You are on page 1of 134

0

‫هذا الكتاب‬
‫يتنــاول هــذا الكتــاب ــ من خالل األدلــة والوثــائق الكثــيرة ـ‬
‫التصورات التي تحملها المدرســة الســلفية عن النبــوة واألنبيــاء‬
‫عليهم الصــالة والســالم‪ ،‬وهي تصــورات مســتمدة من الــتراث‬
‫اإلســرائيلي الــذي فســر بــه القــرآن الكــريم‪ ،‬وكتب بــه التــاريخ‪،‬‬
‫ووضعت على أساسه العقائد‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬فقد كان لتصــورات اليهــود ألنبيــائهم‪ ،‬ومــا ذكــروه‬
‫عنهم من انحرافات عقدية وأخالقية تــأثيره الكبــير في المدرســة‬
‫السلفية التي أجاز أئمتها الكبــار الروايــة عن بــني إســرائيل‪ ،‬بــل‬
‫أجازوا الرجوع لكتب بني إسرائيل نفسها‪.‬‬
‫ولهذا نرى تصورات السلفية للنبوة تختلف عن التصورات‬
‫التي ذكرها القرآن الكــريم‪ ،‬والــتي دل عليهــا العقــل‪ ،‬ودل عليهــا‬
‫معه الذوق السليم‪ ،‬والفطرة الطاهرة‪.‬‬
‫وهـــذا الكتـــاب يحـــاول بالبينـــات الواضـــحات‪ ،‬ومن خالل‬
‫المصـادر المعتمـدة لـدى المدرسـة السـلفية تبـيين تلـك الصـورة‬
‫المشوهة التي يحملونها عن األنبياء عليهم الصالة والسالم‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫الدين والدجل‬

‫(‪)8‬‬

‫السلفية والنبوة المدنسة‬


‫د‪ .‬نور الدين أبو لحية‬

‫الطبعة األولى‬

‫‪2015 – 1436‬‬

‫دار األنوار للنشر والتوزيع‬

‫‪0‬‬

‫فهرس المحتويات‬
‫‪5‬‬ ‫المقدمة‬
‫‪10‬‬ ‫النوع األول من الروايات‪:‬‬
‫‪14‬‬ ‫النوع الثاني من الروايات‪:‬‬
‫‪26‬‬ ‫الكفر‪ ..‬والشرك‬
‫‪51‬‬ ‫الذنوب‪ ..‬والمعاصي‬
‫‪71‬‬ ‫غرائز‪ ..‬وشهوات‬
‫‪72‬‬ ‫يوسف ‪:‬‬
‫‪84‬‬ ‫داود ‪:‬‬
‫‪93‬‬ ‫سليمان ‪:‬‬
‫‪107‬‬ ‫حرص‪ ..‬واعتراض‬
‫‪111‬‬ ‫آدم ‪:‬‬
‫‪115‬‬ ‫إدريس ‪:‬‬
‫‪117‬‬ ‫إبراهيم ‪:‬‬
‫‪122‬‬ ‫موسى ‪:‬‬
‫‪130‬‬ ‫قسوة‪ ..‬وغلظة‬
‫‪133‬‬ ‫موسى ‪:‬‬
‫‪140‬‬ ‫سليمان ‪:‬‬
‫‪144‬‬ ‫يونس ‪:‬‬
‫‪152‬‬ ‫تكاليف‪ ..‬وابتالءات‬
‫‪154‬‬ ‫إبراهيم ‪:‬‬
‫‪156‬‬ ‫يعقوب ‪:‬‬
‫‪159‬‬ ‫أيوب ‪:‬‬
‫‪166‬‬ ‫سليمان ‪:‬‬
‫‪173‬‬ ‫أساطير‪ ..‬وخرافات‬
‫‪178‬‬ ‫نوح ‪:‬‬
‫‪180‬‬ ‫موسى ‪:‬‬
‫‪185‬‬ ‫إسماعيل ‪:‬‬
‫‪191‬‬ ‫داود ‪:‬‬

‫‪3‬‬
‫المقدمة‬
‫نستطيع من خالل التأمل في أسباب التي ه ال ذي حص ل للبش رية من ل دن آدم‬
‫‪ ‬إلى الي وم‪ ،‬وإلى آخ ر الت اريخ‪ ،‬أن نج د س ببا واح دا تختص ر عن ده األس باب‪،‬‬
‫وتجتم ع عن ده العل ل‪ ..‬وه ذا الس بب ه و اإلع راض عن النب وة‪ ،‬باعتباره ا الحب ل‬
‫الممدود من هللا إلى عباده‪ ،‬أو الواسطة التي يتصل هللا من خاللها بعباده‪.‬‬
‫ذلك أنه عند اإلعراض عن النب وة ي دخل اله وى‪ ،‬وي دخل الش يطان‪ ،‬وت دخل‬
‫أنانية اإلنسان التي تصور له أنه يستطيع ـ وبمع زل عن خالق ه ـ أن ي دبر وج وده‪،‬‬
‫ويقرر مصيره‪ ..‬بل فوق ذلك تجعله يتصور أنه يستطيع أن يض ع خارط ة للوج ود‬
‫والقوانين التي تحكمه‪.‬‬
‫ولإلع راض ص ور كث يرة‪ ..‬أبرزه ا م ا ك ان يفعل ه المأل م ع األنبي اء عليهم‬
‫الصالة والسالم من تكذيبهم وإيذائهم والكيد لهم والتنفير منهم‪.‬‬
‫ومنها تلك الخشونة‪ ،‬وذلك الجفاء الذي تعامل به أص حاب القل وب المريض ة‬
‫معهم‪ ،‬حتى لو لم ينكروا نبوتهم‪.‬‬
‫ومنها ـ وهو أخطرها ـ ذلك التشويه للنبوة‪ ،‬والتدنيس لقداستها‪ ،‬ليتحول النبي‬
‫بموجب ذلك إلى إنسان عادي ال يختلف عن أي إنسان آخر‪ ..‬وتصبح تلك الج وهرة‬
‫المقدسة التي استطاع النبي من خاللها أن يكون أهال لتواص ل هللا مع ه‪ ..‬ب ل لجعل ه‬
‫س فيرا من س فرائه‪ ..‬ج وهرة ال تختل ف عن ك ل م ا حوله ا من ت راب وحج ارة‪..‬‬
‫وتصبح تلك الشمس الممتلئة بالدفء والن ور كوكب ا خام دا ال حي اة في ه‪ ،‬وال ش عاع‬
‫يصدر منه‪.‬‬
‫وعندما نتأمل أكثر‪ ..‬ونستعين في تأملنا بالقرآن الكريم‪ ..‬يتوض ح لن ا أس باب‬
‫كل هذه اإلعراضات عن النبوة الظاهرة والباطنة‪ ..‬أو ما اكتسى منها حلة المواجهة‬
‫الصلبة‪ ،‬أو ما اكتسى منها حلة المواجهة الناعمة‪.‬‬
‫والسبب ـ كما ي ذكر الق رآن الك ريم ـ ه و اإلع راض عن الس جود‪ ..‬ف إبليس‬
‫أع رض عن الس جود آلدم‪ ..‬وه و يري د من ذري ة آدم أن يعرض وا عن الس جود‬
‫لألنبياء‪ ..‬حتى ال يبقى إبليس واحدا في إعراضه‪.‬‬
‫والسجود بالمفهوم القرآني ال يعني تلك الحركات التي نقوم به ا في الص الة‪..‬‬
‫وإنما يعني قبل ذلك الخضوع المطلق هلل‪ ،‬ولم راد هللا‪ ،‬والختي ار هللا‪ ..‬فال نتص رف‬
‫مع هللا‪ ..‬وال نقترح على هللا‪.‬‬
‫وإبليس تجرأ‪ ،‬فاقترح على هللا‪ ..‬وراح يتهم آدم ‪ ‬بأنه ليس أهال للس جود‪..‬‬
‫أو راح ـ على الحقيقة ـ يتهم هللا بأنه لم يحسن اختيار الخليفة‪.‬‬
‫ومن هن ا ب دأ اإلع راض عن النب وة‪ ..‬وك ان إبليس أول المعرض ين‪ ..‬وك ان‬
‫أيضا هو أول من عاهد هللا على أن يضم إلى صفه أكبر عدد من أوالد ه ذا الخليف ة‬
‫الذي ابتلي به‪.‬‬
‫وهكذا كان في كل أم ة من األم ة جمي ع أص ناف المعرض ين‪ ،‬ال ذين اس تنوا‬

‫‪4‬‬
‫بسنة إبليس في عدم الخضوع الختيار هللا‪ ..‬أو اتهام هللا في اختياره‪.‬‬
‫وبما أن الشيطان لم ييأس من هذه األمة كم ا لم يي أس من غيره ا من األمم‪..‬‬
‫وكم ا أن ه أوج د في اليهودي ة والمس يحية وك ل ال ديانات من يش وه تل ك الج واهر‬
‫المقدسة‪ ..‬فقد أوجد في هذه األمة هذا الصنف الخطير من الناس‪.‬‬
‫وليس من الصعب أن نكتشفه‪ ..‬فكل شيء يدل عليه‪.‬‬
‫ومن باب تسمية الحقائق بأسمائها ـ بعي دا عن ك ل تزل ف ودبلوماس ية ـ ف إن‬
‫[الس لفية]‪ ،‬أو من يس مون أنفس هم [أه ل الح ديث]‪ ،‬و[الفرق ة الناجي ة] هم من مث ل‬
‫بج دارة دور ه ذا الن وع من اإلع راض عن النب وة‪ ..‬وه و دور تهميش ها وتدنيس ها‬
‫وتشويهها والحط منها‪.‬‬
‫وهذا الكتاب محاولة للبرهنة على ذلك‪ ..‬وقد اعتمدنا فيه على المصادر ال تي‬
‫يعتبرها السلفية‪ ،‬ويثنون عليها‪ ،‬ويدعون األم ة إلى األخ ذ منه ا‪ ..‬كم ا اعتم دنا في ه‬
‫على التصريحات التي يصرح بها أعالم هذه المدرسة قديمهم وحديثهم‪.‬‬
‫ولم نكن بحاجة لك ل ذل ك‪ ،‬ألن خط ابهم وح ده ك اف للدالل ة على ذل ك‪ ..‬فهم‬
‫وح دهم في ه ذه األم ة من يحتق ر ك ل مظ اهر التق ديس لرس ول هللا ‪ ‬وتعظيم ه‬
‫وتبجيله ومحاولة الوفاء ببعض جميله‪..‬‬
‫فهم ينكرون االحتفال بميالده‪ ،‬وكل مناسبة مرتبطة به‪ ..‬وهم ينك رون زي ارة‬
‫قبره الشريف‪ ،‬ب ل يعت برون نفس ني ة الزي ارة ش ركا باهلل‪ ..‬وهم ينك رون على ك ل‬
‫شاعر جادت قريحته بحب رسول هللا ‪ ،‬ويعتبرونه مشركا وكافرا وضاال‪ ..‬بينم ا‬
‫ال يقولون شيئا فيمن مدح الملوك واألمراء‪ ..‬فهم ال يعتبرونه ال مشركا وال ضاال‪.‬‬
‫وهكذا لو تأملنا مواقفهم المختلفة من رسول هللا ‪ ‬نجدهم يقف ون دائم ا على‬
‫خط مختلف لخط سائر األمة‪..‬‬
‫وه ذا الموق ف من رس ول هللا ‪ ‬ه و نفس الموق ف ال ذي يقفون ه من س ائر‬
‫األنبياء عليهم الصالة والس الم‪ ..‬وله ذا مألوا دواوينهم ال تي يس مونها كتب العقي دة‬
‫السنية بمثالب األنبي اء ومعاص يهم‪ ..‬ب ل وكف رهم‪ ..‬ألنهم يخش ون أن يتعل ق الن اس‬
‫باألنبياء تعلقا زائدا يجرهم إلى الشرك‪ ..‬أو يجعلهم يقوم ون بالس جود ل ذلك الكم ال‬
‫الذي وهبه هللا لهم‪.‬‬
‫ولم يقتص ر أم ر الس لفية والمن ابع ال تي يس تمدون منه ا على س فراء هللا في‬
‫األرض من األنبي اء والرس ل‪ ..‬وإنم ا تع داه إلى س فرائه من المالئك ة‪ ،‬وق د ذكرن ا‬
‫بتفصيل في كتابنا [السلفية‪ ..‬والوثنية المقدسة] تلك الصور المشوهة التي يحملونه ا‬
‫عن المالئك ة عليهم الس الم‪ ،‬واعتب ار كب ارهم ومق ربيهم على هيئ ة أوع ال وأس ود‬
‫اش هَّلِل ِ َما هَ َذا بَ َش رًا إِ ْن‬
‫﴿ح َ‬
‫وديوك‪ ،‬مع أن هللا تعالى قال ـ على لسان نسوة مصر ـ‪َ :‬‬
‫ك َك ِري ٌم﴾ [يوسف‪ ،]31 :‬بل قال مق ررا ه ذه الحقيق ة العظيم ة عن د ذك ره‬ ‫هَ َذا إِاَّل َملَ ٌ‬
‫لجبريل ‪ ﴿ :‬عَلَّ َمهُ َش ِدي ُد ْالقُ َوى (‪ُ )5‬ذو ِم َّر ٍة فَا ْست ََوى﴾ [النجم‪]6 ،5 :‬‬
‫لكن الس لفية ال ي أبهون بم ا يق ول الق رآن الك ريم‪ ..‬فهم يحج رون الت دبر في‬
‫القرآن إال على السلف‪ ..‬أو باألحرى على تالميذ كعب األحبار من السلف‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫وله ذا ن راهم يخ الفون الق رآن الك ريم في ص فات األنبي اء وخصائص هم‬
‫وكماالتهم وكون هللا اختارهم‪ ،‬وهو أعلم باختياره‪ ،‬و﴿هَّللا ُ أَ ْعلَ ُم َحي ُ‬
‫ْث يَجْ َع ُل ِر َس الَتَهُ﴾‬
‫[األنعام‪]124 :‬‬
‫وبناء على هذا نراهم يدافعون عما يسمونه معاصي األنبياء‪ ،‬ويستدلون ل ذلك‬
‫بما ورثوه من سلفهم من روايات وأخب ار تطعن فيهم وفي كم االتهم‪ ..‬كم ا ق ال ابن‬
‫تيمية ـ أثناء رده على القائلين بالعصمة المطلقة لألنبياء ـ‪( :‬تبعهم في هذا الباب‪ ،‬بل‬
‫كتب التفس ير والح ديث واآلث ار والزه د وأخب ار الس لف مش حونة عن الص حابة‬
‫والتابعين بمثل ما دل عليه القرآن‪ ،‬وليس فيهم من حرف اآلي ات كتحري ف ه ؤالء‪،‬‬
‫وال من كذب بما في األحاديث كتكذيب ه ؤالء‪ ،‬وال من ق ال ه ذا يمن ع الوث وق‪ ،‬أو‬
‫يوجب التنفير ونحو ذلك كما قال ه ؤالء‪ ،‬ب ل أق وال ه ؤالء ال ذين غل وا بجه ل من‬
‫األق وال المبتدع ة في اإلس الم‪ ..‬وهم قص دوا تعظيم األنبي اء بجه ل كم ا قص دت‬
‫النصارى تعظيم المسيح وأحبارهم ورهبانهم بجهل‪ ،‬فأشركوا بهم واتخ ذوهم أرباب ا‬
‫من دون هللا وأعرضوا عن اتباعهم فيما أمروهم به ونهوهم عنه)(‪)1‬‬
‫بل إن ابن تيمية وغيره من أبناء المدرس ة الس لفية يثن ون الثن اء العط ر على‬
‫ك ل الكتب ال تي تمتلئ بالقص ص واألس اطير‪ ،‬وال تي تش وه األنبي اء عليهم الص الة‬
‫والسالم وترميهم بالعظائم‪ ،‬بل هم فوق ذلك يعتبرونها من كتب السنة‪ ،‬وأنها في هذا‬
‫الموضوع بالذات أعرف باألنبياء من كتب المنزهة‪ ،‬يق ول ابن تيمي ة‪ ..( :‬من أئم ة‬
‫أهل التفسير‪ ،‬الذين ينقلونها باألسانيد المعروفة‪ ،‬كتفسير ابن ج ريج‪ ،‬وس عيد بن أبي‬
‫عروبة‪ ،‬وعبد الرزاق‪ ،‬وعبد بن حميد‪ ،‬وأحمد‪ ،‬وإسحاق وتفسير بقي بن مخلد وابن‬
‫جرير الطبري‪ ،‬ومحمد بن أس لم الطوس ي‪ ،‬وابن أبي ح اتم‪ ،‬وأبي بك ر بن المن ذر‪،‬‬
‫وغ يرهم من العلم اء األك ابر‪ ،‬ال ذين لهم في اإلس الم لس ان ص دق‪ ،‬وتفاس يرهم‬
‫متضمنة للمنقوالت التي يعتمد عليها في التفسير)(‪)2‬‬
‫وقال مدافعا عن اإلسرائيليات الكثيرة الواردة في تلك الكتب‪ ،‬وال تي ش وهت‬
‫األنبي اء عليهم الص الة والس الم أيم ا تش ويه‪( :‬وله ذا ك ان الس لف من الص حابة‬
‫والتابعين لهم بإحسان وغيرهم من أئمة المس لمين متفقين على م ا دل علي ه الكت اب‬
‫والس نة من أح وال األنبي اء‪ ،‬ال يع رف عن أح د منهم الق ول بم ا أحدثت ه المعتزل ة‬
‫والرافضة ومن تبعهم في ه ذا الب اب‪ ،‬ب ل كتب التفس ير والح ديث واآلث ار والزه د‬
‫وأخبار السلف مش حونة عن الص حابة والت ابعين بمث ل م ا دل علي ه الق رآن‪ ،‬وليس‬
‫فيهم من حرف اآليات كتحري ف ه ؤالء‪ ،‬وال من ك ذب بم ا في األح اديث كتك ذيب‬
‫هؤالء‪ ،‬وال من قال هذا يمنع الوثوق‪ ،‬أو يوجب التنفير ونحو ذلك كما ق ال ه ؤالء‪،‬‬
‫بل أقوال هؤالء الذين غلوا بجهل من األقوال المبتدعة في اإلسالم)(‪)3‬‬
‫وهكذا نرى ابن تيمية يعتبر الروايات المشوهة لجمال وعصمة األنبياء سنة‪،‬‬

‫‪ )(1‬منهاج السنة النبوية (‪)435 /2‬‬


‫‪ )(2‬منهاج السنة النبوية (‪)179 /7‬‬
‫‪ )(3‬منهاج السنة النبوية (‪)434 /2‬‬

‫‪6‬‬
‫في نفس الوقت الذي يعتبر فيه تنزيه األنبياء والقول بطهارتهم تحريفا وبدعة‪.‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فإنا كما قسمنا األمة في كتاب [السلفية والوثنية المقدسة] إلى ص نفين‪:‬‬
‫المنزه ة والمجس مة‪ ،‬فك ذلك يمكن تص نيف األم ة في ه ذا المج ال إلى ص نفين‪:‬‬
‫المصوبة والمخطئة‪ ..‬أو القائلون بالعصمة المطلقة‪ ..‬والقائلون بالتخطئة المطلقة‪.‬‬
‫وقد اعتمدنا في األدلة التي نسوقها على التصريحات الكثيرة ال تي وردت من‬
‫أعالم السلفية في القديم والحديث‪ ،‬باإلضافة للرواي ات ال تي يروونه ا‪ ،‬وال تي يمكن‬
‫تقسيمها إلى نوعين‪:‬‬
‫النوع األول من الروايات‪:‬‬
‫وهي الرواي ات ال تي يص ححونها‪ ،‬ب ل ينقلونه ا في كتبهم كحق ائق مطلق ة‬
‫يب دعون جاح دها‪ ،‬ويتهمون ه بالهرط ة والزندق ة‪ ..‬وهي ال تي نب دأ به ا ع ادة عن د‬
‫مناقشاتنا معهم‪.‬‬
‫وحجتهم في هذه الروايات أنه ا وردت في الص حيحين أو في أح دهما أو في‬
‫كتب السنن األخرى‪ ..‬أو أن فالنا من الناس صححها‪.‬‬
‫وهم يقص رون نظ رهم على تل ك التص حيحات‪ ،‬وينس ون المخ اطر ال تي‬
‫تحملها‪ ،‬والتي سننبه عليها في هذا الكتاب‪.‬‬
‫والطريقة التي يتعامل بها السلفية مع المخالف له ذا الن وع من الرواي ات ه و‬
‫تل ك الطريق ة ال تي اس تعملوها م ع المنزه ة من رميهم ب التجهم‪ ..‬وهن ا يرمون ه‬
‫بالعقالنية والبدعة والزندقة‪..‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك موقف السلفية من الشيخ محمد الغزالي لرفضه ح ديث‬
‫لطم موسى ‪ ‬لملك الموت‪ ،‬وال ذي رواه أب وه هري رة‪ ،‬ونص ه‪( :‬إن مل ك الم وت‬
‫كان يأتي الناس عيانا فأتى موسى فلطمه ففق أة عين ه‪ ،‬فع رج مل ك الم وت فق ال‪ :‬ي ا‬
‫رب! إن عبدك موسى فعل بي كذا وكذا ولوال كرامته عليك لش ققت علي ه فق ال هللا‪:‬‬
‫ايت عبدي موسى فخيره بين أن يضع يده على متن ث ور ‪ -‬فل ه بك ل ش عرة وارته ا‬
‫كفه سنة ‪ -‬وبين أن يموت اآلن‪ ،‬فخيره فق ال موس ى‪ :‬فم ا بع د ذل ك؟ ق ال‪ :‬الم وت‪،‬‬
‫قال‪ :‬فاآلن فشمه شمة فقبض روحه ورد هللا عليه عين ه‪ ،‬فك ان بع د ي أتي الن اس في‬
‫خفية)(‪)1‬‬
‫ولغرابة هذا الحديث‪ ،‬وتشويهه لص ورة الن بي موس ى ‪ ،‬وتش ويهه ك ذلك‬
‫لصورة ملك الموت‪ ،‬بل تش ويهه ف وق ذل ك لأللوهي ة‪ ،‬وم ا يحمل ه من الدالل ة على‬
‫التجس يم‪ ،‬فق د وق ف الش يخ محم د الغ زالي موق ف المنك ر للح ديث مثل ه مث ل ك ل‬
‫المنزهة والقائلين بعص مة األنبي اء‪ ،‬لكن ه ذا لم يعجب الس لفية ال ذين أنك روا علي ه‬
‫إنكارا شديدا‪.‬‬
‫وقبل أن نذكر موقفهم منه نذكر موقف الشيخ محمد الغزالي من الحديث‪ ،‬فقد‬
‫قال‪( :‬وقع لي وأنا بالجزائر أن طالبا ً سألني‪ :‬أصحيح أن موسى ‪ ،‬فقأ عين مل ك‬
‫‪ )(1‬أحم د (‪ ،2/351‬رقم ‪ ،)8601‬والبخ ارى (‪ ،1/449‬رقم ‪ ،)1274‬ومس لم (‪ ،4/1843‬رقم ‪ )2372‬النس ائى (‬
‫‪ ،4/118‬رقم ‪ ،)2089‬وابن حبان (‪ ،14/113‬رقم ‪ ،)6223‬والحاكم (‪ ،2/632‬رقم ‪)4107‬‬

‫‪7‬‬
‫الموت عن دما ج اء لقبض روح ه بع دما اس توفى أجل ه؟ فقلت للط الب وأن ا ض ائق‬
‫الصدر‪ :‬وماذا يفيد هذا الحديث؟ إنه ال يتصل بعقي دة‪ ،‬وال يرتب ط ب ه عم ل‪ ،‬واألم ة‬
‫اإلسالمية اليوم تدور عليها الرحى وخصومها طامعون في إخم اد أنفاس ها! اش تغل‬
‫بما هو أهم وأجدى! قال الطالب‪ :‬أحببت أن أعرف هل الحديث ص حيح أم ال؟ فقلت‬
‫له متبرماً‪ :‬الحديث م روي عن أبي هري رة وق د ج ادل البعض في ص حته‪ .‬وع دت‬
‫لنفسي أفكر إن الحديث صحيح السند‪ ،‬ولكن متنه يثير الريبة إذ يفيد أن موسى يكره‬
‫الم وت وال يحب لق اء هللا بع دما انتهى أجل ه‪ .‬وه ذا المع نى مرف وض بالنس بة إلى‬
‫الص الحين من عب اد هللا كم ا ج اء في الح ديث اآلخ ر (من أحب لق اء هللا أحب هللا‬
‫لقاءه) فكي ف بأنبي اء هللا؟ كي ف بواح د من أولي الع زم؟ إن كراهيت ه للم وت بع دما‬
‫جاءه ملكه مستغرب ثم هل المالئكة تع رض له ا العاه ات ال تي تع رض للبش ر من‬
‫عمى أو عور؟ ذاك بعيد‪ ..‬قلت‪ :‬لعل متن الحديث معلول‪ ،‬وأيا ما كان األم ر‪ ،‬فليس‬
‫لدي ما ي دفعني إلى إطال ة الفك ر في ه‪ ..‬فلم ا رجعت إلى الح ديث في أح د مص ادره‬
‫ساءني أن الشارح جعل رد الحديث إلحاداً وش رع يفن د الش بهات الموجه ة إلي ه فلم‬
‫يزدها إال قوة‪)1()..‬‬
‫ثم ذك ر ق ول الم ازري‪( :‬وق د أنك ر بعض المالح دة ه ذا الح ديث وأنك ر‬
‫تص وره‪ ،‬ق الوا‪ :‬كي ف يج وز على موس ى فقء عين مل ك الم وت؟)‪ ،‬ودفاع ه عن‬
‫الحديث‪ ،‬ثم رد عليها بقوله‪( :‬نقول نحن‪ :‬هذا ال دفاع كل ه خفي ف ال وزن وه و دف اع‬
‫تافه ال يساغ‪ ،‬ومن وصم منكر الحديث باإللحاد فهو يستطيل في أعراض المسلمين‬
‫والحق أن في متنه علة قادحة تنزل به عن مرتبة الص حة ورفض ه أو قبول ه خالف‬
‫فك ري‪ ،‬وليس خالف ا ً عقائ ديا ً والعل ة في المتن يبص رها المحقق ون‪ ،‬وتخفى على‬
‫أصحاب الفكر السطحي‪ ،‬وقد رفض األئمة أح اديث ص ح س ندها واعت ل متنه ا فلم‬
‫تستكمل بهذا الخلل شروط الصحة) (‪)2‬‬
‫هذا هو موقف الشيخ محمد الغزالي‪ ،‬وهو موقف ك ل عاق ل حكيم ي رى تل ك‬
‫التشويهات التي يحملها الحديث حول كبرى القضايا العقدية‪.‬‬
‫لكن ه ذا الموق ف لم يعجب الس لفية ال ذين ص وبوا س هامهم من ك ل ص وب‬
‫نحوه‪ ،‬يتهمونه بإنكار السنة‪ ،‬وبالجرأة على السنة‪ ..‬وكأن السنة حكر عليهم‪.‬‬
‫ومن تلك المواقف موقف األلب اني ال ذي ق ال تعليق ا على م ا ذك ره الغ زالي‪:‬‬
‫(هذا الحديث‪ -‬أي حديث موسى المتق دم‪ -‬من األح اديث الص حيحة المش هورة ال تي‬
‫أخرجها الشيخان من طرق عن أبي هريرة‪ -‬رضي هللا عنه‪ ،-‬وتلقته األمة ب القبول‪،‬‬
‫وقد جمعت ألفاظها والزيادات التي وقعت فيها‪ ،‬وسقتها لك سياقا ً واح داً كم ا ت رى؛‬
‫لتأخ ذ القص ة كامل ة بجمي ع فوائ دها المتفرق ة في بط ون مص ادرها‪ ،‬األم ر ال ذي‬
‫يساعدك على فهمها فهما ً صحيحاً‪ ،‬ال إشكال فيه وال شبهة‪ ،‬فتس لِّم لق ول رس ول هللا‬

‫‪ )(1‬السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث (ص‪)29 - 26:‬‬


‫‪ )(2‬السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث (ص‪)29 - 26:‬‬

‫‪8‬‬
‫تسليماً)(‪)1‬‬ ‫‪‬‬
‫ثم س اق ط رق الح ديث‪ ،‬وال تي يوج د في أكثره ا رج ال من اليه ود ال ذين‬
‫أس لموا‪ ،‬وص اروا مباش رة بع د إس المهم من الثق اة المعت برين‪ ،‬ثم ق ال تعليق ا على‬
‫الغ زالي‪( :‬واعلم أن ه ذا الح ديث الص حيح ج ّداً مم ا أنك ره بعض ذوي القل وب‬
‫المريضة من المبتدعة‪ -‬فضالً عن الزنادقة‪ -‬قديما ً وح ديثاً‪ ،‬وق د رد عليهم العلم اء‪-‬‬
‫على مر العصور‪ -‬بما يشفي ويكفي من كان راغبا ً السالمة في دينه وعقيدته؛ ك ابن‬
‫خزيمة‪ ،‬وابن حبان‪ ،‬والبيهقي‪ ،‬والبغوي‪ ،‬والنووي‪ ،‬والعس قالني‪ ،‬وغ يرهم‪ ..‬وممن‬
‫أنكره من المعاصرين الشيخ الغزالي في كتابه (السنة بين أهل الفقه وأهل الح ديث)‬
‫الم ذكور في الح ديث ال ذي قبل ه‪ ،‬ب ل وطعن في ال ذين دافع وا عن الح ديث‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫اض في غيّ ه‪ ،‬والطعن في الس نة‬ ‫ٍ‬ ‫(وه و دف اع تاف ه ال يس اغ)‪ ،‬وهك ذا؛ فالرج ل م‬
‫والذابين عنها بمجرد عقله (الكبير!)‪ .‬ولست أدري‪ -‬وهللا‪ -‬كي ف يعق ل ه ذا الرج ل‪-‬‬
‫إذا افترضنا فيه اإليمان والعقل‪ !-‬كيف يدخل في عقله أن يكون هؤالء األئمة األجلة‬
‫من مح دِّثين وفقه اء من اإلم ام البخ اري إلى اإلم ام العس قالني على خط أ في‬
‫تصحيحهم ه ذا الح ديث‪ ،‬ويك ون ه و وح ده‪ -‬ص احب العق ل الكب ير! ‪ -‬مص يبا ً في‬
‫تضعيفه إياه ورده عليهم؟!)(‪)2‬‬
‫وال يكتفي األلباني بهذا‪ ،‬بل يشنع عليه ـ كعادة السلفية في انتقادهم لخصومهم‬
‫ـ أنه يوافق في هذا الموقف المبتدعة من القائلين بالعصمة المطلقة لألنبي اء‪ ،‬فيق ول‪:‬‬
‫(هل الخالف الذي توهمه خالف محترم أم هو خالف ساقط االعتبار‪ ،‬ألن المخالف‬
‫ليس من العلماء المحترمين‪ ،‬ولذلك لم تتج رأ على تس ميته‪ ،‬ولعل ه من الخ وارج أو‬
‫الشيعة ال ذين يطعن ون في أص حاب الن بي ‪ ،‬وبخاص ة راوي ه ذا الح ديث (أبي‬
‫هريرة) ‪ -‬رضي هللا عنه‪ .-‬وثانياً‪ :‬يحتمل أن يكون المج ا ِدل ال ذي أش رتَ إلي ه ه و‬
‫أنت‪ ،‬وحينئ ٍذ فباألولى‪ ،‬أن يكون خالفك ساقط االعتبار‪ ،‬كما هو ظاهر كالشمس في‬
‫رائعة النهار!) (‪)3‬‬
‫وهك ذا يس تمر األلب اني ـ بلغت ه الس لفية ـ ي رد على الغ زالي‪ ،‬وي دافع عن‬
‫الحديث‪ ،‬ويقول له كل حين‪( :‬يا ل ه من مغ رور أهلك ه العجب! لق د جع ل نفس ه من‬
‫المحققين‪ ،‬وعلماء األمة من أصحاب الفكر السطحي‪ ،‬والحقيقة أنه هو العلة؛ لجهل ه‬
‫وقلة فهمه) (‪)4‬‬
‫ويقول له‪( :‬بمثل هذا الفهم المنكوس ي رد ه ذا الرج ل أح اديث الن بي ‪ ‬وال‬
‫يكتفي بذلك‪ ،‬بل وي رد على العلم اء كاف ة ال ذين فهم وه وش رحوه ش رحا ً ص حيحاً‪،‬‬
‫وردوا على أمثاله من أهل األهواء الذين يسيئون فهم األح اديث ثم يردونه ا‪ ،‬وإنم ا‬
‫هم في الواقع يردون جهلهم‪ ،‬وهي سالمة منه والحمد هلل) (‪)5‬‬

‫‪ )(1‬السلسلة الصحيحة (‪/7‬من ‪ 826‬إلى ‪)835‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(4‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(5‬المرجع السابق‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫وقد اقتصرنا هنا على موقف األلباني باعتبار كبر س نه‪ ،‬ومكانت ه‪ ،‬وإال فإنن ا‬
‫لو نزلنا إلى غيره من أعالم السلفية لوجدنا قواميس من الشتائم تكال للغزالي بسبب‬
‫موقفه العقالني من الحديث‪.‬‬
‫النوع الثاني من الروايات‪:‬‬
‫وهي الروايات التي وردت في كتبهم التي يعتبرونه ا كتب س نة‪ ،‬وينص حون‬
‫العامة بقراءته ا‪ ،‬واالس تفادة منه ا‪ ،‬وهي كث يرة ج دا‪ ،‬وخط يرة ج دا‪ ،‬وم ع ذل ك ال‬
‫نجدهم ينفرون العوام منها‪ ،‬والحيلة التي يستعملونها مع هذا النوع من الروايات مع‬
‫المخ الفين أو المنتق دين هي أن ي ذكروا أن الح ديث الفالني ض عفه األلب اني‪ ،‬أو لم‬
‫يحتج ب ه األرن اؤوط‪ ،‬ألن مث ل ذل ك مث ل ش ركات الس جائر ال تي تغ رق الس وق‬
‫بالس جائر‪ ،‬وهي تعلم خطره ا‪ ،‬ول ترفع العتب عنه ا تكتب على الغالف [مض ر‬
‫بالصحة]‬
‫وهك ذا يفع ل الس لفيون ال ذين نش روا مئ ات األح اديث ال تي تش وه األنبي اء‪،‬‬
‫وت دنس معهم النب وة‪ ،‬ثم تنص ح األم ة باالس تفادة من ذل ك ال تراث الممل وء بتل ك‬
‫التشويهات‪ ..‬وتذكر لهم أن من أخذ ب ه ك ان س نيا وس لفيا وناجي ا‪ ..‬ثم بع د أن تمتلئ‬
‫عقول الناس وقلوبهم بكل تلك التشويهات يأتي رجل في آخ ر الزم ان‪ ،‬ويق ول لهم‪:‬‬
‫الحديث الفالني فيه نكارة‪ ..‬واآلخر فيه عل ة‪ ..‬وه و م ع قول ه ذل ك ال ي زال ينص ح‬
‫بقراءة تلك الكتاب التي تحوي تلك النك ارات‪ ،‬وتنش ر تل ك العل ل‪ ..‬وال ي زال يص ر‬
‫على أن أصحاب تلك الكتب سنة وسلفيون‪.‬‬
‫وكمثال على ذلك كتاب تفسير الطبري الذي يعتبر أكبر مصدر لتدنيس النبوة‬
‫واألنبياء‪ ،‬ومع ذلك نجد ثناء أعالم السلفية عليه قديما وحديثا‪.‬‬
‫يق ول الخطيب البغ دادي (المت وفى‪463 :‬هـ) ـ وه و من أعالم الس لفية‬
‫المتق دمين ـ في ترجمت ه لمحم د بن جري ر الط بري ص احب التفس ير‪( :‬اس توطن‬
‫الط بري بغ داد وأق ام بِهَ ا إِلَى حين وفات ه‪ ،‬و َك انَ أح د أئم ة العلم اء‪ :‬يحكم بقول ه‪،‬‬
‫ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله‪ .‬وكان قد جمع من العلوم م ا لم يش اركه في ه أح د‬
‫من أهل عصره‪ ،‬وكان حافظا لكتاب هللا‪ ،‬عارفا بالقراءات‪ ،‬بصيرا بالمعاني‪ ،‬فقيه ا‬
‫في أحك ام الق رآن‪ ،‬عالم ا بالس نن وطرقه ا‪ ،‬وص حيحها وس قيمها‪ ،‬وناس خها‬
‫ومنسوخها‪ ،‬عارفا بأقوال الصحابة والتابعين‪ ،‬ومن بعدهم من الخالفين في األحكام‪،‬‬
‫ومسائل الحالل والحرام‪ ،‬عارفا بأي ام الن اس وأخب ارهم‪ ،‬ول ه الكت اب المش هور في‬
‫«تاريخ األمم والملوك»‪ ،‬وكتاب في التفسير لم يصنف أحد مثله)(‪)1‬‬
‫وحكى الخطيب هذه الرواية التي يهتم بها السلفية عند ذك رهم لهمم الس لف‪،‬‬
‫ال ألصحابه‪ :‬أتنشطون لتفسير القرآن‪ .‬ق الوا‪ :‬كم يك ون ق دره؟ فق ال‬ ‫وهي الطبري قَ َ‬
‫ثالثون ألف ورقة‪ ،‬فقالوا‪ :‬ه ذا مم ا تف نى األعم ار قب ل تمام ه‪ ،‬فاختص ره في نح و‬
‫ثالثة آالف ورقة‪ .‬ثم قَا َل‪ :‬هل تنشطون لتاريخ الع الم من آدم إلى وقتن ا ه ذا؟ ق الوا‪:‬‬
‫كم يكون قدره؟ فذكر نحوا مما ذكره في التفسير فأجابوه بمث ل ذل ك‪ ..‬فق ال‪ :‬إن ا هلل‪،‬‬
‫‪ )(1‬تاريخ بغداد وذيوله (‪)161 /2‬‬

‫‪10‬‬
‫ماتت الهمم (‪.)1‬‬
‫وهذه الرواية توض ح لن ا س ر لقب الحش وية ال ذي أطل ق على الس لفية‪ ..‬فهم‬
‫يبحثون عن الكم ال عن النوع‪ ..‬وعن التفاصيل ال عن الحقائق‪..‬‬
‫وهكذا نجد الذهبي المعروف بتش دده في الرج ال يث ني علي ه وعلى تفس يره‪،‬‬
‫فيق ول‪( :‬ك ان ثق ة‪ ،‬ص ادقًا‪ ،‬حافظً ا‪ً ،‬‬
‫رأس ا في التفس ير‪ ،‬إما ًم ا في الفق ه واإلجم اع‬
‫واالختالف‪ ،‬عالَّمةً في التاريخ وأيام الناس‪ ،‬عارفًا بالقراءات وباللغة‪ ،‬وغ ير ذل ك)‬
‫(‪)2‬‬
‫أما ابن تيمية‪ ،‬فلم يكن يدع مناسبة إال ويثني عليه وعلى تفسيره‪ ،‬ب ل يعت بره‬
‫من أمهات كتب السنة‪.‬‬
‫ومن أمثلة ذلك قوله عنه‪( :‬تفس ير محم د بن جري ر الط بري‪ ،‬وه و من أج ِّل‬
‫التفاسير المأثورة‪ ،‬وأعظمها قدرًا)(‪)3‬‬
‫وق ال ـ مجيبً ا عن أحس ن التفاس ير ـ‪( :‬أم ا التفاس ير ال تي في أي دي الن اس‬
‫فأصحها تفسير محمد بن جرير الطبري‪ ،‬فإنه يذكر مقاالت السلف باألسانيد الثابتة‪،‬‬
‫وليس فيه بدعة‪ ،‬وال ينقل عن المتهمين‪ ،‬كمقاتل بن بكير‪ ،‬والكلبي)(‪)4‬‬
‫فهذه التزكية من ابن تيمية تدل على مدى أهمية الكتاب عن ده وعن د الس لفية‪،‬‬
‫ولذلك اعتبرناه من مص ادرنا ال تي اعتم دنا عليه ا في ه ذه الدراس ة‪ ،‬ول وال أن ابن‬
‫تيمية قال عنه هذا لما اعتبرناه كذلك‪ ،‬ألنا شرطنا على أنفس نا أن ال نق ول الس لفية ـ‬
‫كما ال نقول غيرهم ـ ما لم يقولوا‪.‬‬
‫ومن الكتب التي اعتمدناها في هذا الن وع من الرواي ات تفس ير ابن أبي ح اتم‬
‫المتوفى سنة (‪ )327‬صاحب «الجرح والتعديل»‪ ،‬والمعاصر البن جرير الط بري‪،‬‬
‫وهو من رجال السلفية المعتمدين‪ ،‬وق د أث نى علي ه ابن تيمي ة كث يرا‪ ،‬حيث ع ده في‬
‫(مجم وع الفت اوى) من أه ل العلم والس نة (‪ ..)5‬وع ده في (منه اج الس نة) من أئم ة‬
‫التفسير‪ ..‬ومن أهل العلم الكبار(‪)6‬‬
‫وف وق ذل ك كل ه أث نى على تفس يره‪ ،‬حيث اعت بره من أئم ة التفس ير ال ذين‬
‫ينقلونها باألسانيد المعروفة (‪.)7‬‬
‫بل شهد له بالصحة‪ ،‬فقال في (مجموع الفتاوى)‪( :‬وابن أبي حاتم قد ذك ر في‬
‫أول كتابه في التفسير أنه طلب منه إخراج تفسير القرآن مختصرًا بأص ح األس انيد‪،‬‬
‫وأنه تحرى إخراجه بأصح األخبار إسنادًا‪ ،‬وأشبعها متنًا‪ ،‬وذكر إس ناده عن ك ل من‬
‫نقل عنه شيئًا)(‪)8‬‬

‫‪ )(1‬تاريخ بغداد وذيوله (‪)161 /2‬‬


‫‪ )(2‬سير أعالم النبالء (‪)270 /14‬‬
‫‪ )(3‬مجموع الفتاوى (‪)13/361‬‬
‫‪ )(4‬مجموع الفتاوى (‪)13/385‬‬
‫‪ )(5‬مجموع الفتاوى (‪)3/382‬‬
‫‪ )(6‬منهاج السنة (‪)7/212‬‬
‫‪ )(7‬منهاج السنة (‪)7/178‬‬
‫‪ )(8‬مجموع الفتاوى (‪)15/201‬‬

‫‪11‬‬
‫ومن الكتب ال تي اعتم دناها في ه ذا الن وع من الرواي ات تفس ير ابن عطي ة‬
‫( المتوفى سنة ‪)542‬الذي أشاد به تيمي ة‪ ،‬فق ال‪( :‬وتفس ير ابن عطي ة وأمثال ه‪ :‬أتب ع‬
‫للسنة والجماعة‪ ،‬وأسلم من البدعة من تفس ير الزمخش ري‪ ،‬ول و ذك ر كالم الس لف‬
‫الموجود في التفاسير المأثورة عنهم على وجهه لكان أحسن وأجمل‪ ،‬فإن ه كث يرًا م ا‬
‫ينقل تفسير محمد بن جرير الط بري‪ ،‬وه و من أج ل التفاس ير الم أثورة‪ ،‬وأعظمه ا‬
‫قد ًرا‪ .‬ثم إنه يدع ما نقله ابن جرير عن السلف‪ ،‬ال يحكيه بحال‪ ،‬ويذكر ما يزعم أن ه‬
‫قول المحققين‪ ،‬وإنما يعني بهم طائفة‪ ،‬من أهل الكالم‪ ،‬ال ذين ق رروا أص ولهم‪ ،‬وإن‬
‫كانوا أقرب إلى السنة من المعتزلة‪ ،‬لكن ينبغي أن يعطى كل ذي حق حقه‪ ،‬ويعرف‬
‫أن هذا من جملة التفسير على المذهب‪ .‬فإن الص حابة‪ ،‬والت ابعين‪ ،‬واألئم ة إذا ك ان‬
‫لهم في تفسير اآلية قول‪ ،‬وجاء قوم فسروا اآلية بشكل آخر ألج ل م ذهب اعتق دوه‪،‬‬
‫وذلك المذهب ليس من مذاهب الصحابة‪ ،‬والتابعين لهم بإحس ان ص اروا مش اركين‬
‫للمعتزلة‪ ،‬وغيرهم من أهل البدع في مثل هذا)(‪)1‬‬
‫هذا قول ابن تيمية في ه‪ ،‬ونق ده ل ه ليس إلي راده اإلس رائيليات‪ ،‬وإنم ا لتأويل ه‬
‫بعض النصوص التي يستند إليها السلفية في التجسيم‪ ..‬وه و ب ذلك ينتق د حس ناته ال‬
‫سيئاته‪.‬‬
‫وله ذا يق ول عن ه في موض ع آخ ر‪( :‬وتفس ير بن عطي ة خ ير من تفس ير‬
‫الزمخشري وأبعد عن البدع‪ ،‬وإن اشتمل على بعضها‪ ،‬بل هو خير من ه بكث ير‪ ،‬ب ل‬
‫لعله أرجح هذه التفاسير‪ ،‬لكن تفسير ابن جرير أصح من هذه كلها)(‪)2‬‬
‫ومن الكتب التي اعتمدناها في هذا النوع من الروايات تفسير البغ وي (ت وفي‬
‫سنة ‪ ،)510‬الذي سُئل عنه ابن تيمية هذا الس ؤال‪( :‬أي التفاس ير أق رب إلى الكت اب‬
‫والسنة الزمخشري‪ ،‬أم القرطبي‪ ،‬أم البغوي‪ ،‬أم غير هؤالء؟)‪ ،‬فقال‪( :‬أم ا التفاس ير‬
‫الثالث ة المس ئول عنه ا فأس لمها من البدع ة‪ ،‬واألح اديث الض عيفة البغ وي‪ ،‬لكن ه‬
‫مختصر من تفسير الثعلبي‪ ،‬وحذف منه األح اديث الموض وعة‪ ،‬والب دع ال تي في ه‪،‬‬
‫وحذف أشياء غير ذلك)(‪)3‬‬
‫وق ال عن ه في مقدم ة أص ول التفس ير في «مجم وع الفت اوى»‪( :‬والبغ وي‬
‫تفسيره مختصر من الثعلبي لكن صان تفسيره عن األح اديث الموض وعة‪ ،‬واآلراء‬
‫المبتدعة)(‪)4‬‬
‫ه ذه بعض مص ادرنا الك برى ال تي اعتم دنا عليه ا في الن وع الث اني من‬
‫الروايات‪ ،‬وقد ذكرناها وذكرنا موقف ابن تيمية منها حتى ال يقول أح د من الن اس‪:‬‬
‫إننا ندعي على السلفية‪ ،‬أو نقولهم ما لم يقولوا‪.‬‬
‫فهم ال ذين يق رون باعتب ار ه ذه المص ادر مص ادرهم‪ ..‬وأن كتبته ا من أه ل‬

‫‪ )(1‬مجموع الفتاوى (‪)13/361‬‬


‫‪ )(2‬مجموع الفتاوى (‪)13/385‬‬
‫‪ )(3‬مجموع الفتاوى (‪)13/386‬‬
‫‪ )(4‬أصول التفسير في مجموع الفتاوى (‪)13/354‬‬

‫‪12‬‬
‫سنتهم‪ ،‬بل من سلفهم الصالح‪ ..‬أما إنكارهم لبعض ما فيها‪ ،‬فهو أنكار باهت ضعيف‬
‫بجنت الجرائم الكبيرة التي تفوح بها الروايات الواردة في تلك المصادر‪.‬‬
‫وأما اعتمادنا على شهادات ابن تيمية‪ ،‬فلمكانته المعروفة بينهم في كل شيء‪،‬‬
‫وقد قال بعضهم معاتبا من انتقد ابن تيمية في بعض األحاديث‪( :‬كالم ش يخ اإلس الم‬
‫في هذا التفس ير ك ان كالم خب ير‪ ،‬ومطل ع على م ا في ه من حس ن وقبح‪ ،‬وليس ه و‬
‫بالظن والتخمين كما يظنه الباحث؛ ألن مثل هذا الكالم ال يستطيع أن يقوله أح د في‬
‫أي كتاب مستقل‪ ،‬أو تلخيص إال بعد ق راءة متأني ة‪ ،‬وكالم ش يخ اإلس الم ح ول ه ذا‬
‫التفس ير في أم اكن متع ددة يفي دنا ب أن ه ذا التفس ير اختص ار من تفس ير الثعل بي‬
‫والواحدي‪ ،‬وأنه حذف منه األحاديث الضعيفة والموضوعة‪ ،‬واآلراء المبتدعة‪ ،‬كما‬
‫حذف أشياء أخرى‪ ،‬وسبب حذف هذه األشياء ثقافت ه الواس عة في ال دين‪ ،‬والعقي دة‪،‬‬
‫والحديث‪ ،‬والفقه‪ .‬وأما ما اعتم د في ه على الثعل بي ه و أق وال المفس رين‪ ،‬والنح اة‪،‬‬
‫وقصص األنبياء‪ ،‬فهذه األمور نقلها منه)(‪)1‬‬
‫ونحب أن نذكر أن ابن تيمية الذي راح يدعو إلى قراءة تلك الكتب المشحونة‬
‫بتش ويه األنبي اء لم يكت ف ب ذلك‪ ،‬ب ل راح يح ذر من الكتب الممتلئ ة بالروحاني ات‬
‫العميقة كتفاسير الصوفية‪ ،‬فقد ق ال في تفس ير الس لمي (ت وفي في ‪ ،)410‬وه و من‬
‫التفاسير الصوفية المعتدل ة‪( :‬وأم ا ال ذين يخطئ ون في ال دليل ال في الم دلول فمث ل‬
‫كثير من الصوفية‪ ،‬والوعاظ‪ ،‬والفقهاء‪ ،‬وغيرهم يفسرون الق رآن بمع ا ٍن ص حيحة‪،‬‬
‫لكن القرآن ال يدل عليها‪ ،‬مثل كثير مما ذكره أبو عبد الرحمن الس لمي في «حق ائق‬
‫التفسير»‪ ،‬وإن كان فيما ذكروه ما هو معان باطلة‪ ،‬فإن ذلك يدخل في القس م األول‪،‬‬
‫وهو الخطأ في الدليل والمدلول جميعًا‪ ،‬حيث يكون المعنى الذي قصدوه فاسدًا)(‪)2‬‬
‫وهكذا موقفه من التفاسير التي حاولت أن تقرأ القرآن الك ريم ق راءة عقالني ة‬
‫على مقتض ى اللغ ة كتفس ير الزمخش ري (ت وفي ‪ ،)538‬والمس مى (الكش اف عن‬
‫حقائق التنزيل)‪ ،‬فقد قال فيه محذرا منه‪( :‬وأما الزمخشري فتفسيره محشو بالبدعة‪،‬‬
‫وعلى طريقة المعتزلة من إنكار الصفات‪ ،‬والرؤية والقول بخلق القرآن‪ ،‬وأنك ر أن‬
‫هللا مريد للكائنات‪ ،‬وخالق ألفعال العباد‪ ،‬وغير ذلك من أصول المعتزلة)(‪)3‬‬
‫وهكذا ال يج د الق ارئ الس لفي مص درا يتلقى من ه فهم الق رآن إال تل ك الكتب‬
‫المشحونة باإلسرائيليات‪ ..‬وال تي يمكن تعريفه ا بأنه ا [التفس ير اإلس رائيلي للق رآن‬
‫الكريم]‬
‫باإلضافة إلى هذا‪ ،‬وإلى ما ذكرن ا من أن واع الرواي ات ف إن الش بهة العظمى‬
‫التي يستند إليها السلفية في تسويق بضاعتهم المدنسة لألنبياء عليهم الصالة والسالم‬
‫هو دعوى رجوعهم للسلف‪..‬‬
‫وعن دما نبحث عن س لفهم في تل ك الرواي ات ال نج د كب ار الص حابة من‬

‫‪ )( 1‬عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي في كتابه (شيخ اإلسالم ابن تيمية وجهوده في الحديث وعلومه)‬
‫‪ )(2‬مجموع الفتاوى (‪)13/362‬‬
‫‪ )(3‬مجموع الفتاوى (‪)13/386‬‬

‫‪13‬‬
‫السابقين األولين من المهاجرين واألنصار‪ ..‬فال نجد بالال وال عمارا وال أبا ذر وال‬
‫غيرهم من الصحابة الذين ضحوا بدمائهم في سبيل نصرة اإلسالم‪.‬‬
‫وال نجد كذلك أصحاب بدر وأحد وغيرها من الغزوات‪..‬‬
‫ار َواإْل ِ ي َم انَ ِم ْن قَ ْبلِ ِه ْم يُ ِحبُّونَ‬
‫وال نجد الكثير من األنص ار ال ذين ﴿تَبَ َّو ُءوا ال َّد َ‬
‫اج ةً ِم َّما أُوتُ وا َويُ ْؤثِرُونَ َعلَى أ ْنفُ ِس ِه ْم‬
‫َ‬ ‫ُور ِه ْم َح َ‬
‫صد ِ‬‫َم ْن هَا َج َر إِلَ ْي ِه ْم َواَل يَ ِج ُدونَ فِي ُ‬
‫صةٌ﴾ [الحشر‪]9 :‬‬ ‫صا َ‬ ‫َولَوْ َكانَ بِ ِه ْم خَ َ‬
‫وإنما نجد فق ط أولئ ك ال ذين ح ذر منهم رس ول هللا ‪ ‬من اليه ود‪ ،‬أو ال ذين‬
‫خالفوا رسول هللا ‪ ‬في تحذيره من االستفادة منهم‪ ،‬كما ورد في الحديث الص حيح‬
‫الذي وضع فيه رسول هللا ‪ ‬الحص ن ال ذي يتحص ن ب ه دين األم ة من أن يختل ط‬
‫بغيره من األدي ان‪ ،‬فيتس رب إلي ه المش روع الش يطاني‪ ،‬ليحرف ه كم ا ح رف س ائر‬
‫األديان‪.‬‬
‫والحديث معروف‪ ،‬وكررناه كثيرا‪ ..‬وال نزال نكرره‪ ..‬ألنه ال يمكن لألمة أن‬
‫تفهم دينها‪ ،‬وهي تخلطه بالتراث اإلسرائيلي‪.‬‬
‫ونص الحديث هو أن عمر أتى رسول هللا ‪ ‬بكت اب أص ابه من بعض أه ل‬
‫الكتاب‪ ،‬فغضب‪ ،‬وقال‪( :‬أمتهوكون فيها ي ا ابن الخط اب؟! وال ذي نفس ي بي ده‪ ،‬لق د‬
‫جئتكم بها بيضاء نقية‪ ،‬ال تسألوهم عن شيء فيخبروكم بح ق فتك ذبوا ب ه أو بباط ل‬
‫فتصدقوا به‪ ،‬والذي نفسي بيده لو أن موسى ‪ -  -‬كان حيا ما وسعه إال أن يتبعني)‬
‫(‪)1‬‬
‫وقد نسخ السلفية هذا الحديث ـ كما ذكرنا مرات كثيرة ـ بحديث وضعوه ب دال‬
‫منه‪ ،‬وه و‪( :‬ال تكتب وا ع ني ش يئا غ ير الق رآن‪ ،‬فمن كتب ع ني ش يئا غ ير الق رآن‬
‫فليمحه‪ ..‬وحدثوا عن بني إسرائيل وال حرج)(‪)2‬‬
‫وهذا من العجائب‪ ..‬فكي ف ينهى رس ول هللا ‪ ‬عن كتاب ة حديث ه‪ ،‬وفي نفس‬
‫الوقت يجيز الحديث عن بني إسرائيل‪ ..‬وه و ال ذي غض ب تل ك الغض بة الش ديدة‪،‬‬
‫وأخبر أن دينه أبيض نقي‪ ..‬وأن خلطهم له بغيره من األديان سيشوهه‪ ،‬ويدنسه‪ ،‬ب ل‬
‫يحوله إلى دين بشري‪ ،‬بدال أن يكون دينا إلهيا‪.‬‬
‫ولهذا نج د الس لفية يح اولون ـ للبرهن ة على ج واز االس تفادة من كتب أه ل‬
‫الكتب في ه ذا المج ال كم ا أج ازوه في س ائر المج االت ـ إرج اع ج واز ذل ك إلى‬
‫الس لف األول‪ ،‬وخصوص ا عم ر بن الخط اب ال ذي اعت بروه أول من ق رب كعب‬
‫األحبار‪ ،‬وأنه هو الذي سمح له بالحديث عن قصص األنبياء كما هي في كتب أه ل‬
‫الكتاب‪ ..‬ولسنا ندري م دى دق ة ذل ك‪ ،‬وكي ف لم يخ ف عم ر أن يختل ط ه ذا ال دين‬
‫باليهودية‪ ،‬كما خ اف أن تختل ط أح اديث رس ول هللا ‪ ‬ب القرآن الك ريم‪ ،‬فنهى عن‬
‫كتابتها‪.‬‬
‫قال ابن كثير ـ مبينا موقف السلفية من هذا ـ‪ ...( :‬فإن كعب األحبار لما أس لم‬

‫‪ )(1‬مسند أحمد‪ 3/387 :‬ح(‪)15195‬‬


‫‪ )(2‬البخاري (‪ 496 / 6‬رقم ‪ )3461‬والترمذي (‪ 432 - 431 / 7‬رقم ‪)2806‬‬

‫‪14‬‬
‫في زمن عمر كان يتحدث بين ي دي عم ر بن الخط اب رض ي هللا عن ه بأش ياء من‬
‫علوم أهل الكتاب‪ ،‬فيستمع له عمر تأليفا له وتعجبا مما عن ده مم ا يواف ق كث ير من ه‬
‫الحق الذي ورد به الشرع المطهر‪ ،‬فاس تجاز كث ير من الن اس نق ل م ا ي ورده كعب‬
‫األحبار لهذا المعنى‪ ،‬ولما جاء من اإلذن في التحديث عن بني إسرائيل)(‪)1‬‬
‫بل إننا من خالل الروايات التي ينقلونها عن العالقة بين كعب األحبار وعمر‬
‫نكاد نصدق أنه تحول إلى مستشاره ال ديني الخ اص‪ ،‬ومن تل ك الروي ات م ا أورده‬
‫ابن تيمية في قوله‪( :‬لما دخل عمر بن الخطاب رضي هللا عنه البيت المق دس وأراد‬
‫أن يبني مص لى للمس لمين‪ :‬ق ال لكعب؟ أين أبني ه؟ ق ال ابن ه خل ف الص خرة‪ .‬ق ال‪:‬‬
‫خالطت ك يهودي ة ي ا ابن اليهودي ة ؛ ب ل أبني ه أمامه ا [وذل ك ألن اليه ود تعظم تل ك‬
‫الصخرة]‪ ،‬ولهذا ك ان عب د هللا بن عم ر إذا دخ ل بيت المق دس ص لى في قبلي ه ولم‬
‫يذهب إلى الص خرة‪ .‬وك انوا يك ذبون م ا ينقل ه كعب‪ :‬أن هللا ق ال له ا‪ :‬أنت عرش ي‬
‫األدنى ويقولون‪ :‬من وسع كرسيه السموات واألرض كيف تك ون الص خرة عرش ه‬
‫األدنى؟)(‪)2‬‬
‫ومن تل ك الرواي ات م ا رووه أن عم ر أن ه ق ال لكعب‪( :‬أنش دك هللا ي ا كعب‬
‫أتجدني خليفة أم ملكا؟ ق ال‪ :‬ب ل خليف ة فاس تحلفه‪ ،‬فق ال كعب‪ :‬خليف ة وهللا من خ ير‬
‫الخلفاء وزمانك خير زمان)(‪)3‬‬
‫بل إنهم جعل وه مستش ارا لعائش ة أيض ا‪ ،‬فق د رووا عن عب د هللا بن الح ارث‬
‫قال‪ :‬كنت عند عائشة وعندها كعب الحبر‪ ،‬فذكر إس رافيل‪ ،‬فق الت عائش ة‪ :‬ي ا كعب‬
‫أخ برني عن إس رافيل‪ ،‬فق ال كعب‪ :‬عن دكم العلم‪ ،‬فق الت‪ :‬أج ل ف أخبرني‪ ،‬ق ال‪ :‬ل ه‬
‫أربعة أجنحة جناحان في الهواء وجناح قد تسربل ب ه وجن اح على كاهل ه والع رش‬
‫على كاهله والقلم على أذن ه ف إذا ن زل ال وحي كتب القلم ثم درس ت المالئك ة ومل ك‬
‫الصور جاث على إحدى ركبتيه وقد نصبت األخ رى ف التقم الص ور مح ني ظه ره‬
‫شاخص بصره إلى إسرافيل وقد أمر إذا رأى إس رافيل ق د ض م جناح ه أن ينفخ في‬
‫الصور فقالت عائشة‪ :‬هكذا سمعت رسول هللا ‪ ‬يقول)(‪)4‬‬
‫والمشكلة أن القاعدة التي طبقت على سائر الرواة من أن ه من ع رف الك ذب‬
‫عنه‪ ،‬ولو مرة واحدة يطرد من قائمة الرواة الموثوقين‪ ..‬لكن السلفية لم يطبق وا ه ذا‬
‫مع كعب األحبار وغ يره من اليه ود‪ ،‬ب ل جعل وهم من المس تثنين‪ ،‬ب ل دافع وا عنهم‬
‫دفاعا شديدا‪..‬‬
‫وحجتهم الوحيدة في ذلك أنهم كانوا مقربين من الصحابة‪ ..‬وقد كتب بعض هم‬
‫رسالة في الدفاع عن كعب األحبار س ماها [كعب األحب ار المف ترى علي ه](‪ ،)5‬ق ال‬
‫في مقدمتها‪( :‬فهذا بحث أدفع فيه بعض االفتراءات على كعب األحبار‪ ،‬التي ذكرها‬
‫‪ )(1‬البداية والنهاية (‪)35-1/34‬‬
‫‪ )(2‬مجموع الفتاوى (‪)15/153‬‬
‫‪ )(3‬رواه نعيم بن حماد في الفتن‪ ،‬ص ‪.241‬‬
‫‪ )(4‬قال في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (‪ :)331 /10‬رواه الطبراني في األوسط‪ ،‬وإسناده حسن‬
‫‪ )(5‬هو لعبد بن فهد الخليفي‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫أبورية في كتابه ( أضواء على السنة المحمدية )‪ ،‬وقلده بعد ذلك كثيرون‪ ،‬وه و في‬
‫األساس أخذ عن محمد رشيد رضا وبعض المستشرقين‪ ،‬وهؤالء إنما أرادوا الطعن‬
‫في السنة‪ ،‬وذلك ألن جمعا ً من الصحابة رووا عن كعب األحب ار واح ترموه‪ ،‬ف أراد‬
‫هؤالء إظهار الصحابة في صورة السذج الذين خدعهم كعب)‬
‫ثم نق ل النص وص الكث يرة عن أئم ة الس لف ال تي تمج ده‪ ،‬وتجعل ه قطب ا من‬
‫أقطاب الدين‪ ،‬خاصة في تفسير القصص القرآني‪.‬‬
‫ومن النصوص التي نقلها ما نقل ه عن المعلمي من قول ه‪( :‬لكعب ترجم ة في‬
‫ته ذيب الته ذيب‪ ،‬وليس فيه ا عن أح د من المتق دمين توثيق ه‪ ،‬إنم ا فيه ا ثن اء بعض‬
‫الصحابة عليه بالعلم‪ ..‬فأما ما كان يحكي ه عن الكتب القديم ة فليس بحج ة عن د أح د‬
‫من المسلمين‪ ،‬وإن حكاه بعض السلف لمناسبته عنده لما ذكر في القرآن)(‪)1‬‬
‫ومن الروايات التي يستندون إليها في توثيق كعب ما يروونه عن عب د هللا بن‬
‫الزبير أنه قال‪( :‬ما أصبت فى سلطانى شيئا ً إال قد أخ برنى ب ه كعب قب ل أن يق ع)‪،‬‬
‫إن عم رو بن‬ ‫إن أب ا ال درداء أح د الحكم اء‪ ،‬أال َّ‬
‫وي روون عن معاوي ة قول ه‪( :‬أال َّ‬
‫إن كعب األحبار أحد العلم اء‪ ،‬إن ك ان عن ده علم كالثم ار‬ ‫العاص أحد الحكماء‪ ،‬أال َّ‬
‫وإن كنا المفرطين)(‪)2‬‬
‫وهم يدافعون عن مقولة من معاوية تتهم كعب األحب ار بالك ذب‪ ،‬وهي قول ه‪:‬‬
‫(إن كان من أصدق هؤالء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكت اب‪ ،‬وإن كن ا ‪ -‬م ع‬
‫ذلك ‪ -‬لنبلو عليه الكذب)(‪)3‬بنقل ما ذك روه عن س لفهم من المح دثين من تأوي ل ه ذه‬
‫المقولة‪ ،‬واعتبار اتهام معاوية نوعا من الشدة لم يردها‪.‬‬
‫ومن ذلك م ا نقل وه عن ابن حج ر أن ه ق ال‪( :‬وقول ه (علي ه الك ذب) أي‪ :‬يق ع‬
‫بعض ما يخبرنا عنه بخالف ما يخبرنا به‪ ،‬قال ابن التين‪ :‬وهذا نحو قول ابن عباس‬
‫في حق كعب المذكور‪( :‬بدل من قبله فوقع في الكذب)‪ ،‬قال‪ :‬والمراد بالمح دثين في‬
‫قوله‪( :‬إن كان من أصدق ه ؤالء المح دثين ال ذين يح دثون عن أه ل الكت اب) أن داد‬
‫كعب ممن كان من أهل الكتاب وأسلم‪ ،‬فكان يح دث عنهم‪ ،‬وك ذا من نظ ر في كتبهم‬
‫فحدث عما فيها‪ ،‬قال‪ :‬ولعلهم كانوا مثل كعب‪ ،‬إال أن كعب ا ك ان أش د منهم بص يرة‪،‬‬
‫وأعرف بما يتوقاه)‬
‫وقال ابن حبان في كتاب الثقات‪( :‬أراد معاوي ة أن ه يخطئ أحيان ا فيم ا يخ بر‬
‫به‪ ،‬ولم يرد أنه كان كذابا‪ ،‬وقال غيره‪ :‬الض مير في قول ه‪( :‬لنبل و علي ه) للكت اب ال‬
‫لكعب‪ ،‬وإنما يقع في كتابهم الكذب لكونهم بدلوه وحرفوه)‬
‫وقال ابن الجوزي‪( :‬المعنى‪ :‬أن بعض الذي يخبر ب ه كعب عن أه ل الكت اب‬
‫يكون كذبا ال أنه يتعمد الكذب‪ ،‬وإال فقد كان كعب من أخيار األحبار)(‪)4‬‬

‫‪ )(1‬األنوار الكاشفة‪ ،‬ص‪.105‬‬


‫‪ )(2‬اإلصابة في تمييز الصحابة‪)650/ 5( ،‬‬
‫‪ )(3‬صحيح البخاري (‪ ،)13/345‬رقم (‪)7361‬‬
‫‪ )(4‬فتح الباري (‪)13/346‬‬

‫‪16‬‬
‫وبناء على هذا الموقف من كعب‪ ،‬وال ذي اعت بر بموجب ه ثق ة‪ ،‬ب ل إمام ا من‬
‫األئمة‪ ،‬رفع الحجر عن كل من يخلط اإلسالم بكتب اليه ود خصوص ا‪ ،‬وخصوص ا‬
‫فيما يتعل ق بالمس ائل العقدي ة من الح ديث عن هللا أو رس له أو كتب ه أو المالئك ة أو‬
‫غيرها‪.‬‬
‫وله ذا ص رنا نج د في تفاس يرنا الكث ير من نص وص الكتب الس ابقة تفس ر‬
‫القرآن‪ ،‬وتبين أغراضه‪.‬‬
‫بل يورد السلفية ما هو أخطر من ذلك حين يح دثون عن فض ائل عب د هللا بن‬
‫عمرو بن الع اص‪ ،‬في ذكرون منه ا قول ه‪( :‬رأيت فيم ا ي رى الن ائم لك أن في إح دى‬
‫أصبعي سمنا وفي األخرى عسال فأنا ألعقهما‪ ،‬فلما أصبحت ذكرت ذلك لرس ول هللا‬
‫‪ ‬فقال‪( :‬تقرأ الكتابين التوراة والفرقان‪ ،‬فكان يقرؤهما)(‪)1‬‬
‫وهكذا أصبح كمال المؤمن ليس في أخذه من القرآن الكريم‪ ،‬واقتصاره عليه‪،‬‬
‫وذوبانه في معانية‪ ..‬بل الكمال في أن يأكل السمن مع العس ل‪ ..‬أو ينه ل من الق رآن‬
‫ومن كتب أهل الكتاب‪.‬‬

‫‪ )(1‬أحمد ‪)7067( 2/222‬‬

‫‪17‬‬
‫الكفر‪ ..‬والشرك‬
‫من المسائل الكبرى التي وقع فيها الخالف في عصمة األنبياء عليهم الص الة‬
‫والسالم مسألة عصمتهم من الوقوع في الكفر والشرك‪..‬‬
‫وهي مس ألة انقس مت فيه ا األم ة إلى قس مين كب يرين‪ :‬قس م تمثل ه المدرس ة‬
‫السلفية‪ ،‬وخصوصا ابن تيمية وتالميذه‪ ،‬فهم يرون أن األنبياء ـ قب ل ن زول ال وحي‬
‫عليهم ـ على دين أق وامهم‪ ،‬أي أنهم كف ار مش ركون يمارس ون ك ل الطق وس ال تي‬
‫يمارس ها ق ومهم‪ ..‬إال أنبي اء ب ني إس رائيل طبع ا ال ذين ي نزههم الس لفية عن ه ذا‬
‫باعتبارهم ولدوا في بيئة موحدة‪.‬‬
‫أما القسم الثاني‪ :‬فهو من ينزه األنبياء عن هذا‪ ،‬ويعتبر مجرد القول ب ه س وء‬
‫فهم للنب وة‪ ،‬وحط ا من ق درها‪ ،‬وتدنيس ا له ا‪ ..‬وق د ق ال به ذا ك ل األم ة بم ذاهبها‬
‫وطوائفها المختلفة‪ ،‬ما عدا السلفية وخصوصا أتباع ابن تيمية منهم‪.‬‬
‫وأس اس المش كلة ال تي أوقعت المدرس ة الس لفية في ه ذا الخط أ الكب ير ه و‬
‫تغليبهم لبشرية النبي على نبوته‪ ،‬والتي نتج عنها توهمهم أن النبي ليس سوى إنسان‬
‫عادي‪ ،‬وقع عليه اختي ار هللا في مرحل ة من عم ره ليكل ف ب أداء مه ام معين ة‪ ..‬وال‬
‫تميز له عن الناس في هذا الجانب‪ ،‬كما ال تميز له عنهم في الجوانب األخرى‪.‬‬
‫ثم يذكرون أن ذلك االختيار مشيئة إلهية محضة‪ ،‬ال عالق ة له ا ب دين الن بي‪،‬‬
‫وال خلقه‪ ..‬ولهذا أجازوا على النبي أن يك ون قب ل نبوت ه ك افرا ومش ركا‪ ،‬وعاص يا‬
‫بمختلف أنواع المعاصي كبائرها وصغائرها‪.‬‬
‫وهم ال يكتفون بذكر الجواز فقط‪ ،‬ب ل يض مون إلي ه م ا يخلخ ل تل ك المكان ة‬
‫السامية التي يشعر بها المؤمنون عندما يتحدثون عن األنبياء أو يسمعون عنهم‪.‬‬
‫والمبرر السلفي لهذا معروف‪ ،‬وهم أنهم يخافون أن يمس جن اب التوحي د‪ ،‬أو‬
‫ألنهم يرون أن تعظيم النبي تحقير لرب ه‪ ،‬وتق ديس الرس ول ت دنيس لمرس له‪ ..‬وك ل‬
‫ذلك نشأ عن تصوراتهم الوثنية هلل سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫وقد غاب عن هذه المدرسة‪ ،‬مع ادعائها الرجوع للقرآن الكريم‪ ،‬آي ات كث يرة‬
‫لو أنهم تأملوها بعي دا عن وس اوس كعب األحب ار ووهب بن منب ه وتل ك الرواي ات‬
‫التي حشوا بها عقولهم‪ ،‬لوص لوا إلى حقيق ة كم االت النب وة من دون أي جه د‪ ..‬ب ل‬
‫وصلوا إلى المنبع الصافي الذي ال كدر فيه‪.‬‬
‫وأول تلك اآليات‪ ،‬وأكثرها صراحة ووضوحا قوله تعالى على لسان المس يح‬
‫ت‬‫ار ًك ا أَ ْينَ َم ا ُك ْن ُ‬
‫اب َو َج َعلَنِي نَبِيًّ ا (‪َ )30‬و َج َعلَنِي ُمبَ َ‬ ‫‪ ﴿ :‬إِنِّي َع ْب ُد هَّللا ِ آتَ انِ َي ْال ِكتَ َ‬
‫ت َحيًّا (‪َ )31‬وبَ ًّرا بِ َوالِ َدتِي َولَ ْم يَجْ َع ْلنِي َجبَّارًا َشقِيًّا‬ ‫صاَل ِة َوال َّز َكا ِة َما ُد ْم ُ‬ ‫صانِي بِال َّ‬ ‫َوأَوْ َ‬
‫ث َحيًّا ﴾ [مريم‪]33 - 30 :‬‬ ‫وت َويَوْ َم أُ ْب َع ُ‬
‫ت َويَوْ َم أَ ُم ُ‬‫ي يَوْ َم ُولِ ْد ُ‬‫(‪َ )32‬وال َّساَل ُم َعلَ َّ‬
‫فهذه اآليات الكريمة تنص على أن المس يح ‪ ،‬وه و ـ في مرحل ة المه د ـ‬
‫يخير أن هللا تعالى جعله نبيا‪ ،‬ولم يقل‪( :‬سيجعلني نبي ا)‪ ،‬أي أن ه ك ان نبي ا وه و في‬

‫‪18‬‬
‫مهده‪ ..‬ويخبر كذلك أنه جعل مباركا في كل محل‪ ،‬ولم يقل‪( :‬سيجعلني مباركا)‬
‫وه ذا ليس خاص ا بالمس يح ‪ ،‬ب ل ه و ع ام لك ل األنبي اء‪ ،‬ألن هللا تع الى‬
‫عندما ذكر خصوصية المسيح في هذا الج انب ذك ر كالم ه في المه د‪ ،‬ال نبوت ه في‬
‫ك إِ ْذ‬ ‫ال هَّللا ُ يَا ِعي َسى ا ْبنَ َمرْ يَ َم ْاذ ُكرْ نِ ْع َمتِي َعلَ ْيكَ َو َعلَى َوالِ َدتِ َ‬
‫المهد‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬إِ ْذ قَ َ‬
‫﴿ويُ َكلِّ ُم‬‫اس فِي ْال َم ْه ِد َو َك ْهاًل ﴾ [المائ دة‪ ،]110 :‬وق ال‪َ :‬‬ ‫ُوح ْالقُ د ِ‬
‫ُس تُ َكلِّ ُم النَّ َ‬ ‫ك بِ ر ِ‬ ‫أَيَّ ْدتُ َ‬
‫اس فِي ْال َم ْه ِد َو َك ْهاًل َو ِمنَ الصَّالِ ِحينَ ﴾ [آل عمران‪]46 :‬‬ ‫النَّ َ‬
‫بل ورد في الحديث الشريف عن رسول هللا ‪ ‬أنه سئل‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬م تى‬
‫كتبت نبيا؟ قال‪( :‬وآدم ‪ ‬بين الروح والجسد)(‪)1‬‬
‫وقد أقر ابن تيمية نظريا بهذا الحديث‪ ،‬وإن لم يؤمن ب ه عملي ا‪ ،‬كم ا س نرى‪،‬‬
‫فقد قال في (مجموع الفتاوى)‪( :‬وهذا هو معنى الحديث الذي رواه أحم د في مس نده‬
‫عن ميسرة الفجر قال‪ :‬قلت يا رسول هللا م تى كنت نبي ا؟‪ ..‬ق ال‪ ( :‬وآدم بين ال روح‬
‫والجسد)‪ ،‬هكذا لفظ الحديث الصحيح‪ .‬وأما ما يروي ه ه ؤالء الجه ال‪ :‬ك ابن ع ربي‬
‫في الفصوص وغيره من جهال العام ة (كنت نبي ا وآدم بين الم اء والطين كنت نبي ا‬
‫وآدم ال ماء وال طين)‪ ،‬فهذا ال أصل له ولم يروه أح د من أه ل العلم الص ادقين وال‬
‫هو في شيء من كتب العلم المعتمدة بهذا اللفظ)(‪)2‬‬
‫باإلضافة إلى هذا‪ ،‬فقد أخبر هللا تعالى أن ل ه من عب اده من أطل ق عليهم لقب‬
‫المخلصين ـ بفتح الخ اء ـ وهم الط اهرون ال ذين ال يتمكن الش يطان ب أي ح ال من‬
‫األحوال أن يصل إليهم‪ ،‬قال تعالى يذكر ذل ك الي وم ال ذي ب دأ في ه ت اريخ البش رية‪:‬‬
‫ض َوأَل ُ ْغ ِويَنَّهُ ْم أَجْ َم ِعينَ (‪ )39‬إِاَّل ِعبَ ادَكَ‬ ‫ُ‬
‫﴿قَا َل َربِّ بِ َما أَ ْغ َو ْيتَنِي أَل زَ يِّن ََّن لَهُ ْم فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ْس لَ كَ َعلَ ْي ِه ْم‬‫ي ُم ْستَقِي ٌم (‪ )41‬إِ َّن ِعبَا ِدي لَي َ‬ ‫ص َراطٌ َعلَ َّ‬
‫صينَ (‪ )40‬قَا َل هَ َذا ِ‬ ‫ِم ْنهُ ُم ْال ُم ْخلَ ِ‬
‫َاوينَ ﴾ [الحجر‪]42 - 39 :‬‬ ‫ك ِمنَ ْالغ ِ‬ ‫س ُْلطَ ٌ‬
‫ان إِاَّل َم ِن اتَّبَ َع َ‬
‫فه ذه اآلي ة الكريم ة ت بين أن من عب اد هللا ج واهر مقدس ة بطبيعته ا ال يمكن‬
‫للشيطان أن يصل إليها بحال من األحوال‪ ،‬ول ذلك هي عارف ة بربه ا ب الفطرة‪ ..‬ب ل‬
‫هي ـ كما يقول العرف اء ـ تول د وهي مجت ازة لك ل المهام ه والفي افي ال تي يقطعه ا‬
‫السالكون‪ ،‬ألن آخ ر مق ام في الوالي ة ه و أول مق ام في النب وة‪ ،‬كم ا ق ال الغ زالي‪:‬‬
‫(وانفتاح هذا الباب من سر القلب إلى عالم الملكوت يس مى معرف ة ووالي ة ويس مى‬
‫صاحبه ولي ا وعارف ا‪ ،‬وهي مب ادي مقام ات األنبي اء‪ ،‬وآخ ر مقام ات األولي اء أول‬
‫مقامات األنبياء)(‪)3‬‬
‫ومشكلة المدرسة السلفية أنها ـ مثل الشيطان تماما ـ ال ت ؤمن به ذا الن وع من‬
‫الناس‪ ،‬ألنه ا تش عر أن اإليم ان بهم ن وع من الس جود والخض وع‪ ..‬وهي تمل ك من‬
‫الكبر ما يحول بينها وبين ذلك‪.‬‬

‫‪ )(1‬أحم د ‪ )16740( 4/66‬و‪ ،)23599( 5/379‬وق ال في (مجم ع الزوائ د‪ :)223 /8 :‬رواه أحم د والط براني‪،‬‬
‫ورجاله رجال الصحيح‪.‬‬
‫‪ )(2‬مجموع الفتاوى (‪)147 /2‬‬
‫‪ )(3‬إحياء علوم الدين (‪.)382 /3‬‬

‫‪19‬‬
‫ول و أنه ا ت دبرت األم ر من باب ه لعلمت أنه ا كلم ا عظمت الرس ول عظمت‬
‫المرس ل‪ ،‬وكلم ا وق رت الرس ول وق رت المرس ل‪ ..‬ألن الرس ول ليس س وى م رآة‬
‫لتجلي الح ق‪ ،‬أو ه و مظه ر يع رف الح ق من خالل ه‪ ،‬ومن احتق ر المظه ر احتق ر‬
‫بالضرورة ُمظهره‪.‬‬
‫ولهذا اتفق العارفون من تالميذ القرآن الكريم ابتداء من بيت أه ل النب وة إلى‬
‫آخر تلميذ من تالميذهم على هذا المعنى السامي للنبوة‪..‬‬
‫يق ول الش يخ الص دوق عن د ذك ره موق ف أه ل بيت النب وة من ه ذه المس ألة‬
‫الخط يرة‪( :‬اعتقادن ا في األنبي اء والرس ل واألئم ة والمالئك ة عليهم الس الم أنهم‬
‫معصومون مطه رون من ك ل دنس‪ ،‬وأنهم ال ي ذنبون ذنب ا ص غيرا وال كب يرا‪ ،‬وال‬
‫يعص ون م ا أم رهم‪ ،‬ويفعل ون م ا ي ؤمرون‪ ..‬واعتقادن ا فيهم أنهم معص ومون‬
‫موصوفون بالكمال والتم ام والعلم من أوائ ل أم ورهم وأواخره ا‪ ،‬ال يوص فون في‬
‫شيء من أحوالهم بنقص وال عصيان وال جهل) (‪)1‬‬
‫(إن هللا س بحانه خل ق بعض عب اده على اس تقامة‬ ‫ويقول العالّمة الطباطبائي‪ّ :‬‬
‫الفطرة‪ ،‬واعتدال الخلقة‪ ،‬فنشأوا من بادئ األمر بأذهان وقّادة‪ ،‬وإدراك ات ص حيحة‬
‫ونفوس طاهرة‪ ،‬وقلوب سليمة‪ ،‬فنالوا بمجرّد صفاء الفطرة وسالمة النفس من نعمة‬
‫اإلخالص ما نال ه غ يرهم باالجته اد والكس ب ب ل أعلى وأرقى لطه ارة داخلهم من‬
‫أن هؤالء هم المخلص ون ( ب الفتح )‬ ‫التلوّث بألواث الموانع والمزاحمات‪ ،‬والظاهر ّ‬
‫أن هللا اجتب اهم‪ ،‬أي‬ ‫هلل في مصطلح القرآن‪ ،‬وهم األنبياء واألئ ّمة‪ ،‬وقد نصّ القرآن ب ّ‬
‫﴿واجْ تَبَ ْينَ اهُ ْم َوهَ َد ْينَاهُ ْم إِلَى ِ‬
‫ص َرا ٍط‬ ‫جمعهم لنفسه وأخلصهم لحضرته‪ ،‬ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫ُم ْستَقِ ٍ‬
‫يم﴾ [األنعام‪)2()]87 :‬‬
‫وإلى هذا المعنى أش ار الع ارفون من ه ذه األم ة ال ذين اتفق وا على العص مة‬
‫المطلقة للنبي في كل أحواله‪ ،‬وفي كل سنوات عمره‪.‬‬
‫يقول الش يخ أحم د الس رهندي‪( :‬النب وة‪ :‬هي عب ارة عن الق رب اإللهي ال ذي‬
‫ليس فيه شائبة الظلية‪ ،‬وعروجه ناظر ومتوجه إلى الحق‪ ،‬ونزوله إلى الخل ق وه ذا‬
‫القرب نصيب األنبياء [ عليهم السالم ] باألصالة) (‪)3‬‬
‫ويق ول الش يخ نجم ال دين داي ة ال رازي‪( :‬مق ام األنبي اء ه و غاي ة ش رف‬
‫اإلنسانية‪ ،‬واألفق األعلى منه‪ ،‬فلم يبق له االرتقاء عن هذا المقام بسعيه وجهده‪ ،‬ب ل‬
‫ينحط إليه األمور اإللهية والجذبات الربانية وحيا ً أو إلهاماً) (‪)4‬‬
‫ويقول الشيخ عبد القادر الجيالني‪( :‬النبوة‪ :‬هي نور من أنوار العزة‪ ،‬مختومة‬
‫بطابع روح القدس‪ ،‬قوتها فعالة بالق درة‪ ،‬ومعناه ا متس ع بالبهج ة‪ ،‬وظاهره ا مؤي د‬

‫‪ )(1‬اإلعتقادات (لـ الصدوق)‪ ،‬ص‪.36‬‬


‫‪ )(2‬الميزان‪.)11/177 :‬‬
‫‪ )(3‬الشيخ أحمد السرهندي – مكتوبات اإلمام الرباني – ج ‪ 1‬ص ‪.361‬‬
‫‪ )(4‬الشيخ نجم الدين داية الرازي– مخطوطة منار السائرين ومطار الطائرين – ص ‪27‬‬

‫‪20‬‬
‫بالوحي) (‪)1‬‬ ‫بأفعال هللا تعالى الخارقة للعادة المستمرة‪ ،‬وباطنها مقرون‬
‫وهكذا نص كل العارفين المحققين‪..‬‬
‫وقريب ا منهم نص المتكلم ون ال ذين اتفق وا جميع ا على اختالف ق راءاتهم‬
‫العقدية على عدم جواز الكفر على األنبياء مطلقا‪ ،‬كما عبر على ذل ك القاض ي عب د‬
‫الجبّار شيخ المعتزلة في عصره‪ ،‬حيث ذكر أنّه (يجب أن يك ون الن بي من ّزه ا ً ع ّم ا‬
‫يقتضى خروجه من والية هللا تعالى إلى عداوت ه قب ل النب وّة وبع دها‪ ،‬كم ا يجب أن‬
‫يكون من ّزها ً من كذب أو كتمان أو سهو أو غلط إلى غير ذلك‪ ،‬ومن حقّ ه أن ال يق ع‬
‫منه ما ينفر منه عن القبول منه أو يصرف من السكون إليه أو عن النظر في علمه‪،‬‬
‫نحو الكذب على كل حال‪ ،‬والتورية والتعمية في ما يؤ ّديه‪ ،‬والصغائر المستخفة)(‪)2‬‬
‫وقال التفتازاني في شرح العقائد النسفية‪( :‬إنّهم [أي األنبياء] معصومون عن‬
‫الكفر قب ل ال وحي وبع ده باإلجم اع‪ ،‬وك ذا َمن تع ّم د الكب ائر عن د الجمه ور خالف ا ً‬
‫للحشوية‪ ،‬وأ ّما سهواً‪ ،‬فجوّزه األكثرون‪ .‬وأ ّما الصغائر‪ ،‬فيجوز عمداً عند الجمهور‪،‬‬
‫خالفا ً للجبّائي وأتباعه‪ ،‬ويجوز سهواً باالتفاق إالّ ما يدل على الخسّة)(‪)3‬‬
‫(إن المعاص ي إ ّم ا أن تك ون منافي ةً لم ا تقتض يه‬ ‫وق ال الفاض ل القوش جي‪ّ :‬‬
‫المعج زة‪ ،‬كالك ذب في م ا يتعلّ ق ب التبليغ أو ال‪ ،‬والث اني إ ّم ا أن يك ون كف راً أو‬
‫معصية ؛ وهي إ ّما أن تكون كبيرة كالقت ل والزن ا‪ ،‬أو ص غيره منفّ رة كس رقة لقم ة‬
‫والتطفيف بحبّة‪ ،‬أو غير منفّرة ككذبة وشتمة ؛ وكل ذلك إ ّما عمداً أو سهواً‪ ،‬أو بع د‬
‫البعثة أو قبلها)(‪)4‬‬
‫وق ال القرط بي في تفس يره لقول ه تع الى نقال عن القاض ي عي اض‪( :‬وأم ا‬
‫عصمتهم من هذا الفن قبل النبوة فللناس فيه خالف‪ ،‬والصواب أنهم معصومون قبل‬
‫النبوة من الجهل باهلل وصفاته والتشكك في ش يء من ذل ك‪ .‬وق د تعاض دت األخب ار‬
‫واآلثار عن األنبياء بتنزيههم عن ه ذه النقيص ة من ذ ول دوا‪ ،‬ونش أتهم على التوحي د‬
‫واإليمان‪ ،‬ب ل على إش راق أن وار المع ارف ونفح ات ألط اف الس عادة‪ ،‬ومن ط الع‬
‫س يرهم من ذ ص باهم إلى مبعثهم حق ق ذل ك‪ ،‬كم ا ع رف من ح ال موس ى وعيس ى‬
‫﴿وآتَ ْينَ اهُ ْال ُح ْك َم َ‬
‫ص بِيًّا ﴾‬ ‫ويح يى وس ليمان وغ يرهم عليهم الس الم‪ .‬ق ال هللا تع الى‪َ :‬‬
‫[م ريم‪ ]12 :‬ق ال المفس رون‪ :‬أعطي يح يى العلم بكت اب هللا في ح ال ص باه‪ .‬ق ال‬
‫معمر‪ :‬كان ابن سنتين أو ثالث‪ ،‬فقال له الص بيان‪ :‬لم ال تلعب! فق ال‪ :‬أللعب خلقت!‬
‫ص ِّدقًا بِ َكلِ َم ٍة ِمنَ هَّللا ِ ﴾ [آل عمران‪ ]39 :‬صدق يحيى بعيس ى وه و‬ ‫وقيل في قوله‪ُ ﴿ :‬م َ‬
‫ابن ثالث سنين‪ ،‬فشهد ل ه أن ه كلم ة هللا وروح ه وقي ل‪ :‬ص دقه وه و في بطن أم ه‪،‬‬
‫فكانت أم يحيى تقول لمريم إني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك تحي ة ل ه‪ .‬وق د‬
‫نص هللا على كالم عيسى ألمه عند والدته ا إي اه بقول ه‪﴿ :‬أَاَّل تَحْ َزنِي﴾ [م ريم‪]24 :‬‬

