You are on page 1of 23

‫العربي األدب في الفكاهة‬

‫المقدمة‪:‬‬

‫من الجدية بمكان أن نعرف دور الفكاهة في الحياة الموزونة‪ ،‬ومن الهزل بمكان أن نغفلها ونحاول إقامة الحياة دونها‪.‬‬

‫النظرة الجادة ‪-‬أي المحيطة‪ -‬للحياة تعترف بدور الترويح والفكاهة فيها‪ ..‬كذلك تعترف النظرة الجادة للحياة بدور‬

‫الحاجات التسع األخرى وضرورة إشباعها إشباعا ً موزوناً‪ ..‬تلك هي الحجة النظرية‪ .‬ولكن بصرف النظر عن‬

‫التنظير‪ ،‬ال نجد مجتمعا ً إنسانيا ً واحدا ً خال من أدب الفكاهة‪ ..‬التراث الفرعوني‪ ،‬والبابلي‪ ،‬واآلشوري‪ ،‬واليوناني‪،‬‬

‫والروماني‪ ،‬والعبري‪ ،‬والعربي القديم زاخر بأدب الفكاهة ودليل على دورها النفسي واالجتماعي في حياة البشر ‪.‬‬

‫المبحث األول ‪:‬الفكاهة واأللفاظ المقاربة في اللغة‬

‫إن لغة العرب ليست وسيلة تعبير فحسب‪ ،‬ولكنها أيضا ً ديوان العرب وموسوعة معارفهم‪ .‬ولبيان آرائهم عن الفكاهة‬

‫فإنني سوف أستعرض ما جاء في الموضوع في لسان العرب البن منظور‪:‬‬

‫قال الجوهري ‪ :‬الفكاهة بالفتح مصدر فكه الرجل فهو فكه‪ ،‬إذا كان طيب النفس مزاحا‪ ،‬والفكاهة المزاح‪ .‬وفي حديث‬

‫أنس‪ :‬كان النبي (صلى هللا عليه وسلم) من أفكه الناس مع صبي‪ .‬وفي حديث آخر أنه " كان صلى هللا عليه وسلم من‬

‫أفكه الناس مع نسائه" ‪ ..‬وقال أبو زيد ‪ :‬رجل فكه وفاكه وفيكهان‪ ،‬وهو الطيب النفس المزاح‪.‬‬

‫مزح‪ :‬المزاح هو الدعابة‪ .‬المزاح نقيض الجد‪ .‬قال األزهري المزاح من الرجال هم الخارجون من طبع الثقالء‬

‫المتميزون من طبع البغضاء ‪.‬‬

‫دعب‪ :‬دعابة مداعبة داعبه ‪ -‬أي مازحه‪ ،‬واالسم الدعابة والمداعبة‪ .‬والمداعبة الممازحة‪ .‬وفي الحديث أن النبي (صلى‬

‫هللا عليه وسلم) كان فيه دعابة ‪-‬حكاه ابن األثير في النهاية‪ .‬وفي الحديث أن النبي (صلى هللا عليه وسلم)قال لجابر‬

‫وقد تزوج‪ :‬أبكرا ً تزوجت أم ثيباً؟ قال بل ثيباً‪ ،‬فقال له ‪ :‬هال تزوجت بكرا ً تداعبها وتداعبك‬

‫‪---------------------------------------‬‬

‫‪ -1‬إحسان عباس ‪ ،‬تاريخ النقد األدبي عند العرب ‪ ،‬ط‪ ، 4‬دار الثقافة ‪ ،‬بيروت ‪1983‬م‬

‫‪2‬‬
‫هزأ‪ :‬والهزأ والهزؤ السخرية‪ .‬ويقال هزئ به ومنه‪ .‬ورجل هزأة‪ ،‬أي يهزأ به الناس‪ .‬سخر منه‪ ،‬هزئت به سخرت منه‬

‫وسخرت به ضحكت منه وضحكت به‪.‬‬

‫هزل‪ :‬الهزل نقيض الجد‪ .‬وتقول هزل يهزل هزالً قال الكميت‪:‬‬

‫تجد بنا في كل يوم ونهزل‬ ‫أرانا على حب الحياة وطولها‬

‫الضحك‪ :‬الضحك ظهور الثنايا من الفرح‪ .‬وفي الحديث‪ :‬يبعث هللا السحاب فيضحك ‪ -‬جعل انجالءه عن البرق ضحكا ً‬

‫كما يفتر الضحاك عن الثغر‪ .‬ويقال‪ :‬ضحكت األرض إذا أخرجت نباتها وزهرتها‪ .‬الضحك إذن ظاهرة محسوسة‬

‫مشاهدة تجسدها حركة في الوجه وظهور الثنايا‪ .‬ومن الضحك ما هو طيب ومنه ما هو خبيث ما كان منه نتيجة هزء‬

‫وسخرية وهزل فهو خبيث لذلك نسبت الفكاهة والدعابة لبعض أفعال وأقوال النبي (صلى هللا عليه وسلم) ولم تنسب له‬

‫السخرية والهزل والهزء‪.‬‬

‫المطلب األول ‪:‬أسباب الفكاهة فوائد الضحك‬

‫ما هو الضحك؟ ولماذا يحدث نحن البشر إذا شاهدنا جماال رائعا في البحر‪ ،‬أو النهر‪ ،‬أو الشجر‪ ،‬أو المدر‪ ،‬أو القمر‪،‬‬

‫أو الصخر‪ ،‬أو البشر ال نملك إال أن نعجب به معبرين بإحدى عبارات اإلعجاب‪ :‬هللا‪ ،‬يا سالم‪ ،‬ما شاء هللا‪ ،‬أو أمثالها‪.‬‬

‫كذلك هنالك مواقف إذا مرت علينا ال نملك إال أن نبتسم أو نقهقه ها ها ها لماذا؟‪!.‬‬

‫الضحك انفعال تنقبض له ‪ 15‬عضلة من عضالت الوجه ويصحبه تغيير في نبرة التنفس إذا عرضنا إنسان العين‬

‫لضوء قوي فإنه ينكمش من تلقاء نفسه وإذا تعرض اإلنسان لموقف فكه فإنه يضحك من تلقاء نفسه‪ ،‬هذا يشير إلى‬

‫وجود صفتين هامتين للضحك‪:‬‬

‫أ‪ .‬الصفة األولى‪ :‬هي أن الضحك يخدم غرضا حيويا لإلنسان مثلما يخدم انكماش إنسان العين مع الضوء غرضا‬

‫حيويا‪ ،‬الغرض الذي يخدمه الضحك هو إزالة التوتر من نفس اإلنسان‪.‬‬

‫‪---------------------------------------‬‬

‫إحسان عباس ‪ ،‬تاريخ النقد األدبي عند العرب ‪ ،‬ط‪ ، 4‬دار الثقافة ‪ ،‬بيروت ‪1983‬م‬ ‫‪-‬‬

‫أحالم ّ‬
‫الزعيم ‪،‬أبو نواس بين العبث واالغتراب والتمرد ‪ ،‬دار العودة‪ ،‬بيروت ‪1981‬م‬ ‫‪-‬‬

‫‪3‬‬
‫ب‪ .‬الصفة الثانية‪ :‬هي أن الضحك أكثر تعقيدا من انكماش إنسان العين ألن فيه جوانب حسية وجوانب نفسية‪ ،‬الجانب‬

‫الحسي هو تقلص عضالت الوجه وانحسار الشفتين عن األسنان واختالف نبرة التنفس‪ ،‬أما األثر النفسي فهو االبتهاج‬

‫أو السرور‪ .‬هنالك أحوال كثيرة ذات أثر نفسي مثل الضحك ولكن الضحك يختلف عنها‪ .‬فإذا هممت بإقناع شخص‬

‫بحجة ما فإنك ال تستطيع أن تجزم بعد سماع الحجة أنه اقتنع بها ولكن إذا عرضت شخصا لموقف فكه فإن ضحكه‬

‫يؤكد لك أنك قد حققت ما تريد‪.‬‬

‫فالضحك هو انفعال حسي ونفسي بمواقف فكهة‪ .‬وهو طبيعي في اإلنسان بحيث ال يعرف مجتمع إنساني لم يمارس‬

‫الضحك ويسجل أدبا للفكاهة ‪.‬‬

‫قال أرسطو "إن اإلنسان هو الحيوان الوحيد الذي يضحك!"‪ ..‬لقد أثبتت بعض الدراسات العلمية الحديثة أن في بعض‬

