You are on page 1of 86

0

‫هذا الكتاب‬
‫هذه الرواية موجهة بالدرجــة األولى ألولئــك اإلســالميين ـ‬
‫حركيين كانوا أو سلفيين ـ الذين تركوا الــدعوة لإلســالم ـ ـ الــذي‬
‫أردواـ احتكــاره دونـ ســائر النــاس ـــ وراحــواـ يتدنســون بعــار‬
‫الطائفية والحزبية والفرقة‪.‬‬
‫فصار دورهم الوحيد نشر البغضــاء واألحقــاد في القلــوب‪،‬‬
‫ونشر التفكك والقطيعة في المجتمعات‪ ،‬ونشر الــدمار والخــرابـ‬
‫في األوطان‪.‬‬
‫وهي تحاول أن تعيدهم إلى كتــاب ربهم‪ ،‬وســنة نــبيهم ‪،‬‬
‫وهدي األئمة الطــاهرين الــذين جعلهم هللا ممثلين لدينــه‪ ،‬وورثــة‬
‫لنبيه‪.‬‬
‫وقد وضعتها بشكل رمــزي بســيط‪ ،‬ليســهل االســتفادة منهــا‬
‫على العامة والخاصة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫الدين‪ ..‬والدجل‬

‫(‪)15‬‬

‫الطائفيون والحكماء السبعة‬


‫رواية تجتث الطائفية من جذورها‬

‫د‪ .‬نور الدين أبو لحية‬


‫‪www.aboulahia.com‬‬

‫الطبعة األولى‬

‫‪2016 – 1436‬‬

‫دار األنوار للنشر والتوزيع‬



3
‫فهرس المحتويات‬
‫‪5‬‬ ‫المقدمة‬
‫‪7‬‬ ‫البداية‬
‫‪15‬‬ ‫أوال ـ العبودية‬
‫‪33‬‬ ‫ثانيا ـ اإلسالم‬
‫‪47‬‬ ‫ثالثا ـ التسليم‬
‫‪55‬‬ ‫رابعا ـ التقوى‬
‫‪66‬‬ ‫خامسا ـ العدل‬
‫‪95‬‬ ‫سادسا ـ اإلحسان‬
‫‪111‬‬ ‫سابعا ـ الرحمة‬
‫‪122‬‬ ‫الخاتمة‬
‫‪126‬‬ ‫هذا الكتاب‬

‫‪4‬‬
‫المقدمة‬
‫هذه الرواية البسيطة كتبتها قبل أن يحصل ما يحصــل اآلن من مــؤامرة على‬
‫العالم اإلسالمي‪ ..‬كنت أرى حينهــا اإلســالميين ــ حركــيين كــانوا أو ســلفيين ــ وهم‬
‫يتركون الدعوة لإلسالم ـ الذي أردوا احتكــاره دون ســائر النــاس ــ ليتلطخــوا بعــار‬
‫الطائفيــة والحزبيــة والفرقــة‪ ،‬فيصــير دورهمـ الوحيــد نشــر البغضــاء واألحقــاد في‬
‫القلــوب‪ ،‬ونشــر التفكــك والقطيعــة في المجتمعــات‪ ،‬ونشــر الــدمار والخــراب في‬
‫األوطان‪.‬‬
‫وهي تحــاول أن تعيــدهم إلى كتــاب ربهم‪ ،‬وســنة نــبيهم ‪ ،‬وهــدي األئمــة‬
‫الطاهرين الذين جعلهم هللا ممثلين لدينه‪ ،‬وورثة لنبيه‪.‬‬
‫وقــدـ وضــعتهاـ بشــكل رمــزيـ بســيط‪ ،‬ليســهل االســتفادة منهــا على العامــة‬
‫والخاصة‪.‬‬
‫وقد اســتلهمتها من خالل الروايــة الــواردة في كتب التــاريخ عن منــاظرة ابن‬
‫عباس للخوارج‪ ،‬ومحاروته لهم‪ ،‬وكيفية رجوع الكثير منهم بعد ذلك‪.‬‬
‫وتختصرـ أحداث الرواية في قيامـ حرب بين طائفتين من المســلمين‪ ،‬وقبــل أن‬
‫تبدأ يخرج حكيم من الحكماء بين الجيشين‪ ،‬ويرفع صوته قــائال لهم‪ :‬يــا إخواننــا‪ ..‬ال‬
‫نشـك في غـيرتكم وإخالصـكم‪ ..‬وال نشـك في إيمـانكم بـربكم وتعظيمكم لـه‪ ..‬ولهـذا‬
‫نناشدكمـ هللا أن تسمعونا‪ ..‬ال نقول لكم‪ :‬ارمــوا ســالحكم‪ ،‬فنحن نعلم مــا لــه من قيمــة‬
‫عندكم‪ ..‬ولكنا نطلب منكم أن تسمعوا كلمة من كل واحد منا‪ ..‬فقد التجأنا إلى هللا في‬
‫كل تلك السنوات الطويلة أن يعيد لهذه األمة وحدتهاـ وقوتها‪ ،‬فعلم كل واحد منا كلمة‬
‫من كلمات الوحدة‪ ،‬وسراـ من أسرارـ االجتماع‪ ..‬فاسمعوا منا جميعا‪ ..‬ثم افعلــوا بعــد‬
‫ذلك ما بدا لكم‪.‬‬
‫وبعد أن يقــول هــذا‪ ،‬ويوافــق كال الجيشـين على االســتماع يبــدأ كــل حكيم في‬
‫محاورتهم‪ ،‬ومناقشة الشبهات التي جعلتهم يحارب بعضهمـ بعضا‪..‬‬
‫وقد كــان أهم مصــادرنا في تلــك الحــوارات والمنــاظرات المصــادر المقدســة‬
‫المعصومة من كتاب هللا وسنة رسوله ‪ ،‬والتي هي محل اتفاق بين األمة جميعا‪..‬‬
‫كما أننا ذكرنا فيها عند بيان توبة التائبين الذين ألقوا أسلحتهم بعض األســباب‬
‫التي جعلتهم يحملون السالح‪ ،‬وكيفـ ينحرفون عن المعاني والقيم القرآنية والنبوية‪.‬‬
‫وهذه الرواية من سلسلة كتب تهدف إلى الدعوة للوحدة اإلسالمية‪ ،‬وإصــالح‬
‫ذات بين المسلمين‪ ..‬وهي بذلك جزء من مشروع‪ ،‬وليست المشروع جميعا‪ ..‬ولذلك‬
‫فإن ما قد يبدو فيها من القصورـ يكمل في سائر السلسلة‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫البداية‬
‫أذكر جيدا أنني كنت حينها متألما غاية األلم بسبب ما أراه حولي من ضــجيج‬
‫وصخب ولغو يستعمل الدين مطية ليفرق القلــوب واألجســاد‪ ،‬وينش ـرـ الفتنــة‪ ،‬ويمأل‬
‫األرض خرابــا ودمــارا‪ ..‬كــان الكــل كالمجــانين الــذي أعمتهم األحقــاد‪ ،‬فصــاروا ال‬
‫يرون ما يحل بهم‪ ،‬وما يخطط لهم‪ ،‬وما يكادون به‪.‬‬
‫ومما زاد في ألمي علمي بأن األمة التي أنتمي إليها‪ ..‬والــتي تمتلئ بالضــعفاء‬
‫حتى إنها تكاد تمثلهم‪ ..‬فيها من الصالحين واألولياء والمقربين مــا لم تظفــر أمــة من‬
‫األمم بعشر عشيره‪ ..‬ولكن العــدو مــع ذلــك تســلل إليهــا في كــل مرحلــة من مراحــل‬
‫تاريخهاـ عبر أهواء ينشرها‪ ،‬ثم ينشر خلفها أوتاد التعصب‪ ..‬لتنقلب بعد ذلك رماحــا‬
‫نقاتل بها بعضــنا بعضــا‪ ،‬وننســى عــدونا الــذي بنظــر إلينــا بشــماتة متربصــا لحظــة‬
‫انطفاء النيران بيننا ليزيد من وهجها بحطب جديد ووقود جديد‪..‬‬
‫تذكرت الخالفات التي تؤرخ لها كتب الملل والنحل‪ ..‬والتي ال ترضىـ إال أن‬
‫تكون حطبا ووقوداـ يزيد نار الخالف وهجا واتقادا‪ ..‬وهي تبشر بفرقة األمة‪ ،‬وتأبى‬
‫إال أن تجعلها ســبعين طائفــة‪ ،‬وفي كــل طائفــة ســبعين‪ ..‬ثم ال ينجــو من هــذا الفتــات‬
‫المتناثرـ إال طائفة واحدة منصورة‪ ،‬ويرمىـ غيرها في أطباق جهنم‪..‬‬
‫وزاد من ألمي مــا تســطره األخبــار كــل يــوم عن التفجــيرات الــتي تقــوم بين‬
‫الحين والحين في مساجدـ هذه الطائفة أو تلك الطائفة‪ ..‬وكــل يــزعم أنــه ممثــل الــدين‬
‫والنائب عن رب العالمين‪ ..‬وال يرى له من تمثيل غير اإلبادة‪ ..‬إبادة إخوانه ليغرس‬
‫على جثثهم بذورـ الدين الذي ال يرى دينا غيره‪.‬‬
‫َ‬
‫لقد عرفت صدق نبوءته ‪ ‬عندما قال‪(:‬إن هللا ز َوى لي األرض حــتى رأيت‬
‫مشارقها ومغاربها‪ ،‬وإن ُم ْلك أمتي سيبلغ ما ُزوي لي منهــا‪ ،‬وإني أعطيت الكــنزين‬
‫األبيض واألحمـر‪ ،‬وإني سـألت ربي‪ ،‬عَـ َّز وجـل‪ ،‬أال يهلـك أمـتي بسـنَة بعامـة وأال‬
‫يسلط عليهم عدوّا فيهلكهم بعامة‪ ،‬وأال يلبسهم شيعا‪ ،‬وأال يذيق بعضهم بــأس بعض‪.‬‬
‫فقــال‪ :‬يــا محمــد‪ ،‬إني إذا قضــيت قضــاء فإنــه ال يــرد‪ .‬وإني قــد أعطيتــك ألمتــك أال‬
‫أهلكتهم بسنة بعامة‪ ،‬وأال أسلط عليهم عدوا ممن سواهم فيهلكهمـ بعامة‪ ،‬حتى يكــون‬
‫بعضهمـ يهلك بعضا‪ ،‬وبعضهمـ يقتل بعضا‪ ،‬وبعضهم يسبي بعضا)(‪)1‬‬
‫دب إلى نفسي غول األلم من جديد‪ ،‬وأنا أتذكر هذا الحديث‪ ،‬وأقولـ لنفسي‪ :‬ال‬
‫مناص لنا من هذا‪ ..‬فهذا قدر مقدور كتب في جبين هذه األمة‪ ..‬وسيبقى بأسـها بينهــا‬
‫شئنا أم أبينا‪..‬‬
‫مـا وصـل بي الخـاطر إلى هـذا المحـل حـتى شـعرت بيـد تـربت على كتفي‪،‬‬
‫ولست أدري هل كنت حينها نائما أم مستيقظا أم بين النوم واليقظة‪..‬‬
‫التفت فإذا بي أرى رجال ممتلئا أنوارا‪ ،‬يقول لي‪ ،‬وهو يبتسم‪ :‬أنت تبحث عن‬
‫‪ )(1‬رواه أحمد‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫سر الوحدة‪ ..‬فهلم لتنهل من معارفها ما يملؤك بالقوة واألمل‪..‬‬
‫قلت‪ :‬أي قـــوة؟‪ ..‬وأي أمـــل؟‪ ..‬وأي وحـــدة؟‪ ..‬لقـــد ســـطرت آالم الفرقـــة في‬
‫جسدنا‪ ..‬وال مفر لنا منها‪ ،‬وال مخرج‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألم تتعلم من القرآن الصامت والناطق مزاحمة األقدار باألقدار؟ـ‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬ولكن تلــك أجســادنا الــتي لم تتــوزعـ شــتاتا كمــا تــوزعت طوائــف‬
‫األمة‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكن األمة جسد واحد كــذلك‪ ..‬ألم تســمع قولــه ‪( :‬مثــل المؤمــنين في‬
‫توادهمـ وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد‬
‫بالسهرـ والحمى)(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن الذي قال هذا هو الذي أخبر بما أخبر به من فرقة األمة‪.‬‬
‫قال‪ :‬أخبرنا بذلك لنحذر ونهيئ أنفسنا لمواجهة أخطارـ الفرقــة الــتي يمكن أن‬
‫نتعــرض لهــا‪ ..‬ولم يخبرنــا بــذلك لنــبررـ ألنفســنا مــا نقــع فيــه من اختالف وفرقــة‪..‬‬
‫فالرسول ‪ ‬ال ينشرـ فينا اإلحباط‪ ،‬بل ينشر فينا الحذر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما جدوى الحذر؟‬
‫قال‪ :‬سأضربـ لك مثاال يبين جــدواه‪ ..‬وتفهم من خاللـه النصــوص كمــا يجب‬
‫أن يفهمهــا المــؤمن الســامع من هللا‪ ..‬أتعــرف الصــبغيات الــتي تتشــكل من أنواعهــا‬
‫خريطة اإلنسان المكانية والزمانية؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬وقد أصبت في ربط الصبغيات بالزمان‪ ..‬فللجسمـ ساعة بيولوجية‬
‫تجعله يتغير بتغير الدقائقـ والثواني‪.‬ـ‬
‫قــال‪ :‬فالصــبغيات إذن عبــارة عن حــروف ألقــدار مكتوبــة ال بــد أن تصــيب‬
‫صاحبهاـ ال محالة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أصبت وأخطأت‪ ..‬أصبت في كونها حروفـاـ ألقــدار مكتوبــة‪ ،‬وأخطــأت‬
‫في إصابتها لصاحبهاـ ال محالة‪ ..‬فقد توصلـ العلم الحــديث إلى إمكانيــة االبتعــاد عن‬
‫تلك الحروف التي تحمل أقدارا تجلب لنا بعض الضرر‪.‬‬
‫قال‪ :‬وضح لي مرادك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬قد يعرف األطباء المختصون أن فــردا من النـاس يحمـل جينــا مسـؤوال‬
‫عن مرض معين‪ ..‬فينصحونه بمحاولة تفاديه‪.‬‬
‫قال‪ :‬وكيفـ يتفاداه وقد رسم في جيناته؟‬
‫قلت‪ :‬لكل مرض سببان‪ :‬أصلي‪ ،‬وهو ما رسم في جيناتــه من حــروف العلــة‪،‬‬
‫واستفزازي‪ ،‬وهو ما يوفرـ للمرض دواعي الظهور‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهل يمكن أن يحلم حامل المرض الــوراثيـ أن ال يظهــر عليــه المــرض‬
‫المسطرـ في جيناته؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬إذا عرف كيف يــترك علتــه في طــور الكمــون بــأن ال يــوفرـ لهــا‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫دواعي الظهور‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقد فهمت إذن سر إخباره ‪ ‬عن إمكانية تعرض األمة للفتن فيما بينها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم أفهم‪ ..‬لقد كنا نتحدث عن جسد األفراد‪ ،‬ال عن جسد األمة‪.‬‬
‫قال‪ :‬خالق الجسدين واحد‪ ..‬وقدـ أخــبر ‪ ‬أن المؤمــنين كالجســد‪ ..‬فــاعبر من‬
‫جسد الفرد إلى جسد األمة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال طاقة لي بالعبور‪.‬ـ‬
‫قال‪ :‬لقد أخبر ‪ ‬أن هذه األمة تحمل جينــات قــد تســبب تفرقهــا واختالفهــا‪..‬‬
‫وهو ما قد يجر إلى أن يكوون بأسها بينها شديدا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهذا هو المقدور‪.‬‬
‫قال‪ :‬لم يكن ‪ ‬في هذا الحديث ينبئنا عن المقدورـ فقـط‪ ،‬بـل كـان ينبئنـا عمـا‬
‫يجب أن نفعله لنتفادى هذا الذي سطر في جينات األمة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف نتفاداه وهو مقدور؟‬
‫قــال‪ :‬كمــا يتفــادى العليــل عللــه الوراثيــة بأصــناف التحصــينات الــتي تمنــع‬
‫استفزاز علله‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فالنبي ‪ ‬كان ينصحناـ إذن‪.‬‬
‫قال‪ :‬كــل أحــاديث رســولـ هللا ‪ ‬نصــائح ال يســتطيع أي شــيء في الــدنيا أن‬
‫يعوضها‪..‬ـ ولكنكم تحولونها إلى أشواك تزرعـ اليأس وتجني اإلحباط‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن كيف ال نحبط‪ ..‬وقد خصت هذه األمة بهذه الجينات الخطيرة‪ ..‬أال‬
‫يصاب المريض بالحزن إن علم أن بعض جيناته تختزن السم الزعاف؟‬
‫قــال‪ :‬هــذا الجين الــذي أخــبر عنــه ‪ ‬دليــل على كمــال األمــة‪ ،‬وبشــارة‬
‫بانتشارها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬كل كمال ال بد أن يحمل بذورـ التعدد‪ ..‬وبذور التعدد هي الــتي قــد تنشــئ‬
‫االختالف‪ ..‬وهو الذي قد ينشئ العداوة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فقد انتهى األمر إلى العداوة‪.‬‬
‫قال‪ :‬وقدـ ينتهي إلى تعدد الكمال‪..‬‬
‫قلت‪ :‬ال أفهم هذا‪.‬‬
‫قال‪ :‬هذه األمـة تضــم األجنـاس واأللــوان المختلفــة‪ ..‬وهي تضــم معهم ألسـنة‬
‫متشعبة‪ ،‬وأعرافاـ متباينة‪ ،‬ومشارب تختلف أذواقها‪..‬ـ وكــل هــذا االتســاع واالنتشــار‬
‫في الطبيعة ينشئ اتسـاعا وانتشـاراـ في الفكـر والفهم والسـماع‪ ..‬وهـذا كلـه موصـل‬
‫للكمال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال أزال قاصرا عن إدراك سر عالقة الكمال بهذا‪.‬‬
‫قـال‪ :‬أرأيت لــو أن تلميـذا من هللا عليــه‪ ،‬فتتلمــذ على مشـايخ تتعـدد مشــاربهمـ‬
‫ولغاتهم‪..‬ـ فكل يعبر له عن المعلومة بأسلوبه ولغته‪ ..‬أيهما أكمل‪ :‬أهو‪ ،‬أم ذلك الــذي‬
‫لم يغادر بلده‪ ،‬ولم يتلق من غير معلم قريته؟‬

‫‪8‬‬
‫قلت‪ :‬ال شــك أن األول يكــون أكــثر نضــجا وعمقــا‪ ،‬وأقــرب إلى الكمــال من‬
‫الثاني‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكذلك هذه األمة‪ ..‬لقد خصــها هللا بمــيزتين اســتدعت ظهــور االختالف‪:‬‬
‫أما أولهما‪ ،‬فهو أنها عامة للبشر جميعا بطبــائعهمـ المختلفــة‪ ،‬وأمــا الثــاني‪ ،‬فهــو أنهــا‬
‫الرسالة الخاتمة التي هيمنت على الكل‪ ،‬ولم يبق بعدها أي رسالة تنسخها‪.‬ـ‬
‫قلت‪ :‬فهمت ســـر الكمـــال المـــؤديـ إلى االختالف في األول‪ ،‬ولم أفهمـــه في‬
‫الثاني‪.‬‬
‫قال‪ :‬إن كونها الرسالة الخاتمة يستدعي ضمها لكــل االحتياجــات‪ ،‬ويســتدعي‬
‫كذلك تقبلها لكل المشارب‪ ..‬وهذا مما ينشئ الخالف‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ينشئ الخالف؟‬
‫قال‪ :‬ينشأ الخالف عنــدما ينشــأ المتعصــبون الــذي يتصــورون الــدين قاصــراـ‬
‫على ما فهموه منه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف نتفاداه؟‬
‫قال‪ :‬بعلوم وأخالقـ من تعلمها وتخلق بها حفظ من آثار هذا لجين الفاتــك‪ ،‬فلم‬
‫يمد سيفه على أخيه‪ ،‬ولم يسلط جيوش لسانه عليه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأين أتعلم هذه العلوم‪ ..‬وأتدرب على هذه األخالق؟‬
‫قال‪ :‬هنا في حصن الوحدة‪ ..‬فهو الحصن الذي يدرب المستضعفين على ضم‬
‫القلوب واألرواحـ لتتوحد في عبوديتها هلل‪ ..‬فعبودية هللا تجمع وال تفرق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أرى أجنحة كثيرة في هذه الحصن‪ ..‬وأرى فيها أمورا لم أرها من قبل‪.‬‬
‫قال‪ :‬لهذا الحصن قصة‪ ..‬ولن تعرف في هذا الحصن من هذا الحصن إال هذه‬
‫القصة‪ ،‬وأحسب أنها تكفيك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فمن يقصها علي؟‬
‫قال‪ :‬سأفصها عليك أنا‪..‬‬
‫قلت‪ :‬أنت !؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬ألنهــا حــدثت بين قــومي‪ ..‬وقــد تعلمت منهــا مــا رضــي قــادة هــذا‬
‫الحصن أن يجعلوه برنامجا تدريبياـ للمستضعفين فيه‪.‬‬
‫***‬
‫كانت هناك نخلة قريبة منا تمتلئ بأعذاق التمــر الطيب‪ ..‬فطلبت من صــاحبي‬
‫أن نجلس تحتها لنسمع قصة مدينته التي صارت مدرسة للوحدة في هذا الحصن‪.‬‬
‫سكت صاحبي برهة‪ ،‬وكأنه يسترجع ذكرياتـه‪ ..‬ثم قـال‪ :‬في تلـك السـنين كنـا‬
‫أهون المستضعفين‪ ..‬لقد وفرـ أعداؤنا على أنفسهم شراء السالح‪ ،‬واكتفوا بأن يبيعواـ‬
‫السالح لنا لنقدم لهم أجسادنا وفوقها أموالنا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أي جنون أصاب قومكـ يا هذا؟‬
‫قــال‪ :‬هــو نفس الجنــون الــذي يصــيب قومــك‪..‬ـ أال تــراهم بــارعون في قتــال‬
‫بعضهمـ بعضا؟‪ ..‬أال ترى أنهم انشغلوا عن التحـذير من الشـيطان وأوليـاء الشـيطان‬

‫‪9‬‬
‫بالتحذيرـ من تلك الطائفة وتلك الطائفــة؟‪ ..‬أال تــرى أنهم يعبــدون أنفســهم وأهــواءهم‬
‫وأعراقهمـ ومذاهبهم‪ ،‬وهم يحسبون أنهم يعبدون هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬صدقت في هذا‪ ..‬أكمل حديثك عن قومك‪..‬‬
‫قـــال‪ :‬قـــوميـ كقومـــك‪ ..‬كـــانوا ال يعرفـــون من الـــدين إال مـــواطن الخالف‪،‬‬
‫يحفظونهاـ وينشرونها ويربون أبناءهم عليها‪ ..‬حتى إذا كـبر أبنـاؤهم حملـوا السـالح‬
‫ليضرب به بعضهم بعضا‪..‬‬
‫قلت‪ :‬عــرفت كــل هــذا من قــومي‪..‬ـ فحــدثني كيــف صــار هــؤالء المتنــافرون‬
‫مدرسة من مدارس الوحدة‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد ولد فينا شباب طيبون اعتزلوا كفتية أهل الكهف ال نراهم وال نســمع‬
‫أخبارهمـ حتى نزلوا علينــا ذات يــوم‪ ،‬ونحن نشــهر أســلحتنا للمعركــة الفاصــلة بيننــا‬
‫وبين أعدائنا من إخواننا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فماذا فعلوا؟‬
‫قال‪ :‬لقد كان في وجوههمـ من نورـ اإليمـان وســالمة اليقين وأدب الحـديث مـا‬
‫جعل الكل يلتفت إليهم‪ ،‬ليسمع منهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أهم من طائفتك أم من غيرهم؟‬
‫قال‪ :‬هم من طائفتنا ومن غيرهم‪ ،‬ولكن النور الذي ينتشر على وجوهم جعــل‬
‫منهم طائفة خاصة ال تماثلها أي الطوائف‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كم كانوا؟‬
‫قال‪ :‬سبعة رجال‪ ..‬كل واحد منهم جبل من جبال الحكمة‪ ..‬لقد وقفواـ بشــجاعة‬
‫بين الصفين‪ ،‬وطلبوا من كال الفريقين أن يسمعوا منهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل أجابوا؟‬
‫قال‪ :‬لم يملكوا إال أن يجيبوا‪..‬ـ ولكنهم ظلوا مشهري أسلحتم‪ ،‬وأبوا تركها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فماذا فعل حكماؤكم السبعة؟‬
‫قــال‪ :‬تقــدم أحــدهم ورفــع صــوته الــذي امتأل إيمانــا صــائحاـ في الجمــوع‪ :‬يــا‬
‫إخواننا‪ ..‬ال نشك في غــيرتكم وإخالصــكم‪..‬ـ وال نشــك في إيمــانكم بــربكم وتعظيمكم‬
‫له‪ ..‬ولهذا نناشدكم هللا أن تسمعونا‪..‬ـ ال نقول لكم‪ :‬ارمواـ ســالحكم‪ ،‬فنحن نعلم مــا لــه‬
‫من قيمة عندكم‪ ..‬ولكنا نطلب منكم أن تسمعوا كلمة من كل واحد منا‪..‬‬
‫لقد التجأنا إلى هللا في كل تلك السنوات الطويلــة أن يعيــد لهــذه األمــة وحــدتها‬

‫‪10‬‬
‫وقوتها‪ ،‬فعلم كل واحد منا كلمــة من كلمــات الوحــدة‪ ،‬وســراـ من أســرار االجتمــاع‪..‬‬
‫فاسمعوا منا جميعا‪ ..‬ثم افعلوا بعد ذلك ما بدا لكم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل سمعوا منه؟‬
‫قال‪ :‬لم يملكوا إال أن يسمعوا‪..‬ـ فقد كان لكلماته من اإلخالص ما جعلها بلسما‬
‫ال تملك القلوب إال أن تذعن له‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل ستحدثني عن خبر هؤالء الحكماء مع قومك؟‬
‫قــال‪ :‬أجــل‪ ..‬فعلــومـ هــؤالء الحكمــاء هي الــتي يلقنهــا أهــل هــذا الحصــن‬
‫للمستضعفين المتشتتين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثنيـ حديثهم‪ ..‬فقد اشتقت إليه‪.‬‬
‫بدأ صاحبيـ يتحدث‪ ..‬وسرح خيالي معه يرسم األحداث ويعيشها‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫أوال ـ العبودية‬
‫تقدم الحكيم األول بين الصفين‪ ،‬وقال‪ :‬أول كلمة تجعل قلوبكم على قلب رجل‬
‫واحــد هي العبوديــة هلل‪ ..‬فأســاس كــل خالف تقعــون فيــه هــو عبــوديتكمـ ألهــوائكم‬
‫ونفوسكم وجذوركم‪..‬‬
‫قالوا‪ :‬أين الدليل على هذا‪ ..‬فقد قرأنا الوحيين جميعا فلم نجد فيه ما ذكرت؟‬
‫قال‪ :‬لقد قال هللا تعالى مشيرا إلى هذا األصــل العظيم الــذي يقــوم عليــه بنيــان‬
‫ُون﴾ (االنبياء‪)92:‬‬‫التوحيد‪ ﴿:‬إِ َّن هَ ِذ ِه أُ َّمتُ ُك ْم أُ َّمةً َوا ِح َدةً َوأَنَا َربُّ ُك ْم فَا ْعبُد ِ‬
‫قام أحدهم‪ ،‬وقال‪ :‬هذه اآلية تخبر عن أمــرين‪ ،‬أمــا أولهمــا‪ ،‬فهــو الداللــة على‬
‫وحدة هذه األمة‪ ،‬والثاني إخبار من هللا تعالى لعباده بربوبيتــه‪ ،‬وأمــر لهم بمراعاتهــا‬
‫بعبادته‪ ..‬فأين وجه استداللك؟‬
‫قال الحكيم‪ :‬من اقتران كال المعنيين يتولد أصل ابتناء الوحدة على العبودية‪..‬‬
‫فكأن هللا تعالى يذكر لنــا وصــفة لتحقيــق الوحــدة والحفــاظ عليهــا‪ ..‬وهي عبــادة هللا‪،‬‬
‫واالستغراق في عبادته‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬ولكن القرآن الكريم لم يذكر هذا االرتباطـ الذي تتوهمه‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬من تتبع القرآن الكريم وعرف أسرار االرتبـاطـ فيـه اسـتنبط منـه‬
‫من أنواع العالج ما ال يستطيعـ العقل المجرد التعرف عليه‪..‬‬
‫قام رجل مشهرا سيفه‪ ،‬وهو يقــول‪ :‬ال نريــد ان نناقشــك في وجــه اســتداللك‪..‬‬
‫ولكنا ال نراه في الواقع‪ ..‬فنحن نقوم الليــل‪ ،‬ونصــوم النهــار ونقــرأ القــرآن‪ ،‬وأولئـكـ‬
‫الذين نشهر سيوفنا في وجوههمـ ال يقلون عنا نشاطا وعبادة‪..‬ثم نحن بعد ذلك ــ كمــا‬
‫ترانا ــ الننتهي من حــرب حــتى نــدخل في غيرهــا‪ ..‬فكيــف تــزعم أن العبوديــة هي‬
‫أصل الوحدة؟‬
‫قال الحكيم‪ :‬هذا من العبودية‪ ..‬وليس هو العبوديــة‪ ..‬لقــد أخــبر ‪ ‬عن أقــوامـ‬
‫ذوي صالة وصــيامـ وقــراءة‪ ..‬وأخــبرـ أنهم ال يجــاوزون بقراءتــه حنــاجرهم‪ ،‬فقــال‪:‬‬
‫(يخرج من ضئضئـ هذا قوم يحقر أحدكم صالته مع صالتهم وصيامه مع صـيامهم‬
‫وقراءته مع قراءتهمـ يقرؤون القرآن ال يجاوزـ حنــاجرهم يمرقــون من اإلســالم كمــا‬
‫يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهمـ ألقتلنهم قتل عاد)(‪ )1‬وفيـ رواية‪(:‬لو يعلم الذين‬
‫يقاتلونهمـ ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل)‪ ،‬وفي روايــة‪(:‬شــر قتلى تحت‬
‫أديم السماء خير قتلى من قتلوه)‬
‫اشرأب أحدهم بسيفه وصاح‪ :‬أراك تدعونا لمــا تنهانــا عنــه‪ ،‬فهــذا رســول هللا‬
‫‪ ‬يأمر بقتلهم‪ ..‬فكيف تنهانا عنه؟‬
‫التفت إليه الحكيم بهدوء‪ ،‬وقال‪ :‬فــأنت تضــع نفســك موضــع رســولـ هللا ‪..‬‬
‫فتزعم بأن غيرك من الفئة المارقة‪ ،‬وأنك أنت من الفئة المنصورة‪.‬‬
‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫قال‪ :‬فكيفـ تريدني أن أرى نفسي؟‪ ..‬أتريدني أن أراها مارقة‪ ،‬فأقتلها؟ـ‬
‫قال الحكيم‪ :‬إذا رأيتهــا مارقــة‪ ،‬فاقتلهـاـ بأســياف الرياضــة لتعــود إلى عبوديــة‬
‫ربها‪ ..‬فإن طغيانهاـ هو الذي صور لها أحقيتها وضالل غيرها‪..‬‬
‫قــال الرجــل‪ :‬ولكــني أعين خصــوميـ بــذلك على نفســي‪ ..‬فهم يعتبرونــنيـ من‬
‫المارقين‪ ،‬ويسلون سيوفهم علي ألجل ذلك‪ ..‬أفأعين على نفسي؟‬
‫قال الحكيم‪ :‬بئس من لم يعن غيره على نفسي‪ ..‬واسمع مني‪ ..‬واســمعوا مــني‬
‫كلكم‪ ..‬لو أن كل واحد منكم نظر إلى نفسه بهذا المنظار‪ ،‬فراح يصحح عبوديته هلل‪..‬‬
‫وراح يتهم نفسه بتجاوزها لحدها وتدخلها فيمــا ال يعنيهــا‪ ..‬ثم راح يســل ســيفه على‬
‫نفسه التي سولت له مزاحمة الربوبيــة ليعيــدها إلى عبوديتهــا‪ ..‬حينــذاك فقــط تتوحــد‬
‫قلوبكمـ على عبودية هللا‪.‬‬
‫نادى رجل من بعيد‪ :‬أتريدنا أن نفعل ما أمر به بنو إسرائيل من قتل أنفســهم‪،‬‬
‫ال ُمو َسى لِقَوْ ِمـ ِه يَــا قَــوْ ِـم إِنَّ ُك ْم ظَلَ ْمتُ ْم أَ ْنفُ َسـ ُك ْم بِاتِّخَــا ِذ ُك ُـم ْال ِعجْـ َل‬ ‫كما قال تعالى‪َ ﴿:‬وإِ ْذ قَ َ‬
‫ـاب َعلَ ْي ُك ْم إِنَّهُ هُـ َو‬
‫ـارئِ ُك ْـم فَتَـ َ‬‫ـارئِ ُك ْـم فَــا ْقتُلُواـ أَ ْنفُ َسـ ُك ْم َذلِ ُك ْم خَ ْيـ ٌر لَ ُك ْم ِع ْنـ َد بَـ ِ‬
‫فَتُوبُــوا إِلَى بَـ ِ‬
‫َّحي ُم) (البقرة‪ .. )54:‬أال تعلم أنا من أمة محمد ‪ ‬ال من بني إسرائيل؟‬ ‫التَّوَّابُ الر ِ‬
‫قال الحكيم‪ :‬وهل ألمة محمــد ‪ ‬إلههــا الخــاص بهــا‪ ..‬ولبــني إســرائيل إلههم‬
‫الخاص بهم‪ ..‬أليس الرب واحدا؟‬
‫قال الرجل‪ :‬ولكنهم أمروا بقتل أنفسهم‪ ،‬ولم نؤمرـ بذلك‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فما دمتم لم تؤمرواـ بذلك فلم تفعلونه؟‬
‫قال الرجل‪ :‬وهل ترانا نفعل ذلك؟‬
‫قــال الحكيم‪ :‬ال أراكم تفعلــون إال ذلــك‪ ..‬ألم تســمع قولــه تعــالى‪َ ﴿:‬وال ت َْل ِمـ ُزوا‬
‫أَ ْنفُ َس ُك ْم﴾ (الحجرات‪)11 :‬؟‬
‫قال الرجل‪ :‬بلى‪ ..‬وهي في سورة الحجرات‪ ..‬وهي تنهى عن اللمز‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهل رأيت رجال يلمز نفسه؟‬
‫قال الرجل‪ :‬الناس يلمز بعضهم بعضا‪ ،‬وال يلمزون أنفسهم‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬ولكن هللا تعالى ذكر لمز النفس‪ ،‬ولم يذكر لمز الغير‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬لقد قال ابن عباس‪ ،‬ومجاهد‪ ،‬وســعيد بن جبــير‪ ،‬وقتــادة‪ ،‬ومقاتــل‬
‫بن َحيَّان في تفسيرها‪(:‬ال يطعن بعضكم على بعض)‪ ،‬فالنفس هنا يراد بها الغير‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فقتلكم لبعضكم بعضا إذن قتل ألنفسكم؟‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫سكت الجميع‪ ،‬فقال‪ :‬لقد ذكر القرآن الكريم ذلك صراحة‪ ،‬فقال‪ ﴿:‬يَا أيُّهَا ال ِذينَ‬
‫ْ‬
‫اض ِم ْن ُك ْم َوال تَ ْقتُلُــوا‬ ‫آ َمنُوا ال تَأ ُكلُوا أَ ْم َوالَ ُك ْم بَ ْينَ ُك ْم بِ ْالبَا ِط ِل إِاَّل أَ ْن تَ ُكونَ تِ َجا َرةً ع َْن ت ََر ٍ‬
‫أَ ْنفُ َس ُك ْم إِ َّن هَّللا َ َكانَ بِ ُك ْم َر ِحيماً) (النساء‪ ،)29:‬فقتل النفس هنــا ــ كمــا يشــير إلى قتــل‬
‫النفس ـ يشير إلى قتل الغير‪.‬‬
‫بل إنه ‪ ‬اعتبر حب الغير‪ ،‬واعتبارهم كالنفس من عالمات اإليمــان‪ ،‬فقــال‪:‬‬
‫(ال يؤمن أحدكم حتى يحب ألخيه مــا يحب لنفســه‪ ،‬والمســلم من ســلم المســلمون من‬

‫‪13‬‬
‫شره)(‪)1‬‬ ‫لسانه ويده‪ ،‬ال يؤمن أحدكم حتى يأمن جاره‬
‫قال رجل منهم‪ :‬نحن نسلم لما تقــول‪ ..‬بــل نســلم لمــا قــال رســول هللا ‪ ..‬فال‬
‫يحل المرئ أن يقدم رأيه على كالم هللا أو كالم رسوله‪ ..‬ولكنا مع ذلك نرى رأيـا ال‬
‫نشك في موافقتك لنا عليه‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬وما ترون؟‬
‫قال الرجل‪ :‬أرأيت لو أن عضوا من أعضائك ـ ال قدرـ هللا ـ لم يعد صالحا إال‬
‫للبتر‪ ،‬أكنت تتركه ليمأل نفسك ألما‪ ،‬وجسمك سقما‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬معاذ هللا أن أتركه‪ ..‬ومعاذ هللا أن أتسرع في قطعه‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬ولم ال تتسرع بإزالة الداء؟‬
‫قال الحكيم‪ :‬أرأيت لو أصاب األلم رأسك أكنت تذهب للجزار ليقطعه لك؟‬
‫قال الرجل‪ :‬ال‪ ..‬بل أسرع إلى المسكنات والمهدئات‪ ..‬ولعلي أظفــر بالتريــاقـ‬
‫الذي يسد منافذ الخلل‪ ،‬ويعيد الصحة‪ ،‬وينفي العلل‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فافعلواـ ذلك مع إخوانكم‪..‬‬
‫قال الرجــل‪ :‬للــرأس حكمــه الخــاص‪ ..‬وللرجــل أحكامهــا الخاصــة‪ ..‬فالرجــل‬
‫يمكن أن أتسرع فيها‪ ،‬بخالف الرأس‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬ولماذا تعتبر إخوانك أقداما يمكنك أن تبترها‪ ،‬وال تراهــا رؤوس ـاـ‬
‫محترمة يعز عليك قطعها‪.‬‬
‫سكت الجميع‪ ،‬فقال‪ :‬هذا يعود بنا إلى العبودية‪ ..‬فالعبوديــة تجعلــك تنظــر إلى‬
‫الخلق‪ ،‬وأنت عبد بسيط متواضع ال تملك إال ما أعطاك هللا‪ ،‬فال تتكبر على أحــد من‬
‫خلق هللا‪ ،‬وال تفخر عليه ألنه أعطاك ما لم يعطه‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬أنحن نفعل هذا؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬وتتشبهون بالشيطان في فعله‪ ..‬ألم يتكبر إبليس على آدم‪ ،‬بل على‬
‫أمر هللا‪ ،‬ألنه ظن نفسه أعز وأكرمـ من أن ينحني بهامته لذلك الطين‪.‬‬
‫قال أحدهم‪ :‬ما أبعد البون بيننا وبين إبليس‪ ،‬هو تكبر بنفسه وبناره‪..‬‬
‫قاطعه الحكيم قائال‪ :‬وأنتم تتكبرونـ بآرائكم وطوائفكمـ ومــذاهبكم‪..‬ـ كــل يــزعم‬
‫لنفسه احتكار الحق‪ ..‬بل كل يزعم أنه الطائفة المنصورة‪ ،‬والفرقة الناجية‪ ،‬وأنه يوم‬
‫القيامــة ســيكون الفــائز الوحيــد بالشــرب من يــد رســول هللا ‪ ..‬أمــا ســائر النــاس‪،‬‬
‫فيساقون إلى جهنم ليسقيهم إبليس من شرابه‪.‬‬
‫قال رجل منهم‪ :‬ولكن الحق معنا‪ ..‬ولنا من الروايات ما يعضده‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬ولغيركمـ من الروايات ما يعضد الحق الذي يؤمن به‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬ولكن الحق ال يخفى‪ ..‬ونورـ حقنا يطغى على ظلمة باطلهم‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فلماذا استعنتمـ بالسيوف إذن؟‪ ..‬هل ترون الشــمس تبســط أشــعتها‬
‫تحت أسنة الرماح‪ ..‬دعوا أنوار الحقائق تشهر نفسها بنفسها‪ ..‬ودعوا ظلمات الباطل‬

‫‪ )(1‬رواه ابن عساكر‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫تنكمش بنور الحق‪.‬‬
‫قال رجل منهم‪ :‬أنت تريد أن تصدنا عن غضــبة غضــبناها هلل‪ ..‬نصــرة لــدين‬
‫هللا‪ ..‬وحفاظا على صفائه‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهل معكم توكيل من هللا لتنصروه بهذا األسلوب؟‬
‫قال الرجــل‪ :‬ال نحتــاج إلى هــذا التوكيــل‪ ،‬فمــا بثــه الحــق فينــا من قــوة جعلنــا‬
‫نستشعرـ الفرق بين أهل الجنة وأهل النــار‪ ..‬المغفــور لهم من أهــل اإليمــان‪ ،‬والــذين‬
‫حبطت أعمالهم من أهل البدع والزندقة‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فأنت ال تختلف عن ذلــك الــذي أخــبر عنــه ‪ ‬بأنــه اعتقــد نفســه‬
‫موكال بخزائن الرحمة والمغفرة يصرفها لمن يشاء‪ ،‬ويحرمـ منها من يشاء‪.‬‬
‫لقــد أخــبر ‪( ‬أن رجال قــال‪ :‬وهللا ال يغفــر هللا لفالن‪ ،‬فقــال هللا‪ :‬من ذا الــذي‬
‫يتألى علي أن ال أغفر لفالن؟ فاني قد غفرت لفالن‪ ،‬وأحبطتـ عملك)(‪)1‬‬
‫وفي حديث آخر‪ ،‬قال ‪( :‬أال أحدثكم حديث رجلين من بني إســرائيل؟ كــان‬
‫أحدهما يسرف على نفسه‪ ،‬وكــان اآلخــر يــراه بنــو إســرائيل أنـه أفضــلهمـ في الــدين‬
‫والعلم والخلق‪ ،‬فذكر عنده صاحبه‪ ،‬فقــال‪ :‬لن يغفــر هللا لــه‪ ،‬فقــال هللا لمالئكتــه‪( :‬ألم‬
‫يعلم أني أرحم الــراحمين؟ ألم يعلم أن رحمــتيـ ســبقت غضــبي؟ فــاني أوجبت لهــذا‬
‫الرحمة‪ ،‬وأوجبت على هذا العذاب‪ ،‬فذا تتألوا على هللا)(‪)2‬‬
‫وفي حديث آخر قال ‪(:‬قــال رجــل ال يغفــر هللا لفالن‪ ،‬فــأوحىـ هللا إلى نــبي‬
‫من االنبياء أنها خطيئة‪ ،‬فليستقبل العمل)(‪)3‬‬
‫وفي حديث آخر ورد ما هو أعظم من ذلك‪ ،‬فقد قال ‪(:‬كان رجــل يصــلي‪،‬‬
‫فلما سجد أتاه رجل فوطئـ على رقبته‪ ،‬فقال الــذي تحتــه‪ :‬وهللا ال يغفــر لــك هللا أبــدا‪،‬‬
‫فقال هللا عزوجل‪ :‬تألى عبدي أن ال أغفر لعبدي‪ ،‬فاني قد غفرت له)(‪)4‬‬
‫وقد سمى ‪ ‬هؤالء الذين زعموا ألنفسهم امتالك خــزائن الجنــان (المتــألين)‬
‫(‪ ،)5‬فقال‪(:‬ويل للمتألين من أمتي‪ ،‬الذين يقولـون‪ :‬فالن في الجنـة‪ ،‬وفالن في النـار)‬
‫(‪)6‬‬
‫بل أخبر ‪ ‬عن هالك هذا النوع من الناس‪ ،‬فقال‪(:‬إذا سمعت الرجــل يقــول‪:‬‬
‫هلك الناس فهو أهلكهم)(‪ ،)7‬وقال ‪(:‬إذا قال الرجل‪ :‬هلك الناس فهو أهلكهم)(‪)8‬‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه أبو نعيم في الحلية وابن عساكر‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه الطبراني في الكبير‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه الطبراني في الكبير‪.‬‬
‫‪ )(5‬معنى يتألى ‪ :‬يحلف وااللية اليمين‪.‬‬
‫‪ )(6‬رواه البخاري في التاريخ‪.‬‬
‫‪ )(7‬رواه مالك وأحمد ومسلم وأبو داود ‪.‬‬
‫‪ )(8‬رواه أحمد ومسلم وأبو داود ‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫قال الرجل‪ :‬ولكنا ال نقول ذلك‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬بل تقولونه‪ ،‬وتصــرون عليــه‪ ..‬أليس كــل منكم يــزعم أنــه الفرقــة‬
‫الناجية‪.‬‬
‫سكت الجميع‪ ،‬فقال‪ :‬وذلك ال يفهم إال على معنى واحد‪ ،‬وهو أن غيره هالك‪..‬‬
‫لقد قيل لكم ال تقولوا لغيركم‪(:‬هالك)‪ ،‬فتالعبتم كما تالعب أهــل الســبت‪ ،‬فقلتم‪(:‬ليس‬
‫ناج)‪ ،‬وأنتم تعلمون أن عدم نجاته ال يعني إال هالكه‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬ولكن الرسول ‪ ‬أخبر عن نجــاة الواحــدة‪ ..‬أفتلغي كالم رســولـ‬
‫هللا ‪‬؟‬
‫قال الحكيم‪ :‬وهل عندك صك بأنك منها‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬لقد أخبر ‪ ‬عن أوصافها‪،‬ـ فذكر أنها ما عليه ‪ ‬وأصحابه‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬وهل تطيق أن تنسب لنفسك هذا‪ ..‬إن الذين كــانوا معـه ‪ ‬كــانوا‬
‫أعظم تواضعا من أن ينسبواـ ألنفسهم ما تنسبونه ألنفسكم‪ ..‬بل كــانوا يتخوفــون على‬
‫أنفسهم من النفاق‪ ..‬ألم تسمع ما ورد عن سلفكم في ذلك؟‬
‫قــال أحــدهم‪ :‬بلى‪ ..‬وأروي من ذلــك الكثــير‪ ،‬ومن ذلــك قــول ابن أبي مليكــة‪:‬‬
‫(أدركت ثالثين ومائــة ‪ -‬وفي روايــة خمســين ومائــة ‪ -‬من أصــحاب النــبي ‪ ‬كلهم‬
‫يخافون النفاق)‬
‫وقيل للحسن‪ :‬إن قوماًـ ما يقولون إنا ال نخــاف النفــاق‪ ،‬فقــال‪(:‬وهللا ألن أكــون‬
‫أعلم أني بـريء من النفـاق أحب إلي من تالع األرض ذهبـاً)‪ ،‬وكـان يقـول‪(:‬إن من‬
‫النفاق اختالف اللسان والقلب‪ ،‬والسرـ والعالنية‪ ،‬والمدخل والمخرج)‬
‫قال آخر‪ :‬وقد كانوا يستدلون بالخوفـ من النفاق على اإليمــان‪ ،‬وقــد روي أن‬
‫رجال قال لحذيفة‪(:‬إني أخاف أن أكون منافقاً)‪ ،‬فقال‪(:‬لو كنت منافقا ً مـا خفت النفـاق‬
‫إن المنافق من أمن النفاق)‬
‫قال آخر‪ :‬وكانوا يرون كل المظــاهر الــتي حــادت بالمســلمين عن الجــادة من‬
‫النفاق‪ ،‬حتى قال حذيفة‪ :‬المنــافقون اليــوم أكــثر منهم على عهــد النــبي ‪ ‬فكــانوا إذ‬
‫ذاك يخفونــه وهم اليــوم يظهرونــه)‪ ..‬وقيــل للحســن البصــري‪(:‬يقولــون‪ :‬أن ال نفــاق‬
‫اليوم)‪ ،‬فقال‪(:‬يــا أخي لــو هلــك المنــافقون الستوحشــتمـ في الطريــق)‪ ..‬وقــال هــو أو‬
‫غيره‪(:‬لو نبتت للمنافقين أذناب ما قدرنا أن نطأ على األرض بأقدامنا)‬
‫قــال الحكيم‪ :‬فهــل منكم من يــرى نفســه بهــذه الرؤيــة؟‪ ..‬أم أنكم تكتفــون بــأن‬
‫تجعلوا من أنفسكم قضاة محصنين بالصكوكـ التي تحميكم‪ ،‬وال تحمي سواكم‪.‬‬
‫سقط سيف أحدهم‪ ،‬وقال‪ :‬صدقت ـ سيدنا الحكيم ـ‪ ..‬لقد أنطقــك هللا بالحكمــة‪..‬‬
‫لقد كنت إلى هذه اللحظة أعتبر نفسي على الحق الذي ال يخالفني فيه إال مبطل‪..‬‬
‫لقد كتبت رسالة في العقيدة‪ ،‬قلت في خاتمتها بكــل كبريــاء‪(:‬فمن أقــر بمــا في‬
‫هذا الكتاب وآمن به واتخذه إماما ولم يشك في حرف منه‪ ،‬ولم يجحد حرفاـ منه فهــو‬
‫صاحب سنة وجماعة كامــل قــد كملت فيــه الجماعــة ومن جحــد حرفــا ممــا في هــذا‬