‫‪ )(1‬الشيخ علي بن يوسف الشطنوفي – مخطوطة بهجة اإلسرار ومعدن األنوار – ص ‪.88‬‬
‫‪ )(2‬المغني‪.15/279 :‬‬
‫‪ )(3‬العقائد النسفية‪.171 :‬‬
‫‪ )(4‬شرح التجريد‪.464 :‬‬

‫‪21‬‬
‫على قراءة من قرأ من تحتها‪ ..‬وق ال‪﴿ :‬فَفَهَّ ْمنَاهَ ا ُس لَ ْي َمانَ َو ُكاًّل آتَ ْينَ ا ُح ْك ًم ا َو ِع ْل ًم ا ﴾‬
‫[األنبياء‪،]79 :‬وقد ذكر من حكم سليمان وهو صبي يلعب في قصة المرجومة وفي‬
‫قصة الصبي ما اقتدى به أبوه داود‪ .‬وحكى الطبري أن عمره كان حين أوتي المل ك‬
‫اثني عشر عاما‪ .‬وكذلك قصة موسى مع فرع ون وأخ ذه بلحيت ه وه و طف ل‪ .‬وق ال‬
‫ُش َدهُ ِم ْن قَ ْب ُل َو ُكنَّا بِ ِه َع الِ ِمينَ ﴾‬ ‫المفس رون في قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬ولَقَ ْد آتَ ْينَ ا إِ ْب َرا ِهي َم ر ْ‬
‫[األنبياء‪ ]51 :‬أي هديناه صغيرا‪ ،‬قال ه مجاه د وغ يره‪ .‬وق ال ابن عط اء‪ :‬اص طفاه‬
‫قبل إبداء خلقه)(‪)1‬‬
‫إلى أن قال متحدثا عن رسول هللا ‪( :‬وقوله في قصة بحيرا حين اس تحلف‬
‫النبي ‪ ‬بالالت والعزى‪ ،‬إذ لقيه بالشام في سفرته مع عمه أبي طالب وهو ص بي‪،‬‬
‫ورأى فيه عالمات النبوة فأخبره بذلك‪ ،‬فقال له النبي ‪ :‬ال تسألني بهم ا‪ ،‬فوهللا م ا‬
‫أبغضت شيئا ً قط بغضهما‪ .‬فقال له بح يرا‪ :‬فباهلل إال م ا أخبرت ني عم ا أس ألك عن ه؟‬
‫فقال‪ :‬سل عما بدا لك‪ .‬وكذلك المعروف من سيرته ‪ ‬وتوفيق هللا له أن ه ك ان قب ل‬
‫نبوته يخالف المشركين في وقوفهم بمزدلفة في الحج‪ ،‬وكان يق ف ه و بعرف ة؛ ألن ه‬
‫كان موقف إبراهيم ‪)2( )‬‬
‫وقد نصوا على أنه لم يق ل أح د من الم ذاهب بج واز الكف ر على األنبي اء إال‬
‫فرقة من الخوارج هي األزارقة ال ذين رووا عنهم تج ويز الكف ر على األنبي اء‪ ،‬م ع‬
‫أن كل معصية كف ر‪ ،‬يق ول‬ ‫العلم أن مرادهم من الكفر هو المعصية‪ ،‬ألجل اعتقادهم ّ‬
‫بعض الباحثين‪( :‬أجمعوا على امتناع الكفر عليهم إالّ الفض يلية من الخ وارج ف إنّهم‬
‫جوّزوا صدور الذنب عنهم‪ ،‬وكل ذنب عندهم كفر‪ ،‬فلزمهم جواز الكفر عليهم)(‪)3‬‬
‫وهكذا نرى أن الفئة الوحيدة التي تق ول بج واز كف ر األنبي اء ووقوع ه منهم‪،‬‬
‫وتجاهر به هي فئة السلفية‪ ،‬أو باألحرى تالميذ ابن تيمية ـ خصوصا ـ من الس لفية‪،‬‬
‫ألن هناك من أعالم السلف من خالفهم في بعض ذلك‪.‬‬
‫وكما أن منهج السلفية في القضايا العقدية هو الرجوع للنص وص المتش ابهة‪،‬‬
‫واعتبارها أصال‪ ،‬ثم تأويل المحكم ات على أساس ها‪ ،‬فق د اعت بروا قول ه تع الى عن‬
‫اش َعيْبُ َوالَّ ِذينَ آ َمنُ وا‬ ‫ك يَ ُ‬ ‫اس تَ ْكبَرُوا ِم ْن قَوْ ِم ِه لَنُ ْخ ِر َجنَّ َ‬ ‫شعيب ‪﴿ :‬قَ ا َل ْال َمأَل ُ الَّ ِذينَ ْ‬
‫َم َعكَ ِم ْن قَرْ يَتِنَا أَوْ لَتَعُود َُّن فِي ِملَّتِنَا َ﴾ [األعراف‪ ]88 :‬أصال‪ ،‬مثلما اعت بروا مقول ة‬
‫فرعون أصال في القول بالجهة هلل تعالى‪.‬‬
‫وكان في إمكان ابن تيمية أن يفسر هذه اآلي ة الكريم ة بحس ب أق وال الس لف‬
‫الذين يرجع إليهم كل حين‪ ،‬ويعتبر أقوالهم سنة‪ ،‬والخروج عنها بدعة‪.‬‬
‫كان في إمكان ابن تيمي ة أن يفس رها بحس ب ق ول الط بري ال ذي يحث على‬
‫الرجوع إليه دوما‪ ،‬فقد قال في تفس ير قول ه تع الى‪( :‬قَرْ يَتِنَ ا أَوْ لَتَ ُع ود َُّن فِي ِملَّتِنَ ا َ)‪:‬‬
‫(يعن ون‪ :‬إال أن تع ودوا في دينن ا ال ذي نحن علي ه من عب ادة األص نام‪ .‬وأدخلت في‬

‫‪ )(1‬تفسير القرطبي (‪.)55 /16‬‬


‫‪ )(2‬تفسير القرطبي (‪.)55 /16‬‬
‫‪ )(3‬اللوامع اإللهية‪.170 :‬‬

‫‪22‬‬
‫قوله‪( :‬لتعودن) الم‪ ،‬وهو في معنى شرط‪ ،‬كأنه ج واب لليمين‪ ،‬وإنم ا مع نى الكالم‪:‬‬
‫لنخرجنكم من أرضنا‪ ،‬أو تعودون في ملتنا‪ .‬ومعنى (أو) ههنا مع نى (إال) أو مع نى‬
‫حتى كما يقال في الكالم‪ :‬ألضربنك أو تقر لي‪ ،‬فمن العرب من يجع ل م ا بع د (أو)‬
‫في مثل هذا الموضع عطفا ً على ما قبله‪ ،‬إن كان م ا قبل ه جزم ا ً جزم وه‪ ،‬وإن ك ان‬
‫نصبا ً نصبوه‪ ،‬وإن ك ان في ه (الم) جعل وا في ه (الم ا)‪ ،‬إذ ك انت (أو) ح رف نس ق‪.‬‬
‫ومنهم من ينصب (ما) بعد (أو) بكل حال‪ ،‬ليعلم بنصبه أن ه عن األول منقط ع عم ا‬
‫قبله‪ ،‬كما قال امرؤ القيس‪ :‬بكى صاحبي لما رأى الدرب دون ه‪ ...‬وأيقن أن ا الحق ان‬
‫بقيص را‪ ...‬فقلت ل ه‪ :‬ال تب ك عين ك إنم ا‪ ...‬نح اول ملك ا ً أو نم وت فنع ذرا‪ .‬فنص ب‬
‫(نموت فنعذرا) وقد رفع (نحاول)‪ ،‬ألنه أراد معنى‪ :‬إال أن نموت‪ ،‬أو ح تى نم وت‪،‬‬
‫ومنه قول اآلخر‪ :‬ال أس تطيع نزوع ا ً عن مودته ا‪ ...‬أو يص نع الحب بي غ ير ال ذي‬
‫صنعا)(‪)1‬‬
‫ومثله أبو المظفر السمعاني‪ ،‬الذي يعتبر من أعالم السلفية‪ ،‬كم ا ق ال ال ذهبي‬
‫عنه‪ ،‬فقد قال في ترجمته‪( :‬وله األمالي في الح ديث تعص ب أله ل الح ديث والس نة‬
‫والجماعة‪ ،‬وكان شوكا في أعين المخالفين وحجة ألهل الس نة)(‪ ،)2‬وم ع ذل ك‪ ،‬فق د‬
‫قال في تفسير اآلي ة‪( :‬ف إن قي ل‪ :‬كي ف يص ح لف ظ الع ود من ش عيب‪ ،‬ولم يكن على‬
‫ملتهم ق ط؟ قي ل‪ :‬معن اه‪ :‬إن ص رنا في ملتكم‪ .‬وع اد بمع نى ص ار وك ان‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫الشاعر‪ :‬لئن كانت األيام أحسن م رة‪ ...‬إلي فق د ع ادت لهن ذن وب‪ .‬أي‪ :‬ك انت لهن‬
‫ذنوب)(‪)3‬‬
‫ومثله ق ال البغ وي ال ذي أش اد بس نيته ابن تيمي ة‪( :‬الع ود‪ :‬ق د يك ون بمع نى‬
‫الرجوع‪ ..‬وقد يكون بمعنى المصير إليه ابتداء‪ .‬ومنه قوله سبحانه وتعالى في قص ة‬
‫شعيب صلى هللا عليه وسلم‪ ﴿ :‬أَوْ لَتَعُود َُّن فِي ِملَّتِنَا َ﴾ ق ال ق وم‪ :‬معن اه‪ :‬لتص يرن إلى‬
‫ملتنا‪ ،‬ألن شعيبا ً لم يكن قط في الكف ر‪ .‬وقي ل‪ :‬الخط اب م ع أص حاب ش عيب ال ذين‬
‫دخلوا في دينه واتبعوه بعد ما كانوا كفاراً)(‪)4‬‬
‫وق ال‪( :‬ف إن قي ل‪ :‬كي ف يخرج ونهم من الن ور إلى الظلم ات‪ ،‬وهم كف ار لم‬
‫يكونوا في نور قط؟ قي ل‪ :‬هم اليه ود وك انوا مؤم نين بمحم د ‪ ‬قب ل أن يبعث لم ا‬
‫يجدون في كتبهم من نعمته‪ ،‬فلما بعث كف روا ب ه‪ ،‬وقي ل‪ :‬ه و على العم وم في ح ق‬
‫جميع الكفار‪ ،‬وقالوا‪ :‬منعهم إياهم من الدخول فيه‪ :‬إخراج‪ ،‬كما يقول الرج ل ألبي ه‪:‬‬
‫أخرجتني من مالك‪ .‬ولم يكن فيه‪ ،‬كما قال هللا تع الى إخب اراً عن يوس ف ‪﴿ :‬إِنِّي‬
‫ت ِملَّةَ قَوْ ٍم اَل ي ُْؤ ِمنُونَ بِاهَّلل ِ َوهُ ْم بِاآْل ِخ َر ِة هُ ْم َكافِرُونَ ﴾ [يوسف‪ ]37 :‬ولم يكن قط‬
‫ت ََر ْك ُ‬
‫في ملتهم)(‪)5‬‬
‫وقال في موضع آخر‪( :‬فإن قيل‪ :‬ما معنى قوله‪﴿ :‬قَ ِد ا ْفتَ َر ْينَ ا َعلَى هَّللا ِ َك ِذبًا إِنْ‬
‫‪ )(1‬تفسير الطبري (‪.)540-16/539‬‬
‫‪ )(2‬سير أعالم النبالء ج‪/19‬ص‪.116‬‬
‫‪ )(3‬تفسير السمعاني (‪.)2/198‬‬
‫‪ )(4‬شرح السنة (‪.)1/49‬‬
‫‪ )(5‬تفسير البغوي (‪.)1/351‬‬

‫‪23‬‬
‫ُع ْدنَا فِي ِملَّتِ ُك ْم بَ ْع َد إِ ْذ نَجَّانَا هَّللا ُ ِم ْنهَا َو َما يَ ُكونُ لَنَا أَ ْن نَعُو َد فِيهَ ا ﴾ [األع راف‪،]89 :‬‬
‫ولم يكن شعيب قط على ملتهم‪ ،‬حتى يصح قولهم‪ :‬ترجع إلى ملتن ا؟ قي ل‪ :‬معن اه‪ :‬أو‬
‫لتدخلن في ملتنا‪ ،‬فقال‪ :‬وما كان لنا أن ندخل فيها‪ .‬وقيل‪ :‬معناه‪ :‬إن صرنا في ملتكم‪.‬‬
‫ومعنى عاد‪ :‬صار‪ .‬وقيل‪ :‬أراد ب ه ق وم ش عيب‪ ،‬ألنهم ك انوا كف اراً ف آمنوا‪ ،‬فأج اب‬
‫شعيب عنهم) (‪)1‬‬
‫بل صرح بذلك بتصريح ليس فوقه تصريح‪ ،‬فقال‪( :‬وأه ل األص ول على أن‬
‫األنبي اء عليهم الس الم‪ ،‬ك انوا مؤم نين قب ل ال وحي‪ ،‬وك ان الن بي ‪ ‬يعب د هللا قب ل‬
‫الوحي على دين إبراهيم‪ ،‬ولم يتبين له شرائع دينه) (‪)2‬‬
‫لكن ابن تيمية كعادته في االنتقاء يأخ ذ ممن يس ميهم الس لف م ا يتناس ب م ع‬
‫مذهبه‪ ..‬ومذهبه هنا هو الحط من قيمة الرسل‪ ..‬ولذلك اخت ار أن يفس ر تل ك اآلي ات‬
‫الكريمة تفسيرا متناسبا مع تصوره للنبوة‪.‬‬
‫وبما أن تفسيره لآلية عجيب لم يسبق إليه‪ ،‬فقد فص ل في ه في كتاب ه المعن ون‬
‫بهذا العنوان الطويل [تفسير آيات أشكلت على كث ير من العلم اء ح تى ال يوج د في‬
‫طائفة من كتب التفسير فيها القول الصواب بل اليوجد فيها اال ما ه و خط أ]‪ ،‬وه و‬
‫مطبوع ومحقق(‪.)3‬‬
‫وقد قدم لتفسير اآليات الكريمة بقوله‪( :‬هذا تفسير آيات أشكلت حتى ال يوج د‬
‫في طائفة من كتب التفسير إال ما ه و خط أ فيه ا‪ ،‬ومنه ا قول ه‪﴿ :‬لَنُ ْخ ِر َجنَّكَ يَ ُ‬
‫اش َعيْبُ‬
‫ك ِم ْن قَرْ يَتِنَ ا أَوْ لَتَ ُع ود َُّن فِي ِملَّتِنَ ا﴾ [األع راف‪ ]88 :‬اآلي ة وم ا في‬ ‫َوالَّ ِذينَ آ َمنُوا َم َع َ‬
‫معناها)(‪)4‬‬
‫ثم راح ي برز قدرات ه االس تنباطية في ه ذا الج انب‪ ،‬فق ال‪( :‬التحقي ق‪ :‬أن هللا‬
‫سبحانه إنما يصطفي لرسالته من كان خيار قوم ه ح تى في النس ب كم ا في ح ديث‬
‫هرقل‪ .‬ومن نشأ بين قوم مشركين جهال لم يكن عليه نقص إذا كان على مث ل دينهم‬
‫إذا كان معروفا بالصدق واألمانة وفعل ما يعرفون وجوبه وترك ما يعرفون قبح ه‪،‬‬
‫ث َر ُس واًل ﴾ [اإلس راء‪ ،]15 :‬فلم يكن ه ؤالء‬ ‫﴿و َم ا ُكنَّا ُم َع ِّذبِينَ َحتَّى نَ ْب َع َ‬ ‫قال تع الى‪َ :‬‬
‫مستوجبين العذاب‪ ،‬وليس في هذا ما ينفر عن القبول منهم؛ ولهذا لم ي ذكره أح د من‬
‫المشركين قادحا‪ .‬وقد اتفقوا على جواز بعثة رسول ال يعرف م ا ج اءت ب ه الرس ل‬
‫قبله من النبوة والشرائع‪ ،‬وأن من لم يقر بذلك بعد الرسالة فهو ك افر‪ ،‬والرس ل قب ل‬
‫وح ِم ْن أَ ْم ِر ِه َعلَى َم ْن‬‫الوحي ال تعلمه فضال عن أن تقر به‪ ..‬ق ال تع الى‪﴿ :‬ي ُْلقِي ال رُّ َ‬
‫ق﴾ [غافر‪)5( )]15 :‬‬ ‫يَ َشا ُء ِم ْن ِعبَا ِد ِه لِيُ ْن ِذ َر يَوْ َم التَّاَل ِ‬

‫‪ )(1‬تفسير البغوي (‪.)258-3/257‬‬


‫‪ )(2‬تفسير البغوي (‪)7/201‬‬
‫‪ )( 3‬حققه عبد العزيز بن محمد الخليفة‪ ،‬وطبع في مكتبة الرشد بالرياض‪ ،‬الطبعة األولى ‪ 1417 -‬هـ‪ ،‬وأصل الكتاب‬
‫رسالة نال بها الباحث درجة الماجستير في القرآن وعلومه من كلي ة أص ول ال دين ‪ -‬جامع ة اإلم ام محم د بن س عود‬
‫اإلسالمية في الرياض‪.‬‬
‫‪ )(4‬مجموع الفتاوى (‪)30 /15‬‬
‫‪ )(5‬مجموع الفتاوى (‪)30 /15‬‬

‫‪24‬‬
‫ومثلما داف ع عن المعص ية‪ ،‬وكونه ا كم ال في ح ق األنبي اء‪ ،‬راح ي دافع عن‬
‫كفرهم‪ ،‬مبينا أن ذلك أيضا كم ال في حقهم‪ ،‬فق ال‪( :‬والرس ول ال ذي ينش أ بين أه ل‬
‫الكفر الذين ال نبوة لهم يكون أكم ل من غ يره من جه ة تأيي د هللا ل ه ب العلم واله دى‬
‫وبالنصر والقهر كما كان نوح وإبراهيم)(‪)1‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وقال‪(:‬وكذلك من قال‪ :‬إن ه ال يبعث نبي ا إال من ك ان مؤمن ا قب ل النب وة‪ .‬ف إن‬
‫هؤالء توهموا أن الذنوب تكون نقصاً‪ ،‬وإن ت اب الت ائب منه ا‪ .‬وه ذا منش أ غلطهم‪،‬‬
‫فمن ظن أن صاحب ال ذنوب م ع التوب ة النص وح يك ون ناقص اً؛ فه و غال ط غلط ا ً‬
‫عظيماً‪ ،‬فإن الذم والعقاب الذي يلحق أهل الذنوب ال يلحق التائب منه ش يء أص الً؛‬
‫لكن إن قدم التوبة لم يلحقه شيء‪ ،‬وإن أخر التوبة فقد يلحقه ما بين ال ذنوب والتوب ة‬
‫من ال ذم والعق اب م ا يناس ب حال ه‪ .‬واألنبي اء ص لوات هللا عليهم وس المه ك انوا ال‬
‫يؤخرون التوبة؛ بل يسارعون إليها ويسابقون إليها؛ ال يؤخرون‪ ،‬وال يصرون على‬
‫الذنب‪ ،‬بل هم معص ومون من ذل ك‪ ،‬ومن أخ ر ذل ك زمن ا ً قليالً‪ ،‬كف ر هللا ذل ك بم ا‬
‫يبتليه به‪ ،‬كما فعل بذي النون ‪ ‬هذا على المشهور أن إلقاءه كان بعد النب وة؛ وأم ا‬
‫من قال‪ :‬إن إلقاءه كان قبل النبوة‪ .‬فال يحتاج إلى هذا‪ .‬والت ائب من الكف ر وال ذنوب‪،‬‬
‫قد يكون أفضل ممن لم يقع في الكفر والذنوب؛ وإذا كان قد يك ون أفض ل فاألفض ل‬
‫أحق بالنبوة ممن ليس مثله في الفضيلة‪ ،‬وقد أخ بر هللا عن إخ وة يوس ف بم ا أخ بر‬
‫من ذنوبهم‪ ،‬وهم األسباط الذين نبأهم هللا تعالى)(‪)2‬‬
‫وهكذا نرى ابن تيمية يعتبر إخوة يوس ف هم األس باط مخالف ا ب ذلك جم اهير‬
‫العلماء‪ ،‬ومن خالل موقفه هذا نرى تص وره للنب وة‪ ..‬ف إخوة يوس ف ال ذين يمثل ون‬
‫الحق د والظلم بأبش ع ص وره إلى الدرج ة ال تي ترك وا فيه ا أب اهم ك ل تل ك الس نين‬
‫الطوال ال يخبرونه عما فعلوه بأخيهم‪ ..‬وم ع ذل ك ال ي رى ابن تيمي ة ض يرا في أن‬
‫يكونوا من األنبياء‪.‬‬
‫وقال في موضع آخر‪( :‬فالمؤمنون يستغفرون مما كانوا تاركيه قب ل اإلس الم‬
‫من توحيد هللا وعبادته‪ ،‬وإن كان ذلك لم يأتهم ب ه رس ول بع د كم ا تق دم‪ .‬والرس ول‬
‫يستغفر من ترك ما كان تاركه‪ ،‬كما قال فيه‪َ ﴿ :‬ما ُك ْنتَ تَ ْد ِري َما ْال ِكتَابُ َواَل اإْل ِ ي َمانُ ﴾‬
‫[الشورى‪ ]52 :‬وإن كان ذلك لم يكن عليه عقاب)(‪)3‬‬
‫وقال في موضع آخر‪( :‬وأما قولهم‪ :‬إن شعيبا ً والرسل ما كانوا في ملتهم قط‪.‬‬
‫وهي ملة الكفر‪ ،‬فهذا في ه ن زاع مش هور‪ .‬وبك ل ح ال‪ ،‬فه ذا خ بر يحت اج إلى دلي ل‬
‫سمعي أو عقلي‪ ،‬وليس في أدلة الكتاب والسنة واإلجماع ما يخبر بذلك‪ ،‬وأما العقل‪:‬‬
‫ففيه نزاع‪ .‬والذي عليه نظ ار أه ل الس نة‪ :‬أن ه ليس في العق ل م ا يمن ع ذل ك‪ ..‬وأم ا‬
‫تحقيق القول فيه‪ :‬فاهلل سبحانه إنما يصطفي لرسالته من كان من خي ار قوم ه‪ ..‬ومن‬
‫نشأ بين قوم مشركين جهال‪ ،‬لم يكن علي ه منهم نقص وال بغض وال غضاض ة‪ ،‬إذا‬

‫‪ )(1‬مجموع الفتاوى (‪)31 /15‬‬


‫‪ )(2‬مجموع الفتاوى ‪.)210-10/309‬‬
‫‪ )(3‬مجموع الفتاوى ‪.)11/690‬‬

‫‪25‬‬
‫كان على مثل دينهم‪ ،‬إذا كان عندهم معروف ا ً بالص دق واألمان ة وفع ل م ا يعرف ون‬
‫وجوبه واجتناب ما يعرفون قبحه‪ ..‬فلم يكن هؤالء مستوجبين العذاب قب ل الرس الة‪،‬‬
‫وإن كان ال هو وال هم يعرفون ما أرسل ب ه‪ .‬وف رق بين من ي رتكب م ا علم قبح ه‪،‬‬
‫وبين من يفعل ما لم يعرف‪ ،‬فإن هذا الثاني ال يذمونه‪ ،‬وال يعيبون علي ه‪ ،‬وال يك ون‬
‫فعله مما هم عليه منفراً عنه بخالف األول)(‪)1‬‬
‫وما ذهب إليه ابن تيمية هو ما ذهب إليه خلفه من بعده‪ ،‬فقد صار ه ذا الق ول‬
‫هو المشهور عندهم‪،‬وكيف ال يكون مشهورا‪ ،‬وابن تيمية يقول به‪.‬‬
‫ومن أمثلة ذل ك م ا قال ه ص الح آل الش يخ في ش رحه للطحاوي ة‪ ،‬المس مى بـ‬
‫(إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل)‪ ،‬فقد قال فيه‪( :‬القس م الث اني‪ ،‬من جه ة‬
‫أن يكون وا على‬‫الذنوب‪ :‬الذنوب أقسام‪ :‬فمنها الكفر وجائز في حق األنبياء والرس ل ْ‬
‫غير التوحيد قبل الرسالة والنبوة‪ ..‬والثاني من جهة الذنوب‪ ،‬فالذنوب قس مان كب ائر‬
‫وصغائر‪ :‬والكبائر جائزة فيما قبل النبوة‪ ،‬ممنوعة فيما بع د النب وة والرس الة؛ فليس‬
‫في الرسل من اقترف كبيرة بعد النبوة والرس الة أو تَقَ َّح َمه ا عليهم الص الة والس الم‬
‫بخالف من أجاز ذلك من أهل البدع)(‪)2‬‬
‫ي قولك‪ :‬النبي قد يكون على غ ير التوحي د قب ل‬ ‫وسئل هذا السؤال‪( :‬أشكل عل َّ‬
‫الرسالة؟)‪ ،‬فأجاب بقوله‪( :‬نعم النبي قد يك ون على غ ير ذل ك‪ ،‬فيص طفيه هللا ‪ -‬ع ز‬
‫وجل ‪ -‬وينبهه؛ يعني ما فيه مشكل في ذلك‪ ،‬قد يكون غافال)(‪)3‬‬
‫وابن تيمية ومن معه من السلفية لم يستثنوا أح دا من ه ذا ـ كم ا ذكرن ا ـ إال‬
‫أنبياء بني إسرائيل‪ ..‬أما غيرهم فلم يستثنونهم‪ ..‬ح تى رس ول هللا ‪ ‬لم يس تثنوه من‬
‫ذلك الحكم الخطير‪ ..‬وبذلك قضى رسول هللا ‪ ‬عن دهم م ا يق رب من ثل ثي عم ره‬
‫على الشرك والضاللة‪.‬‬
‫ولصعوبة طرح مثل هذه المسائل‪ ،‬فإن ابن تيمية يحتال لها بص نوف الحي ل‪،‬‬
‫ليفهم مراده من غير تصريح مباش ر من ه‪ ،‬ومن األمثل ة على ذل ك أن ه ي ردد كث يرا‬
‫حديثا يدل بظاهره على أن زيدا بن عمرو بن نفيل عم عمر بن الخط اب ك ان أك ثر‬
‫ورع ا عن الش رك وأس بابه من رس ول هللا ‪ ،‬فق د روى في (اقتض اء الص راط‬
‫المستقيم لمخالفة أص حاب الجحيم) وغ يره من كتب ه أن رس ول هللا ‪ ‬لقي زي د بن‬
‫عمرو بن نفيل بأسفل بلدح‪ ،‬وذلك قب ل أن ي نزل على رس ول هللا ‪ ‬ال وحي‪ ،‬فق دم‬
‫إليه رسول هللا ‪ ‬سفرة في لحم‪ .‬فأبى أن يأكل منها‪ ،‬ثم قال زيد‪( :‬إني ال آك ل مم ا‬
‫تذبحون على أنصابكم وال آكل إال مما ذكر اسم هللا عليه)(‪)4‬‬
‫بل ويضيف إليها كل الروايات التي ورد بها الحديث ليؤك د المع نى‪ ،‬فيق ول‪:‬‬
‫(وفي رواية له‪ :‬وإن زيد بن عمرو بن نفيل كان يعيب على قريش ذبائحهم‪ ،‬ويقول‪:‬‬

‫‪ )(1‬تفسير آيات أشكلت ‪.)193-1/178‬‬


‫‪ )(2‬إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل‪ ،‬ص‪.84 :‬‬
‫‪ )(3‬إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل (ص‪.86 :‬‬
‫‪ )(4‬اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (‪)63 /2‬‬

‫‪26‬‬
‫الشاة خلقها هللا‪ ،‬وأنزل له ا من الس ماء الم اء‪ ،‬وأنبت له ا من األرض الكأل‪ ،‬ثم أنتم‬
‫تذبحونها على غير اسم هللا؟!) إنكارا لذلك وإعظاما له) (‪)1‬‬
‫بل إنه في كتابه (الفتاوى الكبرى) يدافع عن وقوع الشرك من رسول هللا ‪‬‬
‫بعد البعثة‪ ،‬فقد قال‪( :‬وهذه العص مة الثابت ة لألنبي اء هي ال تي يحص ل به ا مقص ود‬
‫النبوة والرسالة؛ فإن النبي هو المنبئ عن هللا‪ ،‬والرسول هو الذي أرسله هللا تع الى‪،‬‬
‫وكل رسول نبي وليس ك ل ن بي رس وال‪ ،‬والعص مة فيم ا يبلغون ه عن هللا ثابت ة فال‬
‫يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين‪ ..‬ولكن هل يص در م ا يس تدركه هللا فينس خ م ا‬
‫يلقي الشيطان ويحكم هللا آياته؟ هذا فيه قوالن‪ .‬والم أثور عن الس لف يواف ق الق رآن‬
‫بذلك‪ .‬والذين منعوا ذلك من المتأخرين طعنوا فيما ينقل من الزيادة في س ورة النجم‬
‫بقوله‪ :‬تلك الغراني ق العلى‪ ،‬وإن ش فاعتهن ل ترتجى‪ ،‬وق الوا‪ :‬إن ه ذا لم يثبت‪ ،‬ومن‬
‫علم أنه ثبت‪ :‬قال هذا ألقاه الشيطان في مسامعهم ولم يلفظ به الرسول‪ .‬ولكن السؤال‬
‫وارد على هذا التقدير أيضا‪ .‬وقالوا في قوله‪﴿ :‬إِاَّل إِ َذا تَ َمنَّى أَ ْلقَى ال َّش ْيطَانُ فِي أُ ْمنِيَّتِ ِه﴾‬
‫[الحج‪ ]52 :‬ه و ح ديث النفس‪ .‬وأم ا ال ذين ق رروا م ا نق ل عن الس لف فق الوا ه ذا‬
‫﴿و َم ا أَرْ َس ْلنَا ِم ْن قَ ْبلِ كَ‬ ‫منقول نقال ثابتا ال يمكن القدح فيه والقرآن يدل علي ه بقول ه‪َ :‬‬
‫الش ْيطَانُ‬ ‫ُول َواَل نَبِ ٍّي إِاَّل إِ َذا تَ َمنَّى أَ ْلقَى ال َّش ْيطَانُ فِي أُ ْمنِيَّتِ ِه فَيَ ْن َس ُخ هَّللا ُ َما ي ُْلقِي َّ‬ ‫ِم ْن َرس ٍ‬
‫الش ْيطَانُ فِ ْتنَ ةً لِلَّ ِذينَ فِي‬ ‫ثُ َّم يُحْ ِك ُم هَّللا ُ آيَاتِ ِه َوهَّللا ُ َعلِي ٌم َح ِكي ٌم (‪ )52‬لِيَجْ َع َل َم ا ي ُْلقِي َّ‬
‫ق بَ ِعي ٍد (‪َ )53‬ولِيَ ْعلَ َم الَّ ِذينَ‬ ‫اس يَ ِة قُلُ وبُهُ ْم َوإِ َّن الظَّالِ ِمينَ لَفِي ِش قَا ٍ‬ ‫قُلُ وبِ ِه ْم َم َرضٌ َو ْالقَ ِ‬
‫ق ِم ْن َربِّكَ فَي ُْؤ ِمنُوا بِ ِه فَتُ ْخبِتَ لَهُ قُلُ وبُهُ ْم َوإِ َّن هَّللا َ لَهَ ا ِد الَّ ِذينَ آ َمنُ وا‬ ‫أُوتُوا ْال ِع ْل َم أَنَّهُ ْال َح ُّ‬
‫ص َرا ٍط ُم ْس تَقِ ٍيم (‪[ ﴾)54‬الحج‪ ]54 - 52 :‬فق الوا اآلث ار في تفس ير ه ذه اآلي ة‬ ‫إِلَى ِ‬
‫معروفة ثابتة في كتب التفسير‪ ،‬والحديث‪ ،‬والقرآن يوافق ذلك فإن نسخ هللا لم ا يلقي‬
‫الشيطان وإحكامه آياته إنما يكون لرفع ما وقع في آيات ه‪ ،‬وتمي يز الح ق من الباط ل‬
‫حتى ال تختلط آياته بغيرها‪ .‬وجعل ما ألقى الشيطان فتنة لل ذين في قل وبهم م رض‪،‬‬
‫والقاسية قلوبهم إنم ا يك ون إذا ك ان ذل ك ظ اهرا يس معه الن اس ال باطن ا في النفس‬
‫والفتنة التي تحصل بهذا النوع من النسخ من جنس الفتنة التي تحصل بالنوع اآلخر‬
‫من النسخ)(‪)2‬‬
‫وهكذا ن رى ابن تيمي ة يعت بر نط ق الرس ول ‪ ‬بالش رك ق ول الس لف وأن ه‬
‫السنة‪ ،‬بل إنه يراه من كمال الرسول ‪ ‬ومن أدلة صدقه‪ ،‬فيقول معقب ا على كالم ه‬
‫السابق‪( :‬وهذا النوع أدل على صدق الرسول ‪ ‬وبعده عن الهوى من ذلك الن وع‪،‬‬
‫فإنه إذا كان يأمر بأمر ثم يأمر بخالفه وكالهما من عند هللا وه و مص دق في ذل ك‪،‬‬
‫فإذا قال عن نفسه إن الثاني ه و ال ذي من عن د هللا وه و الناس خ وإن ذل ك المرف وع‬
‫الذي نسخه هللا ليس كذلك كان أدل على اعتماده للصدق وقوله الحق)(‪)3‬‬
‫وهذا الذي قال به ابن تيمية في حق رسول هللا ‪ ‬ـ وتبع ه علي ه أتباع ه من‬

‫‪ )(1‬اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (‪)63 /2‬‬


‫‪ )(2‬الفتاوى الكبرى البن تيمية (‪)256 /5‬‬
‫‪ )(3‬الفتاوى الكبرى البن تيمية (‪.)257 /5‬‬

‫‪27‬‬
‫السلفية ـ يخالف ما عليه الحنابلة‪ ،‬بل يخالف ما عليه اإلمام أحمد نفسه ال ذي يعت بره‬
‫ابن تيمي ة ناص را للس نة وإمام ا له ا‪ ،‬وق د ق ال الحاف ظ ابن رجب ـ وه و من أئم ة‬
‫الحنابلة‪ ،‬ب ل من الس لفية المعت برين ـ في كتاب ه (لط ائف المع ارف)‪( :‬وق د اس تدل‬
‫اإلمام أحمد رضي هللا عنه بح ديث (إني عن د هللا في أم الكت اب لخ اتم النب يين‪ ،‬وإن‬
‫آدم ‪ ‬لمنجدل في طينت)‪ ..‬على أن النبي ‪ ‬لم ي زل على التوحي د م ذ نش أ ور َّد‬
‫بذلك على من زعم غير ذلك‪ .‬قال الحافظ‪ :‬ب ل يس تدل ب ذلك على أن ه ‪ ‬ول د نبي اً‪،‬‬
‫ص لب آدم فك ان نبي ا ً‬ ‫فإن نبوته وجبت له من حين أخذ الميثاق‪ ،‬حيث اس تخرج من ُ‬
‫من حينئذ‪ ،‬لكن كانت مدة خروجه إلى الدنيا متأخرة عن ذل ك‪ ،‬وذل ك ال يمن ع كون ه‬
‫نبيا ً قبل خروج ه كمن ي ولى والي ة وي ؤمر بالتص رف فيه ا في زمن مس تقبل فحكم‬
‫الوالية ثابت له من حين واليته وإن كان تصرفه متأخراً إلى حين مجيء الوقت)(‪)1‬‬
‫ثم نقل عن حنبل قوله‪( :‬قلت ألبي عبد هللا ‪ -‬يعني اإلمام أحمد ‪ :-‬من زعم أن‬
‫النبي ‪ ‬كان على دين قومه قب ل أن يبعث؟ ق ال‪ :‬ه ذا ق ول س وء‪ ،‬ينبغي لص احب‬
‫هذه المقالة أن يحذر كالمه وال يجالس‪ .‬قلت‪ :‬إن جارنا الناقد أبا العب اس يق ول ه ذه‬
‫المقال ة‪ .‬ق ال‪ :‬قاتل ه هللا‪ ،‬وأي ش يء أبقى إذا زعم أن رس ول هللا ‪ ‬ك ان على دين‬
‫قومه وهم يعبدون األصنام؟ قال هللا تعالى مخبراً عن عيسى ‪َ :‬و ُمبَ ِّشراً بِ َر ُس و ٍل‬
‫يَأْتِي ِم ْن بَ ْع ِدي ا ْس ُمهُ أَحْ َم ُد [الصف‪ .]6:‬ثم قال اإلمام أحم د‪ :‬م اذا يح دث الن اس من‬
‫الكالم‪ ،‬ه ؤالء أص حاب الكالم من أحب الكالم لم يفلح‪ ،‬س بحان هللا له ذا الق ول‪،‬‬
‫واحتج اإلمام أحمد برؤيا أمه النور عند والدته حتى أضاءت له قصور الشام‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫وليس ذلك عندما ولدت رأت ذل ك‪ .‬وقي ل‪ :‬وقب ل أن يبعث ك ان ط اهراً مطه راً من‬
‫األوثان‪ ،‬ثم قال اإلمام أحمد‪ :‬احذروا الكالم فإن أصحاب الكالم ال يؤول أم رهم إلى‬
‫خير‪ .‬أخرجه أبو بكر عبد العزيز في كتاب السنة) (‪)2‬‬
‫ثم عقب ابن رجب على ق ول أحم د بقول ه‪( :‬وم راد اإلم ام أحم د االس تدالل‬
‫بتقديم البشارة بنبوته من األنبياء من قبل خروجه إلى الدنيا ووالدته‪ ،‬وهذا هو ال ذي‬
‫يدل عليه حديث العرباض‪ .‬انتهى كالم الحافظ ابن رجب ملخص اً‪ .‬وق د ص رح في ه‬
‫بنص اإلمام أن النبي صلى هللا عليه وسلم ولد على اإلسالم) (‪)3‬‬
‫وهكذا نرى الف رق الكب ير بين رؤي ة إم ام الحنابل ة اإلم ام أحم د ورؤي ة ابن‬
‫تيمية‪ ،‬بل إن السلفية لو صدقوا مع أنفسهم‪ ،‬وطبقوا مقولة اإلمام أحمد مع ابن تيمي ة‬
‫كما يطبقونها مع الجهمية لزال عنهم الكثير من ذلك التعصب والكبرياء التي نش أت‬
‫فيهم بسبب غرقهم في محيط ابن تيمية أو في ساحله‪ ،‬كما يذكر عائض القرني‪.‬‬
‫باإلضافة إلى هذا نرى السلفية يروون في رواياتهم ما ي بين أن آدم ‪ ‬وق ع‬
‫اح َد ٍة َو َج َع َل ِم ْنهَا َزوْ َجهَا‬‫س َو ِ‬ ‫في الشرك بعد نزوله لألرض‪﴿ ،‬ه َُو الَّ ِذي خَ لَقَ ُك ْم ِم ْن نَ ْف ٍ‬
‫ت َد َع َوا هَّللا َ َربَّهُ َم ا لَئِ ْن‬‫َّت بِ ِه فَلَ َّما أَ ْثقَلَ ْ‬
‫ت َح ْماًل خَ فِيفًا فَ َمر ْ‬
‫لِيَ ْس ُكنَ إِلَ ْيهَا فَلَ َّما تَ َغ َّشاهَا َح َملَ ْ‬

‫‪ )(1‬لطائف المعارف البن رجب (ص‪)82 :‬‬


‫‪ )(2‬لطائف المعارف البن رجب (ص‪)82 :‬‬
‫‪ )(3‬لطائف المعارف البن رجب (ص‪)82 :‬‬

‫‪28‬‬
‫صالِحًا لَنَ ُكون ََّن ِمنَ ال َّشا ِك ِرينَ (‪ )189‬فَلَ َّما آتَاهُ َما َ‬
‫صالِحًا َج َعاَل لَ هُ ُش َر َكا َء فِي َم ا‬ ‫آتَ ْيتَنَا َ‬
‫ْ‬ ‫هَّللا‬
‫آتَاهُ َما فَتَ َعالَى ُ َع َّما يُش ِر ُكونَ ﴾ [األعراف‪]190 ،189 :‬‬
‫فق د ذك روا في تفس يرها أن الم راد ب النفس الواح دة‪ :‬نفس آدم ‪ ،‬وبقول ه‪:‬‬
‫﴿ َو َج َع َل ِم ْنهَ ا َزوْ َجهَ ا﴾ ح واء‪ ،‬ورووا في ذل ك ح ديثا مرفوع ا إلى رس ول هللا ‪‬‬
‫يقول‪( :‬لما حملت حواء‪ ،‬طاف بها إبليس‪ ،‬وكان ال يعيش لها ولد‪ ،‬فقال‪ :‬س ميه عب د‬
‫الحارث‪ ،‬فسمته‪ ،‬فعاش‪ ،‬وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره)(‪)1‬‬
‫ب ل رووا في ذل ك ح ديثا آخ ر مرفوع ا إلى الن بي ‪ ‬يق ول في ه‪( :‬خ دعهما‬
‫مرتين‪ ،‬خدعهما في الجنة‪ ،‬وخدعهما في األرض)(‪)2‬‬
‫والعجيب أن رجال مث ل األلوس ي‪ ،‬وم ع كون ه من الص وفية‪ ،‬ولكن نتيج ة‬
‫اختالطه مع أهل الحديث‪ ،‬وتعظيمه لهم‪ ،‬أو مهادنت ه لهم‪ ،‬وق ع فيم ا وقع وا في ه من‬
‫اإلساءة لألنبياء عليهم الصالة والسالم‪ ،‬فقد قال في تفسيره‪( :‬وهذه اآلي ة عن دي من‬
‫المشكالت‪ ،‬وللعلماء فيها كالم طويل‪ ،‬ونزاع عريض‪ ،‬وما ذكرناه‪ ،‬هو ال ذي يش ير‬
‫إليه الجبائي‪ ،‬وهو مما ال بأس به بع د إغض اء العين عن مخالفت ه للمروي ات‪ ..‬وق د‬
‫يقال‪ :‬أخرج ابن جرير عن الحبر‪ :‬أن اآلي ة ن زلت في تس مية آدم‪ ،‬وح واء ول ديهما‬
‫بعبد الحارث‪ ،‬ومثل ذلك ال يكاد يقال من قب ل ال رأي‪ ،‬وه و ظ اهر في ك ون الخ بر‬
‫تفسيرا لآلية‪ ..‬وأنت قد علمت أن ه إذا ص ح الح ديث فه و م ذهبي‪ ،‬وأراه ق د ص ح‪،‬‬
‫ول ذلك أحجم كميت قلمي عن الج ري‪ ،‬في مي دان التأوي ل‪ ،‬كم ا ج رى غ يره وهللا‬
‫تعالى الموفق للصواب)(‪)3‬‬
‫ولست أدري ـ وهو العالم المحقق ـ كيف يأخذ عقيدة من حديث ورد باآلحاد‪،‬‬
‫وفيه ما فيه من آثار اإلسرائيليات‪.‬‬
‫ولو أنه طبق مذهب أهل الحديث الذين تأثر بهم‪ ،‬وقرأ ما قال ابن كث ير في ه‪،‬‬
‫لعدل عن ذلك الورع البارد‪ ،‬فقد ق ال ابن كث ير بع د إي راده للح ديث‪( :‬ك ان الحس ن‬
‫يق ول‪ :‬هم اليه ود والنص ارى‪ ،‬رزقهم هللا أوالدا‪ ،‬فه ودوا ونص روا‪ ،‬وه ذه أس انيد‬
‫صحيحة عن الحس ن‪ ،‬رحم ه هللا‪ ،‬أن ه فس ر اآلي ة ب ذلك‪ ،‬وه و من أحس ن التفاس ير‬
‫وأولى ما حملت عليه اآلية‪ ،‬ولو كان هذا الحديث عنده محفوظا عن رسول هللا ‪،‬‬
‫لما عدل عنه ه و وال غ يره‪ ،‬وال س يما م ع تق واه هلل وورع ه‪ ،‬فه ذا ي دلك على أن ه‬
‫موقوف على الص حابي‪ ،‬ويحتم ل أن ه تلق اه من بعض أه ل الكت اب‪ ،‬من آمن منهم‪،‬‬
‫مثل‪ :‬كعب أو وهب بن منبه وغيرهما)(‪)4‬‬
‫ومثل تفسير السلفية لتلك اآلية الكريمة نجد تفسيرهم لما قصه الق رآن الك ريم‬
‫من قص ة إب راهيم ‪ ‬م ع الك واكب‪ ،‬فم ع كونه ا واض حة في أنه ا أس لوب من‬
‫األساليب التي كان يمارس ها إب راهيم ‪ ‬م ع قوم ه ل دعوتهم‪ ..‬مثلم ا ذك ر الق رآن‬
‫‪ )(1‬أحمد ‪ ،11 / 5‬والحاكم ‪ 545 / 2‬وصححه‪ ،‬ووافقه ال ذهبي‪ ،‬والط بري رقم (‪ ،)15513‬وق ال الترم ذي‪ :‬ه ذا‬
‫حديث حسن غريب‪.‬‬
‫‪ )(2‬تفسير القرطبي‪ :‬ج ‪ 7‬ص ‪..338‬‬
‫‪ )(3‬تفسير اآللوسي‪ :‬ج ‪ 9‬ص ‪..142 ،139‬‬
‫‪ )(4‬تفسير ابن كثير ت سالمة (‪.)527 /3‬‬

‫‪29‬‬
‫الكريم ذلك في قصته مع عبدة األوثان‪ ،‬كما قال تعالى‪ ﴿ :‬قَالُوا َم ْن فَ َع َل هَ َذا بِآلِهَتِنَ ا‬
‫إِنَّهُ لَ ِمنَ الظَّالِ ِمينَ (‪ )59‬قَالُوا َس ِم ْعنَا فَتًى يَ ْذ ُك ُرهُ ْم يُقَا ُل لَهُ إِب َْرا ِهي ُم (‪ )60‬قَالُوا فَأْتُوا بِ ِه‬
‫اس لَ َعلَّهُ ْم يَ ْشهَ ُدونَ (‪ )61‬قَالُوا أَأَ ْنتَ فَ َع ْلتَ هَ َذا بِآلِهَتِنَ ا يَ اإِ ْب َرا ِهي ُم (‪)62‬‬ ‫َعلَى أَ ْعيُ ِن النَّ ِ‬
‫قَا َل بَلْ فَ َعلَهُ َكبِي ُرهُ ْم هَ َذا فَاسْأَلُوهُ ْم إِ ْن َكانُوا يَ ْن ِطقُونَ (‪ )63‬فَ َر َجعُوا إِلَى أَ ْنفُ ِس ِه ْم فَقَالُوا‬
‫إِنَّ ُك ْم أَ ْنتُ ُم الظَّالِ ُمونَ (‪ )64‬ثُ َّم نُ ِكسُوا َعلَى ُر ُءو ِس ِه ْم لَقَ ْد َعلِ ْمتَ َما هَؤُاَل ِء يَ ْن ِطقُونَ (‪)65‬‬
‫ض رُّ ُك ْم (‪[ ﴾)66‬األنبي اء‪- 59 :‬‬ ‫قَ ا َل أَفَتَ ْعبُ ُدونَ ِم ْن د ِ‬
‫ُون هَّللا ِ َم ا اَل يَ ْنفَ ُع ُك ْم َش ْيئًا َواَل يَ ُ‬
‫‪]66‬‬
‫لكن كثيرا من السلفية فهموا منه ا أن إب راهيم ‪ ‬ك ان من عب دة الك واكب‪،‬‬
‫ومن بينهم الط بري ال ذي حكى أق وال ال ذين فس روا اآلي ات الكريم ة وف ق الق ول‬
‫بعصمة األنبياء عن الكفر‪ ،‬فقال‪( :‬وأنكر قوم من غير أهل الرواية هذا الق ول ال ذي‬
‫روي عن ابن عباس وعمن روي عنه‪ ،‬من أن إب راهيم ق ال للك وكب أو للقم ر‪:‬ه ذا‬
‫وقت من‬ ‫ٌ‬ ‫بي ابتعث ه بالرس الة‪ ،‬أتى علي ه‬ ‫ربي‪ ،‬وق الوا‪ :‬غ ير ج ائز أن يك ون هلل ن ٌّ‬
‫األوقات وهو بال ٌغ إال وهو هلل موح ٌد‪ ،‬وبه عارف‪ ،‬ومن كل ما يعب د من دون ه ب رئ‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ولو ج از أن يك ون ق د أتى علي ه بعض األوق ات وه و ب ه ك افر‪ ،‬لم يج ز أن‬
‫يختصه بالرسالة‪ ،‬ألنه ال معنى فيه إال وفي غيره من أهل الكفر به مثله‪ ،‬وليس بين‬
‫هللا وبين أحد من خلقه مناسبة‪ ،‬فيحابيه باختصاصه بالكرامة‪ .‬قالوا‪ :‬وإنم ا أك رم من‬
‫الثواب بما أثابه من الكرامة‪ .‬وزعم وا‬ ‫َ‬ ‫أكرم منهم لفضله في نفسه‪ ،‬فأثابه الستحقاقه‬
‫خبر هللا عن قيل إبراهيم عند رؤيته الك وكب أو القم ر أو الش مس‪ :‬ه ذا ربي‪ ،‬لم‬ ‫أن َ‬
‫يكن لجهله بأن ذلك غير جائز أن يكون ربّه‪ ،‬وإنما قال ذلك على وج ه اإلنك ار من ه‬
‫أن يكون ذلك ربه‪ ،‬وعلى العيب لقومه في عبادتهم األصنام‪ْ ،‬إذ كان الكوكبُ والقم ُر‬
‫وأبهج من األصنام‪ ،‬ولم تكن مع ذلك معب ودة‪ ،‬وك انت آفل ةً‬ ‫َ‬ ‫والشمسُ أضوأ وأحسنَ‬
‫غر منه ا في الجس م‪،‬‬ ‫زائلة غير دائمة‪ ،‬واألصنام التي [هي] دونها في الحسن وأص َ‬
‫ق أن ال تكون معبودة)(‪)1‬‬ ‫أح ُّ‬
‫ثم علق على هذا القول وغيره بقوله‪( :‬وفي خ بر هللا تع الى عن قي ل إب راهيم‬
‫الض الِّينَ ﴾ [األنع ام‪،]77 :‬‬ ‫حين أف ل القم ر‪﴿ :‬لَئِ ْن لَ ْم يَ ْه ِدنِي َربِّي أَل َ ُك ون ََّن ِمنَ ْالقَ وْ ِم َّ‬
‫واب من الق ول في‬ ‫وأن الص َ‬ ‫الدلي ُل على خطأ هذه األقوال التي قاله ا ه ؤالء الق وم‪ّ ،‬‬
‫ر بخبر هللا تعالى الذي أخبر به عنه‪ ،‬واإلعراض عما عداه) (‪)2‬‬ ‫ذلك‪ ،‬اإلقرا ُ‬
‫ال‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ال إِب َْرا ِهي ُم َربِّ أ ِرنِي ك ْيفَ تحْ ِي ال َموْ تَى ق َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫﴿وإِذ ق َ‬ ‫وهكذا فسروا قوله تعالى‪َ :‬‬
‫ص رْ ه َُّن إِلَ ْي كَ ث َّمُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫ال فخ ذ أرْ بَ َع ة ِمنَ الط ْي ِر ف ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ط َمئِ َّن قَ ْلبِي ق َ‬
‫َ‬ ‫أَ َولَ ْم تُ ْؤ ِم ْن قَا َل بَلَى َولَ ِك ْن لِيَ ْ‬
‫ْ‬
‫َزي ٌز َح ِكي ٌم ﴾‬ ‫اجْ َعلْ َعلَى ُك ِّل َجبَ ٍل ِم ْنه َُّن ج ُْز ًءا ثُ َّم ا ْد ُعه َُّن يَأتِينَ كَ َس ْعيًا َوا ْعلَ ْم أَ َّن هَّللا َ ع ِ‬
‫[البقرة‪]260 :‬‬
‫فقد رووا أن إب راهيم ‪ ‬حص ل ل ه ش ك في ق درة هللا على إحي اء الم وتى‪،‬‬
‫ولهذا أراد أن يتأكد‪ ،‬وقد رجح الطبري هذا كما رجحه الكثير من السلفية‪ ،‬بناء على‬
‫‪ )(1‬تفسير الطبري (‪)481 /11‬‬
‫‪ )(2‬تفسير الطبري (‪)485 /11‬‬

‫‪30‬‬
‫حديث يرفعونه إلى رسول هللا ‪ ‬يقول في ه‪( :‬نحن أح ق بالش ك من إب راهيم‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫رب أرني كيف تحيي الموتى‪ ،‬قال أولم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي)(‪)1‬‬
‫ب ل إنهم ي ذكرون في ه ذا أم را عملي ا خط يرا‪ ،‬وه و أن الش ك ال ي ؤثر في‬
‫اإليمان‪ ،‬ولذلك يعتبرون أن حكاية هللا لشك إبراهيم ‪ ‬وعدم عقوبت ه علي ه أرجى‬
‫آية في القرآن الكريم‪ ،‬وقد رووا في ذلك عن سعيد بن المس يب‪ ،‬ق ال‪ :‬اتع د عب د هللا‬
‫بن عباس وعب د هللا بن عم رو أن يجتمع ا‪ .‬ق ال‪ :‬ونحن يومئ ذ ش ببة‪ ،‬فق ال أح دهما‬
‫لص احبه‪ :‬أي آي ة في كت اب هللا أرجى له ذه األم ة؟ فق ال عب د هللا بن عم رو‪{ :‬قُ لْ‬
‫وب‬ ‫ي الَّ ِذينَ أَ ْس َرفُوا َعلَى أَ ْنفُ ِس ِه ْم اَل تَ ْقنَطُ وا ِم ْن َرحْ َم ِة هَّللا ِ إِ َّن هَّللا َ يَ ْغفِ ُر ال ُّذنُ َ‬ ‫يَا ِعبَ ا ِد َ‬
‫َّحي ُم} [الزم ر‪ ،]53 :‬فق ال ابن عب اس‪ :‬أم ا إن كنت تق ول‪:‬‬ ‫ْ‬
‫َج ِميعًا إِنَّهُ هُ َو ال َغفُو ُر الر ِ‬
‫﴿وإِذ قَ َ‬
‫ال‬ ‫ْ‬ ‫إنه ا‪ ،‬وإن أرجى منه ا له ذه األم ة ق ول إب راهيم ص لى هللا علي ه وس لم‪َ :‬‬
‫ْ‬
‫ط َمئِ َّن قَلبِي ﴾‬‫ال بَلَى َولَ ِك ْن لِيَ ْ‬ ‫ال أَ َولَ ْم تُ ْؤ ِم ْن قَ َ‬
‫إِ ْب َرا ِهي ُم َربِّ أَ ِرنِي َك ْيفَ تُحْ ِي ْال َم وْ تَى قَ َ‬
‫[البقرة‪)2( ]260 :‬‬
‫وقد رجح الطبري ه ذا الق ول‪ ،‬فق ال تعقيب ا على الرواي ات ال تي أورده ا في‬
‫ذلك‪( :‬وأولى هذه األقوال بتأويل اآلي ة‪ ،‬م ا ص ح ب ه الخ بر عن رس ول هللا ‪ ‬أن ه‬
‫قال‪( :‬نحن أحق بالشك من إبراهيم‪ ،‬قال‪ :‬رب أرني كي ف تح يي الم وتى؟ ق ال أولم‬
‫تؤمن؟)‪ ،‬وأن تكون مس ألته رب ه م ا س أله أن يري ه من إحي اء الم وتى لع ارض من‬
‫الشيطان عرض في قلبه‪ ،‬كالذي ذكرن ا عن ابن زي د آنف ا‪ :‬من أن إب راهيم لم ا رأى‬
‫الحوت الذي بعضه في البر وبعضه في البحر‪ ،‬قد تعاوره دواب البر ودواب البح ر‬
‫وطير الهواء‪ ،‬ألقى الشيطان في نفسه فقال‪ :‬م تى يجم ع هللا ه ذا من بط ون ه ؤالء؟‬
‫فسأل إبراهيم حينئذ ربه أن يريه كيف يحيي الم وتى‪ ،‬ليع اين ذل ك عيان ا‪ ،‬فال يق در‬
‫بعد ذلك الشيطان أن يلقي في قلبه مثل الذي ألقي فيه عن د رؤيت ه م ا رأى من ذل ك‪.‬‬
‫فقال له ربه‪( :‬أولم تؤمن)؟ يقول‪ :‬أولم تصدق يا إبراهيم بأني على ذلك ق ادر؟ ق ال‪:‬‬
‫بلى يا رب! لكن سألتك أن تريني ذلك ليطمئن قلبي‪ ،‬فال يق در الش يطان أن يلقي في‬
‫قلبي مثل الذي فعل عند رؤيتي هذا الحوت)(‪)3‬‬
‫وبهذا أعطى السلفية المبرر لكل من يطلب الشواهد الحسية ليؤمن‪ ،‬كم ا فع ل‬
‫بنو إسرائيل عندما طلبوا أن يروا هللا جهرة‪..‬‬
‫وهك ذا يق ال في بعض اآلي ات ال تي وردت في ح ق رس ول هللا ‪ ‬كقول ه‬
‫ضااًّل فَهَدَى﴾ [الضحى‪ ،]7 ،6 :‬وقوله‪:‬‬ ‫ك يَتِي ًما فَآ َوى (‪َ )6‬و َو َجدَكَ َ‬ ‫تعالى‪ ﴿ :‬أَلَ ْم يَ ِج ْد َ‬
‫ك رُو ًح ا ِم ْن أَ ْم ِرنَ ا َم ا ُك ْنتَ تَ ْد ِري َم ا ْال ِكتَ ابُ َواَل اإْل ِ ي َم انُ َولَ ِك ْن‬ ‫ك أَوْ َح ْينَا إِلَ ْي َ‬ ‫﴿ َو َك َذلِ َ‬
‫َج َع ْلنَاهُ نُورًا نَ ْه ِدي بِ ِه َم ْن نَ َشا ُء ِم ْن ِعبَا ِدنَا﴾ [الشورى‪ ،]52 :‬وقوله‪َ ﴿ :‬و َما ُك ْنتَ تَرْ جُو‬
‫ك ْال ِكتَ ابُ إِاَّل َرحْ َم ةً ِم ْن َربِّكَ فَاَل تَ ُك ون ََّن ظَ ِه يرًا لِ ْل َك افِ ِرينَ ﴾ [القص ص‪:‬‬ ‫أَ ْن ي ُْلقَى إِلَ ْي َ‬
‫‪]86‬‬

‫‪)(1‬رواه البخاري (‪ )39 /6 ،179 /4‬ومسلم (ص‪ )1839 ،133 /‬وابن ماجة (ح‪ )4026 /‬وأحمد (‪)326 /2‬‬
‫‪ )(2‬تفسير الطبري (‪.)489 /5‬‬
‫‪ )(3‬تفسير الطبري (‪)491 /5‬‬

‫‪31‬‬
‫فهذه اآليات الكريمة‪ ،‬والتي يستعملها السلفية للتهوين من أمر النب وة‪ ،‬ال ت دل‬
‫على مقصودهم‪ ..‬ولو في ظاهر ألفاظها‪ ..‬ولكنهم ـ كم ا ذكرن ا ـ يعت برون الرواي ة‬
‫عن سلفهم هي األصل الذي يفهم على ضوئه القرآن الكريم‪ ،‬فالقرآن ـ عند الس لفية ـ‬
‫ال يصح فهمه إال برؤية السلف‪ ..‬وقد عرفنا من هم سلفهم‪.‬‬
‫أم ا الق ائلون بعص مة األنبي اء‪ ،‬فق د طبق وا على اآلي ات الكريم ة غيره ا من‬
‫اآليات‪ ،‬واستخرجوا منها آللئ من المعرفة تليق بأولئك الجواهر المقدسة‪.‬‬
‫ومن أحسن ما قيل في ذلك ما ذكره العالمة الكبير جعفر الس بحاني في قول ه‬
‫ض ااًّل فَهَ دَى﴾ [الض حى‪ ،]7 :‬فق د ذك ر من خالل تحليل ه لمع نى‬ ‫تعالى‪َ ﴿ :‬و َو َج دَكَ َ‬
‫الضاللة في القرآن الكريم أنها تنقسم إلى قسمين‪:‬‬
‫قس م‪ :‬تك ون الض اللة في ه وص فا ً وجودي اً‪ ،‬وحال ة واقعي ة كامن ة في النفس‪،‬‬
‫توجب منقصتها وظلمتها‪ ،‬كالكافر والمشرك والفاسق‪ ،‬والضاللة في هاتيك األف راد‬
‫صفة وجودية تكمن في نفوسهم‪ ،‬وتتزايد حسب استمرار اإلنسان في الكفر والشرك‬
‫﴿واَل يَحْ َس بَ َّن الَّ ِذينَ‬
‫والعص يان والتج رّي على الم ولى س بحانه‪ ،‬ق ال هللا س بحانه‪َ :‬‬
‫ين ﴾‬ ‫َكفَرُوا أَنَّ َما نُ ْملِي لَهُ ْم خَ ْي ٌر أِل َ ْنفُ ِس ِه ْم إِنَّ َم ا نُ ْملِي لَهُ ْم لِيَ ْزدَادُوا إِ ْث ًم ا َولَهُ ْم َع َذابٌ ُم ِه ٌ‬
‫فإن الزدياد اإلثم بالجوارح تأثيراً في زيادة الكفر‪ ،‬وقد وصف‬ ‫[آل عمران‪ّ ،]178 :‬‬
‫سبحانه بعض األعمال بأنّها زيادة في الكفر‪ ،‬قال س بحانه‪﴿ :‬إِنَّ َم ا النَّ ِس ي ُء ِزيَ ا َدةٌ فِي‬
‫ضلُّ بِ ِه الَّ ِذينَ َكفَرُوا﴾ [التوبة‪]37 :‬‬ ‫ْال ُك ْف ِر يُ َ‬
‫وقسم منه‪ :‬تكون الضاللة فيه أمراً ع دمياً‪ ،‬بمع نى ك ون النفس فاق دة للرش اد‬
‫غير مالكة له‪ ،‬وعندئذ يكون اإلنسان ضاالً بمع نى أنّ ه غ ير واج د للهداي ة من عن د‬
‫نفسه‪ ،‬وفي الوقت نفسه ال تكمن فيه صفة وجودية مث ل م ا تكمن في نفس المش رك‬
‫والعاصي‪ ،‬وهذا كالطفل الذي أشرف على التمييز وكاد أن يعرف الخير من الش ر‪،‬‬
‫والصالح من الفساد‪ ،‬والسعادة من الشقاء‪ ،‬فهو آن ذاك ض ال‪ ،‬لكن ب المعنى الث اني‪،‬‬
‫أي غير واجد للنور الذي يهتدي به في سبيل الحياة‪ ،‬ال ضال بالمعنى األوّل بمع نى‬
‫كينونة ظلمة الكفر والفسق في روحه‪.‬‬
‫ّ‬
‫ثم علق على هذا التقسيم بقوله‪( :‬إذا عرفت ذلك‪ ،‬ف اعلم‪ :‬أن ه ل و ك ان الم راد‬
‫من الضال في اآلية‪ ،‬ما يخالف الهداية والرشاد‪ ،‬فهي تهدف إلى القسم الثاني منه ال‬
‫أن اآلية بصدد توصيف النعم التي أفاضها هللا سبحانه على نبيّ ه ي وم‬ ‫األوّل‪ :‬بشهادة ّ‬
‫افتقد أباه ث ّم أُ ّمه فصار يتيما ً ال ملجأ له وال مأوى‪ ،‬فآواه وأكرمه‪ ،‬بج ّده عب د المطلب‬
‫ثم بع ّمه أبي طالب‪ ،‬وكان ضاالً في هذه الفترة من عمره‪ ،‬فهداه إلى أسباب الس عادة‬
‫وعرّفه وسائل الشقاء)(‪)1‬‬
‫ثم ذك ر البع د العرف اني له ذا المع نى‪ ،‬وال ذي على أساس ه تفهم أمث ال ه ذه‬
‫النصوص‪ ،‬فقال‪( :‬وااللتزام بالضاللة به ذا المع نى الزم الق ول بالتوحي د اإلفع الي‪،‬‬
‫فإن كل ممكن كما ال يملك وجوده وحيات ه‪ ،‬ال يمل ك فعل ه وال هدايت ه وال رش ده إالّ‬ ‫ّ‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫عن طريق ربّه سبحانه‪ ،‬وإنما يفاض عليه كل شيء منه‪ ،‬قال تع الى‪﴿ :‬يَاأيُّهَ ا الناسُ‬ ‫ّ‬
‫‪ )(1‬عصمة األنبياء في القرآن الكريم‪ ،‬ص‪.273‬‬

‫‪32‬‬
‫أن وجوده مفاض من‬ ‫أَ ْنتُ ُم ْالفُقَ َرا ُء إِلَى هَّللا ِ َوهَّللا ُ هُ َو ْال َغنِ ُّي ْال َح ِميدُ﴾ [فاطر‪ ،]15 :‬فكما ّ‬
‫هللا سبحانه‪ ،‬فهك ذا ك ل م ا يوص ف ب ه من جم ال وكم ال فه و من في وض رحمت ه‬
‫الواسعة‪ ،‬واالعتقاد بالهداية الذاتية‪ ،‬وغناء الممكن بع د وج وده عن هدايت ه س بحانه‬
‫يناقض التوحيد اإلفعالي الذي شرحناه في موسوعة مفاهيم القرآن) (‪)1‬‬
‫وما ذكره العالمة السبحاني هو ما دلت عليه النصوص القرآنية الكثيرة ال تي‬
‫ت ذكر ك ل حين ب أن الهداي ة مكتس بة من هللا س بحانه وتع الى‪ ،‬من غ ير ف رق بين‬
‫ال َربُّنَا الَّ ِذي أَ ْعطَى ُك َّل َش ْي ٍء َخ ْلقَ هُ ثُ َّم هَ دَى ﴾‬ ‫اإلنسان وغيره‪ ،‬كما قال سبحانه‪﴿ :‬قَ َ‬
‫ق فَ َس َّوى (‪َ )2‬وال ِذي قَ َّد َر فَهَ دَى﴾ [األعلى‪،]3 ،2 :‬‬‫َّ‬ ‫[ط ه‪ ]50 :‬وق ال‪ ﴿ :‬الَّ ِذي َخلَ َ‬
‫ي لَ وْ اَل أَ ْن هَ دَانَا هَّللا ُ ﴾‬
‫وق ال‪َ ﴿ :‬وقَ الُوا ْال َح ْم ُد هَّلِل ِ الَّ ِذي هَ دَانَا لِهَ َذا َو َم ا ُكنَّا لِنَ ْهتَ ِد َ‬
‫ض لُّ َعلَى نَ ْف ِس ي َوإِ ِن ا ْهتَ َدي ُ‬
‫ْت فَبِ َم ا‬ ‫ت فَإِنَّ َم ا أَ ِ‬
‫ض لَ ْل ُ‬
‫[األعراف‪ ،]43 :‬وقال‪﴿ :‬قُ لْ إِ ْن َ‬
‫ي َربِّي إِنَّهُ َس ِمي ٌع قَ ِريبٌ ﴾ [سبأ‪ ]50 :‬وغيرها من اآليات الكريمة‪.‬‬ ‫يُو ِحي إِلَ َّ‬
‫وبذلك فإن اآلية على هذا الفهم العرفاني (ته دف إلى بي ان النعم ال تي أنعمه ا‬
‫سبحانه على حبيبه منذ صباه فآواه بعد ما صار يتيما ً ال مأوى له وال ملجأ‪ ،‬وأف اض‬
‫عليه الهداية بعدما كان فاقداً لها حسب ذاتها‪ ،‬وأ ّما تحديد زمن ه ذه اإلفاض ة فيع ود‬
‫إلى أوليات حياته وأيّام صباه بقرين ة ذك ره بع د اإلي واء ال ذي تحقّ ق بع د اليتم‪ ،‬وت ّم‬
‫بج ّده عبد المطلب فوق ع في كفالت ه إلى ثم اني س نين ويؤيّ د ذل ك ق ول اإلم ام أم ير‬
‫المؤمنين ‪ ( :‬ولقد قرن هللا به (صلّى هللا عليه وآله وسلّم) من لدن أن كان فطيما ً‬
‫أعظم ملك من مالئكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخالق العالم ليله ونه اره)‬
‫(‪)2‬‬
‫بناء على هذا الفهم التوحيدي العرفاني يمكن تفسير كل اآلي ات المش كلة على‬
‫خالف الطريقة التي فسر بها ابن تيمية ومن تبعه من السلف‪.‬‬
‫وبذلك يمكن أيضا الجمع بين النصوص التي تدل على أن كل نبي يولد وه و‬
‫متصف بوصف النبوة‪ ،‬وإنما يؤخر تنفيذها أو ي ؤخر اإلرس ال وتكاليف ه إلى األج ل‬
‫الذي يراه هللا مناسبا‪.‬‬

‫‪ )(1‬عصمة األنبياء في القرآن الكريم‪ ،‬ص‪.273‬‬


‫‪ )(2‬نهج البالغة‪ :‬الخطبة ‪ ،178‬والتي تس ّمى بالقاصعة‪ ،‬وانظر‪ :‬عصمة األنبياء في القرآن الكريم‪ ،‬ص‪.274‬‬

‫‪33‬‬
‫الذنوب‪ ..‬والمعاصي‬
‫من أكبر مظ اهر انح راف المنهج الس لفي عن المنهج الق رآني الترك يز على‬
‫ذكر جواز الذنوب والمعاصي على األنبياء‪ ،‬بل محاول ة إثب ات وقوعه ا منهم‪ ،‬عن د‬
‫الحديث عن العصمة‪ ،‬بدل الحديث عن أسباب العصمة ومظاهرها وكيفية االس تفادة‬
‫منها‪ ،‬وبدل الحديث عن تلك المكان ة الرفيع ة لألنبي اء عليهم الس الم‪ ،‬وال تي جعلتهم‬
‫محال للعناية اإللهية الخاص ة أوال‪ ..‬ثم محال ألن يجعلهم هللا تع الى مثال أعلى يمكن‬
‫للمسلم أن يحتذي بهم ليتحقق بالقرب اإللهي‪.‬‬
‫ولذلك نرى أن مجرد طرح السلفية لهذه المسألة‪ ،‬ومب الغتهم في ش أنها بدع ة‬
‫خطيرة تخالف المنهج القرآني‪ ..‬ألن القرآن الكريم كل ه تح بيب في األنبي اء وتمجي د‬
‫لهم وذكر لمواقفهم الكريمة في الدعوة إلى هللا والتضحية في سبيل ذلك‪.‬‬
‫لكن ا إن غادرن ا الق رآن الك ريم‪ ،‬وذهبن ا إلى كتبهم ورواي اتهم تتغ ير ص ورة‬
‫األنبياء تغيرا تاما كما سنرى النماذج الكثيرة على ذلك في هذا الكتاب‪.‬‬
‫وهذا االختالل المنهجي هو نفسه الذي وقعوا فيه عند حديثهم عن هللا تع الى‪،‬‬
‫فبدل اقتصارهم على ما ذكره هللا تعالى من أسمائه الحسنى م ع م ا فيه ا من قطعي ة‬
‫وعقالنية وتوافق بين المسلمين جميعا‪ ،‬بل بين البش رية جميع ا‪ ..‬نج دهم يتركونه ا‪،‬‬
‫ليسطروا آالف الصفحات في صورة هللا وساقه ويده ورجله‪ ..‬وكيف ي نزل‪ ،‬وكي ف‬
‫يقعد‪ ،‬وكيف يمشي ويهرول‪ ..‬ونحو ذلك‪ ..‬ثم يسطروا بعدها أحك امهم القاس ية على‬
‫منكر هذه البدع‪.‬‬
‫وهك ذا األم ر في ح ديثهم عن عص مة األنبي اء‪ ،‬فهم يعت برون من الف وارق‬
‫األساسية بين من يسمونهم س نة وبين غ يرهم من أه ل الب دع هي ع دم المبالغ ة في‬
‫شأن العصمة‪ ،‬وقصرها فقط على العص مة في التبلي غ‪ ،‬وله ذا ـ ومن دون مراع اة‬
‫لحسن نية القائلين بالعصمة المطلقة ـ يعت برونهم مبتدع ة ومغ الين‪ ،‬مثلم ا اعت بروا‬
‫المنزهين هلل جهمية ومعطلة‪.‬‬
‫وعندما نترك القرآن الكريم‪ ،‬وخالفهم لمنهجه في طرح القض ية‪ ،‬ونع ود إلى‬
‫ما ذكروه لنرى الفرق بين الن بي ال ذي ج وزوا علي ه ك ل ش يء‪ ،‬وبين أي إم ام من‬
‫أئمتهم الذين يقدسونهم نجد الفرق الكبير‪ ،‬والبون الشاسع‪.‬‬
‫وكمثال على ذلك أننا نجدهم عند حديثهم عن ابن تيمية ال ذي يعتبرون ه ش يخ‬
‫اإلسالم يكادون يسجدون له‪ ،‬بل يكادون يذوبون فيه وجدا وشوقا‪ ،‬ونج دهم يكتب ون‬
‫آالف الصفحات في ذكر مناقبه وفضله ودوره العظيم في خدمة ال دين‪ ..‬ومن تج رأ‬
‫وتحدث عن ه بمعش ار م ا يتح دثون ب ه عن األنبي اء عليهم الص الة والس الم‪ ،‬ق امت‬
‫قيامتهم عليه‪ ،‬واعتبروه مبتدعا ومنحرف ا عن الس نة‪ ،‬ح تى أن الش يخ ابن ع ثيمين ـ‬
‫مثله مثل سائر السلفية ـ اعتبر ابن تيمية قس يما للجن ة والن ار‪ ،‬حين ذك ر أن ه يش هد‬
‫البن تيمية بالجنة‪ ،‬ويشهد ألعدائه بالنار‪ ،‬فقال‪( :‬وشيخ اإلسالم ابن تيمية رحم ه هللا‬

‫‪34‬‬
‫أجمع الناس على الثناء عليه إال من شذ‪ ،‬والشاذ شذ في النار‪ ،‬يشهد ل ه بالجن ة على‬
‫هذا الرأي)(‪)1‬‬
‫وكمثال بسيط على ذلك الول ه ال ذي يص يبهم عن د ذك ر ابن تيمي ة‪ ،‬وال ن رى‬
‫مثله عند األنبياء عليهم الصالة والسالم الشيخ ع ائض الق رني‪ ،‬ال ذي تواض ع ج دا‬
‫أمام إمامه األكبر ابن تيمية‪ ،‬فألف كتابا في فضائله ومناقبه التي ال تعد وال تحصى‪،‬‬
‫ومع ذلك كله ذكر أنه في حديثه عنه لم يبحر في بحره‪ ،‬وإنما اقتص ر على الوق وف‬
‫على ساحله‪ ،‬ولهذا سمى كتابه (على ساحل ابن تيمية)‬
‫وقد أثبت فيه ـ كما يرى ـ أن ابن تيمية هو المربى والمفسر والمحدث والفقيه‬
‫والمناظر والمجاهد والعابد‪ ،‬وأن مثله كمثل بحر لجى لكنه عذب‪ ،‬محيط هادر لكن ه‬
‫فرات‪( ،‬وهل يستطيع المرء ‪ -‬ولو أجاد السباحة ‪ -‬أن يغوص فى أعماق البح ر‪ ،‬أو‬
‫أن يهبط إلى قعر المحيط؟ كال ال يستطيع‪ ،‬ولكنه يستطيع أن يطل إطاللة)(‪)2‬‬
‫لن أتدخل في ما قال هذا السلفي ح ول إمام ه األك بر ابن تيمي ة‪ ،‬ولك ني فق ط‬
‫وددنا لو أن أمثال هذه الكلمات وغيرها قيلت عند الحديث عن عصمة األنبياء الذين‬
‫مرغت كرامتهم كما مرغت أخالقهم في كتب السلفية جميعا‪.‬‬
‫ففي الوقت الذي يذكرون في ه عن س ليمان ‪ ‬وأن ه ك ان ل ه مئ ات النس اء‪،‬‬
‫وكان منشغال بهن انشغاال كبيرا‪ ..‬ولم يكفينه حتى أرسل إلى ملك ة س بأ ليتزوجه ا‪..‬‬
‫ويذكرون مع ذلك قصصه مع نسائه وولعه بهن‪ ..‬وي روون في ذل ك عن س لفهم من‬
‫اليه ود م ا يمألون ب ه ك ل تفاس يرهم وكتبهم المخصص ة لألنبي اء عليهم الص الة‬
‫والسالم‪.‬‬
‫في نفس الوقت نجدهم عند ح ديثهم عن ابن تيمي ة‪ ،‬ي ذكرون شخص ا مختلف ا‬
‫تماما‪ ..‬حيث يذكرون رجال زاهد إلى درجة أنه في حيات ه كله ا لم يتس ن ل ه ال وقت‬
‫ليتزوج‪ ..‬وكان فوق ذلك كله مشغوال بفكرت ه وعبادت ه ال يض يع دقيق ة من عم ره‪..‬‬
‫وهم ال يكتفون بقدراته العلمية‪ ،‬بل يضمون إليها قدراته األخالقي ة ال تي ال يمكن أن‬
‫يساويها ـ في تصورهم ـ أو يدانيها ما سطروه عن أنبياء هللا تعالى‪.‬‬
‫ففي الوقت ال ذي ي ذكرون في ه أن أنبي اء هللا في ص غرهم وش بابهم يرتكب ون‬
‫الكبائر والصغائر‪ ،‬بل يقع ون في الكف ر والش رك‪ ،‬نج دهم يقول ون عن ابن تيمي ة ـ‬
‫بلسان القرني ـ‪( :‬كان ابن تيمية من الص غر في عناي ة هللا ع ز وج ل وفي رعايت ه‪،‬‬
‫فال تعلم له صبوة‪ ،‬وال تحفظ له عثرة‪ ،‬لم تنقل ل ه زل ة ؛ ألن ه ع اش في بيت إمام ه‬
‫وعلم وصيانة وديانة‪ ،‬فقد رباه أبوه المفتي الحافظ عبدا لحليم‪ ،‬وك ان أعمام ه أيض ا ً‬
‫من أه ل الوالي ة هلل ع ز وج ل‪ ،‬فنش أ بين بيت ه الط اهر العفي ف‪ ،‬وبيت هللا الع امر‬
‫المبارك‪ ،‬وحف ظ كت اب من الص غر‪ ،‬وتعلم الس نة وأخ ذ اآلداب اإلس المية من أه ل‬
‫العلم‪ ،‬وحفظ ه هللا – الحاف ظ – عن ته ور الش باب‪ ،‬وطيش الفت وة‪ ،‬ون زق الص با‪،‬‬
‫فعاش عفيفا ً دينا ً مقتصداً صينا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض‪ ،‬معتني ا ً بالس نن‪،‬‬
‫‪ )(1‬شرح رياض الصالحين ‪.573 - 570 /4‬‬
‫‪ )(2‬على ساحل ابن تيمية‪ ،‬لعائض القرني‪ ،‬ص‪ ،3‬ببعض التصرف‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫كثير األذكار واألوراد‪،‬بعيداً عن اللهو وعن البذخ والسرف واللعب وك ل م ا يش ين‬
‫الرجال‪ ،‬وكل ما يخدش المروءة‪ ،‬وكل ما ي ذهب الوق ار ؛ فص ار مح ل العناي ة من‬
‫األكابر‪ ،‬حتى كان يعرف إذا مر فيقال هذا ابن تيمي ة ؛ الش تهاره بين أقران ه بالج د‬
‫والمث ابرة وحب العلم والبراع ة في التحص يل‪ ،‬وس رعة الحف ظ وال ذكاء‪ ،‬وج ودة‬
‫الخاطر وسيالن الذهن وقوة المعرفة) (‪)1‬‬
‫وليت القرني وأمثاله من الس لفية عن دما يتح دثون عن األنبي اء عليهم الس الم‬
‫يتحدثون بهذه اللغة الممتلئ ة بالمش اعر‪ ..‬وال تي تجع ل من األنبي اء ق دوة في أذه ان‬
‫الناس كما أراد القرآن الكريم‪..‬‬
‫لكنا ـ لألسف الشديد ـ ال نرى ذلك في كتبهم‪ ..‬ألنهم يخافون أن يقع الناس في‬
‫الش رك إن أحب وا األنبي اء‪ ،‬وب الغوا في حبهم‪ ..‬بينم ا ال يخ افون عليهم الش رك إن‬
‫أحبوا ابن تيمية‪ ،‬وبالغوا في حبه‪ ،‬كما قال القرني متحدثا عنه‪( :‬وال نشكوا تقص يراً‬
‫في حبه – رحمه هللا ‪ -‬لكنا نستغفر هللا إن غلونا في التعل ق ب ه‪ ،‬كي ف ننس ى أيادي ه‬
‫البيضاء وكلما قلبنا سفراً فإذا ه و بين ص فحاته بعلم ه وحكمت ه وفقه ه واس تنباطه‪،‬‬
‫وكلما حضرنا حواراً فإذا اسمه تتقاذف ه األلس ن‪ ،‬يتقاس مه المتح اورون‪ ،‬ك ل فري ق‬
‫يق ول‪ :‬أن ا أولى ب ه؟!‪ ..‬كي ف ال نعيش مع ه وق د ف رض علين ا احترام ه‪ ،‬وأمتعن ا‬
‫بحضوره‪ ،‬وآنسنا بذكره الطيب؟ كي ف ال نحب من احب هللا ورس وله ‪‬؟ كي ف ال‬
‫نت ولى من ت ولى رب ه؟‪ ،‬كي ف ال نق در من ق در الش رع؟ كي ف ال نج ل من أج ل‬
‫الوحي؟)(‪)2‬‬
‫وعندما خشي أن يتطاول أح د من الن اس‪ ،‬ويق ول ل ه‪ :‬م ا حاجتن ا لكت اب في‬
‫مناقب ابن تيمية‪ ..‬نحن في حاجة إلى كتب في مناقب األنبياء عليهم الصالة والسالم‬
‫الذين أمرنا بنص الق رآن الك ريم باالهت داء به ديهم‪ ..‬ي رد على ذل ك بقول ه‪( :‬دوائ ر‬
‫المعارف تترجم عن دول بصفحتين وثالث‪ ،‬ولكنها تتحدث عن ابن تيمي ة بعش رين‬
‫صفحة‪ ،‬المجامع العلمية تذكر المصطلحات في س طر‪ ،‬ولكنه ا تتكلم عن ابن تيمي ة‬
‫في ثالثين س طرا‪ ،‬ولس نا متفض لين على ابن تيمي ة إذا م دحناه أو ذكرن ا مناقب ه أو‬
‫عددنا سجاياه‪ ،‬لكنه متفضل علين ا – بع د هللا – بفيض علم ه‪ ،‬وغيث فهم ه‪ ،‬وبرك ة‬
‫إنتاجه‪ ،‬ونور آثاره‪)3( )..‬‬
‫ما ذكرناه من كالم القرني عن ابن تيمية هو مجرد نموذج عن موقف السلفية‬
‫من أئمتهم‪ ،‬وتعظيمهم لهم في نفس الوقت الذي يعتبرون فيه الح ديث عن أنبي اء هللا‬
‫بهذه الصفة بدعة من البدع‪.‬‬
‫والقرني ليس مبتدعا في ذلك المديح‪ ،‬ألن أول ما يتعلم ه أي س لفي ه و ذل ك‬
‫الفناء في شخص ابن تيمية بعد خلعه لغيره خلعا تاما‪..‬‬
‫ومن أمثل ة س لف الق رني في تعظيمهم البن تيمي ة ق ول الحاف ظ أبي عب د هللا‬
‫‪ )(1‬على ساحل ابن تيمية‪ ،‬ص‪.5‬‬
‫‪ )(2‬على ساحل ابن تيمية‪ ،‬ص‪.3‬‬
‫‪ )(3‬على ساحل ابن تيمية‪ ،‬ص‪.3‬‬

