحبت تطبيق الشيوعية ،وتوطيد سلطانھا .
قطرة بالنسبة لأللوف المؤلفة الذين ذبحوا فى صمت أو ضجة لدعم الحكم الفردى
المطلق .
وبعد أن أحرقت رفات الضحايا سمعت أغرب صيحة فى العالم :إن الشيوعية تدعو
للسالم !
والشيوعية فى ھذا النفاق الفاجر تقلد الصھيونية والصليبية ..المتھم المسكين ھو ديننا
وحده !!
ونعود إلى ذكر األحاديث التى ھاجمھا المستشرقون والمبشرون وسماسرتھم .
روى الكاتب األسيوطى أن رسول ﷲ قال ” :إذا غضب ﷲ على قوم أمطرھم صيفا ً
” ] لم أجده حتى فى كتب الموضوعات المشھورة !! [ ..
وبنى على ھذا الحديث جھل قائله بالحقائق الجغرافية ..ونقول :ما رواه الكاتب
كذب ،والحديث باطل موضوع .
وروى عن النبى عليه الصالة والسالم أنه حرم الثوم تحريما ً قاطعا ً مع ما فيه من
فوائد غذائية وطبية .
ونقول :ھذا كذب ،فأكل الثوم والبصل والفجل جائز ،وھذه المواد مباحة كلھا ،ولكن
على آكلھا أال يؤذى المجتمع برائحة فمه ،ويستطيع أن يبتعد عن غيره ويقوم بأى
عمل انفرادى ،وتسقط عنه صالة الجماعة بل إن األبخر تسقط عنه صالة الجماعة،
رحمة باآلخرين ..
وروى الكاتب حديث ” الحمى من فيح جھنم فأبردوھا بالماء ” ] الحديث رواه
البخارى ،والترمذى ،وابن ماجه :كلھم فى :الطب ،ورواه مسلم فى :السالم،
والدارمى من :الرقائق ،ومالك وأحمد .وھو صحيح كما بين شيخنا [
وكذبه قائالً :الحمى ليست من فيح جھنم ،بل ھى من فيح األرض وما فيھا من
قاذورات تساعد على تولد الجراثيم ..
والكاتب كاذب والحديث صحيح ،وما قاله ليس رداً ،فإن الحمى مھما كان سببھا ترفع
درجة الحرارة ،وتكاد تصدع الرأس بآالمھا فإذا شبھھا النبى بعذاب جھنم ،وأوصى
أن تخفض درجة الحرارة بالمبردات ،فھو محق .
وذكر الكاتب الحديث القدسى ” إذا ابتليت عبدى بحبيبتيه فصبر عوضته عنھما الجنة
” ] رواه أحمد 144 / 2 :ط الحلبى ،والبخارى فى كتاب الرضى ،والدارمى فى
الرقاق ،والترمذى فى الزھد [ ،يريد عينيه .ثم علق عليه بھذه الكلمات الحمقاء:
الرأى متروك ألطباء العيون ليقرروا ھل فقد البصر ابتالء من ﷲ أم ھو ناتج عن
أمراض معينة ؟
ثم قال بعد لغو طويل ” :إذن المسألة ليست الصبر أو التعويض عن فقد العينين
بالجنة !! المسألة كلھا نقص فى المستوى العلمى آنذاك !! ” .
والمرء يتحير فى ھذا الغباء ! ھل يقال لمن أصيب بانفصال فى الشبكية مثالً :انتحر
فقد فقدت نور الحياة ،أم يقال له اصبر واحتسب ؟!
وھل الوصية بالصبر تعنى عدم التماس العالج إن وجد إليه سبيل ؟
لقد أمرنا رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم بالتداوى والتماس العافية من أى سبيل
ميسور .
لكن ما العمل إذا لم ينفع الدواء ؟ أيقول األنبياء للمرضى :موتوا بغيظكم .أم:
اصبروا على قضاء ربكم ،يأجركم يوم اللقاء بما يطيب خاطركم .
وذكر الكاتب حديث رسول ﷲ فى الطاعون ثم أخذ يتخبط فى التعليق عليه،
وتعليمات النبى صلى ﷲ عليه وسلم فى ذلك تحصر الوباء فى أضيق نطاق ممكن
ألنه يقول :إذا سمعتم بالطاعون فى بلد فال تسافروا إليھا وال تخرجوا منھا ..
وال شك أن الباقى فى بلد تحدثه نفسه بالفرار نجاة بحياته ،بيد أن النبى الكريم يوصيه
بالبقاء ـ منعا ً للعدوى ـ كما أسلفنا ،ويجعل لمن مات مصابا ً أجر شھيد ،وھى مواساة
كريمة ،ووعد مصدوق ..
وبديھى أن يكون ھذا األجر األخروى لمن يؤمن باآلخرة وحده ،إذ ماذا ينتظر من ﷲ
منكر لوجوده ،أو مفتر الكذب عليه ؟!
لكن ھذا األسيوطى المسكين يسوق حديث البخارى فى ھذا الموضوع على ھذا
النحو:
روت عائشة قالت ” :سألت رسول ﷲ عن الطاعون ،فأخبرنى أنه عذاب يبعثه ﷲ
على من يشاء ،وأن ﷲ جعله رحمة للمؤمنين ،ليس من أحد يقع الطاعون فى بلده
فيمكث صابرا ً محتسبا ً يعلم أنه ال يصيبه إال ما كتب ﷲ إال كان له أجر شھيد ” )رواه
البخارى وأحمد( .
ثم يتساءل ” :واآلن ال نقول ما رأى الطب فى ھذا القول ؟ بل ما رأى المثقف العادى
؟ ” وبعد ثرثرة فارغة يقول ” :أرجو كبار األطباء أن ينظروا فى مراجعھم حتى
يشرحوا نوع الشھادة التى رأى محمد أن يخص بھا المسلمين فقط . ” ..
وما نجد شيئا ً نعقب به على ھذا الغباء ..
ومعروف من تعاليم اإلسالم أنه شديد االھتمام بنظافة البدن ،وتنقيته من كل درن،
وما دام اإلنسان يأكل الطعام فھو محتاج إلى إرشادات مھمة الستقباله ،والخالص من
فضالته .
ولم يؤثر عن أحد أنه أمر بتطھير الفم كما أثر ذلك عن محمد عليه الصالة والسالم .
ولم يؤثر عن أحد أنه أمر بالتطھر التام من آثار الفضالت األدبية كما أثر ذلك عن
اإلنسان الطھور الوضىء محمد بن عبد ﷲ فقد أوصى باستخدام الماء ،بعد أن
أوصى بإزالة القذى دون مالمسة اليد له ،وال بأس فى بيئة صحراوية من االستعانة
ببعض الحصى فى ذلك تنزيھا ً لليد من مباشرة النجس !! ومع ذلك كله فقد أمر بدلك
اليد بالتراب ،أو بأى مزيل للروائح الكريھة ! ماذا يفعل أكثر من ذلك لتكريم الجسد
اإلنسانى ؟
وفى الجنابة إذا كانت ھناك آثار للسائل المنوى تغسل ،وينقى منھا البدن والثوب ،مع
أن السائل المنوى طاھر عند فريق من الفقھاء .
غير أن عبقرى أسيوط دخل فى ھذه القضية بفكر متعصب قذر ،فذكر عن ميمونة ـ
زوج النبى ـ أنه اغتسل من الجنابة فغسل فرجه بيده ثم دلك بھا الحائط ،ثم غسلھا ،ثم
توضأ وضوءه للصالة ،فلما فرغ من غسله غسل رجليه ” )رواه البخارى ،ومسلم،
واإلسماعيلى فى مستخرجه وابن حبان ،راجع تلخيص الحبير.(142 / 1 :
قال الكاتب ” :فى ھذا الحديث نقف عند جملة معينة ھى ” :فغسل فرجه بيده ثم دلك
بھا الحائط ” أى مسح يده بالحائط ،أليس ھذا التصرف ناقالً للعدوى لو أنا تابعناه ..
إن الطب يؤكد أن أمراضا ً كثيرة مثل الديدان المعوية والبلھارسيا تنتقل بھذا التصرف
من المريض إلى السليم ” ..
وھذا كذب فى كذب ! من قال :إن أى زوج ينقى جسمه من آثار المباشرة الجنسية
ينقل البلھارسيا وديدان األمعاء ؟!
والكاتب الذى يمد عينيه إلى ھذه الشئون كيف ينسى ما عنده من تعاليم تجعل ما
يخرج من
جسمه ـ أيا ً كان ـ ليس نجسا ً ..أى الفريقين أطھر وأشرف ؟ ھل نذكر له ما ورد فى
األناجيل من ذلك ؟
] يراجع كتابنا دفاع عن العقيدة والشريعة [ .
إن التوجيھات المحمدية فى ذلك بلغت القمة ،أما ما ينقل عن غيره فيثير الغثيان .
وإذا لم يكن الكاتب نصرانيا ً وكان شيوعياً فھل يدلنا كيف كان ماركس يتطھر ؟ إن
إبقاء الغطاء على ھذا الموضوع أحفظ للمروءة وأصون للذوق العام !
ويتھكم الكاتب بالطھارة الرمزية المعروفة فى اإلسالم باسم التيمم .ونحن نقول له:
إذا كنت تضيق أن يمس التراب بعض أعضاء اإلنسان فما رأيك إذا كان الكتاب
المقدس يأمر بابتالع ھذا التراب نفسه ؟ )سنسوق النص بعد قليل عند الحديث عن
االعتراف( .
وينكر الكاتب وجود السماء قائالً :إن الفكر البشرى أيام جھالته أخطأ فى فھم الزرقة
التى تحيط بنا ،فوصفھا بأنھا سقف األرض وسماھا سماء ،ثم جاءت األديان فأكدت
ذلك ،وزادت بأن حددت عدد طبقاتھا ،وظل ھذا االعتقاد سائداً حتى أبطله العلم .
ونقول :تطلق السماء لغة على كل ما عال .وقد أطلق القرآن الكريم السماء على
السحاب .قال تعالى ” :ألم تر أن ﷲ أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ً
ألوانھا ” )فاطر (27 :وفى آية أخرى ” :ألم تر أن ﷲ يزجى سحابا ً ثم يؤلف بينه ثم
يجعله ركاما ً فترى الودق يخرج من خالله ) ” ..النور (42 :ـ أى المطر .
ومن اآليتين معا ً نعلم أن السماء ھى السحاب .
وأطلق القرآن السماء على السقف العادى ،وكل ما ارتفع ” :من كان يظن أن لن
ينصره ﷲ فى الدنيا واآلخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع ) ” ..الحج. (15 :
وتطلق السماوات السبع على طباق فوقنا ال نعرف :ما ھى ،وال ما أبعادھا ،ولم
يتحدث الدين عن مادتھا ،وال عن طريقة بنائھا ،فماذا فى العلم يخالف ما أسلفنا بيانه
؟
يقول ھذا الكاتب :وراء النجوم فراغ ال نھائى ،ال محدود ..
ونقول ھذا كذب ،فالكون محدود ،والوصف بالمطلق ھو وحده ،ولم يقل علماء
الفلك أنھم استيقنوا من أن كوننا ھذا ال نھائى ..
ثم يجىء الكاتب إلى قوله تعالى ” :أو لم ير الذين كفروا أن السموات واألرض كانتا
رتقا ً ففتقناھما ” فيزعم أن ھذا الرأى يناقض جميع النظريات العلمية ،كما يعرف ذلك
طالب المدارس ..
لقد فھم األحمق من اآلية أن األرض كانت ملزوقة فى الزرقة الفضائية قبل أن
تنفصل وحدھا ..وھذا ما لم يقله أحد .
سئل ابن عباس عن ھذه اآلية فقال :فتق السماء بالمطر ،وفتق األرض بالنبات ..
وھناك رأى علمى بأن المجموعة الشمسية كانت سديماً ،ثم انفصلت عن الشمس
وتوابعھا على نحو ما نرى .
ونحن ال نصدق وال نكذب رأيا ً علميا ً لم يستقر فى وضعه األخير ..والمھم أن القرآن
يستحيل أن يكون به ما يناقض حقيقة علمية مقررة .
المداد القرآنى
ومن سخافات المسكين أن يقول إن القرآن كله تتم كتابته بقطرات من محبرة ،فكيف
يجىء به ” قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى ..
” )الكھف(109 :
إن كلمات ﷲ تكثر كثرة ما يعلم ،وقد وسع كل شىء علماً ،إنھا الكلمات المتصلة
بتدبير الوجود كله ،والقيام على أمره ،إنھا تتصل بحياة كل ذرة فى األرض والسماء
.
وليست بداھة ألفاظ القرآن ،ولكن الجنون فنون ..
وال أريد أن أطيل السرد ،واألخذ والرد مع شخص يھزل ويرى أنه يجد !!
حديث الذباب
أريد أن أقرر حقيقة إسالمية ربما جھلھا البعض :ھل رفض حديث آحاد لملحظ ما
يعد صدعا ً فى بناء اإلسالم؟
كال فإن سنن اآلحاد عندنا تفيد الظن العلمى ،إنھا قرينة تستفاد منھا األحكام الفرعية
فى ديننا ،فإذا وجد الفقيه أو المحدث أن ھناك قرينة أرجح منھا ،تركھا إلى الدليل
األقوى دون غضاضة .
وتعريف الحديث الصحيح ” :أال تكون فيه علة قادحة ” ،فإذا بدت علة فى ” سنده ”
أو ” متنه ” تالشت صحته ،وال حرج .
وأئمة الفقه اإلسالمى بنوا اجتھادھم على ھذا النظر الصائب .
ـ فأبو حنيفة مثالً رفض أن يترك المسلم إذا قتل كافراً دون قصاص وتجاوز حديث
البخارى فى ذلك ” ال يقتل مسلم فى كافر ” واعتمد فى مذھبه على آية ” النفس
بالنفس ” .
ـ ومالك كره أن تنفل المصلى قبل فريضة المغرب ،ولم يلتفت لما رواه البخارى فى
ذلك من استحباب صالة ركعتين لمن شاء ،ورأيه ھذا يرجع إلى أن عمل أھل المدينة
أدل على السنة من حديث آحاد ،وھم ال يتنفلون قبل المغرب ،فاتباعھم أولى من
رواية البخارى .
ـ وأبو حنيفة ومالك جميعا ً يكرھون أن يصلى المرء تحية المسجد واإلمام يخطب يوم
الجمعة ،ويردون ما رواه البخارى فى ذلك بردود شتى .
ـ وأغلب األئمة يرفض ما روى ..فى الصحيح من أن رضاعة الكبار تثبت حرمة
المصاھرة ،ويرون أن الرضاعة المثبتة المحرمة ما كان فى فترة الطفولة ،أى ما
أنبت اللحم وشد العظم .
وال نريد أن ننتقل إلى مباحث فقھية مفصلة ،وإنما نريد أن نقول :ھب أن رجالً قال:
ال أستطيع قبول رواية ” إذا وقع الذباب فى شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه ،فإن فى
إحدى جناحيه داء واألخرى شفاء ” أيكون من الكافرين ؟ كال !! فلم يقل أحد أن
أركان اإلسالم تضم اإليمان با واليوم اآلخر وغمس الذباب فى الشراب إذا سقط فيه
!
وحيث اآلحاد ليس مصدر عقيدة شرعية أو حكم قاطع ،بيد أنى من باب استكمال
البحث العلمى فقط
أسأل :ھل الحديث مردود ؟ إن بعض علماء الحشرات قرر أن ھذه الحشرة تفرز
الشىء والشىء المضاد له ،فإن استقر ھذا الرأى الفنى فالحديث صحيح ،وإن ثبت
قطعا ً أن الذباب مؤذ فى جميع األحوال التى تعرض له ومن بينھا الحالة المروية فى
الحديث رددته دون غضاضة .
وليس بقادح ھذا فى دينى وال يقينى .
وقد روى ” البخارى ” أحاديث صحيحة السند لكن أئمة الفقه عملوا بغيرھا ألدلة
أقوى عندھم منھا ..وأنا شخصيا ً متوقف فى ھذا الحديث ،لم أنته فيه إلى حكم حاسم،
وعلى أية حال فھو ال يتعلق بسلوك خاص أو عام ..
إن قواعد الدين وعباداته وفضائله وقيمه ترتكز أوالً على القرآن الكريم ثم ما يشرحه
من سنن استراح النقاد األخصائيون لھا ..
ومنھج المحدثين فى تلقى التراث النبوى ال غبار عليه ،بل إن ھذا المنھج ھو ما
تحتاج إليه الديانات األخرى لتكون موضع ثقة وقبول .
وما دام ھناك من يضرب رأسه بالجبل ليثبت أن فى اإلسالم متناقضات فلنلق نحن
نظرة خاطفة على تراث القوم ليرى القراء أين تقع التناقضات الحقيقية:
إننا فى الفصل األول من ھذا الكتاب فضحنا األسلوب الطفولى الماجن الذى تحدث به
العھد القديم عن األلوھية ،فلنسمع ھذه األخبار عن عدد بنى إسرائيل حين دخلوا
مصر وحين خرجوا منھا ،يقول األستاذ عصام الدين حفنى ناصف كاشفا ً عن
التزوير الذى اقترفه كتاب التوراة:
” من ذلك ما زعموه أن يعقوب وأسرته وفدوا على مصر بدعوة من يوسف ،وكانت
عدتھم 70شخصا ً فما انصرمت 215عاما ً حتى كان عددھم قد ناھز 3000000
)أى 3مليون( فلما نزحوا عن ديارنا كان بينھم ” نحو ستمائة ألف ماش من الرجال
عدا األوالد ” ـ ھكذا سجل سفر الخروج ـ ) (37 :12وقد أحصوا أبكارھم فكان
جميع األبكار الذكور بعدد األسماء من ابن شھر فصاعداً ،المعدودين منھم اثنين
وعشرين ألفا ً ومائتين وثالثة وسبعين )عدد . (43 :3
فإذا ضاعفنا ھذا الرقم كان جميع األبكار من الجنسين نحو ،45000وبقسمة عدد
الجماعة على عدد األبكار نخلص إلى أن المرأة اإلسرائيلية كانت تلد زھاء 65وليدا ً
!! ” .
ھذه ھى مقررات الكتاب المقدس ..دون تعليق !
وظاھر أن اليھود كذبوا فى ذكر عددھم كذبا ً صارخاً ،وأنھم أودعوا كذبھم ھذا فى
تضاعيف التوراة ،وعلينا أن نصدق !!!
يقول ” عصام ناصف ” ” :إن ھذه الماليين الثالثة المزعومة من اليھود اآلبقين من
مصر لو أنھا سارت فى صفوف عرضية متراصة يضم كل صف منھا عشرين
يھودياً ،ويشغل الصف بين سابقه والحقه متراً واحداً الستطال ھذا القطار البشرى ”
الطابور ” مسافة 150كيلو متراً ـ أبعد من المسافة بين القاھرة وخليج السويس ـ
ولتعذر على قائدھم موسى أن يبلغھم أوامره ” !
وعن كھنة األديان السابقة وإغراقھم فى المتاع المادى يقول ” :إن المال والجاه وإن
كانا فى حقيقة أمرھما غرضا ً يبتغى لذاته ،ھما كذلك وقبل ذلك وسيلة لفرض ال
تكتمل المتعة إال به ،وھو قضاء الوطر من الناحية الجنسية ،ومن ثم خولوا أنفسھم
حق االستماع إلى اعترافات النساء ،فيما يتصل بأوثق عالقاتھن بالرجال ..
” وقد اشترعوا لھذا الغرض ما أسموه ” شريعة الغيرة ” .فإذا استراب رجل
بامرأته ،وھجس فى صدره أنھا خانته مع آخر ” يأتى الرجل بامرأته إلى الكاھن
ويأتى بقربانھا معھا ،فيقعدھا الكاھن ويوقفھا أمام الرب ،ويأخذ الكاھن ماء مقدسا ً فى
إناء خزف ويأخذ الكاھن من الغبار الذى فى أرض المسكن ويجعله فى الماء ” )عدد
15ـ (17
ويخلو الكاھن بالمرأة ويشرع فى تالوة بعض األلفاظ ويستحلف المرأة أن تقر بما
كان منھا ثم يجرعھا الماء المشوب بالغبار .
ومتى سقاھا الماء فإن كانت قد تنجست وخانت رجلھا يدخل فيھا ماء اللعنة للمرارة
فيرم ـ يتورم ـ بطنھا وتسقط فخذھا )!( فتصير المرأة لعنة فى وسط شعبھا .وإن لم
تكن المرأة قد تنجست بل كانت طاھرة تتبرأ وتحبل لزرع ” )عدد 15 :ـ ] (17نقدم
ھذا النص لمن لم يرقھم ” التيمم ” بالغبار ،ھا ھو ذا الغبار يشرب عندھم [
ومن المعلوم أن الماء ال يدخل المرارة ،وأن وظائف األعضاء ال تمت إلى المسلك
الخلقى بسبب وثيق ،ولكنھا إجراءات خادعة تتخذ بتعزيز سلطان الكاھن على المرأة،
فھو ينفرد بھا فى خلوة ثم يخرج راضيا ً أو ساخطا ً وينطق بالقول الفصل فيدينھا
بالموت مجللة بالعار ،أو يدعھا تنعم بالحياة مرفوعة الرأس ناصعة الجبين ” .
ھذه توجيھات الكتاب المقدس ،ومبدأ االعتراف على ھذا النحو أو على أى نحو آخر
ال معنى له وال أثر ،اللھم إال إفساد الدين والخلق ..
ماذا على من أخطأ أن يتصل بربه لفوره فى دعاء النادم ،ورجاء الخاشع ،وﷲ يبسط
يده بالنھار ليتوب مسىء الليل ويبسط يده بالليل ليتوب مسىء النھار ،وبابه يستقبل
كل شخص رجالً كان أو امرأة ،شيخا ً أو شاباً ،عالما ً أو جاھالً ؟؟
ھذه توجيھات اإلسالم ،وھى نابعة من مبدئه العتيد ” :كل امرئ بما كسب رھين ”
أما انفراد المرأة
بكاھن ـ أو غير كاھن ـ فى خلوة فأمر ال تحمد عقباه ،خصوصا ً إذا كانت ھذه الخلوة
مع محروم من الزواج معلوف بأطايب الطعام !!
ھل ﷲ جل شأنه مصدر ھذه التعليمات ؟ كال ..
إن من المقطوع به أن عدداً من المؤلفين ال مؤلفا ً واحداً أشرف على وضع الكتاب
المقدس كله ،وال نزعم أنه خال من الوحى اإللھى من أوله إلى آخره ،ال ،بل نقرر أن
خليطا ً معقداً من أھواء الناس وھدايات ﷲ ..تم التنسيق بينھما على النحو الذى نرى .
بيد أن من المضحك أن الذى قام بتأليف التوراة نسى نفسه وھو يكتب ،وذھل كل
الذھول أنه سوف ينسب ما يكتب إلى موسى !!
فأورد فى تضاعيف التوراة ـ النازلة على موسى فرضا ً ـ ھذه العبارات ” :فمات
ھناك موسى عبد الرب فى أرض موآب حسب قول الرب ،ودفنه فى الجواء فى
أرض موآب مقابل بيت فغور ،ولم يعرف إنسان قبره إلى ھذا اليوم .وكان موسى
ابن مائة وعشرين سنة حين مات .ولم تكل عينه وال ذھبت نضارته ،فبكى بنو
إسرائيل فى عربات موآب ثالثين يوماً ،فكملت أيام بكاء مناحة موسى . ” ..
ما ھذا ؟ موسى الذى أنزلت التوراة تتحدث عنه التوراة بھذا النعى والعزاء والمناحة
؟؟
ما يستطيع عاقل إال اإلقرار بأن كاتب التوراة بعد موسى نسى نفسه ونسى الدور
التمثيلى الذى يقوم به ،وغلبت عليه صفة المؤرخ ال المؤلف فقال ما قال ليعرف
المستغفلون ماذا يقرأون !!
ونقرن ھذا النص بخبر آخر نشرته جريدة األھرام فى 3مايو سنة 19) 1973من
ربيع األول سنة (1392تحت عنوان ” وثائق دينية تاريخية تسلمھا ھولندا إلى
األردن ”:
” عمان :ـ سلم اليوم الدكتور ” ھانك بانكير ” بالنيابة عن الحكومة الھولندية إلى
الدكتور غالب بركات وزير السياحة األردنى وثائق تاريخية تتضمن النصوص
القديمة التى قال المؤرخون أنھا تطلبت إعادة تقييم اإلنجيل .وكانت بعثة أثرية
ھولندية قد اكتشفت ھذه الوثائق فى عام ،1967وھى وثائق كتبت باآلرامية فى
القرن السابع قبل الميالد ،وعثرت عليھا البعثة فى وادى األردن ،وكانت البعثة قد
حملت تلك الوثائق إلى ھولندا لدراستھا وحل رموزھا بقصد حفظھا .وقال الدكتور ”
ھـ .فراكين ” الذى رأس تلك البعثة :إن ھذه الوثائق فريدة من نوعھا ،وقال :إن كل
المعلومات التى وردت فى اإلنجيل حول فلسطين واألردن فى نھاية العصر
البرونزى وبداية العصر الحديث غير موثوق بھا ألنھا كانت محاولة قام بھا قساوسة
من القدس لجعل التاريخ يتناسب مع اآلراء الدينية للقرن السابع للميالد ” .
ھذا الخبر الصغير نقطة فى بحر من األوھام والترھات التى تغص بھا ھذه الصحائف
.
وما نعلم كتابا ً حفته العناية العظمى ،وصانته أجل صيانة من ھذا القرآن الكريم .
إن القارات الخمس ليس فيھا ما يوصف بأنه وحى السماء إال ھذا الكتاب الفذ .
فھل يؤدى المسلمون حقه ؟!
تحقير التدين ومطاردة المتدينين ألدنى مالبسة خطوة إلى االرتداد الذى ال ريب فيه،
وھو فى الظروف التى تواجھھا أمتنا نوع من الخيانة العظمى أو ھو الخيانة العظمى
نفسھا .
وقد أفھم أن تشتبك السلطات الحاكمة مع أفراد أو جماعات ينازعونھا السيادة لغرض
سىء أو حسن ! لكن ھل يقال :إن التاريخ اإلسالمى يعين على تكوين جماعة
اإلخوان ،فليمسخ ھذا التاريخ ! ..أو :إن البيئات المتدينة مستودع يستمد منه
اإلخوان ،فلتحارب ھذه البيئات ؟؟
إن ھذا القول يعنى بداھة نقل الخصومة من ميدان إلى ميدان آخر ،وأن اإلسالم ذاته
قد أصبح عرضة للعدوان.
وقد ھززت رأسى أسفا ً وأنا أسمع شابا ً يتبرأ من االنتساب إلى اإلخوان فيقول
لقضاته :أنا عمرى ما ركعتھا ،ويعلم صحبى أنى أشرب الخمر ،وأفعل كذا وكذا !!
وقد استمع الناس إلى أحد ” نجوم الفكاھة ” فى مصر يذكر أن امرأة اقتيد زوجھا إلى
السجن فسئلت :أھو من اإلخوان ؟ فقالت ” :فشر ! زوجى حرامى قد الدنيا ” .
وھكذا أصبحت اللصوصية شرفا ً ! أو نسبة ال حرج فيھا على األقل !
والواقع أنه مرت ببلدنا أيام كالحة الوجه ،مشئومة العقبى كان التدين فيھا تھمة تخرب
البيوت ،وكان عدد من الشبان المؤمنين يختفى بصالته وتقواه ،وقل تردده على
المساجد ألنه أشيع أن نفراً من الذين صلوا الفجر فى مسجد كذا قد اعتقلوا ..
وامتداداً لھذه السياسة ـ سياسة سوء الظن بكل ذى نزعة متدينة ـ وضعت المؤسسات
اإلسالمية الكبرى تحت رياسة عسكرية لھا الكلمة العليا مثل ” الجمعية الشرعية ”،
و ” الشبان المسلمين ” ،و ” المجلس األعلى للشئون اإلسالمية ” و ” مدينة البعوث
اإلسالمية ” ..
وذلك لضمان حصر عاطفة التدين داخل إطار معين:
ـ فال يسمع أى كالم عن تطبيق الشريعة اإلسالمية .
ـ وال يقبل أى اتجاه للعودة باألمة إلى االصطباغ بدينھا فى ظاھر أمرھا وباطنه .
ومن اإلنصاف أن نذكر أن من بين ھؤالء العسكريين من ترك الشعور اإلسالمى
ينمو دون حرج ،خصوصا ً بعد أن تغيرت الظروف التى أملت بالتقرير المثبت فى
ھذا الكتاب ] راجع تقرير اللجنة التى شكلت من :زكريا محيى الدين ،صالح نصر،
وشمس بدران لدراسة الظاھرة اإلخوانية [ .
على أن الشيوعيين والصليبيين قد انتھزوا فرصة ھذه المطاردة المثيرة فأعلنوا حربا ً
على الشارات اإلسالمية فى المجتمع ونجحوا فى تحقيرھا وتأليب قوى شتى ضدھا .
وعن طريق المسرح وحده أمكن عرض روايات ھازلة وجادة غرضھا انتزاع كل
مھابة لشيوخ اإلسالم والمتحدثين باسمه .
كما أن سماسرة الغزو الثقافى فى بالدنا استماتوا فى صرف الشباب عن الدين،
وأغروه بفنون الشھوات لينسى ربه ودينه ونبيه .
فلما تغلبت الفطرة األصيلة وأخذ الشباب يعود إلى دينه فى صمت وظھرت المالبس
الحشمة بين الطالبات الجامعيات جن جنون السماسرة من صحافيين وصحافيات
وانطلقوا يفترون الكذب على العفيفات المحصنات ،ووصفت امرأة ماجنة مالبس
الفضيلة بأنھا ” أكفان موتى ! ” وأخذت مع غيرھا ينھشن بضراوة أعراض الطيبات
الطاھرات .
وقد تصفحت المجلة التى نشرت ھذا اللغو فوجدت بھا دعوة إلى الزنا والرضا به،
والتحريض عليه ،فى عدة مواضع !! ..
وال عجب فرئيسة تحرير المجلة ھى التى ناقشت العقيد ” القذافى ” بسماجة نادرة،
وسوغت أمامه انتشار الخنا فى شارع الھرم عندما نصر الرجل النساء بالتزام أحكام
اإلسالم .
” الخيانة الزوجية ” تعبير مخفف عن جريمة الزنا عندما يرتكبھا رجل مغافالً
امرأته أو ترتكبھا امرأة مخادعة زوجھا .
وأظن ھذا التعبير مترجما ً عن اللغات األوربية حيث يعتبر اقتراف ذلك اإلثم تفريطا ً
فى حق إنسانى عادى ،أما نحن المسلمين ،بل معشر المتدينين إجماالً ،فنرى الزنا
تفريطا ً فى حق ﷲ قبل أن يكون تفريطا ً فى حق عباده ،وھو من الشخص المحصن
أغلظ وأشنع ممن لم يسبق له زواج .
لكن األستاذة المعلمة ” أمينة السعيد ” لھا وجھة نظر أخرى فى ھذه القضية :لماذا
ينظر إلى الزنا ھذه النظرة السيئة ؟ بل لماذا تستبشع الخيانة الزوجية على ھذا النحو
الشائع بين الناس ؟ فنشرت فى صفحة 47من مجلة حواء )العدد 843ـ / 11 / 18
1972م( ھذا الكالم تحت عنوان ” أراحت نفسھا ”:
” سألوھا )وھى زوجة فرنسية( :ھل تغارين ؟ أجابت :أعانى من الشعور بالوحدة
عندما يبتعد عنى زوجى ،لكن ال أغار ،وأعتقد أن الغيرة شىء ال معنى له ،ولذلك
ينبغى أال نستسلم له !!
لكن سائلھا لم تقنعه ھذه اإلجابة ،فقال لھا :اشرحى لى !
قالت :إننى أقول لنفسى افرضى أنه اآلن مع واحدة أخرى ،ھل من حقى أن أعترض
؟ إننى لم أتزوج قرداً أو نكرة وإنما تزوجت رجالً ” ملء ثوبه ” ،أحببته لھذا ،وال بد
أن يعجب غيرى من النساء ! إننى ال أحمل له عاطفة الحب وحدھا ولكن أيضا ً
االحترام والتقدير !
قاطعھا السائل :ال أھمية عندك إذن لإلخالص والوفاء ؟
قالت وھى تأخذ رشفة من فنجان القھوة ” :اسمع ! أنا اآلن أشرب ھذه القھوة ..
شعرت بحاجة إليھا ..وھا أنذا أستمتع بھا ..ھل يمانع أحد ؟ ..ھل من حق زوجى
إذا دخل اآلن أن يلومنى قائالً :لماذا شربت القھوة دون إذن منى ؟ أقصد أن الخيانة
العابرة ليست أكثر من فنجان قھوة بالنسبة لى ..لماذا أجعل لھا من األھمية أكثر مما
تستحق ؟ أليس من الجائز أن يستمتع ھو فى غيابى أيضا ً بقطعة موسيقى ..باستلقاءة
فى الشمس ..بنكتة يسمعھا من أحد زمالئه ؟ ھل يوجد فرق كبير حقا ً بين االثنين ؟
أقصد أن النزوات ..الغلطات العابرة ينبغى أن نتسامح فيھا ،فإذا تغير شعوره نحوى
تماما ً ونفض يده منى فھذا شىء آخر ..شىء يستحق حزنى ،لكن حتى فى ھذه الحالة
لن تفيدنى الغيرة شيئا ً ! ” .
واآلن )ما زال الكالم للمجلة( ھل أثارت دھشتك ردود ھذه السيدة ؟! إنھا زوجة
فرنسية ..وال أعتقد أن كل الزوجات الفرنسيات يعتنقن ھذا الرأى الجرىء والذى
عبرت عنه فى حديث أجرته صحيفة ” مارى كلير ” مع بعض الزوجات ..لكن
الذى ال شك فيه أن فى كالمھا حكمة تفتح نافذة على نوع من راحة البال يحتاج إليه
كثير من المتزوجين ” .
وفى الصفحة رقم ) (5من ھذا العدد عالج مماثل لقضية الزنا أو الخيانة الزوجية كما
شاع على األلسنة ،وھذه الكلمة المكتوبة تعليق على رواية للصحافى المشھور ”
توفيق الحكيم ” ..فإن ھذا ” التوفيق حكيم ” منح الرجل حق الزنا أو حق خيانة
زوجته ،وضن على المرأة بھذا الحق !! فجاءت مجلة ” حواء ” لترفع راية المساواة
بين الجنسين ،ولتطلب من الفنان الخليع أن يعيد النظر فيما كتب ألنه يعالج موضوعاً
” يتعرض للكثير من التغير بين جيل وجيل ” .
يقول المعلق الخسيس ” :فأنا ال أقصد أن كل ما جاء فى الرواية فى حاجة لمراجعة،
ولكن يكفى أن بعضھا محتاج إلى ذلك ،لكى يحمل رجل االجتماع الذى يسكن فى
أعماق الفنان أن يقول كلمة التطور والتغير اللذين أصابا المجتمع وبدال من أوضاعه
وأفكاره ” .
ما الرأى فيما قالته الزوجة فى تساؤلھا :وإذا خان الزوج ،أليس لھا الحق أن تخونه ؟
..وكان جواب ” راھب الفكر ” :ال ،وكان تبريره لذلك أن الرجل ھو الذى يعرق
والمرأة ھى التى تنفق ،ثم يمضى قائالً :اكدحى كما يكدح زوجك ،اعرقى كما يعرق
فإذا تساويتما فى التضحيات تساويتما فى الحقوق ،فالرجل إذا خان خان من ماله،
لكن الزوجة تخون من مال زوجھا ،لن تكون ھناك مساواة مطلقة بينكن وبين الرجال
فى ھذا اإلثم إال إذا تطور الزمن تطوراً آخر فرأينا الزوجة تناضل فى الحياة
وتكتسب بالقدر الذى يربحه الزوج ! ..أليس ھذا المنطق بحاجة لمراجعة بعد أن
تطور الزمن إلى ما نراه اآلن ؟ ..إن ريح التغير قد أصابت بعض ما جاء فى ھذه
من أفكار ،لكنھا مع ذلك تظل قطعة فنية تحمل طابع زمنھا وتتضوع باألريج الذى
يفوح دائما ً من قلم فناننا الكبير المبدع ” .
ھكذا تعالج مجلة حواء جريمة الزنا ،وتطلب إعادة النظر فى جعلھا حكراً على
الزوج وحده كما يرى راھب الفكر ،ھذه ھى رھبانية الفكر فى عالم الدواب .
ھل يستغرب من مجلة حواء ـ التى تتمرغ فى ھذا الحضيض ـ أن تنشر مقاالً للسيدة
محررتھا تحمل فيه حملة شعواء على مالبس الفضيلة التى تستر بدن المرأة كله عدا
الوجه والكفين ؟
إن ” المعلمة ” التى تقود نشاطا ً نسويا ً فى بالدنا تشبه ھذه المالبس الشرعية السابغة
بـ ” الكفن ! ” .
وقد لعب التصوير دوره فى ھذه المأساة ،ففى الصفحة الخامسة من العدد صورة
امرأة مضطجعة على وسادتھا تحلم بالحب ..إن ھذا أمر سائغ ال يعاب ،وفى
الصفحة الحادية عشرة صورة طالبة جميلة المالبس مشوھة الوجه ،بادية الحشمة،
كئيبة الطلعة !!
لم ھذا التحامل ؟ ..ولحساب من ؟ ..الجواب معروف !
وتبلغ الوقاحة قرارھا السحيق عندما تصف رئيسة التحرير نفسھا ـ وقد نقلنا نماذج
من أخالق مجلتھا ـ فتقول إنھا ” من الوقورات المحتشمات المؤمنات بدينھن المتقيات
الفاعالت للخير ..الخ ” .
وھذا أسلوب جديد فى الحرب المعلنة على اإلسالم ،يقول لك مستبيح الخمر والزنا
واالنحالل واالعوجاج :ھل أنت بدعوتك إلى الصالة واالستقامة مسلم ؟ ..ال ،نحن
أولى باإلسالم منك ،إنك ال تعرف اإلسالم ،اإلسالم تطور ومدنية ،وليس المظاھر
التى تتمسكون بھا ،نحن الصالحات الراقيات !
ونذكر قول الشاعر:
فياله من عمل صالح
يرفعه ﷲ إلى أسفل !!
الباب السادس /الدعوة اإلسالمية والحكام الخونة
المسلمون مكلفون بنشر دينھم فى القارات الخمس .ويجب أن تكون لديھم أجھزة
متخصصة تعرف العالم كله :من محمد ؟ ورسالته ؟ ما الذى ينشده للناس كى يسعدوا
فى معاشھم ومعادھم ؟
يجب أن تكون تعاليم اإلسالم تحت أبصار الناس قاطبة ،فمن شاء قبلھا ،ومن شاء
ردھا ،المھم أن يعرفھا على حقيقتھا ،وأن يزول الجھل بھا ،وأال يكون الدخان الذى
أطلقه أعداؤھا حائالً دون ھذا اإلدراك الواعى السليم ..
وقد كانت ” الخالفة ” الكبرى مسئولة عن ذلك ،إذ كانت رمزاً لإلسالم ،وشاخصا ً
عالميا ً يلفت األنظار إليه ،ويذود األعداء عنه .
ومع أن ” الخالفة ” عندما توالھا الجنس التركى قد أصبحت شبحا ً عليالً ،ومع أن
الخلفاء األتراك كانوا أقرب إلى السالطين الجبابرة منھم إلى أمراء المؤمنين وحراس
اليقين ودعاة الحق وھداة الخلق !! مع ذلك كله فإن وجود الخالفة فيھم كان له أثره
فى وحدة المسلمين وتقليل الخسائر النازلة بھم من ھنا وھناك .
وحسبنا أن نشير إلى موقف السلطان ” عبد الحميد ” من فلسطين ،فقد ساق إليه
اليھود قناطير الذھب ليسمح بوجود يھودى فيھا فأبى الرجل إباء قطع كل محاوالت
اإلغراء ،وأحبط جميع المؤامرات لشطر العالم اإلسالمى بھذا العنصر الغريب ..
ولما كان لوجود ” الخالفة ” من آثار مادية وأدبية بعيدة المدى فقد كان ھم العالم
الصليبى أن يجھز عليھا ،وقد استطاع أن يبلغ غرضه بعد الحرب العالمية األولى
مستغالً أطماع القائد التركى ” مصطفى كمال ” الذى باع اإلسالم والمسلمين من
أجل البقاء رئيسا ً للدولة التركية الجديدة !!
الذئب األغبر
إن الشروط األربعة التى عرضھا ” الحلفاء ” المنتصرون عليه ھى أن يقطع صلة
تركيا بالعالم اإلسالمى وبالعرب خاصة ،وأن يلغى نظام الخالفة ،وأن يحكم الشعب
بدستور تقدمى مبتوت الصلة بالدين .
وفى سبيل الزعامة رضى القائد الخائن بھذه الشروط ،وألبسته أوربا حلل المجد ،ولو
أنه بقى على دينه وبقيت األمة على دينھا لتقلص االحتالل الصليبى فى األناضول
قبل أن يتقلص فى مصر والشام والجزائر والمغرب !! فقد كانت مقاومة األتراك له
أشد وأقسى ..
ولكى تعرف من ھو ” مصطفى كمال ” الحقيقى إليك بھذه الفذلكة الموجزة عنه :قال
عنه ” آرمسترونج ” فى كتابه ” الذئب األغبر ”:
ـ إنه كان بفطرته ثائرا ً ال يحترم دينا ً أو إنسانا ً أو وضعا من األوضاع ،وال يقدس
ً
شيئا ً على اإلطالق .
ـ وقال عنه أيضا ً :إن الغازى لن يقود تركيا إلى حماقة من تلك الحماقات ،أو ينصب
نفسه بطالً للشرق معاديا ً للغرب ،ولإلسالم ضد المسيحية ،أو لألجناس المضطھدة
ضد مضطھديھا ،ولكنه لن يكون إال كما حدد برنامجه بقوله ” ليس لنا إال مبدأ واحد:
ھو أن ننظر إلى جميع المشكالت بالعين التركية ونصون مصالح تركيا ” .
ـ ونقل عنه قوله لممثل حكومة فرنسا ” :تستطيعون أن تنالوا سوريا وبالد العرب،
ولكن كفوا أيديكم عن تركيا ،نحن نطالب بحق كل شعب فى الحرية داخل حدود
بالدنا الطبيعية ،وال نبغى شبراً واحداً أكثر من ذلك وال أقل ” .