‫الكائنات يوجد شيء شبيه للضحك استجابة لبعض المؤثرات‪ ،‬ولكن ومع ذلك فإن هذه الدراسات تؤكد أن ضحكها‬

‫يختلف عن اإلنسان ألنه يفتقد عنصر الوعي بالذات الذي يوجد في الضحك اإلنساني ‪.‬‬

‫المطلب الثاني ‪:‬الضحك في التراث اإلسالمي‬

‫التراث اإلسالمي دالئل على وجود الضحك كثيرة‪ ..‬لنبدأ بالقرآن وهو كما وصفه النبي (صلى هللا عليه وسلم) مأدبة‬

‫هللا‪ ،‬مواقف الفكاهة في القرآن عديدة أذكر منها مشهد إبراهيم (عليه السالم) مع الوثنيين وقد حطم األصنام ثم وضع‬

‫الفأس على كتف أكبرها مدعيا أنه محطم اآلخرين فـ(نكسوا على رؤسهم) ذلك أنه وضعهم أمام مفارقة فهم يزعمون‬

‫أن التماثيل آلهة وهو يؤكد أنها ال تضر وال تنفع وال تستطيع حتى الدفاع عن نفسها‪ ،‬قال تعالى‪( :‬فجعلهم جذاذا إال‬

‫كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون* قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين * قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم*‬

‫قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون * قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم * قال بل فعله كبيرهم هذا‬

‫فاسألوهم إن كانوا ينطقون)‬

‫‪---------------------------------------‬‬

‫إحسان عباس ‪ ،‬تاريخ النقد األدبي عند العرب ‪ ،‬ط‪ ، 4‬دار الثقافة ‪ ،‬بيروت ‪1983‬م‬ ‫‪-‬‬

‫أحالم ّ‬
‫الزعيم ‪،‬أبو نواس بين العبث واالغتراب والتمرد ‪ ،‬دار العودة‪ ،‬بيروت ‪1981‬م‬ ‫‪-‬‬

‫‪4‬‬
‫وكذلك موقف زوج عزيز مصر وقد دعت النساء الالئي كن ينكرن عليها افتتانها به‪ ،‬فأعدت لهن متكئا وأمسكن‬

‫بالسكاكين وخرج عليهن يوسف (عليه السالم) فطاش صوابهن!‪ .‬قال تعالى‪( :‬أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت‬

‫كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش هلل ما هـذا بشرا إن هـذا إال‬

‫ملك كريم)‬

‫وموقف سليمان عليه السالم من حديث النمل حيث حذرت إحداهن البقية من أن يحطمنهم سليمان وجنوده وهم ال‬

‫يشعرون‪ ،‬قال تعالى‪( :‬حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ال يحطمنكم سليمان‬

‫وجنوده وهم ال يشعرون* فتبسم ضاحكا من قولها) ‪.‬‬

‫المطلب الثالث ‪:‬الفكاهة لدى الرسول وأصحابه‬

‫أما السيرة فتحدثنا أن النبي (صلى هللا عليه وسلم) كان أكثر الناس تبسما في وجوه أصحابه‪ .‬ولربما ضحك حتى تبدو‬

‫نواجذه ‪ .‬ومن حديث جرير قال "ما حجبني رسول هللا صلى هللا عليه وسلم منذ أسلمت وال رآني إال ضحك" أو‬

‫"وال رآني إال تبسم في وجهي" ‪ .‬وأخرج اإلمام أحمد عن أم الدرداء "كان أبو الدرداء ‪ ،‬إذا حدث حديثا تبسم ‪ ،‬فقلت‬

‫‪ :‬ال يقول الناس إنك ‪ ،‬أي ‪ :‬أحمق ؟ فقال ‪ " :‬ما رأيت ‪ ،‬أو ما سمعت ‪ ،‬رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يحدث حديثا إال‬

‫تبسم " ‪.‬‬

‫وكان الرسول صلى هللا عليه وسلم يدعو لطالقة الوجه وإلى االبتسام‪ ،‬وقد قال‪( :‬تبسمك في وجه أخيك لك صدقة )‬

‫وقال من حدبث أبي هريرة‪( :‬إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ‪ ،‬فليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق)‪ .‬وقال ألبي‬

‫ذر‪( :‬يا أبا ذر ‪ ،‬ال تحقرن من المعروف شيئا ‪ ،‬ولو أن تلقى أخاك بوجه منبسط) وقيل بوجه طليق ‪ ،‬وبوجه طلق ‪.‬‬

‫وكان صلى هللا عليه وسلم يمازح أصحابه وقد ترددت الروايات التي تثبت ذلك‪ ،‬فعن أنس بن مالك رضي هللا عنه‬

‫(قال لي رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ " :‬يا ذا األذنين) ‪.‬‬

‫‪---------------------------------------‬‬

‫إحسان عباس ‪ ،‬تاريخ النقد األدبي عند العرب ‪ ،‬ط‪ ، 4‬دار الثقافة ‪ ،‬بيروت ‪1983‬م‬ ‫‪-‬‬

‫‪5‬‬
‫وكان يستخدم النكتة اللفظية‪ ،‬من ذلك ما روي من أن رجال أتى إلى النبي صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا رسول هللا‬

‫احملني قال النبي صلى هللا عليه وسلم ‪ ( :‬إني حاملك على ولد الناقة فقال يا رسول هللا ما أصنع بولد الناقة فقال رسول‬

‫هللا صلى هللا عليه وسلم وهل تلد اإلبل إال النوق )‬

‫وكان يستخدم المزاح ليذهب الحزن عن الناس‪ ،‬وقد روى أنس كيف أنه مازح أخاه أبا عمير وقد كان حزينا‬

‫صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق ‪ ،‬فإذا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قد‬

‫قبض بقفاي من ورائي ‪ ،‬قال ‪ :‬فنظرت إليه وهو يضحك ‪ ،‬فقال ‪ " :‬يا أنيس أذهبت حيث أمرتك ؟ " قال قلت ‪ :‬نعم ‪،‬‬

‫أنا أذهب ‪ ،‬يا رسول هللا قال أنس ‪ :‬وهللا لقد خدمته تسع سنين ‪ ،‬ما علمته قال لشيء صنعته ‪ :‬لم فعلت كذا وكذا ؟ أو‬

‫لشيء تركته ‪ :‬هال فعلت كذا وكذا)‬

‫ومن مداعباته صلى هللا عليه وسلم لصحابته ما رواه أسيد بن حضير ‪ ،‬قال ‪( :‬بينما هو ‪ -‬يعني أسيد ‪ -‬يحدث القوم‬

‫وكان فيه مزاح بينا يضحكهم فطعنه النبي صلى هللا عليه وسلم في خاصرته بعود فقال ‪ :‬أصبرني فقال ‪ " :‬اصطبر "‬

‫قال ‪ :‬إن عليك قميصا وليس علي قميص ‪ " ،‬فرفع النبي صلى هللا عليه وسلم عن قميصه ‪ ،‬فاحتضنه وجعل يقبل‬

‫كشحه " ‪ ،‬قال إنما أردت هذا يا رسول هللا)‬

‫قال كعب بن مرة سمعته صلى هللا عليه وسلم يقول‪( :‬ارموا أهل صنع ‪ ،‬من بلغ العدو بسهم ‪ ،‬رفعه هللا به درجة " ‪،‬‬

‫قال ‪ :‬فقال عبد الرحمن بن أبي النحام ‪ :‬يا رسول هللا ‪ ،‬وما الدرجة ؟ قال ‪ :‬فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ :‬أما‬

‫إنها ليست بعتبة أمك ‪ ،‬ولكنها بين الدرجتين مائة عام)‬

‫وعن أنس (أن رجال من أهل البادية كان اسمه زاهرا ‪ ،‬وكان يهدي إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم الهدية من‬

‫البادية ‪ ،‬فيجهزه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إذا أراد أن يخرج ‪ ،‬فقال النبي صلى هللا عليه وسلم‪ " :‬إن زاهرا‬

‫باديتنا ‪ ،‬ونحن حاضروه " ‪ .‬وكان النبي صلى هللا عليه وسلم يحبه ‪ ،‬وكان رجال دميما ‪ ،‬فأتاه النبي صلى هللا عليه‬

‫وسلم يوما وهو يبيع متاعه ‪ ،‬فاحتضنه من خلفه وال يبصره الرجل ‪ ،‬فقال ‪ :‬أرسلني من هذا ‪ ،‬فالتفت فعرف النبي‬

