Professional Documents
Culture Documents
تأطير النص
شكل، عرف ال ِّشعر العرب ُّي قبل عصر النهضة (ق )19جمودا وانحطاطا ،فهيْمن عليه الت َّصنيع والتّكلُّ ف وساد فيه الولَ ُع بال َّ
واهتم شعراء عصر االنحطاط بألوان البديع وتفاه ِة األغراض على حساب المعنى ،وبعد أن هبت على العرب رياح النهضة
انبرى شعراء البعث واإلحياء إلعادة الحياة إلى الشعر العربي وبعْثه من جدي ٍد باستلهام النموذج القديم والنَّسج على منوال
ومن أبرز هؤالء :محمود سامي البارودي ،وأحمد الفُحُو ِل ،و ُم َجاراتِهم في بناء الصور وتشكيالت المعنى واإليقاع واألسلوبْ ،
ٌ ْ
ت الحركةُ على قاعدة ثابتة واكبتها حركة نقديّة وقامت على ِإثرها بحوث نظرية أبرزت شوقي ،وحافظ إبراهيم .ولما استق َّر ِ
خصائص حركة إحياء النموذج وعرفت بها وبسطت رؤيتها وأدواتها ونافحت عنها في المعارك النقدية المشهورة بين أنصار
مستثمرة مخرجات المناهج الحديثة ،و ِمن أبرز النّقاد الذين دَرسوا شعر البعث واإلحياء شوقي ضيف، ْ القديم والجديد
وأدونيس ،ومحمد مندور ،وصاحب النص “محمد الكتَّاني” ،الذي يُع ُّد من الباحثين المغاربة الذين تناولوا بالدِّراسة والنقد
حركة إحياء النموذج .فما القضي َّة التي يعالجها النّص؟ وما أسوب الكاتب ومنهجه في هذه المعالجة ؟
فرضيات القراءة
العنوان مر ّكب اسمي إضافي “انبعاث الشعر العربي” ،والمضاف مبتدأ يحيل على استعادة الوجود والكينونة ،والمضاف إليه
الموصوف يح ّد د طبيعة المبتدأ وانتما َءه ،فيما الخبر يحيل عليه متن النص ،ومن الناحية الداللية يحيل العنوان على حركة
إحياء النموذج بما تخضع له من ضوابط معلومة في بناء المعنى والمبنى ،ويفهم من العنوان ّ
أن الشعر العربي انتقل من طور
ّ
الموت إلى طور اإلحياء ،وكانت الحياة هي العودة إلى النموذج المشرق .فإلى أي ح ٍّد يعْكس العنوان مضمون النص؟
صية ال ّدالة من قبِيل( :إحياء القديم ،موت المعاني، بالنظر إلى إيحاأت العنوا ِن وشكل النصّ الطّباع ّ
ي ،وبعض المشيرات الن ّ
صورة القديمة ،متانة التركيب وجزالة اللفظ ونصاعة المعنى…) نفترض أنّنا إزا َء مقالة أدبيّة انتعاش الروح القومية ،إحياء ال ّ
بحمولة حجاجية تعالج قضيَّةً أدَبيّة تتعلق بحركة إحياء النموذج .فما هذه الحركة؟وما خصائصها؟ وما المفاهيم والقضايا
ً
المعروضة ؟وما مرجعيتها؟ وما طرائق العرض المستثمرة؟ و هل وفق الكاتب في هذه المعالجة؟
قضية اللّفظ والمعنى :وهي حاضرة في المقالة في سياق عرض اهتمام شعراء عصر االنحطاط باللفظ على حساب
المعنى (التص ّنع ،كلفة التالعب اللفظي ،ال ّتوريات ضروب البديع) ،وهو ما عملت حركة إحياء النموذج على
تصحيحه.
صنعة :وتحضُر في النصِّ عبر اإلشارة إلى ال َّتصنيع والتكلف الذي رافق شعر عصر االنحطاط قضية َّ
الط بع وال َّ
ّ
ضعف ال َّس الئق ،كما نجدها في عرض مفهوم الشعر لدى اإلحيائيين ،إذ هو “فيْض وجدان وتألق خيال” نتيجة َ
ف أو تعسف. ُسر وسالسة دون عُسْ ٍر أو تكلُّ ٍ
ٍ ي في اللسان على يجري
وقد أسهمت هذه القضايا في إضاءة القضية الرئيسي َّة وبلورة أبعادها لتفهيمها المتلقِّي تمهيداً إلقناعه بجمالي ِة شعر إحيا ِء
الن َّموذج ،ودوْ ره التّاريخ ِّي في انتشال الشعر العربي الحديث من أنفاق الرداءة وسراديب االنحطاط.
أن الكاتب في عرضه لقضية انبعاث الشعر العربي سخر أسلوبا ً استنباطيا ً تنقل فيه من العا ِّم إلى الخاصوتجدر اإلشارة إلى ّ
شكليةومن الك ِّل إلى الجزء بدأ باإلشارة إلى الظُّ روف العامة لظهور حركة البعث واإلحياء ،وتعريجا أه ِّم الخصائص ال َّ
والمضموني َّة التي ميزت هذه الحركة معززا عرضه بالتفسيرات المالئمة واالستدالالت المناسبة واألمثلة الكافية ،وانتهاء إلى
أن انبعاث الشعر العربي لم ينبت فجأة أو صدفةً ،وإنما في إطار حركة إصالحية عامة نجمت عن وعي جماعي التأكيد على ّ
عميق وناضج بضرورة اإلصالح من خالل استعادة الذات القوية المنسية والمفقودة ،وطرد الذات المتهالكة المنحطة .وإلى
ي( :عصر جانب أسلوب االستنباط توسل الكاتب بمنهجية منطقية تقوم على توصيف الظاهرة في سي ُرورتها وتط ِّو ر ها التَّاريخ ّ
النّضج والكمال ثم عصر االنحطاط ثم عصر النَّهضة) ،وجرد المفاهيم وتتبع األبعاد واستقراء الواقع وترتيب النتائج على
األسباب.
الكاتب من ترتيب أفكـاره وتنسيقها وعرضها بشكـ ٍل مترابط يفضي إلى الفهم الجيِّد والتأويل
َ وقد م َّكنت هذه األساليبُ
ص حيح ،وإلى إقناع القارئ بأطروحته في نهاية المطاف. ال َّ
تركيب وتقويم
أن الكاتب استهدف تعريف مدرسة إحيا ِء النموذج ،برصْ د أه ِّم خصائصها مقارنا بينها تأسيسا على معطيات التحليل نستنتج َّ
ِّ
وبين شعر عصر االنحطاط ،مبيِّنا ُجهود اإلحيائيِّين في انتشا ِل الشعر من ُمستنقع ال ّرداءة واإلسفاف .وتكمنُ مقصدية الناقد في
ت االنتباه إلى دوره التّاريخي في استعادة القصيدة العربية من براثن الموت .وقد وظَّف لشعر إحياء النموذج وإلفا ِ
ِ االنتصار
لذلك جملة من الطرائق توزعت بين الحجج وأساليب التفسير من تعريف ووصف ومقارنة ،ومواد لغوية داعمة للحجاج ،و
أسلوب االستنباط والجرد ،واللُّغة التقريرية المباشرة و الجمل الخبرية الطويلة وغيرها .وقد نج َح الكاتب إلى ح ٍّد بعيد في
عرضه لخصائص شعر إحياء النموذج ،وأصبحنا ملزمين بالقول إن الفرضية التي طرحناها في بداية تفكيكنا لهذا النص
فرضية صحيحة ،إذ تبين أن حركة إحياء النموذج شكلت محطة فاصلة وضرورية وحاسمة في إعادة الشعر العربي إلى الحياة
العربية الجديدة المصطرخة بنوايا اإلصالح وتحققاته مما مهد الظروف أمام تطورات أخرى الحقة سيمثلها تيار سؤال الذات
ومن بعده تكسير البنية فتجديد الرؤية.
إحياء النموذج (نص شعري) – تحليل قصيدة 'لي في من مضى مثل' لمحمود سامي البارودي:
إشكالية القراءة!
في سياق النهضة التي أعقبت حملة نابليون على مصر سنة ،1779جاء التيار اإلحيائي استجابة لحاجة األمة العربية إلى سند
للبقاء ،بعد أن ساد االنحطاط مختلف مظاهر الحياة العربية ،وضعفت اللغة الشعرية وأغرقت في صنوف التكلف والتصنيع،
حتى كان الشعر صورة لالنحطاط وتعبيرا عن الحياة الجامدة ..
وقد حاول بعض الشعراء (حسن العطار،عبد هللا فكري )..التحرر من هذا الجمود ودخول غمار اإلحياء ،وانتشال الشعر
العربي من الجمود والتقليد واإلسفاف .إال أن محاوالت هؤالء كانت محتشمة متواضعة .
وفي النصف الثاني من القرن 19حاول جيل ثا ٍن إحياء النموذج الشعري القديم ،وبعث القصيدة العربية بأصولها الفنية،
وقيمها الثقافية والجمالية ،ومحاكاة النموذج الشعري العباسي واألندلسي الزاهر ،ومعارضة شعرائه ألجل الخروج من األزمة
الشعرية التي خلفها عصر االنحطاط ..من بين هؤالء أحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومحمود سامي البارودي (– 1839
)1905الذي تضافرت عدة عوامل في بلورة شخصيته والتأثير في شعره منها :نسبه غير العربي وتعلمه في المدارس
األميرية وثقافته العربية األصيلة ومكانته العسكرية ونشاطه السياسي ..قام ببعث القصيدة العربية بأصولها الفنية وقيمها
الثقافية والجمالية ،وحاول التعبير عن حياته وتجاربه وأزماته ومختلف التحوالت الخاصة وتقليد الموضوعات الشعرية
القديمة .إال أن تجربته لم تكن تجديدا للشعر العربي ،بل كانت بعثا وإحياء له .ألف في مختلف أغراض الشعر وخاصة
الحماسة والفخر والوصف ..وخلف ديوانا شعريا صدره بمقدمة حدد فيها مقاييس الشعر الجيد ومفهومه .والنص الذي بين
أيدينا “لي في من مضى مثل” نموذج إحيائي نتعرف من خالله على أهم خصائص شعر إحياء النموذج .فما هي مضامين
قصيدته ؟ وما خصائصها الفنية ؟ وإلى أي حد تعكس خطاب إحياء النموذج ؟
المالحظــــة
يوحي عنوان القصيدة “لي في من مضى مثل” باعتراف الشاعر بفضل الشعراء الجاهليين عليه ،فشعرهم مث ٌل يُحتذى به .
انطالقا من البيت 19 – 17 – 1نفترض أن موضوع القصيدة يتمحور حول الغزل والفروسية والصيد والحكمة .
ترتبط هذه الموضوعات بالعنوان من حيث إحالتها على الماضي واتخاذه نموذجا لتأليف الشعر .
تقوم القصيدة على نظام الشطرين المتناظرين ،وهي جزء من قصيدة طويلة .
نفترض ،إذن ،أن النص يدور حول الفخر بالفروسية ،ووصف الصيد ،وهو عبارة عن قصيدة عمودية الشكل .
فما مضامين هذه القصيدة؟ وما خصائصها الفنية؟ وإلى أي حد تعكس خطاب إحياء النموذج مضمونا وشكال ووظيفة؟
الفهــــــم
( :)5 – 1استهل الشاعر قصيدته بمقدمة عاطفية أبان من خاللها عن حنينه إلى أيام الصبا وتجربة الحب التي
ألمت به في كبره ،وخضوعه لسنن األسالف في نظم معاني الغزل.
( :)10 – 6وما إن رسم لقطة لضعف ذاته أمام سلطان الحب حتى هم بوصف قوته في مظاهر فروسية ،فوصف
الفرس مركزا على لونه األشقر وخاصة تناسق ألوان قوائمه ،وطواعيته له في ساحة الحرب
( :)14 – 10وصف السيف وحدته ولمعانه وسرعة فتكه باألعداء.
( :)18 – 15وصف رحلة الصيد ووفرة الطرائد وأنس ُرفقائه في الشتاء.
( :)23 – 19المقطع الحكمي أكد فيه حقيقة العيش القائم على التوازن وصفاء الفطرة و ُحسن الخلق.
اإليقــــــاع
ر ْد َد صْ صبا |بعد شيْــ | ب ْلـلمة ْلـــ | ْغزلو ۩۩۩ وراح ْبلـ |ج ْدد ما | يأتي به ْلـــ | ه َزلـو (تصريع)
׀و ׀و ׀ ׀و |׀و ׀׀ و | ׀و ׀و ׀ ׀و |׀׀ ׀و ۩۩۩ ׀׀و׀ ׀و | ׀و׀׀و | ׀و ׀و ׀ ׀و | ׀׀׀و
مسـتفــعلن | فــاعـلن | مستفـــعلن | فَ ِعلُ ْن ۩۩۩ مـتفـعلن| فاعلن | مستفـــعلن | فَعـلُ ْن
القافية ( :ب :6مشتعلو) ( ،بـ :5هـلكلل) ( ،بـ :18ال دغلو) ..
الروي [ :ل] وهو صوت لثوي مجهور اقترن بضمة مُشبعة تمأل الفم في سياق الفخر .
اعتماد التصريع (ـة ْلـغزلو = ـه ْلـهزلو).
في القصيدة مظاهر إيقاع داخلي تتمثل في التوازي والتكرار.
الحظ التقابل الموجود بين كلمات الشطرين األول والثاني في البيت ، 9وتحسس دور البنية الصرفية والنحوية في
تحقيق التوازي (حوافره = جحافله).
الحظ أيضا اإليقاع المنبثق من صيغة األمر المتكررة في األبيات 20ـ . 21
تكرار بعض الكلمات (يمضي ـ ماضي).
تكرار صوت[ ل] داخل القصيدة تجانسا مع حرف الروي ،مما يدعم الكثافة الصوتية لهذا الحرف.
ذات جرس موسيقي متآلف ،وال سيما القافية المنتهية بـالم مرفوع بضمة مشبعة. ألفاظ النص ُ
فالشاعر ،إذن ،يستلهم أحد أهم مقومات البنية اإليقاعية للقصيدة التقليدية بإحيائه للنموذج العروضي القديم .
الصورة
تطفح القصيدة بالصور الشعرية القائمة على قواعد البيان من تشبيه واستعارة؛ ففي البيت 8شبه لون الفرس الذي يجمع بين
اللونين األشقر واألبيض ،وقوائمه بكونه خاض نهر الصبح لتقريب الصورة إلى ذهن القارئ .وفي البيت 6استعارة شبه فيها
الجو بالوقود الذي حذف وأشير إليه بأحد لوازمه وهو االشتغال على سبيل االستعارة المكنية .وفي البيت 7شبهت القوائم
المحجلة الثالث والقائمة الرابعة العاطل بأنها غمرت بالبياض والرابعة معزولة.