‫‪16‬‬
‫هوى)(‪)1‬‬ ‫الكتاب أوشك في حرف منه أو شك فيه أو وقف فهوـ صاحب‬
‫ناداه صاحبه‪ :‬ويلك يا هذا أتترك دينك لهوى نطق به من زعم لنفسه الحكمة؟‬
‫رد عليه‪ :‬ابتعد عني‪ ..‬فوهللا ما شــجعني على تلــك المقولــة وغيرهــا غــيركم‪..‬‬
‫أنتم الذين نفختم في أهــواء الكبريــاء‪ ..‬فــرحت أتكــبر على طوائــف األمــة ومــذاهبها‬
‫أوزع الضالل‪ ..‬وأرمي بالبدعة‪ ..‬كل من لم يبلغ عقلي مبلغ علمه‪.‬‬
‫أذكــر مــرات كثــيرة أني كنت أطلب من يخــالفني أو من يريــد أن يحــاورنيـ‬
‫بالمباهلة‪..‬‬
‫وإذا ذهبت إليها صببت عليه اللعنات والدعوات‪ ،‬وأنا أستشعر بأني إله يطردـ‬
‫من يشاء‪ ،‬ويقبل من يشاء‪.‬‬
‫وأذكر مرة أن بعضهم أجلسني بجانب بعض هؤالء‪ ،‬فامتألت نفسي غيظا أن‬
‫أجلس بجانبه‪..‬‬
‫لقد نسيت كل ما ورد في النصوص الكثيرة من الكبر الذي سماه الشيطان لي‬
‫عزة بالحق‪ ..‬نسيت مــا روي في الحــديث أن النــبي ‪ ‬كــان جالســا في جماعــة من‬
‫أصحابه فذكرواـ رجال فأكثروا من الثناء عليه ـ كما يثني علي أصحابي ــ فبينمــا هم‬
‫كذلك إذ طلع رجل عليهم ووجهه يقطر ماء من أثــر الوضــوء‪ ،‬وقــد علــق نعلــه بين‬
‫يديه وبين عينيه أثر السجود فقالوا‪ :‬يا رسول هللا هو هذا الرجل الذي وصفناه‪ ،‬فقال‬
‫‪(:‬أرى على وجهه سفعة من الشيطان) فجاء الرجل حتى ســلم وجلس مــع القـوم‪،‬‬
‫فقال النبي ‪(:‬نشدتك هللا هل حدثت نفســك حين أشــرفت على القــوم أنــه ليس فيهم‬
‫خير منك؟) فقال‪(:‬اللهم نعم)(‪)2‬‬
‫قام أحدهم‪ ،‬وقال‪ :‬نسلم لكل هذا‪ ..‬ولكن أليس من شروط اإليمان الجــزم‪ ..‬وال‬
‫يصح إيمان الشاك الذي يشك في كونه على الحق أو الباطل‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬أنا لم أقل لكم شكوا في الحــق الــذي أنتم عليــه‪ ..‬ولكــني قلت لكم‪:‬‬
‫اعبدوا هللا وأنتم تتناولون الحق من هللا‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬أبالصالة‪ ،‬أم بالصيام؟ـ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫قــال الحكيم‪ :‬بالصــالة والصــيام‪ ،‬ألم يقــل هللا تعــالى‪َ ﴿:‬و ْ‬
‫اســت ِعينوا بِ َّ‬
‫الصــب ِْر‬
‫يرةٌ إِاَّل َعلَى ْالخَا ِش ِعينَ ) (البقرة‪)45:‬‬
‫َوالصَّال ِة َوإِنَّهَا لَ َكبِ َ‬
‫قال الرجل‪ :‬فنحن نعبده بهما‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬الصالة تصلك باهلل‪ ..‬فترى الحق الذي عندك هبة من هللا‪ ..‬ولــوال‬
‫أن هللا هداك إليه ما اهتديت‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬فإالم تؤدينيـ هذه المعرفة؟‬
‫قال‪ :‬إلى بحر التواضعـ والتسليم هلل‪ ..‬فترىـ من عين العبوديــة أن هللا يمكن أن‬
‫يحول من السحرة أولياء‪ ..‬ومن األولياء أشقياء‪ ..‬ألم تسمع خبر سحرة موسى ‪.‬‬

‫‪ )(1‬شرح السنة ‪.58 :‬‬


‫‪ )(2‬رواه أحمد والبزار والدارقطني‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫قال الرجل‪ :‬بلى‪ ..‬فقد أصبحوا أشقياء‪ ..‬وأمسواـ أولياء‪ ..‬وباتواـ شهداء‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬وخبر بلعم بن باعوراء؟‬
‫قال الرجل‪ :‬ذاك الشقي الــذي آتــاه هللا العلم‪ ،‬فانســلخ منــه إلى الهــوى‪ ،‬فصــار‬
‫أدنى منزلة من الكالب‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فعبوديتك هلل تجعلك ترى كل من تعتـبره صـاحب هــوى كســحرة‬
‫موسىـ يمكن أن يسبقوك في أي لحظة‪ ..‬ويجعلك ترى من نفسك‪ ..‬أو في زاويــة من‬
‫زاويــة نفســك شــقيا يمكن أن ينقض على حقائقــك كــل لحظــة‪ ،‬فيحولهــا دعــاوى‪،‬‬
‫ويحولكـ دعيا‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬صدقت‪ ..‬ولهذا يستشعر الصالحون أن الهداية الــتي ينعمــون بهــا‬
‫هدية إلهية‪ ،‬ال جهدا اجتهدوه يحق لهم أن يفخروا به على غيرهم‪..‬‬
‫قــال آخــر‪ :‬صــدقت‪ ..‬فاهلل تعــالى يــذكر عن الصــالحين أقــواال تنــبئ عن هــذه‬
‫ض ـرُّ نَا‬‫العبودية الخالصة‪ ،‬فاهلل تعالى يقول‪ ﴿:‬قُلْ أَنَ ْدعُو ِم ْن دُو ِن هَّللا ِ َما ال يَ ْنفَ ُعنَا َوال يَ ُ‬
‫َونُـ َر ُّد َعلَى أَ ْعقَابِنَــا بَ ْعـ َد إِ ْذ هَـدَانَا هَّللا ُ﴾ (األنعــام‪ ،)71 :‬وهــو يقــول‪َ ﴿:‬ونَ َز ْعنَــا َمــا فِي‬
‫ُور ِه ْم ِم ْن ِغلٍّ تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِ ِه ُم اأْل َ ْنهَا ُر َوقَالُوا ْال َح ْم ُد هَّلِل ِ الَّ ِذي هَدَانَا لِهَ َذا َو َمــا ُكنَّا‬ ‫صد ِ‬ ‫ُ‬
‫ت ُر ُس ُل َربِّنَا بِ ْال َحقِّ﴾ (ألعــراف‪ ،)43:‬ويقــول على‬ ‫ي لَوْ ال أَ ْن هَدَانَا هَّللا ُ لَقَ ْد َجا َء ْ‬‫لِنَ ْهتَ ِد َ‬
‫ألسنتهم‪َ ﴿:‬و َمــا لَنَـا أَاَّل نَتَ َو َّك َل َعلَى هَّللا ِ َوقَـ ْد هَـدَانَا ُسـبُلَنَا َولَن ْ‬
‫َصـبِ َر َّن َعلَى َمــا آ َذ ْيتُ ُمونَــا‬
‫ـز ْغ قُلُوبَنَـاـ بَ ْعـ َد إِ ْذ‬
‫َو َعلَى هَّللا ِ فَ ْليَتَ َو َّك ِل ْال ُمتَ َو ِّكلُونَ ﴾ (ابــراهيم‪ ،)12:‬ويقــول‪َ ﴿:‬ربَّنَــا ال تُـ ِ‬
‫هَ َد ْيتَنَا َوهَبْ لَنَا ِم ْن لَ ُد ْنكَ َرحْ َمةً إِنَّكَ أَ ْنتَ ْال َوهَّابُ ﴾ (آل عمران‪)8:‬‬
‫قال آخر‪ :‬وقد كان ‪ ‬عين البراءة من نسبة األشــياء إليــه‪ ،‬وقـدـ كــان يرتجـزـ‬
‫مع أصحابه‪:‬‬
‫وال تصـــــــــدقنا وال‬ ‫اللهم لــــــوال أنت مــــــا‬
‫صــــــــــــــــــــــــلينا‬ ‫اهتـــــــــــــــــــــــــدينا‬
‫وثبت االقـــــــــدام إن‬ ‫فـــأنزلن ســـكينة علينـــا‬
‫القينا‬
‫قال الحكيم‪ :‬تلك الصالة‪ ..‬وهي تهديك إلى الصيام الـذي يطهـرـ يـدك من قتـل‬
‫أخيك‪ ..‬ويطهر لسانك من اللمز والنبز‪ ..‬ويطهرـ قلبك من الحقد والحســد‪ ..‬فال تكمــل‬
‫صالة من امتأل قلبه أحقادا وعلال‪.‬‬
‫قام رجل مشهرا ســيفه‪ ،‬وهــو يقــول‪ :‬نحن ال تمتلئ قلوبنــا أحقــادا‪ ..‬بــل تمتلئ‬
‫بغضــا في هللا‪ ..‬فنحن الــذين هــدانا هللا إلى اإليمــان الحــق نغضــب أن يمس صــفاء‬
‫اإليمان أو يحرف‪ ..‬أال ترى أنــك تغضــب إن أصــيبت الهديــة الــتي تهــدى إليــك من‬
‫محبوبكـ بأي أذى؟‬
‫قال الحكيم‪ :‬نعم‪ ،‬إن اإليمان هدية من هللا‪ ..‬ولكن من قــال لــك أو لغــيرك أنــك‬
‫ظفرت بذلك اإليمان الحق الذي يخول لك أن تحمل غيرك عليه بالسيف‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬هذا من البداهة‪ ..‬فنحن نستشعرـ الحق الذي وهبناه ونتذوقه‪..‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬لقد كان السلف الذين أراكم جميعا تعتبرونهمـ مصادركم المعرفية‬
‫والسلوكية على غير هذا المنهاج‪ ..‬لقد كان سفيان الثوريـ يقول‪(:‬من قال أنــا مــؤمن‬

‫‪18‬‬
‫عند هللا فهو من الكذابين‪ ،‬ومن قال أنا مؤمن حقا ً فهو بدعة)‪ ،‬قيـل لـه‪ :‬فمـاذا تقــول؟‬
‫قال‪ ﴿:‬قُولُواـ آ َمنَّا بِاهَّلل ِ َو َما أُ ْن ِز َل إِلَ ْينَا ﴾ (البقرة‪..)136 :‬‬
‫وكان يقول‪(:‬نحن مؤمنون باهلل ومالئكتــه وكتبــه ورســله ومــا نــدريـ مــا نحن‬
‫عند هللا تعالى؟)‬
‫وقيل للحسن‪ :‬أمؤمن أنت؟ فقال إن شاء هللا‪ ،‬فقيل له‪ :‬لم تستثني يـا أبـا سـعيد‬
‫في اإليمان؟ فقال‪ :‬أخاف أن أقول نعم‪ ،‬فيقــول هللا ســبحانه‪(:‬كـذبت يـا حسـن) فتحـقـ‬
‫علي الكلمة‪.‬‬
‫وكان يقول‪(:‬ما يؤمننيـ أن يكون هللا سبحانه قد اطلع علي في بعض ما يكــره‬
‫فمقتني‪ ،‬وقال اذهب ال قبلت لك عمالً؛ فأنا أعمل في غير معمل)‬
‫وقال إبراهيم بن أدهم‪(:‬إذا قيــل لــك أمــؤمن أنت؟ فقــل‪ :‬ال إلــه إال هللا)‪ ،‬وقــال‬
‫مرة‪(:‬قل أنا ال أشك في اإليمان‪ ،‬وسؤالكـ إياي بدعة)‬
‫وقيل لعلقمة‪ :‬أمؤمن أنت؟ قال‪ :‬أرجو إن شاء هللا‪.‬‬
‫نادى رجل من القوم‪ :‬أراك تريد إقناعنا بالتخلي عن أصل من األصول الــتي‬
‫ال يكون اإليمان إيمانا إال بتوفرها‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬تقصد الجزم وترك االرتياب‪..‬‬
‫قال الرجل‪ :‬أجل‪ ..‬فما وجه ما ذكرت من االستثناء مــع أن المــؤمن ينبغي أن‬
‫يجزم إيمانه‪ ،‬بــل ال يصــح إيمانــه إال بــذلك‪ ،‬ألم تســمع اآليــات الكثــيرة الــتي تصــف‬
‫المؤمين ببرد اليقين‪ ،‬يبنما تصف الجاحدين والكــافرين بالشــك والريبــة‪ ،‬فاهلل تعــالى‬
‫ك ِع ْل ُمهُ ْم فِي اآْل ِخ َر ِة بَــلْ هُ ْم فِي َشـكٍّ ِم ْنهَــا بَــلْ هُ ْم ِم ْنهَــا‬ ‫ار َ‬ ‫يذكر الكفار فيقول‪ ﴿:‬بَ ِل ا َّد َ‬
‫َع ُمونَ ﴾ (النمل‪ ،)66:‬ويقول‪َ ﴿:‬و ِحي َل بَ ْينَهُ ْم َوبَ ْينَ َما يَ ْشتَهُونَ َك َمـا فُ ِعـ َل بِأ َ ْشـيَا ِع ِه ْم ِم ْن‬
‫ب﴾ (سـبأ‪ ،)54:‬ويقول‪ ﴿:‬أَأُ ْن ِز َل َعلَ ْي ِه ال ـ ِّذ ْك ُر ِم ْن بَ ْينِنَــا بَــلْ‬ ‫قَ ْب ُل إِنَّهُ ْم َكانُوا فِي شَكٍّ ُم ِري ٍ‬
‫ب﴾ (صّ ‪ ،)8:‬ويقــول‪ ﴿:‬بَــلْ هُ ْم فِي َشـ ٍّ‬
‫ك‬ ‫ـري بَــلْ لَ َّما يَـ ُذوقُوا َعـ َذا ِ‬ ‫هُ ْم فِي َشـكٍّ ِم ْن ِذ ْكـ ِ‬
‫يَ ْل َعبُونَ ﴾ (الدخان‪)9:‬‬
‫بينمـا يصـف المؤمـنين بـاليقين وزيـادة اإليمـان وتـرك الشـك‪ ،‬فيقـول‪ ﴿ :‬إِنَّ َمـا‬
‫ْال ُم ْؤ ِمنُــونَ الَّ ِذينَ آ َمنُــوا بِاهَّلل ِ َو َر ُسـولِ ِه ثُ َّم لَ ْم يَرْ تَــابُوا َو َجاهَـدُوا بِــأ َ ْم َوالِ ِه ْـم َوأَ ْنفُ ِسـ ِه ْم فِي‬
‫ون﴾ (الحجــرات‪ ،)15:‬ويقــول‪ ﴿:‬إِنَّ َمــا ْال ُم ْؤ ِمنُــونَ الَّ ِذينَ إِ َذا‬ ‫ك هُ ُم الصَّا ِدقُ َـ‬ ‫َسبِي ِل هَّللا ِ أُولَئِ َ‬
‫ت َعلَ ْي ِه ْم آيَاتُ ـهُ زَا َد ْتهُْـم إِي َمان ـا ً َو َعلَى َربِّ ِه ْم يَتَ َو َّكلُــونَ ﴾‬ ‫ت قُلُــوبُهُ ْم َوإِ َذا تُلِيَ ْ‬ ‫ُذ ِك ـ َر هَّللا ُ َو ِجلَ ْ‬
‫ُورةٌ فَ ِم ْنهُ ْم َم ْن يَقُو ُل أَيُّ ُك ْم زَا َد ْتهُ هَ ِذ ِه إِي َمانا ً فَأ َ َّما‬
‫تس َ‬ ‫(ألنفال‪ ،)2:‬ويقول‪َ ﴿:‬وإِ َذا َما أُ ْن ِزلَ ْ‬
‫الَّ ِذينَ آ َمنُوا فَزَا َد ْتهُْـم إِي َمانا ً َوهُ ْم يَ ْستَ ْب ِشرُونَ ﴾ (التوبة‪)124:‬‬
‫بل فوق ذلك يصفهم بخالف ما ذكرت من اإلعالن باإليمان والفخر بــه‪ ،‬فاهلل‬
‫ـرى أَ ْعيُنَهُ ْم تَفِيضُ‬ ‫ُ‬
‫ول تَـ َ‬
‫َّسـ ِ‬ ‫ـز َل إِلَى الر ُ‬ ‫تعالى يقول عن المؤمنين‪َ ﴿:‬وإِ َذا َسـ ِمعُوا َمــا أ ْنـ ِ‬
‫ق يَقُولُونَ َربَّنَا آ َمنَّا فَا ْكتُ ْبنَاـ َم َع ال َّشا ِه ِدينَ ﴾ (المائدة‪،)83:‬‬ ‫ِمنَ ال َّد ْم ِع ِم َّما َع َرفُوا ِمنَ ْال َح ِّ‬
‫اشـهَ ْـد بِأَنَّنَــا‬‫اريِّينَ أَ ْن آ ِمنُــوا بِي َوبِ َر ُسـولِيـ قَــالُوا آ َمنَّا َو ْ‬ ‫ْت إِلَى ْال َح َو ِ‬ ‫ويقول‪َ ﴿:‬وإِ ْذ أَوْ َحي ُ‬
‫ق ِم ْن ِعبَا ِدي يَقُولُونَ َربَّنَا آ َمنَّا فَا ْغفِرْ‬ ‫ُم ْسلِ ُمونَ ﴾ (المائدة‪ ،)111:‬ويقول‪ ﴿:‬إِنَّهُ َكانَ فَ ِري ٌ‬
‫لَنَا َوارْ َح ْمنَاـ َوأَ ْنتَ َخ ْي ُر الرَّا ِح ِمينَ ﴾ (المؤمنون‪ ،)109:‬ويقول‪َ ﴿:‬وإِ َذا يُ ْتلَى َعلَ ْي ِه ْم قَالُوا‬

‫‪19‬‬
‫ق ِم ْن َربِّنَــا إِنَّا ُكنَّا ِم ْن قَ ْبلِـ ِه ُم ْسـلِ ِمينَ ﴾ (القصــص‪ ،)53:‬ويقــول على‬ ‫آ َمنَّا بِـ ِه إِنَّهُ ْال َحـ ُّ‬
‫لســان الجن‪َ ﴿:‬وأَنَّا لَ َّما َس ـ ِم ْعنَا ْالهُ ـدَى آ َمنَّا بِ ـ ِه فَ َم ْن يُـ ْـؤ ِم ْن بِ َربِّ ِه فَال يَخَــافُ بَ ْخس ـا ً َوال‬
‫َرهَقا ً﴾ (الجـن‪)13:‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬صدق هللا العظيم‪ ..‬وال يصح إيمان بال جزم ويقين وثبــات‪ ..‬وأنــا‬
‫ال أتحدث عن هذا‪ ،‬إنما أتحدث عما يتنافى مع العبوديــة من ادعــاء اإليمــان‪ ..‬ففــرق‬
‫بين اإليمان وادعـاء اإليمـان‪ ..‬ألم تسـمع هللا تعـالى ينفي اإليمـان عن أقـوام كثـيرين‬
‫ادعوه؟‬
‫ْ‬ ‫هَّلل‬
‫اس َم ْن يَقُــو ُل آ َمنَّا بِا ِ َوبِــاليَوْ ِـم‬ ‫قال الرجل‪ :‬بلى‪ ..‬فاهلل تعــالى يقــول‪َ ﴿:‬و ِمنَ النَّ ِ‬
‫ـرابُ‬ ‫َ‬
‫ت اأْل ْعـ َ‬ ‫اآْل ِخ ِر َو َما هُ ْم بِ ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ (البقرة‪ ،)8:‬ويقــول عن بعض األعــراب‪ ﴿:‬قَــالَ ِ‬
‫آ َمنَّا قُلْ لَ ْم تُ ْؤ ِمنُــوا َولَ ِك ْن قُولُــواـ أَ ْسـلَ ْمنَا َولَ َّما يَـ ْد ُخ ِل اأْل ِ ي َمــانُ فِي قُلُــوبِ ُك ْـم ﴾ (الحجــرات‪:‬‬
‫ك‬ ‫َّسـو ُل ال يَحْ ُز ْنـ َ‬ ‫‪ ،)14‬ويقول عن غيرهم من المنـافقين وأهـل الكتـاب‪ ﴿:‬يَـا أَيُّهَـا الر ُ‬
‫ار ُعونَ فِي ْال ُك ْف ِر ِمنَ الَّ ِذينَ قَالُوا آ َمنَّا بِأ َ ْف َوا ِه ِه ْم َولَ ْم تُـ ْـؤ ِم ْن قُلُــوبُهُ ْم﴾ (المائــدة‪:‬‬ ‫الَّ ِذينَ يُ َس ِ‬
‫خَرجُوا بِ ِه َوهَّللا ُ أَ ْعلَ ُم‬ ‫‪ ،)41‬ويقول‪َ ﴿:‬وإِ َذا َجا ُءو ُك ْم قَالُوا آ َمنَّا َوقَ ْـد َدخَ لُوا بِ ْال ُك ْف ِر َوهُ ْم قَ ْد َ‬
‫بِ َما َكانُوا يَ ْكتُ ُمونَ ﴾ (المائدة‪)61:‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬ولهذا وقف الصالحون العارفون باهلل مع هذه النصوص‪ ،‬فراحوا‬
‫يتهمون أنفسهم وقصورهم‪..‬ـ‬
‫ثم التفت للرجـــل‪ ،‬وقـــال‪ :‬أجبـــني‪ ..‬هـــل يمكن أن تصـــف نفســـك بأنـــك من‬
‫الخاشعين أو المقربين أو الصديقين؟‬
‫قال الرجل‪ :‬ال‪ ..‬وأنا عند نفسي أقل من ذلك بكثير‪ ..‬ثم إني ســمعت هللا تعــالى‬
‫ـو أَ ْعلَ ُم بِ َم ِن اتَّقَى﴾ (النجم‪:‬‬ ‫وهو ينهانا أن نزكي أنفسنا‪ ،‬فيقــول‪ ﴿:‬فَال تُزَ ُّكواـ أَ ْنفُ َسـ ُك ْم هُـ َ‬
‫ُظلَ ُمــونَ‬ ‫‪ ،)32‬ويقول‪ ﴿:‬أَلَ ْم تَ َر إِلَى الَّ ِذينَ يُ َز ُّكونَ أَ ْنفُ َسهُ ْم بَ ِل هَّللا ُ يُــزَ ِّكي َم ْن يَ َشـا ُء َوال ي ْ‬
‫فَتِيالً﴾ (النساء‪)49:‬‬
‫قــال الحكيم‪ :‬ومثــل ذلــك اإليمــان‪ ..‬بــل اإليمــان هــو األســاس لكــل أوصــافـ‬
‫الكمال‪ ..‬فال يكون الشخص مقربا وال صديقا وال خاشعا بدون إيمان‪ ..‬ولهــذا خشــي‬
‫الصالحون أن يدعوا ما هم مقصرون فيه‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬ولكن الشك محرم‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬شك الصالحين ليس شكا في إيمانهم‪ ،‬وإنما هو شك في قبول ذلك‬
‫منهم‪ ،‬ألم تسمع قولـه تعـالى‪َ ﴿:‬والَّ ِذينَ ي ُْؤتُـونَ َمـا آتَـوْ ا َوقُلُـوبُهُ ْم َو ِجلَـةٌ أَنَّهُ ْم إِلَى َربِّ ِه ْـم‬
‫َرا ِجعُونَ ﴾ (المؤمنون‪)60:‬‬
‫قال الرجل‪ :‬بلى‪ ..‬وقدـ سئل رسول هللا ‪ ،‬عن تفسيرها‪ ،‬وهــل هي في الــذي‬
‫يسرقـ ويزني ويشرب الخمر‪ ،‬وهو يخاف هللا عز وجل؟ فقال ‪(:‬ال‪ ،‬ولكنــه الــذي‬
‫يصلي ويصوم ويتصدق‪ ،‬وهو يخاف هللا عز وجل)(‪)1‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهذا يدل على ذلك ويؤكده‪ ..‬بل ورد هذا النص القرآني في سياق‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد الترمذي وابن أبي حاتم‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫يبين الحال التي يكون عليها المـؤمن من الخشـية والعبوديـة والتواضـع‪،‬ـ فاهلل تعـالى‬
‫يصف عباده المؤمنين بالخشية المؤدية للتواضع قبل وصفهم باإليمــان‪ ،‬فيقــول‪ ﴿:‬إِ َّن‬
‫ت َربِّ ِه ْم ي ُْؤ ِمنُــونَ ﴾ (المؤمنــون‪ 56:‬ـ‬ ‫الَّ ِذينَ هُ ْم ِم ْن َخ ْشيَ ِة َربِّ ِه ْم ُم ْشفِقُونَ َوالَّ ِذينَ هُ ْم بِآيا ِ‬
‫‪ ،)57‬أي هم مع إحسانهمـ وإيمانهم وعملهم الصالح‪ ،‬مشــفقون من هللا خــائفون منــه‪،‬‬
‫وجلون من مكره بهم‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬بورك فيــك‪ ..‬وقــد ذكرتــني بقــول الحســن البصــري‪(:‬إن المــؤمن‬
‫جمع إحسانا وشفقة‪ ،‬وإن المنافقـ جمع إساءة وأمنًا)‬
‫قال الحكيم‪ :‬فقارن بين هذا وبين من يستعلي بإيمانــه‪ ،‬ويتســلطـ بــه‪ ،‬ويقاضـيـ‬
‫الخلق على أساسه‪ ،‬ثم ال يرضىـ إال أن يرميهم بالكفر أو البدعة أو الزندقة‪.‬‬
‫نهض رجل آخر‪ ،‬وقال‪ :‬نحن نسلم بهذا‪ ..‬وهذا قد يصــح مــع األعمــال ال مــع‬
‫أصل اإليمان‪ ..‬أرأيت لو أنك أخبرت عن نفسك بأنك رأيت شــيئا قــد رأيتــه حقيقــة‪..‬‬
‫أليس ذلك شيئا طبيعيا ال حرج عليك في ذكره‪ :‬وال تعتبر بأنك زكيت نفسك بذلك؟‬
‫قــال الحكيم‪ :‬ولكن اإليمــان أخطــر من ذلــك بكثــير‪ ..‬إن اإليمــان غيب‪ ..‬وهــو‬
‫إيمان بالغيب‪ ..‬بخالف ما ذكرت من الشهادة‪..‬‬
‫قال الرجل‪ :‬ولكن هذا الغيب له ما يدل عليه في الشهادة‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬وهذا هو الذي يمنعك من التعالي باإليمان‪ ..‬ألم تســمع هللا يقصــر‬
‫وصفـ اإليمان على أناس مخصوصين بلغوا القمم العالية من العمل الصالح؟‬
‫ـاجرُوا َو َجاهَـدُوا فِي‬ ‫قــال الرجــل‪ :‬بلى‪ ..‬فاهلل تعــالى يقــول‪َ ﴿:‬والَّ ِذينَ آ َمنُــوا َوهَـ َ‬
‫ـري ٌم﴾‬ ‫ق َك ِ‬ ‫ـرةٌ َو ِر ْز ٌـ‬ ‫َصـرُواـ أُولَئِـكَ هُ ُم ْال ُم ْؤ ِمنُـونَ َحقّـا ً لَهُ ْم َم ْغفِـ َ‬ ‫آووْ ا َون َ‬ ‫َسبِي ِل هَّللا ِ َوالَّ ِذينَ َ‬
‫(ألنفال‪)74:‬‬
‫ويعبر القرآن الكريم بصيغة الحصــر الــتي تقصــر اإليمــان على من اتصــفوا‬
‫ت قُلُــوبُهُ ْم َوإِ َذا‬ ‫بأوصاف معينة‪ ،‬فيقول تعالى‪ ﴿:‬إِنَّ َما ْال ُم ْؤ ِمنُونَ الَّ ِذينَ إِ َذا ُذ ِكـ َر هَّللا ُ َو ِجلَ ْ‬
‫ت َعلَ ْي ِه ْم آيَاتُ ـهُ زَا َد ْتهُ ْم إِي َمان ـا ً َو َعلَى َربِّ ِه ْم يَت ََو َّكلُــونَ ﴾ (ألنفــال‪ ،)2:‬ويقــول‪ ﴿:‬إِنَّ َمــا‬ ‫تُلِيَ ْ‬
‫ْال ُم ْؤ ِمنُــونَ الَّ ِذينَ آ َمنُــوا بِاهَّلل ِ َو َر ُسـولِ ِه ثُ َّم لَ ْم يَرْ تَــابُوا َو َجاهَـدُوا بِــأ َ ْم َوالِ ِه ْـم َوأَ ْنفُ ِسـ ِه ْم فِي‬
‫ك هُ ُم الصَّا ِدقُونَ ﴾ (الحجرات‪)15:‬‬ ‫َسبِي ِل هَّللا ِ أُولَئِ َ‬
‫ْس ْالبِ َّر أَ ْن تُ َولُّوا ُوجُوهَ ُك ْم قِبَـ َ‬
‫ـل‬ ‫ويصف الصادقينـ بأوصاف كثيرة‪ ،‬فيقول‪ ﴿:‬لَي َ‬
‫ب َوالنَّبِيِّينَ‬ ‫ب َولَ ِك َّن ْالبِ َّر َم ْن آ َمنَ بِاهَّلل ِ َو ْاليَوْ ِم اآْل ِخ ِر َو ْال َمالئِ َك ِة َو ْال ِكتَــا ِ‬ ‫ق َو ْال َم ْغ ِر ِ‬‫ْال َم ْش ِر ِـ‬
‫الس ـائِلِينَ َوفِيـ‬ ‫الس ـبِي ِل َو َّ‬ ‫ال َعلَى ُحبِّ ِه َذ ِوي ْالقُرْ بَى َو ْاليَتَا َمىـ َو ْال َم َسا ِكينَ َوا ْبنَ َّ‬ ‫َوآتَى ْال َم َ‬
‫الصـابِ ِرينَ فِي‬ ‫الصـالةَ َوآتَى ال َّز َكــاةَ َو ْال ُموفُــونَ بِ َع ْهـ ِد ِه ْم إِ َذا عَاهَـدُوا َو َّ‬ ‫ب َوأَقَــا َم َّ‬ ‫ال ِّرقَا ِ‬
‫ـك هُ ُم ْال ُمتَّقُـونَ ﴾ (البقـرة‪:‬‬ ‫صـ َدقُوا َوأُولَئِ َـ‬ ‫س أُولَئِـ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْالبَأْ َسا ِء َو َّ‬
‫ك الَّ ِذينَ َ‬ ‫الضـرَّا ِء َو ِحينَ ْالبَـأ ِ‬
‫‪ ،)177‬فشرط عشرين وصفا ً كالوفاء بالعهد والصبرـ على الشدائد‪.‬‬
‫ومثل ذلك يقـول رسـول هللا ‪(:‬اإليمـان بضـع وسـبعون بابـا ً أدناهـا إماطـة‬
‫األذى عن الطريق)(‪)1‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فبمثل هذا تصنفـ درجات المؤمنين‪..‬‬
‫قال الرجل‪ :‬وهل ترانا نصنف الناس بغير ذلك؟‬
‫قال الحكيم‪ :‬أجل‪ ..‬أنتم تصنفون المؤمــنين بحســب مــواقفهمـ من بعض فــروعـ‬
‫العقائد‪ ..‬فترفعون الفاســق غليــظ القلب الــذي يعتقــد مــا تعتقدونــه إلى أعلى درجــات‬
‫اإليمان‪ ..‬بل وتفضلونه على الصائم القائم الخاشع القــانت إذا كــان يخــالفكم في تلــك‬
‫الفروع التي قسمتم الخلق على أساسها‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬ولكن البدعة أخطر من الفسق‪ ..‬ألم تســمع قــول ابن تيميــة يحكي‬
‫حكاية حصلت له مع بعض المبتدعة‪ ،‬فقال‪(:‬كان قد قال بعضهم‪ :‬نحن نتوب الناس‪،‬‬
‫فقلت‪ :‬مماذا تتوبونهم؟ قال‪ :‬من قطع الطريقـ والسرقة ونحو ذلك‪ ،‬فقلت‪ :‬حالهم قبــل‬
‫تتويبكمـ خير من حالهم بعد تتويبكم‪ ،‬فإنهمـ كانوا فســاقاًـ يعتقــدون تحــريمـ مــا هم عليــه‬
‫ويرجون رحمــة هللا ويتوبــون إليــه أو ينــوون التوبــة‪ ،‬فجعلتمــوهمـ بتتــويبكمـ ضــالين‬
‫مشركين خارجين عن شريعة اإلسالم‪ ،‬يحبون مــا يبغضــه هللا ويبغضــون مــا يحبــه‬
‫هللا‪ ،‬ونثبت أن هذه البدع التي هم وغيرهم عليها شر من المعاصي)(‪)1‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬كال من البدعــة والفســوق انحــراف عن الطريـقـ الصــحيح الــذي‬
‫يقتضيه اإليمان‪ ..‬ولكن هناك فرقا بينهما لم تالحظوه‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬وما هو؟‬
‫قال الحكيم‪ :‬إن الفسق ال شك فيه من ناحيـة تحـريم الشـرع لـه‪ ،‬وتـأثيره على‬
‫الذات والمجتمع‪..‬ـ ولكن البدعة محل شك‪ ..‬ألن كل فرقــة تعتقــد بدعيــة من خالفهــا‪..‬‬
‫وهي تتوهم أفضليتهاـ بحسب ذلك‪.‬‬
‫بل ليس األمر قاصرا على ذلك‪ ،‬فبعضهم يرمي بالبدعة أبسط التصرفاتـ مع‬
‫أن الشرع وسع فيها‪ ..‬وستسمعون من إخواني من الحكماء من يوضح لكم هذا‪.‬‬
‫نهض رجل آخر‪ ،‬وقال‪ :‬فنحن بحمد هللا قد جمعنـا من أوصـافـ المؤمـنين مـا‬
‫ورد في النصوص‪ ..‬ونحن ال نتحدث عن ذلك تزكيــة‪ ..‬وإنمــا تحــدثا بنعمــة هللا‪ ..‬ألم‬
‫ِّث﴾ (الضحى‪)11:‬‬ ‫تسمع قوله تعالى‪َ ﴿:‬وأَ َّما بِنِ ْع َم ِة َربِّكَ فَ َحد ْ‬
‫قال الحكيم‪ :‬فرق بين أن تتحدث بنعمة هللا عليك‪ ،‬وبين أن تتباهى بها‪ ،‬وتلعن‬
‫مخالفيك ألجلها‪ ..‬ثم من يضمن لك بأن هذه النعمة ستسمر لك‪ ..‬أين األمن من مكــر‬
‫هللا؟‬
‫قال الرجل‪ :‬وأين حسن الظن باهلل؟‬
‫قال الحكيم‪ :‬حســن الظن باهلل يــدعوك للتواضـعـ هلل ولعبــاد هللا‪ ،‬فال تحكم على‬
‫أحدهم بالشـقاء مـا دامت فيـه عين تطـرف‪،‬ـ فقـد يتـوب هللا عليـه في أي لحظـة‪ ،‬وال‬
‫تحكم لنفسك بالسعادة‪ ،‬فقد يأتيك الشقاء من حيث ال تعلم‪ ..‬ألم تسمع الصالحين‪ ،‬وهم‬
‫يتخوفون من سوء الخاتمة؟‬
‫قال الرجل‪ :‬بلى‪ ..‬وقدـ كان أبو الدرداء يحلف باهلل ما من أحد يــأمن أن يســلب‬

‫‪ )(1‬جامع الرسائل‪.1/72 :‬‬

‫‪22‬‬
‫إيمانه إال سلبه‪ ..‬وقد قال بعض العارفين‪(:‬لو عرضت علي الشهادة عند بــاب الــدار‬
‫والموت على التوحيـد عنـد بـاب الحجـرة الخـترت المـوت على التوحيـد عنـد بـاب‬
‫الحجرة ألني ال أدري ما يعرض لقلبي من التغيير عن التوحيدـ إلى باب الدار؟)‬
‫قال الحكيم‪ :‬أتدري ما مثل ذلك؟‬
‫قال الرجل‪ :‬ما مثله؟‬
‫قــال الحكيم‪ :‬مثلــه مثــل رجــل صــائم‪ ..‬فــإن صــومه متعلــق باســتمراره على‬
‫صومه إلى أن تغــرب الشــمس‪ ،‬فلــو لم يبــق بينــه وبين المغــرب غـير لقمـة واحــدة‪،‬‬
‫فأكلها بطل صومه جميعا‪.‬‬
‫فلــذلك انشــغل األذكيــاء بمراعــاة خــواطرهم حــتى ال تفســدها الوســاوسـ‬
‫واألوهام‪،‬ـ وانشغل المغفلون بالبحث في سرائرـ الناس ال ليصــلحوهم‪ ،‬وإنمــا ليــتيهواـ‬
‫عليهم‪ ..‬ويلمزوهم‪ ،‬وينبزوهم‪ ،‬ويقاتلوهم‪ ،‬ويقتلوهم‪.‬ـ‬
‫ما وصل الحكيم من حديثه إلى هذه الموضع حتى انحنت كثير من الســيوف‪،‬‬
‫وسقط بعضها‪ ..‬وهرعـ رجال يقبلون إخوانهم ممن كانوا يهمون بقتالهم‪ ،‬ويعانقوهم‪،‬‬
‫ويذرفون الدمعات بين ذلك‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫ثانيا ـ اإلسالم‬
‫قام الحكيم الثاني بين الصفين‪ ،‬وقال‪ :‬لقد حدثكم صــاحبي عن العبوديــة‪ ،‬وأنــا‬
‫ســأحدثكم عن اإلســالم‪ ..‬فاإلســالم هــو الطريــق إلى الوحــدة‪ ..‬ولن تتوحــدواـ إال إذا‬
‫استشعرتم اإلسالم‪ ،‬وغلبتموه على كل المشاعر‪.‬‬
‫قال بعضهم‪:‬ـ كيف تقول ذلك‪ ..‬ونحن مع كوننا مسلمين‪ ،‬لم يصــرفنا ذلــك عن‬
‫قتال بعضنا بعضا‪ ..‬فكيف يكون اإلسالم أصال من أصول الوحدة؟‬
‫قال الحكيم‪ :‬أجيبونيـ ‪ ..‬ما التسمية الــتي ارتضــاها هللا لكم‪ ،‬وخصــكم بهــا من‬
‫دون سائر الملل والنحل؟‬
‫نهض أحدهم‪ ،‬فقال‪ :‬ال شك أنها اإلسالم‪ ،‬فاهلل تعالى يقول‪ِ ﴿:‬ملَّةَ أَبِي ُك ْم إِ ْب َرا ِهي َم‬
‫هُ َو َس َّما ُك ُم ْال ُم ْسلِ ِمينَ ِم ْن قَ ْب ُل﴾ (الحج‪)78 :‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬وهــل هــذا االســم الــذي ارتضــاه هللا لكم اســم شــريف يســتحقـ أن‬
‫يفخر به صاحبه المتصف به‪ ،‬أم أنه اسم ينفر منه‪ ،‬وتحن نفسه ألن ينادى بغيره‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬اتق هللا يا رجل‪ ..‬لقــد حســبناك حكيمــا‪ ..‬كيــف تقــول هــذا؟‪ ..‬وهللا‬
‫لوال أنكم ناشدتموناـ هللا لفصلت رأسك عن جسدك‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬ولم؟‬
‫قال الرجل‪ :‬ألن سؤالك يحمل تحقيرا السم اإلسالم العظيم الــذي ارتضــاه هللا‬
‫لنا‪.‬‬
‫قــال الحكيم‪ :‬بــورك فيــك‪ ،‬وفيـ إخالصــك وصــدقك‪..‬ـ وأنــا وهللا ال أود لــرأس‬
‫يحمل أي احتقار لإلسالم أن يبقى على جســدي‪..‬ـ ولكــني أســألك‪ :‬هــل هنــاك من بين‬
‫الملــل من رغبــوا عن تســمية هللا لهم بالمســلمين‪ ،‬فســموا أنفســهم بمــا ارتضــته لهم‬
‫أهواؤهم؟ـ‬
‫قال الرجل‪ :‬أجل‪ ..‬وهم كثير‪ ،‬وقــد ضــرب هللا لنــا المثــل عنهم بــالفريقين من‬
‫أهل الكتاب من اليهود والنصارى‪ ..‬فمع أن أصـول ملتهم إبراهيميـة حنيفيـة مسـلمة‬
‫َصـا َرى تَ ْهتَـدُوا قُــلْ بَــلْ‬ ‫إال أنهم رغبوا عنها كما قال تعالى‪َ ﴿:‬وقَالُوا ُكونُوا هُوداً أَوْ ن َ‬
‫ِملَّةَ إِ ْب َرا ِهي َم َحنِيفا ً َو َما َكانَ ِمنَ ْال ُم ْش ِر ِكينَ ﴾ (البقرة‪)135:‬‬
‫بــل إنهم اشــتدوا في انصــرافهمـ عن اإلســالم الــذي ارتضــاه هللا لهم‪ ،‬فراحــواـ‬
‫يزعمون أن الجنة خاصة بمن انتحل نحلتهم‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿:‬وقَالُواـ لَ ْن يَ ْد ُخ َل ْال َجنَّةَ‬
‫صـا ِدقِينَ ﴾‬ ‫ك أَ َمــانِيُّهُ ْم قُــلْ هَــاتُوا بُرْ هَــانَ ُك ْم إِ ْن ُك ْنتُ ْم َ‬
‫ارى تِ ْلـ َ‬ ‫إِاَّل َم ْن َكــانَ هُــوداً أَوْ ن َ‬
‫َص ـ َ‬
‫(البقرة‪)111:‬‬
‫ولم يكتفــوا بــذلك‪ ..‬بــل راحــوا يزعمــون أن إبــراهيم ‪ ‬الــذي اختــار اســم‬
‫اإلسالم وملة اإلسالم كان مثلهم يهوديا أو نصرانيا‪ ،‬وقد رد هللا عليهم ذلك أبلغ رد‪،‬‬
‫ت التَّوْ َراةُ َواأْل ِ ْن ِجيـ ُل إِاَّل ِم ْن‬ ‫ُ‬ ‫فقال‪ ﴿:‬يَا أَ ْه َل ْال ِكتَا ِ‬
‫ـرا ِهي َم َو َمــا أ ْنـ ِ‬
‫ـزلَ ِ‬ ‫ب لِ َم تُ َحـ اجُّ ونَ فِي إِ ْبـ َ‬
‫ْس لَ ُكم بِ ِه‬ ‫بَ ْع ِد ِه أَفَال تَ ْعقِلُونَ هَاأَنتُ ْم هَؤُالء َحا َججْ تُ ْم فِي َما لَ ُكم بِ ِه ِعل ٌم فَلِ َم تُ َحآجُّ ونَ فِي َما لَي َ‬