‫‪---------------------------------------‬‬

‫أحالم ّ‬
‫الزعيم ‪،‬أبو نواس بين العبث واالغتراب والتمرد ‪ ،‬دار العودة‪ ،‬بيروت ‪1981‬م‬ ‫‪-‬‬

‫‪6‬‬
‫صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬فجعل ال يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬حين عرفه ‪ ،‬وجعل النبي‬

‫صلى هللا عليه وسلم يقول ‪ " :‬من يشتري العبد ؟ " فقال ‪ :‬يا رسول هللا ‪ ،‬إذا وهللا تجدني كاسدا ‪ ،‬فقال النبي صلى هللا‬

‫عليه وسلم ‪ :‬لكن عند هللا لست بكاسد أو قال ‪ :‬لكن عند هللا أنت غال) ‪.‬‬

‫وكان صلى هللا عليه وسلم يمزح مع أقاربه ‪ ،‬فيأتي عليا ‪ ،‬وهو مضطجع في المسجد‪ ،‬بعد أن سأل عنه فاطمة رضي‬

‫هللا عنها ‪ ،‬فقالت كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج‪ ،‬فيقول له ‪( :‬قم أبا التراب قم أبا التراب)‬

‫وكان يمازح الصحابة‪ ،‬وقد روي أن الصحابي نعيمان بن عمرو األنصاري رضي هللا عنه كان كثير الضحك حاضر‬

‫الطرفة سريع البديهة وقد أشار اإلمام النووي إلى كثرة مزاح نعيمان وضحك النبي صلى هللا عليه وسلم منه حتى قيل‬

‫إن الرسول قال عنه (يدخل الجنة وهو يضحك)‪ .‬ولنعيمان األنصاري قصص كثيرة تدور حول دعابته مع رسول هللا‬

‫(صلى هللا عليه وسلم) ومع أصحابه‪ .‬وقيل إنه كان ال يدخل المدينة ُ‬
‫طرفة‪ ،‬أو فاكهة‪ ،‬إال اشترى منها‪ ،‬وأكل بعضها‪،‬‬

‫وأهدى الباقي إلى النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فإذا جاء صاحبها يطلب ثمنها من نُعيمان أحضره إلى النبي صلى هللا‬

‫عليه وسلم وقال‪ :‬أعط هذا ثمن متاعه!! فيقول النبي صلى هللا عليه وسلم‪(( :‬أولم تهده لي؟)) فيقول‪ :‬نعم‪ ،‬ولكن‪ ،‬وهللا‬

‫ليس عندي ثمنه‪ ،‬ولقد أحببت أن تأكله‪ .‬فيضحك النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ويأمر لصاحبه بالثمن‪.‬‬

‫ومن نوادره‪ :‬أن أعرابيا ً دخل على النبي صلى هللا عليه وسلم وأناخ ناقته بفنائه‪ ،‬وكانت – ناقة – فتية سمينة‪ ،‬فقال‬

‫بعض أصحاب نُعيمان‪ :‬لو عقرتها فأكلناها‪ .‬فإنا قد قرمنا إلى اللحم‪ .‬فقام نُعيمان وعقر الناقة‪ .‬فخرج األعرابي من عند‬

‫النبي صلى هللا عليه وسلم ووجد ناقته تُسلخ‪ ،‬ونُعيمان يتولى توزيع لحمها‪ .‬فصاح‪ :‬يا محمد‪ ،‬واعقراه‪ :‬واناقتاه‪ .‬فخرج‬

‫الرسول صلى هللا عليه وسلم وقال‪(( :‬من فعل هذا؟)) فقالوا‪ :‬النُعيمان‪ .‬فأتبعه يسأل عنه‪ ،‬حتى وجده قد دخل دار‬

‫ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب‪ .‬واستخفى تحت سرب (دكة تكون خارج الغرفة) فوقه جريد‪ .‬فأشار بعضهم إلى‬

‫ي يا‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم إلى مكانه‪ :‬فأمر بإخراجه‪ .‬وقال له‪(( :‬ما حملك على ما صنعت؟))‪ .‬قال‪ :‬الذين دلوك عل ّ‬

‫‪---------------------------------------‬‬

‫أحمد بدوي ‪ ،‬أسس النقد األدبي عند العرب ‪ ،‬ط‪ ، 2‬مكتبة نهضه مصر ‪1960‬م‬ ‫‪-‬‬

‫أحمد عطية هللا ‪ ،‬سيكولوجية الضحك ‪ ،‬دار إحياء التراث العربي‬ ‫‪-‬‬

‫‪7‬‬
‫رسول هللا‪ ،‬هم الذين قَ ِرموا إلى اللحم‪ ،‬وأمروني بعقر الناقة‪ .‬فضحك رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وجعل يمسح‬

‫التراب عن وجهه‪ ،‬ثم غرم ثمنها لألعرابي‪.‬‬

‫ولربما ضحك صلى هللا عليه وسلم من نوادر النعيمان عاما كامال؛ فعن أم سلمة "أن أبا بكر خرج تاجرا إلى بصرى‬

‫‪ ،‬ومعه نعيمان وسويبط بن حرملة ‪ ،‬وكالهما بدري ‪ ،‬وكان سويبط على الزاد ‪ ،‬فجاءه نعيمان ‪ ،‬فقال ‪ :‬أطعمني ‪ ،‬فقال‬

‫‪ :‬ال ‪ ،‬حتى يأتي أبو بكر ‪ ،‬وكان نعيمان رجال مضحاكا مزاحا ‪ ،‬فقال ‪ :‬ألغيظنك ‪ ،‬فذهب إلى ناس جلبوا ظهرا ‪ ،‬فقال‬

‫‪ :‬ابتاعوا مني غالما عربيا فارها ‪ ،‬وهو ذو لسان ‪ ،‬ولعله يقول ‪ :‬أنا حر ‪ ،‬فإن كنتم تاركيه لذلك ‪ ،‬فدعوني ‪ ،‬ال تفسدوا‬

‫علي غالمي ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬بل نبتاعه منك بعشر قالئص ‪ .‬فأقبل بها يسوقها ‪ ،‬وأقبل بالقوم حتى عقلها ‪ ،‬ثم قال للقوم ‪:‬‬

‫دونكم هو هذا ‪ ،‬فجاء القوم ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬قد اشتريناك ‪ .‬قال سويبط ‪ :‬هو كاذب ‪ ،‬أنا رجل حر ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬قد أخبرنا خبرك ‪،‬‬

‫وطرحوا الحبل في رقبته ‪ ،‬فذهبوا به ‪ ،‬فجاء أبو بكر فأخبر ‪ ،‬فذهب هو وأصحاب له ‪ ،‬فردوا القالئص وأخذوه "‬

‫فضحك منها النبي صلى هللا عليه وسلم وأصحابه حوال "‪.‬‬

‫وكان النبي (صلى هللا عليه وسلم) يمازح أهله ويداعبهم‪ ،‬وكان يسابق عائشة رضي هللا عنها‪ ،‬ويقر لعبها مع‬

‫صواحبها فعنها رضي هللا عنها قالت ‪( :‬كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬وكان لي صواحب يلعبن‬

‫معي ‪ " ،‬فكان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إذا دخل يتقمعن منه ‪ ،‬فيسربهن إلي فيلعبن معي) ‪.‬‬

‫ويروي الحاكم من حديث عمرة قالت سألت عائشة كيف كان رسول هللا إذا خال مع نسائه‪ ،‬قالت‪( :‬كان كالرجل من‬

‫رجالكم ‪ ،‬إال أنه كان أكرم الناس ‪ ،‬وأحسن الناس خلقا ‪ ،‬كان ضحاكا بساما)‬

‫وروى اإلمام أحمد بإسناد حسن أنه (كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يصف عبد هللا ‪ ،‬وعبيد هللا ‪ ،‬وكثيرا بني‬

‫العباس ‪ ،‬ثم يقول ‪ " :‬من سبق إلي فله كذا وكذا " قال ‪ :‬فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره ‪ ،‬فيقبلهم ويلتزمهم)‬

‫‪---------------------------------------‬‬

‫أحمد بدوي ‪ ،‬أسس النقد األدبي عند العرب ‪ ،‬ط‪ ، 2‬مكتبة نهضه مصر ‪1960‬م‬ ‫‪-‬‬