في البيت 8شبه بياض قوائم الفرس بنهر الصبح وضوحا ونصاعة وإشراقا ،وشبه لون جوانبه بلون شروق
الشمس ألقا وتوهجا في الصفرة .
وفي البيت 11كناية (لم يعلق به بلل) كناية عن حدة السيف ومهارة الفارس .
وفي البيت 13شبه السيف ،في سرعة قطعه للرؤوس ،بسرعة مرور البرق ،كما شبهه وقت القتال بحركة النار
في مهب الريح ،أو بشعلة تتحرك بها الريح.
هذه الصورة جلية ،بسيطة ،سهلة اإلدراك ،قريبة المنال ،ال التباس وال غموض فيها ،وهي ذات داللة حسية ،تشي بخيال
قريب ال يحتاج العقل معه إلى جهد كبير إلدراكها ،تتميز بدقة وصف الفرس وحركة السيف .وهي تقترن بمعاني الفخر
بالذات .كما أن لها داللة اجتماعية تتمثل في تصوير المعاني ذات الحمولة الثقافية التي تربط بين أفراد المجتمع والمتضمنة
لقيم الفروسية والشجاعة وما يقترن بها من خصال .ومع ذلك فإن الصورة تبقى ذات وظيفة تزيينية إذ ال تسهم في التعبير عن
معنى عضوي في بناء القصيدة ،فهي أشبه بثوابت أسلوبية بالغية نظمها الشاعر أو استحضرها من محفوظه الشعري
الغزير..
وإذا تأملنا موضوعات القصيدة من فروسية ووصف ..فإننا نالحظ هيمنة لون البياض على المشاهد التصويرية (بياض قوائم
الفرس ،نهر الصبح ،السيف ،البرق )..مما يوحي بالصفاء ووضوح الرؤية إلى األشياء وفي منظور الشاعر ،وكذا إلى
وضوح موقفه ال ُممجد لقيم مضت (لي في من مضى مثل).
األسلــــــوب
في البيت 4و 23يبدو احتذاء الشاعر باألقدمين واضحا ،ولعله في ذلك يكشف عن معارضته لهم وتناص شعره مع
نصوصهم .ولكنه مع ذلك يؤكد من خالل ورود ضمير المتكلم المفرد على خصوصيته وتفرده في الشجاعة والفروسية.
ومن هنا تركيزه في الوصف على ذاته دون غيره .هذه الذات تتجلى بصورة بطولية في وصف فرسه وسيفه بصفات متفردة،
فكأن ذات الشاعر تتماهى وتتجلى أكثر وضوحا خارج الذات في حركية السيف والفرس ،حيث البطولة والفروسية ،فحتى في
مقاطع وصف الفروسية ال تغيب الذات.
وفي مقطع وصف الصيد وظف الشاعر ضمير المتكلم الجمع ألن الصيد طقس جماعي يجسد االنتماء من خالل الفعل
التشاركي في مواجهة الطبيعة.
وفي نهاية النص أورد الشاعر مقطعا حكميا ذا نزعة خطابية واضحة ،يبرز فيه ضمير ال ُمخاطب (فاتبع هواك) .وهو مقطع
يعكس قدرة الشاعر على نظم المعاني الراقية ذات البُعد الحكمي ،وكذا تهذيب ذوق القارئ وإرشاده إلى الخصال النفسية
الحميدة ومكارم األخالق وإقناعه بها لتكون قدوة له في الحياة االجتماعية .وهذا يبين حرص الشاعر على إقناع القارئ
بتصوره لآلداب والخصال النفسية التي يؤمن بها المجتمع والمأثورة عن القدماء.
البنية!
تترابط مقاطع القصيدة بحركة نفسية تتدرج من لحظة ضعف الذات أمام عاطفة الحب إلى مسارات القوة على صهوة الفرس
الطيّع بحركته السريعة في ساحة القتال ،وتناسق ألوانه ،ومساعدته الشاعر على الفتك بأعدائه والصيد مع ُرفقائه ..ليتوج هذه
الحركة النفسية في المقطع األخير بالحكمة والرشاد وحسن الخلق.
ومن جهة أخرى تضمنت القصيدة مواضيع عديدة كالغزل والفخر والصيد والحكمة ،ربط بينها الشاعر برابط إيقاعي (وحدة
الوزن والقافية والروي) ونفسي ذاتي يؤكده اعتماد ضمير المتكلم ،وهذا الربط نوع من االنسجام .
لقد بدأ الشاعر هذه القصيدة بالحنين إلى الصبا الذي عاد فعاد معه اإلحساس بمشاعر الحب والغزل ،وانتقل إلى اإلشادة بالفتوة
والفروسية ووصف رحلة الصيد ،ثم ختمها حكيما رشيدا من هنا تكون القصيدة قد اختزلت حياة الشاعر منذ طفولته وما مر به
من نكبات عائلية وسياسية وفترة الشباب (الغزل والصيد) وصوال إلى الشيخوخة حيث ينطق حكمة .فهذه السيرورة الحياتية
تجسد معيارا زمنيا يوحد مواضيع وأغراض القصيدة .ومع ذلك بقي سؤال بنية النص اإلحيائي مطروحا ،خاصة مع مجيء
منظري الرومانسية.
التركيب
هكذا نخلص إلى أن الشاعر قدم للقارئ نفسه من خالل صورة مثالية للفارس الحكيم ،الذي يخرج إلى ساحة الحرب بسيفه
الفتاك وفرسه األشقر ،يتخطى األهوال منجزا مالحم في الفروسية والبطولة ،متمتعا بلذة العيش والصيد ورفقة األطياب من
أصدقائه .ولعله في ذلك يذكرنا بامرئ القيس وأبي فراس الحمداني .
وهكذا يتضح أن النص نموذج حي للقصيدة اإلحيائية بكل ما تزخر به من قيم ثقافية (فروسية ،صيد ،حكمة ،حنين إلى أيام
الفتوة والشباب… وغير ذلك مما شحنت به ذاكرة الشاعر) ،وكذا قيم فنية شعرية (ألفاظ تقليدية مستلهمة من القاموس الشعري
القديم ،وبنية إيقاعية خليلية تعتمد وحدة الوزن والقافية والروي ،والصور البيانية التقليدية القائمة على التشبيه ..والخيال
الحسي ،وذات الوظيفة التزيينية).
التقويم!
يتضح من قول السعيد الورقي أن للبارودي قدرة على استلهام اإلطار الفني للقصيدة العربية التقليدية ،والتعبير من خالله عن
خواطره ومضمون عصره .وهذا ما يفسر تردد مشاهد الشعر العربي القديم في شعره.
والواقع أن هذا الحكم يصح إلى حد كبير على القصيدة موضوع درسنا ،فإطارها الفني تقليدي يتناول مواضيع الفروسية،
ومقاطع وصف مراعي الظباء ،والحكمة بادية في موضوعاتها المنسوجة في قالب فني ،مكنت الشاعر منه قدرته اللغوية،
وذوقه الفني .
ورغم أن شعر البارودي لم يحقق تطورا كبيرا ،إذ ظلت الصور البيانية ،مثال ،مجرد زخارف وأصباغ تُراد لنفسها ،مستمدة
من الذاكرة الشعرية مستقلة عن مشاعر الشاعر وأحاسيسه .
إال أن مزية شعره تتقلص حيث تستند إلى معايير التطور والدينامية التي تشرط تطور المضامين بتطور البنية والشكل
واألدوات الفنية .وهذا ما حاول القيام به وريث البارودي الشاعر أحمد شوقي .
إحياء النموذج (نص شعري) – تحليل قصيدة 'أريج المسك' لمحمد بن ابراهيم:
التأطير
عاش العالم العربي خالل أواخر القرن التاسع عشر ،وأوائل القرن العشرين تحوالت تاريخية وحضارية وثقافية وفكرية
ساهمت في خلق نهضة واسعة تجسدت في ظهور حركات فكرية متعددة القناعات الفكرية والخلفيات اإليديولوجية (ليبرالية –
علمانية – سلفية ) نادت بالتحرر من نير االستعمار ،وتجاوز مظاهر الجمود والتخلف ورواسب عصر االنحطاط ،وتجسدت
أيضا في ظهور حركة شعرية موازية سعت إلى إحياء نموذج القصيدة العربية القديمة وفق قواعد عمود الشعر كما حددها
المرزوقي في شرحه لديوان ''الحماسة'' ألبي تمام ،ومثلت – خالل عملية استعادة المتن الشعري العربي القديم – بداية
انعطافة جديدة في الشعر العربي عنوانها القضاء على مظاهر الجمود التي أصابت اإلبداع الشعري في عصر االنحطاط،
وحصرته في الزخرفة اللفظية والمعاني المستغلقة واألساليب المبتذلة والتكلف واإلسراف في المحسنات البديعية ،والتالعب
اللفظي ،وغير ذلك.
وقد قامت هذه الحركة اإلحيائية على استلهام الخصائص البنائية والفنية للقصيدة القديمة ،وعملت على بعث تقاليد الشعر/
النموذج واألجواء اإلبداعية المرتبطة به اعتمادا على تقليد فحول الشعراء ومحاكاتهم ومعارضتهم وخصوصا شعراء
العصرين الجاهلي والعباسي ،ومكنتها هذه الوسائل اإلحيائية ،واطالعها الواسع على نماذجه المشرقة من جعل الشعر
والشاعر يستعيدان المكانة الالئقة بهما في المشهد األدبي النهضوي ،وأصبح لهذه الحركة اإلحيائية معارضون ،ومناصرون
وأتباع كثر في كل البلدان العربية وتجاوز صداها المشرق العربي ليصل إلى الغرب اإلسالمي في تونس والجزائر والمغرب،
بل أصبح بعض الشعراء المغاربة من أبرز أعالم المدرسة اإلحيائية من أمثال عالل الفاسي ،محمد الحلوي ،المختار
السوسي ،وطبعا صاحب النص محمد بن إبراهيم الملقب بشاعر الحمراء.
فما هي مضامين هذا النص ؟ ما المعجم المهيمن على هذه المضامين؟ما الذي يميز خصائصه الفنية ؟ وإلى أي حد نجح
الشاعر في جعل قصيدته تمثل االتجاه الشعري الذي تنتمي إليه ؟
التحليل!
المضامين
استهل الشاعر قصيدته بالحديث عن معاناته وشكواه من مصائب الدهر وأعاديه ،وهي مصائب جعلت حياته قاسية وكئيبة
وجعلته يعتبرها أكبر معاناته ألن زمن االنحطاط واالبتذال الذي يعيش فيه ال يرقى إلى ما يتحلى به من الشهامة ونبل
األخالق ،ثم انتقل إلى التماس العذر من صحبه وخالنه بسبب حالة الضعف التي أصبح يعيشها تحت وطأة العيش وعذاباته
التي أوصلته حد أن يرى في البكاء عزاء يخفف عنه ضغط زمن التردي الذي يعيش فيه ،لكن ضعفه أمام الهوى وصروف
الدهر لم يمنعاه من إبراز مالمح قوته المتمثلة في خصاله الحميدة (المجد ،الشجاعة ،العلم ،الغنى ،األخالق ،الحكمة،)...
وامتالكه لناصية اإلبداع ،وقدرته على نظم جميل الشعر وأعذبه دون تكلف أو تصنع مما يجعل المعاني تأتي إليه سهلة منسابة
وغير مسبوقة عند غيره من الشعراء ،ومن افتخاره بشعره وموهبته انتقل إلى االفتخار بأهله وصحبه وأخالقهم واصفا إياهم
بالصفاء والود وحسن الخلق واللباقة واالستعداد الدائم لتقديم العون ،واختتم القصيدة بتوجيه النصح للناس كي يعملوا على
تخليد أنفسهم وتحصين محاسن األخالق حتى يخلدوا بذكراهم عند الناس والتاريخ وهللا ،ويمكن تقسيم هذه المضامين إلى
الوحدات التالية:
الوحدة األولى ( :)3 – 1التماس الشاعر من مخاطبيه االستفراد بذاته بعيدا عن زمنه الكئيب عله يجد في البكاء
عزاء.
الوحدة الثانية ( :)12 – 4استعراض الشاعر مناقب النبل والشهامة والملكة الفكرية والشعرية التي ينفرد بها.
الوحدة الثالثة ( :)18 – 13إشادة الشاعر بصحبه وبما يجمعهم من ود خالص كثمرة لخصالهم النبيلة.
الوحدة الرابعة (:)20 – 19التأكيد على خلود اإلنسان بفضائله الحميدة عبر التاريخ.
األسال!يب!
أما على مستوى األساليب فقد مزج الشاعر بين األسلوبين اإلنشائي والخبري ،حيث استعمل األول للكشف عن حالته الوجدانية
االنفعالية كما يدل على ذلك أسلوب النداء الوارد في البيت األول ،وأسلوب النهي (فال تذكروا) الوارد في البيت الثالث،
باإلضافة إلى أسلوب األمر في قوله(:فثابر على كسب المحامد) الوارد في البيت ما قبل األخير ،واعتمد الثاني (األسلوب
الخبري) كوسيلة لإلخبار بمعاناته وافتخاره بنفسه وخصاله ومجده وصحبه ،ولهذا هيمن هذا األسلوب بصيغه االبتدائية
والطلبية واإلنكارية على معظم أبيات النص وزاوجت جمله بين الفعلية واالسمية.
البنية! اإليقا!عية!
)1اإليقاع الخارجي :على مستوى البنية اإليقاعية نظم الشاعر قصيدته ،من حيث إيقاعها الخارجي ،على وزن بحر الطويل،
وهو من البحور الخليلية المركبة (فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن× )2وتتناسب تفاعيله الثمانية مع غرض النص الرئيس
(الفخر) ،كما اعتمد الشاعر قافية موحدة ،مطلقة ،متواترة حيث ما بين ساكنيها حركة واحدة ورويها (الباء وهو من الحروف
المجهورة الشديدة) موحد متحرك ،يضاف إلى ذلك التصريع الوارد في مطلع القصيدة حيث تساوت العروض والضرب
(مفاعلن) .
)2اإليقاع الداخلي :أما فيما يتعلق باإليقاع الداخلي للنص ،فيتميز النص بظاهرة تكرار حروف بعينها أهمها روي القصيدة
الذي تكرر في كل أبياتها ،ثم حرف السين والصاد والهاء ،...وهي من الحروف المهموسة الرخوة المناسبة لغرض الشكوى.