ـ ونقل عنه قوله فى الجمعية الوطنية التركية ” :أنا لست مؤمنا ً بعصبة من جميع
الدول اإلسالمية وال حتى بعصبة من الشعوب التركية ” .
ـ وقال عنه أيضا ً إنه طالما أوضح ألصدقائه أنه يرى وجوب اقتالع الدين من تركيا
!!
لندع ھذه الذكريات الحزينة ولنخلص إلى ما نريد ..إن الدعوة إلى اإلسالم قد سقط
لواؤھا العالمى ،وكانت شعوب كثيرة يمكن أن تدخل فيه ،ولكن من لھا بالدعاة ؟ ومن
الذى يھتم بذلك ؟
اإلسالم فى كوريا
نشرت جريدة األخبار تحت عنوان ” مسئول كورى يشرح لماذا لم ينتشر اإلسالم فى
كوريا ؟ ” قالت:
” المسلم الذى يزور كوريا الجنوبية الحظ مدى اھتمام حكومتھا بتشجيع األديان،
فليس ھناك أى قيد على أى مواطن يريد أن يعتنق دينا ً آمن به أو يتبع مذھبا ً ارتضاه
”.
ھناك نشاط كاثوليكى كبير إذ توجد 350كنيسة ،كما أنه توجد مستشفيات ،ومالعب
رياضية ،وجامعات مسيحية فى أنحاء كوريا الجنوبية التى يدين معظم سكانھا
بالبوذية .
أما النشاط اإلسالمى فقد اقتصر حتى اآلن على 4000مواطن فقط ـ ليس لھم ما
يجمع شتاتھم ـ فما سر ھذه الظاھرة ؟
يجيب مسئول حكومى :إن الفرصة سانحة النتشار اإلسالم فى كوريا الجنوبية
ألسباب كثيرة .
منھا أن الرئيس الحالى ” بارك سنج ھى ” ينادى بالحرية الدينية ،وعلى من يھمھم
نشر اإلسالم أن يتحركوا بسرعة منتھزين سماحة ھذا الرئيس ،فقد يتغير ويجىء
بعده رئيس جديد للجمھورية تكون له وجھة نظر أخرى فتضيع الفرصة على
المسلمين .
ثم إن الكوريين الجنوبيين يؤمنون منذ القدم ” بھنانيم ” وھى كلمة معناھا :اإلله
الواحد الذى ال شريك له ،ومن ثم فإن الدعاة إلى اإلسالم لن يجدوا أية صعوبة فى
نشر عقيدتھم بين الكوريين .
والكورى الجنوبى ال يميل إلى اإللحاد وھو يمقت الشيوعية ،ويرفض النزعات
المادية المجردة ،إنه يؤمن بالروح والعقل ،بالدين الصحيح ،واإلسالم يمأل العقل
بمبادئه ويتفق مع الفكر والزمان والتطور ـ ھكذا يقول المسئول الكورى ـ وتسأل
المسلمين فى كوريا عن أسباب عدم انتشار اإلسالم فى أرض فتحت قلبھا لكل األديان
؟
فتسمع من يقول :ليست لدينا إمكانات مادية كافية ،نريد مسجداً كبيراً فى العاصمة ”
سيول ،واألرض غالية الثمن !!
لكن رئيس الجمھورية حل ھذه المشكلة ،فأھدى إلى المسلمين قطعة أرض يبنون
عليھا مسجدھم ،وإلى اآلن لم يجتمع لدى المسلمين المال الذى يبنون عليه مسجدھم
الكبير !!
ً
والمنح الدراسية التى تصل إلى كوريا من الدول اإلسالمية قليلة جدا .ويكفى أن تعلم
أن عدد الكوريين الذين أرسلوا إلى الدول اإلسالمية خالل عشر سنوات 29طالبا ً ..
!! ” .
ھذه بيئة كاملة الصالحية الزدھار اإلسالم .
لو وجدت دعاة مدربين لدخل أھلوھا فى دين ﷲ أفواجا ً .
لكن اإلسالم دين يتيم ! من يھتم به على الصعيد العالمى .
إن المنتسبين إليه يخضعون لحكومات تضيق به ،أو تأبى االنتساب إليه أو تعجز عن
إسداء خدمة له ،وھم أولى الناس بما قال ﷲ فى بنى إسرائيل ” :وقطعناھم فى
األرض أمما ً :منھم الصالحون ومنھم دون ذلك ” )األعراف . (168
فى المجال اإلنسانى الرحب ليست لإلسالم راية تحتشد حولھا الجھود وتھوى إليھا
األفئدة .
ومن ھنا فنحن نقول آسفين :إن الدعاية اإلسالمية العالمية صفر ..
فلنتواضع ولنرجع إلى داخل العالم اإلسالمى لنرى ما ھنالك ..
ً
إن الغازى الھمام ” مصطفى كمال ” ليس أول حاكم ارتد عن اإلسالم جريا وراء
الحكم ،ففى أثناء الحروب الصليبية األولى كفر حكام ليبقوا ملوكا ً أو رؤساء كفروا
وتعاونوا مع الغزاة فى ضرب اإلسالم وأمته .
قال األستاذ ” عالل الفاسى ” :بعد ضياع األندلس تطلع األسبان المسيحيون الحتالل
المغرب .وانتھز ملك قشتالة ” فرديناد ” الثالث أن ” إدريس أبو العال المأمون ”
طلب مساعدته على استعادة ملكه فى المغرب ،فأمده بجيش من اثنى عشر ألف جندى
مسيحى ،وذلك مقابل الشروط اآلتية التى التزم بھا المأمون:
) (1أن يعطى المأمون لفرديناد قواعد يختارھا ملك قشتالة .
) (2إذا فتح المأمون مدينة مراكش وجب عليه بناء كنيسة للمسيحيين .
) (3للجنود األسبان حق المجاھرة بشعائر دينھم ،وأن يضربوا النواقيس لمناداة
المصلين معھم .
)) (4إذا( أراد بعض المسيحيين أن يسلم ال يسمح له بذلك ويتم تسليمه إلى النصارى
كى يطبقوا عليه أحكامھم .
) (5وإذا أراد بعض المسلمين أن يتنصر لم يتعرض له أحد !!
ھذه الحادثة التاريخية تبين كيف أن تھافت بعض الرؤساء على السلطة جعلھم يقبلون
مثل ھذا الشروط ..
على أن ھذا ” المأمون ” قضى عليه آخر األمر ،وأمكن طرد الجنود النصارى الذين
استجلبھم ،فلم ير فى المغرب بعد ذلك مسيحى .
وما لنا ننبش الماضى البعيد لتفوح منه ھذه الروائح العفنة ؟
فلننظر إلى حاضرنا وما يحفه من أخطار جسام .
إن الثقافة اإلسالمية تنكمش والثقافات الدخيلة تمتد .
واألنماط اإلسالمية فى الحياة تتزعزع وتتالشى ،واألنماط األجنبية تفرض نفسھا
وتستقر .
والدعوة اإلسالمية قد تعنى نصح منحرف من سواد الناس أو توصيته بالصالة
والزكاة ،فإذا تطلعت إلى ما ھو أبعد من ذلك لقيت العنت والتجھم !
وقد أمر بعض الكبراء بنزع مكبرات الصوت فى المساجد المجاورة له حتى ال يسمع
األذان وقت الفجر!
وواضح أن سائر الملل والنحل اتفقت على تكوين جبھة معادية لإلسالم ،فالكنائس
الغربية والحكومات المسيحية ساندت إسرائيل ضد العرب المسلمين ،والشيوعية
والوثنية الھندوكية تعاونتا على سحق باكستان المسلمة ،بينما وقفت الواليات المتحدة
حليفتھا السياسية ترمق المنظر متسلية .
وفى مصر قلب العالم اإلسالمى تتسابق النشرات الشيوعية والصليبية على خداع
القراء وسرقة عقائدھم.
وليت األمر صراع كتابات ،وحوار مجالس ،إذن لخرج اإلسالم من ھذه الساحات
كلھا منتصرا ً .
إن الحرية ھى الصديق األول لديننا ،وعندما ينھض الحكم فى بالدنا على أساس
الرضا الشعبى والتجاوب مع إرادة الجماھير ،فلن يكون إلحاد وال انحراف ،سيكون
الحكم إسالميا ً حتميا ً فتلك رغبة الكثرة الساحقة من أفراد األمة .
أتظن أن الغازى ” مصطفى كمال ” مثالً لو عرض نفسه على الشعب التركى كان
يظفر بـ ) (% 1من أصوات الناخبين ؟ إنه سوف يخرج من أى انتخابات حرة يجر
أذيال الفشل ..
إن الحكم الفردى المستبد ھو وحده الذى يقھر اإلسالم ويذل أمته ،وقد عرفت أمريكا
وروسيا ذلك فقررتا إحداث انقالبات عسكرية فى أرجاء العالم اإلسالمى المترامى
األطراف .
وعن ھذا الطريق ال غير يمكن لي عنان الجماھير ،وتجريعھا الصاب والعلقم .
والمضحك المبكى أن ذلك سيتم باسم الشعب نفسه ،وقد سمى مصطفى كمال ”
أتاتورك ” أى أبا الشعب ،وھو فى خبيئته وعالنيته عدو الترك وكذلك أشباھھم من
الحاكمين المستبدين ..
أندونيسيا المسلمة
ولنضرب مثالً من ” أندونيسيا ” المسلمة الحائرة التى بلغ سكانھا اآلن نحو ” 120
” مليوناً ،تسعة أعشارھم مسلمون ،إنھا فى ظل االستعمار الھولندى تعرضت لحركة
تنصير واسعة النطاق ،إذ عزلت عن العالم اإلسالمى ،ومنعت الكتب اإلسالمية إال ما
كان تافھا ً قليل الغناء ،بل إن الشعب األندونيسى عزل بعضه عن بعض حتى يستطيع
المبشرون افتراس كل جزء على حدة ..
وقاوم المسلمون ببسالة ھذا البالء المبين ،وأمكنھم أن يظفروا آخر الشوط بحريتھم
فاستقلت أندونيسيا سياسياً ،وقام فيھا نظام نيابى ظفر فيه حزب ” ماشومى ” المسلم
بكثرة األصوات ،وتألفت حكومة إسالمية يرأسھا السيد ” محمد ناصر ” ..
ھل يترك االستعمار العالمى مستقبل أندونيسيا المسلمة يتقرر على ھذا النحو ؟
كال ،لقد بحث عن شخص يستطيع تقليب األمور ،وتعكير الصفو ،ووجد ضالته
المنشودة فى ” سوكارنو ” ،وھو رجل معروف بانحراف العقيدة ،وسيطرة الغرائز
البھيمية على حياته ،وقد بدأ ” سوكارنو ” يعمل .
قال األستاذ ” عالل الفاسى ” ” :إن دسائس الھند وھولندا زودت سوكارنو وأنصاره
بأموال ضخمة فى االنتخابات الثانية ،فأصبح الحزب الوطنى الذى يرأسه صاحب
األغلبية ،وانكشف سلوك سوكارنو مما حمل المسلمين المخلصين واالشتراكيين على
الثورة والمناداة بحكم إسالمى سليم والتغلب على حزب ” ماشومى ” اإلسالمى ،قام
سوكارنو بعقد اتفاق مع حكومة الصين الشعبية يقضى بأن يتجنس الصينيون
المقيمون بأندونيسيا ـ وھم عدة ماليين ـ بالجنسية األندونيسية ،وأن يشدوا أزر
الحزب الشيوعى فى البالد ،فأصبح بذلك القوة السياسية الثالثة بعد الحزبين الوطنى
واإلسالمى !
وھكذا تحالف سوكارنو مع الشيوعيين ،ثم شرع يضيق الخناق على النشاط اإلسالمى
باسم المحافظة على األمن وإقرار النظام . ” ..
ً
ويلعب اإلغراء بعقول الشيوعيين ،وأملى لھم سوكارنو الذى صرح أحيانا بأنه
ماركسى ،فحاولوا االنفراد بالحكم إثر مذبحة أوقعوھا بالفئات اإلسالمية ذھب
ضحاياھا عشرات األلوف .
بيد أن الجيش تدخل مؤيداً الطالب المكافحين والمجاھدين المسلمين فدحر الشيوعيين
وقضى عليھم قضاء مبرما ً.
قال األستاذ ” عالل ” ” :وكان الواجب يقضى برد األمر إلى الشعب ليختار حكومته
ونوابه ” .
لكن ذلك لم يحدث فقد تولى الجنرال سوھارتو السلطة وحكم البالد بطريقة ترضى
أمريكا ،فولت الشيوعية األدبار لتحل محلھا الصليبية الزاحفة .
ويقول تقرير وصل إلى ” رابطة العالم اإلسالمى ” :إن حملة التنصير اليوم أشد
وأقوى فى أندونيسيا مما كانت عليه أيام الحكم الھولندى ،والتنافس شديد بين
البروتستانت والكاثوليك على تحقيق ھذا الھدف ..
وقد شرحنا فى كتابنا ” دفاع عن العقيدة والشريعة ” الخطة الزمانية الموضوعة
لذلك ،والتى أرصد لھا ” بابا روما ” وحده ” كارديناالً ” وواحداً وعشرين أسقفا ً
وجيشا ً كثيفا ً من القساوسة .
كل ذلك يعمل فى ظل حكم عسكرى قاھر يجور على المسلمين ويجبن أمام الغزاة
والمستعمرين .
والطريف أن ” سوكارنو ” قدم إلى مصر ،فاستقبل أعظم استقبال وطلب الرئيس
جمال عبد الناصر من األزھر الشريف منحه أعلى شھاداته العلمية ،فمنح ” العالمية
” الفخرية فى العقيدة والفلسفة من كلية أصول الدين !!!
وال أدرى لماذا لم يمنح العالمية فى تفسير القرآن وشرح السنة تمشيا ً مع القول النبوى
الكريم ” :إذا لم تستح فاصنع ما شئت ” ؟!
إن سوكارنو كان من ألد أعداء اإلسالم ،وكانت انحرافاته الجنسية الطافحة موضع
القيل والقال ،وال ريب أن إعطائه أى وسام من األزھر كان تحقيرا ً لألزھر نفسه !!
والحق إنى حائر فى فھم جمال عبد الناصر ،لقد كنت كما يعلم الناس من جماعة
اإلخوان المسلمين ،وأقرر أن جمال عبد الناصر وكمال الدين حسين بايعا فى ليلة
واحدة على نصرة اإلسالم ورفع لوائه ،وقد كنت قريبا ً من مشھد مثير وقف فيه
جمال عبد الناصر أمام قبر حسن البنا يقول:
” نحن على العھد وسنستأنف المسيرة ” ..
كان ذلك عقب قيام الثورة بأشھر قالئل .
وقد وضع كتاب مسلمون كبار مقدمات للرسائل التى كانت تصدر تحت عنوان ”
اخترنا لك ” أمضاھا جمال عبد الناصر وفيھا أشرف ما يؤكده زعيم مسلم نحو أمته
ودينه .
ال أدرى ما حدث بعد ذلك ..
إنه تغير رھيب فى فكر الرجل وسيرته جعله فى كل نزاع بين اإلسالم وطرف آخر
ينضم إلى الطرف اآلخر:
ـ انضم إلى الھند فى خصومتھا المرة ضد باكستان المسلمة .
ـ انضم إلى الحبشة فى عدوانھا الصارخ على أرتريا .
ـ انضم إلى تنجانيقا وأغضى عن المذبحة الشنعاء التى أوقعتھا بشعب زنجبار
المسلم ،ورحب آخر ترحيب بنبربرى الذى يتظاھر باالشتراكية وھو قسيس كاثوليكى
!!
ـ انضم إلى القبارصة اليونان فى نزاعھم مع القبارصة المسلمين ،وجعل األزھر
يستقبل مكاريوس عدو الكيان اإلسالمى لألتراك .
ـ كان أسداً ھصوراً فى قتال اليمن ،وحمالً وديعا ً فى قتال اليھود ،حتى جعل اليھود ـ
وھم أحقر
مقاتلين فى العالم ـ يزعمون أنھم ال يقھرون فى حرب !!
سريع إلى ابن العم يلطم خده
وليس إلى داعى الندى بسريع !
ـ ولقد ساند ” البعث العربى ” الحاقد على اإلسالم ،ورفض مساندة أى تجمع
إسالمى ،واخترع حكاية القومية العربية لتكون بديالً عن العقيدة اإلسالمية !! ..
ومن اإلنصاف أن نقول إن عدداً من رجال الثورة لم يكونوا راضين عن ھذا االتجاه
الخاطئ .
وعندما تولى الرئيس ” أنور السادات ” الحكم كشف عن الوجه الحقيقى لمصر
المسلمة ،ودفع سياسة البالد إلى طريق أرشد ،وقضى على مراكز القوة التى كانت
تريد السير بمصر بعيدا ً عن اإلسالم .
لكن استنقاذ مصر مما ألم بھا فى الماضى يحتاج إلى جھود مضاعفة خصوصا ً بعد
أن تحركت تيارات عديدة مناوئة لإلسالم وظفرت بمكاسب ذات بال .
لقد أكدنا فى مواطن شتى أن مصر اإلسالمية ال تتعصب لدين ،وال تتعصب ضد
دين ،وأنا أعلن أن األمة اإلسالمية تستطيع استيعاب يھود العالم أجمعين بين
ظھرانيھا كافلة لھم حرية مطلقة فى البقاء على عقائدھم وأداء شعائرھم ،على أن
يكونوا بداھة مواطنين مسالمين ينفعون وال يضرون ،فھل يقبل اليھود ذلك ؟
ال ،إنھم وثبوا على فلسطين ولھم غرض ھائل ،استقوه من تعاليم دينية محرفة ،يعبر
عنه ” مناحم بيجن ” السفاح الشھير بقوله:
” مھمتنا سحق الحضارة اإلسالمية وإحالل الحضارة العبرية محلھا ،والمھمة شاقة
” ..
سماسرة الفاتيكان
فى أثناء ھذا الھجوم المطالب بدمنا وديننا نباغت بموقف شاذ خائن للكنائس الغربية،
تعلن فيه صلحا ً جذريا ً مع اليھود ،يقوم على تبرئتھم من صلب المسيح ،برغم ما
تقرره األناجيل التى بأيدى القوم ..
ونحن نعلم أن المسيح لم يصلبه يھودى وال وثنى ،ولكن إذا كانت الكنيسة تشھد بغير
ذلك ،وتنسب إلى اليھود ـ حسب روايات أناجيلھا ـ أنھم متھمون خبثاء ،وقتلة لؤماء،
فما سر ھذا الصلح المباغت ؟
إنه اتفاق علينا وشد ألزر القتلة وھم يخربون ديارنا ،ويمحون تاريخنا ،وما نستطيع
تجاھل ھذا االتفاق ،وال اإلغضاء عن آثاره ونتائجه فى أكثر من ميدان ،إنه جھد من
سلسلة جھود متصلة إلساءة اإلسالم وإھانة أمته .
يقول األستاذ ” عالل الفاسى ” :وقف البابا دائما ً من االستعمار موقف المؤيد ،وقد
كانت بعض حكومات المغرب قد أملت خيراً فى بعض الباباوات عساھم يؤثرون
على الدول الخاضعة لنفوذھم الروحى فيخففون من حمالتھم العدائية ،وھيھات .
قال :وأنا أحكى قصتين وقعتا لى ونحن فى أشد المواقف ،أيام جھادنا لتحرير البالد
من االستعمار الفرنسى ..
ـ األولى :توجھنا باسم حزب االستقالل أنا وصديقى المجاھد ” عبد الرحمن انجامى
” إلى أمريكا الجنوبية لنتصل بشعوبھا وحكوماتھا شارحين قضيتنا راجين أن
تصوت ھذه الدول لمصلحتنا فى المحافل الدولية ،فكان يتبعنا حيث اتجھنا ـ تارة
يسبقنا وتارة يلحقنا ـ الوزير الفرنسى ” بول رينو ” مبعوثا ً من قبل حكومته ،كما كان
يتبعنا قسيس لبنانى مبعوثا ً من طرف الكنيسة !
وعلمنا أن إرساله تم بطلب من فرنسا وموافقة من البابا ،وقد قاما بجھود كبيرة
ضدنا ،ومع ذلك فقد انتصرت دعوتنا والحمد ،وحصلنا على تأييد إخواننا العرب،
وصوتت معنا كل الدول التى زرناھا كالبرازيل واألرجنتين والشيلى ..وغيرھا .
ـ الثانية :دخلت سنة 1952مستشفى ” األميرة فريال ” إلجراء جراحة بالكلية
اليسرى ،وكنت أشكو من وجود أحجار بھا ،وبلغنى وأنا فى انتظار العملية نبأ اعتقال
الفرنسيين للشيخ ” عبد الواحد بن عبد ﷲ ” من علماء ” الرباط ” وكان يدعو فى
دروسه إلى تقدير التضحية واالستبسال فى نصرة الحق ،وتساءل لماذا يضيق
الفرنسيون بكفاحنا لتحرير بالدنا ،ويعدون ذلك جرما ً وھم يقدسون السيدة ” جان
دارك ” ألنھا بذلت وسعھا فى سبيل
وطنھا ؟ أليست لديھم مثاالً يحتذى ؟
ولم يعجب ھذا الكالم إدارة الحماية الفرنسية فقررت اعتقاله ..ووافق االعتقال أن
بعض الناس كان يدعو للتقارب بين المسيحية واإلسالم ،فكتبت رسالة للبابا بيوس
الثانى عشر منبھا ً إلى ما حدث ،ومذكراً بأن عالما ً مسلما ً لديه ھذا التفتح الفكرى ال
يسوغ أن يلقى ھذا المسلك ،وأنه لن يعقب ھذا إال توسيع شقة الخالف بين مسلمى
المغرب والنصارى المقيمين فيه !
وزارنى بعد تحرير الرسالة األستاذ ” ماسينيون ” المعروف بتدينه وإخالصه الشديد
لمسيحيته ،فأنعم النظر فيھا ثم قال لى :ھل أنت مخلص فيما تبديه من رغبة التقريب
بين المسلمين والمسيحيين ،على أساس القيم األخالقية المشتركة بين الدينين ؟
قلت :نعم أيھا السيد الجليل ،ولو لم أكن مخلصا ً ما كتبت ھذه الرسالة فى وقت أتھيأ
فيه لجراحة خطيرة قد ألقى فيھا ربى ،وأنا أتطلع إلى عفوه .قال :ثق أن البابا لن
يستجيب لك وال لغيرك ألنه يأخذ المال من الصھاينة .ولما رآنى استغربت قوله ،قال
لى :يا سيد عالل ال تستغرب ،وما يفعله البابا ال يجعلنى أتخلى عن مسيحيتى ،كما أن
قولى ھذا ال يخرجنى عن دينى الذى تعلم مقدار تمسكى به .
وقد صدق ” ماسينيون ” ،فإن البابا لم يكلف نفسه عناء الرد على رسالتى ” ..
وماسينيون ” مستشرق كبير ،وكان عضواً فى مجمع اللغة العربية ،وكان فيما أعلم
مستشاراً لوزارة المستعمرات الفرنسية ،وھو شديد التعصب للنصرانية .
والبابا الذى تحدث عنه ” ماسينيون ” غير البابا الذى أصدر الوثيقة الشھيرة بتبرئة
اليھود .
ترى كم أخذ األخير ؟
المھم أن النصرانية فى الغرب اتفقت مع اليھودية على ضرب اإلسالم ،وأنھا تحاول
جر النصرانية فى الشرق إلى موقف مشابه ،فھل ستجد لھا عونا ً على ھذا العرض
الخسيس ؟؟
ما الذى دفع القسيس اللبنانى إلى عرقلة تحرير المغرب والجرى فى ركاب
المستعمرين والسفر إلى الدول األمريكية الجنوبية إلقناعھا بالتصويت ضد استقالل
بلد عربى مظلوم ؟
ـ نحن نطلب من النصارى الذين يحيون فى ربوع العالم اإلسالمى أن تقر أعينھم
بالحرية الدينية المتاحة لھم دون َم ٍن وال أذى .
ـ ونطلب منھم أن يرعوا حقوق المواطنة وحرمات الجوار وقرابة الجنس واللغة
وأعباء المشاركة الكريمة فى بناء حضارة ال حقد فيھا وال دس وال تربص فيھا وال
شماتة ..
ـ ونطلب منھم أن يصموا آذانھم عن نداءات الغدر والتشفى إذا ما ألمت بالمسلمين
ملمة .
إنھم إن بطروا معيشتھم لم يفلتوا من عدالة السماء ” وكم أھلكنا من قرية بطرت
معيشتھا فتلك مساكنھم لم تسكن من بعدھم إال قليالً وكنا نحن الوارثين ” )القصص:
(58
ـ أما أن يروا مسجداً يبنى فيحاولوا أن تكون أبراج الكنايس أعلى من مئذنته !! فھذه
محاولة منكورة .
ـ أما أن تكفيھم ألداء العبادة كنيسة واحدة فيبنوا مثنى وثالث ورباع فذلك ما ال مساغ
له ..
ـ أما أن يروا التبشير األجنبى قد تعاون مع االستعمار العالمى على تضليل المسلمين
وإزاغة قلوبھم فيشاركوا ھم أيضا ً فى حرب المنشورات وفتنة السذج فتلكم خيانة
ربما كانت تمھيداً لمثل ما فعله المعلم ” يعقوب حنا ” الذى خان مصر وانضم إلى
الغزاة الفرنسيين !!
لقد انتھز الفاتيكان فرصة ھزيمة سنة 1967فأرسل سماسرته ليشتروا األرض من
العرب المحرجين فى مدينة القدس ،وھذا تصرف محقور .
ونحن نعلم أن شوارع بأسرھا تكاد تشترى فى مدن مصر وقراھا لينكمش اإلسالم
فوق تربتھا ،ويتحول المسلمون عليھا غرباء ،فلم ذلك ولحساب من ؟
إن حرب شراء األراضى واحتكار المبانى بدأت فعالً ،ولكى نبصر المسلمين
بنتائجھا نذكر لھم قصة ” قبرص ” كما ذكرنا فى كتابنا ” مع ﷲ ” وقصة سنغافورة
التى كانت فيما مضى )!( مسلمة السكان والحكم ،وأمست اآلن ال صلة لھا باإلسالم
!!
قبرص
فتحت قبرص فى المد اإلسالمى األول على عھد الخالفة الراشدة ،فتحھا معاوية بن
أبى سفيان حين كان واليا ً على الشام ،وكانت شئونھا اإلدارية تتبع إحدى المحافظات
السورية لموقعھا شرقى البحر المتوسط .
ومذ دخلھا العرب ونشأ فيھا اإلسالم لم تتغير أوضاعھا المعنوية وال اإلدارية ،فقد
أصبحت بلدا ً مسلما ً منذ أربعة عشر قرنا ً .
وبعد انتھاء الخالفة العربية ورثت الخالفة التركية قبرص فيما ورثت من ديار
اإلسالم الشاسعة ،إال أن الترك فى القرن التاسع عشر كانوا يترنحون تحت الفساد
السياسى الذى نخر كيانھم والضغط الصليبى الذى قطع أوصالھم ،فوثبت إنجلترا ـ أم
الخبائث فى ميدان االستعمار ـ على قبرص ،وجعلتھا قاعدة عسكرية لھا بعدما
أبرمت اتفاقا ً مع العثمانيين بردھا إليھم عندما تستغنى عنھا )!(
وبدأ اإلنجليز يستقدمون العمال اليونانيين بكثرة ليخدموا فى القاعدة العسكرية ،ثم
بدأوا يغرونھم بالتوطن فى الجزيرة .
فما ھى إال سنوات حتى كثر عددھم ،وزاحموا المسلمين مزاحمة شديدة سواء كانوا
تركا ً أو عربا ً فأخذ الميزان السكانى يتذبذب ،ثم أصبح ربع السكان من المسلمين
األتراك،والثالثة أرباع من اليونانيين المسيحيين ..
وما أن شعر المسيحيون بتفوقھم العددى حتى طلبوا االستقالل تمھيداً لالنضمام إلى
اليونان ،ولم تكن الجزيرة يوما ً تابعة لليونان .
وكان جزع المسلمين شديدا ً ألن ھناك مسلمين يونانيين فى إقليم ” قولة ” وما جاوره
ذوبھم االضطھاد واإلذالل ،وأخذوا فى االنقراض دون ضجة !
ومن ھنا طلب المسلمون أن تقسم الجزيرة بينھم وبين اليونانيين الوافدين ،ولكن
يرضى القتيل وليس يرضى القاتل ،فإن السيد مكاريوس يريد فرض نفسه بوصفه
صاحب الجزيرة .
ً
والمھم أن جمال عبد الناصر أيده كما نشرنا آنفا ،وأوعز إلى شيوخ األزھر أن يقدموا
له التحيات المباركات ..
وال أدرى كيف يقع ھذا ،ولكن الذى أدريه أن زعيم القومية العربية استبعد من علماء
األزھر أن
يقولوا :ال ..
وجعل على قمة المعھد اليائس من تعفنت ضمائرھم من طول البلى .
وھكذا يموت اإلسالم ،وتنھزم قضاياه .
العقيد الناصرى
قلت ألحد قدامى اإلخوان :ما رأيك فى العقيد القذافى ؟ ] نؤثر أن يعرفه القراء
بـ”العقيد الناصرى”[ قال :نتمنى له التوفيق فى خدمته لإلسالم ،لقد جمع من خبراء
الفقه والقانون من يعاونون على إعادة الشريعة اإلسالمية إلى الحياة ،وھذا سعى
مشكور ،وقد حسبته أول ما قام بثورته من جماعة اإلخوان ،ألنه تبنى أفكارھم
ومبادئھم ،ما انتقص منھا وال زاد عليھا ،ولما تناول اإلخوان بالسوء قلت :لعلھا تقية
حتى يتركه الخصوم ـ خصوم اإلسالم ـ يمضى فى طريقه دون اتھام وال تعويق ..
فرددت على ھذا األخ القديم :وھل ال زلت على رأيك األول ؟ وھو يتھم جماعتكم
بالتعاون مع االستعمار ،ويعتقل فى أنحاء ليبيا من يظن بھم االنتماء إلى الجماعة ؟
قال :إننى فى حيرة ،وما أحسبنى كنت واھما ً عندما عددته من الجماعة ،إنه ليس
فقيھا ً إسالميا ً وال مفكراً إنسانيا ً يمكن وصفه بأنه أتى من عند نفسه بما أتى به .إنه
يردد كل ما كتبه اإلخوان من نظرات اقتصادية وسياسية للشريعة اإلسالمية ..وأنت
خبير بأن ما نشر فى أرجاء العالم اإلسالمى والعربى من ھذه الكتابات ھو لمؤلفى
اإلخوان أو ألصدقائھم العاملين معھم فى ھذا الحقل ،والمتعرضين معھم لالضطھاد
والبالء ..لقد تبناه العقيد القذافى بما فيه من خطأ أو صواب !!
قلت :أى خطأ ؟
قال :إنك أصدرت فى أوائل األربعينات عدة كتب فى ھذا الموضوع ،ثم نشر األستاذ
” سيد قطب ” رحمه ﷲ فى أواخر األربعينات كتاب ” العدالة االجتماعية ” ،ثم نشر
األستاذ ” مصطفى السباعى ” كتابه ” اشتراكية اإلسالم ” فى أوائل الخمسينات،
وفى ھذه الغضون تمت ترجمة رسائل األستاذ ” أبى األعلى المودودى ” ،وقد خلطتم
اإلسالم باالشتراكية على نحو ال يرضى أعدادا ً من المسلمين !!
قلت :إننا أرينا األجيال الناشئة من ديننا ما يغنى عن استيراد الفلسفات األجنبية
الشاردة ،وأنا شخصيا قد أكون تجوزت فى بعض العبارات لكن جوھر الموضوع
إنصاف رائع لديننا الحنيف .
قال :على أية حال ،فمن ھذه الكتابات كلھا نقل ” القذافى ” ما أسماه بالنظرية الثالثة،
وھى تسمية نرفضھا ولو سلمنا بھا فإن السؤال المحير ھو :لماذا يستمد من اإلخوان
ثم يھاجمھم ؟
واستأنف محدثى الكالم :إن اإلخوان حاربوا ألوان االستعمار جميعا ً من قبل أن يولد
الزعيم الشاب ..حاربوا اليھود سنة 1948وردوھم على أعقابھم بعدما وصلوا
العريش وكادوا يحتلون أجزاء من مصر ،حاربوا اإلنجليز على شواطئ القناة،
وزلزلوا أقدامھم ونسفوا معسكراتھم ،وأرغموھم على التفكير الجاد فى الجالء نجاة
بأنفسھم ..حاربوا الماركسية واإللحاد بعدما غمر الجامعات ،واستحدثوا تياراً من
اإليمان واالستعفاف جدد القيم فى المجتمع المصرى ،وألقى الرعب فى صفوف
أعداء الحق .
ثم قال صاحبى فى حماس :إن اصطياد التھم للجماعة على ھذا النحو الشائن ال يمكن
أن يكون إال لحساب االستعمار ،حتى ال يتكون جيل من المؤمنين األحرار يقاوم
الصھيونية ،ويحمى األمة المحروبة تيارات التخريب النفسى والخلقى ..
قلت :ولعله عدم إلمام بالتاريخ القريب ،أو لعل إشاعات سبقت إلى فكر الرجل من
أناس خدع بھم فصدق دعواھم !! ..
رأيى أن العقيد القذافى يمكن أن يتفاھم معه ،وأن يراجع نفسه فى بعض األحكام ..
لقد استمعت إلى المحاضرة التى ألقاھا فى مقر ” اللجنة المركزية لالتحاد االشتراكى
” بالقاھرة ،والتى خلص منھا إلى أن المسيحى رجل يعبد ﷲ على طريقة عيسى بن
مريم ،فھو بذلك مسلم ألن أتباع عيسى مسلمون بنص القرآن الكريم .
أما أن أصحاب عيسى األوائل مسلمون ،عبدوا ﷲ الواحد ،وصدقوا رسوله عيسى
فھذا ما أجمع المسلمون عليه ..
وأما الزعم بأن الذين عبدوا عيسى نفسه مسلمون ،فھذا ما لم يقله أحد ! فإن
الخصومة بيننا وبين النصارى أنھم ال يتبعون عيسى ،عبد ﷲ ونبيه إلى بنى
إسرائيل ،ال يتبعون اإلنسان الذى قال ” :إن ﷲ ربى وربكم فاعبدوه ھذا صراط
مستقيم ” .
إنھم يتبعون شيئا ً اسمه ابن ﷲ الوحيد ،الذى ضحى به على الصليب قربانا ً لتكفير
الخطايا ،وھو الرب يسوع المسيح ،فھل ھذا إسالم ؟
لقد وصف اإلسالم ھذا القول بالكفر ” وجعلوا له من عباده جزءا إن اإلنسان لكفور
مبين ” )الزخرف(15:
وليس يعطى كالم العقيد القذافى أية وجاھة أن مجلس قيادة الثورة أقره وتبناه !!
أخشى أن يطرد القياس ويقال :إن اليھودى إنسان مسلم يعبد ﷲ على طريقة موسى
الكليم ،وبذلك تنحل المشكالت القائمة بين العرب واليھود .
فالكل حسب ھذا المنطق مسلمون ،ينبغى أن يتفسحوا فى المجالس واألوطان ،وأن
يسع بعضھم بعضا ً دون شحناء وال بغضاء .
إن العقيد يظلم نفسه إذ يخوض فى ھذه البحوث ويقرر ھذه النتائج ..ثم يبقى بعد ذلك
كله أمر مھم ،ھل للعدالة مكانھا فى سلوك الحكام المسلمين أم ال ؟
إن ﷲ عز وجل يقول فى كتابه ” :يا أيھا الذين آمنوا كونوا قوامين شھداء بالقسط
وال يجرمنكم شنآن قوم أال تعدلوا .اعدلوا ھو أقرب للتقوى ” )المائدة(8 :
ومعنى ذلك أن يحكم العقل واإلنصاف مشاعر الحقد والغضب .
مھما كرھت فرداً أو جماعة فال يجوز إذا كنت تقيا ً أن أسترسل مع ھواى فى سجن
خصومى أو تعذيبھم أو تھديد حاضرھم ومستقبلھم ..
والمألوف فى أرض ﷲ كلھا ـ عدا الغابات وما إليھا ـ أن يحقق مع المتھم ،وأن يمنح
حق الدفاع عن نفسه ،وأن يمحص القاضى ما نسب إليه فى نزاھة ،ثم يصدر الحكم
فى أناة وتبصر باإلدانة أو التبرئة ..
أما القذف بالناس فى السجون ألن الحاكم رأى ذلك فشىء منكر جعله القرآن الكريم
قرين سفك الدم الحرام ،وعابه على اليھود فى قوله ” :ثم أنتم ھؤالء تقتلون أنفسكم
وتخرجون فريقا ً منكم من ديارھم تظاھرون عليھم باإلثم والعدوان ” )البقرة . (85
لماذا يشرد الطالب عن داره فال يتم تعليمه أو رب األسرة عن بيته فتتعرض زوجته
وأوالده للمآسى والمعاصى؟؟
إن الحاكم الذى ينتسب إلى اإلسالم يستحيل أن يتدلى إلى ھذه المسالك ..
إننى أحد الذين اعتقلوا يوم كنت منتسبا ً إلى جماعة اإلخوان ،وحتى بعد فصلى من
الجماعة اعتقلت ألنى لم أتخل عن العمل الدينى .
إننى ما سئلت عن شىء قبل أو بعد االعتقال ،ألنه لم يكن ھناك ما أسأل عنه ! غير
أن التجارب التى ذقتھا والمشاھد التى رأيتھا جعلتنى أزداد رسوخا ً فيما كنت أقوله
باستمرار :إن الحرية نعمة جليلة رائعة ،وإن العدوان عليھا سيئة مضاعفة الوزر
شديدة العقاب .
إن طراز الحكم فى العالم العربى إن لم يضبط داخل اإلطار اإلسالمى فسيكون معرة
لإلسالم تُنفﱢر منه بل تثير السخري َة به !!
والذى ” ال يسأل عما يفعل وھم يسألون ” ھو ﷲ الواحد الذى ال معقب على حكمه،
ومع ذلك االقتدار للكبير المتعال فھو يقول “:يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى
وجعلته بينكم محرما ً فال تظالموا ” )رواه أحمد ،160/5 :ومسلم فى كتاب البر
وغيرھما(
فھل ذلك ما يبيح لحكامنا أن يستغلوا سلطانھم الموقوت فى ضرب الناس وسجنھم
دون ما سبب ؟
ومن الذين يھانون ؟ متھمون بالدعوة إلى اإلسالم ؟!
” يا حسرة على العباد ” !!! ..
إن قلبى يتفطر عندما أرى الدم اإلسالمى أرخص دم على األرض ..لقد استباحه
المجوس واليھود والنصارى والوثنيون والملحدون ..وحكام مسلمون !!
وال ريب أن المدافعين عن اإلسالم تكتنفھم ظروف صعبة معقدة ،غير أنه بين الحين
والحين ينبجس من روح ﷲ ندى يواسى الجراح ويھون الكفاح ويبشر بالصباح ..
ومھما كانت األوضاع محرجة فال بد من بقاء الدعوة اإلسالمية مرفوعة الراية
واضحة الھداية تعلن الحق وتبسط براھينه وتلقف الشبه وتوھى إسنادھا ..
إن محمداً ليس وقفا ً على عصر أو جنس ،إن رسالته للقارات الخمس ما بقى الزمان
وعلينا أن ننھض بھذا العبء ..
وحتى تعود ” الخالفة اإلسالمية ” ـ وإعادتھا فرض عين ـ لتتولى ھذه المھام يجدر
بنا أن نتبع ما يأتى:
ـ إعادة النظر فى مناھج تعليم اإلسالم فى شتى مراحل الدراسة العامة ..وإعادة
النظر فى مناھج التعليم الدينى نفسه لتخريج فئات أوسع دراية وأحد بصرا ً .
ـ اختيار الدعاة وفق مواصفات أدق وأرقى مما يتبع اآلن ،وتوسيع آفاق الدعوة
اإلسالمية أو اإلعالم اإلسالمى بحيث تستوعب ميادين النشاط اإلنسانى جميعا ً .
ـ إقامة حلقات اتصال بين الجامعات اإلسالمية الموجودة اآلن فى عواصم اإلسالم
كلھا لتبادل الخبرة والمشورة العلمية والعملية ..
ـ عقد مؤتمرات دورية متصلة لبحث مشكالت الدعوة ورصد الھجمات المنظمة ضد
اإلسالم ووضع الخطط المناسبة لخدمة الرسالة اإلسالمية .
ـ بسط الرعاية الدينية على المسلمين المھاجرين إلى الخارج واإلفادة من مواضعھم
االجتماعية والثقافية حتى يكونوا معابر لرسالتنا العظيمة ،بدل أن يذوب ھؤالء فى
دوامة الحياة الغربية ..
ـ التقاط الفارين من وجه الحكومات المعادية لإلسالم فى أفريقيا وغيرھا وتيسير
التحاقھم بالمدارس والمعاھد العربية ليعودوا أقدر على قيادة أممھم ورد الفتن عنھم ..
ـ دراسة المؤتمرات التبشيرية المحلية والعالمية واستكشاف المؤامرات المبيتة ضدنا
.
ـ وبديھى أن ذلك كله لن يتحقق كالً أو جزءاً إال فى ظل حكومات تحترم اإلسالم،
وترى نفسھا مسئولة أمام ﷲ عن القيام بحقوقه .
ـ وليست كل الحكومات العربية كذلك ،فھناك من يكره اإلسالم والحدث عنه ،وھناك
من يقبله عبادات ال معامالت ،وعقيدة ال شريعة ويرفض الدعوة إلى تطبيقه كله .
ـ وھناك من يمھد الستقبال الشيوعية ومن يمھد الستقبال العلمانية .
ـ وال تعليق على ھذا االرتداد السافر أو المحجب إال أن نقول:
على الشعوب أن تتحرك وإال تعرضت للفناء ،عقوبة من رب السماء !!
*****
فى مواجھة التيارات الفكرية الھاجمة علينا أصدرت عدة مؤلفات تتحدث عن النظام
االقتصادى اإلسالمى ،كما تصورته من كتاب ﷲ وسنة رسوله وتطبيقات الخالفة
الراشدة ،وكان يغلب علي ـ وأنا أقدم ھذا التصور ـ أمران:
ـ اطالع المثقفين المعاصرين من خريجى المعاھد المدنية على الجوانب المضيئة من
تراثنا والمغنية عما سواھا ،حتى يكون تعلقھم بدينھم ال بغيره .
