You are on page 1of 27

‫اللغة العربية‬

‫تحوالت الشعر العربي‬


‫إحياء النموذج (نص نظري) – تحليل نص 'انبعاث الشعر العربي' لمحمد الكتاني‪: ‬‬

‫تأطير النص‬
‫شكل‪،‬‬ ‫عرف ال ِّشعر العرب ُّي قبل عصر النهضة (ق‪ )19‬جمودا وانحطاطا‪ ،‬فهيْمن عليه الت َّصنيع والتّكلُّ ف وساد فيه الولَ ُع بال َّ‬
‫واهتم شعراء عصر االنحطاط بألوان البديع وتفاه ِة األغراض على حساب المعنى‪ ،‬وبعد أن هبت على العرب رياح النهضة‬
‫انبرى شعراء البعث واإلحياء إلعادة الحياة إلى الشعر العربي وبعْثه من جدي ٍد باستلهام النموذج القديم والنَّسج على منوال‬
‫ومن أبرز هؤالء‪ :‬محمود سامي البارودي‪ ،‬وأحمد‬ ‫الفُحُو ِل‪ ،‬و ُم َجاراتِهم في بناء الصور وتشكيالت المعنى واإليقاع واألسلوب‪ْ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫ْ‬
‫ت الحركةُ على قاعدة ثابتة واكبتها حركة نقديّة وقامت على ِإثرها بحوث نظرية أبرزت‬ ‫شوقي‪ ،‬وحافظ إبراهيم‪ .‬ولما استق َّر ِ‬
‫خصائص حركة إحياء النموذج وعرفت بها وبسطت رؤيتها وأدواتها ونافحت عنها في المعارك النقدية المشهورة بين أنصار‬
‫مستثمرة مخرجات المناهج الحديثة‪ ،‬و ِمن أبرز النّقاد الذين دَرسوا شعر البعث واإلحياء شوقي ضيف‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫القديم والجديد‬
‫وأدونيس‪ ،‬ومحمد مندور‪ ،‬وصاحب النص “محمد الكتَّاني”‪ ،‬الذي يُع ُّد من الباحثين المغاربة الذين تناولوا بالدِّراسة والنقد‬
‫حركة إحياء النموذج‪ .‬فما القضي َّة التي يعالجها النّص؟ وما أسوب الكاتب ومنهجه في هذه المعالجة ؟‬

‫فرضيات القراءة‬
‫العنوان مر ّكب اسمي إضافي “انبعاث الشعر العربي”‪ ،‬والمضاف مبتدأ يحيل على استعادة الوجود والكينونة‪ ،‬والمضاف إليه‬
‫الموصوف يح ّد د طبيعة المبتدأ وانتما َءه‪ ،‬فيما الخبر يحيل عليه متن النص‪ ،‬ومن الناحية الداللية يحيل العنوان على حركة‬
‫إحياء النموذج بما تخضع له من ضوابط معلومة في بناء المعنى والمبنى‪ ،‬ويفهم من العنوان ّ‬
‫أن الشعر العربي انتقل من طور‬
‫ّ‬
‫الموت إلى طور اإلحياء‪ ،‬وكانت الحياة هي العودة إلى النموذج المشرق‪ .‬فإلى أي ح ٍّد يعْكس العنوان مضمون النص؟‬

‫صية ال ّدالة من قبِيل‪( :‬إحياء القديم‪ ،‬موت المعاني‪،‬‬ ‫بالنظر إلى إيحاأت العنوا ِن وشكل النصّ الطّباع ّ‬
‫ي ‪ ،‬وبعض المشيرات الن ّ‬
‫صورة القديمة‪ ،‬متانة التركيب وجزالة اللفظ ونصاعة المعنى…) نفترض أنّنا إزا َء مقالة أدبيّة‬ ‫انتعاش الروح القومية‪ ،‬إحياء ال ّ‬
‫بحمولة حجاجية تعالج قضيَّةً أدَبيّة تتعلق بحركة إحياء النموذج‪ .‬فما هذه الحركة؟وما خصائصها؟ وما المفاهيم والقضايا‬
‫ً‬
‫المعروضة ؟وما مرجعيتها؟ وما طرائق العرض المستثمرة؟ و هل وفق الكاتب في هذه المعالجة؟‬

‫المفاصل! الداللية للنص ( قضايا النص)‬


‫عرض الكاتبُ في مقالت ِه قضيّة رئيسية تمث َّلت في ” الت َّعريف بشعر إحياء النموذج”‪ ،‬من خالل استعراض أه ِّم خصائصه‬
‫صف حا َل ال ّشعر قبل انبعاثه في شكل من المقارنة المسعفة في تجلية القضية ‪ .‬وقد‬
‫ال ّش كلية والمضمونية‪ ،‬وفي سياق ذلك و َ‬
‫تف َّرعت هذه القضي َّة إلى قضايا فرعية‪ ،‬منها ثنائيّات مشهورة في النقد‪ ،‬ومنها إشكاالت عامة‪.‬‬

‫فمن الثنائيات نذكر‪:‬‬

‫قضية اللّفظ والمعنى ‪:‬وهي حاضرة في المقالة في سياق عرض اهتمام شعراء عصر االنحطاط باللفظ على حساب‬ ‫‪‬‬
‫المعنى (التص ّنع‪ ،‬كلفة التالعب اللفظي‪ ،‬ال ّتوريات ضروب البديع)‪ ،‬وهو ما عملت حركة إحياء النموذج على‬
‫تصحيحه‪.‬‬
‫صنعة ‪ :‬وتحضُر في النصِّ عبر اإلشارة إلى ال َّتصنيع والتكلف الذي رافق شعر عصر االنحطاط‬ ‫قضية َّ‬
‫الط بع وال َّ‬ ‫‪‬‬
‫ّ‬
‫ضعف ال َّس الئق‪ ،‬كما نجدها في عرض مفهوم الشعر لدى اإلحيائيين‪ ،‬إذ هو “فيْض وجدان وتألق خيال”‬ ‫نتيجة َ‬
‫ف أو تعسف‪.‬‬ ‫ُسر وسالسة دون عُسْ ٍر أو تكلُّ ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ي‬ ‫في‬ ‫اللسان‬ ‫على‬ ‫يجري‬

‫ومن اإلشكاالت العا ّمة‪ ،‬نذكر‪:‬‬


‫قضية عمود الشعر ‪ :‬ونجد صداها في النص في المعروض من خصائص شعر البعث واإلحياء التي ال تخرج عن‬ ‫‪‬‬
‫اإلطار المفاهيمي لهذه النظرية المعيارية المؤطرة للقصيدة العربية التقليدية إيقاعا وتصويرا ولفظا ومعنى ( جزالة‬
‫األلفاظ‪ ،‬متانة التركيب‪ ،‬قوة الجرس‪ ،‬التصوير البياني‪ ،‬نصاعة المعنى‪.)… ،‬‬
‫شعر كما مثله شعراء إحياء النموذج (فيض‬‫ص حيح لل ّ‬
‫ش عر ‪ :‬وتتضخ في عرض الكاتب للمفهوم ال َّ‬ ‫قضية َمفهوم ال ِّ‬ ‫‪‬‬
‫وجدان وتألق خيال‪ ،‬سليما من التكلف‪ ،‬بريئا من التعسف…)‪.‬‬
‫الشعر ‪ :‬ويحصِ رها الكاتب في البعد التربوي واالجتماعي الذي أواله اإلحيائيون أهمية قصوى‪ ،‬ألن الشعر‬ ‫ِ‬ ‫وظيف ُة‬ ‫‪‬‬
‫فنا نبيال‪ ،‬ومن ثم فهو “تهذيب النفس‪ ،‬واجْ تِالء المكارم‪ ،‬وتنبيه الخواطر…”‪.‬‬

‫وقد أسهمت هذه القضايا في إضاءة القضية الرئيسي َّة وبلورة أبعادها لتفهيمها المتلقِّي تمهيداً إلقناعه بجمالي ِة شعر إحيا ِء‬
‫الن َّموذج‪ ،‬ودوْ ره التّاريخ ِّي في انتشال الشعر العربي الحديث من أنفاق الرداءة وسراديب االنحطاط‪.‬‬

‫البناء! المنهجي! واألسلوبي‬


‫رائق َسه َّلت عليه ت ْقليب فِكرته وتمحيصها‬
‫ِ‬ ‫توسل الكالتب في مناقشته قضية “انبعاث ال ّشعر” بمجموعة من األساليب والطّ‬
‫حيث استند أول األمر على تنويع االستدالل بحجج من الواقع كاإلشارة إلى مظاهر‬ ‫ُ‬ ‫بشكل يضمن كفايتها التفسيرية واإلقناعية‪،‬‬
‫َّ‬
‫انحطاط ال ِّش عر العربي في فترة ما‪ ،‬ومن التاريخ باإلشارة إلى تط ُّور الش عر العربي عبر العصور‪ ،‬باإلضافة إلى استخضار‬
‫ِّ‬
‫محموالت النقد القديم المنطقية عبر استدعاء جهاز اصطالحي ذي كثافة تنظيرية عالية من قبيل ‪”:‬إحياء الصورة القديمة‪،‬‬
‫مؤتلف اللفظ بالمعنى قريب المنزل بعيد المرمى‪ ،‬سليما من وصمة التكلف…”‪ ،‬وغيرها من المفاهيم التي تشكل القاعدة‬
‫النظرية لفعل اإلحياء والبعث وهو ما ساهم في تدعيم فكرة الكاتب وتأمين قبولها لدى المتلقي‪ .‬إضافةً إلى ذلك توسل الكاتب‬
‫بطريقةَ المقارن ِة فقارن بين شعر عصر االنحطاط (موت المعاني‪ ،‬اإلفراط في التصنع‪ ،‬ملهاة وتسلية…) وشعر اإلحياء‬
‫التفسير‬
‫ِ‬ ‫النهضوي ( جزالة اللفظ‪ ،‬نصاعة المعنى‪ ،‬فيض وجدان…)‪ ،‬لبيا ِن تميّز شعر إحياء النموذج وتألقه‪ ،‬ولجأ إلى أساليب‬
‫عر الجي ِد ( إحياء النموذج وتزكيته‪“ :‬ما كان مؤتلف اللفظ‬ ‫والوصف لمالمسة حالتي ال ِّش عر قبل النّهضة وإبانها‪ ،‬ولتوسيم ال ّش ِ‬
‫ّف “‪ ،‬وفي باب الوصف والتفسير‬ ‫ْ‬
‫ف‪ ،‬بريئا من َعش َو ِة التَّعس ِ‬ ‫قريب المنزل‪ ،‬بعيد المرمى‪ ،‬سليما ً من وصمة التكلّ ِ‬ ‫َ‬ ‫بالمعنى‪،‬‬
‫استثمر التّعريف فجرد كثيرا من المفاهيم والقضايا كمفهوم الشعر ووظيفته‪ ،‬ومفهوم البعث وأدواره ومفاهيم الجودة والرداءة‬
‫بأسلوب سردي ونفس إخباري مجد في مثل هذه المقامات الخطابية التفسيرية واإلقناعية‪ ،‬وأسلوب تقريري قائم على مادة‬
‫معجمية نقدية واصفة ودقيقة حبلى بالمصطلحات األدبية القديمة وال مجال فيها لعرض االنفعاالت وتسويق الخواطر‬
‫واإليحاأت‪ ،‬ولغة مسبوكة مصقولة بمتانة وعناية تضاهي متانة النثر القديم وتنسجم مع مقصدية الكاتب في تزكية اإلبداع‬
‫والكتابة المعيارية المحافظة‪..‬‬

‫أن الكاتب في عرضه لقضية انبعاث الشعر العربي سخر أسلوبا ً استنباطيا ً تنقل فيه من العا ِّم إلى الخاص‬‫وتجدر اإلشارة إلى ّ‬
‫شكلية‬‫ومن الك ِّل إلى الجزء بدأ باإلشارة إلى الظُّ روف العامة لظهور حركة البعث واإلحياء‪ ،‬وتعريجا أه ِّم الخصائص ال َّ‬
‫والمضموني َّة التي ميزت هذه الحركة معززا عرضه بالتفسيرات المالئمة واالستدالالت المناسبة واألمثلة الكافية‪ ،‬وانتهاء إلى‬
‫أن انبعاث الشعر العربي لم ينبت فجأة أو صدفةً‪ ،‬وإنما في إطار حركة إصالحية عامة نجمت عن وعي جماعي‬ ‫التأكيد على ّ‬
‫عميق وناضج بضرورة اإلصالح من خالل استعادة الذات القوية المنسية والمفقودة‪ ،‬وطرد الذات المتهالكة المنحطة ‪ .‬وإلى‬
‫ي‪( :‬عصر‬ ‫جانب أسلوب االستنباط توسل الكاتب بمنهجية منطقية تقوم على توصيف الظاهرة في سي ُرورتها وتط ِّو ر ها التَّاريخ ّ‬
‫النّضج والكمال ثم عصر االنحطاط ثم عصر النَّهضة)‪ ،‬وجرد المفاهيم وتتبع األبعاد واستقراء الواقع وترتيب النتائج على‬
‫األسباب‪.‬‬

‫الكاتب من ترتيب أفكـاره وتنسيقها وعرضها بشكـ ٍل مترابط يفضي إلى الفهم الجيِّد والتأويل‬
‫َ‬ ‫وقد م َّكنت هذه األساليبُ‬
‫ص حيح‪ ،‬وإلى إقناع القارئ بأطروحته في نهاية المطاف‪.‬‬ ‫ال َّ‬

‫تركيب وتقويم‬
‫أن الكاتب استهدف تعريف مدرسة إحيا ِء النموذج‪ ،‬برصْ د أه ِّم خصائصها مقارنا بينها‬ ‫تأسيسا على معطيات التحليل نستنتج َّ‬
‫ِّ‬
‫وبين شعر عصر االنحطاط‪ ،‬مبيِّنا ُجهود اإلحيائيِّين في انتشا ِل الشعر من ُمستنقع ال ّرداءة واإلسفاف‪ .‬وتكمنُ مقصدية الناقد في‬
‫ت االنتباه إلى دوره التّاريخي في استعادة القصيدة العربية من براثن الموت‪ .‬وقد وظَّف‬ ‫لشعر إحياء النموذج وإلفا ِ‬
‫ِ‬ ‫االنتصار‬
‫لذلك جملة من الطرائق توزعت بين الحجج وأساليب التفسير من تعريف ووصف ومقارنة‪ ،‬ومواد لغوية داعمة للحجاج‪ ،‬و‬
‫أسلوب االستنباط والجرد‪ ،‬واللُّغة التقريرية المباشرة و الجمل الخبرية الطويلة وغيرها‪ .‬وقد نج َح الكاتب إلى ح ٍّد بعيد في‬
‫عرضه لخصائص شعر إحياء النموذج‪ ،‬وأصبحنا ملزمين بالقول إن الفرضية التي طرحناها في بداية تفكيكنا لهذا النص‬
‫فرضية صحيحة‪ ،‬إذ تبين أن حركة إحياء النموذج شكلت محطة فاصلة وضرورية وحاسمة في إعادة الشعر العربي إلى الحياة‬
‫العربية الجديدة المصطرخة بنوايا اإلصالح وتحققاته مما مهد الظروف أمام تطورات أخرى الحقة سيمثلها تيار سؤال الذات‬
‫ومن بعده تكسير البنية فتجديد الرؤية‪.‬‬

‫إحياء النموذج (نص شعري) – تحليل قصيدة 'لي في من مضى مثل' لمحمود سامي البارودي‪: ‬‬

‫إشكالية القراءة!‬
‫في سياق النهضة التي أعقبت حملة نابليون على مصر سنة ‪ ،1779‬جاء التيار اإلحيائي استجابة لحاجة األمة العربية إلى سند‬
‫للبقاء‪ ،‬بعد أن ساد االنحطاط مختلف مظاهر الحياة العربية‪ ،‬وضعفت اللغة الشعرية وأغرقت في صنوف التكلف والتصنيع‪،‬‬
‫حتى كان الشعر صورة لالنحطاط وتعبيرا عن الحياة الجامدة ‪..‬‬

‫وقد حاول بعض الشعراء (حسن العطار‪،‬عبد هللا فكري ‪ )..‬التحرر من هذا الجمود ودخول غمار اإلحياء‪ ،‬وانتشال الشعر‬
‫العربي من الجمود والتقليد واإلسفاف‪ .‬إال أن محاوالت هؤالء كانت محتشمة متواضعة ‪.‬‬

‫وفي النصف الثاني من القرن ‪ 19‬حاول جيل ثا ٍن إحياء النموذج الشعري القديم‪ ،‬وبعث القصيدة العربية بأصولها الفنية‪،‬‬
‫وقيمها الثقافية والجمالية‪ ،‬ومحاكاة النموذج الشعري العباسي واألندلسي الزاهر‪ ،‬ومعارضة شعرائه ألجل الخروج من األزمة‬
‫الشعرية التي خلفها عصر االنحطاط ‪ ..‬من بين هؤالء أحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومحمود سامي البارودي (‪– 1839‬‬
‫‪ )1905‬الذي تضافرت عدة عوامل في بلورة شخصيته والتأثير في شعره منها ‪ :‬نسبه غير العربي وتعلمه في المدارس‬
‫األميرية وثقافته العربية األصيلة ومكانته العسكرية ونشاطه السياسي ‪ ..‬قام ببعث القصيدة العربية بأصولها الفنية وقيمها‬
‫الثقافية والجمالية‪ ،‬وحاول التعبير عن حياته وتجاربه وأزماته ومختلف التحوالت الخاصة وتقليد الموضوعات الشعرية‬
‫القديمة‪ .‬إال أن تجربته لم تكن تجديدا للشعر العربي‪ ،‬بل كانت بعثا وإحياء له‪ .‬ألف في مختلف أغراض الشعر وخاصة‬
‫الحماسة والفخر والوصف ‪ ..‬وخلف ديوانا شعريا صدره بمقدمة حدد فيها مقاييس الشعر الجيد ومفهومه ‪ .‬والنص الذي بين‬
‫أيدينا “لي في من مضى مثل” نموذج إحيائي نتعرف من خالله على أهم خصائص شعر إحياء النموذج ‪ .‬فما هي مضامين‬
‫قصيدته ؟ وما خصائصها الفنية ؟ وإلى أي حد تعكس خطاب إحياء النموذج ؟‬

‫المالحظــــة‬
‫يوحي عنوان القصيدة “لي في من مضى مثل” باعتراف الشاعر بفضل الشعراء الجاهليين عليه‪ ،‬فشعرهم مث ٌل يُحتذى به ‪.‬‬

‫انطالقا من البيت ‪ 19 – 17 – 1‬نفترض أن موضوع القصيدة يتمحور حول الغزل والفروسية والصيد والحكمة ‪.‬‬

‫ترتبط هذه الموضوعات بالعنوان من حيث إحالتها على الماضي واتخاذه نموذجا لتأليف الشعر ‪.‬‬

‫تقوم القصيدة على نظام الشطرين المتناظرين‪ ،‬وهي جزء من قصيدة طويلة ‪.‬‬

‫نفترض‪ ،‬إذن‪ ،‬أن النص يدور حول الفخر بالفروسية‪ ،‬ووصف الصيد‪ ،‬وهو عبارة عن قصيدة عمودية الشكل ‪.‬‬

‫فما مضامين هذه القصيدة؟ وما خصائصها الفنية؟ وإلى أي حد تعكس خطاب إحياء النموذج مضمونا وشكال ووظيفة؟‬

‫الفهــــــم‬
‫(‪ :)5 – 1‬استهل الشاعر قصيدته بمقدمة عاطفية أبان من خاللها عن حنينه إلى أيام الصبا وتجربة الحب التي‬ ‫‪‬‬
‫ألمت به في كبره‪ ،‬وخضوعه لسنن األسالف في نظم معاني الغزل‪.‬‬
‫(‪ :)10 – 6‬وما إن رسم لقطة لضعف ذاته أمام سلطان الحب حتى هم بوصف قوته في مظاهر فروسية‪ ،‬فوصف‬ ‫‪‬‬
‫الفرس مركزا على لونه األشقر وخاصة تناسق ألوان قوائمه‪ ،‬وطواعيته له في ساحة الحرب‬
‫(‪ :)14 – 10‬وصف السيف وحدته ولمعانه وسرعة فتكه باألعداء‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫(‪ :)18 – 15‬وصف رحلة الصيد ووفرة الطرائد وأنس ُرفقائه في الشتاء‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫(‪ :)23 – 19‬المقطع الحكمي أكد فيه حقيقة العيش القائم على التوازن وصفاء الفطرة و ُحسن الخلق‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫اإليقــــــاع‬
‫ر ْد َد صْ صبا |بعد شيْــ | ب ْلـلمة ْلـــ | ْغزلو ‪  ۩۩۩ ‬وراح ْبلـ |ج ْدد ما | يأتي به ْلـــ | ه َزلـو (تصريع)‬
‫׀و ׀و ׀ ׀و |׀و ׀׀ و | ׀و ׀و ׀ ׀و |׀׀ ׀و ‪  ۩۩۩ ‬׀׀و׀ ׀و | ׀و׀׀و | ׀و ׀و ׀ ׀و | ׀׀׀و‬
‫مسـتفــعلن | فــاعـلن | مستفـــعلن | فَ ِعلُ ْن ‪  ۩۩۩ ‬مـتفـعلن| فاعلن | مستفـــعلن | فَعـلُ ْن‬