‫أحمد عطية هللا ‪ ،‬سيكولوجية الضحك ‪ ،‬دار إحياء التراث العربي‬ ‫‪-‬‬

‫‪8‬‬
‫وقالت عائشة (دخلت على سودة بنت زمعة ‪ ،‬فجلست ورسول هللا صلى هللا عليه وسلم بيني وبينها ‪ ،‬وقد صنعت‬

‫حريرة فجئت بها فقلت ‪ :‬كلي ‪ .‬فقالت ‪ :‬ما أنا بذائقتها ‪ ،‬فقلت ‪ :‬وهللا لتأكلين منها أو أللطخن منها بوجهك ‪ .‬فقالت ‪ :‬ما‬

‫أنا بذائقتها ‪ .‬فتناولت منها شيئا فمسحت بوجهها ‪ ،‬فجعل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يضحك وهو بيني وبينها ‪،‬‬

‫فتناولت منها شيئا لتمسح به وجهي ‪ ،‬فجعل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يخفض عنها ركبته _ وهو يضحك ‪-‬‬

‫لتستقيد مني ‪ ،‬فأخذت شيئا فمسحت به وجهي ورسول هللا صلى هللا عليه وسلم يضحك) ‪ .‬كذلك أخرج أبو يعلى أنه‬

‫صلى هللا عليه وسلم كان يدلع لسانه للحسن بن علي‪ ،‬فيرى الصبي لسانه فيهش له‪.‬‬

‫كذلك كان صحابة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يبادلونه الممازحة فيضحك ويتبسم لهم‪ ،‬روي أن صهيبا (قدم على‬

‫النبي صلى هللا عليه وسلم وبين يديه تمر وخبز فقال ‪ " :‬ادن فكل " ‪ ،‬قال ‪ :‬فأخذ يأكل من التمر ‪ ،‬فقال له النبي صلى‬

‫هللا عليه وسلم ‪ " :‬إن بعينك رمدا " ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا رسول هللا ‪ ،‬إنما آكل من الناحية األخرى ‪ ،‬قال ‪ :‬فتبسم النبي صلى هللا‬

‫عليه وسلم ) ‪.‬‬

‫كذلك روى عوف بن مالك األشجعي أنه مازح النبي (ص) قال‪( :‬أتيت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في غزوة‬

‫تبوك وهو في قبة من أدم ‪ ،‬فسلمت فرد وقال ‪" :‬ادخل" فقلت ‪ :‬أكلي يا رسول هللا ؟ قال ‪ " :‬كلك)‪ .‬ذلك أنه سأل‬

‫(أكلي؟) من صغر القبة !‪.‬‬

‫ولما رأى النبي رجال ذا بشرة حمراء مازحه قائال‪ :‬أنت أبو الورد‪ ،‬يقول أبو الورد‪" :‬رآني النبي صلى هللا عليه وسلم‬

‫فرآني رجل أحمر فقال ‪ " :‬أنت أبو الورد" ‪.‬‬

‫وعن جابر بن عبد هللا (أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم كان ال يلتفت إذا مشى ‪ ،‬وكان ربما تعلق رداؤه بالشجرة أو‬

‫الشيء فال يلتفت حتى يرفعوه ؛ ألنهم كانوا يمزحون ويضحكون ‪ ،‬وكانوا قد أمنوا التفاته صلى هللا عليه وسلم)‬

‫‪---------------------------------‬‬

‫أحمد كمال زكي ‪ ،‬الحياة األدبية في البصرة إلى نهاية القرن الثاني الهجري ‪ ،‬دار المعارف ‪ ،‬مصر‬ ‫‪-‬‬

‫أحمد محمد الحوفي ‪ ،‬الفكاهة في األدب العربي وبعض دالالتها ‪ ،‬طبعة جامعة أم درمان اإلسالمية ‪1967 ،‬م‬ ‫‪-‬‬

‫‪9‬‬
‫كذلك كان الصحابة يمازحون بعضهم بعضا‪ ،‬روى البخاري في األدب المفرد "كان أصحاب النبي صلى هللا عليه‬

‫وسلم يتبادحون بالبطيخ ‪ ،‬فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال"‪ .‬وقيل للنخعي هل كان أصحاب رسول هللا صلى هللا‬

‫عليه وسلم يضحكون ويمزحون؟ قال ‪:‬نعم واإليمان في قلوبهم مثل الجبال الرواسي‪ .‬وقيل البن سيرين هل كانوا‬

‫يتمازحون؟‪ :‬قال‪" :‬ما كانوا إال كالناس"‪.‬‬

‫قال ابن مسعود‪" :‬خالط الناس ودينك ال تكلمنه والدعابة مع األهل " ‪.‬‬

‫وقد روي أنه لما جاء أبو موسى األشعري من عند عمر مذعورا ً عندما استأذن ثالثا ً وانصرف حيث روى كالما عن‬

‫رسول هللا (ص) وقال له عمر‪ :‬وهللا لتأتيني على هذا ببرهان أو ببينة أو ألفعلن بك‪ ،‬فذهب إلى مجمع لألنصار ليبحث‬

‫عن شاهد‪" ..‬فجعل القوم يمازحونه" ‪.‬أي ليخففوا عنه‪..‬‬

‫وروي أن عبد هللا بن عمر كان يمازح موالة له فيقول لها‪ :‬خلقني خالق الكرام‪ ،‬وخلقك خالق اللئام‪ .‬فتغضب وتصيح‬

‫وتبكي‪ ،‬ويضحك عبد هللا بن عمر‪.‬‬

‫ولكن بالرغم من كثرة المرويات عن ضحك الرسول عليه الصالة والسالم وكثرة تبسمه‪ ،‬إال أن التراث اإلسالمي‬

‫زاخر بكل ما هو منفر عن الضحك‪ ،‬ومحذر منه‪ ،‬حتى صار الذين يرفعون الشعار اإلسالمي في الغالب يتخذون من‬

‫عبوس الوجه عالمة على التقوى أو العلم‪ .‬ولكن النظرة المتمعنة في السيرة النبوية الشريفة‪ ،‬وفي القرآن الكريم تؤكد‬

‫أن التبسم والضحك ليسا مذمومين‪ ،‬بل العبوس والتقطيب هما اللذان ينفران الناس عن الدعوة‪ .‬قال تعالى‪( :‬عبس‬

‫وتولى) ‪ ،‬وقال‪( :‬فبما رحمة من هللا لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب النفضوا من حولك )‪ .‬وقال‪( :‬ادع إلى سبيل‬

‫ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) ‪ ..‬هذه اآليات تؤكد أن اللين والبشر –والفكاهة من أهم‬

‫أدواتهما‪ -‬هما من وسائل الدعوة األنجع‪.‬‬

‫‪---------------------------------‬‬

‫أحمد كمال زكي ‪ ،‬الحياة األدبية في البصرة إلى نهاية القرن الثاني الهجري ‪ ،‬دار المعارف ‪ ،‬مصر‬ ‫‪-‬‬

‫أحمد محمد الحوفي ‪ ،‬الفكاهة في األدب العربي وبعض دالالتها ‪ ،‬طبعة جامعة أم درمان اإلسالمية ‪1967 ،‬م‬ ‫‪-‬‬

‫‪10‬‬
‫لقد اعتبر المزاح من األشياء المطلوبة في اإلسالم شريطة أن يراعي عدة موجهات فيبتعد عن السخرية واالستهزاء‬

‫باآلخرين والتعالي عليهم‪ ،‬وال يدخل فيه ترويع اآلخرين أو الكذب عليهم‪ ..‬موجهات كثيرة موجودة في نصوص‬

‫الكتاب والسنة مثل قوله تعالى‪( :‬يا أيها الذين آمنوا ال يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم وال نساء من نساء‬

‫عسى أن يكن خيرا منهن وال تلمزوا أنفسكم وال تنابزوا باأللقاب بئس االسم الفسوق بعد اإليمان) ‪ .‬ومثل قول رسول‬

‫هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬ال يحل لمسلم أن يروع مسلما"‪ ،‬وقوله‪" :‬ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم "‪ ،‬أو‬

‫قوله ‪" :‬إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها جلساءه يهوي بها في النار أبعد من الثريا" ‪.‬‬

‫المطلب الرابع ‪:‬الفكاهة لدى الصالحين واألدباء‬

‫قال ابن القيم رحمه هللا‪ ( :‬إن الناس ينفرون من الكثيف ولو بلغ في الدين ما بلغ ‪ ،‬وهلل ما يجلب اللطف والظرف من‬