‫‪36‬‬
‫محمد بن أحمد بن عبدالهادي (ت‪ )744‬في تعريفه ب ابن تيمي ة‪( :‬ه و الش يخ اإلم ام‬
‫الرباني‪ ،‬إمام األئمة‪ ،‬ومفتي األم ة‪ ،‬وبح ر العل وم‪ ،‬س يد الحف اظ‪ ،‬وف ارس المع اني‬
‫واأللفاظ‪ ،‬فريد العصر وقريع الدهر‪ ،‬شيخ اإلسالم‪ ،‬بركة األن ام‪ ،‬وعالم ة الزم ان‪،‬‬
‫وترجم ان الق رآن‪َ ،‬علَ ُم الزه اد‪ ،‬وأوح د ال ُعبَّاد‪ ،‬ق امع المبت دعين‪ ،‬وآخ ر‬
‫المجتهدين‪..‬صاحب التصانيف التي لم يسبق إلى مثلها)(‪)1‬‬
‫وق ال ال ذهبي‪( :‬ه ذا خ ط ش يخنا اإلم ام‪ ،‬ش يخ االس الم‪ ،‬ف رد الزم ان‪ ،‬بح ر‬
‫العلوم‪ ،‬تقي الدين‪ ..‬وقرأ القرآن والفقه‪ ،‬وناظر‪ ،‬واستدل وهو دون البلوغ‪ ،‬ب رع في‬
‫العلم والتفس ير وأف تى ودرَّس ول ه نح و العش رين‪ ،‬وص نف التص انيف وص ار من‬
‫أكابر العلماء في حياة شيوخه‪ ،‬وله المصنفات الكبار التي سارت بها الركبان‪ ،‬ولعل‬
‫تصانيفه في هذا الوقت تكون أربعة آالف كراس وأكثر‪ ،‬وفسر كتاب هللا تعالى م دة‬
‫سنين من صدره في أيام ال ُج َمع‪ ،‬وكان يتوق د ذك اء‪ ،‬وس ماعاته من الح ديث كث يرة‪،‬‬
‫وشيوخه أكثر من مائتي ش يخ‪ ،‬ومعرفت ه بالتفس ير إليه ا المنتهى‪ ،‬وحفظ ه للح ديث‬
‫ورجاله وصحته وسقمه فما يُلحق فيه‪ ،‬وأما نقله للفقه وم ذاهب الص حابة والت ابعين‬
‫فض اًل عن الم ذاهب األربع ة فليس ل ه في ه نظ ير‪ ،‬وأم ا معرفت ه بالمل ل والنح ل‬
‫واألصول والكالم فال أعلم له فيه نظيرًا‪ ،‬ويدري جملة ص الحة من اللغ ة وعربيت ه‬
‫قوية ج ًّدا‪ ،‬ومعرفته بالتاريخ والسير فعجب عجيب‪ ،‬وأما ش جاعته وجه اده وإقدام ه‬
‫فأمر يتجاوز الوصف ويفوق النعت‪ ،‬وهو أحد األجواد األسخياء الذين يُض رب بهم‬
‫المثل‪ ،‬وفيه زهد وقناعة باليسير في المأكل والملبس)(‪)2‬‬
‫بعد هذه المقدمة المنهجي ة ال تي تعجبن ا فيه ا من ح ديث الس لفية عن األنبي اء‬
‫بتل ك الص فة‪ ،‬وعن ط رحهم له ذه المس ألة‪ ،‬وبه ذه الص ورة‪ ،‬ن ذكر م ا ق الوه في‬
‫العصمة‪ ،‬ونقارن ه بم ا ورد في الق رآن الكريم ة‪ ،‬وم ا ذك ره تالمي ذه ال ذين اقتص ر‬
‫تلقيهم عنه‪.‬‬
‫وبما أن ابن تيمية هو منظر مذهب السلف بصورته النهائية‪ ،‬فس نكتفي ب ذكر‬
‫ما قاله حول عصمة األنبياء‪ ،‬ومبرراتهم في ذلك‪.‬‬
‫فقد حاول ابن تيمية في الكثير من كتبه اقت داء بس لفه أن ينتص ر للق ول بع دم‬
‫عصمة األنبياء‪ ،‬ولو بعد نبوتهم‪ ،‬وقد حشد ل ذلك م ا ي ذكره ع ادة من اتف اق الس لف‬
‫والخلف‪ ،‬وأرباب الملل والنحل‪ ،‬يقول في (مجموع الفتاوى)‪( :‬إن القول بأن األنبياء‬
‫معصومون عن الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء اإلسالم وجميع الطوائف‬
‫ح تى إن ه ق ول أك ثر أه ل الكالم كم ا ذك ر أب و الحس ن اآلم دي أن ه ذا ق ول أك ثر‬
‫األشعرية‪ ،‬وهو أيضا قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء‪ ،‬بل هو لم ينق ل عن‬
‫السلف واألئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إال ما يوافق هذا الق ول ولم ينق ل عنهم‬
‫ما يوافق القول وإنما نقل ذلك القول في العصر المتق دم عن الرافض ة ثم عن بعض‬

‫‪ )(1‬العقود الدرية في مناقب شيخ اإلسالم ابن تيمية‪ ،‬البن عبد اله ادي‪ ،‬نقال عن ال رد ال وافر على من زعم أن ش يخ‬
‫اإلسالم ابن تيمية كافر‪)63( ،‬‬
‫‪ )(2‬الرد الوافر‪)69( ،‬‬

‫‪37‬‬
‫المعتزلة ثم وافقهم عليه طائفة من المتأخرين‪ .‬وعامة م ا ينق ل عن جمه ور العلم اء‬
‫أنهم غير معصومين عن اإلقرار على الصغائر وال يقرون عليه ا وال يقول ون إنه ا‬
‫ال تقع بحال وأول من نقل عنهم من طوائف األمة القول بالعص مة مطلق ا وأعظمهم‬
‫قوال لذلك‪ :‬الرافضة فإنهم يقولون بالعصمة حتى ما يقع على سبيل النسيان والس هو‬
‫والتأويل‪ ..‬فهؤالء وأمثالهم من الغالة القائلين بالعصمة‪ ،‬وقد يكفرون من ينكر القول‬
‫بها‪ ،‬وهؤالء الغالية هم كفار باتفاق المسلمين‪ ،‬فمن كف ر الق ائلين بتج ويز الص غائر‬
‫عليهم كان مضاهيا لهؤالء اإلسماعيلية والنصيرية والرافضة واالثني عشرية)(‪)1‬‬
‫ونحب أن نذكر تعليقا على هذا بأن المغالطة الكبرى الموجودة في هذا الكالم‬
‫هو عن مفهوم العصمة عند ابن تيمية وعن د س لفه‪ ..‬ف إن ك ان ه ذا المفه وم قاص را‬
‫على ترك الكبائر‪ ،‬فإن األمة جميعا إال ما شذ منها معصوم‪ ..‬وال مزية في هذا‪ ..‬ب ل‬
‫إنهم في ت راجمهم لمن يس مونهم أئم ة الس لف ي ذكرون ت نزههم من ذ ص غرهم عن‬
‫الصغائر‪ ،‬فكيف بالكبائر‪ ،‬في نفس الوقت ال ذي يج يزون في ه على األنبي اء الوق وع‬
‫في الكبائر حال صغرهم‪.‬‬
‫فمن األمثلة التي يوردونها كثيرا في خطبهم قوله‪( :‬قال البخ اري‪ :‬م ا اغتبت‬
‫ي مروءتي ما شربته‪..‬‬ ‫مسلما ً منذ احتلمت‪ ..‬وقال الشافعي‪ :‬لو أعلم أن الماء يفسد عل َّ‬
‫وقالوا لمحم د بن واس ع‪ :‬أال تتكيء‪ ،‬فق ال‪ :‬إنم ا يتكيء اآلمن‪ ،‬وأن ا ال زلت خائف اً‪..‬‬
‫وحج مسروق فما نام إال ساجداً‪ ..) ..‬وهكذا نجد أمثال هذه األوص اف عن د ذك رهم‬
‫ألئمتهم المعصومين‪.‬‬
‫ولم يكتف ابن تيمية بما ذكره من اتفاق سلفه ومن شايعهم في ه ذه المس ألة‪،‬‬
‫بل يضيف إليه اعتبار ما قاله المنزه ة من تنزي ه األنبي اء تحريف ا لل دين‪ ،‬يق ول في‬
‫(منهاج السنة)‪( :‬تبعهم في هذا الب اب‪ ،‬ب ل كتب التفس ير والح ديث واآلث ار والزه د‬
‫وأخبار السلف مش حونة عن الص حابة والت ابعين بمث ل م ا دل علي ه الق رآن‪ ،‬وليس‬
‫فيهم من حرف اآليات كتحري ف ه ؤالء‪ ،‬وال من ك ذب بم ا في األح اديث كتك ذيب‬
‫هؤالء‪ ،‬وال من قال هذا يمنع الوثوق‪ ،‬أو يوجب التنفير ونحو ذلك كما ق ال ه ؤالء‪،‬‬
‫بل أقوال هؤالء الذين غلوا بجه ل من األق وال المبتدع ة في اإلس الم‪ ..‬وهم قص دوا‬
‫تعظيم األنبي اء بجه ل كم ا قص دت النص ارى تعظيم المس يح وأحب ارهم ورهب انهم‬
‫بجه ل‪ ،‬فأش ركوا بهم واتخ ذوهم أرباب ا من دون هللا وأعرض وا عن اتب اعهم فيم ا‬
‫أمروهم به ونهوهم عنه)(‪)2‬‬
‫وهك ذا أص بح تنزي ه األنبي اء بدع ة‪ ..‬وأص بح رميهم بالكب ائر والص غائر‬
‫والموبقات عند ابن تيمية والسلفية سنة‪..‬‬
‫ولو أننا بحثنا جيدا في مصدر هذه المقولة لوج دناهم اليه ود‪ ..‬ف اليهود ال ذين‬
‫تتملذ عليهم أسالف السلفية األوائل هم الذين رووا تلك الروايات الكثيرة التي اس تند‬
‫إليها السلفية في إثبات المعاصي لألنبياء عليهم الصالة والسالم‪.‬‬
‫‪ )(1‬مجموع الفتاوى (‪)319 /4‬‬
‫‪ )(2‬منهاج السنة النبوية (‪)435 /2‬‬

‫‪38‬‬
‫وق د ورد في (س فر المل وك‪ :‬إص حاح ‪ ،8‬ع دد ‪( :)46‬ألن ه ليس إنس ان ال‬
‫يخطئ)‪ ،‬وورد في (سفر أيوب‪ :‬إصحاح ‪ ،15‬عدد ‪( )16-14‬من هو اإلنسان ح تى‬
‫يزكو‪ ،‬أو مولود الم رأة ح تى يت برر؟‪ .‬ه وذا قديس وه ال ي أتمنهم‪ ،‬والس ماوات غ ير‬
‫طاهرة بعينيه‪ ،‬فبالحري مكروه وفاس د اإلنس ان الش ارب اإلثم كالم اء!)‪ ،‬وورد في‬
‫(سفر المزامير‪ ،‬المزمور ‪( )3:53 ،2:53 ،1:53 ،14‬فسدوا ورجسوا بأفع الهم‪،‬‬
‫وليس من يعمل صالحا‪ ،‬هللا من السماء أشرف على بني البشر لينظر‪ :‬هل من فاهم‬
‫طالب هللا؟ كلهم قد ارتدوا معا‪ ،‬فسدوا‪ .‬ليس من يعمل صالحا‪ ،‬ليس وال واحد)‬
‫وبناء على هذه النصوص وغيرها كثير يقصر اليه ود العص مة على التبليغ‪،‬‬
‫يقول ابن كمونه (وأما داود وسليمان فلم يكونا من المعصومين عن الخطأ ألنهم ا لم‬
‫يكونا من المرسلين‪ ،‬وإنما يجب عصمة النبي المرسل فيم ا أرس ل في ه‪ ،‬وفيم ا ع دا‬
‫ففي العصمة شك) (‪.)1‬‬
‫وما ذكره ابن كمونة هو نفس ما يذكره السلفية الذين يقصرون العص مة على‬
‫التبليغ‪ ،‬يقول الشيخ عبد العزيز بن باز‪( :‬قد أجمع المسلمون قاطبة على أن األنبي اء‬
‫عليهم الص الة والس الم – والس يما محمد ‪ – ‬معص ومون من الخطأ فيما يبلغونه‬
‫عن هللا عز وجل‪ ..‬فنبينا محمد ‪ ‬معص وم في كل ما يبلغ عن هللا ق والً وعمالً‬
‫وتقريراً‪ ،‬هذا ال نزاع فيه بين أهل العلم)(‪)2‬‬
‫وق ال ابن تيمي ة‪( :‬ف إن اآلي ات الدال ة على نب وة األنبي اء دلت على أنهم‬
‫معصومون فيما يخبرون به عن هللا عز وجل فال يكون خبرهم إال حقا ً وه ذا مع نى‬
‫النبوة وهو يتضمن أن هللا ينبئه بالغيب وأنه ين بئ الن اس ب الغيب والرس ول م أمور‬
‫بدعوة الخلق وتبليغهم رساالت ربه)(‪)3‬‬
‫ولم يكت ف الس لفية به ذا االقتب اس من أه ل الكت اب‪ ،‬ب ل راح وا في تفاص يل‬
‫حديثهم عن األنبياء يذكرون نفس ما يذكره أهل الكت اب‪ ،‬ويص ورون األنبي اء بتل ك‬
‫الص ورة المش وهة ال تي ص ور به ا األنبي اء‪ ،‬مبتع دين عن الص ورة الجميل ة ال تي‬
‫صورهم بها القرآن الكريم‪.‬‬
‫ومن باب االستدالل على هذا‪ ،‬سنذكر نموذجا يمثل نبيا من أنبياء هللا‪ ،‬وكي ف‬
‫صور في القرآن الكريم‪ ،‬وكي ف ص ور في كتب الس لفية ال تي يحث ون العام ة على‬
‫قراءته ا‪ ،‬وس نرى نم اذج أخ رى عن س ائر األنبي اء وم ا رم وا ب ه من مث الب في‬
‫الفصول الالحقة‪.‬‬
‫والنموذج هو آدم ‪ ،‬والذي نجده على ضوء القراءة القرآنية إنس انا ك امال‬
‫آتاه هللا أسماء كل شيء‪ ،‬وأسجد له مالئكته‪ ،‬وأدخله الجنة‪ ،‬وفي الجنة نهاه أن يأك ل‬
‫ك ْال َجنَّةَ َو ُكاَل ِم ْنهَ ا‬
‫اس ُك ْن أَنتَ َو َزوْ ُج َ‬
‫من الشجرة‪ ،‬كما قال هللا تعالى‪َ  :‬وقُ ْلنَا يَ ا آ َد ُم ْ‬

‫‪ )( 1‬ابن كمونه‪ ،‬سعد بن منصور‪ ،‬تنقيح األبحاث للملل الثالث اليهودية والمسيحية واإلسالم‪ ،‬دار األنصار‪،‬‬
‫ص‪ 18-15 ،‬بتصرف‪.‬‬
‫‪ )(2‬فتاوى ابن باز ج‪.6/371‬‬
‫‪ )(3‬مجموع الفتاوى ج‪.7 / 18‬‬

‫‪39‬‬
‫طانُ َع ْنهَ ا‬ ‫ْث ِش ْئتُ َما َواَل تَ ْق َربَا هذه ال َّش َج َرةَ فَتَ ُكونَا ِمنَ الظَّالِ ِمينَ ‪ ‬فَأَزَ لَّهُ َما َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫َر َغدًا َحي ُ‬
‫ْض َع د ٌُّو َولَ ُك ْم فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ض ُم ْس تَقَ ٌّر‬ ‫ْض ُك ْم لِبَع ٍ‬‫فَأ َ ْخ َر َجهُ َما ِم َّما َكانَا فِي ِه‪َ  ‬وقُ ْلنَا ا ْهبِطُ وا بَع ُ‬
‫ع إِلَ ٰى ِحي ٍن‪( ‬البقرة‪)36-35 :‬‬ ‫َو َمتَا ٌ‬
‫وبفهم سطحي لهذه اآليات ـ وبتفسير لها من كتب أهل الكتاب ـ تعلق الس لفية‬
‫الذين لم يحاولوا أن يق رؤوا ه ذه اآلي ات ق راءة تنزيهي ة مبني ة على مكان ة األنبي اء‬
‫عليهم الصالة والسالم‪ ،‬وإنما قرؤوها بتفسير إس رائيلي ممعن في المس اس بكرام ة‬
‫األنبياء‪ ،‬ولذلك راحوا يستخدمون نفس النصوص ال تي اس تخدمها اليه ود في كتبهم‬
‫للتعبير عن الحادثة‪.‬‬
‫وال بأس من سوق بعض ما ذك روه هن ا م ع بش اعته‪ ،‬ثم ن ذكر بع ده الق راءة‬
‫التنزيهية لآليات الكريمة كما فهمها تالميذ القرآن الكريم‪.‬‬
‫فقد رووا عن ابن عباس قوله‪( :‬إن ع دو هللا إبليس ع رض نفس ه على دواب‬
‫األرض‪ :‬أيها تحمله حتى تدخل به الجن ة ح تى يكلم آدم وزوج ه‪ ،‬فك ل ال دواب أبى‬
‫ذلك عليه‪ ،‬حتى كلم الحية‪ ،‬فق ال له ا‪ :‬أمنع ك من ب ني آدم‪ ،‬ف أنت في ذم تي إن أنت‬
‫أدخلتني الجنة‪ ،‬فجعلته بين نابين من أنيابها ثم دخلت به‪ ،‬فكلمهم ا من فمه ا وك انت‬
‫كاسية تمشي على أربع قوائم‪ ،‬فأعراها هللا تع الى وجعله ا تمش ي على بطنه ا‪ ،‬ق ال‬
‫ابن عباس‪ :‬اقتلوها حيث وجدتموها‪ ،‬واخفروا ذمة عدو هللا فيها)(‪)1‬‬
‫ورووا عن وهب بن منب ه قول ه‪ ..( :‬فأك ل منه ا آدم‪ ،‬فب دت لهم ا س وآتهما‪،‬‬
‫فدخل آدم في جوف الشجرة‪ ،‬فناداه ربه‪ :‬يا آدم‪ ،‬أين أنت؟ قال‪ :‬أنا هذا يا رب‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫أال تخرج؟ قال‪ :‬أستحي من ك ي ا رب‪ ،‬ق ال‪ :‬ملعون ة األرض ال تي خلقت منه ا لعن ة‬
‫حتى يتحول ثماره ا ش وكا! ق ال‪ :‬ولم يكن في الجن ة وال في األرض ش جرة ك انت‬
‫أفض ل من الطلح والس در‪ .‬ثم ق ال‪ :‬ي ا ح واء‪ ،‬أنت ال تي غ ررت عب دي‪ ،‬فإن ك ال‬
‫تحملين حمال إال حملت ه كره ا‪ ،‬ف إذا أردت أن تض عي م ا في بطن ك أش رفت على‬
‫الموت مرارا‪ ،‬وق ال للحي ة‪ :‬أنت ال تي دخ ل الملع ون في بطن ك ح تى غ ر عب دي‪،‬‬
‫ملعونة أنت لعنة حتى تتحول قوائمك في بطنك‪ ،‬وال يكن لك رزق إال ال تراب‪ ،‬أنت‬
‫عدوة بني آدم وهم أعداؤك‪ ،‬حيث لقيت أحدا منهم أخ ذت بعقب ه‪ ،‬وحيث لقي ك ش دخ‬
‫رأسك)(‪)2‬‬
‫ورووا عن سعيد بن المسيب قوله‪( :‬ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل‪ ،‬ولكن‬
‫ح واء س قته الخم ر ح تى إذا س كر قادت ه إليه ا‪ ،‬فأك ل منه ا فلم ا واق ع آدم وح واء‬
‫الخطيئة‪ ،‬أخرجهما هللا تعالى من الجنه وسلبهما م ا كان ا في ه من النعم ة والكرام ة‪،‬‬
‫وأهبطهم ا وع دوهما إبليس والحي ة إلى األرض‪ ،‬فق ال لهم ربهم‪ :‬اهبط وا بعض كم‬
‫لبعض عدو)(‪)3‬‬
‫وهكذا خالف سلفهم الق رآن الك ريم في ذك ره أن س بب الوسوس ة ه و إبليس‪،‬‬

‫‪ )(1‬تاريخ الطبري (‪)107 /1‬‬


‫‪ )(2‬تاريخ الطبري ‪ ،54 :1‬ابن كثير ‪.143 :1‬‬
‫‪ )(3‬تاريخ الطبري ‪.56 - 55 :1‬‬

‫‪40‬‬
‫وأنه وسوس آلدم مباشرة‪ ،‬ولكن هؤالء يجعلون حواء وسيطا‪.‬‬
‫ولم يكتفوا ب ذلك األث ر الم روي عن س عيد‪ ،‬ب ل رووا م ا ه و أبش ع من ه عن‬
‫رسول هللا ‪ ،‬ورووه فوق ذلك في الصحيحين اللذين يعتبرونهما أصح من القرآن‬
‫الكريم نفسه‪.‬‬
‫فقد رووا أن رسول هللا ‪ ‬قال‪( :‬لوال بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخنز‬
‫اللحم ولوال حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر)(‪)1‬‬
‫بل رووا أن آدم ‪ ‬لم يتب إلى هللا إال بعد أن اشترط عليه أن يدخله الجن ة‪،‬‬
‫فقد رووا عن رسول هللا ‪ ‬في تفسير قوله تعالى‪﴿ :‬فَتَلَقَّى آ َد ُم ِم ْن َربِّ ِه َكلِ َما ٍ‬
‫ت فَتَ َ‬
‫اب‬
‫َّحي ُم﴾ [البق رة‪( :]37 :‬ق ال آدم ‪ :‬أرأيت ي ا رب إن تبت‬ ‫َعلَ ْي ِه إِنَّهُ هُ َو التَّوَّابُ ال ر ِ‬
‫ورجعت أعائدي إلى الجنة؟ قال‪ :‬نعم)(‪)2‬‬
‫وفي رواي ة عن ابن عب اس في تفس ير اآلي ة الكريم ة‪( :‬قق ال آدم ي ا رب ألم‬
‫تخلق ني بي دك؟ قي ل ل ه بلى‪ ،‬ونفخت في من روحكم؟ قي ل ل ه بلى‪ ،‬وعطس ت فقلت‬
‫يرحمك هللا وسبقت رحمتك غضبك؟ قيل له‪ :‬بلى‪ ،‬وكتبت علي أن أعم ل ه ذا؟ قي ل‬
‫له بلى‪ ،‬قال‪ :‬أفرأيت إن تبت هل أنت راجعي إلى الجنة؟ قال‪ :‬نعم)(‪)3‬‬
‫بل رووا أن آدم ‪ ‬ـ والذي صور القرآن الكريم حزنه وألمه على الخ روج‬
‫من الجن ة وال نزول إلى األرض ـ بص ورة المتثاق ل إلى األرض‪ ،‬والح ريص على‬
‫البقاء فيها إلى الدرجة التي يجح د فيه ا وع دا وع ده لرب ه‪ ،‬والمش كلة ف وق ه ذا أن‬
‫الرواية يرفعونها إلى رسول هللا ‪ ،‬بل يفسرون بها القرآن الكريم‪.‬‬
‫فقد رووا عن ابن عباس أنه قال‪ ( :‬لما نزلت آية الدين قال رسول هللا ‪ :‬إن‬
‫أول من جحد آدم‪ ، ،‬أن هللا لما خلق آدم‪ ،‬مسح ظهره فأخرج من ه م ا ه و ذارئ‬
‫إلى يوم القيامة‪ ،‬فجعل يعرض ذريته عليه‪ ،‬فرأى فيهم رجال يزهر‪ ،‬فقال‪ :‬أي رب‪،‬‬
‫من هذا؟ قال‪ :‬هو ابنك داود‪ .‬قال‪ :‬أي رب‪ ،‬كم عمره؟ قال‪ :‬س تون عام ا‪ ،‬ق ال‪ :‬رب‬
‫زد في عمره‪ .‬ق ال‪ :‬ال إال أن أزي ده من عم رك‪ .‬وك ان عم ر آدم أل ف س نة‪ ،‬ف زاده‬
‫أربعين عاما‪ ،‬فكتب عليه بذلك كتابا وأشهد علي ه المالئك ة‪ ،‬فلم ا احتض ر آدم وأتت ه‬
‫المالئكة قال‪ :‬إنه قد بقي من عمري أربعون عاما‪ ،‬فقي ل ل ه‪ :‬إن ك ق د وهبته ا البن ك‬
‫داود‪ .‬قال‪ :‬ما فعلت‪ .‬فأبرز هللا عليه الكتاب‪ ،‬وأشهد عليه المالئكة)(‪)4‬‬
‫وهكذا نجد الروايات الكثيرة المنسوبة لمن يسميهم الطبري [الس لف من أه ل‬
‫العلم]‪ ،‬ال تي ال تختل ف عن الرواي ة الموج ودة في س فر التك وين‪ ،‬إن لم تكن أبش ع‬
‫منها‪.‬‬
‫ففي (سفر التكوين‪ ،‬اإلصحاح الث اني‪ ،‬إص حاح ‪( :)25-15 ،2‬وأخ ذ ال رب‬
‫اإلله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها‪ ،‬وأوصى الرب اإلله آدم قائال‪ :‬من‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ‪ ،261 / 6‬ومسلم رقم (‪.)1470‬‬


‫‪ )(2‬تفسير ابن أبي حاتم (‪)1/135‬‬
‫‪ )(3‬المستدرك (‪)2/545‬‬
‫‪ )(4‬أحمد (‪ ،)252 ،1/251‬وانظر‪ :‬تفسير ابن كثير (‪)722 /1‬‬

‫‪41‬‬
‫جميع شجر الجنة تأكل أكال‪ ،‬وأما شجرة معرفة الخير والشر فال تأك ل منه ا‪ ،‬ألن ك‬
‫يوم تأكل منها موتا تموت‪ ،‬وقال الرب اإلله‪ :‬ليس جيدا أن يكون آدم وحده‪ ،‬فأص نع‬
‫له معينا نظ يره‪ ،‬وجب ل ال رب اإلل ه من األرض ك ل حيوان ات البري ة وك ل طي ور‬
‫السماء‪ ،‬فأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها‪ ،‬وك ل م ا دع ا ب ه آدم ذات نفس حي ة‬
‫فهو اسمها‪ .‬فدعا آدم بأسماء جميع البهائم وطيور الس ماء وجمي ع حيوان ات البري ة‪.‬‬
‫وأما لنفسه فلم يجد معينا نظيره‪ .‬فأوقع الرب اإلله سباتا على آدم فنام‪ ،‬فأخ ذ واح دة‬
‫من أضالعه ومأل مكانها لحما‪ .‬وبنى الرب اإلله الض لع ال تي أخ ذها من آدم ام رأة‬
‫وأحضرها إلى آدم‪ ..‬وكانت الحية أحيل جمي ع حيوان ات البري ة ال تي عمله ا ال رب‬
‫اإلله‪ ،‬فقالت للمرأة‪ :‬أحقا قال هللا ال تأكال من كل شجر الجنة؟ فق الت الم رأة للحي ة‪:‬‬
‫من ثمر شجر الجنة نأكل‪ ،‬وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فق ال هللا‪ :‬ال ت أكال‬
‫منه وال تمساه لئال تموتا‪ .‬فقالت الحية للمرأة‪ :‬لن تموتا! بل هللا عالم أنه ي وم ت أكالن‬
‫منه تنفتح أعينكما وتكون ان كاهلل ع ارفين الخ ير والش ر‪ .‬ف رأت الم رأة أن الش جرة‬
‫جي دة لألك ل‪ ،‬وأنه ا بهج ة للعي ون‪ ،‬وأن الش جرة ش هية للنظ ر‪ .‬فأخ ذت من ثمره ا‬
‫وأكلت‪ ،‬وأعطت رجلها أيضا معها فأكل‪ .‬فانفتحت أعينهم ا وعلم ا أنهم ا عريان ان‪.‬‬
‫فخاطا أوراق تين وص نعا ألنفس هما م آزر‪ .‬وس معا ص وت ال رب اإلل ه ماش يا في‬
‫الجنة عند هب وب ريح النه ار‪ ،‬فاختب أ آدم وامرأت ه من وج ه ال رب اإلل ه في وس ط‬
‫شجر الجن ة‪ .‬فن ادى ال رب اإلل ه آدم وق ال ل ه‪ :‬أين أنت؟ فق ال‪ :‬س معت ص وتك في‬
‫الجنة فخشيت‪ ،‬ألني عريان فاختبأت‪ .‬فقال‪ :‬من أعلم ك أن ك عري ان؟ ه ل أكلت من‬
‫الش جرة ال تي أوص يتك أن ال تأك ل منه ا؟ فق ال آدم‪ :‬الم رأة ال تي جعلته ا معي هي‬
‫أعطتني من الشجرة فأكلت‪ .‬فق ال ال رب اإلل ه للم رأة‪ :‬م ا ه ذا ال ذي فعلت؟ فق الت‬
‫المرأة‪ :‬الحية غرتني فأكلت‪ .‬فقال الرب اإلله للحي ة‪ :‬ألن ك فعلت ه ذا‪ ،‬ملعون ة أنت‬
‫من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية‪ .‬على بطن ك تس عين وتراب ا ت أكلين ك ل‬
‫أيام حياتك‪ .‬وأضع عداوة بينك وبين المرأة‪ ،‬وبين نسلك ونسلها‪ .‬هو يسحق رأس ك‪،‬‬
‫وأنت تسحقين عقبه‪ .‬وقال للمرأة‪ :‬تكثيرا أك ثر أتع اب حبل ك‪ ،‬ب الوجع تل دين أوالدا‪.‬‬
‫وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك‪ .‬وقال آلدم‪ :‬ألنك سمعت لق ول امرأت ك‬
‫وأكلت من الش جرة ال تي أوص يتك ق ائال‪ :‬ال تأك ل منه ا‪ ،‬ملعون ة األرض بس ببك‪.‬‬
‫بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك‪ .‬وش وكا وحس كا تنبت ل ك‪ ،‬وتأك ل عش ب الحق ل‪.‬‬
‫بعرق وجهك تأكل خبزا حتى تعود إلى األرض التي أخذت منها‪ .‬ألنك تراب‪ ،‬وإلى‬
‫تراب تعود)‬
‫وبهذا النص التوراتي ال ذي رواه وهب بن منب ه وكعب األحب ار وتالم ذتهما‬
‫بعد بعض التحوير يتعلق السلفية‪ ،‬بل يفسرون القرآن الكريم بذلك‪.‬‬
‫ْض َع ُد ٌّو‬ ‫ُ‬ ‫فقد قال الطبري في تفسير قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وقُ ْلنَ ا ا ْهبِطُ وا بَع ُ‬
‫ْض ك ْم لِبَع ٍ‬
‫ين﴾ [البقرة‪( ]36 :‬وقد اختلف أهل التأويل في‬ ‫ع إِلَى ِح ٍ‬ ‫َولَ ُك ْم فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ض ُم ْستَقَ ٌّر َو َمتَا ٌ‬
‫المعني بقوله‪( :‬اهبطوا)‪ ،‬مع إجم اعهم على أن آدم وزوجت ه ممن ُع ني ب ه‪ .‬فح دثنا‬ ‫ِّ‬
‫سفيان بن وكيع‪ ..‬عن أبي ص الح‪ ،‬ق ال‪( :‬آدم وح وا ُء وإبليس والحي ة)‪ ..‬وح دثنا ابن‬

‫‪42‬‬
‫وكيع‪ ..‬عن ال ُّس ّديّ‪( :‬فلعنَ الحية وقطع قوائمها وتركه ا تمش ي على بطنه ا‪ ،‬وجع ل‬
‫رزقها من التراب‪ .‬وأهبِط إلى األرض آد ُم وحواء وإبليس والحية)(‪)1‬‬
‫وهكذا يمضي يذكر الروايات الكثيرة والطويلة عمن يس ميهم الس لف‪ ،‬وك ان‬
‫في إمكانه لو أحضر نسخة من الكت اب المق دس‪ ،‬وفس ر به ا اآلي ات الكريم ة لك ان‬
‫أجدى وأقل تعبا‪..‬‬
‫ومن هنا يظهر سر تلك العشرات والمئات بل اآلالف من الكتب ال تي يؤلفه ا‬
‫السلفية‪ ،‬فليست سوى أمثال هذا الحشو الذي ال مبرر له‪.‬‬
‫ولو أنهم بدل كل ذلك الجه ل ال ذي يس مونه علم ا اس تفرغوا جه دهم في فهم‬
‫اآلي ات الكريم ة على ض وء كرام ة األنبي اء وعص متهم‪ ،‬لفتح هللا ببرك ة ت نزيههم‬
‫لألنبياء ما يجعلهم يقرؤون القرآن‪ ،‬وكأنه أنزل عليهم‪.‬‬
‫بعد ه ذه الق راءة الس لفية لآلي ات الكريم ة المتعلق ة ب آدم ‪ ،‬نحب أن نق رأ‬
‫اآليات نفسها على ما يقوله المنزهة أو المص وبة ال ذين يعتق دون العص مة المطلق ة‬
‫لألنبياء عليهم الصالة والسالم‪.‬‬
‫وسنكتفي بنموذج منها لعلم من أعالم اإلمامية المعاصرين ه و الش يخ جعف ر‬
‫السبحاني الذي تناول تلك اآليات بطريقة علمية منهجية تنزيهية انطلق فيها من (أن‬
‫النهي ينقسم إلى قسمين‪ :‬مول وي وإرش ادي‪ ،‬والف رق بين القس مين بع د اش تراكهما‬
‫ال إلى َمن ه و دون ه‪ ،‬ه و أنّ ه اآلم ر ق د‬‫أن كالًّ منهما ص ادر عن آم ر ع ٍ‬‫غالبا ً في ّ‬
‫ينطلق في أمره ونهيه من موقع المولوية والسلطة‪ ،‬في أمر بم ا يجب أن يط اع‪ ،‬كم ا‬
‫أنّه ينهى ع ّمـا يجب أن يُجتنب‪ ..‬وق د ينطل ق في ذل ك من موق ع النص ح واإلرش اد‪،‬‬
‫والعظة والهداية‪ ،‬من دون أن يتخذ لنفسه موقف اآلمر‪ ،‬الواجبة طاعته‪ ..‬وعند ذل ك‬
‫يترك انتخاب أحد الجانبين للمخاطب ذاكراً له ما ي ترتّب على نفس العم ل من آث ار‬
‫خاصّة‪ ،‬من دون أن تترتّب على ذات المخالفة أيّة تبعة) (‪)2‬‬
‫ثم ضرب مثاال على ذلك بالطبيب الذي يصف دوا ًء لمريض ويأمره بتناوله‪،‬‬
‫فلو قام المريض بالطاعة واالمتثال‪ ،‬تترتّب عليه الصحّة والعافية‪ ،‬وإن خ الف أم ر‬
‫الطبيب لم يترتّب على تلك المخالفة سوى المضاعفات المترتّب ة على نفس العم ل ؛‬
‫ألن الطبيب لم يكتب له تلك الوصفة إالّ بما أنّه طبيب ناصح ومعالج مشفق‪.‬‬ ‫وذلك ّ‬
‫وبناء على هذا ذكر السبحاني أن (مخالفة النهي عن الشجرة إنّما تُع ّد معصية‬
‫بالمعنى المصطلح إذا كان النهي مولويا ً صادراً عنه سبحانه على وجه المولوية‪ ،‬ال‬
‫أم راً إرش اديا ً وارداً بص ورة النص ح‪ ،‬والق رائن الموج ودة في اآلي ات تش هد بأنّ ه‬
‫إرش ادي‪ ،‬ال ي ترتّب على مخالفت ه س وى م ا ي ترتّب على ذات العم ل من اآلث ار‬
‫الوضعية والطبيعية‪ ،‬ال مولوي حتى يترتّب عليه وراء تلك اآلثار‪ ،‬عق اب المخالف ة‬
‫ومؤاخذة التمرّد)‬

‫‪ )(1‬تفسير الطبري (‪.)535 /1‬‬


‫‪ )(2‬عصمة األنبياء ص ‪.94‬‬

‫‪43‬‬
‫ومن القرائن التي ذكرها على انطباق ذلك على قصة آدم ‪:)3(‬‬
‫‪ 1‬ـ لو كان النهي عن الش جرة نهي ا ً مولوي ا ً يجب أن يرتف ع أث ره بع د التوب ة‬
‫أن األثر المترتّب على المخالفة بقي على حال ه رغم توب ة آدم‬ ‫واإلنابة‪ ،‬مع أنّا نرى ّ‬
‫أن الخ روج عن الجنّ ة والتع رّض للش قاء‬ ‫وإنابته إلى هللا سبحانه‪ ،‬وه ذا دلي ل على ّ‬
‫والتعب‪ ،‬كان أثراً طبيعيا ً لنفس العمل‪ ،‬وك ان النهي لغاي ة ص يانة آدم ‪ ‬عن ه ذه‬
‫اب بم رض الس كر عن تن اول الم واد‬ ‫اآلثار والعواقب‪ ،‬كما إذا نهى الط بيبُ المص َ‬
‫السكرية‪.‬‬
‫إن اآليات الواردة في سورة ( طه ) تكشف النقاب عن نوعية هذا النهي‪،‬‬ ‫‪2‬ـ ّ‬
‫بأن النهي كان نهيا ً إرشاديا ً لصيانة آدم ‪ ‬ع ّمـا ي ترتّب علي ه من اآلث ار‬ ‫وتصرّح ّ‬
‫ك‬ ‫ْ‬
‫المكروهة والعواقب غير المحمودة‪ ،‬فقد قال سبحانه‪ ﴿ :‬فَقُلنَا يَ اآ َد ُم إِ َّن هَ َذا َع د ٌُّو لَ َ‬
‫ك فَاَل ي ُْخ ِر َجنَّ ُك َما ِمنَ ْال َجنَّ ِة فَتَ ْشقَى (‪ )117‬إِ َّن لَكَ أَاَّل تَجُو َع فِيهَ ا َواَل تَ ْع َرى (‬ ‫َولِزَ وْ ِج َ‬
‫إن قول ه‬ ‫َض َحى (‪[ ﴾)119‬ط ه‪ ،]119 - 117 :‬ف ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫‪َ )118‬وأَنَّكَ اَل تَظ َم أ فِيهَ ا َواَل ت ْ‬
‫أن أث ر امتث ال النهى ه و‬ ‫الجنَّ ِة فَت َْش قَى ) ص ريح في ّ‬ ‫س بحانه‪ ( :‬فَال ي ُْخ ِر َجنَّ ُك َم ا ِمنَ َ‬
‫البقاء في الجنّة‪ ،‬ونيل السعادة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ إنّه سبحانه ـ بعد ما أكل آدم وزوجته من الش جرة وب دت لهم ا س وءاتهما‬
‫وطفقا يخصفان عليهم ا من ورق الجنّ ة ـ ناداهم ا‪ ﴿ :‬أَلَ ْم أَ ْنهَ ُك َم ا ع َْن تِ ْل ُك َم ا َّ‬
‫الش َج َر ِة‬
‫إن ه ذا اللس ان‪ ،‬لس ان‬ ‫ين﴾ [األع راف‪ ،]22 :‬ف ّ‬ ‫َوأَقُلْ لَ ُك َما إِ َّن ال َّش ْيطَانَ لَ ُك َم ا َع د ٌُّو ُمبِ ٌ‬
‫الناصح المشفق الذي أرشد مخاطبه لمصالحه ومفاسده في الحياة‪ ،‬ولكنّ ه خالف ه ولم‬
‫يسمع قوله‪ ،‬فعندئ ٍذ يعود ويخاطبه بقوله‪ :‬ألم أقل لك‪ ...‬ألم أنهك عن هذا األمر؟‬
‫أن وسوس ة الش يطان لهم ا لم يكن إالّ إلب داء م ا ُورى‬ ‫‪ 4‬ـ إنّه س بحانه يبيّـن ّ‬
‫ي‬ ‫ي لَهُ َم ا َم ا ُو ِ‬
‫ور َ‬ ‫الش ْيطَانُ لِيُ ْب ِد َ‬ ‫س لَهُ َم ا َّ‬ ‫عنهما من س وءاتهما حيث يق ول‪﴿ :‬فَ َو ْس َو َ‬
‫أن ما يترتب على الوسوسة‬ ‫َع ْنهُ َما ِم ْن َسوْ آتِ ِه َما ﴾ [األعراف‪ ]20 :‬وهذا يكشف عن ّ‬
‫ومخالفة آدم ‪ ‬بعدها لم يكن إالّ إبداء ما ُوري عنهم ا من الس وأة‪ ،‬ال ذي ه و أث ر‬
‫طبيعي للعمل من دون أن يكون له أثر آخر من ابتعاده عن لطفه سبحانه‪ ،‬وحرمان ه‬
‫عن قربه‪ ،‬الذي هو أثر المخالفة للخطابات المولوية‪.‬‬
‫أن وسوس ة الش يطان لهم ا ك انت بص ورة النص ح‬ ‫‪ 5‬ـ إنّ ه س بحانه يحكي ّ‬
‫أن‬ ‫اص ِحينَ ) وه ذا يكش ف عن ّ‬ ‫اس َمهُ َما إِنّي لَ ُك َم ا لَ ِمنَ النَّ ِ‬‫واإلرشاد حيث ق ال‪َ ( :‬وقَ َ‬
‫خطابه سبحانه إليهما كان بصورة النص ح أيض اً‪ ،‬وه ذا واض ح ل َمن ل ه أدنى إلم ام‬
‫بأساليب الكالم‪.‬‬
‫أن الظرف الذي تلقى فيه آدم هذا النهي ( النهي عن األكل من الش جرة )‬ ‫ّ‬ ‫‪6‬ـ ّ‬
‫إن ظ رف التكلي ف ه و‬ ‫لم يكن ظرف تكليف حتى تُع ّد مخالفته عصيانا ً لمقتض اه‪ ،‬ف ّ‬
‫المحيط الذي هبط إليه مع زوجته بعد رفض النص ح‪ ،‬أ ّم ا ذل ك المحي ط فك ان ُمع ّداً‬
‫لتبصير اإلنسان بأعدائه وأص دقائه‪ ،‬ودورة تعليمي ة لمش اهدة نت ائج الطاع ة وآث ار‬
‫المخالفة‪ ،‬أي ما يترتّب على قبول قوله سبحانه من السعادة‪ ،‬وما ي ترتّب على قب ول‬
‫‪ )(3‬عصمة األنبياء ص ‪ ،96‬فما بعدها‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫قول إبليس من الشقاء‪ ،‬وفي مثل ذلك المحيط ال يُع ّد النهي وال األمر تكليفاً‪ ،‬ب ل يُع د‬
‫وس يلة للتبص ير وتحص يل االس تعداد لتح ّم ل التك اليف في المس تقبل‪ ،‬وك انت تل ك‬
‫الدورة من الحياة دورة إعدادية ألبي البشر وأُ ّمهم‪ ،‬حتى يلمس الحقائق لمس اليد‪.‬‬
‫أن النهي في‬ ‫فهذه القرائن التي ذكرها السبحاني وغيره ا ت دل بوض وح على ّ‬
‫هذا المقام كان نهيا ً إرشاديا ً ال مولوياً‪ ،‬وكان الهدف تبقية آدم ‪ ‬بعيداً عن عوام ل‬
‫الشقاء والتعب‪ ،‬ولكنّه لم يسمع قول ناصحه فعرّض نفس ه للش قاء‪ ،‬وص ار مس تحقّا ً‬
‫ْض َع ُد ٌّو َولَ ُك ْم فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ض ُم ْس تَقَ ٌّر‬ ‫ألن يخاطب بقوله سبحانه‪﴿( :‬ا ْهبِطُوا بَ ْع ُ‬
‫ض ُك ْم لِبَع ٍ‬
‫ع إِلَى ِحي ٍن﴾ [البقرة‪]36 :‬‬
‫َو َمتَا ٌ‬
‫أما ما ورد من قوله تعالى في حق آدم ‪َ ( ‬وعَص ى آ َد ُم َربَّهُ فَ َغ وى )‪ ،‬فق د‬
‫أجاب عنها ـ كما أجاب كل القائلين بالعصمة ـ على أن لفظ ة (عص ى ) وإن ك انت‬
‫مس تعملة في مص طلح المتش رّعة في ال ذنب والمخالف ة لإلرادة القطعي ة الملزم ة‪،‬‬
‫ولكنّه اصطالح مختص بالمتشرّعة ولم يجر الق رآن على ذل ك المص طلح‪ ،‬ب ل وال‬
‫أن العصيان هو خالف الطاعة‪( ،‬وعلى‬ ‫فإن الظاهر من القرآن ومعاجم اللغة ّ‬ ‫اللغة‪ّ ،‬‬
‫ذلك فيجب علينا أن نالحظ األم ر ال ذي خول ف في ه ذا الموق ف‪ ،‬ف إن ك ان األم ر‬
‫مولويا ً إلزاميا ً كان العص يان ذنب اً‪ ،‬وإذا ك ان أم راً إرش اديا ً أو نهي ا ً تنزيهي ا ً لم تكن‬
‫المخالفة ذنبا ً في المصطلح‪ ،‬وألجل ذلك ال يصلح التمسّك بهذا اللفظ وإثب ات ال ذنب‬
‫على آدم ‪)1(‬‬
‫أ ّما اللفظة الثانية ( فغوى ) فأجاب عنه ا ب أن (الم راد من الغي في اآلي ة ه و‬
‫خيب ة آدم وخس رانه وحرمان ه من العيش الرغي د ال ذي ك ان مج رداً عن الظم أ‬
‫والعرى‪ ،‬بل من المنغصات والمشقات‪ ،‬وليس كل خيب ة تتو ّج ه إلى اإلنس ان ناش ئة‬
‫أن الغي بمعنى الضالل في مقاب ل الرش د‪ ،‬لكن ليس‬ ‫من الذنب المصطلح‪ ..‬ولو سلم ّ‬
‫إن من ض ل في طري ق الكس ب أو في طري ق التعلّم يص دق‬ ‫كل ضالل معص ية‪ ،‬ف ّ‬
‫عليه أنّه غوى‪ :‬أي ضل‪ ،‬ولكنّه ال يالزم المعصية) (‪)2‬‬
‫هذا نموذج عن كيفية قراءة النصوص المقدسة بما يتوافق مع عصمة األنبياء‬
‫عليهم الصالة والسالم‪ ،‬وهي قراءة استفادها السبحاني كما اس تفادها غ يره من تل ك‬
‫المعاني النبيلة ال تي ك ان ينش رها أولي اء هللا من أه ل بيت النب وة في مواجه ة ذل ك‬
‫الزحف من الروايات اإلسرائيلية ال تي راحت تخ ترق الرس ائل المقدس ة ال تي ج اء‬
‫القرآن الكريم لينشرها‪.‬‬
‫وسأذكر هنا نموذجا عن ولي من أولياء هللا وإمام من أئم ة ال دين اتفقت على‬
‫واليت ه األم ة جميع ا‪ ،‬لكن منهم من اكتفى بحب ه‪ ،‬ومنهم من راح ينه ل من علم ه‪،‬‬
‫ويستفيد من منهجه‪.‬‬
‫وهذا اإلمام هو اإلم ام علي الرض ا‪ ،‬وال ذي رويت عن ه من اظرة طويل ة م ع‬
‫القائلين بالتخطئة‪ ،‬نسوقها هنا باختصار‪ ،‬فقد سئل ـ حس بما تنص الرواي ة ـ‪ :‬ي ا ابن‬
‫‪ )(1‬عصمة األنبياء ص ‪.94‬‬
‫‪ )(2‬عصمة األنبياء ص ‪.94‬‬

‫‪45‬‬
‫رسول هللا أتقول بعصمة األنبياء؟ قال‪ :‬بلى‪ ،‬قال‪ :‬فما تق ول في ق ول هللا ع ز وج ل‪:‬‬
‫َاض بًا فَظَ َّن أَن لَّن‬ ‫َب ُمغ ِ‬ ‫ون إِذ َّذه َ‬‫(و َذا النُّ ِ‬ ‫َصى آ َد ُم َربَّهُ فَغ ََوى) وقوله عز وج ل‪َ :‬‬ ‫(وع َ‬ ‫َ‬
‫ت بِ ِه َوهَ َّم بِهَ ا)‪ ،‬وقول ه في داود ( َوظَ َّن‬ ‫نَّ ْق ِد َر َعلَ ْي ه)‪ ،‬وقول ه في يوس ف ( َولَقَ ْد هَ َّم ْ‬
‫(وتُ ْخفِي فِي نَ ْف ِس كَ َم ا هَّللا ُ ُم ْب ِدي ِه َوت َْخ َش ى‬ ‫دَا ُوو ُد أَنَّ َم ا فَتَنَّاه)‪ ،‬وقول ه في نبي ه محم د َ‬
‫ق أَن ت َْخ َشاهُ)‬ ‫اس َوهَّللا ُ أَ َح ُّ‬‫النَّ َ‬
‫فق ال اإلم ام الرض ا مخاطب ا من اظره‪( :‬ات ق هللا وال تنس ب إلى أنبي اء هللا‬
‫يقول(و َما يَ ْعلَ ُم تَأْ ِويلَهُ إِالَّ هّللا ُ‬
‫َ‬ ‫الفواحش‪ ،‬وال تؤول كتاب هللا برأيك‪ ،‬فان هللا عز وجل‬
‫َّاس ُخونَ فِي ْال ِع ْل ِم)‬ ‫َوالر ِ‬
‫ثم راح يجيبه عن شبهاته‪ ،‬فقال‪( :‬واما قوله عز وجل فعصى آدم رب ه فغ وى‬
‫فان هللا عز وجل خلق آدم حجة في ارضه وخليفة في بالده ولم يخلقه للجنة وك انت‬
‫المعصية من آدم في الجنة ال في األرض لتتم مقادير ام ر هللا ع ز وج ل فلم ا اهب ط‬
‫اص طَفَى آ َد َم َونُو ًح ا‬ ‫إلى األرض جعل حجة وخليفة عصم بقول ه ع ز وج ل (إِ َّن هّللا َ ْ‬
‫َوآ َل إِب َْرا ِهي َم َوآ َل ِع ْم َرانَ َعلَى ْال َعالَ ِمين)‪.‬‬
‫ضبًا فَظَ َّن أَن لَّن نَّ ْق ِد َر َعلَ ْي ه) انم ا‬ ‫َب ُمغَا ِ‬ ‫ون إِذ َّذه َ‬ ‫واما قوله ع ّز وج ّل َ‬
‫(و َذا النُّ ِ‬
‫ظن أن هللا عز وجل ال يضيق عليه اال تسمع قول هللا ع ز وج ل ( َوأَ َّما إِ َذا َم ا ا ْبتَاَل هُ‬
‫فَقَد ََر َعلَ ْي ِه ِر ْزقَه) اي ضيق عليه ولو ظن أن هللا ال يقدر عليه لكان قد كفر‪.‬‬
‫ت بِ ِه َوهَ َّم بِهَا) فإنها همت بالمعصية‬ ‫(ولَقَ ْد هَ َّم ْ‬
‫واما قوله عز وجل في يوسف َ‬
‫وهم يوسف بدفعها ان أجبرته لعظم ما داخله‪.‬‬
‫وأما داود‪ ...‬إنما ظن أن هللا لم يخلق خلقا هو اعلم منه فبعث هللا إلي ه الملكين‬
‫فتسوروا المح راب فق اال خص مان بغى بعض نا على بعض ف احكم بينن ا ب الحق وال‬
‫تشطط واهدنا إلى سواء الصراط إن ه ذا أخي ل ه تس ع وتس عون نعج ة ولي نعج ة‬
‫واحدة فقال اكفلنيها وعزني في الخطاب‪ ،‬فعج ل داود على الم دعي علي ه فق ال لق د‬
‫ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاج ه ولم يس أل الم دعي البين ة على ذل ك ولم يقب ل على‬
‫المدعى عليه فيقول ما يقول‪ ،‬فقال هذه خطيئة حكمه ال ما ذهبتم إليه اال تس مع ق ول‬
‫ض فَ احْ ُكم بَ ْينَ النَّ ِ‬
‫اس‬ ‫هللا ع ز وج ل (يَ ا دَا ُوو ُد إِنَّا َج َع ْلنَ اكَ خَ لِيفَ ةً فِي اأْل َرْ ِ‬
‫(وتُ ْخفِي فِي نَ ْف ِس كَ َم ا هَّللا ُ ُم ْب ِدي ِه َوت َْخ َش ى‬ ‫بِ ْال َحق)‪...‬وأما محمد وقول هللا ع ز وج ل َ‬
‫ق أَن ت َْخ َش اهُ) ف إن هللا ع ز وج ل ع رف نبي ه أزواج ه في دار ال دنيا‬ ‫اس َوهَّللا ُ أَ َح ُّ‬ ‫النَّ َ‬
‫وأسماء أزواجه في اآلخرة وأنهن أمه ات المؤم نين واح د من س مى ل ه زينب بنت‬
‫جحش وهي يومئذ تحت زيد بن حارثة فأخفى اسمها في نفسه ولم يبدل ه لكيال يق ول‬
‫أح د من المن افقين ان ه ق ال في ام رأة في بيت رج ل أنه ا أح د أزواج ه من أمه ات‬
‫ق أَن ت َْخ َشاهُ) وان هللا ع ز‬ ‫(وهَّللا ُ أَ َح ُّ‬
‫المؤمنين وخشي قول المنافقين قال هللا عز وجل َ‬
‫وجل ما تولى تزويج أحد من خلقه إال تزويج حواء من آدم ‪ ‬وزينب من رس ول‬
‫هللا ‪ ‬وفاطمة من علي ‪)1()‬‬
‫ه ذا مج رد نم وذج عم ا ورد في الق رآن في ح ق األنبي اء عليهم الص الة‬
‫‪ )(1‬بحار األنوار‪ ،‬ج‪ ،11‬ص‪ ،72 :‬وانظر‪ :‬قصص األنبياء عليهم السالم ‪ -‬الجزائري ‪ -‬ص ‪..15 - 13‬‬

‫‪46‬‬
‫والسالم‪ ،‬والقراءات المتعددة له‪ ،‬وسنرى في الفصول القادمة نماذج أك ثر تفص يال‪،‬‬
‫ليتبين لنا من خاللها مدى انحراف السلفية عن المفهوم الذي عرضه الق رآن الك ريم‬
‫للنبوة‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫غرائز‪ ..‬وشهوات‬
‫من القضايا الكبرى التي اهتم بها التراث السلفي العقدي والحديثي والتاريخي‬
‫المتعلق بالتعريف باألنبياء عليهم الصالة والس الم البحث عن ع دد نس اء ك ل ن بي‪،‬‬
‫وأسمائهن‪ ،‬وأنسابهن‪ ،‬وأوالدهن‪ ،‬وفوق ذلك مدى جمالهن‪ ،‬ومدى تعلق النبي بهن‪.‬‬
‫ألن من ضروريات النبي التي دافع عنها السلفية كثيرا‪ ،‬واتهموا المخالف لها‬
‫بالبدعة والهرطقة هو كون النبي قويا في شأن النساء‪ ..‬وربما تكون هذه الناحية هي‬
‫الوحيدة التي اعتبروا فيها النبي مخالفا للبشر الع اديين‪ ..‬وق د اختلف وا في م دى ق وة‬
‫النبي‪ :‬هل هي مائة أو مائتين‪ ..‬أو ألفا أو آالفا‪ ..‬وربما يكون ذلك بحس ب ك ل ن بي‪،‬‬
‫وبحسب ما كان له من النساء والجواري والمحظيات‪.‬‬
‫وليت التراث السلفي توقف عند هذا‪ ..‬بل إننا نراه‪ ،‬وإمعانا في إهان ة األنبي اء‬
‫وتدنيسهم يتحدث عن شبقهم الدائم للنساء‪ ،‬وخاصة الجميالت‪ ..‬فمع ك ثرة م ا ل ديهم‬
‫من النساء‪ ،‬إال أنهم إذا ما رأوا امرأة جميلة استعملوا ك ل الحي ل للحص ول عليه ا‪..‬‬
‫والحيل الشرعية طبعا‪ ،‬والتي يبررها السلفية بكل صنوف المبررات‪.‬‬
‫بل إن السلفية أثناء حديثهم عن هذا الشبق الغريزي لهذه الجواهر المقدس ة ال‬
‫يبالون بأن يخ الفوا الق رآن الك ريم في ك ل م ا ي ورده عن النس اء‪ ،‬وعالق ة األنبي اء‬
‫بهن‪ ..‬بل إنهم يصورون يوسف ‪ ‬رمز العفة والطهارة والنق اء بص ورة خط يرة‬
‫تجعله ال يختلف عن أي فاجر وفاسق ومنحرف‪.‬‬
‫وقد سرى ما ذكروه عن األنبياء عليهم الصالة والس الم إلى تعديت ه إلى نبين ا‬
‫‪ ،‬فذكروا في شأنه أيضا ما يستحيا من ذكره(‪.)1‬‬
‫وك ل م ا ذك روه في ه ذه الناحي ة مخ الف للق رآن الك ريم‪ ..‬ومخ الف لرؤي ة‬
‫الفطرة الطاهرة لإلنسان الكامل‪ ..‬ومخالف ف وق ذل ك لحي اة األنبي اء عليهم الص الة‬
‫والسالم الممتلئة بالعفاف والزهد واالنشغال باهلل عما سواه‪.‬‬
‫وحتى نؤك د م ا ذكرن ا‪ ،‬وح تى ال يص بح م ا نس بناه للس لفية مج رد دع وى‪،‬‬
‫فسنذكر هنا ثالثة نماذج عن أنبياء هللا‪ ،‬وعالقتهم بالنساء في الرؤية السلفية‪..‬‬
‫واألنبياء الثالثة هم ـ حس ب ال ترتيب الت اريخي‪ :‬يوس ف‪ ،‬وداود‪ ،‬وس ليمان‪..‬‬
‫وقد سبق أن ذكرنا في كتابنا [رسول هللا‪ ..‬والقل وب المريض ة] م ا ذك روه من ه ذه‬
‫الناحية في حياة رسول هللا ‪.‬‬
‫يوسف ‪:‬‬
‫مع أن يوسف ‪ ‬يمثل في القرآن الكريم الكثير من القيم اإلنسانية الرفيع ة‪،‬‬
‫التي تتناول الكثير من جوانب الحياة‪ ،‬والتي أش ار إليه ا إخب ار الق رآن الك ريم عن د‬
‫حديثه عن إعداده إعدادا خاصا‪ ،‬حيث ذكر اجتباءه من بداية حياته وصباه‪ ،‬وتعليم ه‬
‫من تأويل األحاديث‪ ،‬وإتمام نعمته عليه‪ ..‬إال أن أهمها جميعا‪ ،‬أو أصلها جميع ا ه و‬
‫‪ )(1‬ذكرنا األدلة على ذلك في كتاب [رسول هللا‪ ..‬والقلوب المريضة]‬

‫‪48‬‬
‫تلك الروح الطاهرة الممتلئة بالعفاف‪ ،‬والتي صورها القرآن الكريم أحسن تصوير‪.‬‬
‫وأول تصوير لها هو م ا ع بر عن ه الق رآن الك ريم بقول ه ـ بع د ذك ر حادث ة‬
‫الس و َء َو ْالفَحْ َش ا َء إِنَّهُ ِم ْن ِعبَا ِدنَ ا‬ ‫َص ِرفَ َع ْن هُ ُّ‬ ‫اإلغواء التي تعرض له ا ـ ﴿ َك َذلِكَ لِن ْ‬
‫صينَ ﴾ [يوسف‪ ،]24 :‬فقد علل هللا تعالى تلك القوة التي استطاع أن يواجه به ا‬ ‫ْال ُم ْخلَ ِ‬
‫اإلغراء بكل جوانبه بكونه من المخلَصين‪.‬‬
‫فالمخلَصون هم أولئك الطاهرون الذين تخلصوا من رق أنفس هم وش هواتهم‪،‬‬
‫وصاروا أحرارا بعبوديتهم هلل وحده‪ ،‬ولذلك ال يس تطيع أي ش يء في ال دنيا وال في‬
‫اآلخرة أن يأسرهم‪ ،‬بعد أن فنوا في محبوبهم األول‪ ،‬واستغرقوا في رحلتهم إليه‪.‬‬
‫هك ذا يفهم الع ارفون يوس ف‪ ،‬وهك ذا أيض ا يعرف ون س ر نجات ه من ذل ك‬
‫اإلغواء‪ ..‬ولذلك أيضا ال يستغربون من فعله‪ ..‬وكي ف يس تغربون‪ ،‬وهم يعلم ون أن‬
‫يوسف ‪ ‬مثله مثل سائر أنبياء هللا وأولياء هللا ال يغيب هللا عنهم لحظة واحدة‪.‬‬
‫وكي ف يغيب وهم في تل ك المرتب ة ال تي ع بر عنه ا رس ول هللا ‪ ‬فق ال‪:‬‬
‫(اإلحسان أن تعبد هللا كأنك تراه)؟‬
‫وكي ف يعص ي هللا من يش عر أن هللا ي راه‪ ..‬وكي ف يعص يه من قلب ه في ك ل‬
‫لحظة يرى ربه‪ ،‬ويعيش معه؟‬
‫بل كيف يعص يه‪ ،‬ومن دون ه من الن اس ممن ال يص ل إلى عش ر معش ار م ا‬
‫وصل إليه من فضل هللا يمكنه أن يتحكم في نفسه في مواضع اإلغراء‪ ،‬كما قال ‪‬‬
‫عند ذكره للسبعة ال ذين يظلهم هللا بظ ل كرم ه الخ اص‪( :‬ورج ل دعت ه ام رأة ذات‬
‫منصب وجمال فقال‪ :‬إني أخاف هللا)(‪)1‬؟‬
‫هذا هو التفسير القرآني لذلك الموق ف العظيم ال ذي وقف ه ش اب جمي ل دعت ه‬
‫ام رأة ذات منص ب وجم ال إلى معص ية هللا‪ ..‬بع د أن غلقت األب واب‪ ..‬وك ان ه و‬
‫مجرد عبد من عبيدها ال يملك إال طاعتها‪ ..‬وكانت هي فوق ذل ك تمل ك من الس لطة‬
‫ما تقتله أو تعذبه أو تسجنه إن هو رفض طلبها‪ ..‬ولكنه مع ذلك رفض طلبها‪ ،‬وبكل‬
‫قوة‪ ،‬بل لم يبد لها أي لون من ألوان القبول‪..‬‬
‫وبع د أن خلعت ك ل جالبيب الحي اء في مرادوته ا ل ه‪ ،‬وح تى يتخلص منه ا‬
‫توج ه إلى هللا تع الى به ذا ال دعاء العظيم ال ذي ه و ش عار العف ة والطه ارة‪َ ﴿ :‬ربِّ‬
‫ص بُ إِلَ ْي ِه َّن َوأَ ُك ْن ِمنَ‬
‫ف َعنِّي َك ْي َده َُّن أَ ْ‬ ‫السِّجْ نُ أَ َحبُّ إِلَ َّ‬
‫ي ِم َّما يَ ْدعُونَنِي إِلَ ْي ِه َوإِاَّل تَصْ ِر ْ‬
‫ْال َجا ِهلِينَ ﴾ [يوسف‪]33 :‬‬
‫وإنما قال يوسف ‪ ‬ذلك تواض عا هلل وعبودي ة ل ه‪ ،‬ألن ه ال يمل ك من أم ره‬
‫شيئا‪ ..‬ولذلك ألح على هللا في أن يسجن حتى يضمن لنفسه الخالص منهن‪..‬‬
‫وفي اآلي ة الكريم ة دلي ل على أن يوس ف ‪ ‬لم يتع رض إلغ واء ام رأة‬
‫واحدة‪ ،‬بل تعرض إلغواء نس اء كث يرات‪ ،‬وم ع ذل ك أص ر على موقف ه العظيم في‬
‫مواجهة الفتنة‪.‬‬
‫وقد شهد له بهذا النبل وه ذه الغ يرة ام رأة العزي ز وجمي ع النس وة ال تي قمن‬
‫‪ )(1‬البخاري ‪ ،143 /2‬ومسلم ‪.716 - 715 /2‬‬

‫‪49‬‬
‫اش هَّلِل ِ‬‫َطبُ ُك َّن إِ ْذ َرا َو ْدتُ َّن يُوسُفَ ع َْن نَ ْف ِس ِه قُ ْلنَ َح َ‬ ‫ال َما خ ْ‬ ‫بإغرائه‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬قَ َ‬
‫او ْدتُ هُ ع َْن‬ ‫َ‬
‫ق أنَ ا َر َ‬ ‫ْ‬
‫ص ال َح ُّ‬‫ص َح َ‬ ‫آْل‬
‫ت ال َع ِزي ِز ا نَ َح ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َما َعلِ ْمنَا َعلَ ْي ِه ِم ْن سُو ٍء قَالَ ِ‬
‫ت ا ْم َرأ ُ‬
‫هَّللا‬
‫ب َوأ َّن َ اَل يَ ْه ِدي َك ْي َد‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ك لِيَ ْعلَ َم أنِّي لَ ْم أ ُخ ْنهُ بِ ال َغ ْي ِ‬‫نَ ْف ِس ِه َوإِنَّهُ لَ ِمنَ الصَّا ِدقِينَ (‪َ )51‬ذلِ َ‬
‫ْالخَائِنِينَ (‪[ ﴾)52‬يوسف‪]52 ،51 :‬‬
‫ولو أن يوسف ‪ ‬أبدى ولو طرفا خفيفا من اإلجابة لمطالبهن لما قلن ه ذا‪..‬‬
‫ولذكرن كل ما حصل منه‪ ..‬ولما كان أصال طلب من العزي ز أن ي دعوهن ليش هدن‬
‫َّس و ُل‬ ‫ك ا ْئتُونِي بِ ِه فَلَ َّما َج ا َءهُ الر ُ‬ ‫ال ْال َملِ ُ‬
‫﴿وقَ َ‬
‫على ما حصل بالضبط‪ ،‬كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫اس أ َ ْلهُ َم ا بَ ا ُل النِّ ْس َو ِة الاَّل تِي قَط ْعنَ أ ْي ِديَه َُّن إِ َّن َربِّي بِ َك ْي ِد ِه َّن‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫قَ ا َل ارْ ِج ْع إِلَى َربِّكَ فَ ْ‬
‫َعلِي ٌم﴾ [يوسف‪]50 :‬‬
‫هذه هي الرؤي ة القرآني ة‪ ،‬وهي نفس الرؤي ة ال تي تبناه ا الق ائلون بالعص مة‬
‫المطلقة لألنبياء عليهم السالم‪ ،‬كما عبر عن لسانهم العالمة الطباطبائي بقوله ـ عن د‬
‫بيان أسرار العصمة التي واجه بها يوسف عليهم السالم تلك الفتنة العظيمة ـ‪( :‬فق د‬
‫كان يوسف رجالً‪ ،‬ومن غريزة الرجال الميل إلى النساء‪ ،‬وك ان ش اباً‪ ،‬بالغ ا ً أش ّده‪،‬‬
‫وذاك أوان غليان الشهوة وفوران الشبق‪ ،‬وكان ذا جمال بديع يدهش العقول ويسلب‬
‫األلباب‪ ،‬والجمال والمالحة يدعوان إلى الهوى‪ ..‬ه ذا من ج انب‪ ،‬ومن ج انب آخ ر‬
‫كان مس تغرقا ً في النعم ة وه نيء العيش‪ ،‬محب وراً بمث وى ك ريم‪ ،‬وذل ك من أق وى‬
‫أسباب التهوّس‪ ..‬وكانت الملكة فتاة فائق ة الجم ال كم ا ه و الح ال في ح رم المل وك‬
‫والعظماء‪ ،‬وكانت ال محالة متزيّنة لما يأخذ بمجامع كل قلب‪ ،‬وهي عزيزة مص ر ـ‬
‫ومع ذلك ـ عاشقة له والهة تتوق نفسها إليه‪ ،‬وكانت لها س وابق اإلك رام واإلحس ان‬
‫واإلنعام ليوسف‪ ،‬وذلك كلّه م ّما يقطع اللسان ويص مت اإلنس ان وق د تعرّض ت ل ه‪،‬‬
‫ودعته إلى نفسها‪ ،‬والصبر مع التعرّض أصعب‪ ،‬وقد راودته ه ذه الفتّان ة وأتت بم ا‬
‫في مق درتها من الغنج وال دالل‪ ،‬وق د ألّـحت علي ه فجذبت ه إلى نفس ها ح تى ق ّدت‬
‫قميصه‪ ،‬والصبر معه أصعب وأشق‪ ،‬وكانت عزيزة ال يرد أمرها وال يث نى رأيه ا‪،‬‬
‫وهي رتبة خصّها بها العزيز‪ ،‬وكان في قصر زا ٍه من قص ور المل وك ذي المن اظر‬
‫الرائعة التي تبهر العيون وتدعو إلى كل عيش هنيء‪ ..‬وكان ا في خل وة‪ ،‬وق د غلّقت‬
‫األبواب وأرخت الستور‪ ،‬وكان ال يأمن من الش ر م ع االمتن اع‪ ،‬وك ان في أمن من‬
‫ظهور األمر وانتهاك الستر ؛ ألنّها كانت عزيزة‪ ،‬بيدها أسباب الستر والتعمية‪ ،‬ولم‬
‫تكن هذه المخالط ة فائت ة لم رة ب ل ك انت مفتاح ا ً لعيش ه نيء طوي ل‪ ،‬وك ان يمكن‬
‫يتوس ل به ا إلى كث ير من آم ال‬ ‫ّ‬ ‫ليوسف أن يجعل ه ذه المخالط ة والمعاش قة وس يلة‬
‫ُ‬
‫الحياة وأمانيها كالملك والع ّزة والمال‪ .‬فهذه أسباب وأمور هائلة لو توجّهت إلى جبل‬
‫له ّدته‪ ،‬أو أقبلت على صخرة ص ّمـاء ألذابته ا‪ ،‬ولم يكن هن اك م ّم ا يت وهّم مانع ا ً إالّ‬
‫الخوف من ظه ور األم ر‪ ،‬أو مناع ة نس ب يوس ف‪ ،‬أو قبح الخيان ة للعزي ز‪ ،‬ولكن‬
‫الكل غير صالح لمنع يوسف عن ارتكاب العمل‪.‬أ ّم ا الخ وف من ظه ور األم ر فق د‬
‫كان في أَمن منه‪ ،‬ولو كان بدا من ذلك شيء لكان في وسع العزيزة أن تأوّله ت أويالً‬
‫كما فعلت فيما ظهر من أمر مراودتها‪ ،‬فكادت حتى أرض ت نفس العزي ز إرض ا ًء‪،‬‬

‫‪50‬‬
‫فلم يؤاخذها بشيء‪ ،‬وقلبت العقوبة على يوسف حتى سجن‪ .‬وأ ّما مناع ة النس ب فل و‬
‫كانت مانع ة لمنعت إخ وة يوس ف ع ّمـا ه و أعظم من الزن ا وأش د إثم اً‪ ..‬وأ ّم ا قبح‬
‫الخيان ة وحرمته ا فه و من الق وانين االجتماعي ة‪ ،‬وهي إنّم ا ت ؤثّر بم ا تس تتبعه من‬
‫التبعة على تقدير المخالفة ؛ وذلك إنّما يتم فيم ا إذا ك ان اإلنس ان تحت س لطة الق وّة‬
‫المجرية والحكومة العادلة‪ ،‬وأ ّم ا ل و أغفلت الق وّة المجري ة‪ ،‬أو فس قت ف أهملت‪ ،‬أو‬
‫خفي الج رم عن نظره ا‪ ،‬أو خ رج من س لطانها فال ت أثير حينئ ذ لش يء من ه ذه‬
‫القوانين) (‪)1‬‬
‫وبعد أن نفى كل ما يمكن أن يكون حاجزا ليوس ف ‪ ‬عن الوق وع في ه ذه‬
‫الخطيئة‪ ،‬ذكر سر العصمة الحقيقي‪ ،‬فقال‪ ..( :‬فلم يكن عند يوسف م ا ي دفع ب ه عن‬
‫نفسه ويظهر به على هذه األسباب القوي ة ال تي ك انت له ا علي ه‪ ،‬إالّ أص ل التوحي د‬
‫وهو اإليمان باهلل‪ ،‬وإن شئت قلت‪ :‬المحبة اإللهية التي مألت وج وده وش غلت قلب ه‪،‬‬
‫فلم تترك لغيرها محالً وال موضع أصبع)(‪)2‬‬
‫لكن السلفيين ـ الذين بدعوا القائلين بالعصمة المطلقة ـ لم ينظ روا إلى جمي ع‬
‫هذه المعاني السامية‪ ،‬وكع ادتهم ب التعلق بالمتش ابه‪ ،‬وتفس يره على حس اب المحكم‪،‬‬
‫ت بِ ِه َوهَ َّم بِهَا لَوْ اَل أَ ْن َرأَى بُرْ هَانَ ﴾ [يوس ف‪،]24 :‬‬ ‫﴿ولَقَ ْد هَ َّم ْ‬
‫ركنوا إلى قوله تعالى‪َ :‬‬
‫فراحوا يستغلونها أقبح استغالل في تشويه صورة هذا النبي الكريم‪.‬‬
‫فقد فسروها ـ كما فس روا الي د والس اق والرج ل بالنس بة هلل تع الى ـ فجعل وا‬
‫وأن ه ّمه بها ك ان كه ّمه ا ب ه‪ ،‬ول وال أن ه‬ ‫همها وهمه واحدا‪ ..‬أي أنه ه ّم بالمخالطة‪ّ ،‬‬
‫رأى برهان ربّه لفع ل‪ ،‬وق د ص انته عن ارتك اب الجريم ة ـ بع د اله ّم به ا ـ رؤي ة‬
‫البرهان‪.‬‬
‫مع أنه كان يمكنهم أن يفس روها على مقتض ى اللغ ة وعلى مقتض ى عص مة‬
‫األنبياء بسهولة ويسر‪ ..‬ولذلك وجوه كثيرة‪ ،‬وبجميعها نطق العرب‪.‬‬
‫وأبسطها أن يقدروها (لوال أن رأى برهان ربّه له ّم بها)‪ ،‬ألن ذل ك ي دل على‬
‫عدم تحقّق الهم منه ل ّما رأى برهان ربّه‪.‬‬
‫و(برهان ربه) كما فسره الق رآن الك ريم ه و تل ك الحجج اليقيني ة ال تي تجلّي‬
‫ك إِلَى فِرْ َع وْ نَ‬ ‫ان ِم ْن َربِّ َ‬ ‫ك بُرْ هَانَ ِ‬‫الحق وال تدع ريبا ً لمرتاب‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬فَ َذانِ َ‬
‫اس قِينَ ﴾ [القص ص‪ ،]32 :‬وق ال‪﴿ :‬يَاأَيُّهَ ا النَّاسُ قَ ْد َج ا َء ُك ْم‬ ‫َو َملَئِ ِه إِنَّهُ ْم َك انُوا قَوْ ًم ا فَ ِ‬
‫ص ا ِدقِينَ ﴾‬ ‫ان ِم ْن َربِّ ُك ْم﴾ [النس اء‪ ،]174 :‬وق ال‪ ﴿ :‬قُ لْ هَ اتُوا بُرْ هَ انَ ُك ْم إِ ْن ُك ْنتُ ْم َ‬ ‫بُرْ هَ ٌ‬
‫[البقرة‪]111 :‬‬
‫وهذا البره ان هن ا ه و (العلم المكش وف واليقين المش هود ال ذي يج ر النفس‬
‫اإلنسانية إلى طاعة ال تميل معها إلى معصية‪ ،‬وانقياد ال تصاحبه مخالف ة‪ ..‬ذل ك أن‬
‫إحدى أُسس العصمة هو العلم اليقين بنتائج المآثم وعواقب المخالف ة علم ا ً ال يغلب‪،‬‬
‫وانكش افا ً ال يقه ر‪ ،‬وه ذا العلم ال ذي ك ان يص احب يوس ف ه و ال ذي ص ّده ع ّمـا‬
‫‪ )(1‬الميزان‪ 11/137 :‬ـ ‪.139‬‬
‫‪ )(2‬الميزان‪ 11/137 :‬ـ ‪.139‬‬

‫‪51‬‬
‫العزيز)(‪)1‬‬ ‫اقترحت عليه امرأة‬
‫هذا هو تفسير القائلين بالعصمة المطلقة للهم وللبرهان‪ ..‬وهو تفس ير يتواف ق‬
‫مع القرآن الكريم كما يتوافق مع اللغة العربية‪ ..‬لكن سلف السلفية لم يلتفتوا إلى هذه‬
‫المع اني القرآني ة واللغوي ة‪ ..‬فراح وا يفس رون اآلي ة بالرواي ات‪ ،‬ألن الرواي ات‬
‫والقصص هي الوحيدة التي يس مح عقلهم الخ رافي بمروره ا‪ ..‬فالعق ل الخ رافي ال‬
‫يفسر األشياء إال باألساطير والقصص والحكايات‪.‬‬
‫ولهذا نجد مفسرا كبيرا كالطبري عند تفسيره لآلي ة الكريم ة ينق ل الرواي ات‬
‫الكثيرة ال تي نقلت بع د ذل ك إلى كتب الت اريخ وقص ص األنبي اء‪ ..‬ومنه ا نقلت إلى‬
‫كتب العقائد لتنحرف بالصورة القرآنية ليوسف ‪ ‬إلى الصورة اليهودية‪.‬‬
‫ومن تلك الروايات ما وراه عن السدي أنه قال‪ :‬قالت له‪ :‬يا يوسف‪ ،‬ما أحسن‬
‫شعرك! ال‪ :‬هو أ َّول ما ينتثر من جسدي‪ .‬قالت‪ :‬يا يوسف‪ ،‬ما أحس ن وجه ك! ق ال‪:‬‬
‫هو للتراب يأكله‪ .‬فلم تزل حتى أطمعته‪ ،‬فه َّمت ب ه وهم به ا‪ ،‬ف دخال ال بيت‪ ،‬وغلَّقت‬
‫األبواب‪ ،‬وذهب ليح ّل سراويله‪ ،‬فإذا هو بصورة يعقوب قائ ًم ا في ال بيت‪ ،‬ق د عضَّ‬
‫على إصبعه‪ ،‬يقول‪( :‬يا يوسف ال تواقعها)‪ ،‬فإنما مثلك ما لم تواقعها مثل الط ير في‬
‫جو السماء ال يطاق‪ ،‬ومثلك إذا واقعتها مثله إذا م ات ووق ع إلى األرض ال يس تطع‬
‫أن يدفع عن نفسه‪ .‬ومثلك م ا لم تواقعه ا مث ل الث ور الص عب ال ذي ال يُعم ل علي ه‪،‬‬
‫ومثلك إن واقعتها مثل الثور حين يموت فيدخل النَّمل في أصل قرنيه ال يستطيع أن‬
‫ي دفع عن نفس ه‪ ،‬فرب ط س راويله‪ ،‬وذهب ليخ رج يش ت ُّد‪ ،‬فأدركت ه‪ ،‬فأخ ذت بم ؤخر‬
‫قميصه من خلفه فخرقته‪ ،‬حتى أخرجت ه من ه وس قط‪ ،‬وطرح ه يوس ف واش ت َّد نح و‬
‫الباب)(‪)2‬‬
‫وروى عن ابن إس حاق‪ ،‬ق ال‪( :‬أكبَّت علي ه ‪ -‬يع ني الم رأة ‪ -‬تُطمع ه م رة‬
‫لذة من حاجة الرجال في جمالها وحسنها وملكها‪ ،‬وه و‬ ‫وتخيفه أخرى‪ ،‬وتدعوه إلى ّ‬
‫ق لها مما يرى من َكلَفها‬ ‫شاب مستقبل يجد من َشبق الرجال ما يجد الرجل ; حتى َر َّ‬
‫به‪ ،‬ولم يتخ َّوف منها حتى ه َّم بها وه َّمت به‪ ،‬حتى خلوا في بعض ب ُيوته)(‪)3‬‬
‫وروى عن ابن عباس‪ ،‬أنه سئل عن ه ّم يوسف ما بل غ؟ ق ال‪َ ( :‬ح ّل ال ِه ْمي ان‪،‬‬
‫وجلس منها مجلس الخاتن) (‪)4‬‬
‫وروى عن ابن أبي مليك ة‪ ،‬ق ال‪ :‬س ألت ابن عب اس‪ :‬م ا بل غ من ه ّم يوس ف؟‬
‫قال‪( :‬استلقت له‪ ،‬وجلس بين رجليها)(‪)5‬‬
‫وبع د أن روى أمث ال ه ذا الغث اء عن جمي ع س لفهم ال ذين وكل وا لهم تفس ير‬
‫القرآن الكريم واس تنباط العقائ د من ه من أمث ال مجاه د وقت ادة وعكرم ة وغ يرهم‪..‬‬
‫طرح هذا اإلشكال الخطير‪ ،‬فقال‪( :‬فإن قال قائل‪ :‬وكيف يج وز أن يوص ف يوس ف‬
‫‪ )(1‬مفاهيم القرآن‪ 385 / 4 :‬ـ ‪..392‬‬
‫‪ )(2‬تفسير الطبري (‪ ،)33 /16‬ورواه في تاريخه ‪.173 :1‬‬
‫‪ )(3‬تفسير الطبري (‪.)34 /16‬‬
‫‪ )(4‬تفسير الطبري (‪.)35 /16‬‬
‫‪ )(5‬تفسير الطبري (‪.)35 /16‬‬

‫‪52‬‬
‫ي؟)(‪)1‬‬
‫نب ّ‬ ‫بمثل هذا‪ ،‬وهو هلل‬
‫ثم أجاب عليه بقوله‪( :‬قيل‪ :‬إن أهل العلم اختلفوا في ذلك‪ ،‬فقال بعض هم‪ :‬ك ان‬
‫من ابتلي من األنبي اء بخطيئ ة‪ ،‬فإنم ا ابتاله هللا به ا‪ ،‬ليك ون من هللا ع ز وج ّل على‬
‫َو َج ٍل إذا ذكره ا‪ ،‬فيج د في طاعت ه إش فاقًا منه ا‪ ،‬وال يتّك ل على س عة عف و هللا‬
‫ورحمت ه‪ ..‬وق ال آخ رون‪ :‬ب ل ابتالهم هللا ب ذلك‪ ،‬ليع رّفهم موض ع نعمت ه عليهم‪،‬‬
‫بصفحه عنهم‪ ،‬وتركه عقوبتَ ه علي ه في اآلخ رة‪ ..‬وق ال آخ رون‪ :‬ب ل ابتالهم ب ذلك‬
‫ليجعلهم أئمة ألهل الذنوب في َرجاء رحم ة هللا‪ ،‬وت رك اإلي اس من عف وه عنهم إذا‬
‫تابوا)(‪)2‬‬
‫وكعادة الس لفية في الجم ع بين ط رحهم آلرائهم‪ ،‬ووص فها بالس نية‪ ،‬ثم ذك ر‬
‫المخالفين لهم بغية التح ذير منه ا‪ ،‬ورميه ا بالبدع ة‪ ،‬فق د ق ال الط بري بع دما ذك ر‬
‫إجابات أهل العلم من السلفية عن س ر تص رفات يوس ف ‪( :‬وأم ا آخ رون ممن‬
‫خالف أقوال السلف وتأ َّولوا القرآن بآرائهم‪ ،‬فإنهم قالوا في ذلك أقواال مختلف ة‪ .‬فق ال‬
‫بعضهم‪ :‬معناه‪ :‬ولق د همت الم رأة بيوس ف‪ ،‬وه َّم به ا يوس ف أن يض ربها أو يناله ا‬
‫أن يوس ف رأى بره ان رب ه‪ ،‬وكفَّه‬ ‫بمكروه له ِّمها به مما أرادته من المكروه‪ ،‬ل وال ّ‬
‫ذلك عما ه ّم به من أذاها ال أنها ارتدعت من قِبَل نفسها‪ .‬قالوا‪ :‬والش اهد على ص حة‬
‫ذلك قوله‪َ ﴿ :‬ك َذلِكَ لِنَصْ ِرفَ َع ْنهُ السُّو َء َو ْالفَحْ َشا َء﴾ [يوسف‪،]24 :‬ق الوا‪ :‬فالس وء هُ و‬
‫ما كان ه َّم به من أذاها‪ ،‬وهو غير الفحشاء‪ ..‬وقال آخرون منهم‪ :‬معنى الكالم‪ :‬ولق د‬
‫همت به‪ ،‬فتناهى الخب ُر عنها‪ .‬ثم ابتدئ الخبر عن يوس ف‪ ،‬فقي ل‪( :‬وهم به ا يوس ف‬
‫أن يوسف لم يه ّم بها‪ ،‬وأن‬ ‫لوال أن رأى برهان ربه)‪ ،‬كأنهم وجَّهوا معنى الكالم إلى َّ‬
‫أن يوسف لوال رؤيته برهان ربه له َّم بها‪ ،‬ولكنه رأى بره ان رب ه فلم‬ ‫هللا إنما أخبر َّ‬
‫ض ُل هَّللا ِ َعلَ ْي ُك ْم َو َرحْ َمتُ هُ اَل تَّبَ ْعتُ ُم َّ‬
‫الش ْيطَانَ إِاَّل قَلِياًل ﴾‬ ‫يه َّم به ا‪ ،‬كم ا قي ل‪َ ﴿ :‬ولَ وْ اَل فَ ْ‬
‫[النساء‪)3()]83 :‬‬
‫ثم رد على هذه األقوال التنزيهية الجارية على وفق مقتض ى اللغ ة‪ ،‬ب ل على‬
‫مقتضى القرآن الكريم‪ ،‬فقال‪( :‬قال أبو جعف ر‪ :‬ويفس د ه ذين الق ولين‪ :‬أن الع رب ال‬
‫تقدم جواب لوال قبلها‪ ،‬ال تق ول‪( :‬لق د قمت ل وال زي د)‪ ،‬وهي تري د‪( :‬ل وال زي د لق د‬
‫قمت)‪ ،‬هذا مع خالفهما جميع أهل العلم بتأويل القرآن‪ ،‬الذين عنهم يؤخذ تأويله) (‪)4‬‬
‫ولست أدري من أين له هذا المعنى اللغوي‪ ،‬والذي قال به كبار علماء اللغ ة‪،‬‬
‫وهم أدرى بها‪ ،‬وأكثر تخصصا منه‪.‬‬
‫وبعد أن فسر الطبري الهم راح يفسر البرهان‪ ،‬فقال‪( :‬أما البره ان ال ذي رآه‬
‫يوسف‪ ،‬فترك من أجله مواقعة الخطيئة‪ ،‬فإن أهل العلم مختلفون فيه‪ ..‬فقال بعضهم‪:‬‬
‫نودي بالنهي عن مواقعة الخطيئة) (‪)5‬‬

‫‪ )(1‬تفسير الطبري (‪.)37 /16‬‬


‫‪ )(2‬تفسير الطبري (‪.)38 /16‬‬
‫‪ )(3‬تفسير الطبري (‪.)38 /16‬‬
‫‪ )(4‬تفسير الطبري (‪.)39 /16‬‬
‫‪ )(5‬تفسير الطبري (‪.)39 /16‬‬