‫فالقصيدة من بحر البسيط‪ ،‬وهي مخبونة العروض والضرب ( فاعلن ← ف ِع ْ‬


‫لن)‪ ،‬موحدة القافية وحرف الروي‪ ،‬وهذا البحر‬
‫يناسب غرض الوصف والفخر‪ ،‬لما توفره تفاعله من مقاطع صوتية تتسع لطول نفس الشاعر ‪..‬‬

‫القافية ‪( :‬ب‪ :6‬مشتعلو) ‪( ،‬بـ ‪ :5‬هـلكلل) ‪( ،‬بـ ‪ :18‬ال دغلو) ‪..‬‬ ‫‪‬‬
‫الروي‪ [ :‬ل] وهو صوت لثوي مجهور اقترن بضمة مُشبعة تمأل الفم في سياق الفخر ‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫اعتماد التصريع (ـة ْلـغزلو = ـه ْلـهزلو)‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫في القصيدة مظاهر إيقاع داخلي تتمثل في التوازي والتكرار‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫الحظ التقابل الموجود بين كلمات الشطرين األول والثاني في البيت ‪ ، 9‬وتحسس دور البنية الصرفية والنحوية في‬ ‫‪‬‬
‫تحقيق التوازي (حوافره = جحافله)‪.‬‬
‫الحظ أيضا اإليقاع المنبثق من صيغة األمر المتكررة في األبيات ‪ 20‬ـ ‪. 21‬‬ ‫‪‬‬
‫تكرار بعض الكلمات (يمضي ـ ماضي)‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫تكرار صوت[ ل] داخل القصيدة تجانسا مع حرف الروي‪ ،‬مما يدعم الكثافة الصوتية لهذا الحرف‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫ذات جرس موسيقي متآلف‪ ،‬وال سيما القافية المنتهية بـالم مرفوع بضمة مشبعة‪.‬‬ ‫ألفاظ النص ُ‬ ‫‪‬‬

‫فالشاعر‪ ،‬إذن‪ ،‬يستلهم أحد أهم مقومات البنية اإليقاعية للقصيدة التقليدية بإحيائه للنموذج العروضي القديم ‪.‬‬

‫الصورة‬
‫تطفح القصيدة بالصور الشعرية القائمة على قواعد البيان من تشبيه واستعارة؛ ففي البيت ‪ 8‬شبه لون الفرس الذي يجمع بين‬
‫اللونين األشقر واألبيض‪ ،‬وقوائمه بكونه خاض نهر الصبح لتقريب الصورة إلى ذهن القارئ‪ .‬وفي البيت ‪ 6‬استعارة شبه فيها‬
‫الجو بالوقود الذي حذف وأشير إليه بأحد لوازمه وهو االشتغال على سبيل االستعارة المكنية‪ .‬وفي البيت ‪ 7‬شبهت القوائم‬
‫المحجلة الثالث والقائمة الرابعة العاطل بأنها غمرت بالبياض والرابعة معزولة‪.‬‬

‫في البيت ‪ 8‬شبه بياض قوائم الفرس بنهر الصبح وضوحا ونصاعة وإشراقا‪ ،‬وشبه لون جوانبه بلون شروق‬ ‫‪‬‬
‫الشمس ألقا وتوهجا في الصفرة ‪.‬‬
‫وفي البيت‪ 11‬كناية (لم يعلق به بلل) كناية عن حدة السيف ومهارة الفارس ‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫وفي البيت ‪ 13‬شبه السيف‪ ،‬في سرعة قطعه للرؤوس‪ ،‬بسرعة مرور البرق‪ ،‬كما شبهه وقت القتال بحركة النار‬ ‫‪‬‬
‫في مهب الريح‪ ،‬أو بشعلة تتحرك بها الريح‪.‬‬

‫هذه الصورة جلية‪ ،‬بسيطة‪ ،‬سهلة اإلدراك‪ ،‬قريبة المنال‪ ،‬ال التباس وال غموض فيها‪ ،‬وهي ذات داللة حسية‪ ،‬تشي بخيال‬
‫قريب ال يحتاج العقل معه إلى جهد كبير إلدراكها‪ ،‬تتميز بدقة وصف الفرس وحركة السيف‪ .‬وهي تقترن بمعاني الفخر‬
‫بالذات‪ .‬كما أن لها داللة اجتماعية تتمثل في تصوير المعاني ذات الحمولة الثقافية التي تربط بين أفراد المجتمع والمتضمنة‬
‫لقيم الفروسية والشجاعة وما يقترن بها من خصال ‪ .‬ومع ذلك فإن الصورة تبقى ذات وظيفة تزيينية إذ ال تسهم في التعبير عن‬
‫معنى عضوي في بناء القصيدة‪ ،‬فهي أشبه بثوابت أسلوبية بالغية نظمها الشاعر أو استحضرها من محفوظه الشعري‬
‫الغزير‪..‬‬
‫وإذا تأملنا موضوعات القصيدة من فروسية ووصف ‪..‬فإننا نالحظ هيمنة لون البياض على المشاهد التصويرية (بياض قوائم‬
‫الفرس‪ ،‬نهر الصبح‪ ،‬السيف‪ ،‬البرق‪ )..‬مما يوحي بالصفاء ووضوح الرؤية إلى األشياء وفي منظور الشاعر‪ ،‬وكذا إلى‬
‫وضوح موقفه ال ُممجد لقيم مضت (لي في من مضى مثل)‪.‬‬

‫األسلــــــوب‬
‫في البيت ‪ 4‬و‪ 23‬يبدو احتذاء الشاعر باألقدمين واضحا‪ ،‬ولعله في ذلك يكشف عن معارضته لهم وتناص شعره مع‬
‫نصوصهم‪ .‬ولكنه مع ذلك يؤكد من خالل ورود ضمير المتكلم المفرد على خصوصيته وتفرده في الشجاعة والفروسية‪.‬‬

‫ومن هنا تركيزه في الوصف على ذاته دون غيره‪ .‬هذه الذات تتجلى بصورة بطولية في وصف فرسه وسيفه بصفات متفردة‪،‬‬
‫فكأن ذات الشاعر تتماهى وتتجلى أكثر وضوحا خارج الذات في حركية السيف والفرس‪ ،‬حيث البطولة والفروسية‪ ،‬فحتى في‬
‫مقاطع وصف الفروسية ال تغيب الذات‪.‬‬

‫وفي مقطع وصف الصيد وظف الشاعر ضمير المتكلم الجمع ألن الصيد طقس جماعي يجسد االنتماء من خالل الفعل‬
‫التشاركي في مواجهة الطبيعة‪.‬‬

‫وفي نهاية النص أورد الشاعر مقطعا حكميا ذا نزعة خطابية واضحة‪ ،‬يبرز فيه ضمير ال ُمخاطب (فاتبع هواك)‪ .‬وهو مقطع‬
‫يعكس قدرة الشاعر على نظم المعاني الراقية ذات البُعد الحكمي‪ ،‬وكذا تهذيب ذوق القارئ وإرشاده إلى الخصال النفسية‬
‫الحميدة ومكارم األخالق وإقناعه بها لتكون قدوة له في الحياة االجتماعية ‪ .‬وهذا يبين حرص الشاعر على إقناع القارئ‬
‫بتصوره لآلداب والخصال النفسية التي يؤمن بها المجتمع والمأثورة عن القدماء‪.‬‬

‫من هنا فوظيفة هذا المقطع حجاجية‪.‬‬

‫البنية!‬
‫تترابط مقاطع القصيدة بحركة نفسية تتدرج من لحظة ضعف الذات أمام عاطفة الحب إلى مسارات القوة على صهوة الفرس‬
‫الطيّع بحركته السريعة في ساحة القتال‪ ،‬وتناسق ألوانه‪ ،‬ومساعدته الشاعر على الفتك بأعدائه والصيد مع ُرفقائه ‪ ..‬ليتوج هذه‬
‫الحركة النفسية في المقطع األخير بالحكمة والرشاد وحسن الخلق‪.‬‬

‫ومن جهة أخرى تضمنت القصيدة مواضيع عديدة كالغزل والفخر والصيد والحكمة‪ ،‬ربط بينها الشاعر برابط إيقاعي (وحدة‬
‫الوزن والقافية والروي) ونفسي ذاتي يؤكده اعتماد ضمير المتكلم‪ ،‬وهذا الربط نوع من االنسجام ‪.‬‬

‫لقد بدأ الشاعر هذه القصيدة بالحنين إلى الصبا الذي عاد فعاد معه اإلحساس بمشاعر الحب والغزل‪ ،‬وانتقل إلى اإلشادة بالفتوة‬
‫والفروسية ووصف رحلة الصيد‪ ،‬ثم ختمها حكيما رشيدا من هنا تكون القصيدة قد اختزلت حياة الشاعر منذ طفولته وما مر به‬
‫من نكبات عائلية وسياسية وفترة الشباب (الغزل والصيد) وصوال إلى الشيخوخة حيث ينطق حكمة‪ .‬فهذه السيرورة الحياتية‬
‫تجسد معيارا زمنيا يوحد مواضيع وأغراض القصيدة‪ .‬ومع ذلك بقي سؤال بنية النص اإلحيائي مطروحا‪ ،‬خاصة مع مجيء‬
‫منظري الرومانسية‪.‬‬

‫التركيب‬
‫هكذا نخلص إلى أن الشاعر قدم للقارئ نفسه من خالل صورة مثالية للفارس الحكيم‪ ،‬الذي يخرج إلى ساحة الحرب بسيفه‬
‫الفتاك وفرسه األشقر‪ ،‬يتخطى األهوال منجزا مالحم في الفروسية والبطولة‪ ،‬متمتعا بلذة العيش والصيد ورفقة األطياب من‬
‫أصدقائه‪ .‬ولعله في ذلك يذكرنا بامرئ القيس وأبي فراس الحمداني ‪.‬‬

‫وهكذا يتضح أن النص نموذج حي للقصيدة اإلحيائية بكل ما تزخر به من قيم ثقافية (فروسية‪ ،‬صيد‪ ،‬حكمة‪ ،‬حنين إلى أيام‬
‫الفتوة والشباب… وغير ذلك مما شحنت به ذاكرة الشاعر)‪ ،‬وكذا قيم فنية شعرية (ألفاظ تقليدية مستلهمة من القاموس الشعري‬
‫القديم‪ ،‬وبنية إيقاعية خليلية تعتمد وحدة الوزن والقافية والروي‪ ،‬والصور البيانية التقليدية القائمة على التشبيه ‪ ..‬والخيال‬
‫الحسي‪ ،‬وذات الوظيفة التزيينية)‪.‬‬
‫التقويم!‬
‫يتضح من قول السعيد الورقي أن للبارودي قدرة على استلهام اإلطار الفني للقصيدة العربية التقليدية‪ ،‬والتعبير من خالله عن‬
‫خواطره ومضمون عصره‪ .‬وهذا ما يفسر تردد مشاهد الشعر العربي القديم في شعره‪.‬‬

‫والواقع أن هذا الحكم يصح إلى حد كبير على القصيدة موضوع درسنا‪ ،‬فإطارها الفني تقليدي يتناول مواضيع الفروسية‪،‬‬
‫ومقاطع وصف مراعي الظباء‪ ،‬والحكمة بادية في موضوعاتها المنسوجة في قالب فني‪ ،‬مكنت الشاعر منه قدرته اللغوية‪،‬‬
‫وذوقه الفني ‪.‬‬

‫ورغم أن شعر البارودي لم يحقق تطورا كبيرا‪ ،‬إذ ظلت الصور البيانية‪ ،‬مثال‪ ،‬مجرد زخارف وأصباغ تُراد لنفسها‪ ،‬مستمدة‬
‫من الذاكرة الشعرية مستقلة عن مشاعر الشاعر وأحاسيسه ‪.‬‬

‫إال أن مزية شعره تتقلص حيث تستند إلى معايير التطور والدينامية التي تشرط تطور المضامين بتطور البنية والشكل‬
‫واألدوات الفنية‪ .‬وهذا ما حاول القيام به وريث البارودي الشاعر أحمد شوقي ‪.‬‬

‫إحياء النموذج (نص شعري) – تحليل قصيدة 'أريج المسك' لمحمد بن ابراهيم‪: ‬‬

‫التأطير‬
‫عاش العالم العربي خالل أواخر القرن التاسع عشر‪ ،‬وأوائل القرن العشرين تحوالت تاريخية وحضارية وثقافية وفكرية‬
‫ساهمت في خلق نهضة واسعة تجسدت في ظهور حركات فكرية متعددة القناعات الفكرية والخلفيات اإليديولوجية (ليبرالية –‬
‫علمانية – سلفية ) نادت بالتحرر من نير االستعمار‪ ،‬وتجاوز مظاهر الجمود والتخلف ورواسب عصر االنحطاط‪ ،‬وتجسدت‬
‫أيضا في ظهور حركة شعرية موازية سعت إلى إحياء نموذج القصيدة العربية القديمة وفق قواعد عمود الشعر كما حددها‬
‫المرزوقي في شرحه لديوان ''الحماسة'' ألبي تمام‪ ،‬ومثلت – خالل عملية استعادة المتن الشعري العربي القديم – بداية‬
‫انعطافة جديدة في الشعر العربي عنوانها القضاء على مظاهر الجمود التي أصابت اإلبداع الشعري في عصر االنحطاط‪،‬‬
‫وحصرته في الزخرفة اللفظية والمعاني المستغلقة واألساليب المبتذلة والتكلف واإلسراف في المحسنات البديعية‪ ،‬والتالعب‬
‫اللفظي‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬

‫وقد قامت هذه الحركة اإلحيائية على استلهام الخصائص البنائية والفنية للقصيدة القديمة‪ ،‬وعملت على بعث تقاليد الشعر‪/‬‬
‫النموذج واألجواء اإلبداعية المرتبطة به اعتمادا على تقليد فحول الشعراء ومحاكاتهم ومعارضتهم وخصوصا شعراء‬
‫العصرين الجاهلي والعباسي‪ ،‬ومكنتها هذه الوسائل اإلحيائية‪ ،‬واطالعها الواسع على نماذجه المشرقة من جعل الشعر‬
‫والشاعر يستعيدان المكانة الالئقة بهما في المشهد األدبي النهضوي‪ ،‬وأصبح لهذه الحركة اإلحيائية معارضون‪ ،‬ومناصرون‬
‫وأتباع كثر في كل البلدان العربية وتجاوز صداها المشرق العربي ليصل إلى الغرب اإلسالمي في تونس والجزائر والمغرب‪،‬‬
‫بل أصبح بعض الشعراء المغاربة من أبرز أعالم المدرسة اإلحيائية من أمثال عالل الفاسي‪ ،‬محمد الحلوي‪ ،‬المختار‬
‫السوسي‪ ،‬وطبعا صاحب النص محمد بن إبراهيم الملقب بشاعر الحمراء‪.‬‬

‫فما هي مضامين هذا النص ؟ ما المعجم المهيمن على هذه المضامين؟ما الذي يميز خصائصه الفنية ؟ وإلى أي حد نجح‬
‫الشاعر في جعل قصيدته تمثل االتجاه الشعري الذي تنتمي إليه ؟‬

‫التحليل!‬
‫المضامين‬
‫استهل الشاعر قصيدته بالحديث عن معاناته وشكواه من مصائب الدهر وأعاديه‪ ،‬وهي مصائب جعلت حياته قاسية وكئيبة‬
‫وجعلته يعتبرها أكبر معاناته ألن زمن االنحطاط واالبتذال الذي يعيش فيه ال يرقى إلى ما يتحلى به من الشهامة ونبل‬
‫األخالق‪ ،‬ثم انتقل إلى التماس العذر من صحبه وخالنه بسبب حالة الضعف التي أصبح يعيشها تحت وطأة العيش وعذاباته‬
‫التي أوصلته حد أن يرى في البكاء عزاء يخفف عنه ضغط زمن التردي الذي يعيش فيه‪ ،‬لكن ضعفه أمام الهوى وصروف‬
‫الدهر لم يمنعاه من إبراز مالمح قوته المتمثلة في خصاله الحميدة (المجد‪ ،‬الشجاعة‪ ،‬العلم‪ ،‬الغنى‪ ،‬األخالق‪ ،‬الحكمة‪،)...‬‬
‫وامتالكه لناصية اإلبداع‪ ،‬وقدرته على نظم جميل الشعر وأعذبه دون تكلف أو تصنع مما يجعل المعاني تأتي إليه سهلة منسابة‬
‫وغير مسبوقة عند غيره من الشعراء‪ ،‬ومن افتخاره بشعره وموهبته انتقل إلى االفتخار بأهله وصحبه وأخالقهم واصفا إياهم‬
‫بالصفاء والود وحسن الخلق واللباقة واالستعداد الدائم لتقديم العون‪ ،‬واختتم القصيدة بتوجيه النصح للناس كي يعملوا على‬
‫تخليد أنفسهم وتحصين محاسن األخالق حتى يخلدوا بذكراهم عند الناس والتاريخ وهللا‪ ،‬ويمكن تقسيم هذه المضامين إلى‬
‫الوحدات التالية‪:‬‬

‫الوحدة األولى (‪ :)3 – 1‬التماس الشاعر من مخاطبيه االستفراد بذاته بعيدا عن زمنه الكئيب عله يجد في البكاء‬ ‫‪‬‬
‫عزاء‪.‬‬
‫الوحدة الثانية (‪ :)12 – 4‬استعراض الشاعر مناقب النبل والشهامة والملكة الفكرية والشعرية التي ينفرد بها‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫الوحدة الثالثة (‪ :)18 – 13‬إشادة الشاعر بصحبه وبما يجمعهم من ود خالص كثمرة لخصالهم النبيلة‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫الوحدة الرابعة (‪:)20 – 19‬التأكيد على خلود اإلنسان بفضائله الحميدة عبر التاريخ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫خصائص النص الفنية!‬


‫الصور! الشعرية!‬
‫أما من الناحية الفنية فقد اعتمدت الصور الشعرية في النص على مكونات البالغة القديمة وخصوصا مباحث علم البيان من‬
‫تشبيه وكناية واستعارة ومجاز‪ ،‬وهي في أغلبها صور حسية‪ ،‬ذات وظيفة جمالية وتزيينية‪ ،‬كالتشبيه الوارد في البيت السابع‬
‫عشر‪( :‬حديثهم كأنفاس زهر الروض)‪ ،‬حيث شبه حديث أصحابه في حسنه بأنفاس الروض في رائحته‪ ،‬وهي صورة قائمة‬
‫على تشبيه مفرد بمفرد‪ .‬واالستعارة المكنية الواردة في البيت السادس‪( :‬تعرفني األخالق – تعرفني اآلداب )‪ ،‬حيث حذف‬
‫المستعار منه (اإلنسان)‪ ،‬وأبقى على أحد لوازمه (المعرفة)‪ ،‬والكناية الواردة في البيت الخامس في قوله‪( :‬شامخ األنف)‪،‬‬
‫حيث كنى عن عزته ووجاهته بشموخ أنفه‪ ،‬وواضح من كل هذا أن الشاعر اقتفى في الصور الشعرية طريقة القدماء في جعل‬
‫الصور وصفية ذات طبيعة حسية مادية‪.‬‬

‫األسال!يب!‬
‫أما على مستوى األساليب فقد مزج الشاعر بين األسلوبين اإلنشائي والخبري‪ ،‬حيث استعمل األول للكشف عن حالته الوجدانية‬
‫االنفعالية كما يدل على ذلك أسلوب النداء الوارد في البيت األول‪ ،‬وأسلوب النهي (فال تذكروا) الوارد في البيت الثالث‪،‬‬
‫باإلضافة إلى أسلوب األمر في قوله‪(:‬فثابر على كسب المحامد) الوارد في البيت ما قبل األخير‪ ،‬واعتمد الثاني (األسلوب‬
‫الخبري) كوسيلة لإلخبار بمعاناته وافتخاره بنفسه وخصاله ومجده وصحبه‪ ،‬ولهذا هيمن هذا األسلوب بصيغه االبتدائية‬
‫والطلبية واإلنكارية على معظم أبيات النص وزاوجت جمله بين الفعلية واالسمية‪.‬‬