‫‪24‬‬
‫ِع ْل ٌم َوهّللا ُ يَ ْعلَ ُم َوأَنتُْـم الَ تَ ْعلَ ُمونَ َما َكانَ إِب َْرا ِهي ُم يَهُو ِديّا ً َوالَ نَصْ َرانِيّا ً َولَ ِكن َكــانَ َحنِيف ـا ً‬
‫اس بِـإِ ْب َرا ِهي َـم لَلَّ ِذينَ اتَّبَ ُعــوهُ َوهَــ َذا النَّبِ ُّي‬ ‫ُّم ْسـلِما ً َو َمــا َكــانَ ِمنَ ْال ُم ْشـ ِر ِكينَ إِ َّن أَوْ لَى النَّ ِ‬
‫وا َوهّللا ُ َولِ ُّي ْال ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾(آل عمران‪ 65:‬ـ ‪)68‬‬ ‫َوالَّ ِذينَ آ َمنُ ْ‬
‫بل لم يكتفوا بإبراهيم ‪ ..‬فقد راحوا ينســبون كــل أنبيــائهمـ إلى اليهوديــة أو‬
‫ـوب‬ ‫ق َويَ ْعقُـ َ‬ ‫ـرا ِهي َم َوإِ ْسـ َما ِعي َل َوإِ ْسـ َحا َ‬ ‫النصرانية‪ ،‬كما قــال تعــالى‪ ﴿:‬أَ ْم تَقُولُــونَ إِ َّن إِ ْبـ َ‬
‫ظلَ ُم ِم َّم ْن َكتَ َم َشهَا َدةً ِع ْن َدهُ‬ ‫صا َرىـ قُلْ أَأَ ْنتُ ْم أَ ْعلَ ُم أَ ِم هَّللا ُ َو َم ْن أَ ْ‬ ‫َواأْل َ ْسبَاطَ َكانُوا هُوداً أَوْ نَ َ‬
‫ِمنَ هَّللا ِ َو َما هَّللا ُ بِغَافِ ٍل َع َّما تَ ْع َملُونَ ﴾ (البقرة‪)140:‬‬
‫وقد أخبر هللا تعالى في القرآن الكريم أن أديــان كــل األنبيــاء كــانت اإلســالم‪..‬‬
‫ـوب‬ ‫ضـ َر يَ ْعقُ َ‬ ‫وقدـ ذكـر هللا وصـية يعقــوب ‪ ‬ألبنائـه‪ ،‬فقــال‪ ﴿:‬أَ ْم ُك ْنتُ ْم ُشـهَدَا َء إِ ْذ َح َ‬
‫ـرا ِهي َم‬ ‫ك إِ ْبـ َ‬ ‫ت إِ ْذ قَــا َل لِبَنِي ـ ِه َمــا تَ ْعبُ ـ ُدونَ ِم ْن بَ ْعـ ِدي قَــالُواـ نَ ْعبُ ـ ُد إِلَهَــكَ َوإِلَ ـهَ آبَائِ ـ َ‬ ‫ْال َمــوْ ُ‬
‫ق إِلَها ً َوا ِحداً َونَحْ نُ لَهُ ُم ْسلِ ُمونَ ﴾ (البقرة‪)133:‬‬ ‫ْحا َـ‬‫يل َوإِس َ‬ ‫َوإِ ْس َم ِ‬
‫اع َ‬
‫ت أَنَّهُ ال إِلَـهَ إِاَّل‬ ‫بل أخبر هللا عن فرعون أنه عنــدما أدركــه الغــرق قــال‪ ﴿:‬آ َم ْن ُ‬
‫َت بِ ِه بَنُو إِسْرائي َل َوأَنَا ِمنَ ْال ُم ْسلِ ِمينَ ﴾ (يــونس‪ )90:‬وفي هــذا دليــل على أن‬ ‫الَّ ِذي آ َمن ْ‬
‫موسىـ ‪ ‬دعاه إلى اإلسالم‪ ،‬ولم يدعه إلى دين غيره‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬بورك فيك‪ ..‬فقد آتاك هللا علما بكتابه‪ ..‬فأجبني‪:‬ـ هــل أخــبر ‪ ‬أن‬
‫هذه األمة ستتبع سنن من قبلها‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬أجـل‪ ..‬وقـد ورد ذلـك في نصـوص كثـيرة‪ ،‬فـالنبي ‪ ‬يقـول في‬
‫الحديث المتفق على صحته‪(:‬لتتبعن سنن من كان قبلكم‪ ،‬حذو القذة بالقــذة‪ ،‬حــتى لــو‬
‫دخلوا جحر ضب لدخلتموه)‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬اليهود والنصــارى؟ قــال‪(:‬فمن؟)‬
‫(‪)1‬‬
‫وفي حـديث آخـر يقـول ‪(:‬لتأخـذن أمـتي مأخـذ القـرون قبلهـا شـبرا بشـبر‬
‫وذراعا بذراع)‪ ،‬قالوا‪:‬ـ فارس والروم؟ قال‪(:‬فمن الناس إال أولئك؟)(‪)2‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬ألم يخبر هللا تعالى عن اليهــود والنصــار أنهم اختلفــوا‪ ،‬وعوقبــواـ‬
‫باختالفهم‪ ،‬حيث ألقيت بينهم العداوة والبغضاء؟‬
‫قال الرجل‪ :‬أجل‪ ..‬وقد ورد ذلــك في آيــات كثــيرة منهــا قولــه تعــالى في حــق‬
‫ـذنَا ِميثَــاقَهُ ْم فَن َُسـواـ َحظًّــا ِم َّما ُذ ِّكرُوا بِـ ِه‬ ‫ارىـ أَخَـ ْ‬ ‫َص َ‬ ‫النصارى‪:‬ـ ﴿ َو ِمنَ الَّ ِذينَ قَالُوا إِنَّا ن َ‬
‫ف يُنَبِّئُهُ ُم هَّللا ُ بِ َمــا َكــانُوا‬ ‫ضــا َـء إِلَى يَــوْ ِم ْالقِيَا َمــ ِة َو َســوْ َـ‬ ‫فَأ َ ْغ َر ْينَــا بَ ْينَهُ ُم ْال َعــ دَا َوةَ َو ْالبَ ْغ َ‬
‫ت ْاليَهُــو ُد يَـ ُد هَّللا ِ‬ ‫﴿وقَــالَ ِ‬
‫يَصْ نَعُونَ (‪[ ﴾)14‬المائدة‪ ،]14 :‬ومنها قوله في حــق اليهــود‪َ :‬‬
‫ق َك ْيــفَ يَ َشـا ُء َولَيَ ِزيـدَنَّ‬ ‫َان يُ ْنفِـ ُ‬
‫ْسـوطَت ِ‬ ‫ت أَ ْي ِدي ِه ْم َولُ ِعنُوا بِ َما قَالُوا بَلْ يَـدَاهُ َمب ُ‬ ‫َم ْغلُولَةٌ ُغلَّ ْ‬
‫ض ـا َء إِلَى‬ ‫َكثِيرًا ِم ْنهُ ْم َما أُ ْن ِز َل إِلَ ْيكَ ِم ْن َربِّكَ طُ ْغيَانًا َو ُك ْفرًا َوأَ ْلقَ ْينَا بَ ْينَهُ ُم ْال َعـ دَا َوةَ َو ْالبَ ْغ َ‬
‫ض فَ َسـا ًداـ َوهَّللا ُ اَل‬ ‫طفَأَهَــا هَّللا ُ َويَ ْسـ َعوْ نَ فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫ب أَ ْ‬ ‫يَوْ ِم ْالقِيَا َم ِة ُكلَّ َما أَوْ قَدُوا نَارًا لِ ْل َحــرْ ِ‬
‫يُ ِحبُّ ْال ُم ْف ِس ِدينَ ﴾ [المائدة‪]64 :‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم ‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬وهل أخبر هللا تعالى عن سبب ذلك؟‬
‫قال الرجل‪ :‬أجل‪ ..‬لقد كــان ســبب ذلــك تضــييعهم للمواثيــق الــتي عاهــدوا هللا‬
‫عليها‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهل نص هللا تعالى على تلك المواثيق؟‬
‫قال الرجل‪ :‬أجل‪ ..‬وذلك في مواضع من القــرآن الكــريم‪ ..‬منهــا قولــه تعــالى‪:‬‬
‫ق بَنِي إِ ْسـ َرائِي َل اَل تَ ْعبُـ ُدونَ إِاَّل هَّللا َ َوبِ ْال َوالِـ َدي ِْن إِحْ َسـانًا َو ِذي ْالقُــرْ بَى‬ ‫ـذنَا ِميثَــا َـ‬ ‫﴿ َوإِ ْذ أَ َخـ ْ‬
‫اس ُح ْسنًا َوأَقِي ُمواـ َّ‬
‫الصـاَل ةَ َوآتُــوا ال َّز َكــاةَ ثُ َّم تَـ َولَّ ْيتُ ْم إِاَّل‬ ‫ين َوقُولُواـ لِلنَّ ِ‬ ‫َو ْاليَتَا َمىـ َو ْال َم َسا ِك ِ‬
‫ْرضُونَ ﴾ [البقرة‪]83 :‬‬ ‫قَلِياًل ِم ْن ُك ْم َوأَ ْنتُ ْم ُمع ِ‬
‫ـذنَا‬ ‫قــال الحكيم‪ :‬ومن أهم تلــك المواثيــق مــا نص عليــه قولــه تعــالى‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ أَ َخـ ْ‬
‫ــررْ تُْـم َوأَ ْنتُ ْم‬ ‫ــار ُك ْم ثُ َّم أَ ْق َ‬
‫ِميثَــاقَ ُك ْم اَل ت َْســفِ ُكونَ ِد َمــا َء ُك ْم َواَل تُ ْخ ِرجُــونَ أَ ْنفُ َســ ُك ْم ِم ْن ِديَ ِ‬
‫تَ ْشهَ ُدونَ ﴾ [البقرة‪]84 :‬‬
‫قال الرجل‪ :‬أجل‪ ..‬فهذه اآلية تنص على بعض تلك المواثيق‪.‬‬
‫قــال الحكيم‪ :‬فهــل أخــذ على هــذه األمــة من المواثي ـقـ مــا أخــذ على اليهــودـ‬
‫والنصارى؟‬
‫قال الرجل‪ :‬أجل‪ ..‬فكل ما ورد في القرآن الكريم من وصــايا هي مواثي ـقـ هللا‬
‫التي أخذها على هذه األمة‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬أليس منها قولـه ‪( :‬ال ترجعـوا بعـدى كفـارا يضـرب بعضـكم‬
‫رقاب بعض) (‪)1‬؟‬
‫قال الرجل‪ :‬بلى ‪ ..‬ذلك صحيح‪ ،‬فتلك من وصاياـ رسول هللا ‪ ‬لهذه األمة؟‬
‫قال الحكيم‪ :‬أال تــرون أنكم تخــالفون هــذه الوصــية‪ ،‬وتقعــون فيمــا وقعت فيــه‬
‫األمم من قبلكم من حرب بعضها لبعض؟‬
‫قال الرجل‪ :‬لكن حروبهم لم تكن مشروعة‪ ..‬وحربناـ مشروعة‪ ،‬ألننا نحــارب‬
‫من ابتدع في الدين‪ ،‬وراح يحرفه‪.‬‬
‫قـــال الحكيم‪ :‬لكـــني رأيت جميعكم أنتم وهم تصـــلون وتصـــومونـ وتزكـــون‬
‫وتحجــون‪ ..‬وجميعكم تشــهدون أن ال إلــه إال إهلل وأن محمــدا رســول هللا‪ ..‬وجميعكم‬
‫تقرون بالقيم العظيمــة الــتي جــاء القــرآن الكــريم بالــدعوة إليهــا‪ ..‬أال يكفي هــذا كلــه‬
‫لوحدتكم؟ـ‬
‫قــال الرجــل‪ :‬ال ‪ ..‬ال يكفي هــذا كلــه‪ ..‬فقــد وضــع ســلفنا الصــالح الكثــير من‬
‫نواقض اإليمان‪ ،‬والتي قد يقع فيها من ذكرت من الناس‪ ..‬بل ال يقع فيهــا في العــادة‬
‫إال من كثرت عبادته‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬أترغبون عن نواقض اإليمــان الــتي وضــعهاـ رســول هللا ‪ ‬إلى‬
‫نواقض اإليمان التي وضعها مشايخكم؟ـ‬
‫قال الرجل‪ :‬وهل وضع رسول هللا ‪ ‬نواقض لإليمان؟‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم ‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬وهل يمكن أن يكمل دين قبل أن تسيج بالسياج الذي يحميه‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬فهال ذكرت لي ما ذكر رسول هللا ‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬لقـد قـال رسـول هللا ‪ ‬في الحــديث الــذي تصــححونه‪ ،‬وتتفقــون‬
‫على تصحيحه‪( :‬من صلى صالتنا‪ ،‬واستقبل قبلتنا‪ ،‬وأكل ذبيحتنا‪ ،‬فذلك المسلم الذي‬
‫له ذمة هللا وذمة رسوله‪ ،‬فال تخفروا هللا في ذمته) (‪)1‬‬
‫وفي حديث آخر أن رجال جاء إلى رسول هللا ‪ ‬من أهل نجد‪ ،‬ثائر الرَّأس‪،‬‬
‫يُسمع دويُّ صوتِه‪ ،‬وال يفقه ما يقول‪ ،‬حتى دنــا‪ ،‬فــإذا هــو يَســأ ُل عن اإلســالم‪ ،‬فقــال‬
‫ي غيرهــا؟ قــال‪( :‬ال‪،‬‬ ‫ت في اليوم واللَّيلة)‪ ،‬فقال هل عل َّ‬‫رسول هللا ‪( :‬خمسُ صلوا ٍ‬
‫إالَّ أن تَط َّوع)‪ ،‬قال رسول هللا ‪( :‬وصيام رمضــان)‪ ،‬قــال هــل عل َّ‬
‫ي غــيرُه؟ قــال‪:‬‬
‫ي غيرهــا؟ قــال‪:‬‬ ‫(ال‪ ،‬إالَّ أن تَط َّوع)‪ ،‬قال‪ :‬و َذ َكرـ رسول هللا ‪ ‬الزكــاة‪ ،‬قــال هــل عل َّ‬
‫(ال‪ ،‬إالَّ أن تَط َّوع)‪ ،‬قال‪ :‬فأدبرـ الرجل وهو يقول‪ :‬وهللا ال أَزيد على هذا وال أنقص‪،‬‬
‫صدَق) (‪)2‬‬
‫إن َ‬ ‫قال رسول هللا ‪( :‬أَ ْفل َح ْ‬
‫كتبهن هللا على العباد‪َ ،‬من أتى َّ‬
‫بهن‬ ‫َّ‬ ‫وفي حديث آخر قال ‪( :‬خمس صلوات‬
‫َّ‬
‫بحقهن‪ ،‬كــان لــه عنــد هللا ‪ -‬تبــارك وتعــالىـ ‪ -‬عهــد أن‬ ‫منهن شيئًا اســتخفافًاـ‬
‫َّ‬ ‫لم يُضيِّع‬
‫عذبه‪ ،‬وإن شاء غفــر‬ ‫ت بهن‪ ،‬فليس له عن َد هللا عهد‪ ،‬إن شاء َّ‬ ‫يُدخلَه الجنة‪ ،‬و َمن لم يأ ِ‬
‫له)(‪)3‬‬
‫قال الرجل‪ :‬لكن هــذا الحــديث كمــا نص مشــايخنا مخصــص عمومــه‪ ،‬ومقيــد‬
‫مطلقه‪ ..‬ولذلك يمكن أن يقع في الكفر والبدعة والشرك من فعــل كــل هــذه األمــور‪..‬ـ‬
‫وقدـ كتب بعض مشايخنا في ذلك رسائل كثيرة تبين أن تلك الطائفة التي نحاربهاـ قــد‬
‫وقعت في الشرك‪ ..‬وال ينفع مع الشرك طاعة‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬لكني سمعتهم يشهدون أن ال إله إال هللا‪ ..‬فكيف يكون مشــركا من‬
‫يقولها؟‬
‫قال الرجل‪ :‬من وقع في نواقضــهاـ وقــع في الشــرك‪ ،‬وأصــبح مرتــدا ‪ ..‬وحــل‬
‫دمه بذلك‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬لكنه إن تأول ذلك ‪ ..‬أو اعتقد أن ما هو فيه ليس شركا‪ ..‬وكان له‬
‫برهان على ذلك‪ ..‬وكان له من العلماء من يسانده ‪ ..‬أال ينفعه كل ذلك لتعذروه؟‬
‫قال الرجل‪ :‬ال ‪ ..‬ال ينفعه كل ذلك‪ ..‬بل هــو مشــرك ‪ ..‬بــل هــو أشــد كفــرا من‬
‫اليهود والنصاري كما نص على ذلك علماؤنا‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهل تعرف حديث الذي طلب من أهله أن يحرقوه إن هو مات؟‬
‫قال الرجل‪ :‬أجل ‪ ..‬وكيف ال أحفظه وهو في صحيح البخاريـ ومســلم اللــذين‬
‫أجمعت األمة على صحتهما‪..‬ـ وال يرد أحاديثهماـ إال زنديق‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه أحمد‪ ،‬وأبو داود‪ ،‬والنسائي‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهال رويته لي‪.‬‬
‫قــال الرجــل‪ :‬أجــل‪ ..‬ولــدي ســند طويــل بــه‪ ،‬وأجــازنيـ في روايتــه مشــايخيـ‬
‫الكبار‪ ..‬ونصه هو قوله ‪( :‬كان رجل يســرفـ على نفســه‪ ،‬فلمــا حضــره المــوت‪،‬‬
‫مت‪ ،‬فأحرقوني‪ ،‬ثم اطحنوني‪ ،‬ثم ذروني في الريح‪ ،‬فوهللا لئن قدر‬ ‫قال لبنيه‪ :‬إذا أنا ّ‬
‫ً‬
‫علي ربي ليعذبني عذابا ما عذبه أحــدا‪ .‬فلمــا مــات فُ ِعـ ل بــه ذلــك‪ ،‬فــأمر هللا األرض‬ ‫ً‬
‫فقال‪ :‬اجمعي ما فيك منه‪ ،‬ففعلت‪ ،‬فإذا هو قــائم‪ .‬فقــال‪ :‬مــا حملــك على مــا صــنعت؟‬
‫قال‪ :‬يا رب خشيتك‪ .‬فغفر له)(‪)1‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬بورك فيك وفيـ حفظك‪ ..‬أخبرني وكن صادقا‪ ..‬لو أن هذا الرجل‬
‫وقع بين أيديكم‪ ،‬فبم تحكمون عليه؟‬
‫سكت الرجل‪ ،‬فقال الحكيم‪ :‬ال شــك أنكم ســتحكمون عليــه بــالكفر‪ ،‬ألنــه أنكــر‬
‫قدرة هللا‪ ،‬أو تصورـ هللا عاجزا عن أن يجمع ذراته‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬أجل‪ ..‬ولكن لجهله عذره هللا سبحانه وتعالى‪.‬ـ‬
‫قــال الحكيم‪ :‬فلم ال تعــذرون خلــق هللا‪ ..‬فاهلل هــو الــذي يعلمهم وهــو الــذي‬
‫يربيهم‪..‬ـ وهو الذي ينقلهم من حال إلى حال إلى أن يرتقوا في سلم الكمال الذي كتبه‬
‫هللا لهم‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬إذا فعلنــا ذلـك‪ ..‬فســتغرقـ هـذه األمــة في متاهــات الضــاللة‪ ،‬ولن‬
‫تبقى فيها أي فرقة ناجية‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬ألم يعطناـ هللا تعالى صفات الفرقة الناجية‪ ،‬بل الفالحة‪ ،‬بل الفــائزة‬
‫بعز األبد؟‬
‫سكت الرجل‪ ،‬فقال الحكيم‪ :‬بلى ‪ ..‬وقد نص على ذلك في مواضع من القــرآن‬
‫خَاشعُونَ (‪)2‬‬ ‫صاَل تِ ِه ْم ِ‬ ‫الكريم منها قوله تعالى‪﴿ :‬قَ ْد أَ ْفلَ َح ْال ُم ْؤ ِمنُونَ (‪ )1‬الَّ ِذينَ هُ ْم فِي َ‬
‫ضـــونَ (‪َ )3‬والَّ ِذينَ هُ ْم لِل َّز َكـــا ِة فَـــا ِعلُونَ (‪َ )4‬والَّ ِذينَ هُ ْم‬ ‫ْر ُ‬ ‫ـــو ُمع ِ‬‫َوالَّ ِذينَ هُ ْم َع ِن اللَّ ْغ ِ‬
‫ت أَ ْي َمانُهُ ْم فَ ـإِنَّهُ ْم َغ ْيـ ُر َملُــو ِمينَ (‬ ‫لِفُرُو ِج ِه ْـم َحافِظُونَ (‪ )5‬إِاَّل َعلَى أَ ْز َوا ِج ِه ْم أَوْ َما َملَ َك ْ‬
‫ــك هُ ُم ْال َعــا ُدونَ (‪َ )7‬والَّ ِذينَ هُ ْم أِل َ َمانَــاتِ ِه ْم َو َعهْــ ِد ِه ْم‬ ‫ك فَأُولَئِ َـ‬‫‪ )6‬فَ َم ِن ا ْبتَغَى َو َرا َء َذلِــ َ‬
‫ُ‬
‫ارثُــونَ (‪)10‬‬ ‫صــلَ َواتِ ِه ْـم ي َُحــافِظُونَ (‪ )9‬أولَئِــكَ هُ ُم ْال َو ِ‬ ‫َرا ُعــونَ (‪َ )8‬والَّ ِذينَ هُ ْم َعلَى َ‬
‫س هُ ْم فِيهَا خَالِ ُدونَ ﴾ [المؤمنون‪]11 - 1 :‬‬ ‫الَّ ِذينَ يَ ِرثُونَ ْالفِرْ دَوْ َ‬
‫انظر كيف أخبر هللا تعــالى أن أولئــك الــذين اتصــفوا بتلــك الســعادة لم ينجــوا‬
‫فقط‪ ،‬وإنما نالوا الفردوس األعلى‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬ذلك صحيح‪ ..‬واآليات الكريمة صريحة في ذلك‪.‬‬
‫قــال الحكيم‪ :‬فهــل تــراكم أنتم وهــؤالء الــذين تحــاربونهمـ تختلفــون في تلــك‬
‫المعاني التي وردت بها تلك اآليات؟‬
‫سكت الرجل‪ ،‬فقال الحكيم‪ :‬أنا أعرفكمـ جميعا‪ ،‬وقد خالطتكمـ جميعــا‪ ،‬وال أحــد‬
‫منكم وال منهم ينكــر معــنى من تلــك المعــاني‪ ..‬فكلهمـ يؤمنــون بالصــالة والزكــاة‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫واألمانة‪..‬‬
‫رمى رجــل من القــوم ســيفه‪ ،‬وقــال‪ :‬صــدقت‪ ..‬لقــد تــذكرت اآلن الكثــير من‬
‫األحاديث التي كان يجتهــد مشــايخ الســوء الــذين مألوا قلوبنـاـ باألحقــاد كي ننســاها‪،‬‬
‫حيث كانوا يؤولونهاـ تأويال عجيبا‪ ،‬فال نخرج منها بشيء‪..‬‬
‫ومن تلك األحاديث قولــه ‪( :‬صــلوا خلــف من قــال‪ :‬ال إلــه إال هللا‪ ،‬وصــلوا‬
‫على من قال‪ :‬ال إله إال هللا) (‪)1‬وأتذكر ذلك اليوم الــذي ذهبت فيــه لبعض مشــايخي‪،‬‬
‫وحدثته بهذا الحــديث‪ ،‬وأنــا في غايــة الســرور‪ ،‬لكنــه انتهــرني‪ ..‬ثم أخــذ يســرد علي‬
‫فتاوىـ العلماء التي تحرم الصالة وراء جميع المخالفين لنا‪ ،‬بل تجعل صالتنا خلفهم‬
‫باطلة (‪. )2‬‬
‫ومن تلـك الفتـاوى مـا أفـتى بـه بعضـهم‪ ،‬قـال ‪( :‬الصـالة خلـف المبتـدع فيهـا‬
‫تفصيل‪ ،‬فإذا كان مبتدعا ً بدعــة مكفــرة كالجهمية؛ فهــذا ال يُصــلى خلفه‪ ،‬والمعــتزليـ‬
‫الذي يــؤول صــفات هللا والخــوارجـ ال يُصــلى خلفهم‪ ،‬أ َّما إذا كــانت بدعتــه خفيفــة ال‬
‫تفضي إلى الشرك فاألمرـ في هــذا ســهل‪ ،‬ولكن إذا تيســر إزالتــه والتمــاس إمــام من‬
‫أهــل الســنة؛ فهــذا أمــر واجب‪ ،‬ولكن إذا دعت الضــرورة أن يُصــلى خلفه‪ ،‬كــالتي‬
‫بدعته ال تكفره كالعاصيـ فهذا يصلى خلفه ما دام مسلماً)(‪)3‬‬
‫ثم بين لي أن هــذه الفتــوى تســتدعي أال أصــلي خلــف أحــد من النــاس ســوى‬
‫أصحابنا‪ ،‬ألن األمة جميعا أصــبحت جهميــة‪ ..‬ألنهــا جميعــا ال تقــول بإثبــات اليــدين‬
‫والعينين والرجلين والحقو والضرس هلل‪..‬‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬بورك فيكما ‪ ..‬لقد ذكرتمــانيـ بحــديث أنســتنيه األيــام‬
‫ومشايخ السوء‪ ،‬وهو قوله ‪( :‬رحم هللا من كف لســانه عن أهــل القبلـة إال بأحســن‬
‫ما يقدر عليه)(‪ ،)4‬وفيـ رواية أخرى‪( :‬كفوا عن أهل ال إله إال هللا ال تكفروهمـ بذنب‬
‫فمن أكفر أهل ال إله إال هللا فهو إلى الكفر أقرب)(‪)5‬‬
‫فقد وضع رسول هللا ‪ ‬ضابطاـ واحــدا إلدخــال المــؤمن في الــدين‪ ،‬وحمايــة‬
‫عرضه من التكفير‪ ،‬وهو قول ال إله إال هللا‪ ..‬أو هو التوجه للقبلة في الصالة‪ ..‬وهي‬
‫محل اتفاق بين المسملين جميعا‪.‬‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬بــوركـ فيكم ‪ ..‬لقــد ذكرتمــونيـ بحــديث خطــير لكأنــه‬
‫يحكي واقعناـ تماما‪ ..‬كان مشايخ السوء يكتمونه بكل مــا أوتــوا من صــنوف الحيــل‪..‬‬
‫فإذا ما عجزوا راحوا يحرفونه عن معناه‪ ..‬وهو ما رواه حذيفة بن اليمان قال‪ :‬قــال‬
‫رسول هللا ‪ ( :‬إن مما أتخوف عليكم رجــل قــرأ القــرآن ‪ ،‬حــتى إذا رؤيت بهجتــه‬

‫‪ )(1‬تاريخ بغداد‪6/403 :‬‬


‫‪ )(2‬انظر تلك الفتاوى في كتابنا [التراث السلفي تحت المجهر] من هذه السلسلة‪.‬‬
‫‪ )(3‬الفتوى للشيخ ابن باز ‪ ،‬انظر‪ :‬نور على الدرب ‪ 364‬ب د‪.25‬‬
‫‪ )(4‬ابن أبي الدنيا في الصمت‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه الطبرانى‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫عليه ‪ ،‬وكان رداؤه اإلسالم اعــتراه إلى مــا شــاء هللا انســلخ منــه ونبــذه وراء ظهــره‬
‫وسعىـ على جاره بالسيف‪ ،‬ورماه بالشــرك ) ‪ ،‬قــال حذيفــة‪ :‬قلت‪ :‬يــا نــبي هللا أيهمــا‬
‫أولى بالشرك المرمي أو الرامي؟ ‪ ،‬قال ‪ ( :‬بل الرامي)(‪)1‬‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬بورك فيكم ‪ ..‬لقد ذكرتموني بأحاديث كثــيرة للســلف‬
‫الذين ندعي انتسابنا إليهم‪ ..‬منها أن رجال سأل جابرا‪ :‬هل كنتم تدعون أحدا من أهل‬
‫القبلة مشركا؟ قال‪ :‬معاذ هللا‪ ،‬ففزع لذلك‪ ،‬قــال‪ :‬هــل كنتم تــدعون أحــدا منهم كــافرا؟‬
‫قال‪ :‬ال(‪.)2‬‬
‫وعن يزيد الرقاشي أنه قال ألنس بن مالك‪ :‬يا أبا حمــزة ! إن أناســا يشــهدون‬
‫علينا بالكفر والشرك‪ ،‬قال‪ :‬أولئك شر الخلق والخليقة(‪.)3‬‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬بورك فيكم ‪ ..‬لقد ذكرتموني بعمروـ بن مرة الجملي‪،‬‬
‫فقد ذكره مسعر بن كدام‪ ،‬فقال‪( :‬ما أدركت من الناس من لــه عقــل كعقــل ابن مــرة‪،‬‬
‫جاءه رجل فقال‪ :‬ـ عافــاك هللا ــ جئت مسترشــداًـ‪ ،‬إنــني رجــل دخلت في جميــع هــذه‬
‫األهواء فمـا أدخــل في هـوى منهــا إال القــرآن أدخلـني فيــه ولم أخـرج من هــوى إال‬
‫القرآن أخرجني منه حــتى بقيت ليس في يــدي شــيء‪ ،‬فقــال لــه عمــرو بن مــرة‪ :‬هللا‬
‫الــذي ال إلــه إال هــو جئت مسترشــداً؟ فقــال‪ :‬وهللا الــذي ال إلــه إال هــو لقــد جئت‬
‫مسترشداًـ‪ .‬قال‪ :‬نعم أرأيت هل اختلفوا في أن محمــداً رســول هللا وأن مــا أتى بـه من‬
‫هللا حق؟ قال‪ :‬ال‪ .‬قــال‪ :‬فهــل اختلفــوا في القــرآن أنـه كتـاب هللا؟ قـال‪ :‬ال‪ .‬قـال‪ :‬فهـل‬
‫اختلفوا في دين هللا أنه اإلسالم؟ قال‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬فهل اختلفوا في الكعبة أنها قبلة؟ قــال‪:‬‬
‫ال‪ .‬قــال‪ :‬فهــل اختلفــوا في الصــلوات أنهــا خمس؟ قــال‪ :‬ال‪ .‬قــال‪ :‬فهــل اختلفــوا في‬
‫رمضان أنه شهرهم الذي يصومونه؟ قال‪ :‬ال‪ .‬قــال‪ :‬فهــل اختلفــوا في الحج أنــه بيت‬
‫هللا الذي يحجونه؟ قال‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬فهل اختلفوا في الزكاة أنها من مائتي درهم خمسة؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬فهل اختلفوا في الغســل من الجنابــة أنــه واجب؟ قــال‪ :‬ال‪ .‬قــال مســعر‪:‬‬
‫ـات ه َُّن أُ ُّم‬ ‫فذكرـ هذا وأشباهه‪ ،‬ثم قرأ‪ ﴿ :‬هُ َو الَّ ِذي أَ ْنزَ َل َعلَ ْيكَ ْال ِكت َ‬
‫َاب ِم ْنهُ آيَ ٌ‬
‫ات ُمحْ َك َمـ ٌ‬
‫ات ﴾ [آل عمران‪،]7 :‬ـ فهل تــدريـ مــا المحكم؟ قــال‪ :‬ال‪ ،‬قــال‪:‬‬ ‫ب َوأُ َخ ُر ُمتَ َشابِهَ ٌ‬
‫ْال ِكتَا ِ‬
‫فــالمحكم مــا اجتمعــوا عليــه والمتشـابه مــا اختلفـوا فيـه شـد نيتـك في المحكم وإيـاك‬
‫والخوض في المتشابه‪ .‬فقــال الرجل‪ :‬الحمــد هلل الــذي أرشــدنيـ على يــديك فوهللا لقــد‬
‫قمت من عندك وإني لحسن الحال‪ .‬قال‪ :‬فدعا له وأثنى عليه(‪.)4‬‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬بورك فيكم ‪ ..‬لقد ذكرتموني بفتــوى للشـوكاني يقـول‬
‫فيهــا‪( :‬اعلم أن الحكم على الرجــل المســلم بخروجــه من دين اإلســالم ودخولــه في‬
‫الكفر ال ينبغي لمسلم يؤمن باهلل واليوم اآلخر أن يُقــدم عليــه إال ببرهــان أوضــح من‬
‫‪ )(1‬رواه بن حبان في صحيحه‪/1 :‬ـ ‪ .282‬ورواه البخاري في التاريخ الكبير (‪ ، )2907‬والــبزار (‪،)2793‬‬
‫قال ابن كثير‪ :‬إِ ْسنَا ٌد َجيِّ ٌد ‪ ،‬وحسنه األلباني في الصحيحة (‪)3201‬‬
‫‪ )(2‬رواه أبو يعلى والطبراني في (الكبير)‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه أبو يعلى‪.‬‬
‫‪ )(4‬أحسن التقاسيم ص‪.366‬‬

‫‪30‬‬
‫شمس النهار‪ ،‬فإنه قد ثبت في األحاديث الصــحيحة المرويــة من طريــق جماعـة من‬
‫الصحابة أن (من قال ألخيه‪ :‬يا كافر‪ .‬فقد باء بها أحدهما)‪ ...‬ففي هذه األحاديث ومــا‬
‫ورد موردهاـ أعظم زاجر وأكبرـ واعظ عن التسرع في التكفير)(‪)1‬‬
‫وبفتوى للباقالني يقول فيها‪( :‬وال يكفر بقول وال رأي إال إذا أجمع المسلمون‬
‫على أنه اليوجد إال من كافر‪ ،‬ويقوم دليل على ذلك‪ ،‬فيكفر)(‪)2‬‬
‫وبفتوى البن الوزيرـ يقول فيها‪( :‬في الحكم بتكفير المختلف في كفرهم مفسدة‬
‫بينة تخالف االحتياط‪ ..‬أن الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة‪ ،‬نعوذ باهلل من‬
‫الخطأ في الجميع‪ ،‬ونسأله اإلصابة والسالمة والتوفيق والهداية)(‪)3‬‬
‫ويقــول‪( :‬وكم بين إخــراج عــوام فــرق اإلســالم أجمعين‪ ،‬وجمــاهيرـ العلمــاء‬
‫المنتســبين إلى اإلســالم من الملــة اإلســالمية‪ ،‬وتكثــير العــدد بهم‪ ،‬وبين إدخــالهم في‬
‫اإلسالم ونصرته بهم وتكثيرـ أهـله‪ ،‬وتقوية أمره‪ ،‬فال يحل الجهد في التفــرق بتكلــف‬
‫التكفير لهم باألدلة المعا َرضة بما هو أقوى منها أو مثلها مما يجمع الكلمــة‪ ،‬ويقــويـ‬
‫اإلسالم‪ ،‬ويحقن الدماء‪ ،‬ويسكن الدهماء حتى يتضــح كفــر المبتــدع اتضــاح الصــبح‬
‫الصادق‪ ،‬وتجتمع عليه الكلمة‪ ،‬وتحقق إليه الضرورة)(‪)4‬‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬بورك فيكم ‪ ..‬لقــد ذكرتمــوني بفتــوى للغــزالي يقــول‬
‫فيها‪( :‬والذي ينبغي أن يميل المحصل إليه االحترازـ من التكفير ما وجد إليه ســبيالً‪،‬‬
‫فإن استباحة الدماء واألموالـ من المصلين إلى القبلة المصــرحين بقــول‪( :‬ال إلــه إال‬
‫هللا‪ ،‬محمد رسول هللا) خطأ‪ ،‬والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهــون من الخطـأِ‬
‫في سفك محجمة من دم مسلم)(‪)5‬‬
‫ويقول‪( :‬الوصية‪ :‬أن تكف لسانك عن أهل القبلة ما أمكنك‪ ،‬ما دامــوا قــائلين‪:‬‬
‫(ال إلــه إال هللا‪ ،‬محمــد رســول هللا)‪ ،‬غــير مناقضــين لها‪ ...‬فــإن التكفــير فيــه خطــر‪،‬‬
‫والسكوتـ ال خطر فيه)(‪)6‬‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬بورك فيكم ‪ ..‬لقد ذكرتموني بفتاوىـ كثــيرة إلخواننــا‬
‫من اإلماميــة يجمعــون فيهــا على عــدم تكفــير المســلمين‪ ،‬وبيــان حــرمتهم‪ ،‬وحرمــة‬
‫دمائهمـ وأعراضهم‪.‬‬
‫ومنها فتوى السيّد علي الخامنئي التي يقول فيها‪( :‬الفــرق اإلســالمية بأســرها‬
‫تعتبر جزءاً من األمة اإلسالمية‪ ،‬وتتمتعـ باالمتيازات اإلسالمية‪ ،‬وإيجــاد الفرقــة في‬
‫ما بين الطوائف اإلسالمية يعــد خالفـا ً لتعــاليم القــرآن الكــريم وســنة النــبي ‪ ،‬كما‬

‫‪ )(1‬السيل الجرار (‪.)4/578‬‬


‫‪ )(2‬فتاوى السبكي (‪.)2/578‬‬
‫‪ )(3‬إيثار الحق على الخلق (‪.)405‬‬
‫‪ )(4‬إيثار الحق على الخلق (‪.)402‬‬
‫‪ )(5‬االقتصاد في االعتقاد (‪.)224-223‬‬
‫‪ )(6‬فيصل التفرقة بين اإلسالم والزندقة (‪.)128‬‬

‫‪31‬‬
‫يؤديـ إلى إضعافـ المسلمين وإعطاء الذريعة بأيدي أعداء اإلسالم‪ ،‬ولذلك ال يجوز‬
‫هذا األمر قط)‬
‫ومنها فتوى السيد علي السيستانيـ التي يقول فيها‪( :‬ك ّل من يشهد الشــهادتين‪،‬‬
‫ولم يظهر منه ما ينافيـ ذلك‪ ،‬ولم ينصب العداء ألهل البيت‪ ،‬فهوـ مسلم)‬
‫ومنها فتى السيّد محمد سعيد الحكيم التي يقول فيها‪( :‬يكفي في انطباقـ عنوان‬
‫اإلسالم على اإلنسان اإلقرار بالشهادتين والفرائض الضرورية في الدين‪ ،‬كالصالة‬
‫وغيرها‪ ،‬وبذلك تترتب عليه أحكام اإلسالم من حرمة المال والدم وغيرها)‬
‫(إن المذاهب واقع‬ ‫ومنها فتوىـ السيّد حسين إسماعيل الصدر التي يقول فيها‪ّ :‬‬
‫إسالمي ال ب ّد أن ينظرـ إليها بكل احترام وتقدير‪ ،‬وال ب ّد ألتباعها االقتــداء بهــا؛ وفقـا ً‬
‫لقاعدة اإللزام)‪.‬‬
‫ومنها فتــوىـ الشــيخ بشــير النجفي الــتي يقــول فيهــا‪( :‬كـ ّل من يقـ ّر بالتوحيــد‪،‬‬
‫وأن رسـالته خاتمـة النبــوات والرســاالت اإللهيــة‪،‬‬ ‫ويعتقد بنبــوة محمــد بن عبــد هللا‪ّ ،‬‬
‫وبالمعاد‪،‬ـ وال يرفض شيئا ً مما علم وثبت أنّه من اإلسالم‪ ،‬فهو مسلم‪ ،‬تشمله األحكام‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وهو محقون الدم والعرض والمال‪ ،‬ويجب على المسلمين جميعا ً الــدفاع‬
‫عنه وعن ماله وعرضه‪ ،‬وهللا العالم)‬
‫وكل هؤالء مراجع معتبرون عنــد إخواننــا اإلماميــة‪ ..‬وكــل كتبهم تنص على‬
‫ذلك‪ ،‬وتدعو إليه‪.‬‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬بورك فيكم ‪ ..‬لقد ذكرتمــوني بفتــاوىـ المتنــورين من‬
‫علماء األمة المعاصرين‪ ،‬من أمثال شيخ األزهر الشيخ محمود شلتوت الذي قال في‬
‫(إن‬‫فتــوى من فتــاواه المهمــة الــتي كــان مشــايخ الســوء يجتهــدون في الــرد عليهــا‪ّ :‬‬
‫اإلسالم ال يوجب على أحد من أتباعه اتبّاع مذهب معين‪ ،‬بل نقــول‪ :‬إن ّ لكــل مســلم‬
‫ق في أن يقلّــد بــادئ ذي بــدء أي مــذهب من المــذاهب المنقولــة نقالً صــحيحا ً‬ ‫الحــ ّ‬
‫والمدونّة أحكامها في كتبها الخاصّة‪ ،‬ولمن قلّد مذهبا ً من هذه المذاهب أن ينتقــل إلى‬
‫ي مذهب كان ـــ‪ ،‬وال حــرج عليــه في شــيء من ذلــك‪ .‬فينبغيـ للمســلمين أن‬ ‫غيره ـ أ ّ‬
‫يعرفوا ذلك‪ ،‬وأن يتخصلواـ من العصبية لمذاهب معيّنة‪ ،‬فمــا كــان دين هللا ومــا كنت‬
‫شريعته بتابعة لمذهب أو مقصورة على مذهب‪ ،‬فالكل مجتهدون ومقبولون عنــد هللا‬
‫تعالى‪ ،‬يجوز لمن هو أه ٌل للنظر واالجتهادـ تقليدهم والعمــل بمــا يقرّرونــه في فقهم‪،‬‬
‫وال فرق في ذلك بين العبادات والمعامالت)‬
‫ومنها فتوىـ الشيخ أحمد كفتارو التي يقول فيها‪( :‬ال يجوزـ تكفير أحد من أهل‬
‫فإن ذلك يعصم ماله ودمه)‬ ‫القبلة متى نطق بالشهادتين؛ ّ‬

‫‪32‬‬
‫ثالثا ـ التسليم‬
‫قــام الحكيم الثــالث بين الصــفين‪ ،‬وقــال‪ :‬أجيبــونيـ يــا من ال تزالــون تحملــون‬
‫سيوفكم‪ ..‬هل يمكن أن تقوم العبوديــة‪ ..‬وكــل القيم اإليمانيــة والروحانيــة واإلنســانية‬
‫من غير اتباع رسول هللا ‪‬؟‬
‫قالوا جميعا بصوت واحد‪ :‬ذاك مستحيل‪..‬‬
‫قال أحدهم‪ :‬يستحيل أن يخطو أحد خطوة واحدة في الطريــق المســتقيم‪ ،‬وهــو‬
‫يخالف رسول هللا ‪.‬‬
‫قال آخــر‪ :‬لقــد ذكــر هلل تعــالى ذلــك‪ ،‬فقــال‪﴿ :‬قُــلْ إِ ْن ُك ْنتُ ْم تُ ِحبُّونَ هَّللا َ فَــاتَّبِعُونِي‬
‫يُحْ بِ ْب ُك ُم هَّللا ُ َويَ ْغفِرْ لَ ُك ْم ُذنُوبَ ُك ْـم َوهَّللا ُ َغفُو ٌر َر ِحي ٌم﴾ [آل عمران‪]31 :‬‬
‫قــال آخــر‪ :‬وذكــر تعــالى ذلــك في اآليــة الــتي تليهــا‪ ،‬فقــال‪ ﴿ :‬قُــلْ أَ ِطي ُعــواـ هَّللا َ‬
‫ُول فَإِ ْن ت ََولَّوْ ا فَإِ َّن هَّللا َ اَل ي ُِحبُّ ْال َكافِ ِرينَ ﴾ [آل عمران‪ ،]32 :‬فقد قرن طاعة هلل‬ ‫َوال َّرس َ‬
‫بطاعة الرسول ‪ ..‬واعتبر التولي عنهما كفرا‪.‬‬
‫قال آخر‪ :‬وذكر تعالى ذلك‪ ،‬فقال‪﴿ :‬فَاَل َو َربِّكَ اَل ي ُْؤ ِمنُونَ َحتَّى ي َُح ِّك ُمـ َـ‬
‫ـوك فِي َمــا‬
‫ضـيْتَ َوي َُسـلِّ ُمواـ ت َْسـلِي ًما ﴾ [النسـاء‪:‬‬ ‫َش َج َر بَ ْينَهُ ْم ثُ َّم اَل يَ ِجـ دُوا فِي أَ ْنفُ ِسـ ِه ْم َح َرجًـا ِم َّما قَ َ‬
‫‪ ،]65‬فاهلل تعالى يقسم في هــذه اآليــة على أن أولئــك الــذين رغبــوا عن التحــاكم إلى‬
‫الرســول‪ ،‬ومن مــاثلهم من المنــافقين‪ ،‬ال يؤمنــونـ إيمانــا حقــا إال إذا كملت لهم ثالث‬
‫خصال‪ :‬أن يحكموا الرسول في القضــايا الــني يختصــمون فيهــا‪ ،‬وال يــبين لهم فيهــا‬
‫وجه الحق‪ ..‬وأال يجـدوا ضـيقا وحرجـاـ ممـا يحكم بـه‪ ،‬وأن تـذعن نفوسـهم لقضـائه‬
‫إذعانا تاما دون امتعاض من قبوله والعمل به‪ ،‬ألنه الحق وفيه الخــير‪ ..‬وأن ينقــادوا‬
‫ويسلمواـ لذلك الحكم‪ ،‬موقنين بصدق الرسول في حكمه‪ ،‬وبعصمته عن الخطأ‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬شكرا لكم‪ ..‬فــأنتم معي إذن في أنــه ال يمكن ألحــد أن يشــرب من‬
‫نهر الحقيقة إال إذا سقاه منها رسول هللا ‪..‬‬
‫قالوا‪ :‬أجل‪..‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬أجيبونيـ بعد هذا‪ ..‬مـا وجـه عالقـة المـؤمن مـع رسـول هللا ‪..‬‬
‫هل هي عالقة ند بند‪ ..‬أم عالقة تابع بمتبوع؟‬
‫قــال رجــل من الحاضــرين‪ :‬بــل هي عالقــة تــابع بمتبــوع‪ ..‬فمن ذا يمكنــه أن‬
‫يصل إلى ذلك المقام المحمود والدرجة الرفيعة التي أعطاها هلل لنبيه ‪‬؟‬
‫قال آخر‪ :‬إن الرسولـ ‪ ‬هو (خــاتم األنبيــاء‪ ..‬وهــو اإلمــام األعظم الــذي لــو‬
‫وجد في أي عصر وجد لكان هو الواجب الطاعـة المقـدم على األنبيـاء كلهم؛ ولهــذا‬
‫كان إمامهم ليلة اإلســراء لمــا اجتمعــواـ بــبيت المقــدس‪ ،‬وكــذلك هــو الشــفيع في يــوم‬
‫الحشر في إتيان الرب لفصل القضــاء‪ ،‬وهــو المقــام المحمــود الــذي ال يليــق إال لــه‪،‬‬
‫والذي يحيد عنه أولو العزم من األنبياء والمرسلين‪ ،‬حتى تنتهي النوبة إليــه‪ ،‬فيكــون‬

‫‪33‬‬
‫هو المخصوص به)(‪)1‬‬
‫ق النَّبِيِّينَ لَ َمــا آتَ ْيتُ ُك ْم‬ ‫هَّللا‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫قال آخر‪ :‬لقد ذكر هللا تعالى ذلك‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬وإِذ أخَ َذ ُ ِميثَــا َ‬
‫صـ ُرنَّهُ قَــا َل‬ ‫ق لِ َمــا َم َع ُك ْم لَتُـ ْـؤ ِمنُ َّن بِـ ِه َولَتَ ْن ُ‬ ‫صـ ِّد ٌ‬ ‫ب َو ِح ْك َمـ ٍة ثُ َّم َجـ ا َء ُك ْم َر ُسـو ٌـل ُم َ‬
‫ِم ْن ِكتَا ٍ‬
‫َ‬
‫اشــهَدُوا َوأنَـــا َم َع ُك ْم ِمنَ‬ ‫ــال فَ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫صـــ ِري قَــالواـ أق َررْ نَــاـ قَ َ‬ ‫أَأَ ْقـــ َررْ تُْـم َوأخَــذتُْـم َعلَى َذلِ ُك ْم إِ ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ال َّشا ِه ِدينَ ﴾ [آل عمران‪ ،]81 :‬فاهلل تعالى يخبر في هذه اآلية (أنه أخذ ميثاق كل نبي‬
‫بعثه من لدن آدم‪ ،‬عليه السالم‪ ،‬إلى عيسى‪ ،‬عليـه السـالم‪ ،‬لمهمـا آتى هللا أحـدهم من‬
‫كتاب وحكمة‪ ،‬وبلغ أي مبلغ‪ ،‬ثم جاءه رسول من بعده‪ ،‬ليــؤمنن بــه ولينصــرنه‪ ،‬وال‬
‫يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع من بعث بعده ونصرته)(‪)2‬‬
‫قال آخر‪ :‬وقد ورد في الحديث مــا يؤكــد ذلــك‪ ،‬فقــد روي أن بعض الصــحابة‬
‫جاء إلى النبي ‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسـول هللا إنى مـررت بــأخ لى من بـنى قريظـة‪ ،‬فكتب‬
‫لى جوامع من التوراة‪ .‬أال أعرضها عليك؟ فقــال‪ :‬فتغــير وجــه رســولـ هللا ‪ ،‬قــال‬
‫عبــد هللا‪ :‬فقلت لــه‪ :‬أال تــرى مــا بوجــه رســولـ هللا ‪‬؟ فقــال‪ :‬رضــيناـ باهلل ربــا‪،‬‬
‫وباإلسالم دينًا‪ ،‬وبمحمدـ رسوالً‪ .‬قــال‪ :‬فســرى عن النــبى ‪ ،‬ثم قــال‪( :‬والــذى نفس‬
‫محمد بيده‪ ،‬لو أصــبح فيكم موســى ثم اتبعتمــوه وتركتمــونىـ لضــللتم‪ ،‬أنتم حظى من‬
‫األمم‪ ،‬وأنا حظكمـ من النبيين)(‪)3‬‬
‫قال آخر‪ :‬ووردـ في حديث آخر‪( :‬ال تسألوا أهل الكتــاب عن شــيء‪ ،‬فــإنهمـ لن‬
‫يهدوكمـ وقد ضلوا‪ ،‬وإنكم إما أن تصدقواـ بباطل‪ ،‬وإما أن تكذبوا بحق‪ ،‬وإنه وهللا‪ ،‬لو‬
‫كان موسىـ حيا بين أظهركم ما حل له إال أن يتبعني)(‪)4‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فأنتم متفقون على هذا إذن؟‬
‫سكتوا جميعا‪ ،‬فقال‪ :‬أجيبوني بعد هذا‪ ..‬ما تقولون في شخص يقر بأن محمــدا‬
‫‪ ‬رسوله ونبيه‪ ..‬ولكنه في نفس الوقت يزعم أن هلل تعالى أعطــاه من الصــالحيات‬
‫ما لم يعط رسوله؟‬
‫نهض أحدهم‪ ،‬وشهرـ سيفه‪ ،‬وقال‪ :‬دلني عليه‪ ..‬فوهللا ألطعننه بسيفي هذا؟‬
‫قال الحكيم‪ :‬هل توافقونه على هذا؟‬
‫قالوا جميعا‪ :‬أجل‪ ..‬فليس لمثل هذا إال القتل‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬أال يدعوكم هــذا إلى البحث في صــالحيات ووظــائف رســول هللا‬
‫‪ ‬حتى ال تتجاوزونها؟‬
‫قالوا جميعا‪ :‬بلى‪ ..‬ونحن نفعل ذلك‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬أرجـو أن تكـون الـدعاوى مطابقـة لألفعـال‪ ..‬هلم بنـا نبحث فيمـا‬
‫نص عليه القرآن الكريم من وظائفـ رسول هللا ‪ ‬لنرى هل أنتم ونحن نتبعه فيها‪..‬‬

‫‪ )(1‬تفسير ابن كثير (‪)68 /2‬‬


‫‪ )(2‬تفسير ابن كثير (‪)67 /2‬‬
‫‪ )(3‬روه أحمد‪.4/265 :‬‬
‫‪ )(4‬أحمد ‪.3/338‬‬

‫‪34‬‬
‫أم أننا نضيف ألنفسنا من الوظائفـ ما لم يضفه هلل لببيه ‪‬؟‬
‫قال أحدهم‪ :‬كالمك صحيح‪ ..‬ولكن هناك شيء ربما غــاب عنــك‪ ..‬أو تعمــدت‬
‫إخفــاءه‪ ..‬وهــوأن ذكــر بعض الوظــائفـ ال يعــني التحديــد أو التقييــد‪ ..‬فــإذا وصــفت‬
‫شخصا ما بكونه معلما ال يعني هذا كونه معلما فقط‪.‬‬
‫قــال الحكيم‪ :‬صــدقت‪ ..‬ولهــذا أحتــاج إلى دليلين‪ :‬األول‪ :‬هــو بيــان وظــائفـ‬
‫رســول هلل ‪ ‬الــتي نص عليهــا القــرآن الكيم‪ ..‬وبيــان الوظــائفـ الــتي لم يكلــف بهــا‬
‫رسول هلل‪ ..‬فهل ترون هذا كافيا؟‬
‫قالوا‪ :‬بلى‪..‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬إذن‪ ..‬هيا ضــعوا ســيوفكم‪ ..‬وافتحــواـ مصــاحفكم‪ ،‬وانظــرواـ فيمــا‬
‫أقرؤه عليكم من القرآن لتروا وظائفـ رسول هللا ‪ ،‬وتستنوا به في اتباعها‪.‬‬
‫قال رجل منهم‪ :‬مصاحفنا في صدورنا‪..‬ـ أما سيوفناـ فلن نضعها حتى نغمــدها‬
‫في صدورـ أعداء هللا ورسوله‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬ما دمتم تحفظون القرآن‪ ،‬فأجيبوني‪..‬ـ هل هنــاك آيــات من القــرآن‬
‫الكريم تحدد وظائفـ رسول هللا ‪ ‬وإخوانه من الرسل؟‬
‫قال رجل منهم‪ :‬اآليــات في ذلــك كثــيرة‪ ،‬ولي بحث مفصــل فيهــا‪ ،‬ومنهاقولــه‬
‫تعـالى‪َ ﴿ :‬ك َمـا أَرْ َسـ ْلنَا فِي ُك ْم َر ُسـواًل ِم ْن ُك ْم يَ ْتلُـو َعلَ ْي ُك ْم آيَاتِنَـا َويُـ َز ِّكي ُك ْـم َويُ َعلِّ ُم ُك ُم ْال ِكت َ‬
‫َـاب‬
‫َو ْال ِح ْك َمةَ َويُ َعلِّ ُم ُك ْم َما لَ ْم تَ ُكونُوا تَ ْعلَ ُمونَ ﴾ [البقرة‪ ،]151 :‬وقد أكــد ذلــك قولــه تعــالى‪:‬‬
‫ـاب‬‫ث فِي اأْل ُ ِّميِّينَ َر ُسواًل ِم ْنهُ ْم يَ ْتلُــو َعلَ ْي ِه ْم آيَاتِـ ِه َويُـ َز ِّكي ِه ْـم َويُ َعلِّ ُمهُ ُم ْال ِكتَـ َ‬‫﴿هُ َو الَّ ِذي بَ َع َ‬
‫ين ﴾ [الجمعة‪]2 :‬‬ ‫ضاَل ٍل ُمبِ ٍ‬ ‫َو ْال ِح ْك َمةَ َوإِ ْن َكانُوا ِم ْن قَ ْب ُل لَفِي َ‬
‫قال الحكيم‪ :‬فما الوظائفـ الني تنص عليها هاتين اآليتين الكريمتين؟‬
‫قال الرجل‪ :‬أولهــا التزكيــة‪ ..‬وهي تطهــير نفــوس النــاس من كــل االنحرفــات‬
‫العقدية والسلوكية‪ ..‬وتظهير المجتمع من كل الموبقا ت والرذائل‪..‬‬
‫قال آخر‪ :‬وثانيها تعليم الكتاب والحكمة‪ ،‬ليــدركواـ حقــائق األمــور‪..‬ـ ويســيروا‬
‫وفقـ ما تقتضيه‪..‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهل مارس رسولـ هللا ‪ ‬هذه الوظائف؟‬
‫قــال رجــل من القــوم‪ :‬أجــل‪ ..‬وكيــف لم يمارســها‪ ،‬وقــد ســخر حياتــه كلهــا‬
‫لتحقيقها‪ ..‬وقد ورد في الحديث عن جعفر بن أبي طــالب لمــا ســأله نجاشــي الحبشــة‬
‫عن دعوته ‪( :‬أيها الملك كنـا قومـا أهــل جاهليـة‪ ،‬نعبــد األصــنام‪ ،‬ونأكـل الميتــة‪،‬‬
‫ونأتيـ الفواحش‪ ،‬ونقطع األرحام‪ ،‬ونسئـ الجوار‪ ،‬ويأكل القوي منا الضــعيف‪ ،‬وكنــا‬
‫على ذلك حتى بعث هللا إلينــا رســوال منــا رســوال نعــرف نســبه‪ ،‬وصــدقه‪ ،‬وأمانتــه‪،‬‬
‫وعفافه‪ ،‬فدعانا إلى هللا لنوحــده ونعبــده‪ ،‬ونخلــع مــا كــان يعبــده آباؤنـاـ من دونــه من‬
‫الحجارة واألوثان‪ ،‬وأمرناـ بصدق الحديث‪ ،‬وأداء األمانة‪ ،‬وصــلة األرحــام‪ ،‬وحســن‬
‫الجوار‪ ،‬والكف عن المحارم‪ ،‬والدماء‪ ،‬ونهانا عن الفــواحش‪ ،‬وقــولـ الــزور‪ ،‬وأكــل‬
‫مال اليتيم‪ ،‬وقذفـ المحصنة وأن نعبد هللا ال نشرك به شيئا‪ ،‬وأمرنا بالصالة والزكاة‬

‫‪35‬‬
‫والصيام)(‪)1‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهل حمل رسول هللا ‪ ‬سوطاـ أو عصا أو سيفا ليلزم الناس بمــا‬
‫أمره هللا به؟‬
‫قال رجل من القوم‪ :‬كال‪ ..‬فرسول هلل ‪ ‬أعظم من أن يفعل ذلك‪..‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهل كان له أن يفعل ذلك‪ ،‬وتركه‪ ..‬أم أن هللا نهاه عن ذلك؟‬
‫قال زجل من القوم‪ :‬إن شئت الصدق‪ ..‬فإن هللا تعالى هو الذي نهاه عن ذلك‪..‬‬
‫وأخبره أنه ليس عليه إال البالغ‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬وقد وردـ ذلك في مواضع كثيرة من القرآن الكــريم مكيــه ومدنيــه‬
‫ت‬ ‫وك فَقُــلْ أَ ْسـلَ ْم ُ‬ ‫حتى ال يزعم أحد أنه من اآليات المنسوخة‪ ..‬قال تعالى‪﴿ :‬فَإِ ْن َحــاجُّ َـ‬
‫ـاب َواأْل ُ ِّميِّينَ أَأَ ْس ـلَ ْمتُ ْم فَ ـإِ ْن أ ْس ـلَ ُموا فَقَ ـ ِد‬
‫َ‬ ‫َوجْ ِه َي هَّلِل ِ َو َم ِن اتَّبَ َع ِن َوقُــلْ لِلَّ ِذينَ أُوتُــوا ْال ِكتَـ َ‬
‫صي ٌـر بِ ْال ِعبَا ِد﴾ [آل عمران‪]20 :‬‬ ‫ك ْالبَاَل ُ‬
‫غ َوهَّللا ُ بَ ِ‬ ‫ا ْهتَدَوْ ا َوإِ ْن تَ َولَّوْ ا فَإِنَّ َماـ َعلَ ْي َ‬
‫وقال تعالى في ســور المائــدة‪ ،‬وهي من أواخــر مــا نــزل من القــرآن الكــريم‪،‬‬
‫ول َواحْـ َذرُوا فَـإِ ْن تَـ َولَّ ْيتُ ْم‬ ‫وقدكان للسلمين قوة وشوكة‪َ ﴿ :‬وأَ ِطيعُواـ هَّللا َ َوأَ ِطي ُعــوا الر ُ‬
‫َّسـ َ‬
‫غ ْال ُمبِينُ ﴾ [المائدة‪]92 :‬‬ ‫فَا ْعلَ ُموا أَنَّ َما َعلَى َرسُولِنَا ْالبَاَل ُ‬
‫غ‬‫وقبل ذلك قال تعالى في ســور النحــل المكيــة‪﴿ :‬فَـإِ ْن تَ َولَّوْ ا فَإِنَّ َمــا َعلَ ْيــكَ ْالبَاَل ُ‬
‫ْال ُمبِينُ ﴾ [النحل‪]82 :‬‬
‫رمى رجل من القوم سيفه‪ ،‬وقال‪ :‬صدقت‪ ..‬وقد قال تعــالى في ســورة الرعــد‬
‫ْض الَّ ِذي ن َِعـ ُدهُ ْم أَوْ نَت ََوفَّيَنَّكَ فَإِنَّ َمـا‬ ‫يحدد وظيفة الرسولـ ‪ ‬بدقـة‪َ ﴿ :‬وإِ ْن َمـا نُ ِريَنَّكَ بَع َ‬
‫غ َو َعلَ ْينَا ْال ِح َسابُ ﴾ [الرعد‪]40 :‬‬ ‫ك ْالبَاَل ُ‬‫َعلَ ْي َ‬
‫إن هــذه اآليــة الكريمــة كافيــة في الــدعوة إلى رفــع الوصــاية على الخلــق في‬
‫مسائل اإليمان والعبادة‪ ..‬فاهلل تعالى أخبر أشرف خلقه وأكرمهمـ عليه أنه ليس عليــه‬
‫إال البالغ‪ ..‬أما الحساب‪ ،‬فيتواله هللا تعالى‪.‬‬
‫لكنــا نحن‪ ..‬ولتعــديناـ حــدودنا‪..‬ـ خالفنــا أوامــر هللا فادعينــا أننــا نبلــغ ونحاســب‬
‫ونعاقبـ ونعذب ونذبح ونفعل كل الموبقات‪..‬‬
‫لقد نفخ فينا المشايخ الذين ابتعدوا عن هدي القــرآن الكــريمـ هــذا المعــنى حين‬
‫كانوا يرددون بيننا كل حين فتاوىـ القتل والذبح التي مارسها الطغاة باسم اإلسالم‪..‬‬
‫أذكر جيدا أن بعضهمـ حكى لنا ما فعله الظالم المستبد خالد القسريـ الذي كان‬
‫واليا علي العراق لهشام بن عبدالملك‪ ،‬الــذي ذبح الجعــد بن درهم بعــد أن خــرج بــه‬
‫إلي مصــلي العيــد بوثاقــه ثم خطب النــاس وقــال‪( :‬أيهــا النــاس! ضــحوا‪ ،‬تقبــل هللا‬
‫ضحاياكم‪،‬ـ فإني مضح بالجعد بن درهم‪ ،‬إنه زعم أن هللا لم يتخذ إبــراهيم خليال‪ ،‬ولم‬
‫يكلم موسي تكليما)(‪ ،)2‬ثم نزل وذبحه‪.‬‬
‫ثم أثــنى على ســلوكه هــذا فقــال معقبــا على ثنــاء ابن تيميــة عليــه‪( :‬جــزاه هللا‬