ولم يقف التكرار عند حدود الحروف/األصوات ،بل تعداه إلى تكرار بعض األلفاظ (دموع ،سكبتها ،سكب ،تعرفني ،)..وهذا
التكرار يلعب دورا توكيديا يزكي غرضي الفخر والشكوى ،ويسهم في خلق انسجام موسيقى النص الداخلية .كما تتميز
القصيدة بظاهرة التوازي الذي تراوح بين التوازي الصرفي المتعلق ببنية الكلمات من قبيل( :القلب ،الخطب ،سكب ،عضب،
صحب ،قعب )...والتوازي التركيبي التام كما في قوله :وتعرفني األخالق والفضل والنهى *** وتعرفني اآلداب والعلـم
والكتـب .والتوازي التركيبي الجزئي ،كما في قوله :وما المرء إال ذكره بفضيلة *** وما ذكره إال فعاله والكسب .وقد ساهم
التكرار والتوازي في خلق موسيقى النص الداخلية ،وأضفيا عليه مسحة تزيينية إيقاعية مناسبة ألغراضه ،وأسهما في وضع
المتلقي أمام مقصدية الشاعر ،الذي لم يخرج عما ألفناه في الشعر العربي القديم.
تركيب واستنتاج
خالصة نخرج بها من كل ما تقدم هي أن القصيدة قامت في مضامينها على ثالثة مواضيع هي الشكوى والفخر والحكمة،
وعبر خاللها الشاعر عن شدة معاناته من قهرا لدهر والهوى ،وهو ما أضعف صبره وأسال دمعه ،وفرض عليه طلب العذر
من الصحب والخالن ،دون أن يمنعه من االفتخار بمزاياه ومحاسنه وموهبته وصحبه ،بل تعدى ذلك ليمدنا بالحكمة والنصيحة
الداعية إلى ترك األثر وتخليد النفس ،وقد عبر الشاعر عن هذه المضامين بأساليب بالغية تنتمي إلى علم البيان ،وصور
شعرية حسية ،ومعجم تقليدي يوظف لغة وصور ومعاني األقدمين.
نستنتج من كل ما سبق أن هذا النص يمثل بوضوح شعر البعث واإلحياء ،فشكل القصيدة الهندسي تقليدي ،قائم على نظام
الشطرين المتناظرين ،ووحدة البيت ،والوزن ،والقافية ،والروي ،وتصريع المطلع ،ومضمونها تميز بتعدد األغراض وهي
سمة تقليدية في القصيدة العمودية ،ومعجمها تقليدي يمتح من اللغة التراثية ،وصورها الشعرية حسية مادية تنهل من مباحث
البالغة العربية القديمة من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز ،ولم يخرج إيقاع القصيدة عن مظاهر تقليد الشعر النموذج القائمة
على أسس عمود الشعر.
سؤال الذات (نص نظري) – تحليل نص 'الشعر الرومانسي' لعبد المحسن طه بدر:
إشكالية النص!
السؤال هو :من فعل سأل عن الشيء إذ استفسر عنه وطلب معرفة لم تكن حاصلة وقت السؤال ،وفي االصطالح األدبي تعني
كلمة "سؤال" استحضار مفهوم أو قضية من أجل استنطاقها والكشف عن أبعادها.
الذات :هي النفس وهي خالف الموضوع المدرك وينظر إليها من وجهتين:
األول :يؤكد على طابع الخصوصية الذي يميز الذات عن باقي الذوات األخرى من حيث الشك واليقين والرغبة
واإلرادة واإلحساس.
الثاني :يؤكد على نوعية العالقة التي تربطها بغيرها من الذوات وبالقيم االجتماعية.
شاعر التي مطل َع القرن العشرين كخصم عنيد لحركة البعث واإلحياء ،مستهدفة ر َّد االعتبار لذات ال َّالذات ْ
ظهرت حركةُ سُؤا ِل ّ
ِّ
ه ّمشَها اإلحيائيّون مرجعها في ذلك الشعر الغنائ ِّي الغربي وموضوعاته المتعلق ٍة بالوجدان والتأ ُّمل في الحياة واالرتهان إلى
الخيال والهروب إلى الطبيعة والحلو ِل فيها والتّفلسف في الوجود والبحث عن قيم مثالية مطلقة للجمال والنقاء والحب بحثا
حالما خجوال .ولقد نتج عن سؤال الذات في الشعر العربي الحديث حركة أدبية سميت بالرومانسية قامت على أنقاض إحياء
النموذج وقد تميزت بالتأمل العميق في الكون والحياة والطبيعة واتجهت بمضمون القصيدة الحديثة اتجاها وجدانيا .وانق َسم
ث جماعات مشهورة هي: تي َّار سؤال ّ
الذات إلى ثال ِ
جماعة الديوان :شعراؤها هم محمود عباس العقاد ،وعبد الرحمان شكري ،وإبراهيم عبد القادر المازني.
تيار الرابطة القلمية :أهم رواده هم :إيليا أبو ماضي ،وجبران خليل جبران ،ومخائيل نعيمة.
جماعة أبولو :وتضم أحمد زكي أبو شادي ،وأبو القاسم الشابي ،وعلي محمود طه ،وإبراهيم ناجي...
لقد اهتم التيار الرومانسي بالذات والوجدان وتمثل عوالم األحالم والخيال والطبيعة وفر شعراؤه من المشاكل التي يعيشها
المجتمع العربي ،وعبروا عن ذواتهم ،وخرجوا على القصيدة العربية القديمة شكال ومضمونا .وقد رافقت ظهور هذا التيار
مفهوم جدي ٍد لل ّشعر ولوظيفته مختلفا عن
ٍ ٌ
دراسات نقديّة موازية استفادت من النق ِد الغرب ِّي ومناه ِج ه ،وحاولت تقديم وتط ُّورهُ
ش كلية والمضموني َّة .وقد اشتهر نقَّاد كثر عرضوا لتيار سؤال
ي وسماته ال َّ التص ُّو ر التقليدي ،متكئا على طبيعة ال ّشعر الرومانس ّ
الذات كمحمد غنيمي هالل ،وعبد القادر القط ،وعبد المنعم خفاجي ،وعبد المحسن طه بدر (1932ـ )1990بمنهجه القائم
“دراسات في تطور األدب العربي الحديث” الذي منه هذا النص .فما ٌ على الرصد التاريخي والمنهج االجتماعي ،من مؤلفاته
القضية التي يطرحها؟ وما طراِئق عرْ ضها؟
فرضيات القراءة
ي” نجده تركيبا اسميا من مبتدأ ونعتِه ،فيما الخبر مدفون في النص .أما من حيث ال َّداللة بتأملنا عُنوان النَّصِّ “ال ّشعر ال ّرومانس ّ
ت جمالية خاصة ،أما “ال ُّرومانسي” إيقاع ،الخاضع لبناء معي َّن ،المستند على مق ّوما ٍ
ٍ ي القائم علىالجنس األدب َّ
َ فالشعر هو ذاك
فهو تحديد لطبيعة هذا الشعر ونو ِعه نسبةً إلى الرومانسية التي تتغنى بالذات وتهتم بالوجدان وتثور على التقليد والمعيارية،
وتنشد االنطالق والحرية .و ِمن خالل العنوان وشكل النّصِّ ،وبعض المشيرات النصية الدالة من قبيل (أن يخلّصوا ذات
أن النص النظري الذي بين أيدينا الشاعر ،قوة إحساسه الذاتي ،شعرا ُء مدرسة الديوان ،تبني التّراث الغربي…) نفترض ّ
يتمحور حول نقد خطاب سؤال الذات ،ورصد أهم إنجازاته وإخفاقاته .فما أبعاد هذا النقد؟ وما المفاهيم المؤطرة له؟ وما
منهجية الكاتب في معالجة الموضوع؟
وللوقوف على تداعيات القضيّة الرئيسيّة وتقليبها على أوْ جُهها المختلف ِة ،ناقش الناقد جملةً من القضايا المتف ّرعة عنها وأه ُّمها:
قضيَّة التقليد بوجهيه :تقليد الرُّ ومانسيين للشعر الغرب ّي ،وتقليد اإلحيائيين للنموذج القديم؛ مما يضعهم حسب
المقياس النقدي للكاتب في سلة واحدة ،وإن كان اإلحيائيون نجحوا في مشروعهم بينما تخبط الرومانسيون العرب
في محاوالتهم استنساخ الرومانسية الغربية.
شعريِّ العربي في جانبه المضمون ّي ،وعدم تجرئهموتمثلت في رفض الرُّ ومانسيين للتراث ال ِّ ّ الثورة على القديم:
على الجوانب األخرى خاصة الموسيقى.
شعر ال ّرومانس ّي :حيث ناقش الكاتب بعض مالمح حركة سؤال الذات على مستوى التجديد في خصائص ال ِّ
المضامين والموضوعات ،ونوع من التركيز على المشاعر تركيزا طبع المعجم والصورة بفيوض عاطفية لم
تتخلص من انعكاسات اإلشراقات القديمة ،وأوغلت في عوالم حالمة وخجولة انتهت إلى الهروب إلى عالم الغاب
الطاهر الجميل الطوباوي ،واللوذ بامرأة مالك مثالية بدون مالمح واقعية ،مما أفسد عمق التجربة التي شط فيها
الخيال عن الواقع.
طرائق العرض
استعان الكاتب في مناقشة فِك َرتِه بمجموعة من طرائق العرض فاعتمد “المقارنَة” بين ال ُّرومانسيّة التي تولي اهتماما ّ
للذات
واإلحيائية التي تخضع لق ّوة خارجيّة ،ولعل الهدف من هذه المقارنة بيان االختالف بين المدرستين ،والتنصيص على تميّز
المدرسة ال ّرومانسية على مستوى المفهوم واألدوات اإلبداعية ،واعتمد االستشهاد (االستشهاد من شعر علي محمود طه ومن
رأي نقدي لميخائيل نعيمة) ،وهي طريقة مسعفة في تدعيم الفكرة وتقوية الوظيفة اإلقناعي َّة.
ونهج الكاتبُ طريقةً أخرى تمثلت في افتراض فرضيات وإثبات ص َّحتها ،فقد افت َرض ّ
أن ثوْ رة ال ُّرومانسيّين نسبيّة ،وأثبت
ي في المضمون وال ّش كل ،وإلى جانب ذلك توسل بمنطق التفسير والتمثيل ي والتّجديد الكلّ ّ
ذلك بفشلهم في تقليد ال ِّشعر الغرْ ب ّ
واالستدالل فاسترسل في عمليات تحليلية تربط المحموالت المنطقية بعضها ببعض وتربط المبدأ النقدي بإجراأته التطبيقية
األسلوب في عرضه إلنجازات وإخفاقات شعرا ُء ال ُّرومانسيّة. َ بشكل يقوي واقعية االستدالل وموضوعيته .وقد طبّق هذا
الفرق بين
ِ إبراز إلى بعدها وانتقل وشعرائها. ومانسية ر
ُّ ال مدارس ي ،حيث أشار أوال إلى أه ِّم واعتمد األسلوب االستنباط ّ
ال ِّشعر ال ُّرومانس ِّي وال ِّشعر اإلحيائ ِّي ،ثم عرج على خصائص المدرسة ال ُّرومانسي َّ ِة ،منتهيا إلى ِإقرار نسبيّة ما حق َّقته حركة
الحكم ث ّم تفصيله ،ث ّم بناء االستنتاج بالتد ُّرج الذي ال يعدو
ِ ي في طرح سؤال الذات من تجديد .وتك ُمن أه ّمية األسلوب االستنباط ّ
أن يكون تثبيتا للحكم المطروح ،وهو منهج علمي يقود إلى الفهم واالقتناع لصرامته المنطقية.
تركيب وتقويم
رام الكاتب في نصه إبرا َز خصائص المدرسة ال ُّرومانسية التي كانت أو ّل حرك ٍة شعري َّة ثارت على النموذج الشعري العربي
طرائق العرض
ِ شكال ومضمونا إلى حد ما ،وقد استهدف مسا َءلة حركة ال ّرومانسية ونَ ْقدها ،ومن أجل ذلك وظَّف جملةً من
المختلفة ،ولغة تقريرية مباشرة ،ومعجما غنيا يتوزع على حقلي التقليد والتجديد ،ومرجعيات يطبعها التع ّدد ،وأسلوبا
استنباطيا ،واستشهادات من المنثور والمنظوم ،واستدالالت وتمثيالت ومقارنات .وقد نجح الكاتب في توصيف المدرسة
ال ّرومانسية ومحاولتها التّجديديّة بين الطموح والمحدودية ،وهو ما يقودنا إلى إثبات ص َّحة الفرضية المطروحة آنفا والتي
تربط النصّ بالدراسة األدبيّة النقدية المتأثرة بالمنهج التاريخي الوصفي التسجيلي في مقاربة تيارات الشعر الحديث،
والرومانسية بشكل خاص.
سؤال الذات (نموذج شعري) – تحليل قصيدة 'إلى دودة' لميخائيل نعيمة:
إشكالية القراءة!
ظهرت حركة سؤال الذات في العالم العربي مطلع القرن العشرين نتيجة عوامل اجتماعية (ظهور الطبقة البورجوازية
الصغيرة) ،وسياسية (االستعمار وضعف الطبقة السياسية ،)..وفكرية (تطلع الجيل الجديد على التجديد) ،وثقافية (التبشير بقيم
جديدة تعيد االعتبار إلى الفرد وتستلهم اآلداب األجنبية ،خاصة الفرنسية واالنجليزية) .كما جاءت تعبيرا عن رد فعل حُيال
الحركة اإلحيائية المزدهرة وخطها التقليدي .ومن سمات خطاب سؤال الذات :االلتفات إلى الوجدان ،واالهتمام بالطبيعة،
وتطوير وظائف مكونات العمل األبي لتكثيف نسقه الداخلي ،واعتبار الشعر فيضا تلقائيا للعواطف ،والخيال مرتعا للصورة
الفنية ،واالعتداد بالتجربة الذاتية في صياغة رؤية للحياة والقيم والجمال .ومرجع هذه السمات شيء من التصوف العربي
وتعاليم المسيحية ،والنزعات اإلنسانية في األدب الغربي ،خاصة دعوة الذاتيين إلى المحبة والحرية ،وثورتهم الوجدانية على
التقاليد األدبية واالجتماعية والدينية ،وتضخيم ظاهرة الغربة وعوالم الحزن واالكتئاب ،والحلم بعوالم مثالية كامنة في نقاء
الطبيعة وامرأة مالك.