‫البنية! اإليقا!عية!‬
‫‪ )1‬اإليقاع الخارجي‪ :‬على مستوى البنية اإليقاعية نظم الشاعر قصيدته‪ ،‬من حيث إيقاعها الخارجي‪ ،‬على وزن بحر الطويل‪،‬‬
‫وهو من البحور الخليلية المركبة (فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن×‪ )2‬وتتناسب تفاعيله الثمانية مع غرض النص الرئيس‬
‫(الفخر)‪ ،‬كما اعتمد الشاعر قافية موحدة‪ ،‬مطلقة‪ ،‬متواترة حيث ما بين ساكنيها حركة واحدة ورويها (الباء وهو من الحروف‬
‫المجهورة الشديدة) موحد متحرك‪ ،‬يضاف إلى ذلك التصريع الوارد في مطلع القصيدة حيث تساوت العروض والضرب‬
‫(مفاعلن) ‪.‬‬

‫‪ )2‬اإليقاع الداخلي ‪:‬أما فيما يتعلق باإليقاع الداخلي للنص‪ ،‬فيتميز النص بظاهرة تكرار حروف بعينها أهمها روي القصيدة‬
‫الذي تكرر في كل أبياتها‪ ،‬ثم حرف السين والصاد والهاء ‪ ،...‬وهي من الحروف المهموسة الرخوة المناسبة لغرض الشكوى‪.‬‬
‫ولم يقف التكرار عند حدود الحروف‪/‬األصوات‪ ،‬بل تعداه إلى تكرار بعض األلفاظ (دموع‪ ،‬سكبتها‪ ،‬سكب‪ ،‬تعرفني‪ ،)..‬وهذا‬
‫التكرار يلعب دورا توكيديا يزكي غرضي الفخر والشكوى‪ ،‬ويسهم في خلق انسجام موسيقى النص الداخلية‪ .‬كما تتميز‬
‫القصيدة بظاهرة التوازي الذي تراوح بين التوازي الصرفي المتعلق ببنية الكلمات من قبيل‪( :‬القلب‪ ،‬الخطب‪ ،‬سكب‪ ،‬عضب‪،‬‬
‫صحب‪ ،‬قعب‪ )...‬والتوازي التركيبي التام كما في قوله‪ :‬وتعرفني األخالق والفضل والنهى *** وتعرفني اآلداب والعلـم‬
‫والكتـب‪ .‬والتوازي التركيبي الجزئي‪ ،‬كما في قوله‪ :‬وما المرء إال ذكره بفضيلة *** وما ذكره إال فعاله والكسب‪ .‬وقد ساهم‬
‫التكرار والتوازي في خلق موسيقى النص الداخلية‪ ،‬وأضفيا عليه مسحة تزيينية إيقاعية مناسبة ألغراضه‪ ،‬وأسهما في وضع‬
‫المتلقي أمام مقصدية الشاعر‪ ،‬الذي لم يخرج عما ألفناه في الشعر العربي القديم‪.‬‬
‫تركيب واستنتاج‬
‫خالصة نخرج بها من كل ما تقدم هي أن القصيدة قامت في مضامينها على ثالثة مواضيع هي الشكوى والفخر والحكمة‪،‬‬
‫وعبر خاللها الشاعر عن شدة معاناته من قهرا لدهر والهوى‪ ،‬وهو ما أضعف صبره وأسال دمعه‪ ،‬وفرض عليه طلب العذر‬
‫من الصحب والخالن‪ ،‬دون أن يمنعه من االفتخار بمزاياه ومحاسنه وموهبته وصحبه‪ ،‬بل تعدى ذلك ليمدنا بالحكمة والنصيحة‬
‫الداعية إلى ترك األثر وتخليد النفس‪ ،‬وقد عبر الشاعر عن هذه المضامين بأساليب بالغية تنتمي إلى علم البيان‪ ،‬وصور‬
‫شعرية حسية‪ ،‬ومعجم تقليدي يوظف لغة وصور ومعاني األقدمين‪.‬‬

‫نستنتج من كل ما سبق أن هذا النص يمثل بوضوح شعر البعث واإلحياء‪ ،‬فشكل القصيدة الهندسي تقليدي‪ ،‬قائم على نظام‬
‫الشطرين المتناظرين‪ ،‬ووحدة البيت‪ ،‬والوزن‪ ،‬والقافية‪ ،‬والروي‪ ،‬وتصريع المطلع‪ ،‬ومضمونها تميز بتعدد األغراض وهي‬
‫سمة تقليدية في القصيدة العمودية‪ ،‬ومعجمها تقليدي يمتح من اللغة التراثية‪ ،‬وصورها الشعرية حسية مادية تنهل من مباحث‬
‫البالغة العربية القديمة من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز‪ ،‬ولم يخرج إيقاع القصيدة عن مظاهر تقليد الشعر النموذج القائمة‬
‫على أسس عمود الشعر‪.‬‬

‫سؤال الذات (نص نظري) – تحليل نص 'الشعر الرومانسي' لعبد المحسن طه بدر‪: ‬‬

‫إشكالية النص!‬
‫السؤال هو‪ :‬من فعل سأل عن الشيء إذ استفسر عنه وطلب معرفة لم تكن حاصلة وقت السؤال‪ ،‬وفي االصطالح األدبي تعني‬
‫كلمة "سؤال" استحضار مفهوم أو قضية من أجل استنطاقها والكشف عن أبعادها‪.‬‬

‫الذات‪ :‬هي النفس وهي خالف الموضوع المدرك وينظر إليها من وجهتين‪:‬‬

‫األول‪ :‬يؤكد على طابع الخصوصية الذي يميز الذات عن باقي الذوات األخرى من حيث الشك واليقين والرغبة‬ ‫‪‬‬
‫واإلرادة واإلحساس‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬يؤكد على نوعية العالقة التي تربطها بغيرها من الذوات وبالقيم االجتماعية‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫شاعر التي‬ ‫مطل َع القرن العشرين كخصم عنيد لحركة البعث واإلحياء‪ ،‬مستهدفة ر َّد االعتبار لذات ال َّ‬‫الذات ْ‬
‫ظهرت حركةُ سُؤا ِل ّ‬
‫ِّ‬
‫ه ّمشَها اإلحيائيّون مرجعها في ذلك الشعر الغنائ ِّي الغربي وموضوعاته المتعلق ٍة بالوجدان والتأ ُّمل في الحياة واالرتهان إلى‬
‫الخيال والهروب إلى الطبيعة والحلو ِل فيها والتّفلسف في الوجود والبحث عن قيم مثالية مطلقة للجمال والنقاء والحب بحثا‬
‫حالما خجوال‪ .‬ولقد نتج عن سؤال الذات في الشعر العربي الحديث حركة أدبية سميت بالرومانسية قامت على أنقاض إحياء‬
‫النموذج وقد تميزت بالتأمل العميق في الكون والحياة والطبيعة واتجهت بمضمون القصيدة الحديثة اتجاها وجدانيا‪ .‬وانق َسم‬
‫ث جماعات مشهورة هي‪:‬‬ ‫تي َّار سؤال ّ‬
‫الذات إلى ثال ِ‬

‫جماعة الديوان‪ :‬شعراؤها هم محمود عباس العقاد‪ ،‬وعبد الرحمان شكري‪ ،‬وإبراهيم عبد القادر المازني‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫تيار الرابطة القلمية‪ :‬أهم رواده هم‪ :‬إيليا أبو ماضي‪ ،‬وجبران خليل جبران‪ ،‬ومخائيل نعيمة‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫جماعة أبولو‪ :‬وتضم أحمد زكي أبو شادي‪ ،‬وأبو القاسم الشابي‪ ،‬وعلي محمود طه‪ ،‬وإبراهيم ناجي‪...‬‬ ‫‪‬‬

‫لقد اهتم التيار الرومانسي بالذات والوجدان وتمثل عوالم األحالم والخيال والطبيعة وفر شعراؤه من المشاكل التي يعيشها‬
‫المجتمع العربي‪ ،‬وعبروا عن ذواتهم‪ ،‬وخرجوا على القصيدة العربية القديمة شكال ومضمونا‪ .‬وقد رافقت ظهور هذا التيار‬
‫مفهوم جدي ٍد لل ّشعر ولوظيفته مختلفا عن‬
‫ٍ‬ ‫ٌ‬
‫دراسات نقديّة موازية استفادت من النق ِد الغرب ِّي ومناه ِج ه‪ ،‬وحاولت تقديم‬ ‫وتط ُّورهُ‬
‫ش كلية والمضموني َّة‪ .‬وقد اشتهر نقَّاد كثر عرضوا لتيار سؤال‬
‫ي وسماته ال َّ‬ ‫التص ُّو ر التقليدي‪ ،‬متكئا على طبيعة ال ّشعر الرومانس ّ‬
‫الذات كمحمد غنيمي هالل‪ ،‬وعبد القادر القط‪ ،‬وعبد المنعم خفاجي‪ ،‬وعبد المحسن طه بدر (‪1932‬ـ ‪ )1990‬بمنهجه القائم‬
‫“دراسات في تطور األدب العربي الحديث” الذي منه هذا النص‪ .‬فما‬ ‫ٌ‬ ‫على الرصد التاريخي والمنهج االجتماعي‪ ،‬من مؤلفاته‬
‫القضية التي يطرحها؟ وما طراِئق عرْ ضها؟‬
‫فرضيات القراءة‬
‫ي” نجده تركيبا اسميا من مبتدأ ونعتِه‪ ،‬فيما الخبر مدفون في النص‪ .‬أما من حيث ال َّداللة‬ ‫بتأملنا عُنوان النَّصِّ “ال ّشعر ال ّرومانس ّ‬
‫ت جمالية خاصة‪ ،‬أما “ال ُّرومانسي”‬ ‫إيقاع‪ ،‬الخاضع لبناء معي َّن‪ ،‬المستند على مق ّوما ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ي القائم على‬‫الجنس األدب َّ‬
‫َ‬ ‫فالشعر هو ذاك‬
‫فهو تحديد لطبيعة هذا الشعر ونو ِعه نسبةً إلى الرومانسية التي تتغنى بالذات وتهتم بالوجدان وتثور على التقليد والمعيارية‪،‬‬
‫وتنشد االنطالق والحرية‪ .‬و ِمن خالل العنوان وشكل النّصِّ ‪ ،‬وبعض المشيرات النصية الدالة من قبيل (أن يخلّصوا ذات‬
‫أن النص النظري الذي بين أيدينا‬ ‫الشاعر‪ ،‬قوة إحساسه الذاتي‪ ،‬شعرا ُء مدرسة الديوان‪ ،‬تبني التّراث الغربي…) نفترض ّ‬
‫يتمحور حول نقد خطاب سؤال الذات‪ ،‬ورصد أهم إنجازاته وإخفاقاته‪ .‬فما أبعاد هذا النقد؟ وما المفاهيم المؤطرة له؟ وما‬
‫منهجية الكاتب في معالجة الموضوع؟‬

‫قضايا النص وإشكاالته‬


‫صر في التعبير عن ّ‬
‫الذات‪،‬‬ ‫طر َح النص إشكالية رئيسية تمثّلت في مفهوم ال ّش عر عند الرومانسيّين المؤسس على وظيفة تنح ِ‬
‫َّ‬
‫ورفض التقليد والمحاكاة‪ ،‬وبعد اختبار الكاتب إنجازات ممثلي حركة سؤال الذات انتهى النص إلى أن ثورتهم نسبي َّة؛ فال هم‬
‫انفصلوا عن التُّ راث العربي انفصاال تاما وال هم نجحوا في تقليد التُّراث الغرْ ب ِّي ‪ ،‬والسّبب في ذلك اندفاعهم وحماستهم‬
‫وضبابيّة ال ُّرؤية التي صدَروا عنها‪ ،‬وعجزهم عن التمثيل الصحيح لروح التيار الذي يبشرون به‪.‬‬

‫وللوقوف على تداعيات القضيّة الرئيسيّة وتقليبها على أوْ جُهها المختلف ِة ‪ ،‬ناقش الناقد جملةً من القضايا المتف ّرعة عنها وأه ُّمها‪:‬‬

‫قضيَّة التقليد بوجهيه‪ :‬تقليد الرُّ ومانسيين للشعر الغرب ّي ‪ ،‬وتقليد اإلحيائيين للنموذج القديم؛ مما يضعهم حسب‬ ‫‪‬‬
‫المقياس النقدي للكاتب في سلة واحدة‪ ،‬وإن كان اإلحيائيون نجحوا في مشروعهم بينما تخبط الرومانسيون العرب‬
‫في محاوالتهم استنساخ الرومانسية الغربية‪.‬‬
‫شعريِّ العربي في جانبه المضمون ّي ‪ ،‬وعدم تجرئهم‬‫وتمثلت في رفض الرُّ ومانسيين للتراث ال ِّ‬ ‫ّ‬ ‫الثورة على القديم‪:‬‬ ‫‪‬‬
‫على الجوانب األخرى خاصة الموسيقى‪.‬‬
‫شعر ال ّرومانس ّي‪ :‬حيث ناقش الكاتب بعض مالمح حركة سؤال الذات على مستوى التجديد في‬ ‫خصائص ال ِّ‬ ‫‪‬‬
‫المضامين والموضوعات‪ ،‬ونوع من التركيز على المشاعر تركيزا طبع المعجم والصورة بفيوض عاطفية لم‬
‫تتخلص من انعكاسات اإلشراقات القديمة‪ ،‬وأوغلت في عوالم حالمة وخجولة انتهت إلى الهروب إلى عالم الغاب‬
‫الطاهر الجميل الطوباوي‪ ،‬واللوذ بامرأة مالك مثالية بدون مالمح واقعية‪ ،‬مما أفسد عمق التجربة التي شط فيها‬
‫الخيال عن الواقع‪.‬‬

‫طرائق العرض‬
‫استعان الكاتب في مناقشة فِك َرتِه بمجموعة من طرائق العرض فاعتمد “المقارنَة” بين ال ُّرومانسيّة التي تولي اهتماما ّ‬
‫للذات‬
‫واإلحيائية التي تخضع لق ّوة خارجيّة ‪ ،‬ولعل الهدف من هذه المقارنة بيان االختالف بين المدرستين ‪ ،‬والتنصيص على تميّز‬
‫المدرسة ال ّرومانسية على مستوى المفهوم واألدوات اإلبداعية‪ ،‬واعتمد االستشهاد (االستشهاد من شعر علي محمود طه ومن‬
‫رأي نقدي لميخائيل نعيمة) ‪ ،‬وهي طريقة مسعفة في تدعيم الفكرة وتقوية الوظيفة اإلقناعي َّة‪.‬‬

‫ونهج الكاتبُ طريقةً أخرى تمثلت في افتراض فرضيات وإثبات ص َّحتها ‪ ،‬فقد افت َرض ّ‬
‫أن ثوْ رة ال ُّرومانسيّين نسبيّة ‪ ،‬وأثبت‬
‫ي في المضمون وال ّش كل‪ ،‬وإلى جانب ذلك توسل بمنطق التفسير والتمثيل‬ ‫ي والتّجديد الكلّ ّ‬
‫ذلك بفشلهم في تقليد ال ِّشعر الغرْ ب ّ‬
‫واالستدالل فاسترسل في عمليات تحليلية تربط المحموالت المنطقية بعضها ببعض وتربط المبدأ النقدي بإجراأته التطبيقية‬
‫األسلوب في عرضه إلنجازات وإخفاقات شعرا ُء ال ُّرومانسيّة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫بشكل يقوي واقعية االستدالل وموضوعيته‪ .‬وقد طبّق هذا‬
‫الفرق بين‬
‫ِ‬ ‫إبراز‬ ‫إلى‬ ‫بعدها‬ ‫وانتقل‬ ‫وشعرائها‪.‬‬ ‫ومانسية‬ ‫ر‬
‫ُّ‬ ‫ال‬ ‫مدارس‬ ‫ي ‪ ،‬حيث أشار أوال إلى أه ِّم‬ ‫واعتمد األسلوب االستنباط ّ‬
‫ال ِّشعر ال ُّرومانس ِّي وال ِّشعر اإلحيائ ِّي ‪ ،‬ثم عرج على خصائص المدرسة ال ُّرومانسي َّ ِة‪ ،‬منتهيا إلى ِإقرار نسبيّة ما حق َّقته حركة‬
‫الحكم ث ّم تفصيله‪ ،‬ث ّم بناء االستنتاج بالتد ُّرج الذي ال يعدو‬
‫ِ‬ ‫ي في طرح‬ ‫سؤال الذات من تجديد‪ .‬وتك ُمن أه ّمية األسلوب االستنباط ّ‬
‫أن يكون تثبيتا للحكم المطروح‪ ،‬وهو منهج علمي يقود إلى الفهم واالقتناع لصرامته المنطقية‪.‬‬
‫تركيب وتقويم‬
‫رام الكاتب في نصه إبرا َز خصائص المدرسة ال ُّرومانسية التي كانت أو ّل حرك ٍة شعري َّة ثارت على النموذج الشعري العربي‬
‫طرائق العرض‬
‫ِ‬ ‫شكال ومضمونا إلى حد ما‪ ،‬وقد استهدف مسا َءلة حركة ال ّرومانسية ونَ ْقدها‪ ،‬ومن أجل ذلك وظَّف جملةً من‬
‫المختلفة‪ ،‬ولغة تقريرية مباشرة‪ ،‬ومعجما غنيا يتوزع على حقلي التقليد والتجديد‪ ،‬ومرجعيات يطبعها التع ّدد‪ ،‬وأسلوبا‬
‫استنباطيا‪ ،‬واستشهادات من المنثور والمنظوم‪ ،‬واستدالالت وتمثيالت ومقارنات‪ .‬وقد نجح الكاتب في توصيف المدرسة‬
‫ال ّرومانسية ومحاولتها التّجديديّة بين الطموح والمحدودية‪ ،‬وهو ما يقودنا إلى إثبات ص َّحة الفرضية المطروحة آنفا والتي‬
‫تربط النصّ بالدراسة األدبيّة النقدية المتأثرة بالمنهج التاريخي الوصفي التسجيلي في مقاربة تيارات الشعر الحديث‪،‬‬
‫والرومانسية بشكل خاص‪.‬‬

‫سؤال الذات (نموذج شعري) – تحليل قصيدة 'إلى دودة' لميخائيل نعيمة‪: ‬‬

‫إشكالية القراءة!‬
‫ظهرت حركة سؤال الذات في العالم العربي مطلع القرن العشرين نتيجة عوامل اجتماعية (ظهور الطبقة البورجوازية‬
‫الصغيرة)‪ ،‬وسياسية (االستعمار وضعف الطبقة السياسية‪ ،)..‬وفكرية (تطلع الجيل الجديد على التجديد)‪ ،‬وثقافية (التبشير بقيم‬
‫جديدة تعيد االعتبار إلى الفرد وتستلهم اآلداب األجنبية‪ ،‬خاصة الفرنسية واالنجليزية)‪ .‬كما جاءت تعبيرا عن رد فعل حُيال‬
‫الحركة اإلحيائية المزدهرة وخطها التقليدي‪ .‬ومن سمات خطاب سؤال الذات‪ :‬االلتفات إلى الوجدان‪ ،‬واالهتمام بالطبيعة‪،‬‬
‫وتطوير وظائف مكونات العمل األبي لتكثيف نسقه الداخلي‪ ،‬واعتبار الشعر فيضا تلقائيا للعواطف‪ ،‬والخيال مرتعا للصورة‬
‫الفنية‪ ،‬واالعتداد بالتجربة الذاتية في صياغة رؤية للحياة والقيم والجمال‪ .‬ومرجع هذه السمات شيء من التصوف العربي‬
‫وتعاليم المسيحية‪ ،‬والنزعات اإلنسانية في األدب الغربي‪ ،‬خاصة دعوة الذاتيين إلى المحبة والحرية‪ ،‬وثورتهم الوجدانية على‬
‫التقاليد األدبية واالجتماعية والدينية‪ ،‬وتضخيم ظاهرة الغربة وعوالم الحزن واالكتئاب‪ ،‬والحلم بعوالم مثالية كامنة في نقاء‬
‫الطبيعة وامرأة مالك‪.‬‬