‫‪53‬‬
‫ثم راح يسوق الروايات الدالة على ذلك(‪:)1‬‬
‫ومنها ما رواه عن ابن عباس‪ ،‬أنه ق ال‪( :‬ن ودي‪ :‬ي ا يوس ف‪ ،‬أت زني‪ ،‬فتك ون‬
‫كالطير َوقَع ريشه‪ ،‬فذهب يطير فال ريش له؟)‪ ،‬وروى عن ه‪( :‬لم يُ ْع ِط على الن داء‪،‬‬
‫عاض ا على أص بعه‪ ،‬فق ال‪ :‬ي ا‬ ‫ًّ‬ ‫تمثال صورة وجه أبي ه‬ ‫َ‬ ‫حتى رأى برهان ربه‪ ،‬قال‪:‬‬
‫يوسف‪ ،‬تزني‪ ،‬فتكون كالطير ذهب ريشه؟)‪ ،‬وروى عنه‪( :‬ن ودي‪ :‬ي ا ابن يعق وب‪،‬‬
‫ال تكن كالطير إذا زنى ذهب ريشه‪ ،‬وبقي ال ريش له! فلم يطع على النداء‪ ،‬ففُ ِّزع)‪،‬‬
‫وروى عنه‪ ( :‬ن ودي‪ :‬ي ا ابن يعق وب ال تك ون َّن كالط ائر ل ه ريش‪ ،‬ف إذا زنى ذهب‬
‫ريشه ـ أو قعد ال ريش له ـ فلم يُ ْع ِط على النداء شيئًا‪ ،‬حتى رأى برهان رب ه‪ ،‬ففَ ِرق‬
‫ففرَّ)‬
‫وروى عن قتادة قوله‪( :‬نودي يوسف فقي ل‪ :‬أنت مكت وب في األنبي اء‪ ،‬تعم ل‬
‫عمل السفهاء؟)‬
‫عاض ا على إص بعه يق ول‪:‬‬ ‫ًّ‬ ‫ال يعق وب‬‫وروى عن الحس ن قول ه‪( :‬رأى تمث َ‬
‫يوسف! يوسف!)‬
‫وروى عن القاسم بن أبي بزة قوله‪( :‬نودي‪ :‬يا ابن يعقوب‪ ،‬ال تكونن ك الطير‬
‫ْرض للنداء وقع د‪ ،‬فرف ع رأس ه‪ ،‬ف رأى‬ ‫له ريش‪ ،‬فإذا زنى قَ َعد ليس له ريش‪ .‬فلم يُع ِ‬
‫ضا على إصبعه‪ ،‬فقام مرعوبًا استحياء من هللا‪ ،‬فذلك قول هللا‪( :‬لوال‬ ‫وجهَ يعقوب عا ًّ‬
‫أن رأى برهان ربه)‪ ،‬وجهَ يعقوب)‬
‫وروى عن سعيد بن جبير‪( :‬رأى تمث ال وج ه يعق وب‪ ،‬فخ رجت ش هوته من‬
‫عاض ا على أص ابعه‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫أنامله)‪ ،‬وروى عنه‪ ،‬أنه قال‪( :‬رأى صورةً فيها وجه يعقوب‬
‫فدفع في صدره‪ ،‬فخرجت شهوته من أنامله‪ .‬فكلُّ ولد يعقوب ُولِ َد له اثنا عشر رجال‬
‫إال يوسف‪ ،‬فإنه نقص بتلك الشهوة‪ ،‬ولم يولد له غير أحد عشر)‬
‫وهكذا أصبح إخوة يوسف ـ بالرؤية السلفية ـ أفضل من أخيهم‪ ،‬وأطهر من ه‪،‬‬
‫ألنه هم ولم يهموا‪ ،‬ولهذا أكرموا بالمزيد من الولد على خالفه‪.‬‬
‫بل إنهم يروون أنه رأي آي ات قرآني ة‪ ،‬وباللغ ة العربي ة‪ ،‬ولس ت أدري كي ف‬
‫رآها‪ ،‬وهل أنزلت عليه قبل أن تنزل على رسول هللا ‪ ..‬ولكن ألن العق ل الس لفي‬
‫يقبل كل شيء‪ ،‬فقد قبل هذه الروايات أيضا‪.‬‬
‫ومن تلك الرواي ات‪ :‬م ا وراه الط بري عن محم د بن كعب‪ ،‬أن ه ق ال‪( :‬رف ع‬
‫﴿واَل تَ ْق َربُ وا‬
‫يوسف رأسه إلى س قف ال بيت حين ه ّم‪ ،‬ف رأى كتابً ا في حائ ط ال بيت‪َ :‬‬
‫سبِياًل ﴾ [اإلسراء‪)2( )]32 :‬‬ ‫ال ِّزنَا إِنَّهُ َكانَ فَا ِح َشةً َو َسا َء َ‬
‫وروى عن أبي صخر‪ ،‬ق ال‪ :‬س معت الق رظي يق ول في البره ان ال ذي رأى‬
‫يوس ف‪ :‬ثالث آي ات من كت اب هللا‪( :‬إِ َّن َعلَ ْي ُك ْم لَ َح افِ ِظينَ ) اآلي ة‪[ ،‬س ورة االنفط ار‪:‬‬
‫(و َما تَ ُكونُ فِي َشأْ ٍن) اآلي ة‪[ ،‬س ورة ي ونس‪ ،]61 :‬وقول ه‪( :‬أَفَ َم ْن هُ َو‬ ‫‪ ،]10‬وقوله‪َ :‬‬
‫س بِ َما َك َسبَت) [سورة الرعد‪ .]33 :‬قال نافع‪ :‬سمعت أبا هالل يق ول‬ ‫ْ‬ ‫قَائِ ٌم َعلَى ُكلِّ نَ ْف ٍ‬
‫‪ )(1‬انظر هذه الروايات في تفسير الطبري (‪ ،)39 /16‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ )(2‬تفسير الطبري (‪.)48 /16‬‬

‫‪54‬‬
‫ِّ‬‫(وال تَ ْق َربُوا‬
‫الزنَا) (‪)1‬‬ ‫مثل قول القرظي‪ ،‬وزاد آية رابعة‪َ :‬‬
‫وبعد أن أورد الطبري جميع هذه األقوال وغيرها‪ ،‬قال بورع بارد‪( :‬قال أب و‬
‫جعفر‪ :‬وأولى األقوال في ذل ك بالص واب أن يق ال‪ :‬إن هللا ج ل ثن اؤه أخ بر عن ه ِّم‬
‫يوسف وامرأة العزيز كل واحد منهما بصاحبه‪ ،‬ل وال أن رأى يوس ف بره ان رب ه‪،‬‬
‫وذلك آيةٌ من هللا‪ ،‬زجرته عن ركوب ما ه َّم به يوسف من الفاحشة‪ ،‬وجائز أن تكون‬
‫تلك اآلية صورة يعقوب‪ ،‬وجائز أن تكون ص ورة المل ك‪ ،‬وج ائز أن يك ون الوعي د‬
‫ي ذل ك‬ ‫في اآليات التي ذكرها هللا في القرآن على الزنا‪ ،‬وال حج ة للع ذر قاطع ة ب أ ِّ‬
‫ي‪ .‬والصواب أن يقال في ذلك م ا قال ه هللا تب ارك وتع الى‪ ،‬واإليم ان ب ه‪،‬‬ ‫كان من أ ٍّ‬
‫وترك ما عدا ذلك إلى عالمه) (‪)2‬‬
‫هذا هو التفسير السلفي الذي حض عليه ابن تيمية‪ ،‬وحض علي ه جمي ع أبن اء‬
‫المدرسة السلفية‪ ،‬وهو الذي ال يزال منذ ألفه مؤلفه بأكثر من ألف سنة مرجعا لطلبة‬
‫العلم والباحثين ومن يحبون أن يفهموا القرآن الكريم كما فهمه سلفهم الصالح‪.‬‬
‫وعلى أساس هذا التفسير نجد تلميذا من هذه المدرسة هو أبو الحسن علي بن‬
‫أحمد السبتي األموي المعروف بابن خمير (المتوفى‪614 :‬هـ) يقول في كتاب ه ال ذي‬
‫ألفه للدفاع عن عص مة األنبي اء‪ ،‬والمس مى [تنزي ه األنبي اء عم ا نس ب إليهم حثال ة‬
‫األغبياء] يقول في الدفاع عن هم يوسف ـ كما فسره الطبري ـ‪( :‬ومنهم من ق ال هم‬
‫هم الفحولية‪ ،‬وذلك أنه كان ‪ ‬فحال شابا خلت به امرأة ذات جمال وغنج وطالبته‬
‫تلك المطالبة فاهتز هزة الفحل بهز ضروري غ ير مكتس ب‪ ،‬فس مي ذل ك االه تزاز‬
‫هما لكونه من أسباب الهم‪ ..‬ويكون الهم على ه ذا التفس ير ض روريا‪ ،‬وال طلب في‬
‫الضروريات‪ ،‬وأقول إنه إن كان هم مكتسبا لهمه ولم يفعل فال ل وم وال ذنب‪ ،‬ب دليل‬
‫الح ديث ال ذي من ه قول ه ‪( :‬ومن هم بس يئة فلم يعمله ا لم تكتب ش يئا) معن اه لم‬
‫يكتب له صغيرة وال كبيرة‪ ،‬وجاء في ح ديث آخ ر‪ :‬أن ت ارك الخطيئ ة من أج ل هللا‬
‫تكتب له حسنة‪ ،‬بدليل قوله تعالى للمالئكة‪ :‬اكتبوها له حسنة فإنما تركها من جراي‪،‬‬
‫أي من أجلي‪ ،‬وهذا ينظر إلى قول هللا تعالى ﴿فأولئك يبدل هللا سيئاتهم حسنات﴾ وإذا‬
‫كان هذا في حق الرعية فاألنبياء عليهم السالم أولى بهذا الترك ال محالة‪ ،‬كيف وق د‬
‫أثنى هللا تعالى عليه ونزهه‪ ..‬فهذا مما يدل على أنه تركها من أجل هللا وأن ه م أجور‬
‫في تركها‪ ،‬وإذا كان هذا فال ذنب وال عتب يلحق يوسف ‪ ‬صغيرا وال كبيرا‪ ،‬بل‬
‫يكون مأجورا في الترك)(‪)3‬‬
‫وهذا الذي ذكره األم وي ه و نفس م ا ذك ره ابن تيمي ة في ت بريره لمعاص ي‬
‫األنبياء‪ ،‬وبيان أن الكمال في المعصية‪ ،‬كما قال – أثناء رده على القائلين بالعص مة‬
‫المطلقة لألنبياء‪( :-‬ونكتة أمرهم أنهم ظنوا وق وع ذل ك من األنبي اء واألئم ة نقص ا‪،‬‬
‫وأن ذل ك يجب ت نزيههم عن ه‪ ،‬وهم مخطئ ون إم ا في ه ذه المقدم ة‪ ،‬وإم ا في ه ذه‬
‫‪ )(1‬تفسير الطبري (‪.)48 /16‬‬
‫‪ )(2‬تفسير الطبري (‪.)48 /16‬‬
‫‪ )(3‬تنزيه األنبياء عما نسب إليهم حثالة األغبياء (ص‪.)47 :‬‬

‫‪55‬‬
‫المقدمة‪ ..‬أما المقدمة األولى فليس من ت اب إلى هللا تع الى وأن اب إلي ه بحيث ص ار‬
‫بعد التوبة أعلى درجة مما كان قبلها منقوصا وال مغضوضا من ه‪ ،‬ب ل ه ذا مفض ل‬
‫عظيم مكرم‪ ،‬وبهذا ينح ل جمي ع م ا يوردون ه من الش به‪ ،‬وإذا ع رف أن أولي اء هللا‬
‫يكون الرجل منهم قد أسلم بعد كفره وآمن بعد نفاقه وأطاع بعد معص يته‪ ،‬كم ا ك ان‬
‫أفضل أولياء هللا من هذه األمة ‪ -‬وهم السابقون األولون ‪ -‬يبين ص حة ه ذا األص ل)‬
‫(‪)1‬‬
‫ب ل ن راه يح اول بك ل الوس ائل أن يقن ع أتباع ه ب دور المعص ية في تحقي ق‬
‫الكمال‪ ،‬فيقول‪( :‬واإلنسان ينتق ل من نقص إلى كم ال‪ ،‬فال ينظ ر إلى نقص البداي ة‪،‬‬
‫ولكن ينظر إلى كمال النهاية‪ ،‬فال يعاب اإلنسان بكونه ك ان نطف ة ثم ص ار علق ة ثم‬
‫صار مضغة‪ ،‬إذا كان هللا بعد ذلك خلقه في أحسن تق ويم‪ ..‬فمن يجع ل الت ائب ال ذي‬
‫اجتباه هللا وهداه منقوصا بما كان من الذنب الذي ت اب من ه‪ ،‬وق د ص ار بع د التوب ة‬
‫خيرا مما كان قبل التوبة‪ ،‬فهو جاهل بدين هللا تعالى وما بعث هللا به رسوله‪ ،‬وإذا لم‬
‫يكن في ذلك نقص مع وجود م ا ذك ر فجمي ع م ا يذكرون ه ه و مب ني على أن ذل ك‬
‫نقص‪ ،‬وهو نقص إذا لم يتب منه‪ ،‬أو هو نقص عمن س اواه إذا لم يص ر بع د التوب ة‬
‫مثل ه‪ ،‬فأم ا إذا ت اب توب ة محت أث ره بالكلي ة وب دلت س يئاته حس نات فال نقص في ه‬
‫بالنسبة إلى حاله‪ ،‬وإذا صار بعد التوب ة أفض ل ممن يس اويه أو مثل ه لم يكن ناقص ا‬
‫عنه)(‪)2‬‬
‫بل إنه فوق ذلك كله يعتبر تنزيه األنبي اء عن المعاص ي غض ا من م رتبتهم‪،‬‬
‫وسلبا للدرجة التي أعطاهم هللا‪ ،‬يقول في ذلك‪( :‬وجوب كون النبي ال يت وب إلى هللا‬
‫فينال محبة هللا وفرحه بتوبته وترتفع درجته بذلك ويكون بعد التوب ة ال تي يحب ه هللا‬
‫من ه خ يرا مم ا ك ان قبله ا فه ذا م ع م ا في ه من التك ذيب للكت اب والس نة غض من‬
‫مناصب األنبياء وسلبهم هذه الدرجة ومنع إحسان هللا إليهم وتفضله عليهم بالرحم ة‬
‫والمغفرة)(‪)3‬‬
‫داود ‪:‬‬
‫عندما نقرأ داود ‪ ‬من خالل الق رآن الك ريم تب دو لن ا ص ورة جميل ة لن بي‬
‫عظيم ممتلئ بالش كر والعف اف والطه ر‪ ،‬فه و منش غل بتس بيحه الجمي ل هلل‪ ،‬وال ذي‬
‫تتجاوب معه لرقته وعذوبته وطهره الجبال والطير‪ ..‬وهو ـ مع الملك الذي آتاه هللا‪،‬‬
‫والتسخيرات العظيمة ال تي س خرت ل ه ـ ك ان يعم ل كس ائر الن اس بي ده في تل يين‬
‫الحديد‪ ،‬ليأكل الحالل الص رف ال ذي ال ش بهة في ه‪ ،‬وليك ون مثال أعلى ألمت ه ال تي‬
‫كلف بقيادتها‪.‬‬
‫لقد أشار هللا تع الى إلى ه ذه المع اني الس امية في شخص ية داود ‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫﴿ َولَقَ ْد آتَ ْينَا دَا ُوو َد ِمنَّا فَضْ اًل يَا ِجبَا ُل أَ ِّوبِي َم َعهُ َوالطَّ ْي َر َوأَلَنَّا لَهُ ْال َح ِدي َد (‪ )10‬أَ ِن ا ْع َملْ‬

‫‪ )(1‬منهاج السنة النبوية (‪)430 /2‬‬


‫‪ )(2‬منهاج السنة النبوية (‪)434 /2‬‬
‫‪ )(3‬منهاج السنة النبوية (‪)397 /2‬‬

‫‪56‬‬
‫ص ي ٌر (‪[ ﴾)11‬س بأ‪،10 :‬‬ ‫صالِحًا إِنِّي بِ َما تَ ْع َملُونَ بَ ِ‬ ‫ت َوقَدِّرْ فِي السَّرْ ِد َوا ْع َملُوا َ‬ ‫َسابِغَا ٍ‬
‫َّ‬
‫اعلِينَ (‪َ )79‬و َعل ْمنَ اهُ‬ ‫َّ‬
‫ال يُ َسبِّحْ نَ َوالط ْي َر َو ُكنَّا فَ ِ‬ ‫ْ‬
‫﴿و َس َّخرْ نَا َم َع دَا ُوو َد ال ِجبَ َ‬ ‫‪ ،]11‬وقال‪َ :‬‬
‫َ‬
‫ص نَ ُك ْم ِم ْن بَأ ِس ُك ْم فَهَ لْ أ ْنتُ ْم َش ا ِكرُونَ (‪[ ﴾)80‬األنبي اء‪،79 :‬‬ ‫ْ‬ ‫س لَ ُك ْم لِتُحْ ِ‬ ‫ص ْن َعةَ لَبُ و ٍ‬ ‫َ‬
‫ض لَنَا َعلَى َكثِ ٍ‬
‫ير‬ ‫َّ‬ ‫هَّلِل‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫﴿ولَقَ ْد آتَ ْينَا دَا ُوو َد َو ُسلَ ْي َمانَ ِعل ًما َوقَااَل ال َح ْم ُد ِ ال ِذي فَ َّ‬ ‫‪ ،]80‬وقال‪َ :‬‬
‫ق‬ ‫ِّ‬
‫ال يَاأيُّهَ ا النَّاسُ ُعل ْمنَ ا َم ْن ِط َ‬ ‫َ‬ ‫ث ُس لَ ْي َمانُ دَا ُوو َد َوقَ َ‬ ‫ِم ْن ِعبَ ا ِد ِه ْال ُم ْؤ ِمنِينَ (‪َ )15‬و َو ِر َ‬
‫الطَّي ِْر َوأُوتِينَا ِم ْن ُكلِّ َش ْي ٍء إِ َّن هَ َذا لَه َُو ْالفَضْ ُل ْال ُمبِينُ ﴾ [النمل‪]16 ،15 :‬‬
‫بل إن القرآن الكريم يشير إلى أنه جعل داود ‪ ‬خليف ة‪ ..‬فه و خليف ة بجع ل‬
‫إلهي‪ ،‬ال باختيار بشري‪ ..‬وه ذا يع ني أن ه تت وفر في ه ك ل ص فات الخليف ة النظري ة‬
‫والعملية‪ ،‬ولذلك فإنه البد أن تتوفر فيه كل القيم النبيلة‪ ،‬ألن الخالفة اإللهية تقتض ي‬
‫ذلك‪ ،‬فالجور والظلم واالنحراف‪ ..‬ك ل ذل ك يح ول بين الخليف ة وأداء وظيفت ه ال تي‬
‫كلف بها‪.‬‬
‫ق‬‫اس بِ ْال َح ِّ‬ ‫ض فَ احْ ُك ْم بَ ْينَ النَّ ِ‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬يَ ادَا ُوو ُد إِنَّا َج َع ْلنَ اكَ خَ لِيفَ ةً فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ض لُّونَ ع َْن َس بِي ِل هَّللا ِ لَهُ ْم َع َذابٌ‬ ‫يل هَّللا ِ إِ َّن الَّ ِذينَ يَ ِ‬ ‫ك ع َْن َس بِ ِ‬ ‫َواَل تَتَّبِ ِع ْالهَ َوى فَي ِ‬
‫ُض لَّ َ‬
‫ب﴾ [ص‪]26 :‬‬ ‫َش ِدي ٌد بِ َما نَسُوا يَوْ َم ْال ِح َسا ِ‬
‫وكان األصل في المدرس ة الس لفية أن تح اكم ك ل م ا ورد عن داود ‪ ‬من‬
‫روايات في ضوء هذه اآليات المحكمات الواضحات‪ ..‬لكنها لم تفع ل إذ أنه ا راحت‬
‫تبحث عن ثغرة من المتشابه يمكنها أن تشوه بها كل تلك المعاني السامية ال تي أراد‬
‫الق رآن الك ريم من خالل عرض ها على ه ذه األم ة أن يك ون فيه ا أمث ال داود من‬
‫الممتلئين بالعدالة والشكر والنبل والعفاف‪.‬‬
‫خَص ِم إِ ْذ ت ََس َّورُوا‬ ‫ُ‬
‫﴿وهَ لْ أَتَ اكَ نَبَ أ ْال ْ‬ ‫وقد وجدت تلك الثغرة في قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫ْض نَا‬ ‫ان بَغَى بَع ُ‬ ‫َخَف خَصْ َم ِ‬ ‫اب (‪ )21‬إِ ْذ َد َخلُوا َعلَى دَا ُوو َد فَفَ ِز َع ِم ْنهُ ْم قَالُوا اَل ت ْ‬ ‫ْال ِمحْ َر َ‬
‫اط (‪ )22‬إِ َّن هَ َذا‬ ‫الص َر ِ‬‫ط َوا ْه ِدنَا إِلَى َس َوا ِء ِّ‬ ‫ق َواَل تُ ْش ِط ْ‬ ‫ْض فَاحْ ُك ْم بَ ْينَنَا بِ ْال َح ِّ‬
‫َعلَى بَع ٍ‬
‫ب(‬ ‫ال أَ ْكفِ ْلنِيهَ ا َو َع َّزنِي فِي ْال ِخطَ ا ِ‬ ‫اح َدةٌ فَقَ َ‬ ‫أَ ِخي لَهُ تِ ْس ٌع َوتِ ْسعُونَ نَ ْع َجةً َولِ َي نَ ْع َجةٌ َو ِ‬
‫ْض هُ ْم‬ ‫اج ِه َوإِ َّن َكثِيرًا ِمنَ ْال ُخلَطَ ا ِء لَيَب ِْغي بَع ُ‬ ‫ك إِلَى نِ َع ِ‬ ‫ال لَقَ ْد ظَلَ َمكَ بِ ُس َؤا ِل نَع َ‬
‫ْجتِ َ‬ ‫‪ )23‬قَ َ‬
‫ت َوقَلِي ٌل َم ا هُ ْم َوظَ َّن دَا ُوو ُد أَنَّ َم ا فَتَنَّاهُ‬ ‫الص الِ َحا ِ‬‫ْض إِاَّل الَّ ِذينَ آ َمنُوا َو َع ِملُ وا َّ‬ ‫َعلَى بَع ٍ‬
‫ُس نَ‬ ‫َاب (‪ )24‬فَ َغفَرْ نَا لَهُ َذلِ كَ َوإِ َّن لَ هُ ِع ْن َدنَا لَ ُز ْلفَى َوح ْ‬ ‫فَا ْستَ ْغفَ َر َربَّهُ َو َخ َّر َرا ِكعًا َوأَن َ‬
‫ب (‪[ ﴾)25‬ص‪]25 - 21 :‬‬ ‫َمآ ٍ‬
‫ومع أن اآليات الواضحة في داللته ا من خالل ظ اهر ألفاظه ا‪ ،‬وهي تنس جم‬
‫تماما مع تلك الشفافية الروحية التي وصفه هللا بها‪ ..‬خاصة وأن هللا تعالى قدم ل ذلك‬
‫﴿و ْاذ ُكرْ َع ْب َدنَا دَا ُوو َد َذا اأْل َ ْي ِد إِنَّهُ أَ َّوابٌ (‪ )17‬إِنَّا َس َّخرْ نَا ْال ِجبَ ا َل َم َع هُ ي َُس بِّحْ نَ‬ ‫بقوله‪َ :‬‬
‫ورة كلٌّ لهُ أ َّوابٌ (‪[ ﴾)19‬ص‪]19 - 17 :‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫اق (‪َ )18‬والطي َْر َمحْ ش َ‬ ‫بِ ْال َع ِش ِّي َوا ِ ش َر ِ‬
‫ْ‬ ‫إْل‬
‫وهي آي ات كريم ة تش ير إلى تل ك الش فافية‪ ،‬وتش ير معه ا إلى ذل ك التحلي ق‬
‫ال روحي الجمي ل ال ذي تج اوبت ل ه الكائن ات من حول ه‪ ،‬وال ذي لم يمنع ه من أداء‬
‫وظيفته المرتبطة بالرعية والخالفة عليها‪.‬‬
‫ولذلك بمجرد أن تسور الرجالن عليه المحراب‪ ،‬وأخبره أولهما بالظلم ال ذي‬

‫‪57‬‬
‫لحق ب ه‪ ،‬س ارع فانتص ر ل ه‪ ،‬مثلم ا فع ل قب ل ذل ك أخ وه موس ى ‪ ‬حين س ارع‬
‫لنصرة المستضعف‪ ..‬وهنا عاتبه هللا ألنه لم يستمع للثاني من الخصمين‪..‬‬
‫ولكونه أوابا وصاحب روحانية عالية‪ ،‬فق د ت أثر ل ذلك العت اب ت أثرا ش ديدا‪،‬‬
‫وهوى ساجدا هلل بكل رقة وعبودية وخضوع‪.‬‬
‫ه ذه هي الدالل ة الظ اهرة للقص ة كم ا وردت في الق رآن الك ريم‪ ،‬وه ذا ه و‬
‫تفسير القائلين بالعصمة المطلقة له ا‪ ..‬وه و تفس ير يتواف ق م ع الق رآن الك ريم كم ا‬
‫يتوافق مع اللغ ة العربي ة‪ ..‬لكن س لف الس لفية لم يلتفت وا إلى ه ذه المع اني القرآني ة‬
‫واللغوية‪ ..‬فراحوا يفسرون اآليات الكريمة بالروايات والقصص‪ ..‬فالعق ل الخ رافي‬
‫ال يفسر األشياء إال باألساطير والقصص والحكايات‪.‬‬
‫ومثلم ا فعلن ا عن د ح ديثنا عن يوس ف ‪ ‬من االقتص ار على نم وذج من‬
‫النماذج المعتبرة لدى السلفية‪ ،‬وهو تفسير الطبري‪ ،‬باعتباره أهم تفسير مسند يحكي‬
‫آراء السلف‪ ..‬وباعتبار ثناء السلفية علي ه‪ ،‬وخاص ة ابن تيمي ة ال ذي اعت بر ص حته‬
‫وسنيته وسلفيته‪ ..‬وباعتبار عدم استطاعتنا اإلحاطة بكل ما ذكرت ه كتب الس لفية في‬
‫هذه الناحية‪.‬‬
‫وقد قدم الطبري للرواي ات ال تي أورده ا في ه ذا بخالص ة رأي ه فيه ا ورأي‬
‫السلف‪ ،‬فقال‪( :‬القول في تأويل قوله تع الى‪﴿ :‬إِ َّن هَ َذا أَ ِخي لَ هُ تِ ْس ٌع َوتِ ْس عُونَ نَ ْع َج ةً‬
‫ب﴾‪ ،‬وه ذا مث ل ض ربه الخص م‬ ‫َولِ َي نَ ْع َجةٌ َوا ِح َدةٌ فَقَ ا َل أَ ْكفِ ْلنِيهَ ا َو َع َّزنِي فِي ْال ِخطَ ا ِ‬
‫المتسوّرون على داود محرابه له‪ ،‬وذلك أن داود كانت له فيم ا قي ل‪ :‬تس ع وتس عون‬
‫امرأة‪ ،‬وكانت للرجل الذي أغزاه حتى قُت ل ام رأة واح دة; فلم ا قت ل نكح فيم ا ذك ر‬
‫خي) يقول‪ :‬أخي على ديني)(‪)1‬‬ ‫داود امرأته‪ ،‬فقال له أحدهما‪( :‬إِ َّن هَ َذا أَ ِ‬
‫ومن العجب أن الذين ينكرون الق ول بالمج از والكناي ة وغيره ا في ح ق هللا‬
‫تعالى حتى لو أدى ذل ك للتجس يم‪ ،‬ن راهم هن ا يفس رون [النعج ة] ب المرأة من ب اب‬
‫الكناية‪ ،‬يقول الطبري‪( :‬وإنما كنى بالنعجة ها هنا عن المرأة‪ ،‬والع رب تفع ل ذل ك‪،‬‬
‫ومنه قول األعشى‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫قَد كنت َرائِ َدهَا َوشا ِة ُم َحا ِذ ٍر‪َ ...‬حذرًا يُقِلُّ ب َع ْينِ ِه إغفالهَا‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫يعني بالشاة‪ :‬امرأة رجل يحذر الناس عليها‪ ،‬وإنم ا يع ني‪ :‬لق د ظلمت بس ؤال‬
‫امرأتك الواحدة إلى التسع والتسعين من نسائه)(‪)2‬‬
‫وه ذا يرين ا المكايي ل المزدوج ة ال تي يمارس ها الس لفية‪ ،‬حيث يرفض ون‬
‫االستدالل بالشعر ونح وه لبي ان الكناي ة واالس تعارة ونحوه ا‪ ،‬كم ا عرفن ا ذل ك في‬
‫ردهم الستدالل المنزهة بقول الشاعر‪:‬‬
‫قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق‬
‫لكنهم عندما يحلو لهم‪ ..‬أو يكون الشعر في مصلحتهم يستدلون به‪ ..‬وكي ف ال‬
‫يستدلون به‪ ،‬وهم السنة والسلف الذين أحل لهم ما حرم على غيرهم‪.‬‬
‫‪ )(1‬تفسير الطبري (‪.)177 /21‬‬
‫‪ )(2‬تفسير الطبري (‪.)179 /21‬‬

‫‪58‬‬
‫وبعد أن مهد الطبري بكل هذه التمهيدات‪ ،‬فأص بح نص اآلي ة ب الفهم الس لفي‬
‫يدل على أن النعجة ليست سوى امرأة‪ ،‬وأص بح ل داود ‪ ‬تس عة وتس عين نعج ة‪..‬‬
‫عفوا امرأة‪ ..‬بموجب ذلك‪ ..‬وفوق ذلك لم تكفه تلك النساء جميعا‪ ،‬فراح يضم ام رأة‬
‫أخرى لرجل آخر ال يملك غيرها‪.‬‬
‫بعد أن مهد لهذا‪ ،‬أخ ذ ي ذكر الرواي ات عن الس لف من أه ل العلم المعت برين‬
‫التي تفسر ذلك‪ ،‬وقد بدأها بما رواه عن ابن عباس أنه قال‪( :‬إن داود قال‪ :‬يا رب قد‬
‫أعطيت إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الذكر ما لوددت أنك أعطيتني مثله‪ ،‬ق ال هللا‪:‬‬
‫إني ابتُليتهم بما لم أبتلك به‪ ،‬فإن شئت ابتُليت ك بمث ل م ا ابتُليتهم ب ه‪ ،‬وأعطيت ك كم ا‬
‫أعطيتهم‪ ،‬قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال له‪ :‬فاعمل ح تى أرى بالءك; فك ان م ا ش اء هللا أن يك ون‪،‬‬
‫وطال ذلك عليه‪ ،‬فك اد أن ينس اه; فبين ا ه و في محراب ه‪ ،‬إذ وقعت علي ه حمام ة من‬
‫ذهب فأراد أن يأخذها‪ ،‬فطار إلى كوّة المح راب‪ ،‬ف ذهب ليأخ ذها‪ ،‬فط ارت‪ ،‬ف اطلع‬
‫ص لَّى هللا َعلَ ْي ِه َو َس لَّم من المح راب‪،‬‬ ‫من الك ّوة‪ ،‬فرأى امرأة تغتسل‪ ،‬ف نزل ن بي هللا َ‬
‫فأرسل إليها فجاءته‪ ،‬فس ألها عن زوجه ا وعن ش أنها‪ ،‬فأخبرت ه أن زوجه ا غ ائب‪،‬‬
‫الس رية أن يُ َؤ ِّمره على الس رايا ليهل ك زوجه ا‪ ،‬ففع ل‪ ،‬فك ان‬ ‫فكتب إلى أم ير تل ك َّ‬
‫يُصاب أصحابه وينجو‪ ،‬وربما نُصروا‪ ،‬وإن هللا ع ّز وج ّل لم ا رأى ال ذي وق ع في ه‬
‫داود‪ ،‬أراد أن يستنقذه; فبينما داود ذات يوم في محراب ه‪ ،‬إذ تس وّر علي ه الخص مان‬
‫من قبل وجهه; فلما رآهما وهو يقرأ فزع وس كت‪ ،‬وق ال‪ :‬لق د استض عفت في ملكي‬
‫ْض نَا‬
‫ان بَغَى بَع ُ‬ ‫َص َم ِ‬ ‫فخ ْ‬ ‫حتى إن الناس يس توّرون عل ّي مح رابي‪ ،‬ق اال ل ه‪( :‬ال تَخَ ْ‬
‫ْض) ولم يكن لنا بد من أن نأتيك‪ ،‬فاسمع منا; قال أحدهما‪( :‬إِ َّن هَ َذا أَ ِخي لَ هُ‬ ‫َعلَى بَع ٍ‬
‫ال أَ ْكفِ ْلنِيهَ ا) يري د أن يتمم به ا مئ ة‪،‬‬ ‫ْجةٌ َو ِ‬
‫اح َدةٌ فَقَ َ‬ ‫(ولِ َي نَع َ‬‫تِ ْس ٌع َوتِ ْسعُونَ نَ ْع َجةً) أنثى َ‬
‫ب) قال‪ :‬إن دعوت ودعا كان أكثر‪ ،‬وإن‬ ‫(و َع َّزنِي فِي ْال ِخطَا ِ‬ ‫ويتركني ليس لي شيء َ‬
‫ب) ق ال ل ه داود‪ :‬أنت‬ ‫بطشت وبطش كان أشد مني‪ ،‬فذلك قوله ( َو َع َّزنِي فِي ْال ِخطَ ا ِ‬
‫(وقَلِي ٌل‬‫اج ِه)‪ ..‬إلى قوله َ‬ ‫كنت أحوج إلى نعجتك منه (لَقَ ْد ظَلَ َمكَ بِ ُس َؤا ِل نَع َ‬
‫ْجتِكَ إِلَى نِ َع ِ‬
‫صلَّى هللا َعلَ ْي ِه َو َسلَّم‪ ،‬فنظر الملكان أحدهما إلى اآلخر حين ق ال‬ ‫َما هُ ْم) ونسي نفسه َ‬
‫ذلك‪ ،‬فتبسم أحدهما إلى اآلخر‪ ،‬فرآه داود وظن أنما فتن (فَا ْستَ ْغفَ َر َربَّهُ َوخَ َّر َرا ِك ًع ا‬
‫خضرة من دموع عينيه‪ ،‬ثم ش ّدد هللا له ملكه)(‪)1‬‬ ‫َاب) أربعين ليلة‪ ،‬حتى نبتت ال ُ‬ ‫َوأَن َ‬
‫بل رفعوا الحديث إلى رسول هللا ‪ ،‬فقد رووا عن أنس قال‪ :‬سمعت رس ول‬
‫هللا ‪ ‬يقول‪(:‬إن داود النبي صلى هللا عليه وسلم حين نظ ر إلى الم رأة ف أهم‪ ،‬قط ع‬
‫على بني إسرائيل‪ ،‬فأوصى صاحب البعث‪ ،‬فقال‪ :‬إذا حضر العدو‪ ،‬فقرب فالن ا بين‬
‫ي دي الت ابوت‪ ،‬وك ان الت ابوت في ذل ك الزم ان يستنص ر ب ه‪ ،‬ومن ق دم بين ي دي‬
‫التابوت لم يرجع حتى يقتل أو يهزم عنه الجيش‪ ،‬فقت ل زوج الم رأة ون زل الملك ان‬
‫على داود يقصان عليه قص ته‪ ،‬ففطن داود فس جد‪ ،‬فمكث أربعين ليل ة س اجدا ح تى‬
‫نبت الزرع من دموعه على رأسه) (‪)2‬‬

‫‪ )(1‬تفسير الطبري (‪.)181 /21‬‬


‫‪ )(2‬تفسير الطبري (‪.)187 /21‬‬

‫‪59‬‬
‫وقد قام األموي السلفي الذي ألف كتابا حول [تنزيه األنبي اء عم ا نس ب إليهم‬
‫حثالة األغبياء] ببيان التبريرات السلفية لهذه االتهامات العظيم ة الموجه ة لن بي هللا‬
‫داود ‪ ..‬وقد كان يمكنه بدل ك ل ذل ك التكل ف أن يرميه ا ع رض الج دار‪ ،‬ولكن‬
‫الخوف من الرد على السلف جعلته يتكلف تكلفا ممقوتا‪.‬‬
‫وسنسوق هنا ما قاله لنرى بأعيننا كيف يوجه السلفية األمة أخالقيا من خالل‬
‫قصص األنبياء‪.‬‬
‫وقد بدأ األموي تنزيهه لداود ‪ ‬بقوله‪( :‬اعلم وا أحس ن هللا إرش ادنا وإي اكم‬
‫أن كل من تكلم في هذه القصة بما صح في حق داوود ‪ ،‬وبما لم يصح إنما بن وه‬
‫﴿و َع َّزنِي فِي ْال ِخطَ ا ِ‬
‫ب﴾ و ﴿ لَقَ ْد‬ ‫على أس ه ذه الخمس كلم ات ال تي هي ﴿أَ ْكفِ ْلنِيهَ ا﴾ َ‬
‫ْض﴾ ﴿ َوقَلِي ٌل َم ا هُ ْم ﴾ وهي بحم د هللا تخ رج ل ه‬ ‫ْض هُ ْم َعلَى بَع ٍ‬ ‫ظَلَ َم َ‬
‫ك ﴾ و﴿لَيَ ْب ِغي بَع ُ‬
‫على مذهب أهل الحق بأجمل ما ينبغي له وأكمله وهللا المستعان)(‪)1‬‬
‫ثم بدأ بالتبريرات المرتبطة بكل واحدة من تلك الكلمات‪:‬‬
‫أما األولى‪ ،‬وهي ﴿أَ ْكفِ ْلنِيهَا﴾‪ ،‬فقد بررها بقول ه‪( :‬فه ذا بمع نى أن زل لي عنه ا‬
‫بطالق وأتزوجها بعدك‪ ،‬وهذا من القول الم أذون في فعل ه وترك ه ومب اح أن يق ول‬
‫الرجل ألخيه أو صديقه‪ :‬انزل لي عن زوجك‪ ،‬بإضمار إن ش ئت‪ ،‬وه ذا بمثاب ة من‬
‫يقول لصاحبه أو أخيه‪ :‬بع مني أمتك إن شئت‪ ،‬وهذا قول مب اح‪ ،‬ليس بمحظ ور في‬
‫الشرع‪ ،‬وال مكروه‪ ،‬ومن ادعى حظره أو كراهته في الشرع فعليه الدليل‪ ،‬وال دليل‬
‫له عليه‪ ،‬كي ف وق د ج اء في الص حيح أن الن بي ‪ ‬لم ا واخى بين س عد بن الربي ع‬
‫وبين عبد الرحمن بن عوف قال ل ه األنص اري‪ :‬لي ك ذا وك ذا من الم ال أش اطرك‬
‫فيه‪ ،‬ولي زوجان أنزل لك عن إح داهما‪ ،‬فق ال ل ه عب د ال رحمن‪ :‬ب ارك هللا ل ك في‬
‫أهلك ومالك‪ ،‬أرني طريق الس وق‪ ،‬ووج ه االس تدالل به ذا الح ديث قول ه بين ي دي‬
‫النبي ‪ ‬أنزل لك عن إحداهما ف أقره الن بي ‪ ‬على ه ذا الق ول‪ ،‬ولم ينك ره علي ه‪،‬‬
‫وه و ال يق ر على منك ر‪ ،‬وه و المعلم األك بر ‪ ‬فلم يب ق إال اإلباح ة‪ ،‬لكن تركه ا‬
‫بمعنى األولى واألحرى في كمال منصب النبوة كان أولى وأتم)(‪)2‬‬
‫وهكذا استطاع األموي أن يستخرج من القصة هذه السنة‪ ،‬وهي أن يذهب أي‬
‫رجل من الناس ألخيه أو صديقه‪ ،‬ويطلب منه أن يتنازل له عن زوجته‪ ،‬ليتزوجها‪..‬‬
‫ألنه ال حرج في ذلك‪ ..‬والرواية السلفية تدل عليه‪.‬‬
‫ب﴾‪ ،‬فق د برره ا بقول ه‪( :‬أي غلب ني‪،‬‬ ‫﴿و َع َّزنِي فِي ْال ِخطَ ا ِ‬‫أم ا الثاني ة‪ ،‬وهي َ‬
‫ف نزلت ل ه عنه ا‪ ،‬فه و غلب الحش مة‪ ،‬ال غلب القه ر‪ ،‬لعظم منزل ة الس ائل في قلب‬
‫المسؤول‪ ،‬وال غلب الحس بالقهر المنهي عنه‪ ،‬فإنه ظلم منهي عن ه ش رعا تتحاش ى‬
‫عن ه األنبي اء عليهم الس الم كم ا تق دم‪ ،‬ف إن قي ل‪ :‬ك ان داوود ‪ ‬خليف ة وص احب‬
‫سيف‪ ،‬والمطل وب من ه رعي ة‪ ،‬ومن ش أن الرعي ة هيب ة المل وك والمب ادرة لقض اء‬
‫حوائجهم لكونهم قاهرين لهم فيقضون حوائجهم ب اللين خوف ا من العن ف واإلك راه‪،‬‬
‫‪ )(1‬تنزيه األنبياء عما نسب إليهم حثالة األغبياء (ص‪.)31 :‬‬
‫‪ )(2‬تنزيه األنبياء عما نسب إليهم حثالة األغبياء (ص‪.)32 :‬‬

‫‪60‬‬
‫وفي س ؤال داوود ‪ ‬حم ل على المس ؤول من ه ذا الب اب‪ ،‬قلن ا‪ :‬ص حيح م ا‬
‫اعترضت به إال أن هذا الحم ل على المس ؤول ال يتص ور إال فيمن عه د من ه الظلم‬
‫والغصب من األمراء‪ ،‬وأما من عهدناه العدل واإلحسان كخلفاء الصحابة والت ابعين‬
‫لهم بإحسان فال يتصور ذلك في حقهم إذا منعوا المباحات‪ ،‬وإذا لم يتص ور ذل ك في‬
‫حقهم مع عدم العصمة فما ظنك بالمعصومين المنزهين عن الخطايا تنزيه الوجوب‬
‫كما تقدم‪ ،‬فبطل اعتراض هذه القولة في حق داوود ‪ ‬في هذا الباب)(‪)1‬‬
‫وهكذا اس تطاع األم وي‪ ،‬وبه ذه الت بريرات الغريب ة ال تي ال يقبله ا إال عق ل‬
‫سلفي أن يدافع عن عدالة رجل يملك تسعة وتسعين امرأة‪ ،‬ومع ذلك راح يطلب من‬
‫صديقه وأخي ه امرأت ه الوحي دة ليض مها إلى م ا عن ده من نس اء‪ ،‬ثم يطلب من ذل ك‬
‫الرجل أن يصفي قلبه له باعتباره نبيا‪ ،‬بل يطلب من ه ف وق ذل ك أن يص فه بالع دل‪،‬‬
‫ويتنازل له باللين بدل العنف‪ ..‬ألنه ال يستقيم معه العنف‪.‬‬
‫أم ا الثالث ة‪ ،‬وهي ﴿ لَقَ ْد ظَلَ َم كَ ﴾‪ ،‬فق د احت ال له ا ألم وي ب ذكره ـ أوال ـ‬
‫لاعتراض بشأنها نص عليه بقوله‪( :‬كيف يكون داوود ‪ ‬من خلف هللا في أرض ه‬
‫ويقطع على الظلم بقول الواحد قبل أن يسمع قول اآلخر؟)(‪)2‬‬
‫ثم أجاب على هذا االعتراض بقوله‪( :‬فالجواب عن هذا يتص ور من وجهين‪:‬‬
‫ك﴾‪ ،‬أو ص دقه‬ ‫أحدهما أنه سمع من اآلخر حج ة ال تخلص ه‪ ،‬فق ال لألول ﴿ لَقَ ْد ظَلَ َم َ‬
‫اآلخر في قوله فقال لألول ﴿ لَقَ ْد ظَلَ َمكَ ﴾‪ ،‬والثاني أن يقول ﴿ لَقَ ْد ظَلَ َم كَ ﴾بإض مار إن‬
‫كان حقا ما تقول‪ ،‬وهذا سائغ‪ ،‬وأما أن يقول له ﴿ لَقَ ْد ظَلَ َمكَ ﴾ من غير أن يسمع حجة‬
‫اآلخر فه ذا ال نس وغه في ح ق عاق ل منص ف فكي ف في ح ق من آت اه هللا الحكم ة‬
‫وفصل الخط اب‪ ..‬أال ت رى موق ف يعق وب ‪ ‬لم ا ج اءه بن وه عش يا يبك ون وهم‬
‫ت لَ ُك ْم أَ ْنفُ ُس ُك ْم أَ ْم رًا ﴾ [يوس ف‪ ]18 :‬ولم يقب ل‬ ‫جماعة فقالوا ما قالوا فقال‪﴿ :‬بَلْ َس َّولَ ْ‬
‫أقوالهم وال دموعهم بغير دليل‪ ،‬فكيف يقبل داوود ‪ ‬قول الخص م من غ ير حج ة‬
‫ك﴾ هذا ال يصح في حقه‪ ،‬وأما قول ه للخص م ﴿ لَقَ ْد ظَلَ َم كَ ﴾‪،‬‬ ‫حتى يقول له ﴿ لَقَ ْد ظَلَ َم َ‬
‫فعنى به بخسك وغبنك في قول كان غيره من المباح ات أولى ب ك من ه‪ ،‬وح د الظلم‬
‫في اللسان وضع الشيء في غير موض عه‪ ،‬وق د ق دمنا أن ق ول قائ ل لغ يره أكفل ني‬
‫زوجك ليس بظلم منهي عنه شرعا‪ ،‬فلم يبق إال ما ذكرناه في حقه)(‪)3‬‬
‫ْض﴾‪ ،‬فقد احتال له ا ألم وي بقول ه‪:‬‬ ‫ضهُ ْم َعلَى بَع ٍ‬‫أما الرابعة‪ ،‬وهي ﴿لَيَب ِْغي بَ ْع ُ‬
‫(‪ ..‬فيخرج البغي مخرج الظلم حرف ا بح رف فإن ه إذا س اغ في اللس ان والمعت اد أن‬
‫يسمى مالك الكثير إذا طلب من المقل قليله ظالما‪ ،‬فال غرو أن يسمى باغيا‪ ،‬ولو أن‬
‫رجال كان له عبدان مطيعان له مس تقيمان غاي ة م ا يمكنهم ا من وج وه االس تقامة‪،‬‬
‫فأحسن إلى أحدهما وأعطاه ووسع عليه ورفه معيش ته‪ ،‬ولم يحس ن لآلخ ر بعين م ا‬
‫ألزمه هللا مما يتعين للعبي د على الس ادة‪ ،‬لس مى العقالء ه ذا الس يد ظالم ا باغي ا من‬

‫‪ )(1‬تنزيه األنبياء عما نسب إليهم حثالة األغبياء (ص‪)33 :‬‬


‫‪ )(2‬تنزيه األنبياء عما نسب إليهم حثالة األغبياء (ص‪)34 :‬‬
‫‪ )(3‬تنزيه األنبياء عما نسب إليهم حثالة األغبياء (ص‪)35 :‬‬

‫‪61‬‬
‫حيث إنه أحسن ألحدهما ولم يحسن مع اآلخر مع تساويهما في الطاعة والنص يحة‪،‬‬
‫والس يد م ع ه ذا التخص يص باإلحس ان ألح دهما لم ي أت في الش رع بمحظ ور وال‬
‫بمكروه‪ ،‬ب ل ك ل م ا فع ل معهم ا مب اح ل ه فه ذا وج ه من وج وه التخلص من ه ذه‬
‫األقوال‪ ،‬وأنها مباحة لقائلها وفاعل ما وق ع منه ا من غ ير أن يلحق ه ذم من الش رع‬
‫وال ثلب)(‪)1‬‬
‫وهكذا استطاع األموي أن يستخرج من القص ة ه ذه الفائ دة العملي ة البديع ة‪،‬‬
‫وهي تشريع الجور ما دام الجائر يتصرف في ملكه‪..‬‬
‫أما الخامسة واألخير‪ ،‬فهي ﴿ َوقَلِي ٌل َما هُ ْم﴾‪ ،‬وقد احتال له ا بقول ه‪( :‬فمقص وده‬
‫األكابر األفراد من المحسنين المؤثرين فإنهم يحس نون في المباح ات كإحس انهم في‬
‫المش روعات فيتع اونون في العش رة ويتناص فون في الخلط ة كم ا ق ال تع الى‬
‫صةٌ ﴾ [الحش ر‪ ،]9 :‬ثم ق ال‪َ ﴿ :‬وقَلِي ٌل َم ا‬ ‫صا َ‬ ‫﴿ َوي ُْؤثِرُونَ َعلَى أَ ْنفُ ِس ِه ْم َولَوْ َكانَ بِ ِه ْم خَ َ‬
‫ه ُ ْم﴾‪ ،‬فإنهم الكبريت األحمر)(‪)2‬‬
‫وهك ذا اس تطاع األم وي أن ي برهن من خالل قص ة داود ‪ ‬على أن من‬
‫اإليثار تنازل الرجل ألخيه وصديقه عن زوجته إذا م ا أعجبت ه‪ ..‬وأن مث ل ذل ك في‬
‫الناس كمثل الكبريت األحمر في أهميته وندرته‪.‬‬
‫ه ذا مج رد مث ال عن العق ل الس لفي‪ ،‬وكي ف يخ رب ك ل األخالق والقيم‬
‫واإلنسانية وكل شيء من أجل أن يحافظ على تلك األس انيد ال تي يق وم عليه ا بني ان‬
‫دينه الهش‪.‬‬
‫سليمان ‪:‬‬
‫يق ترن اس م س ليمان ‪ ‬م ع اس م أبي ه داود في الق رآن الك ريم كث يرا‪ ،‬لي بين القيم‬
‫العظيمة التي تحكم تلك األسرة الطيبة الممتلئ ة بالروحاني ة‪ ،‬وال تي اس تحقت أن يفتح له ا‬
‫الكثير من الخزائن التي وصدت على غيرها‪.‬‬
‫وم ا فتح له ا ذل ك إال بعبوديته ا وخض وعها هلل‪ ..‬الخض وع ال ذي يتجلى في ك ل‬
‫المواقف‪ ،‬والتي قص علينا الق رآن الك ريم بعض ها‪ ،‬فق ال‪َ ﴿ :‬حتَّى ِإ َذا َأ َت وْ ا َع َلى َوا ِد النَّ ْم ِل‬
‫ت ن َْم َلةٌ َيا َأ ُّي َها النَّ ْملُ ا ْد ُخلُوا َم َسا ِك َن ُك ْم ال َي ِ‬
‫حْط َمنَّ ُك ْم ُس َل ْي َمانُ َوجُ نُ و ُد ُه َوه ُْم ال َي ْش عُرُونَ َف َت َب َّس َم‬ ‫َقا َل ْ‬
‫وْز ْع ِني َأ ْن َأ ْش ُك َر ِنعْ َم َت كَ الَّ ِتي َأ ْن َع ْمتَ َع َل َّي َو َع َلى َوا ِل َديَّ َوأ ْنَ‬ ‫َ‬
‫ال َربِّ أ ِ‬ ‫احكاً ِم ْن َقوْ ِل َه ا َو َق َ‬ ‫ض ِ‬ ‫َ‬
‫َرْضاهُ َو َأ ْد ِخ ْل ِني ِب َرحْ َم ِتكَ ِفي ِع َبا ِدكَ الصَّا ِل ِحينَ ﴾ (النمل‪ 18:‬ـ ‪)19‬‬ ‫صا ِلحاً ت َ‬ ‫َأ ْع َم َل َ‬
‫وهنا يظهر سليمان ‪ ‬الذي سخر هللا له من كل شيء‪ ،‬متواضعا أمام ه ذه النمل ة‪،‬‬
‫وفي نفس الوقت ال ينشغل بها‪ ،‬وال بحديثها‪ ،‬ب ل يتوج ه مباش رة إلى رب ه ال ذي ال يغيب‬
‫عنه لحظة واحدة‪.‬‬
‫والقرآن الكريم يصوره كذلك بص ورة الح ريص على م ا كل ف ب ه من مه ام‪ ،‬فه و‬
‫حريص على رعاية رعيته‪ ،‬وتحقيق مطالبه ا‪ ..‬باإلض افة إلى حرص ه على ال دعوة إلى‬
‫هللا‪.‬‬
‫‪ )(1‬تنزيه األنبياء عما نسب إليهم حثالة األغبياء (ص‪)36 :‬‬
‫‪ )(2‬تنزيه األنبياء عما نسب إليهم حثالة األغبياء (ص‪)36 :‬‬

‫‪62‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك كله وصفه هللا كما وصف والده بكونه أوابا‪ ،‬بل أثنى علي ه بكون ه‬
‫الط ْي ِر َوأُو ِتي َن ا‬ ‫ال َيا َأ ُّي َها النَّاسُ ُع ِّل ْمنَا َم ْن ِط َق َّ‬ ‫( ِنعْ َم ْال َع ْبدُ)‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬و َو ِر َ‬
‫ث ُس َل ْي َمانُ د ُ‬
‫َاو َد َو َق َ‬
‫َاو َد ُس َل ْي َمانَ ِنعْ َم‬ ‫ِم ْن ُكلِّ َش ْي ٍء ِإ َّن َه َذا َله َُو ْال َفضْ لُ ْال ُم ِبينُ ﴾ (النمل‪ ،)16:‬وقال عنه‪َ ﴿:‬و َو َه ْبنَا ِلد ُ‬
‫ال َأتُ ِم ُّدون َِن ِب َم ٍ‬
‫ال َف َم ا آ َت ا ِن َي هَّللا ُ‬ ‫ْال َع ْب ُد ِإنَّهُ َأ َّوابٌ ﴾ (صّ ‪ ،)30 :‬وقال عنه‪َ ﴿:‬ف َل َّما َجا َء ُس َل ْي َمانَ َق َ‬
‫خَ يْرٌ ِم َّما آتَا ُك ْم َبلْ َأ ْنتُ ْم ِب َه ِديَّ ِت ُك ْم َت ْف َرحُونَ ﴾ (النمل‪)36:‬‬
‫وهكذا نرى صورة سليمان ‪ ‬في القرآن الكريم‪ ،‬وليس فيها ـ كما في قصة أبي ه ـ‬
‫أي ام رأة واح دة‪ ..‬لكن الس لفية ت أبى أن ت ترك س ليمان من دون نس اء‪ ،‬ومن دون اللهث‬
‫وراءهن‪ ..‬ومن دون أن يض يفوا إلى م ا ذك ره الق رآن م ا ي دعم ب ه ملك ه من األبه ة‬
‫والسلطان والذهب ونحوها‪.‬‬
‫ض ِل ِه َف َق ْد‬ ‫اس َع َلى َم ا آ َت اهُ ُم هَّللا ُ ِم ْن َف ْ‬ ‫حْس ُدونَ النَّ َ‬ ‫فقد ذكروا في تفسير قوله تعالى َ﴿أ ْم َي ُ‬
‫َاب َو ْال ِح ْك َم َة َوآ َت ْينَاه ُْم ُم ْل ًكا ع َِظي ًما ﴾ [النساء‪ ]54 :‬أ ّنه كان لس ليمان ‪‬‬ ‫آل ِإب َْرا ِهي َم ْال ِكت َ‬ ‫آ َت ْينَا َ‬
‫ألف امرأة‪ ،‬ثالثمائة مهرية وسبعمائة سرية‪ ..‬ألن من أهم مظاهر الملك عندهم ه و تمل ك‬
‫أكبر عدد من النساء‪ ،‬وقد فعوا ذل ك إلى رس ول هللا ‪ ،‬فق د رووا عن ه أن ه ق ال‪( :‬أل ف‬
‫امرأة عند رجل‪ ،‬ومائة امرأة عند رجل أكثر أو تسع نسوة؟)(‪)1‬‬
‫ولم يكتفوا بذلك‪ ،‬بل راحوا إلى آية متشابهة كان يمكنهم أن يفهموها وفق األوص اف‬
‫التي ذكرها القرآن الكريم‪ ،‬أو كان يمكنهم أن يفوضوا علمها هلل تع الى‪ ..‬لكنهم لم يفعل وا‪..‬‬
‫ولذلك نسخت تلك اآلية الكريمة بفهمها الس لفي ك ل شخص ية س ليمان ‪ ،‬وحولت ه من‬
‫العبد األواب الخاشع الخاضع المتواضع إلى زير نساء‪ ..‬ال هم له إال النساء حتى لو ك ان‬
‫على حساب القيم النبيلة التي ما استخلفه هللا إال لتوفرها فيه‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫﴿ولق ْد ف َتنا ُس ل ْي َمانَ َوألق ْي َن ا َعلى‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫واآلية الكريم ة ال تي أس اءوا فهمه ا هي قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫َاب﴾ [ص‪ ،]34 :‬فقد راح عقلهم الس لفي المغ رم بالقص ص والحكاي ات‬ ‫رْس ِّي ِه َج َسدًا ثُ َّم َأن َ‬‫ُك ِ‬
‫واألساطير يبحث عن سر تلك الفتنة‪ ..‬وما هو الكرسي‪ ..‬وما هو الجسد‪.‬‬
‫وبما أنهم لم يجدوا جواب ذلك عند السابقين من المهاجرين واألنصار‪ ،‬فإنهم راح وا‬
‫يبحثون عن جوابها عند كعب األحبار ووهب بن منبه وغيرهم من تالميذ اليهودية‪.‬‬
‫وكان في إمك انهم أن يمروه ا كم ا ج اءت‪ ،‬كم ا ي ذكرون في الص فات‪ ..‬ويجعل ون‬
‫حكايته ا تفس يرها‪ ،‬وتفس يرها حكايته ا‪ ..‬لكنهم لم يفعل وا‪ ،‬ألن عق ولهم الص غيرة مغرم ة‬
‫بالحكايات واألساطير‪.‬‬
‫وكان في إمكانهم أن يفسروها بما فسرها به بعضهم من أنه ك ان لس ليمان ‪ ‬ول د‬
‫شاب ذكي‪ ،‬وكان يحبّه ح ّباً شديد ًا‪ ،‬فأماته هللا على بساطه فجأة بال مرض‪ ،‬اختبار ًا من هللا‬
‫تعالى له‪ ،‬وابتال ًء لصبره في إماتة ولده‪ ،‬وألقى جسمه على كرسيّه(‪.)2‬‬
‫لكنهم لم يفعلوا أيضا‪ ..‬ألن هذه القصة ليس فيها أي جوانب إثارة‪ ..‬باإلضافة إلى أن ه‬
‫ليس فيه ا أي ام رأة واح دة‪ ..‬وهم ال يحب ون القص ص ال تي ال تح وي على النس اء من‬

‫‪ )(1‬الكشف والبيان عن تفسير القرآن (‪.)329 /3‬‬


‫‪ )(2‬تنزيه األنبياء للشريف المرتضى‪.99 :‬‬

‫‪63‬‬
‫الحرائر والجواري‪.‬‬
‫ولذلك لجأوا إلى اليهود‪ ،‬ليلبوا لهم رغبتهم‪ ..‬وقد وجدوا عندهم ذلك‪ ..‬حيث حكى لهم‬
‫وهب بن منبه هذه القصة الطويلة ال تي س نحكيها كم ا رويت ببعض التص رف من ب اب‬
‫االختصار‪ ،‬لنقارن من خاللها مدى التشويه الذي ش وهت ب ه المدرس ة الس لفية الص ورة‬
‫القرآنية التي صور بها سليمان ‪.‬‬
‫قال وهب بن منبه‪( :‬س مع س ليمان بمدين ة في جزي رة من جزائ ر البح ر‪ ،‬يق ال له ا‬
‫صيدون‪ ،‬بها ملك عظيم السلطان لم يكن للناس اليه سبيل‪ ،‬لمكانه في البحر‪ ،‬وكان هللا ق د‬
‫آتى سليمان في ملكه سلطانا ال يمتنع منه شيء في بر وال بحر‪ ،‬إنما يركب إلي ه إذا ركب‬
‫على الريح‪ ،‬فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء‪ ،‬حتى ن زل به ا بجن وده‬
‫من الجن واإلنس‪ ،‬فقتل ملكها واستفاء ما فيها‪ ،‬وأصاب فيما أصاب ابنة لذلك الملك لم ير‬
‫مثلها حسنا وجماال‪ ،‬فاصطفاها لنفسه‪ ،‬ودعاها إلى اإلسالم فأسلمت على جفاء منه ا وقل ة‬
‫ثقة‪ ،‬وأحبها حبا لم يحبه شيئا من نسائه‪ ،‬ووقعت نفسه عليها‪ ،‬فكانت على منزلتها عنده ال‬
‫يذهب حزنها‪ ،‬وال يرقأ دمعها‪ ،‬فقال لها‪ ،‬لما رأى ما بها وهو يشق عليه من ذلك ما يرى‪:‬‬
‫ويحك‪ ،‬ما هذا الحزن الذي ال يذهب‪ ،‬والدمع الذي ال يرق أ! ق الت‪ :‬إن أبي أذك ره وأذك ر‬
‫ملكه وما كان فيه وما أصابه‪ ،‬فيحزنني ذلك‪ ،‬قال‪ :‬فقد اب د ل ك هللا ب ه ملك ا ه و أعظم من‬
‫ملكه‪ ،‬وسلطانا هو أعظم من سلطانه‪ ،‬وهداك لإلسالم وهو خير من ذل ك كل ه‪ ،‬ق الت‪ :‬إن‬
‫ذلك لكذلك‪ ،‬ولكني إذا ذكرته أصابني ما قد ترى من الحزن‪ ،‬فلو أن ك أم رت الش ياطين‪،‬‬
‫فصوروا صورة أبي في داري التي أنا فيها‪ ،‬أراها بكرة وعشيا لرج وت أن ي ذهب ذل ك‬
‫حزني‪ ،‬وأن يسلي عني بعض ما أجد في نفسي‪ ،‬فأمر سليمان الشياطين‪ ،‬فقال‪ :‬مثل وا له ا‬
‫صوره أبيها في دارها حتى ما تنكر منه شيئا‪ ،‬فمثلوه لها حتى نظرت إلى أبيها في نفسه‪،‬‬
‫إال أنه ال روح فيه‪ ،‬فعمدت إليه حين صنعوه لها فأزرته وقمص ته وعممت ه وردت ه بمث ل‬
‫ثيابه التي كان يلبس‪ ،‬مث ل م ا ك ان يك ون في ه من هيئ ة‪ ،‬ثم ك انت إذا خ رج س ليمان من‬
‫دارها تغدو عليه في والئدها حتى تسجد له ويسجدن له‪ ،‬كما ك انت تص نع ب ه في ملك ه‪،‬‬
‫وتروح كل عشية بمثل ذلك‪ ،‬ال يعلم سليمان بشيء من ذلك أربعين صباحا‪) ..‬‬
‫هذا هو الجزء األول من القصة‪ ،‬وهو يظهر س ليمان ‪ ‬بص ورة المتس لط الظ الم‬
‫الجبار‪ ،‬الذي يتسلط على غيره من الملوك‪ ،‬ثم يأس ر بن اتهم‪ ..‬ثم يطلب منهن أن يتع املن‬
‫معه بلطف مع أنه هو الذي قتل والدهن‪ ..‬وكل هذا يقبله العقل السلفي بسهولة‪ ..‬ألنه ال قيم‬
‫ثابتة عنده‪ ..‬فالولي عنده ولي لكون هللا تواله فقط‪ ،‬أما األخالق فشأن آخر‪..‬‬
‫وكما أن السلفية يظه رون الص حابة أعظم وأحكم من رس ول هللا ‪ ،‬فق د اجته دوا‬
‫أيضا أن يجعلوا من صاحب سليمان ‪ ‬أعلم وأحكم‪ ،‬وقد ذكر ذل ك وهب‪ ،‬وه و يحكي‬
‫قصة الجسد الملقى على الكرس ي‪ ،‬فق ال‪( :‬وبل غ ذل ك آص ف بن برخي ا‪ -‬وك ان ص ديقا‪،‬‬
‫وكان ال يرد عن أبواب سليمان أي ساعة أراد دخول شيء من بيوته دخل‪ ،‬حاضرا ك ان‬
‫سليمان أو غائبا‪ -‬فأتاه فقال‪ :‬ي ا ن بي هللا‪ ،‬ك برت س ني‪ ،‬ودق عظمي‪ ،‬ونف د عم ري‪ ،‬وق د‬
‫حان منى ذهاب! وقد أحببت أن أقوم مقاما قبل الموت أذكر فيه من مضى من أنبي اء هللا‪،‬‬
‫وأثني عليهم بعلمي فيهم‪ ،‬وأعلم الن اس بعض م ا ك انوا يجهل ون من كث ير من أم ورهم‪،‬‬

‫‪64‬‬
‫فقال‪ :‬افعل‪ ،‬فجمع له س ليمان الن اس‪ ،‬فق ام فيهم خطيب ا‪ ،‬ف ذكر من مض ى من أنبي اء هللا‪،‬‬
‫فأثنى على كل نبي بما فيه‪ ،‬وذكر ما فضله هللا به‪ ،‬حتى انتهى الى سليمان وذك ره‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫ما كان احملك في صغرك‪ ،‬وأورعك في صغرك‪ ،‬وأفضلك في ص غرك‪ ،‬وأحكم أم رك‬
‫في صغرك‪ ،‬وأبعدك من كل ما يكره في ص غرك! ثم انص رف فوج د س ليمان في نفس ه‬
‫حتى مأله غضبا‪ ،‬فلما دخل سليمان داره أرسل إليه‪ ،‬فقال‪ :‬يا آص ف‪ ،‬ذك رت من مض ى‬
‫من أنبياء هللا فأثنيت عليهم خيرا في كل زمانهم‪ ،‬وعلى كل حال من أمرهم‪ ،‬فلما ذكرت ني‬
‫جعلت تثني علي بخير في صغري‪ ،‬وسكت عم ا س وى ذل ك من أم ري في ك بري‪ ،‬فم ا‬
‫الذي أحدثت في آخ ر أم ري؟ ق ال‪ :‬إن غ ير هللا ليعب د في دارك من ذ أربعين ص باحا في‬
‫هوى امرأة‪ ،‬فقال‪ :‬في دارى! فقال‪ :‬في دارك‪ ،‬قال‪ :‬إنا هلل وإنا إليه راجع ون! لق د ع رفت‬
‫أنك ما قلت إال عن شيء بلغك‪ ،‬ثم رجع سليمان إلى داره فكسر ذلك الصنم‪ ،‬وعاقب تل ك‬
‫المرأة ووالئدها‪ ،‬ثم أمر بثياب الطهرة ف أتي به ا‪ ،‬وهي ثي اب ال يغزله ا إال األبك ار‪ ،‬وال‬
‫ينسجها اال األبكار‪ ،‬وال يغسلها إال األبكار‪ ،‬وال تمسها امرأة قد رأت الدم‪ ،‬فلبسها ثم خرج‬
‫إلى فالة من األرض وحده‪ ،‬فأمر برماد ففرش ل ه‪ ،‬ثم أقب ل تائب ا إلى هللا ح تى جلس على‬
‫ذلك الرماد‪ ،‬فتمعك فيه بثيابه تذلال هلل جل وعز وتضرعا إليه‪ ..‬فلم يزل كذلك يومه ح تى‬
‫أمسى‪ ،‬يبكي إلى هللا ويتضرع إليه ويستغفره‪ ،‬ثم رجع إلى داره‪ -‬وك انت أم ول د ل ه يق ال‬
‫لها‪ :‬األمينة‪ ،‬كان إذا دخل مذهب ه‪ ،‬أو أراد إص ابة ام رأة من نس ائه وض ع خاتم ه عن دها‬
‫حتى يتطهر‪ ،‬وكان ال يمس خاتمه إال وهو طاهر‪ ،‬وكان ملكه في خاتم ه‪ ،‬فوض عه يوم ا‬
‫من تلك األيام عندها كما كان يض عه ثم دخ ل مذهب ه‪ ،‬وأتاه ا الش يطان ص احب البح ر‪-‬‬
‫وكان اسمه صخرا‪ -‬في صورة سليمان ال تنكر منه شيئا‪ ،‬فقال‪ :‬خاتمي ي ا أمين ة! فناولت ه‬
‫إياه‪ ،‬فجعله في يده‪ ،‬ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان‪ ،‬وعكفت عليه الط ير والجن‬
‫واإلنس‪ ،‬وخرج سليمان فأتى األمينة‪ ،‬وقد غيرت حالته وهيئته عند كل من رآه‪ ،‬فقال‪ :‬ي ا‬
‫أمينة‪ ،‬خاتمي! فقالت‪ :‬ومن أنت؟ قال‪ :‬أنا سليمان بن داود‪ ،‬فقالت‪ :‬كذبت‪ ،‬لس ت بس ليمان‬
‫بن داود‪ ،‬وقد جاء سليمان فأخذ خاتم ه‪ ،‬وه و ذاك ج الس على س ريره في ملك ه فع رف‬
‫سليمان أن خطيئت ه ق د أدركت ه‪ ،‬فخ رج فجع ل يق ف على ال دار من دور ب ني إس رائيل‪،‬‬
‫فيقول‪ :‬أنا سليمان بن داود‪ ،‬فيحثون علي ه ال تراب ويس بونه‪ ،‬ويقول ون‪ :‬انظ روا إلى ه ذا‬
‫المجنون‪ ،‬أي شيء يقول! ي زعم أن ه س ليمان بن داود‪ ،‬فلم ا رأى س ليمان ذل ك عم د إلى‬
‫البحر‪ ،‬فكان ينقل الحيتان ألصحاب البحر إلى السوق‪ ،‬فيعطون ه ك ل ي وم س مكتين‪ ،‬ف إذا‬
‫أمسى باع إحدى سمكتيه بأرغفة وشوى األخ رى‪ ،‬فأكله ا‪ ،‬فمكث ب ذلك أربعين ص باحا‪،‬‬
‫عدة ما عبد ذلك الوثن في داره‪ ،‬فأنكر آصف بن برخيا وعظماء بني إس رائيل حكم ع دو‬
‫هللا الشيطان في تلك األربعين صباحا‪ ،‬فقال آصف‪ :‬يا معشر بني إسرائيل‪ ،‬ه ل رأيتم من‬
‫اختالف حكم ابن داود م ا رأيت! ق الوا‪ :‬نعم‪ ،‬ق ال‪ :‬أمهل وني ح تى أدخ ل على نس ائه‬
‫فأسألهن‪ :‬هل أنكرن منه في خاصة أمره ما أنكرنا في عامة أمر الناس وعالنيت ه؟ ف دخل‬
‫على نسائه فقال‪ :‬ويحكن! هل أنك رتن من أم ر ابن داود م ا أنكرن ا؟ فقلن‪ :‬اش ده م ا ي دع‬
‫امرأة منا في دمها‪ ،‬وال يغتسل من جناب ة‪ ،‬فق ال‪ :‬إن ا هلل وإن ا الي ه راجع ون! ان ه ذا له و‬
‫البالء المبين‪ ،‬ثم خرج إلى بني إسرائيل‪ ،‬فقال ما في الخاصة أعظم مما في العام ة‪ ،‬فلم ا‬

‫‪65‬‬
‫مضى أربعون صباحا طار الشيطان عن مجلسه‪ ،‬ثم مر بالبحر‪ ،‬فقذف الخاتم فيه‪ ،‬فبلعته‬
‫سمكة‪ ،‬وبصر بعض الصيادين فأخذها وقد عمل له س ليمان ص در يوم ه ذل ك‪ ،‬ح تى إذا‬
‫كان العشي أعطاه سمكتيه‪ ،‬فأعطى السمكة التي أخذت الخاتم‪ ،‬ثم خرج سليمان بس مكتيه‬
‫فيبيع التي ليس في بطنها الخاتم باألرغفة‪ ،‬ثم عمد إلى الس مكة األخ رى فبقره ا ليش ويها‬
‫فاستقبله خاتمه في جوفها‪ ،‬فأخ ذه فجعل ه في ي ده ووق ع س اجدا هلل‪ ،‬وعك ف علي ه الط ير‬
‫والجن‪ ،‬وأقبل عليه الناس وعرف أن الذي دخل عليه لما كان أحدث في داره‪ ،‬فرجع إلى‬
‫ملكه‪ ،‬وأظهر التوبة من ذنبه‪ ،‬وأمر الشياطين فقال‪ :‬ائتوني به‪ ،‬فطلبته له الش ياطين ح تى‬
‫أخذوه‪ ،‬فأتى به‪ ،‬فجاب له صخرة‪ ،‬فأدخله فيها‪ ،‬ثم س د علي ه ب أخرى‪ ،‬ثم أوثقه ا بالحدي د‬
‫والرصاص‪ ،‬ثم أمر به فقذف في البحر)(‪)1‬‬
‫هذه هي الرواية كما رواها وهب بن منبه‪ ،‬وهناك رواية قريبة منها رواه ا الس دي‪،‬‬
‫جاء فيها‪( :‬كان لسليمان مائة امرأة‪ ،‬وكانت امرأة منهن يقال لها جرادة‪ ،‬وهي آث ر نس ائه‬
‫عنده‪ ،‬وآمنهن عنده‪ ،‬وكان إذا أجنب أو أتى حاجة نزع خاتمه‪ ،‬وال ي أتمن علي ه أح دا من‬
‫الناس غيرها‪ ،‬فجاءته يوما من األيام فق الت ل ه‪ :‬إن أخي بين ه وبين فالن خص ومة‪ ،‬وأن ا‬
‫أحب أن تقض ي ل ه إذا ج اءك‪ ،‬فق ال‪ :‬نعم‪ ،‬ولم يفع ل‪ ،‬ف ابتلي فأعطاه ا خاتم ه‪ ،‬ودخ ل‬
‫المحرج فخرج الشيطان في صورته‪ ،‬فقال‪ :‬هاتي الخاتم‪ ،‬فأعطته‪ ،‬فجاء حتى جلس على‬
‫مجلس سليمان‪ ،‬وخرج سليمان بعد فسألها أن تعطيه خاتمه‪ ،‬فقالت‪ :‬ألم تأخ ذه قب ل؟ ق ال‪:‬‬
‫ال‪ ،‬وخرج من مكانه تائها‪ ،‬قال‪ :‬ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما‪)2() ..‬‬
‫إلى آخر القصة التي رواها السلفية‪ ،‬وفسروا بها اآليات الكريمة‪..‬‬
‫وقد انبرى األموي في كتابه [تنزيه األنبياء عما نس ب إليهم حثال ة األغبي اء]‬
‫ليزيل الشبه المرتبطة بها‪ ،‬وسنذكر بتصرف ما قال لنرى ال دروس ال تي يس تلهمها‬
‫السلفية من تلك الروايات اإلسرائيلية‪.‬‬
‫وأول تنزي ه ب دأ ب ه ه و (قص ة التمث ال ال ذي ص نع له ا‪ ،‬وم ا قي ل أن ه حكم‬
‫ألخيه ا)‪ ،‬وق د خرجه ا األم ري وجهين‪ ،‬فق ال‪( :‬يتص ور فيه ا الج واز من وجهين‪:‬‬
‫أحدهما أن يكون صنع التمثال مباحا له كما كان مباحا لعيسى ‪ ‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ‬
‫ين َكهَ ْيئَ ِة الطَّي ِْر بِإِ ْذنِي فَتَ ْنفُ ُخ فِيهَا فَتَ ُكونُ طَ ْيرًا بِإِ ْذنِي ﴾ [المائدة‪،]110 :‬‬
‫ق ِمنَ الطِّ ِ‬
‫ت َْخلُ ُ‬
‫فصح من هذه اآلية أن عيسى ‪ ‬كان يص ور التماثي ل ب إذن هللا‪ ،‬وك ذلك س ليمان‬
‫‪ ‬إذا صح أنه لم يحرم عليه فعله في شرعه واألظهر فيه أنه لم يحرم بدليل قول ه‬
‫يل ﴾ [سبأ‪ ]13 :‬والتماثي ل ق د تك ون‬ ‫يب َوتَ َماثِ َ‬‫ار َ‬ ‫تعالى‪ ﴿ :‬يَ ْع َملُونَ لَهُ َما يَ َشا ُء ِم ْن َم َح ِ‬
‫على صور األناسي‪ ..‬وأما إن عبدت هي صنما من غير أن يش عر ب ه س ليمان ‪‬‬
‫فال بأس عليه في ذلك‪ ،‬فإن األنبي اء عليهم الس الم عن وا ب الظواهر‪ ،‬وأم ر الب واطن‬
‫إلى هللا تعالى‪ ..‬وأما قولهم إنها طلبت من ه أن يحكم ألخيه ا على خص مه فق ال له ا‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬فيجوز له أن يقولها وهو يضمر في نفسه إذا كان الح ق ل ه‪ ،‬ال علي ه‪ ،‬ثم طيب‬
‫نفس ها بنعم لك ون النس اء تطيب أنفس هن بمث ل ه ذه المش تبهات لض عف عق ولهن‬
‫‪ )(1‬تاريخ الطبري (‪)499 /1‬‬
‫‪ )(2‬تاريخ الطبري (‪)500 /1‬‬

‫‪66‬‬
‫وجهلهن بالحقائق‪ ،‬وال يجوز في حقه سوى ه ذا ب دليل أن ه ل و أض مر في نفس ه أن‬
‫يحكم ل ه والحكم علي ه لوق ع في كب يرة محرم ة وهي أن ين وي أن يحكم ب الجور‬
‫وحاشاه من ذلك وهو ال يجوز عليه ذلك كما تقدم)(‪)1‬‬
‫ه ذه هي الش بهة األولى ال تي اس تطاع عقل ه الس لفي أن يتخلص منه ا بك ل‬
‫سهولة‪ ،‬بل استطاع أن يستخرج من خاللها سنية االحتيال على عقول النس اء‪ ،‬ول و‬
‫بالكذب مع اإلضمار في الباطن طبعا على عدم تنفيذ ما يعدهن به‪.‬‬
‫أما الشبهة الثانية‪ ،‬وهي (كون الشيطان يخلفه على كرسيه‪ ،‬ويحكم بالباطل)‪،‬‬
‫فقد أجاب عليها بقوله‪( :‬ليس على نبي هللا ‪ ‬لو صح في ذلك دقي ق وال جلي ل من‬
‫اإلثم‪ ،‬وهذا بمثابة عيسى ‪ ‬حين عبد من دون هللا)(‪)2‬‬
‫هذا هو الوجه األول الذي فسرت به فتن ة س ليمان ‪ ،‬وه و وإن لقي قب وال‬
‫من البعض إال أنه لقي رفضا من آخرين‪..‬‬
‫والوجه الثاني الذي لجأ إليه من أنك ر الوج ه األول ال يق ل نك ارة عن الوج ه‬
‫األول‪ ،‬وم ع ذل ك فق د أق ام أعالم الس لفية ال دنيا على من أنك ره‪ ،‬ألن راوي الوج ه‬
‫الثاني ليس الطبري فقط‪ ،‬وإنما راويه هم ا البخ اري ومس لم وهم ا ـ عن د الس لفية ـ‬
‫أك ثر حرم ة من الق رآن الك ريم نفس ه‪ ،‬باإلض افة إلى أن ال راوي المباش ر ل ه عن‬
‫رسول هللا ‪ ‬هو أبو هريرة‪ ،‬وال أحد من الس لفية يقب ل أي نق د ألبي هري رة‪ ،‬فه و‬
‫مثلهم األعلى‪ ،‬وسلفهم األول‪ ،‬حتى لو قال فيه رؤساؤهم من المحدثين ما قالوا‪.‬‬
‫والنص الذي يوردون ه للدالل ة على الفتن ة ال تي وقعت لس ليمان ‪ ‬ه و م ا‬
‫رووه عن رسول هللا ‪ ‬أنه قال‪( :‬ق ال س ليمان بن داود‪ :‬ألط ّ‬
‫وفن الليل ة على مائ ة‬
‫امرأة ـ أو تسع وتسعين ـ كلهن يأتي بفارس يجاهد في س بيل هللا‪ .‬فق ال ل ه ص احبه‪:‬‬
‫قل‪ :‬إن شاء هللا‪ .‬فلم يقل‪ :‬إن شاء هللا‪ .‬فلم تحمل منهن إال ام رأة واح دة ج اءت بش ق‬
‫رجل‪ .‬وال ذي نفس محم د بي ده ل و ق ال‪ :‬إن ش اء هللا لجاه دوا في س بيل هللا فرس انا ً‬
‫أجمعون)(‪)3‬‬
‫وهم يس تدلون به ذا الح ديث في مواض ع كث يرة أهمه ا تل ك الق وة الغرائزي ة‬
‫العظيمة التي ال يمكن تصورها‪ ،‬والتي وهبها هللا ـ في تص ورهم ـ لألنبي اء‪ ..‬ربم ا‬
‫هدية لهم على الجهود التي يقومون بها في الدعوة إلى هللا‪.‬‬
‫ولذلك نراهم يذكرون لألنبياء النساء الكثيرات كما في هذا الحديث‪ ،‬وإن كان‬
‫الخالف قد وقع في عدد نسوته بالضبط‪ ،‬ألن أبا هريرة أو رواة الحديث لم يضبطوا‬
‫عددهن جيدا‪ ،‬فمرة يذكرون أنهن مائة‪ ،‬وت ارة أنهن تس عون‪ ،‬وت ارة أنهن س بعون‪،‬‬
‫وتارة أنهن ستون‪.‬‬
‫وهم معذورون في ذلك‪ ،‬فلم يكن في ذلك الحين تسجيل لعقود ال زواج‪ ،‬وليس‬
‫هناك مكاتب لألحوال المدنية‪ ،‬ومع ذلك فقد حاول أعالم السلفية أن يجدوا حال لتلك‬

‫‪ )(1‬تنزيه األنبياء عما نسب إليهم حثالة األغبياء (ص‪.)40 :‬‬


‫‪ )(2‬تنزيه األنبياء عما نسب إليهم حثالة األغبياء (ص‪.)40 :‬‬
‫‪ )(3‬صحيح البخاري (‪ ،)3424‬صحيح مسلم (‪ ،)1654‬سنن النسائي (‪ ،)3831‬مسند أحمد بن حنبل (‪)2/506‬‬

‫‪67‬‬
‫األعداد المتناقضة المتضاربة‪.‬‬
‫بل إن أكبر هيئة دينية في السعودية وهي اللجنة الدائمة للفتوى تولت التحقيق‬
‫في ذل ك‪ ،‬وق د نص وا على نت ائج التحقي ق‪ ،‬فق الوا ـ ردا على من رمى الح ديث‬
‫باالضطراب ـ‪( :‬الحديث المضطرب‪ :‬هو الذي روي من طرق مختلفة متس اوية في‬
‫الق وة‪ ،‬ولم يمكن ه الجم ع بينهم ا‪ ،‬أم ا إن ك ان بعض ها أق وى أو أمكن الجم ع فال‬
‫اضطراب‪ ،‬وعلى ه ذا فال يعت بر االختالف في ع دد النس اء في الح ديث المس ؤول‬
‫عنه اضطرابا يرد به الحديث ألمرين‪ :‬رجحان الرواية ال تي ذك ر فيه ا أن ع ددهن‬
‫تسعون‪ ،‬فقد قال البخاري في صحيحه‪ :‬قال شعيب وأبو الزناد‪ :‬تسعين‪ ،‬وهو أصح‪.‬‬
‫إمكان الجمع بين هذه الروايات‪ ،‬وقد ذهب إلى ذلك ابن حج ر رحم ه هللا في كتابت ه‬
‫على ه ذا الح ديث في الب اب ال ذي ذكرت ه في الس ؤال‪ ،‬ق ال رحم ه هللا‪( :‬فمحص ل‬
‫الروايات ستون وسبعون وتسعون وتسع وتسعون ومائة‪ ،‬والجم ع بينه ا أن الس تين‬
‫كن حرائر‪ ،‬وما زاد عليهن كن سراري أو بالعكس‪ ،‬وأما الس بعون فللمبالغ ة‪ ،‬وأم ا‬
‫التسعون والمائة فكن دون المائة وفوق التس عين‪ ،‬فمن ق ال‪ :‬تس عون‪ ،‬ألغى الكس ر‪،‬‬
‫ومن قال‪ :‬مائة‪ ،‬جبره‪ ،‬ومن ثم وقع التردد في رواية جعفر)(‪)2())1‬‬
‫وهكذا استطاع العقل السلفي أن يحل مشكلة العدد بكل س هولة‪ ..‬لكن المس ألة‬
‫األخرى التي عرضت لهم‪ ،‬وال تي وردهم الس ؤال بش أنها أخط ر‪ ،‬وص احبها ربم ا‬
‫يكون ق د اس تعمل عقل ه‪ ،‬فق د ق ال لهم س ائال‪ ..( :‬وال ريب في ص حة ه ذا الح ديث‬
‫باعتب ار ال رواة واإلس ناد‪ ،‬ولكن مفه وم الح ديث خالف للعق ل والش عور ص ريحا‪،‬‬
‫ومفهومه يعلن ويجهر أن النبي ‪ ‬ما قال هكذا كما نقل الراوي‪ ،‬بل ذكر الن بي ‪‬‬
‫من أباطيل وخرافات اليهود مثاال‪ ،‬وفهم الراوي أن النبي صلى هللا عليه وس لم قال ه‬
‫بيانا واقعيا؛ ألن كل إنسان إن حاسب في نفسه فوضح عليه أن فرض عدد األزواج‬
‫ستون ‪ ،60‬إن باشرهن س ليمان ‪ ‬في س اعة ‪ 6‬أزواج باش رهن ك ل اللي ل بغ ير‬
‫توقف متواليا عشر ساعة‪ ،‬فهل هذا ممكن عقال؟)(‪)3‬‬
‫لكن اللجنة الدائمة للفتوى بما لديها من عقول سلفية جبارة استطاعت أن تحل‬
‫هذه المشكلة أيض ا‪ ،‬وبك ل س هولة‪ ،‬فق د ق الوا جواب ا للس ائل‪( :‬دع وى مخالف ة ه ذا‬
‫الحديث للعقل الصريح دعوى باطلة؛ لبنائها على قي اس الن اس بعض هم على بعض‬
‫في الصحة‪ ،‬وقوة البدن‪ ،‬والقدرة على الجماع‪ ،‬وسرعة اإلنزال وبطئه‪ ،‬وهو قي اس‬
‫فاسد لشهادة الواقع بتف اوتهم فيم ا ذك ر وفي غ يره وخاص ة األنبي اء عليهم الص الة‬
‫والسالم بالنسبة لغيرهم‪ ،‬فق د أوت وا من ق وة الب دن والق درة على الجم اع م ع كم ال‬
‫العفة وضبط النفس‪ ،‬وكبح جماح الشهوة ما لم يؤت غيرهم‪ ،‬فك انت العف ة وص يانة‬
‫الفرج عن قضاء الوطر في الحرام مع القدرة على الجماع وقوة دواعيه معجزة لهم‬
‫عليهم الصالة والسالم‪ ،‬وكان من السهل على أحدهم أن يطأ عش ر نس وة في س اعة‬

‫‪ )(1‬فتح الباري (‪.460 / 6‬‬


‫‪ )(2‬فتاوى اللجنة الدائمة (‪.)295 /4‬‬
‫‪ )(3‬فتاوى اللجنة الدائمة (‪.)294 /4‬‬

‫‪68‬‬
‫ومائة امرأة في عشر ساعات أو أقل‪ ،‬لتحقق االختص اص ب القوة‪ ،‬وإمك ان اإلن زال‬
‫في خمس دقائق أو أقل منها)(‪)1‬‬
‫وألن العقل السلفي ال يحن لشيء كما يحن لكثرة النقول‪ ،‬وخاص ة من األئم ة‬
‫الحفاظ البارعين‪ ،‬فقد نقلوا له ما يكبح جماح عقله عن التفكير‪ ،‬فذكروا له من أق وال‬
‫أعالم السلف والخلف ما يدل على إجماعهم على القوة الجبارة التي وهبت للنبي في‬
‫هذا الجانب‪..‬‬
‫ومن تلك النقول ما نقلوه عن العيني أنه قال‪( :‬وفيه ما كان هللا تعالى خص به‬
‫األنبي اء من ص حة البني ة وكم ال الرجولي ة‪ ،‬م ع م ا ك انوا في ه من المجاه دات في‬
‫العبادة‪ .‬والعادة ـ في مثل هذا لغيرهم ـ الض عف عن الجم اع‪ .‬لكن خ رق هللا تع الى‬
‫لهم العادة في أبدانهم‪،‬كما خرقها لهم في معجزاتهم وأحوالهم‪ ،‬فحصل لسليمان علي ه‬
‫الصالة والسالم من اإلطاقة أن يطأ في ليلة مائة‪ ...‬وليس في األخبار م ا يحف ظ في ه‬
‫صريحا ً غير هذا إال ما ثبت عن س يدنا رس ول هللا ‪ ‬أن ه أعطي ق وة ثالثين رجالً‬
‫في الجماع (‪ ...)2‬وكان إذا صلى الغداة دخل على نسائه فط اف عليهن بغس ل واح د‬
‫ثم يبيت عند ال تي هي ليلتها(‪ ،)3‬وذل ك ألن ه ك ان ق ادراً على توفي ة حق وق األزواج‬
‫وليس يقدر على ذلك غيره مع قلة األكل)(‪)4‬‬
‫أما م ا ورد في الح ديث من ذل ك الج زم من س ليمان ‪ ،‬من غ ير إرج اع‬
‫األمر هلل‪ ،‬مع تذكير المالك أو غيره له‪ ،‬والذي ق د ي وهم ب أن هب ة الول د ليس ت هلل‪،‬‬
‫وإنما هي نتيجة الطواف ـ كما ورد في الحديث ـ فقد اس تطاعوا حله ا أيض ا‪ ،‬وبك ل‬
‫سهولة‪.‬‬
‫فقد نقلوا عن سلفهم الط بري قول ه‪( :‬إن النس يان على وجهين‪ :‬أح دهما‪ :‬على‬
‫وجه التضييع من العبد والتفريط‪ ..‬واآلخ ر‪ :‬على وج ه عج ز الناس ي عن حف ظ م ا‬
‫استحفظ ووكل به‪ ،‬وضعف عقله عن احتماله‪ ..‬فأما الذي يكون من العبد على وج ه‬
‫ك منه لما أمر بفعله‪ .‬فذلك الذي يرغب العب د إلى هللا‬ ‫التضييع منه والتفريط‪ ،‬فهو تر ٌ‬
‫في تركه مؤاخذته به‪ ،‬وهو النسيان الذي عاقب هللا به آدم صلوات هللا عليه فأخرجه‬
‫من الجنة)(‪)5‬‬
‫ونقلوا عن العيني قوله‪( :‬قوله (فلم يقل إن شاء هللا)‪ :‬فلم يقل س ليمان إن ش اء‬
‫هللا بلس انه‪ ،‬ال أن ه غف ل عن التف ويض إلى هللا تع الى بقلب ه‪ ،‬فإن ه ال يلي ق بمنص ب‬
‫النبوة‪ .‬وإنما هذا كما اتفق لنبينا لما سئل عن الروح والخضر وذي القرنين فوع دهم‬
‫أن يأتي بالجواب غ داً جازم ا ً بم ا عن ده من معرف ة هللا تع الى‪ ،‬وص دق وع ده‪ ،‬في‬
‫تصديقه وإظهار كلمته‪ ،‬لكنه ذهل عن النطق به ا ال عن التف ويض بقلب ه‪ ،‬ف اتفق أن‬
‫‪ )(1‬فتاوى اللجنة الدائمة (‪.)296 /4‬‬
‫‪ )(2‬رواه عبد الرزاق في مصنفه‪ ) 507 / 7 ( :‬رقم ( ‪ ،) 14052‬وابن خزيم ة في ص حيحه‪ )426 / 1 ( :‬رقم (‬
‫‪..) 233‬‬
‫‪ )(3‬صحيح ابن خزيمة‪ ) 423 / 5 ( :‬رقم ( ‪) 1225‬‬
‫‪ )(4‬عمدة القاري‪ 244 / 21 ( :‬ـ ‪.) 245‬‬
‫‪ )(5‬جامع البيان‪..) 133 / 6 ( :‬‬