والرابطة القلمية واحدة من حركات سؤال الذات ،وهي جمعية أدبية أسسها األدباء العرب المهاجرون في نيويورك عام 1924
برئاسة جبران خليل جبران ،وكان ميخائيل نعيمة مستشارا لها ،وإيليا أبو ماضي أمينا .استمر نشاطها عشرة أعوام .ثم توقف
بسبب وفاة مؤسسها وتفرق أعضائها .بنى شعراء الرابطة القلمية روحا جديدة في األدب العربي ،فكان أدبهم صورة
للمشكالت اإلنسانية ،والتأمالت الفلسفية ،وثورة على المعايير الكالسيكية /ومخزنا لثقافة واسعة ،ونزعات روحانية عميقة .لقد
ى جديد للحياة في ظل غربة مزدوجة بحثا تجسد في رفض القديم والتجديد الشعري في سعى روادها إلى البحث عن معن ً
المضمون وطرائق التعبير .ومن أعالمها جبران خليل جبران ،ونسيب عريضة ،وإيليا أبو ماضي ،وميخائيل نعيمة فيلسوف
الرابطة ( ،)1989 – 1889تأثر بأدب التصوف العربي ،الشعر األنجليزي (ووردز ورث ،وكيتس ،وكولريدج ،وتشيلي)
والروسي (تشيكوف) .له مؤلفات في المسرح والقصة والنقد والشعر .منها كتاب نقدي بعنوان (الغربال) وديوان (همس
الجفون) ومنه ُأخذ النص .فما هي مضامين هذه القصيدة ؟ وما خصائصها الفنية ؟ وإلى أي حد مثلت خطاب سؤال الذات ؟
فرضيات القراءة
عنوان النص تطلع إلى التمثل بحال الدودة ،ألنها تملك ما ال يملكه الشاعر ،تملك الالمباالة فال تفكر في ظواهر الحياة.
واستنادا إلى مشيرات نصية في األبيات 2ء7ء 12يبدو الشاعر حائرا بين الشك واليقين ،متسائال عن جدوى الوجود وماهيته.
مما يعكس مضمونا جديدا ينأى عن األغراض القديمة ويغرق في تأمل وجداني متفلسف لكنه الحياة رغم انشداد هندسة النص
إلى اإليقاع التقليدي المتناظر الشطرين .لذلك نفترض أن الشاعر ينقل تجربة ذاتية إلى المتلقي تعكس الحيرة والشك وتدعو
إلى االتعاظ بحال الدودة التي ال ترى في الحياة إال وجودا بسيطا .فهل استطاع الشاعر أن يصب انفعاالته وتأمالته في صياغة
جديدة.
لعل في استدعاء الشاعر للدودة ومناجاتها بيانا لماهية الذات عنده ،فهي بؤرة التجارب الحياتية ،ومصدر التأمل في الحياة
والطبيعة والكون ،إنها محك لطرح أعمق األسئلة الوجودية والفلسفية .ومن ثم يتضح أن موقف الشاعر النظر إلى مختلف
الكائنات الحية من منظور وحدة الوجود ،وهي فكرة فلسفية أكد عليها الفيلسوف األلماني هيجل.
القصيدة من بحر الطويل بقافية وروي موحدين ومطلع مصرع مما يعكس استمرار الوالء للشكل الموسيقي القديم .وهيمنة
صوت الياء الواصلة لحركة حرف الروي توفر جرسا موسيقيا تدعمه حركة الكسرة لتجسيد انكسار الذات وهي تتأمل مظاهر
الطبيعة وتبثها قلقها وحزنها العميق على غياب االطمئنان عن الذات وحضوره في الطبيعة رغم كون الذات والطبيعة
يخضعان لنفس مبدأ الوجود .والجهر والغنة في صوت الروي [ن] يضفيان على القصيدة لحن حزن وشجن يرين على نفسية
الشاعر وهو يقارن حاله الملخبط بحال الدودة الطبيعي .وتتشكل الموسيقى الداخلية للنص من بعض الظواهر اإليقاعية
كالتوازي ” لك األرض مهد والسماء مظلة ” ب 10والتكرار (تدبين – دب /وفي كل يوم – وفي كل يوم /ضاقتا –
تضيقا…) ،وهذا التوازي والتكرار يالئم تجربة الشاعر الوجدانية الحبلى بالتناقضات .ويحقق داللة التناظر بين حالي الشاعر
والدودة.
بنى الشاعر صوره على آليات التصوير البيانية ومن أمثلتها ” :تدبين دب الوهن في جسمي – كنت قصيدا كامال – أنت عمياء
يقودك مبصر ” صور قائمة على المشابهة تنقل إحساس الشاعر بالضعف والسقوط واالستسالم أمام حقيقة الحياة التي
استخلصها من الدودة التي تتمثل حقيقة الوجود الغائبة على المبصرين (الوجود الكامل الناضج) .و“عبثث كف الزمان
ببنياني”“ ،أترك أحزاني تكفن أحزاني “” ،فكر عنيد يجوب األرض والجو والسماء” استعارات تجسد المعاني المجردة التي
تعكس حالة الشاعر المأساوية ،وهي أيضا قائمة على المشابهة وطاقتها اإليحائية أوسع من طاقة التشبيهات السالفة ووظيفتها
شحن النص بكل أجواء التوتر الذي يخنق الذات .و”أبنى قصورا من هباء” كناية تقوم على عالقة المجاورة ،وتدل على عبث
الشاعر .ورغم جزئية هذه الصور واعتمادها على قواعد التمثيل البياني التقليدي إال أنها ليست وصفية تزيينية ،بل تعبيرية
تخدم تجربة الشاعر ،وتنقل أحاسيسه الذاتية وتساهم في بلورة رؤيته الوجودية.
ال يعدم النص إيحاء أخرج الطبيعة من إطارها الجمالي المستنسخ من الذاكرة الشعرية القديمة إلى دالالت تحولت معها إلى
سجن للفكر .والمعاني اإليحائية كثيرة في النص(عمياء – مبصر) لفظتان توحيان بمعنى الجبر واالختيار في الحياة.
الشعراء الوجدانيون عبروا بالصور ووجهوها في اتجاهين؛ أولهما ُأريد به الحد من تسلط التراث على أخيلة الشعراء،
وثانيهما ربط هذه األخيلة بآفاق التجربة الذاتية .من هنا نستنتج أن الشاعر ،وإن انطلق من األساليب البيانية التقليدية إال أنه
اعتمد خياال جانحا القتناص المعاني الكفيلة بنقل تجربته الحياتية من خالل تأمل حال دودة.
حضور ضمير المتكلم يوحي بالطابع الذاتي والوجداني لمعاني النص ،يعضده األسلوب الخبري الذي يوجه وظيفة اللغة نحو
االنفعال المرتبط بالذات في بعدها الوجداني والنفسي .وتعكس أفعال الحركة( :تدبين – أجري – أجتاز – راكضا – يقودك –
أمشي – متعثرا – أزحف – يجوب…) رصد الشاعر لحركة الطبيعة من حوله رغبة في تجاوز حالة موت الذات بسبب
اقتراب أجلها وتفشي المرض فيها .واألسماء الدالة على الوجدان( :آمالي – أحزاني – إيماني – أحزاني – شكي…) وظيفتها
نقل حركة الذات المتماهىة مع الطبيعة ،وكشف تناقضاتها وقلقها الوجودي.
وقد تقابلت معاني النص وفق منطق التضاد الذي تتجلى مظاهره في ما يلي:
التضاد الخارجي :بين الشاعر والدودة حيث حركته السريعة الحائرة مضادة لحركتها البطيئة المليئة بالعبر.
التضاد الداخلي :بين الشاعر ونفسه ،بين همه الوجداني وتطلعه الوجودي.
ويتضح أن التضاد الداخلي هو البنية العميقة للنص ،فهناك ذات متشظية تتناسل في بناء موحد الموضوع واإليقاع ،لكون
النص بؤرة تتوحد فيها المتناقضات ،فالقصيدة عالم فني يعوض عن النقص الشامل في حياة الشاعر ،إنها بؤرة التحوالت في
رحلة ذات الشاعر من الذات غير الطبيعية إلى النص.
التركيب والتقويم
من خالل تحليلنا لهذه القصيدة ،يتبين لنا أنها مثلت خطاب سؤال الذات أو ما يعرف بالشعر أو الخطاب الرومانسي خير تمثيل
نظرا اللتزامها بعدة خصائص ومميزات منها:
حضور الذات في أبعادها الوجدانية والفكرية بشكل جعل منها بؤرة لطرح األسئلة الوجودية كانت الطبيعة محكا
الختبارها.
تعبير القصيدة عن المأزق الوجداني للذات بين المادة والروح ،بين العقل واإليمان ،بين العاطفة والفكر.
الشعور بالكآبة والحزن والضياع في حياة اجتماعية وإنسانية مليئة بالتناقضات ،والحس المأساوي ،والقلق
الوجودي ،والتطلع إلى الطمأنينة والتحرر من سجن الفكر وأسئلته المتقدة.
للطبيعة وجود مثالي في أبسط تمظهراتها (دودة) لما تختزله من دالالت وجودية ،فكأن الذات ال تنكشف حقائقها إال
عبر تأمل الطبيعة.
وقد عبر الشاعر عن هذه المقصدية الفلسفية بأدوات فنية ظلت أقرب إلى التقليد منها إلى التجديد ،وذلك رغم بوجدانية لغتها
ووحدة بنائها وموضوعها ووظيفة الصورة الشعرية فيها المرتبطة بحركة الذات.
ور دة بعض المجددين وسلطةوعلى مستوى الشكل ،أثمر هذا التيار مقومات ومميزات مكتملة وناضجة ،لكن تألب التقليديين ِ
النقد المحافظ وتماسك الوجود العربي التقليدي واالنحباس داخل الذات السلبية القانعة واليائسة والمتألمة والمستسلمة والحالمة
الخجولة ،جعل من حركة سؤال الذات ال تساير المد القومي الثائر الذي عاشت في كنفه ،فانتهت التجربة إلى االضمحالل.
تكسير البنية (نص نظري) -تحليل نص 'قضايا اإلطار الموسيقي الجديد للقصيدة' لعز الدين اسماعيل:
مدخل عام
تبلور خطاب تكسير البنية وتجديد الرؤيا في سياق ظروف وعوامل تاريخية وسياسية وثقافية واجتماعية محددة جاءت
نتيجة جهود جماعية ملحة في التغيير وطلب البديل ،واستجابة واندماجا في الصياغة الجديدة لحياة اإلنسان الحديث
ومستلزمات تطوره .فقد تأثر الشاعر المعاصر بحساسية العصر وذوقه ونبضه ،وارتبط بقضاياه ارتباط المعايش ال
الواصف ،وعبر عن خبرة شعورية خاصة مصهورة في إطار عام .وحاول استكناه الحياة بدل االنفعال السطحي بها ،فانفتح
على الثقافات اإلنسانية محددا موقفه منها ،ورغب في تملك عصره فكريا ووجدانيا .وانطلق من مساءلة الممكن واالحتجاج
على السائد ،مما جعل شعره عنيفا وثوريا ،فجاء هذا الخطاب بحثا عن سؤال جوهري هو كيف نتجاوز خيبة الهزيمة
وأثرها السلبي؟ وسعيا إلى البحث عن آفاق إبداعية ال عهد للقصيدة بها .واقترانا بمفهوم جديد لإلبداع والتجديد يخالف أنماط
الخطابات السابقة التي استنفذت مسوغات وجودها جوهريا وقضويا وفنيا .فكان شعره تجسيدا لتجربة متميزة تتكسر في
أفقها المعايير اإلحيائية والرومانسية.
ومن بين أهم عوامل نشأة خطاب تكسير البنية وتجديد الرؤيا نذكر:
المد القومي وانـهيار المجتمع العربي التقليدي بحكم الغزو األوربي؛ مما زرع الشك في نفوس المثقفين والمبدعين ،وأسقط
كل الوثوقيات العربية التقليدية والثوابت المقدسة والطابوهات الممنوعة.
اإلحساس العام بمرارة الهزيمة خاصة بعد ضياع فلسطين عقب نكبة 1948والعدوان الثالثي على مصر 1956وهزيمة
..1967
تحول هذا اإلحساس إلى حساسية سياسية واجتماعية وثقافية جديدة تمثلت في ظهور طبقات اجتماعية جديدة (مثقفة،
عمالية ،تجارية ،سياسية).
صعود المد االشتراكي وانبثاق الحركات الوطنية والقومية ضد الهيمنة االستعمارية.
االحتكاك بالثقافات األجنبية والتسلح بمعارف متنوعة (كالفلسفة والتاريخ واألساطير وعلم النفس وعلم االجتماع
واألنتروبولوجيا ،واستيعاب الروافد الفكرية اآلتية من الشرق وبالضبط المذاهب الصوفية والتعاليم المنحدرة من الديانات
الهندية والفارسية والحرانية /الصابئة) ،فضال عن االستفادة من الفلسفة الوجودية والفلسفة االشتراكية .مع االنفتاح على
الثقافة الشعبية كسيرة عنترة بن شداد وسيف بن ذي يزن وأبي زيد الهاللي ،وكتاب ألف ليلة وليلة ،والتعمق في القرآن
الكريم ،وقراءة الحديث النبوي الشريف ،والشعر العربي القديم.
تراكم المحاوالت التجديدية المهيئة للقفزة النوعية للقصيدة الحرة (الحركة الرومانسية بمدارسها المختلفة داخل وخارج
الوطن العربي)
عدم قدرة الشكل التقليدي على النهوض بمضمون جديد ،فقد صار شديد االرتباط بالمعاني التقليدية في التعبير عن
العواطف اإلنسانية حتى لم يعد ممكنا أن يحمل معنى جديدا ،أو موقفا أو طريقة جديدة في التعبير.
انفتاح بعض المجالت على إبداع الشعراء الشباب ،مثل“ :شعر” و “الثقافة ” المصريتان ،و”اآلداب ” البيروتية.
تطلع الشعراء الشباب إلى قصيدة جديدة تستجيب للواقع الجديد ،وتـقدم بدائل وحلوال للقضايا االجتماعية والثقافية
والجمالية ..تقول نازك المالئكة“ :إن حركة الشعر الحر حصيلة اجتماعية محض ،تحاول بها األمة العربية أن تعيد بناء
ذهنها العريق المكتنز على أساس حديث ،شأنها في هذا شأن سائر الحركات المجددة التي تنبعث اليوم في حياتها في
مختلف المجاالت”.