ـ ثم اإلزراء على األوضاع المعوجة السائدة ،ورفض السناد الدينى الذى تنتحله
لنفسھا .
ً
وأعترف بأنى تجوزت فى التعبير أحيانا ،وقبلت بعض العناوين الشائعة ”
كالديمقراطية ” فى ميدان الحكم ” واالشتراكية ” فى ميدان االقتصاد ،ال إلعجابى
بھذه العناوين ،ولكن ألجعل منھا جسراً يعبر عليه الكثيرون إلى اإلسالم نفسه ،أى
أنى أريد نقل ” الديمقراطيين ” و ” االشتراكيين ” إلى اإلسالم بعدما أوضحته
وأبرزت معالمه ،ال أنى أريد صبغ اإلسالم بصبغة أجنبية أو نقله إلى مذاھب
مستوردة ..
وقد جاء من بعدى األستاذان ” سيد قطب ” و ” مصطفى السباعى ” ـ عليھما رحمة
ﷲ ،فألف األول ” العدالة االجتماعية فى اإلسالم ” ،وألف األخير ” اشتراكية
اإلسالم ” وھما يقصدان ما قصدت إليه من رد المفتونين بالمبادئ الجديدة إلى
مواريث أسمى وأغنى ..
وربما كان ما كتباه أفضل مما كتبته أنا وأكثر تنظيما ً .
وعذرى أننى كنت رائدا ً تدمى أظافرى فى االكتشاف والتدوين ،فإذا جاء من بعدى
ووجد حقائق ممھدة كان على تنسيقھا أقدر وعلى صوغھا أدق !!
ومما ال ريب فيه أن اإلسالم دين تنھض دعائمه األولى على اإليمان با واتباع ما
أوحاه إلى رسوله الخاتم محمد صلى ﷲ عليه وسلم ،وأن عقائده وعباداته ليست
مجال أخذ ورد .
لكن ” نظام الحكم والمال ” فيه يعتمد على نصوص محدودة ،ثم على قواعد وأقيسة
ومبادئ ومصالح كثيرة ..
وقد جمد ” الفقه الدستورى ” لدينا من أعصار بعيدة ،ثم جمد بعده ” فقه الفروع ”
منذ أغلق باب االجتھاد حتى فتحه أناس ليسوا موضع طمأنينة ..
كان رجال القانون فى أوربا وأمريكا ـ منذ قرنين ـ يضعون الدساتير التى تقيد الملوك
والرؤساء ،وتبرز سلطات األمم فى وجه الحاكم الفردى المطلق .
أما نحن فكان المطلوب منا أن ندعو إلى اإلسالم ..وحسب ،والذين يشمئزون من
كلمة ” ديمقراطية ” ال يفكرون فى القيام بجھد عملى بنقل ” الشورى ” اإلسالمية
من ميدان الفكر النظرى المطلق إلى قوانين دقيقة تنصف الجماھير العانية وتضبط
سلطات الوالة على اختالف ألقابھم .
ونحن نسمى ھذا التزمت بالدة ،وربما اتھمنا بواعثه النفسية ،وإذا كان أصحابه
مخلصين فھو إخالص ” الدبة ” التى قتلت صاحبھا ،وقد أصاب اإلسالم أعظم
الضرر من ھؤالء !!
تأمل فى ھذه القصة التى ذكرھا الشيخ الكبير محمد رشيد رضا قال:
إن الخديوى إسماعيل استدعى رفاعة الطھطاوى وخاطبه:
” يا رفاعة ،أنت أزھرى تعلمت فى األزھر وتربيت به ،وأنت أعرف الناس بعلمائه،
وأقدرھم على إقناعھم بما ندبناك له..إن الفرنجة قد صارت لھم حقوق ومعامالت
كثيرة فى ھذه البالد ،وتحدث بينھم وبين األھالى قضايا ،وقد شكا الكثيرون إل ّى أنھم
ال يعلمون أيحكم لھم أم عليھم فى ھذه القضايا؟ وال يعرفون كيف يدافعون عن أنفسھم
..ألن كتب الفقه التى يحكم بھا علماؤنا معقدة وكثيرة الخالف ،فاطلب من علماء
األزھر أن يضعوا كتابا ً فى األحكام المدنية الشرعية تشبه كتب القانون فى تفصيل
المواد واطراح الخالف ،حتى ال تضطرب أحكام القضاة ،فإن لم يفعلوا وجدتنى
مضطراً للعمل بقانون ” نابليون ” الفرنسى !! ” )فى كتاب تاريخ المحاكم المختلطة
واألھلية لألستاذ عزيز خانكى ،وتسمى اآلن المحاكم الوطنية ،والنقل عن مجلة ”
المسلم ”(
قال رفاعة الطھطاوى ـ مجيبا ً الخديوى ـ :يا أفندينا :إنى سافرت إلى أوربا ،وتعلمت
فيھا ،وخدمت الحكومة ،وترجمت كثيرا ً من الكتب الفرنسية ،وقد شخت ،وبلغت إلى
ھذه السن ،ولم يطعن فى دينى أحد ،فإذا اقترحت اآلن ھذا االقتراح بأمر منكم طعن
علماء األزھر فى دينى ،وأخشى أن يقولوا :إن الشيخ رفاعة ارتد عن اإلسالم آخر
عمره؛ إذ يريد تغيير كتب الشريعة وجعلھا مثل كتب القوانين الوضعية ..فأرجو أن
يعفينى أفندينا من تعريض نفسى لھذا االتھام ؛ لئال يقال :مات كافراً .فلما يئس
الخديوى ..أمر بالعمل بالقوانين الفرنسية ..
والقصة المحزنة تحكى فساد األمراء والعلماء جميعاً ،وتكشف أن ما أصاب المسلمين
من شتات وخزى ليس بالء يؤجرون عليه ،ولكنه عقاب يستحقونه ”وما كان ربك
ليھلك القرى بظلم وأھلھا مصلحون” .
ولقد كنت أسأل نفسى :نحن نكافح ھذه القوانين المستوردة من الخارج وما تتضمنه
من فساد وإلحاد ،فكيف دخلت بالدنا ،وماذا كان موقف العلماء منھا يوم جاءت ،ولِم
ل َم يموتوا دون تحكيمھا فى مجتمعنا ؟
ثم علمت أن موتنا األدبى ھو الذى مھد لقبولھا واستقرارھا ..ومع نھضتنا اإلسالمية
الحالية بدأت تشريعات جنائية ومدنية تستقى من ينابيع اإلسالم األصيلة ،وال ريب
أننا نملك أعظم ثروة تشريعية فى القارات الخمس غير أنھا دفينة فى صحائف
مھجورة ومصبوبة فى قوالب قديمة ،ونستطيع أن نسترشد بھا فى إقامة صرح
قانونى إسالمى شامخ ..
ويبقى قبل ذلك وبعده أن يزدھر الفقه الدستورى عندنا ،ويتخلص من أوھام العصور
المتخلفة ورعايا حكام الجور ..
يبقى أن تتحول كلمة ” الخالفة الراشدة ” مفصلة ” :إن رأيتم خيراً فأعينونى وإن
رأيتم شراً فقومونى ” ..إلخ ..إلى مواد مفصلة لدستور إسالمى يمنع الطغيان،
وينعش األمم ،ويضع سياجا ً متينا ً حول كل حق خاص أو عام ..
وقبل أن نحتقر كلمة ” ديمقراطية ” ونجبه قائليھا نقدم العوض اإلسالمى عنھا وعن
آثارھا القريبة والبعيدة .
وأى حرج فى أن ننتفع بتجارب الماضى الطويل عندنا وعند غيرنا ونحن نضع
الدساتير ؟
وما يقال فى الجانب السياسى يقال فى الجانب االقتصادى ..
إن ديننا يروع بما حوى من تعاليم تحقق األخوة وتضمن الكرامة وتحارب الجوع
والذل والبطالة والضياع ..ثم إنه حرم االحتكار واالستغالل والربا والترف .
وجملة النصوص القرآنية واألحاديث النبوية فى ھذا الميدان تكون صورة اجتماعية
زاكية راقية .
وال نقول :تك ّون مذھبا ً اجتماعيا ً مستقالً ،فإن اآلثار اإلسالمية الموصولة بھذا الشأن
ال تعدو أن تكون فروعا ً من الشجرة الكبيرة التى تضم تعاليم اإلسالم جمعاء ،أو
بتعبير آخر ھى بعض شعب اإليمان التى تبلغ الستين أو السبعين شعبة ..
والجھد اإلسالمى الواجب :إذا كان اإلنسان يوفر الكرامة لإلنسان ،فما ھى العناصر
التى يستجمعھا ،إلنشاء بيئة تنبت العز ،ولمنع البيئة التى تنبت الھوان ؟ وكيف
يصوغ ھذه العناصر قوانين ضابطة ألحوال األمم ؟
إذا كان اإلسالم يمقت الفقر ويحب االستغناء ،فما ھى العناصر التى يحشدھا ليستغل
خبرات األرض فى البر والبحر ؟ وكيف يجند الھمم للكدح والكفاح ؟ ثم كيف يصوغ
ذلك كله قوانين تحيل الجماعة اإلسالمية إلى خلية ناشطة منتجة ؟
إن المسلمين ظلوا أمداً:
ـ يحتفون باألنساب أكثر مما يحتفون باألعمال .
ـ ويؤخرون العلم ويقدمون الحظ .
ـ ويريقون األوقات على مصاطب اللغو والثرثرة أكثر مما يستغلون األوقات فى الجد
.
ـ وتحكمھم تقاليد ابتدعوھا أكثر مما تحكمھم مواريث الدين ذاته ..
بل جعلوا العلم بالدين وظيفة الھمل والمغموصين ..فكان العقاب األعلى لھذه
الخيانات الباطنة والظاھرة أن سقطت األمة اإلسالمية على الصعيد العالمى ھذا
السقوط الذريع ،وانسحب ذلك على دينھا ،فلم يصدق الناس أنه رحمة للعالمين !! ..
لقد بذلنا ـ أول العھد بالتأليف ـ جھداً حسنا ً فى سبيل تقديم اإلسالم متجاوبا ً بل متبنيا ً
آلمال الشعوب فى الكرامة والتقدم ،وأمطنا اللثام عن نصوص كانت موجودة بداھة،
ولكن العيون كانت تتجاوزھا .
وربما أخطأنا فى الشرح واالستنتاج ـ والخطأ خليقتنا ـ لكن ھذه الكتابات إذا جردناھا
من حرارة الشباب وسكبنا عليھا قليالً من برودة الشيخوخة ،أمكن استخالص المادة
التى تسن منھا قوانين تشرف األمة اإلسالمية وترفع كفتھا ..
إن اإلنكليز فى سبيل صد الشيوعية وصلوا إلى تأميم الطب ،وكفالة العيش لكل
عاطل حتى يجد العمل.
وغيرھم ابتكر ضروبا ً من االشتراكية سدت الباب سداً أمام اليسار المغرى ،فھل
يغنى عنا أن نقول :فى اإلسالم ما يكفى ويشفى دون أن نترجم تعاليمه إلى دساتير
وقوانين ؟
ولكى نعرف كيف يتصرف غيرنا ليخدم نفسه ويحقق غرضه ننقل ھذه الكلمات من
رسالة عن ” المخطط الشيوعى ” للدكتور إبراھيم دسوقى أباظة جاء فيھا ” :ينفرد
المخطط الشيوعى بخاصة نفاذة ،فھو يجمع عند الماركسى الحق بين التواء األسلوب
وصدق العقيدة ،فكل ما يوصل إلى الغاية تسوغه الغاية وإن كان يصدم مرحليا ً
بجوھرھا ،وكل ما يحمل إلى الھدف يبرره الھدف ،وإن بدا مناھضا ً لمنطقه ..
” ـ وھكذا التحق ” المراكسة ” بالوطنية وھم العالميون ! ..
” ـ وانتعلوا نزعة القومية وھم الالقوميون ! ..
” ـ واعتصموا بحبل الدين وھم الملحدون ” !
ويقول ” :وبين دول العالم الثالث لم يعد الدين أفيون الشعوب ـ لمكانة الدين فى
شعوب ھذا العالم ـ وإنما أصبح الشعار المرفوع :الدين والشيوعية للجميع ..
” أو كما قال ” قسيس أحمر ” :ننظم حياتنا ھنا كما نحب فإذا جاءت اآلخرة نظرنا
كيف نتصرف!! ..
” وعلى ھذا األساس تحرك الحزب الشيوعى فى إيطاليا وفرنسا ،وفى السودان
واليمن الجنوبى وال يزال بعضنا يدافع عن التراث اإلسالمى بتفكير عصر المماليك
” !!
وحتى نعرف عدونا وما يصنع نقرأ ھذه الكلمات ” إن اإلعالم الشيوعى اكتسب منذ
السنوات األولى للثورة الحمراء قدرات لم تعرف من قبل ،إذ أصبح قوة مؤثرة فى
صنع الفكر وتوجيه الحركات الثقافية فى أنحاء العالم ..ويكفى للتدليل على حجم ھذا
اإلعالم ما ورد فى إحصاءات األمم المتحدة أخيراً أن االتحاد السوفيتى يحتل المركز
األول فى إنتاج الكتب إذ يصدر يوميا ً 3700000كتاب ،أى ما يوازى ربع إنتاج
العالم ويبلغ ما تنتجه المطابع السوفيتية فى الدقيقة الواحدة 20500نسخة ،ولعل فى
ھذا األرقام ما يكفى ،بل ما يصرخ بالمراد ” .
ترى ماذا تنتج المطابع اإلسالمية ؟ ال رقم يذكر ھنا ،ألنه ال مجال للمقارنة ،إننا نحن
المؤلفين المسلمين نلتقط أنفاس الحياة بأعجوبة !
ويستطرد الدكتور أباظة فيقول ” :ونجاح االتحاد السوفيتى فى إدراك ھذا المستوى
العالى من اإلنتاج اإلعالمى يعود إلى ما تقرر خالل األيام األولى لقيام الثورة فقد
أصدرت الحكومة فى 1917 / 12 / 29مرسوما ً حددت فيه مبادئ ونظم نشر
الكتاب ” .
ويعتقد الشيوعيون أن الصحافة والكتب من أھم وسائل الثورة الثقافية أو بتعبير آخر
من أھم وسائل االنقالب الفكرى الذى ينشدونه وال شك أن الكتب والرسائل المؤلفة
بذكاء من أمضى األسلحة فى القضاء على األفكار والنظرات المعارضة ،وبث
اآلراء والتصورات الماركسية .
وتقول األرقام إن عدد الجرائد فى االتحاد السوفيتى ،7937ويبلغ مجموع النسخ من
كل طبعة 120مليون ويصدر منھا فى العام الواحد 26مليار و 655مليون نسخة .
أما عدد المجالت فقد بلغ 4704يصدر منھا فى كل طبعة 132مليون نسخة وبديھى
أن ھذا اإلنتاج الضخم يتوزع على روسيا وغيرھا من المؤسسات الشيوعية فى
أرجاء العالم ،وھو يطبع باللغات المحلية واللھجات الوطنية ” .
ذاك ما تبذله لتوضيح وجھة نظرھا دولة تحتل الصف األول فى التسلح العسكرى،
وإذا كانت األمور قد تذكر بأضدادھا فال بأس من إيراد ھذه النكتة ..
كتبت يوما ً كلمة أشرح فيھا اعتماد اإلسالم على اإلقناع فى نشر تعاليمه وأنه ما يلجأ
إلى السيف إال حيث يلقى السيف .
وھذه الكلمة جزء من فصل طويل فى كتابى ” االستعمار أحقاد وأطماع ” .
وفوجئت بعد نشر ھذه الكلمة بكاتب ال أعرف ما ھو يتھمنى بالضعف واالستسالم
آلراء المستشرقين،
ويقول :إن اإلسالم يعتمد على القوة فى انطالقه !
فقلت :زعم أوالد البلد أن أصم وكسيحا ً ومفلسا ً ركبوا زورقا لينقلھم إلى الشاطىء
ً
اآلخر للنھر ،وبينما الزورق فى وسط األمواج قال األصم :كأنى أسمع دبيب نملة
على الشاطىء ،فرد الكسيح :صه وإال ركلتك فى الماء ،وأجاب المفلس :الذى تعرف
ديته أقتله ..
أى قوة تتحدث عنھا أيھا المسكين ؟ ولنفرض جدالً أن اإلسالم يملك قوة تجعله
المتفرد بالسلطان على األرض !! ھل يعنى ذلك أن الدعوة ليست وسيلته الفذة ؟ وأن
اعتماده األعظم ليس على وسائل اإلعالم ؟ إنه ما يلجأ إلى القوة إال يوم تكون كسراً
للعدوان ،وحطما ً للطغيان وكفكفة لشرور المغرورين وناشدى العلو والفساد فى
األرض ..
لكن المغفلين كثيرون ،والطامة الكبيرة أن يملك ھؤالء السفھاء قدرة على الكالم فى
اإلسالم ومناوشة
علمائه !!
ونعود إلى موضوعنا :إن شرح اإلسالم بصورة عامة ،وشرح الجانب االجتماعى
واالقتصادى منه بصورة خاصة يحتاج إلى بصر بالحياة المعاصرة وقضاياھا المعقدة
ومبلغ تغلغل الدولة فى شئون األفراد والجماعات ،بل ويصر بما تضمنه اإلسالم من
نصوص وآثار وما توحى به ھذه النقول من دالالت قريبة وبعيدة ..
ثم صوغ ذلك قيماً ومبادئ وقوانين سھلة سائغة ،على أن يساند ھذا البالغ تطبيق
ناجح ونموذج عملى
محترم !!
ً
وبقى أن نعرف عن الشيوعيين شيئا آخر ..دعاواھم العريضة عن منطقھم العلمى
وفلسفتھم الواقعية ،وال أعرف مفلسا ً أكثر حديثا ً عن ثروته الطائلة من الشيوعى
الملحد الذى يكثر الحديث عن أسانيد كذبه ودالئل
زيفه ..
ال شىء ھنالك غير جرأة فى اتھام الناس بالرجعية والجمود .
واتھام المؤمنين بأنھم مخرفون نقلة أوھام ليس جديدا ً فى تاريخ الدنيا ،إنه ذات االتھام
الذى كان يقوله عرب الجزيرة لصاحب الرسالة من أربعة عشر قرنا ً ” حتى إذا
جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا :إن ھذا إال أساطير األولين ” )األنعام(25 :
والشيوعية نفسھا فى ميدان التطبيق االقتصادى نظام فاشل ،فإنتاجھا الزراعى أقل
من غيره ،وإنتاجھا الصناعى أردأ من غيره ،والقول ” بحتمية الحل االشتراكى ”
لون من السفسطة والكذب العام .
وقد قلنا إنھا نظام سياسى نجح فى قتل المعارضة ألن أرزاق الناس جميعا ً تجرى من
بين أصابع الحاكمين ..
وقد أصابنا مس من الفكر الشيوعى فى حياتنا االجتماعية فإذا اليوم ينعق فى ساحات
كانت قبل عامرة ،لم تجن الجماھير غير الشؤم والفزع والخوف والجوع ونقص من
األموال واألنفس والثمرات ..
ً
إن العقل العلمى قد ينقص كثيرا من المتدينين أما أنه ينقص الدين نفسه فال ثم ال ..
كيف والتفكير فريضة إسالمية ،والنظر الواعى إلى الكون والناس ركن ركين فى
اإليمان .
إن الجو الصحو الدافئ ھو وحده الذى ينمو فيه اإلسالم ويزدھر ،فإذا تقاصر الشعاع
وانتشر الغيم شرع اإلسالم يرحل !
وربما بقيت جماھير تتعلق بأذياله وھو مول ذاھب ،لكن الظن ال يغنى من الحق
شيئاً ،واألثر ال يغنى عن العين نفسھا ..
وبعض الناس أقلقه من الشيوعية أنھا تذھب بما يملك وھو كثير كثير وما ننظر إلى
أولئك ونحن نحارب الشيوعية ،وإنما ننظر فى المقام األول إلى ھذا اإللحاد الحقود
األعمى المخاصم وأنبيائه جميعاً ،المتبرم بالوحى األعلى وتوجيھاته للناس .
ونحب بالمنطق العلمى أن يعرف القاصى والدانى أن ﷲ حق ،وأنه مشرف على
العالم يدير أمره ويھب له وجوده ،ويحسب على كل عاقل مسالكه ،وما قدم وما أخر
” ﷲ ال إله إال ھو الحى القيوم ” .
*****
دار بينى وبين أحد المالحدة جدال طويل ،ملكت فيه نفسى وأطلت صبرى حتى ألقف
آخر ما فى جعبته من إفك ،وأدمغ بالحجة الساطعة ما يوردون من شبھات ..
قال :إذا كان ﷲ قد خلق العالم فمن خلق ﷲ ؟
قلت له :كأنك بھذا السؤال أو بھذا االعتراض تؤكد أنه ال بد لكل شىء من خالق !!
قال :ال تلقنى فى متاھات ،أجب عن سؤالى .
قلت له :ال لف وال دوران ،إنك ترى أن العالم ليس له خالق ،أى أن وجوده من ذاته
دون حاجة إلى موجد ،فلماذا تقبل القول بأن ھذا العالم موجود من ذاته أزالً
وتستغرب من أھل الدين أن يقولوا :إن ﷲ الذى خلق العالم ليس لوجوده أول ؟
إنھا قضية واحدة ،فلماذا تصدق نفسك حين تقررھا وتكذب غيرك حين يقررھا ،وإذا
كنت ترى أن إلھا ً ليس له خالق خرافة ،فعالم ليس له خالق خرافة كذلك ،وفق المنطق
الذى تسير عليه !! ..
قال :إننا نعيش فى ھذا العالم ونحس بوجوده فال نستطيع أن ننكره !
قلت له :ومن طالبك بإنكار وجود العالم ؟
إننا عندما نركب عربة أو باخرة أو طائرة تنطلق بنا فى طريق رھيب ،فتساؤلنا ليس
فى وجود العربة ،وإنما ھو :ھل تسير وحدھا أم يسيرھا قائد بصير !!
ومن ثم فإننى أعود إلى سؤالك األول ألقول لك :إنه مردود عليك ،فأنا وأنت معترفان
بوجود قائم ،ال مجال إلنكاره ،تزعم أنه ال أول له بالنسبة إلى المادة ،وأرى أنه ال
أول لھا بالنسبة إلى خالقھا .
فإذا أردت أن تسخر من وجود ال أول له ،فاسخر من نفسك قبل أن تسخر من
المتدينين ..
قال :تعنى أن االفتراض العقلى واحد بالنسبة إلى الفريقين ؟
قلت :إننى أسترسل معك ألكشف الفراغ واالدعاء الذين يعتمد عليھما اإللحاد
وحسب ،أما االفتراض العقلى فليس سواء بين المؤمنين والكافرين ..
إننى ـ أنا وأنت ـ ننظر إلى قصر قائم ،فأرى بعد نظرة خبيرة أن مھندسا ً أقامه،
وترى أنت أن خشبة وحديدة وحجرة وطالءة قد انتظمت فى مواضعھا وتھيأت
لساكنيھا من تلقاء أنفسھا ..
الفارق بين نظرتينا إلى األمور أننى وجدت قمراً صناعيا ً يدور فى الفضاء ،فقلت
أنت ” :انطلق وحده دونما إشراف أو توجيه ” وقلت أنا :بل أطلقه عقل مشرف مدبر
..
ى الحق الذى ال محيص عنه ،وبالنسبة إن االفتراض العقلى ليس سواء ،إنه بالنسبة إل ّ
إليك الباطل الذى ال شك فيه ،وإن كل كفار عصرنا مھرة فى شتمنا نحن المؤمنين
ورمينا بكل نقيصة فى الوقت الذى يصفون أنفسھم فيه بالذكاء والتقدم والعبقرية ..
إننا نعيش فوق أرض مفروشة ،وتحت سماء مبنية ،ونملك عقالً نستطيع به البحث
والحكم ،وبھذا العقل ننظر ونستنتج ونناقش ونعتقد .
وبھذا العقل نرفض التقليد الغبى كما نرفض الدعاوى الفارغة ،وإذا كان الناس
يھزءون بالرجعيين عبيد الماضى ويتندرون بتحجرھم الفكرى ،فال عليھم أن يھزءوا
كذلك بمن يميتون العقل باسم العقل ،ويدوسون منطق العلم باسم العلم ،وھم لألسف
جمھرة المالحدة !! ..
لكننا نحن المسلمين نبنى إيماننا با على اليقظة العقلية والحركة الذھنية ،ونستقرئ
آيات الوجود األعلى من جوالن الفكر اإلنسانى فى نواحى الكون كله .
فى صفحة واحدة من سورة واحدة من سور القرآن الكريم وجدت تنويھا ً بوظيفة
العقل اتخذ ثالث صور متتابعة فى سلم الصعود ،ھذه السورة ھى سورة الزمر ،وأول
صورة تطالعك ھى إعالء شأن العلم والغض من أقدار الجاھلين ” :قل ھل يستوى
الذين يعلمون والذين ال يعلمون إنما يتذكر أولو األلباب ” .
ثم تجىء الصورة الثانية لتبين أن المسلم ليس عبد فكرة ثابتة أو عادة حاكمة بل ھو
إنسان يزن ما يعرض عليه ويتخير األوثق واألزكى ” فبشر عباد الذين يستمعون
القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين ھداھم ﷲ وأولئك ھم أولو األلباب ” )الزمر(9 :
ثم يطرد ذكر أولى األلباب للمرة الثالثة فى ذات السياق على أنھم أھل النظر فى
ملكوت ﷲ الذين يدرسون قصة الحياة فى مجاالتھا المختلفة لينتقلوا من المخلوق إلى
الخالق ” ألم تر أن ﷲ أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع فى األرض ثم يخرج به
زرعا ً مختلفا ً ألوانه ثم يھيج فتراه مصفراً ثم يجعله حطاما ً إن فى ذلك لذكرى ألولى
األلباب ”)الزمر(21 :
وظاھر من الصور الثالث فى تلك الصفحة من الوحى الخاتم أن اإليمان لمبتوت
الصلة بالتقليد األعمى أو النظر القاصر أو الفكر البليد .
إنه يلحظ إبداع الخالق فى الزروع والزھور والثمار ،وكيف ينفلق الحمأ المسنون عن
ألوان زاھية أو شاحبة توزعت على أوراق وأكمام حافلة بالروح والريحان ،ثم كيف
يحصد ذلك كله ليكون أكسية وأغذية للناس والحيوان ،ثم كيف يعود الحطام والقمام
مرة أخرى زرعا ً جديد الجمال والمذاق تھتز به الحقول والحدائق ،من صنع ذلك كله
؟
قال صاحبى وكأنه سكران يھذى :األرض صنعت ذلك !!
قلت :األرض أمرت السماء أن تھمى والشمس أن تشع وورق الشجر أن يختزن
الكربون ويطرد األوكسجين والحبوب أن تمتلئ بالدھن والسكر والعطر والنشا ؟؟
قال :أقصد الطبيعة كلھا فى األرض والسماء !
قلت :إن طبق األرز فى غذائك أو عشائك تعاونت األرض والسماء وما بينھما على
صنع كل حبة فيه ،فما دور كل عنصر فى ھذا الخلق ؟ ومن المسئول عن جعل
التفاح حلواً والفلفل حريفا ً أھو تراب األرض أم ماء السماء ؟
قال :ال أعرف وال قيمة لھذه المعرفة !!
قلت :أال تعرف أن ذلك يحتاج إلى عقل مدبر ومشيئة تصنف ؟
فأين ترى العقل الذى أنشأ واإلرادة التى نوعت فى أكوام السباخ أو فى حزم األشعة
؟؟
قال :إن العالم وجد وتطور على سنة النشوء واالرتقاء وال نعرف األصل وال
التفاصيل !!
قلت له :أشرح لكم ما تقولون ! تقولون :إنه كان فى قديم الزمان وسالف العصر
واألوان مجموعة من العناصر العمياء ،تضطرب فى أجواز الفضاء ،ثم مع طول
المدة وكثرة التالقى سنحت فرصة فريدة لن تتكرر أبد الدھر ،فنشأت الخلية الحية فى
شكلھا البدائى ثم شرعت تتكاثر وتنمو حتى بلغت ما نرى!! ھذا ھو الجھل الذى
أسميتموه علما ً ولم تستحوا من مكابرة الدنيا به !!
أعمال حسابية معقدة تقولون إنھا حلت تلقائياً ،وكائنات دقيقة وجليلة تزعمون أنھا
ظفرت بالحياة فى فرصة سنحت ولن تعود !! وذلك كله فراراً من اإليمان با الكبير
!!
قال وھو ساخط :أفلو كان ھناك إله كما تقول كانت الدنيا تحفل بھذه المآسى واآلالم،
ونرى ثراء يمرح فيه األغبياء وضيقا ً يحتبس فيه األذكياء ،وأطفاالً يمرضون
ويموتون ،ومشوھين يحيون منغصين ..
قلت :لقد صدق فيكم ظنى ،إن إلحادكم يرجع إلى مشكالت نفسية واجتماعية أكثر مما
يعود إلى قضايا عقلية مھمة !!
ويوجد منذ عھد بعيد من يؤمنون ويكفرون وفق ما يصيبھم من عسر ويسر ” ومن
الناس من يعبد ﷲ على حرف ،فإن أصابه خير اطمأن به ،وإن أصابته فتنة انقلب
على وجھه خسر الدنيا واآلخرة ” )الحج(11:
قال :لسنا أنانيين كما تصف نغضب ألنفسنا أو نرضى ألنفسنا ،إننا نستعرض أحوال
البشر كافة ثم نصدر حكمنا الذى ترفضه ..
قلت :آفتكم أنكم ال تعرفون طبيعة ھذه الحياة الدنيا ووظيفة البشر فيھا ،إنھا معبر
مؤقت إلى مستقر دائم ،ولكى يجوز اإلنسان ھذا المعبر إلى إحدى خاتمتيه ال بد أن
يبتلى بما يصقل معدنه ويھذب طباعه ،وھذا االبتالء فنون شتى ،وعندما ينجح
المؤمنون فى التغلب على العقبات التى مألت طريقھم وتبقى صلتھم با واضحة
مھما ترادفت البأساء والضراء فإنھم يعودون إلى ﷲ بعد تلك الرحلة الشاقة ليقول
لھم ” :يا عباد ال خوف عليكم اليوم وال أنتم تحزنون ” )الزخرف(68 :
قال :وما ضرورة ھذا االبتالء ؟
ً
قلت :إن المرء يسھر الليالى فى تحصيل العلم ،ويتصبب جبينه عرقا ليحصل على
الراحة ،وما يسند منصب كبير إال لمن تمرس بالتجارب وتعرض للمتاعب ،فإن كان
ذلك ھو القانون السائد فى الحياة القصيرة التى نحياھا على ظھر األرض فأى غرابة
أن يكون ذلك ھو الجھاد الصحيح للخلود المرتقب ؟
قال ـ مستھزئا ً ـ :أھذه فلسفتكم فى تسويغ المآسى التى تخالط حياة الخلق وتصبـير
الجماھير عليھا ؟ قلت :سأعلمك ـ بتفصيل أوضح ـ حقيقة ما تشكو من شرور ،إن
ھذه اآلالم قسمان :قسم من قدر ﷲ فى ھذه الدنيا ،ال تقوم الحياة إال به ،وال تنضج
رسالة اإلنسان إال فى حره ،فاألمر كما يقول األستاذ العقاد ” :تكافل بين أجزاء
الوجود ،فال معنى للشجاعة بغير الخطر ،وال معنى للكرم بغير الحاجة ،وال معنى
للصبر بغير الشدة ،وال معنى لفضيلة من الفضائل بغير نقيصة تقابلھا وترجح عليھا
..
” وقد يطرد ھذا القول فى لذاتنا المحسوسة كما يطرد فى فضائلنا النفسية ومطالبنا
العقلية ،إذ نحن ال نعرف لذة الشبع بغير ألم الجوع ،وال نستمتع بالرى ما لم نشعر
قبله بلھفة الظمأ ،وال يطيب لنا منظر جميل ما لم يكن من طبيعتنا أن يسوءنا المنظر
القبيح ” ..
وھذا التفسير لطبيعة الحياة العامة ينضم إليه أن ﷲ جل شأنه يختبر كل امرئ بما
يناسب جبلته ،ويوائم نفسه وبيئته ،وما أبعد الفروق بين إنسان وإنسان ،وقد يصرخ
إنسان بما ال يكترث به آخر و فى خلقه شئون ،والمھم أن أحداث الحياة الخاصة
والعامة محكومة بإطار شامل من العدالة اإللھية التى ال ريب فيھا .
إال أن ھذه العدالة كما يقول األستاذ العقاد ” :ال تحيط بھا النظرة الواحدة إلى حالة
واحدة ،وال مناص من التعميم واإلحاطة بحاالت كثيرة قبل استيعاب وجوه العدل فى
تصريف اإلرادة اإللھية .إن البقعة السوداء قد تكون فى الصورة كلھا لونا ً من ألوانھا
التى ال غنى عنھا ،أو التى تضيف إلى جمال الصورة وال يتحقق لھا جمال بغيرھا،
ونحن فى حياتنا القريبة قد نبكى لحادث يعجبنا ثم نعود فنضحك أو نغتبط بما كسبناه
منه بعد فواته ” .
تلك ھى النظرة الصحيحة إلى المتاعب غير اإلرادية التى يتعرض لھا الخلق .
أما القسم الثانى من الشرور التى تشكو منھا يا صاحبى فمحوره خطؤك أنت
وأشباھك من المنحرفين .
قال مستنكراً :أنا وأشباھى ال عالقة لنا بما يسود العالم من فوضى ؟ فكيف تتھمنا ؟
قلت :بل أنتم مسئولون ،فإن ﷲ وضع للعالم نظاما ً جيداً يكفل له سعادته ،ويجعل قويه
عونا ً لضعيفه وغنيه براً بفقيره ،وحذر من اتباع األھواء واقتراف المظالم واعتداء
الحدود .
ً
ووعد على ذلك خير الدنيا واآلخرة ” من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وھو مؤمن
فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينھم أجرھم بأحسن ما كانوا يعملون ” .
فإذا جاء الناس فقطعوا ما أمر ﷲ به أن يوصل ،وتعاونوا على العدوان بدل أن
يتعاونوا على التقوى فكيف يشكون ربھم إذا حصدوا المر من آثامھم ؟
إن أغلب ما أحدق بالعالم من شرور يرجع إلى شروده عن الصراط المستقيم ،وفى
ھذا يقول ﷲ جل شأنه ” :وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير
” )الشورى(20 :
إن الصديق رضى ﷲ عنه جرد جيشا ً لقتال مانعى الزكاة ،وبھذا المسلك الراشد أقر
الحقوق وكبح األثرة ونفذ اإلسالم ،فإذا تولى غيره فلم يتأس به فى صنيعه كان
الواجب على النقاد أن يلوموا األقدار التى مألت الحياة بالبؤس ؟!
قال :ماذا تعنى ؟
قلت :أعنى أن شرائع ﷲ كافية إلراحة الجماھير ،ولكنكم بدل أن تلوموا من عطلھا
تجرأتم على ﷲ واتھمتم دينه وفعله !!
ومن خسة بعض الناس أن يلعن السماء إذا فسدت األرض ،وبدالً من أن يقوم بواجبه
فى تغيير الفوضى وإقامة الحق يثرثر بكالم طويل عن الدين ورب الدين !! ..
إنكم معشر الماديين مرضى تحتاج ضمائركم وأفكاركم إلى عالج بعد عالج ..
وعدت إلى نفسى بعد ھذا الحوار الجاد أسألھا :إن األمراض توشك أن تتحول إلى
وباء ،فھل لدينا من يأسو الجراح ويشفى السقام أم أن األزمة فى الدعاة المسلمين
ستظل خانقة ؟
*****
)األنبياء(32 :
وھناك إيماءة علمية معجبة مثيرة فى الحديث عن النجوم وأبعادھا السحيقة تحسھا
وأنت تقرأ قوله تعالى ” :فال أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ”
)الواقعة(76:
إن جملة ” لو تعلمون ” تشير إلى أن ھناك حقائق كبيرة فوق مستوى العقل البشرى
تتصل بھذه المواقع ،ترى على أوضحھا الكشوف الفلكية األخيرة ؟ ربما ..إذا كان
الخطاب متجھا ً إلى الناس فى عھد ابتداء الوحى ..إنھم لم يروا فى المراصد الحديثة
أسرار القبة الزرقاء وما فيھا من عجائب ..أما أھل ھذا العصر فقد عرفوا ،وبھرھم
ما عرفوا واضطرت جمھرتھم أن تقول ” :سبحانك ما خلقت ھذا باطالً ” ومع ذلك
فنقول إن ما عرفه العلماء اآلن شىء تافه بالنسبة إلى ما زوى عنھم ،فإن آالتھم التى
اعتمدوا عليھا أرتھم القليل وعجزت عن الكثير ،ويبقى الخطاب القرآنى موجھا ً إلى
األقدمين والمحدثين على سواء ” فال أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم
”.
إن الكون كبير ،وأكبر منه خالقه جل جالله ..
وأعترف أنى لم أعرف ضآلة األرض التى نحيا فوقھا إال بعد قراءات يسيرة فى علم
الفلك ،بعدھا فقط فھمت معنى الحديث القدسى ” يا عبادى لو أن أولكم وآخركم
وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك فى ملكى شيئا ً .يا
عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما
نقص ذلك من ملكى شيئا ً ” )رواه الترمذى فى القيامة ،وغيره( .
أومض فى بصيرتى شعاع عن عظمة الخالق األعلى جعلنى أردد مع صاحب الوحى
الخاتم وأصدق بشر فى اآلخرين ،ھذا التسبيح القانت ما جعلنى أكذب أساطير اليھود
والنصارى التى تصف ﷲ بأنه جلس يأكل مع عبده إبراھيم ،أو اشتبك فى صراع مع
عبده يعقوب !!
قبحا ً لھذا اللغو ! ..أكذلك يوصف رب المشارق والمغارب بديع السموات واألرض،
جاعل السموات واألرض ؟؟
وعدت إلى القرآن الكريم أنظر إليه بإعزاز ،وأتدبر آياته بأدب وأستمع إليه يصف
الجاھلين بربھم فيقول:
ً
” وما قدروا ﷲ حق قدره واألرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات
بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ” )الزمر. (67 :
لكن لماذا التأمل فى السماء وحدھا ؟ ھل يحتاج اليقين إلى ھذا النظر العالى ؟ إن
ھناك أنفسنا واألرض التى نعيش عليھا ،يمكننا أن ننظر فيھا ـ عن قرب ـ لنعتبر
ونتعلم ” ..وفى األرض آيات للموقنين وفى أنفسكم أفال تبصرون ” )الذاريات(21 :
كنت أفكر فى مسألة علمية تحتاج إلى استغراق ومراجعة ،وكانت طفلتى تلعب قريبا ً
ى وال يعنيھا من تفكيرى شىء ..قلت :أنا وھى نماذج ألربعة آالف منى تنظر إل ّ
مليون أو أكثر يسكنون ھذه الكرة الطائرة فى فضاء ﷲ تدور بقدر حول أمھا الشمس
..
لكل فرد من ھذه األلوف المؤلفة فكره الخاص ،وعالمه الذى يعيش داخله وطريقته
فى الفھم والحكم على األمور .
ترى لو انقطع التيار الذى تنير به ھذه األدمغة ،إالم تصير ؟
على كل حال إنه لم ينقطع ،وفى كل مخ تالفيفه التى يتحرك بھا ويقوم عليھا عالمه
الخاص .سبحان من أبدع ھذا كله ،سبحان من احتوت أصابعه قلوب الخالئق جميعا ً
يصرفھا كيف يشاء .
وعدت إلى تعليق األستاذ أنيس منصور على الكواكب المكتشفة وداللة السماء على
عظمة ﷲ ،إنه يقول ” :على الرغم من ضخامة الكون وعظمته وأبعاده التى ال ندرك
لھا حدوداً فإن ھذا الكون أبسط من النفس اإلنسانية وأسھل من الجسم اإلنسانى،
وأصغر من الخلية الحية ..
” إن عظمة العالم تبرز فى تكوين الحياة نفسھا ،إن الحياة فى الكائن الحى أروع
وأعمق وأعقد وأصعب من نجم ملتھب يدور فى الفضاء السحيق بعيدا ً عن عيوننا
وعدساتنا ..
” إن المسافة التى بينى وبين القمر أقرب جداً من المسافة التى بينى وبينك ،فالذى
بينى وبينك صعب وغير
مفھوم ..
” ومن ھنا كان أى كائن حى مھما دق وزنه وحجمه أعظم من أى نجم غابر فى
األفق ..
” لست فى حاجة إلى أدلة على وجود ﷲ نستوردھا من السماء ـ وحدھا ـ وإنما فى
نفسك وجسمك وتحت قدميك توجد أعظم معجزات الخلق واإلبداع ” .
وفى ھذا الكالم صدق كثير ..ليس من الضرورى أن يكون المرء فلكيا ً ليعرف
عظمة ربه ..إن الرجل العادى يستطيع أن يعرف عن قدرة ﷲ وحكمته وعلمه
ورحمته ما ينمى اإليمان فى قلبه ولبه لو أنه نظر فقط إلى ما يأكله .
ولكن ناسا ً كثيرين ” يتمتعون ويأكلون كما تأكل األنعام .والنار مثوى لھم ” )محمد
(12
*****
فى أرجاء األمة اإلسالمية ناس أشباه متعلمين يعلنون إلحادھم دون حياء ،ويزعمون
أنھم ثوار على الرجعية ،عشاق للمعرفة ،ضائقون باألفكار القديمة ،معتنقون لألفكار
الحديثة !!
وكثيراً ما لقيت فى طريقى صوراً من ھؤالء الناس ،فأتفرس فى مسالكھم وأتأمل فى
أقوالھم وأحوالھم ،ثم أذكر كلمة العقاد رحمه ﷲ :ھناك مقلدون فى كراھية التقليد !
أما حديث العلم وتقدمه ،والكون وكشوفه فھو تعلة خادعة ينكرھا العلم والعلماء ..
وأول ما نلحظه على أولئك الناس نقلھم لكلمات أوحت بھا بيئات أخرى وترديدھا فى
بالدنا دون أى حساب الختالف الزمان والمكان والباعث والنتيجة !!