‫‪ )(1‬أحمد ‪.)1740( 1/201‬‬


‫‪ )(2‬البخاري في (خلق أفعال العباد) ص ‪.69‬‬

‫‪36‬‬
‫خيرا‪ ،‬فالناس يضحون بالغنم والشــاة والمعــز والبعــيرـ والبقــر‪ ..‬وهــذا ضــحي بشــر‬
‫منها‪ ،‬فإنه شر من اإلبل والغنم والحمير والخنازير‪ ،‬ألن هللا يقول‪﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ َكفَ ـرُوا‬
‫َار َجهَنَّ َم خَالِ ِدينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُ ْم َشرُّ ْالبَ ِريَّ ِة﴾ [البينــة‪:‬‬ ‫ب َو ْال ُم ْش ِر ِكينَ فِي ن ِ‬ ‫ِم ْن أَ ْه ِل ْال ِكتَا ِ‬
‫ضـلُّ َسـبِياًل ﴾ [الفرقــان‪ ،]44 :‬وإني أســأل‬ ‫ـام بَــلْ هُ ْم أَ َ‬ ‫‪ ،]6‬ويقول‪﴿ :‬إِ ْن هُ ْم إِاَّل َكاأْل َ ْن َعـ ِ‬
‫اآلن‪ :‬البعير عن سبع‪ ،‬والبقر عن سبع‪ ،‬وهذا الرجــل عن كم‪ ..‬عن آالف آالف وقي‬
‫هللا شرا كبيرا‪ ،‬لكن بعض الناس _ والعياذ باهلل_ يقولون إن هذا العمـل من خالـد بن‬
‫عبد هللا القسري ليس دينا‪ ،‬ولكنه سياسي‪ ،‬ونقول لهم هذا كـذب‪ ،‬ألن الرجـل صـرح‬
‫أمام الناس أنه قتله من أجل هذه البدعة)(‪)1‬‬
‫رمى آخر سيفه‪ ،‬وقــال‪ :‬صــدقت يــا أخي‪ ،‬وأعتــذر لكــل من رفعت ســيفي في‬
‫وجوههم‪..‬ـ لقد سمعت لتوي قوله تعالى‪ ﴿ :‬فَـ َذ ِّك ْـر إِنَّ َمــا أَ ْنتَ ُمـ َذ ِّك ٌر (‪ )21‬لَ ْسـتَ َعلَ ْي ِه ْم‬
‫ـر (‪ )24‬إِ َّن إِلَ ْينَــا‬ ‫اب اأْل َ ْكبَـ َ‬
‫ـر (‪ )23‬فَيُ َع ِّذبُـهُ هَّللا ُ ْال َعـ َذ َ‬ ‫صي ِْط ٍر (‪ )22‬إِاَّل َم ْن ت ََولَّى َو َكفَـ َ‬ ‫بِ ُم َ‬
‫إِيَــابَهُ ْم (‪ )25‬ثُ َّم إِ َّن َعلَ ْينَــا ِح َسـابَهُ ْم (‪[ ﴾ )26‬الغاشــية‪ ،]26-21 :‬فاهلل تعــالى في هــذه‬
‫اآليات الكريمة يحدد وظائفـ رسول هلل ‪ ‬بدقة‪ ..‬وأن أمر عبــاد هللا بيــد هللا‪ ،‬ال بيــد‬
‫أحد من خلقه‪.‬‬
‫رمى آخر سيفه‪ ،‬وقال‪ :‬أليس هذا هو الشرك الــذي كــانوا يحــذروننا منــه كــل‬
‫حين‪ ..‬إنهم يريدون منا أن نتولى أمرا هو هلل‪ ،‬وليس لنا‪ ..‬فالهدايــة من هللا‪ ،‬والجــزاء‬
‫ك اَل تَهْـــ ِدي َم ْن أَحْ بَبْتَ َولَ ِك َّن هَّللا َ يَهْـــ ِدي َم ْن يَ َشـــا ُء َوهُـــ َو أَ ْعلَ ُم‬ ‫هلل‪ ،‬قـــال تعـــالى‪﴿ :‬إِنَّ َ‬
‫بِ ْال ُم ْهتَ ِدينَ ﴾ [القصص‪ ،]56 :‬فاهلل تعــالى يقــول لرســوله ‪ ‬في هــذه اآليــة‪( :‬إنــك ال‬
‫تستطيعـ هدايــة من أحببت أنت هدايتــه‪ ،‬وليس ذلــك إليــك‪ ،‬وإنمــا أنت رســولـ عليــك‬
‫البالغ‪ ،‬وهللا يهدي من يشاء‪ ،‬وهللا أعلم بمن اهتدى‪ ،‬وبمن ضل سواء السبيل)‪ ..‬لكنــا‬
‫نحن تصورنا أننا بسيوفناـ ورماحنا نستطيعـ أن نغرس الهداية في قلوب الناس‪.‬‬
‫رمى آخر سيفه‪ ،‬وقــال‪ :‬بــورك فيــك أيهــا الحكيم‪ ..‬وبــورك فيكمـ جميعــا‪ ..‬لقــد‬
‫ذكرتموني بآيات كثيرة يخبرنـاـ هللا تعــالى فيهــا أنــه وحــده من يحكم بين عبــاده فيمــا‬
‫ت‬ ‫ت ْاليَهُــو ُد لَي َْسـ ِ‬‫﴿وقَــالَ ِ‬‫اختلفوا فيه‪ ،‬وأن ذلــك مؤجــل إلى اآلخــر‪ ..‬كمــا قــال تعــالى‪َ :‬‬
‫ـاب‬‫ت ْاليَهُــو ُد َعلَى َشـ ْي ٍء َوه ْم يَتلــونَ ال ِكتـ َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ارىـ لَ ْي َس ِ‬ ‫ص َ‬ ‫ت النَّ َ‬ ‫صا َرىـ َعلَى َش ْي ٍء َوقَالَ ِ‬ ‫النَّ َ‬
‫ك قَا َل الَّ ِذينَ اَل يَ ْعلَ ُمــونَ ِم ْثـ َل قَــوْ لِ ِه ْـم فَاهَّلل ُ يَحْ ُك ُم بَ ْينَهُ ْم يَــوْ َم ْالقِيَا َمـ ِة فِي َمــا َكــانُوا فِيـ ِه‬ ‫َك َذلِ َ‬
‫يَ ْختَلِفُونَ ﴾ [البقرة‪]113 :‬‬

‫‪ )(1‬هذا الكالم للشيخ محمد بن صالح العثيمينـ في شرح العقيدة الواسطية‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫رابعا ـ التقوى‬
‫قــام الحكيم الرابــع بين الصــفين‪ ،‬وقــال‪ :‬لقــد حــدثكم أصــحابيـ عن العبوديــة‬
‫واإلسالمـ والتسليم‪ ..‬وأنا ســأحدثكم عن قيمــة من القيم العظيمــة الــتي ال يمكن تــذوق‬
‫اإليمــان‪ ،‬وال تحققــه من دونهــا‪..‬ـ ال شــك أنكم تعرفونهــا‪ ..‬إنهــا تلــك الــتي علــق هللا‬
‫االنتفاع بالقرآن الكريم‪ ،‬والفوز بهدايته عليها‪.‬‬
‫قال رجل من القوم‪ :‬ال شك أنك تقصــد التقــوى‪ ،‬فهي الــتي قــال هللا تعــالى في‬
‫ْب فِي ِه هُدًى لِّ ْل ُمتَّقِينَ ﴾ [البقرة‪]1:‬‬ ‫شأنها‪َ ﴿ :‬ذلِكَ ْال ِكتَابُ الَ َري َ‬
‫ـوا هللا‬ ‫قــال الحكيم‪ :‬أجــل‪ ..‬وقــد ربــط هللا تعــالى معيتــه بأهلهــا‪ ،‬فقــال‪َ ﴿ :‬واتَّقُـ ْ‬
‫وا َّوالَّ ِذينَ هُم‬ ‫وا أَ َّن هللا َم َع ْالـ ُمتَّقِينَ ﴾ [البقرة‪ ] 194:‬وقال‪﴿ :‬إِ َّن هللا َم َع الَّ ِذينَ اتَّقَ ْ‬ ‫َوا ْعلَ ُم ْ‬
‫ُّمحْ ِسنُونَ ﴾ [النحل‪..]128:‬‬
‫ُوا ْالــ َحيَاةُ‬ ‫وهي التي أعد هللا المكانـة الرفيعـة ألهلهـا‪ ،‬فقـال‪ُ ﴿ :‬زيِّنَ لِلَّ ِذينَ َكفَـر ْ‬
‫ق َمن يَ َشا ُء‬ ‫وا فَوْ قَهُْـم يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة َوهللا يَرْ ُز ُ‬‫وا َوالَّ ِذينَ اتَّقَ ْ‬
‫ال ُّد ْنيَا َويَ ْس َخرُونَ ِمنَ الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ‬
‫ات تَجْـ ِري ِمن تَحْ تِهَــا‬ ‫ب ﴾ [البقرة‪ ،] 212:‬قال‪﴿ :‬لِلَّ ِذينَ اتَّقَوْ ا ِعنـ َد َربِّ ِه ْم َجنَّ ٌ‬ ‫بِ َغي ِْر ِح َسا ٍ‬
‫ث ِم ْن ِعبَا ِدنَــا َمن َكــانَ‬ ‫ك ْالــ َ‬
‫ـجنَّةُ الَّتِي نُـ ِ‬
‫ـور ُ‬ ‫األَ ْنهَــا ُر ﴾ [آل عمــران‪ ،] 15:‬وقــال‪﴿ :‬تِ ْلـ َ‬
‫تَقِيًّا ﴾ [مريم‪..] 63:‬‬
‫وهي التي وعد هللا أهلها بأن يكشف لهم من أنــوار الحقــائق مــا يزيــل بــه عن‬
‫ـــوا هللا َويُ َعلِّ ُم ُك ُم هللا َوهللا بِ ُكـــ ِّل َشـــ ْي ٍء َعلِي ٌم ﴾‬ ‫عيـــونهم عمش الضـــاللة‪ ،‬فقـــال‪َ ﴿ :‬واتَّقُ ْ‬
‫[البقرة‪] 282:‬‬
‫قام رجل من القوم‪ ،‬وقــال‪ :‬أراك تريــد أن تخطب علينــا خطبــة عن التقــوى‪..‬‬
‫فوفر عن نفسك عناء ذلك‪ ..‬فنحن نحفظ كل ما ورد حولها في القرآن الكريم والســنة‬
‫المطهرة‪ ..‬ونضم إلى ذلك ما قاله أعالمنا األعالم ممن لم تسمع به أنت وال أمثالك‪.‬‬
‫ت ْالـ ـ َجنَّةُ‬ ‫﴿وأُ ْزلِفَ ِ‬ ‫فنحن نعلم أن الجنة تسعى وتتقرب للمتقين‪ ،‬كما قال تعــالى‪َ :‬‬
‫ـجنَّةُ لِ ْل ُمتَّقِينَ َغ ْي َر بَ ِعي ٍد ﴾ [ق‪] 31:‬‬ ‫ت ْال َ‬ ‫لِ ْل ُمتَّقِينَ ﴾ [الشعراء‪ ،] 90:‬وقال‪َ ﴿ :‬وأُ ْزلِفَ ِ‬
‫ونعلم أن المتقين لهم في الجنة غرف مبنية من فوقهاـ غــرف‪ ،‬يُــرى ظا ِهرهــا‬
‫من باطنها وباطنها من ظاهرها‪ ،‬كما وعد هللا تعــالى بــذلك‪ ،‬فقــال‪﴿ :‬لَ ِك ِن الَّ ِذينَ اتَّقَــوْ ا‬
‫ف َّم ْبنِيَّةٌ تَجْ ِريـ ِمن تَحْ تِهَا األَ ْنهَــا ُر َو ْعـ َد هللا ال ي ُْخلِـفُ‬ ‫ف ِّمن فَوْ قِهَاـ ُغ َر ٌ‬ ‫َربَّهُ ْم لَـهُ ْم ُغ َر ٌ‬
‫ـوئَنَّهُم ِّمنَ‬ ‫ت لَنُبَ ِّ‬‫ــحا ِ‬ ‫هللا ْالــ ِمي َعا َد ﴾ [الزمـر‪ ] 20:‬وقــال‪َ ﴿:‬والَّ ِذينَ آ َمنُــوا َو َع ِملُــوا الصَّالِ َ‬
‫ْالـ َجنَّ ِة ُغ َرفًا تَجْ ِري ِمن تَحْ تِهَا األَ ْنهَا ُـر خَالِ ِدينَ فِيهَــا نِ ْع َم أَجْـ ُر ْال َعــا ِملِينَ ﴾ [العنكبــوت‪:‬‬
‫‪] 58‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫﴿ويُنَجِّ ي هللا ال ِذينَ اتقَـــوا‬ ‫يمســـهم العـــذاب‪ ،‬قـــال تعـــالى‪َ :‬‬ ‫ونعلم أن المتقين ال ّ‬
‫ُ‬
‫بِ َمفَازَتـِ ِه ْـم ال يَ َم ُّسهُ ُم السُّو ُء َوال هُ ْم يَحْ زَ نونَ ﴾ [الزمر‪] 61:‬‬
‫ونعلم فوق ذلك كله أن أشرف جــائزة ينالهــا المتقــون هي محبــة هللا لهم‪ ،‬كمــا‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬بَلَى َم ْن أَوْ فَى بِ َع ْه ِد ِه َواتَّقَى فَإِ َّن هللا ي ُِحبُّ ْالـ ُمتَّقِينَ ﴾ [آل عمران‪] 76:‬‬

‫‪38‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬بورك فيك‪ ..‬وفيـ حفظك للقرآن الكريم‪ ،‬وفهمك لـه‪ ..‬فهلم أجبــني‬
‫عن حقيقة التقوى‪ ..‬وكيف نسير بها في حياتنا لننال كل تلك األجور المعدة ألهلها؟‬
‫قــال الرجــل‪ :‬ذلــك من أوضــح الواضــحات‪ ..‬فقــد بين رســول هللا ‪ ‬حقيقــة‬
‫التقوى‪ ،‬ومنهج التحقق بهـا‪ ،‬فقـال‪( :‬إن الحالل بين‪ ،‬وإن الحـرام بين‪ ،‬وبينهـا أمـور‬
‫مشتبهات ال يعلمهن كثير من النــاس‪ ،‬فمن اتقى الشــبهات‪ ،‬اســتبرأ لدينــه وعرضــه‪،‬‬
‫ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام‪ ،‬كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع‬
‫فيه‪ ،‬أال ولكل ملك حمى‪ ،‬إال وإن حمى هللا محارمه‪ ،‬أال وإن في الجســد مضــغة‪ ،‬إذا‬
‫صلحت صلح الجسد كله‪ ،‬وإذا فسدت فسد الجسد كله‪ ،‬أال وهي القلب)(‪)1‬‬
‫فهذا الحديث الشريف يبين حقيقة التقوى‪ ،‬وهي توقيـ الحرام والشبهات وكــل‬
‫ما يؤدي إليهما‪ ..‬ويبين أن التحقق بذلك كله متوقف على صالح القلب‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬بورك فيك‪ ..‬وفيـ فهمك عن نبيك‪ ..‬فحدثنيـ عن كيفية تحقيق ذلك‬
‫في الواقع‪ ..‬وهل يمكننا أن نقدم على أمر دون أن نعلم حكم هللا فيه؟‬
‫قال الرجل‪ :‬تلك هي الضاللة بعينهـا‪ ،‬فـالتقوىـ تسـتدعي تقـديم هللا ورســوله‪..‬‬
‫وأال نفعــل شــيئا قبــل أن نعلم حكم هللا فيــه‪ ..‬كمــا قــال تعــالى‪﴿ :‬يَاأَيُّهَــا الَّ ِذينَ آ َمنُــوا اَل‬
‫َي هَّللا ِ َو َرسُولِ ِه َواتَّقُوا هَّللا َ إِ َّن هَّللا َ َسـ ِمي ٌع َعلِي ٌم ﴾ [الحجــرات‪ ،]1 :‬وقــال‪:‬‬ ‫تُقَ ِّد ُموا بَ ْينَ يَد ِ‬
‫ـرةُ ِم ْن‬‫ضـى هَّللا ُ َو َر ُسـولُهُ أَ ْمـ رًا أَ ْن يَ ُكــونَ لَهُ ُم ْال ِخيَـ َ‬‫﴿ َو َما َكانَ لِ ُم ْؤ ِم ٍن َواَل ُم ْؤ ِمنَـ ٍة إِ َذا قَ َ‬
‫ضاَل اًل ُمبِينًا﴾ [األحزاب‪]36 :‬‬ ‫ض َّل َ‬ ‫ْص هَّللا َ َو َرسُولَهُ فَقَ ْد َ‬‫أَ ْم ِر ِه ْم َو َم ْن يَع ِ‬
‫قــال الحكيم‪ :‬فهيــا بنــا نطبــق ذلــك على مــا أنتم فيــه‪ ..‬فهــل تــرون أن التقــوى‬
‫تدعوكم لقتل بعضكم بعضا؟‬
‫قام رجل‪ ،‬وسل سيفه‪ ،‬وهو يقول‪ :‬أجل‪ ..‬فلوال التقوى ما خرجنــا من ديارنــا‪،‬‬
‫فقد سمعنا أن هؤالء حرفوا ديننا‪ ،‬وابتدعوا فيه بدعا عظيمــة‪ ..‬ونحن مــا خرجنــا إال‬
‫لقتالهم لنقتل معهم بدعهم وضالالتهم‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهل عرضتم هذا على هللا ورسوله قبل أن تقدموا عليه؟‬
‫قال الرجل‪ :‬أجـل‪ ..‬لقـد عرضـناه‪ ..‬وقـد أخبرنـاـ رسـول هللا ‪ ‬أن كـل بدعـة‬
‫ضاللة‪ ،‬وكل ضاللة في النار‪.‬‬
‫قــال الحكيم‪ :‬لكن هــذا الحــديث يتوعــد صــاحب البدعــة بالنــار‪ ..‬ولم يتوعــده‬
‫بالقتل‪ ..‬فكيفـ تريد أن تجمع له العقوبتين؟‬
‫سكت الرجل‪ ،‬فقال الحكيم‪ :‬أخــبروني عن رســول هللا ‪ ‬هــل قتــل المبتدعــة‬
‫الذين عاشوا في زمانه‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬لم يكن في عهـد رســول هللا ‪ ‬مبتدعـة‪ ..‬ولــذلك تـرك الحكم في‬
‫حقهم لالجتهــاد‪ ..‬وقــد نص علماؤنـاـ الثقــاة على قتــل المبتدعــة‪ ،‬بــل دعونــا إلى جــز‬
‫رؤوسهمـ ورميها في المزابل‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬ألم يكن في عهد رسول هللا ‪ ‬منافقين؟‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫قــال الرجــل‪ :‬بلى‪ ..‬لقــد كــان هنــاك منــافقون‪ ،‬وقــد حــدثنا القــرآن الكــريم عن‬
‫أخبارهم‪.‬ـ‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهل كــان هــؤالء المنــافقون معــروفين لرســولـ هللا ‪ ،‬أم كــانوا‬
‫متسترين مجهولين؟‬
‫قال الرجل‪ :‬بل كانوا معروفين‪ ..‬وكان أكثرهم يجهر بنفاقه‪ ،‬وال يسر به كمــا‬
‫وس ـهُ ْم َو َرأَ ْيتَهُ ْم‬ ‫﴿وإِ َذا قِي ـ َل لَهُ ْم تَ َعــالَوْ ا يَ ْس ـتَ ْغفِرْ لَ ُك ْم َر ُس ـو ُل هَّللا ِ لَ ـوَّوْ ا ُر ُء َ‬
‫قــال تعــالى‪َ :‬‬
‫ـر‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ص ُّدونَ َوهُ ْم ُم ْستَ ْكبِرُونَ (‪َ )5‬س َوا ٌء َعلَ ْي ِه ْم أ ْسـتَ ْغفَرْ تَ لَهُ ْم أ ْم لَ ْم ت َْسـتَ ْغفِرْ لَهُ ْم لَ ْن يَ ْغفِـ َ‬ ‫يَ ُ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫اسـقِينَ (‪ )6‬هُ ُم ال ِذينَ يَقُولــونَ اَل تُ ْنفِقُــوا َعلَى َم ْن ِع ْنـ َد‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫هَّللا ُ لَهُ ْم إِ َّن َ اَل يَ ْه ِدي القَوْ َم الفَ ِ‬
‫هَّللا‬
‫ض َولَ ِك َّن ْال ُمنَافِقِينَ اَل يَ ْفقَهُونَ (‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫َرسُو ِل هَّللا ِ َحتَّى يَ ْنفَضُّ وا َوهَّلِل ِ َخزَائِنُ ال َّس َم َ‬
‫ـز ِم ْنهَــا اأْل َ َذ َّل َوهَّلِل ِ ْال ِعـ َّزةُ َولِ َر ُسـولِ ِه‬
‫‪ )7‬يَقُولُونَ لَئِ ْن َر َج ْعنَا إِلَى ْال َم ِدينَ ِة لَي ُْخـ ِر َج َّن اأْل َ َعـ ُّ‬
‫ين َولَ ِك َّن ْال ُمنَافِقِينَ اَل يَ ْعلَ ُمونَ ﴾ [المنافقون‪]8 - 5 :‬‬ ‫َولِ ْل ُم ْؤ ِمنِ َـ‬
‫قــال الحكيم‪ :‬فمــاذا فعــل رســول هللا ‪ ‬مــع من جهــر بهــذا‪ ،‬وراح يثــير بين‬
‫المسلمين الفتنة بسببه‪ ..‬هل استتابهم‪ ،‬أو قتلهم؟‬
‫سكت الرجل‪ ،‬فقال الحكيم‪ :‬ألم تكن أقوالهم تلك أخطر من كل بدعة وضــاللة‬
‫وقع فيها من تحاربونهم؟‬
‫قال الرجل‪ :‬ال‪ ..‬هؤالء أشد خطرا‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهم إذن سينزلون يوم القيامة أسفل من درك المنافقين‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬ويلك‪ ..‬أتريد أن تكــذب كتــاب هللا‪ ..‬لقــد أخــبر هللا تعــالى أن درك‬
‫المنافقين هو أسفل الدركات‪ ..‬وليس دونه أي درك آخر‪ ..‬قال تعــالى‪﴿ :‬إِ َّن ْال ُمنَــافِقِينَ‬
‫َصيرًا ﴾ [النساء‪]145 :‬‬ ‫ار َولَ ْن تَ ِج َد لَهُ ْم ن ِ‬ ‫ك اأْل َ ْسفَ ِل ِمنَ النَّ ِ‬ ‫فِي ال َّدرْ ِ‬
‫قال الحكيم‪ :‬بورك فيك‪ ..‬لكني تمنيت لو قرأت اآليات الــتي تليهــا‪ ..‬أم أنــك ال‬
‫تحفظها؟‬
‫قال الرجل‪ :‬بلى أحفظها عن ظهر قلب‪ ،‬وبالقراءات العشر‪ ..‬فقــد قــال تعــالى‬
‫ك‬ ‫صـوا ِدينَهُ ْم هَّلِل ِ فَأُولَئِـ َـ‬ ‫ص ُمواـ بِاهَّلل ِ َوأَ ْخلَ ُ‬ ‫بعد تلك اآلية‪﴿ :‬إِاَّل الَّ ِذينَ تَابُوا َوأَصْ لَحُوا َوا ْعتَ َ‬
‫َظي ًما﴾ [النساء‪]146 :‬‬ ‫ت هَّللا ُ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ أَجْ رًا ع ِ‬ ‫ف ي ُْؤ ِ‬‫َم َع ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َو َسوْ َـ‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهل كان رسول هللا ‪ ‬بعد أن نـزلت عليـه هـذه اآليـات يجمعهم‬
‫ليستتيبهم‪..‬ـ أم يترك ذلك لهم؟‬
‫قال الرجل‪ :‬ما حفظ عن رسول هللا ‪ ‬أنه استتاب أحدا من المنافقين‪..‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬وهل يمكن لشخص أن يتوب تحت الضغط‪ ..‬إنــه ســيمارس نفاقــا‬
‫جديدا يغطي به النفاق القديم؟‬
‫رمى بعض القوم سيفه‪ ،‬وقال‪ :‬بورك فيك أيها الحكيم‪ ..‬لقد تــذكرت لتــوي مــا‬
‫رواه ابن هشام فى تأريخه لغزوة (أحد)‪ ،‬فقد ذكر أن جيش المســلمين اجتــاز حديقــة‬
‫ألحد المنافقين‪ ،‬وكان أعمى‪ ،‬فقام يحثى التراب فى وجــوه المســلمين‪ ،‬ويقــول للنــبى‬
‫‪( :‬إن كنت رسول هللا فــإنى ال أحــل لــك أن تــدخل حــائطىـ (أى بســتانى)‪ ،‬وأخــذ‬
‫حفنة من تــراب فى يــده‪ ،‬وقــال‪( :‬وهللا لــو أعلم أنى ال أصــيب بهــا غــيرك يــا محمــد‬

‫‪40‬‬
‫لضربت بها وجهك)‪ ،‬فابتدره القــوم‪ ،‬فقــال لهم النــبى ‪ :‬ال تقتلــوه‪ ..‬ويشــهد هللا أن‬
‫الــذين نحــاربهمـ مــا قــالوا مثــل هــذا‪ ،‬وال دونــه‪ ..‬بــل إنهم يعظمــون رســولـ هللا ‪‬‬
‫ويجلونــه ويفدونــه بــأرواحهم وأنفســهم‪ ..‬فكيــفـ تجرأنــا على ســل ســيوفناـ عليهم‪،‬‬
‫ورسول هللا ‪‬عن سلف السيف على من ســبه وآذاه‪ ..‬أفنحن أتقى هلل من رســول هللا‬
‫‪‬؟‬
‫رمى آخر سيفه‪ ،‬وقال‪ :‬بورك فيك أيها الحكيم‪ ..‬لقد تذكرت لتوي كيف تعامل‬
‫رسول هللا ‪ ‬مع عبد هللا بن أبى بن أبى سلول زعيم المنافقين‪ ،‬مع أنــه قــال تهديــدا‬
‫لرسول هللا ‪( :‬أما وهللا إن رجعنا إلى المدينة ليخرجن األعــز منهــا األذل)‪ ،‬وقــال‬
‫غير ذلك كثير‪ ..‬لكن النبي ‪ ‬لم يقتله‪ ..‬ولم يعاقبه‪ ..‬بل كان يقول مخاطبا من يريــد‬
‫قتله‪( :‬كيف إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟)‬
‫وفوقـ ذلك كله‪ ،‬ورغم تاريخه الطويــل في النفــاق إال أن رســول هللا ‪ ‬كــان‬
‫يزوره كل حين في مرض موته رجاء أن يسلم‪ ..‬وقد روي أنه دخل عليه‪ ،‬فقال لــه‪:‬‬
‫ك ع َْن حُبِّ يَهُودَ)‪ ،‬فقال عبد هللا بن أُبي معاندا إلى آخر لحظة‪( :‬قد أبغضـهم‬ ‫(قَ ْد نَهَ ْيتُ َ‬
‫أسعد بن زرارة‪ ،‬فما نفعه؟)‬
‫بل إنه ‪ ‬عندما مات صـلى عليـه‪ ،‬وكـان يصـلي على المنـافقين حـتى نـزل‬
‫ـر ِه‬‫صـلِّ َعلَى أَ َحـ ٍد ِم ْنهُ ْم َمــاتَ أَبَـدًا َوالَ تَقُ ْم َعلَى قَ ْبـ ِ‬ ‫قوله تعالى ينهاه عن ذلــك‪َ ﴿ :‬والَ تُ َ‬
‫اسقُونَ ﴾ [التوبة‪]84 :‬‬ ‫إِنَّهُ ْم َكفَرُوا بِاهللِ َو َرسُولِ ِه َو َماتُوا َوهُ ْم فَ ِ‬
‫وقد قال ‪ ‬لمن طلب منه عدم الصالة عليــه‪( :‬إنى قــد ُخــيرت فــاخترت‪ ،‬قــد‬
‫قيل لى‪ :‬استغفر لهم أو ال تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مــرة فلن يغفــر هللا لهم‪.‬‬
‫فلو أعلم أنى زدت على السبعين غفــر لــه لــزدت‪ ،‬ثم صــلى عليــه النــبى ومشــى فى‬
‫صـ ّل َعلَ َى أَ َحـ ٍد ّم ْنهُم ّمــاتَ أَبَــداً‬ ‫﴿والَ تُ َ‬ ‫جنازته حتى قام على قبره‪ ،‬فنزل قوله تعالى‪َ :‬‬
‫َوالَ تَقُ ْم َعلَ َى قَب ِْر ِه﴾‪..‬فما صلى بعدها على منافق‪.‬‬
‫رمى آخر سيفه‪ ،‬وقال‪ :‬بورك فيك أيها الحكيم‪ ..‬لقد تذكرت لتوي ما رواه ابن‬
‫هشــام من أن بعض المنــافقين اســتهزأ بالرســولـ ‪ ‬حين خــرج بــالجيش لمواجهــة‬
‫الرومـ فى غزوة تبوك وتوقعواـ أن يأسر الروم الرسول والمسلمين وعرف النبى ‪‬‬
‫بمقالتهم‪ ،‬فجاءوا إليه يعتذرون‪ ،‬ويقولون‪ :‬يا رسـول هللا كنـا نخـوض ونلعب‪ ،‬فـنزل‬
‫﴿ولَئِ ْن َسأ َ ْلتَهُْـم لَيَقُولُ َّن إِنَّ َمـا ُكنَّا نَ ُخــوضُ َون َْل َعبُ قُـلْ أَبِاهَّلل ِ َوآيَاتِـ ِه َو َر ُسـولِ ِه‬ ‫قوله تعالى‪َ :‬‬
‫ُك ْنتُ ْم تَ ْستَه ِْزئُونَ ﴾ [التوبة‪ ،]65 :‬ولم يتعرض لهم النبى ‪.‬‬
‫رمى آخر سيفه‪ ،‬وقال‪ :‬بورك فيــك أيهــا الحكيم‪ ..‬لقـد تـذكرت لتــوي مــا رواه‬
‫المؤلفون في أسباب النزول من أن نفرا من المنافقين اجتمعوا‪ ،‬وأخذوا يسبون النبى‬
‫‪ ‬وعندهم غالم من األنصار اسمه عامر بن قيس‪ ،‬فقالوا‪ :‬لئن كان ما يقول محمــد‬
‫حقا ً لنحن أشر من الحمير‪ ،‬فأتىـ عامر للنبى ‪ ‬فأخبره فاسـتدعاهمـ وسـألهمـ فحلفـوا‬
‫له أن عامراً كاذب‪ ،‬وحلف عامر أنهم كاذبون وقال‪( :‬اللهم ال تفرق بيننا حتى تــبين‬
‫ي‬ ‫﴿و ِم ْنهُ ُم الَّ ِذينَ يُـ ْـؤ ُذونَ النَّبِ َّ‬
‫صدق الصــادقـ من كــذب الكــاذب)‪ ،‬فــنزل قولــه تعــالى‪َ :‬‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬
‫ـؤ ِمنِينَ َو َرحْ َمـ ة لِل ِذينَ آ َمنــوا‬ ‫َويَقُولُونَ هُ َو أُ ُذ ٌن قُلْ أُ ُذنُ َخي ٍْر لَ ُك ْم ي ُْؤ ِمنُ بِاهَّلل ِ َويُـ ْـؤ ِمنُ لِ ْل ُمـ ْ‬

‫‪41‬‬
‫ِم ْن ُك ْم َوالَّ ِذينَ ي ُْؤ ُذونَ َرسُو َل هَّللا ِ لَهُ ْم َع َذابٌ أَلِي ٌم﴾ [التوبة‪ ،]61 :‬ومع ذلك‪ ..‬ومــع عظم‬
‫مقولتهم إال أنه لم يفعل لهم شيئا‪ ..‬بل تركهم بين قومهمـ يسرحون ويمرحون‪.‬‬
‫رمى آخر سيفه‪ ،‬وقال‪ :‬بورك فيك أيها الحكيم‪ ..‬لقد تذكرت لتوي ما روي أنه‬
‫خرج بعض المنافقين مع الرسولـ ‪ ‬إلى غزوة تبوك فكــانواـ إذا خلــوا إلى بعضــهم‬
‫سبوا الرسول وطعنوا فى الدين‪ ،‬فنقل ما قاله حذيفة إلى الرسول ‪ ‬فقال لهم النــبى‬
‫‪ :‬ما هذا الذى بلغنى عنكم؟ فحلفوا ما قالوا شيئاً‪ ..‬فنزل قوله تعالى‪﴿ :‬يَحْ لِفُونَ بِاهَّلل ِ‬
‫َما قَالُوا َولَقَ ْد قَالُوا َكلِ َمةَ ْال ُك ْف ِر َو َكفَرُوا بَ ْع َد إِ ْساَل ِم ِه ْم َوهَ ُّموا بِ َما لَ ْم يَنَالُوا َو َما نَقَ ُموا إِاَّل‬
‫ك خَ ْيـرًا لَهُ ْم َوإِ ْن يَت ََولَّوْ ا يُ َعـ ِّذ ْبهُ ُم هَّللا ُ‬ ‫ضـلِ ِه فَـإِ ْن يَتُوبُــوا يَـ ُ‬ ‫أَ ْن أَ ْغنَاهُ ُم هَّللا ُ َو َر ُسـولُهُ ِم ْن فَ ْ‬
‫ير ﴾ [التوبـة‪:‬‬ ‫َصـ ٍ‬ ‫ض ِم ْن َولِ ٍّي َواَل ن ِ‬ ‫عَـ َذابًا أَلِي ًمـا فِي الـ ُّد ْنيَا َواآْل ِخـ َر ِة َو َمـا لَهُ ْم فِي اأْل َرْ ِ‬
‫‪]74‬‬
‫ْ‬
‫﴿وهَ ّموا بِ َما لَ ْم يَنَالُوا﴾ أن بعضــهم تــآمر‬ ‫ْ‬ ‫بل روى النيسابورى في قوله تعالى‪َ :‬‬
‫على قتل النبى ‪ ‬ليلة العقبة‪ ..‬ومع ذلك كله لم يفعل لهم شيئا‪.‬‬
‫رمى آخر سيفه‪ ،‬وقال‪ :‬بورك فيــك أيهــا الحكيم‪ ..‬لقـد تـذكرت لتــوي مــا رواه‬
‫ض ـ َر ْبتُْـم‬ ‫النيسابورىـ من روايات فى سبب نزول قوله تعالى‪﴿ :‬يَاأَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُــوا إِ َذا َ‬
‫ض‬ ‫ـر َ‬ ‫السـاَل َم لَ ْسـتَ ُم ْؤ ِمنًـاـ تَ ْبتَ ُغـونَ َعـ َ‬ ‫فِي َسبِي ِل هَّللا ِ فَتَبَيَّنُوا َواَل تَقُولُـوا لِ َم ْن أَ ْلقَى إِلَ ْي ُك ُم َّ‬
‫ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا فَ ِع ْنـ َد هَّللا ِ َم َغــانِ ُم َكثِـ َ‬
‫ـيرةٌ َكـ َذلِكَ ُك ْنتُ ْم ِم ْن قَ ْبـ ُل فَ َم َّن هَّللا ُ َعلَ ْي ُك ْم فَتَبَيَّنُــوا إِ َّن هَّللا َ‬
‫َكانَ بِ َما تَ ْع َملُـونَ َخبِـيرًا﴾ [النســاء‪ ،]94 :‬ومنهـا أنهــا نــزلت فى معركـة انهـزم فيهــا‬
‫المشركون‪ ،‬وهرب منهم رجل فتبعه رجل من المسلمين‪ ،‬فلمــا غشــيه بالســالح قــال‬
‫الهارب‪ :‬إنى مسلم إنى مسلم‪ ،‬فكذبه وقتله وأخذ متاعه فقال له النــبى ‪ :‬قتلتــه بعــد‬
‫ما زعم أنه مسلم‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول هللا إنما قالها متعوذاًـ من القتل‪ ،‬فقــال لــه الرســول‪:‬‬
‫(فهال شققت عن قلبه‪ ،‬فتنظرـ أصادق هو أم كاذب؟!)(‪)1‬‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬بـوركـ فيكم ‪ ..‬لقـد ذكرتمــونيـ بحـدث عظيم لرســول‬
‫هللا ‪ ‬ال أراه منطبقا على أحد من الناس كانطباقه علينــا‪ ..‬لقــد قـال رســول هللا ‪:‬‬
‫(إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامــة بصـالة وصـيامـ وزكـاة‪ ،‬ويـأتيـ قـد شـتم هــذا‬
‫وقذفـ هذا‪ ،‬وأكل مال هذا‪ ،‬وسفك دم هذا‪ ،‬وضــرب هــذا‪ ،‬فيعطىـ هــذا من حســناته‪،‬‬
‫وهــذا من حســناته‪ ،‬فــإن فــنيت حســناته قبــل أن يقضــى مــا عليــه أخــذ من خطايــاهم‬
‫فطرحتـ عليه ثم طرح في النار)(‪)2‬‬
‫ثم أخذ يبكي بشدة‪ ،‬ويقول‪ :‬ويلي‪ ..‬ويل نفسي‪ ..‬ماذا فعلت بهــا‪ ..‬إن كــان هــذا‬
‫الرجل الذي ذكره رسول هللا ‪ ‬قد شتم شخصاـ واحدا‪ ..‬أو أشخاصا معدودين‪ ،‬فأنــا‬
‫شتمت ماليير األشـخاص‪ ..‬وإن كـان قــد سـفك دم واحـد‪ ..‬فأنــا كنت أفــتي بسـفك دم‬
‫ماليير البشر‪ ..‬ويلي ماذا أفعل لهم‪ ..‬ومــا هي الحســنات الــتي تكفيهم إن خاصــمونيـ‬
‫عند ربهم‪ ..‬وويل لي من سيئاتهم إن صبت علي‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬بورك فيكم ‪ ..‬لقد ذكرتموني بحــديث خطــير لرســول‬
‫هللا ‪ ‬يقول فيه مخاطبا أصحابه‪( ::‬أتــدرون مــا الغيبــة؟) قــالوا‪ :‬هّللا ورســوله أعلم‪.‬‬
‫قال‪( :‬ذكرك أخاك بما يكره) قيل‪ :‬أرأيت إن كان في أخي مــا أقــول؟ قــال‪( :‬إن كــان‬
‫فيه ما تقول‪ ،‬فقد اغتبته‪ .‬وإن لم يكن فيه فقد بهتّه)(‪)1‬‬
‫وأنا وأصحابي لم نقع في الغيبة فقط‪ ،‬بل كنا نمارس البهتــان وشــهادة الــزور‬
‫بكل ألوانها‪ ..‬لقد كان مشايخ السوء يلقنوننــا كــل حين جــواز الكــذب على المخــالفين‬
‫لتفير النــاس عنهم‪ ..‬وقـدـ قــال لنــا بعضــهم‪ :‬ممــا اتفــق عليــه جميــع أعالمنــا الكبــار‪،‬‬
‫وأصدروا فيه الفتــاوى الكثــيرة‪ ،‬جـواز اســتعمال جميـع ألـوان الحيــل والخدعـة مــع‬
‫المخالفين‪ ،‬ذلك أن الحرب خدعة‪ ..‬وقد جرى على هذا المنهج كبــار علمائنــا كشــيخ‬
‫اإلسالم ابن تيمية الذي استعمل هذا مــع جميــع المبتدعــة المخــالفين‪ ،‬حــتى أنــه كــان‬
‫يضعفـ الحديث الصحيح إذا رأى المبتدعة يستعملونه لحرب السنة‪..‬‬
‫وأذكــر أنــني كنت ذات يــوم مــع بعض مشــايخنا‪ ،‬وكــان اســمه الشــيخ على‬
‫الخضير‪ ،‬وقد سألته هذا السؤال‪( :‬هل يجوز لي أن أقول سوءاً عن شخص مما هــو‬
‫وأمثاله فيه وأنا أعرف أنه فاسق أو عدو للدين؟ وهل يجــوزـ لي أن أقــول خــيراً عن‬
‫رجل صالح من أهل الدين والتقـوى والجهــاد لتخليصــه من مشـكلة تضـره بذاتـه أو‬
‫بسمعة الصحوة اإلسالمية؟)‬
‫فأجابني الشــيخ بقولـه‪( :‬المـؤمن أخـو المــؤمن‪ ،‬والبـد أن ينصـره حــال طلب‬
‫النجدة أو عند العلم بحاجته‪ ،‬ومن النصرة مؤازرتــه ودفـعـ الضــرر عنــه‪ .‬ومن ذلــك‬
‫الكذب؛ فالكذب يجوز لنصرة المسلم ولدفع الكــافر أو العــدو‪ .‬فقــد صــح فى الحــديث‬
‫جواز الكذب لتحقيق مصلحة ومن المصلحة رفعة المســلم وذلــة ســواه‪ ..‬كمــا تجــوز‬
‫المخادعة للعدو في حال الحرب أو ألجل الحرب فهــذا ال خالف في جــوازه‪ ،‬وذلــك‬
‫لحديث الصحيحين‪ ،‬قال النبي ‪( :‬الحرب خدعة)‪ ..‬ومعنىـ المخادعــة في الحــرب‬
‫إظهار المكيدة‪ ،‬وحسن التدبير والرأي والتعريضـ ليظهر للعــدو خالف مــا يعــده لــه‬
‫المسلمون من الكمائن والمكائد‪ ..‬والخداع هو عمدة الحروب وأساســها وعليه يكــون‬
‫مــدار االنتصــارـ‪ ،‬وهو أحد األســباب الشــرعية الــتي ينبغي األخذ واالعتنــاء بها‪..‬‬
‫ومفهــومـ الحــرب في هــذه األحــاديث أعم من أن يقصــر على نصــب القتــال والتقــاء‬
‫الصفين وتقابل الزحفين‪ ،‬وإنما يدخل في ذلك أيضا السعي للفتك بــرأس من رؤوس‬
‫الكفر واإللحاد والعلمنة والفسق المحادين هلل ورسوله‪ ..‬ومن الحرب حرب األفكار‪،‬ـ‬
‫وهي أشد من حرب القتال‪ ،‬فيجب استخدام الخدعة ويباح الكذب فيهــا إلظهــار أهــل‬
‫البدع والشركيات وأهل الفـرق الباطلـة من روافضـ وزنـادق وأهــل علمنـة وحداثـة‬
‫وقرامطة وغيرهم بمظهرهم المخزي لكي اليغتر بهم عوام المسلمين؛ وإظهار أهل‬
‫السنة وأصحاب العقيدة السليمة بمظهرهم الالئق بهم‪ ..‬ولهذا فإنه يجــوز لــك الكــذب‬
‫والشهادة وتغليظـ اليمين لنصرة الدين اإلسالمي ونهجه القويم ونصرة أخيك المســلم‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫الفاسدة)(‪)1‬‬ ‫الصالح ممن يريدونـ به كيداً؛ وإذالل أهل البدع والضالالت والفرق‬
‫بعد أن سمعت الفتوى‪ ،‬ودهشت لما فيها‪ ،‬قلت‪ :‬هذه فتــوىـ خطــيرة‪ ..‬فقــال لي‬
‫يطمئنني‪:‬ـ هكذا لقننا جميع مشايخنا‪ ،‬وقد كان من مشايخي رجل يقال الفوازان‪ ،‬وقــد‬
‫ســألته حينهــا هــذا الســؤال‪( :‬انتشــر اليــوم بين الشــباب أنــه يلــزم الموازنــة في النقــد‬
‫فيقولــون‪ :‬إذا انتقــدت فالنــا من النــاس في بدعتــه وبينت أخطــاءه يلزمــك أن تــذكر‬
‫محاسنه‪ ،‬وهذا من بــاب االنصــافـ والموازنــة‪ ،‬فهــل هــذا المنهج في النقــد صــحيح؟‬
‫وهل يلزمني ذكر المحاسن في حالة النقد؟)‬
‫فأجابني بقوله‪( :‬إذا كان المنتقد من أهل السنة والجماعة وأخطاؤه في االمورـ‬
‫التي التخــل بالعقيــدة‪ ،‬فنعم‪ ،‬هــذا تــذكر ميزاتــه وحســناته‪ ،‬تُغمــر زالّتــه في نصــرته‬
‫للسنة‪ .‬أما إذا كان المنتقد من أهل الضالل ومن أهــل االنحــراف ومن أهــل المبــادئ‬
‫الهدامة والمشبوهة‪ ،‬فهذا اليجوزـ لنا أن نذكر حسناته ‪ -‬اذا كــان لــه حســنات ‪ -‬ألننــا‬
‫إذا ذكرناها فإن هذا يغررـ بالناس فيحسنون الظن بهذا الضال أو هذا المبتدع أو هذا‬
‫الخرافيـ أو الحزبي‪ ،‬فيقبلون أفكـار هـذا الضـال أو هـذا المبتـدع أو ذاك المتحـزب‪.‬‬
‫وهللا جل وعال ر ّد على الكفرة والمجرمين والمنافقين ولم يــذكر شــيئا من حســناتهم‪،‬‬
‫وكذلك أئمة السلف يردون على الجهمية والمعتزلة وعلى أهل الضالل واليــذكرون‬
‫شيئا من حسناتهم‪ .‬ألن حسناتهمـ مرجوحــة بالضــالل والكفــر وااللحــاد والنفــاق‪ .‬فال‬
‫يناسب انك ترد على ضال‪ ،‬مبتدع‪ ،‬منحرف‪ ،‬وتذكر حسناته وتقول هو رجــل طيب‬
‫عنده حسنات وعنده كذا‪ ،‬لكنه غلط‪ ..‬نقــول لــك‪ :‬ثنــاؤك عليــه أشــد من ضــالله‪ ،‬ألن‬
‫الناس يثقون بثنائك عليــه‪ ،‬فــإذا روجت لهــذا الضــال المبتــدع ومدحتــه فقــد غــررت‬
‫بالناس وهذا فتح باب لقبول أفكارـ المضللين)(‪)2‬‬
‫وانطالق ـاـ من تلــك الفتــاوىـ كنت أكــذب على طوائــف األمــة خالف طــائفتي‬
‫وأرميهم بالطامات‪ ..‬ولم أكن أنال على ذلك الكذب والتزويرـ إال التشريف والقــدير‪..‬‬
‫فمشايخ السوء ال يحبون وال يقدرون إال المزورين والكاذبين‪.‬‬

‫‪ )(1‬نقال عن مقال بعنوان‪ :‬متى يخلع شيوخ السعودية سراويلهم الغربية ‪ -‬شبكة المنطقة‪.‬‬
‫‪ )(2‬األجوبة المفيدة في أسئلة المناهج الجديدة‪.24 /1 ،‬‬