‫‪69‬‬
‫ذلك)(‪)1‬‬ ‫يتأخر الوحي عنه ورمي بما رمي به ألجل‬
‫ونقلوا عن ابن الجوزي قوله في بيان فضل االستثناء‪( :‬وهذه الكلمة لما أهمل‬
‫ذكرها سليمان في قوله ( ألطوفن الليل ة على مائ ة ام رأة تل د ك ل ام رأة غالم اً) لم‬
‫يحصل له مقصوده‪ .‬وإذا أطلقت على لسان رج ل من ي أجوج وم أجوج فق ال (غ داً‬
‫يحف ر الس د إن ش اء هللا) نفعتهم فق در على الحف ر‪ ،‬ف إذا ف ات مقص ود ن بي بتركه ا‬
‫وحصل مراد كافر بقولها‪ ،‬فليُع رف ق درها‪ ،‬وكي ف ال وهي تتض من إظه ار عج ز‬
‫البشرية وتسليم األمر إلى قدرة الربوبية)(‪)2‬‬
‫ولو أن هؤالء جميعا تخلوا عن كبريائهم‪ ،‬وراحوا يبحثون في القرآن الك ريم‬
‫عن كيفية طلب األنبياء عليهم الصالة والسالم للولد‪ ،‬وهل كان ذل ك بالطريق ة ال تي‬
‫وردت في هذا الحديث‪ ،‬أم أنهم كانوا متواض عين ج دا أم ام ربهم س بحانه وتع الى‪،‬‬
‫يعلمون أن الول د وغ ير الول د هب ة من هللا ال يمكن ألح د أن ي زعم أن ه من دون هللا‬
‫يمكن أن ينال هذه الهبة العظيمة‪.‬‬
‫لو رجعوا إلى القرآن الكريم لوجدوا إبراهيم ‪ ،‬وبعد تلك المعاناة الش ديدة‬
‫التي واجهه بها قومه‪ ،‬وبعد بلوغه من الكبر عتيا‪ ،‬يتوجه إلى هللا بحياء عظيم يطلب‬
‫منه أن يرزقه من الصالحين‪ ..‬ولم يحدد ال عددا وال نوعا‪ ..‬يكفي فق ط أن يك ون من‬
‫ال إِنِّي َذا ِهبٌ إِلَى َربِّي َس يَ ْه ِدي ِن (‪َ )99‬ربِّ هَبْ لِي‬ ‫﴿وقَ َ‬ ‫الصالحين‪ ،‬كما ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫ِمنَ الصَّالِ ِحينَ (‪ )100‬فَبَ َّشرْ نَاهُ بِ ُغاَل ٍم َحلِ ٍيم (‪[ ﴾)101‬الصافات‪]101 - 99 :‬‬
‫وهكذا لو رجعوا إلى القرآن الكريم لوجدوا زكريا ‪ ‬يقف نفس موقف جده‬
‫إبراهيم ‪ ،‬يطلب من هللا الولد بتواض ع وحي اء عظيم‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬هُنَالِ كَ َد َع ا‬
‫ك َس ِمي ُع ال ُّدعَا ِء (‪ )38‬فَنَا َد ْت هُ‬ ‫ال َربِّ هَبْ لِي ِم ْن لَ ُد ْنكَ ُذرِّ يَّةً طَيِّبَ ةً إِنَّ َ‬ ‫َز َك ِريَّا َربَّهُ قَ َ‬
‫ص ِّدقًا بِ َكلِ َم ٍة ِمنَ هَّللا ِ‬‫ب أَ َّن هَّللا َ يُبَ ِّش رُكَ بِيَحْ يَى ُم َ‬
‫ُصلِّي فِي ْال ِمحْ َرا ِ‬‫ْال َماَل ئِ َكةُ َوه َُو قَائِ ٌم ي َ‬
‫َو َسيِّدًا َو َحصُورًا َونَبِيًّا ِمنَ الصَّالِ ِحينَ ﴾ [آل عمران‪]39 ،38 :‬‬
‫بل إن القرآن الكريم يشير إلى احترام أنبياء هللا لسنن هللا في الولد كاحترامهم‬
‫لغيرهم من السنن‪ ،‬ولذلك لما بشرت المالئكة زكريا ‪ ‬أج ابهم‪َ ﴿ :‬ربِّ أَنَّى يَ ُك ونُ‬
‫لِي ُغاَل ٌم َوقَ ْد بَلَ َغنِ َي ْال ِكبَ ُر َوا ْم َرأَتِي عَاقِ ٌر ﴾ [آل عمران‪]40 :‬‬
‫وهكذا لو رجعوا إلى القرآن الكريم لوجدوا سليمان ‪ ‬العبد الش كور‪ ،‬وه و‬
‫يلجأ إلى هللا كل حين‪ ،‬ال يغفل عنه أبدا‪ ..‬فكيف يغف ل عن ه‪ ،‬وه و يطلب ـ وفي ليل ة‬
‫واحدة ـ أن يرزق مائة ولد كلهم يعيش إلى أن يجاهد في سبيل هللا‪.‬‬
‫إن هذا التألي على هللا يستحيل على عوام الناس من المسلمين‪ ،‬فكيف يقع من‬
‫عبد شكور أواب ممتلئ بالطاعة هلل والعبودية هلل‪.‬‬
‫ه ذه هي ص ورة األنبي اء عن د الس لفية‪ ،‬وهي ص ورة ال تختل ف عن ص ور‬
‫الملوك والمتكبرين والمتجبرين الذين يباهون بكثرة النساء والجواري‪ ،‬ولعله ألج ل‬
‫هذا ال نستغرب أن يجمع اإلمام السلفي الكبير‪ ،‬الطبري‪ ،‬في اسم تاريخه بين الرسل‬
‫‪ )(1‬عمدة القاري‪ 242 / 21 ( :‬ـ ‪..) 243‬‬
‫‪ )(2‬كشف المشكل من حديث الصحيحين‪.) 332 / 1 ( :‬‬

‫‪70‬‬
‫والملوك‪ ،‬حيث سماه [تاريخ الرسل والمل وك]‪ ،‬فالرس ل بحس ب تص وراتهم ليس وا‬
‫سوى ملوك‪ ..‬ولهذا هم يحبون الملوك‪ ،‬ويجلونهم‪ ،‬ويقدرونهم‪ ،‬ويحرمون نقدهم‪ ،‬أو‬
‫الحديث عنهم‪ ،‬ألنهم ال يختلفون عن الرس ل إال في ناحي ة واح دة ـ بحس ب الرؤي ة‬
‫السلفية ـ هي ذلك الوحي الذي ينزل من السماء عليهم‪.‬‬
‫بل إن السلفية في تصوراتهم هلل تعالى ـ كم ا رأين ا ذل ك في كت اب [الس لفية‪..‬‬
‫والوثني ة المقدس ة]‪ ،‬يجعل ون هللا ملك ا كب يرا‪ ،‬أو ام براطورا عظيم ا‪ ،‬ال يختل ف ـ‬
‫بحس ب الرواي ات ال تي يوردونه ا ـ عن أي مل ك أو ام براطور إال في كون ه في‬
‫السماء‪ ،‬وهم على األرض‪..‬‬

‫‪71‬‬
‫حرص‪ ..‬واعتراض‬
‫من المالحظ ات المهم ة ال تي يالحظه ا من يق رأ ال تراث الس لفي الخ اص‬
‫باألنبياء عليهم الصالة والسالم رؤيته لذلك التعلق الشديد ـ من ط رف األنبي اء كم ا‬
‫يصورهم السلفية ـ بالحي اة والح رص عليه ا‪ ،‬ب ل واالع تراض على هللا إن أرس ل‬
‫إليهم ملك الموت‪.‬‬
‫وهذه المالحظة تبدو من خالل رواي اتهم الكث يرة‪ ،‬س واء تل ك ال تي يس مونها‬
‫صحيحة صحة مطلقة‪ ،‬يبدعون جاحدها‪ ،‬ويتهمونه بتهمهم المعروفة‪ ..‬أو ك انت من‬
‫رواي اتهم المختل ف فيه ا‪ ..‬ولكنهم على العم وم يقبلونه ا‪ ،‬ألنهم يعت برون مص درها‬
‫مصدرا سنيا سلفيا‪.‬‬
‫وه ذه المالحظ ة وح دها كافي ة للدالل ة على العالق ة بين التص ور اليه ودي‬
‫والتصور الس لفي للنب وة‪ ،‬ألن هللا تع الى أخبرن ا عن المقي اس ال ذي نقيس ب ه عق ل‬
‫اليهود‪ ..‬أو عقل كل محب للحياة معرض عن هللا‪ ،‬فقال ـ مخاطبا اليه ود ـ‪﴿ :‬قُ لْ إِ ْن‬
‫اس فَتَ َمنَّ ُوا ْال َم وْ تَ إِ ْن ُك ْنتُ ْم‬ ‫ص ةً ِم ْن دُو ِن النَّ ِ‬ ‫َت لَ ُك ُم ال َّدا ُر اآْل ِخ َرةُ ِع ْن َد هَّللا ِ خَالِ َ‬ ‫َك ان ْ‬
‫صا ِدقِينَ ﴾ [البقرة‪ ]94 :‬وقال‪﴿ :‬قُ لْ يَاأَيُّهَ ا الَّ ِذينَ هَ ادُوا إِ ْن زَ َع ْمتُ ْم أَنَّ ُك ْم أَوْ لِيَ ا ُء هَّلِل ِ ِم ْن‬ ‫َ‬
‫صا ِدقِينَ ﴾ [الجمعة‪]6 :‬‬ ‫ْ َ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ت‬‫ن‬‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ك‬ ‫ن‬ ‫ْ‬ ‫إ‬ ‫تَ‬ ‫م‬ ‫ْ‬
‫ال‬
‫ِ َ ُ َ وْ ِ‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫َّ‬ ‫ن‬‫م‬‫َ‬ ‫ت‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫اس‬ ‫َّ‬ ‫ن‬‫ال‬ ‫ن‬‫د ِ‬‫ُو‬
‫وه ذا اختب ار موج ه لع وام الن اس من اليه ود ال ذين تص وروا أن لهم ال دار‬
‫اآلخ رة خالص ة من دون الن اس‪ ،‬أو أنهم أولي اء هلل من دون األمم‪ ،‬مثلم ا يق ول‬
‫السلفيون تماما‪ ،‬ولذلك طلب هللا تعالى منهم تص ديقا ل دعواهم أن يتمن وا الم وت إن‬
‫كانوا صادقين حقيقة في إيمانهم‪ ..‬ألن من يؤمن ب أن ل ه دار الس عادة األبدي ة‪ ،‬وأن ه‬
‫فيه ا في مح ل الرض وان ال ذي ال ينقط ع‪ ،‬وأن ه في ه ذه الحي اة ال دنيا كاألس ير‬
‫والمسجون مقارنة بسعة الدار اآلخرة‪ ..‬ال محالة يطلب ال دار اآلخ رة‪ ،‬ويلتمس ك ل‬
‫السبل الصالحة للرحيل إليها‪.‬‬
‫لكن هللا تعالى الخبير بنفوس اليهود‪ ،‬وتعلقهم بالحياة‪ ،‬وحرصهم عليها‪ ،‬أخبر‬
‫ت أَ ْي ِدي ِه ْم َوهَّللا ُ َعلِي ٌم بِالظَّالِ ِمينَ (‪﴾)95‬‬ ‫أنهم لن يتمنوا ذلك‪َ ﴿ :‬ولَ ْن يَتَ َمنَّوْ هُ أَبَدًا بِ َم ا قَ َّد َم ْ‬
‫[البقرة‪]95 :‬‬
‫بل أعطى قاعدة يميز بها كل يهودي‪ ،‬بل كل مشرك‪ ،‬بل كل بعي د عن ال دين‬
‫اس َعلَى‬ ‫ص النَّ ِ‬ ‫﴿ولَت َِج َدنَّهُ ْم أَحْ َر َ‬ ‫الحق‪ ،‬وهي الحرص على الحياة‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫َحيَا ٍة َو ِمنَ الَّ ِذينَ أَ ْش َر ُكوا يَ َو ُّد أَ َح ُدهُ ْم لَوْ يُ َع َّم ُر أَ ْلفَ َسنَ ٍة َو َما ه َُو بِ ُمزَحْ ِز ِح ِه ِمنَ ال َعذا ِ‬
‫ب‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫صي ٌر بِ َما يَ ْع َملُونَ ﴾ [البقرة‪]96 :‬‬ ‫أَ ْن يُ َع َّم َر َوهَّللا ُ بَ ِ‬
‫ولهذا فإن القرآن الكريم يجعل من عالمات المؤمنين العاديين تلك التضحيات‬
‫العظمى في سبيل هللا‪ ،‬وذلك الشوق العظيم للقاء هللا‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬م ْن َك انَ يَرْ ُج و‬
‫ت َوه َُو ال َّس ِمي ُع ْال َعلِي ُم (‪َ )5‬و َم ْن َجاهَ َد فَإِنَّ َم ا يُ َجا ِه ُد لِنَ ْف ِس ِه إِ َّن‬ ‫لِقَا َء هَّللا ِ فَإِ َّن أَ َج َل هَّللا ِ آَل ٍ‬
‫هَّللا َ لَ َغنِ ٌّي ع َِن ْال َعالَ ِمينَ (‪[ ﴾ )6‬العنكبوت‪]6 ،5 :‬‬

‫‪72‬‬
‫ولهذا‪ ،‬ف إن الم ؤمن ال يخ اف إال هللا‪ ،‬ح تى ل و اجتم ع علي ه الع المون‪ ،‬ق ال‬
‫اخ َشوْ هُ ْم فَزَا َدهُ ْم إِي َمانً ا َوقَ الُوا‬ ‫اس قَ ْد َج َمعُوا لَ ُك ْم فَ ْ‬ ‫تعالى‪﴿ :‬الَّ ِذينَ قَا َل لَهُ ُم النَّاسُ إِ َّن النَّ َ‬
‫َح ْسبُنَا هَّللا ُ َونِ ْع َم ْال َو ِكيلُ﴾ [آل عمران‪]173 :‬‬
‫وقد ذك ر الق رآن الك ريم قص ة الس حرة ال ذين بمج رد إيم انهم بموس ى ‪‬‬
‫تشكلت فيهم هذه القوة العظمى التي حررتهم تحري را تام ا من الخ وف من الم وت‪،‬‬
‫إلى الدرجة التي صاحوا فيها في وجه فرعون قائلين‪﴿ :‬لَ ْن نُ ْؤثِ َركَ َعلَى َما َجا َءنَا ِمنَ‬
‫ضي هَ ِذ ِه ْال َحيَاةَ ال ُّد ْنيَا (‪ )72‬إِنَّا آ َمنَّا‬ ‫ض َما أَ ْنتَ قَ ٍ‬
‫اض إِنَّ َما تَ ْق ِ‬ ‫ت َوالَّ ِذي فَطَ َرنَا فَا ْق ِ‬ ‫ْالبَيِّنَا ِ‬
‫الس حْ ِر َوهَّللا ُ خَ ْي ٌر َوأَ ْبقَى (‪ )73‬إِنَّهُ َم ْن‬ ‫بِ َربِّنَا لِيَ ْغفِ َر لَنَا َخطَايَانَا َو َما أَ ْك َر ْهتَنَا َعلَ ْي ِه ِمنَ ِّ‬
‫وت فِيهَ ا َواَل يَحْ يَى (‪َ )74‬و َم ْن يَأْتِ ِه ُم ْؤ ِمنً ا قَ ْد‬ ‫ت َربَّهُ ُمجْ ِر ًم ا فَ إِ َّن لَ هُ َجهَنَّ َم اَل يَ ُم ُ‬ ‫يَأْ ِ‬
‫ات ْال ُعلَى﴾ [طه‪]75 - 72 :‬‬ ‫ك لَهُ ُم ال َّد َر َج ُ‬ ‫ت فَأُولَئِ َ‬‫َع ِم َل الصَّالِ َحا ِ‬
‫وقد كان األنبياء عليهم الصالة والسالم ـ كما يصورهم الق رآن الك ريم ـ أول‬
‫من اتص ف به ذه الص فات‪ ،‬ب ل أول من أعطى المث ل األعلى فيه ا‪ ،‬ألن أرواحهم‬
‫كانت معلقة بربهم‪ ،‬ال تهيم في غيره‪ ،‬وال تطلب سواه‪ ،‬ولذلك ك انت حرك اتهم كله ا‬
‫هلل‪..‬‬
‫ولذلك أيضا لم يبالوا بكل أولئك المستكبرين ال ذين وقف وا في وج ه دع وتهم‪،‬‬
‫بل صرخوا فيهم كما صرخ إبراهيم ‪ ‬بكل قوة‪﴿ :‬أَتُ َحاجُّ ونِّي فِي هَّللا ِ َوقَ ْد هَدَا ِن َواَل‬
‫أَخَافُ َما تُ ْش ِر ُكونَ بِ ِه إِاَّل أَ ْن يَ َشا َء َربِّي َش ْيئًا َو ِس َع َربِّي ُك َّل َش ْي ٍء ِع ْل ًما أَفَاَل تَتَ َذ َّكرُونَ‬
‫(‪َ )80‬و َك ْيفَ أَخَافُ َما أَ ْش َر ْكتُ ْم َواَل تَخَ افُونَ أَنَّ ُك ْم أَ ْش َر ْكتُ ْم بِاهَّلل ِ َم ا لَ ْم يُنَ ِّزلْ بِ ِه َعلَ ْي ُك ْم‬
‫ق بِاأْل َ ْم ِن إِ ْن ُك ْنتُ ْم تَ ْعلَ ُمونَ ﴾ [األنعام‪]81 ،80 :‬‬ ‫س ُْلطَانًا فَأَيُّ ْالفَ ِريقَي ِْن أَ َح ُّ‬
‫بل إن القرآن الكريم ذكر لنا مثاال عن تضحية األنبياء‪ ،‬واستسالمهم ألمر هللا‬
‫في حي اتهم ومم اتهم‪ ،‬عن دما ذك ر لن ا قص ة إب راهيم ‪ ،‬وإقدام ه على ذبح ابن ه‬
‫إسماعيل لمجرد رؤيا رآها علم أنه ا وحي هلل‪ ،‬ولم يكن موق ف ابن ه الن بي بأق ل من‬
‫موقفه‪ ..‬ألنه ـ ومباشرة بعد طرح األمر عليه‪ ،‬ومن غير تردد وال تفكير ـ طلب من‬
‫أبيه أن ينفذ أمر هللا‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬وقَا َل إِنِّي َذا ِهبٌ إِلَى َربِّي َسيَ ْه ِدي ِن (‪َ )99‬ربِّ هَبْ‬
‫ي‬ ‫ال يَابُنَ َّ‬ ‫ْي قَ َ‬‫لِي ِمنَ الصَّالِ ِحينَ (‪ )100‬فَبَ َّشرْ نَاهُ بِ ُغاَل ٍم َحلِ ٍيم (‪ )101‬فَلَ َّما بَلَ َغ َم َعهُ ال َّسع َ‬
‫ت ا ْف َع لْ َم ا تُ ْؤ َم ُر َس تَ ِج ُدنِي‬ ‫ك فَا ْنظُرْ َما َذا تَ َرى قَا َل يَاأَبَ ِ‬ ‫إِنِّي أَ َرى فِي ْال َمن َِام أَنِّي أَ ْذبَ ُح َ‬
‫ين (‪َ )103‬ونَا َد ْينَ اهُ أَ ْن‬ ‫الص ابِ ِرينَ (‪ )102‬فَلَ َّما أَ ْس لَ َما َوتَلَّهُ لِ ْل َجبِ ِ‬ ‫َّ‬ ‫إِ ْن َش ا َء هَّللا ُ ِمنَ‬
‫ص َّد ْقتَ الرُّ ْؤيَا إِنَّا َك َذلِكَ نَجْ ِزي ْال ُمحْ ِس نِينَ (‪ )105‬إِ َّن هَ َذا لَهُ َو‬ ‫يَاإِب َْرا ِهي ُم (‪ )104‬قَ ْد َ‬
‫َظ ٍيم ﴾ [الصافات‪]107 - 99 :‬‬ ‫ْح ع ِ‬‫ْالبَاَل ُء ْال ُمبِينُ (‪َ )106‬وفَ َد ْينَاهُ بِ ِذب ٍ‬
‫فه ل يمكن لمن ه ذا حال ه أن يك ون في ه ذرة ح رص على حي اة‪ ،‬أو ذرة‬
‫اعتراض على هللا بسبب تقدير الموت عليه؟‬
‫هذه هي الرؤية القرآنية‪ ،‬وهي نفسها الرؤية الس لفية المرتبط ة بغ ير األنبي اء‬
‫من الصحابة أو غيرهم‪ ،‬فهم ي ذكرون تف انيهم وتض حياتهم وحرص هم على الم وت‬
‫في سبيل هللا‪ ،‬وينشدون ـ أثناء ذكرهم لفضائل الص حابة ـ بحماس ة ق ول عم ير بن‬
‫الحمام في غزوة بدر‪ ،‬والتي قتل فيها شهيدا‪:‬‬

‫‪73‬‬
‫ركضا ً إلى هللا بغير زاد غير التقى وعمل المعاد‬
‫والصبر في هللا على الجهاد وكل زاد عرضة النفاد‬
‫إال التقى والبر والرشاد‬
‫وينشدون معها قول عب د هللا بن رواح ة ال ذي ق ال وه و في خض م المعرك ة‬
‫يسأل ربه الشهادة‪:‬‬
‫ولكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرع تفرغ الزبدا‬
‫وطعنة بيدي حران مجهزة من رمحه تقطع األحشاء والكبدا‬
‫غاز وقد رشدا‬ ‫حتى يقال إذا مروا على جسدي يا أرشد هللا من ٍ‬
‫وهكذا ما رووه عن بعضهم قال‪ :‬بعثني رسول هللا ‪ ‬ي وم أح د‪ ،‬لطلب س عد‬
‫بن الربيع‪ ،‬وقال‪ :‬إن رأيته فأقره مني السالم‪ ،‬وقل ل ه‪ :‬كي ف تج دك؟ ق ال‪ :‬فأص بته‬
‫وهو في آخر رمق‪ ،‬وبه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح‪ ،‬وضربة بسيف‪ ،‬ورمية‬
‫بسهم‪ ،‬فقلت‪ :‬إن رسول هللا ‪ ،‬أمرني أن أنظ ر أفي األحي اء أنت أم في األم وات؟‬
‫فقال‪ :‬أنا في األموات‪ ،‬فأبلغ رسول هللا ‪ ‬عنّي السالم‪ ،‬وقل له‪ :‬إن سعد بن الرّبي ع‬
‫يقول‪ :‬جزاك هللا تع الى عنّ ا خ ير م ا ج زى نبيّ ا عن أ ّمت ه‪ ،‬وق ل ل ه‪ :‬أني أج د ريح‬
‫الجنّة‪ ،‬وأبلغ قومك عني السالم‪ ،‬وقل لهم‪ :‬إن سعد بن الرّبيع يقول لكم‪ :‬إن ه ال ع ذر‬
‫لكم عند هللا إن يخلص إلى رسول هللا ‪‬ومنكم عين تط رف‪ ،‬ثم لم ي برح أن م ات‪،‬‬
‫فجاء رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فأخبره خبره (‪.)1‬‬
‫ويروون أنه حينما أتى بالال الموت‪ ،‬قالت زوجته‪ :‬وا حزناه‪ ،‬فكشف الغط اء‬
‫عن وجهه و هو في سكرات الموت‪ ،‬وقال‪ :‬ال تقولي واحزناه‪ ،‬و قولي وا فرحاه‪ ،‬ثم‬
‫قال‪ :‬غدا نلقى األحبة‪..‬محمدا و صحبه(‪.)2‬‬
‫وهكذا نجد رواياتهم الكثيرة التي تمأل القلوب بمحبة أولياء هللا الذين جعل هللا‬
‫موقفهم من الموت مقياسا لصدقهم وإيمانهم وواليتهم‪.‬‬
‫ونحن ال ننكر عليهم هذا‪ ،‬بل نحبذه فيهم‪ ،‬بل نش اركهم في ه‪ ،‬لكن المش كلة أن‬
‫هؤالء الذين يقولون هذا هم أنفسهم الذين يتهمون أنبي اء هللا ب الحرص على الحي اة‪..‬‬
‫فهل هان أنبياء هللا إلى هذه الدرجة؟ وهل يكون سعد وبالل وعمير بن الحمام وعبد‬
‫هللا بن رواحة أكثر إيمانا من آدم وإب راهيم وموس ى وإدريس وغ يرهم من األنبي اء‬
‫الذين جعلوا من صفاتهم الحرص على الحياة‪ ،‬والخوف من الموت؟‬
‫لكن العقل السلفي األسير للرواية والقصة والخرافة يتقبل كل ذلك بال كي ف‪..‬‬
‫وكيف ال يتقبل ذلك في مخلوق‪ ،‬وقد تقبله في صفات خالقه‪..‬‬
‫بناء على هذا س نحاول هن ا أن ن ذكر بعض النم اذج عن مواق ف الس لفية من‬
‫أنبي اء هللا‪ ،‬ك ل نم وذج يمث ل نبي ا من األنبي اء عليهم الص الة والس الم‪ ،‬وهم آدم‬
‫وإدريس وإبراهيم وموسى‪.‬‬
‫آدم ‪:‬‬
‫‪ )(1‬الحاكم في المستدرك ‪.201 /3‬‬
‫‪ )(2‬ابن أبي الدنيا في المحتضرين(‪ ،)294‬ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه (‪)10/475‬‬

‫‪74‬‬
‫الصورة القرآنية آلدم ‪ ‬تبدأ من ذكر استخالف هللا له‪ ،‬وإعطائه المقومات‬
‫التي تعينه على ذلك االستخالف‪ ،‬وأهمه ا ذل ك العلم العظيم ال ذي ال ن زال إلى اآلن‬
‫نجهل حقيقته‪ ،‬وهو [علم أسماء كل شيء]‪ ،‬والذي نص عليه قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وعَلَّ َم آ َد َم‬
‫صا ِدقِينَ‬ ‫ضهُ ْم َعلَى ْال َماَل ئِ َك ِة فَقَا َل أَ ْنبِئُونِي بِأ َ ْس َما ِء هَؤُاَل ِء إِ ْن ُك ْنتُ ْم َ‬ ‫اأْل َ ْس َما َء ُكلَّهَا ثُ َّم ع ََر َ‬
‫ك اَل ِع ْل َم لَنَا إِاَّل َم ا َعلَّ ْمتَنَ ا إِنَّكَ أَ ْنتَ ْال َعلِي ُم ْال َح ِكي ُم (‪ )32‬قَ ا َل يَ اآ َد ُم‬ ‫(‪ )31‬قَالُوا ُس ْب َحانَ َ‬
‫ت‬‫الس َما َوا ِ‬ ‫ْب َّ‬ ‫أَ ْنبِ ْئهُ ْم بِأ َ ْس َمائِ ِه ْم فَلَ َّما أَ ْنبَ أَهُ ْم بِأ َ ْس َمائِ ِه ْم قَ ا َل أَلَ ْم أَقُ لْ لَ ُك ْم إِنِّي أَ ْعلَ ُم َغي َ‬
‫ض َوأَ ْعلَ ُم َما تُ ْب ُدونَ َو َما ُك ْنتُ ْم تَ ْكتُ ُمونَ ﴾ [البقرة‪]33 - 31 :‬‬ ‫َواأْل َرْ ِ‬
‫وجناي ة الس لفية على ه ذه الكرام ة العظيم ة ال تي وهبت آلدم ‪ ،‬وبينت‬
‫فضله أمام المالئكة عليهم السالم اختصرها السلفية في (األسماء ال تي يتع ارف به ا‬
‫الناس‪ :‬إنس ان‪ ،‬وداب ة‪ ،‬وأرض‪ ،‬وس هل‪ ،‬وبح ر‪ ،‬وجب ل‪ ،‬وحم ار‪ ،‬وأش باه ذل ك من‬
‫األمم وغيرها‪ ..‬حتى الفسوة والفسية)(‪ ،)1‬وكأن آدم ‪ ‬رزق من الذاكرة القوية م ا‬
‫استطاع أن يحفظ به أسماء األشياء‪ ،‬بينما عجزت المالئكة عن ذلك‪.‬‬
‫ثم كانت جنايتهم عليه بعد ذلك عندما صوروه في الجنة منشغال بأكله وشربه‬
‫ولهوه عن ربه سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ثم جنوا عليه بعد ذلك حينما ص وروا دوافع ه اإلجرامي ة لألك ل من الش جرة‬
‫التي نهي عنها من غير محاول ة لتأوي ل م ا ورد عن ه في ذل ك ليتناس ب م ع جالل ه‬
‫وكرامته واصطفاء هللا له‪.‬‬
‫ثم جن وا علي ه في األرض حينم ا ص وروه بص ورة الس اعي إلى ش ؤونه‬
‫الخاصة بعيدا عن رب ه‪ ،‬وكأن ه ج اء في ال دنيا ألج ل أن يعيش‪ ،‬ال ألج ل أن ي ؤدي‬
‫وظيفة الخالفة التي كلف بها‪.‬‬
‫وكانت آخر جناية جنوها عليه هي اتهامه بالحرص على الحياة بعد أن ع اش‬
‫ألف سنة كاملة‪ ..‬وقد رووا في ذلك الروايات الكثيرة‪ ..‬والتي تع املوا معه ا جميع ا‪،‬‬
‫وكأنها حقائق قطعية مقدسة ال يصح نقدها‪ ،‬وال الكالم فيها‪.‬‬
‫ومن تل ك الرواي ات م ا رووه عن ابن عب اس أن ه ق ال‪ :‬ق ال رس ول هللا ‪:‬‬
‫(أول من جح د آدم ‪ ‬قاله ا ثالث م رات‪ ،‬إن هللا لم ا خلق ه مس ح ظه ره ف أخرج‬
‫ذريته فعرضهم عليه فرأى فيهم رجال يزهر فقال‪ :‬أى رب من هذا؟ ق ال ابن ك داود‬
‫قال‪ :‬كم عمره؟ قال‪ :‬ستون‪ ،‬ق ال‪ :‬أى رب زد فى عم ره‪ ،‬ق ال‪ :‬ال إال أن تزي ده أنت‬
‫من عمرك‪ ،‬فزاده أربعين سنة من عمره فكتب هللا عليه كتابا وأشهد عليه المالئك ة‪،‬‬
‫فلما أراد أن يقبض روحه‪ ،‬قال‪ :‬بقى من أجلى أربعون فقي ل ل ه‪ :‬إن ك جعلت ه البن ك‬
‫داود قال‪ :‬فجحد‪ ،‬قال‪ :‬فأخرج هللا عز وجل الكتاب وأقام علي ه البين ة فأتمه ا ل داود‪،‬‬
‫‪ ،‬مائة سنة وأتمها آلدم ‪ ‬عمره ألف سنة)(‪)2‬‬
‫وفي رواي ة عن أبي هري رة يرفعه ا لرس ول هللا ‪ ،‬اتف ق الس لفيون على‬
‫صحتها‪( :‬لما خلق هللا آدم مسح ظهره‪ ،‬فس قط من ظه ره ك ل نس مة ه و خالقه ا من‬
‫‪ )(1‬تفسير ابن كثير ت سالمة (‪)223 /1‬‬
‫‪ )(2‬أحمد ‪)2270( 1/251‬‬

‫‪75‬‬
‫ذريت ه إلى ي وم القيام ة‪ ،‬وجع ل بين عي ني ك ل إنس ان منهم وبيص ا من ن ور‪ ،‬ثم‬
‫عرض هم على آدم فق ال‪ :‬أي رب من ه ؤالء؟ ق ال‪ :‬ه ؤالء ذريت ك‪ ،‬ف رأى رجال‬
‫فأعجبه وبيص مابين عينيه‪ ،‬فقال‪ :‬أي رب من ه ذا؟ ق ال ه ذا رج ل من آخ ر األمم‬
‫من ذريتك يقال له داود‪ ،‬قال‪ :‬رب وكم جعلت عمره؟ قال ستين سنة‪ ،‬ق ال‪ :‬أي رب‬
‫زده من عمري أربعين سنة‪ .‬فلما انقض ى عم ر آدم ج اءه مل ك الم وت‪ ،‬ق ال‪ :‬أو لم‬
‫يبق من عمرى أربع ون س نة؟ ق ال‪ :‬أو لم تعطه ا ابن ك داود؟ ق ال‪ :‬فجح د فجح دت‬
‫ذريته‪ ،‬ونسي آدم فنسيت ذريته‪ ،‬وخطئ آدم فخطئت ذريته)(‪)1‬‬
‫وهذه الرواية العجيبة تصور آدم ‪ ‬بهذه الصورة الحقيرة ال تي ال تتناس ب‬
‫مع عامة الناس‪ ،‬فكيف بنبي كريم علمه هللا أسماء كل شيء‪ ،‬ورضيه خليفة‪ ،‬وأسجد‬
‫له مالئكته‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬وبعد أن نزل من الجنة‪ ،‬وتألم بآالم األرض يصورونه وكأنه‬
‫حريص على البقاء مدة أطول‪.‬‬
‫ومن المالحظات الجديرة باالنتباه في الرواية زي ادة على تش ويهها آلدم ‪‬‬
‫هو ما يبدو فيها من عالمات اليهودية‪ ..‬فالروايات بطرقه ا المختلف ة تنص على أن ه‬
‫عندما عرضت ذريته جميعا عليه‪ ،‬بما فيهم رسول هللا ‪ ،‬لم يشد انتباهه إال ل داود‬
‫‪ ‬ألن ه ك ان مم يزا بك ثرة ن وره‪ ..‬والن ور يع ني الق رب والكم ال‪ ..‬وهم ب ذلك‬
‫يص ورون داود ‪ ‬بأن ه األق رب واألكم ل‪ ..‬وه و موق ف اليه ود ال ذي ال زال وا‬
‫يؤمنون به‪ ،‬فهم يعتبرون داود هو مثلهم األعلى‪ ،‬بل يعتبرونه أكثر من موسى‪ ،‬ألن‬
‫الهدف عندهم هو الملك‪ ،‬وق د تحق ق في داود‪ ،‬ولم يتحق ق في موس ى عليهم الس الم‬
‫جميعا‪.‬‬
‫والسلفية ـ من دون وعي ـ يروون كثيرا أمثال هذه الروايات التي عليها مث ل‬
‫هذا الطابع‪ ،‬والتي تتنافى مع ما ورد في الق رآن الك ريم والس نة المطه رة من ك ون‬
‫ق النَّبِيِّينَ‬‫﴿وإِ ْذ أَخَ َذ هَّللا ُ ِميثَ ا َ‬ ‫رسول هللا ‪ ‬هو أكرم الخلق على هللا‪ ،‬كما قال تع الى‪َ :‬‬
‫ص ُرنَّهُ‬ ‫ق لِ َما َم َع ُك ْم لَتُ ْؤ ِمنُ َّن بِ ِه َولَتَ ْن ُ‬ ‫ب َو ِح ْك َم ٍة ثُ َّم َجا َء ُك ْم َرسُو ٌل ُم َ‬
‫ص ِّد ٌ‬ ‫لَ َما آتَ ْيتُ ُك ْم ِم ْن ِكتَا ٍ‬
‫اش هَدُوا َوأَنَ ا َم َع ُك ْم ِمنَ‬ ‫ال فَ ْ‬ ‫ص ِري قَ الُوا أَ ْق َررْ نَ ا قَ َ‬ ‫قَ ا َل أَأَ ْق َررْ تُ ْم َوأَخَ ْذتُ ْم َعلَى َذلِ ُك ْم إِ ْ‬
‫اسقُونَ ﴾ [آل عمران‪]82 ،81 :‬‬ ‫ك فَأُولَئِكَ هُ ُم ْالفَ ِ‬‫ال َّشا ِه ِدينَ (‪ )81‬فَ َم ْن تَ َولَّى بَ ْع َد َذلِ َ‬
‫ومن تلك الروايات ما رووه عن ابن عباس قال‪( :‬كنت في حلق ة في المس جد‬
‫نتذاكر فضائل األنبياء أيهم أفضل‪ ،‬فذكرنا نوحا وطول عبادته ربه‪ ،‬وذكرنا إبراهيم‬
‫خليل الرحمن‪ ،‬وذكرنا موسى مكلم هللا‪ ،‬وذكرنا عيسى بن مريم‪ ،‬وذكرنا رسول هللا‬
‫‪ ،‬فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا رسول هللا ‪ ،‬فقال‪( :‬ما تذكرون بينكم؟)‪ ،‬قلن ا‪:‬‬
‫يا رسول هللا‪ ،‬ذكرنا فضائل األنبياء أيهم أفضل‪ ،‬فذكرنا نوحا وط ول عبادت ه رب ه‪،‬‬
‫وذكرنا إبراهيم خليل الرحمن‪ ،‬وذكرن ا موس ى مكلم هللا‪ ،‬وذكرن ا عيس ى بن م ريم‪،‬‬
‫وذكرناك يا رسول هللا‪ ،‬قال‪( :‬فمن فضلتم؟)‪ ،‬فقلنا‪ :‬فضلناك يا رسول هللا‪ ،‬بعث ك هللا‬
‫إلى الناس كافة‪ ،‬وغفر لك ما تق دم من ذنب ك وم ا ت أخر‪ ،‬وأنت خ اتم األنبي اء‪ .‬فق ال‬
‫‪ )(1‬الترم ذي (‪ .)3076‬ق ال الترم ذي‪ :‬حس ن ص حيح‪ .‬وص ححه األلب اني في ص حيح الترم ذي ( ‪ )2683‬وأخرج ه‬
‫الحاكم في المستدرك ‪ 325 / 2‬وقال‪ :‬صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه‪ ،‬ووافقه الذهبي‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫رسول هللا ‪( :‬ما ينبغي أن يكون أحد خيرا من يحيى بن زكريا)‪ ،‬قلن ا‪ :‬ي ا رس ول‬
‫هللا‪ ،‬وكيف ذاك؟ قال‪( :‬ألم تسمعوا كيف نعته في الق رآن ﴿يَ ايَحْ يَى ُخ ِذ ْال ِكتَ َ‬
‫اب بِقُ َّو ٍة‬
‫صبِيًّا (‪َ )12‬و َحنَانًا ِم ْن لَ ُدنَّا َو َز َكاةً َو َك انَ تَقِيًّ ا (‪َ )13‬وبَ ًّرا بِ َوالِ َد ْي ِه َولَ ْم‬ ‫َوآتَ ْينَاهُ ْال ُح ْك َم َ‬
‫ث َحيًّ ا (‪﴾)15‬‬ ‫وت َويَ وْ َم يُ ْب َع ُ‬
‫صيًّا (‪َ )14‬و َساَل ٌم َعلَ ْي ِه يَوْ َم ُولِ َد َويَ وْ َم يَ ُم ُ‬ ‫يَ ُك ْن َجبَّارًا َع ِ‬
‫الص الِ ِحينَ ﴾‬ ‫َّ‬ ‫ص ورًا َونَبِيًّ ا ِمنَ‬ ‫هَّللا‬
‫ص ِّدقًا بِ َكلِ َم ٍة ِمنَ ِ َو َس يِّدًا َو َح ُ‬ ‫[مريم‪ُ ﴿ ]15 - 12 :‬م َ‬
‫[آل عمران‪ ]39 :‬لم يعمل سيئة ولم يهم بها)(‪)1‬‬
‫ورووا عنه قال‪ :‬قال رسول هللا ‪( :‬ما من أحد من ولد آدم إال قد أخط أ‪ ،‬أو‬
‫هم بخطيئة ليس يحيى بن زكريا)(‪)2‬‬
‫ورووا عن عبد هللا بن عمرو قال‪ :‬قال رسول هللا‪( :‬ال ينبغي ألح د أن يق ول‪:‬‬
‫أنا خير من يحيى بن زكريا‪ ،‬ما هم بخطيئة‪ ،‬وال عملها) (‪)3‬‬
‫ورووا عن أبي هريرة قال‪ :‬ق ال رس ول هللا ‪( :‬ك ل ب ني آدم يلقى هللا ي وم‬
‫القيامة بذنب‪ ،‬وقد يعذب ه علي ه إن ش اء أو يرحم ه‪ ،‬إال يح يى بن زكري ا‪ ،‬فإن ه ك ان‬
‫﴿ َسيِّدًا َو َحصُورًا َونَبِيًّا ِمنَ الصَّالِ ِحينَ ﴾ [آل عمران‪ .]39 :‬وأهوى النبي ‪ ‬إلى قذاة‬
‫من األرض فأخذها وقال‪( :‬ذكره مثل هذه القذاة)(‪)4‬‬
‫وغيره ا من الرواي ات المس يئة لرس ول هللا ‪ ،‬والمس يئة مع ه ليحي ‪..‬‬
‫والتي ال شك في كونها أث را من آث ار اليه ود ال تي دخلت إلى اإلس الم‪ ،‬لتحول ه إلى‬
‫المشروع الشيطاني‪ ،‬كما حولت اليهودية‪.‬‬
‫إدريس ‪:‬‬
‫وه و من األنبي اء الك رام ال ذين أمرن ا ب ذكرهم‪ ،‬من دون أن ت ذكر تفاص يل‬
‫يس َو َذا ْال ِك ْف ِل ُكلٌّ ِمنَ‬ ‫﴿وإِ ْس َما ِعي َل َوإِ ْد ِر َ‬
‫ترتبط بحياتهم على األرض‪ ،‬كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫الص الِ ِحينَ ﴾ [األنبي اء‪،]86 ،85 :‬‬ ‫َّ‬ ‫الصَّابِ ِرينَ (‪َ )85‬وأَ ْد َخ ْلنَ اهُ ْم فِي َرحْ َمتِنَ ا إِنَّهُ ْم ِمنَ‬
‫ص دِّيقًا نَبِيًّ ا (‪َ )56‬و َرفَ ْعنَ اهُ َم َكانً ا َعلِيًّ ا ﴾‬ ‫يس إِنَّهُ َك انَ ِ‬ ‫ال﴿و ْاذ ُك رْ فِي ْال ِكتَ ا ِ‬
‫ب إِ ْد ِر َ‬ ‫َ‬ ‫وق‬
‫[مريم‪]57 ،56 :‬‬
‫وك ان األج دى بالعق ل الس لفي أن يكتفي به ذا‪ ،‬وأن يمتلئ روحاني ة عن دما‬
‫يذكرهذا الجندي المجه ول من جن ود هللا‪ ،‬وال ذي ذك ر هللا ص ديقيته وص بره وعل و‬
‫مكانته‪ ..‬وهذه وحدها تكفي أولي األلب اب لمعرف ة قيمت ه وكرامت ه عن د هللا‪ ،‬وكون ه‬
‫أهال ألن يقتدى به‪ ..‬ألن صديقيته وصبره هما الجناحان اللذان ط ار بهم ا إلى ذل ك‬
‫المكان العلي‪.‬‬
‫لكن العقل السلفي يرفض مثل هذا الطرح‪ ،‬ألنه ال يتناس ب م ع مزاج ه ال ذي‬
‫يميل إلى القصص والحكايات واألساطير‪.‬‬
‫وليته عندما فكر في أن يضع األس اطير ح اول أن يلطفه ا بحيث ال تتن اقض‬
‫‪ )(1‬رواه البزار والطبراني‪ ،‬انظر‪:‬مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (‪)209 /8‬‬
‫‪ )(2‬أحمد [‪ ،]292 ،254 /1‬وأبو يعلى [‪ ،]418 /4‬برقم [‪ ]2544‬والح اكم في المس تدرك [‪ ،]591 /2‬والح ديث‬
‫سكت عنه الحاكم وقال الذهبي‪ :‬إسناده جيد‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه البزار‪ ،‬انظر‪ :‬مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (‪)209 /8‬‬
‫‪ )(4‬رواه الطبراني في األوسط‪ ،‬انظر‪ :‬مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (‪)209 /8‬‬

‫‪77‬‬
‫م ع م ا ذك ره هللا تع الى من الص ديقية والص بر‪ ..‬لكن ه ال يهتم ل ذلك‪ ..‬ول ذلك ف إن‬
‫الصورة السلفية لهذا النبي الكريم متناقضة تماما مع الصورة القرآنية‪.‬‬
‫﴿و َرفَ ْعنَ اهُ َم َكانً ا‬
‫وسنورد الرواية كما فسروا ـ أو شوهوا ـ به ا قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫َعلِيًّا ﴾ [مريم‪ ،]57 :‬والرواية رواه ا هالل بن يس اف ق ال‪ :‬س أل ابن عب اس كعب ا‪،‬‬
‫وأنا حاضر‪ ،‬فقال له‪ :‬ما قول هللا ‪-‬عز وجل‪-‬إلدريس‪َ ﴿ :‬و َرفَ ْعنَاهُ َم َكانًا َعلِيًّا ﴾ [مريم‪:‬‬
‫‪ ،]57‬فقال كعب‪ :‬أما إدريس فإن هللا أوحى إلي ه أني أرف ع ل ك ك ل ي وم مث ل عم ل‬
‫جميع بني آدم‪ ،‬فأحب أن يزداد عمال‪ ،‬فأتاه خليل له من المالئكة فق ال‪ :‬إن هللا أوحى‬
‫إلي كذا وكذا‪ ،‬فكلم لي ملك الموت‪ ،‬فليؤخرني حتى أزداد عمال فحمله بين جناحي ه‪،‬‬
‫حتى صعد به إلى السماء‪ ،‬فلما كان في السماء الرابعة تلقاهم ملك الم وت منح درا‪،‬‬
‫فكلم ملك الموت في الذي كلمه في ه إدريس‪ ،‬فق ال‪ :‬وأين إدريس؟ فق ال‪ :‬ه و ذا على‬
‫ظهري‪ .‬قال ملك الموت‪ :‬فالعجب! بعثت وقي ل لي‪ :‬اقبض روح إدريس في الس ماء‬
‫الرابعة‪ ،‬فجعلت أقول‪ :‬كي ف أقبض روح ه في الس ماء الرابع ة‪ ،‬وه و في األرض؟‬
‫علِيًّا ﴾ [مريم‪)1()]57 :‬‬ ‫فقبض روحه هناك‪ ،‬فذلك قول هللا‪َ ﴿ :‬و َرفَ ْعنَاهُ َم َكانًا َ‬
‫وقد ذكر في رواية أخرى األعمال التي كان يعمله ا‪ ،‬وال تي ك ان ي رغب في‬
‫أن تستمر حياته ألجل القيام بها‪ ،‬وهي ما روي عن ابن عباس أنه ق ال‪( :‬إن إدريس‬
‫كان خياطا‪ ،‬فكان ال يغ رز إب رة إال ق ال‪( :‬س بحان هللا)‪ ،‬فك ان يمس ي حين يمس ي‪،‬‬
‫وليس في األرض أحد أفضل عمال منه)(‪)2‬‬
‫ولس نا ن دري ه ل ه ذا وص ف لن بي ك ريم ارتقى في المقام ات العالي ة من‬
‫العرفان والتحقق‪ ،‬باإلض افة إلى م ا كل ف ب ه من وظ ائف خط يرة‪ ،‬أم ه و وص ف‬
‫إلنسان عادي بسيط‪ ،‬ال يستحق كل ذلك الثناء العظيم الذي وصفه به القرآن الكريم‪،‬‬
‫والذي أمرنا من خالله بذكره‪.‬‬
‫باإلضافة إلى هذا فإن الوالية التي تشكل الركن األساس ي في النب وة تقتض ي‬
‫تسليم الوجه هلل‪ ،‬تسليما مطلقا ينتفي معه كل اختي ار‪ ،‬وق د نق ل ابن القيم ـ وه و من‬
‫أعالم السلفية ـ هذا المعنى عن أولياء هذه األمة‪ ،‬فنق ل عن بعض هم قول ه‪( :‬التوك ل‬
‫ه و انط راح القلب بين ي دي ال رب‪ ،‬ك انطراح الميت بين ي دي الغاس ل بقلب ه كي ف‬
‫يشاء‪ .‬وهو ترك االختيار‪ ،‬واالسترسال مع مجاري األقدار)‪ ،‬ونق ل عن آخ ر قول ه‪:‬‬
‫(هو ترك تدبير النفس‪ ،‬واالنخالع من الحول والقوة‪ .‬وإنما يقوى العبد على التوك ل‬
‫إذا علم أن الحق سبحانه يعلم ويرى ما هو فيه)(‪)3‬‬
‫فهل يمكن أن يكون هؤالء األولياء الذين نق ل ابن القيم كالمهم وأق رهم علي ه‬
‫أعرف باهلل من أنبياء هللا؟‬
‫إبراهيم ‪:‬‬
‫يعتبر القرآن الكريم إبراهيم ‪ ‬نموذجا مثاليا للرجل األمة‪ ،‬أو الرجل ال ذي‬

‫‪ )(1‬تفسير الطبري (‪ ،)16/72‬وتفسير ابن كثير (‪.)240 /5‬‬


‫‪ )(2‬تفسير ابن كثير (‪.)241 /5‬‬
‫‪ )(3‬مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (‪.)115 /2‬‬

‫‪78‬‬
‫يشكل بمفرده أمة كاملة من القيم‪ ،‬كما قال تعالى في وص فه‪ ﴿ :‬إِ َّن إِ ْب َرا ِهي َم َك انَ أُ َّمةً‬
‫ك ِمنَ ْال ُم ْش ِر ِكينَ ﴾ [النحل‪]120 :‬‬ ‫قَانِتًا هَّلِل ِ َحنِيفًا َولَ ْم يَ ُ‬
‫فهو أمة بروحانيته العميقة التي أهلته ألن يكون خليال هلل ﴿ َواتَّخَ َذ هَّللا ُ إِ ْب َرا ِهي َم‬
‫خَ لِياًل ﴾ [النساء‪]125 :‬‬
‫وهو أمة بقنوته وخش وعه وتوحي ده الخ الص هلل‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬م ا َك انَ‬
‫إِ ْب َرا ِهي ُم يَهُو ِديًّا َواَل نَصْ َرانِيًّا َولَ ِك ْن َكانَ َحنِيفً ا ُم ْس لِ ًما َو َم ا َك انَ ِمنَ ْال ُم ْش ِر ِكينَ ﴾ [آل‬
‫عمران‪ ،]67 :‬وقال‪﴿ :‬إِ َّن إِب َْرا ِهي َم أَل َ َّواهٌ َحلِي ٌم ﴾ [التوب ة‪ ،]114 :‬وق ال‪﴿ :‬إِ َّن إِ ْب َرا ِهي َم‬
‫لَ َحلِي ٌم أَ َّواهٌ ُمنِيبٌ ﴾ [هود‪]75 :‬‬
‫وهو أمة بوقوفة تلك المواقف النبيلة في الدعوة إلى هللا مع كل من لقيه ابتداء‬
‫ص نَا ًما آلِهَ ةً‬ ‫ال إِ ْب َرا ِهي ُم أِل َبِي ِه آزَ َر أَتَتَّ ِخ ُذ أَ ْ‬‫من أقاربه وقومه‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ قَ َ‬
‫ضاَل ٍل ُمبِي ٍن﴾ [األنعام‪]74 :‬‬ ‫ك فِي َ‬ ‫ك َوقَوْ َم َ‬ ‫إِنِّي أَ َرا َ‬
‫وانتهاء بالملك المستبد الظالم‪ ،‬الذي ناظره بكل رباطة جأش‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬أَلَ ْم‬
‫ال إِ ْب َرا ِهي ُم َربِّ َي الَّ ِذي يُحْ يِي‬ ‫ت ََر إِلَى الَّ ِذي َحا َّج إِب َْرا ِهي َم فِي َربِّ ِه أَ ْن آتَاهُ هَّللا ُ ْال ُم ْلكَ إِ ْذ قَ َ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ال أَنَا أُحْ يِي َوأُ ِم ُ‬
‫ت بِهَ ا‬ ‫ق فَ أ ِ‬ ‫س ِمنَ ْال َم ْش ِر ِ‬ ‫يت قَا َل إِ ْب َرا ِهي ُم فَإِ َّن هَّللا َ يَأتِي بِال َّش ْم ِ‬ ‫يت قَ َ‬ ‫َويُ ِم ُ‬
‫ب فَبُ ِهتَ الَّ ِذي َكفَ َر َوهَّللا ُ اَل يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم الظَّالِ ِمينَ ﴾ [البقرة‪]258 :‬‬ ‫ِمنَ ْال َم ْغ ِر ِ‬
‫ولذلك‪ ،‬تعرض للتهدي د الش ديد من أقارب ه وقوم ه‪ ،‬فواجه ه بك ل ق وة ق ائال‪:‬‬
‫﴿ أَتُ َحاجُّ ونِّي فِي هَّللا ِ َوقَ ْد هَدَا ِن َواَل أَخَافُ َما تُ ْش ِر ُكونَ بِ ِه إِاَّل أَ ْن يَ َشا َء َربِّي َش ْيئًا َو ِس َع‬
‫َربِّي ُك َّل َش ْي ٍء ِع ْل ًما أَفَاَل تَتَ َذ َّكرُونَ (‪َ )80‬و َك ْيفَ أَخَافُ َم ا أَ ْش َر ْكتُ ْم َواَل تَخَ افُونَ أَنَّ ُك ْم‬
‫ق بِاأْل َ ْم ِن إِ ْن ُك ْنتُ ْم تَ ْعلَ ُم ونَ ﴾‬‫أَ ْش َر ْكتُ ْم بِاهَّلل ِ َما لَ ْم يُنَ ِّزلْ بِ ِه َعلَ ْي ُك ْم س ُْلطَانًا فَأَيُّ ْالفَ ِريقَ ْي ِن أَ َح ُّ‬
‫[األنعام‪]81 ،80 :‬‬
‫ولم يق ف قوم ه عن د تهدي ده‪ ،‬ب ل راح وا يجمع ون الحطب الكث ير‪ ،‬وراح وا‬
‫يرمون ه في ه‪ ،‬ولم يكن يب الي بك ل الحطب ال ذي يجم ع ل ه‪ ،‬وال بتل ك الن يران ال تي‬
‫ص رُوا آلِهَتَ ُك ْم إِ ْن ُك ْنتُ ْم فَ ا ِعلِينَ (‪)68‬‬ ‫أوقدت من أجله‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬قَ الُوا َحرِّ قُ وهُ َوا ْن ُ‬
‫قُ ْلنَ ا يَانَ ا ُر ُك ونِي بَ رْ دًا َو َس اَل ًما َعلَى إِ ْب َرا ِهي َم (‪َ )69‬وأَ َرادُوا بِ ِه َك ْي دًا فَ َج َع ْلنَ اهُ ُم‬
‫اأْل َ ْخ َس ِرينَ ﴾ [األنبياء‪]70 - 51 :‬‬
‫ومع ذلك كله لم يتزحزح قيد أنملة‪ ،‬بل ظل ثابتا‪ ..‬حتى وهو في النار لم يغب‬
‫ربه عنه لحظة واحدة‪ ..‬فقد كان مستغرقا فيما يستغرق في ه األنبي اء من توج ه للمأل‬
‫األعلى‪.‬‬
‫هذه بعض صورة إبراهيم ‪ ‬كما يص ورها الق رآن الك ريم‪ ،‬لكن المص ادر‬
‫السلفية تغير على هذه الصورة‪ ،‬فتنحرف بها انحرافا شديدا‪..‬‬
‫إذ تجعله جبانا أمام الموت‪ ،‬ليس لديه ذلك اإليمان العظيم الذي واجه به قومه‬
‫أو الملك أو النار‪ ..‬وليس لديه ذلك اليقين العظيم الذي جعله يقدم ابنه قربانا هلل‪..‬‬
‫بل جعلته ضحية لتلك المخاوف التي تعتري البس طاء عن دما يعلم ون بق رب‬
‫الموت منهم‪ ..‬وقد صوروا في ذلك مشهدا سينمائيا غريبا أدى دور البطولة فيه ملك‬
‫الموت‪ ،‬ليحاول من خالله أن يقنع إبراهيم ‪ ‬بضرورة الموت‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫ونص السيناريو الذي حكى ذلك المشهد كما أخرجه الط بري وغ يره‪ ،‬ي ذكر‬
‫أن إبراهيم ‪ ‬عندما بلغ من العم ر م ائتي س نة‪ ،‬وقي ل ابن مائ ة وخمس وس بعين‬
‫سنة‪ ،‬جاءة ملك الموت‪..‬‬
‫ولنستمع الحكاية من السدي‪ ،‬فهو أبرع في التصوير‪ ،‬فقد قال‪( :‬ك ان إب راهيم‬
‫كثير الطعام يطعم الناس‪ ،‬ويضيفهم‪ ،‬فبينا هو يطعم الناس إذا هو بشيخ كبير يمش ي‬
‫في الحره‪ ،‬فبعث إليه بحمار‪ ،‬فركبه حتى إذا أتاه أطعمه‪ ،‬فجعل الش يخ يأخ ذ اللقم ة‬
‫يريد أن يدخلها فاه‪ ،‬فيدخلها عينه وأذنه ثم يدخلها فاه‪ ،‬فإذا دخلت جوفه خ رجت من‬
‫دبره‪ ،‬وكان إبراهيم قد سأل ربه عز وج ل أال يقبض روح ه ح تى يك ون ه و ال ذي‬
‫يسأله الموت‪ ،‬فقال للشيخ حين رأى من حاله ما رأى‪ :‬ما بالك يا ش يخ تص نع ه ذا؟‬
‫قال‪ :‬ي ا إب راهيم‪ ،‬الك بر‪ ،‬ق ال‪ :‬ابن كم أنت؟ ف زاد على عم ر إب راهيم س نتين‪ ،‬فق ال‬
‫إب راهيم‪ :‬إنم ا بي ني وبين ك س نتان‪ ،‬ف إذا بلغت ذل ك ص رت مثل ك! ق ال‪ :‬نعم‪ ،‬ق ال‬
‫إبراهيم‪ :‬اللهم اقبضني إليك قبل ذلك‪ ،‬فقام الشيخ فقبض روحه‪ ،‬وكان مل ك الم وت)‬
‫(‪)1‬‬
‫وهكذا تصور الرواية الكيفية التي احتال به ا مل ك الم وت على إب راهيم ‪‬‬
‫ليقنعه بلقاء ربه‪..‬‬
‫ولم يكتف السلفية بهذه الرواية الدالة على ح رص إب راهيم ‪ ‬على الحي اة‪،‬‬
‫بل رووا رواية أخرى أعظم خطرا‪ ،‬تصور إبراهيم ‪ ،‬وهو يضحي بزوجته في‬
‫سبيل نجات ه‪ ..‬وه و فع ل ال يق دم علي ه ح تى ع وام الن اس‪ ..‬ب ل ح تى ذك ور بعض‬
‫الحيوانات تضحي بنفسها في سبيل نجاة إناثها‪.‬‬
‫والمشكلة في هذه الرواية عند السلفية هو حرمة نق دها أو الح ديث عنه ا ألن‬
‫راويها أبو هريرة‪ ،‬ومخرجها البخاري ومسلم‪..‬‬
‫وسنسرد الرواية‪ ،‬ونرى هل يمكن أن ينتقدها العق ل الس ليم المغ ذى بالرؤي ة‬
‫القرآنية‪ ،‬أم أن هذا العقل يمكن أن يسلم لها؟‬
‫ونص الرواي ة كم ا رواه ا أب و هري رة‪ ،‬أن رس ول هللا ‪ ‬ق ال‪( :‬لم يك ذب‬
‫اب راهيم ‪ ‬غ ير ثالث‪ :‬ثن تين في ذات هللا‪ ،‬قول ه‪﴿ :‬إِنِّي َس قِي ٌم﴾ [الص افات‪،]89 :‬‬
‫وقوله‪﴿ :‬بَلْ فَ َعلَهُ َكبِي ُرهُ ْم هَ َذا﴾ [األنبي اء‪ ،]63 :‬وبين ا ه و يس ير في أرض جب ار من‬
‫الجبابرة‪ ،‬إذ نزل منزال‪ ،‬فأتى الجبار رج ل فق ال‪ :‬إن في أرض ك رجال مع ه ام رأة‬
‫من أحسن الناس‪ ،‬فأرسل إليه‪ ،‬فجاء فقال‪ :‬ما هذه المرأة منك؟ قال‪ :‬هي أختي‪ ،‬قال‪:‬‬
‫اذهب فأرسل به ا إلي‪ ،‬ف انطلق إلى س ارة‪ ،‬فق ال‪ :‬إن ه ذا الجب ار ق د س ألني عن ك‪،‬‬
‫فأخبرت ه أن ك أخ تي فال تك ذبيني عن ده‪ ،‬فإن ك أخ تي في كت اب هللا‪ ،‬فإن ه ليس في‬
‫األرض مسلم غيري وغيرك‪ ،‬قال‪ :‬فانطلق بها وقام ابراهيم ‪ ‬يص لي ق ال‪ :‬فلم ا‬
‫دخلت عليه فرآها أهوى إليها وذهب يتناولها‪ ،‬فأخذ أخذا شديدا‪ ،‬فق ال‪ :‬ادعي هللا وال‬
‫أضرك‪ ،‬فدعت له فأرسل ف أهوى إليه ا‪ ،‬ف ذهب يتناوله ا‪ ،‬فاخ ذ أخ ذ ش ديدا‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫ادعى هللا وال أض رك‪ ،‬ف دعت ل ه فأرس ل‪ ،‬ثم فع ل ذل ك الثالث ة‪ ،‬فأخ ذ‪ ،‬ف ذكر مث ل‬
‫‪ )(1‬تاريخ الطبري‪)312 /1( ،‬‬

‫‪80‬‬
‫المرتين فأرسل قال‪ :‬فدعا أدنى حجابه فق ال‪ :‬إن ك لم ت أتني بإنس ان‪ ،‬ولكن ك أتيت ني‬
‫بشيطان‪ ،‬أخرجها وأعطها هاجر‪ ،‬فأخرجت وأعطيت هاجر‪ ،‬فأقبلت بها‪ ،‬فلما أحس‬
‫إبراهيم بمجيئها انفتل من صالته‪ ،‬فقال‪ :‬مهيم! فق الت‪ :‬كفى هللا كي د الف اجر الك افر!‬
‫وأخدم هاجر)(‪)1‬‬
‫وق د اجته د الس لفية في نص رة ه ذه الرواي ة‪ ،‬وال دفاع عن ك ل ح رف من‬
‫حروفه ا‪ ،‬ومن المرافع ات ال تي ي ذكرها الس لفية في ه ذا المق ام م ا قال ه ابن حج ر‬
‫العسقالني‪ ،‬فقد ق ال‪( :‬وأم ا إطالق ه الك ذب على األم ور الثالث ة؛ فلكون ه ق ال ق وال‬
‫يعتقده السامع كذبا‪ ،‬لكنه إذا حقق لم يكن ك ذبا؛ ألن ه من ب اب المع اريض المحتمل ة‬
‫لألمرين‪ ،‬فليس بكذب محض‪ ،‬وقوله (هذه أختي) يعتذر عنه ب أن م راده أنه ا أخت ه‬
‫في اإلسالم‪ ،‬قال ابن عقيل‪ :‬داللة العقل بتصرف ظاهر إطالق الكذب على إبراهيم‪،‬‬
‫وذلك أن العقل قطع بأن الرسول ينبغي أن يكون موثوقا به؛ ليعلم صدق ما ج اء ب ه‬
‫عن هللا‪ ،‬وال ثقة مع تجويز الكذب عليه‪ ،‬فكيف مع وجود الك ذب من ه‪ ،‬وإنم ا أطل ق‬
‫علي ه ذل ك لكون ه بص ورة الك ذب عن د الس امع‪ ،‬وعلى تق ديره فلم يص در ذل ك من‬
‫إبراهيم ‪ - ‬يعني إطالق الكذب على ذلك ‪ -‬إال في حال شدة الخوف لعلو مقام ه‪،‬‬
‫وإال فالك ذب المحض في مث ل تل ك المقام ات يج وز‪ ،‬وق د يجب لتحم ل أخ ف‬
‫الضررين دفعا ألعظمهما‪ ،‬وأما تسميته إياها كذبات فال يريد أنها ت ذم‪ ،‬ف إن الك ذب‬
‫وإن كان قبيحا مخال لكنه قد يحسن في مواضع وهذا منها)(‪)2‬‬
‫ونحن نوافق ابن حجر في كون إبراهيم ‪ ‬يستحيل أن يكذب‪ ،‬وما قال ه من‬
‫سقمه ونحو ذلك معاريض أراد منها أن يستدرج قومه لدعوتهم إلى هللا كما استدرج‬
‫الملك‪ ،‬وكما استدرج عبدة الكواكب‪ ..‬وذلك كله ال حرج فيه‪ ،‬وال يعت بر ك ذبا بح ال‬
‫من األحوال‪.‬‬
‫لكن المشكلة ليس في ذلك‪ ..‬المشكلة فيما أطلقوا عليه الكذب ة األخ يرة‪ ..‬فتل ك‬
‫ليست كذبة فقط‪ ..‬ب ل هي دياث ة وجبن وتص رف ال يلي ق بن بي ك ريم‪ ..‬ب ل ال يلي ق‬
‫بإنسان عادي بسيط‪.‬‬
‫فهل يمكن أن يقبل أي رجل في الدنيا أن يترك امرأته عند الجبارين من دون‬
‫أن يدافع عنها؟ ثم كيف تنظر المرأة بعد ذلك لزوجها الذي فرط فيها من أجل نفس ه‬
‫أحوج ما تكون إليه؟ ثم ما الذي جعل إبراهيم ‪ ‬يذهب إلى ذلك المكان ال ذي يعلم‬
‫أنه ستأخذ منه زوجته قهرا؟‬
‫ثم كيف نطبق هذه السنة اإلبراهيمية في حياتنا ألن هللا تعالى أمرنا ب أن نتب ع‬
‫ملته‪ ،‬ونسير سيرته‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬و َم ْن يَرْ َغبُ ع َْن ِملَّ ِة إِب َْرا ِهي َم إِاَّل َم ْن َسفِهَ نَ ْف َسهُ‬
‫الص الِ ِحينَ ﴾ [البق رة‪ ،]130 :‬وق ال‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫اص طَفَ ْينَاهُ فِي ال ُّد ْنيَا َوإِنَّهُ فِي اآْل ِخ َر ِة لَ ِمنَ‬ ‫َولَقَ ِد ْ‬
‫ق هَّللا ُ فَاتَّبِعُوا ِملَّةَ إِب َْرا ِهي َم َحنِيفًا َو َما َكانَ ِمنَ ْال ُم ْش ِر ِكينَ ﴾ [آل عمران‪]95 :‬‬ ‫﴿قُلْ َ‬
‫ص َد َ‬

‫‪ )(1‬رواه البخ اري ‪ ،280 - 277 / 6‬ومس لم رقم (‪ ،)2371‬وأب و داود رقم (‪ ،)2212‬والترم ذي رقم (‪،)3165‬‬
‫وأحمد (‪ )2/403‬والنسائي في فضائل الصحابة (‪)268‬‬
‫‪ )(2‬فتح الباري بشرح صحيح البخاري‪)451 /6( ،‬‬

‫‪81‬‬
‫بل إن رسول هللا ‪ ‬نفسه مكلف باتباع ملة إبراهيم ‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬ثُ َّم‬
‫ك أَ ِن اتَّبِ ْع ِملَّةَ إِ ْب َرا ِهي َم َحنِيفًا َو َما َكانَ ِمنَ ْال ُم ْش ِر ِكينَ ﴾ [النحل‪]123 :‬‬ ‫أَوْ َح ْينَا إِلَ ْي َ‬
‫فكيف نحيي هذه السنة اإلبراهيمية العظيمة كما يتصور السلفية؟‬
‫هذه هي قيمة األنبياء عند السلفية‪ ،‬وه ذا ه و تص ورهم لهم‪ ،‬وتدنيس هم لتل ك‬
‫القداسة التي بناها القرآن الكريم لهم‪.‬‬
‫موسى ‪:‬‬
‫يمثل موسى ‪ ‬في القرآن الكريم مث ل الرج ل الم ؤمن الق وي األمين ال ذي‬
‫أعده هللا منذ صباه الباكر لنصرة المستضعفين وتخليصهم من نير المستكبرين‪.‬‬
‫ولذلك كان يملك كل مقومات الش جاعة من ش بابه الب اكر‪ ..‬وق د ذك ر الق رآن‬
‫الكريم موقف ا من تل ك المواق ف الش جاعة ال تي أق دم فيه ا موس ى ‪ ‬على نص رة‬
‫المستض عفين‪ ،‬ول و على حس اب مص الحه ومكانت ه في بيت فرع ون‪ ،‬ق ال تع الى‪:‬‬
‫﴿ َو َد َخ َل ْال َم ِدينَةَ َعلَى ِحي ِن َغ ْفلَ ٍة ِم ْن أَ ْهلِهَا فَ َو َج َد فِيهَ ا َر ُجلَ ْي ِن يَ ْقتَتِاَل ِن هَ َذا ِم ْن ِش ي َعتِ ِه‬
‫ضى‬ ‫وس ى فَقَ َ‬ ‫َوهَ َذا ِم ْن َعد ُِّو ِه فَا ْستَغَاثَهُ الَّ ِذي ِم ْن ِشي َعتِ ِه َعلَى الَّ ِذي ِم ْن َعد ُِّو ِه فَ َوكَزَ هُ ُم َ‬
‫ت نَ ْف ِس ي‬ ‫ال َربِّ إِنِّي ظَلَ ْم ُ‬ ‫ين قَ َ‬ ‫ض لٌّ ُمبِ ٌ‬ ‫ان إِنَّهُ َع د ٌُّو ُم ِ‬ ‫الش ْيطَ ِ‬‫َعلَ ْي ِه قَا َل هَ َذا ِم ْن َع َم ِل َّ‬
‫ي فَلَ ْن أَ ُك ونَ ظَ ِه يرًا‬ ‫ال َربِّ بِ َما أَ ْن َع ْمتَ َعلَ َّ‬ ‫َّحي ُم قَ َ‬‫فَا ْغفِرْ لِي فَ َغفَ َر لَهُ إِنَّهُ هُ َو ْال َغفُو ُر الر ِ‬
‫َص ِر ُخهُ‬ ‫س يَ ْست ْ‬ ‫ص َرهُ بِ اأْل َ ْم ِ‬
‫لِ ْل ُمجْ ِر ِمينَ فَأَصْ بَ َح فِي ْال َم ِدينَ ِة خَائِفًا يَت ََرقَّبُ فَإِ َذا الَّ ِذي ا ْستَ ْن َ‬
‫ش بِالَّ ِذي هُ َو َع ُد ٌّو لَهُ َم ا قَ ا َل‬ ‫ين فَلَ َّما أَ ْن أَ َرا َد أَ ْن يَب ِْط َ‬‫ي ُمبِ ٌ‬ ‫وس ى إِنَّكَ لَ َغ ِو ٌّ‬
‫قَ ا َل لَ هُ ُم َ‬
‫س إِ ْن تُ ِري ُد إِاَّل أَ ْن تَ ُك ونَ َجبَّارًا فِي‬ ‫وس ى أَتُ ِري ُد أَ ْن تَ ْقتُلَنِي َك َم ا قَت َْلتَ نَ ْف ًس ا بِ اأْل َ ْم ِ‬ ‫يَا ُم َ‬
‫ض َو َما تُ ِري ُد أَ ْن تَ ُكونَ ِمنَ ْال ُمصْ لِ ِحينَ ﴾ [القصص‪]19 - 15 :‬‬ ‫اأْل َرْ ِ‬
‫وهذه اآليات الكريمة توضح جوانب مهم ة في شخص ية موس ى ‪ ‬تجتم ع‬
‫جميع ا في إيمان ه العظيم‪ ،‬وقوت ه في نص رة الح ق‪ ،‬وع دم مهادنت ه ألي جه ة من‬
‫الجهات‪.‬‬
‫ولع ل ذل ك من أس باب اختي اره له ذه الوظيف ة العظيم ة‪ ..‬وق د دل على ذل ك‬
‫الواقع الذي عاشه‪ ..‬حيث أنه واج ه فرع ون بك ل ق وة‪ ..‬ثم عن دما أدركهم فرع ون‪،‬‬
‫وخاف قومه‪ ،‬لم يخف ولم يتزعزع‪ ،‬ألن ه ك ان يمل ك م ع قوت ه إيمان ه العظيم‪ ،‬ق ال‬
‫ال َكاَّل إِ َّن َم ِع َي‬‫ال أَصْ َحابُ ُمو َسى إِنَّا لَ ُم ْد َر ُكونَ * قَ َ‬ ‫ان قَ َ‬‫تعالى‪ ﴿ :‬فَلَ َّما تَ َرا َءى ْال َج ْم َع ِ‬
‫َربِّي َسيَ ْه ِدي ِن ﴾ [الشعراء‪]62 ،61 :‬‬
‫هذه هي الرؤية القرآنية لموسى ‪ ‬وإيمانه وقوت ه وإخالص ه وروحانيت ه‪..‬‬
‫لكن الرؤية السلفية تختلف عن هذه الرؤية تماما بم ا تروي ه من حكاي ات وأس اطير‬
‫تجعله جبانا أمام الموت‪ ،‬حريصا على الحياة‪ ..‬ال فرق بينه وبين قومه في ذلك‪.‬‬
‫وقبل أن نذكر الرواية التي تصور خوف موسى ‪ ‬من الموت‪ ،‬ن ذكر ه ذه‬
‫الرواية التي تصور حادثة وفاة هارون ‪ ،‬ال ذي لم يكن يختل ف عن موس ى ‪‬‬
‫في أي صفة من صفات الكمال‪.‬‬
‫والرواية كم ا رووه ا عن عن عب د هللا بن مس عود‪ ،‬وعن ن اس من أص حاب‬
‫النبي ‪ ‬تقول‪( :‬ثم إن هللا تب ارك وتع الى أوحى إلى موس ى‪ ،‬أني مت وف ه ارون‪،‬‬

‫‪82‬‬
‫فأت به جبل كذا وكذا فانطلق موسى وهارون نحو ذلك الجبل‪ ،‬ف إذا هم ا بش جرة لم‬
‫ير مثلها‪ ،‬وإذا هما ببيت مبني‪ ،‬وإذا هما فيه بسرير عليه فرش‪ ،‬وإذا فيه ريح طيبة‪،‬‬
‫فلما نظر هارون إلى ذلك الجبل والبيت وما فيه أعجبه‪ ،‬فقال‪ :‬ي ا موس ى إني ألحب‬
‫أن أنام على هذا السرير‪ ،‬قال له موسى‪ :‬فنم عليه‪ ،‬قال‪ :‬إني أخاف أن يأتي رب هذا‬
‫البيت فيغضب علي‪ ،‬قال له موسى‪ :‬ال ترهب أنا أكفيك رب هذا البيت فنم‪ ،‬ق ال‪ :‬ي ا‬
‫موسى بل نم معي‪ ،‬فإن جاء رب البيت غضب علي وعلي ك جميع ا‪ ،‬فلم ا نام ا أخ ذ‬
‫هارون الموت‪ ،‬فلما وجد حسه قال‪ :‬يا موسى خدعتني‪ ،‬فلما قبض رف ع ذل ك ال بيت‬
‫وذهبت تلك الشجرة ورفع السرير إلى السماء‪ ،‬فلما رجع موسى إلى بني إس رائيل‪،‬‬
‫وليس معه هارون قالوا‪ :‬ف ان موس ى قت ل ه ارون وحس ده لحب ب ني إس رائيل ل ه‪،‬‬
‫وك ان ه ارون أك ف عنهم وألين لهم من موس ى‪ ،‬وك ان في موس ى بعض الغل ظ‬
‫عليهم‪ ،‬فلما بلغه ذلك قال لهم‪ :‬ويحكم! كان أخي‪ ،‬أفترونني أقتله! فلما أك ثروا علي ه‬
‫قام فصلى ركعتين ثم دعا هللا فنزل بالسرير حتى نظروا إلي ه بين الس ماء واألرض‬
‫فصدقوه ثم إن موسى بينما هو يمشي ويوشع فتاه إذا أقبلت ريح س وداء‪ ،‬فلم ا نظ ر‬
‫إليها يوشع ظن أنها الساعة والتزم موسى‪ ،‬وقال‪ :‬تق وم الس اعة وأن ا مل تزم موس ى‬
‫نبي هللا‪ ،‬فاس تل موس ى من تحت القميص وت رك القميص في ي د يوش ع‪ ،‬فلم ا ج اء‬
‫يوشع بالقميص أخذته بنو إس رائيل‪ ،‬وق الوا‪ :‬قتلت ن بي هللا! ق ال‪ :‬ال وهللا م ا قتلت ه‪،‬‬
‫ولكنه استل مني‪ ،‬فلم يصدقوه وأرادوا قتله قال‪ :‬ف إذا لم تص دقوني ف أخروني ثالث ة‬
‫أيام‪ ،‬فدعا هللا فأتي كل رجل ممن كان يحرسه في المن ام‪ ،‬ف أخبر أن يوش ع لم يقت ل‬
‫موسى‪ ،‬وأنا قد رفعناه إلينا‪ ،‬فتركوه ولم يبق أحد ممن أبى أن يدخل قري ة الجب ارين‬
‫مع موسى إال مات‪ ،‬ولم يشهد الفتح)(‪)1‬‬
‫هذه األسطورة تصور أنبياء هللا الكرام‪ ،‬وهم خائفون وجل ون من الم وت إلى‬
‫الدرجة التي فاقوا فيها أدنى العوام من الناس‪.‬‬
‫لكنا مع ذلك ال نركز عليها كث يرا‪ ،‬ألن ه ليس من رواته ا أب و هري رة‪ ،‬وليس‬
‫من مخرجيها البخ اري ومس لم‪ ..‬ول ذلك س نذكر م ا رواه أب و هري رة‪ ،‬وم ا خرج ه‬
‫الشيخان‪ ،‬فهم أصحاب الثقة المطلقة التي ال يصح أن يشك فيها أحد‪.‬‬
‫والرواي ة ال تي رواه ا أب و هري رة وأخرجه ا الش يخان ونس بوها جميع ا إلى‬
‫رسول هللا ‪ ‬هي‪( :‬أرسل مل ك الم وت إلى موس ى‪ ،‬فلم ا ج اءه ص كه ففق أ عين ه‪،‬‬
‫فرجع إلى ربه‪ ،‬فقال‪ :‬أرسلتني إلى عبد ال يريد الم وت‪ ،‬ف رد هللا إلي ه عين ه‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫ارجع إليه‪ ،‬فقل له‪ :‬يضع يده على متن ثور فله بكل م ا غطت ي ده من ش عرة س نة‪،‬‬
‫قال‪ :‬أي رب‪ ،‬ثم ماذا؟ قال‪ :‬ثم الموت‪ ،‬قال‪ :‬ف اآلن‪ ،‬فس أل هللا أن يدني ه من األرض‬
‫المقدس ة رمي ة بحج ر‪ ،‬ق ال رس ول هللا ‪ :‬فل و كنت ثم ألريتكم ق بره إلى ج انب‬
‫الطريق عند الكثيب األحمر)(‪)2‬‬
‫وقد لقي هذا الحديث ـ مع التشويهات العظيمة ال تي يحمله ا في ح ق األنبي اء‬
‫‪ )(1‬تاريخ الطبري‪)432 /1( ،‬‬
‫‪ )(2‬أحمد (‪ .)2/269‬والبخاري (‪ )2/113‬وفي (‪ )4/191‬ومسلم (‪ )7/99‬والنسائي (‪)4/118‬‬

‫‪83‬‬
‫والمالئكة عليهم السالم ـ اهتماما كبيرا من ل دن الس لفية في الق ديم والح ديث‪ ،‬ح تى‬
‫أنهم رووا عن أحمد بن حنبل‪ ،‬وإسحاق بن راهويه أنهما سئال عن ه ذا الح ديث في‬
‫جملة من أحاديث الصفات‪ ،‬فقال أحمد‪ :‬كل هذا صحيح‪ ،‬وقال إسحاق‪( :‬هذا ص حيح‬
‫وال يدفعه إال مبتدع أو ضعيف الرأي)(‪)1‬‬
‫بل إن الحافظ عبد الغني المقدسي جعل اإليمان بما في هذا الحديث من عقائ د‬
‫أهل الس نة‪ ،‬فمن أنك ره خ رج عنهم م ذؤوما م دحورا‪ ،‬فق ال‪ ..( :‬ون ؤمن ب أن مل ك‬
‫الموت أرسل إلى موسى ‪ -  -‬فصكه ففقأ عينه‪ ،‬كما صح عن رسول هللا ‪ ،‬وال‬
‫ينكره إال ضال مبتدع أو ضعيف الرأي)(‪)2‬‬
‫وقد برروا كل ما ورد فيه حرفا حرفا‪..‬‬
‫ف برروا تمث ل مل ك الم وت في ص ورة بش ر‪ ،‬بأن ه أم ر غ ير مس تغرب وال‬
‫ممتنع؛ فقد دلت نصوص القرآن والسنة على ظهور المالئكة في صورة البش ر بم ا‬
‫يخفي حالهم على األنبياء ‪ -‬فضال عن عموم الناس ‪ -‬وال يلزم من ذلك خروج الملك‬
‫عن ملكيته‪ ،‬وفقء موسى لعين الصورة البشرية التي تمثل فيها ملك الموت رد فعل‬
‫طبيعي يتصف بالشرعية مع رجل غريب اقتحم بيته بغير إذنه يطلب روحه‪.‬‬
‫وبرروا كراهية موسى ‪ ‬للموت بأنه أمر جبلي فطر هللا الناس علي ه‪ ،‬ألن‬
‫هللا سمى الموت في القرآن مصيبة وبالء‪.‬‬
‫وبرروا لطم موسى ‪ -  -‬لملك الموت بأنه ليس اعتراض ا من موس ى على‬
‫قضاء هللا؛ بل ألن ملك الم وت ق د أتى موس ى ‪ ‬في ص ورة بش رية‪ ،‬ولم يعرف ه‬
‫فلطمه ألنه رآه آدميا قد دخ ل داره بغ ير إذن ه يري د نفس ه‪ ،‬ف دافع موس ى عن نفس ه‬
‫مدافع ة أدت إلى فقء عين مل ك الم وت‪ ،‬وق د أب اح الش ارع فقء عين الن اظر في‬
‫دارغيره بدون إذنه‪.‬‬
‫قال ابن حبان‪( :‬كان مجيء ملك الموت إلى موسى على غ ير الص ورة ال تي‬
‫ك ان يعرف ه موس ى ‪ -  -‬عليه ا‪ ،‬وك ان موس ى غي ورا‪ ،‬ف رأى في داره رجال لم‬
‫يعرفه‪ ،‬فشال يده فلطمه‪ ،‬فأتت لطمته على فقء عينه التي في الصورة التي يتصور‬
‫به ا‪ ،‬ال الص ورة ال تي خلق ه هللا عليه ا‪ ...‬ولـما ك ان من ش ريعتنا أن من فق أ عين‬
‫الداخل داره بغير إذنه‪ ،‬أو الناظر إلى بيته بغير أمره‪ ،‬أنه ال جن اح على فاعل ه‪ ،‬وال‬
‫حرج على مرتكبه‪ ،‬لألخبار الجمة الواردة فيه‪ ...‬كان جائزا اتفاق الشريعة بش ريعة‬
‫موسى‪ ،‬بإسقاط الحرج عمن فقأ عين الداخل داره بغير إذنه‪ ،‬فكان اس تعمال موس ى‬
‫هذا الفع ل مباح ا ل ه‪ ،‬وال ح رج علي ه في فعل ه‪ ،‬فلم ا رج ع مل ك الم وت إلى رب ه‪،‬‬
‫وأخبره بما كان من موسى فيه‪ ،‬أمره ثانيا بأمر آخر‪ ،‬هو أم ر اختب ار وابتالء‪ ،‬فلم ا‬
‫علم موسى كليم هللا أنه ملك الموت‪ ،‬وأنه جاءه بالرس الة من عن د هللا‪ ،‬ط ابت نفس ه‬
‫بالموت‪ ،‬ولم يس تمهل‪ ،‬وق ال‪ :‬اآلن‪ ،‬فل و ع رف موس ى في الم رة األولى أن ه مل ك‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الشريعة‪ ،‬أبو بكر اآلجري‪ .)94 /2( ،‬التمهيد‪.)148 ،147 /7( ،‬‬
‫‪ )(2‬أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين‪ ،‬ص‪..533‬‬