لقد كان الفيلسوف األلمانى ” نيتشه ” ملحداً ،وكان كفره با شديداً .ومما يؤثر عنه
قوله فى الھجوم على الدين ” عندما نستمع فى صباح األحد إلى دقات األجراس
القديمة نتساءل :أھذا ممكن ؟ إن ھذا كله من أجل يھودى صلب منذ ألفى عام كان
يقول إنه ابن ﷲ !! وھو زعم يفتقر إلى برھان ..
” ال جدال أن العقيدة المسيحية ـ ھكذا يقول نيتشه ـ ھى بالنسبة إلى عصرنا أثر قديم
نابع من الماضى السحيق ،وربما كان إيماننا بھا فى الوقت الذى نحرص فيه على
اإلتيان ببراھين دقيقة لكل رأى نعتنقه شيئا ً غير مفھوم ،فلنتصور إلھا ً أنجب أطفاالً
من زوجة غانية ،وخطايا ترجع إلى ﷲ ثم يحاسب ھو نفسه عليھا خوفا ً من عالم آخر
يكون الموت ھو المدخل إليه ! لكم يبدو كل ذلك مخيفاً ،وكأنه شبح قد بعث من
الماضى السحيق ! أيصدق أحد أن ھذا ما زال يصدق ” ؟
وھذا الطراز من اإللحاد ھو الذى يحمل جرثومته بعض الناس ،يحسبون أنھم يفتنوننا
به نحن المسلمين عن ديننا ويصرفوننا عن رسالتنا ..
وھو طراز يختلط فيه التقليد األعمى بالنقص المركب ،أو حب الظھور بالحقد على
المجتمع ..أما الزعم بأن العلم المادى ضد الدين ،وأن بحوثه المؤكدة وكشوفه
الرائعة تنتھى بإنكار األلوھية فھذا ھو الكذب الصراح ! ..
بل إن أساطين العلم والفلسفة تشابھت مقاالتھم فى إثبات الوجود األعلى ،وتكاد فى
وصفھا تنتھى إلى ما انتھى إليه القرآن الكريم من توحيد وتمجيد ..
نحن ال ننكر أن خصاما ً شديداً قد وقع بين العلم والدين فى أوربا حيث كان القول
بكروية األرض كفراً ،والقول بدورانھا حول الشمس إلحادا ً !!
وال ريب أن ھذه الجفوة المفتعلة بين حقيقة الدين وطبيعة العلم تركت آثارا ً سيئة ھنا
وھناك ،بيد أن االعتماد على ھذا فى التجھم لإليمان الحق ال يسوغ ،فإن تجريد الدين
من الشوائب التى لحقت به ،والتزام العلم للنھج السوى فى البحث عن الحقيقة قد
انتھى بصلح شريف يذكرنا بقوله جل شأنه:
” سنريھم آياتنا فى اآلفاق وفى أنفسھم حتى يتبين لھم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه
على كل شىء شھيد ”
)فصلت( .
كانت المادية ھى بدعة القرن الماضى ،وكان الزعم السائد أنه ال وجود إال للمادة،
وأن ما وراء المادة عدم محض وأن المادة ال تفنى وال تستحدث ،وأن الدين بعد ھذا
كله أمسى ال مكان له !!
ثم مضت الحقائق العلمية تكشف عن وجھھا فإذا مقررات الماضى تنسف من
أصولھا ،يقول الدكتور أبو الوفا التفتازانى ” :كان العلم يتصور األمور تصوراً مادياً
بحتا ً إلى أن جاء العالم الشھير ” ألبرت أينشتين ” فغير ببحوثه الطبيعية النظر إلى
المادة تغييرا ً حاسماً ،وقد صور الفيلسوف اإلنجليزى ” راسل ” ذلك قائالً :درسنا
العالم الطبيعى فوجدنا المادة عند العلم الحديث قد فقدت صالبتھا وعفويتھا ،إذ حللھا
العلماء إلى مجموعات ذرية كل مجموعة منھا تنحل إلى ذرات ،وكل ذرة تعود
بدورھا فتنحل إلى كھارب موجبة وأخرى سالبة ،ثم مضى العلماء فى التحليل ،فإذا
ھذه الكھارب نفسھا تتحول إلى إشعاعات !!
وختم ” راسل ” كالمه بھذه العبارة ” ليس فى علم الطبيعة ما يبرھن على أن
الخصائص الذاتية للعالم الطبيعى تختلف عن خصائص العالم العقلى ” .
ونحن نقول :انتساب ذلك الكون الضخم إلى أصول من األشعة شىء مثير حقا ً !!
ترى ما الذى كثف النور وجمد حركته ووزعه على ألوف األشكال التى نراھا ؟
إنك لن تعدم سفيھا ً يقول لك :تم ذلك من تلقاء نفسه !!
وھذا القائل مستعد أن يقول لك أيضا ً :إن الصحف فى عواصم العالم تصدر عن
دورھا مليئة باألخبار والتعليقات والصور منسقة الحروف واألرقام تلقائيا ً من غير ما
إشراف وال إعداد وال تبويب وال ترتيب !
لعمرى إن ذلك أدنى إلى التصور من خلق الموت والحياة فى ھذا العالم الفخم تلقائيا ً
كما يأفك األفاكون !!
لكن أى عاقل يحترم نفسه ويقدر علمه يأبى ھذا المنزلق .
يقول الدكتور التفتازانى :ولعل ھذا ما جعل العالمة ” أينشتين ” يؤثر اإليمان با
ويرفض الشبھات التى تختلق ضده ،وقد دار حوار بينه وبين صحفى أمريكى يدعى
” فيرك ” فى ھذا الموضوع قال فيه الرجل العالم بحسم :إننى لست ملحداً !! وال
أدرى :ھل يصح القول بأنى من أنصار وحدة الوجود ؟ إن المسألة أوسع نطاقا ً من أن
تحيط بھا عقولنا المحدودة !!
] ليس ھذا العالم ممن يعتنقون مذھب الوحدة الذى يعرفه الھنود ،أو بالنحو الذى
تسرب من الھندوكية إلى بعض الديانات األخرى ،ولكنه يريد أن يقول :إنه يرى ﷲ
فى كل شىء ويلمح صفاته العظمى فى مجالى الكون كله ” ھو األول واآلخر
والظاھر والباطن وھو بكل شىء عليم ” وعذر الرجل أنه ال يعرف اإلسالم فيعبر
التعبير المأثور [ ..
وعاد الصحفى إلى سؤاله بطريقة أخرى يريد بھا ھز اإليمان الذى الذ به ھذا العالم،
فقال :إن الرجل الذى يكتشف أن الزمان والمكان منحنيان ،ويحبس الطاقة فى معادلة
واحدة جدير به أال يھوله الوقوف فى وجه غير المحدود !!
فيرد أينشتين :اسمح لى أن أضرب لك مثالً :إن العقل البشرى مھما بلغ من عظم
التدريب وسمو التفكير عاجز عن اإلحاطة بالكون فكيف بخالقه ؟! نحن أشبه ما
نكون بطفل داخل مكتبة كبيرة ارتفعت كتبھا إلى السقف فغطت جدرانھا ،ثم ھى
مؤلفة بشتى اللغات .إن ھذا الطفل يعلم أن شخصا ً ما كتب ھذا الكتب ،ولكنه ال
يعرف بالضبط من ھو ،وال كيف كانت كتابته لھا ثم ھو ال يفھم اللغات التى كتبت بھا
!!
ً ً
وقد يالحظ الطفل أن ھناك طريقة معينة رتبت بھا الكتب ونظاما غامضا يشمل
صفوفھا وأوضاعھا ،نظاما ً نحس أثره وال ندرى كنھه .
إن ذلك القصور ھو موقف العقل اإلنسانى مھما بلغ من العظمة والتثقيف !!
وعاد الصحفى األمريكى يسأل :أليس فى وسع أحد حتى أصحاب العقول العظيمة أن
يحل ھذا اللغز ؟
فأجاب أينشتين مرة أخرى يعلل لماذا ھو مؤمن ،ولماذا يعجز عن معرفة كنه ﷲ
فقال ” :نرى كونا ً بديع الترتيب خاضعا ً لنواميس معينة ،ونحن نفھم ھذه النواميس
فھما ً يشوبه اإلبھام فنؤمن با ولكن عقولنا المحدودة ال تدرك القوة الخفية التى تھيمن
على مجاميع النجوم ” .
لو كانت المواد التى يتكون منھا ھذا العالم الضخم تتراكم بعضھا فوق بعض دون
تبصر أو حكمة لدلت كثرتھا وحدھا على غنى واسع وثراء عريض !! فإن األبعاد
اآللية لھذا الكون مذھلة !!
لكن األمر أبعد ما يكون عن الجزاف والفوضى .
والبناء العقلى المتغلغل فى الكون من الذرة إلى المجرة يجعلنا نكون عن ھذا العالم
الدقيق صورة أخرى .
ولن نأتى بھذه الصورة من عند أنفسنا بل من أقوال الفلكى اإلنجليزى ” سير جيمس
جينز ” الذى ينطق بھذه العبارة المثيرة ” :لقد بدأ الكون يلوح أكثر شبھا ً بفكر عظيم
منه بآلة عظيمة ” .
إن الروعة ال تكمن فى ضخامة اآللة التى نراھا بل فى الطريقة التى تدور بھا وتؤدى
وظيفتھا ،فى حبكة الموازنة والضبط والتقدير .
ومن ثم يتجه اإلعجاب إلى العقل الواضع الحاسب قبل أن يتجه إلى أثره المحدود .
ولننظر إلى عقلنا اإلنسانى بين ما ننظر إليه من صنوف المخلوقات ماذا نرى ؟ إنه
كائن ذكى قدير يبدو ويخفى فى أدمغة األلوف المؤلفة من سكان األرض واألحياء
والراحلين ،الذين وجدوا والذين سيوجدون ،من أين تولد ھذا العقل ؟ من الماء
والطين كأعشاب الحدائق ..ھذا فرض مضحك وال ريب ،إنه نفحة من الخالق
األعلى وحده .
يقول سير جيمس جينز :يجب أن نذكر المقدمات التى يفترضھا بعض النقاد من غير
علم ،فالكون ال يبيح لنا أن نصوره تصويرا ً مادياً ،وسبب ذلك فى رأيى أنه قد أصبح
من المدركات الفكرية العميقة أنا واجدون فى الكون دالئل قوة مدبرة أو مسيطرة
يوجد بينھا وبين عقولنا الفردية شىء مشترك ،خير ما نصفھا به أنھا رياضية )!(
ألننا ال نجد اآلن أصلح من ھذا التعبير ” .
والعالمة اإلنجليزى معذور فى وصف اإلبداع اإللھى بھذا األسلوب ،لقد راعه وھو
فلكى راسخ أن يجد فى نظام الشروق والغروب والدوران واالنطالق دقة تسجد علوم
الرياضة فى محرابھا ،فقال ” :إن التفكير المشرف عليھا ليس ھو العاطفة أو
األخالق أو تقدير الجمال ،ولكنه الرغبة فى التفكير بطريقة تفكير علمى رياضى !!
بل إنه اعتبر العقل اإلنسانى أثرا ً للعقل الكلى الذى توجد فيه على شكل فكر تلك
الذرات التى نشأت منھا عقولنا ،ثم انتھى أخيراً إلى أن اآلراء متفقة إلى حد كبير فى
ميدان العلم الطبيعى إلى أن نھر المعرفة يتجه نحو حقيقة غير آلية ” أى غير مادية،
أى إلى ﷲ الكبير المتعال ” .
على ھذا النحو يفكر علماء الكون الكبار ،ويحكم أئمة العلم الحديث ورواده الكبار،
ولذلك شعرت بسخرية أى سخرية عندما قرأت لصحافى ” كبير ” فى بالدنا ھذه
الكلمة الغبية السمجة ” :إن التقدم العلمى يوشك أن يجعل أخطر الوثائق العقائدية
نوعا ً من البرديات القديمة التى حال لونھا ،وبليت صفحاتھا ،وعدت عليھا عوامل
الزمن بالتعرية والتآكل وأصبح من الضرورى لإلبقاء على أثرھا أن يخصص لھا
مكان فى متاحف التاريخ ” .
قلت :ما أوسع الفرق بين منطق العلماء ومنطق الجھالء فى تناول القضايا وإرسال
األحكام .ھل يمحى اإليمان كله بھذه السھولة .
ً ً
ولقد شعرت كذلك بسخرية أى سخرية عندما رأيت كتابا بعنوان ” العالم ليس عقال ”
ألفه شخص ولد فى نجد وقضى أغلب عمره على قھوات القاھرة وبيروت ،وتلقى
أكثر علمه من األوراق الشاحبة التى يسطرھا بعض المعلولين والمعقدين !
ھذا المسخ الذى لم يعمل يوما ً فى مرض وال مختبر للكيمياء أو الفيزياء ينكر األلوھية
ويسفه النتائج التى وصل إليھا أمثال ” أينشتين ” من قادة المعارف الكونية ،طبعا ً
ألنھم رجعيون وھو تقدمى ،وألنھم قاصرون وھو نابغة !! ..
ولست أتھم كل ملحد أنه صورة للملحدين الصغار فإن ھناك بعض العلماء والفالسفة
ـ وإن كانوا قلة ـ تنكروا لإليمان وقواعده وغاياته ،بيد أن المتتبع ألقوال ھؤالء يجزم
بأن انتسابھا إلى العلم تزوير جرىء فھم يخمنون ويفترضون ثم يبنون قصوراً على
رمال !
وقد قرأت لبعضھم كالما ً عن بداية الخليقة يثير الضحك ،فھم يزعمون أن العناصر
فى األزل السحيق تفاعلت اعتباطاً ،وسنحت فرصة لن تتكرر بعد أبدا ً )!( فتكونت
جرثومة الحياة ثم أخذت تنمو وتتنوع على النحو الذى نرى ..
وھذا كالم ال يصدر عن عقل محترم وال يصفه بأنه علم إال مخبول !!
وصدق ﷲ العظيم ” ما أشھدتھم خلق السموات واألرض وال خلق أنفسھم وما كنت
متخذ المضلين عضداً ”.
وأذكر أنى ـ وأنا أناقش بعض األدلة ـ سألت نفس ھذا السؤال :ھل أنا كائن قديم أم
مخلوق جديد ؟
فكان الجواب القاطع :لقد ولدت سنة كذا ،فأنا حادث بال ريب !! ولكن شبھة ثارت
تقول :إنك تخلفت عن مادة الذين ھلكوا قبلك ،وعندما تموت فستكون أجساد منك ومن
غيرك ! فقلت :إذا سلمت بھذا فى األجساد فلن أسلم به فى روحى أنا ..إن ھذه ” األنا
” المعنوية ھى حقيقتى الكبرى ،وأنا مستيقن بأنى كائن جديد مستقل وجدت بعد عدم
محض ،فمن أبرزنى من ال شىء ؟
إننى لست معتوھا ً حتى أشك فى بداية وجودى وشعورى ،فمن رب ھذه المنحة
الخطيرة ؟ فتلوت قوله تعالى ” ھل أتى على اإلنسان حين من الدھر لم يكن شيئا ً
مذكوراً ] .االستفھام تقريرى أى لقد أتى على اإلنسان وقت كان فيه عدما ً محضاً .
واآليات فى صدر سورة اإلنسان [ إنا خلقنا اإلنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه
سميعا ً بصيراً ” .
وعدت إلى قصة الجسد الذى أحمله فى حياتى وأنضوه بعد مماتى ھل ھو قديم المادة
حقا ً ؟ فسألت العلم :كيف يوجد ؟ وھل يمكن أن يتمثل بشراً سويا ً ھكذا خبط عشواء ؟
فقال العلم :إن الوليد يتخلق أول أمره من التقاء الحيوان المنوى بالبويضة !
فما الحيوان المنوى ؟ كائن دقيق توجد فى الدفقة الواحدة منه قرابة مائة مليون
حيوان ،كل واحد من ھذه األلوف المؤلفة يمثل الخصائص المعنوية والمادية لإلنسان
من الطول والقصر والسواد أو البياض والذكاء أو الغباء والشدة أو الھدوء ..الخ .
ويبدأ التكون اإلنسانى بوصول واحد ـ ال غير ـ من ھذه األلوف الكثيفة إلى البويضة
وتفنى البقية .
قلت :فألقف عند نقطة االبتداء ھذه ألسأل :من الذى صنع ھذه الحيوانات السابحة فى
سائلھا ،الحاملة لخصائص الساللة اآلدمية من أجيال خلت ؟
قالوا :غدة فى الجسم !
قلت :غدة أوتيت الذكاء والوعى واالقتدار على خلق مائة مليون كائن من طراز واحد
! مجموعة دراھم من اللحم تتصرف من تلقاء نفسھا فى صنع الذكاء أو الغباء،
والحلم أو الغضب ؟
ما يصدق ھذا إال مغيب العقل !! وتلوت قوله تعالى:
” أفرأيتم ما تمنون .أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ؟ ” ] الواقعة[ 58 :
إننا أمام أدوات القدرة اإللھية العليا وھى تبرز مشيئة الخالق الجليل ،وكأنھا تقول لنا:
إن خلق ﷲ للعالم ليس فيه شائبة غرابة ! أليس يخلق فى كل لحظة تمر ألوفا ً من
الناس وألوفا ً من الدواب ،وصنوفا ً من النبات ؟؟
إن إبداع الخليقة ليس فلتة وقعت وانتھت ،وأمست فى ذمة التاريخ بحيث يستطيع
المكابرون أن يجادلوا فيھا ..ال ..إن اإليجاد من الصفر يقع أمام أعيننا كل يوم فى
عالم األحياء فلم ھذا المراء .
إن بديع السموات واألرض ال يزال يخلق فى كل وقت وفى كل بر صنوفا ً من
األحياء الدقيقة والجليلة ال حصر لھا ،فكيف ينكر ما كان من خلق أول أو ما سوف
يكون من بعث وجزاء ؟
” أو لم يروا كيف يبدئ ﷲ الخلق ثم يعيده .إن ذلك على ﷲ يسير .قل سيروا فى
األرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم ﷲ ينشئ النشأة اآلخرة .إن ﷲ على كل شىء
قدير ” ] العنكبوت. [ 20 :
ولنفرض جدالً أن بعض الناس يرى أن الفلك الدوار يجرى فى الفضاء دون ضابط
وال رابط ،وأن الوليد الخارج من ظلمات الرحم المع العين مورد الخد مفتر الثغر ،قد
صنعه على ھذا التقويم الحسن شىء ما فى بطن
األم !!
لنفرض أن بعض الناس ركب رأسه وقال ھذا الكالم فما الذى يجعل ھذا الزعم
السخيف يوصف بأنه علم وتقدمية على حين يوصف منطق اإليمان بأنه جمود
ورجعية ؟
سبحانك ھذا بھتان عظيم !
لقد آن األوان لتھتك األستار عن أدعياء التقدم الذين يمثلون فى الواقع ارتكاسا ً إنسانيا ً
إلى جاھلية عديمة الشرف والخير مبتوتة الصلة بالعقل وذكائه والعلم وكشوفه ..
ربما شك بعض الناس فى حقيقة الدين الذى يعتنقه أو فى جدواه عليه ،فإذا ساور ھذا
الخاطر أحداً من خلق ﷲ ،فإن العربى آخر امرئ يعرض له ھذا الظن ،بل يقرب من
المستحيل أن يساوره .
ذلك أن فضل اإلسالم على العرب كفضل الضياء والماء على الزرع .
ال أقول أطعمھم من جوع وآمنھم من خوف ،بل أقول أوجدھم من عدم ،وجعل
السمھم حقيقة ،وأقام بھم دولة وأنشأ حضارة ..
قد تكون بعض العقائد عقاقير مخدرة للنشاط البشرى ،لكن اإلسالم لما جاء العرب
شحذھم وأثار عقولھم ،ووحد صفھم ،وطار بھم إلى آفاق مادية وأدبية لم يحلم بھا
آباؤھم وال تخيلھا أصدقاؤھم أو أعداؤھم ،ومضى العرب فى طريق المجد الذى شقه
اإلسالم لھم فعرفھم للعالم وكان قبل يجھلھم ،وأفاءوا على ماضيه القريب ما ال ينكره
إال متعصب كفور !
وارتبطت مكانة العرب الذاتية والعالمية بھذا الدين ،فھم يتقھقرون إذا تخلوا عنه
ويستباح حماھم .وھم يرتقون ويتقدمون إذا تشبثوا به وتحترم حقوقھم .
على عكس ما عرف فى أمم أخرى لم تستطع التحليق إال بعدما تخففت من مواريثھا
الدينية كال أو جزءاً !!
وقد استطاع مسلمو الجزائر فى ھذا العصر أن يستخلصوا حريتھم من براثن عاتية
وأن يدفعوا ثمن ھذا الخالص مليونا ً ونصف من الشھداء !
وما ينبغى تقريره ھنا أن اإلسالم وحده كان وقود ھذا الكفاح القاسى ..اإلسالم بما
غرسه فى األفئدة من إباء.
فلما ظفر الجزائريون باستقاللھم بدءوا يستعيدون عروبتھم التى فقدوھا خالل قرن
وربع ،ووضعت مشروعات لجعل األفراد والجماعات ينطقون بالعربية ويتفاھمون
بھا بعدما كادت ھذه اللغة تبيد أمام زحف الفرنسية وسيادتھا فى الشوارع والدواوين
!!
إن اإلسالم بالنسبة للعروبة ول ّى نعمتھا وصانع حياتھا .
وقد اعترف مسيو ” جاروديه ” وھو شيوعى فرنسى عاش ردحاً من الزمان فى
جبھة التحرير الجزائرية بأن الدين وحده ھو الذى أوقد شرر ھذا الكفاح العزيز
الغالى وأن اإلسالم يستحيل أن يوصف بأنه مخدر الشعوب .
واإلسالم ال يجعل من العرب شعبا ً مختاراً يفضل غيره بساللة أو دم خاص ،كال كال،
إن ﷲ اختار لعباده تعاليم راشدة وشرائع عادلة ،ثم وكل إلى العرب أن يحملوا ھذه
التعاليم والشرائع ليعملوا بھا وليعلموھا من شاء ..
وﷲ يأبى كل نعرة عنصرية أو استعالء قومى ..إنھا مبادئ محددة ،تنطلق منھا أمة
ما فتكون بعين ﷲ ،أو تند عنھا فيدعھا لنفسھا ،بالوفاء لھذه المبادئ تصعد ،فإن
فرطت ھبطت .
ولذلك يقول ﷲ للمنھزمين فى أحد ” وال تھنوا وال تحزنوا وأنتم األعلون إن كنتم
مؤمنين ” ] آل عمران [ 139 :فالعلو قرين اإليمان ،وينصح األمة كلھا بالطاعة
واإلصالح ويتھدد عدوھا بالطرد والھوان ،ثم يأمرھا بالمقاومة ورفض االستسالم
وسيكون المستقبل لھا إن ھى أبقت حبلھا موصوالً بربھا ” يا أيھا الذين آمنوا أطيعوا
ﷲ وأطيعوا الرسول وال تبطلوا أعمالكم .إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل ﷲ ثم
ماتوا وھم كفار فلن يغفر ﷲ لھم ،فال تھنوا وأنتم األعلون وﷲ معكم ولن يتركم
أعمالكم ” ] محمد. [ 35 :
والتدبر فى ھذه اآليات الثالث يعطى فكرة بينة أن تفضيل أمة ما ھو تفضيل سلوك
ومنھج ،ال تفضيل دم أو لون وأن اإليمان الشريف واالستقامة الواضحة أساس العزة
المنشودة وأنه مھما القى المسلمون من صعاب وھزائم فال يجوز أن يقبلوا سلما ً
مخزيا ً وال أن يعطوا الدنية من أنفسھم .
ولھم أن يركنوا إلى ﷲ ولن يذل جانبھم ما آمنوا به وعملوا له .
واليقظة العزيزة التى صنعھا اإلسالم وھو يبنى األمة يمكن أن نتابعھا فى مرحلتين:
األولى فى العھد المكى ،يوم كان المسلمون قلة تتوقع الضيم ويتجرأ عليھا األقوياء !
لقد أمر المسلمون إبان ھذه المحن أن يثبتوا ويشمخوا بحقھم ،ويتنكروا لكل ھوان
ينزل بھم ،ويطلبوا ثأرھم ممن اعتدى عليھم ،فإن عفوا فعن قدرة ملحوظة ال عن
ادعاء مرفوض !!
انظر كيف وصفت سورة الشورى المكية طالب اآلخرة الذين يؤثرون ما عند ﷲ
على ھذه الدنيا ،إنھم ” الذين استجابوا لربھم وأقاموا الصالة وأمرھم شورى بينھم
ومما رزقناھم ينفقون والذين إذا أصابھم البغى إذا ھم ينتصرون ! وجزاء سيئة سيئة
مثلھا فمن عفا وأصلح فأجره على ﷲ وﷲ ال يحب الظالمين ” ] الشورى. [ 38 :
فطالب اآلخرة ـ كما وصفتھم السورة المكية ـ ليسوا الذين يعيشون فى الدنيا أذنابا ً
مستباحين أو ضعافا ً مغموصين ،أو كما يقول الشاعر يصف قوما ً تافھين:
ويقضى األمر حين تغيب تيم
وال يستأمرون وھم شھود
ال ،ال ،إن ھؤالء المؤمنين بالدار اآلخرة يفرضون أنفسھم على ھذه الحياة الدنيا
ويكرھون العدو والصديق على أن يحسب حسابھم ويزن رضاھم وسخطھم ،ويعلم
أن نتائج العدوان عليھم أذى محذور وشر مستطير ،ألنھم إذا بغى عليھم ينتصرون،
ويلطمون السيئة بمثلھا ! وليس ذلك بالنسبة للحق األدبى للجماعة كلھا ،بل ھو كذلك
بالنسبة إلى حق الفرد فى ماله الخاص ،فقد سئل النبى صلى ﷲ عليه وسلم:
” أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالى ..
” قال :قاتله .قال :أرأيت إن قتلته ؟ ..
” قال :ھو فى النار .قال :أرأيت إن قتلنى ؟ ..
” قال :فأنت شھيد ” ] مسلم فى كتاب اإليمان [
ھل ھذه الوصايا ھى التى تخدر األفراد والجماعات ؟
سبحانك ھذا بھتان عظيم !
ً
فإذا تجاوزنا العھد المكى إلى العھد المدنى نجد توجيھا ينبع من ھذه الروح األبية
الشامخة .
إن الھوان جريمة وقضاء الحياة فى ضعف واستكانة مرشح أول للسقوط فى الدار
اآلخرة .
ومن ھنا أثبت القرآن الكريم ھذا الحوار بين مالئكة الموت وبين الذين عاشوا فى
الدنيا سقط متاع وأحالس ذل .
” إن الذين توفاھم المالئكة ظالمى أنفسھم قالوا :فيم كنتم ؟ قالوا :كنا مستضعفين فى
األرض .قالوا :ألم تكن أرض ﷲ واسعة فتھاجروا فيھا ؟ فأولئك مأواھم جھنم
وساءت مصيراً ” ] النساء. [ 97 :
والھجرة المفروضة ھنا ھى التحول من مكان يھدد فيه اإليمان وتضيع معالمه إلى
مكان يأمن فيه المرء على دينه ،ولكن حيث استقرت دار اإلسالم فال تحول ،وإنما
يبقى المسلمون حيث كانوا ليدفعوا عن ترابھم ذرة ذرة وال يسلموا فى أرض التوحيد
لعدو ﷲ وعدوھم .
واآلية تحرم قبول الدنية وإلف االستضعاف ،وتوجب المقاومة إلى آخر رمق .
ومما يؤكد ھذا المعنى أن القرآن أحصى الطوائف التى تعذر فى ھذا التمرد المطلوب
على قوى الشر .
ً
ومع استثنائھا فإن مصيرھا ذكر معلقا على ” رجاء ” المغفرة والعفو ال على ”
توكيد ” ذلك !!
” ..إال المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ال يستطيعون حيلة وال يھتدون
سبيالً فأولئك عسى ﷲ أن يعفو عنھم ” ] النساء. [ 98 :
والتعبير بـ ” عسى ” ھنا مثير للقلق ،وھى إثارة مقصودة حتى ال يقعد عن مكافحة
المعتدين من يقدر على إلحاق أى أذى بھم مھما قل .
وال يقيم على ضيم يراد به
إال األذالن عير الحى والوتد
المسلم ال يقبل الحياة على أية صورة وبأى ثمن ،إما أن تكون كما يبغى ،وإما رفضھا
وله عند ربه خير منھا .
ومن صيحات الكرامة واإلباء قول رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم ” :من قتل دون
ماله فھو شھيد ،ومن قتل دون دمه فھو شھيد ،ومن قتل دون دينه فھو شھيد ،ومن
قتل دون أھله فھو شھيد ” ! ] الترمذى فى الديات ،وأبو داود فى السنة [
وفى حديث آخر ” من قتل دون مظلمته فھو شھيد ” ! ] صحيح رواه الشيخان
وأصحاب السنن األربعة وأحمد [
ھل رأيت استنھاضا ً للھمم واستنفارا للنضال ،واستثارة للذود عن الدماء واألموال
ً
واألعراض أحر من ھذه المبادئ ؟!
أيمكن فى منطق العقل واإلنصاف أن يوصف ھذا الدين بأنه مخدر للشعوب ؟ أال
شاھت الوجوه !!
ومن حقنا أن نتساءل :ھل ضمان الخبر يحفظ الكرامة الفردية ويوفر األمان
للجماعات ؟
ً
ال شك أن للعنصر المادى أثرا فى طمأنينة المرء وشد أزره ،ولكنه ليس كل شىء فى
خلق العزة الشخصية والجماعية ! فرب سجين ملىء البطن خفيض الرأس ،ورب
طاو حديد البصر جھير الصوت.
قال لى صديق :وضعت الحب للعصافير فى شرفة بيتى ،وجلست بعيداً أرقبھا وھى
تلتقطه بمناقيرھا كعادتھا ..بيد أنى ارتقبتھا طويالً فلم تھبط ،ثم أدركت بغتة أن باب
الشرفة مفتوح وأن الحذر عاقھا عن األكل فقمت أغلق الباب وأنا أقول :إن الطعام ال
يغنى عن األمان .
وھذا صحيح ،فإن ﷲ لما امتن على قريش بنعمته وبركته قال ” :فليعبدوا رب ھذا
البيت الذى أطعمھم من جوع وآمنھم من خوف ” .
إن الشبع ال يغنى عن الحرية أبداً ،وإن توقير ” الديمقراطية االقتصادية ” يستحيل أن
يغنى عن ” الديمقراطية السياسية ” .
إن اإلنسانية ليست جسداً يعلف ويسمن ،ولكنھا فطرة تتشوف لالنطالق والتحرر ،وال
بد أن يتقرر لھا حقھا فى النقد والمراجعة وحساب كل ذى منصب مھما جل وإقصاء
من تكره وإدناء من تحب ..
واليقظة التى ينشدھا اإلسالم للشعوب تتضمن األمرين جميعا ً .
” ونريد أن نمن على الذين استضعفوا ونجعلھم أئمة ونجعلھم الوارثين ونمكن لھم فى
األرض ” ] القصص[ 5 :
فكيف يتھم الدين بأنه مخدر للشعوب ؟
وربما اتصل بھذه التھمة المتھافتة تصور البعض أن الدين رباط مع الماضى ،وأن
التطور ينافيه .
ونتساءل نحن :ما ھذا التطور ؟
إن اإللحاد ليس تطوراً ،بل ھو ترديد لكفر الصغار من جھلة القرون األولى .
من ألوف السنين وقفت قبيلة عاد من رسولھا موقفا ً كأنما لخصت فيه كل ما يقال فى
ھذا العصر على ألسنة الشطار ،من دعاة اإللحاد ” أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا ً
وعظاما ً إنكم مخرجون .ھيھات ھيھات لما توعدون .إن ھى إال حياتنا الدنيا نموت
ونحيا وما نحن بمبعوثين .إن ھو إال رجل افترى على ﷲ كذبا ً وما نحن له بمؤمنين
” ] المؤمنون[ 37 ،35 :
إن التحلل من قيود الدين ليس تجديدا ً وال ابتكارا ً بل ھو خضوع للغرائز الدنيا التى
أنامت ألوف الخلعاء والخبثاء من عشرات القرون وجعلتھم يحيون وفق شھواتھم
وحدھا ! فأى ارتقاء فى ھذا المسلك الرخيص ؟!
فى غضون القرن التاسع عشر للميالد كانت نزعات اإللحاد تغلب على العقل
الغربى ،وبدا كأن العلم الطبيعى يتجه بالناس وجھة مادية تتنكر للدين وتضيق
بتعاليمه ،ولما كان الغربيون سادة الدنيا وقتئذ فقد صبغوا الفكر العالمى تقريبا ً بھذه
الصبغة الداكنة ..
وقد تسأل :ماذا كان موقف المتدينين بإزاء ھذا الفكر الزاحف ؟
واإلجابة أن المسلمين كانوا فى حالة ذھول أنستھم رسالتھم المحلية والعالمية على
سواء ،فھم ال يريدون من دينھم شيئا ً طائالً ينفعون به أنفسھم بله أن ينفعوا به غيرھم
.
وأما بنو إسرائيل فقد شرعوا عقب تقرر الحقوق السياسية فى األقطار الحديثة
يجمعون شملھم ليعيدوا ملك ” يھوه ” على األرض ويستعدوا لحكم العالم من ”
أورشليم ” وما كان عليھم أن تكتسح ظلمات الشك
كل ضمير !! ..
وأما النصارى فلو تفرغوا لمواجھة ھذا الخطر لكانوا كالذى يرد الطوفان بالراحتين،
فكيف وھم مشغولون بالقضاء على اإلسالم المريض !
لذلك نجح اإللحاد فى فرض أفكاره وأحكامه على أغلب ميادين النشاط اإلنسانى،
وربما سمح لألديان أن تبقى ميوالً فردية واتجاھات أدبية وحسبھا ذلك .
على أن القرن العشرين للميالد أخذ يتجه ـ خصوصا ً فى أواسطه ونھاياته وجھة
مغايرة ،وظھر فى كتابات كثير من العلماء الطبيعيين نزوع واضح إلى اإليمان
بالغيب والتسليم بوجود إله حكيم قادر ،عالم خبير !
وتدين العلم كسب إنسانى جليل !
والصورة التى تكونت لدى العلماء الطبيعيين عن ﷲ أقرب إلى الحقيقة مما يھرف به
كثير من رجال
األديان !! ..
ولو كان لإلسالم رجال يحسنون عرضه كما نزل فى أصوله األولى لكان اإلسالم
دين الحاضر والمستقبل على سواء ،ولكن الفكر اإلسالمى وقع فى محنة رھيبة !!
ولست أزعم أن كل العلماء الكونيين نزاعون إلى التدين ،فھناك من ضل الطريق !!
ولكن تيار اإليمان لو مضى فى طريقه بين ھؤالء دون عوائق سياسية ودون إرھاب
خارجى لتغير الوضع ،فإن جمھرتھم سوف تدخل فى دائرة الدين بال ريب !!
والمشكلة التى نواجھھا نحن فى بالدنا اإلسالمية ھى تأخر مثقفينا فى مضمار التقليد
!!
فعدد كبير منھم ال يزال يعيش فى العقلية المادية للقرن التاسع عشر .
وعدد آخر قد يعدو ھذا النطاق ليرنوا ببصره إلى المسجونين كرھا ً داخل بعض
المذاھب المادية الحاكمة ،وھم قوم كفروا عن إرھاب ال عن اختيار ففيم يقلدون ؟
والغريب أن نفرا ً من علماء اإلسالم يزعمون أن الدين ـ كسائر القضايا األدبية ـ ال
صلة له بالعقل ! أى أن التفكير اإللحادى للقرن التاسع عشر ما زال ھو الذى يسيطر
عليھم ،فأى بالء ھذا ؟
ونحن نناشد أحرار العقول أن يراجعوا أنواع المعرفة التى تعرض عليھم ،فإن
لالستعمار الثقافى دخالً فى تلويثھا وغشھا ..
إن أعظم شىء فى رسالة اإلسالم احترامھا للعقل البشرى ،وحفاوتھا بالعلم الطبيعى،
وبناؤھا اليقين على النظر الصائب فى ملكوت األرض والسماء .
وال يوجد كتاب سماوى حث العقل على النظر ،وقاد العلم فى مضمار البحث كھذا
القرآن الكريم .
إننا بمنطق القرآن نرفض الظنون ونخضع لليقين ،نرفض األوھام ونستكين للحقيقة
وحدھا ..
إن التدين الذى تعلمناه من كتابنا ليس تحميل العقل ما ال يطيق وال الھيمان فى عالم
األخيلة ..إنه تدين زكى عملى .
ً ً
ثم ھو يضم إلى ھذا الفكر الناضج قلبا سليما ،ال مكان فيه لنية خبيثة أو غرض
صغير ،على أساس أن اإلنسان ال يسيره العلم النظرى قدر ما تسيره مقاصده وآماله
..
ما أكثر ما يكون الذكاء سالحا ً يستعمل فى الخير والشر على سواء ،فإذا صدق
اإليمان صلح القلب واستقام المنھج ” ومن يؤمن با يھد قلبه ” ” إن فى ذلك لذكرى
لمن كان له قلب أو ألقى السمع وھو شھيد ” ]ق .[37
وفى معرفة الكون وخالقه ،والنفس وھداھا يقول ابن عطاء ﷲ السكندرى ھذه الكلمة
الحاسمة:
” ال ترحل من كون إلى كون ،فتكون كحمار الرحى ،يسير والمكان الذى ارتحل إليه
ھو الذى ارتحل منه ،ولكن ارحل من األكوان إلى المكون ” وأن إلى ربك المنتھى ”
..
” وانظر إلى قوله صلى ﷲ عليه وسلم ” :فمن كانت ھجرته إلى ﷲ ورسوله فھجرته
إلى ﷲ ورسوله ،ومن كانت ھجرته لدنيا يصيبھا أو امرأة ينكحھا فھجرته إلى ما
ھاجر إليه ” ] رواه البخارى فى سبعة مواضع من صحيحه ،وأخرجه باقى الستة
وغيرھم [ .فافھم قوله عليه الصالة والسالم وتأمل فى ھذا األمر إن كنت ذا فھم ”.
يقول ﷲ تعالى ” والسماء بنيناھا بأيد وإنا لموسعون .واألرض فرشناھا فنعم
الماھدون .ومن كل شىء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ففروا إلى ﷲ إنى لكم منه
نذير مبين .وال تجعلوا مع ﷲ إلھا ً آخر إنى لكم منه نذير مبين ”
] الذاريات 48 :ـ . [ 50
ھذه آيات خمس ،والثالثة األولى منھا وصفت األكوان علوھا وسفلھا وما أنبتت فيھا
من حياة وأحياء .
واالثنتان األخريان انتقلتا من األكوان إلى المكون فتحدثتا عن وجوده ثم توحيده .
والحق أن االنحصار فى الكون واالحتباس بين مظاھره فواحش عقلية ونفسية ال
يرضاھا أريب لنفسه ،بل ينفر منھا أولو األلباب .
إن من له أدنى مسكة يعرف ـ من العالمين ـ رب العالمين ويعرف من األكوان
صاحب ھذه األكوان !!
إن ھذا الملكوت الضخم الفخم من ودائع ذراته إلى روائع مجراته شاھد غير كذوب
على أن له خالقا ً أكبر وأجل .
إنھا لجھالة أن يغمط ھذا اإلله العظيم حقه ،وإنھا لنذالة أن يوجد بشر ينكره ويسفه
عليه .
ولكن خلق اإلنسان من نطفة فإذا ھو خصيم مبين !!
والعاقل ينظر فى الكون فيتعلم منه تسبيح ﷲ وتحميده ،ويستنتج من قوانين الحياة
وأحوال األحياء ما يستحقه المولى األعلى من أسماء حسنى وصفات عظمى ..
والناس صنفان :صنف يعرف المادة وحدھا ويجھل ما وراءھا وال نتحدث اآلن مع
ھؤالء ،فقد ذكرنا نبأھم فيما مضى .
وصنف مؤمن با مصدق بلقائه ،ولكنه ھائم فى بيداء الحياة ،ذاھل وراء مطالب
العيش ،مستغرق المشاعر بين شتى المظاھر ،فھو ال يكاد يتصل بسر الوجود أو
يتمحض لرب العالمين .
ومع ھذا الصنف المؤمن نقف لنرسل الحديث .
ھناك قوم ال تخلص معامالتھم ،بل ھى مشوبة بحظوظ النفس ورغبات العاجلة،
وھؤالء لن يتجاوزوا أماكنھم ما بقيت نياتھم مدخولة حتى إذا شرعت أفئدتھم تصفو
بدءوا المسير إلى األمام .
وھناك قوم يعاملون ﷲ وھم مشغولون بأجره عن وجھه أو بمطالبھم منه عن الذى
ينبغى له منھم ،وھؤالء ينتقلون عن أنفسھم من طريق ليعودوا إليھا من طريق أخرى
.
إنھم مقيدون بسالسل متينة مع أنانيتھم فھو يسيرون ولكن حولھا ،لو حسنت معرفتھم
با ما حجبتھم عنه رغبات مادية وال معنوية بل لطغى عليھم الشعور به ،وبما يجب
له ،وتخطوا كل شىء دونه ،فلم يھدأوا إال فى ساحته ،ولم يطمئنوا إال لما يرضيه ھو
جل شأنه على حد قول ابن فراس:
فليتك تحلو والحياة مريرة
وليتك ترضى واألنام غضاب
وابن عطاء ﷲ يرى أن العامة يترددون بين مآربھم كحركة بندول الساعة ال تتجاوز
موضعھا على طول السعى ،أو ھم على حد تعبيره كحمار الرحى ينتقل من كون إلى
كون ،والمكان الذى ارتحل إليه ھو الذى ارتحل منه .
والواجب على المؤمن أن يقصد وجه ﷲ قصداً ،وأن يتفصى تفصيا ً من ألوف
األربطة التى تشده إلى الدنيا وتخلد به إلى األرض .
ومن خدع الحياة أن المرء قد يعمل لنفسه وھو يحسب أنه يعمل ،ولو وضعت
بواعثه الكامنة تحت مجھر مكبر الستبان أن كثيراً من دواعى غضبه ورضاه
وسروره وتعبه وراحته يصلھا بوجه ﷲ خيط واه على حين تصلھا بحظوظ النفس
حبال شداد .
وھنا الخطر المخوف أن الھجرة إذا كانت فقد مضت وقبلت وإال فاألمر كما قال
الرسول صلى ﷲ عليه وسلم ” من ھاجر إلى دنيا يصيبھا أو امرأة ينكحھا فھجرته
إلى ما ھاجر إليه ” .