سؤال البداية
إذا كان الدارسون يجعلون بدر شاكر السياب رائدا لحركة الشعر الحر ،فإن هناك من يرجع بداياته األولى إلى لويس عوض
في قصيدته “العنقاء” ،وبيرم التونسي في بعض مقاطع قصيدته “الكون” التي نشرها عام ،1933و أحمد باكثير في
ترجمته لمسرحية “روميو وجولييت” سنة .1937
وتقول نازك المالئكة في كتابها قضايا الشعر المعاصر“ :إن بداية الشعر الحر سنة 1947بالعراق ومن العراق ،بل من
بغداد نفسها ،زحفت هذه الحركة وامتدت حتى غمرت العالم العربي” .وأشارت إلى أن أول قصيدة حرة في الوزن هي
قصيدتها “الكوليرا” ،التي نشرتها مجلة “العروبة” البيروتية في 27يناير ،1947تصور فيها مشاعرها نحو مصر التي
داهمها وباء الكوليرا ..وتقول فيها:
سكن الليل
اِصغ إلى وقع صدى األنات
في عمق الظلمة تحت الصمت على األموات
بعد ذلك صدر ديوان بدر شاكر السياب “أزهار ذابلة ” وفيه قصيدة من الوزن الحر بعنوان“ :هل كان حبا؟ “ ،مؤرخة ب
29نونبر ، 1946معلقا على هامشها بقوله ” :في هذه القصيدة محاولة جديدة في الشعر المختلف األوزان والقوافي ،وهي
كأغلب الشعر الغربي ،وخاصة اإلنجليزي ،تجمع بين بحر من البحور ومجزوأته “ ،يقول فيها الشاعر:
مراحل الـتطـور
في أواسط األربعينات كان الشعر الحر يجتاز أولى عتبات نموه بين أحضان الحس القومي واالجتماعي واإلنساني العام،
وبدأت الدعوة إلى القصيدة المعاصرة ترسي أسسها بمحاوالت للخروج عن هيكل الشعر وبنائه ،وتحريره من سيطرة
األوزان ،واعتماد وحدة التفعيلة أساسا وزنيا بديال عن العمود الخليلي بوحدة وزنه وقافيته ورويه وكان هذا ما اصطلح عليه
بشعر تكسير البنية ،الذي سعى إلى تغيير المعالم الشكلية للقصيدة القديمة معتمدة على التوفيق بين الوحدة العضوية وتناسق
موسيقى اللفظ وإيقاع التفعيلة ،وبين وظيفة الصورة في بناء الموقف واالنفعال والتجربة .وهو الحد األدني المتفق عليه بين
رواد المنعطف الجديد في الشعر العربي فكانت أعمال نازك المالئكة ،وبدر شاكر السياب ،وعبد الوهاب البياتي ،وصالح
عبد الصبور ،ويوسف الخال ،وأدونيس.
لكن سرعان ما تشكلت ثورة جديدة من رحم حركة تكسير البنية تزعمها أدونيس أواخر الخمسينات من ق ،20وسار على
دربه شعراء حاولوا بلورة رؤية جديدة للشعر واألدب ،أمثال أحمد عبد المعطي حجازي في مصر ،ويوسف الخال وخليل
حاوي في سوريا ولبنان ،وفدوى طوقان وسلمى الجيوسي في فلسطين ،والمجاطي وعبد هللا راجع والخمارالكنوني
والسرغيني ومحمد بنيس وصالح بوسريف وأحمد بلبداوي في المغرب .فكان أن أطلق أدونيس مفهوم قصيدة الرؤيا على
هذا الشعر انطالقا من هدم أسس التراث الشعري المعرفية والفنية والجمالية واإليقاعية وإعادة بنائها .وكان جوهر هذا
الشعر هو التعبير عن معاناة الشاعر الحقيقية ،وما تعيشه اإلنسانية المعذبة .فقد أصبحت القصيدة تجربة إنسانية بما فرض
عليها من أزمات وأحداث سياسية وحروب أثخنت المنطقة العربية ،دون نسيان ضياع فلسطين واإلحباط الذي ران على
الفكر العربي ،واالفتتان بحضارة الغرب وثقافته ،خصوصا المديني واالشتراكي والوجودي .وانخرطت القصيدة في
مشروع ثقافي رؤيوي يتغيى التغيير والبحث عن بدائل تعبيرية للخروج من األزمة وتوجيه سلوك القارئ وفكره وأسلوب
حياته.
لم يعد الشعر على يد هؤالء ،إذن ،مجرد تحول في الشكل وبناء المواقف عبر التجارب اإلنسانية ،بل أصبح اإلنسان هو
جوهر التجربة ،إنها تجربة مع المستقبل عن طريق تشكل الرؤيا من خالل:
التجربة الحياتية :انطالقا من اإلحاطة بالواقع وفهمه فهما دقيقا وواعيا.
التجربة الشعرية :التي تمكن الشاعر من صياغة الرؤيا جماليا.
الحدس :عن طريق اإلحساس بالواقع والقدرة على النفاذ إلى جوهر األشياء.
االعتماد على فكرتي الهدم والبناء.
مالحظة النص
أول ما يمكن أن نالحظه هو العنوان باعتباره العتبة األولى للدخول إلى النص ..وهو يشي باألفكار التالية:
القصيدة العربية ذات إطار موسيقي جديد ،وهذا يعني أنها تخلت عن اإلطار الموسيقي القديم.
اإلطار الموسيقي الجديد يطرح عدة قضايا ،وهذا يعني أن التحول الذي عرفته القصيدة العربية لم يكن محل إجماع نقدي.
النص يطرح هذه القضايا ويعالجها...
وثاني ما يمكن أن نالحظه هو أن النص في سياق طرحه لقضايا اإلطار الموسيقي الجديد للقصيدة إنما يسعى إلى كتابة
تاريخ لموسيقى الشعر العربي ..وهذا ما تكشف عنه الفقرة األولى حيث يتم تقسيم مسار تطور الشعر العربي موسيقيا إلى
ثالث مراحل..
وثالث ما يمكن أن نالحظه هو الخاصية الحجاجية للنص والتي تتمثل في محاولة تصحيح بعض التصورات الخاطئة عن
القصيدة العربية وإنصافها ورفع الظلم عنها.
فهم النص
ينقسم النص إلى عدة فقرات على الشكل التالي:
مرحلة البيت الشعري ذي الشطرين المتوازيين عروضيا والذي ينتهي بقافية يشترك فيها مع باقي األبيات األخرى ..وفيه
تتجلى كل المظاهر الجمالية لموسيقى الشعر العربي منذ بداياته..
مرحلة السطر الشعري وهو نتيجة لتفتيت البنية العروضية للبيت التقليدي بحيث لم يستبق منها سوى التفعيلة التي ترد
مفردة في السطر أو مكررة في أعداد غير منضبطة.
مرحلة الجملة الشعرية وهي متطورة عن مرحلة السطر الشعري..
ثم يشير الكاتب إلى أن لكل مرحلة مشكالتها الجمالية الخاصة والتي يعد بعرضها بالتفصيل..
ويشير الكاتب في نهاية هذه الفقرة إلى نيته في التوقف عند ما يسميه اعتبارات امتداد الجملة الشعرية..
ويذكر أيضا بالمأزق الذي عاناه الشاعر التقليدي مع البيت التقليدي المحدود الطول بحيث أن هذا الشاعر كان مضطرا
لتمزيق الدفقة الشعورة وتقسيمها على عدة أبيات وهذا ما كان يمنع من أن تفوز الدفقة الشعورية بالشكل الموسيقى المناسب
لها..
توحي مكونات العنوان ” قضايا اإلطار الموسيقي الجديد للقصيدة ” بكون البنية الموسيقية للشعر ستتخذ في النص بعدا
إشكاليا ،وتتفرع إلى عدد من القضايا يتحكم فيها سياق الحداثة الشعرية .ذلك أن أهم ما وجه تجربة الشعر الجديد تكسيرها
صورة النظام حسب منطوق مشير نصي يضيء داللة العنوان ويؤشر على التغييرات الجذرية التي أحدثتها ثورة هذا الشعر
على طبيعته ومفهومه بفعل تغيير بنيته وصورة نظامه .لذلك نفترض أن القضية المطروحة في النص تعنى بتطور البنية
اإليقاعية داخل القصيدة الحديثة ،وتداعيات هذا التطور على البنيات األخرى الشعورية والنصية.
تحديد مراحل تطور موسيقى الشعر العربي الحديث من البيت الشعري إلى الجملة الشعرية مرورا بالسطر الشعري
تفسير جماليات موسيقى البيت الشعري المتمثلة في نظام يلتزم بقواعد شكلية ضابطة لألوزان والقوافي
اعتبار تكسير الشعر الجديد لقواعد هذا النظام عمال غير فوضي ،بل خلقا لنظام داخلي جديد.
تعليل جماليات موسيقى السطر الشعري بكونها تركيبة موسيقية للكالم تقوم على نظام التفعيلة المترددة الذي هو أساس
النظام الصوتي في الشعر العربي القديم والحديث.
التنصيص على احتفاظ موسيقية الجملة الشعرية بالخصائص الموسيقية للسطر وتجاوزه في آن واحد ،فهي تمتد أحيانا إلى
أكثر من خمسة أسطر وهي بنية مكتفية بذاتها ،وإن مثلت جزئية من بنية عضوية أعم هي القصيدة.
تفسير الناقد تنوع البنيات الموسيقية في الشعر سطرا وجملة باختالف مدى الدفقة الشعورية.
تأكيد الكاتب أن ارتباط السطر والجملة الشعريين بالدفقة الشعورية يحقق تساوقا جماليا بين الشعور وصورة التعبير في
مرونة وطواعية.
نستخلص مما سبق أن لتكسير البنية في الشعر العربي المعاصر مظاهر تتمثل في اعتماد نظام السطر الشعري كوحدة
موسيقية مكتفية بذاتها ،ولكنها تندرج ضمن وحدة عضوية أشمل ،وكذلك اعتماد الجملة الشعرية كوحدة موسيقية أوسع تتسع
لخمسة أسطر أو أكثر بالشكل الذي يحتوي الدفقة الشعورية ،ويضيق به السطر الشعري.
تحليل النص
اإلشكالية المطروحة
جماليات الشعر القديم والحديث مثار خالف بين النقاد واألدباء ،وخاصة منها البنية اإليقاعية والتشكيل الموسيقي للقصيدة
الشعرية ،نظرا لجوهريتهما في التعبير الشعري .فكان السؤال أيهما أفضل :اإليقاع القديم أم الجديد؟ وما مبررات تفضيل
أحدهما على اآلخر؟
لعل ما عمق النقاش في هذه اإلشكالية أنها ألزمت النقاد بالتسلح في مناقشاتهم بخلفيات نظرية وأطر مرجعية ومفاهيم
وتصورات لتدعيم مواقفهم ،والمحصلة أن لكل نظام موسيقي ،قديم أو جديد جماليته؛ مما يفرض عدم االستهانة بأي منها،
والبحث في قوانين كل منها ،والغوص في عوامل تشكيلها وأشكال تحققها .من هنا تخللت النص إشارات إلى هذا المعطى
اإلشكالي وتلك المحصلة.
المفاهيم والقضايا
يحفل النص بمصطلحات عروضية قديمة (البيت ،الشطران المتوازيان عروضيا ،قافية مطردة ،األبيات ،التفعيلة ،األوزان
والقوافي…) ومصطلحات إيقاعية جديدة (اإلطار الموسيقي ،موسيقى الشعر ،التفعيلة ،السطر ،الجملة الشعرية ،نظام
داخلي ،بنية موسيقية مكتفية بذاتها…) ،وتطرح هذه المصطلحات المتباينة قضية أساسية هي تكسير الشعر العربي الجديد
لبنية إيقاع البيت الشعري ،وبناء إطار موسيقي جديد( .وليس بناء موسيقى جديدة لها قوانينها النهائية ،ألنها بذلك ستعلن
موتها بتشكلها في وصفة عروضية جديدة جاهزة .وذلك غير ممكن أصال) .وهذه القضية تتفرع إلى قضايا صغرى منها:
االلتزام بقواعد العروض مقابل خرقها ،حيث التزمت حركة الشعر الحر بعض القواعد الشكلية الضابطة لألوزان والقوافي
وكسرت بالمقابل صورة ذلك النظام ،ورغم نعت بعض النقاد هذا التكسير بالفوضى فإن الكاتب يرى في اإلطار الموسيقي
الجديد للقصيدة مقومات نظام آخر ،إال أنه نظام داخلي ،ينبع من داخل القصيدة ،وينقل شعور الشاعر وليس تصورا
خارجيا مفروضا عليه.
خارج النص وداخل النص حيث للقصيدة نظام داخلي تمثله الظواهر المنبثقة عن بنية داخلية تشكل البنية العميقة للنص ،أما
خارج النص فكل المؤثرات والعوامل المشكلة لمرجعيته الثقافية واالجتماعية والفنية ،ومنها يستمد الشاعر تصوره لإليقاع
كبنية سطحية تنبثق مما هو جاهز ،كالنظام العروضي المستلهم من القصيدة العمودية القديمة.
التجديد مقابل التقليد حيث التجديد استلهام روح العصرحين يستنفر الشاعر كل طاقته االنفعالية في شكل دفقات شعورية
تنعكس في صورة التعبير في شكل أسطر أو جمل شعرية .أما التقليد فاستنساخ لبنى تعبيرية وقيم جمالية تتسم بالجمود
والثبات وكأنها خارجة عن الزمن.
التساوق بين الشكل والمضمون ،إذ كالهما يستلزم اآلخر في خصوصية عناصره ،وإذن التجديد في المضمون يقتضي
التجديد في الشكل.
ويتضح من خالل هذه القضايا الصغرى أن الكاتب يفسر تطور البنية اإليقاعية باالستناد إلى التفعيلة كعنصر جوهري
لإليقاع يتشكل في امتدادات زمنية ومكانية تتنوع بين البيت والسطر والجملة الشعرية بحسب الدفقة الشعورية ومقتضيات
التعبير.
اإلطار المرجعي
قضية التجديد في موسيقى الشعر من القضايا التي أثارت الجدل بين المهتمين منذ بداية القرن العشرين ،ويمكن أن نرد
إطارها المرجعي إلى:
إطار تاريخي ،حيث تناول الكاتب القضية المطروحة من زاوية تاريخية (تطور البنية الموسيقية للقصيدة بعد الحرب
العالمية الثانية) لرصد مراحل تطور موسيقى الشعر الجديد ومظاهرها.
إطار ثقافي غربي ،حيث استند التجديد إلى جماليات القصيدة الغربية التي اتخذها الشعراء العرب نموذجا بذريعة ثقافية
محكومة بالتبعية لما اعتبروه متقدما ومتجددا.
علم النفس حيث استدعى الكاتب في تفسير التجديد في موسيقى الشعر العامل النفسي بحديثه عن الدفقة الشعورية وطبيعة
الشعور الذي تتحرك به النفس ،وعالقته بصورة التعبير ،الذي هو ملك للشعور وتابع له.
إن هذه المرجعيات تتضافر في النص لتشكل موقفا نقديا يحكم نظر الكاتب إلى أحد أهم مقومات الشعر العربي قديمه وحديثه
وأكثرها إثارة للجدل بسب أبعادها المعقدة .وركز على العامل النفسي مجسدا في ضرورات التعبير المرتهن إلى كتلة الدفقة
الشعورية لتفسير تطور النظام الموسيقي للشعر الجديد ،من التفعيلة والسطر كأساس لهذا النظام إلى الجملة الشعرية.