‫‪84‬‬
‫به)(‪)1‬‬ ‫الموت‪ ،‬الستعمل ما استعمل في المرة األخرى عند تيقنه وعلمه‬
‫بل إنهم ـ وألهمية المسألة عندهم ـ بنوا الكثير من العقائ د على ه ذا الح ديث‪،‬‬
‫حتى أن بعضهم ـ وهو السلفي الكبير محمد بن أحم د العل وي ـ أل ف في ذل ك كتاب ا‬
‫بعنوان [توضيح طرق الرشاد لحسم م ادة اإللح اد في ح ديث ص ك الرس ول المكلم‬
‫موسى ‪ ‬للملك الموكل بقبض أرواح العباد]‬
‫وقد حاول فيه أن يبين أن المالك الذي فقأ موسى ‪ ‬هو مالك الموت‪ ،‬وأن‬
‫عينه فقئت حقيقة‪ ،‬ول وال أن هللا رده ا علي ه لبقي أع ور‪ ..‬يق ول في ذل ك‪( :‬إن مل ك‬
‫الموت جاء في صورة يمكن فقء البشر لعينه ا‪ ،‬والمعه ود في مجيء المل ك للبش ر‬
‫هو مجيئه له على صورة البشر‪ ،‬كما قال تع الى‪﴿ :‬فَتَ َمثَّ َل لَهَ ا بَ َش رًا َس ِويًّا ﴾ [م ريم‪:‬‬
‫‪ ،]17‬وكما أفادته النصوص القرآنية التي ذكر فيها مجيء المالئكة إلبراهيم ولل وط‬
‫وداود‪ ،‬وكذا نصوص األحاديث التي ذكر فيها مجيء جبريل ‪ -  -‬لنبينا ‪ ،‬وبه‬
‫تبين أن فقأ العين هنا هو على ظاهره‪ ،‬وأنه وقع في الصورة البشرية التي جاء ملك‬
‫الموت عليها‪ ،‬وهو ممكن غ ير متع ذر إال في الص ورة الملكي ة األص لية النوراني ة‬
‫البعيدة عن ذلك‪ ،‬إذ لم يعهد مجيء المالئكة للبشر فيها‪ .‬أما رؤي ة نبين ا ‪ ‬لجبري ل‬
‫على صورته األصلية في السماء مرة‪ ،‬وبين السماء واألرض أخرى‪ ،‬فهي خارج ة‬
‫عن مجيء الملك الذي عليه مدار الحديث هنا‪ ،‬وبمجموع هذا الذي قررناه يكون ق د‬
‫حل استشكال صك موسى لعين الملك‪ ،‬وحصول فقء عين الملك من أثره)(‪)2‬‬
‫ثم فس ر دواف ع موس ى ‪ ‬لفقء عين مل ك الم وت‪ ،‬فق ال‪( :‬وعلى ه ذا ف إن‬
‫موسى لما رأى رجال ال يعرفه قد دخل عليه بغتة‪ ،‬وقال ما ق ال‪ ،‬حمل ه حب الحي اة‬
‫على االس تعجال بدفع ه‪ ،‬ول وال ش دة حب الحي اة لت أنى وق ال‪ :‬من أنت وم ا ش أنك؟‬
‫ونحو ذلك‪ ،‬ووقوع الصكة وتأثيرها كان على ذاك الجسد العارض‪ ،‬ولم ين ل المل ك‬
‫بأس‪ .‬فأما قوله في القصة‪( :‬فرد هللا عليه عينه)‪ ،‬فحاصله‪ :‬أن هللا تعالى أعاد تمثي ل‬
‫الملك في ذاك الجسد المادي س ليما‪ ،‬ح تى إذا رآه موس ى ق د ع اد س ليما م ع ق رب‬
‫الوقت‪ ،‬عرف ألول وهلة خطأه أول مرة)(‪)3‬‬
‫أما مسألة القصاص بين موس ى ‪ ‬ومل ك الم وت‪ ،‬وكي ف لم يطلب المالك‬
‫القصاص من موس ى ‪ ،‬فق د أج ابوا عليه ا بق ولهم‪( :‬ومن ق ال‪ :‬إن هللا لم يقتص‬
‫لملك الموت من موسى‪ ،‬فه ذا دلي ل على جهل ه‪ ،‬ومن أخ بره أن بين المالئك ة وبين‬
‫اآلدم يين قص اص؟! ومن ق ال‪ :‬إن مل ك الم وت طلب القص اص من موس ى‪ ،‬فلم‬
‫يقاصصه هللا منه‪ ،‬وقد أخبرنا هللا تعالى أن موسى قتل نفس ا‪ ،‬ولم يقاص ص هللا من ه‬
‫لقتله!)(‪)4‬‬
‫أما القول بأن العين التي فقأها موسى ‪( ‬إنما هي تمثيل وتخييل‪ ،‬ال حقيقة‬

‫‪ )(1‬صحيح ابن حبان (‪..)112 /14‬‬


‫‪ )(2‬توضيح طرق الرشاد‪ ،‬ص‪ 196‬بتصرف‪.‬‬
‫‪ )(3‬األنوار الكاشفة‪ ،‬ص‪..215‬‬
‫‪ )(4‬أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين‪ ،‬ص‪.538‬‬

‫‪85‬‬
‫لها؛ ألن م ا تنتق ل المالئك ة إلي ه من الص ور ليس على الحق ائق‪ ،‬وإنم ا ه و تمثي ل‬
‫وتخييل‪ ،‬فالجواب عنه‪ :‬أن هذا يقتض ي أن ك ل ص ورة رآه ا األنبي اء من المالئك ة‬
‫فإنما هي مجرد تمثيل وتخييل ال حقيقة لها‪ ،‬وهذا باطل‪ ،‬فإن النبي ‪ -‬صلى هللا علي ه‬
‫وسلم ‪ -‬قد رأى جبريل على صورته التي خلق عليها سادا عظم خلقه ما بين السماء‬
‫واألرض)(‪)1‬‬
‫والعجب من العق ل الس لفي ال ذي ي ورد أمث ال ه ذه الرواي ات‪ ،‬وي دافع عنه ا‬
‫جميعا‪ ،‬ثم ه و نفس ه ي روي رواي ات أخ رى تناقض ها‪ ،‬ثم ي أمر عق ول الن اس ب أن‬
‫تستسلم لها جميعا من غير كيف‪.‬‬
‫ومن تلك الروايات التي تكفي وحدها للرد عليهم ما رواه الشيخان عن عائشة‬
‫قالت‪( :‬كان رس ول هللا ‪ ‬وه و ص حيح يق ول‪ :‬إن ه لم يقبض ن بي ق ط ح تى ي رى‬
‫مقعده في الجنة‪ ،‬ثم يحيا أو يخير‪ .‬فلما اش تكى وحض ره القبض‪ ،‬ورأس ه على فخ ذ‬
‫عائشة‪ ،‬غشي عليه‪ ،‬فلما أفاق ش خص بص ره نح و س قف ال بيت‪ ،‬ثم ق ال‪ :‬اللهم في‬
‫الرفيق األعلى‪ .‬فقلت‪ :‬إذا ال يجاورنا‪ ،‬فع رفت أن ه حديث ه ال ذي ك ان يح دثنا‪ ،‬وه و‬
‫صحيح)(‪)2‬‬
‫وفي رواية قالت‪ :‬سمعت رسول هللا ‪ ‬يقول‪( :‬ما من ن بي يم رض إال خ ير‬
‫بين الدنيا واآلخ رة‪ .‬وك ان في ش كواه ال ذي قبض في ه أخذت ه بح ة ش ديدة‪ ،‬فس معته‬
‫يقول‪َ ﴿ :‬م َع الَّ ِذينَ أَ ْن َع َم هَّللا ُ َعلَ ْي ِه ْم ِمنَ النَّبِيِّينَ َوال ِّ‬
‫صدِّيقِينَ َوال ُّشهَدَا ِء َوالصَّالِ ِحينَ َو َحسُنَ‬
‫رفِيقًا﴾ [النساء‪ ،]69 :‬فعلمت أنه خير) (‪)3‬‬ ‫أُولَئِ َ‬
‫ك َ‬
‫ونكتفي بهذا الرد من رسول هللا ‪ ‬على تل ك التحريف ات والتش ويهات ال تي‬
‫أثارها السلفية باسم رسول هللا ‪ ..‬وهو منها براء‪.‬‬

‫‪ )(1‬أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين‪ ،‬ص‪.538‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري ‪ 15 / 8‬ومسلم رقم (‪ )2444‬أحمد (‪)6/274‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري ‪ 15 / 8‬ومسلم رقم (‪ )2444‬أحمد (‪)6/274‬‬

‫‪86‬‬
‫قسوة‪ ..‬وغلظة‬
‫من أهم صفات األنبياء عليهم الصالة والسالم ـ كما يذكر القرآن الكريم ـ تلك‬
‫الرحم ة العظيم ة ال تي مأل هللا به ا قل وبهم‪ ،‬وال تي تجلت في ك ل التض حيات ال تي‬
‫ض حوا به ا من أج ل هداي ة أق وامهم‪ ،‬وك ل ذل ك الص بر ال ذي ص بروه تج اه تل ك‬
‫المواجهات الشرسة التي ووجهوا بها‪ ،‬وقد ورد في الحديث عن عبد هللا بن مس عود‬
‫قوله‪( :‬كأنِّي أنظر إلى النَّبي ‪ ‬يحكي نبيًّا من األنبياء‪ ،‬ض ربه قوم ه ف أ َ ْد َموه‪ ،‬فه و‬
‫يمسح ال َّدم عن وجهه‪ ،‬ويقول‪ :‬ربِّ اغفر لقومي‪ ،‬فإنَّهم ال يعلمون)(‪)1‬‬
‫وهذه المقولة التي وصف بها رسول هللا ‪ ‬تمثل كل األنبي اء عليهم الص الة‬
‫والسالم‪ ،‬فكلهم رحمة ولطف وهداية‪ ..‬ومن أساء إلى أي واحد منهم في هذه الناحية‬
‫فقد أساء إليهم جميعا‪ ،‬كم ا ورد في الح ديث‪( :‬األنبي اء إخ وة بن و عالت(‪ )2‬أمه اتهم‬
‫شتى‪ ،‬ودينهم واحد)(‪)3‬‬
‫وهذه األخوة تتفق في جميع القيم اإلنس انية الرفيع ة‪ ..‬ألن أول ص فات الن بي‬
‫أن يتص ف بك ل مس تلزمات الكم ال اإلنس اني‪ ..‬ومن أهم تل ك الكم االت الرحم ة‬
‫واللطف واللين‪ ،‬كما قال تعالى عن نبيه ‪﴿ :‬فَبِ َما َرحْ َم ٍة ِمنَ هَّللا ِ لِ ْنتَ لَهُ ْم َولَ وْ ُك ْنتَ‬
‫ب اَل ْنفَضُّ وا ِم ْن َحوْ لِكَ ﴾ [آل عمران‪]159 :‬‬ ‫فَظًّا َغلِيظَ ْالقَ ْل ِ‬
‫وذكر حرصه الشديد على إيمان الناس رحمة بهم‪ ،‬فقال‪﴿ :‬لَقَ ْد َج ا َء ُك ْم َر ُس و ٌل‬
‫وف َر ِحي ٌم ﴾ [التوب ة‪:‬‬ ‫َزي ٌز َعلَ ْي ِه َم ا َعنِتُّ ْم َح ِريصٌ َعلَ ْي ُك ْم بِ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َر ُء ٌ‬
‫ِم ْن أَ ْنفُ ِس ُك ْم ع ِ‬
‫‪]128‬‬
‫وه ذه الرحم ة ال تي جعله ا هللا في قلب الن بي ال تقتص ر فق ط على أص حابه‬
‫والمقربين منه‪ ،‬بل تتعداه إلى أعدائه الذين يشفق عليهم ويحرص على هدايتهم‪ ،‬كما‬
‫قال تعالى ذاكرا حزن رسوله ‪ ‬الشديد على إعراض قومه‪﴿ :‬لَ َعلَّكَ بَا ِخ ٌع نَ ْف َس كَ أَاَّل‬
‫يَ ُكونُوا ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ [الشعراء‪]3 :‬‬
‫وقد حكى القرآن الكريم قصة إبراهيم ‪ ،‬وه و يج ادل عن ق وم ل وط‪ ،‬م ع‬
‫ع َو َجا َء ْتهُ ْالبُ ْش َرى يُ َجا ِدلُنَا فِي‬ ‫عتوهم وطغيانهم‪ ،‬فقال‪ ﴿ :‬فَلَ َّما َذه َ‬
‫َب ع َْن إِب َْرا ِهي َم ال َّروْ ُ‬
‫قَوْ ِم لُو ٍط (‪ )74‬إِ َّن إِ ْب َرا ِهي َم لَ َحلِي ٌم أَ َّواهٌ ُمنِيبٌ (‪ )75‬يَاإِ ْب َرا ِهي ُم أَ ْع ِرضْ ع َْن هَ َذا إِنَّهُ قَ ْد‬
‫ك َوإِنَّهُ ْم آتِي ِه ْم َع َذابٌ َغ ْي ُر َمرْ دُو ٍد (‪[ ﴾)76‬هود‪]76 - 74 :‬‬ ‫َجا َء أَ ْم ُر َربِّ َ‬
‫وحكى عنه وهو يخاطب قريبه(‪ )4‬بتلك اللغة الممتلئة بالرقة واللط ف واألدب‬
‫‪ )(1‬أحمد (‪ )3611( )1/380‬والبخاري (‪ )9/20 ،4/213‬ومسلم (‪)5/179‬‬
‫‪ )(2‬علة‪ :‬يقال‪ :‬هم بنو عالت إذا كان أبوهم واحدا وأمهاتهم شتى الواح دة عل ة مث ل جن ات وجن ة‪ .‬المص باح المن ير‬
‫‪..2/583‬‬
‫‪ )(3‬ابن عساكر (‪ ،)47/372‬وانظر‪ :‬صحيح الجامع‪.1452 :،‬‬
‫‪ )(4‬ذكرنا هنا [قريبه] بدل أباه‪ ،‬كما يدل عليه ظاهر القرآن الكريم ألن هللا تعالى أخبر أن إب راهيم علي ه‬
‫اس تِ ْغفَا ُر إِ ْب َرا ِهي َم أِل َ ِبي ِه إِاَّل‬
‫{و َما َكانَ ْ‬
‫السالم تبرأ من استغفاره لهذا القريب الذي ذكر المفسرون أنه عمه‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬
‫ع َْن َموْ ِع َد ٍة َو َع َدهَا إِيَّاهُ فَلَ َّما تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ َع ُدوٌّ هَّلِل ِ تَبَ رَّأَ ِم ْن هُ إِنَّ إِ ْب َرا ِهي َم أَل َوَّاهٌ َحلِي ٌم } [التوب ة‪ ،]114 :‬وفي نفس ال وقت‬
‫نرى القرآن الكريم يذكر عن إبراهيم عليه السالم وفي مرحلة متقدمة من عمره ـ أي بعد بنائه البيت ـ يستغفر لوالده‪،‬‬

‫‪87‬‬
‫ص دِّيقًا نَبِيًّ ا (‪)41‬‬ ‫ب إِ ْب َرا ِهي َم إِنَّهُ َكانَ ِ‬ ‫والحرص الشديد‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬و ْاذ ُكرْ فِي ْال ِكتَا ِ‬
‫ت‬‫ْص ُر َواَل يُ ْغنِي َع ْن كَ َش ْيئًا (‪ )42‬يَ اأَبَ ِ‬ ‫ت لِ َم تَ ْعبُ ُد َما اَل يَ ْس َم ُع َواَل يُب ِ‬ ‫ال أِل َبِي ِه يَاأَبَ ِ‬
‫إِ ْذ قَ َ‬
‫ت اَل تَ ْعبُ ِد‬ ‫ص َراطًا َس ِويًّا (‪ )43‬يَ اأَبَ ِ‬ ‫إِنِّي قَ ْد َجا َءنِي ِمنَ ْال ِع ْل ِم َما لَ ْم يَأْتِكَ فَاتَّبِ ْعنِي أَ ْه ِدكَ ِ‬
‫ت إِنِّي أَخَ افُ أَ ْن يَ َم َّس كَ َع َذابٌ‬ ‫َصيًّا (‪ )44‬يَاأَبَ ِ‬ ‫ال َّش ْيطَانَ إِ َّن ال َّش ْيطَانَ َكانَ لِلرَّحْ َم ِن ع ِ‬
‫ان َولِيًّا (‪[ ﴾)45‬مريم‪]45 - 41 :‬‬ ‫ِمنَ الرَّحْ َم ِن فَتَ ُكونَ لِل َّش ْيطَ ِ‬
‫اغبٌ أ ْنتَ ع َْن آلِهَتِي يَ اإِب َْرا ِهي ُم‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وعندما رد عليه بذلك الرد القاس ي ق ائال‪ ﴿ :‬أ َر ِ‬
‫لَئِ ْن لَ ْم تَ ْنتَ ِه أَل َرْ ُج َمنَّكَ َوا ْهجُرْ نِي َملِيًّا﴾ [مريم‪]46 :‬‬
‫ك َسأ َ ْس تَ ْغفِ ُر لَ كَ َربِّي إِنَّهُ‬ ‫﴿س اَل ٌم َعلَ ْي َ‬ ‫أجابه إبراهيم ‪ ‬بلط ف وأدب ق ائال‪َ :‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫َس ى أاَّل أ ُك ونَ‬ ‫َ‬
‫ُون ِ َوأ ْد ُع و َربِّي ع َ‬ ‫هَّللا‬ ‫َكانَ بِي َحفِيًّا (‪َ )47‬وأَ ْعت َِزلُ ُك ْم َو َما تَ ْد ُعونَ ِم ْن د ِ‬
‫بِ ُدعَا ِء َربِّي َشقِيًّا﴾ [مريم‪]48 ،47 :‬‬
‫وهكذا نرى تلك الرحم ة من ل وط ‪ ،‬وه و يب دي ك ل ذل ك الح رص على‬
‫ضيوفه الذين أتوه من دون أن يعرفهم‪ ،‬وم ع ذل ك اس تعمل ك ل الوس ائل لحم ايتهم‪،‬‬
‫ال‬ ‫ت قَ َ‬ ‫كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬و َجا َءهُ قَوْ ُمهُ يُه َْر ُع ونَ إِلَ ْي ِه َو ِم ْن قَ ْب ُل َك انُوا يَ ْع َملُ ونَ َّ‬
‫الس يِّئَا ِ‬
‫ْس ِم ْن ُك ْم َر ُج ٌل‬ ‫ض ْيفِي أَلَي َ‬ ‫ون فِي َ‬ ‫طهَ ُر لَ ُك ْم فَاتَّقُوا هَّللا َ َواَل تُ ْخ ُز ِ‬ ‫يَاقَوْ ِم هَؤُاَل ِء بَنَاتِي ه َُّن أَ ْ‬
‫ال‬ ‫ك لَتَ ْعلَ ُم َم ا نُ ِري ُد (‪ )79‬قَ َ‬ ‫ق َوإِنَّ َ‬ ‫َر ِشي ٌد (‪ )78‬قَالُوا لَقَ ْد َعلِ ْمتَ َما لَنَا فِي بَنَاتِكَ ِم ْن َح ٍّ‬
‫ص لُوا‬ ‫آوي إِلَى ُر ْك ٍن َش ِدي ٍد (‪ )80‬قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا ُر ُس ُل َربِّكَ لَ ْن يَ ِ‬ ‫لَوْ أَ َّن لِي بِ ُك ْم قُ َّوةً أَوْ ِ‬
‫ص يبُهَا َم ا‬ ‫ك إِنَّهُ ُم ِ‬ ‫ت ِم ْن ُك ْم أَ َح ٌد إِاَّل ا ْم َرأَتَ َ‬ ‫ط ٍع ِمنَ اللَّ ْي ِل َواَل يَ ْلتَفِ ْ‬ ‫ك بِقِ ْ‬ ‫ك فَأ َ ْس ِر بِأ َ ْهلِ َ‬
‫إِلَ ْي َ‬
‫ب (‪[ ﴾ )81‬هود‪]81 - 78 :‬‬ ‫ْس الصُّ ْب ُح بِقَ ِري ٍ‬ ‫صابَهُ ْم إِ َّن َموْ ِع َدهُ ُم الصُّ ْب ُح أَلَي َ‬ ‫أَ َ‬
‫وهكذا نرى يعقوب ‪ ،‬وبعد كل تلك المعاناة ال تي عاناه ا بس بب تص رف‬
‫أوالده‪ ،‬ومع ذلك عفا عنهم ب ل وع دهم أن يس تغفر لهم‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬قَ الُوا يَاأَبَانَ ا‬
‫ال َس وْ فَ أَ ْس تَ ْغفِ ُر لَ ُك ْم َربِّي إِنَّهُ هُ َو ْال َغفُ و ُر‬ ‫ا ْستَ ْغفِرْ لَنَا ُذنُوبَنَا إِنَّا ُكنَّا خَا ِطئِينَ (‪ )97‬قَ َ‬
‫ال َّر ِحي ُم﴾ [يوسف‪]98 ،97 :‬‬
‫وهكذا نرى يوسف ‪ ،‬ومع كل تلك اإلساءات التي قام بها إخوت ه تجاه ه‪،‬‬
‫ال هَ لْ َعلِ ْمتُ ْم َم ا فَ َع ْلتُ ْم‬ ‫ولكنه مع ذلك عفا عنهم بكل س هولة ويس ر‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬قَ َ‬
‫ُوس فُ َوهَ َذا‬ ‫ال أَنَ ا ي ُ‬ ‫ُوس فُ قَ َ‬ ‫ك أَل َ ْنتَ ي ُ‬ ‫بِيُوسُفَ َوأَ ِخي ِه إِ ْذ أَ ْنتُ ْم َجا ِهلُونَ (‪ )89‬قَ الُوا أَإِنَّ َ‬
‫ُض ي ُع أَجْ َر ْال ُمحْ ِس نِينَ (‪)90‬‬ ‫ص بِرْ فَ إِ َّن هَّللا َ اَل ي ِ‬ ‫ق َويَ ْ‬‫أَ ِخي قَ ْد َم َّن هَّللا ُ َعلَ ْينَ ا إِنَّهُ َم ْن يَتَّ ِ‬
‫يب َعلَ ْي ُك ُم ْاليَوْ َم يَ ْغفِ ُر‬ ‫ال اَل ت َْث ِر َ‬ ‫خَاطئِينَ (‪ )91‬قَ َ‬ ‫قَالُوا تَاهَّلل ِ لَقَ ْد آثَ َركَ هَّللا ُ َعلَ ْينَا َوإِ ْن ُكنَّا لَ ِ‬
‫هَّللا ُ لَ ُك ْم َوهُ َو أَرْ َح ُم الرَّا ِح ِمينَ (‪[ ﴾ )92‬يوسف‪]93 - 89 :‬‬
‫هكذا يتحدث القرآن الكريم عن األنبياء عليهم الصالة والسالم‪ ،‬وكي ف ك انت‬
‫أخالقهم الرفيعة وآدابهم العالية وإنسانيتهم السامية‪.‬‬
‫ي َو ِل ْل ُم ْؤ ِم ِنينَ يَوْ َم يَقُو ُم ْال ِح َسابُ } [إبراهيم‪ ،]41 :‬وهذا يدل داللة واض حة وقطعي ة‬ ‫قال تعالى‪َ { :‬ربَّنَا ا ْغ ِفرْ ِلي َو ِل َوا ِل َد َّ‬
‫على أن األب المذكور في سورة مريم والتوبة ليس والدا إلبراهيم عليه السالم‪ ..‬وذل ك أن األب في اللغ ة يطل ق على‬
‫األب الحقيقي والعم‪ ،‬بخالف الوالد الذي ال يطلق إال على األب الحقيقي‪ ،‬ومن أمثلة ذلك قوله تعالى‪ { :‬أَ ْم ُك ْنتُ ْم ُشهَدَا َء‬
‫ق إِلَهً ا‬‫يل َوإِ ْس َحا َ‬ ‫ال لِبَنِي ِه َما تَ ْعبُ ُدونَ ِم ْن بَ ْع ِدي قَالُوا نَ ْعبُ ُد إِلَهَكَ َوإِلَهَ آبَائِكَ ِإب َْرا ِهي َم َوإِ ْس َم ِ‬
‫اع َ‬ ‫ت إِ ْذ قَ َ‬
‫وب ْال َموْ ُ‬ ‫إِ ْذ َح َ‬
‫ض َر يَ ْعقُ َ‬
‫احدًا َونَحْ نُ لَهُ ُم ْسلِ ُمونَ } [البقرة‪ ،]133 :‬فقد اعتبر أوالد يعقوب إسماعيل أب ا ل ه م ع كون ه ك ان عم ا ولم يكن أب ا‬ ‫َو ِ‬
‫حقيقيا‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫لكن الرؤية السلفية ـ بفعل األساطير التي سطرتها في كتب التفسير والح ديث‬
‫والعقيدة ـ نسخت هذه الصورة الجميلة‪ ،‬ووضعت بدلها صورة قاتمة ممتلئة بالغلظة‬
‫والقسوة ال تتناسب حتى مع أجالف الناس وغالظهم‪.‬‬
‫وسنذكر هنا ثالثة نماذج عن تلك الصورة التي رسمتها السلفية عن ثالثة من‬
‫أنبي اء هللا العظ ام هم‪ :‬موس ى وس ليمان وي ونس عليهم الس الم مقارن ة بالص ورة‬
‫القرآنية التي صورت لهم‪.‬‬
‫موسى ‪:‬‬
‫كما ذكرنا سابقا فإن موسى ‪ ‬ـ باإلضافة إلى كون ه نبي ا كريم ا من أنبي اء‬
‫هللا ـ كلف بإمامة قومه‪ ،‬وقبل ذل ك كل ف ب إخراجهم من ن ير االس تعباد ال ذي ك انوا‬
‫يعانون منه‪.‬‬
‫وقد ذكر القرآن الكريم المواصفات التي اس تحق أن ين ال به ا رتب ة المخلص‬
‫ألمته‪ ،‬وأولها تلك القوة في الحق‪ ،‬والتي جعلته يقوم بما يقوم به من أعمال قد يكون‬
‫في ظاهرها بعض الشدة‪ ،‬ولكن باطنها مملوء بالرحمة واللطف‪.‬‬
‫وكمثال على ذلك يتعلق به المخطئة عادة‪ ،‬ويش وهون ب ه ص ورة ه ذا الن بي‬
‫العظيم قتله للقبطي‪ ،‬مع أن القرآن الكريم لم يذكر ه ذا ليجرم ه‪ ،‬وإنم ا ذك ره لي بين‬
‫قوة موسى ‪ ‬في نصرة الحق‪ ..‬وليس في النص المقدس م ا ي دل على معاتب ة هللا‬
‫أو توبيخه‪ ..‬وما حصل من موسى ‪ ‬من اس تغفار ش يء ط بيعي بالنس بة ألرواح‬
‫األنبياء الشفافة شديدة الحساسية التي تستغفر في كل حين‪ ،‬ولكل شيء‪ ،‬ح تى ل و لم‬
‫يكن معصية‪.‬‬
‫ي َولِ َم ْن َد َخ َل‬‫ولهذا نرى شيخ األنبياء نوحا ً ‪ ‬يقول‪َ ﴿:‬ربِّ ا ْغفِرْ لِي َولِ َوالِ َد َّ‬
‫ت َوال ت َِز ِد الظَّالِ ِمينَ إِاَّل تَبَاراً﴾ (نوح‪)28:‬‬ ‫بَ ْيتِ َي ُم ْؤ ِمنا ً َولِ ْل ُم ْؤ ِمنِينَ َو ْال ُم ْؤ ِمنَا ِ‬
‫ي َولِ ْل ُم ْؤ ِمنِينَ يَ وْ َم يَقُ و ُم‬
‫ويقتفيه إبراهيم ‪ ‬ويق ول‪َ ﴿:‬ربَّنَ ا ا ْغفِ رْ لِي َولِ َوالِ َد َّ‬
‫ْال ِح َسابُ ﴾ (ابراهيم‪)41:‬‬
‫ص يرُ﴾‬ ‫ك ْال َم ِ‬ ‫ك َربَّنَ ا َوإِلَ ْي َ‬ ‫وعلى أثرهم يقول النبي ‪َ ﴿:‬س ِم ْعنَا َوأَطَ ْعنَ ا ُغ ْف َرانَ َ‬
‫(البقرة‪)285:‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫والمنشأ الوحيد لهذا الطلب مرّة بعد أخرى هو وق وفهم على أن م ا ق اموا ب ه‬
‫من األَعم ال والطاع ات وإن ك انت في ح د ذاته ا بالغ ة ح ّد الكم ال لكن المطل وب‬
‫والمترقّب منهم أكمل وأفضل منه‪.‬‬
‫وهذا ما فسر به منزهة األنبياء من تفسيرهم لقوله ‪(:‬إن ه ليغ ان على قل بي‬
‫حتى أستغفر هللا‪ ،‬وفي لفظ‪ :‬وإني ألستغفر هللا في اليوم مائة مرة)(‪ ..)1‬فق د ق ال أب و‬
‫الحسن الش اذلي في الح ديث‪ :‬رأيت رس ول هللا ‪ ‬فس ألته عن ح ديث‪( :‬إن ه ليغ ان‬
‫على قلبي)‪ ،‬فقال‪( :‬يا مبارك ذلك غين األنوار)‬
‫وقال الشيخ شهاب الدين السهروردي‪( :‬ال تعتقد أن الغين حالة نقص‪ ،‬بل هو‬
‫حالة كم ال‪ ..‬ف ذلك مث ل جفن العين حين يمس ح ال دمع الق ذى عن العين‪ ،‬فإن ه يمن ع‬
‫‪ )(1‬مسلم رقم (‪ ،)2702‬وأبو داود رقم (‪)1515‬‬

‫‪89‬‬
‫العين عن الرؤية‪ ،‬فهو من هذه الحيثية نقص‪ ،‬وفي الحقيقة هو كمال‪ ..‬فهكذا بصيرة‬
‫النبي ‪ ‬متعرض ة لألغ برة الث ائرة من أنف اس األخي ار‪ ،‬ف دعت الحاج ة إلى س تر‬
‫حدقة بصيرته‪ ،‬صيانة لها‪ ،‬ووقاية عن ذلك)‬
‫وق ال أب و س عيد الخ راز‪( :‬الغين ش ئ ال يج ده إال األنبي اء وأك ابر األب رار‬
‫واألولياء‪ ،‬لصفاء أسرارهم‪ ،‬وهو كالغيم الرقيق الذي ال يدوم)‬
‫وقال آخر‪( :‬لم يزل ‪ ‬مترقي ا من رتب ة إلى رتب ة‪ ،‬فكلم ا رقي درج ة التفت‬
‫إلى ما خلفها‪ ،‬وجد منها وحشة لقصورها باإلضافة إلى التي انتهى إليها‪ ،‬وذل ك ه و‬
‫الغين‪ ،‬فيستغفر منه)(‪)1‬‬
‫وقد أورد الشريف المرتض ى ـ وه و من ال ذين اعت برهم ابن تيمي ة مبتدع ة‬
‫بسبب قولهم بالعص مة المطلق ة لألنبي اء ـ اإلش كال ال ذي ي ورده المخطئ ة لألنبي اء‬
‫عليهم الصالة والسالم حول قتل موسى ‪ ‬للقبطي‪ ،‬فقال‪( :‬فإن قيل‪ :‬فما الوجه في‬
‫قتل موسى ‪ ‬للقبطي وليس يخل و من أن يك ون مس تحقا للقت ل أو غ ير مس تحق‪،‬‬
‫الش ْيطَا ِن﴾ [القص ص‪:‬‬ ‫فإن كان مستحقا فال معنى لندمه ‪ ،‬وقوله‪﴿ :‬هَ َذا ِم ْن َع َم ِل َّ‬
‫ت نَ ْف ِس ي فَ ا ْغفِرْ لِي﴾ [القص ص‪ ،]16 :‬وإن ك ان غ ير‬ ‫‪ ]15‬وقول ه‪َ ﴿ :‬ربِّ إِنِّي ظَلَ ْم ُ‬
‫مستحق فهو عاص في قتله‪ ،‬وما بنا حاجة إلى أن نق ول إن القت ل ال يك ون ص غيرة‬
‫ألنكم تنفون الصغير والكبير من المعاصي عنهم عليهم السالم)(‪)2‬‬
‫ثم أجاب على ذلك بقوله‪( :‬مما يجاب ب ه عن ه ذا الس ؤال إن موس ى ‪ ‬لم‬
‫يعتمد القت ل وال أراده‪ ،‬وإنم ا اجت از فاس تغاث ب ه رج ل من ش يعته على رج ل من‬
‫عدوه بغى عليه وظلمه وقصد إلى قتله‪ ،‬فأراد موسى ‪ ‬أن يخلصه من يده ويدفع‬
‫عنه مكروه ه‪ ،‬ف أدى ذل ك إلى القت ل من غ ير قص د إلي ه‪ ،‬فك ل ألم يق ع على س بيل‬
‫المدافعة للظالم من غير أن يكون مقصودا فه و حس ن غ ير ق بيح وال يس تحق علي ه‬
‫العوض به‪ ،‬وال فرق بين أن تكون المدافعة من االنس ان عن نفس ه‪ ،‬وبين أن يك ون‬
‫عن غيره في هذا الباب والشرط في األمرين أن يكون الض رر غ ير مقص ود‪ ،‬وأن‬
‫يكون القصد كل ه إلى دف ع المك روه والمن ع من وق وع الض رر‪ .‬ف إن أدى ذل ك إلى‬
‫ضرر فهو غير قبيح)(‪)3‬‬
‫وق د رب ط الس بحاني في ال رد على المخطئ ة في ه ذا بين فع ل موس ى ‪‬‬
‫والواقع الذي كان يعيشه‪ ،‬ألن للواقع دورا كبيرا في التمييز بين الجريم ة وغيره ا‪،‬‬
‫فق ال‪( :‬قب ل توض يح ه ذه النق اط نلفت نظ ر الق ارئ الك ريم إلى بعض م ا ك انت‬
‫الفراعنة عليه من األعمال اإلجرامية‪ ،‬ويكفي في ذل ك قول ه س بحانه‪ ( :‬إِ َّن فِرْ َع ونَ‬
‫َض ِعفُ طَائِفَ ةً ِم ْنهُ ْم يُ َذبِّ ُح أَ ْبنَ ا َءهُ ْم ويَ ْس تَحْ ي‬
‫األرض َو َج َع َل أَ ْهلَهَا ِش يَعا ً يَ ْست ْ‬
‫ِ‬ ‫عَال فِي‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫نِسا َءهُ ْم إِنهُ َكانَ ِمنَ ال ُمف ِسدينَ ) (‪ ،)1‬ولم يكن فرعون قائما بهذه األعمال إال بعمالة‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬
‫القبطيين الذين كانوا أعض اده وأنص اره‪ ،‬وفي ظ ل ه ذه المناص رة ملكت الفراعن ة‬

‫‪ )(1‬انظر هذه األقوال وغيرها في‪ :‬سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (‪(64 /7‬‬
‫‪ )(2‬تنزيه األنبياء‪ ،‬ص ‪.101‬‬
‫‪ )(3‬تنزيه األنبياء‪ ،‬ص ‪.102‬‬

‫‪90‬‬
‫بني إسرائيل رجاالً ونسا ًء‪ ،‬فاستعبدوهم كما يعرب عن ذلك قول ه س بحانه‪َ ( :‬وتِ ْل كَ‬
‫َّدت بَنِي إِ ْس َرائِي َل )‪ ..‬وعلى ذل ك فقت ل واح د من أنص ار‬ ‫ي أَ ْن َعب َّ‬ ‫نِ ْع َم ةٌ تَ ُمنُّهَ ا َعلَ َّ‬
‫الطغم ة األثيم ة ال تي ذبحت مئ ات ب ل آالف األطف ال من ب ني إس رائيل واس تحيوا‬
‫نساءهم‪ ،‬ال يعد في محكمة العق ل والوج دان عمالً قبيح ا ً غ ير ص حيح‪ ،‬أض ف إلى‬
‫أن القبطي المقتول كان بصدد قتل اإلسرائيلي لو لم يناصره موس ى كم ا يحكي‬ ‫ذلك ّ‬
‫ي ر ّد فع ل ؛ ألنّ ه ك ان منتمي ا ً‬ ‫عنه قوله‪( :‬يقتتالن)‪ ،‬ولو قتله القبطي لم يكن لفعل ه أ ّ‬
‫للنظام السائد الذي لم يزل يستأصل بني إسرائيل ويريق دماءهم طوال سنين‪ ،‬فك ان‬
‫قتله في نظره من قبيل قتل اإلنسان الشريف أحد عبيده ألجل تخلّفه عن أمره)(‪)1‬‬
‫ومما شوه به السلفية موسى ‪ ‬مما يتعلق بغضبه في الح ق‪ ،‬م ا فس روا ب ه‬
‫ال بِ ْئ َس َما َخلَ ْفتُ ُم ونِي ِم ْن‬ ‫َض بَانَ أَ ِس فًا قَ َ‬ ‫وس ى إِلَى قَوْ ِم ِه غ ْ‬ ‫﴿ولَ َّما َر َج َع ُم َ‬ ‫قوله تعالى‪َ :‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫س أ ِخي ِه يَ ُج رُّ هُ إِلَ ْي ِه قَ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫بَ ْع ِدي أَ َع ِج ْلتُ ْم أ ْم َر َربِّ ُك ْم َوألقَى اأْل ل َو َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ال ا ْبنَ أ َّم إِ َّن‬ ‫اح َوأخَ َذ بِ َرأ ِ‬
‫ت بِ َي اأْل َ ْع دَا َء َواَل تَجْ َع ْلنِي َم َع ْالقَ وْ ِم‬ ‫َض َعفُونِي َو َك ادُوا يَ ْقتُلُ ونَنِي فَاَل تُ ْش ِم ْ‬ ‫ْالقَوْ َم ا ْست ْ‬
‫الظَّالِ ِمينَ (‪ )150‬قَ ا َل َربِّ ا ْغفِ رْ لِي وَأِل َ ِخي َوأَ ْد ِخ ْلنَ ا فِي َرحْ َمتِ كَ َوأَ ْنتَ أَرْ َح ُم‬
‫َّاح ِمينَ (‪[ ﴾)151‬األعراف‪]151 ،150 :‬‬ ‫الر ِ‬
‫فقد رووا أن موسى ‪ ‬ألقى األلواح بشدة إلى أن تكسر ستة أس باعها‪ ،‬وق د‬
‫فتكس رت ص ام‬ ‫ّ‬ ‫رووا عن ابن عباس‪ (:‬صام موسى أربعين يوما فل ّم ا ألقى األل واح‬
‫مثلها فر ّدت عليه وأعيدت له في لوحين مكان الذي انكسر)(‪)2‬‬
‫م ع أن ه ليس في النص المق دس م ا ي دل على أي ش يء من ذل ك‪ ،‬وق د أورد‬
‫الشريف المرتضى قول المخطئ ة في اس تداللهم به ذا على معاص ي األنبي اء عليهم‬
‫السالم‪ ،‬فقال ـ م وردا ش بهتهم بص يغة تس اؤل ـ (م ا وج ه قول ه تع الى حكاي ة عن‬
‫ال ا ْبنَ أُ َّم إِ َّن ْالقَ وْ َم‬
‫س أَ ِخي ِه يَ ُج رُّ هُ إِلَ ْي ِه قَ َ‬ ‫ْ‬
‫موس ى ‪َ ﴿ :‬وأَ ْلقَى اأْل َ ْل َوا َح َوأَخَ َذ بِ َرأ ِ‬
‫ت بِ َي اأْل َ ْعدَا َء َواَل تَجْ َع ْلنِي َم َع ْالقَوْ ِم الظَّالِ ِمينَ ﴾‬ ‫ا ْستَضْ َعفُونِي َو َكادُوا يَ ْقتُلُونَنِي فَاَل تُ ْش ِم ْ‬
‫[األع راف‪ ]150 :‬أوليس ظ اهر ه ذه اآلي ة ي دل على أن ه ارون ‪ ‬أح دث م ا‬
‫أوجب إيقاع ذلك الفعل من ه؟ وبع د فم ا االعت ذار لموس ى ‪ ‬من ذل ك وه و فع ل‬
‫السخفاء والمتسرعين وليس من عادة الحكماء المتماسكين؟)(‪)3‬‬
‫ثم أجاب على هذه الشبهة بقوله‪( :‬ليس فيما حك اه هللا تع الى من فع ل موس ى‬
‫وأخيه عليهما السالم ما يقتضي وقوع معصية وال قبيح من واح د منهم ا‪ ،‬وذل ك أن‬
‫موسى ‪ ‬أقبل وهو غضبان على قومه لم ا أح دثوا بع ده مس تعظما لفعلهم مفك را‬
‫منكرا ما كان منهم‪ ،‬فأخذ برأس أخيه وجره إليه كما يفعل االنسان بنفس ه مث ل ذل ك‬
‫عند الغضب وشدة الفكر‪ .‬أال ترى أن المفكر الغضبان ق د يعض على ش فيته ويفت ل‬
‫أصابعه ويقبض على لحيته؟ فأجرى موسى ‪ ‬أخ اه ه ارون مج رى نفس ه‪ ،‬ألن ه‬
‫كان أخاه وشريكه وحريمه‪ ..‬وأما قوله‪ :‬ال تأخذ بلحيتي وال برأسي‪ ،‬فليس يدل على‬

‫‪ )(1‬عصمة األنبياء للسبحاني‪ ،‬ص‪.156‬‬


‫‪ )(2‬الكشف والبيان عن تفسير القرآن (‪)287 /4‬‬
‫‪ )(3‬تنزيه األنبياء‪ ،‬ص‪.117‬‬

‫‪91‬‬
‫أنه وقع على س بيل االس تخفاف‪ ،‬ب ل ال يمتن ع أن يك ون ه ارون ‪ ‬خ اف من أن‬
‫يتوهم بنو إسرائيل لسوء ظنهم أنه منكر عليه معاتب له‪ ..‬وقال ق وم إن موس ى ‪‬‬
‫لما جرى من قومه من بعده ما جرى اشتد حزنه وجزع ه‪ ،‬ورأى من أخي ه ه ارون‬
‫‪ ‬مثل ما كان عليه من الجزع والقلق‪ ،‬أخذ برأسه إليه متوجعا له مسكنا ل ه‪ ،‬كم ا‬
‫يفعل أحدنا بمن تناله المصيبة العظيمة فيجزع لها ويقلق منها)(‪)1‬‬
‫ومما شوه به السلفية موسى ‪ ‬مم ا يتعل ق به ذا الج انب‪ ،‬م ا رووه تفس ير‬
‫ص رُونَهُ ِم ْن دُو ِن هَّللا ِ‬ ‫َار ِه اأْل َرْ َ‬
‫ض فَ َما َك انَ لَ هُ ِم ْن فِئَ ٍة يَ ْن ُ‬ ‫قوله تعالى‪﴿ :‬فَ َخ َس ْفنَا بِ ِه َوبِد ِ‬
‫َص ِرينَ ﴾ [القصص‪ ،]81 :‬فمع أن اآلي ة واض حة في أن هللا تع الى‬ ‫َو َما َكانَ ِمنَ ْال ُم ْنت ِ‬
‫هو الذي خسف بقارون‪ ،‬وهو الذي عاقبه ب ذلك إال أن الس لفية ي روون ب أن موس ى‬
‫‪ ‬هو الذي فعل ذلك‪ ،‬وأنه كان قاسيا في عقابة لقارون‪ ،‬وأن هللا عاتب ه على تل ك‬
‫القسوة‪.‬‬
‫فقد رووا عن عن ابن عب اس‪ ،‬ق ال‪( :‬لم ا ن زلت الزك اة أتى ق ارون موس ى‪،‬‬
‫فصالحه على كل ألف دينار دينارا‪ ،‬وكل ألف شيء ش يئا‪ ،‬أو ق ال‪ :‬وك ل أل ف ش اة‬
‫شاة [الطبري يشك] ق ال‪ :‬ثم أتى بيت ه فحس به فوج ده كث يرا‪ ،‬فجم ع ب ني إس رائيل‪،‬‬
‫فقال‪ :‬يا بني إسرائيل‪ ،‬إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه‪ ،‬وه و اآلن يري د أن‬
‫يأخذ من أموالكم‪ ،‬فقالوا‪ :‬أنت كبيرنا وأنت سيدنا‪ ،‬فمرنا بما شئت‪ ،‬فق ال‪ :‬آم ركم أن‬
‫تجيئوا بفالنة البغي‪ ،‬فتجعلوا لها جعال فتقذفه بنفسها‪ ،‬فدعوها فجع ل له ا جعال على‬
‫أن تقذفه بنفسها‪ ،‬ثم أتى موسى‪ ،‬فقال لموسى‪ :‬إن بني إسرائيل قد اجتمع وا لت أمرهم‬
‫ولتنهاهم‪ ،‬فخرج إليهم وهم في براح من األرض‪ ،‬فقال‪ :‬يا ب ني إس رائيل من س رق‬
‫قطعنا يده‪ ،‬ومن اف ترى جل دناه‪ ،‬ومن زنى وليس ل ه ام رأة جل دناه مائ ة‪ ،‬ومن زنى‬
‫وله ام رأة جل دناه ح تى يم وت‪ ،‬أو رجمن اه ح تى يم وت [الط بري يش ك] فق ال ل ه‬
‫قارون‪ :‬وإن كنت أنت؟ قال‪ :‬وإن كنت أن ا‪ ،‬ق ال‪ :‬ف إن ب ني إس رائيل يزعم ون أن ك‬
‫فجرت بفالنة‪ .‬قال‪ :‬ادعوها‪ ،‬فإن قالت‪ ،‬فهو كما قالت; فلما جاءت ق ال له ا موس ى‪:‬‬
‫يا فالنة‪ ،‬قالت‪ :‬يا لبيك‪ ،‬قال‪ :‬أنا فعلت بك ما يقول ه ؤالء؟ ق الت‪ :‬ال وك ذبوا‪ ،‬ولكن‬
‫جعلوا لي جعال على أن أقذفك بنفسي‪ ،‬فوثب‪ ،‬فسجد وهو بينهم‪ ،‬فأوحى هللا إليه‪ :‬مر‬
‫األرض بما شئت‪ ،‬ق ال‪ :‬ي ا أرض خ ذيهم! فأخ ذتهم إلى أق دامهم‪ .‬ثم ق ال‪ :‬ي ا أرض‬
‫خذيهم‪ ،‬فأخذتهم إلى ركبهم‪ .‬ثم قال‪ :‬يا أرض خذيهم‪ ،‬فأخذتهم إلى حقيهم‪ ،‬ثم قال‪ :‬يا‬
‫أرض خذيهم‪ ،‬فأخ ذتهم إلى أعن اقهم؛ ق ال‪ :‬فجعل وا يقول ون‪ :‬ي ا موس ى ي ا موس ى‪،‬‬
‫ويتضرعون إليه‪ .‬قال‪ :‬يا أرض خذيهم‪ ،‬فانطبقت عليهم‪ ،‬فأوحى هللا إليه‪ :‬يا موسى‪،‬‬
‫يقول لك عبادي‪ :‬يا موسى‪ ،‬يا موس ى فال ت رحمهم؟ أم ا ل و إي اي دع وا‪ ،‬لوج دوني‬
‫قريبا مجيبا)(‪)2‬‬
‫ومما شوه به السلفية موسى ‪ ‬مم ا يتعل ق به ذا الج انب م ا رووه عن عن‬

‫‪ )(1‬تنزيه األنبياء‪ ،‬ص‪.118‬‬


‫‪ )(2‬تفسير الطبري (‪)629 /19‬‬

‫‪92‬‬
‫أبي هريرة أن رسول هللا ‪ ‬ق ال‪ ( :‬ن زل ن بي من األنبي اء(‪ )1‬تحت ش جرة فلد َغ ْت هُ‬
‫نملةٌ‪ ،‬فأمر بجهازه فأُخرج من تحتها‪ ،‬ثم أمر ببيتها فأُحرق بالنار‪ ،‬ف أوحى هللا إلي ه‪:‬‬
‫فهال نمل ةٌ واح دة؟)(‪ )2‬وفي رواي ة لمس لم‪( :‬ف أوحى هللا إلي ه أفي أن قرص تك نمل ة‬
‫أهلكت أمة من األمم تسبح؟)‬
‫وه ذه رواي ة خط يرة ال تتواف ق أب دا م ع رحم ة األنبي اء ولطفهم وأخالقهم‬
‫العالية‪ ..‬وقد ذكر القرآن الكريم ذل ك التواض ع ال ذي تواض ع ب ه س ليمان ‪ ‬أم ام‬
‫النملة‪ ،‬وما كان لموسى ‪ ‬أن يختلف عن سليمان ‪ ‬في ذلك‪.‬‬
‫وقد ورد في الحديث عن عبد هللا بن مسعود قال‪ :‬كن ا م ع رس ول هللا ‪ ‬في‬
‫سفر‪ ،‬فانطلق لحاجته‪ ،‬فرأينا حمرة معها فرخان‪ ،‬فأخذنا فرخيه ا‪ ،‬فج اءت الحم رة‪،‬‬
‫فجعلت تع رش‪ ،‬فلم ا ج اء رس ول هللا ‪ ‬ق ال‪ :‬من فج ع ه ذه بول دها؟ ردوا ول دها‬
‫إليها‪ ،‬ورأى قرية نمل قد أحرقناها‪ ،‬فقال‪ :‬من أح رق ه ذه؟ قلن ا‪ :‬نحن‪ ،‬ق ال‪ :‬إن ه ال‬
‫ينبغي أن يعذب بعذاب النار إال رب النار(‪.)3‬‬
‫هؤالء هم األنبياء كما يصورهم القرآن الكريم‪ ،‬وكما تصورهم السنة النبوية‪،‬‬
‫ال كما يصورهم السلفية‪ ،‬وسلف السلفية‪ ،‬وما كان موسى ‪ ‬ليختل ف عن إخوان ه‬
‫من األنبياء عليهم الصالة والسالم في ذلك وغيره‪.‬‬
‫سليمان ‪:‬‬
‫خالف ا للص ورة القرآني ة ال تي تص ور س ليمان ‪ ‬بص ورة الن بي األواب‬
‫الشكور المتواضع نرى التصوير السلفي لهذا النبي الكريم‪ ،‬والمتناقض تماما مع ما‬
‫ورد في القرآن الكريم‪ ،‬والمتفق ـ في نفس ال وقت ـ م ع الرواي ة اإلس رائيلية ال تي‬
‫تصور سليمان ‪ ‬ملكا ال نبيا‪.‬‬
‫ومن تلك الروايات التي يوردونها عن ه ‪ ‬م ا رووه عن ابن عب اس‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫كان سليمان ابن داود يوضع له ستمائه كرس ي‪ ،‬ثم يجيء أش راف اإلنس فيجلس ون‬
‫مما يلي ه‪ ،‬ثم يجيء أش راف الجن فيجلس ون مم ا يلي اإلنس‪ ،‬ق ال‪ :‬ثم ي دعو الط ير‬
‫فتظلهم‪ ،‬ثم يدعو الريح فتحملهم‪ ،‬قال‪ :‬فتسير في الغداة الواحدة مسيرة شهر)(‪)4‬‬
‫وهذا مخالف لما ورد في القرآن الكريم من تقريب األنبياء للمستضعفين أكثر‬
‫من تقريبهم ألعيان الناس ووجهائهم كما تنص الرواية‪.‬‬
‫وهو مخالف كذلك لما ورد في القرآن الكريم من النهي عن الترف‪ ..‬فما ك ان‬
‫سليمان ‪ ‬ليس تخدم م ا أعط اه هللا من طاق ات في س بيل تحقي ق رغب ات النف وس‬
‫المترفة‪.‬‬
‫وليت روايات السلفية توقفت عند هذا الحد‪ ،‬ب ل إنه ا ت روي أن س ليمان ‪‬‬
‫‪ )(1‬روى الحكيم الترم ذي في الن وادر أن ه موس ى ‪ ‬وب ذلك ج زم الكالب اذي في مع اني األخب ار والقرط بي في‬
‫التفسير‪ ،‬انظر‪ :‬فتح الباري البن حجر (‪)358 /6‬‬
‫‪ )(2‬أحمد (‪ )2/402‬والبخاري (‪ )4/75‬ومسلم (‪)7/43‬‬
‫‪ )(3‬أحمد (‪ )3763( )1/396‬وفي (‪ )4018( )1/423‬والبخاري في «األدب المفرد» ( ‪ )382‬وأبو داود (‪ 2675‬و‬
‫‪)5268‬‬
‫‪ )(4‬تفسير الطبري (‪)441 /19‬‬

‫‪93‬‬
‫ك ان يغ زو ك ل حين‪ ..‬ال لش يء إال ألج ل الغ زو والغنيم ة‪ ..‬ومن الرواي ات ال تي‬
‫أوردوها في هذا‪ ،‬والتي تصور سليمان ‪ ‬بصورة المس تبد القاس ي‪ ،‬م ا ب وب ل ه‬
‫الطبري بقوله‪[ :‬ذكر غزوته أبا زوجته جرادة وخبر الشيطان الذي أخذ خاتمه](‪)1‬‬
‫وقد ذكرنا سابقا قصته في ذلك‪ ..‬وهي باإلضافة إلى م ا ذكرن اه من تش ويهها‬
‫له ‪ ‬في ذلك الجانب‪ ،‬فإنها تسيء إليه أيضا في هذا الجانب‪ ..‬ذلك أنهم يصورون‬
‫أنه تزوج ابنة الملك الذي قتله‪ ،‬ثم يعاتبون تغيرها علي ه رغم حب ه الش ديد له ا‪ ،‬فق د‬
‫ورد في الرواية‪( :‬فقتل ملكها واستفاء ما فيها‪ ،‬وأصاب فيما أصاب ابنة لذلك المل ك‬
‫لم ير مثلها حسنا وجماال‪ ،‬فاصطفاها لنفسه‪ ،‬ودعاها إلى اإلسالم فأسلمت على جفاء‬
‫منها وقلة ثقة‪ ،‬وأحبها حبا لم يحبه شيئا من نسائه‪ ،‬ووقعت نفسه عليها‪ ،‬فك انت على‬
‫منزلتها عنده ال يذهب حزنها‪ ،‬وال يرقأ دمعها‪ ،‬فقال لها‪ ،‬لما رأى ما بها وه و يش ق‬
‫عليه من ذلك ما يرى‪ :‬ويحك‪ ،‬ما هذا الحزن الذي ال يذهب‪ ،‬وال دمع ال ذي ال يرق أ!‬
‫قالت‪ :‬إن أبي أذكره وأذكر ملكه وما كان فيه وما أصابه‪ ،‬فيحزن ني ذل ك‪ ،‬ق ال‪ :‬فق د‬
‫اب د ل ك هللا ب ه ملك ا ه و أعظم من ملك ه‪ ،‬وس لطانا ه و أعظم من س لطانه‪ ،‬وه داك‬
‫لإلسالم وهو خير من ذلك كله) (‪)2‬‬
‫وه ذا الج واب ال ذي أوردوه على لس ان ‪ ‬عجيب‪ ..‬فه ل هن اك من ي ؤثر‬
‫الس طان والج اه على الوال د‪ ..‬وه ل يمكن ألي م ال أو ج اه أو س لطان أن يع وض‬
‫المرأة عن أبيها؟‬
‫﴿وتَفَقَّ َد الطَّ ْي َر‬ ‫وهم ال يكتفون كذلك بهذا التشويه‪ ..‬ب ل يفس رون قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫ال َما لِ َي اَل أَ َرى ْالهُ ْدهُ َد أَ ْم َكانَ ِمنَ ْالغَائِبِينَ (‪ )20‬أَل ُ َع ِّذبَنَّهُ َع َذابًا َش ِديدًا أَوْ أَل َ ْذبَ َحنَّهُ‬ ‫فَقَ َ‬
‫ين (‪[ ﴾)21‬النمل‪ ،]21 ،20 :‬والظ اهر فيه ا أن س ليمان ‪‬‬ ‫ان ُمبِ ٍ‬ ‫ْ‬
‫أَوْ لَيَأتِيَنِّي بِس ُْلطَ ٍ‬
‫قال ذلك بقصد التهديد‪ ..‬لكن سلف السلفية حولوا منها قصة طويلة‪..‬‬
‫فقد رووا عن ابن عباس‪ ،‬في قوله‪( :‬أَل ُ َع ِّذبَنَّهُ َع َذابًا َش ِديدًا) ق ال‪ :‬نت ف ريش ه‪،‬‬
‫ورووا عنه أن عذابه‪ :‬نتفه وتشميسه‪ ،‬ورووا عن مجاهد‪( :‬نت ف ريش الهده د كل ه‪،‬‬
‫فال يغفو سنة)‪ ،‬ورووا عن ابن زيد‪ :‬قيل لبعض أهل العلم‪ :‬ه ذا ال ذبح‪ ،‬فم ا الع ذاب‬
‫الشديد؟‪ .‬قال‪ :‬نتف ريشه بتركه بضعة تنزو(‪.)3‬‬
‫وبذلك استطاع السلفية أن يشرعنوا تعذيب الحيوان ات‪ ،‬ويجعل وا من س ليمان‬
‫‪ ‬قدوتهم في ذلك‪ ..‬كما جعلوا من موسى ‪ ‬قدوتهم في حرق النمل‪.‬‬
‫َ‬
‫َاوو َد ُس ل ْي َمانَ‬‫﴿و َو َه ْب َن ا ِل د ُ‬
‫ولم يكتفوا بذلك أيضا‪ ،‬بل راحوا يفسرون قوله تعالى‪َ :‬‬
‫ال ِإ ِّني َأحْ َببْتُ‬ ‫َات ْال ِج َي ا ُد ( ‪ )31‬فق َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ض َع َل ْي ِه ِب ْال َع ِش ِّي َّ‬
‫الص ا ِفن ُ‬ ‫ِنعْ َم ْال َع ْب ُد ِإنَّهُ َأ َّوابٌ (‪ِ )30‬إ ْذ ع ُِر َ‬
‫وق‬
‫الس ِ‬ ‫ط ِف َق َم ْس حًا ِب ُّ‬ ‫ب (‪ )32‬رُ ُّدو َه ا َع َل َّي َف َ‬ ‫ت ِب ْال ِح َج ا ِ‬ ‫ار ْ‬‫حُبَّ ْالخَ ي ِْر ع َْن ِذ ْك ِر َربِّي َحتَّى َت َو َ‬
‫َاق ﴾ [ص‪ ]33 - 30 :‬بما يتناسب مع الغلظة والخشونة التي صوروا بها األنبياء‬ ‫َواأْل َ ْعن ِ‬
‫عليهم السالم‪.‬‬

‫‪ )(1‬تاريخ الطبري (‪)496 /1‬‬


‫‪ )(2‬تاريخ الطبري (‪)496 /1‬‬
‫‪ )(3‬انظر الروايات التي أوردوها في ذلك في‪ :‬تفسير الطبري (‪)443 /19‬‬

‫‪94‬‬
‫فقد ذكروا في تفسير اآليات الكريمة أن سليمان ‪ ‬ع رض علي ه الخي ل الجي اد‬
‫في وقت العصر‪ ،‬فألهاه هذا العرض عن ص الة العص ر‪ ،‬فلم ا اق ترب المغ رب غض ب‬
‫وطلب من هللا أن ي رد الش مس بع د أن غ ربت ليص لي العص ر ف ردت‪ ..‬وكص ورة من‬
‫غضبه على الخيل ألنها كانت الس بب في ف وات العص ر وألهت ه عن الص الة ق ام وقط ع‬
‫سوقها وأعناقها مسحاً بالسيف(‪.)1‬‬
‫ومن العجيب أن الط بري ـ وخالف ا لعادت ه ـ رد ه ذا الق ول على ال رغم من أن‬
‫القائلين به من أعالم السلف‪ ،‬وانتصر لرواية البن عباس يقول فيها‪( :‬جعل يمسح أعراف‬
‫الخيل وعراقيبها‪ :‬حبا لها)‪ ،‬والتي علق عليها بقول ه‪( :‬وه ذا الق ول ال ذي ذكرن اه عن ابن‬
‫عباس أشبه بتأوي ل اآلي ة‪ ،‬ألن ن بي هللا ‪ ‬لم يكن إن ش اء هللا ليع ذب حيوان ا بالعرقب ة‪،‬‬
‫ويهلك ماال من ماله بغير سبب‪ ،‬سوى أنه اشتغل عن صالته ب النطر إليه ا‪ ،‬وال ذنب له ا‬
‫باشتغاله بالنظر إليها)(‪)2‬‬
‫لكن هذه الحسنة‪ ،‬أو هذا الموقف الطيب للطبري لم يعجب السلفية‪ ،‬فق د أورده ابن‬
‫كثير ورد عليه بقوله‪( :‬وهذا القول اختاره ابن جرير‪ ،‬واستدل له بأنه لم يكن سليمان ‪‬‬
‫ليعذب حيوانا بالعرقب ة‪ ،‬ويهل ك م اال من مال ه بال س بب س وى أن ه اش تغل عن ص الته‬
‫بالنظر إليها وال ذنب لها‪ ..‬وهذا ال ذي رجح ب ه ابن جري ر في ه نظ ر؛ ألن ه ق د يك ون في‬
‫شرعهم جواز مثل هذا‪ ،‬وال سيما إذا كان غضبا هلل عز وجل بس بب أن ه ش غل به ا ح تى‬
‫خرج وقت الصالة؛ ولهذا لما خرج عنها هلل تعالى عوض ه هللا تع الى م ا ه و خ ير منه ا‬
‫وهي الريح التي تجري ب أمره رخ اء حيث أص اب غ دوها ش هر ورواحه ا ش هر‪ ،‬فه ذا‬
‫أسرع وخير من الخيل) (‪)3‬‬
‫هذه الرؤية السلفية‪ ..‬أما الرؤية التنزيهية لألنبي اء عليهم الس الم ال تي يب دعها‬
‫السلفية‪ ،‬فقد فسرت اآلية على وف ق مقتض ى اللغ ة تفس يرا جميال ينطل ق من كم ال‬
‫الرس ل عليهم الس الم‪ ،‬وي دل على مك انتهم الرفيع ة‪ ،‬فق د ق ال الس بحاني في اآلي ة‬
‫الكريمة بعد أن أورد الوجوه النحوي ة في ك ل كلم ة منه ا‪( :‬وتق دير الجمل ة‪ :‬أحببت‬
‫الخير حبّا ً ناشئا ً عن ذكر هللا سبحانه وأم ره‪ ،‬حيث أم ر عب اده المخلص ين باإلع داد‬
‫للجهاد ومكافحة الشرك وقل ع الفس اد بالس يف والخي ل ؛ وألج ل ذل ك قمت بع رض‬
‫الخيل‪ ،‬كل ذلك امتثاالً ألم ره س بحانه ال إجاب ة ل دعوة الغرائ ز ال تي ال يخل و منه ا‬
‫ت ِمنَ النِّ َس ا ِء َو ْالبَنِينَ‬ ‫الش هَ َوا ِ‬‫اس حُبُّ َّ‬ ‫إنسان كما أشار إليه سبحانه بقول ه‪ُ ﴿ :‬زيِّنَ لِلنَّ ِ‬
‫ث َذلِ كَ‬ ‫ض ِة َو ْالخَ ْي ِل ْال ُم َس َّو َم ِة َواأْل َ ْن َع ِام َو ْال َح رْ ِ‬‫ب َو ْالفِ َّ‬‫ير ْال ُمقَ ْنطَ َر ِة ِمنَ ال َّذهَ ِ‬ ‫َاط ِ‬‫َو ْالقَن ِ‬
‫ب ﴾ [آل عمران‪)4() ]14 :‬‬ ‫ع ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َوهَّللا ُ ِع ْن َدهُ ُحسْنُ ْال َمآ ِ‬
‫َمتَا ُ‬
‫اق﴾‬ ‫ْ‬
‫وق َوا عنَ ِ‬‫َ‬ ‫أْل‬ ‫الس ِ‬ ‫ق َم ْس حًا بِ ُّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وانطالقا من هذا المعنى فسر قوله تعالى‪﴿ :‬فطفِ َ‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫[ص‪( ]33 :‬أي شرع بمسح أعراف خيله وعراقيبها بي ده تق ديرا لركابه ا ومربّيه ا‬

‫‪ )(1‬تفسير الطبري (‪.)195 /21‬‬


‫‪ )(2‬تفسير الطبري (‪.)196 /21‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير‪.7/65 :‬‬
‫‪ )(4‬عصمة األنبياء في القرآن الكريم‪ ،‬ص‪.175‬‬

‫‪95‬‬
‫الذين قاموا بواجبهم بإعداد وسائل الجهاد)‬
‫ثم قرب ما حصل بطريقة عصرية‪ ،‬فقال‪( :‬إلى هنا اتضح مفاد مفردات اآلية‬
‫وجملها‪ ،‬وعلى هذا تكون اآليات هادفة إلى تص وير ع رض عس كري ق ام ب ه أح د‬
‫إن سليمان النبي الذي‬ ‫األنبياء ذوي السلطة والقدرة في أيّام ملكه وقدرته‪ ،‬وحاصله‪ّ :‬‬
‫أشار القرآن إلى ملك ه وقدرت ه وس طوته وس يطرته على جن وده من اإلنس والجن‪،‬‬
‫خص ها‬ ‫ّ‬ ‫وتعرّفه على منطق الطير‪ ،‬إلى غير ذلك من صنوف قدرته وعظمت ه ال تي‬
‫به بين األنبياء ق ام في عش يّة ي وم بع رض عس كري‪ ،‬وق د ركب جن وده من الخي ل‬
‫أن غ ابت عن بص ره‪ ،‬ف أمر أص حابه‬ ‫الس راع‪ ،‬فأخ ذت ت ركض من بين يدي ه إلى ْ‬
‫بر ّده ا علي ه‪ ،‬حتّى إذا م ا وص لت إلي ه ق ام تق ديراً لجه ودهم بمس ح أعن اق الخي ل‬
‫وعراقيبها‪ ،‬ولم يكن قيامه بهذا العمل صادراً عنه لجهة إظه ار الق درة والس طوة أو‬
‫للبط ر والش هوة‪ ،‬ب ل إطاع ة ألم ره س بحانه وذك ره ح تى يق ف المو ّح دون على‬
‫وظائفهم‪ ،‬ويستع ّدوا للكفاح والنضال م ا تم ّكن وا‪ ،‬ويهيّئ وا األدوات الالزم ة في ه ذا‬
‫المجال‪ ،‬وهذا هو الذي تهدف إليه اآليات وينطبق عليها انطباق ا ً واض حاً‪ ،‬فهلّم معي‬
‫ندرس المعنى الذي فُرض على اآليات‪ ،‬وهي بعيدة عن تح ّمله وبريئة منه)(‪)1‬‬
‫يونس ‪:‬‬
‫وهو من األنبياء الكرام الذين ذكروا في القرآن الكريم في عداد الرسل الكرام‬
‫ُس اًل ُمبَ ِّش ِرينَ َو ُم ْن ِذ ِرينَ لِئَاَّل يَ ُك ونَ‬ ‫الذين قيل فيهم بعد ذكرهم في سورة األنع ام‪﴿ :‬ر ُ‬
‫َزي ًزا َح ِكي ًما ﴾ [النساء‪]165 :‬‬ ‫اس َعلَى هَّللا ِ ُح َّجةٌ بَ ْع َد الرُّ س ُِل َو َكانَ هَّللا ُ ع ِ‬
‫لِلنَّ ِ‬
‫وهي شهادة من هللا تعالى على أداء ه ذا الرس ول الك ريم لوظيفت ه العظيم ة‪،‬‬
‫باإلضافة إلى داللتها على القرب العظيم من هللا‪ ،‬والذي يتحلى به كل األنبياء عليهم‬
‫الصالة والسالم بدون استثناء‪.‬‬
‫وقد ذكر هللا تعالى أيضا أن قومه من األقوام القالئل الذين آمن وا بع د أن ك اد‬
‫َت فَنَفَ َعهَ ا إِي َمانُهَ ا إِاَّل قَ وْ َم‬‫َت قَرْ يَ ةٌ آ َمن ْ‬‫العذاب ينزل بهم‪ ،‬كما قال تع الى‪﴿ :‬فَلَ وْ اَل َك ان ْ‬
‫ي فِي ْال َحيَ ا ِة ال ُّد ْنيَا َو َمتَّ ْعنَ اهُ ْم إِلَى ِحي ٍن ﴾‬ ‫اب ْال ِخ ْز ِ‬‫س لَ َّما آ َمنُ وا َك َش ْفنَا َع ْنهُ ْم َع َذ َ‬ ‫يُ ونُ َ‬
‫[يونس‪]98 :‬‬
‫وقد أخبر هللا تعالى باإلضافة إلى ذلك أنه‪ ،‬وبعد أن أدى الدور الدعوي ال ذي‬
‫كلف به كسائر الرسل‪ ،‬خرج من بين قومه غاضبا من إعراضهم عن هللا‪ ،‬ظانا أن ه‬
‫ق د أدى م ا علي ه من واجب رس الي‪ ،‬لكن هللا ابتالة بع د ركوب ه البح ر ب أن يلتهم ه‬
‫َاض بًا‬‫َب ُمغ ِ‬ ‫ون إِ ْذ َذه َ‬ ‫الحوت‪ ،‬وال ينج و من ه إال ب ذكر هللا كم ا ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬و َذا النُّ ِ‬
‫ت ِمنَ‬ ‫ك إِنِّي ُك ْن ُ‬ ‫ت أَ ْن اَل إِلَ هَ إِاَّل أَ ْنتَ ُس ب َْحانَ َ‬ ‫فَظَ َّن أَ ْن لَ ْن نَ ْق ِد َر َعلَ ْي ِه فَنَ ادَى فِي ُّ‬
‫الظلُ َم ا ِ‬
‫اس تَ َج ْبنَا لَ هُ َونَ َّج ْينَ اهُ ِمنَ ْال َغ ِّم َو َك َذلِكَ نُ ْن ِجي ْال ُم ْؤ ِمنِينَ (‪﴾)88‬‬ ‫الظَّالِ ِمينَ (‪ )87‬فَ ْ‬
‫ك‬ ‫ق إِلَى ْالفُ ْل ِ‬ ‫س لَ ِمنَ ْال ُمرْ َس لِينَ (‪ )139‬إِ ْذ أَبَ َ‬ ‫[األنبي اء‪ ،]88 ،87 :‬وق ال‪َ ﴿:‬وإِ َّن يُ ونُ َ‬
‫وت َوهُ َو ُملِي ٌم (‬ ‫ض ينَ (‪ )141‬فَ ْالتَقَ َم هُ ْال ُح ُ‬ ‫ْال َم ْشحُو ِن (‪ )140‬فَ َساهَ َم فَ َك انَ ِمنَ ْال ُم ْد َح ِ‬
‫‪ )(1‬عصمة األنبياء في القرآن الكريم‪ ،‬ص‪ ،175‬وقد ذكر أن هذا التفسير اختاره السيد المرتضى في تنزيه األنبي اء‪:‬‬
‫‪ 95‬ـ ‪ ،97‬والرازي في مفاتيح الغيب‪ ،7/136 :‬والمجلسي في البحار‪ 14/103 :‬ـ ‪.104‬‬

‫‪96‬‬
‫طنِ ِه إِلَى يَ وْ ِم يُ ْب َعثُ ونَ (‪)144‬‬ ‫ث فِي بَ ْ‬ ‫‪ )142‬فَلَوْ اَل أَنَّهُ َكانَ ِمنَ ْال ُم َس بِّ ِحينَ (‪ )143‬لَلَبِ َ‬
‫ين (‪َ )146‬وأَرْ َس ْلنَاهُ‬ ‫فَنَبَ ْذنَاهُ بِ ْال َع َرا ِء َوهُ َو َس قِي ٌم (‪َ )145‬وأَ ْنبَ ْتنَ ا َعلَ ْي ِه َش َج َرةً ِم ْن يَ ْق ِط ٍ‬
‫ين (‪[ ﴾)148‬الص افات‪:‬‬ ‫ف أَوْ يَ ِزي ُدونَ (‪ )147‬فَ آ َمنُوا فَ َمتَّ ْعنَ اهُ ْم إِلَى ِح ٍ‬ ‫إِلَى ِمائَ ِة أَ ْل ٍ‬
‫‪]148 - 139‬‬
‫وذكر هللا تعالى لهذا الموقف العظيم ال ذي وقف ه ي ونس ‪ ‬دلي ل على م دى‬
‫تعمق اإليمان في قلوب األنبياء عليهم الصالة‪ ..‬إذ أن ه وفي تل ك الحال ة العظيم ة لم‬
‫ينس أن يذكر هللا ويس بحه ويس تغفره إلى الدرج ة ال تي اس تحق به ا أن يحص ل ل ه‬
‫خارق اإلنجاء‪.‬‬
‫وهذا هو موضع اله دي في ه ذه القص ة القرآني ة‪ ..‬وهي م ا أش ار إلي ه قول ه‬
‫تعالى‪﴿ :‬فَا ْستَ َج ْبنَا لَهُ َونَ َّج ْينَاهُ ِمنَ ْال َغ ِّم َو َك َذلِكَ نُ ْن ِجي ْال ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ [األنبياء‪]88 :‬‬
‫خاصة وأن هذه اآليات الكريمة قرنت باآليات التي ت بين اس تجابة هللا لرس له‬
‫﴿و َز َك ِريَّا إِ ْذ نَادَى َربَّهُ َربِّ اَل تَ َذرْ نِي فَرْ دًا َوأَ ْنتَ‬ ‫وأنبيائه‪ ،‬فقد جاء بعدها قوله تعالى‪َ :‬‬
‫ارثِينَ (‪ )89‬فَا ْستَ َج ْبنَا لَهُ َو َوهَ ْبنَا لَهُ يَحْ يَى َوأَصْ لَحْ نَا لَهُ زَ وْ َجهُ﴾ [األنبياء‪،89 :‬‬ ‫خَ ْي ُر ْال َو ِ‬
‫‪]90‬‬
‫الض رُّ َوأَ ْنتَ أَرْ َح ُم‬ ‫ُّوب إِ ْذ نَ ادَى َربَّهُ أَنِّي َم َّس نِ َي ُّ‬ ‫وجاء قبلها قوله تع الى‪َ ﴿ :‬وأَي َ‬
‫َّاح ِمينَ (‪ )83‬فَا ْست ََج ْبنَا لَهُ فَ َك َش ْفنَا َما بِ ِه ِم ْن ضُرٍّ َوآتَ ْينَ اهُ أَ ْهلَ هُ َو ِم ْثلَهُ ْم َم َعهُ ْم َرحْ َم ةً‬ ‫الر ِ‬
‫يس َو َذا ْال ِك ْف ِل ُكلٌّ ِمنَ الصَّابِ ِرينَ (‬ ‫يل َوإِ ْد ِر َ‬ ‫ِم ْن ِع ْن ِدنَا َو ِذ ْك َرى لِ ْل َعابِ ِدينَ (‪َ )84‬وإِ ْس َم ِ‬
‫اع َ‬
‫‪َ )85‬وأَدْخَ ْلنَاهُ ْم فِي َرحْ َمتِنَا إِنَّهُ ْم ِمنَ الصَّالِ ِحينَ ﴾ [األنبياء‪]86 - 83 :‬‬
‫وختمت جميع ا بقول ه تع الى يص ف ه ؤالء األنبي اء جميع ا‪﴿ :‬إِنَّهُ ْم َك انُوا‬
‫خَاش ِعينَ ﴾ [األنبياء‪]90 :‬‬ ‫ت َويَ ْدعُونَنَا َر َغبًا َو َرهَبًا َو َكانُوا لَنَا ِ‬ ‫ار ُعونَ فِي ْالخَ ْي َرا ِ‬ ‫يُ َس ِ‬
‫ه ذه هي الص ورة القرآني ة لي ونس ‪ ..‬لكن الس لفية لم ينظ روا إلى تل ك‬
‫اآلي ات جميع ا‪ ،‬وراح وا إلى آي ات متش ابهات‪ ،‬يطبقونه ا وح دها على ي ونس ‪‬‬
‫لينحرفوا بصورته كما انحرفوا بصور سائر األنبياء عليهم السالم‪ ،‬وه ذه اآلي ة هي‬
‫ت إِ ْذ نَ ادَى َوهُ َو َم ْكظُ و ٌم (‬ ‫ب ْال ُح و ِ‬ ‫صا ِح ِ‬ ‫قوله تعالى‪﴿ :‬فَاصْ بِرْ لِ ُح ْك ِم َربِّكَ َواَل تَ ُك ْن َك َ‬
‫‪ )48‬لَوْ اَل أَ ْن تَدَا َر َكهُ نِ ْع َمةٌ ِم ْن َربِّ ِه لَنُبِ َذ بِ ْال َع َرا ِء َوه َُو َم ْذ ُمو ٌم (‪ )49‬فَاجْ تَبَاهُ َربُّهُ فَ َج َعلَهُ‬
‫ِمنَ الصَّالِ ِحينَ ﴾ [القلم‪]50 - 48 :‬‬
‫ومن الروايات التي صوروا بها الحادثة ما رووه عن ابن عباس‪ ،‬قال‪( :‬بعث ه‬
‫هللا‪ ،‬يعني يونس إلى أهل قريته‪ ،‬فردوا عليه ما جاءهم به وامتنعوا من ه‪ ،‬فلم ا فعل وا‬
‫ذلك أوحى هللا إلي ه‪ :‬إني مرس ل عليهم الع ذاب في ي وم ك ذا وك ذا‪ ،‬ف اخرج من بين‬
‫أظهرهم‪ ،‬فأعلم قومه الذي وعده هللا من عذابه إياهم‪ ،‬فقالوا‪ :‬ارمقوه‪ ،‬فإن خ رج من‬
‫بين أظهركم فهو وهللا كائن ما وع دكم‪ ،‬فلم ا ك انت الليل ة ال تي وع دوا بالع ذاب في‬
‫صبحها أدلج ورآه القوم‪ ،‬فخرجوا من القرية إلى براز من أرضهم‪ ،‬وفرقوا بين ك ل‬
‫دابة وولدها‪ ،‬ثم عجوا إلى هللا‪ ،‬فاستقالوه‪ ،‬فأقالهم‪ ،‬وتنظ ر ي ونس الخ بر عن القري ة‬
‫وأهلها‪ ،‬حتى مر به مار‪ ،‬فقال‪ :‬ما فعل أهل القرية؟ فقال‪ :‬فعل وا أن ن بيهم خ رج من‬
‫بين أظهرهم‪ ،‬عرفوا أنه ص دقهم م ا وع دهم من الع ذاب‪ ،‬فخرج وا من ق ريتهم إلى‬

‫‪97‬‬
‫براز من األرض‪ ،‬ثم فرقوا بين كل ذات ولد وول دها‪ ،‬وعج وا إلى هللا وت ابوا إلي ه‪،‬‬
‫فقبل منهم‪ ،‬وأخر عنهم العذاب‪ ،‬قال‪ :‬فقال يونس عند ذل ك وغض ب‪ :‬وهللا ال أرج ع‬
‫إليهم كذابا أبدا‪ ،‬وعدتهم العذاب في يوم ثم رد عنهم‪ ،‬ومضى على وجه ه مغاض با)‬
‫(‪)1‬‬
‫وهذا حديث خطير‪ ،‬فهو يصور يونس ‪ ‬بصورة الغاض ب من رب ه‪ ،‬ألن ه‬
‫لم ينفذ العذاب عليهم‪ ..‬ويصورونه فوق ذلك بصورة الغلي ظ القاس ي ال ذي لم يف رح‬
‫بإيمان قومه‪ ،‬بل يصورونه حزينا ألجل إيمانهم‪.‬‬
‫بل ورد في كثير من رواياتهم أن غضب يونس كان من هللا‪ ..‬والعجب أن هللا‬
‫يختار نبيا يغضب علي ه‪ ،‬وممن ق ال ب ذلك كم ا ي روي أعالم الس لفية س عيد بن أبي‬
‫الحسن‪ ،‬فقد قال ـ يحكي عن سلفه ـ‪( :‬بلغ ني أن ي ونس لم ا أص اب ال ذنب‪ ،‬انطل ق‬
‫مغاضبا لربه‪ ،‬واستزله الشيطان)‬
‫ومثله قال الشعبي في قوله (إذ ذهب مغاضبا) قال‪( :‬مغاضبا لربه)‬
‫ومثله عن سلمة‪ ،‬وزاد فيه‪( :‬فخرج يونس ينظر الع ذاب‪ ،‬فلم ي ر ش يئا‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫جربوا علي كذبا‪ ،‬فذهب مغاضبا لربه حتى أتى البحر) (‪)2‬‬
‫ب ل رووا عن عن وهب بن منب ه‪ ،‬أن ه ق ال‪( :‬إن ي ونس بن م تى ك ان عب دا‬
‫صالحا‪ ،‬وكان في خلقه ضيق‪ ،‬فلما حملت عليه أثقال النب وة‪ ،‬وله ا أثق ال ال يحمله ا‬
‫إال قليل‪ ،‬تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل‪ ،‬فقذفها بين يديه‪ ،‬وخرج هاربا منه ا‪،‬‬
‫ص بَ َر أُولُ و ْال َع ْز ِم ِمنَ الرُّ ُس ِل َواَل ت َْس تَع ِ‬
‫ْجلْ لَهُ ْم ﴾‬ ‫اص بِرْ َك َم ا َ‬ ‫يقول هللا لنبيه ‪﴿ :‬فَ ْ‬
‫ت﴾ [القلم‪ :]48 :‬أي ال‬ ‫ب ْال ُح و ِ‬‫ص ا ِح ِ‬ ‫ك َواَل تَ ُك ْن َك َ‬ ‫[األحقاف‪﴿ ]35 :‬فَاصْ بِرْ لِ ُح ْك ِم َربِّ َ‬
‫تلق أمري كما ألقاه) (‪)3‬‬
‫وقد علق الطبري على هذه الروايات وغيرها بقوله‪( :‬وهذا القول‪ ،‬أعني قول‬
‫من قال‪ :‬ذهب عن قومه مغاضبا لربه‪ ،‬أشبه بتأويل اآلية‪ ،‬وذل ك لدالل ة قول ه ﴿فَظَ َّن‬
‫أَ ْن لَ ْن نَ ْق ِد َر َعلَ ْي ِه﴾ [األنبياء‪ ]87 :‬على ذلك‪ ،‬على أن الذين وجهوا تأويل ذلك إلى أنه‬
‫ذهب مغاضبا لقومه‪ ،‬إنما زعموا أنهم فعلوا ذلك استنكارا منهم أن يغاضب ن بي من‬
‫األنبياء ربه‪ ،‬واستعظاما له‪ ،‬وهم بقيلهم أنه ذهب مغاضبا لقوم ه ق د دخل وا في أم ر‬
‫أعظم ما أنكروا‪ ،‬وذلك أن الذين قالوا‪ :‬ذهب مغاضبا لرب ه اختلف وا في س بب ذهاب ه‬
‫كذلك‪ ،‬فقال بعضهم‪ :‬إنما فعل ما فعل من ذلك كراه ة أن يك ون بين ق وم ق د جرب وا‬
‫عليه الخلف فيما وعدهم‪ ،‬واستحيا منهم‪ ،‬ولم يعلم السبب الذي دف ع ب ه عنهم البالء‪،‬‬
‫وقال بعض من قال هذا القول‪ :‬كان من أخالق قوم ه ال ذين ف ارقهم قت ل من جرب وا‬
‫عليه الكذب‪ ،‬عسى أن يقتلوه من أجل أنه وعدهم العذاب‪ ،‬فلم ي نزل بهم م ا وع دهم‬
‫من ذلك‪ ،‬وقد ذكرنا الرواية بذلك في سوره يونس‪ ،‬فكرهنا إعادته في هذا الموضع‪.‬‬
‫وقال آخرون‪ :‬بل إنم ا غاض ب رب ه من أج ل أن ه أم ر بالمص ير إلى ق وم لين ذرهم‬

‫‪ )(1‬تفسير الطبري (‪.)512 /18‬‬


‫‪ )(2‬تفسير الطبري (‪.)512 /18‬‬
‫‪ )(3‬تفسير الطبري (‪.)513 /18‬‬

‫‪98‬‬
‫بأسه‪ ،‬ويدعوهم إليه‪ ،‬فسأل ربه أن ينظره‪ ،‬ليتأهب للشخوص إليهم‪ ،‬فقيل له‪ :‬األم ر‬
‫أسرع من ذلك‪ ،‬ولم ينظر حتى شاء أن ينظر إلى أن يأخذ نعال ليلبسها‪ ،‬فقيل له نحو‬
‫القول األول‪ ،‬وكان رجال في خلقه ض يق‪ ،‬فق ال‪ :‬أعجل ني ربي أن آخ ذ نعال ف ذهب‬
‫مغاضبا‪ .‬وممن ذكر هذا القول عنه‪ :‬الحسن البصري)(‪)1‬‬
‫ثم حاول كعادة السلفية أن يبرر غضبه على ربه بهذه المقول ة ال تي ال يقبله ا‬
‫إال عق ل س لفي‪ ،‬فق د ق ال‪( :‬وليس في واح د من ه ذين الق ولين من وص ف ن بي هللا‬
‫يونس صلوات هللا عليه شيء إال وهو دون ما وصفه بما وص فه ال ذين ق الوا‪ :‬ذهب‬
‫مغاضبا لقومه‪ ،‬ألن ذهابه عن قومه مغاض با لهم‪ ،‬وق د أم ره هللا تع الى بالمق ام بين‬
‫أظهرهم‪ ،‬ليبلغهم رسالته‪ ،‬ويحذرهم بأسه‪ ،‬وعقوبته على تركهم اإليمان به‪ ،‬والعمل‬
‫بطاعتك ال شك أن فيه ما فيه‪ ،‬ولوال أنه قد ك ان ص لى هللا علي ه وس لم أتى م ا قال ه‬
‫الذين وصفوه بإتيان الخطيئة‪ ،‬لم يكن هللا تعالى ذكره ليعاقبه العقوبة التي ذكرها في‬
‫كتابه‪ ،‬ويصفه بالصفة التي وصفه بها)(‪)2‬‬
‫هذه هي الرؤية السلفية التي نص عليها الطبري‪ ،‬والتي انتصر لها ابن تيمي ة‬
‫وغيره من أعالم السلفية‪..‬‬
‫أما الرؤية التنزيهية التي اعتبرها ابن تيمية والس لفية بدع ة‪ ،‬فق د نظ رت إلى‬
‫قصة يونس ‪ ‬وفق الرؤية القرآنية‪ ،‬ووفق مكانة األنبياء عليهم الصالة والسالم‪..‬‬
‫ولذلك فسرتها بما يتناسب مع تلك المكانة الرفيعة‪.‬‬
‫وسنقتبس هنا ـ مثلما فعلن ا س ابقا ـ نص ا قال ه ع الم من علم اء المنزه ة ه و‬
‫الش ريف المرتض ى في االنتص ار لي ونس ‪ ..‬وق د س اق كعادت ه الش بهة بش كل‬
‫تساؤل قبل أن يجيب عليها‪ ،‬فقال‪( :‬ف إن قي ل فم ا مع نى قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬و َذا النُّو ِن إِ ْذ‬
‫ك‬ ‫ت أَ ْن اَل إِلَ هَ إِاَّل أَ ْنتَ ُس ْب َحانَ َ‬ ‫ضبًا فَظَ َّن أَ ْن لَ ْن نَ ْق ِد َر َعلَ ْي ِه فَنَادَى فِي ُّ‬
‫الظلُ َم ا ِ‬ ‫َب ُمغَا ِ‬‫َذه َ‬
‫ت ِمنَ الظَّالِ ِمينَ (‪ )87‬فَا ْستَ َج ْبنَا لَهُ َونَ َّج ْينَاهُ ِمنَ ْال َغ ِّم َو َك َذلِكَ نُ ْن ِجي ْال ُم ْؤ ِمنِينَ (‬
‫إِنِّي ُك ْن ُ‬
‫‪[ ﴾)88‬األنبياء‪ ]88 ،87 :‬وما معنى غضبه وعلى من ك ان غض به وكي ف ظن أن‬
‫هللا تعالى ال يقدر عليه؟ وذلك مما ال يظنه مثله؟ وكي ف اع ترف بأن ه من الظ المين‬
‫والظلم قبيح؟)(‪)3‬‬
‫ثم أجاب على ذلك بقوله‪( :‬قلن ا أم ا من ي ونس ‪ ‬خ رج مغاض با لرب ه من‬
‫حيث لم ي نزل بقوم ه الع ذاب‪ ،‬فق د خ رج في االف تراء على األنبي اء عليهم الس الم‬
‫وس وء الظن بهم عن الح د‪ ،‬وليس يج وز أن يغاض ب رب ه إال من ك ان معادي ا ل ه‬
‫وجاهل بأن الحكمة في سائر أفعاله‪ ،‬وهذا ال يليق باتباع األنبي اء ‪ ‬من المؤم نين‬
‫فضال عمن عصمه هللا تعالى ورف ع درجت ه‪ ،‬أقبح من ذل ك ظن الجه ال وإض افتهم‬
‫إليه ‪ ‬أنه ظن أن ربه ال يقدر عليه من جهة القدرة التي يص ح به ا الفع ل‪ .‬ويك اد‬
‫يخرج عندنا من ظن باألنبياء عليهم الس الم مث ل ذل ك عن ب اب التمي يز والتكلي ف‪.‬‬