‫والرابطة القلمية واحدة من حركات سؤال الذات‪ ،‬وهي جمعية أدبية أسسها األدباء العرب المهاجرون في نيويورك عام ‪1924‬‬
‫برئاسة جبران خليل جبران‪ ،‬وكان ميخائيل نعيمة مستشارا لها‪ ،‬وإيليا أبو ماضي أمينا‪ .‬استمر نشاطها عشرة أعوام‪ .‬ثم توقف‬
‫بسبب وفاة مؤسسها وتفرق أعضائها‪ .‬بنى شعراء الرابطة القلمية روحا جديدة في األدب العربي‪ ،‬فكان أدبهم صورة‬
‫للمشكالت اإلنسانية‪ ،‬والتأمالت الفلسفية‪ ،‬وثورة على المعايير الكالسيكية‪ /‬ومخزنا لثقافة واسعة‪ ،‬ونزعات روحانية عميقة‪ .‬لقد‬
‫ى جديد للحياة في ظل غربة مزدوجة بحثا تجسد في رفض القديم والتجديد الشعري في‬ ‫سعى روادها إلى البحث عن معن ً‬
‫المضمون وطرائق التعبير‪ .‬ومن أعالمها جبران خليل جبران‪ ،‬ونسيب عريضة‪ ،‬وإيليا أبو ماضي‪ ،‬وميخائيل نعيمة فيلسوف‬
‫الرابطة (‪ ،)1989 – 1889‬تأثر بأدب التصوف العربي‪ ،‬الشعر األنجليزي (ووردز ورث‪ ،‬وكيتس‪ ،‬وكولريدج‪ ،‬وتشيلي)‬
‫والروسي (تشيكوف)‪ .‬له مؤلفات في المسرح والقصة والنقد والشعر‪ .‬منها كتاب نقدي بعنوان (الغربال) وديوان (همس‬
‫الجفون) ومنه ُأخذ النص‪ .‬فما هي مضامين هذه القصيدة ؟ وما خصائصها الفنية ؟ وإلى أي حد مثلت خطاب سؤال الذات ؟‬

‫فرضيات القراءة‬
‫عنوان النص تطلع إلى التمثل بحال الدودة‪ ،‬ألنها تملك ما ال يملكه الشاعر‪ ،‬تملك الالمباالة فال تفكر في ظواهر الحياة‪.‬‬
‫واستنادا إلى مشيرات نصية في األبيات ‪2‬ء‪7‬ء‪ 12‬يبدو الشاعر حائرا بين الشك واليقين‪ ،‬متسائال عن جدوى الوجود وماهيته‪.‬‬
‫مما يعكس مضمونا جديدا ينأى عن األغراض القديمة ويغرق في تأمل وجداني متفلسف لكنه الحياة رغم انشداد هندسة النص‬
‫إلى اإليقاع التقليدي المتناظر الشطرين‪ .‬لذلك نفترض أن الشاعر ينقل تجربة ذاتية إلى المتلقي تعكس الحيرة والشك وتدعو‬
‫إلى االتعاظ بحال الدودة التي ال ترى في الحياة إال وجودا بسيطا‪ .‬فهل استطاع الشاعر أن يصب انفعاالته وتأمالته في صياغة‬
‫جديدة‪.‬‬

‫اكتشاف! المعنى وتكثيفه‬


‫في النص أربع تمفصالت داللية كبرى نعرضها كاآلتي‪:‬‬
‫األبيات ‪ :8 – 1‬مقابلة الشاعر حاله بحال الدودة‪ ،‬فهو ضعيف مضطرب األحوال‪ ،‬متقلب بين الشك واإليمان‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫يجري نحو النهاية متعثرا يائسا‪ ،‬والدودة مطمئنة إلى حالها تنعم بالسكينة والهدوء‪.‬‬
‫األبيات ‪ :15 – 9‬تطلع الشاعر إلى سكينة اإليمان والفطرة وهدوئهما‪ ،‬ونفوره من وساوس الفكر ومتاعب‬ ‫‪‬‬
‫الوجدان‪.‬‬
‫األبيات ‪ :18 – 16‬معاناة الشاعر بين حال القلب (التسليم) وصوت العقل العنيد ( الشك) معاناة يصرفها في‬ ‫‪‬‬
‫التساؤل عن أسرار تساؤال ال يجد له جوابا‪.‬‬
‫تأكيد الشاعر تساوي المخلوقات في المرتبة ما دام مصيرها واحد‪ ،‬وإن كانت مختلفة في المظاهر‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫لعل في استدعاء الشاعر للدودة ومناجاتها بيانا لماهية الذات عنده‪ ،‬فهي بؤرة التجارب الحياتية‪ ،‬ومصدر التأمل في الحياة‬
‫والطبيعة والكون‪ ،‬إنها محك لطرح أعمق األسئلة الوجودية والفلسفية‪ .‬ومن ثم يتضح أن موقف الشاعر النظر إلى مختلف‬
‫الكائنات الحية من منظور وحدة الوجود‪ ،‬وهي فكرة فلسفية أكد عليها الفيلسوف األلماني هيجل‪.‬‬

‫القصيدة من بحر الطويل بقافية وروي موحدين ومطلع مصرع مما يعكس استمرار الوالء للشكل الموسيقي القديم‪ .‬وهيمنة‬
‫صوت الياء الواصلة لحركة حرف الروي توفر جرسا موسيقيا تدعمه حركة الكسرة لتجسيد انكسار الذات وهي تتأمل مظاهر‬
‫الطبيعة وتبثها قلقها وحزنها العميق على غياب االطمئنان عن الذات وحضوره في الطبيعة رغم كون الذات والطبيعة‬
‫يخضعان لنفس مبدأ الوجود‪ .‬والجهر والغنة في صوت الروي [ن] يضفيان على القصيدة لحن حزن وشجن يرين على نفسية‬
‫الشاعر وهو يقارن حاله الملخبط بحال الدودة الطبيعي‪ .‬وتتشكل الموسيقى الداخلية للنص من بعض الظواهر اإليقاعية‬
‫كالتوازي ” لك األرض مهد والسماء مظلة ” ب ‪ 10‬والتكرار (تدبين – دب ‪ /‬وفي كل يوم – وفي كل يوم ‪ /‬ضاقتا –‬
‫تضيقا…)‪ ،‬وهذا التوازي والتكرار يالئم تجربة الشاعر الوجدانية الحبلى بالتناقضات‪ .‬ويحقق داللة التناظر بين حالي الشاعر‬
‫والدودة‪.‬‬

‫بنى الشاعر صوره على آليات التصوير البيانية ومن أمثلتها‪ ” :‬تدبين دب الوهن في جسمي – كنت قصيدا كامال – أنت عمياء‬
‫يقودك مبصر ” صور قائمة على المشابهة تنقل إحساس الشاعر بالضعف والسقوط واالستسالم أمام حقيقة الحياة التي‬
‫استخلصها من الدودة التي تتمثل حقيقة الوجود الغائبة على المبصرين (الوجود الكامل الناضج)‪ .‬و“عبثث كف الزمان‬
‫ببنياني”‪“ ،‬أترك أحزاني تكفن أحزاني “‪” ،‬فكر عنيد يجوب األرض والجو والسماء” استعارات تجسد المعاني المجردة التي‬
‫تعكس حالة الشاعر المأساوية‪ ،‬وهي أيضا قائمة على المشابهة وطاقتها اإليحائية أوسع من طاقة التشبيهات السالفة ووظيفتها‬
‫شحن النص بكل أجواء التوتر الذي يخنق الذات‪ .‬و”أبنى قصورا من هباء” كناية تقوم على عالقة المجاورة‪ ،‬وتدل على عبث‬
‫الشاعر‪ .‬ورغم جزئية هذه الصور واعتمادها على قواعد التمثيل البياني التقليدي إال أنها ليست وصفية تزيينية‪ ،‬بل تعبيرية‬
‫تخدم تجربة الشاعر‪ ،‬وتنقل أحاسيسه الذاتية وتساهم في بلورة رؤيته الوجودية‪.‬‬

‫ال يعدم النص إيحاء أخرج الطبيعة من إطارها الجمالي المستنسخ من الذاكرة الشعرية القديمة إلى دالالت تحولت معها إلى‬
‫سجن للفكر‪ .‬والمعاني اإليحائية كثيرة في النص(عمياء – مبصر) لفظتان توحيان بمعنى الجبر واالختيار في الحياة‪.‬‬

‫الشعراء الوجدانيون عبروا بالصور ووجهوها في اتجاهين؛ أولهما ُأريد به الحد من تسلط التراث على أخيلة الشعراء‪،‬‬
‫وثانيهما ربط هذه األخيلة بآفاق التجربة الذاتية‪ .‬من هنا نستنتج أن الشاعر‪ ،‬وإن انطلق من األساليب البيانية التقليدية إال أنه‬
‫اعتمد خياال جانحا القتناص المعاني الكفيلة بنقل تجربته الحياتية من خالل تأمل حال دودة‪.‬‬

‫حضور ضمير المتكلم يوحي بالطابع الذاتي والوجداني لمعاني النص‪ ،‬يعضده األسلوب الخبري الذي يوجه وظيفة اللغة نحو‬
‫االنفعال المرتبط بالذات في بعدها الوجداني والنفسي‪ .‬وتعكس أفعال الحركة‪( :‬تدبين – أجري – أجتاز – راكضا – يقودك –‬
‫أمشي – متعثرا – أزحف – يجوب…) رصد الشاعر لحركة الطبيعة من حوله رغبة في تجاوز حالة موت الذات بسبب‬
‫اقتراب أجلها وتفشي المرض فيها‪ .‬واألسماء الدالة على الوجدان‪( :‬آمالي – أحزاني – إيماني – أحزاني – شكي…) وظيفتها‬
‫نقل حركة الذات المتماهىة مع الطبيعة‪ ،‬وكشف تناقضاتها وقلقها الوجودي‪.‬‬

‫وقد تقابلت معاني النص وفق منطق التضاد الذي تتجلى مظاهره في ما يلي‪:‬‬

‫التضاد الخارجي ‪ :‬بين الشاعر والدودة حيث حركته السريعة الحائرة مضادة لحركتها البطيئة المليئة بالعبر‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫التضاد الداخلي‪ :‬بين الشاعر ونفسه‪ ،‬بين همه الوجداني وتطلعه الوجودي‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫ويتضح أن التضاد الداخلي هو البنية العميقة للنص‪ ،‬فهناك ذات متشظية تتناسل في بناء موحد الموضوع واإليقاع‪ ،‬لكون‬
‫النص بؤرة تتوحد فيها المتناقضات‪ ،‬فالقصيدة عالم فني يعوض عن النقص الشامل في حياة الشاعر‪ ،‬إنها بؤرة التحوالت في‬
‫رحلة ذات الشاعر من الذات غير الطبيعية إلى النص‪.‬‬

‫التركيب والتقويم‬
‫من خالل تحليلنا لهذه القصيدة‪ ،‬يتبين لنا أنها مثلت خطاب سؤال الذات أو ما يعرف بالشعر أو الخطاب الرومانسي خير تمثيل‬
‫نظرا اللتزامها بعدة خصائص ومميزات منها‪:‬‬

‫حضور الذات في أبعادها الوجدانية والفكرية بشكل جعل منها بؤرة لطرح األسئلة الوجودية كانت الطبيعة محكا‬ ‫‪‬‬
‫الختبارها‪.‬‬
‫تعبير القصيدة عن المأزق الوجداني للذات بين المادة والروح‪ ،‬بين العقل واإليمان‪ ،‬بين العاطفة والفكر‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫الشعور بالكآبة والحزن والضياع في حياة اجتماعية وإنسانية مليئة بالتناقضات‪ ،‬والحس المأساوي‪ ،‬والقلق‬ ‫‪‬‬
‫الوجودي‪ ،‬والتطلع إلى الطمأنينة والتحرر من سجن الفكر وأسئلته المتقدة‪.‬‬
‫للطبيعة وجود مثالي في أبسط تمظهراتها (دودة) لما تختزله من دالالت وجودية‪ ،‬فكأن الذات ال تنكشف حقائقها إال‬ ‫‪‬‬
‫عبر تأمل الطبيعة‪.‬‬

‫وقد عبر الشاعر عن هذه المقصدية الفلسفية بأدوات فنية ظلت أقرب إلى التقليد منها إلى التجديد‪ ،‬وذلك رغم بوجدانية لغتها‬
‫ووحدة بنائها وموضوعها ووظيفة الصورة الشعرية فيها المرتبطة بحركة الذات‪.‬‬

‫ور دة بعض المجددين وسلطة‬‫وعلى مستوى الشكل‪ ،‬أثمر هذا التيار مقومات ومميزات مكتملة وناضجة‪ ،‬لكن تألب التقليديين ِ‬
‫النقد المحافظ وتماسك الوجود العربي التقليدي واالنحباس داخل الذات السلبية القانعة واليائسة والمتألمة والمستسلمة والحالمة‬
‫الخجولة‪ ،‬جعل من حركة سؤال الذات ال تساير المد القومي الثائر الذي عاشت في كنفه‪ ،‬فانتهت التجربة إلى االضمحالل‪.‬‬

‫تكسير البنية (نص نظري) ‪ -‬تحليل نص 'قضايا اإلطار الموسيقي الجديد للقصيدة' لعز الدين اسماعيل‪: ‬‬

‫مدخل عام‬
‫تبلور خطاب تكسير البنية وتجديد الرؤيا في سياق ظروف وعوامل تاريخية وسياسية وثقافية واجتماعية محددة جاءت‬
‫نتيجة جهود جماعية ملحة في التغيير وطلب البديل‪ ،‬واستجابة واندماجا في الصياغة الجديدة لحياة اإلنسان الحديث‬
‫ومستلزمات تطوره‪ .‬فقد تأثر الشاعر المعاصر بحساسية العصر وذوقه ونبضه‪ ،‬وارتبط بقضاياه ارتباط المعايش ال‬
‫الواصف‪ ،‬وعبر عن خبرة شعورية خاصة مصهورة في إطار عام‪ .‬وحاول استكناه الحياة بدل االنفعال السطحي بها‪ ،‬فانفتح‬
‫على الثقافات اإلنسانية محددا موقفه منها‪ ،‬ورغب في تملك عصره فكريا ووجدانيا‪ .‬وانطلق من مساءلة الممكن واالحتجاج‬
‫على السائد‪ ،‬مما جعل شعره عنيفا وثوريا‪ ،‬فجاء هذا الخطاب بحثا عن سؤال جوهري هو كيف نتجاوز خيبة الهزيمة‬
‫وأثرها السلبي؟ وسعيا إلى البحث عن آفاق إبداعية ال عهد للقصيدة بها‪ .‬واقترانا بمفهوم جديد لإلبداع والتجديد يخالف أنماط‬
‫الخطابات السابقة التي استنفذت مسوغات وجودها جوهريا وقضويا وفنيا‪ .‬فكان شعره تجسيدا لتجربة متميزة تتكسر في‬
‫أفقها المعايير اإلحيائية والرومانسية‪.‬‬

‫ومن بين أهم عوامل نشأة خطاب تكسير البنية وتجديد الرؤيا نذكر‪:‬‬

‫المد القومي وانـهيار المجتمع العربي التقليدي بحكم الغزو األوربي؛ مما زرع الشك في نفوس المثقفين والمبدعين‪ ،‬وأسقط‬ ‫‪‬‬
‫كل الوثوقيات العربية التقليدية والثوابت المقدسة والطابوهات الممنوعة‪.‬‬
‫اإلحساس العام بمرارة الهزيمة خاصة بعد ضياع فلسطين عقب نكبة ‪ 1948‬والعدوان الثالثي على مصر ‪ 1956‬وهزيمة‬ ‫‪‬‬
‫‪..1967‬‬
‫تحول هذا اإلحساس إلى حساسية سياسية واجتماعية وثقافية جديدة تمثلت في ظهور طبقات اجتماعية جديدة (مثقفة‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫عمالية‪ ،‬تجارية‪ ،‬سياسية)‪.‬‬
‫صعود المد االشتراكي وانبثاق الحركات الوطنية والقومية ضد الهيمنة االستعمارية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫االحتكاك بالثقافات األجنبية والتسلح بمعارف متنوعة (كالفلسفة والتاريخ واألساطير وعلم النفس وعلم االجتماع‬ ‫‪‬‬
‫واألنتروبولوجيا‪ ،‬واستيعاب الروافد الفكرية اآلتية من الشرق وبالضبط المذاهب الصوفية والتعاليم المنحدرة من الديانات‬
‫الهندية والفارسية والحرانية ‪ /‬الصابئة)‪ ،‬فضال عن االستفادة من الفلسفة الوجودية والفلسفة االشتراكية‪ .‬مع االنفتاح على‬
‫الثقافة الشعبية كسيرة عنترة بن شداد وسيف بن ذي يزن وأبي زيد الهاللي‪ ،‬وكتاب ألف ليلة وليلة‪ ،‬والتعمق في القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬وقراءة الحديث النبوي الشريف‪ ،‬والشعر العربي القديم‪.‬‬
‫تراكم المحاوالت التجديدية المهيئة للقفزة النوعية للقصيدة الحرة (الحركة الرومانسية بمدارسها المختلفة داخل وخارج‬ ‫‪‬‬
‫الوطن العربي)‬
‫عدم قدرة الشكل التقليدي على النهوض بمضمون جديد‪ ،‬فقد صار شديد االرتباط بالمعاني التقليدية في التعبير عن‬ ‫‪‬‬
‫العواطف اإلنسانية حتى لم يعد ممكنا أن يحمل معنى جديدا‪ ،‬أو موقفا أو طريقة جديدة في التعبير‪.‬‬
‫انفتاح بعض المجالت على إبداع الشعراء الشباب‪ ،‬مثل‪“ :‬شعر” و “الثقافة ” المصريتان‪ ،‬و”اآلداب ” البيروتية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫تطلع الشعراء الشباب إلى قصيدة جديدة تستجيب للواقع الجديد‪ ،‬وتـقدم بدائل وحلوال للقضايا االجتماعية والثقافية‬ ‫‪‬‬
‫والجمالية‪ ..‬تقول نازك المالئكة‪“ :‬إن حركة الشعر الحر حصيلة اجتماعية محض‪ ،‬تحاول بها األمة العربية أن تعيد بناء‬
‫ذهنها العريق المكتنز على أساس حديث‪ ،‬شأنها في هذا شأن سائر الحركات المجددة التي تنبعث اليوم في حياتها في‬
‫مختلف المجاالت”‪.‬‬

‫سؤال البداية‬
‫إذا كان الدارسون يجعلون بدر شاكر السياب رائدا لحركة الشعر الحر‪ ،‬فإن هناك من يرجع بداياته األولى إلى لويس عوض‬
‫في قصيدته “العنقاء”‪ ،‬وبيرم التونسي في بعض مقاطع قصيدته “الكون” التي نشرها عام ‪ ،1933‬و أحمد باكثير في‬
‫ترجمته لمسرحية “روميو وجولييت” سنة ‪.1937‬‬

‫وتقول نازك المالئكة في كتابها قضايا الشعر المعاصر‪“ :‬إن بداية الشعر الحر سنة ‪ 1947‬بالعراق ومن العراق‪ ،‬بل من‬
‫بغداد نفسها‪ ،‬زحفت هذه الحركة وامتدت حتى غمرت العالم العربي”‪ .‬وأشارت إلى أن أول قصيدة حرة في الوزن هي‬
‫قصيدتها “الكوليرا”‪ ،‬التي نشرتها مجلة “العروبة” البيروتية في ‪ 27‬يناير ‪ ،1947‬تصور فيها مشاعرها نحو مصر التي‬
‫داهمها وباء الكوليرا‪ ..‬وتقول فيها‪:‬‬

‫سكن الليل‬
‫اِصغ إلى وقع صدى األنات‬
‫في عمق الظلمة تحت الصمت على األموات‬

‫بعد ذلك صدر ديوان بدر شاكر السياب “أزهار ذابلة ” وفيه قصيدة من الوزن الحر بعنوان‪“ :‬هل كان حبا؟ “‪ ،‬مؤرخة ب‬
‫‪ 29‬نونبر ‪ ، 1946‬معلقا على هامشها بقوله‪ ” :‬في هذه القصيدة محاولة جديدة في الشعر المختلف األوزان والقوافي‪ ،‬وهي‬
‫كأغلب الشعر الغربي‪ ،‬وخاصة اإلنجليزي‪ ،‬تجمع بين بحر من البحور ومجزوأته “‪ ،‬يقول فيها الشاعر‪:‬‬

‫هل يكون الحب أني‬


‫بت عبدا للتمني‬
‫أم هو الحب اطراح األمنيات‬
‫والتقاء الثغر بالثغر ونسيان الحياة‬