‫‪44‬‬
‫خامسا ـ العدل‬
‫قام الحكيم الخامس بين الصفين‪ ،‬وقــال‪ :‬أجيبــوني يــا من ال تزالــون تحملــون‬
‫سيوفكم‪ ..‬أليس العدل من األسس التي يقوم عليها هذا الدين؟‬
‫قال أحدهم‪ :‬بلى‪ ..‬وهل في ذلك شك؟‪ ..‬فقد أمرنا هللا تعالى بالعدل‪ ،‬فقــال‪﴿ :‬إِ َّن‬
‫ـر َو ْالبَ ْغ ِي‬ ‫ان َوإِيتَــا ِء ِذي ْالقُــرْ بَى َويَ ْنهَى ع َِن ْالفَحْ َش ـا ِء َو ْال ُم ْن َكـ ِـ‬ ‫هَّللا َ يَأْ ُم ُر بِ ْال َع ْد ِل َواإْل ِ حْ َس ِ‬
‫يَ ِعظُ ُك ْـم لَ َعلَّ ُك ْم تَ َذ َّكرُونَ ﴾ [النحل‪]90:‬‬
‫قال آخر‪ :‬بل إن هللا تعالى أمرنا أال نراعي في تحقيق العدالة أحدا مهما كان‪،‬‬
‫فقــال‪﴿ :‬يَــا أَيُّهَــا الَّ ِذينَ آ َمنُــوا ُكونُــوا قَـ َّوا ِمينَ بِ ْالقِ ْسـ ِط ُشـهَدَا َء هَّلِل ِ َولَــوْ َعلَى أَ ْنفُ ِسـ ُك ْم أَ ِو‬
‫ْال َوالِ َد ْي ِن َواأْل َ ْق َربِينَ إِ ْن يَ ُك ْن َغنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاهَّلل ُ أَوْ لَى بِ ِه َما فَاَل تَتَّبِعُوا ْالهَ َوى أَ ْن تَعْــ ِدلُوا‬
‫ْرضُواـ فَإِ َّن هَّللا َ َكانَ بِ َما تَ ْع َملُونَ خَ بِيرًا﴾ [النساء‪]135:‬‬ ‫َوإِ ْن ت َْل ُوواـ أَوْ تُع ِ‬
‫قال آخــر‪ :‬بــل إن هللا تعــالى اعتــبر العــدل من وظــائف رســول هللا ‪ ،‬وأنــه‬
‫اسـتَقِ ْم َك َمــا‬ ‫ع َو ْ‬ ‫واجب عليه العمل به‪ ،‬مثلما هو واجب علينا‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬فَلِـ َذلِ َ‬
‫ك فَــا ْد ُ‬
‫ت أِل َ ْعـ ِد َل بَ ْينَ ُك ُم هَّللا ُ‬ ‫ب َوأُ ِمــرْ ُ‬ ‫ت بِ َما أَ ْنزَ َل هَّللا ُ ِم ْن ِكتَا ٍ‬ ‫أُ ِمرْ تَ َواَل تَتَّبِ ْع أَ ْه َوا َءهُ ْم َوقُلْ آ َم ْن ُ‬
‫َربُّنَــا َو َربُّ ُك ْـم لَنَــا أَ ْع َمالُنَــا َولَ ُك ْم أَ ْع َمــالُ ُك ْم اَل ُح َّجةَ بَ ْينَنَــا َوبَ ْينَ ُك ُم هَّللا ُ يَجْ َمـ ُع بَ ْينَنَــا َوإِلَيْــ ِه‬
‫صيرُ﴾ [الشورى‪]15:‬‬ ‫ْال َم ِ‬
‫قال آخر‪ :‬وقـد اعتـبر هللا تعـالى العـدل من القيم الكـبرى الـتي يفـرق بهـا بين‬
‫الســائرين على الصــراط المســتقيم وغــيرهم من الضــالين والمنحــرفين عنــه‪ ،‬فقــال‪:‬‬
‫ب هَّللا ُ َمثَاًل َر ُجلَ ْي ِن أَ َح ُدهُ َما أَ ْب َك ُم اَل يَ ْق ِد ُر َعلَى َش ْي ٍء َوه َُو َكلٌّ َعلَى َمــوْ اَل هُ أَ ْينَ َمــا‬ ‫ض َر َ‬ ‫﴿ َو َ‬
‫َ‬
‫اط ُم ْسـتقِ ٍيم﴾‬ ‫صـ َر ٍ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ُـو َو َمن يَـأ ُم ُر بِال َعـ د ِل َوهُـ َو َعلى ِ‬‫ْ‬ ‫ت بِ ي ٍْر هَلْ يَ ْست َِوي ه َ‬ ‫خَ‬ ‫ْ‬ ‫اَل‬
‫ي َُو ِّج ْههُ يَأ ِ‬
‫[النحل‪]76:‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬بورك في حفظكم للقرآن الكريم‪ ..‬فأخبرونيـ بعد هذا‪ ..‬ألم يكن ما‬
‫فعلته قريش من حرب النبي ‪ ‬وأصحابه وإخراجهمـ من ديارهمـ ظلما وجورا؟ـ‬
‫قال رجل من القوم‪ :‬وهل في ذلك شك؟‪ ..‬لقد مارست قريش كل أنــواع األذى‬
‫والظلمـ والجور مع النبي ‪ ‬وأصحابه‪ ..‬وقد أخبر هللا تعــالى عن ذلــك‪ ،‬فقــال‪﴿ :‬أُ ِذنَ‬
‫َص ـ ِر ِه ْم لَقَ ـ ِدي ٌر (‪ )39‬الَّ ِذينَ أُ ْخ ِر ُجــوا ِم ْن‬ ‫لِلَّ ِذينَ يُقَــاتَلُونَ بِــأَنَّهُ ْم ظُلِ ُمــوا َوإِ َّن هَّللا َ َعلَى ن ْ‬
‫ق إِاَّل أَ ْن يَقُولُوا َربُّنَا هَّللا ُ ﴾ [الحج‪]40 ،39 :‬‬ ‫ار ِه ْـم بِ َغي ِْر َح ٍّ‬‫ِديَ ِ‬
‫قال الحكيم‪ :‬أخبرونيـ بعد هذا‪ ..‬ألم تكن قريش تعتقد أنهــا على الــدين الحــق‪..‬‬
‫وأن دينهــا هــو دين إبــراهيم عليــه الســالم‪ ..‬وأن رســول هللا ‪ ‬هــو الــذين انحــرف‬
‫عنهم؟‬
‫قــالوا‪ :‬بلى‪ ..‬ذلــك صــحيح‪ ..‬ولكن ذلــك لم يكن يغــني عنهــا شــيئا‪ ..‬فهي على‬
‫الدين الباطل‪ ..‬وليس على الدين الحق‪ ..‬أم أنك تريد أن تقنعنا أنها على الدين الحق؟‬
‫قــال الحكيم‪ :‬معــاذ هللا أن أقــول ذلــك‪ ..‬فأنــا مســلم مثلكم‪ ..‬ولكــني بــاحث عن‬
‫العدل‪ ..‬وأتساءل بيني وبين نفسي‪ :‬إذا كانت قريش تــؤمن بــدين‪ ،‬وتقتنــع بــه اقتناعــا‬

‫‪45‬‬
‫تاما‪ ،‬ثم رأت أن من بينها من خرج عن هذا الدين وارتد عنــه‪ ..‬أال يحــق لهــا‪ ،‬وهي‬
‫تــدعي أنهــا على ملــة إبــراهيم عليــه الســالم‪ ،‬أن تقيم عليــه حكم الــردة الــذي يقيمــه‬
‫بعضكمـ على بعض؟‬
‫سل الكثير من الرجال سيوفهم غاضبين‪ ،‬وقالوا‪:‬ـ ما تقول؟‬
‫قال الحكيم‪ :‬اسمعونيـ جيدا‪ ..‬لقد أخــبر هللا تعــالى أن قريشـاـ ظلمت المؤمــنين‬
‫بإخراجهمـ من ديارهم واستعمال كــل الوســائلـ إلذيتهم‪ ..‬فلم اعتــبرهم ظــالمين‪ ..‬هــل‬
‫لكونهمـ كفرة‪ ،‬أم لكونهمـ منعوا المؤمنين من حرية التدين بأي دين شاءوا؟‬
‫قال رجل من القوم‪ :‬بل اعتبرهم ظــالمين لكــونهمـ منعــوا المؤمــنين من حريــة‬
‫التدين بأي دين شاءوا‪.‬‬
‫قــال الحكيم‪ :‬فــأنتم مثلهم في هــذا إذن‪ ..‬بــل أنتم أبشــع منهم ألنكم جميعــا على‬
‫دين واحد‪ ،‬وإنما اختلفتم في بعض القضايا فقط‪ ..‬ومع ذلك لم يستطع بعضكمـ تحمــل‬
‫بعض‪.‬‬
‫قال رجل من القوم‪ :‬ولكن ما تقول في اآليات الني وردت في المرتدين؟‬
‫قال الحكيم‪ :‬اقرأها بعقلك وسمعك‪..‬ـ وأخبرنيـ هل تجد فيها سيوفاـ أو رماحا؟‬
‫قــال الرجــل‪ :‬ولكن هللا تعــالى أخــبر عن العقوبــات المشــددة على المرتــدين‪،‬‬
‫ازدَادُوا ُك ْف ـرًا لَ ْن تُ ْقبَ ـ َل تَــوْ بَتُهُْـم َوأُولَئِــكَ هُ ُم‬ ‫فقــال‪﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ َكفَ ـرُوا بَ ْعـ َد إِي َمــانِ ِه ْم ثُ َّم ْ‬
‫ـل ِم ْن أَ َحـ ِد ِه ْم ِملْ ُء اأْل َرْ ِ‬
‫ض‬ ‫الضَّالُّونَ (‪ )90‬إِ َّن الَّ ِذينَ َكفَرُوا َو َماتُوا َوهُ ْم ُكفَّا ٌر فَلَ ْن يُ ْقبَـ َ‬
‫َاصـ ِرينَ ﴾ [آل عمــران‪،90 :‬‬ ‫َذهَبًا َولَ ِو ا ْفتَدَى بِ ِه أُولَئِكَ لَهُ ْم َعـ َذابٌ أَلِي ٌم َو َمــا لَهُ ْم ِم ْن ن ِ‬
‫‪]91‬‬
‫ابتسم الحكيم‪ ،‬وقال‪ :‬فهل طبقتم مــا ورد في هــذه اآليــة الكريمــة من عقوبــات‬
‫بخصوص من تختلفون معهم‪ ،‬وتحكمون بردتهم؟ـ‬
‫سكت الرجل‪ ،‬فقال الحكيم‪ :‬ما لك سكت؟‪ ..‬أم أنك ترى أن العقوبــة المــذكورة‬
‫أعظم من أن يستطيع أحد من الناس تطبيقها‪..‬‬
‫ثم التفت للجميع‪ ،‬وقال‪ :‬أنا أتحدى اآلن أي شــخص فيكم يحمــل الســالح أو ال‬
‫يحمله أن يـأتيني بآيـة قرآنيـة واحـدة تحض على قتـال من نختلـف معهم في شـؤون‬
‫الدين والعقائد‪.‬‬
‫إن كـل اآليـات الكريمـة الـتي وردت في الـردة تحصـر العقوبـة في اآلخـرة‪،‬‬
‫وليس في الدنيا‪.‬‬
‫قام رجل من القوم‪ ،‬وقال‪ :‬فما تقول في اآليات الني تأمر بالقتال والجهــاد‪ ..‬أم‬
‫أنها منسوخة عندك؟‬
‫قال الحكيم‪ :‬كل القرآن محكم‪ ..‬ويستحيل أن يأمرنـاـ هللا بــأن نعبــده بمــا ينهانــا‬
‫عن تنفيذه‪ ..‬فإن شئت فاقرأـ لي منها ما تراه ألخضع له(‪..)1‬‬
‫َّ‬ ‫هَّللا‬
‫يل ِ ال ِذينَ‬ ‫ُ‬
‫﴿وقَــاتِلوا فِي َس ـبِ ِ‬ ‫قــال الرجــل‪ :‬فقــد قــال تعــالى في ســور البقــرة‪َ :‬‬
‫‪ )(1‬انظر هذه اآليات وغيرها كثير مع توجيهها كتاب (حرية االعتقاد في القرآن الكــريم والســنة النبويــة للــثيخ‬
‫حسن بن فرحان المالكي)‬

‫‪46‬‬
‫ْث ثَقِ ْفتُ ُمـــوهُ ْم‬ ‫يُقَـــاتِلُونَ ُك ْم َواَل تَ ْعتَـــدُواـ إِ َّن هَّللا َ اَل ي ُِحبُّ ْال ُم ْعتَـــ ِدينَ (‪َ )190‬وا ْقتُلُـــوهُ ْم َحي ُ‬
‫ْث أَ ْخ َر ُجــو ُك ْم َو ْالفِ ْتنَـةُ أَ َشـ ُّد ِمنَ ْالقَ ْتـ ِل َواَل تُقَــاتِلُوهُ ْم ِع ْنـ َد ْال َم ْسـ ِج ِد‬ ‫َوأَ ْخ ِر ُجــوهُ ْم ِم ْن َحي ُ‬
‫ْال َح َر ِام َحتَّى يُقَاتِلُو ُك ْم فِي ِه فَـإِ ْن قَــاتَلُو ُك ْم فَــا ْقتُلُوهُ ْم َكـ َذلِكَ َجــزَ ا ُء ْال َكــافِ ِرينَ (‪ )191‬فَـإِ ِن‬
‫ا ْنتَهَوْ ا فَإِ َّن هَّللا َ َغفُو ٌر َر ِحي ٌم (‪َ )192‬وقَاتِلُوهُ ْم َحتَّى اَل تَ ُكونَ فِ ْتنَةٌ َويَ ُكونَ الدِّينُ هَّلِل ِ فَــإِ ِن‬
‫ات‬ ‫ا ْنتَهَوْ ا فَاَل ُع ْد َوانَ إِاَّل َعلَى الظَّالِ ِمينَ (‪ )193‬ال َّش ْه ُر ْال َح َرا ُم بِال َّشه ِْر ْال َح َر ِام َو ْال ُح ُر َم ُ‬
‫صاصٌ فَ َم ِن ا ْعتَدَى َعلَ ْي ُك ْم فَا ْعتَدُوا َعلَ ْي ِه بِ ِم ْث ِل َما ا ْعتَ ـدَى َعلَ ْي ُك ْم َواتَّقُــوا هَّللا َ َوا ْعلَ ُمــوا‬ ‫قِ َ‬
‫أَ َّن َ َم َع ال ُمتَّقِينَ (‪[ ﴾)194‬البقرة‪]194 - 190 :‬‬ ‫ْ‬ ‫هَّللا‬
‫قال الحكيم‪ :‬اآليات واضحة جدا‪ ..‬وهي صريحة بأنه ال يجوزـ قتــال المشــرك‬
‫لشــركه‪ ،‬وال الكــافر لكفــره‪ ،‬وإنمــا يقاتــل المشــرك والكــافرـ لعداوتــه ومحاربتــه‬
‫المسلمين‪ ،‬كما يشرع قتال الكافر إذا اضطهدـ المسلمين وأراد فتنتهمـ عن دينهم‪..‬‬
‫َسـى أ ْن‬‫َ‬ ‫ـو ُكــرْ هٌ لَ ُك ْم َوع َ‬ ‫ب َعلَ ْي ُك ُم ْالقِتَــا ُل َوهُـ َ‬ ‫قــال الرجــل‪ :‬فقــد قــال تعــالى‪ُ ﴿ :‬كتِ َ‬
‫ـو َشـرٌّ لَ ُك ْم َوهَّللا ُ يَ ْعلَ ُم َوأَ ْنتُ ْم اَل‬
‫َسـى أَ ْن تُ ِحبُّوا َشـ ْيئًا َوهُـ َ‬ ‫تَ ْك َرهُواـ َش ْيئًا َوهُ َو َخ ْيـ ٌر لَ ُك ْم َوع َ‬
‫صـ ٌّد ع َْن‬ ‫ك ع َِن ال َّشه ِْر ْال َح َر ِام قِتَا ٍل فِيـ ِه قُــلْ قِتَــا ٌل فِيـ ِه َكبِــي ٌر َو َ‬ ‫تَ ْعلَ ُمونَ (‪ )216‬يَسْأَلُونَ َ‬
‫َسبِي ِل هَّللا ِ َو ُك ْف ٌر بِ ِه َو ْال َم ْس ِج ِـد ْال َح َر ِام َوإِ ْخ َرا ُج أَ ْهلِ ِه ِم ْنهُ أَ ْكبَ ُر ِع ْن َد هَّللا ِ َو ْالفِ ْتنَ ـةُ أَ ْكبَ ـ ُر ِمنَ‬
‫اسـتَطَاعُوا َو َم ْن يَرْ تَـ ِد ْد ِم ْن ُك ْم‬ ‫ْالقَ ْت ِل َواَل يَزَ الُونَ يُقَــاتِلُونَ ُك ْم َحتَّى يَـ ُر ُّدو ُك ْم ع َْن ِدينِ ُك ْم إِ ِن ْ‬
‫ك‬ ‫ُ‬
‫ــر ِة َوأولَئِــ َـ‬ ‫ت أَ ْع َمــالُهُ ْم فِي الــ ُّد ْنيَا َواآْل ِخ َ‬ ‫ــك َحبِطَ ْ‬ ‫ت َوهُــ َو َكــافِ ٌر فَأُولَئِ َـ‬ ‫ع َْن ِدينِــ ِه فَيَ ُم ْ‬
‫ـاجرُوا َو َجاهَ ـدُواـ فِي‬ ‫ار هُ ْم فِيهَا خَالِ ُدونَ (‪ )217‬إِ َّن الَّ ِذينَ آ َمنُوا َوالَّ ِذينَ هَـ َ‬ ‫أَصْ َحابُ النَّ ِ‬
‫َســبِي ِل هَّللا ِ أُولَئِــكَ يَرْ جُــونَ َرحْ َمتَ هَّللا ِ َوهَّللا ُ َغفُــو ٌر َر ِحي ٌم (‪[ ﴾)218‬البقــرة‪- 216 :‬‬
‫‪]218‬‬
‫قــال الحكيم‪ :‬اآليــات واضــحة في داللتهــا‪ ..‬وهي إخبــار بســبب مشــروعية‬
‫الجهاد‪ ،‬وهو وجود كفار معتدين أخرجوا المسلمين من ديارهم‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬فما تقول في قوله تعالى‪﴿ :‬قُلْ لِلَّ ِذينَ َكفَرُوا إِ ْن يَ ْنتَهُوا يُ ْغفَرْ لَهُ ْم َمــا‬
‫ت اأْل َ َّولِينَ (‪َ )38‬وقَــاتِلُوهُْـم َحتَّى اَل تَ ُكــونَ فِ ْتنَـةٌ‬ ‫ت ُسـنَّ ُ‬ ‫ضـ ْ‬ ‫قَ ْد َسلَفَ َوإِ ْن يَعُودُوا فَقَـ ْد َم َ‬
‫ص ـي ٌر (‪َ )39‬وإِ ْن ت ََولَّوْ ا فَــا ْعلَ ُموا‬ ‫َويَ ُكونَ الدِّينُ ُكلُّهُ هَّلِل ِ فَإِ ِن ا ْنتَهَوْ ا فَإِ َّن هَّللا َ بِ َما يَ ْع َملُونَ بَ ِ‬
‫صي ُر (‪[ ﴾)40‬األنفال‪]40 - 38 :‬‬ ‫أَ َّن هَّللا َ َموْ اَل ُك ْم نِ ْع َم ْال َموْ لَى َونِ ْع َم النَّ ِ‬
‫قال الحكيم‪ :‬هذه اآليــات آيــا ت ســالم ال حــرب‪ ،‬فهي تــأمر بقتــال المشــركين‬
‫الذين يضطهدون من أسلم منهم ليردوهمـ عن دينهم عن طريقـ اإلكراه‪ ،‬واألحــاديث‬
‫والسيرـ متواترة في الداللة على هذا المعنى‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬فلم عبرت عنهم بكونهم كفارا‪ ،‬ولم تعير عنهم بكونهم معتدين؟‬
‫قال الحكيم‪ :‬لتبين أن كفرهم وعدم إيمانهم باهلل واليــومـ اآلخــر هــو الســبب في‬
‫ذلك الطغيان والعدوان الذي يمارسونه على المستضعفين‪ ..‬وهناك آيا ت كثيرة تدل‬
‫على هذا‪ ..‬والقرآن يفسر بعضه بعضا‪.‬‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫هَّللا‬ ‫ْ‬
‫قال الرجل‪ :‬فما تقول في قوله تعــالى‪﴿ :‬إِ َّن َشـ َّر الـ َّد َوابِّ ِعنـ َد ِ ال ِذينَ َكفـرُوا‬
‫ضـونَ َع ْهـ َدهُ ْم فِي ُكــلِّ َمـ َّر ٍة َوهُ ْم اَل‬ ‫فَهُ ْم اَل ي ُْؤ ِمنُــونَ (‪ )55‬الَّ ِذينَ عَاهَـدْتَ ِم ْنهُ ْم ثُ َّم يَ ْنقُ ُ‬
‫ب فَ َشـ ِّر ْد بِ ِه ْم َم ْن خَ ْلفَهُ ْم لَ َعلَّهُ ْم يَـ َّذ َّكرُونَ (‪َ )57‬وإِ َّما‬ ‫يَتَّقُونَ (‪ )56‬فَإِ َّما ت َْثقَفَنَّهُ ْم فِي ْال َحرْ ِ‬

‫‪47‬‬
‫ــذ إِلَ ْي ِه ْم َعلَى َســ َوا ٍء إِ َّن هَّللا َ اَل ي ُِحبُّ ْالخَــائِنِينَ (‪َ )58‬واَل‬ ‫تَخَــافَ َّن ِم ْن قَــوْ ٍم ِخيَانَــةً فَا ْنبِ ْ‬
‫اسـتَطَ ْعتُ ْم ِم ْن قُـ َّو ٍة‬ ‫يَحْ َسبَ َّن الَّ ِذينَ َكفَرُوا َسبَقُوا إِنَّهُ ْم اَل يُ ْع ِج ُزونَ (‪َ )59‬وأَ ِعـ ُّدوا لَهُ ْم َمــا ْ‬
‫ـرينَ ِم ْن دُونِ ِه ْـم اَل تَ ْعلَ ُمـونَهُ ُـم هَّللا ُ‬ ‫َو ِم ْن ِربَا ِط ْال َخ ْي ِل تُرْ ِهبُونَ بِ ِه َعـ ُد َّو هَّللا ِ َو َعـ ُد َّو ُك ْم َوآخَـ ِ‬
‫ظلَ ُمــونَ (‪َ )60‬وإِ ْن‬ ‫ف إِلَ ْي ُك ْم َوأَ ْنتُ ْم اَل تُ ْ‬ ‫يَ ْعلَ ُمهُ ْم َو َمــا تُ ْنفِقُــوا ِم ْن َشـ ْي ٍء فِي َسـبِي ِل هَّللا ِ يُـ َ‬
‫ـو َّ‬
‫َجنَحُوا لِلس َّْل ِم فَاجْ نَحْ لَهَا َوت ََو َّكلْ َعلَى هَّللا ِ إِنَّهُ هُ َو ال َّس ِمي ُع ْال َعلِي ُم (‪[ ﴾ )61‬األنفال‪- 55 :‬‬
‫‪]61‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬هذه اآليات الكريمة واضحة في الداللة على أن الجهاد ال يشــرع‬
‫إال في حق أولئك المعتدين من الكفار الذين ينقضون عهودهم‪ ،‬وليس بعد النقض إال‬
‫القتال‪ ..‬وما تواتر من السيرة يدل على ذلك‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫قال الرجل‪ :‬فما تقول في قولــه تعــالى‪﴿ :‬يَاأيُّهَــا ال ِذينَ آ َمنُــوا اَل تَتَّ ِخـ ُذوا َعـ د ُِّوي‬
‫ق ي ُْخ ِر ُجــونَ‬ ‫ـال َم َو َّد ِة َوقَـ ْد َكفَ ـرُوا بِ َمــا َجـ ا َء ُك ْم ِمنَ ْال َحـ ِّ‬ ‫َو َعـ ُد َّو ُك ْم أَوْ لِيَــا َء تُ ْلقُــونَ إِلَ ْي ِه ْم بِـ ْ‬
‫خَــرجْ تُ ْم ِجهَــادًا فِي َســبِيلِي َوا ْبتِغَــا َء‬ ‫َ‬ ‫َّســو َل َوإِيَّا ُك ْـم أَ ْن تُ ْؤ ِمنُــواـ بِاهَّلل ِ َربِّ ُك ْـم إِ ْن ُك ْنتُ ْم‬ ‫الر ُ‬
‫ضاتِي تُ ِسرُّ ونَ إِلَ ْي ِه ْم بِ ْال َم َو َّد ِة َوأَنَا أَ ْعلَ ُم بِ َما أَ ْخفَ ْيتُ ْم َو َما أَ ْعلَ ْنتُ ْم َو َم ْن يَ ْف َع ْل ـهُ ِم ْن ُك ْم فَقَ ـ ْد‬ ‫َمرْ َ‬
‫يل (‪ )1‬إِ ْن يَ ْثقَفُو ُك ْم يَ ُكونُواـ لَ ُك ْم أَ ْعدَا ًء َويَ ْب ُسطُواـ إِلَ ْي ُك ْم أَ ْي ِديَهُ ْم َوأَ ْل ِســنَتَهُ ْم‬ ‫ض َّل َس َوا َء ال َّسبِ ِ‬ ‫َ‬
‫صـ ُل‬ ‫ْ‬
‫ف‬ ‫ي‬ ‫ة‬ ‫ـ‬‫م‬ ‫ا‬
‫ْ َ َ َِ َ ِ َ ِ‬‫ي‬ ‫ق‬ ‫ْ‬
‫ال‬ ‫م‬ ‫ـوْ‬‫ـ‬ ‫ي‬ ‫م‬‫ك‬‫ُ‬ ‫ُ‬
‫د‬ ‫اَل‬ ‫وْ‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫اَل‬‫و‬ ‫م‬‫ك‬‫ُ‬
‫َ ْ َ ُ ْ َ‬ ‫م‬‫ـا‬‫ـ‬‫ح‬ ‫رْ‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ُ‬
‫ك‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ْ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ْ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫)‬ ‫‪2‬‬ ‫(‬ ‫ُونَ‬‫ر‬‫ـ‬ ‫ُ‬ ‫ف‬ ‫ْ‬
‫ك‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫وْ‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ـ‬
‫ا‬ ‫و‬‫د‬‫ُّ‬ ‫و‬
‫بِال ِ َ َ‬
‫و‬ ‫ء‬ ‫ُّو‬‫س‬
‫صي ٌر (‪[ ﴾)3‬الممتحنة‪]3 - 1 :‬‬ ‫بَ ْينَ ُك ْم َوهَّللا ُ بِ َما تَ ْع َملُونَ بَ ِ‬
‫قال الحكيم‪ :‬هذه اآليات الكريمة ذكرت األسباب الموجبة لقتال الكفـار‪ ،‬وهي‬
‫محاربة من أراد إخراج الرسول ‪ ‬والمسلمين من ديارهم‪ ،‬ومن اســتعدادهم لقتــال‬
‫المســلمين إذا ثقفــوهم في أي مكــان‪ ،‬فهم أعــداء صــرحاء‪ ،‬ومحــاربون أصــليون‪،‬‬
‫وقتالهم ليس من ياب القتال على الدين والعقيدة‪ ،‬وإنما لمحاربتهم‪.‬ـ‬
‫قال الرجل‪ :‬فما تقول في قؤله تعالى‪﴿ :‬اَل يَ ْنهَا ُك ُم هَّللا ُ ع َِن الَّ ِذينَ لَ ْم يُقَــاتِلُو ُك ْم فِي‬
‫ار ُك ْم أَ ْن تَبَرُّ وهُ ْم َوتُ ْق ِسطُوا إِلَ ْي ِه ْم إِ َّن هَّللا َ ي ُِحبُّ ْال ُم ْق ِســ ِطينَ (‬ ‫الدِّي ِن َولَ ْم ي ُْخ ِرجُو ُك ْم ِم ْن ِديَ ِ‬
‫ار ُك ْـم َوظَاهَرُواـ َعلَى‬ ‫ِّين َوأَ ْخ َرجُو ُك ْـم ِم ْن ِديَ ِ‬ ‫‪ )8‬إِنَّ َما يَ ْنهَا ُك ُـم هَّللا ُ ع َِن الَّ ِذينَ قَاتَلُو ُك ْـم فِي الد ِ‬
‫ك هُ ُم الظَّالِ ُمونَ (‪[ ﴾)9‬الممتحنة‪]9 ،8 :‬‬ ‫اج ُك ْـم أَ ْن ت ََولَّوْ هُْـم َو َم ْن يَت ََولَّهُ ْم فَأُولَئِ َـ‬ ‫إِ ْخ َر ِ‬
‫قــال الحكيم‪ :‬هــذه اآليــات من أصــرح اآليــات الــني تــذكر أســباب مشــروعية‬
‫الجهــاد‪ ،‬وأنــه فقــط في حــق الــذين يقــاتلون المســلمين على دينهم لــيردوهم عنــه‪،‬‬
‫ويخرجونهمـ من دارهم‪ ،‬أو في حـق الـذين يظــاهرون المشـركين ويســاعدونهمـ على‬
‫هذه األمور‪ ..‬بل اآليات تأمر بالبر واإلحسان للمشركين والكفار الــذين لم يظــاهروا‬
‫عليهم عدوا ولم يحاربوهمـ ولم يخرجوهم من ديارهم‪.‬‬
‫ْ‬
‫يل ِ ال ِذينَ يَشـرُونَ‬ ‫َّ‬ ‫هَّللا‬ ‫قـال الرجل‪ :‬فما تقـول في قوله تعـالى‪ ﴿ :‬فَ ْليُقَاتِـلْ فِي َسـبِ ِ‬
‫ف نُ ْؤتِيـ ِه أَجْـ رًا‬ ‫يل هَّللا ِ فَيُ ْقتَـلْ أَوْ يَ ْغلِبْ فَ َسـوْ َـ‬ ‫ْال َحيَــاةَ الـ ُّد ْنيَا بِـاآْل ِخ َر ِة َو َم ْن يُقَاتِــلْ فِي َسـبِ ِ‬
‫َضـ َعفِينَ ِمنَ الرِّ َجـ ا ِل َوالنِّ َسـا ِء‬ ‫يل هَّللا ِ َو ْال ُم ْست ْ‬ ‫َع ِظي ًما (‪َ )74‬و َما لَ ُك ْم اَل تُقَــاتِلُونَ فِي َسـبِ ِ‬
‫ك‬ ‫َان الَّ ِذينَ يَقُولُونَ َربَّنَا أَ ْخ ِرجْ نَا ِم ْن هَ ِذ ِه ْالقَرْ يَ ِة الظَّالِ ِم أَ ْهلُهَا َواجْ َعلْ لَنَا ِم ْن لَــ ُد ْن َ‬ ‫َو ْال ِو ْلد ِ‬
‫َصيرًا ﴾ [النساء‪]75-74 :‬‬ ‫َولِيًّا َواجْ َعلْ لَنَا ِم ْن لَ ُد ْنكَ ن ِ‬
‫قال الحكيم‪ :‬هذه اآليات واضحة في الداللة على أن من أسباب تشريع الجهاد‬

‫‪48‬‬
‫محاربة االضطهادـ الديني‪ ..‬فكفار قريشـ أو غــيرهم إذا اضــطهدواـ المســلمين دينيــا‪،‬‬
‫فــالواجب نصــرة المستضــعفين الــذين يجــدون أقســى أنــواع العــذاب ألنهم اختــاروا‬
‫اإليمان ياإلسالم ديناً‪ ..‬وهناك آيــات قرآنيــة أخــرى تــبين أن الجهــاد يجب أن يكــون‬
‫ضد كل مضطهدـ حق الذين يضطهدون اليهود والنصاى‪.‬ـ‬
‫ب َسـتُ ْدعَوْ نَ‬ ‫قال الرجل‪ :‬فما تقول في قولـه تعـالى‪﴿ :‬قُــلْ لِ ْل ُم َخلَّفِينَ ِمنَ ا ْع َ‬
‫ـرا ِ‬ ‫َ‬ ‫أْل‬
‫س َش ِدي ٍد تُقَاتِلُونَهُْـم أَوْ يُ ْسلِ ُمونَ فَإِ ْن تُ ِطيعُوا ي ُْؤتِ ُك ُـم هَّللا ُ أَجْ رًا َح َســنًا َوإِ ْن‬ ‫إِلَى قَوْ ٍم أُولِي بَأْ ٍ‬
‫تَتَ َولَّوْ اـ َك َما ت ََولَّ ْيتُ ْم ِم ْن قَ ْب ُل يُ َع ِّذ ْب ُك ْم َع َذابًا أَلِي ًمــا﴾ [الفتح‪ ،]16 :‬فهــذه اآليــة واضــحة في‬
‫الداللــة على مشــروعية اإلكــراه الــديني‪ ،‬ومبــادأة اآلخــرين بالقتــال إلدخــالهم في‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫قــال الحكيم‪ :‬ال‪ ..‬ليس كمــا فهمت‪ ..‬فــالقرآن ال يضــرب بعضــه بعضــا‪ ..‬فال‬
‫يجوزـ أن تتناقض هذه اآلية مع اآليات الكثــيرة األخــرى الــتي تنهى عن اإلكــراه في‬
‫الــدين‪ ،‬أو تلـك اآليـات الـتي تعلـل الجهــاد بعلـل وجــود المحــاربين أو المضــطهدين‬
‫غيرهم دينيا‪.‬‬
‫قــال الرجــل‪ :‬فمــا تقــول في تعليــل غايــة الجهــاد باإلســالم‪ ،‬فقــد قــال تعــالى‪:‬‬
‫﴿تُقَاتِلُونَهُ ْم أَوْ يُ ْسلِ ُمونَ ﴾ [الفتح‪]16 :‬؟‬
‫قال الحكيم‪ :‬ليس كما فهمت‪ ..‬وإال تنــاقض القــرآن بعضــه مــع بعض‪ ..‬وإنمــا‬
‫المرد باإلسالم هنا ـ كما هو معهود في اللغة العربية ـ (اإلنقياد)‪ ..‬أي‪ :‬أو ينقادون‪.‬‬
‫ت اأْل َ ْعـ َرابُ آ َمنَّا قُــلْ لَ ْم‬ ‫وهذه اآلية تشبه اآلية التي تتحدث عن األعراب ﴿قَــالَ ِ‬
‫تُ ْؤ ِمنُواـ َولَ ِك ْن قُولُواـ أَ ْسلَ ْمنَا َولَ َّما يَ ْد ُخ ِل اإْل ِ ي َمانُ فِي قُلُوبِ ُك ْم َوإِ ْن تُ ِطيعُوا هَّللا َ َو َر ُســولَهُ اَل‬
‫يَلِ ْت ُك ْم ِم ْن أَ ْع َمالِ ُك ْم َش ْيئًا إِ َّن هَّللا َ َغفُو ٌر َر ِحي ٌم﴾ [الحجرات‪ ،]14 :‬أي‪ :‬استســلمنا وانقــدنا‬
‫إلى نظام الدولة العادلة‪ ،‬فإن اإليمـان يعـني القناعـة الداخليـة‪ ،‬أمـا اإلسـالم فكـل من‬
‫دخل تحت نظام الدولة العادلة‪ ،‬والتزم نظامهـاـ فيــدخل في مســمى اإلســالم بــالمعنى‬
‫العام الذي هو (االنقياد)‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫أْل‬ ‫خَ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫قال الرجل‪ :‬فما تقول في آية السيف‪ ،‬وهي قوله تعــالى‪﴿ :‬فـإِذا ان َسـل ا شـهُ ُر‬
‫صـرُوهُْـم َوا ْقعُـ دُوا لَهُ ْم ُكـ َّل‬ ‫ْث َو َجـ ْدتُ ُموهُْـم َو ُخـ ُذوهُْـم َواحْ ُ‬ ‫ْال ُح ُر ُم فَــا ْقتُلُواـ ْال ُم ْشـ ِر ِكينَ َحي ُ‬
‫ص ٍـد فَإِ ْن تَــابُوا َوأَقَــا ُمواـ َّ‬
‫الصـاَل ةَ َوآتَـ ُوا ال َّز َكــاةَ فَخَ لُّوا َسـبِيلَهُْـم إِ َّن هَّللا َ َغفُــو ٌر َر ِحي ٌم﴾‬ ‫َمرْ َ‬
‫[التوبة‪ ،]5 :‬وهي اآلية الــني ذكــر ســلفنا أنهــا نســخت كــل آيــات الرحمــة والحكمــة‬
‫واإلحسان في القرآن الكريم‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬اقرأ اآليات من بداية سورة التوبة‪ ،‬وتدبر فيها وستراها منســجمة‬
‫مع القرآن جميعا‪ ..‬فاآليات تتحدث عن نوع خاص من المشــركين كــانوا محــاربين‪،‬‬
‫ثم ناكثي عهود‪ ،‬ثم منافقين يتربصون الفرص‪ ،‬ويظاهرون على المؤمنين‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬ها أنت تفسر القرآن بحوادث تاريخية تحصرها فيها‪ ..‬فما الفرق‬
‫بين هذا وبين ما يفعله النسخ؟‬
‫قال الحكيم‪ :‬ال‪ .‬أنا استعنت بالتاريخ‪..‬ولمـ أفسر القرآن به‪ ..‬فــالقرآن كالم هللا‪..‬‬
‫وحقائقه تدل على سنن هللا في خلقه‪ ..‬وهي تنطبق على المجتمعات جميعا‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫قال الرجل‪ :‬فكيف توجه ما ذكرت من تخصيصات؟ـ‬
‫قال الحكيم‪ :‬هي ال تحتاج لي ألوجهها‪..‬ـ فــالقرآن غــني بنفســه‪ ..‬والتخصــيص‬
‫ـرا َءةٌ‬ ‫الذي ذكرته موجودـ في ا آليات نفسها‪ ،‬فاهلل تعــالى يقــول في بدايــة الســورة‪﴿ :‬بَـ َ‬
‫ِمنَ هَّللا ِ َو َرسُولِ ِه إِلَى الَّ ِذينَ عَاهَ ْدتُ ْم ِمنَ ْال ُم ْش ِر ِكينَ ﴾ [التوبة‪ ..]1 :‬فاآليات تتحدث عن‬
‫﴿وقَــاتِلُوا فِي‬ ‫نوع خاص‪ ،‬وليست من اآليات الــني تســن قانونــا عامــا كقولــه تعــالى‪َ :‬‬
‫َسبِي ِل هَّللا ِ الَّ ِذينَ يُقَاتِلُونَ ُك ْم َواَل تَ ْعتَدُوا إِ َّن هَّللا َ اَل ي ُِحبُّ ْال ُم ْعتَ ِدينَ ﴾ [البقرة‪]190 :‬‬
‫باإلضافة إلى هذا فإن السياق الــذي وردت فيــه مــا تســميها بآيــة الســيف تــدل‬
‫على األمر بإجارة المستجيرين من المشركين المحاربين حــتى يســمعوا كالم هلل‪ ،‬ثم‬
‫يتم إيصالهم إلى مأمنهم‪ ،‬بمعنى أن يصلوا إلى قومهم المشــركين المحــاربين‪ ،‬وهــذا‬
‫ظاهر أنه ال داللة فيه على اإلكراه في الدين‪ ،‬وإنما كان ســبب القتــال هــو المحاربــة‬
‫والعداوة من أنوع خاصة من المشركين‪ ،‬وليس الموضوعـ مسألة إكرإه على الــدين‪،‬‬
‫وإال فكيف يجار المشرك‪ ،‬ثم تتم حمايته إلى أن يبلــغ مأمنــه‪ ،‬فلــو كــان الكفــر ســبب‬
‫القتال لما كانت هذه اإلجار والحماية‪.‬‬
‫باإلضــافة إلى هــذا فــإن في اآليــات اســتثناء للــذين عاهــدهم المســلمون عنــد‬
‫المسجد الحرام‪ ،‬فــأمرـ هللا عــز وجــل باالســتقامة لهم على العهــود وتحــريم نقضــها‪،‬‬
‫وهذا يدل على أن اآليات نزلت في محاربين وناقضي عهود ومتآمرين على الدولــة‬
‫النبوية‪..‬‬
‫ألقى رجل من المحاربين سيفه‪ ،‬وقال‪ :‬الحمد هلل لقد فتح هللا علي بسبب قولــك‬
‫هذا ما كان محجوبا عني من سماحة اإلسالم وسالمه ورحمته‪ ..‬لقدكنت أتصــور أن‬
‫القرآن جميعا نسخ بتلك اآلية‪ ..‬ولكني اآلن أراها بمنظار آخر‪.‬‬
‫واســمحوا لي إخــواني ممن حملت عليكم ســيفي‪ ،‬أو حملتم ســيوفكمـ علي أن‬
‫أشرح لكم بمثال ما فتح هللا علي من فهمها‪.‬‬
‫إن مثــل ذلــك مثــل مــدير مدرســة جمــع المشــاغبين من الطالب في المرحلــة‬
‫المتوســطة‪ ،‬والمشــاغبين في المرحلــة الثانويــة‪ ،‬ثم أمــر المــدير أحــد المعلمين أن‬
‫يســتدعي أوليــاء أمــور (طالب المرحلــة المتوســطة)‪ ،‬وأن يخص ـمـ الــدرجات على‬
‫(طالب المرحلــة الثانويــة)‪ ،‬فــإن المــراد هنــا هــو خصــم درجــات طالب المرحلــة‬
‫الثانوية (المشاغبين) واستدعاء أولياء الطالب المشــاغبين من المرحلــة المتوســطة‪،‬‬
‫وليس خصــم درجــات كــل طالب الثانويــة وال اســتدعاء كــل أوليــاء أمــورـ طالب‬
‫المتوسطة‪ ،‬فكيف إذا أضاف المــدير بالتنصــيص على أن من لم يشــاغب من طالب‬
‫المرحلتين ال يناله خصم درجــة وال اســتدعاء ولي أمــر‪ ،‬وفيـ ســورة التوبــة قــد أتى‬
‫االســتثناء واضــحا‪ ،‬وهــو قولــه تعــالى‪ ﴿ :‬إِاَّل الَّ ِذينَ عَاهَــ ْدتُ ْم ِمنَ ْال ُم ْشــ ِر ِكينَ ثُ َّم لَ ْم‬
‫يَ ْنقُصُو ُك ْـم َش ْيئًا َولَ ْم يُظَا ِهرُوا َعلَ ْي ُك ْم أَ َحدًا فَأَتِ ُّموا إِلَ ْي ِه ْم َع ْه ـ َدهُ ْم إِلَى ُمـ َّدتِ ِه ْم إِ َّن هَّللا َ ي ُِحبُّ‬
‫ْال ُمتَّقِينَ ﴾ [التوبة‪]4 :‬‬
‫قال رجل من القوم‪ :‬فما تقــول في قولــه تعــالى في نفس الســياق‪ ﴿ :‬فَـإِ ْن تَــابُوا‬
‫صاَل ةَ َوآتَ ُوا ال َّز َكاةَ فَخَ لُّوا َسبِيلَهُ ْم إِ َّن هَّللا َ َغفُو ٌر َر ِحي ٌم ﴾ [التوبــة‪ ،]5 :‬فاآليــة‬ ‫َوأَقَا ُموا ال َّ‬

‫‪50‬‬
‫تشير إلى أن إخالء سبيل المشركين والكف عنهم لن يتم إال بالتوبــة وإقامــة الصــالة‬
‫إيتاء الزكاة‪ ..‬أليس في ذلك إكراها؟‬
‫قال الحكيم‪ :‬ال‪ ..‬وإال ضرب القرآن بعضــه بعضــا‪ ..‬مــرد اآليــة الكريمــة هــو‬
‫وصفـ لمآل هؤالء بأن من ترك محاربة المسلمين وامتنع عن معاداتهم سيصبح في‬
‫آخر األمر مقيما ً للصالة ومؤدياًـ للزكاة وأخا ً لبقية المسلمين‪ ،‬كما قال تعــالى في آيــة‬
‫أخرى في سورة الممتحنة‪َ ﴿ :‬ع َسى هَّللا ُ أَ ْن يَجْ َع َل بَ ْينَ ُك ْم َوبَ ْينَ الَّ ِذينَ عَا َد ْيتُ ْم ِم ْنهُ ْم َم َ‬
‫ــو َّدةً‬
‫َوهَّللا ُ قَ ِدي ٌر َوهَّللا ُ َغفُو ٌر َر ِحي ٌم﴾ [الممتحنة‪]7 :‬‬
‫فهذه المودة لن تكون إال بعد توبتهمـ بإقامتهمـ الصالة وإيتائهم الزكاة وهــذا مــا‬
‫حصل ألكثر القبائل حول مكة والمدينة إذ أصبحواـ أخوة للمسلمين األوائل‪.‬‬
‫قام رجل من القوم‪ ،‬وقال‪ :‬أرك تستدل بالقرآن‪ ..‬وتنسى الحــديث‪ ..‬أال تعــرف‬
‫بأن السنة تفسر القرآن؟‬
‫قال الحكيم‪ :‬بلى‪ ..‬السنة تبين القرن‪ ..‬وال تتناقض معه‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬وأحاديث الردة‪ ..‬أنسيتها‪ ..‬أم أنك من القرآنــيين الــنين ال يؤمنـؤنـ‬
‫بالسنة؟‬
‫قال الحكيم‪ :‬أنا من الذين ينسجمون مع القرآن والسنة‪ ..‬وال يضــربون القــرآن‬
‫بالسنة‪ ..‬وعلى هذا الميزان رحت أبحث عن كل ا ألحاديث الواردة في الموضــوع‪،‬‬
‫فوجدتها على صنفين‪ :‬صنف يتفق مع المــراد القــرآني‪ .‬وهــذا على العين والــرأس‪..‬‬
‫ألنه يطبق ما ورد في القرآن الكريم من معان‪ ..‬وصنفـ يتنــاقض مــع القــرآن‪ ..‬وقــد‬
‫رميت به عرض الحائط‪..‬‬
‫أشــهر رجــل ســيفه‪ ،‬وصــاح‪ :‬من أنت حــتى تــرمي بأحــاديث رســول هللا ‪‬‬
‫غرض الحائط؟‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهات الحديث الذي تعتمدون عليه في قتال من يخالفكم‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬الحديث الذي هــو أشــهر من نــار على علم‪ ..‬والــذي نحفظــه كمــا‬
‫نحفظ القرآن‪ ،‬وهو (من بدل دينه فاقتلوه)‬
‫قال الحكيم‪ :‬أليس من رواة هذا الحديث عكرمة مولى ابن عباس؟‬
‫قال الرجل‪ :‬أجل‪ ..‬وهو من ثقاة المحدثين‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهل انفرد به دون تالميذ ابن عباس جميعا؟‬
‫قال الرجل‪ :‬أجل‪ ..‬وليس هناك من ضرر في ذلك‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬بلى‪ ..‬فيه ضرر‪ ..‬فــانفراد عكرمــة بهــذا الحــديث عن ابن عبــاس‬
‫دون بقية تالميذه األكثر اختصاصا ً به كسعيد بن جبير وعطاء ومجاهد وغيرهم من‬
‫دواعي التوقفـ في قبول هــذا الحــديث‪ ..‬باإلضــافة إلى ذلــك فــإن تالميــذ ابن عبــاس‬
‫المتفق على ثقتهم يعدون بالعشرات ولم يرووه عنه رغم أهمية الحديث واختصــاره‬
‫وسهولة حفظه‪ ،‬ورغم ارتباطه بحــد من الحــدود الخطــيرة‪ ..‬فكيــف يجهــل عشــرات‬
‫الــرواة عن ابن عبــاس هــذا الحــديث‪ ،‬ويجهــل هــذا الحــديث الصــحابة والتــابعون‪،‬‬
‫ويعلمهاـ تابعي واحد هو نفسه محل إشكال واختالف؟‬

‫‪51‬‬
‫قال الرجل‪ :‬ال أسلم لك في هذا‪ ..‬فالثقة مهمــا روى فهــو صــادق‪ ..‬وال يهم أن‬
‫يرويـ اآلخرون ما روى‪ ،‬أو يتكاسلواـ عن روايته‪.‬‬
‫قــال الحكيم‪ :‬ال بــأس‪ ..‬فحــدثني عن عكرمــة‪ ..‬أليس هــو من الخــوارج الــذين‬
‫حاربواـ اإلمام عليا‪ ..‬وهذا الحديث فيه تجريح خطير لإلمام علي‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬حتى لو كان من الخوارج‪ ،‬فالعبرة بصدقه‪ ،‬ال بكونــه خارجيـاـ أو‬
‫مبتدعا‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬ال بأس‪ ..‬فهل اتفق كل علمائكم على توثيقه؟‬
‫لم يجد الرجل ما يجيب بــه‪ ،‬فقــال الحكيم‪ :‬ال بــأس‪ ..‬أظن أن ذاكرتـكـ خانتــك‬
‫حول كالم المحدثين عنه‪ ..‬أو أن حرصــك على صــحة الحــديث جعلــك ال تنقب عن‬
‫رواته وتدققـ فيهم‪.‬‬
‫رمى الرجــل بســيفه‪ ،‬وقــال‪ :‬صــدقت‪ ..‬لقــد كنت أعــرف جيــدا مــا قيــل في‬
‫عكرمة‪ ..‬ولكن لحرصيـ على صحة الحديث لم أكن أهتم بــذلك‪ ..‬لقــد رويت بســندي‬
‫ي كما كذب عكرمة على ابن عباس‪..‬‬ ‫عن ابن عمر أنه قال لنافع‪ :‬ال تكذب عل َّ‬
‫وفي ذلك أكبر تجـريح لـه‪ ..‬فالـذيـ جرحـه ليس البخـاري وال يحي بن معين‪،‬‬
‫بل هو ابن عمر نفسه‪ ..‬وهو من الصــحابة‪ ..‬وهــو يعرفــه‪ ..‬وهــو أدرى النــاس بــه‪..‬‬
‫ولكن لحبنا للحديث غفلنا عن ذلك كله وتغافلنا عنه‪.‬‬
‫رمى آخــر بســيفه‪ ،‬وقــال‪ :‬صــدقت‪ ..‬وقــد رويت بســندي عن جريــر بن عبــد‬
‫الحميد عن يزيد بن أبي زياد‪ ،‬قال‪ :‬دخلت على علي بن عبد هللا بن عباس وعكرمــة‬
‫مقيد‪ ،‬فقلت‪ :‬ما لهذا؟ قال‪ :‬إنه يكذب على أبي (‪.)1‬‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬صدقتماـ‪ ..‬وقد قال ابن حجر عنه‪( :‬وفد عكرمــة على‬
‫نجدة الحروري فأقام عنده تسعة أشهر‪ ،‬ثم رجع إلى ابن عباس فسلم عليه‪ ،‬فقال‪ :‬قــد‬
‫جاء الخبيث قال‪ :‬فكان يحدث بــرأي نجــدة‪ ،‬وكــان يعــني نجــدة أول من أحــدث رأي‬
‫الصفرية وقال الجوزجاني قلت ألحمد بن حنبل أكان عكرمة إباضيا فقال‪ :‬يقال‪ :‬إنه‬
‫كان صفرياً‪ ،‬وقال أبو طالب عن أحمــد كــان يــرى رأي الخــوارج الصــفرية‪ ،‬وقــال‬
‫يحيى بن معين كان ينتحل مذهب الصفرية وألجل هذا تركــه مالــك‪ ،‬وقــال مصــعب‬
‫الزبيري كان يرى رأي الخوارج)(‪)2‬‬
‫قال رجل من القوم‪ :‬ال بأس‪ ..‬فلنسلم لك بأن هذا الحديث قــد يكــون ضــعيفا أو‬
‫حتى مكذوبا وموضوعا‪ ..‬لكن ما تقول في الحديث اآلخر‪( :‬ال يحل دم امــرئ مســلم‬
‫إال بإحدىـ ثالث‪ ،)..‬فقد ذكر من تلك الثالث‪( :‬التارك لدينه المفارق للجماعة)(‪)3‬‬
‫قـال الحكيم‪ :‬أليس من العجيب أن يــروى عن رسـول هللا ‪ ‬حــديث يتضــمن‬
‫هذه الحدود الخطيرة‪ ..‬أو هذه القوانين الجنائية الكثيرة‪ ..‬ثم ال يرويــه إال اآلحــاد من‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬وفيات األعيان ‪ ،320 :1‬وتهذيب التهذيب ‪ 238 :7‬وسير أعالم النبالء للذهبي ‪.22 :5‬‬
‫‪ )(2‬مقدمة فتح الباري ‪.425‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫الناس عن اآلحاد منهم‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬أتقصد رد حديث اآلحاد؟‬
‫قال الحكيم‪ :‬أنا ال أقصــد رده مطلقــا‪ ..‬ولكن أســتغرب أن تســن الدولــة قانونــا‬
‫خطيرا‪ ،‬ثم ال يسمع به إال محام واحد‪ ،‬أو قاض واحدا‪ ..‬أليس هذا عجيبا؟‬
‫قــال الرجــل‪ :‬وضــح قصــدك‪..‬ـ فنحن ال نفهمــك‪..‬ونخــاف أن تكــون من الــذين‬
‫ينكرون السنة‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬معاذ هللا أن أنكر السنة‪ ،‬أو أتجرأ على ذلــك‪ ..‬ومعــاذـ هللا أن أقبــل‬
‫أي كذبة تنسب إلى رسول هللا ‪ ‬باسم السنة‪..‬‬
‫قال الرجل‪ :‬فما تقصد بقولك ذلك؟‬
‫قال الحكيم‪ :‬ألستم تزعمون أن السلف كانوا أكــثر النــاس حرصــا على أحكــام‬
‫الدين وتبليغها؟ـ‬
‫قال الرجل‪ :‬بلى‪ ..‬وكل تراثهم يشهد بذلك‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬أفال يصيبك العجب أن تــرى أحــاديث تتعلــق بفــروع بســيطة من‬
‫أمور العبادات التي ال دمـاء فيهـا وال أمـوال‪ ،‬ومـع ذلـك تـروى بالروايـاتـ الكثـيرة‬
‫المتواترة‪ ،‬ثم نجد مثل هذه الرواية يرويها اآلحاد‪ ..‬فال يرويهــا من الصـحابة إال ابن‬
‫مسعود‪..‬ـ ثم تتوقفـ من بعده على راو واحد هو سليمان بن مهران األعمش‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬أراك تومئـ للطعن في الصحابة‪ ..‬وفي ابن مسعود‪.‬ـ‬
‫قال الحكيم‪ :‬معاذ هللا أن أفعل ذلك‪ ..‬فابن مسعود من صحابة رســول هللا ‪..‬‬
‫وال أتهم صدقه‪ ،‬وال عدالته‪ ..‬ولكني أتهم ذلك الذي يتوقفـ الحديث عليه‪ ..‬أليس هــو‬
‫متهم عندكم‪ ،‬وعند محدثيكم؟‬
‫قال الرجل‪ :‬أتقصد سليمان بن مهران األعمش؟‬
‫قال الحكيم‪ :‬أجل‪ ..‬ألم يتهمه حفاظكم بالتدليس‪ ..‬ألم يقــل فيــه الحافــظ العالئي‪:‬‬
‫(مشهو ٌر بالتدليس‪ ،‬مكث ٌر منه)(‪ ..)1‬والمشكلة الكبرى في تدليسه أنه كــان يــدلس عن‬
‫الضعفاء‪ ،‬وقد يدلّس تدليس تسوية‪ ..‬وقد قال فيه ابن المبارك‪( :‬إنما أفسد حديث أهل‬
‫الكوفة أبو إسحاق واألعمش لكم)‪ ..‬وقال المغــيرة‪( :‬أهلــك أهــل الكوفــة أبــو إســحاق‬
‫وأعيمشكمـ هــذا)‪ ..‬وقــال أحمــد بن حنبــل‪( :‬منصــور أثبت أهــل الكوفــة‪ ،‬ففي حــديث‬
‫األعمش اضــطراب كثــير)‪ ..‬وقــال ابن المــديني‪( :‬األعمش كــان كثــير الــوهم في‬
‫أحاديث هؤالء الضعفاء)‪ ..‬وقال سليمان الشاذكوني‪:‬ـ (من أراد التديّن بالحــديث‪ ،‬فال‬
‫يأخذ عن األعمش وال عن قتادة‪ ،‬إال ما قاال‪ :‬سمعناه)(‪)2‬‬
‫رمى الرجل سيفه‪ ،‬وقــال‪ :‬بــورك فيــك‪ ..‬وأضــيف إلى مــا ذكــرت بــأن ســائر‬
‫الرواة الذين رووا الحديث كلهم متكلم فيهم‪ ،‬ومتهمون‪ ..‬فأبو بكــر بن أبى شــبية قــال‬
‫عنه الحاكم‪ :‬ليس بالمتين‪ ،‬وقال عنه أبو بكر بن أبى داود‪ :‬ضــعيف‪ ،‬وقــال عنــه ابن‬