‫‪ )(1‬تفسير الطبري (‪.)513 /18‬‬


‫‪ )(2‬تفسير الطبري (‪.)513 /18‬‬
‫‪ )(3‬تنزيه األنبياء‪ ،‬ص‪.141‬‬

‫‪99‬‬
‫وإنما كان غضبه ‪ ‬على قومه لبقائهم على تكذيبه وإصرارهم على الكفر ويأس ه‬
‫من إقالعهم وت وبتهم‪ ،‬فخ رج من بينهم خوف ا من أن ي نزل الع ذاب بهم وه و مقيم‬
‫بينهم) (‪)1‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ثم فسر قوله تعالى‪﴿ :‬فَظَ َّن أ ْن لَ ْن نَق ِد َر َعلَ ْي ِه﴾ [األنبياء‪ ،]87 :‬وهو أعلم باللغة‬
‫من الطبري‪ ،‬ب ل من ك ل أعالم الس لفية‪ ،‬فق ال‪( :‬معن اه أن ال نض يق علي ه المس لك‬
‫ونشدد عليه المحنة والتكليف‪ ،‬ألن ذلك مما يجوز أن يظنه الن بي‪ ،‬وال ش بهة في أن‬
‫قول القائل قدرت وقدرت بالتخفيف والتشديد معناه التضييق‪ ،‬قال هللا تع الى‪َ ﴿ :‬و َم ْن‬
‫ق لِ َم ْن‬ ‫ْس طُ ال ْ‬
‫رِّز َ‬ ‫قُ ِد َر َعلَ ْي ِه ِر ْزقُهُ فَ ْليُ ْنفِ ْق ِم َّما آتَاهُ﴾ [الطالق‪ ،]7 :‬وقال تع الى‪﴿ :‬هَّللا ُ يَب ُ‬
‫﴿وأَ َّما إِ َذا َم ا ا ْبتَاَل هُ فَقَ د ََر‬
‫يَ َشا ُء َويَ ْق ِدرُ﴾ [الرعد‪ ]26 :‬أي يوسع ويضيق‪ ،‬وقال تعالى‪َ :‬‬
‫َعلَ ْي ِه ِر ْزقَهُ ﴾ [الفجر‪ ]16 :‬أي ضيق‪ ،‬والتضييق الذي قدره هللا عليه هو ما لحقه من‬
‫الحص ول في بطن الح وت وم ا نال ه في ذل ك من المش قة الش ديدة إلى أن نج اه هللا‬
‫تعالى منها) (‪)2‬‬
‫ك‬‫ت أَ ْن اَل إِلَ هَ إِاَّل أَ ْنتَ ُس ب َْحانَ َ‬ ‫ومثل ذلك فسر قوله تع الى‪﴿ :‬فَنَ ادَى فِي ُّ‬
‫الظلُ َم ا ِ‬
‫ت ِمنَ الظَّالِ ِمينَ ﴾ [األنبي اء‪ ]87 :‬فه و على س بيل االنقط اع إلى هللا تع الى‬ ‫إِنِّي ُك ْن ُ‬
‫والخشوع له والخضوع بين يدي ه‪ ،‬ألن ه لم ا دع اه لكش ف م ا امتحن ه ب ه وس أله أن‬
‫ينجيه من الظلمات التي هي ظلمة البحر وظلمة بطن الحوت وظلمة الليل‪ ،‬فع ل م ا‬
‫يفعله الخاضع الخاش ع من االنقط اع واالع تراف بالتقص ير‪ ،‬وليس ألح د أن يق ول‬
‫كيف يعترف بأنه كان من الظالمين ولم يق ع من ه ظلم‪ ،‬وه ل ه ذا إال الك ذب بعين ه؟‬
‫وليس يجوز أن يكذب الن بي ‪ ‬في ح ال خض وع وال غ يره‪ ،‬وذل ك أن ه يمكن أن‬
‫يري د بقول ه إني كنت من الظ المين‪ ،‬أي من الجنس ال ذي يق ع منهم الظلم‪ ،‬فيك ون‬
‫ص دقا‪ ،‬وإن ورد على س بيل الخض وع والخش وع ألن جنس البش ر ال يمتن ع من ه‬
‫وقوع الظلم)(‪)3‬‬
‫ثم أورد الشبهة التي يتعل ق به ا الس لفية‪ ،‬فق ال‪( :‬ف إن قي ل‪ :‬ف أي فائ دة في أن‬
‫يضيف نفسه إلى الجنس الذي يقع منهم الظلم إذا كان الظلم منتفيا عنه في نفسه؟)‬
‫ثم أجاب عليها بذكره لش فافية الرس ل وحساس ية أوراحهم وأدبهم العظيم م ع‬
‫هللا‪ ،‬فقال‪( :‬قلنا‪ :‬الفائدة في ذلك التطامن هلل تعالى والتخاضع ونفي التك بر والتج بر‪،‬‬
‫ألن من كان مجتهدا في رغبة إلى مال ك ق دير‪ ،‬فال ب د من أن يتطأط أ‪ ،‬ويجته د في‬
‫الخضوع بين يديه‪ ،‬ومن أكبر الخضوع أن يضيف نفسه إلى القبي ل ال ذي يخطئ ون‬
‫ويص يبون كم ا يق ول االنس ان‪ ،‬إذا أراد أن يكس ر نفس ه وينفي عنه ا دواعي الك بر‬
‫والخيالء‪ :‬إنما أنا من البشر ولست من المالئكة‪ ،‬وأنا ممن يخطئ ويصيب‪ .‬وه و ال‬
‫يريد إضافة الخطأ إلى نفسه في الحال‪ ،‬بل يكون الفايدة ما ذكرناها) (‪)4‬‬

‫‪ )(1‬تنزيه األنبياء‪ ،‬ص‪.142‬‬


‫‪ )(2‬تنزيه األنبياء‪ ،‬ص‪.142‬‬
‫‪ )(3‬تنزيه األنبياء‪ ،‬ص‪.143‬‬
‫‪ )(4‬تنزيه األنبياء‪ ،‬ص‪.143‬‬

‫‪100‬‬
‫هذه مقارنة بين صورة األنبياء عليهم الصالة والسالم كما وردت في الق رآن‬
‫الكريم‪ ،‬وكما يراها المنزهة‪ ..‬وبين الصورة التي يصورهم به ا الس لفية‪ ،‬وال عجب‬
‫أن تثمر كل صورة ما يتناسب معها‪.‬‬
‫وال عجب بعد هذا من أخالق السلفية الممتلئة بالخشونة والغلظ ة عن دما نعلم‬
‫أن صفات أنبيائهم ـ كصفات ربهم ـ لم يقتبس وها من الق رآن الك ريم‪ ،‬ولم يقتبس وها‬
‫من مش اعل الهداي ة ال تي أوص ى به ا الن بي ‪ ..‬وإنم ا اقتبس وها من إخ وانهم من‬
‫اليهود الذين انحرفوا بهم في التيه الذي وقعوا فيه‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫تكاليف‪ ..‬وابتالءات‬
‫من أهم النواحي التي يصور بها القرآن الكريم أنبياء هللا‪ ،‬بل يك اد يك ون ك ل‬
‫التركيز عليها‪ ،‬هو المهام التي كلفوا بها من دعوة الخل ق إلى هللا‪ ،‬وب ذل ك ل أن واع‬
‫الجهود في سبيل تحقيق ذلك‪.‬‬
‫كما أعطى القرآن الكريم نموذجا مفصال على ذل ك بن وح ‪ ،‬ال ذي قض ى‬
‫ذلك العمر الطويل مع قومه‪ ،‬ال هم له إال دعوتهم مستعمال كل الوسائل في ذلك‪ ..‬ال‬
‫يكل وال يمل‪ ،‬وال يبالي بما يالقيه قومه به من أنواع السخرية‪.‬‬
‫وقد ذكر القرآن الكريم تلك الجهود الذي بذلها ن وح ‪ ،‬ومثل ه ك ل الرس ل‬
‫عليهم الصالة والس الم في ص ورة تقري ر أو مناج اه رفعه ا ن وح إلى رب ه س بحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬وكأنه يعتذر إليه من تلك القسوة ال تي ووج ه به ا‪ ،‬وال تي ح الت بين ه وبين‬
‫النجاح في تحقيق ما طلب منه‪.‬‬
‫ت قَ وْ ِمي‬ ‫﴿ربِّ إِنِّي َد َع وْ ُ‬ ‫قال تعالى ـ حاكيا على لسانه ما قام به من جهود ـ‪َ :‬‬
‫لَ ْياًل َونَهَارًا (‪ )5‬فَلَ ْم يَ ِز ْدهُ ْم ُدعَائِي إِاَّل فِ َرارًا (‪َ )6‬وإِنِّي ُكلَّ َما َدعَوْ تُهُ ْم لِتَ ْغفِ َر لَهُ ْم َج َعلُوا‬
‫اس تِ ْكبَارًا (‪ )7‬ثُ َّم إِنِّي‬ ‫اس تَ ْكبَرُوا ْ‬ ‫ص رُّ وا َو ْ‬ ‫ص ابِ َعهُ ْم فِي آ َذانِ ِه ْم َوا ْستَ ْغ َش وْ ا ثِيَ ابَهُ ْم َوأَ َ‬ ‫أَ َ‬
‫ت لَهُ ْم إِس َْرارًا﴾ [نوح‪]9 - 5 :‬‬ ‫ت لَهُ ْم َوأَس َْررْ ُ‬ ‫َدعَوْ تُهُ ْم ِجهَارًا (‪ )8‬ثُ َّم إِنِّي أَ ْعلَ ْن ُ‬
‫ثم ذكر المعاني الجليلة التي كان ي دعوهم إليه ا‪ ،‬وهي قاص رة على العبودي ة‬
‫ت‬ ‫الخالص ة هلل‪ ،‬الخالي ة من ك ل غ رض‪ ،‬ق ال تع الى ـ حاكي ا على لس انه ـ‪﴿ :‬فَقُ ْل ُ‬
‫الس َما َء َعلَ ْي ُك ْم ِم ْد َرارًا (‪َ )11‬ويُ ْم ِد ْد ُك ْم‬ ‫اس تَ ْغفِرُوا َربَّ ُك ْم إِنَّهُ َك انَ َغفَّارًا (‪ )10‬يُرْ ِس ِل َّ‬ ‫ْ‬
‫ت َويَجْ َعلْ لَ ُك ْم أَ ْنهَارًا (‪َ )12‬ما لَ ُك ْم اَل تَرْ جُونَ هَّلِل ِ َوقَ ارًا‬ ‫بِأ َ ْم َوا ٍل َوبَنِينَ َويَجْ َعلْ لَ ُك ْم َجنَّا ٍ‬
‫ت ِطبَاقً ا (‪)15‬‬ ‫اوا ٍ‬‫ق هَّللا ُ َس ْب َع َس َم َ‬ ‫ط َوارًا (‪ )14‬أَلَ ْم تَ َروْ ا َك ْي فَ خَ لَ َ‬ ‫(‪َ )13‬وقَ ْد خَ لَقَ ُك ْم أَ ْ‬
‫ض نَبَاتً ا (‬ ‫س ِس َراجًا (‪َ )16‬وهَّللا ُ أَ ْنبَتَ ُك ْم ِمنَ اأْل َرْ ِ‬ ‫َو َج َع َل ْالقَ َم َر فِي ِه َّن نُورًا َو َج َع َل ال َّش ْم َ‬
‫ض بِ َس اطًا (‪)19‬‬ ‫‪ )17‬ثُ َّم ي ُِعي ُد ُك ْم فِيهَ ا َوي ُْخ ِر ُج ُك ْم إِ ْخ َرا ًج ا (‪َ )18‬وهَّللا ُ َج َع َل لَ ُك ُم اأْل َرْ َ‬
‫لِتَ ْسلُ ُكوا ِم ْنهَا ُسبُاًل فِ َجاجًا﴾ [نوح‪]20 - 10 :‬‬
‫وبعد كل تلك الس نوات الطويل ة‪ ،‬وبع د أن ب ذلك ك ل تل ك الجه ود‪ ،‬وبع د أن‬
‫وح أَنَّهُ‬‫وح َي إِلَى نُ ٍ‬ ‫أخبره ربه سبحانه وتعالى بأنهم لن يؤمنوا‪ ،‬كما ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وأُ ِ‬
‫ك إِاَّل َم ْن قَ ْد آ َمنَ فَاَل تَ ْبتَئِسْ بِ َما َكانُوا يَ ْف َعلُونَ ﴾ [هود‪]36 :‬‬ ‫لَ ْن ي ُْؤ ِمنَ ِم ْن قَوْ ِم َ‬
‫حينه ا فق ط طلب من هللا تع الى أن ي ريح األرض منهم‪ ،‬لينش أ ب دلهم ق وم‬
‫يعبدونه وال يشركون به شيئا‪ ،‬قال تعالى ـ حاكيا عن نوح ‪ ‬ـ ‪َ ﴿:‬ربِّ اَل تَ َذرْ َعلَى‬
‫اجرًا‬ ‫ُضلُّوا ِعبَ ادَكَ َواَل يَلِ دُوا إِاَّل فَ ِ‬ ‫ض ِمنَ ْال َكافِ ِرينَ َديَّارًا (‪ )26‬إِنَّكَ إِ ْن تَ َذرْ هُ ْم ي ِ‬ ‫اأْل َرْ ِ‬
‫ي َولِ َم ْن َدخَ َل بَ ْيتِ َي ُم ْؤ ِمنً ا َولِ ْل ُم ْؤ ِمنِينَ َو ْال ُم ْؤ ِمنَ ا ِ‬
‫ت‬ ‫َكفَّارًا (‪َ )27‬ربِّ ا ْغفِرْ لِي َولِ َوالِ َد َّ‬
‫َواَل ت َِز ِد الظَّالِ ِمينَ إِاَّل تَبَارًا ﴾ [نوح‪]28 - 26 :‬‬
‫هذا نموذج يذكره القرآن الك ريم‪ ،‬وي ذكر أمثال ه عن ه ود وص الح وإب راهيم‬
‫وكل األنبياء عليهم السالم الذين ال نعرف في القرآن الكريم من تفاص يل حي اتهم إال‬

‫‪102‬‬
‫تلك الجهود العظيمة التي قاموا به ا في ال دعوة إلى هللا متج ردين من ك ل غ رض‪،‬‬
‫فكلهم كان يردد ما كان يردده هود ‪ ﴿ :‬يَاقَوْ ِم اَل أَسْأَلُ ُك ْم َعلَ ْي ِه أَجْ رًا إِ ْن أَجْ ِر َ‬
‫ي إِاَّل‬
‫َعلَى الَّ ِذي فَطَ َرنِي أَفَاَل تَ ْعقِلُونَ ﴾ [هود‪]51 :‬‬
‫هذه هي الرؤية القرآنية لتكاليف األنبياء‪ ،‬واالبتالءات العظيمة التي ابتلوا بها‬
‫في طريق الدعوة إلى هللا‪ ،‬وأداء دورهم الرسالي‪.‬‬
‫لكن المدرسة السلفية ـ بسبب انحرافها إلى التصوير اليهودي ـ لألنبياء عليهم‬
‫السالم‪ ،‬تحرف هذه الصورة المقدسة تحريف ا ش ديدا‪ ،‬فتح ول األنبي اء عليهم الس الم‬
‫إلى أقزام مقارنة بتلك الصورة القرآنية الجميلة‪.‬‬
‫وس نذكر هن ا أربع ة نم اذج على ذل ك‪ ،‬هي‪ :‬إب راهيم‪ ،‬ويعق وب‪ ،‬وأي وب‪،‬‬
‫وسليمان عليهم الصالة والسالم‪.‬‬
‫إبراهيم ‪:‬‬
‫مع أن القراءة القرآنية لحياة إبراهيم ‪ ‬ترينا شخصا ال يكل وال يم ل وه و‬
‫يدعو إلى هللا كل من لقيه ابتداءه من أقارب ه األدنين‪ ،‬وانته اء بالمل ك إال أن الرؤي ة‬
‫السلفية تجعله يتقاعد عن هذه المهام العظيم ة ال تي قض ى حيات ه من أجله ا‪ ،‬ركون ا‬
‫إلى الدنيا‪.‬‬
‫ومن الروايات التي أوردوها في هذا في تفس ير قول ه تع الى‪﴿ :‬فَ ِم ْنهُ ْم َم ْن آ َمنَ‬
‫ص َّد َع ْنهُ َو َكفَى بِ َجهَنَّ َم َس ِعيرًا ﴾ [النساء‪ ]55 :‬عن الس دي‪ ،‬أن اب راهيم‬ ‫بِ ِه َو ِم ْنهُ ْم َم ْن َ‬
‫‪ ‬احتاج‪ -‬وق د ك ان ل ه ص ديق يعطي ه ويأتي ه‪ -‬فق الت ل ه س اره‪ :‬ل و أتيت خلت ك‬
‫فأصبت لنا من ه طعام ا! ف ركب حم ارا ل ه‪ ،‬ثم أت اه‪ ،‬فلم ا أت اه تغيب من ه‪ ،‬واس تحيا‬
‫إبراهيم أن يرجع إلى أهل ه خائب ا‪ ،‬فم ر على بطح اء‪ ،‬فمأل منه ا خرج ه‪ ،‬ثم أرس ل‬
‫الحمار إلى أهله‪ ،‬فأقب ل الحم ار وعلي ه حنط ة جي ده‪ ،‬ون ام اب راهيم ‪ ‬فاس تيقظ‪،‬‬
‫وجاء إلى أهله‪ ،‬فوجد سارة قد جعلت له طعام ا‪ ،‬فق الت‪ :‬أال تأك ل؟ فق ال‪ :‬وه ل من‬
‫شيء؟ فقالت‪ :‬نعم من الحنطة التي جئت بها من عند خليلك‪ ،‬فقال‪ :‬صدقت‪ ،‬من عند‬
‫خليلي جئت بها‪ ،‬فزرعها فنبتت له‪ ،‬وزكا زرعه وهلكت زروع الناس‪ ،‬فكان أص ل‬
‫ماله منها‪ ،‬فكان الناس يأتونه فيسألونه فيقول‪ :‬من قال‪ :‬ال إله إال هللا فليدخل فليأخ ذ‪،‬‬
‫فمنهم من قال فاخ ذ‪ ،‬ومنهم من أبى فرج ع‪ ،‬وذل ك قول ه تع الى‪﴿ :‬فَ ِم ْنهُ ْم َم ْن آ َمنَ بِ ِه‬
‫ص َّد َع ْن هُ َو َكفَى بِ َجهَنَّ َم َس ِعيرًا ﴾ [النس اء‪ ]55 :‬فلم ا ك ثر م ال إب راهيم‬ ‫َو ِم ْنهُ ْم َم ْن َ‬
‫ومواشيه احتاج إلى السعة في المسكن والمرعى‪ ،‬وكان مسكنه ما بين قري ة م دين‪-‬‬
‫فيما قيل‪ -‬والحجاز إلى أرض الشام‪ ،‬وكان ابن أخي ه ل وط ن ازال مع ه‪ ،‬فقاس م مال ه‬
‫لوطا‪ ،‬فأعطى لوطا شطره فيما قيل‪ ،‬وخيره مسكنا يسكنه ومنزال ينزله غير المنزل‬
‫ال ذي ه و ب ه ن ازل‪ ،‬فاخت ار ل وط ناحي ة األردن فص ار إليه ا‪ ،‬وأق ام إب راهيم ‪‬‬
‫بمكانه‪ ،‬فصار ذلك فيما قيل سببا آلثاره بمكة وإسكانه إياه ا إس ماعيل‪ ،‬وك ان ربم ا‬
‫دخل أمصار الشام)(‪)1‬‬
‫وهكذا تصور الرواية إبراهيم ‪ ‬منشغال بماله بعد أن ك ثر لدي ه‪ ،‬وبع د أن‬
‫‪ )(1‬تاريخ الطبري (‪)308 /1‬‬

‫‪103‬‬
‫أعطى جزءا منه للوط ‪.‬‬
‫والخطر ليس في هذا التقاعد الذي منحوه إلبراهيم ‪ ‬فق ط‪ ،‬وإنم ا في ذل ك‬
‫المنهج الغريب الذي صوروه يدعو إلى هللا به‪ ..‬وهو ال دعاء ب القمح والش عير‪ ،‬فق د‬
‫ذكروا في الرواية أن الناس كانوا يأتونه بعد أن اغتنى‪ ،‬فيسألونه فيقول‪ :‬من قال‪ :‬ال‬
‫إله إال هللا فليدخل فليأخذ‪ ،‬فمنهم من قال فاخذ‪ ،‬ومنهم من أبى فرجع‪ ..‬وك أن ال دعوة‬
‫إلى هللا مختصرة في كلمة تقال‪ ،‬وليس في حياة تغير تغيرا تماما‪.‬‬
‫ومثل هذا االختزال أيضا لذلك المنهج الدعوي العظيم ال ذي مارس ه إب راهيم‬
‫﴿وإِ ِذ ا ْبتَلَى‬
‫السالم‪ ،‬والذي أمرنا باالقتداء به فيه‪ ،‬ذلك التفسير العجيب لقول ه تع الى‪َ :‬‬
‫ال َو ِم ْن ُذ ِّريَّتِي قَ ا َل اَل‬ ‫اعلُ كَ لِلنَّ ِ‬
‫اس إِ َما ًم ا قَ َ‬ ‫ت فَ أَتَ َّمه َُّن قَ َ‬
‫ال إِنِّي َج ِ‬ ‫إِ ْب َرا ِهي َم َربُّهُ بِ َكلِ َم ا ٍ‬
‫يَنَا ُل َع ْه ِدي الظَّالِ ِمينَ ﴾ [البقرة‪ ،]124 :‬وهي اآلية الكريمة التي تشهد إلبراهيم ‪‬‬
‫بالوف اء بجمي ع م ا تتطلب ه ال دعوة إلى هللا من جه ود‪ ،‬كم ا ش هد ل ه قول ه تع الى‪:‬‬
‫﴿ َوإِ ْب َرا ِهي َم الَّ ِذي َوفَّى﴾ [النجم‪]37 :‬‬
‫فقد اختصروا االبتالء بالكلمات التي تعني كل أنواع البالء ال تي تع رض له ا‬
‫ابتداء بالنفي‪ ،‬وانتهاء بالحرق‪ ،‬في هذا التفسير الذي يروونه عن أئمتهم‪.‬‬
‫فقد رووا عن ابن عب اس‪ ،‬أن ه ق ال‪( :‬ابتاله هللا بالطه ارة‪ :‬خمس في ال رأس‪،‬‬
‫وخمس في الجسد‪ .‬في الرأس‪ :‬قص الشارب‪ ،‬والمضمضة‪ ،‬واالستنشاق‪ ،‬والسواك‪،‬‬
‫وفرق الرأس‪ .‬وفي الجس د‪ :‬تقليم األظف ار‪ ،‬وحل ق العان ة‪ ،‬والخت ان‪ ،‬ونت ف اإلب ط‪،‬‬
‫وغسل أثر الغائط والبول بالماء)(‪)1‬‬
‫ورووا عن قتادة قال‪( :‬ابتاله بالخت ان‪ ،‬وحل ق العان ة‪ ،‬وغس ل القب ل وال دبر‪،‬‬
‫والسواك‪ ،‬وقص الش ارب‪ ،‬وتقليم األظ افر‪ ،‬ونت ف اإلب ط) ق ال أب و هالل‪ :‬ونس يت‬
‫خصلة(‪.)2‬‬
‫ورووا عن أبي الخل د ق ال‪( :‬ابتلي إب راهيم بعش رة أش ياء‪ ،‬هن في اإلنس ان‪:‬‬
‫سنة‪ :‬االستنشاق‪ ،‬وقص الش ارب‪ ،‬والس واك‪ ،‬ونت ف اإلب ط‪ ،‬وقلم األظف ار‪ ،‬وغس ل‬
‫البراجم‪ ،‬والختان‪ ،‬وحلق العانة‪ ،‬وغسل الدبر والفرج) (‪)3‬‬
‫بل ذكروا في الرواية التي يرفعونها إلى رسول هللا ‪ ‬اختصار الكلم ات في‬
‫بعض األذكار‪ ،‬فقد رووا عن أنس قال‪ :‬كان الن بي ‪ ‬يق ول‪( :‬أال أخ بركم لم س مى‬
‫﴿وإِ ْب َرا ِهي َم الَّ ِذي َوفَّى﴾ [النجم‪ ،]37 :‬ألنه كان يق ول كلم ا أص بح‬ ‫هللا إبراهيم خليله‪َ :‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وكلما أمسى‪﴿ :‬فَ ُس ْب َحانَ ِ ِحينَ ت ْمسُونَ َو ِحينَ تصْ بِحُونَ ﴾ [ال روم‪ ]17 :‬ح تى يختم‬ ‫هَّللا‬
‫اآلية)(‪)4‬‬
‫أو في بعض الركعات‪ ،‬كما رووا عن عن أبي أمامة قال‪ :‬قال رسول هللا ‪:‬‬
‫﴿ َوإِ ْب َرا ِهي َم الَّ ِذي َوفَّى﴾ [النجم‪ ،]37 :‬قال‪ ،‬أتدرون ماوفى؟ قالوا‪ :‬هللا ورس وله أعلم‪،‬‬
‫‪ )(1‬تفسير الطبري (‪ ،)9 /2‬ورواه الحاكم ‪ ،266 :2‬وقال‪ :‬هذا حديث ص حيح على ش رط الش يخين‪ ،‬ولم يخرج اه‪،‬‬
‫ووافقه الذهبي‪.‬ورواه عبد بن حميد‪ ،‬وابن المنذر‪ ،‬وابن أبي حاتم‪ ،‬والبيهقي في سننه‪.‬‬
‫‪ )(2‬تفسير الطبري (‪)9 /2‬‬
‫‪ )(3‬تفسير الطبري (‪)10 /2‬‬
‫‪ )(4‬رواه أحمد في المسند‪ 15688 :‬ج ‪ 3‬ص ‪.439‬‬

‫‪104‬‬
‫النهار)(‪)1‬‬ ‫قال‪ :‬وفي عمل يومه‪ ،‬أربع ركعات في‬
‫أما اإلمامة التي هي مرتبطة عظيمة في الدين‪ ،‬تش مل جمي ع من احي الحي اة‪،‬‬
‫فقد اختصروها في اإلمامة في الحج(‪ ،)2‬وكأن رس الة إب راهيم ‪ ‬كله ا مختص رة‬
‫في أن يقص ش اربه ويقلم أظ افره‪ ،‬وينت ف إبط ه‪ ،‬ثم يق وم بع د ذل ك بإمام ة الن اس‬
‫بالحج‪.‬‬
‫يعقوب ‪:‬‬
‫وهو من األنبياء العظام الذي بشر هللا بهم نبيه إبراهيم ‪ ،‬وهو ال ذي ذك ر‬
‫قصته مع يوس ف ‪ ،‬وذك ر ك ذلك وص يته ألبنائ ه في ح ال احتض اره كم ا ق ال‬
‫ال لِبَنِي ِه َم ا تَ ْعبُ ُدونَ ِم ْن بَ ْع ِدي‬ ‫ت إِ ْذ قَ َ‬ ‫وب ْال َموْ ُ‬‫ض َر يَ ْعقُ َ‬ ‫تعالى‪ ﴿ :‬أَ ْم ُك ْنتُ ْم ُشهَدَا َء إِ ْذ َح َ‬
‫اح دًا َونَحْ نُ لَ هُ‬ ‫ق إِلَهً ا َو ِ‬ ‫يل َوإِ ْس َحا َ‬ ‫اع َ‬ ‫ك إِ ْب َرا ِهي َم َوإِ ْس َم ِ‬ ‫ك َوإِلَ هَ آبَائِ َ‬‫قَ الُوا نَ ْعبُ ُد إِلَهَ َ‬
‫ُم ْسلِ ُمونَ ﴾ [البقرة‪ ،]133 :‬وهذا يدل على حرصه الشديد وإلى آخر لحظة من حيات ه‬
‫على الدعوة إلى هللا‪.‬‬
‫وكل ما ورد عنه يدل على معرفته باهلل‪ ،‬كما ق ال تع الى حكاي ة عن ه‪ ﴿ :‬إِنَّ َم ا‬
‫أَ ْش ُكو بَثِّي َوح ُْزنِي إِلَى هَّللا ِ َوأَ ْعلَ ُم ِمنَ هَّللا ِ َما اَل تَ ْعلَ ُمونَ ﴾ [يوسف‪ ،]86 :‬وق ال‪﴿ :‬فَلَ َّما‬
‫صيرًا قَا َل أَلَ ْم أَقُ لْ لَ ُك ْم إِنِّي أَ ْعلَ ُم ِمنَ هَّللا ِ َم ا اَل‬ ‫أَ ْن َجا َء ْالبَ ِشي ُر أَ ْلقَاهُ َعلَى َوجْ ِه ِه فَارْ تَ َّد بَ ِ‬
‫تَ ْعلَ ُمونَ ﴾ [يوسف‪]96 :‬‬
‫لكن سلف السلفية استعملوا ك ل م ا ل ديهم من م واريث الحق دة على األنبي اء‪،‬‬
‫ليشوهوا ه ذا الن بي الك ريم ابت داء من ميالده‪ ،‬وانته اء بوفات ه‪ ..‬ب ل يش وهون مع ه‬
‫النبوة‪ ،‬فيجعلوها أمرا هامشيا سهال‪ ،‬يمكن ألي محتال أن يحصل عليه‪.‬‬
‫فمن الروايات ال تي يوردونه ا في قص ته م ا رووه عن الس دي‪ ،‬ق ال‪ :‬ت زوج‬
‫إسحاق امرأة فحملت بغالمين في بطن‪ ،‬فلما أرادت أن تضعهما اقتت ل الغالم ان في‬
‫بطنه ا‪ ،‬ف أراد يعق وب أن يخ رج قب ل عيص‪ ،‬فق ال عيص‪ :‬وهللا لئن خ رجت قبلي‬
‫ألعترضن في بطن أمي وألقتلنها‪ ،‬فتأخر يعقوب‪ ،‬وخرج عيص قبله‪ ،‬وأخذ يعقوب‬
‫بعقب عيص‪ ،‬فخرج فسمي عيصا ألنه عصى‪ ،‬فخرج قبل يعق وب‪ ،‬وس مي يعق وب‬
‫ألنه خرج آخذا بعقب عيص‪ ،‬وكان يعقوب أكبرهما في البطن‪ ،‬ولكن عيص ا خ رج‬
‫قبله‪ ،‬وكبر الغالمان‪ ،‬فكان عيص أحبهما إلى أبيه‪ ،‬وك ان يعق وب أحبهم ا إلى أم ه‪،‬‬
‫وكان عيص صاحب صيد‪ ،‬فلما كبر إسحاق‪ ،‬وعمي‪ ،‬قال لعيص‪ :‬ي ا ب ني أطعم ني‬
‫لحم صيد واقترب مني أدع ل ك ب دعاء دع ا لي ب ه أبي‪ ،‬وك ان عيص رجال أش عر‪،‬‬
‫وكان يعقوب رجال أجرد‪ ،‬فخرج عيص يطلب الص يد‪ ،‬وس معت أم ه الكالم فق الت‬
‫ليعقوب‪ :‬يا بني‪ ،‬اذهب إلى الغنم فاذبح منها ش اة ثم اش وه‪ ،‬والبس جل ده وقدم ه إلى‬
‫أبيك‪ ،‬وقل له‪ :‬أنا ابنك عيص‪ ،‬ففعل ذلك يعقوب‪ ،‬فلما جاء ق ال‪ :‬ي ا أبت اه ك ل‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫من أنت؟ قال‪ :‬أنا ابن ك عيص‪ ،‬ق ال‪ :‬فمس ه‪ ،‬فق ال‪ :‬المس مس عيص‪ ،‬وال ريح ريح‬
‫يعقوب‪ ،‬قالت أمه‪ :‬هو ابنك عيص فادع له‪ ،‬قال‪ :‬قدم طعامك‪ ،‬فقدم ه فأك ل من ه‪ ،‬ثم‬
‫‪ )(1‬تفسير الطبري (‪.)16 /2‬‬
‫‪ )(2‬تفسير الطبري (‪)10 /2‬‬

‫‪105‬‬
‫قال‪ :‬ادن مني‪ ،‬فدنا منه‪ ،‬فدعا له أن يجعل في ذريته األنبياء والملوك‪ ،‬وقام يعقوب‪،‬‬
‫وجاء عيص فقال‪ :‬قد جئتك بالصيد الذي أمرتني به‪ ،‬فقال‪ :‬يا ب ني ق د س بقك أخ وك‬
‫يعقوب‪ ،‬فغضب عيص وقال‪ :‬وهللا ألقتلنه‪ ،‬قال‪ :‬يا بني قد بقيت لك دع وة‪ ،‬فهلم أدع‬
‫لك بها‪ ،‬فدعا له فقال‪ :‬تكون ذريت ك ع ددا كث يرا ك التراب وال يملكهم أح د غ يرهم‪،‬‬
‫وقالت أم يعقوب ليعقوب‪ :‬الحق بخال ك فكن عن ده خش ية أن يقتل ك عيص‪ ،‬ف انطلق‬
‫إلى خاله‪ ،‬فكان يسري بالليل ويكمن بالنهار‪ ،‬ولذلك سمي إسرائيل‪ ،‬وهو س ري هللا‪،‬‬
‫فأتى خاله وقال عيص‪ :‬أما إذ غلبتني على الدعوى فال تغلب ني على الق بر‪ ،‬أن أدفن‬
‫عند آبائي‪ :‬إبراهيم وإسحاق‪ ،‬فقال‪ :‬لئن فعلت لتدفنن معه‪ .‬ثم ان يعقوب ع هوى ابنة‬
‫خاله‪ -‬وكانت له ابنتان‪ -‬فخطب إلى أبيهم ا الص غرى منهم ا‪ ،‬فأنكحه ا إي اه على أن‬
‫يرعى غنمه إلى أجل مسمى‪ ،‬فلما انقضى األجل زف إليه أخته ا لي ا‪ ،‬ق ال يعق وب‪:‬‬
‫إنما أردت راحيل‪ ،‬فقال له خاله‪ :‬إنا ال ينكح فينا الصغير قبل الكبير‪ ،‬ولكن ارع لن ا‬
‫أيضا وأنكحها‪ ،‬ففعل فلما انقضى األجل زوجه راحيل أيضا‪ ،‬فجمع يعق وب بينهم ا‪،‬‬
‫فذلك قول هللا‪َ ﴿ :‬وأَ ْن تَجْ َمعُوا بَ ْينَ اأْل ُ ْختَي ِْن إِاَّل َما قَ ْد َسلَفَ ﴾ [النساء‪ ،]23 :‬يقول‪ :‬جمع‬
‫يعق وب بين لي ا وراحي ل‪ ،‬فحملت لي ا فول دت يه وذا‪ ،‬وروبي ل‪ ،‬وش معون وول دت‬
‫راحي ل يوس ف‪ ،‬وبني امين‪ ،‬وم اتت راحي ل في نفاس ها ببني امين‪ ،‬يق ول‪ :‬من وج ع‬
‫النفاس الذى ماتت فيه‪ .‬وقطع خال يعقوب ليعقوب قطيع ا من الغنم‪ ،‬ف أراد الرج وع‬
‫إلى بيت المقدس‪ ،‬فلما ارتحلوا لم يكن له نفقة‪ ،‬فقالت امرأة يعقوب ليوسف‪ :‬خ ذ من‬
‫أص نام أبي لعلن ا نس تنفق من ه فأخ ذ‪ ،‬وك ان الغالم ان في حج ر يعق وب‪ ،‬فأحبهم ا‬
‫وعطف عليهما ليتمهما من أمهما‪ ،‬وكان أحب الخلق الي ه يوس ف ‪ ،‬فلم ا ق دموا‬
‫أرض الشام‪ ،‬قال يعقوب لراع من الرعاة‪ :‬إن أت اكم أح د يس ألكم‪ :‬من أنتم؟ فقول وا‪:‬‬
‫نحن ليعق وب عب د عيص‪ ،‬فلقيهم عيص فق ال‪ :‬من أنتم؟ ق الوا‪ :‬نحن ليعق وب عب د‬
‫عيص‪ ،‬فكف عيص عن يعقوب‪ ،‬ونزل يعقوب بالشام‪ ،‬فك ان هم ه يوس ف وأخ وه‪،‬‬
‫فحسده إخوته لما رأوا من حب أبيه له)(‪)1‬‬
‫هذه هي القصة التي يوردونه ا عن يعق وب ‪ ،‬وهي ال تختل ف كث يرا عن‬
‫مثيلتها في كتب اليهود‪ ،‬وذلك دلي ل على م ا ذكرن ا من أن الس لفية تمث ل االخ تراق‬
‫اليهودي لإلسالم‪ ..‬أو هي النسخة اليهودية من اإلسالم‪.‬‬
‫أيوب ‪:‬‬
‫وه و من األنبي اء ال ذين وص فهم الق رآن الك ريم بالص بر على أن واع البالء‪،‬‬
‫ُّوب إِ ْذ نَ ادَى َربَّهُ أَنِّي َم َّس نِ َي ُّ‬
‫الض رُّ‬ ‫تعالى‪﴿:‬وأَي َ‬
‫َ‬ ‫وجعلهم مثاال يقتدى به في ذلك‪ ،‬قال‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ض رٍّ َوآتَ ْينَ اهُ أهل هُ َو ِمثلهُ ْم‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫َّاح ِمينَ (‪ )83‬فَا ْستَ َج ْبنَا لهُ ف َك َشفنَا َما بِ ِه ِمن ُ‬
‫َ‬ ‫َوأَ ْنتَ أَرْ َح ُم الر ِ‬
‫َم َعهُ ْم َرحْ َمةً ِم ْن ِع ْن ِدنَا َو ِذ ْك َرى لِ ْل َعابِ ِدينَ ﴾ [األنبياء‪ ،]84 ،83 :‬وقال‪َ ﴿ :‬و ْاذ ُكرْ َع ْب َدنَا‬
‫ك هَ َذا‬ ‫ب (‪ )41‬ارْ ُكضْ بِ ِرجْ لِ َ‬ ‫ب َو َع َذا ٍ‬ ‫ص ٍ‬ ‫الش ْيطَانُ بِنُ ْ‬ ‫ُّوب إِ ْذ نَادَى َربَّهُ أَنِّي َم َّسنِ َي َّ‬
‫أَي َ‬
‫ار ٌد َو َش َرابٌ (‪َ )42‬و َوهَ ْبنَا لَ هُ أَ ْهلَ هُ َو ِم ْثلَهُ ْم َم َعهُ ْم َرحْ َم ةً ِمنَّا َو ِذ ْك َرى أِل ُولِي‬ ‫ُم ْغتَ َس ٌل بَ ِ‬
‫ص ابِرًا نِ ْع َم ْال َع ْب ُد‬ ‫ض ْغثًا فَاضْ ِربْ بِ ِه َواَل تَحْ ن ْ‬
‫َث إِنَّا َو َج ْدنَاهُ َ‬ ‫ك ِ‬ ‫ب (‪َ )43‬و ُخ ْذ بِيَ ِد َ‬ ‫اأْل َ ْلبَا ِ‬
‫‪ )(1‬تاريخ الطبري (‪)319 /1‬‬

‫‪106‬‬
‫إِنَّهُ أَ َّوابٌ ﴾ [ص‪]44 ،41 :‬‬
‫ه ذا ك ل م ا ورد في الق رآن الك ريم عن ه‪ ،‬وال ذي رك ز في ه على المع ارف‬
‫اإليمانية أليوب ‪ ‬من ذكره لرحمة ربه‪ ،‬والتجائه إليه‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫لكن سلف السلفية راحوا يحولون من هذا البالء قصة طويلة‪ ..‬وكأن م ا ذك ر‬
‫في القرآن الكريم لم يشف غليلهم‪ ،‬فراحوا لألساطير يشفون بها غليلهم‪.‬‬
‫ومن القصص التي فسروا بها تلك اآليات الكريمة ما رووه عن عبد ال رحمن‬
‫بن جبير‪ ،‬قال‪( :‬لما ابتلي نبي هللا أيوب ‪ ‬بماله وولده وجسده‪ ،‬وطرح في مزبلة‪،‬‬
‫جعلت امرأته تخرج تكسب عليه ما تطعمه‪ ،‬فحسده الشيطان على ذلك‪ ،‬وك ان ي أتي‬
‫أصحاب الخبز والشوي الذين كانوا يتص دقون عليه ا‪ ،‬فيق ول‪ :‬اط ردوا ه ذه الم رأة‬
‫التي تغشاكم‪ ،‬فإنها تعالج صاحبها وتلمسه بيدها‪ ،‬فالناس يتقذرون طعامكم من أج ل‬
‫أنها تأتيكم وتغشاكم على ذلك; وكان يلقاه ا إذا خ رجت ك المحزون لم ا لقي أي وب‪،‬‬
‫فيقول‪ :‬لج صاحبك‪ ،‬فأبى إال م ا أتى‪ ،‬فوهللا ل و تكلم بكلم ة واح دة لكش ف عن ه ك ل‬
‫ضر‪ ،‬ولرجع إليه ماله وولده‪ ،‬فتجيء‪ ،‬فتخبر أيوب‪ ،‬فيقول لها‪ :‬لقيك عدو هللا فلقنك‬
‫ه ذا الكالم‪ ،‬ويل ك‪ ،‬إنم ا مثل ك كمث ل الم رأة الزاني ة إذا ج اء ص ديقها بش يء قبلت ه‬
‫وأدخلته‪ ،‬وإن لم يأتها بشيء طردته‪ ،‬وأغلقت بابها عنه! لما أعطانا هللا المال والولد‬
‫آمنا به‪ ،‬وإذا قبض الذي له منا نكفر به‪ ،‬ونبدل فيره! إن أقامني هللا من مرضي ه ذا‬
‫َث ﴾ [ص‪:‬‬ ‫ألجلدنك مئة‪ ،‬قال‪ :‬فلذلك قال هللا‪َ ﴿ :‬و ُخ ْذ بِيَ ِدكَ ِ‬
‫ض ْغثًا فَاضْ ِربْ بِ ِه َواَل تَحْ ن ْ‬
‫‪)1()]44‬‬
‫وخطورة هذه الرواية ليس في صورة البالء الذي صورت أليوب ‪ ‬فق ط‪،‬‬
‫بحيث ط رح في المزاب ل ألج ل الم رض ال ذي ح ل ب ه‪ ،‬وإنم ا خطورته ا في تل ك‬
‫الرعونة والقسوة التي صوروا بها أيوب ‪ ،‬وهو يخ اطب زوجت ه ال تي نص حته‬
‫أن يدعو هللا‪ ،‬فأجابها بذلك الفحش الذي ننزه أنبياء هللا عنه‪.‬‬
‫ومن الروايات ال تي رووه ا في ه ذا م ا رووه عن الحس ن‪ ،‬ق ال‪( :‬لق د مكث‬
‫أيوب ‪ ‬مطروحا على كناسة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهرا‪ ،‬ما يس أل هللا ع ز‬
‫وجل أن يكشف ما به‪ ..‬فما على وجه األرض أك رم على هللا من أي وب‪ ،‬ف يزعمون‬
‫أن بعض الناس‪ ،‬لو كان لرب هذا فيه حاجة ما صنع به هذا! فعند ذلك دعا)(‪)2‬‬
‫وخطورة ه ذه الرواي ة أيض ا في تص ويرهم ألي وب ‪ ،‬وكرامت ه على هللا‬
‫بسبب عدم دعائه‪ ،‬وهذا يتناقض م ع م ا ذك ر في الق رآن الك ريم من ك ثرة دع وات‬
‫األنبياء هلل تعالى‪..‬‬
‫بل إن هللا تعالى ذكر قصة أيوب في سورة األنبياء من هذا الباب باب ال دعاء‬
‫والتضرع إلى هللا‪ ..‬ولم يحدد القرآن أي زمن لذلك‪ ..‬ومن المجازفة تحديد الزمن‪.‬‬
‫ثم ما ه و ال درس ال تربوي ال ذي يري دون من خالل حكاي ة ق ول الحس ن أن‬
‫يوجهوه لألمة هل هو ترك دعاء هللا حتي ينالوا المكان ة من هللا؟ وه ل ه ذا يتناس ب‬
‫‪ )(1‬تفسير الطبري (‪.)212 /21‬‬
‫‪ )(2‬تاريخ الطبري (‪.)322 /1‬‬

‫‪107‬‬
‫مع ما ورد في النصوص المقدسة من حب هللا لدعاء عباده وتضرعهم له؟‬
‫ومن الروايات الخطيرة في هذا ما رووه عن وهب بن منبه ـ م ع إق رار ابن‬
‫تيمية لهذه الرواية ـ أن أيوب لم يق ل تل ك الكلم ة ال تي ذكره ا الق رآن الك ريم عن ه‪،‬‬
‫وإنما قال بدلها‪ ( :‬رب ألي شيء خلقتني ليت ني إذ كرهت ني لم تخلق ني ي ا ليت ني ق د‬
‫عرفت الذنب الذي أذنبت‪ ،‬والعمل الذي عملت‪ ،‬فصرفت به وجهك الكريم ع ني ل و‬
‫كنت أمتني ف ألحقتني بآب ائي الك رام‪ ،‬ف الموت ك ان أجم ل بي ألم أكن للغ ريب دارا‬
‫وللمسكين قرارا ولليتيم وليا ولألرملة قيم ا‪ ،‬إلهي أن ا عب دك إن أحس نت ف المن ل ك‬
‫وإن أسأت فبيدك عقوبتي‪ ،‬وجعلتني للبالء عرضا وللفتنة نصبا وق د وق ع علي بالء‬
‫لو سلطته على جبل لضعف عن حمله‪ ،‬فكيف يحمله ضعفي وإن قضاءك ه و ال ذي‬
‫أذلني وإن سلطانك هو الذي أسقمني وأنحل جسمي‪ ،‬ول و أن ربي ن زع الهيب ة ال تي‬
‫في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فمي بم ا ك ان ينبغي للعب د أن يح اج عن‬
‫نفسه لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي ولكنه ألقاني وتعالى عني فهو ي راني وال‬
‫أراه ويس معني وال أس معه فال نظ ر إلي فيرحم ني وال دن ا م ني وال أدن اني ف أدلي‬
‫بعذري وأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي)(‪)1‬‬
‫وخطورة هذه الكلمات ليس في مخالفتها للقرآن الكريم فقط‪ ،‬وإنما لتصويرها‬
‫أن أيوب ‪ ‬يتعامل مع ربه بتلك الشدة‪ ،‬بل يتهم رحمته‪ ،‬ويطلب منه أن يدنو من ه‬
‫حتى يخاصم عن نفسه‪ ..‬ولست أدري من يخاصم؟‬
‫وهم ي روون أن هللا تع الى أجاب ه بخالف م ا ذك ره الق رآن الك ريم‪﴿ :‬ارْ ُكضْ‬
‫بِ ِرجْ لِ كَ هَ َذا ُم ْغت ََس ٌل بَ ِ‬
‫ار ٌد َو َش َرابٌ ﴾ [ص‪ ،]42 :‬وإنم ا أجاب ه بنزول ه على الغم ام‬
‫وخطابه له‪ ،‬قال وهبه بن منبه‪( :‬فلما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده أظله غمام حتى‬
‫ظن أصحابه أنه عذاب أليم‪ ،‬ثم ن ودي ي ا أي وب إن هللا ع ز وج ل يق ول‪ :‬ه ا أن ا ق د‬
‫دنوت منك ولم أزل منك قريبا ثم ف أدل بع ذرك وتكلم ببراءت ك وخاص م عن نفس ك‬
‫واش دد إزارك‪ ،‬وقم مق ام جب ار يخاص م جب ار إن اس تطعت‪ ،‬فإن ه ال ينبغي أن‬
‫يخاصمني إال جبار مثلي وال شبه لي لقد منتك نفسك يا أي وب أم را م ا تبلغ ه بمث ل‬
‫قوتك أين أنت مني ي وم خلقت األرض فوض عتها على أساس ها ه ل كنت معي تم د‬
‫بأطرافها وهل علمت بأي مقدار قدرتها أم على أي شيء وضعت أكنافه ا أبطاعت ك‬
‫حمل الماء األرض أم بحكمتك كانت األرض للماء غطاء أين كنت مني ي وم رفعت‬
‫السماء سقفا محفوظافي الهواء‪ )2()..‬إلى آخر ما ذكره‪.‬‬
‫والعجيب أن ابن تيمي ة اس تدل به ذه القص ة على دن و هللا من خلق ه‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫(‪..‬وقد جاء أيضا ً من حديث وهب بن منبه وغيره من االسرائيليات قرب ه من أي وب‬
‫‪ ‬وغيره من األنبياء عليهم السالم‪ .‬ولفظه الذي ساقه البغ وى أن ه أظل ه غم ام ثم‬
‫نودى يا أيوب أنا هللا‪ ،‬يقول أنا قد دنوت منك أنزل منك قريبا)(‪)3‬‬

‫‪ )(1‬تفسير البغوي ‪ -‬إحياء التراث (‪.)306 /3‬‬


‫‪ )(2‬تفسير البغوي (‪.)303 /3‬‬
‫‪ )(3‬كتب ورسائل ابن تيمية في العقيدة ‪.5/464‬‬

‫‪108‬‬
‫وه ذا أك بر رد على من يص ور ابن تيمي ة بص ورة ال ورع ال ذي ينفي‬
‫اإلسرائيليات‪ ،‬وكيف ينفيها‪ ،‬وهو يدعو إلى قراءة القرآن من خاللها‪ ..‬وكيف ينفيه ا‬
‫وكل البنيان العقدي الوثني الذي دافع عنه مؤسس عليها؟‬
‫بل إن السلفية لم يكتفوا بهذا‪ ،‬فراحوا يصورون أيوب ‪ ‬بصورة الحريص‬
‫على الدنيا‪ ،‬المتكالب على متاعها‪ ،‬فقد رفعوا إلى رس ول هللا ‪ ‬قول ه ـ في ح ديث‬
‫اجتمع على روايته البخاري ومسلم وغيرهما ـ‪( :‬بينما أيوب علي ه الص الة والس الم‬
‫يغتسل عريانا‪ ،‬خر عليه جراد من ذهب‪ ،‬فجعل يحثي في ثوبه‪ ،‬قال‪ :‬فناداه ربه عز‬
‫وجل‪ :‬يا أيوب‪ ،‬ألم أكن أغنيتك؛ قال‪ :‬بلى‪ .‬يارب ولكن ال غنى بي عن بركاتك)(‪)1‬‬
‫ولس ت أدري م ا ج دوى أن يص ور الن بي عريان ا‪ ،‬ثم يص ور حرص ه على‬
‫الذهب‪ ،‬وكالهما تصويران يحرص اليهود على وصف األنبياء بهما‪.‬‬
‫والمش كلة في الح ديث ف وق ه ذا أن أي وب ‪ ،‬وبع د أن س قط علي ه ج راد‬
‫الذهب وهو عريان أخذ يحثي بثوبه؟‬
‫لكن ألن الحديث موجه للعقل السلفي‪ ..‬فال حرج أن يقبل كل شيء خاصة إذا‬
‫كان مخرج الرواية البخاري ومسلم‪.‬‬
‫في مقابل هذه الصورة السلفية عن أيوب ‪ ،‬وس بب بالئ ه‪ ،‬وكي ف تعام ل‬
‫معه‪ ،‬نرى المدرسة التنزيهية تنحى منحى مختلفا تماما‪ ،‬فهي تق رأ أي وب كم ا تق رأ‬
‫جمي ع األنبي اء عليهم الص الة والس الم من خالل الص ورة القرآني ة‪ ،‬ومن خالل‬
‫العصمة المطلقة لألنبياء عليهم الصالة والسالم‪.‬‬
‫وقد أورد الشريف المرتضى الش بهة ال تي يتعل ق به ا المخطئ ة ح ول أي وب‬
‫‪ ،‬فق ال‪( :‬ف إن قي ل‪ :‬فم ا ق ولكم في األم راض والمحن ال تي لحقت أي وب ‪‬‬
‫أوليس ق د نط ق الق رآن بأنه ا ك انت ج زاء على ذنب في قول ه‪َ ﴿ :‬م َّس نِ َي َّ‬
‫الش ْيطَانُ‬
‫ب﴾ [ص‪ ،]41 :‬والع ذاب ال يك ون إال ج زاء كالعق اب واآلالم الواقع ة‬ ‫ب َو َع َذا ٍ‬
‫بِنُصْ ٍ‬
‫على سبيل االمتحان ال تسمى عذابا وال عقابا‪ ،‬أوليس ق د روى جمي ع المفس رين أن‬
‫هللا تعالى إنما عاقبه بذلك البالء لتركه األمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقص ته‬
‫مشهورة يطول شرحها؟)(‪)2‬‬
‫ثم أجاب على هذه الشبهة بقوله‪( :‬أما ظاهر القرآن فليس ي دل على أن أي وب‬
‫‪ ‬عوقب بما نزل به من المضار‪ ،‬وليس في ظاهره شئ مم ا ظن ه الس ائل‪ ،‬ألن ه‬
‫ب﴾‬ ‫ب َو َع َذا ٍ‬
‫ص ٍ‬ ‫ُّوب إِ ْذ نَادَى َربَّهُ أَنِّي َم َّسنِ َي َّ‬
‫الش ْيطَانُ بِنُ ْ‬ ‫تعالى قال‪َ ﴿ :‬و ْاذ ُكرْ َع ْب َدنَا أَي َ‬
‫[ص‪ ]41 :‬والنصب هو التعب‪ ..‬والتعب هو المضرة التي ال تختص بالعق اب‪ ،‬وق د‬
‫تك ون على س بيل االمتح ان واالختب ار‪ .‬وأم ا الع ذاب فه و أيض ا يج ري مج رى‬
‫المضار التي يختص إطالق ذكرها بجه ة دون جه ة‪ .‬وله ذا يق ال للظ الم والمبت دئ‬
‫بالظلم أنه معذب ومضر ومؤلم‪ ،‬وربما قيل معاقب على سبيل المجاز‪ .‬وليست لفظة‬
‫العذاب بجارية مج رى لفظ ة العق اب‪ ،‬ألن لفظ ة العق اب يقتض ي ظاهره ا الج زاء‬
‫‪ )(1‬أحمد ‪ .)8144( 2/314‬والبخاري ‪ .)278( 1/78‬النسائي ‪1/200‬‬
‫‪ )(2‬تنزيه األنبياء‪ ،‬ص‪.90‬‬

‫‪109‬‬
‫ألنه ا من التعقيب والمعاقب ة‪ ،‬ولفظ ة الع ذاب ليس ت ك ذلك‪ .‬فأم ا إض افته ذل ك إلى‬
‫الش يطان‪ ،‬وإنم ا ابتاله ب ه فل ه وج ه ص حيح‪ ،‬ألن ه لم يض ف الم رض والس قم إلى‬
‫الشيطان‪ ،‬وإنما أضاف إليه ما كان يستضر به من وسوسته ويتعب به من تذكيره له‬
‫ما كان فيه من النعم والعافية والرخ اء‪ ،‬ودعائ ه ل ه إلى التض جر والت برم مم ا ه و‬
‫عليه‪ ،‬وألنه كان أيضا يوسوس إلى قومه بأن يستقذروه ويتجنبوه ويستخفوه لما كان‬
‫عليه من األمراض) (‪)1‬‬
‫ثم ذكر تلك الصورة البشعة التي لفقها مفسرو الس لفية عن ه‪ ،‬فق ال‪( :‬فأم ا م ا‬
‫روي في هذا الباب عن جملة جهلة المفسرين فمما ال يلتفت إلى مثله‪ ،‬ألن هؤالء ال‬
‫يزال ون يض يفون إلى ربهم تع الى وإلى رس له عليهم الس الم ك ل ق بيح ومنك ر‪،‬‬
‫ويق ذفونهم بك ل عظيم‪ .‬وفي روايتهم ه ذه الس خيفة م ا إذا تأمل ه المتأم ل علم أن ه‬
‫موضوع الباطل مصنوع‪ ،‬ألنهم رووا أن هللا تعالى سلط إبليس على مال أيوب ‪‬‬
‫وغنمه وأهله‪ ،‬فلما أهلكهم ودمر عليهم ورأى من صبره ‪ ‬وتماس كه‪ ،‬ق ال إبليس‬
‫لربه يا رب إن أيوب قد علم أن ك س تخلف علي ه مال ه وول ده فس لطني على جس ده‪،‬‬
‫فقال تعالى قد سلطتك على جسده كله إال قلبه وبصره‪ ،‬قال فأتاه فنفخه من لدن قرنه‬
‫على قدمه فصار قرحة واحدة‪ ،‬فقذف على كناسة لبني إسرائيل سبع س نين وأش هرا‬
‫تختلف الدواب على جسده‪ ،‬إلى شرح طويل نص ون كتابن ا عن ذك ر تفص يله‪ ،‬فمن‬
‫يقبل عقله هذا الجهل والكفر كيف يوثق بروايته‪ ،‬ومن ال يعلم أن هللا تعالى ال يس لط‬
‫إبليس على خلق ه‪ ،‬وأن إبليس ال يق در على أن يق رح األجس اد وال يفع ل األم راض‬
‫كيف يعتمد روايته؟)(‪)2‬‬
‫ثم فس ر س بب البالء بحس ب م ا يلي ق بحقهم من العص مة‪ ،‬فق ال‪( :‬فأم ا ه ذه‬
‫األم راض العظيم ة النازل ة ب أيوب ‪ ‬فلم تكن إال اختب ارا وامتحان ا وتعريض ا‬
‫للثواب بالصبر عليها والعوض العظيم النفيس في مقابلتها‪ ،‬وهذه سنة هللا تع الى في‬
‫أصفيائه وأوليائ ه عليهم الس الم‪ .‬فق د روي عن الرس ول ‪ ‬أن ه ق ال وق د س ئل أي‬
‫الناس أشد بالء فقال‪( :‬األنبياء ثم الصالحون ثم األمثل فاألمثل من الن اس)‪ ،‬فنظه ر‬
‫من صبره ‪ ‬على محنته وتماسكه ما صار به إلى اآلن مثال‪ ،‬حتى روي أنه ك ان‬
‫في خالل ذلك كله صابرا شاكرا محتسبا ناطقا بما له فيه المنفعة والفاي دة‪ ،‬وأن ه م ا‬
‫سمعت له شكوى وال تف وه بتض جر وال ت برم‪ ،‬فعوض ه هللا تع الى م ع نعيم اآلخ رة‬
‫العظيم الدائم أن رد عليه ماله وأهله وضاعف عددهم في قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وآتَ ْينَ اهُ أَ ْهلَ هُ‬
‫َو ِم ْثلَهُ ْم َم َعهُ ْم َرحْ َم ةً ِم ْن ِع ْن ِدنَا َو ِذ ْك َرى لِ ْل َعابِ ِدينَ ﴾ [األنبي اء‪ ]84 :‬وفي س ورة ص‬
‫ب﴾ [ص‪ ،]43 :‬ثم‬ ‫﴿ َو َوهَ ْبنَ ا لَ هُ أَ ْهلَ هُ َو ِم ْثلَهُ ْم َم َعهُ ْم َرحْ َم ةً ِمنَّا َو ِذ ْك َرى أِل ُولِي اأْل َ ْلبَ ا ِ‬
‫مسح ما به من العلل وشفاه وعافاه وأمره على م ا وردت ب ه الرواي ة‪ ،‬ب أن أركض‬
‫برجلك األرض فظهرت له عين فاغتسل منها فتساقط ما كان على جسده من ال داء‪.‬‬

‫‪ )(1‬تنزيه األنبياء‪ ،‬ص‪.90‬‬


‫‪ )(2‬تنزيه األنبياء‪ ،‬ص‪.90‬‬

‫‪110‬‬
‫) (‪)1‬‬ ‫ار ٌد َو َش َرابٌ ﴾ [ص‪]42 :‬‬ ‫قال هللا تعالى‪﴿ :‬ارْ ُكضْ بِ ِرجْ لِكَ هَ َذا ُم ْغتَ َس ٌل بَ ِ‬
‫ثم رد على سلف السلفية في ادع ائهم لتل ك األم راض المنف رة ال تي أص ابت‬
‫‪ ،‬والتي جعلت محل استقذار من قومه‪ ،‬فقال‪( :‬فإن قي ل‪ ،‬أفتص ححون م ا روي‬
‫أن الجذام أصابه حتى تساقطت أعضاؤه؟ قلن ا‪ :‬إن العم ل المس تقذرة ال تي ينف ر من‬
‫رآها وتوحشه كالبرص والج ذام فال يج وز ش ئ منه ا على األنبي اء عليهم الس الم‪..‬‬
‫ألن النفور ليس بواقف على األمور القبيحة‪ ،‬بل قد يك ون من الحس ن والق بيح مع ا‪.‬‬
‫وليس ينكر أن يكون أمراض أيوب ‪ ‬وأوجاع ه‪ .‬ومحنت ه في جس مه ثم في أهل ه‬
‫وماله بلغت مبلغا عظيم ا يزي د في الغم واأللم على م ا ين ال المج ذوم‪ ،‬وليس ننك ر‬
‫تزايد األلم فيه ‪ ،‬وإنما ننكر ما اقتضى التنفير)(‪)2‬‬
‫وهذا هو الفهم السليم للنبوة واألنبياء‪ ..‬ألن األنبياء كلف وا ب أدوارهم التربوي ة‬
‫والدعوية مع أقوامهم ولهذا يستحيل عليهم أي آف ة أو م رض أو عل ة تجع ل الن اس‬
‫ينفرون منهم‪.‬‬
‫هذه مقارنة بسيطة بين الرؤية القرآنية ومن يمثلها من مدرس ة آل بيت النب وة‬
‫الذين يبدعهم السلفية‪ ،‬وبين الرؤية السلفية التي تأخذ دينها ومواقفها من كتب اليهود‬
‫ورجال اليهود‪.‬‬
‫مع العلم أن الش ريف المرتض ى ص احب تل ك الج واهر في عص مة األنبي اء‬
‫وفي ال رد على الدس ائس اإلس رائيلية ع اش بين (‪ 355‬هـ ‪ 436 -‬هـ)‪ ،‬أي لم يكن‬
‫بعيدا عن الوقت الذي كان فيه الطبري وغيره من أعالم التفس ير ال ذين يس تند إليهم‬
‫السلفية‪.‬‬
‫سليمان ‪:‬‬
‫مع كثرة التشويهات ال تي أص اب به ا الس لفية جمي ع األنبي اء عليهم الص الة‬
‫والسالم إال أن سليمان ‪ ‬كان أكثرهم حظا منها‪ ،‬ح تى أنهم ـ كم ا ذكرن ا س ابقا ـ‬
‫صوروه ملكا أكثر من تصويره نبينا‪ ،‬وصوروه زير نساء أكثر مما صوروه عاب دا‬
‫زاهدا‪.‬‬
‫وبما أن غرضنا في هذا الفصل هو إخالء السلفية للنبوة والرسالة من معناه ا‬
‫الحقيقي‪ ،‬وهو ذلك الدور الذي كلف به الن بي لهداي ة قوم ه‪ ،‬فإن ا س نتحدث هن ا عن‬
‫ذلك التشويه لهذا الدور من خالل قصة منهج من مناهج الدعوة ذكر الق رآن الك ريم‬
‫ممارسة سليمان ‪ ‬له‪ ،‬لكن السلفية حولوه من منهج دعوة إلى أس طورة‪ ..‬ب ل إلى‬
‫قصة غرامية‪ ..‬ليضيفوا لنساء سليمان األلف امرأة أخرى‪.‬‬
‫وتبدأ اآليات الكريمة التي حرفوها بتفسيرهم لها بحكاية الهدهد عن ملكة سبأ‬
‫ت‬‫التي وجدها وقومه ا يس جدون للش مس من دون هللا‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪﴿ :‬إِنِّي َو َج ْد ُ‬
‫ت ِم ْن ُك لِّ َش ْي ٍء َولَهَ ا َع رْ شٌ َع ِظي ٌم (‪َ )23‬و َج ْدتُهَا َوقَوْ َمهَ ا‬ ‫ا ْم َرأَةً تَ ْملِ ُكهُ ْم َوأُوتِيَ ْ‬
‫يل فَهُ ْم اَل‬ ‫س ِم ْن دُو ِن هَّللا ِ َو َزيَّنَ لَهُ ُم ال َّش ْيطَانُ أَ ْع َمالَهُ ْم فَ َ‬
‫ص َّدهُ ْم َع ِن ال َّسبِ ِ‬ ‫يَ ْس ُج ُدونَ لِل َّش ْم ِ‬
‫‪ )(1‬تنزيه األنبياء‪ ،‬ص‪.90‬‬
‫‪ )(2‬تنزيه األنبياء‪ ،‬ص‪.90‬‬

‫‪111‬‬
‫ض َويَ ْعلَ ُم َم ا‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫يَ ْهتَ ُدونَ (‪ )24‬أَاَّل يَ ْس ُجدُوا هَّلِل ِ الَّ ِذي ي ُْخ ِر ُج ْالخَ بْ َء فِي َّ‬
‫الس َم َ‬
‫ش ْال َع ِظ ِيم ﴾ [النمل‪]26 - 23 :‬‬ ‫تُ ْخفُونَ َو َما تُ ْعلِنُونَ (‪ )25‬هَّللا ُ اَل إِلَهَ إِاَّل هُ َو َربُّ ْال َعرْ ِ‬
‫فالهدهد لم يذكر جمال الملكة‪ ،‬وال أصلها وال فصلها كما ذكر الس لفية‪ ،‬وإنم ا‬
‫اهتم لدينها ونوع اإلله الذي تعبده‪ ،‬وقد استنكر ـ وه و هده د ـ ذل ك أيم ا اس تنكار‪،‬‬
‫فلذلك راح يشكوهم لسليمان ‪.‬‬
‫وبما أن وظيفة سليمان ‪ ‬هي الدعوة إلى هللا‪ ،‬فقد أرسل إليهم ي دعوهم إلى‬
‫ص َد ْقتَ أَ ْم ُك ْنتَ ِمنَ‬ ‫ال َسنَ ْنظُ ُر أَ َ‬ ‫الحضور عنده‪ ،‬ليبلغهم دعوة ربه‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬قَ َ‬
‫ْال َكا ِذبِينَ (‪ْ )27‬اذهَبْ بِ ِكتَابِي هَ َذا فَأ َ ْلقِ ْه إِلَ ْي ِه ْم ثُ َّم ت ََو َّل َع ْنهُ ْم فَا ْنظرْ َما َذا يَرْ ِجعُونَ (‪)28‬‬
‫ُ‬
‫ي ِكتَ ابٌ َك ِري ٌم (‪ )29‬إِنَّهُ ِم ْن ُس لَ ْي َمانَ َوإِنَّهُ بِ ْس ِم هَّللا ِ‬ ‫ت يَاأَيُّهَ ا ْال َمأَل ُ إِنِّي أُ ْلقِ َي إِلَ َّ‬‫قَ الَ ْ‬
‫ي َوأتُونِي ُم ْسلِ ِمينَ (‪[ ﴾ )31‬النمل‪]32 - 27 :‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫الرَّحْ َم ِن ال َّر ِح ِيم (‪ )30‬أاَّل تَ ْعلُوا َعلَ َّ‬
‫وكان لذكاء ملكة سبأ دوره في ذهابها إلى سليمان ‪ ..‬وك ان س ليمان ‪‬‬
‫يعرف المدخل الذي يدخل به إليها وإلى قومها‪.‬‬
‫فقد رأى حبهم للترف‪ ..‬بدليل أنه كان لها عرش عظيم‪ ..‬فل ذلك راح ي بين لهم‬
‫أنهم بإسالمهم وجوههم هلل لن يفقدوا ذلك النعيم الذي كانوا يعيشونه‪.‬‬
‫ولذلك فإن ذكر هللا تعالى ما أظهر لسليمان ‪ ‬لملكة سبأ من مظاهر المل ك‬
‫الذي أعطاه هللا له لم يكن غرضه منه الفخر عليها‪ ،‬وإنما كان غرضه تعريفها باهلل‪،‬‬
‫ألنها انشغلت بالعرش العظيم الذي كان له ا عن هللا‪ ،‬فل ذلك ك ان أول م ا القاه ا ب ه‬
‫سليمان ‪ ‬هو عرش ها ال ذي حجبه ا عن هللا‪ ،‬وعن التس ليم ل ه‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿:‬فَلَ َّما‬
‫ت َكأَنَّهُ ه َُو ﴾(النمل‪)42:‬‬ ‫ك قَالَ ْ‬ ‫ت قِي َل أَهَ َك َذا َعرْ ُش ِ‬ ‫َجا َء ْ‬
‫فلما قالت ذلك‪ ،‬وفي غمرة انبهارها بم ا رأت أخبره ا س ليمان ‪ ‬بأن ه م ع‬
‫هذا الملك كان مس لما هلل‪ ،‬فلم يحجب ب ه عن هللا‪ ،‬فق ال تع الى على لس انه‪َ ﴿:‬وأُوتِينَ ا‬
‫ْال ِع ْل َم ِم ْن قَ ْبلِهَا َو ُكنَّا ُم ْسلِ ِمينَ )‬
‫فلما رأى سليمان ‪ ‬حاجتها إلى المزيد من األدل ة‪ ،‬أحض رها إلى الص رح‬
‫الممرد من القوارير‪ ،‬وقد كان من الجمال بحيث ال يساوي عرشها الذي ش غلها عن‬
‫هللا ش يئا بجانب ه‪ ،‬وحين ذاك لم تمل ك إال أن تس لم هلل‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿:‬قِي َل لَهَ ا ا ْد ُخلِي‬
‫ير‬‫ار َ‬ ‫ص رْ ٌح ُم َم َّر ٌد ِم ْن قَ َو ِ‬ ‫ال إِنَّهُ َ‬
‫ت ع َْن َساقَ ْيهَا قَ َ‬ ‫الصَّرْ َح فَلَ َّما َرأَ ْتهُ َح ِسبَ ْتهُ لُ َّجةً َو َك َشفَ ْ‬
‫ت َم َع ُسلَ ْي َمانَ هَّلِل ِ َربِّ ْال َعالَ ِمينَ ﴾ (النمل‪)44:‬‬ ‫ت نَ ْف ِسي َوأَ ْسلَ ْم ُ‬ ‫ت َربِّ إِنِّي ظَلَ ْم ُ‬ ‫قَالَ ْ‬
‫وق د أش ار الق رآن الك ريم إلى ه ذا المع نى حين ذك ر ذك اء ملك ة س بأ ال ذي‬
‫استطاعت به أن تميز به الملوك من المؤمنين‪ ،‬فقد أرسلت بهدية قيمة لس ليمان ‪‬‬
‫َاظ َرةٌ بِ َم‬‫لتختبر موقفه من المال‪ ،‬قال تعالى على لسانها‪َ ﴿:‬وإِنِّي ُمرْ ِسلَةٌ إِلَ ْي ِه ْم بِهَ ِديَّ ٍة فَن ِ‬
‫يَرْ ِج ُع ْال ُمرْ َسلُونَ ﴾ (النمل‪)35:‬‬
‫لكن سليمان ‪ ‬نظر إلى م ا أعط اه هللا من اإليم ان والفض ل فوج ده أعظم‬
‫بكثير من أن ينحجب بهديتهم‪ ،‬فقال‪ ﴿:‬أَتُ ِم ُّدون َِن بِ َما ٍل فَ َما آتَانِ َي هَّللا ُ خَ ْي ٌر ِم َّما آتَ ا ُك ْم بَ لْ‬
‫أَ ْنتُ ْم بِهَ ِديَّتِ ُك ْم تَ ْف َرحُونَ ﴾ (النمل‪)36:‬‬
‫ولعله ألجل هذا ورد في القرآن الكريم ذلك الطلب الغ ريب من س ليمان ‪‬‬

‫‪112‬‬
‫والذي أساء السلفية فهمه‪ ،‬وشوهوه بسببه أيما تش ويه‪ ،‬وه و طلب ه من رب ه س بحانه‬
‫وتعالى أن يعطيه ملكا لم يعط ه أح دا من عب اده‪ ،‬كم ا نص على ذل ك قول ه تع الى‪:‬‬
‫ك أَ ْنتَ ْال َوهَّابُ ﴾‬
‫﴿ قَ ا َل َربِّ ا ْغفِ رْ لِي َوهَبْ لِي ُم ْل ًك ا اَل يَ ْنبَ ِغي أِل َ َح ٍد ِم ْن بَ ْع ِدي إِنَّ َ‬
‫[ص‪]35 :‬‬
‫مع أن س ليمان ‪ ‬ـ بحس ب م ا ي دل علي ه النص الق رآني ـ م ا طلب ذل ك‬
‫الملك‪ ،‬وبتلك الصورة التي ال ينازعه فيها أحد إال ليكون حجة على من ش غله ملك ه‬
‫عن هللا‪ ،‬وكأن سليمان ‪ ‬يقول لربه‪ (:‬يارب هب لي من الملك ما تش اء‪ ..‬ب ل هب‬
‫لي ملك ا ال ينبغي ألح د من بع دي أن يحص ل علي ه‪ ..‬ف إن ه ذا المل ك مهم ا ك ان‬
‫عظيم ا‪ ..‬وذل ك الفض ل مهم ا ك ان وف يرا لن يحجب اني عن ك‪ ،‬ولن يبع دا قل بي عن‬
‫الرغبة فيك‪ ..‬فإني ال أرى األشياء مهم ا ك ثرت إال من ك‪ ..‬وال أرى نفس ي إال ب ك‪..‬‬
‫فكيف أحجب بهداياك الواصلة إلي‪ ..‬أم كيف أنشغل بفضلك عنك؟)‬
‫وقد أشار الشريف المرتضى في رده على المخطئ ة م ا وص موا ب ه ن بي هللا‬
‫سليمان ‪ ‬في هذا الجانب إلى قريب من هذا المعنى الذي ذكرناه‪ ،‬فقال‪( :‬ق د ثبت‬
‫أن األنبياء عليهم السالم ال يسألون إال م ا ي ؤذن لهم في مس ألته‪ ،‬ال س يما إذا ك انت‬
‫المسألة ظاهرة يعرفها قومهم‪ .‬وجائز أن يك ون هللا تع الى أعلم س ليمان ‪ ‬أن ه إن‬
‫سأل ملكا ال يكون لغيره كان أصلح له في الدين واالستكثار من الطاع ات‪ ،‬وأعلم ه‬
‫أن غيره لو سأل ذلك لم يجب إليه من حيث ال صالح له فيه‪ .‬ول و أن أح دنا ص رح‬
‫في دعائه بهذا الشرط ح تى يق ول اللهم اجعل ني أيس ر أه ل زم اني وارزق ني م اال‬
‫يساويني فيه غيري إذا علمت أن ذلك أصلح لي وأنه أدعى إلى ما تريده مني‪ ،‬لكان‬
‫هذا الدعاء منه حسنا جميال وهو غير منسوب به إلى بخل وال شح‪ .‬وليس يمتن ع أن‬
‫يسأل النبي هذه المسألة من غير إذن إذا لم يكن شرط ذل ك بحض رة قوم ه‪ ،‬بع د أن‬
‫يكون هذا الشرط مرادا فيها‪ ،‬وإن لم يكن منطوقا به)(‪)1‬‬
‫ثم ذكر وجها آخر أكثر داللة‪ ،‬فقال‪( :‬ووج ه آخ ر‪ :‬وه و أن يك ون ‪ ‬إنم ا‬
‫التمس أن يكون ملكه آية لنبوته ليتبين بها عن غيره ممن ليس نبيا‪ .‬وقوله ﴿اَل يَ ْنبَ ِغي‬
‫أِل َ َح ٍد ِم ْن بَ ْع ِدي﴾ [ص‪ ]35 :‬أراد ب ه ال ينبغي ألح د غ يري ممن أتى مبع وث إلي ه‪،‬‬
‫ولم يرد من بعده إلى يوم القيامة من النبيين ‪ .‬ونظير ذلك أنك تق ول للرج ل أن ا‬
‫أطيعك ثم ال أطيع أح دا بع دك‪ ،‬تري د وال أطي ع أح دا س واك‪ .‬وال تري د بلفظ ة بع د‬
‫المستقبل‪ ،‬وهذا وجه قريب)(‪)2‬‬
‫ثم ذكر وجها ثالثا محتمال‪ ،‬فقال‪( :‬وقد ذكر أيضا في هذه اآلية ومما ال ي ذكر‬
‫فيها مما يحتمله الكالم أن يكون ‪ ‬إنما س أل مل ك اآلخ رة وث واب الجن ة ال تي ال‬
‫يناله المستحق إال بعد انقطاع التكلي ف وزوال المحن ة‪ ،‬فمع نى قول ه ال ينبغي ألح د‬
‫من بعدي أي ال يستحقه بعد وصولي إليه أحد من حيث ال يصح أن يعمل ما يستحق‬
‫به النقطاع التكليف‪ .‬ويقوي ه ذا الج واب قول ه‪َ ﴿ :‬ربِّ ا ْغفِ رْ لِي﴾ [ص‪ ]35 :‬وه و‬
‫‪ )(1‬تنزيه األنبياء‪ ،‬ص‪.140‬‬
‫‪ )(2‬تنزيه األنبياء‪ ،‬ص‪.140‬‬

‫‪113‬‬
‫من أحكام اآلخرة‪ .‬وليس ألحد أن يقول إن ظاهر الكالم بخالف ما تأولتم‪ ،‬ألن لفظة‬
‫بعدي ال يفهم منها بعد وصولي إلى الثواب‪ .‬وذلك أن الظاهر غير مانع من التأوي ل‬
‫الذي ذكرناه‪ ،‬وال مناف ل ه‪ .‬ألن ه ال ب د من أن تعل ق لفظ ة بع دي بش ئ من أحوال ه‬
‫المتعلقة به‪ ،‬وإذا علقناه ا بوص وله إلى المل ك ك ان ذل ك في الفاي دة ومطابق ة الكالم‬
‫كغيره مما يذكر في هذا الباب‪ .‬أال ترى أنا إذا حملنا لفظة بعدي على نب وتي أو بع د‬
‫مسألتي أو ملكي‪ ،‬كان ذلك كله في حصول الفائدة به‪ ،‬يجري مجرى أن تحمله ا إلى‬
‫بعد وصولي إلى الملك‪ .‬فإن ذلك مما يقال فيه أيضا بعدي‪ .‬أال ترى أن القائ ل يق ول‬
‫دخلت ال دار بع دي ووص لت إلى ك ذا وك ذا بع دي‪ ،‬وإنم ا يري د بع د دخ ولي وبع د‬
‫وصولي وهذا واضح بحمد هللا)(‪)1‬‬
‫هذا هو تفسير القائلين بالعصمة المطلقة لألنبياء عليهم الصالة والسالم لقصة‬
‫س ليمان ‪ ‬م ع ملك ة س بأ‪ ..‬أم ا الس لفية‪ ،‬فق د راح وا برواي اتهم يفس رون اآلي ات‬
‫الكريمة تفسيرا مختلفا تماما‪ ،‬حيث جعلوا من هدف سليمان ‪ ،‬بل من هدف تل ك‬
‫اآليات الكريم ة ال تي حكت عن ه‪ ،‬أن ي تزوج من تل ك الملك ة‪ ،‬ويظه ر له ا س لطانه‬
‫وسطوته‪ ،‬ويفتخر عليها بذلك‪.‬‬
‫وتبدأ حكاية السلفية مع ملكة سبأ من تعريفهم بها‪ ،‬فقد ذكروا أنه ا بلقيس بنت‬
‫شراحيل‪ ..‬وقد ذكر الثقاة منهم أنه ولدها أربعون ملك ا‪ ،‬آخ رهم أبوه ا‪ ..‬وك ان أح د‬
‫أبويها من الجن(‪..)2‬‬
‫والسلفية يذمونها ذما شديدا‪ ،‬ويذمون معها أهل اليمن بسبب ت وليتهم الم رأة‪،‬‬
‫وقد رووا عن سلفهم الصالح خالد بن صفوان أن ه ق ال واص فا أه ل اليمن‪( :‬هم من‬
‫بين دابغ جلد‪ ،‬وسايس قرد‪ ،‬وحائك ب رد‪ ،‬ملكتهم ام رأة‪ ،‬ودل عليم هده د وغ رقتهم‬
‫فأرة)(‪)3‬‬
‫وقد استطاع السلفية ـ باإلضافة إلى هذا ـ االطالع على الهدية التي أرس لتها‪،‬‬
‫فقد ذكرت مص ادرهم الموثوق ة أنه ا ك انت مائ ة غالم‪ ،‬ومائ ة جاري ة‪ ..‬وقي ل أنه ا‬
‫أرسلت إليه مائتي غالم وم ائتي جاري ة‪ ،‬وك ان بعض هم يش به البعض في الص ورة‬
‫والصوت والهيئة‪ ،‬وقالت للرسول‪ :‬قل له‪ :‬ليميز بين الغلمان والجواري(‪.)4‬‬
‫وقد استطاع السلفية أن يجدوا حال لهذا اللغز المحير ال ذي أوقعت ه في ه ملك ة‬
‫سبأ‪ ،‬فقد رووا أنه أنه أمرهم بالجلوس ودعا بالغلمان والجواري بأن يتوضئوا‪ ،‬فمن‬
‫صب الماء على بطن ساعده قال‪ :‬هي جارية‪ ،‬ومن ص ب الم اء على ظه ر س اعده‬
‫قال‪ :‬هو غالم‪..‬‬
‫وذكر آخ رون منهم أن ه جع ل من ب دأ ب المرفق في الغس ل غالم ا‪ ،‬ومن ب دأ‬
‫بالزند في الغسل جارية‪ ..‬وذك ر آخ رون أن ه جع ل من أغ رف األن اء غالم ا‪ ،‬ومن‬

‫‪ )(1‬تنزيه األنبياء‪ ،‬ص‪.141‬‬


‫‪ )(2‬تفسير السمعاني (‪)89 /4‬‬
‫‪ )(3‬تفسير السمعاني (‪)90 /4‬‬
‫‪ )(4‬تفسير السمعاني (‪)96 /4‬‬

‫‪114‬‬
‫صب على يده جارية‪.‬‬
‫أما قصة القصر الممرد من قوارير‪ ،‬فقد ذك روا أن س ليمان ‪ ‬جع ل تحت ه‬
‫تماثيل من الحيتان والضفادع‪ ،‬وكان الواحد إذا رآه ظن ه م اء‪ ..‬وق د أم ر س ليمان ‪-‬‬
‫‪ – ‬أن يوضع سريره في وسط الصرح‪ ،‬ثم دعا بلقيس إلى مجلسه‪ ،‬فلم ا وص لت‬
‫إلى الصرح ونظرت ظنت أنه م اء‪ ،‬فكش فت عن س اقيها لت دخل في الم اء‪ ،‬فص اح‬
‫ير ﴾ [النمل‪]44 :‬‬‫ار َ‬ ‫سليمان‪ ﴿ :‬إِنَّهُ َ‬
‫صرْ ٌح ُم َم َّر ٌد ِم ْن قَ َو ِ‬
‫أما سبب تكلفه لبنائه أو لصناعته‪ ،‬فقد ذك روا أن ه قي ل لس ليمان ‪ ‬أن على‬
‫رجليها شعرا كثيرا‪ ..‬أخبرته الجن بذلك‪ ..‬فأراد أن يتأكد‪ ،‬فوجدوا األمر كما ذكروا‪.‬‬
‫ولهذا ذكروا أن سليمان ‪ ‬قال للشياطين‪ :‬ما الذي ي ذهب الش عر؟ فاتخ ذوا‬
‫النورة‪ ،‬وهو أول من اتخذ الحمام والنورة‪.‬‬
‫أما سبب استقدامها لقص ره‪ ..‬فه و واض ح‪ ..‬فق د أراد أن ي تزوج به ا‪ ،‬ول ذلك‬
‫قصد أن ينظر إلى ساقيها(‪.)1‬‬
‫هذا هو التشويه السلفي لقصص األنبياء في القرآن الك ريم‪ ..‬ليتح ول األنبي اء‬
‫من دعاة إلى هللا‪ ،‬ومضحين بكل ما يملكون في سبيل ذلك إلى طالب دنيا‪ ،‬وت رف‪،‬‬
‫ونساء‪.‬‬

‫‪ )(1‬تفسير السمعاني (‪)102 /4‬‬

‫‪115‬‬
‫أساطير‪ ..‬وخرافات‬
‫مع كون كل ما ذكرناه سابقا مسيئا لألنبياء عليهم الصالة والس الم‪ ،‬ومش وها‬
‫لمك انتهم الرفيع ة‪ ،‬ومدنس ا لمقام اتهم العالي ة‪ ،‬وحجاب ا عظيم ا بينهم وبين ك ونهم‬
‫منارات هداية لهذه األمة ولغيرها من األمم‪ ..‬إال أن األخطر من ذلك كله هو تحويل‬
‫قصصهم من قصص ق رآني ممل وء بالمع اني الس امية إلى قص ص يه ودي ممل وء‬
‫باألساطير والخرافات‪.‬‬
‫وهذا لألسف ما حصل في تاريخنا الطويل بفعل تلك الروايات الش نيعة ال تي‬
‫قبل السلفية رواتها‪ ،‬واعتبروهم أئمة للدين‪ ،‬بل وضعوا ذلك اله راء ال ذي ق الوه في‬
‫كتب التفس ير والح ديث والعقائ د‪ ،‬ل يرغم على قراءته ا ع وام الن اس وخواص هم‪،‬‬
‫فتنقدح معانيها المسمومة فيهم شعروا أو لم يشعروا‪.‬‬
‫وال يفي د بع د ك ل م ا ذك روه أن يقول وا عن تل ك األح اديث بع د روايته ا‬
‫بتفاصيلها وطرقها‪ :‬موقوف على كعب األحبار‪ ..‬ولعله من اإلسرائيليات‪ ..‬فم ا تفي د‬
‫هذه العبارة التي قد ال يلتفت لها القارئ أص ال بع د أن يش حن خيال ه تمام ا بأح داث‬
‫القصة‪ ،‬وبعد أن تمحى كل تلك الص ورة الجميل ة ال تي ص وروا به ا األنبي اء عليهم‬
‫السالم‪.‬‬
‫وخطر الدور الذي ق ام ب ه الس لفية في ه ذا ه و تش جيعهم على مطالع ة كتب‬
‫أعالمهم األوائل كالطبري والبغوي والسمعاني والثعلبي وغيره ا‪ ..‬في نفس ال وقت‬
‫الذي كانوا وال زالوا يحذرون من كتب القائلين بالعصمة المطلقة‪ ،‬ككت اب الش ريف‬
‫المرتضى في تنزيه األنبياء كما ذكرنا سابقا‪.‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن السلفية‪ ،‬استطاعت أن تمارس ال دور اليه ودي في ه ذه األم ة‪ ،‬ال‬
‫بتحريف ألفاظ القرآن الكريم‪ ،‬وإنما بتحويل معانيه‪ ..‬وكالهما خط ير‪ ..‬ب ل األخط ر‬
‫هو تحريف المعاني‪ ،‬ألن المعاني هي المقصودة بالذات‪ ،‬وما األلفاظ إال كسوتها‪.‬‬
‫وقد استعملت ـ كما ذكرنا مرات متعددة ـ ذل ك الح ديث ال ذي جعل وه مفتاح ا‬
‫إلدخال اليهودية في اإلسالم بتجسيمها وأساطيرها وخرافاتها وكل أنواع ضاللها‪.‬‬
‫ومن الروايات العجيبة لذلك الحديث ما رووه عن أبى سعيد‪ ،‬قال‪ :‬كن ا قع ودا‬
‫نكتب ما نسمع من النبى ‪ ‬فخرج علين ا‪ ،‬فق ال‪ :‬م ا ه ذا تكتب ون؟ فقلن ا‪ :‬م ا نس مع‬
‫منك‪ ،‬فقال‪ :‬أكتاب مع كتاب هللا؟ أمحضوا كتاب هللا وأخلصوه‪ ،‬قال‪ :‬فجمعنا ما كتبنا‬
‫فى صعيد واح د‪ ،‬ثم أحرقن اه بالن ار‪ ،‬قلن ا‪ :‬أى رس ول هللا أنتح دث عن ك؟ ق ال‪ :‬نعم‬
‫تحدثوا عنى‪ ،‬وال حرج‪ ،‬ومن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار‪ .‬ق ال‪ :‬فقلن ا‪:‬‬
‫يا رسول هللا‪ ،‬أنتحدث عن بنى إسرائيل؟ ق ال‪ :‬نعم‪ ،‬تح دثوا عن ب نى إس رائيل‪ ،‬وال‬
‫حرج‪ ،‬فإنكم ال تحدثوا عنهم بشىء إال وقد كان فيهم أعجب منه(‪.)1‬‬