‫القلوب فليس الثقالء بخواص األولياء ‪ ،‬وما ثقل أحد على قلوب الصادقين المخلصين إال من آفة هناك ‪ ،‬وإال فهذه‬

‫الطريق تكسو العبد حالوة ولطافة وظرفا ‪ ،‬فترى الصادق فيها من أحب الناس وألطفهم وقد زالت عنه ثقالة النفس‬

‫وكدورة الطبع) ‪ .‬وقال ابن عيينة ‪( :‬البشاشة مصيدة المودة ‪ ،‬والبر شيء هين ‪ :‬وجه طليق وكالم لين)‬

‫هنالك العديد من المرويات التي تظهر جانب المزاح والفكاهة لدى بعض العلماء واألدباء في التراث اإلسالمي‪ .‬قال‬

‫قوى ضعفي قتلني!‪ .‬فقلت ‪ :‬وهللا ما‬


‫قوى هللا ضعفك ‪ ،‬فقال‪ :‬لو ّ‬
‫الربيع ‪ :‬دخلت على الشافعي وهو مريض فقلت ‪ّ :‬‬

‫أردت إال الخير ‪ .‬قال ‪ :‬أعلم أنك لو شتمتني لم ت ُ ِرد إال الخير‪.‬‬

‫وقراء خارج ‪ ،‬نموت من الغم‬


‫قراء داخل ّ‬
‫وروي أن الشعبي مزح في بيته فقيل له ‪ :‬يا أباعمرو ‪ ،‬أو تمزح ؟ ‪ ،‬قال ‪ّ :‬‬

‫!‪( .‬الحقا نورد مزحة للشعبي في مجلس بعض ملوك بني أمية)‬

‫‪---------------------------------‬‬

‫أحمد كمال زكي ‪ ،‬الحياة األدبية في البصرة إلى نهاية القرن الثاني الهجري ‪ ،‬دار المعارف ‪ ،‬مصر‬ ‫‪-‬‬

‫أحمد محمد الحوفي ‪ ،‬الفكاهة في األدب العربي وبعض دالالتها ‪ ،‬طبعة جامعة أم درمان اإلسالمية ‪1967 ،‬م‬ ‫‪-‬‬

‫‪11‬‬
‫ووقع بين األعمش وامرأته وحشةٌ فسأل بعض أصحابه (ويقال ‪ :‬إنه أبو حنيفة) أن يصلح بينهما فقال ‪ :‬هذا سيدنا‬

‫عمش عينيه و ُحموشة ساقيه وضعف ركبتيه وقَزَ ل رجليه وجعل يصف فقال‬
‫ُ‬ ‫وشيخنا أبو محمد فال يزهدنّك فيه‬

‫األعمش ‪ :‬قم عنا فقد ذكرت لها من عيوبي ما لم تكن تعرفه‪.‬‬

‫لقد تناول كبار المفكرين اإلسالميين موضوع الفكاهة وعلقوا عليه‪ ،‬وقال الغزالي إن الجد محتاج لشيء من اللهو‬

‫إلقامته واستمراره‪.‬‬

‫أما في األدب العربي فهناك أقالم أتحفت الناس بكثير من األدب الضاحك مثل الجاحظ صاحب كتاب البخالء‪،‬‬

‫ورسالة التربيع والتدوير التي وصف فيها أحد األدعياء وصفا رائعا مضحكا‪ :‬كان ربع القامة تحسبه لسعة خاصرته‬

‫مدوراً!!‪.‬‬

‫لم يعرف أدب الفكاهة والضحك العالمي على مر العصور كاتبا ً في قامة أديبنا العربي أبو عثمان عمرو بن بحر‬

‫الجاحظ‪ ،‬الذي مأل الدنيا وشغلها بفكاهته الالذعة‪ ،‬وهو القائل‪« :‬من كانت فيه دعابة فقد برئ من الكبر»‪.‬‬

‫فلم يترك الجاحظ شيئا ً في زمانه إال وسخر منه سخرية الذعة‪ ،‬إلى حد أنه وجه سهام نقده الساخر إلى نفسه‪ ،‬فضحك‬

‫من دمامته وجحوظ عينيه‪..‬‬

‫فقد روى أنه شاهد امرأة من جميالت عصره تسير في شوارع بغداد سافرة الوجه‪ ،‬فتبعها عبر الشوارع وهي راضية‬

‫مبتسمة‪ ،‬حتى إذا جاءت إلى السوق دخلت إلى محل صائغ وأشارت له أن يتبعها‪ ،‬فلما دخل قالت للصائغ‪« :‬لقد طلبت‬

‫منك أن تنقش لي صورة الشيطان‪ ،‬وجئتك بهذا الرجل كي تقتبس منه»!‬

‫ولم يكن الجاحظ إال واحدا ً من أعالم أدب الفكاهة العربي‪ ،‬الذي ازدهر بقوة منذ القرن الثاني الهجري‪ ،‬وتفوق فيه‬

‫العرب –بجدارة‪ -‬على كافة شعوب العالم‪ ،‬فهم قوم إذا ضحكوا‪ ..‬ضحكت الدنيا‪.‬‬

‫‪---------------------------------‬‬

‫أحمد كمال زكي ‪ ،‬الحياة األدبية في البصرة إلى نهاية القرن الثاني الهجري ‪ ،‬دار المعارف ‪ ،‬مصر‬ ‫‪-‬‬

‫أحمد محمد الحوفي ‪ ،‬الفكاهة في األدب العربي وبعض دالالتها ‪ ،‬طبعة جامعة أم درمان اإلسالمية ‪1967 ،‬م‬ ‫‪-‬‬

‫‪12‬‬
‫وثمة طائفة من مشاهير العلماء‪ ،‬في فجر اإلسالم وضحاه ألفوا في هذا الباب‪ ،‬منهم الخطيب البغدادي في كتابة‬

‫(التطفيل)‪ ،‬والحصري القيرواني صاحب (زهر اآلداب)‪ ،‬في كتابه (جمع الجواهر في الملح والنوادر)‪ ،‬والثعالبي‬

‫صاحب (يتيمة الدهر) في كتابه (نتف الظرف)‪ ،‬واألبشهي (المستطرف)‪ ،‬وابن الجوزب في كتابه (أخبار الظراف‬

‫والمتماجنين)‪،‬‬

‫وهذه الكتب الفكاهية ال تخلو من فوائد علمية وأدبية؛ بل هي سجل صادق لتاريخنا السياسي واالجتماعي في زمانها‪.‬‬

‫ويربط علماء اللغة واألخبار بين الفكاهة والظرف ويوسعون في معانيها حتى يشمل جمال المظهر والمخبر‪ ،‬وروعة‬

‫ولطف الخصال‪.‬‬

‫ومن هذا قول ابن الجوزي‪« :‬رد الظرف يكون في صاحبة الوجه ورشاقة القد‪ ،‬ونظافة الجسم والثوب‪ ،‬وبالغة اللسان‬

‫وعذوبة المنطق‪ ،‬وفي خفة الحركة وقوة الذهن ومالحة الفكاهة والمزاح‪ ،‬وكأن الظرف مأخوذ من الظرف الوعاء‪،‬‬

‫فكأنه وعاء لكل لطيف»‪ .‬وقال الكسائي‪« :‬الظريف‪ :‬الحسن الوجه واللسان»‪.‬‬

‫ولكن العرب ينفرون من اإلسراف في المزاح‪ ،‬ويرون أن يكون بقدر ما يجدد الهمة ويزكي النشاط لذلك قالوا‪:‬‬

‫«اإلفراط في المزاح مجون‪ ،‬واالقتصاد فيه ظرف‪ ،‬والتقصير فيه ندم»‪.‬‬

‫ويعود مؤرخو الفكاهة والظرف بهما إلى أقدم العصور‪ ،‬وذلك طبيعي؛ فالضحك من خصائص اإلنسان دون سائر‬

‫الحيوان‪ ،‬وقد عرف أهل المنطق القدامى اإلنسان بأنه (حيوان ضاحك) مثلما عرفوه بأنه (حيوان ناطق) لذلك ال‬

‫نستغرب إذا نسبت روايات الفكاهة والظرف إلى شعراء الالتين واليونان وأن يروي عن (تراس ومينادر) الكثير من‬

‫الروايات المضحكات وال نعجب أن ينسب إلى األنبياء روايات كثيرة فيها ظرف وفكاهة مثل قصة سليمان (عليه‬