‫مراحل الـتطـور‬
‫في أواسط األربعينات كان الشعر الحر يجتاز أولى عتبات نموه بين أحضان الحس القومي واالجتماعي واإلنساني العام‪،‬‬
‫وبدأت الدعوة إلى القصيدة المعاصرة ترسي أسسها بمحاوالت للخروج عن هيكل الشعر وبنائه‪ ،‬وتحريره من سيطرة‬
‫األوزان‪ ،‬واعتماد وحدة التفعيلة أساسا وزنيا بديال عن العمود الخليلي بوحدة وزنه وقافيته ورويه وكان هذا ما اصطلح عليه‬
‫بشعر تكسير البنية‪ ،‬الذي سعى إلى تغيير المعالم الشكلية للقصيدة القديمة معتمدة على التوفيق بين الوحدة العضوية وتناسق‬
‫موسيقى اللفظ وإيقاع التفعيلة‪ ،‬وبين وظيفة الصورة في بناء الموقف واالنفعال والتجربة‪ .‬وهو الحد األدني المتفق عليه بين‬
‫رواد المنعطف الجديد في الشعر العربي فكانت أعمال نازك المالئكة‪ ،‬وبدر شاكر السياب‪ ،‬وعبد الوهاب البياتي‪ ،‬وصالح‬
‫عبد الصبور‪ ،‬ويوسف الخال‪ ،‬وأدونيس‪.‬‬

‫لكن سرعان ما تشكلت ثورة جديدة من رحم حركة تكسير البنية تزعمها أدونيس أواخر الخمسينات من ق ‪ ،20‬وسار على‬
‫دربه شعراء حاولوا بلورة رؤية جديدة للشعر واألدب‪ ،‬أمثال أحمد عبد المعطي حجازي في مصر‪ ،‬ويوسف الخال وخليل‬
‫حاوي في سوريا ولبنان‪ ،‬وفدوى طوقان وسلمى الجيوسي في فلسطين‪ ،‬والمجاطي وعبد هللا راجع والخمارالكنوني‬
‫والسرغيني ومحمد بنيس وصالح بوسريف وأحمد بلبداوي في المغرب‪ .‬فكان أن أطلق أدونيس مفهوم قصيدة الرؤيا على‬
‫هذا الشعر انطالقا من هدم أسس التراث الشعري المعرفية والفنية والجمالية واإليقاعية وإعادة بنائها‪ .‬وكان جوهر هذا‬
‫الشعر هو التعبير عن معاناة الشاعر الحقيقية‪ ،‬وما تعيشه اإلنسانية المعذبة‪ .‬فقد أصبحت القصيدة تجربة إنسانية بما فرض‬
‫عليها من أزمات وأحداث سياسية وحروب أثخنت المنطقة العربية‪ ،‬دون نسيان ضياع فلسطين واإلحباط الذي ران على‬
‫الفكر العربي‪ ،‬واالفتتان بحضارة الغرب وثقافته‪ ،‬خصوصا المديني واالشتراكي والوجودي‪ .‬وانخرطت القصيدة في‬
‫مشروع ثقافي رؤيوي يتغيى التغيير والبحث عن بدائل تعبيرية للخروج من األزمة وتوجيه سلوك القارئ وفكره وأسلوب‬
‫حياته‪.‬‬

‫لم يعد الشعر على يد هؤالء‪ ،‬إذن‪ ،‬مجرد تحول في الشكل وبناء المواقف عبر التجارب اإلنسانية‪ ،‬بل أصبح اإلنسان هو‬
‫جوهر التجربة‪ ،‬إنها تجربة مع المستقبل عن طريق تشكل الرؤيا من خالل‪:‬‬

‫التجربة الحياتية‪ :‬انطالقا من اإلحاطة بالواقع وفهمه فهما دقيقا وواعيا‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫التجربة الشعرية‪ :‬التي تمكن الشاعر من صياغة الرؤيا جماليا‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫الحدس‪ :‬عن طريق اإلحساس بالواقع والقدرة على النفاذ إلى جوهر األشياء‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫االعتماد على فكرتي الهدم والبناء‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫مالحظة النص‬
‫أول ما يمكن أن نالحظه هو العنوان باعتباره العتبة األولى للدخول إلى النص‪ ..‬وهو يشي باألفكار التالية‪:‬‬

‫القصيدة العربية ذات إطار موسيقي جديد‪ ،‬وهذا يعني أنها تخلت عن اإلطار الموسيقي القديم‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫اإلطار الموسيقي الجديد يطرح عدة قضايا‪ ،‬وهذا يعني أن التحول الذي عرفته القصيدة العربية لم يكن محل إجماع نقدي‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫النص يطرح هذه القضايا ويعالجها‪...‬‬ ‫‪‬‬

‫وثاني ما يمكن أن نالحظه هو أن النص في سياق طرحه لقضايا اإلطار الموسيقي الجديد للقصيدة إنما يسعى إلى كتابة‬
‫تاريخ لموسيقى الشعر العربي‪ ..‬وهذا ما تكشف عنه الفقرة األولى حيث يتم تقسيم مسار تطور الشعر العربي موسيقيا إلى‬
‫ثالث مراحل‪..‬‬

‫وثالث ما يمكن أن نالحظه هو الخاصية الحجاجية للنص والتي تتمثل في محاولة تصحيح بعض التصورات الخاطئة عن‬
‫القصيدة العربية وإنصافها ورفع الظلم عنها‪.‬‬

‫فهم النص‬
‫ينقسم النص إلى عدة فقرات على الشكل التالي‪:‬‬

‫األولى تنتهي! عند "تفصيال"‬


‫يقسم الكاتب مسار تطور موسيقى الشعر العربي إلى ثالث مراحل هي‪:‬‬

‫مرحلة البيت الشعري ذي الشطرين المتوازيين عروضيا والذي ينتهي بقافية يشترك فيها مع باقي األبيات األخرى‪ ..‬وفيه‬ ‫‪‬‬
‫تتجلى كل المظاهر الجمالية لموسيقى الشعر العربي منذ بداياته‪..‬‬
‫مرحلة السطر الشعري وهو نتيجة لتفتيت البنية العروضية للبيت التقليدي بحيث لم يستبق منها سوى التفعيلة التي ترد‬ ‫‪‬‬
‫مفردة في السطر أو مكررة في أعداد غير منضبطة‪.‬‬
‫مرحلة الجملة الشعرية وهي متطورة عن مرحلة السطر الشعري‪..‬‬ ‫‪‬‬

‫ثم يشير الكاتب إلى أن لكل مرحلة مشكالتها الجمالية الخاصة والتي يعد بعرضها بالتفصيل‪..‬‬

‫الثانية! تنتهي عند "العتيد"‬


‫يعرض الكاتب لجماليات موسيقى البيت التقليدي فينطلق من مسلمة هي أن النظام قوام األعمال الفنية على اختالفها‪ ،‬وأن‬
‫لكل فن وسائله الخاصة لتحقيق هذا النظام‪ ..‬والنظام الموسيقي في القصيدة العربية قد تحدد في التزام عدد من القواعد‬
‫الشكلية لضبط القوافي واألوزان‪ ..‬وهذه القواعد هي المنظمة لموسيقى الشعر التقليدي‪ ..‬وقد كان من بين ما وجه إلى‬
‫القصيدة العربية الحديثة من انتقادات هو انها كسرت ذلك النظام وتورطت في الفوضى‪.‬‬

‫الثالثة تنتهي عند "عليه"‬


‫يقر الكاتب بأن القصيدة الحديثة تقوم بدورها على نظام يبرئها من التورط في الفوضى‪ ..‬كما يشير إلى ان نظامها داخلي في‬
‫مجمله ألنه ينتمي إليها ونابع منها وليس شيئا خارجيا مفروضا عليها‪..‬‬

‫الرابعة تنتهي! عند "وهو نظام التفعيلة"‬


‫فيها يعرض الكاتب جماليات موسيقى السطر الشعري‪..‬فيعرفه بكونه تركيبة موسيقية للكالم ال ترتبط بأي شكل خارجي‬
‫ثابت بل تتخذ الشكل الذي يرى الشاعر أنه يرتاح إليه ويعتقد أن القارئ يرتاح إليه بدوره‪ ..‬والسطر الشعري ناتج عن تفتيت‬
‫البنية العروضية للبيت التقليدي حيث لم يستبق منها سوى الوحدة األساسية فيها وهي التفعيلة يفردها الشاعر في سطر‬
‫ويكررها في آخر‪ ..‬والفرق بين السطر الشعري والبيت التقليدي هو أن هذا األخير له طول ثابت ألن عدد التفعيالت فيه ال‬
‫يتغير من بيت إلى آخر عكس السطر الشطري الذي يتغير طوله بتغير عدد التفعيالت من سطر إلى آخر‪..‬‬

‫الخامسة تنتهي! عند "من القصيدة"‬


‫فيها يعرض الكاتب جماليات موسيقى الجملة الشعرية فيقرر بأنها الصورة المتطورة عن مرحلة السطر الشعري‪ ..‬فإذا كان‬
‫هذا األخير بنية موسيقية تشغل سطرا قد يقوم على تسع تفعيالت كحد أقصى‪ ،‬وإذا كان مكتفيا بذاته‪ ،‬فإن الجملة الشعرية‬
‫بدورها بنية موسيقة مكتفية بذاتها غير أنها قد تمتد لتشغل خمسة أسطر أو أكثر‪..‬‬

‫ويشير الكاتب في نهاية هذه الفقرة إلى نيته في التوقف عند ما يسميه اعتبارات امتداد الجملة الشعرية‪..‬‬

‫السادسة تنتهي! عند "لهذه الدفقة"‬


‫يذكر الكاتب بأن الدفقة الشعورية المعبر عنها قد تطول وتمتد حتى ليعجز البيت التقليدي المحدود الطول عن استيعابها كما‬
‫ال يستطيع السطر الشعري ذلك مهما امتد وطال ألن أقصى حد لتفعيالته هو تسع تفعيالت‪.‬‬

‫ويذكر أيضا بالمأزق الذي عاناه الشاعر التقليدي مع البيت التقليدي المحدود الطول بحيث أن هذا الشاعر كان مضطرا‬
‫لتمزيق الدفقة الشعورة وتقسيمها على عدة أبيات وهذا ما كان يمنع من أن تفوز الدفقة الشعورية بالشكل الموسيقى المناسب‬
‫لها‪..‬‬

‫السابعة تنتهي! عند "بالجملة الشعرية"‬


‫ينطلق الكاتب من مسلمة هي أن التعبير ( الشكل ) ملك للشعور ( المحتوى = المضمون ) وتابع له‪ ..‬وعليه فالدفقة‬
‫الشعورية يجب أن تحظى بالصورة الموسيقية المالئمة لها‪ ..‬فإن امتدت الدفقة امتدت الصورة الموسيقية‪ ..‬ومن هنا كان‬
‫الخروج إلى مرحلة السطر الشعري وسيلة فعالة لحل مشكلة الدفقة الشعورية القصيرة أو المتوسطة ؛ لكنها لم تحل مشكلة‬
‫الدفقة الشعورية الممتدة مهما بلغ السطر من الطول‪ ..‬وبما أن الدفقة تمتد أحيانا فتبلغ حدا ال يستطيع السطر استيعابه فقد كان‬
‫ال بد من الخروج من مرحلة السطر إلى مرحلة الجملة الشعرية‪.‬‬

‫إشكالية النص وفرضيات القراءة‬


‫مهدت الرومانسية لتحديث الشعر العربي‪ ،‬وأعقبتها جهود مجموعة من الرواد عمدوا إلى تكسير بنيته‪ ،‬فتطويره مضمونا‬
‫وشكال‪ .‬وهذا التحول الشمولي في جسم القصيدة العربية يطرح قضيتين‪ :‬تتعلق األولى بالنقاد الذين صاغوا المفاهيم المؤطرة‬
‫للظاهرة‪ ،‬وتستفسر الثانية عن شكل هذا الجنين في إبداعات شعراء تشربوا تلك المفاهيم‪ .‬وتعد نازك المالئكة من أوائل من‬
‫خاضوا تجربة الصياغة النقدية واإلبداعية لقصيدة التفعيلة (تكسير البنية) رغم مواجهة كثير من الرفض من قبل النقاد‪ .‬ثم‬
‫توالت أعمال نقدية‪ ،‬بعد أن صار الجنين رجال مكتمال‪ ،‬تبرر التغيير الجذري في بنية الشعر العربي وتعرف بالظاهرة‬
‫وتكشف أبعادها‪ .‬ونذكر منها كتابات محمد النويهي وغالي شكري وعز الدين إسماعيل (‪ 1929‬ـ ‪ )2007‬الذي بدأ تنظيره‬
‫للشعر الجديد في مرحلة مبكرة‪ ،‬فأنتج العديد من المؤلفات‪ ،‬نذكر منها (آفاق معرفية في اإلبداع والنقد واألدب والشعر) و‬
‫(التفسير النفسي لألدب) و (األسس الجمالية في النقد العربي) و (الشعر في إطار العصر الثوري) وديوانين (دمعة لألسى ـ‬
‫دمعة للفرح) و(هوامش في القلب)‪ .‬ويعد كتابه (الشعر العربي المعاصر‪ :‬قضاياه وطواهره الفنية والمعنوية) من األعمال‬
‫النقدية التي بلورت رؤية شاملة لشعرنا المعاصر جمعت بين تاريخيته وبين قضاياه وأسسه الشكلية والمضمونية‪ .‬والنص‬
‫موضوع تحليلنا مأخوذ من هذا الكتاب‪ .‬فما القضية التي يطرحها ؟ وما اإلطار المرجعي الذي تستند إليه ؟‬

‫توحي مكونات العنوان ” قضايا اإلطار الموسيقي الجديد للقصيدة ” بكون البنية الموسيقية للشعر ستتخذ في النص بعدا‬
‫إشكاليا‪ ،‬وتتفرع إلى عدد من القضايا يتحكم فيها سياق الحداثة الشعرية‪ .‬ذلك أن أهم ما وجه تجربة الشعر الجديد تكسيرها‬
‫صورة النظام حسب منطوق مشير نصي يضيء داللة العنوان ويؤشر على التغييرات الجذرية التي أحدثتها ثورة هذا الشعر‬
‫على طبيعته ومفهومه بفعل تغيير بنيته وصورة نظامه‪ .‬لذلك نفترض أن القضية المطروحة في النص تعنى بتطور البنية‬
‫اإليقاعية داخل القصيدة الحديثة‪ ،‬وتداعيات هذا التطور على البنيات األخرى الشعورية والنصية‪.‬‬

‫تكثيف معاني النص‬


‫يكشف النص عن جملة من القضايا النقدية هي‪:‬‬

‫تحديد مراحل تطور موسيقى الشعر العربي الحديث من البيت الشعري إلى الجملة الشعرية مرورا بالسطر الشعري‬ ‫‪‬‬
‫تفسير جماليات موسيقى البيت الشعري المتمثلة في نظام يلتزم بقواعد شكلية ضابطة لألوزان والقوافي‬ ‫‪‬‬
‫اعتبار تكسير الشعر الجديد لقواعد هذا النظام عمال غير فوضي‪ ،‬بل خلقا لنظام داخلي جديد‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫تعليل جماليات موسيقى السطر الشعري بكونها تركيبة موسيقية للكالم تقوم على نظام التفعيلة المترددة الذي هو أساس‬ ‫‪‬‬
‫النظام الصوتي في الشعر العربي القديم والحديث‪.‬‬
‫التنصيص على احتفاظ موسيقية الجملة الشعرية بالخصائص الموسيقية للسطر وتجاوزه في آن واحد‪ ،‬فهي تمتد أحيانا إلى‬ ‫‪‬‬
‫أكثر من خمسة أسطر وهي بنية مكتفية بذاتها‪ ،‬وإن مثلت جزئية من بنية عضوية أعم هي القصيدة‪.‬‬
‫تفسير الناقد تنوع البنيات الموسيقية في الشعر سطرا وجملة باختالف مدى الدفقة الشعورية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫تأكيد الكاتب أن ارتباط السطر والجملة الشعريين بالدفقة الشعورية يحقق تساوقا جماليا بين الشعور وصورة التعبير في‬ ‫‪‬‬
‫مرونة وطواعية‪.‬‬

‫نستخلص مما سبق أن لتكسير البنية في الشعر العربي المعاصر مظاهر تتمثل في اعتماد نظام السطر الشعري كوحدة‬
‫موسيقية مكتفية بذاتها‪ ،‬ولكنها تندرج ضمن وحدة عضوية أشمل‪ ،‬وكذلك اعتماد الجملة الشعرية كوحدة موسيقية أوسع تتسع‬
‫لخمسة أسطر أو أكثر بالشكل الذي يحتوي الدفقة الشعورية‪ ،‬ويضيق به السطر الشعري‪.‬‬
‫تحليل النص‬
‫اإلشكالية المطروحة‬
‫جماليات الشعر القديم والحديث مثار خالف بين النقاد واألدباء‪ ،‬وخاصة منها البنية اإليقاعية والتشكيل الموسيقي للقصيدة‬
‫الشعرية‪ ،‬نظرا لجوهريتهما في التعبير الشعري‪ .‬فكان السؤال أيهما أفضل‪ :‬اإليقاع القديم أم الجديد؟ وما مبررات تفضيل‬
‫أحدهما على اآلخر؟‬

‫لعل ما عمق النقاش في هذه اإلشكالية أنها ألزمت النقاد بالتسلح في مناقشاتهم بخلفيات نظرية وأطر مرجعية ومفاهيم‬
‫وتصورات لتدعيم مواقفهم‪ ،‬والمحصلة أن لكل نظام موسيقي‪ ،‬قديم أو جديد جماليته؛ مما يفرض عدم االستهانة بأي منها‪،‬‬
‫والبحث في قوانين كل منها‪ ،‬والغوص في عوامل تشكيلها وأشكال تحققها‪ .‬من هنا تخللت النص إشارات إلى هذا المعطى‬
‫اإلشكالي وتلك المحصلة‪.‬‬

‫المفاهيم والقضايا‬
‫يحفل النص بمصطلحات عروضية قديمة (البيت‪ ،‬الشطران المتوازيان عروضيا‪ ،‬قافية مطردة‪ ،‬األبيات‪ ،‬التفعيلة‪ ،‬األوزان‬
‫والقوافي…) ومصطلحات إيقاعية جديدة (اإلطار الموسيقي‪ ،‬موسيقى الشعر‪ ،‬التفعيلة‪ ،‬السطر‪ ،‬الجملة الشعرية‪ ،‬نظام‬
‫داخلي‪ ،‬بنية موسيقية مكتفية بذاتها…)‪ ،‬وتطرح هذه المصطلحات المتباينة قضية أساسية هي تكسير الشعر العربي الجديد‬
‫لبنية إيقاع البيت الشعري‪ ،‬وبناء إطار موسيقي جديد‪( .‬وليس بناء موسيقى جديدة لها قوانينها النهائية‪ ،‬ألنها بذلك ستعلن‬
‫موتها بتشكلها في وصفة عروضية جديدة جاهزة‪ .‬وذلك غير ممكن أصال)‪ .‬وهذه القضية تتفرع إلى قضايا صغرى منها‪:‬‬

‫االلتزام بقواعد العروض مقابل خرقها‪ ،‬حيث التزمت حركة الشعر الحر بعض القواعد الشكلية الضابطة لألوزان والقوافي‬ ‫‪‬‬
‫وكسرت بالمقابل صورة ذلك النظام‪ ،‬ورغم نعت بعض النقاد هذا التكسير بالفوضى فإن الكاتب يرى في اإلطار الموسيقي‬
‫الجديد للقصيدة مقومات نظام آخر‪ ،‬إال أنه نظام داخلي‪ ،‬ينبع من داخل القصيدة‪ ،‬وينقل شعور الشاعر وليس تصورا‬
‫خارجيا مفروضا عليه‪.‬‬
‫خارج النص وداخل النص حيث للقصيدة نظام داخلي تمثله الظواهر المنبثقة عن بنية داخلية تشكل البنية العميقة للنص‪ ،‬أما‬ ‫‪‬‬
‫خارج النص فكل المؤثرات والعوامل المشكلة لمرجعيته الثقافية واالجتماعية والفنية‪ ،‬ومنها يستمد الشاعر تصوره لإليقاع‬
‫كبنية سطحية تنبثق مما هو جاهز‪ ،‬كالنظام العروضي المستلهم من القصيدة العمودية القديمة‪.‬‬
‫التجديد مقابل التقليد حيث التجديد استلهام روح العصرحين يستنفر الشاعر كل طاقته االنفعالية في شكل دفقات شعورية‬ ‫‪‬‬
‫تنعكس في صورة التعبير في شكل أسطر أو جمل شعرية‪ .‬أما التقليد فاستنساخ لبنى تعبيرية وقيم جمالية تتسم بالجمود‬
‫والثبات وكأنها خارجة عن الزمن‪.‬‬
‫التساوق بين الشكل والمضمون‪ ،‬إذ كالهما يستلزم اآلخر في خصوصية عناصره‪ ،‬وإذن التجديد في المضمون يقتضي‬ ‫‪‬‬
‫التجديد في الشكل‪.‬‬