‫‪ )(1‬جامع التحصيل (‪.)188 \1‬‬


‫‪ )(2‬الخطيب‪ ،‬الكفاية (ص‪ ،)364‬ميزان االعتدال (‪)316 \3‬‬

‫‪53‬‬
‫حيان‪ :‬ربما أخطأ‪.‬‬
‫ً‬
‫وأبو عمر النخعى كان قاضيا للدولة العباسية‪ ،‬ومن الفقهاء المتعاونين معهــا‪،‬‬
‫وقدـ قال عنه أبو زرعه‪( :‬ساء حفظه بعد ما استقضــى‪ ،‬أى بعــد أن تــولى القضــاء)‪،‬‬
‫أي أنه فقد الثقة فيه بعد أن اختارته الدولة قاضياً‪..‬ـ وقال عنه داود بن رشــيد‪:‬ـ حفص‬
‫بن غيث كثير الغلط‪ ..‬وقال عنه ابن عماد‪ :‬كان عسراً فى الحـديث جـداً‪ ،‬وقـال عنـه‬
‫عبــد هللا بن أحمــد بن حنبــل‪ :‬قــال عنــه أبى‪ :‬أنــه أخطــأ‪ ..‬وقــال ابن حيــان عن أحــد‬
‫مروياته فى الحديث‪ :‬لم يحدث بهذا الحديث أحد إال حفص بن غياث كأنه وهم فيه‪..‬‬
‫أى انفرد بحديث لم يقله أحد غيره‪ ،‬وألنه غير ثقة فقد اتهمه ابن حيان بالوهم‪.‬‬
‫أما أبو معاوية الضرير‪،‬ـ فقد قال عنه الحاكم أنه احتج بــه الشــيخان أى مســلم‬
‫والبخارى وقد اشتهر عنه الغلو‪ ..‬وقال عنه ابن معين‪ :‬أبو معاوية أحــاديث منــاكير‪،‬‬
‫وقال عنه العجلى‪ :‬أنه ثقة ويرىـ اإلرجـاء‪ ،‬أى مدحـه بأنـه ثقـة ولكن اتهمـه أنـه من‬
‫المرجئة‪ ،‬وتلك تهمه تعيب الراوى وقال عنه يعقوب بن شيبة‪ :‬أنه ثقة وربمــا دلس‪،‬‬
‫وكان يرى اإلرجاء‪ ..‬أى أنه مدحه ثم اتهمه بالتدليس وبأنه من المرجئة‪ ..‬وقالـ عنه‬
‫أبو داود‪ :‬كان مرجئاً‪ .‬وقال عنه أبو معاوية البجلى‪ :‬فيه جهالة‪.‬‬
‫قام رجل من القــوم يصــيح‪ :‬مــا بــالكم يــا قــومـ ترفضــون ســنة رســول هللا ‪‬‬
‫بأمثال هذه الخدع والحيل‪ ..‬أهانت عليكم سنة رسول هللا ‪ ‬لهذه الدرجة؟‬
‫قــال الحكيم‪ :‬نحن لم نســتهن بســنة رســول هللا ‪ ،‬وإنمــا رحنــا نــدافع عنهــا‪،‬‬
‫ونقدم المتواترـ منها على اآلحاد‪ ..‬والصحيح على الضعيف‪..‬‬
‫قال الرجل‪ :‬فهل هناك أحاديث متواترة تنسخ ذينك الحديثين؟‬
‫قــال الحكيم‪ :‬أجــل‪ ..‬وقــد وردت في الصــحاح‪ ،‬وهي متــواترة‪ ،‬وأنت تعلم أن‬
‫المتواترـ مقدم على اآلحاد‪ ..‬وهي تدل على خالف ما ذكرت‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬ما هي‪ ..‬أنا قرأت كتب السنن جميعا‪ ..‬ولم أرها‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬منها (ال نكره أحداً على دين‪ ،‬فقد تبين الرشد من الغي‪ ،)..‬ومنهـا‬
‫(لكم أيها الكفار دينكم ولنا ديننا ال نكــرهكمـ على ديننــا وال تكرهونن ـاـ على دينكم‪،)..‬‬
‫ومنها (ال يقتل رجل على دينه وإنما على حربــه‪ ،)..‬ومنهــا (من بــدل دينــه فلــه نــار‬
‫جهنم خالداً فيها‪ ،)..‬ومنها (من ارتد على وجهه وترك دينه سيعاقبه هللا بنــار أعــدها‬
‫للكافرين‪ ،)..‬ومنهــا (من تــرك دينــه فســيغنيـ هللا عنــه‪ ،)..‬ومنهــا (ال يحــل المــريء‬
‫يؤمن باهلل أن يقعد مع من يستهزيء بآيات هللا‪ ،‬فليجتنب مجلسهم‪)..‬‬
‫غضب الرجل غضبا شديدا وأشــهر ســيفه‪ ،‬وراح يقــول‪ :‬أنت كــذاب وضــاع‬
‫حالل الدم‪ ..‬فال توجد أحاديث بهذه األلفاظ‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬أنشدك باهلل‪ ..‬أريت لــو أن هنــاك أحــاديث متــواترة بتلــك األلفــاظ‬
‫أكنت ترجحهاـ على حديث القتل؟‬
‫قال الرجل‪ :‬أجل‪ ..‬فالمتواترـ مقدم على اآلحاد‪.‬‬
‫قــال الحكيم‪ :‬فتلــك األحــاديث هي نفس مــا ورد في القــرآن‪ ..‬وهــو متــواتر‪..‬‬
‫ويستحيلـ على رسول هللا ‪ ‬أن يخالف كالم ربه‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫قال الرجل‪ :‬هذه حجة ضعيفة‪ ..‬نحن نريد أحاديث رواها الثقاة‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬ال بأس‪ ..‬لك ذلـك‪ ..‬لقـد بحثت في ذلـك‪ ..‬فأنـا أعلم أن بعضـكمـ ال‬
‫يقتنع بالقرآن الكريم إن خالف معتقده‪ ،‬لكنه يقتنع بحديث حسن اإلســناد‪ ،‬أو صــححه‬
‫ابن حجر أو األلبــاني‪ ..‬وقـدـ جمعت في ذلــك هــذا المجمــوع‪ ،‬والــذي ســميته (حريــة‬
‫االعتقاد في القرآن الكريم والسنة النبوية)(‪ ..)1‬وتجدون فيه التفاصيل الكثيرة‪.‬‬
‫وقد وجدت أن ا ألحاديث المقررة لحرية االعتقاد والمتفقة مع القــرآن الكــريمـ‬
‫تنقسم إلى أربع مجموعات‪..‬‬
‫قالوا‪ :‬فحدثنا عن المجموعة األولى منها‪.‬‬
‫قال‪ :‬هي تلك األحاديث الــتي تــذكر عــرض رســول هللا ‪ ‬مــا أرســله هللا بــه‬
‫على القبائل‪ ،‬فهي جميعا تؤكد على حرية االعتقاد لجميع الناس سواء من كــان منهم‬
‫من أهل الكتاب أو من غيرهم‪ ..‬فالنبي ‪ ‬في تلك األحــاديث لم يكن يطلب منهم إال‬
‫النصرة إلبالغ الرسالة وحمايته‪ ..‬وهو طلب لمنع االضطهادـ الــديني وإتاحــة حريــة‬
‫الــدعوة‪ ،‬ولــو تحققت هــذه الحريــة في مكــة لمــا طلب أحــداً لحمايتــه من االضــطهادـ‬
‫والمنع من تبليغ ما أمره هللا بتبليغه‪.‬‬
‫بل إن حــوار النــبي ‪ ‬مـع تلــك القبائــل ــ كمــا تنص الروايـات الكثــيرة ــ ال‬
‫يلزمها باإليمان بالرسالة‪ ،‬وإنما يدعوها إلى ذلك‪ ،‬فمن أبى لم يكرهه على اإليمان‪.‬‬
‫قام رجل من القوم‪ ،‬وقال‪ :‬إن مثل تلك األحاديث قد نجــدها في كتب الســيرة‪..‬‬
‫وهي مما ال يعني شيئا في االستدالل الفقهي‪..‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬كال‪ ،‬فهذه األحاديث لها أهمية كــبرى‪ ،‬ألن العــرض على القبائــل‬
‫يعكس الصورة األدق للسنة النبوية أكثر من األحاديث الفرديــة‪ ،‬وكــذلك المعاهــدات‬
‫والمواثيــق‪ ،‬فهــذه يشــارك فيهــا كثــير من النــاس‪ ،‬وهي أولى بــالتطبيق من أحــاديث‬
‫اآلحاد‪ ،‬والنبي ‪ ‬ال يخلف وعداً وال ينقض ميثاقاً‪ ،‬وهو عندما يعــرض نفســه على‬
‫القبائل كان يكررـ أنه يريــد إبالغ رســالة هللا فقــط‪ ،‬دون إكــراه ألحــد على دين‪ ،‬ولــو‬
‫نصرته قبيلة ثم تبين لها اختالف وعده لهم بأال يكره أحداً لكان هذا مدخالً للشك في‬
‫النبوة‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬ما دام األمر كما ترى بهذا الوضــوح‪ ،‬فلم لم يشــتهر‪ ..‬ولم خالفــه‬
‫المسلمون على مدار التاريخ؟‬
‫هَّللا‬
‫َي ِ َو َر ُسـولِ ِه‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫اَل‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫قرأ الحكيم قوله تعــالى‪﴿ :‬يَاأيُّهَــا ال ِذينَ آ َمنــوا تقـ ِّد ُموا بَ ْينَ يَـد ِ‬
‫َواتَّقُــوا هَّللا َ إِ َّن هَّللا َ َس ـ ِمي ٌع َعلِي ٌم﴾ [الحجــرات‪ ،]1 :‬ثم قــال‪ :‬أراكم تريــدون أن تقــدموا‬
‫المسلمين على ســيد المســلمين‪ ..‬وتقــدموا مــا ورثتمــوه من آراء على مــا وردكمـ عن‬
‫نبيكم‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬معاذ هللا أن نفعل ذلك‪ ..‬وإنما أستفسر عن سر ذلك‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬أنتم تعلمون أن السلطان قد زاغ عن القرآن‪ ،‬كما أخبر رسول هللا‬
‫‪ )(1‬وهو للشيخ حسن بن فرحان المالكي‪ ،‬وهو من أهم ما كتب في الموضوع‪ ،‬وقد حاولنا أن نلخص الكثير من‬
‫الفوائد واالستنباطاتـ منه هنا‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫‪ ..‬ولم يكن من مصلحة الحكام أن تظهر أمثال تلك النصــوص الــتي تعكــر عليهم‬
‫صفو حبهم للتوسع‪..‬‬
‫قال الرجل‪ :‬أال ترى أن ذلك كان مصلحة لإلســالم والمســلمين‪ ..‬فقــد اتســعت‬
‫أرضهم‪ ،‬ودخل الناس من بالد كثيرة إلى اإلسالم‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬ولو أنهم نشروا ـ بدل ذلك ـ تعاليم الســماحة والســالم‪ ،‬وانتشــروا‬
‫بالحكمة والموعظة الحسنة‪ ..‬لدخل في اإلســالم طواعيــة أكــثر ممــا دخــل فيــه تحت‬
‫الحروب الطاحنة‪ ،‬بل إن التاريخ يشهد أن عدد المسلمين الذين اعتنقوا اإلسالم عبر‬
‫الدعوة والتجارة أكثر بكثير من عدد المسلمين الداخلين بالفتوح‪.‬‬
‫قـام رجـل آخـر‪ ،‬وقـال‪ :‬إلى اآلن نسـمع جعجعـة وال نـرى طحينـا‪ ..‬أين هـذه‬
‫األحاديث التي تدعي وجودها‪ ..‬أم أنك لفقتها من عندك لتتالعب بعقولنا وعواطفنــا‪،‬‬
‫وتهزـ نيران الغيرة على الدين من قلوبنا‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬من تلك الروايات ما حدث به عروة بن الزبير قال‪ :‬لمــا أفســد هللا‬
‫عــز وجــل صــحيفة مكــرهم خــرج النــبي ‪ ‬وأصــحابه‪ ،‬فعاشــواـ وخــالطواـ النــاس‬
‫ورســول هللا ‪ ‬في تلــك السـنين يعـرض نفسـه على قبائـل العــرب في كــل موسـم‪،‬‬
‫ويكلم كل شريف ال يسألهم مــع ذلــك إال أن يــؤووه ويمنعــوه ويقــول‪( :‬ال أكــره منكم‬
‫أحدا على شيء؛ من رضيـ الذي أدعوه إليه قبله‪ ،‬ومن كرهه لم أكرهــه‪ ،‬إنمــا أريــد‬
‫أن تحوزوني مما يراد بي من القتل‪ ،‬فتحوزونيـ حــتى أبلــغ رســاالت ربي ويقضــي‬
‫هللا لي ولمن صــحبنيـ بمــا شــاء)‪ ،‬فلم يقبلــه أحــد منهم‪ ،‬وال أتى على أحــد من تلــك‬
‫القبائل إال قالوا‪ :‬قوم الرجل أعلم به أفترىـ رجال يصلحنا وقدـ أفسد قومه؟)(‪)1‬‬
‫قال الرجل‪ :‬وعينا هذا‪ ..‬لكن ما وجه داللتها على ما تدعونا إليه؟‬
‫قال الحكيم‪ :‬إنها واضحة جدا في الداللة على ما دعــوتكم إليــه‪ ،‬فــالنبي ‪ ‬لم‬
‫يوجب على من ينصره اإلسالم‪ ،‬ولم يشترط عليه اإليمان ولم يعزلــه عن الجماعــة‪،‬‬
‫ولم يفرض عليه جزيـة‪ ،‬ولم يخصـه بمعاملـة تنتقص منـه‪ ،‬وإنمـا اشـترطـ أن يكـون‬
‫تحت السقف العام في نصرة النبي ‪ ‬ومنعه من أعدائه حتى يبلغ رسـالة ربــه‪ ،‬وال‬
‫يعقل أن نظن أن النبي ‪ ‬لو وافقته قبيلة على ذلــك‪ ،‬ثم أســلم النــاس ولم تســلم تلــك‬
‫القبيلة أنه سـيأمر باستئصــالها‪ ،‬فهــذا التصـورـ المهين للنــبي ‪ ‬لم يكن يقـول بـه أو‬
‫يتصوره أعداؤه ومحــاربوه‪ ،‬فكيــف يتصــوره حملــة ســنته وناشــرو ســيرته وفضــله‬
‫وأخالقه؟‬
‫رمى رجل من القوم سـيفه‪ ،‬وقـال‪ :‬صـدقت‪ ..‬وقـد حـدثني من أثـق بـه عن أم‬
‫المؤمنين عائشة أنهــا قــالت‪( :‬كــان رســول هللا ‪ ‬يعــرض نفســه في كــل ســنة على‬
‫القبائل من العرب أن يؤووه إلى قومهم حتى يبلغ كالم هللا عز وجل ورســاالته ولهم‬
‫الجنة)(‪)2‬‬

‫‪ )(1‬أبو نعيم األصبهاني في دالئل النبوة (ج ‪ / 1‬ص ‪)258‬‬


‫‪ )(2‬دالئل النبوة ألبي نعيم األصبهاني (ج ‪ / 1‬ص ‪.)254‬‬

‫‪56‬‬
‫رمى آخر سيفه‪ ،‬وقال‪ :‬صدقت‪ ..‬وقد حــدثني من أثــق بــه عن كعب بن مالــك‬
‫قال‪( :‬أقام رسولـ هللا ‪ ‬ثالث سنين من نبوته مســتخفيا ثم أعلن في الرابعــة‪ ،‬فــدعا‬
‫عشر ســنين يــوافي الموسـمـ يتبــع الحــاج في منــازلهمـ بعكــاظ ومجنــة وذي المجــاز‪،‬‬
‫يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلــغ رســالة ربــه عـز وجــل ولهم الجنــة فال يجــد أحــدا‬
‫ينصره‪ ،‬حتى إنه يسأل عن القبائل ومنازلهم‪،‬ـ قبيلة قبيلة‪ ،‬حتى انتهى إلى بني عامر‬
‫بن صعصــعة فلم يلــق من أحــد من األذى قــط مــا لقي منهم حــتى خــرج من عنــدهم‬
‫وإنهم ليرمونه من ورائه‪)1()..‬‬
‫فهذا الحديث يقوى الحديثين السابقين‪ ..‬وسنده قوي‪ ،‬وداللته واضحة ال يمكن‬
‫الجدال فيها‪ ..‬لكن عقولنا المغلولة بأغالل الكبر جعلتنا ال نلتفت لذلك‪.‬‬
‫رمى آخر سيفه‪ ،‬وقال‪ :‬صدقت‪ ..‬وقد حدثني من أثق به عن جابر بن عبــد هللا‬
‫قــال‪ :‬كــان رســول هللا ‪ ‬يعــرض نفســه على النــاس بــالموقف يقــول‪ :‬أال رجــل‬
‫يعرضني على قومه؟ فإن قريشا قد منعونيـ أن أبلغ كالم ربي‪ ،‬قال‪ :‬فأتاه رجــل من‬
‫همدان فقال‪ :‬ممن أنت؟ قال‪ :‬من همدان‪ ،‬قال‪ :‬فعنـد قومـك منعـة؟ قـال‪ :‬نعم‪ ،‬فـذهب‬
‫الرجل ثم إنه خشي أن يخفره قومه فرجع إلى النبي ‪ ،‬فقال‪ :‬أذهب فأعرض على‬
‫قوميـ ثم آتيك فذهب وجاءت وفودـ األنصار في رجب‪)2()..‬‬
‫فهــذا الحــديث واضــح الداللــة في أن مهمــة النــبي ‪ ‬تقتصــر على البالغ‪،‬‬
‫وحماية هــذا البالغ بقتــال المحــارب لـه والمعتــديـ على بيضــة الدولــة الناشــئة بكــل‬
‫مواطنيها مسلمين ويهود ومنافقين وكفار‪.‬‬
‫رمى آخر سيفه‪ ،‬وقال‪ :‬صدقت‪ ..‬وقــد حــدثني من أثــق بــه عن جــابر بن عبــد‬
‫هللا‪ :‬أن النبي ‪ ‬لبث عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في الموسمـ ومجنة وعكاظ‬
‫ومنازلهم من منى‪ ،‬يقول‪( :‬من يؤويني‪ ،‬من ينصرني‪،‬ـ حتى أبلـغ رسـاالت ربي فلـه‬
‫الجنة؟) فال يجد أحدا ينصره وال يؤويه)(‪)3‬‬
‫وهــذا الحــديث يــبين أن ســبب العــرض هــو أن قريشـا ً اضــطهدت النــبي ‪‬‬
‫ومنعته من دعوة الناس‪ ،‬وهذا يدل على أن الهجرة كانت لهذا السبب‪ ،‬وليس التهيــؤ‬
‫للقتال‪ ،‬ولو لم تضطهدـ قريش المسلمين‪ ،‬ومنعهم النبي ‪ ‬من عــرض اإلســالم لمــا‬
‫هاجر‪.‬‬
‫قام رجل من القوم‪ ،‬وهو مسلط سيفه‪ ،‬وقال‪ :‬قد علمنا هــذا‪ ..‬لكنــه غــير كــاف‬
‫إلقناعنا بما تقول‪ ..‬فهات المجموعة الثانية من األحاديث التي تزعم أنها تؤيدك‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬هي األحاديث الــتي رويت في بيعــة العقبــة مــع األنصــار‪..‬ـ وهي‬
‫بيعة على أساسيات الدين‪ ،‬ومنها‪ :‬أن نقــول الحــق أينمــا كنــا ال نخشــى في هللا لومــة‬
‫الئم‪ ،‬وعلى األمــر بــالمعروفـ والنهي عن المنكــر‪ ،‬وأن من ارتــد عن هــذه البيعــة‬

‫‪ )(1‬دالئل النبوة ألبي نعيم األصبهاني (ج ‪ / 1‬ص ‪)255‬‬


‫‪ )(2‬دالئل النبوة ألبي نعيم األصبهاني (ج ‪ / 1‬ص ‪.)253‬‬
‫‪ )(3‬المستدرك على الصحيحين للحاكم (ج ‪ / 10‬ص ‪.)34‬‬

‫‪57‬‬
‫ونكث فأمره إلى هللا‪ ،‬وليس هناك أمر بقتله وال إكراهه على الدين‪.‬‬
‫رمى رجل بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬صدقت‪ ..‬ولي إجازة بأســانيدهاـ الكثــيرة‪ ..‬بــل أجمــع‬
‫عليها أهل المغازيـ والسير وأهل الحديث‪ ،‬وكلها تذكر أن النــبي ‪ ‬بــايع األنصــارـ‬
‫ثالث بيعات‪ ،‬وكانت األولى والثانية غير ملزمتين‪ ،‬وإنما هما بيعتان على اإلســالم‪،‬‬
‫كأي مجموعة تسلم وتتلقى أوامر الدين الجديد‪ ،‬أمــا البيعــة الثالثــة فهي ملزمــة وهي‬
‫تســتوجب قتــال المحــاربين للــدعوة الجديــدة‪ ،‬وهجــرة النــبي ‪ ‬والوعــد بحمايتــه‪..‬‬
‫وكــانت هــذه البيعــة بمكــة قبــل الهجــرة بســنة‪ ،‬وقــد رويت من طــرقـ عن كثــير من‬
‫الصحابة ممن شهدها منهم عبادة بن الصامت وجابر بن عبــد هللا‪ ،‬وغــيرهم‪ ..‬وليس‬
‫في هذه األحاديث جميعا دعوة لقتل المرتد‪ ،‬أو قتل الناس ألجل دينهم‪.‬ـ‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬صدقت‪ ..‬فكل ما في تلك البيعــة هــو الــدعوة لتكــوين‬
‫جماعة تحمي النبي ‪ ‬ليبلغ رسالته إلى الناس‪ ،‬والتعــاون بين أفــراد تلــك الجماعــة‬
‫على العدل ومحاربة الظلم إما بالسيف وإمــا الكلمــة‪ ،‬وعلى التعــاون والتكــاتفـ فيمــا‬
‫بينهم‪ ،‬ورضاـ الجميع مسبقا ً بإيثار الوافــدين الفقــراء بشــيء من الممتلكــات الخاصــة‬
‫حتى يغني هللا الجميع‪.‬‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬صدقت‪ ..‬وقد كان الصحابة يستدلون بتلك البيعــة في‬
‫شؤونهم جميعا‪ ،‬ومن ذلك ما روي أن عبادة بن الصامت قال‪( :‬بايعنا رسول هللا ‪‬‬
‫ـر ٍة علينـا‪،‬‬ ‫ـره وعلى أثَ َ‬ ‫على الســمع والطاعــة‪ ،‬في العُســر واليُسـر‪ ،‬والم ْن َشـط‪ ،‬والم ْكـ َ‬
‫وعلى أال نُنازع األمر أ ْهلَهُ‪ ،‬وعلى أن نقول بالحق أينمـا ُكنّـا ال نخـافُ في هللا لَوْ َمـ ةَ‬
‫ـروْ ا ُكفـرًا‬ ‫الئم‪.‬وفي روايــة بمعنــاه‪ ،‬وفيــه (وال نُنــازع األمــر أهلــه)‪ ،‬قــال‪( :‬إال أن تَـ َ‬
‫بَواحًا‪ ،‬عندكم فيه من هللا برهان)(‪)1‬‬
‫قام رجل من القوم‪ ،‬وهو مسلط سيفه‪ ،‬وقال‪ :‬قد علمنا هــذا‪ ..‬لكنــه غــير كــاف‬
‫إلقناعنا بما تقول‪ ..‬فهات المجموعة الثالثة من األحاديث التي تزعم أنها تؤيدك‪.‬‬
‫قــال الحكيم‪ :‬هي األحــاديث الــتي وثقت ألعظم وثيقــة حقوقيــة بامتيــاز‪ ،‬وهي‬
‫الوثيقة المسماة [وثيقة المدينة]‪ ،‬وليس فيها دعوة إلى اإلسالم‪ ،‬وال إكـراه عليـه‪ ،‬بـل‬
‫فيها أن المسلمين ومن تحالف معهم كاليهودـ أمة واحدة دون الناس‪.‬‬
‫رمى رجــل بســيفه‪ ،‬وقــال‪ :‬صــدقت‪ ..‬فقــد كــانت تلــك الوثيقــة بمثابــة دســتور‬
‫للمسلمين‪ ،‬وكان المسلمون فيها في منتهى قــوتهم‪ ،‬ومــع ذلــك لم تتضــمن أي عقوبــة‬
‫تتعلق بالمخالف‪ ،‬وال المرتد‪.‬‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬صدقت‪ ..‬وقدـ رويتهاـ باألسانيدـ الكثيرة‪ ..‬وهي تتشكل‬
‫من نحو خمسين بنداً‪ ،‬وليس فيها أي بند يصادرـ حرية االعتقاد‪ ..‬بل ليس فيها ســوى‬
‫الدعوة إلى التكاتفـ والتحــالف ضــد كــل ظــالم ومحــارب‪ ..‬وهي تمتلئ بالــدعوة إلى‬
‫العدل والبر وذم الظلم ووجوب التعاون الستئصاله‪.‬‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬صدقت‪ ..‬فبنودـ الوثيقة كلها تدعو إلى نصرة العــدل‪..‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫وليس نصرة دين على آخر وال قــومـ على آخــرين‪ ..‬نعم فيهــا الــترغيب في اإلســالم‬
‫والدعوة إليه‪ ،‬ولكن ليس فيها اإلكراه عليه وال اشتراطه لالنضمامـ إلى الوثيقة‪.‬‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬صدقت‪ ..‬فبنودـ الوثيقة أوثق من كــل األحــاديث الــتي‬
‫يروونها في منع التعددية داخل الصف اإلســالمي ومحاربــة حريــة الفكــر‪ ،‬فالوثيقــة‬
‫تستوعب اليهود وهم أكثر الناس عداوة للذين آمنوا‪ ،‬وكانواـ في المدينــة أقليــة وكــان‬
‫في المســتطاع أن يخــرجهمـ المســلمون من أي اتفاقيــة‪ ،‬لكن لم يفعــل ذلــك النــبي ‪‬‬
‫والدليل على استطاعة المســلمين فعــل ذلــك أنـه عنــد خيـانتهمـ أخـرجهم بســهولة من‬
‫المدينة وأجالهم‪ ،‬فليسواـ ممن يخاف جانبهم حتى يتنازل لهم المسلمون عن أمور ال‬
‫تحق لهم‪.‬‬
‫قام رجل من القوم‪ ،‬وهو مسلط سيفه‪ ،‬وقال‪ :‬قد علمنا هــذا‪ ..‬لكنــه غــير كــاف‬
‫إلقناعنا بما تقول‪ ..‬فهات المجموعة الرابعة من األحاديث التي تزعم أنها تؤيدك‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬هي أحــاديث كثــيرة عن مرتــدين في عهــد رســول هللا ‪ ..‬ومــع‬
‫ذلك لم يطبق عليهم الحد الذي ادعيتموه‪ ..‬وذلك أكبر دليــل على عــدم صــحة حــديث‬
‫عكرمة في قتل المرتد‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬هذه دعوى‪ ..‬فما دليلها‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬إن شئتم أوردتم لكم أربعة أدلة على ذلك‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬فهات الدليل األول‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬هو مـا رويـ في الصـحاح الـتي تعتمـدونها عن جــابر قـال‪ :‬جـاء‬
‫أعراب ّي إلى النب ِّي ‪ ‬فبايعـه على اإلسـالم‪ ،‬فجـاء من الغـد محمومـاـ ‪ -‬وفي روايــة‪:‬‬
‫ي َوعَك بالمدينة ‪ -‬فقال‪ :‬أقِ ْلني بيعتي‪ ،‬فــأبى‪ ،‬ثم جــاءه‪ ،‬فقــال‪ :‬أقلــني‬ ‫فأصاب األعراب َّ‬
‫ـرابي‪ ،‬فقـال رســو ُل هللا ‪( :‬إنمــا المدينــة كــالكير‪ ،‬تنفي‬
‫بيعتي‪ ،‬فـأبى‪ ،‬فخــرج األعـ ُّ‬
‫صع طَيِّب ُها)(‪)1‬‬
‫خَ بَثَها ويَن َ‬
‫فمع أن هــذا الرجـل طلب من النـبي ‪ ‬أن يرتــد‪ ،‬وينقض بيعتـه الـتي كـانت‬
‫على اإلسالم‪ ،‬ومع أن النبي ‪ ‬لم يقره على هذا‪ ،‬لكنه أيضا ً لم يأمر أحداً بإرجاعــه‬
‫واستتابته وقتله إن لم يتب في نفس الوقت الذي نرى النبي ‪ ‬يــأمر بــاللحوق بتلــك‬
‫المرأة التي تحمل كتابا ً من حاطب بن أبي بلتعــة‪ ،‬ويــأمرـ بــاللحوق ببعض أصــحاب‬
‫الجنايــات كــالعرنيين‪ ..‬وهــذا يــدل على أن الــردة ليســت جنايــة يتــابع عليهــا المرتــد‬
‫ويستتاب‪ ،‬وإنما اكتفى بذم ذلك الرجل وهذا حق‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬وعيت هذا‪ ..‬فهات الدليل الثاني‪.‬‬
‫قــال الحكيم‪ :‬هــو مــا روي في الصــحاح الــتي تعتمــدونها عن أنس قــال‪ :‬كــان‬
‫رجل نصرانيا فأسلم‪ ،‬وقرأـ البقرة وآل عمران‪ ،‬فكان يكتب للنبي ‪ ‬فعاد نصـرانيا‪،‬‬
‫فكان يقول‪( :‬ما يدري محمد إال ما كتبت له)‪ ،‬فأماته هللا‪ ،‬فدفنوه‪ ،‬فأصبح وقد لفظتــه‬
‫األرض‪ ،‬فقالوا‪ :‬هذا فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم نبشوا عن صاحبناـ فـألقوه‪،‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫فحفرواـ له فأعمقوا فأصــبح وقــد لفظتــه األرض‪ ،‬فقــالوا هــذا فعــل محمــد وأصــحابه‬
‫نبشوا عن صاحبنا لما هرب منهم)(‪)1‬‬
‫فهذا الحديث يفيد بأنه لم يعاقب‪ ،‬مع أنه ليس ذا شوكة‪ ،‬فليس هــو من اليهــود‪،‬‬
‫وال من األنصار‪ ،‬وال من قريش‪ ،‬بل هو رجل نصــراني‪ ،‬ارتــد بمحض إرادتــه ولم‬
‫يستتبه النبي ‪ ‬ولم يأمر بقتله‪ ،‬وإنما مــات حتــف أنفــه‪ ،‬وهــو يفيــد أيضــا بــأن أمــر‬
‫النــبي ‪ ‬لقتــل ابن أبي الســرح – الــذي له قصة مماثلة‪ -‬إنما كــان األمر بقتله على‬
‫أمر زائد في المحاربة وهو اللحوق بالمشركين ومناصرتهم على النبي ‪ ‬فالقضية‬
‫فيها خيانة عظمى‪ ،‬ومع ذلك فقد قبل النبي ‪ ‬الشفاعة فيه ولم يقتله‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬وعيت هذا‪ ..‬فهات الدليل الثالث‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬هو مــا روي في الحــديث المتــواترـ عن ردة عبيــد هللا بن جحش‪،‬‬
‫وكان من المهاجرين إلى الحبشة‪ ،‬وكان النجاشي قــد أســلم‪ ،‬وهــو ملــك الحبشــة‪ ،‬فلم‬
‫يأمره النبي ‪ ‬باســتتابته‪ ،‬وال قتلــه وال أهــدر دمــه‪ ،‬علمـا ً بــأن النجاشــي قــد أرســل‬
‫بعض مســلمي الحبشــة لنصــرة النــبي ‪ ‬ووصــل أوائلهم قبــل الهجــرة ومنهمـ ابن‬
‫النجاشي نفسه‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬وعيت هذا‪ ..‬فهات الدليل الرابع‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬هو ما روي في الحديث عن أبي رافع مولى النبي ‪ ‬وغيره أن‬
‫النبي ‪ ‬بعث عليا مبعثا فقال له‪ :‬امض وال تلتفت ‪ -‬أي ال تدع شيئا مما آمرك به ‪-‬‬
‫قــال‪ :‬يــا رســول هللا كيــف أصــنع بهم؟ قــال‪( :‬إذا نــزلت بســاحتهمـ فال تقــاتلهم حــتى‬
‫يقاتلوك‪ ،‬فإن قــاتلوك فال تقــاتلهم حــتى يقتلــوا منكم قــتيال‪ ،‬فــإن قتلــواـ منكم قــتيال فال‬
‫تقاتلوهم حتى تريهم إياه‪ ،‬ثم تقول لهم‪ :‬هل لكم إلى أن تقولوا ال إله إال هللا؟ فإن قالوا‬
‫نعم فقل‪ ،‬لهم‪ :‬هل لكم أن تصــلوا؟ فــإن قــالوا نعم فقــل لهم‪ :‬هــل لكم أن تخرجــوا من‬
‫أموالكم الصدقة؟ فإن قالوا نعم فال تبغ منهم غير ذلك‪ ،‬وهللا ألن يهدى هللا على يديك‬
‫رجال خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت)(‪)2‬‬
‫وموضع الشاهد في الحــديث واضــح‪ ،‬وهــو أن النــبي ‪ ‬كــان يبعث الســرايا‬
‫ألمرين إما لمحاربة محاربين‪ ،‬أو للدعوة إلى هللا‪ ،‬وال يبعثها لقتال مشركين ابتدا ًء‪.‬‬
‫وهذا الحديث يدل على أن النبي ‪ ‬كــان ينهى عن القتــال في ســرايا الــدعوة‬
‫حتى يقتل المشركون من المســلمين رجالً‪ ،‬ثم بعــد ذلــك يتم عــرض اإلســالم عليهم‪،‬‬
‫وإهدار ما اقترفوه من دم المسلم‪ ،‬فإن قبلواـ يتم إهدار دمه‪ ،‬وإن أبوا قوتلواـ على هذا‬
‫الظلم والعدوان ال على إدخالهم لإلسالم‪.‬‬
‫رمى رجــل من القــوم ســيفه‪ ،‬وقــال‪ :‬صــدقت‪..‬ـ فهــذه األحــاديث صــحيحة‬
‫وصريحة‪ ،‬وكنت أقرؤها دائما‪ ،‬وأتعجب كيف سار تاريخ المسلمين على خالفها‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬ال تتعجب‪ ،‬فقد أخبر رسول هللا ‪ ‬عن انحراف األمة عن دينهــا‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬


‫‪ )(2‬السير الكبير للفقيه الحنفي الشيباني (‪189‬هـ) (ج ‪ / 1‬ص ‪ ،)78‬و مغازي الواقدي (ج ‪ / 1‬ص ‪)1079‬‬

‫‪60‬‬
‫بسبب تسلط الطواغيت عليها‪ ،‬وإعانة رجال الدين لهم‪..‬‬
‫قال الرجل‪ :‬صدقت‪ ..‬وقد تعجبت لكثرة ذكر الفقهاء لما يسمونه استتابة‪ ،‬مــع‬
‫أني لم أر في ذلك حديثا واحدا‪..‬‬
‫قــال الحكيم‪ :‬صــدقت‪ ..‬فـــ (االســتتابة اإلكراهيــة) ال وجــودـ لهــا في الــدين‪،‬‬
‫واإلكراه في االستتابة اخترعها من اخترعها لتكون مقدمة للقتل‪ ،‬ولم يكن النــبي ‪‬‬
‫يكره أحداً على االستتابة وقد سجل القرآن الكريم هذا‪ ،‬كما في قوله تعــالى‪﴿ :‬أَلَ ْم تَ ـ َر‬
‫ك َو َما أُ ْن ِز َل ِم ْن قَ ْبلِكَ ي ُِري ُدونَ أَ ْن يَتَ َحا َك ُمواـ‬ ‫إِلَى الَّ ِذينَ يَ ْز ُع ُمونَ أَنَّهُ ْم آَ َمنُوا بِ َما أُ ْن ِز َل إِلَ ْي َ‬
‫ضـاَل اًل بَ ِعيـدًا (‬ ‫ُضـلَّهُْـم َ‬ ‫الشـ ْيطَانُ أَ ْن ي ِ‬ ‫ت َوقَ ْد أُ ِمرُوا أَ ْن يَ ْكفُرُوا بِـ ِه َوي ُِريـ ُد َّ‬ ‫إِلَى الطَّا ُغو ِ‬
‫صـ ُّدونَ‬ ‫ول َرأَيْتَ ْال ُمنَــافِقِينَ يَ ُ‬ ‫َّسـ ِ‬ ‫‪َ )60‬وإِ َذا قِيـ َل لَهُ ْم تَ َعــالَوْ ا إِلَى َمــا أَ ْنــزَ َل هَّللا ُ َوإِلَى الر ُ‬
‫ت أَ ْيـ ِدي ِه ْم ثُ َّم َجـ اءُوكَ يَحْ لِفُــونَ‬ ‫صيبَةٌ بِ َما قَ َّد َم ْ‬ ‫صابَ ْتهُْـم ُم ِ‬ ‫صدُو ًداـ (‪ )61‬فَ َك ْيفَ إِ َذا أَ َ‬ ‫َع ْنكَ ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫بِاهَّلل ِ إِ ْن أ َر ْدنَا إِاَّل إِحْ َسانًا َوتَوْ فِيقًا (‪ )62‬أولَئِــكَ الَّ ِذينَ يَ ْعلَ ُم هَّللا ُ َمــا فِي قُلُــوبِ ِه ْم فَــأ ْع ِرضْ‬ ‫َ‬
‫ظهُ ْم َوقُلْ لَهُ ْم فِي أَ ْنفُ ِس ِه ْم قَوْ اًل بَلِي ًغا (‪َ )63‬و َما أَرْ َس ْلنَا ِم ْن َر ُسـو ٍل إِاَّل لِيُطَــا َع‬ ‫َع ْنهُ ْم َو ِع ْ‬
‫َّسـو ُل‬ ‫اسـتَ ْغفَ َر لَهُ ُم الر ُ‬ ‫اسـتَ ْغفَرُواـ هَّللا َ َو ْ‬ ‫بِـإِ ْذ ِن هَّللا ِ َولَــوْ أَنَّهُ ْم إِ ْذ ظَلَ ُمــوا أَ ْنفُ َسـهُ ْم َجـ اءُوكَ فَ ْ‬
‫ِّك اَل ي ُْؤ ِمنُونَ َحتَّى ي َُح ِّك ُمــوكَ فِي َمــا َشـ َج َر بَ ْينَهُ ْم‬ ‫لَ َو َجدُواـ هَّللا َ تَ َّوابًا َر ِحي ًما (‪ )64‬فَاَل َو َرب َـ‬
‫ضيْتَ َويُ َسلِّ ُمواـ تَ ْسلِي ًما (‪[ ﴾)65‬النساء‪]65-60:‬‬ ‫ثُ َّم اَل يَ ِجدُوا فِي أَ ْنفُ ِس ِه ْم َح َرجًا ِم َّما قَ َ‬
‫قــال الرجــل‪ :‬صــدقت‪ ..‬فهــذه اآليــات الكريمــة صــريحة في أن التوبــة كــانت‬
‫تعرض عليهم‪ ،‬وينصحون بها بعد نطقهم بالكفر‪ ،‬لكنهم يصدون ويأبون‪ ،‬فــأين كالم‬
‫الفقهاء الكثير جداً (يستتاب فإن تاب وإال قتل)؟‬
‫رمى آخــر ســيفه‪ ،‬وقــال‪ :‬صــدقت‪ ..‬وقــد كــان المنــافقون يجــاهرون بنفــاقهم‬
‫ويعاندون في الرد على هللا ورسوله إال أنهم مــع ذلـك لم يفصــلوا عن الجماعـة‪ ،‬ولم‬
‫تعلن عليهم الحرب‪ ،‬ولم تبح دماءهم‪..‬‬
‫ـل لَهُ ْم تَ َعــالَوْ ا يَ ْسـتَ ْغفِرْ لَ ُك ْم َر ُسـو ُل هَّللا ِ‬ ‫﴿وإِ َذا قِيـ َ‬
‫لقد ذكر هللا تعــالى ذلــك‪ ،‬فقــال‪َ :‬‬
‫ص ُّدونَ َوهُ ْم ُم ْسـتَ ْكبِرُونَ (‪َ )5‬سـ َوا ٌء َعلَ ْي ِه ْم أَ ْسـتَ ْغفَرْ تَ لَهُ ْم أَ ْم‬ ‫لَوَّوْ ا ُر ُءو َسهُْـم َو َرأَ ْيتَهُْـم يَ ُ‬
‫اسـقِينَ (‪ )6‬هُ ُم الَّ ِذينَ يَقُولُــونَ‬ ‫لَ ْم تَ ْستَ ْغفِرْ لَهُ ْم لَ ْن يَ ْغفِ َر هَّللا ُ لَهُ ْم إِ َّن هَّللا َ اَل يَ ْه ِدي ْالقَــوْ َم ْالفَ ِ‬
‫ض‬‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫الس ـ َما َوا ِ‬ ‫ض ـوا َوهَّلِل ِ خَــزَ ائِنُ َّ‬ ‫اَل تُ ْنفِقُــوا َعلَى َم ْن ِع ْن ـ َد َر ُس ـو ِـل هَّللا ِ َحتَّى يَ ْنفَ ُّ‬
‫َـز ِم ْنهَـا‬ ‫َولَ ِك َّن ْال ُمنَافِقِينَ اَل يَ ْفقَهُونَ (‪ )7‬يَقُولُونَ لَئِ ْن َر َج ْعنَا إِلَى ْال َم ِدينَـ ِة لَي ُْخـ ِر َج َّن اأْل َع ُّ‬
‫اأْل َ َذ َّل َوهَّلِل ِ ْال ِع َّزةُ َولِ َرسُولِ ِه َولِ ْل ُم ْؤ ِمنِينَ َولَ ِك َّن ْال ُمنَافِقِينَ اَل يَ ْعلَ ُمونَ ﴾ [المنافقون‪]8 - 5 :‬‬
‫َّســو ِل َرأَيْتَ‬ ‫يــل لَهُ ْم تَ َعــالَوْ ا إِلَى َمــا أَ ْنــزَ َل هَّللا ُ َوإِلَى الر ُ‬ ‫﴿وإِ َذا قِ َ‬ ‫وقــال تعــالى‪َ :‬‬
‫صدُودًا﴾ [النساء‪]61 :‬‬ ‫ص ُّدونَ َع ْنكَ ُ‬ ‫ْال ُمنَافِقِينَ يَ ُ‬
‫رمى آخر سيفه‪ ،‬وقال‪ :‬لقد وردت آيات كثيرة في هــذا المعــنى‪ ..‬ومنهــا قولــه‬
‫ــال ُم ْن َك ِر َويَ ْنهَــوْ نَ ع َِن‬ ‫ْض يَــأْ ُمرُونَ بِ ْ‬ ‫ْضــهُ ْم ِم ْن بَع ٍ‬ ‫ــات بَع ُ‬ ‫ون َو ْال ُمنَافِقَ ُ‬ ‫ْ‬
‫تعــالى‪﴿:‬ال ُمنَــافِقُ َـ‬
‫اسـقُونَ (‪َ )67‬و َعـ َد‬ ‫ُوف َويَ ْقبِضُونَ أَ ْي ِديَهُ ْم نَسُوا هَّللا َ فَن َِسـيَهُْـم إِ َّن ْال ُمنَــافِقِينَ هُ ُم ْالفَ ِ‬ ‫ْال َم ْعر ِـ‬
‫َار َجهَنَّ َم خَالِـ ِدينَ فِيهَـا ِه َي َح ْسـبُهُ ْم َولَ َعنَهُ ُـم هَّللا ُ َولَهُ ْم‬ ‫ار ن َ‬ ‫ت َو ْال ُكفَّ َ‬‫هَّللا ُ ْال ُمنَافِقِينَ َو ْال ُمنَافِقَا ِ‬
‫َع َذابٌ ُمقِي ٌم﴾ [التوبة‪]68 ،67 :‬‬
‫فهاتان اآليتـان الكريمتــان تشـيران إلى أن المنـافقين وقفـوا على شــفا الخيانــة‬

‫‪61‬‬
‫العظمى‪ ،‬لكن ألنهم لم ينفذوا وعدهم لليهــود لم يقــاتلهم النــبي ‪ ‬واكتفى بفضــح هللا‬
‫لهم ورده عليهم وكش ـفـ أســرارهم‪..‬ـ وهــذه اآليــات لــو نــزلت على فقهائنــا ألبــادوا‬
‫نصف المسلمين بدعوى الردة‪ ،‬فكيفـ وحركة النفاق هذه استمرت إلى آخــر النبــوة‪،‬‬
‫تتجدد مع األيام‪ ،‬يتوب القليل ويستمر األكثرون‪ ،‬وينضمـ إليهم من انضم‪ ،‬حتى ذكر‬
‫ابن عباس وغيره أن النفاق في آخر عهد النبي ‪ ‬كان أكــثر من أولــه‪ ،‬ولــو كــانت‬
‫هناك استتابات وقتل لمن يتفوه بمثل الكالم الكفري السابق لما بقي من المنافقين من‬
‫يجرؤـ على مثل هذه األقوالـ واألعمال‪.‬‬
‫رمى آخر سيفه‪ ،‬وقال‪ :‬لقــد ذكــرني حــديثكم هــذا ببعض مشــايخناـ الــذي كــان‬
‫يردد كل حين هذه العبارة [يســتتاب‪ ،‬فــإن تــاب وإال قتــل]‪ ،‬وعنــدما ســألناه عن ســر‬
‫ترديده لها بعد كل حكم شرعي‪ ،‬ذكر لنا أن شيخه فيها هو ابن تيمية‪ ..‬ثم ذكر لنا أنه‬
‫جمعها في مصنف خصها به‪ ،‬ثم راح يقـرأ لنـا منهـا أمثـال هـذه الفتـاوى‪( :‬من قـال‬
‫لرجل‪ :‬توكلت عليك أو أنت حسبي أو أنا في حسبك ‪ ..‬يستتاب فإن تــاب وإال قتــل‪..‬‬
‫من اعتقد أن أحدا من أولياء هللا يكون مع محمد كما كان الخضــر مــع موســى‪ ،‬فإنــه‬
‫يستتاب فإن تاب وإال ضربت عنقه‪ ..‬الرجــل البــالغ إذا امتنــع من صــالة واحــدة من‬
‫الصلوات الخمس أو ترك بعض فرائضهاـ المتفق عليها فإنه يســتتاب فــإن تــاب وإال‬
‫قتل‪ ..‬من لم يقل أن هللا فوقـ سبع سمواته فهو كافر به حالل الــدم يســتتاب فــإن تــاب‬
‫واال ضربت عنقه‪ ،‬وألقى على بعض المزابل‪ ..‬من قال القــرآن محــدث فهــو عنــدى‬
‫جهمى يســتتاب فــإن تــاب واال ضــربت عنقــه‪ ..‬من قــال إن أحــدا من الصــحابة أو‬
‫التابعين أو تابعى التابعين قاتل مع الكفار فهذا ضال غاو بل كــافرـ يجب ان يســتتاب‬
‫من ذلك فإن تاب وإال قتل‪ ..‬من اعتقد صحة مجموع هذه األحاديث فإنــه كــافر يجب‬
‫أن يستتاب فإن تــاب وإال قتــل‪ ..‬من جحــد حــل بعض المباحــات الظــاهرة المتــواترة‬
‫كالخبز واللحم والنكاح فهو كافرـ مرتد يستتاب فإن تــاب واال قتــل‪ ..‬إن اضــمر ذلــك‬
‫(يعـني تحـريم اللحم أو الخـبز أو النكـاح) كـان زنـديقا منافقـا ال يسـتتاب عنـد أكـثر‬
‫العلماء‪ ،‬بل يقتل بال استتابة إذا ظهر ذلك منه‪ ..‬من لم يلتزم هذا الشرع أو طعن فيه‬
‫أو جوز ألحد الخروج عنه فإنه يستتاب فإن تاب وإال قتل ‪ ..‬من ادعى ان له طريقــا‬
‫إلى هللا يوصله إلى رضـوان هللا وكرامتــه وثوابـه غـير الشـريعة الـتى بعث هللا بهـا‬
‫رسوله فإنه أيضا كافر يستتاب فإن تاب وإال ضربت عنقه‪ ..‬أكل الحيات والعقــارب‬
‫حرام باجماع المسلمين فمن أكلها مستحال لذلك فإنه يستتاب فإن تاب وإال قتل‪ ..‬من‬
‫قال القرآن مخلوق وانه يستتاب فـإن تـاب واال قتـل‪ ..‬من قـال ان هللا لم يكلم موســى‬
‫تكليما يستتاب فإن تاب واال يقتل‪ ..‬من ظن أن التكبير من القرآن فإنــه يســتتاب فــإن‬
‫تاب واال قتل‪ ..‬من أخر الصالة لصناعة أو صيد أو خدمة أستاذ أو غــير ذلــك حــتى‬
‫تغيب الشمس وجبت عقوبته بل يجب قتله عند جمهور العلماء بعد أن يســتتاب‪ ..‬من‬
‫قال إنه يجب على المسافر أن يصوم شهر رمضان وكالهما ضالل مخالف الجماع‬