‫السالم) والهدهد وحيل سليمان للوصول إلى الحقيقة كحادثة األوز وسارقتها‪.‬‬

‫‪---------------------------------‬‬

‫أحمد كمال زكي ‪ ،‬الحياة األدبية في البصرة إلى نهاية القرن الثاني الهجري ‪ ،‬دار المعارف ‪ ،‬مصر‬ ‫‪-‬‬

‫أحمد محمد الحوفي ‪ ،‬الفكاهة في األدب العربي وبعض دالالتها ‪ ،‬طبعة جامعة أم درمان اإلسالمية ‪1967 ،‬م‬ ‫‪-‬‬

‫‪13‬‬
‫وحفل الشعر العربي منذ القدم بالتهكم والهزل‪ ،‬وما الهجاء سوى أحد فنون هذا الشعر‪ ،‬إذ يقوم على التندر بالمهجو‬

‫والتهكم به‪ ،‬ومن هجاء أحد الشعراء لبني تميم وتعييرهم بأكلهم للضب الذي يدل على الفقر والمسبغة بما يتنافى مع ما‬

‫يدعونه من مفخرة وكرم قول بعضهم‪:‬‬

‫إذا ما تميمي أتاك مفاخرا ً‬

‫فقل‪ :‬عد عن ذا‪ ،‬كيف أكلك للضب؟‬

‫وهذا الشاعر الضبي يقذع في السخرية من بني العنبر الذين ال يغيثون قومه حين يستغيثون بهم‪ ،‬ويقول إن من‬

‫يرجوهم مع أنهم ال يسارعون إلى نجدة كمن يرجو الغوث من األجنة في بطون أمهاتها فقال فيهم‪:‬‬

‫وإني ألرجوكم على بطء سعيكم‬

‫كما في بطون الحامالت رجاء‬

‫وحين أصبح الخلفاء واألمراء العرب القدامى يعيشون في ترف؛ طلبوا من يضحكهم ويسري عنهم‪ ،‬لذلك كثر األدباء‬

‫من شعراء وغيرهم على أبوابهم إلضحاكهم بالفكاهات والنوادر‪ ،‬ومنهم أشعب وأبو دالمة وأبو الحسين الخليع وأبو‬

‫العبر‪ ،‬حتى كان منهم من يقلد أصوات البهائم والطيور ولهجات األقطار المختلفة تقليدا ً دقيقا ً بأسلوب مضحك‪..‬‬

‫روى الجاحظ عنهم في (البيان والتبيين) أن من أشهرهم أبا ربوبة الزنجي الذي كان يقف بباب الكرخ فينهق فال يبقي‬

‫حمار إال وينهق معه!‬

‫وحكى الثعالبي في (يتيمة الدهر) أن أبا محمد بن زريق الكوفي‪ ،‬كان كاتبا ً شاعراً‪ ،‬وكان من عجائب الدنيا في الفكاهة‬

‫والمحاكاة‪ ،‬وكان يتردد على مجلس الوزير المهلبي ويحكي له النوادر ويقلد اآلخرين فيعجب الناظر والسامع له‪.‬‬

‫‪---------------------------------‬‬

‫أحمد كمال زكي ‪ ،‬الحياة األدبية في البصرة إلى نهاية القرن الثاني الهجري ‪ ،‬دار المعارف ‪ ،‬مصر‬ ‫‪-‬‬

‫أحمد محمد الحوفي ‪ ،‬الفكاهة في األدب العربي وبعض دالالتها ‪ ،‬طبعة جامعة أم درمان اإلسالمية ‪1967 ،‬م‬ ‫‪-‬‬

‫‪14‬‬
‫وفي القرن الرابع الهجري صار للشعر الهزلي مجتمع وشعراء متخصصون‪ ،‬على رأسهم ابن الحجاج البغدادي الذي‬

‫كان يعتبر صاحب مذهلة وأصالة في مدرسة الهزل‪ ،‬وعاصره ابن سكرة الذي اشتهر بهجائه الهزلي بجارية تدعى‬

‫(ضمرة) قال الثعالبي‪« :‬إنه نظم في هجائها عشرة آالف بيت»‪ .‬وقيل فيه وفي ابن الحجاج ‪« :‬إن زمانا ً جاد بهما‬

‫لسخي»‪ .‬وفي مصر عرف محمد الوهراني في القرن السادس الهجري بإمامته في الفكاهة‪ ,‬وبخاصة رسائله الهزلية‬

‫ومقاماته التي تفضي بالغة وظرفا ً‪.‬‬

‫أبو نواس في السوق‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫استفاضت كتب األدب الفكاهي بأخبار عرب البادية‪ ,‬من ذلك أن األعرابي في سبيل الظرف والفكاهة كان ال يحفل‬

‫بالمال والكسب المادي‪ ،‬فقد روى ابن الجوزي أن أبا نواس خرج إلى السوق لشراء أضحية فاجتمع بأعرابي ظريف‪،‬‬

‫فقال أبو نواس «ألجربنه ألرى صنيعه»‪ ،‬فسأله شعرا ً‪:‬‬

‫أيا صاحب الشاة التي قد تسوقها‬

‫بكم ذاكم الكبش الذي قد تقدما‬

‫فرد عليه األعرابي‪:‬‬

‫أبيعكه إن كنت ممن يريده‬

‫ولم تك مزاحا ً بعشرين درهما‬

‫‪---------------------------------‬‬

‫أحمد كمال زكي ‪ ،‬الحياة األدبية في البصرة إلى نهاية القرن الثاني الهجري ‪ ،‬دار المعارف ‪ ،‬مصر‬ ‫‪-‬‬

‫أحمد محمد الحوفي ‪ ،‬الفكاهة في األدب العربي وبعض دالالتها ‪ ،‬طبعة جامعة أم درمان اإلسالمية ‪1967 ،‬م‬ ‫‪-‬‬

‫‪15‬‬
‫فقال أبو نواس‪:‬‬

‫أجدت رعاك هللا رد جوابنا‬

‫فأحسن إلينا إن أردت التكرما‬

‫فقال األعرابي‪:‬‬

‫أحط من العشرين خمسا ً فإنني‬

‫أراك ظريفا ً فأقبضن مسلّما‬

‫فدفع إليه أبو نواس خمسة عشر درهما ً وأخذ كبشا ً يساوي ثالثين درهما ً‪.‬‬

‫ولعل رواة األدب العربي القدامى قد عنوا بالظرف والفكاهة دفاعا ً عن مكانة العربي وإن كان بدوياً‪ ،‬وداللة على أنه‬

‫يرتفع إلى مصاف أرقى الناس فكرا ً وأترفهم عيشاً‪ ،‬وإن كان من سكان البادية أهل الخشونة في العيش والحياة الفقيرة‬

‫المتواضعة‪.‬‬

‫وأعالم الفكاهة في األدب العربي القديم كثيرون‪ ،‬ولعل بشار بن برد وأبا العيناء (من شعراء العصر العباسي األول)‬

‫يأتيان في المقدمة‪،‬‬

‫وأما بشار بن برد فله نوادر ساخرة من أعالم عصره صارت مضرب األمثال على كل لسان وتعجب منها األدباء‪،‬‬

‫لكنها جرت على صاحبها الويالت والعناء‪ ،‬فبسبب هجائه الساخر جافاه الصوفي واصل بن عطاء وأهدر دمه‪.‬‬

‫‪---------------------------------‬‬

‫أحمد كمال زكي ‪ ،‬الحياة األدبية في البصرة إلى نهاية القرن الثاني الهجري ‪ ،‬دار المعارف ‪ ،‬مصر‬ ‫‪-‬‬

‫أحمد محمد الحوفي ‪ ،‬الفكاهة في األدب العربي وبعض دالالتها ‪ ،‬طبعة جامعة أم درمان اإلسالمية ‪1967 ،‬م‬ ‫‪-‬‬

‫‪16‬‬
‫ولكن لروح بشار الساخرة فضل عليه أيضاً؛ فقد قربته من الخليفة المهدي‪ ،‬وتغاضى عن إساءته ألقرب الناس إليه‪،‬‬

‫فهذا المعلى بن طريف مولى المهدي سأل مرة الحاضرين من علماء وشعراء عن المقصود بالنحل والشراب في اآلية‬

‫(وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ً ومن الشجر ومما يعرشون‪ ،‬ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل‬

‫ربك ذلالً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك آلية لقوم يتفكرون)‪ ،‬فقال بشار‪ :‬النحل‬