ً ً
والشعور بوجود ﷲ ليس أمرا يتكلف له اإلنسان شيئا ،إنه شعور بالواقع !
قد يكون لك حبيب مسافر مثالً فأنت إذا اشتقت إليه تتخيل صورته وتحاول األنس
بالوھم عن الحقيقة .
ً ً
ولكن الشعور با ليس تقريبا لبعيد وال تجسيدا لوھم ،إنه إيمان بالواقع الذى يعد
تجاھله باطالً كشعورك
مثالً ـ وأنت فى البيت ـ بأنك فى البيت ،أو شعورك ـ وأنت فى القطار ـ بأنك فى
القطار .
إنه الواقع الذى ال معدى عن االعتراف به ،وبناء كل تصرف على أساسه .إن
األلوھية ال تفارق العباد لحظة من ليل أو نھار ،ومن ثم فإن الغفلة عن ﷲ غفلة عن
الحق المبين .
ـ وإذا كان األعمى يعجز عن رؤية األشياء فإن األشياء لم تزل من مكانھا ألن عينا ً
كليلة لم تتبينھا .
ـ وإذا كان الناس فى ذھول عن الحق المصاحب لھم المحيط بھم فذلك عمى تعود
عليھم وحدھم معرته .
وقد كثر القرآن الكريم من أشعار الناس بھذه المعانى ،وصاح بھم وھم يفرون عنھا،
إلى أين ؟ فأين تذھبون ؟ أين المذھب ” وﷲ من ورائھم محيط ” ] الطارق [ .
قال تعالى ” :ھو األول واآلخر والظاھر والباطن وھو بكل شىء عليم .ھو الذى
خلق السموات واألرض فى ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج فى األرض
وما يخرج منھا وما ينزل من السماء وما يعرج فيھا وھو معكم أينما كنتم وﷲ بما
تعملون بصير ” ] الحديد [ .
ھو بصير بما نعمل وھو معنا حيثما كنا ! أال تعين ھذه الحقائق على صدق المعرفة
وح ﱠدة الشعور بوجوده وإشرافه ؟ ِ
ً
ثم أال يدل ذلك على أن ذكرك ليس استحضارا لغائب ؟ إنما ھو حضورك أنت من
غيبة وإفاقتك أنت من غفلة !!
وال بد ھنا من توكيد التفرقة بين وجود ﷲ ووجود العالم ،فإن بعض الناس يستغلون
المعانى التى شرحناھا للبس الحق بالباطل .
إن وجود ﷲ مغاير لوجود سائر المخلوقات ،وھذا العالم منفصل عن ذاته جل شأنه
انفصاالً تاما ً .
وقد تسمع بعض الفالسفة أو بعض المتصوفين يقول :إنه يرى ﷲ فى كل شىء .
وھذا التعبير صحيح إن كان يعنى أنه يرى آثاره وشواھده .
أما إن كان يعنى وحدة الخالق والمخلوق أو وحدة الوجود كما يھرف الكذبة ،فالتعبير
باطل من ألفه إلى يائه ،والقول بھذا كفر با وبالمرسلين .
ووصف اإلحاطة اإللھية فى ھذا المجال وسيلة ال غاية ..وسيلة لتصحيح النية
والجھد والھدف وإھابة باإلنسان أن يدير نشاطه البدنى والعقلى على مرضاة ﷲ
وحده .
وليت الناس يسعون فى ھذا الطريق بنصف قواھم !
ولو أن امرءاً حاول استرضاء ﷲ بنصف الجھد الذى يبذله لكسب المال ،أو التمكين
فى األرض لقطع مرحلة رحبة فى طريق االرتقاء الروحى والخلقى ،ولو أن امرءاً
كره الشيطان ووساوسه بنصف الشعور الذى يكره به اآلالم والخصوم لنال من طھر
المالئكة حظا ً .
إن ﷲ قد يقبل نصف الجھد فى سبيله ،ولكنه ال يقبل نصف النية ،إما أن يخلص القلب
له ،وإما أن يرفضه كله.
وقد أسلفنا القول إن اإلنسان قد تحتل قلبه مقاصد شتى ھى التى تبعثه على الحركة
والسكون ،وعلى الرضا والسخط ،وأن ھذه المقاصد تنبعث عن أنانيته ال عن إيمانه
بربه وابتغائه ما عنده .
والعلماء المربون يطاردون ھذه المقاصد المتسللة إلى القلب ويمنعونھا أن تثوى فيه .
وال يتوانون فى مطاردتھا حتى تخفى ويطھر القلب منھا .
ذلك أن اإلسالم دقيق جداً فى تقويم النية الباعثة عليه والغاية المصاحبة له ،فمن لم
يكن ﷲ وجھته فى ھجرته فال عمل له وال خير فيه .
فى الحياة اآلن ألوف من المدربين واألطباء والمھندسين والضباط والعمال والتجار
والموظفين ..الخ يزحمون ظھر األرض بحركة واسعة المدى ،فأما ما كان للتكاثر
والتظاھر فسوف يلصق بالتراب ،وأما ما كان فھو مبارك الثمر ممتد األثر .
إن البقاء لما قصد به رب السماء ” من كان يريد حرث اآلخرة نزد له فى حرثه ومن
كان يريد حرث الدنيا نؤته منھا وما له فى اآلخرة من نصيب ” ] الشورى. [ 20 :
ونعود إلى الصنف المسجون بين عناصر المادة ال يعرف غيرھا ،إنه ينتقل من
عنصر ،وينسب مادة إلى مادة ،ويجحد ما بعد ذلك .
وقد ناقشنا ھؤالء ،ودحضنا ما ساقوا من شبه ،ونريد ھنا كشف الستر عن بعض
دعاوى القوم .
إن وصف اإليمان بأنه حركة رجعية ،واإللحاد بأنه حركة تقدمية وصف كاذب،
فالكفر قديم قدم الغرائز الخسيسة واألفكار السفيھة .
وتاريخ الحياة يتجاور فيه الخير والشر والصالح والفساد فمن قال ” :إن اإليمان
طبيعة أيام مضت وانتھى دورھا وأن الكفر يجب أن يفسح له الطريق ” فھو دجال .
كذلك وصف اإليمان بأنه حركة فكر محدود ،واإللحاد بأنه حركة عقل ذكى أو
وصف اإليمان بأنه منطق الدراسة النظرية ،واإللحاد بأنه منطق الدراسة العلمية
والبحوث الكونية ،ھذا كالم خرافى ال حرمة له ،فإن جمھرة كبرى من قادة العلم
الكونى والدراسات الحيوية يؤمنون با ويرفضون الزعم بأن الكون خلق من غير
شىء .
والواقع أن اإللحاد يعتمد على الظنون والشائعات ،ال على اليقين والبراھين ،وأنه لم
يثبت فى معمل أو مختبر بأن ﷲ غير موجود .
وكل ما ھنالك أن الماديين نسبوا لغير ﷲ من النظام واإلبداع ما ال تصح نسبته إال
.
ووراء ھذا النسب المنتحل ساروا وأيديھم خالية من أى يقين ،بل ھم كما وصف
القرآن الكريم ” وما يتبع أكثرھم إال ظنا ً إن الظن ال يغنى عن الحق شيئا ً .إن ﷲ
عليم بما يفعلون ” .
أما الدالئل التى تغرس اإليمان فى القلوب عن طريق التفكير السليم فى ھذا الكون
الكبير فھى قائمة ناھضة .
الباب الثامن
] نشر ھذا المقال بعد حركة 15مايو التى قام بھا فى مصر الرئيس السادات [
أثلجت صدرى الكلمات التى قالھا رئيس الدولة عشية نجت مصر من المؤامرة
األخيرة !
لقد أكد أن الحريات ستوطد ،وأن الحقوق ستصان ،وأن القانون سيسود ،ولن تغل يد
عن عمل شريف ،ولن يكمم فم عن كلمة حق ،ولن يؤذن لصغير أن يتطاول ،وال
لمنحرف أن يجور !!
لقد استقبلنا ھذه المعانى واألنفاس تكاد تختنق لما عراھا من ضيق ،فكانت نسائم
منعشة تتسلل خالل جو رھيب مقنط ،وكان بوارق رجاء توحى بالخير .
وأحس القابعون وراء جدران السجن الكبير أن العصابة التى تسومھم سوء العذاب
بدأت تذوب وتتالشى.
إن إذالل الشعوب جريمة ھائلة ،وھو فى تلك المرحلة النكدة من تاريخ المسلمين
عمل يفيد العدو ويضر الصديق .
بل ھو عمل يتم لحساب إسرائيل نفسھا ..فإن األجيال التى تنشأ فى ظل االستبداد
األعمى تشب عديمة الكرامة قليلة الغناء ،ضعيفة األخذ والرد .
ـ ومع اختفاء اإليمان المكين والخلق الوثيق والشرف الرفيع .
ـ ومع شيوع النفاق والتملق والدناءة .
ـ ومع ھوان أصحاب الكفايات وتبجح الفارغين المتصدرين .
..مع ھذا كله ال تتكون جبھة صلبة ،وصفوف أبية باسلة !
وذلك أمل إسرائيل حين تقاتل العرب ،ألنھا ستمتد فى فراغ وتشتبك مع قلوب
منخورة وأفئدة ھواء !
والواقع أن قيام إسرائيل ونماءھا ال يعود إلى بطولة مزعومة لليھود قدر ما يعود إلى
عمى بعض الحكام العرب ،المرضى بجنون السلطة وإھانة الشعوب .
ولو أنصف اليھود ألقاموا لھؤالء الحكام تماثيل ترمز إلى ما قدموا إلسرائيل من
عون ضخم ونصر رخيص!
من أجل ذلك أحسست راحة عميقة لكلمات السيد محمد أنور السادات ،وھو يھدر
بضرورة احترام الشعب وكسر كل قيد يوضع على مشيئته .
إن ھذه السياسة البصيرة ھى الخطوة األولى لقتال حقيقى مع المعتدين يقمع غرورھم
ويقلم أظفارھم !
إن جماھير العرب عطشى إلى الحرية والكرامة ،ولقد بذلت جھود ھائلة لمنعھا من
الحق والجد وتعويدھا عبادة اللذة إلى جانب عبادة الفرد ،ولكن جوھر األمة تأبى على
ھذه الجھود السفيھة ،وإن كانت طوائف كثيرة قد جرفتھا ھذه المحن النفسية فھى تحيا
فى فراغ ومجون مدمرين ،ال تبقى معھما رسالة وال ينخذل عدو ..
ومن ثم كان العبء على المصلحين ثقيالً ،ولكن ما بد منه لحماية حاضرنا ومستقبلنا
.
ولقد تبعت الصراع بين الحكام المستبدين والرجال األحرار منذ نصف قرن ،ودخلت
فى تلك المعمعة ألذوق بعض مرھا وضرھا .
وكنت أردد بإعجاب صيحات الرجال الكبار وھم يھدمون الوثنية السياسية ويلطمون
قادتھا ولو كانوا فى أعلى المواضع .
ً
من ذلك صيحة األستاذ الكبير ” عباس محمود العقاد ” عندما قال معرضا بالملك
فؤاد :إن األمة على استعداد ألن تسحق أكبر رأس يخون الدستور أو يعتدى عليه !!
وقد قدم الكاتب اإلسالمى الكبير إلى المحاكمة ليعاقب تسعة شھور فى سجن مصر
العمومى ثم خرج الرجل من السجن فكان أول ما صنع أن زار قبر سعد زغلول
ليؤكد بقاءه على العھد وتأييده لقضايا الحرية وخصامه ألعداء الشعب !
ومن قصيدته التى ألقاھا على قبره نذكر ھذه األبيات الشامخة:
خرجت له أسعى وفى كل خطوة
دعاء يؤدى أو والء يؤكد
والعقاد بھذا الموقف الشريف ينتظم مع سلسلة األبطال الذين يذودون عن اإلنسانية
بطش الجبابرة وجنون العظمة عند نفر من الملتاثين المتحكمين .
وال أزال أكرر ما ذكرت فى بعض كتبى من أن الحريات المقررة ھى الجو الوحيد
لميالد الدين ونمائه وازدھاره !
وإن أنبياء ﷲ لم يضاروا بھا أو يھانوا إال فى غيبة ھذه الحريات ،وإذا كان الكفر
قديما ً لم ينشأ ويستقر إال فى مھاد الذل واالستبداد فھو إلى يوم الناس ھذا ال يبقى إال
حيث تموت الكلمة الحرة وتلطم الوجوه الشريفة وتتحكم عصابات من األغبياء أو من
أصحاب المآرب واألھواء ..
..نعم ما يستقر اإللحاد إال حيث تتحول البالد إلى سجون كبيرة ،والحكام إلى سجانين
دھاة .
ً
من أجل ذلك ما ھادنا ـ ولن نھادن إلى آخر الدھر ـ أوضاعا تصطبغ بھذا العوج
ويستشرى فيھا ذلك الفساد .
ومرة أخرى أردد قول العقاد:
ھو الحق ما دام قلبى معى
وما دام فى اليد ھذا القلم !
إن البيئات التى تستمتع بمقادير كبيرة من الحرية ھى التى تنضج فيه الملكات ،وتنمو
المواھب العظيمة ،وھى السناد اإلنسانى الممتد لكل رسالة جليلة وحضارة نافعة .
وألمر ما اختار ﷲ محمداً من العرب !
إن ذلك يرجع إلى طبيعته الذاتية ،وطبيعة الجنس الذى ينميه على السواء !!
فإن العرب أيام البعثة كانوا أسعد األمم بخطوط الحرية المتاحة لھم ،بينما كان الروم
والفرس جماھير من العبيد الذين تعودوا االنحناء للحكام والسجود للملوك وضياع
الشخصية فى ظل سلطات عمياء وأوامر ليس عليھا اعتراض.
أما العرب فكانوا على عكس ذلك ،حتى لكأن كل فرد منھم ملك وإن لم يكن على
رأسه تاج !
ً
ونشأ عن ذلك االعتداد الخطير بالنفس أن كفار القبيلة كانوا يموتون دفاعا عن
مؤمنيھا ،وكانت حرية الكلمة متداولة فى المجتمع تداول الخبز والماء ..
ووسط ھذا الجو شقت رسالة اإلسالم طريقھا صعداً لم تثنھا المعوقات الطبيعية التى
ال بد منھا ..
ومن الفطر القوية ألولئك العرب األحرار كانت االنطالقة التى عصفت بالحكومات
المستبدة وبدلت األرض غير األرض والناس غير الناس .
ذلك أنه يستحيل أن يتكون فى ظل االستبداد جيل محترم ،أو معدن صلب ،أو خلق
مكافح .
وتأمل كلمة عنترة ألبيه شداد لما طلب منه الدفاع عن القبيلة ،قال :إن العبد ال يحسن
الكر والفر ،ولكنه يحسن الحلب والصر ! فأجاب الوالد :كر وأنت حر !
وقاتل ” عنترة ” وتحت لواء الحرية أدى واجبه ،ولو بقى عبداً ما اھتم بھالك أمة من
الناس فقد بينھم كرامته ومكانته ..
ومن مقابح االستبداد أسلوبه الشائن فى إھانة الكفايات وترجيح الصغار وتكبيرھم
تبعا ً لمبدئه العتيد:
أھل الثقة أولى من أھل الكفاية .
ومن ھم أھل الثقة ؟ أصحاب القدرة على الملق والكذب ..الالھثون تحت أقدام السادة
تلبية إلشارة أو التقاطا ً لغنيمة .
ھذا الصنف الخسيس من الناس ھو الذى يؤثر بالمناصب ويظفر بالترقيات ،وتضفى
عليه النعوت ،ويمكن له فى األرض ..
أما أھل الرأى والخبرة والعزم والشرف فإن فضائلھم تحسب عليھم ال لھم ،وتنسج
لھم األكفان بدل أن ترفع لھم الرايات ..
والويل ألمة يقودھا التافھون ،ويخزى فيھا القادرون ..
وقد كنت أقرأ فى الصحف ـ دون دھشة ـ كيف أن المسئول عن ” الثقافة والفكر فى
االتحاد االشتراكى ” رجل أمى يصيح كلما سأله المحقق :اعذرنى فإنى جاھل ..
إن ھذه طبيعة األوضاع التى تعيش على الظالم وتكره النور .
ما أكثر العلماء فى بالدنا لو أريد توسيد األمر أھله ،ولكن العلماء ليسوا موضع ثقة
لصغار المتصدرين ألن العالم يستنكر المتناقضات ويكره الدنية ،ويقول بغضب:
أأشقى به غرسا ً وأجنيه ذلة
إذن فاتباع الجھل قد كان أحزما
أما وقد أزال ﷲ الغمة ،وعلت كلمة األمة فلنعد باألمور إلى أوضاعھا السليمة،
ولنوفر الحريات التى طال إليھا الشوق واشتد الحنين .
لقد كان االستبداد قديما ً أقل ضرراً من االستبداد الذى نظمته الدولة الحديثة فى ھذه
األعصار ،فإن الدولة فى العصر الحديث تدخلت فى أدق شئون الفرد وبسطت نفوذھا
على كل شىء .
ومن ھنا كان الدمار األدبى والمعنوى الذى يصحب االستبداد بعيد اآلماد خبيث
العواقب .
ومن أحسن ما قيل فى تشييع ظالم مستبد:
لتبك على ” الفضل بن مروان ” نفسه
فليس له باك من الناس يعرف
إننى أسأل نفسى بإلحاح فى ھذه األيام العجاف :ھل يشعر العرب بأن محمداً مرسل
للعالمين ،وأن ھذه ” العالمية ” فى دعوته تفرض عليھم بعد إذ عرفوه أن يعرفوا
الناس به ،وھم عندما يعرفون الناس به لن يصفوا لھم مالمحه الشخصية وإنما
يشرحون لھم رسالته اإللھية !
لكن عرب اليوم ال يقدرون محمداً قدره ،وال يخلفونه بأمانة فى مبادئه وتعاليمه ،وال
يحسون قبح الشبھات التى أثارھا خصومه ضده ،بل ھم ـ علما ً وعمالً ـ مصدر
متاعب لإلسالم ولنبيه الكريم ،وشاھد زور يجعل الحكم عليه ال له !
قد تقول حسبك حسبك أن الناس بخير ،ومحبتھم لرسولھم فوق التھم فال تطلق ھذه
الصيحات الساخطة ،فما تحب الجماھير أحداً كما يحب أتباع محمد محمداً ..
وأقول لك :سوف أغمض العين عن ألوف من المتعلمين ضلل االستعمار الثقافى
سعيھم وشوه بصائرھم وأذواقھم ،مع أن وزنھم ثقيل فى قيادة األمة العربية ،فما قيمة
الحب الرخيص الذى تكنه جماھير الدھماء ؟
إنه حب غايته صلوات تفلت من الشفتين مصحوبة بعواطف حارة أو باردة ،وقلما
تتحول إلى عمل كبير وجھاد خطير ،والترجمة عن حب محمد بھذا األسلوب فى
وقت ينھب فيه تراثه أمر مرفوض إن لم يكن ضربا ً من النفاق !
أذكر أنى ذھبت يوما ً ألحد التجار كى أصلح شيئا ً لى ،فاحتفى بى وقدم بعض
األشربة ،وأفھمنى أنه أتم ما أريد بعد أن وفيته ما أراد .ثم شعرت أن عمله كان
ناقصا ً وال أقول مغشوشا ً !
فقلت :ليته ما حيا وال رحب وأدى ما عليه بصدق ! ماذا أستفيد من تحيات ال جد
معھا وال إخالص .
والشأن كذلك مع أقوام قد تموج أحفال المولد النبوى بھم أو قد يصرخون بالصالة
على رسول ﷲ ـ صلى ﷲ عليه وسلم ـ فى أعقاب األذان ،أو قد يؤلفون صلوات من
عند أنفسھم يحار المرء فى تراكيبھا إلغراقھا فى الخيال .
وقد يكون حبھم تمسكا ً شديداً ببعض النوافل وھروبا ً تاما ً من بعض الفرائض أو حنانا ً
ال ندى معه وال عطاء كھذا الذى قال له الشاعر:
ال ألفينك بعد الموت تندبنى
وفى حياتى ما قدمت لى زادا
أى حب ھذا ..إن العرب ال يعرفون أى شرف كتب لجنسھم ولغتھم وأمسھم وغدھم
عندما ابتعث ﷲ محمداً منھم ،وإن التقدير الحق لھذا الشرف ال يكون بالسلوك
المستغرب الذى يواقعونه اآلن ومنذ بدأوا يعبثون برسالة ﷲ بينھم .
لما أراد رب العزة أن يعلن بركته النامية ورحمته الھامية اختار فى كتابه العزيز
عبارتين مبينتين:
األولى :تتحدث عن البركة فى مظھر القدرة التى تجمع أزمة الكون فى يده ،فيستحيل
أن يغلب يوما ً على أمره أو يشركه أحد فى ملكه ،وفى ھذا المعنى يقول جل شأنه ”
تبارك الذى بيده الملك وھو على كل شىء قدير ” .
والثانية :تتحدث عن البركة فى صورة الرجل الذى حمل ھداه األخير إلى عباده
وتفجرت ينابيع الحكمة من بيانه وسيرته ،فكان القرآن الذى يتلوه مشرق شعاع ال
ينطفي ،يھتدى على سناه أھل القارات الخمس ما بقى الليل والنھار .وفى ھذا المعنى
يقول جل شأنه ” تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ً ” ]
الفرقان [ .
إن اإلنسان المبعوث رحمة للعالمين أشعل األمة التى ظھر فى ربوعھا فانطلقت ألول
مرة من بدء الخليقة تحمل للناس الخير والعدل واستطاعت أن تؤدب جبابرة األرض
الذين عاثوا فى أرجائھا فساداً وظنوا أن كبرياءھم لن يخدشھا أحد !
حتى جاء الرجال الذين رباھم محمد ،فقوموا صعر المعتدين ،وأعزوا جانب
المستضعفين ،وكم تحتاج الدنيا فى يوم الناس ھذا إلى ھذا الطراز من الرجال ليحموا
الحق الذليل وينقذوا التوحيد المھان ويقروا األخوة اإلنسانية المنكورة وينزلوا البيض
إلى منزلة السود أو يرفعوا السود إلى منزلة البيض ..
لكن السقطة الرھيبة للعرب المعاصرين أنھم ذاھلون عن المكانة التى منحھم محمد
إياھا ھابطون عن المستوى الذى شدھم إليه ،وفيھم من يفتح فمه ليقول :إن العرب
يمكن أن يكونوا شيئا ً من غير محمد !!
قبح ﷲ وجھك من قائل أفاك ..
ومن أيام جاءنى نفر من العامة متنازعون على إدارة مسجد :بعضھم يريد أن يقول
فى األذان ” :أشھد أن ” سيدنا ” محمداً رسول ﷲ ” .
واآلخر يريد االكتفاء بالوارد فال يذكر لفظ ” سيدنا ” ألنه مبتدع .
ونظرت إلى أعراض المرض الذى يفتك باألمة المعتلة ،وقلت لھم :إن محترفى
اإلفك من المبشرين والمستشرقين مألوا أقطار العالم باالفتراء على محمد وشخصه
ودينه ،ورسموا له صورة مشوھة فى أذھان الكثيرين وأنتم ھنا ال تزالون فى ھذا
الغباء .
ما أشقى دينا ً أنتم أتباعه ،إن المسلمين بين ما ورثوا من جھل وما نضح عليھم من
ضالل العصر ال يزالون يھرفون بما ال يعرفون ..
..إن حب محمد يوم يكون لقبا ً يضفيه عليه الكسالى الواھنون فھو حب ال وزن له
وال أثر ! ويوم يكون أحفاالً رسمية وشعبية بيوم ميالده فھو حب ال وزن له وال أثر !
ويوم يكون قراءة للكتاب المنزل عليه فى مواكب الموت ومجالس العزاء فھو حب ال
وزن له وال أثر ! ويوم يكون ادعاء تستر به الشھوات الكامنة والطباع الغالظ فھو
حب ال وزن له وال أثر ! ..ألن محمداً ھو الرسول الذى رسم للبشر طريق التسامى
الحقيقى ،ورسم للجماعات طريق التالقى على الحقائق والفضائل فدينه عقل يأبى
الخرافة وقلب يعلو على األھواء .
ـ ماذا كسب المسلمون عندما حولوا الدين من موضوع إلى شكل ؟
ـ وماذا كسب العرب عندما شقوا طريقھم إلى المستقبل وھم يطوون اسم محمد وتراثه
عن نشاطه السياسى والعسكرى ؟
ولو نظرت إلى ھذه األلوف المؤلفة من الكنائس والمعابد لوجدت داخلھا أجھزة
منظمة دوارة تعمل من غير ملل لصرف الناس عن اإلسالم ونسبة أقبح النعوت إلى
نبيه المبرأ الشريف ..
وكأن ﷲ تبارك اسمه شاء أن يعرف ھذه األمم مدى ما كانت فيه من غباوة وأن
يذيقھا شيئا ً من مرارة الجريمة التى ارتكبتھا ،فھو فى ساحة العرض الشامل ألصناف
الخالئق يحشر سكان القارات الخمس على مر القرون يحشرھم فى صعيد واحد ،ثم
يكشف الغطاء عن عيونھم وإذا ھم يتبينون فداحة جھلھم با الكبير المتعال ،ويتبينون
شناعة خصامھم إلمام رسله ..
وھنا يموج بعضھم فى بعض ] كتبنا ھذا الكالم فى كتابنا ” من ھنا نعلم ” من ثلث
قرن [ ،ويضطربون فى حيرة مفزعة ال يرجى منھا خالص ،وتتحرك جموعھم إلى
كل نبى سمعوا باسمه فى العالم الذى انتھى يناشدونه أن يسأل ﷲ لھم الرحمة ،ولكن
النبيين كلھم يرفضون التصدى لھذا المطلب ،ويعود أھل القارات الخمس متراكضين
إلى الرجل الذى طالما قيل لھم إنه كذاب ،إنھم يحسون اآلن عن يقين أنھم أخطأوا فى
حقه ،وأنھم يوم صدوا عنه كانوا يخسرون أنفسھم وأھليھم ] ! ..يشير شيخنا إلى
حديث الشفاعة الطويل الذى رواه اإلمام أحمد ،والبزار ،وأبو يعلى ،وابن حبان فى
صحيحه راجع الترغيب ). [ (425 / 4
الشفاعة العظمى فى رأيى موقف يحاكم فيه التاريخ البشرى كله ليعترف أن انصرافه
عن اإلسالم كان مشاقة وعداء ألحب أوليائه وأصدق دعاته ..
وما أعجب أن تجد اإلنسانية نفسھا فى حرج يوشك أن يقضى عليھا ثم تعلم فجأة أن
التنفيس عن كرباتھا ربما تم باللجوء إلى الرجل الذى عاشت دھوراً ،وھى تروى عنه
األكاذيب وتنسب إليه األساطير .
والتجاء أھل األرض إلى محمد فى ھذه الساعة العصيبة ولجوءه إلى ﷲ يطلب
مغفرته لعبيده األغرار ،ذلك فى ظنى ھو المقام المحمود ،المقام الذى نسأله لمحمد
عقب كل أذان يتردد صداه فى مھاب الريح ليستجيب له قوم وينصرف عنه آخرون ”
اللھم رب ھذه الدعوة التامة والصالة القائمة آت ” محمداً ” الوسيلة والفضيلة وابعثه
المقام المحمود الذى وعدته ” .
قلت :إن محمداً فى عالم العقائد والحقائق شمس وضاحة نفاحة ،لكن العميان كثيرون،
وقد مكث ھذا الرسول النبيل يصدع بأمر ﷲ وينقذ الناس من أھوائھم ومظالمھم ،ثم
ذھب إلى الرفيق األعلى تاركا ً فينا تراثه الجليل من كتاب وسنة ،فليتعلم الدعاة من
حياة سيد الدعاة أن أجر الحق المبذول ال يعجل فى الدنيا ،وأن للمقام المحمود موعداً
فى غير ھذه الدار يتعلق به وحده الدعاة األبرار .
مشھورون ومجھولون
أعجبنى فى اليمين التى حلف عليھا أنس بن النضر أن الرجل كان يشھد ﷲ وحده،
وينشد أوالً وآخراً رضاه .
لقد أحزنه أن ﷲ لم يره فى ميدان القتال ببدر ،فأقسم أن يرى ﷲ نفسه فى أول لقاء
بالكافرين ،وأن يضرب أعلى مثل فى التفانى واالستبسال .
وذلك فى ذات اإلله وإن يشأ
يبارك على أوصال شلو ممزع
لم يدر فى خلد أنس تطلع إلى جاه أو تشوق إلى شھرة .
كان الرجل أزكى نية وأشرف نفسا ً من أن يلم بھذه الدنايا .
والعمل ال يوصف بالصالح وال يرشح للقبول إال إذا خلص وحده ،وقصد به وجھه
.
روى أحمد بن حنبل عن محمود بن لبيد أن رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم قال :إن
أخوف ما أخاف على أمتى الشرك األصغر ،قالوا :وما الشرك األصغر يا رسول ﷲ
؟ قال :الرياء !
يقول ﷲ عز وجل ـ للمرائين ـ إذا جزى ﷲ الناس بأعمالھم ” :اذھبوا إلى الذين كنتم
تراءون فى الدنيا ،فانظروا :ھل تجدون عندھم جزاء ؟ ” .
والواقع أنه ال جزاء عندھم ال فى اآلخرة وال فى الدنيا ،فماذا يرجو عبد من عبد إال
أن يزداد ذالً ؟ وماذا يطلب فقير من فقير إال أن يزداد عيلة !
إن اإلخالص سياج العز وضمان الخير فى الحياتين .
وعندما تصدق النية فال يخشى على العبد من مجاھرة بصالة أو جھاد أو صدقة ،إذ
األساس استھداف وجه ﷲ ،وليس على البال غيره .
ومن الحماقة أن يطلب إنسان ثناء الخلق وھو يعلم أن ﷲ قد ستر عليه ذنوبا ً لو
كشفوھا لسودوا وجھه !!
ﷲ أولى باالتجاه والمودة وأحق بالحفاوة وااللتفات ..
ومن عظمة اإليمان اكتفاء المرء بنظر ﷲ إليه ،وإيثاره أن يعمل فى صمت ،أو
يموت جنديا ً مجھوالً ،وھذا االكتفاء داللة استغراق المرء فى الشھود اإللھى ،ورسوخ
قدمه فى مقام اإلحسان ،وتلك ھى الوالية كما شرحھا معاذ بن جبل رضوان ﷲ عليه
.
روى ابن ماجه أن عمر بن الخطاب خرج إلى المسجد فوجد معاذا ً عند قبر الرسول
صلى ﷲ عليه وسلم
يبكى ! فقال :ما يبكيك ؟ قال :حديث سمعته من رسول ﷲ ” :اليسير من الرياء
شرك ،ومن عادى أولياء ﷲ فقد بارز ﷲ بالمحاربة ،إن ﷲ يحب األبرار األتقياء
األخفياء ،الذين إن غابوا لم يفتقدوا ،وإن حضروا لم يعرفوا ،قلوبھم مصابيح الھدى
يخرجون من كل غبراء مظلمة ” .
أجل إن ﷲ يحب أولئك العاملين فى صمت ،الزاھدين فى الشھرة والسلطة،
المشغولين باللباب عن القشور ،المتعلقة قلوبھم با ،ال تحجبھم عنه فتنة وال تغريھم
متعة .
وما أفقر أمتنا إلى ھذا الصنف المبارك ،بھم ترزق وبھم تنصر .
إال أن بعض العبادات األصلية ما تتم إال فى جو العالنية والظھور كالتعلم والدعوة
والقضاء والجھاد ،بل إن قيام األركان األساسية يتطلب ذلك ،وھنا تؤكد خطورة النية
المصاحبة فى تقويم أى عمل صحة وقبوالً .
وقد كان أبو بكر يقوم الليل فيقرأ سراً ،وكان عمر يقوم فيقرأ جھراً ،فلما سئل
الصديق قال :أسمعت من أناجى ! ولما سئل الفاروق قال :أوقظ الوسنان وأطرد
الشيطان !!
إن إخالص النية ھنا وھناك يجعل السر والعلن سواء .
وذلك ما ينبغى أن يعيه الدعاة والقضاة والساسة والقادة ،وكل من يحملون مؤنة
اآلخرين ،أو يكونون فى موضع األسوة .
واإلخالص ال يمنع المسلم من االھتمام بنفسه وسمعته وكرامته .
إن ﷲ كلفنا أن نجمل أبداننا ومالبسنا ،وكره لنا رثاثة الھيئة وكآبة المنظر فى األھل
والمال ،فليس من الرياء أن نصون أحوالنا ونحصن مكاناتنا من الظنون والمكدرات
!
من حق الكريم أال يتھم بالبخل كما أن من حق النظيف أال يرمى باألدران .
لكن الدفاع عن الكيان المادى والمعنوى شىء وطلب وجوه الناس بالعمل الصالح
شىء آخر .
وقد خلد القرآن الكريم ذكر فريقين من الھداة األتقياء:
ـ أحدھما :سجل أسماءه وجھاده وأثنى على رجاله أطيب الثناء .
ـ واآلخر :طوى أسماءه ونشر سيرته واكتفى بشرح عمله وتزكية أثره .
من األولين أنبياء ﷲ الكرام الذين غرسوا ھدايات السماء فى األرض ،وذادوا عنھا
أوبئة الكفر والعدوان .
ً
والقرآن عندما يثبت تاريخا ال يعنى إال بإبراز المناقب التى تؤخذ منھا األسوة
والفضائل التى سبقت بذويھا وأعلت أقدارھم !
تدبر قوله تعالى ” :واذكر عبادنا إبراھيم وإسحاق ويعقوب أولى األيدى واألبصار .
إنا أخلصناھم بخالصة ذكرى الدار .وإنھم عندنا لمن المصطفين األخيار ” ] ص:
. [ 47إن ھذه اآليات تنبه إلى االستطالة المادية والمعنوية لھؤالء الدعاة الكبار،
فليست األيدى واألبصار ھذه األعضاء والحواس التى يشترك فيھا العباقرة والدھماء،
ولكنھا القدرة والمعرفة !
وھل يتقدم من يتقدم ،ويتأخر من يتأخر إال بھذا التفاوت البعيد فى الھمم والثقافات ؟؟
وندع الحديث عن ھذا الفريق الذى رفع ﷲ ذكره إلى الفريق اآلخر الذى أسدل على
أسماء رجاله ستار كثيف فما يعرفھم إال ربھم .
من يدرى ؟ لعل ھذا تكريم وتثبيت للذين يعملون حتى الممات بعيداً عن األضواء،
إنھم أسمعوا من يناجون ! ولن يضيع من عملھم مثقال ذرة وإن جھل الناس من ھم
لھم أسوة حسنة فيمن حكى القرآن أنباءھم وترك ـ غير نسيان ـ أسماءھم .
من ھؤالء مؤمن آل فرعون الذى أحس نية الغدر بموسى والتآمر على قتله ،فاصطنع
أسلوب المحايد فى عرض نصحه وتفكيره قائالً:
ما خطورة أن يؤمن أحد با ،أو يزعم أنه يحمل رسالة من لدنه:
ـ إن كان كاذبا ً فستفضحه األيام ،ولن يضر إال نفسه .
ـ وإن كان صادقا ً فإن العدوان عليه استھداف لعقاب ﷲ الكبير ،وليس من العقل
التعرض لعقاب ﷲ .
واستتلى يقول :قد نكون اليوم أقوياء غالبين ،ولكننا بشر ال نفلت من أصابع القدرة
العليا عندما تقبض علينا فال ينبغى أن نجور على عباد ﷲ ..
قال تعالى مخلداً دفاع ھذا المحامى المؤمن:
” وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه :أتقتلون رجالً أن يقول ربى ﷲ ،وقد
جاءكم بالبينات من ربكم ؟! وإن يك كاذبا ً فعليه كذبه ،وإن يك صادقا ً يصبكم بعض
الذى يعدكم ،إن ﷲ ال يھدى من ھو مسرف كذاب .يا قوم لكم الملك اليوم ظاھرين
فى األرض فمن ينصرنا من بأس ﷲ إن جاءنا ..قال فرعون :ما أريكم إال ما أرى
وما أھديكم إال سبيل الرشاد ” ] غافر. [ 29 :
وأحب أن أقف قليالً عند رد فرعون :ھل كان الرجل يعتقد فعالً أنه راشد ،أم أنه كان
يحاد ﷲ ورسوله وھو يدرى أنه مبطل عنيد ؟
الواقع أن كثيراً من الضالين يمضون فى طريق الغواية وھم يستحسنونھا
ويستريحون إليھا ويعتقدون أن لھم وجھة نظر جديرة بالتسليم .
وفى ھؤالء يقول ﷲ تعالى ” :إن الذين ال يؤمنون باآلخرة زينا لھم أعمالھم فھم
يعمھون ” ] النمل [ 4 :ويقول ” :أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء
عمله واتبعوا أھواءھم ” ] محمد. [ 14 :
ويقول المفسرون فى قوله تعالى ” :إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ” نزلت اآلية فى
أبى جھل عندما قاد المشركين فى معركة بدر ،فقد قال لما التقى الجمعان :اللھم أينا
كان أفجر قاطعا ً للرحم ـ يعنى نفسه ومحمداً ـ فاحفه اليوم أى أھلكه ..
فكأن ھذا الكفور الكنود كان إلى الرمق األخير يعتقد أنه محق فيما ارتكب !!
إن الحجاب المسدل على بصيرته لم يسمح لشعاع من الخير أن يتسلل إلى نفسه ،وھو
المسئول عن ذلك الطمس ،فلوال إدمان المعصية وتعود الجريمة ،ما أصابه ھذا
العمى !
ً
وقد يكون كال الرجلين ” فرعون ” و ” أبو جھل ” كاذبا فى حديثه عن نفسه وحواره
مع قومه ،فمثلھما من الدھاء والقدرة بحيث يدرى أنه مسترسل مع ھواه ،وأنه يكابر
الحقائق ،ويشاق ﷲ ورسله .
وقد كشف القرآن الكريم فى موضع آخر أن فرعون وقومه لما جاءتھم آيات ﷲ
الباھرة ” جحدوا بھا واستيقنتھا أنفسھم ظلما ً وعلواً ” ] النمل [ 14 :كما قال لرسوله
محمد شارحا ً موقف أبى جھل وأشباھه ” إنھم ال يكذبونك ولكن الظالمين بآيات ﷲ
يجحدون ” ] األنعام. [ 33 :
وقد كان مؤمن آل فرعون يحس أنه أمام جماعة من األفاكين المغرورين ،فأخذ رويداً
رويداً يتخلى عن موقف الحياد الذى بدأ به نصائحه وارتفعت درجة الحماس فى
خطابه لفرعون ومن معه خصوصا ً عندما قال فرعون ساخراً لوزيره ھامان ” :ابن
لى صرحا ً لعلى أبلغ األسباب ،أسباب السموات فاطلع إلى إله موسى ،وإنى ألظنه
كاذبا ً ] ” ..غافر [ .
عندئذ احتدت لھجة الرجل المؤمن ،واضطرم اإلخالص فى قلبه ولسانه فصاح ” يا
قوم مالى أدعوكم إلى النجاة وتدعوننى إلى النار . ” ..
وقال :ال جرم أن ما تدعوننى إليه ليس له دعوة فى الدنيا وال فى اآلخرة وأن مردنا
إلى ﷲ وأن المسرفين ھم أصحاب النار فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمرى إلى
ﷲ ” ] غافر [ .
ولكن ھذه المناشدة الخالصة الحادبة لم تلق آذانا ً واعية فمضى فرعون إلى مصرعه،
وأورد قومه الحتوف ،وبقى النصح الجميل الصادق الذى بذله الرجل المؤمن خالداً
على الدھر يكشف عن أسرار القدرة العليا فيما أنزلت بالظالمين .
من ھذا الرجل الذى يردد كالم األنبياء وليس منھم ؟ ال نعرفه ،وال نعرف عن مولده
ومماته شيئا ً .
ليكن رمزاً للعمل بعيداً عن األضواء ،استعالء على الشھرة فى األرض ،وإيثار
العقبى فى السماء !!
وھذا رجل آخر من الطراز عينه ،رجل وجد العراك محتدما ً بين رسل ﷲ وحماة
االنحراف ،ھؤالء يريدون أن يبلغوا عن ﷲ ويغيروا الشر السائد ،وأولئك يريدون
تكميم أفواھھم وإخراس ألسنتھم ..
ونما الخصام بين الفريقين ،وبلغ األمر بأعداء الوحى أن تشاءموا من وجود
المرسلين بينھم ،ومن دعوتھم فيھم ،فتھددوھم بالعذاب األليم .
وجاء الرجل المؤمن من بعيد يھيب بقومه أن يعقلوا !
وقال ” :يا قوم اتبعوا المرسلين ،اتبعوا من ال يسألكم أجراً وھم مھتدون ” ] يس26 :
[.
لقد أمن قومه على أموالھم فلم يرزأھم أحد فيھا ،وھذه الدنيا التى يحرصون عليھا
ستبقى لھم مزدانة باإليمان الحق ،فما أجمل ھذا !
ثم تساءل :ما يمنعنا من اإليمان ؟ وما يغرينا بالشرك ؟
” وما لى ال أعبد الذى فطرنى وإليه ترجعون ؟ أأتخذ من دونه آلھة ،إن يردن
الرحمن بضر ال تغنى عنى شفاعتھم شيئا ً وال ينقذون ؟ إنى إذا ً لفى ضالل مبين .
إنى آمنت بربكم فاسمعون ” .
إنه يريد إسماعھم ليرعووا ويقتدوا وال يستوحشوا من الطريق الذى يدعوھم إليه .
وبقى الرجل إلى آخر رمق ينصح أھل بلده ليرشدوا ،بيد أنه مات تاركا ً إياھم على
غوايتھم .
فلما وجد طيب عيشه عند ربه وثمرة إيمانه تحف به وتقر عينه تذكر الرجل المخلص
قومه فتمنى لھم الھدى ” يا ليت قومى يعلمون بما غفر لى ربى وجعلنى من
المكرمين ” .
ولكن قومه أصروا على العمل فمستھم نفحة من عذاب ﷲ أخمدت أنفاسھم وجعلتھم
أثرا ً بعد عين .
من ھذا الرجل الطيب القلب السمح النفس ؟
ال نعرفه ،حسبه أن ربه يعرفه ،إنه لم يعمل إال له !