‫ويتضح من خالل هذه القضايا الصغرى أن الكاتب يفسر تطور البنية اإليقاعية باالستناد إلى التفعيلة كعنصر جوهري‬
‫لإليقاع يتشكل في امتدادات زمنية ومكانية تتنوع بين البيت والسطر والجملة الشعرية بحسب الدفقة الشعورية ومقتضيات‬
‫التعبير‪.‬‬

‫اإلطار المرجعي‬
‫قضية التجديد في موسيقى الشعر من القضايا التي أثارت الجدل بين المهتمين منذ بداية القرن العشرين‪ ،‬ويمكن أن نرد‬
‫إطارها المرجعي إلى‪:‬‬

‫إطار تاريخي‪ ،‬حيث تناول الكاتب القضية المطروحة من زاوية تاريخية (تطور البنية الموسيقية للقصيدة بعد الحرب‬ ‫‪‬‬
‫العالمية الثانية) لرصد مراحل تطور موسيقى الشعر الجديد ومظاهرها‪.‬‬
‫إطار ثقافي غربي‪ ،‬حيث استند التجديد إلى جماليات القصيدة الغربية التي اتخذها الشعراء العرب نموذجا بذريعة ثقافية‬ ‫‪‬‬
‫محكومة بالتبعية لما اعتبروه متقدما ومتجددا‪.‬‬
‫علم النفس حيث استدعى الكاتب في تفسير التجديد في موسيقى الشعر العامل النفسي بحديثه عن الدفقة الشعورية وطبيعة‬ ‫‪‬‬
‫الشعور الذي تتحرك به النفس‪ ،‬وعالقته بصورة التعبير‪ ،‬الذي هو ملك للشعور وتابع له‪.‬‬

‫إن هذه المرجعيات تتضافر في النص لتشكل موقفا نقديا يحكم نظر الكاتب إلى أحد أهم مقومات الشعر العربي قديمه وحديثه‬
‫وأكثرها إثارة للجدل بسب أبعادها المعقدة‪ .‬وركز على العامل النفسي مجسدا في ضرورات التعبير المرتهن إلى كتلة الدفقة‬
‫الشعورية لتفسير تطور النظام الموسيقي للشعر الجديد‪ ،‬من التفعيلة والسطر كأساس لهذا النظام إلى الجملة الشعرية‪.‬‬

‫طرائق العرض‬
‫أسلوب النص علمي يتمثل في طابعه التفسيري والتحليلي والنقدي؛ فهو يتناول قضية تطور موسيقى الشعر العربي‪ ،‬ويبحث‬
‫تجليات هذا التطور‪ ،‬ويعالج عوامله النفسية ومظاهره الجمالية‪ .‬والتفسير من أبرز وسائل االستدالل في النص‪ ،‬ويقوم على‬
‫طرائق عديدة منها‪ :‬التعريف (تعريف مفاهيم البيت الشعري ـ السطر الشعري ـ الجملة الشعرية‪ ،)..‬وإظهار شكلها وحجمها‬
‫ووظيفتها الجمالية وخصائص كل منها‪ .‬والوصف (وصف مظاهر النظام الموسيقي للشعر العربي وخصائصه)‪ ،‬والسرد‬
‫(سرد مراحل تطور البنية اإليقاعية)‪ ،‬والتوارد (مقارنة تجليات الظاهرة اإليقاعية للشعر الحديث في البيت والسطر والجملة‬
‫الشعرية)‪.‬‬

‫وغاية الكاتب من أساليب التفسير هذه إقناعنا بموقفه النقدي وإضفاء طابع العمق العلمي على دراسته للظاهرة‪ .‬وقد اعتمد‬
‫الكاتب في معالجة قضية النص طريقة استنباطية تقوم على بناء المقدمات وتقديم األدلة واستخالص النتائج‪ ،‬فبدأ‪ ،‬في سياق‬
‫حديثه عن جماليات موسيقى الشعر‪ ،‬بمقدمة نظرية عامة عن مظاهر البنية اإليقاعية في الشعر العربي القديم والحديث يؤكد‬
‫فيها على النظام كسمة جوهرية في األعمال الفنية‪ ،‬ثم يستدل له ويقرره في النهاية‪ .‬وكذلك يفعل في كل محور‪ ،‬حيث يعرف‬
‫الظاهرة‪ ،‬ثم يتتبع تفاصيلها فيرصد تطورها وعوامله وطبيعة تشكلها مقارنا بينها وبين أخرى‪ ،‬لينتهى إلى استخالص معالم‬
‫التشكيل الموسيقي الجديد المحكوم بمدى الدفقة الشعورية التي ضاق بها السطر واتسعت لها الجملة الشعرية األرحب مسافة‪.‬‬
‫وال شك أن الوظيفة البنيوية لهذه الطريقة تكمن في مالءمتها لطبيعة الموضوع كظاهرة جمالية متطورة تؤول تجلياتها إلى‬
‫عوامل مجردة تتعلق بطبيعة المضمون والشكل والعالقة الجدلية بينهما‪.‬‬

‫تركيب وتقويم‬
‫سعى الكاتب من خالل هذا النص إلى إيصال رسالة أساسية هي أن النظام الموسيقي للقصيدة العربية غير ثابت وال جامد‪،‬‬
‫بل هو قيمة جمالية وموسيقية متطورة بتطور العوامل النفسية المتحكمة في تجربة الشاعر وتجلياتها التعبيرية‪ ..‬من هنا كان‬
‫أساس اإليقاع في الشعر الحديث قائما على تفعيلة يتغير مداها الزمني وتوالي عددها فتتجلى نصيا بيتا أو سطرا أو جملة‬
‫شعرية‪ ،‬ويبرر الناقد مشروعية اعتماد التفعيلة كأساس للنظام الموسيقي في الشعر الجديد بكونها تجسد ضرورات التعبير‬
‫ومقتضيات الشعور‪ .‬ويبدو أن أثر الجانب النفسي واضح في مرجعية الناقد‪ ،‬إذ فسر الظاهرة اإليقاعية تفسيرا سيكولوجيا‬
‫وجماليا‪ ،‬ينطلق من أهمية العامل النفسي ‪ /‬الشعوري‪ ،‬وعالقته بالتعبير في تشكيل الصورة الموسيقية للقصيدة الشعرية‪.‬‬

‫ويتقاطع الموقف النقدي في النص مع موقف محمد النويهي في معالجة نفس الموضوع (المكون الموسيقي) بمنطلقات‬
‫متقاربة‪ ،‬ولكنهما يختلفان في قول عز الدين إسماعيل بجوهرية التفعيلة في أي نظام موسيقي سواء أكان البيت التقليدي أو‬
‫السطر أو الجملة الشعرية‪ .‬أما النويهي فيذهب إلى أن النظام الموسيقي انطالق يقوم على تنويع اإليقاع بحسب المضمون‬
‫الفكري والعاطفي‪ .‬قد ال يصل إلى درجة التخلص تماما من أي ضابط وزني‪ .‬لتتأكد فرضيتنا التي انطلقنا منها والتي تربط‬
‫تكسير البنية اإليقاعية القديمة داخل قصيدة التفعيلة بمستلزمات شعورية وتعبيرية‪.‬‬
‫تكسير البنية (نموذج شعري) ‪ -‬تحليل قصيدة 'لنكن أصدقاء' لنازك المالئكة‪: ‬‬

‫إشكالية النص! وفرضيات القراءة!‬


‫تكسير البنية حركة هزت مفهوم الشعر وطبيعته وعناصره الموضوعية ومعالمه الشكلية‪ ،‬فصارت شغل الشعراء والنقاد‪،‬‬
‫وتفرقوا بين مؤيد ومعارض تنظيرا وتطبيقا‪ ،‬وأضحت مقياسا في إبداع الشعر وتقويمه في مرحلة الخمسينات من القرن‬
‫العشرين وما بعدها على يد عديد من الشعراء العرب أمثال السياب ونازك والبياتي وحجازي وصالح عبد الصبور وغيرهم ‪.‬‬
‫وتمثل نازك المالئكة (‪ 1923‬ـ ‪ )2007‬موقعا رياديا متميزا في حركة الشعر الحر‪ ،‬وبدأت تجربتها متأثرة بالرومانسية قبل أن‬
‫تصبح من مؤصلي شعر التفعيلة‪ .‬يصدح شعرها بمواقف إنسانية تصور هموم اإلنسان الحديث وأزماته‪ .‬خلفت تسعة دواوين‪،‬‬
‫منها ( شظايا ورماد ) الذي منه هذه القصيدة‪ .‬فما موقف الشاعرة من الواقع ؟ وكيف عبرت عنه فنيا ؟‬

‫نعتقد أن المعنى االستلزامي الذي أفادته صيغة األمر في العنوان هو التمني‪ ،‬أي ليتنا كنا أصدقاء‪ ،‬والعنوان الزمة بنائية‬
‫تتكرر في مطالع مقاطع القصيدة‪ ،‬وتؤشر على انحراف في الموضوع عن األغراض التقليدية‪ .‬وفي المقطع األول تغير إيقاعي‬
‫ومحدد معماري يتمثل في اعتماد تفعيلة المتدارك (فاعلن) بصور مختلفة أساسا إيقاعيا في امتداد يطول أو يقصر وينتهي‬
‫بوقفة حادة على صامت بعد مد طويل‪ .‬ويتميز شكل القصيدة بناء على المالحظة البصرية بتغير البنية الهندسية وشكلها‬
‫الطوبوغرافي عبر اعتماد نظام األسطر خالفا للقصيدة ذات األشطر المتناظرة‪ ،‬مما يدفعنا إلى افتراض موقف شعري يختزنه‬
‫النص‪ ،‬ويفترض أن من معالمه رفض الواقع المأساوي لإلنسان بسبب الحروب واالستعباد والفقر‪ ،‬وتؤشر على ذلك مؤشرات‬
‫نصية مثل‪ :‬الدار ‪ ،‬العبيد‪ ،‬الجياع… والدعوة إلى التضامن والتسامح والتآخي بين البشر‪ ،‬موقف مصبوب في متواليات‬
‫سطرية كسرت بنية النموذج العمودي‪ .‬فهل استطاعت الشاعرة تجسيد الموقف الجديد في الشكل الجديد‪ .‬وما نجاعة هذا‬
‫التجديد؟ ذلك ما سنعالجه في تحليل النص‪.‬‬

‫فهم النص‬
‫تتكون القصيدة من ستة مقاطع شعرية‪ .‬حيث يبتدئ المقطع األول من السطر األول إلى السطر السادس المعنون "بدعوة إلى‬
‫الصداقة"‪ ،‬هذا المقطع يوحي النفتاح القصيدة على المعاناة القاسية الكئيبة ودعوة الشاعرة للصداقة والمحبة اإلنسانية التي‬
‫تؤدي إلى السالم والطمأنينة بين البشر‪.‬‬

‫أما المقطع الثاني فهو من السطر السابع إلى السطر الثاني عشر عنونته هو "دعوة صريحة" حيث من خالل هذا المقطع تدعو‬
‫الشاعرة نازك مالئكة إلى صداقة بين الشعوب من أجل السالم الدائم رغم الحروب المنتشرة‪.‬‬

‫وفي المقطع الثالث فهو من السطر الثالث عشر إلى‪  ‬السطر السابع عشر فعنونه ب"كآبة الناس" وفي هذا المقطع تبين لنا‬
‫الشاعرة أسى الناس على بالدهم التي أصبحت ممتلئة بالدماء بفعل المعاناة واأللم التي تواجهها نتيجة الحروب‪.‬‬

‫ويتحدد المقطع الرابع من السطر الثامن عشر إلى السطر الرابع والعشرون وعنوانه هو "دعوة إلى األمل" هنا الشاعرة تظهر‬
‫لنا األمل في انتهاء الحروب والمشاكل التي تواجه بالدها وعودة الحياة إليها من جديد‪.‬‬

‫أما المقطع الخامس فهو يتحدد من السطر الخامس والعشرين إلى السطر التاسع والعشرين فعنونه ب"الندم المتأخر" في هذا‬
‫المقطع نجد ندما متأخرا للطغاة على أعمالهم وما اقترفت أيديهم في حق الفقراء والمظلومين‪.‬‬

‫وأخيرا المقطع السادس من السطر ثالثين إلى السطر الثالث والخمسون المعنون ب"دعوة إلى صداقة عامة وكونية" وفيه‬
‫تدعو الشاعرة دعوة عالمية وكونية إلى الصداقة رغم اختالف الشعوب والبشر وتباين مكانتهم وبالتالي تكون الشاعر قد‬
‫أسست لسالم دائم‪.‬‬
‫اإليقاع‬
‫اإليقا!ع! الخارجي!‬
‫الن – فَ ْعلُ ْن)‪ ،‬مـع تنويع في‬
‫ت الشاعرة في النص تفعيلة المتدارك (فاعلن) بتغييراتها وزحافاتها المعروفة (فَ ِعلُ ْن – فا ِع ْ‬
‫ر ِكبَ ْ‬
‫طول األسطر الشعرية وقصرها (أقصر األسطر فيه تفعيلتان وأطولها خمس تفعيالت)‪ .‬أما القافية فقد جاءت في النص متتالية‬
‫استعملت ال ّروي بشكل ُمتَوا ٍل في كل سطرين شعريين أو أكثر أحيانا ً‪ ،‬مع تنويع واضح في حرف ال ّر وي (الهمزة‬ ‫ْ‬ ‫ألن الشاعرة‬
‫ُّ‬
‫– الباء – القاف – الراء – الدال – التاء – الشين ‪ .)...‬إضافة إلى توفر القصيدة على عنصـر الجمـلـة الشعرية‪ ،‬حيث يمكن‬
‫اعتبار األسطر (‪ ) 17 – 16 – 15 – 14‬جملةً شعرية واحدة‪ ،‬وكذلك األسطر (‪.)24 … – 18‬‬

‫اإليقا!ع! الداخلي!‬
‫صرفية‪ ،‬وتكرار جملة‪" :‬لنـكـن أصدقاء"‪،‬‬ ‫تحقّق في القصيدة بع ّدة عناصر منها‪( :‬تكرار الحروف وتكرار الكلمات والصيغ ال ّ‬
‫إضافة إلى بعض الطِّباقات مثل‪( :‬أصدقاء – أشقياء) (الصحاري – المدن)… وبعض ال ِجناسات‪( :‬الديار – البحار) (الثّلـوج –‬
‫ال ّز نوج)… إلى جانب ما تميزت به القصيدة من تواز عمودي خاصة كاألسطر (‪ )39 – 38 – 37 – 36‬والسطرين (‪– 48‬‬
‫‪…)49‬‬

‫الصورة الشعرية!‬
‫ت الصورة الشعرية شرارتها من المعاناة اإلنسانية الذاتية والجماعية‪ ،‬ونَهَ ْ‬
‫لت جماليّتَها وفنِّي َّتـها من أسلوبي اإليحـاء‬ ‫استم ّد ْ‬
‫والرمز خاصة‪ .‬وقد رسمت الشاعرة نازك بصور القصيدة الشعرية عالميْن ُمتناقضيْن‪ :‬عالم الخراب والدمـار‪ ،‬وعالـم السالم‬
‫والتآخي‪ُ ،‬مستغلّةً في ذلك أساليب بالغية متنوعة كالمجاز واالنزياح واالستعارة والتشخيص‪( :‬متاهات هذا الوجـود الكئيـب –‬
‫يمشي الدمار ويحيا الفناء – تحت سوْ ط الزمان الن َّ ِزق – لَفَظ ْتهم ِشفاه الحياة – ستذوبُ لتسقي صدى الظّامئين كْأسـةً ْ‬
‫ولتَ ُك ْ‬
‫ـن‬
‫ْ‬
‫باألنين…)‪.‬‬ ‫ت‬ ‫ُملَِئـ َ ْ‬

‫ولع ّل هذا المزج في الصورة الشعرية بين عالمي الخراب والسالم ‪ /‬المعاناة واألمل ‪ /‬الحزن والتفاؤل ‪ /‬االنكسار والطموح…‬
‫هو ما جعل النص يكتسي نوعا ً من الصراع الدرامي بين هذين العالميْن‪ .‬هذا الصراع الذي يتكسّر ْ‬
‫ويخ ُمد‪ ،‬وتضعُف معه سبل‬
‫نكن أصدقاء)…‬ ‫الدمار والخـراب كلما تك ّر ْ‬
‫رت هذه الالزمة في القصيدة‪( :‬لِ ْ‬

‫األسـالـيـب‬
‫ْ‬
‫تحققت هذه الخاصية بجالء في‬ ‫مما يميز شعر نازك المالئكة عموما امتزاج صوتها بصوت الناس أفراداً أو جماعات‪ ،‬وقد‬
‫القصـيدة وهو ما يعكس مدى معانقة الشاعرة لقضايا اإلنسانية في مختلف صورها االجتماعية والمصيرية والواقعية‬
‫والوجودية…‬

‫على مستوى ضمائر النص نالحظ تكرار ضمير (نحن) باستمرار في القصيدة‪ ،‬وهذا يعني أن الشاعرة قد ح ّولت تجربتـها‬
‫الشعـرية الذاتية إلى تجربة جماعية‪ ،‬وهي ناطقة باسم جميـع المستضعفين والمظلومين والمتعبين‪ .‬كما قد يعني ذلك أيضا ً أننا‬
‫جميعا مسؤولـون عن كل دمار وخراب في الواقع المعيش‪ ،‬وهو ما يتطلب ح ْتما أن نو ّحد الجهود جميعا لتحقيق السالم‬
‫واالنعتاق (فلنكن أصدقـاء)‪.‬‬

‫يُالحظ على مستوى األفعال في النص أن الشاعرة جمعت بين األفعال الحاضرة والمستقبلية‪ ،‬على أن وظيـفة األفعـال‬
‫الحاضرة هي وصف ما في الحياة والواقع من دمار وخراب ومعاناة‪ ،‬بينما وظيفة األفعـال المستقبلية هي تأكيد سعي الشاعـرة‬
‫الحثيث إلى تحقيـق السـالم‪ ،‬ودعوتها الصادقة إلى التصالح والتآخي واالتحاد (لنكن أصدقاء)‪".‬‬

‫تركيب وتقويم‬
‫تنقل الشاعرة إلى المتلقي رسالة نبيلة تدعو إلى التضامن والتسامح والتآخي بين البشر‪ .‬والمتلقي المفترض ينتظر منه أن‬
‫يتعامل مع النص باعتباره كمونا دالليا قابال للتأويل وفق سياق خاص لتكتسب الرسالة عمقها الداللي‪ ،‬من هنا راهنت قصيدة‬
‫تكسير البنية على األدوات الفنية التي عبرت بها الشاعرة عن هذا الموقف‪ ،‬فلجأت إلى إيقاع مسترسل يقوم على تكسير البنية‬
‫التقليدية للقصيدة العربية‪ ،‬واللجوء إلى التفعيلة كمكون إيقاعي جوهري يتشكل في مدد زمنية تتنوع بين السطر والجملة‬
‫الشعرية‪ ،‬تبعا للدفقة الشعورية ومقتضيات التعبير والصورة الموحية والوحدة العضوية للقصيدة‪ ،‬وغير ذلك مما يسهم في بناء‬
‫نص حديث تراهن الشاعرة أن يكون تجديدا مقنعا في بناء معناه على ما يفترض أن القارئ يملكه من ثقافة حول موضوعه‬
‫وجماليته ‪ .‬وبذلك تمهد الطريق لتطوير القصيدة عبر تجديد الرؤيا على يد شعراء آخرين‪ .‬ونعتقد أن ذلك يفي بتبرير افتراضنا‬
‫في بداية النص أن هذا األخير موقف جديد في شكل جديد‪.‬‬

‫تجديد الرؤيا (نص نظري) ‪ -‬تحليل نص 'قصيدة الرؤيا' لعلي أحمد سعيد أدونيس‪: ‬‬

‫إشكالية النص! وفرضيات القراءة!‬


‫توالت حركات التجديد الشعرية لتمنح الشعر في كل مرة مفهوما يخرق مكونات البناء الشعري الجاهز‪ ،‬ولم يقف التنظير‬
‫للشعر وإبداعه عند تكسير بنيته‪ ،‬بل شمل مضامينه ورؤاه‪ .‬فأصبحت القصيدة رؤيا تتطور تبعا لنمو الحقل الشعري وكثافته‬
‫ودرجة انفتاحه على العالم‪ ،‬ومستوى ثرائه وقدرته على التغيير والتعبير عن الوجود‪ ،‬بحيث يتالحم الحلم والواقع والرمز‬
‫واألسطورة‪.‬‬