‫والشراب هما اللذان يعرفهما الناس‪ ،‬فقال له المعلى‪« :‬هيهات يا أبا‪ !..‬النحل بنو هاشم والشراب هو علمهم»‪ ،‬فقال له‬

‫بشار‪« :‬أراني هللا طعامك وشرابك وشفاءك فيما يخرج من بطون بني هاشم» فغضب المعلى وشتم بشاراً‪ ،‬وظن أنه‬

‫نال منه مقتالً عند الخليفة‪ ،‬فلما بلغ أمرهما المهدي دعاهما وحدثه بشار بالحديث‪ ،‬فضحك المهدي كثيرا ً حتى أمسك‬

‫بطنه‪.‬‬

‫فكاهات الجاحظ‬ ‫‪‬‬

‫وإذا كان علم الجاحظ في قمة العلم العربي لعصره الذهبي األول‪ ،‬فإن فن الجاحظ الفكاهي يعتبر قمة الفن العربي‬

‫الفكاهي لكل عصر‪ ..‬وال عجب في ذلك؛ فالعلم والفن أخوان متالزمان‪ ،‬ويرى فيهما خير ما في أساس التركيب؛ ألن‬

‫الضحك هو أول خير يظهر من المولود‪ ،‬وعليه ينبت شحمه‪ ،‬ويكثر دمه الذي هو علة سروره‪ ،‬ومادة قوته‪ .‬يقول‬

‫الجاحظ‪« :‬ومتى أريد بالمزح النفع‪ ،‬وبالضحك الشيء الذي جعل له الضحك‪ ،‬صار المزح جدا ً والضحك وقاراً‪.»..‬‬

‫لذلك شاعت الفكاهة‪ ،‬وعوامل السرور في الجاحظ الذي يرى ذلك أمرا ً ضروريا ً لتنشيط الذهن وإدخال السرور على‬

‫القلب‪ ،‬وتزويد الحي بطاقة خالقة في مجالي العلم والعمل‪ ،‬ولهذا يقوم كتابه (البخالء) الذي جمع أروع نوادر األشحاء‬

‫وحكايتهم التي يحتجون بها للبخل واالقتصاد‪ ،‬ويورد من الطرائف الكثير‪ ،‬فيقول‪« :‬ولك في هذا الكتاب ثالثة أشياء‪:‬‬

‫تبين حجة طريفة‪ ،‬وتعرف حيلة لطيفة‪ ،‬واستفادة نادرة عجيبة»‪ .‬ويقول‪« :‬وأنت في ضحك منه إذا شئت‪ ،‬وفي لهو إذا‬

‫مللت الجد‪.»..‬‬

‫‪---------------------------------‬‬

‫أحمد كمال زكي ‪ ،‬الحياة األدبية في البصرة إلى نهاية القرن الثاني الهجري ‪ ،‬دار المعارف ‪ ،‬مصر‬ ‫‪-‬‬

‫أيمن محمد زكي العشماوي ‪ ،‬خمريات أبي نواس ‪ ،‬دراسة تحليلية في المضمون والشكل ‪ ،‬دار المعرفة الجامعية ‪ 1998 ،‬م‬ ‫‪-‬‬

‫‪17‬‬
‫ومن أروع ما كتب الجاحظ في هذا المقام (رسالة التربيع والتدوير) التي سخر فيها من الوزير أحمد عبدالوهاب‪،‬‬

‫ونعته ووصفه بالعرض والضخامة أو التربيع والتدوير‪.‬‬

‫أقام الجاحظ سخريته على أساليب فنية محكمة‪ ..‬يخرج في السخرية من موضوع إلى موضوع‪ ،‬ويقلبه على جميع‬

‫الجوانب‪ ،‬ويمزقه دون أن يحس القارئ بغير اإلعجاب باألديب‪ ،‬واالندماج في روعة بيانه وجمال تصويره‪ ،‬وقد‬

‫اعتمد الجاحظ على المتناقضات في السخرية من منظر الوزير ومخبره مثل قوله‪« :‬ومن غريب ما أعطيت وبديع ما‬

‫أوتيت أنا لم نر مقدودا ً واسع البطن غيرك‪ ،‬وال رشيقا ً مستفيض الخاصرة سواك‪ ..‬فأنت المديد وأنت البسيط وأنت‬

‫الطويل وأنت القصير‪ ..‬فيا شعرا ً جمع األعاريض‪ ،‬ويا شحما ً جمع االستدارة والطول»‪.‬‬

‫ويرفع الجاحظ الوزير إلى أعلى عليين تهكماً‪ ،‬ثم ينزل به إلى الدرك األسفل مبالغة في التقريع والسخرية‪ ..‬فيقول له‪:‬‬

‫«وأنا أبقاك هللا أعشق إنصافك كما تعشق المرأة الحسناء‪ ،‬وأتعلم خضوعك للحق كما أتعلم الفقه في الدين»‪ ،‬ويطنب‬

‫في ذلك أيما إطناب‪ ،‬ثم ينتقل الجاحظ إلى العلم والحكمة فيسأل الوزير ابن عبدالوهاب‪« :‬فخبرني ما جرى بينك وبين‬

‫هرمس في طبيعة الفلك‪ ،‬وعن سماعك من أفالطون‪ ،‬وما دار بينك وبين أرسطو طاليس‪ ..‬وأي نوع اعتقدت‪ ،‬وأي‬

‫شيء اخترت؟ فقط أبت نفسي غيرك‪ ..‬ولوال أني كلفت برواية األقاويل ومغرم بمعرفة االختالف‪ ،‬ما سمعت من أحد‬

‫سواك وما انقطعت إلى أحد غيرك»‪ ..‬إنه يراه جامع العلوم والحكم!‬

‫وهكذا تهكم الجاحظ من الحياة واألحياء وصاغ تهكمه على أساس من العلم الراسخ والفلسفة العميقة والفن الباهر‪ ،‬بل‬

‫إنه تهكم من الحياة كلها بصغارها وكبارها‪ ،‬وعلمائها وأدعيتها‪ ،‬بل سخر مما يسمى بـ(العظمة) وجعلها هبا ًء منثوراً‪،‬‬

‫ومع ذلك فهو بسخريته يبصرنا بالحياة‪ ،‬ويدفعنا إلى التواضع والعمل‪ ،‬ولنرتفع عن الصغائر كلها‪..‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬أنواع الفكاهة في األدب العربي‬

‫الفكاهة يمكن أن تكون سليقية مطبوعة وتوجد في األشخاص والشعوب خفيفة الظل‪ .‬ومن الفكاهة ما هو مصنوع‪،‬‬

‫وهو الذي يبذل فيه أصحابه جهدا وتكلفا ً وهي في ذلك مثل كل األداء اإلنساني فمن الشعراء من ينطلق شعره بسهولة‬

‫‪18‬‬
‫كأنه يغرف من بحر‪ ،‬ومنهم من يصارع المعاني كأنه ينحت من صخر يمكن أن نسمي الشخص المطبوع فكها ونسمي‬

‫اآلخر متفكها‪.‬‬

‫النكات المسببة للضحك كثيرة منها ما هو مروي ومنها العملي ومنها الدرامي ومنها التشكيلي‬

‫المطلب األول‪ :‬الفكاهة في الشعر‬

‫إضافة للشعر الذي يذكر المفارقات أو يتالعب باأللفاظ‪ ،‬فهنالك نوع من الشعر الفكه‪ ،‬مثال قال أحد الشعراء يصف‬

‫داره‪:‬‬

‫ولكــــن نزلت إلى السابعة‬ ‫ودار خراب بها قد نـزلـــــــت‬

‫بها أو أكون على القارعة‬ ‫فال فرق بين أني أكـــــــــون‬

‫فتنفــــض بال أذن سامعة‬ ‫تساورها هفوات النسيـــــــم‬

‫فتسجـد حيطانها الراكعة‬ ‫وأخشى بها أن أقيم الصـالة‬

‫خشيت بأن تقرأ القارعة‬ ‫إذا ما قرأت إذا زلزلــــــــت‬

‫وشبيه بهذا الذي قاله الشاعر في شكوى الصد‪:‬‬

‫أقرأ ألم نشرح‪ ،‬تقرأ لي َعبَـس!‬ ‫تقرأ سعاد بضد ما أقرأ أنــا‬

‫وبكـــى علي رحمة حين جس‬ ‫جس الطبيب مفاصلي ليداويني‬

‫إال الصالة على المؤيد بالغلـس‬ ‫مالي شفاء يا سعاد لعلتــــــــي‬

‫‪---------------------------------‬‬

‫أحمد كمال زكي ‪ ،‬الحياة األدبية في البصرة إلى نهاية القرن الثاني الهجري ‪ ،‬دار المعارف ‪ ،‬مصر‬ ‫‪-‬‬