والفتية أھل الكھف الذين أحبوا ربھم حبا ً جماً ،وغالوا بتوحيده مغاالة ظاھرة ،من ھم
؟ ال ندرى ،لقد رفض القرآن أن يجلو النقاب عن أشخاصھم وعددھم ” ربھم أعلم
بھم ” ” ربى أعلم بعدتھم ” .
لكنه كشف عن جالل يقينھم وسمو معرفتھم با وإجماعھم على إفراده بالعبادة،
وازدرائھم لكل انحراف إلى الشرك ” ربنا رب السموات واألرض لن ندعو من دونه
إلھا ً لقد قلنا إذن شططا ً ” .
كما كشف عن تبرمھم الشديد بالمجتمع الوثنى وعزوفھم عن البقاء فيه ،وخشيتھم من
العودة إليه إذا ضبطوا متلبسين بإيمان !
وانظر مدى كراھيتھم للكفر ،والوقوع تحت سطوة أھله ،وقول بعضھم لبعض ” إنھم
إن يظھروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم فى ملتھم ولن تفلحوا إذا أبدا ً ! ” ] الكھف:
[ 20
إن العيش بمبدأ كريم ولمبدأ كريم شىء عظيم حقا ً .
وإنما يتفجر الفداء واإلخالص من عمق ھذه الحياة الرفيعة .
واألمة العربية فتكت بھا أمراض الرياء ،وعلل التعاظم األجوف والرغبة فى الظھور
بالحق أو بالزور ،وال يمكن أن تنھض أمة مع ھذه األدواء الخسيسة !
إننا بحاجة إلى أعداد كبيرة من الجنود المجھولين ،يعملون فى ألف ميدان ،ويسدون
ألف ألف ثغرة .
فھل يوجد من يكتفون بنظر ﷲ إليھم ،ويستغنون عن أنظار الناس ؟
فى صدر تاريخنا ،وعلى امتداده مع الزمن ،كان العالم اإلسالمى يعرف بحبه للجھاد
وارتضائه ألشق التضحيات كى يحق الحق ويبطل الباطل .
كان ھذا العالم الرحب عارم القوى األدبية والمادية حتى يئس المعتدون من طول
االشتباك معه ،فقد كبح جماحھم ،وقلم أظفارھم ورد فلولھم مذعورة من حيث جاءت،
أو ألحق بھم من المغارم واآلالم ما يظل بينھم عبرة متوارثة وتأديبا ً مرھوبا ً ..
ويرجع ذلك إلى أمور عدة:
أولھا :أن الحقائق الدينية عندنا ال تنفك أبداً عن أسباب صيانتھا ودواعى حمايتھا،
فھى مغلفة بغطاء صلب يكسر أنياب الوحوش إذا حاولت قضمھا .
وذلك ھو السر فى بقاء عقائدنا سليمة برغم المحاوالت المتكررة الستباحتھا ،تلك
المحاوالت التى نجحت فى اجتياح عقائد أخرى أو االنحراف بھا عن أصلھا .
ثم إن اإلسالم جعل حراسة الحق أرفع العبادات أجراً ،أجل فلوال يقظة أولئك الحراس
وتفانيھم ما بقى لإليمان منار ،وال سرى له شعاع ” قيل يا رسول ﷲ ما يعدل الجھاد
فى سبيل ﷲ ؟ قال :ال تستطيعونه ! فأعادوا عليه مرتين أو ثالثة ،كل ذلك يقول :ال
تستطيعونه ! ثم قال :مثل المجاھد فى سبيل ﷲ كمثل الصائم القائم القانت بآيات ﷲ ال
يفتر من صالة وال صيام ..حتى يرجع المجاھد فى سبيل ﷲ ” ] البخارى [ .
وإذا كان فقدان الحياة أمراً مقلقا ً لبعض الناس فإن ترك الدنيا بالنسبة لبعض
المجاھدين بداية تكريم إلھى مرموق الجالل شھى المنال حتى أن النبى صلى ﷲ عليه
وسلم حلف يرجو ھذا المصير .
” والذى نفس محمد بيده لوددت أن أغزو فى سبيل ﷲ فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو
فأقتل ” ] البخارى [ .
فأى إغراء باالستماتة فى إعالء كلمة ﷲ ونصرة الدين أعظم من ھذا اإلغراء ؟
لقد كانت صيحة الجھاد المقدس قديما ً تجتذب الشباب والشيب وتستھوى الجماھير من
كل لون ،فإذا سيل ال آخر له من أولى الفداء والنجدة يصب فى الميدان المشتعل .فما
تضع الحرب أوزارھا إال بعد أن تكوى أعداء ﷲ وتلقنھم درسا ً ال ينسى .
ھل أصبحت ھذه الخصائص اإلسالمية ذكريات مضت أم أنھا محفورة فى عقلنا
الباطن تحتاج إلى من يزيل عنھا الغبار وحسب ؟
إن االستعمار الذى زحف على العالم اإلسالمى خالل كبوته األخيرة بذل جھوداً ھائلة
لشغل المسلمين عن ھذه المعانى أو لقتل ھذه الخصائص النفسية فى حياتھم العامة،
وذلك ليضمن فرض ظلماته ومظالمه دون أية مقاومة !
وقد توسل إلى ذلك بتكثير الشھوات أمام العيون الجائعة ،وتوھين العقائد والفضائل
التى تعصم من الدنايا ،وإبعاد اإلسالم شكالً وموضوعا ً عن كل مجال جادة ،وتضخيم
كل نزعة محلية أو شخصية تمزق األخوة الجامعة وتوھى الرباط العام بين أشتات
المسلمين .
وقد أصاب خالل القرن األخير نجاحا ً ملحوظا ً فى سبيل غايته تلك ..
ومن ثم لم تنجح محاوالت تجميع المسلمين لصد العدو الذى جثم على أرضھم
واستباح مقدساتھم ..
وما قيمة ھذا التجميع إذا كان الذين ندعوھم قد تحللوا من اإليمان وفرائضه ،والقرآن
وأحكامه .
ً
إن تجميع األصفار ال ينتج عددا له قيمة !!
وإن الجھد األول المعقول يكمن فى رد المسلمين إلى دينھم ،وتصحيح معالمه
ومطالبه فى شئونھم ،ما ظھر منھا وما بطن ..
عندئذ يدعون فيستجيبون ويكافحون فينتصرون ،ويحتشدون فى معارك الشرف
فيبتسم لھم النصر القريب وتتفتح لھم جنات الرضوان .
إن الرجل ذا العقيدة عندما يقاتل ال يقف دونه شىء .
أعجبتنى ھذه القصة الرمزية الوجيزة ،أسوقھا ھنا لما تنضح به من داللة رائعة:
” حكوا عن قوم فيما مضى كانوا يعبدون شجرة من دون ﷲ ،فخرج رجل مؤمن من
صومعته وأخذ معه فأسا ً ليقطع بھا ھذه الشجرة ،غيرة وحمية لدينه ! فتمثل له
إبليس فى صورة رجل وقال له :إلى أين أنت ذاھب ؟ قال :أقطع تلك الشجرة التى
تعبدون من دون ﷲ ،فقال له :اتركھا وأنا أعطيك درھمين كل يوم ،تجدھما تحت
وسادتك إذا استيقظت كل صباح ! ..
” فطمع الرجل فى المال ،وانثنى عن غرضه ،فلما أصبح لم يجد تحت وسادته شيئاً،
وظل كذلك ثالثة ايام ،فخرج مغضبا ً ومعه الفأس ليقطع الشجرة ! قال :ارجع فلو
دنوت منھا قطعت عنقك ..
” لقد خرجت فى المرة األولى غاضبا ً فما كان أحد يقدر على منعك ! أما ھذه
المرة فقد أتيت غاضبا ً للدنيا التى فاتتك ،فما لك مھابة ،وال تستطيع بلوغ إربك فارجع
عاجزاً مخذوالً . ” ..
إن الغزو الثقافى للعالم اإلسالمى استمات فى محو اإليمان الخالص وبواعثه
المجردة ،استمات فى تعليق األجيال الجديدة بعرض الدنيا ولذة الحياة ،استمات فى
إرخاص المثل الرفيع وترجيح المنافع العاجلة ..
ويوم تكثر النماذج المعلولة من عبيد الحياة ومدمنى الشھوات فإن العدوان يشق
طريقه كالسكين فى الزبد ،ال يلقى عائقا ً وال عنتا ً ..
وھذا ھو السبب فى جؤارنا الدائم بضرورة بناء المجتمع على الدين وفضائله ،فإن
ذلك ليس استجابة للحق فقط ،بل ھو السياج الذى يحمينا فى الدنيا كما ينقذنا فى
اآلخرة ..
إن ترك صالة ما قد يكون إضاعة فريضة مھمة ،واتباع نزوة خاصة قد تكون
ارتكاب جريمة مخلة ،لكن ھذا أو ذاك يمثالن فى األمة المنحرفة انھيار المقاومة
المؤمنة والتمھيد لمرور العدوان الباغى دون رغبة فى جھاد أو أمل فى استشھاد،
ولعل ذلك سر قوله تعالى ” فخلف من بعدھم خلف أضاعوا الصالة واتبعوا الشھوات
فسوف يلقون غيا ً ” ] مريم . [ 59
إن كلمة الجھاد المقدس إذا قيلت ـ قديما ً ـ كان لھا صدى نفسى واجتماعى بعيد
المدى ،ألن التربية الدينية رفضت التثاقل إلى األرض والتخاذل عن الواجب ،وعدت
ذلك طريق العار والنار وخزى الدنيا واآلخرة .
ً
وھذه التربية المغالية بدين ﷲ ،المؤثرة لرضاه أبدا ھى التى تفتقر إليھا أمتنا
اإلسالمية الكبرى فى شرق العالم وغربه .
وكل مؤتمر إسالمى ال يسبقه ھذا التمھيد الحتم فلن يكون إال طبالً أجوف !
والتربية الدينية التى ننشدھا ليست ازوراراً عن مباھج الحياة التى تھفو إليھا نفوس
البشر ،ولكنھا تربية تستھدف إدارة الحياة على محور من الشرف واالستقامة ،وجعل
اإلنسان مستعداً فى كل وقت لتطليق متعه إذا اعترضت طريق الواجب .
كنت أقرأ مقاالً مترجما ً فى أدب النفس فاستغربت للتالقى الجميل بين معانيه وبين
مواريثنا اإلسالمية المعروفة التى يجھلھا لألسف كثير من الناس .
تأمل معى ھذه العبارة:
” يقول جوته الشاعر األلمانى :من كان غنيا ً فى دخيلة نفسه فقلما يفتقر إلى شىء من
خارجھا ! ”
أليس ذلك ترجمة أمينة لقول رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم ” :ليس الغنى عن كثرة
العرض ولكن الغنى غنى النفس ” ! ] البخارى [
عن أبى ذر رضى ﷲ عنه :قال رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم :ترى كثرة المال ھو
الغنى ؟ قلت :نعم يا رسول ﷲ ! قال :فترى قلة المال ھو الفقر ؟ فقلت :نعم يا رسول
ﷲ .قال :إنما الغنى غنى القلب والفقر فقر القلب ” ..
واسمع ھذه العبارة من المقال المذكور:
” النفس ھى موطن العلل المضنية ،وھى الجديرة بالعناية والتعھد ،فإذا طلبت منھا
أن تسوس بدنك سياسة صالحة فاحرص على أن تعطيھا من القوت ما تقوى به
وتصح ..
” ھذا القوت شىء آخر غير األخبار المثيرة والمالھى المغرية واألحاديث التافھة
والملذات البراقة التافھة ،ثم انظر إليھا كيف تقوى بعد وتشتد ،إن التافه الخسيس
مفسدة للنفس ! واعلم أن كل فكرة تفسح لھا مكانا ً فى عقلك ،وكل عاطفة تتسلل إلى
فؤادك تترك فيك اثرھا ،وتسلك بك أحد طريقين :إما أن تعجزك عن مزاولة الحياة
وإما أن تزيدك اقتدارا ً وأمالً ”.
أليس ھذا الكالم المترجم شرحا ً دقيقا ً لقول البوصيرى:
وإذا حلت الھداية نفسا ً
نشطت للعبادة األعضاء !
واقرأ ھذه الكلمات أيضا ً فى المقال المترجم ” :رب رجل وقع من الحياة فى مثل
األرض الموحلة فكادت تبتلعه ،ولكنه ظل يجاھد للنجاة مستيئساً ،وبينا ھو كذلك
انھارت قواه وشق عليه الجھاد وأسرعوا به إلى الطبيب ..الطبيب لم يجد بجسده علة
ظاھرة .كل ما يحتاج إليه الرجل ناصح يعلمه كيف ينازل الحياة وجھا ً لوجه ال تثنيه
عقبة وال رھبة ”.
إن ھذا الكالم يذكرنى بما روى عن جعفر الصادق :من طلب ما لم يخلق تعب ولم
يرزق ! قيل وما ذاك ؟ قال :الراحة فى الدنيا .
وأنشدوا:
يطلب الراحة فى دار الفنا
خاب من يطلب شيئا ً ال يكون
إن التربية التى ننشدھا نحن المسلمين ليست بدعا ً من التفكير اإلنسانى الراشد ،إنھا
صياغة األجيال فى قوالب تجعلھا صالحة لخدمة الحق وأداء ضرائبه ،واحتقار الدنيا
يوم يكون االستمساك بھا مضيعة لإليمان ومغاضبة للرحمن ..
واالستعمار يوم وضع يده على العالم اإلسالمى من مائة سنة صب األجيال الناشئة
فى قوالب أخرى ،نمت بعدھا وھى تبحث عن الشھوات وتخلد إلى األرض ،فلما
ختلھا عن دينھا بھذه التربية الدنيئة استمكن من دنياھا فأمست جسداً ونفسا ً ال تملك
أمرھا ،وال تحكم يومھا وال غدھا ..
بل إنھا فى تقليدھا للعالم األقوى تقع فى تفاوت مثير:
عندما ننقل المباذل ومظاھر التفسخ فى الحضارة الغربية ننقلھا بسرعة الصوت ،أما
عندما ننقل علما ً نافعا ً وخيرا ً يسيراً فإن ذلك يتم بسرعة السلحفاة .
وكثير من الشعوب اإلسالمية تبيع ثرواتھا المعدنية والزراعية بأكوام من المواد
المستھلكة وأدوات الزينة والترف مع فقرھا المدقع إلى ما يدفع عنھا جشع العدو
ونياته السود فى اغتيالھا وإبادتھا !
وظاھر أن ھذا السلوك استجابة طبيعية ألسلوب التربية الذى أخذت به منذ الصغر،
وأثر محتوم التخاذ القرآن مھجوراً ،ونبذ تعاليمه وقيمه ،وھل ينتج ذلك إال طفولة
تفرح باللعب المصنوعة والطرف الجديدة والمالبس المزركشة ،والمظاھر الفارغة ؟
وال بأس بعد توفير ذا كله من استصحاب بعض اآلثار الدينية السھلة !
ولتكن ھذه اآلثار االحتفال بذكرى قديمة أو زيارة قبر شھير !
ثم يسمى ھذا السلوك التافه تدينا ً !
لقد جرب المسلمون االنسالخ عن دينھم واطراح آدابه وترك جھاده فماذا جر عليھم
ذلك ؟ حصد خضراءھم فى األندلس فصفت منھم بالد طالما ازدانت بھم وعنت لھم،
وما زال يرن فى أذنى قول الشاعر:
قلت يوما ً لدار قوم تفانوا
أين سكانك العزاز علينا ؟
أسمعت ھذا النغم الحزين يروى فى اقتضاب عقبى اللھو واللعب ،عقبى إضاعة
الصلوات واتباع الشھوات ..إن عرب األندلس لم يتحولوا عن دارھم طائعين ولكنھم
خرجوا مطرودين .
أفال يرعوى األحفاد مما أصاب األجداد ؟
لقد قرأت أنباء مؤتمرات عربية وإسالمية كثيرة اجتمعت لعالج مشكلة فلسطين،
فكنت أدع الصحف جانبا ً ثم أھمس إلى نفسى :ھناك خطوة تسبق كل ھذا ،خطوة ال
غنى عنھا أبداً:
ھى أن يدخل المسلمون فى اإلسالم ..
إننى ألمح فى كل ناحية استھانة بالفرائض ،وتطلعا ً إلى الشھوات ،وزھادة فى
المخاطرة والنقب وإيثارا ً للسطوح على األعماق واألشكال عن الحقائق ،وھذه الخالل
تھدم البناء القائم .فكيف تعيد مجداً تھدم أو ترد عدواً توغل ..؟
ما أحرانا أن نعقل التحذير النبوى الكريم ” إنما أخشى عليكم شھوات الغى فى
بطونكم وفروجكم ومضالت الھوى ” فإذا أصغينا إلى ھذا النذير ابتعدنا عن منحدر
ليست وراءه إال ھاوية ال قرار لھا ،ثوى فيھا قبلنا المفرطون والجاحدون .
كلما قرأت أبواب الفتن فى كتب السنة شعرت بانزعاج وتشاؤم ،وأحسست أن الذين
أشرفوا على جمع ھذه األحاديث قد أساءوا ـ من حيث ال يدرون ومن حيث ال
يقصدون ـ إلى حاضر اإلسالم ومستقبله !
لقد صوروا الدين وكأنه يقاتل فى معركة انسحاب ،يخسر فيھا على امتداد الزمن أكثر
مما ربح !
ودونوا األحاديث مقطوعة عن مالبساتھا القريبة فظھرت وكأنھا تغرى المسلمين
باالستسالم للشر ،والقعود عن الجھاد ،واليأس من ترجيح كفة الخير ألن الظالم
المقبل قدر ال مھرب منه .
وماذا يفعل المسلم المسكين وھو يقرأ حديث أنس بن مالك الذى رواه البخارى عن
الزبير بن عدى قال :شكونا إلى أنس بن مالك ما نلقى من الحجاج فقال :اصبروا فإنه
ال يأتى عليكم زمان إال الذى بعده شر منه حتى تلقوا ربكم ،سمعته من نبيكم صلى ﷲ
عليه وسلم ” !!
وظاھر الحديث أن أمر المسلمين فى إدبار ،وأن بناء األمة كلھا إلى انھيار على
اختالف الليل والنھار !
...نذكرھا ،كما يخالف األحداث التى وقعت فى العصر األموى نفسه !
فقد جاء الوليد بن عبد الملك فمد رقعة اإلسالم شرقا ً حتى احتوت أقطاراً من الصين
وامتدت رقعة اإلسالم غربا ً حتى شملت أسبانيا والبرتغال وجنوب فرنسا .
ثم تولى الخالفة عمر بن عبد العزيز فنسخ المظالم السابقة ،وأشاع الرخاء حتى عز
على األغنياء أن يجدوا الفقراء الذين يأخذون صدقاتھم !
ولقد أتى بعد أنس بن مالك عصر الفقھاء والمحدثين الذين أحيوا الثقافة اإلسالمية
وخدموا اإلسالم أروع وأجل خدمة ،فكيف يقال :إن الرسالة اإلسالمية الخاتمة كانت
تنحدر من سيئ إلى أسوأ ؟؟ ھذا ھراء .
الواقع أن أنسا ً رضى ﷲ عنه كان يقصد بحديثه منع الخروج المسلح على الدولة
بالطريقة التى شاعت فى عھده ومن بعده ،فمزقت شمل األمة ،وألحقت بأھل الحق
خسائر جسيمة ،ولم تنل المبطلين بأذى يذكر .
ـ وأنس بن مالك أشرف دينا ً من أن يمالئ الحجاج أو يقبل مظالمه ،ولكنه أرحم باألمة
من أن يزج بأتقيائھا وشجعانھا فى مغامرات فردية تأتى عليھم ،ويبقى الحجاج بعدھا
راسخا ً مكينا ً !
ـ وتصبيره الناس حتى يلقوا ربھم ـ أى حتى ينتھوا ھم ـ ال يعنى أن الظلم سوف يبقى
إلى قيام الساعة ،وأن االستكانة الظالمة سنة ماضية إلى األبد !
إن ھذا الظاھر باطل يقيناً ،والقضية المحدودة التى أفتى فيھا أنس ال يجوز أن تتحول
إلى مبدأ قانونى يحكم األجيال كلھا ..
ً
لقد سلخ اإلسالم من تاريخه المديد أربعة عشر قرنا ،وسيبقى اإلسالم على ظھر
األرض ما صلحت األرض للحياة والبقاء وما قضت حكمة ﷲ أن يختبر سكانھا
بالخير والشر .
ويوم ينتھى اإلسالم من ھذه الدنيا فلن تكون ھذه دنيا ألن الشمس ستنطفئ والنجوم
ستنكدر ،والحصاد األخير سيطوى العالم أجمع !
فليخسأ الجبناء دعاة الھزيمة وليعلموا أن ﷲ أبر بدينه وعباده مما يظنون .
لقد ذكر لى بعضھم حديث ” بدأ اإلسالم غريبا ً وسيعود غريبا ً كما بدأ فطوبى للغرباء
” ] رواه أحمد
والجماعة [ وكأنه يفھم منه أن اإلسالم سينكمش ويضعف وأن على من يسمع ھذا
الحديث أن يھادن اإلثم ،ويداھن الجائرين ويستكين لألفول الذى ال محيص عنه !
وإيراد الحديث وفھمه على ھذا النحو مرض شائع قديم .
ولو سرت جرثومة ھذا المرض إلى صالح الدين األيوبى ما فكر فى استنقاذ بيت
المقدس من الصليبيين القدامى!
ولو سرت جرثومة ھذا المرض إلى سيف الدين قطز ما نھض إلى دحر التتار فى ”
عين جالوت ” !
ولو سرت جرثومة ھذا المرض إلى زعماء الفكر اإلسالمى فى عصرنا الحاضر
ابتداء من جمال الدين األفغانى إلى الشھداء واألحياء من حملة اللواء السامق ما
فكروا أن يخطوا حرفا ً أو يكتبوا سطراً !
وقلت فى نفسى :أيكون اإلسالم غريبا ً وأتباعه الذين ينتسبون إليه يبلغون وفق
اإلحصاءات األخيرة ثمانمائة مليون نفس ؟
يا للخذالن والعار !
الواقع أن ھذا الحديث وأشباھه يشير إلى األزمات التى سوف يواجھھا الحق فى
مسيرته الطويلة فإن الباطل لن تلين بسھولة قناته بل ربما وصل فى جرأته على
اإليمان أن يقتحم حدوده ويھدد حقيقته ،ويحاول اإلجھاز عليه !
وعندما تتجلى الظلماء عن رجال صدقوا ما عاھدوا ﷲ عليه ،يقاومون الضالل بجلد،
وال يستوحشون من جو الفتنة الذى يعيشون فيه ،وال يتخاذلون للغربة الروحية
والفكرية التى يعانونھا ،وال يزالون يؤدون ما عليھم حتى تنقشع الغمة ويخرج
اإلسالم من محنته مكتمل الصفحة ،بل لعله يستأنف زحفه الطھور فيضم إلى أرضه
أرضا ً وإلى رجاله رجاالً .
وذلك ما وقع خالل أعصار مضت ،وذلك ما سيقع خالل أعصار تجىء ،وھذا ما
ينطق به حديث الغربة اآلنف ،فقد جاء فى بعض رواياته:
” طوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدى من سنتى ” ] راجع فى
روايات الحديث كلھا كتاب ” غربة اإلسالم ” البن رجب الحنبلى [ فليست الغربة
موقفا ً سلبيا ً عاجزاً ،إنھا جھاد قائم دائم حتى تتغير الظروف الرديئة ويلقى الدين
حظوظا ً أفضل .
وليس الغرباء ھم التافھون من مسلمى زماننا ،بل ھم الرجال الذين رفضوا الھزائم
النازلة وتوكلوا على ﷲ فى مدافعتھا حتى تالشت !
والفتن التى ال شك فى وقوعھا والتى طال تحذير اإلسالم منھا فتنة التھارش على
الحكم والتقاتل على اإلمارة ومحاولة االستيالء على السلطة بأى ثمن ،وما استتبعه
ذلك من إھدار للحقوق والحدود ،وعدوان على األموال واألعراض ..وھذا المرض
كان من لوازم الطبيعة الجاھلية التى عاشت على العصبية العمياء ..
والعرب فى جاھليتھم ألفوا ھذا الخصام والتعادى ،فھم كما قال دريد بن الصمة:
يغار علينا واترين فيشتفى
بنا إن أصبنا أو نغير على وتر
أجل ،فإن ترك الصغائر غير بلوغ األمجاد ،وتجنب التوافه والرذائل غير إدراك
العظائم وتسنم الھام ،والتلميذ الذى ال يسقط شىء والذى يحرز الجوائز شىء آخر !
والرسول الكريم عندما يأمرنا باعتزال الفتن ال ينھى واجبنا عن ھذا الحد ..
سوف يبقى بعد ذلك االعتزال الواجب بناء األمة على الحق ومد شعاعاته طوالً
وعرضا ً حتى تنسخ كل
ظلمة ..
وال نمارى فى أن تصدعات خطيرة أصابت الكيان اإلسالمى قديما ً وحديثا ً ..بيد أن
الضعاف وحدھم ھم الذين انزووا بعيدا ً يبكون ،ويتشاءمون ،وينتظرون قيام الساعة
!!
أما الراسخون فى العلم فقد أقبلوا على رتق الفتوق ،وجمع الشتات ،وإعادة البناء
الشامخ حتى يدركھم الموت أو القتل وھم مشتغلون بمرضاة ﷲ ،حتى يبلغ اإلسالم
مواقع النور والظل من أرض ﷲ أو كما قال الرسول العظيم ” ما بلغ الليل والنھار ”
..
نحن نعلم أن عدداً من حملة األقالم قد صنعت رؤوسھم خارج ھذه البالد ،وأن
تصورھم لكثير من الحقائق وحكمھم فى كثير من القضايا ال صلة له بتراثنا وال
ارتباط له برسالتنا ،وأن آخر ما يكترثون له أو يھتمون به ھو اإلسالم وحاضره
ومستقبله ،وإن كانت أسماؤھم إسالمية .
وكنت أحسب أن معركة المصير بيننا وبين بنى إسرائيل ستكرھھم على مراجعة
أنفسھم وتصحيح أخطائھم ،ولكننى كنت واھماً .
لقد استيقظ بنو إسرائيل وھاجت فى دمائھم غطرسة الماضى ،وانحرافات التدين
ولوثات التعصب ،وھجموا على بالدنا يبغون محو أمة وحضارة ،وفى أيديھم كل ما
استحدث العلم من أدوات الفتك !
وفى مالقاة ھذا العدوان تقرأ لكاتب روايات مصرى إنه مسرور من الجيل الحاضر
ألنه يحسن الرقص والغناء !
قبحك ﷲ من كاتب مكفوف البصيرة !
وفى ھذا االتجاه الضرير ينشر كاتب آخر مقاالت مسھبة عن ” الشخصية المصرية
” يمھد فيھا طريق الشھوة ويرسم لھا األھداف الوضيعة .
وتستغرب وأنت تقرأ فى صحيفة األھرام مقاالته ،فى أى عصر يعيش ھذا الكاتب،
وألى جيل يكتب ؟
نعم لقد ذھب ” توفيق الحكيم ” إلى باريس ال ليسأل :كيف دخل الفرنسيون النادى
الذرى ؟ وال ليبحث كيف يحاول جواسيس الصھيونية سرقة أسرار طائرات ”
الميراج ” ؟ وال ليحقق كيف أقامت فرنسا قوة ثالثة تريد أن تضارع جبابرة األرض
؟ ال ..إن شيئا ً من ذلك ال يعنيه .
إنه ذھب ليزيد القراء العرب فھما ً فى األمور الجنسية ،وليمد حريق الشھوات بوقود
جديد يأتى على األخضر واليابس ..
ذكر لنا الكاتب الجاد الناضج كيف أن زوجين لم يحسنا الوقاع ! وكيف أن طبيبا ً
عالجھما حتى أحسناه ! وكيف شاھد مع الجمھور الفرنسى على ” شاشة المسرح ”:
التطبيق العملى من الزوجين لما سمعاه وعرفاه من الطبيب ،فظھرا عاريين يمارسان
ھذه العالقة فى أتم وأكمل وجوھھا ” !
ويمضى كاتب األھرام الوقور فى عرض ما راقه من صور فرنسية فيقول” :
صادقت فى الحى ” سينما ” أخرى تعرض قصة عنوانھا ” الزواج الجماعى ” ..
جماعة من األزواج الشباب اتفقوا بينھم على أن يعيشوا فى حياة مشتركة وأن
يتقاسموا بينھم كل شىء وأن يناموا فى حجرة واحدة ،ونساؤھم مشاع لمن شاء منھم،
للزوج أن يعاشر من تروق له من زوجات زمالئه ،وللزوجة أن تختار ما تريد من
أزواج زميالتھا ،كل ذلك بالرضا التام من الجميع ،وكأن األمر رغيف خبز تتناوله
األيدى واألفواه ..ثم شاھدنا ھذه العالقات الجنسية تتم أمامنا بكل تفصيالتھا التى
تخدش الحياء ” ..الخ .
ونترك صورة ھذا القطيع من الفتيات والفتيان المتصالح على الزنا الجماعى أو على
الفسوق القذر ..لنترك ھذا القطيع فى جوه المنتن لنقرأ كاتب األھرام الفيلسوف ”!“
وھو يقرر رأيه فى ھذا الموضوع ..قال ” جعلت أفكر فى األمر مستعرضا ً ما سبق
من حضارات كبرى فوجدت بعض التشابه .إن سمة الحضارة فى كل عصر ھى
البحث عن الحقيقة ،وال حياء فى البحث عن الحقيقة ،خصوصا ً ما يتعلق باإلنسان
وأسباب وجوده المادى والروحى ،فكانت حضارة مصر القديمة والھند ترسم وتنحت
فى المعابد بعض األعضاء التناسلية رمزاً للحياة ..بل إن كتب األدب العربى القديم
ألمثال الجاحظ وابن عبد ربه كانت تتحدث عن الجنس كما تتحدث عن الطعام،
وأكثر ھذه الكتب ال يخلو من باب للطعام وباب للباه ،وما كان أحد وقتئذ يرى فى ذلك
بأسا ً وال حرجاً ،ولكن يظھر أنه عندما تأخذ الحضارات فى االنحطاط تكثر
المحظورات ،وتسدل البراقع على كثير من الموضوعات ،إلى أن تمتد إلى روح
المعرفة وعادة البحث فتصيبھا بالشلل وبھذا يقتل العلم وتخسر الحضارة ” .
ھذا ھو فكر كاتب األھرام الكبير ودرسه لتاريخ الحضارات السابقة والالحقة ..
وظاھر من أسلوب الكاتب أنه ال يدرى شيئا ً عن قضايا الحالل والحرام ،وال عن
شرائع السماء فى السلوك الخاص والعام ،وال عن الطور العصيب الذى يمر به
تاريخ العرب ،بل سنرى أنه ال يدرى عن تاريخ الحضارات البشرية إال ھذه األجزاء
المبتورة عن التماثيل المقامة ألعضاء التناسل ،واقتران الطعام بالباه فى كتب األدب
العربى القديم !!
ومع ھذا التطور المزرى فھو كاتب كبير يملك حق التوجيه لألجيال الجديدة من أعلى
المنابر .
إن علماء الدين ما نادوا فى بالدنا يوما ً ما بكبت الغريزة الجنسية ،ونحن نقدس فطرة
ﷲ التى فطر الناس عليھا ،ونحترم رغبة الذكر واألنثى فى لقاء مقنع مشبع ،وسبيل
ذلك الزواج فحسب ..
أما تيسير الزنا وتكثير أسبابه وتمھيد سبله وقبول نتائجه فھو ارتكاس إنسانى يصحب
األمم عندما تبدأ شمسھا فى الغروب .
وتاريخ األمة العربية واإلسالمية معروف بأنه لم يعترف بالرھبانية كما لم يعترف
بتبرج الجاھلية واستباحة األعراض على نطاق ضيق أو واسع ،فوصف الزنا العام
بأنه زواج جماعى كالم قذر ،وأى تمھيد لقبوله ـ كما ألمح الكاتب ـ مردود فى وجه
صاحبه .
ثم إن العرب خالل ھذا القرن قد حاقت بھم رزايا متالحقة ثم استطاع عدوھم أن
يضع أصابعه على مقاتلھم ،وھا ھو يشد قبضته على خناقھم ليوردھم الحتوف .
وصيحة العلم واإليمان التى ارتفعت بيننا اآلن ھى أمل الحياة ،فلحساب من تغرى
أفواج الشباب باالنحالل والتردى ،ويحددھا كاتب مسلوخ عن اإليمان والعقل لتنسى
ربھا وشرفھا ويومھا وغدھا !
نحن نعلم أن أوربا ارتقت فى العصور األخيرة ارتقا ًء بعيد المدى ،لكنه من أكذب
الكذب أن يجىء بعض الكتاب المصريين ليزعموا أن سبب ارتقائھا ھو انسالخھا عن
مناھج الفطرة ومقتضيات األدب .
إن أسباب النھوض شىء ومظاھر االنحالل شىء آخر ،ولكى نعرف تفاھة كتابنا
وانحدارھم الذھنى والنفسى ننقل إليك ما كتبه المؤرخ اإلنجليزى الكبير ” أرنولد
توينبى ” لتدرك منه حقيقة ما يتعرض له الكيان األوربى من أخطار .
إن األمراض التى يتعرض لھا ھذا الكيان المھتز ھى ھى ” الخصائص البراقة ”
التى يريد نقلھا إلى بالدنا كتاب تائھون مثل توفيق الحكيم وغيره من ذوى األسماء
والمناصب !
قال توينبى ] نشر المقال باإلنجليزية مجلة اإلسالم الباكستانية ،وترجمته إلى العربية
مجلة رسالة اإلسالم العراقية التى تصدر عن كلية أصول الدين ببغداد ،والمقال
طويل نقلنا منه نبذا ً [ تحت عنوان درس من التاريخ لإلنسان المعاصر:
” لقد فشلت جميع جھودنا لحل مشكالتنا بوسائل مادية بحتة ،وأصبحت مشروعاتنا
الجريئة موضع سخرية ! إننا ندعى أننا خطونا خطوات كبيرة فى استخدام اآلالت،
وتوفير األيدى العاملة ،ولكن إحدى النتائج الغريبة لھذا التقدم تحميل المرأة فوق
طاقتھا من العمل ،وھذا ما لم نشھده من قبل ،فالزوجات فى أمريكا ال يستطعن أن
ينصرفن إلى أعمال البيت كما يجب ..
” إن امرأة اليوم لھا عمالن :العمل األول من حيث ھى أم وزوجة ،والثانى من حيث
ھى عاملة فى اإلدارات والمصانع ،وقد كانت المرأة اإلنجليزية تقوم بھذا العمل
الثنائى فلم نؤمل الخير من وراء عملھا المرھق ،إذ أثبت التاريخ أن عصور
االنحطاط ھى تلك العصور التى تركت فيھا المرأة بيتھا ..
” فى القرن الخامس قبل الميالد حين وصلت اليونان إلى أوج حضارتھا كانت المرأة
منصرفة إلى عملھا فى البيت ،وبعد مجىء اإلسكندر الكبير وسقوط دولة اليونان
كانت ھناك حركة تسوية شبيھة بالحركة التى نشھدھا اليوم ! ..
” لقد نسوا ﷲ )والكالم لتوينبى( حين وضعوا حلوالً لمعالجة األمراض االجتماعية
انتھت باألمم إلى علل مستعصية ومآس كبيرة ..
” إن عصر اآللة أوجد لنا نقصا ً لم يسبق له مثيل ،نقصا ً فى المساكن مثالً ،وخلق لنا
فترات متناوبة من البطالة ،ونقصا ً فى األيدى العاملة ” .
ويقول توينبى ” :لقد مشى اإلنسان قديما ً فى الطريق الذى مشى فيه اليوم ،ووضع
القواعد نفسھا لتنظيم السير والمرور ،والفرق الوحيد أن األوائل استخدموا عربات
الخيل بدل السيارات ،وأن مخالفة تعليمات المرور لم تكن مروعة ومميتة كما ھى
اليوم ..
” إن التقدم الفنى والصناعى ليس بحد ذاته دليل الحكمة أو ضمان البقاء ،وإن
الحضارات التى انبھرت وقنعت بمھارتھا اآللية إنما كانت تخطو خطوة نحو االنتحار
! ..
” إن أحد مصادر الخطر على عصرنا الحاضر ھو أننا تربينا على عبادة الوطن
وعبادة الراية وعبادة التاريخ الماضى ـ العنصرى ـ ويجب على اإلنسان أن يعبد ﷲ
وحده وأن يتمسك بالقانون اإللھى فى تكامل الفرد والمجتمع ،وإن فشلنا لمحتم عندما
نحيد عنه ” ھكذا يقول توينبى .
ومن عباراته فى ھذا المقال ” :لقد أقنعتنى دراستى إلحدى وعشرين حضارة أن
الثقافة الخالقة ھى فقط الثقافة الصحيحة ،تلك التى تتمكن من حل المشكالت
المستجدة فى الظروف المختلفة ..
” إن التقدم العلمى الحديث قد حل مشكالتنا الصناعية بجدارة ..
” ولكن مشكالت العصر ليست من ذلك النوع الذى يحل فى المختبرات ،إنھا
مشكالت معنوية ،وال عالقة للعلم بالقضايا المعنوية ” .
يعنى :أن األمر فى ھذه األحوال لمنطق اإليمان ،ولذلك يقول:
” قد يبدو ھذا غريبا ً ولكن المدنيات الكبيرة بلغت نضجھا وضمنت تكاملھا بالتغيير
الروحى ” !
نقول :إن المؤرخ األوربى الغيور على حضارته يلمح أسباب اعتاللھا ويصف الدواء
بحذق ،أما الصحافى المصرى فھو يذھب إلى مسرح عابث فيصفه بإعجاب ،ويتذكر
أن مصر والھند كانتا قديما ً تقيم التماثيل ألعضاء التناسل !!
أى فكر ھذا ؟ وكيف تتداعى المعانى المثيرة على ھذا النحو فى ذھن أديب لتنشرھا
صحيفة كبرى ؟
ومتى ؟ فى أيام استعداد العرب لجولة أخرى مع بنى إسرائيل يحررون بھا أرضھم
ويدركون ثأرھم !
ما ننتظر غير ھذا من أقالم شبت على العبث وشاخت فيه ..بيد أننا نلفت الشباب
المسلم إلى حقائق قد تغيب عن ذھنه فى غمرة األحداث .
إن أعيننا ترمق قوما ً يكرھون اإلسالم من أعماق قلوبھم ويتحينون الفرص للتنفيس
عن ضغنھم بوسيلة أو أخرى .
وھؤالء يغضبون عندما ننتسب ـ مجرد انتساب ـ إلى اإلسالم وال يتحركون أية حركة
إذا تعصب المتعصبون ألية نحلة أخرى على ظھر األرض .
على الشباب المسلم أن يرمق ھؤالء بحذر وأن يدرك ما فى خباياھم من سواد ..
فى يوم ما جاء إلى صحن األزھر وفد يجمع بين جان بول سارتر وسيمون دى
بوفوار ولويس عوض وتوفيق الحكيم وآخرين ال أذكرھم ..
كان فيلسوف الوجودية وعشيقته مدعوين لزيارة القاھرة وإلقاء محاضرات بھا ..
من الذى استقدم إلى عاصمة العروبة واإلسالم ھذا الفرنسى الكفور ليلقى فيھا بذور
انحالله ؟!
ال يھم أن نعرف األشخاص ،وإنما المھم أن نحذر النيات المبيتة وأن نتقى التوجيھات
المسمومة وأن نتبين الدائرة الواسعة التى يعمل فيھا عدونا ،لھدم عقائدنا ودك
حصوننا فإن ھؤالء األعداء كثيرون ” ولو نشاء ألريناكھم فلعرفتھم بسيماھم ” .
حول خرافة تحديد النسل
قرأت مقاالً عن ” االنفجار السكانى وإمكانات التحكم ” نشرته صحيفة األھرام يوم
الجمعة 1970 / 1 / 2وال أكون مغاليا ً إذا وصفت ھذا المقال بأنه صائب الفكرة
عميق النظرة مملوء بالحقائق الجديرة باالحترام .
ولقد لفت عدداً من الدعاة المسلمين وعلماء الدين إلى ھذا المقال ألنه يصور فى
نظرى عودة أفكار سبق أن كتبتھا ووقفت عندھا ،ورأى جمھور المسلمين أنھا
التعبير الحق عن أحكام دينھم ونھج حياتھم ،وإن كان البعض قد مارى فيھا مراء يعلم
ﷲ بواعثه !
والكاتب بعد مقدمات جيدة حول مشكلة النسل يقول:
إن تفسير الزيادة السكانية بغير التخلف االقتصادى ،أو رد ھذه الزيادة إلى عوامل
أخرى .
مثل غلبة الغريزة الجنسية،
أو وجود األديان المحبذة للتناسل،
أو عدم المباالة بالرقى ..
يدخل فى باب التضليل العلمى !
وقد استخلص ھذه النتيجة الصادقة من جملة مالحظات علمية واجتماعية جديرة
بالتأييد الحار .
ويعجبنى أنه استھجن صيحات التشاؤم المفتعلة التى تخصص فى إرسالھا بين الحين
والحين نفر من مقلدى األساليب األمريكانية فى اإلحصاء الجزئى والحكم العام ،وھى
أساليب تخدم سياسة معينة من البيانات والبالغات التى يتبرع بھا نفر من نجوم الرأى
األمريكيين يزعمون فيھا أن العالم قد بلغ فى مسيرته نحو كارثة ” الالعودة ” .
بسبب الزيادة المفرطة فى سكانه ،تلك الزيادة التى نشأت من أن أقطار العالم الثالث ـ
الذى يضم عشرات من الدول النامية أو بتعبير آخر عشرات من الدول المتخلفة ـ لم
تكبح جماح شھواتھا الجنسية ،ولم تستجب لدعوة المندوب األمريكى إلى ” تخطيط ”
أو تحديد النسل الذى رأى سيادته أنه الطريق الوحيد لحسم المشكلة السكانية ..
بل لم يستح نفر من قادة الرأى فى الواليات المتحدة أن ينادوا جھراً بضرورة
استخدام القسر فى الحد من ھذا التفوق العددى للمراتب السفلى من البشر)!( بالقدر
الذى يمنع دفع المراتب األعلى إلى الخلف!
ولما كانت نسبة األوالد تكاد تكون ثابتة من عشرات السنين فإن الزيادة المحذورة
نشأت لألسف من قلة الوفيات بسبب ارتفاع المستوى الصحى فى أرجاء العالم .