‫وإلضاءة شعر الرؤيا برزت دراسات نقدية عديدة حاولت توصيفه وتمييزه عن شعر تكسير البنية‪ .‬ومنها أبحاث حسن مخافي‬
‫في كتابه ” القصيدة الرؤيا” ومحمد الفارس في ” الرؤيا اإلبداعية في شعر صالح عبد الصبور” وإدريس الزمراني في ”‬
‫أفق الرؤيا ‪ :‬مقاربات في النص واإلبداع” وأحمد رحماني في ” الرؤيا والتشكيل في األدب المعاصر” ثم صبحي محيي الدين‬
‫في ” الرؤيا في شعر البياتي”‪ .‬ويعد أدونيس أول من أصل مفهوم قصيدة الرؤيا في النقد العربي‪ .‬ولد بسوريا سنة ‪ .1930‬نشأ‬
‫في بيئة صوفية درزية تؤمن بنظرية التجلي والحلول‪ ،‬غزير الثقافة عربية وغربية‪ ،‬متأثر بمدرسة فرانكفورت األلمانية‬
‫والشعر الرمزي والسوريالي والظاهراتية وغيرها‪ .‬وقد شكلت مجلة ” شعر “‪ ،‬التي أسسها مع يوسف الخال‪ ،‬منطلق تصوره‬
‫للشعر الجديد‪ .،‬وعلى المستوى النقدي استلهم مفهوم الحداثة‪ ،‬ونبش عن جذوره في الشعر العربي‪ ،‬وأعاد النظر في العديد من‬
‫المسلمات النقدية واألدبية‪ .‬أنتج مؤلفات نقدية عدة مثل‪( :‬الثابت والمتحول ـ الشعرية العربية ـ مقدمة للشعر العربي‪.)..‬‬
‫ودواوين شعرية مثل‪( :‬قصائد أولى ـ هذا هو اسمي ـ مفرد بصيغة الجمع‪ .)..‬والنص الذي بين أيدينا من كتابه‪ ” :‬زمن الشعر‬
‫“‪ .‬فما القضية التي يطرحها؟ وما مفاهيمها وإطارها المرجعي ؟‬

‫”قصيدة الرؤيا” مركب إضافي يفصح عبره العنوان عن عالقة استلزام واقتضاء شديدين بين المضاف والمضاف إليه‪،‬‬
‫ويوحي بالتطور الذي عرفته القصيدة المعاصرة من خلخلة محتشمة على مستوى الصياغة الشكلية والخريطة اإليقاعية في‬
‫تكسير البنية إلى هدم جذري وإعادة بناء للنص الشعري تتحدد فيه بنياته الشكلية والمضمونية في كل تجربة بما يصنع ماهية‬
‫جديدة ورؤيا متجددة‪ .‬وتتضمن الجملة األولى في النص “لعل خير ما نعرف به الشعر هو أنه رؤيا ” مفهوما مركزيا‬
‫(الرؤيا)‪ ،‬يرتبط بداللة العنوان من خالل اإلشارة إلى طبيعة قصيدة الرؤيا وهويتها‪ .‬ومن خالل المشيرات السابقة نفترض أن‬
‫اإلشكالية المطروحة في النص تتعلق بمفهوم الرؤيا في الشعر المعاصر‪ ،‬وأن الفرضية التي يمكن االنطالق منها هي أن‬
‫الرؤيا في القصيدة الحديثة مرتهنة إلى خاصية الكشف والتمرد‪.‬‬

‫فهم النص‬
‫يمكن تقسيم النص للفقرات التالية ‪:‬‬

‫الفقرة االولى ‪ :‬تعريف الشعر الجديد‪ :‬هو رؤيا تعتبر تغييرا في نظام األشياء‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫الفقرة الثانية ‪ :‬الشعر الجديد معرفة لها قوانينها الخاصة ‪ :‬انه إحساس كشفي لجوهر اإلنسان عن طريق الخيال‬ ‫‪‬‬
‫والحلم‪.‬‬
‫الفقرة الثالثة ‪ :‬توجهات الشعر الجديد‪ :‬الشعر الجديد يبطل أن يكون شعر وقائع‪ ،‬الشعر الجديد يبتعد عن‬ ‫‪‬‬
‫الجزئية ‪،‬انه رؤيا للعالم‪ ،‬الشعر الجديد يتخلى عن الرؤية األفقية‪ ،‬الشعر الجديد يتخلى عن التفكك البنائي‪.‬‬
‫الفقرة الرابعة ‪ :‬عالم الشعر الجديد‪ ،‬كشف لما هو غير مألوف‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫الفقرة الخامسة ‪ :‬الشعر الجديد كشف ورؤيا‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫عرف الكاتب الشعر الجديد بكونه رؤيا‪ ،‬إي تغيير في نظام األشياء وفي نظام النظر إليها‪ ،‬وتمرد على األشكال والطرق‬
‫القديمة‪ ،‬إنه “كشف عن عالم يظل أبدا في حاجة إلى الكشف”‪ .‬والشاعر الجديد قلق متمرد متميز في الخلق‪ ،‬وشعره مركز‬
‫استقطاب لمشكالت كيانية يعانيها في حضارته وفي نفسه‪ .‬والشعر الجديد نوع من المعرفة الباطنية‪ ،‬وإحساس شامل‬
‫بالحضور‪ ،‬ودعوة لوضع الظواهر موضع البحث والشك‪ ،‬وإحساس كشفي باألشياء يطال جوهرها الذي ال يدرك بالعقل‬
‫والمنطق‪ ،‬بل بالخيال والحلم‪ .‬ويتميز شعر الرؤيا عن شعر الحادثة والوقائع بتناول الظواهر األكثر ثباتا وديمومة‪ ،‬واألقل‬
‫ارتباطا بالزمان والمكان‪ ،‬فهو في غير حاجة إلى مواد محسوسة‪.‬‬

‫وقد عرض الناقد السمات المميزة لشعر الرؤيا كاآلتي‪:‬‬

‫أنه يفرغ الكلمة من ثقلها القديم‪ ،‬ويشحنها بدالالت غير مطروقة‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫أنه رؤيا للعالم تتجنب النظرة الجزئية‪ ،‬واإلصالحية الوعظية المباشرة‪ ،‬وتنخرط في رؤيا شاملة تستقطب كل‬ ‫‪‬‬
‫حقول الفكر‪.‬‬
‫أنه ال يعبر عن رؤيا أفقية سردية ووصفية‪ ،‬بل يتجاوز السطح‪ ،‬ويغوص فيما وراء الظواهر‪ ،‬ويكشف عن حيوية‬ ‫‪‬‬
‫العالم وطاقاته المتجددة‪ ،‬فيتحد معه‪.‬‬
‫أنه يستعيض عن التفكك البنائي‪ ،‬وعن التشابيه واالستعارات بالصورة التركيبية‪ :‬الصورة ـ الرمز‪ ،‬أو الصورة ـ‬ ‫‪‬‬
‫الشيء‪.‬‬
‫أنه شكل جديد من وجود جديد‪ ،‬أي بناء فني وتعبير جديد‪ ،‬أي ماهية (رؤيا) وشكل‪ .‬والشعر الجديد باعتباره كشفا‬ ‫‪‬‬
‫ورؤيا غامض‪ ،‬متردد‪ ،‬ال منطقي‪ ،‬في حاجة دائمة إلى حرية في التبنين‪ ،‬ولكن دون الوقوع في فوضى الشكل‪ ،‬ألن‬
‫الشكل غير مهم بقدر ماهي وظيفة الممارسة الشعرية‪.‬‬

‫تحليل! النص‬
‫تهيمن المصطلحات والمفاهيم الفلسفية ألن الكاتب في سياق عرض الفلسفة الجديدة التي يقوم عليها الشعر الجديد‪ .‬وهي‬
‫مصطلحات ومفاهيم ستؤسس للنقد واألدب كمؤطرين للقصيدة الرؤيا‪ .‬والظاهر أن الحقل الفلسفي في النص في خدمة النقد‪،‬‬
‫ألنه يسهم في توضيح مقارنات الكاتب بين مفهومي الشعر الجديد والقديم‪ .‬وبما أن مفهوم الرؤيا مركزي في النص‪ ،‬فإن‬
‫الكاتب أضاءه بمجموعة من المفاهيم مثل‪:‬‬

‫تمرد ‪ :‬ويعني الثورة على المعطى الجاهز والمغلق والمحدود ‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫تجاوز ‪ :‬ويعني تجاهل المظاهر السطحية لألشياء‪ ،‬وتجاوز الواقع المقيد بالزمان والمكان‪ ،‬وتجاوز الحادثة‬ ‫‪‬‬
‫العارضة إلى الظاهرة الثابتة وأسرارها العميقة‪.‬‬
‫استشراف ‪ :‬ويعني قدرة الشعر الجديد على التنبؤ‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫كشف ‪ :‬معرفة ميتافيزيقية تحس باألشياء كما هي في جوهرها وصميمها غير المدركين بالعقل والمنطق‪ ،‬بل‬ ‫‪‬‬
‫الخيال والحلم‪.‬‬

‫والسمات المشتركة بين هذه المفاهيم هي داللتها على قصيدة الرؤيا‪.‬‬

‫وقد تفرعت عن قضية النص األساس ثنائيات ضدية يمكن تمثيلها كاآلتي‪:‬‬

‫رؤيا ‪ /‬رؤيا أفقية ‪ :‬أي أن النظر إلى الحياة باعتبارها مشهدا أو ريفا أو نزهة أو موقفا أو مناسبة… نظر مختزل‬ ‫‪‬‬
‫في أشكال ووظائف‪ ،‬وموقف فني وفلسفي كالسيكي يتسم باألفقية والسطحية‪ ،‬بيد أن الرؤيا تستلزم تجاوز العالقة‬
‫الشكلية والنفاذ إلى ما وراء ذلك من عوالم خفية ومغيبة وال محدودة‪.‬‬
‫معنى خالق وتوليدي‪ /‬معنى سردي وصفي ‪ :‬أي معنى يسرد األشياء ويرتبها في الزمان‪ ،‬ويصفها في المكان‬ ‫‪‬‬
‫وكأنها كيان مسطح له بعد واحد بخالف المعنى الكشفي المشاغب‪.‬‬
‫الخيال والحلم ‪ /‬العقل والمنطق ‪ :‬فالعقل والمنطق يمكنان من تكوين معرفة موضوعية باألشياء والحياة‪ ،‬بينما‬ ‫‪‬‬
‫الخيال حدس بواقع ليس سوى إمكانات تتطور بشكل ال نهائي‪ ،‬وال تسبر أغواره الخفية إال بالخيال‪.‬‬
‫يمكن أن نستخلص من هذه القضايا السمات التي تميز قصيدة الرؤيا عن قصيدة الموضوع أو الموقف‪ ،‬وهي قيامها على إبداع‬
‫صيغ تعبيرية جديدة‪ ،‬تالمس الواقع بحس ثوري وكشف عن الخفي ورؤية استشرافية‪.‬‬

‫اإلطار المرجعي‬
‫صاغ الكاتب مفهوم الرؤيا استنادا إلى أطر مرجعية متنوعة وسمت مقاربته بالعمق النظري والكفاية التفسيرية المالئمة‪،‬‬
‫ومنها‪:‬‬

‫التصوف ‪ :‬ومنه أخذ مفهوم الكشف‬ ‫‪‬‬


‫السوريالية ‪ /‬ما فوق الواقعية ‪ :‬التحلل من واقع الحياة الواعية‪ ،‬والزعم أن خلفها حياة أخرى أقوى فاعلية وأعظم‬ ‫‪‬‬
‫اتساعا‪ ،‬وهي كامنة في الالوعي‪ ،‬وتقوم على تحرير الواقع وإطالق مكبوته وتسجيله في األدب والفن‪ .‬وعلى‬
‫التعبير الغامض الذي يسبر كنه األشياء المتواري خلف مظهرها السطحي المباشر المتجلي للعيان‪.‬‬
‫الرومانسية ‪ :‬جموح الخيال وتشعب العاطفة والتركيز على الذات وخصوصية الفرد النفسية والشعورية‪ ،‬حيث‬ ‫‪‬‬
‫األدب‪ ،‬وخاصة الشعر‪ ،‬ليس محاكاة للحياة والطبيعة‪ ،‬بل خلق‪ ،‬وأداة هذا الخلق ليست العقل وال المالحظة‬
‫المباشرة‪ ،‬بل الخيال المبتكر أو المؤلف بين العناصر المشتتة في الواقع الراهن أو ذكريات الماضي‪ ،‬وفي‬
‫إرهاصات المستقبل وآماله‪ .‬والضابط هنا هو قوة الرؤيا الشعرية ووضوحها وعمقها على نحو يثير كوامن‬
‫الشاعرية ويهز كيانه بحيث تصبح هذه الرؤية الشعرية بمثابة تجربة بشرية حقيقية صادقة‪ .‬كما يؤكد هذا المذهب‬
‫على التعبير الذاتي الصادق‪ ،‬واإلعالء من مكانة الحلم والخيال في التعبير عن الحياة والنفس‪ .‬فالشاعر يساهم في‬
‫رسم صورة لإلنسان من خالل الثورة والتمرد على رواسب الماضي الثقافية والفنية‪..‬‬
‫الوجودية ‪ :‬تنكر ماهية اإلنسان وال تؤمن إال بوجوده اآلني؛ فأي جاهز أو متوارث ال قيمة له‪ .‬وعلى اإلنسان‬ ‫‪‬‬
‫التخلص من كل ذلك لينطلق في الحياة ويحقق وجوده‪ ،‬فيصبح سيد لنفسه ومرجعيته ذاته‪ ،‬وهو أساس مفهوم‬
‫الحداثة‪ .‬والوجودية ترتكز على ثالثة أعمدة‪ ،‬هي ‪ :‬الحرية‪ ،‬والمسؤولية‪ ،‬وااللتزام‪ ،‬لذا من الطبيعي أن تنتج عنها‬
‫عدة نتائج أو مشاعر خطيرة يحسها الفرد في سلوكه عبر الحياة‪ .‬وهذه المشاعر هي ‪ :‬القلق‪ ،‬والهجران (أي‬
‫الشعور بأنه وحيد مهجور)‪ ،‬واليأس (وإن كان الوجودي يعيش من أجل العمل في حد ذاته‪ ،‬كالصائد الذي يتلذذ‬
‫بعملية الصيد ذاتها أكثر مما يتلذذ بعصفور أو سمكة يأكلها بعد صيده لها)‪.‬‬
‫الرمزية ‪ :‬وهي في مجال الشعر تغذي خلق حالة نفسية خاصة واإليحاء بتلك الحالة في غموض وإبهام‪ ،‬والرمزية‬ ‫‪‬‬
‫تكتفي باإليحاء النفسي والتصوير العام عن طريق الرمز وتراسل الحواس‪ .‬وتؤمن بعجز العقل الواعي عن إدراك‬
‫الحقائق النفسية العميقة والمركبة‪ ،‬لذلك تتولى ممكنات اللغة وعملية نحت الصور واألخيلة من جزئيات الرموز‬
‫والملفوظات المغربة هذه المهمة بفضل الخيال الخالق الذي يتغلغل عبر الحدس والكشف إلى أعماق الالوعي‬
‫متجاوزا وظائف األجهزة اإلدراكية الحسية معدال فيها ليبني رؤى شعرية بلغة أشبه بلغة الحلم‪.‬‬

‫طرائق العرض‬
‫جمع الكاتب بين النقد الوصفي والنقد المعياري في عرضه لقضيته‪ ،‬فمن الوصفي تحديده ماهية الشعر والقضايا المرتبطة‬
‫بقصيدة الرؤيا ومقارنته بين شعر الرؤيا وغيره‪ .‬واستعراض السمات المميزة لما يعتبره الشعر الحقيقي‪ .‬ومن المعياري‬
‫التوسل باللغة العلمية الموضوعية المبنية على خلفيات فلسفية وفكرية رائجة‪ ،‬واعتماد لغة اصطالحية دقيقة‪ ،‬وتحاشي األفكار‬
‫المسبقة واألحكام المطلقة أو التصورات القابلة لتعدد التأويل‪ ،‬أو الدالالت اإليحائية‪ ،‬أو غير ذلك مما يحسب على النقد‬
‫االنطباعي أو التفسيري أو الجمالي‪ .‬واستعمل الناقد أسلوب المقارنة للتمييز بين مقومات الشعر التقليدي والشعر الجديد‪ ،‬شعر‬
‫الرؤيا وشعر الحادثة والوقائع‪ .‬وإذا كان قد استشهد بأقوال شعراء غربيين ينتمون إلى مذاهب مختلفة‪ ،‬فإن ذلك يعني تأثره‬
‫بالثقافة الشعرية الغربية‪ ،‬ومحاولته صهر منطلقاتها وتصوراتها لإلبداع وأدواته في تيار تجديد الرؤيا الذي يعد من رواده‪.‬‬

‫وظف الناقد حججا لتدعيم أطروحته ارتكزت على‪:‬‬

‫التعريف‪ :‬تحديد ماهية شعر الرؤيا وإبراز أهم سماته ومميزاته‪ ،‬وتحديد بعض صفات الشاعر الجديد‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫المقارنة ‪ :‬توسيم شعر الرؤيا بمقابلته بنقيضه (الشعر التقليدي)‬ ‫‪‬‬
‫التفسير‪ :‬االستناد إلى معايير جمالية في تحديد خصائص شعر الرؤيا كرفض الجاهز وخرق المألوف (اللغة‬ ‫‪‬‬
‫االنزياحية) وتجنب الجزئية والنزعة العالمية والتوجيهية‪.‬‬
‫واعتمد الكاتب طريقة استنباطية تحليلية عرض فيها أوال مفهوم الرؤيا عامة‪ ،‬ثم انتقل إلى الحديث عن تجلياتها في التحققات‬
‫الجزئية كاإلحساس والحلم والخيال والصورة والتعامل مع الكلمة لتشويق المتلقي إلى معرفة خصائص المفهوم بصدمه في‬
‫البداية باصطالحه العام‪ ،‬ثم الكشف عن حقيقته عبر التدرج في وصف الجزئيات والخصائص إلقناع المتلقي بفاعلية الوصف‪.‬‬

‫التركيــــب‬
‫معترض ضمني‪ ،‬يُفترض أنه يتبنى مفهوم الشعر التقليدي‪ ،‬أو التحديث‬
‫ٍ‬ ‫عرض الكاتب مفهوم قصيدة الرؤيا في سياق رده على‬
‫السطحي الذي يراهن على تغيير الشكل‪ ،‬وال شك أن مقصديته هي تأسيس مفهوم جديد للشعر يضع حدا فاصال بين الشعر‬
‫التقليدي وقصيدة الرؤيا التي تقوم على ركوب المغامرة والكشف والثورة والتمرد على المواضعات االجتماعية واألخالقية‬
‫والفنية والغموض والتجاوز واالستشراف‪ ..‬وذاك ما يولد الشكل التعبيري‪ .‬هكذا نتأكد من الفرضية التي انطلقنا منها‪ ،‬وهي‬
‫مراهنة الناقد على اعتبار شعر الرؤيا شعر كشف وتمرد على األشكال القائمة وأنظمة المعنى الموروثة بما تختزنه من‬
‫تمثالت وقيم مستهلكة‪.‬‬

‫تجديد الرؤيا (نموذج شعري) ‪ -‬تحليل قصيدة 'البئر المهجورة' ليوسف الخال‪: ‬‬

‫إشكالية النص! وفرضيات القراءة!‬


‫إن التحول الذي عرفه الشعر لم يقف عند التمرد على الثوابت العروضية كما كان ديدن أصحاب تكسير البنية‪ .‬بل تجاوز ذلك‬
‫إلى إرساء أفق رؤيوي جديد يضمن ديمومة المشروع الحداثي الشعري‪ ،‬أفق يقوم على مفهوم الرؤيا باعتباره كشفا متجددا‬
‫لعالم في حاجة دائما إلى كشف وثورة‪ ،‬ومن ثم ينعدم النموذج الشعري‪ .‬وال سبيل إلى الرؤيا بغير التخطي والتجاوز واالنفتاح‬
‫على التجارب العالمية وإعادة قراءة التراث اإلنساني بمنظور جديد‪ .‬وإذا كانت القراءة النصية األفقية غالبا ما تتخذ مطية‬
‫إلثبات تصور مسبق أو معيار ثابت‪ ،‬فإن قراءتنا للبئر المهجورة ليوسف الخال لن تتجه نحو نفس المقصد‪ ،‬بل ترصد‬
‫التضاريس الفنية المميزة لهذا الممتد الشعري على مستويات عدة اعتبارا لكون النص لحمة متماسكة من عالقات تفاعلية بين‬
‫عناصر سطحية وعميقة‪.‬‬