طرائق العرض
أسلوب النص علمي يتمثل في طابعه التفسيري والتحليلي والنقدي؛ فهو يتناول قضية تطور موسيقى الشعر العربي ،ويبحث
تجليات هذا التطور ،ويعالج عوامله النفسية ومظاهره الجمالية .والتفسير من أبرز وسائل االستدالل في النص ،ويقوم على
طرائق عديدة منها :التعريف (تعريف مفاهيم البيت الشعري ـ السطر الشعري ـ الجملة الشعرية ،)..وإظهار شكلها وحجمها
ووظيفتها الجمالية وخصائص كل منها .والوصف (وصف مظاهر النظام الموسيقي للشعر العربي وخصائصه) ،والسرد
(سرد مراحل تطور البنية اإليقاعية) ،والتوارد (مقارنة تجليات الظاهرة اإليقاعية للشعر الحديث في البيت والسطر والجملة
الشعرية).
وغاية الكاتب من أساليب التفسير هذه إقناعنا بموقفه النقدي وإضفاء طابع العمق العلمي على دراسته للظاهرة .وقد اعتمد
الكاتب في معالجة قضية النص طريقة استنباطية تقوم على بناء المقدمات وتقديم األدلة واستخالص النتائج ،فبدأ ،في سياق
حديثه عن جماليات موسيقى الشعر ،بمقدمة نظرية عامة عن مظاهر البنية اإليقاعية في الشعر العربي القديم والحديث يؤكد
فيها على النظام كسمة جوهرية في األعمال الفنية ،ثم يستدل له ويقرره في النهاية .وكذلك يفعل في كل محور ،حيث يعرف
الظاهرة ،ثم يتتبع تفاصيلها فيرصد تطورها وعوامله وطبيعة تشكلها مقارنا بينها وبين أخرى ،لينتهى إلى استخالص معالم
التشكيل الموسيقي الجديد المحكوم بمدى الدفقة الشعورية التي ضاق بها السطر واتسعت لها الجملة الشعرية األرحب مسافة.
وال شك أن الوظيفة البنيوية لهذه الطريقة تكمن في مالءمتها لطبيعة الموضوع كظاهرة جمالية متطورة تؤول تجلياتها إلى
عوامل مجردة تتعلق بطبيعة المضمون والشكل والعالقة الجدلية بينهما.
تركيب وتقويم
سعى الكاتب من خالل هذا النص إلى إيصال رسالة أساسية هي أن النظام الموسيقي للقصيدة العربية غير ثابت وال جامد،
بل هو قيمة جمالية وموسيقية متطورة بتطور العوامل النفسية المتحكمة في تجربة الشاعر وتجلياتها التعبيرية ..من هنا كان
أساس اإليقاع في الشعر الحديث قائما على تفعيلة يتغير مداها الزمني وتوالي عددها فتتجلى نصيا بيتا أو سطرا أو جملة
شعرية ،ويبرر الناقد مشروعية اعتماد التفعيلة كأساس للنظام الموسيقي في الشعر الجديد بكونها تجسد ضرورات التعبير
ومقتضيات الشعور .ويبدو أن أثر الجانب النفسي واضح في مرجعية الناقد ،إذ فسر الظاهرة اإليقاعية تفسيرا سيكولوجيا
وجماليا ،ينطلق من أهمية العامل النفسي /الشعوري ،وعالقته بالتعبير في تشكيل الصورة الموسيقية للقصيدة الشعرية.
ويتقاطع الموقف النقدي في النص مع موقف محمد النويهي في معالجة نفس الموضوع (المكون الموسيقي) بمنطلقات
متقاربة ،ولكنهما يختلفان في قول عز الدين إسماعيل بجوهرية التفعيلة في أي نظام موسيقي سواء أكان البيت التقليدي أو
السطر أو الجملة الشعرية .أما النويهي فيذهب إلى أن النظام الموسيقي انطالق يقوم على تنويع اإليقاع بحسب المضمون
الفكري والعاطفي .قد ال يصل إلى درجة التخلص تماما من أي ضابط وزني .لتتأكد فرضيتنا التي انطلقنا منها والتي تربط
تكسير البنية اإليقاعية القديمة داخل قصيدة التفعيلة بمستلزمات شعورية وتعبيرية.
تكسير البنية (نموذج شعري) -تحليل قصيدة 'لنكن أصدقاء' لنازك المالئكة:
نعتقد أن المعنى االستلزامي الذي أفادته صيغة األمر في العنوان هو التمني ،أي ليتنا كنا أصدقاء ،والعنوان الزمة بنائية
تتكرر في مطالع مقاطع القصيدة ،وتؤشر على انحراف في الموضوع عن األغراض التقليدية .وفي المقطع األول تغير إيقاعي
ومحدد معماري يتمثل في اعتماد تفعيلة المتدارك (فاعلن) بصور مختلفة أساسا إيقاعيا في امتداد يطول أو يقصر وينتهي
بوقفة حادة على صامت بعد مد طويل .ويتميز شكل القصيدة بناء على المالحظة البصرية بتغير البنية الهندسية وشكلها
الطوبوغرافي عبر اعتماد نظام األسطر خالفا للقصيدة ذات األشطر المتناظرة ،مما يدفعنا إلى افتراض موقف شعري يختزنه
النص ،ويفترض أن من معالمه رفض الواقع المأساوي لإلنسان بسبب الحروب واالستعباد والفقر ،وتؤشر على ذلك مؤشرات
نصية مثل :الدار ،العبيد ،الجياع… والدعوة إلى التضامن والتسامح والتآخي بين البشر ،موقف مصبوب في متواليات
سطرية كسرت بنية النموذج العمودي .فهل استطاعت الشاعرة تجسيد الموقف الجديد في الشكل الجديد .وما نجاعة هذا
التجديد؟ ذلك ما سنعالجه في تحليل النص.
فهم النص
تتكون القصيدة من ستة مقاطع شعرية .حيث يبتدئ المقطع األول من السطر األول إلى السطر السادس المعنون "بدعوة إلى
الصداقة" ،هذا المقطع يوحي النفتاح القصيدة على المعاناة القاسية الكئيبة ودعوة الشاعرة للصداقة والمحبة اإلنسانية التي
تؤدي إلى السالم والطمأنينة بين البشر.
أما المقطع الثاني فهو من السطر السابع إلى السطر الثاني عشر عنونته هو "دعوة صريحة" حيث من خالل هذا المقطع تدعو
الشاعرة نازك مالئكة إلى صداقة بين الشعوب من أجل السالم الدائم رغم الحروب المنتشرة.
وفي المقطع الثالث فهو من السطر الثالث عشر إلى السطر السابع عشر فعنونه ب"كآبة الناس" وفي هذا المقطع تبين لنا
الشاعرة أسى الناس على بالدهم التي أصبحت ممتلئة بالدماء بفعل المعاناة واأللم التي تواجهها نتيجة الحروب.
ويتحدد المقطع الرابع من السطر الثامن عشر إلى السطر الرابع والعشرون وعنوانه هو "دعوة إلى األمل" هنا الشاعرة تظهر
لنا األمل في انتهاء الحروب والمشاكل التي تواجه بالدها وعودة الحياة إليها من جديد.
أما المقطع الخامس فهو يتحدد من السطر الخامس والعشرين إلى السطر التاسع والعشرين فعنونه ب"الندم المتأخر" في هذا
المقطع نجد ندما متأخرا للطغاة على أعمالهم وما اقترفت أيديهم في حق الفقراء والمظلومين.
وأخيرا المقطع السادس من السطر ثالثين إلى السطر الثالث والخمسون المعنون ب"دعوة إلى صداقة عامة وكونية" وفيه
تدعو الشاعرة دعوة عالمية وكونية إلى الصداقة رغم اختالف الشعوب والبشر وتباين مكانتهم وبالتالي تكون الشاعر قد
أسست لسالم دائم.
اإليقاع
اإليقا!ع! الخارجي!
الن – فَ ْعلُ ْن) ،مـع تنويع في
ت الشاعرة في النص تفعيلة المتدارك (فاعلن) بتغييراتها وزحافاتها المعروفة (فَ ِعلُ ْن – فا ِع ْ
ر ِكبَ ْ
طول األسطر الشعرية وقصرها (أقصر األسطر فيه تفعيلتان وأطولها خمس تفعيالت) .أما القافية فقد جاءت في النص متتالية
استعملت ال ّروي بشكل ُمتَوا ٍل في كل سطرين شعريين أو أكثر أحيانا ً ،مع تنويع واضح في حرف ال ّر وي (الهمزة ْ ألن الشاعرة
ُّ
– الباء – القاف – الراء – الدال – التاء – الشين .)...إضافة إلى توفر القصيدة على عنصـر الجمـلـة الشعرية ،حيث يمكن
اعتبار األسطر ( ) 17 – 16 – 15 – 14جملةً شعرية واحدة ،وكذلك األسطر (.)24 … – 18
اإليقا!ع! الداخلي!
صرفية ،وتكرار جملة" :لنـكـن أصدقاء"، تحقّق في القصيدة بع ّدة عناصر منها( :تكرار الحروف وتكرار الكلمات والصيغ ال ّ
إضافة إلى بعض الطِّباقات مثل( :أصدقاء – أشقياء) (الصحاري – المدن)… وبعض ال ِجناسات( :الديار – البحار) (الثّلـوج –
ال ّز نوج)… إلى جانب ما تميزت به القصيدة من تواز عمودي خاصة كاألسطر ( )39 – 38 – 37 – 36والسطرين (– 48
…)49
الصورة الشعرية!
ت الصورة الشعرية شرارتها من المعاناة اإلنسانية الذاتية والجماعية ،ونَهَ ْ
لت جماليّتَها وفنِّي َّتـها من أسلوبي اإليحـاء استم ّد ْ
والرمز خاصة .وقد رسمت الشاعرة نازك بصور القصيدة الشعرية عالميْن ُمتناقضيْن :عالم الخراب والدمـار ،وعالـم السالم
والتآخيُ ،مستغلّةً في ذلك أساليب بالغية متنوعة كالمجاز واالنزياح واالستعارة والتشخيص( :متاهات هذا الوجـود الكئيـب –
يمشي الدمار ويحيا الفناء – تحت سوْ ط الزمان الن َّ ِزق – لَفَظ ْتهم ِشفاه الحياة – ستذوبُ لتسقي صدى الظّامئين كْأسـةً ْ
ولتَ ُك ْ
ـن
ْ
باألنين…). ت ُملَِئـ َ ْ
ولع ّل هذا المزج في الصورة الشعرية بين عالمي الخراب والسالم /المعاناة واألمل /الحزن والتفاؤل /االنكسار والطموح…
هو ما جعل النص يكتسي نوعا ً من الصراع الدرامي بين هذين العالميْن .هذا الصراع الذي يتكسّر ْ
ويخ ُمد ،وتضعُف معه سبل
نكن أصدقاء)… الدمار والخـراب كلما تك ّر ْ
رت هذه الالزمة في القصيدة( :لِ ْ
األسـالـيـب
ْ
تحققت هذه الخاصية بجالء في مما يميز شعر نازك المالئكة عموما امتزاج صوتها بصوت الناس أفراداً أو جماعات ،وقد
القصـيدة وهو ما يعكس مدى معانقة الشاعرة لقضايا اإلنسانية في مختلف صورها االجتماعية والمصيرية والواقعية
والوجودية…
على مستوى ضمائر النص نالحظ تكرار ضمير (نحن) باستمرار في القصيدة ،وهذا يعني أن الشاعرة قد ح ّولت تجربتـها
الشعـرية الذاتية إلى تجربة جماعية ،وهي ناطقة باسم جميـع المستضعفين والمظلومين والمتعبين .كما قد يعني ذلك أيضا ً أننا
جميعا مسؤولـون عن كل دمار وخراب في الواقع المعيش ،وهو ما يتطلب ح ْتما أن نو ّحد الجهود جميعا لتحقيق السالم
واالنعتاق (فلنكن أصدقـاء).
يُالحظ على مستوى األفعال في النص أن الشاعرة جمعت بين األفعال الحاضرة والمستقبلية ،على أن وظيـفة األفعـال
الحاضرة هي وصف ما في الحياة والواقع من دمار وخراب ومعاناة ،بينما وظيفة األفعـال المستقبلية هي تأكيد سعي الشاعـرة
الحثيث إلى تحقيـق السـالم ،ودعوتها الصادقة إلى التصالح والتآخي واالتحاد (لنكن أصدقاء)".
تركيب وتقويم
تنقل الشاعرة إلى المتلقي رسالة نبيلة تدعو إلى التضامن والتسامح والتآخي بين البشر .والمتلقي المفترض ينتظر منه أن
يتعامل مع النص باعتباره كمونا دالليا قابال للتأويل وفق سياق خاص لتكتسب الرسالة عمقها الداللي ،من هنا راهنت قصيدة
تكسير البنية على األدوات الفنية التي عبرت بها الشاعرة عن هذا الموقف ،فلجأت إلى إيقاع مسترسل يقوم على تكسير البنية
التقليدية للقصيدة العربية ،واللجوء إلى التفعيلة كمكون إيقاعي جوهري يتشكل في مدد زمنية تتنوع بين السطر والجملة
الشعرية ،تبعا للدفقة الشعورية ومقتضيات التعبير والصورة الموحية والوحدة العضوية للقصيدة ،وغير ذلك مما يسهم في بناء
نص حديث تراهن الشاعرة أن يكون تجديدا مقنعا في بناء معناه على ما يفترض أن القارئ يملكه من ثقافة حول موضوعه
وجماليته .وبذلك تمهد الطريق لتطوير القصيدة عبر تجديد الرؤيا على يد شعراء آخرين .ونعتقد أن ذلك يفي بتبرير افتراضنا
في بداية النص أن هذا األخير موقف جديد في شكل جديد.
تجديد الرؤيا (نص نظري) -تحليل نص 'قصيدة الرؤيا' لعلي أحمد سعيد أدونيس:
وإلضاءة شعر الرؤيا برزت دراسات نقدية عديدة حاولت توصيفه وتمييزه عن شعر تكسير البنية .ومنها أبحاث حسن مخافي
في كتابه ” القصيدة الرؤيا” ومحمد الفارس في ” الرؤيا اإلبداعية في شعر صالح عبد الصبور” وإدريس الزمراني في ”
أفق الرؤيا :مقاربات في النص واإلبداع” وأحمد رحماني في ” الرؤيا والتشكيل في األدب المعاصر” ثم صبحي محيي الدين
في ” الرؤيا في شعر البياتي” .ويعد أدونيس أول من أصل مفهوم قصيدة الرؤيا في النقد العربي .ولد بسوريا سنة .1930نشأ
في بيئة صوفية درزية تؤمن بنظرية التجلي والحلول ،غزير الثقافة عربية وغربية ،متأثر بمدرسة فرانكفورت األلمانية
والشعر الرمزي والسوريالي والظاهراتية وغيرها .وقد شكلت مجلة ” شعر “ ،التي أسسها مع يوسف الخال ،منطلق تصوره
للشعر الجديد .،وعلى المستوى النقدي استلهم مفهوم الحداثة ،ونبش عن جذوره في الشعر العربي ،وأعاد النظر في العديد من
المسلمات النقدية واألدبية .أنتج مؤلفات نقدية عدة مثل( :الثابت والمتحول ـ الشعرية العربية ـ مقدمة للشعر العربي.)..