والحل ؟
إنه عند أرباب الثقافة الغربية الرفيعة عدم مقاومة العلل بين شعوب ال تجد األكل،
وترك األمراض تفتك بھذه األجيال الوافدة فإن إقحام طوفان من األطفال الجياع على
اقتصاد مضطرب يھدد بكارثة !
لكن كيف يوصف ھذا التصرف ؟
إنه تصرف ” إنسانى ” عادى )!( ألنه يساعد الطبيعة على انتخاب األصلح وإبقاء
األقوى !
بل إن ھذا التصرف يتفق مع أرقى ثمرات الفكر اإلنسانى ،ألم يقل أفالطون فى
جمھوريته الفاضلة أنه يجب قتل كل طفل يزيد عن العدد الضرورى ؟ ونحن قد
وصلنا بالفعل إلى ما يزيد عن العدد الضرورى .
ويستتبع الفكر الغربى أحكامه على األمور ،فيقول الدكتور ” ھوايت ستيفنز ” أحد
خبراء علم االجتماع :إن يوم القيامة سيوافق 2026 / 11 / 13ألن المجاعة العالمية
فى ھذا اليوم ستقضى على الجميع ،ھكذا يقول الدكتور األلمعى بعد حساب وفق
قواعد علم االجتماع ال قواعد علم التنجيم !
وبناء على ھذا الھوس اإلحصائى يدعو األمريكيون إلى التعقيم اإلجبارى وإلى
فرض نظام صارم لتحديد النسل ،وإلى دعوة األمم المتحدة إلى إجراء ما كى ينخفض
عدد األوالد بين العرب والزنوج والھنود وأشباھھم وھم سواد العالم الثالث .
ويالحظ األستاذ كمال السيد ـ كاتب المقال ـ أموراً ذات بال منھا أن الواليات المتحدة
تنفق 70ألف مليون دوالر على معدات القتال وأن شركاتھا المحتكرة تعامل شعوب
العالم الثالث بنھم مستغرب ال مكان معه للرحمة بھؤالء الجياع المساكين .
ويقول ” وھناك صيغة شائعة فى أمريكا الجنوبية فحواھا ”:
أن خمسة من سكانھا يموتون جوعا ً كل دقيقة فى حين أن الشركات األمريكية العاملة
بھا تكسب خمسة آالف دوالر كل دقيقة أى ألف دوالر من كل ميت ! ..
ومع شعورنا بأن الكاتب يسارى النزعة إال أننا نعرف أن المساعدات األمريكية
مغشوشة النية سيئة الھدف فقد توزع على األطفال مقادير من األلبان والجبن ،ولكنھا
تفرض على بيئتھم قيود الفقر األبدى إلى ھذا النوع من المساعدات .
وبرامج النقطة الرابعة توزع المواد االستھالكية وحسب على األمم المتخلفة وتمتنع
امتناعا ً غريبا ً عن تصنيع البيئة وإعانتھا على أن تخدم نفسھا بنفسھا ،وتستغل
مواردھا الوطنية بقدراتھا الخاصة !
كأن شعوب ھذا العالم الثالث ـ كما تسمى ـ ينبغى أن تظل مشلولة المواھب مكشوفة
العجز ،ال تستطيع االنتفاع بما لديھا من خبرات .
وعليھا ـ بعد ـ أن تسمع الحكم بأن التعقيم اإلجبارى واجب ،وأن تحديد النسل فريضة
وإال قامت القيامة بعد كذا من السنين !
ويتلقى ھذا الكالم بعض قصار العقل فيطيرون به ھنا وھناك ينذروننا بالويل والثبور
وعظائم األمور فإذا حاولنا التفاھم معھم قالوا :إنكم رجعيون تائھون عن مقررات علم
االجتماع ،وأخطار يوم القيامة الذى سيجىء حتما ً من زيادة السكان !
ولنتناول اآلن صميم المشكلة .ھل حقا ً أن بالد العالم الثالث ال تكفى حاجات أھلھا
وبالتالى ال تتسع لمزيد من األفواه التى تطلب القوت واألجساد التى تطلب الكسوة ؟
تلك ھى األكذوبة الكبرى التى يضخم االستعمار صداھا ويزعج الدنيا طنينھا !
إن أقطار العالم الثالث مشحونة بخيرات تكفى أضعاف سكانه ،بيد أن ھذه الخيرات
تتطلب العقول البصيرة واأليدى القديرة .
ولو رزقت ھذه األقطار المنكودة إنسانية نزيھة تستھدف إيقاظ الملكات الغافية
والحواس المخدرة ،وتطارد الخمول والوھن وتجند القدرات والخيرات ،وتمنع
التظالم والترف ،وتضرب سياجاً منيعا ً حول مصالح الشعوب يرد عنھا غوائل
االستعمار بجميع أنواعه لكانت ھذه الشعوب تحيا فى رغد من العيش تحسدھا أقطار
الغرب عليه ..
ليست المشكلة اقتصادية كما يزعم الخبثاء من المستعمرين ،ومقلدوھم من الصياحين
الذين يھرفون بما ال يعرفون .
الفقر فقر أخالق ومواھب ال فقر أرزاق وإمكانيات !
ـ لماذا يكون المولود القادم أكاالً ال شغاالً ،مستھلكا ً ال منتجاً ،عبئا ً على الحياة ال عونا ً
على الحياة ؟
ـ لماذا تھون اإلنسانية فى شأن ھذه األجيال الوافدة فيكون وجوده مبعث قلق ال مثال
استبشار .
إن الجھود المادية والمعنوية التى يبذلھا المتشائمون لقتل ھذه األنفس أو للحيلولة دون
وجودھا لو بذلت فى تصحيح األخطاء االجتماعية وتقويم االنحرافات العقلية لكانت
أقرب إلى الرشد وأدنى إلى الغاية !
ولكن االستعمار األنانى الشره يريد التھام كل شىء لنفسه وحده ،بل األنكى من ذلك
أنه يعترض طريق كل نھضة تصحح األوضاع كى تبقى األمور كما ھى ويبقى
منطقه السقيم فى عالج األمور .
على أن تخلف العالم الثالث ليس علة أزلية وال أبدية فقد كان األوربيون واألمريكيون
أسوأ حاالً منذ قرون تعد على األصابع ،وكانت الخرافة تفتك بعقولھم فتك األدران
والعلل بأجسامھم ،فإذا صعدوا فى سلم الترقى وھبط غيرھم بعد رفعة أو بدأ ألول
مرة يخطو على درب المدنية فال معنى لالحتيال عليه والتشفى منه .
” كذلك كنتم من قبل فمن ﷲ عليكم ”
واألمر ال يستدعى أكثر من تغيير الظروف المؤثرة فى أحوال المجتمعات فھناك
مكان ينبت العز ـ كما يقول المتنبى ـ ومكان ينبت الذل .وھناك آخر يوقظ العقل أو
ينيمه .
والمعتوھون الذين يصرخون جزعين :قفوا نسل األرانب حتى ال تقول الساعة ،أو
حتى ترقى األمة ..ال يعلمون أن العالم الثالث لن يرقى ولو فقد تسعة أعشار عدده ما
بقيت ظروف النفسية والفكرية جامدة على أوضاعھا الحالية .
ونعود مع كاتب األھرام لنبصر الواقع حيث يقول:
” إن موارد العالم خصوصا ً موارد البالد المتخلفة ما زالت تفوق كثيرا زيادة أعداد
ً
السكان ،فالفائض االقتصادى المحتمل يمكن تحويله إلى ضروب من النشاط المنتج
بدالً من أن يذھب إلى جيوب المرابين والوسطاء ومالك األرض أو يتبدد فى وجوه
السرف المختلفة ..
” وھذا الفائض ھو ما يعرفه االقتصاديون بأنه الفرق بين اإلنتاج فى ظروفه الطبيعية
وبين ما يعد استھالكا ً ضروريا ً للجماعة المنتجة ،ويقدر ھذا الفرق بنحو % 20من
اإلنتاج القومى ،وھو يكفل عند استثماره زيادة سنوية فى الدخل تبلغ ،% 8وھذه
الزيادة تكفى بل تفيض عن متطلبات الزيادة السكانية ” .
الفقر الواقع أو المتوقع ال يعود إذن إلى علل طبيعية بل إلى سوء تصرف واضطراب
إدارة ،أو كما يقول االقتصادى األمريكى المشھور ” بول باران ” ” :إننا يجب أن
ندق ناقوس الخطر ال ألن القوانين األبدية فى الطبيعة قد جعلت من المستحيل إطعام
سكان األرض بل ألن النظام االقتصادى االستعمارى يحكم على جموع كثيفة من
الناس ـ لم يسمع بضخامتھا من قبل ـ أن تعيش فى كنف الفاقة والتدھور والموت قبل
األوان ” !
ثم أنھى الكاتب كلمته قائالً ” :إنه ال حل لمشكالت التخلف ومن بينھا ضغط السكان
على الموارد إال بتنمية بلدان العالم الثالث لثرواتھا ،ومضاعفة اعتمادھا على نفسھا ..
ثم على القدر الميسور من المعونات األجنبية المنزھة ”.
لقد قررت ھذه األحكام تقريبا ً فى كتابى ” من ھنا نعلم ” المطبوع من ربع قرن،
ولذلك فقد انشرح صدرى عندما قرأت ھذه األيام ما يزيد الحق وضوحا ً ..
وما يبدد ضبابا ً كثيراً نشره فى أفق الحياة العامة أقوام قصار الباع طوال األلسنة،
وإنى ـ إذ أؤكد المعانى
اآلنفة ـ أوجه كلمة إلى نفر من المتحدثين باسم اإلسالم أساءوا إلى حقائقه مراراً
وھزموه فى مواطن كثيرة ..
إن اإلسالم ليس ھو بالدين المحلى ألھل الوجھين البحرى والقبلى ،إنه دين القارات
الخمس ! وداره الرحبة الخصبة تمزج بين أجناس كل ھذه القارات فى أخوة جامعة
ال تعرف الحدود الضيقة المفتعلة التى صنعھا االستعمار فكيف يعالجون مشكلة
السكان وھم ال يدركون ھذا األساس المبين ؟
ثم إن ھذا الدين يتعرض لحرب إبادة فى ھذه األيام من تحالف الصھيونية
واالستعمار ،فكيف تصدر األوامر من رؤساء األديان بتكثير األتباع ،ومباركة
النسل ،ويفتون ھم بالتعقيم والتقليل ؟
إننى ال أدرى علة ھذا الزيع ؟ أھى قلة العلم أم ليونة الضمير ؟
وتحذير آخر إلى ھؤالء :إن أحدھم يقع على الكلمة منسوبة إلى عمرو بن العاص أو
غيره من الرجال فيطير بھا غير آبه بقيمة سندھا وال مكترث بأنھا ملتقطة من كتب
تجمع الجد والھزل والخطأ والصواب ..
ولو فرضنا جدالً نسبتھا إلى عمرو ،فما كالم عمرو بالنسبة إلى كالم ﷲ ورسوله ؟
أرجو بعد كلمة األھرام التى لخصتھا فى مقالى أن تنتھى ھذه المأساة ..
ھذه سياحة سريعة داخل أقطار الفكر الدينى الغربى .ستفجؤنا أحكام ينقصھا السداد،
ومؤامرات يحبكھا القدر ،وضغائن ال تزال عميقة على طول العھد وامتداد الزمان !
ومن حقنا نحن المسلمين ـ وقد لفحتنا حرب بقاء أو فناء ـ أن ندرس الجبھة التى مسنا
عدوانھا وأن نزن ببصر حديد طبيعة العواطف الدينية التى تكمن أو تبرز خلف
أحداث ال تبدو لھا نھاية قريبة !
ولنبدأ بمقال نشرته مجلة كاثوليكية تطوعت بإسداء نصائحھا الغالية إلسرائيل،
وليست ھذه النصائح الغالية أن يعترف اليھود بحق العرب وأن يعودوا من حيث
جاءوا تاركين البالد ألصحابھا ..ال !
إن الضمير الدينى عند الصحيفة المتدينة جعلھا تسدى نصحا ً من لون آخر ،لقد قالت
لليھود:
” إننا احتللنا فلسطين قبلكم ،وبقينا فيھا سنين عدداً ،ثم استطاع المسلمون إخراجنا
وتھديم المملكة التى أقمناھا ببيت المقدس ،وذلك ألغالط ارتكبناھا ،وھا نحن أوالء
نشرح لكم تلك األغالط القديمة حتى ال تقعوا فيھا
مثلنا ! ..
ً
” استفيدوا من التجربة الفاشلة كى تبقى لكم فلسطين أبدا ويشرد سكانھا األصالء فال
يخامرھم أمل العودة !“
وشرعت الصحيفة التقية تشرح :لماذا انھزم الصليبيون األقدمون وتوصى حكام ”
إسرائيل ” بأمور ذات بال ،وتحرضھم فى نذالة نادرة أن يوسعوا الرقعة التى
احتلوھا ،وأن يستقدموا أفواجا ً أكثر من يھود العالم ،وأن يحكموا خطتھم فى ضرب
العرب ومحو قراھم وإبادة خضرائھم ،وبذلك يستقر ملك إسرائيل ويندحر اإلسالم
والمسلمون .
وھاك أيھا القارئ عبارات المقال الذى نشرته مجلة ” تايلت ” اإلنجليزية الكاثوليكية
للكاتب )ف .س اندرسون( فى العدد الصادر فى . 1957 / 10 / 26
يقول الكاتب المذكور ” إن نظرة واحدة إلى خارطة حدود إسرائيل الحالية تعيد إلى
الذاكرة للفور أوجه الشبه القوية بين تلك الحدود وحدود مملكة الصليبيين التى قامت
عقب احتالل القدس 1099م ..
” ونظرا ً إلى األعمال العدائية بين إسرائيل وجيرانھا نرى من المفيد أن نقارن بين
الحالة العسكرية الراھنة وبين مثيالتھا فى أيام الصليبيين ،ولعلنا نرى ما إذا كان
سيتاح إلسرائيل خط أفضل مما كان للصليبيين القدامى أم سيلقون مصيرھم ؟ ..
” إن مملكة الصليبيين لم يكتب لھا البقاء إال أمداً قصيرا ً وقد مكثت ثمانية وثمانين
عاما ً فقط ثم استرد المسلمون القدس ! ..
” ومع أن المسيحيين نجحوا فى االحتفاظ بقطاع صغير شرقى البحر المتوسط مدة
مائة عام أخرى إال أنھم فشلوا فى الدفاع عن عكا أخيراً وأخذوا يغادرون ھذه البالد
تحت جنح الظالم عائدين إلى أوروبا ..
” إن سقوط تلك المملكة كان يعود إلى بضع نقائص ظاھرة فإذا أريد إلسرائيل أن
تعيش مدة أطول فما عليھا إال أن تحتاط ضد ھذه النقائص ..
” لقد دخل الصليبيون فلسطين فى ظروف مالئمة جداً لھم ،تميزت بوقوع الفرقة بين
المسلمين ،وعجزھم عن إقامة جبھة مقاومة موحدة ! ..
” وھكذا استطاع المھاجمون أن يھزموا المسلمين بسھولة ،دويلة بعد دويلة ،وأن
يمكنوا ألنفسھم فى األقطار التى فتحوھا غير أنه لم يمض وقت طويل حتى ظھر
زعيم عسكرى مسلم استطاع أن يوحد المسلمين أمام خصومھم بسرعة ،ثم حشد
قواھم فى معركة حطين وأصاب الصليبيين بھزيمة ساحقة تقرر على اثرھا مصير
القدس ،بل انحسر بعدھا المد الصليبى جملة ،ودخل صالح الدين األيوبى مدينة
القدس التى عجز أعداؤه عن استبقائھا أو استعادتھا فتركوھا يائسين ” .
يقول الكاتب الكاثوليكى ” :كان الصليبيون يستطيعون البقاء مدة أطول فى تلك البالد
لو لم يعانوا نقصا ً شديداً متواصالً فى الرجال ،ولو أنھم وسعوا حدود مملكتھم وفق ما
تمليه الضرورات العسكرية الماسة ،لماذا لم تحتلوا دمشق ؟ لقد كان احتالل دمشق
مفتاح مشكلتھم وضمان بقائھم ! وسيظل عدم تقديرھم لھذه الحقيقة
لغزاً لنا ؟ ..
” نعم إنھم بذلوا جھوداً واھية الحتالل تلك المدينة بيد أن محاوالتھم كانت من
الضعف بحيث كتب عليھا بالفشل ” .
وبدالً من أن يتابعوا جھودھم الحتالل دمشق اتجھوا جنوبا ً واحتلوا العقبة وشرعوا
يوجھون حمالتھم إلى مصر ،مع أن اإلشراف على النيل ھدف عسير التحقيق !!
وعندما أصبحت للمسلمين اليد العليا فى ذلك العھد استطاعوا إجالء الصليبيين عن
العقبة وعن سائر حصونھم فى الجنوب ،إال أن الكارثة الكبرى جاءت من الشرق،
فإن معركة حطين وقعت بالقرب من طبرية عند الزاوية الشمالية الشرقية لمملكة
الصليبيين ..
ولما كانت دمشق واألرض الممتدة بين األردن والصحراء السورية ملكا ً للمسلمين
فقد استطاعوا أن يتحركوا بحرية على ثالث جبھات حول المملكة الصليبية التى
أضحت شبه محصورة ..وذلك ما أعجزھا عن المقاومة !
يقول الكاتب الحزين لما أصاب أسالفه ” :ولو أن الصليبيين اندفعوا قدما ً وقطعوا
الممر الذى يؤدى إلى الشرق من دمشق الستطاعوا منع مرور الجيوش والقوات بين
سورية ومصر ،ولكانت حدودھم الشرقية المستندة إلى الصحراء أكثر أماناً،
وألمكنھم االنتفاع من أساطيلھم البحرية ” .
ثم يستأنف الكاتب الحاقد كالمه فيقول ” :لقد أقيمت إسرائيل فى وقت كان العرب فى
الدول المجاورة عاجزين عن القيام بعمل موحد ،ثم بقدر كبير من الجھد والشجاعة
استطاع اليھود أن يبلغوا حدودھم الحالية ،لكن ھذه الحدود تطابق حدود المملكة
القديمة للصليبيين ،وقد عرفنا مآلھا فما العمل ؟ ” .
يقول الكاتب محرضا ً اليھود على مزيد من العدوان ” :مرة أخرى ما لم تتحرك
إسرائيل فى االندفاع نحو دمشق فستبقى للعرب تلك الحرية الخطرة فى تنقيل قواھم
حول ثالث جھات من إسرائيل ،وفى ذلك ما فيه ” .
ويستطرد ” :قد يكون من العسير سياسيا ً أن تتحرك إسرائيل لغزو سوريا واحتالل
دمشق لكن االتجاھات السياسية السورية قد تساعد على تسويغ ذلك ،وإن مثل ھذه
النزھة الحربية )!( ستنطوى على فائدة دائمة إلسرائيل أعظم من الفائدة التى تجنيھا
من التغلغل فى صحراء سيناء ” .
ويختم الكاتب ” نصيحته ” ألصدقائه اليھود فيقول ” :إن إسرائيل لن تنقصھا القوى
البشرية فلديھا جيش كبير باإلضافة إلى ھجرة منظمة من جميع أنحاء العالم تمدھا
بكل ما تفتقر إليه من طاقات ويجب أن تظل قادرة على وضع جيش قوى فى الميدان
يكون دائما ً على أھبة االستعداد ” .
لو أن كاتب ھذا الكالم يھودى قح ما استغرب المرء حرفا ً منه !
إن وجه العجب فى ھذا التوجيه المشوب بالود إلسرائيل والبغض للعرب والمسلمين
أن الكاتب مسيحى ينشر أفكاره فى مجلة كاثوليكية .
وھو يفكر ويقارن ويقترح كأن القضاء على العروبة واإلسالم جزء من عقله الباطن
والظاھر ،ثم ھو ال يشعر بذرة من حياء فى إعالن سخائه .إن مشاعر البغضاء
المضطرمة فى جوفه تغريه باالسترسال والمجازفة دون أن تھيب ،ويحزننا أن
الكالم ليس إبداء لوجھة نظر خاصة ،فإن الكاثوليك فى أرجاء األرض انتھزوا
فرصة الضعف التى يمر بھا اإلسالم كيما يحولوھا إلى ھزيمة طاحنة وفناء أخير .
والروح الذى أملى بكتابة ھذا المقال ھو نفسه الروح الذى كمن فى مقررات المجمع
المسكونى الذى عقده بابا روما وصالح فيه اليھود ،وأمر الكنائس بعده أال تلعنھم فى
صلواتھا .
وھو الروح الذى جعل ” البابا بولس ” يزور القدس ويدخل األرض المحتلة ويتعامل
مع سلطات إسرائيل ،وھو تصرف لم يفعله أى بابا من مئات السنين !
وللقارئ المسلم أن يسأل :أذلك موقف الكاثوليك وحدھم ! أم أن أصابع االستعمار
الغربى قد أفسدت التفكير الدينى لدى كثير من المفكرين الغربيين .
قرأت كتابا ً وجيزاً للمؤلف المصرى المنصف الدكتور وليم سليمان وردت به ھذه
الحقائق نذكرھا مع تعليق سريع ال بد من إيراده .قال ” :فى ديسمبر سنة 1961عقد
مجلس الكنائس العالمى مؤتمره الثالث فى نيودلھى ،وأصدر قراراً حدد فيه موقفه من
اليھود جاء فيه :ال بد من تھيئة التعليم الدينى المسيحى وتقريبه لألذھان على وجه
يبرئ اليھود من تبعات األحداث التاريخية التى أدت لصلب المسيح إذ إن ھذه التبعات
تقع على
عاتق اإلنسانية كلھا )!( ..
” وقد صرح الراعى البروتستانتى األمريكى ل .ج .نبيت األستاذ بمعھد الالھوت
بنيويورك قائالً :إن الكنائس مسئولة بوجه خاص عن العداء للسامية فقد ظلت تعاليم
المسيحية موجھة عدة قرون ضد اليھود وھو عداء يعد من مخلفات األحقاد الدينية
القديمة ” .
نقول نحن :وما ذنب المسلمين فى ھذا ؟ وھل عرب فلسطين يدفعون ثمن ھذا الخطأ
الكنسى من وطنھم وكرامتھم وحاضرھم ومستقبلھم ؟
ذلك ما يريده مجلس الكنائس العالمى الموقر ! فإن ھذا المجلس عقد مؤتمراً فى
بيروت وزار أعضاؤه مخيمات الالجئين ثم قرر أنه ليس ھناك حل دائم لمشكلة
الالجئين الفلسطينيين إلى أن يبت فى القضية الخاصة بالخالف بين العرب وإسرائيل
.
” وقال المؤتمر ” الطيب القلب ” :إن ذلك سيشمل خطة عامة لتعويض الالجئين
سواء عادوا إلى وطنھم أم لم يعودوا وإن ھناك صدقات سوف يأخذھا أصحاب
األرض والمطرودين ! ..
” وفى سنة 1964عقد مجلس الكنائس العالمى فصله الدراسى الثالث عشر ” بجنيف
” وافتتح الجلسة عميد الكلية الالھوتية بجامعتھا فقال ال فض فوه :حين تثور مشكلة
اليھود فإن الكنيسة ال تستطيع أن تتجاھل ثقل مسئوليتھا العظيمة عن آالمھم
وضياعھم طول تاريخھم ولذلك فإن أول ما يصدر عنھا نحوھم ھو طلب المغفرة ..
” يجب على الكنيسة أن تطلب المغفرة من اليھود !! بھذه العبارة الضارعة الذليلة
يفتتح مجلس الكنائس العالمى الجلسة التى يحدد فيھا موقف من دولة إسرائيل . ” ..
ونتساءل نحن مرة أخرى :أإذا أجرم غيرنا وجب علينا نحن القصاص ؟ ” أال لعنة
ﷲ على الظالمين الذين يصدون عن سبيل ﷲ ويبغونھا عوجا ً ” ] ھود. [ 19 :
لقد فكرت فى ھذا األمر مليا ً ! إن حقنا ليس غامضا ً حتى يلتمس عذر لمستبيحه !
ھل المال اليھودى من وراء ھذه الذمم الخربة مھما كانت مناصبھا الدينية ؟ ربما .
أم أن الضغائن العمياء على اإلسالم وأمته سيرت الخطب والمقاالت فى ھذا المجال
الفوضوى المكابر الوقح ؟ ربما .
لكن الدكتور وليم سليمان فى كتابه ” الكنيسة المصرية تواجه االستعمار والصھيونية
” يذكر لنا كالماً آخر يستحق الدرس والتأمل .
إنه ينقل عن مؤرخ اإلرساليات ” ستيفن نيل ” ھذه العبارات من تقرير له ” :لقد تيقن
الرجل الغربى أن سجله االستعمارى حافل بالعار وأصبح أقل ثقة مما كان فى
وحدانية اإلنجيل المسيحى ونھائيته ،وفى حقه ـ أى حق الرجل الغربى ـ أن يفرض
على ورثة األديان العظيمة األخرى شيئا ً قد يثبت فى النھاية أنه ليس أكثر من خرافة
غريبة .. a western myth
” وبدأ فى أوساط رجال الالھوت ھجوم صريح على األلوھية بكل مظاھرھا فى
المسيحية ! وانتشر تيار فكرى يجعل نقطة بدايته ” موت اإلله ” )!( وينادى بمسيحية
ال دين فيھا )!( وينادى بھذه األفكار ” بنھوفر ويلتمان ” واألسقف اإلنجليزى ” جون
روبنسون ” ..
] انظر على سبيل المثال كتاب روبنسون Honest To Godالذى طبع منه فى
مارس سنة 1962أربع طبعات وفى أبريل سنة 1962طبعتان وفى كل من مايو
ويوليو وسبتمبر من نفس العام طبعة وكانت الطبعة العاشرة فى سبتمبر سنة ،1964
وقارب عدد النسخ المطبوعة مليون نسخة ،وعلقت عليه مجلة ” تايم ” فى 25
ديسمبر سنة 1964ونيوزويك فى أبريل سنة 1966ومجالت أمريكية أخرى كثيرة
!! [
” ويخيل للمراقب من بعيد أن القوم يثورون على اإلله ألنه تخلى عنھم وساعد
أعداءھم ” .
ويستطرد الدكتور وليم سليمان فيقول عن الغربيين ” :الدين فى نظرھم لم تعد له قيمة
فى ذاته ،إنه شىء يمكن االستفادة منه لتحقيق األھداف الدنيوية التى ينشدھا الغرب
فى شتى أنحاء العالم ” .
وخالصة ھذا الكالم أن المسيحية انتحرت فى أوربا ،فأى تدين ھذا الذى ينخلع ابتداء
من اإليمان بالحى القيوم ،ويعتبر التعامل معه منتھيا ً ألنه تالشى ومات !! ..
إن ذلك ھو التفسير الحقيقى النضواء رجال الكھنوت تحت راية االستعمار،
وركضھم الخسيس فى خدمة قضاياه ..
وعندما تتسابق شتى الكنائس إلرضاء إسرائيل وتعلق اليھود فھل يدل ذلك إال على
شىء واحد وھو أن رجال الدين باعوا ضمائرھم للشيطان ..؟
إن العرب يتعرضون إلبادة عامة ،والتفجيرات تنسف منازلھم وقد محيت قرى
بأكملھا من الوجود ،والدفاع عن النفس يوصف بأنه إجرام وتمرد .
ووسط ھذا الحريق المستعر يبارك ساسة إسرائيل ،ويقول رجال الدين والدنيا :خلقت
إسرائيل لتبقى ! فأين منطق اإليمان با واليوم اآلخر فى تلك المداھنة وھذا
االستخذاء .ظاھر أن القوم قد تحولوا إلى سماسرة وعمالء لالستعمار العالمى .
واعتقادى أن ھذه المحنة الرھيبة ستوقظ اإلسالم النائم وإن كان غيرى يرى أن
المادية المتربصة ھى الكاسبة من خيانة الغرب لدينه ومثله .
وال شك أن المستقبل محفوف بأخطار شداد ،بيد أننا لن نفقد توازننا وال ثقتنا فى
أصالتنا الدينية وال آمالنا فى جنب ﷲ .
واعتقادى كذلك أن االستعمار سيفشل فى محاوالته الدائبة لجر الكنائس الشرقية إلى
جانبه وإشراكھا فى مآسيه ،وإذا كان قد ضلل البعض فإن الجمھرة الغالبة ستبقى على
وفائھا لتعاليمھا ومواطنيھا وتاريخھا الصبور .
أرسلت بصرى وراء طالب بعض المدارس وھم منصرفون إلى بيوتھم .كان
الصخب شديداً ،والتدافع ظاھراً ،والتصايح بالكلمات النابية مسموعا ً ! لم تكن
بالشارع أثارة من علم أو داللة على جد ورشد !
ولست أستكثر على الصبية فرح االنطالق واألوبة إلى األصل ،ولست أجھل طبيعة
المرح فى مقتبل العمل وخفة التكاليف !
ولكنى لم أسترح للطيش البادى والمزح السخيف واأللفاظ الماجنة إذا كنا نريد إعداد
جيل صاعد فاألمر يتطلب سيرة وسريرة غير ما أرى .
لقد عرفت كثيراً من البرامج العلمية التى تدرس ،وال أزعم أنھا قليلة ،بل أشعر أن
استيعابھا أساس صالح لخلق شعب مثقف .
واطلعت على أغلب المقررات الدينية ،وقد تكون أقل مما يجب درسه .ومع ذلك فھى
لو تم فقھھا وتحصيلھا أساس حسن لتكوين جيل مؤمن مھذب ..
إذن من أين تجىء الشكوى ؟ وما مصدر ما ذكرت من معايب ؟
إن المادة العلمية شىء وأسلوب تقديمھا وتلقيھا شىء آخر .
إن ھذا األسلوب يرتبط برسالة األمة ،وضرورة تربية النشء على اعتناقھا
واحترامھا .
ومن ھنا فالتعليم المنفصل عن التربية جھد ضائع أو جھد تافه النتائج ..
وأذكر أن الدكتور ” حلمى مراد ” وزير التربية األسبق كان قد ألف لجنة لعالج ھذا
الوضع .
وأشھد أن الرجل كان حاد البصيرة عميق اإلخالص ،راغبا ً فى إنشاء جيل أفضل
وأقدر على مواجھة غده الثقيل .
ولقد انقسمت اللجنة المؤلفة إلى لجان شتى بذل أعضاؤھا جھودھم فى أداء الواجبات
المنوطة بھم .
] ألف الدكتور ” حلمى مراد ” وزير التربية والتعليم األسبق لجنة لدعم النواحى
الدينية فى التعليم العام ،وإصالح مقرراته بما يعين على إنشاء جيل مسلم ،وقد أخرج
الدكتور من الوزارة )!!( بعد أن أدت اللجنة واجبھا ،فاستنقذنا ھذه المقررات إلحدى
الشعب التى اختصت بالجو المدرسى [
واخترت لنفسى أن أكون فى اللجنة المعنية ” بالجو الذى يسود المدرسة ” ألن
التربية المدرسية فى نظرى ھى الدعامة األولى لإلفادة من العلم المبذول كما أنھا
الدعامة األولى إلمداد أمتنا برجال ذوى معادن صلبة ومواھب راجحة وفضائل
بارزة .
وقد انتھت اللجنة الموقرة إلى توصيات كثيرة ،أستبيح لنفسى ذكرھا آمالً أن ينفع ﷲ
بھا ،وأن تأخذ طريقھا إلى الھواء والضياء !!
قالت اللجنة ” :ال نستطيع أن نربى الطالب تربية دينية كاملة إال إذا ھيأنا له جواً
روحيا ً فى مدرسته وفى بيته ليكون ھذا المناخ الدينى من وسائل التعلق بھذه القيم
واالنتفاع بھا ،وبھذا تتالقى المعارف الدينية التى تلقاھا من مدرسه ومن كتابه بالجو
المصبوغ بالصبغة الدينية النقية فتتحول المعرفة النظرية إلى سلوك دينى كما تتحول
البذور فى الجو المالئم إلى زھور وثمر ” .
وبذلك يمكن تثبيت العقائد وإلف العبادات وتزكية األخالق وتكوين جيل نزاع إلى
الحق والخير متعاون على البر والتقوى .
ويتھيأ ھذا الجو الدينى المدرسى المنشود بما يأتى:
) (1يبدأ اليوم الدراسى بتالوة من آيات الذكر الحكيم مجودة أو مرتلة لتشيع فى الجو
المدرسى أنسام الطھر الروحى .
) (2تدور كلمة الصباح باإلذاعة بين ثالث دقائق وخمس دقائق ،حول ما سمعه
التالميذ من اآليات المقروءة ،وما تفرضه المناسبات الدينية ،وما ترشد إليه من
فضائل سامية ،فى كلمات موجزة موحية .
) (3أن تكون دروس التربية الدينية فى الحصص الثالث األولى ؛ ليشعر الطالب بما
للدين من قيمة عليا بين المواد الدراسية ،وليكون التلميذ فى ذروة النشاط الفكرى،
فيعى ما يسمع ،ويقر فى نفسه .
) (4أن تذاع األناشيد الدينية أو قصة دينية قصيرة فى الفسحة األولى من اليوم
الدراسى .
) (5أن ينظم الجدول المدرسى فيتالقى ابتداء فسحة الظھيرة مع حلول وقت الظھر
وينادى للصالة ثم يدعى إليھا بكلمات تحمس الطالب ألداء الفريضة .
) (6أن يخرج مدرسو اللغة العربية والتربية الدينية ومعھم إدارة المدرسة ومن شاء
من المدرسين اآلخرين أمام التالمي ،ثم يتجھوا إلى المصلى ليكون ھذا العمل
الجماعى إشعاراً ملموسا ً بإقامة الشعيرة فى وقتھا .
) (7أن يكون لكل مدرسة مجموعة من الرواد الدينيين يتناسب مع عدد الفصول
والطالب ،وھم الراعون لتالميذھم يوجھونھم إلى مرشدھم ويؤمونھم فى صالتھم
وينظمون إقامة الشعيرة بجدول مخطط له حتى يؤدى الصالة أكبر عدد من الطالب،
وعليھم أيضا ً أن يعدوا تقريراً شھريا ً عن سلوك كل تلميذ من تالميذھم ويرسل
التقرير إلى ولى أمره ليحس البيت برعاية المدرسة للدين فيعينھا عليھا .
) (8أن يخصص يومان فى األسبوع من فسحة الظھر تدور فيھا مناقشات دينية
مطبوعة متصلة بحياة التالميذ وال تستغرق من وقت الفسحة زمنا ً طويالً حتى ال
يضيق التالميذ بھا .وفى األيام األخرى تذاع مسرحيات دينية قصيرة تتصل بمنھجھم
الدراسى ما أمكن ذلك .
) (9أن تتجدد جماعات النشاط الدينى فتكون ھناك جماعة للمسرح اإلسالمى وغيرھا
للصحافة اإلسالمية وأخرى للتاريخ اإلسالمى ..بجانب الجماعات التقليدية كجماعة
البر واإلمامة وغيرھما .
) (10أن يكون العاملون فى الميدان المدرسى قدوة حسنة تتسم باإليمان والسلوك
الحميد الذى ينعكس على تالميذھم إيمانا ً وإخالصا ً وسلوكاً قويما ً .
) (11أن نجعل من بعض أيام الجمعة فرصة اللتقاء التالميذ بأساتذتھم وأولياء
أمورھم فى مصلى المدرسة ،حيث تلقى عليھم دروس دينية حية تناقش أفكارھم على
سعة ،لنتيح اشتراك أولياء األمور فى ھذه المناقشة ،مما يساعد على نقاء الجو
المنزلى ،ويوثق الروابط بين البيت والمدرسة .
) (12أن تدور أسئلة التطبيق الدينى األسبوعى واالختبارات الشھرية والفترية حول
الموضوعات التى تثار فى الندوات واللقاءات الدينية لنشد انتباه التالميذ إليھا .
) (13محاسبة المدرسين الذين يستھينون بدروس التربية الدينية فيستبدلون بھا
حصص المواد األخرى .
) (14تقسيم طالب المدرسة إلى أسر إسالمية ،وتسمى كل أسرة باسم شخصية
إسالمية كبرى ،على أن يكون تالميذ كل أسرة على علم وثيق بمن انتمت إليه
أسرتھم ،على أن تتبادل ھذه األسر المناشط الدينية وتثار بينھم المنافسات الكريمة فى
الجھاد الدينى ،على أن يدعى أولياء األمور الجتماعات شھرية لھذه األسر ؛ ليسھموا
بجھودھم فى ھذا المجال .
) (15استخدام القيادات المؤمنة من الطالب فى جذب زمالئھم إلى اإلطار الذى
ترسمه المدرسة ليتحرك بنوھا فى حدوده ،فإن تأثير الطالب على زمالئه أعمق من
تأثير األساتذة عليه .
) (16وضع صندوق فى فناء المدرسة تجمع فيه التساؤالت الحرة للطالب للرد عليھا
من جماعة الفتوى بالمدرسة .
ً ً
) (17أن يعنى باالحتفال بالمناسبات الدينية احتفاال مخططا له ،لتكون صورة متكاملة
تطبع فى نفوس الطالب اإلجالل لھذه المناسبة ،ويجعل الھدف من إحيائھا ربط
الطالب بشعائر اإلسالم ومبادئه ،فينبنى االحتفال على أن تعرض مكتبة المدرسة فى
ركن خاص كل ما لديھا من تواليف دينية أعدت لھذه المناسبة اإلسالمية ،كما تقوم
بندوات وأناشيد دينية ومسرحيات وأشرطة إسالمية .
) (18أن تزين جدران المصلى والمدرسة بالفتات تجذب األنظار بجمال إخراجھا
وحسن اختيار ما يسطر عليھا من اآليات الكريمة واألحاديث الشريفة والحكم البالغة
والعظات الدينية الموجھة .
) (19االھتمام باختيار شعار للمدرسة من اآليات واألحاديث ،ويدرس الطالب
والطوالب بشتى الوسائل على االلتزام بما فى ھذه الشعارات من قيم ومفاھيم ،ويمكن
أن يختار لمدارس البنات الشعار الذى يدعو إلى البعد عن التبرج والتمسك بأھداف
الفضيلة واالحتشام فى الملبس والمظھر .
) (20أن تكون للتربية الدينية ركن فى المكتبة العامة وفى مكتبات الفصول ،ويزود
ھذا الركن بخير ما تخرجه المطابع من الكتب الدينية الحديثة التى تربط بين الدين
والحياة وبين الدين والعلم ،وتناسب كل مرحلة من المراحل الدراسية .
) (21أن يكون للمصحف الشريف مكان الصدارة فى المكتبة العامة ومكتبات
الفصول ومكتبة المصلى .
) (22العناية بالوسائل المعينة التى تساعد التالميذ على فھم أبواب المنھج الدينى،
وتشوقھم إليه ،وتؤكد مفاھيمه فى نفوسھم ،على أن يشترك الطالب فى إعدادھا .
) (23أن يكون بيد الطالب فيما يقرر لھم من الكتب كتاب ذو موضوع واحد ،يصور
بعض البطوالت اإلسالمية والمعارك اإلسالمية وأمجاد اإلسالم العسكرية والعلمية،
لتكون مثالً عليا أمام الطالب .
) (24ينتفع بمجلس اآلباء فى دراسة وإنقاذ كل ما يجد من مشكالت فى سلوك
الطالب وعالقتھم بالمدرسة وتصرفاتھم الخارجية .
) (25أن يحرص الزائرون الرسميون للمدرسة على الصالة أمام التالميذ ومعھم،
ليترجموا عن العناية واالھتمام بأمر الدين ،فتنصرف ھذه العناية إلى التالميذ .
) (26أن نستعين ببعض أولياء األمور وغيرھم من المثقفين ثقافة دينية واعية ،فى
إلقاء بعض المحاضرات أو الدروس الدينية ليكونوا من أدوات التأثير وعوامل
االستجابة من الطالب ،مع االھتمام بما يدور بين الطلبة من تيارات ونزعات قد
تنحرف بالعقيدة والوجدان الدينى .
) (27التزام الحشمة والوقار فى الزى بمدارس البنات بين المدرسات والطالبات .
) (28أن تعد المدرسة معرضا ً دينيا ً ينظم كل ما أنتجه الطالب من وسائل تعليمية
دينية ،كصور المصلحين اإلسالميين ومناسك الحج والمعارك والغزوات ،مع بعض
البحوث الدينية التى أعدھا الطالب بإشراف رائدھم ،وفى ھذا تجسيد للقيم الروحية
التى ننشدھا إلعداد الجيل الجديد .
) (29إذا أمكن وصل النشاط الطالبى بالجماعات اإلسالمية القائمة فى البالد كان
ذلك حسناً على أن يتم تحت إشراف المدرسة .
) (30يوضع اليوم الدراسى فى إطار يحدد أوله ونھايته تحديدا ً متصالً بالدين فال
يدخل التالميذ فصولھم فرادى ،وال ينصرفون منھا فرادى ،ولكن يجمعون فى
صفوف قبل الدراسة واالنصراف ليرددوا أناشيد دينية وقومية ذات معنى روحى
وخلقى .
) (31أن تقوم المدرسة ببعض الرحالت الدينية التى يزور فيھا الطالب المساجد
الكبرى والمتاحف اإلسالمية واآلثار والمعالم الدينية والتاريخية والمناطق السياحية
الدينية ،مما يوحى إليھم بأصالة ماضيھم اإلسالمى وحضاراتھم المجيدة التى كانت
مصدر إشعاع للعالم .
) (32تفتح أبواب بعض المدارس فى كل حى من األحياء فى جميع المدن بجمھورية
مصر العربية تحت إشراف مسئولين ،وذلك لتحفيظ القرآن الكريم فى مدة العطلة
الصيفية ،وأن تخصص مكافآت مغرية لمن يحفظ جزءاً من القرآن ،وكلما زاد عدد
األجزاء من القرآن زادت المكافآت .
الحوافز:
) (34خلق الحوافز بين الطالب المتميزين دينيا ً من مثل إعفائھم من بعض الرسوم
المدرسية أو رسوم الرحالت أو غير ذلك .
) (35أن ترصد نسبة مجزية من حصيلة مجلس اآلباء لتأثيث المصلى ،وإثابة
المجيدين والمسابقات الدينية وإعانة المحتاجين من الطالب .
) (36أن ترصد المناطق التعليمية مكافآت مالية سخية للطالب المثالى فى السلوك
الدينى القيوم ليحفز ذلك غيرھم إلى أن ينھجوا نھجھم ويسلكوا سلوكھم .