‫أيمن محمد زكي العشماوي ‪ ،‬خمريات أبي نواس ‪ ،‬دراسة تحليلية في المضمون والشكل ‪ ،‬دار المعرفة الجامعية ‪ 1998 ،‬م‬ ‫‪-‬‬

‫‪19‬‬
‫أو كذلك الذي رواه الجاحظ في كتابه (الحيوان) من شعر يذكر حسن الدجاجة ونبل الديك‪ .‬والشاعر رأى هذه المناظر‬

‫من تأثير "شربة"‪ ،‬قال‪:‬‬

‫أبا الدهناء من حلب العصيـــر‬ ‫غدوت بشربة من ذات عرق‬

‫نرى العصفور أعظم من بعير‬ ‫وأخرى بالعقنقل ثم رحنــــــا‬

‫أمير المؤمنين على السريـــــر‬ ‫كأن الديك ديك بني نميـــــــر‬

‫بنات الروم في قمص الحرير‬ ‫كأن دجاجهم في الدار رقطـا‬

‫ينلن أنامل الرجل القصيـــــر‬ ‫فبت أرى الكواكب دانيـــات‬

‫وأمسح جانب القمر المنيـــــر‬ ‫أدافعهن بالكفين عني‬

‫المطلب الثاني‪ :‬الفكاهة في األمثال‬

‫توجد الفكاهة في األمثال كما توجد في األشعار والحكم والنثر‪ .‬وفي األمثال العربية هناك الكثير من التصاوير الفكهة‪،‬‬

‫وهنالك أقوال وأمثال كثيرة و لقد أبدع معظم العرب في ضرب األمثال في مختلف المواقف واألحداث فال يخلو‬

‫موقف من حياتنا العامة إال ونجد مثال ضرب عليه‪ ،‬وال تخلو خطبة مشهورة وال قصيدة سائرة من مثل رائع مؤثر في‬

‫حياتنا‪.‬‬

‫‪---------------------------------‬‬

‫أحمد كمال زكي ‪ ،‬الحياة األدبية في البصرة إلى نهاية القرن الثاني الهجري ‪ ،‬دار المعارف ‪ ،‬مصر‬ ‫‪-‬‬

‫أيمن محمد زكي العشماوي ‪ ،‬خمريات أبي نواس ‪ ،‬دراسة تحليلية في المضمون والشكل ‪ ،‬دار المعرفة الجامعية ‪ 1998 ،‬م‬ ‫‪-‬‬

‫‪20‬‬
‫فاألمثال أصدق شئ يتحدث عن أخالق األمة وتفكيرها وعقليتها ‪ ,‬و تقإلىدها وعاداتها ‪ ,‬ويصور المجتمع وحياته‬

‫وشعوره أتم تصوير فهي مرآة للحياة االجتماعية والعقلية والسياسية والدينية واللغوية ‪ ,‬وهي أقوي داللة من الشعر في‬

‫ذلك ألنه لغة طائفة ممتازة ‪ ,‬أما هي فلغة جميع الطبقات‬

‫واألمثال إما حقيقية أو فرضية فالحقيقة‪ :‬لها أصل وقائلها معروف غالبا والفرضية ما كانت من تخيل أديب ووضعها‬

‫عل لسان طائر أو حيوان أو جماد أو نبات أو ما شاكل ذلك والفرضية تساعد علي النقد والتهكم والسخرية وخاصة في‬

‫عصور االستبداد وهي وسيلة ناجحة للوعظ والتهذيب والفكاهة والتسلية مثل كليلة ودمنة وسلوان المطاع ‪ ,‬وفاكهة‬

‫الخلفاء‬

‫الخاتمة‪:‬‬

‫أدب الفكاهة من اآلداب الشيّقة والممتعة فهي (نزهة النفس وربيع القلب ومرتع السمع ومجلب الراحة ومعدن‬

‫السرور) وال يمكن أن نتصور العالم من دون فكاهة أو نتصور الحياة عابسة مقطبة الجبين مكفهرة المظهر وإذا كان‬

‫هذا مستطاعا ً فمن الذي يطيقها ويرضاها‪ .‬أن الحياة بغير ضحك عبء ثقيل ال يحتمل وكما قال الرسول (ص)‪:‬‬

‫(روحوا القلوب ساعة بعد ساعة فإن القلوب إذا كلّت عميت)‪ .‬فالفكاهة انتشرت علي مر العصور والتاريخ األدبي لكل‬

‫شعوب األرض‪ ،‬وبينت ما لحاجة الفرد والمجتمع من أدب كهذا‪ .‬وألهميته في حياة الناس شغل العلماء والمثقفون بله‬

‫األدباء والشعراء‪ ،‬فهذا مكدوجل يقول‪( :‬إن الضحك يستخدم األعصاب والعضالت فهو غريزة مهمة)‪ ،‬والضحك‬

‫حسب ما توصل إليه العلم الحديث يعيد لإلنسان أنسه وأمله وطبيعته‪ ،‬بل انه يسهم في شفاء بعض األمراض التي‬

‫أصابت عالمنا المعاصر‪ ،‬ولذلك كانت الفكاهة تطغي عقب المحن التي تمر بها الشعوب‪ ،‬فينتشر المسرح الكوميدي‬

‫والشعر الساخر والمواقف الضاحكة مثل (البشاشة‪ ،‬البهجة‪ ،‬الجذل‪ ،‬السرور‪ ،‬الضحك‪ ،‬الطرب‪ ،‬الظرف‪ ،‬المزحة‪..،‬‬

‫الخ‬

‫‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫قائمــة المراجــع‬

‫إحسان عباس ‪ ،‬تاريخ النقد األدبي عند العرب ‪ ،‬ط‪ ، 4‬دار الثقافة ‪ ،‬بيروت ‪1983‬م‬ ‫‪-‬‬
‫أحالم ّ‬
‫الزعيم ‪،‬أبو نواس بين العبث واالغتراب والتمرد ‪ ،‬دار العودة‪ ،‬بيروت ‪1981‬م‬ ‫‪-‬‬
‫أحمد بدوي ‪ ،‬أسس النقد األدبي عند العرب ‪ ،‬ط‪ ، 2‬مكتبة نهضه مصر ‪1960‬م‬ ‫‪-‬‬
‫أحمد عطية هللا ‪ ،‬سيكولوجية الضحك ‪ ،‬دار إحياء التراث العربي‬ ‫‪-‬‬
‫أحمد كمال زكي ‪ ،‬الحياة األدبية في البصرة إلى نهاية القرن الثاني الهجري ‪ ،‬دار المعارف ‪ ،‬مصر‬ ‫‪-‬‬
‫أحمد محمد الحوفي ‪ ،‬الفكاهة في األ دب العربي وبعض دالالتها ‪ ،‬طبعة جامعة أم درمان اإلسالالالالالالالمية ‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪1967‬م‬
‫أيمن محمد زكي العش الالالماوي ‪ ،‬خمريات أبي نواس ‪ ،‬دراس الالالة تحليلية في المض الالالمون والش الالالكل ‪ ،‬دار المعرفة‬ ‫‪-‬‬
‫الجامعية ‪ 1998 ،‬م‬

‫الفهرس‬

‫المقدمة‪2.......................................................................................................‬‬
‫المبحث األول ‪:‬الفكاهة واأللفاظ المقاربة في اللغة‪2...............................................................‬‬
‫المطلب األول ‪:‬أسباب الفكاهة فوائد الضحك‪3...................................................................‬‬
‫المطلب الثاني ‪:‬الضحك في التراث اإلسالمي‪4...................................................................‬‬
‫المطلب الثالث ‪:‬الفكاهة لدى الرسول وأصحابه‪5..................................................................‬‬
‫المطلب الرابع ‪:‬الفكاهة لدى الصالحين واألدباء‪11................................................................‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬أنواع الفكاهة في األدب العربي‪18................................................................‬‬
‫المطلب األول‪ :‬الفكاهة في الشعر‪19...................................................................................................‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬الفكاهة في األمثال‪20.................................................................................................‬‬
‫الخاتمة‪21..................................................................................................................................‬‬

‫‪22‬‬
‫المراجع‪22.................................................................................................................................‬‬

‫‪23‬‬

You might also like