ودواوين شعرية مثل( :قصائد أولى ـ هذا هو اسمي ـ مفرد بصيغة الجمع .)..والنص الذي بين أيدينا من كتابه ” :زمن الشعر
“ .فما القضية التي يطرحها؟ وما مفاهيمها وإطارها المرجعي ؟
”قصيدة الرؤيا” مركب إضافي يفصح عبره العنوان عن عالقة استلزام واقتضاء شديدين بين المضاف والمضاف إليه،
ويوحي بالتطور الذي عرفته القصيدة المعاصرة من خلخلة محتشمة على مستوى الصياغة الشكلية والخريطة اإليقاعية في
تكسير البنية إلى هدم جذري وإعادة بناء للنص الشعري تتحدد فيه بنياته الشكلية والمضمونية في كل تجربة بما يصنع ماهية
جديدة ورؤيا متجددة .وتتضمن الجملة األولى في النص “لعل خير ما نعرف به الشعر هو أنه رؤيا ” مفهوما مركزيا
(الرؤيا) ،يرتبط بداللة العنوان من خالل اإلشارة إلى طبيعة قصيدة الرؤيا وهويتها .ومن خالل المشيرات السابقة نفترض أن
اإلشكالية المطروحة في النص تتعلق بمفهوم الرؤيا في الشعر المعاصر ،وأن الفرضية التي يمكن االنطالق منها هي أن
الرؤيا في القصيدة الحديثة مرتهنة إلى خاصية الكشف والتمرد.
فهم النص
يمكن تقسيم النص للفقرات التالية :
الفقرة االولى :تعريف الشعر الجديد :هو رؤيا تعتبر تغييرا في نظام األشياء.
الفقرة الثانية :الشعر الجديد معرفة لها قوانينها الخاصة :انه إحساس كشفي لجوهر اإلنسان عن طريق الخيال
والحلم.
الفقرة الثالثة :توجهات الشعر الجديد :الشعر الجديد يبطل أن يكون شعر وقائع ،الشعر الجديد يبتعد عن
الجزئية ،انه رؤيا للعالم ،الشعر الجديد يتخلى عن الرؤية األفقية ،الشعر الجديد يتخلى عن التفكك البنائي.
الفقرة الرابعة :عالم الشعر الجديد ،كشف لما هو غير مألوف.
الفقرة الخامسة :الشعر الجديد كشف ورؤيا.
عرف الكاتب الشعر الجديد بكونه رؤيا ،إي تغيير في نظام األشياء وفي نظام النظر إليها ،وتمرد على األشكال والطرق
القديمة ،إنه “كشف عن عالم يظل أبدا في حاجة إلى الكشف” .والشاعر الجديد قلق متمرد متميز في الخلق ،وشعره مركز
استقطاب لمشكالت كيانية يعانيها في حضارته وفي نفسه .والشعر الجديد نوع من المعرفة الباطنية ،وإحساس شامل
بالحضور ،ودعوة لوضع الظواهر موضع البحث والشك ،وإحساس كشفي باألشياء يطال جوهرها الذي ال يدرك بالعقل
والمنطق ،بل بالخيال والحلم .ويتميز شعر الرؤيا عن شعر الحادثة والوقائع بتناول الظواهر األكثر ثباتا وديمومة ،واألقل
ارتباطا بالزمان والمكان ،فهو في غير حاجة إلى مواد محسوسة.
أنه يفرغ الكلمة من ثقلها القديم ،ويشحنها بدالالت غير مطروقة.
أنه رؤيا للعالم تتجنب النظرة الجزئية ،واإلصالحية الوعظية المباشرة ،وتنخرط في رؤيا شاملة تستقطب كل
حقول الفكر.
أنه ال يعبر عن رؤيا أفقية سردية ووصفية ،بل يتجاوز السطح ،ويغوص فيما وراء الظواهر ،ويكشف عن حيوية
العالم وطاقاته المتجددة ،فيتحد معه.
أنه يستعيض عن التفكك البنائي ،وعن التشابيه واالستعارات بالصورة التركيبية :الصورة ـ الرمز ،أو الصورة ـ
الشيء.
أنه شكل جديد من وجود جديد ،أي بناء فني وتعبير جديد ،أي ماهية (رؤيا) وشكل .والشعر الجديد باعتباره كشفا
ورؤيا غامض ،متردد ،ال منطقي ،في حاجة دائمة إلى حرية في التبنين ،ولكن دون الوقوع في فوضى الشكل ،ألن
الشكل غير مهم بقدر ماهي وظيفة الممارسة الشعرية.
تحليل! النص
تهيمن المصطلحات والمفاهيم الفلسفية ألن الكاتب في سياق عرض الفلسفة الجديدة التي يقوم عليها الشعر الجديد .وهي
مصطلحات ومفاهيم ستؤسس للنقد واألدب كمؤطرين للقصيدة الرؤيا .والظاهر أن الحقل الفلسفي في النص في خدمة النقد،
ألنه يسهم في توضيح مقارنات الكاتب بين مفهومي الشعر الجديد والقديم .وبما أن مفهوم الرؤيا مركزي في النص ،فإن
الكاتب أضاءه بمجموعة من المفاهيم مثل:
تمرد :ويعني الثورة على المعطى الجاهز والمغلق والمحدود ،
تجاوز :ويعني تجاهل المظاهر السطحية لألشياء ،وتجاوز الواقع المقيد بالزمان والمكان ،وتجاوز الحادثة
العارضة إلى الظاهرة الثابتة وأسرارها العميقة.
استشراف :ويعني قدرة الشعر الجديد على التنبؤ.
كشف :معرفة ميتافيزيقية تحس باألشياء كما هي في جوهرها وصميمها غير المدركين بالعقل والمنطق ،بل
الخيال والحلم.
وقد تفرعت عن قضية النص األساس ثنائيات ضدية يمكن تمثيلها كاآلتي:
رؤيا /رؤيا أفقية :أي أن النظر إلى الحياة باعتبارها مشهدا أو ريفا أو نزهة أو موقفا أو مناسبة… نظر مختزل
في أشكال ووظائف ،وموقف فني وفلسفي كالسيكي يتسم باألفقية والسطحية ،بيد أن الرؤيا تستلزم تجاوز العالقة
الشكلية والنفاذ إلى ما وراء ذلك من عوالم خفية ومغيبة وال محدودة.
معنى خالق وتوليدي /معنى سردي وصفي :أي معنى يسرد األشياء ويرتبها في الزمان ،ويصفها في المكان
وكأنها كيان مسطح له بعد واحد بخالف المعنى الكشفي المشاغب.
الخيال والحلم /العقل والمنطق :فالعقل والمنطق يمكنان من تكوين معرفة موضوعية باألشياء والحياة ،بينما
الخيال حدس بواقع ليس سوى إمكانات تتطور بشكل ال نهائي ،وال تسبر أغواره الخفية إال بالخيال.
يمكن أن نستخلص من هذه القضايا السمات التي تميز قصيدة الرؤيا عن قصيدة الموضوع أو الموقف ،وهي قيامها على إبداع
صيغ تعبيرية جديدة ،تالمس الواقع بحس ثوري وكشف عن الخفي ورؤية استشرافية.
اإلطار المرجعي
صاغ الكاتب مفهوم الرؤيا استنادا إلى أطر مرجعية متنوعة وسمت مقاربته بالعمق النظري والكفاية التفسيرية المالئمة،
ومنها:
طرائق العرض
جمع الكاتب بين النقد الوصفي والنقد المعياري في عرضه لقضيته ،فمن الوصفي تحديده ماهية الشعر والقضايا المرتبطة
بقصيدة الرؤيا ومقارنته بين شعر الرؤيا وغيره .واستعراض السمات المميزة لما يعتبره الشعر الحقيقي .ومن المعياري
التوسل باللغة العلمية الموضوعية المبنية على خلفيات فلسفية وفكرية رائجة ،واعتماد لغة اصطالحية دقيقة ،وتحاشي األفكار
المسبقة واألحكام المطلقة أو التصورات القابلة لتعدد التأويل ،أو الدالالت اإليحائية ،أو غير ذلك مما يحسب على النقد
االنطباعي أو التفسيري أو الجمالي .واستعمل الناقد أسلوب المقارنة للتمييز بين مقومات الشعر التقليدي والشعر الجديد ،شعر
الرؤيا وشعر الحادثة والوقائع .وإذا كان قد استشهد بأقوال شعراء غربيين ينتمون إلى مذاهب مختلفة ،فإن ذلك يعني تأثره
بالثقافة الشعرية الغربية ،ومحاولته صهر منطلقاتها وتصوراتها لإلبداع وأدواته في تيار تجديد الرؤيا الذي يعد من رواده.
التعريف :تحديد ماهية شعر الرؤيا وإبراز أهم سماته ومميزاته ،وتحديد بعض صفات الشاعر الجديد.
المقارنة :توسيم شعر الرؤيا بمقابلته بنقيضه (الشعر التقليدي)
التفسير :االستناد إلى معايير جمالية في تحديد خصائص شعر الرؤيا كرفض الجاهز وخرق المألوف (اللغة
االنزياحية) وتجنب الجزئية والنزعة العالمية والتوجيهية.
واعتمد الكاتب طريقة استنباطية تحليلية عرض فيها أوال مفهوم الرؤيا عامة ،ثم انتقل إلى الحديث عن تجلياتها في التحققات
الجزئية كاإلحساس والحلم والخيال والصورة والتعامل مع الكلمة لتشويق المتلقي إلى معرفة خصائص المفهوم بصدمه في
البداية باصطالحه العام ،ثم الكشف عن حقيقته عبر التدرج في وصف الجزئيات والخصائص إلقناع المتلقي بفاعلية الوصف.
التركيــــب
معترض ضمني ،يُفترض أنه يتبنى مفهوم الشعر التقليدي ،أو التحديث
ٍ عرض الكاتب مفهوم قصيدة الرؤيا في سياق رده على
السطحي الذي يراهن على تغيير الشكل ،وال شك أن مقصديته هي تأسيس مفهوم جديد للشعر يضع حدا فاصال بين الشعر
التقليدي وقصيدة الرؤيا التي تقوم على ركوب المغامرة والكشف والثورة والتمرد على المواضعات االجتماعية واألخالقية
والفنية والغموض والتجاوز واالستشراف ..وذاك ما يولد الشكل التعبيري .هكذا نتأكد من الفرضية التي انطلقنا منها ،وهي
مراهنة الناقد على اعتبار شعر الرؤيا شعر كشف وتمرد على األشكال القائمة وأنظمة المعنى الموروثة بما تختزنه من
تمثالت وقيم مستهلكة.
تجديد الرؤيا (نموذج شعري) -تحليل قصيدة 'البئر المهجورة' ليوسف الخال:
تفضي المالحظة األولية لشكل النص إلى إدراجه ضمن الخطابات الشعرية المتمردة على الثوابت (تجديد الرؤيا) .فما حدود
هذا التمرد ؟ وما تجلياته ؟ الجواب رهين بمقاربة القصيدة في جميع مستوياتها .وأول ما يثيرنا عنوانها ،وهي إثارة تؤول إلى
مفارقة كامنة داخله يفرزها التداعي .فالبئر في الموروث الثقافي ترمز إلى الحياة لوجود الماء ،وإلى اإلخفاء لعمقها الملتبس
باإليجاب أو السلب ،إال أن وصفها بالمهجورة يجعلها مناسبة لإلخفاء والستر .ألم يتخذ أبناء يعقوب البئر مكانا إلخفاء النبي
يوسف عليه السالم فكانت محنته األولى .وعلى أساس هذه المحنة يمكن افتراض مأساوية التجربة التي قد يعبر عنها يوسف
الخال .فما دواعي هذه المأساوية بناء على هذا االفتراض ؟
فهم النص
يمكن تقسيم هذه القصيدة الى 4مقاطع بحسب االصوات المستعملة فيها:
مقطع على لسان الراوي (أوّ ل 5اسطر) ،يشرح فيه عالقته بالشخصية التي تدور حولها القصيدة وهي شخصية
ابراهيم .ويالحظ هنا التنافر واالصطدام بين ابراهيم الذي يصوره الشاعر بئراً يفيض ماؤها داللة على العطاء
والخير ،وبين سائر البشر الذين ال يعيرونها ادنى اهتمام ايجابيا ً كان او سلبياً.
مقطع على لسان ابراهيم يتخلله تعليق قصير للراوي يبدأ بقول ابراهيم “ :لو كان لي ان انشر الجبيين …” ويمتد
الى قوله …”:ليبصر الطريقة” ( 22سطراً) ،وفيه ينقل الراوي الينا حديثا ً مباشراً البراهيم في رسالة كتبها
ابراهيم بدمه الطليل كما يقول الراوي .وتبرز هنا رؤيا ابراهيم واحالمه في تغيير الواقع والوجود من خالل
تساؤالت تشمل الطبيعة ،وعالقة االنسان بالطبيعة وحياة االنسان كمركز للوجود .وتكشف هذه التساؤالت ان احالم
ابراهيم كبيرة ويتطلب تحقيقها تفجيير امكانات خارقة للمألوف.
مقطع على لسان الراوي يتخلله حديث مباشر بصوت مجهول يبدأ بقول الراوي ” :وحين صوب العدو مدفع
الردى” ويمتد الى قوله “… لعله جنون ” ( 16سطراً) ،وفي هذا المقطع يتحدث الراوي عن (ابراهيم) ومن معه
من الجنود الذين يواجهون سيال من رصاص العدو فيصيح بهم صوت مجهول ان يتقهقروا الى الوراء .فيتقهقر
الجميع اال ابراهيم الذي ظل سائراً الى االمام متحديا ً الرصاص ،واذ سقط ابراهيم يقول اآلخرون كما يورد
الراوي :انه الجنون ،ويعلق :لعله الجنون .نالحظ في هذا المقطع تكرار“ :تقهقروا” مرتين في موضعين:
األول:صوت مجهول،والثاني :صدى الصوت األول .كذلك نالحظ تكرار ( لكن ابراهيم ظل ساهراً) في موضعين،
وذلك تأكيداً على ان ابراهيم لم يعر التحذير اهتماما ً ولم ِ
يبال بالموت.