‫‪ )(1‬رواه ابن حجر في غاية المقصد فى زوائ د المس ند (‪ ،)101 /1‬وق ال‪ :‬ه و فى الص حيح باختص ار وبغ ير ه ذا‬
‫السياق أيضا‪..‬‬

‫‪116‬‬
‫فهم بهذا الحديث وأمثاله مهدوا للنسخة اليهودية من اإلس الم‪ ..‬فه و ينهى عن‬
‫الكتابة عن رسول هللا ‪ ‬حتى ال يختلط حديث رسول هللا ‪ ‬بالقرآن الك ريم‪ ،‬وفي‬
‫نفس الوقت يأذن بالحديث عن بني إسرائيل‪ ،‬وكأن أحاديث بني إس رائيل لن تختل ط‬
‫بكتاب هللا‪.‬‬
‫بل في الحديث ما هو أخطر من ذلك‪ ..‬وهو اإلقرار بأن كل ما يذكرونه عنهم‬
‫صحيح‪ ،‬فقد ورد فيه (فإنكم ال تحدثوا عنهم بشىء إال وقد كان فيهم أعجب منه)‬
‫ولو أن الذين نشروا أمثال هذه األح اديث وراح وا يس تدلون به ا‪ ،‬ب ل راح وا‬
‫يفعلونها في حياتهم ب البحث عن أه ل الكت اب والرواي ة عنهم ق رأوا الق رآن الك ريم‬
‫بصدق وإخالص لكان فيهم من الورع ما يحول بينهم وبين ذلك‪.‬‬
‫فالقرآن الكريم عندما يورد أي قصة من القصص يخبر الرس ول ‪ ‬أن ه ذه‬
‫القصة من هللا‪ ،‬وأن الغيب هلل‪ ،‬وقد كان في إمكانه أن يقول لرسول هللا ‪ :‬إن شئت‬
‫المزيد من التفاصيل فاقصد أحبار اليهود‪ ،‬أو اقصد الذين أسلموا منهم ليعطوك تل ك‬
‫التفاصيل‪ ..‬لكنه لم يفعل‪ ،‬بل ورد النهي عن ذلك‪.‬‬
‫ض ْينَا إِلَى‬ ‫ب ْال َغ رْ بِ ِّي إِ ْذ قَ َ‬
‫﴿و َم ا ُك ْنتَ بِ َج انِ ِ‬ ‫ومن األمثلة على ذلك قوله تع الى‪َ :‬‬
‫او َل َعلَ ْي ِه ُم ْال ُع ُم ُر‬ ‫ْ‬
‫ُمو َسى اأْل َ ْم َر َو َما ُك ْنتَ ِمنَ ال َّشا ِه ِدينَ (‪َ )44‬ولَ ِكنَّا أَ ْن َشأنَا قُرُونًا فَتَطَ َ‬
‫اويً ا فِي أَ ْه ِل َم ْديَنَ تَ ْتلُ و َعلَ ْي ِه ْم آيَاتِنَ ا َولَ ِكنَّا ُكنَّا ُمرْ ِس لِينَ (‪َ )45‬و َم ا ُك ْنتَ‬ ‫َو َما ُك ْنتَ ثَ ِ‬
‫ير ِم ْن قَ ْبلِ كَ‬‫ور إِ ْذ نَا َد ْينَا َولَ ِك ْن َرحْ َمةً ِم ْن َربِّكَ لِتُ ْن ِذ َر قَوْ ًما َما أَتَ اهُ ْم ِم ْن نَ ِذ ٍ‬ ‫الط ِ‬‫ب ُّ‬ ‫بِ َجانِ ِ‬
‫لَ َعلَّهُ ْم يَتَ َذ َّكرُونَ ﴾ [القصص‪]46 - 44 :‬‬
‫فهذه اآليات الكريمة تبين المنهج العلمي الذي يحتاج ه ك ل من يري د الح ديث‬
‫عن الوقائع التاريخية السابقة‪ ،‬وهي إما خبر المعصوم كما أخبر هللا تعالى نبيه ‪،‬‬
‫أو هي الحضور المباشر للمكان والزمان الذي وقعت فيه الحادث ة‪ ..‬أم ا خ بر ال ذين‬
‫اختلط صدقهم بكذبهم فلن يزيد الباحث إال ضاللة‪.‬‬
‫ومثل تلك اآلية آيات كثيرة ترسخ هذا المنهج القرآني‪ ،‬ومنها قوله تعالى بع د‬
‫ك َم ا ُك ْنتَ تَ ْعلَ ُمهَ ا أَ ْنتَ َواَل‬ ‫وحيهَ ا إِلَ ْي َ‬ ‫ب نُ ِ‬ ‫ذكره لقصة نوح ‪﴿ :‬تِ ْلكَ ِم ْن أَ ْنبَ ا ِء ْال َغ ْي ِ‬
‫ك ِم ْن قَ ْب ِل هَ َذا فَاصْ بِرْ إِ َّن ْال َعاقِبَةَ لِ ْل ُمتَّقِينَ ﴾ [هود‪]49 :‬‬ ‫قَوْ ُم َ‬
‫وحي ِه‬ ‫ب نُ ِ‬‫ومثلها قوله بعد ذكره لقصة مريم عليها السالم‪َ ﴿ :‬ذلِكَ ِم ْن أَ ْنبَا ِء ْال َغ ْي ِ‬
‫َص ُمونَ ﴾‬ ‫ك َو َما ُك ْنتَ لَ َد ْي ِه ْم إِ ْذ ي ُْلقُونَ أَ ْقاَل َمهُ ْم أَيُّهُ ْم يَ ْكفُ ُل َمرْ يَ َم َو َما ُك ْنتَ لَ َد ْي ِه ْم إِ ْذ يَ ْخت ِ‬ ‫إِلَ ْي َ‬
‫[آل عمران‪]44 :‬‬
‫ك‬ ‫َ‬
‫ب نو ِحي ِه إِل ْي َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ومثلها قوله بعد ذكره لقصة يوسف ‪﴿ :‬ذلِ كَ ِمن أنبَ ا ِء ال َغ ْي ِ‬
‫َو َما ُك ْنتَ لَ َد ْي ِه ْم إِ ْذ أَجْ َمعُوا أَ ْم َرهُ ْم َوهُ ْم يَ ْم ُكرُونَ ﴾ [يوسف‪]102 :‬‬
‫ك ِم ْن‬ ‫ومثلها قوله بعد ذكره لمجموعة من قصص األنبياء عليهم السالم‪َ ﴿ :‬ذلِ َ‬
‫صي ٌد﴾ [هود‪]100 :‬‬ ‫ك ِم ْنهَا قَائِ ٌم َو َح ِ‬ ‫أَ ْنبَا ِء ْالقُ َرى نَقُصُّ هُ َعلَ ْي َ‬
‫بل إن القرآن الكريم ال يقصر هذا المنهج على القص ص‪ ،‬ب ل يعمم ه في ك ل‬
‫شيء‪ ،‬فال يصح أن نتعلم أي علم من غير مص ادره الص حيحة الموثوق ة‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫ك َك انَ َع ْن هُ‬ ‫ص َر َو ْالفُؤَا َد ُكلُّ أُولَئِ َ‬ ‫ك بِ ِه ِع ْل ٌم إِ َّن ال َّس ْم َع َو ْالبَ َ‬ ‫ْس لَ َ‬‫﴿واَل تَ ْقفُ َما لَي َ‬ ‫تعالى‪َ :‬‬

‫‪117‬‬
‫َم ْسئُواًل ﴾ [اإلسراء‪]36 :‬‬
‫ألن كل علم ال يستند إلى مصدر صحيح موثوق ه و دج ل وك ذب وض اللة‪،‬‬
‫ق‬‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬و َم ا لَهُ ْم بِ ِه ِم ْن ِع ْل ٍم إِ ْن يَتَّبِ ُع ونَ إِاَّل الظَّ َّن َوإِ َّن الظَّ َّن اَل يُ ْغنِي ِمنَ ْال َح ِّ‬
‫ت َكلِ َم ةً ت َْخ ُر ُج ِم ْن‬ ‫َش ْيئًا﴾ [النجم‪ ،]28 :‬وقال‪َ ﴿ :‬م ا لَهُ ْم بِ ِه ِم ْن ِع ْل ٍم َواَل آِل بَ ائِ ِه ْم َكبُ َر ْ‬
‫أَ ْف َوا ِه ِه ْم إِ ْن يَقُولُونَ إِاَّل َك ِذبًا ﴾ [الكهف‪]5 :‬‬
‫لكن السلفية غفلوا عن كل ه ذه اآلي ات الكريم ة‪ ،‬وتص ورا أن األم ر س هل‪،‬‬
‫فليس في تلك الروايات س وى المزي د من التفاص يل ال تي تت وق له ا نف وس الن اس‪،‬‬
‫ونسوا أن األمر مرتب ط ب القرآن الك ريم ال ذي ه و رس الة هللا إلى عب اده ليت دبروه‪،‬‬
‫ويعيشوا معانيه‪ ..‬فإذا ما اختلطت تل ك المع اني بالتحريف ات اإلس رائيلية‪ ،‬فسيص بح‬
‫القرآن الكريم حينها متنا‪ ،‬وتص بح تل ك التحريف ات ش رحا ل ه‪ ..‬والن اس ال يفهم ون‬
‫المتن إال بشرحه‪ ،‬وقد يقتصرون على الشرح‪ ،‬ويغفلون عن المتن‪.‬‬
‫والخطر األك بر ال ذي ج ره الس لفية وس لفهم إلى القص ص الق رآني ه و تل ك‬
‫التفاصيل الكثيرة التي ال مبرر للبحث فيها‪ ،‬بل قد نهينا عن البحث عنها‪.‬‬
‫فقد نهانا هللا تع الى عن البحث عن التفاص يل ال تي ال نحت اج إليه ا‪ ،‬ح تى ل و‬
‫وردتنا من مصادر موثوقة‪ ،‬ألن المهم هو العبرة‪ ،‬وليس تفاصيل األحداث‪ ،‬كما قال‬
‫تعالى عند ذكره لفتية أهل الكهف‪ ،‬واالختالف في عددهم‪َ ﴿ :‬سيَقُولُونَ ثَاَل ثَ ةٌ َرابِ ُعهُ ْم‬
‫ب َويَقُولُونَ َس ْب َعةٌ َوثَا ِمنُهُ ْم َك ْلبُهُ ْم قُ لْ‬ ‫َك ْلبُهُ ْم َويَقُولُونَ َخ ْم َسةٌ َسا ِد ُسهُ ْم َك ْلبُهُ ْم َرجْ ًما بِ ْال َغ ْي ِ‬
‫ت فِي ِه ْم‬‫ار فِي ِه ْم إِاَّل ِم َرا ًء ظَ ا ِهرًا َواَل ت َْس تَ ْف ِ‬ ‫َربِّي أَ ْعلَ ُم بِ ِع َّدتِ ِه ْم َما يَ ْعلَ ُمهُ ْم إِاَّل قَلِي ٌل فَاَل تُ َم ِ‬
‫ِم ْنهُ ْم أَ َحدًا﴾ [الكهف‪]22 :‬‬
‫ومع أن هللا تعالى نهى رسول هللا ‪ ‬في هذه اآلية الكريمة أن يسأل أي أح د‬
‫عن حقيقة عدد أهل الكهف‪ ،‬أو التفاصيل المرتبطة بهم‪ ..‬لكن الس لفية ش حنوا كتبهم‬
‫بأمثال هذه المسائل‪ ،‬بل إن األمر وصل بهم إلى التعرف على اسم كلب أهل الكهف‬
‫نفسه‪.‬‬
‫قال الط بري ـ ش يخ مفس ريهم ومص درهم األول ـ في تفس ير قول ه تع الى‪:‬‬
‫صي ِد﴾ [الكهف‪( :]18 :‬اختلف أهل التأويل في الذي ع نى‬ ‫﴿ َو َك ْلبُهُ ْم بَا ِسطٌ ِذ َرا َع ْي ِه بِ ْال َو ِ‬
‫اسطٌ ِذ َرا َع ْي ِه ﴾‪ ،‬فق ال بعض هم‪ :‬ه و كلب من كالبهم ك ان معهم‪،‬‬ ‫هللا بقوله‪َ ﴿ :‬و َك ْلبُهُ ْم بَ ِ‬
‫وقد ذكرنا كثيرا ممن قال ذل ك فيم ا مض ى‪ ،‬وق ال بعض هم‪ :‬ك ان إنس انا من الن اس‬
‫طباخا لهم تبعهم)(‪)1‬‬
‫وهكذا تح ول [الكلب] المع روف لغ ة واص طالحا من العام ة والخاص ة إلى‬
‫قضية مثيرة للجدل بين أه ل التأوي ل‪ ..‬واألك ثر غراب ة أن يتح ول الكلب إنس انا‪ ،‬ثم‬
‫يعتبر قائل هذا الغثاء من أهل التأويل‪.‬‬
‫وهكذا نرى ابن أبي حاتم الذي يعتبر مص درا من مص ادر الس لفية في قب ول‬
‫الرواة ورفضهم‪ ،‬يفسر تلك اآليات الكريم ة بأمث ال ه ذه الرواي ات‪ ..( :‬عن مجاه د‬
‫قال‪ :‬اسم كلبهم قطم ور‪ ..‬وعن الحس ن ق ال‪ :‬اس م كلب أص حاب الكه ف‪ ،‬قطم ير‪..‬‬
‫‪ )(1‬تفسير الطبري (‪.)624 /17‬‬

‫‪118‬‬
‫وعن ابن جريج قال‪ :‬قلت لرج ل من أه ل العلم‪ :‬زعم وا إن كلبهم ك ان أس دا‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫لعم ر هللا م ا ك ان أس دا‪ ،‬ولكن ه ك ان كلب ا أحم ر خرج وا ب ه من بي وتهم يق ال ل ه‪،‬‬
‫قطمور‪ ..‬ومن طريق سفيان قال‪ :‬ق ال رج ل بالكوف ة يق ال ل ه‪ :‬عبي د وك ان ال يتهم‬
‫بكذب قال‪ :‬رأيت كلب أصحاب الكهف أحمر كأنه كساء انبجاني)(‪)1‬‬
‫ثم لم يتعقب ابن أبي حاتم الذي تكلم في كل الرواة هذه الروايات ب أدنى نق د‪..‬‬
‫ب ل تركه ا كم ا هي‪ ،‬غ افال عم ا ورد في الق رآن الك ريم من النهي عن البحث عن‬
‫أمثال هذه التفاصيل‪.‬‬
‫انطالقا من هذا سنورد هنا بعض النماذج ال تي تح ولت به ا قص ص األنبي اء‬
‫عليهم الصالة والسالم إلى أساطير وخرافات ال تتناقض فقط مع القرآن الكريم‪ ،‬ب ل‬
‫تتناقض قبل ذلك وبعده مع العقل السليم الفطري الذي يطالبه السلفية دائما بأن يعتقد‬
‫وال ينتقد‪.‬‬
‫نوح ‪:‬‬
‫مع أن القرآن الكريم اعتبر نوحا ‪ ‬مثاال للداعي ة الص ابر المحتس ب ال ذي‬
‫استعمل كل الوسائل لهداي ة قوم ه‪ ،‬لكن ه لم يل ق منهم إال ال رد الش ديد‪ ،‬وه ذا وح ده‬
‫كاف ليمأل القلوب محبة له‪ ،‬ولمنهجه‪ ،‬ثم يطبع السلوك بعد ذلك بالقيم الرفيع ة ال تي‬
‫يحملها‪ ،‬بل يمثلها أحسن تمثيل‪.‬‬
‫لكن سلف السلفية استطاعوا أن يحجبوا هذه الصورة الجميلة ب إغراق قص ته‬
‫بالخراف ات واألس اطير‪ ..‬فأص بح ن وح ‪ ‬بس بب رواي ات س لفهم م ادة للخراف ة‬
‫واألسطورة‪ ،‬ال مادة للصبر والتضحية‪.‬‬
‫فمن الروايات ال تي يوردونه ا في تفاس يرهم الس لفية ال تي مألوا الع الم ثن اء‬
‫عليها ما رووه عن ابن عباس‪ ،‬قال‪ :‬قال الحواريون لعيسى ابن م ريم‪ :‬ل و بعثت لن ا‬
‫رجال ش هد الس فينة فح دثنا عنه ا! ق ال‪ :‬ف انطلق بهم ح تى انتهى بهم إلى ك ثيب من‬
‫تراب‪ ،‬فأخذ كفا من ذلك ال تراب بكف ه‪ ،‬ق ال‪ :‬أت درون م ا ه ذا؟ ق الوا‪ :‬هللا ورس وله‬
‫أعلم‪ .‬قال‪ :‬هذا كعب حام بن نوح‪ .‬قال‪ :‬فضرب الك ثيب بعص اه‪ ،‬ق ال‪ :‬قم ب إذن هللا!‬
‫فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه قد شاب‪ ،‬قال له عيسى‪ :‬هك ذا هلكت؟ ق ال‪ :‬ال‬
‫ولكن مت وأنا شاب‪ ،‬ولكني ظننت أنها الساعة‪ ،‬فمن ثم شبت‪ .‬قال‪ :‬حدثنا عن سفينة‬
‫نوح‪ .‬قال‪ :‬كان طولها ألف ذرع ومائتي ذراع‪ ،‬وعرضها س ت مائ ة ذراع‪ ،‬وك انت‬
‫ثالث طبقات‪ ،‬فطبقة فيها الدواب والوحش‪ ،‬وطبقة فيها اإلنس‪ ،‬وطبقة فيه ا الط ير‪.‬‬
‫فلما كثر أرواث الدواب‪ ،‬أوحى هللا إلى نوح أن اغمز ذنب الفيل‪ ،‬فغم زه فوق ع من ه‬
‫خنزير وخنزيرة‪ ،‬فأقبال على الروث‪ .‬فلما وقع الفأر بجرز الس فينة يقرض ه‪ ،‬أوحى‬
‫هللا إلى نوح أن اضرب بين عيني األسد‪ ،‬فخرج من منخره س نور وس نورة‪ ،‬ف أقبال‬
‫على الفأر‪ ،‬فقال له عيسى‪ :‬كيف علم نوح أن البالد ق د غ رقت؟ ق ال‪ :‬بعث الغ راب‬
‫يأتيه بالخبر‪ ،‬فوجد جيفة فوقع عليها‪ ،‬ف دعا علي ه ب الخوف‪ ،‬فل ذلك ال ي ألف ال بيوت‬
‫قال‪ :‬ثم بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقاره ا وطين برجليه ا‪ ،‬فعلم أن البالد‬
‫‪ )(1‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)2352 /7‬‬

‫‪119‬‬
‫قد غرقت قال‪ :‬فطوقها الخضرة التي في عنقها‪ ،‬ودعا لها أن تكون في أنس وأم ان‪،‬‬
‫فمن ثم تألف البيوت‪ .‬قال‪ :‬فقلنا يا رسول هللا أال ننطلق به إلى أهلين ا‪ ،‬فيجلس معن ا‪،‬‬
‫ويحدثنا؟ قال‪ :‬كيف يتبعكم من ال رزق له؟ قال‪ :‬فقال ل ه‪ :‬ع د ب إذن هللا‪ ،‬ق ال‪ :‬فع اد‬
‫ترابا(‪.)1‬‬
‫وهكذا استطاع العقل السلفي ـ بفضل هذه الرواية ـ أن يتعلم الكثير من العلوم‬
‫المرتبطة بأص ل األن واع ال تي احت ار فيه ا علم اء البيولوجي ا‪ ..‬باإلض افة لمعرفت ه‬
‫بطول السفينة وعرضها وارتفاعها‪.‬‬
‫ومن الروايات التي يوردونها في تفسير اآليات التي ذكرت السفينة م ا رووه‬
‫عن ابن عباس‪ ،‬قال‪ :‬كان أول ما حمل نوح في الفل ك من ال دواب ال ذرة‪ ،‬وآخ ر م ا‬
‫حم ل الحم ار‪ ،‬فلم ا أدخ ل الحم ار وأدخ ل ص دره‪ ،‬تعل ق إبليس بذنب ه‪ ،‬فلم تس تقل‬
‫رجاله‪ ،‬فجعل نوح يقول‪ :‬ويحك ادخل! فينهض فال يستطيع‪ .‬حتى قال نوح‪ :‬ويح ك‬
‫ادخل وإن ك ان الش يطان مع ك! ق ال‪ :‬كلم ة زلت عن لس انه‪ ،‬فلم ا قاله ا ن وح خلي‬
‫الشيطان سبيله‪ ،‬فدخل ودخل الشيطان معه‪ ،‬فقال ل ه ن وح‪ :‬م ا أدخل ك علي ي ا ع دو‬
‫هللا؟ فقال‪ :‬ألم تقل‪ :‬ادخل وإن كان الش يطان مع ك؟ ق ال‪ :‬اخ رج ع ني ي ا ع دو هللا!‬
‫فقال‪ :‬ما لك بد من أن تحملني! فكان‪ ،‬فيما يزعمون‪ ،‬في ظهر الفلك(‪.)2‬‬
‫وهكذا يصورون الشيطان‪ ،‬وهو يحتال على ن وح ‪ ‬كم ا احت ال على أبي ه‬
‫من قب ل‪ ،‬ومن العجب أن يص وروا الش يطان خائف ا من الطوف ان‪ ،‬أو محتاج ا ألن‬
‫يركب الفلك‪ ،‬مع أنهم يروون أن رسول هللا ‪ ‬ق ال‪ (:‬إن إبليس يض ع عرش ه على‬
‫الم اء‪ ،‬ثم يبعث س راياه‪ ،‬فأدن اهم من ه منزل ة‪ ،‬أعظمهم فتن ة‪ ،‬يجيء أح دهم فيق ول‪:‬‬
‫فعلت كذا وكذا‪ ،‬فيقول‪ :‬م ا ص نعت ش يئا‪ ،‬ق ال‪ :‬ثم يجيء أح دهم فيق ول‪ :‬م ا تركت ه‬
‫حتى فرقت بينه وبين امرأته‪ ،‬قال‪ :‬فيدنيه منه‪ ،‬ويقول‪ :‬نعم أنت)(‪)3‬‬
‫وفي رواية‪( :‬عرش إبليس على البحر‪ ،‬يبعث سراياه‪ ،‬فأعظمهم عنده منزل ة‪،‬‬
‫أعظمهم فتنة)(‪)4‬‬
‫ّ‬
‫ب ل إنهم ي روون عن رس ول هللا ‪ ‬أن (س فينة ن وح ط افت ب البيت وص لت‬
‫خلف المقام ركعتين)(‪)5‬‬
‫ه ذه بعض الرواي ات ال تي رويت في كتب التفس ير والت اريخ لتحجب تل ك‬
‫الص ورة الجميل ة ال تي ص ور به ا الق رآن الك ريم نوح ا ‪ ،‬وتض ع ب دلها ه ذه‬
‫الخرافات واألساطير‪.‬‬
‫موسى ‪:‬‬
‫مثلما شوه السلفية قصة نوح ‪ ‬بما أوردوه من خرافات وأس اطير‪ ،‬فك ذلك‬
‫فعلوا بموسى ‪ ،‬حيث تحولت قصته من قصة داعية ومخلص إلى قصة خرافي ة‬
‫‪ )(1‬تفسير الطبري‪)312 /15( ،‬‬
‫‪ )(2‬تفسير الطبري (‪.)314 /15‬‬
‫‪ )(3‬أحمد ‪ )14430( 3/314‬ومسلم ‪.)7207( 8/138‬‬
‫‪ )(4‬أحمد ‪ )14608( 3/332‬ومسلم ‪.)7209( 8/138‬‬
‫‪ )(5‬تفسير البغوي ‪ -‬طيبة (‪)179 /4‬‬

‫‪120‬‬
‫أسطورية تسلي أصحاب العقول السلفية البسيطة‪.‬‬
‫والخطورة في هذه األساطير أنها تتخذ القرآن الك ريم مطي ة له ا‪ ،‬فهي ت زعم‬
‫تفس يرها للق رآن‪ ،‬والخط ر األك بر أن ترف ع ذل ك إلى رس ول هللا ‪ ،‬لتجع ل من ه‬
‫حكواتيا ال نبيا‪.‬‬
‫ومن الروايات ال تي يوردونه ا في ه ذا‪ ،‬ويتش ددون م ع منكره ا أو منتق دها‬
‫قصة فرار الحج ر بث وب موس ى ‪ ،‬ذل ك أن مخرجه ا هم ا المعص ومان الل ذان‬
‫يستحيل عليهما الخطأ‪ :‬البخاري ومسلم‪ ..‬وراويه ا ه و أب و هري رة ال ذي جم ع بين‬
‫المدرس تين‪ :‬اإلس المية واليهودي ة‪ ،‬كم ا جم ع بين األس تاذين‪ :‬رس ول هللا وكعب‬
‫األحبار‪ ..‬وكفاه بذلك شرفا‪.‬‬
‫ونصها هو (كانت بن و إس رائيل يغتس لون ع راة‪ ،‬وينظ ر بعض هم إلى س واة‬
‫بعض‪ ،‬وكان موسى يغتسل وحده‪ ،‬فقالوا‪ :‬وهللا ما يمن ع موس ى أن يغتس ل معن ا إال‬
‫أنه آدر‪ ،‬قال‪ :‬فذهب مرة يغتسل‪ ،‬فوضع ثوبه على حجر‪ ،‬فف ر الحج ر بثوب ه‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫فجمع موسى ‪ ‬بإثره يقول‪ :‬ثوبي حجر‪ ،‬ثوبي حجر‪ ،‬حتى نظ رت بن و إس رائيل‬
‫إلى سوأة موسى فقالوا‪ :‬وهللا ما بموسى من بأس‪ ،‬فقام الحجر حتى نظر إلي ه‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫فأخذ ثوبه‪ ،‬فطفق بالحجر ضربا) قال أب و هري رة‪ :‬وهللا إن ب الحجر س تة أو س بعة‪،‬‬
‫ضرب موسى بالحجر(‪.)1‬‬
‫ومع أن الرواية تخلو من أي حكم تربوي أو توجيهي‪ ،‬ب ل هي لم ت زد س وى‬
‫أن تسيء لنبي هللا موسى ‪ ‬بتصويره عريانا ي راه بن و إس رائيل أجمع ون‪ ،‬وك ل‬
‫ذلك لتنفي عنه تلك اآلفة الخلقية التي اتهموه بها‪ ،‬وال تي فس ر الس لفية على أساس ها‬
‫وس ى فَبَ رَّأَهُ هَّللا ُ ِم َّما قَ الُوا‬
‫قول ه تع الى‪﴿ :‬يَاأَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا اَل تَ ُكونُ وا َكالَّ ِذينَ آ َذوْ ا ُم َ‬
‫َو َكانَ ِع ْن َد هَّللا ِ َو ِجيهًا ﴾ [األحزاب‪ ،]69 :‬وكأن ب ني إس رائيل لم ي ؤذوا موس ى ‪‬‬
‫إال بتلك التهمة التي ال قيمة لها‪.‬‬
‫إال أن السلفية انشغلوا بالدفاع عن هذه الرواية دفاع المستميت‪ ،‬ب ل وانش غلوا‬
‫بتبديع كل منكر لها‪ ،‬وسأنقل هنا ـ باختصار ـ نموذجا عن ذلك الدفاع من رج ل من‬
‫عقالء السلفية المعاصرين‪ ،‬لنعلم أنه يستحيل أن يجمع اإلنسان بين العقل والسلفية‪..‬‬
‫ألنهما خطان متوازيان ال يلتقيان أبدا‪ ..‬فأول شرط لدخول المرء في عصبة الس لفية‬
‫أن يلقي بعقله في البحر‪.‬‬
‫والعاقل السلفي المعاص ر ه و د‪ .‬الش ريف ح اتم بن ع ارف الع وني‪ ،‬عض و‬
‫هيئ ة الت دريس بجامع ة أم الق رى‪ ،‬فق د أج اب على س ؤال أث اره بعض العقالن يين‬
‫الممق وتين من الس لفية‪ ،‬ونص ه‪( :‬دعيت من أح د األص دقاء ألنض م إلى جماع ة‬
‫إيمانية‪ ،‬كالمهم مبهر وجميل‪ ،‬لكن ما أثار ش كوكي أنهم يش ككون بح ديث ش ريف‪،‬‬
‫وهو الحديث الذي يتحدث عن موسى ‪ ‬عن دما ن زل ليغتس ل في النه ر‪ ،‬ووض ع‬
‫ثيابه على حجر ففر الحجر ليبرأ موسى من تهم بني إسرائيل‪ ،‬فأنا أري د أن أع رف‬

‫‪ )(1‬البخاري (‪ ،)1/107‬مسلم (‪ ،)4/1841 ،1/267‬أحمد (‪)2/315‬‬

‫‪121‬‬
‫ال؟)(‪)1‬‬
‫درجة هذا الحديث هل هو صحيح أم‬
‫فأجاب الشيخ السلفي العاقل بقوله‪( :‬الح ديث ال ذي س أل عن ه الس ائل ح ديث‬
‫صحيح وارد في صحيحي البخاري ومسلم‪ ،‬اللذين هم ا أص ح الكتب بع د كت اب هللا‬
‫تعالى‪ ..‬والحديث مع كونه مما قد صححه البخاري ومسلم‪ ،‬وكفى بتصحيحهما ثق ة؛‬
‫لشدة احتياطهما‪ ،‬وقوة شرطهما في التص حيح؛ وألن األم ة ق د أجمعت على ص حة‬
‫كتابيهما‪ ،‬إال أحاديث يسيرة خالف في صحتها بعض أئمة الحديث؛ لكن لم يكن ه ذا‬
‫الحديث أحد تلك األحاديث المختلف فيها‪ ،‬فإسناده من أصح األسانيد‪ ،‬فهو من نسخة‬
‫التابعي الثقة الجليل همام بن منبّه(‪ )2‬التي كتبها عن أبي هري رة مباش رة‪ ،‬ح تى لقّب‬
‫العلماء هذه الصحيفة بـ (الصحيفة الصحيحة)‪ ..‬وبذلك يتبيّن أن ه ال مج ال للتش كيك‬
‫في صحة هذا الحديث عن رسولنا ‪ ،‬وال أدري لماذا تجرّأ ه ؤالء الفض الء على‬
‫هذا الحديث؟! فثبوت اللفظ عن النبي ‪ ‬ال شك فيه) (‪)3‬‬
‫وبعد أن أثبت صحة الحديث س ندا‪ ،‬راح يتكل ف إلثبات ه مع نى‪ ،‬فق ال‪( :‬وأم ا‬
‫المع نى فال أدري م ا المش كل في ه عن د ه ؤالء الفض الء؟! ولك ني س أحاول تفهُّ َم‬
‫اإلشكاالت المحتملة في الحديث‪ ،‬وأجيب عنها‪ .‬وال ذي ب دا لي منه ا إش كاالن فق ط‪،‬‬
‫هم ا‪ :‬األول‪ :‬أن في الح ديث إخب ارا عن أم ر غ ير معق ول‪ ،‬وه و ج ري الحج ر‪.‬‬
‫وجوابه‪ :‬أن هذا ال يستشكله إال من ال يؤمن بمعجزات األنبياء‪ ،‬وبخ وارق الع ادات‬
‫التي يجريها هللا تعالى على أيديهم‪ ،‬والتي ثبتت في القرآن الك ريم والس نة المطه رة‬
‫المتواطئة عليها‪ .‬فليس جري الحجر بأعجب من شق البحر‪ ،‬وال إحياء الموتى‪ ،‬وال‬
‫جع ل الن ار ب ردا وس الما‪ ،‬وغيره ا من معج زات األنبي اء الثابت ة في الق رآن قب ل‬
‫السنة!!‪ ..‬الثاني‪ :‬أن كشف العورة أم ٌر س ّي ٌء‪ ،‬وال يتمناه أح ٌد لنفسه‪ ،‬فكيف يق ّدره هللا‬
‫تع الى على موس ى ‪‬؟! وجواب ه‪ :‬أن الح ديث بيّنَ أن س بب ذل ك ه و اته ام ب ني‬
‫إسرائيل لموسى ‪ ‬بأنه إنما كان يستر عورته لمرضه‪ ،‬وعلم هللا تعالى أن مفسدة‬
‫هذه التهم ة على موس ى ‪ ‬وعلى رس الته مفس دةٌ أش ُّد وأعظم من مفس دة ظه ور‬
‫عورة موسى ‪ ،‬وأن األذى الذي سيص يب موس ى ‪ ‬ج راء انكش اف عورت ه‬
‫أخف من األذى الذي اتّهمه به قو ُمه‪ .‬وقد حكى هللا تعالى علينا في القرآن الكريم من‬ ‫ّ‬
‫سوء خلق بني إسرائيل ومن شدة عنادهم وتل ّكؤهم عن الطاعة وس رعة انقالبهم م ا‬
‫ال نستغرب معه أن يكونوا قد بلغوا بأذى موسى ‪ ‬على هذا األم ر م ا يس توجب‬
‫َد ْف َعه عنه‪ ،‬ولو بكشف العورة‪ .‬ويبقى أن هذا ابتالء من جملة ابتالءات موسى ‪،‬‬
‫والتي بها وبغيرها من مراقي تشريف هللا تعالى له ومن الطاع ة والتعظيم هلل تع الى‬
‫كان موسى ‪ ‬عند هللا تعالى وجيها) (‪)4‬‬

‫‪ )(1‬ح ديث ف رار الحج ر بث وب موس ى ‪ ،‬د‪ .‬الش ريف ح اتم بن ع ارف الع وني‪ ،‬رقم الس ؤال ‪ ،174330‬موق ع‬
‫األلوكة‪ ،‬المجلس العلمي‪.‬‬
‫‪ )(2‬مع العلم أن هذا الرجل يهودي‪ ،‬وهو أخو وهب بن منبه‪ ،‬ومعقل بن منبه‪ ،‬وغيالن بن منب ه‪ ،‬ال ذين ت روى عنهم‬
‫الروايات اإلسرائيلية‪.‬‬
‫‪ )(3‬حديث فرار الحجر بثوب موسى ‪.‬‬
‫‪ )(4‬حديث فرار الحجر بثوب موسى ‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫ثم ق دم النص يحة الس لفية لمن يتج رأ على رد ه ذا‪ ،‬فق ال‪( :‬وعلى الس ائل أن‬
‫ينصح هؤالء اإلخوة الفضالء (إن شاء هللا) في هذا األمر‪ :‬بأن ال يتجرؤوا على م ا‬
‫ال علم لهم ب ه‪ ،‬من تص حيح األح اديث وتض عيفها‪ ،‬وأنهم إن استش كلوا ح ديثا أو‬
‫غمض عليهم لفظُه أو معناه فعليهم أن يسألوا عنه من أهل العلم ال ذي ك ان معروف ا‬
‫فيهم بالعناي ة بالس نة وعلومه ا‪ ،‬وك ان متخصص ا في ه ذا العلم الش ريف من عل وم‬
‫الشريعة‪ .‬فالكالم في الس نة تص حيحا وتض عيفا وتوجيه ا عل ٌم تخصص ي في عل وم‬
‫الشريعة‪ ،‬فليس كل عالم شرعي قادرا على إجادة الكالم فيه‪ ،‬فض ال عن غ يره ممن‬
‫لم يكن عالما شرعيا في أحد تخصصات الشريعة العدي دة األخ رى‪ .‬ف إن وج د األخ‬
‫السائل أن هذه الجماعة ال تنتصح له‪ ،‬وأنهم يكررون السخرية من السنة الصحيحة‪،‬‬
‫فليحذرهم على إيمانه وعقله‪ :‬فإما أن يستبدلهم بجماعة خ ير منهم‪ ،‬أو أن يص احبهم‬
‫التحص ن من خطئهم ه ذا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫إذا كان محتاجا لص حبتهم‪ ،‬بش رط أن يك ون ق ادرا على‬
‫فيأخذ منهم ما صفا وطاب‪ ،‬ويتجنب منهم ما كدر وخبث‪ ،‬مع دوام نصحه لهم‪ ،‬ومع‬
‫عدم يأسه من قبولهم للنص يحة وت وبتهم‪ ،‬مهم ا ط ال ذل ك منهم‪ .‬والمهم ال ذي أؤك د‬
‫عليه‪ :‬أن ال يسمح لشبههم بالتسلل إليه‪ ،‬وأن تكون نجاتُه من بدع ة تُ ْف ِس ُد علي ه قلبَ ه‬
‫مق ّدمةً لديه على كل شيء؛ فال يعدل النجاةَ شيء! هذا كل ه إن تك رر منهم مث ل ه ذا‬
‫الخطأ ونحوه‪ ،‬أما إن كان ذلك منهم ن ادرا‪ ،‬فليكت ف بنص حهم‪ ،‬وال يتجنبهم‪ ،‬م ا دام‬
‫يستفيد منهم في زيادة إيمانه)(‪)1‬‬
‫ومن اإلسرائيليات والخرافات المتعلقة بموسى ‪ ،‬باإلض افة إلى ه ذا‪ ،‬م ا‬
‫نجده في كتب التفسير والتاريخ السلفية عند تفس ير قول ه تع الى‪﴿ :‬قَ الُوا يَا ُم َ‬
‫وس ى إِ َّن‬
‫َاخلُ ونَ ﴾‬
‫َّارينَ َوإِنَّا لَ ْن نَ ْد ُخلَهَا َحتَّى يَ ْخ ُرجُوا ِم ْنهَا فَإِ ْن يَ ْخ ُرجُوا ِم ْنهَا فَإِنَّا د ِ‬
‫فِيهَا قَوْ ًما َجب ِ‬
‫[المائدة‪ ،]22 :‬فهم يوردون عند تفس يرها قص ة ع وج بن ع وق‪ ،‬وأن ه ك ان طول ه‬
‫ثالثة آالف ذراع‪ ،‬وأنه كان يمسك الح وت‪ ،‬فيش ويه في عين الش مس‪ ،‬وأن طوف ان‬
‫نوح لم يصل إلى ركبتيه‪ ،‬وأنه امتنع عن ركوب السفينة مع نوح‪ ،‬وأن موس ى ك ان‬
‫طوله عشرة أذرع وعصاه عش رة أذرع‪ ،‬ووثب في اله واء عش رة أذرع‪ ،‬فأص اب‬
‫كعب عوج فقتله‪ ،‬فكان جسرا ألهل النيل سنة‪.‬‬
‫وقد ق دم الط بري لتل ك الرواي ات بقول ه‪( :‬وه ذا خ بر من هللا ج ل ثن اؤه عن‬
‫جواب قوم موسى ‪ ،‬إذ أمرهم ب دخول األرض المقدس ة‪ :‬أنهم أب وا علي ه إجابت ه‬
‫إلى ما أمرهم به من ذلك‪ ،‬واعتلوا عليه في ذلك بأن ق الوا‪ ،‬إن في األرض المقدس ة‬
‫التي تأمرنا بدخولها‪ ،‬قوما جبارين ال طاقة لن ا بح ربهم‪ ،‬وال ق وة لن ا بهم‪ .‬وس موهم‬
‫جبارين‪ ،‬ألنهم كانوا لشدة بطشهم وعظيم خلقهم‪ ،‬فيما ذكر لنا‪ ،‬قد قهروا سائر األمم‬
‫غيرهم)(‪)2‬‬
‫وال بأس أن نتبرك هنا ببعض ما رواه ح ول ه ؤالء الجب ارين وعظم خلقهم‪،‬‬
‫فق د روى عن الس دي في قص ة ذكره ا من أم ر موس ى وب ني إس رائيل‪ ،‬ق ال‪( :‬ثم‬
‫‪ )(1‬حديث فرار الحجر بثوب موسى ‪.‬‬
‫‪ )(2‬تفسير الطبري (‪.)171 /10‬‬

‫‪123‬‬
‫أمرهم بالسير إلى أريحا‪ ،‬وهي أرض بيت المقدس‪ ،‬فس اروا‪ ،‬ح تى إذا ك انوا قريب ا‬
‫منهم‪ ،‬بعث موسى اثنى عشر نقيبا من جميع أسباط بني إس رائيل‪ ،‬فس اروا يري دون‬
‫أن يأتوه بخبر الجب ارين‪ ،‬فلقيهم رج ل من الجب ارين‪ ،‬يق ال ل ه ع وج‪ ،‬فأخ ذ االث نى‬
‫عشر فجعلهم في حجزته‪ ،‬وعلى رأسه حملة حطب‪ ،‬وانطلق بهم إلى امرأت ه فق ال‪،‬‬
‫انظري إلى ه ؤالء الق وم ال ذين يزعم ون أنهم يري دون أن يقاتلون ا!! فط رحهم بين‬
‫يديها‪ ،‬فقال‪ :‬أال أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته‪ :‬ال بل خل عنهم حتى يخبروا ق ومهم‬
‫بما رأوا! ففعل ذلك) (‪)1‬‬
‫ْ‬
‫﴿وبَ َعثنَا ِم ْنهُ ُم اثن َْي َع َش َر نَقِيبًا﴾ [المائ دة‪:]12 :‬‬ ‫ْ‬ ‫وروى عن مجاهد في قول هللا‪َ :‬‬
‫(من كل سبط من بني إسرائيل رجل‪ ،‬أرسلهم موسى إلى الجبارين‪ ،‬فوجدوهم يدخل‬
‫في كم أح دهم اثن ان منهم‪ ،‬يلق ونهم إلق اء‪ ،‬وال يحم ل عنق ود عنبهم إال خمس ة أنفس‬
‫بينهم في خشبة‪ ،‬ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس‪ ،‬أو أربعة)(‪)2‬‬
‫هذه نماذج عن بعض الخرافات التي شوهت به ا قص ة موس ى ‪ ‬لتتح ول‬
‫إلى أسطورة وخرافة‪ ،‬بدل أن تكون نورا وهداية‪.‬‬
‫إسماعيل ‪:‬‬
‫وهو من األنبياء الكرام ال ذين ذك روا في الق رآن الك ريم‪ ،‬ووص فوا بص فات‬
‫يل إِنَّهُ‬ ‫ب إِ ْس َم ِ‬
‫اع َ‬ ‫عظيمة لتكون محل هداية وقدوة‪ ،‬منها قوله تعال‪َ ﴿ :‬و ْاذ ُكرْ فِي ْال ِكتَ ا ِ‬
‫الص اَل ِة َوال َّز َك ا ِة َو َك انَ‬ ‫ق ْال َو ْع ِد َو َكانَ َر ُسواًل نَبِيًّا (‪َ )54‬و َكانَ يَأْ ُم ُر أَ ْهلَ هُ بِ َّ‬ ‫صا ِد َ‬‫َكانَ َ‬
‫ضيًّا﴾ [مريم‪]55 ،54 :‬‬ ‫ِع ْن َد َربِّ ِه َمرْ ِ‬
‫ومنها ما ورد في قصة الذبح‪ ،‬والتي تدل على حلمه العظيم‪ ،‬وتسليمه المطلق‬
‫هلل تعالى‪ ،‬قال تعالى حاكيا عن إبراهيم ‪ ‬بعد معاناته الش ديدة م ع قوم ه‪َ ﴿ :‬وقَ ا َل‬
‫الص الِ ِحينَ (‪ )100‬فَبَ َّش رْ نَاهُ‬ ‫َّ‬ ‫إِنِّي َذا ِهبٌ إِلَى َربِّي َس يَ ْه ِدي ِن (‪َ )99‬ربِّ هَبْ لِي ِمنَ‬
‫ك‬‫ي إِنِّي أَ َرى فِي ْال َمنَ ِام أَنِّي أَ ْذبَ ُح َ‬ ‫ْي قَ َ‬
‫ال يَ ابُنَ َّ‬ ‫بِ ُغاَل ٍم َحلِ ٍيم (‪ )101‬فَلَ َّما بَلَ َغ َم َع هُ َّ‬
‫الس ع َ‬
‫الص ابِ ِرينَ ﴾‬ ‫َّ‬ ‫فَا ْنظُرْ َما َذا تَ َرى قَ ا َل يَ اأَبَ ِ‬
‫ت ا ْف َع لْ َم ا تُ ْؤ َم ُر َس ت َِج ُدنِي إِ ْن َش ا َء هَّللا ُ ِمنَ‬
‫[الصافات‪]102 - 99 :‬‬
‫ومع أن هذه اآليات واضحة في الداللة على أن المقصود منه ا ه و إس ماعيل‬
‫‪ ‬إال أن جمهور سلف السلفية انتصروا للقول بأن المراد هو إس حاق‪ ،‬كم ا تنص‬
‫كتب أهل الكتاب‪ ،‬وهذا يدل على المصدر اليهودي للعقيدة السلفية‪.‬‬
‫وقد مهد الطبري ـ شيخ المفسرين السلفيين ـ للروايات التي استند لها في ه ذا‬
‫القول بقوله‪..( :‬وكان فيما ذكر أن إبراهيم نذر حين بشرته المالئكة بإسحاق ولدا أن‬
‫يجعله إذا ولدته سارة هلل ذبيحا‪ ،‬فلما بل غ إس حاق م ع أبي ه الس عي أري إب راهيم في‬
‫المنام‪ ،‬فقي ل ل ه‪ :‬أوف هلل بن ذرك‪ ،‬ورؤي ا األنبي اء يقين‪ ،‬فل ذلك مض ى لم ا رأى في‬
‫المنام‪ ،‬وقال له ابنه إسحاق ما قال)(‪)3‬‬

‫‪ )(1‬تفسير الطبري (‪ ،)172 /10‬وهو في تاريخ الطبري ‪.222 ،221 :1‬‬


‫‪ )(2‬تفسير الطبري (‪.)174 /10‬‬
‫‪ )(3‬تفسير الطبري (‪.)74 /21‬‬

‫‪124‬‬
‫ثم ذكر من الروايات التي تدل على هذا رواية عن السدي‪ ،‬يق ول فيه ا‪( :‬ق ال‬
‫جبرائيل لسارة‪ :‬أبشري بول د اس مه إس حاق‪ ،‬ومن وراء إس حاق يعق وب‪ ،‬فض ربت‬
‫جبهتها عجبا‪ ..‬قالت سارة لجبريل‪ :‬ما آي ة ذل ك؟ فأخ ذ بي ده ع ودا يابس ا‪ ،‬فل واه بين‬
‫أص ابعه‪ ،‬ف اهتز أخض ر‪ ،‬فق ال إب راهيم‪ :‬ه و هلل إذن ذبيح‪ ،‬فلم ا ك بر إس حاق أتي‬
‫إبراهيم في النوم‪ ،‬فقيل له‪ :‬أوف بنذرك الذي نذرت‪ ،‬إن هللا رزقك غالم ا من س ارة‬
‫أن تذبحه‪ ،‬فقال إلسحاق‪ :‬انطلق نقرب قربانا إلى هللا‪ ،‬وأخ ذ س كينا وحبال ثم انطل ق‬
‫ي إِنِّي‬ ‫معه حتى إذا ذهب به بين الجبال قال له الغالم‪ :‬يا أبت أين قربانك؟ ﴿قَ َ‬
‫ال يَ ابُنَ َّ‬
‫ال يَ اأَبَ ِ‬
‫ت ا ْف َع لْ َم ا تُ ْؤ َم ُر َس تَ ِج ُدنِي إِ ْن‬ ‫أَ َرى فِي ْال َمن َِام أَنِّي أَ ْذبَحُكَ فَا ْنظُرْ َما َذا ت ََرى قَ َ‬
‫َشا َء هَّللا ُ ِمنَ الصَّابِ ِرينَ (‪[ ﴾ )102‬الص افات‪ ]102 :‬فق ال ل ه إس حاق‪ :‬ي ا أبت أش دد‬
‫رباطي حتى ال أضطرب‪ ،‬واكفف عني ثيابك حتى ال ينتضح عليها من دمي شيء‪،‬‬
‫فتراه سارة فتحزن‪ ،‬وأسرع مر السكين على حلقي؛ ليكون أهون للم وت علي‪ ،‬ف إذا‬
‫أتيت سارة فاقرأ عليها مني السالم‪ ،‬فأقبل عليه إبراهيم يقبله وق د ربط ه وه و يبكي‬
‫وإسحاق يبكي‪ ،‬حتى استنقع الدموع تحت خد إسحاق‪ ،‬ثم إنه جر السكين على حلقه‪،‬‬
‫فلم تحك السكين‪ ،‬وضرب هللا صفيحة من النحاس على حلق إسحاق‪ ،‬فلما رأى ذلك‬
‫ضرب به على جبينه‪ ،‬وحز من قفاه‪ ،‬فذلك قوله (فلما أسلما) يق ول‪ :‬س لما هلل األم ر‬
‫(وتله للجبين) فنودي يا إبراهيم (قد صدقت الرؤيا) بالحق فالتفت فإذا بكبش‪ ،‬فأخذه‬
‫وخلى عن ابنه‪ ،‬فأكب على ابنه يقبل ه‪ ،‬وه و يق ول‪ :‬الي وم ي ا ب ني وهبت لي; فل ذلك‬
‫يقول هللا‪( :‬وفديناه ب ذبح عظيم) فرج ع إلى س ارة فأخبره ا الخ بر‪ ،‬فج زعت س ارة‬
‫وقالت‪ :‬يا إبراهيم أردت أن تذبح ابني وال تعلمني!)(‪)1‬‬
‫وروى عن عبد هللا بن عمير قال‪( :‬قال موسى‪ :‬يا رب يقولون يا إله إب راهيم‬
‫وإسحاق ويعقوب‪ ،‬فبم قالوا ذلك؟ قال‪ :‬إن إبراهيم لم يعدل بي شيئا قط إال اخت ارني‬
‫عليه‪ ،‬وإن إسحاق جاد لي بالذبح‪ ،‬وهو بغير ذلك أجود‪ ،‬وإن يعقوب كلما زدته بالء‬
‫زادني حسن ظن)(‪)2‬‬
‫وروى عن عمرو بن أبي سفيان بن أس يد بن حارث ة الثقفي‪ ،‬أخ بره أن كعب ا‬
‫قال ألبي هريرة‪ :‬أال أخبرك عن إس حاق بن إب راهيم الن بي؟ ق ال أب و هري رة‪ :‬بلى‪،‬‬
‫قال كعب‪ :‬لما رأى إبراهيم ذبح إسحاق‪ ،‬قال الشيطان‪ :‬وهللا لئن لم أفتن عند ه ذا آل‬
‫إبراهيم ال أفتن أحدا منهم أبدا‪ ،‬فتمثل الش يطان لهم رجال يعرفون ه‪ ،‬فأقب ل ح تى إذا‬
‫خرج إبراهيم بإسحاق ليذبحه دخل على سارة امرأة إبراهيم‪ ،‬فق ال له ا‪ :‬أين أص بح‬
‫إبراهيم غاديا بإسحاق؟ قالت سارة‪ :‬غ دا لبعض حاجت ه‪ ،‬ق ال الش يطان‪ :‬ال وهللا م ا‬
‫لذلك غدا به‪ ،‬قالت سارة‪ :‬فلم غدا به؟ قال‪ :‬غدا به ليذبحه! قالت سارة‪ :‬ليس من ذلك‬
‫شيء‪ ،‬لم يكن ليذبح ابنه! قال الشيطان‪ :‬بلى وهللا! قالت سارة‪ :‬فلم يذبحه؟ قال‪ :‬زعم‬
‫أن ربه أمره بذلك; قالت سارة‪ :‬فهذا أحسن بأن يطيع ربه إن كان أمره بذلك‪ .‬فخرج‬
‫الشيطان من عند س ارة ح تى أدرك إس حاق وه و يمش ي على إث ر أبي ه‪ ،‬فق ال‪ :‬أين‬
‫‪ )(1‬تفسير الطبري (‪.)75 /21‬‬
‫‪ )(2‬تفسير الطبري (‪.)80 /21‬‬

‫‪125‬‬
‫أصبح أبوك غاديا بك؟ قال‪ :‬غدا بي لبعض حاجته‪ ،‬قال الشيطان‪ :‬ال وهللا ما غدا بك‬
‫لبعض حاجته‪ ،‬ولكن غدا بك ليذبحك‪ ،‬قال إسحاق‪ :‬ما كان أبي لي ذبحني! ق ال‪ :‬بلى;‬
‫قال‪ :‬لم؟ قال‪ :‬زعم أن ربه أمره بذلك; قال إس حاق‪ :‬فوهللا لئن أم ره ب ذلك ليطيعن ه‪،‬‬
‫قال‪ :‬فتركه الشيطان وأس رع إلى إب راهيم‪ ،‬فق ال‪ :‬أين أص بحت غادي ا بابن ك؟ ق ال‪:‬‬
‫غدوت به لبعض حاجتي‪ ،‬قال‪ :‬أما وهللا م ا غ دوت ب ه إال لتذبح ه‪ ،‬ق ال‪ :‬لم أذبح ه؟‬
‫قال‪ :‬زعمت أن ربك أمرك بذلك; قال‪ :‬هللا فوهللا لئن كان أم رني ب ذلك ربي ألفعلن;‬
‫قال‪ :‬فلما أخذ إبراهيم إسحاق ليذبحه وسلم إسحاق‪ ،‬أعفاه هللا وفداه بذبح عظيم‪ ،‬ق ال‬
‫إبراهيم إلس حاق‪ :‬قم أي ب ني‪ ،‬ف إن هللا ق د أعف اك; وأوحى هللا إلى إس حاق‪ :‬إني ق د‬
‫أعطيتك دعوة أستجيب لك فيه ا; ق ال‪ ،‬ق ال إس حاق‪ :‬اللهم إني أدع وك أن تس تجيب‬
‫لي‪ ،‬أيما عبد لقيك من األولين واآلخرين ال يشرك بك شيئا‪ ،‬فأدخله الجنة (‪.)1‬‬
‫وروى عن أبي هريرة‪ ،‬عن كعب األحب ار أن ال ذي أم ر إب راهيم بذبح ه من‬
‫ابنيه إسحاق‪ ،‬وأن هللا لما فرج ل ه والبن ه من البالء العظيم ال ذي ك ان في ه‪ ،‬ق ال هللا‬
‫إلسحاق‪ :‬إني قد أعطيتك بصبرك ألمري دعوة أعطيك فيها ما سألت‪ ،‬فسلني‪ ،‬قال‪:‬‬
‫رب أسألك أن ال تعذب عبدا من عبادك لقي ك وه و ي ؤمن ب ك‪ ،‬فك انت تل ك مس ألته‬
‫التي سأل(‪.)2‬‬
‫وقد حكى الطبري وغيره هذا القول عن أعالم السلف كابن عب اس وعب د هللا‬
‫بن مس عود وأبي هري رة وغ يرهم من الص حابة‪ ،‬باإلض افة ألك ثر من عش رة من‬
‫سادات التابعين(‪.)3‬‬
‫وبعد أن حكى األقوال المختلف ة في ه ذا عقب عليه ا مرجح ا بقول ه‪( :‬وأولى‬
‫القولين بالصواب في المفدي من اب ني إب راهيم خلي ل ال رحمن على ظ اهر التنزي ل‬
‫َظ ٍيم﴾ [الص افات‪]107 :‬‬ ‫﴿وفَ َد ْينَاهُ بِ ِذب ٍ‬
‫ْح ع ِ‬ ‫ق ول من ق ال‪ :‬ه و إس حاق‪ ،‬ألن هللا ق ال‪َ :‬‬
‫فذكر أنه فدى الغالم الحليم الذي بشر به إبراهيم حين سأله أن يهب له ول دا ص الحا‬
‫الص الِ ِحينَ ﴾ [الص افات‪ ]100 :‬ف إذ ك ان‬ ‫َّ‬ ‫من الص الحين‪ ،‬فق ال‪َ ﴿ :‬ربِّ هَبْ لِي ِمنَ‬
‫المفدي بالذبح من ابنيه هو المبشر ب ه‪ ،‬وك ان هللا تب ارك اس مه ق د بين في كتاب ه أن‬
‫الذي بشر به هو إس حاق‪ ،‬ومن وراء إس حاق يعق وب‪ ،‬فق ال ج ل ثن اؤه‪﴿ :‬فَبَ َّش رْ نَاهَا‬
‫وب ﴾ [هود‪ ]71 :‬وك ان في ك ل موض ع من الق رآن‬ ‫ق يَ ْعقُ َ‬
‫ق َو ِم ْن َو َرا ِء إِ ْس َحا َ‬
‫ْحا َ‬
‫بِإِس َ‬
‫ذكر تبشيره إياه بولد‪ ،‬فإنما هو معني ب ه إس حاق‪ ،‬ك ان بين ا أن تبش يره إي اه بقول ه‪:‬‬
‫﴿فَبَ َّش رْ نَاهُ بِ ُغاَل ٍم َحلِ ٍيم﴾ [الص افات‪ ]101 :‬في ه ذا الموض ع نح و س ائر أخب اره في‬
‫غيره من آيات القرآن‪ .‬وبعد‪ :‬فإن هللا أخبر ج ل ثن اؤه في ه ذه اآلي ة عن خليل ه أن ه‬
‫بشره بالغالم الحليم عن مسألته إياه أن يهب له من الصالحين‪ ،‬ومعلوم أن ه لم يس أله‬
‫ذلك إال في حال لم يكن له فيه ولد من الصالحين‪ ،‬ألنه لم يكن ل ه من ابني ه إال إم ام‬
‫الصالحين‪ ،‬وغير موهم منه أن يكون سأل ربه في هبة ما قد كان أعطاه ووهبه ل ه‪.‬‬

‫‪ )(1‬تفسير الطبري (‪.)81 /21‬‬


‫‪ )(2‬تفسير الطبري (‪.)82 /21‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬تفسير الطبري (‪)79 /21‬‬

‫‪126‬‬
‫فإذ كان ذلك كذلك فمعلوم أن الذي ذكر تعالى ذكره في هذا الموضع هو ال ذي ذك ر‬
‫في سائر القرآن أنه بشره به وذلك ال شك أنه إس حاق‪ ،‬إذ ك ان المف دي ه و المبش ر‬
‫به)(‪)1‬‬
‫ومع قوة األدلة التي استدل بها القائلون بأن المفدى هو إسماعيل ‪ ،‬لدالل ة‬
‫القرآن الكريم عليها إال أن الط بري‪ ،‬ولش دة ش غفة ووثوق ه بس لفه من اليه ود‪ ،‬راح‬
‫يفندها مع وضوحها الشديد‪ ،‬فقال‪( :‬وأما الذي اعتل به من اعت ل في أن ه إس ماعيل‪،‬‬
‫أن هللا قد كان وعد إبراهيم أن يكون له من إسحاق ابن ابن‪ ،‬فلم يكن جائزا أن يأمره‬
‫بذبحه مع الوعد الذي قد تقدم‪ ،‬فإن هللا إنما أمره بذبحه بعد أن بلغ معه السعي‪ ،‬وتلك‬
‫حال غير ممكن أن يكون قد ولد إلسحاق فيها أوالد‪ ،‬فكيف الواحد؟ وأما اعتالل من‬
‫ق نَبِيًّ ا ِمنَ‬ ‫اعتل بأن هللا أتبع قصة المف دي من ول د إب راهيم بقول ه ﴿ َوبَ َّش رْ نَاهُ بِإِ ْس َحا َ‬
‫الصَّالِ ِحينَ ﴾ [الصافات‪ ]112 :‬ولو كان المفدي هو إسحاق لم يبشر به بعد‪ ،‬وقد ولد‪،‬‬
‫وبلغ معه السعي‪ ،‬فإن البشارة بنبوه إسحاق من هللا فيم ا ج اءت ب ه األخب ار ج اءت‬
‫إبراهيم وإسحاق بعد أن فدي تكرمة من هللا له على صبره ألمر ربه فيما امتحنه ب ه‬
‫من الذبح‪ ،‬وقد تقدمت الرواية قبل عمن قال ذل ك‪ .‬وأم ا اعتالل من اعت ل ب أن ق رن‬
‫الكبش كان معلقا في الكعبة فغير مستحيل أن يكون حمل من الشام إلى الكعب ة‪ .‬وق د‬
‫روي عن جماعة من أهل العلم أن إبراهيم إنما أمر بذبح ابنه إس حاق بالش ام‪ ،‬وبه ا‬
‫أراد ذبحه)(‪)2‬‬
‫وهكذا تصبح األخبار والروايات والقصص واألساطير هي الموجه للط بري‬
‫في تحديد موقفه‪ ..‬ال نص اآلية الكريم الواضح تماما‪.‬‬
‫وله ذا ف إن الرواي ات الس لفية هي الحج اب األعظم الحائ ل بين العق ول‬
‫والوصول إلى الحقائق القرآنية‪ ،‬ألن ضباب الخرافات واألساطير يح ول بين العق ل‬
‫والتفكير المنهجي السليم‪.‬‬
‫داود ‪:‬‬
‫من المواقف التي ذكرها القرآن الك ريم ل داود ‪ ‬ـ باإلض افة إلى م ا س بق‬
‫ذكره في الفصول السابقة ـ دوره الجهادي في مواجهة الطغيان ال ذي ك ان يمارس ه‬
‫جالوت على بني إسرائيل‪ ،‬والذي قص علينا الك ريم قص ته من البداي ة عن دما طلب‬
‫بن و إس رائيل أن يجع ل هللا لهم ح اكم يحكمهم‪ ،‬ليوح د ص فهم‪ ،‬ويجم ع كلمتهم‪،‬‬
‫ليواجهوا الطغيان الذين يم ارس عليهم‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪﴿ :‬أَلَ ْم تَ َر إِلَى ْال َمإَل ِ ِم ْن بَنِي‬
‫ال هَ لْ‬‫ث لَنَا َملِ ًكا نُقَاتِ لْ فِي َس بِي ِل هَّللا ِ قَ َ‬‫يل ِم ْن بَ ْع ِد ُمو َسى إِ ْذ قَالُوا لِنَبِ ٍّي لَهُ ُم ا ْب َع ْ‬‫إِ ْس َرائِ َ‬
‫ب َعلَ ْي ُك ُم ْالقِتَ ا ُل أَاَّل تُقَ اتِلُوا قَ الُوا َو َم ا لَنَ ا أَاَّل نُقَاتِ َل فِي َس بِي ِل هَّللا ِ َوقَ دْ‬ ‫ُ‬
‫َس ْيتُ ْم إِن كتِ َ‬
‫ْ‬ ‫ع َ‬
‫هَّللا‬ ‫ْ‬ ‫اًل‬ ‫اَّل‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫َ‬
‫ب َعل ْي ِه ُم القِتَ ا ُل ت ََولوْ ا إِ قلِي ِمنهُ ْم َو ُ َعلِي ٌم‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ارنَ ا َوأ ْبنَائِنَ ا فل َّما كتِ َ‬ ‫أ ْخ ِرجْ نَ ا ِمن ِديَ ِ‬
‫ْ‬
‫بِالظَّالِ ِمينَ (‪[ ﴾ )246‬البقرة‪]247 ،246 :‬‬
‫وقد اختار هللا لهم ذلك الملك الحكيم القوي ال ذي يمكن ه أن ي ؤدي ه ذا ال دور‬
‫‪ )(1‬تفسير الطبري (‪.)86 /21‬‬
‫‪ )(2‬تفسير الطبري (‪.)86 /21‬‬

‫‪127‬‬
‫ث لَ ُك ْم طَالُوتَ َملِ ًك ا﴾ [البق رة‪:‬‬ ‫بأحسن وجه‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬وقَا َل لَهُ ْم نَبِيُّهُ ْم إِ َّن هَّللا َ قَ ْد بَ َع َ‬
‫‪]247‬‬
‫ُ‬
‫لكن بني إسرائيل لم يعجبهم اختيار هللا‪ ،‬فاعترضوا عليه‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬قَ الوا‬
‫ال﴾ [البق رة‪:‬‬ ‫ك ِم ْنهُ َولَ ْم يُ ْؤتَ َس َعةً ِمنَ ْال َم ِ‬ ‫ق بِ ْال ُم ْل ِ‬
‫ك َعلَ ْينَا َونَحْ نُ أَ َح ُّ‬
‫أَنَّى يَ ُكونُ لَهُ ْال ُم ْل ُ‬
‫‪]247‬‬
‫وقد رد هللا عليهم ب أن هللا ه و ال ذي اص طفاه‪ ،‬وف وق ذل ك آت اه من مقوم ات‬
‫اص طَفَاهُ‬ ‫ال إِ َّن هَّللا َ ْ‬ ‫الحاكم ما يستطيع أن يؤدي دوره بأحسن الوجوه‪ ،‬قال تع الى‪﴿ :‬قَ َ‬
‫اس ٌع َعلِي ٌم﴾‬ ‫َعلَ ْي ُك ْم َوزَا َدهُ بَ ْس طَةً فِي ْال ِع ْل ِم َو ْال ِج ْس ِم َوهَّللا ُ يُ ْؤتِي ُم ْل َك هُ َم ْن يَ َش ا ُء َو ُ َو ِ‬
‫هَّللا‬
‫[البقرة‪]247 :‬‬
‫لكن بني إسرائيل ـ بطبعهم الجدلي ـ زاد اعتراضهم‪ ،‬وطلبوا آية من هللا ت دل‬
‫ال لَهُ ْم نَبِيُّهُ ْم إِ َّن آيَ ةَ ُم ْل ِك ِه‬
‫﴿وقَ َ‬ ‫على صدق نبيهم‪ ،‬فأعطاهم هللا ما طلبوا‪ ،‬قال تع الى‪َ :‬‬
‫ُوت فِي ِه َس ِكينَةٌ ِم ْن َربِّ ُك ْم َوبَقِيَّةٌ ِم َّما ت ََركَ آ ُل ُمو َسى َوآ ُل هَ ارُونَ تَحْ ِملُ هُ‬ ‫أَ ْن يَأْتِيَ ُك ُم التَّاب ُ‬
‫ْال َماَل ئِ َكةُ إِ َّن فِي َذلِكَ آَل يَةً لَ ُك ْم إِ ْن ُك ْنتُ ْم ُم ْؤ ِمنِينَ (‪[ ﴾ )248‬البقرة‪]248 :‬‬
‫ثم ذك ر هللا تع الى م ا مارس ه ط الوت م ع جن وده من أن واع االختب ار ح تى‬
‫وت بِ ْال ُجنُو ِد‬ ‫ص َل طَ الُ ُ‬ ‫يميزهم‪ ،‬فال يسير معه إلى المؤمن القوي‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬فَلَ َّما فَ َ‬
‫ط َع ْم هُ فَإِنَّهُ ِمنِّي إِاَّل َم ِن‬ ‫ْس ِمنِّي َو َم ْن لَ ْم يَ ْ‬ ‫ب ِم ْن هُ فَلَي َ‬ ‫قَا َل إِ َّن هَّللا َ ُم ْبتَلِي ُك ْم بِنَهَ ٍر فَ َم ْن َش ِر َ‬
‫ا ْغتَ َرفَ ُغرْ فَةً بِيَ ِد ِه فَ َش ِربُوا ِم ْنهُ إِاَّل قَلِياًل ِم ْنهُ ْم﴾ [البقرة‪]249 :‬‬
‫وفي ذلك إشارة إلى العقل الكبير الذي كان يملكه طالوت‪ ،‬وال ذي ع رف أن ه‬
‫ال ينتصر على جالوت إال المؤمنين أصحاب العزائم القوية‪.‬‬
‫وك ان من أص حاب تل ك الع زائم ـ كم ا ي ذكر الق رآن الك ريم ـ داود‪ ،‬ال ذي‬
‫اس تطاع أن يقت ل ج الوت‪ ،‬ويتس بب في هزيم ة ط الوت وجن وده‪ ،‬ق ال تع الى‪:‬‬
‫﴿فَهَ َز ُموهُ ْم بِإِ ْذ ِن هَّللا ِ َوقَت ََل دَا ُوو ُد َجالُوتَ َوآتَ اهُ هَّللا ُ ْال ُم ْل كَ َو ْال ِح ْك َم ةَ َوعَلَّ َم هُ ِم َّما يَ َش ا ُء‬
‫ض ٍل َعلَى‬ ‫ت اأْل َرْ ضُ َولَ ِك َّن هَّللا َ ُذو فَ ْ‬ ‫ْض لَفَ َس َد ِ‬ ‫ْض هُ ْم بِبَع ٍ‬ ‫اس بَع َ‬ ‫َولَ وْ اَل َد ْف ُع هَّللا ِ النَّ َ‬
‫ْال َعالَ ِمينَ ﴾ [البقرة‪]251 :‬‬
‫وتنتهي القصة القرآنية بهذا‪ ..‬لكن السلفية ـ وبالروايات التي تبنوها ـ أعط وا‬
‫الحق لإلسرائيليين في رفضهم لطالوت ـ شعروا أو لم يش عروا ـ ألنهم جعل وا من ه‬
‫ظالم ا مس تبدا‪ ،‬ب ل س اعيا لقت ل داود ‪ ..‬وب ذلك ف إن من يق رأ القص ة القرآني ة‪،‬‬
‫ويفس رها بالقص ة اإلس رائيلية الش ك أن ه س يميل إلى موق ف اليه ود في بغض هم‬
‫لطالوت‪ ..‬وكيف ال يبغضونه‪ ،‬وهم يرون أنه يريد أن يقتل نبيا من األنبياء الكرام‪.‬‬
‫وسنسوق القصة كم ا أوردوه ا‪ ،‬ون ترك الحكم بع دها للق ارئ ليكتش ف ذل ك‬
‫الص راع بين الس لفية والق رآن‪ ..‬وكي ف اس تطاعت الرواي ة أن تحطم ك ل المع اني‬
‫القرآنية الجميلة‪.‬‬
‫ّ‬
‫فقد ذكر مفسرو السلف ـ بألفاظ متش ابهة ومع ان متفقة(‪ )1‬ـ أن ه (ع بر النه ر‬
‫‪ )(1‬انظر القصة بطوله ا في‪ :‬تفس ير الط بري‪ ،851 /2 :‬وت اريخ الط بري‪ ..337 /1 :‬تفس ير البغ وي (‪)337 /1‬‬
‫السراج المنير في اإلعانة على معرفة بعض معاني كالم ربنا الحكيم الخبير (‪ ،)164 /1‬وغيرها‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫فيمن عبر مع طالوت أبو داود في ثالثة عشر ابنا وكان داود أصغرهم‪ ،‬فأتاهم ذات‬
‫فإن هللا جعل رزق ك‬ ‫يوم فقال‪ :‬يا أبتاه ما أرمي بقذافتي شيئا إاّل صرعته فقال‪ :‬أبشر ّ‬
‫في قذافتك‪ ،‬ثم أتاه م رّة أخ رى فق ال‪ :‬ي ا أبت اه لق د دخلت بين الجب ال فوج دت أس دا‬
‫إن ه ذا خ ير أعطاك ه‬ ‫رابضا فركبته وأخذت بأذنيه ولم يه ّمني‪ ،‬فقال‪ :‬أبشر يا بني ف ّ‬
‫هللا‪ .‬ثم أتاه يوما آخر فقال‪ :‬يا أبتاه إنّي ألمشي بين الجب ال فاس بّح فم ا يبقى جب ل إاّل‬
‫فإن هذا خير أعطاكه هللا‪ .‬ق الوا‪ :‬فأرس ل ج الوت إلى‬ ‫يسبّح معي‪ ،‬فقال‪ :‬أبشر يا بني ّ‬
‫طالوت أن ابرز ال ّي من يق اتلني ف إن قتل ني فلكم ملكي وإن قتلت ه فلي ملككم‪ ،‬فش ّ‬
‫ق‬
‫ذلك على طالوت فنادى في عسكره من يقتل جالوت زوّجته ابن تي وناص فته ملكي‪،‬‬
‫فخاف الناس جالوت فلم يجبه أحد‪ .‬فسأل طالوت نبيّهم اشمويل ان ي دعوا هللا‪ ،‬ف دعا‬
‫إن ص احبكم‬ ‫هللا ع ّز وج ّل في ذلك‪ ،‬ف أتى بق رن في ه دهن‪ ،‬وتن ور من حدي د‪ ،‬فقي ل‪ّ :‬‬
‫الذي يقتل جالوت هو الذي يوضع ه ذا الق رن على رأس ه فيغلي ال دهن حتّى ي دهن‬
‫رأسه منه وال يسيل على وجهه يكون على رأس ه كهيئ ة إاّل كلي ل‪ ،‬وي دخل في ه ذا‬
‫التنور فيمل ؤه ال يتقلق ل في ه‪ ،‬ف دعا ط الوت ب ني إس رائيل فج رّبهم فلم يوافق ه منهم‬
‫إن في ول د أيش ا من يقت ل هللا ب ه ج الوت‪ ،‬ف دعا‬ ‫أح د‪.‬فأوص ى هللا تع الى إلى ن بيهم ّ‬
‫طالوت أيشا وقال‪ :‬أعرض عل ّي نبيك‪ ،‬فأخرج له اثني عشر رجال أمثال الس واري‪،‬‬
‫فجع ل يعرض هم على الق رن فال ي رى ش يئا فيق ول لرج ل منهم‪ :‬ب ادع عليهم جس م‬
‫ارجع فيردد عليه فأوحى هللا تعالى إليه إنا ال نأخذ الرجال على صورهم ولكنّا نأخذ‬
‫على صالح قلوبهم‪ ،‬فقال أليشا‪ :‬هل بقي لك ولد غيرهم؟ قال‪ :‬ال‪ .‬فق ال الن بي ‪:‬‬
‫إن ربّي ك ّذبك‪ ،‬فق ال‪:‬‬ ‫أن ال ولد له غيرهم‪ ،‬فقال‪ :‬كذب‪ .‬فقال النب ّي‪ّ :‬‬‫يا ربّ إنّه زعم ّ‬
‫إن لي ابن ا ص غيرا يق ال ل ه‪ :‬داود‪ ،‬اس تحييت أن ي راه الن اس‬ ‫صدق هللا ي ا ن بي هللا ّ‬
‫لقصر قامته وحقارته‪ ،‬فخلّفته في الغنم يرعاها وهو في شعب كذا‪ ،‬وك ان داود ‪‬‬
‫رجال قصيرا مسقاطا مصفارا أزرق أمعد‪ .‬فدعاه طالوت‪ ،‬ويقال‪ :‬بل خرج ط الوت‬
‫إليه فوجد الوادي قد سال بينه وبين الزرب ال تي ي ريح إليه ا‪ ،‬فوج ده يحم ل ش اتين‬
‫شاتين يجيزهما السيل وال يخوض بهما الماء‪ ،‬فلما رآه الن ب ّي ‪ ‬ق ال‪ :‬ه ذا ه و ال‬
‫شك فيه هذا يرحم البهائم فهو بالناس أرحم‪ ،‬فدعاه ووضع القرن على رأسه ففاض‪،‬‬
‫فقال له طالوت‪ :‬هل لك أن تقتل جالوت وأزوجك ابنتي وأج ري خاتم ك في ملكي؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪.‬قال‪ :‬وهل أنست من نفسك شيئا تق وى ب ه على قتل ه؟ ق ال‪ :‬نعم‪ ،‬أن ا أرعى‬
‫فيجيء األسد والنمر والذئب فيأخذ شاة وأق وم ل ه وأفتح لحيي ه عنه ا وأخرقهم ا إلى‬
‫قفاه‪ .‬فر ّده إلى عسكره‪ ،‬فم ّر داود بحجر فناده‪ :‬يا داود احمل ني ف إنّي حج ر ه ارون‬
‫الذي قتل بي ملك كذا‪ ،‬فحمله في مخالته‪ .‬ثم م ّر بحجر آخر فن اده‪ :‬ي ا داود احمل ني‬
‫فإنّي حجر موسى الذي قتل بي ملك كذا‪ ،‬فحمله في مخالته‪ .‬فم ّر بحجر آخ ر فق ال‪:‬‬
‫احمل ني ف إنّي حج رك ال ذي تقت ل بي ج الوت‪ ،‬وق د خب أني هللا ل ك‪ ،‬فوض عها في‬
‫مخالته‪ .‬فلما تصافوا القتال وبرز جالوت وس أل المب ارزة‪ ،‬انت دب ل ه داود فأعط اه‬
‫طالوت فرسا ودرعا وسالحا‪ ،‬فلبس السالح وركب الفرس‪ ،‬فسار قريبا ثم انصرف‬
‫فرجع إلى المل ك‪ ،‬فق ال من حول ه‪ :‬جبن الغالم فج اء فوق ف على المل ك‪ ،‬فق ال‪ :‬م ا‬

‫‪129‬‬
‫إن هللا إن لم ينص رني ال يغ ني ع ني الس الح ش يئا ف دعني أقات ل كم ا‬ ‫شأنك؟ فقال‪ّ :‬‬
‫ّ‬
‫أريد‪.‬قال‪ :‬نعم‪ ،‬فأخذ داود مخالته فتقلدها وأخذ المقالع ومضى نحو ج الوت‪ ،‬وك ان‬
‫جالوت من أش ّد الناس وأقواهم وكان يهزم الجيوش وحده وكان له بيضة فيه ا ثالث‬
‫مائة من حديد‪ ،‬فلما نظر إلى داود ألقى في قلب ه فق ال ل ه‪ :‬أنت ت برز لي؟ ق ال‪ :‬نعم‪.‬‬
‫وكان جالوت على فرس أبلق عليه السالح التام‪ .‬قال‪ :‬فأتيتني بالمقالع والحجر كم ا‬
‫ّمن لحمك بين سباع‬ ‫تؤتى الكالب؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬ألنت ش ّر من الكلب‪ .‬قال‪ :‬ال جرم ألقس ّ‬
‫األرض وطير السماء‪ .‬قال داود‪ :‬أو يقسم هللا لحمك‪ .‬ثم قال داود‪ :‬باس م إل ه إب راهيم‬
‫وأخرج حجرا‪ ،‬ثم أخرج اآلخ ر وق ال‪ :‬باس م إل ه إس حاق ووض عه في مقالع ه‪ ،‬ثم‬
‫أخرج الثالث وقال‪ :‬باسم إله يعقوب ووضعه في مقالعه فصار كلّها حج را واح دا‪،‬‬
‫ودوّر المقالع ورماه به فس ّخر هللا الريح حتّى أص اب الحج ر أن ف البيض ة فخال ط‬
‫دماغه فخرج من قفاه وقتل من وراءه ثالثين رجال‪ ،‬وهزم هللا سبحانه الجيش وخ ّر‬
‫جالوت قتيال فأخذه فجرّه حتّى ألقاه بين يدي طالوت)‬
‫هذا هو الشطر األول من القصة‪ ،‬وهو باإلضافة إلى الغرائب والعجائب التي‬
‫قد نغض الطرف عنها‪ ،‬يجعل هدف داود ‪ ‬من جهاده في سبل هللا ه و الحص ول‬
‫على تلك الهدية التي وع ده به ا ط الوت‪ ،‬كم ا ذك ر في الرواي ة‪( :‬ه ل ل ك أن تقت ل‬
‫جالوت وأزوجك ابنتي وأجري خاتمك في ملكي)‬
‫وبهذا وحده ينهار كل ذلك البني ان ال ذي بن اه الق رآن الك ريم من تل ك القص ة‬
‫العظيم ة ال تي ته دف إلى بي ان ش روط نص ر هللا لعب اده من اإلخالص والتج رد‬
‫والصدق‪.‬‬
‫لكن الرواية ال تكتفي بذلك الهدم للمعنى القرآني‪ ،‬بل تضيف إليه هدم طالوت‬
‫نفس ه ال ذي يمث ل اص طفاء هللا‪ ..‬وك أن هللا خ دع ب ني إس رائيل حين اص طفى لهم‬
‫شخصا ال يصلح لحكمهم‪ ،‬وكأن بني إسرائيل ك انوا أعلم من هللا حين رفض وا ذل ك‬
‫االختيار اإللهي‪.‬‬
‫فقد جاء في الرواية‪ ..( :‬ففرح المسلمون فرحا شديدا وانص رفوا إلى المدين ة‬
‫س المين غ انمين والن اس ي ذكرون داود فج اء داود ط الوت‪ ،‬وق ال‪ :‬أنج ز لي م ا‬
‫وعدتني وأعطني امرأتي‪ ،‬فقال ل ه‪ :‬أتري د ابن ة المل ك بغ ير ص داق‪ .‬ق ال داود‪ :‬م ا‬
‫شرطت عل ّي صداقا وليس لي شيء‪ .‬قال‪ :‬ال أكلّفك إاّل ما تطي ق‪ ،‬أنت رج ل ح ربي‬
‫وفي جبالنا أع داء لن ا غل ف‪ ،‬ف إذا قتلت منهم م ائتي رج ل وجئت ني بغلفهم زوّجت ك‬
‫ابنتي‪ ،‬فأتاهم فجعل كلّما قتل منهم رجال نظم غلفته في خيطه حتّى نظم غلفهم فج اء‬
‫بها إلى طالوت فألقى إليه وقال‪ :‬ادفع إلى امرأتي‪ ،‬فزوّجه ابنت ه وأج رى خاتم ه في‬
‫ملكه)‬
‫وهكذا تحول داود ‪ ‬من مجاه د في س بيل هللا ـ في الرؤي ة الس لفية ـ إلى‬
‫مجاهد في سبيل ابنة طالوت‪.‬‬
‫وال تكتفي الرواي ة به ذا‪ ،‬ب ل تض يف إلى ذل ك ش ناعات أخ رى‪ ،‬ال تق ل عن‬
‫السابقة‪ ،‬فتقول‪( :‬فمال الناس إلى داود وأحبّوه وأكثروا ذكره‪ ،‬فوجد طالوت من ذلك‬

‫‪130‬‬
‫وحسده فأراد قتله‪ ،‬فأخبر بذلك بنت طالوت رجل يقال له ذو المغنيين‪ ،‬فقالت لداود‪:‬‬
‫إنّك لمقتول الليلة‪ .‬قال‪ :‬ومن يقتلني؟ ق الت‪ :‬أبي‪ .‬ق ال‪ :‬وه ل ج زمت جزم ا؟ ق الت‪:‬‬
‫ح ّدثني من ال يكذب وال عليك لن تفوت الليل ة حتّى تنظ ر مص داق ذل ك‪ .‬فق ال‪ :‬لئن‬
‫كان أراد ذلك ما أستطيع خروج ا ولكن ائتي ني ب زق من خم ر‪ ،‬فأتت ه‪ ،‬فوض عه في‬
‫مضجعه على السرير‪ .‬وس ّجاه ودخل تحت السرير فدخل طالوت نصف الليل وأراد‬
‫أن يقتل داود فقال له ا‪ :‬أين بعل ك؟ فق الت‪ :‬ه و ن ائم على الس رير‪ ،‬فض ربه ض ربة‬
‫بالسيف فسال الخمر‪ ،‬فلما وج د ريح الش راب ق ال‪ :‬ي رحم هللا داود م ا أك ثر ش ربه‬
‫الخمر وخرج‪ ،‬فلما أصبح علم أنّه لم يفعل شيئا فقال‪ :‬إن رجال طلبت منه م ا طلبت‬
‫لخليق أن ال يدعني حتّى يدرك منّي ثأره‪ ،‬فش ّدد حجّابه وحرّاسه وأغلق دونه أبوابه‪.‬‬
‫ثم إن داود أتاه ليلة وقد ه دأت العي ون وأعمى هللا تع الى الحجب ة وفتح ل ه األب واب‬
‫فدخل عليه وهو نائم على فراشه فوضع سهما عند رأسه وسهما عند رجليه وس هما‬
‫عن يمينه وسهما عن شماله ثم خرج‪ .‬فلم ا اس تيقظ ط الوت أبص ر بالس هام فعرفه ا‬
‫ف عنّي‪،‬‬ ‫فقال‪ :‬يرحم هللا داود فهو خير منّي‪ ،‬ظفرت به فقصدت قتل ه وظف ر بي فك ّ‬
‫ولو شاء لوضع هذا السهم في حلقي‪ .‬وما أنا بالذي آمنه‪ .‬فلما كانت المقابلة أتاه ثانيا‬
‫فأعمى هللا الحجّاب فدخل عليه وهو نائم وأخذ إبريق طالوت الذي كان يتوض أ من ه‬
‫وكوزه الذي كان يشرب منه وقطع شعرات من لحيته وشيئا من هدب ثيابه ثم خرج‬
‫وهرب وتوارى‪ .‬فلما أصبح طالوت ورأى ذلك‪ ،‬سلّط على داود العيون وطلبه أش ّد‬
‫الطلب فلم يقدر عليه‪ ،‬ثم إن طالوت ركب يوما فوج د داود يمش ي في البريّ ة‪ ،‬فق ال‬
‫طالوت‪ :‬اليوم أقتل داود أنا راكب وهو ماش‪ ،‬وكان داود إذا فزع لم ي درك ف ركض‬
‫طالوت على أثره‪ ،‬فاشت ّد داود فدخل غارا فأوحى هللا تع الى إلى العنكب وت فنس جت‬
‫عليه بيتا‪ .‬فلما انتهى طالوت إلى الغار ونظر إلى بناء العنكبوت‪ ،‬قال‪ :‬لو كان دخ ل‬
‫هاهنا لخرق بناء العنكبوت فتركه ومضى‪ ،‬وانطلق داود وأتى الجبل م ع المتعبّ دين‬
‫فتعبّد فيه‪ .‬وطعن العلماء والعبّاد في طالوت في ش أن داود‪ ،‬فجع ل ط الوت ال ينه اه‬
‫أحد عن قتل داود إاّل قتل ه وأغ رى بقت ل العلم اء‪ ،‬فلم يكن يق در على ع الم في ب ني‬
‫إسرائيل فيطيق قتله إاّل قتله ولم يكن يحارب جيشا إاّل هزم)(‪)1‬‬
‫إلى آخر القصة الطويلة‪ ،‬والتي استطاع اليهود من خاللها أن ي دركوا ث أرهم‬
‫من طالوت‪ ،‬وأن يبينوا صواب موقفهم مقارنة بما اختاره لهم هللا تع الى‪ ..‬ولألس ف‬
‫فإن العقول السلفية تقبل هذا الغثاء جميع ا‪ ،‬ولم تفك ر لحظ ة واح دة في أن تعرض ه‬
‫على الق رآن الك ريم‪ ..‬ألن عق ول الس لف عن دهم أهم من عق ولهم‪ ..‬وكالم الس لف‬
‫عندهم أهم من كالم ربهم‪.‬‬

‫‪ )(1‬جامع البيان‪ ،851 /2 :‬وتاريخ الطبري‪ ..337 /1 :‬تفسير البغوي ‪ -‬إحياء التراث ( ‪ )337 /1‬السراج المنير في‬
‫اإلعانة على معرفة بعض معاني كالم ربنا الحكيم الخبير (‪)164 /1‬‬

‫‪131‬‬
‫هذا الكتاب‬
‫يتناول هذا الكت اب ـ من خالل األدل ة والوث ائق الكث يرة ـ التص ورات ال تي‬
‫تحملها المدرسة السلفية عن النبوة واألنبياء عليهم الصالة والسالم‪ ،‬وهي تصورات‬
‫مستمدة من ال تراث اإلس رائيلي ال ذي فس ر ب ه الق رآن الك ريم‪ ،‬وكتب ب ه الت اريخ‪،‬‬
‫ووضعت على أساسه العقائد‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬فقد كان لتصورات اليهود ألنبيائهم‪ ،‬وما ذكروه عنهم من انحراف ات‬
‫عقدية وأخالقية تأثيره الكبير في المدرسة السلفية التي أج از أئمته ا الكب ار الرواي ة‬
‫عن بني إسرائيل‪ ،‬بل أجازوا الرجوع لكتب بني إسرائيل نفسها‪.‬‬
‫ولهذا ن رى تص ورات الس لفية للنب وة تختل ف عن التص ورات ال تي ذكره ا‬
‫الق رآن الك ريم‪ ،‬وال تي دل عليه ا العق ل‪ ،‬ودل عليه ا مع ه ال ذوق الس ليم‪ ،‬والفط رة‬
‫الطاهرة‪.‬‬
‫وهذا الكتاب يحاول بالبينات الواضحات‪ ،‬ومن خالل المصادر المعتمدة لدى‬
‫المدرس ة الس لفية تب يين تل ك الص ورة المش وهة ال تي يحملونه ا عن األنبي اء عليهم‬
‫الصالة والسالم‪.‬‬

‫‪132‬‬

You might also like