‫‪62‬‬
‫قتل)(‪)1‬‬ ‫المسلمين يستتاب قائله فإن تاب وإال‬
‫هذه مجرد أمثلة عن فتاواه الكثيرة المملوءة بالحقــد والكراهيــة‪ ،‬والبعيــدة عن‬
‫القيم القرآنية‪ ..‬ولألسف فقد كانت هي زادنا الذي كان مشايخنا يزودوننـاـ بـه‪ ،‬فلـذلك‬
‫امتألنا بكل أصنافـ العداوة والبغضاء‪.‬‬

‫‪ )(1‬هذه نصوص لفتاوى في مواضع متفرقة من كتب ابن تيمية‪ ،‬وخصوصا مجموعـ الفتاوى‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫سادسا ـ اإلحسان‬
‫قام الحكيم السادس بين الصــفين‪ ،‬وقــال‪ :‬أجيبــوني يــا من ال تزالــون تحملــون‬
‫سيوفكم‪ ..‬أليس اإلحسان من القيم العظمى التي نــادى بهــا القــرآن الكــريم‪ ،‬وأوجبهـاـ‬
‫على المؤمنين؟‬
‫قال أحدهم‪ :‬بلى‪ ..‬وهل في ذلــك شــك؟‪ ..‬إن صــبيانناـ يعلمــون هــذا‪ ،‬وكيــف ال‬
‫يعلمونه‪ ،‬وهم يقــرؤون قولــه تعــالى جامعــا بين الــدعوة للعــدل واإلحســان‪ ﴿ :‬إِ َّن هَّللا َ‬
‫ـر َو ْالبَ ْغ ِي‬ ‫يَــأْ ُم ُر بِ ْال َعـ ْد ِل َواإْل ِ حْ َس ـا ِن َوإِيتَــا ِء ِذي ْالقُــرْ بَى َويَ ْنهَى ع َِن ْالفَحْ َش ـا ِء َو ْال ُم ْن َكـ ِـ‬
‫يَ ِعظُ ُك ْـم لَ َعلَّ ُك ْم تَ َذ َّكرُونَ ﴾ [النحل‪]90 :‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهل تعلمون الجزاء العظيم الذي أعده هللا للمحسنين؟‬
‫قال الرجل‪ :‬أجل‪ ..‬وأوله وأعظمه معية هللا للمحســنين‪ ،‬كمــا قــال تعــالى‪﴿ :‬إِ َّن‬
‫هَّللا َ َم َع الَّ ِذينَ اتَّقَوْ ا َوالَّ ِذينَ هُ ْم ُمحْ ِسنُونَ ﴾ [النحل‪]128 :‬‬
‫قال آخر‪ :‬وقبله وبعده ومعه حب هللا للمحسنين‪ ،‬كما قال تعــالى‪َ ﴿ :‬وأَ ْنفِقُــوا فِي‬
‫َسـبِي ِل هَّللا ِ َواَل تُ ْلقُــوا بِأ َ ْيـ ِدي ُك ْم إِلَى التَّ ْهلُ َكـ ِة َوأَحْ ِسـنُوا إِ َّن هَّللا َ يُ ِحبُّ ْال ُمحْ ِسـنِينَ ﴾ [البقــرة‪:‬‬
‫‪]195‬‬
‫قال آخر‪ :‬وبعد ذلك كله خير الدنيا واآلخرة‪ ..‬والذي عبرت عنه آيــات كثــيرة‬
‫ف‬ ‫منها قوله تعالى‪ ﴿ :‬بَلَى َم ْن أَ ْسلَ َم َوجْ هَهُ هَّلِل ِ َوهُ َو ُمحْ ِس ٌن فَلَهُ أَجْ ُرهُ ِع ْن َد َربِّ ِه َواَل َخــوْ ٌ‬
‫ول ِم ْن‬ ‫َّسـ ِـ‬ ‫اسـت ََجابُواـ هَّلِل ِ َوالر ُ‬ ‫َعلَ ْي ِه ْم َواَل هُ ْم يَحْ َزنُــونَ ﴾ [البقــرة‪ ،]112 :‬وقــال‪ ﴿ :‬الَّ ِذينَ ْ‬
‫َظي ٌم﴾ [آل عمران‪]172 :‬‬ ‫صابَهُ ُـم ْالقَرْ ُح لِلَّ ِذينَ أَحْ َسنُوا ِم ْنهُ ْم َواتَّقَوْ ا أَجْ ٌر ع ِ‬ ‫بَ ْع ِد َما أَ َ‬
‫قال آخر‪ :‬بــل إن هللا تعــالى ذكــر أنــه أعــد للمحســنين من الجــزاء مــا لم يعــده‬
‫ُسـنَى َو ِزيَــا َدةٌ َواَل‬ ‫لغيرهم‪ ..‬فلهم الحســنى والزيــادة‪ ..‬قــال تعــالى‪﴿ :‬لِلَّ ِذينَ أَحْ َسـنُواـ ْالح ْ‬
‫ق ُوجُوهَهُْـم قَتَ ٌر َواَل ِذلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْ َحابُ ْال َجنَّ ِة هُ ْم فِيهَا خَالِ ُدونَ ﴾ [يونس‪]26 :‬‬ ‫يَرْ هَ ُ‬
‫قـــال الحكيم‪ :‬بـــورك فيكم‪..‬ـ أتـــدرون ســـر كـــل هـــذا الجـــزاء العظيم المعـــد‬
‫للمحسنين؟‬
‫قال رجل منهم‪ :‬أجل‪ ..‬فاإلحسان هو المرتبة العليا من الدين‪ ..‬وقد قال تعــالى‬
‫ـرا ِهي َم‬ ‫ـو ُمحْ ِسـ ٌن َواتَّبَـ َع ِملَّةَ إِ ْبـ َ‬ ‫يذكر ذلك‪َ ﴿ :‬و َم ْن أَحْ َسـنُ ِدينًــا ِم َّم ْن أَ ْسـلَ َم َوجْ هَـهُ هَّلِل ِ َوهُـ َ‬
‫ـرا ِهي َم َخلِياًل ﴾ [النســاء‪ ،]125 :‬وقــال رســول هللا ‪ ‬في تعريــف‬ ‫َحنِيفًا َواتَّخَ َذ هَّللا ُ إِ ْبـ َ‬
‫اإلحسان‪( :‬أن تعبد هللا كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)(‪)1‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬أال ترون أن مرتبة عظيمة مثل هذه اســتحق أصــحابها أن ينــالوا‬
‫رضوان هللا ومعيته ومحبته‪ ..‬وينالوا فوقـ ذلك الجــزاء العظيم في الــدنيا واآلخــرة‪..‬‬
‫أال ترون أننا بحاجة إلى التحقق بهــا‪ ،‬بــل وضــع كــل همتنــا في الــرقيـ في درجاتهــا‬
‫الرفيعة؟‬
‫قالوا‪ :‬بلى‪ ..‬ونحن نفعل ذلك بحمد هللا‪.‬‬
‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬من السهل أن ندعي ألنفسنا ما نشاء‪ ..‬لكن األمر خالف ما نتوهم‬
‫ْس بِأ َ َمــانِيِّ ُك ْـم‬
‫أو نتمنى ألن هلل تعالى موازين ال يمكن تجاوزهــا‪ ،‬وقــد قــال تعــالى‪﴿ :‬لَي َ‬
‫ب َم ْن يَ ْع َمـلْ ُسـو ًءا يُجْـ زَ بِـ ِه َواَل يَ ِجـ ْد لَـهُ ِم ْن دُو ِن هَّللا ِ َولِيًّـا َواَل‬ ‫َواَل أَ َمانِ ِّي أَ ْهـ ِل ْال ِكتَـا ِ‬
‫َصيرًا﴾ [النساء‪]123 :‬‬ ‫ن ِ‬
‫قالوا‪ :‬صدقت في هذا‪ ..‬لكنا نشعر أننا مذ تحركت فينا همــة الجهــاد في ســبيل‬
‫هللا نلنا أرقى المراتب‪ ،‬وتحققنا بأعلى درجات اإليمــان‪ ..‬وقـدـ وعــدنا مشــايخناـ بأننــا‬
‫بمجرد أن تسفك دماءنا في هذه الحرب المقدسة‪ ،‬ستستقبلنا المالئكة‪ ،‬ومعها كــل مــا‬
‫نهواه من فضل ونعمة‪.‬‬
‫قــال الحكيم‪ :‬أجيبــوني‪..‬ـ أليس الشــيطان يتالعب بالحقــائق‪ ،‬ليخــدع بهــا من‬
‫يشاء؟‬
‫قال رجل منهم‪ :‬أجل‪ ..‬وقد قال أخبر تعالى عن وسـاوسـ الشـيطان آلدم عليـه‬
‫ي‬ ‫الشـ ْيطَانُ لِيُ ْبـ ِد َ‬ ‫س لَهُ َمــا َّ‬ ‫السالم‪ ،‬وأنه وعدهما بالخلود إن أكال من الشجرة‪﴿ :‬فَ َو ْسـ َو َ‬
‫الشـ َج َر ِة إِاَّل أَ ْن‬ ‫ـال َمــا نَهَا ُك َمــا َربُّ ُك َمــا ع َْن هَـ ِذ ِه َّ‬
‫ي َع ْنهُ َما ِم ْن َسوْ آتِ ِه َما َوقَـ َ‬ ‫لَهُ َما َما ُو ِ‬
‫ور َـ‬
‫اصــ ِحينَ ﴾‬ ‫تَ ُكونَــا َملَ َك ْي ِن أَوْ تَ ُكونَــا ِمنَ ْالخَالِــ ِدينَ (‪َ )20‬وقَ َ‬
‫اســ َمهُ َما إِنِّي لَ ُك َمــا لَ ِمنَ النَّ ِ‬
‫[األعراف‪]21 ،20 :‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬أال ترون أن خدعة الشــيطان الــتي انطلت على آدم عليــه الســالم‬
‫مع ما علمه هللا من األسماء‪ ،‬ومــا رآه من العجــائب‪ ،‬ومــع التحــذيرات اإللهيــة الــتي‬
‫حذر بها‪ ..‬يمكن أن تنطلي علينا أيضا‪ ،‬فنتصور اإلساءة إحسانا‪ ،‬والجور عدال؟‬
‫قال الرجل‪ :‬بلى‪ ..‬ذلك صحيح‪ ،‬فنحن لسنا معصومين‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬ومشايخكم‪ ..‬أهم معصومون فيما يدعونكم إليه‪ ..‬أو يعدونكم به؟‬
‫قال الرجل‪ :‬ال‪ ..‬فهم ال يدعون ألنفسهم ذلك‪ ..‬ونحن ال ندعي لهم ذلك‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬أال يمكن أن تكون الوعود التي وعدوكم بها مما أخطأوا فيه؟‬
‫قال الرجل‪ :‬محال ذلك‪ ..‬فهم قد اقتبسوها من المصادر المعصومة المقدسة‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهل في هذه النصوص المقدســة ذكـر لهــذه الحــرب‪ ،‬ومــا العمــل‬
‫فيها؟‬
‫قال الرجل‪ :‬ال‪ ..‬ليس فيها ذلك‪ ..‬ولو كان فيها ذلك ما وقع الخالف‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهو فهموه إذن؟‬
‫قال الرجل‪ :‬أجل‪ ..‬وفهمهمـ محترم ألنه نابع من اجتهاد‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬وهل كل محترم معصــوم‪ ..‬أال يمكن أن يكــون ذلــك المحــترم قــد‬
‫أخطأ في هذه المسألة دون غيرها؟‬
‫قال الرجل‪ :‬ذلك ممكن‪.‬‬
‫قـال الحكيم‪ :‬ألم تعلمـوا أن خطــأ واحــدا من آدم عليـه السـالم‪ ،‬وهـو أكلـه من‬
‫الشجرة‪ ،‬تسبب في هبوطه من الجنة؟‬
‫قال الرجل‪ :‬ذلك صحيح‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬ولكن الخطأ الذي قد يقع فيه مشايخكم ربما يوردكمـ جهنم‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫قال الرجل‪ :‬ال‪ ..‬نحن ال نخاف ذلــك‪ ..‬ألن كــل مجتهــد ينــال أجــراء أخطــأ أو‬
‫أصاب‪ ..‬ونحن أيضا بما أننا مقلدون لهم‪ ،‬فسيتحملون عنا ما وقعــوا فيــه من اجتهـاد‬
‫خاطئ‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬أراك مع حفظك الجيد للقرآن الكريم نسيت أن تحفظ قوله تعالى‪:‬‬
‫ت بِ ِه ُم اأْل َ ْس ـبَابُ (‪)166‬‬ ‫اب َوتَقَطَّ َع ْ‬
‫﴿إِ ْذ تَبَرَّأَ الَّ ِذينَ اتُّبِعُوا ِمنَ الَّ ِذينَ اتَّبَ ُعــوا َو َرأَ ُوا ْال َعـ َذ َ‬
‫َوقَا َل الَّ ِذينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَ َّن لَنَا َك َّرةً فَنَتَبَرَّأَ ِم ْنهُ ْم َك َما تَبَ َّر ُءوا ِمنَّا َك َذلِكَ ي ُِري ِه ُم هَّللا ُ أَ ْع َمــالَهُ ْم‬
‫ار﴾ [البقرة‪]167 ،166 :‬‬ ‫َار ِجينَ ِمنَ النَّ ِ‬ ‫ت َعلَ ْي ِه ْم َو َما هُ ْم بِخ ِ‬
‫َح َس َرا ٍ‬
‫قال الرجل‪ :‬بلى أحفظها‪ ..‬وهي في سورة البقرة‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهل تعلم التحذيرات العظيمة التي وردت فيها؟‬
‫قال الرجل‪ :‬أجل‪ ..‬فهي تخـبر عن مشـهد من مشـاهد القيامـة‪ ،‬حيث تـبرأ فيـه‬
‫األتباع من المتبوعين‪ ..‬وحيث يصلون جميعا نيران العذاب‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهل ينفع ذلك التبرؤ؟‬
‫قال الرجل‪ :‬ال‪ ..‬ال ينفعهم‪ ..‬بل سيظلون يتحسرون‪.‬‬
‫قــال الحكيم‪ :‬أال يمكن أن يكــون هــؤالء التــابعين الــذين أوردهمـ متبوعــوهم‬
‫العذاب هو أنتم؟‬
‫قال الرجل‪ :‬ال‪ ..‬ال يمكن‪ ..‬فمشايخنا يستحيل أن يكونوا كذلك‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهل لكم دليل من الغيب على استحالة ذلك عليهم؟‬
‫لم يجــد الرجــل مــا يقــول‪ ،‬فقــال الحكيم‪ :‬أال يــدعوكم هــذا بــدل الرجــوعـ إلى‬
‫مشايخكمـ أن ترجعواـ إلى مواقفكمـ الخطيرة هذه‪ ..‬والتي يرتبط بها عز األبد أو ذلــه‪..‬‬
‫أن تعرضواـ أعمالكم هذه على معايير اإلحسان كمــا وردت في المصــادر المقدســة‪،‬‬
‫بعيدا عن آراء الرجال‪ ،‬لتروا هل تنسجم معه أم ال؟‬
‫قالوا‪ :‬بلى‪ ..‬ذلك صحيح‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬أال يستدعي ذلك ـ أوال ــ الرجــوع لتلــك المصــادر للتعــرف على‬
‫حقيقة األحسان الذي أنيط به كل ذلك الجزاء العظيم‪ ..‬حتى ال تصيبناـ خدع الشيطان‬
‫التي يلبس بها على العقول؟‬
‫قالوا‪ :‬بلى‪ ..‬فالعلمـ مقدم على العمل‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهل تدرون ما اإلحسان؟‬
‫ّ‬
‫قال رجل منهم‪ :‬أجل‪ ..‬وكيف ال ندريه‪ ..‬فالمحاسن ضـد المســاوئ‪،‬ـ كمــا قــال‬
‫﴿ويَ ْد َر ُؤنَ بِ ْال َح َسنَ ِة ال َّسيِّئَةَ﴾ (الرعد‪ ،)22 /‬أي يدفعون بالكالم الحسن مــا ورد‬ ‫تعالى‪َ :‬‬
‫عليهم من س ّيء غيرهم‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهل لإلحسان عالقة بالنفس فقط‪ ..‬أم له عالقة بالغير أيضا؟‬
‫ي في تعريفــه‪:‬‬ ‫قــال الرجــل‪ :‬بــل لــه عالقــة بكليهمــا‪ ،‬وقــد قــال الفيروزابــاد ّـ‬
‫(اإلحسان يقال على وجهين‪ :‬أحــدهما اإلنعــام على الغــير‪ ،‬تقــول‪ :‬أحســن إلى فالن‪،‬‬
‫والثّانيـ إحسان في فعله‪ .‬وذلك إذا علم علما حسنا‪ ،‬أو عمل عمال حسنا)‬
‫قال الحكيم‪ :‬فاإلحسان بهذا يدخل في كل األعمال ما كان قاصرا‪ ،‬أو متعديا؟‬

‫‪66‬‬
‫قال الرجل‪ :‬أجل‪ ..‬وقد ورد في الحديث ما يدل على ذلــك‪ ،‬فقــد قــال ‪( :‬إنّــا‬
‫هلل كتب اإلحســان على ك ـ ّل شــيء‪ ،‬فــإذا قتلتم فأحســنواـ القتلــة‪ ،‬وإذا ذبحتم فأحســنوا‬
‫ّ‬
‫الذبحة)(‪)1‬‬
‫قــال الحكيم‪ :‬أليس من اإلحســان أن يهتم كــل إنســان بعيوبــه‪ ،‬إلصــالحها‪،‬‬
‫وتصحيح عالقته باهلل‪ ،‬وأن يقصر اهتمامه بغيره على النصيحة؟‬
‫قال الرجل‪ :‬بلى‪ ..‬وقدـ أشار رسولـ هللا ‪ ‬إلى ذلك‪ ،‬فقال‪( :‬من حســن إســالم‬
‫المرء تركه ما ال يعنيه)(‪)2‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬أهذا الحــديث من األحــاديث الــتي ال عالقــة لهـا بالعمــل‪ ..‬أم أنهـا‬
‫تتطلب عمال وحركة ووجودا خارجيا؟ـ‬
‫قــال الرجــل‪ :‬كيــف تقــول ذلــك‪ ..‬وق ـدـ نص العلمــاء المعتــبرين على أن هــذا‬
‫الحديث من األحاديث التي يعم تطبيقها جميع شؤون الحياة‪ ..‬بل قــد روينــا بأســانيدنا‬
‫عن المحدث الكبير أبي داود‪ ،‬قال كتبت عن رسول هللا ‪ ‬خمســمائة ألــف حــديث‪،‬‬
‫انتخبت منها ما تضمنه هذا الكتاب ‪ -‬يعــني كتــاب الســنن ‪ -‬جمعت فيــه أربعــة آالف‬
‫وثمانمائة حديث‪ ،‬ويكفي اإلنسان لدينه من ذلــك أربعــة أحــاديث‪ :‬أحــدها‪ :‬قولــه ‪:‬‬
‫(إنما األعمــال بالنيــات)‪ ،‬والثــاني‪ :‬قولــه ‪( :‬من حســن إســالم المــرء تركــه مــا ال‬
‫يعنيه‪ )،‬والثالث‪ :‬قوله ‪( :‬ال يكـون المـؤمن مؤمنـا حـتى ال يرضـىـ ألخيـه إال مـا‬
‫يرضىـ لنفسه)‪ ،‬والرابع‪ :‬قوله ‪( :‬الحالل بين والحرام بين)(‪)3‬‬
‫وقد عبر بعضهمـ عن ذلك شعرا‪ ،‬فقال (‪:)4‬‬
‫أربــــع من كالم خــــير‬ ‫عمدة الدين عنــدنا كلمــات‬
‫البريه‬
‫ليس يعنيــــــك واعملن‬ ‫اتق الشبهات وازهــد ودع‬
‫بنيه‬ ‫ما‬
‫قال الحكيم‪ :‬أال ترون أنكم بتضييعكم لهذا الحديث وقعتمـ فيما وقعتمـ فيه؟‬
‫قال الرجل‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال الحكيم‪ :‬أليس سبب الخالف الذي حصل بينكم وبين إخوانكم هــو فضــول‬
‫كل طرفـ منكم للتفتش على عقائد اآلخر وأعماله‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬البد من ذلــك‪ ،‬وقــد كــان من ســنة ســلفنا الصــالح امتحــان النــاس‬
‫للتعرف على عقائدهم‪ ،‬ليعاملوهمـ على أساسها‪ ،‬وقد قال الـذهبي‪( :‬قـال هشـام‪ :‬لقيت‬
‫شهابا وأنا شاب في سنة أربع وسبعين ومئة فقـال لي‪ :‬إن لم تكن قـدريا وال مرجئـا‪،‬‬
‫وحدثتك‪ ،‬وإال لم أحدثك‪ ،‬فقلت‪ :‬ما في هذين شيء)(‪)5‬‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه الترمذي وغيره‪.‬‬
‫‪ )(3‬جامع العلوم والحكم (‪)62 /1‬‬
‫‪ )(4‬جامع العلوم والحكم (‪.)63 /1‬‬
‫‪ )(5‬سير أعالم النبالء‪.8/286 :‬‬

‫‪67‬‬
‫وقال أبو مسهر‪ :‬قدم ابو إسحاق الفــزاري دمشــق ن فــاجتمع النــاس ليســمعوا‬
‫منه‪ ،‬فقال‪ :‬اخرج إلى النـاس‪ ،‬فقـل لهم‪ :‬من كـان يـرى القـدر‪ ،‬فال يحضـر مجلسـنا‪،‬‬
‫ومن كان يرى رأي فالن‪ ،‬فاليحضرـ مجلسنا‪ ،‬فخرجت‪ ،‬فأخبرتهم(‪.)1‬‬
‫وقال الحاكم‪ :‬سمعت أبا سعيد بن أبي بكر يقول‪ :‬لما وقع من أمر الكالبيـة مـا‬
‫وقــع بنيســابور كــان أبــو العبــاس الســراج‪ ،‬يمتحن أوالد النــاس‪ ،‬فال يحــدث أوالد‬
‫الكالبية‪ ،‬فأقــامنيـ في المجلس مــرة فقــال‪ :‬قــل أنــا ابــرأ إلى هللا تعــالى من الكالبيــة‪،‬‬
‫فقلت‪ :‬إن قلت هذا ال يطعمني أبي الخبز‪ ،‬فضحك وقال‪ :‬دعوا هذا(‪.)2‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬ولم فعلوا هذا‪ ..‬ألم يكن الكــافرون والمنــافقون يحضــرون مجلس‬
‫رسول هللا ‪ ،‬ولم ينهر أحدا منهم عن الحضور‪ ،‬أم أن هــؤالء يتصــورونـ أنفســهم‬
‫أعظم وأشرف من رسول هللا ‪‬؟‬
‫رمى رجل منهم بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬بورك فيك‪ ..‬لكأني أول مــرة أســمع قولــه ‪:‬‬
‫(من حسن إسالم المرء تركه ما ال يعنيه)‪ ،‬فلو أن كل مؤمن اكتفى بتطبيقـ ما كلــف‬
‫به من أوامر‪ ،‬وتركـ لغيره الحرية في أن يمـارس مــا اعتقــده لمـا حصــلت كــل هــذه‬
‫الفتنة‪.‬‬
‫ق ِم ْن َربِّ ُك ْم فَ َم ْن َشا َء فَ ْلي ُْؤ ِم ْن َو َم ْن َشــا َء‬ ‫﴿وقُ ِل ْال َح ُّ‬ ‫لقد صرح بذلك قوله تعالى‪َ :‬‬
‫فَ ْليَ ْكفُــرْ ﴾ [الكهــف‪ ،]29 :‬وقولــه‪﴿ :‬قُـ يَاأيُّهَــا الناسُ ق ـد َجـ ا َءك ُم ال َحـ ق ِمن َربِّك ْم ف َم ِن‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ـلْ‬
‫يل﴾ [يونس‪:‬‬ ‫ضلُّ َعلَ ْيهَا َو َما أَنَا َعلَ ْي ُك ْم بِ َو ِك ٍ‬ ‫ض َّل فَإِنَّ َما يَ ِ‬‫ا ْهتَدَى فَإِنَّ َما يَ ْهتَ ِدي لِنَ ْف ِس ِه َو َم ْن َ‬
‫‪]108‬‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقـال‪ :‬أجـل‪ ..‬وقـد ورد في الروايـات الكثـيرة أن أصـحاب‬
‫ُفطـ ر‪( ،‬فال يُن ِكــر الصــائم على‬ ‫النبي ‪ ‬كان بعضهم يصــوم في الســفر‪ ،‬وبعضــهمـ ي ِ‬
‫طر على الصائم)(‪)3‬‬ ‫ال ُمف ِطر وال ال ُمف ِ‬
‫ً‬
‫وقد قال يونس الصدفي‪ :‬ما رأيت أعقل من الشافعي‪ ،‬ناظرته يوما في مســألة‬
‫ثم افترقنا‪ ،‬ولقيني فأخذ بيدي ثم قال‪( :‬يا أبا موسى أال يســتقيم أن نكــون إخوانـا ً وإن‬
‫لم نتفق في مسألة!)‪ ،‬وقد قال الذهبي معلقا ً على هذه القصــة‪( :‬هــذا يــدل على كمــال‬
‫عقل هذا اإلمام وفقه نفسه فما زال النظراء يختلفون)(‪)4‬‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬بورك فيكم‪ ..‬لقد تذكرت لتوي مقولة ليحيى بن سعيد‬
‫يقول فيها‪( :‬ما برح المستفتون يستفتون فيحل هذا ويح ّرمـ هذا‪ ،‬فال يرى المحــرّم أن‬
‫المحلل هلك لتحليله‪ ،‬وال يرى المحلل أن المحرّم هلــك لتحريمــه)‪ ،‬وقــال آخــر‪( :‬إذا‬
‫رأيت الرجل يعمل بعمل قد اختلف فيه وأنت ترى غيره فال تنهه)‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬بورك فيكم‪ ..‬لقد تــذكرت لتــوي مــا ورد في الحــديث‬

‫‪ )(1‬سير أعالم النبالء‪.8/541 :‬‬


‫‪ )(2‬سير أعالم النبالء‪.14/395 :‬‬
‫‪ )(3‬جامع بيان العلم وفضله (‪)2/161‬‬
‫‪ )(4‬فتح البر بترتيب التمهيد البن عبد البر (‪)4/548‬‬

‫‪68‬‬
‫عن عبــد هللا بن مســعود‪ ،‬قــال‪ :‬ســمعت رجالً قــرأ آيــة ســمعت من رســول هللا ‪‬‬
‫خالفها(‪ ،)1‬فأخذت بيده‪ ،‬فأتيت به رسول هللا ‪ ،‬فقال‪ :‬كالكما محسن‪ ،‬ثم قــال‪( :‬ال‬
‫تختلفــوا‪ ،‬فــإن من كــان قبلكم اختلفــوا فهلكــوا)(‪ ..)2‬فهــذا الحــديث يجــيز االختالف‬
‫ويعتبره‪ ،‬لكنه يحرم الخالف‪ ..‬فالخالف شقاق‪ ،‬ويؤدي إلى الهالك‪.‬‬
‫بل قد ورد في الحديث عن ابن عمر قال‪ :‬قال رسول هللا ‪ ‬لنا لما رجــع من‬
‫األحزاب‪ :‬ال يصلين أحـد العصـر إال في بـني قريظـة‪ ،‬فـأدركـ بعضـهم العصـر في‬
‫الطريق‪ ،‬وقال بعضهم‪:‬ـ ال نصلي حتى نأتيها‪ ،‬وقال بعضهم‪:‬ـ بل نصلي ولم يرد ذلك‬
‫منا‪ ،‬فذكر ذلك للنبي ‪ ،‬فلم يعنف واحدا منهم‪ ..‬وهذا يدل على أن في الدين سعة‪..‬‬
‫وأن كــل فهم للنص يمكنــه أن يكــون مقبــوال مــا دام ال يعــارض أصــول الــدين وال‬
‫قواعده‪.‬‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬صدقتمـ جميعا‪ ..‬لقد مأل مشــايخ الســوء قلــبي أحقــادا‪،‬‬
‫فقــد كنت أنهض كــل صــباح ألشــق عن قلــوب المؤمــنين‪ ،‬وأبحث عن عقائــدهم‪،‬‬
‫ألرميهمـ بعدها بالبدعة‪ ..‬ثم أصليهم نار جهنم‪ ،‬ليرتاح قلبي‪ ،‬وتطمئن نفسي‪..‬‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬صدقت يا أخي‪ ..‬لقد كان أولئــك المشــايخ يعرضــون‬
‫عن أحاديث رسول هللا ‪ ‬التي تنهانا عن الشق عن قلوب الناس لمعرفة عقائــدهم‪..‬‬
‫ليعوضــوهاـ بحــديث ينســبونه لســفيان الثــوريـ يقــول فيــه‪( :‬امتحنــوا أهــل الموصــل‬
‫بالمعافىـ فمن ذكره – يعني بخير – قلت َهؤالء أصحاب ســنة وجماعــة‪ ،‬ومن عابه‬
‫قلتَ هؤالء أصحاب بدع)(‪)3‬‬
‫وبحديث ألحمد بن حنبل يقــول فيــه‪( :‬إذا رأيت من يغمــزه – يعــني حمــاد بن‬
‫سلمة – فاتهمه ؛ فإنه كان شديداً على أهل البدع)(‪)4‬‬

‫وبحديث ليحيى بن معين يقول فيه‪( :‬إذا رأيت إنسانا ً يقــع في عكرمــة وحمــادـ‬
‫بن سلمة فاتهمه على اإلسالم)(‪)5‬‬
‫وبحديث البن حبان يقول فيه‪( :‬ولم يكن يثلبه في زمانه إال معتزلي قــدريـ أو‬
‫مبتدع جهمي لما كان يظهر من السنن الصحيحة التي ينكرها المعتزلة) (‪)6‬‬
‫وبحديث لنعيم بن حماد يقول فيه‪( :‬إذا رأيت العراقي يتكلم في أحمــد ‪ -‬يعــني‬
‫ابن حنبل ‪ -‬فاتهمــه‪ ،‬وإذا رأيت الخراســاني يتكلم في إســحاق – يعــني ابن راهويه ‪-‬‬

‫‪ )(1‬المراد منه االختالف في كيفية قراءتها‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )(3‬تهذيب الكمال ‪.28/153‬‬
‫‪ )(4‬سير أعالم النبالء‪.7/452 :‬‬
‫‪ )(5‬تهذيب الكمال للمزي ‪ ، 7/263‬وسير أعالم النبالء ‪.7/447‬‬
‫‪ )(6‬تهذيب الكمال ‪7/267‬‬

‫‪69‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫فاتهمه‪ ،‬وإذا رأيت البصري يتكلم في وهب بن جرير فاتهمه)‬
‫وبحديث ألبي حاتم الرازيـ يقول فيه‪( :‬إذا رأيتم الرجل يحب أحمــد بن حنبــل‬
‫فاعلموا أنه صاحب سنة) (‪)2‬‬
‫وبحديث لمحمـد بن هـارون المخـرمي الغالس يقـول فيـه‪( :‬إذا رأيت الرجـل‬
‫يقع في أحمد بن حنبل فاعلم أنه مبتدع) (‪)3‬‬
‫وبحديث أبي الحسن الطرخاباذيـ اله َمذاني الذي يقــول فيــه‪( :‬أحمــد بن حنبــل‬
‫محنة يعرف بها المسلم من الزنديق)(‪)4‬‬
‫ُ‬
‫﴿واَل تَقُولـوا‬ ‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬لقد غفل هؤالء جميعـا عن قولــه تعــالى‪َ :‬‬
‫لِ َم ْن أَ ْلقَى إِلَ ْي ُك ُم ال َّساَل َم لَسْتَ ُم ْؤ ِمنًا﴾ [النساء‪ ،]94 :‬فاآلية الكريمة تمنع المؤمــنين من‬
‫أن يخرجوا أحــدا من اإليمــان بمجــرد إلقائـه الســالم(‪ )5‬أو إظهــاره ألي شــريعة من‬
‫شـرائعه‪ ..‬لكن أولئـك المشـايخ لم يكونـواـ يكتفـون ال بالسـالم‪ ،‬وال بالشـهادتين‪ ..‬وال‬
‫بالصــالة‪ ..‬وال بــالقرآن‪ ..‬بــل كــانوا يشــترطون للحكم على المؤمــنين باإليمــان أن‬
‫يذعنوا لهم ولمشايخهم إذعانا تاما‪ ،‬حتى يشهدوا لهم باإليمان‪.‬‬
‫وقــد ذكــر هللا تعــالى أن ســبب ذلــك اإلفــراطـ في حب الــدينا‪ ،‬فقــال‪﴿ :‬تَ ْبتَ ُغــونَ‬
‫ض ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا ﴾ [النساء‪ ..]94 :‬فالدنيا ومناصبها وأموالهاـ وحب التعــزز فيهــا‬ ‫ع ََر َ‬
‫هو الذي دعا أولئك المشايخ إلى أن يعتبروا أنفسهم معايير لإلسالم والزندقة‪.‬‬
‫رمى آخـر بسـيفه‪ ،‬وقـال‪ :‬لقـد غفـل أولئـك المشـايخ الـذين حجبونـاـ عن ربنـا‬
‫ومألواـ قلوبنا أحقادا عن تلك الروايـات الكثــيرة الــتي تــدعونا إلى االهتمــام بأنفسـنا‪،‬‬
‫وتركـ الخلق للخالق‪ ،‬فهو ربهم‪ ،‬وأعلم بهم‪ ،‬وبكيفية تربيته لهم‪ ..‬لقــد تــذكرت لتــوي‬
‫ما ورد في الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أنه قال‪( :‬أول من يدخل عليكم رجل من أهل‬
‫الجنة)‪ ،‬فـدخل رجـل‪ ،‬فقـام إليـه نـاس‪ ،‬فـأخبروه‪ ،‬وقـالوا‪ :‬أخبرنـاـ بـأوثق عملـك في‬
‫نفسك‪ ،‬قال‪( :‬إن عملي لضعيف‪ ،‬وأوثقـ ما أرجو به سـالمة الصــدر‪ ،‬وتـركيـ مـا ال‬
‫يعنيني)(‪)6‬‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬لقد غفل أولئك المشايخ عن تلك النصــوص المقدســة‬
‫الكثيرة التي تدعونا إلى تحســين عالقاتنـاـ بالنــاس مهمــا اختلفت مــذاهبهم‪ ..‬وراحــواـ‬
‫يشحنون قلوبناـ باألحقاد التي تجعلنا أغلظ أكبادا من اإلبل‪.‬‬
‫لقــد غفلــوا عمــا ورد في القــرآن الكــريم من شــأن يوس ـفـ عليــه الســالم في‬

‫‪ )(1‬سير أعالم النبالء‪11/370 :‬‬


‫‪ )(2‬تهذيب الكمال ‪1/456‬‬
‫‪ )(3‬تهذيب الكمال ‪1/456‬‬
‫‪ )(4‬تهذيب الكمال ‪.1/457‬‬
‫‪ )(5‬من الروايات الواردة في سبب نزول اآلية ما رواه أحمد عن ابن عباس قال‪ :‬مر رجل من بــني ســليم بنفــر‬
‫من أصحاب النبي ‪ ‬وهو يسوق غنما له‪ ،‬فسلم عليهم فقالوا‪ :‬ما سلم علينا إال ليتعوذ منا‪ .‬فعمدوا إليــه فقتلــوه‪ ،‬وأتــوا‬
‫بغنمه النبي ‪ ،‬فنزلت اآلية‪ ،‬تفسير ابن كثيرـ (‪)382 /2‬‬
‫‪ )(6‬جامع العلوم والحكم (‪)294 /1‬‬

‫‪70‬‬
‫السجن‪ ،‬وكيف تأثر بــه المســاجين‪ ،‬مــع كــونهمـ كــانوا مشــركين‪ ،‬كمــا قــالت تعــالى‪:‬‬
‫ـال اآْل خَـ ُر إِنِّي‬ ‫صـ ُر َخ ْمـ رًا َوقَـ َ‬ ‫ـان قَــا َل أَ َحـ ُدهُ َما إِنِّي أَ َرانِي أَ ْع ِ‬ ‫السـجْ نَ فَتَيَـ ِ‬ ‫﴿ َو َد َخ َل َم َعهُ ِّ‬
‫ك ِمنَ ال ُمحْ ِسـنِينَ ﴾‬ ‫ْ‬ ‫ـرا َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬
‫ق َرأ ِسي ُخ ْب ًزا تَأ ُك ُل الط ْي ُر ِم ْنهُ نَبِّ ْئنَا بِتَأ ِويلِ ِه إِنَّا نَـ َ‬ ‫ْ‬ ‫أَ َرانِي أَحْ ِم ُل فَوْ َـ‬
‫[يوسف‪]36 :‬‬
‫ولو أن يوسفـ عليه السالم استعمل معهم قــوانين الــوالء والــبراء الــتي ربانــا‬
‫عليها مشايخناـ لما اعتبروه من المحسنين‪ ،‬ولما أقبلوا يســألونه‪ ..‬وكيــف يســألون من‬
‫يعبس في وجوههم‪ ،‬ويهجرهمـ ويحتقرهم‪.‬‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬أتــذكر جيــدا ذلــك اليــوم المــؤلم الــذي ذهبت فيــه إلى‬
‫بعض مشايخنا‪ ،‬وأخبرته أن والدي قاما بزيارة لبعض األضرحة‪ ،‬وأنهما طلبا مــني‬
‫اصطحابهما‪ ،‬فأخبرنيـ أنهما مشركان‪ ،‬ثم أتبع ذلك بقوله ناقال عن شيخه ابن تيمية‪:‬‬
‫(فإن الوالد إذا دعا الولد إلى الشرك ليس له أن يطيعه بل له أن يــأمره وينهــاه وهــذا‬
‫األمر والنهي للوالد هو من اإلحسان إليه‪ .‬وإذا كان مشركا جاز للولد قتله)(‪)1‬‬
‫وقد جعلتني فتواه تلـك أفكـر مــرات كثــيرة في قتلهمـا‪ ،‬لــوال أني قـرأت قولــه‬
‫صـالُهُ فِي َعــا َم ْي ِن أَ ِن‬ ‫ص ْينَاـ اإْل ِ ْن َسانَ بِ َوالِ َد ْي ِه َح َملَ ْتهُ أُ ُّمهُ َو ْهنًــا َعلَى َو ْه ٍن َوفِ َ‬ ‫﴿و َو َّ‬ ‫تعالى‪َ :‬‬
‫ك‬ ‫ْس لَـ َ‬ ‫ك بِي َمــا لَي َ‬ ‫صي ُـر (‪َ )14‬وإِ ْن َجاهَدَاكَ َعلَى أَ ْن تُ ْشـ ِر َ‬ ‫ي ْال َم ِ‬ ‫ك إِلَ َّ‬‫ا ْش ُكرْ لِي َولِ َوالِ َد ْي َ‬
‫ي‬ ‫ي ثُ َّم إِلَ َّ‬ ‫يل َم ْن أَنَـ َ‬
‫ـاب إِلَ َّ‬ ‫صا ِح ْبهُ َماـ فِي الـ ُّد ْنيَا َم ْعرُوفًــا َواتَّبِـ ْع َسـبِ َ‬ ‫بِ ِه ِع ْل ٌم فَاَل تُ ِط ْعهُ َماـ َو َ‬
‫َمرْ ِج ُع ُك ْـم فَأُنَبِّئُ ُك ْم بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُونَ ﴾ [لقمان‪]15 ،14 :‬‬
‫وقرأت معها كيف تعامل إبراهيم عليه السالم مــع قريبــه المشــرك‪ ،‬كمــا قــال‬
‫ت لِ َم‬ ‫ـال أِل َبِي ـ ِه يَــاأَبَ ِ‬‫صدِّيقًا نَبِيًّا (‪ )41‬إِ ْذ قَـ َ‬ ‫ب إِب َْرا ِهي َم إِنَّهُ َكانَ ِ‬ ‫تعالى‪َ ﴿ :‬و ْاذ ُكرْ فِي ْال ِكتَا ِ‬
‫ت إِنِّي قَ ْد َجـ ا َءنِي ِمنَ ْال ِع ْل ِم‬ ‫ْص ُر َواَل يُ ْغنِي َع ْنكَ َش ْيئًا (‪ )42‬يَاأَبَ ِ‬ ‫تَ ْعبُ ُد َما اَل يَ ْس َم ُع َواَل يُب ِ‬
‫الشـ ْيطَانَ‬‫الشـ ْيطَانَ إِ َّن َّ‬ ‫ت اَل تَ ْعبُـ ِد َّ‬ ‫ص َراطًا َسـ ِويًّا (‪ )43‬يَــاأَبَ ِ‬ ‫ك ِ‬ ‫ك فَاتَّبِ ْعنِي أَ ْه ِد َ‬ ‫َما لَ ْم يَأْتِ َ‬
‫ت إِنِّي أَخَــافُ أَ ْن يَ َم َّسـكَ عَـ َذابٌ ِمنَ الـرَّحْ َم ِن فَتَ ُكــونَ‬ ‫َصـيًّا (‪ )44‬يَـاأَبَ ِ‬ ‫َكانَ لِلرَّحْ َم ِن ع ِ‬
‫ك‬ ‫ان َولِيًّــا (‪ )45‬قَــا َل أَ َرا ِغبٌ أَ ْنتَ ع َْن آلِهَتِي يَــاإِب َْرا ِهي ُم لَئِ ْن لَ ْم تَ ْنتَــ ِه أَل َرْ ُج َمنَّ َ‬ ‫لشــ ْيطَ ِ‬ ‫لِ َّ‬
‫َوا ْهجُرْ نِيـ َملِيًّــا (‪ )46‬قَــا َل َسـاَل ٌم َعلَ ْيــكَ َسأ َ ْسـتَ ْغفِ ُر لَــكَ َربِّي إِنَّهُ َكــانَ بِي َحفِيًّــا (‪)47‬‬
‫َسـى أَاَّل أَ ُكــونَ بِـ ُدعَا ِء َربِّي َش ـقِيًّا (‬ ‫ُون هَّللا ِ َوأَ ْدعُو َربِّي ع َ‬ ‫َوأَ ْعت َِزلُ ُك ْم َو َما تَ ْد ُعونَ ِم ْن د ِ‬
‫‪[ ﴾)48‬مريم‪]48 - 41 :‬‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬لقد حصــل لي مــا حصــل لــك‪ ،‬ولكن ليس مــع أهلي‪،‬‬
‫وإنما مع جيرانيـ وأقاربيـ جميعـا الــذين أعلنت الحــرب عليهم بســبب مخــالفتهم لمـا‬
‫أراه من آراء‪ ،‬أو لمن أواليهم من الناس‪ ..‬وقدـ جعلــني ذلــك أمتلئ بكــل أنــواع الحقــد‬
‫والكراهية مع أنني قبل التزاميـ كنت مسالما‪ ،‬بل ومحبوبا من جميع الناس‪.‬‬
‫أذكـــر في ذلـــك اليـــوم أني ذهبت إلى شـــيخي‪ ،‬وحكيت لـــه عن أصـــدقائي‬
‫وجيراني‪ ،‬فسألنيـ عن عقائدهم‪ ،‬فأخبرتهم عنها‪ ،‬فراح يحكي لي عن بعض مشايخه‬
‫أنه قال‪( :‬من جلس مع صاحب بدعة فاحذره‪ ،‬ومن جلس مع صاحب البدعة لم يُعطَ‬

‫‪ )(1‬مجموع الفتاوى (‪.)478 /14‬‬

‫‪71‬‬
‫الحكمة‪ ،‬وأحب أن يكــون بيــني وبين صــاحب بدعــة حصــن من حديد‪ ،‬آكــل مــع‬
‫ي من أن آكل مع صاحب البدعة)(‪.)1‬‬ ‫اليهوديـ والنصرانيـ أحب إل َّ‬
‫وحكى لي عن آخر قوله‪( :‬من أتاه رجـل فشـاوره فدلـه على مبتـدع فقـد غش‬
‫اإلسالم‪ ،‬واحذرواـ الدخول على صاحب البدع فإنهم يصدون عن الحق)(‪)2‬‬
‫وحكى لي عن آخــر قوله‪( :‬من أصــغى بإذنــه إلى صــاحب بدعــة خــرج من‬
‫عصمة هللا ووكل إليها يعني إلى البدع) (‪)3‬‬
‫ي من أن‬ ‫وحكى لي عن آخــر قوله‪( :‬ألن يجــاورني قــردة وخنــازيرـ‪ ،‬أحب إل َّ‬
‫يجاورني أحد منهم يعني أصحاب األهواء)(‪)4‬‬
‫وحكى لي عن آخر أنه (جعل إصبعيه في أذنيه لما سمع معتزليًا يتكلم)(‪)5‬‬
‫وحكى لي عن آخـــر قوله‪:‬أنـــه (امتنـــع من ســـماع إبـــراهيم بن أبي يحـــيى‬
‫المعتزليـ‪ ،‬وقال‪ :‬ألن القلب ضعيف وإن الدين ليس لمن غلب)(‪)6‬‬
‫وحكى لي عن آخــر قوله لرجــل ممن ســماهم أصــحاب األهــواء‪ :‬أســألك عن‬
‫كلمة‪ ،‬فولى وهو يقول‪ :‬وال نصف كلمة‪ ،‬مرتين يشير بإصبعيه(‪.)7‬‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬لقد غفــل هــؤالء جميعــا أن يحــدثوناـ عن مقولــة إمــام‬
‫المتقين اإلمام علي في عهده لمالك األشتر لمــا واله مصر‪ ،‬فقــد قــال له‪ ..( :‬وأشــعرـ‬
‫قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم‪ ،‬وال تكونن عليهم سبعا ً ضــاريا ً تغتنم‬
‫أكلهم‪ ،‬فإنهمـ صنفان إما أخ لك في الدين‪ ،‬أو نظير لك في الخلق‪ ،‬يفــرط منهم ال ّزلل‪،‬‬
‫وتعــرض لهم العلل‪ ،‬ويــؤتىـ على أيــديهم في العمــد والخطأـ‪ ،‬فــأعطهم من عفــوك‬
‫وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك هللا من عفوه وصفحه)(‪)8‬‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقـال‪ :‬صـدقت‪ ..‬وقـد غفلـوا عن أولئـك العلمـاء الصـادقين‬
‫الذين وقفواـ في وجه هذه الفتنة‪ ،‬كالشيخ جمال الدين القاسمي(‪ ،)9‬فقد كــان من دعــاة‬
‫الترفع على األحقاد‪ ،‬والتعامل مع الناس بإنسانية‪ ،‬ال بما يقتضيه والؤهمـ وبــراؤهمـ‪،‬‬
‫فمن مقوالته في ذلك‪( :‬من المعروف في سنن االجتماع أن كل طائفــة قــوي شــأنها‪،‬‬
‫وكثرـ سوادها‪ ،‬ال بد أن يوجدـ فيها األصيل والدخيل‪ ،‬والمعتدل والمتطرفـ‪ ،‬والغالي‬

‫‪ )(1‬الحلية ألبي نعيم ‪.8/103‬‬


‫‪ )(2‬شرح أصول اعتقاد أهل السنة برقم ‪.261‬‬
‫‪ )(3‬البربهاري في شرح السنة ‪.60/‬‬
‫‪ )(4‬شرح أصول اعتقاد أهل السنة برقم ‪.231‬‬
‫‪ )(5‬ابن بطة في اإلبانة ‪.1/40‬‬
‫‪ )(6‬ابن بطة في اإلبانة ‪.1/40‬‬
‫‪ )(7‬شرح أصول اعتقاد أهل السنة برقم ‪.291‬‬
‫‪ )(8‬نهج البالغة‪.53 :‬‬
‫‪ )(9‬وهو من علماء الحديث والتفسير‪ ،‬ومع ذلك ينكر عليه السـلفية‪ ،‬ويتشـددون في رفضه انظـر أقـوال الشـيخ‬
‫ربيع بن هادي في جمال الدين القاســمي في [بيــان مــافي نصــيحة إبــراهيم الــرحيلي من الخلــل واإلخالل] ص (‪-١٤‬‬
‫‪])١٥‬‬