مقطع على لسان الراوي ويبدأ بقوله“ :لكنني عرفت جاري العزيز…” ويمتد الى نهاية القصيدة …“ :ترمي بها
حجر” ( 6اسطر) ،وهو يشكل اعادة لكلمات المقطع األول مما يعطي القصيدة شكالً دائريا ً ال مغلقاً ،وهو شكل
مستحب عند الكثيرين من انصار الشعر الحديث ومتبع لديهم.
تعلن القصيدة في مدخلها عن العالقة الحميمية بين الذات وإبراهيم باعتباره شخصية محورية تنجز الفعل وتحققه دون تراجع.
إبراهيم إنسان عادي ،يحمل اسمه ايحاء دينيا وتاريخيا مستمدا من النبي إبراهيم الذي صدق الرؤيا وعزم على تنفيذها،
ومستمدا من المسيح المخلص بحسب عقيدة المسيحيين .إن ما يميز إبراهيم داخل عالم القصيدة هو عالقاته باآلخرين ،فهو
مصدر الحياة والعطاء في صحراء تنعدم فيها شروط الحياة ،لكن اآلخرين ال يهتمون به نفس اهتمامه بهم ،فالعالقة غير
متعادلة .إذ رغم كونه يمنحهم الحياة باعتباره البئر التي يفيض ماؤها يكن له اآلخرون الالمباالة وينعتونه بالجنون.
في الوحدة الثانية تنمو القصيدة وتتطور عبر التركيز على إبراهيم مرة أخرى ،وفعل التضحية الفردي يؤشر عليه بتكرار
الفعل المشروط :لو كان لي… ..الذي يقدم عليه لبعث الجماعة الميتة .إبراهيم هنا هو المسيح الذي يفدي العالم بموته ما دام
يشعر بمسؤوليته تجاه اآلخرين .إن إبراهيم هنا ليس من أجل استمرار الحياة فحسب بل لتغييرها إلى األفضل .ومن مظاهر
هذا التغيير تحول الطبيعة التي لن تعرف غير الربيع وتحول العقبان عن طبيعتها االفتراسية فيعم السالم واألمن وتسترجع
المعامل والشوارع والحقول طبيعتها الحية التي فقدها اإلنسان المعاصر ،كما يسترجع اإلنسان كرامته ويعود الضال التائه إلى
أرض معاده .ولعل هذه المبادئ الحياةألسلمألكرامةءمحو الخطيئة هي المبادئ التي ضحى من أجلها المسيح قديما ويضحي من
أجلها إبراهيم راهنا فإبراهيم هو مخلص اإلنسان حديثا .إن هذه المتمنيات التي صيغت عبر استفهامات ستتحول إلى واقع في
الوحدة الثالثة حين واجه إبراهيم الرصاص والموت ورماه اآلخرون بالجنون.
تحليل! النص
الصور الشعرية!
على مستوى الصور الشعرية يبدو أن يوسف الخال وجد في الصورة متنفسا ً للهروب من سلطة اللغة عبر االنزياحات الداللية
والرمز واألسطورة التي مثلت من جهة قدرة الشاعر على اختراق اللغة وتفجيرها وشحنها بتداعيات جديدة خارج المحمول
اإلشاري الجاهز .ومن جهة ثانية كشفت عن الرؤيا الشعرية الجامعة بين خاصيتين ،خاصية االقتراب من المألوف المعجمي،
وخاصية الكثافة الداللية المتولدة عن االنزياح والرمز واألسطورة .وتأسيسا على هذا أصبحت الوظائف الممكنة للصورة
الشعرية تغريبية وبنيوية ”:يحول الغدير سيره كأن تبرعم الغصون في الخريف” .فإذا كانت الوظيفة البنيوية للصورة الشعرية
تتمثل في المشاركة الفعلية للمتلقي في بناء القصيدة بناء عضويا ً اعتمادا على تأويل الرموز واألساطير فإن التغريب يؤول إلى
المفارقات ا لبعيدة بين مكونات الصورة التي يمنحها التأويل انسجامها .ولننظر مثال إلى جمع الشاعر بين المتنافر في قوله
“أتضحك المعامل الدخان؟” .إذ الدالالت السياقية للدخان السوداوية والمعاناة ،والمحمول الفعلي “تضحك” يدل وفق المألوف
على االنتشاء ،غير أن االنسجام يتحقق بحمل الضحك على السخرية….
ورغم كثرة الصور وتراكمها في القصيدة فإننا يمكن أن نكثفها في داللتي النبوة والتضحية ،حيث تحضر الذات الشاعرة كنبي
وضحية في نفس اآلن :تستشرف المستقبل وتبشر به ،ويقف المجتمع ضدها ويضطهدها كما اضطهد األنبياء .ولما فشلت
الذات /الرمز في تحقيق مشروعها انعزلت وانطوت على ذاتها بتخطي الواقع والمجتمع مستبدلة إياه بالرؤيا الميتافيزيقية،
ومن سمات هذه الرؤيا الرفض والغربة والنفي والوحدة والحرمان واالضطهاد ،وما هذه السمات إال مظهر من مظاهر الخلفية
الفلسفية الوجودية ،ناهيك عن قرار اختيار الذات نفسها مرجعا للتمثالت والقناعات ،فإبراهيم لم يستجب لنداء الجماعة ،ولم
يفضل ما فضله رفاقه من العودة إلى الوراء؛ ألن مصدر معرفته اليقينية ذاته ،ووجب عليه أن يعيش هذه المعرفة كتجربة
حياتية فيختار طريق الجنون من منظور اآلخرين ،طريق الحياة من منظوره هو ،فوقع فريسة االغتراب الناتج عن انعدام
التواصل وعن االنفصال والتعارض الذي لم يقتصر على الذات واآلخر ،بل تجاوز ذلك إلى التعارض بين حضارة الصحراء
المرفوضة وحضارة الماء المأمولة .وهذا الكشف الشعري ليس كله تخييال ،بل ينبني على مرجعية إيديولوجية تكمن في
المشروع القومي الحداثي ،فالماء والصحراء رمزان لحضارتين متعارضتين حضارة العرب وحضارة الغرب المتوسطية.
األسلوب
إن الشرخ الهائل بين الذات والعناصر المؤثثة للفضاء الشعري من جماد وإنسان ترسم قسماته قصيدة البئر المهجورة مستعيرة
الرمز واألسطورة :إبراهيم – المسيح – أوليسء أوديب – الخروف .ووجود البئر في الصحراء كبشير خير وبركة يقوي
التداخل العميق بين النص المقدس (المتن الديني) وبين القصيدة تداخال تذوب داخله تفاصيل أحداث المحكي األصلي (التقابل
بين إبراهيم النبي/خليل هللا وإبراهيم المضحي/خليل الشاعر .المسيح المصلوب وإبراهيم المصلوب على سارية الضياء رغبة
في تحقيق العدل وتحقيق التطهير) .وتتحكم في بنية التصوير وجدلية العالقات حركتان :تتجسد األولى في صورة إبراهيم قبل
التضحية والثانية بعد التضحية وما نتج عنهما من تحوالت في الرؤى والمواقف من المباالة إلى اندهاش .فالحركة األولى
تأسست على أساليب الرجاء (إمكان التحقق) والتمني (استحالة التحقق) .لقد تواترت العبارة “لوكان لي” خمس مرات تارة
تتعلق بالتضحية وتارة باالفتداء مؤسسة رغبة في الفعل(اإلرادة) ومخمنة ما يترتب عن الفعل المأمول من تحول يمس الطبيعة
الناطقة والصامتة ويمس الحضارة واإلنسان .لقد تحول المعجز من إطار الغيب إلى اإلطار اإلنساني من تضحية إبراهيم بابنه
استجابة ألمر هللا إلى تضحية إبراهيم بنفسه لمحو الظلم ونشر العدل والمحبة والسعادة .وفي إطار المتن الديني دائما تماهت
الشخصية المركزية من جديد مع المسيح تعبيرا عن الخالص ومحو الخطايا.
واقترن المسيح في هذا التشكيل باستحضار أوليس البطل الميثولوجي الذي يعاني عذابا ً شديداً على المستوى النفسي والجسدي
والذهني ويجتاز المهالك منذ مستهل رحلته حتى يحقق هدفه النهائي ،ويؤوب منتصراً إلى المكان الذي انطلق منه .أما الحركة
الثانية فانتقال من القول إلى الفعل وتأكيد حضور الذات لحظة المواجهة والتصدي واالستشهاد ونكوص اآلخرين ،ومع ذلك لم
يكن محل تقدير من قومه .وانطالقا من هنا يبدو البناء العضوي للقصيدة الذي ساهمت متماسكا بفعل الكثير من العناصر ،من
بينها األساليب الموظفة والضمائر واإليقاع الخارجي والداخلي.
على مستوى التركيب النحوي والتداولي نوع النص بين الخبري االبتدائي واإلنشاء عبر صيغ غاب فيها المحتوى القضوي
المباشر وحضرت فيه القوة اإلنجازية االستلزامية المرتبطة بالرؤيا الكامنة خلف المواد المعجمية والتشكيل التركيبي
وطوابعهما اإلشارية الموحية والغامضة التي تصب في التطلعات المتعلقة بتثبيت القيم اإلنسانية النبيلة وثراء الحياة وخصبها،
كاالستفهام في قول الشاعر ” :ترى ،يحول الغدير سيره…ويطلع النبات في الحجر؟” أتبسط السماء وجهها فال تمزق العقبان
في الفالة قوافل الضحايا؟… ” والتمني “لو كان لي أن أموت أن أعيش من جديد” فقد حافظ الشاعر فيهما على معنى
االستحالة وإن كان يرتبط بالرغبة واإلرادة في الفعل ،واألمر «تقهقروا ،تقهقروا” .الصادر عن آمر مجهول وكأنه الصوت
الخفي الذي يسيطر على اآلخرين ويشكل لديهم الثابت الذي ال يمكن التمرد عليه باستثناء إبراهيم .ورافق هذا التنويع في
األسلوب تنويع في الجمل الفعلية بين الحاضر والمستقبل وبين الماضي .وإذا كان الماضي يحدد زمن عالقة السارد بإبراهيم
الضاربة في القدم ،والمصير الذي آل إليه ،فإن المضارع يعلن عن التحول المأمول ويمثل الحلم ويبشر بالغد األفضل .وبما أن
ضمير المتكلم يحيل على إبراهيم وضمير الغائب يحيل على السارد ويتبادل الفاعالن المواقع فيصير المتكلم ساردا والغائب
الحاضر إبراهيم فإن الخطاب الشعري استنادا إلى الضميرين المتعاضدين يحمل الوظيفة التعبيرية االنفعالية والوظيفة
المرجعية ،إال أنهما ليستا مهيمنتين بل مجرد جسر للوظيفة الجمالية الطاغية التي تحققها الصور الشعرية والتموجات
اإليقاعية
اإليقاع
على مستوى اإليقاع استنجد الشاعر بتفعيالت الرجز كإطار موسيقي إال أنه انزاح فيه كثيرا عن الصور األصلية ليشاكل
التدفق النغمي المناسب لتشكل الرؤيا في النص .وللتوضيح نورد األسطر الشعرية األولى مفاعلن مستفعلن مفاعلن مفاعالتن
مفاعلن مستفعلن مفاعلن مفاعلن فعل مفاعلن مفاعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن فعل.لقد اكتسبت القصيدة بنيتها اإليقاعية من
تكرار صور (مستفعلن) في غير التزام بضوابط العروض و تكرار المقاطع وتكرر اللفظ (عرفت) والجملة ( لوكان لي أن )
وأصوات مثل الراء في األسطر الشعرية األولى فهي تحضر تقريبا في كل الكلمات األولى ،واستثمار التوازي(االستفهام +
الفعل +الفاعل…) وعالمات الترقيم والبياض بما يخدم الموسيقى والتركيب والداللة والقراءة والدفقات الشعورية في عالقتها
بالوقفات الثالثة وقد أحصينا نسبة تشغيل الفاصلة في النص فبلغت اربعا وعشرين مرة بينما النقطة لم تتجاوز عشر مرات .إن
الفاصلة داخل النص تؤشر على أن البنية النظمية (التركيب النحوي) لم تكتمل بعد أو اكتملت غير أنها تشترك مع ما يعقبها
في الحكم داللة وتركيبا مما يؤمن االنسياب واالسترسال بين األسطر الشعرية ،كما تؤشر على التعارض بين مقتضيات
العروض ومقتضيات التركيب والداللة ،وتلك صفه من صفات اللغة الشعرية ،إذ غالبا ما تتزامن الوقفة الوزنية مع البياض
الداللي أو الوقفة النظمية النسبية التي تؤشر عليها الفاصلة .وفي هذا المقام يحضر التقابل بين الوصل والفصل .أما النقطة
والبياض فيحققان وظائف متنوعة بدء بالتأشير على تمام المعنى وإفادته إلى التأشير على نهاية المقاطع .وقد تضافرت عالمتا
االستفهام والتعجب مع النقطة ألداء هذه الوظائف المتعددة .ومن المفيد أيضا ،أن نشير الى أن النقطة غالبا ما تسم األسطر
الشعرية باالتساق ويقصد به هنا اتحاد الوقفات.
إضافة إلى هذه المكونات هناك تداخل الخطابات في النص ولعل الخطاب القصصي حاضر في القصيدة بشكل بارز .ويتجسد
في البناء الدرامي باعتباره جسما متكامال في حد ذاته ،ويتشكل من عناصر متناسقة كل منها يقوم بدوره في مرحلة
معينة(البداية /العقدة/النهاية) األمر الذي يتيح النمو والحركة باتجاه المصير والمآل .والسارد والبطل المأساوي والحوار
الداخلي والحوار الخارجي والسرد والوصف عالمات دالة في النص.
تركيب وتقويم
نخلص من كل هذا إلى أن هذه القصيدة اغتنت بعوالم تخييلية بفعل محاورة النصوص الدينية واألسطورة والتراث األدبي مما
مكن من تفجير األسئلة الوجودية .وأصبح المنسي يأخذ حضوره وراهينته من تداعيات المعنى المسكوب في إيحاء اإليقاع
وشغب الصور واندالق الداللة مما عقد عملية مالحقة تفاصيل الرؤيا في النص والتي يبدو أنها غير محدودة .وقد جسد
الشاعر من خالل هذه القصيدة تصوره الحداثي للشعر المتجه نحو فلسفة الهدم والتمرد واالنقالب على الجاهز والثابث
والمألوف وإعادة تركيب معطى جديد من المواد المهدومة والمهضومة بما يضمن اإلبداع والتميز والقوة دون قطيعة مع
الموروث اإلنساني