‫تفضي المالحظة األولية لشكل النص إلى إدراجه ضمن الخطابات الشعرية المتمردة على الثوابت (تجديد الرؤيا)‪ .‬فما حدود‬
‫هذا التمرد ؟ وما تجلياته ؟ الجواب رهين بمقاربة القصيدة في جميع مستوياتها‪ .‬وأول ما يثيرنا عنوانها‪ ،‬وهي إثارة تؤول إلى‬
‫مفارقة كامنة داخله يفرزها التداعي‪ .‬فالبئر في الموروث الثقافي ترمز إلى الحياة لوجود الماء‪ ،‬وإلى اإلخفاء لعمقها الملتبس‬
‫باإليجاب أو السلب‪ ،‬إال أن وصفها بالمهجورة يجعلها مناسبة لإلخفاء والستر‪ .‬ألم يتخذ أبناء يعقوب البئر مكانا إلخفاء النبي‬
‫يوسف عليه السالم فكانت محنته األولى‪ .‬وعلى أساس هذه المحنة يمكن افتراض مأساوية التجربة التي قد يعبر عنها يوسف‬
‫الخال‪ .‬فما دواعي هذه المأساوية بناء على هذا االفتراض ؟‬

‫فهم النص‬
‫يمكن تقسيم هذه القصيدة الى ‪ 4‬مقاطع بحسب االصوات المستعملة فيها‪:‬‬

‫مقطع على لسان الراوي (أوّ ل ‪ 5‬اسطر)‪ ،‬يشرح فيه عالقته بالشخصية التي تدور حولها القصيدة وهي شخصية‬ ‫‪‬‬
‫ابراهيم‪ .‬ويالحظ هنا التنافر واالصطدام بين ابراهيم الذي يصوره الشاعر بئراً يفيض ماؤها داللة على العطاء‬
‫والخير‪ ،‬وبين سائر البشر الذين ال يعيرونها ادنى اهتمام ايجابيا ً كان او سلبياً‪.‬‬
‫مقطع على لسان ابراهيم يتخلله تعليق قصير للراوي يبدأ بقول ابراهيم ‪“ :‬لو كان لي ان انشر الجبيين …” ويمتد‬ ‫‪‬‬
‫الى قوله ‪ …”:‬ليبصر الطريقة” (‪ 22‬سطراً)‪ ،‬وفيه ينقل الراوي الينا حديثا ً مباشراً البراهيم في رسالة كتبها‬
‫ابراهيم بدمه الطليل كما يقول الراوي‪ .‬وتبرز هنا رؤيا ابراهيم واحالمه في تغيير الواقع والوجود من خالل‬
‫تساؤالت تشمل الطبيعة‪ ،‬وعالقة االنسان بالطبيعة وحياة االنسان كمركز للوجود‪ .‬وتكشف هذه التساؤالت ان احالم‬
‫ابراهيم كبيرة ويتطلب تحقيقها تفجيير امكانات خارقة للمألوف‪.‬‬
‫مقطع على لسان الراوي يتخلله حديث مباشر بصوت مجهول يبدأ بقول الراوي ‪ ” :‬وحين صوب العدو مدفع‬ ‫‪‬‬
‫الردى” ويمتد الى قوله “… لعله جنون ” (‪ 16‬سطراً)‪ ،‬وفي هذا المقطع يتحدث الراوي عن (ابراهيم) ومن معه‬
‫من الجنود الذين يواجهون سيال من رصاص العدو فيصيح بهم صوت مجهول ان يتقهقروا الى الوراء‪ .‬فيتقهقر‬
‫الجميع اال ابراهيم الذي ظل سائراً الى االمام متحديا ً الرصاص‪ ،‬واذ سقط ابراهيم يقول اآلخرون كما يورد‬
‫الراوي‪ :‬انه الجنون‪ ،‬ويعلق ‪:‬لعله الجنون‪ .‬نالحظ في هذا المقطع تكرار‪“ :‬تقهقروا” مرتين في موضعين‪:‬‬
‫األول‪:‬صوت مجهول‪،‬والثاني‪ :‬صدى الصوت األول‪ .‬كذلك نالحظ تكرار ( لكن ابراهيم ظل ساهراً) في موضعين‪،‬‬
‫وذلك تأكيداً على ان ابراهيم لم يعر التحذير اهتماما ً ولم ِ‬
‫يبال بالموت‪.‬‬
‫مقطع على لسان الراوي ويبدأ بقوله‪“ :‬لكنني عرفت جاري العزيز…” ويمتد الى نهاية القصيدة‪ …“ :‬ترمي بها‬ ‫‪‬‬
‫حجر” (‪ 6‬اسطر)‪ ،‬وهو يشكل اعادة لكلمات المقطع األول مما يعطي القصيدة شكالً دائريا ً ال مغلقاً‪ ،‬وهو شكل‬
‫مستحب عند الكثيرين من انصار الشعر الحديث ومتبع لديهم‪.‬‬

‫تعلن القصيدة في مدخلها عن العالقة الحميمية بين الذات وإبراهيم باعتباره شخصية محورية تنجز الفعل وتحققه دون تراجع‪.‬‬
‫إبراهيم إنسان عادي‪ ،‬يحمل اسمه ايحاء دينيا وتاريخيا مستمدا من النبي إبراهيم الذي صدق الرؤيا وعزم على تنفيذها‪،‬‬
‫ومستمدا من المسيح المخلص بحسب عقيدة المسيحيين‪ .‬إن ما يميز إبراهيم داخل عالم القصيدة هو عالقاته باآلخرين‪ ،‬فهو‬
‫مصدر الحياة والعطاء في صحراء تنعدم فيها شروط الحياة‪ ،‬لكن اآلخرين ال يهتمون به نفس اهتمامه بهم‪ ،‬فالعالقة غير‬
‫متعادلة‪ .‬إذ رغم كونه يمنحهم الحياة باعتباره البئر التي يفيض ماؤها يكن له اآلخرون الالمباالة وينعتونه بالجنون‪.‬‬

‫في الوحدة الثانية تنمو القصيدة وتتطور عبر التركيز على إبراهيم مرة أخرى‪ ،‬وفعل التضحية الفردي يؤشر عليه بتكرار‬
‫الفعل المشروط‪ :‬لو كان لي…‪ ..‬الذي يقدم عليه لبعث الجماعة الميتة‪ .‬إبراهيم هنا هو المسيح الذي يفدي العالم بموته ما دام‬
‫يشعر بمسؤوليته تجاه اآلخرين‪ .‬إن إبراهيم هنا ليس من أجل استمرار الحياة فحسب بل لتغييرها إلى األفضل‪ .‬ومن مظاهر‬
‫هذا التغيير تحول الطبيعة التي لن تعرف غير الربيع وتحول العقبان عن طبيعتها االفتراسية فيعم السالم واألمن وتسترجع‬
‫المعامل والشوارع والحقول طبيعتها الحية التي فقدها اإلنسان المعاصر‪ ،‬كما يسترجع اإلنسان كرامته ويعود الضال التائه إلى‬
‫أرض معاده‪ .‬ولعل هذه المبادئ الحياةألسلمألكرامةءمحو الخطيئة هي المبادئ التي ضحى من أجلها المسيح قديما ويضحي من‬
‫أجلها إبراهيم راهنا فإبراهيم هو مخلص اإلنسان حديثا‪ .‬إن هذه المتمنيات التي صيغت عبر استفهامات ستتحول إلى واقع في‬
‫الوحدة الثالثة حين واجه إبراهيم الرصاص والموت ورماه اآلخرون بالجنون‪.‬‬

‫تحليل! النص‬
‫الصور الشعرية!‬
‫على مستوى الصور الشعرية يبدو أن يوسف الخال وجد في الصورة متنفسا ً للهروب من سلطة اللغة عبر االنزياحات الداللية‬
‫والرمز واألسطورة التي مثلت من جهة قدرة الشاعر على اختراق اللغة وتفجيرها وشحنها بتداعيات جديدة خارج المحمول‬
‫اإلشاري الجاهز‪ .‬ومن جهة ثانية كشفت عن الرؤيا الشعرية الجامعة بين خاصيتين‪ ،‬خاصية االقتراب من المألوف المعجمي‪،‬‬
‫وخاصية الكثافة الداللية المتولدة عن االنزياح والرمز واألسطورة‪ .‬وتأسيسا على هذا أصبحت الوظائف الممكنة للصورة‬
‫الشعرية تغريبية وبنيوية‪ ”:‬يحول الغدير سيره كأن تبرعم الغصون في الخريف”‪ .‬فإذا كانت الوظيفة البنيوية للصورة الشعرية‬
‫تتمثل في المشاركة الفعلية للمتلقي في بناء القصيدة بناء عضويا ً اعتمادا على تأويل الرموز واألساطير فإن التغريب يؤول إلى‬
‫المفارقات ا لبعيدة بين مكونات الصورة التي يمنحها التأويل انسجامها‪ .‬ولننظر مثال إلى جمع الشاعر بين المتنافر في قوله‬
‫“أتضحك المعامل الدخان؟”‪ .‬إذ الدالالت السياقية للدخان السوداوية والمعاناة‪ ،‬والمحمول الفعلي “تضحك” يدل وفق المألوف‬
‫على االنتشاء‪ ،‬غير أن االنسجام يتحقق بحمل الضحك على السخرية…‪.‬‬

‫ورغم كثرة الصور وتراكمها في القصيدة فإننا يمكن أن نكثفها في داللتي النبوة والتضحية‪ ،‬حيث تحضر الذات الشاعرة كنبي‬
‫وضحية في نفس اآلن‪ :‬تستشرف المستقبل وتبشر به‪ ،‬ويقف المجتمع ضدها ويضطهدها كما اضطهد األنبياء‪ .‬ولما فشلت‬
‫الذات‪ /‬الرمز في تحقيق مشروعها انعزلت وانطوت على ذاتها بتخطي الواقع والمجتمع مستبدلة إياه بالرؤيا الميتافيزيقية‪،‬‬
‫ومن سمات هذه الرؤيا الرفض والغربة والنفي والوحدة والحرمان واالضطهاد‪ ،‬وما هذه السمات إال مظهر من مظاهر الخلفية‬
‫الفلسفية الوجودية‪ ،‬ناهيك عن قرار اختيار الذات نفسها مرجعا للتمثالت والقناعات‪ ،‬فإبراهيم لم يستجب لنداء الجماعة‪ ،‬ولم‬
‫يفضل ما فضله رفاقه من العودة إلى الوراء؛ ألن مصدر معرفته اليقينية ذاته‪ ،‬ووجب عليه أن يعيش هذه المعرفة كتجربة‬
‫حياتية فيختار طريق الجنون من منظور اآلخرين‪ ،‬طريق الحياة من منظوره هو‪ ،‬فوقع فريسة االغتراب الناتج عن انعدام‬
‫التواصل وعن االنفصال والتعارض الذي لم يقتصر على الذات واآلخر‪ ،‬بل تجاوز ذلك إلى التعارض بين حضارة الصحراء‬
‫المرفوضة وحضارة الماء المأمولة‪ .‬وهذا الكشف الشعري ليس كله تخييال‪ ،‬بل ينبني على مرجعية إيديولوجية تكمن في‬
‫المشروع القومي الحداثي‪ ،‬فالماء والصحراء رمزان لحضارتين متعارضتين حضارة العرب وحضارة الغرب المتوسطية‪.‬‬
‫األسلوب‬
‫إن الشرخ الهائل بين الذات والعناصر المؤثثة للفضاء الشعري من جماد وإنسان ترسم قسماته قصيدة البئر المهجورة مستعيرة‬
‫الرمز واألسطورة‪ :‬إبراهيم – المسيح – أوليسء أوديب – الخروف‪ .‬ووجود البئر في الصحراء كبشير خير وبركة يقوي‬
‫التداخل العميق بين النص المقدس (المتن الديني) وبين القصيدة تداخال تذوب داخله تفاصيل أحداث المحكي األصلي (التقابل‬
‫بين إبراهيم النبي‪/‬خليل هللا وإبراهيم المضحي‪/‬خليل الشاعر‪ .‬المسيح المصلوب وإبراهيم المصلوب على سارية الضياء رغبة‬
‫في تحقيق العدل وتحقيق التطهير)‪ .‬وتتحكم في بنية التصوير وجدلية العالقات حركتان‪ :‬تتجسد األولى في صورة إبراهيم قبل‬
‫التضحية والثانية بعد التضحية وما نتج عنهما من تحوالت في الرؤى والمواقف من المباالة إلى اندهاش‪ .‬فالحركة األولى‬
‫تأسست على أساليب الرجاء (إمكان التحقق) والتمني (استحالة التحقق)‪ .‬لقد تواترت العبارة “لوكان لي” خمس مرات تارة‬
‫تتعلق بالتضحية وتارة باالفتداء مؤسسة رغبة في الفعل(اإلرادة) ومخمنة ما يترتب عن الفعل المأمول من تحول يمس الطبيعة‬
‫الناطقة والصامتة ويمس الحضارة واإلنسان‪ .‬لقد تحول المعجز من إطار الغيب إلى اإلطار اإلنساني من تضحية إبراهيم بابنه‬
‫استجابة ألمر هللا إلى تضحية إبراهيم بنفسه لمحو الظلم ونشر العدل والمحبة والسعادة‪ .‬وفي إطار المتن الديني دائما تماهت‬
‫الشخصية المركزية من جديد مع المسيح تعبيرا عن الخالص ومحو الخطايا‪.‬‬

‫واقترن المسيح في هذا التشكيل باستحضار أوليس البطل الميثولوجي الذي يعاني عذابا ً شديداً على المستوى النفسي والجسدي‬
‫والذهني ويجتاز المهالك منذ مستهل رحلته حتى يحقق هدفه النهائي‪ ،‬ويؤوب منتصراً إلى المكان الذي انطلق منه‪ .‬أما الحركة‬
‫الثانية فانتقال من القول إلى الفعل وتأكيد حضور الذات لحظة المواجهة والتصدي واالستشهاد ونكوص اآلخرين‪ ،‬ومع ذلك لم‬
‫يكن محل تقدير من قومه‪ .‬وانطالقا من هنا يبدو البناء العضوي للقصيدة الذي ساهمت متماسكا بفعل الكثير من العناصر‪ ،‬من‬
‫بينها األساليب الموظفة والضمائر واإليقاع الخارجي والداخلي‪.‬‬

‫على مستوى التركيب النحوي والتداولي نوع النص بين الخبري االبتدائي واإلنشاء عبر صيغ غاب فيها المحتوى القضوي‬
‫المباشر وحضرت فيه القوة اإلنجازية االستلزامية المرتبطة بالرؤيا الكامنة خلف المواد المعجمية والتشكيل التركيبي‬
‫وطوابعهما اإلشارية الموحية والغامضة التي تصب في التطلعات المتعلقة بتثبيت القيم اإلنسانية النبيلة وثراء الحياة وخصبها‪،‬‬
‫كاالستفهام في قول الشاعر‪ ” :‬ترى ‪ ،‬يحول الغدير سيره…ويطلع النبات في الحجر؟” أتبسط السماء وجهها فال تمزق العقبان‬
‫في الفالة قوافل الضحايا؟… ” والتمني “لو كان لي أن أموت أن أعيش من جديد” فقد حافظ الشاعر فيهما على معنى‬
‫االستحالة وإن كان يرتبط بالرغبة واإلرادة في الفعل‪ ،‬واألمر «تقهقروا‪ ،‬تقهقروا”‪ .‬الصادر عن آمر مجهول وكأنه الصوت‬
‫الخفي الذي يسيطر على اآلخرين ويشكل لديهم الثابت الذي ال يمكن التمرد عليه باستثناء إبراهيم‪ .‬ورافق هذا التنويع في‬
‫األسلوب تنويع في الجمل الفعلية بين الحاضر والمستقبل وبين الماضي‪ .‬وإذا كان الماضي يحدد زمن عالقة السارد بإبراهيم‬
‫الضاربة في القدم‪ ،‬والمصير الذي آل إليه‪ ،‬فإن المضارع يعلن عن التحول المأمول ويمثل الحلم ويبشر بالغد األفضل‪ .‬وبما أن‬
‫ضمير المتكلم يحيل على إبراهيم وضمير الغائب يحيل على السارد ويتبادل الفاعالن المواقع فيصير المتكلم ساردا والغائب‬
‫الحاضر إبراهيم فإن الخطاب الشعري استنادا إلى الضميرين المتعاضدين يحمل الوظيفة التعبيرية االنفعالية والوظيفة‬
‫المرجعية‪ ،‬إال أنهما ليستا مهيمنتين بل مجرد جسر للوظيفة الجمالية الطاغية التي تحققها الصور الشعرية والتموجات‬
‫اإليقاعية‬

‫اإليقاع‬
‫على مستوى اإليقاع استنجد الشاعر بتفعيالت الرجز كإطار موسيقي إال أنه انزاح فيه كثيرا عن الصور األصلية ليشاكل‬
‫التدفق النغمي المناسب لتشكل الرؤيا في النص‪ .‬وللتوضيح نورد األسطر الشعرية األولى مفاعلن مستفعلن مفاعلن مفاعالتن‬
‫مفاعلن مستفعلن مفاعلن مفاعلن فعل مفاعلن مفاعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن فعل‪.‬لقد اكتسبت القصيدة بنيتها اإليقاعية من‬
‫تكرار صور (مستفعلن) في غير التزام بضوابط العروض و تكرار المقاطع وتكرر اللفظ (عرفت) والجملة ( لوكان لي أن )‬
‫وأصوات مثل الراء في األسطر الشعرية األولى فهي تحضر تقريبا في كل الكلمات األولى ‪ ،‬واستثمار التوازي(االستفهام ‪+‬‬
‫الفعل ‪ +‬الفاعل…) وعالمات الترقيم والبياض بما يخدم الموسيقى والتركيب والداللة والقراءة والدفقات الشعورية في عالقتها‬
‫بالوقفات الثالثة وقد أحصينا نسبة تشغيل الفاصلة في النص فبلغت اربعا وعشرين مرة بينما النقطة لم تتجاوز عشر مرات‪ .‬إن‬
‫الفاصلة داخل النص تؤشر على أن البنية النظمية (التركيب النحوي) لم تكتمل بعد أو اكتملت غير أنها تشترك مع ما يعقبها‬
‫في الحكم داللة وتركيبا مما يؤمن االنسياب واالسترسال بين األسطر الشعرية‪ ،‬كما تؤشر على التعارض بين مقتضيات‬
‫العروض ومقتضيات التركيب والداللة ‪ ،‬وتلك صفه من صفات اللغة الشعرية‪ ،‬إذ غالبا ما تتزامن الوقفة الوزنية مع البياض‬
‫الداللي أو الوقفة النظمية النسبية التي تؤشر عليها الفاصلة‪ .‬وفي هذا المقام يحضر التقابل بين الوصل والفصل‪ .‬أما النقطة‬
‫والبياض فيحققان وظائف متنوعة بدء بالتأشير على تمام المعنى وإفادته إلى التأشير على نهاية المقاطع‪ .‬وقد تضافرت عالمتا‬
‫االستفهام والتعجب مع النقطة ألداء هذه الوظائف المتعددة‪ .‬ومن المفيد أيضا‪ ،‬أن نشير الى أن النقطة غالبا ما تسم األسطر‬
‫الشعرية باالتساق ويقصد به هنا اتحاد الوقفات‪.‬‬

‫إضافة إلى هذه المكونات هناك تداخل الخطابات في النص ولعل الخطاب القصصي حاضر في القصيدة بشكل بارز‪ .‬ويتجسد‬
‫في البناء الدرامي باعتباره جسما متكامال في حد ذاته ‪،‬ويتشكل من عناصر متناسقة كل منها يقوم بدوره في مرحلة‬
‫معينة(البداية ‪/‬العقدة‪/‬النهاية) األمر الذي يتيح النمو والحركة باتجاه المصير والمآل‪ .‬والسارد والبطل المأساوي والحوار‬
‫الداخلي والحوار الخارجي والسرد والوصف عالمات دالة في النص‪.‬‬

‫تركيب وتقويم‬
‫نخلص من كل هذا إلى أن هذه القصيدة اغتنت بعوالم تخييلية بفعل محاورة النصوص الدينية واألسطورة والتراث األدبي مما‬
‫مكن من تفجير األسئلة الوجودية‪ .‬وأصبح المنسي يأخذ حضوره وراهينته من تداعيات المعنى المسكوب في إيحاء اإليقاع‬
‫وشغب الصور واندالق الداللة مما عقد عملية مالحقة تفاصيل الرؤيا في النص والتي يبدو أنها غير محدودة‪ .‬وقد جسد‬
‫الشاعر من خالل هذه القصيدة تصوره الحداثي للشعر المتجه نحو فلسفة الهدم والتمرد واالنقالب على الجاهز والثابث‬
‫والمألوف وإعادة تركيب معطى جديد من المواد المهدومة والمهضومة بما يضمن اإلبداع والتميز والقوة دون قطيعة مع‬
‫الموروث اإلنساني‬

You might also like