‫‪72‬‬
‫والمتسامح‪ ،‬وقد وجد باالستقراء أن صوت الغــالي أقــوى صــدى‪ ،‬وأعظم اســتجابة‪،‬‬
‫ألن التوسط منـزلة االعتدال‪ ،‬ومن يحرص عليه قليل في كل عصــر ومصرـ‪ ،‬وأمــا‬
‫الغلــو فمشــرب األكــثر‪ ،‬ورغيبــة الســواد األعظم‪ ،‬وعليــه درجت طوائ ـفـ الفــرق‬
‫والنحل‪ ،‬فحاولت االستئثارـ بالــذكرى‪ ،‬والتفــرد بالــدعوى‪ ،‬ولم تجــد ســبيالً الســتتباعـ‬
‫الناس لها إال الغلو بنفســها‪ ،‬وذلــك بالحــط من غيرها‪ ،‬واإليقــاع بســواها‪ ،‬حســب مــا‬
‫تسنح لها الفرص‪ ،‬وتساعدها األقدارـ‪ ،‬إن كان بالسنان‪ ،‬أو اللسان)(‪.)1‬‬
‫وقــال مــدافعا عن المتهمين بالبدعة‪( :‬ولكن ال يســتطيع أحــد أن يقــول‪ :‬أنهم‬
‫تعمدواـ االنحراف عن الحق‪ ،‬ومكافحة الصواب عن سوء نية‪ ،‬وفساد طوية‪ ،‬وغايــة‬
‫ما يقال في االنتقاد في بعض آرائهم‪ :‬إنهم اجتهـدوا فيـه فأخطـأوا‪ ،‬وبهـذا كـان ينتقـد‬
‫على كثير من األعالم سلفا ً وخلفا ً ألن الخطــأ من شــأن غــير المعصــوم‪ ،‬وقــد قــالوا‪:‬‬
‫المجتهد يخطئ ويصيب‪ :‬فال غضاضة وال عار على المجتهد أن أخطــأ في قــول أو‬
‫رأي‪ ،‬وإنما المالم على من ينحرف عن الجادة عامداً معتمداً‪ ،‬وال يتصــور ذلــك في‬
‫مجتهد ظهر فضله‪ ،‬وزخرـ علمه)(‪.)2‬‬
‫وقال‪( :‬دع مخالفك ـ إن كنت تحب الحق ـ يصرح بمــا يعتقد‪ ،‬فإمــا أن يقنعــك‬
‫وإمــا أن تقنعــه وال تعاملــه بالقســر فمــا انتشــر فكــر بــالعنف أو تفــاهم قــوم بــالطيش‬
‫والرعونة‪ .‬من خرج في معاملة مخالفـه عن حـد الـتي هي أحسـن يحرجـه فيخرجـه‬
‫عن األدب ويحوجــه إليــه ألن ذلــك من طبــع البشــر مهمــا تثقفت أخالقهم وعلت في‬
‫اآلداب مــراتبهم‪ .‬وبعــد فــإن اختالف اآلراء من ســنن هــذا الكــون‪ ،‬وهــو من أهم‬
‫العوامل في رقي البشر‪ ،‬واألدب مع من يقول فكره باللطفـ قاعــدة ال يجب التخلــف‬
‫عنها في كل مجتمع‪ .‬والتعادي على المنازع الدينيــة وغيرهــا من شــأن الجــاهلين ال‬
‫العالمين‪ ،‬والمهوسين ال المعتدلين)(‪)3‬‬
‫رمى آخر بسـيفه‪ ،‬وقـال‪ :‬صـدقت‪ ..‬وقـد قـال قبلـه صـالح بن مهـدي المقبلي ‪:‬‬
‫(فأقول اللهم إنه ال مذهب لي إال دين اإلسالم‪ ،‬فمن شمله فهو صــاحبي وأخي‪ ،‬ومن‬
‫ـال فيــه وال مقصر‪ ،‬فــإن‬ ‫كان قدوة فيه عرفت له حقه‪ ،‬وشكرت لــه صــنعه‪ ،‬غــير غـ ٍ‬
‫اســتبان لي الــدليل‪ ،‬واســتنارـ لي الســبيل‪ ،‬كنت غنيــا ً عنهم في ذلــك المطلب‪ ،‬وإن‬
‫ألجأتني الضرورة إليهم وضعتهم موضــع اإلمــارة على الحق‪ ،‬واقتفيت األقــرب في‬
‫نفسي إلى الصواب بحسب الحادثة‪ ،‬بريئا ً من االنتساب إلى إمــام معين‪ ،‬يكفيــني أني‬
‫من المسلمين‪ ،‬فــإن ألجــأني إلى ذلــك هللا‪ ،‬ولم يبــق لي من إجابــاتهم بــد‪ ،‬قلت‪ :‬مســلم‬
‫مؤمن‪ ،‬فإن مزقوا أديمي‪ ،‬وأكلــوا لحمي‪ ،‬وبــالغواـ في األذى‪ ،‬واســتحلوا البــذا‪ ،‬قلت‪:‬‬
‫﴿ َسال ٌم َعلَ ْي ُك ْم ال نَ ْبتَ ِغي ْال َجا ِهلِينَ ﴾ [القصص‪﴿ ،]55 :‬ال َ‬
‫ض ـي َْر إِنَّا إِلَى َربِّنَــا ُمنقَلِبُــونَ ﴾‬
‫[الشعراء‪ ،]50 :‬وأجعلك اللهم في نحورهم‪ ،‬وأعــوذ بــك من شــرورهم‪ ،‬رب نجــني‬

‫‪ )(1‬الجرح والتعديل ـ ص‪.4‬‬


‫‪ )(2‬الجرح والتعديل ـ ص‪.10‬‬
‫‪ )(3‬الجرح والتعديل ـ ص‪.38‬‬

‫‪73‬‬
‫‪)4()‬‬ ‫مما فعله المفرقون لدينك‪ ،‬وألحقني بخير القرون من حزب أمينك‬

‫‪ )(4‬العلم الشامخ في تفضيل الحق على اآلباء والمشايخ‪ ،‬المقبلي‪ ،‬صالح بن المهدي‪ ،‬ص‪ 7‬ـ ‪،8‬‬

‫‪74‬‬
‫سابعا ـ الرحمة‬
‫قام الحكيم الســابع بين الصــفين‪ ،‬وقــال‪ :‬أخــبرونيـ يــا من ال تزالــون تحملــون‬
‫سيوفكم عن أول اسم من أسماء هللا الحسنى تجدونه في القرآن الكريم‪.‬‬
‫قام رجل من القوم‪ ،‬وقال‪ :‬ذاك مما يعرفه صغارنا‪..‬ـ إنه ال شك اسمه الرحمن‬
‫المقترن باسم الرحيم‪ ..‬فقد تكرر ذكرهمــا في ســورة الفاتحــة مــرتين‪ ..‬وتكــررـ ذكــر‬
‫رحمــة هللا في القــرآن الكــريم بمــا ال يعــد وال يحصــى‪ ..‬بــل لم يــذكر من أســماء هللا‬
‫الحسنى وصفاته العليا مثلما ذكرت رحمة هللا‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهل رحمة هللا خاصــة بقــوم دون قــوم‪ ..‬أو بخلــق دون خلــق‪ ..‬أم‬
‫أنها وسعت الخلق جميعا؟‬
‫قال الرجل‪ :‬الشـك أنهـا وسـعت الخلــق جميعــا‪ ،‬وقــد قــال تعــالى‪َ ﴿::‬و َرحْ َمتِيـ‬
‫ت ُك َّل َش ْي ٍء فَ َسأ َ ْكتُبُهَا لِلَّ ِذينَ يَتَّقُونَ َوي ُْؤتُونَ ال َّز َكاةَ َوالَّ ِذينَ هُ ْم بِآَيَاتِنَا ي ُْؤ ِمنُونَ ﴾‬ ‫َو ِس َع ْ‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهل يمكنها أن تسع المذنبين والغافلين والعاصين؟‬
‫قــال الرجــل‪ :‬ويلــك‪ ..‬وهــل أنت في شــك من ذلــك‪ ..‬فرحمــة هللا وســعت كــل‬
‫ي الَّ ِذينَ‬ ‫شيء‪ ..‬حتى المــذنبين والغــافلين والعاصـين‪ ،‬وقــد قـال تعــالى‪﴿:‬قُـلْ يَـا ِعبَــا ِد َ‬
‫وب َج ِميعـا ً إِنَّهُ هُـ َو‬ ‫أَ ْسـ َرفُواـ َعلَى أَنفُ ِسـ ِه ْم اَل تَ ْقنَطُــوا ِمن رَّحْ َمـ ِة هَّللا ِ إِ َّن هَّللا َ يَ ْغفِـ ُر الـ ُّذنُ َ‬
‫ـذبُوكَ فَقُــلْ َربُّ ُك ْم ُذو َرحْ َمـ ٍة َو ِ‬
‫اسـ َع ٍة َواَل‬ ‫َّحي ُم ﴾[الزمر‪ ،]53 :‬وقال‪﴿ :‬فَإِ ْن َكـ َّ‬ ‫ْال َغفُو ُر الر ِ‬
‫ي َُر ُّد بَأْ ُسهُ َع ِن ْالقَوْ ِم ْال ُمجْ ِر ِمينَ ﴾ [األنعام‪]147 :‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهل تجــدون في أتبــاع الرســل عليهم الصــالة والســالم من عمــر‬
‫طويال وهــو كــافرـ مشــرك‪ ..‬لكن رحمــة هللا تداركتــه في آخــر لحظــة‪ ..‬فــآمن واتبــع‬
‫الرسل ومحيت عنه كل خطاياه‪ ..‬بل عوض بدلها الدرجات الرفيعة من الجنة؟‬
‫قال الرجل‪ :‬أجل‪ ..‬وهو كثير جدا‪ ..‬وقد ذكر القرآن الكـريم من أمثلتـه سـحرة‬
‫فرعون‪ ،‬فقد عاشوا حياتهم كلها في بالطه يشركون باهلل‪ ..‬ويمارســون كــل صــنوف‬
‫السـ َح َرةُ ُسـ َّجدًا قَــالُوا‬ ‫االنحراف‪ ،‬ولكن رحمة هللا تداركتهم‪ ..‬كما قال تعالى‪﴿ :‬فَــأ ُ ْلقِ َي َّ‬
‫ك َعلَى َمــا َجا َءنَــا ِمنَ‬ ‫وس ـى﴾ [طــه‪ ،]70 :‬و﴿ قَــالُوا لَ ْن نُـ ْـؤثِ َر َـ‬ ‫آ َمنَّا بِ ـ َربِّ هَــارُونَ َو ُم َ‬
‫ضي هَ ِذ ِه ْال َحيَاةَ ال ُّد ْنيَا (‪ )72‬إِنَّا آ َمنَّا‬ ‫اض إِنَّ َما تَ ْق ِ‬ ‫ض َما أَ ْنتَ قَ ٍ‬ ‫ت َوالَّ ِذي فَطَ َرنَاـ فَا ْق ِ‬‫ْالبَيِّنَا ِ‬
‫السـحْ ِر َوهَّللا ُ خَ يْـ ٌر َوأَ ْبقَى (‪ )73‬إِنَّهُ َم ْن‬ ‫بِ َربِّنَا لِيَ ْغفِ َر لَنَا َخطَايَانَاـ َو َما أَ ْك َر ْهتَنَاـ َعلَيْـ ِه ِمنَ ِّ‬
‫ـوت فِيهَــا َواَل يَحْ يَى (‪َ )74‬و َم ْن يَأْتِـ ِه ُم ْؤ ِمنًــا قَـ ْد‬ ‫ت َربَّهُ ُمجْ ِر ًمــا فَـإِ َّن لَـهُ َجهَنَّ َم اَل يَ ُمـ ُ‬ ‫يَأْ ِ‬
‫ات َعـ ْد ٍن تَجْـ ِري ِم ْن تَحْ تِهَــا‬ ‫ات ْال ُعلَى (‪َ )75‬جنَّ ُ‬ ‫ك لَهُ ُم الـ َّد َر َج ُ‬‫ت فَأُولَئِـ َـ‬ ‫ـل َّ‬
‫الصـالِ َحا ِ‬ ‫َع ِمـ َ‬
‫ك َج َزا ُء َم ْن تَزَ كى (‪[ ﴾ )76‬طه‪]76 - 72 :‬‬ ‫َّ‬ ‫اأْل َ ْنهَا ُر خَالِ ِدينَ فِيهَا َوذلِ َ‬
‫َ‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهل تراهم قد فازواـ بالسعادة األبدية بعد قولهم هذا؟‬
‫قال الرجل‪ :‬ال شك في ذلك‪ ..‬ومن شك في ذلك فهو كافر يســتتاب‪ ،‬فــإن تــاب‬
‫وإال قتل‪ ،‬ورميت رأسه في المزابل‪.‬‬
‫قــال الحكيم‪ :‬أرأيتم لــو أن رجال من الغيــورين أمثــالكم راح لبعض هــؤالء‬

‫‪75‬‬
‫السحرة‪ ،‬فقتلهم‪ ،‬كيف يكون مصيرهم؟ـ‬
‫قال الرجل‪ :‬ال شك أن مصيرهمـ حينها سيكون جهنم‪ ،‬وبئس المصير‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فكم سيمكثون فيها حينها؟‬
‫قال الرجل‪ :‬سيخلدون فيها خلودا أبديا‪.‬‬
‫قــال الحكيم‪ :‬أال يكــون الــذي قتلهم حينهــا قــد جــنى عليهم‪..‬وقــد حــرمهم من‬
‫السعادة األبدية‪ ..‬وأنزلهمـ دار الشقاوة األبدية‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬أجل‪..‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهل تراه قاسيا بفعله ذلك‪ ،‬أم رحيما؟‬
‫قال الرجل‪ :‬بل أراه قاسيا ألن هللا رحمهم بمد آجالهم حتى يـروا من آيـات هللا‬
‫ما تطمئن له قلوبهم‪ ،‬ويتخلصواـ به من ضاللهم‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فلم ال تتركون الفرصة لمن ترونهمـ قــد ابتــدعوا أو ضــلوا عســى‬
‫هداية هللا تمأل قلوبهم‪ ..‬وعسى رحمة هللا التي وسعت كل شيء تتداركهم؟ـ‬
‫سكت الرجل‪ ،‬فقال الحكيم‪ :‬أخــبرونيـ عن خـبر إبــراهيم عليـه الســالم عنــدما‬
‫جاءه المالئكــة الــذين يريــدونـ إنــزال العقوبــة على قــوم لــوط بعــد أن قــامت الحجــة‬
‫عليهم‪ ..‬هل ترونه راح يشجعهمـ على ذلك‪ ،‬ويفرح بما عزموا عليــه‪ ،‬أم ترونــه راح‬
‫يستعمل كل الوسائل لمنعهم‪ ،‬مع علمه بأنهم مالئكة هللا؟‬
‫قام رجل آخر‪ ،‬فقال‪ :‬لقد حكى القرآن الكريم عن ذلك‪ ..‬فقد قــال تعــالى‪﴿ :‬فَلَ َّما‬
‫وط﴾ [هود‪ ،]74 :‬لكن هللا‬ ‫ع َو َجا َء ْتهُ ْالبُ ْش َرىـ ي َُجا ِدلُنَا فِي قَوْ ِم لُ ٍ‬ ‫َذه َ‬
‫َب ع َْن إِ ْب َرا ِهي َم ال َّروْ ُ‬
‫ك َوإِنَّهُ ْم آتِي ِه ْم‬ ‫عاتبه على ذلك‪ ،‬فقال‪﴿ :‬يَاإِ ْب َرا ِهي ُم أَ ْع ِرضْ ع َْن هَ َذا إِنَّهُ قَ ْد َجـ ا َء أَ ْمـ ُر َربِّ َ‬
‫َع َذابٌ َغ ْي ُر َمرْ دُو ٍد﴾ [هود‪]76 :‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهل ترون هللا تعالى مدح إبراهيمـ عليه السالم في موقفــه ذلــك أم‬
‫ال؟‬
‫ـرا ِهي َم لَ َحلِي ٌم‬ ‫قال الرجل‪ :‬بل مدحه‪ ..‬فقد قال تعالى قبل ذكــر عتابــه لــه‪﴿ :‬إِ َّن إِ ْبـ َ‬
‫أَ َّواهٌ ُمنِيبٌ ﴾ [هود‪]75 :‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهل كانت أفعال قوم لوط أفعاال شنيعة‪ ،‬وكان إبراهيمـ يعلم بها أم‬
‫ال؟‬
‫قال الرجل‪ :‬بل كانت أفعاال شنيعة‪ ..‬وكان إبراهيم عليه السالم يعلم بها‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬ومع ذلك‪ ..‬فقد توسط لهم ورحمهم وأثنىـ هللا عليه بذلك‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬ذلك صحيح‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬ولم كان كذلك؟‬
‫قال الرجــل‪ :‬ألن األنبيــاء عليهم الســالم جبلــوا على الرحمــة‪ ..‬وقــد أخــبر هللا‬
‫تعالى عن رسول هللا ‪ ‬أنه كان من فرط حزنه على قومه بسبب عدم إيمانهمـ يكــاد‬
‫ـار ِه ْم إِ ْن لَ ْم ي ُْؤ ِمنُــوا بِهَـ َذا ْال َحـ ِدي ِ‬
‫ث‬ ‫ك َعلَى آثَـ ِ‬ ‫ك بَا ِخ ٌع نَ ْف َس َ‬‫يقتل نفسه‪ ..‬قال تعالى‪﴿ :‬فَلَ َعلَّ َ‬
‫اخ ٌع نَ ْف َسكَ أَاَّل يَ ُكونُوا ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ [الشعراء‪]3 :‬‬ ‫أَ َسفًا ﴾ [الكهف‪ ،]6 :‬وقال‪﴿ :‬لَ َعلَّكَ بَ ِ‬
‫قال الحكيم‪ :‬ولم كان كذلك؟‬

‫‪76‬‬
‫قال الرجل‪ :‬لحرصه على إيمــانهم‪ ،‬وقــد قــال تعــالى يــبين ذلــك‪﴿ :‬لَقَـ ْد َجـ ا َء ُك ْم‬
‫وف َر ِحي ٌم ﴾‬ ‫ـريصٌ َعلَ ْي ُك ْم بِـ ْ‬
‫ـال ُم ْؤ ِمنِينَ َر ُء ٌ‬ ‫َر ُسـو ٌل ِم ْن أَ ْنفُ ِسـ ُك ْم ع ِ‬
‫َزيـ ٌز َعلَ ْيـ ِه َمــا َعنِتُّ ْم َحـ ِ‬
‫[التوبة‪]128 :‬‬
‫قـال الحكيم‪ :‬أرأيتم لـو أن رسـول هللا ‪ ‬تمكن حينهـا منهم‪ ،‬أكـان يقيم عليهم‬
‫جميعا حد الردة‪ ،‬فيقتلهم لشركهم‪،‬ـ ولصدهم عن دين هللا؟‬
‫قال الرجل‪ :‬وأنى لنا أن نعرف ذلك‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬بلى‪ ..‬ألم تروواـ في الحــديث أن رســولـ هللا ‪ ‬أجــاب من ســأله‪:‬‬
‫(هل أتى عليك يوم كان أشــد من يــوم أحــد؟)‪ ،‬قــال‪( :‬لقــد لقيت من قومــك مــا لقيت‪،‬‬
‫وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة‪ ،‬إذ عرضـت نفسـي على ابن عبـد ياليـل بن عبـد‬
‫كالل‪ ،‬فلم يجبــني إلى مــا أردت‪ ،‬فــانطلقت وأنــا مهمــومـ على وجهي‪ ،‬فلم أســتفق إال‬
‫وأنا بقرن الثعالب فرفعتـ رأســي‪ ،‬فــإذا أنــا بســحابة قــد أظلتــني‪ ،‬فنظــرت فــإذا فيهــا‬
‫جبريل‪ ،‬فناداني فقال‪ :‬إن هللا قد ســمع قــول قومــك لــك‪ ،‬ومــا ردوا عليــك‪ ،‬وقــد بعث‬
‫إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم‪ ،‬فناداني ملــك الجبــال فســلم علي‪ ،‬ثم قــال‪ :‬يــا‬
‫محمد‪ ،‬فقال‪ ،‬ذلك فيما شئت‪ ،‬إن شئت أن أطبــق عليهم األخشــبين؟ فقــال النــبي ‪:‬‬
‫بل أرجو أن يخرج هللا من أصالبهمـ من يعبد هللا وحده‪ ،‬ال يشرك به شيئا)(‪)1‬‬
‫قال الرجل‪ :‬الحديث صحيح‪ ..‬وقد رواه جمع كثير من الثقاة الذين ال نشك في‬
‫نزاهتم وضبطهم وكفاءتهم في الرواية‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬أال ترى أن رسول هللا ‪ ‬كان في إمكانه عن طريقـ ملك الجبال‬
‫أن يقيم عليهم أحكــام الــدين‪ ..‬ويقضــي عليهم دفعــة واحــدة‪ ،‬وتســتريح األرض من‬
‫شركهم؟ـ‬
‫قال الرجل‪ :‬لقد طمع رسولـ هللا ‪ ‬في أن يكون من أوالد أولئــك المشــركين‬
‫من يؤمن به‪.‬‬
‫قــال الحكيم‪ :‬فلم ال تطمعــون في أوالد من تحــاربونهمـ أن ينتهجــواـ الصــراط‬
‫الذي تنتهجونه‪.‬‬
‫قـال الرجـل‪ :‬لقـد كــان ذلـك في مكــة‪ ..‬ال في المدينـة‪ ..‬وكـان قبــل الهجـرة ال‬
‫بعدها‪.‬‬
‫قــال الحكيم‪ :‬فهــل تــرون رحمــة هللا ورحمــة رســوله نســخت أم عطلت بعــد‬
‫الهجرة؟‬
‫قال الرجل‪ :‬معاذ هللا‪ ..‬فرسول هللا كما ذكره ربــه رحمــة للعــالمين‪ ..‬كمــا قــال‬
‫ك إِاَّل َرحْ َمةً لِ ْل َعالَ ِمينَ ﴾ [األنبياء‪]107 :‬‬ ‫تعالى‪َ ﴿ :‬و َما أَرْ َس ْلنَا َ‬
‫قــال الحكيم‪ :‬ولكنكم تجعلونــه رحمــة خاصــة بكم حين تســمحون ألنفســكم أن‬
‫تقتل كل من يخالفكم بحجة أنه يخالف نبيكم‪.‬‬
‫سكت الرجل‪ ،‬فقال الحكيم‪ :‬ألستم تــذكرون في دواوينكم الــتي هي أهم عنــدكم‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫من كل شيء أن كبار المشركين الذين حاربوا رسول هللا ‪ ،‬وتفننوا في حربــه قــد‬
‫أسلموا‪ ،‬وحسن إسالمهم‪ ..‬وأنهم صاروا صحابة أجالء‪ ..‬وأنهم اكتسبوا بعد كل تلك‬
‫الحروب التي خاضوها ضد اإلسالم من الحرمة والمنعة ما لم يكتســبه الــذين ولــدوا‬
‫في اإلسالم وعاشوا به‪ ،‬وماتواـ عليه‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬تقصد هندا وأبا سفيان؟‬
‫قال الحكيم‪ :‬وغيرهما كثير‪ ..‬ألستم تجلونهم وتعظمونهمـ مع كل ما فعلوه؟‬
‫قال الرجل‪ :‬ألن رحمة هللا تداركتهم‪ ..‬فتحولوا من أعداء أشــقياء إلى صــحابة‬
‫أجالء‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فلم ال تدعون رحمة هللا تتداركـ هؤالء البسطاء الذين تقــاتلونهم‪..‬‬
‫ولم ال تدعون رحمة هللا تتنزل على أوالدهمـ وأحفادهم إن لم تتنزل عليهم؟‬
‫سكت الرجل‪ ،‬فقال الحكيم‪ :‬أخبروني ماذا تفعلــون برجــل يحمــل النجاســات‪..‬‬
‫ويضعهاـ في المسجد؟‬
‫سل بعضهم سيفه‪ ،‬وقال‪ :‬من رأيته يفعل ذلك ألغمــدن ســيفي في صــدره‪ ..‬أو‬
‫ألجتزن رقبته وأرمي برأسه للكالب والثعالب‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهل لك دليل على ذلك من سنة نبيك الذي تزعم أنك تتبعه؟‬
‫قال الرجل‪ :‬أجـل‪ ..‬فالمسـاجدـ من شـعائرـ هللا‪ ..‬ومن حقرهـا فقـد حقـر شـعائر‬
‫هللا‪ ..‬وليس لذلك سوىـ القتل‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهل أنت أكثر تعظيماـ لشعائر هللا من رسول هللا ‪‬؟‬
‫قال الرجل‪ :‬معاذ هللا‪ ..‬فرسول هللا ‪ ‬هو أعلم الخلق باهلل‪ ،‬وأعظمهم تعظيما‬
‫لشعائره‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فما سنته فيمن فعل ذلك؟‬
‫قال الرجل‪ :‬أنا لم أسمع بأي سنة في هذا الباب‪.‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬ألم تسمع بحديث الذي بال في المسجد؟‬
‫قــال الرجــل‪ :‬بلى‪ ..‬لقــد أنســتنيه األيــام مــع أنــني لــدي إجــازة من مشــايخي‬
‫بروايته‪ ..‬فقد حدثني شيخي عن شيخه إلى أبي هريــرة قــال‪ :‬بينمــا نحن في المســجد‬
‫مع رسولـ هللا ‪ ‬إذ جاء أعرابي فقام يبول في المســجد‪ ،‬فقــال أصــحاب رســول هللا‬
‫‪ :‬مه مــه‪ ،‬فقــال رســول هللا ‪( :‬ال تزرمــوه‪ ،‬دعــوه)‪ ،‬فــتركوه حــتى بــال‪ ،‬ثم إن‬
‫رسول هللا ‪ ،‬دعاه فقال له‪( :‬إن هذه المساجد ال تصــلح لشــيء من هــذا البــول وال‬
‫القذر‪ ،‬إنما هي لذكر هللا عز وجل والصالة وقــراءة القــرآن)‪ ،‬فــأمرـ رجال من القــوم‬
‫فجاء بدلو من ماء فشنّه عليه(‪.)1‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬بورك في حفظك للحديث‪ ..‬لكنك لم تكمله‪ ..‬فللحديث تتمة‪.‬‬
‫قــال الرجــل‪ :‬أجــل‪ ..‬وقــد رويته ـاـ بســندي عن أبي هريــرة أن أعرابيــا دخــل‬
‫المسجد ورسولـ هللا ‪ ‬جالس‪ ،‬فصلى ركعتين ثم قــال‪ :‬اللهم ارحمــنيـ ومحمــدا وال‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫ترحم معنا أحداً‪ ،‬فقال النبي ‪ :‬لقــد تحجــرت واســعاً‪ .‬ثم لم يلبث أن بــال في ناحيــة‬
‫المســجد‪ ،‬فأســرع النــاس إليــه‪ ،‬فنهــاهم النــبي ‪ ،‬وقــال‪( :‬إنمــا بعثتم ميســرين‪ ،‬ولم‬
‫تبعثوا معسرين)‪ ،‬صبوا عليه سجال من ماء(‪.)1‬‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهل ترى أن هذه الحادثة خاصة بزمنه ‪ ..‬أم أنها عامة؟‬
‫قال الرجل‪ :‬بل هي عامة‪ ..‬فقد ذكر رسول هللا ‪ ‬في آخر الحديث لصــحابته‬
‫هذه المقولة‪( :‬إنما بعثتم ميسرين‪ ،‬ولم تبعثوا معسرين)‬
‫قال الحكيم‪ :‬فهل ترون ما تقومون به من قتل بعضكم بعضا من أجل رأي أو‬
‫قضية أو موقف داخل في التيسير أم التعسير؟‬
‫سكت الرجل‪ ،‬فقال الحكيم‪ :‬بـل هـو داخـل في التعسـير‪ ..‬وأنتمـ بمـواقفكم هـذه‬
‫تخالفون سنة نبيكم ‪ ..‬بل تحولـون دين الرحمـة إلى دين قسـوة‪ ..‬ودين اليسـر إلى‬
‫دين عسر‪ ..‬أنتم تحرفون الدين تحريفا خطيرا‪.‬ـ‬
‫رمى رجل سيفه‪ ،‬وقال‪ :‬بورك فيك أيها الحكيم‪ ..‬لقد تذكرت لتوي كيف فعــل‬
‫رسول هللا ‪ ‬عنــدما تمكن من أعدائــه الــذين صــبوا عليــه وأصــحابه جميــع أنــواع‬
‫العذاب‪ ،‬وسلبواـ أمــوالهم‪ ،‬وديــارهم‪ ،‬وأجلــوهم عن بالدهم‪ ،‬لكنــه ‪ ‬قابــل كــل تلــك‬
‫اإلساءات بالعفو والصفح والحلم قائالً‪( :‬يا معشر قريش‪ ،‬ما ترون أني فاعل بكم؟)‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬خي ًرا‪ ،‬أخ كريم وابن أخ كريم‪ ،‬فقال ‪(:‬اذهبوا فأنتمـ الطلقاء)‬
‫﴿وإِ ْن عَاقَ ْبتُ ْم فَ َعاقِبُوا بِ ِم ْث ِل َما عُوقِ ْبتُ ْم بِـ ِه َولَئِ ْن َ‬
‫صـبَرْ تُْـم لَهُـ َو‬ ‫لقد أنزل هللا عليه‪َ :‬‬
‫خَ ْي ٌر لِلصَّابِ ِرينَ ﴾ (النحل‪ ،)126:‬فاختار أن يعفــو عنهم ويصــبر على مــا كــان منهم‪،‬‬
‫وأن ال يعاقب فقال‪( :‬نصبر وال نعاقب)‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬صدقت‪ ..‬وقد تذكرت لتوي حديث جابر أنه غزا مــع‬
‫رسول هللا ‪ ،‬فلما قفل معه أدركتهم القائلة في في واد كثير العضــاة فــنزل رســول‬
‫هللا ‪ ‬وتفرقـ النــاس يســتظلون بالشــجر‪ ،‬ونــزل رســولـ هللا ‪ ‬تحت ســمرة فعلــق‬
‫سيفه‪ ،‬ونمنا نومــة‪ ،‬فإذارســول هللا ‪ ‬يــدعونا‪ ،‬وإذا عنــده أعــرابي‪ ،‬فقــال‪( :‬إن هــذا‬
‫اخترط علي سيفي‪ ،‬وأنا نائم‪ ،‬فاستيقظتـ وهو في يده فقال‪ :‬من يمنعك مني؟) فقلت‪:‬‬
‫هللا ثالثا‪ ،‬ولم يعاقبه وجلس(‪.)2‬‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬صدقت‪ ..‬وقد تذكرت لتــوي حــديث جــابر اآلخــر أن‬
‫رسول هللا ‪ ‬جعل يقبض يــوم حــنين من فضــة في ثــوب بالل‪ ،‬ويفرقهــا‪ ،‬فقــال لـه‬
‫رجــل‪ :‬يــا رســول هللا أعــدل‪ ،‬فقــال‪( :‬ويحــك‪ ،‬من يعــدل إذا أنــا لم أعــدل؟ قــد خبت‬
‫وخسرتـ إن كنت ال أعدل) فقال عمر‪ :‬أال أضرب عنقـه فإنــه منــافق؟ـ فقــال‪( :‬معــاذ‬
‫هللا أن يتحدث أني أقتل أصحابي)(‪)3‬‬
‫رمى آخــر بســيفه‪ ،‬وقــال‪ :‬صــدقت‪ ..‬وقــد تــذكرت لتــوي حــديث عبــد هللا بن‬

‫‪ )(1‬رواه أبو داود‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه أبو الشيخ‪ ،‬وابن حبان‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫مسعودـ قال‪ :‬لما كان يوم حنين آثر رسول هللا ‪ ‬ناسا في القسـمة ليـؤلفهم‪ ،‬فـأعطى‬
‫األقرعـ بن حابس مائة من اإلبل‪ ،‬وأعطى ناسا من أشــراف العــرب‪ ،‬وآثــرهمـ يومئــذ‬
‫في القسمة‪ ،‬فقال رجل‪ :‬إن هذه لقسمة ما عدل فيها‪ ،‬ومـا أريـد بهـا وجـه هللا تعـالى‪،‬‬
‫قال‪ :‬فقلت‪ :‬وهللا ألخبرن رسول هللا ‪ ‬فأتيته‪ ،‬فأخبرته بما قال‪ ،‬فتغير وجهــه حــتى‬
‫كان كالصــرف‪،‬ـ ثم قــال‪( :‬فمن يعــدل إن لم يعــدل هللا ورســوله؟ ثم قــال‪( :‬يــرحم هللا‬
‫موسىـ ‪ ،‬قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)ـ(‪)1‬‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬صدقت‪ ..‬وقد تذكرت لتوي حديث عبد هللا بن ســالم‪:‬‬
‫أن زيد بن سعية ـ وهو أحـد علمــاء أهـل الكتــاب من اليهـود ــ قـال‪ :‬إنـه لم يبــق من‬
‫عالمات النبوة شئ إال وقدـ عرفتها في وجه محمد ‪ ‬حين نظــرت إليــه‪ ،‬إال اثنــتين‬
‫لم أخبرهما منه‪ :‬أن يسبق حلمه جهله‪ ،‬وال تزيده شـدة الجهـل عليـه إال حلمـا‪ ،‬فكنت‬
‫أتلطف له ألن أخالطه فأعرف حلمــه‪ ،‬فــابتعت منــه تمــرا معلومــا إلى أجــل معلــوم‪،‬‬
‫وأعطيته الثمن‪ ،‬فلما كان قبل محل األجــل بيــومين أو ثالثــة‪ ،‬أتيتــه‪ ،‬فأخــذت بجــامع‬
‫قميصه وردائه‪ ،‬ونظرت إليه بوجه غليظ‪ ،‬فقلت‪ :‬يا محمــد أال تقضــيني حقي؟ فوهللا‬
‫إنكم يا بني عبد المطلب لمطل‪ ،‬وقد كـان لي بمخـالطتكمـ علم‪ ،‬فقــال عمـر‪ :‬أي عـدو‬
‫هللا‪ ،‬أتقـول لرسـول هللا ‪ ‬مـا أسـمع؟ فوهللا لـوال مـا أحـاذر فوتــه لضــربت بسـيفي‬
‫رأسك‪ ،‬ورسول هللا ‪ ‬ينظر إلى عمر في سكون‪ ،‬وتؤدة‪ ،‬وتبسم‪ ،‬ثم قال‪( :‬أنا وهو‬
‫كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر‪ ،‬تأمرني بحسن األداء‪ ،‬وتأمره بحســن التباعــة‪،‬‬
‫اذهب يا عمر فاقضه حقـه‪ ،‬وزده عشــرين صـاعا‪ ،‬مكــان مــا رعتـه)‪ ،‬ففعــل عمـر‪،‬‬
‫فقلت‪ :‬يا عمر‪ ،‬كل عالمات النبوة قـد عرفتهـا في وجـه رسـولـ هللا ‪ ‬إال اثنـتين لم‬
‫أخــبر همــا منــه‪ ،‬يســبق حلمــه جهلــه‪ ،‬وال تزيــده شــدة الجهــل عليــه إال حلمــا‪ ،‬فقــد‬
‫خبرتهما‪ ،‬فأشهدكـ أني رضيت باهلل تعالى ربا‪ ،‬وباإلسالمـ دينا‪ ،‬وبمحمدـ ‪ ‬نبيا(‪.)2‬‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬صــدقت‪ ..‬وقــد تــذكرت لتــوي حــديث عائشــة قــالت‪:‬‬
‫ابتــاع رســول هللا ‪ ‬جــزورا من أعــرابي بوســق من تمــر الــذخيرة‪ ،‬فجــاء منزلــه‪،‬‬
‫فالتمس التمر‪ ،‬فلم يجده‪ ،‬فخــرج إلى األعــرابي فقــال‪( :‬عبــد هللا‪ ،‬إنــا قــد ابتعنــا منــك‬
‫جــزوركـ هــذا بوســق‪ ،‬من تمــر الــذخيرة‪ ،‬ونحن نــرى أن عنــدنا‪ ،‬فلم نجــده) فقــال‪:‬‬
‫األعرابي‪ :‬واغدراه واغدراه‪ ،‬فوكزه النــاس وقــالوا‪ :‬إلى رســولـ هللا ‪ ‬تقــول هــذا؟‬
‫فقال‪( :‬دعوه‪ ،‬فإن لصاحب الحق مقاال) فـردد ذلـك رسـول هللا ‪ ‬مـرتين أو ثالثـا‪،‬‬
‫فلما رآه ال يفقه عنه قـال لرجـل من أصـحابه‪( :‬اذهب إلى خولـة بنت حكيم بن أميـة‬
‫فقل لها رسول هللا ‪ ‬يقول لك إن كان عندك وسق من تمــر الــذخيرة فســلفينا حــتى‬
‫نؤديه إليك إن شاء هللا تعالى) فذهب إليها الرجل‪ ،‬ثم رجع قال‪ :‬قالت‪ :‬نعم هو عنـدنا‬
‫يا رسول هللا‪ ،‬فابعث من يقبضه‪ ،‬فقال رسول هللا ‪ ‬للرجل‪( :‬اذهب فأوفه الذي له)‬
‫فذهب‪ ،‬فأوفاه الذي له‪ ،‬قال فمر األعرابي برسولـ هللا ‪ ،‬وهو جالس في أصحابه‪،‬‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه ابن حبان‪ ،‬والحاكم‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫فقال‪ :‬جزاك هللا خيرا‪ ،‬فقد أوفيت وأطيبت‪ ،‬فقال رسول هللا ‪( :‬أولئك خيار الناس‬
‫الموفونـ المطيبون)(‪)1‬‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬صدقت‪ ..‬وقـدـ تـذكرت لتــوي حـديث أنس قـال‪ :‬كنت‬
‫أمشى مع رسول هللا ‪ ‬وعليْه بُ ُر ٌد نجران ّى غليظ الحاشية‪ ،‬فأدركــه أعــراب ّى فجذبــه‬
‫ـرت إلى صــفحة عنــق رســول هللا ‪ ‬وقــد أثَّر بهــا حاشــية‬ ‫بردائه جذبة شــديدة‪ ،‬فنظـ ُ‬
‫ْ‬
‫الرَّداء من ش َّدة الجذبة‪ ،‬ثم قال‪ :‬يا محمد ُمرْ لى من مال هللا الذى عندك‪ ،‬فالتَفتَ إليــه‬
‫فضحك‪ ،‬ثم أمر له بعطاء(‪.)2‬‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬صدقت‪ ..‬وقد تذكرت لتوي حديث الرجــل الــذي أتى‬
‫رسول هللا ‪ ‬يتقاضاه فأغلظ له‪ ،‬فهم به أصحابه‪ ،‬فقال رســول هللا ‪(:‬دعــوه فــإن‬
‫لصاحب الحق مقاال‪ ،‬ثم قال‪ :‬اعطوه شيئا مثل سنة)‪ ،‬فقــالوا‪ :‬يــا رســول هللا‪ ،‬ال نجــد‬
‫إال أفضل من سنه‪ ،‬قال‪( :‬اعطوها‪ ،‬وخيركمـ أحسنكم قضاء)(‪)3‬‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬صدقت‪ ..‬وقدـ تذكرت لتوي حديث اليهودية التي أتت‬
‫رسول هللا ‪ ‬بشاة مسمومة‪ ،‬فأكل منها فجئ بها‪ ،‬فقيل‪ :‬أال تقتلها فقال‪( :‬ال)(‪)4‬‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬صــدقت‪ ..‬وقــد تــذكرت لتــوي أن رســول هللا ‪ ‬لمــا‬
‫كسرت رباعيته‪ ،‬وشج وجهه يوم أحد شق ذلــك على أصــحابه‪ ،‬وقــالوا‪ :‬لــو دعــوت‬
‫عليهم‪ ،‬فقــال رســول هللا ‪( :‬إني لم أبعث لعانــا‪ ،‬ولكن بعثت داعيــا ورحمــة‪ ،‬اللهم‬
‫اهد قومي‪ ،‬فإنهم ال يعلمون)(‪)5‬‬
‫رمى آخر بسيفه‪ ،‬وقال‪ :‬صــدقت‪ ..‬وقــد تــذكرت لتــوي قــول أنس‪( :‬مــا رأيت‬
‫أحدا كان أرحم بالعباد من رسولـ هللا ‪)6()‬‬
‫رمى آخــر بســيفه‪ ،‬وقــال‪ :‬صــدقت‪ ..‬وقــد تــذكرت لتــوي حــديث مالــك بن‬
‫الحويرث قال‪ :‬كان رسول هللا ‪ ‬رحيما‪ ،‬رفيقا‪ ،‬فأقمناـ عنده عشرين ليلة‪ ،‬فظن أنــا‬
‫قد اشــتقنا إلى أهلنــا‪ ،‬فسـألناـ عمن تركنــا عنــد أهلنــا‪ ،‬فأخبرنـاه‪ ،‬فقــال‪( :‬ارجعــوا إلى‬
‫أهليكم‪ ،‬فأقيمواـ عندهم) (‪)7‬‬
‫رمى آخر بســيفه‪ ،‬وقــال‪ :‬صــدقت‪ ..‬وقــد تــذكرت لتــوي حــديث أبي قتــادة أن‬
‫رســول هللا ‪ ‬قــال‪( :‬إني ألدخــل في الصــالة‪ ،‬وأنــا أريــد أن أطيلهــا‪ ،‬فأســمع بكــاء‬
‫الصبي فأتجاوز في صالتي مما أعلم من شدة وجدانه من بكائه)(‪)8‬‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد‪ ،‬وأبو الشيخ‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخارى ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه البيهقيـ في شعب اإليمان‪ ،‬مرسال‪ ،‬ورواه موصوال عن سهل بن سعد مختصرا‪( :‬اللهم‪ :‬اغفر لقومي‪،‬‬
‫فإنهم ال يعلمون)‬
‫‪ )(6‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(7‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(8‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫الخاتمة‬
‫بعد أن تحدث هؤالء وغيرهم بهذا وغيره‪ ..‬قامت ضجة كبيرة بين الجيشـين‪،‬‬
‫وارتفعت أصواتهم بالبكاء‪ ،‬وفجأة رأيت قائدي كال الجيشين يرمي سالحه‪ ،‬ثم ينزل‬
‫من على فرسه‪ ،‬ويسيرـ نحو أخيه يعانقه ويقبله‪ ،‬ويحــاولـ كــل منهمــا أن يقبــل جبهــة‬
‫اآلخر‪.‬‬
‫سرت روحانية عظيمــة في ذلــك الحين‪ ،‬لم تقطعهــا إال أصــوات بعض من لم‬
‫يضعواـ سيوفهم‪ ،‬فقد قال أحدهم‪ ،‬وكان ذات مرتبة كبيرة في أحد الجيشين‪ ،‬بــل كــان‬
‫بمثابة مستشاره اإلعالمي‪ :‬ويلكم يــا قــوم‪..‬ـ أتستســلمون لبعض كلمــات قالهــا هــؤالء‬
‫الجهلة المبتدعة الممتلئين بالضاللة‪ ..‬ويلكم كيف تالقون ربكم‪ ،‬وقدـ وضعتم سيوفكم‬
‫قبــل أن تغمــدوهاـ في صــدور أعــداء الــدين؟‪ ..‬ويلكم هــل نســيتم ســلفكم الصــالح‪،‬‬
‫وغيرتهمـ على الدين‪ ،‬وشدتهمـ على المبتدعة؟‬
‫قــام آخــر من الجيش اآلخــر‪ ،‬وهــو يقــول‪ :‬أبعــدوا عنكم وســاوس الشــياطين‪،‬‬
‫وهلموا احملوا سيوفكم لتغمدوهاـ في صدور أعـدائكم‪ ..‬فال ينبغي لمن حمـل السـالح‬
‫أن يضعه‪ ،‬وال لمن ثار غيرة دين هللا أن يسكت صوت غيرته قبل أن يعيد لــدين هللا‬
‫حرمته‪.‬‬
‫بقي هذان وغيرهما من كل الجيشين يصرخان من غير أن يلتفت لهما أحــد‪..‬‬
‫وفجأة سار كال القائدين إلى ربوة مرتفعة ليراهم الجميع‪ ،‬ويســمعهم‪،‬ـ وهنــاك جــرى‬
‫هذا الحديث‪.‬‬
‫قال األول‪ :‬أيها اإلخوان الفضالء ممن كانوا معي أو كــانوا مــع أخي‪ ..‬لســت‬
‫أدري ما أقول لكم‪ ،‬وكيف أعتذر ألني أخــرجتكم من بين أهليكم وأوالدكم ألزج بكم‬
‫في هذه الفتنة العميـاء‪..‬لقـد غطى الـران على قلـبي بسـبب بعض من استشـرتهم من‬
‫رجال الدين والدنيا‪ ..‬فكلهم زينواـ لي الجرائم التي حركتكم لها‪ ..‬ودفعتكم إليها‪ ..‬وأنا‬
‫اآلن تائب إلى هللا تعالى‪ ..‬وقــد رميت ســالحي الــذي كــاد يصــليني بالعــذاب األبــدي‬
‫والغضب الذي ال يطيقه أحد من الخلق‪.‬‬
‫وأنــا أشــكر هــؤالء الحكمــاء الســبعة الــذين جعلهم هللا أنــوارا نهتــديـ بهــا‪..‬‬
‫وشموسا تحرق كــل مــا في قلوبنـاـ من غــل وحقــد وحســد‪ ..‬وأنــا اآلن أشــعر براحــة‬
‫عظيمة‪ ..‬فكل األثقال التي كانت تجثم على قلبي سقطت منذ سقط سيفي من يدي‪.‬‬
‫قال الثاني‪ :‬بورك فيك يا أخي‪ ..‬وأنا أعتذر لــك‪ ..‬ولكــل من حملت في وجهــه‬
‫السالح‪ ..‬لقد كنت أسيرا للشيطان الرجيم‪ ..‬وأسيراـ ألولئك الذين يتاجرون بالدين في‬
‫ســبيل الــدنيا‪ ،‬وفيـ ســبيل أهــوائهم‪ ..‬وأنــا اآلن قــد عــزمت مــع أخي على أن نجتث‬
‫جــذورهم‪ ،‬ال بالمشــانق والســجون‪ ،‬وإنمــا بــالعلم والحكمــة والروحانيــة والتوجــه‬
‫الصادقـ إلى هللا‪.‬‬
‫فلوال غفلتنا عن هللا ما تســربت شــياطين اإلنس والجن لتكــدر علينــا صــفونا‪،‬‬

‫‪82‬‬
‫وتمأل حياتنا بالمآسيـ واآلالم‪ ..‬لو أننا عرفنــا هللا‪ ،‬وعرفنـاـ عظمتــه ورحمتــه ولطفــه‬
‫بعباده لرأينا الكون أجمل بكثــير وأعظم بكثـير من تلـك الصـورة الــتي صــورها لنــا‬
‫تجار الدين من أصحاب األهواء‪.‬‬
‫ولو عرفنا أنبياءنا وورثتهمـ الطاهرين‪ ،‬وشربناـ من بحــارهم العذبــة لتخلصــنا‬
‫من كل السموم التي اشتعلت في صدورنا‪.‬‬
‫قال األول‪ :‬لقد قررت أنا وأخي أن نجعــل من الحكمــاء الســبعة أئمــة يهــدوننا‬
‫ســواء الســبيل‪ ،‬إليهم نرجـع‪ ،‬وبهـديهمـ نهتـدي‪ ،‬وبســيرتهمـ نسـير‪..‬ـ فهم الـذين فهمــوا‬
‫الدين‪ ،‬وفقهوا عن رب العالمين‪..‬‬
‫قال الثاني‪ :‬وقد قررنا أن ننزل العقوبة على كــل من يســعى للفتنــة أو يشــعلها‬
‫بيننا‪ ..‬وسنبدأـ بهؤالء الذين رفضوا أن يضعوا سيوفهم‪ ..‬فاهلل تعالى أمرنا باالجتمــاع‬
‫صـلِحُوا بَ ْينَهُ َمــا فَـإِ ْن بَغ ْ‬
‫َت‬ ‫ـؤ ِمنِينَ ا ْقتَتَلُــوا فَأ َ ْ‬
‫﴿وإِ ْن طَائِفَتَــا ِن ِمنَ ْال ُمـ ْ‬
‫على قتــالهم‪ ،‬فقــال‪َ :‬‬
‫ص ـلِحُوا‬‫ت فَأ َ ْ‬‫إِحْ دَاهُ َما َعلَى اأْل ُ ْخ َرى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَب ِْغي َحتَّى تَفِي َء إِلَى أَ ْم ِر هَّللا ِ فَإِ ْن فَا َء ْ‬
‫بَ ْينَهُ َما بِ ْال َع ْد ِل َوأَ ْق ِسطُوا إِ َّن هَّللا َ يُ ِحبُّ ْال ُم ْق ِس ِطينَ ﴾ [الحجرات‪]9 :‬‬
‫فهم مخيرون بين أمرين‪ :‬إما االستسالمـ لما تقتضــيه العدالــة‪ ،‬ونحن لن نفعــل‬
‫بهم إال ما كان يفعل رســول هللا ‪ ‬مــع ألـد أعدائــه‪ ..‬وإمـا أن يعلنـوا الحــرب علينـا‬
‫جميعا‪ ،‬وحينها سنقاتلهم‪ ،‬بعد أن نعتذر لهم بأن ذلك لم يكن إال بسببهم‪.‬ـ‬
‫فجأة سقطت كل الســيوف الــتي لم تســقط من قبــل‪ ..‬وقـدـ أجــرى كال القائــدين‬
‫تحقيقا في أسباب الفتنة‪ ،‬فوجدواـ أن أولئك الذين رفضوا وضــع ســيوفهم هم أول من‬
‫بــدأها‪ ..‬ووجــدواـ بعــد اقتحــامـ بيــوتهمـ أن لهم عالقــة بــدول أجنبيــة كــانت تريــد أن‬
‫تستأصلـ بلدتنا بأكملها ال تفرق في ذلك بين جهة وجهة‪..‬‬
‫وقد توصلت التحقيقات إلى أن كل القتلى الــذين قتلــوا‪ ،‬واتهم فيهــا طــرفـ من‬
‫األطرفـ قصد إشعال الفتنة لم يكن سببها إال أولئك الخونة‪..‬‬
‫وتوصلت التحقيقات إلى العالقة الحميمة الــتي كــانت تربـطـ مثــيري الفتن في‬
‫كال الجهتين‪ ..‬بل كان كالهما يجتمعان‪ ،‬ويخططان لما يقول كل طرف‪ ،‬ومــا يجيبــه‬
‫الطرفـ اآلخر‪.‬‬
‫بعد أن اكتشفت بلدتنا بمعونة حكمائها كل ذلك أقيمت محكمة عادلــة‪ ،‬وطبقت‬
‫العدالة على أولئك الشياطين الذين كادوا يستأصلون األخضرـ واليابس‪..‬‬
‫وقد حضر الجميع تطبيق أحكام العدالة‪ ..‬وانصرفوا جميعا بعدها إلى حيــاتهم‬
‫إخوة متحابين متصافين‪ ،‬وكأنه لم يحدث بينهم كل ما حدث من الفتن‪.‬‬
‫وق ـدـ بــارك هللا في أوالدهم وأرزاقهم وحيــاتهم‪..‬ـ فكــانت النعم تهب عليهم من‬
‫كل جهة‪ ..‬وقد سمع أعداؤهم بما وقع لهم فازدادواـ هيبــة في أعينهم‪ ..‬ولم يفكــر أحــد‬
‫في االقتراب منهم أو غزوهم‪..‬‬
‫بل إنه بسبب ذلك الرخاء الذي تحقق في البلــدة صــار كبــار التجــار والعلمــاء‬
‫من الدول المجاورة يزوروننا ويستثمرون أموالهم وعلومهمـ في بلدتنا‪ ..‬وقــد أكســبنا‬
‫ذلك قوة على قوة‪..‬‬

‫‪83‬‬
‫ولم يكن ذلك وحده ما بورك لنا فيه‪ ..‬فقد كانت أعظم بركة هي تلك المشاعر‬
‫الروحية التي كانت تجمع بين المؤمنين مــع اختالف مــذاهبهم في المســجد الواحــد‪..‬‬
‫وهم يصلون هلل‪ ،‬ويتوجهونـ إليه بقلوب واحــدة‪ ،‬وبألســن متعــددة‪ ..‬وبعــدها يعــودون‬
‫إلى أعمالهم بقلوب صافية سليمة‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫هذا الكتاب‬
‫هذه الرواية موجهة بالدرجة األولى ألولئك اإلســالميين ــ حركــيين كــانوا أو‬
‫سلفيين ـ الــذين تركــواـ الــدعوة لإلســالم ــ الــذي أردوا احتكــاره دون ســائر النــاس ـ‬
‫وراحواـ يتدنسون بعار الطائفية والحزبية والفرقة‪.‬‬
‫فصــارـ دورهم الوحيــد نشــر البغضــاء واألحقــاد في القلــوب‪ ،‬ونشــر التفكــك‬
‫والقطيعة في المجتمعات‪ ،‬ونشرـ الدمار والخراب في األوطان‪.‬‬
‫وهي تحــاول أن تعيــدهم إلى كتــاب ربهم‪ ،‬وســنة نــبيهم ‪ ،‬وهــدي األئمــة‬
‫الطاهرين الذين جعلهم هللا ممثلين لدينه‪ ،‬وورثة لنبيه‪.‬‬
‫وقــدـ وضــعتهاـ بشــكل رمــزيـ بســيط‪ ،‬ليســهل االســتفادة منهــا على العامــة‬
‫والخاصة‪.‬‬

‫‪85‬‬

You might also like