) (37إعداد لوحات شرف للممتازين فى تحصيلھم الدينى وسلوكھم المستقيم ولمن
يقوم بأعمال فى البر تستلزم التنويه بھا واإلشادة بمن قاموا عليھا .
) (38إعداد شھادات تقديرية للطالبة أو الطالب الذى ينماز بالتحصيل الدينى ويسھم
فى أنشطته ويتمسك بحبل الفضائل على أن ترسل ھذه الشھادات إلى ذويھم لتبعث
فيھم الحماسة للتربية الدينية فى المنزل ،وليحرص البيت على النماء الروحى لھؤالء
األبناء .
وبعد ..
) (39كل ما قدمناه إنما يدعم باألجھزة اإلعالمية الطاھرة النقية ،أما إذا بقى الحال
على ما ھو عليه فى الصحافة واإلذاعة والتليفزيون وغيرھا من وسائل اإلعالم
فالجھد ضائع ،ألن ما يبنى ھنا تھدمه ھذه الوسائل ھناك .
وﷲ ولى التوفيق .
أسئلة وأجوبة
] ھذه األسئلة ـ وغيرھا ـ وإن كانت ھى الشغل الشاغل لكثير من الطالب ،إال أن
الذى تقدم بھا ھم طلبة جامعة اإلسكندرية [
**السؤال األول
” المرحلة القائمة فى العالم اإلسالمى ،ھل تبشر بالخير وتثير التفاؤل ؟ أم أنھا على
النقيض نذير سوء وال خير من ورائھا ؟ ”
*الجواب:
العالم اإلسالمى اليوم فى فترة كئيبة من تاريخه الطويل ،فترة فقد فيھا وحدته ،ونسى
رسالته ،وألمت به إغفاءة كبرى جعلته يتدحرج فى مؤخرة الركب اإلنسانى ضعيف
الوعى والحركة ،يطمع فيه العدو ويأسى له الصديق .
وھذه حالة منكورة يستحيل قبولھا أو ارتقاب خير من ورائھا ..
ولقد قلت فى كتاب لى ـ لما يظھر بعد ـ ما أظنه إجابة شافية على ھذا السؤال:
الفقر الحقيقى فى األمة اإلسالمية الكبيرة ھو ھذا الشلل الغريب فى الھمم والمواھب
وھذا التخلف السحيق فى مجال اإلنتاج واإلجادة .
ثم ذلكم العبث بمعنى اإليمان والنكوص عن منطقه ،إلى جانب تعلق وضيع بالشھوات
ونھمة بادية إلى الدنيا .
وما نصف خصومھم بأنھم يكرھون الحياة وملذاتھا ،بيد أن األمم القوية تبلغ ما تھوى
بوسائلھا الخاصة ،أما األمم الضعيفة فھى تلھث وراء غيرھا تتعلق بركابھم تعلق
المتسلقين بمركبات النقل أو المتسولين بأذيال السادة .
والنھوض الحقيقى ھو زوال ھذه العلل وفناء جراثيمه ،وقدرة األمة على االستغناء
بعملھا وإنتاجھا ،واالستھداء بإيمانھا وفضائلھا ،واالستعالء على متاع الدنيا بحيث
تأخذ منه بقدر وتنصرف عنه متى شاءت !!
ويؤسفنى التصريح بأن الشعوب اإلسالمية حتى يومنا ھذا لم تبدأ نھضة صحيحة،
وأن مظاھر التقدم التى نراھا أو نسمع عنھا ھى امتداد نشاط القوى الكبرى فى العالم
أكثر مما ھى تطلع المتأخرين للتقدم.
فالغرب الصليبى يصطنع شعوبا ً شتى لخدمة مآربه ويمدھا بكثير من عونه المادى،
وقليل من تقدمه الحضارى .
والشرق الشيوعى ينافسه فى ھذا الميدان ،ويحاول االستفادة من أخطائه أو يحاول
ميراثه إذا انتھى فى مكان ما وجمھرة المتعلمين أوزاع ،بعضھم يؤثر النمط الغربى
فى الفكر والسلوك ،وآخرون قد أعجبتھم الماركسية فاصطبغوا ظاھرا ً وباطنا ً
بنزعتھا .
أما الذين يتشبثون بالعقائد والفضائل اإلسالمية ويريدون بناء المجتمع الكبير على
دعائم الوحى المحمدى فقلة غامضة فى الناس ،وال أقول منكورة الوجه منكودة الحظ
.
من أجل ذلك قلت :إن الشعوب اإلسالمية لم تبدأ بعد نھضة صحيحة ،تكون امتدادا ً
لتاريخھا وإبرازا ً لشخصيتھا ،أو نماء ألصلھا ،وتثبيتا ً لمالمحھا .
ومن الغلط تصور أنى أحرم االستفادة من تجارب اآلخرين ومعارفھم !
كيف وھؤالء اآلخرون ما تقدموا إال بما نقلوه عن أسالفنا من فكر وخلق ووعى
وتجربة .إن دولة الخالفة الراشدة اقتبست فى بناء النظام اإلسالمى من مواريث
الروم والفرس دون غضاضة .
وعندما آكل أطعمة أجنبية أنا بحاجة إليھا ،فالجسم الذى نمى ھو جسمى ،والقوى التى
انسابت فى أصالة ھى قواى .
المھم أن أبقى أنا بمشخصاتى ومقوماتى ..المھم أن أبقى وتبقى فى كيانى جميع
المبادئ التى أمثلھا والتى ترتبط بى وأرتبط بھا ألنھا رسالتى فى الحياة ووظيفتى فى
األرض .
ھذا ھو مقياس النھضة وآية صدقھا أو زيفھا ،فھل فى العالم اإلسالمى نھضات جادة
تجعل اإلسالم الحنيف وجھتھا ،والرسول الكريم أسوتھا ؟
إننا ھنا حريصون أشد الحرص على جعل البناء الجديد ينھض على ھاتيك الدعائم ..
وإذا كنا نستورد من الخراج ثمرات التقدم الصناعى ،وننتفع من خيرات غيرنا فى
آفاق الحياة العامة فليكن ذلك فى إطار صلب من شرائعنا وشعائرنا .
فإنه ال قيمة ألحدث اآلالت إذا تولى إدارتھا قلب خرب ،وال قيمة ألفتك األسلحة إذا
حاول الضرب بھا فؤاد مستوحش مقطوع عن ﷲ مولع بالشھوات .
إن بناء النفوس والضمائر يسبق بناء المصانع والجيوش وھذا البناء ال يتم إال وفق
تعاليم السالم ] .من كتاب )حصاد الغرور( الذى تضمن ما ألقاه الكاتب من
محاضرات فى جمعية اإلصالح االجتماعى مع بحوث أخرى [
**السؤال الثانى
ً
ھل تعتقد أن قضية فلسطين يمكن أن تحل سلميا كما ينادى البعض ؟ وإذا كنت تعتقد
ھذا فما صورته فى ذھنك ؟ وإذا كان رأيكم أن الحرب ھى األمثل فما صورتھا ؟ ھل
حرب شعوب أم حرب حكومات؟ وھل تكون عربية أم إسالمية ؟
*الجواب:
لقد قرر اليھود إقامة وطن قومى لھم فى فلسطين ،وتحولت أمانيھم الدينية إلى
مخططات مدروسة تنفذ بدقة وصرامة .
فھم باسم التوراة والتلمود جاءوا .
وتحت شعارات من الوحى الذى يقدسونه تحركت مواكبھم من أرجاء الشرق والغرب
صوب فلسطين .
وفلسطين عندما قرر اليھود االستيالء عليھا لم تكن أرضا ً خالء بل كان مسكونة
بألوف مؤلفة من العرب ،ومعنى تھويد ھذه األرض طرد من عليھا من سكان أو
إبادتھم وفق تعاليم العھد القديم .
وقد أعان االستعمار إعانة فعالة على تحقيق ھذه الغايات وتقريب بعيدھا وتذليل
صعابھا ،وانتھى األمر فى سنة 1390من الھجرة إلى قيام دولة لليھود تحاول البقاء
فى وجه مقاومة متفرقة من العرب الذين صحوا على أشباح الضياع والذل والخيانة
تحيط بھم من كل مكان ،فھل يحتاج فھم ھذا الموقف إلى ذكاء سطحى أو عميق ؟
إن الحرب قد أعلنت بالفعل على العرب ،وھدفھا المحدد إجالؤھم أو إفناؤھم وإقامة
وجود دينى يھودى على أنقاض جنسھم ورسالتھم وكتابھم فأين مكان اإلسالم فى ھذا
الوضع ؟
إن السالم ھنا معناه االستسالم للذبح ،معناه قيام سرائيل ال داخل حدودھا الحالية
وحسب !! بل فى اإلطار الذى رسمته التوراة :من الفرات إلى النيل !!
ومعنى ھذا ـ دون كد الذھن أو إعمال الذكاء ـ سحق الوجود العربى اإلسالمى فى
الشرق األوسط ،ثم اإلجھاز على أطراف األمة اإلسالمية الكبرى فى أفريقيا وآسيا
بعد زوال الكيان العربى األصيل إذ العرب دماغ اإلسالم وقلبه ! وتلك ھى الغاية
التى تسعى لھا قوى كثيرة وتتجمع لتحقيقھا عناصر شريرة .
وإنى ألمس وراء التحركات الكثيرة ضد فلسطين وأھلھا ھذه النيات السود ،وتلك
األھداف الرھيبة ،وإن أعجب فعجبى للذين يقادون إلى مصارعھم وھم مخدرون،
وتلطمھم األحداث وھم غافلون ” أو ال يرون أنھم يفتنون فى كل عام مرة أو مرتين
ثم ال يتوبون وال ھم يذكرون ؟ ” ]التوبة[129:
إن الحرب فرضت فرضا ً على العرب ،فال خيار لھم بإزائھا ،وال مكان للتساؤل عن
فرص تجنبھا بعدما دارت رحاھا على يومنا وغدنا .
وال معنى لتجنب الحرب إال االستسالم للفناء والرضا بالتالشى واالنقضاء ،وما دام
القتال قد كتب علينا بدوافع دينية وأحقاد تاريخية وأطماع استعمارية ،وما دامت غايته
إبادتنا فال بد أن نتالقى عربا ً ومسلمين ،حكومات وشعوبا ً ؛ لرد ھذه الغائلة واستبقاء
وجودنا المھدد .
إن الحرب المعلنة علينا دينية ال يمارى فى ذلك عاقل ،وما دامت العقيدة سالحا ً
يرتكز عليه العدوان فلم ال تكون العقيدة سالحا ً يرتكز عليه الدفاع ؟ وما معنى إبعاد
اإلسالم عن معركة ھو فيھا مستھدف ؟ وأمته فيھا ضحية اليوم والغد ؟
إننى أعتقد فى أعماق قلبى أن إبعاد اإلسالم عن المعركة ال يخدم إال بنى إسرائيل
ومن وراءھم من الحاقدين على رسالة محمد وجنسه القدامى والمحدثين .
وإبعاد اإلسالم عن القتال الدائر أنفع لبنى إسرائيل من إمدادھم بألف طائرة من أفتك
طراز .
إنه ال يفل الحديد إال الحديد ،وال يصد عدوانا ً يعتمد على دين إال دفاع يستند إلى دين .
**السؤال الثالث
الشيوعية والرأسمالية تتصارعان على اقتسام األرض فما ھو موقفنا ـ كمسلمين ـ من
ھذا الصراع ؟ وما ھو رأيك فى مستقبل النظامين ؟
**الجواب:
فى العالم جبھتان متقدمتان ماديا ً وعقليا ً تتنازعان زمامه وتبغى كلتاھما أن تنفرد
بقيادته وتوجيھه ..
والمفروض فى نظر الكثيرين أن تنتصر إحداھما لبسط سلطانھا على العالم أجمع .
ولست فى جانب ھذا الفرض ،بل ما أرجحه أنه ستوجد جبھة ثالثة تقدم للعالم نموذجا ً
أفضل لمجتمع بشرى عادل حر مؤمن با ورسله وال يطمع فى السيطرة على
اآلخرين ولكنه يستطيع أن يضىء لھم الطريق .
ولى مالحظة على العنوان الذى يطلق على العالم الرأسمالى !
إن رأس المال عندما يتكون من حالل طيب ،ال من مال منھوب وال من حيف على
الطبقات الكادحة ،وعندما يقوم بسد الثغرات االجتماعية ال بتوسيعھا ،واحترام
الحقوق األدبية ال إھدارھا ..إنه فى ھذه الحالة يصلح أساسا ً لجماعة إنسانية كريمة،
ولكن العالم الرأسمالى اآلن يقوم بعمليات خطف كبرى لثروات الشعوب ويعمل على
توسيع الفتوق فى الكيان العالمى ويجتھد فى إھدار الكرامة البشرية للملونين ،كما
يجتھد فى إھدار حقوق األمم الضعيفة وإبقائھا فى منزلة التابع المھين .
وعندى أن العالم الشيوعى إنما يمتد مستغالً أخطاء الرأسمالية فى الميادين
االجتماعية والسياسية ،وھى أخطاء جسيمة ،وھناك كتل من الشعوب التى ضارھا
الحرمان والذل ،ترمق المعسكر الشيوعى بعين الخيال ،تحسب أن نجاتھا عنده،
وعذرھا أنھا تريد الخالص مما تعانى إلى ما تؤمل !! ثم إن الدين قد تخلى عن
وظيفته السماوية فى ظل ھذه الرأسمالية !!
وقد رأينا ـ نحن العرب ـ كيف تجمع اليھود على دانتھم الستئصالنا ،وكيف أعانتھم
الدول المسيحية الكبرى علينا إشباعا ً لحقدھا وجشعھا .
فإذا احتقر الماديون دور الدين فى صياغة مستقبل اإلنسان فھم معذورون ،ألن طبول
الحاخامات والباباوات كنت تدق بحماس فى مواكب المعتدين !!
إن العالم الرأسمالى ينتحر بما يتناوله من تفرقة عنصرية ومظالم مادية وأدبية ،وبما
يكنه فى ضميره اآلثم من ضغائن على اإلسالم والمسلمين ..
فھل معنى ھذا الكالم أن البشرية ستؤثر الكفر با والبعد عن ھداه ؟ ال أعتقد .
إنھا ستبقى فى حيرة تطول أو تكثر حتى يوجد جيل من الناس يقدم لھا الھدى مقرونا ً
بالعدل ،والحرية مقرونة بالفضيلة ،واإليمان بالروح مقرونا ً بتقدير الجسد ،واإليمان
باآلخرة مقرونا ً بتقدير الدنيا.
ما اسم النظام الذى يقوم بھذا الدور الفريد المجيد ؟
اسمه اإلسالم !
وليس لإلسالم اآلن أمة تقدمه بمفھومه الحقيقى القديم ! توجد بقايا كيان متھدم تفوح
منه رائحة البلى تنتشر بقاياه على أديم القارتين القديمتين ،وتسكن فى أكواخه ثمانمائة
مليون مسلم ..
أنا شخصيا ً أحد الضائقين بأحوال ھذه األمة النائمة ..كما أننى أحد الذين يناشدون
أمتھم تلك أن تعود إلى ربھا ونبيھا وكتابھا ،وﷲ يعلم متى تجيب ؟
إننى أطلب من المسلمين ـ قبل أن يحددوا موقفھم من ھذا وذاك ـ أن يحددوا موقفھم
من اإلسالم المستوحش الغريب ،ثم على ضوء ھذا الموقف نعامل الصديق والعدو !!
وحقيقة أخرى أقررھا ھنا ..إن اإلسالم لما يأخذ بعد امتداده الذى كتب ﷲ له !
لقد روى اإلمام أحمد فى مسنده عن رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم أن ھذا الدين
سيبلغ ما بلغ الليل
والنھار ..وھذا تعبير غريب وھو صريح فى أن اإلسالم سيصبغ العالم أجمع ] ابن
حبان فى صحيحه كما قدمنا [
كما جاء فى الصحاح أنه باسم اإلسالم ستمتلئ األرض عدالً بعدما ملئت جوراً ،وان
صحراء الجزيرة ستتحول إلى أرضين تھتز زرعا ً ] إشارة إلى حديث مسلم )(84/3
وأحمد ) (703/2والحاكم ) . (477/4راجع األحاديث الصحيحة للشيخ ناصر الدين
).. [ (10/1
وفى حديث آخر ” أمتى كالغيث ال يدرى أوله خير أم آخره ” .
ومن ھنا فنحن نعتقد أن المستقبل لدين ﷲ الحق ال للنظم األرضية األخرى ،وإذا كان
مسلمو اليوم ضياعا ً فألنھم ينتمون إلى اإلسالم انتماء مزوراً ،وھم عبء عليه ال
عون له !
وإذا انتھى دور اإلسالم فى األرض فذلك إيذان بانتھاء اإلنسانية على سطح ھذا
الكوكب ،وبدء حساب األولين واآلخرين على ما اقترفوا من خير وشر !
**السؤال الرابع
تثور نزعات نحو وحدة أو اتحاد فى منطقتنا تحت شعار القومية العربية أو القوى
التقدمية أو تطالب بتجمع إقليمى كالمغرب الكبير مثالً ،فما رأيكم فى ھذا اللون من
التفكير ؟ وھل عندكم بديل أو صبغة أخرى تقدمونھا للمجتمع المسلم ؟
*الجواب:
التجمعات اإلقليمية فى إطار التكامل االقتصادى والعمرانى أمر ال حرج فيه ،بل قد
يكون من المصلحة العامة دراسة أقطار العالم اإلسالم الرحب إلنشاء تجمعات كثيرة
تنتظمه شرقا ً وغربا ً وتكفل تقدمه المادى واالجتماعى ،والمغرب الكبير أو وادى
النيل أو الجزيرة العربية أو جزائر أندونيسيا أو غير ذلك من الوحدات االقتصادية
المتناسقة يمكن أن تولد وتنمو داخل الكيان اإلنسانى الموحد الذى يجب أن يعود إلى
الحياة الدولية مرة أخرى .
إن الصعوبات التى تتوھم أمام أى تجمع إسالمى أقل من الصعوبات التى انتصبت
بالفعل أمام أى تجمع عربى ..
ولكن أمام المناضلين المسلمين مراحل طويلة حتى يستطيعوا أن يقيموا جامعة
إسالمية ضخمة تلم شمل المسلمين ،وتداوى جراحاتھم ،وتحرر مستعبديھم ،وترد
العدوان عنھم .
وال أدرى لماذا يكون الوجود الصينى واقعا ً عاديا ً فيصبح 800مليون إنسان دولة
موحدة ويكون الوجود اإلسالمى خياالً مستبعداً ؟ ولو كان اتحاد واليات أو تحالف
دول متآخية !!
إن شئون المسلمين ال تعالج لألسف بالعقل العادى ،فالتأثر باالستعمار والتبعية الذليلة
للغزو الثقافى ھما أساس التجھم الغريب لكل كالم عن اإلسالم وأمته الكبرى ووحدته
المنشودة ..
إن القارة االستعمارية التى شنتھا أوربا على اإلسالم وأتباعه منذ قرنين تقريبا ً
استھدفت أمرين رھيبين:
ـ األول :رفض أى تالق على اإلسالم بين الشعوب المنتسبة له ،وتمزيق الوالء
الموروث نحو الجامعة اإلسالمية وإحياء نزعات قومية حقيقية ومفتعلة ،تجعل أبناء
األسرة الواحدة متناكرين ال يلوى أحدھم على اآلخر وال يحترم آصرة الدين المشترك
..وبذلك أصبح المسلمون أوزاعا ً بين 60أو 70جنسية فى المجال الدولى .
ـ الثانى :تمويت اإليمان فى ضمائر األفراد بحيث ينفصل السلوك عن العقيدة،
فينحرف ھذا وتنكمش تلك ،ويصبح المجتمع مسرحا ً للمباذل المستقرة واألھواء
المطاعة والتيارات الطائشة ،ثم يتحول ما بقى من دين على أشكال فارغة وبدع
حقيرة ال تغنى عن أصحابھا شيئا ً .
وبكال األمرين نجح االستعمار الحاقد فى بلوغ أھدافه منا وكان وصوله إلى إقامة
إسرائيل سھالً بعد التمھيد المزدوج الذى شرحناه آنفاً ،وھو إبعاد الوالء لإلسالم فى
المجال العام ،وتوھين الرباط بالعقيدة فى مجال العبادة والخلق وأنواع المعامالت
األخرى .
ونستطيع أن نقول دون مواربة أو مداھنة إن كل نزعة ترمى إلى إنصاف اإلسالم ـ
من حيث ھو جامعة عامة أو من حيث ھو ضمير ـ ليس إال امتداداً للزحف
االستعمارى والتفافا ً خسيسا ً حول بقايا اإليمان فى قلوبنا وصفوفنا .
ولن تجد إسرائيل خيراً من ھذه النزعات بعينھا على البقاء ،ويضاعف انتصاراتھا
علينا .
وال أدرى كيف فشت ھذه الخيانات الدينية فى أرجاء األمة العربية ! إن ھناك معادلة
يجب أن يحفظھا كل عربى عن ظھر قلب ھى ” عرب -إسالم = صفر ” .
نعم ،العرب بدون دينھم ال يساوون شيئا ً ..
وقد كنا نحن مسلمى أفريقيا ال نفرق بين العروبة واإلسالم ،كما أن مؤرخى أوربا ال
يعرفون ھذه التفرقة حين قال جوستاف لوبون :إن العالم لم يعرف فاتحاً أرحم من
العرب .
حتى البدعة المھينة التى اختلقھا ميشيل عفلق واقترح فيھا البعد عن اإلسالم طريقا ً
للبعث العربى !
والواقع أن الرجل بنصيحته تلك كان يحفر القبر العربى ليدفن فيه أمة ورسالة .
وليس غريبا ً من مثله أن يصنع ما صنع ! إنما الغريب أن يفتتن بنعرته بعض الناس
فيسارعوا إلى االرتداد عن اإلسالم والكفر با والمرسلين .
فماذا أفادوا ؟ إنه لم تظھر دعوة أشأم على قومھا وأبين فشالً وأسوأ عقبى من ھذه
الدعوة المرتدة .
ولعل العرب يعقلون بعد أن مس جلدھم لھب األحداث ويعرفون إلى أين قادتھم ھذه
الخدع ،وكيف عفرت وجوھھم بالتراب ؟
وفرية أخيرة نريد دحضھا ..إن اإلسالم ال يعرف التعصب ضد أديان أخرى ،وال
يجعل االختالف الدينى ذريعة قتال وخصام ،ولو أن البضعة عشر مليونا ً من يھود
العالم عاشوا بين ظھرانى المسلمين ما أحسوا غبنا ً وال شكوا اضطھادا ً مثل ما وقع
عليھم فى أوربا .إن أوربا رمتنا بدائھا وانسلت ،إنھا كانت وال زالت تجعل الخالف
الدينى والمذھبى مثار حروب وعداوات ،وھى بھذه العقلية تحاول تمزيق الكيان
العربى الذى عاش فيه المسيحيون دھراً طويالً مواطنين مكافئين للمسلمين فى
الحقوق والواجبات ،وھدفھا إما قتل اإلسالم وإما خلق فتن طائفية فى كل مكان .
والخطة معروفة ،وعلى المسلمين أن يزدروھا ويزدروا مروجيھا ويفضحوا من
وراءھم .
إن مطالبة العرب بالتخلى عن اإلسالم سفالة ال قرار لھا ،وإنى أقول لقومى :ال خيار
لكم أمام مؤامرات عالمية واسعة ..مطلوب منكم أن ترتدوا عن دينكم وأن تتنازلوا
عن أوطانكم وھذه وتلك طريق العار والنار ..
وتستطيعون أن تستندوا إلى ربكم وتجاھدوا دون وجودكم المادى والمعنوى .
واسمعوا قول رسول ﷲ لكم ” :إن ربى قال :يا محمد ،إذا قضيت قضاء فإنه ال يرد،
وإنى أعطيتك ألمتك أال أھلكھم بسنة عامة ،وأال أسلط عليھم عدواً من سوى أنفسھم
يستبيح بيضتھم ولو اجتمع عليھم من بين أقطارھا“.
أى أن قوى الشر لو تألبت كلھا ضدنا ما نالت منا شيئا ً إذا توحدت كلمتنا وتجمع
شملنا وتماسك صفنا ،أما إذا تفرقنا شيعا ً وانقسمنا أحزابا ً فسيأكل بعضنا بعضا ً ويخلو
الطريق للمتربصين .
**السؤال الخامس
الناس يقولون إن التشريع اإلسالمى مثالى للغاية ،ولكن ال يصلح للتطبيق فى زماننا
ھذا لتداخل الظروف وتعقد الحياة االجتماعية ،فما رأيكم ؟
*الجواب:
التشريع اإلسالمى تراث ربانى وإنسانى ضخم ،والحكم عليه بكلمات عابرة ضرب
من الطيش يتنزه عنه العقالء ..ولما كان ھذا التشريع يتناول شئون األسرة ،وأشتات
المعامالت المالية والتجارية ،ويبت فى عقوبات لطائفة من الجنح والجنايات ويجه فى
أخرى ،بل إن ھذا التشريع يتناول دستور الحكم فى الدولة ويتعرض للعالقات بينھا
وبين الدول األخرى فى حالتى السلم والحرب ..لما كانت دائرة ھذا التشريع رحبة
إلى حد بعيد فإن المرء يحار فى تفسير كلمة ” مثالية ” ھذه التى يرمى بھا اإلسالم
فى جانب رائع من تعاليمه .
وسأمشى مع الحدس فى تلقى ھذا االتھام وتحديده !
لعل اإلسالم مثالى فى رجمه الزانى أو جلده .
إن بعض الناس إذا ذكر الشرع اإلسالمى وثبت إلى ذھنه ھذه القضية الخطيرة جداً
)!(
وعجيب أن يذھل الفكر البشرى عن آيات اإلبداع القانونى فى أزكى ميراث حضارى
وعته اإلنسانية فى تاريخھا الطويل فال ينزعج إال لرجم الزانى أو جلده ،أو بعض
صور الحدود والقصاص األخرى .
إن قصة الرجم يوم تكون سوأة تشريعية ـ كما يتصور البعض ـ فستكون سوأة األديان
كلھا ألن الرجم ھو حكم التوراة كما ال يزال مقرراً فى العھد القديم ،وكذلك أحكام
القصاص األخرى !
وغريب أن يكون ھذا الحكم شديداً وأن ھذه الغرابة تنقطع يوم يبيح القانون العصرى
الزنا ،ما دام بالتراضى واللواطة أيضا ً )!( ما دام الطرفان متفاھمين !!
ويمضى االتجاه الواقعى فى مجراه المقبول )!( فيندد قاض أمريكى برجل ضرب
زوجته ألنھا زنت مع صديق له ،وينصحه أن يطرح رجعيته أو مثاليته ويعيش فى
ھذا العصر المتقدم !!
إذا كانت المثالية تعنى الشرف والتسامى وإرضاء ﷲ وضبط النفس وتھذيب الغرائز
فيجب أن يكون التشريع مثالياً ،ومن السماجة أن يعاب اإلسالم فى ھذا المضمار ..
أما الواقعية التى تعنى إقرار الفسوق والعصيان ،فال أدرى لماذا تسمى قانونا ً ؟
إن المسالة ليست قتل مجرم أو قطع يده أو جلد بدنه ..إن المسالة أكبر من ذلك،
والشريعة اإلسالمية أكبر قدراً من أن تتناول بھذا الصغار الفكرى ..األمر يتصل
أوالً بحقيقة العالقة بين الناس وربھم ،وطبيعة الدين الذى نزل يحكم فيما شجر بينھم
..
ھذا موضع الخالف بيننا نحن المؤمنين ،وبين غيرنا ممن وھت صلتھم با .
نحن نعتقد أن الوحى كل ال يتجزأ ،وأن حق ﷲ فى الحكم على عباده فوق الجدل،
وأن شريعته تحقق العدالة والمصلحة ،وأن تكذيب آية فى الميراث كتكذيب آية فى
التوحيد أو فى الصالة ،ال معنى لھا إال رفض الخضوع والرد ألمره ونھيه .
أما بالنسبة إلى قصة المثالية والواقعية التى قد ترد على بعض األذھان فنسوق فى
دحضھا كلمات مبينة لألستاذ العقاد من كتابه )حقائق اإلسالم وأباطيل خصومه( ]ص
:[115
” وعلى ھذه السنة من المساواة بين حقوق الدين فى نشر العقائد ،وحقه فى فرض
الشرائع والمعامالت ننظر إلى معامالت الدين اإلسالمى كما ننظر إلى عقائده فال
نرى فيھا ما يعوقه عن أداء رسالته العالمية اإلنسانية التى توافرت له بدعوى إلى إله
واحد ھو )رب العالمين أجميعن ،وخالق األمم بال تمييز بينھا فى الحظوة عنده غير
ميزة التقوى والصالح ..رب المشرقين ورب المغربين ،يصلى اله المر حيث كان:
” وأينما تكونوا فثم وجه ﷲ ”( ..
” فما منع اإلسالم قط معاملة بين الناس تنفعھم وتخلو من الضرر بھم ،والغبن على
فريق منھم ..
” وأساس التحريم كله فى اإلسالم أن يكون فى العمل المحرم ضرر أو إجحاف ،أو
حطة فى العقل والخلق ..
” وما فرض اإلسالم من جزاء قط إال وھو )حدود( مقدرة بقدرھا ،وشروطھا
وقيودھا صالحة على موجب تلك القيود والشروط للزمان الذى شرعت فيه ،ولكل
زمان يأتى من بعده ،ألنھا ال تجمد ،وال تتحجر ،وال تتحرى شيئا ً غير مصلحة الفرد
والجماعة ،وكفى باسم )الحدود( تنبيھا ً إلى حقائق الجزاء والعقاب فى اإلسالم ،فإنھا
)حدود( بينة واضحة تقوم حيث قامت أركانھا ومقاصدھا ،وتحققت حكمتھا
وموجباتھا ،وإال فھى حدود ال يقربھا حاكم وال محكوم إال حاقت به لعنة ﷲ ..
” والشبھة المتوافرة فى العصر الحاضر إنما ترد على المعامالت اإلسالمية من قبل
الناقدين والمبشرين ،ألنھا تمس ضرورات الحياة المتجددة كل يوم ،وترصد للمسلم
فى طريقه حيث سار فيتحر الناقد الموطن الحساس من نفس المسلم حتى يلقى فى
روعه أن شيئا ً فى دينه يتقھقر به إلى الوراء وال يصلح للتطبيق فى عصر النظم
الحكومية التى تجرى القضاء والجزاء على أصول العلم والتھذيب ..
” وليس فى المصارف والشركات شىء نافع برىء من الضرر والغبن يحرمه
اإلسالم ”.
إن أساطين القانون اعترفوا فى مجامعھم العلمية ومؤتمراتھم الدولية بما للشريعة
اإلسالمية من قدر رفيع.
والواقع أن أئمة الفقه عندنا ـ على اختالف مذاھبھم ومدارسھم ـ ورثونا تركة فنية ال
نظير لھا فى أزھى المدنيات القديمة والحديثة ،وال تزال بحوثھم الفنية المترفة مفخرة
للفكر اإلنسانى المجرد ..ثم جاءت ھذه األجيال الھابطة من ذرارى المسلمين
المتخلفين تنظر إلى ما لديھا من كنوز نظرة بلھاء ،ثم تردد مع عمالء الصھيونية
واالستعمار أن اإلسالم مثالى وأن تشريعه ال يصلح للمجتمع !
إذا محاسنى الالتى أدل بھا
كانت عيوبا ً فقل لى :كيف أعتذر؟!
**السؤال السادس
قضية الجنس استبدت بتفكير الناس وفرضت نفسھا على المجتمعات متحضرة
ومتخلفة ،فما العالج عندكم ؟
*الجواب:
استشراء الفساد الجنسى أمسى حقيقة ال ريب فيھا ،ولكنى أعد التقاليد اإلسالمية
البالية شريكة فى المسئولية الجنائية مع االنحالل الذى وفدت به المدنية العصرية ..
إن ھذه التقاليد ال تعرف األحكام اإلسالمية الصحيحة فى كثير من القضايا ،وإذا
عرفتھا لم تقف مع بواعث التقوى وخشية ﷲ فى تنفيذھا ..
ومن مقررات ھذه التقاليد المريضة جعل الزواج مشكلة اقتصادية رھيبة .
ثم فساد الصورة اإلنسانية لوظيفة المرأة قبل الزواج وبعده ..والجھل التام بدور
األسرة فى التربية على امتداد مراحل العمر وھذه التقاليد التى تنھض على الرياء
والتظاھر والتكلف كانت وال زالت من أسباب انھيار الحضارة اإلسالمية وتوالد
أجيال حقيرة الفكر والسيرة واألمانى والھمم .
ولكى نعود إلى ديننا ونتصل بسيره األول ،ونتحصن ضد العلل النفسية واالجتماعية
التى زحفت علينا مع الغزو األجنبى ال بد من رعاية أمور شتى:
أوالً :توثيق الصلة بين المرأة وينابيع الثقافة الدينية والمدنية .
ثانيا ً :إعادة الحياة للعالقة بين النساء وبيوت ﷲ فى الصلوات .
ثالثا ً :تدريس الوظائف التربوية للبيت المسلم حتى نستطيع تخريج أجيال تعرف ربھا
ودينھا ومعاشھا ومعادھا على قواعد مغروسة فى اللحم والدم ،وفضائل يرضعھا
النشء مع اللبن .
رابعا ً :الحكم بإعدام ما تواصى المسلمون به فى تقاليد الزواج من مغاالة فى المھور
وإسراف فى الحفالت وتكديس لألثاث وتنافس فى الكماليات ،وإعادة الزواج إلى
معناه السھل القديم ليكون عصمة وسياجا ً للدين والدنيا.
خامسا ً :وصل ما بين البيت المسلم وقضايا المجتمع الكبرى حتى ال يحيا بيت فى جو
منافعه الخاصة جاھالً أو جاحداً ما وراءھا ولو أن كل دولة مسلمة أنشأن وزارة
لألسرة والشباب كى تضمن ما ذكرنا ما كان ذلك كثيراً ،بل لعله يكون أقرب إلى
حياتنا اإلسالمية الصحيحة .
لقد راقبت وضع المرأة فى شتى البيئات فوجدت إنسانة محكوما ً عليھا بالجھل
والقصور ،مفروضا ً عليھا التفريط فى حقوق ﷲ وتعاليم دينه فلِم ذلك ؟ وكيف يقع
ذلك باسم اإلسالم ؟
ورأيت جماھير المسلمين وكأنھا متفقة على جعل الزواج مشكلة تقصم الظھور دون
مباالة بما ينشأ عن ذلك من شيوع الفسق والفجور ،فأى تدين ھذا ؟ وبأى حق يستولى
بعض اآلباء على المھور ؟
وبأى حق يكلف بعض آخر باالستدانة ليعين على زواج ابنته ؟ ولماذا تطلب البنت
عندنا أثاثا ً ال تطلبه لنفسھا المرأة الغربية وال المرأة الشرقية ؟
إن المرأة العربية العادية ربما فرضت لنفسھا بيتا ً ال تحلم به امرأة من رواد الفضاء،
فلِم با ھذا الترف؟
لماذا نرتضى إغالق البيوت على ألوف العوانس إذا لم يتزوجن وفق ھذه التقاليد
السفيھة ؟
وإلى أين تقودنا تقاليد الرياء التى تواضعنا على االحتكام إليھا ناسين ديننا ودنيانا
على السواء ؟
إذا كان اإلسالم دين الفطرة فإن العالم اإلسالمى يكذب على فطرته ،ويفتح أقطاره
لفساد جنسى زاحف من كل ناحية يجعل الزنا عملة متداولة دون حرج ،ويعطى كل
أنثى وذكر حق االتصال الحرام كالً أو بعضا ً حسب ما يشتھى .
والذين يفتعلون األزمات والضوائق فى الطعام الحالل ال ينتظرون إال إقبال الناس
على الحرام الرخيص يعبون منه عبا ً .
وقد رأيت بنفسى ـ لألسف ـ ناسا ً يأخرون زواجھم إلى سن معينة حتى يتموه وفق
تقاليده المقررة ..وإلى بلوغ ھذه السن ال مانع من الزنا ،وغير الزنا !!
ورأيت ناسا ً يستدينون بالربا ليقيموا األحفال المطلوبة !
ومن ھؤالء من يقتل المرأة إذا زنت ويترك الشاب دون غضب !
فعلمت أن المسلمين فى ھذا المجال وغيره ال يكترثون بحدود ﷲ وال يبالون سخطه،
وأنھم كما يھوون ،وقد يتبجح بعضھم فيصف ھواه بأنه دين ،وما ھو إال الكذب على
رب العالمين .
ويجب تسھيل الزواج وأحكام التطبيق الدينى فى شئون الرجال والنساء على سواء .
**السؤال السابع
مناھج التربية فى مدارسنا وجامعاتنا صارت وسيلة للتوظيف وكسب العيش ،وخلت
من كل توجيه ونحن نحب أن نستنير برأيكم فى الوسيلة المثلى لمناھج التربية حتى
يتخرج جيل مسلم ..
*الجواب:
توجد فى مدارسنا وجامعاتنا برامج دراسية حسنة تقدم أنصبة من العلم تشبه ما تقدمه
نظائرھا فى أعظم األقطار ،ويمكن أن تكون بعض المراحل الدراسية عندنا مساوية
فى تقدمھا العلمى لما يقابلھا فى الشرق والغرب .
أما مناھج التربية تواكب مناھج للتعلم فاألمر يحتاج إلى نظر وتأمل ! ..
إن العلم شحن األذھان بألوان ال حصر لھا من المعرفة .
أما التربية فھى اإلفادة من ھذا التقدم لتزكية الشخصية وتھذيب سلوكھا ..
والتربية الدينية نوع خاص من البناء المعنوى يجعل المرء متجھا ً بقواه كلھا إلى غاية
معلومة وضابطا ً لحياته وفق نظام مرسوم ..
وھذا النوع من التوعية الدينية معدوم فى بعض الجامعات محارب فى بعضه،
معترف به ومعترف بغيره فى بعض ثالث ،وربما قدم نصيب محدود منه فى جامعة
األزھر ! واألصل فى التربية تعھد األخالق ،ولما كان الخلق ـ بالتعريف العلمى ـ ھو
عادة اإلرادة فإن المفروض فى برامج التربية:
أوالً :أن ترسم الوجھة للسلوك المنشود .
ثانيا ً :أن تدرب األفراد على ھذا السلوك ،وتأخذھم به أخذاً مستمراً حتى يصبح طبعا ً
لھم وصبغة ثابتة فيھم ،فالمربى أشبه بالزارع الذى يتولى البذر والحرث والسقيا
والحماية واإلخصاب واالنتقاء حتى تنضج الثمرة وتؤتى أكلھا كل حين بإذن ربھا .
والطالب الذى يمر بھذه األدوار ،يصاغ فى قوالب معروفة الشكل والصورة ،فإذا
ربى على الصدق صعب عليه االختالق والتخريف ،وإذا ربى على األمانة انزعج
من العوج والغدر .
وفى أثر التعود واستقامة الوجھة يقول الشاعر:
تعود بسط الكف حتى لو أنه
ثناھا لبخل لم يتطعه أنامله !
ويقول آخر:
وينشأ ناشئ الفتيان فينا
على ما كان عوده أبوه !
وقد ربى ﷲ محمداً صلى ﷲ عليه وسلم ليربى به العرب ،وربى العرب ليھذب بھم
العالم أجمع ” لقد من ﷲ على المؤمنين إذ بعث فيھم رسوالً من أنفسھم يتلو عليھم
آياته ويزكيھم ويعلمھم الكتاب والحكمة ،وإن كانوا من قبل لفى ضالل مبين ” .
وكلمة التزكية تعنى التربية والتسامى بالنفس وامتالك الھوى .
وذلك معنى اآلية ” ونفس وما سواھا .فألھمھا فجورھا وتقواھا .قد أفلح من زكاھا .
وقد خاب من دساھا“.
والتربية اإلسالمية مذ دخل االستعمار بالدنا تمر بمحنة شديدة ،فلما خرج ووقعت
البالد فى األيدى التى تتلمذت عليه مرت التربية اإلسالمية بمحنة أشد ..
وذلك ھو السر فى أننا نجد أصحاب محاصيل علمية كبيرة وكلفھا قليلة الجدوى ،إن
لم تكن قريبة الضرر .
فإن العلم عند ھؤالء وقف عند حدود التصور الذھنى وحشو األدمغة بجمل من
القوانين واألحكام .
أما التربية التى تتوسل بھذا العلم إلى رفع المستوى النفسى واالجتماعى والتى تحول
الشخص إلى صاحب مبادئ ومثل يعيش لھا وقد يضحى من أجلھا ..
ھذه التربية لم توجد لھا بعد مناھج واضحة ومؤسسات مسئولة .
والسبب فى ذلك ھو الكره الخفى أو الجلى لإلسالم وتاريخه ومطالبه ووصاياه ..
التعليم فى روسيا يكرس لخدمة الشيوعية ،والتعليم فى بالد كثيرة يربط بأھداف شتى
..
ً
وكان مفروضا أن يصحب برامج التعليم عندنا برامج للتربية اإلسالمية اليقظى
تشرف على السلوك الفردى والجماعى ،وتجعل الحياة الخاصة والعامة محكومة
بآداب اإلسالم وتوجيھاته ] .راجع فى ھذا الباب :ھذه المقررات ال نريد أن تنسى [
ولكن اإلسالم دين مھزوم فى المجاالت الدولية ،وقد انسحبت آثار ھزيمته على
مطالبه فى بالده نفسھا فأضحت كما نرى:
متعلمين يريدون بشھاداتھم العلمية مستوى معينا ً من المعيشة ،وسعراً خاصا ً لما نالوه
من دراسات وكفى!
فإذا ذھبت تفحص سلوكھم وجدت العلم قد أفاد فى تغيير الوسائل فقط ،أما المآرب
الدنيا فھى ھى عندھم وعند الجھال !
ويستحيل أن تنھض أمتنا إال يوم يكون العلم والتربية قرينين ،ويوم تتقرر آداب
اإلسالم ومثله دون حرج أو دجل .
*****
انتھى شيخنا ـ رحمه ﷲ ـ من تحرير ” قذائف الحق ” فى رحلته الرمضانية إلى ”
المغرب ” عام 1393ھـ ،وكان الفراغ من تصحيحه فى غرة ذى الحجة من نفس
العام ،وآخر دعوانا أن الحمد رب العالمين.